الكتاب: الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ) المحقق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1999 م عدد الأجزاء: 19   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الحاوي الكبير الماوردي الكتاب: الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ) المحقق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1999 م عدد الأجزاء: 19   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْضَحَ لَنَا شَرَائِعَ دِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَنْزِيلِ كِتَابِهِ وَأَمَدَّنَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى تَمَهَّدَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أُصُولٌ، بِنَصٍّ وَمَعْقُولٍ، تَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى عِلْمِ الْحَادِثِ النازل، وإدراك الغامض الْمُشْكِلِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ هِدَايَتِهِ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تَوَسَّطَ بِحُجَّتَيِ النصوص المنقولة والمعاني المعقولة حتى لم يصره بالميل إلى أحدهما مقصرا عن الأخرى أَحَقَّ، وَبِطَرِيقِهِ أَوْثَقَ. وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِ اقْتَصَرُوا عَلَى مُخْتَصَرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِانْتِشَارِ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ عَنْ فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ، وَاسْتِطَالَةِ مُرَاجَعَتِهَا عَلَى الْعَالِمِ حَتَّى جَعَلُوا الْمُخْتَصَرَ أَصْلًا يُمْكِنُهُمْ تَقْرِيبُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَاسْتِيفَاؤُهُ لِلْمُنْتَهِي، وَجَبَ صَرْفُ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ وَإِيقَاعُ الِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمَّا صَارَ مُخْتَصَرُ الْمُزَنِيِّ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَزِمَ اسْتِيعَابُ الْمَذْهَبِ فِي شَرْحِهِ واستيفاء اختلاف الفقهاء المغلق بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الشرح الذي يقتضي الِاقْتِصَارَ عَلَى إِبَانَةِ الْمَشْرُوحِ لِيَصِحَّ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدِ اعْتَمَدْتُ بِكِتَابِي هَذَا شَرْحَهُ عَلَى أَعْدَلِ شُرُوحِهِ وَتَرْجَمْتُهُ بِ " الْحَاوِي " رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ حَاوِيًا لِمَا أُوجِبُهُ بِقَدْرِ الحال من الاستيفاء والاستيعاب في أوضح تقديم وأصح ترتيب وأسهل مأخذ واحد فِي فُصُولٍ. وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَكْرَمَ مَسْؤُولٍ أَنْ يَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لِي مَادَّةً وَالْمَعُونَةَ هِدَايَةً بِطَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامِيِّهِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَبِاللَّهِ التوفيق. وقال الْمَاوَرْدِيُّ: ابْتَدَأَ الْمُزَنِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ حُسَّادِ الْفَضْلِ مَنْ أَغْرَاهُمُ التَّقَدُّمُ بِالْمُنَازَعَةِ، وَبَعَثَهُمُ الِاشْتِهَارُ عَلَى الْمَذَمَّةِ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا " النَّهْرُمَانِيُّ " وَ " المغربي " و " القهي " وَأَبُو طَالِبٍ الْكَاتِبُ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُمُ ابْنُ دَاوُدَ فَكَانَ اعْتِرَاضُهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ؛ فَأَوَّلُ وُجُوهِ اعْتِرَاضِهِمْ فِيهَا أَنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَحْمَدِ الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ وَاقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ، وَاتِّبَاعًا لِمَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ ". فَالْجَوَابُ عَنْهُ من خمسة أوجه: أحدها: أن يقلب الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ، وَيُسْتَعْمَلَ دَلِيلُ الْخَبَرِ فِي سُؤَالِهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ سُؤَالُكُمْ ذَا بَالٍ فَهَلَّا قَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ حَمْدَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذِي بَالٍ، فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ سُؤَالٍ انْقَلَبَ عَلَى سَائِلِهِ كَانَ مُطَّرَحًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ تَارَةً يَكُونُ خَطًّا، وَتَارَةً يَكُونُ لَفْظًا، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بظاهر الأمر، والمزني تَرَكَ حَمْدَ اللَّهِ خَطًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ لَفْظًا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ تَصْنِيفِ كُلِّ بَابٍ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَأَتَى بِهِ كِتَابَةً وَلَفْظًا، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير، فَحَذَفَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاقِلِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ روي: " لم يبدأ بذكر الله ". والثاني: يقدر اسْتِعْمَالِهِ، لِأَنَّ التَّحْمِيدَ إِنْ قُدِّمَ عَلَى التَّسْمِيَةِ خُولِفَ فِيهِ الْعَادَةُ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِدَايَةُ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وَالْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى ابتداء الخطبة دُونَ غَيْرِهَا، زَجْرًا عَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ من تقديم المنثور والمنظوم والكلام المنثور، وَإِنَّمَا كَانَ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا خَطَبَ فَتَرَكَ التَّحْمِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ ". وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] . وَلَيْسَ فِي ابْتِدَائِهِمَا حَمْدُ اللَّهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ فَقَدْ قَالَ: فَهُوَ أَبْتَرُ وَكِتَابُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ كِتَابٍ صنف، وأبدع مُخْتَصَرٍ أُلِّفَ، فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُطَبِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَالْكُتُبِ. فَصْلٌ: وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي أَنْ قَالُوا: لِمَ قَالَ: اخْتَصَرْتُ قَبْلَ اخْتِصَارِهِ؟ وَهَذَا كَذِبٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بعد فراغه منه، وأراد ما قد اختصر بالاختصار. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَوَّرَ الْكِتَابَ فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا أَوْ أَشَارَ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: اخْتَصَرْتُ بِمَعْنَى سَأَخْتَصِرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَعَلْتُ بِمَعْنَى سَأَفْعَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] بِمَعْنَى سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] بِمَعْنَى سَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ. فَصْلٌ: وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا: لِمَ قَالَ: اختصرت هذه؟ وَ " هَذَا " كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ إِشَارَةً إلى حاضر معين كما أن ذلك إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَاضِرٌ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَهَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، وهو مَوْضُوعُ الْكَلَامِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا يُعَيِّنُ فِي ضَمِيرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ " هَذَا " وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِشَارَةً إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات: 38] {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] إِشَارَةً إِلَى يَوْمِ القيامة وإن لم يكن موضوعا حاضرا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] يَعْنِي هَذَا الْكِتَابُ. وَكَقَوْلِ خفاف بن ندبة السلمي: (فإن تك قد أصبت حميمها ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا) (أَقُولُ لَهُ والرمح يأطر منه ... تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا) يَعْنِي: إِنَّنِي أَنَا هَذَا. فَصْلٌ : ثُمَّ يَبْدَأُ بِشَرْحِ التَّرْجَمَةِ فَيَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ " اخْتَصَرْتُ هَذَا " فَحَدُّ الِاخْتِصَارِ هُوَ تَقْلِيلُ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْمَعْنَى، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: هُوَ مَا دَلَّ قَلِيلُهُ على كثيره، وهي اختصار الاجتماعة، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُخْتَصَرَةَ لِاجْتِمَاعِ السُّوَرِ فِيهَا، وَسُمِّيَ خَصْرُ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أبي ربيعة: (رأت رجلا أما إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصُرُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 معنى أنه مجتمع مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. وَأَمَّا " هَذَا " فَهِيَ كَلِمَةُ إِشَارَةٍ تَجْمَعُ حَرْفًا وَاسْمًا، فَالْحَرْفُ الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ ذَا وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ: هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَهَلَّا بَسَطَهُ فَإِنَّ الْمَبْسُوطَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِفْهَامِ، وَأَغْنَى عَنِ الشَّرْحِ. قِيلَ: إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ لِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ أَقْرَبُ إِلَى الْحِفْظِ، وَأَبْسَطُ لِلْقَارِئِ، وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا في النفوس، ولذلك تداول إِعْجَازَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حيوة} [البقرة: 179] لِاخْتِصَارِ لَفْظِهِ وَإِجْمَاعِ مَعَانِيهِ وَعَجِبُوا مِنْ وَجِيزِ قَوْله تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] . وَمِنَ اخْتِصَارِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] . وَقَالُوا: إِنَّهَا أخصر آية في كتاب الله تعالى. واستسحنوا اخْتِصَارَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] كَيْفَ جَمَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وَجَمِيعِ الْمَلْبُوسَاتِ. وَلِفَضْلِ الِاخْتِصَارِ عَلَى الْإِطَالَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَمْ يَطُلْ فَيَمَلَّ. غير أن للإطالة موضعا يحمد فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَصَرًا بِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي بَعْضِ خُطَبَاءِ إِيَادٍ: (يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ) غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِيمَا وَضَعَهُ الْمُزَنِيُّ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: مُخْتَصَرُ الْكِتَابِ لِيُحْفَظَ وَيُبْسَطُ لِيُفْهَمَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَطَ اخْتِصَارَ كِتَابِهِ، وَقَدْ أَطَالَ كَثِيرًا مِنْهُ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرَطَ اخْتِصَارَ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ وَإِنَّمَا أَطَالَ كَلَامَ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَالْأَغْلَبُ منه مختصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ " فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: عِلْمُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُهُ اخْتِصَارُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُضْمَرٌ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ عَرَضٌ، وَالْعُرُوضُ يَسْتَحِيلُ اخْتِصَارُهَا. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فَعَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوصَلُ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 48] ، أَيْ مِنْ كِتَابٍ، وقال أبو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَرَادَ مِنْ مَعْلُومِ الشَّافِعِيِّ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يحيطون بشيء من علمه} ، أَيْ مِنْ مَعْلُومِهِ، وَمَعْلُومُ الشَّافِعِيِّ مَا أُخِذَ عنه قولا ورسما. فصل : اعتراض ورد وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَقَدِ اعْتَرَضَ فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: الْمَعْنَى هُوَ صِفَةُ الْحُكْمِ وَاخْتِصَارُهُ مُبْطِلٌ لَهُ. وَهَذَا جَهْلٌ بِمَقْصُودِ الْكَلَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِمَا اخْتَصَرَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اخْتِصَارَ الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَأَخْصَرِ كَلَامٍ. وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا فِي أَوَّلِ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: وَلَيْسَ اخْتِصَارُ الْمَعَانِي هُوَ تَرْكُ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانُ بِالْبَعْضِ، وَلَكِنِ الْإِتْيَانُ بِالْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِصَارَهُ الْمَعْنَى غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عَيْنِهِ. وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ اخْتَصَرَ الْمَعْنَى بِإِيرَادِ إِحْدَى دَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِصَارًا لَهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنَيَيْنِ مِثْلَ: الْكَلْبِ الْمَيِّتِ هُوَ نَجَسٌ، لِأَنَّهُ كَلْبٌ، وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ، اخْتَصَرَ ذَلِكَ بِإِيرَادِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْأُصُولَ بِمَعْنًى يَجْمَعُ أُصُولًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَعْلِيلِ كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا، بِمَعْنًى مُفْرَدٍ. مِثْلَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَعَلَّلَ إِثْبَاتَ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ بِأَنَّهُ عمل مقصود في عينه يصير التَّعْلِيلُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَلَا يَحْتَاجُ أن تختصر كُلَّ عِبَادَةٍ مِنْهَا بِمَعْنًى يُوجِبُ النِّيَّةَ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا اخْتِصَارًا لِلْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " يُرِيدُ: عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ؛ فَيَكُونُ " مِنْ " بِمَعْنَى " عَلَى "، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77] . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَرَ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ اخْتَصَرَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِ كَمَا فعل في الجوالة وَالضَّمَانِ وَالشَّرِكَةِ وَالشُّفْعَةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ " فَمَعْنَاهُ: لِأُسَهِّلَهُ عَلَى فَهْمِ مَنْ أَرَادَهُ، لِأَنَّ التَّقْرِيبَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى تَقْرِيبِ الدَّانِي مِنَ الْبَعِيدِ. وَإِمَّا تَقْرِيبُ التَّسْهِيلِ عَلَى الْفَهْمِ، وَهَذَا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَقْرِيبِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَسْهِيلُهُ عَلَى الْفَهْمِ لَا الْأَدْنَى مِنَ الْبُعْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: على من أراده. وتقريب الأدنى، فقال فِيهِ: مَنْ أَرَادَهُ. فَأَمَّا الْهَاءُ الَّتِي فِي أُقَرِّبَهُ وَأَرَادَهُ، فَهُمَا كِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أحدها: أنهما كنايتان يرجعان إِلَى الْعِلْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ بِاخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَنْ أَرَادَ العلم. والثاني: أنهما كنايتان يرجعان إِلَى الْكِتَابِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ، عَلَى مَنْ أَرَادَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكِنَايَةَ الْأُولَى تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ. وَخَصَّ بِهِ الْمُرِيدَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُرِيدِ لَا يُقَرَّبُ عَلَى فَهْمِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَعَ إِعْلَامِيِّهِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ " فَفِيهِ خَمْسُ كِنَايَاتٍ؛ مِنْهُنَّ كِنَايَتَانِ فِي " إِعْلَامِيِّهِ " وَهُمَا الْيَاءُ وَالْهَاءُ، وَثَلَاثُ كِنَايَاتٍ فِي نَهْيِهِ وَتَقْلِيدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْيَاءَ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ وَأَنَّ الْهَاءَ فِي تقليده وغيره كنايتان رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْهَاءِ التي في إعلامه، وَفِي الْهَاءِ الَّتِي فِي نَهْيِهِ، إِلَى مَا تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ بِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَيَكُونُ تقدير الكلام: مع إعلام الشافعي ونهي الشَّافِعِيِّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ رَحِمَهُ الله. والثاني: أنهما كنايتان راجعتان إلى المزيد عَنْ تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي " إِعْلَامِيِّهِ " كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلى المزيد، وَالْهَاءَ الَّتِي فِي " نَهْيِهِ " كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الشافعي، ويكون تقدير الكلام: مع إعلامي المزيد من نَهْيِ الشَّافِعِيِّ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ التَّقْلِيدِ صَادِرًا عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْمُزَنِيِّ وَالْمُرِيدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، وَتَقْلِيدُهُ جَائِزٌ لِمَنِ اسْتَفْتَاهُ مِنَ الْعَامَّةِ، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ؟ قِيلَ: أَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ. وَإِطْلَاقُ هَذَا النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَصِفُهُ مِنْ أَحْوَالِ التَّقْلِيدِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ ينقسم قسمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قسم فيما يجوز فيه التقليد وفيما لَا يَجُوزُ. وَقِسْمٌ فِيمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَفِيمَنْ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ. وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ. وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ فَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِهِ، وَبَعْثُهُ أَنْبِيَاءَهُ، وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، فَصَارَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَقْلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فيه التقليد فالأخبار. وهي تنقسم إلى قسمين: أخبار تواتر وأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 آحَادٍ. فَأَمَّا أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ فَخَارِجٌ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَتَقْلِيدُ الْمُخْبَرِ بِهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَعَتِ الضرورة فيما غاب إلى قبول الخبرية لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، جَازَ التَّقْلِيدُ فِيهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يكون عَدَالَةُ الْعَالِمِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ فَتْوَاهُ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ مَا اخْتَصَّ بِالْقَوْلِ الْمَقْبُولِ مِنْ خَبَرٍ أو حكم مَا اخْتَصَّ بِالْقَائِلِ مِنْ عَدَالَةٍ وَصِدْقٍ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ فَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَنْقَسِمُ إِلَى تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَكَرَاهِيَةٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ، فَالتَّقْلِيدُ فِيهَا مختلف باختلاف أحوال الناس من فهم آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ، لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَلَوْ مُنِعَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَكُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْعِلْمِ عَلَى الْكَافَّةِ، وَفِي هَذَا حَلُّ نِظَامٍ وَفَسَادٌ، وَلَوْ جَازَ لِجَمِيعِهِمُ الِاجْتِهَادُ لَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ، وَسَقَطَ فَرْضُ الْعِلْمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وفي هذا تعطيل الشريعة وذهاب العلم، فكذلك ما وَجَبَ الِاجْتِهَادُ عَلَى مَنْ نَفَعَ بِهِ كِفَايَةً لِيَكُونَ الْبَاقُونَ تَبَعًا، وَمُقَلِّدِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم لعلهم يحذرون} فَلَمْ يَسْقُطِ الِاجْتِهَادُ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَلَا أُمِرَ بِهِ كَافَّتُهُمْ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ. وقسم فيمن يجوز تقليده. وقسم يختلف بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْؤُولِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمُ الْعَامَّةُ الَّذِينَ عُدِمُوا آلَةَ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ بِعَدَمِ الْآلَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْبَصِيرِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْبَصَرِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَخَطَئِهَا. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَامَّةِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فِي حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ بِجَوَابِهَا فَاعْتَقَدَهُ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا لَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِصِحَّتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ. فَلَوْ عَلِمَ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا، وَأَرَادَ أَنْ يُفْتِيَ غَيْرَهُ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِيهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ بِمِثْلِ وُصُولِ الْعَالِمِ إِلَيْهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا هِيَ أَقْوَى مِنْهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةٍ جَازَ تَقْلِيدُهُ فِيهَا وَاسْتِفْتَاؤُهُ فِي حُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا أَوِ اسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ. فصل : من يجوز تقليدهم وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أحدها: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمُجْمِعُونَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: الصَّحَابَةُ فِيمَا قالوه وفعلوه. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَقْلِيدُهُ فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه فانتهوا} [الحشر: 7] . ومنع أَصْحَابِنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَقْلِيدًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ؛ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ لَا يُسْأَلُ عَنْ دَلِيلٍ فِيهِ، وَهَذِهِ صِفَةُ التَّقْلِيدِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا اجْتِهَادًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فَضِيلَةٌ تَقْتَضِي الثَّوَابَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَمْنُوعًا مِنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَإِنَّمَا يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ أَمْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْأَحْكَامِ أَمْ يَلْزَمُهُمْ سُؤَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذ: " بما تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ". وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ مُمْكِنٌ فِي عَصْرِهِ بِسُؤَالِهِ. والمذهب الثالث: يجوز لمن بعد، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ، لِإِمْكَانِ السُّؤَالِ عَلَى مَنْ قَرُبَ، وَتَعَذُّرِهِ عَلَى مَنْ بَعُدَ. فصل: الصنف الثاني وأما الصِّنْفُ الثَّانِي وَهُمُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أخبروا به ورووه عنه واجب إن كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ إِلَّا خَبَرَ اثْنَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَعْمَلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي إِعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ حَتَّى أَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بن سلمة. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَعَمِلَ عُمَرُ عَلَى خَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثبوت. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عُلِمَ إِسْلَامُهُ جَازَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ، لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَشْهَدُ أَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ " فَقَبِلَ خَبَرَهُ وَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ لَمَّا عَلِمَ إِسْلَامَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَهَا قَبُولُ خَبَرِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَجْهُولَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ، فَأَمَّا خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي الْحَالِ فَكَانَ عَدْلًا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْأَعْصَارِ مِنْ بَعْدِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَكِنْ لَوْ سَمِعَ صَغِيرًا وَرَوَى كَبِيرًا جَازَ فَقَدْ كَانَ سَمْعُ ابْنِ عباس وابن زبير قَبْلَ بُلُوغِهِمَا، فَقَبِلَ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَارَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَرْوِيَ إِلَّا بَعْدَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ مَنْ أَخْبَرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ فَيَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِمَّا بِالْإِجَازَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بِالْإِجَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ كَانَتْ عامة لم يجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وهو يروي كتبا في السنن، أو يقول: أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي، وهناك جماعة مشتركون هذا الاسم. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ دَفَعَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: قَدْ أَجَزْتُكَ هَذَا جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكُلُّ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ إلا أن يقويه الْمُحَدِّثُ، أَوْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ مَجْهُولٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ، ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، ولا يستغني النَّاسُ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ وَمُعَانَاةِ السَّمَاعِ، فَإِذَا سَمِعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا وَثِقَ بِهِ، وَعَرَفَ خَطَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِمَا يَرْوِيهِ، وَلَا ذَاكِرًا لَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ خَطِّهِ، وَإِنْ عَرَفَهُ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَحْفَظَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نَشْهَدَ بِمَعْرِفَةِ خَطِّهِ حَتَّى يَذْكُرَ مَا نَشْهَدُ بِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْأَثَرِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ بِهِ فَالْأَثَرُ مَا عَمِلَ عليه المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فِيمَا أَخَذُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، مِنْ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا كِتَابُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَمِنْهَا الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نصف الزكاة فلما جاز ذلك في الْأَحْكَامُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الشَّهَادَةِ جَازَ أن يعمل عليه فيما رواه على خطه وإن لم يجز أن نشهد بِخَطِّهِ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ " فَلَوْلَا أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ جَائِزٌ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِالْخَطِّ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحُدُوثِهِ يَسْمَعُونَ عَمَّنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَلَا يَجْتَنِبُونَ سَمَاعَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ سَمَاعِ صَوْتِ الْمُحَدِّثِ، وَإِنْ لَمْ يره لرحمه أَوْ لِذَهَابِ بَصَرِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ خَطِّهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. فصل: الصنف الثالث وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمُ الْمُجْمِعُونَ عَلَى حُكْمٍ فَتَقْلِيدُهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَفَرْضُ الِاجْتِهَادِ عَنَّا فِيهِ سَاقِطٌ، لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ النَّظَّامُ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ مِنْ إِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِسْقَاطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، اسْتِدْلَالًا بِتَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدًا وَهُوَ عَلَى الْآخَرِ لجوز، فلما كان خلاف الجميع إلا واحد جَازَ خِلَافُهُمْ مَعَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ يُبْطِلُهَا النَّصُّ وَيُفْسِدُهَا الدَّلِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . فَتَوَعَّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ جَوَّزَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ " ومن أبطل الإجماع جعلهم مجتمعين على ضلال، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْكَافَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجُزْ خِلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْأَخْفَى كَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْأَظْهَرِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْكَافَّةِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ بِهِ ظَافِرًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا عُلِمَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ضَرُورَةً كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَهَذَا يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً لَوْ صُوِّرَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَالَفَتْهُ لَكَانُوا مَحْجُوبِينَ بِهِ فَصَارَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِجْمَاعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَمَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ، كَالْبِنْتِ، وَإِحْلَالِ بِنْتِ الْعَمِّ، بِخِلَافِ الْعَمَّةِ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ مُعْتَبَرًا فِيهِ؟ لَوْلَا وَفَاقُهُمْ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعًا عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِهِ وَلَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعًا لِاشْتِرَاكِهِمْ وَالْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ مُنْعَقِدٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ دُونَهُمْ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَقَعَ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْ يَكُونُ خِلَافُهُ مُؤَثِّرًا وَخِلَافُ الْعَامَّةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والضرب الثالث: ما اختص بالعلماء بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ دُونَ الْعَامَّةِ كَنَصْبِ الزَّكَاةِ، وَتَحْرِيمِ المرأة على خالتها وعمتها، وَإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ من أهل الاجتهاد والفتيات دُونَ الْعَامَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى فِيهِ إجماع غير الفقهاء ومن الْمُتَكَلِّمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى إِجْمَاعُهُمْ فِيهِ وَيُؤَثِّرُ خِلَافُهُمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَخِلَافُهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَقْوَمُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَأَكْثَرُ حِفْظًا لِلْفُرُوعِ، وَأَكْثَرُ ارْتِيَاضًا بِالْفِقْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُمُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَخَالَفَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ الصَّحَابَةَ فِي مَسَائِلَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَقْوَالَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِتَفَرُّدِهِ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ خِلَافُ الْوَاحِدِ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ أَبَدًا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا يُمْنَعُ خِلَافُ الْوَاحِدِ إِنْ أَنْكَرَهُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْبَاقِينَ إنكار، فيكون ترك التكبير مِنْهُمْ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ فِيهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ كَانَ مَحْجُوبًا بِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَدِ ارْتَفَعَ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُنْكِرُوهُ، لأن ممن شهد لله بِالْحَقِّ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ غَيْرُ مَحْجُوجٍ بِالْأَكْثَرِ، كَذَلِكَ قَوْلُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْأَقَلِّ، وَهَكَذَا لَوْ أَجْمَعُوا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ لَبَطَلَ التَّبْلِيغُ وَلَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حَادِثَةٍ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِمْ بَعْدَ خِلَافِ الصَّحَابَةِ قَبْلَهُمْ، فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ، وَالْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ قَدِ ارْتَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 إِجْمَاعُ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَا كَانَ حُجَّةً لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ بَاقٍ، وَالْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْقَوْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ مُبْطِلًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ لَوْ رَفَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ، كَانَ نَسْخًا، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ النَّسْخِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَدْرَكَ أَحَدُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ، وَأَنَّ خِلَافَ التَّابِعِيِّ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبد الرحمن خلافه، لأن ابن عَبَّاسٍ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وقالت: أراك كالفروج يصفع مَعَ الدِّيَكَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ أن خلافه معتد به، ومانع انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ دُونَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَاصَرَ الصَّحَابَةَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَكَانُوا يُفْتُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَنَعُوهُمْ مِنَ الفتى خَوْفًا مِنَ الْفُتْيَا بِمَا يُخَالِفُهُمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّ التَّابِعِيَّ إِنْ كَانَ حِينَ أَدْرَكَهُمْ خَاضَ مَعَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه أعيد بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ سَبَقَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع قبل الْإِجْمَاعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعٌ عَنْ قَوْلٍ. وَالثَّانِي: إِجْمَاعٌ عَنِ انْتِشَارٍ وَإِمْسَاكٍ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الِانْتِشَارِ وَالْإِمْسَاكِ، لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِالْتِمَاسِ الدَّلِيلِ، وَيُحْتَمَلُ الْوِفَاقُ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَلَيْهِ زَالَ الاحتمال، ويثبت أنه إمساك وفاق، ولكن اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاسِكِينَ فِيهِ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِمْ وُجُودُ الرِّضَى مِنْهُمْ وَالِاعْتِقَادِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ اعْتِقَادُهُمْ، لِأَنَّ بِالِاعْتِقَادِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مَوْصُولٍ إِلَيْهِ، وَالرِّضَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَنْ قَوْلٍ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ، لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، وَلَيْسَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهِ لِأَنَّ لِبَعْضِ الْمُجْمِعِينَ الرُّجُوعَ كَمَا رَجَعَ عَلِيٌّ _ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بيع أمهات الأولاد، لو كَانَ مُنْعَقِدًا لَمَا جَازَ خِلَافُهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِيهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي حَيَاتِهِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كان الإجماع منعقد، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ حجة على من بعدهم. فصل : الصنف الرابع فَأَمَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَهُمُ الصَّحَابَةُ فَتَقْلِيدُهُمْ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى الشَّيْءِ قَوْلًا، وَيَتَّفِقُوا لَفْظًا، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَتَقْلِيدُهُمْ فِيهِ وَاجِبٌ، وَالْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ لَازِمٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا، وَيَنْتَشِرَ فِي جَمِيعِهِمْ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ قَائِلٍ بِهِ، وَسَاكِتٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظْهَرَ الرِّضَى مِنَ الساكت عما ظهر النطق مِنَ الْقَائِلِ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُطْقٌ مَوْجُودٌ فِي رضاء السَّاكِتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ السَّاكِتِ الرِّضَى وَلَا الْكَرَاهَةُ، فَهُوَ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا خِلَافَهُ لَمْ يَسَعْهُمُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: يكون إجماعا، لأنه كَانَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ لَبَعَثَتْهُ الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِ خِلَافِهِ، لِأَنَّ كَتْمَ الشَّرِيعَةِ يَنْتَفِي عِنْدَهُمْ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ نَسَبَ إِلَى سَاكِتٍ كَلَامًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْوَاحِدُ فِيهِمْ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ كَانَ انْتِشَارُهُ فِيهِمْ وَسُكُوتُهُمْ عَنِ الْخِلَافِ فِيهِ إجماعا وإن كان فينا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا عَنْ مَشُورَةٍ وَمُطَالَعَةٍ وَبُعْدِ نَظَرٍ وَمُبَاحَثَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ بضد هذا، إن كان فينا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ اعْتِرَاضُ السَّاكِتِينَ فِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالْفُتْيَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ فِيهَا مُبَايَنَةً، وَكَانَ السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى رِضًى وَمُوَافَقَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا لَا يُعْلَمُ انْتِشَارُهُ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافُهُ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة إِنَّهُ حُجَّةٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ بِقَوْلٍ، مِنْ غَيْرِ طَلَبِ دَلِيلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ آحَادِهِمْ حُجَّةٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أن يختص به العموم الكتاب والسنة أولا؟ على وجهين: أحدهما: يجوز لأن عموم يَخْتَصُّ بِقِيَاسٍ مُحْتَمَلٍ وَقَوْلُهُ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ الْمُحْتَمَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَقْوَالَهُمْ لِعُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَيَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ خِلَافُهُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ حجة علينا وعلى الصحابي، وليس قول الواحد حجة على جميع الصحابة، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَافَقَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ فَهَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَوْلَى لِأَنَّ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مَعَ مُوَافَقَةِ قِيَاسِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:: وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ حَيْثُ أَخَذَ بِقَضَاءِ عُثْمَانَ لِمُوَافَقَتِهِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ قياس المعنى. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَظْهَرُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَيَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ " فَإِنِ اسْتَوَى أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي ". فَإِنِ اسْتَوَى صَارَ كَالدَّلِيلَيْنِ إِذَا تَقَابَلَا فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَعُودُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ، وَيَقْتَضِيهِ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ الِاخْتِلَافِ يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ مَا لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَهْلًا وَالْإِقْدَامُ عَلَى مَا لَا يُؤْمَنُ بِهِ يَكُونُ قَبِيحًا، وَقُبْحُ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مُقَرَّرٌ فِي الْعُقُولِ وَإِفْرَادُ الصَّحَابَةِ كَإِفْرَادِ سَائِرِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ، لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَمْ يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا مِنْهَا بِنَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ بِاخْتِلَافِ حال السائل والمسؤول فهم علماء الأمصار، فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ عَامِّيًّا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ، فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ ويعمل عليه، لقوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . ولأن العامي عادم لآلة الاجتهاد للوصل إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَجَرَى مَجْرَى الضَّرِيرِ يَرْجِعُ فِي الْقِبْلَةِ لِذَهَابِ بَصَرِهِ إِلَى تَقْلِيدِ الْبَصِيرِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي الأعيان من المعينين عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُقَلِّدَ إِلَّا أَعْلَمَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ وَأَسَنَّهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا فِي الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ بِمُشَارِكٍ فَصَارَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي أَعْلَمِهِمْ، كَمَا كَانَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حُجَّةِ قَوْلِهِمْ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ وَجَدَ عَالِمَيْنِ وَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ عِنْدَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: هُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْلَمَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَوْصَلَ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، أَوْ مُسَاوِيًا فِيهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا لَمْ يَسْكُنْ إِلَى فُتْيَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَصِيرُوا عَدَدًا تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى فُتْيَاهُمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى فُتْيَاهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نُفُورُ نَفْسِهِ وَلَا سُكُونُهَا حُجَّةً. وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا، ثُمَّ رَجَعَ الْفَقِيهُ عَنْ فُتْيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّائِلُ بالرجوع فهو على ما كان عليه الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِ، فَإِنْ كَانَ الْفَقِيهُ خَالَفَ نَصًّا لَزِمَ السَّائِلَ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ قَدْ خالف أولى التصوير فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ السَّائِلُ بِمَا أَفْتَاهُ به لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يَنْقُضْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِتَحْلِيلٍ، وَالْآخِرُ بِتَحْرِيمٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَمَا كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَثْقَلِهِمَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ. فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، ولم يرده الشافعي رحمه الله بالنبي عَنْ تَقْلِيدِهِ، فَأَمَّا الْعَالِمُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يقلد عالما فعلى ضربين: أحدهما: أن يرد تَقْلِيدَهُ فِيمَا يُفْتَى بِهِ أَوْ يُحْكَمُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَجَوَّزَهُ أبو حنيفة، وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْعَامِّيِّ الْقَضَاءَ لِيَسْتَفْتِيَ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ به، وهذا خطأ، لقوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . فجعل فقد هذا الْعِلْمِ فِي سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ له، كالمبصرين لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ فِي الْقِبْلَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّ تَقْلِيدَهُ فِيمَا نَزَلَتْ بِهِ مِنْ حَادِثَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِاجْتِهَادِهِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى الدَّلَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْحُكْمِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ فَيَصِلُ بِاجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْكَشْفِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ، فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. فَصْلٌ قَوْلُهُ: " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " فَالْمَعْنِيُّ بِالنَّاظِرِ هُوَ الْمُرِيدُ، وَالنَّظَرُ ضربان: الأول: نظر مشاهدة بالبصر. والثاني: نَظَرُ فِكْرٍ بِالْقَلْبِ، وَمُرَادُهُ هُوَ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ ينظروا في ملكوت السموات وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] . يَعْنِي أَفَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " تَأْوِيلَانِ عَلَى مَا مَضَى. أَحَدُهُمَا: فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ " لِدِينِهِ " فَلِأَنَّ الْفِقْهَ عِلْمٌ دِينِيٌّ، فَالنَّاظِرُ فِيهِ نَاظِرٌ فِي دِينِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَيَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ ": أَيْ لِيَطْلُبَ الِاحْتِيَاطَ لِنَفْسِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَذَاهِبِ فَتَرَكَ التَّقْلِيدَ بطلب الدلالة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 [كتاب الطهارة] باب الطهارة قال المزني رحمه الله: قال الشافعي رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ مَنْ ذَكَرْنَا إعناته للمزني على هَذَا الْفَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالُوا أَسْنَدَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْآنَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا يَقْتَصِرُ إِلَى الْإِسْنَادِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيعَاذِ مِنْ خِدَعِ الْهَوَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِسْنَادَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ هُوَ الشَّافِعِيُّ دُونَ الْمُزَنِيِّ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي إن قَالُوا: قَدَّمَ الدَّلِيلَ عَلَى الْمَدْلُولِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضُوعِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ حَسُنَ أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مُبْتَدِئًا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَسْأَلَةٍ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَضَرْبٌ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَصْلِ الْبَابِ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَى الْبَابِ. فَصْلٌ: دَلَائِلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالدَّلَائِلُ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ وَجَوَازِ التَّطْهِيرِ بِهِ آيتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إِحْدَاهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طهورا} ، وَالثَّانِيَةُ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ به} . وَسُنَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَا رَوَاهُ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ ". وَالثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ الْعَرَكِيَّ قَالَ: " إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْمَاثٍ لَنَا ". وَالْعَرَكِيُّ: الصَّيَّادُ. والأرماث: الخشب يضم بعضه إلى بعض فنركب عَلَيْهَا فِي الْبَحْرِ ". قَالَ الشَّاعِرُ: (تَمَنَّيْتُ مِنْ حُبِّي بُثَيْنَةَ أَنَّنَا ... عَلَى رَمَثٍ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ لَنَا وَفْرُ) قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " هذا الحديث نصف العلم الطهارة، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَةِ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْمَاءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَابِعًا مِنَ الْأَرْضِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الطَّهُورُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَهُوَ صِفَةٌ تَزِيدُ عَلَى الطاهر يتعدى التطهير منه لغيره، فَيَكُونُ مَعْنَى الطَّهُورِ هُوَ الْمُطَهِّرُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ دَاوُدَ وَالْأَصَمُّ: إِنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ لَا يَخْتَصُّ بِزِيَادَةِ التَّعَدِّي. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَجْوِيزُهُمْ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] . يَعْنِي طَاهِرًا لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ وَقَالَ جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 (إِلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ عُدَّ مِنَ الظُّبَى ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ) يَعْنِي: طَاهِرًا، لِأَنَّ رِيقَهُنَّ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا، كَالْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ، وَكُلَّ فَاعِلٍ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَانَ فَعُولُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَالصَّبُورِ وَالصَّابِرِ فَلَمَّا كَانَ الطَّاهِرُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّهُورُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمَا انْطَلَقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ، كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الطَّهُورِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطَهُّرِ بِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ، بَلْ لِلُزُومٍ، وَالصِّفَةُ لَهُ أَيِ الْوَصْفُ، قَالُوا وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِعْلُ التَّطْهِيرِ مِنْهُ كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ فَلَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَعْمَلًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَاءَ يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فِي تَعَدِّي فِعْلِهِ إِلَيْهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا طَهَارَتَهُ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ قَبْلِي نَبِيٌّ " فَذَكَرَ مِنْهَا: " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا " يَعْنِي مُطَهِّرًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَاهِرًا عَلَى مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا افْتَخَرَ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّطْهِيرِ بِهِ. وَقَالَ عليه السلام: " دِبَاغُهَا طَهُورُهَا ". أَيْ مُطَهِّرُهَا. وَقَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ " أَيْ: مُطَهِّرُهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى مُطَهِّرٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ. وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُوَ أَنَّ فَعُولَ أَبْلَغُ فِي اللُّغَةِ مِنْ فَاعِلٍ، فَلَمَّا اخْتَصَّ قَوْلَهُمْ طَهُورٌ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ دُونَ مَا كَانَ طَاهِرًا مِنَ الْخَشَبِ وَالثِّيَابِ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ تَعَدِّي الطَّهُورِ، وَلُزُومُ الطَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَعُولِهِ وَفَاعِلِهِ بِالتَّكْرَارِ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي، كَالْقَتُولِ وَالْقَاتِلِ وَمَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْرَارِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ طَهُورٍ وَطَاهِرٍ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا عَدَمُ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فِي الجنة مما هو أعز مَشْرُوبًا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ لِرِيقِهِنَّ بِالطَّهُورِ بِهِ مُبَالَغَةً، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ طَاهِرًا لما كان مادحا، لأن ريق البهائم طاهرا أَيْضًا، وَإِنَّمَا بَالَغَ بِأَنْ جَعَلَهُ مُطَهِّرًا تَشْبِيهًا بِالْمَاءِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي التَّعَدِّي إِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي. فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ التَّعَدِّي. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَنْطَلِقِ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَةٍ قَدْ تُوجَدُ فِي الْبَاقِي مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ طَعَامٌ مشبع، وماء مروي، ونار مُحْرِقَةٌ، وَسَيْفٌ قَاطِعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ متعديا لتكرر الفعل منه. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِجِنْسِ الْمَاءِ وَجِنْسُ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى العضو وانتقاله من محل إلى محل. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا ال ْفَصْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ " فَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ " خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ، وَلَا تَقُولُ: مَالِحٌ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَامَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَاءٌ مِلْحٌ لَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ وَمَاءٌ مَالِحٌ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 (فَلَوْ تَفِلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ ... لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا) وَقَالَ آخَرُ: (تَلَوَّنْتَ أَلْوَانًا عَلَيَّ كَثِيرَةً ... وَخَالَطَ عَذْبًا مِنْ إِخَايِكَ مَالِحُ) وَمَاءُ الْبَحْرِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وعن سعيد بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَقَدَّمُوا التَّيَمُّمَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] . فَمَنْعُهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَحْرُ نَارٌ مِنْ نَارٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هِنْدٍ الْفِرَاسِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ طَعْمِهِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . فَإِنَّمَا نَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ غَيْرُ سَائِغٍ شَرَابُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ " يَعْنِي أَنَّهُ كَالنَّارِ لِسُرْعَةِ إِتْلَافِهِ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] . فَثَبَتَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ، فَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْمِلْحُ فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْجُمُودِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَارِي، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءً جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَصِيرُ مِلْحًا بِجَوْهَرِهِ فِي الْمَاءِ، دُونَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْيُنِ الْمِلْحِ الَّتِي تَنْبُعُ مَاءً مَائِعًا وَيَصِيرُ جَوْهَرُهُ مِلْحًا جَامِدًا فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ يَتَنَاوَلُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يُؤَوَّلُ عَنْهُ إِذَا جَمُدَ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا يَجْمُدُ الْمَاءُ فَيَصِيرُ ثَلْجًا. قَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَاءِ كَالنِّفْطِ وَالْقَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ مَاءَ بِئْرٍ أَوْ مَاءَ سَمَاءٍ فَحَذَفَ ذِكْرَ الْمَاءِ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . يَعْنِي مَاءَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّا مَاءُ السَّمَاءِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21] . يَعْنِي بِهَا مَاءَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ فَيُرِيدُ بِهِ أَيْضًا مَاءَ بَرَدٍ أَوْ مَاءَ ثَلْجٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الطهارة به ما روي عنه عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ كما تطهر النوب مِنَ الدَّرَنِ " وَلِأَنَّهُ كَانَ مَاءً فَجَمُدَ، ثُمَّ صَارَ مَاءً حِينَ ذَابَ وَانْحَلَّ، فَأَمَّا إِذَا أُخِذَ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ فَدَلَكَ بِهِ أَعْضَاءَ طَهَارَتِهِ قَبْلَ ذَوَبَانِهِ وَانْحِلَالِهِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِيهِ، وَإِطْلَاقُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ إِمْرَارَهُ الثَّلْجَ عَلَى أَعْضَائِهِ يَكُونُ مَسْحًا يَصِلُ إِلَى الْعُضْوِ بِكُلِّ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْعُضْوِ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ أَجْزَأَهُ بِحُصُولِ الْمَسْحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الْغَسْلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ، وَهَذَا مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ وَمَسْحُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ، فَلَوْ كَانَ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ يَذُوبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَجْرِي مَاؤُهُ عَلَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا يُجْزِئُ لِحُصُولِ الْغَسْلِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ صَارَ جَارِيًا. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ " مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ، وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ " فَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْمُسَخَّنِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَخَّنِ بِالنَّارِ وَبَيْنَ الْحَامِي بِالشَّمْسِ فِي أَنَّ الْمُسَخَّنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَالْمُشَمَّسَ مَكْرُوهٌ. وَالثَّانِي: الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ الْمَاءُ فَيَسْتَعْمِلُهُ وَالصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَلِأَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّبْرِيدِ يُرْفَعَانِ عَنْهُ تَارَةً وَيَحِلَّانِ فِيهِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَبْرِيدُهُ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَكُنْ تَسْخِينُهُ الدَّافِعَ لِرَدِّهِ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَعَلَّ مُجَاهِدًا كَرِهَ مِنْهُ مَا اشْتَدَّ حَمَاهُ، فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ، وذلك عندنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مكروه، وكذلك كما اشْتَدَّ بَرْدُهُ فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمِيَاهُ كُلُّهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ مِيَاهٍ مَاءُ الْمَطَرِ، وَمَاءُ الثَّلْجِ، وَمَاءُ الْبَرَدِ، وَنَوْعٌ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعُ مِيَاهٍ: مَاءُ الْبَحْرِ، وَمَاءُ النَّهْرِ، وَمَاءُ الْعَيْنِ، وَمَاءُ الْبِئْرِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ والرائحة. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا أَكْرَهُ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِكَرَاهِيَةِ عُمْرَ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: " يُورِثُ الْبَرَصَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا صَحِيحٌ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عنهما - شَمَّسَتْ مَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تفعلي يا حميرا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ " وَرُوِيَ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، فَإِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ كَرَاهِيَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا أَثَّرَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ مِيَاهِ الْأَوَانِي، وَأَمَّا مِيَاهُ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ لَا يُكْرَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا كَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَوَانِي. وَالثَّانِي: التَّحَرُّزُ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَمِنَ الْأَوَانِي مُمْكِنٌ وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِي مِيَاهِ الْأَوَانِي قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْحَمَا، وَتَارَةً بِزَوَالِ بِرْدِهِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرِ الشَّمْسُ فِيهِ لَمْ يُكْرَهْ فَسَوَاءٌ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ، وَمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ دُونَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " لَا تَفْعَلِي " فَكَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفِعْلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَصَّ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْقَصْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَا أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ فِي بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ، وَبَيْنَ مَا حَمِيَ بِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ النَّهْيَ مَخْصُوصًا بِمَا حَمِيَ بِتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ تُورِثُ الْبَرَصَ دُونَ مَا حَمِيَ بِالْعِرَاقِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقُ قَوْلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بِغَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ عُمُومِ النَّهْيِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْبِلَادِ، فَأَمَّا مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ ثُمَّ بَرُدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى حَالِ الْكَرَاهَةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ قَبْلَ الْبَرْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ كَانَ لِأَجْلِ الْحَمْيِ، فَإِذَا زَالَ الْحَمْيُ زَالَ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ، وَكَانَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى عُدُولِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ بَعْدَ بَرْدِهِ يُورِثُ الْبَرَصَ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِغَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في الشريعة، لأن من الطِّبِّ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فَإِنَّمَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ أَوْ بَرَدٍ، أَوْ تَنْظِيفٍ، أَوْ شُرْبٍ، سَوَاءٌ لَاقَى الْجَسَدَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ عِبَادَةٍ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَاسَةٍ عَنْ أَرْضٍ، فَلَا يُكْرَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمُلَاقَاةِ الْجَسَدِ دُونَ غَيْرِهِ، فأما إن استعماله فِي طَعَامٍ يُرِيدُ أَكْلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَبْقَى فِي الطَّعَامِ كَالْمُرِّيِّ بِهِ فِي الطَّبْخِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَا يُعَافِيهِ كَالدَّقِيقِ الْمَعْجُونِ بِهِ، أَوِ الْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ به لم يكره. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاءِ وَرْدٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ عَرَقٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعْتَصَرًا مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ، أَوْ وَرَقٍ، كماء الورد والبقول الفواكه فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ، وَلَا نَجَسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابن أبي ليلى والأصم أنه طاهر يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ دُونَ الْحَدَثِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمُّ فَاسْتَدَلَّا بِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: أَوْدَعَ كُلَّ مَاءٍ مَعْدِنًا وَأَوْدَعَ هَذِهِ الْمِيَاهَ فِي النَّبَاتِ كَمَا أَوْدَعَ غَيْرَهَا فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُهَا فِي التَّطْهِيرِ بِاخْتِلَافِ مَعَادِنِهَا كَسَائِرِ الْمِيَاهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْمُطْلَقَ بِالتَّطْهِيرِ، وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ إِذَا عُلِّقَ بِصِفَةٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْحُكْمِ وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ ولأن مَا خَرَجَ عَنِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي التَّطْهِيرِ كَالْأَدْهَانِ وَمَاءِ اللَّحْمِ وهذا يفسد ما استدلوا به. فصل : دليل أبي حنيفة والرد عليه وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَجُرُّهُ فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا التُّرَابُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِغَيْرِ الْمَاءِ مَدْخَلٌ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أصاب ثوبها دم قبلته وَقَرَصَتْهُ بِرِيقِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ يُزِيلُ النجاسة، قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ فَزَالَ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا أَزَالَ عَيْنَ النَّجَاسَةِ أَوْجَبَ إِزَالَةَ حُكْمِهَا، كَالْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ عَيْنِهِ بَعِيدًا لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمَاءِ كَالطِّيبِ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنًى زَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَنْجِيسِ الْمَحَلِّ وُجُودَ الْعَيْنِ وَجَبَ إِذَا ارْتَفَعَتْ أَنْ يَزُولَ تَنْجِيسُ الْمَحَلِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ إِنَاءَ الْخَمْرِ لَمَّا طَهُرَ بِانْقِلَابِهِ خَلًّا، عُلِمَ أَنَّ الْخَلَّ طَهَّرَهُ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ مُطَهِّرًا لِإِنَاءِ الْخَمْرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِكُلِّ نَجِسٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ هِرًّا لَوْ أَكَلَتْ فَارَةً أَوْ مَيْتَةً ثُمَّ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ كان الماء طاهرا، فدل أن فيها طهر بريقها، قالوا: ولأن لَمَّا كَانَ لِغَيْرِ الْمَائِعِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ فِي الدِّبَاغَةِ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ مُخْتَصًّا بِالْإِزَالَةِ فَكَانَ الْمَائِعُ أَوْلَى مِنَ الْجَامِدِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذَا مَخْرَجَ الْفَضِيلَةِ لِلْمَاءِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَلَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الِامْتِنَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ عَلَى الْمَاءِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا سواه لنص على أدون الْمَائِعَاتِ، لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَعْلَاهَا فَلَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى أَعْلَى الْمَائِعَاتِ عُلِمَ أَنَّ اختصاصه بالحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ولا سيما فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ " فَأَمَرَهَا بِالْمَاءِ، وَالْأَمْرُ إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ لَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، كَرَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ غَسْلٌ مَفْرُوضٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ النَّجَسُ كَالدُّهْنِ، وَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّطْهِيرِ: أَحَدُهُمَا: تَطْهِيرُ نَفْسِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ. وَالثَّانِي: تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ. فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ المائع تطهير نفسه بالمكاثرة. وجب أن تنتفي عَنِ الْمَائِعِ تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَائِعِ قِيَاسًا عَلَى تَطْهِيرِ الْمُكَاثَرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا نَجِسَ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ نَجِسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ بِكُلِّ حَالٍ كَغَيْرِهِ الْمَائِعِ طَرْدًا، وَكَالْمَاءِ عَكْسًا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مُلَاقَاةُ الْحِلِّ وَالنَّجَاسَةِ يُوجِبُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، ولأن إزالة النجس أعلا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّجَاسَةِ دون الحدث، فلم يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ أَخَفُّ الْأَمْرَيْنِ حَالًا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُهُمَا حَالًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " فَهُوَ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ، أَوْ إِلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ لَا تُطَهَّرُ بِالدَّلْكِ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى نَجَاسَةٍ يَسِيرَةٍ يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِتُلِينَ النَّجَاسَةَ بَرِيقِهَا، ثُمَّ تَغْسِلُهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّيقَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الماء، فالمهنى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلِذَلِكَ أَزَالَ النَّجَسَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَزَالَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ فِي بَدَنِ الْمُحْرِمِ فَالْمَعْنَى فِي الطِّيبِ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِزَالَةُ رِيحِهِ لَا إِزَالَةَ حُكْمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِكَمِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، ويقول: ليس ارتفاع معنى الحكم موجب لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُونَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ فَعَلَى هذا أن يَكُونُ الْمَعْنَى هُوَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ دُونَ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مَعَ عَدَمِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا نَجِسَ، وَقَدْ يُوجَدُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ فَكَانَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَاقِيًا، وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْإِنَاءِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِ الخمر خلا، وإنما كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْإِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ إِجْزَاءِ الْخَمْرِ فَإِذَا انْقَلَبَتْ فِي الْإِنَاءِ خَلًّا انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مَعَهَا فَصَارَتْ خَلًّا فَطَهَّرَ الْجَمِيعَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِزَالَةَ نَجَسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِلَابُ خَمْرٍ إِلَى خَلٍّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْهِرَّةِ إِذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّنَا مَتَى عَلِمْنَا نَجَاسَةَ فَمِهَا بِأَنْ وَلَغَتْ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ فَالْمَاءُ نُجِّسَ، وَإِنْ غَابَتْ عَنِ الْعَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ فِي فَمِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ طاهر لأن الأصل طاهرة الْمَاءِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّ الْهِرَّةَ حِينَ غَابَتْ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ آخَرَ فَطَهُرَ فَمُهَا. وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالدِّبَاغَةِ فَحُكْمُهَا خَارِجٌ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْمَائِعَاتِ حُكْمًا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " أَوْ عَرَقٍ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا رِوَايَتَانِ ": أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِرَقٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عُرُوقَ الْأَشْجَارِ، إِذَا اعْتُصِرَ مَاؤُهَا، كَانَ غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَقٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، يَعْنِي: عَرَقَ الْإِنْسَانِ يَرْشَحُ مِنْ بَدَنِهِ، لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وإن كان طاهرا، وكذلك كلما اعْتُصِرَ مِنْ أَجْوَافِ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ عِنْدَ الْعَطَشِ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَيَكُونُ نَجِسًا وسمي عرقا. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ مَاءِ زَعْفَرَانٍ أَوْ عُصْفُرٍ. ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَطَهُ مَذْرُورٌ طَاهِرٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ، أَوْ خَالَطَ الْمَائِعَ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْخَلِّ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَغَيُّرِ الْمَاءِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَائِعُ الْمَخَالِطُ أَكْثَرَ وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، وَجَوَّزَ أبو حنيفة اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَنْجَاسِ عَلَى أَصْلِهِ، وَفِي الْأَحْدَاثِ أَيْضًا مَا لَمْ يَحْتَرِزْ بِالْمَذْرُورِ فَيَخْرُجُ عَنْ طَبْعِهِ فِي الْجَرَيَانِ وَمَا لَمْ يَكُنِ الْمَائِعُ أَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا كَانَ طَاهِرًا إِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَمْنَعْهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 كَالتُّرَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسْلُبْهُ التُّرَابُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ لَمْ يَسْلُبْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ حُكْمَ التَّطْهِيرِ، كَمَا الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالْمُخَالَطَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ لَوْ كَانَ لِطُولِ الْمُكْثِ لو يمنع مِنَ التَّطْهِيرِ، وَجَبَ إِذَا كَانَ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ كَالْمُلُوحَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلَّاءِ وَلِأَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِهِ كَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُوَافِقٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ التُّرَابُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَسْلُبْهُ وَاحِدَةً مِنْ صِفَتَيْهِ لَا الطَّهَارَةِ وَلَا التَّطْهِيرِ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمَا فِيهِمَا. وَقِسْمٌ مُخَالِفٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ سَلَبَهُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا الطَّهَارَةَ وَالتَّطَهُّرَ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَقِسْمٌ مُوَافِقٌ الْمَاءَ فِي الطَّهَارَةِ دُونَ التَّطْهِيرِ وَهُوَ الزَّعْفَرَانُ وَمَا شَاكَلَهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الَّتِي يُخَالِفُهُ فِيهَا وَهُوَ التَّطْهِيرُ دُونَ الصِّفَةِ الَّتِي وَافَقَهُ فِيهَا، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ التُّرَابِ وَسَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْمَعْنَى فِيهِ فَقْدُ الْغَلَبَةِ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُلُوحَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَسَنَذْكُرُ الْمَذْهَبَ فِيمَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ نَبِيذٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لَا نَيًّا، وَلَا مَطْبُوخًا، لَا فِي حَضَرٍ، وَلَا فِي سَفَرٍ، وَهُوَ نَجِسٌ إِنْ أَسْكَرَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ، إِذَا كَانَ مُسْكِرًا فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَقَالَ: محمد بن الحسن: يَجْمَعُ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالتَّيَمُّمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ الْعَبْسِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَعَكَ مَاءٌ، قُلْتُ لَا مَعِي نَبِيذُ التَّمْرِ فَقَالَ: " هَاتِهِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ". وَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " النَّبِيذُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ". قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عباس توضآ بالنبيذ، فلا يخلوا فِعْلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ أَوْ تَوْقِيفٍ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 26] . وَفِي النَّبِيذِ مَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ أن يتيمم مع وجوده. قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ طَهُورًا فَجَازَ الوضوء به كالماء. قالوا: وَلِأَنَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَثَبَتَ فِيهِمَا بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوَجْهِ واليدين. قالوا: لأن الْوُضُوءَ نَوْعُ تَطْهِيرٍ يُفْضِي إِلَى بَدَلَيْنِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماء فتيمموا} . فَنَقَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ بِلَا وَسِيطٍ، وَهُوَ النَّبِيذُ، وَلَيْسَ النَّبِيذُ مَاءً مُطْلَقًا، لَا فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ. فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ". قِيلَ: لَوْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ لَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ مَا يُسَاوِي حُكْمَ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَفِي مُبَايَنَتِهِ لَهَا مَعَ مَا مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَدْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْخَلِّ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، كَالنَّقِيعِ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَائِعٍ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَبْلَ طَبْخِهِ، لَمْ يَجُزِ التَّطَهُّرُ بِهِ بَعْدَ الطَّبْخِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبْخِ عِنْدَهُمْ عَدَمُ التَّطْهِيرِ دُونَ إِبَاحَتِهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ يَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الطَّبْخِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّبْخِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْخَبَرِ من وجهين ضعف رواية لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وَأَبُو زيد مجهول وليس رِوَايَةُ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ دَلِيلًا عَلَى ثِقَتِهِ كَمَا رَوَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَقَالَ كَانَ وَالِدُهُ كَذَّابًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الطحاوي خَصَّ نَقْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لأبي حنيفة قَالَ: فَاعْتَمَدَ أبو حنيفة فيها على حديث ابن مسعود، وليس ثابت فَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ مما تنفيه وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ رَوَى عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: لَا وَدِدْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أَنْ لَوْ كُنْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّكَ كُنْتَ مَعَهُ، قَالَ فَقَدْنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ أَوِ اسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بشر ليلة بات لها أهلها فلما أصحبنا أَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ حِرَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَاهُ. فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ فَسَقَطَتَا. فَإِنْ قِيلَ: فَخَبَرُنَا مُثْبِتٌ وَخَبَرُكُمْ نَافٍ وَالْمُثْبَتُ أَوْلَى. قِيلَ: هما سواء فخبركم ثبت كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُنَا يُثْبِتُ كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: تَسْلِيمُ الْخَبَرِ وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنَّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَا نَبَذَ فِيهِ التَّمْرَ لِيُحِلُّوا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَمْرَةٌ طيبة وماء طهور تقتضي ذلك تمييزا أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ مَعِي نَبِيذًا، يَعْنِي: مَا يَصِيرُ نَبِيذًا، وَبِمَعْنَى قَدْ نَبَذَ فِيهِ تَمْرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَمْرًا وَمَاءً طَهُورًا. قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمَجَازِ كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُشْتَدٌّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلَوْ كَانَ لَنَقَلُوهُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا حَتْمًا دِرَايَةً إِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ فِي النَّبِيذِ مَاءَ سهو " هو جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَاءٌ وَانْتَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاءً لَكَانَ الْخَلُّ أَحَقَّ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ مُطْلَقٌ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بأنه مائع سمي في الشرع طهور فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ النَّبِيذِ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ بِهِ فِي انْتِقَالِهِمَا إلى بلل يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ عَنْهُ بَدَلَ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ إِذَا بُدِّلَ كَالْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَمُنْتَقَصٌ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ليس له بدلا إِلَّا الصَّوْمُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَدَلِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُودُ النَّصِّ فِيهِمَا، وَاقْتِصَارُ النَّصِّ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي مِنْ بَدَلِ الْعِتْقِ جِنْسُ البدل الثاني حتى تكون طعاما بعد الصيام لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ ثُبُوتُ أَصْلِهِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُضَافَ إِلَى مَا خَالَطَهُ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْمِيَاهِ إِلَّا أَنَّا نَخْتَصِرُهُ بِقِسْمٍ جَامِعٍ نُمَهِّدُ بِهِ أُصُولَهُ وَتُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعُهُ، فَنَقُولُ: الْمَاءُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ، وَمُضَافٌ، فَالْمُطْلَقُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَالْمُضَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِضَافَةٌ تَمْنَعُ من جواز استعماله، وإضافة لا تمنع منه، فَأَمَّا الَّتِي لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِضَافَتَانِ إِضَافَةُ قَرَارٍ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَالزَّهْرِ، وَإِضَافَةُ صِفَةٍ كَمَاءٍ عَذْبٍ أَوْ أُجَاجٍ، فَأَمَّا الْمَانِعَةُ مِنْ جواز الاستعمال فيتقسم إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِضَافَةُ حُكْمٍ وَإِضَافَةُ جِنْسٍ وَإِضَافَةُ غَلَبَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَلَبَ الْمَاءَ حُكْمُ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ. وَالثَّانِي: مَا سَلَبَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ وَالطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْجِنْسِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَكُلِّ مُعْتَصَرٍ مِنْ نَبَاتٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ، وَلَا نَجَسٍ، وَخَالَفَنَا أبو حنيفة فِيهِ فيجوز إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِضَافَةُ الْغَلَبَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ مُخَالَطَةٍ. وَالثَّانِي: غَلَبَةُ مُجَاوَرَةٍ. فَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُخَالَطَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَائِعٍ كَالْعَسَلِ أَوْ مَذْرُورٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُجَاوَرَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِجَامِدٍ كَالْخَشَبِ أَوْ مُتَمَيِّزٍ كَالدُّهْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جواز استعماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْمِيَاهِ فَجَمِيعُ الْفُرُوعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْبُرَّ وَالشَّعِيرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ صَحِيحًا لَمْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِالْخَشَبِ وَإِنْ ذَابَ فِي الْمَاءِ وَانْحَلَّ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُخَالَطَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَذْرُورِ الزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحُبُوبِ مِنَ الْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَإِنْ طُبِخَ بِالنَّارِ فَإِنِ انْحَلَّتْ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ وَلَا تغير بها الماء فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ يَتَغَيَّرُ بِلَا انْحِلَالٍ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ صَارَ مَرَقًا. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْقَطِرَانَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فغيره فقد قال الشافعي في كتاب الأمم: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنَّ الْقَطِرَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: [الْأَوَّلُ] : ضَرْبٌ فِيهِ دُهْنِيَّةٌ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَا لو تغير بدهن. و [الثاني] : ضَرْبٌ لَا دُهْنِيَّةَ فِيهِ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ فِيهِ مانع من جواز استعماله، كما لو يتغير بِمَائِعٍ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالشَّمْعِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا لَوْ تغير بدهن، ولو تغير شحم أُذِيبَ فِيهِ بِالنَّارِ كَانَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّحْمَ دُهْنٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الشَّحْمِ لِلْمَاءِ تَجْعَلُهُ مَرَقًا. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْكَافُورِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يُعْلَمُ انْحِلَالُ الْكَافُورِ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ. وَحَالٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلَّ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ. وَحَالَةُ شَكٍّ فِيهِ، فَيُنْظَرُ فِي صَفَاءِ التَّغَيُّرِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الطَّعْمُ دُونَ الرَّائِحَةِ فَهُوَ دال على تغير المخالطة ولا يجوز اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرَ الرِّيحُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ تَغَيُّرُ الْمُخَالَطَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُ الْمُجَاوَرَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ كَانَ طَاهِرًا لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَائِعٍ غَيْرَ الْمَنِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمَاعُ فِي الْمَاءِ كَالدُّهْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ. قَالَ أَبُو العباس بن العاص: إن الورق في الماء بعد أن ربا فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْصَرْ فِيهِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَرَقُ الشَّجَرِ مَدْقُوقًا نَاعِمًا فَغَيَّرَ الْمَاءَ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الاسفرايني: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالْوَرَقِ الْمَدْقُوقِ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ، وَتَغَيُّرُهُ بِالْوَرَقِ الصَّحِيحِ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ لَمْ يَنْحَلَّ أَنْ يَكُونَ مِلْحَ حَجَرٍ أَوْ مِلْحَ جَمْدٍ فَإِنْ كَانَ مِلْحَ حَجَرٍ فَاسْتِعْمَالُ مَا تَغَيَّرَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَا يَنْحَلُّ فِيهِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ جَمْدٍ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا قَدْ جَمَدَ، فَإِذَا ذَابَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالثَّلْجِ إِذَا ذَابَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَالَ عَنِ الْمَاءِ فَصَارَ جَوْهَرًا كَغَيْرِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْجَمَادِ أَوْ بِطُولِ المكث كان استعماله جائز لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ، فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بِالتُّرَابِ فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ بِطَبْعِهِ لَمْ يجز استعماله، لأنه صار علينا، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا بِطَبْعِهِ لَكِنْ تَكَدَّرَ لَوْنُهُ وَتَغَيَّرَ طَبْعُهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَذْرُورٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الأصح يجوز قَرَارٌ لِلْمَاءِ لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا عَنْهُ كَالطِّينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمُضَاهِيَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ تَكْمِيلُ مَاءِ الطَّهَارَةِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَكْتَفِي فِي غَسْلِهِ بِعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ مَاءٍ فَيَجِدُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ قِيمَتُهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَائِعٍ غَيْرِهِ، وَلَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِحَاطَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ فِي طَهَارَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ هِيَ مِقْدَارُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مِنْهُ رطلين هِيَ مِقْدَارُ الْمَائِعِ جَازَ، وَإِنْ أُحِطْنَا عِلْمًا بِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمَائِعٍ فَرْدٍ، وَأَنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَيْسَ بِمَاءٍ فَرْدٍ فَكَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَ الْكُلَّ لِكَوْنِ الْمَائِعِ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 باب الآنية قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَتَوَضَّأُ فِي جُلُودِ الميتة إذا دبغت " واحتج بقوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " كَذَلِكَ جُلُودُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا دُبِغَتْ إِلَّا جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ بِأَوَانِي الْجُلُودِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يطهر منها، وللكلام فيها مقدمتان. أحدهما: أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إِلَّا خَمْسَةً: وَهِيَ الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ خِنْزِيرٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى تَنْجِيسِهَا فِي مَوْضِعِهِ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا مِنْ دَوَابِّهِ وَطَائِرِهِ طَاهِرٌ فِي حَيَاتِهِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَيْتَةَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْحُوتُ، وَالْجَرَادُ وَابْنُ آدَمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْجَنِينُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدُ إِذَا مَاتَ فِي يَدِ الْجَارِحِ بَعْدَ إِرْسَالِ مُرْسِلِهِ، وَسَنَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا نَجِسَةٌ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ، فَكُلُّ مَا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ اسْتِعْمَالُ جِلْدِهِ قَبْلَ دِبَاغِهِ إِلَّا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْجَرَادِ جِلْدٌ يُوصَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْحُوتُ فقد يكون لبعضه من البحري جِلْدٌ يُنْتَفَعُ بِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَمَا كَانَ مِنْهُ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسَةِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُ شَيْءٍ مِنْهَا بِذَكَاتِهِ وَلَا بِدِبَاغِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَائِبٍ وَلَا يَابِسٍ. وَقَالَ أبو يوسف، وَدَاوُدُ: يَطْهُرُ جُلُودُ جَمِيعِهَا بِالدِّبَاغَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَقَالَ أبو حنيفة: يَطْهُرُ جِلْدُ الْكَلْبِ دُونَ الخنزير استدلالا بعموم قوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ "، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَيًّا فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ قِيَاسًا عَلَى الضَّبُعِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قوله عليه السلام: " لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ "، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْكَلْبِ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا تَزُولُ بِالْمُعَالَجَةِ إِذَا كَانَتْ طَارِئَةً عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ ظُهُورِهَا فَلَا يَطْهُرُ بِالْمُعَالَجَةِ كَالْعُذْرَةِ وَالدَّمِ وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَازِمَةٌ لَا طَارِئَةٌ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ أقوى في التطهير من الدباغة لتطهرها جَمِيعَ الْحَيَوَانِ حَيًّا وَاخْتِصَاصُ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ جِلْدِهَا منفردا فلما لم يؤثر الْحَيَاةُ فِي تَطْهِيرِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِهِ فَأَمَّا عُمُومُ قوله عليه السلام فَمَخْصُوصٌ بِدَلِيلِنَا، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فالمعنى فيه: طهارته حيا وكذلك الضبع. فصل وأما الحيوان الطاهر فضربان: [الأول] : مأكول. و [الثاني] : غير مأكول. فأما الْمَأْكُولُ كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ وَالسَّبُعِ، وَالذِّئْبِ فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ وَلَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ. وَقَالَ أبو ثور - إبراهيم بن بشر - لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَمَا لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ جلده بالذكاة بقوله عليه السلام: " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ " فَأَقَامَ الذَّكَاةَ مَقَامَ الدِّبَاغَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَهُ بِالدِّبَاغَةِ يَطْهُرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِالذَّكَاةِ كَالْمَأْكُولِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قَالَ: وَلِأَنَّ مَا طَهَّرَ جِلْدَ الْمَأْكُولِ طَهَّرَ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالدِّبَاغَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَقْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمَّ يُطَهِّرْ غَيْرَ الْجِلْدِ لَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ كَالرَّمْيِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ من الحيوان طردا، وفي غير المقدرور عَلَيْهِ عَكْسًا، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ لَا تُبِيحُ أَكْلَ لَحْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ طَهَارَةَ جِلْدِهِ كَزَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ طَرْدًا، أَوْ كَزَكَاةِ الْمُسْلِمِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ الْمُسْتَفَادَ بِذَكَاةِ الْمَأْكُولِ يَنْتَفِي عَنْ ذكاة غير المأكول كتطهر اللحم. وأما الخبر فمعنى قوله عليه السلام: " دباغ الأديم ذكاته "، أي: مطهره أو الذكاة لَا تُطَهِّرُ، لِأَنَّهَا تُبْقِي نَجَاسَةً نَظَرًا بِالْمَوْتِ لا إنها تبقى نجاسة ثابتة،، قبل عَلَى الْمَأْكُولِ فَالْمَعْنَى فِي ذَكَاتِهِ أَنَّهَا أَبَاحَتْ أَكْلَ لَحْمِهِ فَأَفَادَتْ طَهَارَةَ جِلْدِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَأْكُولِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الدِّبَاغَةِ فَالْمَعْنَى فِي الدِّبَاغَةِ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ النَّجَاسَةِ الطَّارِئَةِ بِالْمَوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّكَاةُ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فاستدل على أن مالا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ "، فَلَمَّا لَمْ تَعْمَلِ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهى عن افتراش جلود السباع " فلو كانت تطهر بالدباغة لم ينه عن افتراشها، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَطْهُرَ بِالدِّبَاغَةِ كَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّ الدباغة أحد مَا يَطْهُرُ بِهِ الْجِلْدُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالذَّكَاةِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ كَالْمَأْكُولِ ولأن ما ينفي عَنِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسُ جِلْدِهِ نُفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسَ جِلْدِهِ كَالْحَيَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّبَاغَةِ وَالذَّكَاةِ مَا يُوَضِّحُ الْجَوَابَ عَنْهُ. وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قبل الدباغة أو على ما بعد الدباغة إذا كان الشعر باقيا، لأن المقصود منها شعورها كَالْفُهُودَةِ وَالنُّمُورَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فالمعنى فيه: نجاسة فِي الْحَيَاةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الذَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِي الذَّكَاةِ: أَنَّهَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، وَلِلدِّبَاغَةِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ. فصل فأما المأكول فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ إِجْمَاعًا، وَبِالدِّبَاغَةِ إِنْ مَاتَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] . إشارة إلى حملها وإجرائها. وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ: " أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ ". وَلِأَنَّ مَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالدِّبَاغَةِ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ بِهِ اللَّحْمُ لَمْ يَطْهُرْ بِهِ الجلد كالغسل، ولعلة التَّنْجِيسِ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ التَّنْجِيسُ مَعَ بَقَاءِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْعِلَّةِ مُحَالٌ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا دبغ الإهاب فَقَدْ طَهُرَ " إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَحِقَهُ التَّنْجِيسُ، فصار بمثابة قوله أَيُّمَا إِهَابٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ بِالدِّبَاغَةِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِشَاةٍ لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ مَيْتَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَتْ مَيْتَةً فَقَالَ: إِنَمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بعد وفاة روحه كالمذكي، ولأنه جلد نجس بعد طهارة فجاز أن يطرأ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ كَالَّذِي نَجِسَ بِدَمٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ سَنَةٌ، وَقَدْ كَانَ يرويه مرة عن شيخه قَوْمِهِ نَاسٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يَتَنَاوَلُ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ، وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ الِاسْمُ بعد دباغة، قال عنترة: (فشككت بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إِهَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْفَتَى بِمُحَرَّمِ) وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى اللَّحْمِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ فَاطَّرَحْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلدِّبَاغَةِ فِيهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يَطْهُرْ بِهَا وَالْجِلْدُ لَمَّا أَثَّرَتْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ طَهُرَ بِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْغَسْلِ فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجِلْدِ كَتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَوْتَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ فعنه جوابان: أحدهما: أن علة التنجيس الْمَوْتُ وَفَقْدُ الدِّبَاغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ عِلَّةٌ في تنجيسه غَيْرِ مُتَأَبِّدٍ وَفَقْدَ الدِّبَاغَةِ عِلَّةٌ فِي التَّنْجِيسِ المتأبد. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ في الذائب واليابس والصلاة عَلَيْهِ وَفِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الذَّائِبِ وجازت الصلاة عليه، ولم يجز فيما اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الدِّبَاغَةَ تُؤَثِّرُ فِيمَا لَاقَتْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَرُوِيَ عَنْ سَوْدَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ وَدَبَغْنَا إِهَابَهَا فَجَعَلْنَاهُ قِرْبَةً كُنَّا نَنْبِذُ فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إلى أن صارت شنا ". ومالك لَا يُجَوِّزُ الِانْتِبَاذَ فِيهَا وَإِنَّمَا يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِأَنَّ مَا طَهُرَ به ظاهر الجلد طهر به باطنه كَالذَّكَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِلْدِ طَهُرَ بالذكاة طهر بالدباغة كالظاهر. وأما استدلاله بأنها تؤثر فيما لاقته فخطأ، لأن تأثيرها في نشف الرطوبة الباطنة والسهوكة الداخلة كتأثيرها في الظاهر فيها. فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِالدِّبَاغَةِ فَهُوَ قبل الدباغة ممنوع من الاستعمال في الذائب. وقال الزهري: هو قبل الدباغة وبعدها عَلَى سَوَاءٍ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الذَّائِبَاتِ وَالْيَابِسَاتِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّ عَنَاقًا كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهَا مَاتَتْ قَالَ أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ، فَأَبَاحَ الانتفاع به من غير أن يذكر دباغا. ودليلنا قوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " عَلَى أَنَّ قبل دباغة لم يطهر الإهاب، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَنْجِيسَ اللَّحْمِ أَوَجَبَ تَنْجِيسَ الجلد كنجاسة الكلب، ولأن فقد الحياة يوجب تَسَاوِيَ الْحُكْمِ فِي الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ كَالْحُوتِ، وَالْجَرَادِ فِي التَّطْهِيرِ، وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي التَّنْجِيسِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ بِمَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ. فَصْلٌ: بِمَا يَكُونُ الدِّبَاغُ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ طَاهِرٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى مَا تَكُونُ بِهِ الدِّبَاغَةُ فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِالنَّصِّ عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إِلَى أَنَّ حُكْمَ الدِّبَاغَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ الدِّبَاغَةَ رُخْصَةٌ فاقتضى أن يكون حكمها موقوف عَلَى النَّصِّ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَعْنَى فِي الشث والقرظ أنه منشف مجفف بكل شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَنْشِيفُ الْجِلْدِ وَتَجْفِيفُهُ جَازَتْ بِهِ الدِّبَاغَةُ حَتَّى بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْجِلْدِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ: أَحَدُهَا: تَنْشِيفُ فُضُولِهِ الطاهرة ورطوبته الباطنة. والثاني: تطيب رِيحِهِ وَإِزَالَةُ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ سُهُوكَةٍ وَنَتَنٍ. وَالثَّالِثُ: نَقْلُ اسْمِهِ مِنَ الْإِهَابِ إِلَى الْأَدِيمِ وَالسِّبْتِ وَالدَّارِشِ. وَالرَّابِعُ: بَقَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَثَّرَ فِي الجلد هذه الأوصاف الأربعة من العفص وقشور الرمان جازت به الدباغة، لأنه في معنى الشث والقرظ وهذا صحيح من وجهين: أحدهما: أنه لما أثر الشث والقرظ هذه الأوصاف الأربعة لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِالدِّبَاغَةِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ جَمِيعُهَا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا على الشث والقرظ مقصود، لأنها في غيرها موجودة. والثاني: أن الدباغة عرف في العرب ولم يكن في عرفهم مقصورا عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لِاخْتِلَافِ عَادَتِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَلَا اقْتَصَرُوا فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ التَّجْفِيفِ بِالشَّمْسِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة فصار كلا المذهبين مدفوعان بِعُرْفِ الْكَافَّةِ وَمَعْهُودِ الْجَمِيعِ فَثَبَتَ بِهَذَا جَوَازُ الدِّبَاغَةِ بِمَا سِوَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِذَا حَدَثَ فِي الْجِلْدِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا فِيهَا وَيَجْرِي الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَذْرُورَاتِ الدباغة من الأشياء المنشقة فإذا دبغ الْجِلْدُ طَهُرَ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لقوله - عليه السلام -: " أو ليس في الشث والقرظ ما يذهب رجسه وَنَجَسِهِ " فَجَعَلَ مُجَرَّدَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مُذْهِبًا لِرِجْسِهِ وَنَجَسِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَطْهُرُ بِانْقِلَابِهِ فَلَيْسَ لِطَهَارَتِهِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ يَطْهُرُ بِهِ كَالْخَمْرِ إذا انقلب خَلًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الدِّبَاغَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قَالَتْ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَقَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ: يطهر الْمَاءُ وَالْقَرَظُ " فَأَحَالَ تَطْهِيرَهُ عَلَى الْمَاءِ وَالْقَرَظِ، وَلِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ تَنْجِيسًا وَالْمَاءَ أَقْوَى تَطْهِيرًا فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ أَخَصَّ فَعَلَى هَذَا في كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِنَاءِ الدِّبَاغَةِ لِيَلِينَ الْجِلْدُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ عَمَلُ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِلَى جِمِيعِ أَجْزَاءِ الْجِلْدِ فيكون أبلغ في تنشيفها وتطهيرها فيصير دباغة الجلد وتطهيره بها جميعا معا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ لِيَخْتَصَّ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ بِدِبَاغَتِهِ وَيَخْتَصَّ الْمَاءُ بِتَطْهِيرِهِ، فَيَصِيرُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ وَقَبْلَ الْغَسْلِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الدِّبَاغَةُ بِمَا كَانَ نجسا من الشث والقرظ فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجِلْدِ مُخْتَصَّةً بِالشَّثِّ وَالْقَرَظِ دُونَ الْمَاءِ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَرْتَفِعُ بِالنَّجَاسَةِ إذ ما لَا يَرْفَعُ نَجَاسَةَ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْفَعَ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الدِّبَاغَةَ بِهَا جَائِزَةٌ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجَلْدِ مُخْتَصَّةً بِالْمَاءِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الْجِلْدِ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَتَأْثِيرِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِالْمُلَاقَاةِ نَجِسًا فَعَلَى هَذَا إِذَا انْدَبَغَ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ. فَصْلٌ وَالدِّبَاغَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلِ فَاعِلٍ، لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ لا يفتقر إلى فعل كَالسَّيْلِ إِذَا مَرَّ بِنَجَاسَةٍ فَأَزَالَهَا طَهُرَ مَحَلُّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَفْتَقِرْ إِزَالَتُهَا إِلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ جِلْدَ ميتة وألقته في المدبغة فاندبغ صار طاهر فأما إن أخذ رجل جلد ميتة بغيره فَدَبَغَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ أَوْ لِدَابِغِهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أَحَدُهَا: يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ كَالْخَمْرِ المنقلب خلا في يد أحده يكون ملكه لِرَبِّهِ دُونَ مَنْ صَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ. والوجه الثاني: يكون ملكا لدباغه دون ربه كالمحيي أرضا مَوَاتٍ بَعْدَ إِجَازَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ أَحْيَاهَا دُونَ مَنْ أَجَازَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ رَبُّ الْجِلْدِ قَدْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ فَأَخَذَهُ الدَّابِغُ فَدَبَغَهُ كَانَ مِلْكًا لدَابِغِهِ دُونَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَغَصْبُهُ إِيَّاهُ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يُوصَفُ بِثُبُوتِ الملك عليه وإنما يوصف الْيَدِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَفَعَ يَدَهُ زَالَتْ صِفَةُ استحقاقه. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ تَعَلَّقَ الْكَلَامُ بِفَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ حُكْمِهِ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ. وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهِ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ. فَأَمَّا مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ دُونَ الذَّائِبَاتِ وَيَجُوزُ هِبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا رَهْنُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ جَازَ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . لأن الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَالْعُذْرَةِ. وَأَمَّا الثَّوْبُ فَهُوَ طَاهِرُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا جَاوَرَتْهُ النَّجَاسَةُ فجاز بيعه لأن العذرة تَتَنَاوَلُ عَيْنًا ظَاهِرَةً وَإِنْ جَاوَرَتْهَا نَجَاسَةٌ وَكَذَلِكَ الْجِلْدُ الطَّاهِرُ إِذَا جَاوَرَتْهُ نَجَاسَةٌ. فَصْلٌ فَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهَا كَالْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِهَا، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّطْهِيرُ وَلَيْسَ التَّطْهِيرُ عِلَّةً فِي جَوَازِ الْبَيْعِ كَ " أُمِّ الْوَلَدِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ فَجَازَ بَيْعُهُ كَ " الْمُزَكَّى " وَلِأَنَّ حُدُوثَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَنَعَ مِنْ جواز البيع كان مأذونا بِجَوَازِ الْبَيْعِ كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا، وَلِأَنَّ دِبَاغَةَ الْجِلْدِ قَدْ أَعَادَتْهُ إِلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُ فِي الْحَيَاةِ جائز اقتضى أن يكون بعد الدباغة جائز. فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ، وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا اسْتَبَاحَهَا لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْمَيْتَةِ وَاسْتِبَاحَةُ الْجَلْدِ لِمَعْنًى فِي الْجِلْدِ لَا في المستبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَالْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا لِحُرْمَتِهَا فلم تكن طهارتها علما فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ بيعه لنجاسته وكانت طهارته علما في جواز بيعه فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِلْدِ مَأْكُولٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ لِبَقَاءِ حُكْمِ مَوْتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ كَانَ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يجوز لأن إباحته الْبَيْعَ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْمَوْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يجوز للنص على تحريم أكله بقوله عليه السلام: " إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا ". وَالْفَرْعُ الثَّانِي: فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَتْ إِجَارَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ فَفِي جواز إجارته وجهان كالكلب المعلم. مسألة : قال الشافعي رحمه الله: ولا يطهر بالدباغ إِلَّا الْإِهَابُ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالرِّيشُ لَا يَمُوتُ بِمَوْتِ ذَوَاتِ الرُّوحِ أَوْ كَانَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْنِ الميتة وسيها وَجَازَ فِي عَظْمِهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الصُّوفَ، وَالشَّعْرَ، وَالرِّيشَ، وَالْوَبَرَ ضَرْبَانِ طَاهِرٌ، وَنَجِسٌ، فَالطَّاهِرُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أُخِذَ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمَ فِي حَيَاتِهِ. وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ. وَالنَّجِسُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أُخِذَ من غير المأكول وما أخذ من ميت وأنه ذُو رُوحٍ إِذَا فَقَدَهَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَظْمِ، وَالْقَرْنِ، وَالسِّنِّ، وَالظُّفُرِ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، هَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كتبه، والذي نقله أصحاب الْقَدِيمِ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الشافعي رجع عن تنجيس الشعر، وحكى إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ ابن آدم، وحكى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ يَنْجَسُ بِنَجَاسَتِهِ وَيَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي شَذَّتْ عَنِ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَتِ الْمَسْطُورَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الشَّعْرِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُحِلُّهُ رُوحٌ وَامْتَنَعَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ تَخْرِيجِهَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ لِمُخَالَفَتِهَا نُصُوصَ كُتُبِهِ وَمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ حِكَايَةُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا شَعْرُ بَنِي آدَمَ فَخَرَّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ نجس بعد انفصاله وإن عفى عن سيره، لأنه شعر غَيْرِ مَأْكُولٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّ ابْنَ آدَمَ لَمَّا اختص شعره بِالطَّهَارَةِ مَيِّتًا اخْتُصَّ شَعْرُهُ بِالطَّهَارَةِ مُنْفَصِلًا، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحْدَهُ طَاهِرٌ وَشَعْرُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ نَجِسٌ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ حَلَقَ شَعْرَهُ بِمِنًى قَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اخْتِصَاصُ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ قِيلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِهِ فَقَدْ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَشَرِبَ مِنْ دَمِهِ بِحَضْرَتِهِ أَفَتَقُولُ إِنَّ دمه طاهر؟ فركب الباب، وقال: أقول بطهارته، لأنه لا يجوز أن يقر أحد على منكر، وقد أقر أبو طَيْبَةَ عَلَى شُرْبِهِ. قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امرأة شربت بوله فقال: " إِذًا لَا يُوجِعُكِ بَطْنُكِ " أَفَتَقُولُ بِطَهَارَةِ بَوْلِهِ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ الْبَوْلَ مُنْقَلِبٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّعْرُ وَالدَّمُ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ قِيلَ لَهُ: فَقَدْ بَطَلَ دَلِيلُكَ عَلَى طَهَارَةِ دَمِهِ بِإِقْرَارِهِ أَبَا طَيْبَةَ عَلَى شَرَابِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كسائر أمته كان منهم طاهرا ونجسا، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ قَسْمِ شَعْرِهِ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أَصْحَابِهِ فَقَدْ أَلْقَى شَعْرَهُ مِرَارًا وَلَمْ يُقَسِّمْهُ وَلَا خَصَّ بِهِ أَحَدًا وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بِمِنًى، وَقَصَدَ بِهِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا التوصل إِلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَتِهِ وَإِمَّا لِتَمَيُّزِ مَنْ خَصَّهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُمْ شَرَفًا وَفَخْرًا، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي طَيْبَةَ شُرْبَهُ دَمَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ وَقَالَ حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالْمَذْهَبُ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ لِحُلُولِ الرُّوحِ فِيهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ أَقُولُ فِيهِ لَا حَيَاةَ وَلَا أَقُولُ فِيهِ رُوحٌ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ تَتَّفِقُ الْمَعْنَى فِيهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الشَّعْرُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ بِذِي رُوحٍ، وَلَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الشعر ليس بذي روح ولا في العظم رود تنجس بِالْمَوْتِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ. فَأَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الألم من سمات الرُّوحِ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ كَانَ انْتِفَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ وَلَيْسَ فِي الشَّعْرِ وَالْعَظْمِ أَلَمٌ فَلَمْ يَكُنْ فيه حياة. والثاني: أن ما حلته الْحَيَاةُ أَسْرَعَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ كَاللَّحْمِ، فلما كان العظم والشعر على حاله وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ فِي انْتِفَاءِ الْفَسَادِ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ. والثالث: أن ما حلته الحياة فالشرع مانع مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَالْجِلْدِ وَمَا لَمْ تُحِلَّهُ الْحَيَاةُ لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَاللَّبَنِ، فَلَمَّا جَازَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنَ الْحَيَوَانِ دَلَّ على أن ليس فيه حياة. وأما دليلهم عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] . فَكَانَ مِنْهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ لَفْظِهَا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِنَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِتَنْجِيسِ شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ الِامْتِنَانِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: " لا بأس بمسك الميت إِذَا دُبِغَ وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ "، فَمَا اقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ طَهَارَةَ الشَّعْرِ بَعْدَ الْغَسْلِ وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ قَبْلَ الْغَسْلِ. وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النبي - عليه السلام - سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ فَقَالَ: " أَيْنَ الدِّبَاغُ " فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي لَا تَنْجَسُ بِانْفِصَالِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ لا تنجس باتصالها بالحيوان كَالْوَلَدِ طَرْدًا وَالْأَعْضَاءِ عَكْسًا، فَلَمَّا لَمْ يَنْجَسِ الشَّعْرُ بِأَخْذِهِ حَيًّا لَمْ يَنْجَسْ بِاتِّصَالِهِ مَيِّتًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ الْمَوْتِ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى ثبوت الحياة فثلاثة أشياء: أحدها: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رميم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78، 79] . وَالْإِحْيَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَيَاةٍ تَعُودُ بِهَا إِلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّمَاءَ مِنْ سِمَاتِ الْحَيَاةِ لِحُدُوثِ النَّمَاءِ بِوُجُودِهَا وَفَقْدِهِ بِزَوَالِهَا فَلَمَّا كَانَ الشَّعْرُ نَامِيًا فِي حَالِ الِاتِّصَالِ مَفْقُودَ النَّمَاءِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا اتَّصَلَ نَامِيًا بِذِي حَيَاةٍ وَجَبَ أَنْ تُحِلَّهُ كَاللَّحْمِ طَرْدًا وَاللَّبَنِ عَكْسًا. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَةٍ بِالْمَوْتِ فَخَمْسَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . هَذَا تَحْرِيمُ تَنْجِيسٍ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ وَالشَّعْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ مَيْتَةً يَحْنَثُ بِمَسِّهِ وَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجُمْلَةِ فِي الِاتِّصَالِ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا طَرَأَ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حَظْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَبِالشَّعْرِ كَالْإِحْرَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والرابع: أن ما ورد التَّعَبُّدُ بِقَطْعِهِ فِي حَالٍ نَجِسٍ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا على موضع الختان والتعبد في قطع الشَّعْرِ يَكُونُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ ما وجب الأرش يقطعة لَحِقَهُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ كَاللَّحْمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ عِلَّةَ الْحَيَاةِ حُدُوثُ الْأَلَمِ فَهُوَ أَنَّ لِلْحَيَاةِ عِلَّتَيْنِ، حُدُوثُ الْأَلَمِ فِي حَالٍ وَوُجُودُ النَّمَاءِ فِي حَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلْحَيَاةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَقْدُ الْأَلَمِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحَيَاةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه قد يُفْقَدُ الْأَلَمُ مِنْ لَحْمِ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ الشَّعْرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَلَمَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الدَّمِ فِيهِ أَوْ قُرْبِهِ مِنَ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ بِحَسْبَ أَلَمِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ عَدَمِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ عَنْهُ دليل على عدم الحياة منه فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ إِسْرَاعَ الْفَسَادِ إِنَّمَا يَكُونُ لِكَثْرَةِ الرُّطُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ لِرُطُوبَتِهِ وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يَنْتَفِي عَنْهُ الْفَسَادُ لِذَهَابِ رُطُوبَتِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِلْدَ لَا حَيَاةَ فِيهِ كَذَلِكَ الشَّعْرُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ فِي الْحَيَاةِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ فِي اللَّحْمِ وَفَقْدِهَا فِي الشَّعْرِ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الشَّعْرِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ وَرُبَّمَا نَفَعَهُ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَاللَّحْمُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ إِضْرَارٌ بِهِ فَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ وَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا إِلَى حِينٍ فَقَدَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، لِأَنَّهُ قَالَ: " ومن أصوافها " فدل على أن منها ما لا يكون أثاثا، ومنها مَا يَكُونُ أَثَاثًا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سلمة فرواية يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّ سلمة عن النبي - عليه السلام - وَيُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَأْسَ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الِاسْتِعْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الْغَسْلَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْغَسْلِ نَجِسًا وَالْغَسْلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِهِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ " أَيْنَ الدِّبَاغُ " يَعْنِي لِاسْتِصْلَاحِ لَبْسِهَا إِذْ لَا يَكُونُ لَبْسُهَا قبل الدباغ. وأما استدلالهم فَإِنَّمَا لَمْ يَنْجَسْ بِمَوْتِ الْأُمِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه منفصل عَنْهَا وَالشَّعْرُ مُتَّصِلٌ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تُفَارِقُ الْوَلَدَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَتُفَارِقُ الشَّعْرَ بِمَوْتِ الْأَصْلِ لِوُجُودِ النَّمَاءِ فِي الْوَلَدِ وَفَقْدِ النماء في الشعر فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ فَلَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَلَا بِالدِّبَاغِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: وَالشَّعْرُ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ مطهر بالغسل لقوله عليه السلام: " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وشعرها إِذَا غُسِلَ " وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَاللَّحْمِ، وَالرَّوَثِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ النَّاسِ فِي إِبَاحَةِ الاستعمال فِي حُصُولِ التَّطْهِيرِ، فَلَوْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بشعره لطهر الْجِلْدُ دُونَ الشَّعْرِ، لِتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ فِي الْجِلْدِ دُونَ الشَّعْرِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا بَعْدَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَبِلَ إِمَاطَتِهِ في يابس جاز وإن استعماله فِي ذَائِبٍ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَاطِنِهِ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَيْهِ جَازَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي ظَاهِرِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ نَجِسَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فَصْلٌ فَلَوْ بَاعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دِبَاغَتِهِ وَقَبْلَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ دُونَ شَعْرِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ شَعْرِهِ فَالْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلٌ، وَفِي الْجِلْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ مُطْلَقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ دُخُولَ الشَّعْرِ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِي الْبَيْعٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الْعَقْدُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْعُ الْجِلْدِ جَائِزًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِالْمَبِيعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلًا وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الجلد؟ على القولين من تفريق الصفقة، فَلَوْ رَأَى شَعْرًا فَلَمْ يَعْلَمْ أَطَاهِرٌ هُوَ أم نجس فهذا على ثلاثة أضراب: أَحَدُهَا " أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ مَأْكُولِ اللحم. والثالث: أن يشكل هَلْ هُوَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ نَجِسٌ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، وَأَنَّ الطَّاهِرَ أَخَذَهُ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّ شَكَّ فَلَمْ يَعْلَمْ أَمِنْ شَعْرِ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ هَلْ هِيَ عَلَى الْحَظْرِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَشْيَاءَ فِي أُصُولِهَا عَلَى الْحَظْرِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ نَجِسًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ طَاهِرًا. فَصْلٌ فأما حمل الميتة - أي ولد الْمَيْتَةِ - إِذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا حَيًّا فَهُوَ طَاهِرٌ لَكِنْ قَدْ نَجِسَ ظَاهِرُ جِسْمِهِ بِالْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدِ انْفَصَلَ عَنْهَا في حياتها كان البلل الخارج معه ومع البيضة من الطاهر وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: نَجِسُّ كَالْبَوْلِ. وَالثَّانِي: طَاهِرٌ كَالْمَنِيِّ، وَهَكَذَا الْبَلَلُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ فِي حال المباشرة على هذين الوجهين، فَأَمَّا مَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَيْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لأنه قبل الانفصال حرمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لتميزه فيها فَصَارَ بِالْوَلَدِ أَشْبَهَ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَوِيًّا فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا رَخْوًا، فَهُوَ نَجِسٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ وُضِعَتْ هَذِهِ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ فَصَارَتْ فَرْخًا كَانَ الْفَرْخُ طَاهِرًا عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْعَظْمُ، وَالْقَرْنُ، وَالسِّنُّ، وَالظُّفُرُ، وَالْخُفُّ، وَالْحَافِرُ فَضَرْبَانِ: [الأول] : ضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَهُوَ نَجِسٌ إذا لا أصل لطهارة أجزائه. و [الثاني] : وَضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الذَّكَاةِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ قَدْ طَهَّرَتْ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ سِوَى دَمِهِ وَحُكِيَ عَنْ بعض الشاذة أَنَّهُ قَالَ بِطَهَارَةِ دَمِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. فَأَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَجِسُّ لِمَا دَلَّلْنَا، وَكَذَا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ ". فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ طَاهِرًا كَالشَّعْرِ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ بَارِزٌ فَصَارَ كَالْمُتَمَيِّزِ، وَالْعَظْمَ بَاطِنٌ كَامِنٌ يَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّعْرَ يُسْتَخْلَفُ، وَفِي أَخْذِهِ منفعة فصار باللبن أشبه، والعظم لا يستخلف وفي أخذه مضرة بالأعضاء وَإِذَا نَجِسَ الْعَظْمُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ، وَلَا بالغسل، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بِالطَّبْخِ، وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ الْعَظْمَ النَّجِسَ إِذَا طُبِخَ حَتَّى خَرَجَ دُهْنُهُ صَارَ طَاهِرًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ عَظْمَ الْمَيْتَةِ نَجِسُ الذَّاتِ فلم يطهر بفراق ما جافره من الدهن، ولا يجوز استعماله في شيء من الذائبات لكن يجوز في الْيَابِسَاتِ، وَيَجُوزُ وَقُودُهُ فِي النَّارِ تَحْتَ الْقُدُورِ، وَفِي التَّنَانِيرِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَانِهِ وَدُخَانِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْمُوقَدَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَبَاحَ الِاسْتِصْبَاحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ دُخَانِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنْ عَيْنٍ نَجِسَةٍ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ النَّجَاسَةَ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ نَادِرَةٌ فَكَانَ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا مُمْكِنًا فَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ وَجَبَ مَسْحُهُ قَبْلَ الْخَبْزِ فِيهِ؛ فَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ يَابِسَةٍ طَهُرَ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ زَالَتْ عَنْهُ بِالْمَسْحِ وَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ رَطْبَةٍ لَمْ يطهر إلا بالغسل. مسألة : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا بِدُهْنٍ فِي عظم فيل، واحتج بكراهية ابن عمر لذلك. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْفِيلُ فِي الْأَصْلِ طَاهِرُ الْخِلْقَةِ حَيًّا. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ سَبُعٌ، وَالسِّبَاعُ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَأْكُولٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي مِنَ الدليل عليه حديث ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مخلب من الطيور ". وَالْفِيلُ مِنْ أَعْظَمِهَا نَابًا وَبَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا قد عم سوى، وَكُلُّهُ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ جِلْدَهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِثِخَنِهِ، وَأَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تصل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 باطنه، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعِيَانِ مِنْ وُصُولِ الدِّبَاغَةِ إِلَيْهِ فَتَأْثِيرُهَا فِيهِ مَعَ الْعُمُومِ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا عَظْمُهُ وَنَابُهُ الَّذِي هُوَ الْعَاجُ فَنَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِحَالٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعَظْمَ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ عِنْدَهُ وَإِنْ مَاتَ كَانَ نَجِسًا، لِأَنَّ الْعَظْمَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ عِنْدَهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، وَمَا مَهَّدْنَا مِنَ الْأُصُولِ كَافٍ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: طَهَارَةُ الْعَاجِ خرطه صار فإذا فرط طَاهِرًا. وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ. وَهَذَا غَلَطٌ: لِأَنَّ جُمْلَةَ الْعَيْنِ نَجِسَةٌ وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِذَهَابِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مِنْ عَظْمِ بَعِيرٍ. وَقِيلَ: مِنْ ذَبْلٍ وَهُوَ عَظْمُ سَمَكَةٍ فِي البحر سمي عاجا لبياضه. فأما استدلال الشَّافِعِيُّ بِكَرَاهَةِ ابْنِ عُمَرَ فَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لأن عمرو بن دينار روى أنه كره، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ عَظْمَ الْفِيلِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ عَظْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ رَجُلٌ إِنَاءً مِنْ عَاجٍ وَاسْتَعْمَلَهُ في الذئبات صَارَ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي يَابِسٍ كَرِهْنَاهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَلَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَاجٍ ثُمَّ سَرَّحَ بِهِ شَعْرَهُ كَرِهْنَاهُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ وَكَانَ الْمُشْطُ أَوِ الشَّعْرُ نِدِيًّا فَقَدْ نَجِسَ، وَوَجَبَ غَسْلُ شَعْرِهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا جَازَ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَمَا جِلْدُ كُلِّ ذَكِيٍّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. كُلُّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا ذُكِّيَ فَجِلْدُهُ طَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِفَرْثٍ وَلَا دَمٍ وَلَيْسَ يُدْبَغُ لِنَجَاسَتِهِ وَلَكِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لِاسْتِحْكَامِهِ وَبَقَائِهِ وَتَنْشِيفِ فُضُولِهِ الَّتِي تُسْرِعُ فِي فَسَادِهِ، وَلِأَنَّ تَطَيُّبَ النَّفْسِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا أَكْرَهُ مِنَ الْآنِيَةِ إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال الأواني ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتِعْمَالُهَا حَرَامٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وغيره. وَقَالَ دُوَادُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشُّرْبِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ ". فَلَمَّا خَصَّ الشُّرْبَ بِالذِّكْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالتَّحْرِيمِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ اسْتَسْقَى مِنْ دِهْقَانٍ بِالْمَدَائِنِ مَاءً فَسَقَاهُ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَحَذَفَهُ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ نُهِيتُهُ أَنْ تَسْقِيَنِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَلْبِسُوا الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ". وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " وَهَذَا نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَدَاوُدُ يُجِيزُهُ، وَلِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الشُّرْبَ فِيهِ أَصْوَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ فلما كان الشرب محرما، وكان مَا سِوَاهُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الشُّرْبِ فِيهِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ الْمُفْضِي إِلَى الْبَغْضَاءِ وَالْمَقْتِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ الْمُفْضِي إِلَى التحاسد التقاطع، وَوُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشُّرْبِ وَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَحَقَّ. وَأَمَّا نَصُّهُ عَلَى الشرب ينبه بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْفِضَّةِ يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى الذَّهَبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " فَالْجَرْجَرَةُ: التَّصْوِيتُ. قَالَ الشَّاعِرُ: (وَهُوَ إِذَا جَرْجَرَ بعد الهب ... جَرْجَرَ فِي حَنْجَرِهِ كَالْحَبِّ) وَقَوْلُهُ: نَارُ جَهَنَّمَ. فالجرجرة يَعْنِي: سَيَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا فَعَبَّرَ عَنِ الحال بالمآل كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] . يَعْنِي: يَصِيرُ يَوْمَ القيامة نارا. فإذا ثبت تحريم استعمالها فأكل فيها وتوضأ مِنْهَا كَانَ الطَّعَامُ حَلَالًا وَالْوُضُوءُ جَائِزًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَاصِيًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي الْإِنَاءِ لَا لِمَعْنًى فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ بِخِلَافِ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَخْتَصُّ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَالْأُصُولُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ وُرُودِ النهي عن الشيء لمعنى فيه فتقتضي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَيْنَ وُرُودِهِ لِمَعْنًى فِي غيره فلا تقتضي فساد المناهي عَنْهُ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ لِمَا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْبُقْعَةِ بَطَلَتْ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَمَّا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْمَالِكِ لَمْ يَبْطُلْ وَالْأَوْلَى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَوَقَّى الْمَعْصِيَةَ بِأَكْلِ مَا فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْهَا ثُمَّ يَأْكُلَهُ إِنْ شَاءَ وَلَا يَعْصِي بِهِ كَمَا حُكِيَ أن فرقد السبخي، والحسن البصري حضرا وليمة بالبصرة مقدم إِلَيْهِمَا طَعَامٌ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَقَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهُ فَأَخَذَ الْحَسَنُ الْإِنَاءَ وَأَكَبَّهُ عَلَى الْخِوَانِ وَقَالَ: كُلِ الْآنَ إِنْ شِئْتَ. فَأَمَّا اتِّخَاذُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِادِّخَارِ وَالزِّينَةِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِعْمَالِ بِالتَّحْرِيمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ادِّخَارَهَا دَاعٍ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَمَا دَعَا إِلَى الْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ لَمَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ الْإِمْسَاكُ حَرَامًا. فَصْلٌ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْأَوَانِي فَهُوَ مَا سِوَى أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَكُنْ فَاخِرًا وَلَا ثَمِينًا " كَالصُّفْرِ " وَ " النُّحَاسِ " وَ " الرَّصَاصِ " وَ " الْخَشَبِ " وَ " الْحَجَرِ " فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ إِذَا كانت طاهرة. وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه تؤضأ فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَاخِرًا ثَمِينًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِحُسْنِ صَنْعَتِهِ وَلِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَأَوَانِي الزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ وَالْبَلُّورِ الْمَخْرُوطِ فَاسْتِعْمَالُهَا حَلَالٌ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَهُوَ قَبْلَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَالْعَقِيقِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَاهَاةَ بِهَا أَعْظَمُ، وَالْمُفَاخَرَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَكْثَرُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَلَالٌ لِاخْتِصَاصِ خَوَاصِّ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهَا وَجَهْلِ أَكْثَرِ الْعَوَامِّ بِهَا، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الطِّيبِ الرَّفِيعِ كَالْكَافُورِ الْمُرْتَفِعِ وَالْكَافُورِ الْمُصَاعِدِ، وَالْمَعْجُونِ مِنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فَتَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِحُصُولِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِانْصِرَافِ عَوَامِّ النَّاسِ عَنْهَا، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُرْتَفِعِ مِنْهَا كَالصَّنْدَلِ وَالْمِسْكِ فاستعمالها جائز. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْرَهُ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح، اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ حَتَّى قَدْ غَطَّى جَمِيعَهُ وَغَشَّى سَائِرَهُ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ كَالْمُصْمَتِ مِنْ أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. وَقَالَ أبو حنيفة: اسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ إِنَاءً بِكَفِّهِ وَفِيهَا خَاتَمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قَالَ: وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ لِلْإِنَاءِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ الْمُطَرَّزَ، وَمَا كَانَ سِوَاهُ مِنْ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ غِشَاءَ الْإِنَاءِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هُوَ إِنَاءٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاوَرَهُ غيره وأوني الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا لِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ أَوَانِيَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهَا إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنْهُ السَّرَفُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَبَّبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَتَحْرِيمِ الْمُصْمَتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ جَاوَرَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا لَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَظْرِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ فَصَارَتْ كَالثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْفِضَّةَ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَ الْفِضَّةِ تَابِعَةً لِلْفِضَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وبين الإناء من الفضة أو الْحَرِيرَ مُبَاحٌ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ النِّسَاءُ فَجَازَ أَنْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مَعَ غَيْرِهِ وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ لِأَحَدٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي بَعْضِ الْإِنَاءِ دُونَ جميعه فضربان: أحداهما: أَنْ يَكُونَ بِالْفِضَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالذَّهَبِ فإن كان بالذهب فاستعماله حرام، لأن الذَّهَبِ مُبَاهَاةً وَسَرَفًا، وَإِنْ كَانَ بِالْفِضَّةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاهَاةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي أَعَالِيهِ وَمَوْضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ استعماله حرام. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنْ لَا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسَافِلِهِ، وَغَيْرِ مَوَاضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَكْرُوهًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت له قصعة فيها حلقتين فضة وكان لسيفه قبيعة قائمة فِضَّةٌ، وَأَهْدَى فِي بُدْنِهِ عَامَ حَجِّهِ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَفِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَكْرُوهٍ كَالثَّوْبِ الْمُطَرَّزِ بِالْحَرِيرِ. وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ بِخِلَافِ الطِّرَازِ، لِأَنَّ الْحَرِيرَ أَخَفُّ لِإِبَاحَتِهِ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ مِنَ الفضة التي لم يستبح أوانيها لجنس. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ مُشْرِكٍ وَبِفَضْلِ وُضُوئِهِ مَا لَمْ يعلم نجاسته فقد توضأ عمر - رضي الله عنه - مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ ". وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ في أبدانهم، وثيابهم، وأوانيهم، وهو قول جمهور الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ أَنَّهُمْ أَنْجَاسٌ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ مَا لَقَوْهُ بِأَجْسَادِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فَنَصَّ على نجاستهم. ودليلنا قوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعَامَهُمْ مَصْنُوعٌ بِأَيْدِيهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَفِي أَوَانِيهِمْ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِبَ مَاءً مِنْ مَزَادَةِ وَثَنِيَّةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عمر رضي الله عنه توضأ من جر نَصْرَانِيَّةٍ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَأْذَنُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي دُخُولِ مَسْجِدِهِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ حِينَ أَسَرَهُ عَلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِهِ تَطْهِيرُ مَسْجِدِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ الْأَعْيَانِ، وَلَوْ كَانَ بِسُوءِ مُعْتَقَدِهِ يُنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا لَكَانَ حُسْنُ مُعْتَقَدِنَا يُطَهِّرُ مَا كَانَ نَجِسًا. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] . فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ، وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ صَافَحَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 والثاني: وهو قول الجمهور أنه سماهم نجسا، لِأَنَّهُمْ لَا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَصَارُوا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي يَجِبُ غَسْلُهَا لا أنهم في أبدانهم أنجاس. فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب. [الأول] : ضَرْبٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ اجْتِنَابَ الْأَنْجَاسِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى واستعمال مياههم والصلاة في ثيابهم جائزة. و [الثاني] ضرب مِنْهُمْ لَا يَرَوْنَ اجْتِنَابَهَا وَلَا يَعْتَقِدُونَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالدَّهْرِيَّةِ، وَالزَّنَادِقَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ وَالصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، وَنَكْرَهُهَا خَوْفًا مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أن لا يجتبنوها وَيَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالْبَرَاهِمَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ قُرْبَةً، فَاسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا الصلاة في ثيابهم، فيجوز فيما لَمْ يَلْبَسُوهُ كَثِيرًا كَالْيَوْمِ أَوْ بَعْضِهِ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ لِبَاسُهُمْ لَهَا حَتَّى طَالَ زَمَانُهُمْ فِيهَا، فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَمَنْ صَلَّى فِيهَا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يَخْلُو لِبَاسُهُ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِبَادَةً فَلَمْ يَنْفَكَّ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كُرِهَتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ نَجَاسَتَهَا بِالشَّكِّ، وَأَشَدُّ مَا يُكْرَهُ مِنْ ثِيَابِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ الْأَنْجَاسَ الْمَيَارِزَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، فَأَمَّا أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يَرَى أَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ جَازَ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ يَرَى أَكْلَهُ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهَا إِذَا طَالَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى آنِيَتِهِمْ، فَقَالَ: فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ اطْبُخُوا فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا جَائِزٌ، وَإِنْ كُرِهَتِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي طَهَارَتِهَا، وَإِسْقَاطُهَا بِحُكْمِ الشَّكِّ فِي نَجَاسَتِهَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 باب السواك قال الشافعي رحمه الله: " وأجب السِّوَاكَ لِلصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ كُلِّ حَالٍ تَغَيَّرَ فِيهَا الفم للاستيقاظ من النوم والأدم وَكُلِّ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ أَوْ لَمْ يشق. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، السِّوَاكُ عِنْدَنَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفَضِيلَةٌ حَسَنَةٌ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ. وَرُوِيَ مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ، مَنْمَاةٌ لِلْوَلَدِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " طَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ بِالسِّوَاكِ، فَإِنَّهَا مَسَالِكُ القرآن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وروي أن الناس استبطئوا الْوَحْيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَكَيْفَ لَا يُبْطِئُ وَأَنْتُمْ لَا تُسَوِّكُونَ أَفْوَاهَكُمْ، وَلَا تُقَلِّمُونَ أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تَنْقَعُونَ بَرَاجِمَكُمْ ". وَرَوَى الزُّبَيْرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ،، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ، يَعْنِي: " الاستنجاء ". فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّوَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: السِّوَاكُ وَاجِبٌ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تركه في صحة الصلاة. وقال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ السِّوَاكُ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ، وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَأَى فِي أَسْنَانِهِمْ صُفْرَةً، فَقَالَ؛ مَا لِي أَرَاكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا اسْتَاكُوا. وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالْقَلَحُ فِي الْأَسْنَانِ: الصُّفْرَةُ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَى خَشِيتُ أَنْ يَدْرِدَنِي ". أَيْ: تَتَنَاثَرُ أَسْنَانِي، فَأَصِيرُ أَدْرَدَ مِنْ كَثْرَةِ السِّوَاكِ، وَمِنْ قَوْلِ الشاعر: (أخذت بالجمة رأسا ارعوا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَرْدَرَا) وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بتأخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الْعِشَاءِ، وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِ صَلَاةٍ ". وَفِيهِ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَأَمَرَهُمْ بِهِ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " لَأَمَرْتُهُمْ " بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَفْرِضَهُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لم يفرض، وروى عن النبي عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: " كُتِبَ الْوِتْرُ عَلَيَّ وَلَمْ يُكْتَبْ عليكم، وكتب الأضحى علي ولم يكتب عليكم وكتب السواك علي وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " وَهَذَا نَصٌّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اسْتَاكُوا فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ لِإِزَالَةِ الْقَلَحِ، وَإِزَالَةُ الْقَلَحِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الْآخَرُ، فَقَدْ بَيَّنَهُ " حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يفرضه ". فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النوم، لرواية أبي وائل عن حذيفة ابن الْيَمَانِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا قام من الليل، شوص فَاهُ بِالسِّوَاكِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشَّوْصُ الْغَسْلُ. والموص مِثْلُهُ، وَأَنْشَدَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ: (بِأَسْوَدَ مُلْتَفِّ الْغَدَائِرِ وارد ... وذي أشر تسوفه وتشوص) والحالة الثَّانِيَةُ: عِنْدَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يوضع له وضوءه وسواكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والحالة الثَّالِثَةُ: عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الله بن حنظلة بن أبي عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَرَ بالسواك لكل صلاة. والحالة الرابعة: عند قراءة القرآن، لقوله عليه السلام: " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَبِّ ". وَالْفَمُ قَدْ يَتَغَيَّرُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا عِنْدَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَإِمَّا بِطُولِ السُّكُوتِ، وَإِمَّا بِشِدَّةِ الْجُوعِ، وَإِمَّا لِأَكْلِ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُرِيحَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالِاسْتِيقَاظُ مِنَ النَّوْمِ، وَالْأَزْمُ، وَفِي الْأَزْمِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجُوعُ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ، وَكَانَ طبيب العرق فَقَالَ: مَا أَلَذُّ؟ فَقَالَ: الْأَكْلُ، فَقَالَ: وَمَا الدَّوَاءُ؟ قَالَ: الْأَزْمُ. يَعْنِي الْجُوعَ وَالِاحْتِمَاءَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: (الْمُطْعِمُونَ إِذَا مَا أَزْمَةٌ ... وَالطَّيِّبُونَ ثِيَابًا كُلَّمَا عَرِقُوا) وَالثَّانِي: أَنَّهُ السُّكُوتُ، وهو في اللغة: الإمساك، فتارة يقربه عَنِ الْجُوعِ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْأَكْلِ، وَتَارَةً يُعَبِّرُ بِهِ عَنِ السُّكُوتِ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الكلام. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: السِّوَاكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالتَّحَرُّكِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَسَاوَكَتِ الْإِبِلُ، إِذَا اضْطَرَبَتْ أَعْنَاقُهَا مِنَ الْهُزَالِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ (إِلَى اللَّهِ أشكوا مَا أَرَى بِجِيَادِنَا ... تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قَلِيلُ) وَالْكَلَامُ فِي السِّوَاكِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ السِّوَاكِ. وَالثَّانِي: مَا يُسْتَحَبُّ بِهِ السِّوَاكُ. فَأَمَّا صِفَةُ السِّوَاكِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عرضا في ظاهر الأسنان. وباطنها، ويمر السوك على أطراف أسنانه، وكراسي أضراسه، ليجلوا جَمِيعًا مِنَ الصُّفْرَةِ، وَالتَّغَيُّرِ، وَمَمَرُّهُ عَلَى سَقْفِ حَلْقِهِ إِمْرَارًا خَفِيفًا لِيَزُولَ الْخُلُوفُ عَنْهُ، فَقَدْ كان النبي عليه السلام يشوص فاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بِالسِّوَاكِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَسْتَاكَ طُولًا مِنْ أَطْرَافِ أَسْنَانِهِ إِلَى عَمُودِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْمَاءِ اللثة، وفساد الْعَمُودِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اسْتَاكُوا عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا ". وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ أَنْ يَدَّهِنَ غِبًّا، وَلَا يَدَّهِنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَرَنِ الثَّوْبِ، وَتَنْمِيسِ الشَّعْرِ، وَكَذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ كَثْرَةِ الْأَدْفَاهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ كَثْرَةُ التَّدْهِينِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الدُّهْنُ لِتَحْسِينِ الْبَشَرَةِ، وَإِذْهَابِ النَّوْسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ادَّهِنُوا يَذْهَبِ النَّوْسُ عَنْكُمْ وَالْبَسُوا تَظْهَرْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَمَالِيكِكُمْ، فَإِنَّهُ أَكْبَتُ لِعَدُوِّكُمْ، وَأَدْفَعُ لِنَقْمَةِ اللَّهِ عَنْكُمْ "، فَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَاكَ بِهِ، فَهُوَ الْأَرَاكُ، لِرِوَايَةِ أَبِي خَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْأَرَاكُ، اسْتَاكَ بِعَرَاجِينِ النَّخْلِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، اسْتَاكَ بِمَا وَجَدَهُ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْعُودُ الَّذِي يَسْتَاكُ بِهِ نَدِيًّا، وَلَا يَكُونَ يَابِسًا فَيَجْرَحَ، وَلَا رطبا فلا تبقى، فَلَوْ لَفَّ عَلَى أُصْبُعِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً، وَأَمَرَّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ حَتَّى زَالَ الصُّفْرَةَ وَالْخُلُوفَ، فَقَدْ أَتَى بِسُنَّةِ السِّوَاكِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يقول مقام العود في الانقاء، فأما خلال أَسْنَانَهُ بِالْحَدِيدِ، أَوْ بَرَدَهَا بِالْمِبْرَدِ، فَمَكْرُوهٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُذِيبُ الْأَسْنَانَ وَيُفْضِي إِلَى انْكِسَارِهَا. والثاني: أنها تخشن فتراكب الصُّفْرَةُ وَالْخُلُوفُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ، وَهِيَ: الَّتِي تُبَرِّدُ أَسْنَانَهَا بِالْمِبْرَدِ، فَأَمَّا الصَّائِمُ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْتَاكَ غَدْوَةً، وَيُكْرَهَ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا عَلَى مَا نذكره في كتاب الصيام، لقوله عليه السلام: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنِ اسْتَاكَ عَشِيًّا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 باب نية الوضوء قال الشافعي رضي الله عنه: وَلَا يُجْزِئُ طَهَارَةٌ مِنْ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءَ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْوُضُوءَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَهُمَا طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ يفترقان. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الطَّهَارَةُ ضَرْبَانِ مِنْ نَجَسٍ وَحَدَثٍ. فَأَمَّا طَهَارَةُ النَّجَسِ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ إِجْمَاعًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدُ مُفَارَقَةٍ وَتَرْكٍ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ فِي عِبَادَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طَهَّرَ ما أصبته النَّجَاسَةُ مِنَ الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ بِمُرُورِ السَّيْلِ عَلَيْهِ وَإِصَابَةِ الْمَاءِ لَهُ عُلِمَ أَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِي إِزَالَتِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. فَأَمَّا طَهَارَةُ الْحَدَثِ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، أَوْ بِجَامِدٍ كَالتُّرَابِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ تَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ. وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَالتَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تعالى: {ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يذكر النية. وفي إيجابها ما يخرج الْغَسْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جواز الصلاة وذلك نسخ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ حُكْمِهِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ آيَةَ الطَّهَارَةِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ مَا يُوجِبُ منع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ. فَأَجَابَهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ النِّيَّةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَلَّا تَفْتَقِرَ إلى نية كإزالة النجاسة. قالوا: وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَلَّا يفتقر إلى نية كستر العورة. قالوا: وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمَا صَحَّ غُسْلُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْحَيْضِ، وَلَمَا اسْتَبَاحَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ وَطْأَهَا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ غُسْلِهَا وَجَوَازِ وَطْئِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [فَأُمِرُوا] بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَمِنْهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أنَّ قَوْلَهُ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . يَعْنِي: لِلصَّلَاةِ فَحُذِفَ ذِكْرُهَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ يَعْنِي: لِلْأَمِيرِ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْأَسَدَ فَتَأَهَّبْ يَعْنِي: لِلْأَسَدِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . يَعْنِي: لِلسَّرِقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] . يَعْنِي: قَبْلَ قِيَامِكُمْ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ. وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم التميمي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ وُجُودِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَكَانَ دَلِيلُ خِطَابِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتٍ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قُوَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى نِيَّاتِكُمْ ". ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنْ قِيلَ: قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمَ فَرْعٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ. قيل: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ مِنَ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ بِفَرْعٍ لَهُ، لِأَنَّ فَرْعَ الْأَصْلِ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَلَيْسَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ مَأْخُوذًا مِنَ الْوُضُوءِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُبْدَلِ مَأْخُوذًا مِنْ بَدَلِهِ إِذَا كَانَ الْبَدَلُ مُجْتَمِعًا عَلَى حُكْمِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَرْطِهَا. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النية شَطْرِهَا كَالصَّلَاةِ فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ عبادة كان نزاعا مطرحا، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْوُضُوءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ " وَمَنْ كَانَتْ هذه حالته فن الْمُحَالِ أَلَّا تَكُونَ عِبَادَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي بَدَلِهِ كَانَتِ النِّيَّةُ شرطا في مبدله كالكفارت، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا افْتَقَرَ نَقْلُهُ إِلَى النِّيَّةِ افْتَقَرَ فَرْضُهُ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَبَيَانُهُ: أَنَّ أبا حنيفة أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ النِّيَّةُ فِي فَرْضِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَيِ اسْتِدْلَالِنَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْنَا بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فهو: أن في قوله: توضأ كما أمرك اللَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالنِّيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْأَعْرَابِيِّ مُتَضَمِّنٌ النِّيَّةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدها: أن قوله طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالْجَامِدِ وَالْمَائِعِ سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ النِّيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَصْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَانْتَقَضَتِ النِّيَّةُ، بِالتَّيَمُّمِ. والثاني: أنا نقلبه عليهم، فنقول فوجب أن يستوي الطَّهَارَةُ بِالْمَائِعِ وَالْجَامِدِ فَيَ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ طَرِيقُهَا التَّرْكُ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. كَتَرْكِ الرِّبَا وَالْقَتْلِ، وَالْغَصْبِ، وَالْوُضُوءُ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ مِنْ شَرْطِهِ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، مَخْصُوصٌ مِنْ سَائِرِ التُّرُوكِ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ،، وَالْقِيَاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْمَخْصُوصِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّجَاسَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَحَلِّ مُوجِبِهَا. وَالْحَدَثُ يَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِهِ كَالتَّيَمُّمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ، عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَةُ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلصَّلَاةِ مُقَارِنٌ لِلصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَاكْتَفَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِزْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِطَهَارَةِ الذِّمِّيَّةِ فَهُوَ: أَنَّ طَهَارَتَهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَكَذَلِكَ لَزِمَهَا إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ، وَإِنَّمَا أَجَزْنَا غَسْلَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ، لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُضَيَّقٌ، وَفِي مَنْعِهِ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ وَمَنْعٌ مِنْ تَزْوِيجِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَصَارَتْ كَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ زوجها وطأها إذا اغتسلت في جنوبها بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ، وَلَوْ أَفَاقَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ إِلَّا بِنْيَةٍ كَذَلِكَ الذِّمِّيَّةُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إذا اغتسلت إلا بنية. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ وَتَيَمُّمٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فَأَمَّا الْغُسْلُ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَفَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَسْنُونٌ. فَأَمَّا فرض الأعيان فثلاثة: الأول: غسل الجنابة، والثاني: وغسل الحيض، والثالث: غسل النِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ وُجُوبُهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى أَوْلَى. فَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَغُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَمَا يَسْتَوْفِي عَدَدَهُ فِي مَوْضِعِهِ فَالنِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِيَمْتَازَ بِهَا عَمَّا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانْتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي فَرْضِهَا كَانَتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي نَفْلِهَا كالصلاة، والصيام. وأما فرض الكفاية: فغسل الموتى، فالظاهر من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أَنَّهُ يُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنْهُ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ": أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ كَرِهَتْ أَنْ تُغَسِّلَهُ فَلَوْ غَسَّلَتْهُ أَجْزَأَ ". فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَهُ شَرْطًا فِي جَوَازِ غُسْلِهِ لَمَا جَازَ أَنْ تُغَسِّلَهُ الذِّمِّيَّةُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنَ الذِّمِّيَّةِ لَا تَصِحُّ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي بَدَنِ الْغَيْرِ سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْ فَاعِلِ التطهير كالزوج إِذَا اسْتَحَقَّ غُسْلَ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ حَيْضِهَا لِيَسْتَبِيحَ وَطْأَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ كَوُجُوبِهَا فِي غُسْلِ الْحَيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، لِأَنَّ غُسْلَ الْأَبْدَانِ إِذَا اسْتَحَقَّ تعبد الله تَعَالَى اسْتَحَقَّتِ النِّيَّةُ فِيهِ، كَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَلَوْ كَانَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لَا يَسْتَحِقُّ النِّيَّةَ فِيهِ لَمَا وَجَبَ غُسْلُ الْغَرِيقِ لِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ غُسْلِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ النِّيَّةِ الْمَفْقُودَةِ فِي الْغُسْلِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا غُسْلُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ الْمَجْنُونَةَ فَإِنَّمَا سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْهُ، لِأَنَّ غُسْلَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ إِصَابَتَهَا لَمَا وَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَيْسَ كذلك غسل الميت لأنه قد استحق تعبد الله جل جلاله. والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَوْ لِجَنَازَةٍ أَوْ لِسُجُودِ قُرْآنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ به الفريضة ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ. وَالثَّانِي: فِي زَمَانِ النِّيَّةِ. وَالثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ. وَالرَّابِعُ: فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ: فَهُوَ الْقَلْبُ، لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِنَاءِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِإِنَاءِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَهُوَ الْقَلْبُ. فَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: النِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ لِيُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مَا اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ عَلَى كَمَالٍ مِنْ نِيَّتِهِ وَثِقَةٍ مِنَ اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا اخْتَصَّ بِاللِّسَانِ لَمْ يَلْزَمِ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ إِذَا اخْتَصَّتْ بِالْقَلْبِ لَا يَلْزَمْ ذِكْرُهَا بِاللِّسَانِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ النِّيَّةَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُجِزْهُ عَلَى المذهبين معا. فلو اعتقدها بِقَلْبِهِ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ.، وَلَوِ اعْتَقَدَ النِّيَّةَ بِقَلْبِهِ ولم يذكرها بلسانه أجزاء عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى مَذْهَبِ الزُّبَيْرِيِّ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ زَمَانُ النِّيَّةِ فَهُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ غُسْلًا فَعِنْدَ أَوَّلِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ جَسَدِهِ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا غَسَلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي الْغُسْلِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِمَحَلٍّ مِنْ جَسَدِهِ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِغَسْلِهِ جَائِزٌ فَجَازَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غُسْلِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا غَسَلَهُ مِنْ قَبْلُ وَإِنْ كَانَ وُضُوءًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِوَجْهِهِ. وَمِنْ حِكَمِ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِأَوَّلِهَا مَا خَلَا الصَّوْمَ الْمَخْصُوصَ بِالشَّرْعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ فِي النِّيَّةِ أربعة حوال: أَحَدُهَا: حَالُ اسْتِحْبَابٍ. وَالثَّانِيَةُ: حَالُ جَوَازٍ. وَالثَّالِثَةُ: حال فساد. والرابعة: حال اختلاف. فأما الحالة الْأُولَى: فِي الِاسْتِحْبَابِ، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ وَيَسْتَدِيمَهَا ذِكْرًا إِلَى غَسْلِ وَجْهِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَجْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا حكما وليس عليه أن يستديمها ذكرا، ومعنى استدامتها ذِكْرًا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِذِكْرِهَا وَاعْتِقَادِهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ فِي الْوُضُوءِ إِلَى غَسْلِ الْوَجْهُ وَاسْتِدَامَتُهَا حُكْمًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لِحُكْمِ نِيَّتِهِ فَلَا يُحْدِثُ نِيَّةً تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِيَّتِهِ وَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ بَعْدَ الْوَجْهِ إِلَى فَرَاغِهِ مِنْ طَهَارَتِهِ، فَإِنِ اسْتَدَامَهَا ذكرا كان أكمله. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فِي الْجَوَازِ: فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَيُجْزِئُهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالنِّيَّةِ فِيمَا قَبِلُ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوَجْهَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَتَرْكُهُ لَا يَقْدَحُ فِي وُضُوئِهِ فَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ. لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا فَعَلَهُ ثُمَّ أَحْدَثَ النِّيَّةَ بَعْدَهُ. هَلْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْمَسْنُونِ مِنْهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ فاعلا لمسنونه، ولا معتد بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ نِيَّةٍ قَارَنَتْهُ أَوْ تَقَدَّمَتْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلسُّنَّةِ مُعْتَدًّا بِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ طَهَارَةٍ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ لَهَا فِي مَحَلِّهَا، فَلَوْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ وَجْهِهِ انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَا كَانَ غَسَلَهُ كَالْجُنُبِ إِذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ بَعْضِ جَسَدِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي الْفَسَادِ: فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ لِفَسَادِ نِيَّتِهِ بِتَأْخِيرِهَا عَنِ ابْتِدَاءِ وُضُوئِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ وَجْهِهِ مُبْتَدِئًا بِالنِّيَّةِ بِهِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِغَسْلِ الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ: فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَيَحِلَّ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ فَإِنْ نَوَى قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْوُضُوءِ فِي غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لَمْ يُجِزْهُ. وَإِنْ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ غَسْلَ الْكَفَّيْنِ شُرُوعٌ فِي الْوُضُوءِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ ابْتِدَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ، لِأَنَّهُ غَسْلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَيُجْزِئُهُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّهُمَا فِي الْوَجْهِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَخْذِهِ فِي تَطْهِيرِ الْوَجْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ سَوَاءٌ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ يَصِحُّ بِغَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ تَمَضْمَضَ أَوِ اسْتَنْشَقَ أَصَابَ الْمَاءُ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ فَيُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاوِيًا عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا رَفْعَ الْحَدَثِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُغْتَسِلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَيَمِّمًا. فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ سَوَاءٌ عَيَّنَ الْحَدَثَ فِي نِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ نَوَى رَفْعَ جَمِيعِهَا، أَوْ رَفْعَ أَحَدِهَا، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِذَا نَوَى رَفْعَهُ زَالَ مَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ وَأَجْزَأَهُ. فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ وَحَدَثٌ مِنْ نَوْمٍ فَنَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا ارْتَفَعَا مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْآخَرِ، فَلَوْ نَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا عَلَى أَلَّا يَرْفَعَ الْآخَرَ فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ فِي نِيَّتِهِ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فَفَسَدَتِ النِّيَّةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى رَفْعَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى حُكْمًا، فَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ لَا غَيْرَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ مِنْ نَوْمٍ وَلْمٍ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ عَنْ نَوْمٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ عَنِ الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ، وَالنَّوْمُ حُدُوثٌ فَصَارَ نَاوِيًا رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِنْ كَانَ مُغْتَسِلًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِيَّتِهِ الْأَكْبَرَ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ نِيَّتَهُ تَنْصَرِفُ إِلَى حَدَثِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ فَاغْتَسَلَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ عَنْ حَدَثِهِ الْأَكْبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدَثُهُ الْأَصْغَرُ فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدَثَيْنِ لِامْتِيَازِهِمَا وَإِنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يُحْتَمَلُ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ عَيَّنَ النِّيَّةَ فَنَوَى غسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْجَنَابَةِ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَنَوَتْ غُسْلَ الْحَيْضِ أَجْزَأَهُمَا ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ جُنُبًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى. فَإِنْ كَانَ مُتَيَمِّمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ حَدَثَهُ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ وَهَكَذَا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ لِأَنَّ حَدَثَهُمْ لَا يَرْتَفِعُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَتِهِمْ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ فيجزئه، لأن الحدث مانع من استباحتها فَصَارَ اسْتِبَاحَتُهَا رَفَعًا لِلْحَدَثِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَوْ مُغْتَسِلًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ فِعْلَهَا وَسَوَاءٌ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ بِعَيْنِهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الصلاة فرضا أو نفلا، لأن النقل لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِالْحَدَثِ كَالْفَرْضِ. فَأَمَّا الْمُتَيَمِّمُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ فِي نِيَّتِهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِتَيَمُّمِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ فِي النِّيَّةِ أَنْ يُعَيِّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَتَيَمَّمُ لَهَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ وَاخْتَصَّ بِأَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ صَارَ شَرْطًا فِيهَا فَيَلْزِمَهُ تَعْيِينُهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّيَمُّمَ لِنَافِلَةٍ فَيَجُوزُ أَلَّا يَنْوِيَ تَعْيِينَ النية لها لأن النوافل لا تتعيين. فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا وَمَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ مَا لَمْ يُحْدِثْ لِأَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعُمَرَ حِينَ أَذْكَرَهُ عَامَ الْفَتْحِ أَنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمْدًا فَعَلْتَ ذَلِكَ يَا عُمَرُ. فَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى أَلَّا يُصَلِّيَ بِهِ مَا سِوَاهَا مِنَ الصَّلَاةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهَا: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ الْحَدَثَ إِذَا ارْتَفَعَ لِصَلَاةٍ ارْتَفَعَ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ لِأَنَّ حَدَثَهُ إِذَا لم يترفع لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ وُضُوءَهُ يَصِحُّ وَحَدَثَهُ يَرْتَفِعُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ الطَّهَارَةَ قَدْ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِصَلَاةٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَالْمَاسِحِ عَلَى خُفَّيْهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَطَهَّرُ لَهَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجِبُ فِيهِ طَهَارَةٌ وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَالطَّوَافِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَحَمْلِ المصحف وسجود السهو والسكر وَالتِّلَاوَةِ. فَمَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ يَنْوِي فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ وَصَحَّ وضوءه وَغُسْلُهُ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَالصَّلَاةِ صَارَ الْمُتَوَضِّئُ لَهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ بِمَنْدُوبٍ فِيهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالصِّيَامِ وَعُقُودِ الْمَنَاكِحِ وَالْبَيْعَاتِ وَلِقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْخُرُوجِ إِلَى سَفَرٍ فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مَنْدُوبًا فِيهَا إِلَى الطَّهَارَةِ فَإِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَوُضُوؤُهُ وَغُسْلُهُ بَاطِلَانِ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا حَدَثٌ وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِمَا صَلَاةٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلطَّهَارَةِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَهُوَ عَلَى حدثه ووضوء غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَكِنْ لَوْ تَوَضَّأَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَجْزَأَهُ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ وَالتَّنَظُّفَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهْ. والضرب الثالث: ما يصح فعله طَهَارَةٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي فِعْلِهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالْمُحْدِثِ إِذَا تَوَضَّأَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ طَاهِرًا أَوْ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُقَامِ فِيهِ أَوْ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ لِأَنْ يُؤَذِّنَ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ لِأَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ أَوْ لِزِيَارَةِ قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ، لِأَنَّهُ وَضَوْءٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاسْتِشْهَادًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ قِرَاءَةِ مُصْحَفٍ فَجَمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ لِلْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ لِلنَّافِلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَمْ يُنْدَبْ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا كَانَ حَامِلًا لَهُ. وَمَنْ تَوَضَّأَ لِحَمْلِ مُصْحَفٍ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ لِأَنَّ حمل المصحف لا يجوز لمحدث (وعلى هذين الوجهين يَكُونُ الْجَوَابُ) فِيمَنْ تَوَضَّأَ يَنْوِي تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّ تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ مَنْدُوبٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إليه فيكون (في صحة) : الطهارة وجهان: فأما من توضأ ينوي الطهارة وحدها أجزأه وضوءه وارتفع حدثه لأن الطهارة ترفع الْحَدَثِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ وَحْدَهُ فَالْوُضُوءُ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ فِي ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ كَمَنْ تَوَضَّأَ لمندوب إليه. فأما الْجُنُبُ: إِذَا نَوَى الْغُسْلَ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً غَيْرَ عِبَادَةٍ (فَصَارَ نَاوِي الطَّهَارَةِ يُجْزِئُهُ وَنَاوِي الْغُسْلِ لَا يُجْزِئُهُ) وَفِي نَاوِي الْوُضُوءِ وَجْهَانِ: فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا نَوَى بِغُسْلِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أو المقام فِي الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ وَلَا أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ لَوْ نَوَى أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ عَابِرُ سَبِيلٍ كَانَ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ غُسْلَهُ لِلْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَكَذَا لَوْ نَوَى غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَلَوْ تَوَضَّأَ مُحْدِثٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَصَلَّاهَا ثُمَّ جَدَّدَ وَضَوْءَهُ لِلظُّهْرِ وَصَلَّاهَا ثُمَّ أحدث وقت العصر فتوضأ أو صلاها ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ فِي إِحْدَى الطَّهَارَاتِ الثَّلَاثِ، نَظَرَ فَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الصُّبْحِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدِ الْعَصْرَ وَفِي إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا لَا فَرْضًا وَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الظُّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهَا وَلَا إِعَادَةُ الصُّبْحِ قَبْلَهَا وَلَا إِعَادَةُ الْعَصْرِ بَعْدَهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ طَهَارَتَهُ لِلظُّهْرِ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الْعَصْرِ أَعَادَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ شَكَّ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّ طَهَارَةٍ تَرَكَهَا أَعَادَ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ: فَتَصِحُّ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا مِمَّنْ قَدْ جَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالْإِسْلَامَ فَإِذَا كَانَ فِي حَالِ نِيَّتِهِ لِوُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ أَوْ تَيَمُّمِهِ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْبَالِغِ إِذَا تَوَضَّأَ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لا يميز فوضوءه بَاطِلٌ وَطَهَارَتُهُ عَبَثٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مِثْلِهِ لَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا صَحَّ وضوءه إِذَا نَوَى وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ حَتَّى لَوْ بَلَغَ بَعْدَ وُضُوئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ. أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: " لَوْ أَحْرَمَ صَبِيٌّ بِصَلَاةٍ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَأَتَمَّهَا أَجْزَأَهُ " فَلَوْلَا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فِي طَهَارَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَانْعِقَادِهَا بِقَصْدِهِ لَمْ تُجْزِهِ. وَهَكَذَا لَوْ فَعَلَ صَبِيٌّ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَاغْتَسَلَ نَاوِيًا ثُمَّ بَلَغَ صَحَّ غُسْلُهُ وَارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ. وَلَكِنْ لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِنَفْلٍ أَوْ لِفَرْضٍ ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ فَرْضًا بِحَالٍ لِأَنَّهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِفَرْضٍ فَصَارَ حِينَ تَيَمَّمَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ كَمَنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا تَوَضَّأَ فِي حَالِ جُنُونِهِ عَنْ حَدَثٍ أَوِ اغْتَسَلَ من جنابة لم يجزه وضوءه وَلَا غُسْلُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ذَلِكَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزًا وَقَصْدًا وَلَيْسَ لِلْمَجْنُونِ قَصْدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَلْزَمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثِهِ فِي كُفْرِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ مِنَ الْحَدَثِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ نَاوِيًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ أَصَحُّ قَصْدًا مِنَ الصَّبِيِّ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ مَعَ الْكُفْرِ انْعِقَادُ عِبَادَةٍ كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصَّلَاةِ وَخَالَفَ الصَّبِيَّ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصلاة، وأما إِذَا أَجْنَبَ الْكَافِرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ سَاقِطٌ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنَّ اغْتِسَالَهُ مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ جَمِيعَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْغُسْلِ مَعَ كَوْنِهِمْ غَالِبًا عَلَى جَنَابَةٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ بَاقٍ، وَإِنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَاجِبٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ حُكْمُ حَدَثِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَزِمَهُ الْوُضُوءُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ جَنَابَتِهِ وَلَزِمَهُ الْغُسْلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالْبُلُوغِ وَهُمَا فِي حَالِ (الْحَدَاثَةِ) مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ جُنُبًا فَمَأْخُوذٌ بِجَنَابَتِهِ وَالْغُسْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِوِفَاقِ أَبِي سَعِيدٍ فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَ على وجهين كالكافر. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَوَى فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ أَجْزَأَهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةَ أَنْ يَتَبَرَّدَ أَوْ يَتَنَظَّفَ فَيُعِيدُ مَا كَانَ غَسَلَهُ لتبرد أو لتنظف ". قال الماوردي: أما تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَيَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْهُمَا لَا غَيْرَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أحدهما: لا يجزيه كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُتَوَضِّئٍ غَسَلَ وَجْهَهُ نَاوِيًا بِهِ رَفْعَ الحدث جملة ثم استحصب حُكْمَ نِيَّتِهِ حَتَّى غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَيَّرَ النِّيَّةَ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَيُجْزِيهِ غَسْلُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسْحُ رَأْسِهِ دُونَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ تَقْطِيعِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطهارة أولا لِأَنَّ نِيَّتَهُ الْأُولَى كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ فَارْتَفَعَ حَدَثُ مَا غَسَلَهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُ مَا غَيَّرَ فِيهِ النِّيَّةَ مِنْ غَسْلِ رِجْلَيْهِ وَلَا يُجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَذَا الْوُضُوءِ شَيْئًا حَتَّى يُعِيدَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ نَاوِيًا بغسلهما ما رَفْعَ الْحَدَثِ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا وَالزَّمَانُ قَرِيبٌ لم يطل صح وضوءه وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 باب سنة الوضوء مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ " ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ أَعْمَالِ وُضُوئِهِ التَّسْمِيَةُ فَيَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ " وَهِيَ سنة. وقال أبو حامد الإسفرايني: هِيَ هَيْئَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهَيْئَةِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ قَالَ: الْهَيْئَةُ مَا تَهَيَّأَ بِهِ لِفِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَالسُّنَّةُ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا وهكذا نقول في غسل الكفين: وهذا يعد في العبارة مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: التسمية واجبة فإن تركها عامدا بطل وضوءه وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَهِ عليه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قالوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ ابْتِدَاؤُهَا إِلَى نُطْقٍ كَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَلَمَّا كَانَتْ وَاجِبَاتُ الْوُضُوءِ مَأْخُوذَةً مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ "، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّسْمِيَةِ فِيهَا ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَائِهِ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصِّيَامِ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْمِيَةُ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَاهِيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَبُو فَضَّالٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَالثَّانِي: يَعْقُوبُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ فِي التَّسْمِيَةِ حَدِيثٌ ثَبْتٌ وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحَمُّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَى النِّيَّةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَانَ فِي أَوَّلِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُبْتَدِئًا بِهَا عَلَى طَهَارَتِهِ فَإِنْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ يُسَمِّي إِذَا ذَكَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ آخرها. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ مِنْ إِنَائِهِ عَلَى يَدَيْهِ فيغسلهما ثلاثا ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مُغْتَسِلٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنْ غَمَسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا نَجَّسَ الْمَاءَ سَوَاءٌ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ أَمْ لَا، وَقَالَ دَاوُدُ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ لَكِنْ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ وَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ النَّجَاسَةَ. وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، فَحَمْلَهُ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ مِنَ النَّوْمِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى نَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالْبَيَاتُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي: " تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ "، فَلَمْ يُقَدَّمْ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ فَرْضًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْمِ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلُهُ سَائِرُ الْجَسَدِ. وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمَ تَكْرَارَ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فِيهَا كَالتَّيَمُّمِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ دَلِيلُنَا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ خَوْفَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَحْجَارَ وينامون فيعرقون وربما حصلت أيديهم موضع النجاسة فنجست وهذا متوهم وتنجسيها شَكٌّ وَمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَنْجِيسِهِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسًا الْأَشْجَعِيَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَكَيْفَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا قَيْسُ. وَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَرَادَ إِدْخَالَهُمَا فِي الْإِنَاءِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُمَا فِي الْإِنَاءِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا سُنَّةٌ فَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ سَوَاءٌ قَامَ مَنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ لَكِنَّهُ إِذَا قَامَ مِنْ نَوْمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَهُمَا ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ (قَبْلَ غَسْلِهِمَا وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُمَا قبل إدخالهما) . قال لِأَنَّ الْقَائِمَ مِنَ النَّوْمِ شَاكٌّ فِي نَجَاسَتِهِمَا وَغَيْرَ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمٍ مُتَيَقِّنٌ لِطَهَارَتِهِمَا وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى (يغسلهما لِأَنَّهُ) لَمَّا اسْتَوَيَا فِي سُنَّةِ الْغَسْلِ وَإِنْ وَرْدَ النَّصُّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الْقَائِمِ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَوَيَا فِي تَقْدِيمِ الْغَسْلِ عَلَى الْغَمْسِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُمَا أَوْ شَكَّ فِيهِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ يَدِهِ فَهِيَ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ فَيَكُونُ نجسا. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الِإنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ وَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا وَيُبْلِغُ خَيَاشِيمَهُ الْمَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفَقُ ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي ِ فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ. وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أربعة مذاهب. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٌ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ، وَفِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى والصغرى معا. والمذهب الثالث: وهو قول أحمد وداود وأبو ثَوْرٍ أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْمَضْمَضَةُ سُنَّةٌ فِيهِمَا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى مَسْنُونَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِغُسْلِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمَا وَفِعْلُهُ بَيَانٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ فِيهِمَا دُونَ الْمَضْمَضَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْهُ " وَبِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الوضوء قال: أسبغ الوضوء وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى إِيجَابِهَا فَيَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بِرِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " قَالَ: وَفِي الْأَنْفِ شَعْرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ. وَبِمَا رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ أسباط عن سفيان عن سَعِيدٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، قَالَ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ سُنَّ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى كَالْأُذُنَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ مِنَ الْبَدَنِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ شَعْرِ الْوَجْهِ، قَالَ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِمَا لَا يُفْطِرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا وَاجِبًا كَظَاهِرِ الْبَدَنِ. قَالَ وَلِأَنَّ اللِّسَانَ يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ وهو دليل الْجَنَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَكَانَ الْغُسْلُ وَحْدَهُ غاية الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ ". فَكَانَ مِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِفَاضَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ. وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غُسْلَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: " أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ ". وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ عن حدث فوجب ألا يستحق فيها المضمضة والاستنشاق كغسل الميت ولأن مالا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمَيِّتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنَ الْجُنُبِ كَالْعَيْنَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَعْرَ الْعَيْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ راويه أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، أَنَّهُ رَوَاهُ بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَكَانَ بَرَكَةُ مَشْهُورًا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَرِيضَةً يَعْنِي تَقْدِيرًا أَلَا تَرَاهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَالثَّلَاثُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن قولهم إن كَانَ مَسْنُونًا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ مَفْرُوضًا في الطهارة الكبرى منتقض بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ كُلَّ مَحَلٍّ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّ غَسْلَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَمِنَ الْجَنَابَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. فَإِنْ قَالُوا داخل العينين لا يجب غسله من وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَقِيلٌ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَهَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ عَلَى أَنَّ بُطُونَ الْجُفُونِ غَيْرُ صَقِيلَةٍ تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مِنَ الدِّرْهَمِ فَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْجُفُونَ الْأَرْبَعَةَ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ فَهَذَا يُفْسَدُ بِالْحُلْقُومِ لِأَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِالشُّرْبِ لَا يَشُقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِ لَا يُفْطِرُ وَهَذَا يُفْسَدُ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْحَدَثِ بِعُضْوٍ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِغَسْلِ غَيْرِهِ كَالْمُحْدِثِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَإِذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُمْنَعْ فَهَذَا جَوَابُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهما فالجواب عنه أنه ليس له فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا المجمل فِي الْكِتَابِ وَالطَّهَارَةُ مَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرَ، فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَعْدُولٌ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ فَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ وَتِلْكَ غير واجبة فلم يكن منه دليل. فصل وأما الفصل الثاني: في صِفَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِمَا: أَمَّا الْمَضْمَضَةُ فَهِيَ إِدْخَالُ الْمَاءِ إِلَى مُقَدَّمِ الْفَمِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهَا إِدَارَتُهُ فِي جَمِيعِ الْفَمِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فَهُوَ إِدْخَالُ الْمَاءِ مُقَدَّمَ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ إِيصَالُهُ إِلَى خَيْشُومِ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا سُنَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِمَا إلا أن يكون صائما فيبالغ في المضمضمة وَلَا يُبَالِغُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صَائِمًا ". وَالْفَرْقُ فِي الصَّائِمِ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَلَا يُبَالِغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بِإِطْبَاقِ حَلْقِهِ رَدُّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى جَوْفِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَاءِ بِخَيْشُومِهِ عن الوصول إلى رأسه. فإذا ما تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي كَيْفِيَّتِهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَغْرِفُ الْمَاءَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِفَمِهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِأَنْفِهِ فَيَسْتَنْشِقُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَانِيَةً ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَالِثَةً كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُقَدِّمُ الْمَضْمَضَةَ ثَلَاثًا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والقول الثاني: راويه الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ بِغَرْفَتَيْنِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ بِهَا ثَلَاثًا وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ ثُمَّ يَغْرِفُ غَرْفَةً ثَانِيَةً وَيَسْتَنْشِقُ بِهَا ثَلَاثًا. وَدَلِيلُهُ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ فَأَتَى بِالْمِيضَأَةِ إِلَى أَنْ قَالَ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا الْحَدِيثَ. وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَغْرِفُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وذقنه ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْوَجْهِ أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ، وَتَوَضَّأَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إِلَّا بِهِ ". وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَحَدُّ الْوَجْهِ مُخْتَلِفٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَحَدَّهُ الْمُزَنِيُّ هَكَذَا فَقَالَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وَذَقْنِهِ. وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ أَوْجَزُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ فَقَالَ: (حَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ وَأُصُولِ الْأُذُنَيْنِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنَ الذَّقَنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِغَيْرِ هَذَيْنِ فَقَالَ حَدُّهُ طُولًا مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إِلَى الذَّقْنِ وَعَرْضًا مِنَ الْأُذُنِ إلى الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَأَمَّا حَدُّ الْمُزَنِيِّ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ حَدَّ الْوَجْهَ بِالْوَجْهِ وَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ مَحْدُودًا بِمَا وَصَفْنَا فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَعْلَى شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ مُقَدَّمِهِ كَالْأَجْلَحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَوِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى دَخَلَ فِي جَبْهَتِهِ كَالْأَغَمِّ كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ هدبة بن خشرم: (فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا) فسما مَوْضِعَ الْغَمَمِ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ. فَصْلٌ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالْجَبْهَةُ كُلُّهَا مِنَ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ الْجَبِينَانِ مِنَ الْوَجْهِ أَيْضًا وَالنَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ، فَأَمَّا التَّحَاذِيفُ وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ فِي أَعَالِي الْجَبْهَةِ مَا بَيْنَ بَسِيطِ الرَّأْسِ وَمُنْحَدَرِ الْوَجْهِ تُوجَدُ الْحِفَافُ وَالتَّحْذِيفُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْجَبْهَةِ؟ فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِ مِنْ مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ وَتَسْطِيحِهِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ قَصَاصِ الشَّعْرِ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ مِنَ الرَّأْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِنَبَاتِ الشَّعْرِ فِي الرَّأْسِ وَعَدَمِ نَبَاتِهِ فِي الْوَجْهِ، فَلَمَّا كَانَ شَعْرُ التَّحَاذِيفِ يَتَّصِلُ نَبَاتُهُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ دُونَ الْوَجْهِ. وَلِأَنَّ التَّحَاذِيفَ وَالْحِفَافَ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى عَادَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ الْمَوْضِعُ تَارَةً مِنَ الْوَجْهِ إِنْ حُفَّ وَتَارَةً مِنَ الرَّأْسِ إِنْ لَمْ يُحَفَّ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدِي لِأَنَّ اسْمَ الْوَجْهِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ. فَصْلٌ فَأَمَّا الصُّدْغَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ هُمَا مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِمَا كَالْجَبِينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ لِاتِّصَالِ شَعْرِهِمَا بِشَعْرِ الرَّأْسِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ مَا اسْتَعْلَى مِنَ الصُّدْغَيْنِ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا انْحَدَرَ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَحْدُودٌ بِالْأُذُنَيْنِ فَمَا عَلَا مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا كَانَ أَمْرَدَ غَسَلَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ كُلَّهَا وَإِنْ نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ وَعَارِضَاهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَعَارِضَيْهِ وَإِنْ لَمَ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَشَرَةِ وَجْهِهِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ أَجْزَأَهُ إِذَا كان شعره كثيفا ". قال الماوردي: وهذا صحيح، وجملته أن وجه الْمُتَوَضِّئِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَمْرَدًا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ حتى يستوعب جميعه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا لِحْيَةٍ كَثِيفَةٍ قَدْ سَتَرَتِ الْبَشَرَةَ فَيَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ وَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الشَّعْرِ السَّاتِرِ لِلْبَشَرَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ إِنَّ عَلَيْهِ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ كَالْجَنَابَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْوُضُوءِ كَاسْتِحْقَاقِهِ فِي الْجَنَابَةِ،، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْجَنَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِلَى مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَشَرَةِ الْوَجْهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَاسْمُ الْوَجْهِ يَتَنَاوَلُ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَمَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْحُكْمُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَصِلُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْفَرْضُ إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، وَبِالْعَادَةِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِأَنَّ شَعْرَ اللِّحْيَةِ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ وَشَعْرُ الذِّرَاعَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ لَا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَزِمَ إِذَا صَارَ كَثِيفًا فِي النَّادِرِ أَنْ يُغْسَلَ مَا تَحْتَهُ، وَأَمَّا الْغَسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الجنابة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً "، وَفِي الْوُضُوءِ إنما يلزمه غسل ما ظهر لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْبَشَرَةِ لَا يَلْزَمُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجِزْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُهُ أَنْ يَغْسِلَ الرُّبْعَ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَغْسِلَ شَيْئًا مِنْهُمَا وَهَذَا خَطَأٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى بَشَرَةِ الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غَسْلُهُ كَالْحَاجِبَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اسْتِيعَابَ غَسْلِهِ وَاجِبٌ فَفَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ ثُمَّ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَظَهَرَتِ الْبَشَرَةُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ البدل، فإن ظهرت الْبَشَرَةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّعْرِ لَزِمَهُ غَسْلُهَا كَظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْغَسْلِ يَتَعَلَّقُ بِالشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ، وَخَالَفَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَجْزَأَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَإِلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ. فَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْعِذَارِ فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي وَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي لِأَنَّ شَعْرَ الْعِذَارِ حَائِلٌ بَيْنَهُ وبين الوجه وهذا خطأ، لأن عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْهَامَيْهِ فِي أُصُولِ أُذُنَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنَ الْوَجْهِ لَمْ يَسْتُرْهُ شَعْرُ اللِّحْيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فَرْضُ غَسْلِهِ كَالْوَجْنَةِ وَالْجَبْهَةِ. فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَكُونَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَا يَسْتُرُهُ شَعْرُ الْبَشَرَةِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُوَاجِهٌ بِهِمَا جَمِيعًا فَلَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ دُونَ الْبَشَرَةِ، أَوِ الْبَشَرَةِ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْوَجْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا لِأَنَّ الْبَشَرَةَ بَاطِنَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: " هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي " وَلِأَنَّهَا بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ وَجْهِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا كَالَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ لَهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ فَرْضُ الْمَحَلِّ قِيَاسًا على لبس خف مخرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فصل: والحالة الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَعْرِهِ خَفِيفًا لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَبَعْضُهُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ لَا يَمْتَازُ مِنْهُ وَلَا يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مَعًا لِأَنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بالغسل يشق وإمراره على الخفيف لا يجزي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَفِيفُ مُتَمَيِّزًا مُنْفَرِدًا عَنِ الْكَثِيفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا تَحْتَ الْخَفِيفِ دُونَ الْكَثِيفِ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ وَلَوْ غَسَلَ بَشَرَةَ جَمِيعِهِ كَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْأَرْبَعَةُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهَا مِنَ الْبَشَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرُهَا خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا. لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَبَعْضُهُمْ يصله بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْسُوا الْمَغْفَلَةَ وَالْمَنْشَلَةَ "، فَالْمَغْفَلَةُ: الْعَنْفَقَةُ وَالْمَنْشَلَةُ مَا تَحْتَ الْخَاتَمِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ يَخِفُّ شَعْرُهَا فِي الْغَالِبِ فَإِنْ كَثُفَتْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ الْغَسْلِ عَنِ الْبَشَرَةِ كَشَعْرِ الذِّرَاعَيْنِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ فاعتبر حكمه بما بينهما. فَصْلٌ: فَأَمَّا صِفَةُ الْغَسْلِ : فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْبَغُ لِغَسْلِ وَجْهِهِ فَيَبْدَأُ بِأَعْلَى وَجْهِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ فَيَجْرِي الْمَاءُ بِطَبْعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ مَسَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسِنُهُ وَالسَّنُّ بِغَيْرِ إِعْجَامٍ صَبُّ الْمَاءِ وَبِالشِّينِ تَفْرِيقُ الْمَاءِ ثُمَّ يَمُرُّ بِيَدَيْهِ بِالْمَاءِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الْمَاءُ جَمِيعَ مَا يَجِبُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفْنَا فِي الِاخْتِيَارِ وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْعَيْنَيْنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا سُنَّةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كان يفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَيَنَالُهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا تؤضأ مَسَحَ بِأُصْبُعَيْهِ آمَاقَ عَيْنَيْهِ. فَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْعَيْنَيْنِ مَسْنُونًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ أَوْ بَيَانًا لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَيُدْخِلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْغَسْلِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وإن كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فيهما. وأحب أن لو أمس موضهما الماء ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا غَسَلَهُمَا لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى جعلهما ما حَدًّا فَقَالَ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . فَجَعَلَ اللَّيْلَ حَدًّا فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَا لَزِمَ إِتْمَامُهُ مِنَ الصِّيَامِ وَكَمَا قَالَ بِعْتُكَ الدَّارَ وَحْدَهَا إِلَى الدُّكَّانِ لَمْ يَكُنِ الدُّكَّانُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى مَعَ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِلْمَحْدُودِ فَتَصِيرُ حَدًّا وَتَقْدِيرُهُ مَعَ الْمَرَافِقِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] . أَيْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف؛ 14] . أَيْ مَعَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِلَى وَإِنْ كَانَتْ حَدًّا وَغَايَةً فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْحَدَّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَمْ يَدْخُلْ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ بِعْتُكَ الثَّوْبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مِنَ الطَّرَفِ إِلَى الطَّرَفِ فَيَدْخُلُ الطَّرَفَانِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ إِمْسَاكُ اللَّيْلِ فِي جُمْلَةِ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ أَدَارَ يَدَيْهِ عَلَى مِرْفَقَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ غَسْلِهِمَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَبْلَ زفر فَكَانَ زفر محجوبا بإجماع من تقدمه. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَاجِبٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ أحد أمرين: الأول: إما أن تكون يده سليمة أو قطعا، فَإِنْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ بَدَأَ بِغَسْلِ ذِرَاعِهِ الْيُمْنَى فَأَجْرَى الْمَاءَ عَلَيْهِ وَأَدَارَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَأَ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ بَدَأَ مِنْ مِرْفَقِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَوَقَفَ مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى يَسَارِهِ يَفْعَلُ كَذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْكَفِّ بَاقِيَ الذِّرَاعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الذِّرَاعَ مَعَ الْمِرْفَقِ وَفَرْضُ الْكَفِّ قد سقط بزواله إلى غير بدل. والحالة الثانية: أن يكون أقطع الذراع يأتي الْمِرْفَقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَرْفِقَ لِبَقَائِهِ مِنْ جملة المفروض في الغسل. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الذِّرَاعِ وَالْمِرْفَقِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِ لِزَوَالٍ مَا فُرِضَ غَسْلُهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمَسَّ مَوْضِعَهُ الْمَاءَ اخْتِيَارًا لَا وَاجِبًا. وَأَنْكَرَ ابْنُ دَاوُدَ ذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِيِّ إِنْكَارَ عِنَادٍ وَعَنَتٍ وَالْوَجْهُ فِي اسْتِحْبَابِهِ ذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ غَسْلَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خَلَفًا فِيمَا فَاتَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَوْضِعٌ قَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يقدم ذلك لزوال الْعُضْوِ. وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، فَنَقَلَ جَوَابَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ أَوْ سَهْوٌ فِي النَّقْلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقْطَعَ الذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابُ الْمُزَنِيِّ صَوَابٌ وَنَقْلُهُ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا غَلِطَ عَلَيْهِ فِي التَّأْوِيلِ وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ فَحُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا وَاكْتَفَى بِفَهْمِ السَّامِعِ. , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فَصْلٌ إِذَا خُلِقَتْ لِرَجُلٍ يَدٌ زَائِدَةٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا خَارِجًا مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ أَوْ مِنْ فَوْقِهِ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ فَغَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَعَ ذِرَاعَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي كَفِّهِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا قَبْلَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِلَى مَا انْحَدَرَ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِ أَصْلِهِ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ لِمُشَارَكَتِهِ فِي اسْمِ الْيَدِ وَمُقَابَلَتِهِ مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَلَوِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنْ عَضُدِهِ، فَإِنْ لم تلتصق بالذراع لم يلزمه غسلها، لأنها غير متصلة بمحل الفرض ولا ينطلق عليها اسم اليد. وإن التصقت بالذراع إلى المرفق وَجَبَ غَسْلُهَا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالِالْتِصَاقِ فِي حُكْمِ الذِّرَاعِ. فَأَمَّا إِنِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِهَا سَوَاءٌ الْتَصَقَتْ بِالْعَضُدِ أَمْ لَا لِأَنَّهَا مِنَ الذراع. والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثَلَاثًا وَأُحِبُّ أَنْ يَتَحَرَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ مَسْحُهُ منه على ثلاث مَذَاهِبَ شَتَّى. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ ما ينطلق اسم المسح عليه ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا. وَقَالَ مَالَكٌ الْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. . وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى مَسْحِ جَمِيعِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَعَنْ أبي حنيفة روايتان: أحدهما: أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ وَبِهَا قَالَ أبو يوسف: إن الواجب مسح ربعه بثلاثة أَصَابِعَ فَإِنْ مَسَحَ الرُّبُعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَقَلَّ مِنَ الرُّبُعِ لَمْ يُجِزْهُ، فَحَدُّ الْمَمْسُوحِ وَالْمَمْسُوحِ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فأما مالك فاستدل بقوله تعالى: ِ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَمْسَحَ جميع ما انطلق عليه اسم الرأس، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى ما قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الذي بدأ منه، وبحديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَلَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ولأنه أحد الأعضاء الظاهرة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِيعَابُهُ بِالتَّطْهِيرِ وَاجِبًا كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَحَلًّا لِفَرْضِ الْمَسْحِ تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضُ الْمَسْحِ أَصْلُهُ الْبَعْضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْخِلُ فِي الْكَلَامِ حَرْفًا زَائِدًا إِلَّا بِفَائِدَةٍ، وَالْبَاءُ الزَّائِدَةُ، قَدْ تَدْخُلُ فِي كَلَامِهِمْ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الكلام بحذفها، ولا يتعدى الفعل إلى مفعوله إِلَّا بِهَا كَقَوْلِهِمْ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . لِمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقُولُوا مَرَرْتُ زَيْدًا، وَلْيَطَّوَّفُوا الْبَيْتَ كَانَ دُخُولُ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ، وَلِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصِحُّ الْكَلَامُ بِحَذْفِهَا، وَبِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ بَعْدَهَا لِيَكُونَ لِزِيَادَتِهَا فَائِدَةٌ. فَلَمَّا حَسُنَ حَذْفُهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: {وامسحوا رءوسكم} [المائدة: 6] ، صَلَحَ دَلَّ عَلَى دُخُولِهَا لِلتَّبْعِيضِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ كَلِمَةٍ اقْتَصَرُوا عَلَى أَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا اكْتِفَاءً بِهِ، عَنْ جَمِيعِ الْكَلِمَةِ كَمَا قيل في قوله تعالى: {كهيعص} أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَافِي، وَالْهَاءَ مِنْ هَادِي، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ. أَيْ وَقَفْتُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تَا فَقَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا، وَمَعْنَاهُ نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تركبون قالوا جميعا ألا فاركبوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ كَانَتِ الْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ، مُرَادًا بها بعض رؤوسكم لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَرْفٍ مِنْ بَعْضٍ. وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ أَوْ قَالَ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَرَوَى أَبُو مَعْقِلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ عليه عمامةٌ فطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُرُوضِ الطَّهَارَةِ كَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ دَلِيلِنَا مِنْهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بن زيد والمقدام بن معد يكرب فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَسٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ فَمُنْتَقَضٌ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَحَلٌّ لِفَرْضِ المسح وليس مسح جميعه واجب (فصل: استدلال أبي حنيفة) وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبُعِهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، قَالَ وَالنَّاصِيَةُ رُبُعُ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِمَسْحِ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِرُبُعٍ وَلَا ثُلُثٍ ثُمَّ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح مقدم رأسه وذلك أَقَلُّ الرُّبُعِ، لِأَنَّهُ مَسَحَ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مِنْهُ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ قياساُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، فَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يَتَقَدَّرْ فَرْضُهُ بِالرُّبُعِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، ولأن التقدير لا يثبت قياساً ولا سيما أبي حنيفة، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهُ بِالرُّبُعِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ قَدْرِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ بِأَكْثَرَ فَكَانَ مُطَّرِحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: استحباب مسح جميع الرأس) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ والمقدام بن معد يكرب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بَجَمِيعِ رَأْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ بِاسْتِيعَابِ مَسْحِ رَأْسِهِ مُؤَدِّيًا بِالْإِجْمَاعِ فَرْضَ مَا مَسَحَهُ، فَإِذَا أَرَادَ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ مَسَحَ بِيَدَيْهِ عَلَى مَا وَصَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَيَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيُمِرُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيَمْسَحُ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ. فَمَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الصُّدْغَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِاسْتِيعَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِمَسْحِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ لِيَصِيرَ بِالْمُجَاوَرَةِ إِلَيْهِمَا مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوْعَبَ مَسْحَ رَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: السُّنَّةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا زَادَ عَنِ الْمَرَّةِ مَكْرُوهٌ استدلالاُ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح رأسه مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَاسْتِيعَابَهُ سُنَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ تَكْرَارُ مَسْحِهِ سُنَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ سُنَّتَانِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عُضْوٌ فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ سُنَّتَانِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ وَفِي تَكْرَارِهِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ المسح إلى الغسل والغسل غير مسنون فكذلك مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَسْحِ غَيْرُ مَسْنُونٍ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حُمْرَانَ وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا. وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ مَسْنُونًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْوُضُوءِ فَكَانَ التَّكْرَارُ مَسْنُونًا فِيهِ كَالْغَسْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ بِأَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وأحاديثنا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ أُسْقِطَ فِيهَا الْمَسْنُونُ وَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِ الْفَرْضِ، فَكَأَنَّ التَّكْرَارَ أُسْقِطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْحُ الرَّأْسِ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَدْخُلُهُ الْمَسْنُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَلَطٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِيهِ سُنَّتَانِ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالتَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَكَذَا الرَّأْسُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَصِيرُ بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ مَغْسُولًا فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَكْرُوهَ هُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِغَسْلِهِ وَهَذَا لَمْ يُبْتَدَأْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْضَى إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ مَغْسُولًا لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِتَكْرَارِ مَسْحِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ فَرْضٌ وَسُنَّتَانِ وَهَيْئَةٌ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَمَسْحُ بعضه وإن قيل، وَأَمَّا السُّنَّتَانِ فَإِحْدَاهُمَا، اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ. وَالثَّانِيَةُ: تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَالْبِدَايَةُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ إِذْهَابُ يَدَيْهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ ثُمَّ رَدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ إِذَا مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ مَسَحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِي الْإِمْكَانِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّأْسِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ كَالْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ وَمَا دُونَهَا بَلْ يَكُونُ مَسْحُ أَقَلِّهِ مُعْتَبَرًا بِأَنْ يَمْسَحَ بِأَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ إِصْبَعِهِ عَلَى أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْأَقَلُّ الَّذِي لَا يُجْزِئُ دُونَهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فِي العرف وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 دُونَهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ، فَامْتَنَعَ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ حَدًّا، وَكَانَ مَا وَافَقَ الْعُرْفَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَدًّا. (فَصْلٌ: القول في المسح على العمائم) وإذا مسح بعض رأسه فيحتار أَنْ يُكْمِلَ ذَاكَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ. فَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ وَحْدَهَا دُونَ الرَّأْسِ لم يجزيه فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حنبل وسفيان الثوري يجزيه اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والنساخين، يعني بالعصائب العمائم، والنساخين يَعْنِي بِهِ الْخِفَافَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْمَسْحِ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرِّجْلَيْنِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ تَعَلُّقَ الْفَرْضِ بِالرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالْوَجْهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يمسحوا على العمائم والنساخين، فَقَدْ كَانَتْ عَمَائِمُ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ صِغَارًا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَصَائِبَ لِصِغَرِهَا وَلَمْ تَكُنْ تَعُمُّ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَسْحِ إِلَيْهِ، إِمَّا مُبَاشَرَةً أَوْ بَلَلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الخفين، فالمعنى فيه لحوق المشقة بنزعهما وَأَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ اسْتِيعَابُ غَسْلِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الرَّأْسِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ بَعْضِهِ وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ سَتْرِ رَأْسِهِ. (فَصْلٌ) : فإذا ثبت أن الفرض مباشرة الرأسة بِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ أَوْ كَانَ نَابِتَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا فَلَوْ كَانَ بَعْضُ رَأْسِهِ مَحْلُوقًا وَبَعْضُهُ شَعْرًا نَابِتًا كَانَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَحْلُوقِ مِنْهُ أَوْ مَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ النَّابِتِ فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَهُ أَجْزَأَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ قَدْ كَانَ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْهُ أَجْزَأَهُ غَسْلُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ تَحْتَ الْجِلْدِ الْمَكْشُوطِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ عَلَى رأسه فَلَهُ فِي مَسْحِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أَحَدُهَا: أَنْ يَمْسَحَ أَصْلَ الْجُمَّةِ النَّابِتَةِ عَلَى الرأس فيجزيه سَوَاءٌ وَصَلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَمْ لَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ فمسح طرف شعره النابت أجزأه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْسَحَ عَلَى أَطْرَافِ الْجُمَّةِ وَأَهْدَابِ الشعر الخارج عن حد الرأس فلا يجزيه لِأَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا عَلَا فَكَانَ الْمُسْتَرْسِلُ مِنْهُ لَا يُسَمَّى رَأْسًا فَلَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ عَقَصَ أَطْرَافَ شَعْرِهِ الْمُسْتَرْسِلِ وَشَدَّهُ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَائِلًا دُونَ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ على العمامة. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْسَحَ مِنْ شَعْرِ جُمَّتِهِ مَوْضِعًا لَا يَخْرُجُ عَنْ مَنَابِتِ رَأْسِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ حده ففي إجزائه وجهان: أحدها: لَا يَجُوزُ لِاسْتِرْسَالِهِ كَمَا لَوْ مَسَحَ الْمُسْتَرْسِلَ الْخَارِجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أصح أن يجزيه لِأَنَّهُ مَسَحَ شَعْرًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ فَصَارَ كَمَسْحِهِ أُصُولَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة: القول في مسح الأذنين) قال الشافعي رضي الله عنه: وَيَمْسَحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا بماءٍ جديدٍ وَيُدْخِلُ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَاجِبٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ حِينَ تَوَضَّأَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ أَفْعَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصِرْ فِيهَا دَلِيلٌ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " فَلَمَّا اقْتَصَرَ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْتَفَى وُجُوبُ مَا عَدَاهَا وَهَذَا مُخَصَّصٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيجَابِ فَكَيْفَ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الرَّأْسِ وَلَا مِنَ الْوَجْهِ، بَلْ هَمَّا سُنَّةٌ على حيالهما فيمسحان بِمَاءٍ جَدِيدٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة ومالك أنهما من الرأس لكن قال أبو حنيفة يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَمْسَحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلُ مَعَهُ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ يُمْسَحُ مَعَهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ بِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ". وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأُذُنُ رَأْسًا، قَالَ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ مُتَّصِلٌ بِالرَّأْسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حُكْمًا قِيَاسِيًّا عَلَى جَوَانِبِ الرَّأْسِ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ "، فَأَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْوَجْهِ وَمَا أَدْبَرَ مِنَ الرَّأْسِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْوَجْهَ مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَالْمُوَاجَهَةُ حَاصِلَةٌ بِمَا أَقْبَلَ مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَجْهِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِفَرْضِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الرَّأْسِ، أَصْلُهُ الْيَدَانِ طَرْدًا وَآخِرُ الرَّأْسِ عَكْسًا. وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نوعي الوضوء فوجب أن يتنوع أعضائه نَوْعَيْنِ فَرْضًا وَسُنَّةً كَغَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ سُنَّةً مُفْرَدَةً وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَبَعْضُهُ فَرْضٌ وَهُوَ بَاقِي الْأَعْضَاءِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ لَا يُجْزِئُ حَلْقُ شَعْرِهِ عَنْ نُسُكِ الْمُحْرِمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ لِلرَّأْسِ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً مِنْهَا فَرْضُ الْمَسْحِ، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الْمُحْرِمِ بِحَلْقِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَمِنْهَا وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ بِتَغْطِيَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْأُذُنَيْنِ مِنْ أَحْكَامِ الرَّأْسِ مَا سِوَى الْمَسْحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ الْمَسْحِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْبَيَاضُ الْمُحِيطُ بِالْأُذُنِ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ قُرْبِهِ فَلِأَنْ لَا تَكُونَ الْأُذُنُ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ". فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَشَهْرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خَرَفَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ فَخَلَطَ فِي حَدِيثِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي حَالِ الْخَرِيطَةِ مَا أُنْشِدَ فِيهِ مِنَ الشِّعْرِ مَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ ذِكْرِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قَالَ: لَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسَحَانِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ مِنَ اسْمِ الرَّأْسِ. وَأَمَّا قياسهم على إجزاء الرأس فالمعنى فيه أنه محل لفرض الْمَسْحُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُذُنَانِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ ذَهَبَ بِأَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، فَالْوَجْهُ إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن: 27) . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْوَجْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْكَيِّ فِي الْوَجْهِ وَأَبَاحَ الْكَيَّ فِي الْأُذُنِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ عَلَى حِيَالِهِمَا مُفْرَدَةٌ بِمَاءٍ جَدِيدٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَهُمَا مَعًا بِيَدَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقَدِّمُ يُمْنَى عَلَى يُسْرَى وَلَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ عُضْوَانِ لَا تُقَدَّمُ الْيُمْنَى مِنْهُمَا عَلَى الْيُسْرَى غَيْرَ الْأُذُنَيْنِ ثُمَّ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ لِرِوَايَةِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بماءٍ جَدِيدٍ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَاءِ أُذُنَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِدْخَالُ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الصِّمَاخَيْنِ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أنه يدخل إصبعيه في صماخيه بماء أذنيه فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَلَا يَكُونُ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الأذنين، وقد حكى عن أبي العباس ابن سُرَيْجٍ فِي مَسْحِ أُذُنَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُهُمَا ثَلَاثًا مِعِ وَجْهِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ رَأْسِهِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَيَمْسَحُهُمَا ثَلَاثًا مُفْرَدَةً كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو الْعَبَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَاسْتِحْبَابًا لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً. ( مسألة ) : قال الشافعي رضي الله عنه: ثم يغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً إلى الكعبين. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفَرْضُهُمَا عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْمَسْحُ دُونَ الْغَسْلِ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَهُمَا وَمَسْحَهُمَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) . بِخَفْضِ الْأَرْجُلِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَطْفًا عَلَى الرَّأْسِ. قَرَأَ بِذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كثير وحمزة وأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ لِعَطْفِهِمَا عَلَى الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ. قَالَ: ويؤيد ذلك أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ سَمِعَ الْحَجَّاجَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَرَ اللَّهُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، فَقَالَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ، وَيَأْبَى النَّاسُ إِلَّا الْغَسْلَ، وَقَالَ: غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ. فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْمَسْحَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ ماءٍ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى رِجْلِهِ وَفِيهَا النَّعْلُ فَغَسَلَهَا بِهَا ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: قُلْتُ وَفِي النَّعْلَيْنِ، قَالَ: وَفِي النَّعْلَيْنِ. وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى كَظَامَةَ قومٍ. وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، قَالُوا وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ مِثْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنِ الرِّجْلِ فَلَمَّا كَانَ الْبَدَلُ مَمْسُوحًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ مَمْسُوحًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . إِلَى قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ الْأَرْجُلِ وَفَتْحِ اللَّامِ مِنْهَا عَطْفًا عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، قَرَأَ بِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنَ الْقُرَّاءِ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْغَسْلَ لِعَطْفِهِمَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَغْسُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنْ كَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْصُوبَةُ تَدُلُّ عَلَى الْغَسْلِ فَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْحِ، قِيلَ الْقِرَاءَةُ الْمَنْصُوبَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغَسْلِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَطْفِ الْمُجَاوَرَةِ دُونَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الرَّأْسِ، وَكَانَ الرَّأْسُ مَخْفُوضًا عَلَى إِعْرَابِ مَا جَاوَرَهُ، وَهَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) {إبراهيم: 14) . فَخُصَّ الْعَاصِفُ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ لَا مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ، وَالرِّيحُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْيَوْمُ مَخْفُوضٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُجَاوِرًا لِلْيَوْمِ أَعْطَاهُ إِعْرَابَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لَهُ، وَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضبٍّ خربٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خربٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجُحْرِ الْمَرْفُوعِ لَا لِلضَّبِّ الْمَخْفُوضِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّبِّ أُعْطِيَ إِعْرَابَهُ، وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى: (لَقَدْ كَانَ فِي حولٍ ثواءٍ ثَوَيْتِهِ ... تَقَضِّي لباناتٌ ويسأم سائم) فخض الثَّوَاءَ لِمُجَاوَرَتِهِ الْحَوْلَ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا. ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ فَنَقَلُوا جَمِيعًا حِينَ وَصَفُوا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا نَقَلُوهُ مِنْ فِعْلِهِ بَيَانًا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ من فرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَتَوَضَّأُ وَهُوَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: " بِهَذَا أُمِرْتُ ". وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَيْتِهِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " ويلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ " فَجَعَلْنَا نُدَلِّكُ أَقْدَامَنَا وَنَغْسِلُهَا غَسْلًا. وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ "، فَمَا بَقِيَ أحدٌ فِي الْمَسْجِدِ شريفٌ وَلَا وضيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا ". وَرَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى الْغَسْلِ دُونَ الْمَسْحِ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كُلِّ هَذَا. وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ الله كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يُعْرَفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لرجلٍ خيلٌ غرٌ محجلةٌ في خيلٍ بهمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَسْلِ لِأَنَّ آثَارَ التَّحْجِيلِ يَكُونُ مِنَ الْغَسْلِ لَا مِنَ الْمَسْحِ فَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ عُضْوٌ مَفْرُوضٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْسُولًا كَالْوَجْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلًا، وَاسْتِعْمَالًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ الْغَسْلُ فَكَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْغَسْلِ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ يَعْنِي الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ يُغْسَلَانِ فِي الْوُضُوءِ وَيُمْسَحَانِ فِي التَّيَمُّمِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ غَسَلَهُمَا فِي نَعْلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ أَقْرَأَ الْحَسْنَ وَالْحُسَيْنَ بِالْخَفْضِ قَالَ فَنَادَانِي عَلِيٌّ مِنَ الْحُجْرَةِ بِالْفَتْحَةِ بِالْفَتْحَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى كطامة قومٍ وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَالْكِظَامَةُ الْمَطْهَرَةُ وَالسُّبَاطَةُ الْفِنَاءُ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ فَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَنَعَتْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ قَائِمًا. وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِجُرْحٍ كان في مابضه، وَالْمَأْبِضُ: هُوَ عِرْقٌ فِي بَاطِنِ السَّاقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ مَسْحَ النَّعْلَيْنِ لَا يُجْزِئُ عن مسح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الرِّجْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ فَبَاطِلٌ بِالْجُنُبِ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي بَدَلِهِ الْغَسْلُ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي التَّيَمُّمِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا كَانَ بَدَلُهُ مَمْسُوحًا كَانَ مُبْدَلُهُ مَمْسُوحًا فباطل بالوجه وهو التَّيَمُّمِ مَمْسُوحٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ وَفِي الْوُضُوءِ مَغْسُولٌ والوضوء مبدل والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: والكعبان هما العظمتان النَّاتِئَانِ وَهُمَا مُجْتَمَعُ م َفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَيْهِمَا الغسل كالمرفقين. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْكَعْبَانِ هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أَنَّ الْكَعْبَ مَوْضِعُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ وَهُوَ النَّاتِئُ مِنْهُ. اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ ذَاكَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا قَالَهُ محمد وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ الشافعي بالشرع وأنكر أصحابنا ذلك فقالوا: بَلِ الْكَعْبُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لُغَةً وَشَرْعًا أما اللغة فمن وجهين: نقل واشتقاق. فأما النَّقْلُ فَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ قُرَيْشٍ، وَنِزَارٍ، كُلِّهَا مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، لَا يَخْتَلِفُ لِسَانُ جَمِيعِهِمْ أَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلنَّاتِئِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَهُمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِسَانُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ بِلِسَانِهِمْ نَزَلَ. وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا اسْمٌ لِمَا اسْتَدَارَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قَالُوا قَدْ كَعَّبَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إِذَا عَلَا وَاسْتَدَارَ وَجَارِيَةٌ كُعُوبٌ. وَسُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِاسْتِدَارَاتِهَا وَعُلُوِّهَا وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِالْقَدَمِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِلَّا مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لِعُلُوِّهِ وَاسْتِدَارَتِهِ، فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ نَقْلًا وَاشْتِقَاقًا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ نَصٌّ وَاسْتِدْلَالٌ: أَمَّا النَّصُّ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَلَا حَرَجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِجَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ: " ارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ ". فَدَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 نَصُّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَيْنِ أَسْفَلُ السَّاقِ لَا مَا قَالُوهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقَدَمِ، وأما الاستدلال بقوله تعالى: {أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) {المائدة: 6) . فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَرْجُلَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَرَافِقِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةً إِلَى كُلِّ رِجْلٍ فَيَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمُسْتَدِيرِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَى مَا قَالُوهُ يَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَ مَا وَصَفْنَا وَجَبَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ، وَخَالَفَ زفر كَخِلَافِهِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا أَرَادَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ بَدَأَ بِالْيُمْنَى مِنْهُمَا فَغَسَلَهَا مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى كَعْبَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غيره يصب الماء عليه غسلها مِنْ كَعْبَيْهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا. (مسألة: القول في تخليل الأصابع) قال الشافعي رضي الله عنه: وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقِيطَ بْنَ صَبِرَةَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إن شاء الله. قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَمَأْمُورٌ بِهِ لِرِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الْوُضُوءِ قَالَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ مُتَضَايِقَةً أَوْ مُتَرَاكِبَةً لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالتَّخْلِيلِ فَالتَّخْلِيلُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهَا بِغَيْرِ تَخْلِيلٍ فَالتَّخْلِيلُ سُنَّةٌ فَيَبْدَأُ فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهِ إِلَى إِبْهَامِهِ ثُمَّ بِالْيُسْرَى مِنْ إِبْهَامِهِ إِلَى خِنْصَرِهِ لِيَكُونَ تَخْلِيلُهَا نَسَقًا عَلَى الْوَلَاءِ وَكَيْفَمَا خَلَّلَهُمَا وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْأَكْمَلِ فَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَى كَمَالِ الْوُضُوءِ إِدْخَالَ الْمَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، وَزَادَ عَطَاءٌ فِيهِ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ، وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ مَسْحَ الْحَلْقِ بِالْمَاءِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَيْسَ يَعُودُ إِلَى الْكَمَالِ وَلَكِنْ يَعُودُ إِلَى مَا نَدَبَ إِلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَقْدِيرُهُ، " فيوض كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أَذْكَارُ الْوُضُوءِ فَالْمَسْنُونُ مِنْهَا هُوَ التَّسْمِيَةُ أَمَّا الْوُضُوءُ وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا مَا سِوَى التَّسْمِيَةِ مِنَ الْأَذْكَارِ عِنْدَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَا آثَارٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 مَنْقُولَةٌ يَخْتَارُ الْعَمَلَ بِهَا وَإِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْكَدَ مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ: اللَّهُمَّ اسْقِنِي مِنْ حَوْضِ نَبِيِّكَ كَأْسًا لَا ظمأ بَعْدَهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي رَائِحَةَ جِنَانِكَ وَنَعِيمَكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وتسود فيه وُجُوهٌ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، وَلَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي فَأَهْلِكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ اللهم اظللني تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ اللَّهُمَّ أَجِزْنِي عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَتَرَدَّى فِي النَّارِ فَهَذَا كُلُّهُ مَأْثُورٌ عَنِ الْفُضَلَاءِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين. (فَصْلٌ) : وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْمَأْقَيْنِ " وَهِيَ تَثْنِيَةُ مَأْقٍ وَهُوَ طَرَفُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ وَهُوَ مَخْرَجُ الدَّمْعِ، فَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَهُوَ اللِّحَاظُ وَمَسْحُ الْمَأْقَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا رَمْصٌ ظَاهِرٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَحَلِّهِ كَانَ مَسْحُهُمَا وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا رَمْصٌ كَانَ مَسْحُهُمَا مُسْتَحَبًّا كَالتَّخْلِيلِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَأُحِبُّ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى مَا سَقَطَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِيهَا قَوْلَانِ قَالَ يُجْزِيهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْآخَرِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: يُجْزِيهِ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَلَّا يَجْعَلَ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الْوَجْهِ مِنَ الْوَجْهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَقَلَهَا الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَجُمْلَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَجَاوَزِ الْأُذُنَ عَرْضًا، وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ عَنِ الذَّقَنِ طُولًا فَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ تَجَاوَزَ الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا وَاسْتَرْسَلَ عَنِ الذَّقْنِ طُولًا لَزِمَهُ غَسْلُ مَا قَابَلَ الْبَشَرَةَ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ مَا انْتَشَرَ عَنْهَا عَرْضًا وَمَا اسْتَرْسَلَ مِنْهَا طُولًا، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَتَرْكَهُ مُجْزِئٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يكن ما استرسل من شعره داخل فَيَ حُكْمِهِ كَالرَّأْسِ. وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الْفَرْضِ فِي الْبَشَرَةِ إِلَى مَا يُوَازِيهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُحَاذِيهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ واجب عليه وتركه غير مجزى، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةُ يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا: أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْوَجْهَ سُمِّيَ وَجْهًا لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ لَهُ وَاللِّحْيَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الْمُوَاجَهَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا قَدْ بَقَلَ وَجْهُهُ وَنَبَتَ وَجْهُهُ إِذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَطُّوا اللِّحْيَةَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا وَجَبَ غَسْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ ظَاهِرٌ نَبَتَ عَلَى مَحَلٍّ مَغْسُولٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَاجِبًا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَسْتَرْسِلْ مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَعْرٍ وَاجِبٌ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ وَجَبَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ قِيَاسًا عَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَشَعْرِ الذِّرَاعِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ فَمُمْتَنِعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا تَرَأَّسَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قِيلَ فُلَانٌ رَئِيسُ قَوْمِهِ إِذَا عَلَاهُمْ بِأَمْرِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي اسْمِهِ، وَالْوَجْهُ: اسْمٌ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَدَخَلَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ فِي اسْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَ الْوَجْهِ مَعَ الْوَجْهِ فَأَوْجَبْنَاهُ، وَالِاحْتِيَاطُ ألا يسمح عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَسْقَطْنَاهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِمَا فَرْقًا مَانِعًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَالْعَنْفَقَةِ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إِلَيْهِمَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمَسْحُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَحَلِّ الْقَدَمَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ غَسْلُ الْوَجْهِ بِظُهُورِ الْبَشَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَسْحِ الْبَشَرَةِ وَكَانَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا انْتَقَلَ الفرض إليه. (مسألة) : قال الشافعي وَلَوْ غَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَلَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قذرٌ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً وَمَسَحَ بعض رأسه بيده أو ببعضهما مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ أجزأه. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح بناصيته وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 عمامته. (قال الشافعي) والنزعتان من الرأس وغسل رجليه مرةً مرةً وعم بكل مرةٍ ما غسل أجزأه وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاة إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم " (قال) وفي تركه أن يتمضمض ويستنشق ويمسح أذنيه ترك للسنة وليست الأذنان من الوجه فيغسلا ولا من الرأس فيجزي مسحه عليهما فهما سنةٌ على حيالهما واحتج بأنه لما لم يكن على ما فوق الأذنين مما يليهما من الرأس ولا على ما وراءهما مما يلي منابت شعر الرأس إليهما ولا على ما يليهما إلى العنق مسحٌ وهو إلى الرأس أقرب كانت الأذنان من الرأس أبعد. (قال المزني) لو كانتا من الرأس أجزأ من حج حلقهما عن تقصير الرأس فصح أنهما سنةٌ على حيالهما. قال الْمَاوَرْدِيُّ: الْوُضُوءُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَقِسْمٌ فَرِيضَةٌ، وَقِسْمٌ سُنَّةٌ، وَقِسْمٌ هَيْئَةٌ، وَقِسْمٌ فَضِيلَةٌ: فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَسِتٌّ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهَا وَسَابِعٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ: أَحَدُّهَا: النِّيَّةُ. وَالثَّانِي: غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ. وَالثَّالِثُ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ. وَالرَّابِعُ: مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَإِنْ قَلَّ. وَالْخَامِسُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ. وَالسَّادِسُ: التَّرْتِيبُ. وَالسَّابِعُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْمُوَالَاةُ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، هُوَ فَرْضٌ فَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الْمَاءُ الطَّاهِرُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي عَدَدِ فُرُوضِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَعُدُّهُ فَرْضًا ثَامِنًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَشْرٌ: خَمْسٌ قَبْلَ الْوَجْهِ وَخَمْسٌ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي قَبْلَ الْوَجْهِ: أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ. وَالثَّانِي: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا. وَالثَّالِثُ: الْمَضْمَضَةُ. وَالرَّابِعُ: الِاسْتِنْشَاقُ. وَالْخَامِسُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفُقَ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَضُمُّ إِلَيْهَا سَادِسًا وَهُوَ السِّوَاكُ. وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي بَعْدَ الْوَجْهِ: أَحَدُهَا: التَّبْدِئَةُ بِالْمَيَامِنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَالثَّانِي: اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الرَّأْسِ. وَالثَّالِثُ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ. وَالرَّابِعُ: إِدْخَالُ السَّبَّابَتَيْنِ فِي صِمَاخَيِ الْأُذُنَيْنِ. وَالْخَامِسُ: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ. وكان ابن العاص يَضُمُّ إِلَيْهِمَا سَادِسًا وَهُوَ مَسْحُ الْعُنُقِ بِالْمَاءِ. وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَهِيَ التَّبْدِيَةُ فِي الْوَجْهِ بِأَعْلَاهُ وَفِي الْيَدَيْنِ بِالْكَفَّيْنِ وَفِي الرَّأْسِ بِمُقَدَّمِهِ وَفِي الرِّجْلَيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ وَهَيْئَتِهِ. وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَهُوَ التَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَجْزَأَهُ وَهُوَ الْغَرَضُ وَإِنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْفَضِيلَةُ فِي الثَّلَاثِ وَالْمَرَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالسُّنَّةِ وَالْعِبْرَةِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاةً إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ " وَلِأَنَّ الْمَرَّتَيْنِ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ مِنَ الْمَرَّةِ فَكَانَ أَكْثَرَ فَضْلًا. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَغَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَتِهَا فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ عَمَلٍ وَبِرٍّ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مَكْرُوهَةٌ وَهَذَا أَصَحُّ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حِينَ تَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ " وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ إِسْرَافًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عن عبد الله بن عمران أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بسعيد وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " مَا هَذَا السَّرَفُ " فَقَالَ: فِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ: " نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نهرٍ جارٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قومٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ ". (فَصْلٌ: جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يصب الماء على المتوضئ) فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَلَا نَسْتَحِبُّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَمَّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَنِي فِي وُضُوئِي أحدٌ " فَإِنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ جَازَ فَقَدْ صَبَّ الْمُغِيرَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُضُوءَهُ فِي غَزْوَةِ تبوكٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقِفَ الصَّابُّ لِلْمَاءِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنَّهُ أمكن وأحسن في الأدب: القول في التنشيف بعد الوضوء: فأما مسح بلل من وضوءه وَتَنْشِيفُهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَوْبًا لِيُنَشِّفَ بِهِ وُضُوءَهُ فَأَبَى وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَبْقَى عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِي " فَإِنْ نَشَّفَ بِثَوْبٍ جَازَ فَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بن جبل قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَكْرَهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَنْ يَنْثُرَ يَدَهُ وَأَطْرَافَهُ مِنَ الْمَاءِ. فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: " إِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيَاطِينِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (مسألة: النزعتان من الرأس) قال الشافعي رضي الله عنه: والنزعتان من الرأس. أَمَّا النَّزْعَتَانِ فَهُمَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَسْتَعْلِي فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبَيْهِ وَهُمَا مِنَ الرَّأْسِ وقد ذهب قوم إلى أنهما من وجه لِذَهَابِ الشَّعْرِ عَنْهُمَا وَاتِّصَالِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بِهِمَا وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ هُدْبَةُ بْنُ خَشْرَمٍ: (ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا) فَأَضَافَ النَّزْعَةَ إِلَى الْوَجْهِ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ وَلَيْسَ ذَهَابُ الشَّعْرِ عَنْهُمَا بِمُخْرِجٍ لَهُمَا مِنْ حُكْمِ الرَّأْسِ. كَمَا أَنَّ الْأَجْلَحَ وَالْأَجْلَهَ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَالْأَجْلَحُ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ شَعْرُ نَاصِيَتِهِ كُلِّهِ لَا يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الرَّأْسِ وَإِنْ ذَهَبَ شَعْرُهُ كَذَلِكَ الْأَنْزَعُ فَلِهَذَا دَلِيلٌ وَلِأَنَّ الْأَغَمَّ هُوَ الَّذِي قَدِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ فِي جَبْهَتِهِ وَكَذَلِكَ الْأَنْزَعُ ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا انْحَدَرَ فِي الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الْأَغَمِّ وَالْأَنْزَعِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَعْلَى فِي الرَّأْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَنْزَعِ مِنَ الْوَجْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ النزعة من الرأس وذلك ظَاهِرٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ: (لَيَالِيَ لَوْنِي واضحٌ وَذُؤَابَتِي ... غَرَابِيبُ فِي رَأْسِ امْرِئٍ غَيْرِ أَنْزَعَا) وَشِعْرُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ دَالٌّ عَلَيْهِ أيضاً لأنه قال: (ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا) وَالْوَجْهُ بِالْخَفْضِ عَطْفٌ عَلَى الْقَفَا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَغَمَّ الْقَفَا وَأَغَمَّ الْوَجْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَمَمَ مِنَ الْوَجْهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِأَنْزَعَا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُجْزِئُ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الرأس ولا يجزئ إلا مسح الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ إِنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ بدلٌ مِنَ الْغَسْلِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ بدلٌ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ، فَأَمَّا الْوَجْهُ فِي التَّيَمُّمِ فَالْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ سُؤَالٌ لِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مِنْ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لِمَ أَجَزْتُمْ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَمَنَعْتُمْ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الْوَجْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فِي التَّيَمُّمِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَسْحِ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَقَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ) {المائدة: 6) . كَمَا أَمَرَ بِمَسْحِ الرأس في الوضوء بحرف الباء، فقال: فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فَهَلَّا كَانَتْ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ وَجَبَ التَّبْعِيضُ، فَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّبْعِيضَ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ فَهَلَّا كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلتَّبْعِيضِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَهَذَا سُؤَالُ إِلْزَامٍ وَكَسْرٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْبَاءَ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَصْرِفْهَا عَنْهُ دَلِيلٌ وَقَدْ صَرَفَهَا عَنِ التَّبْعِيضِ فِي التَّيَمُّمِ دَلِيلٌ وَعَاضَدَهَا عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ فَافْتَرَقَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ لَفْظِهِ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ مُبْدَلِهِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَاسِدٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهَذَا بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ كَمَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قُلْ قَدْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الرِّفْقَ وَالتَّخْفِيفَ لِجَوَازِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يَجِبِ اسْتِيعَابُهُمَا بِالْمَسْحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُبَايِنَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ مُغْلِظٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَغَلِطَ بِالِاسْتِيعَابِ وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا تَخَفَّفَ بِسُقُوطِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَتَخَفَّفْ بِالتَّبْعِيضِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يَخْتَصُّ إِلَّا بِالتَّبْعِيضِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ) قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ، وَغُسْلَهُ أَجْزَأَهُ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِابْنِ عُمَرَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ أَفْضَلُ وَمُتَابَعَةُ الْأَعْضَاءِ أَكْمَلُ انْقِيَادًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنَ التَّعْجِيلِ وَاتِّبَاعًا لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ فَرَّقَ فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ: فَالْقَرِيبُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مَا لَمْ تَجِفَّ الْأَعْضَاءُ مَعَ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فِي غَيْرِ بَرْدٍ وَلَا حَرٍّ مُشْتَدٍّ وَلَيْسَ الْجَفَافُ مُعْتَبَرًا، وَإِنَّمَا زَمَانُهُ هُوَ التَّعْبِيرُ. وَأَمَّا الْبَعِيدُ فَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْجَفَافِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ جَائِزٌ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ الحسن وسعد بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ فَرَّقَهُ لِعُذْرٍ جَازَ، وَإِنْ فَرَّقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) {المائدة: 6) . يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيلَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّأْجِيلِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ عَلَى الْوَلَاءِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " يَعْنِي إِلَّا بِمِثْلِهِ فِي الْمُوَالَاةِ، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ عَلَى قَدَمَيْهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ هُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ لَا يَمْنَعُ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْأَوَامِرُ تَقْتَضِي الْفَوْرَ قِيلَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا خِلَافٌ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ خُفَّانِ فَلَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحَضَرَتْ جنازة فدعى بِمَاءٍ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْكَثِيرُ كَالْحَجِّ طَرْدًا، وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازِ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا جَازَ تَفْرِيقُ أَبْعَاضِهَا كَالزَّكَاةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ نِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، جَازَ تَفْرِيقُ مَا يُؤَدِّيهِ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ كَذَا الْوُضُوءُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَائِهِ جَازَ تَفْرِيقُ النية على أَعْضَائِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ سَوَاءٌ وَتَفْرِيقُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا تَفْرِيقُ التَّيَمُّمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَتَفْرِيقِ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ، وَكَانَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ وَيُبْطِلُونَهُ بِالتَّفْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ مُسْتَحَقٌّ وَتَعْجِيلَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (مسألة: القول في ترتيب أعضاء الوضوء) قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ بَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ رَجَعَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ فَغَسَلَهُمَا حَتَى يَكُونَا بَعْدَ وَجْهِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْوُضُوءِ وَلَاءً كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) {المائدة: 6) . (هكذا قرأه المزني إلى الكعبين) فإن صلى بالوضوء على غير ولاءٍ رجع فبنى على الولاء من وضوئه وأعاد الصلاة واحتج بقول الله عز وجل وعز {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} (البقرة: 158) . فبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالصفا وقال: " نبدأ بما بدأ الله به ". قال الماوردي: ال فصل، وَهُوَ كَمَا قَالَ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة ومالك: التَّرْتِيبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) {المائدة: 6) . وَلَهُمْ فِيهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ فِيهَا بَعْضَ الْأَعْضَاءِ كَمَا قَدَّمَ مَحَلَّ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْبَنَانِ أَجْزَأَهُ فَكَذَا لَوْ بَدَأَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ أجزأه. والثاني: أنه لو عَطَفَ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمُوجِبَةِ لِلِاشْتِرَاكِ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ لُغَةً، وَشَرْعًا. أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا فِي لِسَانِهِمْ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ دُونَ التَّرْتِيبِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْقَ زَيْدًا وَعَمْرًا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ لِقَاءِ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِلِقَاءِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكَ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) {آل عمران: 43) . فَقَدَّمَ ذِكْرَ السُّجُودِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتُ فَقَالَ: " سَيَّانِ أَنْتُمَا قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثم شئت ". فلو كان الْوَاوُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ إِلَيْهِ فَرْقٌ وَلَا فَائِدَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَنَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَأَخَذَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بَلَلِ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ قَبْلَ يَدَيْكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، قالوا ولأنها طهارة لا يستحق فيهما التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ شُرِعَ فِي طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَلِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَوِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُجْزِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة: 6) . والدلالة فيها من أربعة أوجه: أحدهما: أَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعْقِيبِ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا. قِيلَ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ إِذَا أَفَادَتِ الْجَزَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا فِي التَّعْقِيبِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْقِيبِ دُونَ الْجَمْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ عَطْفٌ بِالْأَعْضَاءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَهُمَا إِمَامَانِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ مِنْ أصحاب الشافعي وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ عَبْدَ بَنِي الْحِسْحَاسِ يُنْشِدُ قَوْلَهُ: (عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فَقَالَ عُمْرُ: وَلَوْ قَدَّمْتَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ لَأَجَزْتُكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ الصَفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) {البقرة: 158) . فَبَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالصَّفَا وَقَالَ: " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَهُ بِهِ ". وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى ". فَلَوْلَا أَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَمْسُوحًا بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ فِي إِدْخَالِ غَيْرِ جِنْسِهِ فِيمَا بَيْنَ جِنْسِهِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فِي ذِكْرِ الْمَمْسُوحِ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ الْمُتَجَانِسَةِ وَأَفْرَدَ الْمَمْسُوحَ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْعَرَبِ الْبِدَايَةَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إِلَّا لِغَرَضٍ وَالرَّأْسُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ مِنَ الْيَدَيْنِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ لَقَدَّمَ الرَّأْسَ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ". وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يُسَوِّغُ خِلَافَهُ، وَرَوَى عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الْوُضُوءِ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ يَقْرَبُ وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا فِيهِ وَأَنْفِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى مِرْفَقَيْهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ثَمَّ يُمْسَحُ بِرَأْسِهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ ". وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مُسْلِمُ ابن حجاج ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 .... وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا لِأَنَّهُ يُقْبِلُ مُرَتِّبًا، ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مُرَتَّبًا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُنَكِّسًا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالتَّنْكِيسِ كَالطَّوَافِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ التَّنْكِيسَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَهَذَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ دُونَ أبي حنيفة لِأَنَّ أبا حنيفة يُجِيزُ الطَّوَافَ مُنَكَّسًا، وَلَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى شُرِعَ فِي الطَّهَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَسُنَّةً كَالْغُسْلِ وَالْمَسْحِ فَفَرْضُ الْغَسْلِ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْكَفَّانِ وَالْمَضْمَضَةُ، وَفَرْضُ الْمَسْحِ الرَّأْسُ وَسُنَّتُهُ الْأُذُنَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فَرْضًا وَسُنَّةً فَفَرْضُهُ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْيُمْنَى قَبْلَ اليسرى فأما الجواب عن استشهادهم بقوله تعالى: {اسْجُدِي وَارْكَعِي} ، فَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّرْتِيبَ فَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّنْكِيسَ وَإِنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيمِ اللَّفْظِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مُقَدَّمًا عَلَى الرُّكُوعِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتُ فَهُوَ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْوَاوِ وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّهَا لَا مُهْلَةَ فِيهَا وَلَا تَرَاخِيَ وَلَفْظَةُ ثُمَّ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ مَعَ ضَعْفِهِ وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي حنيفة تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ فَهُوَ نَقْلُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ اسْتِيعَابَ رَأْسِهِ بَعْدَ مَسْحِ بَعْضِهِ أَوْ نَسِيَ المرة الثانية والثالثة بعد الأولة فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رضوان الله عليه أنه سئل عن تقديم الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَقَالَ: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ، وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ مُخَالِفٌ وَمَعَ الْخِلَافِ يَسْقُطُ الْإِجْمَاعُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ فِي الْوُضُوءِ وَلَيْسَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ تَرْتِيبٌ فَكَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى أَنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ تَخْرِيقَ أحد الخفين جاز في المنع من المسح مجزى تَخْرِيقِهِمَا فَلَمَّا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ سَقَطَ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ الْمُتَغَايِرَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ عَنْهُ إِذَا اغْتَسَلَ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَعْضَاءِ طَهَارَتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي غُسْلِهِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إِذَا اغْتَسَلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ طَهَارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ. فَإِحْدَاهُمَا كُبْرَى وَهِيَ الْغُسْلُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَالْأُخْرَى صُغْرَى وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ رَفْعَ حَدَثِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فَخَالَفَ وَنَكَّسَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ مِنْهُ غَسْلُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ، فَلَوْ نَكَّسَ وُضُوءَهُ أَرْبَعَ مِرَارٍ صَحَّ لَهُ مِنْهَا وُضُوءٌ كَامِلٌ، لِأَنَّهُ يُعِيدُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِالْوَجْهِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: بِالذِّرَاعَيْنِ. وَفِي الثَّالِثَةِ: بِالرَّأْسِ. وَفِي الرَّابِعَةِ: بِالرِّجْلَيْنِ، فَلَوْ رَتَّبَ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَدَّمَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ أَعَادَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ لِيَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ الرَّأْسِ، وَلَوْ نَسِيَ أَحَدَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ اسْتَأْنَفَ وُضُوءَهُ كُلَّهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي عَدَدِ مَا صَلَّى إِذَا شَكَّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُتَوَضِّئُ مَوْضِعًا مِنْ وَجْهِهِ غَسَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ وَأَعَادَ غَسْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 مَا بَعْدَ الْوَجْهِ لِيَكُونَ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِ الْوَجْهِ مُتَوَضِّئًا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَنْ وَجْهِهِ اسْتَأْنَفَ جَمِيعَ وُضُوئِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: جَوَازُ تَقْدِيمِ الْيُسْرَى عَلَى اليمنى في الوضوء) . قال الشافعي رضي الله عنه: وإن قدم يسرى على يمنى أجزأه. قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَسُنَّةٌ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إذا توضأتم وإذا لبستم فابدأوا بِمَيَامِنِكُمْ، وَبِأَيْمَانِكُمْ "، فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى أَجْزَأَهُ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى وَقَالَ: لَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ وَلِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا عَلَى سَوَاءٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا، فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ " وَ " الْمَضْمَضَةُ ثُمَّ الِاسْتِنْشَاقُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي تَقْدِيمِ الِاسْتِنْشَاقِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الْكَفَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهِ وَأَجْزَائِهِ بِخِلَافِ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ سُنَّةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مَسْنُونًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَهَا وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً وَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ وُضُوءَهُ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ. وَقِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْمَسْنُونَةُ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَجْهَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لِحَمْلِ المصحف ومسه) قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يحمل المصحف ولا يسمه إلا طاهراً. قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ لِحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَمَسِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) {آل عمران: 64) . وَقَدْ عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَمَسُّونَهُ وَيَتَدَاوَلُونَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا لَمْ تَجِبْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَلَّا تَجِبَ بِحَمْلِ مَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مُسْتَحَقَّةً فِيهِ كَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبِ الْفِقْهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَصِحُّ مَسُّهُ فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ وَمَسُّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ: " أَلَّا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرًا "، فَإِنْ قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِلَّا طَاهِرًا يَعْنِي: إِلَّا مُسْلِمًا. قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ مُسْتَحَقًّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْحَدَثِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ كَالصَّلَاةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَيْصَرَ كَانَ مُشْرِكًا وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ كِتَابًا قَدْ تَضَمَّنَ مَعَ الْقُرْآنِ دُعَاءً إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ بنفسه مَقْصُودًا فَجَازَ تَغْلِيبًا لِلْمَقْصُودِ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ أَغْلَظُ حُكْمًا فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيَمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلِأَنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يَمَسُّهُ بِهِ مِنْ جَسَدِهِ لَا يَتَعَدَّى كَشْفَ الْعَوْرَةِ إِلَيْهِ وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْحَدَثِ إِلَيْهِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَمْلِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ حَمْلُهُ، فَأَمَّا الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَوْ يَمَسَّهُ بِالْعُضْوِ النَّجِسِ مِنْ بَدَنِهِ فَأَمَّا بِأَعْضَائِهِ الَّتِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق يجوز والفرق بين المحدث وَالنَّجَاسَةِ أَنَّ الْحَدَثَ يَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَا هَيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُ المصحف ولا سبع منه، ولا جزؤ وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءٌ حَمَلُوهُ مُبَاشِرِينَ لَهُ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ وَضَعُوهُ فِي أَكْمَامِهِمْ أَوْ أَخَذُوهُ بِعِلَاقَةٍ كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة التَّحْرِيمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَسِّهِ دُونَ حَمْلِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مَسُّ الطِّيبِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ مَسِّهِ فَلَمَّا حَرُمَ الْأَدْنَى مِنَ الْمَسِّ كَانَ تَحْرِيمُ الْأَغْلَظِ مِنَ الْحَمْلِ أَوْلَى فَأَمَّا الطِّيبُ فِي الْمُحْرِمِ فَالتَّحْرِيمُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِهِ وَفِي حَمْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ فَلَمْ يَحْرُمْ وَتَحْرِيمٌ الْمُصْحَفِ لِحُرْمَتِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ. (فَصْلٌ) : وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مَسُّهُ وَلَا مَسُّ مَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جِلْدِهِ وَوَرَقِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ أَنْ يَمَسَّ مِنَ الْمُصْحَفِ مَا لا كتابة فيه من جلد وورق، ولم يَحْمِلَهُ بِعَلَاقَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالْكِتَابَةِ الْمَتْلُوَّةِ دُونَ الْجِلْدِ وَالْوَرَقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْوَرَقَ الَّذِي لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصْحَفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ حَنِثَ بِمَسِّ جِلْدِهِ وَبَيَاضِهِ كَمَا يَحْنَثُ بِمَسِّ كِتَابَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَسُّ جِلْدِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَسُّ كِتَابَتِهِ كَالْجُنُبِ وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْجُنُبُ حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْمُحْدِثُ كَالْكِتَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصْحَفِ مَسُّ مَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ مَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابَةٌ كَالْجُنُبِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا حَمْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَلَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ لَا لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى وَرَقٍ أَوْ عَلَى فِضَّةٍ وذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَيَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ مِنَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبُ الْفِقْهِ الَّتِي لَا قُرْآنَ فِيهَا فَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا وَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فِيهِ آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلُ كِتَابِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ فِيهَا. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ أَكْثَرَ مِنْ تَفْسِيرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَنَّنَا إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَغْلَبَ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْأَغْلَبُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ فِيهِ أَكْثَرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ غَلَّبْنَا الْأَغْلَبَ مِنَ الْمَكْتُوبِ جَازَ، فَأَمَّا الثِّيَابُ الَّتِي قَدْ كُتِبَ عَلَى طَرَزِهَا آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ لُبْسُهَا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كُلَّهَا قُرْآنٌ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِلُبْسِهَا التَّبَرُّكُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ مَمْنُوعٌ مَنْ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّلَةٌ كَالْقُرْآنِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ حَمَلَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فقصرت حرمتها عَنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُبْدَلَةٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا وَالْمُبْدَلُ لَا حُرْمَةَ لَهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَ قُمَاشٍ هُوَ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقُرْآنَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ الْقُمَاشِ مَقْصُودًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهِمْ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَقَدْ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَالْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ إِذَا كَانُوا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ على وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَالْبَالِغِينَ لِأَنَّ مَا لَزِمَتِ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْبَالِغِ كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَهَارَتَهُمْ غَيْرُ كَامِلَةٍ بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ فِي حَمْلِهِ مَا لَيْسَ بِكَامِلٍ مِنَ التَّطْهِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فِي حَمْلِهِ مَعَ مُدَاوَمَةِ الْحَدَثِ مِنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ تَعْلِيمِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُحْدِثُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَصَفَّحَهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ جاز، ولو تصحفها بِكُمِّهِ الْمَلْفُوفِ عَلَى يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُمِّهِ وَالْعُودِ أَنَّهُ لَابِسٌ لِكُمِّهِ وَاضِعٌ ليده عليه فجرى مجرى المباشرة، والعود باين منه وهو غير منسوب إلى مباشرته. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَإِنْ كَانَ حَامِلًا لِمَا يُكْتَبُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَامِلٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كِتَابَتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَلِلْمُحْدِثِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ التَّالِي لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْكِتَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ كَتَبَ الْفَاتِحَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ تِلَاوَتِهَا، فَجَازَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة: حكم قراءة الجنب وغيره القرآن) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا جُنُبٌ، قال أبو إبراهيم: إن قدم الوضوء وأخر يعيد الوضوء والصلاة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَجَوَّزَ لَهُمْ دَاوُدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ دُونَ الْجُنُبِ، وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) {المزمل: 20) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرِوَايَةُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يذكر الله على كل أحيائه، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حَسَدَ إِلَا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ورجلٍ آتَاهُ اللَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَأَنْتَ جنبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي آكُلُ وَأَشْرَبُ وَأَنَا جُنُبٌ وَلَا أَقْرَأُ وَأَنَا جُنُبٌ " وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ قَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ: وَطِئَ أَمَتَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَطِئْتَ الْمَمْلُوكَةَ فَأَنْكَرَ فَقَالَتْ لَهُ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَطَأْ فَاقْرَأْ فَقَالَ: (شَهدت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ ... وَأَنَّ الْنَارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا) (وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين) (وتحمله ملائكةٌ شدادٌ ... ملائكة الإله مسومين) فَتَشَبَّهَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَظَنَّتْهُ قُرْآنًا فَقَالَتْ صَدَّقْتُ رَبِّي وَكَذَّبْتُ بَصَرِي، ثُمَّ إِنَّ عبد الله أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: " امْرَأَتُكَ أَفْقَهُ مِنْكَ "، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ. فَأَمَّا مالك فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّ الْحَائِضَ إِنْ لَمْ تَقْرَأْ نَسِيَتْ لِتَطَاوُلِ الْحَيْضِ بِهَا وَأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا اسْتَوْعَبَ شَطْرَ زَمَانِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجُنُبُ وَهَذَا خَطَأٌ لِوُرُودِ النَّصِّ بِنَهْيِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْوَطْءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا الْجَنَابَةُ، فَلَمَّا كَانَ الْجُنُبُ مَمْنُوعًا فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ مَمْنُوعَةً ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحَائِضِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَخْصُوصٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ مَمْنُوعُونَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا مِنْهُ آيَةً وَلَا حَرْفًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ تَعَوُّذًا وَتَبَرُّكًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا صَدْرَ الْآيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا بَاقِيَهَا وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِأَنَّ حُرْمَةً يَسِيرَةً كَحُرْمَةٍ كَثِيرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَظْرِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَتِ الْجَنَابَةُ مِنْ كَثِيرِهِ مَنَعَتْ مِنْ يَسِيرِهِ كَالصَّلَاةِ. (فَصْلٌ) : وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ أَنْ يَقْرَأَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَمْنَعْهُ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقْرَأَ لِأَنَّهَا كَالْمُحْدِثِ، فَلَوْ أَرَادَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَنْ يَقْرَءَا بِقُلُوبِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَا بِهِ بِلِسَانِهِمَا جَازَ وَهَكَذَا لَوْ نَظَرَا فِي الْمُصْحَفِ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا الْقُرْآنُ كَانَ جَائِزًا لَهُمَا لِأَنَّهُمَا يُنْسَبَانِ إِلَى الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ سِرًّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالْقُرْآنِ كَالْجَهْرِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 باب الاستطابة قال الشافعي: أخبرنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ محمدٍ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ فَإِذَا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا بغائطٍ وَلَا ببولٍ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ "، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَذَلِكَ فِي الصَّحَارِي لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ جَلَسَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فدل على أن البناء مخالفٌ للصحاري. قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ إِنَّمَا سُمِّيَ بَابَ الِاسْتِطَابَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَنْجِيَ يُطَيِّبُ بِهِ نَفْسَهُ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: اسْتَطَابَ وَأَطَابَ إِذَا اسْتَنْجَى وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: (يَا رَخَمًا قَاظَ عَلَى مطلوب ... يعجل كيف الخارئ المتطيب) يَعْنِي الْمُسْتَنْجِيَ وَسُمِّيَ اسْتِنْجَاءً لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرُوا بِنَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (يونس: 92) . أَيْ: نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْغَائِطُ فَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَقِلُّ بَيْنَ عَالِيَيْنِ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قال الشاعر: (أما أتاك عن الْحَدِيثُ) (إِذْ أَنَا بِالْغَائِطِ أَسْتَغِيثُ ... وَصِحْتُ فِي الْغَائِطِ يَا خَبِيثُ) وَعَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمَدَارُهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ " يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهَا مُقَدِّمَةً يَأْنَسُ بِهَا السَّامِعُ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحْشَةً عَلَى السَّامِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى سُؤَالِهِ فِيمَا احْتَشَمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَأَدَبِهِمْ كَمَا يَسْأَلُ وَالِدَهُ فِيمَا احْتَشَمَ غَيْرُهُ مِنْ سُؤَالِهِ. وَالثَّالِثُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُ وَلَدِهِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ وَأَدَبِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ فَقَالَ: " فَإِذَا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا لِغَائِطٍ وَلَا بولٍ "، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا ولا استدبارها فِي الْبُنْيَانِ وَلَا فِي الصَّحَارِي وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحَارِي وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَلَا اسْتِدْبَارُهَا فِي الصَّحَارِي وَيَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَالرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ محمد بن الحسن مَذْهَبًا ثَانِيًا أَنَّهُ أَجَازَ اسْتِدْبَارَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يُعَوِّلُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " فإذا ذهب أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائطٍ وَلَا بولٍ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لغائطٍ أَوْ بولٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، قَالَ فَقَدِمْنَا الشَامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَكُنَّا نَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ إِنْ قَالُوا كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ فِيهِ الْقِبْلَةَ اسْتَوَى فِيهِ الْبُنْيَانُ وَالصَّحَارِي كَالصَّلَاةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِفَرْجِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالصَّحَارِي قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّحْرَاءِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْبُنْيَانِ كَوُجُودِهِ فِي الصَّحَارِي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمَنْعُ فِيهِمَا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبُنْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا حَائِلٌ وَالْحَائِلُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يَمْنَعُ حُكْمًا تَعَلَّقَ بِهَا دَلِيلُهُ الْجِبَالُ فِي الصَّحَارِي لِذِي الْحَاجَةِ، وَالْبُنْيَانُ لِلصَّلَاةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا، ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بسنةٍ وَقَدْ قَعَدَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ وَاسِعُ بن حيان عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بيتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ إِذَا كَانَ مُبَاحًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَانَ مُبَاحًا إِلَى الْقِبْلَةِ قِيَاسًا عَلَى كَشْفِهَا لِلْمُبَاشَرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ لَا يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ إِلَيْهَا فِي الْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. (فَصْلٌ) : وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَبَاحَ اسْتِدْبَارَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ شيءٍ حتى الخرأة، قَالَ: أَجَلٌ لَقَدْ نَهَانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بغائطٍ وبولٍ وَأَلَّا نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، وَأَلَّا يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحجارٍ أَوْ نَسْتَنْجِيَ برجيعٍ أَوْ عظمٍ) . وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ ببولٍ أَوْ غائطٍ) . فَلَمَّا نَصَّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ إِبَاحَةُ الِاسْتِدْبَارِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْقِبْلَةِ اخْتَصَّ بِاسْتِقْبَالِهَا دُونَ اسْتِدْبَارِهَا كَالصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ (مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ) مِنْ تَحْرِيمِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الصَّحَارِي مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ، وَعَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي الْبُنْيَانِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ مِنْ حَدِيثَيْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا حَدِيثَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ: قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا قَالَ: بَلَى إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شيءٌ يَسْتُرُكَ فَلَا بأسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرْنَا اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِالْفُرُوجِ فَقَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوَقَدْ فَعَلُوا حَوِّلُوا بِمَقْعَدَتِي إِلَى الْقِبْلَةِ ". وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ وَأَنَّ الصَّحَارِيَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْ مُصَلًّى فِيهَا فَيَتَأَذَّى بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ إِنِ اسْتَقْبَلَهَا أَبْدَا إِلَيْهِ دُبُرَهُ وَإِنِ اسْتَدْبَرَهَا أَبْدَا إِلَيْهِ قُبُلَهُ فَمُنِعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا واستدبارها لأن لا يقطع المصلين إِلَيْهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْبُنْيَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُسْتَتِرٌ بِالْجِدَارِ مَعَ أَنَّ تَجَنُّبَ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الْمَنَازِلِ مَعَ ضِيقِهَا شَاقٌّ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ أَجَازَ الِاسْتِدْبَارَ فِي الصَّحْرَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ مُوَاجَهَةُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْقُبُلِ وَعَلَى مَنْ حَرَّمَ الِاسْتِقْبَالَ فِي الْمَنَازِلِ أَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَلَمْ يَحْرُمْ فِي الْبُنْيَانِ مُوَاجَهَةُ الْقِبْلَةِ كَالدُّبُرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى عُمُومِ تَحْرِيمِهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الصَّحَارِي دُونَ الْبُنْيَانِ، لِأَنَّهُ قَالَ: " فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ وَالذَّهَابُ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الصَّحَارِي، دُونَ المنازل فيقال دخل وَلِأَنَّهُ قَالَ " الْغَائِطَ " وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الصَّحَارِي دُونَ الْمَنَازِلِ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الْمُسْتَقِلُّ بَيْنَ عَالِيَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِمَتْنِهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِي غَيْرِهِ مِنَ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِ أَبِي أَيُّوبَ فَذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَعَانِي فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابٌ عَنْهَا وَانْفِصَالٌ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنَازِلِ، وَالْبُنْيَانِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْآخَرِينَ بِحَدِيثَيْ سَلْمَانَ وَمَعْقِلٍ أَنَّ مَنْصُوصَهُمَا الِاسْتِقْبَالُ فَصَحِيحٌ لَكِنْ أَرَادَ بِالْفَرْجَيْنِ مَعًا قُبُلًا وَدُبُرًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا فِي الصَّحَارِي دُونَ الْمَنَازِلِ فَجَلَسَ فِي الصَّحْرَاءِ إِلَى مَا يَسْتُرُهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 هَلْ يُغَلَّبُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا أَوْ يُغَلَّبُ حُكْمُ السُّتْرَةِ فِي جَوَازِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّغْلِيبَ لِلسُّتْرَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِتَارِ بِهَا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّغْلِيبَ لِلْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ لأن القضاء فِيهَا أَغْلَبُ وَبَنَى عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا كَانَ فِي مِصْرَ بَيْنَ خَرَابٍ قَدْ صَارَ فَضَاءً كَالصَّحْرَاءِ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ اعْتِبَارًا بِصِفَةِ الْمَكَانِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمَكَانِ وَهَذَا التَّحْرِيمُ يَخْتَصُّ بِالْقِبْلَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى مَعْقِلُ بْنُ أَبِي مَعْقِلٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَتَيْنِ قِيلَ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ كَانَتْ قِبْلَةً، وَنَهَى فِي زَمَانٍ آخَرَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ حِينَ صَارَتْ قِبْلَةً فَجَمَعَ الراوي بنيهما فِي رِوَايَتِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَقَصَدَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالْمَدِينَةِ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَمَنِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ اسْتَدْبَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَارَ نَهْيُهُ عَنِ اسْتِقْبَالِهَا نَهْيًا عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ واستدبارها وهذا تأويل بعض أصحابنا من المتقدمين. (فصل) : وأعلم أن الاستنجاء فِي الصَّحَارِي بَعْدَ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا آدَابًا مُسْتَحَبَّةً وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا وَعَمِلَ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ أَدَبًا تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فقسم منها مختص بِمَكَانِ الِاسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ، وَقِسْمٌ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْتَنْجِي فِي نَفْسِهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ. فَأَمَّا الثمانية التي تختص بمكان الاستنجاء. أحدهما: الْإِبْعَادُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصيانة وإكمال الْعِشْرَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا ذَهَبَ بَعُدَ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ الْبُرَازَ انْطَلَقَ حَتَى لَا يراه أحدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والثاني: أن يستتر بسترة لأن لا يَرَاهُ مَارٌّ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رملٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حرجٍ "، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُحْدِثُوا فِي الْقَزَعِ فَإِنَّهُ مَأْوَى الْخَافِينَ "، الْقَزَعُ هُوَ الْوَضْعُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ يَسْتُرُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَزَعِ الرَّأْسِ الَّذِي لَا شَعْرَ فِيهِ، وَمَأْوَى الْخَافِينَ هُوَ مَأْوَى الْجِنِّ سُمُّوا الْخَافِينَ لِاسْتِخْفَائِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يتوقى مهاب الرياح لأن لا يَرُدَّ الرِّيحُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، وَقَدْ رَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ لِلْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الرِّيحَ ". وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرْتَادَ لِبَوْلِهِ أرضاَ لَيِّنَةً حَتَّى لَا يَرْتَفِعَ لِبَوْلِهِ رَشِيشٌ يُؤْذِيهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ يومٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَأَتَى دَمِثًا فِي أَصْلِ جدارٍ فَبَالَ ثُمَّ قَالَ: " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ ". وَالْخَامِسُ: أَنْ يَتَوَقَّى الْبَوْلَ فِي ثُقْبٍ أَوْ سِرَبٍ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَلَيْهِ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ مَا يُؤْذِيهِ أَوْ لِئَلَّا يُؤْذِيَ حَيَوَانًا فِيهِ، وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ فَقِيلَ لِقَتَادَةَ: وَلِمَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ مَسَاكِنُ الْجِنِّ. وَالسَّادِسُ: أن يتوقى في الجواد، وَقَوَارِعَ الطُّرُقِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجْلِسُ فِيهَا النَّاسُ أَوْ يَنْزِلُهَا السَّيَّارَةُ لِئَلَّا يَتَأَذَّوْا بِهَا. فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ، الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ". وَالْمَوَارِدُ: هِيَ الطُّرُقُ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: (أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صراطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مستقيمٍ) . وَالسَّابِعُ: أَنْ يَتَوَقَّى الْقُبُورَ أَنْ يُحْدِثَ عَلَيْهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا صِيَانَةً لَهَا وَحِفَاظًا لِحُرْمَةِ أَهْلِهَا فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ جَلَسَ عَلَى قبرٍ يَبُولُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَغَوَّطُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا جَلَسَ عَلَى جمرةٍ ". وَالثَّامِنُ: أَلَّا يَتَغَوَّطَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَلَا يَبُولَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ بِهَذَا مَأْكُولًا وَبِهَذَا طَهُورًا وَمَشْرُوبًا فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَغَوَّطَ عَلَى نهرٍ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَيُشْرَبُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ تُخْتَصُّ بِمَكَانِ الْمُسْتَنْجِي. وَأَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فِي نَفْسِهِ: أَحَدُهَا: أَلَّا يَكْشِفَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ وَأَصْوَنُ، فَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يدنوا مِنَ الْأَرْضِ) . وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لَهُ، وَقَدْ رَوَى سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: لَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نَتَوَكَّأَ عَلَى الْيُسْرَى وَأَنْ نَنْصِبَ الْيُمْنَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، وَلَا يُكَلِّمَ أَحَدًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو عِيَاضٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُتَغَوِّطَيْنَ أَنْ يَتَحَدَّثَا فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَلَّا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ لِمَا عَلَاهُ وَيُسْرَاهُ لِمَا سَفَلَ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يمس ذكره بيمينه ". والخامس: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ جُلُوسِهِ مَا رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ محتضرةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ ". وَالسَّادِسُ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى خَلَعَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جُلُوسِهِ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ ". وَالسَّابِعُ: أَنْ يَنْثُرَ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ مَقَامِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَنَحْنَحَ لِتَخْرُجَ بَقَايَا بَوْلِهِ مِنْ ذَكَرِهِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ يَزْدَادُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْثُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَالثَّامِنُ: أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ مَا رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ وَهْرَامَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ مِنَ الْخَلَاءِ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي مَا يُؤْذِينِي وَأَمْسَكَ عَلَيَّ مَا يَنْفَعُنِي " فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ تَخْتَصُّ بِالْمُسْتَنْجِي فِي نَفْسِهِ وَهِيَ تَمَامُ سِتَّةَ عَشَرَ، وبالله التوفيق. (مسألة: وجوب الاستنجاء) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ خَرَجَ مِنْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ شيءٌ فَلْيَسْتَنْجِ بماءٍ أَوْ يَسْتَطِيبَ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ لَيْسَ فِيهَا رجيعٌ وَلَا عظمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: الِاسْتِنْجَاءُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ مُجْزِيَةٌ، وَجَعَلَ مَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ مِقْدَارًا يَعْتَبِرُ بِهِ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ وَحَدُّهُ بِالدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ "، فَلَمَّا قَرَنَهُ بِالِاكْتِحَالِ وَوَضَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ إِيجَابِهِ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ أَثَرِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِزَالَةُ عَيْنِهَا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ. وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَجِبُ إِزَالَتُهَا بِالْمَاءِ فَلَمْ تَجِبْ إِزَالَتُهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ قِيَاسًا عَلَى الْأَثَرِ. وَدَلِيلُنَا عموم قوله تعالى: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ) {المدثر: 5) ، ولم يفرق وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ إِلَى قَوْلِهِ فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ ". وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ "، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ وَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ بِهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَعَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِفَقْدِهَا، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَقْدِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى إِزَالَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ إِزَالَتُهَا وَاجِبَةً قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَلِأَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ مِنْهَا وَإِنْ نَقَصَ عَنِ الدِّرْهَمِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِمَائِعٍ أُقِيمَ فِيهَا الْجَامِدُ مَقَامَهُ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالتَّيَمُّمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ من وجهين: أحدها: أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ لَا عَائِدٌ إِلَى الْإِيتَارِ فَإِذَا تَرَكَهُ إِلَى الشَّفْعِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى تَرْكِ الْأَحْجَارِ إِلَى الْمَاءِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمَنِيِّ يَجِبُ عِنْدَهُمْ إِزَالَةُ عَيْنِهِ دُونَ أَصْلِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي إِزَالَتِهِ وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثَرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَشُقُّ إِزَالَتُهُ بِالْحَجَرِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءَ وَهُوَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ وَكُلُّ ذِي بَلَلٍ خرج من السبيلين. وقسم لا يجوب الِاسْتِنْجَاءَ وَهُوَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ النَّجَسِ، وَالصَّوْتُ وَالرِّيحُ لَا يُنَجِّسُ مَا لَاقَاهُ فَلَمْ يَجِبِ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُنَجِّسِ الثَّوْبَ فَلَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا بَلَلَ مَعَهَا كَالدُّودِ وَالْحَصَى إِذَا خَرَجَا يَابِسَيْنِ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِعَدَمِ الْبَلَلِ كَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ كَالْغَائِطِ والبول. (فَصْلٌ) : وَمَا أَوْجَبَ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ نَادِرٌ وَمُعْتَادٌ، فَالْمُعْتَادُ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ بَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْمَاءِ، وَالنَّادِرُ كَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ النَّاصُورِ، وَالْقَيْحِ. فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَادِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِنَضْحِ الْمَاءِ عَلَى الْمَذْيِ، وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ غَالِبًا فِي مَحَلِّهِ فَأَشْبَهَ نَجَاسَةَ الْبَدَنِ، فَأَمَّا دَمُ الْحَيْضِ فَمُعْتَادٌ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَنَادِرٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْمَاءِ فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، رَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ حَائِطًا فَقَضَى حَاجَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ وَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْأَحْجَارَ وَحْدَهَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ كَقَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الدِّرْهَمِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَلَمْ يَجْزِهِ الْأَحْجَارُ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَوْضِعًا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِيهِ، وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ كَافٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ إِلَّا فِي حَالِ صروره وَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقَوْمُ يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ وَلَعَلَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا انْتَشَرَ عَنِ السَّبِيلَيْنِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا فَرْقَ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ، وَالْعَدَدُ مُعْتَبَرٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا وَهُوَ ثَلَاثٌ لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدَ: الْعَدَدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا الْإِنْقَاءُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَإِذَا أَنْقَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ". وَاسْمُ الْوَتْرِ يَقَعُ عَلَى الْمَرَّةِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْجَارِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْإِنْقَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ كَالثَّلَاثِ. ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، وَهَذَا أَمْرٌ، وَحَدِيثُ سَلْمَانَ: لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحجارٍ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَنْجَى أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلَاثًا "، وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: " بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ ثَلَاثًا " وَرَوَى أَبُو رَزِينٍ الْبَاهِلِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ فَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بتوٍّ " وَالتَّوُّ: الْوِتْرُ يُرِيدُ بِهِ ثَلَاثًا. وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ شُرِعَ إِزَالَتُهَا بِعَدَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدَدَ كَالْوُلُوغِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ " فَهُوَ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وأما الجواب عن استدلالهم اسْتِدْلَالِهِ بِالْمَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلْأَحْجَارِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا اعْتُبِرَتْ فِيهِ إِزَالَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْعَدَدِ، وَالْأَحْجَارُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا إِزَالَةُ الْأَثَرِ افْتَقَرَتْ إِلَى الْعَدَدِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِنْقَاءِ فَمَعَ الْإِنْقَاءِ تَعَبُّدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوُلُوغِ وَعَدَدِ الْإِقْرَاءِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ، فَفِي الرَّجِيعِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ النَّجْوُ الَّذِي قَدْ رَجَعَ عَنِ الطَّعَامِ فَصَارَ نَجِسًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ وَتَقْدِيرُهُ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجِيعَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي قَدِ اسْتُعْمِلَ مَرَّةً فَصَارَ رَاجِعًا عَنِ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ ولا عظم. والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يمسح بحجرٍ قد مسح به مرة إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ فَقَدْ صَارَ نَجِسًا وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ لِنَجَاسَتِهِ وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ مَحَلٍّ طَاهِرٍ كَمَا لَا تَزُولُ نَجَاسَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَوَّزْتُمُ الدِّبَاغَةَ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ؟ قِيلَ: إِنَّمَا جَوَّزْنَا الدِّبَاغَةَ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لأنها تخلف الزكاة والزكاة يَجُوزُ بِالسِّكِّينِ النَّجِسِ، فَكَذَلِكَ الدِّبَاغَةُ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ يَخْلُفُ الْمَاءَ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ النَّجِسِ فَكَذَلِكَ الْأَحْجَارُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ فَإِنْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ حَتَّى طَهُرَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً، وَإِنْ غَسَلَهُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ ثَانِيَةً جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَالِثَةً لِأَنَّهُ بِالْغَسْلِ قَدْ صَارَ طَاهِرًا، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ مَنَعْتُمْ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمُ اسْتِعْمَالَ الْحَجَرِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً؟ قُلْنَا هُمَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا إِعَادَةَ الْحَجَرِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً لِأَنَّ الْغَسْلَ قَدْ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَوْ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّاهِرِ جَوَّزْنَا اسْتِعْمَالَهُ ثَانِيَةً. (فَصْلٌ) : فَإِنْ ثَبَتَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ الْغَسْلِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْغَسْلِ يَابِسًا فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَطْبًا وَالْمَاءُ عَلَيْهِ قَائِمًا فَاسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَزُولَ الْمَاءُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ يَزِيدُ الْمَحَلَّ تَنْجِيسًا وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَدِيًّا قَدْ زَالَتْ رُطُوبَةُ الْمَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجِفَّ بَعْدُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالرَّطْبِ لِبَقَاءِ النَّدَاوَةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْجَافِّ لِذَهَابِ الرُّطُوبَةِ عَنْهُ. فَأَمَّا وَرَقُ الشَّجَرِ فَإِنْ جَفَّ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ أَوْ جَفَّ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ إِذَا كَانَ مُزِيلًا، وَإِنْ كَانَ نَدِيَّ الظَّاهِرِ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ وَجْهَانِ كالحجر الندي. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الْبَوْلِ كَالِاسْتِنْجَاءِ مِنَ الْخَلَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلا تستقبل الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرْهَا لِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَصَارَ حُكْمُهُمَا واحد، لأن الْبَوْلَ مُسَاوٍ لِلْخَلَاءِ فِي تَنْجِيسِ السَّبِيلِ فَوَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُمَا فَالِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الْخَلَاءِ يَجُوزُ بِالْأَحْجَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْجِي رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ خُنْثَى، وَأَمَّا الْمُسْتَنْجِي مِنَ الْبَوْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ فِي ذَكَرِهِ فَيَمْسَحُهُ ثَلَاثًا وَلَا يَجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا فَإِنْ مَسَحَهُ بِحَجَرَيْنِ ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ بَوْلٍ اسْتَأْنَفَ مَسْحَهُ ثَلَاثًا وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَجَرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا جَازَ أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ لِفَرْجِهَا قِيَاسًا عَلَى ذَكَرِ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَنْجِيَ فَرْجَهَا بِالْأَحْجَارِ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ تَطْهِيرِ دَاخِلِ الْفَرْجِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ فَلَزِمَهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَا غير. والقسم الثالث: أن يكون خنثاً مُشْكِلًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ مِنْ بَوْلِهِ لَا فِي فَرْجِهِ وَلَا فِي ذَكَرِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُضْوًا زَائِدًا فَلَا يُطَهَّرُ إِلَّا بِالْمَاءِ كَسَائِرِ الْجَسَدِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَنِ انْسَدَّ سَبِيلَاهُ وَانْفَتَحَ لَهُ سَبِيلُ حَدَثٍ غَيْرُهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ فِيهِ بِالْأَحْجَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ لِلْحَدَثِ فَصَارَ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ كَالسَّبِيلِ الْمُعْتَادِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَلَحِقَ بِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ وَفَارَقَ حُكْمَ السبيل المعتاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 القول في مسألة الاستنجاء باليمين قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَنْجِي بِشِمَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِشِمَالِهِ دُونَ يُمْنَاهُ لِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمْسَحُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلَا يَشْرَبْ نَفَسًا وَاحِدًا ". وَإِذَا وَضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالشَّمَالِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ صِفَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالْأَحْجَارِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ. اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُسْتَنْجِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ إنجاء قبله أو إنجاء دبره فإن أراد إنجاء قبله فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ أَوِ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا غَسَلَ مِنْ ظَاهِرِ ذَكَرِهِ مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ وَيُسْتَحَبُّ لَوْ تَنَحْنَحَ وَقَامَ عَنْ مَكَانِ بَوْلِهِ وَسَلَتْ ذَكَرَهُ لِيَخْرُجَ بَقَايَا الْبَوْلِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَزِمَهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَلَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْمُسْتَنْجِي استعمال الأحجار قبله فللا يخلو خاله مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِي الْقُبُلِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَجَازَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي إِنْجَاءِ الدُّبُرِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ وَضْعُ الْحَجَرِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَأَخْذُ ذَكَرِهِ بِيُسْرَاهُ فَعَلَ وَمَسَحَ ذَكَرَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهُ أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَإِنْ صَغُرَ الْحَجَرُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْحِ ذَكَرِهِ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يَأْخُذَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ يُسْرَاهُ لِأَخْذِ الْحَجَرِ أَوْ لِأَخْذِ الذَّكَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِيُسْرَاهُ الْحَجَرَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَيَكُونُ ذَكَرُهُ بِيُمْنَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الْحَجَرَ عَلَى ذَكَرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ بِيُسْرَاهُ الذَّكَرَ وَبِيُمْنَاهُ الْحَجَرَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِيَمِينِهِ فَعَلَى هَذَا يَمْسَحُ الذَّكَرُ عَلَى الْحَجَرِ لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ماسحاً باليسرى دون اليمنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 (فصل) : وإن أَرَادَ اسْتِنْجَاءَ دُبُرِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ أَوِ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ، فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ اعْتَمَدَ عَلَى الْوُسْطَى مِنْ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَاسْتَعْمَلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِزَوَالِ النَّجَاسَةِ عَيْنَا وَأَثَرًا، فَإِنْ شَمَّ مِنْ أَصَابِعِهِ الْوُسْطَى الَّتِي بَاشَرَ بِهَا الِاسْتِنْجَاءَ رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَا عَلَى وجهين: أحدهما: أنه يكون ذلك دليلاً عَلَى نَجَاسَةِ الْمَحَلِّ، وَأَنَّ فَرْضَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَسْقُطْ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِي الْأُصْبُعِ لِتَعَدِّيهَا مِنْ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْمُسْتَنْجِي مَنْدُوبًا إِلَى شَمِّ أُصْبُعِهِ وَهَذَا مِمَّا تَعَافُهُ النُّفُوسُ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِي أُصْبُعِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الْأُصْبُعِ لِأَنَّ بَقَاءَ النَّجَاسَةِ فِي عُضْوٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْمُسْتَنْجِي مَنْدُوبًا إِلَى شَمِّ أُصْبُعِهِ لِأَجْلِ الِاسْتِنْجَاءِ. فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الْأَوَّلِ الصَّفْحَةَ الْيُمْنَى مِنْ مُقَدَّمِهَا إِلَى مُؤَخَّرِهَا، وَيَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّانِي الصَّفْحَةَ الْيُسْرَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّالِثِ جَمِيعَ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَسْرُبَةُ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ يُقْبِلُ بحجرٍ وَيُدْبِرُ بِالثَّانِي وَيُحَلِّقُ بِالثَّالِثِ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى إِلَى مُؤَخَّرِهَا ثُمَّ يُدِيرُهُ إِلَى الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّانِي مِنْ مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى إِلَى مُؤَخَّرِهَا ثُمَّ يُدِيرُهُ عَلَى الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّالِثِ جَمِيعَ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَسْرُبَةُ لِرِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أحجارٍ حَجَرَيْنِ لِلصَّفْحَتَيْنِ وحجرٍ لِلْمُسْرُبَةِ ". وَالْمَسْرُبَةُ: مَخْرَجُ الْغَائِطِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَرَبَ الْمَاءُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 (مسألة: الاستطابة بغير الحجر) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَطَابَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِجَارَةِ مِنَ الْخَزَفِ وَالْآجُرِّ وَقِطَعِ الْخَشَبِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَأَنْقَى مَا هُنَالِكَ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَعْدُ الْمَخْرَجَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الِاسْتِنْجَاءُ يَجُوزُ بِالْأَحْجَارِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ طَاهِرٍ مُزِيلٍ غَيْرِ مَطْعُومٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْأَحْجَارِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، فَنَصَّ عَلَى عَدَدٍ وَجِنْسٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الجنس شرطاً، قال ولأن كلما نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّطْهِيرِ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ وَالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ نَصَّ فِيهَا عَلَى الْأَحْجَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ قِيَاسًا عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الرَّوْثَ وَالرِّمَّةَ وَهِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي وَلَيْسَا مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَحْجَارَ يَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لِاسْتِثْنَاءِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ مِنْهَا فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِلَّا الرَّوْثَ وَالرِّمَّةَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِتَخْصِيصِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ بِالذَّكَرِ مَعْنًى. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " ائْتِنِي بِثَلَاثَةِ أحجارٍ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وروثةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَالَ: إِنَّهَا رجسٌ ". فَعَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْهَا بالنجاسة بأنها ليس بِحَجَرٍ كَمَا قَالَ دَاوُدُ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ وَامْتَسَحَ بِالْحَائِطِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ الْحَجَرِ لِأَنَّ مَا كَانَ طَاهِرًا مُزِيلًا غَيْرَ مَطْعُومٍ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَحْجَارِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى عَدَدٍ وَجِنْسٍ فَكَفَى بِالْخَبَرِ دَلِيلًا لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمَّا جَازَ الْمُجَاوَزَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِنْقَاءِ فَكَذَلِكَ جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الْأَحْجَارِ إِلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْإِنْقَاءُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَعِنْدَ دَاوُدَ إِذَا أَنْقَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَى التُّرَابِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ وَلِفَقْدِ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجَرُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِنْقَاءُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ فَقِسْنَاهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْأَحْجَارِ فِي رَجْمِ الزَّانِي، هَذَا لَوْ كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبُ دَاوُدَ أَنَّ غَيْرَ الْأَحْجَارِ يَجُوزُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا (أَنَّ الأمر بالأحجار) فِي رَمْيِ الْجِمَارِ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْأَحْجَارُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْإِزَالَةُ وَالْإِنْقَاءُ فَقِسْنَا عَلَيْهِ غَيْرَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْأَحْجَارِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فَكُلُّ شَيْءٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا مُزِيلًا غَيْرَ مَطْعُومٍ وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ يَقُولُ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ كُلُّ نَقِيٍّ مُنَقَّى وَلَا يَتْبَعُهُ نَفْسُ الْمُلْقِي، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ فِي الْعِبَارَةِ يَرْغَبُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ وَالْخِرَقِ وَالْخَشَبِ وَمَا خَشُنَ مِنْ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ وَالْمَدَرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَا حُرْمَةٍ كَالْمُصْحَفِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ الْمَطْبُوعِ وَحِجَارَةِ الْحَرَمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِحُرْمَتِهِ، فَإِنِ اسْتَنْجَى بِهِ كَانَ مُسِيئًا وَأَجْزَأَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ حُرْمَتُهُ تَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِهِ كَالْمَأْكُولِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ لِمَاءِ زَمْزَمَ حُرْمَةً تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ لشارب مخل وَبِلٌّ، فَأَمَّا الْمُغْتَسِلُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُبِلُّهُ ثُمَّ وَلَوِ اسْتَنْجَى بِهِ مَعَ حُرْمَتِهِ أَجْزَأَهُ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا مَا عُدِمَ فِيهِ أَحَدُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَكَانَ نَجِسًا إِمَّا نَجَاسَةَ عَيْنٍ كَالرَّوْثِ أَوْ نَجَاسَةَ مُجَاوَرَةٍ كَالْمَمْسُوسِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ أَعْطَاهُ الرَّوْثَةَ فَأَلْقَاهَا وَقَالَ إِنَّهَا رجسٌ وَكَذَا كُلُّ رِجْسٍ وَرَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا، رجيعٌ، وَالرَّجِيعُ هُوَ الْغَائِطُ لِأَنَّهُ كَانَ طَعَامًا فَرْجَعَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ النَّجِسِ لَمْ يَجُزْ بِالْجَامِدِ النَّجِسِ، وَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الثَّانِي فَكَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِنْجَاءِ هُوَ الْإِزَالَةُ، وَمَا لَا يُزِيلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُزِيلُ لِنُعُومَتِهِ كَالْخَزِّ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُزِيلُ لِصَقَالَتِهِ كَالزُّجَاجِ وَمَا تَمَلَّسَ مِنَ الصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَا يُزِيلُ لِلِينِهِ كَالطِّينِ وَالشَّمْعِ. وَالرَّابِعُ: مَا لا يزيل لضعفه ورخاوته كالفحم والحمم فكلما يَزِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، فَأَمَّا الْكَاغِدُ فَإِنْ كَانَ عَلَى صَقَالَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَسَّرَ وَخَشُنَ جَازَ وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ مَا كَانَ مِنْهُمَا خَشِنًا مُزِيلًا جَازَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَمْلَسَ لَمْ يَجُزْ، فَأَمَّا التُّرَابُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ إِذَا كَانَ ثَخِينًا مُتَكَاثِفًا يُمْكِنُ الْإِزَالَةُ بِهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَذْرُورًا لَا يُمْكِنُ الْإِزَالَةُ بِهِ فَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 (فَصْلٌ) : وَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا مَطْعُومًا لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَأْكُولِ استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنه كما كَانَ طَاهِرًا مُزِيلًا كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ كَغَيْرِ الْمَأْكُولِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَشْرُوبِ وَلَمْ تَكُنْ حُرْمَتُهُ مَانِعَةً مِنْهُ كَذَلِكَ بِالْمَأْكُولِ وَلَا تَكُونُ حُرْمَتُهُ مَانِعَةً مِنْهُ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ حُكْمُ نَجَاسَتِهِ بِالْمَأْكُولِ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ سَبَبُهَا الْمَأْكُولُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَزُولَ بِالْمَأْكُولِ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِيجَابَ حُكْمٍ لَمْ يُوجِبْ رَفْعَهُ، وَلَيْسَ كَالْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِدْلَالًا وَانْفِصَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْكُولَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي الْحَالِ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَبَيْنَ مَا يُؤْكَلُ فِي ثَانِي حَالٍ بَعْدَ عَمَلٍ كَاللَّحْمِ الَّتِي فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِمَا، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجْرِيهِ مَجْرَى اللَّحْمِ فَمَنَعَ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْكَلُ بَعْدَ ذَبْحِهِ فَصَارَ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُؤْكَلُ بَعْدَ طَبْخِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْحَيَّ لَا يُقَالُ لَهُ مَأْكُولٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَيْسَ كَاللَّحْمِ النِّيءِ، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ قبل الطبخ وإنما يطبخ ليستطاب ويستمرئ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ النِّيءِ حَلَالٌ وأكل الحيوان حَرَامٌ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللِّينِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ صَحَّ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِنُعُومَتِهِ وَلِينِهِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، فَلَوِ اسْتَنْجَى بِكَفِّ آدَمِيٍّ جَازَ وَلَوِ اسْتَنْجَى بِكَفِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُجِيزُهُ بِكَفِّ نَفْسِهِ كَمَا يَجُوزُ بِكَفِّ غَيْرِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْفَرْقَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي السُّجُودِ فَجَازَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِكَفِّ غَيْرِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِكَفِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ وَالثِّمَارُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يَكُونُ يَابِسًا كَالْيَقْطِينِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ رَطْبًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَيَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يَابِسًا إِذَا كَانَ مُزِيلًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالتِّينِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَإِنْ كَانَ فيهما حب يرمى به فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ لَا بداخله ولا بخارجه ولا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَأْكُولُهُ ظَاهِرًا وَدَاخِلُهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ وَكُلِّ ذِي نَوَى مِنَ الْفَوَاكِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخَارِجِهِ الْمَأْكُولِ وَيَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِنَوَاهُ إِذَا أَزَالَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ ذَا قِشْرٍ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِلُبِّهِ الْمَأْكُولِ، فَأَمَّا قِشْرُهُ فَلَهُ ثلاثة أحوال: حال لا يؤكل لا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا. وَحَالٌ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا. وَحَالٌ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يُؤْكَلُ يَابِسًا، فَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ لَا يُؤْكَلُ بِحَالٍ لَا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا كَالرُّمَّانِ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِقِشْرِهِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَنْجَى بِرُمَّانَةٍ حَبُّهَا فِيهَا جَازَ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ كَانَتْ بِقِشْرِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ قَدْ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا كَالْبِطِّيخِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ رَطْبًا وَلَا يَابِسًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ، وَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يُؤْكَلُ يَابِسًا كَاللَّوْزِ وَالْبَاقِلِي لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِقِشْرِهِ رَطْبًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَجَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يَابِسًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَأَمَّا مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ فَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْبَهَائِمِ لَهُ أَكْثَرَ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَإِنِ اسْتَوَيَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجَرِ فِي الاستنجاء) . قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ عَدَا الْمَخْرَجَ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَطِيبُ بِالْأَحْجَارِ إِذَا لم ينتشر منه مَا يَنْتَشِرُ مِنَ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَحَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلِ الدُّبُرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَلَّا يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ وَلَا يَتَجَاوَزَ الْحَلْقَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْأَحْجَارَ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ أَتَتْ فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْمَاءِ جَازَ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَوْلَى فَيَبْدَأُ بِالْأَحْجَارِ الثَّلَاثِ حَتَّى يَزُولَ بِهَا الْعَيْنُ ثُمَّ يُعْقِبُهَا بِالْمَاءِ حَتَّى يَزُولَ بِهَا الْأَثَرُ لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الطَّهَارَتَيْنِ فَإِنْ قَدَّمَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْأَحْجَارَ بَعْدَهَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ أَزَالَ الْعَيْنَ وَالْأَثَرَ فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَحْجَارِ أَثَرٌ فَلَوْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا كَانَ بِالْمَاءِ إِلَيْنَا أَحَبَّ مِنَ الْأَحْجَارِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَحْدَهُ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِالْأَحْجَارِ وَهَذَا لَعَلَّهُ قَالَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ وَقِلَّتِهِ فِي السَّفَرِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ الْحَجَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قباءٍ: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَهِّرِينَ) {التوبة: 108) قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ إِلَى ظَاهِرِ الْأَلْيَةِ وَأُصُولِ الْفَخِذَيْنِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِيهِ لِأَنَّ الْأَحْجَارَ رُخْصَةٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَهَذِهِ نَجَاسَةٌ ظَاهِرَةٌ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْأَحْجَارَ فِيمَا بَطَنَ وَالْمَاءَ فِيمَا ظَهَرَ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِمَحَلِّ كُلٍّ واحد منهما لَوِ انْفَصَلَ وَهَذَا خَطَأٌ. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْمُتَّصِلَةَ حُكْمُهَا وَاحِدٌ فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ الْأَحْجَارُ فِي بَعْضِهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ لَمْ يُجْزِ فِي الْبَعْضِ وَهُوَ الْبَاطِنُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمَاءُ فِي الْجَمِيعِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ وَيُفَارِقَ الْحَلْقَةَ يَسِيرًا إِلَى بَاطِنِ الْأَلْيَةِ دُونَ ظَاهِرِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَحْجَارُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّجَاسَاتِ أَنَّهَا لَا تُزَالُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا جُوِّزَ فِي إِزَالَتِهَا بِالْأَحْجَارِ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا لَمْ يَعْدُ مَخْرَجَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ تَرْكٌ لِاسْتِعْمَالِهَا. فَأَمَّا الْبَوْلُ إِذَا تَجَاوَزَ مَخْرَجَهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ مَا تَجَاوَزَ الْمَخْرَجَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ كَبَاطِنِ الإلية والنجاسة في ظاهر الجسد لا يجزأ فيه إلا الماء. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ فَيُجْزِئُ وَبِالْعَظْمِ فَلَا يُجْزِئُ أَنَّ الْيَمِينَ أداةٌ وَالنَهْيُ عَنْهَا أدبٌ وَالِاسْتِطَابَةَ طهارةٌ وَالْعَظْمُ لَيْسَ بطاهرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ وَبِالْعَظْمِ حَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا ثُمَّ جَازَ بِالْيَمِينِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ وَلَمْ يَجُزْ بِالْعَظْمِ لِأَجْلِ النَّهْيِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ يَدْخُلُ فَرْقُ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْيَمِينِ لِمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ فَلَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَظْمِ لِمَعْنًى فِي الْفِعْلِ فَاقْتَضَى النَّهْيُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ وَإِنْ جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا فَإِنَّ الْإِزَالَةَ تَكُونُ بِغَيْرِهَا فَلَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ، وَالْعَظْمُ يَقَعُ بِهِ الْإِزَالَةُ فَاخْتَصَّ النَّهْيُ عَنْهُ بِإِبْطَالِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ وَ " الْعَظْمُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ ". وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ كَوْنُهُ غَيْرَ طَاهِرٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةً ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " وَالْعَظْمُ لَيْسَ بِنَظِيفٍ " أَيْ فِيهِ سَهُوكَةٌ وَلُزُوجَةٌ تَمْنَعُ مِنَ التَّنْظِيفِ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ أَيْ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَهُوَ جَوَابٌ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ فِي الْعَظْمِ النَّجِسِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا وَلِلْعَظْمِ الطَّاهِرِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْعُومًا فَذَكَرَ إِحْدَى عِلَّتَيِ الْعَظْمِ النَّجِسِ دُونَ الطَّاهِرِ وَهَذَا جَوَابٌ ذَكَرُهُ أَبُو حَامِدٍ. (مَسْأَلَةٌ: وُجُوبُ إِنْقَاءِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ) . قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَسَحَ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ فَلَمْ يَنْقَ أَعَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ إِلَّا أَثَرًا لَاصِقًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْمَاءُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إِزَالَةَ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا عَدَدٍ فَأَمَّا الْمُسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ الْأَثَرِ وَعَلَيْهِ عِبَادَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْإِنْقَاءُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ بِاسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِ كَالْمُعْتَدَّةِ يَلْزَمُهَا عِبَادَتَانِ الِاسْتِبْرَاءُ وَاسْتِيفَاءُ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا أَنْقَى الْمُسْتَنْجِي بِدُونِ الثَّلَاثِ لَزِمَهُ اسْتِيفَاءُ الثَّلَاثِ لِاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ وَإِنِ اسْتَوْفَى ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْقِ اسْتَعْمَلَ رَابِعًا وَخَامِسًا حَتَّى يُنَقِّيَ فَلَا يُبْقِي إِلَّا أَثَرًا لَاصِقًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْمَاءُ فَيُعْفَى عَنْهُ فَلَوْ بَقِيَ مَا لَا يَزُولُ بِالْحَجَرِ لَكِنْ يَزُولُ الخرق وَصِغَارِ الْخَزَفِ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لِإِمْكَانِ إِزَالَتِهِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِزَالَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْضُهُ يَسْقُطُ بِالْأَحْجَارِ لَزِمَهُ إِنْقَاءُ مَا يَزُولُ بالأحجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 (مسألة: جواز الاستنجاء بالجلد المدبوغ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ بِالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ أَنْ يُسْتَطَابَ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجُلُودَ ضَرْبَانِ مَدْبُوغَةٌ وَغَيْرُ مَدْبُوغَةٍ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مَدْبُوغًا فَضَرْبَانِ مُذَكَّى وَغَيْرُ مُذَكَّى، فَأَمَّا الْمَدْبُوغُ الْمُذَكَّى فَالِاسْتِنْجَاءُ بِهِ جَائِزٌ، لَا تَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُزِيلٌ غَيْرُ مَطْعُومٍ، فَأَمَّا الْمَدْبُوغُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَهُوَ أَحَدُ جِلْدَيْنِ، أَمَّا جِلْدُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا مَاتَ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الجديد يجوز بيعه فعلى هذا جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُزِيلٌ غَيْرُ مَطْعُومٍ فَأَشْبَهَ الْمُذَكَّى الْمَدْبُوغَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَيْتَةِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهَا فِي تحريم الاستنجاء له. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ فَضَرْبَانِ مُذَكَّى وَغَيْرُ مُذَكَّى. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُذَكَّى إِمَّا لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ أَوْ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَلَا يَجُوزُ الاستنجاء له لِنَجَاسَتِهِ. وَأَمَّا الْمُذَكَّى فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي نَقْلِ الرَّبِيعِ وَالْمُزَنِيِّ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ، وَتَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ كَالْعَظْمِ وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ جَوَازَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِفِرَاقِ اللَّحْمِ عَنْ حَدِّ الْمَأْكُولِ: فَصَارَ كَالْمَدْبُوغِ وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ طَرِيًّا لَيِّنًا، وَرِوَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ يَجُوزُ إِذَا كَانَ قَدِيمًا يَابِسًا، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيَّةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى بَاطِنِ الْجِلْدِ وَدَاخِلِهِ لِأَنَّهُ بِاللَّحْمِ أَشْبَهُ، وَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ فِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ وَخَارِجِهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ حَالِ اللَّحْمِ لِخُشُونَتِهِ وَغِلَظِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ وَتَبْعِيضٌ مُطَّرَحٌ وَإِنَّمَا حَكَيَاهُ تَعَجُّبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 (مسألة: جواز الاستنجاء بحجر له ثلاثة أحرف) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَطَابَ بحجرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أحرفٍ كَانَ كَثَلَاثَةِ أحجارٍ إِذَا أَنْقَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْحَجَرُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ يَقُومُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَقَامَ حَجَرٍ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَيُجْزِيهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إِلَّا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ، (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ ") وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَكْتَفِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثِ مسحاتٍ "، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ أَعْدَادَ الْمَسْحِ لَا أَعْدَادَ الْحَجَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ فَمَسَحَ ذَكَرَهُ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِطَ كَالْحَجَرِ الْوَاحِدِ لِاتِّصَالِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَسَرَ الحجر ثلاث قطع واستعملها يجزيه فكذا يجزيه وإن كان مجتمعاً لأنه ليس لانفصالها معنى يؤثر يَزِيدُ فِي التَّطْهِيرِ. (مَسْأَلَةٌ: عَدَمُ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بالعظم والنجس) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بعظمٍ وَلَا نَجِسٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْعَظْمِ لَا يَجُوزُ وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى جَوَازِهِ لِكَوْنِهِ طَاهِرًا مُزِيلًا كَالْحَجَرِ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شَيْبَانَ عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دابةٍ أَوْ عظمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ بريءٍ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ الْجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ انْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بعظمٍ أَوْ روثةٍ أَوْ حممةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا فِيهَا رِزْقًا. قَالَ: فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك. وروى صالح مولى التوأمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يستطيبن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أَحَدُكُمْ بِالْبَعْرِ وَلَا بِالْعَظْمِ ". وَلِأَنَّ الْعَظْمَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى أَوْ غَيْرَ مُذَكًّى. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَهُوَ نَجِسٌ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالنَّجِسِ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَهُوَ مَطْعُومٌ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَطْعُومِ لَا يَجُوزُ لِمَا دللنا عليه ولأن في العظم سهوكة لزوجته تَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، سَوَاءً كَانَ الْعَظْمُ الَّذِي يَسْتَنْجِي بِهِ رَخْوًا رَطْبًا أَوْ كَانَ قَوِيًّا مُشْتَدًّا، قَدِيمًا كَانَ أَوْ حَدِيثًا، مَيِّتًا كَانَ أَوْ ذَكِيًّا، فَإِنْ أُحْرِقَ بِالنَّارِ حَتَّى ذَهَبَتْ سهوكته لزوجته وخرج عَنْ حَالِ الْعَظْمِ فَإِنْ كَانَ عَظْمَ مَيِّتٍ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَنَا وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ إِحْرَاقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَحَالَتْهُ عَنْ حَالِهِ فَصَارَتْ كَالدِّبَاغَةِ تُحِيلُ الْجِلْدَ الْمُذَكَّى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَى حَالٍ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّمَّةَ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي فَلَا فَرْقَ أَنْ يَصِيرَ بَالِيًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ بَالِيًا بِالنَّارِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى أَنَّ الرِّمَّةَ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي قَوْلُ جَرِيرٍ لِابْنِهِ فِي شِعْرِهِ. (فَارَقْتَنِي حين عن الدَهْرُ مِنْ بَصَرِي ... وَحِينَ صِرْتُ كَعَظْمِ الرُّمَّةِ الْبَالِي) وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّارِ فِي الْعَظْمِ وَبَيْنَ الدِّبَاغَةِ فِي الْجِلْدِ أَنَّ الدِّبَاغَةَ تَنْقُلُ الْجِلْدَ إِلَى حَالٍ زَائِدَةٍ فَأَفَادَتْهُ حُكْمًا زَائِدًا، وَالنَّارُ تَنْقُلُ الْعَظْمَ إِلَى حَالٍ نَاقِصَةٍ، فَكَانَ أَوْلَى أن يصير حكمه ناقصاً. (فصل) : فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِعَظْمٍ وَلَا نَجِسٍ، فَقَدْ رُوِيَ نَجِسٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَرُوِيَ نجسٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ فَمَنْ رَوَى بِالْكَسْرِ جَعَلَهُ صِفَةً لِلْعَظْمِ فَصَارَ مَعْنَاهُ، وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِعَظْمٍ لَا طَاهِرٍ وَلَا نَجِسٍ، وَمَنْ رَوَى بِالْفَتْحِ جَعَلَهُ ابْتِدَاءً، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ كُلِّهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالنَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ فَإِنِ اسْتَنْجَى بِهَا لَمْ يَجْزِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا هَلْ يَسْتَعْمِلُ الْأَحْجَارَ بَعْدَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ بِغَيْرِ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ النَّجَاسَةِ يَصِيرُ تَبَعًا لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ. (فَصْلٌ: تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَحْكَامِهِ فَيَنْبَغِي لِلْمُحْدِثِ أَنْ يُقَدِّمَ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 طَهَارَتِهِ فَإِنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَجْزَأَهُ وَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَفِي التَّيَمُّمِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يُجْزِيهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ وَخَرَّجَ التَّيَمُّمَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهَا وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى رِوَايَتِهِ وَمَذْهَبِهِ فَأَبْطَلَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ صَحَّ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَنَّ الْوُضُوءَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْحَدَثِ لَا لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ حَدَثُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِحِ الصَّلَاةَ وَالتَّيَمُّمَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لَا لِرَفْعِ الْحَدَثِ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِبَاحَتُهَا مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِنْجَاءِ الْمَانِعِ مَعَ اسْتِبَاحَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الِاعْتِلَالِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ أَلَّا يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ إِزَالَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الصَّلَاةَ مَعَهَا. قِيلَ: قَدْ حَكَى شَيْخُنَا أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْقَاسِمِ الدَّارَكِيَّ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالَ إِلْزَامٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِلَالِ فَقَالَ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدها: لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ إِزَالَتِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَالْفَرْقُ مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَبَقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ نَجَاسَاتِ الْبَدَنِ أَنَّ نَجَاسَةَ الِاسْتِنْجَاءِ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتِ التَّيَمُّمَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ وَنَجَاسَةَ غَيْرِ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ تُوجِبِ التَّيَمُّمَ فَجَازَ أَلَّا يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 باب الحدث (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ أَحَدُ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: فَأَوَّلُهَا مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَهُمَا الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ: مُعْتَادٌ وَنَادِرٌ: فَالْمُعْتَادُ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ وَالصَّوْتُ وَالرِّيحُ وَدَمُ الْحَيْضِ. وَفِيهَا الْوُضُوءُ. وِفَاقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) {المائدة: 6) . وَالنَّادِرُ الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ، وَالدُّودُ وَالْحَصَى وَسَلَسُ الْبَوْلِ، وَدَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ منه فمذهبه الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْهُ كَالْمُعْتَادِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا وُضُوءَ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صوتٍ أَوْ ريحٍ " يَعْنِي الْمُعْتَادَ كَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ مِنَ النَّادِرِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ: " صَلِّي وَلَوْ قَطَرَ الدَمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا ". فَلَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهَا بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لِكَوْنِهِ نَادِرًا، قَالَ وَلِأَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ لِكَوْنِهِ نَادِرًا وَجَبَ إِذَا خَرَجَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ مِنْ مَخْرَجٍ مُعْتَادٍ أَلَّا يُوجِبَ الْوُضُوءَ لِكَوْنِهِ نَادِرًا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، وَهُوَ مَقْصُودٌ لِلنَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ، وَرَوَى عَابِسُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا بِالْكُوفَةِ يَقُولُ قُلْتُ لِعَمَّارٍ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَذْيِ يُصِيبُ أَحَدَنَا إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّ ابْنَتَهُ تَحْتِي وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَمَّارٌ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَكْفِي مِنْهُ الْوُضُوءُ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الْوُضُوءَ مِنَ الْمَذْيِ وَهُوَ نَادِرٌ فَكَذَلِكَ مِنْ كُلِّ نَادِرٍ وَلِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ فَأَمَّا قَوْلُهُ لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنَ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا كَمَا يُوجِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا، وَأَمَّا خَبَرُ الْمُسْتَحَاضَةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ مُحْدِثَةٌ وَإِنَّمَا أَجْزَأَتْهَا الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَادُ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَنَّهُ نَادِرٌ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أنه خارج من غير مخرج معتاد. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلَيِ الْمُحْدِثِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْخَلَ مِيلًا فِي ذَكَرِهِ وَأَخْرَجَهُ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَائِمًا بَطَلَ صَوْمُهُ بِالْوُلُوجِ وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِالْخُرُوجِ، فَلَوْ أَطْلَعَتْ دُودَةٌ رَأْسَهَا مِنْ أَحَدِ سَبِيلَيْهِ وَلَمْ تتفصل حَتَّى رَجَعَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ مَا طَلَعَ مِنْهَا قَدْ صار خارجاً. والثاني: لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ لِأَنَّ الْخَارِجَ مَا انْفَصَلَ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا انْفَتَحَ لَهُ سَبِيلَانِ غَيْرُ سَبِيلَيِ الْخِلْقَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ سَبِيلَيِ الْخِلْقَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَسْدُودَيْنِ أَوْ جَارِيَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مَسْدُودَيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خِلْقَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، فَإِنْ كَانَ انْسِدَادُهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةَ فَسَبِيلُ الْحَدَثِ هُوَ الْمُنْفَتِحُ وَالْخَارِجُ مِنْهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ سَوَاءٌ كَانَ دُونَ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَالْمَسْدُودُ كَالْعُضْوِ الزَّائِدِ مِنَ الْخُنْثَى لَا يَجِبُ مِنْ مَسِّهِ وُضُوءٌ وَلَا مِنْ إِيلَاجِهِ غُسْلٌ، وَإِنْ كَانَ انْسِدَادُهُمَا حَادِثًا مِنْ عِلَّةٍ فَحُكْمُ السَّبِيلَيْنِ جَارٍ عَلَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ، وَالْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّبِيلَانِ اللَّذَانِ قَدِ انْفَتَحَا دُونَ الْمَعِدَةِ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْ سَبِيلٍ لِحَدَثِهِ فَأَشْبَهَ سَبِيلَ الْخِلْقَةِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ. فَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ مِنْهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ اعْتِبَارًا بِالتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا وُضُوءَ فِيهِ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ فَوْقِ الْمَعِدَةِ مُلْحَقٌ بِالْقَيْءِ وَالْقَيْءُ لَا وُضُوءَ فِيهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبِيلَا الْخِلْقَةِ جَارِيَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَا انْفَتَحَ مِنَ السَّبِيلِ الْحَادِثِ فَوْقَ الْمَعِدَةِ لَمْ يَجِبْ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ وُضُوءٌ وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَعِدَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَ أَبُو علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أَبِي هُرَيْرَةَ يَنْقُلُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي سَدِّ السَّبِيلَيْنِ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ لَمْ يَنْقُضْ، وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَفْلَةِ فِيهِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَجَعَلْنَا مَا انْفَتَحَ مِنَ السَّبِيلِ الْحَادِثِ مَخْرَجًا لِلْحَدَثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ السَّبِيلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْإِيلَاجِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ، وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا إِذَا نَامَ عَلَيْهِ مُلْصِقًا لَهُ بِالْأَرْضِ هَلْ يَكُونُ كَالنَّائِمِ قَاعِدًا فِي سُقُوطِ الوضوء عنه على وجهين. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا وَقَائِمًا وَرَاكِعًا، وَسَاجِدًا، وَزَائِلًا عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ قَلِيلًا كَانَ النَوْمُ أَوْ كَثِيرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالنَّوْمُ هُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ. وَقِسْمٌ لَا يُوجِبُهُ. وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُوجِبُ للوضوء فهو النوم زائلاً عن مستوء الْجُلُوسِ مُضْطَجِعًا أَوْ غَيْرَ مُضْطَجِعٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُوجِبُ بِحَالٍ حَتَّى حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَامَ وَكَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلًا يُرَاعِيهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ لَهُ هَلْ سَمِعْتَ صَوْتًا أَوْ وَجَدْتَ رِيحًا، فَإِنْ قَالَ: لَا، قَامَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَفِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا الْمَذْهَبِ وَيُغْنِي عَنِ الْإِطَالَةِ بِإِفْرَادِهِ بِالدَّلَالَةِ، وَقَالَ أبو حنيفة: النَّوْمُ إِنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ إِذَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِذَا نَامَ قَائِمًا أَوْ مَاشِيًا. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ وَيَنْفُخُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَأُ. فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ وَقَدْ نِمْتَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ، وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَانْتَبَهْتُ فَقُلْتُ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (لَا، أَوْ تَضَعُ جَنْبَكَ عَلَى الْأَرْضِ) فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إِلَّا أَنْ يَضَعَ جَنْبَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ هِيَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ في الاختبار لَمْ يَكُنِ النَّوْمُ عَلَيْهَا مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ كَالْجُلُوسِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (المائدة: 6) ، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُهَا عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} مِنْ نومٍ، وَرَوَى مَحْفُوظُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وِكَاءُ السَّهِ الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ "، وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءَ السَّهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَوْمُ الْعَيْنَيْنِ مُزِيلًا لِلْوِكَاءِ عَلَى الْعُمُومِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلُ الْجُلُوسِ. وَالثَّانِي: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ". وَرَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عن صفوان بن عسال المراوي قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرَى أَلَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 غَائِطٍ وبولٍ ونومٍ فَأَطْلَقَ النَّوْمَ وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ النَّوْمَ إِذَا صَادَفَ حَالًا مُؤَثِّرًا فِي خُرُوجِ الرِّيحِ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَالِاضْطِجَاعِ طَرْدًا أَوِ الْقُعُودِ عَكْسًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ المروي عن ابن عباس فهو أن مَعْلُولٌ أَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ لَمْ يَلْقَ قَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَرْوِ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مُطَّرَحًا، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَهُوَ أَنْكَرُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ التَّعْلِيلُ فِيهِ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا لَمْ يُرْخِهَا مِنَ النُّعَاسِ دُونَ النَّوْمِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُلُوسِ فَالْمَعْنَى فِي الْجُلُوسِ أَنَّهُ يخلف العينين فِي حِفْظِ السَّبِيلِ عَنْ خُرُوجِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ أَقْسَامِ النَّوْمِ فَهُوَ النَّوْمُ قَاعِدًا لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ قَلِيلًا كَانَ النَّوْمُ أَوْ كَثِيرًا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ نَوْمُ الْقَاعِدِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ كَنَوْمِ الْمُضْطَجِعِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ كَانَ نَوْمُ الْقَاعِدِ كَثِيرًا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُوجِبْهُ وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرَى أَلَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابةٍ لَكِنْ مِنْ غائطٍ وبولٍ ونومٍ، فَكَانَ النَّوْمُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ كَمَا كَانَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ مُوجِبًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، قال ولأن مَا كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِ حَالِ الْقُعُودِ كَانَ حَدَثًا فِي حَالِ الْقُعُودِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَأَمَّا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَلِيلَ النَّوْمِ فِي الْقُعُودِ لَا يُرْخِي الْمَفَاصِلَ فَكَانَ السَّبِيلُ مَحْفُوظًا، وَإِذَا كَثُرَ وَطَالَ اسْتَرْخَتِ الْمَفَاصِلُ فَصَارَ السَّبِيلُ مُسْتَطْلَقًا، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَامَ قَاعِدًا فَلَمَّا أنبهه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ فَقَالَ: لَا، وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَيْنَيْنِ وِكَاءَ السَّهِ فِي حِفْظِ السَّبِيلِ فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ تَخْلُفُ الْعَيْنَيْنِ فِي حِفْظِ السَّبِيلِ. ثُمَّ بَيَّنَ بِالتَّعْلِيلِ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الْحَدَثِ فَإِذَا وُجِدَ عَلَى صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 لَا تَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ انْتَفَى الْحُكْمُ عَنْهُ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ " وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤسهم ثم يصلون ولا يتوضؤن. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَلِيلُهُ حَدَثًا لَمْ يَكُنْ كَثِيرُهُ حَدَثًا كَالْكَلَامِ طَرْدًا وَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ عَكْسًا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ فَهُوَ أنه لَمَّا جَمَعَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالنَّوْمِ وَكَانَ الْبَوْلُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهِيَ حَالُ السَّلَامَةِ دُونَ سَلَسِ الْبَوْلِ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِسَائِرِ الْأَحْدَاثِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، وَمَا سِوَى النَّوْمِ حَدَثٌ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ حَدَثًا لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَسْوِيَةِ النَّوْمِ فِي الْأَحْوَالِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (وَلَوْ صِرْنَا إِلَى النَّظَرِ لَكَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تَوَضَّأَ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ) يَعْنِي أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِتَعَلُّقِ الْوُضُوءِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ. وَلَكِنِ انْصَرَفَ تَعْلِيلُ النَّصِّ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِتَعَلُّقِ الْوُضُوءِ إِلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْحَالِ الَّذِي يَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ دُونَ الْحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي النَّظَرِ فِي مَعْنَى مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ يَتَوَضَّأُ فَكَذَلِكَ النَّائِمُ عَلَى مَعْنَاهُ كَيْفَ كَانَ توضأ. الجواب عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِغْمَاءُ حَدَثًا بِعَيْنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْأَحْوَالِ وَالنَّوْمُ سَبَبٌ إِلَيْهِ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّوْمَ أَخَفُّ حالاً من الإغماء لأنه قد يتنبه بِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْإِغْمَاءُ أَغْلَظُ حَالًا لِأَنَّهُ لَا يَنْتَبِهُ بِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْأَحْوَالِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّائِمِ قَاعِدًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا فَإِنْ جَلَسَ مُتَرَبِّعًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حِفْظِ الْأَرْضِ لِسَبِيلِهِ وَإِنْ جَلَسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا لِرُكْبَتَيْهِ مُحْتَبِيًا عَلَيْهَا بِبَدَنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُتَرَبِّعِ فِي سُقُوطِ الْوُضُوءِ عَنْهُ لِالْتِصَاقِ أَلْيَتِهِ بِالْأَرْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْمُسْتَنِدِ وَالْمُضْطَجِعِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا جِلْسَةٌ لَا تَحْفَظُ الْأَرْضُ سَبِيلَهُ مِنْهَا، وَلَعَلَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي نَوْمِ الْقَاعِدِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ يُفَصِّلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّائِمُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ نَحِيفَ الْبَدَنِ مَعْرُوقَ الْأَلْيَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ لَا يَكُونُ مَحْفُوظًا، وَإِنْ كَانَ لَحِيمَ الْبَدَنِ تَنْطَبِقُ أَلْيَتَاهُ عَلَى الْأَرْضِ فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ يَصِيرُ مَحْفُوظًا فَلَوْ نَامَ مُتَرَبِّعًا فَغَلَبَهُ النَّوْمُ حَتَّى مَالَ عَنْ جُلُوسِهِ فَإِنِ ارْتَفَعَتْ أَلْيَتَاهُ عَنِ الْأَرْضِ فِي مَيْلِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَفِعْ فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ كَمَا لو لم يميل. وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ مِنْ أَقْسَامِ النَّوْمِ فَهُوَ النَّوْمُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ نَامَ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ كانت صلاته جائزة ووضوءه جائز. وَإِنْ نَامَ فِي غَيْرِ الْجُلُوسِ إِمَّا فِي قِيَامِهِ أَوْ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ فَفِي بُطْلَانِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ ثَمَانِيَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) {الفرقان: 64) ، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَدْحُ انْتَفَى عَنْهُ إِبْطَالُ الْعِبَادَةِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَبَدَنُهُ ساجدٌ بَيْنَ يَدَيَّ " فَأَوْجَبَ هَذَا نَفْيَ الْحَدَثِ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ وُضُوءَهُ قَدِ انْتَقَضَ وَصَلَاتَهُ قَدْ بَطَلَتْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّكَ تَنَامُ فِي صَلَاتِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَوْمَ الْقَلْبِ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، فَلَوْ تَيَقَّنَ الْمُتَوَضِّئُ النَّوْمَ ثُمَّ شَكَّ فِيهِ هَلْ كَانَ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لا يجب بالشك. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بجنونٍ أَوْ مرضٍ مُضْطَجِعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُضْطَجِعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ مِنْهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّوْمِ فَلَمَّا كَانَ النَّوْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْعَقْلِ مُوجِبًا لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ سَكَرٍ أَوْ فَزَعٍ أَوْ رَهْبَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قِيلَ إِنْ كَانَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اغْتَسَلَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ الْإِغْمَاءُ لَا يَنْفَكُّ من الْإِنْزَالِ فَعَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِذَا أَفَاقَ لِأَجْلِ الْإِنْزَالِ لَا لِلْإِغْمَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ اسْتِحْبَابًا كَانَ أَفْضَلَ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حِينَ اغْتَسَلَ لَمَّا أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا بِخِلَافِ النَّائِمِ لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ لَا فِي حَالِ الْجُلُوسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ فلو أن متوضئاً شرب نبيذ فَسَكِرَ لَزِمَهُ غَسْلُ النَّبِيذِ مِنْ فَمِهِ وَمَا أَصَابَ مِنْ جَسَدِهِ وَأَنْ يَتَوَضَّأَ لِزَوَالِ عَقْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَسْكَرْ غَسَلَ النَّبِيذَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِقَاءُ مَا شَرِبَ مِنَ النَّبِيذِ، ولو فعل كان أفضل. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمُلَامَسَةُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ، وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يُفْضِيَ بِشَيْءٍ منه إلى جسدها، أو تفضي إليه لا حَائِلَ بَيْنَهُمَا أَوْ يُقَبِّلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمُلَامَسَةُ هِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَإِذَا لَمَسَ الرَّجُلُ بَدَنَ الْمَرْأَةِ أَوِ الْمَرْأَةُ بَدَنَ الرَّجُلِ، فَالْوُضُوءُ عَلَى اللَّامِسِ مِنْهُمَا وَاجِبٌ سَوَاءٌ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: إِنْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَنْتَقِضْ. وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: وَإِنِ انْتَشَرَ ذَكَرُهُ بِالْمُلَامَسَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ لَمْ يَنْتَقِضْ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ مَسَّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ مَسَّ مَنْ تَحِلُّ لَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، ومحمد بن الحسن: لَا وُضُوءَ فِي الْمُلَامَسَةِ بِحَالٍ وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى سُقُوطِ الْوُضُوءِ مِنْهَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَّلَهَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ". وَبِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنِ حَبِيبٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَهَا مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ فَضَحِكَتْ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ افْتَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ ليلةٍ فَقُمْتُ أَلْتَمِسُهُ بِيَدِي فَوَقَعَتْ يَدِي على أخمس قَدَمَيْهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ "، فَلَوْ كَانَ وُضُوءُهُ انْتَقَضَ لَمْ يَمْضِ فِي سُجُودِهِ قَالَ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فِي صَلَاتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْإِنَاثِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَالَ: وَلِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ مِنْ جِسْمَيْنِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ بِهَا الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ قِيَاسًا عَلَى لَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحْرَمِ وَلِأَنَّهُ لَمْسُ جُزْءٍ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ كَلَمْسِ الشَّعْرِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُلَامَسَةِ اسْمٌ لِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَّا اللُّغَةُ قَوْلُ الْأَعْمَشِ: (وَلَا تَلْمِسِ الْأَفْعَى يَدُكَ تَضُرُّهَا ... وَدَعْهَا إِذَا مَا عَيَّنْتَهَا سبابها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ: (فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ ... وَأَغْنَانِي فَضَيَّعْتُ مَا عِنْدِي) (وَأَلْمَسْتُ كَفِّي كَفَّهُ طَلَبَ الْغِنَى ... وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدِي) وَأَمَّا الشَّرْعُ فقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) {الأنعام: 7) ، وقوله: {إِنَا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) {الجن: 8) ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْمَ الْمُلَامَسَةِ اسْمٌ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَالْمَسِيسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ بِالْمَسِيسِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ فَصَارَ مَجَازًا فِي الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فِي الْمَسِيسِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقِ بِالِاسْمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عباس حملاه على الجماع وهو بِالْمُرَادِ بِهِ أَعْرَفُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ وَذَلِكَ هُوَ الْجِمَاعُ دون المسيس، قيل أما تأويلا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعَمَّارٌ، وَأَمَّا الْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ فَكَذَلِكَ صُورَةُ المسيس باليد على أن حمزة الكسائي قَدْ قَرَآ: {أَوْ لَمَسْتُمْ} وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمَسِيسَ بِالْيَدِ فَإِنْ حُمِلَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قرأ أو لامستم عَلَى الْجِمَاعِ كَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَوْ لَمَسْتُمْ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَسِيسِ بِالْيَدِ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمَيْنِ عَلَى أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَرَتَّبَ الْآيَةَ تَرْتِيبًا حَسَنًا يَسْقُطُ مَعَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَقَالَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} (النساء: 43) . فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ حَدَثًا وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَا بِحَدَثٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِنْ وَجَدْتُمُ الْمَاءَ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَجَاءَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَيَسْقُطُ مَعَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْكِتَابِ وَاللُّغَةِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) {الكهف: 1) . تَقْدِيرُهُ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَقَالَ: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) {هود: 71) . أَيْ بَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: (لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتِهِ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ) يَعْنِي لَقَدْ كَانَ فِي ثَوَاءٍ حول ثوأتيه، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَتَاهُ رجلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ رجلٍ يُصِيبُ من امرأته ما يَحِلُّ لَهُ مَا يُصِبْهُ مِنِ امْرَأَتِهِ إِلَّا الْجِمَاعَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا حَسَنًا " وَهَذَا أَمْرٌ لِسَائِلٍ مُسْتَرْشِدٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ مَا تَضَمَّنَهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مُمَاسَّةٌ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْجِمَاعِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يُوجِبِ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِهِ، لَمْ يُوجِبِ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُلَامَسَةٍ لَوْ قَارَنَهَا انْتِشَارٌ وَجَبَ فِيهَا الطَّهَارَةُ فَإِذَا خَلَتْ عَنِ الِانْتِشَارِ وَجَبَتْ فِيهَا تِلْكَ الطَّهَارَةُ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَنْقَسِمَ مُوجِبُهَا إِلَى خَارِجٍ وَمُلَاقَاةٍ كَالْغُسْلِ، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْضِي إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ فِي الْغَالِبِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ نَقْضُ الطُّهْرِ بِعَيْنِهِ كَالنَّوْمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَيْ عَائِشَةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه. أحدها: ضعفها وَطَعْنُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِيهِمَا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: أَمَّا حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ فَمُرْسَلٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ الْأَعْمَشُ هُوَ عُرْوَةُ الْمُزَنِيُّ وَلَيْسَ بِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ احْكِ عَنِّي أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ شِبْهُ لَا شَيْءَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ غَلِطَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ إِلَى الْوُضُوءِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَحَمْلُهُ عَلَى الْقُبْلَةِ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ وَبِهَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْقُبْلَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: (وَكَمْ مِنْ دمعةٍ فِي الْخَدِّ تَجْرِي ... وَكَمْ مِنْ قبلةٍ فَوْقَ النِّقَابِ) فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ يَدَهَا وَقَعَتْ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مَلْمُوسًا وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ دَاعِيًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّعَاءِ أَلَّا يَكُونَ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَمْلِهِ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَهَا لَا يَقَتَضِي مُبَاشَرَةَ بَدَنِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِهِ زَيْنَبَ، وَلَا وُضُوءَ فِي لَمْسِ الْمَحَارِمِ عِنْدَنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لمس ذوات المحارم فهو أن لها فِيهَا قَوْلَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُوجِبُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الأجانب وبينهن أنهن جنس لا يستباح للاستمتاع بِهِنَّ كَالذُّكُورِ بِخِلَافِ الْأَجَانِبِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لَمْسِ الشَّعْرِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ لَمْسِهِ فَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِنْ لَمْسِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْسٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ اللَّذَّةُ فِي الْغَالِبِ وَكَذَا الظُّفُرُ وَالسِّنُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَمْسُ الْجِسْمِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلَّذَّةٍ فِي الْغَالِبِ. (فَصْلٌ: اللَّمْسُ فَوْقَ الْحَائِلِ لا ينقض الوضوء) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْمُلَامَسَةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ بِهَا عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ، فَأَمَّا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ حَائِلٍ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهَا وَقَالَ رَبِيعَةُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا أَوْ صَفِيقًا، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا نَقَضَ وَإِنْ كَانَ صَفِيقًا لَمْ يَنْقُضْ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ) {المائدة: 6) . وَحَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَةِ وَإِلَّا كَانَ لَامِسًا ثَوْبًا وَلَمْ يَكُنْ لابساً جِسْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْمِسُ امْرَأَةً فَلَوْ لَمَسَ ثَوْبَهَا لَمْ يَحْنَثْ، فَإِذَا انْتَفَى اسْمُ الْمَسِّ عَنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْحُكْمُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَسَ دُونَ حَائِلٍ فَوَجَبَ ألا ينتقض الضوء كَلَمْسِ الْخُفِّ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَى بِهِ مِنْ جِسْمِهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَفْضَى بِهِ مِنْ جِسْمِهَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْمُلَامَسَةُ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تعالى: أو لامستم النساء، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِهَا الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كانت بأحد الأعضاء الْوُضُوءِ. (فَصْلٌ: حُكْمُ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ) فَأَمَّا لَمْسُ مَا اتَّصَلَ بِالْجِسْمِ مِنْ شَعْرٍ وَظُفُرٍ وَسِنٍّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الْوُضُوءَ وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ جِسْمًا بِشَعْرِهِ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ بِظُفُرِهِ أَوْ سِنٍّ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ لَمْسَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ كَلَمْسِ الْجِسْمِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ بِالشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ لِاتِّصَالِ ذَلِكَ بِالْجِسْمِ فَأُلْحِقَ بِحُكْمِهِ كَمَا أُلْحِقَ بِهِ فِي الطَّلَاقِ إِذَا قَالَ شَعْرُكِ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَحْسَنُ مِنَ الْمَرْأَةِ كَمَا يُسْتَحْسَنُ جِسْمُهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَهُوَ بِاللِّبَاسِ أَشْبَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ نَظَرُهُ وَلَا يَلْتَذُّ بِمَسِّهِ، وَالْجِسْمُ مَعَ اسْتِحْسَانِ نَظَرِهِ مُلْتَذُّ اللَّمْسِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ: لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ) فَأَمَّا لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ فَفِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} (المائدة: 6) ، وَلِأَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ مِنَ الْأَجَانِبِ نَقَضَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَلَمْسِ الْفَرْجِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى (الْمَقْصُودِ فِي اللَّمْسِ) وَأَنَّهُ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا لِلْمَلْمُوسِ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ لَمْسِ بَدَنِهَا فِي حَمْلِهِ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لمس مَا لَا يُشْتَهَى مِنَ الْعَجَائِزِ وَالْأَطْفَالِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ الْعَامِّ. وَالثَّانِي: لَا يَنْقُضُهُ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ شَيْخًا قَدْ عُدِمَ الشَّهْوَةَ وَفَقَدَ اللَّذَّةَ لَمَسَ بَدَنَ امْرَأَةٍ شَابَّةٍ كَانَ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ وَجْهَانِ: فَأَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتَةِ فَنَاقِضٌ لِوُضُوئِهِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا يَنْقُضُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَالْعَجَائِزِ وَالْأَطْفَالِ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا تُشْتَهَى غَالِبًا لِنُفُورِ النَّفْسِ مِنْهَا. (فَصْلٌ: حكم الملامسة بين الذكرين، والخنثى المشكل) فَأَمَّا الْمُلَامَسَةُ بَيْنَ ذَكَرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمَلْمُوسُ كَبِيرًا لَا يُشْتَهَى كَرَجُلٍ لَمَسَ رَجُلًا فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ لِفَقْدِ اللَّذَّةِ غَالِبًا فِي لَمْسِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مُسْتَحْسَنًا كَرَجُلٍ لَمَسَ صَبِيًّا أَمْرَدَ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ كَالْمَرْأَةِ لِمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ شَهَوَاتُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ فَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهُ مُلْحَقًا بِعُمُومِ الْجِنْسِ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْبَهِيمَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطَّرَحٌ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ومقتضى الحجاج فعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هذا (لو لمس رجل) بَدَنَ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا وَالْوُضُوءُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشَّكِّ وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ خُنْثَى مُشْكِلٌ بَدَنَ امْرَأَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ خُنْثَى مُشْكِلٌ بَدَنَ خُنْثَى مُشْكِلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلَيْنِ. (فَصْلٌ) : حُكْمُ وُضُوءِ الملموس فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ النِّسَاءِ فَفِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ الْمَلْمُوسَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّ الْمَلْمُوسَ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمَسَتْ قَدَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا أَنْكَرَهُ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ يَخْتَصُّ بِاللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ كَلَمْسِ الذَّكَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَلْمُوسَ قَدِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَاللَّامِسِ لِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي الِالْتِذَاذِ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ فَمَنْ قَرَأَ: {أَوْ لَمَسْتُمْ} أَوْجَبَهُ عَلَى اللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ، وَمَنْ قَرَأَ: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} أَوْجَبَهُ عَلَى اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ , (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا لَمَسَتْ بَدَنَ الرَّجُلِ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ كَمَا قُلْنَا فِي لَمْسِ الرَّجُلِ بَدَنَ الْمَرْأَةِ قِيَاسًا عَلَى النَّصِّ، لأن كلما نَقَضَ طُهْرَ الرَّجُلِ نَقَضَ طُهْرَ الْمَرْأَةِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَفِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الرَّجُلِ الْمَلْمُوسِ أَيْضًا قولان: (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ومس الفرج بِبَطْنِ الْكَفِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَمَسُّ الْفَرْجِ هُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَقْسَامِ ما يوجب الوضوء وبه قال في الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عمر وابن عباس وأبو هريرة، وفي التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وسليمان بن يسار والزهري، وفي الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ بِهِ، قَالَ في الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو الدرداء وفي التابعين الحسن البصري وفي الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 " إِذَا انْتَشَرَ ذَكَرُهُ بِالْمَسِّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِلِانْتِشَارِ ". وَقَالَ مَالِكٌ: " إِنْ مَسَّهُ نَاسِيًا أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ " وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَ رجلٌ كَأَنَّهُ بدويٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا بضعةٌ مِنْكَ أَوْ قَالَ بضعةٌ مِنْهُ. وَهَذَا نَصٌّ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَسَّ ذَكَرَهُ بِعُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ وُضُوءُهُ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ بِرِجْلِهِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ بِضْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ذلك عن خمسة منهم. أحدهما: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَتَذَاكَرْنَا مَا يَكُونُ مِنْهُ الْوُضُوءُ فَقَالَ مَرْوَانُ وَمِنْ مَسِّ الذَّكَرِ الْوُضُوءُ فَقَالَ عُرْوَةُ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَرْوَانُ أَخْبَرَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ". وَالثَّانِي: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ ". وَالثَّالِثُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ". وَالرَّابِعُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ". وَالْخَامِسُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ أَحَدُهَا أَنْ قَالُوا: وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مِمَّا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ حَتَّى يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا أَصْلٌ بِخِلَافِكُمْ فِيهِ وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مَا (يَعُمُّ) بِهِ الْبَلْوَى عَامًّا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَآحَادًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ وَإِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عَامًّا فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا عَامًّا، ثُمَّ قَدْ خَالَفُوا هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيَانِ الْوَتْرِ وَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: الْمُعَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى حَدِيثِ بُسْرَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثَلَاثَةُ أَخْبَارٍ لَا تَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَحَدُهَا: حَدِيثُ بُسْرَةَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ. وَالثَّانِي: خَبَرُ الْحِجَامَةِ. وَالثَّالِثُ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قِيلَ الْمَحْكِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فِي حَدِيثِ بسرة غير هذا، قال رجاء بن المرجا الْحَافِظُ: كُنْتُ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى ين معين فاجتمعوا على صحة حديث بسر. فَإِنْ قِيلَ فَلَمَّا رَوَاهُ مَرْوَانُ لِعُرْوَةَ قَالَ لَهُ عُرْوَةُ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهَا وَأَنَا شَاهِدٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا حَرَسِيًّا فَأَتَى مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ "، وَالْحَرَسِيُّ شُرْطِيٌّ لَا يُقْبَلُ لَهُ حَدِيثٌ وَلَا يُحْتَجُّ عَنْهُ بِرِوَايَةٍ لِشُهْرَةِ فِسْقِهِ، قِيلَ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْحَرَسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَهْلَ عَدَالَةٍ وَأَمَانَةٍ. وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَقْنَعْ عُرْوَةَ بِخَبَرِهِ، وَيَسْتَظْهِرْ بِهِ عَلَى مَرْوَانَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُرْوَةَ لَقِيَ بُسْرَةَ وَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ وَلِمَ إِذَا وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي حُكْمٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَدِهَا بِالْقَدْحِ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا سِوَاهُ لَأَقْنَعَ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا نَسْتَعْمِلُهَا لِأَجْلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ وَعَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَلَا عَلَى غَسْلِ الْيَدِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِهِ ثُمَّ كَيْفَ يَجُوزُ مَعَ كَثْرَةِ أَخْبَارِنَا وَانْتِشَارِهَا وَصِحَّةِ طُرُقِهَا وَإِسْنَادِهَا يُعَارِضُونَهَا بِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلْنَا عَنْ قَيْسٍ فَلَمْ نَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِمَا يَجُوزُ لَهُ قبول خبره وقد عارضه من وصفناه ثقة، وَرَجَاحَتَهُ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ قَيْسٍ إِذَا سَلَّمْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَقَدُّمِهِ وَتَأْخِيرِ أَخْبَارِنَا لِأَنَّ قَيْسًا يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ مَسْجِدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم يرسمون مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَقُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَا نَنْقُلُ كَمَا يَنْقُلُونَ " قَالَ: " لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ "، فَجَعَلْتُ أَخْلِطُ الطِّينَ وَيَنْقُلُونَهُ، وَقَدْ رَوَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ أَيَّامِهِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: " هل هو إلا بضعةً منك " لا بنفي وجوب الوضوء عنه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَعْنًى يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ الطُّهْرَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مُلَاقَاةُ فَرْجٍ لَوْ قَارَنَهَا انْتِشَارٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ إِذَا فَقَدَتِ الِانْتِشَارَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا تِلْكَ الطَّهَارَةُ كَالْغُسْلِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُضُوءُ إِذَا قَارَنَهُ انْتِشَارٌ تَعَلَّقَ بِهِ الوضوء وإن خلا عن انتشار البول، وَلِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاقَاةِ كَالْغُسْلِ، وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ (يَتَعَلَّقُ بِهِ) فِي الْغَالِبِ خُرُوجُ خَارِجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ كَاللَّمْسِ مَعَ الِانْتِشَارِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْفَرْجِ إِذَا أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى كَانَ مِنْ جِنْسِهِ مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ قَيْسٍ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ ذَكَرِهِ بِغَيْرِ كَفِّهِ أَنَّهُ لَمْسٌ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ، ولا يقضي فِي الْغَالِبِ إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ. (مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ في مس الغير) . قال الشافعي: " من نفسه ومن غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَسَّ فَرْجَ غَيْرِهِ كَانَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ كَمَا لَوْ مَسَّ فَرْجَ نَفْسِهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من مس الفرج الوضوء " فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْغَيْرِ أَغْلَظُ مِنْ مَسِّ فَرْجِهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ أَحَقَّ، فَأَمَّا الْمَمْسُوسُ فَرْجُهُ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلْمُوسِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اسْمَ الْمُلَامَسَةِ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فانتقض وضوءهما لإطلاق اسم الملامسة عليهما، ومس الْفَرْجِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَاسِّ دُونَ الْمَمْسُوسِ، فَانْتَقَضَ وُضُوءُ الْمَاسِّ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ الْمَمْسُوسِ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ ينطلق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 (مسألة: حكم مس فرج الصغير) قال الشافعي رضي الله عنه: " مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ بين أن يمس الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، قَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَّ ذَبِيبَةَ الْحَسَنِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِمَسِّهِ الْوُضُوءُ كَسَائِرِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ فَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من مس الفرج الوضوء "، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ وَكَانَ مَسُّهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى فَرْجِ الْكَبِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَسٍّ لَوْ كَانَ مَعَ الْكَبِيرِ نَقَضَ الْوُضُوءَ، وَجَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَهُوَ أَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ مَسَّهُ وَصَلَّى قَبْلَ وُضُوئِهِ فَيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي الْحَالِ حَتَّى قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ اسْتَوَى فِيهِ ما يحل ويحرم، ألا ترى الملامسة، فلا فَرْقَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ لَمْسَ الصَّغِيرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قُلْنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُ. وَالثَّانِي: لَا يَنْقَضُ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الْمُلَامَسَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا يَكُونُ مِنَ الذكرين ولا بين الأنثين فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسُّ الْفَرْجِ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَاسْتَوَى بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَسَّ مِنْ ذَكَرِ الصَّغِيرِ الْأَغْلَفِ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الذَّكَرِ مَا لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ مَسَّهُ بَعْدَ قَطْعِهِ لَمْ ينتقض وضوءه لأنه باين من الذَّكَرِ فَلَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ الذَّكَرِ عَلَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ: حكم مس فرج الميت) قال الشافعي رضي الله عَنْهُ: " الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْوُضُوءُ ينقض بِمَسِّ فَرْجِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَمُبَاشَرَةِ مَسِّ فَرْجِهِ كَتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ فِي حُرْمَتِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كسر عظم الميت ككسر الْحَيِّ " وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ لَزِمَهُ الْغُسْلُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا وَإِنَّ حُكْمَ الْحَيَاةِ فِي ذَلِكَ جَارٍ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَسِّ فَرْجِهَا، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ ذَكَرًا مَقْطُوعًا فَفِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ. وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ لِفَقْدِ الْمَعْنَى وَهُوَ وُجُودُ اللَّذَّةِ غَالِبًا، وَخَالَفَ ذَكَرَ الْمَيِّتِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ. وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ ذَكَرَ حَيٍّ بِيَدٍ شَلَّاءَ كَانَ نَقْضُ الْوُضُوءِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَجْرِي عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ حُكْمُ مَنْ مَسَّ ذَكَرًا أَشَلَّ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَكَرُ الْحَيِّ الْأَشَلُّ بِأَخَفَّ مِنْ ذَكَرِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي ذَكَرِ الْمَيِّتِ وجهاً آخر أنه لا ينقض الوضوء. (مسألة: حكم مس المرأة لفرجها) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ ذَكَرِ الرَّجُلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ويلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ ذُكُورَهُمْ وَيُصَلُّونَ وَلَا يتوضؤون، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَهَذَا لِلرِّجَالِ، فَمَا بَالُ النِّسَاءِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا مَسَّتْ إِحْدَاكُنَّ فَرْجَهَا تَوَضَّأَتْ ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَأَيُّمَا امرأةٍ مَسَّتْ فرجها فلتتوضأ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 (فصل: أحكام الخنثى في النقض بالمس) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ كَذَكَرِ الرَّجُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْخُنْثَى وَمَسَائِلُهُ تُبْنَى عَلَى تَنْزِيلَيْنِ يَنْزِلُ فِي أَحَدِهِمَا رجلاً، وينزل في الآخر امرأة، فإذا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مَعًا لَزِمَ، وَإِنِ انْتَقَضَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَلْزَمْ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ إِلَّا بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَسَّ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ لَمَسَ بَدَنَهَا، وَلَوْ مَسَّ رَجُلٌ فَرْجَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فِيهِ فَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ فَرْجَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ لَمَسَتْ بَدَنَهُ، وَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ نَفْسِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا، وَلَوْ مَسَّهُمَا مَعًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ فَرْجَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهَ وَفَرْجَهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ. وَلَوْ لَمَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْجَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ أَحَدُهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ وَمَسَّ الْآخَرُ فَرْجَ صَاحِبِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ طُهْرَ أَحَدِهِمَا قَدِ انْتَقَضَ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُتَيَقَّنْ مَنِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ كَمَا لَوْ سُمِعَ صَوْتٌ مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ كَانَ مُوجِبًا لنقض الوضوء أَحَدِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الصَّوْتِ مِنْهُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْخُنْثَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فنزلهما (ها هنا) أَرْبَعَ تَنْزِيلَاتٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التَّنْزِيلَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُ أَحَدِهِمَا مُنْتَقَضًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ يَبُولُ مِنْهُمَا فَمَسَّ أَحَدَ ذَكَرَيْهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرُ رَجُلٍ بِخِلَافِ الْخُنْثَى، وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَهُ فِي فَرْجٍ لَزِمَ الْغُسْلُ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا بَلَلٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ لِلْحَدَثِ، وَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَحُكْمُ الذَّكَرِ جَارٍ عَلَى الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ زَائِدٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي نَقْضِ الطُّهْرِ حُكْمًا، فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ إِحْدَى فَرْجَيْهِ بَلَلٌ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّائِدَ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُمَا تَوَضَّأَ. (مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ مَسِّ الدُّبُرِ وَآرَاءُ الفقهاء فيه) . قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء كان الْفَرْجَ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا، أَوْ مَسَّ الْحَلْقَةَ نَفْسَهَا مِنَ الدُّبُرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ الدُّبُرِ كَمَسِّ الْقُبُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَقَالَ مَالِكٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَدَاوُدُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الدُّبُرِ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَخَصَّ الذَّكَرَ بِالْحُكْمِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوءُ "، وَاسْمُ الْفَرْجِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبِيلَيِ الْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسُّهُ حَدَثًا كَالْقُبُلِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الدُّبُرِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسِّ الْحَلْقَةِ دُونَ مَا قَارَبَهَا وَاتَّصَلَ بِهَا، وَهَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ يَتَعَلَّقُ بِهِ دُونَ مَا قَارَبَهُ مِنَ الْعَانَةِ أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَسُّ الْخُصْيَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَالذَّكَرِ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ ". هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي مَسِّ الْفَرْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُرْوَةَ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجَيْنِ قُبُلًا وَدُبُرًا نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ نَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّهِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِذَا مَسَّهُ بِظَاهِرِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَمَا لَوْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: " إِذَا مَسَّهُ بِأَحَدِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وأحمد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ " وَظَاهِرُ الْيَدِ مِنَ الْيَدِ، وَلِأَنَّهُ مَسَّ فَرْجَهُ بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ وُضُوءَهُ كَمَا لَوْ مَسَّ رَاحَتَهُ، وَجَعَلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى الْيَدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ ". قال الشافعي رضي الله عنه: وَالْإِفْضَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ. وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْيَدُ فِي مَسِّهِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ دُونَ سَائِرِ الْجَسَدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ اللَّذَّةِ الْمُقْتَضِي إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ وإما لأن الْيَدُ آلَةُ الطَّعَامِ فَخِيفَ تَنَجُّسُهَا بِآثَارِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُخْتَصٌّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا كَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْيَدِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِيهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ، فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُ نَقْضِ الْوُضُوءِ فِي مَسِّ الْفَرْجِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بُطُونِ الرَّاحَةِ أَوْ بُطُونِ الْأَصَابِعِ لِاسْتِوَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِمَسِّهِ، فَأَمَّا مَسُّهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ أَوْ بَاطِنِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى بَاطِنِ الْكَفِّ وَأَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِمَسِّ الْفَرْجِ بِهَا لِأَنَّهَا بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَشْبَهُ مِنْهَا بِظَاهِرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ وَأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْمَسِّ بِهَا لِفَقْدِهَا اللَّذَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ إِنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِمَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ مُسْتَقْبِلًا لِعَانَتِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مُسْتَقْبِلًا بِظَاهِرِ كَفِّهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ مُرَاعَاةً لِلْأَغْلَبِ فِي مُقَارَنَةِ الْبَاطِنِ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لاستواء المعنى في الحالتين. فَأَمَّا إِنْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ فِي كَفِّهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّ الزَّائِدَ نَادِرٌ فَلَمْ يُسَاوِ حُكْمَ الْمُعْتَادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْيَدِ فَأُلْحِقَ حُكْمُهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لا ينقض الوضوء) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ ذَلِكَ مِنْ بهيمةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ، وكل ما خرج من دبرٍ أو قبلٍ من دودٍ أو دمٍ أو مذيٍ أو وديٍ أو بللٍ أو غيره فذلك كله يوجب الوضوء كما وصفت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي تَرْجَمَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ هَذَا الْمَذْهَبُ لَهُ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّهُ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ اللَّيْثِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ مَسَّ فَرْجَ بَهِيمَةٍ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَوْلِهِ لَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ لَا يَنْقُضُ طُهْرًا وَلَا يُوجِبُ وُضُوءًا. عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي أحوال (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا اسْتِنْجَاءَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَ منه ريحٌ. (قال) ونحب للنائم قاعداً أن يتوضأ ولا يبين أن أوجبه عليه لما روى أنس بن مالك أن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون أحسبه قال قعوداً وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام قاعداً ويصلي فلا يتوضأ (قال المزني) قد قال الشافعي لو صرنا إلى النظر كان إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تَوَضَّأَ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كان (قال المزني) قلت أنا وروي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 صفوان بن عسال أنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا من جنابةٍ لكن من بولٍ وغائطٍ ونومٍ (قال المزني) فلما جعلهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بأمي هو وأمي، في معنى الحدث واحداً استوى الحدث في جميعهن مضطجعاً كان أو قاعداً ولو اختلف حدث النوم لاختلاف حال النائم لاختلف كذلك حدث الغائط والبول ولأبانه عليه السلام كما أبان أن الأكل في الصوم عامداً مفطراً أو ناسياً غير مفطرٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ " الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ استطلق الوكاء " مع ما روي عن عائشة من استجمع نوماً مضطجعاً أو قاعداً وعن أبي هريرة من استجمع نوماً فعليه الوضوء وعن الحسن إذا نام قاعداً أو قائماً توضأ (قال المزني) فهذا اختلاف يوجب النظر وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي النَّظَرِ فِي مَعْنَى من أغمي عليه كيف كان توضأ فكذلك النائم في معناه كيف كان توضأ واحتج في الملامسة بقول الله جل وعز {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} وبقول ابن عمر قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة وعن ابن مسعود قريبٌ من معنى قول ابن عمر واحتج في مس الذكر بحديث بسرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ " وقاس الدبر بالفرج مع ما روي عن عائشة أنها قالت إذا مست المرأة فرجها توضأت وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قومٍ عليه " لكانت الأمة في معنى العبد فكذلك الدبر في معنى الذكر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَمِعَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَقُمْ أحدٌ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ عَزَمْتَ عَلَى جَمَاعَتِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنَا مَعَكُمْ ثُمَّ قام فتوضأ وتوضؤوا وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ جَمِيعًا وَلَمْ يَسْتَنْجُوا فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ. (مَسْأَلَةٌ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ مخرج الحدث لا ينقض الوضوء) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ مِنْ قيءٍ أَوْ رعافٍ أَوْ دمٍ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ فَلَا وُضُوءَ فِيِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِي الْجَشَأِ الْمُتَغَيِّرِ وَلَا الْبُصَاقِ لِخُرُوجِهِمَا مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ فَاهُ وَمَا أَصَابَ الْقَيْءُ مِنْ جَسَدِهِ بوجهه فخرج منها دم فدلكه بين إصبعيه ثم قام إلى الصلاة ولم يغسل يده وعن ابن عباس اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك وعن ابن المسيب أنه رعف فمسح أنفه بصوفةٍ ثم صلى وعن القاسم ليس على المحتجم وضوء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا كَالدُّمُوعِ وَالْبُصَاقِ أَوْ كَانَ نَجِسًا كَالْقَيْءِ وَدَمِ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالرُّعَافِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ انْتَقَضَ بِهَا الْوُضُوءُ إِلَّا الْقَيْءُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ زفر بن الهذيل، واستدلوا بما روى ابن جريح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ " وَبِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوُضُوءُ مِنْ كُلِ دمٍ سائلٍ ثَلَاثًا وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ الله بن طاووس عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ تَوَضَّأَ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ. وَبِمَا رَوَى مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاءَ فَأَفْطَرَ قَالَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ثَوْبَانُ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 سَلْمَانَ رَعَفَ فِي حَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا سَلْمَانُ أَحْدِثْ وُضُوءًا وَهَذَا أَمْرٌ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ خَرَجَتْ إِلَى مَحَلٍّ يَلْزَمُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَدَنِ كَمَا أَنَّ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ يَكُونُ بِدَاخِلٍ إِلَى الْبَدَنِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْفِطْرُ بَيْنَ وُصُولِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حدثٍ، وَالْحَدَثُ أن يفسوا أَوْ يَضْرِطَ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ انْتِفَاءَ الْوُضُوءِ عَمَّا سِوَاهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى ثَوْبَانُ قَالَ قَاءَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ وَضُوءًا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ، قَالَ: " لَوْ كَانَ مِنْهُ وضوءٌ لَوَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَرَوَى عقيل بن جابر عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكَلَانِيَةٍ فِي اللَّيْلِ فَقَامَ رجلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِفَمِ الشِّعْبِ فَصَلَّى فَرُمِيَ بسهمٍ فَنَزَعَهُ، وَرُمِيَ بسهمٍ آخَرَ حَتَّى رُمِيَ بِثَلَاثَةِ أسهمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قِيلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الدَّمِ وَهُوَ عِنْدَكُمْ وَاجِبٌ وَالصَّلَاةُ مَعَهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَمِهِ وَيَسِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْكَثْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْهَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْقُضَ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى الدُّودِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَخْرَجِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِكَثِيرِهِ كَالدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلِيلِ الْقَيْءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكَثِيرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 كَإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْقَيْءِ إِذَا ذَرَعَهُ طَرْدًا، وَإِذَا اسْتَدْعَاهُ عَكْسًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ من مخرج الحديث فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ كَالْغُسْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْوُضُوءِ اسْتِحْبَابًا. وَإِمَّا عَلَى غَسْلِ مَا أَصَابَ الْفَمَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلَسَ وَهُوَ الرِّيقُ الْحَامِضُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ وَلَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وِفَاقًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ، فَالرَّاوِي يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَلْقَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ فَصَارَ مُنْقَطِعًا يَحْمِلُ عَلَى غَسْلِ الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَاوِيهِ عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَالثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلْ أَثَرَ الْمَحَاجِمِ عَنْكَ وَحَسْبُكَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ فِيهِ سَاقِطٌ لِأَنَّ ثَوْبَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَبَّ عَلَيْهِ وَضُوءًا لِغَسْلِ فَمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَدَثٍ كَانَ بِهِ أَوْ لِاسْتِحْبَابِهِ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ثَوْبَانَ نَصًّا خِلَافَهُ، وحديث سَلْمَانَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مُنْتَقِضٌ بِالْقَيْءِ إِذَا لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَانَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضَانِ الْوُضُوءَ كَانَ غَيْرُهُمَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ بِالدَّاخِلِ مِنْ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَكْسِ وَلَا نَقُولُ بِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ بِقَلِيلِهِ أَفْطَرَ بِكَثِيرِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِقَلِيلِهِ لَمْ ينتقض بكثيره. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ فِي قَهْقَهَةِ مُصَلٍّ وَلَا فِيمَا مَسَّتِ النار وضوءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أكل كتف شاة ٍ فصل ى ولم يتوضأ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْقَهْقَهَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَالثَّانِيَةُ: فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَعَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا وَنَحْنُ نُفْرِدُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ فِيهِمَا: أَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَالضَّحِكُ فَقَدْ يَتَنَوَّعُ الضَّحِكُ نَوْعَيْنِ: تَبَسُّمٌ وَقَهْقَهَةٌ، فَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الْوُضُوءِ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَاخْتَلَفُوا فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ أَقْبَلَ رجلٌ ضريرٌ فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ فَضَحِكْنَا مِنْهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا. وَرَوَاهُ أبو حنيفة عن منصور بن زاذان عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، وَبِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَنَسٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَالرِّيحِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ عِبَادَةٌ وَرَدَتْ مِنَ الْأَكْثَرِ إِلَى الْأَقَلِّ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَجَازَ أَنْ تُبْطِلَهَا الْقَهْقَهَةُ كَالصَّلَاةِ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الضَّاحِكُ فِي صَلَاتِهِ وَالْمُتَكَلِّمُ سَوَاءٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ طَرْدًا وَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ عَكْسًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِكَثِيرِهِ كَالْمَشْيِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ ضَعِيفًا، وَمَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الَّذِي أَسْنَدَهُ أبو حنيفة عَنْهُ تَابِعِيٌّ وَلَا صُحْبَةَ لَهُ، وَكَانَ حَدِيثُهُ مُرْسَلًا، ثُمَّ يُحْمَلُ إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ زَجْرًا وَتَغْلِيظًا وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُمْ صَوْتًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ وَأَنَسٍ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ ضَعِيفًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ وَكَانَ ضَعِيفًا مُنْكَرَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَانَةٍ مِنَ الثِّقَةِ وَالدِّينِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْوِي بِالْبَلَاغَاتِ وَالْمُرَاسَلَاتِ، وَيَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَلَمْ يَلْقَ بَدْرِيًّا غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَمِعَ مِنْهُ حديثاً واحداً في الوضوء وهو صغير، وكان تأويل ذلك منه أنه بَلَغَنِي عَنْ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رِوَايَتَهُ خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ فقد قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَخْبَارُ الرِّيَاحِيِّ رِيَاحٌ كُلُّهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حَدِّثُونِي عَمَّنْ شِئْتُمْ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا، ثُمَّ وَلَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من غضب فليتوضأ " وروى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ " وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَمُنْتَقَضٌ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، أَوْ أَنَّ قَلِيلَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ، فَبَطَلَتْ بِالْقَهْقَهَةِ وَلَيْسَ كذلك الوضوء. (فصل) : فأما ال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ فلا ينقض الوضوء بحال، وبه قال في الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَكَافَّةُ التَّابِعِينَ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِهِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ من أكل كل ما سمته النار، وبه قال الجماعة مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَأَبُو طَلْحَةَ وَعَائِشَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " توضؤوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَوْ عَلَى ثورٍ مِنْ أقطٍ " وَالثَّوْرُ هُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكَلَ كَتِفَ شاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ ثُمَامَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الحرث بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سبعةٍ أَوْ سَادِسَ ستةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 في دار رجلٍ فناداه بالصلاة، فخرجنا فمرننا برجلٍ وَبُرْمَتُهُ عَلَى النَّارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَطَابَتْ بُرْمَتُكَ فَقَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَتَنَاوَلَ مِنْهَا بَضْعَةً، فَلَمْ يَزَلْ يَعْلُكُهَا حَتَّى أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أُمِّ حَكِيمِ بِنْتِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكتفٍ، فجعلت أسحلها له فأكلها ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَمَعْنَى أَسْحَلُهَا أَيْ أَكْشِطُ مَا عَلَيْهَا، وَمِنْ هَذَا سَاحِلُ الْبَحْرِ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ سَحَلَهُ، وَرَوَى شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كان آخر الأمرين من رسول الله (ترك الوضوء وما غَيَّرَتِ النَّارُ) فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَنْسُوخٌ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ بِالنَّارِ وَإِنَّا لَنَدَّهِنُ بِالدُّهْنِ وَقَدْ طُبِخَ عَلَى النَّارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا ابْنَ أَخِي إِذَا سَمِعْتَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ، فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي تَخْصِيصِهِ لَحْمَ الْجَزُورِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ فَمُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الوضوء من لحم الإبل فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحم الغنم فقال: تتوضؤوا مِنْهَا، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ: لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ: صَلُّوا فِيهَا فِإِنَّهَا بركةٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِرْشَادِ وَفَرْقٌ بَيْنَ لُحُومِ الْغَنَمِ وَلُحُومِ الْإِبِلِ لِمَا فِي لُحُومِ الْإِبِلِ مِنْ شِدَّةِ السَّهُوكَةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَبَارِكِ الْإِبِلِ وَمَرَابِضِ الْغَنَمِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِي الإبل من النفور، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: فكلما أوجب الوضوء فهو بالعهد والسهو سواءٌ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ فِي الْأَحْدَاثِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ بَيْنَ عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا وَالْقَصْدِ وَالْخَطَأِ فِيهَا لِأَنَّ النَّوْمَ مُوجِبُ الْوُضُوءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَالِاحْتِلَامُ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَامِدًا وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَبِالِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَهُوَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ. (مَسْأَلَةٌ: الْيَقِينُ يَزُولُ بِالشَّكِّ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ اسْتَيْقَنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوِ اسْتَيْقَنَ الْحَدَثَ ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَكِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، أما إِذَا تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ بَعْدَهُ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَأْخُذُ بِالشَّكِّ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ أَمْ لَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَبْنِي عَلَى الشَّكِّ وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ مَا لَمْ يكثر ذلك عليه. وقال الحسن البصري: وإذا طَرَأَ الشَّكُّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَنَى عَلَى الشَّكِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِطُهْرٍ لَا شَكَّ فِيهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الشَّكِّ لِتَكُونَ الطَّهَارَةُ مُؤَدَّاةً بِيَقِينٍ كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ جَاءَ الشيطان فأنشر كما ينشر الرجال بِدَابَّتِهِ فَإِذَا سَكَنَ لَهُ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَضْرَطَ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ يِفْتِنُهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَكُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً ولأن طرؤ الشك على اليقين يوجب البقاء عَلَى الْيَقِينِ كَمَا لَوْ طَرَأَ شَكُّ الطُّهْرِ عَلَى الْحَدَثِ بِيَقِينٍ. فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي تَغْلِيبِ الشَّكِّ لِيَقْضِيَ زَمَانَ الْمَسْحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُغَلَّبِ الشَّكُّ فِيهِ وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ فَمَا لَمْ يَنْقُضِ الصِّفَةَ وَهُوَ بَقَاءُ الزَّمَانِ كَانَ الظَّاهِرُ مَانِعًا مِنْ زَوَالِ الْمَسْحِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الشَّكِّ، وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّكُّ فِي الصلاة وفي الطلاق ملغى وفي اليقين معتبر - والله أعلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 باب ما يوجب الغسل قال الشافعي: " أخبرنا الثقة هو الوليد بن مسلم عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ " فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاغْتَسَلْنَا. وَرَوَاهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا التقى الختانان وجب الغسل ". (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا موسى بن عامرٍ الدمشقي وغيره قالوا حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في هذا الحديث مثله. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَمَّا فَرَغَ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: شَيْئَانِ مِنْهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَشَيْئَانِ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ، دُونَ الرِّجَالِ، فَأَمَّا الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ: فَأَحَدُهُمَا: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنْزَالُ الْمَنِيِّ، فَأَمَّا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَمُوجِبٌ لِلْغُسْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ قَوْلُ الأكثر من الصحابة والجمهور والتابعين وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا غُسْلَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي الِاغْتِسَالَ مِنَ الْإِنْزَالِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْزَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَبِمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ، فَقَالَ: يَتَوَضَّأُ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى يُكْسِلُ: يَقْطَعُ جِمَاعَهُ. وَبِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَسِلَ أَحَدُكُمْ أَوْ أَقْحَطَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ " قَوْلُهُ أَقْحَطَ أَيْ لَمْ يُنْزِلْ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ الْشُعَبِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ أَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ مُيَسَّرٍ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يُفْتُونَ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً، رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بدو الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ بَعْدُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رافع عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ". فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا رُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَرُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَمَّنْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 يَغْتَسِلُ فَقُلْتُ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ يَقُولُ لَا يَغْتَسِلُ فَقَالَ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ نَزَعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَيْ: رَجَعَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الصَّحَابِيُّ عَنْ نَصٍّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ، وَيَتَأَوَّلُهَا فِيمَنْ هَمَّ بِالْجِمَاعِ فَأَكْسَلَ عَنِ الْإِيلَاجِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ انْتِشَارِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ رُجُوعِ مَنْ خَالَفَ مَعَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ فَاسِدٌ، وَإِنْ كان لولا ذلك محتملاً. (مسألة) : قال الشافعي: " وإذا التقى الختانان وَالْتِقَاؤُهُمَا أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا فَذَاكَ الْتِقَاؤُهُمَا كَمَا يُقَالُ الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) : الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يُحَاذِيَ خِتَانُ الرَّجُلِ خِتَانَ الْمَرْأَةِ لَا أَنْ يُصِيبَ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ مستعلٍ وَيَدْخُلُ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْ ختان المرأة. (قال المزني) : وسمعت الشافعي يقول: العرب تقول إذا حاذى الفارس الفارس التقى الفارسان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ مَا بَعْدَ بَشَرَةِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمَقْطُوعِ في الختانة، وَالْحَشَفَةُ، هِيَ الْجِلْدَةُ الْمَقْطُوعَةُ فِي الْخِتَانِ، وَأَصْلُهَا عِنْدَ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ خِتَانِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ جِلْدَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ تُقْطَعُ فِي الْخِتَانَةِ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا أَسْفَلَ الْفَرْجِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَفَوْقَهُ ثُقْبَةٌ هِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَعَلَيْهِ جِلْدَةٌ تنطبق عليها، وهي خِتَانِ الْمَرْأَةِ وَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تَقْطَعُهَا الْخَافِضَةُ فِي الْخِتَانَةِ وَقَدْ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ، الْفَرْجَ بِعَقْدِ الْأَصَابِعِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَعَقْدُ الثَّلَاثِينَ هِيَ صُورَةُ الْفَرْجِ وَعَقْدُ الْخَمْسَةِ بَعْدَهَا فِي أَسْفَلِهَا هِيَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ، وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْخِتَانُ خَارِجٌ مِنْهُ فِي أَعْلَى الْفَرْجِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ هُوَ أَنْ تَغِيبَ بَشَرَةُ الذَّكَرِ فِي مَدْخَلِهِ مِنَ الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ خِتَانُ الرَّجُلِ مُحَاذِيًا لِخِتَانِ الْمَرْأَةِ، فَذَلِكَ الْتِقَاؤُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَإِذَا انْتَهَى وُلُوجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُنْزِلَا، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ مِنْ حَدِّ الْخِتَانِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ إنه لا غسل عليها إِلَّا بِإِيلَاجِ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ كُلِّهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ مَتَى أَوْلَجَ مِنْ بَقِيَّتِهِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ الَّتِي كَانَ يَلْتَقِي مَعَ سَلَامَتِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَالْمَحْكِيُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا وَصَفْنَا فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَشَفَةُ الرَّجُلِ بَاقِيَةً لَمْ تُقْطَعْ فِي الْخِتَانِ فَأَوْلَجَهَا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصِيرُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ الْحَشَفَةِ مَانِعًا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وُجُوبُ الْغُسْلِ وَلَكِنْ لَوْ لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ إِلَى حَدِّ الْخِتَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ إِنْزَالٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ مَسْتُورًا بِالْحَشَفَةِ وَأَنَّهُ يُولِجُ الذَّكَرَ وَالْخِرْقَةَ مَعَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُولِجًا فِي خِرْقَةٍ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ اللَّذَّةِ وَخَالَفَ الْحَشَفَةَ لِأَنَّهَا مِنَ الذَّكَرِ، وَلَا يَمْنَعُ اللَّذَّةَ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يُفَصِّلُ حَالَ الْخِرْقَةِ فَيَقُولُ: " إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ فَلَا غُسْلَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ وَجَبَ الْغُسْلُ ". (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُولِجَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أو يتلوط في وجوب الغسل عليهما الولوج الذَّكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ بَهِيمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُولِجٌ فِي فَرْجِ مَاشِيَةٍ فَأَشْبَهَ قُبُلَ الْمَرْأَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة مِنِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِقُبُلِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ كَمَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ مُنْدَمِلٍ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ وَأَوْلَجَ فِي فَرْجِهِ ذَكَرَ رَجُلٍ وَجَبَ الْغُسْلُ يَقِينًا، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ وَجَبَ الْغُسْلُ وَلَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ، وَإِذَا أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا لَا يَلْتَقِي مَعَهُ الْخِتَانَانِ فَعَلَيْهِمَا الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ لِحُصُولِ الْمُلَامَسَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا حَصَلَ عَلَى الذَّكَرِ مِنْ بَلَلِ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَوْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حُكِيَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْمَنِيِّ. قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ وَجَبَ الغسل عليهما، وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ هُوَ الثَّانِي مِمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَأَيُّهُمَا أَنْزَلَهُ مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ يُوجِبُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ، وَمِنِ احْتِلَامٍ لَا مِنْ جماعٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيُتَمِّمُ صَوْمَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ حَتَّى يَخْرُجَ دَافِقًا لِلشَّهْوَةِ وَلَا يَجِبُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلْحَاقًا بِالْمَذْيِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ إِذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ، أَوْجَبَهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنْزَالُ مَنِيٍّ فَأَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ كَالِاحْتِلَامِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غسلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ "؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نعم إذا رأت الماء ". (فصل: إيجاب الغسل بظهور المني) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ إِذَا أَنْزَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَكَرِهِ وَظَهَرَ، أَوْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فإذا انْحَدَرَ مِنَ الصُّلْبِ إِلَى إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ، وَلَوْ أَنْزَلَتِ الْمَرْأَةُ المني إلى فرجها ولم يخرج منه نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ داخل فرجها لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا، لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ فجرى مجرى داخل الذكر، فإن كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ دَاخِلِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ الظَّاهِرِ. (فَصْلٌ) : فَلَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ رَجُلٍ فَخَرَجَ منه المني، فلم يَنْزِلْ مِنَ الذَّكَرِ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ " فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ " فِيمَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلٍ مُسْتَحْدَثٍ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَارِجُ لَمْ يَصِرْ مَنِيًّا مُسْتَحْكِمًا فَلَا غُسْلَ، فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فَرَأَى إِنْزَالَ الْمَنِيِّ عَنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِهِ فِي نَوْمِهِ، فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ أَحَسَّ فِي النَّوْمِ بِالْإِنْزَالِ وَلَمْ يَرَ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ شَيْئًا، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَذَاكَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ الِاحْتِلَامَ فَقَالَ: " يَغْتَسِلُ ". وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ الْبَلَلَ قَالَ: " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ". فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ قَالَ: " نَعَمِ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. فَلَوْ رَأَى الرَّجُلُ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ وَلَمْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْإِنْزَالَ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حَالُ ذَلِكَ الثَّوْبِ مِنْ أَنْ يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَبِسَهُ غَيْرُهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ، وَلَا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ غُسْلٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ لَا يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ غَيْرُهُ مُنْذُ غَسَلَهُ، وَقَدْ كَانَ يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَاقَى مَنِيًّا عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ فَتَعَدَّى عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ حَاكَّهُ رَجُلٌ أَنْزَلَ فَوَقَعَ مَنِيُّهُ عَلَى ثَوْبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ دَاخِلِ الثَّوْبِ فَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مِنْهُ، وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ أَقْرَبِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ إِنْزَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَامَ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ شَيْءٍ مِمَّا صَلَّى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ آخِرِ صَلَاةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُغَلَّبُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا بُوشِرَتِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْفَرْجِ فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّ الرَّجُلِ إِلَى فَرْجِهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ لَوْ أَلْقَتْهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا أَلْقَتْهُ بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ لَزِمَهَا الْغُسْلُ قِيَاسًا عَلَى إِنْزَالِ مَاءِ نَفْسِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ وُجُوبُ الْغُسْلِ كَمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ دَوَاءً، فَأَلْقَتْهُ أَوْ لَمْ تُلْقِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عليهما وماء الرجل الذي يوجب الغسل هو المني الأبيض الثخين الذي يشبه رائحة الطلع فمتى خرج المني من ذكر الرجل أو رأت المرأة الماء الدافق فقد وجب الغسل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ مُخَالِفٌ لِمَنِيِّ الْمَرْأَةِ فِي صِفَتِهِ، فَمَنِيُّ الرَّجُلِ هُوَ ثَخِينٌ أَبْيَضُ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ هُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمَا الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَجْرِبَتِهِمَا عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 رُوِيَ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ "، فَقَالَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وماء المرأة أصفر رقيق فَأَيُّهُمَا سَبَقَ أَوْ عَلَا أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ، وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ الْمَنِيُّ بِحُدُوثِ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلَافِ غِذَاءٍ أَوْ كَثْرَةِ جِمَاعٍ فَصَارَ رَقِيقَ الْقَوَامِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إِلَى صُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَتِهِ وَقَلَّ مَا يَخْفَى عَلَى مُنْزِلِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ لَزِمَهُ الْغُسْلُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَاطَ كَانَ أَوْلَى. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمَذْيُ فَهُوَ أَبْيَضُ رَقِيقٌ لَا يَنْدَفِقُ جَارِيًا كَالْمَنِيِّ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ عِنْدَ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ، وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ. رَوَى حُصَيْنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَفْعَلْ إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا نَضَحْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ. وروى الحارث بن العلاء بن الحارث عن حرام بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَعَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ. فَقَالَ: ذَاكَ الْمَذْيُ وَكُلُّ فحلٍ يُمْذِي فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي السُّوَعَاءِ الْوُضُوءُ يَعْنِي: الْمَذْيَ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ ". فأما الْوَدْيُ فَهُوَ كَدِرٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ قَطْرَةً أَوْ قَطْرَتَيْنِ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ كَالْمَذْيِ فَصَارَتِ الْمَائِعَاتُ الْخَارِجَةُ مِنَ الذَّكَرِ غَيْرُ الْبَوْلِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةً، الْمَنِيُّ وَهُوَ طَاهِرٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالْمَذْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَالْوَدْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، فَلَوْ شَكَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَدْيٌ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِلشَّكِّ فِيهِ، وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنِيًّا طَاهِرًا وَإِنِ احْتَاطَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَغَسَلَهُ وَاغْتَسَلَ كان أولى وأفضل. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقبل البول وبعده سوادٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَنْزَلَ فاغتسل ثم أنزل ثانية اغتسل غسلاً ثانياً، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ الثَّانِي قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بعده وقال مالك: الغسل الأول يجزيه وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِنْزَالِ الثَّانِي سواء كان الإنزال قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَهُ إِذَا كَانَ سببهما واحداً وقال الأوزاعي: إن أَنْزَلَ ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وإن أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْبَوْلِ هُوَ مِنَ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ وَكَفَاهُ الْغُسْلُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَ الْبَوْلِ هُوَ مَنِيٌّ ثَانٍ فَلَزِمَهُ غُسْلٌ ثَانٍ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أنزل ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ اغْتَسَلَ لَهُ غُسْلًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ مِنْ إِنْزَالٍ عَنْ شَهْوَةٍ وَإِنْ أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ لَمْ يَغْتَسِلْ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ لِعُمُومِ قوله " الماء من الماء " ولأنه إنزال فاقتضى أن يجب به الاغتسال كالإنزال الأول، ولأن ما أوجب الغسل في الأولة أَوْجَبَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَالْجِمَاعِ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الوضوء مُوجِبُهُ كَذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَتَغْتَسِلُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ وَالنَّفْسَاءُ إِذَا ارْتَفَعَ دَمُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَأَمَّا الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ. فَأَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: انْقِطَاعُ دَمِ النِّفَاسِ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنِ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَآتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهَ) {البقرة: 222) . يَعْنِي بقوله: " فإذا تطهرن ": يَعْنِي: " اغْتَسَلْنَ " وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي، فَأَمَّا دم النفاس فلما كان حُكْمِ دَمِ الْحَيْضِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ، فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْهُ إِجْمَاعٌ فَلَوْ وَلَدَتِ الْحَامِلُ وَلَدًا لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ مُوجِبِهِ مِنَ الدَّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهَا الْغُسْلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) {الطارق: 5، 6، 7) . يَعْنِي: أصلاب الرجال وترائب النِّسَاءِ، وَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} (الإنسان: 2) . يَعْنِي: اخْتِلَاطًا، فَإِذَا وَلَدَتْ وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا فَقَدْ أَنْزَلَتْ وَالْإِنْزَالُ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَكَذَلِكَ وِلَادَتُهَا مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ بِالْغُسْلِ حِينَ أَسْلَمَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالْغُسْلِ غَيْرَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ جُنُبًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ. فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يقول: لا حكم لجنابة، وما مضى عليه من الشرك مغفور عَنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ وجمهور أصحابنا جَنَابَتِهِ ثَابِتَةٌ وَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَفِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 باب غسل الجنابة (قال الشافعي) : يَبْدَأُ الْجُنُبُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ ثُمَّ يَغْسِلُ مَا بِهِ مِنَ الْأَذَى ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ العشر في الإناء يُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حثياتٍ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ حَتَى يَعُمَّ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَشَعْرِهِ وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ. وروي نحو هذا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) : فإن ترك إمرار يديه على جسده فلا يضره وفي إفاضة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الماء على جلده دليلٌ أنه إن لم يدلكه أجزأه وبقوله: " إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك " (قال) : وفي أمره الجنب المتيمم إذا وجد الماء اغتسل ولم يأمره بوضوءٍ دليلٌ على أن الوضوء ليس بفرضٍ. (قال) : وإن ترك الوضوء للجنابة والمضمضة والاستنشاق فقد أساء ويجزئه ويستأنف المضمضة والاستنشاق وقد فرض الله تبارك وتعالى غسل الوجه من الحدث كما فرض غسله مع سائر البدن من الجنابة فكيف يجزئه ترك المضمضة والاستنشاق من أحدهما ولا يجزئه من الآخر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَيَنْطَلِقُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ شَيْئَيْنِ: إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَسُمِّيَ جُنُبًا لِأَنَّهُ يَتَجَنَّبُ الصَّلَاةَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْمَسْجِدَ، أَيْ: لِيَبْعُدَ مِنْهُ وَيَعْتَزِلَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ، وَالْجُنُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ) {النِّسَاءِ: 36) . أَيِ: الْجَارُ الْبَعِيدُ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا، هُوَ الْجَارُ الْمُشْرِكُ: سُمِّيَ جُنُبًا لِبُعْدِ دِينِهِ مِنْ دِينِكَ وَقَالَ أَعْشَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: (أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جنابةٍ ... فَكَانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِيَ جَامِدَا) يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَنْ جَنَابَةٍ عَنْ بُعْدٍ وَغُرْبَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ؛ (وَلَمْ أَرَ مِثْلَيْنَا خَلِيلَيْ جنابةٍ ... إِسْدًا عَلَى رَغْمِ الْعَدُوِّ وَتَصَافَيَا) وَقَدْ تَقَدَمَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي تَفْصِيلِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالدَّلِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِري سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) {النِّسَاءِ: 43) . وَرَوَى خُلَيْدٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) {الطَّارِقِ: 9) . قَالَ: الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَأَدَاءُ الأمانة كفارةٌ ما بينها " فَقُلْتُ: وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ " فَقَالَ: " غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جَنَابَةٌ ". (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَكَمَالُ الْغُسْلِ مِنْهَا فَرْضًا وَسُنَّةً أَنْ يَفْعَلَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ لِرِوَايَةِ النَّخَعِيِّ عَنِ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ بِكَفَّيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ مَرَافِقَهُ فَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغْسِلَ مَا بِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَأَذَى يَعْنِي بِالنَّجَاسَةِ الْمَذْيَ وَبِالْأَذَى الْمَنِيَّ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَتْ لَهُ غُسْلًا يَغْتَسِلُ بِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ صَبَّ عَلَى فَرْجِهِ بِشِمَالِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَغَسَلَهَا. الرَّابِعُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ كَامِلًا لِرِوَايَةِ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رأسه ثلاث مراتٍ ونحن نفيض على رؤوسنا خَمْسًا مِنْ أَجْلِ الضُّفُرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وَالْخَامِسُ: أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ بِبَلَلِ أَصَابِعِهِ أُصُولَ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ شَعَرَهُ حَتَى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْبَشَرَةَ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَحْثِيَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُقَدَّمِ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَبْدَأَ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفِّهِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ. وَالثَّامِنُ: أَنْ يمر بيديه عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جنابةٍ فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنْقَاءَ الْبَشَرَةِ إِنَّمَا يكون بالدلك والإمراد. والتاسع: إيصال الماء إلى جميع شعره وبشره لقوله عليه السلام: بلوا الشعر وانقوا البشرة. وَالْعَاشِرُ: نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْأَخْبَارِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَيَسْتَدِيمَهَا إِلَى إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، وَالْأُخْرَى أَنْ يَنْوِيَ مَعَ ابْتِدَاءِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ بِهَا فِعْلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ مِنْ سُنَّةِ غُسْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْوُضُوءِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمَفْرُوضُ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ، فَقَدْ تَنْقَسِمُ هَذِهِ الْعَشْرَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فَرْضًا، وَقِسْمٌ يَكُونُ سُنَّةً، وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَأَمَّا الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ الْغُسْلُ مِنْهُ بِحَالٍ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: النِّيَّةُ. وَالثَّانِي: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعَرِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْغُسْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بِحَالٍ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَهِيَ التَّسْمِيَةُ وَغَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا وَتَخْلِيلُ الشَّعْرِ وَالْإِفَاضَةُ عَلَى الرَّأْسِ ثَلَاثًا وَالْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ وَإِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْجَسَدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَسَدِ فَرْضٌ، كَمَا أَنَّ إِمْرَارَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ فَرْضٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي ذر: " إذا وجدت الماء فأمسه جِلْدَكَ " وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْجَسَدِ كَالْوُضُوءِ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ سَقَطَ فَرْضُ الْجَنَابَةِ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ تَصِلْ إليه اليد، وليس يسقط عنه ذاك لعجزه لأن مالكاً يوجب على الأقطع استئجار مَنْ يُمِرُّ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ بِجَرَيَانِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: غَسْلُ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى جَسَدِهِ كَانَ غَسْلُهَا فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى جَسَدِهِ سَقَطَ فَرْضُهَا. وَالثَّانِي: وضوءه لِلصَّلَاةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ لَزِمَهُ الْغُسْلُ، وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَكَانَ مَسْنُونًا فِي غُسْلِهِ لَا فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا يَخْلُو حَالُ حَدَثِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَنَابَةٍ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ جَنَابَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ لِدُخُولِهِ فِيمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْجُنُبُ فِي الْحَدَثِ كَانَ دُخُولُ الْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوُضُوءُ فِي غُسْلِهِ مَسْنُونًا لَا فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ قَبْلَ الْجَنَابَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْجُنُبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ بِحَدَثِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْغُسْلُ لِجَنَابَتِهِ الْحَادِثَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْوُضُوءَ عَلَى الْغُسْلِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَجْزَأَهُ فَيَصِيرُ غَاسِلًا لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَنْ حَدَثِهِ فَيُرَتِّبُهَا، وَمَرَّةً عَنْ جَنَابَتِهِ فَلَا يُرَتِّبُهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَّبَا سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَوَجَبَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَيَبْقَى حُكْمُ التَّرْتِيبِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْوُضُوءِ فَيَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا يُرَتِّبُ فِيهِ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِذَا اتَّفَقَتْ تَدَاخَلَتْ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فِي الْحَدَثِ مُوَافِقًا لِغَسْلِهَا فِي الْجَنَابَةِ دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَسَقَطَ التَّكْرَارُ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْحَدَثِ مُخَالِفًا لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ زَائِدًا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَالتَّرْتِيبِ، وَيَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ وَحْدَهُ دُونَ الْوُضُوءِ بِأَيِّ مَوْضِعٍ بَدَأَ مِنْ بَدَنِهِ أَجْزَأَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ هُوَ أَصْغَرُ نَوْعَيِ الْجِنْسِ. فَإِذَا اجْتَمَعَا دَخَلَ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ كَمَا تَدْخُلُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِذَا قَرَنَ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ الْحَدَثَ الطَّارِئَ عَلَى الْجَنَابَةِ كَالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْجَنَابَةِ فِي تَخْرِيجِ الْوُضُوءِ عَلَى الأوجه الثلاثة، وأنكر سائراً أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ ظَاهِرَةٍ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَالْمُتَأَخِّرُ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ. (فَصْلٌ) : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ فُرُوعٌ خَمْسَةٌ: فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ مِنْهَا: صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ غَسَلَ بَعْضَ بَدَنِهِ لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ فَلَا يَخْلُو أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي مِنْ بَدَنِهِ الَّذِي لَمْ يَغْسِلْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ، فَهَذَا يُتَمِّمُ غسل الباقي من بدنه، ويجريه عَنْ جَنَابَتِهِ وَحَدَثِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي بَاقِي غَسْلِهِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ طَرَأَ عَلَيْهَا، وَحُكْمُ الْجَنَابَةِ لَمْ يَزَلْ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ لِأَجْلِهِ تَرْتِيبٌ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ قَدْ غَسَلَهَا قَبْلَ حَدَثِهِ فَهَذَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ بَاقِيَ غُسْلِهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مُرَتَّبًا مِنْ بَعْدِهِ، فَيَكُونُ غَسْلُ بَاقِي الْبَدَنِ لِتَمَامِ الْغُسْلِ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَاسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ فَيُجْزِئَهُ عَنْ جَنَابَتِهِ وَعَنْ حَدَثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَجْزَأَ فَإِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِهَا أَوْلَى، لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَأْنَفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ أَنْ يُرَتِّبَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ فِي غُسْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنْ وُضُوئِهِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ غَسَلَ بَعْضَ أعضاء وضوئه وبقي بعضها كأن أَحْدَثَ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَبَقِيَ رَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ غَسْلَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مُرَتَّبًا دُونَ رَأْسِهِ ورجليه، لأن طرؤ الْحَدَثِ كَانَ بَعْدَ بَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِي رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَرِجْلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا، وَأَثَّرَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِزَوَالِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ عَنْهُمَا قبل طرؤ الْحَدَثِ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْغُسْلَ مِنْ أَوَّلِهِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِيهِمَا، وَهَلْ يَلْزُمُهُ تَرْتِيبُ الوجه والذارعين أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَنِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ قَدْ نَزَلَ عَنْهُمَا حُكْمُ الْجَنَابَةِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ. (فَصْلٌ) : وَالْفَرْعُ الثَّانِي: صُورَتُهُ فِي مُحْدِثٍ عَدِمَ الْمَاءَ في سفره، فتيمم وصلى ثم اجتنب وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ باقٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَنَابَةِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ بَدَلًا مِنْ حَدَثِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ جَنَابَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءُ بَدَلٌ مِنَ الْحَدَثِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ قد سقط بطرؤ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ، وَيُجْزِئُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بَعْدَهُ لِبَاقِي بَدَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أن يقدم التيمم ها هنا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ. (فَصْلٌ) : وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ: صُورَتُهُ فِي مُسَافِرٍ جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا غَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ لَا غَيْرَ، وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ كَانَ أَوْلَى، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْغُسْلِ بِهِ فَبَدَأَ بِرِجْلَيْهِ ثُمَّ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسِهِ مَاسِحًا بِرَأْسِهِ لَا غَاسِلًا أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا فِي حَدَثِ الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَلْحَقْهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَجَازَ تَقْدِيمُ غَسْلِهِمَا، وَزَالَ حَدَثُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَاسْتَحَقَّ فِيهَا التَّرْتِيبَ وَمَسْحَ الرَّأْسِ دُونَ الْغَسْلِ وَلَكِنْ لَوْ بَدَأَ بذراعيه قبل وجهه لم يجزه، لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَلُحُوقِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرْتِيبِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ مِمَّا غَسَلَهُ قَبْلَ حَدَثِهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ فِيهِ لَمْ يجزه لطرؤ الْحَدَثِ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ الْجَنَابَةِ عَنْهُ وَالتَّرْتِيبُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِيمَا غَسَلَهُ بَعْدَ حَدَثِهِ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ وَامْتِنَاعِ لُحُوقِ الْحَدَثِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ صَارَ مُغْتَسِلًا بَدَلًا مِنْ وُضُوءٍ أَلْحَقَهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 (فَصْلٌ) : وَالْفَرْعُ الرَّابِعُ: صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي سَفَرِهِ مَا يَكْفِيهِ إِلَّا مَوْضِعًا يَسِيرًا مِنْ بَدَنِهِ فَاغْتَسَلَ بِهِ إِلَّا كَقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ طُهْرِهِ، فَتَيَمَّمَ لَهُ وَصَلَّى فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ من الماء ما يكفيه ما تَرَكَهُ مِنْ بَدَنِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ طُهْرِهِ فِي جَنَابَتِهِ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَعْضَاءِ حَدَثِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ لِمَا بَقِيَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ لِحَدَثِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ طُهْرِهِ فَقَدْ أَكْمَلَ غُسْلَ جَنَابَتِهِ وَصَارَ مُحْدِثًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مَا أَرَادَ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ. فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا بَقِيَ عَلَى طُهْرِهِ فِي الْجَنَابَةِ جَازَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ الطَّارِئِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْجَنَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَوْ أَرَاقَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ الَّذِي قَدَّمَهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَيَمُّمًا ثَانِيًا بَعْدَ إِرَاقَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ كَانَ مرة، وفرض ما بقي من الجناية اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ فَلَمَّا أَرَاقَهُ انْتَقَلَ فَرْضُهُ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ، فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فرضه. (فصل) : الفرع الخامس: صورته في جُنُبٌ عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ، فَتَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ حَدَثِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، فَطُهْرُهُ مِنْ جَنَابَتِهِ تَامٌّ لِلنَّوَافِلِ بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِمَاءِ حَدَثِهِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَقَدِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ فَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْجُنُبَ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَدَثِ الطَّارِئِ سَاقِطًا لِعَوْدِ الْجَنَابَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَالِهَا أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الظُّهْرِ فَحَدَثُ جَنَابَتِهِ باقٍ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَيَمُّمِهِ كَانَ طُهْرًا لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ النَّوَافِلِ وَلَا يَكُونُ لِفَرِيضَةٍ ثَانِيَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِحَدَثِهِ تَأْثِيرٌ لطرؤه عَلَى جَنَابَةٍ بَاقِيَةِ الْحُكْمِ، وَيَصِيرُ جُنُبًا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ بِهِ. وَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ فَصَارَ تَحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَا شَرْحَهُ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الظُّهْرِ نَفْلًا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ؟ وهل يلزمه استعمال الماء؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَاعْتَبِرْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْحِ تَجِدْهُ صَرِيحًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُطَّرِدًا ". (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك غسل المرأة إلا أنها تحتاج في غَمْرِ ضَفَائِرِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ أُصُولَ الشَّعْرِ إلى أكثر مما يحتاج إليه الرجل. وروي أن أم سلمة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إني امرأةٌ أشد ضفر رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: " لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حثياتٍ من ماءٍ ثم تفيضي عليك الماء (قال) وأحب أن يغلغل الماء في أصول الشعر وكما وصل الماء إلى شعرها وبشرها أجزأها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ جَنَابَتِهَا كَغُسْلِ الرَّجُلِ سَوَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْضٌ وَسُنَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا تَزِيدُ فِي تَفَقُّدِ بَدَنِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لِمَا تَخْتَصُّ بِهِ غَالِبًا مِنَ الْعُكَنِ وَالْمَغَابِنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ فِي حُكْمِ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا؛ لِأَنَّهُ بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى تَكَاسِيرِ عُكَنِهَا وَغُضُونِ وَجْهِهَا وَدَاخِلِ سُرَّتِهَا، وَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمَّا شَعَرُ رَأْسِهَا، فَإِنْ كَانَ مَحْلُولًا أَوَصَلَتِ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِهِ مِنْ أُصُولِ مَنَابِتِهِ إِلَى مَا اسْتَرْسَلَ عنه لا يجزأه الِاقْتِصَارُ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ دُونَ الْمُسْتَرْسِلِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ دُونَ أُصُولِ الْمَنَابِتِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بُلُّوا الشَعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " وَإِنْ كَانَ شَعْرُهَا مضفوراً لمة أو عقصة فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَلٌّ بَلْ تُغَلْغِلُ الْمَاءَ فِي أُصُولِهِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى مَنَابِتِهِ وَتَفِيضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مُسْتَرْسِلِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امرأةٌ أَشُدُّ ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ "، فقال: " ألا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حثياتٍ مِنْ ماءٍ، ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِي ". أَوْ قَالَ: " فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ فَإِذَا اسْتَظْهَرَتْ لِنَفْسِهَا فِي حَلِّهِ كَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ قَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِنَقْضِ شُعُورِهِنَّ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: " هَلَّا أَمَرَهُنَّ بِحَلْقِهِ " فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ وُجُوبَ حَلِّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا لَا وَاجِبًا وَهَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ فِي الْجَنَابَةِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ فَتَرَكَ الْجُنُبُ شَعَرَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمِ يُجْزِهِ وَحُكِيَ عن أبي حنيفة يجزئه غسله وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جنابةٍ " وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شعرةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ ". قَالَ عَلِيٌّ فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ فَلَوْ نَتَفَ الشَّعْرَ الَّتِي لم يغسلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا لَزِمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى أُصُولِ شَعَرِهِ دُونَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْهُ ثُمَّ جَزَّهُ أَوْ حَلَقَهُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ جَزِّهِ أَوْ حَلْقِهِ أَعَادَ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ فِي الْمُسْتَرْسِلِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ غُسْلُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلَمَّا أَمَرَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالغسل من الحيض قال: " خذي فرصةً - والفرصة القطعة مِنْ مِسْكٍ - فَتَطَهَّرِي بِهَا " فَقَالَتْ عَائِشَةُ تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) فَإِنْ لَمْ تجد فطيباً فإن لم تفعل فالماء كافٍ ". قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ حَيْضِهَا ونفاسها كغسلها من جنابتها فيما تؤمن بِهِ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَتُؤْمَرُ زِيَادَةً عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمِسْكِ فِي فَرْجِهَا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " جَاءَتِ امرأةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ عَنِ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ فَقَالَ: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مسكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاسْتَتَرَ بِثَوْبِهِ تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ فَاجْتَذَبْتُهَا وَعَرَفْتُ الَّذِي أَرَادَ فَقُلْتُ لَهَا تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ " يَعْنِي الْفَرْجَ. وَالْفِرْصَةُ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَهِيَ مِنَ الْمِسْكِ الْمَعْجُونِ بِالْمِسْكِ يكون عِنْدَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ فِرْصَةً بِالْفَاءِ مَكْسُورَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ سَكْتَكَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا هِيَ قُرْضَةٌ مِنْ مِسْكٍ بِالْقَافِ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الضَّادِ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدٍ لِتَتَّقِيَ آثَارَ الدَّمِ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِسْكِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فَإِنْ كَانَ رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدٍ مَحْفُوظَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ الْجِلْدُ لِتَتَبُّعِ الدَّمِ وَإِنْقَاءِ آثَارِهِ، وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَقْصُودِ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ تزول رائحة الدم فيكون اسْتِمْتَاعُ الزَّوْجِ بِإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ وَكَمَالِ اللَّذَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى عُلُوقِ الْوَلَدِ فَإِنْ أَعْوَزَهَا الْمِسْكُ فَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ بِطِيبِ الرَّائِحَةِ، قَالَ: تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا كَانَ خَلَفًا مِنْهُ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ، وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ قَالَ تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا قَامَ مَقَامَهُ فِي إِسْرَاعِ الْعُلُوقِ مِنَ الْقِسْطِ وَالْأَظْفَارِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ اسْتِعْمَالِهِ، هَلْ هُوَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَمَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ نَدَبَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ، فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 تَرَكَتِ اسْتِعْمَالَ الْمِسْكِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَالْمَاءُ كافٍ، لِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ مَقْصُودٌ على الماء دون غيره. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا بَدَأَ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ تَرْتِيبٌ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الِاخْتِيَارِ مَنْدُوبٌ فِيهِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَيْفَ مَا اغْتَسَلَ حَتَّى وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ وَالْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِأَعْلَى الْجَسَدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ ". (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِنْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ أَوِ الْحَائِضُ أَيْدِيَهُمَا فِي الِإِنَاءِ وَلَا نَجَاسَةَ فِيهِمَا لَمْ يَضُرُّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: بَدَنُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ طَاهِرٌ فَإِنْ أَدْخَلَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نُجِّسَ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَهَا فِي مَاءٍ ثانٍ، وَإِنْ أَدْخَلَهَا فِي ثَالِثٍ لَمْ يُنَجَّسْ، وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لَمْ يُنَجِّسِ الْمَاءَ وَفَرَّقَ بَيْنَ يَدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ جَسَدِهِ بِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى إِدْخَالِ يَدِهِ فِي الْمَاءِ لِاسْتِعْمَالِهِ وَغَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى إِدْخَالِ مَا سِوَاهَا مِنْ جَسَدِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ إليَّ رَأْسَهُ فَغَسَلْتُهُ وَأَنَا حائضٌ ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مرطٍ كَانَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَيَّ وَأَنَا حائضٌ ". وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ يَعْنِي: الْبِسَاطَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي حائضٌ فَقَالَ هَاتِيهِ فَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ، وَلَا الْمُؤْمِنُ يَنْجُسُ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَمَدَّ يَدَهُ لِيُصَافِحَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جنبٌ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ لَا يَجْنُبُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ قَدْ يَجِبُ مِنَ الْحَدَثِ كَوُجُوبِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ لَوْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ مُحْدِثًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لَمْ يَنْجُسْ فَكَذَا الْمَاءُ أَدْخَلَهُ جُنُبًا لَمْ يَنْجُسْ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا غَاصَ فِي الْمَاءِ نَاوِيًا وَالْمَاءُ كَثِيرٌ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَمِنْ نَجَاسَتِهِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ أَثَرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَطْهُرْ مِنْ جنابته ولا من نجاسته لأن الماء نجساً بورود النجاسة وصار نجساً، فَلَوِ اغْتَسَلَ هَذَا الْجُنُبُ بَعْدَ نَجَاسَةِ بَدَنِهِ غُسْلًا وَاحِدًا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ وَهَلْ يَطْهُرُ مِنْ جَنَابَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَغْتَسِلَ غُسْلًا ثَانِيًا، لِأَنَّ مَاءَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ صَارَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهَا، وَمَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّجَاسَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ حَدَثُ الْجَنَابَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ بِالْغُسْلِ الْأَوَّلِ كَمَا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ لَهُمَا فِي حَالِهِ وَلَيْسَ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ دَافِعًا لَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 باب فضل الجنب وغيره قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أنسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بوضوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَأَمَرَ الناس أن يتوضؤوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حتى توضأ الناس من عند آخرهم. عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ والنساء يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إناءٍ واحدٍ جميعاً وروي عن عائشة أنها قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من إناءٍ واحدٍ تعني من الجنابة وأنها كانت تغسل رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي حائضٌ. (قال الشافعي) : ولا بأس أن يتوضأ ويغتسل بفضل الجنب والحائض لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا اغتسل وعائشة من إناءٍ واحدٍ فقد اغتسل كل واحدٍ منهما بفضل صاحبه (قال) وليست الحيضة في اليد ولا المؤمن بنجسٍ إنما تعبدٍ أن يماس الماء في بعض حالاته وكذلك ما روى ابن عمر أن كل واحدٍ منهما توضأ بفضل صاحبه. (فصل) : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الطَّهُورِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ فَضُلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا فَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَضَرْبٌ فَضُلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمَاعَةُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا جِنْسًا وَاحِدًا كَاشْتِرَاكِ الرِّجَالِ أو كاشتراك النساء، فهذا جائز باتفاق، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بوضوءٍ فَوَضَعَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ الناس أن يتوضؤوا فرأيت الماء نبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ ". فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِعْجَازِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ جَاءَ بِهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَمْ تُنْقَلْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مُعْجِزَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مُوسَى فِي خُرُوجِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْحَجَرِ مُعْتَادٌ، وَمِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ غَيْرُ مُعْتَادٍ؟ قِيلَ: هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُ أَنَسٍ فَهُوَ جارٍ مَجْرَى التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ أَنَسًا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى غَزَاةٍ كَانَتِ الصَّحَابَةُ فِيهَا وَرَوَاهُ وَعَصْرُ الصَّحَابَةِ باقٍ وَأَكْثَرُهُمْ حَيٌّ فَنَقَلُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ اعْتِرَافًا بِصِحَّتِهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَرَدُّوهُ عَلَى أَنَسٍ وَأَنْكَرُوهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ إِمَّا مِنْ حَدَثٍ وَإِمَّا مِنْ جَنَابَةٍ، أَوْ مِنْ حَدَثٍ وَحَيْضٍ وَجَنَابَةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ". وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ أناءٍ واحدٍ جَمِيعًا " وَرَوَتْ مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: أَبْقِ لِي أَبْقِ لِي ". وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أُسَامَةَ بن زيد عن خربوذ عن أم حبية الْجُهَنِيَّةِ قَالَتْ: " اخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوُضُوءِ مِنْ إناءٍ واحدٍ " وَلِأَنَّ مَا فضل عن الاستعمال فقد يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 231 - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ محمول على الفضل المستعمل. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " كل ذلك دلالة أنه لا توقيت فيما يتطهر به المغتسل والمتوضئ إلا على ما أمره الله بِهِ وَقَدْ يُخْرَقُ بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي وَيُرْفَقُ بالقليل فيكفي (قال) وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمُدِّ وَاغْتَسَلَ بِالصَّاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا حَدَّ لِلْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ الْمُحْدِثُ وَيَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ الْوَاحِدِ يَمْنَعُ مِنْ تَحْدِيدِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمَاءُ لِمُغْتَسِلٍ فِي غُسْلِهِ مِنَ الصاع، والمتوضي فِي وُضُوئِهِ مِنَ الْمُدِّ، لِرِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ بَالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه هل هو صاع الزكاة ومدها، فقال بعضهم: هي صاع الزكاة خمسة أرطال وثلث، وقال آخرون: صاع الماء، غير الزكاة قدر ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ مِنْهُ رِطْلَانِ رَوَاهُ أَنَسٌ، فَإِنْ نَقَصَ الْمُغْتَسِلُ مِنَ الصَّاعِ وَعَمَّ جَمِيعَ شعره وبشره، ونقص المتوضي مِنَ الْمُدِّ وَأَسْبَغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَأَجْزَأَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَسِلَ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ بِدُونِ الصاع، ولا المتوضي أَنْ يُسْبِغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، وَهَذَا دَفْعُ الْعَيَانِ وَإِنْكَارُ السُّنَّةِ رَوَى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثَيْ مُدٍّ وَجَعَلَ يُدَلِّكُ ذِرَاعَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَيَانًا إِسْبَاغُ الْبَدَنِ بِدُونِ الصَّاعِ لِمَنْ رَفِقَ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّاعِ لِمَنْ خَرِقَ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ وَالْعَادَاتِ وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 (باب التيمم) (قال الشافعي) قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) {النساء: 43) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ (قَالَ) ومعقولٌ إِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا يُؤْتَى بالوضوء عليه وعن ابن عمر أنه قال: " ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي التَّيَمُّمِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتُهَا لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِهَا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ماءٌ وَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَصْنَعَانِ فنزلت آية التيمم؛ فقال أسيد بن حصين: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَمَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا؛ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ فَرْضِ التَّيَمُّمِ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ} وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) أَيْ: وَلَا تَقْصِدُوا وَقَالَ الشَّاعِرُ: (تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مهمةٍ ذِي شَزَنِ) وَقَالَ آخَرُ: (وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي) (أَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فصار معنى قوله: " فتيمموا " أَيِ اقْصُدُوا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ فَأَتُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَأَمَّا الصَّعِيدُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلتُّرَابِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " طَيِّبًا " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي حَلَالًا، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ. وَالثَّانِي: يَعْنِي طَاهِرًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، ثُمَّ قَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بالتراب مضاهاة لأرباب المصائب والرحلان لَا يَخْلُو التُّرَابُ مِنْهُمَا فِي السَّفَرِ غَالِبًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَعْضَاءَ التَّيَمُّمِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَجْهِهِ فَيَسْتَوْعِبَ مَسْحَ جَمِيعِهِ، فَإِنْ تَرَكَ مَوْضِعًا مِنْهُ كَانَ يَغْسِلُهُ بالماء في الوضوء ليمسحه بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ قَلَّ. (فَصْلٌ) : ثُمَّ يَمْسَحُ يَدَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: مَا حُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْ يَمْسَحَهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ. وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَمَنْصُوصَاتُ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْسَحُ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ. وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: أَنَّهُ يَمْسَحُ الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَمَكْحُولٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي الْقَدِيمِ كَانَ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَمَنْصُوصُهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ خِلَافُ هَذَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الْوَاجِبَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيُكمْ مِنْهُ) {المائدة: 6) وَمُطْلَقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْكَفَّ، بِدَلِيلِ الِاقْتِصَارِ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ عَلَيْهَا، وَبِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنِي جنابةٌ فَتَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أن تضرب بيديك الأرض فتسمح بها وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ " وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِهِمَا إِلَى المرفق قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ} وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْمَنْكِبَ فَدَخَلَ الذِّرَاعُ فِي عُمُومِ الِاسْمِ، ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِهِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ أَبِي الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ. وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " التيمم ضربةٌ للوجه وضربةٌ للذراعين إلى الْمِرْفَقَيْنِ " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَسْلَعَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزاة المريسيع فَأَصَابَتْنِي جنابةٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قم فارحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بِي " فَقُلْتُ: " إِنِّي جنبٌ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ فَأَرَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيْفَ أَتَيَمَّمُ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَضَرَبَ أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ كَغَسْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ روى عمار مقدوري عَنْهُ خِلَافَهُ وَطَرِيقُهُ مُضْطَرِبٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي نَقْلِهِ كثير فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا رُوِّينَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَعَ زِيَادَتِهَا، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَالتَّيَمُّمُ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ وَهُوَ التُّرَابُ مِنْ كُلِّ أرضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا وغيره مما يعلق باليد منه غبارٌ مَا لَمْ تُخَالِطْهُ نجاسةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ التَّيَمُّمُ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَارِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا سِوَاهُ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ زِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهُ صَنْعَةُ آدَمِيٍّ مِثْلِ مَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ اسْتِدْلَالًا بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَلَمَّا كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ التُّرَابِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا، قَالُوا وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ مِنَ الْأَرْضِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى التُّرَابِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا وَقَعَتْ بِالْجَامِدِ مَسْحًا لَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ الْجِنْسِ نَوْعًا كَالِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) {المائدة: 6) . وَالصَّعِيدُ اسْمٌ لِلتُّرَابِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ، وَهُوَ قُدْوَةٌ فِيهِمْ، وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الصَّعِيدِ فَقَالَا: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يُغَبِّرُ يَدَيْكَ، وَيَشْهَدُ لِمَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) {الكهف: 8) يَعْنِي أَرْضًا لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا وَلَا زَرْعَ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالصَّعِيدُ مُشْتَقٌّ مِمَّا تَصَعَّدَ مِنَ الْأَرْضِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى اشْتِقَاقِهِ أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قِيلَ: وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ هَذَا فَإِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ التُّرَابَ لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالزِّرْنِيخَ لَا يُسَمَّى صَعِيدًا، وَإِذَا كَانَ لِلِاسْمِ إِطْلَاقٌ وَاشْتِقَاقٌ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اشْتِقَاقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، حَنِثَ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ النَّعَمِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ مُشْتَقًّا مِمَّا يَدِبُّ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: " سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُعْطِيتُ مَا لَا يُعْطَى نبيٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ لِيَ التُّرَابُ طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ ". فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ طَهُورًا لَهُ لَذَكَرَهُ فِيمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصِيبُ أَهْلِي وَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ قَالَ: " أَصِبْ أَهْلَكَ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ عَشْرَ سِنِينَ فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيكَ " فَلَمَّا جَعَلَ اكْتِفَاءَ أَبِي ذَرٍّ فِي التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِغَيْرِ التُّرَابِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ التَّخْيِيرُ فِيمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ كَالْوُضُوءِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَلَمْ يَتَخَيَّرْ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَامِدًا وَمَائِعًا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا فِي الْمَائِعِ تَخْتَصُّ بِأَعَمِّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا وَهُوَ الْمَاءُ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَامِدِ يَجِبُ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَعَمِّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا وَهُوَ التُّرَابُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَقَلَنَا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَتَعَذُّرِهِ إِلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ وُجُودًا وَأَهْوَنُ فَقْدًا، وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ أَعَزُّ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وُجُودًا مِنَ الْمَاءِ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ نَنْتَقِلَ عَنِ الأهون إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الْأَعَزِّ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَالْأَرْضُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطِّينِ دُونَ الزِّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاسْمِ عُمُومٌ، وَلَا فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التُّرَابِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ أَنَّهُ أَعَمُّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا كَمَا أَنَّ الْمَاءَ أَعَمُّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِنْجَاءُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِوَاجِبٍ، وَعِنْدَنَا إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَتِ الْأَحْجَارُ مُزِيلَةً لِنَجَاسَتِهِ فَاسْتَوَى فِي تَحْقِيقِهَا سَائِرُ الْجَامِدَاتِ، وَأَمَّا الدِّبَاغُ فَلَيْسَتْ عِبَادَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِعِبَادَةٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الدِّبَاغِ تَنْشِيفُ الْفُضُولِ وَتَطْيِيبُ الرَّائِحَةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهَا، وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَأُلْحِقَتْ بِجِنْسِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا، فَالسَّبَخَةُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمَالِحَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ، وَالْمَدَرُ: هِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ، وَالْبَطْحَاءُ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْأَرْضُ الْقَاعُ الْفَسِيحَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ الْعَذْبِ تراب الحرث، وبه قال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَالطَّيِّبُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَيَمَّمَ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أرضٌ سبخةٌ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أريتُ أَرْضًا سَبْخَةً " يَعْنِي: الْمَدِينَةَ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ أَغْلَظُ حُكْمًا فِيهَا بِالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي الْمَاءِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي التراب بين عذبه ومالح، فَأَمَّا تَأْوِيلُهُ لِلْآيَةِ فَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى خِلَافِهِ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: " طَيِّبًا " أَيْ حَلَالًا، وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَهُ: طَاهِرًا وَهُوَ الْأَشْبَهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ، فَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَبْيَضِهِ وَأَحْمَرِهِ وَسَائِرِ أَلْوَانِهِ كَالْمَاءِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ الْمَأْكُولِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْبَحْرِيِّ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَإِنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 اخْتَلَفَ طَعْمُهُ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالطِّينِ الْمَخْتُومِ وَبِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، وَلَا يَكُونُ تَغَيُّرُ لَوْنِهِ بِمَا يَقَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَالْكُحْلِ فَأَمَّا الْحَمْأَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ إِذَا جَفَّتْ وَسُحِقَتْ جَازَ التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا طِينٌ خُلِقَتْ فَصَارَ كَالْمَاءِ إِذَا خُلِقَ مُنْتِنًا، فَأَمَّا الطِّينُ الرَّطْبُ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِعَدَمِ غُبَارِهِ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْأَعْضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الرَّمْلُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الرَّمْلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ مِنْهُ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ يَعْلِقُ بِالْيَدِ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا غُبَارَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِعَدَمِ غُبَارِهِ الَّذِي يَقَعُ التَّيَمُّمُ بِهِ، لَا لِخُرُوجِهِ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجِصُّ فَإِنْ كان محرقاً لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ، لِأَنَّ النَّارَ قَدْ غَيَّرَتْهُ، وَكَذَا مَسْحُوقُ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ، وَإِنْ كَانَ الْجِصُّ غَيْرَ مُحَرَّقٍ جَازَ التَّيَمُّمُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْفِيدَاجُ إِذَا كَانَ لَهُ غُبَارٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرُّخَامِ وَالْبِرَامِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْدِنٌ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِمَسْحُوقِ الْحِجَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ أيضاً بالمسلح؛ لأنه إن كان ملح جَمُدَ فَلَيْسَ بِتُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ مَعْدِنٍ فَهُوَ كَالْكُحْلِ. فَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ، أَوْ جَامِدَةٌ نُجِّسَ بِهَا، وَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ فَجَازَ إِذَا كَثُرَ أَنْ يَرْفَعَ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمَّا التُّرَابُ فَلَا يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَدْفَعِ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَهُ طِيبٌ، أَوْ زَعْفَرَانُ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الطِّيبِ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُخْلِطَ بِهِ فِي الطِّيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَائِعًا كَمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ، فَإِنْ كَانَ مَائِعًا جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَجَفَّ صَارَ مُسْتَهْلَكًا، وَكَذَا سَائِرُ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا خَالَطَتِ التُّرَابَ، وَإِذَا كَانَ مَذْرُورًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَجْهَانِ: وَكَذَا مَا خَالَطَهُ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهَا كَالدَّقِيقِ وَالرَّمَادِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ، وَلَا يمنع من استعماله مخالطة لما لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَيُؤَثِّرْ فِيهِ كَالْمَاءِ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَائِعٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مُخَالَطَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الْمَذْرُورِ بِهِ مِنْ وُصُولِ بَلَلِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، وَالتُّرَابُ جَامِدٌ وَرُبَّمَا سَبَقَ حُصُولُ الْمَذْرُورِ عَلَى الْعُضْوِ فَمَنَعَ مِنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَيْهِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا التُّرَابُ الْمُسْتَعْمَلُ فَهُوَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ وَجْهِهِ مَا تَيَمَّمَ بِهِ مِنَ التُّرَابِ فَيَسْتَعْمِلَهُ فِي ذِرَاعَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، قَالَ: بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا بِرَفْعِهِ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَصِرِ التُّرَابُ مستعملاًَ به، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الْجَمَاعَةُ مِنْ مَكَانٍ واحد كما يتوضؤون مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْقُلَ مَا حَصَلَ عَلَى قَدَمِهِ وَيَدَيْهِ مِنْ غُبَارِ التُّرَابِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي عِبَادَةٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْمُتَيَمِّمُ الرِّيحَ حَتَّى سَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ فتيمم به الشَّافِعِيُّ لَمْ يُجِزْهُ، وَقَالَ: فِي الْجُنُبِ إِذَا وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ أَجْزَأَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِذَا لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى الْعُضْوِ فَيُجْزِئُهُ فِي الْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ، وَلِأَنَّهُ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِالْإِمْرَارِ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَّهُ لَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ آخَرِينَ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَقَوْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ: يُرِيدُ بِهِ إِذَا حَصَلَ التُّرَابُ عَلَى وَجْهِهِ قَبْلَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ، وَإِنْ أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ حُصُولِ التُّرَابِ أَجْزَأَهُ، وَقَوْلُهُ في الغسل: إنه يجزئه، ويريد بِهِ إِذَا أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ إِصَابَةِ الْمَاءِ لِجَسَدِهِ، وَلَوْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ لَمْ يُجْزِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ التُّرَابَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلتُّرَابِ فِي أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ يعلق بيده من غباره فَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ غُبَارٌ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى لَوْ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى طِينٍ يَابِسٍ، أَوْ صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ ومسح به وَجْهَهُ أَجْزَأَهُ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ قَالَ: مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَبُولُ فَتَمَسَّحَ بِجِدَارٍ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ. قَالُوا: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِدَارَ أَمْلَسُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَخَ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ " قَالُوا: وَبِالنَّفْخِ يَزُولُ مَا عَلَقَ بِالْيَدِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غُبَارٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ بَاشَرَ بِيَدِهِ مَا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ إِيصَالُ الطَّهُورِ إِلَى الْعُضْوِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ) {المائدة: 5) فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّعِيدِ مَمْسُوحًا بِهِ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِالْيَدِ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا بِهِ فَلَمْ يَجُزْ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا " وَمَا لَا يُلَاقِي مَحَلَّ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ طَهُورًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا يَكُونُ طَهُورًا فِيهَا كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ أُبْدِلَ مِنْ غَسْلٍ فَوَجَبَ إِيصَالُ الْمَمْسُوحِ بِهِ إِلَى مَحَلِّهِ، قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ فِي الطَّهَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى مَمْسُوحٍ بِهِ قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِالْجِدَارِ، فَهُوَ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْغُبَارِ، وَأَنَّ الْمَاسِحَ بِيَدِهِ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ فِيهَا، وَذَلِكَ مُدْرَكٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَخَ فِي يَدِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَفَخَ مَا يَعْلَقُ بِهَا مِنْ كَثِيرِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّ النَّفْخَ لَا يُذْهِبُ جَمِيعَ مَا عَلِقَ بها من الغبار. والثاني: أنه إنما ينفخ فِكْرَةَ حُصُولِ الْغُبَارِ عَلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّيَمُّمِ التَّعْلِيمَ لِعَمَّارٍ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِنَفْسِهِ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي فَعَلَهُ كِفَايَةٌ فِي التَّعْلِيمِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ غُبَارٌ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ جُعِلَ مُسْتَعْمَلًا لِمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ فِي أَعْضَائِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَيُقْلَبُ عَلَيْهِمْ، فيقال: فوجب أن يكون من شَرْطُهُ إِيصَالَ الطَّهُورِ إِلَى مَحَلِّ التَّطْهِيرِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَيْسَ كذلك أعضاء التيمم؛ لأنه لم يستدل بها غيرها فيجزي تطهيرها والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وينوي بالتيمم الفريضة، وَهَذَا صَحِيحٌ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى وُجُوبِهَا مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَإِنْ خَالَفَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّيَمُّمُ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ فِعْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْوُضُوءِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ الصَّلَاةَ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَقَالَ أبو حنيفة: التَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْوُضُوءِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بَنِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طهورٌ " فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا، قَالَ: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ إِذَا اسْتَبَاحَ بِهَا فِعْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُسْتَفَادَ بِهَا رَفْعُ الْحَدَثِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَمَا أَثَّرَ فِي إبطاله طرؤ الْحَدَثِ، فَلَمَّا بَطَلَ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الْأَوَّلِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا كَالْمُصَلِّي مَعَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا، وَلِأَنَّهُ أَحْدَثَ طَهَارَةً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا ارْتَفَعَ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ كَالْمُتَوَضِّئِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ فِي الْحَضَرِ لَا يَرْفَعُهُ فِي السَّفَرِ قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَكْفِ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رجلاً من بني عامر مجهول فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ " طَهُورٌ " مَحْمُولًا عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَمُنْتَقَضٌ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمْ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ بِهِ، وَلَمَّا لَزِمَ الْمُتَيَمِّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الْمَاءِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، فَكَانَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ عَامَّةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ دُونَ رَفْعِ الْحَدَثِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِ مُحْدِثًا، فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ: لَوْ أَنَّ جُنُبًا تَيَمَّمَ لِجَنَابَتِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ وَوَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ، فَلَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِحَدَثِهِ لَكَانَ حُكْمُ الْجَنَابَةِ سَاقِطًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى بَقَاءِ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ، ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ بِالْحَدَثِ الْأَوَّلِ لَا بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَهُ فِي نِيَّتِهِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَتَيَمُّمُهُ بَاطِلٌ به؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا كَانَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَهَذِهِ النِّيَّةُ مُخَالِفَةٌ لِحُكْمِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُجْزِئُهُ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ. وَالتَّيَمُّمُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعِ الْحَدَثُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةَ. فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِلنَّوَافِلِ وَلَا يَصِحُّ لِلْفَرَائِضِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُسْتَبَاحُ بِهِ النَّوَافِلُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْفَرْضُ إِلَّا بِتَعْيِينٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ بِهِ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا نَوَى مِنِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ " فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ " فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِهَذَا التَّيَمُّمِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ، جَازَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ بِهِ الْمُصْحَفَ، وَيَقْرَأَ بِهِ الْقَرْآنَ إِنْ كَانَ جُنُبًا، بِخِلَافِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ النَّافِلَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مِنَ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا تَيَمَّمَ لِلنَّافِلَةِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ اسْتِبَاحَةُ النَّفْلِ بِهَا صَحَّ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْضِ بِهَا كَالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَوَضِّئِ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ كَالنَّفْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَدَلِيلُنَا هُوَ تَيَمُّمٌ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ لم يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَنْوِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَرْفَعْهُ تَعَيَّنَتِ النِّيَّةُ لِمَا يُسْتَبَاحُ بِهِ لِتَكَونَ النِّيَّةُ مُخْتَصَّةً بِعِبَادَةٍ، وَإِذَا لَزِمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَنَوِّعٌ، وَهَذَا أَغْلَظُ حُكْمًا، وَالنَّفْلُ تَبَعٌ، وَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاحِدَ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي وَمَعْنَاهُ الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُولَى وَكَذَا الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلنَّافِلَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ على الوضوء فالمعنى يفيه: أَنَّهَا طَهَارَةُ رَفَاهَةٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَقْوَى فِي أداء الفرض بتيمم النفل، والتيمم طهارة ضرورة فَضَعُفَ حُكْمُهَا عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النَّفْلِ فَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ إِذَا نَوَى بِهِ الْفَرْضَ فَصِرْنَا قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النَّفْلِ أَنَّهُ كَانَ أَخَفَّ حُكْمًا جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ وَالْفَرْضُ أَغْلَظُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ ينوي تيمم صَلَاةَ الْفَرْضِ فَيُجْزِئُهُ لِلْفَرِيضَةِ وَالنَّوَافِلِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا نَوَى تَيَمُّمَ صَلَاةِ الْفَرْضِ جَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ أَيَّ فَرْضٍ شَاءَ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَدَّى بِهِ فَرْضًا وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا فَائِتًا، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمْ يُصَلِّهَا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا غَيْرَهَا مِنْ فائتة أو غير فائتة جاز؛ لأن تَيَمُّمٌ كَامِلٌ لِفَرْضٍ لَمْ يُؤَدِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعْيِينَ نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي تَيَمُّمِهِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ أَضْعَفُ مِنَ الْوُضُوءِ فَلَزِمَهُ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي نِيَّتِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِهِ عِنْدَ الظُّهْرِ فَرْضًا فَائِتًا لَمْ يَجُزْ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِتَيَمُّمِهِ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْدِثُ بِتَيَمُّمِهِ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَوْ يَنْوِيَ الْجُنُبُ بِتَيَمُّمِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ تَنْوِيَ الْحَائِضُ بتيممها وطأ الزَّوْجِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا نَوَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ مِمَّا يَتَيَمَّمُ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بِتَيَمُّمِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْفَرْضَ لَمَّا كَانَ أَوْكَدَ مِنَ النَّفْلِ لَمْ يُسْتَبَحْ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ. الْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَنْوِيَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ أَوْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ وَحْدَهَا فَيَكُونُ تَيَمُّمًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ بِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا مَا كَانَ عَلَى الْمُحْدِثِ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ حُضُورِ فِعْلٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِهِ، فَضَعُفَ حُكْمُهُ عَنْ أَنْ يَصِحَّ إِلَّا بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فيضرب عَلَى التُّرَابِ ضَرْبَةً وَيُفَرِّقُ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ ثُمَّ يَمْسَحُ بِيَدِهِ وَجْهَهُ كَمَا وَصَفْتُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ يَضْرِبُ ضَرْبَةً أُخْرَى كَذَلِكَ ثم يمسح ذراعه اليمنى فيضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعها ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه ثم يدير كفه إلى بطن الذراع ثم يقبل بها إلى كوعه ثم يمرها على ظهر إبهامه ويكون بطن كفه اليمنى لم يمسها شيءٌ من يده فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ هُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا صَرِيحُ الْكِتَابِ وَنَصُّ السُّنَّةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مَسْحُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِكَفَّيْهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِنْ تَيَمَّمَ بِأَقَلَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ لِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " في التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين " وروى عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: التَيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِضَرْبَتَيْنِ لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهُمَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ، وَلَيْسَ ضَرْبُ يَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ شَرْطًا بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِيَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ إِذَا أَبْسَطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ جَازَ أَنْ يَبْسُطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ لَا يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ لَزِمَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِهِمَا عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِهِمَا، فَأَمَّا تَفْرِيقُ أَصَابِعِهِ فَلِيَصِلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَإِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِذَا ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ، وَعَلِقَ بِهِمَا الغبار فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 حَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْفُخَ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ فِي الْجَدِيدِ، فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ نَفْخَ الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ كَثِيرٌ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي نَفْخِهِمَا لِيَقِلَّ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْغُبَارِ فَلَا يَصِحُّ وَنَصُّهُ فِي الجديد على استحباب عَلَى تَرْكِ الِاسْتِحْبَابِ لِنَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ غُبَارٌ قَلِيلٌ إِنْ نَفَخَهُمَا لَمْ يُبْقِ فِيهِمَا شَيْئًا يَسْتَعْمِلُهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَدِ ضَرَبَاتِ التُّرَابِ وَصِفَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى وَجْهَهُ بِكَفَّيْهِ مَعًا، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَعْلَى وَجْهِهِ كَالْوُضُوءِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ، ثُمَّ يَسْتَعْلِي لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْعُضْوِ إِذَا اسْتَعْلَى بِهِ انْحَدَرَ بِطَبْعِهِ فَعَمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ، وَالتُّرَابُ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ بِالْيَدِ فَيَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ لِيَقِلَّ مَا يَحْصُلُ فِي أَعْلَاهُ مِنَ الْغُبَارِ لِيَكُونَ أَجْمَلَ وَأَسْلَمَ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ لِذِرَاعَيْهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَيَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى فَيَبْدَأُ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ لَا يَخْتَلِفُ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَيَضَعُ ظَاهِرَ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُمِرُّ بُطُونَ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَظَاهِرِ ذِرَاعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ رَاحَتِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعَيْهِ، وَيُمِرُّهَا إِلَى كُوعِهِ ثُمَّ بَاطِنِ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ظَاهِرَ ذِرَاعِهِ بِجَمِيعِ كَفِّهِ إِلَّا بَاطِنَ إِبْهَامِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ إِبْهَامِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ تَعْدِيلًا بَيْنَ ظَاهِرِ الذراع وباطنها. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَمْسَحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَسْحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْغُبَارَ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْ مَسْحُهَا كَالْمَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ جارٍ بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِذَا جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ؛ لِأَنَّهُ جَامِدٌ لَا يَكَادُ يَصِلُ إِلَى تَكَاسِيرِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَأَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ كَانَ تَخْلِيلُهَا وَاجِبًا، وَإِنْ كان قد وصل إليها ففي وجوب تحليلها وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ ضَيَّقَ الشَّافِعِيُّ صِفَةَ التَّيَمُّمِ بِهَاتَيْنِ الضَّرْبَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؟ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. والثاني: أنه خرج عن سُؤَالِ سَائِلٍ زَعَمَ أَنَّ مَسْحَ الذِّرَاعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَحِيلٌ فَبَيَّنَ وَجْهَ صِحَّتِهِ، وَبُطَلَانَ اسْتِحَالَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِضَرْبَتَيْنِ اسْتَعْمَلَ ضَرْبَةً ثَالِثَةً وَرَابِعَةً حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَبْقَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ حَتَّى صَلَّى أَعَادَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ يُصَلِّي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فِي التيمم واجب كالوضوء، فكل مَوْضِعٍ مِنْهُمَا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ لَزِمَ إِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَصِلِ الْغُبَارُ إِلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَإِنْ تَرَكَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَصَاعِدًا لَمْ يُجْزِهِ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ حَدٌّ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي النَّجَاسَةِ، فَصَارَ أَصْلًا لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْغَسْلَ إِذَا تَبَدَّلَ بِالْمَسْحِ جَازَ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ} (المائدة: 6) . وَقَدْ ثَبَتَ اتِّفَاقُنَا وَإِيَّاهُ أَنَّ الْبَاءَ لَمْ تَدْخُلْ هَا هُنَا لِلتَّبْعِيضِ فَصَارَتِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِلتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِالدِّرْهَمِ فَلَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنَ الدِّرْهَمِ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ وُضُوئِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ تَيَمُّمِهِ كَالدِّرْهَمِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّجَاسَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَنَى خِلَافًا يُنَازَعُ فِيهِ عَلَى أَصْلٍ لَا يُسَلَّمُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي النَّجَاسَةِ مُلْحَقًا بِمَا دُونَهُ فِي الْقِلَّةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي النَّجَاسَةِ قَلِيلًا، وَجَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي التَّيَمُّمِ مُلْحَقًا بِمَا فَوْقَهُ فِي الْكَثْرَةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي التَّيَمُّمِ كَثِيرًا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى اللُّصُوقِ وَالْجَبَائِرِ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغَسْلِ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ بَدَلُ رُخْصَةٍ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ على البعض ترفهاً، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلُ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَ الِاسْتِيعَابُ فِيهِ تَغْلِيظًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 (فصل) : فإذا أثبت أنه تَرَكَ فِي تَيَمُّمِهِ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَسْحَ مَا تَرَكَ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا بُنِيَ عَلَى الْمَسْحِ الْأَوَّلِ وَأَجْزَأَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الْمَسْحِ أَعَادَهَا بَعْدَ إِتْمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ الْبِنَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ يَجُوزُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ هَا هُنَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي تَيَمَّمَ لَهَا، فَإِذَا تَطَاوَلَ الزمان والوضوء بخلافه والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَدَأَ بِيَدَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ وَيَمْسَحَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بَعْدَ وجهه مثل الوضوء سواءً وإن قدم يسرى يديه على اليمنى أجزأه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَخَالَفَنَا فِيهِ أبو حنيفة كَمَا خَالَفَ فِي الْوُضُوءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ مَضَى، فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي الْوُضُوءِ فَالتَّيَمُّمُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَخَمْسَةٌ وَهِيَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ وَالنِّيَّةُ وَمَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَمَسْحُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَتَرْتِيبُ الْوَجْهِ عَلَى الذِّرَاعَيْنِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّسْمِيَةُ حِينَ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ. وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَأَمَّا تَكْرَارُ الْمَسْحِ فَلَا يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ بِالْغُبَارِ، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا نَوَى وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ جَازَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فَوَضَّأَهُ أَوْ غَسَّلَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ لَا يُجْزِيهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) {المائدة: 6) ، أَيْ فَاقْصِدُوا، وَهَذَا الْآمِرُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَقْصِدْ صعيداً، وإنما غيره القاصد له. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ فَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الْتَيَمُّمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُنُبُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ لَا غَيْرَ كَالْوُضُوءِ سَوَاءٍ، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وكافة الفقهاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ فَيَغْتَسِلَ وَيَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عِبَادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ جُنُبًا أَنْ يَتَيَمَّمَ ثُمَّ يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اغْتَسَلَ، وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَهُ رجلٌ فَقَالَ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَكَانِ الشَهْرَ أَوِ الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَكُنْ أُصَلِّي حَتَّى أَجِدَ الْمَاءَ؛ قَالَ: فَقَالَ عَمَّارُ أَمَا تَذْكُرُ إِذْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنَا جنابةٌ، فَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ نَفَخَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَمَّارُ اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ وَاللَّهِ لَمْ أَذْكُرْهُ أَبَدًا فَقَالَ عُمَرُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَنُوَلِّيَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ ". وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عن أبي قلابة عن رجل من بني عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ قُلْتُ: كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ، فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَمَرَنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بماءٍ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الصَّعِيدَ طهورٌ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سنينٍ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَيَمَّمَ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَصَلَّى بَعْدَ تَيَمُّمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَتَيَمُّمُهُ جَائِزٌ وَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اتِّفَاقَ مُوجِبِهَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا لَا يُوجِبُ نِيَابَةَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ عَصْرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فَصَلَّاهَا ثُمَّ بَانَتْ ظُهْرًا، وَلِأَنَّهُ تَطَهَّرَ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ عَنْ طَهَارَةِ الْجَنَابَةِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصُّورَةِ وَالنِّيَّةِ، فَلَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ فِيهِمَا مَانِعًا مِنْ إِجْزَائِهِمَا قِيَاسًا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حَيْضًا، أَوِ الْمُحْدِثِ يَتَوَضَّأُ عَنْ صَوْتٍ وَكَانَ نُوَّمًا، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِيهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنَ الْإِجْزَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ مُحْدِثًا، فَكَذَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ حَدَثٍ فَكَانَ جُنُبًا، فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالصَّلَاةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَتَعْيِينُهَا فِي الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْدَاثَ إِذَا اجْتَمَعَتْ تداخلت، والصلاوات إِذَا تَرَادَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ طَهَارَةَ الْجُنُبِ بِالْمَاءِ أَعَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَلَمْ يُجْزِهِ وَطَهَارَةُ الْجُنُبِ بِالتُّرَابِ كَطَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَأَجْزَأَهُ. (فَصْلٌ) : (قَالَ الْمُزَنِيُّ) : لَيْسَ عَلَى الْمُحْدِثِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ للحدث ولو كان عليه معرفة أي الأحداث كان منه كما عليه معرفة أي الصلوات عليه لوجب لو توضأ من ريحٍ ثم علم أن حدثه بولٌ أو اغتسلت امرأةٌ تنوي الحيض وإنما كانت جنباً أو من حيضٍ وإنما كانت نفساء لم يجزئ أحداً منهم حتى يعلم الحدث الذي تطهر منه ولا يقول بهذا أحدٌ نعلمه ولو كان الوضوء يحتاج إلى النية لما يتوضأ له لما جاز لمن يتوضأ لقراءة مصحف أو لصلاةٍ على جنازةٍ أو تطوع أن يصلي به الفرض فلما صلى به الفرض ولم يتوضأ للفرض أجزأه أن لا ينوي لأي الفروض ولا لأي الأحداث توضأ ولا لأي الأحداث اغتسل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَوَّلُ كَلَامِهِ فَصَحِيحٌ، وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لَيْسَ لَهُ بِلَازِمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ التَّيَمُّمَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ كَالْوُضُوءِ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا وَذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ خَالَفْنَاهُ، فِيهِ وَقُلْنَا إِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَرَادَ بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا فِي الوضوء أو في التيمم، فإن ط أَرَادَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الْجَوَابِ مُخْطِئٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِي التَّيَمُّمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْجَوَابِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ رفع الحدث والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ اغْتَسَلَ وإذا وجده الذي ليس بجنبٍ توضأ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال الماوردي: المحدث لعدم الماء، ثم وجده قبل دخوله فِي الصَّلَاةِ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُغْتَسِلًا بِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَمُتَوَضِّئًا بِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وحكي عن أبي سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحِيحٌ، لَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمُبْدَلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ لَا يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ كَالْمُكَفِّرِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طهورٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَهَذَا وَاجِدٌ لَهُ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمَقْصُودِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ بَانَ لَهُ النص قبل تنفيذ الحكم، وهذا الْمَعْنَى فَارَقَ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالتَّيَمُّمُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أداء المقصود. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُتَيَمِّمُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِهَا، وَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، قال العباس ابن سُرَيْجٍ، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَالْمُزَنِيُّ سَوَّى بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْعِيدَيْنِ فِي بُطْلَانِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وأبو حنيفة فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَبْطَلَ بِرُؤْيَةٍ صَلَاةَ الْفَرْضِ دُونَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالنَّفْلِ، وَفَرَّقَ أبو حنيفة أَيْضًا بَيْنَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ سُؤْرِ الْحِمَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَأَنَّهُ كَالْحَدَثِ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) . فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّيَمُّمِ حُكْمًا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، قَالُوا: ولأن كلما أَبْطَلَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَبْطَلَهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِظُهُورِ أَصْلِهِ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَبْطُلُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا جَازَ أَدَاؤُهَا بالعذر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 صِفَةٍ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ الْعُذْرِ مَانِعًا مِنْ إِجْزِائِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ، وَالْأُمِّيِّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ، وَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الطَّهَارَةِ بَدَلٌ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ فَقْدِهِ كَمَا أَنَّ الشُّهُورَ فِي الْعِدَّةِ بَدَلٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَيْضِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَشْهُرِ إِذَا رَأَتِ الْحَيْضَ لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَجَبَ إِذَا رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا، وَتَوَضَّأَ الْآخَرُ ثُمَّ أَحْدَثَ المتوضي وَوَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ كَانَ طُهْرُهُمَا مُنْتَقَضًا، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَهُمَا لَازِمًا، وَإِذَا كَانَ بِمَا دَلَّ الشَّاهِدُ عَلَيْهِ حَدَثًا، كَانَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا سَوَاءً. (فَصْلٌ) : وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهَا هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا الْمَاءَ لَتَيَمَّمَ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ رَأَى فِيهَا سُؤْرَ الْحِمَارِ لَمْ تَبْطُلْ وَجَبَ إِذَا رَأَى فِيهَا الْمَاءَ الْمُطْلَقَ أَنْ لَا تَبْطُلَ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ طَرْدًا وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ النَّجَاسَةُ عَكْسًا، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ لَوْ وَجَدَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ فَإِذَا وَجَدَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَبْطُلْ، كَسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِطُهُورٍ فَوَجَبَ أن لا يبطل برؤية الطهور، كالمتوضي إِذَا رَأَى الْمَاءَ أَوِ التُّرَابَ، وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى التُّرَابَ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ تَيَمُّمُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ لَوِ اتَّصَلَ عَدَمُهُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ لَخَلَتِ الذِّمَّةُ عَنْ وُجُوبِهَا بِأَدَائِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فِي تَضَاعِيفِهَا كَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثُوبًا، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وُصِفَا فِي الشَّرْعِ لِاسْتِبَاحَةِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ اسْتِبَاحَةِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْوُضُوءِ بِثَمَنِ الْمَاءِ، كَمَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْمَاءِ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ بَعْدَ عَدَمِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ عَدَمِهِ وَتَحْرِيرُهُ، قِيَاسًا عَلَى أَنَّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْوُضُوءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُهُ فِي الصَّلَاةِ، كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْأَصْلِ لِوُجُودِ ثَمَنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ بِوُجُودِ عَيْنِهِ، كَالْمُكَفِّرِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ صَوْمِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا طَلَبُ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَصِحُّ بِشَرْطَيْنِ: السَّفَرُ وَعَدَمُ الْمَاءِ، ثُمَّ لَوْ نَقَضَ السَّفَرَ بِالْإِقَامَةِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. فَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي التَّيَمُّمِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْإِقَامَةِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طريق الاستدلال بها وهو أنها تقتضي قبل التَّيَمُّمِ وَصِحَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَقَدْ تَيَمَّمَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ تَيَمُّمًا صَحِيحًا، وَهُمْ يَمْنَعُونَهُ مِنِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ صِحَّتِهِ فَكَانَ ظَاهِرُهَا دَالًّا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَاءِ يستقبل من الصلاة. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى حَالَةِ الطَّلَبِ لِلْمَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَذَا وُجُوبُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَدَثِ فَمُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَلَائِلِنَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ أَيْضًا، وَقَدْ جَعَلْنَاهُ دَلِيلًا ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدَثِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فَأَبْطَلَهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ كَالْمُتَيَمِّمِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ حَامِلَةٌ لِلنَّجَاسَةِ فَلَزِمَهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِإِزَالَتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَيْسَتْ فِي طَهَارَةٍ مِنْ وُضُوءٍ وَلَا فِي بَدَلٍ من التيمم، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُضُوءٍ فَهُوَ فِي تَيَمُّمٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا وَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فَهُوَ أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعُرْيَانَ أَصْلًا وَاسْتَخْرَجْنَا مِنْهُ دَلِيلًا، ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تُبْطِلُ الصلاة وإنما تغير صفة إتمامها ثم منتقض عَلَيْهِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَوُجُودِ الثَّمَنِ وَحُدُوثِ الْإِقَامَةِ ثُمَّ تُغَلَّبُ عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ كَالصِّحَّةِ وَوُجُودِ الثَّوْبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاضِي مِنْ شُهُورِهَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ هَلْ يَكُونُ قُرْءًا يُعْتَدُّ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قرءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ وَالثَّانِي: لَيْسَ بِقُرْءٍ، وَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَإِنْ جَعَلْنَا مَا مَضَى قُرْءًا لَمْ تَبْطُلِ الشُّهُورُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ وَالتَّيَمُّمُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُنْعَكِسًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْمَاضِي قُرْءًا وَأَبْطَلْنَا الشُّهُورَ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ وَبَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ بِزَمَنٍ لَا تُحْتَسَبُ بِهِ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي قَبْلَ دَمِهَا عَفْوًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ دَخَلَتْ فِيهَا بِالشَّكِّ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي تَأْخِيرِ الْحَيْضِ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ عَلِمَ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَالْمُتَيَمِّمُ مُتَيَقِّنٌ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَصَارَ كَالْحَاكِمِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالِاجْتِهَادِ نَصٌّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعِدَّةِ بِانْتِهَائِهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَمْلُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، وَالصَّلَاةُ فِي الطَّهَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِابْتِدَائِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَلْ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ عَلَى أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعِدَّةَ لَنَا دَلِيلًا فَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي الْجَوَابِ كَافِيًا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ مُحْدِثٌ وَالْحَدَثُ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْحَدَثِ، وَالْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَاءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا إِنَّ مُتَيَمِّمَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا عَنْ حَدَثٍ، وَالْآخَرُ عَنْ جَنَابَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَ الْجُنُبَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَالْمُحْدِثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَلَوْ كَانَ رُؤْيَتُهُ حَدَثًا لَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا، فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ وُضُوءٍ وَغَسْلٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ فِي عِبَادَةٍ مَنَعَتْ حُرْمَتُهَا مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَهُوَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ وَيَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُكْمِلَهَا، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تَبْطُلَ عِبَادَةٌ هُوَ فِيهَا فَإِذَا أَتَمَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ كَانَ قَدْ أُبْطِلَ لِغَيْرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي رَأَى الْمَاءَ فِيهَا فَقَدَّمَ الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ التَّيَمُّمِ لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بَعْدَ إِحْدَاثِ الطَّلَبِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُتَمِّمَ مَا نَوَى مِنْ عَدَدِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى أَرْبَعًا بِسَلَامٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكْمِلَهَا أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ الْإِحْرَامِ نِيَّةٌ مِنَ الْعَدَدِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَرَّرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّوَافِلِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوِ الْمُقَامَ بِمَكَانِهِ أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحَّ لِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَرْبَعًا؛ فَكَانَتْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُبْطِلَةً لِصَلَاتِهِ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يُتَمِّمُ صَلَاتَهُ، وَلَا تبطل؛ لأن تيممه صح لأدائها تامة ومقصورة والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَيَمَّمَ فَفَرَغَ مِنْ تَيَمُّمِهِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلى الماء، وإن دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دخوله بنى على صلاته وأجزأته الصلاة (وقال المزني) وجود الماء عندي ينقض طهر التيمم في الصلاة وغيرها سواء كما أن ما نقض الطهر في الصلاة وغيرها سواء ولو كان الذي منع نقض طهره الصلاة لما ضره الحدث في الصلاة وقد أجمعوا والشافعي معهم أن رجلين لو توضأ أحدهما وتيمم الآخر في سفر لعدم الماء أنهما طاهران وأنهما قد أديا فرض الطهر فإن أحدث المتوضئ ووجد المتيمم الماء أنهما في نقض الطهر قبل الصلاة سواءٌ فلم لا كانا في نقض الطهر بعد الدخول فيها سواء؟ وما الفرق وقد قال في جماعة العلماء أن عدة من لم تحض الشهور فإن اعتدت بها إلا يوماً ثم حاضت أن الشهور تنتقض لوجود الحيض في بعض الطهر فكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 التيمم ينتقض وإن كان في الصلاة وجود الماء كما ينتقض طهر المتوضئ وإن كان في الصلاة إذا كان الحدث وهذا عندي بقوله أولى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَمَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ بِالتَّيَمُّمِ مُجْزِئٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وابن سيرين وعطاء وطاووس وَمَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ بَاقِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَالنَّصِّ الَّذِي يَبْطُلُ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مَعَهُ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سفرٍ وَحَضَرَتْهُمَا الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ماءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ بَعْدُ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بوضوءٍ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَصَبْتَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ بِعَدَمِ الْمَاءِ عُذْرٌ مُعْتَادٌ فَإِذَا صَلَّى مَعَ وُجُودِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ بَعْدَ زَوَالِهِ لَهُ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ وُجُودِ النَّصِّ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ أَنَّنَا نَلْتَزِمُ مِنَ الْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّصُّ الْمُخَالِفُ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ كَانَ الِاجْتِهَادُ بَاطِلًا، وَالْحُكْمُ بِهِ مَنْقُوضًا، وَمِثَالُهُ فِي التَّيَمُّمِ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ وَقْتَ التَّيَمُّمِ مَوْجُودًا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ حَادِثًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ نَافِذٌ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِفَسْخٍ، وَهُوَ مِثَالُ مَسْأَلَتِنَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ نَافِذَةً. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجمع بالتيمم صلاتي فرضٍ بل يجدد لِكُلِّ فريضةٍ طَلَبًا لِلْمَاءِ وَتَيَمُّمًا بَعْدَ الطَّلَبِ الأول لقوله جل وعز: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} وقول ابن عباسٍ: " لا تصلى المكتوبة إلا بتيممٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ كالوضوء، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أَبُو ثَوْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُؤَقَّتَاتِ واستدلوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سنينٍ " فَجَعَلَهُ طَهُورًا مُسْتَدَامًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالْوُضُوءِ جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَالنَّوَافِلِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَخْتَصَّ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ فَرْضٍ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ فِي الطَّهَارَاتِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إَلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيَّباً) {المائدة: 6) فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبًا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ لَهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّصُّ بِالْوُضُوءِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ نَفَى حُكْمَ التَّيَمُّمِ عَلَى مُوجِبِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَتَّسِعْ لِأَدَاءِ فَرْضَيْنِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهَا طَهَارَةُ رُخْصَةٍ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرِيضَةٍ لَمْ يُحْدِثْ لَهَا وُضُوءًا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ تَيَمُّمًا كَالْفَرْضِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ إِعَادَتُهُ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ بَدَلٍ قَصُرَتْ عَنْ أَصْلِهَا فِعْلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُقْصَرَ عَنْهُ وَقْتًا، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: طَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الْكَامِلُ، فَيُؤَدِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ. وَطَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَيَقْصُرُ بِتَجْدِيدِ الْوَقْتِ عَنِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ. وَطَهَارَةٌ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهَا حُكْمًا، وَأَنْ لَا يُؤَدَّى بِهَا إِلَّا فَرْضًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِهِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّيَمُّمِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُضُوءِ فَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا كَانَ طَهَارَةَ رَفَاهِيَةٍ تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، والتيمم لما كان طهارة ضرورية لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا خَاصًّا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّوَافِلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَانَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ، وَلَمَّا لَمْ يكن الفرض تبعاً لفرض غيره لم يجزه أَنْ يُؤَدَّى فَرْضٌ بِتَيَمُّمِ فَرْضٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَثُرَتْ وَتَرَادَفَتْ، وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَاحِقَةً فِي إِعَادَةِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا سَقَطَ اعتباره سقوط إِعَادَةَ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَائِضِ، وَالْمَفْرُوضَاتُ لَمَّا انْحَصَرَتْ وَلَمْ تَشُقَّ إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرْضٍ مِنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، كَوُجُوبِ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَلَى الْحَائِضِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يُتَطَهَّرُ لَهُ مِرَارًا فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَلْزَمُ إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ لَهُ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ وَوَاجِدُ الْمَاءِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ إِذَا عَدِمَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَعَادَ التَّيَمُّمَ ثَانِيَةً لِحَدَثِهِ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا لِلْحَدَثِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ إِحْدَاثِ طُهْرٍ ثانٍ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِفَرْضٍ ثانٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَدْ جَعَلْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَنَا دَلِيلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْسِيمِ الطهارات لنا كافٍ. (فصل) : فإذا ثبت أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْضَانِ فِي وَقْتٍ، أَوْ وَقْتَيْنِ وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ طَوَافَيْنِ وَاجِبَيْنِ، وَلَا بَيْنَ طَوَافٍ وَصَلَاةِ فَرْضٍ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ فِعْلُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ يَنْوِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْفَائِتَةَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيهِنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِ صَلَاتَانِ لَا يَعْرِفُهُمَا صَلَّى الْخَمْسَ كُلَّهُنَّ يَنْوِي الْفَائِتَةَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَيَتَيَمَّمُ لِلْخَمْسِ كُلِّهِنَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لِبَقَاءِ الْفَرْضِ الثَّانِي مَعَ جَهَالَةِ عَيْنِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ الْمَجْهُولِ قُرْبًا وَبُعْدًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ ثَانِيَةً لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّلَبِ ثَانِيَةً، وَهَكَذَا فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُهُ فَإِذَا أَعَادَ الطَّلَبَ لَزِمَهُ إِعَادَتُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ فَأَمَّا الطَّلَبُ فِي رَحْلِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَى إِحَاطَتِهِ من في رحل غيره. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي بَعْدَ الْفَرِيضَةِ النَّوَافِلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ أَدَاءُ جَمِيعِهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وَالْفَرَائِضُ لَا يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّوَافِلَ وَإِنْ كَثُرَتْ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الفرض جاز لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ فَأُخِّرَتْ فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى جَوَازِهِ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَدَاؤُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَرْتِيبُهُ، لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مِنْ شَرْطِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ مَفْصَلٍ، وَتَقْدِيمُ النَّافِلَةِ فَصْلٌ قَاطِعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّافِلَةَ تَبَعٌ لِلْفَرِيضَةِ، وَمِنْ حُكْمِ التَّبَعِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنِ اعْتِلَالِهِ مَدْخُولٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِ فَصْلًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ مَسْنُونُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَائِزًا كَالْأَذَانِ وَإِنَّمَا يَكُونُ قَطْعًا إِذَا طَالَ التَّنَفُّلُ بَعْدَ مَسْنُونَاتِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: بِأَنَّهَا تَبَعٌ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ بِأَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّوَافِلِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ الْمُتَأَخِّرِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَى الصُّبْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وعلى الجنائز وَيَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَسْجُدُ سُجُودَ الْقُرْآنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أنه يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ لَهَا كَالنَّوَافِلِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِعَدَمِ غَيْرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا أَنَّ فَرْضَهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَكَانَ حُكْمُ النَّادِرِ مُلْحَقًا بِالْأَغْلَبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتَيْنِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يُصَلِّي عَلَيْهِمَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ وَالسَّهْوِ وَالْقُرْآنِ وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ إِذْ ليس بشيء مِنْهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُهُ فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ نَذْرٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا، لأنها فرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهَا الْخَتْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّهَا قَدْ تَكْثُرُ وَلَيْسَتْ كَالْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ، وَأَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا بِتَيَمُّمِ الطَّوَافِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلطَّوَافِ وَجَبَتْ أَوِ اسْتُحِبَّتْ وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ فريضة صلاتها، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا سُنَّةٌ جَازَ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ النذر؛ لأن وجوبها راتب بأصل الشرع. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن تيمم بزرنيخٍ أو نورةٍ أو ذراوةٍ ونحوه لم يجزه ". قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ التُّرَابِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أبي حنيفة وَاسْتَوْفَيْنَا الْحِجَاجَ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَإِنْ تَيَمَّمَ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التُّرَابِ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ أَوْ زِرْنِيخٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ رَمَادٍ أَوْ دَقِيقٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَانَ تَيَمُّمُهُ بَاطِلًا، فَإِنْ صَلَّى أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 (باب جامع التيمم والعذر فيه) (قال الشافعي) : " وَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وقت الصلاة وإعواز الماء بعد طلبه وللمسافر أن يتيمم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْبَابِ بَيَانُ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَهَا فَالْبَابُ الْأَوَّلُ بَيَانُ فَرْضِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَا. فَأَمَّا شُرُوطُ التَّيَمُّمِ فَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَالَيْنِ هُمَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَأَمَّا السَّفَرُ فَلِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِيهِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا. وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمَاءِ بَعْدَ طَلَبِهِ. فَأَمَّا دُخُولُ الْوَقْتِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْفَائِتَةُ وَالنَّافِلَةُ فَلَيْسَ الْوَقْتُ شَرْطًا فِي التَّيَمُّمِ لَهَا، وَإِنَّمَا إِرَادَةُ فِعْلِهَا شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لفرض مؤقت يؤديه لم يجز أن يتيمم في وقته قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَإِنْ تَيَمَّمَ أَعَادَ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (المائدة: 6) فَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ الذي هو مأمور باستعمال الماء فيه، فما كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْآيَةِ قِيَاسًا فَقَالُوا: كُلُّ وَقْتٍ جَازَ فِيهِ الْوُضُوءُ جَازَ فِيهِ التَّيَمُّمَ قِيَاسًا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَجَازَ فِعْلُهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ صَحَّ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كالمتيمم لفائتة وَالنَّفْلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ الْمَنْعَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ إِلَّا عند القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَمَّا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ الْوُضُوءِ، قَبْلَ الْوَقْتِ بَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا لِلْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ قِيَاسًا عَلَى طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ التَّيَمُّمِ، فَلَمْ يَجُزْ كالتيمم مع وجود الماء ثم انقلب، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي حَالَيْنِ فِي الْمَرَضِ وَالْعُذْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ قَبْلَ زَمَانِ الْمَرَضِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ زَمَانِ الْعُذْرِ، وَتَحْرِيرُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الوقت فالمعنى فيه أنه تيمم عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النَّوَافِلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ فِعْلِهَا عَقِيبَ التَّيَمُّمِ لَهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ طَلَبُ الْمَاءِ فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّلَبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِذَا فَقَدَ الْمَاءَ جَازَ التَّيَمُّمُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِوُجُودِ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَالْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ عَدَمٍ فَصَحَّ تَيَمُّمُهُ كَالْعَادِمِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ هُوَ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يَقْتَضِيهِ وَعُرْفُ الْخِطَابِ يُوجِبُهُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لَحْمًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَشَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّحْمَ قَبْلَ طَلَبِ اللَّحْمِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الْوُجُودُ بِطَلَبٍ، وَغَيْرِ طَلَبٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) {الكهف: 49) . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ قَبْلَ الْوُجُودِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ، وَمَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ إِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الْوُجُودِ، لَا فِي الْوُجُودِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ تَيَمَّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ شَرْطٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فِي التَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَوْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ، مَنْعُ التَّيَمُّمِ وَجَبَ إِذَا جَوَّزَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيَاسًا عَلَى رَحْلِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْعَجْزِ عَنْ مُبْدَلِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ مُبْدَلِهِ كَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الرَّقَبَةِ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فوجب أن لا يصح تيممه. أصله: إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِئْرًا بِقَرْيَةٍ وَشَكَّ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا بِرِشَائِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ رِشَائِهِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ من شرائط الصلاة فلم تجز مُفَارَقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ، أَصْلُهُ جِهَةُ الْقِبْلَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ العادات لَا يَلْزَمُ طَلَبُهَا فَهُوَ إِنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُهُ كَالْمَالِ فِي الْحَجِّ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الِانْتِقَالِ عَنِ الْعِبَادَةِ لَزِمَ طَلَبُهُ كَالرَّقَبَةِ وَعَدَمُ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ، فَلَزِمَ فِيهِ الطَّلَبُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ لِافْتِرَاقِ حَالِ مَنْ تَيَقَّنَ الْعَجْزَ وَمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ كَمَا لَا يَسْتَوِي حَالُ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَبَيْنَ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا بَعْدَ الطَّلَبِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّلَبِ، فَالطَّلَبُ طَلَبَانِ: طَلَبُ إِحَاطَةٍ، وَطَلَبُ اسْتِخْبَارٍ، فَأَمَّا طَلَبُ الْإِحَاطَةِ فَمُسْتَحَقٌّ فِي رَحْلِهِ وَمِمَّا تَحْتَ يَدِهِ فَيَلْتَمِسُ فِيهِ الْمَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ، وَأَمَّا طَلَبُ الِاسْتِخْبَارِ فَمُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ سَفَرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى نُزُولِهِ فَيَسْتَخْبِرُ مَنْ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ عَنِ الْمَاءِ مَعَهُمْ، أَوْ فِي مَنْزِلِهِمْ فَمَنِ اسْتَخْبَرَ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِهِ إِلَّا أَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ، وَمَنِ اسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي بِيَدِهِ عَمِلَ عَلَى خَبَرِهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَالْمَانِعِ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْمَاءَ لَزِمَهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الطَّلَبِ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ لزمه فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْمَنْزِلِ نَاحِيَةٌ يَرْجُو الْمَاءَ فِيهَا بِنَفْسِهِ رَاعَاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِخِلَافِ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى النُّزُولِ فِيهِ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ إِحَاطَةً وَاسْتِخْبَارًا تَيَمَّمَ، فَلَوْ رَأَى بَعْدَ طَلَبِهِ وَتَيَمُّمِهِ سَوَادًا أَوْ رَاكِبًا لَزِمَهُ طَلَبُ الْمَاءِ مِنْهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَعَادَ التَّيَمُّمَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الرَّاكِبِ صَارَ مُتَيَمِّمًا قَبْلَ كَمَالِ الطَّلَبِ، ثُمَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ أَنْ يُعِيدَ طَلَبَ الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ طَلَبِهِ فِي رَحْلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يَقِينٌ وَوُجُودُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ مُجَوَّزٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الطَّلَبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ طَلَبَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ أَوْ طَلَبَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ أَنَّ طَلَبَهُ وَتَيَمُّمَهُ صَادَفَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَيَمَّمَ كَانَ شَاكًّا فِي جَوَازِ تَيَمُّمِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فَطَلَبَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ تَيَمُّمِهِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا مَا لَمْ يَفُتِ الْوَقْتُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يلزمه تعجيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا بِقَدْرِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَالتَّنَفُّلِ بِمَا هُوَ مِنْ مَسْنُونَاتِ فَرِيضَتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ ذَلِكَ مَتَى تَرَاخَى بِهِ الزَّمَانُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَكَانَتْ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَلْزَمُهَا تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ طَهَارَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَلَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُهَا بِخِلَافِ طهارته الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَالَى عَقِيبَ الطَّهَارَةِ فَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا بِالتَّأْخِيرِ، وَلَيْسَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ حَدَثٌ فَمُنِعَ مِنَ التَّأْخِيرِ. (فَصْلٌ) : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَيَمُّمٍ ثانٍ، وَالتَّيَمُّمُ الثَّانِي يَفْتَقِرُ إِلَى طلبٍ ثانٍ، وَالطَّلَبُ يَقْطَعُ الْجَمْعَ؛ لِأَنَّ من شرطه الموالاة والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سفرٍ طَالَ أو قصر واحتج في ذلك بظاهر القرآن وبأثر ابن عمر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ مِنْ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ، وَصَلَاتُهُ بِهِ مُجْزِئَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَقَدْ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ بَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَلَعَلَّ حِكَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ إِنْ صَحَّتْ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَيَمَّمُ بموضعٍ يُقَالُ لَهُ مَرْبِضُ النَّعَمِ، وَهُوَ يَرَى بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ قَدْ يُوجَدُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَمَا يُوجَدُ فِي طَوِيلِهِ، فَاقْتَضَى جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِأَجْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَجُمْلَةُ الرُّخَصِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّفَرِ سِتَّةٌ تَنْقَسِمُ على ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ قَدْرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا. وَقِسْمٌ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا في سفر كَالْفِطْرِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وقصيره كالنافلة على الراحلة. (فصل) : فإذا ثبت أَنْ لَا فَرْقَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، فَالسَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَعْصِيَةٌ؛ فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَكَسَفَرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا المباح فكسفر التجارة، التيمم فهو جَائِزٌ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَكَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَإِذَا عُدِمَ فِيهِ الْمَاءُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يُتَرَخَّصُ كَمَا لَا يَقْصُرُ، وَلَا يُفْطِرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَيْسَ كَالرُّخْصَةِ بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ الَّذِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَالْعَاصِي يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ، وَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ فِي الْحَضَرِ كَالْقَرْيَةِ التي ماؤها من بئر تغور أو عين تغيض أَوْ نَهْرٍ يَنْقَطِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يُعِيدُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى، وَهَذِهِ رِوَايَةُ زُفَرَ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِالتَّيَمُّمِ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ إِذَا لَزِمَتْ فِي السَّفَرِ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ فَوَجَبَ إِذَا لَزِمَتْ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَجَعَلَ لِلتَّيَمُّمِ شَرْطَيْنِ: هُمَا السَّفَرُ وَالْمَرَضُ، فَلَمْ يُسْقِطِ الْفَرْضَ إِلَّا بِهِمَا لِيَكُونَ لِلشَّرْطِ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ شَرْطٌ أُبِيحَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِعَقْدِهِ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ عُذْرٌ نَادِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، وَعَدَمُهُ فِي السَّفَرِ عُذْرٌ عَامٌّ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ إِذَا سَقَطَ الْفَرْضُ بِهَا لَمْ تُوجِبْ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِالنَّادِرِ مِنْهَا كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسَافِرِ فَالْمَعْنَى فِي السَّفَرِ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي عُذْرٍ عَامٌّ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) . وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ تَيَمُّمٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ النَّجَسِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ سَلِيمٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّيَمُّمُ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُؤَدَّى فَرْضًا، فَلَمْ يَلْزَمْ فِعْلُهَا كَصَلَاةِ الْحَائِضِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا ذَرٍّ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالرَّبَذَةِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَكَانَتْ وَطَنًا، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ إِدْرَاكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ حَدَثَ فِي السَّفَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ فَإِذَا حَدَثَ فِي الْحَضَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَجْزٍ لَوْ حَصَلَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ فِعْلُهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا فِي الْحَضَرِ، كَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالثَّوْبِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهَا بِالْمَاءِ فَجَازَ لَهُ فِعْلُهَا بِالتُّرَابِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سفر " فَإِنَّمَا جُعِلَ السَّفَرُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ لَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ النَّجَسِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ النَّجَسِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ لَهُ يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَعْلَى الطَّهَارَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ أدناهما، وليس كذلك العادم. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَائِضِ فَهُوَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا النَّفْلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَادِمُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُ التَّكْلِيفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَقْضِي وَلَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ مَضَى فِيهِ وَقَضَاهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَيُعِيدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا، فَيَكُونُ فِعْلُهَا فِي الْحَالِ وَاجِبًا وَإِعَادَتُهَا وَاجِبَةً، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ: يُصَلِّي فِي الْحَالِ اسْتِحْبَابًا وَيُعِيدُهَا وَاجِبًا، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يلزمه أن يصلي ولا يُسْتَحَبَّ لَهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الطَّهَارَةِ فَيَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ افْتِتَاحُهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ: وَلِأَنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ أَصْلًا وَبَدَلًا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ: قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِفِعْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهَا كَالْمُحْدِثِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةِ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) {الإسراء: 78) وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ عَدِمَ شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهَا كَالْعُرْيَانِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَلِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِفَقْدِ الْمَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ تَطْهِيرِ الْحَدَثِ بِالتُّرَابِ وَالْمَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَرْطًا فِي أَدَاءِ الْأُخْرَى عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الشَّرْطِ مُسْقِطًا فَرْضَ الْمَشْرُوطِ لَهَا كَالتَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ مَضَى الْأَمْرُ وَالْأَوَامِرُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُطِيقِ لَهَا، فَصَارَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمُرَادِ بِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا فِعْلُهَا، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ الْمُحْدِثُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا بِالطَّهَارَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْهَا. (فَصْلٌ) : إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ مُقَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَقَامِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي وطنٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مِصْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى إِلَّا عَلَى مَاءٍ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي غَيْرِ وطن، فلا إعادة عليه والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَتَيَمَّمُ مريضٌ فِي شِتَاءٍ وَلَا صيفٍ إلا من به قرحٌ له غوراً وبه ضنىً من مرض يخاف أن يمسه الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ التَّلَفُ، أَوْ يَكُونَ مِنْهُ الْمَرَضُ الْمُخَوِّفُ لَا لِشَيْنٍ وَلَا لِإِبْطَاءِ برءٍ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَتَيَمَّمُ إِذَا خَافَ إِنْ مَسَّهُ الْمَاءُ شِدَّةَ الضَّنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَرَضُ هُوَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ فِيهَا، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ شَرْطًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ فِي الْمَرَضِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - وَاسْمُهُ أَسْعَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ رَجُلًا فِي سريةٍ فَأَصَابَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 كلمٌ وَأَصَابَتْهُ جنابةٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْضُ يَتَغَيَّرُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ التَّلَفِ كَالْمُسَافِرِ، وَيُفْطِرُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فَلَأَنْ يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ لِخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْلَى. (فَصْلٌ: أَقْسَامُ الْمَرَضِ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي الْمَرَضِ مَعَ وجود الماء فالمرض على أربعة أقسام: - القسم الأول - أن لا يكون يُسْتَضَرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ كَالْيَسِيرِ مِنَ الْحُمَّى. ووجع الضرس أو نفور الطِّحَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ مِنْ مَرَضٍ وَسَفَرٍ، فَلَمَّا جَازَ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ وَكَثِيرِهِ، جَازَ فِي قَلِيلِ الْمَرَضِ وَكَثِيرِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى وَخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا أَمِنَ مِنَ الْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ارْتَفَعَتِ الْإِبَاحَةُ، وَعَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لَا يَسْتَضِرُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالصَّحِيحِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فَهُوَ إِضْمَارُ الْفُرُوقِ فِيهَا، وَإِضْمَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السَّفَرِ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاءِ، فَاسْتَوَى حُكْمُ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْمَرَضِ حُدُوثُ الْأَذَى وَالِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ قليله وكثيرة. (فصل) : [القسم الثاني] : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ سَوَاءً كَانَ قُرُوحًا أَوْ جِرَاحًا أَوْ كَانَ غَيْرَ قُرُوحٍ وَلَا جِرَاحٍ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا مِنَ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحِ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنْ شِدَّةِ الضَّنَا فَلَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) {المائدة: 6) وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالْمَجْرُوحِ وَالْمَقْرُوحِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إذا صح وبرأ كالعادم سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 (فصل) : [القسم الثالث] وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ شِدَّةَ الْأَلَمِ وَتَطَاوُلَ الْبُرْءِ وَيَأْمَنَ التَّلَفَ، فَفِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْبُوَيْطِيُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) {المائدة 6) وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ، وَلِأَنَّ رُخَصَ الْمَرَضِ تُسْتَبَاحُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ لَا لُحُوقِ التَّلَفِ، كَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ التيمم، ولأنه لما جاز للمسافر أَنْ يَتَيَمَّمَ إِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي مَالِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي نَفْسِهِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ هَا هُنَا وَفِي الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ لَا يَخَافُ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي بِهِ صُدَاعٌ أَوْ حُمَّى، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِخَوْفِ التَّلَفِ كَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ، سَوَاءً فَكَانَ أَصَحَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْعَطْشَانُ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ شِدَّةَ الضَّرَرِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا لَوْ خَافَ التَّلَفَ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ. (فصل) : [القسم الرابع] وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَنْدُرُ الشَّيْنُ وَالشَّلَلُ وَيَأْمَنُ التَّلَفَ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ سَوَاءً، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو سَعِيدٍ يَقُولَانِ يَتَيَمَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا مَضَى، لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا مُتَأَبِّدٌ وَضَرَرَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ فِي الشَّلَلِ وَلَا يَتَيَمَّمُ فِي الشَّيْنِ؛ لأن في الشلل إبطال للعضو، وفي الشين قبحه، فكان الشين ضرراً ولم يكن الشلل ضرراً. (فصل: التيمم في شدة البرد) فَأَمَّا إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ لَا لِلْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِسْخَانِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بَعْدَ إِسْخَانِ الْمَاءِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج: 78) . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي ليلةٍ باردةٍ وأنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جنبٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) {النساء: 29) فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَقُلْ فِيَّ شَيْئًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنْ كَانَ مُقِيمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: بِسُقُوطِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ فَوَجْهُ مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا مَعَ حَاجَةِ عَمْرٍو إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَاءِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ، وَالْعَادِمِ الْمُسَافِرِ. فَإِذَا قِيلَ: بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْحَاضِرِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ فَوَجْهُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ عَادِمٍ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ النَّادِرَةَ لَا تَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ يَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ فِي السَّفَرِ وَكَالْمَرِيضِ فِي الْحَضَرِ، وَتَعَذُّرُ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ وَالْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عن الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو فَإِنْكَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي تَصْرِيحِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى مَا عَلِمَ من علمه، إذ قد استدل على مااستباحه مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ. (مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ تَيَمُّمِ من ببعض جسده قرح أو جرح) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ غسل ما لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ وَتَيَمَّمَ لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دون الآخر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ بَعْضُ جَسَدِهِ جَرِيحٌ أَوْ قَرِيحٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا صَحَّ مِنْ جَسَدِهِ وَيَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْجَرِيحِ وَالْقَرِيحِ، هَذَا مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ فِيمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ جَسَدِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ. وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صَاحِبِ الْقُرُوحِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة يخرجانها على قولين مضيا، كَالْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ بَعْضِ طَهَارَتِهِ لِعَدَمٍ وَبَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ طَهَارَتِهِ لِمَرَضٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقُرُوحِ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ قَوْلَانِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْمُسْتَعْمَلِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ مِنْهُ كَالْوَاجِدِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهَا، وَكَذَلِكَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ، وَالْعَجْزُ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْفَاعِلِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَعْذُورِ مِنْهُ كَالْمُكَفِّرِ بِنِصْفِ الْحُرِّ إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِالرَّقَبَةِ لَزِمَهُ عِتْقُهَا وَلَا يَكُونُ عَجْزُهُ بِنِصْفِهِ الْمَرْقُوقِ مُسْقِطًا لِحُكْمِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ، كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ لَا يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ قَرِيحًا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ في الحكم وما ليس بغالب تبع، قَالَ: وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا يَجِبُ كَالصَّوْمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " خَرَجْنَا فِي سفرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فِإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ". وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ تَطْهِيرَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَاءِ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الطُّهْرِ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يُعْفَ فِيهَا إِلَّا عَنْ قَدْرِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ، والكلام فيه مع أبو حنيفة أَوْضَحُ وَهُوَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْأَغْلَبِ، فَهُوَ أَنَّهُ أَصْلٌ لا يعتبر في الطهارت، أَلَا تَرَى لَوْ غَسَلَ أَكْثَرَ جَسَدِهِ مِنْ جنابة أو أكثر أعضاء وضوءه مِنْ حَدَثِهِ لَمْ يُجْزِهِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَجُزْ جَمْعًا فِي مَحَلٍّ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوَّلًا فِيمَا صَحَّ مِنْ بَدَنِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْقَرِيحِ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَرِيحُ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ وَكَانَ يَخَافُ أَنْ يُوصِلَ التُّرَابَ إِلَى أَفْوَاهِ قُرُوحِهِ أَمَرَّ التُّرَابَ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَوَجْهُهُ وَذِرَاعَاهُ صَحِيحَانِ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ قَرِيحَيْنِ غَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الْقَرِيحُ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ جَازَ، وَكَانَ عَادِلًا عَنِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَيَمُّمَ الْقَرِيحِ لِعَجْزِ الْمَرَضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَتَيَمُّمَ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ، إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالتَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنْ قَرِيحِ أَعْضَائِهِ صَلَّى بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ الْفَرِيضَةَ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ ولا يصلي فرضة ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُعِدِ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ تَطْهِيرٌ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَالتَّيَمُّمُ تَطْهِيرٌ لِفَرْضٍ وَاحِدٍ فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ أَحْدَثَ أَعَادَ الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا وَالْمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْلِهِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّ طُهْرَ الْجَنَابَةِ لَا يَنْتَقِضُ بالحدث الأصغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ مَنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دمٌ يَخَافُ إِنْ غَسَلَهُ، تَيَمَّمَ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ الدم ". وَهَذَا صَحِيحٌ، وَصُورَتُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَاحِبِ الْقُرُوحِ إِذَا كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ قَرِيحًا، وَبَعْضُهُ صَحِيحًا فَاسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي الصَّحِيحِ وَتَيَمَّمَ فِي الْقَرِيحِ، ثُمَّ صَلَّى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جُرْحِهِ دَمٌ، وَلَا نَجَسٌ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ أَوْ نَجَاسَةٌ مِنْ قَيْحٍ، وَمِدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا فِي الصِّحَّةِ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً، وَالَّذِي يُعْفَى عَنْهُ هُوَ يَسِيرُ مَاءِ الْقُرُوحِ، وَفِي يَسِيرِ الدَّمِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ كَثِيرًا لَا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى إِذَا صَحَّ، وَبَرَأَ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ، وَأَمَّا ابْنُ خَيْرَانِ فِي تَخْرِيجِهِ الْإِعَادَةَ فَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَغَافِلٌ عَنْ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ نَجَاسَةَ صَاحِبِ الْحُشِّ مُفَارِقَةٌ وَنَجَاسَةُ صَاحِبِ الْقُرُوحِ مُتَّصِلَةٌ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَهَارَةٍ، وَلَيْسَ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ تَطْهِيرًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ تَطْهِيرٌ لِلصَّحِيحِ مِنْ بَدَنِهِ، وَالتُّرَابُ تَطْهِيرٌ لِقَرِيحِ بَدَنِهِ فَعَرِيَتِ النَّجَاسَةُ عَنْ طَهَارَةٍ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، وَفَارَقَ بِهِ حَالَ الْمُسْتَحَاضَةِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (مَسْأَلَةٌ: صَلَاةُ مَنْ كَانَ فِي حش) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان في المصر في حشٍّ أو موضعٍ نجسٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا رَجُلٌ فِي حُشٍّ وَالْحُشُّ الْمَكَانُ النَّجِسُ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوَجَدَ فِي الْحُشِّ مَوْضِعًا طَاهِرًا أَوْ بِسَاطًا لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا إِعَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا طَاهِرًا وَلَا بِسَاطًا طَاهِرًا صَلَّى لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَهَلْ يُصَلِّي وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ يُصَلِّي اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا، وَوَجْهُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة عَلَيْنَا فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُصَلِّي وَاجِبًا وَوَجْهُهُ مَا استدللنا به على أبي حنيفة فيمن من لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا، فَإِذَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُومِئُ وَلَا يُبَاشِرُ النجاسة أن لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ السُّجُودَ مُبَاشِرًا بِأَعْضَاءِ سُجُودِهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَحَلِّ فرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَاسْتِيفَاءُ السُّجُودِ فَرْضٌ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الطَّهَارَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ السُّجُودِ كَالْعُرْيَانِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ تَظْهَرُ عَوْرَتُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الْقِيَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُومِئُ مُنْتَهِيًا فِي سُجُودِهِ أَقْصَى حَالٍ إِنْ زَادَ عَلَيْهَا أَصَابَ النَّجَاسَةَ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ، وَلَيْسَ لِلطَّهَارَةِ فِي النَّجَاسَةِ بَدَلٌ، فَكَانَ اجْتِنَابُ الْأَنْجَاسِ أَوْكَدُ مِنِ اسْتِيفَاءِ السُّجُودِ، وَخَالَفَ الْعُرْيَانَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَكُونُ خَلَفًا مِنَ الثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَلَا تَرَى لَوْ أَفْضَى بِعَوْرَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ سَاتِرًا لَهَا عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّوْبِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ أَجْزَأَهُ هَذَا، وَكَانَ سَاتِرًا لِأَنَّهُ لَا يُرَى أَجْزَأَهُ إِذَا كَانَ يُصَلِّي عُرْيَانًا فِي بَيْتٍ مُسْتَتِرًا بِحِيطَانِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاخْتِيَارِ. (فَصْلٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى فِي حُشٍّ) فَإِذَا صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا صَلَّاهُ كَانَ اسْتِحْبَابًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا صَلَّاهُ فِي الْوَقْتِ كَانَ فَرْضًا وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ بِأَدَاءِ حَقٍّ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْمُحْدِثِ لَا تَجُوزُ، وَالرُّخَصُ مِنَ الْعَاصِي لَا تَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَبِالْحَبْسِ فِي الْحُشِّ مَظْلُومًا فَفِي وجوب الإعادة قولان نذكر موجبهما بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَسَائِلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: صلاة من ربط على خشبة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أو مربوطاً على خشبةٍ صلى يومئ وَيُعِيدُ إِذَا قَدَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رُبِطَ عَلَى خَشَبَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَقْدِرُ مَعَ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا عَلَى اسْتِيفَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ حَسَبَ إِمْكَانِهِ مُومِيًا فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ وَهَلْ تَكُونُ صَلَاتُهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى ثُمَّ أَطْلَقَ مِنْ بَعْدُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ عَاصِيًا لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ أَوْ كَانَ مَرْبُوطًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كان متوضئاً ومظلوماً مستقبلاً للقبلة في وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. (مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التيمم لصوقا) ً قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَيَمُّمِ لُصُوقًا، نَزَعَ اللصوق وأعاد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ قُرُوحٌ فَأَلْصَقَ عَلَيْهَا لُصُوقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ عَلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِيهَا بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا، وَيَغْسِلُ مَا لَا قُرُوحَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا فَعَلَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السَّلِيمَ قَدْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ، وَمَوْضِعُ اللُّصُوقِ تَيَمَّمَ مِنْهُ بِالتُّرَابِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَعَادَ يَعْنِي اللُّصُوقَ أَعَادَهَا بَعْدَ تَيَمُّمِهِ لَا أَنَّهُ عَنَى إِعَادَةَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صُورَتُهَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ مِنْهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا فَيُصَلِّيَ مُقْتَصِدًا عَلَى غَسْلِ السَّلِيمِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ اللُّصُوقِ لَمْ يُطَهِّرْهُ بِالْمَاءِ وَلَا بِالتُّرَابِ، كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا، فَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا صَلَّى لِإِخْلَالِهِ بِالطَّهَارَةِ مُبْدِلًا، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَعَادَ يَعْنِي الصَّلَاةَ، دُونَ اللُّصُوقِ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَبْعُدُ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ نَزَعَ اللُّصُوقَ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي فَرْضِهِ مَاءً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَزْعُ اللُّصُوقِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللُّصُوقِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فِي مَحَلِّهِ وَلَا عَلَى أَيِّ الصُّورَتَيْنِ كَانَتِ الْمَسْأَلَةٌ فَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْتُ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ صَاحِبِ الْجَبَائِرِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَصَارَ لِصَاحِبِ اللُّصُوقِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ذَكَرْنَاهَا وَحَالٌ رَابِعَةٌ لَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ فَأَحَدُ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ فِيهَا دُونَ الْغَسْلِ، فَيَتَيَمَّمُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا وَلَا الْغَسْلِ فَيُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا فَيُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ. (مَسْأَلَةٌ: كَيْفِيَّةُ تيمم أصحاب الجبائر) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعد وبالجبائر مَوْضِعَ الْكَسْرِ، وَلَا يَضَعُهَا إِلَّا عَلَى وضوءٍ كَالْخُفَّيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْجَبَائِرُ مَا كَانَتْ عَلَى كَسْرٍ، وَاللُّصُوقُ مَا كَانَتْ عَلَى قُرْحٍ، فَإِذَا انْكَسَرَ عُضْوٌ مِنْ بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى سَتْرِهِ بِالْجَبَائِرِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا، وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا شَدَّهَا كَيْفَ شَاءَ عَلَى طُهْرٍ أَوْ غَيْرِ طُهْرٍ، فَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَغَيْرَ مُجَاوِزٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا خَوْفَ التَّلَفِ وَزِيَادَةِ الْمَرَضِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ شَدِّ الْجَبَائِرِ إِلَى شَرْطَيْنِ لِيَصِحَّ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَضَعَهَا إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْخُفَّيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طُهْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ شَدُّ الْجَبَائِرِ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْكَسْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَدَّ الْكَسْرِ وَحْدَهُ لَا يُغْنِي إِلَّا أَنْ يَشُدَّ مَعَهُ بَعْضَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَقَوْلُ الشافعي، ولا يعد وبالشد مَوْضِعَ الْكَسْرِ، إِنَّمَا أَرَادَ وَمَا قَارَبَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَإِنْ تَجَاوَزَ بِالشَّدِّ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ، أَوْ أَجْنَبَ، غَسَلَ مَا لَا جَبِيرَةَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا تَحْتَهَا، كَمَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَدْرِ الْمَسْحِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: يَمْسَحُ جَمِيعَ الْجَبَائِرِ لِيَكُونَ خَلَفًا مِنْ عَمَلِ الْعُضْوِ الْكَسِيرِ وَنَائِبًا عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْسَحُ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فِيمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ كَالرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَهَلْ يَلْزَمُ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ التَّيَمُّمُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَيَمَّمُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ غَسْلًا لِمَا ظَهَرَ وَمَسْحًا عَلَى مَا اسْتَتَرَ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْجَبَائِرِ مُعْتَبَرٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَيَمُّمٌ فَكَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ عَلِيًّا بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لَمْ يَأْمُرْهُ بَالتَّيَمُّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ بَدَلًا مِنْ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْجَبَائِرِ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي صَاحِبِ الْجُرُوحِ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ صَلَّى بِغَسْلِهِ وَتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يُحْدِثْ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، وَلَمْ يُعِدِ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ فَإِذَا أَحْدَثَ اسْتَأْنَفَ ثَانِيَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَلِكَ مَا كَانَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَبَائِرِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمُقَدَّرِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي أَبَاحَتِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قَدْ تَسْتَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ لأصحاب الجبائر) قال الشافعي: " فإن خاف الكسير غير متوضئ الْتَلَفَ إِذَا أُلْقِيَتِ الْجَبَائِرُ فَفِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيُعِيدُ مَا صَلَّى إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يُعِيدُ وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْكَسَرَ إِحْدَى زَنْدَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قُلْتُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أولى قوليه بالحق عندي أن يجزئه ولا يعيد وكذلك كل ما عجز عنه المصلي وفيما رخص له في تركه من طهرٍ وغيره وقد أجمعت العلماء والشافعي معهم أن لَا تُعِيدُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دائمٌ وَالنَّجَسُ قائمٌ وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الذي معه الماء يخاف العطش إذا صليا بالتيمم وَلَا الْعُرْيَانُ وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ القبلة يومئ إيماء فقضى ذلك من إجماعهم على طرح ما عجز عنه المصلي ورفع الإعادة وقد قال الشافعي من كان معه ماءٌ يوضئه في سفره وخاف العطش فهو كمن لم يجد (قال المزني) وكذلك من على قروحه دم يخاف إن غسلها كمن ليس به نجسٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ جُمْلَةٌ حَكَاهَا الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ غَيْرُ الْمُتَوَضِّئِ التَّلَفَ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ الْمُتَوَضِّئُ التَّلَفَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُزَنِيُّ غَيْرَ الْمُتَوَضِّئِ فِي حَالِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَمُرَادُ الرَّبِيعِ الْمُتَوَضِّئُ فِي حَالِ وَضْعِ الْجَبَائِرِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْجَبَائِرِ إِذَا صَحَّ وَبَرَأَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ وَهِمَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مُتَوَضِّئًا فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " أُصِيبَ إِحْدَى زَنْدَيَّ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ بِهِ فَجُبِرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ، فَقَالَ: امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَسْحٌ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ بِهِ فَصَارَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَوَهْيِ الْإِسْنَادِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا، وَحَكَاهُمَا الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ. أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْذَارٌ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَعْذَارٌ نَادِرَةٌ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ فَجَرَى مَجْرَى عَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَادِرٌ، وَإِذَا حَدَثَ لَمْ يَدُمْ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ، وَالْمَرْبُوطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 عَلَى خَشَبَةٍ، وَصَاحِبِ الْجَبَائِرِ، وَمَنْ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ، اسْتِشْهَادًا بِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا مَا كُلِّفُوا كما لا تعيد الاستحاضة وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دَائِمٌ وَالنَّجَسُ قَائِمٌ، وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَافُ الْعَطَشَ، وَلَا الْعُرْيَانُ، وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَشْهَدَ بِمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُمْ فِيمَا عَجَزُوا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ يُقَالَ لَهُ اعْتِلَالُكَ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ فاسدٌ؛ لِأَنَّ عَادِمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ عَاجِزٌ، وَفَرْضُ الْإِعَادَةِ عَنْهُ غَيْرُ سَاقِطٍ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى الْكَلَامِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ هُوَ مَعْذُورٌ، وَفَرْضُ الْإِعَادَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَبَطَلَ الِاعْتِلَالُ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْإِعَادَةِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْمَعْذُورُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ بِأَعْذَارِهِمْ وَهُمْ مَنْ ذَكَرَهُمْ، وَضَرْبٌ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ وَهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّنَا إِلَى مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَنْ ذَكَرْتَهُمْ مِنَ الْمَعْذُورِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُمْكِنَةٌ وَإِنْ شَقَّتْ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الْأَعْذَارِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَعْذَارُهُمْ نَادِرَةٌ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ، وَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْمُزَنِيُّ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَعْذَارُهُمْ عَامَّةً كالمتيمم من مرض أو سفر، أو نادر لَكِنْ قَدْ يَدُومُ كَالِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ. فَإِنْ قِيلَ وَالْخَائِفُ مِنْ سَبُعٍ إِذَا صَلَّى مُومِيًا نَادِرُ الْعُذْرِ وَلَا يَدُومُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ خَائِفٌ وَجِنْسُ الْخَوْفِ عَامٌّ. (فَصْلٌ: الْخِلَافُ فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الفرض) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْمَاضِيَةِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ، فَأَعَادُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ الْمُحْتَسَبَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ: أحدها: أن الصلاة الأولى فرض، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّانِيَةِ تَنَافِيًا لِمَا أَخَلَّ بِهِ من شروط الأولة. والمذهب الثاني: أن الثانية فرض، وإنما أمر بالأولة لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ كِلَا الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لا طهران فِي يَوْمٍ لَكِنَّ الْفَرْضَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لَنَا، وَإِنَّمَا يَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَرْضًا، وَبِالْأُخْرَى نَفْلًا لِتَكَافُئِهِمَا، وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ الدَّالِّ عَلَى الْفَرْضِ مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَا يَتَيَمَّمُ صحيحٌ فِي مصرٍ لمكتوبةٍ وَلَا لجنازةٍ وَلَوْ جَازَ مَا قَالَ غَيْرِي يَتَيَمَّمُ لِلْجَنَازَةِ لِخَوْفِ الْفَوْتِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِفَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ لِفَوْتِ الْأَوْكَدِ كان من أن يجوز فيما دونه أبعد. وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازةٍ إلا متوضئاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ مُسْتَحَقَّةٌ كَمَا تُسْتَحَقُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَحُكِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشعبي عن دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الطَّبَرِيِّ: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا مَعَ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِهِ رجلٌ فِي سكةٍ مِنَ السِّكَكِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَارَى فِي السِّكَّةِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ فَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَيَمَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ السَّلَامِ كَانَ تَيَمُّمُهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْجِنَازَةِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ التَّيَمُّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَهُورًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِهِ جَائِزًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ، فَاقْتَضَى بِأَنْ يُجْزِئَهُ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ تَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ بِالْمَاءِ إِلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ كَالْحَائِضِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ شرعية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " وإذا ثبت صَلَاةٌ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ، بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بَغَيْرِ طهورٍ "، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لَهَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . فَاقْتَضَى اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (المائدة: 6) ، إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا غَيْرُ مَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَسْتَبِيحُ فِيهَا الْفَرَائِضَ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ غَيْرَ الْفَرَائِضِ بِالتَّيَمُّمِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ اسْتِبَاحَةُ الْجَنَائِزِ كَالْمُحْدِثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عُرْيَانًا، وَفِي بَيْتِهِ ثَوْبٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْفَرَائِضِ، كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْجَنَائِزِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ احْتِيجَ فِيهَا إِلَى الطَّهُورِ لَمْ يَجُزِ افْتِتَاحُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ الَّتِي أَوْكَدُ فَلِأَنْ لَا يُجْزِئَهُ لِمَا دُونَهَا مِنَ الْجِنَازَةِ بَعْدُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بالخبر أنه تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِغَيْرِ طَهُورٍ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَيَمُّمِهِ قِيلَ تَعْلِيمُهُ التَّيَمُّمَ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْفَرِيضَةِ جَازَ لِلْجِنَازَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ فِي الطَّهَارَةِ لَهَا فَوَاتًا لِفِعْلِهَا فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْجُمُعَةِ، يَفُوتُ فِعْلُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْجُمُعَةُ تَنْتَقِلُ عِنْدَ فَوَاتِهَا إِلَى الظُّهْرِ وَلَا تَنْتَقِلُ فِي الْجِنَازَةِ إِلَى بَدَلٍ. قِيلَ: لَيْسَ الظُّهْرُ جُمْعَةً لَا سِيَّمَا قَوْلُهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ فِيهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تَفُوتُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فَهُوَ بِنَاءُ خِلَافٍ عَلَى خِلَافٍ ثُمَّ نَدُلُّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النبِيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ مسكينةٍ، وَصَلَّى عَلَى قبرٍ بَعْدَ شهرٍ فَجَعَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الشَّهْرَ حَدًّا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الشَّهْرُ عِنْدَنَا حَدًّا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ لَجَازَتِ الْآنَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قِيلَ: عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّنَا نُجَوِّزُهَا عَلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ تَجُوزُ قَبْلُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسُ أَفْوَاجًا وَيَنْصَرِفُونَ. وَالثَّانِي: إنما يمنع من الصلاة على قبره، لأن لا يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، لِمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدُ، ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة: قَدْ جَوَّزْتَ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ، فَلَوْ جَازَ التَّيَمُّمُ لَهَا خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا لَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمَا، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُمَا كَمَا أَجَازَهُ لِغَيْرِهِمَا، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَلَّ بِهِ مِنَ الْفَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: غُسْلُ وَوُضُوءُ مَنْ لَدَيْهِ بَعْضُ مَاءٍ لا يكفيه) . قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَغْسِلُهُ لِلْجَنَابَةِ غَسَلَ أَيَّ بَدَنِهِ شاء وتيمم وصلى وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَغْسِلُ مِنْ أَعْضَائِهِ شَيْئَا وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ الماء لا يطهر بدنه (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بالحق عندي لأن كل بدلٍ لعدمٍ فحكم ما وجد من بعض المعدوم حكم العدم كالقاتل خطأً يجد بعض رقبةٍ فحكم البعض كحكم العدم وليس عليه إلا البدل ولو لزمه غسل بعضه لوجود بعض الماء وكمال البدل لزمه عتق بعض رقبةٍ لوجود البعض وكمال البدل ولا يقول بهذا أحدٌ نعلمه وفي ذلك دليلٌ وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ فَرْضَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَتَيَمَّمَ، لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عَنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) ثُمَّ قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ؛ وَلِأَنَّ في استعمال الماء والتيمم جميعاً بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأُصُولِ لَا يَلْزَمُ كَالْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ عدم بعض الكل كَعَدَمِ جَمِيعِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ قِيَاسًا عَلَى الْوَاجِدِ لِبَعْضِ الرَّقَبَةِ يَكُونُ كَالْعَادِمِ لِجَمِيعِهَا فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) ، فَجَعَلَ التَّيَمُّمَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَهُورًا لِمَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الْعَادِمِ لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ بِحَالٍ لَزِمَهُ تَطْهِيرُهَا فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الطُّهُورِ فِي بَعْضِهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ تَطْهِيرِ بَاقِيهَا، قِيَاسًا عَلَى النَّجَاسَةِ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِهِ عَجْزًا عَنْ جَمِيعِهِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْ عَوْرَتِهِ مَا قَدَرَ وَيَقْرَأُ مَا أَحْسَنَ؛ وَلِأَنَّ سُقُوطَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَسْقُطِ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ، قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الْقُرُوحِ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ أَصْلًا يَنْتَقِلُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَلَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَقَعُ مُبَعَّضًا كَانَ وُجُودُ بَعْضِهِ مُوجِبًا لِلْمَصِيرِ إِلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُضْطَرِّ إِذَا وَجَدَ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ مِنَ الطَّعَامِ يَلْزَمُهُ أَكْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ، قَبْلَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَكُنْ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَرَاقَهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ إِجْمَاعًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ وُجُودَ بَعْضِ الْمُبْدَلِ كَعَدَمِهِ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى بَدَلِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقَدْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَبَّحَ بَدَلًا عَنِ الْبَاقِي، وَمُنْتَقَضٌ بالواجد لما يستر به بعض عورته لا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِتَارِ بِهِ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ الرَّقَبَةِ وَبَعْضِ الْمَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَنْ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَجِبُ عَنْ بَعْضِهَا، وَالتَّيَمُّمُ يَجِبُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَجِبُ عَنْ جَمِيعِهَا. وَالثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ لِيَمِينٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَالطَّهَارَةَ تَكُونُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْتَفِيدُ بِعِتْقِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ إِذَا صَامَ شَهْرَيْنِ فَائِدَةً، فَسَقَطَ عِنْدَ عِتْقِ بَعْضِهَا لدعم الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَيَسْتَفِيدُ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ فَائِدَةً، وَهُوَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَ أَعْضَائِهِ، وَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ بِهِ، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهِ لِوُجُودِ الْفَائِدَةِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُضُوءِ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ، لأنه يستعمله فِي عُضْوٍ دُونَ عُضْوٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْوُجُوبِ وَالْعِتْقُ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ فَلَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ. (فَصْلٌ: تَقْدِيمُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بِخِلَافِ الْقَرِيحِ الْجَرِيحِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا اسْتَعْمَلَ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَيِّ بَدَنِهِ شاء وتيمم لِبَاقِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا اسْتَعْمَلَهُ فِي وَجْهِهِ مُقَدِّمًا مَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ فِي وُضُوئِهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِبَاقِي أَعْضَائِهِ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ لِلْحَدَثِ بَدَلًا، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بَدَلٌ، وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحَدَثِهِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ هَذِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ هَذِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا لَمْ يُسْتَبَحْ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَانَ بَاطِلًا، وَإِذَا تَقَدَّمَ مَعَ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ لَمْ يُبِحِ الصَّلَاةَ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْرُوحَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: هَلْ تعجيل التيمم أفضل أم تأخيره؟) (قال الشافعي) : " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِاسْتِحْبَابِي تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لَوْ أَخَّرَهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ (قال المزني) قلت أنا كأن التعجيل بقوله أولى لأن السنة أن يصلي ما بين أول الوقت وآخره فلما كان أعظم لأجره في أداء الصلاة بالوضوء فالتيمم مثله وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُسَافِرٍ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَيَقَّنَ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ تَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَإِعْوَازِ الْمَاءِ فِيهِ، فَالْأَفْضَلُ بِهِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حَالُ الطَّهَارَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ صَارَ إِدْرَاكُ الْوَقْتِ فَضِيلَةً مُجَرَّدَةً وَإِنْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نهرٍ أَوْ وادٍ أَوْ بِئْرٍ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِتُؤَدَّى بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ أَحَقَّ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَوَّلُ الْوَقْتِ يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَصَارَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ مِنْ تَعْجِيلِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ كُلَّهُ مَحَلٌّ لِلطَّلَبِ، وَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ لِلْمَاءِ فِي غَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مَنْزِلِهِ، ذَلِكَ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ، مُسْتَحَبًّا، وَتَعْلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ التَّأْخِيرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْحَالِ فِيهِ هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنِ اسْتِدَامَةَ عَدَمِهِ، وَلَا حُدُوثَ وَجُودِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ غَالِبًا، فَالتَّعْجِيلُ جَائِزٌ، وَالتَّأْخِيرُ جَائِزٌ، وَفِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ رَجَاءَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة وَوَجْهُهُ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ "، وقال: " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بِالْعَشَاءِ " فَجَعَلَ تَأْخِيرَهَا بِعَدَمِ الْحَرِّ وَالشَّهْوَةِ أَفْضَلَ. وَلَيْسَ هَذَا الْعُذْرُ قُرْبَةً كَانَ تَأْخِيرُهَا لِطَلَبِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْلَى لِكَوْنِ الطَّلَبِ قُرْبَةً، وَلِأَنَّ كَمَالَ الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ تَأْخِيرُهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلَ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُهَا لِكَمَالِ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَعْجِيلَهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى فِي الْوَقْتِ، وَأَفْضَلُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَوَجْهُهُ حَدِيثُ أَمِّ فَرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا " وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مُتَيَقَّنَةٌ وَالْقُدْرَةُ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَضِيلَةٌ مُجَوَّزَةٌ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ. (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي رَحْلِهِ أَعَادَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، فَرَوَى الْمُزَنِيُّ هَا هنا، وفي جامعه الكبير أنه عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَرَوَى الرَّبِيعُ مِثَلَهُ فِي الْأُمِّ، وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ الْإِعَادَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَلَّمَ مِنْهَا قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُعِيدُ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُعِيدُ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْفَيَّاضِ لَيْسَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ فِي وُجُوبِ الإعادة محمولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ صَغِيرٌ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ كَبِيرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ بَلْ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مَوْجُودًا فِي رَحْلِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وُضِعَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَهَذَا يَشْرَحُ الْمَذْهَبَ وَاخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ومحمد: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْقُدْرَةُ مَعَ النِّسْيَانِ مُمْتَنَعَةٌ، وَالتَّيَمُّمُ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا طَالِبَانِ فِي رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ نِسْيَانُ الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ كَانَ نِسْيَانُهُ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ. وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَالنِّسْيَانُ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ، وَأَنَّ نِسْيَانَ الطَّهُورِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ كَنِسْيَانِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ، كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الطَّهَارَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا بِالنِّسْيَانِ، كَنَاسِي الثَّوْبِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ لَزِمَ الْمَسِيرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ نَاسِيًا لِمَا لَهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَهُوَ أَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بعاجزٍ، بَلْ حُكْمُ الْقُدْرَةِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَالْعَادِمِ الْمَوْصُوفِ بِالْعَجْزِ، ألا ترى أن ناسي عضواً مِنْ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلَيْسَ كَالَّذِي قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ فِي الصِّفَةِ بِالْعَجْزِ حَيْثُ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَاسِي الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ، فَهُوَ مَا نَذْكُرُهُ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ كَحُكْمِ نَاسِي الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَيَكُونُ حُكْمُ النِّسْيَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهِ، بَلْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ بِئْرُ مَاءٍ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَسَوَاءٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَبَيْنَ ظُهُورِهِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ، أَنَّ عَلَيْهِ الْإِحَاطَةَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الْفَيَّاضِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْبِئْرِ، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةَ الْأَعْلَامِ، بَيِّنَةَ الْآثَارِ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، بِخِلَافِ رحله فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْصِيرًا فِي الطَّلَبِ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الطَّلَبِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا ضَلَّ الرَّجُلُ عَنْ رَحْلِهِ وَطَلَبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِ مَاءٌ، فَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ وَجَدَ رَحْلَهُ وَعَرَفَهُ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَهُوَ مَعَ الذِّكْرِ لِلْمَاءِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَصَارَ عَاجِزًا عَنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رَحْلِهِ بِالْإِحْصَارِ أَوْ غُصِبَ منه الرجل فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. (مسألة: شراء الماء للوضوء) قال الشافعي: " وَإِنْ وَجَدَهُ بِثَمَنٍ فِي مَوْضَعِهِ وَهُوَ واجدٌ لِلْثَمَنِ غَيْرُ خائفٍ إِنِ اشْتَرَاهُ الْجُوعَ فِي سَفَرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَإِنْ أُعْطِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَتَيَمَّمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاعُ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِثَمَنِهِ صَارَ عَاجِزًا عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، فَلَوْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ يُؤَدِّيهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِقَدْرِ الثَّمَنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الدَّيْنُ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُجْزِئُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ عَدِمَ ثَمَنَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكًا لِثَمَنِهِ بِمَكَانٍ آخَرَ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ. قُلْنَا: لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ فِي مَكَانِهِ بِالدَّيْنِ، وَيُؤَخِّرُهَا إِلَى أَنْ يَصِلَ إلى الماء، فَيَشْتَرِي وَيُعْتِقُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مُوَقَّتَةٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عَدَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ، وَلَيْسَ وَقْتُ الْكَفَّارَةِ مُضَيَّقًا، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فِي نَفَقَتِهِ وَزَادِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ، فَيَتَيَمَّمُ وَيُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَبْذُولًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ، فَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ بِمَكَانِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ، لَا فِي وَقْتِ الِانْقِطَاعِ وَالْقِلَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بَذْلُ الْيَسِيرِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ، وَلَأَفْضَى الْأَمْرُ بِهِ إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ جَمِيعِ مِلْكِهِ، وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، وَرَفْعُ الْخُرُوجِ فِي الْمُعْتَدِلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ بُذِلَتْ لَهُ الرَّقَبَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قلنا: لا يلزمه أن يشريثها وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَتَوَقَّفَ حَتَّى يَجِدَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْبَدَلِ فِي حُكْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْقَادِرُ عَلَى صَدَاقِ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَهُ شِرَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ. (فَصْلٌ: هل يلزمه قبوله إذا وهب له؟) وَأَمَّا إِذَا وُهِبَ لَهُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ كَقَبُولِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي قَبُولِهِ مُكَافَأَةٌ وَالْمَالُ بِخِلَافِهِ لِمُشَاحَّةِ النَّاسِ فِيهِ، وَلُزُومِ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يستطعم الطعام. فإن قيل: وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَإِنْ لَمْ يقبله تيمم وَصَلَّى، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَوْجُودًا فِي يَدِ وَاهِبِه حِينَ وَهَبَهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَا يَمْلِكُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَعْدُومًا حِينَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فِي حَالِ تَيَمُّمِهِ. (فَصْلٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ كان معه ماء فوهبه وتيمم وصلى) فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَوَهَبَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ وَهَبَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا إعادة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 (فَصْلٌ: مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ الْعَطَشَ لو استعمله تيمم) إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَيَخَافُ الْعَطَشَ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي طَهَارَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِدَابَّتِهِ، وَخَافَ الْعَطَشَ عَلَيْهَا، لَا عَلَى نَفْسِهِ، أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ أَيْضًا لِمَا فِي استعماله من تعذيب ذات كبد حرا، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَلَفٍ وَذَهَابِ مَرْكُوبِهِ، فلو كان معه إنا آن مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا: طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ: نَجِسُّ، وَهُوَ خَائِفُ الْعَطَشِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ، فَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ جَازَ أَنْ يَشْرَبَ النَّجِسَ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ شَرِبَ الطَّاهِرَ وَحُرِّمَ عَلَيْهِ شُرْبُ النَّجِسِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ جَازَ شُرْبُ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ الطَّاهِرَ قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلطَّهَارَةِ فَمُنِعَ مِنْ شُرْبِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّهَارَةِ. (فَصْلٌ إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وبين الماء شيء) إِذَا عَلِمَ بِمَاءٍ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبُعٌ أَوْ خَافَ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ خَافَ عَلَى مَا يَخْلُفُهُ مِنْ رَحْلِهِ، أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْتِهِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَكَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَاءِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نُزُولِهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ عَلَيْهِ، أَوْ تَغْرِيرٍ بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَنْزِلَهَا، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى نُزُولِهَا، بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ لَزِمَهُ ذَاكَ، وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا إِلَّا بِشِرَاءِ دَلْوٍ، أَوْ حَبْلٍ لَزِمَهُ ذَاكَ إِذَا وَجَدَهُ، وَقَدَرَ عَلَى ثَمَنِهِ، وَكَانَ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُعِيرُهُ دَلْوًا وَحَبْلًا لَزِمَهُ اسْتِعَارَتُهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ ثمن بقدر الْمَاءِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعَارَتُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَالِ سَلَامَةُ الْعَارِيَةِ، وَإِمْكَانُ رَدِّهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ إِلَّا بِبَلِّ ثَوْبٍ يُوكِسُ قِيمَتَهُ إِنْ بَلَّهُ فِيهِ، جَازَ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ بَلِّهِ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبُلَّهُ فِيهِ، وَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَلَوْ عَلِمَ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ مَوْضِعَهُ وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إِلَى الْمَاءِ بِحَفْرٍ قَرِيبٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَزِمَهُ ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا يَلْزَمُهُ تَنْقِيَةُ بِئْرٍ وَإِصْلَاحُ سَيْلٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَّا بِحَفْرٍ بَعِيدٍ يَلْحَقُهُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَأَجْزَأَهُ التيمم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ مَعَ رجلٍ ماءٌ فَأَجْنَبَ رجلٌ وَطَهُرَتِ امرأةٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 حيضٍ، وَمَاتَ رجلٌ وَلَمْ يَسَعْهُمُ الْمَاءُ كَانَ الْمَيِّتُ أَحَبَّهُمْ إِلَى أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ ويتيمم الحيان؛ لأنهما قد يقدرا عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ إِذَا دُفِنَ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى غُسْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ ماءٌ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِهِ، فَإِنْ خَافُوا الْعَطَشَ شَرِبُوهُ وَيَمَّمُوهُ وَأَدَّوْا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي ثَلَاثَةٍ جَمَعَهُمُ السَّفَرُ، وَلَزِمَهُمُ الْغُسْلُ وَهُمْ جُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمَيِّتٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ جَمِيعَهُمْ فَعَلَى الْحَيَّيْنِ أَنْ يُغَسِّلَا الْمَيِّتَ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ فَرْضُ غُسْلِهِ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً كَانَ فَرْضُ غُسْلِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ الْحَيَّانِ بَعْدَ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ قَدَّمَا غُسْلَ أَنْفُسِهِمَا جَازَ ثُمَّ يُصَلِّيَانِ عَلَى الميت ويدفناه. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ شيئاً فعليهما أن يومما الْمَيِّتَ، وَيَتَيَمَّمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَيُصَلِّيَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَدْفِنَاهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمْ لَا غَيْرَ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ بَلْ وَجَدُوهُ مُبَاحًا أَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ إِنْسَانٌ وَقَالَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا الْمَاءَ أَحَدُكُمْ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَيِّتُ أَوْلَاهُمْ بِهِ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ هِيَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ يُقْدَرُ عَلَى غُسْلِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ، وَلَيْسَ طَهَارَةُ الْحَيَّيْنِ خَاتِمَةَ أَمْرِهِمَا، وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِمَا. وَالثَّانِي: بِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ تطيباً لَا مَحَالَةَ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَطَهَارَةُ الْحَيِّ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَأَدَائِهَا بِالْمَاءِ. فَلَوْ كَانَ بِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ نَجَاسَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْمَيِّتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ صَاحِبِ النَّجَاسَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهَا خَاتِمَةُ أَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى بِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا يُسْقِطُ تَيَمُّمَهُ، فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ طهارته بالنص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَائِضَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا أَغْلَظُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ. فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَمُحْدِثٌ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ، وَلَا يَكْفِي الْجُنُبَ فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَكْمِيلَ طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَلَا يَفْضُلُ مِنَ الْحَدَثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَغْلَظُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَيَفْضُلُ مِنَ الْمُحْدِثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى لِغِلَظِ حَدَثِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحْدِثَ أَوْلَى لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَاءِ بَعْدَ طَهَارَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا طَرِيقُهُ الْأَوْلَى، فَلَوْ تَغَلَّبَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْمَاءِ فَاسْتَعْمَلَهُ دُونَ الْمَيِّتِ، أَوْ غَلَبَ مَنْ لَيْسَ بِأَوْلَى عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى كَانَ مُسِيئًا وَطَهَارَتُهُ مُجْزِئَةٌ. (فَصْلٌ: لَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فمن أحق به؟) فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ، كَانَ مَالِكُ الْمَاءِ أَحَقَّهُمْ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجُودُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِيمَنْ وَهَبَ مَا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَغْسِلَهُ بِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ الْحَيَّانِ إِلَى شُرْبِهِ وَخَافَا الْعَطَشَ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا مَاءَ الْمَيِّتِ فَيَشْرَبَاهُ وَيُؤَدِّيَا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَ لَهُمَا مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى مَائِهِ، عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ لِحِرَاسَةِ أَنْفُسِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا ثَمَنُ ذَلِكَ وَقْتَ أَخْذِهِ مِنَ الْمَيِّتِ، لَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ، لِأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُمَا فِيهِ قِيمَتُهُ مُتْلَفٌ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ بِوَقْتِ الْإِتْلَافِ فَلَوْ لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى شُرْبِهِ وَغَسَّلَا بِهِ الْمَيِّتَ وَبَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ غُسْلِهِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى فَضْلِ مَائِهِ؛ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا بَقِيَ مِنْ مَاءِ الْمَيِّتِ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ، فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهِ لِغَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَغْتَسِلُ بِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ يُوَمَّمُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ بِهِ عَلَى التَّيَمُّمِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَيَّيْنِ غَسَّلَ بِهِ الْمَيِّتَ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ، فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 (باب ما يفسد الماء) قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ نُقْطَةُ خمرٍ أَوْ بولٍ أَوْ دمٍ أَوْ أَيِّ نجاسةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَسَدَ الْمَاءُ، وَلَا تُجْزِئُ بِهِ الطَّهَارَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النَّجَاسَةَ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَضَرْبٌ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَمِثْلُ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ، فَتَوَقِّي يَسِيرِهِ وَكَثِيرِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يدركه الطرف فإن كان مما يدركها الطَّرْفُ، فَقَدْ نَجُسَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمُرِيبَةُ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ حَصَلَتْ فِي مَاءٍ قَدْرُهُ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ كَذُبَابٍ سَقَطَ عَلَى نَجَاسَةٍ فَاحْتَمَلَ بِأَرْجُلِهِ وَأَجْنِحَتِهِ فِيهَا مَا لَا يُرَى وَلَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ثَوْبٍ فَدَلِيلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَقَدْ فَسَدَ الْمَاءُ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ مَفْهُومًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ غائطٌ أَوْ بولٌ أَوْ خمرٌ وَاسْتَيْقَنَهُ أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ ذَلِكَ غَسَلَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ في موضع آخر، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ: وَإِذَا وَقَعَ الذباب على بول أو خلا رَقِيقٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى ثَوْبٍ غُسِلَ مَوْضِعُهُ وَسَوَّى فِي تَنْجِيسِ الثَّوْبِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ بَيْنَ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، لِأَجْلِ اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ. إِحْدَاهُنَّ: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ إِنْ حَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَقَالُوا إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهُوَ دَلِيلُهُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمَاءِ هَا هُنَا، وَأَنَّ الثَّوْبَ ينجس بما لا يدركه الطرف، كما ينص بما لا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَكِتَابِ الْأُمِّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ الْمَاءَ أَقْوَى حُكْمًا فِي رَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الثَّوْبِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ كَثِيرَ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَثُرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ. فَكَذَلِكَ نَجُسَ الثَّوْبُ بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، أَوْ لَا يُدْرِكُهُ، وَلَمْ يُنَجَّسِ الْمَاءُ إِلَّا بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ دُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ جَمِيعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ وَيَكُونُ دَلِيلُ خِطَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ مَتْرُوكًا بِصَرِيحِ نَفْسِهِ فِي الثوِبِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَكَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ - يَعْنِي - إِذَا كَانَتْ مُتَيَقَّنَةً، وَلَمْ يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ فَعَبَّرَ بِإِدْرَاكِ الطَّرْفِ عَنِ الْيَقِينِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ مَعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التحرز عنها فَاقْتَضَى أَنْ يُنَجَّسَ بِهَا مَا لَاقَاهَا قِيَاسًا عَلَى مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهَذَا صَرِيحُ نَصِّهِ في الثوب أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ طَاهِرَانِ مَعًا لَا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَشْعُرُ التَّحَرُّزَ مِنْهَا وَإِنْ أَمْكَنَ فَشَابَهَتْ دَمَ الْبَرَاغِيثِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، وَهَذَا دَلِيلُ نَصِّهِ فِي الْمَاءِ. وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَاءَ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا، وَهَلْ يُنَجَّسُ الثَّوْبُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لِبُرُوزِهِ، وَالْمَاءُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ بِتَخْمِيرِ إِنَائِهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ رَأَى إِنَاءً مُخَمَّرًا: مَنْ خَمَّرَهُ؟ فَقِيلَ ابْنُ عباسٍ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ". وَالثَّانِي: أَنَّ يَسِيرَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَلَا يُعْفِي عَنْهُ فِي الْمَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثَّوْبِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الذُّبَابَ إِذَا طَارَ عَنِ النَّجَاسَةِ جَفَّتْ قَبْلَ سُقُوطِهِ عَلَى الثَّوْبِ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بِهَا شَكًّا، وَإِذَا سَقَطَ فِي الْمَاءِ انْحَلَّتْ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ بِهَا يَقِينًا، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مِنَ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِيهَا وَالْحِجَاجُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يُوجِبُهَا. (فَصْلٌ: يَسِيرُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ المعفو عنه وضابطه) وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْ يَسِيرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَدَمُ الْبَرَاغِيثِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَفِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْجَدِيدِ. أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا قِيَاسًا عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَإِنَّ تَمْيِيزَ الدِّمَاءِ شَاقٌّ فَعَلَى هَذَا مَاءُ الْقُرُوحِ أَوْلَى بِالْعَفْوِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ، وَخَالَفَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ عَامٌّ وَغَيْرُهُ مِنَ الدِّمَاءِ خَاصٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ مُتَعَذِّرٌ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ مُمْكِنٌ فَعَلَى هَذَا فِي الْعَفْوِ عَنْ مَاءِ الْقُرُوحِ وَجْهَانِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ. وَالثَّانِي: لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وقال أبو العباس ابن سُرَيْجٍ فِيمَا سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَذْهَبًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ دَمَ نَفْسِهِ مَعْفُوٌّ عَنْ يَسِيرِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذَّرٌ، وَدَمُ غَيْرِهِ غَيْرُ معفو عن يسيره؛ لأن التحرز منه متعذر فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَدِّ الْيَسِيرِ فِيهَا، أَمَّا دَمُ الْبَرَاغِيثِ فَيَسِيرُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ حدٍّ، وَلَا تَقْدِيرٍ فَمَا كَانَ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ يَسِيرًا كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ يَسِيرًا فَاحِشًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، أَمَّا غَيْرُهُ فِي الدِّمَاءِ وَمَاءِ الْقُرُوحِ فَفِي الْيَسِيرِ مِنْهَا قَوْلَانِ حُكِيَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ النَّاسِ أَيْضًا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِقَدْرِ الْكَفِّ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ يَسِيرِ مَا يُعْفَى عَنْهُ وَبَيْنَ كَثِيرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَأَمَّا إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ فِي الْمَاءِ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مُتَعَذَّرٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (مسألة) : قال الشافعي: " وإن توضأ رجلٌ ثم جمع وضوءه فِي إناءٍ نظيفٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ غيره لم يجزه لأنه أدى به الوضوء الفرض مرةً وليس بنجسٍ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توضأ ولا شك أن من بلل الوضوء ما يصيب ثيابه ولا نعلمه غسله ولا أحداً من المسلمين فعله ولا يتوضأ به لأن على الناس تعبداً في أنفسهم بالطهارة من غير نجاسةٍ وليس على ثوبٍ ولا أرضٍ تعبد ولا أن يماسه ماءٌ من غير نجاسةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الطَّهَارَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي رَفْعِ حَدَثٍ وَضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ، وَضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي أَمْرِ ندبٍ، فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ فِي وُضُوئِهِ، أَوْ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ فِي غُسْلِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ جميع أصحابه سماعاً، وروايةً أنه طاهر مُطَهِّرٍ، وَحَكَى عِيسَى بْنُ أَبَانٍ فِيمَا جَمَعَ مِنَ الْخِلَافِ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْهُ فَتَوَقَّفَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجَانِ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَنَقَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعَانِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَعْدِلَانِ عَنْ رِوَايَةِ عِيسَى، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَهُوَ مُخَالِفٌ يَحْكِي مَا يَحْكِيهِ أَصْحَابُ الْخِلَافِ وَلَمْ يَلْقَ الشَّافِعِيَّ فَيَحْكِيَهُ سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ وَلَا هُوَ مَنْصُوصُهُ فَيَأْخُذَ مِنْ كُتُبِهِ وَلَعَلَّهُ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ فِي نُصْرَةِ طَهَارَتِهِ رَدًّا عَلَى أبي يوسف، فَحَمَلَهُ عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ دليلاً لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَكُونُ مَذْهَبًا وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الْجَوَازِ إِنَّمَا كَانَ اعَتِمَادًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ أَصَحُّ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَصَارَ الْمَذْهَبُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ ومحمد بن الحسن، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف هُوَ نَجِسٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءُ طَهُوراً} (الفرقان: 48) وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ التَّطْهِيرُ كَمَا ثَبَتَ لِلْقَاتِلِ اسْمُ الْمَقْتُولِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْتَسَلَ فَبَقِيَ عَلَى مَنْكِبِهِ لمعةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ شَعْرَهُ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ بَلَلَ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ إِذَا لَاقَى طَاهِرًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا قِيَاسًا عَلَى الْجَارِي عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا، أَوْ تَنَظُّفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يَسْلُبْهُ الِاسْتِعْمَالُ الطَّهَارَةَ لَمْ يَسْلُبْهُ التَّطْهِيرَ، وَتَحْرِيرُهُ إِنَّ كُلَّ صِفَةٍ كَانَتْ لِلْمَاءِ قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ كَانَتْ لَهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ، قِيَاسًا عَلَى الطَّهَارَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي أداء الطهارة لا يمنع استعمالها كرة مِنْ تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ ثَانِيًا بِذَلِكَ الْمَاءِ، أَصْلُهُ: إِذَا جَرَى عَلَى الْبَدَنِ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) {المائدة: 6) فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْوَجْهِ بِمَاءٍ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِمَاءٍ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ نَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْجُنُبُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَبَقَ الْجُنُبُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَنْ قَلَّ مَعَهُ الْمَاءُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ إِرَاقَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً لَمَنَعُوهُ من إراقته في الاستعمال ولا لزموه جمع ذلك لطهارة ثَانِيَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ على التيمم ولا يستعمله. والثاني: أن يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ، وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْمُسْتَعْمَلِ لَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ فَيَكْمُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي تَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَتْ صِفَةُ الْمَنْعِ إِلَى الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى عَنْهُ التَّطْهِيرُ زَالَ عَنْهُ التَّطْهِيرُ، كَمَا لَوْ تَعَدَّتْ عَنْهُ الطَّهَارَةُ جَازَ أَنْ تَزُولَ عَنْهُ الطَّهَارَةُ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَدَّى بِهِ فَرْضَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَلِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ فِي إِسْقَاطِ فَرْضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ فِي إِسْقَاطِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفَرْضِ، قِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ ثَانِيَةً فِي كَفَّارَةٍ. فأما الجواب عن قوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) {المائدة: 6) فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطْهِيرِ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَكْرَارِ التَّطْهِيرِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَسَلَ لُمْعَةً فِي مَنْكِبِهِ بِمَا عَصَرَهُ مِنْ شَعْرِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْعُضْوِ، وَمَا عَلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَرَى إِلَى عُضْوٍ آخَرَ طَهَّرَهُ فَكَذَا إِذَا جَرَى مِنْ شَعْرِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ طَهَّرَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَسْلِهِ ثَانِيَةً وَمَاؤُهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَسْحِ رَأْسِهِ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَزِيَادَةُ جَوَابٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ لَا يَلْزَمُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَكَانَ مَا حَصَلَ فِي غَسْلِهَا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَجَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَبَرُّدٍ أَوْ تَنَظُّفٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ عَنِ التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَنِ الطَّهَارَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَأْثِيرًا فِي الطَّهَارَةِ جَازَ أَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ صِفَةُ الطَّهَارَةِ وَلَمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّطْهِيرِ زَالَتْ عَنْهُ صِفَةُ التَّطْهِيرِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ، فَجَازَ أَنْ يُعَادَ كَالطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْمَاءُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا انْحَدَرَ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 (فَصْلٌ: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نجاسة المستعمل) وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَغْتَسِلْ مِنْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ، ثُمَّ كَانَ الْبَوْلُ سَبَبًا لِتَنَجُّسِهِ فَكَذَا الِاغْتِسَالُ بِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَلَمَّا زَالَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالتَّطْهِيرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي فَرْضِ طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى طَهَارَتِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْهَاجِرَةِ فَدَعَا بماءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ " وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: اشْتَكَيْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَجَاءَا وَقَدْ أُغمي عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُوصِي فِي مَالِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ ". فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ نَجِسًا لَمَا نَجَّسَ بِهِ جَابِرًا، وَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توضأ وأصحابه ولا شك إلا أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ثَوْبَهُ وَثِيَابَهُمْ مِنْ بَلَلِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ، وَلَا عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ غَسَلَهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَغَسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِغَسْلِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ اغْتَسَلَ حِينَ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءُ يَقْطُرُ مِنْ جُمَّتِهِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَصَانَ الْمَسْجِدَ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَاهُ طَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ جَرَى عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا، وَلِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَصِيرُ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يُلَاقِيَ نَجِسًا أَوْ يَنْتَقِلَ عَنْ صِفَةٍ فَيَصِيرُ نَجِسًا كَالْعَصِيرِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا، وَالْبَيْضِ الَّذِي يَصِيرُ مَذِرَةً، وَالْحَيَوَانُ يَمُوتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فَيَصِيرُ نَجِسًا، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَمْ يُلَاقِ نَجِسًا ولا يَتَغَيَّرْ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ نَجِسًا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَازَ عِنْدَكُمْ أَنْ يَلْتَقِيَ النَّجِسَانِ فَيَطْهُرَا جَازَ أَنْ يَلْتَقِيَ الطَّاهِرَانِ فَيَنْجُسَا، قِيلَ: وَلِمَ صَارَا كَذَلِكَ؟ وَمَا الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْتِقَاءُ النَّجِسَيْنِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ، كَانَ الْتِقَاءُ الطَّاهِرَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُوجِبَ الطَّهَارَةَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ " زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ طَرِيقٍ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَلَا يَغْتَسِلُ مِنْهُ بَعْدَ التَّبَوُّلِ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ قَدْ صَارَ مَسْلُوبَ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَلَبَهُ الِاسْتِعْمَالُ إِحْدَى صِفَتَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ، فَإِنَّهُ يَسْلُبُهُ التَّطْهِيرَ، وَلَا يَسْلُبُهُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ جاز أن تزول عنه الطهارة، لما لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ قُلْنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ وَعِنْدَنَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ كَانَ نَجِسًا أَنَّهُ لَاقَى نَجِسًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: ضَابِطُ الْمَاءِ المستعمل) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى سَقَطَ فِي الْإِنَاءِ فَأَمَّا إِذَا جَرَى مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ بِانْتِقَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا انْتَقَلَ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ لَمْ يُطَهِّرْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ قَدْ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَهَلْ يَصِيرُ بِانْتِقَالِهِ عَنِ الْعُضْوِ إِلَى غَيْرِهِ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَلَا يَرْفَعُ جَنَابَةَ الْعُضْوِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالْمُحْدِثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِانْتِقَالِهِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ إِذَا انْتَقَلَ الْمَاءُ مِنْ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى عَمَّ جَمِيعَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ، فَلَوْ غَسَلَ الْمُحْدِثُ رَأْسَهُ كَانَ فِيمَا سَقَطَ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي الرَّأْسِ مَسْحُهُ بِالْبَلَلِ الْبَاقِي عليه فلم يصير الْفَاضِلُ مِنْ غَسْلِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِبَعْضِ الْمَاءِ إِذَا حَصَلَ مُتَعَدِّيًا بِالِاسْتِعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ يَكْفِيهِ مُدٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 لِوُضُوئِهِ لَوِ اسْتَعْمَلَ صَاعًا فَصَارَ الصَّاعُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِهِ مُكْتَفِيًا كَذَلِكَ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ. (فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إذا بلغ قلتين) فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قُلَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِ كَجُنُبٍ اغْتَسَلَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، وَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ بِأَغْلَظَ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إِذَا كَانَ قُلَّتَيْنِ لا يغير حكمه ما لم يَتَغَيَّرُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ ثُمَّ جُمِعَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ قُلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يصير مطهر أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ لِقِلَّتِهِ مَعَ طَهَارَتِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْ كَثِيرِهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُطَهِّرًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ أَغْلَظُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنَ الْحَدَثِ فَلَمَّا كَانَ جَمْعُ الْقَلِيلِ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا يَنْفِي عَنْهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ. (فَصْلٌ) : ثُمَّ إِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ بِهِ الْإِنْجَاسُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ لِلْمَاءِ حُكْمَيْنِ فِي التَّطْهِيرِ. أَحَدُهُمَا: فِي رَفْعِ الْحَدَثِ. وَالثَّانِي: فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ لَمْ يَسْقُطِ الْحُكْمُ الْآخَرُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ، قِيلَ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْتَزَمَ هَذَا السُّؤَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَقُولُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَسِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَخَفِّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَغْلَظِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ مَانِعًا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُزِيلُ النَّجَسَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ التَّطْهِيرِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بَاقِيًا أَوْ مُرْتَفِعًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا صَحَّ فِي الطَّهَارَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَفِعًا زَالَ عَنِ الطهارتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 (فصل: الماء المستعمل في إزالة النجس) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ نجس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّهَا أَوَ زَائِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ زَالَتْ عَنْ مَحَلِّهَا بِالْمَاءِ حتى صار المحل طاهراً فذهب الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْهَا طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَدَثِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَاءٌ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ قَالُوا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ التَّطْهِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَدَلِيلُنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بول الأعرابي: " صبوا عليه ذنوبا من ماءٍ ". فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَاءُ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ طَاهِرًا لَكَانَ أَمْرُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَبَثًا، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى التُّرَابِ النَّجِسِ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ، وِفَاقًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا بَعْدَ انْفِصَالِهِ حِجَاجًا إِذْ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حَالٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الاعتدال قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُفَارَقَتِهَا، كَالْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا وَكَانَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ هُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَالتَّنْجِيسُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَبِالْمُلَاقَاةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ وَبَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي تَنْجِيسِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ وَارِدٌ بَيْنَهُمَا من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أَحَدُهُمَا: السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ أَمَرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَلَوْ صَارَ نَجِسًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَحَيْثُ نَهَى مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ وُرُودَ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ لِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنَ النَّوْمِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: مِنِ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ لِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ نَجِسًا لَمَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُ نَجَاسَتِهِ عَنِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْمَاءَ نَجُسَ بِوُرُودِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهِ، وَلَيْسَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فَحُكِمَ بِتَنْجِيسِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْلُبُ الْمَاءَ بِمَا خَالَفَهَا مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ أَنَّ التَّطْهِيرَ صفة متعدية فجاز أن تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ، وَالطَّهَارَةُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ فَجَازَ أَنْ لَا تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُفَارِقٌ وَاللَّازِمَ مُقِيمٌ. (فَصْلٌ) : فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ثَوْبًا نَجِسًا طُرِحَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ مَا أَزَالَ أَثَرَ النَّجَاسَةِ عَنْهُ كَانَ الثَّوْبُ وَمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ طَاهِرًا كُلَّهُ، فَلَوْ عَصَرَ الثَّوْبَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَصْرِ طَاهِرًا مُسْتَعْمَلًا، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجِسَ فِيهِ صَارَ الثَّوْبُ وَالْمَاءُ وَالْإِنَاءُ نَجِسًا كُلُّهُ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ وَفِي الْأَوَّلِ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ، فَلَوْ بَسَطَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِ الْإِنَاءِ ثُمَّ أَرَاقَ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَى الثَّوْبِ، ثُمَّ نَزَلَ فِي الْإِنَاءِ طَهُرَ الْمَاءُ وَالثَّوْبُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لِلنَّجَاسَةِ أَثَرٌ (فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ مستحب) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أَمْرِ نَدِبٍ، كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَغُسْلِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي هَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْمَاءُ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فَشَابَهَ رَفْعَ الْحَدَثِ وُضُوءًا وَغُسْلًا، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 يُسْتَعْمَلْ فِي تَطْهِيرٍ فَيَسْلُبُهُ الِاسْتِعْمَالُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ فتشابه مَا اسْتُعْمِلَ فِي غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ الْمُحْدِثُ مَرَّةً ثُمَّ جَمَعَ مَاءَ الْمَرَّةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَانِيَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّانِيَةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأْ ثَالِثَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّالِثَةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَابِعَةً وَجَمَعَ مَاءَ الرَّابِعَةِ فِي الإناء، كان ماء الأولة مستعملاً؛ لأن ماء الأولة مستعملاً لارتفاع الحدث بها، وماء الرابعة مطهراً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَارِدٌ بِكَرَاهَتِهَا، وَفِي مَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ندبٌ فلو أراق ماء الأولة على ماء الرابعة، فإن كان ماء الأولة أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُسْتَعْمَلًا، فَإِنْ كَانَ مَاءُ الرَّابِعَةِ أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُطَهِّرًا، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ إِذَا غَسَلَهَا مِرَارًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أحدها: أن تزول النجاسة بالمرة الأولة فَيَكُونُ مَاءُ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا. وَفِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ: لِأَنَّهَا نَدْبٌ وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطَهِّرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَزُولَ النَّجَاسَةُ بِمَاءِ المرة الثانية فيكون ماء الأولة نَجِسًا، وَمَاءُ الثَّانِيَةِ مُسْتَعْمَلًا، وَفِي مَاءِ الثَّالِثَةِ وَجْهَانِ، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَزُولَ النَّجَاسَةُ إِلَّا بِمَاءِ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فيكون ماء الأولة وَالثَّانِيَةِ نَجِسًا، وَمَاءُ الثَّالِثَةِ مُسْتَعْمَلًا، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا اغْتَسَلَ مَرَّةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثَانِيَةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ كَانَ الْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلًا، وَالثَّانِي مُطَهِّرًا؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الثَّلَاثِ مَأْثُورٌ فِي الْوُضُوءِ وَالنَّجَاسَةِ، وَغَيْرُ مَأْثُورٍ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة: الكلب إذا ولغ في إناء) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَقَدْ نَجِسَ الْمَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِقَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْكَلْبُ نَجِسٌ، فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ صَارَ وَمَا فِيهِ نَجِسًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْكَلْبُ طَاهِرٌ فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ وَمَا فِيهِ طَاهِرًا، وَوَجَبَ غَسْلُهُ تَعَبُّدًا، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ والْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الِاصْطِيَادَ بِهِ فَقَالَ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) {المائدة: 4) وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَفْسَدَ مَا صَادَهُ بِفَمِهِ، وَلَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ، وَبِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الْكِلَابَ وَالسِّبَاعَ تَلِغُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَهَا مَا فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شرابٌ وطهورٌ " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّبَاعِ فَلَمَّا كَانَ السَّبُعُ طَاهِرًا كَانَ مَا جُمِعَ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ طَاهِرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَالثَّانِي: إِنَّهُ جَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ شُرْبِهِ طَهُورًا، وَقَدْ يَكُونُ الْبَاقِي قَلِيلًا، وَيَكُونُ الْبَاقِي كثيراً، قالوا: ولأنه حيوان يجوز الاصطياد به فوجب أن يكون طاهراً كالفهد، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عَلَمًا عَلَى النَّجَاسَةِ كَانَتِ الْحَيَاةُ عَلَمًا عَلَى الطَّهَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي جَمِيعِهِ عَامًّا، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ مَا لَهُمْ وَلَهَا فَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهَا وَاجْتِنَابِهَا، وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِهَا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مراتٍ الْأُولَى بِالْتُرَابِ " وَحُدُوثُ الطَّهَارَةِ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقْدِيمِ نَجَاسَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى قومٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ: لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كَلْبًا قِيلَ: فَإِنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى فلانٍ وَعِنْدَهُمْ هِرٌّ فَقَالَ: إِنَهَا لَيْسَتْ بنجسةٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافَيْنِ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " فَكَانَ تَعْلِيلُهُ لِلْهِرِّ أنها ليست بنجس دليل عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ، وَيَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ فوجب أن يكون نجساً كالخمر، لأنه غَسَلَ بِالْمَائِعَاتِ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَسْلُ نَجَاسَتِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ؛ لِأَنَّ غُسْلَ التَّعَبُّدِ مُخْتَصٌّ بِالْأَبْدَانِ وَغَسْلَ الْأَوَانِي مُخْتَصٌّ بِالنَّجَاسَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلتَّعَبُّدِ لَمَا أُمِرَ بِإِرَاقَةِ الْمَائِعِ مَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مَكَانَ الْمَاءِ مَا هُوَ أَكْثَرُ ثَمَنًا مِنَ الْمَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالٍ كَالْمَيْتَةِ، وَأَمَّا مَوْضِعُ فَمِهِ مِنَ الصَّيْدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى نَجَاسَتِهِ وَتَفَرَّدَ بَعْضُهُمْ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِالْإِبَاحَةِ، فَلَوْ حُكِمَ بِتَنْجِيسِ مَا أَصَابَهُ بِفَمِهِ لَخَرَجَتْ عَنِ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ لُعَابَهُ يَسْرِي فِيمَا عَضَّهُ مِنَ الصَّيْدِ، فَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَصَارَ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ يَنْكَرُ أَنْ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي إِزَالَتِهِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْحِيَاضَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ وَتَنْجِيسُهَا بِالْوُلُوغِ لَا يَحْصُلُ ثُمَّ الْوُلُوغُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمِيَاهِ شَكٌّ، وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَاةَ عِلَّةُ الطَّهَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَاءِ نَجِسًا. (فَصْلٌ: هَلْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنٍ أم حكم؟) فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ، وَوُلُوغُهُ فَنَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ عَيْنٍ لَا نَجَاسَةُ حُكْمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ حُكْمٍ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ نَجِسَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْحُكْمِ هِيَ الَّتِي تُحَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 بِتَنْجِيسِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ، وَقَدْ تَزُولُ عَنِ الْمَحَلِّ بَعْدَ أَنْ نَجُسَ وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَيْسَتْ لِطُرُوِّ نَجَاسَةٍ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ وَنَجَاسَةُ وُلُوغِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِيقَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِرَاقَتُهُ وَاجِبَةٌ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مُحَرَّمٌ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ وَأَوْجَبَ إِرَاقَتَهُ وَحَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِأَجْزَاءِ الْكَلْبِ كُلِّهَا مُحَرَّمًا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا تَعَدَّتْ إِلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُحَرَّمًا، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ إِنَّ إِرَاقَتَهُ لَا تَجِبُ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ طَرَأَتْ عَلَى عَيْنٍ طَاهِرَةٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ كَالْمَيْتَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَرِيقُوهُ لِيُتَوَصَّلَ بِالْإِرَاقَةِ إِلَى غَسْلِهِ لَا لِوُجُوبِ اسْتِهْلَاكِهِ وَهَذَا أَصَحُّ. (مَسْأَلَةٌ: كَيْفِيَّةُ غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ) قال الشافعي رضي الله عنه: " ويغسل منه الإناء سبع مراتٍ أولاهن بترابٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا نُجِّسَ الْإِنَاءُ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ وَجَبَ غَسْلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ. وَقَالَ أبو حنيفة يَغْسِلُ ثَلَاثًا بِغَيْرِ تُرَابٍ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلِغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. قَالَ: فَلَوْ كَانَ السَّبْعُ وَاجِبًا لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلَاثِ، وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إناءٍ فَأَهْرِقْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثَلَاثَ مراتٍ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْخَلًا فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ سَبْعًا وَاجِبًا لَمَا صَارَ الْإِنَاءُ بِإِلْقَائِهِ فِي النَّهْرِ طَاهِرًا، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَ لَا تَجِبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ أُولَاهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالْتُرَابِ ". وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ وَعَفِّرُوا الثِّامِنَةَ بِالْتُرَابِ ". وَرَوَى هُبَيْرَةُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ ". وَكُلُّ هَذِهِ نُصُوصٌ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنْ قَالُوا يُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالسَّبْعِ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَا تَزُولُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَيْسَتْ عَيْنًا مُؤَثِّرَةً فَيُرْجَعُ فِي زَوَالِهَا إِلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فِيهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ فَإِنْ قَالُوا: فَيُحْمَلُ السَّبْعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالثَّلَاثُ عَلَى الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قَدْ أَفْتَى بِالثَّلَاثِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا رَوَى إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ وَصَرَفَهَا عَنِ الْإِيجَابِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا حَمَلْتُمْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ. قُلْنَا: تَفْسِيرُ الرَّاوِي مَقْبُولٌ فِي أَحَدِ مُحْتَمِلَيِ الْخَبَرِ كَمَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا أَنْ يُقْبَلَ فِي نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ فَلَا كما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يُقْبَلْ تَخْصِيصُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " فِي إِخْرَاجِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَحَدِيثُ الْوُلُوغِ مُفَسَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْسِيرِ رَاوٍ وَلَا غَيْرِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ فِيهَا قَوِيًّا فَهُوَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فيه الحدث، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْوُلُوغِ كَانَ مُسْتَحِقًّا كَالثَّلَاثِ، وَلَا مَا اخْتَصَّ بِالْفَمِ مِنَ الْأَنْجَاسِ كَانَ مُغَلَّظًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخَمْرِ فِي اخْتِصَاصِ شُرْبِهِ يُوجِبُ الْحَدَّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " يَغْسِلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ الضَّحَّاكِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ فَقَدْ رَوَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ بِالسَّبْعِ كَالْأَمْرِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ السَّبْعِ بِأُولَى مِنْ حَمْلِ السَّبْعِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ ثَلَاثَةٌ، وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فُتْيَا أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ فَهُوَ أَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ بِرِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ فُتْيَاهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَرِوَايَتُهُ إِذَا تفردت حُجَّةٌ، أَوْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى إِنَاءٍ غُسِلَ أَرْبَعًا، وَبَقِيَ مِنَ السَّبْعِ ثَلَاثٌ، فَأَفْتَى بِالثَّلَاثِ اسْتِكْمَالًا لِلسَّبْعِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ، فَكَانَ مَرْدُودًا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُلُوغِ أَنَّهُ غِلَظٌ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ، فَهُوَ قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ النَّصُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ثُمَّ الْأَنْجَاسُ أَغْلَظُ مِنَ الْأَحْدَاثِ لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِيهَا، ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ مِنَ الثَّلَاثِ، فَبَعْضُ أَصْحَابِهِمْ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ اسْتِحْبَابًا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبًا، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا الْعَدَدَ تَارَةً أَصْلًا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَتَارَةً فَرْعاً عَلَى قَوْلِ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِلْقَاءِ الْإِنَاءِ فِي نَهْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ إِذَا أُلْقِيَ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَزِمَ غَسْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ بِالتُّرَابِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ أَنَّهُ يُطَهِّرُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرُ الْمَاءِ لَا يَنْجَسُ بِالْوُلُوغِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ وَالتُّرَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، فَإِذَا عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ بِمَثَابَةِ الْعَادِلِ عَنِ الْوُضُوءِ إِلَى الْغُسْلِ فِي سُقُوطِ الترتيب عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 (فَصْلٌ: مَوْضِعُ اسْتِحْقَاقِ التُّرَابِ مِنْ غَسَلَاتِ الْإِنَاءِ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ سَبْعًا فَالتُّرَابُ لَهَا مُسْتَحَقٌّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا وَلَا يَلْزَمُ إِفْرَادُهُ عَنْهَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجِبُ إِفْرَادُ التُّرَابِ عَنِ السَّبْعِ بِثَامِنَةٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ". وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ "، وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: " فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ". فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يُقَفْ عَلَى صِحَّتِهِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَهَا ثَامِنَةً؛ لِأَنَّ التُّرَابَ جِنْسٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ فَجُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعْدُودَةً بِاثْنَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ نَسِيَ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي السَّبْعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعَفِّرَهُ فِي ثَامِنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التُّرَابَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَعْدَادِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الطَّرَفَيْنِ كَانَ حُكْمُ الْوَسَطِ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التُّرَابِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِوُرُودِ الْخَبَرِ بِإِطْلَاقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَسْتَوْعِبُ لِمَحَلِّ الْوُلُوغِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعٌ مِنْهُ بِاسْتِعْمَالِ التُّرَابِ فِيهِ بِأَخَصَّ مِنْ مَوْضِعٍ فَلَزِمَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ. (فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُتَبَقِّي مِنْ غَسَلَاتِ إِنَاءِ وُلُوغِ الكلب) فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ غَسْلَةٍ مِنْهُنَّ وَمُيِّزَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّ جَمِيعَهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا أَزَالَ النَّجَاسَةَ نَجِسٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ جَمِيعَهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ، وَلِكُلِّ غَسْلٍ حَظٌّ مِنْ تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَاءَ الْغَسْلَةِ السَّابِعَةِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بِهَا طُهْرَ الْإِنَاءِ، وَمَا قَبْلَ السَّابِعَةِ، مِنَ الْأُولَى إِلَى السَّادِسَةِ نَجِسٌ لانفصاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عَنِ الْمَحَلِّ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ وَجَبَ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ وَفِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَغْسِلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ نَجِسٌ، وَلِأَنَّهُ أَيْسَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ لِتَأْثِيرِهِ فِي تَطْهِيرِ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ سِتًّا؛ لِأَنَّ سُبْعَ الْوُلُوغِ قَدْ يُسْقَطُ بِالْغَسْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ خَمْسًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّالِثَةِ غَسَلَهُ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّابِعَةِ غَسَلَهُ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَامِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّادِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً، وَلِأَنَّ الْبَاقِيَ سُبْعُ الْوُلُوغِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّابِعَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً وَيَكُونُ حُكْمُ الْوُلُوغِ سَاقِطًا، وَحُكْمُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ نَجِسٌ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ عَنِ الْإِنَاءِ طَاهِرٌ، فَفِي وُجُوبِ غَسْلِ مَا أَصَابَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الظَّاهِرِ لَا يَلْزَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ غَسْلُهُ لِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِ الْوُلُوغِ الْمُسْتَحَقِّ الْغَسْلَ فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا والثاني: بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. (فَصْلٌ: إِذَا وَلَغَ كَلْبٌ عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَكَمْ يَغْسِلُ الْإِنَاءُ ") فَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمَوْلُوغُ فِيهِ مِرَارًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ أَنْ يَغْسِلَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ يَغْسِلُ لِكُلِّ وُلُوغٍ سَبْعًا سَوَاءٌ كَانَ كَلْبًا أَوْ كِلَابًا وَتَنْفَرِدُ كُلُّ مَرَّةٍ بِحُكْمِهَا لِاسْتِحْقَاقِ السَّبْعِ بِهَا، فَإِنْ وَلَغَ مَرَّتَيْنِ غُسِلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَإِنْ وَلَغَ عَشْرًا غُسِلَ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ مِنْ جَمِيعِ وُلُوغِهِ سَبْعًا، سَوَاءٌ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ حَتَّى لَوْ وَلَغَ فِيهِ مِائَةُ كَلْبٍ لَاكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَمَّا تَدَاخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَانَ تَدَاخُلُ الْوُلُوغِ اعْتِبَارًا بِهِ، وَسَائِرُ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى بِالتَّدَاخُلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّهُ إِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْوُلُوغِ مِنْ كَلْبٍ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 اكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِلَابٍ وَجَبَ أَنْ يُفْرِدَ وُلُوغَ كُلِّ كَلْبٍ بِسَبْعٍ وَلَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْوَجْهُ الثاني، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ فِي بحرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ تَرَابًا فَغَسَلَهُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْتُرَابِ فِي الْتَنْظِيفِ مِنْ أشنانٍ أَوْ نخالةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَطْهُرَ إِلَّا بِأَنْ يَمَاسَّهُ التُّرَابُ وَالْآخَرُ يَطْهُرُ بِمَا يَكُونُ خَلْفًا مِنْ ترابٍ أَوْ أَنْظَفَ مِنْهُ كما وصفت كما نقول في الاستنجاء (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله لأنه جعل الخزف في الاستنجاء كالحجارة لأنها تنقي إنقاءها فكذلك يلزمه أن يجعل الأشنان كالتراب لأنه ينقي إنقاءه أو أكثر وكما جعل ما عمل عَمَلَ القرظ والشث في الإهاب في معنى القرظ والشث فكذلك الأشنان في تطهير الإناء في معنى التراب (قال المزني) الشث شجرةٌ تكون بالحجاز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ مُسْتَحَقٌّ، فَأَمَّا غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ إِذَا اسْتُعْمِلَ بَدَلَ التُّرَابِ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِنُعُومَتِهِ وَلُزُوجَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ، وَضَرْبٌ: يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِخُشُونَتِهِ وَإِزَالَتِهِ كَالْأُشْنَانِ وَمَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا: إنه في استعماله عند عدم التراب قولين، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاث طُرُقٍ: أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ عَدَمِ التُّرَابِ قَوْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ. وَالثَّانِي: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ فَيَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالثَّالِثُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لَا مَعَ وُجُودِهِ وَلَا مع عدمه ووجهه شيئان: أحدهما: أنه قد نَصَّ فِي الْوُلُوغِ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَ الْمَاءِ لَمْ يُقَمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ. وَالثَّانِي: إِنَّ النَّصَّ عَلَى التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ كَالنَّصِّ عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَوَجْهُهُ شيئان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْجَامِدَاتِ إِذَا سَاوَاهُ فِي عَمَلِهِ سَاوَاهُ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَامَ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الدِّبَاغِ. وَالثَّانِي: إِنَّ التُّرَابَ فِي الْوُلُوغِ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْإِنْقَاءِ وَإِنَّمَا الْمَنْصُوصُ وَهُوَ الْمَاءُ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ مِنَ التُّرَابِ فِي الْإِنْقَاءِ كَانَ أَحَقَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ الْعَدَمِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: هَلْ تقوم المذرورات مقام التراب؟) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْمَذْرُورَاتِ فِي الْوُلُوغِ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ سَائِرَ الْمَذْرُورَاتِ لَا تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فَالْمَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ فَاسْتَبْدَلَ مِنَ الْمَذْرُورِ فِي غَسْلِهِ ثَامِنَةً لِيَقُومَ مَقَامَ التُّرَابِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْمَاءَ يَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ مَقَامَ التُّرَابِ الْمَذْرُورِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ. وَالثَّانِي: لَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْمَائِعِ غَيْرُهُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْجَامِدِ غَيْرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ إِنْ كَانَ التُّرَابُ مَوْجُودًا لَمْ يَقُمِ الْمَاءُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ مَعْدُومًا قَامَ الْمَاءُ مَقَامَهُ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ مَقَامَهُ. (مَسْأَلَةٌ: غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ نجاسة ما سوى الكلب) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنَ الْنَجَاسَةِ سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثًا أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنْ غَسَلَهُ وَاحِدَةً تَأَتَّى عَلَيْهِ طهراً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا سِوَى وُلُوغِ الْكَلْبِ مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا أَثَرٍ فَيَغْسِلُ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ وَقَالَ أبو حنيفة: سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فِي حُكْمِ الْوُلُوغِ يَغْسِلُ ثَلَاثًا إِمَّا اسْتِحْبَابًا، وَإِمَّا وَاجِبًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَصْحَابِهِ فِي الثَّلَاثِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْوُلُوغِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سائر النجاسات كالولوغ في وجوب غسلها ثمان مراتٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي غَسْلِهَا عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بكرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ " حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ " وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَا سَبْعًا، وَقَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ ماءٍ "، وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ لَمَّا لَمْ يَزَلْ فِي الْحَدَثِ مُسْتَحِقًّا فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي النَّجَاسَةِ مُسْتَحِقًّا، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الطُّهُورَيْنِ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْعَدَدَ، وَتَطْهِيرُهَا كَالْأَعْيَانِ، لِأَنَّ أبا حنيفة يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرٌ، وَلَا يَعْتَبِرُهُ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ أَصْلٍ طَاهِرٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْعَدَدُ كَدَمِ الشَّاةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَرَّةٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يده في الإناء حتى يغسلهما ثَلَاثًا " فَلَمَّا أَمَرَ بِالثَّلَاثِ مَعَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، كَانَ الْأَمْرُ بِهَا مَعَ نَفْسِ النَّجَاسَةِ أولى. (فصل: أقسام النجاسات) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي النَّجَاسَةِ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِهَا مَرَّةً وَاسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا ثَلَاثًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءُ ثَوْبًا، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً يَغْمُرُهُ الْمَاءُ فِيهَا فَيَطْهُرَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَرَائِحَةٌ كَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا بِالْمَرَّةِ غَسَلَهُ ثَانِيَةً، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا غَسَلَهُ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً، فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ أو زالت الرائحة اللَّوْنِ فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، حَتَّى تَزُولَ الصِّفَتَانِ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا رَائِحَةٌ وَلَيْسَ لَهَا لَوْنٌ كَالْبَوْلِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَغْسِلَ حَتَّى تَزُولَ رَائِحَتُهُ إِمَّا بِمَرَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحَالِ زَوَالِهَا، فَإِذَا زَالَتْ رَائِحَتُهُ طَهُرَتْ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ كَالدَّمِ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُغْسَلَ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهَا بِمَرَّةٍ أَوْ مِرَارٍ فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ، وَبَقِيَ الْأَثَرُ فَإِنْ تَيَسَّرَ زَوَالُهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَالنَّجَاسَةُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ زَوَالُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَالِيَةٍ مِنْ عِلَاجٍ أَوْ صَنْعَةٍ كَالْأَثَرِ كَانَ الْأَثَرُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَحُكِمَ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ مَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَيْثُ حَكَمَ بِبَقَاءِ نَجَاسَتِهِ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ لِرِوَايَةِ يَزِيدَ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يَسَارٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْدَّمُ مِنَ الثَّوْبِ قَالَ: " يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ ". (فَصْلٌ: إذا أصابت نجاسة شعره أو بدنه) فَأَمَّا إِذَا بَلَّ خِضَابًا بِنَجَاسَةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ وَخَضَّبَ بِهِ شَعْرَهُ أَوْ بَدَنَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا، فَالْمَحَلُّ الْمَخْضُوبُ نَجِسٌ، لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ حَتَّى يَزُولَ اللَّوْنُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَوْنُ الْخِضَابِ بَاقِيًا دُونَ النَّجَاسَةِ فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ، لِأَنَّ الْخِضَابَ قَدْ صَارَ نَجِسًا فَدَلَّ بَقَاءُ لَوْنِهِ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِضَابِ نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ لَا نَجَاسَةُ عَيْنٍ، وَهَذَا لَوْنُ الْخِضَابِ لَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ، وَاللَّوْنُ عَرَضٌ لَا تَحُلُّهُ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: بِطَهَارَتِهِ صَلَّى، وَلَمْ يُعِدْ وَإِنْ قُلْنَا: بِنَجَاسَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى شَعْرٍ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَلْقُهُ، وَمَكَثَ حَتَّى يُنْصَلَ لَوْنُهُ؛ لِأَنَّ لَوْنَ الشَّعْرِ الْمَخْضُوبِ يُنْصَلُ لَا مَحَالَةَ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِي النَّجَاسَةِ تَطْهِيرُ الْمَحَلِّ مِنْهَا لِإِزَالَةِ الْمَحَلِّ بِهَا، فَإِذَا نُصِلَ الشَّعْرُ أَعَادَ مَا صَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى بَدَنٍ فإن كان ما يزول كالحناء إذا اختضت بِهِ مَكَثَ حَتَّى يَزُولَ فَيَطْهُرَ، ثُمَّ يُعِيدُ مَا صَلَّى، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَزُولُ، وَلَا يُنْصَلُ كَالْوَشْمِ بِالنِّيلِ فَيَصِيرُ خُضْرَةً مُؤَبَّدَةً، نُظِرَ فَإِذَا أَمِنَ التَّلَفَ فِي إِزَالَتِهِ وَكَشْطِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُزِيلَهُ وَيَكْشِطَهُ، بِخِلَافِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الشَّعْرِ مُفْضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مفضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ كَشْطِهِ، وَإِزَالَتِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى الْخِضَابِ بِهِ، أَقَرَّ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ المختصب بِهِ فَفِي وُجُوبِ إِزَالَتِهِ وَجْهَانِ مِنَ الْوَاصِلِ بعظم نجس، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا مَسَّ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ أَبْدَانِهِمَا نَجَّسَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قذرٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَيَكُونُ بِإِدْخَالِ فَمِهِ فِي الْمَاءِ شَرِبَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَشْرَبْ، وَحُكْمُهُ مَا مَضَى فَأَمَّا إِنْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ غَيْرَ فَمِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ ذَنَبِهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ وُلُوغِهِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ بِهِ، وَوُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: غَسْلُ الْإِنَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 مُخْتَصٌّ بِوُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْخَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوُلُوغِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوُلُوغِ وَهُوَ أَصْوَنُ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ كَانَ وُجُوبُ الْغَسْلِ بِمَا لَيْسَ بِمَصُونٍ مِنْهَا أَوْلَى. وَالثَّانِي: إِنَّ وُلُوغَهُ يَكْثُرُ وَإِدْخَالَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِلُّ فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الْغَسْلِ بِمَا يَكْثُرُ كَانَ وُجُوبُهُ مِمَّا يَقِلُّ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا عَمَّ وُجُودُهَا خَفَّ حُكْمُهَا، وَإِذَا قَلَّ وُجُودُهَا، يَتَغَلَّظُ حُكْمُهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ، فَهَكَذَا لَوْ مَاسَّ الْكَلْبُ ثَوْبًا رَطْبًا أَوْ مَاسَّ بِبَدَنِهِ الرَّطْبِ ثَوْبًا يَابِسًا أَوْ وَطِئَ بِرُطُوبَةِ رِجْلِهِ عَلَى أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ كَانَ كَالْوُلُوغِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ. (فَصْلٌ: إِذَا أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ في الإناء) فَلَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَلَغَ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَمِهِ عِنْدَ إِخْرَاجِ رَأْسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، فَإِنْ كَانَ فَمُهُ يَابِسًا فَالْمَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ يُنَجِّسُ، لِأَنَّ رُطُوبَةَ فَمِهِ شَاهِدٌ عَلَى وُلُوغِهِ فَصَارَ كَنَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ثُمَّ وَجَدَتْ تَغَيُّرًا وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا حُكِمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ تَغْلِيبًا لِتَغْيِيرِهِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ يَقِينٌ، وَنَجَاسَتُهُ شَكٌّ، وَالْمَاءُ لَا يُنَجَّسُ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَتْ رُطُوبَةُ فَمِهِ شَاهِدًا قَاطِعًا لِاحْتِمَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ لُعَابِهِ أَوْ مِنْ وُلُوغِهِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ كَالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الماء؛ لأنه لوقوع النجاسة تأثيراً في الماء. (مسألة) : قال المزني: " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فقاسه عليه. وقاس ما سوى ذلك من النجاسات على أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسماء بنت أبي بكر في دم الحيضة يصيب الثوب أن تحته ثم تقرصه بالماء وتصلي فيه ولم يوقت في ذلك سبعاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْخِنْزِيرُ نَجِسٌ، وقال مالك، وداود: هو ظاهر خلافهما فِي الْكَلْبِ تَعَلُّقًا بِالظَّوَاهِرِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) {الأنعام: 145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وَالْمُرَادُ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ هُوَ: جُمْلَةُ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ أَوْلَى عَلَى التَّكْرَارِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا ". وَلِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ وَجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْكَلْبِ فِي حَالٍ، ثُمَّ ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا نَجَاسَةُ الْكَلْبِ فَكَانَتْ نَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْلَى. (فصل: ولوغ الخنزير في الإناء) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسٌ فَوُلُوغُهُ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ، وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ يَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ فَوَهِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الْقَدِيمِ، فَخَرَّجَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّ وُلُوغَ الْخِنْزِيرِ يُغْسَلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَدَدِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ فَيُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ سَوَاءً فَأَمَّا احْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فَلِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَجَاسَتَهُ بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةَ الْكَلْبِ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِالْخِنْزِيرِ عَامٌّ وَبِالْكَلْبِ خَاصٌّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَقَاسَهُ عَلَيْهِ " فَيَقْضِي فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ سَبْعًا لَا فِي نَجَاسَتِهِ، ثُمَّ هَكَذَا فِي الْحُكْمِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ أَوْ بَيْنَ أَحَدِهِمَا فَلَوْ رَأَى حَيَوَانًا قَدْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَيَوَانِ هَلْ هُوَ كَلْبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْوَالِغَ فيه كلب فلو كان له إناآن فَأَخْبَرَهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَى خَبَرِهِ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَكْبَرِ مِنْهُ دُونَ الْأَصْغَرِ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ ثِقَةٌ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَصْغَرِ دُونَ الْأَكْبَرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ وَالِغًا فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا غَفَلَ عَنْهُ الْآخَرُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ يثق بخبره أن هَذَا الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ وَلَغَ فِي إِنَائِهِ هَذَا فِي وَقْتِ كَذَا مِنْ يَوْمِ كَذَا وَشَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّ ذَاكَ الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ الْإِنَاءِ عَلَى وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ قَدْ تَعَارَضَا فَسَقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ موجب لتنجيسه وَالشَّهَادَةَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ مُحْتَمَلَةٌ، لِأَنَّ الْكِلَابَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْكِلَابِ فِي الْوُلُوغِ لَا يلزم. (مسألة) : قال المزني: " وَاحْتَجَّ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِفَضْلِ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: " نعم وبما أفضلت السباع كلها " وبحديث أبي قتادة في الهرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إنها ليست بنجسٍ " وبقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا سقط الذباب في الإناء فامقلوه " فدل على أنه ليس في الأحياء نجاسةٌ إلا ما ذكرت من الكلب والخنزير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا سُؤْرُ الْحَيَوَانِ فَهُوَ مَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ شربةٍ وَالْبَاقِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى سُؤْرًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَكَلْتُمْ فَأَسْئِرُوا " أَيْ: فَأَبْقُوا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حاجتها ... بتلاقٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا) يَعْنِي قَدْ أَبْقَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ: طَاهِرٌ وَنَجِسٌ، فَأَمَّا النَّجِسُ فَقَدْ مَضَى الكلام في ولوغه ونجاسته سُؤْرِهِ، وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهُوَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَسُؤْرُ جَمِيعِهِ طَاهِرٌ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَسُؤْرُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ، وَكَذَا لُعَابُهُ. وقال أبو حنيفة: سؤر السباع نجس لا يعفى عنه، وسؤر حيوان الطين نَجِسٌ، لَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ وَسُؤْرُ الْهِرِّ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ كُلِّهَا طَاهِرٌ، وَسُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شيءٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِوُرُودِ السِّبَاعِ تَأْثِيرًا فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَسَارَ لَيْلًا فَمَرُّوا عَلَى رجلٍ جالسٍ عِنْدَ مقراةٍ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ أَوَقَعَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مِقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبَيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ هَذَا تكلفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابًا وَطَهُورًا ". قَالُوا: فَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَخْبَارِ بِوُرُودِهَا تَأْثِيرًا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ لَمَا نَهَاهُ عَنْ إِخْبَارِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَانَ لَبَنُهُ نَجِسًا، كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا، كَالْكَلْبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْكَلْبِ حُكْمَيْنِ نَجَاسَةِ الْعَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السِّبَاعُ مُسَاوِيَةً لِلْكَلْبِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي نَجَاسَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ تَحْرِيمٌ تَعَلَّقَ بِالْكَلْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسِّبَاعِ كَالْأَكْلِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ أَيُتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا، وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدَةَ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضَوْءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ حَتَّى شَرِبَتْ فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بنجسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطوافات ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وروى داود بن صَالِحٌ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَائِشَةَ بِصَحِيفَةِ هَرِيسٍ، وَهِيَ قائمةٌ تُصَلِّي، فَإِذَا سُؤْرٌ أَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَدَوَّرَتْهَا عَائِشَةُ ثُمَ أَكَلَتْ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ أَكَلَتْ ثَمَّ قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال إِنَّهَا لَيْسَتْ بنجسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا. فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ الْهِرِّ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَعْمِلُ نَجِسًا وَلَا مَكْرُوهًا، وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا رَطْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ فَإِذَا أَصَابَ الْمَاءَ لَمْ يُنَجَّسْ كَالْهِرِّ طَرْدًا، وَالْكَلْبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْهِرِّ لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ السَّبْعِ كَالثَّوْبِ الرَّطْبِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نُطْقَهُ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْقُلَّتَيْنِ، وَهُوَ عِنْدُهُمْ نَجِسٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وُرُودِ الْكِلَابِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلْبَ يُسَمَّى سَبْعًا، وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَرَدَتْهُ السِّبَاعُ مَعَ تَوَحُّشِهَا، وَقِلَّتِهَا كَانَ وُرُودُ الْكِلَابِ لَهَا مَعَ أُنْسِهَا وَكَثْرَتِهَا أَكْثَرَ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ وَتَوَقِّي الْأَنْجَاسِ فِي الطَّهَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَأَلَ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرَدَا عَلَى مَاءٍ فَسَأَلَ عَمْرُو صَاحِبَ الْمَاءِ هَلْ تَرِدُهُ السِّبَاعُ فَقَالَ عُمَرُ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ السِّبَاعُ عَلَيْنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ أَنَّ لَبَنَهُ نَجِسٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لَبَنِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمَ الشُّرْبِ كَاللُّعَابِ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ التَّعْلِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقِيَاسُ مُنْتَقِضًا بِالْهِرِّ لَبَنُهَا نَجِسٌ، وَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَتَحْرِيمُ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ الدَّالِّ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ فَمُنْتَقِضٌ بِبَنِي آدَمَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ قَدْ يَحْرُمُ فِيمَا لَا يَكُونُ نَجِسًا مِنْ سُمُومِ النَّبَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 (مسألة) : قال الشافعي: " وَغَمْسُ الذُّبَابِ فِي الْإِنَاءِ لَيْسَ يَقْتُلُهُ وَالذُّبَابُ لَا يُؤْكَلُ فِإِنْ مَاتَ ذبابٌ أَوْ خنفساءٌ أو نحوهما فِي إناءٍ نَجَّسَهُ (وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ) إن وقع في الماء الذي ينجسه مثله إِذَا كَانَ مِمَا لَهُ نفسٌ سائلةٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَوْلِهِ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ: لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَسَيَلَانُ نَفْسِهِ هُوَ جَرَيَانُ دَمِهِ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ نَجِسًا إِلَّا ابْنَ آدَمَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ صَارَ نَجِسًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَهُوَ ضَرْبَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ فَسَنَذْكُرُهُمَا وَنَذْكُرُ مَا مَاتَا فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَكَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالزَّنَابِيرِ وَالدِّيدَانِ وَالْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا لَا تَسِيلُ نَفْسُهُ، وَلَا يَجْرِي دَمُهُ فَكُلُّهُ إِذَا مَاتَ نَجُسَ، وَأَكْلُهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَدُودِ النَّحْلِ وَالْفَاكِهَةِ أَمْ لَا، كَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقَارِبِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ كُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَقَالَ أبو حنيفة: كُلُّهُ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَمَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِطِهَارَتِهِ بِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يَسْتَوِي حُكْمُ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ، قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ. قُلْنَا: مُنْعَكِسًا، وَلِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَأْكُولِهِ وَغَيْرُ مَأْكُولِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ. ودليلنا قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيماَ أُوْحِيَ إِلَيَّ) {الأنعام: 145) ، إِلَى قَوْلِهِ: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} فكان قوله: إلا أن يكون ميتةً دليل على تحريمه، وقوله: فإنه رجسٌ دليل عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَازُ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ أَوْجَبَ التَّنْجِيسَ، وَتَحْرِيمَ الْأَكْلِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَحْرِيمٍ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ نوِعِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ مَأْكُولًا وَغَيْرَ مَأْكُولٍ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْجَرَادِ وَالْحُوتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَوْتِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاتِهِ كَالَّذِي لَا نفس له سائلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 والثاني: أن الشرع بتخصيص الْحُوتِ وَالْجَرَادِ بَعْدَ الْحَظْرِ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كما صح أَنْ تُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَهُوَ أَنَّ مَوْتَ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ اسْتَوَى، حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي التَّنْجِيسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي التَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ. (فَصْلٌ: حُكْمُ الْمَائِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سائلة) فإذا تقرر ما وصفنا من حال نجاسته بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَجَاسَةِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ: تَوَلَّدَ مِنْ نَفْسِ مَا مَاتَ فِيهِ كَدُودِ الْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا مَاتَ فِي الْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَوْتِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ دُودٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَلَوْ نُقِلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأُلْقِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ صَارَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ نَجِسًا، لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مُتَوَلِّدٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَفِي تَنْجِيسِهِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا يُنَجِّسُ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ سُمًّا وَفِي الْآخَرِ شفاءٌ وَإِنَهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الْشِّفَاءَ " فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ بِمَوْتِهِ لَمَا أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَمَقْلُهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ، وَرَوَى نَبِيهٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا سَلْمَانُ كُلُّ طعامٍ وشرابٍ وَقَعَتْ فِيهِ ذبابةٌ لَيْسَ لَهَا دمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حلالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوُضُوءُهُ " وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ، وَلِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ مَشَقَّةً فَعُفِيَ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ إِنَّهُ قَدْ يَنْجَسُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حَلَّتْ مَاءً قَلِيلًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَا رَوَاهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَغْطِيَةِ الْوَضُوءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ وَإِكْفَاءِ الْإِنَاءِ " فَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ حِفْظًا لِلْمَاءِ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَجِّسُ بِهِ، وَغَالِبُ مَا يَقَعُ فِيهَا هُوَ الذُّبَابُ وَالْحَشَرَاتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِتَنْجِيسٍ مَا مَاتَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ، فَإِذَا قِيلَ بِتَنْجِيسِ مَا مَاتَ فِيهِ فَسَوَاءٌ غير الماء أو يفضل فيه أم لَا؟ قَدْ نُجِّسَ بِمَوْتِهِ فِي الْحَالِ، وَإِذَا قِيلَ بِطَهَارَةِ مَا مَاتَ فِيهِ فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ وَيَفْضُلْ فِيهِ، فإن تغير به الماء ويفضل فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ فَفِي نَجَاسَتِهِ حِينَئِذٍ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَلَّ مَنَ الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْعَيْنِ لَمْ يَنْجَسْ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّقْطِيعِ وَطُولِ الْمُكْثِ، كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ وَقْتَ حُلُولِهِ مُتَعَذِّرٌ وَالِاحْتِرَازَ مِنْ طُولِ مُكْثِهِ مُمْكِنٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْضُلْ يَعْنِي يَنْقَطِعْ، فَأَمَّا الْحَيَّاتُ وَالْوَزَغُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّرَاكِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ: هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَنْجَسُ مَا مَاتَا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَأَبُو القاسم الصميري لَيْسَتْ ذَاتَ نَفْسٍ سَائِلَةٍ، فَعَلَى هَذَا فِي تَنْجِيسِ مَا مَاتَا فِيهِ قَوْلَانِ. (مَسْأَلَةٌ: إِذَا وقعت في الماء جرادة أو حوت) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ جرادةٌ ميتةٌ أَوْ حوتٌ لم تنجسه؛ لأنهما مأكولان ميتين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أحِلَّتْ لَنَا ميْتَتَانِ وَدَمَانِ ". فَذَكَرَ فِي الْمَيِّتَيْنَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ، وَفِي الدَّمَيْنِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ، فَأَمَّا الْجَرَادُ فَمِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، فَهُوَ مَأْكُولٌ، وَمَوْتُهُ ذَكَاتُهُ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ أو وقع فيه ميتاً فالماء طهار؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَلَّلٌ أَكْلُهُ كَاللَّحْمِ الذَّكِيِّ لا ينجس الماء بوقوعه فيه وأما الجواب عن صَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدُ الْبَحْرِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى أَكْلِهِ، وَهُوَ الْحُوتُ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ، أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ مَوْتُهُ بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أَكْلٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، فَأَمَّا دَمُ الْحُوتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ، وَيُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ، لَا يُنَجِّسُ مَا أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ الْحُوتَ لَمَّا بَايَنَ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ بَايَنَ دَمُهُ سَائِرَ الدِّمَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ الضُّفْدَعُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ السُّمُومِ كَحَيَّاتِ الْمَاءِ وَعَقَارِبِهِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَرَّمَةُ الْأَكْلِ، وَهِيَ إِذَا مَاتَتْ نَجِسَةٌ، وَهَلْ يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَلَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهَا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَتِهِ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحُوتِ الْمُبَاحِ، وَذَوَاتِ السُّمُومِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ وَكِلَابِهِ وَخَنَازِيرِهِ وَسِبَاعِهِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ مَا سَنَشْرَحُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ مَا لَمْ يَكُنْ حُوتًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ " فَذَكَرَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْحُوتِ لَيْسَ بِحَلَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهُ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ مَيْتَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أم ما أشبه محرمات البر كالكلاب والخنازير والحمر وَالسِّبَاعِ كَانَ حَرَامًا، وَمَا أَشْبَهَ الْمَأْكُولَ مِنْهُ مِثْلُ دَوَابِّ الْمَاءِ وَبَقَرِهِ كَانَ حَلَالًا، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا: بِإِحْلَالِ ذَلِكَ، فَهُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَاءُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ طَاهِرٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ، كَانَ نَجِسًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَلْ يُنَجِّسُ مَا مَاتَ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يُنَجِّسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ: لُعَابُ الْحَيَوَانِ وعرقه) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلُعَابُ الدَوَابِّ وَعَرَقُهَا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ. وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: مَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ نَجِسٌ، عَلَى تَرْتِيبِ مَا قَالَهُ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ بناء عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ بَلَلٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى لَبَنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أعر فرساً لأبي طلحة الأنصاري وأجرأه ثُمَّ قَالَ إِنَّنَا وَجَدْنَاهُ بَحْرًا " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرَسَ إِذَا جَرَى عَرِقَ لَا سِيَّمَا فِي حَرِّ تِهَامَةَ، وَابْتَلَّتْ ثِيَابُهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ دُونَهَا حَائِلٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكِبَ حِمَارًا بِلَا إكافٍ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ عَيْنُهُ طَاهِرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ فَأَمَا قِيَاسُهُ عَلَى لَبَنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ كَلُعَابِهِ وَعَرَقِهِ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا سَلِمَ الْقِيَاسُ مِنَ النَّقْضِ بِرِيقِ الْهِرَّةِ إِمْكَانَ التَّحَرُّزِ مِنْ لَبَنِهِ وتعذر الحرز مِنْ عَرَقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ: دَبْغُ الْإِهَابِ) قال الشافعي رضي الله عنه: (قَالَ) وَأَيُّمَا إِهَابِ ميتةٍ دُبِغَ بِمَا يَدْبُغُ بِهِ الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهِ فَقَدْ طَهُرَ وَحَلَّ بَيْعُهُ وَتُوُضِئَ فِيهِ إِلَّا جِلْدَ كلبٍ أَوْ خنزيرٍ لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً في باب الآنية. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَطْهُرُ بِالْدِّبَاغِ عظمٌ وَلَا صوفٌ وَلَا شعرٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سواءٌ ". قَالَ الماوردي: وقد مضت هذه المسالة أيضاً بما يغني عن الإعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 (بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْجَسُ وَالَّذِي لَا يَنْجَسُ) قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كثيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ محمدٍ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنَهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يحمل نجساً أو قال خبثاً " عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً " أو قال خبثاً وهو صَحِيحٌ، وَلِلنَّجَاسَةِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ حَالَانِ. حَالٌ تُغَيِّرُ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ، فَيَصِيرُ الْمَاءُ بِهَا نَجِسًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ إِجْمَاعٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُغَيِّرَ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي نَجَاسَتِهِ بِالتَّغْيِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ قَلَّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ، وَاخْتِلَاطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُعْتَبَرٌ بِأَنَّهُ مَتَى حُرِّكَ أَدْنَاهُ تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ وَقِيلَ: مَا الْتَقَى طَرَفَاهُ فَيَصِيرُ الماء به نجساً وإن لم يتلق طَرَفَاهُ، وَلَا تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ بِتَحْرِيكِ أَدْنَاهُ كَانَ مَا لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِيمَا تَحَرَّكَ فَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ كَانَ نَجِسًا وَإِنْ كَثُرَ كَانَ طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْدُودٌ بَقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، لَا يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَهُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ جَرِيحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِأَرْبَعِينَ قُلَّةً، وَالْقُلَّةُ مِنْهَا كَالْجَرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْدُودُ بِكَرٍّ، وَالْكَرُّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ قَفِيزًا، وَالْقَفِيزُ عِنْدَهُمُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَ رِطْلٍ، وَمِائَتَيْ رِطْلٍ، وَثَمَانِينَ رِطْلًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجِرَّاحِ فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَشْهُورَةُ فِيمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَجَّسُ. (فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الماء بالتغيير) . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّغْيِيرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ " قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْقُلَّتَيْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ قَدْ تَكُونُ تارة بورودها على الماء، وتارة بورد الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ إِذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يُنَجَّسْ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَجَبَ إِذَا وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ. (فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أن نجاسة الماء معتبرة بالاختلاط) وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةً بِالِاخْتِلَاطِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْجِيسِ بِالِاخْتِلَاطِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَذَرٍ فِيهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَحَ بِئْرَ زَمْزَمَ مِنْ زنجيٍّ مَاتَ فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَهَا كَثِيرٌ، وَلَمْ يُنْقَلِ التَّغْيِيرُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مَعَ ضَنِّهِمْ بِمَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُرَاقَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ، فَصَارَ إِجْمَاعُ الْعَصْرِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ تَنَجَّسَ قَلِيلُهُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ قِيَاسًاِ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، وَكَالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَثَنِيًّا، وَالْآخَرُ كِتَابِيًّا فَاقْتَضَى شَاهِدُ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي تَغْلِيبِ الْحَظْرِ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ. (فَصْلٌ: دَفْعُ مَا اعْتَرَضَ به الخصم عن حديث " القلتان ") وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا " فَدَلَّ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ مُعْتَبَرٌ، وَأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالِاخْتِلَاطِ فِيمَا زَادَ، ولا اعتبار بعدم المعتبر فيما نقص، اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسَبْعَةِ أَسْئِلَةٍ ثَلَاثَةٍ فِي إسناده وأربعة في متنه: أحدهما: أَنْ قَالُوا إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَجْهُولٍ، لِأَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ وَمَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كُنِّيَ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْكُوفِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، وَحُكِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ مَعْمَرٍ فَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَإِذَا قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ بِمِصْرَ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُورِدُ الْحَدِيثَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِهِ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَالِكٌ تَارَةً، وَسُفْيَانُ تَارَةً، فَإِذَا تَيَقَّنَ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَشَكَّ فِي الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَالِكٌ أَوْ سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فِي إِسْنَادِهِ قَدْحٌ مِنْ وَجْهٍ ثانٍ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، رَوَاهُ تَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ وَتَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ جَمِيعًا، فَجَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَكًّا فِي أَحَدِهِمَا، وَهُمَا ثِقَتَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ أَيِّهِمَا أَسْنَدَهُ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِهِ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا إن في إسناده قدح مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَى تَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَتَارَةً عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاقِدِيَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَخَوَانِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُمَا ثِقَتَانِ، وَقَدْ رَوَيَا جَمِيعًا هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَقِيَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا. وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: فِي مَتْنِهِ: إِنْ قَالُوا وَالْقُلَّةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً فَمِنْهَا الجرة التي تلقها الْيَدُ، وَمِنْهَا قُلَّةُ الْجَبَلِ، وَمِنْهَا قَامَةُ الرَّجُلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُ اشْتِرَاكِهِ فِي الْمُسَمَّيَاتِ يُفِيدُ تَحْدِيدَ الْمَاءِ فِي النَّجَاسَاتِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ إِلَّا الْأَوَانِيَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْمَاءِ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْحِكَايَاتِ وَأَكْثَرُ عُرْفًا في الاستعمال قال حميد بْنُ مَعْمَرٍ: (فَظَلَلْنَا بنعمةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهِ) وَقَالَ الْأَخْطَلُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 (يَمْشُونَ حَوْلَ مكدمٍ قَدْ كَدَّحَتْ ... مَتْنَيْهِ حَمْلُ حناتمٍ وقلالٍ) يعني: ملخ الْجِلْدَ مِنَ الْكَدِّ. وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ اسْمَ الْقُلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَوَانِي، فَقَدْ يَتَنَاوَلُ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا فَيَتَنَاوَلُ الْكُوزَ؛ لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْأَصَابِعِ، وَيَتَنَاوَلُ الْجَرَّةَ؛ لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْيَدِ، وَيَتَنَاوَلُ الْحَبَّ؛ لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْكَتِفِ، وَمَا كَانَ مُخْتَلِفَ الْقَدْرِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مِقْدَارًا بَعْدُ وَمِنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِقِلَالِ هَجَرَ " وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ. وَالسُّؤَالُ السَّادِسُ: قَالُوا: فَهُوَ وَإِنْ يَتَنَاوَلْ قِلَالًا مُتَمَيِّزَةً مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَلِفًا فِي الْعَدَدِ فَرُوِيَ " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ ثَلَاثًا " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً " فَكَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوا حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ وَتُسْقِطُوا مَا سِوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ قُلَّةً رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ، وحديث الثلاثة القلال تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَشَكَّ فِي قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ رَوَوْا قُلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي ثَلَاثٍ وَهَكَذَا مَنْ رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، والنقلة الثِّقَاتُ لَمْ يَشُكُّوا فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَكٌّ لِوَاحِدٍ مُعَارِضًا لِيَقِينِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَيُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَارُضٌ فَيَكُونَ الْقُلَّتَانِ مَحْمُولًا عَلَى قِلَالِ هَجَرَ، كَمَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ، وَالثَّلَاثُ عَلَى قِلَالٍ أَصْغَرَ مِنْهَا فَتَسَعُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، وَالْأَرْبَعُونَ قُلَّةً عَلَى صِغَارِهَا الَّتِي تُقَلُّ بِالْيَدِ تَكُونُ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَالسُّؤَالُ السَّابِعُ: إِنْ قَالُوا: تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ عَلَى لَفْظِهِ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَالتَّعَلُّقِ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ لِقَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ الْخَبَثِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا الْخَلُّ لَا يَحْمِلُ الْمَاءَ لِضَعْفِهِ عَنْهُ، وَهَذَا الطَّعَامُ، لَا يَحْمِلُ الْغِشَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْهُ، وَيَفْسُدُ بِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْمَتَاعَ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ، وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْجَوَابِ: أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ يُنَجَّسْ، وَهَذَا صَرِيحٌ لَا تَأْوِيلَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَيْ لَمْ يَقْبَلْ خَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً) {الجمعة: 5) أَيْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهَا، فَسَلِمَ الحديث من الِاعْتِرَاضِ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَصَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ. (فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ) وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا " فَمَنَعَ مِنْ غَمْسِهَا خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ بِهَا فَدَلَّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي مُخَالَطَةِ الْحَظْرِ لَهُ، فَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْقَلِيلِ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ أَغْلَبَ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْكَثِيرِ كَانَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ أَغْلَبَ، أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُ رَجُلٍ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ حُرِّمْنَ كُلُّهُنَّ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لَحُكْمِ الْحَظْرِ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَلْنَ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ، كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ، وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ قَلِيلٍ وَجَبَ تَغْلِيظُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ وَجَبَ تَغْلِيبُ الْإِبَاحَةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ اسْتِدْلَالٍ بَعْدَ النَّصِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أبي حنيفة أَيْضًا، ثُمَّ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى الْمُتَغَيِّرِ. (فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلِيطِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيلَ لَهُ إِنَّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعةٍ، وَهِيَ يُطْرَحُ فِيهَا الْمَحَائِضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ. فَقَالَ: " الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ " فَلَمْ يَجْعَلْ لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي نَجَاسَتِهِ وَهَذَا نَصٌّ يدفع قول أبي حنيفة. اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسُؤَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ إِلَى بَسَاتِينَ تَشْرَبُ مِنْهَا وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ نَجَاسَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ أَشْهَرُ حَالًا مِنْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهَا لِهَذَا السُّؤَالِ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سننه: قدرت أنا بئر بضاعة بردائي أي: مدرته عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ. وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِيَ الْبُسْتَانَ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هل غير بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ، لَا يَبْقَى فِيهِ التَّغْيِيرُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قَالَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ قَالَ إِلَى الْعَانَةِ قُلْتُ: وَإِذَا نَقَصَ، قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الصَّحَابَةِ أَنْ يُلْقُوا فِي بِئْرٍ يَتَوَضَّأُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَحَائِضَ وَلُحُومَ الْكِلَابِ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ، وَهُوَ بِصِيَانَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْلَى فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ الْحَدِيثِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الجيف والمحائض، وملقى الأنجاس، وكانت تهب الرِّيحِ، فَكَانَتِ الرِّيحُ تُلْقِي الْمَحَائِضَ وَالْأَنْجَاسَ فِيهَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ قِيَاسًا عَلَى وُقُوعِ الْبَعْرَةِ الْيَابِسَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ لَمْ تُخَالِطْهُ قِيلَ الِاعْتِبَارُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ لَا بِمُخَالَطَتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهُ يُنَجِّسُ الماء إذا وقع فيه، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطْهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يَلْتَقِي طَرَفَاهُ مِنْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ شَاقًّا فَعُفِيَ عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَالْمَاءُ الْقَلِيلُ يُمْكِنُ حِفْظُهُ، بِالْأَوْعِيَةِ، وَيُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مُمْكِنًا فَلَمْ يعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ، وَلِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إِلَى مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، إِذَا ضَاقَ مَكَانُهُ وَتَطْهِيرِ الْقَلِيلِ إِذَا اتَّسَعَ مَكَانُهُ وَكَثِيرُ الْمَاءِ أَدْفَعُ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ قَلِيلِهِ. (فصل: الجواب عن استدلال المالكية) فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ بِئْرُ بُضَاعَةَ وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَخَصَّصْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكَثِيرِ تَعَذَّرَ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ، وَقِلَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ فَفَرْقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: شَرْعٌ وَمَعْنًى. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِرَاقَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَقَدْ يُطَهَّرُ بِدُونِ مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ مؤدٍ إِلَى أَنْ لَا تَزُولَ نَجَاسَتُهُ عَنْ مَحَلٍّ إِلَّا بِقُلَّتَيْنِ، وَهَذَا شَاقٌّ فَسَقَطَ، وَتَخْمِيرُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ غَيْرُ شَاقٍّ فَلَزِمَ، وَصَارَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يُنَجَّسُ بِورُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حِفْظَهُ مِنْهَا بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ مُمْكِنٌ، وَصَارَ وُرُودُهُ عَلَى الْمَاءِ اضْطِرَارًا فَلَمْ ينجس. (فصل: الجواب عن استدلال الأحناف) وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ نَصٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُفْضِيًا إِلَى تَنْجِيسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ. قُلْنَا: الْتِمَاسُ فَائِدَةِ النَّهْيِ اعْتِرَافٌ بِأَنْ لَا دَلِيلَ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى فَائِدَةِ النَّهْيِ الْخَوْفُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَاءِ بِكَثْرَةِ الْبَوْلِ فَيَصِيرُ بِالتَّغْيِيرِ نَجِسًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَزْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا فَمِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ إِنَّ زَمْزَمَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ وَنَحْنُ أُعْرَفُ بِأَحْوَالِهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ مَكَّةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَهَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ نَزَحَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ لِكَثْرَتِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ، لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ نَزْحَهَا لِظُهُورِ دَمِ الزِّنْجِيِّ فِيهَا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَزَحَهَا تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا تُنَجَّسُ، الْمَاءُ وَالثَّوْبُ وَالْأَرْضُ وَابْنُ آدَمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فإن قيل: فما معنى قوله: " لا ينجس "، قِيلَ: يَعْنِي أَنَّ أَعْيَانَهَا لَا تَنْقَلِبُ فَتَصِيرُ نَجِسَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ، قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْبَدَنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَبْلُغُ حَدًّا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ، فَنُجِّسَ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِمْكَانُ حِفْظِهِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمُ على الطَّهَارَةِ وَالتَّنْظِيفِ مَا لَا يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَائِعَاتِ فَيُخَفِّفُ حُكْمَ الْمَاءِ؛ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَغَلَّظَ حُكْمُ غَيْرِهِ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا لَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ مِنَ الْمَاءِ وَبِالثَّوْبِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ وَقَدْ جَاءَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ والله أعلم. (مسألة: مقدار القلتين) وروى الشافعي رضي الله عنه عَنِ ابْنِ جريجٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً وقال في الحديث أو قربتين بِقِلَالِ هجرٍ " وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هجرٍ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ الشافعي: والاحتياط أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قربٍ، قَالَ وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ حَدٌّ لِمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُنَجَّسْ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهِمَا لِيَصِيرَ الْحَدُّ بِهَا مَعْلُومًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُلَّتَانِ: هُمَا مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَمْ يَحْضُرِ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " بِقِلَالِ هَجَرَ " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، قِيلَ: هُوَ مُسْنَدٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ نَسِيَ إِسْنَادَهُ وَمُرْسَلٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيُلْزَمُ الشَّافِعِيُّ الْعَمَلَ بِهِ لِإِسْنَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْزَمْ بِهِ لِإِرْسَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ هِيَ أَكْبَرُ قِلَالٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا جُعِلَ مَعْدُودَ الْمَقَادِيرِ حَدًّا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 يَتَنَاوَلْ إِلَّا أَكْثَرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ فِي الْعَدَدِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدَّرَ نصاب الزكاة خمسة أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَكْبَرُ مِقْدَارٍ لَهُمْ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِالْمُدِّ، وَلَا بِالصَّاعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ لَا تَخْتَلِفُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْقِلَالِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَمَا يَخْتَلِفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَحْدُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي وَصْفِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى " رَأَيْتُ أَوْرَاقَهَا كَأَذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقَهَا كَقِلَالِ هَجَرَ " فَلَوْ كَانَتْ قِلَالُ هَجَرَ مُخْتَلِفَةَ الْمِقْدَارِ لَمَا عَلِمُوا بِهَذَا التَّشْبِيهِ قَدْرَ نَبْقِهَا، وَلَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا بِقِلَالِ هَجَرَ فَلَيْسَتْ مَجْلُوبَةً مِنْ هَجَرِ الْبَحْرَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نِسْبَتِهَا إِلَى هَجَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا تُعْمَلُ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، تُسَمَّى هَجَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عُمِلَتْ عَلَى مِثَالِ قِلَالِ هَجَرَ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ وَإِنْ عُمِلَ بِالْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ ما يعلم بِمُرْوٍ. (فَصْلٌ: احْتِيَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لِلْقُلَّتَيْنِ) ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ قِلَالَ هَجَرَ، وَلَا أَهْلَ عَصْرِهِ؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ وَنَفِدَتْ فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَمُشَاهَدٌ مِنْهُمْ فَقَدَّرَهَا بِقِرَبِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ مَشْهُورَةٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ، والَقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ، أَوْ قَالَ: قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لِابْنِ جُرَيْجٍ، وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، قِيلَ: لَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ قَبُولُ خَبَرٍ فِي مَغِيبٍ، وَذَلِكَ جائز. فإن قيل: لما جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ عَلَى الْقِرْبَتَيْنِ نِصْفًا وَزَعَمَ أَنَّهُ احْتِيَاطٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْطَلِقًا عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ، قِيلَ: الشَّيْءُ ها هنا نِصْفٌ فِي الِاحْتِيَاطِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ شَكَّ فِي الْقَدْرِ هَلْ هُوَ قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ؟ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ إِلَّا يَسِيرًا هُوَ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ لِيَخْفَى وَلَا يَكْثُرَ فَيَزُولُ الشَّكُّ فِيهِ فَلَمَّا جَعَلَهُ نِصْفًا، وَمُقْتَضَى الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَانَ احْتِيَاطًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّبْعِيضِ كَانَ مُشَارًا بِهِ فِي الْعُرْفِ إِلَى أَقَلِّ الْبَعْضَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ الزَّائِدُ عَلَى الشَّيْئَيْنِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ قَالُوا اثْنَيْنِ وَشَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، قَالُوا ثَلَاثَةً إِلَّا شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ نِصْفًا كَامِلًا كان احتياطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرْبَةُ الثَّالِثَةُ مُتَبَعِّضَةٌ فَبَعْضُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُلَّةِ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ مِنْهَا، ولم يكن تكثيراً أَحَدِ الْبَعْضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ، فَجَعَلَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمَا نِصْفًا مُسَاوِيًا لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ لَا يَكُونُ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ خَمْسَ قِرَبٍ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَقَادِيرِ لِلِاسْتِيفَاءِ احْتِيَاطٌ لَهَا أَوْلَى كَمَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْوَجْهِ فِي غَسْلِهِ وَحَدَّ الْعَوْرَةِ وَإِمْسَاكَ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي طَرَفِ الصَّوْمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِتَحْدِيدِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ؛ لِأَنَّهُ اكْتَفَى أَهْلُ عَصْرِهِ فِي بَلَدِهِ بِالْقِرَبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قِرْبَةٍ لَهُمْ كَمَا اكْتَفَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقِلَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قُلَّةٍ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: هَلْ تحديد القلتين تقريب أم تحقيق؟) ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا مِنْ بَعْدِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا نَأَوْا عَنِ الْحِجَازِ وَبَعُدُوا فِي الْبِلَادِ، وَغَابَتْ عَنْهُمْ قِرَبُ الْحِجَازِ، وَجَهَلَ الْعَوَامُّ تَقَادِيرَ الْقِرَبِ التي أخبرهم بها حد الماء يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُنَجَّسُ اضْطُرُّوا إِلَى تَقْدِيرِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَ كَافَّتِهِمْ كَمَا اضْطُرَّ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ عَاصَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقِلَالِ، فِي تَقْدِيرِهَا بِالْقِرَبِ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَبَرُوا قِرَبَ الْحِجَازِ عَلَى أَنْ قَدَّرُوا كُلَّ قِرْبَةٍ مِنْهَا بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِالْأَرْطَالِ مِنْ أَصْحَابِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو عَبِيدِ بْنُ جَرَبْوَيْهِ ثُمَّ سَاعَدَهُمْ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةً لِاخْتِيَارِهِمْ فَصَارَتِ الْقُلَّتَانِ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسِ قِرَبٍ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ تَقْرِيبٍ أَوْ تَقْدِيرُ تَحْقِيقٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ حَدُّ تَقْرِيبٍ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ وَلَا بِنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْقَلِيلِ بِالْقِرَبِ احْتِيَاطٌ وَتَحْدِيدَ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ اسْتِظْهَارٌ فَصَارَ التَّحْقِيقُ فِيهِ مِعْوَزًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ حَدُّ تَحْقِيقٍ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ الْيَسِيرِ وَنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْدُودُ فِي حُكْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا فَيُجْهَلُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي اعْتِبَارِهَا عَهْدَنَا مِنَ الْأُصُولِ قَدْ جَعَلَهُ مَحْدُودًا عَلَى التَّحْقِيقِ. (مَسْأَلَةٌ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَاءِ الكثير والقليل) قال الشافعي: " احتج بأنه قيل يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهي تطرح فيها المحايض وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَمَا يُنْجِي النَّاسُ فَقَالَ: " الْمَاءُ لا ينجسه شيءٌ " قال ومعنى لا ينجسه شيءٌ إذا كان كثيراً لم يغيره النجس. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلا ما غير ريحه أو طعمه " وقال فيما روي عن ابن عباس أنه نزح زمزم من زنجي مات فيها إما لا نعرفه وزمزم عندنا وروي عن ابن عباسٍ أنه قال: " أربع لا يخبثن " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فذكر الماء وهو لا يخالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد يكون الدم ظهر فيها فنزحها إن كان فعل أو تنظيفاً لا واجباً. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٌ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ، فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كَانَتْ، فَلَمْ يُغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ ولَا رِيحُهُ وَلَمْ يَنْجُسْ، وَهُوَ بِحَالِهِ طاهرٌ، لأن في خمس قربٍ فصاعداً وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا ينجسه إلا ما غيره، ومن الْقَلِيلِ الَّذِي يُنَجِّسُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ بِمَا وَصَفْنَا، وَأَنَّ الْخَمْسَ قِرَبٍ خمسمائة رطل بما بينا صار كثير الماء خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ] وَقَلِيلُهُ مَا دُونَهَا ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمَ كَثِيرِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ أَوْ مُتَجَسِّدَةٌ فلا يخلو أن يتغير بها الماء أو لا يَتَغَيَّرُ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا الْمَاءُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، ثُمَّ لَا تَخْلُو النَّجَاسَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً كَبَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أُهْرِيقَ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُ جميع الماء شيئاً بعد شيء حتى يستنفد جميعه جائز ولا يلزم استبقاء شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَهُ حَتَّى يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مُسْتَعْمِلُ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهَا أَثَرٌ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةٌ، فَعُفِيَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبْقَى مِنْ جُمْلَةِ الْمَاءِ قَدْرَ النَّجَاسَةِ فَنَحْنُ نُحِيطُ عِلْمًا بِأَنَّ مَا اسْتَبْقَاهُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ مَحْضَةٍ تَمَيَّزَتْ عَنِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَانْحَازَتْ إِلَى الْمُسْتَبْقَى، وَإِنَّمَا الْبَاقِي مَاءٌ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعْمَلُ فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ. (فَصْلٌ: إِذَا كَانَ فِي الماء عين نجسة) وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ عَظْمِ خِنْزِيرٍ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الميتة منه، وإزالة العين النجسة عنه، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ كُلَّهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تَزُلِ النَّجَاسَةُ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَدِّ نَقْصٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ صَارَ نَجِسًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُلَّتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ إِلَّا مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا وَإِنِ اسْتَعْمَلَ مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارًا بأن ما قارب النجاسة كان أحص بِحُكْمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ وَلَوْ مِنْ أَقْرَبِهِ إِلَى النَّجَاسَةِ، وَأَلْصَقِهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّجَاسَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي إِلَى حَدِّ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْبَاقِي بِيَدِهِ لم يجزه، لِأَنَّ مَا يَغْتَرِفُهُ بِيَدِهِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ بَاقِيهِ فَيُنَجَّسُ مِنْ يَدِهِ مَا لَاقَى الْبَاقِيَ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ اغْتِرَافِهِ فَأَمَّا إِذَا اغْتَرَفَ مِنْهُ بِدَلْوٍ وَإِنَاءٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ كِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ، مَا اغْتَرَفَهُ وَمَا أَبْقَاهُ، لِأَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ بَقِيَتْ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ تَخْرُجْ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا اغْتَرَفَهُ مِنْ مَاءِ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي نَجِسٌ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا فِي الدَّلْوِ نَجِسٌ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي طَاهِرٌ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنَ الدَّلْوِ نُقْطَةَ مَاءٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ ظَاهِرِهِ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّلْوِ طَاهِرٌ وَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ بَاطِنِهِ صَارَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا؛ لِأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ الدَّلْوِ مِنَ الْمَاءِ نَجِسٌ فَلَوْ شَكَّ هَلْ كَانَتِ النُّقْطَةُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ فَالْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ شُكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. (فَصْلٌ: وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ بِلَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ مِنْهُ مَا كَانَ التَّغَيُّرُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ عَادَ إِلَى الطَّهَارَةِ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ لِأَجْلِ التَّغْيِيرِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ متجسدة فإن عاد إلى التَّغْيِيرُ بَعْدَ زَوَالِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِيهِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن وقعت ميتةٌ في بئرٍ فتغير مِنْ طَعْمِهَا أَوْ لَوْنِهَا أَوْ رَائِحَتِهَا أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فَتَطْهُرُ بِذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَحُكْمُ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ، وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من مياه المصانع، والأواني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال أبو حنيفة ماء البئر مخالف لغيره من مياه المصانع والأواني وإن ماتت في البئر عصفوراً وفأرة نُزِحَ مِنَ الْبِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوًا وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا، وَإِنْ وَقَعَ ذَنَبُهَا نُزِحَتِ الْبِئْرُ كلها، وإن مات فيها سنوراً ودجاجة نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ عَذِرَةٌ، وَكَانَ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَاءِ الْبِئْرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِهَا فَهُوَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى عُلُوِّهَا، وَكَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالسِّنَّوْرِ، أَنَّ السِّنَّوْرَ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَأْرَةِ فَكَانَ مَا يُنْزَحُ بِمَوْتِهَا أَكْثَرَ، وَالشَّاةُ تَغُوصُ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ، فَيُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِي الْبِئْرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ إِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ فهو أظهر فساد مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَى فَسَادِهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الماء النجس لا يطهر بِأَخْذِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ نَجِسًا، وَالْمَتْرُوكُ طَاهِرًا وَكَيْفَ تَمَيَّزَتِ النَّجَاسَةُ حَتَّى صَارَ جَمِيعُهَا فِي الْمَأْخُوذِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَتْرُوكِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَتَمَيَّزَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَتْرُوكِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَأْخُوذِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَمَا انْفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَلَبَ مَا قَالَهُ فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ طَاهِرًا، وَالْمَتْرُوكَ نَجِسًا. فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَمَا يَنْبُعُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَى. قِيلَ: الدَّلْوُ إِذَا نَزَلَ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ طَبَقَاتِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ عَلَى حَالِهَا، ثُمَّ كَيْفَ انْتَهَى رَفْعُ النَّجَاسَةِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى عِشْرِينَ دَلْوًا فِي أَعْلَاهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَنْخَفِضْ مِنْهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَبَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَاءِ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَاهُ، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَصُبُّ عَلَيْهِ من أعلاه يحيط النَّجَاسَةَ إِلَى أَسْفَلِهِ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْقَلِيلِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ الْفَأْرَةَ لَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا، وَلِمَ لَا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي مَاءِ الْغَدِيرِ، وَمَا تَقُولُ إِنْ شُدَّتِ الْفَأْرَةُ بِحَجَرٍ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِكَ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ مَائِهَا وَلَوْ شُدَّتْ بِخَشَبَةٍ حَتَّى مُنِعَتْ مِنْ غَوْصِهَا أَنْ لَا يُنْزَحَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَذَيْنِ وَتُوجِبُ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ذَنَبُ الْفَأْرَةِ أَقَلُّ غَوْصًا فِي الْمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْفَأْرَةِ وَأَنْتَ تَقُولُ فِي ذَنَبِهَا وَهُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، وَيُنْزَحُ مِنَ الْفَأْرَةِ مَعَ ذَنَبِهَا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ جُمْلَتِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ مِنَ الْعِشْرِينَ إِلَى مَاءِ الْبِئْرِ صَارَ نَجِسًا، فَإِنْ عَادَ فَنَزَحَ مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا صَارَ طَاهِرًا فَهَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ أَنَّ الدَّلْوَ النَّجِسَ الَّذِي سَقَطَ فِي الْمَاءِ خَرَجَ جَمِيعُهُ فِي الدَّلْوِ الْمُسْتَقَى مِنْهُ حَتَّى تَمَيَّزَ بَعْدَ امْتِزَاجِهِ بِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجَاحِظُ: لَمْ أَرَ دَلْوًا أَعْقَلَ مِنْ دَلْوِ أبي حنيفة يَعْنِي أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ، وَالْجَاحِظُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَلَاعَةِ فِي أبي حنيفة مَعَ فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي عِلْمِهِ لَكِنْ تَطَرَّقَ بِاضْطِرَابِ الْمَذْهَبِ وَذَهَابِهِ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُسْتَهْجَنِ فَإِنْ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا قَلْتُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَهُ أَمَرَ بِنَزْحِ سبعٍ أَوْ ثمانٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 عَلَى أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِنَزْحِهَا لِيَزُولَ تَغَيُّرُهَا أَوْ تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا فَلِمَ تُرِكَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأُصُولُ الْمُشْتَهِرَةُ، لِهَذَا الْأَثَرِ الْمُحْتَمَلِ وَالرِّوَايَةِ الْمُخْتَلِفَةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من المياه الراكدة، فلا يخلو حال الْبِئْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ قَائِمَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ مَاؤُهَا قَلِيلًا فَهُوَ نَجِسٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَغَيِّرًا فَطَهَارَتُهُ بِالِاجْتِمَاعِ، وَمُغَيِّرُ أَحَدِهِمَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، وَالثَّانِي زَوَالُ التَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَطَهَارَتُهُ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُكَاثَرَةُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَالْكُلُّ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ لِقِلَّتِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِي الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ لِكَثْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ يَكُونُ نَجِسًا وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَالْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ قَائِمَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ نَجِسٌ، وَطَهَارَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ وَلِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَتَقَادُمِ الْعَهْدِ فَيَعُودُ إِلَى حَالِ الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ طَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِدُ عَلَيْهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِإِلْقَاءِ شيء فيه لا يَخْلُو حَالُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ تُرَابٍ، كَالطِّيبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ ذِي رائحته غالبة فالماء على نجاسة لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ زَوَالَ التَّغَيُّرِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَقْوَى رَائِحَةً مِنْهَا فَخَفِيَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ تُرَابًا فَفِي طَهَارَتِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُطَهَّرُ قِيَاسًا عَلَى زَوَالِ التَّغَيُّرِ بِالطِّيبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُطَهَّرُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْمَاءِ غَالِبًا، وَهُوَ قَرَارٌ لَهُ، فَقَدْ يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ لِحُصُولِ التُّرَابِ فِيهِ دَلَّ عَلَى اسْتِهْلَاكِ النَّجَاسَةِ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهَا، وَأَنَّ التُّرَابَ قَدْ جَذَبَهَا إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا نَزْحُ مَاءِ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ نَجِسًا فَلَا يُطَهَّرُ بِالنَّزْحِ، وَهُوَ بَعْدَ نَزْحِهِ نَجِسٌ كَحُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ نَزْحِهِ فَأَمَّا الْبِئْرُ بَعْدَ نَزْحِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْبُعَ فِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فِيهَا مَاءٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ، لَا تُطَهَّرُ إِلَّا بِمَا تُطَهَّرُ بِهِ النَّجَاسَاتُ مِنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَإِنْ نَبَعَ فِيهَا مَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّابِعِ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، نَظَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَالْبِئْرُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَقَدْ طَهُرَتِ الْبِئْرُ، وَهُوَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ، فيكون على مذهب الشافعي طاهر غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ نَجِسًا. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ مُتَغَيِّرًا فَلَا يَخْلُو تَغْيِيرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ إِمَّا لِحَمْأَةٍ أو لفساد التربة فَلَا حُكْمَ لِتَغْيِيرِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا التَّغْيِيرُ فِي تَنْجِيسِهِ، وَيَكُونُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِهِ هَلْ هُوَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ أَوْ لِفَسَادِ التُّرْبَةِ؟ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَكُونُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَغْيِيرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنَّ غَدِيرًا بَالَ فيه ظبي فوجده مَاؤُهُ مُتَغَيِّرًا فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ لِبَوْلِ الظَّبْيِ، أَوْ لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا؛ لأن ظاهر تغييره أَنَّهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَغَلَبَ حُكْمُهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ فِي بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مَاءِ إِنَاءٍ أَوْ غَدِيرٍ. (فَصْلٌ: إِذَا وَقَعَتْ في الماء الجاري نجاسة) فَأَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ كَانَتِ الْجَرْيَةُ الَّتِي تَغَيَّرَتْ بها نجسة، وَكَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَعْلَى وَمَا تَحْتَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَسْفَلِ طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْجَرْيَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ نَجِسَةٌ، وَمَا تَحْتَهَا وَفَوْقَهَا طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْجَارِي يَنْتَهِي إِلَى فَضَاءٍ يَقِفُ فِيهِ فَمَاءُ الْفَضَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَيْهِ الْجَرْيَةُ، التي وقعت فيها النجاسة طاهر فإذا انْتَهَتِ الْجَرْيَةُ النَّجِسَةُ إِلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا قَلَتْهُ نَجَاسَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا، فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلًا لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ بَعْدَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ فِيهِ، وَتُخْلَطْ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي طَهَارَتِهِ بِالِاتِّصَالِ لَا بِالِاخْتِلَاطِ؛ أَلَا ترى لو أن قلتين مَاءٍ غَيْرَ رِطْلٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَوْ صُبَّ عَلَيْهِ رِطْلٌ مِنْ مَاءٍ صَارَ طَاهِرًا وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَغِيبَ الْمَاءُ كُلُّهُ فِي الرِّطْلِ الَّذِي صُبَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً مَعَهُ أَوْ وَاقِفَةً فِيهِ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعَهُ فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ نَجَاسَةِ الْجَرْيَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَطَهَارَةِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِذَا انْتَهَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى مَاءِ الْفَضَاءِ صَارَتْ نَجِسَةً فِي مَاءٍ رَاكِدٍ، فَيَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَانَ مَدُّ الْفَضَاءِ طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرٌ أَيْضًا قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِهِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْفَضَاءِ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَاءُ الْجَارِي قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِمَاءِ الْفَضَاءِ طَاهِرٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ صَارَ نَجِسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَوْ لَمْ يَغِبْ فِيهِ وَيَخْتَلِطْ بِهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِاخْتِلَاطِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِي الْمَاءِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْسَكِنَ بِهَا الْمَاءُ وَيَقِفَ عِنْدَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْسَكِنَ بِهَا وَيَكُونَ عَلَى جَرْيَتِهِ فَإِنَّ انْسَكَنَ الْمَاءُ بِهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا كَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا كَانَ عَلَى جَرْيَتِهِ، وَكَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَانْقَطَعَتْ جَرْيَتُهُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الرِاكدِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَانَ نَجِسًا، وَكَانَ مَا انْحَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا، وَفِي حُكْمِ الرَّاكِدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ مَحْكُومًا بِطِهَارَتِهِ لِكَثْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَمُرُّ بِالْمَيْتَةِ عَلَى جَرْيَتِهِ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْ جَرْيَتِهِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غُزْرِ الْمَاءِ كُلِّهِ مِنْ عُلْوِهِ إِلَى قَرَارِهِ فَلَيْسَ يُجَوِّزُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَمَسَّهَا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ جَرْيَتُهُ إِلَيْهَا طَاهِرٌ مَا تَحْتَهَا نَجِسٌ، وَفِي حُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا اسْتِشْهَادًا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِبْرِيقًا لَوْ صُبَّ مِنْ بِزَالِهِ مَاءٌ عَلَى نَجَاسَةٍ كَانَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنَ الْبِزَالِ طَاهِرًا مَا لَمْ يُلَاقِ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا إِلَيْهَا كَذَلِكَ كَمَا جَرَى إِلَى نَجَاسَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ النجاسة راسبة في أسفل الماء وغزاره فَلَيْسَ تَمُرُّ بِهَا الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنَ الْمَاءِ وَإِنَّمَا تَمُرُّ بِهَا أَسْفَلُ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنَ الْمَاءِ نَجِسَةً لِمُرُورِهَا عَلَى النَّجَاسَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَلَا لَاقَتْهَا فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَجِسَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَرْيَةَ الْمَاءِ إِنَّمَا تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ، فَأَمَّا مَا عَلَا مِنْهُ وَسَفُلَ مِنْ طَبَقَاتِهِ فَهُوَ بِالرَّاكِدِ أَشْبَهُ، وَالرَّاكِدُ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ طَافِيَةً عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ وَلَا تَنْتَهِي إِلَى قَرَارِهِ، فَلَيْسَ يَمُرُّ بِهَا إِلَّا أَعْلَى الْمَاءِ دُونَ أَسْفَلِهِ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 العليا نجسة لمرورها بالنجاسة، وفي نجاسته الطَّبَقَةِ السُّفْلَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٍ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كانت فلم تغير طعمه ولا لونه ولا ريحه لم يَنْجُسْ وَهُوَ بِحَالِهِ طاهرٌ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَ قربٍ فصاعداً وَهَذَا فرقٌ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ وَبَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي ينجسه ما لم يغيره فإن وقعت ميتةٌ في بئر فغيرت طعمها أو ريحها أو لونها أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فتطهر بذلك (قَالَ) وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ قربٍ فَخَالَطَتْهُ نجاسةٌ لَيْسَتْ بقائمةٍ نَجَّسَتْهُ فِإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ ماءٌ أَوْ صُبَّ عَلَى ماءٍ آخَرَ حَتَى يَكُونَ الْمَاءَانِ جَمِيعًا خَمْسَ قربٍ فَصَاعِدًا فَطَهُرَا لَمْ يُنَجِّسْ واحدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ (قَالَ) فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْجَسَا بَعْدَ مَا طَهُرَا إِلَّا بنجاسةٍ تَحْدُثُ فِيهِمَا ". قال الماوردي: وهذا صحيح لما ذكره الشَّافِعِيُّ حُكْمَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَقَدْ نَجِسَ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْمَاءُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ سِوَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ فَطَهَارَتُهُ بِاجْتِمَاعِ وَصْفَيْنِ بِالْمُكَاثَرَةِ، وَزَوَالِ التَّغَيُّرِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَطَهَارَتُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ وَحْدَهَا، فَلَوْ كَانَتْ قُلَّةٌ نَجِسَةً، وَقُلَّةٌ أُخْرَى طَاهِرَةً فَصُبَّتْ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى صَارَا مَعًا طَاهِرَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ سَوَاءٌ صُبَّتِ الطَّاهِرَةُ عَلَى النَّجِسَةِ أَوِ النَّجِسَةُ عَلَى الطَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْمُكَاثَرَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي وُرُودِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجَسِ وَوُرُودِ النَّجَسِ عَلَى الطَّاهِرِ، فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ، نُظِرَ فِي حَالِ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً صَارَتْ مستهلكة، وكان الماآن طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً، فَإِنْ أُخَرِجَتْ مِنْهُ قَبْلَ تَفْرِيقِهِ فَهُمَا طَاهِرَانِ وَإِنَّ فُرِّقَا قبل إخراجها مِنْهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ بِالِاغْتِرَافِ مِنْهُ دُفْعَةً كَانَ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِنَاضِحٍ احْتَمَلَ بِهِ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ، فَالْقُلَّةُ الَّتِي حُمِلَتِ النَّجَاسَةُ فِيهَا نَجِسَةٌ، وَالْقُلَّةُ الْأُخْرَى طَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ نَجِسٌ، وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ أَمَالَ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْقُلَّتَانِ حَتَّى انْصَبَّ مِنْهُ فِي إِنَاءٍ آخَرَ قُلَّةٌ، وَبَقِيَ فِي الْأَوَّلِ قُلَّةٌ، نُظِرَ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ حِينَ أَمَالَ الْإِنَاءَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ كَانَ الْإِنَاءُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ نَجِسًا وَكَانَ مَا بَقِيَ فِي الْأَوَّلِ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى الْإِنَاءِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُ مَا أَصَارَ بِهِ الثَّانِيَ فِي الْأَوَّلِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ بَقِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الْقُلَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْإِنَاءِ الْأَوَّلِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَجَدْتَهُ مُسْتَمِرًّا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ قُلَّةُ مَاءٍ نَجِسَةٌ، وَقُلَّةٌ أُخْرَى نَجِسَةٌ، فَأَرَاقَ إحديهما في الأخرى، وليس فهما تَغْيِيرٌ فَهُمَا طَاهِرَتَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فَإِنْ قِيلَ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ نَجِسَةٌ وَالنَّجَاسَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ النَّجَاسَةِ كَانَ أَغْلَظَ لِحُكْمِهَا لِكَثْرَتِهَا، فَكَيْفَ صَارَتْ إِحْدَى النَّجَاسَتَيْنِ مُطَهِّرَةً لِلْأُخْرَى، وَالنَّجَاسَةُ بِاجْتِمَاعِهَا أَكْثَرَ. قِيلَ: إِنَّمَا كَانَا نَجِسَيْنِ مَعَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ قِلَّةَ الْمَاءِ تَضْعُفُ عن احتمال النجاسة، وإذا أجمعا كَثُرَ فَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَصَارَتْ لِكَثْرَةِ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكَةً عُفِيَ عَنْهَا فَلَوْ فُرِّقَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالنَّجَاسَةُ مَائِعَةٌ كَانَا طَاهِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَلَمْ يَنْجَسْ بِالتَّفْرِيقِ. (فَصْلٌ) : فَلَوْ كَانَ معه قلتان من ماء إِلَّا رِطْلًا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ، فَلَوْ تَمَّمَهُ بِرِطْلٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ حَتَّى صَارَ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَغْيِيرٌ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَقُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيُحْتَمَلُ دَفْعُ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُلَّتَانِ مَاءً وَنَجَاسَةً، وَهَكَذَا لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَطْهُرْ، وَكَانَ نَجِسًا لِتَقْصِيرِ الْمَاءِ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ مَاءٍ نَجِسٍ كَانَ طَاهِرًا لِتَمَامِ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ. (فَصْلٌ) : فَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ شُكَّ فِي قَدْرِهِ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَوْ أَقَلُّ؟ فَهُوَ عَلَى الْقِلَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَتَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا، فَلَوْ عَلِمَهُ قُلَّتَيْنِ، ثُمَّ رَأَى كَلْبًا قَدْ وَلَغَ فِيهِ، وَشَكَّ هَلْ شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ فَهُوَ عَلَى الْكَثْرَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ نَقْصَهُ وَيَكُونُ طَاهِرًا. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قُلَّتَانِ مِنْ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَتَغَيَّرَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ فَزَالَ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ، وَلَوْ زَالَ التَّغْيِيرُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ طَاهِرٌ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ نَجِسٌ لَمْ يُحْكَمْ بِتَنْجِيسِهِ دُونَ أَنْ يُخْبِرَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَ به نجساً؛ لاختلاف الناس فيما ينجس به الْمَاءَ وَلَا يُنَجِّسُ أَلَا تَرَى أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ سُؤْرَ الْحِمَارِ نَجِسًا مِثَالُهُ الشَّهَادَةُ بِالْجَرْحِ وَالتَّفْسِيقِ لَا تَسْمَعُ إِلَّا بِذِكْرِ مَا صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِثْلُ الْعَنْبَرِ أَوِ الْعُودِ أَوِ الدُّهْنِ الْطَيِّبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَخُوضًا بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَمَّا ذكر الشافعي حكم النجاسة إذا وقعت في الْمَاءِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إِذَا وَقَعَتْ وَجُمْلَةُ مَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْأَشْيَاءُ الطَّاهِرَةُ ضَرْبَانِ: مَائِعٌ وَجَامِدٌ، فَالْمَائِعُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ كَالدُّهْنِ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ لَا يختلط بالماء وإنما يجاوره وتغيير المجاورة لا يغير حُكْمًا أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مَاءً فِي إِنَاءٍ جَاوَرَتْهُ مَيْتَةٌ فَتَغَيَّرَ بِرَائِحَتِهَا لَمْ يُنَجَّسْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والضرب الثاني: أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ عَنِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ فَيُنْظَرُ حَالُ الْمَاءِ فَإِنْ غَيَّرَ الْمَائِعُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَقَلَّ مِنَ الْمَاءِ كَانَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا؛ لِغَلَبَتِهِ بِالْكَثْرَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ فَالْمَاءُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَلَبَةِ الْمَائِعِ عَلَيْهِ بِكَثْرَتِهِ، وَأَمَّا الْجَامِدُ فَضَرْبَانِ: مَذْرُورٌ، وَغَيْرُ مَذْرُورٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْرُورٍ كَالْعُودِ وَالصَّنْدَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي رِيحٍ ذَكِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَكِيٍّ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ والعصفر والحنا فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ لَوْنُ الْمَاءِ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ، لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ لِاخْتِلَاطِ مُمَازَجَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُ الْمَاءِ وَلَا طَعْمُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَهُوَ مُطَهِّرٌ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَا لَمْ يُنَجَّسْ بِهِ الْمَاءُ، وَيَخْرُجْ عَنْ طَعْمِهِ فِي الرقة، والصفا، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ بِالْمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ الْقُلَّتَيْنِ فِي النَّجَاسَةِ، وَتَرْكِ اعْتِبَارِهِمَا فِي مُخَالَطَةِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجَاسَاتِ لَمَّا سلبت الماء صفتيه في الطهارة والتطهير ضعف قليل الماء عن دَفْعِهَا حَتَّى يَكْثُرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَائِعَاتُ تَسْلُبُ الْمَاءَ التَّطْهِيرَ دُونَ الطَّهَارَةِ قَوِيَ قَلِيلُ الْمَاءِ عَلَى دَفْعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَاتِ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ ضَعُفَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنَ الْمَائِعَاتِ مُتَعَذِّرٌ، فخف حكمها فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ وَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّجَاسَةِ أَمْكَنُ فَغَلِظَ حُكْمُهَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وإذا كان معه في السفر إناآن يَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نجسٌ، وَالْآخَرُ لَمْ يَنْجَسْ تَأَخَّى وَأَرَاقَ النَّجِسَ عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ وَتَوَضَّأَ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُمَكَّنُ، وَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ طاهرٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ معه إناآن أَوْ أَكْثَرُ، وَبَعْضُهَا طَاهِرٌ، وَبَعْضُهَا نَجِسٌ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَيَجْتَهِدَ، وَيَسْتَعْمِلَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ: يَتَوَضَّأُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُصَلِّي بَعْدَ التوضي صَلَاةً لَا يُعِيدُهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ: يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْآخَرِ وَيُعِيدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اشْتِبَاهَ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ كَاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْتَهِدُ فِي اشتباه الطاهر بالنجس، واستدل ابن الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهَا كَانَ على يقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 مِنِ ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَاسْتِعْمَالُ مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِ حَدَثِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ طَاهِرٍ وَوَجَدَ سَبِيلًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَزِمَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا وَاجِدٌ لِمَاءٍ طَاهِرٍ، وَقَادِرٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ وَاجِبًا عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ بِارْتِيَادِ دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَإِصْلَاحِ مَسِيلٍ وَتَنْقِيَةِ بِئْرٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً، وَبِالظَّاهِرِ أُخْرَى جَازَ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْقِبْلَةِ، فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اشْتِبَاهَ الْمَاءِ بالبول نادر فسقط الاجتهاد فيه كاشتباه القبلة في الحضر، واشتباه الطاهر بالنجس عام فجاز الاجتهاد فيه كاشتباه القبلة في السفر. والثاني: أن البول لم يكن له مدخل في الإباحة بحال فسقط الاجتهاد فيه إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَالْمُذَكَّاةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيْتَةِ، وَالْأُخْتُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالنَّجِسُ قَدْ كَانَ لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَاشْتِبَاهِ الثَّوْبَيْنِ وَالْقِبْلَتَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا كَرَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا حَمْلُ نَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ فِيهَا رَفْعَ حَدَثٍ بِيَقِينٍ، فَلَأَنْ كَانَ الْيَقِينُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ كَانَ الْيَقِينُ فِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَى طاهرٍ، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ مِنْ جِنْسِهِ كَأَوَانِي الْمَاءِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا وَاشْتَبَهَ بِالطَّاهِرِ أَوْ كَالثِّيَابِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يُنَجَّسْ وَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ سَوَاءٌ اسْتَوَى عَدَدُ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ أَوْ كَانَ عَدَدُ النَّجِسِ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ أَوْ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجِسِ، وَقَالَ أبو حنيفة: فِي الثِّيَابِ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَنَعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَوَانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجْتَهِدْ فَيَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِنَاءَيْنِ وَفِي الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ النَّجِسُ اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ النَّجِسُ وَاحِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " وَكَثْرَةُ النَّجِسِ مُرِيبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُرِيبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّيَمُّمِ بِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَحْ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْإِنَاءَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاءً وَالْآخَرُ بَوْلًا، وَلِأَنَّ الأصول مقررة عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَظْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ، كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَكَثْرَةُ الْإِبَاحَةِ تُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهَا فِي الْإِقْدَامِ كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ، فَكَذَا الْأَوَانِي إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) {الحشر: 2) وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَكْثَرَ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَقَلَّ كَالثِّيَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الْمَاءِ كَالثَّلَاثِ إِذَا كَانَ أَحَدُهَا نَجِسًا وَكَالْمَيْتَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمُذَكَّى عَكْسًا، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ إِذَا الْتَبَسَتْ بِالْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَلَبَةُ جِهَاتِ الْحَظْرِ كَطَلَبِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ الأربع، وَالْقِبْلَةَ فِي أَحَدِهَا؛ وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّهُورِ فَجَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الْأَوَانِي كَالْيَقِينِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى طَهَارَتِهِ قَدْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ، وَالتُّرَابُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ قَدِ انْتَقَلَتِ الرِّيبَةُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ بَوْلٌ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ وَالْبَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ الْمُبَاحِ لَمْ يَجُزْ مَعَ غَلَبَةِ الْمَحْظُورِ، وَلَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إِذَا غَلَبَ الْمُبَاحُ جَازَ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ الْحَظْرَ إِذَا غَلَبَ كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَغْلَبَ أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ حَرُمْنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِنَّ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَّ لَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّمَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهِ، وَكَذَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهَا، وَلَيْسَ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اجْتِهَادِهِ فِي قَلِيلِ الْأَوَانِي وَكَثِيرِهَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَمَتَى لَمْ يَجِدْ مِنَ الطَّاهِرِ إِلَّا مَا اشْتَبَهَ بِالنَّجِسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وإن وجد ماء طاهراً بيقين ومعه إناآن قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنْهُمَا مِنَ النَّجِسِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُمَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَلَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: " وَلَوْ كان في السفر وكان معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 إنا آن فَيَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ تَأَخَّى " فَجَعَلَ السَّفَرَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَكُونُ السَّفَرُ شَرْطًا إِلَّا لِعَدَمِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا بِمَاءٍ طَاهِرٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى لَوِ اسْتَعْمَلَ مِنْ إِنَاءٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِوُلُوغِ كَلْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ وَاشْتِرَاطُ الشَّافِعِيِّ السَّفَرَ إِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ لَا لِجَوَازِهِ. (فَصْلٌ) : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَالْآخَرُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُمَا أَدَّى فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا، نظر، فإن كان مضطر إلى شرب أحدهما جاز الاجتهاد فيهما؛ لأن لا يقدر علم عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا، فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ كَمَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا لَمْ يَجْتَهِدْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ مَاءُ وَرْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِخِلَافِ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ، لَا لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ يَخْتَصُّ بِالطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، وَهُمَا طَاهِرَانِ فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّطْهِيرِ، وَاجْتِهَادُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ وَأَنْ يَتَأَخَّى فِيهِمَا أَيُّهُمَا مَاءُ الْوَرْدِ لِيَشْرَبَهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا ماء الورد أعده لشربه، بقي الْآخَرُ وَقَدْ خَرَجَ بِالِاجْتِهَادِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَاءَ وَرْدٍ فَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَاءٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ يَتَيَقَّنُ طَهَارَةَ أَحَدِهِمَا، وَنَجَاسَةَ الْآخَرِ، وَقَدِ اشْتَبَهَا فَانْقَلَبَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَرَاقَهُ فَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، فَيَسْتَعْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا وَشَكَكْنَا فِي زَوَالِهَا بِإِرَاقَةِ أَحَدِهِمَا، وَالشَّكُّ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا ثَبَتَ بِيَقِينٍ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا دَلَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُسْتَدْرَكُ بِهَا حَالُ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجِهَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ، وَمِنْهَا حَرَكَةُ الْمَاءِ وَاضْطِرَابُهُ، وَمِنْهَا آثَارُ نَجَاسَتِهِ لِقُرْبِهِ، وَمِنْهَا انْكِشَافُ أَحَدِهِمَا، وَتَغْطِيَةُ غَيْرِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ طَهَارَةُ الطَّاهِرِ وَنَجَاسَةُ النَّجِسِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ اجْتِهَادُ الْأَعْمَى فِيهَا بِمَا عَدَا حَاسَّةَ الْبَصَرِ مِنَ الرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ وَسَمَاعِ الحركة، والاضطراب لاشتراك الأعمى والبصير في إدراكها بِالْحِسِّ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِيهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَوَصَّلَ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ أَمْ لَا، فَإِنْ تَوَصَّلَ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى طَهَارَةِ أَحَدِهِمَا اسْتَعْمَلَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَرَاقَ النَّجِسَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ لِئَلَّا يُعَارِضَهُ الشَّكُّ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ وَاسْتَعْمَلَ الطَّاهِرَ جَازَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ هُنَاكَ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَلَمْ يُؤَدِّهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى شَيْءٍ، وَكَانَ الِاشْتِبَاهُ بَاقِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُرِيقَ أَحَدَ الْإِنَاءَيْنِ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ بَلَغَا قُلَّتَيْنِ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَيَسْتَعْمِلُهُ وَيُصَلِّي وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ وَلَمْ يُعِدْ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ قُلَّتَيْنِ فَيَلْزَمُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنِ اسْتِكْمَالَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَاءٍ طَاهِرٍ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِنْ أُشْكِلَ. (فَصْلٌ) : فَلَوِ اجْتَهَدَ رَجُلَانِ فِي إِنَاءَيْنِ فَأَدَّى اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى طَهَارَةِ مَا نَجَّسَهُ صَاحِبُهُ اسْتَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَاءَهُ الَّذِي بَانَ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَاجْتِهَادِ رَجُلَيْنِ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِنَجَاسَةٍ، فَإِنْ جَمَعَا بَطُلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فَرْعًا يُغْنِي شَرْحُهُ عَنِ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ فِي خمسة توضؤوا وَسَمِعُوا مِنْ أَحَدِهِمْ صَوْتًا فَنَفَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَمْسَةِ أَمَّ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَتَّى أَمَّ الْخَمْسَةُ فِي خمس صلوات. فالجواب أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي أَوَّلِ الْجَمَاعَاتِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْعَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ مِنَ الْإِمَامَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ فَلَا إِعَادَةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 إِلَّا عَلَى الَّذِي أَمَّ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الصَّوْتَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ائْتَمَّ بِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَقَدْ أَضَافَ الصَّوْتَ إِلَى الرَّابِعِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْحَدَثِ وَمَنِ ائْتَمَّ بِمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَهُ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَالْإِعَادَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْأَرْبَعَةِ لِإِضَافَتِهِمُ الْحَدَثَ إِلَى الْخَامِسِ وَهُوَ الْإِمَامُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ إِعَادَةُ الرَّابِعَةِ الَّتِي كَانَ مَأْمُومًا فِيهَا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا اسْتَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْإِنَاءَيْنِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَطَهَارَةُ مَا تَرَكَهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ اجْتَنَبَ بَاقِيَ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَكَانَ نَجِسًا، وَاسْتَعْمَلَ الْإِنَاءَ الْآخَرَ، وَكَانَ طَاهِرًا وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِمَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ، وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجْتَنِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَيَسْتَعْمِلُ الثَّانِيَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُضِيَتْ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا تُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، لِاعْتِقَادِهِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَ نَجَاسَةَ مَاءٍ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنَ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِمَا نَفَذَ مِنَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ لَمْ يُنْقَضْ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي قَدْ نَقَضَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ وَغَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْ ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ هَذَا فَعَلِمَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الثَّانِي وَتَرْكُ غَسْلِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ لَكَانَ حَامِلًا لِنَجَاسَةِ يَقِينٍ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 (باب المسح على الخفين) قال الشافعي: " أخبرنا الثقفي يعني عبد الوهاب عَنِ الْمُهَاجِرِ أَبِي مخلدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا تَطَهَّرَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ النَّاسِ وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) {المائدة: 6) فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِتَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى حَالٍ دُونَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَمْرِ بِهَا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الصَّلَاةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِ وُضُوئِهِ، وَقَالُوا وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ كَانَ ذَلِكَ قبل سورة المائدة لا بَعْدَهَا، فَسَكَتَ أَبُو مَسْعُودٍ قَالُوا: فَكَانَ عَلِيٌّ يَرَى ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: لَأَنْ يُقْطَعَ رِجْلَايَ بِالْمُوسَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَقُولُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا خَيْرًا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَمْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يجهروا ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمُ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى تَطْهِيرِهِمَا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ مَا هو أيسر وأقرب، ويجيزون مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَبْعَدُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ امْتَنَعَ مِثْلُهُ فِي الرِّجْلَيْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ قَدْ يَجِبُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ كَوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْجَنَابَةِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهِمَا كَذَلِكَ الْوُضُوءُ. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِهِ السُّنَّةُ الْمَرْوِيَّةُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى دَلْهَمُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا ذكره أبو داود. وروى بكير بن عامر الْبَجَلِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبيِ نُعَيْمٍ عن المغيرة بن شعبة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نسيت، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي جَلَّ وَعَزَّ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى بُكَيْرُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جرير الحلى أَنَّ جَرِيرًا بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْسَحَ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، قَالَ مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمًا، فَذَهَبْتُ أَتَنَحَّى عَنْهُ، فَجَذَبَنِي حَتَى كُنْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ فَلَمَّا فَرَغَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ الْمَغِيرَةُ فَذَهَبْتُ مَعَهُ بماءٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْ ضيقٍ كُمِّ جُبَّتِهِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوفٍ قَدْ صَلَّى بِهِمْ ركعةٍ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهُمُ الرَّكْعَةَ الَتِي بَقِيَتْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ فَفَرَغَ النَّاسُ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ قَدْ أَحْسَنْتُمْ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَكَذَلِكَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا يَعْنِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ شَافَهَهُ وَبَعْضَهُمْ رَوَى لَهُ عَنْهُمْ: لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَلْقَ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَإِنْ أَوْجَبَتْ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِالرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دالة على غسل الرجلين إذا ظهرتا، وَالسُّنَّةُ وَارِدَةٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا لُبِسَا. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَيْنِ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَيُحْمَلُ النَّصْبُ عَلَى غَسْلِهِمَا إِذَا كَانَتَا ظاهرتين، ويحمل الجر على مسحهما إن كانتا في الخفين، فتكون الآية باختلاف قراءتيها دَالَّةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا بِهِ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَدَمَيْنِ، وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُ الْقَدَمَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَوْهُ مِنْ سُؤَالِ عَلِيٍّ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ عَلِيٍّ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَأَلَهُ اسْتِخْبَارًا عَنْ زَمَانِ الْمَسْحِ لَا إِنْكَارًا لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ لِيَظْهَرَ فِي النَّاسِ قِلَّةُ ضَبْطِ أَبِي مَسْعُودٍ، وَضَعْفُ حَزْمِهِ، وَسُوءُ فَهْمِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ كَانَ مِمَّنْ تَوَقَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِنْكَارِ عَائِشَةَ، وَقَوْلِهَا مَا قَالَتْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَمْ تُنْكِرِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنَّمَا كَرِهَتْ بِذَلِكَ السَّفَرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، وَقَالَتْ: لَأَنْ تُقْطَعَ رِجْلَايَ فَلَا أُسَافِرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ السَّفَرِ الَّذِي يُمْسَحُ فِيهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِنْكَارَهَا مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ وَاشْتِهَارِهَا وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهَا مَدْفُوعٌ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَدْ قَالَ سَعْدٌ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَلْ أَبَاكَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثلاثةٍ فَهُوَ أَنَّ جَابِرًا ضَعِيفٌ وَمَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَسَحَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَنْ تَمْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ فَرَوَى عَنْهُمْ جَوَازَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ أَوْجَبَ الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ مُنْتَقِضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْعُضْوِ يُوجِبُ غَسْلَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ مَسْحِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ اسْتَثْنَتِ الرِّجْلَيْنِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ غَسْلِهِمَا إِلَى الْخُفَّيْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَلَا يُقَاسُ عَلَى مَخْصُوصٍ وَمَنْصُوصٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَدْ فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ غَسْلَ مَا جَاوَزَ الْقَدَمَيْنِ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ، وَلَمْ يُمْكِنْ غَسْلُهُ فِي الْخُفَّيْنِ وَجَبَ خَلْعُهُمَا وَإِذَا خَلَعَهُمَا ظَهَرَتِ الرِّجْلَانِ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا وَوَجَبَ غَسْلُهُمَا مَعَ جَمِيعِ الْبَدَنِ. (فَصْلٌ: الْخِلَافُ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ المسح) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الْحَسَنِ وَعُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى تَحْدِيدِهِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ قطن عن أبي بن عمارة قال يحيى بن أيوب وَقَدْ كَانَ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِبْلَتَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَهِ أَنَمْسَحُ على الخفين، قال نعم، قال يومٌ قَالَ وَيَوْمَيْنِ، قَالَ: وثلاثةٌ، قَالَ: نَعَمْ، وَمَا شَئْتَ وَبِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ غَيْرُ مَحْتُومٍ مُقَدَّرٍ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: كَمْ عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ، فَقُلْتُ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ أَصَبْتَ السُّنَّةَ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَبِيرَةِ. (فَصْلٌ: دَلِيلُ مَنْ حَدَّدَهُ بِوَقْتٍ) وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْدِيدِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَزِينِ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: " أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عسالٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ قُلْتُ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ، قُلْتُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَكُنْتَ امْرَءًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَيْتُكَ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرَى أَنْ لَا نَنْزِعَ خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابةٍ لَكِنْ مِنْ غائطٍ وبولٍ ونومٍ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِي قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: " كَانَ الْنَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ وَثَلَاثَةُ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ ". وَبِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى تَحْدِيدِ الْمَسْحِ وَالْحَدِّ بِمَنْعِ الْمَحْدُودِ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ إِذَا كَانَ عَلَى حَائِلٍ يُقَدَّرُ بِالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوِزَةٍ كَالْجَبِيرَةِ وَحَاجَةِ الْمُقِيمِ إِلَى لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لَا يَسْتَدِيمُ فِي الْغَالِبِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ لَا تَسْتَدِيمُ حَاجَتُهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ. فأما حديث أبي بن عِمَارَةَ فَدَالٌّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ مَا شَاءَ، وهذا صحيح، إذا نزع خفيه كل ثلاث ولم يأمره باستدامته مَا شَاءَ. وَأَمَّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَزَادَهُ، وَلَوِ اسْتَزَادَهُ لَجَازَ أَنْ لَا يَزِيدَهُ بَلْ هُوَ ظَنٌّ يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عُمَارَةَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بن عُمَارَةَ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَبِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ أَصْلًا فَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مَسْحُ الرَّأْسِ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَاجَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْكَافَّةِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَجَوَّزَا ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ، وَالتَّسَاخِينُ: الْخِفَافُ، وَالْعَصَائِبُ الْعَمَائِمُ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: (وركبٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَطْلُبُ منهم ... لهاترةٍ مِنْ جَذْبِهَا لِلْعَصَائِبِ) يَعْنِي: الْعَمَائِمَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْمَشَاوِذِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمَشَاوِذُ: الْعَمَائِمُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: (إِذَا مَا شَدَدْتُ الْرأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ ... فَقَصْدُكَ مِنِّي تَغْلِبُ ابْنَةُ وائلٍ) ودليلنا قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فَأَوْجَبَ مَسْحَ الرَّأْسِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ عن أنس ابن مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عمامة ٌ فَصَلَّ ى بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ فَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ لَمَا تَكَلَّفَ هَذَا، وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ لَا يُجْزِئُ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ مُمْكِنٌ، مَعَ بَقَاءِ الْعِمَامَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ بَقَاءِ الْخُفَّيْنِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْغَسْلِ إِلَى الْمَسْحِ رُخْصَةٌ، وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ رُخْصَتَانِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ عَصَائِبَ الْجِرَاحِ، وَلِذَلِكَ خَاطَبَ أَهْلَ السَّرَايَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَنَى صِغَارَ الْعَمَائِمِ الَّتِي يَصِلُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا إِلَى مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ مَا ذَكَرَ الْفَرَزْدَقُ مِنَ الْعَصَائِبِ فِي شِعْرِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَلْوِيَةَ والْمَشَاوِذَ: هِيَ عَصَائِبُ تُلَفُّ عَلَى الرَّأْسِ فِي الحروب علامة والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ الْمُقِيمُ بغسلٍ أَوْ وضوءٍ ثُمَّ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهَرَتَانِ ثُمَّ أحدث فإنه يسمح عَلَيْهِمَا مِنْ وَقْتِ مَا أَحْدَثَ يَوْمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَلَيْلَةً وَذَلِكَ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا مَسَحَ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَى الْوَقْتِ الَذِي أَحْدَثَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ الْمَسْحِ لِلْمُقِيمِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَوَّلُ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ لِبَاسِهِ الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَوَّلُ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ مَسْحِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة أَوَّلُ زَمَانِهِ مَنْ وَقْتِ حَدَثِهِ بَعْدَ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ. وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ أَوَّلَ زَمَانِ حَدَثِهِ مِنْ وَقْتِ اللِّبَاسِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، فَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ مُدَّةَ اللِّبَاسِ. وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَجَعَلَ ذَلِكَ مُدَّةَ الْمَسْحِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إِنَّكَ تَجْعَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ تَسْتَدِلُّ بِالْمَعْنَى الدَّالِّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اعْتُبِرَ فِيهَا الْوَقْتُ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِهَا مَحْسُوبٌ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ فِعْلُهَا وَصِفَتُهَا مُعْتَبَرَةً بِوَقْتِ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ إِنْ كَانَتْ ظُهْرًا فَأَوَّلُ وَقْتِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَصِفَتُهَا فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ فِعْلِهَا وَأَدَائِهَا مُسَافِرًا قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ كَذَلِكَ الْمَسْحُ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَصِفَتَهُ فِي مَسْحِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الْمَسْحِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زَمَانَ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ، فَإِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ لِبَاسِ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ مِنْ وَقْتِ حَدَثِهِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ إِنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُقِيمَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَسْحِ سِتُّ صَلَوَاتٍ مُؤَقَّتَاتٍ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ فَيُصَلِّيَ سَبْعًا مِثَالُهُ: أَنْ يُحْدِثَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الْوَقْتِ فَيَمْسَحُ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ ثُمَّ الصُّبْحَ ثُمَّ الظُّهْرَ، فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ الْعَصْرَ يَجْمَعُهَا إِلَيْهَا، وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُسَافِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَسْحِ سِتَّ عَشْرَةَ صَلَاةً، إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ فَيُصَلِّيَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ عَشْرٌ فِي يَوْمَيْنِ، وَسَبْعٌ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ جَمْعِهِ، وَيَجُوزُ فِي زَمَانِ الْمَسْحِ أَنْ يُصَلِّيَ مَا شَاءَ مِنَ الْفَوَائِتِ وَالنَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمَسْحِ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ لَا بِالصَّلَوَاتِ، فَلَوْ شَكَّ فِي وَقْتِ حَدَثِهِ هَلْ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ؟ حَسِبَهُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَحْتَسِبُ من وقت العصر، لأنه متيقن حدوث حدثه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وَشَاكٌّ فِي تَقَدُّمِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمَسْحِ رُخْصَةٌ، وَالرُّخَصُ تُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَأُحْوَطُ حَالَتِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَوَّلِ زَمَانَيْ شَكِّهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى بِالْمَسْحِ خَمْسًا أَوْ سِتًّا حَسِبَهَا فِي الْمَسْحِ سِتًّا احْتِيَاطًا لِلْمَسْحِ، وَفِي الْأَدَاءِ خَمْسًا احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا جاوز الوقت فقد القطع الْمَسْحُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ وَصَلَّى بَعْدَ ذَهَابِ وقت المس أعاد غسل رجليه والصلاة ". إذا أنقض الْمَسْحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَا تَقَدَّمُ مِنَ الْمَسْحِ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ بَعْدَهُ مَسْحًا، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ فِي صَلَاةٍ، بَطُلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ لَابِسَهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا، وَاسْتَدَلَّا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرُورُ الزَّمَانِ حَدَثًا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الطَّهَارَاتِ. والثاني: أن مسح الخفين بدل مِنْ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ مُبْدَلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُرُورُ الزَّمَانِ مُؤَثِّرًا فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ زَمَانَ الْمَسْحِ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَ الزَّمَانِ حَدًّا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إما أن يكون حداً لفعل المسح أو حداً لاستدامة حكمه فلما لم يكن حداً لأمرين بِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا وَجَعَلَ مَأْخَذَهُ مِنَ الزَّمَانِ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَسْحِ، وَحُكْمِهِ جَمِيعًا، وَلَا يَصِحُّ جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَبَيْنَ سَائِرِ الطَّهَارَاتِ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ مَحْدُودُ الزَّمَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِمُرُورِ الزَّمَانِ تَأْثِيرٌ فِي نَقْضِهِ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الطَّهَارَاتِ زَمَانٌ مَحْدُودٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ مُرُورُ الزَّمَانِ فِي نَقْضِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقَضِّيَ زَمَانِ الْمَسْحِ بِتَقَضِّي ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَقَضِّيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى طُهْرٍ أَوْ حَدَثٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لُبْسَ خُفَّيْهِ وَالْمَسْحَ عَلَيْهِمَا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَوَضَّأُ. وَالثَّانِي: يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ فِي زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَسَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ أَتَمَّ مَسْحَ مقيمٍ وَلَوْ مَسَحَ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً باتفاقٍ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِلَّةِ، فَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ أَغْلَظُ حَالَيْهِ وأبو حنيفة يَجْعَلُ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ نِهَايَةُ حَالَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَمَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَسْحَ مُقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة يَمْسَحُ مَسْحَ مُسَافِرٍ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ حَالَيْهِ، وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليهن " وَهَذَا مُسَافِرٌ، وَلِأَنَّهُ مَاسِحٌ جَمَعَ بَيْنَ حَضَرٍ وَسَفَرٍ، فَوَجَبَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَهُ بِانْتِهَائِهَا كَالْمُسَافِرِ، إِذَا أَقَامَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَهَذَا قَدْ كَانَ مُقِيمًا فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّهُ مَاسِحٌ جَمَعَ بَيْنَ حَضَرٍ وَسَفَرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الْحَضَرِ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَقَامَ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَجَبَ إِذَا أَنْشَأَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ إِذَا افْتَتَحَهَا مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ انْفِصَالٌ عَنْ دَلَائِلِهِمْ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فَيُسَافِرَ أَوْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَيُقِيمَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا ثُمَّ يُسَافِرُ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ لُبْسِ خُفَّيْهِ، وَقَبْلَ حَدَثِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَسْحُ فِيهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ لُبْسِ خُفَّيْهِ، وَبَعْدَ حَدَثِهِ، وَقَبْلَ مَسْحِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَمْسَحُ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ، وَأَوَّلُ زَمَانِ مَسْحِهِ مِنْ وَقْتِ حَدَثِهِ فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ مَسْحِهِ، مَوْجُودَةٌ فِي الْحَضَرِ وَالْحَدَثُ كَالْمَسْحِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ زَمَانِ الْمَسْحِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ حَدَثِهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ كَمَا لَوْ مَسَحَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الْعِبَادَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِزَمَانِ الْفِعْلِ، لَا بِوَقْتِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ مُعْتَبَرَةٌ بِوَقْتِ فِعْلِهِ لَا وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَكَذَا الْمَسْحُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو سَفَرُهُ بَعْدَ الْحَدَثِ، وَقَبْلَ الْمَسْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ وقت صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 مَسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَمْسَحُ يوماً وليلة مسح مقيم؛ لأن يَقْضِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ فِي حُكْمِ فِعْلِهَا فِي الْحَضَرِ، فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، كَذَلِكَ فِي الْمَسْحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ بِالْمَسْحِ إِلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ أَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَيَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ وَقَدْ مَضَى خِلَافُ أبي حنيفة فِيهَا، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَكْمَلَ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ، قَبْلَ سَفَرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدُ فِي سَفَرِهِ شَيْئًا لِاسْتِيفَاءِ مَسْحِ الْإِقَامَةِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ مسحاً مبتدئاً. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُسَافِرَ وَيَشُكَّ هَلْ مَسَحَ قَبْلَ سَفَرِهِ أَمْ لَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَغْلَظِ حَالَيْهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُسَافِرًا، ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَسْحِ قَبْلَ سَفَرِهِ فَيَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، مسح مقيم؛ فإن خالفه وَمَسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ أَعَادَ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ فِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّهُ صَلَّى وَهُوَ شَاكٌّ فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهِ، فَلَوْ صَلَّى بِالْمَسْحِ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ فِي الثالثة أنه مسافر قَبْلَ مَسْحِهِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَسْتَوْفِي مُدَّةَ الْمَسْحِ فِي السَّفَرِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى كَانَ شَاكًّا فِي طَهَارَتِهِ، فَصَلَّى كَمَنْ صَلَّى عَلَى شَكٍّ مِنْ وُضُوئِهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَعَادَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ثُمَّ يُقِيمُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَسَحَ فِي سَفَرِهِ شَيْئًا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ فِي سَفَرِهِ حَتَّى أَقَامَ مَسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ، وَإِنْ مَسَحَ فِي سَفَرِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَوْفَى مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَتَمَّ بَعْدَ إِقَامَةٍ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنِ اسْتَوْفَى فِي السَّفَرِ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لَمْ يَجُزْ إِذَا أَقَامَ أَنْ يَمْسَحَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ نَوَى الْمُقَامَ وَهُوَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاةٍ بَطُلَتْ لِتَقَضِّي مَسْحِهِ بِالْإِقَامَةِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ مُقَامَ ثَلَاثَةٍ أَتَمَّ مَسْحَ خُفَّيْهِ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لِبَقَائِهِ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ وَلَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعٍ اخْتَصَرَ عَلَى يَوْمٍ وليلة مسح مقيم؛ لأنه صار مقيماً والله أعلم. (فَصْلٌ) : وَإِذَا سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً؟ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يَمْسَحَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ وَالْعَاصِي لَا يَتَرَخَّصُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا؛ لِأَنَّ مَسْحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الْخُفَّيْنِ مُلْحَقٌ بِطَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ عِبَادَاتٌ مفعولة فاستوى فيها المطيع والعاصي بالصلاة، وأن يُتْرَكَ فَتَمْنَعُ مِنْهُ الْمَعْصِيَةَ كَالْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وإذا توضأ فغسل إِحْدَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الأخرى ثم أدخلها الخف لم يجزئه إذا أحدث أن يمسح حتى يكون طاهراً بكامله قبل لباسه أحد خفيه فإن نزع الخف الأول الملبوس قبل تمام طهارته ثم لبسه جاز له أن يمسح لأن لباسه مع الذي قبله بعد كمال الطهارة (قال المزني) كَيْفَمَا صَحَّ لُبْسُ خُفَّيْهِ عَلَى طهرٍ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْهِ لِلْمَسْحِ عَلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنْ لَبِسَهُمَا مُحَدِثًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ غَسَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يَنْزِعَ الْخُفَّ الَّذِي لَبِسَهُ أَوَّلًا قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَيُعِيدُ لُبْسَهُ قَبْلَ حَدَثِهِ فَيَصِيرُ لَابِسًا لَهُمَا بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَنْزِعَهُمَا مَعًا، ثُمَّ يَلْبَسُهُمَا قَبْلَ حَدَثِهِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي نَزْعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لُبْسِهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ وَلُبْسٍ فَجَازَ لَهُ الْمَسْحُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا لَبِسَهُمَا بَعْدَ كَمَالِ الْغَسْلِ، قَالُوا وَلِأَنَّ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ تَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَائِهِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خُفًّا هُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ لُبْسَهُ فَصَارَ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ فِي حُكْمِ مَنِ ابْتَدَأَ لُبْسَهُ فِي جَوَازِ مَسْحِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ ابن الْمُغِيرَةِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله أنمسح على الخفين قال: " نَعَمْ إِنْ أَدْخَلْتَهُمَا، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " فَجَعَلَ اللُّبْسِ بَعْدَ طُهْرِهِمَا شَرْطًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، ولأنه ليس قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ قِيَاسًا عَلَى لُبْسِهِ قَبْلَ غَسْلِ قَدَمَيْهِ، وَلِأَنَّ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى الطَّهَارَةِ، وَمَا كَانَ إِلَى الطَّهَارَةِ مُفْتَقِرًا كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى جَمِيعِهِ، لَازِمًا كَالصَّلَاةِ يَلْزَمُ تَقْدِيمُ الطَّهَارَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَبَاحَ بِسَبَبٍ لَا يجوز تقديمه على سببه، كالإفطار لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ مُسْتَبَاحٌ لِشَرْطَيْنِ: اللُّبْسُ وَالْحَدَثُ، فَمَا لَزِمَ تَقْدِيمُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْحَدَثِ لَزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ انْتَقَضَ مَسْحُهُ، كَمَا لَوْ نَزَعَ جَمِيعَ الْخُفَّيْنِ فَوَجَبَ إِذَا لَبِسَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَبِسَ جَمِيعَ الْخُفَّيْنِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَصِّ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الْغَسْلِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ لُبْسُهُ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ، فَكَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ تَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَائِهِ فَصَحِيحٌ فِي الْإِتْمَامِ، وَبَاطِلٌ فِي الْمَسْحِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَحْدَثَ، وَكَانَ لَابِسًا جَازَ أَنْ يَمْسَحَ، وَلَوِ ابْتَدَأَ اللُّبْسَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ فَبَانَ أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ فِي الْمَسْحِ مُخَالِفٌ لِاسْتِدَامَتِهِ. (فَصْلٌ) : فَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ، وَأَدْخَلَهُمَا الْخُفَّ ثُمَّ أَحْدَثَ وَقَدَمُهُ فِي سَاقِ الْخُفِّ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ حَدَثِهِ لَابِسًا لِخُفِّهِ لُبْسًا كَامِلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن تَخَرَّقَ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُفِّ شيءٌ بَانَ مِنْهُ بَعْضُ الرِّجْلِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفٍّ غَيْرِ ساترٍ لِجَمِيعِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَ خَرْقُهُ مِنْ فَوْقِ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ خَرْقَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقَدَمِ وَهُوَ أَنْ يكون من فوق الكعبين في ساق الخف، فَجَائِزٌ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا الْخَرْقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ خُفًّا لَا سَاقَ لَهُ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ شَهِدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَسْأَلُ بِلَالًا عَنْ وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ كَانَ يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ، فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ، وَالْمُوقَانِ: خُفَّانِ قَصِيرَانِ لَيْسَ لَهُمَا سَاقٌ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ يَتَفَاحَشِ الْخَرْقُ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَفَاحَشَ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ يَمْسَحُ مَا أَمْكَنَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أبو حنيفة يَمْسَحُ إِنْ كَانَ الْخَرْقُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ فَأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ أبو يوسف: سَأَلْتُ أبا حنيفة عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يَمْسَحُ عَلَيْهِ إِذَا ظَهَرَ مِنَ الْخَرْقِ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ، وَإِنْ قَلَّ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ مَعَ خَرْقِهِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْخُفِّ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ خَرْقٌ لَا يُبِيحُ لُبْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، قِيَاسًا عَلَى خُرُوقِ الْخَرَزِ، وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، رِفْقٌ وَتَرْفِيهٌ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى لُبْسِهِ وَالْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي نَزْعِهِ، فَلَوْ كَانَتْ خُرُوقُ الْخُفِّ تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهِ وَتَدْعُو إِلَى نَزْعِهِ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ لَزَالَ مَعْنَى الرِّفْقِ، بِالتَّغْلِيظِ وَالتَّرْفِيهِ بِالْمَشَقَّةِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَزَّ وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنَ) {المائدة: 6) فَكَانَ عُمُومُهَا يُوجِبُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَّا مَا قَامَ دليله من المسح على خفين صَحِيحَيْنِ، وَلِأَنَّ ظُهُورَ الْأَصَابِعِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ كَمَا لَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِجَمِيعِ الْقَدَمِ تَعَلَّقَ بِبَعْضِ الْقَدَمِ قِيَاسًا عَلَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ ظُهُورِهِمَا، وَلِأَنَّ مَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَسْحِ يَسْتَوِي حُكْمُ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ الْقَدَمَيْنِ وَفِي جَمِيعِ الْقَدَمَيْنِ أَصْلُهُ: انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عِنْدَ غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ يَتَعَلَّقُ بِالطَّهَارَةِ وَبِاسْتِتَارِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْخُفَّيْنِ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ كَانَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُسْتَرِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الْمَسْحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ بَعْضِهِ كَتَرْكِ جَمِيعِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ كَالطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظُهُورُ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الأخرى تغليباً لحكم الغسل كان طهور بَعْضِ الرِّجْلِ بِالْمَنْعِ مِنْ مَسْحِ الْبَاقِي مِنْهُمَا أَوْلَى، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُرُوقِ الْخَرَزِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خُرُوقَ الْخَرَزِ لَا يُرَى مِنْهَا خف، وليس كذلك ما سواه. والثاني: أنه خرق الخرز يسند بِمَا يَدْخُلُهَا مِثْلَ الْخُيُوطِ فَلَا يَظْهَرُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى لُبْسِهَا وَالْمَشَقَّةِ فِي نَزْعِهَا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْخُفَّ إِذَا تَخَرَقَ امْتُنِعَ فِي الْغَالِبِ مِنْ لِبَاسِهِ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ مِنَ الْخِفَافِ غَالِبًا مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَرْقَ الْخُفِّ يَمْنَعُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَدَّمِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرْقَ الْمُقَدَّمِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ خَرْقِ الْخُفِّ، لَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ هَذَا إِذَا كَانَ فِي ظِهَارَةِ الْخُفِّ وَبِطَانَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْبِطَانَةِ دُونَ الظِّهَارَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ خُفًّا بِلَا بِطَانَةٍ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظِهَارَةِ الْخُفِّ دُونَ بِطَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبِطَانَةُ جلوداً جاز مسحه عليه، وإن كانت خَرْقًا لَمْ يَجُزْ فَلَوْ لَبِسَ الْخُفَّ مُخَرَّقًا ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُ خُفًّا صَحِيحًا جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى وَحْدَهُ، وَكَانَ الْأَسْفَلُ كَاللِّفَافَةِ وَلَوْ لَبِسَ خُفًّا صَحِيحًا ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُ مُخَرَّقًا مَسْحَ عَلَى الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَعْلَى. (فَصْلٌ) : وَلَوْ لَبِسَ خُفًّا بِشَرَجٍ فَإِنْ كَانَ الشَرَجُ فَوْقَ الْقَدَمِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كانت فوقه تُشَدُّ بِالتَّشْرِيجِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ الشَّرَجُ فِي الْقَدَمِ، فَإِنْ كَانَتْ فُتُوقُهُ إِذَا شَرَجَ لَمْ تُسَدَّ وَلَمْ يَتَغَطَّ الْقَدَمَانِ لَمْ يَجُزِ المسح عليه، وإن كانت فتوحه تُسَدُّ، وَيَتَغَطَّى الْقَدَمَانِ أَجَزَأَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي الشَّرْحِ نَصًّا عَنِ الشافعي. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبَانِ مُجَلَّدِي الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حَتَى يَقُومَا مَقَامَ الْخُفَّيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَوْرَبَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُجَلَّدَ الْقَدَمِ فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْخُفِّ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالنَّعْلِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُذَيلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَتَرَ بِهِ مَحَلُّ الْفَرْضِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْخُفِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِلِبَاسِ الْخُفِّ تَعَلَّقَ بِلِبَاسِ الْجَوْرَبِ المجلد كالفدية على الحرم فَأَمَّا النَّعْلُ فَلَا يَسْتُرُ الْقَدَمَ فَلَمْ يَجُزِ المسح عليها. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبُ غَيْرَ مُجَلَّدٍ الْقَدَمَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبُ غَيْرَ مُنَعَّلٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِالْخَبَرِ أَنَّهُ مَسْحٌ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُجَلَّدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ وَارَى قَدَمَيْهِ بِمَا لَا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 كَاللَّفَائِفِ وَالْخِرَقِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُجَلَّدَيْنِ وَالْمَعْنَى فِي الْمُجَلَّدَيْنِ أَنَّ مُتَابَعَةَ المشي عليهما ممكن. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنَعَّلَ الْأَسْفَلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشِفُّ وَيَصِلُ بَلَلُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَمِ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَشِفُّ وَيَمْنَعُ صِفَاقُهُ مِنْ وُصُولِ بَلَلِ الْمَسْحِ إِلَى قَدَمَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ، وَهِيَ رواية الربيع. (مسألة: شرائط المسح) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا لَبِسَ مِنْ خُفٍّ خَشَبٍ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَرَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، مِنْ جُلُودٍ أَوْ لُبُودٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ جَوْرَبٍ. أَحَدُ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ لَا مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ وَسَاقِهِ، وَلَا مِنْ خَرْقٍ فِي وَسَطِهِ أَوْ أَسْفَلِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ مِنْ أَيِّ جِهَةِ ظَهَرَ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَصِلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْقَدَمِ، فَإِنْ وَصَلَ إِمَّا لِخِفَّةِ نَسْجٍ أَوْ رِقَّةِ حَجْمٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لِقُوَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ لِضِعْفِهِ، أَوْ ثِقَلِهِ لَمْ يجز المسح عليه. والشرط الرابع: مختلف فِيهِ: أَنْ يَكْونَ مُبَاحَ اللُّبْسِ، فَلَا يَكُونُ مسروقاً، ولا مغصوباً لأنه لا يُتَرَخَّصُ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مَسْرُوقًا أَوْ مَغْصُوبًا فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا لَوْ لَبِسَ خُفًّا مِنْ ذَهَبٍ، كَانَ حَرَامَ اللُّبْسِ كَالْمَغْصُوبِ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخْصَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مُقَارَنَةُ الْغَصْبِ كَالصَّلَاةِ فِي الدار المغصوبة، والثوب المغصوب. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْسَحُ عَلَى جُرْمُوقَيْنِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَقَوْلُهُ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَزَعَمَ إِنَّمَا أُرِيدُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمِرْفَقُ فَكَذَلِكَ الْجُرْمُوقَانِ مِرْفَقٌ وَهُوَ بِالْخُفِّ شَبِيهٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْجُرْمُوقُ فَهُوَ خُفٌّ يُلْبَسُ عَلَى خُفٍّ، فَإِنْ لَبِسَهُ دُونَ الْخُفِّ الَّذِي تَحْتَهُ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا، فَإِنْ كَانَا مَخِيطَيْنِ قد حرز أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْخُفِّ الْمُبَطَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَخِيطَيْنِ جَازَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ مِنْهُمَا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَعْلَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ مَلْبُوسٌ - جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ مَلْبُوسٌ كَالْخُفِّ إِذَا لُبِسَ عَلَى جَوْرَبٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى إِذَا كَانَ مَخِيطًا بِالْأَسْفَلِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَسْفَلِ كَالْمَلْبُوسِ عَلَى خُفٍّ مُخَرَّقٍ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُرْفَقٌ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي نَزْعِهِ، فَكَذَا الْجُرْمُوقُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي نَزْعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْأَعْلَى لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا جُعِلَ بَدَلًا فِي الطَّهَارَةِ لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ بَدَلًا آخَرَ كَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لُبْسُهُ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْقُفَّازَيْنِ، وَلِأَنَّهُ سَاتِرٌ لِمَمْسُوحٍ فَلَمْ يَقُمْ فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ مَقَامَ الْمَمْسُوحِ كَالْعِمَامَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ نَزْعُهُ فِي نَقْضِ طَهَارَتِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ لُبْسُهُ فِي جَوَازِ مَسْحِهِ كَاللَّفَائِفِ فَوْقَ الْخُفِّ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَسْحَ انْتَزَعَ الْأَعْلَى، وَمَسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَسْفَلُ مِنْهُمَا هُوَ الْخُفُّ، أَوِ الْجُرْمُوقُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ قَدْ تَخَرَّقَ أَوِ انْفَتَقَ فَيَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَعْلَى فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مُخَرَّقًا فَلَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ، وَيَمْسَحُ عَلَى الْأَسْفَلِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا، فَإِنْ أَرَادَ الْمَسْحَ عَلَى الْأَسْفَلِ نَزَعَ الْأَعْلَى أَوَّلًا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ، فَإِنْ مَسَحَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عَلَى الْأَسْفَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِعَ الْأَعْلَى، فقد كان أبو حامد الاسفرايني يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَإِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ بِذَاتِهِ، فَكَيْفَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَسْحُهُ أَجْزَأَهُ، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ فَاخْتَصَّ بِأَكْمَلِ صِفَاتِ الْمَسْحِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا جَوَازُ هَذَا الْمَسْحِ كَجَوَازِ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ تَأْثِيرٌ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى فَلَيْسَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ عَلَى طَهَارَةٍ، فَإِنْ لَبِسَ الْأَسْفَلَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَالْأَعْلَى عَلَى حَدَثٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَلْبَسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ، فَيَمْسَحُ حِينَئِذٍ عَلَى الْأَعْلَى، فَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْأَعْلَى عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، ثُمَّ نَزَعَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَهَارَتَهُ صَحِيحَةٌ كَمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفٍّ مُبَطَّنٍ، ثُمَّ كَشَطَ أَعْلَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ طَهَارَتَهُ قَدْ فَسَدَتْ بِنَزْعِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمِهِ، وَصَارَ كَمَنْ نَزَعَ خُفَّهُ مِنْ رِجْلِهِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ الْوُضُوءَ وَالْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْأَسْفَلِ. وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا غَسَلَ قَدَمَيْهِ وَفِي الْقَدِيمِ وَكِتَابُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَتَوَضَّأُ (قال المزني) قلت أنا وَالَّذِي قَبْلَ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ لَا يَنْتَقِضُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا بِالْحَدَثِ وَإِنَّمَا انْتَقَضَ طُهْرُ الْقَدَمَيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا كَانَ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمَا كَمَسْحِ الْتَيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ الْمَعْدُومِ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الْمَسْحِ يُبْطِلُ الْمَسْحَ وَيُوجِبُ الْغَسْلَ كَانَ كَذَلِكَ ظُهُورُ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ الْمَسْحِ يُبْطِلُ الْمَسْحَ وَيُوجِبُ الْغَسْلَ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ سِوَى الْقَدَمَيْنِ مغسولٌ وَلَا غَسْلَ عليهما ثانيةً إلا بحدثٍ ثانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَزَعَ خُفَّهُ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ أَوْ بَعْدَ تقضيها لم يحل حَالُهُ عِنْدَ نَزْعِهِ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا أَوْ مُتَوَضِّئًا، فَإِنْ كَانَ مُحَدِثًا تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ الْحَدَثِ أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الطَّهَارَةِ كَالْحَدَثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غَسْلُ رِجْلَيْهِ لَا غَيْرُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَطَاءٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الليث وأبو حنيفة، ووجهه أنه بُدِّلَ زَالَ حُكْمِهِ بِظُهُورِ مُبْدَلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لا يلزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 إِلَّا غَسْلُ مَا كَانَ بَدَلًا عَنْهُ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ انْتِقَاضُهُ يُوجِبُ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ كَانَ انْتِقَاضُهُ يُوجِبُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُوجِبُهُ الْقَوْلَانِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ: هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ: فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ: بَلْ هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ إِذَا انْتَقَضَتْ هَلْ يَنْتَقِضُ بِهَا طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ طُهْرَ الْقَدَمَيْنِ انْتَقَضَ بِظُهُورِهِمَا. (فَصْلٌ) : إِذَا أَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنْ قَدَمِ الْخُفِّ إِلَى سَاقِهِ، فَقَدْ رَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ صِحَّةَ طَهَارَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حامد الاسفرايني، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَدَمَيْهِ لَمْ تَظْهَرْ فَلَمْ يَنْتَقِضْ طُهْرُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ مُسْتَقَرُّهُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ مِنَ الْخُفِّ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ: قَدِ انْتَقَضَ طُهْرُ قَدَمِهِ؛ لِزَوَالِهَا عَنْ مَحَلِّ الْمَسْحِ كَمَا لَوْ ظَهَرَتْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ إِدْخَالِ قَدَمِهِ فِي سَاقِ الْخُفِّ، وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ فِي مَحَلِّ الْقَدَمِ كَمَنْ أَحْدَثَ وَهُوَ طَاهِرُ الرِّجْلَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمَا إِلَى ساق الخف كظهور الرجلين. (فصل) : إذا لبس المتيمم ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ بِوُجُودِ الْمَاءِ، فَصَارَ كَمَنْ لَبِسَ خُفًّا عَلَى حَدَثٍ. (فَصْلٌ) : إِذَا لَبِسَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ بَعْدَ وُضُوئِهَا خُفًّا ثُمَّ أَحْدَثَتْ قَبْلَ أَنْ صَلَّتْ بِوُضُوئِهَا شَيْئًا جَازَ، إِذَا تَوَضَّأَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى خُفِّهَا لِفَرْضٍ وَاحِدٍ وَمَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ صَلَّتْ قُبَلَ حَدَثِهَا فَرْضًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ إِذَا أَحْدَثَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَجَازَ أَنْ تَمْسَحَ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَجَمَعَ أبو حنيفة بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَجَازَ الْمَسْحَ فِيهِمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُضُوءَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَرْفَعُ حَدَثَهَا لِفَرْضٍ وَاحِدٍ، وَلِسَائِرِ التَّطَوُّعِ، فَإِذَا أَحْدَثَتْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ صَارَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى طَهَارَةٍ فَجَازَ لَهَا الْمَسْحُ وَإِذَا أَحْدَثَتْ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ كَانَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى حَدَثٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهَا الْمَسْحُ. (فَصْلٌ) : إِذَا ارْتَفَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ لَمْ يَجُزْ لَهَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ دَمِهَا يَرُدُّهَا إِلَى الْحَدَثِ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى حَدَثٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 (باب كيف المسح على الخفين) قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ ثورٍ بْنِ يزيدٍ عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح أعلى الخف وأسفله واحتج بأثر ابن عمر أنه كان يمسح أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: السُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَاهُ دُونَ أَسْفَلِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ أَعْلَى خُفَّيْهِ؛ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ غَيْرَ مَسْنُونٍ كَالسَّاقِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْسَحُ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَلْزَمُ سَتْرُهُ بِالْخُفِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ مَسْنُونًا عَلَى الْقَدَمِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَمْسُوحٌ، فَكَانَ مِنَ السُّنَّةِ اسْتِيعَابُ مَسْحِهِ كَالرَّأْسِ فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَسْفَلِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْخِلَافُ هَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضُمَّ مَسْحَ أَعْلَاهُ إِلَى مَسْحِ أَسْفَلِهِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى السَّاقِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ إِنْ سَلِمَ الْوَصْفُ لَهُ أَنَّ السَّاقَ لَا يَلْزَمُ سَتْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَغْمِسَ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُسْرَى تَحْتَ عَقِبِ الْخُفِّ وَكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يُمِرُّ الْيُمْنَى إِلَى سَاقِهِ وَالْيُسْرَى إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْيُمْنَى بِالْأَعْلَى وَالْيُسْرَى بِالْأَسْفَلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ، وَقَالَتْ كَانَتْ يُمْنَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا عَلَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يُسْرَاهُ لِمَا سَفُلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا كَانَ يَمْسَحُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ مَسْحِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ أَنْ يَمْسَحَ حَوْلَ الْعَقِبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ مَسْحَهُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَنَّ مَسْحَهُ مَسْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَلَوْ مَسَحَ الْأَعْلَى بِالْيُسْرَى وَالْأَسْفَلَ بِالْيُمْنَى لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْأَدَبِ فِي الْفِعْلِ وَمُؤَدِّيًا لسنة المسح. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ وَتَرَكَ الظَّاهِرَ أَعَادَ وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ وَتَرَكَ الْبَاطِنَ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: حَالُ كَمَالٍ وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ عَلَى مَا مَضَى. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: حَالُ إِجْزَاءٍ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: حَالٌ لَا كَمَالَ فِيهَا وَلَا إِجْزَاءَ وَهُوَ أَنْ يُمْسَحَ مَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ سَاقِ الْخُفِّ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَسْفَلَ الْخُفِّ دُونَ أَعْلَاهُ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَنَّ مَسْحَهُ لَا يُجْزِئُ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَحْكِهِ نَصًّا، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ دَلِيلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَتَرَكَ الْبَاطِنَ، أَجْزَأَهُ، فَظَنَّ بِدَلِيلِ كَلَامِهِ أَنَّ مَسْحَ بَاطِنِهِ دُونَ ظَاهِرِهِ لَا يُجْزِئُ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمسح على ظاهر خفه، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ " لِأَنَّهُ يُلَاقِي الْأَنْجَاسَ، فَكَانَ مَسْحُهُ لِإِزَالَةِ مَا لَاقَى مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى، لَكِنَّ الرَّأْيَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ مَسْحُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَسْحَ الفرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 كَالْأَعْلَى، وَأَمَّا مَسْحُ الْعَقِبِ وَحْدَهُ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ قِيَاسًا عَلَى السَّاقِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ كَالْقَدَمِ الْأَعْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وكيفما أتى بالمسح على طهر الْقَدَمِ بِكُلِّ الْيَدِ أَوْ بَعْضِهِ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَاجِبُ مِنْ مَسْحِ الْخُفِّ مَسْحُ بَعْضِهِ، وَإِنْ قَلَّ بِكُلِّ الْيَدِ أو بعضها، وقال أبو حنيفة: الواجب مسح ثلاثة أَصَابِعَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، قَالَ: وَأَقَلُّ الْأَصَابِعِ ثَلَاثٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَسْحُ، دُونَ الْمَسِّ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَكُونُ مَسًّا وَلَا يَكُونُ مَسْحًا؛ لِأَنَّ الْمَسَّ الْمُلَاقَاةُ، وَالْمَسْحُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْمُلَاقَاةِ إِمْرَارٌ. ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا انْطَلَقَ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّهُ أَتَى فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَلَاثٌ إِمَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيرِهِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ، وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَصَارَتْ مَجْهُولَةً، وَالْمَقَادِيرُ لَا تَثْبُتُ بِمَجْهُولٍ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَجْهُولٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دَونَهُ لَا يُجْزِئُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وأسفله، ولم يدل على أنه مَسْحَ الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ لَا يُجْزِئُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا مَسٌّ لَا مَسْحٌ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِمْرَارٌ فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى قَدِ اجْتَمَعْنَا عَلَى إِبْطَالِهَا؛ لِاتِّفَاقِنَا أَنَّ الْإِمْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ أَصَابِعَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارٍ أَجْزَأَ، ونحن نقول: مثله فِيمَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 (باب الغسل للجمعة والأعياد) قال الشافعي: " وَالِاخْتِيَارُ فِي السُّنَّةِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ صَلَاةَ الجمعة الاغتسال لها لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الغسل واجبٌ على كل محتلمٍ " يريد وجوب الاختيار لأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أفضل " وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما حين راح والوضوء أيضاً؟ وقد عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَرَوَى قَوْلَهُ عَنْ مَالِكٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بن سليم عن عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " وَبِرِوَايَةِ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى كُلِّ محتلمٍ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ، ومن رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ، وَبِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ". وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من توضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فهو فضلٌ ". وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّاسُ مُهَّانُ أَنْفُسِهِمْ فَيَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؛ أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنَّهُ طهرٌ وخيرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ بواجبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بدأ الْغُسْلِ كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَحْمِلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ إِنَمَا هُوَ عريشٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يومٍ حارٍ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِلْكَ الرِّيحَ، فَقَالَ أَيُّهَا الْنَاسُ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا، وَلِيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ثم جاء الله بالخبر وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ وَوَسِعَ مَسْجِدُهُمْ وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ وَأَقْبَلْتُ فَقَالَ عُمَرُ: الْوُضُوءَ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو علمنا وُجُوبَهُ لَرَجَعَ عُثْمَانُ وَمَا تَرَكَهُ عُمَرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ لِسَبَبٍ مُسْتَقْبَلٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سُنَّةً كَالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَعَكْسُهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ مَسْنُونٌ فَهُوَ سُنَّةٌ لِمَنْ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ فَلَيْسَ الْغُسْلُ سُنَّةً لَهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْ أَهِلِهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِعُذْرٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْغُسْلُ مسنوناً له ومأموراً بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْغُسْلِ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ عُذْرِهِ يَجُوزُ وَلُزُومَ الْجُمُعَةِ لَهُ مُمْكِنٌ. فَأَمَّا غُسْلُ الْعِيدِ فَسُنَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْعِيدِ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَخْذِ الزِّينَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ حَضَرَ الْعِيدَ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ كَاللِّبَاسِ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَطْعِ الرَّائِحَةِ، لأن لا يُؤْذِيَ بِهَا مَنْ جَاوَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرُ زال معناه. والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ غُسْلُهُ لَهَا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْمُغْتَسِلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ غُسْلَهُ لَهَا مُجْزِئٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة أَنْ غُسْلَهُ مُجْزِئٌ لَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " وَاسْمُ الرَّوَاحِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ قَالَ: وَلِأَنَّ مَشْرُوعَاتِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، كَالْأَذَانِ وَكَالْغُسْلِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. ودليلنا رواية أبي الأشعث عن أواس بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ غَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامَ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِ خطوةٍ عَمَلُ سنةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا " فَجَعَلَ الْغُسْلَ فِي الْبُكُورِ أَفْضَلَ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً " وَلِأَنَّ هَيْئَاتِ الْجُمُعَةِ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْغُسْلِ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً وَذَرِيعَةً إِلَى الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تُعَجَّلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَلَا تَنْفَكُّ مِنْ فَوَاتِ الْغُسْلِ أَوِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " فَهُوَ أَنَّ الرَّوَاحَ الِانْصِرَافُ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ وَمَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: (أَمِنْ آلِ نعمٍ أَنْتَ غادٍ مُبَكِّرُ ... غَدَاةَ غدٍ أَمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ) وَالتَّهْجِيرُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَجَعَلَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَجَعَلَهُ بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْأَذَانِ فَفَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنْ مَسْنُونَاتِ الْيَوْمِ فَجَازَ قبل دخول وقت الصلاة. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهَا، وَقِيَاسًا عَلَى غُسْلَ الْعِيدِ لَمَّا جَازَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ بَعْدَ الْفَجْرِ. ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " فَأَضَافَهُ إِلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، ولأنه إِيقَاعَ الْغُسْلِ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَمْنَعُهُ لِإِجْزَائِهِ لِلْجُمُعَةِ كَالْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غُسْلِ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ فَسَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ضِيقُ وَقْتِ الْغُسْلِ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الْفَجْرِ لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ لَهَا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى التَّوْسِعَةِ فِي تَقْدِيمِ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ قَبْلَ الفجر وها هنا بخلافه والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَاغْتَسَلَ لَهُمَا جَمِيعًا أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ غُسْلَانِ: وَاجِبٌ: وَهُوَ الْجَنَابَةُ وَمَسْنُونٌ: وَهُوَ الْجُمُعَةُ، فَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ وَيُقَدِّمُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، وَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلًا وَاحِدًا يَنْوِيهِمَا مَعًا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ لِاخْتِلَافِ مُوجِبَيْهِمَا، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا وَهَذَا أَغْلَظُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِذَا تَرَادَفَ تَدَاخَلَ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَابَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْغُسْلِ الْمَفْرُوضِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْمَسْنُونِ وَلَيْسَ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَجْهٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن نوى بالغسل الجمعة والعيد لَمْ يُجْزِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْوِيَ مِنَ الْجَنَابَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ، فَاغْتَسَلَ أَحَدُ الْغُسْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجَنَابَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَنْوِيَ الْجُمُعَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ دُونَ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَفِي إِجْزَائِهِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ بِنِيَةِ الْجَنَابَةِ كَمَا يُجْزِئُ إذا نوى في أحد الأحداث لجمعها. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْهِمَا فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا لماضٍ، وَالْآخَرِ لِمُسْتَقْبَلٍ، فَمَنَعَ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عن الآخر. (فصل) : وإن نوى غسل الْجُمُعَةِ دُونَ الْجَنَابَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةِ فَلِوُجُوبِ مَا هُوَ أَمْكَنُ مِنْهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا قَائِمَةً مَقَامَ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُجْزِئَهُ عَنِ الْجُمُعَةِ الَّتِي نَوَاهَا دُونَ الْجَنَابَةِ الَّتِي لَمْ يَنْوِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِنَّمَا لِكُلِ امرئٍ مَا نَوَى ". (فَصْلٌ) : وَإِذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ اجْتَنَبَ بَعْدَهُ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ، وَلَمْ يُعِدْ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَخَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ: يُعِيدُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ تَنْظِيفٌ فَإِذَا تَعَقَّبَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ زَادَهُ تَنْظِيفًا وَلَمْ يُعِدْهُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وأحب الغسل من غسل الميت، وكذلك الغسل للأعياد سنةٌ اختياراً وإن ترك الغسل للجمعة والعيد أجزأته الصلاة وإن نوى الغسل للجمعة والعيد لم يجزه من الجنابة حتى ينوى الجنابة وَأَوْلَى الْغُسْلِ أَنْ يَجِبَ عِنْدِي بَعْدَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ مُفْضِيًا إِلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلت به ثم غسل الجمعة ولا نرخص في تركه ولا نوجبه إِيجَابًا لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) إِذَا لم يثبت فَقَدْ ثَبَتَ تَأْكِيدُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَسَّ خِنْزِيرًا أَوْ مَسَّ مَيْتَةً أَنَّهُ لَا غُسْلَ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا غُسْلَ مَا أَصَابَهُ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ؟ ! ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْمَيِّتِ فَوَاجِبٌ، وَأَمَّا الْغُسْلُ مَنْ غُسْلِهِ وَالْوُضُوءُ من مسه فقد روى صالح مولى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ مَسَّهُ مفضياً إليه فليتوضأ ". قال الشافعي رضي الله عنه: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا، فَالْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا كَانَ سُنَّةً مَعَ ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَابَتُهُ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أربعٍ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمِنَ الْحِجَامَةِ وَمِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَثَبَتَ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَخْرَجَ لِصِحَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ وَاجِبًا؛ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالثَّانِي: يَكُونُ مَعَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ اسْتِحْبَابًا لِاحْتِمَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَإِمَّا وَاجِبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا فَعَلَ اسْتِسْلَامًا لِلشَّرْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ أن المعنى فيه نَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْأَنْجَاسِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا وَوَاجِبٌ إِنْ كَانَ رَطْبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ حُرْمَةُ الْمَيِّتِ كما تلزم الطهارة لملامسة النساء الأحياء لحرمتين لِيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى أَكْمَلِ طَهَارَةٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَفِي تَأْكِيدِهِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ أَوْكَدُ سُنَّةً؛ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ فِيهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي وُجُوبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِوُقُوفِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّحَّةِ وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الواجب والسنة. (فصل) : فأما المزني فإنه أنكره وَمَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ حَتْمًا أَوْ نَدْبًا تَعَلُّقًا بِأَنَّ مَنْ مَسَّ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ مَا فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَرْفُضُ الْأُصُولَ، لِأَنَّ مَنْ مَسَّ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً تَوَضَّأَ، وَمَنْ مَسَّ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ، وَمَنْ مَسَّ ذَكَرَ مُؤْمِنٍ تَوَضَّأَ وَلَوْ مَسَّ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يمنع من تسليم أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ وَارِدًا بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْمَيْتَةِ دُونَ الْخِنْزِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 (بَابُ حَيْضِ الْمَرْأَةِ وَطُهْرِهَا وَاسْتِحَاضَتِهَا) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {قَالَ الشَّافِعِيُّ) " مِنَ الْمَحِيضِ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ مَا يُرْخِيهِ الرَّحِمُ مِنَ الدَّمِ إِذَا كَانَ عَلَى وَصْفٍ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ لَهُ بِسِتَّةِ أَسْمَاءٍ بَعْضُهَا فِي اللِّسَانِ مَذْكُورٌ وَبَعْضُهَا فِي اللُّغَةِ مَشْهُورٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ الْحَيْضُ، وَفِي تَكَلُّفِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ فِي شَرْعٍ أَوْ لُغَةٍ عَنَاءٌ مُسْتَهْجَنٌ وَسُمِّيَ حَيْضًا لِسَيَلَانِهِ مِنْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ، مأخوذ من قوله: حاض السبيل، وَفَاضَ إِذَا سَالَ وَمِنْهُ قَوْلُ عِمَارَةَ بْنِ عقيل: (أجالت حصاهن الدواري وحيضت ... عليهن حيضات السيول الطواحم) السيول الجواري الَّتِي تُدِيرُ التُّرَابَ، وَكَذَلِكَ الذَّارِيَاتُ والْهَوَاجِمُ السُّيُولُ الْعَالِيَةُ وَحَيَّضَتْ أَيْ سَيَّلَتْ، وَحَيْضَاتُ السُّيُولِ مَا سَالَ مِنْهَا فَسُمِّيَ بِهِ دَمُ الْحَيْضِ حَيْضًا لِسَيَلَانِهِ. وَالثَّانِي: الطَّمْثُ وَالْمَرْأَةُ طَامِثٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّمْثُ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ قِيلَ إِذَا افْتَضَّ الرَّجُلُ الْبِكْرَ قَدْ طَمَثَهَا أَيْ أَدْمَاهَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَم يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ) {الرحمن: 56) . وَقَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ: (دُفِعْنَ إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وَهُنَّ أصَحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ) وَالثَّالِثُ: الْعَرْكُ، وَالْمَرْأَةُ عَارِكٌ وَالنِّسَاءُ عَوَارِكُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَيُرْوَى إِذَا عَارَكَتْ يَعْنِي: إِذَا حَاضَتْ مَأْخُوذٌ مِنْ عَرَاكِ الرِّجَالِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: (أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارُ أجفاءٍ وغلظةٍ ... وَفِي الْحَرْبِ أَشْبَاهُ النساء العوارك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وَالرَّابِعُ: الضَّحِكُ وَالْمَرْأَةُ ضَاحِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ حَاضَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (وَضَحِكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الْحَرْقِ يَوْمَ اللِّقَا) وَالْخَامِسُ: الْإِكْبَارُ، وَالْمَرْأَةُ مُكْبَرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) {يوسف: 31) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ حِضْنَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: (نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أطهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأتِي النِّسَاءَ إِذَا أُكْبِرْنَ إِكْبَارًا) وَالسَّادِسُ: الْإِعْصَارُ، وَالْمَرْأَةُ مُعْصِرٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ: (جاريةٌُ قَدْ أَعْصَرَتْ ... أَوْ قَدْ دَنَا إِعْصَارُهَا) وَمِنْهُ اشْتُقَّ لِلسَّحَابِ اسْمُ الْإِعْصَارِ لِخُرُوجِ الْمَطَرِ مِنْهُ كَخُرُوجِ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتٍ مَاءً ثَجَّاجاً) {النبأ: 14) . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: (فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ... ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمَعْصَرُ) أَيْ: حَائِضٌ، فَالْحَيْضُ فِي النساء خلقة فطهرهن اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ أَنَّ الَّذِي يَحِيضُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَرْبَعَةٌ، الْمَرْأَةُ، وَالضَّبْعُ وَالْأَرْنَبُ وَالْخُفَّاشُ وَحَيْضُ الضَّبْعِ وَالْأَرْنَبِ مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ فِي حَيْضِ الضَّبْعِ: (تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هذيلٍ ... وترى الذئب بها يستهل) يعني تحيض. (فصل) : وَرَوَى يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ: زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ قَالَ: إِنِّي عَاقَبْتُهَا أَلَّا تَحْمِلَ إِلَّا كُرْهًا وَلَا تَضَعَ إِلَّا كُرْهًا وَدَمَيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ حَوَّاءَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَلَيْكِ الرِّثَّةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ. (فَصْلٌ) : وَكَانَ السَّبَبُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَيْضِ وَمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ مِنَ الْحَائِضِ مَا رُوِيَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَعَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ وَثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن حكم الحيض والحائض، واختلف في سبب سُؤَالِهِمْ، فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ سَبَبُ سُؤَالِهِمْ أَنَّ الْعَرَبَ، وَمَنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَجْتَنِبُونَ مُسَاكَنَةَ الْحَائِضِ وَمُوَاكَلَتَهَا وَمُشَارَبَتَهَا فَسَأَلُوا عَنْهُ لِيَعْلَمُوا حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ كَانُوا يَعْتَزِلُونَ وَطْأَهُنَّ فِي الْفَرْجِ وَيَأْتُوهُنَّ فِي أَدْبَارِهِنَّ مُدَّةَ حَيْضِهِنَّ فَسَأَلُوا لِيَعْلَمُوا حُكْمَهُ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) {البقرة: 222) . فَبَدَأَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) {البقرة: 222) فَالْمَحِيضُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِبَارَةً عَنْ دَمِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العلم، وقوله هو أذىً فَالْأَذَى هُوَ مَا يُؤْذِي فَسَمَّى دَمَ الْحَيْضِ أذى؛ لأنه له لوناً ورائحة منتة وَنَجَاسَةٌ مُؤْذِيَةٌ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَتَغَيُّرِ أَحْكَامٍ، وَقَوْلُهُ {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ) {البقرة: 222) فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِزَالُ جَمِيعِ بَدَنِهَا أَنْ يُبَاشِرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَهَذَا قَوْلُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ اسْتِعْمَالًا لِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ اعْتِزَالُ وَطْئِهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتْ مِنْهُنَّ المرأة أخرجوها من البيت ولم يواكلوها، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) {البقرة: 222) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ وَرَوَتْ صَفِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِي فَيَقْرَأُ وَأَنَا حائضٌ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَدْنُو إِلَى الْحَائِضِ، وَمَالِي إليها ضرورة أي: ميل إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ وَقَوْلُهُ فِي الْمَحِيضِ فِي هَذَا الْمَحِيضِ الثَّانِي ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَمُ الْحَيْضِ كَالْحَيْضِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: زَمَانُ الْحَيْضِ لِيَعُمَّ زَمَانَ جَرَيَانِ الدَّمِ وَمَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ أَوْقَاتِ انقطاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَالثَّالِثُ: مَكَانُ الْحَيْضِ وَهُوَ الْفَرْجُ كَمَا يُقَالُ: مبيت ومقيل لمكان البيتوتة، ومكان القيولة، وَهُوَ قَوْلُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ) {البقرة: 222) فِيهِ قراءتان: إحداهما: أنه تأكيد لقوله " فاعتزلوا " بِالتَّخْفِيفِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَمَعْنَاهُ: انْقِطَاعُ الدَّمِ وَهُوَ قول مجاهد وعكرمة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِآخِرِ زَمَانِ التَّحْرِيمِ وَقَوْلُهُ " حتى يطهرن " فيه قراءتان. وَالثَّانِيَةُ: بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْهَاءِ. وَمَعْنَاهُ: حَتَّى يَغْتَسِلْنَ. وقوله {فَإِذَا تَطَهرْنَّ) {البقرة: 222) فيه قولان: أَحَدُهُمَا: تَطَهَّرْنَ مِنَ الدَّمِ بِانْقِطَاعِهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَالثَّانِي: يَطْهُرْنَ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّهَارَةَ إِلَى فِعْلِهِنَّ وَلَيْسَ انْقِطَاعُ الدَّمِ مِنْ فِعْلِهِنَّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَفِي صِفَةِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: غَسْلُ الْفَرْجِ وَهَذَا قَوْلُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ. وَالثَّانِي: الوضوء وهو قول طاووس وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: الْغُسْلُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَوْلُهُ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) {البقرة: 222) فِيهِ تأويلان: أَحَدُهَا: الْقُبُلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ دُونَ الدُّبُرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وقَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ لَا مِنْ قِبَلِ الْفُجُورِ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَوْلُهُ {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ) {البقرة: 222) ويحب المتطهرين فيه ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَالثَّانِي: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ أَنْ يَأْتُوهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ أن يعودوا فيها بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فَهَذَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَدَارُ الْحَيْضِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمُعْتَادَةِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي الْمُمَيِّزَةِ. وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَهْرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأيَامِ الَّتِي كَانَتْ تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَنْقِ بثوبٍ ثَمَّ لِتُصَلِّيَ. وَأَمَا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حبيش فرواه ابن شهاب عن عروة ابن الزُّبَيْرِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإِنَهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ عرقٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْنَةُ بِنْتِ جَحْشٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمِّهِ عِمْرَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَجِئْتُ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَإِنَّهُ لحديثٌ مَا بُدٌّ مِنْهُ وإني لأستحي منه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا هُوَ يَا هَنْتَاهُ فَقَالَتْ إِنِي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 تَرَى قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصَوْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنا منها فَإِنِي أَبْعَثُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَالتَجِمِي قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاتَّخِذِي ثَوْبًا قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا فَقَالَ النَّبِيُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا فَعَلْتِ أَجَزَاكِ عَنِ الْآخَرِ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ قَالَ إِنَّمَا هِيَ ركضةٌ مِنْ رَكْضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَةَ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمٍ اللَهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلةً وأيامها أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإنه يجزيك وَكَذَا افْعَلِي فِي كُلِّ شهرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فتغتسلين ثُمَ تُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ ثمَ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَافْعَلِي وَتَغْتَسِلِينَ عِنْدَ الْفَجْرِ ثُمَّ تُصَلِّينَ الصُّبْحَ وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي وَصُومِي إِنْ قَوِيتِ عَلَى ذَلِكَ قال وهذا أحب لاأمرين إليّ. (فصل) : فإذا أوضح حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَحَيْضُ الْمَرْأَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَبْعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَيُسْقِطُ الْقَضَاءَ أَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ؛ فَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِيرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا وَأَمَّا سُقُوطُ الْقَضَاءِ فَلِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ أَتَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أحروريةٌ أَنْتِ قَدْ كُنَّا نَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ وَلَا نُؤمَرُ بِقَضَائِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصِّيَامِ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ لِرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: " إِنْ كَانَ لَيَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ " يَعْنِي: صَوْمَ مَا أَفْطَرَتْ بِالْحَيْضِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَضَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ لُحَوْقُ الْمَشَقَّةِ فِي قضائها للصلاة دون الصيام فزادت المشقة فِي قَضَائِهَا وَقَلِيلَةُ الصِّيَامِ وَعَدَمُ الْمَشَقَّةِ فِي قَضَائِهِ. وَالثَّالِثُ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حائضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي. وَالرَّابِعُ: دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَا أُحِلُّهُ لجنبٍ وَلَا لحائضٍ " وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ كَانَ نَصُّ الْكِتَابِ يَمْنَعُ الْجُنُبَ مِنَ الَمَقَامِ فِيهِ فَكَانَتِ الْحَائِضُ مَعَ مَا يُخَافُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا أَحَقَّ بِالْمَنْعِ وَإِذَا مُنِعَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الِاعْتِكَافِ لَا مَحَالَةَ. وَالْخَامِسُ: مَسُّ الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسّهُ إِلاَّ المُطَهِّرُونَ) {الواقعة: 79) . والسادسة: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ وَلِمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ أَنْ يَقْرَءَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. وَالسَّابِعُ: الْوَطْءُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) {البقرة: 222) فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُوَ مَا عَلَا عَنِ السُّرَّةِ وَانْحَدَرَ عَنِ الرُّكْبَةِ فَمُبَاحٌ لِرِوَايَةِ حَبِيبٍ عَنْ مَيْمُونَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حائضٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا إزارٌ إِلَى أَنْصَافِ الْفَخِذَيْنِ أَوِ الرُّكْبَتَيْنِ تَحْتَجِرُ بِهِ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأسود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَنْ تَتَّزِرَ ثُمَّ يُضَاجِعَهَا. فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْإِزَارِ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْفَرْجِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ وعلي بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وأبو يوسف لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ حائضٌ قَالَ: مَا تَحْتَ الْإِزَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ومحمد بن الحسن لِمَا رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةَ رَهْطٍ سَأَلُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا يَحِلُّ مِنَ الْحَائِضِ فقال: ما أحسم الحجرين، ولأن الْفَرْجَ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالتَّحْرِيمِ دُونَ مَا حَوْلَهُ كَالدُّبُرِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ وَهُوَ مَشْهُورٌ أَنَّهُمْ يُكَنُّونَ عَنِ الْفَرْجِ بِالْإِزَارِ قَالَ الْأَخْطَلُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 (قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ ولو باتت بِأَطْهَارِ) وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَضْبُطُ نَفْسَهُ عَنْ إِصَابَةِ الْفَرْجِ إِمَّا لِضَعْفِ شَهْوَتِهِ أَوْ لِقُوَّةٍ تُخْرِجُهُ جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَضْبُطْ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ وَقِلَّةٍ تُخْرِجُهُ لَمْ يَجُزْ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأمرنا في فَوْرَ حَيْضَتِنَا أَنْ نَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُنَا وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْلِكُ إِرْبَهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ السَّبْعَةِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ حَيْضٍ وُجِدَ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ به حكمان يختصان ببعض النِّسَاءِ وَهُمَا: الْبُلُوغُ وَالْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ فَصَارَتْ مَعَ هَذَيْنِ تِسْعَةَ أَحْكَامٍ فَإِنْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ حَيْضِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ بِارْتِكَابِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا سِوَى الْفَرْجِ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا فِيهِ وَلَا عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْجِ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سفيان بن أبي أمية عن مقسم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً وَهِيَ حائضٌ إِنْ كَانَ الدَّمُ غَبِيطًا تَصَدَّقَ بدينارٍ وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ دينارٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ به لأنه كان واقعاً فِيهِ فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ يجعلونه قولاً في القديم ومذهبنا وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُخْرِجُونَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا وَلَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ: لَوْ صح الحديث لكان حَمْلُهُ عَلَى الْقَدِيمِ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا؛ لِاحْتِمَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَمَا صَحَّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَيْضِ وَلَا الْمَوْطُوءَةِ الْحَائِضِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إِذَا حُرِّمَ لِأَجْلِ الْأَذَى لَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ كَالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي أَبُولُ دَمًا قَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَطَأَ امْرَأَتَكَ وَهِيَ حائضٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ التِّسْعَةِ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْحَيْضِ كَانَ دَمُ حَيْضِهَا بَاقِيًا فَالْأَحْكَامُ بِحَالِهَا وَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ. وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا وَاغْتَسَلَتْ حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ لَهَا لِارْتِفَاعِ حَيْضِهَا، وَعَوْدِهَا إِلَى حَالِ الطُّهْرِ. فَأَمَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا وَقَبْلَ الْغُسْلِ فَتُقَسَّمُ هَذِهِ التِّسْعَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ لَهَا فِعْلُهُ قَبْلَ الْغُسْلِ: وَهُوَ الصَّوْمُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ فَجَازَ لَهَا الدُّخُولُ فِيهِ قَبْلَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ لَهَا فِعْلُهُ قَبْلَ الْغُسْلِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَالطَّوَافُ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَفِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَجْهَانِ؛ إِلَّا أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ. فَإِذَا اغْتَسَلَتْ قَضَتْ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا وَقَبْلَ الْغُسْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فَاغْتَسِلِي وَصَلَّي ". (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَهُوَ الْوَطْءُ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى بَقَائِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى تَغْتَسِلَ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ انْقَطَعَ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنَ الْعَشَرَةِ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِلَّا أَنْ تَغْتَسِلَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {البقرة: 222) فَجَعَلَ انْقِطَاعَ الدَّمِ غَايَةً. وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا قَالَ: وَلِأَنَّهَا أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَجَازَ وَطْؤُهَا كَالْمُغْتَسِلَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهَا اسْتَبَاحَتْ فِعْلَ الصَّوْمِ فَجَازَ وَطْؤُهَا كَالْمُتَيَمِّمِ. قَالَ: ولأن حُكْمٌ وَجَبَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ: حُدُوثُ الدَّمِ. فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ إِلَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ وَبَقَاءُ الْغُسْلِ لَا يَمْنَعُ من استباحة وطئها كالجنب. ودليلنا قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: بِالتَّخْفِيفِ وَضَمِّ الْهَاءِ. وَمَعْنَاهَا: انْقِطَاعُ الدَّمِ. وَالْأُخْرَى بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مَعْنَاهَا الْغُسْلُ. وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا. وَيَكُونُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ: فَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ وَيَغْتَسِلْنَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذاَ تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فَجَعَلَ بَعْدَ الْغَايَةِ شَرْطًا هُوَ الْغُسْلُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهِنَّ وَلَيْسَ انْقِطَاعُ الدَّمِ مِنْ فِعْلِهِنَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلْنَ الطَّهَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَثْنَى عَلَيْهِنَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) {البقرة: 222) وَالثَّنَاءُ يُسْتَحِقُّ بِالْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ جِهَةِ مَنْ تَوَجَّهَ الثَّنَاءُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا فِعْلُ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَدْحًا وَلَا ذَمًّا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِغَايَةٍ وَشَرْطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِوُجُودِ الْغَايَةِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْنِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) {النساء: 6) فَجَعَلَ بَعْدَ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ الْبُلُوغُ لِلنِّكَاحِ شَرْطًا هُوَ إِينَاسُ الشَّرْطِ. فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَ الرُّشْدِ. وَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّ كُلَّ مَمْنُوعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَدَثِ الْحَيْضِ فَوَطْؤُهَا حَرَامٌ. قِيَاسًا عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا حَرَّمَ الْوَطْءَ وَغَيْرَهُ لَمْ يَحِلَّ الْوَطْءُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ حَرَّمَهُ مَعَهُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الْحَيْضِ يَسْتَوِي حَالُهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْحَيْضِ بَيْنَ انْقِطَاعِهِ لِأَكْثَرِهِ وَأَقَلِّهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى شُرِطَ فِي إِبَاحَتِهِ الطَّهَارَةُ لَمْ يُسْتَبَحْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُغْتَسِلَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْوَصْفِ. لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ قَبْلَ أَنْ أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَلَهُ وَطْؤُهَا. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُغْتَسِلَةِ اسْتِبَاحَتُهَا لِلصَّلَاةِ، وَكَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَيَمِّمَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا لِدُونِ الْعَشَرَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَاسْتَبَاحَتِ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ وَلَمْ تَسْتَبِحِ الْوَطْءَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعِلَّةِ وَقْتٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهَا: فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافًا. وَلَوْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ لَكَانَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلِفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ عِلَّةً أُخْرَى وَقَدْ خَلَفَتْهَا عِلَّةٌ وَهِيَ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ لَحَدَثِ الْحَيْضِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَقَاءِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَالْفَرْقُ فِي الْمَعْنَى يَمْنَعُ صِحَّةَ الْجَمْعِ وَهُوَ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ الْغُسْلِ عَلَيْهَا مَانِعًا. وَلَمَّا مَنَعَ الْحَيْضُ مِنَ الْوَطْءِ كَانَ بَقَاءُ الْغُسْلِ فِيهِ مَانِعًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَطْأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ حَرَامٌ فَمَتَى كَانْتْ قَادِرَةً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَعَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ وَالِاغْتِسَالُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ عَادِمَةً لِلْمَاءِ قَامَ التَّيَمُّمُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ مَقَامَ الْغُسْلِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهِ. فَلَوْ أَحْدَثَتْ بَعْدَ التَّيَمُّمِ مُنِعَتْ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَتَيَمَّمَ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ قَدِ ارْتَفَعَ وَطَرَأَ حَدَثُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ. وَلَكِنْ لَوْ رَأَتِ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ حَرُمَ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، لِأَنَّهَا بِوُجُودِ الْمَاءِ قَدْ عَادَتْ إِلَى حَدَثِ الْحَيْضِ الْمَانِعِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الْوَطْءِ. فَلَوْ عَدِمَتِ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ حَلَّتْ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ. فَإِذَا تَيَمَّمَتْ فَوَطَأَهَا ثُمَّ أَرَادَ وَطْأَهَا ثَانِيَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ بِالتَّيَمُّمِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا ثَانِيَةً حَتَّى تُعِيدَ التَّيَمُّمَ ثَانِيَةً. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَلِّيَ فَرِيضَةً ثَانِيَةً إِلَّا بِتَيَمُّمٍ ثَانٍ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْحَيْضِ بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ. فَأَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتِ الْحَائِضُ وَدَخَلَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْوَقْتِ الْمَاضِي أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: قَدْ بَطُلَ تَيَمُّمُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ تَيَمُّمٍ ثَانٍ. لِأَنَّ التَّيَمُّمَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْغُسْلِ فَقَصُرَ حُكْمُهُ عَنْ حُكْمِ الْغُسْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي يَجُوزُ وَطْؤُهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ تَيَمُّمٍ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ خُرُوجُ الْوَقْتِ بِأَغْلَظَ مِنَ الْحَدَثِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ طُرُوءُ الْحَدَثِ عَلَى التَّيَمُّمِ فَخُرُوجُ الْوَقْتِ وَدُخُولُ غَيْرِهِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ الدَمُ نَظَرَتْ فَإِنْ كَانَ دَمُهَا ثَخِينًا مُحْتَدِمًا يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ لَهُ رَائِحَةٌ فَتِلْكَ الْحَيْضَةُ نَفْسُهَا فَلْتَدَعِ الصَّلَاةَ فَإِذَا ذهب ذلك الدم وجاءها الدم الأحمر الرقيق الْمُشْرِقُ فَهُوَ عرقٌ وَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ وَهُوَ الطُّهْرُ وعليها أن تغتسل كما وصفت وتصلي ويأتيها زوجها ". قال الماوردي: اعلم أن للحيض مقدمات ثلاث لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا لِتَكُونَ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا. فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَدْرِ الْحَيْضِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِفَةِ الْحَيْضِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَأَقَلُّ زَمَانٍ تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ تِسْعُ سِنِينَ وَأَكْثَرُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَدُّ فِيهِ مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ مَحْدُودًا كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَدِّهِ إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي جَارِي الْعَادَةِ حُدُوثُ الْحَيْضِ لِأَقَلِّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الشَّافِعِيُّ: وَأَعْجَلُ مَنْ سَمِعْتُ مِنَ النِّسَاءِ تَحِيضُ نِسَاءُ تِهَامَةَ يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ وَقَدْ رَأَيْتُ جدة لها إحدى وعشرين سَنَةً. وَقَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ لها تسعة عَشْرَةَ سَنَةً وَشَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْبَرَنَا بِمَا وَجَدَ لَا بِمَا يُمْكِنُ فَكَانَ أَوَّلُ زَمَانِ الْحَيْضِ بَعْدَ اعْتِبَارِ أَقَلِّ الْعَادَاتِ تِسْعَ سِنِينَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ التِّسْعُ حَدُّ تَحْقِيقٍ أَوْ حَدُّ تَقْرِيبٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدُّ تَحْقِيقٍ مُتَغَيِّرُ الْحُكْمِ فِيهِ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ وَنُقْصَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدُّ تَقْرِيبٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ نُقْصَانُ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ. وَهَذَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ. فَأَمَّا أَكْثَرُ زَمَانِ حَيْضِهِنَّ فَلَمْ يَنْحَصِرْ بِحَدٍّ لِاخْتِلَافِهِ وَتَبَايُنِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لِحَرِّهَا وَبَرْدِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ لَا يُقَالُ لَهُ حَيْضٌ وَلَا اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى أَثَرِ حَيْضٍ. وَأَمَّا قَدْرُ الْحَيْضِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَمِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنَ الطُّهْرِ خَمْسَةُ فُصُولٍ: (فَصْلٌ) : فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ وَالْحِجَاجُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالثَّالِثُ: فِي أَوْسَطِهِ وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ. وَالرَّابِعُ: فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْوِفَاقُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَالْخَامِسُ: فِي أَكْثَرِ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ. فَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ دَمَ فَسَادٍ وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَلَا اسْتِحَاضَةً. وَلَوْ تَجَاوَزَ خمسة عشر يوماً ففيه حيض واستحاضة. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا صِفَةُ الْحَيْضِ فَدَمُ الْحَيْضِ فِي الغالب أسود ثخين محتدم مريج وَالْمُحْتَدِمُ: هُوَ الْحَارُّ الْمُحْتَرِقُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمٌ مُحْتَدِمٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْحَرِّ سَاكِنَ الرِّيحِ. وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ أَحْمَرُ رَقِيقٌ مُشْرِقٌ وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ دَمُ الْحَيْضِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ إِلَى السَّوَادِ. وَإِمَّا لِمَرَضٍ طَرَأَ أَوْ غِذَاءٍ اخْتَلَفَ أَوْ زَمَانٍ تَقَلَّبَ أَوْ بُلْدَانٍ اخْتَلَفَتْ فَيُعْرَفُ إِذَا تَغَيَّرَ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ السَّلَامَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الصِّفَةِ: أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ وَدَمَ الِاسْتِحَاضَةِ يَسِيلُ مِنَ الْعَادِلِ: وَهُوَ عِرْقٌ يَسِيلُ دَمُهُ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ دُونَ قَعْرِهِ حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إِنَّمَا هُوَ عرقٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْحَيْضِ فَالنِّسَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرَبٍ: طَاهِرٌ، وَحَائِضٌ، وَمُسْتَحَاضَةٌ، وَذَاتُ فَسَادٍ. فَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهِيَ الَّتِي تَرَى النَّقَاءَ وَمَعْنَاهُ أَنْ تَسْتَدْخِلَ الْقُطْنَ فَيَخْرُجُ نَقِيًّا. وَأَمَّا الْحَائِضُ: فَهِيَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِي زَمَانٍ يَكُونُ حَيْضًا وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِي أَثَرِ الْحَيْضِ عَلَى صِفَةٍ لَا تَكُونُ حَيْضًا. وَأَمَّا ذَاتُ الْفَسَادِ: فَهِيَ الَّتِي تَبْتَدِئُ بِدَمٍ لَا يَكُونُ حَيْضًا. وَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فَالطَّاهِرُ مِنْهُنَّ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حُكْمُ الطُّهْرِ، وَالْحَائِضُ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَيْضِ. وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ تَمْيِيزٍ وَعَادَةٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُمَيِّزَةُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَصِلُ بِهَا الدَّمَ حَتَّى تُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَبَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُمَيِّزَةُ. فتميز من دمها كَانَ أَسْوَدَ ثَخِينًا فَيَكُونُ حَيْضُهَا وَمَا كَانَ مِنْهُ أَحْمَرَ رَقِيقًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا اعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ وَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ " قَالَ: وَلِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يُوجَدُ فَيَكُونُ حَيْضًا وَقَدْ يُوجَدُ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا أَوْ أَيَّامَ الْعَادَةِ إِذَا قَارَبَهَا الدَّمُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْضًا، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ " فَرَدَّهَا إِلَى تَمْيِيزِهَا وَاعْتِبَارِ لَوْنِهِ وَرَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِلْحَائِضِ دَفْعَاتٍ وَلِدَمِ الْحَيْضِ ريحٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُ الْحَيْضِ فَلْتَغْتَسِلْ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ مُتَعَلِّقٌ بِدَمٍ وَأَيَّامٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّمُ عَلَى الْأَيَّامِ كَالْعِدَّةِ تُقَدَّمُ الْأَقْرَاءُ عَلَى الشُّهُورِ. وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ إِذَا الْتَبَسَ وَأَمْكَنَ تَمْيِيزُهُ بِصِفَاتِهِ كَانَ التَّمْيِيزُ بِصِفَاتِهِ أَوْلَى كَالْمَنِيِّ وَالْمِذِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُعْتَادَةِ دُونَ الْمُمَيِّزَةِ. وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَارِدٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ دُونَ الْمُعْتَادَةِ فَتَسْتَعْمِلُ الْخَبَرَيْنِ فِيمَا وَرَدَا فِيهِ وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْضًا فَكَانَ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الدَّمِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الْعَادَةِ قَدْ تُوجَدُ خَالِيَةً مِنَ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 يَجْعَلَ حُكْمَ الْأَيَّامِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الدَّمِ وَالدَّمُ قَدْ يَكُونُ حَيْضًا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّمْيِيزَ مُعْتَبَرٌ فَاعْتِبَارُهُ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُخْتَلِفًا بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ. فَإِنْ كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا فَلَا تَمْيِيزَ وَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ فَكُلُّهُ حَيْضٌ إِنْ بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُبْتَدَأَةً كَانَتْ أَوْ ذَاتَ حَيْضٍ. وَإِنْ نَقَصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ. وَإِنْ زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ أَحْمَرَ رَقِيقًا فَلَهَا حَالَتَانِ: مُبْتَدَأَةٌ، وَذَاتُ حَيْضٍ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ فَهُوَ كَالسَّوَادِ إِذَا انْفَرَدَ يَكُونُ حَيْضًا إِنْ بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَاسْتِحَاضَةً إِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَذَاتِ الْحَيْضِ فِي أَنَّهُ حَيْضٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مَشْرُوحًا فِي مَوْضِعِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَوَادُ الدَّمِ قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَا يَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنْ قَصُرَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا تَمْيِيزَ وَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ وَاحِدًا فِي كَوْنِهِ دَمَ فَسَادٍ إِنْ نَقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوِ اسْتِحَاضَةً دَخَلَتْ فِي حَيْضٍ إِنْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَجَاوَزَ الدَّمُ الْأَحْمَرُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِيَدْخُلَ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ فَإِنِ انْقَطَعَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكِلَا الدَّمَيْنِ سَوَادُهُ وَحُمْرَتُهُ حَيْضٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ حُكِمَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ وَلَزِمَهَا اعْتِبَارُهُ فِي حَيْضِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَخْلُو دَمُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ وَتَتَأَخَّرَ الْحُمْرَةُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْحُمْرَةُ وَيَتَعَقَّبَهَا السَّوَادُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْحُمْرَةُ فِي الْوَسَطِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْحُمْرَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالسَّوَادُ فِي الْوَسَطِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ وَتَتَعَقَّبَهُ الْحُمْرَةُ وَصُورَتُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَ الشَّهْرِ دَمًا أَحْمَرَ فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ تَدَعُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ. وَأَيَّامُ الدَّمِ الْأَحْمَرِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ اسْتِحَاضَةٌ يَلْزَمُهَا فِيهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ فَاصِلٌ بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لَكِنْ إِنْ كَانَ هَذَا الشَّهْرُ أَوَّلَ شُهُورِ اسْتِحَاضَتِهَا لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ بِانْتِقَالِهَا مِنَ السَّوَادِ إِلَى الْحُمْرَةِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ حاله. حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 إِذَا تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا تَتَعَقَّبُ اسْتِحَاضَتَهَا فَقَضَتْ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ من الحمرة واستقبلتها فيهما تَعْقُبُ. فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَتِ استحاضتها. فتصلي وتصوم حتى ينتقل مِنَ السَّوَادِ إِلَى الْحُمْرَةِ، لِأَنَّهُ لِاعْتِبَارِ حَالِهَا في الشهر الماضي قد صَارَ فِي الْأَغْلَبِ اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ جَازَ لِانْقِطَاعِهِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا. وكذلك لَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِي الشَّهْرِ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ حَيْضًا تَقُومُ مَقَامَ السَّوَادِ عِنْدَ عُدَّتِهِ وَكَانَ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةً تَقُومُ مَقَامَ الْحُمْرَةِ عِنْدَ تَقَدُّمِهَا. فَلَوْ رَأَتْ فِي ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِي الشَّهْرِ دَمًا أَحْمَرَ كَانَ حَيْضُهَا الْعَشَرَةَ السَّوَادَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَيْضِهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ، وَلِكُلِّ حَيْضَةٍ حُكْمٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الثَّالِثِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِي الشَّهْرِ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ كَانَ حَيْضُهَا سَبْعًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَدِيمَ الْحُمْرَةُ بَعْدَ السَّوَادِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَبَيْنَ أَنْ تَبْلُغَ قَدْرًا يَزِيدُ مَعَ السَّوَادِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ مُسْتَحَاضَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ فَلَيْسَتْ مُسْتَحَاضَةٌ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَإِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ الْأَحْمَرُ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً. وَإِنِ انْقَطَعَ الْعَشَرَةَ فَمَا دُونُ كَانَتْ حَائِضًا وَكَانَ الزَّمَانُ حَيْضًا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ كَانَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ السَّوَادُ حَيْضًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ هَلْ تَكُونُ اسْتِحَاضَةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَجُعِلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ مَا دَخَلَتْ عَلَى إِثْرِ الْحَيْضِ فَيَ زَمَانٍ ثُمَّ تَجَاوَزَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول أبي إسحاق يكون اسْتِحَاضَةً وَسَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا دَخَلَ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْحُمْرَةُ ثُمَّ يتعقبها السَّوَادُ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْقُصَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ، وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ قَدْرَ الْحَيْضِ، مِثَالُهُ أَنْ تَرَى الْحُمْرَةَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَتَرَى السَّوَادَ بَعْدَهُ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. فَالْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ دَمُ فَسَادٍ وَالْحَيْضُ مَا بَعْدَهُ مِنَ السَّوَادِ وَلَيْسَ لَهَا اسْتِحَاضَةً وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّمْيِيزَ بِاخْتِلَافِ الدَّمَيْنِ وَكَانَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِدَمِ الْحَيْضِ صَارَ الثَّانِي بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَنْقُصَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى مَا بَيْنَ يوم وليلة إلى خمسة عشر دماً أحمراً وَأَصْفَرَ فَإِنَّ الصُّفْرَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْحُمْرَةِ وَتَرَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمًا أَسْوَدَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا لَا يتجاوزان قدر أكثر الحيض مثل ما تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتَرَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَكِلَا الدَّمَيْنِ يَكُونُ حَيْضًا فِي غَيْرِ الْمُبْتَدَأَةِ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَجَاوَزَ جَمِيعًا قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثْلَ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَتَرَى بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَحَيْضُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّمِ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ غَيْرَ مُبْتَدَأَةٍ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ وَجْهَانِ. وَمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّمْيِيزِ لِمُجَاوَزَةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَنَقْصِ السَّوَادِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقُصَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَنْقُصَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ أَيْضًا. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى أقل من يوم وليلة دماً أحمر أو أصفر وترى أقل من يوم وليلة بعده دماً أسود فهذا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شُرُوطِهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَقْسَامِ الْمُمَيِّزَةِ فَكَذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ ذَاتَ حَيْضٍ فَكِلَا الدَّمَيْنِ حَيْضٌ فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَبْلُغَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ أَيْضًا قَدْرَ الْحَيْضِ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتجاوزا جَمِيعًا قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ ثُمَّ تَرَى بَعْدَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَحَيْضُهَا الْعَشَرَةُ السَّوَادُ الْمُتَأَخِّرَةُ دُونَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ لِأَنَّ السواد قد وجد بصفة الحيض بخلاف الصفرة وكذا الزمانين عَلَى سَوَاءٍ فِي الْإِمْكَانِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي العباس وأبي علي أَنَّ حَيْضَهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَشَرَةِ الْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَعَقُّبٍ مِنَ الْعَشَرَةِ السَّوَادِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَدْخُلُ عَلَى الْحَيْضِ وَالْحَيْضُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْعَشَرَةُ الْأَيَّامِ الصُّفْرَةُ أَوِ الْحُمْرَةُ لَوِ انْفَرَدَتْ كَانَتْ حَيْضًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَ عَلَيْهَا مِنَ السَّوَادِ اسْتِحَاضَةً لِتَمَيُّزِ الدمين وامتناع كونهما حيضاً. والوجه الثاني: وهو قول أبي العباس وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ حَيْضَهَا مَا تَأَخَّرَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 عَشَرَةِ السَّوَادِ دُونَ مَا تَقَدُّمٍ مِنْ عَشَرَةِ الصُّفْرَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِصِفَةِ الْحَيْضِ مَعَ تَسَاوِي الزَّمَانَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوجَدَ صِفَةُ الْحَيْضِ فِي دَمٍ مُمْكِنٍ فَيُجْعَلُ الْحَيْضُ فِيمَا سِوَاهُ وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْحَيْضِ أَنْ يَبْدُوَ قَوِيًّا أَسْوَدَ ثُمَّ يَرِقُّ وَيَصْفُو وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْدُوَ رَقِيقًا صَافِيًا ثُمَّ يَقْوَى وَيَسْوَدُّ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْحَيْضَةَ تَبْدُو فَتَكُونُ دَمًا خَاثِرًا ثُمَّ يَرِقُّ الدَّمُ وَيَصْفُو ثُمَّ يَكُونُ صُفْرَةً فَإِذَا رَأَتِ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ فَهُوَ الطُّهْرُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الزَّمَانُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ ثُمَّ تَرَى بَعْدَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَمَنْ جَعَلَ الصفرة هناك حيضاً جعل كلا الزمانين ها هنا حَيْضًا وَمَنْ جَعَلَ السَّوَادَ هُنَاكَ حَيْضًا جَعَلَ السواد الخمسة ها هنا حَيْضًا فَهَذَا حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ إِذَا رَأَتْ صُفْرَةَ الدَّمِ وَحُمْرَتَهُ مِثْلَ سَوَادِهِ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ فِي الْوَسَطِ فَهَذَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يبلغ كل واحد من الدماء الثلاثة قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَلَا يَتَجَاوَزُ جَمِيعُهُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَفِي الصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْضٌ وهو قول أبي العباس. والثاني: استحاضة في حُكْمِ الطُّهْرَيْنِ الدَّمَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ التَّلْفِيقِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي حُكْمِ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُبْتَدَأَةُ وَذَاتُ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ بِمَا تُقَدِّمُ مِنَ السَّوَادِ قَدْ صَارَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن يبلغ كل واحد من الدماء الثلاثة قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَيَتَجَاوَزُ جَمِيعُهُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا السَّبْعُ السَّوَادُ وَالسَّبْعُ الصُّفْرَةُ وَمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ السَّوَادِ اسْتِحَاضَةٌ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا السَّبْعَةَ السَّوَادَ الْأُولَى وَالسَّبْعَةَ السَّوَادَ الْأَخِيرَةَ وَتَكُونُ السَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةً. وَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْلَيِ التَّلْفِيقِ لِمُجَاوَزَةِ قَدْرِ الْحَيْضِ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ كَانَ حَيْضُهَا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الدَّمَيْنِ اسْتِحَاضَةً عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَ إِلَى السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا مِنَ الدَّمَيْنِ تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَلَمْ يُضَمَّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَلَا يَبْلُغُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 جَمِيعُهَا قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى سَاعَةً دَمًا أَسْوَدَ وَسَاعَةً دَمًا أَصْفَرَ وَسَاعَةً دَمًا أَسْوَدَ فَهَذَا كُلُّهُ دَمُ فَسَادٍ وَذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُمَيِّزَةِ؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ التَّقْسِيمِ فِي هَذَا الْفَصْلِ اقْتَضَاهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ لَكِنْ يَبْلُغُ جَمِيعُهَا قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَسْوَدَ وَثَلَاثَةً أَصْفَرَ وَثَلَاثَةً أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضًا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَكُونُ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَخْرِجُ الصُّفْرَةَ فَيَكُونُ بَاقِي السَّوَادِ ثُلُثَيْ يَوْمٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا. فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حيضاً يوماً ونصف وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يَكُونُ حَيْضًا يَوْمًا وَنِصْفًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَالنِّصْفُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ بَيْنَ دَمَيْ حَيْضٍ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادَيْنِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَتَنْقُصُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهِيَ الدِّمَاءُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ زَمَانَ السَّوَادَيْنِ وَنِصْفُ يَوْمِ الصُّفْرَةِ طُهْرٌ بَيْنَهُمَا. فَيَكُونُ عَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ اسْتِحَاضَةٌ لِمُجَاوَزَتِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ السَّوَادَانِ دُونَ الصُّفْرَةِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادَيْنِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ فَتَبْلُغُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ وَهِيَ أَيَّامُ الدَّمِ كُلِّهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا النِّصْفَانِ السَّوَادَانِ إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا مَعَ الْيَوْمِ لَيْلَةٌ وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ اسْتِحَاضَةٌ بَيْنَ دَمَيْ حَيْضٍ فَيَكُونُ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى يَوْمِ السَّوَادَيْنِ لَيْلَةٌ صَارَ السَّوَادُ تَبَعًا لِلصُّفْرَةِ فَتَصِيرُ السِّتَّةُ كُلُّهَا وَهِيَ أَيَّامُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ حَيْضًا فِي ذَاتِ الْحَيْضِ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ قَدْرَ الحيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَيَنْقُصُ السَّوَادِ الْآخَرِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ. أَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الصُّفْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ وَإِنْ تَعَقَّبَهَا سَوَادٌ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلِأَنَّ الصُّفْرَةَ لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مِنَ السَّوَادِ قَدْرٌ يَكُونُ حَيْضًا فَصَارَتْ تَبَعًا وَكَانَ الْكُلُّ حَيْضًا فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ وَالسَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ وَيَكُونُ النِّصْفُ يَوْمٍ السَّوَادُ دَمَ فَسَادٍ لِمُجَاوَزَةِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَتَمَيُّزِهِ عَمَّا قَبْلُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهُوَ زَمَانُ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَالسَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ مَحْضَةٌ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ زَمَانَيِ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَالثَّمَانِيَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ مَحْضَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْأَخِيرُ قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ زمان الدماء الثلاثة وعلى قول أبي إسحاق حَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَهِيَ السَّوَادُ الْأَخِيرُ وَلَا يَكُونُ السَّوَادُ الْأَوَّلُ حَيْضًا لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ. فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ: فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا الْخَمْسَةَ عَشَرَ السَّوَادُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى التَّمْيِيزِ مَعَ تَجَاوُزِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مَا لَوِ انْفَرَدَ كَانَ حَيْضًا، فَهَذَا مَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الصُّفْرَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالسَّوَادُ فِي الْوَسَطِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبْلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدْرَ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَيَّامَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ الصُّفْرَةِ فَلَا تَكُونُ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا فَلَوْ رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ حَيْضُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا السِّتَّةَ الصُّفْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَالسِّتَّةَ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ السِّتَّةِ الصُّفْرَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ اسْتِحَاضَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ اسْتِحَاضَةٌ. فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ وَلَا تُضَمُّ إِلَيْهَا وَاحِدٌ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ لِأَنَّهُ يصبر مُجَاوِزًا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى ثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَيَكُونُ كُلُّهُ دَمَ فَسَادٍ وَجَمِيعُهُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا يَوْمٌ وَنِصْفُ زمان الدماء الثلاثة وعلى قول أبي إسحاق حَيْضُهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَهُوَ النِّصْفُ السَّوَادُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النِّصْفِ الصُّفْرَةِ وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَتَينِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَنْقُصُ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ زَمَانُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهَكَذَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَ لَا يَكُونُ انْفِرَادُهُ حَيْضًا فَصَارَ تَبَعًا لِلصُّفْرَتَيْنِ. فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ الْأَوَّلُ وَالسَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَتَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ اسْتِحَاضَةٌ تَمَيَّزَتْ عَنِ الْأَوَّلِ بِمَا تَوَسَّطَهَا مِنَ السَّوَادِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً لَا تَمْيِيزَ لَهَا لِأَنَّ السَّوَادَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا لِنَقْصِهِ وَالصُّفْرَتَانِ تَزِيدُ عَنْ قَدْرِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ قَدْرَ الْحَيْضِ - مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفُ السَّوَادِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَتَنْقُصُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفُ السَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الصُّفْرَةُ الثَّمَانِيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ السَّبْعَةِ السَّوَادِ وَالصُّفْرَةُ الْأَخِيرَةُ دَمُ فَسَادٍ لِمُجَاوَزَتِهَا أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حيضها سبعة أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهِيَ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَالصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَهِيَ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَالصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ اسْتِحَاضَةٌ فَأَمَّا الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَكُونُ دَمَ فساد لأنه لا يجعل الِاسْتِحَاضَةَ إِلَّا مَا كَانَتْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أَثَرِ حَيْضٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ الصُّفْرَةُ الأولة اسْتِحَاضَةٌ أَيْضًا كَالصُّفْرَةِ الثَّانِيَةِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْحَيْضِ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَتَبْلُغُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ كُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ جَمِيعُهَا كَالصُّفْرَةِ الْمَحْضَةِ لِأَنَّ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَيْضِ يَكُونُ تَبَعًا فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ كَانَتِ السِّتَّةُ كُلُّهَا حَيْضًا - وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَدَمُ فَسَادٍ - فَهَذَا حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ عَلَى مَا انْقَسَمَتْ إِلَيْهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِثَلَاثَةِ أيامٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " فإذا ذهب قدرها - يريد الحيضة - فاغسلي الدم عنك وصلي " ولا يقول لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا ذهب قدرها إلا وهي به عارفةٌ (قال) وإن لم ينفصل دمها بما وصفت ثم فَتَعْرِفُهُ وَكَانَ مُشْتَبِهًا نَظَرَتْ إِلَى مَا كَانَ عليه حيضتها فيما مضى من دهرها فتركت الصلاة للوقت الذي كانت تحيض فيه لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها ما أصابها فلتدع الصلاة فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بثوبٍ ثم تصلي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اسْتُحِيضَتِ الْمُعْتَادَةُ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ وَهَكَذَا الْمُمَيِّزَةُ - وَقَالَ مَالِكٌ: تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَوْقَ عَادَتِهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عَادَتُهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يوماً استظهرت بيومين تمام الخمسة عشر يوماً وإن كانت أربعة عَشَرَ يَوْمًا اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ جابر بن عبد الله بن حزام الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِثَلَاثَةِ أيامٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى) {البقرة: 238) فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا يُوجِبُ الِاسْتِظْهَارَ لِفِعْلِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِظْهَارِ مِنْ تَرْكِهَا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ " كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِهَا مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّي " فَكَانَ أَمْرُهُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَيَّامِ الْعَادَةِ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِظْهَارِ بشيء بعد - وما روى الشافعي عن عمرو بن أبي سلمة عن الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ " اسْتُحِيضَتْ أمُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 حَبِيبَةَ بِنْتُ جحشٍ وَهِيَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوفٍ سَبْعَ سِنِينَ فَاشْتَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهَا: " هَذِهِ لَيْسَتْ بحيضةٍ وَلَكِنَّ هَذَا عرقٌ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِظْهَارِ بِزِيَادَةٍ فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ لِلصَّلَاةِ فِيمَنْ شَكَّتْ فِي عَادَتِهَا ثَلَاثٌ هِيَ أَمْ أَرْبَعٌ فَأَمَرَهَا أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَى ثَلَاثٍ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِتَأْتَلِفَ الْأَخْبَارُ وَلَا تختلف والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " (قَالَ) وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حيضٌ ثم إذا ذهب ذلك اغتسلت وصلت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ حَيْضٌ، فَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَلَيْسَتْ حَيْضًا إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا سَوَادٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ تَقَدَّمَهُ سَوَادٌ أَمْ لَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنَّا نُعِدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ ألْحَيْضِ حَيْضًا " وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ حَيْضًا عِنْدَ تَقَدُّمِ غَيْرِهِ كَانَ حَيْضًا، وَإِنِ انْصَرَفَ عَنْ غَيْرِهِ كَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ " أَيَّامُ الْحَيْضِ حَيْضٌ " فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَعْنِي: فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ، فَإِنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامَ الْعَادَةِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي قَدِيمِ أَمْرِهِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَيْضًا وَهِيَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامَ العادة ورجع إلى هذا القول أبو العباس فِي آخِرِ أَيَّامِهِ، وَقَالَ: كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى وَجَدْتُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَيَّامٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَجَعَلَ حُكْمَ الْمُبْتَدَأَةِ، وَذَاتِ الْحَيْضِ سَوَاءً، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ لَوْلَا مَا وَجَدْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ حَيْضًا فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ دُونَ مَا جَاوَزَهَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِرِوَايَةِ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ. - وَكَانَتْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: كُنَا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا يَعْنِي بَعْدَ أَيَّامِ الْعَادَةِ، قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ ثَبَتَ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أما وجود شاهد فيه وصفة محلة وهو السواد أو مصادمة أيام العادة، فلما تجاوزت أيام الصفة بتغيره إلى الصفرة والكدرة، وتجاوزت أَيَّامَ الْعَادَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، لِفَقْدِ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمٍ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُرْسِلْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدَّرَجَةِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ، فَتَقُولُ لَهُنَّ: لَا تُصَلِّينَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، فَدَلَّ إِطْلَاقُهَا عَلَى اسْتِوَاءِ الحكم في الحالين، ولأن التمييز وَالْعَادَةِ مَعْنَيَانِ يُعْتَبَرُ بِهِمَا الْحَيْضُ عِنْدَ إِشْكَالِهِ وَمُجَاوَزَةِ أَيَّامِهِ، ثُمَّ كَانَتِ الْعَادَةُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْحَيْضِ إِذَا لَمْ تُجَاوِزْ أَكْثَرَ أَيَّامِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِيهِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ أَيَّامِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ هُوَ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ وَقَدْ يَتَغَيَّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ وَالرِّقَّةِ لِعِلَّةٍ تَحْدُثُ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ لَوْنِهِ؛ كَذَلِكَ مَا يُرْخِيهِ الرحمن مِنَ الدَّمِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي أَيَّامِهِ بِاخْتِلَافِ لَوْنِهِ فَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَوَارِدٌ فِيمَا وُجِدَ فِي الطُّهْرِ، وَالطُّهْرُ مَا تَجَاوَزَ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَيْضِ بِمَعْنَيَيْنِ فَيُقَالُ: وَبِمَعْنَى ثَالِثٍ، وَهُوَ وُجُودُهُ فِي زمان يجوز أن يكون حيضاً. (فصل) : فعلى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ تَكُونُ فُرُوعُ هَذَا الْفَصْلِ فَإِذَا كانت عادة امرأة أن ترى من أو لكل شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَبَاقِيَ شَهْرِهَا طُهْرًا، فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، وَبَاقِيَ الشَّهْرِ طُهْرًا فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ زَمَانُ الدَّمَيْنِ مَعًا لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ أن يكون حيضا، وعلى مذهب أبي سعيد الْإِصْطَخْرِيُّ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ لمفارقتها أيام العادة. (فرع) : فلو بدأت وعادتها الْخَمْسَةَ السَّوَادَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كل ذلك حيضا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَالْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَالسَّوَادِ بِخِلَافِ الصُّفْرَةِ، وَيَجْعَلُ الْخَمْسَةَ الصُّفْرَةَ اسْتِحَاضَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ. (فَرْعٌ) : فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَبَاقِيهِ طُهْرًا، فَرَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، كَانَتِ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَيْضًا؛ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حيضاً؛ على مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ اسْتِحَاضَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ. (فَرْعٌ) : فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَرَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ دَمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أَسْوَدَ ثُمَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ جَمِيعُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَيَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيُفَرِّقُ حُكْمَ الصُّفْرَةِ فَيَجْعَلُ خَمْسَةً مِنْهَا حَيْضًا لِوُجُودِهَا فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَخَمْسَةً اسْتِحَاضَةً لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم ين فصل دمها بما وَصَفْتُ لَكَ فَتَعْرِفُهُ وَكَانَ مُشْتَبِهًا نَظَرَتْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَيْضُهَا فِيمَا مَضَى مِنْ دَهْرِهَا فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ لِلْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ تَحِيضُ فيه، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الِاسْتِحَاضَةِ وَهِيَ الْمُعْتَادَةُ. وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ اسْتَمَرَّ بها الدم حتى يجاوز خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكُلُّهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ، لَا يتميز بعضه عن بعض ولها عادة سالفة فِي حَيْضِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَتِهَا السالفة، وَقَالَ مَالِكٌ لَا اعْتِبَارَ بِالْعَادَةِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عرقٌ " فَرَدَّهَا إِلَى التَّمْيِيزِ وَلَمْ تُعْتَبَرِ الْعَادَةُ قَالَ: وَلِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضًا، وَتُوجَدُ أَيَّامَ الْعَادَةِ بِغَيْرِ دَمٍ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَادَةِ تَأْثِيرٌ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر مثل أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ، قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ وَرَوَى أَبُو الْيَقْظَانِ عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أقْرَائِهَا ثُمَ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي حَتَّى أَيَّامَ حَيْضِهَا " وَرَوَى العلا بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ سَوْدَةَ اسْتُحِيضَتْ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا مَضَتْ أَيَّامُهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَعَلَّقُ بِدَمٍ وَأَيَّامٍ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ إِعْوَازِ الدَّمِ كَالْعِدَّةِ تَنْتَقِلُ عَنِ الْأَقْرَاءِ إِلَى الشُّهُورِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّمْيِيزِ لِمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَمْيِيزَ لَهَا فَيُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي موضعه. وأما ما ذكرنا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ أَيَّامَ الْعَادَةِ لَا تَكُونُ حَيْضًا، فَإِنْ عَنَى إِذَا خَلَتْ مِنَ الدَّمِ، فَصَحِيحٌ، وَإِذَا أَرَادَ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الدَّمُ فَفَاسِدٌ، وَهَذِهِ أَيَّامُ عَادَةٍ قَارَنَتْ دَمًا فَلَمْ يسلم للاستدلال. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فَقْدِ التَّمْيِيزِ، فَلِلْعَادَةِ ضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ. فَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ: فَضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ومُتَّفِقَةٌ بِالتَّمْيِيزِ فَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَهُوَ أَنْ تَحِيضَ على مرور الشهور في كل شهر عشراً، وَتَرَى بَاقِيَهُ طُهْرًا؛ فَإِذَا أَشْكَلَ حَيْضُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ رُدَّتْ إِلَى العشر، وَهِيَ الْعَادَةُ الْمُتَّفِقَةُ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا السالفة أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ أَوْ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خمسة عشر يوماً أو أوسطه ستاً أو سبعاً رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِذَا كَانَ قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْأَمْرَيْنِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَيُجْعَلُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَلَوْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَرَأَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَيْضًا وَبَاقِيَ الشَّهْرِ طُهْرًا ثُمَّ أُشْكِلَ دَمُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَجَبَ رَدُّهَا فِيمَا أُشْكِلَ مَنْ شَهْرِهَا الثَّانِي إِلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ صَارَتِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَهَا عَادَةً لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا أَصْحَابُنَا؛ لِأَنَّ فَقْدَ التَّمْيِيزِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْعَادَةِ، فكان اعتبار عادتها، وإن كانت مَرَّةً أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ عَادَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ هَكَذَا تُعْتَبَرُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ فَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ رُدَّتْ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَادَةِ فِيمَا ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْإِشْكَالِ بِالشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ أَيَّامِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِشْكَالِ مَا ثَبَتَ لَهَا، وَانْقِطَاعُ دَمِهَا، وَإِنْ جَاوَزَ قَدْرَ الْعَادَةِ مجوز في أقل من خمسة عشرة. وَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ بِالتَّمْيِيزِ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمُبْتَدَأَةُ عشرة أيام دما أسود وباقي الشهر دما أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً بِالتَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ لَهَا ثُمَّ تَرَى كَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فِي الثَّالِثِ، فَتَسْتَقِرُّ عَادَتُهَا بِالتَّمْيِيزِ عَلَى عَشَرَةٍ فَإِذَا أُشْكِلَ دَمُهَا فِي بَعْضِ الشُّهُورِ فَقَدَّمَتِ التَّمْيِيزَ رُدَّتْ إِلَى الْعَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّمْيِيزِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهَكَذَا لَوْ مَيَّزَتِ الْمُبْتَدَأَةُ شَهْرًا وَاحِدًا فَكَانَ حَيْضُهَا مِنْ جُمْلَتِهِ عَشَرَةً، ثُمَّ أُشَكِلَ دَمُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، رُدَّتْ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ وصَارَتِ الْمَرَّةُ لَهَا عَادَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (فصل) : وأما الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهِيَ الْعَادَةُ الْمُخْتَلِفَةُ، فَهِيَ ضَرْبَانِ: مُرَتَّبَةٌ وَغَيْرُ مُرَتَّبَةٍ. فَأَمَّا الْمُرَتَّبَةُ فَصُورَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً وَفِي الثَّانِي سَبْعَةً، وَفِي الثَّالِثِ عَشَرَةً، ثُمَّ تَعُودُ النَّوْبَةُ فَتَحِيضُ فِي الرَّابِعِ خَمْسَةً، وَفِي الْخَامِسِ سَبْعَةً، وَفِي السَّادِسِ عَشَرَةً، ثُمَّ هَكَذَا فِي سَائِرِ دَهْرِهَا يَجْرِي الْأَمْرُ فِي حَيْضِهَا عَلَى نَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ وَعَادَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ ثُمَّ يُشَكَّلُ دَمُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَيَتَجَاوَزُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَيُنْظَرُ مَا كَانَ تقتضيه نوبة عادتها في حيضها مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ خَمْسَةً جَعَلَتْ هَذَا سَبْعَةً وَمَا بَعْدَهُ عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ سَبْعَةً جَعَلَتْ هَذَا عَشَرَةً، وَمَا بَعْدَهُ خَمْسَةً، وَإِنْ كان ما قبله خمسة جَعَلَتْ هَذَا خَمْسَةً، وَمَا بَعْدَهُ سَبْعَةً، ثُمَّ تَدُورُ النَّوْبَةُ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا كَانَتْ عَلَى إِشْكَالِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ قَدَّرَ لَهَا عَادَةً مُسْتَقِيمَةً، فَصَارَتْ كَالْعَادَةِ الْمُتَّفِقَةِ، فَلَوْ نَسِيَتْ مَا كَانَ تَقْتَضِيهِ نَوْبَةُ عَادَتِهَا، وَتَرَتُّبُ حَيْضَتِهَا رُدَّتْ إِلَى أَقَلِّ نَوْبَتِهَا، وَهِيَ الْخَمْسَةُ؛ لِأَنَّهَا يَقِينٌ، وَاحْتِيَاطٌ، فَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا الْيَوْمُ السَّابِعُ، اغْتَسَلَتْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ نَوْبَةُ شَهْرِهَا سَبْعَةً، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، اغْتَسَلَتْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ نَوْبَةُ شَهْرِهَا عَشَرَةً. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَتَّبَةِ، فَصُورَتُهَا: أَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً، وَفِي شَهْرٍ سَبْعَةً وَفِي شَهْرٍ عَشَرَةً، لَا يَنْقُصُ حَيْضُهَا عَنِ الْخَمْسَةِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَيْسَ بِهَا نوبة صحيحة، وَلَا عَادَةٌ رَاتِبَةٌ، وَتَتَقَدَّمُ الْخَمْسَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ تَارَةً، وَتَتَأَخَّرُ عَنْهَا تَارَةً، فَإِذَا أُشْكِلَ دَمُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَتَجَاوَزَتْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ نَظَرَتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي قَبْلَ إِشْكَالِ دَمِهَا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ عَادَتِهَا، وَهِيَ الْخَمْسُ ردت إلى عادتها. لَا تَخْتَلِفُ وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَادَتِهَا هِيَ الْعَشْرُ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ قَبْلَ الْإِشْكَالِ بِشَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةٍ رُدَّتْ إِلَيْهِمَا، وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرُ الْعَادَةِ نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِقُرْبِهِ مِنْ شَهْرِ الإشكال، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لتنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصَّلَاةَ " وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَتُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْعَادَةِ وَهِيَ الْخَمْسَةُ، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِدُخُولِهَا فِي السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَاضَتْ سَبْعَةً وَعَشَرَةً فَقَدْ حَاضَتْ خَمْسَةً، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالِاسْتِظْهَارِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُبْتَدَأَةً لَوْ حَاضَتْ فِي أَوَّلِ شُهُورِ حَيْضِهَا خَمْسًا، وَفِي الثَّانِي: عَشْرًا، ثُمَّ أُشْكِلَ دَمُهَا فِي الثَّالِثِ، وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ رُدَّتْ إِلَى الْعَشْرَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى شَهْرِ الِاسْتِكْمَالِ وَلَمْ تَكُنِ الْحُمْرَةُ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَحْوَطَ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمُبْتَدَأَةِ فَهَذَا حُكْمُ الْمُعْتَادَةِ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ. (فَصْلٌ) : فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَادَةٌ، وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهَا عَادَةٌ فِي حَيْضِهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ شُهُورِهَا وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي شَهْرِهَا حَتَّى تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَهُوَ مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ أو أصفر، فَصَارَتْ جَامِعَةً بَيْنَ التَّمْيِيزِ فِي حَيْضِهَا، وَبَيْنَ الْعَادَةِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ شُهُورِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى تَمْيِيزِهَا دُونَ عَادَتِهَا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: بَلْ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا دُونَ تَمْيِيزِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ تَأْتَلِفُ، وَالتَّمْيِيزَ يَخْتَلِفُ، وَالْمُؤْتَلِفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُخْتَلِفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ مُتَكَرِّرَةٌ، وَالتَّمْيِيزَ مُنْفَرِدٌ، وَمَا تَكَرَّرَ أَوْلَى اعْتِبَارًا مِمَّا انْفَرَدَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمْيِيزَ صِفَةُ مَحَلِّ حَيْضِ الْإِشْكَالِ وَالْعَادَةُ فِي غَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ أَوْلَى مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّمْيِيزَ دَلَالَةٌ حَاضِرَةٌ، وَالْعَادَةَ دَلَالَةٌ مَاضِيَةٌ، وَالدَّلَالَةُ الْحَاضِرَةُ أَوْلَى اعْتِبَارًا مِنَ الدَّلَالَةِ الْمَاضِيَةِ، كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ دَارًا وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ حَاضِرَةٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، إِذَا كَانَتْ لَهُ يَدٌ مُتَقَدِّمَةٌ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالَيْنِ فَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ مَا ائْتَلَفَ مِنَ التَّمْيِيزِ وَاخْتَلَفَ فِي تَقْدِيمِ الْعَادَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ مَا تَكَرَّرَ مِنَ التَّمْيِيزِ وَانْفَرَدَ فِي تَقْدِيمِ الْعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ يَكُونُ تَفْرِيعُ هَذَا الْفَصْلِ فَإِذَا اعْتَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَحِيضَ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَتَرَى بَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَصْفَرَ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُرَدُّ إِلَى الْعَشَرَةِ السَّوَادِ اعْتِبَارًا بِالتَّمْيِيزِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ تُرَدُّ إِلَى الْخَمْسَةِ الْمُعْتَادَةِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِاجْتِمَاعِ التَّمْيِيزِ فِيهَا وَالْعَادَةُ، وَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَسْوَدَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا مُمَيِّزَةٌ، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِتَمْيِيزِهِ مِمَّا يُجَاوَزُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَسْوَدُ حَيْضًا. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق أنها مُعْتَادَةٌ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ، فَيَسْتَوِي الْحُكْمَانِ، وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَيَانِ فَتَكُونُ مُمَيِّزَةً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمُعْتَادَةً عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. (فَرْعٌ) : وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ فَرَأَتْ فِي أَوَّلِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، وَالْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَلِتَمْيِيزِهَا عَمَّا لَيْسَ بِحَيْضٍ مِنْ بَعْدُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِمُوَافَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ حَيْضَهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيهِ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي شَهْرِهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فِي أَوَّلِهِ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ الْأَسْوَدَ، فَإِنِ انْقَطَعَ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ حَيْضٌ وَإِنْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ، وَلَهَا عَادَةٌ بِلَا تَمْيِيزٍ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي كَانَتْ تَحِيضُهُ مِنْ قَبْلُ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَهَلْ تَحِيضُ قَدْرَ الْعَادَةِ مِنْ زَمَانِ الْعَادَةِ أَوْ مِنْ زَمَانِ الدَّمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو العباس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أَحَدُهُمَا: مِنْ زَمَانِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالثَّانِي: مِنْ زَمَانِ الْعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ الدَّمُ مُبْتَدِئًا لَا مَعْرِفَةَ لَهَا بِهِ أَمْسَكَتْ عَنِ الصَّلَاةِ ثُمَّ إِذَا جَاوَزَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اسْتَيْقَنَتْ أَنَّهَا مستحاضةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، وَهِيَ امرأة مبتدأة وناسية في كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ تَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ. فَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَهِيَ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الدَّمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَيْضٌ مِنْ قَبْلُ، وَلَهَا سِنٌّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمُهَا فِيهِ حَيْضًا، وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ الدَّمِ إِذَا كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ فَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَدُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ وَلَزِمَهَا إِعَادَةُ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ لِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَإِنِ انْقَطَعَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ لَهَا لَازِمًا وَأَجْزَأَهَا مَا صَلَّتْ، وَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً تَرَكَتِ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ، قَالَ: لِأَنَّ رُؤْيَةَ الدَّمِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَيْضًا تَدَعُ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمَ فَسَادٍ تَلْزَمُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ وَالتَّجْوِيزِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ الْمُبْتَدَأَةِ إِذَا بَدَأَتْ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ هذا التجويز موجود. وَالثَّانِي: الْمُعْتَادَةُ إِذَا تَجَاوَزَ دَمُهَا قَدْرَ الْعَادَةِ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ مَوْجُودًا وَإِذَا بَطُلَ بِهَذَيْنِ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ هَذَا التَّجْوِيزِ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهَا، وَهُوَ أَنَّ مَا ابْتَدَأَتْ بِرُؤْيَتِهِ حَيْضٌ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فَصَاعِدًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَمًا أَسْوَدَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَمًا أَصْفَرَ أَوْ أَحْمَرَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَصْفَرُ، فَإِنْ كَانَ دَمًا أَسْوَدَ فَهُوَ حَيْضٌ مَا لَمْ يُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ، وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلِأَنَّهُ قَدْ خَلَا مِنْ عَلَامَتَيِ الْحَيْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حيضاًَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِوُجُودِ الدَّمِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيْضًا وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ ثُمَّ تَتَعَقَّبُهُ الصفرة مثاله: أن ترى خمسة أيام دما أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ تَكُونُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا لِوُجُودِ الدَّمَيْنِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ زَمَانَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ فَصَارَتِ الصُّفْرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْعَادَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الصُّفْرَةُ ثُمَّ يَتَعَقَّبَهَا السواد مثاله: أن ترى خمسة أيام دما أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَكُونُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّفْرَةِ، وَمَا تَعَقَّبَ مِنَ السَّوَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ حَيْضُهَا الْخَمْسَةَ السَّوَادَ دُونَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، فَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الصُّفْرَةَ إِذَا تَعَقَّبَهَا سَوَادٌ لَمْ تَكُنْ حَيْضًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَوَسَّطَ السَّوَادُ بَيْنَ دَمَيِ الصُّفْرَةِ، مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ خَمْسَةُ أَيَّامٍ هِيَ زَمَانُ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، وَلَا يَكُونُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّفْرَةِ وَلَا مَا تَأَخَّرَ حَيْضًا لِوُجُودِهِمَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا لِمَا يَعْقُبُهَا مِنَ السَّوَادِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَتَوَسَّطَ الصُّفْرَةُ بَيْنَ دَمِ السَّوَادِ مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ زَمَانَ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ الْأُوَلُ وَالْأُخَرُ وَزَمَانُ الصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ طُهْرٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ لِمَا تَعَقَّبَهَا مِنَ السَّوَادِ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ دَمُ الْمُبْتَدَأَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ صَارَتْ حِينَئِذٍ مُسْتَحَاضَةً لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ عَمِلَتْ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا وَسَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّمَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الْحَيْضِ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّهُ يَقِينٌ وَاحْتِيَاطٌ وَمَا جَاوَزَهُ شَكٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ بِالشَّكِّ فَرْضَ الصَّلَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ وسبعة أيام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ " تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا " وَلِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبُ عَادَاتِ النِّسَاءِ، فَاقْتَضَى أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهَا كَمَا تُرَدُّ إِلَى غَالِبِ عَادَاتِهِنَّ إِذَا اسْتَدَامَ الدَّمُ بِهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَلَيْسَ الْيَقِينُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ غَالِبُ الْعَادَاتِ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ فِيهِ مُعْتَبَرًا، وَقَالَ أبو حنيفة: تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ، فَخَالَفَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا إِلَى طُهْرٍ بِيَقِينٍ. وَدَلِيلُنَا مَعَ الْخَبَرِ أَنَّهُ اخْتَلَطَ حَيْضُهَا بِاسْتِحَاضَتِهَا فَوَجَبَ رَدُّهَا عَنِ الْأَكْثَرِ إِلَى مَا دُونِهِ كَالْمُعْتَادَةِ فِي رَدِّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ إِلَى أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِظْهَارَ لِلْعَادَةِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهَا فَامْتَنَعَ بِذَلِكَ رَدُّهَا إِلَى أَكْثَرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ رَدُّهَا، إِلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ أَوْ إِلَى الْأَغْلَبِ وَهُوَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي السِّتِّ أَوِ السبع هل ترد إليها على طريق التخيير - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ السِّتَّةِ أَوِ السَّبْعَةِ -. وَالثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مُخَيَّرَةٍ وَإِنَّمَا فَرْضُ الِاجْتِهَادِ إِلَيْهَا فِي حَيْضِ نَظَائِرِهَا مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ كَانَ غَالِبُ حَيْضِهِنَّ سِتًّا فَمَا دُونُ حَيَّضَتْ نَفْسَهَا سِتًّا وَإِنْ كان عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي السِّتِّ أَوِ السَّبْعِ نفسها معاً ثُمَّ تَصْنَعُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَوْ كَانَ أَوَّلُ دَمِهَا الَّذِي رَأَتْهُ أَصْفَرَ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ سوادٌ، وَدَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ، وَوَجَبَ رَدُّهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي الثَّانِي إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُرَدُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى زَمَانِ الدَّمِ الْأَصْفَرِ أَوْ إِلَى زَمَانِ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ تُرَدُّ إِلَى الدَّمِ الْأَصْفَرِ لِتَقَدُّمِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي ترد إلى الدم الأسود؛ لأنه اختص بدم الحيض، وإذا رُدَّتْ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أو الست أو السبع حيضاً يقيناً لا تقتضي مَا تَرَكَتْ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَكَانَ مَا بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا يَقِينًا تُصَلِّي وَتَصُومُ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَلَا تَقْضِيَ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ رَدَّهَا إِلَى هَذَا الْقَدْرِ يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْحَيْضِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ القولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْحَيْضِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الدَّمِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَتُصَلِّي وَلَا تَقْضِيَ وَتَصُومُ وَتَقْضِي؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ وَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ فَأُمِرَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا، وَأُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا، وَيُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ إِتْيَانِهَا، وَكَذَا تُمْنَعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ فَهَذَا حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّاسِيَةُ فَتَنْقَسِمُ حَالُهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِقَدْرِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّاسِيَةُ لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ، فَصُورَتُهُ فِي امْرَأَةٍ اتَّصَلَ دَمُهَا وَاسْتَدَامَ وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَمَيَّزُ ولها عادة في الحيض سالفة، قَدْ نَسِيَتْ قَدْرَهَا، وَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَوْمًا أَوْ خَمْسًا أَوْ عَشْرًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَنَسِيَتْ وَقْتَهَا فَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ هَلْ كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، فَهَذِهِ يُسَمِّيهَا أَصْحَابُنَا الْمُتَحَيِّرَةُ لِإِشْكَالِ أَمْرِهَا وَتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُبْتَدَأَةِ لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ " وَإِذَا ابْتَدَأَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ نَسِيَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ لِأَقَلِّ مَا تَحِيضُ لَهُ النِّسَاءُ، وَذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ هَذِهِ النَّاسِيَةَ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ زَمَانِ حَيْضِهَا مَجْهُولٌ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ مَعَ الْجَهْلِ بِالزَّمَانِ، وَلِأَصْحَابِنَا عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأَةِ وَالنَّاسِيَةِ، وَعَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا مُرِيدًا لِلْمُبْتَدَأَةِ دُونَ النَّاسِيَةِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ النَّاسِيَةَ لِقَدْرِ حَيْضِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. فَأَمَّا النَّاسِيَةُ لِلْأَمْرَيْنِ قَدْرًا وَوَقْتًا، فَهِيَ مَجْهُولَةُ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَهِيَ فِي مَحْظُورَاتِ الْحَيْضِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهَا اجتنابه، وقسم يجب عليها فعله، وقسم يختلف فيه. فأما القسم الذي يلزمها اجتنابه فهو حمل المصحف أو دخول الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّطَوُّعِ بِنَفْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ، فَتُمْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا، وَلَيْسَ يَضُرُّهَا تَرْكُهُ إِنْ كانت طاهراً. فأما القسم الذي يلزمها فعله وهو مَا كَانَ فَرْضًا مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ، فَيَلْزَمُهَا فِعْلُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا، وَلَيْسَ يسقط فرضه بالشك. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: وَطْءُ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: سُنَنُ الصَّلَوَاتِ الْمُوَظَّفَاتِ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُمَا وَأَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ فَلَرُبَّمَا صَادَفَ حَيْضًا مَحْظُورًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تستبيحها بِالشَّكِّ، وَأَمَّا السُّنَنُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ، فَلِأَنَّ فِعْلَهَا فِي الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ تَرْكِهَا فِي الطُّهْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُمَكَّنَةٌ مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ مِنْ فِعْلِهِمَا، أَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ فَلِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَقِينًا، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا شَكٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْعَهُ مِنْهَا مَعَ اسْتِدَامَةِ حَالِهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَتْ كَالْمُبْتَدَأَةِ إِذَا أُشْكِلَ حَالُهَا؛ لِأَنَّ زَمَانَ الشَّكِّ يَسِيرٌ. وَأَمَّا السُّنَنُ مِنَ الصَّلَوَاتِ فلأمرين: أحدهما: أنها تبع لِلْمَفْرُوضَاتِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِفِعْلِ الْمَفْرُوضَاتِ صَارَتْ مَأْمُورَةً بِفِعْلِ الْمَسْنُونَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَعَارُضَ الشَّكَّيْنِ قَدْ تَقَابَلَا، وَالْأَصْلُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِحَّةِ الطَّهَارَةِ. وَالثَّانِي: فِي إجزأ مَا فَعَلَتْهُ مِنْ عِبَادَةٍ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَعْرِفَ وَقْتَ غُسْلِهَا حِينَ كَانَ يَنْقَطِعُ دَمُهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ حَيْضِهَا أَمْ لَا فَإِنْ عَرَفَتْهُ، وَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اغْتَسَلَتْ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَتَوَضَّأَتْ لِمَا سِوَى الْمَغْرِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ كُلَّ يَوْمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا فَلَزِمَهَا الْغُسْلُ فِيهِ، وَمَا سِوَى الْمَغْرِبِ لَمْ تَجْرِ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ فَلَمْ تَغْتَسِلْ فِيهِ، وَتَوَضَّأَتْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ ظُهْرٍ إِلَى ظُهْرٍ بِالظَّاءِ مُعْجَمَةً، يُرِيدُ بِهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُسْتَحَاضَةٍ ذَكَرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ الظُّهْرِ فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ فِي ظُهْرِ كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ بالطاء غير معجمة، عِنْدَ تَقَضِّي الْحَيْضِ، وَإِقْبَالِ الطُّهْرِ، وَلِكُلِّ رِوَايَةٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِهَا دَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَقْتُ غُسْلِهَا حِينَ كَانَ يَنْقَطِعُ دَمُهَا، وَنَسِيَتْ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتَصْبِرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا وَيَكُونُ الْغُسْلُ فِي آخِرِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهَا بَعْدَ الْغُسْلِ إِلَّا فِعْلُ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا فِي آخِرِهِ فَلَا يُجْزِئُهَا مَا قَدَّمَتْ فِي أَوَّلِهِ مِنَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتُحِيضَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْتَسِلِي لِكُلِّ صلاةٍ " فَهَذَا الْكَلَامُ فِي طَهَارَتِهَا. (فصل) : وأما إجزأ مَا فَعَلَتْهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالطَّوَافُ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا فيها فالذي عليه جمهورهم أنها تُصَلِّيَ فِي آخِرِ كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ صَلَاةً وَاحِدَةً، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ طَاهِرًا، وَلَا يَلْزَمُهَا إِعَادَتُهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَقَدْ أَدَّتْهَا فِي وَقْتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ يَلْزَمْهَا قَضَاؤُهَا، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عِنْدَ غُسْلِ الْمَغْرِبِ، وَتُعِيدُ الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ عِنْدَ غُسْلِ الصُّبْحِ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ بِرَكْعَةٍ فَتَجِبُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَا يُجْزِئُهَا صَلَاتُهَا مِنْ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ فَيَلْزَمُهَا الْمَغْرِبُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، وكلا المذهبين عندي مدخول؛ لِأَنَّهَا بِالشَّكِّ فِي الْحَيْضِ مُلْتَزِمَةٌ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ مَأْخُوذَةٌ بِأَدَائِهَا عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ فِي الْأَدَاءِ، وهي إذا صلت في أول الوقت جاز أن يكون الطهر في أوله وإذا صلت في وسط الوقت جَازَ أَنْ يَكُونَ الطُّهْرُ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فيه فلم ينتقض فعل الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، إِنَّهَا مُؤَدِّيَةٌ لَهَا بِيَقِينٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتْرُكُ تَنْزِيلَيْنِ هُمَا أَغْلَظُ أَحْوَالِهَا فِي الْتِزَامِ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَصِفَةُ أَدَائِهَا أَحَدَ التَّنْزِيلَيْنِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الطُّهْرُ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَإِمْكَانِ أَدَائِهَا ثُمَّ تَحِيضُ فِي بَاقِيهِ فَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ طُهْرِهَا. وَالتَّنْزِيلُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمَ الْحَيْضُ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ثُمَّ تَطْهُرُ فِي بَاقِيهِ فَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِالْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ طُهْرِهَا؛ فَحَصَلَ مِنْ هَذَيْنِ التَّنْزِيلَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا إِذَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ تُصَلِّيَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ صَلَاةً ثَانِيَةً بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ طُهْرِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّتْ فِي أَوَّلِهِ بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ أَعَادَتِ الصَّلَاةَ بِالْغُسْلِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ مَا يَلْزَمُهَا بِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ تُعِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثَالِثَةً فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ تبتدي بالظهر فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَلْزَمُهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَإِنْ قَدَّمَتِ الْعَصْرَ الثَّانِيَةَ عَلَى الظُّهْرِ الثَّالِثَةِ كَانَ غُسْلُ الْعَصْرِ لَهُمَا وَتَوَضَّأَتْ لِلظُّهْرِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَإِنْ قَدَّمَتْ ثَالِثَةَ الظُّهْرِ عَلَى ثَانِيَةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْغُسْلَ لَهُمَا وَتَوَضَّأَتْ لِلْعَصْرِ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ بِالْغُسْلِ صَلَاةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ عِشَاءِ الْآخِرَةِ صَلَّتْهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ أَعَادَتْهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا وَأَعَادَتْ مَعَهَا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِغُسْلِهَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، لِجَوَازِ أَنْ تَبْتَدِئَ بالطهر في آخر وقت عشاء الآخر فيلزمها صلاة المغرب وعشاء الآخر، وتتوضأ للآخرة منهما، فإذا طلع الفجر صلت الصبح فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا، ثُمَّ أَعَادَتْ فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ طُهْرِهَا فَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلظُّهْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهِيَ أَغْلَظُ صَلَاتِهَا حكماً عليها مرة في آخر وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ، وَثَالِثَةً فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْغُسْلِ الْوَاحِدِ لَهَا فِي الْعَصْرِ، وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلْعَصْرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلْمَغْرِبِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالْغُسْلِ لَهَا، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِعِشَاءِ الْآخِرَةِ، مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً بِالْغُسْلِ ثُمَّ كَذَلِكَ الصُّبْحُ فَتَصِيرُ مُؤَدِّيَةً لِفَرْضِ الْخَمْسِ يَقِينًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصِّيَامُ فَإِذَا أَهَّلَ شَهْرُ رَمَضَانَ صَامَتْ جَمِيعَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا صَامَتْهُ اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِصِيَامِ نِصْفِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَعَادَتْ صوم خمسة عشرة يَوْمًا فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ فِي نِصْفِ شَهْرِهَا حَائِضًا وَفِي نِصْفِهِ طَاهِرًا فَكَذَلِكَ اعْتَدَّتْ مِنْ فَرْضِهَا بِصَوْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ طُهْرِهَا فِيهِ، وإعادة صَوْمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ حَيْضِهَا فِيهِ وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهَا مَا تَعْتَدُّ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَطِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ، وَلَا يَكُونُ جَهْلُهَا بِتَعْيِينِهِ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الِاحْتِسَابِ بِهِ، فَهَذَا مَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا مِنِ احْتِسَابِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْهُ. قُلْتُ أَنَا: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ لَهَا حَالَيْنِ حَالٌ يُعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ كَانَ يَبْتَدِئُ بِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الِاحْتِسَابِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الْكَامِلِ لما ذكره مِنَ التَّعْلِيلِ، وَحَالٌ يُجْهَلُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يبتدئ فيه حيضها ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 يعلم هَلْ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ فَهَذِهِ لَا تُحْتَسَبُ مِنْ صَوْمِ شَهْرِهَا الْكَامِلِ إِلَّا بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا الْحَيْضُ فِي تَضَاعِيفِ الْيَوْمِ مِنْ نِصْفِهِ، وَيَسْتَدِيمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ آخِرُهُ نِصْفُ السَّادِسَ عَشَرَ فَيَبْطُلُ صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَصَوْمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَعْدَهُ كَامِلَةً، وَصَوْمُ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ بَاطِلٌ؛ لِوُرُودِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ مَا سِوَاهُ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِنْ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا؛ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَإِذَا صَامَتْ شَهْرًا لِلْقَضَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا احْتُسِبَ مِنْهُ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا قَضَاءُ يَوْمَيْنِ فَتَقْضِيهِمَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا احْتَسَبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا قَضَاءُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا صِيَامُ الْأَيَّامِ الْمُفْرَدَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا صَامَتْ يَوْمًا وَاحِدًا وَأَمْسَكَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَتْ يَوْمًا ثَانِيًا، لِيَكُونَ أَحَدُ الْيَوْمَيْنِ مُصَادِفٌ الطُّهْرَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَائِضًا، فَأَسْوَأُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَكُونَ ذلك اليوم أول حيضها، وتستديم خمسة عشرة يَوْمًا فَيَكُونُ الْيَوْمُ الْآخِرُ الَّذِي صَامَتْهُ بَعْدَ إمساك أربعة عشر يوماً طهر بِيَقِينٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ طَاهِرًا فَقَدْ أَجْزَأَهَا صَوْمُهُ، وَلَا يَضُرُّهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَإِنْ صَادَفَ حَيْضًا قَالُوا: فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْهُمَا ثُمَّ أَمْسَكَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ عَدَدٌ يُكْمِلُ مَعَ أَيَّامِ الصَّوْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَصُومُ بَعْدَ ذلك يومين آخرين ليكون أحد الطوافين عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمِنَ التَّعْلِيلِ مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَمْسَكَتْ عَنِ الصِّيَامِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا ثم صامت ثلاثة أيام بعدها فيكون أحد الطوافين مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا، وَأَمْسَكَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا، وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهَكَذَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ تُصُومُهَا وَتُمْسِكُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَيَّامِ مَا يَسْتَكْمِلُ مَعَهَا تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تُعِيدُ صِيَامَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا، وإنما يصح ممن علمت أن حَيْضِهَا بَعْدَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهَا فِي الْقَضَاءِ مَا وَصَفُوهُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا صَامَتْ لِقَضَاءِ يَوْمٍ يكون ابتداء حَيْضَهَا يَبْتَدِئُ بِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَعْلَمْ ذَاكَ مِنْ حَالِهَا وَجَوَّزَتْ أَنْ يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا مِنْ نِصْفِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَامَتْهُ، وَآخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ الَّذِي صَامَتْهُ تَكْمِلَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ فَلَا يُجْزِئُهَا صَوْمُ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ مَوْجُودًا فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَجْهُ الَّذِي يَسْلَمُ بِهِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَيُؤَدِّي فَرْضَ صَوْمِهَا بِيَقِينٍ أَنْ تَزِيدَ فِي صَوْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الْعَدَدِ الَّذِي يَزِيدُ قَضَاؤُهُ مِنَ الْأَيَّامِ صَوْمَ يوم واحد زائداً على ذلك العدد لتجرية مَا وَصَفْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ صَامَتْ يَوْمَيْنِ، وَأَمْسَكَتْ ثَلَاثَةَ عشر يوماً، ثُمَّ صَامَتْ يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَيَصِحُّ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ وَاحِدٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَيْضُهَا فِي نِصْفِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، كَانَ آخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْآخَرِ أَجْزَأَهَا صَوْمُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِمُصَادَفَتِهِ طُهْرًا أَوْ إِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، كَانَ آخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الثَّانِي، فَسَلِمَ لَهَا نِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِمُصَادَفَتِهِ طُهْرًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْآخَرِ فَأَجْزَأَهَا الْيَوْمَانِ بَعْدَهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ فَأَجْزَأَهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الأول، لتقدمه على الحيض وصوم الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ؛ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْحَيْضِ وَصَوْمُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نصف اليوم الثالث مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ، فَأَجْزَأَهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَأَمْسَكَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، لِيَسْلَمَ لَهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي صَوْمِ مَا زَادَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ بِأَنْ تَصُومَهُ مَعَ يَوْمٍ زَائِدٍ ثُمَّ تُمْسِكُ تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تُعِيدُ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مَعَ الْيَوْمِ الزَّائِدِ فَيَسْلَمُ لَهَا صَوْمُ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الطَّوَافُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَأَرَادَتْ فَعَلَيْهَا أَنْ تَطُوفَ ثُمَّ تُمْسِكَ تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَعَ أَوَّلِ سَاعَةٍ بَدَأَتْ فِيهَا بِالطَّوَافِ ثُمَّ تَطُوفُ عُقَيْبَ ذَلِكَ طَوَافًا ثَانِيًا فَيَصِحُّ لَهَا أَحَدُ الطَّوَافَيْنِ مِثَالٌ: أَنْ تَكُونَ قَدْ بَدَأَتْ بِالطَّوَافِ مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَتُمْسِكُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسِ عَشَرَ ثُمَّ تَطُوفُ ثَانِيَةً عُقَيْبَ الزَّوَالِ سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا يَبْتَدِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِخِلَافِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِهِ لَا يَصِحُّ، وَالطَّوَافُ فِي يَوْمٍ قَدْ كَانَتْ حَائِضًا فِي بَعْضِهِ يَصِحُّ، فَإِذَا فَعَلَتْ مَا وَصَفْنَا كَانَ أَحَدُ الطَّوَافَيْنِ مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا كَانَ الثَّانِي فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا وَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الْأَوَّلُ فِي وَسَطِ الْحَيْضِ كَانَ الثَّانِي فِي وَسَطِ الطُّهْرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الطُّهْرِ فهو المجزئ، ولا تضر مُصَادَفَةُ الثَّانِي لِلْحَيْضِ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَتْ طَوَافًا غَيْرَ وَاجِبٍ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبْتَدِئَ بِهِ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْإِشْكَالِ، كَمَا لَا يجوز أن تتطوع بالصلاة وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا لَهُ سَبَبٌ رَاتِبٌ فَعَلَى ضربين: أحدهما: أن يلزمه فِي تَرْكِهِ جُبْرَانُ دَمٍ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَلَهَا أَنْ تَطُوفَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا تُمْنَعَ مِنْهُ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهَا من دم الجبران. والضرب الثاني: أن يَلْزَمَ فِي تَرْكِهِ دَمٌ، كَطَوَافِ الْقُدُومِ فَهَلْ تُمْنَعُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمَسْنُونَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمُوَظَّفَاتِ هَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ حَتَّى خَرَجَ بِنَاءُ الِاسْتِيفَاءِ إِلَى الإطالة التي أنالها كاره لكن ما اقتضت إِبَانَةُ الْمَشْرُوحِ كَانَ إِغْفَالُهُ تَقْصِيرًا وَتَرْكُهُ عَجْزًا. (فَصْلٌ) : فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ وَهِيَ النَّاسِيَةُ لِقَدْرِ حَيْضِهَا الذَّاكِرَةُ لِوَقْتِهِ، وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ أَعْلَمُ أَنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً لَكِنِّي نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا فَلَا أَعْلَمُ أَيَوْمٌ هِيَ أَمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فهذه في حكم المبتدأة في أن يحيض في أو كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَفِي قَدْرِ مَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُبْتَدَأَةِ: أَحَدُهَا: تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْحَيْضِ يوم وليلة. والثاني: ترد إلى وسطه ست أو سبع، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا تَجَاوَزَهَا مُخْتَصٌ بِالْإِشْكَالِ دُونَ مَا حَلَّ فِيهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْنَةَ " تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَادَتُهَا مُعْتَبَرَةً عِنْدَ وُجُودِهَا اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ عَادَةُ غَيْرِهَا مُعْتَبَرَةً عِنْدَ عَدَمِهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِفَرْضِ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا اعْتِبَارُ الْيَقِينِ، وَذَلِكَ أَقَلُّ الْحَيْضِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَكْثَرِهِ فَخَارِجٌ عَنِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِفَرْضِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْمُبْتَدَأَةِ مِنْ أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَمَا بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: طُهْرٌ بقين. وَالثَّانِي: مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَمْتَنِعُ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا، فيِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِقُرْبِ زَمَانِهِ، وَهَلْ يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ مِنَ الْمَسْنُونَاتِ مَعَهَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَلَوْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ثلاثة أيام حيض وشك فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، فَهَذِهِ أَيْضًا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قولين إن اعْتَبَرْنَا الْيَقِينَ في رد هذه إلى ثلاثة أيام وإن اعتبرنا الغالب تلك رددناها إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ أَتَيَقَّنُ خَمْسًا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تُرَدُّ إِلَى خَمْسٍ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ، وَالثَّانِي تُرَدُّ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَتْ أَتَيَقَّنُ سَبْعًا مِنْ أَوَّلِهِ، وَأَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ رُدَّتْ إِلَى السَّبْعِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا أَهَلَّ عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَحَالُهَا مَا وَصَفْنَا تَرَكَتْ مِنْ أَوَّلِهِ صِيَامَ الْقَدْرِ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمِنَ الثَّانِي سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَصَامَتْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَاحْتَسَبَتْ مِنْهُ بِمَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ النِّصْفُ الثَّانِي مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَهَلْ تُحْتَسَبُ بِمَا بَيْنَ الْقَدْرِ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَهِيَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، احْتَسَبَتْ وَأَعَادَتْ صِيَامَ الْأَيَّامِ الَّتِي رُدَّتْ إِلَيْهَا لَا غَيْرَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، أَعَادَتْ صِيَامَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كُلِّهَا، وَهُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَضَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ وَأَجْزَأَهَا؛ لِأَنَّهَا فِيهِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّ لِي مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَهِيَ إِمَّا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا، وَفِي أَيِّ الزَّمَانَيْنِ هِيَ مِنَ الشَّهْرِ، فَهَذِهِ لَهَا طُهْرٌ، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ لِأَنَّكَ تُنْزِلُهَا تَنْزِيلَيْنِ، فَتَجْعَلُ فِي أَحَدِ التَّنْزِيلَيْنِ حَيْضَهَا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَتَحِيضُهَا مِنْ أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَسِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَتُصَلِّي هَذَا الْقَدْرَ بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ تَقَضِّيهِ وَهِيَ فِيمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ طَاهِرٌ إِمَّا طُهْرٌ بِيَقِينٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ طُهْرُ شَكٍّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَهَذَا أَحَدُ التَّنْزِيلَيْنِ. وَالتَّنْزِيلُ الثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ حَيْضَهَا أَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ فَتَحِيضُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ وَحْدَهُ وَسِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وهي من السادس عشر إلى الثالث وَالْعِشْرِينَ، فَتُصَلِّي فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ ليس بحيض متيقين لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا مَضَى هَذَا الْقَدْرُ اغْتَسَلَتْ فِي آخِرِهِ وهي بعده إلى آخر الشهر طاهراً ما طُهْرٌ بِيَقِينٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ طُهْرُ شَكٍّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. (فَرْعٌ) : وَلَوْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً لَا أَعْلَمُ قَدْرَهَا وَلَا مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّهْرِ هل هي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ وَلَا طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَحُكْمُهَا أَنْ تُصَلِّيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ قدر ما ترد إليه فذلك يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَسِتٌّ أَوْ سَبْعٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ثُمَّ تَغْتَسِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَالْكَلَامُ مِمَّا تَحْتَسِبُ بِهِ مِنْ صِيَامِ شَهْرِهَا عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ لِقَدْرِ حَيْضِهَا الذاكرة لوقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 (فَصْلٌ) : فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ، وَهِيَ النَّاسِيَةُ لِوَقْتِ حَيْضِهَا الذَّاكِرَةُ لِقَدْرِهِ، وَإِذَا قالت المرأة أعلم أن حيضي عَشَرَةُ أَيَّامٍ أَنَا نَاسِيَةٌ لِزَمَانِهِ، فَهَذِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْسَى شُهُورَهَا وَمَوْقِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا، مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حِيضَتِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أو في وسطه أو آخره؟ فهذا فِي حُكْمِ النَّاسِيَةِ لِلْأَمْرَيْنِ الْمُسَمَّاةُ الْمُتَحَيِّرَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحِيضُ بِالصِّيَامِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا صَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ احْتُسِبَ بِهِ إِلَّا قَدْرَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّتِي عَلِمَتْهَا، وَهِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ تَقْضِيهَا فِي عِشْرِينَ يَوْمًا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ قَضَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ يَوْمٌ مِنَ الْعَشَرَةِ مُبَعَّضًا مِنْ يَوْمَيْنِ فَيَبْطُلُ بِالْعَشَرَةِ صِيَامُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَقْضِيهَا فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا هِيَ ضِعْفُهَا، وَزِيَادَةُ يوماً لِجُبْرَانِ التَّبْعِيضِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ صَامَتْ يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ إِنْ عَلِمَتْ تَقَدُّمَ حَيْضِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ صَامَتْ يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِيَكُونَ الْيَوْمُ الزَّائِدُ فِي الْإِمْسَاكِ جُبْرَانًا لِلتَّبْعِيضِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْ يَوْمَيْنِ، وَأَمْسَكَتْ تسعة أيام وصامت آخَرِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا وَأَمْسَكَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أيام أخر والطريق إلى معرفة ذلك أنك تَزِيدُ عَلَى أَيَّامِ حَيْضِهَا يَوْمًا لِجُبْرَانِ التَّبْعِيضِ، وَتَصُومُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَيَّامِ ثُمَّ تُسْقِطُهَا مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا مَعَ الْيَوْمِ الزَّائِدِ، وَتَنْظُرُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُ فَيَكُونُ هُوَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي تُمْسِكُهَا، ثُمَّ تُعِيدُ صِيَامَ تِلْكَ الْأَيَّامِ بَعْدَهَا وَتَكُونُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لِأَنَّ حَيْضَ هَذِهِ أَقَلُّ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا مُخَالَفَتُهَا فِي الْحُكْمِ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَذْكُرَ شُهُورَهَا، وَتَنْسَى مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لِمَوْضِعِ الْحَيْضِ مِنْهَا فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ بَعْدَ تَقَضِّي الْعَشَرَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ؛ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ وَقْتَ غُسْلِهَا مِنَ الْيَوْمِ، فَتَغْتَسِلُ فِي مَثْلِهِ، مِنْ كُلِّ يَوْمٍ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِيمَا زَادَ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا، أَوْ نَقَصَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْسَى شُهُورَهَا وَتَذْكُرَ مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَنَا نَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شُهُورٍ، فَهَذِهِ تَغْتَسِلُ عِنْدَ تَقَضِّي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَتَتَوَضَّأُ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشَّهْرِ وَتَحْتَسِبُ بِالشَّهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 مِنْ صَوْمِهَا إِلَّا قَدْرَ الْعَشَرَةِ الَّتِي بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، وَتَقْضِيهَا فِيمَا بَعْدَ الْعَشْرِ، وَيُجْزِئُهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا بَعْدَ تقضي العشر، فلا يَلْزَمُهَا إِلَّا غُسْلٌ وَاحِدٌ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَذْكُرَ شُهُورَهَا، وَأَنَّ الْحَيْضَ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِ أَعْشَارِ الشَّهْرِ، وَتَنْسَى يَقِينَ ذَلِكَ الْعَشْرِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي فِي كُلِّ شَهْرٍ أَحَدُ أَعْشَارِهِ بِكَمَالِهِ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ أَيَّ الأعشار هي، إِمَّا الْأَوَّلَ بِكَمَالِهِ أَوِ الثَّانِيَ بِكَمَالِهِ أَوِ الثَّالِثَ بِكَمَالِهِ، فَهَذِهِ تُصَلِّي الْعَشْرَ الْأَوَّلَ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ، وَتُصَلِّي الْعَشْرَ الثَّالِثَ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّ تَقَضِّيَ حَيْضِهَا مُجَوَّزٌ فِي آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ فَلَزِمَهَا ثَلَاثَةُ اغْتِسَالَاتٍ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي أَحَدُ أَخْمَاسِ الشَّهْرِ بِكَمَالِهِ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهُ، لَزِمَهَا سِتَّةُ اغْتِسَالَاتٍ، الْغُسْلُ الْأَوَّلُ فِي آخِرِ الْخَامِسِ وَالْغُسْلُ الثَّانِي فِي آخِرِ الْعَاشِرِ، وَالْغُسْلُ الثَّالِثُ فِي آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَالْغُسْلُ الرَّابِعُ فِي آخِرِ الْعِشْرِينَ، وَالْغُسْلُ الْخَامِسُ فِي آخِرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَالْغُسْلُ السَّادِسُ فِي الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ الْجَوَابُ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَذْكُرَ حَيْضَهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ وتنسى حالها فيما سواه. ومثاله: أن تقول أعلم أن حيضي عشرة أيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهَا لَكِنِّي أَذْكُرُ أَنَّنِي كُنْتُ حَائِضًا فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ فَالْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ حَالُ هَذِهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا أَنْ يُجْعَلَ الْعَاشِرَ تَارَةً فِي آخِرِ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرَ أَيْنَ أَوَّلُهُ تَارَةً أَوَّلَ حَيْضِهَا وَتَنْظُرَ أَيْنَ آخِرُهُ، وَتَجْعَلَ مَا قَبْلَ أَوَّلِهِ طُهْرًا وَمَا بَعْدَ آخِرِهِ طُهْرًا، وَمَا بَيْنَهُمَا شَكٌّ لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ يَوْمَ الْحَيْضِ تُصَلِّيهِ بِالْوُضُوءِ، وَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُ تُصَلِّيهِ بِالْغُسْلِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي شَكٍّ إِلَى آخِرِ التَّاسِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاشِرُ آخِرَ حَيْضِهَا، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْعَاشِرِ، لِيَقِينِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي شَكٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاشِرُ أَوَّلَ حَيْضِهَا لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ صَلَاةً لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ هِيَ فِي آخِرِ شَهْرِهَا طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي يَوْمِ الْعِشْرِينَ حَائِضًا فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى العاشر منه طاهراً لِقُصُورِ الْحَيْضِ عَنْ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْعِشْرِينَ لِيَقِينِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ انْتِهَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ إِنْ كَانَ يَوْمُ الْعِشْرِينَ أَوَّلَهُ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ فِي يَوْمِ الثَّلَاثِينَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَلَوْ قَالَتْ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ حَائِضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى الْخَامِسِ مِنْهُ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ لِقُصُورِ الْحَيْضِ عَنِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَمِنَ السَّادِسِ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَتُصَلِّي بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ لِيَقِينِ حَيْضِهَا، وَهِيَ مِنَ السَّادِسِ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ انْتِهَاءِ الْحَيْضِ إِلَيْهِ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ فِيهِ، وَهِيَ مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ حَائِضًا فَهَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الرَّابِعِ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَهِيَ مِنَ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا تنفك في التنزيلين معاً عن أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا، وَهِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ هِيَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ حَائِضًا بِيَقِينٍ، فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْهُ، وَمِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَهِيَ مِنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مَعًا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ثُمَّ هِيَ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ، لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ، فَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ في الثاني عشر والسدس عَشَرَ حَائِضًا فَهَذِهِ تَنْزِيلُهَا عَلَى حَالَيْنِ فَيُجْعَلُ فِي إِحْدَى الْحَالَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ أَوَّلَ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى الثَّامِنَ عَشَرَ آخِرُ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ يَبْتَدِئُ ثُمَّ يُجْعَلُ مَا قَبْلَ الِابْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ طُهْرًا وَمَا قَبْلَ الْأَوَّلِ شَكًّا بِالْوُضُوءِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي حَيْضًا، وَمَا بَعْدَ الثَّانِي إِلَى الِانْتِهَاءِ شَكًّا بِالْغُسْلِ فَعَلَى هَذَا هِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الثَّامِنِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ وَهِيَ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى آخِرِ الْحَادِي عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الثَّامِنَ عَشَرَ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ، وَمِنَ التَّاسِعِ عَشَرَ إِلَى الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَمِنَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ. (فَصْلٌ) : القسم السَّادِسُ: أَنْ تَذْكُرَ طُهْرَهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ. مِثَالُهُ: أَنْ تقول أعلم أن حيضي عشرة أيام من كُلِّ شَهْرٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهَا، لَكِنِّي كُنْتُ فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ طَاهِرًا. فَالْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ، أَنْ نَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ آخِرُ طَرَفَيِ الطُّهْرِ يَقْصُرُ عَنْ عَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ جَمِيعُهُ طُهْرًا، وَنَزَّلَتْ حَيْضَهَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ تَنْزِيلَيْنِ، وَاعْتَبَرَتْ حُكْمَهُ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَتَّسِعُ لِعَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ نَزَّلَتْ كُلَّ طَرَفٍ تَنْزِيلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا طَاهِرٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْعَاشِرِ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ عَشْرِ الْحَيْضِ، فَكَانَ طُهْرًا ثُمَّ هِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ فَلَوْ قَالَتْ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ طَاهِرًا كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ طَاهِرٌ فِيمَا تَيَقَّنَتْهُ مِنَ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّسِعُ هَذَا الْعَدَدُ أَيَّامَ الْحَيْضِ الْعَشَرَةَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرًا فَهَذِهِ تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعَ عَشَرَ بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِيمَا تَيَقَّنَتْهُ مِنَ الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ، وَمِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي شَكٍّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الثَّامِنِ وَالثَّانِي عَشَرَ طَاهِرًا، فَهَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الثَّانِي عَشَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الثَّامِنِ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ الْحَيْضِ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَهِيَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَالثَّانِي وَالْعِشْرِينَ حَائِضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَهِيَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ حَائِضًا، وَفِي يَوْمٍ مِنْهُ طَاهِرًا وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ. مِثَالُهُ: أَنْ تقول كان حيضي من الشهر عشرة أيام لا أعرفها لَكِنِّي كُنْتُ فِي الثَّامِنِ حَائِضًا، وَفِي الثَّامِنَ عَشَرَ طَاهِرًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّامِنَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ، فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَتَكُونُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَهِيَ فِي الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ حَائِضٌ بِيَقِينٍ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ فِي الثَّامِنِ طَاهِرًا، وَفِي الثَّامِنَ عَشَرَ حَائِضًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الثَّامِنِ طُهْرٌ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ غَيْرَ الْيَوْمِ الَّذِي عَرَفَتْهُ، فَتَكُونُ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ الَّذِي تَيَقَّنَتْ حَيْضَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فِيهِ، وَهِيَ مِنَ التَّاسِعَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِيمَا بَعْدَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ، وَكُنْتُ فِي الرَّابِعِ حَائِضًا، وَفِي السَّابِعِ طَاهِرًا تَحِيضُ هَذِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ سِتَّةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا فِي السَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ طَاهِرٌ فَيَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْحَيْضِ الْيَقِينِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَمِنَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ يَوْمَانِ أَوَّلٌ بِالْوُضُوءِ، وَسَادِسٌ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ كَانَ آخِرُهُ الْخَامِسَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّانِي آخِرُهُ السَّادِسَ فَكَانَتْ مِنَ الثَّانِي إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ حَائِضًا بِيَقِينٍ، وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَالسَّادِسُ مَشْكُوكٌ فِيهِ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ فِي الثَّالِثِ طَاهِرًا، وَفِي الثَّامِنِ حَائِضًا فَهَذِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ، طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَفِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَفِي السَّادِسِ وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ حَائِضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الثَّامِنَ الَّذِي عَلِمَتْ حَيْضَهَا فِيهِ آخِرُهُ فَأَوَّلُهُ الرَّابِعُ، وَإِنْ كَانَ الْعَاشِرُ آخر فَأَوَّلُهُ السَّادِسُ، ثُمَّ هِيَ مِنَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ فِي شَكٍّ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ فَيَكُونُ الْيَقِينُ مِنْ طُهْرِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْيَقِينُ مِنْ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالشَّكُّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا فِي يَوْمٍ مِنْ يَوْمَيْنِ لَا تَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ. مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّنِي كُنْتُ إِمَّا فِي الْخَامِسِ مِنْهُ حَائِضًا أَوْ مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فَهَذِهِ يَحْصُلُ حَيْضُهَا تَارَةً فِي الْخَامِسِ، وَتُنَزَّلُ تَنْزِيلَيْنِ، وَتَارَةً مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، فَتُنَزَّلُ تَنْزِيلَيْنِ فَتَصِيرُ مُنَزَّلَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ فِي شَكٍّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا الْخَامِسَ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي التَّنْزِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَلَا تَبْتَدِئُ مِنْهُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، ثُمَّ هِيَ مِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي شَكٍّ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ آخِرَ حَيْضِهَا، وَمِنَ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي شَكٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الشَّهْرِ آخِرَ حَيْضِهَا، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ فِيهِ يَجُوزُ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ حَائِضًا إِمَّا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ أَوْ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ فَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمُقَدَّرِ تَكُونُ فِي شَكٍّ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْهُ فَإِنَّهَا طَاهِرٌ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ التَّاسِعَ عَشَرَ بِالْغُسْلِ، وَمِنَ الْعِشْرِينَ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرًا فِي وَاحِدٍ مِنْ يَوْمَيْنِ لَا تَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَتَنْسَى حَالَهَا فيما سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 مثاله: أن تقول أعلم أن حيضي عشرة أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَّنِي كُنْتُ إِمَّا فِي الْخَامِسِ مِنْهُ طَاهِرًا، أَوْ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، فَهَذِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَهَا حُكْمًا، وَلَمْ تَزِدْ بَيَانًا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ لَا أَعْرِفُهَا، فَتُصَلِّي عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ بَعْدَهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنْ لا تذكر حيضاً ولا طهراً وتتيقن أيام حَيْضِهَا حُكْمًا؛ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ الْحَيْضُ فِيهَا، فَإِنْ زَادَ الْحَيْضُ عَلَى النِّصْفِ يَوْمًا تَيَقَّنَتْ حَيْضَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ كُلَّمَا زاد يوم زاد يقين حيضها يومان. مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ لَا أَعْرِفُهَا فَهَذِهِ لَهَا تنزيلان: أحدهما: أن يجعل أَوَّلَ حَيْضِهَا أَوَّلَ الْعَشْرِ فَيَكُونُ آخِرُهَا السَّادِسَ. والتنزيل الثاني: أن يجعل آخِرَ حَيْضِهَا آخِرَ الْعَشْرِ فَيَكُونُ أَوَّلُهُ الْخَامِسَ، فيعلم أَنَّ الْخَامِسَ وَالسَّادِسَ حَيْضٌ يَقِينًا وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي في سبع مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنَ الرَّابِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَشْرِ آخِرُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْعَشْرِ أَوَّلَهُ وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّالِثِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَشْرِ آخِرَهُ إِلَى الثَّامِنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْعَشْرِ أَوَّلَهُ، وَلَهَا يَوْمَانِ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي تِسْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حيضها ستة أيام من الثالث يَوْمُ شَكٍّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنْ آخِرِهِ يَوْمُ شَكٍّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ حَيْضِهَا لَا تَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَتْ حَيْضِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ لَا أَعْرِفُهَا كَانَ لَهَا يَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ الْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ، وَمَا قَبْلَ الْعَاشِرِ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنْ بَعْدِ الْحَادِي عَشَرَ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. فَلَوْ قَالَتْ: كان حَيْضِي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى الثَّانِي عَشَرَ، وَمَا قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَكَذَا حُكْمُ الْأَيَّامِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ، فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 يقين حيضها ستة أيام من الثاني إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ وَسَبْعَةٌ مِنْ قَبْلِهَا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَسَبْعَةٌ بَعْدَهَا شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّابِعِ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ، وَقَبْلَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ. فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّادِسِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ بِالْغُسْلِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُؤَدِّيكَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَأَيَّامِ شَكِّهَا أَنْ تُلْغِيَ عَدَدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ، وَتَنْظُرَ الْبَاقِيَ مِنْهَا فَتُلْقِيهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا هُوَ الْحَيْضُ الْيَقِينُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ هِيَ عَدَدُ الشَّكِّ فِي الطَّرَفَيْنِ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَتْ حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَلْقَيْتَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَحَدِ وَالْعِشْرِينَ، فَيَكُونُ الْبَاقِي ستة أيام فتلقي السِّتَّةَ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ فَتَكُونُ التِّسْعَةُ هِيَ الْحَيْضُ الْيَقِينُ وَالسِّتَّةُ هِيَ شَكٌّ قَبْلَهَا، وَشَكٌّ بَعْدَهَا فَيَكُونُ أَوَّلُ التِّسْعَةِ مِنَ السَّابِعِ، وَآخِرُهَا الْخَامِسَ عَشَرَ. فلو قالت: حيضي خمسة عشر يوما من اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّامِنِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ، وَقَبْلَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ، وَبَعْدَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ، فَيَصِيرُ كُلَّمَا زَادَ عَدَدُ الْأَيَّامِ نَقَصَ مِنْ يَقِينِ حَيْضِهَا يَوْمٌ. فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنَ الْعَاشِرِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيامٍ مِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا إِحْدَى عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بالغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ولو قالت: حيضي خمسة عشرة يَوْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمًا وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ وقبله أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ. وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ما لَمْ يَكُنْ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ لِأَنَّ أَيَّامَ الحيض لا يزيد عَلَى النِّصْفِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِيَاسُ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. فَهَذَا آخِرُ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ، وَهُوَ آخِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ يَتَعَقَّبُ ذَلِكَ فُصُولٌ أَرْبَعٌ هِيَ تَابِعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْتَحَاضَةِ: أَحَدُهَا: فِي التَّلْفِيقِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ التَّمْيِيزِ. وَالثَّانِي: فِي الِانْتِقَالِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْعَادَةِ. وَالثَّالِثُ: فِي الْخَلْطَةِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ النَّاسِيَةِ. وَالرَّابِعُ: فِي الْغَفْلَةِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِذَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي التَّلْفِيقِ) وَصُورَتُهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا ويوماً نقاً، ويوماً دماً ويوماً نقاً، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا، فَالَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وبين محمد بن الحسن ما اقتضى أَنْ تَكُونَ أَيَّامُ الدَّمِ حَيْضًا، وَأَيَّامُ النَّقَاءِ طُهْرًا فَخَرَّجَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَقَلَّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً فلا يجوز. وَالثَّانِي: أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ بأن يجري الدم زماناً ويرقأ زَمَانًا، وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جَرَيَانُهُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ إِمْسَاكِهِ حَيْضًا؛ لِكَوْنِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ كَانَ زَمَانُ النَّقَاءِ حَيْضًا لِحُصُولِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّهَا حَيْضًا، يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ حَيْضٌ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّمُ دَالًّا عَلَى الْحَيْضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ الْأَعْلَى الطُّهْرَ. وَالثَّانِي: لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ النَّقَاءُ حَيْضًا لما تعقبه من الحيض لجاز أَنْ يُجْعَلَ الْحَيْضُ طُهْرًا؛ لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الطُّهْرِ فَعَلَى هَذَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ فَتَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُهُ الْحَائِضُ، وَتُلَفِّقُ أَيَّامَ النَّقَاءِ فَتَكُونُ طُهْرًا تَسْتَبِيحُ مَا تَسْتَبِيحُهُ الطَّاهِرُ، وَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَفْرَادُ مِنْ أَيَّامِهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ وَالْحَادِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَزْوَاجُ مِنْ أَيَّامِهَا الثَّانِي وَالرَّابِعُ وَالسَّادِسُ وَالثَّامِنُ وَالْعَاشِرُ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ ثُمَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا عِنْدَ تَقَضِّي الدَّمِ الْأَوَّلِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا تَامًّا، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَمْسَكَتْ، فَإِذَا انْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهِ وَدُخُولِ الرَّابِعِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الطُّهْرُ ثُمَّ تَفْعَلُ هكذا في جميع الأيام النَّقَاءِ إِلَّا أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فَيَ أَيَّامِ النَّقَاءِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَيْضٌ، وَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا طُهْرٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا، وَيَوْمَيْنِ نَقَاءً، ولم تتجاوز خمسة عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرًا، فَإِنْ لَفَّقْنَا حَيْضَهَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ وَهِيَ تِسْعَةٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً، أَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَيَوْمًا نقاً فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْحَيْضِ والمناسك أن هذه غير مستحاضة حكمها كحكم التي انقطع دمها الخمسة عشر يوماً؛ لأنها من السَّادِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ طُهْرًا لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ على صفتها من أيام الحيض، وهذا حَالُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ تَكُونُ مُمَيِّزَةً، وَحَالٌ تَكُونُ مُعْتَادَةً، وَحَالٌ لَا يَكُونُ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا، فَإِنْ قَالَتْ: رَأَيْتُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا النَّقَاءُ دَمًا أَسْوَدَ، وَبَاقِيَ ذَلِكَ دَمًا أَصْفَرَ رُدَّتْ إلى الخمس، فإن لم نلفق كانت الخمس كُلُّهَا حَيْضًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الخمس فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزًا لِكَوْنِ دَمِهَا لَوْنًا وَاحِدًا وَكَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ، فَوَجَبَ رَدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسًا رُدَّتْ إِلَى الخمس، فإن لم نلفق كانت الخمس كُلُّهَا حَيْضًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أحدهما: من أيام العادة، وهي الخمس وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لِأَنَّهَا أَخَصُّ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ. والقول الثاني: من أيام الحيض وهي الخمس عشرة لأنها أمس، فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةً مِنْ تِسْعَةٍ، وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرًا فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاشِرِ فِي طُهْرٍ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أيام العادة وهي العشر، فيكون حيضها خمسة أيام، تِسْعَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَهِيَ الخمس عشرة فيكون حيضها ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَفِّقُ مِنَ الْخَمْسَةَ عشر أكثر منها وتصير بمنزلة معتادة فحفظت عَادَتَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ إِلَى يِومٍ وَلَيْلَةٍ، وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ التَّلْفِيقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُرَدُّ إلى ست أو سبع فإن ردت إلى الست، ولم نلفق كان حيضها خمساً؛ لكونها في السادس طاهراً وإن لفقنا من الست كان حيضها ثلاثاً، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا ستاً من إحدى عشرة، ولو ردت إلى السبع، فإن لم نلفق كان حيضها سبعاً وإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ السَّبْعَةِ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا سبعاً من ثلاث عشرة. (فَصْلٌ) : وَإِذَا رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يوم نقاء ونصف يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يَوْمٍ نَقَاءً مُسْتَمِرًّا بِهَا هَكَذَا فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَتَجَاوَزَهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى يَسْتَدِيمَ فِي أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، وَمِنْ آخِرِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْصَافِ الأيام حيضاً فيكون تَبَعًا لِحَيْضٍ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنِ استدام في أوله يوماً وليلة كَانَ مَا تَعَقَّبَهُ مِنْ أَنْصَافِ الْأَيَّامِ حَيْضًا، وَلَا تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي آخِرِهِ، لِأَنَّ آخِرَ الْيَوْمِ تَبَعٌ لِأَوَّلِهِ، وَمَا لَمْ يَسْتَدِمْ فِي الْأَوَّلِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ مَتَى تُلُفِّقَ مِنَ الْجُمْلَةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَصَاعِدًا، دَمًا كَانَ حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَيَسْتَدِيمُ، لِأَنَّهَا أَيَّامُ حَيْضٍ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وُجِدَ فِيهَا مِنَ الدَّمِ قَدْرَ الْحَيْضِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ نُلَفِّقْ فَحَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَتْ ثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا وَبَاقِيَهُ نَقَاءً حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَثُلُثًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ. والحال الثانية: أن يتجاوز الدم أَنْصَافِ الْأَيَّامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ قَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فَيَ حَيْضِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى تَمْيِيزِهَا إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً، فَإِذَا مَيَّزَتْ أَنْصَافَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيهِ دَمًا أَصْفَرَ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الْخَمْسِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا إِنْ كانت معتادة فإن كانت عادتها عشراً ردت إلى العشر، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا مِنْ عَشْرِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، أَنْصَافُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا فِي حُكْمِ النَّاقِصَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةَ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أحدهما: إلى يوم وليلة أقل الحيض، وإن لَمْ نُلَفِّقْ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا حَيْضَ لِهَذِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَرَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كُلِّهِ دَمًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ الدَّمَ فِي جَمِيعِهِ، لِأَنَّ النَّقَاءَ عَلَى هَذَا فِي حُكْمِ الدَّمِ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَلَا حَيْضَ لِهَذِهِ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَلَفَّقُ من اليوم والليلة حيض، فإن قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أو سبعة أيام فإذا ردت إلى السبع فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ السبع فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا. وَالثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَرْعٌ) : وَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، وَهُوَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قَوْلَيِ التَّلْفِيقِ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يومين والأول وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دماً وأربعة عشراً يَوْمًا طُهْرًا وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ نِصْفُ الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْأَخِيرِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا وليلة دماً، كان حيضها اليوم الأول، وكان اليوم الْأَخِيرُ دَمَ فَسَادٍ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا، كان حيضا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَكَانَ الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ فَسَادًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَفِّقَ مَا قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى مَا بَعْدَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يوماًطهراً، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، كَانَ حَيْضُهَا الْيَوْمَ الْأَخِيرَ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِفَقْدِ اللَّيْلَةِ يَقْصُرُ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طهراًَ، وَيَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا فَكِلَا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ دَمَ فَسَادٍ، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ أَنْ يُلَفِّقَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ. (فَرْعٌ) : وَإِذَا كانت عادتها من أول الشهر عشراً فَرَأَتْ فِي يَوْمَيْنِ دَمًا وَسِتَّةِ أَيَّامٍ طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَتِ الْعَشْرُ كُلُّهَا حَيْضًا، وَهِيَ عَلَى عَادَتِهَا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ الْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَالْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا نَاقِصَةً وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا وَلَوْ كانت عادتها خمسة مرات ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا، وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً، وَقَدْ زَادَتْ عَادَتُهَا وَلَمْ تُفَرِّقْ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا زَائِدَةً، وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا. (فَرْعٌ) : فَإِذَا رَأَتْ بَيْنَ أَثْنَاءِ النَّقَاءِ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَمًا، وَنِصْفَ الْخَامِسِ دَمًا وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ فَإِنْ كَانَ النِّصْفَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ يَنْقُصَانِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ لعدم الليلة مع اليوم والنقصان دَمُ فَسَادٍ. وَحَيْضُهَا يَوْمًا الدَّمَ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصَانِ يَبْلُغَانِ أَقَلَّ الْحَيْضِ لِوُجُودِ اللَّيْلَةِ مَعَهُمَا، فَقَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا وحيضها، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ لِمُجَاوَزَةِ الثَّانِي أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَالْوَاجِبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسًا رُدَّتْ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ، وَمَا رَأَتْهُ فِي الْخَامِسِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي فَحَيْضُهَا خمس لِلْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَلَا زِيَادَةَ وَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي، وَمَا رَأَتْهُ فِي الخامس في نصفه الأول كان حيضها أربعاً، وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ الْأَوَّلُ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي نِصْفِهِ الأول، كان حيضها أربعة أيام ونصف وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا نِصْفَ يَوْمٍ وَهَكَذَا لَوْ رأته بِالْعَكْسِ فَهَذَا إِذَا لَمْ نُلَفِّقُ فَأَمَّا إِذَا لفقنا، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ كَانَ حيضها يوماً هو نصف الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْخَامِسِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَهُمَا نِصْفَانِ مَعَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ دُونَ السَّادِسَ عَشَرَ، لِوُجُودِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَوُجُودِ السَّادِسَ عَشَرَ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عادتها في أقل من الخمس أَوْ أَكْثَرَ فَاعْتَبِرْهُ بِمَا وَصَفْنَا فَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَاهُ. (الْفَصْلُ الثَّانِي: الِانْتِقَالُ) وَالِانْتِقَالُ أَنْ تَرَى الْمُعْتَادَةُ حَيْضَهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ عَادَتِهَا، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ انْتِقَالٌ فِي الزَّمَانِ، وَانْتِقَالٌ فِي الْقَدْرِ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الزَّمَانِ فَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَقَدَّمُ فِيهِ الْحَيْضُ، وَضَرْبٌ يَتَأَخَّرُ فِيهِ الْحَيْضُ، فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُ فَصُورَتُهُ: أَنْ تَكُونَ عادتها أن الحيض عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِ الشَّهْرِ فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عَادَتِهَا وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِهِ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ عَادَتِهَا، وقد ربما يتأخر بَعْضِهِ دُونَ جَمِيعِهِ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ دُونَ جَمِيعِهِ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الْقَدْرِ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ، فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عادتها في الشهر خمساً فتحيض في شهرها عشراً وَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عادتها في الشهر عشراً فتحيض في شهرها خمساً، وَقَدْ تَجْمَعُ الْمُنْتَقِلَةُ بَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الزَّمَانِ، وَبَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الْقَدْرِ، وَقَدْ تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ كَمَا تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ، فَتَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، فَتَصِيرُ فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةٌ أَوْ تَكُونُ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرُ فِي شَهْرٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا، مِنْ حَالِ الِانْتِقَالِ، فَمَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْمُنْتَقِلَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِرَارًا بَطُلَ حُكْمُ الْعَادَةِ الأولى إلى ما انتقلت إليه من الأخرى، حتى إن استحيضت من بعد وجب ردها عند اعتبار العادة إِلَى مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ، دُونَ مَا انْتَقَلَتْ عَنْهُ فَأَمَّا انْتِقَالُهَا عَنِ الْعَادَةِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ ما تقدم من العادة في الزَّمَانِ، وَالْقَدْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ حُكْمَ الْعَادَةِ الْأُولَى لَا يَبْطُلُ بِانْتِقَالِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعُودَ ثَانِيَةً فَتَصِيرُ بِعَوْدِهَا عَادَةً يَبْطُلُ بِهَا سَالِفُ الْعَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَوَجَدْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ اخْتَارَهُ مِنْ كِتَابِ الْحَيْضِ لَهُ أَنَّ انْتِقَالَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَادَةِ، وَصَارَ مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ عَادَةً، قَالَ: لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ قَدْ ثَبَتَ لَهَا عَادَةٌ بِحَيْضِ مَرَّةٍ فَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْعَادَةِ. (فَرْعٌ) : وإذا كانت عادتها عشراً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَرَأَتْ قَبْلَ الشَّهْرِ خمساً وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فَقَدِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الزَّمَانِ بِأَنْ تَقَدَّمَتْ وَفِي الْقَدْرِ بِأَنْ نَقَصَتْ وَإِنْ تَجَاوَزَ الدَّمُ حتى بلغ خمساً فِي الشَّهْرِ، فَقَدِ انْتَقَلَتْ بَعْضُ أَيَّامِهَا دُونَ جَمِيعِهَا، وَلَمْ تَنْقُصْ فِي الْقَدْرِ إِنْ تَجَاوَزَهَا الدم حتى بلغ عشراً في الشهر فقد انتقلت عادتها بزيادة خمس فِي الْقَدْرِ تَقَدَّمَتْ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ زَمَانُ الْعَادَةِ فِي الْعَشْرِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا الدَّمُ حَتَّى تَمَيَّزَ الْعَشْرُ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ، فِي الْحَيْضِ لِمُجَاوَزَةِ دَمِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَوَجَبَ رَدُّهَا عِنْدَ عدم التمييز إلى عادتها، وهي العشر السالفة، وَفِي ابْتِدَاءِ الْعَشْرِ الَّذِي تُرَدُّ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ فِي مُنْتَهَى إشكالها فيكون حيضها خمساً قبل الشهر، وخمساً بَعْدَهُ، وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ، مِنَ الْقَدْرِ دُونَ الزَّمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ ابْتِدَاءَهَا مَنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ شَهْرُ عَادَتِهَا، فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِهِ، وَمَا تُقَدِّمُهُ وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِي الْقَدَرِ وَالزَّمَانِ مَعًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُنْتَقِلَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِهَا، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَكُونُ مُنْتَقِلَةً. (الْفَصْلُ الثَّالِثُ: الْخَلْطَةُ) وَإِذَا قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَعْلَمُ أَنِّي أخلط من أحد النصفين في الآخر بيوم وَاحِدٍ وَلَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي أَوْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ؟ فَهَذِهِ تُنَزَّلُ عَلَى حَالَيْنِ وَتَلْتَزِمُ الْأَغْلَظَ مِنْهُمَا وَالْأَحْوَطَ فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ لَهَا يَوْمَانِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَآخِرَهُ، وَيَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ حيضتها إن كانت فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَوَّلُهُ الثَّانِي وَآخِرُهُ السَّادِسَ عشرفكان الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا بِيَقِينٍ وَإِنْ كَانَ النصف الثاني فأوله الخامس عشر، وآخر التاسع والعشرين فَكَانَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا يَقِينًا، وَصَارَ فِي التَّنْزِيلِ مَعًا الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا يَقِينًا، ثُمَّ هِيَ مِنَ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا ثُمَّ هِيَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ إِلَى الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا، فَلَوْ قَالَتْ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ يَوْمَيْنِ كَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا يَوْمَانِ فِي أَوَّلِهِ وَيَوْمَانِ فِي آخِرِهِ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ فِي وَسَطِهِ مِنَ الرَّابِعَ عشر إلى السابع عشر تغتسل غُسْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالثَّانِي فِي آخِرِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ثَلَاثَةٌ فِي أَوَّلِهِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ آخِرِهِ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ بِيَقِينٍ فِي وَسَطِهِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ مِنَ الْخَلْطَةِ يَوْمٌ زَادَ فِي يَقِينِ الْحَيْضِ يَوْمَانِ فِي الْوَسَطِ، وَفِي يَقِينِ الطُّهْرِ يَوْمَانِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَلَوْ قالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 كنت أخلط من أحد النصفين في الآخر بِنِصْفِ يَوْمٍ كَانَ لَهَا نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَنِصْفُ يَوْمٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمٌ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ يَوْمَيْنِ نِصْفُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَنِصْفُ السَّادِسَ عَشَرَ فَلَوْ شَكَّتْ هَلْ كَانَتْ تَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ شَيْئًا أَمْ لَا؟ فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ، وَتُصَلِّي النصف الأول بالوضوء، والثاني بالغسل فلو ثبت أَنَّهَا كَانَتْ تَخْلِطُ بِيَوْمٍ وَشَكَّتْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَوَّلُ طُهْرًا، وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا، وَتُصَلِّي مَا قَبْلَهُمَا بِالْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهُمَا بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ، فَلِهَذِهِ جُزْآنِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَحَدُهُمَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَالثَّانِي مِنْ آخِرِهِ، وَجُزْآنِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ وَسَطِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي، لَكِنْ لَا تَدَعُ فِيهِمَا شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَالْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ، وَقَدْ أُشْكِلَ فَهَذِهِ لَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي تِسْعَةُ أَيَّامٍ وَأَخْلِطُهَا بِيَوْمٍ كَانَ لَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، ثُمَّ هَكَذَا كُلَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا يَوْمًا زَادَ فِي يَقِينِ طُهْرِهَا مِنْ كُلِّ طَرَفٍ يَوْمٌ، فلو كان حيضها خمساً مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، وَتَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ الْخَمْسَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَالْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَضَى. (فَرْعٌ) : فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لَا أَعْرِفُهَا وَطُهْرِي عِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةً، وَأَخْلِطُ مِنْهُمَا فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ، وَفِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ. (فَرْعٌ) : لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةُ أيام، أَعْرِفُهَا وَأَخْلِطُ مِنَ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ، لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ مِنْهُ بِالْغُسْلِ، ثُمَّ قِسْ عَلَى هَذَا مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْثَالِهِ (الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْغَفْلَةِ) وَالْغَافِلَةُ هِيَ الَّتِي تَعْلَمُ مِنْ حَالِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى يَقِينِ طُهْرِهَا، وَيَقِينِ حَيْضِهَا لَكِنْ قَدْ غَفَلَتْ جَهْلًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ حَيْضِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ لَا أَعْرِفُهَا وَأَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَائِضًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ حَائِضًا فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الْأُولَى وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ في اليوم السادس طاهراً كان حيضها الخمس الْأُولَى. فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي أَحَدُ الْخَمْسَتَيْنِ بِكَمَالِهِ وَكُنْتُ فِي الثَّالِثِ حَائِضًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الثَّالِثِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى، فلو قالت: حيضي أربعة أيام من العشر، وَأَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمَيْنِ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ إِمَّا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَكُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الثَّالِثِ إِلَى آخِرِ السَّادِسِ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِ الثَّامِنِ فَقِسْ عَلَى هذا نظائره والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَأُشْكِلَ وَقْتُ الْحَيْضِ عَلَيْهَا مِنَ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ إِلَّا أَقَلَّ مَا تَحِيضُ لَهُ النِّسَاءُ وَذَلِكَ يَوْمٌ وليلةٌ فعليها أن تغتسل وتقضي الصلاة أربعة عشر يوماً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَالَّذِي نص عليه ها هنا، وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ أَقَلُّهُ يَوْمٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثلاثة طرق: أحدها: وهو طريقة المزني وابن شريح أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَةٍ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يُرِيدُونَ بِهَا مَعَ اللَّيَالِي، وَيُطْلِقُونَ ذِكْرَ اللَّيَالِي، وَيُرِيدُونَ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً) {الأعراف: 142) يُرِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) {هود: 65) يُرِيدُ مَعَ اللَّيَالِي غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ عَلَّلَ لِطَرِيقَتِهِ هَذِهِ تَعْلِيلًا قَدَحَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ: لِأَنَّ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودُ الْأَكْثَرِ، وَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ أَزْيَدَ عِلْمًا مِنَ الْيَوْمِ لَكَانَ الثَّلَاثُ أَزْيَدَ عِلْمًا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُزَنِيِّ خَطَأٌ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ زِيَادَةَ عِلْمٍ فِي النَّقْلِ، لَا فِي الْوُجُودِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ حَكَاهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي الْعَادَةِ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانِهَا وَجْهًا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَنَّ عِنْدَهُمُ امْرَأَةً تَحِيضُ غَدْوَةً وَتَطْهُرُ عَشِيَّةً فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وقال أبو يوسف: لعله يَوْمَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَاسْتَدَلَّ ناصر أبي حنيفة لمذهبه بما روي عن عبد الله عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثلاث يض " وَبِرِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في المستحاضة: " تدع الصلاة أقراءها " قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ، قَالَ وَقَدْ رَوَى الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خمس حتى انتهى إلى عشر. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ، وَهَذَانِ صحابيان لا يقولان ذلك، إلا عن توقيف؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّلَاثِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا قِيَاسًا عَلَى مَا نَقَصَ اليوم والليلة. دليلنا قوله تعالى: {وَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فلما أطلق ذكره ولم يحد قدره فَكَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ حَدِّهِ فِي الشرع إلى العرف والعادة، وكالقصر واليوم والليلة موجود في العرف والعادة، وإن كان مختلفاً بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْفَارِ وَالْبُلْدَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَوَجَدْتُ نِسَاءَ مَكَّةَ وَتِهَامَةَ يَحِضْنَ يَوْمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وَلَيْلَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " وَأَمَرَهَا بترك الصلاة عند وجود صفة الْحَيْضِ فِي دَمِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تقدير بثلاثة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ استحاضةٌ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ هَذَا فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهَا، فَدَلَّ هَذَانِ الْأَثَرَانِ عَلَى أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَوْجُودٌ وَالْوِفَاقُ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَالنِّفَاسِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شَرْعًا صَلُحَتْ لِأَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ، لِأَنَّهُ تُقُدِّرَ بِالشُّهُورِ دُونَ الْأَيَّامِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثلاثٌ فَهُوَ أَنَّهُ خبر مردود؛ لأن عبد الملك مجهول، والعلا ضَعِيفٌ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا أُمَامَةَ، فَكَانَ مُرْسَلًا، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سُؤَالِ امْرَأَةٍ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا " وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَوْلُهُ مَعَارِضٌ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَاضِدُهُ وَأَمَّا أَنَسٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَيْضِ أَصْلًا، قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ أَنَسٍ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهَا، وَأَنَسٌ حَيٌّ، وَلَوْ كَانَ أَصْلًا فِيهِ لَاكْتَفَوْا بِسُؤَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّهُ مُسْتَوْعِبٌ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى) {البقرة: 222) فَجُعِلَ الْأَذَى حَيْضًا، وَيَسِيرُ الدَّمِ أَذًى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَالنِّفَاسِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَجَعَلَ زَمَانَ الْحَيْضِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الصَّلَاةِ، وَسُقُوطِهَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مَحْدُودٍ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا كَالْحَمْلِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَذَى حَيْضًا، وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَالْمُرَادُ بِهِ إِقْبَالُ حَيْضِهَا، وَقَدْ كَانَ أَيَّامًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النِّفَاسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وجود العادة بيسيره. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي أَكْثَرِهِ ثَلَاثُ روايات إحداهن خمسة عشرة يَوْمًا، كَقَوْلِنَا وَالثَّانِيَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَقَوْلِ الماجشون، والثالث أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عشرٌ " وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ "، وَهَذَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَمَا دُونُ، وَبِقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى عَشْرٍ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ضحىً أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى وَانْصَرَفَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عقلٍ ودينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَ، يَا مَعْشَرَ النَسَاءِ فَقُلْنَ مَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شهادة المرأة بنصف شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى، قَالَ فَذَلِكَ نُقْصَانُ عقلها، أرأيت إذا حاضت لم تصل ولم تصم. رَوَى شَطْرَ دَهْرِهَا قَالَ: فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا ". وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصْفُ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، كَالنِّفَاسِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، كَالطُّهْرِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ قَوْلُ أبى حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ. وَدَلِيلُنَا مَعَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَقْعُدُ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي "، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَقَرَّ نَصًّا بِأَنَّ الشَّهْرَ فِي مُقَابَلَةِ قُرْءٍ جَامِعٍ لِحَيْضٍ وَطُهْرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْمُؤَيَّسَةِ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون جامعاً لأكثر الأمرين؛ لأن أكثر الطهر غير محدود ولم يجز أن يكون جامعاً، لأقل الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الطُّهْرِ، لِأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ الشَّهْرَ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَامِعٌ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِمَا دَلَّلْنَا ثَبَتَ أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 (مسألة: القول في النفاس) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّفَاسُ فَهُوَ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فِي حَالِ الْوِلَادَةِ، وَبَعْدَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَلَانٌ قَدْ نَفَسَ الدَّمَ إِذَا أَخْرَجَهُ، وَتَنَفَّسَ النَّهَارُ إِذَا طَالَ، وَتَنَفَّسَ الصُّبْحُ إِذَا ظَهَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس) {التكوير: 18) أَيْ ظَهَرَ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضَ، وَهِيَ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَحْرُمُ بِالْحَيْضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ، وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحدُهَا: أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يكون بلوغاً من الصَّغِيرَةِ وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ بُلُوغًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَمْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَيْضَ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ، وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَدْرَ النِّفَاسِ مُخَالِفٌ لِقَدْرِ الْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ وَأَوْسَطِهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أَقَلُّ النِّفَاسِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ النِّفَاسِ سَاعَةً فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ السَّاعَةُ حَدٌّ لِأَقَلِّهِ أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجَمِيعِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ مَحْدُودُ الْأَقَلِّ بِسَاعَةٍ، وَبِهِ قَالَ محمد بن الحسن وَأَبُو ثَوْرٍ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ السَّاعَةَ تَقْلِيلًا وَتَفْرِيقًا لَا أَنَّهُ جَعَلَهَا حَدًّا، وَأَقَلُّهُ مَجَّةٌ مِنْ دَمٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَلُّ النِّفَاسِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَقَالَ أبو يوسف أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ، وَإِنَّمَا وَجَدَ قَائِلُوهَا نِسَاءً كَانَ أَقَلُّ نِفَاسِهِنَّ مَا ذَكَرُوا فَجَعَلُوهُ حَدًّا مُسْتَحْسَنًا، وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى مَنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِنْ حَدِّهِمْ، وَقَدْ وُجِدَ نِسَاءٌ كَانَ نِفَاسُهُنَّ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْحُدُودِ. رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْجَفَافِ. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا طَهُرَتِ النُّفَسَاءُ حِينَ تَضَعُ صَلَّتْ وَهَذَا نَصٌّ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَكْثَرُهُ خَمْسُونَ يَوْمًا. وَقَالَ أبو حنيفة: أَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَحَكَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِنَ الْغُلَامِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَمِنَ الْجَارِيَةِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ رَجَعَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِّ إِلَى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وَجَدَ فَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى حَدِّهِ بِالْأَرْبَعِينَ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِلنُّفَسَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَرَوَتْ مُسَّةُ أُمُّ بُسَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً وكنا نطلق عَلَى وُجُوهِنَا الْوَرَسَ يَعْنِي: مِنَ الْكَلَفِ " وَلِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ يَقِينِ الصَّلَاةِ؛ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ إِلَى أَنْ تَرَى الطُّهْرَ " فَكَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ نِفَاسًا، وَلِأَنَّ حَدَّ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ وُجُودِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِيهِ، وَقَدْ وَجَدَ الشَّافِعِيُّ السِّتِّينَ فِي عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، وَتَحَرَّرَ هَذَا قِيَاسًا، فَيُقَالُ لِأَنَّهُ دَمٌ أَرْخَاهُ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ نِفَاسًا كَالْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الدَّمِ يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْغَالِبِ، كَالْحَيْضِ غَالِبُهُ السَّبْعُ، وَأَكْثَرُهُ يَزِيدُ عَلَى السَّبْعِ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ، وَجَبَ أَنْ يَزِيدَ أَكْثَرُهُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ هُوَ مَا كَانَ مُحْتَسِبًا مِنَ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الحمل تسعة أشهر، وغالب الحيض ست أو سبع، فإن اعتبرنا السبع كَانَ النِّفَاسُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الست كَانَ النِّفَاسُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا مَعًا كَانَ النِّفَاسُ سِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَنْ يجعل حيضها في ستة أشهر سبعاً، وفي ثلاثة اشهر ستاً فَصَحَّ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ رِوَايَةَ سَلَامِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَلَامٌ قَدْ أُسْقِطَ حَدِيثُهُ ذَكَرَهُ السَّاجِيُّ، وَقَالَ كَانَ ضَعِيفًا، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَمَلَ عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا، فَرَدَّهَا إِلَى أَوْسَطِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا رَدَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ حِينَ اسْتُحِيضَتْ إلى أوسط الحيض ست أو سبع، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ قَدْرِ عَادَتِهِنَّ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْوِفَاقِ فَلَيْسَ الْوِفَاقُ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ نِفَاسٌ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ كَالْعِشْرِينِ فَأَمَّا أَوْسَطُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ غَالِبَ عادت النساء جارية به كالسبع فِي الْحَيْضِ، وَوُجُودُهُ فِي الْعَادَةِ يُغْنِي عَنْ دَلِيلِ أَصْلِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ النِّفَاسِ، وَقِدْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَرْأَةِ فِي وِلَادَتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَضَعَ مَا فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَضَعَتْهُ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ لَا جَلِيٌّ وَلَا خَفِيٌّ، كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ الَّتِي لَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَجِبُ فِيهَا عِدَّةٌ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ الْخَارِجُ مَعَهُ نِفَاسًا، وَكَانَ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ أَوْ حَيْضٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْكُمْ لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وَضَعَتْهُ حُكْمَ الْوَلَدِ فِيمَا سِوَى النِّفَاسِ، فَكَذَلِكَ فِي النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ تَقْضِي بِهِ الْعِدَّةَ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَرَى مَعَهُ دَمًا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا، وَقَدْ يُوجَدُ هَذَا كَثِيرًا فِي نِسَاءِ الْأَكْرَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، لِأَنَّ وُجُوبَ الغسل متعلق بانقطاع الدم، فإن عُدِمَ الدَّمُ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ بِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا وَمَاءِ الزَّوْجِ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَكَأَنَّمَا قَدْ أَنْزَلَتْ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَغْتَسِلُ فِي حَالِ وَضْعِهَا أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ سَاعَةٍ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ بِسَاعَةٍ أم لا؟ على هَذَا لَوْ كَانَتْ وِلَادَتُهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَبُطْلَانُ صَوْمِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِنْ قِيلَ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَلَى صَوْمِهَا وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا بَطُلَ صَوْمُهَا. (فَصْلٌ) : وَإِنْ رَأَتْ فِي وِلَادَتِهَا دَمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا مَعَ الْوِلَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَّصِلِ بِدَمِ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ إِلَى مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَانْقَطَعَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدمُ نِفَاسًا، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، كَانَ كَالَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ عَلَى حَمْلِهَا هَلْ يَكُونُ حَيْضًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ، فلا يَكُونُ حَيْضًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَكُونُ حَيْضًا وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ، وَإِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ بِمَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ، وَإِنَّ أَوَّلَ نِفَاسِهَا مِنْ حِينِ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَكَوْنِهِ أَحَدَ أَسْبَابِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوِلَادَةَ لَيْسَ بِنِفَاسٍ، وَإِنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ مَا بَقِيَ مِنْ غِذَاءِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْحَيْضِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ وَرَأَتْ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا دَمًا، وَاتَّصَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بِوِلَادَةِ الثَّانِي فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نِفَاسُهَا مِنْ حِينِ رَأَتِ الدَّمَ مَعَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ أَوَّلُهُ بَعْدَ وِلَادَةِ الثَّانِي. (فَصْلٌ) : وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ دَمُ نِفَاسٍ سَوَاءٌ كان اسوداً ثخيناً، أو كان أصفر رقيقاً فِي الْمُبْتَدَأَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ بخلاف الحيض؛ لأن الولادة شاهر للنفاس، فلم يحتج إلى اعتبار شاهر فِي الدَّمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيْضُ فَإِنِ اتَّصَلَ إِلَى سِتِّينَ يَوْمًا، فَكُلُّهُ نِفَاسٌ فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ نِفَاسِهَا، وَلَمْ يَتَّصِلْ كَأَنَّهَا رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا ثُمَّ انْقَطَعَ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَلْفِيقِ الْحَيْضِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهُ نِفَاسٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ نِفَاسٌ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ، فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، فَإِنِ اتَّصَلَ النَّقَاءُ فِي أَثْنَاءِ الدَّمِ حَتَّى بَلَغَ طُهْرًا كَامِلًا كَأَنَّهَا رَأَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا دَمًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَكُونُ طُهْرًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَقَاطِعًا لِلنِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِلنِّفَاسِ، وَفَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ، فَلَمَّا كَانَ الطُّهْرُ الْكَامِلُ فِي الْحَيْضِ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي النِّفَاسِ أَيْضًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدَّمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا نِفَاسًا، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ النَّقَاءُ طُهْرًا، وَالدَّمُ الثَّانِي وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضًا فَإِنْ زَادَ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي حَيْضِهَا فَصَارَتْ مُسْتَحَاضَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ هَذَا الطُّهْرَ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّفَاسِ وَلَا فَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَمَّا خَالَفَ الْحَيْضَ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ خَالَفَهُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي فِي خِلَالِ دَمِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّمَانُ نِفَاسًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَكُونُ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ التَّلْفِيقِ. (فَصْلٌ) : فَإِنِ اتَّصَلَ دَمُ نِفَاسِهَا حَتَّى تَجَاوَزَ سِتِّينَ يَوْمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فَي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ مُبْتَدَأَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ، فَمَا تَجَاوَزَ السِّتِّينَ يَوْمًا اسْتِحَاضَةٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، لِأَنَّ يَقِينَ النِّفَاسِ يَغْلِبُ عَلَى شَكِّ الْحَيْضِ، فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ الِاسْتِحَاضَةُ دَاخِلَةً فِي النِّفَاسِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أحوال: الأول: حال يكون لها تمييز. الثاني: وحال يكون لها ولا عادة. الثالث: وحال يكون مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 بعضه دماً أسود ثخين وبعضه أحمر رقيق، فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْهُ نِفَاسًا، وَالْحُمْرَةُ اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ كان لها عادة بلا تَمْيِيزٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّمِ لَوْنًا وَاحِدًا وَلَهَا عَادَةٌ سَالِفَةٌ فِي نِفَاسٍ مُسْتَمِرٍّ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي نِفَاسِهَا، وَيَكُونُ مَا تَجَاوَزَهَا اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ النِّفَاسِ فَعَلَى هَذَا تُعِيدُ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ سَوَاءٌ حَدَدْنَا أَوَّلَهُ بِسَاعَةٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ السَّاعَةَ حَدٌّ لَا يُصَادِفُ وَقْتَ صَلَاةٍ مُسْتَوْعِبٍ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَقَلِّ حَيْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَوْسَطِ حَيْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ أَنَّ النِّفَاسَ يَقِينٌ فَجَازَ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ، وَلَيْسَ الْحَيْضُ بِيَقِينٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ النُّفَسَاءِ الَّتِي قَدْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا حَيْضٌ مُعْتَادٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ النِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الْحَيْضِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ، لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعٌ مِنَ الْحَيْضِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ حَيْضٌ بِحَيْضٍ، فَكَذَلِكَ نِفَاسٌ بِحَيْضٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رَدِّهَا إِلَى التَّمْيِيزِ ثُمَّ إِلَى الْعَادَةِ ثُمَّ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ مُخَالِفٌ لِلْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَّصِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ فَيُنْظَرُ فِي قَدْرِ الدَّمِ الزَّائِدِ على الستين، فإن لم يتجاوز خمسة عشرة يَوْمًا فَأَمْرُهَا غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَتَكُونُ السِّتُّونَ يَوْمًا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ حَيْضٌ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ سَبْعِينَ يَوْمًا فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ؛ لأنك تَسْتَكْمِلُ النِّفَاسَ سِتِّينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَقِينٌ، وَتَجْعَلُ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا حَيْضًا وَإِنْ بَلَغَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا، فَقَدِ اسْتُكْمِلَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ، فَأَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا، فَقَدْ صَارَتْ حِينَئِذٍ مُسْتَحَاضَةً، دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعًا، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادٍ مِنْ أَنْ يَتَجَاوَزَ السِّتِّينَ أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا، فَإِنْ تَجَاوَزَ السِّتِّينَ، وَلَمْ يزد على الخمسة والسبعين، فقد استقرها نِفَاسُهَا وَحَيْضُهَا بِالتَّمْيِيزِ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا، وَالْحَيْضُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ النِّفَاسُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا وَتُرَدُّ إلى عادتها في الحيض، فإن كانت عشراً صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الصَّلَوَاتِ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادِ الدَّمِ خَمْسِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ سَوَادُ الدَّمِ عِشْرِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَسْتَقِرُّ لَهَا النِّفَاسُ بِالتَّمْيِيزِ وَالْحَيْضِ بِالْعَادَةِ، وَإِنْ يَتَمَيَّزْ دَمُهَا، وَلَوْ كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَادَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا. مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي النفاس ثلاثون يَوْمًا، وَفِي الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا. والقسم الثاني: أن تكون لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ دُونَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أن يكون عادتها في النفاس ثلاثون يَوْمًا، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَيْضِ عَادَةٌ تَعْرِفُهَا فَتُرَدُّ فِي نِفَاسِهَا إِلَى الثَّلَاثِينَ الْمُعْتَادَةِ، وَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أحد وثلاثين يوماً. والقول الثاني: ترد إلى ست أو سبع، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ. مِثَالُهُ: أَنْ تكون عادتها في الحيض عشراً، وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ بِالنِّفَاسِ، فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا الْعَشْر فِي الْحَيْضِ، وَيَكُونُ فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ النِّفَاسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِلَى أَقَلِّهِ فَلِهَذَا تدع الصلاة عشر الْحَيْضِ وَحْدَهَا. وَالثَّانِي: إِلَى أَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ خَمْسِينَ يَوْمًا. وَالثَّالِثُ: إِلَى أَكْثَرِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سَبْعِينَ يَوْمًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ، وَلَا فِي الْحَيْضِ، فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَالثَّانِي: تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ الْأَمْرَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. الثَّالِثُ: تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ وَأَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تضع الصلاة ستة أو سبع وستين يوماً والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَالَّذِي يُبْتَلَى بِالْمَذْيِ فَلَا يَنْقَطِعُ مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صلاةٍ فريضةٍ بَعْدَ غَسْلِ فَرْجِهِ ويعصبه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَفِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَاتِ الْفَسَادِ فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَحُكْمُهَا فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَسْتَبِيحُهُ مِنَ الْقُرْبِ حُكْمُ النِّسَاءِ الطَّاهِرَاتِ إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ بِالْوُضُوءِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ حَدَثٍ، غَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ. فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صلاةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ النَّادِرَ لَا وُضُوءَ فِيهِ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ نَادِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي " وَالْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ خَبَرَهَا قَالَ ثُمَّ اغْتَسِلِي ثُمِّ تَوَضَّئِي لِكُلِ صلاةٍ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ قِيَاسًا عَلَى فَرْضِهِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ قَضَاءً كَالْمُحْدِثِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة من الخبر فمن وجهين: أحدهما: أن للفائت وقتاً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ يَتَنَاوَلُ الْفَوَائِتَ وَغَيْرَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالْوَقْتِ، فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ دُونَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا قياسه على المتنفل فَفَاسِدُ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّ النَّفْلَ أَخَفُّ حَالًا، وَأَقَلُّ شُرُوطًا وَالْفَرْضَ أَغْلَظُ حَالًا وَآكَدُ شُرُوطًا، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَغْلِيظٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ يُصَلَّى بِهَا الْفُرُوضُ الْمُؤَدَّاةُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْمَسْحَ طَهَارَةُ رَفَاهِيَةٍ، وَطَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ المعنى في المسح أنها لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَدّي بِهِ فَرْضَيْنِ فِي وقتين جاز في وقت، وها هنا بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي رَدَّهُ إِلَيْهِ مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ فَعَلَيْهَا طَهَارَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: طَهَارَةُ فَرْجِهَا مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ. وَالثَّانِي: الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ. فَأَمَّا طَهَارَةُ فَرْجِهَا فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ كَتَقَدُّمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَصِفَتُهُ أَنْ تَغْسِلَ فَرْجَهَا بِالْمَاءِ، حَتَّى تُنَقِّيَهُ مِنَ الدَّمِ، ثُمَّ تَحْشُوهُ بِالْقُطْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَحْتَبِسُ مِنْ غَيْرِ شِدَادٍ لِضَعْفِهِ اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ لَا يَحْتَبِسُ بِالْقُطْنِ وَحْدَهُ لِقُوَّتِهِ شَدَّتْهُ بِخِرْقَةٍ تَتَلَجَّمُ بِهَا مُسْتَثْفِرَةً مِنْ وَرَائِهَا، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حديث أم سلمة ثم لتستثفر بثوت، وَصُورَةُ الِاسْتِثْفَارِ أَنْ تَشُدَّ فِي وَسَطِهَا حَبْلًا، ثم تأخذ خرقة عرضة مَشْقُوقَةَ الطَّرَفَيْنِ فَتَشُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهَا فِي الْحَبْلِ من مقدمها، وعند سرتها ثم تحدر الحرقة عَلَى فَرْجِهَا، وَبَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ وَتَعْقِدُ طَرَفَهَا الْآخَرَ مِنْ وَرَائِهَا فِي الْحَبْلِ الْمُسْتَدِيرِ فِي وَسَطِهَا كَثَفَرِ الدَّابَّةِ وَسُمِّي اسْتِثْفَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَفَّرَ الْكَلْبُ، وَاسْتَثْفَرَ إِذَا جَلَسَ عَاطِفًا بِذَنَبِهِ عَلَى فَرْجِهِ وَبَيْنَ فَخِذَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ زَائِدًا تَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْخِرْقَةِ جَعَلَتْ مَكَانَ الْخِرْقَةِ جِلْدًا أَوْ لِبْدًا فَهَذِهِ صِفَةُ تَطْهِيرِهَا لِفَرْجِهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَهَارَتُهَا مِنْ حَدَثِهَا فَتَحْتَاجُ إِلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عُقَيْبَ طَهَارَةِ الْفَرْجِ وَشَدِّهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَلَا بُعْدٍ فَإِنْ تَوَضَّأَتْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ مِنْ غَسْلِ الْفَرْجِ وَشِدَادِهِ صَارَتْ مُتَطَهِّرَةً طَهَارَةَ ضَرُورَةٍ مَعَ كَوْنِهَا حَامِلَةً لِلنَّجَاسَةِ، فَتَكُونُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِهَا فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهَا بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَتَسْتَأْنِفُ غَسْلَ الْفَرْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ إِلَى مَكَانٍ يَلْزَمُ تَطْهِيرُهُ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ فَوُضُوؤُهَا عَلَى صِحَّتِهِ. (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وُضُوؤُهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَتَوَضَّأَ لَهَا فَإِنْ تَوَضَّأَتْ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَانَ وُضُوؤُهَا بَاطِلًا كَالْمُتَيَمِّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَجَازَ أبو حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وُضُوءَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا تَوَضَّأَتْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَهَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ أَمْ يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَأَدَائِهَا فِي أَوَّلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَعَلَيْهَا الْمُبَادَرَةُ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ بِحَسْبَ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي؛ لِأَنَّ وُضُوءَ الْمُسْتَحَاضَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْفَعُ مَا قَارَنَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ مَعَ حَدَثِهَا إِلَّا بِحَسبِ ضَرُورَتِهَا الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ انْتِظَارًا لِأَسْبَابِ كَمَالِهَا كَالْجَمَاعَةِ، وَقَصْدِ الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ، وَارْتِيَادِ سُترَةٍ تَسْتَقْبِلُهَا وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا فَعَلَتْ مَا وَصَفْنَا مِنَ الطَّهَارَتَيْنِ فَجَرَى دَمُهَا مِنَ الشِّدَادِ وَظَهَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ لِضَعْفِ الشِّدَادِ وَتَقْصِيرِهَا فِيهِ فَقَدْ بَطُلَتْ طَهَارَتُهَا وَصَلَاتُهَا إِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ دَمُهَا لِغَلَبَتِهِ وَكَثْرَتِهِ مَعَ كَوْنِ الشِّدَادِ مُحْكَمًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ الدَّمِ وَسَيَلَانُهُ في الصلاة فصلاتها صحيحة وتيممها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ حَيْثُ وَصَفَ لَهَا حَالَ الِاسْتِحَاضَةِ " صَلِّي وَلَوْ قُطِرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ دَمِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ وَهِيَ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ إِذْ لَمْ يَجْعَلْ صَلَاةَ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ كَمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ صَلَاةَ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَتَفَرَّعُ حُكْمُ مَنْ جَرَى دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: بِبُطْلَانِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ إِلَّا بِطِهَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ تَتَنَفَّلَ بَعْدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِيمَا شَاءَتْ مِنْ صلاة وطواف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ دَمُ اسْتِحَاضَتِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُهُ لِارْتِفَاعِ الاستحاضة، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ وَتَمْضِي فِيهَا، وَإِنِ ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا كَالْمُتَيَمِّمِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهَا قَدْ بَطُلَتْ بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ؛ لارتفاع الضرورة والفرق بينهما وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِالْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمْ تَأْتِ بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُحْدِثَةً فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الصَّلَاةُ وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ نَجَاسَةً لَا تَصِحُّ الصَّلَوَاتُ مَعَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهَا فَكَانَتْ أَغْلَظَ حَالًا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ اسْتِحَاضَتِهَا إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إِنِ ارْتَفَعَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَهَذِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ مُتَّسِعًا لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ لِارْتِفَاعِ ضَرُورَتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَدْ ضَاقَ عَنْ فِعْلِ الطهارة ولم يبق له إلا قدراً لصلاة فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ: إن الصلاة بها باطلة، وهذا أصح لوجهين. وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَحِيحَةٌ لِصَلَاةِ وَقْتِهَا، دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الصَّلَاةَ بِهَا لَا تَبْطُلُ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ ضَاقَ وَقْتُهَا وَلَكِنْ ذُكِرَ فَذَكَرْتُهُ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ، أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُ ذلك لرؤية الدم لا لارتفاع الِاسْتِحَاضَةِ، كَأَنَّهُ يَنْقَطِعُ سَاعَةً ثُمَّ يَجْرِي سَاعَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ، وَيَعُودُ كَانَ وُضُوؤُهَا جَائِزًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ مَاضِيَةً وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ فَي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ مُعْتَادًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ شَاكَّةٌ فِي عَوْدِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِزَوَالِ الشَّكِّ بَعْدَ عَوْدِهِ كَالْمُصَلِّي إِذَا شَكَّ فِي طَهَارَتِهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَقِينٌ طَارِئٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، حُكِمَ فِي الظَّاهِرِ بِبُطْلَانِ وُضُوئِهَا، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ حَتَّى تَوَضَّأَتْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الصلاة، استقر الحكم، وإن عادوها الدَّمُ قَبْلَ اسْتِئْنَافِ وُضُوئِهَا صَارَ عَادَةً فِيمَا بَعْدُ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِلْحُكْمِ بِبُطْلَانِهَا بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ كَالصَّلَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَحِيحَةٌ لِلْعَادَةِ الطَّارِئَةِ الَّتِي زَالَ بِهَا الشك كالمسافر إذا شك هل بدأ بمسح مسافر جاز، أو مقيم مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ، فَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ مُسَافِرًا جَازَ لِزَوَالِ الشَّكِّ أَنْ يُبْنَى عَلَى مَسْحِ مُسَافِرٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَطُلَتْ بِالشَّكِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَالْوُضُوءُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ إِذَا ارْتَفَعَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ. (الْقَوْلُ فِي دَمِ الْفَسَادِ) (فَصْلٌ) : فَأَمَّا ذَاتُ الْفَسَادِ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي لَيْسَ بِحَيْضٍ وَلَا اسْتِحَاضَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَجْعَلُهَا كَ " الِاسْتِحَاضَةِ " فِي الطَّهَارَةِ وَأَحْكَامِهَا. وَلَا يَكُونُ دَمُ الْفَسَادِ بِأَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ الَّذِي يُسَاوِي حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَجْعَلُ ذَلِكَ حَدَثًا كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ لَا يَجْمَعُ إِلَى الْفَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّمِ نَفْلًا، لِأَنَّ دَمَ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَذْيَ، وَسَلَسَ الْبَوْلِ قَدْ يَدُومُ زَمَانًا إِذَا حَدَثَ بِصَاحِبِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ الَّتِي قَدْ تَدُومُ بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ دَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ إِنْ دَامَ خَرَجَ عَنْ دَمِ الْفَسَادِ فصار حيضاً أم اسْتِحَاضَةً. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُبْتَلَى بِالْمَذْيِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ سَبَبٍ مِنْ لَمْسٍ، أَوْ نَظَرٍ، أَوْ تَحْرِيكِ شَهْوَةٍ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ فِي غُسْلِهِ وَوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ أَمَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنْ يَسْأَلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنَّضْحِ عَلَى فَرْجِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْتَدِيمَ بِصَاحِبِهِ لَا مِنْ حُدُوثِ سَبَبٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي غَسْلِ فَرْجِهِ وَشَدِّهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ وَكَذَا مَنْ به سلسل الْبَوْلِ أَوِ اسْتِطْلَاقُ الرِّيحِ الْمُسْتَدِيمُ. فَأَمَّا منِ اسْتَدَامَ بِهِ الْمَنِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَقَلَّ مَنْ يَسْتَدِيمُ بِهِ الْمَنِيُّ، لِأَنَّ مَعَهُ تَلَفَ النَّفْسِ ". فَأَمَّا مَنْ بِهِ جَرْحٌ يَسِيلُ دَمُهُ فَلَا يَرْقَأُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَيَشُدَّهُ مُكْتَفِيًا بِهِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ لِأَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ مِنَ الْجَسَدِ يُوجِبُ غَسْلَ مَحَلِّهِ مِنْ غير وضوء. والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (كِتَابُ الصَّلَاةِ) (بَابُ وقت الصلاة والأذان والعذر فيه) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ: وَقْتُ مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَوَقْتُ عُذْرٍ، وَضَرُورَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ مَعًا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُ الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَهَذَا أَمْرٌ بِمُدَاوَمَةِ فِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فَالْحُنَفَاءُ: الْمُسْتَقِيمُونَ عَلَى دِينِهِمْ كَقَوْلِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] فَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْإِخْلَاصِ مَشْرُوطًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزكاة وقال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، فَجَعَلَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِذْعَانَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْر ٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّة فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا: اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ " فَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه وانقص منه قليلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 1] . وَالْمُزَّمِّلُ: الْمُلْتَفُّ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِثِيَابِهِ مُتَأَهِّبٌ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوًا مِنْ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعَلِمَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَامُوا مَعَهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ كَالْمُغْضَبِ وَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَلَمَّا نُسِخَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَلِكَ عَلَى مَا حُكِيَ فِي شوال قبل الهجرة بستة عشر شهرا. فروى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أهل نجد ثابر الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله كم أفرض اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ قَالَ: هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ شَيْءٌ؟ قَالَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْسًا فَحَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَنْقُصُ منهن فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمَخْدَجِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ عَهْدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَهُنَّ مُوَقَّتَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، ثُمَّ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ أَوْقَاتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِوَصْفِ أَوْقَاتِهَا عَلَى التَّحْدِيدِ، فَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ أَوْقَاتِهَا فَخَمْسُ آيَاتٍ إِحْدَاهُنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وله الحمد في السموات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17] . فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {فسبحان الله} أَيْ: صَلُّوا لِلَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ الْأَعْشَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى ... وَلَا تَعْبُدِ الشيطان والله فاعبدا) وقوله: " حين تمسون " يريد به المغرب، والعشاء " وحين تصبحون " يريد الصبح " وعشيا " - يعني - صلاة العصر " وحين تظهرون " - يَعْنِي - صَلَاةَ الظُّهْرِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قَوْلُهُ: " وَسَبِّحْ " أَيْ: وَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - يَعْنِي - صلاة الصبح " وقبل الغروب " الظهر والعصر " ومن الليل فسبحه " - يَعْنِي - صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ " وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وَالثَّانِي: أَنَّهَا النَّوَافِلُ فِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: {أقم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] . أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّهَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى مَا حَكَاهُ مُجَاهِدٌ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " وزلفا من الليل " رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى الزُّلَفِ مِنَ اللَّيْلِ: السَّاعَاتُ الَّتِي يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ: (طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا وَزُلَفًا ... ... ... ... ... ... ... ..... ) وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ، أَمَّا دُلُوكُ الشَّمْسِ فَهُوَ مَيْلُهَا وَانْتِقَالُهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ غُرُوبُهَا، وَأَنَّهُ عَنَى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ زَيْدٍ، اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رُبَاحٍ ... غَدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ) - يَعْنِي: حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَالْبَرَاحُ: اسْمٌ لِلشَّمْسِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي وَجْزَةَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ - رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بي الظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَأَمَّا غَسَقُ اللَّيْلِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إِقْبَالُهُ وَدَبْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَعَلَى [التَّأْوِيلِ] الثَّانِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ. قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فَيُرِيدُ بِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَسَمَّاهَا قُرْآنَ الْفَجْرِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ القراءة " إن قرآن الفجر كان مشهودا ". فروى أبو هريرة عن النبي أَنَّهُ قَالَ: " يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ "، وَهَذَا دَلِيلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ. وأما الآية الخامسة: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فَفِيهَا حَثٌّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَذَكَرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لقوله: " وقوموا لله قانتين "، وَأَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فِي سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ لِتَأَكُّدِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَضَوْءُ النَّهَارِ، وَتَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قال أبو عمرو: هِيَ الَّتِي تَوَجَّهَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْقِبْلَةِ، وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا قَالَ: فَنَزَلَتْ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوسطى " وَقَالَ: إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاةٌ وَبَعْدَهَا صَلَاةٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لِرِوَايَةِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 إِلَّا بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. وَرَوَى عمرو بن رافع عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِكَاتِبِ مُصْحَفِهَا إِذَا بَلَغْتَ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَأَخْبِرْنِي فَلَمَّا أَخْبَرَهَا قَالَتْ اكْتُبْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ ". وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ الْعَدَدِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا بِأَكْثَرِهَا وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا وَقْتًا وَاحِدًا لَا تَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، لِأَنَّ إِبْهَامَهَا وَتَرْكَ تَعْيِينِهَا أَحَبُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِجَمِيعِهَا وَأَبْعَثُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَائِرِهَا فَكَانَ أَوْلَى مِنَ التَّعْيِينِ الْمُفْضِي إِلَى إهمال ما سوها، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى اختلافها، أما مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَالَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الصبح استدلالا، لكن مَهْمَا قُلْتُ قَوْلًا فَخَالَفْتُ فِيهِ خَبَرًا فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ نَقْلًا صَحِيحًا بِأَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَصَارَ مَذْهَبُهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي مَهَّدَهُ، أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ دُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الصُّبْحِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فهذا ما ورد نفي كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَاخْتِيَارًا وَجَوَازًا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ثَمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَائِمُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ثُمَّ صَلَّى الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قدر ظله دون العصر بالأمس الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ تَحْدِيدِ الْأَوْقَاتِ. (فَصْلٌ) : وأما قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِالْبَيَانِ؟ أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟ قِيلَ: وُرُودُ الْبَيَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْبَيَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرًا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَرِدِ الْبَيَانُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ أَوْ بِاسْتِعْمَالِ شُرُوطٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ الْعَرَبَ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى لَأَنْكَرُوهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ هَلْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعُ الْمُخْتَصُّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْدَثَ الْأَسْمَاءَ شَرْعًا كَمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مِنْ قَبْلُ افْتَقَرَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ إِلَى أَسْمَاءٍ مُسْتَحْدَثَةٍ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لوردت شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، ولخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَعْتَقِدُونَهَا عِبَادَةً وَإِنْ كَانَتْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَفِي التَّصْدِيَةِ تَأْوِيلَانِ: أحدها: التَّصْفِيقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: الصَّدُّ عَنِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ زَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللِّسَانِ حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَكَانَتْ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ صَلَاةً عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لما يتضمنها من الدعاء والذي هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تعالى: {وصل عليهم إن صلواتك سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أَيِ ادْعُ لَهُمْ وَقَالَ الْأَعْشَى: (تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبَتْ مُرْتَجَلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا) (عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتُ فَاغْتَمِضِي ... يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فِي دِينِهِ ودنياه والبركة وتسمى صلاة قال الشاعر: (وصهباء طاف بها يَهُودِيُّهَا ... وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خُتُمْ) (وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ) يَعْنِي: أَنَّهُ دَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّهَا تَقْضِي إِلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِهِ عليه مما ليس مقصود فِيهِ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] يُرِيدُ بِصَلَوَاتِ اللَّهِ: الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّحْمَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ: (صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعٌ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ اسْتِغْفَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والمستغفرين بالاسحار} يَعْنِي: الْمُصَلِّينَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى في الصلاة فأصابه مِنْ خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ مَا يَلِينُ وَيَسْتَقِيمُ اعْوِجَاجُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّصْلِيَةِ يُقَالُ: صَلَّيْتُ الْعُودَ إِذَا لَيَّنْتُهُ بِالنَّارِ فَيَسْهُلُ تَقْوِيمُهُ مِنَ الِاعْوِجَاجِ: قَالَ الشَّاعِرُ: (وَلَكِنَّمَا صَلَّوْا عَصَا خَيْزُرَانَةٍ ... إِذَا مَسَّهَا عَضُّ الثِّقَافِ تَلِينُ) وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتْبَعُ فِعْلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ بِفِعْلِهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَابِعًا لَهُ مُصَلِّيًا ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: (أَنْتَ الْمُصَلِّي وَأَبُوكَ السَّابِقُ ... ... ... ... ) وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً وَفَاعِلُهَا مُصَلِّيًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ صَلْوَيْ إِمَامِهِ وَالصَّلَوَانِ عَظْمَانِ عَنْ يَمِينِ الذَّنَبِ وَيَسَارِهِ فِي مَوْضِعِ الرِّدْفِ قَالَ الشاعر: (تركت الرمح يعمل في صلاه ... ويكبوا للترائب والجبين) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ قَالَ الشافعي: " والوقت للصلاة وقتان وقت مقام ورفاهية، وَوَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ " فَقَسَمَ الشَّافِعِيُّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ قِسْمَيْنِ قِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ، وَقِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمَعْذُورِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ هَلْ هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ؟ وَفِي الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ هَلْ هُمْ أَيْضًا صِنْفٌ وَاحِدٌ؟ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَقَامِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ لِلْمُقِيمِينَ الَّذِينَ لَا يَتَرَفَّهُونَ، وَوَقْتَ الرَّفَاهِيَةِ هُوَ آخِرُ الوقت للمقيمين الذي لَا يَتَرَفَّهُونَ الْمُرَفَّهِينَ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْمَعْذُورِينَ هُمُ الْمُسَافِرُونَ وَالْمُضْطَرُّونَ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ لِلْجَمْعِ وَأَنَّ الْمُضْطَرِّينَ هُمْ مَنْ ذَكَرَهُمُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مُنَوَّعًا نَوْعَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهور أصحابنا بأن الْمُقِيمِينَ الْمُرَفَّهِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُمْ: مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَإِنَّ الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ هُمُ: الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَعْذُورِ الْمُسَافِرَ، وَالْمَمْطُورَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لِصَلَاتَيِ الْجَمْعِ وَقَدْ ذكره من بعد والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 (فصل) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْأَذَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ أَوَّلُ الصَّلَوَاتِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأُولَى، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالظُّهْرِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ حِينَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ، وَأَوَّلُ وَقْتِهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَلَيْسَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِرِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ". وَهَذَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصلاة لدلوك الشمس} أَنَّهُ زَوَالُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ يَسِيرَ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَجَازَ لِكَثِيرِهِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ لَزِمَ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْوَقْتِ بِذِرَاعٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَجَازَ بِأَذْرُعٍ وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الزَّوَالُ فَهُوَ ابْتِدَاءُ هُبُوطِ الشَّمْسِ بَعْدَ انْتِهَاءِ انْدِفَاعِهَا وَمَعْرِفَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَزِيدَ الظِّلُّ بَعْدَ تَنَاهِي مَقَرِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ كَانَ ظِلُّ الشَّخْصِ طَوِيلًا فَكُلَّمَا ارْتَفَعَتْ قَصُرَ ظِلُّ الشَّخْصِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى وَسَطِ الْفُلْكِ، فَيَصِيرُ الظِّلُّ يَسِيرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ نَحْوَ الْمَغْرِبِ هَابِطَةً فَإِذَا ابْتَدَأَتْ بِالْهُبُوطِ ابْتَدَأَ الظل بالزيادة فأول ما يتبدئ الظِّلُّ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ حِينَئِذٍ زَوَالُ الشَّمْسِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: (هِيَ شَمْسُ الضُّحَى إِذَا انْتَقَلَتْ ... بَعْدَ سَيْرٍ فَلَيْسَ غَيْرُ الزَّوَالِ) وَاعْلَمْ: أَنَّ ظِلَّ الزَّوَالِ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَيَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ تَنَقُّلِ الْأَزْمَانِ، فَيَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الْبَلَدِ الْمُحَاذِي لِقِبْلَةِ الْفَلَكِ أَقْصَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِيهِ قَدْ تَسَامَتِ الشَّخْصَ حَتَّى قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلشَّخْصِ فِي مَكَّةَ ظِلٌّ وَقْتَ الزَّوَالِ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ حُزَيْرَانَ ثُمَّ يَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الصَّيْفِ أَقَلَّ مِنْهُ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْتَرِضُ وَسَطَ الْفَلَكِ وَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي وَسَطِهِ فَيَكُونُ الظِّلُّ أَقْصَرَ. وَفِي الشِّتَاءِ تَعْتَرِضُ جَانِبَ الْفَلَكِ فَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي جَانِبِهِ فَيَكُونُ الْفَلَكُ أَطْوَلَ وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ الزَّوَالِ كَالْوَقْفَةِ لِإِبْطَاءِ سَيْرِهَا فِي وَسَطِ الْفَلَكِ قال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 (فَعُدْ بَعْدَ تَفْرِيقٍ وَقَدْ وَقَفَتْ ... شَمْسُ النَّهَارِ وَلَاذَ الظِّلُّ بِالْعُودِ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوَالَ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَصَفْنَا فَالنَّاسُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بَصِيرٌ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَوِي الْبُصَرَاءُ فِيهِ فَلَمْ يَسَعْ بَعْضَهُمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، كَالْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ غَيْمًا رَاعَى الشَّمْسَ مُحْتَاطًا فَإِنْ بَدَا لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِهَا وَإِلَّا تَأَخَّى مُرُورَ الزَّمَانِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّيَ، فَلَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَمْ يَسَعْهُ تَقْلِيدُهُ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ عَدَدًا فِي جِهَاتٍ شَتَّى لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُمْ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي الْوَقْتِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً قَالَ: لِأَنَّهُ فِي الصَّحْوِ يُخْبِرُ عَنْ نَظَرٍ، وَفِي الْغَيْمِ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ مِنْ حَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الزَّوَالُ فَاجْتَهَدَ وَصَلَّى ثُمَّ بَانَ لَهُ مُصَادَفَةُ الْوَقْتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ إما موديا فِي الْوَقْتِ، أَوْ قَاضِيًا بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ بَانَ لَهُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ. فِي الْقِبْلَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الْخَاطِئُ فِي الْوَقْتِ مِثْلَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن الوصول إلى يقين الْوَقْتِ مُمْكِنٌ بِالصَّبْرِ إِلَى يَقِينِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَبَيُّنُ الْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَالْمَصِيرُ إِلَى نَفْسِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَاطِئَ فِي الْوَقْتِ فَاعِلٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ، وَالْخَاطِئَ فِي الْقِبْلَةِ فَاعِلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَأَجْزَأَهُ وَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ زَوَالِهَا، لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ غَيْرُ مُجْزِئٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ غُرُوبُهَا أَجْزَأَهُ فَهَلَّا كَانَ إِذَا صَلَّى شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ زَوَالُهَا أَجْزَأَهُ؟ . قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى يُصَلِّيَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَرِيرًا، أَوْ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ غَيْرَهُ مِنَ الْبُصَرَاءِ الثِّقَاتِ وَاحْتَرَزَ مَعَ قَوْلِهِ: دُخُولُ الْوَقْتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 كَمَا يَجُوزُ لَهُ إِنْ كَانَ ضَرِيرًا أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْقِبْلَةِ بَصِيرًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَصِيرًا يُقَلِّدُهُ فِي الْوَقْتِ فَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ إِذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْوَقْتِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الضَّرِيرُ إِذَا عَدِمَ بَصِيرًا يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ أَصَابَ فَهَلَّا إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ وَإِنْ أَصَابَ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ مَعْلُومٌ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَأَجْزَأَهُ لِاسْتِوَاءِ البصير والضرير فيه والقبلة مدركة نحاسة الْبَصَرِ فَلَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِلَافِ الضَّرِيرِ وَالْبَصِيرِ فِيهِ، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمًا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى مَا بَانَ بِهِ الزَّوَالُ مِنْ ظِلِّ الشَّخْصِ وَقَالَ أبو حنيفة فِي رِوَايَةِ أبي يوسف عَنْهُ: إِنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَحَكَى عَنْهُ الحسن بن زياد اللؤلؤي مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَالِكٍ. فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: " أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُشْتَرَكٌ مَعَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَحَكَى نَحْوَهُ عَنِ الْمُزَنِيِّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَوْقَاتَ لَمْ تَقِفْ عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ حَتَّى زِيدَ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَوَقْتِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَقْتُ الظُّهْرِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى كَافَّتِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَاءَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانِ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرَ ظِلِّهِ دُونَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ وَقَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ "، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ بِوَقْتٍ لَهَا كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَتُحْمَلُ صَلَاةُ جِبْرِيلَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا حَمَلْنَا صَلَاتَهُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزَّوَالِ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ صَلَاتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَّا عَلَى الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَحْدِيدُ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَحْدِيدُ آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَآخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَهَذَا نَصٌّ إِنْ كَانَ ثَابِتًا. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَمْسُ إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ الرَّجُلِ بِطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ جُمِعَتَا لِحَقِّ النُّسُكِ فَأُولَاهُمَا أَقْصَرُهُمَا كَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِشْرَاكِ الْوَقْتِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا إِنَمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ إِشْرَاكُ الْوَقْتَيْنِ فِيمَا سِوَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرٌ مَحْدُودٌ، وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما غير محدود؛ لأن الظهر تصير غير محدودة الانتهاء والعصر غير محدودة الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمُسْتَعْمَلٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَإِمَّا فِي أَوْقَاتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ، وَالضَّرُورَاتِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " فَقَوْلُهُ: " وَلَا مَطَرَ " زِيَادَةٌ لَمْ تُعْرَفْ ثُمَّ لو سلمت لاستعلمت عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ يُصِيبُهُ وَقْتَ الْجَمْعِ لِخُرُوجِهِ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهِ الَّذِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ مَوْجُودًا، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ بِأَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ قَدْ زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: أحدها: أنه يزيد فِيهَا بِالنَّصِّ، وَلَيْسَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنَ الظُّهْرِ نَصٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ زِيدَ فِي بَعْضِهَا فَالْمَغْرِبُ لَمْ يَرِدْ فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ هُمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا زِيدَ فِي وَقْتٍ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا لَمْ يُزَدْ فِي وَقْتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ فِي أَوْقَاتِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 النُّقْصَانُ مِنْ وَقْتِ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا جَعَلَ الْوَقْتَ مُشْتَرِكًا كَانَ مَا زَادَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نُقْصَانًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَّا وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْفَسَادِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مِنَ النُّقْصَانِ - وَاللَّهُ أعلم -. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ زِيَادَةٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالْأَذَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا تَجَاوَزَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ دَخَلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَخَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " مثلكم [و] مثل أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، وَاسْتَأْجَرَ آَخَرَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ النَصَارَى، وَاسْتَأْجَرَ آخَرَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ أَلَا فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ قَالَ: فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا مَا بَالُنَا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا، قِيلَ: هَلْ نُقِصْتُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَقْصَرَ مِنْ وَقْتِ مَا قَبْلَهَا، كَالصُّبْحِ مَعَ الْعِشَاءِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حَتَّى صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلالا فأذن بالصلاة حين زاغت الشمس مثل الشِّرَاكِ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، الْحَدِيثَ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهَا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ بِيِّنَةٌ فِي حجرته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ عَلَيْهَا " أَيْ: لَمْ يَصْعَدْ ويرتفع والظهور والصعود، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] أَيْ: يَصْعَدُونَ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كَانَ أَبْعَدُ الرَّجُلَيْنِ دَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو لُبَابَةَ وَأَبُو عَبْسٍ دَارُ أَبِي لُبَابَةَ بِقُبَاءٍ، وَدَارُ أَبِي عَبْسٍ بِبَنِي حَارِثَةَ كَانَا يُصَلِّيَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ وَيَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا وَمَا صَلَّوْهَا لِتَبْكِيرِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا. وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَزُورًا أُرِيدُ أَنْ أَنْحَرَهَا وَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا قَالَ: فَحَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنُحِرَتِ الْجَزُورُ وَقُطِعَتْ وَطُبِخَتْ وَأَكَلْنَاهَا نَضِيجًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ". فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيمِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَامْتِدَادِهِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى مَا قَبْلَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَمَدَّ مِنْ وَقْتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَالْعِشَاءِ مَعَ الْمَغْرِبِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، لِأَنَّ وَقْتَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَوَّلِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَقَدُّمِهِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ الْأُجَرَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا يَرْجِعُ إِلَى زَمَانِ الْفَرِيقَيْنِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَصْرِ لَا إِلَى زَمَانِ أحدهما، لأنه إخبار منهما. فَإِنْ قِيلَ: وَقَدْ قَالُوا وَنَحْنُ أَقَلُّ أَجْرًا وَلَيْسَ الْفَرِيقَانِ أَقَلَّ أَجْرًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ أَجْرًا قُلْنَا: الْأُجْرَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِغَيْرِهَا فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ لَا طُولِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ، فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا عَلَى أَنَّهُ مطرح مَعَ مَا ذكرناه من الصن - والله أعلم -. (مسألة) : قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعَصْرِ قَائِمًا حَتَّى يصير ظل كل شيء مثليه فمن جاوزه ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَهُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ فَائَتَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَفِي الْجَوَازِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ أبو حنيفة: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَالْجَوَازُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]- يَعْنِي - صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَفُوتُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى " وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ حين زاغت الشمس مثل الشراك فصلى الظهر ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَ وَصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ، أَوْ ذِكْرَهَا فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثًا فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطِانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِمَا إِلَّا قَلِيلًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَرَفَ أَوَّلَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَ آخِرَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ كَالظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ، وَيُحْمَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى وَقْتِ الْجَوَازِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِأَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَبَاقٍ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِرِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَمْتَدُّ جَوَازًا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمَتَى أَدْرَكَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَدْرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا لَا قَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَاقِيهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ جَازَ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا غَيْرَ عَاصٍ بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَاضِيًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهَا عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى " - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْأَذَانِ وَلَا وَقْتَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا كَمَا قَالَ: " وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ: أَنْ يَسْقُطَ الْقُرْصُ وَيَغِيبَ حَاجِبُ الشَّمْسِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا كَالْمُتَّصِلِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ أَحَدُ قَرْنَيْهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا وَآخِرُ مَا يغرب منها واستشهد بقول قيس بن الحطيم: (تبدت لنا كالشمس تحت عمامة ... بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ) وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إِذَا غَابَ حَاجِبُهَا ". وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَذَّنْتَ لِلْمَغْرِبِ فَاحْدَرْهَا مَعَ الشَّمْسِ حَدَرًا ". وَرَوَى " أَبُو نُعَيْمٍ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثُمَّ نَخْرُجُ نَتَنَاضَلُ حَتَّى نَبْلُغَ بُيُوتَ بَنِي سَلْمَةَ فَنُبْصِرَ مَوَاقِعَ النَّبْلِ مِنَ الْأَسْفَارِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَهَا وَقْتَانِ يَمْتَدُّ الثَّانِي مِنْهُمَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ جُمْهُورُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانِيَّ وَهُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ حَكَى عَنْهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْتَيْنِ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ " وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَرَبَتِ الشَمْسُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ غَابَ الشَّفَقُ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ [الشَّفَقُ] ". وَبِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ " وَلَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا مَعَ طُولِهَا إِلَّا مَعَ طَوِيلِ الزَّمَانِ فَدَلَّ عَلَى طُولِ الْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَقْتَيْنِ كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَّصِلَ وَقْتُهَا بِوَقْتِ مَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا، كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ وَقْتُهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهَا اعْتِبَارًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا. وَدَلِيلُنَا حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ثُمَ صَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلْقَدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ". وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ لِلسَّائِلِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ. وَرَوَى مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ ظُهْرَيْنِ وَعَصْرَيْنِ وَعِشَاءَيْنِ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَالْمَغْرِبَ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وروى يزيد بن أبي حبيب عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى " مِصْرَ " فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ فَقَالَ: شُغِلْنَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى فِطْرَتِي مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ ". فَكَانَ صَرِيحُ الْخَبَرِ، وَإِنْكَارُ أَبِي أَيُّوبَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهَا لَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ سُنَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَّرَ لَيْلَةً الْمَغْرِبَ حَتَّى طَلَعَ نَجْمَانِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ قَالَ: " صَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَالْفِجَاجُ مُسْفِرَةٌ "، وَهَذَا بِمَشْهَدِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ هَذَا مَعَ إِنْكَارِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى عُقْبَةَ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوَاقِيتِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا وَلَكِنْ يُقَابَلُ بِهِ مَا أَوْرَدَهُ فَهُوَ أَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ لَا تَقْصُرُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَعَدَدِهَا أَصْلُهُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا كَانَتْ شَفْعًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ شَفْعًا فِي الْوَقْتِ، وَالْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتْ وِتْرًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ وِتْرًا فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالظُّهْرِ، وَوِتْرٌ كَالْمَغْرِبِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَقِيلَ: إِنَّكَ وَصَلْتَهُ فَقَالَ إِنْ كُنْتُ مَجْنُونًا فَقَدْ أَفَقْتُ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ فِي الضَّعْفِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا يُحَدَّثُ بِهَذَا وَأُمْرِضَ سَمِعَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ فُضَيْلٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا أَنَّ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ لَجَازَ أَنْ نَسْتَعْمِلَهَا عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدَامَةِ دُونَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِصْطَخَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ " فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 أَحَدُهَا: أَنَّ السُّورَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ مُتَفَرِّقَةً وَلَمْ تَكُنْ تَكَامَلُ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَيَجُوزُ إِنْ قَرَأَهَا قَبْلَ تَكَامُلِهَا وَكَانَتْ آيَاتٍ يَسِيرَةً أَلَّا تَرَى أَنَّ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ مَعَ قِصَرِهَا عَنِ الْأَعْرَافِ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَرَأَ مِنْهَا الْآيَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ فَقِيلَ قَرَأَ الْأَعْرَافَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ شَرِبْتُ مَاءَ الْمَطَرِ وَأَكَلْتُ خُبْزَ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا أَكَلَ وَشَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا شَفْعٌ فِي الْعَدَدِ، وَهَذَا وِتْرٌ فِي الْعَدَدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَمُنَازَعٌ فِيهِ بِمُعَارَضَةِ قِيَاسِنَا لَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ فَهُوَ: أَنَّ أَصْحَابَ الضَّرُورَاتِ وَالْأَعْذَارِ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لَهَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي الضرورات واحد. (فصل) : فإذا تقرر أن للمغرب وقتا واحد فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَتَقَدَّرُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرَ مَا يَتَطَهَّرُ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ، وَيُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ عَلَى مَهَلٍ، فَهَذَا قَدْرُ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ إِلَّا وَاحِدًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مَعْلُومًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْإِمْكَانِ مُقَدَّرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يُنْسَبْ فِي الْعُرْفِ إِلَى تَأْخِيرِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَدَّدَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْعَجَلَةِ وَالْإِبْطَاءِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْوَقْتَيْنِ يَتَقَدَّرُ أَوَّلُ وَقْتِهَا بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ، وَمَنْزِلَةُ الْمَغْرِبِ فِي تَفَرُّدِهَا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ مَنْزِلَةَ الْمُؤَقَّتِ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَقْتَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْرِيرُ وَقْتِهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْعُرْفِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِدَامَتِهَا أَمْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَائِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ، فَمَنْ تَجَاوَزَ هَذَا الْوَقْتَ قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ صَارَ مُتَمِّمًا لَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ دون الاستدامة، وأنه إذا بها ابتدأ فِي هَذَا الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ اسْتِعْمَالًا لِلْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَتَلْفِيقًا بَيْنَ مختلفها - والله أعلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 (مسألة) : قال الشافعي: " فإذا غاب الشفق الأحمر فهو أول وقت العشاء الْآخِرَةِ وَالْأَذَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُكْرَهُ أَنَّ تُصَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِاسْمِ الْعَتَمَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُسَمَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هِيَ الْعِشَاءُ إِلَّا أَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ ". وَالْعُتْمُ: الْإِبْطَاءُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِعْتَامُ الْإِبِلِ هُوَ تَأْخِيرُ عَلْفِهَا وَحَلْبِهَا قَالَ الشَّاعِرُ: (فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ عَاتِمُ الْقِرَى ... بَخِيلٌ ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْهَضْبِ كَرْدَمَا) وَلَا يَأْثَمُ مُسَمِّيهَا بِالْعَتَمَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَيْهَا " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِجْمَاعًا إِلَّا أَنَّهُمَا شَفَقَانِ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ دُخُولَ وَقْتِهَا يَكُونُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] يَعْنِي: إِظْلَامَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ وَلِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأَفَقُ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ تَتَعَلَّقُ بِغَارِبٍ وَصَلَاةَ الصُّبْحِ بِطَالِعٍ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعَشَاءُ بِالْغَارِبِ الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ الصُّبْحَ أَوَّلَ صَلَاةِ النَّهَارِ وَالْعَشَاءَ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الشَّمْسِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الشَّمْسِ. وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَصَلَّى بِي جِبْرِيلُ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ " وَحَمْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَحْمَرِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ اقْتَضَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوَّلُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ أَوَّلَ ذَلِكَ الِاسْمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَشْهَرِهِمَا أَوْلَى، وَالْأَحْمَرُ مِنَ الشَّفَقَيْنَ أَشْهَرُ فِي اللِّسَانِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَبَغْتُ ثَوْبِي شَفَقًا وَقِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] أَنَّهُ الْحُمْرَةُ قَالَ الشَّاعِرُ: (رَمَقْتُهَا بِنَظْرَةٍ مِنْ ذِي عَلَقْ ... قَدْ أَثَّرَتْ فِي خَدِّهَا لَوْنَ الشَّفَقِ) وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَلَاثَةٍ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَمَرَ يَسْقُطُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ. وَرَوَى سليمان بْنُ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْأَحْمَرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ الْأَحْمَرِ وَقَبْلَ الْأَبْيَضِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ فَقَدْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ، وَالشَّافِعِيُّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُمْ عَلَى إِقَامَتِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْأَحْمَرِ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلِأَنَّ الشَّفَقَ الْأَبْيَضَ قَدْ رُوعِيَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَبَعْضِ الْبُلْدَانِ فَوُجِدَ لَابِثًا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: رَاعَيْتُهُ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ. وَكَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ جَوٍّ إِلَى جَوٍّ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عمن حدثه إذا رَاعَاهُ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَإِذَا كَانَ الْأَبْيَضُ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِصَلَاةٍ، وَلِأَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ الْفَجْرَانِ، وَالشَّمْسُ، وَالْغَوَارِبُ ثَلَاثَةٌ الشَّفَقَانِ، وَالشَّمْسُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الْأَوْسَطِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْغَارِبِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ - وَلِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِأَقْرَبِ الْفَجْرَيْنِ من الشمس اقتضى أن تجب العشاء الشَّفَقَيْنِ مِنَ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَجِبُ بِانْتِقَالِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَنْوَرِهِمَا كَالصُّبْحِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَتَأْوِيلُ الْغَسَقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ أَنَّهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَدُنُوُّهُ فَسَقَطَ الدَّلِيلُ بهذا التأويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَالثَّانِي: أَنَّهُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ فَعَلَى هَذَا قَدْ يُظْلِمُ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى وَقْتِهَا الثَّانِي، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ اسْوِدَادِ الْأُفُقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَمَدْفُوعٌ بِمُعَارَضَتِنَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِدْلَالِنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب -. (مسألة) : قال الشافعي: " ثم لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعِشَاءِ قَائِمًا حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ فَقَالَ فِي القديم، والإملاء: آخره نصف الليل، وقال في الجديد: آخره ثُلْثِ اللَّيْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ جُمْهُورُهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وقَتَادَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَبِي ثَوْرٍ. وَوَجْهُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ". وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ. وَوَجْهُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ في اليوم الثاني حيث ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ " وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سريج يمنع تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَجْعَلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا حَكَيْنَا وَاخْتِلَافَ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، فَيَسْتَعْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ عَلَى أنه آخر وقت الابتداء بها، وراوية مَنْ رَوَى إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ وَقْتِ انْتِهَائِهَا حَتَّى لَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مُخْتَلِفًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَجَاوَزَ هَذَا الْقَدْرَ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَهَا فِي الْجَوَازِ بَاقٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا اخْتِيَارًا وَجَوَازًا، وَمَنْ فَعَلَهَا بَعْدَهُ كَانَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ دُونَ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ " الْأُمِّ " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ، وَالْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلصُّبْحِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُدْرِكًا لِلْعَشَاءِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَفُوتُ صَلَاةٌ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ ثُلْثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 اللَّيْلِ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْوِتْرِ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً وَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْعَشَاءِ أَدَاءً لَا قَضَاءً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ التَّابِعَةَ إِنَّمَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْمَتْبُوعَةِ كَرَكْعَتِي الفجر. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَذَانَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ خلا الصبح فإنها يؤذن قبلها بليل وليس ذلك بقياس ولكنا اتبعنا فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِرِوَايَةِ شَدَّادٍ عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضَا. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَرْجِعُ فَيُنَادِي أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَرَجَعَ فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ ". وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَرْقَى فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَرَقَا وَهُوَ يَقُولُ: (لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ ... وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ دَمٍ جَبِينُهُ) قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَذَانٌ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ". فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا كَانَ بِلَالٌ يُنَادِي لِلسُّحُورِ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي جَمِيعِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُحُورًا لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ وَلَا احْتَاجُوا إِلَى تَعْرِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يمنعنكم أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِكُمْ فَإِنَّمَا يُؤْذِنُكُمْ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُنَبَّهَ نَائِمُكُمْ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَمَنْعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّؤَالِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَافَرْتُ مَعَهُ فَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرِي فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ آذان وقت الصبح أمرني أن أؤذن لِلصُّبْحِ فَأَذَّنْتُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ أُقِيمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا وَيَنْظُرُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْفَجْرِ فَلَمَّا بَرَزَ الْفَجْرُ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَتَوَضَّأَ فَتَلَاحَقَ النَّاسُ بِهِ وَجَاءَ بِلَالٌ لِيُقِيمَ فَقَالَ يَا بِلَالُ إِنَّ أَخَا صَدَا أَذَّنَ وَإِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ ". وَهَذَا نَصٌّ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ قَالَ أَذَّنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقُبَاءٍ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ فِي أَذَانِنَا لِلصُّبْحِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الشِّتَاءِ، لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ يَبْقَى، وَفِي الصَّيْفِ لِسَبْعٍ يَبْقَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ مِنَ اللَّيْلِ لَا مِنَ النَّهَارِ فَدَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْفَجْرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقِيلَ: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَثَبَتَ اسْتِدْلَالُنَا بِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ يَكُونُ مِثْلَ سَبْعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي طُولِهِ وَقِصْرَهِ وَهُوَ كَانَ يَتَقَدَّمُ لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى الفجر، ولأن الفجر يتعلق به عِبَادَتَانِ الصَّوْمُ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ، فَلَمَّا جَازَ فِي الصَّوْمِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهِ عَلَى الْفَجْرِ، وَهُوَ النِّيَّةُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَقْدِيمِهَا جَازَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا وَهُوَ الْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لَهَا فَيُدْرِكُونَ فَضِيلَةَ تَعْجِيلِهَا فَكَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَجَازِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا عَلَيْهِ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ جَهْرٍ فِي نَهَارٍ فَجَازَ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا قَبْلَ جَوَازِ فِعْلِهَا كَالْجُمْعَةِ يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ خُطْبَتِهَا، وَلِأَنَّ الأذان إن جُعِلَ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ جُعِلَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا جَازَ إِيقَاعُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ جَازَ ارْتِفَاعُ الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ أَذَانًا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلَّا الْمَغْرِبَ " يَعْنِي: بَيْنَ كُلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِهِ عَلَى الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّهَا تُسَمَّى أَذَانًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَخَّرَ الْأَذَانَ حَتَّى صَارَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: " أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ "، وَالنَّوْمُ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ لَا التَّقْدِيمَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا تَأَهُّبُ النَّاسِ لَهَا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِاسْتِيفَاءِ الظُّهْرِ وَالصُّبْحِ يَدْخُلُ وَقْتُهُمَا وَلَمْ يَتَأَهَّبِ النَّاسُ لَهَا لِتَنَوُّمِهِمْ فَافْتَرَقَتِ الصُّبْحُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْأَذَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالشَّافِعِيُّ حِينَ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ قِيَاسًا فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَذَانِ الْقِيَاسَ، وَلَكِنِ السُّنَّةَ ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ تَبَعًا وَمُؤَكِّدًا، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حُكْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَلَيْسَ ذَاكَ بِقِيَاسٍ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كان قياسا على غيرها لمنع ذَاكَ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ لِغَيْرِ الصُّبْحِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا جَائِزٌ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهَا أَذَانَيْنِ أَذَانٌ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَذَانٌ بَعْدَهُ ثُمَّ يُقَامُ لَهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ فِعْلِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ "، وَلَا يَحْمِلُ أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ ". (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الصُّبْحِ قَائِمًا بَعْدَ الْفَجْرِ مَا لَمْ يُسْفِرْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الصُّبْحِ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَالْفَجْرُ هُوَ ابْتِدَاءُ تَنَفُّسِ الصُّبْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وَقَالَ الشَّاعِرُ: (حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وعسعسا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَسُمِّيَ فَجْرًا: لِانْفِجَارِ الضَّوْءِ مِنْهُ وَهُوَ فَجْرَانِ فَالْأَوَّلُ أَزْرَقُ يَبْدُو مِثْلَ الْعَمُودِ طُولًا فِي السَّمَاءِ لَهُ شُعَاعٌ ثُمَّ يَهْمَدُ ضَوْؤُهُ ثُمَّ يَبْدُو بَيَاضٌ. الثَّانِي بَعْدَهُ عَرَضًا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ قَالَ الشَّاعِرُ: (وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ... وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ) وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْفَجْرَيْنَ أَنَّهُ قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ مُسْتَطِيلٌ وَالثَّانِي مُسْتَطِيرٌ " فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْفَجْرَيْنِ فَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَجِبُ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدَ الْفَجْرَيْنَ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ دَقِيقٌ صعد لا يحرم الطول وَلَا يُحِلُّ الصَّلَاةَ ". وَرَوَى سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ فِي الْأُفُقِ " فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى افْتِرَاقِ حُكْمِ الْفَجْرَيْنِ وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَوَّلَ الْفَجْرَ الْكَذَّابَ، لِأَنَّهُ يَزُولُ وَلَا يَثْبُتُ، وَتُسَمِّي الْفَجْرَ الثَّانِيَ الْفَجْرَ الصَّادِقَ، لِأَنَّهُ صَدَقَكَ عَنِ الصُّبْحِ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: (شَغَفَ الْكِلَابُ الضَّارِيَاتُ فُؤَادَهُ ... فَإِذَا بَدَا الصُّبْحُ الْمُصَدِّقُ يَفْزَعُ) يُرِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ يَأْمَنُ بِاللَّيْلِ فَإِذَا بدا الصبح فزع من القناص يَجِيءُ نَهَارًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيِمَانِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ النَّهَارِ عُجَمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَالْعِيدَيْنِ "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِهَا مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ النَّوْمِ وَلَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَلَا مِنْ صلاة الليل لقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] فَاقْتَضَى أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يَكُونَ زَمَانُ وُلُوجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَلَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَيَكُونَ اللَّيْلُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ لَيْلًا وَهُوَ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالنَّهَارُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ نَهَارًا، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وأبي حنيفة، أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَأَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [الإسراء: 78] . وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى النَّهَارِ وَلِأَنَّنَا وَجَدْنَا ضِيَاءَ النَّهَارِ يَطْرَأُ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي الْفَجْرِ كَمَا طَرَأَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ عَلَى ضِيَاءِ النَّهَارِ فِي الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْمَغْرِبِ لَا لِلزَّائِلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْفَجْرِ مِنَ الضِّيَاءِ لَا لِلزَّائِلِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ الْإِسْفَارُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ " وَتَبَيَّنَ وُجُوهُ الْقَوْمِ " ثُمَّ يَكُونُ مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ مِنْ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُ الصُّبْحِ بِالْإِسْفَارِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْجَوَازِ حَتَّى يَكُونَ فَاعِلُهَا قَاضِيًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ". (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً منها فقد خرج وقتها فاعتمد في ذلك على إمامة جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ فِي أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَمَا يَتَعَقَّبُهَا أَوْقَاتُ الْجَوَازِ مِنْهَا، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْمُرَفَّهِينَ، وإذا كان كذلك مقدرا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَوْ بِآخِرِهِ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَكْثَرِ الفقهاء، أنها تجب بأول وقت وَرَفَّهَ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فَحَكَى عَنْهُ محمد بن شجاع البلخي مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَحَكَى أبو الحسين الكرخي أَنَّ جَمِيعَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا، وَيَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِفِعْلِهَا أَوْ بضيق وقتها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَحَكَى جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. فَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً مُرَاعَاةً، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَيَقُّنًا أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَإِنْ زَالَ عَنْ صِفَةِ التَّكْلِيفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَهَكَذَا قَالَ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِيهِ وَلَا يَقْضِي بِتَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِي تَأْخِيرِهَا لِإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ عَلَى صِفَةِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَزْمِ فَإِنْ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى فِعْلِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مُؤَدِّيًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ إِذَا بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْإِحْرَامِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: تَجِبُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَحَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانٍ لَمْ يَجِبْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا جَازَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَجِبُ بِآخِرِهِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي أَنْ تَجِبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَا بِأَوَّلِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ لَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ - يَعْنِي - وَقْتَ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ فِعْلِهَا الْمَتْبُوعُ وَقْتًا لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّيًا كَانَ الْفَرْضُ بِهِ وَاجِبًا كَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْوَقْتِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ شَيْئَانِ، الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، لِأَنَّ أَوَّلَهُ مَتْبُوعٌ، وَآخِرَهُ تَابِعٌ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ أَصْلٌ، وَالْأَدَاءَ فَرْعٌ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءُ وَهُوَ فَرْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فَهُوَ: إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ إِلَى بَدَلٍ وَهُوَ فِعْلُهَا فِي ثَانِي وَقْتٍ وَتَرْكُ الشَّيْءِ إِلَى بَدَلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَمْ يَدُلُّ تَرْكُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ. مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقُ الْوَقْتِ فَمَا ضُيِّقَ وَقْتُهُ فَحَدُّهُ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَا وُسِّعَ وَقْتُهُ فليس حده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 مَا ذَكَرُوهُ [وَالصَّلَاةُ وُسِّعَ وَقْتُهَا، وَلَمْ يُضَيَّقْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ] مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَحَوْلَ الزَّكَاةِ فَجَمْعٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ، وَالصَّلَاةَ تَجِبُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَاسْتِقْرَارُ فَرْضِهَا يَكُونُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ: أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ فَرْضُهَا بِهَذَا الزَّمَانِ الَّذِي أَمْكَنَ فِيهِ أَدَاؤُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُوبِهَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الزَّمَانِ كَانَ مَيِّتًا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِآخِرِهِ قَالَ: لِأَنَّ فَرْضَهَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلَّ عَلَى أن الفرض لم يكن قد استقر وإن بآخر الوقت يستيقن، قال أبو يحيى البخلي: - مِنْ أَصْحَابِنَا - إِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فِيهَا مُعْتَبَرًا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، وَاعْتِبَارُ الْإِمْكَانِ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَمَّا كَانَ الْإِمْكَانُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا كَانَتْ حُقُوقُ الْأَبْدَانِ أَوْلَى وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، لِأَنَّ الْقَصْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ، وَالْمَرَضَ لَمَّا كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْعَلَا سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَمَتَى أُتِيَ بِالصَّلَاةِ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الوقت وآخره كانت أَدَاءً مُجْزِيًا إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالسَّلَامُ مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ لَا أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً، وَكَانَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا؛ وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَسَلَّمَ مِنْهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَإِنْ كان لعذر في التأخير أجزأته أداء، فإن كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَتْهُ، وَهَلْ يَكُونُ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَدَاءً، أَوْ قَضَاءً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَتِ الصَّلَاةُ مُجْزِئَةً [أَمَّا] إِذَا كَانَ مَعْذُورًا وَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَلَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي أَثْنَائِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَالَ: " إِنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَيْطَانِ " فَكَانَتِ الصَّلَاةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ صَلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [أَدَاءً وَالْمَفْعُولَ منها بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 طُلُوعِ الشَّمْسِ قَضَاءً] وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَبَعَّضَ حُكْمًا فِي الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فَبَطَلَتْ. ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ " فَجَعَلَهُ مُدْرِكًا وَمُصَلِّيًا. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَطَالَ صَلَاةَ الصُّبْحِ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ أَطَلْتَ الصَّلَاةَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ: " لَوْ طَلَعَتْ مَا وَجَدَنَا اللَّهُ غَافِلِينَ "، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُبْطِلْ غَيْرَ الصُّبْحِ لَمْ يُبْطِلِ الصُّبْحَ كَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ طَرْدًا، وَالْحَدِيثِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ صَارَ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، فَالْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى، أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عن حيزه وَاسْتِدْلَالِهِ وَلِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّهْيِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِبَادَةِ أَغْلَظُ شُرُوطًا من استدامتها - والله أعلم -. (مسألة) : قال الشافعي: " وَالْوَقْتُ الْآخَرُ هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رَجُلٍ فَأَفَاقَ وَطَهُرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ حيض أو نفاس وأسلم نصراني وبلغ صبي قبل مغيب الشمس بركعة أعادوا الظهر والعصر، وكذلك قبل الفجر بركعة أعادوا المغرب والعشاء، وكذلك قبل طلوع الشمس بركعة أعادوا الصبح وذلك وقت إدراك الصلوات في العذر والضرورات وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك ركعة قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ومن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمس فقد أدرك الصبح " وأنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة فدل على أن وقتهما للضرورات واحد وقد قال الشافعي إن أدرك الإحرام في وقت الآخرة صلاهما جميعا (قال المزني) ليس هذا عندي بشيء وزعم الشافعي أن من أدرك من الجمعة ركعة بسجدتين أتمها جمعة ومن أدرك منها سجدة أتمها ظهرا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ومعنى قوله عندي إن لم تفته وإذا لم تفته صلاها جمعة والركعة عند الشافعي بسجدتين (قال المزني) قلت وكذلك قوله عليه السلام " من أدرك من الصلاة ركعة قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " لا يكون مدركا لها إلا بكمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 سجدتين فكيف يكون مدركا لها والظهر معها بإحرام قبل المغيب فأحد قوليه يقضي على الآخر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَصْلِ وَقْتِ الْإِقَامَةِ وَالرَّفَاهَةِ. فَأَمَّا وَقْتُ أَهْلِ الْعُذْرِ، وَالضَّرُورَةِ كَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، إِذَا طَهُرَتَا، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَا، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَهُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِدْخَالُ الْكَافِرِ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِإِسْلَامِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ صَارَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ حُكْمًا فِي الْإِسْقَاطِ، وَالْإِيجَابِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ تَكْلِيفُ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْكَلَامِ بِفَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَا يُدْرِكُونَهُ مِنَ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: مَا يُدْرِكُونَ بِهِ مَا يَجْمَعُ إِلَى صَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُدْرِكُونَ بِهِ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ أَدْرَكُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ "، فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكُوا مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَيَسْتَوِي حُكْمُ مَا نَقَصَ عَنِ الرَّكْعَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ أَوْ قَدْرَ الْإِحْرَامِ مِنْهَا، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى سَوَاءٍ وَفِي إِدْرَاكِهِمْ لِصَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ. وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ مُتَعَلِّقًا بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يُدْرِكُونَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أَدْرَكَ "، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الصَّلَاةِ بِزَمَانِ رَكْعَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِمَا لِذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَحُرْمَةُ قَلِيلِ الزَّمَانِ كَحُرْمَةِ كَثِيرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ الزَّمَانِ، وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِلرَّكْعَةِ فِي إِدْرَاكِ صَلَاةِ الْوَقْتِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هريرة فالمراد به إدراك الصلاة فيكون بإدراك بعض وقتها، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ. وَأَمَّا الْجُمْعَةُ فِي أَنَّ إِدْرَاكَهَا لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا؛ فَلَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ، وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ خَفَّ حُكْمُهَا فَأَدْرَكَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِدْرَاكَ نَوْعَانِ: إِدْرَاكُ إِلْزَامٍ، وَإِدْرَاكُ إِسْقَاطٍ، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا لَمْ يُسْقِطْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الرَّكْعَةَ، فَكَذَا الْجُمْعَةُ لَمَّا كَانَ فِي إِدْرَاكِهَا إِسْقَاطٌ لَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ. وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِلْزَامِ فَيَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَمُسَافِرٍ أَدْرَكَ خَلْفَ مُقِيمٍ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فَكَذَا مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِلْزَامِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ فلم يصير مُدْرِكًا إِلَّا بِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهَا، وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تُدْرَكُ بِالزَّمَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الزَّمَانِ فَصَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشمس بقدر الإحرام ومدركا لعشاء الْآخِرَةِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ، وَمُدْرِكًا لِلصُّبْحِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي إِدْرَاكِ الصَّلَاةِ الْمَجْمُوعَةِ إِلَيْهَا كَإِدْرَاكِ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ أَدْرَكَ الظُّهْرَ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِرَكْعَةٍ عَلَى الْقَدِيمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ زَمَانٌ آخَرُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ: أَحَدُهُمَا: زَمَانُ طَهَارَةٍ يَنْضَمُّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ بِهَا إِدْرَاكُ الْعَصْرِ لِتَكُونَ قَدْرًا مُعْتَدًّا بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَهَارَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَنْضَمُّ إِلَى الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ لِيُدْرِكَ زَمَانَ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بِكَمَالِهَا وَبِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْأُخْرَى فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَمْسِ رَكَعَاتٍ مَا هِيَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الْعَصْرُ وَرَكْعَةٌ مِنَ الظُّهْرِ فَعَلَى هَذَا لَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ أَرْبَعٍ هي العشاء وركعة من المغرب. الوجه الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الظُّهْرُ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الْعَصْرِ، لِأَنَّ الْعَصْرَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ نَصًّا، وَإِجْمَاعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُهَا [بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ] فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةَ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ثَلَاثٌ مِنْهَا الْمَغْرِبُ وَرَكْعَةٌ مِنْ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا صَارَ فِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِرَكْعَةٍ. وَالثَّانِي: بِالْإِحْرَامِ، وَفِي إِدْرَاكِ الظُّهْرِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ. وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ. وَالرَّابِعُ: بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ، وَفِي إِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: بالإحرام أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ. وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ. وَالرَّابِعُ: فِيهِ وَجْهَانِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ هُوَ خَمْسُ رَكَعَاتٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ الصُّبْحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ وَلَا يُدْرِكُ مَعَ الصُّبْحِ غَيْرَهَا، لِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يَصِيرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّكْعَةِ مِنَ الْحُكْمِ إِدْرَاكَ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فَرْضَهَا، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ لَمْ يُدْرِكِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَصْرُ بِإِدْرَاكِ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الظُّهْرُ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصلاة طرفي النهار} [الإسراء: 78] وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعَلَّقَهُمَا بِطَرَفِ النَّهَارِ، وَطَرَفُهُ آخِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي [أَدَاءِ] الْمَعْذُورِينَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَمْطُورِينَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَكَانَ إِدْرَاكُ الْعَصْرِ إِدْرَاكًا لَهُمَا لِاشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَقْتُ الظُّهْرِ أَنَّهُ لا يدرك به صلاة العصر، لأنها وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ فَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَمْطُورِينَ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَقْتٌ لَوْ أُخِّرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ إِلَيْهِ كَانَتْ أَدَاءً فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَازِمَةً بِهِ قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْعَصْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْعَصْرِ بِهِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الظُّهْرِ عَنْهُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ يُوجِبُ نَفْيَ ضِدِّهِ، وَلَا يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصُّبْحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ يُنَافِي وَقْتَهَا فِي العذر والضرورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 (فَصْلٌ) : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي زَوَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْذَارِ، وَالضَّرُورَاتِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا إِذَا طَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ عَلَى إِنْسَانٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِحُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِحُكْمِ صَلَاةِ الْوَقْتِ الَّذِي طَرَأَ الْعُذْرُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْحُكْمُ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ. فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَيُسْقِطَانِ فَرْضَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَيْضِ "، وَأَمَّا الْكُفْرُ إِذَا طَرَأَ بِالرِّدَّةِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا الْجُنُونُ فَيُسْقِطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ "، وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَدَامَ جَمِيعَ وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اسْتَدَامَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى دَخَلَتِ الصَّلَاةُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ سَقَطَ فَرْضُهَا، وَإِنْ قَصَرَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ حَتَّى لَمْ تَدْخُلِ الصَّلَاةُ فِي التَّكْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا وَلَزِمَ إِعَادَتُهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ - الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ، - فَلَمَّا أَفَاقَ قَضَاهَا قَالَ: وَلِأَنَّ الْخَمْسَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَلَيْسَ فِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَفِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ قَالَ: وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَالسُّكْرِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرَّجُلُ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَقَالَ: " لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إِلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا "، هَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ كَالْجُنُونِ طَرْدًا، وَالسُّكْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُهَا فِي الْجُنُونِ لَمْ يُقْضَ فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُهَا فِي الْإِغْمَاءِ لَمْ يُقْضَ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ طَرْدًا، وَكَوَقْتِ الظُّهْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى يَسْقُطُ مَعَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ مَعَهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، كَالصِّغَرِ، وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالسُّكْرِ، وَضَرْبٌ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالْجُنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ الْإِغْمَاءِ مُلْحَقًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ اسْتِحْبَابًا. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُلْحِقُ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةً فَيَعْسُرُ بِالْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ إِعَادَةَ الْقَلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةٌ وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمُ الصَّلَاةَ بِالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ عَلَى قَوْلِنَا، وَقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ الصَّوْمَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَالصَّلَاةَ عِنْدَهُمْ لَا تَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا كَثُرَتْ، فَالْمَعْنَى الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ فِي الْإِغْمَاءِ بَيْنَ كَثِيرِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِ الصِّيَامِ بِمِثْلِهِ فَرَّقْنَا بَيْنَ كُلِّ الصَّلَاةِ وَكُلِّ الصِّيَامِ، وَثَمَّ يُقَالُ: لَهُمُ الصَّوْمُ أُدْخِلَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ نُوجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصِّيَامَ وَلَا نُوجِبُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فطرآن هَذِهِ الْأَعْرَاضُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَطْرَأَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، نُظِرَ فَإِنْ مَضَى مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَحْدَهَا دُونَ الْعَصْرِ، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فَإِنْ مَضَى مِنْ وَقْتِ السَّلَامَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَطَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ فَرْضُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا بِزَمَانِ الْإِمْكَانِ يَسْتَقِرُّ، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: قَدْ لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، قَالَ: وَفِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ مَعَهَا قَوْلَانِ، فَجَعَلَ أَبُو يَحْيَى إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ مُمْكِنٌ فَلَزِمَ بِهِ الْفَرْضُ، وَالْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْفَرْضُ - وَاللَّهُ أعلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 (بَابُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَمَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصلوات ولا يؤذن) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ، وَإِقَامَتِهِ إِلَّا مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ وَلَا وَجْهُهُ عَنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ من الله ورسوله} [الحج: 27] أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِهِ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: (أَلَا إِنَّ لَيْلَى أَذَّنَتْ بِقُفُولٍ ... وَمَا أَذَنَتْ ذَا حَاجَةٍ بِرَحِيلِ) فَسُمِّيَ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِهَا وَحُضُورِ فَعْلِهَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} [فصل ت: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] ، قِيلَ فِي أحد تأويليها: إِنَّهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالْقَرْنِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالرَّايَةِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ هَمَّ أَنْ يُعْمِلَ النَّاقُوسَ. فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طاف بي رجل وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ - مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ فُرَادَى فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخطاب وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ سُنَّةٌ فَالصَّلَوَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنَ السُّنَّةِ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ المفروضات لما ذكرنا، وقسم من السنة يُنَادِيَ لَهَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَهُوَ مَا يُقَامُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَفْرُوضِ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، اقْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ فِيهَا وَأَنَّ فِي الْأَذَانِ لَهَا إِدْخَالَ شَكٍّ عَلَى سَامِعِيهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى صَلَاةِ الْوَقْتِ، وَقِسْمٌ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا نِدَاءَ إِلَيْهَا وَهُوَ مَا سِوَى الْقِسْمَيْنِ مِنَ النُّذُورِ، وَالسُّنَنِ، وَالنَّوَافِلِ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُومُ إِلَى سُنَنِهِ وَإِلَى نَوَافِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا نِدَاءٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُنَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِهِمَا اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجْلِسِ مَا اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَإِنَّمَا تُجَالِسُونَ بِالْأَمَانَةِ " وَلِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ حَيْثُ اسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ وَاسْتَدْبَرَ بِهَا الْقِبْلَةَ أَنَّ الْخُطْبَةَ مَوْعِظَةٌ وتخويف للمحاضرين فَكَانَ مِنْ إِجْمَالِ عِشْرَتِهِمُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ وَالْأَذَانُ إِعْلَامٌ لِمَنْ بَعُدَ وَدُعَاءٌ لِمَنْ غَابَ مِمَّنْ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ فِي مَجَالِهَا فَقَدْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ مُرَبَّعَةً لَا مَجَالَ لَهَا حَتَّى أَحْدَثَ الْمَنَارَةَ الْمُدَوَّرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا وَالْعَدَدُ يَسِيرًا فَلَيْسَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَدُورَ فِي مَجَالِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ، وَوَقَفَ إِلَى جِهَةَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَذَانُهُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا، وَالْعَدَدُ كَثِيرًا كَالْبَصْرَةِ فَفِي جَوَازِ طَوَافِهِ فِي مَجَالِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِهَاتِ وَإِنَّ عدا الأمصار أقروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الْمُؤَذِّنِينَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، لَكِنْ لَا يَطُوفُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ "، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَلْتَفِتُ فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَوْ خَالَفَ الْمُؤَذِّنَ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِأَذَانِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَشَرَعَ فِي الْأَذَانِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا أَجْزَأَهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: من أصحابنا من جمع بينهما فقال: يجزيه مِنَ الْخُطْبَةِ كَمَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْأَذَانِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا فَرْضًا، وَالْأَذَانَ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ سُنَّةً. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْخُطْبَةِ عُدُولًا عَنْ أَهْلِهَا الْمَقْصُودِينَ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَذَانِ عُدُولٌ عَنْ أَهْلِهِ الْمَقْصُودِينَ بِهِ. (فَصْلٌ) : وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ خَطَبَ فِي الْجُمْعَةِ جَالِسًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَسْنُونًا كَانَ الْقِيَامُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَالْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ الْقِيَامُ فِيهَا وَاجِبًا، فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ مَاشِيًا فَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فِي مَشْيِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُ من كان في الموضع الذي ابتداء فِي الْأَذَانِ فِيهِ بَقِيَّةَ أَذَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُونَهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ مَنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ صَارَ الْمَوْضِعُ مُخْتَلِفًا في ابتداء الأذان وانتهائه فلم يصرد أعيابه والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أبا محذورة هذا الأذان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَذَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً عَلَى مَا وَصَفَهُ بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَذَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَالثَّالِثُ: هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ الْأَذَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِإِثْبَاتِ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ وَإِسْقَاطِ تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّرْجِيعِ مُخَالِفًا فِي التَّكْبِيرِ، وَصَارَ أبو حنيفة مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّكْبِيرِ مُخَالِفًا فِي التَّرْجِيعِ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ أَصْلُ الْأَذَانِ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَتَرَكَ التَّرْجِيعَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا بِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ كَذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِمَشْهَدِهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيعُ غَيْرَ مَسْنُونٍ فِيهِ كَالْإِقَامَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتِ التَّكْبِيرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ. أَصْلُهُ: آخِرُ الْأَذَانِ يُكَبَّرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ مَسْنُونَ التَّكْرَارِ أَرْبَعًا كَانَ مَسْنُونَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الْأُولَى. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ حِينَ جَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ قال: قلت لأبي محذورة أي عم إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ فَأَخْبِرْنِي قَالَ: نَعَمْ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى غَزَاةِ خَيْبَرَ خَرَجْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَأَذَّنَ مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ وَنَسْتَهْزِئُ بِهِ فَلَمْ يُرْسِلْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا وقد أخذونا وهبوا بِنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعْتُ صَوْتَهُ مُرْتَفِعًا فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ وَصَدَقُوا فَأَرْسَلَهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَقُمْتُ وَمَا شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَلْقَى عَلَيَّ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى أَنْ قَالَ لِيَ ارْجِعْ وَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ، ثُمَّ دَعَا لِيَ وَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ كَرَاهِيَةٍ وَعَادَ ذَلِكَ مَحَبَّةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَدْرَكْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ يُؤَذِّنُ كَمَا حَكَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ ". وَرَوَى [مُحَمَّدُ] بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ الْقَرَظِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ الْقَرَظِ أَذَّنَ وَرَجَّعَ وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ يَنْقُلُهُ خَلْفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَأَصَاغِرُهُمْ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا اخْتِلَافٍ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ الْإِجْمَاعِ وَحُجَجِ الِاتِّفَاقِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ ذِكْرٍ فِي الْأَذَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا، كَالتَّكْبِيرِ فَأَمَّا حَدِيثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَخَذَ بِلَالٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ فَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَزْيَدُ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَلْقِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُطَابِقُ فِعْلَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْغَائِبِينَ أَكْمَلَ هَيْئَةً كَانَ أَكْمَلَ ذِكْرًا، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ أَنْقَصَ هَيْئَةً فَكَانَتْ أَنْقَصَ ذِكْرًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتْ كَلِمَةَ التَّكْبِيرِ كَانَتْ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِهِ فِيمَنْ يَقُولُ بِمُوجَبِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ التَّكْبِيرِ، وَالتَّرْجِيعُ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ عَلَى أَنَّ هَذَا قِيَاسُ أَوَّلِ الْأَذَانِ عَلَى آخِرِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَذَانِ أَكْمَلُ مِنْ آخِرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ تَكَرَّرَ أَرْبَعًا لَكَانَ مُتَوَالِيًا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُوَالَاةَ الْأَذَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْأَذَانِ كَالتَّكْبِيرِ الأول والآخر والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَلْتَوِي فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيُسْمِعَ النَّوَاحِيَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ جَمِيعًا يَمِينًا، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ شِمَالًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ قَدَمَاهُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَيَكُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَذَانِهِ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ كَانَ بِلَالٌ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ يَفْعَلَانِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ لِيَعُمَّهُمْ بِالْخِطَابِ فَأَمَّا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يَا أَهْلَ الْحَيِّ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا إِلَى الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ بَادِرُوا وَأَسْرِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّ هَلَّا بِعُمَرَ " أَيْ: فَبَادِرْ بِذِكْرِهِ فِي أَوَّلِهِمْ. وَقَالَ لَبِيدٌ: (يَتَمَارَى فِي الَّذِي قُلْتُ لَهُ ... وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلَ حَيَّ هَلْ) وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَفِي الْفَلَاحِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ قَالَ لَبِيدٌ: (فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ) وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَقَاءُ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْأَعْشَى: (وَلَئِنْ كُنَّا كَقَوْمٍ هَلَكُوا ... مَا لِحَيٍّ يَا لَقَوْمِي مِنْ فلاح) (مسألة) : قال الشافعي: " وَحَسُنَ أَنْ يَضَعَ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: رَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَأَدْخِلْ أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْلَمَ الْأَصَمَّ بِفِعْلِهِ وَالسَّمِيعَ بِقَوْلِهِ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَدَّتْ أُذُنَاهُ فَاجْتَمَعَ الصَّوْتُ فِي فَمِهِ فَكَانَ أَرْفَعَ لِصَوْتِهِ وَأَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا عَلَى ارْتِفَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَ مَنَارَةٍ أَوْ مِئْذَنَةٍ، أَوْ سَطْحٍ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ مِنْ هيأته وأجزأه - والله أعلم -. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَكُونُ عَلَى طُهْرٍ فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا كَرِهْتُهُ وَأَجْزَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَاللِّبَاسِ، مُتَهَيِّئًا مُتَأَهِّبًا لِلصَّلَاةِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " حَقٌّ وَمَسْنُونٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَّا طَاهِرًا "، وَلِأَنَّهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ أَذَانُهُ، وَيَعْصِي الْمُؤَذِّنُ بِالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَيُجْزِئُهُ أَذَانُهُ، وَهَكَذَا لَوْ أَذَّنَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ كَانَ عَاصِيًا بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ، وَالْأَذَانُ مُجْزِئٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأَنَا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الْإِقَامَةِ أَكْرَهُ مِنِّي لِتَرْكِهَا فِي الْأَذَانِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَعْقُبُهَا الصَّلَاةُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَجْزَأَهُ كَالْأَذَانِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَأُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ لَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِرِوَايَةِ [أَبِي] يَحْيَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنِ [أَبِيهِ] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كُنْتَ فِي بِادِيَتِكَ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِكَ حَجَرٌ، وَلَا إِنْسٌ، وَلَا حَيٌّ، وَلَا شَجَرٌ، إِلَّا وَشَهِدَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّهُ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ أَوْ بَعُدَ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ كَانَ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ لَهُ أَوْلَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَخْفَضَ صَوْتًا، وَفِي تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ ثَانِيَةً أَرْفَعَ صَوْتًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَرْفَعَهُ بِالتَّرْجِيعِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ. وَالثَّانِي: الْإِعْلَامُ لِمَنْ غَابَ فَأَمَرَهُ بِخَفْضِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ شَدَّةَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ يَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ وَأَمَرَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ الثَّانِي لِيَحْصُلَ لَهُ إِعْلَامُ مَنْ غَابَ ثُمَّ يَكُونُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَذَانِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِالْأَذَانِ أَرْفَعَ مِنْ صَوْتِهِ بِالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ، وَالْإِقَامَةَ إِعْلَامٌ لِلْحَاضِرِينَ، فَلَوْ خَافَتَ بِالْأَذَانِ مُخَافَتَةً أَسْمَعْ بِهَا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ فِي الْفُرَادَى، وَالْجَمَاعَةُ تَتِمُّ بواحد ولواسر بِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ لَمْ يُعِدْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن نَظْمَ الْأَذَانِ يَزُولُ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي أَذَانٍ لَمْ يُبْطِلْهُ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا بني على آذان وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُطْبَةَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ لَا تُبْطَلُ بِالْكَلَامِ فَالْأَذَانُ الَّذِي هُوَ مَسْنُونٌ أَوْلَى. أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْكَلَامِ، وَمِنَ السُّنَّةِ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُوَالِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أَذَانَهُ، وَلَا يَفْصِلَهُ بِالسُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ وَفَسَادِ الْإِعْلَامِ فَإِنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ أَذَانِهِ بَنَى، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَطَالَ السُّكُوتَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ، لِأَنَّ أَذَانَ الْوَقْتِ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِقِرَاءَتِهِ على الصحيح من المذهب. (فَصْلٌ) : فَلَوْ نَامَ فِي أَذَانِهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي خِلَالِ أَذَانِهِ فَبَنَى أَجْزَأَهُ، فَلَوْ أَحْدَثَ فَتَيَمَّمَ فِي أَذَانِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي تَضَاعِيفِ أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَذَانِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِإِسْلَامِهِ فِي الْحَالِ وَتَفْرِيقِهِ لَا يُمْنَعُ الْبِنَاءُ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الْبَنَاءُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ فِي تَمَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهَا كَامِلَةً وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسْتَخْلَفُ فِي الْأَذَانِ إِذَا بَنَى لَمْ يَأْتِ بِهِ كَامِلًا فَلَمْ يُجْزِهِ فَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي الْخُطْبَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْأَذَانِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وما فات وقته أقام ولم يؤذن وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ من الليل فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وجمع بعرفة بأذان وإقامتين وبمزدلفة بإقامتين ولم يؤذن فدل أن من جمع في وقت الأولى منهما فبأذان وفي الآخرة فبإقامة وغير أذان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنْ فَاتَهُ صَلَوَاتٌ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَمَنْهِيٌّ عَنِ الْأَذَانِ لِمَا سوى الصلاة الأولة، وهل من السنة أن يؤذن للصلاة الأولة أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَبِهِ قال في القديم أنه يؤذن للصلاة الأولة، وَيُقِيمُ لِمَا سِوَاهَا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ فَعَرَّسَ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ فَأَقَامَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَاسْتَوَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ كَالْإِقَامَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، إِنَّهُ يُقِيمُ لِلْأُولَى وَجَمِيعِ الْفَوَائِتِ، وَلَا يُؤَذِّنُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِهَوِيٍّ مِنَ اللَيْلِ فَأَخَّرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ. وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لَهُمَا وَصَلَّاهُمَا، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ عَلَمٌ عَلَى فَرْضِ الْوَقْتٍ وَلَيْسَ، بِعَلَمٍ عَلَى نَفْسِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْجَمْعِ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهِيَ فَرْضٌ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ إِلْبَاسًا عَلَى السَّامِعِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ أَمَّلَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّلِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ لَمْ يُؤَذِّنْ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأَذَانِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُقَدِّمًا لِلْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخِّرًا لِلظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ كَانَ حُكْمُ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْأَذَانِ لَهَا كَالْفَائِتَةِ فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقاويل فِي الثَّانِيَةِ فَيُقِيمُ لَهَا، وَلَا يُؤَذِّنُ، فَلَوْ أَخَّرَ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَدَّمَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ حِينَ دَخَلَ وَقْتُهَا أَذَّنَ لِلثَّانِيَةِ وَأَقَامَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ الْجَمْعَ بِتَقْدِيمِهَا، وَفِي أَذَانِهِ لِلْأُولَى ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ - وَاللَّهُ أعلم -. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا وَحْدَهُ إِلَّا بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، فإن لم يفعله أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لِلصَّلَوَاتِ الْمَفُرَوضَاتِ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ مَعًا، لَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ فَإِنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ تَرَكَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا وَلَمْ يُعِدْ إِنْ كَانَ فَائِتًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِقَامَةُ وَاجِبَةٌ دُونَ الْأَذَانِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَى. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، فَلَمَّا كَانَ النِّدَاءُ سَبَبًا لِلسَّعْيِ، وَكَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا كَانَ النِّدَاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَاجِبًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي السَّرَايَا، وَيَأْمُرُهُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَذَانَ يَشُنُّوا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَإِنْ سَمِعُوا الْأَذَانَ كَفُّوا، وَلَمْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ فَصَارَتْ مَنْزِلَةُ الْأَذَانِ فِي مَنْعِ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُذْ شَرَعَ الْأَذَانَ دَاوَمَ عَلَيْهِ لِصَلَوَاتِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَبَانَ حُكْمَهُ بِالتَّرْكِ لَهُ، وَلَوْ دَفَعَهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى تَقَدَّرَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْأَذَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ الْمَسْنُونَاتِ، لِأَنَّهُ مَا شَرَّعَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا جَاءَ فَدَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ مَعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ ". قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فَصَارَ شَرْعًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ قَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ قَبْلَ فِعْلِ مُعَاذٍ وَإِنَّمَا مُعَاذٌ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لَوْ وَجَبَ لِلصَّلَاةِ وَكَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ وَقْتِهَا فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " إِشَارَةً إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ زَمَانَ الْأَذَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ؛ وَلَا يَعُمُّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يَلْزَمُهُمُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا يَفْسُدُ بِرَدِّ السَّلَامِ هُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ أَصْلُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّدِّ وَاجِبًا فَلَمْ يُسَلِّمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تُفَارِقُ غَيْرَهَا على ما يذكره. وَأَمَّا أَمْرُهُ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانَهُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ مُخَالِطَةٌ لِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَازُ الْفَرِيقَانِ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَمَيَّزُوا فِي الدَّارِ وَاشْتَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَاهُ قال أيضا: إذا رأيتم مسجد فَلَا تُغِيرُوا وَكُفُّوا، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ كَمَا لَازَمَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِتَأَكُّدِهِمَا لَا لِوُجُوبِهِمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ بِعَرَفَةَ وَفِي الْحَضَرِ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَقْضِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَضَاهُ كَالصِّيَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِذَا قام به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، كَذَلِكَ الْأَذَانُ إِذَا انْتَشَرَ فِعْلُهُ فِي الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ لَمْ يُؤَذَّنْ، أَوْ أُذِّنَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْبَلَدِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا خَرَجَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَأَمَّا أَذَانُ الْجُمْعَةِ فَزَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ لِلْجُمْعَةِ وَغَيْرِهَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْجَمَاعَاتِ وَآحَادِ الْمُصَلِّينَ مَنَعَ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا عَلَيْهِ وَحُورِبُوا لِأَجْلِهِ وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ فَهَلْ يُقَاتَلُونَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ فِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِهِ ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ السُّنَنِ وَحَابِطًا لَهَا حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ وَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَرَوْهُ سُنَّةً وَلَا اعْتَقَدُوهُ شَرْعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَلَكِنْ يُعَنَّفُونَ بِالْقَوْلِ وَيُزْجَرُونَ بِالْإِنْكَارِ، وَلَوْ قُوتِلُوا عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمَسْنُونِ إِلَى حَدِّ الِوَاجِبِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كُلِّهَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أبا سعيد الخدري به فِي تَأْذِينِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدُ وَتَرْكَهُ فِي الْفُرَادَى أَيْسَرُ، وَهُوَ فِي الْحَضَرِ أَوْكَدُ، وَتَرْكُهُ فِي السَّفَرِ أَقْرَبُ، وَإِنَّ كَانَ سُنَّةً فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: " أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَا وَرَجُلٌ فَوَدَّعَنَا وَقَالَ: إِذَا سَافَرْتُمَا وَحَضَرَتِ الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ". (فَصْلٌ) : فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ صَلَاةَ وَقْتِهِ فَسَمِعَ أَذَانًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَذَانُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا وَيُصَلِّي مَعَهَا سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ، وَإِنْ كَانَ يصلي في منفردا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِسَمَاعِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ جَمَاعَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ سُنَّةَ الْأَذَانِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أذانا مسنونا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَسْجِدًا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ مُنْفَرِدًا، أَسَرَّ الْأَذَانَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً تَخَيَّرَ بِالْأَذَانِ لَهَا، فإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 هَذَا مَسْجِدًا عَظِيمًا لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ بِوِلَايَةٍ سُلْطَانِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ دَخَلَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَلَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَخَوْفِ التَّقَاطُعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْوَاقِ الَّتِي يَؤُمُّ فِيهَا جِيرَانُهَا جَازَ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقِيمَ وَلَا تُؤَذِّنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَجْزَأَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الْأَذَانَ لَهَا، وَاسْتَحَبَّ الْإِقَامَةَ لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ، وَلَا إِقَامَةٌ، وَلَا جُمُعَةٌ، وَلَا اغْتِسَالٌ لِلْجُمُعَةِ، وَلَا تَقَدَّمَهُنَّ امْرَأَةٌ، لَكِنْ تَقُومُ وَسْطَهُنَّ " وَعُنِيَ بِالْإِقَامَةِ مَا يفعله مؤذنوا الجماعة من الجهر بها، ولأن الأذان دعاه مَنْ غَابَ وَبَعُدَ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ مَأْمُورَةٌ بِلُزُومِ الْمَنْزِلِ وَصَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَهِيَ اسْتِفْتَاحُ صَلَاةٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَاسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الإحرام. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْعَبْدُ فِي الْأَذَانِ كَالْحُرِّ ". فَاحْتَمَلَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا كَالْحُرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لَهُ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ كَالْحُرِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ الصَّلَاةِ وَمَفْرُوضَاتِهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ [لِنَفْسِهِ] لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِخِدْمَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لأن في ذلك إضرار بِخِدْمَتِهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ. (مَسْأَلَةٌ) : [القول مثلما يقول المؤذن] قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ في صلاة فإذا فرغ قاله وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر ". قال الماوردي: هذا كما قال يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يقول المؤذن ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وروى أبو عبد الرحمن - يعني الحبلي - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَ ". فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْأَذَانِ كُلِّهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ذِكْرُ اللَّهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُسْتَمِعُ، وَهَذَانِ الْمَوْضِعَانِ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَعَدَلَ الْمُسْتَمِعُ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ في الاستغاثة به والرغبة إليه في إمامة الصَّلَاةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَمِنَ السُّنَّةِ لِكُلِّ مُسْتَمِعٍ أَنْ يَقُولَهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَذَانِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّ هَذَا [دُعَاءٌ] وَذَلِكَ نِدَاءٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَمِعُ مِمَّنْ يَحْضُرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ عَلَى غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَطَعَ قِرَاءَتَهُ، وَقَالَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا فَرَغَ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي طَوَافٍ قَالَهُ وَهُوَ عَلَى طَوَافِهِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أَمْسَكَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَهُ فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُسْتَمِعِ، أَوْ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ لِسَانِ الْمُسْتَمِعِ وَأُبْدِلَ مِنْ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً سَوَاءٌ أَتَى بِذَلِكَ سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا، لِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ، كَالْقَارِئِ فِي رُكُوعِهِ، وَالْمُسَبِّحِ فِي قِيَامِهِ وَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ قَالَهُ نَاسِيًا لِصَلَاةٍ أَوْ جَاهِلًا، بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالْمُتَكَلِّمْ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كالمتكلم عامدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْإِقَامَةِ فُرَادَى إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ قد قامت الصلاة مرتين وكذلك كان يفعل أبو محذورة مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن قال قائل قد أمر بلال بأن يوتر الإقامة قيل له فأنت تثني الله أكبر الله أكبر فتجعلها مَرَّتَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ فُرَادَى إِلَّا قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " فإنه يقول: مرتين فتكون إحدى عشر كَلِمَةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ فُرَادَى مَعَ قَوْلِهِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَكُونُ عَشْرَ كَلِمَاتٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَثْنَى مَثْنَى كَالْأَذَانِ وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ أَنَّ مَكْحُولًا حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً " وَبِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُقِيمُ [مثنى] مثنى. وروي أن أبا طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يُفْرِدُ الْإِقَامَةَ فَقَالَ: ثَنِّ لَا أُمَّ لَكَ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى كَالْأَذَانِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ فِي الْإِقَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَهُوَ فِي الْأَذَانِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَلَا يَكُونُ مَا فِيهَا مَا فِي الْأَذَانِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ سِمَاكٍ عَنْ أيوب عن أبي قلابة عن أنس: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الْإِقَامَةَ. وروى يعمر عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الإقامة إلى قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ "، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الأذان على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّتَيْنِ مَرْتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْقَرَظُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ فُرَادَى، وَقَالَ هَذَا الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ بِهِ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَإِنَّهُ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى مَثْنَى، وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أنه قال: نزل جبريل بالإقامة فرادى، وَلِأَنَّهُ ثَانٍ لِأَوَّلَ يُسْتَفْتَحُ بِتَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَقْصَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، كَصَلَاةِ العيدين في عدد التكبير، ولأن الأذان أو في صِفَةً مِنَ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُرَتَّلًا، وَبِالْإِقَامَةِ إِدْرَاجًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْفَى قَدْرًا، كالركعتين الأوليتين لَمَّا كَانَتْ أَوْفَى صِفَةً بِالْجَهْرِ كَانَتْ أَوْفَى قَدْرًا بِالسُّورَةِ، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الصَّلَاةِ إِذَا تَجَانَسَتْ، وَبُنِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّخْفِيفِ بُنِيَ عَلَى التَّبْعِيضِ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا جَانَسَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُبْنَى عَلَى التخفيف في تجويزه بِالتُّرَابِ، وَالْمَسْحِ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الِاقْتِصَارِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْبَعْضِ وَالرَّأْسِ، لَمَّا قُصِرَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْفِيفِ قَسْمًا قُصِرَ عَنْهَا بِالتَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْفِيفِ إِدْرَاجًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبِلَالٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً تَعْقُبُهَا أَخْبَارُنَا، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِفْرَادِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ عَارَضَتْ أَخْبَارَنَا فَأَخْبَارُنَا أَوْلَى لِمُطَابَقَةِ فِعْلِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ لِلْإِعْلَامِ كَانَ أَكْمَلَ قَدْرًا كَمَا كَانَ أَكْمَلَ صِفَةً، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَانَتْ أَقَلَّ قَدْرًا، كَمَا كَانَتْ أَقَلَّ صِفَةً. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِعْلَامِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَوَّلِهِ كَانَ أَوَّلُهُ زَائِدًا عَلَى آخِرِهِ زائد الحصول الْإِعْلَامِ بِأَوَّلِهِ وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِفْتَاحِ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا في الأذان، ففاسد بالتثويب ثم بالترتيل فإن صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالسُّنَّةُ فِي الْأَذَانِ التَّثْنِيَةُ بالترجيع والسنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فِي الْإِقَامَةِ الْإِفْرَادُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُلُّ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى [مِنْ] بَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعِ المتقدمين على الاختلاف في أفضله وأوله. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْمُزَنِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فِي الْقَدِيمِ يزيد في أذان الصبح التثويب وهو " الصلاة خير من النوم " مرتين ورواه عن بلال مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعن علي رضي الله عنه وكرهه في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وقياس قوليه أن الزيادة أولى به في الأخبار كما أخذ في التشهد بالزيادة وفي دخول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيت بزيادة أنه صلى فيه وترك من قال لم يفعل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّثْوِيبُ فَهُوَ [قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ] بَعْدَ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " سُمِّيَ تَثْوِيبًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَابَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى دُعَاءِ النَّاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] أَيْ: رَجْعًا لَهُمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ، لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا فَسَمِعَ تَثْوِيبَ الْمُؤَذِّنِ، فَقَالَ: لِمَنْ مَعَهُ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَاعْتِبَارًا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ مَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ وَآخِذٌ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّثْوِيبِ مِنْ جِهَاتٍ. مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ فَقَالَ الصلاة خير من النوم، وعاد يؤذن وزاد في أذانه الصلاة خير من النوم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي زِدْتَ فِي أَذَانِكَ قَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ظَنَنْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ثَقُلْتَ عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: " زِدْهَا فِي أَذَانِكَ ". وَمِنْهَا رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلْقَى عَلَيْهِ الْأَذَانَ قَالَ: " تَقُولُ فِي الْفَجْرِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَمِنْهَا رِوَايَةُ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَلَا يُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ ". وَمِنْهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ " فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ سُنَّةُ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ، فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ وَذَاكَ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ فِيهَا سُنَّةٌ كَالصُّبْحِ، وَهَذَا خَطَأٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ سُوَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، ثُمَّ طَرِيقُ الْمَعْنَى: أَنَّ الصُّبْحَ إِنَّمَا يُثَوَّبُ فِيهَا لِكَوْنِ النَّاسِ نِيَامًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَالْأَذَانِ لَهَا وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تَدْخُلُ أَوْقَاتُهَا وَالنَّاسُ مُسْتَيْقِظُونَ فَلَمْ يثوب لها. (مسألة) : قال الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَدْلًا أَمِينًا لِرِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الأئمة واغفر للمؤذنين ". وروى الحكم بن أبان عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤذن لكم خياركم، ويؤمكم أقرأكم ". وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا بَنِي خَطْمَةَ اجْعَلُوا مُؤَذِّنَكُمْ أَفْضَلَكُمْ "، وَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، وَرُبَّمَا أَشْرَفَ فِي صُعُودِ الْمَنَارَةِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ فَإِذَا كَانَ أَمِينًا كَفَّ بَصَرَهُ وَصَدَقَ خَبَرُهُ. (فَصْلٌ) : وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ لِيَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ فَيُؤَذِّنُ فِي أَوَّلِهِ فَيُدْرِكُ النَّاسُ فَضِيلَةَ التَّعْجِيلِ، فَإِذَا كَانَ ضَرِيرًا، أَوْ بَصِيرًا جَاهِلًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْأَذَانِ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيمِ، أَوِ الْفَوَاتِ بِالتَّأْخِيرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِبَصِيرٍ عَارِفٍ فَيُؤَذِّنُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ، قَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرِيرًا يُؤَذِّنُ مَعَ بلال، فأما غير البالغ فمكروه الارتسام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 بالأذان مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، فَإِنْ أَذَّنَ جَازَ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلرِّجَالِ، فَإِنْ أَذَّنَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَذَانِهَا وَقَالَ أبو حنيفة: يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَذَانِهِ كَالْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثِقَةً، وَلَيْسَ التَّأْكِيدُ مُتَكَرِّرًا، كَمَا تَقُولُ صِدْقٌ وَبِرٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا عَدْلًا إِنْ كَانَ حُرًّا ثِقَةً إِنْ كَانَ عَبْدًا، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِلَّا عَدْلًا - يَعْنِي - فِي دِينِهِ ثِقَةٌ - يَعْنِي - فِي عِلْمِهِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِإِشْرَافِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ عِنْدَ صُعُودِ الْمَنَارَةِ. وَالثَّانِي: لِإِشْرَافِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَدِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُمَا جميعا. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَرَقَّ لِسَامِعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صِيِّتًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: " أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ "؛ وَلِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِسَامِعِهِ إِلَى الْحُضُورِ. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرَسِّلًا بَغَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا يُغَنَّى فِيهِ وَأُحِبُّ الْإِقَامَةَ إِدْرَاجًا مُبِينًا وَكَيْفَ مَا جَاءَ بِهِمَا أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرسِّلًا وَيُقِيمَ إِدْرَاجًا مُبَيِّنًا لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذَرْ "، وَلِأَنَّ التَّرَسُّلَ فِي الْأَذَانِ أَبْلَغُ فِي إِعْلَامِ الْأَبَاعِدِ، وَالْإِدْرَاجَ أَعْجَلُ فِي اسْتِفْتَاحِ الْحَاضِرِ فَأَمَّا التَّرَسُّلُ فَهُوَ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الْإِبَانَةِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاجُ فَهُوَ طَيُّ الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تغني فِيهِ فَفِي التَّمْطِيطِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْإِعْرَابُ الْفَاحِشُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَفْخِيمُ الْكَلَامِ وَالتَّشَادُقُ فِيهِ، وَيُكْرَهُ تَلْحِينُ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالتَّلْحِينِ عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ، وَلِأَنَّ السَّلَفَ تَجَافُوهُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ الْعَجَمُ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَوْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَيْئَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْهَيْئَاتِ لَا تَقْتَضِي الْفَسَادَ كَمَنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ. (فَصْلٌ: الْأَذَانُ بالفارسية) فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُحْسِنُ، وَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يُجْزِهِ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي بِهِمْ فَاضِلًا قَارِئًا عَالِمًا وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِصَاحِبِهَا وَالِاتِّبَاعَ لِمَنِ انْتَدَبَ لَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا فِي دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، عَالِمًا بِالصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا وَأَحْكَامِهَا قَارِئًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى قِرَاءَتِهِ [فِيهَا] فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَانَ أَوْلَى فَإِنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّقَدُّمِ لَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ " - يَعْنِي؛ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله ". (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ الَذِي حَفِظْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلال وابن أم مكتوم فإن كان المؤذنون أكثر أذنوا واحدا بعد واحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ نَدَبَهُمُ الْإِمَامُ لِلْأَذَانِ وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِلَّا، فَلَوْ أَذَّنَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كَافَّةً لَمْ يُمْنَعُوا وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَذِّنَانِ سَعْدٌ الْقَرَظُ، وَآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِاثْنَيْنِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهُمْ حِينَ اتَّسَعَتِ الْمَدِينَةُ أَرْبَعَةً، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ جَعَلَهُمْ سِتَّةً فَإِنْ زَادَ فَثَمَانِيَةً لِيَكُونُوا شَفْعًا، وَلَا يَكُونُوا وِتْرًا، ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ مَا كَانَ بَيْنَ أَذَانِ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا، وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَخْتَلِطُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَلَا يُفْهَمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَبِيرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَالْمَسْجِدُ وَاسِعًا. فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأَذَانِ دُفْعَةً وَاحِدَةً " كَالْبَصْرَةِ "، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ أَصْوَاتِهِمْ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ وَيَتَّفِقُوا فِي الْأَذَانِ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي كَلِمَةٍ مِنْهُ أَبْيَنُ وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتَلَطَ، وَإِذَا أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَذَّنُوا عَلَى الْوَلَاءِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْآخَرِ بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ كَانَ يَنْزِلُ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا وَإِلَّا بَيْنَهُمَا، لأنه يَتَنَفَّلُ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَغْرِبٍ أَمْهَلَ قَدْرَ مَا يَتَأَهَّبُ النَّاسُ وَيَحْضُرُ الْإِمَامُ، وَيَتَنَفَّلُ بِالْقَدْرِ الْمَسْنُونِ ثُمَّ يَرْفَعُ بِالْإِقَامَةِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عِنْدَ كُلِّ أَذَانٍ رِكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ ". وَيَخْتَارُ أَنْ يُقِيمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ أَذَّنَ لَهَا لِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَإِنَمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ، فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَا رأيته؛ وأنا كنت أريده فقال أقم أَنْتَ ". (فَصْلٌ) : فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ إِقَامَةِ الْمُؤَذِّنِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْإِقَامَةِ، فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَائِمِينَ لِيَسْتَوُوا فِي صُفُوفِهِمْ قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَذَّنَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً بِأَذَانِهِ، رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذَانًا فَقَالَ: كَمَا قَالَ وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَ وَقَالَ: انْزِلُوا وَصَلُّوا بِأَذَانِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ ". وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ أَذَانِ الْعَبْدِ، وَهَكَذَا الْمُدْبِرُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُمُ الْإِمَامُ وَهُوَ يَجِدُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْزُقَ مُؤَذِّنًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يَتَطَوَّعُ بِالْأَذَانِ بَصِيرًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ أُجْرَةً لِرِوَايَةِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: يَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي فَقَالَ: " أَنْتَ إِمَامُهُمْ فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا ". وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مُرْصَدٌ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْمَاسَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِالْأَذَانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْهُ، وَمِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ أَنْ يُؤْخَذَ رِزْقٌ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الْحَجِّ " غَيْرَ أَنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ ها هنا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رزق مؤذنه، وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُؤَذِّنَ أُجْرَةً، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ رِزْقًا، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُرَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قَسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ، كَالْحَجِّ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْغَيْرِ، كَالْأَذَانِ، [وَالْإِقَامَةِ] ، وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، كَالْجِهَادِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُ إِلَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يجوز أن يرزقه من الفيء ولا من الصدقات لأن لكل مالكا موصوفا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ، وَالْقَاضِي يَكُونُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَالُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ هُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهَا، لِأَنَّهَا مَالُ الْغَانِمِينَ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي غَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي أَرْزَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْقُضَاةِ، وَأَمَّا أَمْوَالُ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ فَذَلِكَ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَأَهْلِ السَّهْمِ الْمَذْكُورِينَ لَهَا لَا يَجُوزُ أن تصرف في غيرهم. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ الْأَذَانَ لِمَا جَاءَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وغفر للمؤذنين ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فَالْقِيَامُ بِهِ فَضِيلَةٌ، وَفِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَأْذِينِ لَتَنَافَسُوا فِيهِ} وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ القيامة " وفي ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ رَجَاءً وَأَمَلًا، وَمِنْ قَوْلِهِمْ عُنُقِي إِلَيْكَ مَمْدُودٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعًا، وَأَظْهَرُهُمْ حِزْبًا، مِنْ قَوْلِهِمْ رَأَيْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ أَيْ: جَمْعًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِسْرَاعًا إِلَى الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَسِيرُ الْعُنُقَ أَيْ: يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ وَرَوَى زِيَادٌ أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ أَلَّا أُجَاهِدَ، وَلَا أَحُجَّ، وَلَا أَعْتَمِرَ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ " وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: " ما أتسامح على شئ إِلَّا أَنَّنِي كُنْتُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأذان للحسن والحسين - والله أعلم - " (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْأَذَانِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَالْإِقَامَةُ فَضِيلَةٌ أَيْضًا وَالْقِيَامُ بِهَا سُنَّةٌ، رَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فأرشد الأئمة وأغفر للمؤذنين " فإذا قِيلَ: فَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ قُلْنَا للإنسان فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَهُ الْقِيَامُ بهما والفراغ لهما والجمع بينهما أولى لحوز شَرَفِ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَثَوَابِ الْفَضِيلَتَيْنِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِمَامَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَضَعْفِ قِرَاءَتِهِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَذَانِ، لِعُلُوِّ صَوْتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْقَاتِ فَأَوْلَى بِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْأَذَانِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَامَةِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْأَذَانِ لِضَعْفِ قُوَّتِهِ وَقِلَّةِ إِبْلَاغِهِ وَيَكُونَ قَيِّمًا بِالْإِمَامَةِ، لِعِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَصِحَّةِ قِرَاءَتِهِ، فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَلَا يُنْتَدَبُ للأذان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَصْلُحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَعْجِزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ أن ينقطع إليه وينفر بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَفَرَّدَ بِالْإِمَامَةِ دُونَ الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ إِلَّا بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَظْهَرُ مَشَقَّةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ " فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى فَضْلِ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْزِلَةَ الْأَمَانَةِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ الضَّمَانِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْإِمَامِ بِالرُّشْدِ، وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ مِنْ زيغه، وَدَعَا لِلْمُؤَذِّنِ بِالْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِسَلَامَةِ حَالِهِ، وَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ بِالْإِمَامَةِ فَفِيهَا أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الأذان الشهادة برسالته واعترف غَيْرِهِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِيهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَشَاغِلًا بِالرِّسَالَةِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْفَرَاغِ لِلْأَذَانِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَوْلَا الخلافة لأذنت " (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُبْرِدَ بِهَا في مساجد الجماعات لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " وأقل ما للمصلي في أول وقتها أن يكون عليها محافظاً ومن المخاطرة بالنسيان والشغل والآفات خارجاً قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ إِلَّا الْمَغْرِبَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِبِلَالٍ أَنْوِرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ " وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ " وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: هِيَ الْمُبَادَرَةُ بِفِعْلِهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا لِيَأْمَنَ ضَيَاعَهَا، أَوْ عَارِضًا يَقْطَعُ عَنْ أَدَائِهَا، وَرَوَتْ أُمُّ فَرْوَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عفو الله " (مسألة) : قال الشافعي: " ورضوان الله إنما يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ والله أعلم " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ " وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ والصُبْحَ بِغَلَسٍ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ فِعْلِهِ وَهَذِهِ أَوَّلُ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَمِنَ مِنْ فَوَاتِهَا وَنِسْيَانِهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْتَنْسِئُوا الشَّيْطَانَ " يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ فَلَا تُؤَخِّرْهُ، مأخوذ من نشأت الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرْتُهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّبْحَ صُبْحَانِ صُبْحُ الْفَجْرِ وَالثَّانِي صبح النهار. فأراد به الصبح الأول، لأن لا تُقَدَّمَ الصَّلَاةُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى شَاكًّا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ أَعَادَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصْبَاحَ بِهَا إِنَّمَا هُوَ اسْتِدَامَتُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدُّخُولِ فِيهَا لِيُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالٍ: " نَوِّرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ " فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْفَجْرَ الثَّانِيَ، لِأَنَّ لَهُ نُورًا فَرُبَّمَا رَأَى النَّاسُ مَعَهُ مَوَاقِعَ النَّبْلِ، أَوْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُفْعَةً حِينَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَآخِرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ " فَإِنَّمَا عَنَى مَنْ أَدَّى صَلَاةَ وَقْتِهِ وَجَلَسَ لِانْتِظَارِ الْأُخْرَى (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَوَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَنَقُولُ أَمَّا الصُّبْحُ فَيُعَجِّلُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مَتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ " (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الظُّهْرُ فَقَدْ رَوَى [الشَّافِعِيُّ عَنْ] سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيحِ جَهَنَّمَ قَالَ: وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتْ رَبِّي أَكَلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفساً في الشتاء، ونفساً فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْحَرَّ فَمِنْ حَرِّهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْبَرْدَ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا "، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِدٌ في بلاد (تهامة) و (الحجاز) و (كمكة) وَ (الْمَدِينَةِ) وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا؛ لِاخْتِصَاصِ تِهَامَةَ بِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي كُلِّ الْبِلَادِ إِذَا كَانَ الحر بها شديداً ن وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَرُّ شَدِيدًا. وَالثَّانِي: أَنْ تُقَامَ فِي جَمَاعَةٍ يَحْضُرُهَا الْأَبَاعِدُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَرُّ يَسِيرًا، وَالْبَلَدُ بَارِدًا، أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ حَاضِرَةٍ لَا يَأْتِيهَا الْأَبَاعِدُ كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ كَالظُّهْرِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ مَنْدُوبُونَ إِلَى تَقْدِيمِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا فَكَانَ تَعْجِيلُهَا أَرْفَقَ بِالْمُنْتَظِرِينَ لَهَا لِيَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ لِيُقِيلُوا أَوْ يَسْتَرِيحُوا، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَوْفَى بِهَا آخِرَ وَقْتِهَا، بَلْ يَتَأَخَّى بِهَا أَنْ تُقَامَ وَفِي الْوَقْتِ بَقِيَّةٌ بَعْدَ فراغه منها (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا فَقُلْتُ: وَمَا الْعَصْرَانِ؟ قَالَ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حَبَسُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا " وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَتَعْجِيلُهَا أَوْلَى رَوَى الْحَارِثُ بْنُ شِبْلٍ عَنْ أُمِّ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ " وَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: " إِنَّ تَعْجِيلَهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ لَهُ لِرِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ "، وَاعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فَخَرَجَ عُمَرُ فَنَادَى الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي " وَرَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إِلَى نَحْوٍ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَلَمَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسُقْمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هَذِهِ الساعة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وروى [عاصم بن] حميد السكوني عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ " وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الْفَضِيلَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى تَأْخِيرِهَا، وَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَغْلِبُهُ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَأْخِيرُهَا أَفْضَلَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَثِقْ بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّبْرِ لَهَا وَلَمْ يَأْمَنْ سِنَةَ النَّوْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ لَهُ، وَيَجْعَلُ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَارِضَةَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: (فَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ) فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُؤَخِّرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا مُقَصِّرٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ عَنْ ثَوَابِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ فِي إِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ، - وَاللَّهُ أعلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ لَا فَرْضَ إِلَّا الخمس) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَلَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ صَلَاةُ فَرِيضَةٍ، وَلَا نَافِلَةٍ، وَلَا سُجُودُ قُرْآنٍ، وَلَا جِنَازَةٍ، إِلَّا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ إِلَّا فِي حَالَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: (وَهَذَا كَمَا قَالَ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ أَوْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} أربعة تأويلات: أحدهما: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيُعْلَمَ رَسُولِي وَأَوْلِيَائِي، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِضَافَةَ مَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُ لرئيس إِلَى الرَّئِيسِ كَمَا قَالُوا فَتَحَ عُمَرُ سَوَادَ الْعِرَاقَ وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143] بِمَعْنَى إِلَّا لِنَرَى، وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّ معناه إلا ليعلموا أننا نعلم، أن الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَفِيهِ سِتَّةُ تأويلات: أحدهما: مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَقْبِلَ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلسَّائِرِ حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَلِلْخَائِفِ فِي الْفَرْضِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ شَرْقٍ، أَوْ غَرْبٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَصَلَّوْا إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قَالُوا إِلَى أَيْنَ فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ، أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَسْتَقْبِلُونَهَا وَالسَّادِسُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين استقبلت الْكَعْبَةَ تَكَلَّمَتِ الْيَهُودُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابن عباس (فَصْلٌ) : ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ كَرِهَ اسْتِقْبَالَهَا وَأَحَبَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا في سبب كراهيته لها قال مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا كَرِهَهَا لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ فِيهَا، وَلَا يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا، وَيُخَالِفُ ديننا، وكانوا يقولون إن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ مَا دَرَوْا أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَرِهَهَا، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرِهَ الْعُدُولَ عَنْهَا فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَ قِبْلَتَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] يَعْنِي: الْكَعْبَةَ {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أَيْ: نَحْوَهُ وَجِهَتَهُ، وَعَنَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْكَعْبَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] فَنَسَخَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفَرَضَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِ النَّسْخِ فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا [وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 شَهْرًا] قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ من الهجرة وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ الْقِبْلَةِ وَالْقِيَامُ الْأَوَّلُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِبْلَةَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَتَغَيَّرَتْ أُمُورُ النَّاسِ حَتَّى ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ، وَنَافَقَ قَوْمٌ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَلِمَ أَنَّا عَلَى هُدًى وَسَيُتَابِعُنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143] يَعْنِي: فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ {مِمَّنْ ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] بِالرِّدَّةِ، أَوِ النِّفَاقِ {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] يَعْنِي: بِالْكَعْبَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى رَفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهُمْ زُعَمَاءُ الْيَهُودِ فَقَالُوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا وَلَّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدِينِهِ ارْجِعْ إِلَى قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ثُمَّ قَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِنَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) {1) [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرؤوف رَحِيمٌ} [البقرة: 143] يَعْنِي: قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ لَهُمْ عَمَلًا، وَلَا يُضِيعُ لَهُمْ أَجْرًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ وَأَمَرَ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الَّذِي أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَمَاتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَرْضٌ لَا يُجْزِئُ أَحَدًا صَلَاةُ فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَلَا جِنَازَةٍ وَلَا سُجُودُ سَهْوٍ، وَلَا تِلَاوَةٌ إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْكَعْبَةَ إِلَّا فِي حالين استثناهما الشرع: أحدهما: حال المتابعة وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالثَّانِيَةُ: الْمُتَنَفِّلُ فِي سَفَرِهِ سَائِرًا، وَمَا سِوَاهُمَا يَجِبُ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعُدُولِ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فالمتوجهون إليها على ستة أضرب: أحدهما: مَنْ فَرْضُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَالثَّانِي: مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ وَالثَّالِثُ: مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ وَالرَّابِعُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ وَالْخَامِسُ: مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ وَالسَّادِسُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ فرضه المشاهدة وهو مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا، فَفَرْضُهُ فِي اسْتِقْبَالِهَا الْمُشَاهَدَةُ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ شَاهَدَهَا، لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْمَانِعَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، لِتَقَدُّمِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ جُمْلَتَهَا الْقِبْلَةُ، فَأَمَّا الْحِجْرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ فِي الصَّلَاةِ جَائِزٌ كَالْبَيْتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لعائشة رضي الله عنه: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ " وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ قَطْعًا، وَإِحَاطَةً وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْلِبَةِ الظَّنِّ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْيَقِينِ، وَالنَّصِّ لِأَجْلِهِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، فَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا بِقَلِيلٍ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا حَائِطٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ دَارٍ، أَوْ جِدَارٍ، فَفَرْضُهُ الْيَقِينُ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ فَإِذَا تَيَقَّنَهَا صَارَ إِلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْيَقِينِ، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَهَكَذَا الْمُصَلِّي إِلَى كُلِّ قِبْلَةٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى الْخَطَأِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ فَذَلِكَ على حالين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 أَحَدُهُمَا: الضَّرِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ كَانَ عَنْ تَفْوِيضٍ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: الْبَصِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ مِيقَاتِهَا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِحَائِلٍ غَيْرِ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْبِرُ مَنْ عَلَى الْجَبَلِ الْحَائِلِ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ فَهُوَ الرَّاحِلُ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ كَثِيرِ الْأَهْلِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قِبْلَتِهِمْ فِيهِ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، فَيَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَهُمْ تَفْوِيضًا لِاتِّفَاقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ يَسْتَدْرِكُهُ الْوَاحِدُ بِاجْتِهَادِهِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ الْبَصِيرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي بَرٍّ، أَوْ بَحْرٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ قَلِيلَةِ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالدَّلَائِلِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهَا وَهَلْ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْجِهَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَتَعَذَّرُ إِصَابَتُهَا، وَلِأَنَّ الصَّفَّ الْوَاحِدَ لَوِ امْتَدَّ حَتَّى خَرَجَ عَنْ طُولِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ اسْتِوَاءِ الصَّفِّ مُنْحَرِفِينَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ الْعَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَادِلٌ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْجِهَةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قاله فِي " الْأُمِّ " إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهَا إِلَى الْجِهَةِ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الدَّانِيَ مِنَ الْكَعْبَةِ مُصَادَفَةُ عينها لزم والنائي عَنْهَا فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ عَيْنَهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْيَقِينِ وَأَمَّا الضَّرْبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ الضَّرِيرُ فِي السَّفَرِ يُقَلِّدُ الْبَصِيرَ لِيَجْتَهِدَ لَهُ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ قَدْ فَقَدَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، فَصَارَ كَالْعَامِّيِّ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِفَقْدِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى عِلْمِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ، وَالْخَبَرَ يَكُونُ عَنْ يَقِينٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّفْوِيضِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَالتَّفْوِيضَ لَا يحتاج إلى سؤال ولا جواب (فَصْلٌ) : فَأَمَّا دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَهِيَ الشَّمْسُ فِي مَطْلَعِهَا، وَمَغْرِبِهَا، وَالْقَمَرُ فِي سَيْرِهِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومُ فِي طُلُوعِهَا، وَأُفُولِهَا، وَالرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِي هُبُوبِهَا وَالْجِبَالُ فِي مَرَاسِيهَا، وَالْبِحَارُ فِي مَجَارِيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ فَرِيقٍ بِنَوْعٍ مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 [الأنعام: 97] . فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى إِحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ اسْتَقْبَلَهَا، وَصَلَّى إِلَيْهَا، فَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُ جَمِيعِهِمْ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرَى الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِهِ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى جِهَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ لِتَكَافُئِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كَأَهْلِ مَكَّةَ يَأْتَمُّونَ بِمَنْ فِي مُقَابِلَتِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ لِعُدُولِهِ عَنْ قِبْلَتِهِ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَ إِمَامِهِ، وَخَالَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ فَسَادَ صَلَاةِ بَعْضٍ، ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ لِفَرْضِ صَلَاةٍ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضًا ثَانِيًا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا، كَالْمُتَيَمِّمِ، فَإِنْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ صَلَّى، وَإِنِ اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ إِلَى الشَّرْقِ، وَالثَّانِي إِلَى الْغَرْبِ صَلَّى الثَّانِيَةَ إِلَى الْغَرْبِ، وَلَمْ يُعِدِ الْأُولَى الَّتِي صَلَّاهَا إِلَى الشَّرْقِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ، فَلَوْ كَانَ حِينَ اجْتَهَدَ أَوَّلًا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَيُعِيدُ فِي الْأُخْرَى وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَامِّيِّ إِذَا أَفْتَاهُ فَقِيهَانِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مُخَيَّرًا فَكَذَا فِي الْجِهَتَيْنِ وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي إِلَى الجهتين (فصل: متى يسقط فرض القبلة) فَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِمَا فَأَحَدُهُمَا حَالُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ يُصَلِّي فِيهَا كَيْفَ أَمْكَنَهُ رَاكِبًا وَنَازِلًا، وَقَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَمُومِيًا، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فإن خفتم} [البقرة: 239] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ تُسْقِطُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِالْعَجْزِ عَنْهَا: أَحَدُهَا: التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْخَوْفِ إِذَا عَجَزَ عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَالثَّانِي: الْقِيَامُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَاءِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلَوْ قَدَرَ على بعضها وعجز عن بعضها لزمه بما قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَرَاكِبًا إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَةِ رَاكِبًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَائِمًا لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَوْكَدُ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَفَرْضُ الْقِبْلَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ السَّائِرُ فِي سَفَرِهِ يُصَلِّي النَّافِلَةَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ مِنْ قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ "، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لو منع من التنفل سائر الأداء إِمَّا إِلَى تَرْكِ التَّنَفُّلِ أَوْ إِلَى الِانْقِطَاعِ عن السير، وفي تمكينه منه وفق سَفَرِهِ، وَوُفُورُ ثَوَابِهِ بِتَنَفُّلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ، كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، أَوْ كَانَتْ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ سَائِرًا لِوُجُوبِهَا عِنْدَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَهَا عَلَى الْأَرْضِ قَائِمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا، لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَتَأَكَّدَتْ، وَلِأَنَّهَا نَفْلٌ فَتَسَهَّلَتْ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِرًا أَوْ غَيْرَ سَائِرٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا فَلَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِقُ بِالْعُدُولِ عَنْهَا، وَكَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا، فَلَا يَخْلُو مِنْ أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 رَاكِبًا، أَوْ مَاشِيًا، فَأَمَّا الْمَاشِي فَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمَشْيَ أَشَقُّ مِنَ الرُّكُوبِ، لَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ في أربعة مواضع من صلاة أَحَدِهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ، لِقُرْبِ الْأَمْرِ فِيهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ ابْتِدَاءً إِلَى الْقِبْلَةِ وَالثَّانِي: فِي حَالِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ فِيهِ مُنْقَطِعُ السَّيْرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالْعُدُولُ عَنْهَا. وَالثَّالِثُ: عِنْدَ السُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يُومِئَ بِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ عَلَيْهِ فِي التَّوَجُّهِ وَغَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى التَّوَجُّهِ فِي سَجْدَتِهِ وَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا بِالْقِيَامِ وَالسَّيْرِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ وَقْتُ السَّلَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ كَالْإِحْرَامِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ السَّلَامَ خُرُوجٌ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَانَ أَخَفَّ مِنْ أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِهِ تَنْعَقِدُ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالْقِيَامِ الَّذِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِ كُلِّهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ الْقِيَامُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فِيهِ كَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؟ قُلْنَا: مَشْيُ الْقَائِمِ يَسْهُلُ فَسَقَطَ عَنْهُ التَّوَجُّهُ لِيَمْشِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ سَفَرِهِ قَدْرَ مَا يَأْتِي بِالرُّكْنِ الْمَسْنُونِ فِيهِ، وَمَشْيُ الْجَالِسِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقِيَامِ، وَقِيَامُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَانَ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ فِيهِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَضَرْبَانِ رَاكِبُ سَفِينَةٍ وَرَاكِبُ بَهِيمَةٍ فَأَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَيِّرًا لَهَا كَالْمَلَّاحِ، أَوْ يَكُونَ جَالِسًا فِيهَا كَالرُّكَّابِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رُكَّابِهَا جَالِسًا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ سَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَّاحًا مُسَيِّرًا لِلسَّفِينَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي نَافِلَتِهِ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فرض التوجه عن الماشي، لأن لا ينقطع عن السير وحده، فالملاح أولى، لأن لا يَنْقَطِعَ بِالتَّوَجُّهِ عَنِ السَّيْرِ هُوَ وَغَيْرُهُ فَأَمَّا رَاكِبُ الْبَهِيمَةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ كَرَاكِبِ السَّرْجِ، أَوِ الْقَتَبِ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِفَخِذَيْهِ وَسَاقَيْهِ فَيَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ رَاكِبًا، وَيَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فَرْضُ التَّوَجُّهِ عَنْهُ سَاقِطًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا كَانَ يَرْكَبُ، وَعَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَتَنَفَّلُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا، أَوْ بَعِيرًا، أَوْ حِمَارًا لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِهَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَارَةً، وَعَلَى حِمَارِهِ أُخْرَى وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِآلَةِ كَ " الْهَوْدَجِ " وَ " الْمَحْمَلِ " وَ " الْعِمَارِيَّةِ " فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ لَازِمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ صَارَ الْبَعِيرُ إِلَى غَيْرِهَا فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ [لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ] مُسْتَدِيرًا بِبَدَنِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَفِيهِ إِضْرَارٌ بِمَرْكُوبِهِ وَإِدْخَالُ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّرْجِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاكِبِ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مَقْطُورًا بِمَرْكُوبِ غَيْرِهِ كَ " الْجِمَالِ الْمَقْطُورَةِ " فِي سَيْرِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ وَيُنْهِيَهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِشَيْءٍ مِنْهَا الْقِبْلَةَ لِمَا فِي عُدُولِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ سَيْرِهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَ (إِحْرَامِهِ) وَسُجُودِهِ بِخِلَافِ الْمَاشِي وَالْحَالُ الثَّانِيَة: أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مُفْرِدَ السَّيْرِ غَيْرَ مَقْطُورٍ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ، وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا فِي الْإِحْرَامِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْمَاشِي لِسُرْعَةِ فَعْلِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَاشِي، لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنَ الْبَهِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ مُخَالِفًا لِلْمَاشِي فِي سُقُوطِ التَّوَجُّهِ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي رُكُوعِهِ، وَسُجُودِهِ، وَلَا يَلْزَمُ السُّجُودُ عَلَى كَفِّهِ، وَلَا عَلَى سَرْجِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَلَى رَاحِلَتِهِ لَكِنْ يَكُونُ سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ (فَصْلٌ) : فَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ فِي صَلَاتِهِ سَائِرًا فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ إِلَى غَيْرِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ إِلَى غَيْرِ القبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ مَرْكُوبُهُ إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَبْنِيَ عَلَى صِلَاتِهِ، فَإِنْ رَدَّهُ فِي الْحَالِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ عَمَلًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِعَمَلِ مَرْكُوبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ فِي الْحَالِ حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ فَتَرَكَهُ تَوَانِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِصُعُوبَةِ ركوبه فضعفه عنَ ضَبْطِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ؟ مِثْلُ الْمُتَكَلِّمِ فِي صِلَاتِهِ سَاهِيًا إِذَا أَطَالَ الْكَلَامَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غير القبلة فيعدل به المركوب إلى جهة الْقِبْلَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِيَتَرَخَّصَ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا كَانَ سَائِرًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ جِهَةَ مَسِيرِهِ، وَلَا جِهَةَ الْقِبْلَةِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَيَتْرُكَ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَيُقِيمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ (فِي الْحَالِ) أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَعَ الْعَجْزِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ (فَصْلٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ سَائِرًا إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ بَلْدَةً، أَوِ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَفَرِهِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِتَرْكِهَا فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ مُجْتَازًا فِيهِ بَنَى عَلَى صِلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فَيَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صِلَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَهُ فِي سَفَرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي الْحُكْمِ فَسَيْرُهُ قَدِ انْقَطَعَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يفعل بطلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقِفَ عَنِ الْمَسِيرِ لِغَيْرِ نزول إما استراحة عن كَلَالِ السَّيْرِ، وَإِمَّا انْتِظَارًا لَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْمَسِيرِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، لِأَنَّ مَسِيرَهُ قَدِ انْقَطَعَ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ وُقُوفِهِ، فَإِنْ سَارَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَبْلَ إِتْمَامِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَسِيرِ الْقَافِلَةِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَهَا إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ لِمَا فِي تَأَخُّرِهِ عَنِ الْقَافِلَةِ لِإِتْمَامِ الصلاة مع الْإِضْرَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ لِإِحْدَاثِ الْمَسِيرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسِيرَ حَتَّى تَنْتَهِيَ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ بِالْوُقُوفِ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يجز له إسقاط مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ فَيَكُونُ كَالنَّازِلِ إِذَا ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ رَكِبَ سَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا قَدْ لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا نَازِلًا فَلَمْ يَسْقُطْ بما أحدثه من الركوب سائراً (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الْمِصْرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ سَائِرًا عَلَى مَرْكُوبِهِ أَوْ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ تَرْكَ التَّوَجُّهِ رُخْصَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ، وَلِأَنَّ فِي التَّوَجُّهِ فِي السَّفَرِ انْقِطَاعًا عَنِ السَّيْرِ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ، وَلَيْسَ فِي تَوَجُّهِ الْمُقِيمِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْإِقَامَةِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَنَفَّلَ سائراً، لأن لا يَنْقَطِعَ عَنْ تَصَرُّفِهِ، أَوْ لَا يَنْقَطِعَ تَطَوُّعُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وطويل السفر وقصيره سواء وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي على راحلته في السفر أينما توجهت به وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يوتر على البعير وأن علياًّ رضي الله عنه كان يوتر على الراحلة (قال الشافعي) وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض ولا فرض إلا الخمس لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي حين قال: هل على غيرها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا إلا أن تطوع) والحالة الثانية شدة الخوف لقول الله عز وجل {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قَالَ ابْنُ عُمَرَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا فلا يصلي في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معايناً فبالصواب وإن كان مغيباً فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِجَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَفِي قَصِيرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلَاةِ قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا غَيَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ تَرْخِيصًا احْتَاجَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِيهِ محدود كَالْقَصْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ، وَلَوِ اخْتَصَّ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ لَتَنَفَّلَ، وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ فَجَازَتْ فِيهِ النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اتِّصَالُ السَّفَرِ وَأَنْ لَا يَنْقَطِعَ الْمَسِيرُ لِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ الَّذِي لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ التي لا تدخل غَالِبًا إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَرُخَصُ السَّفَرِ سَبْعَةٌ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ قِسْمٌ مِنْهَا يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَقِسْمٌ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ كَالْقَصْرِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ لَمْ يَسَعْ أَحَدَهُمَا اتِّبَاعُ صَاحِبِهِ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ وَاحْتَاجَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا يَعْرِفُ دَلَائِلَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْآخَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، أَوْ ضَرِيرًا، فَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا فَفَرْضُهُ فَيَ الْقِبْلَةِ تَقْلِيدُ الْبَصِيرِ الَّذِي مَعَهُ إِذَا لَمْ يَقَعْ فَيَ نَفْسِهِ كَذِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَصِيرُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَسْتَوِي جَمِيعُهُمْ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ، قَدْ فَقَدَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ فِيهِ آلَةُ الِاجْتِهَادِ؛ كَالْعَامِّيِّ فِي تَقْلِيدِ الْعَالِمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَوِ اجْتَهَدَ الضَّرِيرُ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْآلَةِ صَلَّى شَاكًّا، وَلِلضَّرِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، حَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهِيَ: الْقِبْلَةُ، وَحَالٌ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَقْتُ، وَحَالٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَهُوَ: الْإِنَاءَانِ، أَوِ الثَّوْبَانِ، وَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا قَوْلَانِ: (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ بَصِيرًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا كَالْعَالِمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمَ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لَكِنْ إِذَا عرف تعرف وَعَلِمَ فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فَإِذَا تَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الوصول إلى معرفتها باجتهاده فصار كالعارف والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِهَا وَإِذَا عُرِّفَهَا لَمْ يَعْرِفْهَا لِإِبْطَاءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ فِطْنَتِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِيهَا، لأنها قَدْ عَدِمَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ عَمَى الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] (مسألة) : قال الشافعي: فَإِنْ كَانَ الْغَيْمُ وَخَفِيَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى رَجُلٍ فهو كالأعمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ دَلَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَعْمَى وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتَّبَاعُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ لِعَدَمِ العلم وبين من جهلها لعدم البصر وقد جعل الشافعي من خفيت عليه الدلائل كالأعمى فهما سواء قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي بَصِيرَيْنِ اجْتَهَدَا فِي الْقِبْلَةِ فَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِهَتِهَا بِاجْتِهَادِهِ وَأَشْكَلَ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهَا إِذَا عُرِّفَهُ وَلَا يَنْتَبِهُ عَلَيْهَا إِذَا نُبِّهَهُ فَهُوَ (عَلَى) مَا ذَكَرْنَا كَالْأَعْمَى يُقَلِّدُ صَاحِبَهُ وَلَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا وَيَنْتَبِهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ لِحَادِثَةٍ صَدَّ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا تَوَقَّفَ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَافَ الْفَوْتَ تَبِعَ صَاحِبَهُ فِي جِهَتِهِ وَصَلَّى إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا فَعَلَ وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا كَلَامًا محتملاً فقال: ها هنا " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْإِعَادَةِ وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخر حكاه عنه المزني ها هنا " ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل اتباعه " فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهَا لِفَقْدِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ بِهَا لِفَقْدِ بَصَرِهِ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتِّبَاعَهُ عَلَيْهِ " إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَا عَلَى سُقُوطِ الْإِعَادَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وَلَا يَتَّبِعُ دِلَالَةُ مُشْرِكٍ بِحَالٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " لَا يَجُوزُ لِلضَّرِيرِ أَنْ يُقَلِّدَ مُشْرِكًا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْبَلَ خَبَرَهُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَالْكُفْرُ أَغْلَظُ الْفِسْقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 140] ، ولأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فَسَقَةَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُمْ فِي الْقِبْلَةِ وَلَا قَبُولُ خَبَرِهِمْ فِيهَا فَالْكُفْرُ أَوْلَى، ولأن الكافر قصده اختلال الْمُسْلِمِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَفِتْنَتُهُ فِي دِينِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ الْكَافِرُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِذْنِ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ فَهَلَّا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ؟ قُلْنَا: الْإِذْنُ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ، أَوْسَعُ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ أَغْلَظُ، لِأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَأَمَّا إِذَا اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ مِنْ كَافِرٍ مُشْرِكٍ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ كَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ فَأَخْبَرَهُ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ ثُمَّ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ عَنْ خَبَرِ الْمُشْرِكِ فِي وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ جَازَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَمِلَ فِي الْقِبْلَةِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ الْمُشْرِكِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَوِي فِي الْإِخْبَارِ بِهِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَمَنِ اجْتَهَد َ فَصَلَّ ى إِلَى الشَّرْقِ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ إِلَى الْغَرْبِ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ خَطَأِ جِهَتِهَا إِلَى يَقِينِ صَوَابِ جِهَتِهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ فَاسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ صَوَابُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِهَا فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدٌ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْخَطَأَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ حُكْمًا نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " مِنَ الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " مِنَ الْجَدِيدِ: إِنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمْا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 [البقرة: 115] وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ صَحَّ صَلَاةُ الْمُسَايِفِ إِلَيْهَا صَحَّ صَلَاةُ الْمُجْتَهِدِ إِلَيْهَا كَالْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّتْ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَالْمُسَايِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَالْيَقِينُ مَوْجُودٌ فِي حُصُولِ الْخَطَأِ فِي إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ، فَلَوْ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِيَقِينِ الْخَطَأِ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ إِحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَعَ يَقِينِ الْخَطَأِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] ، فأمر الله تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ فَالْأَمْرُ باقٍ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالْخَطَأِ، كالطهارة، والوفق ولا تَعْيِينَ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، كَأَهْلِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ، كَالْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ نَصًّا بِاجْتِهَادِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ، أَوْ عَلَى خَطَأِ الْعَيْنِ دُونَ الْجِهَةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْقِبْلَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَكِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ صَوَابُ الْجِهَةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَايِفِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّ عِلْمَ الْمُسَايِفِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَعِلْمَ الْمُجْتَهِدِ بِالْعُدُولِ عَنْهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي إِلَى جِهَتَيْنِ فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَالْحَاكِمِ فَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ فَحَكَمَ فِيهَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُنْقَضْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يُتَيَقَّنْ فِي أَحَدِهِمَا، وَلَوْ خَالَفَ نَصًّا نَقَضَ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ، وَذَكَرَ فُصُولًا خَمْسَةً بَعْضُهَا اسْتِشْهَادًا بِمَذْهَبٍ، وَبَعْضُهَا اسْتِدْلَالًا بِشُبْهَهٍ، فَالْفَصْلُ الأول من أسئلته أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ ": وَلَوْ تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ، أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، كَمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي خَطَأٍ عَرَفَة، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَحَدُ قَوْلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِعَرَفَةَ حَجَّاجًا، لِأَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، أَوْ فِي الثَّامِنِ ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى دَخَلَ فِي الْعَاشِرِ أَنَّ حَجَّهُ مُجْزِئٌ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ قُلْنَا: بَيْنَهُمَا فَرْقَانُ يَمْنَعَانِ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا أَحَدُ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ الْخَطَأَ بِعَرَفَةَ لَا يُؤْمَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ كَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ لِمَا لَمْ يُؤْمَنْ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ لِمَا أُمِنَ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْخَاطِئِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ إِعَادَةَ الْحَجِّ تَشُقُّ فَسَقَطَ عَنْهُ كَمَا سَقَطَ عَنِ الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الْقُصُورِ، وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا لَا يَشُقُّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الصوم والفصل الثاني: من أسئلته مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " " إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِي تَرَكَهُ هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ، لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَيْقَنٌ الطَّهَارَةِ. وَلَيْسَ كَالْقِبْلَةِ إِذَا تَأَخَّاهَا لِصَلَاةٍ ثُمَّ رَآهَا لِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ يَعْنِي: بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَةٍ ثَانِيَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا، وَلَوْ أَدَّاهُ إِلَى طَهَارَةِ الْإِنَاءِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنْ نَقُولَ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الِاجْتِهَادَ ثَانِيًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنَاءَ الثَّانِيَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ثَانِيًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالَّذِي جَعَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَعْلِيلًا وَدَلِيلًا " أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ، لِأَنَّ الْمَشْرِقَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَالْمَغْرِبَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ثُمَّ مُصَادَفَةُ هَذَا الْمُصَلِّي جِهَةً هِيَ قِبْلَةٌ لِغَيْرِهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ التوجه إلى جهة والفصل الثالث: من أسئلته: أنه قال لما جاز صَلَاتَهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُكَلَّفِ الِاجْتِهَادَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ إِذَا أَخْطَأَ الْجِهَةَ، أَوِ الْعَيْنَ لَمْ يُؤَدِّ مَا كُلِّفَ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِ وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْئِلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ: احْتِجَاجًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ، وَقُعُودٍ، وَرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَسُنَنٍ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ مَا ذَكَرَهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيَامَ وَالسَّيْرَ مَعْنًى مَعْدُومٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ فِيهِ لِعَدَمِهِ وَالْقِبْلَةُ غَيْرُ مَعْدُومَةٍ بِالْخَطَأِ فِيهَا فلذلك لم تسقط عنه الإعادة لخطائه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَعْذَارَ الَّتِي تُعْجِزُ عَنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَكُونُ عَامَّ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ جَازَ أَنْ يَدُومَ كَالْمَرَضِ فَهَذَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْقَضَاءُ، وَضَرْبٌ يَكُونُ عام الوقوع وإذا وقع لم يدم ك " المسايفة " وعدم الماء فهو يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَضَرْبٌ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَدُمْ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْإِعَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ نَادِرًا لَا يَدُومُ لَمْ يُسْقِطِ الْإِعَادَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَامًّا قَدْ يَدُومُ سَقَطَ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِأُصُولِ الْأَعْذَارِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وسقوطه الفصل الخامس: من أسئلته: أَنْ قَالَ احْتِجَاجًا قَدْ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ وَاسْتَدَارُوا وَبَنَوْا بَعْدَ تَعْيِينِهِمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ عَنْ أَهْلِ قِبَاءٍ مَا صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي النُّسَخِ هَلْ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ قَبْلَ عِلْمِهِمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إِلَى الْجَمِيعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ قِبَاءٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ صَلَّوْا بِالنَّصِّ عَلَى الْيَقِينِ الْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْإِعَادَةُ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاجْتِهَادَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهَا بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَعَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ " فَتَفَهَّمْ " - يُرِيدُ بِهِ الشَّافِعِيَّ - قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الْمُزَنِيُّ تفهم - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ " فَافْهَمْ " - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ " - يُرِيدُ بِهِ أبا حنيفة -، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَالَ فِيهِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا - وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ فَصْلًا لَا احْتِجَاجَ فِيهِ وَلَا اسْتِشْهَادَ، وَهَذِهِ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهَا، وَالْأُخْرَى الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ وَالثَّالِثَةُ: ظِهَارُ السَّكْرَانِ وَكَلَامُهُ في هذه المسألة أطول (مسألة) : قال الشافعي: " وَيُعِيدُ الْأَعْمَى مَا صَلَّى مَعَهُ مَتَى أَعْلَمَهُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وهذا صحيح إذ صَلَّى الْأَعْمَى بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الضَّرِيرَ بِيَقِينِ الْخَطَأِ الْمُجْتَهِدِ لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ كَالْبَصِيرِ: أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ دِلَالَةَ الْأَعْمَى عَلَى الْقِبْلَةِ قَوْلُ الْبَصِيرِ، كَمَا أَنَّ دِلَالَةَ الْبَصِيرِ مُشَاهَدَةُ الْعَلَامَاتِ فَإِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ فِي دَلَائِلِ الْبَصِيرِ، وَقَعَ فِي دَلِيلِ الْأَعْمَى، ثُمَّ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا، فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَهُ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَهُ فَذَلِكَ ضربان: أحدهما: أن يكون خبراً متوتراً، فَفِي الْإِعَادَةِ أَيْضًا قَوْلَانِ كَمَا مَضَى وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ الْخَطَأَ، كَمَا يَتَيَقَّنُهُ الْبَصِيرُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وَإِنْ كَانَ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ وَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ ويعتد بما مضى وإن كان معه أعمى ينحرف بانحرافه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اسْتَيْقَنَ الشَّرْقَ بِصَلَاتِهِ مُجْتَهِدًا ثُمَّ بَانَ لَهُ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِانْحِرَافُ وَالْجِهَةُ وَاحِدَةً وَالثَّانِي: يَكُونُ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ مُتَيَامِنًا عَنْهَا قَلِيلًا، وَمُتَيَاسِرًا عَنْهَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ تَحَرَّفَ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ مَنْ تَيَامَنَ، أَوْ تَيَاسَرَ، وَبَنَى عَلَى صِلَاتِهِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَكُنِ الِانْحِرَافُ فِيهَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ، وَيُبْنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ وَيُبْنَى عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى الْجِهَةِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهَا بِاجْتِهَادٍ (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى إِمَّا مُسْتَدْبِرًا، أَوْ يُمْنَةً، أَوْ يُسْرَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ اسْتَدَارَ إِلَيْهَا وَهَلْ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أَحَدُهُمَا: يَبْنِي إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يُعِدْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ إِذَا قِيلَ: لَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَعَادَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى اجْتِهَادٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْجِهَةِ الْأَوْلَى وَلَا يَسْتَدْبِرُ إِلَى الثَّانِيَةِ؛ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ صَلَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ يَعْتَقِدُهَا غَيْرَ قِبْلَةٍ فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَدَارَ إِلَيْهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ [الْفَرَاغِ] لَمْ يُعِدْ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَزِمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الشَّرْعِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا [وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ اسْتَأْنَفَ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا] ، فَأَمَّا إِنْ لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ وَالْبِنَاءُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا فَيَنْحَرِفُ وَيَبْنِي وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ بَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفَا جَمِيعًا، وَبَنَيَا وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لِإِمَامِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَبَنَى على صلاته فإن أقام على الائتمام مُنْحَرِفًا، أَوْ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ وَجِهَةِ إِمَامِهِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إماماً فإن ينحرف لم يَنْظُرْ فِي الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ بَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفُوا بِانْحِرَافِهِ، وَبَنُوا مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجُوا نُفُوسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنِ انْحَرَفُوا فَهُمْ لَا يَرَوْنَ الِانْحِرَافَ قِبْلَةً وَإِنْ لَمْ يَنْحَرِفُوا فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِمَامَهُمْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَعْمَى فَيَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِ إِمَامِهِ ويجزئه؛ لأن الأعمى لابد أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِإِمَامِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فِي اجْتِهَادِ إِمَامِهِ (فَصْلٌ) : إِذَا دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي صَلَاتِهِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْقِبْلَةِ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا حُكْمَ لِلشَّكِّ الطَّارِئِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا، وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ شَاكًّا فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَهَا فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ اسْتَأْنَفَهَا، لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ مِنْهَا مَعَ الشَّكِّ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْبَصِيرُ فِي ظُلْمَةٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَصَلَّى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَ جهته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 أَعَادَ، كَالْأَعْمَى إِذَا صَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يُعِيدُ وَإِنْ أَصَابَ، وَلَوْ دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي الصَّلَاةِ بِيَقِينِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَطْبَقَ الْغَيْمُ، وَالظُّلْمَةُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى الصَّوَابِ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَطَأَ فيعيد (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا اجْتَهَدَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ آَخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فَصَدَّقَهُ تَحَرَّفَ حَيْثُ قَالَ لَهُ وَمَا مَضَى مُجْزِئٌ عَنْهُ لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ بِهِ مَنْ لَهُ قبول اجتهاده (قال المزني) قد احتج الشافعي في كتاب الصيام فيمن اجتهد ثم علم أنه أخطأ أن ذلك يجزئه بأن قال وذلك أنه لو تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أنه أخطأ أجزأت عنه كما يجزئ ذلك في خطإ عرفة واحتج أيضاً في كتاب الطهارة بهذا المعنى فقال إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ والآخر نجس فصل ى ثم أراد أن يتوضأ ثانية فكان الأغلب عنده أن الذي ترك هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ ويعيد كل صلاة صلاها بتيمم لأن معه ماء متيقناً وليس كالقبلة يتأخاها في موضع ثم يراها في غيره لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لقوم (قال المزني) فقد أجاز صلاته وإن أخطأ القبلة فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا في حال الصلاة (قال المزني) وهذا القياس على ما عجز عنه المصلي فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وستر أن فرض الله كله ساقط عنه دون ما قدر عليه من الإيماء عرياناً فإذا قدر من بعد لم يعد فكذلك إذا عجز عن التوجه إلى عين القبلة كان عنه أسقط وقد حولت القبلة ثم صلى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أتاهم آتٍ فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا وبنوا بعد يقينهم أنهم صلوا إلى غير قبلة ولو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضاً ما أجزأهم خلاف الفرض لجهلهم به كما لا يجزئ من توضأ بغير ماءٍ طاهرٍ لجهله به ثم استيقن أنه غير طاهر فتفهم رحمك الله (قال المزني) ودخل في قياس هذا الباب أن من عجز عما عليه من نفس الصلاة أو ما أمر به فيها أو لها أن ذلك ساقط عنه لا يعيد إذا قدر وهو أولى بأحد قوليه من قوله فيمن صلى في ظلمة أو خفيت عليه الدلائل أو به دم لا يجد ما يغسله به أو كان محبوساً في نجسٍ أنه يصلي كيف أمكنه ويعيد إذا قدر " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَهَذَا صَحِيحٌ " وَصُورَتُهَا: فِي أَعْمَى اجْتَهَدَ لَهُ بَصِيرٌ فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ آخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ يَقِينٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي إِذَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ، لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ بِالْيَقِينِ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنِ اجْتِهَادٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الثاني والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الأول فيعلم عَلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَعْدِلُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَا فِي الثِّقَةِ وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَيَكُونُ كَالْبَصِيرِ إِذَا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا، وَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُ عَنْ يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ أَخَبْرَهُ عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَيْهِ وَانْحَرَفَ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِهَةُ وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا يَسِيرًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جِهَةً أُخْرَى فَهَلْ يَبْنِي، أَوْ يَسْتَأْنِفُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجنهاد فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مَضَى عَلَى جِهَةِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْحَرَفَ إِلَى جِهَةٍ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَا فِي الثِّقَةِ، وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى حَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَمَ أَوِ الثَّانِي كَالْبَصِيرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ بِاجْتِهَادٍ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنْ يَقِينٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْبَصِيرِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أبو إسحاق المروزي أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصِيرِ بِأَنَّ الْبَصِيرَ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ يَقِينِ غَيْرِهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْ كُنْتُ ذَهَبْتُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى التسوية بينهما (فَصْلٌ) : وَإِذَا دَخَلَ الْأَعْمَى فِي صَلَاةٍ بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَبْصَرَ الْأَعْمَى فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ حِينَ أَبْصَرَ عَلَى الْقِبْلَةِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا وَتَكُونُ حَالُهُ كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا اسْتَتَرَ بِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 بَصِيرٌ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَمِيَ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَسْتَدْبِرْ فِيهَا، أَوْ يَتَحَوَّلْ عَنْهَا، فَإِنِ اسْتَدَارَ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ أخطأ أو أصاب (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ دَخَلَ غُلَامٌ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يُكْمِلْهَا أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حتى استكمل خمسة عشرة سنة أحببت أن يتم ويعيد لا يبين أن عليه إعادة (قال المزني) لا يمكنه صوم يومٍ هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ في آخر وقتها غير مصل أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العصر قبل الغروب أنه يبتدئ العصر من أولها ولا يمكنه في آخر يوم أن يبتدئ صومه من أوله فيعيد الصلاة لإمكان القدرة ولا يعيد الصوم لارتفاع إمكان القدرة ولا تكليف مع العجز " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا دَخَلَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ فِي صَلَاةِ وَقْتِهِ ثُمَّ بلغ في تضاعيفها باستكمال خمس عشر سَنَةً، أَوْ دَخَلَ فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا بِالِاحْتِلَامِ، أو باستكمال خمس عشر سَنَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا صِيَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَحْبَبْتُ أَنْ يُتِمَّ وَيُعِيدَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، وَخَالَفَهُمُ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا رابعاً: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ اسْتِحْبَابًا. وَيُعِيدُهُمَا وَاجِبًا فَحَمَلَ الاستحباب على الإتمام وَالْإِيجَابَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ وَاجِبًا وَيُعِيدُهُمَا اسْتِحْبَابًا، فَحَمَلَ الْإِتْمَامَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْإِعَادَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا أَعَادَ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي انْتِهَائِهَا، وَعِنْدَ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بُلُوغَهُ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ فَرْضَهَا، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ نَفْلًا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي حَجِّهِ لَا يُسْقِطُ حَجَّ الْإِسْلَامِ عَنْهُ كَذَلِكَ بُلُوغُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ، لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ قَدْ تتعلق بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا كَانَتْ إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ تُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ الْغُلَامِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، كَالطَّهَارَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الطَّهَارَةُ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، كالبالغ، ولأنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ طَرَأَ الْبُلُوغُ فِيهَا عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا فِي وَقْتٍ يَعْرِضُ لِفَوَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَالصَّبِيِّ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ عَرَفَةَ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ فَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ، أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةً تَنُوبُ عَنْ فَرِيضَةٍ عَلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، لَا نَقُولُ أَنَّهَا نَافِلَة، وَإِنَّمَا نَقُولُ صَلَاةٌ مِثْلَهُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَالصَّلَاةُ أَتَى بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يصح منه مع المجنون أَدَاءُ عِبَادَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَطَهَّرَ لم يجزه، وقد يصح ذلك من الصبي، ألا ترى أنه لو أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ أبي حنيفة، وَإِنْ خالفنا داود فمنع من صحة طهارته فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الصلاة دون الصيام، وكان من فرقه بينها أَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صَوْمُ يَوْمٍ فَهَذَا هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ هُوَ فِي آخِرِهَا غَيْرُ مُصَلٍّ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ إِنَّمَا أَرَادَ هُوَ فِي أَوَّلِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ فَقَالَ: فِي آخِرِهِ وَقَالَ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْعِبَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَمُرَادُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهَا، وَالصَّوْمَ يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ كُلُّ يَوْمٍ لَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ أَوَّلِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَقَضَاؤُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ صِيَامُ أَوَّلِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْهُ فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ آخِرِهِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُمْ صِيَامَ أَوَّلِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ لَوْ عَكَسَ عَلَيْكَ قَوْلَكَ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَدْخَلُ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ دُونَ الصَّلَاةِ وَالْمُسَافِرَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ دُونَ مَا قَصَرَ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ فَاسِدًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْلُو الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أربعة أحوال: أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ صَلَّى وَلَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ اتِّفَاقًا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَلَّى وَأَكْمَلَ الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَرْكِهَا وَفِي إِتْمَامِهَا، وَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَمَّهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانَ وَقْتُهَا بَعْدَ إِتْمَامِهَا بَاقِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْلُغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَيُفْسِدَهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شهر رمضان فله ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ جميعهم والثاني: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيُتَمِّمَهُ فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيَفْسُدَ صَوْمُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِاتِّفَاقِهِمْ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أعلم بالصواب - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 (بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا وَمَا يفسدها وعدد سجود القرآن) (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا أَحْرَمَ إِمَامًا، أَوْ وَحْدَهُ نَوَى صَلَاتَهُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ نَوَى صَلَاتَهُ وإن كان مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَنْوِي صَلَاةَ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ، وأبي حنيفة، حِينَ مَنَعَا مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَأَمَّا النِّيَّةُ: فَمِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَالدِّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَالْإِخْلَاصُ فِي كَلَامِهِمْ: النِّيَّةُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى " فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: مَحَلُّ النِّيَّةِ وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ وَالثَّالِثُ: وَقْتُ النِّيَّةِ وَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ بِأَنْأَى عُضْوٍ فِي الْجَسَدِ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثلاثة أحوال: أحدها: أن ينوي بقلبه، وبلفظ بِلِسَانِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ وَالْحَالُ الثانية: أن يلفظ بِلِسَانِهِ وَلَا يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ؛ كَمَا أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَدَلَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ لَمْ يُجْزِهِ وَجَبَ إِذَا عَدَلَ بِالنِّيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ لَا يُجْزِئُهُ لِعُدُولِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جَارِحَتِهِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُجْزِئُهُ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا - لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ " وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِقَلْبِهِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَا تصح إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 بِالنُّطْقِ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ النُّطْقِ فِي النِّيَّةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبَ النُّطْقِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ حِجَاجًا: أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ لَمْ تفتقر إلى غيره من الجوارح (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فَتَحْتَاجُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبَهَا، وَتَعْيِينَهَا، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ، فَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ فَهُوَ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالطَّهَارَةُ فَإِذَا نَوَى فِعْلَ الْحَجِّ، أَوْ فِعْلَ الْعُمْرَةِ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ أَجْزَأَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُجُوبَ وَالتَّعْيِينَ، لِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى النَّفْلِ وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَا يُعْقَدُ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ التَّعْيِينِ فَهُوَ الزَّكَاةُ، وَالْكَفَّارَةُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَنْوِيَ فِيمَا يُخْرِجُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَفِي الْعِتْقِ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ فَيَنْوِي صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمٍ؛ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ تَعْيِينُهَا يُغْنِي عَنْ نِيَّةِ الْوُجُوبِ، حَتَّى إِذَا نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ؟ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا تُغْنِي نِيَّتُهُ أَنَّهَا ظُهْرٌ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَلَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ قَالَ: لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَلَا يَكُونُ فَرْضًا، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمِهِ الْفَرِيضَةَ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا نَوَى أَنَّهَا ظُهْرٌ أَغْنَى عَنْ [أَنْ يَنْوِيَ] أَنَّهَا فَرْضٌ، لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا، وَلَيْسَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا، لِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ هَكَذَا تَكُونُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَوَى ظُهْرَ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ لَمْ يَنْوِهَا لِيَوْمِهِ أَوْ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا ظُهْرَ يَوْمِهِ لِتَمْتَازَ عَنِ الْفَائِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِأَيَّامِهَا وَإِنَّمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ الْفَائِتَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَنْوِيَ مِنْ يَوْمِ كَذَا في شهر كذا فلا يلزمه (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مَعَ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَدِيمَ النِّيَّةَ إِلَى وَقْتِ التَّكْبِيرِ " وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأُحِبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهَا فِي الصِّيَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 تَقْدِيمُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ النِّيَّةِ مَعَ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا يَشُقُّ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَارَنَ النِّيَّةَ بِالتَّكْبِيرِ لَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ تَأَخَّى بِنِيَّتِهِ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقَدُّمِ جُزْءٍ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِ نِيَّتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أبي حنيفة فِي أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ لَا يَجُوزُ: أَنَّهُ إِحْرَامُ عُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الزَّمَانِ الْبَعِيدِ، وَيُفَارِقُ مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ فِيهِ بِالزَّمَانِ الْقَرِيبِ جَازَ بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ وَالصَّلَاةُ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ لَمْ يَجُزْ بِالزَّمَانِ الْيَسِيرِ وَالثَّانِي: أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصِّيَامِ لَا يَفْعَلُهُ بِالزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ وَدُخُولَهُ إِلَى الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَلَمْ يُشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ: أَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِدَامَةُ النِّيَّةِ إِلَيْهِ كَالصِّيَامِ فَلَمَّا كَانَ وُجُوبُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُهَا قبل الإحرام واجباً، وفيه انفصال (فَصْلٌ) : وَإِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِإِحْرَامِهِ أَوْ مُقَدِّمَةً؟ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ نَاوِيًا مَعَهُ، فَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لِإِحْرَامِهِ فَإِنْ تَيَقَّنَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ الشَّكِّ عَمَلًا مِنْ قِرَاءَةٍ، أَوْ رُكُوعٍ فَصَلَاتُهُ باطلة، وإن تقين قبل أن عمل فِيهَا عَمَلًا فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْقُرْبِ إِلَى حَدِّ الْبُعْدِ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ وَيَسْتَأْنِفُهَا، لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا عَمَلٌ مِنْهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا، لِأَنَّ اللُّبْثَ مَقْصُودٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهَا، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ عَمَلِهَا، وَهَكَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَيَقَّنَهَا فَإِنْ تَيَقَّنَهَا بَعْدَ الشَّكِّ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ التقسيم والجواب (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الصَّلَاةِ مُحْرِمًا إِلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ فَأَمَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ فَلَا يَصِحُّ وَقَالَ أبو يوسف: يَصِحُّ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ التَّكْبِيرِ [مِنْ قَوْلِهِ] اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْكَبِيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ بِكُلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِكُلِّ مَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَهُ " مَالِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ " وَ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " وَ " حَسْبِيَ اللَّهُ " اسْتِدْلَالًا بقوله سبحانه: {قد أفلح من تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15] قَالَ: وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ فَصَحَّ انْعِقَادُهَا بِهِ كَقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَلَمَّا صَحَّ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَدَلِيلُنَا: رواية مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ " وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لِيُكَبِّرْ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَيَخْتِمُ بِالتَّسْلِيمِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الْأَذَانِ بِهِ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِهِ كَقَوْلِهِ " حَسْبِيَ اللَّهُ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي افْتِتَاحِهَا التَّكْبِيرُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِهِ كَالْأَذَانِ وَإِنَّ الذِّكْرَ الْمَفْرُوضَ لَا يُؤَدَّى بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ عَقِبَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ لَا بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ ضِدَّهُ اللِّسَانُ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ افْتِتَاحِ الْأَذَانِ بِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ تَضَمَّنَ لَفْظَ التَّكْبِيرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ لَا يُوجَبُ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ مِنِ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِلَفْظِ قَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمَعْنَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ حَرْفًا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْجَوَازِ كَمَا لَوْ قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ "، وَأَمَّا إِجَازَةُ أبي يوسف افْتِتَاحَهَا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْكَبِيرُ، فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ أَكْبَرَ وَزِيَادَةٍ فَهُوَ مُقَصِّرٌ عَنْ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ أَفْعَلَ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ مِنْ فَعِيلٍ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهَا إِلَّا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " أَوِ " اللَّهُ الْأَكْبَرُ "، فَزَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ، أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، أَوِ الله أكبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 كَبِيرًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ نَخْتَرْهُ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّكْبِيرِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَدَحَهُ بِأَنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَصِيرُ بِهِ التَّكْبِيرُ مَفْصُولًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَكْبَرُ، أَوْ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا يَجْعَلْ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مَفْصُولًا مِثْلَ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَكْبَرُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّكْبِيرِ إِلَى الشاء، والتهليل فإن قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ [اللَّهُ] فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْإِلْبَاسَ، وَيَخْرُجُ عَنْ صَوَابِ التَّكْبِيرِ وَصِيغَتِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَكْبَرُ اللَّهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا مَفْهُومًا، وَلَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَتَرْكِهِ الرَّاءَ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ النُّطْقِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ، لِأَنَّ لِسَانَهُ لَا يَدُورُ بِهِ كَالْأَلْثَغِ فَيُجْزِئُهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ يَنْعَقِدُ بِمَا ذَكَرْنَا فَالْإِحْرَامُ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ فِيهَا قَالَ أبو حنيفة: الْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ "، وَأَضَافَ التَّكْبِيرَ إِلَى الصَّلَاةِ وَالشَّيْءُ إنما يضاف إلى غيره كقولهم غُلَامُ زَيْدٍ، وَثَوْبُ عُمَرَ، وَكَأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا جَازَ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا صَارَ بِكَمَالِهِ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هَيَ تَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ " فِلَمَّا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهَا إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَالْأَذَانِ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنِ الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ مَا لَيْسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ، كَالتَّوَجُّهِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ لا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى جُمْلَتِهِ كَمَا قَدْ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: رَأْسُ زَيْدٍ وَيَدُ عُمَرَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَلَاتِهِ، قُلْنَا: إِنَّمَا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَمْ يَأْتِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِكَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّلَاةِ لِتَقَدُّمِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَابْتِدَاؤُهَا وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّيْءِ لَيْسَ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 (فَصْلٌ) : قَالَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فُرَادَى أَسَرَّ الْمُصَلِّي بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ جَمَاعَةً جَهَرَ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ وَأَسَرَّ بِهِ الْمَأْمُومُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ كَثِيرًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ لِيَسْمَعَ جَمِيعُهُمْ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " فإن لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أبا حنيفة فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِجَوَازِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصَارَ بِهِ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَانَ فِي التَّكْبِيرِ مِثْلَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّكْبِيرِ الْعَرَبِيِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَذْكَارٍ، وَأَفْعَالٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَذْكَارِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَمَّا لَفْظُ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ فعلى قوله يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ: أَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَصْفٍ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فَلَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ لَفْظُ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ فَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى أَبْدَالِهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَيُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهَا يُكَبِّرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ والوجه الثاني: أن يُكَبِّرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ بها كتابه وَمَا أَنْزَلَ بِالْفَارِسِيَّةِ كِتَابًا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ والتركية فأحد الوجهين يكبر بالفارسية [والثاني بالخيار، لو كان يحسن السريانية والنبطية فأحد الوجهين يكبر بالسريانية] وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ، وَالْهِنْدِيَّةَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَجْهًا وَاحِدًا، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَوَّزْتُمْ لَهُ التَّكْبِيرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْقُرْآنِ نَظْمًا مُعْجِزًا يَزُولُ إِعْجَازُهُ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَلَيْسَ فِي التَّكْبِيرِ إِعْجَازٌ يَزُولُ عَنْهُ إِذَا زَالَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ " يَعْنِي: مَا سِوَى الْقِرَاءَةِ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْعَرَبِيَّةِ [قاله بلسانه وإن كان يحسن العربية قاله بِالْعَرَبِيَّةِ] فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا وَاجِبًا، كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَحَبًّا مَسْنُونًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّوَجُّهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ (فصل) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وعليه أن يتعلم " يعني: هذه الْأَذْكَارِ مِنَ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وإن لم يقدر عَلَى تَعَلُّمِهَا إِمَّا لِتَعَذُّرِ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ إِذَا ذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ ثُمَّ فَرْضُ التَّعْلِيمِ بَاقٍ عَلَيْهِ إِذَا قَدِرَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عدم في موضعه من يعلمه أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لِيَجِدَ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى نَاحِيَةٍ يَجِدُ الْمَاءَ فِيهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَاءً يستعمله (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُكَبِّرُ إِذَا كَانَ إِمَامًا حَتَّى تَسْتَوِيَ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا وَقَفَ فِي مِحْرَابِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ إِقَامَتِهِ أَلَّا يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ يَمِينًا فَيَقُولُ: استووا رحمكم اللَّهُ، وَيَلْتَفِتُ يَسَارًا فَيَقُولُ كَذَلِكَ، وَأَيْنَ رَأَى فِي الصُّفُوفِ خَلَلًا أَمَرَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا أَحْرَمَ بِهِمْ وَلَمْ يَنْظُرِ اسْتِوَاءَ صُفُوفِهِمْ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصلاة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسَوِّي الصَّفَّ حَتَّى يَجْعَلَهُ مِثْلَ الْقِدَاحِ، أَوِ الرِّمَاحِ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدْرَ رَجُلٍ قَائِمًا فَقَالَ: " عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَحْرَمَ قَبْلَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِحْرَامِ فَتَقَدَّمَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَتَأَخَّرَ بِهِ الْبَعْضُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ فِي اتِّبَاعِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا يتفقون في سائر الأركان (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَمَسْنُونٌ بِاتِّفَاقٍ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ رَفْعِهِمَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُهُمَا إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وروى عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانيس، وأكيسة " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَشْهَرُ عَمَلًا فَكَانَ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ وَائِلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ إِلَى الْأُذُنَيْنِ، وَرُوِيَ إِلَى الصَّدْرِ فَكَانَ بَعْضُهُ يُعَارِضُ بَعْضًا، وَحَدِيثُنَا مُؤْتَلِفٌ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَهُوَ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَنْ رَوَى إِلَى الصَّدْرِ عَلَى ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْأُذُنَيْنِ عَنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فِي انْتِهَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْكَفَّيْنِ فِي مَقْصُودِ الرَّفْعِ فتصير مُسْتَعْمِلِينَ لِلرِّوَايَاتِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ هَذَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ رَفْعُهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ، والمأموم [والرجل] ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْقَائِمُ، وَالْقَاعِدُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَالنَّافِلَةِ فَإِذَا رَفَعَهُمَا نَشَرَ أَصَابِعَهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَنَشَرَ أَصَابِعَهُ، فَلَوْ كَانَ بِيَدَيْهِ مَرَضٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رفع إحدى يديه دون الأخرى رفعها، وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفَّيْنِ رَفَعَ زَنْدَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَلَوْ رَكَعَ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَالَفَ هَيْئَةَ الرُّكُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي رَفْعِهَا لِلتَّكْبِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا هَيْئَةَ شَيْءٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ويأخذ كوعه الْأَيْسَرِ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى وَيَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَوْ خَشَعَ قَلْبُكَ لَخَشَعَتْ يَدُكَ وَأَمَرَهُ بِوَضْعِ اليمنى على اليسرى (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَهَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان يضعها تحت سرته دليلنا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ، وَتَحْتَ الصَّدْرِ الْقَلْبُ وَهُوَ مَحَلُّ الْخُشُوعِ، وَكَانَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ أَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ مِنْ وَضْعِهَا على العورة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَمَّا لفظ التوجه فمسنون بإجماع إنما الِاخْتِلَافُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَتِهِ وَالثَّانِي: فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَجُّهِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أبو حنيفة: بِمَا رَوَاهُ أبو الجوازء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ " تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَسَبِّحْ بحمد ربك حين تقوم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أول الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَهُ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ هذه الرواية ثلاثة أشياء: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَثْبَتُ إِسْنَادًا، وَأَشْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَتْنًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُشَابِهٌ لِحَالِ الْمُصَلِّي، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ وَذَاكَ نَوْعٌ فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} فَيُحْمَلُ عَلَى أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَإِمَّا عَلَى التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإحرام وبه قال أبو حنيفة، قال مالك: يتوجه قبل الإحرام لتحقق ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ وَالْإِحْرَامِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَّهْتُ وَجْهِي مَعْنَاهُ قَصَدْتُ بوجهي الله سبحانه وأنشد الفراء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 (أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل) يعني: إليه القصد، والعمل وإذا كان معناه قصدت بوجهي الله فهو قبل الإحرام غير قاصد بوجهه لله تعالى وإنما هو عازم على العقد وبعد الإحرام قاصد، لأنه يخبر عن حقيقة توجهه، فكان ذكره في حقيقته أولى منه في مجازه (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ مَا وَصَفْنَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَيَقْتَصِرُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، وَلَا يَقُولُ مَا بَعْدَهُ لِئَلَّا تَطُولَ الصَّلَاةُ وَيَقْطَعَ النَّاسَ عَنْ أَشْغَالِهِمْ، وَيَتَأَذَّى بِهِ الْمَرِيضُ مِنْهُمْ، وَلَا يَقُولُ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَتَعَوَّذُ، وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَوَّذَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّوَجُّهِ، وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من الشيطان الرجيم} وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ذِكْرٌ إِلَّا الْقِرَاءَةُ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نفخته وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ " قَالَ: نَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَهَمْزُهُ الْجُنُونُ وَرَوَى أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَامَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ثم يقرأ. . " (فصل) : فإذا أثبت أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ، وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الدُّعَاءِ مَحَلُّهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالِاسْتِفْتَاحِ، وَيُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا فَإِنْ جَهَرَ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لقوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ، وَقَوْلُهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ، فَصَارَ أُولَاهُ لِإِبَانَةِ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَا وَرَدَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ مُرَتِّلًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَوَاجِبَةٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَالْأَصَمُّ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ: نَسِيتَ الْقِرَاءَةَ قَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ: قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ لِرِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخرج فناد في المدينة أَنْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ أَتَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: أَوَ تَكُونُ صَلَاةٌ بِلَا قِرَاءَةٍ، وَلَعَلَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا هُرَيْرَةَ بِالنِّدَاءِ لِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يكون تركها ناسياً، أو أسرها (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ آيِ الْقُرْآنِ إِنْ شاء استدلالاً بقوله تعالى: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَتَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ يُزِيلُ الظَّاهِرَ عَنْ حُكْمِهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " أَوْ غَيْرِهَا " قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ فِيهِ مَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهَ كَالتَّكْبِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ إِعْجَازٌ فَوَجَبَ أَنْ يُتِمَّ بِهِ الصَّلَاةَ كَالْفَاتِحَةِ، قَالَ: ولأن الخطبة تجري عندكم مجرى الصلاة، فلما لم تتعين القرآة فيها لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ " يَعْنِي: نَاقِصَةٌ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ مُتَعَيِّنَةٌ كَالْحَجِّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُسْتَحَبُّ وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ بَعْضُ آيَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَوْ بِغَيْرِهَا " يَعْنِي: وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ [الْكِتَابِ] لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْ بِغَيْرِهَا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَاتِحَةِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْأَصْلُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَلَمْ نُسَلِّمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجُوزُ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التَّكْبِيرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخُطْبَةِ فَهُوَ أَصْلٌ يُخَالِفُونَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَيْنَا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخِطْبَةِ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ أَرْكَانُهَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ أركانها (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ أم القرآن وعدها آية " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِنْدَنَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ فَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا أَوْ قَطْعًا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا إِلَّا سُورَةَ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا قَطْعًا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ قَطْعًا كَسُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا التَّوْبَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا ليست من القرآن إلى فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَحَكَى بَعْضُ أصحابه أَنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّورَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ بِأُمُورٍ مِنْهَا: رِوَايَةُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يفتتحون الصلاة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالُوا: وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: له اقرأ قال: ما أَقْرَأُ؟ قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ القرآن لا يثبت بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ كَذَلِكَ مَحَلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَدْ أَجْمَعَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ عَلَى عَدَدِ آيِهَا فَمِنْ ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا لَكَانَتْ خَمْسًا، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ أَجْمَعُوا عَلَى أنها ثلاثون آية ودليلنا رواية بن جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية، مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم آيَةَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضالين آيَةً، وَهَذَا نَصٌّ وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الحمد لله رب العالمين سبع آيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرْآنِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أحد قبلي إلى عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ تَسْتَفْتِحُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَقَالَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هِيَ هِيَ " وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ نَحْوَهُ وَرَوَى فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر. . حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَعْرِفُ فَضْلَ السُّورَةِ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً " يَعْنِي: أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرَى الْقَتْلَ قَدِ اسْتَمَرَّ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَذْهَبَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ جَمَعْتَهُ فقال أبو بكر رضي الله عنه ليزيد بْنِ ثَابِتٍ اجْمَعْهُ فَجَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرِفَاقِهِمْ فِي مُصْحَفٍ فَكَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَهُ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ حَتَّى قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنَ الْعِرَاقِ عَلَى عُثْمَانَ، وَذَكَرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَأَخَذَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُصْحَفَ مِنْ حَفْصَةَ وَكَتَبَ منه ست نسخ، وأنقذ كُلَّ مُصْحَفٍ إِلَى بَلَدٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قُرْآنٌ وَكَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَكْتُوبَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ، وَذَكَرَ الْأَعْشَارَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ فِي زَمَانِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِبَارٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ السُّورَةِ فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ، وَالْأَعْشَارَ بِغَيْرِ خَطِّ الْمُصْحَفِ لِيَمْتَازَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ بِخَطِّهِ فَهُوَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ جاحدها كافر كمن جحد الفاتحة قيل: فلم لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ مَنْ أَثْبَتَهَا منه كافر كَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الْقُرْآنِ فَلَمْ يُكَفَّرْ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ قُرْآنٍ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَثْبَتَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ صِرَاطَ الذين أنعمت عليهم، وَمَنْ نَفَاهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ غَيْرِ المغضوب فَكَانَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَكُونَ الْكَلَامُ فِي السَّابِعَةِ تَامًّا مُسْتَقِلًّا وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِدَاءُ فِي السَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ غَيْرِ المغضوب عليهم؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ اسْتِثْنَاءٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مُبْتَدَأَةٌ بِهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالْمُرَادُ به سورة الحمد لله رب العالمين وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بسورة اقرأ باسم ربك فَهُوَ: أَنَّ السُّورَةَ قَدْ كَانَتْ تَنْزِلُ فِي مَرَّاتٍ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَنْزِلُ بَعْدَ نُزُولِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ مَحَلِّهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَحَلُّهَا تِلَاوَةً بِالْإِجْمَاعِ [وَحُكْمًا] بِالِاسْتِفَاضَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ قل هو الله أحد أَرْبَعُ آيَاتٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى مَا سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوهَا مَعَ الْآيَةِ الْأُولَى وَاحِدَةً (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا فَحُكْمُهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ حُكْمُ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ جَهَرَ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَيُسِرُّ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسِرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَقَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ يُسِرُّ بِهَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو جهر بها لكان النفل بِهَا مُسْتَقِيضًا كَالْجَهِيرِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمَا كَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا قَدِمَ المدينة صلى صلاة جهر فقر أبسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا لِلسُّورَةِ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ يَا مُعَاوِيَةُ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَدَلَّ هَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَإِنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا كَسَائِرِ آيِ الْفَاتِحَةِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الجهر بها لو كان سنة لكان نفلة مُسْتَفِيضًا فَيُقَالُ: وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَارُ بِهَا سُنَّةً لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَالرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تقرر أن " بسم الله الرحمن الرحيم " مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَفِي حُكْمِهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاسْتَأْنَفَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا بِهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَوْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ حَرْفًا مِنْ آيَةٍ أَتَى بِمَا تَرَكَ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ لِيَكُونَ عَلَى الْوَلَاءِ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مُسْتَحَقٌّ، وَلَوْ أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَوَى قَطْعَهَا وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ نِيَّةِ الْقَطْعِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا إِذَا كَانَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَهَا خِلَافَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَبْطُلُ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ وَالصَّلَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَأَثَّرَ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ نَوَى قَطْعَهَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا كَانَ قَطْعًا لَهَا، وَلَوْ سَكَتَ مَعَ نِيَّةِ الْقَطْعِ فَإِنْ كَانَ سُكُوتًا طَوِيلًا كَانَ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَلَوْ كَانَ سُكُوتًا قَلِيلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَطْعًا وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ الْفِعْلُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قَطْعًا، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وَالسُّكُونُ الْقَلِيلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لَهَا فَأَمَّا قَوْلُ الشافعي ويقرأ ترتيلاً فلقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} [الزمل: 4] قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ الْإِبَانَةِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْأَحْكَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ وَقَالَ دَاوُدُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي أَكْثَرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ ظُهْرًا قَرَأَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا قَرَأَ فِي جَمِيعِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ وَيُمْسِكُ فِي بَعْضِهَا فَقِيلَ لَهُ: فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: أَيُتَّهَمُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أبو حنيفة: وَلِأَنَّ الْجَهْرَ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِرَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مُخْتَصَّةً بِرَكْعَتَيْنِ قَالُوا: وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وِدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةٌ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ، كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ عِنْدَنَا فَقَالَ رَجُلٌ أَرَأَيْتَ إِنْ قَرَأْتُ بِهَا وَحْدَهَا يُجْزِي عَنِّي فَقَالَ: إِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا أَجْزَأَتْكَ، وَإِنْ زِدْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ حَسَنٌ " وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وَصَفَ لِلرَّجُلِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى، وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِيهَا قَالَ ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ شُرِعَ فِي الرَّكَعَاتِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَأَمَّا مَا تَكَرَّرَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَكُونُ إِيجَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ فِي الثَّانِيَةِ لَزِمَ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ لَهُ مِنْ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ اسْتَحَقَّتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَالْأُولَيَيْنِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَحَقٌّ بِتَكْرَارِ الرَّكَعَاتِ كَالصُّبْحِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إليه إذا قرأ فيه؛ لِأَنَّهُ فِي صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْيٌ قَدْ عَارَضَهُ إِثْبَاتٌ فَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْجَهْرِ بِالْأُولَيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ فِيهَا الْقِرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جهر فكذلك الأولتان وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ نُطْقًا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا وَالْقِرَاءَةُ لَمَّا تَكَرَّرَتْ نُطْقًا كَانَ تكرارها مستحقاً (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قال " ولا الضالين " قال آمين فيرفع بها صوته ليقتدي به من خلفه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أمن الإمام فأمنوا " وبالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه جهر بها وأمر الإمام بالجهر بها " قال الشافعي " رحمه الله: وليسمع من خلفه أنفسهم " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 قال الماوردي: وهذا كما قال وإذا فرغ الإمام عن قراءة الفاتحة فقال: ولا الضالين، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: آمِينَ لِيَشْتَرِكَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ جَهْرًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: يُسِرُّ به الإمام والمأموم في صلاة الجهر والإسراء وَقَالَ مَالِكٌ: يَقُولُهُ الْمَأْمُومُ وَحْدَهُ دُونَ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: إذا قال الإمام ولا الضالين فَقُولُوا آمِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ يَدْعُو بِهِ وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسبقني بآمين " روى قَيْسُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بَآمِينَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا صَلَّى قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمَعَ لِصَوْتِهِ طَنِينٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا حَسَدَتْكُمُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ " وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ استجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مَا عَارَضْنَا، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ التَّأْمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الدَّاعِي فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ فَمُخَالِفٌ لَهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، لَكِنْ لَا تَخْلُو الصَّلَاةُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ إِسْرَارٍ، أَوْ جَهْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ خَافَتَ بِهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَجْهَرْ مَخَافَةَ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَّبِعُوهُ فِي الْإِسْرَارِ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَجْهَرُ بِهِ كَالْإِمَامِ، وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُخَرِّجُونَ جَهْرَ الْإِمَامِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا وَالْجَمْعُ كَثِيرًا فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيَسْمَعَهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ فَنَقُولُ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا وَالْجَمْعُ يَسِيرًا يَسْمَعُ جَمِيعُهُمُ الْإِمَامَ فَيُسِرُّونَ وَلَا يَجْهَرُونَ (فَصْلٌ) : فَلَوْ تَرَكَهُ الْمُصَلِّي نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ قَالَهُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الرُّكُوعِ تَرَكَهُ، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِالرُّكُوعِ فَفِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَوْ تَرَكَهُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَجْزَأَتْهُ صلاته ولا سهو عليه (فصل) : فأما قول آمين ففيه لغات: إحداها: أَمِينَ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالثَّانِيَةُ: آمِينَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ قَالَ الشَّاعِرُ: (يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا) فَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِيمِ فِيهِ فَيَنْصَرِفُ مَعْنَاهُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْقَصْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ البيت الحرام} يَعْنِي: قَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسُورَةٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ قِرَاءَةَ شَيْءٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ، لِمَا روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُنَادِيَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ فاتحة الكتاب فما زاد ودليلنا حيث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال أم القرآن عوضاً عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضٌ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَجِبْ فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ سُنَّةٌ ابْتَدَأْنَا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كل سورة فيقرأ بالسورة في الركعتين الأوليتين، وَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بِهِمَا فِي الآخرتين؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَاسْتِحْبَابِ الصورة فلا يجوز أن يقرأ يوسف ومحمد، لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ مَنْ يُحْسِنُهَا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لفي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 192] وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي صُحُفِهِمْ وَزُبُرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلُغَتِهِمْ فَبَعْضُهَا عِبْرَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا سُرْيَانِيٌّ وقال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لا نذركم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ} [الأنعام 19] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنْذَارٌ لِلْكَافَّةِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَجَمِ، وَلَا يُمْكِنُ إنذار العجم بِلِسَانِهِمْ، وَلَا يَكُونُ نَذِيرٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَصِيرَ نَذِيرًا لِلْكَافَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود كان يعلم صبياً: {إن شجرة الزقوم طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 43] فَكَانَ الصَّبِيُّ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ لَهُ: قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَعْنَى قَالُوا: وَلِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُسْتَحَقَّ فِي الصَّلَاةِ قُرْآنٌ، وَغَيْرُ قُرْآنٍ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مِثْلِهِ [فَكَانَ معنى القرآن أقرب إليه من التسبيح والهليل] فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وَهَذَا الْقَارِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، أَوْ يَكُونَ مِثْلَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَعِنَادٌ لَهُ، أَوْ يَكُونَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَا مِثْلَهُ فَمَنْ قَالَ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُجْزِئُ بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] فَنَفَى عَنْهُ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وأبو حنيفة يجعله قرآناً فارسياً ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ، لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عربي " وروى عبد الله بن أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا لِي قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي، فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ [مِنْهُ] : أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى مَعْنَاهُ لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى التَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِي جِنْسِهِ إِعْجَازٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْقُرْآنِ، كَالشِّعْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا أَبْدَلَهُ بِالْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْزِئَهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ هذا لفي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] فهو أنه ليس يراجع إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرِّسَالَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَإِنْ كَانَ إِنْذَارًا لِلْكَافَّةِ، فَالتَّحْقِيقُ بِهِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْعَجَمِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا عَنْ لِسَانِهِمْ كَانَتِ الْعَجَمُ عَنْهُ أَعْجَزَ فَصَارَ إِنْذَارًا لِلْعَرَبِ بِعَجْزِهِمْ، وَإِنْذَارًا لِلْعَجَمِ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَتَأَمُّلِ إِعْجَازِهِ، وَالْعَجَمُ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ لَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِمُعَاطَاةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَتَوَصَّلُوا بِمَعْرِفَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْعَجَمِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، لِأَنَّهَا إِنْذَارٌ لَهُمْ قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجزة غيره، وأما وله غير مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وصدق رسالته، وإن كان عجماً يَفْقَهُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ مَقْصُودُهُ التَّنْبِيهَ عَلَى الْمَعْنَى لِيَفْهَمَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ؛ لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا أَنَّ إِبْدَالَهُ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ الذِّكْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَيْسَ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ إِعْجَازٌ يَزُولُ بِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَوْلَى مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْلَبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمُ التَّسْبِيحُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَقْرَبُ إِلَى الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ وَالثَّانِي: يُقَالُ نَحْنُ لَمْ نَجْعَلِ التَّسْبِيحَ بَدَلًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا بِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الصلاة للعجز عنها (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ابْتَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا فَكَانَ فِيهِ وَهُوَ يَهْوِي رَاكِعًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرُّكُوعُ فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ تعالى بالطاعة، ومنه قول الشاعر: (بكسر لهم وَاسْتَغَاثَ بِهَا ... مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَمَا رَكَعَا) يَعْنِي: بَعْدَ مَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ وَالْحَاجَةِ، وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا الْمَفْرُوضَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وَرَكَعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صلاته وقال: " وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُكَبِّرُ فِي رُكُوعِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَمَا زَالَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَكَبَّرَ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: " وَاللَّهِ إِنِّي أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِرُكُوعِهِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا، وَيَهْوِيَ فِي رُكُوعِهِ مُكَبِّرًا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ تَكْبِيرَةٍ مَعَ أَوَّلِ رُكُوعِهِ لتصل الأذكار بالأذكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ حِينَ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ لِرُكُوعِهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِرَفْعِهِ مِنْهُ كَمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِعْلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَقَالَ أبو حنيفة، وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَحْدَهَا وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ حِينَ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ " وَبِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَقَالَ: " مَا لِيَ أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُتُوا فِي صَلَاتِكُمْ " وَرُوِيَ " كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ " قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ فِي السُّجُودِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْبَرَانِسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رَوَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ كَالْجَهْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكَرَّرَ فِيهَا التَّكْبِيرُ تَكَرَّرَ فِيهَا الرَّفْعُ كَالْعِيدَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ [يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ لَا يَكُونُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ] فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ كَمَا يَقُولُ طَاوُسٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فمدفوع بالنص (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَكَعَ فمن السنة: أن يضع راحته عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُطْبِقُ يَدَيْهِ وَيَتْرُكُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا رَكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ سُنَّةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا يَعْنِي: الْإِمْسَاكَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: " صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ فَنَهَانِي قَالَ: " كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا " وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ ثُمَّ أَخْرِجْ أَصَابِعَكَ ثُمَّ امْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السنة أن يضع راحتيه على ركبتيه ويفرق بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلِيلَ الْيَدَيْنِ، ولا يمكنه وضعهما على ركبتيه ابتداءاً بِهِمَا وَانْتَهَى فِي رُكُوعِهِ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَوْ قَدَرَ، لِأَنَّ هَذَا حَدُّ الرُّكُوعِ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَبْلُغُ بِهِمَا فِي الرَّفْعِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي تَبْلِيغِهِمَا إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ مُفَارَقَةً لِهَيْئَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ في الرفع (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويمد ظهره، وعنقه، ولا يخفض عنقه عن ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عن جبينه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ اعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِ أَرْكَانِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا العمدة في الصلاة أحدهما: حديث ابن حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَالثَّانِي: تَعْلِيمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصلاة الأعرابي فأما حديث أبو حُمَيْدٍ فَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 أَبُو حُمَيْدٍ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قالوا: فلم؟ قال: فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِأَكْثَرِنَا لَهُ تَبَعًا وَلَا أَقْدَمِنَا لَهُ صُحْبَةً قَالَ: بَلَى قَالُوا: فَأَعْرِضْ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يَقَرَّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَاضِعًا رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يَعْتَدِلُ فَيَهْصِرُ ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ وَلَا صَافِحٍ بِخَدِّهِ، ثم يرفع فيقول سمع الله بحمده، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَيَضَعُ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ وَيَنْصَبُّ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُمَكِّنُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الأُخر مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ قَالُوا: صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ، وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُصَلِّي قَالَ: " إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَمَكِّنْ كُوعَكَ وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ سُجُودَكَ، وَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كل ركعة وسجدة حتى تطمئن " فهذا الْحَدِيثَانِ هُمَا أَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ نَقَلْنَاهُمَا مَعَ طُولِهِمَا (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَصِفَةُ الرُّكُوعِ وَهَيْئَتُهُ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يَقْبِضُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ، وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي: حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ مَاءٌ لَرَكَدَ يَعْنِي: لِاسْتِوَاءِ ظهره في الركوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وروى أبي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صلبه في الركوع والسجود " قال الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ فَيَتَنَازَعُ، وَلَا يَرْفَعُهُ فَيَحْدَوْدِبُ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ فَهَذَا صِفَةُ الرُّكُوعِ فِي الِاخْتِيَارِ الْمَسْنُونِ وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ بِرَاحَتَيْهِ على ركبتيه على أن صفة كان (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى ركوعه الذي وصفنا زماناً وإن قل مطمئن، وَهُوَ رُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: الطُّمَأْنِينَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَكَانَ الظَّاهِرُ يُوجِبُ اسْمَ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ لَمَّا عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ حِينَ أَسَاءَ فِيهَا: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثَمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَوَاتِكَ كُلِّهَا وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَرُّ النَّاسِ سَرِقَةً الَذِي يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُقِيمُ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا " وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يَعْدِلُ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ فِيهِ فَقَالَ: مُذْ كَمْ هَذِهِ صَلَاتُكَ قَالَ مُذْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: إِنَّكَ مَا صَلَّيْتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَوْ مُتَّ عَلَى هَذَا لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الرُّكُوعِ وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ فَأَرَادَ الرُّكُوعَ فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ قَامَ رَاكِعًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْإِهْوَاءَ لِلرُّكُوعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، فَلَوْ كَانَ قَدِ انْحَنَى إِلَى الرُّكُوعِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ اسْتِعَانَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعِود إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ فِي حال انحدار، ويبنى على ركوعه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ إِذَا رَكَعَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّسْبِيحُ فِيهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: ما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " وَلَمَّا نَزَلَ {سَبِّحِ اسْمَ ربك الأعلى} قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ " وَرَوَى صِلَةُ بْنُ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، فَاقْتَصَرْ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِ التَّسْبِيحِ، وَهَكَذَا حِينَ وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ لِاشْتِرَاكِ فِعْلِهِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَهَذَا مُفْتَقِرٌ إِلَى ذِكْرٍ فِيهِ لِيَمْتَازَ بِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ وَالثَّانِي: مَا كَانَ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرٍ لِيُمَيِّزَهُ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ فَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ وَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَهُوَ أَدْنَاهُ [وَإِذَا سَجَدَ وَقَالَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَهُوَ أَدْنَاهُ] فَأَمَّا أَتَمُّ الْكَمَالِ فَإِحْدَى عَشْرَةَ، أَوْ تِسْعًا، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ وَلَوْ سَبَّحَ مَرَّةً أَجْزَأَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ مَا حَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَأَنْتَ رَبِّي خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَعِظَامِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اقْتَصَرَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَحْدَهُ لِيُخَفِّفَ عَلَى من خلفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَمَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَشَفَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُّوَةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَإِنْ خَالَفَ وَقَرَأَ فِي رُكُوعِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَسَاءَ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فصار كمن سجد في موضوع الركوع والوجه الثَّانِي: أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ ذِكْرٌ فَخَفَّتْ عَنْ حُكْمِ الْأَفْعَالِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، لَكِنَّهُ يَسْجُدُ مِنْ أَجْلِهَا سُجُودَ السَّهْوِ وَجْهًا وَاحِدًا (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمَأْمُومُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الركعة وإن لم يقرأ فيها، لرواية زَيْدِ بْنِ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَدْرَكْتُمُونَا وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ "، وَلِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُدْرِكُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا حَتَّى رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّهَا رَاكِعًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي فَرْضٍ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَرْضِ اسْتِيفَاءُ الْإِحْرَامِ بِهِ قَائِمًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ وَيَعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى صِفَةٍ يَصِحُّ النَّفْلُ عَلَيْهَا وَخَرَجَ عَنِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا فَاتَهَا صَارَتْ نَفْلًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَكُونُ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا، لِأَنَّ النَّفْلَ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، وَلَوِ اسْتَوْفَى تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا ثُمَّ هَوَى لِلرُّكُوعِ وَقَدْ تَحَرَّكَ الْإِمَامُ لِلرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنْ أَدْرَكَ مَا يَرَى مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنَ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ مِنَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ قَدِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 يرفع الإمام حد لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ مُسْتَقِرًّا فِي رُكُوعِهِ فِي اعْتِدَادِهِ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومُ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْفَرْضِ صَحِيحًا بِاسْتِيفَاءِ الْإِحْرَامِ (فَصْلٌ) : فَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَطْمَئِنَّ، فَإِنْ عَمَدَ عَالِمًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ أَوْ نَسِيَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَعَادَ رَاكِعًا مُطْمَئِنًا، فَلَوْ أَدْرَكَهُ حِينَ عَادَ إِلَى الرُّكُوعِ لِيَطْمَئِنَّ فِيهِ مَأْمُومٌ فَأَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ اعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ التَّسْبِيحِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يُعِدْ، فَإِنْ عَادَ فَرَكَعَ لِيُسَبِّحَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَلَوْ أَدْرَكَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ الثاني مأموم لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لِلطُّمَأْنِينَةِ فَالرُّكُوعُ الثَّانِي هُوَ الْفَرِيضَةُ فَصَارَ الْمَأْمُومُ بِإِدْرَاكِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ لِلتَّسْبِيحِ فَالرُّكُوعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرِيضَةُ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومِ بِإِدْرَاكِ الثَّانِي مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي خَامِسَةٍ سَهَا بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا صَارَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْخَامِسَةُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ فَهَلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِي إِعَادَةِ الرُّكُوعِ لِلتَّسْبِيحِ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْخَامِسَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْإِمَامُ عَنْهُ شَيْئًا فَجَازَ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ، وَفِي إِدْرَاكِهِ رَاكِعًا يَصِيرُ الْإِمَامُ مُتَحَمِّلًا عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الْخَامِسَةِ أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فِيهَا فَلَا يَعْتَدُّ الْمَأْمُومُ بِهَا والله تعالى أعلم (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ ابْتِدَاءَ قَوْلِهِ مَعَ الرَّفْعِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ أَيْضًا ربنا لك الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بعد ويقولها من خلفه وروي هذا القول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ قَائِمًا فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَوْ أَهْوَى مِنْ رُكُوعِهِ إِلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ إِيجَابَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ قَالَ: وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَوْ كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا لَاقْتَضَى بِهِ ذِكْرًا وَاجِبًا كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فِيهِ رُكْنٌ كَالِانْتِقَالِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَالْأَعْرَابِيِّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، وَلِأَنَّ كُلَّ رُكْنٍ يَعْقُبُهُ قِيَامٌ وَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ انْتِصَابٌ كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْقِيَامِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الرُّكُوعِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ رُكْنٍ يَتَضَمَّنُهُ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْجُلُوسِ الْمُتَشَهِّدِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ رُكْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ وَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ، وَهُوَ الرُّكُوعُ عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ ذِكْرٌ أَيْضًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالَ قَائِمًا ذِكْرٌ وَاجِبٌ، فَالسُّنَّةُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالرَّفْعِ أَنْ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَيَكُونُ فِي رَفْعِهِ سُنَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالثَّانِي: رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا، وَقَالَ أبو حنيفة: يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْمَأْمُومُ بِقَوْلِ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". قَالَ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعٍ، وَقَوْلَهُ: رَبَّنَا لك الحمد، موضوع لرفع أَيْضًا، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَى الْأَرْكَانِ إِنَّمَا سُنَّ بِذِكْرٍ وَاحِدٍ لَا بِذِكْرَيْنِ كَالتَّكْبِيرَاتِ فَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَسْنُونٌ لِلْإِمَامِ، وَالْآخَرَ مَسْنُونٌ لِلْمَأْمُومِ قَالَ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَوْلَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ شُكْرٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلّ عَلَى قَبُولِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا الْوَاحِدُ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " وروى عطية عن فزعة بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ حِينَ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات، وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ حَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ إِذَا سُنَّتْ لِلْمَأْمُومِ سُنَّتْ لِلْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ: أَنَّهُ ليس نهي لِلْمَأْمُومِ عَنْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وَإِنَّمَا فِيهِ أَمْرٌ لَهُ بِقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِهَذَا أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ هَذَا مِنَ الْإِمَامِ فَيَتْبَعُهُ فِيهِ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُمَا ذِكْرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الِانْتِقَالِ، فالجواب أن قوله سمع الله لمن حمده موضوع للانتقال وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَسْنُونٌ فِي الِاعْتِدَالِ فَصَارَا ذِكْرَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِخْبَارٌ وَالْآخَرَ جَوَابٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ آمِينَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ثُمَّ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّلَاةِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَانِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِقَوْلِ سَمِعِ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ لِيَعْلَمَ بِهِ الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرِ، وَيُسِرُّ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي رُكْنٍ كَالتَّسْبِيحِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسِرُّ بِهِمَا جَمِيعًا وَيَخْتَارُ لِلْمُصَلِّي إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ، لِأَنْ لَا يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْمَأْمُومُ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْإِمَامَ فَلَوْ قَالَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ حَمِدَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَهُ، أَوْ كَبَّرَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَالَفَ السنة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا هوى ليسجد ابتداء التَّكْبِيرِ قَائِمًا، ثُمَّ هَوَى مَعَ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ مَعَ سُجُودِهِ، وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وأنفه ويكون على أصابع رجليه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَمَّا السُّجُودُ فَهُوَ الِانْحِنَاءُ وَالِاسْتِسْلَامُ قَالَ الْأَعْشَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 (يراوح من صلوات المليك ... طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا) وَالدَّلِيلُ: عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَأَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السُّجُودِ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لِسُجُودِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ ثُمَّ يَهْوِي فَيُكَبِّرُ حتى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ مَعَ أَوَّلِ سُجُودِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ، فَأَوَّلُ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَدِّمُ وَضْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ بَعْدَ يَدَيْهِ " وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: " هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ إِلْيَتَيْهِ " وَرَوَى سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعيد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَبْهَةَ لَمَّا كَانَتْ أَوَّلَ الْأَعْضَاءِ، رَفْعًا كَانَتْ آخِرَهَا وَضْعًا وَجَبَ إِذَا كَانَ الرُّكْبَتَانِ آخِرَ الْأَعْضَاءِ رَفَعا أَنْ تَكُونَ أَوَّلَهَا وَضْعًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ يُرْفَعُ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُوضَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 بَعْدَ صَاحِبِهِ كَالْجَبْهَةِ مَعَ الْيَدَيْنِ؛ فَلَمَّا كَانَتِ الْيَدَانِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الرُّكْبَتَانِ مَوْضُوعَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَدَمَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَجَبْهَتِهِ، وَأَنْفِهِ، فَأَمَّا الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ، فَفَرَضَ السُّجُودَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ، وَالْأَنْفِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَيْهِمَا مَعًا وَقَالَ أبو حنيفة: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ بِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُوضِعُ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ " وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ مُجَزِّئًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: " مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنَ الْأَرْضِ " فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقًّا وَكَانَ لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ كَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْجُدَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَجَبْهَتِهِ وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ وَعِنْدَ أبي حنيفة: أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ كَانَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ كَانَ مُغْنِيًا وَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ، وَخَبَرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّمَا خُصَّ بِالْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ "، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لَلَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِهَا فِي حَالِ الْعَجْزِ، كَمَا لَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِالْجَبْهَةِ فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْإِيمَاءُ بِهَا عِنْدَ عَجْزِهِ سَقَطَ وُجُوبُ السُّجُودِ عَلَيْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 أَرَابٍ وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ " وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ هِيَ أَعْضَاءُ السُّجُودِ كَالْجَبْهَةِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ هِيَ فَرْضٌ لِمَحَلِّ السُّجُودِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ بِهَا فِي السُّجُودِ فَنَقُولُ أَمَّا الْجَبْهَةُ فَالْمُبَاشَرَةُ بِهَا وَاجِبَةٌ، وَعَلَيْهِ إِلْصَاقُهَا بِمَحَلِّ السجود من أرض أبو بِسَاطٍ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ، أَوْ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ بَيْنَ جَبْهَتِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ كَحَدِّ السَّيْفِ، أَوْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا يُرْوَى " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ "، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَيْهِ فَجَازَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرُّكْبَةِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ رَجُلًا إِذَا سَجَدَ أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِجَبْهَتِهِ وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ عَمَائِمَ الْقَوْمِ كَانَتْ لَفَّةً أَوْ لَفَّتَيْنِ لِصِغَرِهَا، فَكَانَ السُّجُودُ عَلَى كُورِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْجَبْهَةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُفَارَقَةُ الْعَادَةِ بِكَشْفِهِمَا وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ بِهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَبْهَةِ فَسَجَدَ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ، فَلَوْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ عِصَابَةٌ فَسَجَدَ عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَمَسَّ الْأَرْضَ بِمَوْضِعٍ مِنْ جَبْهَتِهِ أَوْ مِنْ خَرْقٍ فِي الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَاسِّ الْأَرْضَ بِشَيْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَإِنْ وَضَعَ الْعِصَابَةَ لِعِلَّةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا بَاشَرَ بِالْعِصَابَةِ الْأَرْضَ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا آخَرَ فِي وُجُوبِ من المسح على الجبائروليس بِصَحِيحٍ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ عِلَّةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ عَلَيْهَا وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى جَبِينِهِ، أَوْ مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " كَانَتْ مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ أَوْلَى " (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ بِمَا سوى الجبهة ن الْأَعْضَاءِ الْبَاقِيَةِ فَالرُّكْبَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بهما، ولا يستحب له خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ، وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي خُفَّيْنِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهِمَا، وَأَمَّا الْكَفَّانِ فَفِي وُجُوبِ الْمُبَاشَرَةِ بِهِمَا قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا وَاجِبَةٌ لِرِوَايَةِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا " وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لا يباشر الأرض بكفيه " وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فَخُصَّ الْوَجْهُ بِالسُّجُودِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ ابْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَعَلَيْهِ كساء ملتف به يضع يده عَلَيْهِ يَقِيهِ الْكِسَاءُ بَرْدَ الشِّتَاءِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا ركع أحدكم فليقل ثلاثاً سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَيَخْتَارُ أَنْ يُضِيفَ إِلَى تَسْبِيحِهِ مِنَ الذِّكْرِ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَأَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " فَهَذَا الذِّكْرُ الْمَسْنُونُ فِي السُّجُودِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِيهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَ وَجَلَّ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ " فَيَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَلَا مَأْمُومًا يُخَالِفُ الْإِمَامَ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثَنَاءً عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ " فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ دُعَائِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا، وَلَوْ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَةِ كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ تَرَكَهُ كُلَّهُ مَعَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، ولا سجود للسهو عليه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يكن عليه ما يستره رؤيت عُفْرَةُ إِبِطِهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَيُقِلُّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ وَهِيَ سَبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ جَافَى بِيَدَيْهِ حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَفَتَحَ إِبِطَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقِلُّ بَطْنَهُ وَصَدْرَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَهُ لَمَرَّتْ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ لِذَلِكَ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَضُمَّ فَخِذَيْهِ وَيُفَرِّقَ رِجْلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ وَلْيَضُمَّ فَخِذَيْهِ " وَالْخَامِسُ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ لِذَلِكَ وَالسَّادِسُ: أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفَرِّقَهَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ إِذَا رَفَعَهُمَا لِلتَّكْبِيرِ فَيُفَرِّقُهُمَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لِلتَّكْبِيرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَفْرِيقِ أَصَابِعِهِ عُدُولٌ عَنِ الْقِبْلَةِ وَإِذَا وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ صَارَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَإِذَا فَرَّقَهَا عَدَلَ بَعْضَهَا عَنِ الْقِبْلَةِ وَالسَّابِعُ: أَنْ يَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ وَلَا يَبْسُطَهُمَا لِرِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ بسط السبع " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فَهَذِهِ صِفَةُ السُّجُودِ وَهَيْئَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْكَمَالِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَدْحٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَنْعٌ مِنْ إِجْزَاءٍ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ، فَلَوْ أَنَّ مُصَلِّيًا هَوَى لِلسُّجُودِ فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْقَلَبَ سَاجِدًا فَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ قَصْدًا لِلسُّجُودِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ للسجود لم يجزه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا كَذَلِكَ حَتَّى يَعْتَدِلَ جَالِسًا عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا رَفَعَ مِنْهُ مُكَبِّرًا، وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَالتَّكْبِيرُ مَسْنُونٌ، فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ آخِرِ رَفْعِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ ثُمَّ يَجْلِسُ مُعْتَدِلًا مُطْمَئِنًا، وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا رُكْنَانِ مَفْرُوضَانِ وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سُنَّتَانِ لَا يَجِبَانِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ يَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ " وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ قَالَ: " فَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ جِلْسَةٍ لَوِ ابتداء لَهَا بِالْقِيَامِ بَطَلَتْ بِهَا الصَّلَاةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً فِي الصَّلَاةِ كَالْجُلُوسِ الْأَخِيرِ لِلتَّشَهُّدِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، فَمِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ إِذَا جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي " (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى كَذَلِكَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ كَمَا يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الْأُولَى يَبْتَدِئُ بِهَا بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا وَيُنْهِيهِ سَاجِدًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا فِي صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ لاستوائهما في الوجوب فاستويا في الصفة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بيديه حتى يعتدل قائماً ولا يرفع يديه في السجود ولا في القيام في السجود " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ أَكْمَلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى فَيُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَهَا أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَتْ هَذِهِ الْجِلْسَةُ مُسْتَحَبَّةً، وَلَا سُنَّةً وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَحْكِهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ فَعَلَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ كِبَرِهِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ صَلَّى وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ صَلَاةً، وَلَكِنْ أُرِيكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي حَتَّى إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ بَعْدَ رَكْعَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ جِلْسَتِهِ كَالثَّالِثَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ سُنَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ غَيْرَ مُطْمَئِنٍ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قام مكبراً والوجه الثاني: وهو يقول أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا لِقَدَمِهِ الْيُسْرَى مُطْمَئِنًا، كَجُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ مُكَبِّرًا، فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ فَسَوَاءٌ كَانَ شَابًّا أو شيخاً قوياً أو ضعيفاً (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَحُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ كَحُكْمِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مختصة بالركعة الأولى لاختصاصها بافتتاح الصلاة فهي النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّوَجُّهُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ فَرْضٍ، وَسُنَّةٍ، وَهَيْئَةٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ فَقَالَ: " ثُمَّ اصْنَعْ كذلك في كل ركعة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجْلِسُ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى , وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى إِلَّا الْمُسَبِّحَةَ وَيُشِيرُ بِهَا مُتَشَهِّدًا " قَالَ الْمُزَنِيُّ: " ينوي بالمسبحة الإخلاص لله تعالى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: أَنَّهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّهُ تَشَهَّدَ فِي الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ وَنَسِيَ التَّشَهُّدَ فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ عَنْهُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَجَعَ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تصح الصلاة بتركه ناسياً نصح الصَّلَاةُ بِفِعْلِهِ عَامِدًا، كَالْمَسْنُونَاتِ طَرْدًا، وَالْمَفْرُوضَاتِ عَكْسًا وبهذا تنفصل عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي، لِأَنَّ تَرْكَهُ سَهْوًا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَسْنُونًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَسْنُونٌ، وَالثَّانِيَ مَفْرُوضٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنْ يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي الثَّانِي مُتَوَرِّكًا وَصُورَةُ الِافْتِرَاشِ فِي الْأُولَى: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا مُفْتَرِشًا لَهَا وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَصُورَةُ التَّوَرُّكِ فِي الثَّانِي: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيُخْرِجَهَا عَنْ وَرِكِهِ الْيُمْنَى وَيُفْضِيَ بِمَقْعَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُتَوَرِّكًا وَقَالَ أبو حنيفة: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُفْتَرِشًا لَهَا، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى تَوَرُّكِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسَ مُتَوَرِّكًا، وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ سنته التورك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى افْتِرَاشِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسَ مُفْتَرِشًا وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ سنته الافتراض كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ أَقْصَرُ مِنَ الثَّانِي لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرَ أَطْوَلُ فَافْتَرَشَ فِي الْأَوَّلِ لِقِصَرِهِ وَتَوَرَّكَ فِي الثَّانِي لِطُولِهِ، وَلِأَنَّ كل فعل يتقرر فِي الصَّلَاةِ إِذَا خَالَفَ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْقَدْرِ خَالَفَهُ فِي الْهَيْئَةِ كَالْقِرَاءَةِ فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ فَمُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الِافْتِرَاشِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالتَّوَرُّكِ عَلَى الثَّانِي وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ أَوْ مُعَارَضٌ بِالْقِيَاسِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا وَضْعُ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَأَنَّهُ يَبْسُطُ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَضَعُ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَفِيمَا يَصْنَعُ بِأَصَابِعِهِ قَوْلَانِ: أحدهما: أنه يقبض بها إِلَّا السَّبَّابَةَ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهَا كَأَنَّهُ عَاقِدٌ على ثلاث وخمسين لرواية عبد الله به عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْبِضُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَيَبْسُطُ السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ لِخَبَرٍ رَوَى فِيهِ، وَهَلْ يَضَعُ السَّبَّابَةَ عَلَى الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضَعُهَا كَذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنْ يَبْسُطَهُمَا غَيْرَ مُتَرَاكِبَيْنِ فَأَمَّا السبابة فإنه يشير بهما يَنْوِي بِهَا الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَاخْتَلَفَ أصحابنا في تحريكها على وجهين: أحدهما: يحركهما مشيراً بهما، رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هِيَ مَذْعَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ " وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ وَهُوَ أَصَحُّ لرواية عامر بن عبد الله بن زبير عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركهما، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ التَّشَهُّدِ وَسُنَّتِهِ فَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ فيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا تَشَهَّدْتُمْ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ "، ولأن كل موضع كان ذكر عز وجل الله وَاجِبًا كَانَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبًا وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَسْنُونًا كَانَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسنوناً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْعُدُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَسْنُونٌ فَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَتَرْكِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْجُدُ لِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلتَّشَهُّدِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِتَرْكِهِ وَإِنْ سَجَدَ لترك التشهد (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ قَامَ مُكَبِّرًا مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِلَ قَائِمًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ الْقِيَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامَ مُكَبِّرًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ أَوَّلِ قِيَامِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِهِ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَلِأَنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ كَمَحَلِّهِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ من ركعة إلى أخرى فوجب أن يتبدئ بِالتَّكْبِيرِ كَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَنْهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَأَسْرَعُ لِنَهْضَتِهِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بالإحرام والركوع والرفع منه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَذَلِكَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ سِرًّا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ حُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْفُرُوضِ وَالسُّنَنِ حُكْمُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَإِنْ جَهَرَ بِهَا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَاتِحَةِ فَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهَا بِسُورَةٍ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وأبي حنيفة، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أُمَّ الْكِتَابِ، وَسُورَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِرِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ " وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَدْ شَكَاكَ النَّاسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ قَالَ: أما أنه فَأَمِدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا ألوما اقْتَدَيْتُ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: ذلك الظن بك (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ جَمِيعًا وَأَخْرَجَهُمَا جَمِيعًا عَنْ وَرِكِهِ الْيُمْنَى وَأَفْضَى بِمَقْعَدِهِ إِلَى الأرض وأضجع اليسرى ونصب اليمنى ووجه أصابعها إلى القبلة وبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعها إلى المسبحة وأشار بها متشهداً " قال الماوردي: التشهد [الثاني] واجب، وَالْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ وَإِنْ تَرَكَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَصَلَ اتُهُ بَاطِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ: التَّشَهُّدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا الْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ التَّشَهُّدُ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ "، وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ مَعَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَكَرَّرُ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ أَوَّلُهُ لَمْ يَجِبْ ثَانِيهِ كَالتَّسْبِيحِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 سُنَّتِهِ الْإِخْفَاءُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَالِاسْتِفْتَاحِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَخْتَصُّ بِالْقُعُودِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّقَاشِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَنَا فَعَلَّمَنَا وَبَيَّنَ لَنَا سُنَنَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا إلى أن قال: " وإذا كان عند العقدة فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ " وَهَذَا أَمْرٌ وَرَوَى عَلْقَمَةُ قَالَ: أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِي، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: " إِذَا قُضِيَتْ صَلَاتُكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ "، فَدَلَّ أَنَّهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ يَقْضِ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مُقَدَّرٌ بِذِكْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ مَفْرُوضًا، كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُمْتَدٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَادَةُ، وَالْعِبَادَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ ذِكْرٌ وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَذَانُ مِنْ أَذْكَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ شَرْطًا فِي [صِحَّةِ] الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ عَقْدِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ ذِكْرٍ مُعْجِزٍ، وَغَيْرِ مُعْجِزٍ، فَلَمَّا انْقَسَمَ الْمُعْجِزُ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ؛ وَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ غَيْرُ الْمُعْجِزِ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَالثَّابِتُ عَنْهُ مَا رُوِّينَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ "، وَيُحْمَلُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا قَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مُقَارَنَةِ التَّمَامِ كَقَوْلِهِ سبحانه: تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] أَيْ: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ صَلَاتَهُ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاةُ مَنْ مَعَهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ مَرْوِيًّا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُنِ السَّلَامُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ مَفْرُوضًا، لِأَنَّ فَرْضَهَا متأخر وأما قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الرُّكْنَ لَا يَتَقَرَّرُ بِهِ، وَكَذَا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِافْتِتَاحِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أنه لما لم يكن له الْقُعُودُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ وَاجِبًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ التَّشَهُّدِ وَالْقُعُودِ فَذِكْرُ التَّشَهُّدِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا الْقُعُودُ لَهُ فَيَكُونُ فِيهِ مُتَوَرِّكًا كَمَا وَصَفْنَا، وَيَكُونُ فِي الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ فِي هَذَا التَّشَهُّدِ كَمَا وَضَعَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ تشهد غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قاعد وقعد غير متشهد لم جزه حَتَّى يَكُونَ التَّشَهُّدُ فِي قُعُودِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مَحَلِّهِ كَالْقِرَاءَةِ تُسْتَحَقُّ فِي الْقِيَامِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَ قَائِمٍ أَوْ قَامَ غَيْرَ قَارِئٍ لم يجزه حتى تكون قراءته في قيام والله أعلم بالصواب (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَهَذَا كَمَا قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فِي التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: هِيَ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عِلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا جِلْسَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّشَهُّدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي قُعُودٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ كَالدُّعَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ أُصُولَ الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرَانِ فِي رُكْنٍ، فَلَمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّ التَّشَهُّدَ وَاجِبٌ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَوْلَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ الكرخي: إِنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَرَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَفِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وهذا أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا " وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَرْتَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَيْكَ فأما السلام فقدعرفناه، وَكَيْفَ نُصَلِّي "؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى ذِكْرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالْأَذَانِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ " مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا أَدْرَجَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَ فَرْضِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ نُشِيرُ بِأَيْدِينَا " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ مَحَلَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرَانِ مِنْهَا فِي رُكْنٍ فَهُوَ أَصْلٌ لَا يَسْتَمِرُّ، وَدَلِيلٌ لَا يَسْلَمُ لِأَنَّ الْقِيَامَ ذِكْرٌ، وَفِيهِ ذِكْرَانِ مَفْرُوضَانِ الْإِحْرَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، فَكَذَلِكَ الْقُعُودُ، فَإِذَا ثَبَتَ وجوب الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا ذَكَرْنَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ وَصِفَتُهُ مِنْ بعد في " ذكر التشهد " (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو قَدْرًا أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويخفف على من خلفه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَبْلَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ جَاءَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ وَوَرَدَتْ بِهَا الْآثَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 رَوَى شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجِّالِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَسْنُونٌ فَكُلُّ دُعَاءٍ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ، وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ "، وَلِأَنَّ مَا لَمْ [يَكُنْ] ذِكْرًا لَمْ تَصِحَّ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَالْكَلَامِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ. رَوَى جَامِعٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَاهُنَّ كَمَا يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبَلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المحيا والممات ". كان من اخر يقول في التشهد والتسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " وَرَوَى الصُّنَابِحِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "، وَلِأَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ سَاغَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ سَاغَ فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ، وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الصَّلَاةَ مَا ذَكَرَهُ، وَالدُّعَاءُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فَلَيْسَ الدُّعَاءُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِهَالٌ وَرَغْبَةٌ فَكَانَ بِالذِّكْرِ أَشْبَهَ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الدُّعَاءِ فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِأُمُورِ دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ وَالدُّعَاءُ بِأُمُورِ دِينِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِأُمُورِ دُنْيَاهُ مُبَاحٌ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ اقْتِدَاءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبَرُّكًا بِدُعَائِهِ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَدْعُو بِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ منفرداً، فإن كان في جماعة دعا قدر أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ الدُّعَاءَ تَبَعٌ لَهُمَا فَكَانَ دُونَ قَدْرِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْمَرُ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَالْمَأْمُومُ مَنْهِيٌّ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَخَفْ سَهْوًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَأَدْرَكَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَأْمُومٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِالصَّلَاةِ لَزِمَهُ إِذَا أَكْمَلَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا جَلَسَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ، لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَدْ لَزِمَهُ اتِّبَاعُهُ، وَالتَّشَهُّدُ مِمَّا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُنَا الْأَفْعَالُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ هَذَا الْمَأْمُومُ إِلَى صَلَاتِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى لَيْسَ فِيهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا وَإِنَّمَا جَلَسَ اتِّبَاعًا ثُمَّ صَحَّ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ فَقَامَ لِيُتِمَّ قِرَاءَتَهُ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّهَا حَالٌ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا التَّكْبِيرُ؛ وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ تَشَهَّدَ الْإِمَامُ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ أَنْ يَقُومَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ إِنَّمَا سُنَّ فِيهِ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ أَتَى بِهَا مَعَ الْإِمَامِ حِينَ رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ، وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَامَ الْمَأْمُومُ إِلَى الرَّابِعَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِتْيَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ لَهَا مَعَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمَأْمُومُ لِإِتْمَامِ بَاقِي الصَّلَاةِ قَامَ مُكَبِّرًا، لِأَنَّهُ فِيمَا بَيْنَ رَفْعِهِ مِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ إلى قيامه إلى الثالثة تكبيرتين: إِحْدَاهُمَا: فِي رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ وَقَدْ أَتَى بِهَا وَالثَّانِيَةُ: فِي قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِالْإِتْيَانِ بِهَا، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَقَامَ مَعَهُ مُكَبِّرًا اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فِي التَّكْبِيرِ وَإِنْ تَكُنْ هَذِهِ التكبيرة من صلاة المأموم والله أعلم (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَسَرَّ قَرَأَ مَنْ خَلْفَهُ وَإِذَا جَهَرَ لَمْ يَقْرَأْ مَنْ خلفه " قال المزني " رحمه الله قَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ وَإِنْ جَهَرَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ (قال) محمد بن عاصم وإبراهيم يقولان سمعنا الربيع يقول (قال الشافعي) يقرأ خلف الإمام جهر أو لم يجهر بأم القرآن قال محمد وسمعت الربيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 يقول (قال الشافعي) ومن أحسن أقل من سبع آيات من القرآن فأمّ أو صلى منفرداً ردد بعض الآي حتى يقرأ به سبع آيات فإن لم يفعل لم أرَ عليه يعني إعادة (قال الشافعي) وإن كان وحده لم أكره أن يطيل ذكر الله وتمجيده والدعاء رجاء الإجابة " قال الماوردي: هذا كما قال اعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ، وَأَذْكَارٍ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فيها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيهِ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ، وَالتَّوَجُّهُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَقِسْمٌ لَا يتبع إمامه فيه، وهو السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ فَيُنْصِتُ الْمَأْمُومُ لَهَا وَلَا يَقْرَؤُهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ، بِهَا خَلْفَ إِمَامِهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبَعْضِ الْجَدِيدِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَإِنْ لَزِمَهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَأُبَيُّ بْنُ كعب، وأبو سعيد الخدري، وأبو عبادة بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَقْرَأُ خَلْفَ إِمَامِهِ بِحَالٍ لَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَلَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ [وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ] وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ، وَعَلْقَمَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ: اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَالْقِرَاءَةُ تَمْنَعُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْصَاتِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[أَنَّهُ قَالَ] : " إِنَّمَا جُعل الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا " فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْإِنْصَاتِ نَهْيًا عَنِ الْقِرَاءَةِ وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ رَجُلٌ خَلْفَهُ فَنَهَاهُ آخَرُ فلما فرغا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 مِنَ الصَّلَاةِ تَنَازَعَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ " وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَأَقْرَأُ فَقَالَ: " أَلَا يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ " وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهَا قِرَاءَةٌ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ لَجَهَرَ بِهَا كَالْإِمَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ رِوَايَةُ مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: قَالَ: " كُنَّا خَلْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تقرؤون خَلْفَ إِمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا " وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَدَ الْعِشَاءَيْنِ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: فِيكُمْ مَنْ قَرَأَ خَلْفِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِهَا " وَرَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَرَأْتُ خَلْفَكَ فَقَالَ: " يَا فَارِسِيُّ لَا تَقْرَأْ خَلْفِي إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، لِأَنَّ مَنْ سَاوَى الْإِمَامَ فِي إِدْرَاكِ الرُّكْنِ سَاوَاهُ فِي إِلْزَامِهِ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْإِمْكَانِ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْفَرْضِ لَزِمَهُ الْفَرْضُ كَالصَّلَاةِ تَلْزَمُهُ بِإِدْرَاكِ الْوَقْتِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَطَاءٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَرْكُ الْجَهْرِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالثَّالِثُ: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ سلام على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَى فُلَانٍ فَجَاءَ الْقُرْآنُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كان له إمام فقراءة الإمام له قِرَاءَةٌ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ " لَهُ " رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ، وَإِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ " وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ، وَإِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّورَةِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُدْرِكٌ بَعْضَ رَكْعَةٍ وَإِنْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ نَائِبًا عَنْ رَكْعَةٍ لَا سُنَّةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ أَدْرَكَهُ راكعاً أنه لما لم يدرك محل القراءة لم تلزمه القراءة وأما ترك الجهر فلا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْأَصْلِ كَالتَّكْبِيرَاتِ يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا الْمَأْمُومُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِسَكْتَةٍ بَعْدَهَا لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ فِيهَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ قَالَ: حَفِظْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَكْتَةً بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَسَكْتَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ عَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى خَدَّاهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ فَوَاجِبٌ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ 74 مُعَيَّنٌ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالسَّلَامِ، وَيَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا بِالْحَدَثِ، وَالْكَلَامِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ؛ وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ رَأَسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ " وَهَذَا نَصٌّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ سَلَامٌ لِلْحَاضِرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ كَالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَخِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، وَذَلِكَ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ " وَرَوَى مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: أَحَدُنَا بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لَكُمْ تَرْمُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَجَعَلَ الِاكْتِفَاءَ بِالسَّلَامِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ النُّطْقُ كَالطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ رُكْنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ بِمَا يُضَادُّهَا كَالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فِي وَسَطِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْحَدَثِ فِي آخِرِهَا كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا يُضَادُّ الصَّلَاةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْرَجَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَالُهَا بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّعَبُّدُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فقد قضيت صلاتك " يعني: مقاربة قضائها قوله: " إن شئت فقم، وإن شئت فاقعد " من كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا بَعْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَجِبِ التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَوَصْفٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي خِطَابِ الآدميين، لأنه لَوْ تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ وَالسَّلَامُ إِذَا تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ فَهُوَ عِنْدَنَا مِنَ الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ السَّلَامُ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَ السَّلَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُنَافِي الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ وَالْكَلَامِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنِ الْقِبْلَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا نَسِيتُ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا أَنْسَى سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمِينًا وَشِمَالًا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عليكم ورحمة الله " فأخبر أن مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ نُطْقٌ شُرِعَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ سَهْلٍ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةٍ فَبِمَعْنَى، قَارَبَ الْفَرَاغَ منها، وأما الحدث وَالْكَلَامُ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ من الصلاة وأما قولهم إنه له كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ عَنِ الْقِبْلَةِ خَفْضًا بِوَجْهِهِ فِي أَرْكَانٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَذَا السَّلَامُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: عَدَدُ السَّلَامِ وَهَيْئَتُهُ وَالثَّانِي: صِفَةُ السَّلَامِ وَكَيْفِيَّتُهُ وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِيهِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ السَّلَامِ وَهَيْئَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَيَ جَمْعٍ كَثِيرٍ وَمَسْجِدٍ عَظِيمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُفْرَدًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ إِمَامًا فِي جَمْعٍ يَسِيرٍ وَمَسْجِدٍ صَغِيرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً مِنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَبِهِ قَالَ ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهما وَالْأَوْزَاعِيُّ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ يَمْتَدُّ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا أَوْلَى لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ، وَقَدْ رَوَى عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: كَانَ مَشْيَخَةُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، وَمَشْيَخَةُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَالْأَخْذُ بفعل الأنصار أولى لتأخرهم فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَاجِبُ مِنْهُمَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا. فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ لَا فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ وَاقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ وَيَأْتِي الْمَأْمُومُ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ صَلَاتِهِ وَهُوَ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قَدْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَتِهِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِهَا كَمَا لَوْ قَالَهَا الْإِمَامُ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَةِ السَّلَامِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَالْأَكْمَلُ الْمَسْنُونُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِرِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَمَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِصِحَّةِ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَإِنْ أَسْقَطَ مِنَ السَّلَامِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَاسْتَبْدَلَ بِهَا التَّنْوِينَ فَقَالَ سَلَامٌ مِنِّي عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ لِنَقْصِهِ عَمَّا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْكَلَامِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: " كَرِهْنَا ذَلِكَ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ " وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " لَا يُجْزِئُهُ " فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى لَفْظَ السَّلَامِ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ " لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِهِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي السَّلَامِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي السَّلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِسَلَامِ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْخُرُوجِ، قَالَ: لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَفْصٍ وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا عَلَى الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا خَالَفَتْ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنُطْقٍ كَالدُّخُولِ فِيهَا خَالَفَتْهَا فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِالنُّطْقِ كَالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي السَّلَامِ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ إِمَامًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ، مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مَأْمُومًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَمِينِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى شَيْئَيْنِ، الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ، وَلَوْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى يَمِينِهِ وَلَيْسَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ نَوَى بالتسليمة الأولى أربعة أشياء فالخروج من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، وَالْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إِلَى الْيَمِينِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ الْخُرُوجَ مِنْ صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، والإمام وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إِلَى الْيَسَارِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأُولَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، وَالْمَأْمُومِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ فَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ جَمِيعِهِ أَنْ يَنْوِيَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا غَيْرُ، فَإِذَا نَوَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، لَكِنْ إِنْ نَوَاهُ فِي الثَّانِيَةِ كَانَ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى كَالْمُسْلِمِ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، فَلَوْ سَلَّمَ غَيْرُنَا وَلِلْخُرُوجِ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَعْدَ السَّلَامِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ يَبْدَأُ بِدُعَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ بِدُعَاءِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا فَعَلَ، وَيُسِرُّ بِدُعَائِهِ وَلَا يَجْهَرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُرِيدُ تَعْلِيمَ النَّاسِ الدُّعَاءَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ جَهْرًا لَا يُسْمَعُ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا إِخْفَاتا لَا يُسْمَعُ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَثْبُتُ سَاعَةَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نِسَاءٌ فَيَثْبُتُ لِيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الرِّجَالِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ من صلاته فإذا كَانَ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ رِجَالًا لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ وَثَبَ سَاعَةَ يُسَلِّمُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَرَاغَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنْ لَا يَسْهُوَ فَيُصَلِّي، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ ثَبَتَ قَلِيلًا لِيَنْصَرِفَ النساء، فإن انصرفن وثبت لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة: يَثِبُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَلْبَثُ وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَلَّمَ مَكَثَ قَلِيلَا وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذلك كيما يَنْفِرُ الرِّجَالُ قَبْلَ النِّسَاءِ، وَإِذَا وَثَبَ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةٌ لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ وَالْعَصْرِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَدَعَا بِمَا ذكرنا وإن كانت صلاة ينتفل بَعْدَهَا، كَالظُّهْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعَشَاءِ فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا " وَرَوَى بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَا الْمَكْتُوبَةَ " وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ إِمَامَهُ، أَوْ يَخْرُجَ معه، أو بعده (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَنْصَرِفُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شماله " وَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْحَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَيْطَانِ مِنْ صَلَاتِهِ جُزْءًا يَرَى أَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكْثَرَ مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ فَإِذَا ثَبَتَ جواز الأمرين فيستحب إن كان لهي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ غَرَضٌ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى غَرَضِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْرَأُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ حُكْمًا، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُجْهَرُ بِهَا مَعَ السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَيُسَرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كَانَتِ الصَّلَاةُ ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِهَا فَإِنْ كَانَتْ عِشَاءَ الْآخِرَةِ، أَوْ مَغْرِبًا جَهَرَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا وَأَسَرَّ فِي بَاقِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا جَهَرَ فِي جَمِيعِهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، وَلَا تَمَانُعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا يُسِرُّ فِي جَمِيعِهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا وَيُسِرُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا، لا اختلاف بينهم في شيء في ذَلِكَ فَاسْتَغْنَى بِهَذَا الْإِجْمَاعِ بِهَا عَنْ نَقْلِ دَلِيلٍ ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عُجْمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ جَهَرَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالْبَعْرِ " (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهْرَ مَسْنُونٌ فِيمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَهْرُ سُنَّةُ الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَمَّا لَمْ يُسَنَّ لَهُ الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ لَمْ يُسَنَّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ، وَهَذَا غَلَطٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ هَيْئَةٌ لِلذِّكْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قِيَاسًا عَلَى هَيْئَاتِ جَمِيعِ الْأَذْكَارِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَهْرِ الِاعْتِبَارُ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُ إِعْجَازِهِ، وَهَذَا فِي الْمُفْرِدِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اعْتِبَارًا بِقِرَاءَتِهِ وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدَبُّرِ لِإِطَالَتِهِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ، فَإِنَّمَا سُنَّ لَهُ الْإِسْرَارُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِصْغَاءِ إِلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ (فَصْلٌ) : وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً فَاتَتْهُمْ صَلَاةُ نَهَارٍ مِنْ ظُهْرٍ، أَوْ عَصْرٍ فَقَضَوْهَا فِي اللَّيْلِ أَسَرُّوا الْقِرَاءَةَ، وَلَوْ تَرَكُوا صَلَاةَ لَيْلٍ مِنْ مَغْرِبٍ أَوْ عِشَاءٍ فَقَضَوْهَا نَهَارًا، جَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ اعْتِبَارًا بِصِفَتِهَا حَالَ الْأَدَاءِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَهْرُهُ بِهَا نَهَارًا دُونَ جَهْرِهِ فِي اللَّيْلِ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ، وَإِيقَاعِ الْإِلْبَاسِ وَحَدُّ الْجَهْرِ: هُوَ أن يسمع من يليله. وَحَدُّ الْإِسْرَارِ: أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، فَلَوْ خَالَفَ الْمُصَلِّي فَجَهَرَ فِيمَا يُسَرُّ أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يُجْهَرُ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي بِنَا فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا " وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ قَالُوا: كَانَ حَسَنًا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا شَغَلَ قَلْبِي بَعِيرٌ أَنْفَذْتُهَا إِلَى الشَّامِ، وَكُنْتُ أُنْزِلُهَا فَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا لَا تُوجِبُ جُبْرَانًا، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ هَيْئَةٌ، وَمُخَالَفَةُ الْهَيْئَاتِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا تُوجِبُ السَّهْوَ قِيَاسًا عَلَى هَيْئَاتِ الأفعال (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ وَفَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهْ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " قَالَ وَهُوَ قَائِمٌ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تباركت ربنا وتعاليت " والجلسة فيها كالجلسة في الرابعة في غيرها (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمرو الغزي قال حدثنا أبو نعيم عن أبي جعفر الداري عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك قال ما زال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت حتى فارق الدنيا واحتج في القنوت في الصبح بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قنت قبل قتل أهل بئر معونة ثم قنت بعد قتلهم في الصلاة سواها ثم ترك القنوت في سوها وقنت عمر وعلي بعد الركعة الآخرة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ، الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُقَالُ: قَنَتَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِ، وَقَنَتَ لَهُ إِذَا دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، لَكِنْ صَارَ الْقُنُوتُ بِالْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا فِي دُعَاءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 مَخْصُوصٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَبَدًا، وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شهر رمضان قال أبو حنيفة: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الصُّبْحِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ أَبَدًا، وَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الصُّبْحِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بِدْعَةٌ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْنُتَ فِيهَا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الصُّبْحِ مَسْنُونًا لَكَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ " وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ خُفَافٍ عَنْ أَبِيهِ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ قَالَ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، ثُمَّ وَقَعَ سَاجِدًا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا شَهْرًا حِينَ قِيلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا خَرَجُوا في جواز ملاعب الأسنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} فَكَفَّ قِيلَ: إِنَّمَا كَفَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَنْ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَعَنِ الْقُنُوتِ فِيمَا سِوَى الصُّبْحِ مِنَ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ مَفْرُوضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا فِي صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ كَقَوْلِهِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنَينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ "، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِذِكْرٍ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمُعَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْخُطْبَةِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وَإِنَّمَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " الْقُنُوتُ بِدْعَةٌ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْنُتُ مَعَ أَبِيهِ، وَلَكِنْ نَسِيَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الصُّبْحَ مُخَالِفَةٌ لَهَا لِمَا يَخْتَصُّ مِنْ تَقَدُّمِ الْأَذَانِ لَهَا وَالتَّثْوِيبِ فِي أَذَانِهَا وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ سُنَّةً لَكَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي الْوِتْرِ ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُسْتَفِيضًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَجَّ بَيَانًا مُسْتَفِيضًا وَلَمْ يَنْقُلْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا اخْتَلَفُوا فِيهِ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ تَمَتَّعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وثلاثة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي الصُّبْحِ وَأَنَّ مَا سِوَى الصُّبْحِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ قَدْ قَنَتَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ تَرَكَ فَلَيْسَ تَرْكُهُ لِلْقُنُوتِ فِيهَا نَسْخًا، وَلَكِنْ قَنَتَ لِنَازِلَةٍ ثُمَّ تَرَكَ لِزَوَالِهَا وَكَذَلِكَ إِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَلَنْ يُنْزِلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْنُتَ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى يَكْشِفَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَسَرَتْ قُرَيْشٌ مَنْ أَسَرَتْ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ مَنْ قُتِلَ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ فَالْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ وَالثَّانِي: فِي هَيْئَتِهِ وَالثَّالِثُ: فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ فَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ قنوت الحسن وهو ما رواه يزيد بن أبي مريم عن أبي لحوراء قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَّمَنِي رَسُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ " فَهَذَا الْقُنُوتُ الَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ قَنَتَ بِسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ جَيِّدًا اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ نَشْكُرُكَ، وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَهْجُرُكَ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سُورَةٌ، وَالثَّابِتُ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الحد بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - بِمَعْنَى: لَاحِقٌ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَكَانَ أُبَيٌّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا سُورَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ قُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ تَقَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَقُنُوتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَوْلَى وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ: " اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرًا رَشِيدًا تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فِيهِ عَدُّوكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بطاعتك، وتنهي عَنْ مَعْصِيَتِكَ "، فَإِنْ قَنَتَ بِهَذَا جَازَ، وَالْمَرْوِيُّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقُنُوتِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَيُّ شَيْءٍ قُنِتَ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ قُنُوتِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَرَأَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَنْوِي بِهَا الْقُنُوتَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ دُعَاءً، أَوْ تُشْبِهُ الدُّعَاءَ كَآخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] إِلَى آخِرِهِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا وَهَذَا يُجْزِئُ عَنْ قُنُوتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَآيَةِ الدَّيْنِ، وَسُورَةِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهب} فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُنُوتَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَشْرَفُ مِنَ الدُّعَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ وليس بِدُعَاءٍ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: مِنْ هَيْئَةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَسَرَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُسِرُّ بِهِ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَوْضُوعُهُ الْإِسْرَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 11] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يجهر بقول سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَكِنْ دُونَ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْإِمَامَ يُسِرُّ فِي الْقُنُوتِ قَنَتَ الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ سِرًّا، وَإِنْ قِيلَ يَجْهَرُ بِهِ سَكَتَ الْمَأْمُومُ مُسْتَمِعًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ سَكَتَ وَقَدْ أمر بالقنوت لم يلزمه سجود السهو، لأن خَلْفَ الْإِمَامِ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ نَاسِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا كَانَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سجود عليه للسهو، لأن لَيْسَ بساهٍ وَالثَّانِي: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ السَّاهِي كَانَ الْعَامِدُ أَوْلَى بِهِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَحَلِّ الْقُنُوتِ فَمَحَلُّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَحِينَئِذٍ يَقْنُتُ وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ إِلَّا أن أبا حنيفة يقول بكبر وَيَقْنُتُ وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْنُتُ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَبِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أنس أن سُئِلَ هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ بِيَسِيرٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَخُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ، وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِنَ الذِّكْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَمَحَلُّهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ كَالتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ لَا يَتَقَدَّمُ الْقِرَاءَةَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الرُّكُوعَ، فَأَمَّا مَا روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا قُنُوتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَقَدْ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثم قال قد كبر النَّاسُ فَأَرَى أَنْ يَكُونَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِيَلْحَقَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ وَلَا تَفُوتُهُمْ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ رَأْيًا رَآهُ، وَقَدْ قَنَتَ أَبُو بَكْرٍ، وعمر رضي الله عنه بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنْ خَالَفَ وَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبَهُ أَجْزَأَهُ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا لَا يَرَاهُ مَذْهَبًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِمَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِتَقْدِيمِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ كَتَقْدِيمِهِ التَّسْبِيحَ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَفِي سُجُودِهِ لِلسَّهْوِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَحَلِّهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى مَحَلِّهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالتَّسْبِيحِ (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالتَّشَهُّدُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله " يقول هذا في الجلسة الأولى وفي آخر صلاته " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ وَقَدْ مَضَى فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَفْضَلِهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ لِاخْتِلَافِ رُوَاتِهِ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَالَ رَسُولُ الله: " لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ أبو حنيفة وَالْعِرَاقِيُّونَ وَأَمَّا تَشَهُّدُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 التَّشَهُدَ: " قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ مَالِكٌ، وَالْمَدَنِيُّونَ فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ الشَّافِعِيُّ، وَالْمَكِّيُّونَ وَهَذَا بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ السَّلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَمَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: زِيَادَةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ بِقَوْلِهِ الْمُبَارَكَاتُ، وَلِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَلِتَأَخُّرِهِ عَنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَخْذُ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى، وَبِأَيِّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَشَهَّدَ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ فِي الْأَذَانِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ فَسِتُّ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْكَلِمَةُ السَّادِسَةُ هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ وَاجِبًا دُونَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَمَا سِوَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَزِمَ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدَ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، كَالْقِرَاءَةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يُجْزِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ في القرآن إعجاز إِذَا خَالَفَ نَظْمَهُ زَالَ إِعْجَازُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سائر الأذكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ: (أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجَيْدِ) يَعْنِي عَلَى مُلْكِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحِيَّةَ السَّلَامُ، وَمَعْنَاهُ سَلَامُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا تشهد صلى على النبي فَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد " (قال) حدثنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى الكوفي قال حدثنا أبو نعيم عن خالد بن إلياس عن الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكبر بنا فقرأ بنا بسم الله الرحمن الرحيم فجهر بها في كل ركعة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأما بصفته فَالْأَكْمَلُ الْمُخْتَارُ فِيهِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بِشْرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نصلي عليك فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا سِوَاهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَلَوْ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه، " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثم قضى (قال) حدثنا إبراهيم قال الربيع أخبرنا الشافعي قال التشهد بهما مباح فمن أخذ يتشهد ابن مسعودٍ لم يعنف إلا أن في تشهد ابن عباس زيادة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْتِيبِ الصَّلَوَاتِ هَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الترتيب [منها] مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي قَلِيلِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَقَضَى مَا فَاتَهُ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا فِي خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَمَا دُونَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي [أَكْثَرَ مِنْ] خَمْسِ صَلَوَاتٍ أَجْزَأَ فَكَأَنَّهُ يَرَى وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَعَ الذِّكْرِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلَزِمَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ، ثُمَّ الْإِحْرَامُ بِصَلَاةِ وَقْتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا مُضِيفًا فَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ وَقَالَ مَالِكٌ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَا دُونَ كَقَوْلِ أبي حنيفة، لَكِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَأَتَمَّهَا اسْتِحْبَابًا ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ الصَّلَوَاتِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا وَاجِبًا وَقَضَى مَا فَاتَهُ وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا فَأَمَّا أبو حنيفة فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ " فَجَعَلَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَهُ تَرْتِيبُ قَضَائِهَا كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَقَّتَاتِ، وَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ، والعصر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ لِلْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَقَامَ لِلْعِشَاءِ فَرَتَّبَ قَضَاءَ مَا فَاتَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَازِمًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانُ مَا وَرَدَ مُجْمَلًا فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْله تعالى: {وأقيموا الصلاة} والثاني: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " فَاقْتَضَى بُطْلَانَ صَلَاتِهِ وَقَضَاءَ مَا فَاتَهُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَا فَرْضٍ يَفْعَلَانِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا في وقت إحديهما فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبَ فِيهِمَا كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ [الَّتِي فِيهَا] لِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَلْزَمُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي: فِي الزمان فلم لَمْ يَسْقُطْ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ فِي الْفَوَاتِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ لَمْ يَسْقُطْ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ فِيهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ عَصْرٍ عَلَى ظُهْرٍ وَاحْتَجَّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى فَلْيُتِمَّ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلْيُصَلِّ الَّتِي ذَكَرَ ثُمَّ يُعِيدُ الَّتِي صَلَّاهَا " وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ فعل ما يقضي ويؤدي ما فَائِتَةٍ، وَمُؤَقَّتَةٍ بِلَا اشْتِرَاطِ تَرْتِيبٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِتْمَامِهَا أَمْرًا عَامًّا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْوَادِي حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَأَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا قَدَّمَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا كَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ عَلَى الْفَرْضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَرَوَى مَكْحُوِلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ " وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ النِّسْيَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 مَعَ الذِّكْرِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا، فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُكُمْ حُكْمَ الْعَامِدِ بِالنَّاسِي مَعَ فَرْقِ الْأُصُولِ بَيْنَهُمَا وَتَخْفِيفُ حُكْمِ النِّسْيَانِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَعَمْدَهُ يُبْطِلُهَا، وَعَمْدَ الْأَكْلِ يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَنِسْيَانُهُ لَا يُبْطِلُهُ، قَبْلَ اعْتِبَارِهِمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَوَى حُكْمُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ مَعًا فَلَا يَمْنَعُ، وَقَدِ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِيهِمَا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَلِأَنَّهَا صَلَوَاتٌ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّرْتِيبُ فِيهَا أَصْلُهُ إِذَا فَاتَهُ سِتُّ صَلَوَاتٍ فَصَاعِدًا، وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يُرَتَّبْ قَضَاؤُهُ عَلَى قِلَّتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَقُولُ كُلُّ صَلَاةٍ صَارَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَضَاءً لَمْ تَتَرَتَّبْ قِيَاسًا عَلَى ما زاد على اليوم والليل، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ تَقَدَّمَ وَقْتُ وُجُوبِهِمَا لَمْ يتعين عليه تقديم إحديهما كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ أداء الثانية سقط الترتيب فيهما فوجب إذ ثَبَتَا فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَسْقُطَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، وَمِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ بِفَوَاتِ وَقْتٍ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَثَبَتَ مَا اعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ كَصَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ الصَّلَاةُ فَلَا يُقَدَّمُ سُجُودٌ عَلَى رُكُوعٍ ثُمَّ وَجَدْنَا تَرْتِيبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ حيث الزمان فاقتضى أن يسقط بقوات وَقْتِهَا وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا. . " - الْحَدِيثَ - فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِ وَقْتِ الْفَائِتَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهَا فِي وَقْتِ الذِّكْرِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ قَالَ: " اخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي " فَلَمَّا خَرَجَ قَضَاهَا وَكَانَ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا فِيهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَأَخَّرَهَا، فَهَذَا جَوَابٌ ثُمَّ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ فِي ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ كَانَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْهَا قَدْ يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهَا فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ إِتْيَانُهُ بِالْأُولَى قَبْلَ الْفَائِتَةِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْأُولَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الْخَنْدَقِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَ الصَّلَاةَ ذَاكِرًا لِوَقْتِهَا قَاصِدًا لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا إِذَا انْكَشَفَ عَدُوُّهُ وَزَالَ خَوْفُهُ فَلَزِمَهُ التَّرْتِيبُ كالجامع بين الصلاتين في وقت أحديهما وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ وَبِالْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ بَيَانٌ مُجْمَلٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصلاة} غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ دُونَ الْأَوْقَاتِ فَتَوَجَّهَ الْبَيَانُ إِلَى الْفِعْلِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْوَقْتِ وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " مَعَ ضَعْفِهِ وَاضْطِرَابِهِ وَإِنْكَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَهُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا حَدِيثُ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتعذر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الصُّبْحَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَضَى الصُّبْحَ فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ صَلَاتِهِ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ أَحَدِهَا اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً، لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَعَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ صرف عن ظاهر وحمل على أن المراد لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَتَى بِهَا كَامِلَةً وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ نَوَافِلَ، فإذا وجدوها كما بِهَا الْفَرْضُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ [النَّفْلَ] لَا يُحْتَسَبُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيْ عَرَفَةَ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بِعَرَفَةَ مَعَ النِّسْيَانِ لَمْ يَسْقُطْ مَعَ الْعَمْدِ فَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ الْجَمْعُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ مُعْتَبَرًا، فَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ثَبَتَ وُجُوبُهُ مَعَ الْفَوَائِتِ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ يَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ وَيَخْتَلِفُ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ سَقَطَ وُجُوبُهُ مَعَ الْفَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْقَضَاءِ كَصِفَةِ الْأَدَاءِ كَمَا قُلْتُمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَرَادَ قَضَاءَهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ بِهَا مِنْ بَلَدِهِ لِتَكُونَ صِفَةُ قَضَائِهَا عَلَى صِفَةِ أَدَائِهَا فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، قِيلَ: إِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَلْبُهُ لَازِمٌ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ فِي صَلَاةِ الْعُمْرَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِيقَاتِهِ فَخَالَفْتُمْ صِفَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَيَكُونُ انْفِصَالُكُمْ عَنْهُ انْفِصَالًا لَنَا، وَدَلِيلًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا جَمَعُوا ثُمَّ نَقُولُ لَوْ أَلْزَمْنَاكُمْ هَذَا لَكُنَّا فِي الْمَعْنَى سَوَاءً، لِأَنَّ وِزَانَ الْعُمْرَةِ وَمِثَالَهَا مِنَ الصَّلَاةِ عَدَدُ رَكَعَاتِهَا فَإِذَا فَسَدَتِ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا لَزِمَهُ الِابْتِدَاءُ بِهَا مِنْ أَوَّلِهَا، وَوِزَانَ الصَّلَاةِ وَمِثَالَهَا مِنَ الْعُمْرَةِ أَنْ يُحْرِمَ بِثَلَاثِ عُمَرَ مُتَوَالِيَاتٍ فَيُفْسِدُهَا ثُمَّ يُرِيدُ الْقَضَاءَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فَكَذَا الصَّلَاةُ، فَأَمَّا تَعَلُّقُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَرَاوِيهِ التَّرْجُمَانُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَمْضِي فِيهَا اسْتِحْبَابًا وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُهَا اسْتِحْبَابًا فَتَسَاوَيْنَا فِي الْخَبَرِ وَتَنَازَعْنَا دِلَالَتَهُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا بِأَوْلَى مِنَّا فِي حَمْلِهِ على ما ذكرنا (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا فرق بين الرجال، والنساء في عمل الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَضُمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْ تُلْصِقَ بَطْنَهَا بفخذيها في السجود كأستر ما يكون أحب ذلك لها في الركوع، وجميع تُكَثِّفُ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً؛ لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا وَأَنْ تُخْفِضَ صَوْتَهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قَدْ ذَكَرْنَا أَفْعَالَ الصَّلَاةِ وَصَوَابَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَالْهَيْئَاتِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وَاجِبِهَا وَمَسْنُونِهَا، وَهَيْئَاتِهَا إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ وَالثَّانِي: هَيْئَاتٌ وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: هَيْئَاتُ أَقْوَالٍ. وَالثَّانِي: هَيْئَاتُ أَفْعَالٍ. وَإِنَّمَا هَيْئَاتُ الْأَقْوَالِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: تَرْكُ الْأَذَانِ وَخَفْضُ الْأَصْوَاتِ بِالْإِقَامَةِ وَالثَّانِيَةُ: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصَفِّقْنَ لِمَا يَنُوبُهُنَّ فِي الصَّلَاةِ بَدَلًا مِنْ تَسْبِيحِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَ الرِّجَالَ فِي هَيْئَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ "، وَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَلِأَنَّ صَوْتَهُنَّ عَوْرَةٌ، وَرُبَّمَا افْتَتَنَ سَامِعُهُ، وَلِذَلِكَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصْغِيَ الرَّجُلُ إِلَى حَدِيثِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ فَإِنَّ زَيْغَ الْقَلْبِ مَمْحَقَةٌ لِلْأَعْمَالِ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا) فَجَعَلَ سَمَاعَ الْكَلَامِ كَمُشَاهَدَةِ الْأَجْسَامِ فِي الِافْتِتَانِ بِهِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هَيْئَاتُ الْأَفْعَالِ فَضَرْبَانِ، ضَرْبٌ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَضَرْبٌ فِي مَحَلِّ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي عَمَلِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: كَثَافَةُ جِلْبَابِهِنَّ، وَالزِّيَادَةُ فِي لُبْسِ مَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا مِنَ السَّرَاوِيلِ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَإِزَارٍ، وَاعْتِمَادُ لُبْسِ مَا جَفَا مِنَ الثِّيَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَمِعْنَ فِي رُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَلَا يَتَجَافَيْنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَأَبْلَغُ فِي صِيَانَتِهِنَّ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ إِنْ صَلَّيْنَ قُعُودًا جَلَسْنَ مُتَرَبِّعَاتٍ، وَأَمَّا الَّتِي فِي مَحَلِّ الصلاة فأربعة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 أَحَدُهَا: مِنَ السُّنَّةِ لَهُنَّ الصَّلَاةُ فِي بُيُوتِهِنَّ دُونَ الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا " وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ جَمَاعَةً وَقَفَ الْإِمَامُ مِنْهُنَّ وَسَطَهُنَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التقدم عليهن كالرجال والثالثة: أن المراحم إِذَا ائْتَمَّتْ وَحْدَهَا بِرَجُلٍ وَقَفَتْ خَلْفَهُ، وَلَمْ تَقِفْ إِلَى يَمِينِهِ كَالرَّجُلِ وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ مَعَ الرَّجُلِ جَمَاعَةً فَأَوَاخِرُ الصُّفُوفِ لَهُنَّ أفضل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ صُفُوفِ النَسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا " فَهَذِهِ الْهَيْئَاتُ الَّتِي يَقَعُ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ خَالَفْنَ هَيْئَاتِهِنَّ وَتَابَعْنَ الرِّجَالَ فقد أسأت، وَصَلَاتُهُنَّ مُجْزِئَةٌ فَأَمَّا مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَوْ يوجب سجود السهو فالرجال والنساء فيه سواد لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ - وَاللَّهُ تعالى أعلم - (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ، وَإِنَمَا التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الرِّجَالِ إِذَا نَابَهُ نَائِبٌ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يُسَبِّحَ إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا، وَمِنْ سُنَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تُصَفِّقَ وَلَا تُسَبِّحَ وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ لَهَا سُنَّةٌ وَرُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ يُبْطِلُ صَلَاتَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَرِضَ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْه ِ فَصَلَّ ى بِالنَّاسِ فَتَقَّدَمَ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نفسه خفة فحرج مُسْنَدًا بَيْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ صَفَّقُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُعْلِمُوهُ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاتَهُ قَالَ: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتِّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ " فَبَطَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ سُنَّةَ النِّسَاءِ التَّسْبِيحَ دُونَ التَّصْفِيقِ، وَسَقَطَ قَوْلُ أبي حنيفة حَيْثُ أَبْطَلَ صَلَاتَهُنَّ بِالتَّصْفِيقِ فَأَمَّا صِفَةُ التَّصْفِيقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُصَفِّقُ كَيْفَ شَاءَتْ إِمَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى بَاطِنِ الْأُخْرَى، أَوْ بِظَاهِرِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ بِظَاهِرِ الكف على باطن الأخرى، وإما بباطن أحديهما عَلَى بَاطِنِ الْأُخْرَى فَلَا يَجُوزُ لِمُضَاهَاتِهِ تَصْفِيقُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَإِنْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ فَسَبَّحَتْ، أَوْ خَالَفَ الرَّجُلُ فَصَفَّقَ فَصَلَاتُهُمَا مُجْزِئَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَسْبِيحُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ وَتَصْفِيقُ الرَّجُلِ عَامِدًا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَسَاهِيًا لَا يُبْطِلُهَا وَلَكِنْ إِنْ تَطَاوَلَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلْ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُبْطِلْ صَلَاةَ مَنْ صَفَّقَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَلَا سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْأَفْضَلِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا تَسْبِيحُ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ تَنْبِيهًا لِإِمَامِهِ وَإِعْلَامًا لَهُ بِسَهْوِهِ فَجَائِزٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ سُنَّةٌ وَأَمَّا أَنْ يُسَبِّحَ قَاصِدًا لِرَدِّ جَوَابٍ؛ كَرَجُلٍ اسْتَأْذَنَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ قَاصِدًا بِهِ الْإِذْنَ، أَوْ سَلَّمَ عليه فقال: سبحان الله قاصد الرد عَلَيْهِ، أَوْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، أَوْ رَأْسِهِ، أَوْ رَأَى ضَرِيرًا يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْبِيهًا لَهُ لِيَرْجِعَ عَنْ جِهَتِهِ، فَصَلَاتُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة: مَتَى قَصَدَ فِي صَلَاتِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ بِإِشَارَةٍ، أَوْ تَسْبِيحٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يُسَبِّحَ لِسَهْوِ إِمَامِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " قَدِمْتُ مِنَ الْحَبَشَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ إِنَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ "، فَلَوْ جَازَ رَدُّ السَّلَامِ بِتَسْبِيحٍ، أَوْ إِشَارَةٍ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ نَطَقَ فِي صَلَاتِهِ بِقُرْآنٍ وَقَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ آدَمِيٍّ [عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ] بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى " يَا يَحْيَى خُذِ الكتاب بقوة " أو قال " يوسف أعرض عن هذا " فَلَأَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ بِالتَّسْبِيحِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الإفهام، أو التبيه أَوْلَى، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَا نَابَهُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ سَهْوِ إِمَامٍ أَوْ رَدِّ سَلَامٍ، أَوْ تَنْبِيهٍ، أَوْ إِفْهَامٍ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: " دَخَلَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وَمَعَهُمْ صُهَيْبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فقلت: كيف فعل رسول الله فَقَالَ: رَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ " وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصَلِّي وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَهَا فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْخَبَرِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا نعم، فلو كانت الإشارة والتسبيح للإفهام والتلبية تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَنَهَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْإِفْهَامَ بِقَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ لَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ لَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا إِذَا قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ إِمَامِهِ لِسَهْوِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الكتاب} وقوله: {يوسف أعرض عن هذا} فَهُوَ عِنْدَنَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ، وَالتَّسْبِيحَ، سَوَاءٌ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَوَى حَكِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ نَادَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ فَأَجَابَهُ عَلَيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يستخفنك الذين لا يوقنون} ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قِرَاءَتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ لَا الْقِرَاءَةَ فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْبِيحِ: أَنَّ هَذَا خِطَابُ آدَمِيٍّ صَرِيحٌ، وَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ بِالْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهِ فَافْتَرَقَ حكمها في إبطال الصلاة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً أَنْ تَسْتَتِرَ فِي صَلَاتِهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا شيءٌ إلا وجهها وكفيها فإن ظهر منها شيء سوى ذك أَعَادَتِ الصَّلَاةَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ مَالِكٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا أَعَادَ وَإِنْ كَانَ فَائِتًا لَمْ يُعِدْ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ مَالِكٌ إِنَّهُ يُعِيدُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ يُرِيدُ بِهِ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ لِلصَّلَاةِ كَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ لَمَّا وَجَبَا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبَا لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُونَا مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ لَهُ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللِّبَاسِ لَا يَجِبُ فَثَبَتَ وُجُوبُ اللِّبَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ كل مسجد} وَالْمَسْجِدُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] يعني: مساجد فإذا قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الطَّوَافِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مسجد} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبِهَا قِيلَ عُمُومُ اللَّفْظِ يَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الطَّوَافِ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ يُسَمَّى صَلَاةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطواف صلاة " وروي عن سلمة بن الأكواع قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا قَمِيصٌ واحد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زُرَّهُ عَلَيْكَ، أَوِ ارْبِطْهُ بِشَوْكَةٍ " فَأَمَرَهُ بِزَرِّهِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ فِي رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ سُتْرَتِهَا وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ " وَرَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَاضَتْ إِلَّا بِخِمَارٍ " أَيْ: بَلَغَتْ حَالَ الْحَيْضِ وَرُوِيَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ تَحِيضُ إِلَّا بِخِمَارٍ " وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ لِلصَّلَاةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَارَى بِمَا يُحِيلُ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَعُيُونِ النَّاسِ فَإِنْ تَوَارَى بِجِدَارٍ، أَوْ دَخَلَ بَيْتًا جَازَ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وجوبها لغير الصَّلَاةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 تَجِبُ لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الرِّدَّةِ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلِلصَّلَاةِ وَالْإِيمَانُ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَلِلصَّلَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَاقْتَضَى بَدَلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَبْطُلُ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ وَلَا بَدَلَ لَهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ الْعَوْرَةِ وَتَحْدِيدِهَا فَنَبْدَأُ بِعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ لِبِدَايَةِ الشَّافِعِيِّ بِهَا، فَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا إِلَى آخِرِ مَفْصِلِ الْكُوعِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْعَوْرَةُ هِيَ السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جَمِيعُ الْمَرْأَةِ مَعَ كَفَّيْهَا وَوَجْهِهَا عَوْرَةٌ فَأَمَّا داود فاستدل بقوله تعالى: {فبدت لهما سوأتاهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قَالَ: فَلَمَّا غَطَّيَا الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَلِمَ أَنَّ مَا سِوَاهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ جَالِسًا فِي بَعْضِ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ وَفَخِذُهُ مَكْشُوفَةٌ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ الله عنه فغطاه رسول الله فَقِيلَ لَهُ: سَتَرْتَهُ مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ تَسْتُرْهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: " أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ " قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْفَخِذَانِ عَوْرَةً مَا اسْتَحْسَنَ وَلَا اسْتَجَازَ كَشْفَهُ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي قَدَمَيْهَا وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَرْهَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ حَمْلٍ وَأَنَا مَكْشُوفُ الْفَخِذِ فَقَالَ: " غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يا علي لا تنظر إلى فخذ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ " فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دِلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يخصفان عليهما من ورق الجنة} [طه: 121] المارد بِهِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ مَكْشُوفَ السَّاقِ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَطَّاهُ وَالسَّاقُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا رَوَاهُ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَانَا مِنْ جِهَةٍ لَا يَرَيَانِ فَخِذَهُ وَدَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ يُشَاهِدُ فَخِذَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ كَشَفَ قَمِيصَهُ عَنْ فَخِذِهِ وَسَتَرَهُ بِسَرَاوِيلِهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِمَا لِأَنَّهُمَا صِهْرَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ اسْتَحَى فَغَطَّاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْحَيَاةِ أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَفَهُ بِالْحَيَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيِيٌّ " عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِكْرَامُ عُثْمَانَ وَإِبَانَةُ فَضْلِهِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ تَدْخُلُ إِلَيْنَا جَارِيَةٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِيَ عِنْدَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا فُلَانَةُ فَقَالَ: " أَوَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ " قال: فلو لم يكن وجهها عورة فكان النظر إليها جائز لَمَا أَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالْآخِرَةَ عَلَيْكَ " وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] وَلَا يُعْجِبُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَلَمْ يَقُلْ أَبْصَارَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَضَّ عَنْ بعض دون بعض وروي أن امرأة خرجت يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هَذِهِ كَفٌّ مَبِيعٌ أَيْنَ الْحَيَاءُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ قَالَ: حَاضَتْ لَمْ يَجُزِ النَّظَرُ إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وكفيها " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أراد أحدكم خطب امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْوَمُ لِمَا بَيْنَهُمَا " وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَهِيَ فَضْلٌ وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِمَا رَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِلنَّاسِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَا تُتْبِعْ نَظَرَ قَلْبِكَ نَظَرَ عَيْنِكَ وَالثَّانِي: لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَقَعُ عَمْدًا (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ فِي صَلَاتِهَا مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ عَوْرَتِهَا فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ دِرْعٌ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا، أَوْ خِمَارٌ تَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهَا وَأُحِبُّ أَنْ تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ وَتُجَافِيَهُ لِكَيْ لَا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، فَإِنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا وَإِنْ قَلَّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى سَتْرِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي قَدْرِ الْعَوْرَةِ، وَخَالَفَنَا فِي حُكْمِ مَا انْكَشَفَ مِنْهَا فَقَالَ الْعَوْرَةُ ضَرْبَانِ مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ، فَالْمُغَلَّظَةُ السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْمُخَفَّفَةُ مَا عَدَاهُمَا، فَإِنِ انْكَشَفَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ دُونَ الرُّبُعِ صَحَّتِ الصَّلَاةُ وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مَعْنًى يَجُوزُ فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ قَالَ: وَلِأَنَّ الْكَشْفَ الْكَثِيرَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ كَالْكَشْفِ الْقَلِيلِ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْكَشْفُ الْقَلِيلُ فِي الزَّمَانِ [الْقَلِيلِ] وَالدِّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى مَالِكٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ، ثُمَّ مِنْ طريق المعنى: أن كَشَفَ مِنْ عَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، أَصْلُهُ إِذَا كُشِفَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ، وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ أَكْثَرُ مِنَ الرُّبُعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ إِذَا انْكَشَفَ مِنْهُ الرُّبُعُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ إِذَا انْكَشَفَ مِنْهُ دُونَ الرُّبُعِ أَنْ يُبْطِلَهَا كَالسَّوْأَتَيْنِ ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة لَيْسَ تَحْدِيدُكَ بِالرُّبُعِ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ غَيْرِكَ بِالثُّلُثِ، أَوِ النِّصْفِ فَبَطَلَ تَحْدِيدُكَ بِمُعَارَضَةِ مَا قَابَلَهُ عَلَى أَنَّ أبا حنيفة لَا يَأْخُذُ بِالتَّحْدِيدِ قِيَاسًا، وَلَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ يُوجِبُهُ فَعَلِمَ بُطْلَانَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا جَازَ تَرْكُهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَبَطَلَ بِالْوُضُوءِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْعُذْرِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ، وَالِاحْتِرَازَ مِنْهُمَا فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إِذْ لَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يَتْرُكَ فِي صَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّتْرَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّرْكُ لِلتَّكْبِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ التَّرْكُ الْيَسِيرُ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ، قُلْنَا: هُمَا فِي الْحُكْمِ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ إِنَّمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِي الْكَشْفِ الْكَثِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى سِتْرِهِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ [وَإِنَّمَا أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ] فِي الكشف الكثير فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِخِرَقٍ فِي ثَوْبِهِ لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَلَمْ يفترق الحكم في الموضعين. (فصل) : فإذا تكررت هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَلِلْمَرْأَةِ حَالَانِ، حَالُ عَوْرَةٍ، وَحَالُ إِبَاحَةٍ فَأَمَّا حَالُ الْإِبَاحَةِ فَمَعَ زَوْجِهَا فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عَوْرَةٌ وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى سَائِرِ بَدَنِهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فرجها، ولا له النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ " وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا، وَيَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّهُ قَدِ اسْتَبَاحَ جُمْلَتَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَفَرْجُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الْعَوْرَةُ فَضَرْبَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَأَمَّا الْكُبْرَى فَجَمِيعُ الْبَدَنِ إِلَّا الوجه والكفان وَأَمَّا الصُّغْرَى فَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَمَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ هَاتَيْنِ الْعَوْرَتَيْنِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَلْزَمَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرِهِمْ، وَحُرِّهِمْ، وَعَبْدِهِمْ، وَعَفِيفِهِمْ، وَفَاسِقِهِمْ، وَعَاقِلِهِمْ، وَمَجْنُونِهِمْ فِي إِيجَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى مِنْ جَمِيعِهِمْ وَالثَّالِثُ: مَعَ الْخَنَاثَى الْمُشْكِلِينَ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَعْضِهَا بِالشَّكِّ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الصُّغْرَى وَذَلِكَ مَعَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا مَعَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ، وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ والذميه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا كَابْنِهَا، وَأَبِيهَا وَأَخِيهَا، وَعَمِّهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَالثَّالِثُ: مَعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَلَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: عَبِيدُهَا الْمَمْلُوكُونَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: الْعَوْرَةُ الْكُبْرَى كَالْأَجَانِبِ وَبِهِ قَالَ أبو إسحاق المروزي، وأبي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] وَالثَّانِي: الْعَوْرَةُ الصُّغْرَى كَذِي الرَّحِمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] وَالثَّالِثُ: وَهُوَ تَقْرِيبُ أَنَّهَا تَبْرُزُ إِلَيْهِمْ وَهِيَ فَضْلُ بَارِزَةِ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ إِلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَأَمَّا عَبْدُهَا الَّذِي نَصْفُهُ حُرٌّ وَنَصِفُهُ مَمْلُوكٌ فَعَلَيْهَا سَتْرُ عَوْرَتِهَا الْكُبْرَى مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الشُّيُوخُ الْمُسِنُّونَ الَّذِينَ قَدْ عَدِمُوا الشَّهْوَةَ وَفَارَقُوا اللَّذَّةَ فَفِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمَجْبُوبُونَ دُونَ الْمَخْصِيِّينَ فَفِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غير أولي الإربة من الرجال} فَأَمَّا الْعِنِّينُ وَالْمَأْيُوسُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَالْخَصِيِّ وَالْمُؤَنَّثِ الْمُتَشَبِّهِ بِالنِّسَاءِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ في حكم العورة منهم ولهم (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَجْزَأَهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ سُرَّةِ الْأَمَةِ وَرُكْبَتِهَا عَوْرَةٌ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّ رَأْسَهَا وَسَاقَيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَعَ الْأَجَانِبِ لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَمَةِ آلِ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَنَّعَتْ فِي صَلَاتِهَا فضربها وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 " اكْشِفِي رَأْسَكِ وَلَا تَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ جَرَّ قِنَاعَهَا وَقَالَ: " يَا لُكَعَاءُ تَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ " فَأَمَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرَأْسِهَا [مِنْ صَدْرِهَا وَوَجْهِهَا] فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وعليه أصابنا إِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَيَجُوزُ نَظَرُ الْأَجَانِبِ إِلَيْهِ عِنْدَ التَّقْلِيبِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ الْأَجَانِبِ لَيْسَ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَيْرِهَا فَأَمَّا الْأَمَةُ نِصْفُهَا حُرٌّ وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ فَفِي عَوْرَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَالْحَرَائِرِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ سَيِّدِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي: كَالْإِمَاءِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ وَكَأَمَةِ الْغَيْرِ مَعَ سَيِّدِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ كَانَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَغْلَبَ فَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ: فَكُلُّهُنَّ عَوْرَةٌ سَوَاءٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ جَارٍ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَتَقَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا إِعَادَةُ مَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ بَعْدَ عِتْقِهَا كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا لِعَدَمِ الثَّوْبِ ثُمَّ يَجِدُ ثَوْبًا قَدْ كَانَ لَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَذَلِكَ الْأَمَةُ، لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ وَقَدْ خُرِّجَ فِي الْأَمَةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُصَلِّي وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصلاة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ، فَإِنْ صَلَّى فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ واحدة أجزأه " قال المارودي: وأما الرجل فعورته ما بين سرته إلى ركبتيه، وَلَيْسَتِ السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ؛ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ، وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ أَمَتَهُ فَلَا تَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عورته " وأما مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَلَ السُّرَّةِ مِنَ الْعَوْرَةِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: " أَرِنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُهُ فَكَشَفَ عَنْ سُرَّتِهِ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ " فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ إِلَّا بِسَتْرِ بَعْضِ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ليكون سائراً لِجَمِيعِ الْعَوْرَةِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِ وَجْهِهِ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ، قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ " وَإِنْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَتَرَ بِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ أَجْزَأَهُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ حَتَّى يَضَعَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ حَبْلًا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْهُ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ فَلْيَصْنَعْ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ حَبْلًا "، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا وَمَنْ لم يكن معه إلا ثوب واحد فليتزر بِهِ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُصَلِّي أَحَدٌ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ " وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ مَيْمُونَةَ فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَمَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رُوِّينَا (فَصْلٌ) : فَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَجَائِزٌ إِذَا صَنَعَ أَحَدَ ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَرْبُطَهُ بِشَيْءٍ، أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ فَوْقَ سُرَّتِهِ عَلَى قَمِيصِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَصَلَّى فِيهِ كَمَا لَبِسَ لَمْ يُجْزِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتُرَ الْعَوْرَةَ بِمَا قَابَلَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ صَلَّى فِي مِئْزَرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ مَا قَابَلَ الْأَرْضَ مِنْ عَوْرَتِهِ ظَاهِرًا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الصَيْدِ فَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زره عليه أو اربط بِشَوْكَةٍ " فَدَلَّ أَمْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لا يجزئ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة لَا اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ إِذَا سَتَرَ مَا قَابَلَ عَوْرَتَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَوْأَتَهُ لَوْ شُوهِدَتْ مِنْ أَعْلَى الْمِئْزَرِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَإِنْ شُوهِدَتْ مِنْ أَسْفَلِهِ أَجْزَأَتْهُ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الطَّرَفَيْنِ فِي سَتْرِهَا، فَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ لَمْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ قَدْ غَطَّتْ مَوْضِعَ إِزْرَارِهِ وَسَتَرَتْ مَا يَظْهَرُ مِنْ عَوْرَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ (فَصْلٌ) : وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرِّجَالِ كَعَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وركبتيه، وَكَذَلِكَ عَوْرَتُهُ مَعَ النِّسَاءِ إِلَّا مَعَ زَوْجَتِهِ أمته فَلَا عَوْرَةَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَرَادَ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ، أَوْ أَرَادَ كَشْفَهَا فِي بَيْتِهِ حَيْثُ لَا يِرَاهُ أَحَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذْ لَا عَوَرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْنِي أَحَدُكُمْ بِثَوْبِهِ مُفْضِيًا بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحْيُوا مِنْهُ "، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَجَرَّدَ فِي الْمَاءِ فِي نَهْرٍ، أَوْ غَدِيرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الثَّوْبِ فِي سَتْرِ عَوْرَتِهِ وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يُنْزَلَ الْمَاءُ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَقَالَ: " إِنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا " وَعَوْرَةُ الْعَبْدِ كَعَوْرَةِ الْحُرِّ، وَعَوْرَةُ الذِّمِّيِّ كَعَوْرَةِ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَعَوْرَتُهُ فِي صَلَاتِهِ وَمَعَ الرِّجَالِ كَعَوْرَةِ النِّسَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: آمُرُهُ بِلُبْسِ الْقِنَاعِ، وَأَنْ يَقِفَ بَيْنَ صُفُوفِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَلَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهِمْ فِيمَا دُونَ سَبْعٍ، فَلَوْ بَلَغَ الْغُلَامُ عَشْرَ سِنِينَ، وَالْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ كَانَا كَالْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي حُكْمِ الْعَوْرَةِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ بُلُوغُهُمْ فَجَرَى حُكْمُهُ لِتَغْلِيظِ حُكْمِ الْعَوْرَاتِ، فَأَمَّا الْغُلَامُ فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ، وَالْجَارِيَةُ فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالتِّسْعِ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا وَيَحِلُّ فِيمَا سِوَاهُ (مَسْأَلَةٌ) : فقال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ ثَوْبٍ يَصِفُ مَا تَحْتَهُ وَلَا يَسْتُرُ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح والثياب كلها على ثلاث أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يُسْتَحَبُّ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ صَفِيقٍ لَا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ كَالْمِئْزَرِ وَالْوُذَارَةِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي الصَّلَاةِ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِلرِّجَالِ وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ خَفِيفٍ يَصِفُ لَوْنَ مَا تَحْتَهُ مِنْ بَيَاضٍ، أَوْ سَوَادٍ كَالشُّرُبِ، أَوِ التَّوْرِيِّ وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَيُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ فَإِنْ لَبِسْنَهُ جَازَ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ نَاعِمٍ يَصِفُ لِينَ مَا تَحْتَهُ وَخُشُونَتَهُ وَيَصِفُ لَوْنَهُ كَالدَّبِيقِيِّ، وَالنَّهْرِيِّ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْعُرْيَانُ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى لباس ظاهر مِنْ جُلُودٍ أَوْ فَرًى لَبِسَهُ وَصَلَّى، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ وَرَقَ شَجَرٍ يَخْصِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَلَّى، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ وَجَدَ طِينًا، وَكَانَ ثَخِينًا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيُغَطِّي الْبَشَرَةَ لَزِمَهُ تطيين عورته، [وإن لم يفعل بطلت صَلَاتُهُ] ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَلَكِنْ يُغَيِّرُ لَوْنَ الْبَشْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ تَطْيِينُ عَوْرَتِهِ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ فَلَوْ وَجَدَ ثَوْبًا يُوَارِي بَعْضَ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ الِاسْتِتَارُ بِهِ وَسَتْرُ قُبُلِهِ أَوْلَى مِنْ دُبُرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُبُلَ لَا يَسْتُرُهُ شَيْءٌ، وَالدُّبُرَ يَسْتُرُهُ الْإِلْيَتَانِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُبُلَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ سَتْرُ الدُّبُرِ أَوْلَى الفحش ظُهُورِهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا صَلَّى عُرْيَانًا قَائِمًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَلَّى قَائِمًا، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى قَاعِدًا، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ قُعُودَهُ أَسْتَرُ لِعَوْرَتِهِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْكَدُ مِنَ الْقِيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ الْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي النَّوَافِلِ، وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الفرائض والنوافل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ لَهُ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَدَلٌ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ "، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِفَقْدِ السَّتْرِ كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ كَالْقِبْلَةِ طَرْدًا، وَالْمَرَضِ عَكْسًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَ جُلُوسِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَوْرَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنَّمَا خَفِيَ بِغَمْضِهَا وَصَارَ بِجُلُوسِهِ تَارِكًا لِلسَّتْرِ وَالْقِيَامِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِبَدَنِهِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا كَانُوا عُرَاةً وَلَا نِسَاءَ، مَعَهُمْ فَأُحِبُّ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَقِفَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمُ، وَيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ " قَالَ: " وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ بِحَيْثُ لَا يَرَى الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَلَا النِّسَاءُ الرِّجَالَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَلَّى النِّسَاءُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَوَقَفُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الرِّجَالُ، فَإِذَا صَلَّوْا وَلَّى الرِّجَالُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ النِّسَاءُ فَلَوْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمْ ثَوْبٌ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُمْ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُعِيرَهُمْ ثَوْبَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ جَمِيعُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنْ خَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ إِنِ انْتَظَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا صلوا عراة قبل خروج الوقت، وعليهم الإعارة نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّلَاةِ قِيَامًا إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَخَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ صَلَّوْا قُعُودًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَخَرَّجَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ قَدْ سَقَطَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي النَّوَافِلِ، وَفِي الْفَرَائِضِ إِذَا كَانَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَشَقَّةٍ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ بَدَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَهُوَ الْقُعُودُ وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَدَلٌ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَلَى الْوَقْتِ وَأَوْجَبَ الْإِعَادَةَ عَلَى الْعُرَاةِ، وَقَدَّمَ فَرْضَ الْوَقْتِ عَلَى الْقِيَامِ وَأَسْقَطَ الْإِعَادَةَ على الْمُضَايِقِينَ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ تَخْرِيجِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ (فَصْلٌ) : وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا نجساً صلى عريان وَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْعَادِمُ الْمَاءَ مَاءً نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ، فَلَوْ وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْبَسْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَاضِرًا كَانَ الْغَيْرُ، أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ صَلَّى عُرْيَانًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَصَلَّى فِيهِ كَانَ غاضباً يلبسه وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي اللِّبَاسِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ كَالْمُصَلِّي فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ دِيبَاجٍ، فَلَوْ قَدَرَ الْعُرْيَانُ عَلَى ثَوْبٍ يَسْتَتِرُ بِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الثَّمَنِ، أَوِ الْأُجْرَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بُذِلَ له الماء بثمن مثله، فإن صلى عريان أَعَادَ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلثَّوْبِ، فَلَوِ اسْتَعَارَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِصَلَاتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنْ إِعَارَتِهِ وَقَالَ: خُذْهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ لَا الْعَارِيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَاءِ إِذَا وُهِبَ لَهُ وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِمَا فِي قَبُولِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ مِنَّةِ الْوَاهِبِ فَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ الْمَالُ لِلْحَجِّ، وَفَارَقَ هَيْئَةَ الْمَاءِ لِعَدَمِ الْمِنَّةِ فِيهِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ نَاوِيًا بِهِ الْعَارِيَةَ، وَإِذَا صَلَّى فِيهِ رَدَّهُ إِلَى رَبِّهِ، فَلَوِ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَلَبِسَهُ وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ مَالِكُهُ بَنَى عَلَى صلاته عريان وأجزأته، ولو أحرم بالصلاة عريان فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَتَرَ به وبنى على صلاته (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ سَلَّمَ أَوْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا، أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ بَنَى مَا لَمْ يتطاول لك وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ عَمْدٌ، وَنِسْيَانٌ، فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَصَلَ اتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ كَلَامُهُ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي أَحَدِهِمَا وَقَالَ أبو حنيفة: جِنْسُ الْكَلَامِ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ سَاهِيًا فَلَا يُبْطِلُ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ، وَبِالسَّلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا نكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ أَنْ نُهَاجِرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مِنَ الْحَبَشَةِ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ: لَمْ تَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ وَسَهْوِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَعَضَّ النَّاسُ عَلَى شِفَاهِهِمْ، وَغَمَزُونِي بِأَبْصَارِهِمْ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا ضَرَبَنِي وَلَا كَهَرَنِي - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - مِنْ معلمٍ وَقَالَ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالْقِرَاءَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْكَلَامُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَالْحَدَثِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا قَلِيلُهُ كَالْعَمْدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهَتْ عَلَيْهِ "، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ، قِيلَ: رَفْعُ الْخَطَأِ يَقْتَضِي رَفْعَ حُكْمِهِ مِنَ الْإِثْمِ وَغَيْرِهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العصر فسلم من اثنتين فقال ذو اليدين أقصرت الصلاة أن نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا: نَعَمْ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاعِدٌ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثلاثٍ مِنَ الْعَصْرِ وَدَخَلَ الْحُجْرَةَ فَنَادَى الْخِرْبَاقُ وَهُوَ رَجُلٌ بَسْطُ الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَسَأَلَ النَّاسَ فَأُخْبِرَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سجد في السَّهْوِ، وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إِذَا وَقَعَ عَنْ سَهْوٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَلَاتَهُ، فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ عَلَى مَا حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ذُو الشِّمَالَيْنِ وَاسْمُهُ عُمَيْرُ بن عبد عمرو بْنِ نَضْلَةَ الْخُزَاعِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي نَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ قِصَّتَهُ اسْمُهُ الْخِرْبَاقُ عَاشَ إِلَى أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ وَقُبِرَ بِذِي خَشَبٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي نَقْلِهِ فَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ بَنَى قَبْلَ انْصِرَافِهِ، وَرِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ وَانْصَرَفَ إِلَى حُجْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَفِي اخْتِلَافِهِمَا، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى اضْطِرَابِهِ وَبُطْلَانِهِ، قِيلَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْقَدْحِ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ أَقْوَالِهِمْ، وَإِبْطَالِهَا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ مَعَ وُقُوعِ الْكَلَامِ فِيهَا وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفِعْلِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ مَعَ اشْتِهَارِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِقَوْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِظَنِّهِ قِيلَ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَصْرِ وَالنِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَخَلَا مِنْ شَوَائِبِ الْقَدْحِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ حُظِرَ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ فَسَكَتْنَا فَإِذَا حُظِرَ الْكَلَامُ بَعْدَ إِبَاحَتِهِ حُمِلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ عَلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ، قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَوَى تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ عِنْدَ عَوْدِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا لَمْ يَسْجُدْ لِأَجْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ تَكَلُّمِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا وَاسْتَثْبَتَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَا لَهُ نَعَمْ أَوْ قَالَا صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ، وَكَانَا عَامِدَيْنِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ عَمْدَ الْكَلَامِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَكُمُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُكُمْ يَدْفَعُهُ، قِيلَ: أَمَّا كَلَامُ ذِي الْيَدَيْنِ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ ظَنَّ حُدُوثَ النَّسْخِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَتَكَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا صُورَةُ النَّاسِي ثُمَّ اسْتَظْهَرَ بِسُؤَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَوْفًا مِنَ النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صِحَّةُ قَصْدِهِ فِي أَفْعَالِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بَعْدَ سَلَامِهِ لَحُمِلَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَأَمَّا جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ ذَا الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَوْلُهُمَا صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَى عنهما أنهما أومآ إليه برؤوسهما، وَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَمَنْ رَوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا فَغَمَزَا فَمَعْنَاهُ بِالْإِشَارَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: (وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحُدِّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثَقَّبِ) وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّهُمَا أَجَابَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلا؛ بل أن إجابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجبة في الصلاة وغيرها فلم سعهما تَرْكُ إِجَابَتِهِ، وَلَوْ كَانَا فِي الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَّمَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصلاة فلم يرد عليه فخفف، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: عِنْدَكَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فَقَالَ: لَا أَعُودُ " وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ إِجْمَاعَنَا أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا وَسَهْوًا، ثُمَّ نُسِخَ عَمْدُ الْكَلَامِ وَبَقِيَ سَهْوُهُ، فَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ نَسْخَهُ وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْتَصُّ مِنْ إِبْطَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يُفَارِقَ عَمْدُهُ لِسَهْوِهِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، كَتَقْدِيمِ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا مَحْظُورَاتٌ تَخُصُّهَا فَجَازَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ بَعْضُ مَحْظُورَاتِهَا، كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِسَهْوِهِ الصَّلَاةُ أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالْكَلَامِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا أَصْلُهُ إِذَا سَلَّمَ فِي خِلَالِهَا نَاسِيًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ صلاة بالسلم، لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا، قِيلَ: لَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِهَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَا، وَلَيْسَ كَوْنُ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ الْمُحْرِمِ فِي مَوْضِعٍ نُسُكٌ وَعِبَادَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ غَيْرُ عِبَادَةٍ، بَلْ يَأْثَمُ وَيَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلَا يُوقَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَتْ فِيهِ الْإِعَادَةُ، وَصَارَ كَالْخَطَأِ فِي وُقُوفِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فِي الْعَاشِرِ فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ لِتَأَخُّرِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ دُونَ سَهْوِهِ، لِأَنَّ السَّهْوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَقَوْلُهُ: " لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " يَقْتَضِي فَسَادَ الْكَلَامِ لَا الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا أَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا، وَالْجَاهِلُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَمَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى عَمْدِ الْكَلَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَدَثِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِبُطْلَانِ الطِّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سَهْوِهِ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِحَالٍ اسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ سَهْوِ الْكَلَامِ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ السَّلَامُ بِهَا اقْتَرَنَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فَكَانَ جِنْسُ السَّهْوِ لَا يُبْطِلُهَا، وَجِنْسُ الْعَمْدِ يُبْطِلُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ يُبْطِلُهَا كَثِيرُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي سَهْوِ الْكَلَامِ إِذَا طَالَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ عَلَى الْأَعْمَالِ دُونَ الْكَلَامِ " فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَالثَّانِي: يُبْطِلُهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ: قَطْعُ الْخُشُوعِ فِي كَثِيرِهِ وَعَدَمُهُ فِي قَلِيلِهِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا تَرَكَهُ الْمُصَلِّي مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَعَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: بِمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ: التَّوَجُّهُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْأَرْكَانِ وَهَيْئَاتُ الْأَفْعَالِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْقُنُوتُ الْقِسْمُ الرابع: ما تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ مَعَ سُجُودِ السَّهْوِ، وَهُوَ الرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ إِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَتَى بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ حَدٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ، وَعَادَاتِهِمْ، وَحَكَى " الْبُوَيْطِيُّ " عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِرَكْعَةٍ مُعْتَدِلَةٍ لَا طَوِيلَةٍ، وَلَا قَصِيرَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَدٍّ وَلَا ال ْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ فِي الْعَادَةِ وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مِنْ أَحَدِ رَكَعَاتِهِ فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ تَرَكْتَ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ المشهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِالنِّسْيَانِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ صَلَاتِهِ حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ وَإِنْ ذَكَرَهَا قَبْلَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَتَى بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَكَلَّمَ، أَوْ سَلَّمَ عَامِدًا أَوْ أَحْدَثَ فيما بين إحرامه وبين سلامه اسْتَأْنَفَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُتَكَلِّمِ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ عَامِدًا فِيهَا فَصَلَ اتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَقَالَ مَالِكٌ: عَمْدُ الْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا كَإِعْلَامِ الْإِمَامِ بِسَهْوِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَمْدِهِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ كَلَامُهُ لِمَصْلَحَةٍ مَا لَمْ تَبْطُلْ صلاته سواء لمصلحة صلاته أما لَا كَإِرْشَادِ ضَالٍّ هَالِكٍ، أَوْ تَحْذِيرِ ضَرِيرٍ مِنْ بِئْرٍ، أَوْ سَبُعٍ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَكَلَامِهِ، لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَاسْتِثْبَاتِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَوَابِهِمَا لَهُ، وَقَوْلِهِ لِبِلَالٍ: " أَقِمِ الصَّلَاةَ "، وَكُلُّ ذَلِكَ كَلَامُ عَمْدٍ يُصْلِحُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ بنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى صَلَاتِهِ مَعَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى إِبَاحَةِ عَمْدِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ أَصْلَحَهَا أَمْ لَا، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا لَا يُصْلِحُهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَ الْبَاقِي عَلَى إِبَاحَتِهِ فَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ فَقَدْ أَثْبَتَ نَسْخَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا حَظْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَرَّ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عوفٍ، فَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَفَّقَ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقِفَ فِي مَقَامِكَ فَقَالَ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ " فَفِي الْخَبَرِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ صَفَّقَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه ولم يتكلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَابَ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّنْبِيهَ بِالتَّسْبِيحِ دُونَ الْكَلَامِ وَهَذَا الْخَبَرُ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يُصْلِحُهَا وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ أبي حنيفة، وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّهُمْ نَاسٍ لِكَلَامِهِ غَيْرُ عَامِدٍ لِاعْتِقَادِهِمُ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بَاطِلَةٌ إِذَا قال لإمامه قد نسيت صلاته أَوْ قَصُرَتْ كَقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ، قِيلَ: لِاسْتِقْرَابِ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ النَّسْخِ الَّذِي كَانَ مُجَوَّزًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدِلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ: رَفْعُ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ إِمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَيْسَ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابٌ لِلْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا أَنَّ شُرْبَ النَّبِيذِ مُبَاحٌ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَكِنِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ لِمُحْتَمَلٍ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، لَعَمْرِي، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ لِمُحْتَمَلٍ وَإِنَّمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَنْسُوخًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ جَالِسًا فِي مَرَضِهِ وَصَلَّى مَنْ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَعُلِمَ بِهَذَا الْفِعْلِ تَقْدِيمُ النَّسْخِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي صَلَاتِهِ لَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِكَلَامِهِ سَاهِيًا عَنْ صَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ عَمَدَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَقْصِدْ إِيقَاعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ نَاسِيًا وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا بِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الكلام فيها، لقرب عهد بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ فَصَلَاتُهُ جائزة، وعليه سجود السهو وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ جَاهِلًا بِحُكْمِ الْكَلَامِ هَلْ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَنْ زَنَى عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْعَالِمُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا شَمَّتَ فِي صَلَاتِهِ عَاطِسًا أَوْ رَدَّ سَلَامًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَلَكِنْ لَوْ تَنَحْنَحَ أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مَفْهُومًا يَصِحُّ فِي الْهِجَاءِ فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي ولجوفه أزيز كأزير الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعْنِي: غَلَيَانَ جَوْفِهِ بِالْبُكَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْلُ الْأَزِيزِ الِالْتِهَابُ وَالْحَرَكَةُ، فَأَمَّا إِنْ نَظَرَ فِي كِتَابٍ يَفْهَمُ مَا فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَاهَا بِهِ لَأَبْطَلَهَا مَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ، وَإِنْ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ يَعْنِي، حَرَكَةً مَفْهُومَةً، فَلَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ مِنْ مُصْحَفٍ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ تَصَفُّحَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ النَّظَرِ، أَوِ التَّصَفُّحِ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَيْسَ التَّصَفُّحُ عَمَلًا كَثِيرًا لِمَا بَيْنَ تَصَفُّحِ الْأَوْرَاقِ مِنْ بُعْدِ المدى فدل على صحة صلاته فَأَمَّا الْمُحْدِثُ فِي صَلَاتِهِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الْحَدَثَ وَتَعَمَّدَهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إِجْمَاعًا فعليه تجديد الطهارة، واستئناف الصلاة والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْلِبَهُ الْحَدَثُ وَيَسْبِقَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَطَهَارَتُهُ قَدْ بَطَلَتْ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلِ الْفَصْلُ، أَوْ يَفْعَلْ مَا يُخَالِفُ الصَّلَاةَ مِنْ أَكْلٍ، أَوْ كَلَامٍ، أَوْ عَمَلٍ طَوِيلٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بَنَى، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا اسْتَأْنَفَ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي النَّجَاسَةِ إِذَا أَصَابَتْ جَسَدَهُ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدِهِ مِثْلَ قَيْءٍ، أَوْ رُعَافٍ، أَوْ دَمِ خُرَاجٍ فحصلت على ظاهرة جَسَدِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَغْسِلُ النَّجَاسَةَ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ، وَعَلَى الْجَدِيدِ يَسْتَأْنِفُ وَلَكِنْ لَوْ فَارَ دَمُ جُرْحِهِ فَلَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَخَالَفَ أبو حنيفة مَذْهَبَهُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَقَالَ يَسْتَأْنِفُ صَلَاتَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، فَإِذَا قِيلَ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ الله عنهم وهو قول أبو حنيفة، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ "، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَإِذَا قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ حِينَ حُدُوثِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَأْمُرُهُ بِالِانْصِرَافِ فِيهِمَا لِلطَّهَارَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلْنَا ظَاهِرَ الْخَبَرِ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ يَنْصَرِفُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالِانْصِرَافُ مِنَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الصَّلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا أَصْلُهُ حَدَثُ الْعَامِدِ وَعَكْسُهُ سَلَسُ الْبَوْلِ وَحَدَثُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّ " كُلَّ مَا أَبْطَلَ الطَّهَارَةَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ " كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الطَّهَارَةِ اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ كَالِاحْتِلَامِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ الْعَامِدِ مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ قِيَاسًا عَلَى الْمُضِيِّ فِيهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ " الْحَدِيثَ، فَضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعُرْوَةَ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الْبِنَاءِ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ بَنَى الرَّجُلُ دَارَهُ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُسَافِرٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ؛ ثُمَّ أَحْدَثَ فَعَلَيْهِ الْبِنَاءُ عَلَى حُكْمِ صَلَاتِهِ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا يَمْنَعِ الْمُضِيَّ فِيهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ عَمِلَ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا قَلِيلًا مِثْلَ دَفْعِهِ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ قَتْلِ حيةٍ، أو ما أشبه، ذلك لم يضره " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَمَلًا طَوِيلًا فَمَتَى أَوْقَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَبْطَلَهَا عَامِدًا كَانَ، أَوْ نَاسِيًا، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ وَيَمْنَعُ مُتَابَعَةَ الْأَذْكَارِ، وَلَا حَدَّ لِطُولِهِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتِ الصَّلَاةُ جَائِزَةً مَعَ الْعَمَلِ الطَّوِيلِ كَمَا جَازَتْ مَعَ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ طَالَ قِيلَ: فِي كَلَامِ النَّاسِ إِذَا طَالَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتَهُ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يُبْطِلُهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَفْعَالِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْأَقْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي تَغْلِيظِ الْحُكْمِ افْتَرَقَا فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْعَمَلِ مَا كَانَ قَلِيلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ عمل بطلت صلاته فأن تَبْطُلَ بِالْقَصْدِ مَعَ الْعَمَلِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة المؤمن لا يقطعها شيء وادرؤا مَا اسْتَطَعْتُمْ "، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ فِي صَلَاتِهِ مَارًّا أَوْ يَمْنَعَ مُجْتَازًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ " وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا، أَوْ يَخْطُوَ خُطْوَةً فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " اسْتَفْتَحْتُ الْبَابَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فَفَتَحَ لِي " وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَنِدَ عَلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَصًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى وتدٍ كَانَ ثَابِتًا بِالْمَدِينَةِ مُشَاهَدًا حَتَّى قُلِعَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَ حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا بِضَرْبَةٍ، أَوْ ضَرْبَتَيْنِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نَقْتُلَ فِي الصَّلَاةِ الْأَسْوَدَيْنِ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ فِي صَلَاتِهِ صَبِيًّا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى وَعَلَى عَاتِقِهِ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ حَمَلَهَا " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ الصِّبْيَانِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُصْلِحَ ثَوْبَهُ وَيَعْبَثَ بِلِحْيَتِهِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مس لحيته في الصلاة (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَفِتَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَيُحَوِّلَ قَدَمَيْهِ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، أَوْ نَاسِيًا، فَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ طَالَ ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ، لِأَنَّهُ فَارَقَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ عَامِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: " هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ " إِنْ كَانَ نَاسِيًا فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ وَقَصُرَ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْتَفِتَ بِوَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلِ قَدَمَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ، أَوْ لَا يَقْصِدَ فَإِنْ قَصَدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لأنه لو قطع الصلاة من غير الإلتفات بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ وَيَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَرْكَانِ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ يَمِينًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَيُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ حالٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِلْمُلْتَفِتِ فِي صَلَاتِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلٌ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ " (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْأَكْلُ فِي الصَّلَاةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَامِدًا فِي أَكْلِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، وَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ أَكْلُهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ طَوِيلٌ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ، وَإِنَّ قَلَّ أَكْلُهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ (فَصْلٌ: فِي النَّوَاهِي) رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقُرْآنِ - يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْقُرْآنَ بَيْنَ أَذْكَارِهَا كَالْقُرْآنِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ التَّوَجُّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّكْبِيرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الشِّكَالِ فِي الصَّلَاةِ " وَهُوَ: أَنْ يُلْصِقَ قَدَمَيْهِ بِالْأُخْرَى، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ الشِّكَالَ فِي الْخَيْلِ فَهُوَ أَنْ يكون بثلاث قوائم مخجلة، وَوَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَنْ يُلْصِقَ ذِرَاعَيْهِ بِالْأَرْضِ فِي سُجُودِهِ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عقبيه في الصلاة بين السجدتين وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يصلي الرجل مختصراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قال أبو عبيدة: هو أن يضع يديه في خصره وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُنَيْنٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْإِقْعَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا إِعْدَادَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا تَسْلِيمَ " أَيْ: لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ فِيهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُدَبِّجَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا يُدَبِّجُ الْحِمَارُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى يَكُونَ أَخْفَضَ مِنْ ظَهْرِهِ وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ التَّدْبِيجِ فِي الصَّلَاةِ وَفَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ وَقَالَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَتَّزِرَ ثَوْبَهُ إِنْ كَانَ إِزَارًا أَوْ بُرْدَةً عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَمِيصًا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ وَيُسْدِلَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَيُلْقِيَ مَا وَصَلَ مِنْ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ قِيلَ: أَرَادَ سَدْلَ الْيَدِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَّاءٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي حَاقِنًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَبِهِ طَوْفٌ قال قطرب: الطرف الْحَدَثُ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن كفل الشيكان فِي الصَّلَاةِ قَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ عَاقِدٌ شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قِعْدَةِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هِيَ الْجِلْسَةُ قَبْلَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ مُفَسِّرِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ فَسَرَّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ وَهُوَ أَنْ يَنْقُرَ إِذَا سَجَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْمَئِنَّ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَنْفُخَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا بِسُرْعَةٍ وَرَوَى زِيَادُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى خَصْرَتِهِ وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَرَوَى أبو منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ أَصَابِعَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: لِيُمْسِكْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ يُثَقِّلُ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مُزْبَلَةٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن صلاة العجلان وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ بِصَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّمَطِّي فِي الصَّلَاةِ (فَصْلٌ: فِي الْخُشُوعِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 221] فَكَانَ تَرْكُ الْخُشُوعِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَلَاحِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ، وَهَذَا كَالْمُشَاهَدِ، لِأَنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْجَائِزِ، وَالْمُبَاحِ، وَيَعْدِلُونَ عَنِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ " فَعِمَادُ الصَّلَاةِ وَعَلَامَةُ قَبُولِهَا كَثْرَةُ الْخُشُوعِ فِيهَا فَمِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي بَعْدَ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَإِنْكَارِ الدُّنْيَا مَصْرُوفَ الْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ تَارَةً وَيَخْضَرُّ تَارَةً، وَيَقُولُ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلْتُهَا، فلا أدري السيء فِيهَا أَمِ الْحَسَنُ وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي حَالِ جُلُوسِهِ إِلَى حِجْرِهِ قَالَ مَالِكٌ: الْخُشُوعُ أَنْ يَنْظُرَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ، وَأَحْرَى أَنَّهُ لَا يَرَى مَا يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، إِذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 لِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ " وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي قَرِيبًا مِنْ مِحْرَابِهِ لِيَصُدَّهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُلْهِي وَيَمْنَعَهُ مِنْ مُرُورِ مَا يُؤْذِي، وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ " يَعْنِي: ادْنُوَا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِحْرَابٍ اعْتَمَدَ الْقُرْبَ مِنَ الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا أَوْ خَطَّ خَطًّا وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا يُلْهِيهِ وَيَعْتَمِدَ لُبْسَ الْبَيَاضِ وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " صَلَى رَسُولُ اللَّهِ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ فَقَالَ لَقَدْ أَلْهَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ " وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَضَعَ رِدَاءَهُ مِنْ عَاتِقِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُشَمِّرَ كُمَّيْهِ، وَلَا يُكْثِرَ الْحَرَكَةَ وَالِالْتِفَاتَ، وَلَا يَقْصِدَ عَمَلَ شَيْءٍ أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ مُتَلَثِّمًا، وَلَا مُغَطَّى الْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَقَدْ غَطَّى لِحْيَتَهُ فَقَالَ: " اكْشِفْ وَجْهَكَ " وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَتَنَخَّعَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَبْصُقَ فَقَدْ رَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلَتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّخَاعُ أَوِ الْبُصَاقُ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ فَإِنْ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ رَسَمَ الْخَلُوقَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُمْحِيَ بِهِ أَثَرَ الْبُصَاقِ وَأَمَّا الْعَدَدُ بِالْيَدِ وَعَقْدُ الْأَصَابِعِ بِهِ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ لِكَوْنِهِ عَمَلًا يَسِيرًا، لَكِنْ إِنْ عَدَّ آيَ الْقُرْآنِ قَطَعَ خُشُوعَهُ، وَكَرِهْنَاهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَدَّ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 يَقْطَعْ خُشُوعَهُ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْهَا وَاجِبٌ فَجَازَ عَقْدُ الْأَصَابِعِ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْقِدُ فِي صَلَاتِهِ عَقْدَ الْأَعْرَابِ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وينصرف حيث شاء عن يمينه، وشماله فإن لم يكن له حاجة أحببت اليمين لما كان عليه السلام يحب من التيامن " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ حَتْمًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ يَسَارِهِ نَحْوَ مَنْزِلِ فَاطِمَةَ، أَوْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَوْلَى إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى في وضوئه وانتعاله (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ مِنَ الظُّهْرِ قَضَاهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ كَمَا فَاتَهُ وإن كانت مغرباً وفاته منها ركعة قضاها بأم القرآن وسورة وقعد " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ وَأَدْرَكَ مَعَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ رَكْعَةً، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَيَأْتِيَ بِرَكْعَتَيْنِ بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُمَا بِالسُّورَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْضِيهِ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُهَا، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يَقْضِيهِ أَوَّلًا فِي أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِ بِالسُّورَةِ وَجَعَلَهُ آخِرًا فِي أَنَّهُ يَقْعُدُ فِيهِ لِلتَّشَهُّدِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنْ يُقَالَ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ فَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَ " الْأُمِّ " يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَفِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَلَا يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَنِ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فِي الْآخِرَتَيْنِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إِمَّا مُنْفَرِدًا، أَوْ مَأْمُومًا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِيمَا يَقْضِيهِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ مَا فَاتَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ قَضَاهُمَا بِالسُّورَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فيقضيهما بأم القرآن (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ (قال المزني) قد جعل هذه الركعة في معنى أولى يقرأ بأم القرآن وسورة وليس هذا من حكم الثالثة وجعلها في معنى الثالثة من المغرب بالقعود وليس هذا من حكم الأولى فجعلها آخرة أولى وهذا متناقض وإذا قال ما أدرك أول صلاته فالباقي عليه آخر صلاته وقد قال بهذا المعنى في موضع آخر (قال المزني) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن ما أدرك فهو أول صلاته وعن الأوزاعي أنه قال ما أدرك فهو أول صلاته (قال المزني) فيقرأ في الثالثة بأم القرآن ويسر ويقعد ويسلم فيها وهذا أصح لقوله وأقيس على أصله لأنه يجعل كل مصل لنفسه لا يفسدها عليه بفسادها على إمامه وقد أجمعوا أنه يبتدئ صلاته بالدخول فيها بالإحرام بها فإن فاته مع الإمام بعضها فكذلك الباقي عليه منها آخرها " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَقَدْ صلى بعض الصلاة فصلى معدماً أَدْرَكَ وَقَامَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَفِعْلًا وَمَا يَقْضِيهِ آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمَا وَفِعْلًا وَقَالَ أبو حنيفة مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فِعْلًا وَآخِرُهَا حُكْمًا، وَمَا يَقْضِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا، وَآخِرُهَا فِعْلًا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَكَانَ في أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ آخِرَهَا لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا؛ بَلْ كان مودياً، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ اتَّبَعَهُ فِي تَشَهُّدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَوَّلِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ قَنَتَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ لَمْ يَقْرَأِ الْقُنُوتَ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ إِمَامِهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَبَقِيَّةِ آخِرِهِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلُ صَلَاةٍ لَمْ يَلِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَقْضِيهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ لَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إِذَا فَعَلَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَوُجُوبِ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِه، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ أَوَّلًا، ثُمَّ آخِرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا ثُمَّ آخِرًا، ثُمَّ أَوَّلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ فَالتَّحْرِيمُ فِي أَوَّلِهِ، وَالتَّحْلِيلُ فِي آخِرِهِ كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وما فاتكم فاقضوا " فقد روينا من يخالفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَدَّوُا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بِمَعْنَى فَإِذَا أُدِّيَتْ، وَكَمَا يُقَالُ قَضَيْتُهُ الْحَقَّ إِذَا أَدَّيْتُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَالْقُنُوتِ، قُلْنَا: لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ كَمَا يَتْبَعُهُ فِيمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَسَقَطَ اعْتِرَاضُهُمْ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي الرَّجُلُ قَدْ صَلَّى مَرَّةً مَعَ الْجَمَاعَةِ كل صلاة الأولى فرضة وَالثَانِيَةُ سُنَّةٌ بِطَاعَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ قَالَ إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى، ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَهُمْ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ صَلَّى الْأُولَى مُفْرَدًا أَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي جَمَاعَةٍ أَعَادَهَا إِلَّا مَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ خلفها كالصبح، والعصر وقال مالك والأوزاعي: كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْمَغْرِبَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُعِيدُ كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ وَقَالَ أبو حنيفة: يُعِيدُ الظُّهْرَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ وَلَا يُعِيدُ الصُّبْحَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَنْعِ الْإِعَادَةِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا فَرْضَانِ فِي وَقْتٍ " وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ مِنْ مِنًى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا الْتَفَتَ مِنْ سَلَامِهِ إِذَا بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا فَقَالَا: صَلَّيْنَا فِي رحالنا فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا جِئْتُمَا فَصَلِّيَا، وَإِنْ كُنْتُمَا قَدْ صَلَّيْتُمَا يَكُونُ لَكُمَا [نَافِلَةً] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَرُوِيَ فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ، وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ وَرَوَى بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَجَعَ إِلَى الْمَجْلِسِ وَمِحْجِنٌ قَاعِدٌ لَمْ يُصَلِّ فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ قَالَ: صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا صَلَّيْتَ فِي أَهْلِكَ وَأَدْرَكْتَ الصَّلَاة َ فَصَلِّ هَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِبَطْنِ النَخْلِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ أَدْرَكَ لَهَا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ فِعْلِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ لَهُ إِعَادَتُهَا أَصْلُهُ مَعَ أبي حنيفة الظُّهْرُ وَالْعِشَاءُ، وَقَوْلُنَا: راتبة احتراز مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " فَيَعْنِي: وَاجِبًا، وَنَحْنُ نَأْمُرُهُ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا فَرْضَانِ فِي يَوْمٍ "، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ وَالْأُخْرَى نَفْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِعَادَةِ مَا أَدْرَكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فَرْضَهُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ "، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ لَهُ فَرِيضَةَ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأُولَى فَرِيضَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ ثانية (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ يُومِئَ أَوْمَأَ، وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ فِي صَلَاتِهِ صَلَّى قَاعِدًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى مُومِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ قِيَامًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقُعُودًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقُعُودِ وروى عمران بن الحصين أن رجلاً شكى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاصُورَ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب "، فإن قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ صَلَّى قَائِمًا، وَرَكَعَ قَائِمًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِانْتِصَابِ وَلَمْ يَقْدِرْ على الركوع قراء مُنْتَصِبًا، فَإِذَا أَرَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 الرُّكُوعَ انْحَنَى وَبَلَغَ بِانْحِنَائِهِ إِلَى نِهَايَةِ إِمْكَانِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِصَابِ قَامَ رَاكِعًا فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ خَفَضَ قليلاً، فإن عجزعن الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ صَلَّى الْفَرْضَ قَاعِدًا يَعْنِي: بِمَشَقَّةٍ غَلِيظَةٍ فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا فَفِي كَيْفِيَّةِ قُعُودِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُتَرَبِّعًا، وَأَصَحُّهُمَا مُفْتَرِشًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ الْقُعُودَ مُتَرَبِّعًا يُسْقِطُ الْخُشُوعَ، وَيُشْبِهُ قُعُودَ الْجَبَابِرَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي امْرَأَةً فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَرَبَّعَ فِي قُعُودِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَقْعُدُ فِي موِضِعِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ مُتَوَرِّكًا، وَهَذَا حَسَنٌ وَكَيْفَ مَا قَعَدَ أَجْزَأَ، فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ انْحَنَى مُومِيًا بِجَسَدِهِ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ، وَقَدَرَ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ جَازَ وَلَا يَحْمِلُهَا بِيَدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَسْجُدُ عَلَى مِخَدَّةٍ مِنْ أَدَمٍ لِرَمَدٍ كَانَ بِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى وِسَادَةٍ لَاصِقَةٍ بِالْأَرْضِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا سَجَدَ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ كَرِهْتُهُ، وَأَجْزَأَهُ إِنْ كَانَ يَنْسُبُهُ الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ فِي حَدِّ السَّاجِدِ فِي انْخِفَاضِهِ، فَأَمَّا إن كانت الوسادة عالية لا تنسب الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُنْخَفِضٌ انْخِفَاضَ السَّاجِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا أَنْ يُومِئَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِالرُّكُوعِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْقِيَامِ كَمَا يُطِيقُ، وَلَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِالسُّجُودِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالرُّكُوعِ كَمَا يُطِيقُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي السُّجُودِ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ فَصَلَّى مُضْطَجِعًا يُشِيرُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اضْطِجَاعِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ يُومِي بِطَرْفِهِ " (فَصْلٌ) : فَإِذَا فتح الصَّلَاةَ قَائِمًا فَقَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ مَرِضَ وَعَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ قَعَدَ، وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ وَأَنْهَى صَلَاتَهُ، فَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ جَازَ، فَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضِهِ فَقَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ صَحَّ قَامَ وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ، وَأَنْهَى صَلَاتَهُ، وَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ لَمْ يجز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تُجْزِئَهُ قِرَاءَتُهُ فِي حَالِ الِانْخِفَاضِ وَلَا تُجْزِئُهُ فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ أَنَّ فِي الِانْخِفَاضِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ قَاعِدًا، وَالِانْخِفَاضُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْقُعُودِ فَأَجْزَأَتْهُ الْقِرَاءَةُ، وَفِي الِارْتِفَاعِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ قَائِمًا، وَالِارْتِفَاعُ أَنْقَصُ حَالًا مِنَ الْقِيَامِ مُنْتَصِبًا فَلَمْ تُجْزِهِ الْقِرَاءَةُ (فَصْلٌ) : وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَبْلَ رُكُوعِهِ قَامَ مُنْتَصِبًا، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ رَكَعَ فِي حَالِ قِيَامِهِ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ وَانْتِصَابِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ صَلَّى قَائِمًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ ثُمَّ انْحَنَى لِيَرْكَعَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَامَ رَاكِعًا قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا أَجْزَأَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَائِمًا يَلْزَمُهُ الِاعْتِدَالُ قَائِمًا قَبْلَ رُكُوعِهِ فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَالْوَاقِعُ فِي انْحِنَائِهِ فَرْضُهُ الرُّكُوعَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاعْتِدَالُ فَإِذَا قَامَ رَاكِعًا أَجْزَأَهُ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ أن يصلي قائماً بأم القرآن " وقل هو الله أحد "، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ خَلْفَ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ يَقْرَأُ سُوَرًا طِوَالًا، وَيَثْقُلُ أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا فَكَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ، فَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا (فَصْلٌ) : وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ، ثُمَّ أَطَاقَ الْقِيَامَ فَأَبْطَأَ مُتَثَاقِلًا حَتَّى عَاوَدَهُ الْعَجْزُ فَمَنَعَهُ مِنَ الْقِيَامِ نُظِرَ فِي حَالِهِ حِينَ أَطَاقَ الْقِيَامَ، فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ مِنْ صَلَاةِ الْمُطِيقِ كَالتَّشَهُّدِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَدَامَ فِعْلًا يَجُوزُ لِلْمُطِيقِ اسْتَدَامَتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ مِنْ صَلَاةِ الْمُطِيقِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَ الْقِيَامَ فِي مَوْضِعِ الْقُعُودِ صَارَ كَالْمُطِيقِ إِذَا قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً كَالْمُطِيقِ إِذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى مَرِضَ ثُمَّ صَلَّاهَا قَاعِدًا لِعَجْزِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، وَهُوَ أَنَّ صِفَةَ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا أَخَّرَهَا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقِيَامِ، فَإِذَا حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَائِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِيهَا وَصَارَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا إِنْ أَخَلَّ بِهِ أَبْطَلَهَا وَمِثَالُ ذَلِكَ: مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ بِهِ فَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنِ الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ الثَّوْبُ وَيَعْدِمَ مَا يَسْتُرُهُ فَيُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ عُرْيَانًا ثُمَّ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَأَبْطَأَ فِي أَخْذِهِ حَتَّى تَلِفَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَكَانَ هَذَا كَمَنَ حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ إِذَا قَرَأَ آيَةَ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ، أو آية عذاب أن يستعيذ والناس، وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي صَلَاتِهِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رَحْمَتَهُ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعَذَابِ فَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الرَّحْمَةَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَعَاذَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ سَبَّحَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ في صلاته " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فَقَالَ بَلَى " وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ أَلَيْسَ ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فَقُلْ بَلَى، وَإِذَا قَرَأْتَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين فقل بلى " (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَلَّتْ إِلَى جَنْبِهِ امْرَأَةٌ صَلَاةً هُوَ فِيهَا لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَقِفْنَ خَلْفَ صُفُوفِ الرِّجَالِ، فَإِنْ تَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ صَلَّى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خَلَفَ إِمَامٍ اعْتُقِدَ إِمَامَتُهُ جَمِيعِهِمْ، وَتَقَدَّمَتِ امْرَأَةٌ فَوَقَفَتْ أَمَامَ الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاتُهَا جَائِزَةً، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ عَلَى يَسَارِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَجَازَتْ صَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ صَلَّوْا فُرَادَى، أَوْ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَنَوَى الرِّجَالُ غَيْرَ صَلَاةِ النِّسَاءِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْإِمَامُ إِمَامَةَ النِّسَاءِ فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَاسْتَدَلَّ فِي الْجُمْلَةِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " فَأَمَرَ الرَّجُلَ بِتَأْخِيرِ الْمَرْأَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَخِّرْهَا فَعَلَ مَنْهِيًّا فَاقْتَضَى بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى عُرْيَانًا، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يقطع صلاة المؤمن شيء وادرؤا ما استطعتم " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ تُصَلِّي مَعَهُمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ لِكَيْ لَا يَرَاهَا وَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا بَعْضُهُمْ لِيَرَاهَا فَلَمْ يُبْطِلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ مَنْ تَأَخَّرَ وَلَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَصِحُّ لِلرَّجُلِ إِذَا تَقَدَّمَ فِيهَا عَلَى النِّسَاءِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ إِذَا وَقَفَ فِيهَا مَعَ النِّسَاءِ أَصْلُهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ "، فَالْأَمْرُ بِالتَّأْخِيرِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادُ بِالْإِقَامَةِ وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقطع الصلاة الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ " فَالْمُرَادُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَا. فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مَمْنُوعٌ لمعنى غيره (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ سَجَدَ فِيهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ، أو سمع من يقرأها أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فِي صَلَاةٍ كَانَ، أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَارِئًا كَانَ أَوْ مُسْتَمِعًا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَارِئِ، وَالْمُسْتَمِعِ فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لهم لا يؤمنون وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20] . فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا سُجُودُ مَفْعُولٍ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَرَ بِهِ زِيدًا وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَةَ سَجْدَةٍ فَسَجَدَ، وَقَرَأَهَا آخَرُ فَلَمْ يَسْجُدْ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُنْتَ إِمَامَنَا، فَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ وَأَقَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا " عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ وَالتَّخْيِيرِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَجَدَ وَقَرَأَهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ وَرَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَالَ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَدَلَّ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الْمَلَإِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يَجِبُ لِلْمُسَافِرِ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْأَحْوَالِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا أَصْلُهُ سُجُودُ النَّافِلَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ السُّجُودُ لَهَا وَاجِبًا أَصْلُهُ إِذَا أَعَادَ تِلْكَ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ التِّلَاوَةِ، كَالطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سُجُودٍ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} فَالْمُرَادُ بِهَا الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ مَا تَعَقَّبَهَا مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وقَوْله تَعَالَى: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] يَعْنِي لَا يَعْتَقِدُونَ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 25] وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَبَاطِلٌ السجود السَّهْوِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَوْنُهُ مُرَتَّبًا فِي أَوْقَاتٍ مُعْتَبَرَاتٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَسُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ " ص " فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ فُضِّلَتْ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ (قَالَ) وَسَجَدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في " إذا السماء انشقت " وعمر في " والنجم " (قال الشافعي) وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْم ُفَصَّلِ سُجُودًا ومن لم يسجد فليست بفرض وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد وترك وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلا أن نشاء " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 سُجُودَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي الْمُفَصَّلِ، وَأَرْبَعٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأُولَاهُنَّ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَالثَّانِيَةُ: فِي الرَّعْدِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السموات وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وَالثَّالِثَةُ: فِي النَّحْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ولله يسجد ما في السموات وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] وَالرَّابِعَةُ: فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107] ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَالْخَامِسَةُ: فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَالسَّادِسَةُ: فِي أَوَّلِ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ له من في السموات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18] الْآيَةَ وَالسَّابِعَةُ: آخِرُ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الْآيَةَ وَالثَّامِنَةُ: فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60] الْآيَةَ وَالتَّاسِعَةُ: فِي سورة النمل وهي قوله عز وجل: {لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات} [النمل: 25] الْآيَةَ وَالْعَاشِرَةُ: فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] الْآيَةَ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي حم السَّجْدَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} [فصلت: 37] والثانية عشر: في المفصل في سورة النجم وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] والثالثة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يسجدون} [الانشقاق: 21] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 والرابعة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فَهَذِهِ سَجَدَاتُ الْعَزَائِمِ فَأَمَّا ص وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] فَهِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَا عَزِيمَةٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ مَالِكٌ سُجُودُ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَلَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سِوَى السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ من الحج وأثبت مكانها سجد " ص " فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِإِسْقَاطِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَبِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شيءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَحَدُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَثَانِيهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَهُوَ الَّذِي قَرَأَ مَرَّتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَثَالِثُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الَّذِي قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ وَأَخَذَ عَنْهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَسَجَدَ كُلُّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِلَّا رَجُلًا وَأَنَّهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ ترابٍ وَرُوِيَ مِنَ الْحَصَا فَدَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَ يَكْفِي هَذَا فَقُتِلَ ببدرٍ، وَكَانَ هَذَا بِمَكَّةَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ أَرَادَا الشُّهْرَةَ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد في إذا السماء انشقت، وفي سورة اقرأ باسم ربك فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَةِ وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ خَالَفَهُمْ سِتَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَوْنِ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُهُ سَجْدَةَ ص فِي الْعَزَائِمِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 سُورَةِ ص وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ لَا عَزِيمَةٍ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عيينة عن عبدة عن ذر عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي سُورَةِ ص، وَقَالَ سَجَدَهَا دَاوُدُ لِلتَّوْبَةِ، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قبل تَوْبَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَجَدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَزَائِمِ وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي إِسْقَاطِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْحَجِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ سُجُودَ الْعَزَائِمِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَخَالَفَتْ سُجُودَ الْعَزَائِمِ وَشَابَهَتْ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا} [النجم: 42] {وَكُنْ مِنَ الساجدين} وقوله تعالى: {ومن الليل فاسجد له} [الإنسان: 26] {وسجد لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] ، فَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ سَقَطَ السُّجُودُ لَهُ كَذَلِكَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي سُجُودِ الْعَزَائِمِ رِوَايَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ قَالَ: " نَعَمْ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهُمَا "، وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ أَوْكَدُ مِنَ الْأُولَى لِوُرُودِهَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَوُرُودِ الْأُولَى بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ فَكَانَ السُّجُودُ لَهَا أَوْلَى، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أبي حنيفة فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] أَمْرٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْإِخْبَارِ فِيمَا لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73] فَعُلِمَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ فَمِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا مِنْ رَجُلٍ، أَوِ امْرَأَةٍ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ لَهَا مُسْتَمِعًا كَانَ أَوْ قَارِئًا لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ، أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ سَجَدَ لَهَا بَعْدَ تِلَاوَتِهَا ثُمَّ هَلْ يُكَبِّرُ لِسُجُودِهِ وَرَفْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَسْجُدُ مُكَبِّرًا، وَيَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَسْجُدُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، وَيَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَكَبَّرَ وَسَجَدَ، وَسَبَّحَ فِي سُجُودِهِ كَتَسْبِيحِهِ فِي صَلَاتِهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ دَاوُدَ "، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا بِلَا تَشَهُّدٍ، وَلَا سَلَامٍ نَصَّ عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ كَالصَّلَوَاتِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ، وَلَا يَتَشَهَّدُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ فَمُسْتَحَبٌّ [الْقَوْلُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ] عِنْدَ حُلُولِ نِعْمَةٍ، أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الشُّكْرِ بِدْعَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَسَجَدَ وَأَطَالَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فبشرني بأن من صل عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، فَسَجَدْتُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَأَى نُغَاشًا وَالنُّغَاشُ: النَّاقِصُ الْخَلْقِ فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُوِيَ عَنْ بِكَّارِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَأَتَى بَشِيرُهُ بِظَفَرِ أَصْحَابٍ لَهُ قَالَ فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاجِدًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ وَقَتْلُ مُسَيْلِمَةَ أَنَّهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ بَلَغَهُ فَتْحُ الْقَادِسِيَّةِ، وَالْيَرْمُوكِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى ذَا الثُّدَيَّةِ بِالنَّهْرَوَانِ قَتِيلًا سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْهُ لَفَعَلْتُ، وَفِي اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ وَتَسْمِيَتِهَا وَشَاهِدِ الْعُقُولِ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَاحِدَ يُعَظِّمُ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِدْخَالِ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِنَا وَإِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا بِدْعَةً مِنْ مُخَالِفِينَا، فَإِذَا أَرَادَ سُجُودَ الشُّكْرِ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ سَوَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِسُجُودِ الشُّكْرِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا إِذَا قَرَأَ سَجْدَةَ ص فَإِنْ سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ شُكْرًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَجَدَ عِنْدَمَا قَرَأَ سَجْدَةَ ص فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالتِّلَاوَةِ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ الْفَرِيضَةَ وَالنَّافِلَةَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ، وَالْوِتْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ، واستدلوا بقوله تعالى: {وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَإِذَا صَلَّى فِيهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَلِرِوَايَةِ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ، وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَصَلَّى وَقَالَ: هذه القبلة، ولأنه حول ظهره لشئ مِنَ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ. أَصْلُهُ: إِذَا صَلَّى فِيهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَابِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ خَارِجُ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ فِي اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِرَانِ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا مَنَعْتُمُ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنَ الطَّوَافِ فِيهِ، أَوْ جَوَّزْتُمُ الطَّوَافَ فِيهِ كَمَا جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهِ، قِيلَ: لِأَنَّ الطَّوَافَ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْبَيْتِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ جَمِيعَهُ وَالصَّلَاةُ تَفْتَقِرُ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْبَيْتِ فَإِذَا صَلَّى فِيهِ فَقَدْ صَلَّى إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ وَهُوَ الْحَائِطُ وَرَوَى بِلَالٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِي الْبَابُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ "، وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى خارج البيت فأما تعلقهم بقوله تعالى: {وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فَالْمُرَادُ بِهِ نَحْوُهُ، وَمَنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ فَقَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَيْتِ، لِأَنَّ حَائِطَ الْبَيْتِ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَصُهَيْبٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْبَيْتِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنِ اسْتَقْبَلَ الْبَابَ فَمَذْهَبُنَا إِنْ كَانَ لِلْبَابِ عَتَبَةٌ وَاسْتَقْبَلَهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَتَبَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَسْتَقْبِلْهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ فِي صَلَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَصَلَّى إِلَيْهِ جَازَ، لِأَنَّ الْبَابَ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَيْتِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْلَقًا، وَالْآخَرُ مَفْتُوحًا فَإِنْ صَلَّى إِلَى الْمُغْلَقِ جَازَ، وَإِنْ صَلَّى إِلَى الْمَفْتُوحِ لَمْ يَجُزْ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى ظَهْرِهَا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِنَاءِ مَا يَكُونُ سُتْرَةً لِلْمُصَلِّي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يُصَلِّ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْفَضَاءِ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يَسْتَقْبِلُهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ، وَمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِشَيْءٍ مِنْهُ وَقَدْ رَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَمَعَاطِنِ الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ سُتْرَةٌ يَسْتَقْبِلُهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالْجُدْرَانِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَلَا مُتَّصِلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْجَارٌ مُجْتَمِعَةٌ، أَوْ خَشَبٌ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا تَجَاوَزَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَسْتَقْبِلْ بُنْيَانَ الْبَيْتِ وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ مَغْرُوسَةً كَخَشَبَةٍ قَدْ غَرَسَهَا، أَوْ رُمْحٍ قَدْ رَكَزَهُ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْبِنَاءِ وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ (فَصْلٌ) : فَلَوِ انْهَدَمَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بناء الكعبة، استحب أَنْ يُنْصَبَ فِي مَوْضِعِهِ خَشَبٌ وَيُطْرَحَ عَلَيْهِ أَنْطَاعٌ لِيَسْتَقْبِلَهُ النَّاسُ فِي صَلَاتِهِمْ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جَازَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَتُجْزِئُهُمُ الصَّلَاةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا انْهَدَمَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ سَقَطَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا وَقَالَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَالْفُقَهَاءُ: فَرْضُ التَّوَجُّهِ بَاقٍ وَإِنِ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، لِأَنَّ الْمَكَانَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَبَعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِفَقْدِ التَّبَعِ، وَإِذَا كَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَيَقِفَ خَارِجًا عَنْهُ وإن وقف في عرضة الْكَعْبَةِ وَمَكَانِهَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، كَمَنْ صَلَّى خَارِجَهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إِلَيْهَا، لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي الشَّيْءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ (فَصْلٌ) : وَإِذَا صَلَّى عَلَى سَطْحٍ يَعْلُو الْكَعْبَةَ وَيُشْرِفُ عَلَيْهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ (فَصْلٌ) : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى فِي صَحْرَاءَ، أَوْ عَلَى جَبَلٍ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَصًا، أَوْ يَضَعَ حَجَرًا، وَيَسْتَقْبِلَهُ فِي صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَمَعَهُ عَصًا فلينصب العصا، ويصلي إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا "؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْعُبُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَصَلَّى جَازَ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِهِ أَمَامَ صَلَاتِهِ إِنْسَانٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِرِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ سُتْرَةٌ مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ (فَصْلٌ) : وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِهِ فِي صَلَاتِهِ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ، أَوْ نَجِسٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ مَرَّ بِهِ امْرَأَةٌ، أَوْ كَلْبٌ، أَوْ حِمَارٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَبْيَضِ؟ قَالَ: " إِنَّهُ شَيْطَانٌ " وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ " وَرُوِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَرَنِي بِرِجْلِهِ لِأَقْبِضَ رِجْلَيَّ " وَرُوِيَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْنُ بِالْبَادِيَةِ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى إِلَى صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَحِمَارُهُ وَكَلْبُهُ يَمْشِيَانِ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى بِذَلِكَ وَمَا رَوَوْهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَمَنْسُوخٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْفَضِيلَةِ (فَصْلٌ) : وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى إِلَى قِبْلَةٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا؛ لِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ سهل بن أبي حثمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ "، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ بِلَالًا مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ القبلة ثلاثة أذرع (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْضِي الْمُرْتَدُّ كُلَّ مَا تَرَكَ فِي الرِّدَّةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ زَمَانًا ثُمَّ عَادَ إِلَى إِسْلَامِهِ لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ مُجْزِئٌ عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ أَحْبَطَتِ الرِّدَّةُ جَمِيعَ عَمَلِهِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَلَمْ يَقْضِ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف} ، وَاقْتَضَى الظَّاهِرُ غُفْرَانَ عَمَلِهِ بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْكُفْرِ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ بِإِثْمٍ، أَوْ قَضَاءٍ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ ذَلِكَ كَالْحَرْبِيِّ، وَالذِّمِّيِّ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا " وَفِيهِ دَلِيلَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّاسِي وَهُوَ التَّارِكُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أَيْ: تَرَكَهُمْ، وَالْمُرْتَدُّ تَارِكٌ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّاسِي وَنَبَّهَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْعَامِدِ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّاسِي، وَلِأَنَّهُ تَارِكُ صَلَاةٍ بِمَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِإِسْلَامِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِرِدَّتِهِ كَغَرَامَةِ الْأَمْوَالِ، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ إِلَّا شَرْطٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِ فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِالصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ، وَيُخَالِفُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا فَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ، وَالْمُرْتَدُّ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَمُطَالَبٌ بِهِ، وَلِأَنَّ لِلْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُفَارِقُ بِهِمَا الْإِسْلَامَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الشَّرْعِيَّاتِ وَلِلْإِسْلَامِ حُكْمَيْنِ يُفَارِقُ بِهِمَا الْكُفْرَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشرعيات، ثم كانت الردة تقضي الْتِزَامَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ تَقْتَضِيَ الِالْتِزَامَ الْآخَرَ وَهُوَ فِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْإِسْلَامِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُرْتَدَّ كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّ مَنْ كُلِّفَ تَصْدِيقَ الْغَيْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ أَصْلُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْحَقِّ لَمَّا كُلِّفَ تَصْدِيقَ الشُّهُودِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِمَا وَهُوَ الْغُرْمُ لِمَا شَهِدَا بِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ لِتَصْدِيقِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَبَ أَنْ يُكَلَّفَ مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ وَمُقْتَضَاهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَحْدَثَ مَا اسْتُبِيحَ بِهِ دَمُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ عَنْهُ الصَّلَاةُ كَالْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالْمُحَارِبِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ، وَقَبُولِ جِزْيَتِهِ، وَهُدْنَتِهِ، وَمُؤَاخَذَتِهِ بِجِنَايَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ صَلَوَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ بِالرِّدَّةِ عُذْرًا لَهُ فِي إِسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ، وَقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ كَالْعَاصِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ فِعْلِ الزِّنَا فَأَمَّا قَوْله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ؛ سِيَّمَا وَقَدْ فَسَّرَهُ بقوله عز وجل: {ومن يرتد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فَالْمُرَادُ بِهِ غُفْرَانُ الْمَآثِمِ دُونَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرْبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَجُنَّ زَمَانًا فِي رِدَّتِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ حِينًا لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي ردتها زماناً لم تقضي مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ حَيْضِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ سَقَطَ بِهِمَا الْقَضَاءُ تَرْفِيهًا وَرَحْمَةً، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ مَعْصِيَةٌ لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ كَالسَّكْرَانِ فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِجُنُونِ الْمُرْتَدِّ وَإِغْمَائِهِ مَعْصِيَةٌ، وَهِيَ الرِّدَّةُ ثَبَتَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَتَرَخَّصُ، وَالْحَيْضُ إِنَّمَا أَسْقَطَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِاقْتِرَانِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ مَعْصِيَةٌ، وَصَلَاةَ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَمِنْ حَيْثُ مَا ذَكَرْنَا افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْقَضَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 (باب سجود السهو وسجود الشكر) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ فِي رَكَعَاتِهَا فَلَمْ يَدْرِ أركعة صلى، أو رَكْعَتَيْنِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَحَسَبَهَا رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ بَنَى عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ وَهُوَ الْيَقِينُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ، أَوْ كَانَ يَعْتَادُهُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ أَوْ كَانَ يَشُكُّ فِي أَقَلِّ أَوْقَاتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا وَيَعْتَادُهُ الشَّكُّ كَثِيرًا تَحَرَّى فِي صَلَاتِهِ وَاجْتَهَدَ، وَعَمِلَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ حِينَئِذٍ وَاسْتَدَلَّ لِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِأَوَّلِ شَكِّهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ " قَالَ: وَمَعْنَاهُ: لَا شَكَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا بِحُدُوثِ الشَّكِّ فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ فِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيمَنِ اعْتَادَهُ الشَّكُّ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَكَانَ أَكْثَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا، قَعَدَ وَتَشَهَّدَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي القلتين، وَالثَّوْبَيْنِ، وَالْإِنَاءَيْنِ، وَالْوَقْتَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْتَبِهٌ قَدْ جُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيُلْغِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جالس " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وَرُوِيَ أَيْضًا: " فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " قَبْلَ السَّلَامِ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رَكْعَةً، وَلْيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ " وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بَنَى عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ بَنَى عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ جَمِيعًا خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ " قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثُ أبي سعيد الخدري، ولأنها صلاة وجب عليها فِعْلُهَا فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي أَدَائِهَا أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّحَرِّي كَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ الْيَقِينُ فِي أَصْلِهِ شُرِطَ الْيَقِينُ فِي بَعْضِهِ، كَالطَّهَارَةِ، وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ كل ما لم يود من الطهارة بالتحري لم يود مِنَ الصَّلَاةِ بِالتَّحَرِّي كَأَصْلِ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِالشَّكِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ شك طراً فِي عَدَدِ مَا صَلَّى فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْمُعْتَادِ الشَّكَّ، وَلِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ فَحُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَالْعَادَةِ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْحَدَثِ طَرْدًا، وَالْعَمَلِ الْيَسِيرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ لَا يُبْطِلُ قَلِيلُهُ الصَّلَاةَ كَالتَّسْبِيحِ فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ " فَمَعْنَاهُ: لَا نُقْصَانَ فِيهَا وَهُوَ إِذَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ فَقَدْ أَزَالَ النُّقْصَانَ مِنْهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ " فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ تَحَرِّيَ الصَّوَابِ يُبَيِّنُ لَهُ يَقِينَ الشَّكِّ، أَوْ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ مَعَ بَقَاءِ الشَّكِّ فأما الْحَدِيثُ الْآخَرُ إِنْ صَحَّ فَكَانَ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَاهُ فَرِوَايَتُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الرُّوَاةِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْمَنُ بِهَذَا النُّقْصَانِ وَيَخَافُ الزِّيَادَةَ، وَرِوَايَتُهُمْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ رِوَايَتُنَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَازِ التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَيُفَارِقُ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْيَقِينِ مُتَعَذَّرٌ، وَفِي أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ فَجَازَ التَّحَرِّي فِيمَا تَعَذَّرَ الْيَقِينُ فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَتَعَذَّرِ الْيَقِينُ فِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلَ وَعَلَامَاتٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لِمَا يُقْضَى مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ دَلَالَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ سَجَدَ سجدتي السهو قبل التسليم وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سجد قبل التسليم " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جَائِزٌ قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْنُونِ وَالْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدِ: أَنَّ الْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: الْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ عَنْ نُقْصَانٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ زِيَادَةٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُهُ مَعَ مَالِكٍ "، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَا حَكَيْنَاهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ " وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا أُخِّرَ فِعْلُهُ عَنْ سَبَبِهِ لِكَيْ يَنُوبَ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْلَى لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَخْلُ هَذَا السَّهْوُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ سُجُودًا ثَانِيًا، أَوْ لَا يَقْتَضِيَ، فَإِنِ اقْتَضَى سُجُودًا ثَانِيًا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِ السهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَبَبُهُ زِيَادَةَ الْكَلَامِ، وَسَجَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عِنْدَمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَبَبَهُ النُّقْصَانُ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ مَحَلِّهِ لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ، فَإِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ اقْتَضَى فِعْلُهُ قَبْلَ السلام لتكمل به الصلاة، وإن كان الزيادة أَوْقَعَهُ بَعْدَ السَّلَامِ لِكَمَالِ الصَّلَاةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليبين عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رُكُوعَهُ، وَيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ " وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن بُحَيْنَةَ الْأَسَدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَرَكَ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، أَوْ قَالَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ قَامَ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا جَلَسَ وَتَشَهَّدَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ " وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ عَنْ سَبَبٍ وَقَعَ فِي صَلَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَلِأَنَّهُ سجود لو فعله في الصلاة، سجد عنه مُوجِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ كَمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ السَّهْوِ كَالطَّهَارَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ لَوَجَبَ إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا قَبْلَ السَّلَامِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَجْلِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ لِلسَّهْوِ وَجُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ جُبْرَانًا لِلشَّيْءِ كَانَ وَاقِعًا فِيهِ وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَالثَّانِي: مُسْتَعْمَلَةٌ فَأَمَّا نَسْخُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَسَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَالثَّانِي: تَأَخُّرُ أَخْبَارِنَا وَتَقَدُّمُ أَخْبَارِهِمْ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ قَدْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَوَيَا سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْأَنْصَارِ، وَأَصَاغِرِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قول سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ السَّهْوَ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ سَلَامِهِ فَأَتَى بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ سَهَا بعده لم يخل حاله من أحد الأمرين: قُلْنَا: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سُجُودٌ وَاقِعٌ عَنِ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهُ يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ، وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ السُّجُودَ الْأَوَّلَ لَا يَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ فِي الْغَالِبِ وَوُقُوعُ السَّهْوِ بَعْدَ السُّجُودِ وَقَبْلَ السَّلَامِ نَادِرٌ فَجَازَ السُّجُودُ لَهُ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَالِكٍ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا نُقْصَانٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَوْ زَادَ عَلَيْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَبْطَلَتْ صَلَاتَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نُقَصَانًا وَجَبَ أَنْ يكون السجود له في الصلاة جبراناً (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ سَجَدَ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ لِلرَّابِعَةِ، وَيَتَشَهَّدُ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَظُنُّهَا رَابِعَةً ثُمَّ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ فِي خَامِسَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ سَوَاءٌ جَلَسَ فِيهَا أَمْ لَا، سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ أَوْ لَمَ يَسْجُدْ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ لَمْ يَسْجُدْ يَجْلِسُ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ عَادَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ وَإِنْ سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَة ِ فَصَلَ اتُهُ بَاطِلَةٌ لِبُطْلَانِ عَمَلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنَ الْخَامِسَةِ، وَإِنْ شَاءَ بَنَى عَلَيْهَا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَسَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى هَذِهِ الرَّكْعَةِ رَكْعَةً ثَانِيَةً يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَقَامَ إِلَى خَامِسَةٍ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ صَارَ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ ومكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 أَصْلُهُ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي نَافِلَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَعِيدٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظُّهْرَ فَسَهَا فَصَلَّاهَا خَمْسًا فَقِيلَ يَا رَسُولَ الله أزيد من الصَّلَاةِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ فَقَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ السَّلَامِ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَسْوَسَ الْقَوْمُ فَقَالَ مَا بَالُكُمْ فَقَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سجدتي السهو وقال: " إنما أن بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ "، فَلَا يَخْلُو حَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ أَنْ يَكُونَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْعُدْ فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فَلَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى كَمَا قَالَ أبو حنيفة: وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْعُدْ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ كَمَا قَالَ أبو حنيفة، فَإِنْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعَادَ صَلَاتَهُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ أَعَادَهَا لَأَمَرَ مَنْ خَلْفَهُ بِالْإِعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً لَمْ يَسْجُدْ لَهَا سُجُودَ السَّهْوِ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجْبُرُ الصَّلَاةَ الْبَاطِلَةَ فَإِنْ قَالُوا فَيَجُوزُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ سُجُودِهِ فِيهَا قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ سُجُودِهِ وَسَلَامِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُكُمْ، وَكَلَّمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ السُّجُودِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا أَصْلُهُ إِذَا ذَكَرَ سَهْوَهُ قَبْلَ سُجُودِهِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَمَنْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ، أَوْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَحَدِهِمَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ صحة صلاته وأن يَعُودُ فِي الرَّابِعَةِ إِلَى جُلُوسِهِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فَإِنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي الرَّابِعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أن يتشهد ويسجد سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَيسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَبْلَ قِيَامِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ بَعْدَ جُلُوسِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ ثُمَّ سُجُودُ السَّهْوِ ثُمَّ السَّلَامُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَا السَّلَامِ أَنْ يَتَعَقَّبَ أَمْرَيْنِ: الْقُعُودُ، وَالتَّشَهُّدُ، فَلَمَّا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْقُعُودِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ لَزِمَهُ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ، بَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، لِأَنَّ أُصُولَ الصَّلَاةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّهْوِ وَتَرَكَ إِعَادَتَهُ كَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا إِذَا صَلَّى نَافِلَةً فَقَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ نَاسِيًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيَجُوزَ أَنْ يُكْمِلَ الثَّالِثَةَ، وَيُسَلِّمَ وَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ سَجَدَ مَعَهُ سُجُودَ السَّهْوِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَمْضِيَ فِي الثَّالِثَةِ وَيَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، أَوْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَاخْتَارَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وقال آخرون: إن كانت صلاة فَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ لَيْلٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الثَّانِيَةِ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَسِيَ الْجُلُوسَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَذَكَرَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَقَبْلَ انْتِصَابِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُلُوسِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ فَإِنَّهُ يَمْضِي " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ ذَكَرَهُ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ انْتِصَابِهِ عَادَ فَأَتَى بِهِ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ انْتِصَابِهِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى الثَّالِثَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا رَجَعَ وَجَلَسَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوَى قَائِمًا لَمْ يَرْجِعْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ "، وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي فَرْضٍ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمَسْنُونٍ وَمَا لَمْ يَعْتَدِلْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي فَرْضٍ فجاز له الرجوع إلى المسنون (فصل) : فإن صح أنه يعود إليه قبل انتصاب وَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ فَانْتَصَبَ قَائِمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِقْدَارَ جَوَازِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ طَوِيلٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِعَمَلِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَنْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَعَادَ إِلَى الْجُلُوسِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهَا، فَلَوِ اتَّبَعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، فَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ذَلِكَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ فَعَادَ إِلَى جُلُوسِهِ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ مَا لَمْ يَنْتَصِبُوا، فَإِنْ كَانُوا قَدِ انْتَصَبُوا فِي الْقِيَامِ قَبْلَ انْتِصَابِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ يَتَقَابَلُ عَلَيْهِمْ فَرْضَانِ فَرْضُ أَنْفُسِهِمْ وَمُتَابَعَةُ إِمَامِهِمْ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ فَرْضِهِمْ لِمُتَابَعَةِ إِمَامِهِمْ وَالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِمْ فِي الْجُلُوسِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ؛ كَمَا لَوْ أَدْرَكُوهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ لَزِمَهُمُ الْجُلُوسُ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِمُ اتِّبَاعٌ لِإِمَامِهِمْ كَذَلِكَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ ومتابعته في الجلوس (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَلَسَ فِي الْأُولَى فَذَكَرَ قَامَ وَبَنَى وعليه سجدتا السَّهْوِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى مُسْتَرِيحًا أَوْ لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَلَسَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ نَاسِيًا يَظُنُّهَا ثَانِيَةً فَلْيَقُمْ إِلَى الثَّالثةِ، وَيَجْلِسْ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، لِأَنَّهُ نَقَلَ سُنَّةً عَلَى الْبَدَنِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْبِنَاءِ وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا أَوْقَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي صَلَاتِهِ وَأَصْلُ ذلك: قصة ذي اليدين (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّهُ ناسٍ لسجدةٍ مِنَ الْأُولَى بَعْدَمَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَلْيَسْجُدْ لِلْأُولَى حَتَّى تَتِمَّ قَبْلَ الثَّانِيَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الَّتِي نَسِيَهَا سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَفْعَالِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " فَإِذَا أَرَادَ السجود فهل يجلس قبل سجوده أما لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَجْلِسَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أَمْ لَا، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالسُّجُودِ عُقَيْبَ الْجُلُوسِ فَإِذَا عَقَّبَ جُلُوسَهُ بِالْقِيَامِ لَمْ يُجْزِهِ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَلَزِمَهُ فِعْلُهُ لِيَكُونَ السُّجُودُ عُقَيْبَهُ كَالسَّعْيِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى عُقَيْبِ الطَّوَافِ، فَلَوْ طَافَ وَصَبَرَ زَمَانًا ثُمَّ أَرَادَ السَّعْيَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الطَّوَافَ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ السَّعْيَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ بَلْ يَنْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْجِلْسَةَ غي مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا أُزِيدَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السجدتين، والقيام فاصل ينهما ونائب عن الجلسة الوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ انْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَلَسَ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ مَقْصُودٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا " فَإِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهُ كَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ وُجُوبِ تَعَقُّبِ السَّجْدَةِ بِالْجُلُوسِ فَفَاسِدٌ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ سَهْوَهُ عَنِ السَّجْدَةِ حَتَّى يَسْجُدَ فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ تُجْزِئُهُ عَنِ الْأُولَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُقَيْبَ جُلُوسٍ وَإِنْ ذَكَرَ فَرَقًا، فَإِنَّ الْفَرَقَ اعْتِذَارٌ بَعْدَ وُجُودِ النَّقْصِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَصَحُّ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَانْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ قِيَامِهِ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا الْجِلْسَةَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَهَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ: لَا تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ فَرِيضَةٌ وجلسة الاستراحة والنفل سنة، والنفل لا تنوب مَنَابَ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً وَسَجَدَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ تَنُبْ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصلاة تبسط على أفعالها، وليس يلزمه تَحْدِيدُ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْهَا، فَإِذَا وَجَدَ الْفِعْلَ عَلَى صِفَةِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهَيْئَتِهِ قَامَ مَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْوَجْهَ فَرَّقَ بَيْنَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ وَبَيْنَ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي أَنَّهَا تَنُوبُ عَنْ جُلُوسِ الْفَرْضِ بِأَنْ قَالَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَارَضٌ، وَالْعَارِضُ لَا يَنُوبُ عَنِ الرَّاتِبِ وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ رَاتِبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الرَّاتِبِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الثَّانِيَةِ أنه نسي سجدة ن الْأُولَى، فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عَمَلٍ، فَإِذَا سَجَدَ فِيهَا كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ، وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ ثُمَّ جَلَسَ فِيهَا مُتَشَهِّدًا وَذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الثانية مُلْغًى كَلَا عَمَلٍ إِلَّا سَجْدَةً يَجْبُرُ بِهَا الْأُولَى، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُلْغِي مَا فعله في الأولى ويكون عمله فيها كل عَمَلٍ لِتَكُونَ الثَّانِيَةُ لَهُ أُولَى، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ قِيَامَهُ إِلَى الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى يبطل ما فعله فيها من قيامه وَرُكُوعٍ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ سُجُودِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَوَجَبَ إِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ فِيهَا مَصْرُوفًا إِلَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى لِبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْهَا فِي قِيَامِهِ وَعَادَ جَالِسًا ثُمَّ سَجَدَ والوجه فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْهَا فِي قِيَامِهِ وَعَادَ جَالِسًا ثُمَّ سَجَدَ. وَالْوَجْهُ الثالث: أنه كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْلِسْ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى المذهب الثالث (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ كُلِّ ركعةٍ فَإِنَّ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إِلَّا سَجْدَةً وَعَمَلُهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عملٍ، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةٍ كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى وَبَطَلَتِ الثَّانِيَةُ وَكَانَتِ الثَّالِثَةُ ثَانِيَةً فلما قدم فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الثَّانِيَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثَالِثَةً كَانَ عَمَلُهُ كَلَا عَمَلٍ فلما سجد فيها سجدة كانت من حكم الثَّانِيَةِ فَتَمَّتِ الثَّانِيَةُ وَبَطَلَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ رَابِعَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ وَقِيَاسِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ رَكْعَةٌ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إلا سجدة، وعلمه فِي الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الْأُولَى فَيَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَعَمَلُهُ فِي الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ إِلَّا سَجْدَةً وَهِيَ فِي التَّقْدِيرِ ثَانِيَةٌ وَعَمَلُهُ فِي الرَّابِعَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ الثَّانِيَةُ فَيَتِمُّ لَهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فَيَصِيرُ لَهُ رَكْعَتَانِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَامَ مَقَامَ تَشَهُّدِهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ وَقَامَ فيأتي الركعتين تَمَامَ صَلَاتِهِ وَتَشَهَّدَ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وَقَالَ أبو حنيفة: يَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ وَيُجْزِئُهُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " قَالَ: وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ إِلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرَ قال: ولأن كلما يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ لَا يُعْتَبَرُ التَّرْتِيبُ فِي فِعْلِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا تَرَكَ صَوْمَ اليوم الأولى مِنْهُ وَصَامَ الثَّانِيَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَوَقَعَ عَنِ الثَّانِي؛ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا عَنِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأُولَى حَتَّى دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَلَّاهَا مَعَهُ وَصَحَّتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ لَهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْأُولَى، كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُ الثَّانِيَةُ مَعَ بَقَاءِ سَجْدَةٍ مِنَ الْأُولَى وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَمَعْنَاهُ: لَا رَكْعَةَ ثَانِيَةً لِمَنْ عَلَيْهِ أُولَى، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ لَهُ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سجدتين، لأنه واقفنا أَنْ يَجْبُرَ سَجْدَتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَرْتِيبٍ إِذَا تَرَكَهُ عَامِدًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَهُ نَاسِيًا أَصْلُهُ إِذَا تَقَدَّمَ الرُّكُوعُ عَلَى السُّجُودِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالسَّهْوِ كَالطَّهَارَةِ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا فَاتَ، وَالَّذِي فَاتَهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَسْقُطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَفَاسِدٌ بِالرُّكُوعِ يَتَكَرَّرُ فِي الرَّكَعَاتِ ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ تَرْتِيبُهُ عَامِدًا لَمْ يَبْطُلْ مَا صَامَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا بَطَلَتْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الرَّكْعَةَ أَوْكَدُ مِنَ السَّجْدَةِ فَمُنْكَسِرٌ بِهِ إِذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ لَهُ أُولَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ (فَصْلٌ) : وَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهَا فَإِنَّهُ يُنْزِلُ ذَلِكَ عَلَى أَسْوَإِ أَحْوَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِ، فَأَحْسَنُ حَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً، فَأَسْوَأُ حَالَتِهِ أَنْ يكون قد تركها من أحد الركعات الثلاث، وإما الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ، أَوِ الثَّالِثَةُ فَتَصِحُّ لَهُ على العبرة المتقدمة ثلاث ركعات فيبني عليه وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ لا يدي كيف تركها، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 من الثالثة سجدة وأتى بالرابعة كملاً فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّالِثَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً؛ فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِالرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَتَيْنِ وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا وَلَمْ يَأْتِ فِي الثَّالِثَةِ بِسُجُودٍ أَصْلًا وَتَرَكَ مِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَةً الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَرُكُوعِ الثَّالِثَةِ مَعَ سَجْدَةٍ مِنْ سَجْدَتَيِ الرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ تَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَغَيْرِهِ فِي الْخَمْسِ وَالسِّتِّ وَمَا زَادَ وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً لُفِّقَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ وَإِنَّمَا احْتُسِبَ لَهُ بِسُجُودِ الرَّابِعَةِ وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَهَا قَاصِدًا بِهَا الْفَرِيضَةَ نَاسِيًا أَنَّهَا رَابِعَةٌ فَلِذَلِكَ مَا حُسِبَتْ لَهُ مِنْ فَرِيضَةٍ وَكَانَتْ عَمَّا تَرَكَهُ بِسَهْوِهِ، وَلَكِنْ لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً وَكَانَ قَدْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ سَجْدَةً لَمْ تَنُبْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ، لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ غَيْرُ رَاتِبَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَنُبْ عَنِ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ فِي صَلَاتِهِ سَجْدَتَيْنِ وَكَانَ قَدْ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لِلسَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ سُنَّةً مَقْصُودَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الْفَرْضِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا؟ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَكَّ هَلْ سَهَا فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا زَائِدًا مِثْلَ كَلَامٍ، أَوْ سَلَامٍ، أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ، أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً أَوْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ؟ فَشَكُّهُ مُطْرَحٌ، وَمَا تَوَهَّمَهُ مِنَ السَّهْوِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ عَلَى يَقِينِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ فِي الطَّلَاقِ، أَوْ فِي الْعِتْقِ طُرِحَ شَكُّهُ، وَبُنِيَ عَلَى الْيَقِينِ أَمْرُهُ كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي السَّهْوِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ جَوَازَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ لِأَجْلِ مَا فَعَلَهُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّكُّ هَلْ أَتَى بِالتَّشَهُّدِ الْأُولَى، أَوْ هَلْ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ؟ أَوْ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا؟ أَوْ هَلْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فَإِنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِي فِعْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُطْرَحًا وَالْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَاجِبٌ، وَالْيَقِينُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَكَّ بِالْإِتْيَانِ بِهِ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَيْقَنَ السَّهْوَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ سَجَدَ للسهو أم لا؟ سجدهما وإن شك هل سجد سجدة أو سجدتين سجد أخرى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَتَى فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ مِثْلُ سَلَامٍ، أَوْ كَلَامٍ، أَوْ تَرْكِ تَشَهُّدٍ أَوْ قُنُوتٍ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا شَكٌّ حَصَلَ في نصان فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهَا (فَصْلٌ) : وَلَوْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ كَأَنْ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَوْ قَامَ سَاهِيًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي حُكْمِ هَذَا السَّهْوِ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ أنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا السَّهْوِ؛ بَلْ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسَلِّمُ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ نَفْسَهُ جُبْرَانٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ كَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ لَمَّا كَانَ جُبْرَانًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ فِي تَأْخِيرِهِ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُبْرَانٍ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَحْدَهُ: يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمُ السَّهْوِ فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ السَّجْدَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي سُجِدَتِ الثَّانِيَةُ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الثَّانِي، وَنَظِيرُهُ الْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا قُرْءٌ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ فَالْقُرْءُ الْأَوَّلُ نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَالثَّانِي نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَصِحُّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا مَعَ فَسَادِ مَا ذَكَرْنَا فَلَا، فَأَمَّا إِذَا سَهَا بعد فراغه من سجود السهو قبل سَلَامِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَقَعْ فِي الْجُبْرَانِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ جُبْرَانِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَكَانَ بِالسَّاهِي قبل سجوده أشبه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا سَجْدَتَا السَّهْوِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَثُرَ سَهْوُهُ فِي صَلَاتِهِ فَسَجْدَتَا السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ سَهْوِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ لِكُلِّ سهو سجدتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَابَتِ السَّجْدَتَانِ عَنْ جَمِيعِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ "، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لَمْ يَتَدَاخَلْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ جُبْرَانُهُ كَالنَّقْصِ الْمَجْبُورِ فِي الْحَجِّ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ نَاسِيًا، وَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، وَمَشَى نَاسِيًا، ثَمَّ سَجَدَ لِكُلِّ ذَلِكَ سَجْدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَمَّا أُخِّرَ عَنْ سَبَبِهِ وَجُعِلَ مَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ نِيَابَتِهِ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَوْ وَجَبَ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لَوَجَبَ أَنْ يُفْعَلَا عُقَيْبَ السَّهْوِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَمَّا تَكَرَّرَ جُعِلَ مَحَلُّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُخَالِفًا لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِي حُكْمِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لِكُلِّ سَهْوٍ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَتَانِ، لِأَنَّ " كُلَّ " لَفْظَةٍ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَسْوِيَةُ الْحُكْمِ بَيْنَ قَلِيلِ السَّهْوِ وَكَثِيرِهِ، وَصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ فِي أَنَّ فِيهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّمَا تَكَرَّرَ جُبْرَانُهُ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الجبر أن الواحد نائباً عَنْ جَمِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُؤَخَّرًا عَنْ سَبَبِهِ كَانَ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهِ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا سَهَا عَنْهُ مِنْ تَكْبِيرٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَوْ ذِكْرٍ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، أَوْ فِي جَهْرٍ فِيمَا يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ، أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يَجْهَرُ فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَمَّا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانَ مَا يَجِبُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَجُمْلَتُهُ ضَرْبَانِ: أحدهما: ما وجب لزيادة، فَمِثْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، أَوْ يَرْكَعَ رُكُوعَيْنِ، أَوْ يَقُومَ إِلَى خَامِسَةٍ أَوْ يَتَشَهَّدَ فِي ثَالِثَةٍ نَاسِيًا فِي كُلِّ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَصْلُهُ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِنُقْصَانٍ فَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ رُكْنًا مفروضاً " قراءة الْفَاتِحَةِ "، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَالْإِحْرَامُ، لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ تَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَسْنُونًا مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ يُمْنَعُ لِمَحَلِّهِ، وَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَالْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في التشهد الأولى فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُنَّةٌ فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهَا سُجُودَ السَّهْوِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَلَا سُجُودَ لِتَرْكِهَا وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ، أَوْ تَبَعًا لِمَحَلٍّ فَأَمَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِمَحَلٍّ، كَالتَّوَجُّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَهَذَا كُلُّهُ تَبَعٌ لِمَحَلِّهِ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَمَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَالِافْتِرَاشِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ، وَالتَّوَرُّكِ فِي الْجُلُوسِ الثَّانِي، وَالْجَهْرِ فِيمَا يُسَرُّ وَالْإِخْفَاءِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَهَذَا كُلُّهُ وَنَظَائِرُهُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي جَمِيعِهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوْجَبَ فِيهَا سُجُودَ السَّهْوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالْجَهْرُ فِيمَا يُسَرُّ، وَالْإِسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ فِي تَرْكِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ رِوَايَةُ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَكَانَ يسمع أحياناً للآية الآيتين " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُسَرُّ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: " فَلَا بَأْسَ إِذًا "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَارَ فِيمَا يُجْهَرُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْقِرَاءَةِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ سُجُودَ السَّهْوِ كَالْمُنْفَرِدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ هُوَ أَنَّهُ تَكْبِيرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ في قراءة السورة هو أنه ذكر مفعول فِي حَالِ الِانْتِصَابِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَوَجَبَ أن لا يلزم فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَمَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَهْوٍ دُونَ سَهْوٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عليه "، فأما قوله الشَّافِعِيِّ: " وَلَا سُجُودَ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ ": أَرَادَ بِهِ لَا سُجُودَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الذِّكْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْبَدَنِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ فِيهِ مِنْ أَجْلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ فإن ذكر قَرِيبًا أَعَادَهَا وَسَلَّمَ وَإِنْ تَطَاوَلَ لَمْ يُعِدْ " قال الماوردي: وأصله هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ عِنْدَنَا سُنَّةٌ وَقَالَ أبو حنيفة: وَاجِبٌ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ دَاوُدُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ سُجُودُ السَّهْوِ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ "، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جُبْرَانُ نَقْصٍ فِي عِبَادَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْحَجِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليبن عَلَى الْيَقِينِ وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتْ تَمَامًا لِصَلَاتِهِ وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ " وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَنُوبُ عَنِ الْمَسْنُونِ دُونَ الْمَفْرُوضِ، وَالْبَدَلُ فِي الْأُصُولِ عَلَى حَكْمِ مُبْدَلِهِ أَوْ أَخَفُّ، فَلَمَّا كَانَ الْمُبْدَلُ مَسْنُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مُسَنُونًا وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ ثَبَتَ فِعْلُهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " فَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ، لَكِنَّ صَرْفَنَا عَنْهُ بِصَرِيحِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ نَفْلًا أما الْحَجُّ فَلَمَّا وَجَبَ جُبْرَانُهُ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ وَاجِبٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ، فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ مَسْنُونًا فَمَحَلُّهُ فِي الِاخْتِيَارِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ فِعْلِهِ عَامِدًا، أَوْ نَاسَيًا ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا سَجَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَسْجُدُهُمَا وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ صَلَاتِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَلِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ أَوْلَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ يَسْجُدُهُمَا، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى جُبْرَانِ الْحَجِّ وَرَكْعَتِيِ الطَّوَافِ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَةَ فِي الْحَجِّ زَمَانُهَا يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ لَمْ تَسْقُطْ بِالتَّأْخِيرِ كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُ سَهْوِهِ خَلْفَ إِمَامِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ضُمَنَاءُ السَّهْوِ؛ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ شَمَّتَ عَاطِسًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فما فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِسَهْوِهِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مَسْنُونٌ، وَالْإِمَامُ قَدْ يَتَحَمَّلُ عَنِ المأموم المسنون ألا ترى أن المأمون لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّى بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَانَتْ لَهُ ثَانِيَةً، ثُمَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّشَهُّدِ وَاتِّبَاعُ إِمَامِهِ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ قَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ التَّشَهُّدَ فَكَذَلِكَ فِي السَّهْوِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا لَمْ يَحْمِلْ عَنْهُ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ ركناً واجباً كان يتحمل السهو أولى (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَهَا إِمَامُهُ سَجَدَ مَعَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَهَا تَعَلَّقَ سَهْوُهُ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَزِمَهُ السُّجُودُ مَعَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا " قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي سُجُودِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهَا فِي صَلَاةٍ فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ سَهْوُهُ بِالْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُلْحِقَهُ سَهْوَ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ بِالِائْتِمَامِ لَزِمَهُ بِالِائْتِمَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَهُ سَاجِدًا، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مَحْمُولَةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ السَّهْوِ لِكَمَالِ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَدْخُلَ النَّقْصُ فِي صَلَاتِهِ بِدُخُولِ النَّقْصِ فِي صَلَاةِ إمامه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ إِمَامُهُ سَجَدَ مِنْ خَلْفِهِ " وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ إِمَّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، فَعَلَى الْمَأْمُومِينَ سُجُودُ السَّهْوِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، وبه قال المزني، وأبو حفص ابن الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِأَنْ قَالَ الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْهُ فِي صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا سَجَدَ تَبَعًا لِإِمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ سَقَطَ حكم الاتباع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْوَكِيلِ بِأَنْ قَالَ: الْمَأْمُومُ قَدْ تَرَكَ الْمَسْنُونَ إِذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ قَامَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ، فَكَذَلِكَ يَتْرُكُ سُجُودَ السَّهْوِ لِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، وَهَذَا خطأ والدليل على خطأه أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فِي إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِ سَهْوِهِ بِكَمَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ الدَّاخِلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَإِذَا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جُبْرَانُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ كَمَا يَلْزَمُهُ جُبْرَانُهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَسْجُدُ مَعَ إِمَامِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ معه لجبران صلاته من النقض الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بها أما قَوْلُ ابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يَتْرُكُ التَّشَهُّدَ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فَكَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ فَرْضٌ، وَالتَّشَهُّدَ نَفْلٌ فَلَمْ يَجُزِ الْفَرْضُ بِالنَّفْلِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاتِّبَاعِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ جُبْرَانِ صَلَاتِهِ تَرْكٌ لِفَرْضِ اتِّبَاعِهِ فَلِذَلِكَ أَتَى بِهِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ إِمَامُهُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَجَدَهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ لَا لِمَا يبقى من صلاته (قال المزني) القياس على أصله أنه إنما أسجد معه ما ليس من فرضي فيما أدركت معه اتباعاً لفعله فإذا لم يفعل سقط عني اتباعه وكل يصلي عن نفسه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ إِمَامٍ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ فَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا السَّهْوُ مُتَعَلِّقًا بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ حِينَ تَمَّمَ صَلَاتَهُ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ قَامَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَأَتَى بِهِ فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يتبع فِي سُجُودِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنْ تَبِعَهُ فَسَجَدَ مَعَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِه ِ فَصَلَ اتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَهُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ، فَإِذَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ سَجَدَ حِينَئِذٍ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ قَدْ سَهَا فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تُجْزِئُهُ عَنْ سَهْوِهِ وَسَهْوِ إِمَامِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ السَّهْوِ يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيْنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ لِسَهْوِ إِمَامِهِ سَجْدَتَيْنِ فَيَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، لِأَنَّهُمَا سَهْوَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْحُدُودِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتْ، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 يَكُونَ تَغَايُرُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِزِيَادَةٍ، وَالْآخَرُ لِنُقْصَانٍ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَدَاخُلِ السَّهْوِ مَعَ التَّغَايُرِ دَلِيلٌ عَلَى تَدَاخُلِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمَأْمُومُ فَقَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لَا يَقْضِي، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ كَأَنْ قَدْ جَبَرَ التَّشَهُّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَأَنَّ جُبْرَانَ السَّهْوِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ لَزِمَهُ بِسَهْوِ إِمَامِهِ، وَمَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمَا فَعَلَهُ خَلْفَ إِمَامِهِ، وَإِنَّمَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَهُ وَقَدْ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَسِبُ لَهُ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَهَا الْمَأْمُومُ فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فإن قيل: لا يعود سُجُودَ السَّهْوِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ سَجْدَتَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَالثَّانِي: سَجْدَتَيْنِ (فَصْلٌ) : وَإِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ فَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ بِالِائْتِمَامِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى رَكْعَةً وَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَهْوُ إِمَامِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ السَّلَامِ سَجَدَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ، فَإِذَا قَامَ مَعَهُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ فِي الْحَالِ وَلَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِحَالٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِصَلَاتِهِ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَهْوِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ قَضَاءِ ما عليه، وإن سجد قبل السلام سجد مَعَهُ ثُمَّ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ، فَأَمَّا إِذَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا فَتَبِعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِسَهْوِهِ أَجْزَأَتِ الْمَأْمُومَ صَلَاتُهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وَلَوْ أَنَّ إِمَامًا مُسَافِرًا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّائِدِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَهُوَ فِي الثَّالِثَةِ عَادَ جَالِسًا وَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِخِلَافِ قِيَامِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ أنه أحدث فيه الإتمام، فإن علموا أنه قام ساهياً غيرنا وإتمام صَلَاتِهِ لَمْ يَتْبَعُوهُ، فَإِنْ تَبِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُسَافِرِينَ فَرْضُهُمْ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ مُقِيمِينَ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ لَوْ قام إلى الخامسة (مسألة) : قال المزني: " سمعت الشافعي رحمه الله يقول إذا كانت سجدتا السهو بعد التسليم تَشَهَّدَ لَهُمَا وَإِذَا كَانَتَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَجْزَأَهُ التشهد الأول (قال الشافعي) فإذا تكلم عامداً بطلت صلاته وإن تكلم ساهياً بنى وسجد للسهو لأن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن رسول الله أنه تكلم بالمدينة ساهياً فبنى وكان ذلك دليلاً على ما روى ابن مسعود من نهيه عن الكلام في الصلاة بمكة لما قدم من أرض الحبشة وذلك قبل الهجرة وأن ذلك على العمد (قال الشافعي) وأحب سجود الشكر ويسجد الراكب إيماء والماشي على الأرض ويرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر ولا يسجد إلا طاهراً (قال المزني) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه رأى نغاشاً فسجد شكراً لله وسجد أبو بكر حين بلغه فتح اليمامة شكراً (قال المزني) النغاش الناقص الخلق " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَجْزَأَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، فَأَمَّا إِنْ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ سُجُودِهِ وَيُسَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا لَمْ يَتَشَهَّدْ وَلَمْ يُسَلِّمْ، بَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا غَيْرَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلم فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْعَصْرِ نَاسِيًا حَتَى أَخْبَرَهُ " الْخِرْبَاقُ " فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ، ثُمَ يُسَلِّمُ، وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ سُجُودِ السَّهْوِ أَنْ يَكُونَ بِتَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِلَهُ بِذَلِكَ إِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 (بَابُ أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ وَيَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ الله الرحمن الرحيم " إن أحسنها ويركع حتى يطمئن راكعاً ويرفع حتى يعتدل قائماً ويسجد حتى يطمئن ساجداً على الجبهة ثم يرفع حتى يعتدل جالساً ثم يسجد الأخرى كما وصفت ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة ويجلس في الرابعة ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويسلم تسليمة يقول: " السلام عليكم " فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته وضيع حظ نفسه فيما ترك " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ ذَكَرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي جُمْلَةِ سُنَنٍ وَهَيْئَاتٍ فَأَحَبَّ إِفْرَادَهَا بِاخْتِصَارٍ وَإِحْصَاءٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالتَّعْرِيفِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَغْفَلَ ذِكْرَ النِّيَّةِ فِي الْفُرُوضِ وَهِيَ الْعُمْدَةُ وَالْمَدَارُ؟ قِيلَ: لِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ أَعْمَالَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُفْعَلُ بِجَوَارِحِ الْبَدَنِ لَا جَارِحَةِ الْقَلْبِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يُجَزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَّةَ مَذْكُورَةٌ فِيمَا أَوْرَدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ، وَلَا يَكُونُ مُحْرِمًا قَطُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ: شَرَائِطُ وَأَفْعَالٌ فَالشَّرَائِطُ مَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَالْأَفْعَالُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ (شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ) فَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَخَمْسَةٌ: الأول: طهارة الأعضاء من نجس وحدث الثاني: ستر العورة بلباس طاهر الثالث: فعل الصلاة على مكان طاهر الرابع: العلم بدخول الوقت الخامس: استقبال القبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وأما أفعال الصلاة وفرائضها خمس عشرة: الأول والثاني: تكبيرة الإحرام مع النية الثالث: القيام الرابع: قراءة الفاتحة يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم الخامس: الركوع السادس: الطمأنينة فيه السابع: الرفع من الركوع الثامن: الاعتدال فيه التاسع: السجود العاشر: الطمأنينة فيه الحادي عشر: الجلسة بين السجدتين الثاني عشر: الطمأنينة فيها الثالث عشر: التشهد الأخير والقعود فيه الرابع عشر: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الخامس عشر: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى، وَمَا سِوَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَسُنَنٌ وَهَيْئَاتٌ، فَمَنْ أَتَى بِهَا فَقَدْ فَعَلَ فَضْلًا وَحَازَ أَجْرًا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ ضَيَّعَ حَظَّ نَفْسِهِ فِي رَغْبَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْفَضْلِ، وَصَلَاتُهُ مجزئة والله تعالى أعلم (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ مَكَانَ أُمِّ الْقُرْآنِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَ أُمِّ الْقُرْآنِ قَرَأَ بِقَدْرِهَا سَبْعَ آيَاتٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا قَرَأَ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ بَدَلًا مِنَ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: سَبْعُ آيَاتٍ مِثْلُ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَأَعْدَادِ حُرُوفِهَا لِيَكُونَ الْبَدَلُ مُسَاوِيًا لِمُبْدَلِهِ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَعْدَادِ الْآيِ وَأَعْدَادِ الْحُرُوفِ، فَلَمَّا لَمَّ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْآيِ لَمْ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْآيِ دُونَ الْحُرُوفِ، فَإِذَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ طِوَالًا كُنَّ أَوْ قِصَارًا أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ آيَةً عَدَدُ حُرُوفِهَا كَعَدَدِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَجُزْ فَعُلِمَ أَنَّ عَدَدَ الْآيِ مُعْتَبَرٌ دُونَ عَدَدِ الْأَحْرُفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِهِمَا جميعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ ثَمَانِيَ آيَاتٍ لِتَكُونَ الْآيَةُ الثَّامِنَةُ بَدَلًا مِنَ السُّورَةِ "، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْكَدُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عِوَضٌ عَنِ الْقُرْآنِ " فَلَمَّا جَعَلَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عِوَضًا عَنِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْقُرْآنَ عِوَضًا عَنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَهَا أَفْضَلُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْرَأُ الْآيَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَيَقْرَأُ مَعَهَا سِتَّ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَدَلٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِذَا لَمْ يُحْسِنْهَا فَوَجَبَ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ بعضها أن يكون بدل مِمَّا يُحْسِنُهُ مِنْهَا (فَصْلٌ) : فَإِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْفَاتِحَةَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَحْمَدَهُ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الذِّكْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ رِفَاعَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لِيُكَبِّرْ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَقْرَأْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَلْيُكَبِّرْهُ، وَلْيَرْكَعْ حَتَى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا " وَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجِدَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي مِنَ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " فَقَالَ: هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي فَقَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ خَيْرًا " فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَعْرَابِيَّ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ وَحُرُوفِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ تَقُومُ مَقَامَ آيَةٍ وَهِيَ خَمْسُ كَلِمَاتٍ تَقُومُ مَقَامَ خَمْسِ آيَاتٍ فَيَأْتِي بِكَلِمَتَيْنِ وَيُجْزِئُهُ، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً من القرآن ففيه وجهان: أحدهما: أن يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ وَالثَّانِي: يَقْرَأُ الْآيَةَ ثُمَّ يُتَمِّمُ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، فَلَوْ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُسَبِّحَ وَيُكَبِّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا تَعْلِيمُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ تَعْلِيمُ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الشَّيْءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَكَذَلِكَ إِذَا قَدَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 عَلَى تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ سَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّعْلِيمِ إِلَى أَنْ تَعَلَّمَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ إِلَى أَنْ تَعَاطَى التَّعْلِيمَ وَأَخَذَ فِيهِ، لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي التَّعْلِيمِ قَدْ أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ التَّفْرِيطِ فَسَقَطَ عَنْهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مَسْأَلَةٌ) : قال: " فَإِنْ تَرَكَ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ حَرْفًا وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ رَجَعَ إِلَيْهِ وَأَتَمَّهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَتَطَاوَلَ ذَلِكَ أعاد " قال الماوردي: وقد مضيت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ وَاسْتَوْفَيْنَا فُرُوعَهَا، فَنَقُولُ: إِذَا تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهَا قَرِيبًا أَعَادَ، وَأَتَى بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ شَكَّ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَوَّلِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَوَّلَ آيَةٍ مِنْهَا، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا وَمَا بَعْدَهَا ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا أَتَى بِمَا تَرَكَ وَصَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إذا نوى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ فِي غَيْرِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى قطعاً وهو يقرأها أَجَزْأَهُ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ النِّيَّةِ مُؤَثِّرًا فِيهَا، فَأَمَّا إذا سكت عنها غير ناوٍ قطع الْقِرَاءَةَ فَإِنْ طَالَ سُكُوتُهُ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ فَأَمَّا تَشْدِيدُ آيات الفاتحة فهي أَرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً فَإِنْ تَرْكَ التَّشْدِيدَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُشَدَّدَةَ تَقُومُ مَقَامَ حَرْفَيْنِ فَإِذَا تَرَكَ التَّشْدِيدَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ حَرْفًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنْ لَوْ شَدَّدَ الْمُخَفَّفَ جَازَ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 (باب طول القراءة وقصرها) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ مَعَ أُمِّ القرآن بطوال الْمُفَصَّلِ وَفِي الظُّهْرِ شَبِيهًا بِقِرَاءَةِ الصُّبْحِ وَفِي العصر نحواً مما يقرؤه فِي الْعِشَاءِ وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْعِشَاءِ بسورة الجمعة و {إذا جاءك المنافقون} وَمَا أَشْبَهَهَا فِي الطُّولِ وَفِي الْمَغْرِبِ بالعاديات وما أشبهها " قال الماوردي: قد ذكرنا أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصبح بطوال المفصل " الطُّورِ " وَ " الذَّارِيَاتِ "، وَ " قَافْ " وَ " الْمُرْسَلَاتِ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فِيهَا بِالْوَاقِعَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ بِسُورَةِ قافٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ وَرَوَى قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِسُورَةِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَعِيسَى أَخَذَ بِرُسْغَيْهِ فَرَكَعَ، لِأَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ مُتَّسِعٌ فَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى سُوَرٍ طِوَالٍ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الظُّهْرُ فَيَقْرَأُ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا هُوَ فِي الصُّبْحِ لَكِنْ دُونَهُ فِي الطُّولِ قَلِيلًا فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى الظهر فسجد فيها، فقدرنا، ترك السجدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَنَحْوَهَا، فَأَمَّا الْعَصْرُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِأَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا يَقْرَأُ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفَى الْعَصْرِ بِأَوْسَطِهَا فَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ بالعاديات، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا أَضْيَقُ الْأَوْقَاتِ فَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ بِقِصَارِ السُّوَرِ فَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَيَخْتَارُ فِيهَا أَوْسَطَ الْمُفَصَّلِ نَحْوَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، {وَإِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ فيها " بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى " وهذا كله على طريق الاختيار وكيف ما قَرَأَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ أَوَاخِرَ السُّوَرِ الطِّوَالِ جَازَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ قَرَأَ جَمِيعَ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 (بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ مِنْ مسجدٍ وغيره) قال الشافعي: رحمه الله تعالى: وَإِذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِقَوْمٍ أَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْعَبَّاسِ " قال المزني " يقول كما لا يجزئ عني فعل إمامي فكذلك لا يفسد علي فساد إمامي ولو كان معناي في إفساده معناه لما جاز أن يحدث فينصرف وأبني ولا أنصرف وقد بطلت إمامته واتباعي له ولم تبطل صلاتي ولا طهارتي بانتقاض طهره " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ جُنُبٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ فَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ كَالْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ مَعَهُ وغلط عَلَيْهِ فَأَلْزَمَهُ حَدَثَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عَمَدَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جُنُبًا فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ وَعَلَى الْإِمَامِ الْإِعَادَةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " وَالضَّمَانُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِّ الْمَضْمُونِ تَعَلُّقًا بِالضَّامِنِ وَالضَّامِنِ تَعَلُّقًا بِالْحَقِّ الْمَضْمُونِ وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا " فَجَعَلَ صَلَاتَهُمْ تَابِعَةً لِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِحَالِهِ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَوْمَأَ إِلَى الْقَوْمِ أَنْ مَكَانَكُمْ ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَصَلَّى بِهِمْ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي صلاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لِلْقَوْمِ امْكُثُوا ثُمَّ رَجَعَ وَاغْتَسَلَ وَجَاءَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَى تَرَوْنِي " وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْوُقُوفِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ لَأَمْرَهُمْ بِالْقُعُودِ فَدَلَّ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُقُوفِ عَلَى تَقْدِيمِ إِحْرَامِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ روى جابرالبياضي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَأَعَادَ وَأَعَادُوا "، قِيلَ هَذَا مَتْرُوكٌ، وَجَابِرٌ الْبَيَاضِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّا نَقَلْنَا صِحَّةَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ مَعَ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا إِمَامٍ سَهَا فَصَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَوْمِ مَاضِيَةٌ وَلْيَغْتَسِلْ هُوَ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ "، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِمَامِ: " إِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَظَرَ إِلَى كِسَائِهِ، وَفِيهِ شيءٌ مِنْ دمٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَرَوَى كثير من الصَّلْتِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذَ بِيَدِي فَخَرَجْنَا نَحْوَ الصَّحْرَاءِ، فَلَمَّا صَارَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ نَظَرَ إِلَى ثَوْبِهِ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِنَّا أَكَلْنَا وَدَكًا فَلَانَتْ مَفَاصِلُنَا فَأَجْنَبْنَا، ثُمَّ غَسَلَهُ وَرَجَعَ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُعِيدُوا وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّهُ هَمَّ بَعْضُهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَمَنَعَهُ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ فَقَالَ: أُرَانِي قَدْ كَبِرْتُ أَحْتَلِمُ وَلَا أَعْلَمُ فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَعْنًى انْفَرَدَ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاةُ غَيْرِهِ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ جُنُبًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ يُوجِبُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَوَجَبَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَأَبْطَلَهَا أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ لِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ، وَفِي إِجْمَاعِهِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَإِنَّ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ بُطْلَانَ طَهَارَةِ الْإِمَامِ لَا تُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِهِ عِنْدَ مُتَابَعَتِهِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ عَلَى طُهْرٍ بِقَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الطُّهْرِ بِرُجُوعِهِ كَالْمَرْأَةِ إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " فَالْمُرَادُ بِهِ ضَمَانُ الْإِمَامَةِ لَا ضَمَانُ الِائْتِمَامِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ " فَإِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ " فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ دَلَالَةٌ لَهُ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " فَالْمُرَادُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ طَهَارَتِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَبَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ كُلِّفَ مَعْرِفَةَ حَالِ الْإِمَامِ فِي كَوْنِهِ رَجُلًا، أَوِ امْرَأَةً لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ مَعْرِفَةَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا وَعَدَمِ إِمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا، أَلَا ترى الحاكم أن الحكم لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ نَفْسَيْنِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُمَا فَاسِقَانِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ، وَلَوْ بَانَ أَنَّهُمَا امْرَأَتَانِ نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِذَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ عَمْدِ الْإِمَامِ وَنِسْيَانِهِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ فَحُكْمُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَى المأمومين، وإن كان إمامه مُحْدِثًا فَبَانَ حَدَثُ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ مَعَ إِمَامِهِمْ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، وَلَهُمُ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَأَنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَيَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِالْإِمَامِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لَهُ لَمْ تَصِحَّ لَهُمْ وَالْوَجْهُ الثاني: تصح لهم الجمعة لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَأَنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لم تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ وَفِي ثَوْبِهِ نجاسةٌ مِنْ دمٍ أَوْ قَيْحٍ وَكَانَ قَلِيلًا مِثْلَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَا يَتَعَافَاهُ النَّاسُ لَمْ يُعِدْ وَإِنْ كان كثيراً أو قليلاً بولاً أو عذرةً أو خمراً وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَعَادَ فِي الوقت وغير الوقت (قال المزني) ولا يعدو من صلى بنجاسةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ أَوْ غَيْرَ مؤدٍّ وليس ذهاب الوقت بمزيلٍ منه فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بموجبٍ عليه إعادة فرضٍ قد أداه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ تَوَقِّي الْأَنْجَاسِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَة ِ فَصَلَ اتُهُ بَاطِلَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا وَأَصَابَ ثِيَابُهُ مِنْ فَرْثِهَا وَدَمِهَا فَقَامَ وَصَلَّى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الثَّوْبِ جَنَابَةٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، اتْلُوا عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذهبنا إليه قوله تعالى " {وثيابك فطهر وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4، 5] وَالرِّجْزُ: النَّجَاسَةُ وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وثيابك فطهر} ففيه تأويلان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 أَحَدُهُمَا: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّ تَأْوِيلَهُ لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى الْغَدْرِ وَالْمَعَاصِي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ غَدَرَ دَنِسَ الثَّوْبِ، وَلِمَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ طَاهِرَ الثَّوْبِ وَقَالَ امْرُؤُ القيس: (ثبا بَنِي عوفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ) وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ كَيْ لا تنجر كبر، أَوْ خُيَلَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَمُبَاحٌ وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ " وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: قَالَهُ الْحَكَمُ، وَمُجَاهِدٌ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " يَعْنِي: عَمَلَهُ الصَّالِحَ، وَالطَّالِحَ وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ: أَنَّ خُلُقَكَ فَحَسِّنْ وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَقَلْبَكَ فَطَهِّرْ قَالَ الشَّاعِرُ: (وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ مِنِّي خليقةٌ ... فُسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثَيَابِكِ تَنْسَلِي) يَعْنِي: قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالْفُقَهَاءُ: أَنَّ مَعْنَاهُ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] مِنَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الثِّيَابِ مَا لُبِسَتْ، وَحَقِيقَةُ الطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ الظَّاهِرُ جَلِيًّا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالثَّانِي: مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْمُشْرِكِينَ من طَهَارَتِهِمْ كَانَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى وَرَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ " وَمَا وَجَبَ الْعَذَابُ مِنْ أَجْلِهِ فَاجْتِنَابُهُ وَاجِبٌ وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في دم الحيض: " حتيه ثم اقرضيه ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ " وَرَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: " اقرضيه واغسليه بِمَاءٍ وسدرٍ " فَدَلَّ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ عَلَى وُجُوبِ إزالته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّجَاسَةُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ وَهُوَ الْغَائِطُ، وَالْبَوْلُ وَالْخَمْرُ، وَمَا لَا يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة: يعني عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ، فَمَا دُوَنَهُ قَالَ: لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُعْفَى عَنْهَا قِيَاسًا عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ الصَّلَاةَ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَكَثِيرِهَا وَإِنْ فَاتَ لَمْ يُعِدْ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ لُمَعًا مِنْ نجاسةٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِتَغْسِلَهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ هُوَ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْهَا أَصْلُهُ مَعَ أبي حنيفة مَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ وَمَعَ مَالِكٍ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ إِذَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فِي الْحَدَثِ فَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عِنْدَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا لِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يقنص مِنْ أَصْلِ حَلَالٍ، وَلَا الْحَلَالُ مِنْ أَصْلِ حَرَامٍ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ مَعْدُولٌ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَيْفَ قَدَّرَهُ أبو حنيفة بِالدِّرْهَمِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي خِلْقَتِهِمْ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْخَبَرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا بَعْدَ زَمَانٍ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ، لأنه يَعْلَمِ النَّجَاسَةَ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْإِعَادَةُ عِنْدَنَا فِي مَثْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ أَفْسَدَ مَذْهَبَهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ، أَوْ غَيْرَ مُؤَدٍّ وَلَيْسَ ذَهَابُ الْوَقْتِ بِمُزِيلٍ عَنْهُ فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بِمُوجِبٍ عَلَيْهِ إِعَادَةَ فَرْضٍ قَدْ أَدَّاهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ النَّجَاسَةِ مَا عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ وَلَمْ يُعْفَ عَنْ كَثِيرِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَاءِ الْقُرُوحِ، وَالْبُثُورِ، وَالْمِدَّةِ إِذَا لَمْ يَخْتَلِطْ كُلُّ ذَلِكَ بِدَمٍ، لِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ، فَأَمَّا سَائِرُ الدِّمَاءِ سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهَا كَالْأَبْوَالِ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا دُونَ كَثِيرِهَا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ دَمِ الْإِنْسَانِ مِنْ فِصَادِهِ، أَوْ حِجَامِهِ، أَوْ رُعَافِهِ، أَوْ جُرْحِهِ وَلَا يُعْفَى عَنْ دَمِ غَيْرِهِ مِنْ بَهِيمَةٍ، أَوْ آدَمِيٍّ فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فَلَا حَدَّ لَهُ إِلَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنَ " الْمَبْسُوطِ " إِذَا كَانَ مَاءُ الْقُرُوحِ لُمْعَةً وَجَبَ إِزَالَتُهُ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِذَا كَانَ كَقَدْرِ الْكَفِّ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بَلْ هُوَ تَقْرِيبٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْقِ وَالْعَادَةِ، فَإِنْ فَحُشَ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ، وَإِنْ قَلَّ عُفِيَ عَنْهُ (فَصْلٌ) : إِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةً فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا بَعْدَ السَّلَامِ فَالصَّلَاةُ مُجْزِئَةٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِاسْتِقْرَارِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ تَقَدُّمَ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا شَاهَدَهَا إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا قَذَرًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِيهَا دَمَ حلمةٍ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ أَشْيَاءَ، كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَبِتَرْكِ أَشْيَاءَ كَالنَّجَاسَةِ، وَالْكَلَامِ، ثُمَّ كَانَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا، أَوْ نِسْيَانًا وَمَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَنِسْيَانِهِ كَالْكَلَامِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمَأْمُورُ بِتَرْكِهَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهَا وَنِسْيَانِهَا كَالْكَلَامِ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ مَعَ الْعَمْدِ، وَتَصِحُّ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا تَرَكَهَا سَاهِيًا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ حَامِلٌ نَجَاسَةً لَوْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ سَاهِيًا لَهَا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 أَصْلُهُ إِذَا تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ثم يسهى عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ على وجهين: أحدهما: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِتَفْرِيطِهِ فِي إِزَالَتِهَا وَالثَّانِي: خَرَّجَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا ولم يجد ما يغسله صلى عريان، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ نَجِسًا كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَعَادَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ: صَلَّى فِيهِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ بَعْضُهُ نَجِسًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وبين أن يصلي عريان وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ: أَنَّهُ مَعْنَى يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَدَاءِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ نَجِسًا أَنْ لَا يَسْقُطَ مَعَهُ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ دَمُ الْبَرَاغِيثِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا نَجِسٌ يَقْتَضِي تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَدَمُ البراغيث لا ينجس جميعه، ولأنه نَجَاسَةٌ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ مَعَهَا أَصْلُهُ: إذا كان ثوب طاهر (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَلَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فيصلي فيه ويجزئه وكذلك إِنَاءَانِ مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسُّ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّحَرِّي وَيُجْزِئُهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْإِنَاءَيْنِ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الثَّوْبَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا طَاهِرًا وَالْآخَرُ نَجِسًا فَجَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة فَإِذَا بَانَ لَهُ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا بِالِاجْتِهَادِ صَلَّى فِيهِ وَأَجْزَأَهُ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ بَلْ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مُجْتَهِدًا بِالشَّكِّ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً مِنْ جُمْلَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا لَمَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِفَرْضِهِ بِيَقِينٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّوْبَيْنِ كَذَلِكَ قَالَ: وَيُفَارِقُ هَذَا الْإِنَاءَيْنِ حَيْثُ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكَانَ حَامِلًا لِنَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ والظاهر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فَجَازَ دُخُولُ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ هُوَ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ قَدْ غَسَلَهُ وَقَوْلُنَا: تُؤَدَّى بِالظَّاهِرِ هُوَ: جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثياب المشركين واليقين في القبلة أن يعانيها، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالْيَقِينُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءِ النَّهْرِ وَالظَّاهِرُ بِمَاءِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَمُنْتَقَضٌ عَلَيْهِ بِجِهَاتِ الْقِبْلَةِ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ إِلَى جَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ بِيَقِينٍ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ لِصَلَاةٍ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وَبَيْنَ الثَّوْبَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا سِوَى فَرْضِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَافِلَةٌ وَفِعْلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ طَاعَةٌ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فِي ثَوْبٍ نجس معصية فافترقا من هذا الوجه والوجه الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنَ الْخَمْسِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا إِلَّا بِقَضَاءِ الْخَمْسِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الثَّوْبَيْنِ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَشَقَّةِ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِذَا تَرَكَ أَحَدَهَا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ خَمْسٍ سَوَاءٌ تَرَكَ صَلَاةً، أَوْ صَلَاتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا وَإِذَا نَالَ الْمَشَقَّةَ فِي إِعَادَةِ الصلاة في الثياب لأنه قَدْ يَكُونُ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فِي جُمْلَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ ثَوْبٍ مَرَّةً لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَلْفَ مَرَّةٍ وَهَذَا أَعْظَمُ مَشَقَّةً (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَرِّي فِي ثَوْبَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الثِّيَابِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَسِ أَوِ النَّجِسُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا صَلَّى فِيهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَالْقِبْلَةِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي مَوْضِعِهَا لَا تَنْتَقِلُ فِي أَحْوَالِهَا وَيَكُونُ مَهَبُّ الشَّمَالِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ، وَمَهَبُّ الْجَنُوبِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ضِدَّهُمَا فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ لِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ وَتَنَقُّلِ أَمَاكِنِهِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاجْتِهَادِ لِتَكُونَ الصَّلَاةُ وَالثَّوْبُ الطَّاهِرُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالنَّجَاسَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ صَلَاتِهِ فِي الثَّوْبَيْنِ ثَانِيَةً فَبَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا صَلَّى فِيهِ وَطَهَارَةُ مَا تَرَكَهُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ قَطْعًا مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ أَعَادَ صَلَاتَهُ الْأُولَى، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَاطِعَ قَاضٍ عَلَى الْعِلْمِ الظَّاهِرِ فَجُوِّزَ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الثَّانِي لِيَقِينِ طَهَارَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ نَجَاسَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ الثَّانِيَ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يصلي عريان، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُصَلِّي فِي الثَّانِي، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ فِي الْإِنَاءَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَعَلَى مَذْهَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الْمُزَنِيِّ: يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ باجتهاد الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ وَكَانَ الشَّكُّ بَاقِيًا فَمَذْهَبُ الشافعي أنه يصلي عريان وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وقد ساعده بعض أصحابنا في هذا الموضع عِنْدَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَجْزَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ (فَصْلٌ) : إِذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مَتْرُوكٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَالْيَقِينِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ الْيَقِينِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَجَدَ إِنَاءَ مَاءٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَتَرْكُ مَاءَ دِجْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةُ دِجْلَةَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، كَذَلِكَ فِي الثَّوْبَيْنِ الْمُشَكِلَيْنِ مَعَ وُجُودِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَتَحَرَّى فِيهِمَا وَغَسَلَ مَا غَلَبَ قَلْبُهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا وَصَلَّى فِيهِمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا طَاهِرٌ بِغَسْلِهِ وَالْآخَرَ طَاهِرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا فَلَمْ يَجُزْ أداء الصلاة فيهما (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ معه ثوب واحداً أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهَا فَعَلَيْهِ غَسْلُهَا، وَلَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الثَّوْبِ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ فِي جَوَازِ طَهَارَتِهِ وَحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اخْتَلَطَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ، وَلَمْ يَسَعْ فِيهِ الاجتهاد، وإذا تميزا وأشكلا ساغ فيهما الِاجْتِهَادُ فَعَلَى هَذَا لَوْ شَقَّ الثَّوْبَ لَمْ يجز له الاجتهاد لجواز أن يصادف الثوب مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَتَحْصُلُ النَّجَاسَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ قَمِيصًا فَعَلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ كُمَّيْهِ فَأَرَادَ الِاجْتِهَادَ بَيْنَهُمَا وَغَسَلَ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ لِأَنَّ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ طَاهِرٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ بِالْغَسْلِ عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ فِي الثَّوْبَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا، فَلَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا يَجُوزُ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن أصاب ثوم المرأة من دم حيضها قرضته بِالْمَاءِ حَتَى تُنَقِّيَهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ حَيْضِهَا فَعَلَيْهَا غَسْلُهُ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دم الحيض، حتيه ثم اقرضيه ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ غَسَلَتْهُ وَأَزَالَتْهُ بِلَا حَتٍّ، وَلَا قَرْضٍ جَازَ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ أمره بالحت والقرض مِنْ صِفَاتِ الْغَسْلِ، وَمُخَالَفَةُ الصِّفَةِ لَا تُبْطِلُ الْحُكْمَ مَعَ وُجُودِ الْإِزَالَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْغَسْلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ: " نَدِّيهِ بِالْمَاءِ وَحُكِّيهِ بِصَلْعٍ، وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " وَلَيْسَ هَذَا شَرْطٌ لَازِمٌ فِي الْغَسْلِ كَذَلِكَ الْحَتُّ وَالْقَرْضُ، فَإِذَا غَسَلَتْهُ بِالْمَاءِ فَزَالَ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ وَرِيحُهُ فَقَدْ طَهُرَ، وَجَازَ لَهَا الصَّلَاةُ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُهُ، أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ فَقَدَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ يَسَارٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن دم الحيض إذا لم يخرج من الثَّوْبِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِبَعْضِ النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا: " لَطِّخِيهِ بِوَرْسٍ "، وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَمَنْ غَلِطَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ مَنْصُوصَ الشَّافِعِيِّ مَعَ السنة والواردة فيه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجوز أن يصلي بثوب الْحَائِضِ وَالثَّوْبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ الرَّجُلُ أَهْلَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا ثَوْبُ الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ فَطَاهِرَانِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: " نَاوِلِينِي الخُمرة فَقَالَتْ: أَنَا حائض فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ " فَأَمَّا ثَوْبُ الْجُنُبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ أَهْلَهُ فَطَاهِرٌ أَيْضًا، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ أَهْلَهُ فِيهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَمَدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ لِيُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 مُصَافَحَتِهِ، وَقَالَ إِنِّي جُنُبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المؤمن ليس بنجس " (مسألة) : قال " وَإِنْ صَلَّى فِي ثَوْبِ نَصْرَانِيٍّ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ قَذَرًا، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ منه " أَمَّا الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى فَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَالطَّهَارَةُ بِمَائِهِمْ، لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ إِنَّمَا هُوَ مُعْتَقَدَاتُ الْقُلُوبِ، وَهُمْ فِي الْأَبْدَانِ سَوَاءٌ، وَالِاعْتِقَادَاتُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَبْوَالَ، فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنْهُ نَصًّا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثِيَابِهِمْ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهَا نَجَاسَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَعْضُ النَّجَاسَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَنَزَّهَ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِمْ وَالصَّلَاةِ فِيهَا كان أولى (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَصْلُ الْأَبْوَالَ وَمَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ حَيٍّ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ نَجِسٌ إِلَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مِنَ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَلَوْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّينَ فَنَجِسٌّ إِجْمَاعًا صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ " وَلَوْلَا أَنَّهُ نَجِسٌ يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُهُ مَا اسْتَحَقَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَيْهِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فقال: اللهم ارحمني ومحمد أو لا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ بَوْلِ الْآدَمِيِّينَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ إِلَّا بَوْلَ الصَّبِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ يُطَهَّرُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا بَوْلُ الصَّبِيَّةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: لَا يَطْهُرُ بولها جَمِيعًا إِلَّا بِالْغَسْلِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُطَهَّرُ بَوْلُهُمَا جَمِيعًا بِالرَّشِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي جَوَازِ الرش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ وَوُجُوبِ غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ " وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَتْ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: لَوْ أَخَذْتَ ثَوْبًا وَأَعْطَيْتَنِي إِزَارَكَ لأغسله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الذَّكَرِ " وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِطِفْلٍ لَهَا لِيُحَنِّكَهُ فَبَالَ فِي حِجْرِهِ فَنَضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَثَبَتَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْلًا وَفِعْلًا بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَغَسْلِ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، ثم الفرق بينهما في المعنى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَوْلَ الْجَارِيَةِ أَحَرُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَمَنِيَّ الْغُلَامِ أَحَرُّ مِنْ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَفَّ الْحُكْمُ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ، وَغَلُظَ فِي بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ وَهُوَ الْمَنِيُّ. وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِمَائِعٍ نَجِسٍ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ الْبَوْلِ عَلَى أَنَّ الْغُلَامَ كَثِيرًا مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ فَكَانَ حُكْمُ بِوْلِهِ أَخَفَّ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَبِينُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيَّةِ " وَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَبِينُ لِي مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْقَ الْمُشَاهَدَةِ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ بَوْلِ الصَّبِيِّ أَبْيَضَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَبَوْلِ الصَّبِيَّةِ بِضِدِّهِ لَا يَبِينُ لي المعنى فيه فَأَمَّا أَبْوَالُ مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ وَأَرْوَاثُهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا وَأَرْوَاثَهَا نجسة بكل حال، وبه قال من الصابة ابن عمر، ومن التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ: أَنَّ أَبْوَالَهَا وَأَرْوَاثَهَا كُلَّهَا طَاهِرَةٌ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وروثه طاهر، وبول ما لا يؤكل لمه وَرَوْثَهُ نَجِسٌ وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا وَأَرْوَاثَهَا نَجِسَةٌ إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ ذَرْقِ الْخُفَّاشِ وَالطَّيْرِ وَغَيْرِهِ فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فإن كان غير مأكول اللحم فهو كالعدرة يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذَرَقَهُ كَالْعَذِرَةِ أَيْضًا يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنه وَقَوْلُهُ: يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّفَاحُشُ، وَقَدْرُ التَّفَاحُشِ رُبْعُ الثَّوْبِ فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ وَسَوَّى أبو يوسف، ومحمد بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاحُشِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْرُ ذَلِكَ الرُّبْعُ، وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ بِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ " وَبِرِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَانْتَفَخَتْ أَجْوَافُهُمْ فَبَعَثَهُمْ إِلَى لِقَاحِ الصَّدَقَةِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طاف بالبيت راكباً على راحلته يومي إِلَى الْبَيْتِ بِمِحْجَنِهِ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الرَّاحِلَةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَامْتَنَعَ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى ذَرْقِ الْحَمَامِ مَعَ كَثْرَتِهِ فَدَلَّ هَذَا الْفِعْلُ عَلَى طَهَارَتِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ عسل النحل من المخرج وليس بنجس، ولأن الأنفخة كَرِشٌ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَنْجِيسِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فَامْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا بِإِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ إِخْرَاجُ طَاهِرٍ مِنْ بَيْنِ نَجِسَيْنِ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ في كبير أما أحدهما يسعى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنَ البول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَبْوَالِ، وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ مِنَ الْآدَمِيِّ فَكَانَ نَجِسًا مِنَ الْبَهَائِمِ أَصْلُهُ: الدَّمُ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ دَمُهُ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَوْلُهُ نَجِسًا كَالْآدَمِيِّ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَرَاوِيهِ أَبُو جَهْمٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا بَأْسَ بِهِ " يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، بَلْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَأَنَّهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَفَائِدَتُهُ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِأَنَّهُ أَنْفَعُ فِي التَّدَاوِي مِنْ بَوْلِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شُرْبِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: جَوَازُ شُرْبِهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهِ قِيلَ: بَاطِلٌ بِالْمَيِّتَةِ، وَأَمَّا طَوَافُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهَا النَّجَاسَةُ، وَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ الْعَاصِ فِي الصَّلَاةِ. وَالطِّفْلُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهِيمَةِ فِي إِرْسَالِ النَّجَاسَةِ عَلَى أَنَّ عَادَةَ الْإِبِلِ أَنَّهَا لَا تُرْسِلُ النَّجَاسَةَ فِي سَيْرِهَا، وَأَمَّا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانُوا كُلَّ الْأُمَّةِ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَالْحَسَنَ يُخَالِفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَخَارِجٌ مِنْ فَمِ النَّحْلِ لَا مِنْ دُبُرِهَا عَلَى أَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ نجس بإجماعنا، وإياهم، وأما الأنفخة فَلَبَنٌ جَامِدٌ، وَلِذَلِكَ حَلَّ أَكْلُهُ وَسَاغَتْ طَهَارَتُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ كَرِشٌ فَأَمَّا جَرَّةُ الْبَعِيرِ الَّتِي يُخْرِجُهَا مِنْ جَوْفِهِ ثُمَّ يَجْتَرُّهَا فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي نجاستها كالقيء سَوَاءٌ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَيَفْرُكُ الْمَنِيَّ فَإِنْ صَلَّى بِهِ وَلَمْ يْفَرُكْهُ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم يصلي فيه " وروي عن ابن عباس أنه قال " أمطه عنه بِإِذْخِرَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ أَوْ مُخَاطٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَنِيُّ نَجِسٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا طُهِّرَ بالفرك وإن كان رطباً نجس بِالْغَسْلِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ وَإِنَّمَا تَنَجَّسَ فِي ظُهُورِهِ بِمُرُورِهِ فِي الذَّكَرِ بِمَرِّ الْأَنْجَاسِ، وَلَا يُطَهَّرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا يُغْسَلُ الْمَنِيُّ وَالدَّمُ وَالْبَوْلُ " فَدَلَّ جَمْعُهُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ عَلَى إِجْمَاعِهِ فِي النَّجَاسَةِ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " اغْسِلِيهِ رَطْبًا، وَافْرُكِيهِ يَابِسًا " وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغَسْلَ فَأَشْبَهَ دَمَ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ فَأَشْبَهَ الْمَذْيَ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ فِي الْأَصْلِ دَمٌ اسْتَحَالَ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا إِلْحَاقًا بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] فَأَطْلَقَ عَلَى الْمَنِيِّ اسْمَ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَرَوَى شَرِيكٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْمَنِيِّ: " أَمِطْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ، أَوْ مُخَاطٍ " فَشَبَّهَهُ بِالْبُصَاقِ الطَّاهِرِ فِي حُكْمِهِ، وَأَمَرَ بِإِمَاطَتِهِ بِالْإِذْخِرَةِ، وَالْأَنْجَاسُ لَا تَطْهُرُ بِالْحَشَائِشِ، فَدَلَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى طَهَارَتِهِ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ " وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ، لِأَنَّ أبا حنيفة يُجِيزُ فَرْكَهُ يَابِسًا وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ "، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ أبا حنيفة يَرَى أَنَّ فَرْكَ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحِتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ " وَهَذَا آخِرُ دَلَالَةٍ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ كل ما لا يجب غسلها يَابِسًا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا أَصْلُهُ: سَائِرُ الطَّاهِرَاتِ، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالطِّينِ، وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْبَيْضِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ك " اللبن " فَإِنْ قِيلَ: الْمَنِيُّ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، قِيلَ: إِذَا اسْتَدْخَلَتِ الْمَاءَ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَحَرَّمَهَا مَا بَقِيَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ إِنْ صَحَّتْ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوْلِ، فالمعنى فيه: كونه نجسا، ووجوب غسل يديه كَوُجُوبِ غَسْلِ رَطْبِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغَسْلِ فَلَيْسَ الدَّمُ مُوجِبًا لِلْغَسْلِ، وَإِنَّمَا انْقِطَاعُ الدَّمِ يُوجِبُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ دَمٌ اسْتَحَالَ فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتَحِيلَ مَنِيًّا كَمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا طَاهِرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] (فَصْلٌ) : فَإِذَا وَضَحَ طَهَارَةُ الْمَنِيِّ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاحِ " عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قَوْلَيْنِ، وَحَكَى الْكَرَابِيسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ، وَكُلُّ هَذَا غَلَطٌ أَوْ وَهْمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، بَلْ صَحَّ بِطَهَارَةِ جَمِيعِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إِلَّا إِنَّا نَسْتَحِبُّ غَسْلَهُ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكَهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا لِلْخَبَرِ فَأَمَّا الْعَلَقَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: طَاهِرَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ مَوْجُودٌ فِيهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ نَجِسًا ثُمَّ يَعُودُ طَاهِرًا كَالْعَصِيرِ إِذَا اشْتَدَّ فَصَارَ خَمْرًا، ثُمَّ انْقَلَبَ فَصَارَ خَلًّا قَالَ: وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ إِذَا صَارَ عَلَقَةً، وَأَمَّا مَنِيِّ مَا سِوَى الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 أَحَدُهَا: أَنَّ مَنِيَّهَا طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنِيَّهَا نَجِسٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا إِذَا مَاتَ بَعْدَ حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فِي حَالِ مَوْتِهِ قَبْلَ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَوَاتِ الْأَوَّلِ كَ " حُكْمِ " الْمَوَاتِ الثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] أَلَا تَرَى ابْنَ آدَمَ لَمَّا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ حَيَاتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنِيَّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ومني ما لا يؤكل لحمه نحس اعتباراً بلبنه (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا ذَكَّى، وَفِي صُوفِهِ وَشَعْرِهِ وَرِيشِهِ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَهُوَ حَيٌّ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي جُلُودِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا كَانَ مُذَكًّى، وَإِنْ لَمْ يدبغ، لأن الزكاة أَبْلَغُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ مِنَ الدِّبَاغَةِ لِتَطْهِيرِهَا جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ الْجِلْدِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي دِبَاغِهِ طَهَارَتَهُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهَا تَنْشِيفُهُ وَامْتِنَاعُ فَسَادِهِ، فَأَمَّا الطَّاهِرُ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ، وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَعَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ عَلَيْهِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضيقة الكمام يعني صوف وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ شُمَّ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَوَائِحُ كَرَوَائِحِ الضَّأْنِ مِنْ لِبَاسِهِمُ الصُّوفَ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِنَفْعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَ " اللَّبَنِ " وَقَوْلُنَا: لِنَفْعِهِ احْتِرَازٌ مما قطع من أعضائه (مسألة) : " ولا تصل مَا انْكَسَرَ مِنْ عَظْمِهِ إِلَّا بِعَظْمِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ذَكِيًّا فَإِنْ رَقَعَهُ بِعَظْمِ مَيْتَةٍ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهِ، فَإِنْ مَاتَ صَارَ مَيِّتًا كُلَّهُ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا انْدِرَتْ سِنُّ إِنْسَانٍ وَانْفَصَلَتْ مِنْ جَسَدِهِ فَذَلِكَ نَجِسٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا سَقَطَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ " فَأَمَّا مَوْضِعُ الْعَظْمِ مِنْ جَسَدِهِ، وَمَوْضِعُ السِّنِّ مِنْ فِيهِ فَطَاهِرٌ بِإِجْمَاعٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ عَظْمَهُ أَوْ يَرُدَّ سِنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِعَظْمٍ طَاهِرٍ قَدْ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بَعْدَ ذَكَاتِهِ، فَأَمَّا بِعَظْمِهِ النَّجِسِ، وَسِنِّهِ النَّجِسِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ النَّجَاسَةِ فِي صَلَاتِهِ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ التَّلَفَ مِنْ قَلْعِهِ، أَوْ زَمَانِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ أُمِرَ بِقَلْعِهِ وَاجِبًا، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ رَكِبَهُ اللَّحْمُ وَتَغْشَّاهُ أَمْ لَا وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: إِنْ رَكِبَهُ اللَّحْمُ لَمْ يُقْلَعْ كَ " شَارِبِ الْخَمْرِ "، لَا يُؤْمَرُ بِاسْتِقَاءِ مَا شَرِبَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ بَلْ عَلَيْهِ قَلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا لَيْسَ به ضرورة إلى تنقيتها، فوجب أن يلزمها إِزَالَتُهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ، وَفَارَقَ شَارِبَ الْخَمْرِ لِحُصُولِ الْخَمْرِ فِي مَعْدِنِ الْأَنْجَاسِ وَمَحَلِّ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعَ اسْتِهْلَاكِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ عَلَى أَنَّنَا نَأْمُرُهُ بِاسْتِقَاءِ الْخَمْرِ اسْتِحْبَابًا، هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَلَفٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، فَأَمَّا إِنْ خَافَ مِنْ فِعْلِهِ تَلَفَ نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِقَلْعِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ تَطْهِيرِ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ حِرَاسَةَ النَّفْسِ وَاجِبٌ وَاسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي مُؤَاخَذٌ بِهَا وَإِنْ تَلِفَ، كَالْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الِابْتِدَاءِ عَظْمًا طَاهِرًا، وَخَافَ التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَصِلْهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَصِلَهُ بِهِ فَوَجَبَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ أَنْ يُقَرَّ عَلَى حَالِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِعْلُ الزِّنَا وَقَتْلُ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُحَلَّانِ فِي ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حَدَّ الزِّنَا، وَالْقِصَاصِ رَدْعٌ لَهُ إِنْ عَاشَ وَزَجْرٌ لِغَيْرِهِ إِنْ مَاتَ وَقَلَعَ مَا وَصَلَ مِنْ نَجَاسَةٍ لِأَجْلِ صَلَاتِهِ وَتَبَلُّغِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ فَكَانَ تَرْكُهُ حَيًّا يُؤَدِّي الصَّلَاةَ حَسَبَ إِمْكَانِهِ أَوْلَى (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ، وَقَلَعَهُ إِذَا أَمِنَ مِنَ التَّلَفِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " صَارَ مَيِّتًا كُلُّهُ وَاللَّهُ حَسْبُهُ " يَعْنِي: يُحَاسِبُهُ عَلَى مَا ضَيَّعَ مِنْ صَلَوَاتِهِ بِالنَّجَاسَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْلَعَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسُقُوطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ لِيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَأَمَّا مَنْ تَحَرَّكَتْ أَسْنَانُهُ وَلَمْ تُفَارِقْ مَوْضِعَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى حَالِهَا أَوْ يَشُدَّهَا بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَيَرْبِطَهَا بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَبَطَ أسنانه بالذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا بِشَعْرِ إِنْسَانٍ وَلَا شَعْرِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِحَالٍ " قَالَ الماوردي: وهذا كما قال (القول في وصل الشعر بشعر نجس) لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ بِحَالٍ، وَسَوَاءٌ فِي النَّهْيِ شُعُورُ الْآدَمِيِّينَ، وَشُعُورُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّعُورِ النَّجِسَةِ لِمَا عَلَى الْمُصَلِّي مِنَ اجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَهَا الْحَصْبَاءُ فَتَمَزَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلْهُ؟ قَالَ: " لَا لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمَوْصُولَةُ " وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْوَاشِرَةَ، والمستوشرة، والنامصة، والمتنمصة، وَالْعَاضِهَةَ، وَالْمُسْتَعْضِهَةَ فَأَمَّا الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ طَاهِرٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَمَةً مَبِيعَةً تَقْصِدُ بِهِ غُرُورَ الْمُشْتَرِي أَوْ حُرَّةٌ تَخْطُبُ الْأَزْوَاجَ تَقْصِدُ بِهِ تَدْلِيسَ نَفْسِهَا عَلَيْهِمْ، فَهَذَا حَرَامٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ " وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِلزِّينَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا أَوْ أَمَةً تَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَيِّدِهَا، فَهَذَا غَيْرُ حَرَامٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِزَوْجِهَا مِنَ الْكُحْلِ وَالْخِضَابِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لعن السلتاء والمهراء "، فَالسَّلْتَاءُ الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ، وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ يُرِيدُ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ كَرَاهَةً لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ زِينَةً لَهُ فَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 صِلَةُ الشَّعْرِ لِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي الزِّينَةِ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ وَأَمَّا الْوَاشِرَةُ، وَالْمُسْتَوْشِرَةُ: هِيَ الَّتِي تَبْرُدُ الْأَسْنَانَ بِحَدِيدَةٍ لِتَجْدِيدِهَا وَزِينَتِهَا وَأَمَّا الْوَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَنْقُشُ بَدَنَهَا وَتَشِمُهُ بِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي غَرْزِ الْإِبَرِ فَيَبْقَى لَوْنَهُ عَلَى الْإِبَرِ وَأَمَّا الْوَشْمُ بِالْحِنَّاءِ وَالْخِضَابِ فَمُبَاحٌ، وَلَيْسَ مِمَّا تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ فَأَمَّا النَّامِصَةُ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ الشَّعْرَ مِنْ حَوْلِ الْحَاجِبَيْنِ وَأَعَالِي الْجَبْهَةِ، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْوَاصِلَةِ، وَالْمُسْتَوْصِلَةِ وَأَمَّا الْعَاضِهَةُ، وَالْمُسْتَعْضِهَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّاسِ قَالَ الشَّاعِرُ: (إِنَّ الْعَيْضَهَةَ لَيْسَتْ فِعْلَ أَحْرَارِ) وَأَمَّا خِضَابُ الشَّعْرِ فَمُبَاحٌ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ ومحظور السواد إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ؛ وَلِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبْغِضٌ لِلشَّيْخِ الْغِرْبِيبِ أَلَا لَا تُغَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ، فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ كَانَ لا محالة فاعلاً فبالحناء والكتم (مسألة) : [القول في تطهير الأرض إذا أصابها نجاسة] قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ بَالَ رَجُلٌ فِي مَسْجِدٍ أَوْ أَرْضٍ يطهر بأن يصب عليه ذنوباً مِنْ مَاءٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وهو " الدلو العظيم " وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ " قال الماوردي: هذا صحيح إذا أصاب الأرض بول صب عَلَيْهِ مَا يَغْمُرُهُ حَتَّى أَزَالَ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ فَقَدْ طَهُرَ الْمَكَانُ وَالْمَاءُ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُن ْفَصِلِ عَنِ الثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا زَالَ عَنْهُ النَّجَاسَةُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ طَاهِرٌ أَيْضًا كَالْأَرْضِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَكَمَ بِتَنْجِيسِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْدَفَعَ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ نَجِسَ الْمَحَلُّ الثَّانِي، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة: كُلُّ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ وَأُزِيلَ بِهَا فَهُوَ نَجِسٌ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ بَوْلٌ لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا بِكَشْطِ مَا أَصَابَ الْبَوْلُ مِنْهَا، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى غَمَرَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا أَنْ يَنْدَفِعَ الْمَاءُ عَنْهَا إِلَى بَحْرٍ، أَوْ نَهْرٍ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ بِكَشْطِ الْمَوْضِعِ وَإِزَالَةِ الْمَكَانِ، وَهَذَا نَصٌّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَجِسَ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَنْجَسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَاءٌ قَلِيلٌ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ تَنْجِيسُهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثَبَتَ تَنْجِيسُ الْمَكَانِ أَيْضًا وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَقَالَ: " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَبِّ الذَّنُوبِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ، وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الماء، فعلم بذلك طهارة ما الفصل عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ الثَّوْبِ نَجِسًا لَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِهِ نَجِسًا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ، وَلَوْ وَجَبَ غَسْلُهُ لَتَعَذَّرَتْ طَهَارَتُهُ لِبَقَاءِ بَلَلِهِ فِي الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى طَهَارَةِ بَلَلِهِ، وَإِذَا كَانَ الْبَلَلُ طَاهِرًا كَانَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ طَاهِرًا، لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ طَاهِرًا وَبَعْضُهُ نَجِسًا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِكَشْطِ الْمَكَانِ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا لِوُرُودِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اطِّرَاحِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالذَّنُوبُ هُوَ: الدَّلْوُ الْكَبِيرُ قَالَ الشَّاعِرُ: (لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ) وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالذَّنُوبِ عَنِ النَّصِيبِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] يَعْنِي: نَصِيبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا غَالِبَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذَّنُوبِ مِنَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ حَدٌّ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ: الذَّنُوبُ حده فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ كُوثِرَ الْبَوْلُ بِدُونِ الذَّنُوبِ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ الذَّنُوبُ حَدًّا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُكَاثَرَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنُصُوصِهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: " وَيُشْبِهُ الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ سَبْعَةَ أَمْثَالِ النَّجَاسَةِ "، وَلَيْسَ سَبْعَةُ أَمْثَالِهَا حَدًّا فِي طَهَارَتِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الذَّنُوبَ لَيْسَ بِحَدٍّ فِي طَهَارَتِهِ هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَةِ الْبَوْلَةِ بِالذَّنُوبِ تُؤَدِّي إِلَى تَطْهِيرِ كَثِيرِ النَّجَاسَةِ بِقَلِيلِ الْمَاءِ وَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ بِكَثِيرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَوْلُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مُمَاثِلًا لِبَوْلِ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَى قَدْرِ نَجَاسَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمَاءِ فِي طَهَارَتِهَا، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْحُكْمِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُغْسَلِ الْبَوْلُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ، وَزَالَتْ رَائِحَتُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فَنَجَاسَةُ الْأَرْضِ بَاقِيَةٌ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ طَهُرَتِ الْأَرْضُ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ هُوَ أَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطُولِ الْمُكْثِ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَالْبِسَاطِ أَنَّ الْأَرْضَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا تَجْذِبُ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ إِلَى قَرَارِهَا فَيُطَهَّرُ ظَاهِرُهَا، وَلَيْسَ لِلثَّوْبِ قَرَارٌ تَنْزِلُ إِلَيْهِ نَدَاوَةُ النَّجَاسَةِ قِيلَ: هَذَا يَفْسُدُ بِالْبِسَاطِ النَّجِسِ إِذَا جَفَّ وَجْهُهُ وَنَزَلَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى أَسْفَلِهِ هُوَ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْأَرْضِ فِيهِ مَوْجُودًا، وَلِأَنَّهُ تُرَابٌ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَرُبَ عَهْدُ نَجَاسَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ نَجِسَةٌ لِنُزُولِ النَّجَاسَةِ إِلَيْهَا وَبِإِثَارَةِ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ تَصِلُ إِلَيْهَا قُلْنَا: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا إِذَا كَشَطَ وَجْهَ الْأَرْضِ وَأَخَذَ أَعْلَى التُّرَابِ أَنْ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ وَتَسْوِيَةِ الْحَالِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْخَمْرُ فِي الْأَرْضِ كَالْبَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ رِيحُهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْخَمْرُ فَنَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعَدَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِخَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعُدُّ لِخَلْقِهِ نَجِسًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَالْأَرْجَاسُ: أَنْجَاسٌ إِلَّا مَا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالسَّمْنِ الذَّائِبِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقْتَضِي طَهَارَةَ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَعَهُ فِي طَهَارَتِهَا وَنَجَاسَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ فِي الدُّنْيَا نَجِسَةً وَيَقْلِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُغَيِّرُ حُكْمَهَا، فَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ الْخَمْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَمَتَى أَصَابَتِ الْأَرْضَ فَقَدْ نَجِسَتْ فَإِنْ كَشَطَ الطَّبَقَةَ الَّتِي لَاقَاهَا الْخَمْرُ فَقَدْ طَهَّرَ الْمَكَانَ أَيْضًا، وَإِنْ زَالَ رِيحُهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَالْمَكَانُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ بَقَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِهِ، فَلَوْ ذَهَبَ لَوْنُهُ وَبَقِيَ رِيحُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرِ الْغَاسِلِ لِغَسْلِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ أُعِيدَ غَسْلُهُ زَالَتِ الرَّائِحَةُ فَالْمَكَانُ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ مِنْ غير تقصير الْغَسْلِ فَفِي طَهَارَةِ الْمَكَانِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " فَجَعَلَ الرَّائِحَةَ كَاللَّوْنِ فِي التَّنْجِيسِ لِلْمَاءِ كَذَلِكَ رَائِحَةُ الْخَمْرِ كَلَوْنِهِ فِي تَنْجِيسِ الْأَرْضِ بِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمَكَانَ طَاهِرٌ مَعَ بَقَاءِ الرَّائِحَةِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ ذَكِيُّ الرِّيحِ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضًا تَعَدَّى رِيحُهُ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِ فِيمَا جَاوَرَهُ وَاتَّصَلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ فِيهِ؛ فَصَارَ ذَلِكَ كَ " الْمَيْتَةِ " عَلَى حَافَّةِ بِئْرٍ طَالَ مُكْثُهَا، وَرَاحَ الْمَاءُ بِهَا لتعدي رائحتها، فلما كان الماء طاهر، أو تَغَيَّرَ رِيحُهُ، لِأَنَّ التَّغْيِيرَ بِمُجَاوَرَةِ الْمَيْتَةِ وَتَعَدِّي الرَّائِحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ رِيحِ الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَحَلِّ وَكَانَ اللَّوْنُ مُفَارِقًا لَهُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا جَاوَرَهُ وَالرَّائِحَةَ مُتَعَدِّيَةٌ فَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ [فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ حَتَّى تَزُولَ الرَّائِحَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ لِأَنَّ حُكْمَ النجاسة فيها أخف لكونها معتدية لِلْأَنْجَاسِ وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ] لَا تَتَعَدَّى إِلَى الثَّوْبِ إِلَّا بِحُلُولِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ لِبُعْدِهِ منه فَشَابَهُ لَوْنُ الْخَمْرِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْإِنَاءُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ فَلَمْ تَزُلْ بِالْغَسْلِ فَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْأَرْضِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَطْهُرُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَكَثْرَةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَرْضِ سَوَاءٌ فَأَمَّا النَّيْلُ وَالْحِنَّاءُ إِذَا بُلَّا بِبَوْلٍ وَخُضِبَ بِهِ الْيَدُ أَوْ ثَوْبٌ، ثُمَّ غُسِلَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا لَوْنُهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَتُهُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ، وَالنَّجَاسَةَ لَا تُخَالِطُ الْعَرَضَ، وَإِنَّمَا تُخَالِطُ الْعَيْنَ فَإِذَا زَالَتِ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ زَالَتِ النَّجَاسَةُ بزوال محلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ أَوْ إِلَى جَنْبِهِ وَلَمْ يَنْبِشْ أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَقْبَرَةِ، أَوْ عَلَى قَبْرٍ مَكْرُوهَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُجْعَلَ الْقُبُورُ مَحَارِيبَ فَإِنْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَحَقَّقَ نَبْشُهُ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: جَائِزَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ "، وَلِأَنَّ تُرَابَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ إِذَا نُبِشَ رَمِيمُ الْمَيِّتِ، فَلَوْ قِيلَ فَالْمَيِّتُ عِنْدَكُمْ طَاهِرٌ، قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَمَا فِي جَوْفِهِ لَيْسَ بِطَاهِرٍ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُنْبَشْ فَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على قبر سكينة وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ طَاهِرَةٌ فَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَا يُعْلَمُ هَلْ نُبِشَ أَمْ لَا، وَالشَّكُّ فِيهِ مُحْتَمَلٌ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا النَّبْشُ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَبْشِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَكَانِ وَالنَّبْشُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَرِضَ شَكُّ النَّجَاسَةِ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ (فَصْلٌ) : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَجْزَرَةِ وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَالْمَجْزَرَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 أَحَدُهُمَا: خَوْفُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ دَاخِلَ الْحَمَّامِ مَحَلُّ الْأَقْذَارِ، وَالْمَجْزَرَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ كَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فِي التَّقْسِيمِ وَالْجَوَازِ سِيَّمَا إِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ الْمَكَانِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ [مَعَ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ شَكَّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَهْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ لِأَجْلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَفِي الْمَجْزَرَةِ خَوْفُ نُفُورِ الذَّبَائِحِ فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ لِأَجْلِ النَّهْيِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ ما لم يعلم يقين النجاسة فأما نهينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِيذَاءُ الْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ وَإِيذَاءُ الْمُصَلَّى بِهِمْ، وَقِلَّةُ خُشُوعِهِ بِاجْتِيَازِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ جَائِزَةٌ مَعَ مَا فِيهَا من الكراهة (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا خَالَطَ التُّرَابَ مِنْ نَجِسٍ لَا تُنَشِّفُهُ الأرض إنما يتفرق فيه فلا يطهره إلا الماء " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ النَّجَاسَةِ ضَرْبَانِ مَائِعَةٌ كَالْبَوْلِ، وَالْخَمْرِ، وَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْضِ مِنْهَا وَمُسْتَجْسِدَةٌ، وَهِيَ كُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ وَجَسَدٍ مُشَاهَدٍ كَالْمَيْتَةِ، وَالْعَذْرَةِ، وَالْعَظْمِ النَّجِسِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الدَّمُ، لِأَنَّهُ يَجْمُدُ فَيَسْتَجْسِدُ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أُزِيلَ عَنْهَا وَالْأَرْضُ طَاهِرَةٌ، وَلَمْ يُغْسَلِ الْمَكَانُ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا أُزِيلَ عَنْهَا وَغُسِلَ الْمَكَانُ بِمِثْلِ مَا يُغْسَلُ بِهِ الْبَوْلُ مِنَ الْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ فَإِنْ غُسِلَ الْمَكَانُ قَبْلَ إِزَالَةِ النجاسة لم يطهر وإن كانت النَّجَاسَةُ مُخْتَلِطَةً بِالتُّرَابِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِاخْتِلَاطِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ بِهِ وَإِنَّمَا تُطَهَّرُ بِأَحَدِ الأمرين إِمَّا بِقَلْعِ التُّرَابِ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَهَابُ جَمِيعِهَا وَظُهُورُ مَا لَمْ يُلَاقِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَالثَّانِي: أَنْ يُطَيِّنَ الْمَكَانَ بِمَا يَمْنَعُ مَسِيسَ النَّجَاسَةِ وَمُلَاقَاتِهَا، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ طَهُرَ ظَاهِرُ الْمَكَانِ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأَكْرَهُهَا " كَأَنَّهُ جَعَلَهَا كَالْمَقْبَرَةِ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَمْ تُنْبَشْ (فَصْلٌ) : وَإِذَا نَجِسَ مَوْضِعٌ مِنَ الْأَرْضِ فَأَشْكَلَ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ فَضَاءٍ صَلَّى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ بَيْتَيْهِ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِيهِمَا كَالثَّوْبَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهَا مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالصَّحْرَاءِ يُصَلِّي فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَجَاسَتِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ غَسْلِ جَمِيعِهِ قَالُوا: كَمَنِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ فِي عَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ يَسِيرٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّزْوِيجُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ مِنْهُنَّ جَازَ لَهُ التَّزْوِيجُ بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أُخْتُهُ، وَكَانَ هَذَا مِثَالَ الْأَرْضِ إِذَا اتسعت، أو ضاقت (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا ضَرَبَ لَبِنًا فِيهِ نَجَاسَةُ بولٍ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ مِنَ الْبَوْلِ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ شَيْئًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا نُجِّسَ التُّرَابُ بِبَوْلٍ، أَوْ خَمْرٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ، ثُمَّ ضَرَبَهُ لَبِنًا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ لَا يُطَهَّرُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْمَاءِ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَقْهَرْهُ وَلَا يَغْلِبْ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَفَّ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ الأمرين، إِمَّا أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِ بِسَاطًا طَاهِرًا وَإِلَّا بِأَنْ يُرِيقَ عَلَيْهِ مَاءً يُكَاثِرُهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ غَمَرَ ظَاهِرَ النَّجَاسَةِ فَيَطْهُرُ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَهُوَ حَامِلُهُ لِنَجَاسَةٍ بَاطِنَةٍ وَالطَّرِيقُ إِلَى طَهَارَةِ بَاطِنِةِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَتَمَاتَّ فِيهِ وَيَغْلِبَ الْمَاءُ عَلَى أَجْزَاءِ نَجَاسَتِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ لَبِنًا فَيَطْهُرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً، وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَجْسِدَةً كَالرَّوْثِ، وَالْعَذْرَةِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَتِهِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ طُبِخَ آجُرًّا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُهُ وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِذَا ضُرِبَ اللَّبِنُ، وَفِيهِ الرَّوْثُ ثُمَّ طُبِخَ بِالنَّارِ طَهُرَ، لِأَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ الرَّوْثَ وَيَبْقَى الطِّينُ فَيَصِيرُ خَزَفًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ فَقَالَ: " إِذَا ضَاقَ الشَّيْءُ اتَّسَعَ " وَلَيْسَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّهَارَةَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَطْهُرْ ذَلِكَ بِالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي طَهَارَةِ الْأَنْجَاسِ، وَلَيْسَ وَإِنْ أَكَلَتِ النَّارُ مَا فِيهِ مِنَ الرَّوْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، لِأَنَّ التُّرَابَ قَدْ نَجِسَ بِمُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ الروث بالنار المحروقة لَهُ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ التُّرَابِ الْحَادِثَةُ عَنْ مُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِالطَّهَارَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ فُرِشَ الْمَسْجِدُ بِلَبِنٍ مَضْرُوبٍ بِبَوْلٍ أَوْ نَجَاسَةٍ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُصَلًّى عَلَى نَجَاسَةٍ، وَلَوْ بَنَى بِهِ حَائِطًا فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى إِلَيْهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كرهنا ذلك كله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْبِسَاطُ كَالْأَرْضِ، فَإِنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ طَاهِرٍ وَالْبَاقِي نَجِسٌ لَمْ تَسْقُطْ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَجْزَأَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا صَلَّى بساط على بَعْضُهُ طَاهِرٌ، وَبَعْضُهُ نَجِسٌ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ وَلَمْ يُمَاسِّ النَّجَاسَةَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصَلٍّ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَلَا بِحَامِلٍ لَهَا فَشَابَهَ مَنْ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْ أَرْضٍ نَجِسَةٍ وَقَالَ أبو حنيفة: وَإِنْ كَانَ الْبِسَاطُ مُتَحَرِّكًا بِحَرَكَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ سُكُونِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّتِهَا مَعَ حَرَكَتِهِ كَالْبِسَاطِ الطَّاهِرِ، وَلِأَنَّهَا حَرَكَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا طَاهِرًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا نَجِسًا كَالسَّرِيرِ، وَالسَّفِينَةِ فَأَمَّا إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَيْهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَيْهِ نَجَاسَتُهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِسَاطِ وَالثَّوْبِ أَنَّهُ حامل للثوب فصار حاملاً لنجاسته؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ يَتْبَعُهُ وَيَنْجَرُّ مَعَهُ، والبساط لا يتبعه ولا وَلَا يَنْجَرُّ مَعَهُ (فَصْلٌ) : لَا بُدَّ لِلْمُصَلِّي مِنْ طَهَارَةِ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَعْضَائِهِ وَثِيَابِهِ، فَإِنْ أَصَابَ فِي صَلَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ مَوْضِعًا نَجِسًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: فَإِنْ كان الموضع الذي يحازي صَدْرَهُ نَجِسًا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ وَلَا ثَوْبُهُ إِذَا هَوَى فِي صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَقَالَ أبو حنيفة: فِي رِوَايَةِ محمد عَنْهُ: تَفْتَقِرُ الصَّلَاةُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ وَالْجَبْهَةِ حَسْبُ وَلَا يَضُرُّ نَجَاسَةُ مَا يُلَاقِيهِ بَاقِي الْجَسَدِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أبي يوسف عَنْهُ: يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ دُونَ جَبْهَتِهِ وَسَائِرِ بَدَنِهِ فَجَعَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ جَسَدِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ عَلَى نَجَاسَةٍ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَالْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْقَدَمَيْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْكَفَّيْنِ كَالنَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتَهُ كَالْقَدَمَيْنِ، وَإِذَا صَلَّى وَمَعَهُ عَلَاقَةُ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ أَجَزَأْتُهُ صَلَاتُهُ كالبساط، وإن كانت بيده، أو مشدودة بيده فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اختياراً يتصرف بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى نَجَاسَةٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ فِي صَلَاتِهِ رِبَاطَ مَيْتَةٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ أخذ بيده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 أَوْ رَبَطَهُ بِيَدَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْكَلْبِ الَّذِي لَهُ اخْتِيَارٌ يَنْصَرِفُ بِهِ، فَلَوْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ وَكَانَتْ صَغِيرَةً تَنْصَرِفُ بِإِرَادَتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ أَمْسَكَ رِبَاطَ مَيْتَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا نَظَرَ فِي رِبَاطِهَا، فَإِنْ كَانَ مُلْقًى عَلَى النَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ طَرَفُ رِبَاطِهَا مَشْدُودًا بِمَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْهَا فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: جَائِزَةٌ (فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُسْتَقْذَرِ في الصلاة) إِذَا حَمَلَ فِي صَلَاتِهِ طَائِرًا، أَوْ حَيَوَانًا طَاهِرًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُهَا مَضْمُومًا أَوْ كَانَ ضَمًّا ضَعِيفًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهَا مَضْمُومًا ضَمًّا وَثِيقًا بِرَصَاصٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ حَمَلَ طَائِرًا مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِيهِ نَجَاسَةً مُسْتَبْطِنَةً فَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، وَهَذَا غَلَطٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نَجَاسَةَ الطَّيْرِ فِي مَعِدَتِهَا فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي وَنَجَاسَةُ الْقَارُورَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ الظاهرة (مسألة: القول في دخول الجنب المسجد) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَمُرَّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ مَارًّا، وَلَا يُقِيمُ فِيهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تغتسلوا} قَالَ: وَذَلِكَ عِنْدِي مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ مَارًّا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ لَا مُقِيمًا، وَلَا مَارًّا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لَا لِجُنُبٍ، وَلَا لِحَائِضٍ " قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ كَالْحَائِضِ، وَمَنْ عَلَى رِجْلِهِ نَجَاسَةٌ، وَلِأَنَّهُ جُنُبٌ حَلَّ مَسْجِدًا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يَعْنِي: بِالصَّلَاةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] وَالصَّلَاةُ لَا تُهْدَمُ وَإِنَّمَا يُهْدَمُ مَكَانُهَا، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَيْهِ كَانَ النَّهْيُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] وَالْعُبُورُ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعُبُورُ عَلَى مَكَانِهَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وَلَا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ {إِلا عَابِرِي سبيل} فَاسْتَثْنَى الِاجْتِيَازَ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] مُسَافِرًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي فَيُحْمَلُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَآخِرُهَا عَلَى الِائْتِمَارِ، وَأَنْتُمْ حَمَلْتُمْ آخِرَ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَوَّلَهَا عَلَى الْمَجَازِ فَيَسْتَوِي التَّأْوِيلَانِ، وَيَتَقَابَلَان، وَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهَ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْنَا: إِذَا تَقَابَلَ التَّأْوِيلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ وَاحْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ، فَتَأْوِيلُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا حَمَلُوا إِضْمَارَ الصَّلَاةِ عَلَى فِعْلِهَا لَمْ يَسْتَفِيدُوا بِالْآيَةِ إِلَّا إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ الْمُتَيَمِّمِ، وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ إِذَا تَيَمَّمَ مُسْتَفَادٌ بِآيَةٍ أُخْرَى، وَحَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا جنباً} الْجُنُبُ الَّذِي لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ وهو المستثنى منه، ويجب أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] الْمُرَادُ بِهِ جُنُبًا لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، لِأَنَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا أَوْلَى بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ التَّرْجِيحِ فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَهَذَا مِمَّا لَا يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُصَلِّي قِيلَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكِرَ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ إِذَا دَخَلَهُ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ أَطْفَالَكُمْ وَمَحَارِيبَكُمْ "، لِأَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ الْبَوْلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي رُبَّمَا نَجَّسَ الْمَسْجِدَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ ثُمَّ الدَّلِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ طريق المعنى: وهو أَنَّهُ مُكَلَّفٌ آمَنُ مِنْهُ تَنْجِيسَ الْمَسْجِدِ فَجَازَ لَهُ الْعُبُورُ فِيهِ كَالْمُحْدِثِ، وَهَذَا خَيْرُ قِيَاسٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَوْلُنَا: مُكَلَّفٌ احْتِرَازٌ مِنَ الصِّغَارِ، والمجانين وقولنا: من منه تنجيس المسجد احترازاً مِنَ الْحَائِضِ، وَصَاحِبِ النَّجَاسَةِ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 بالحديث فضعيف، لأن رواية ابْنُ خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْأَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَامِ وَاللُّبْثِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ وَصَاحِبِ النجاسة فمنتقص بِمَنِ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ إِجْمَاعًا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ: مَا يَخَافُ على المسجد التي هي من الجنب ما مؤنة. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَمْرَ الِاجْتِيَازِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ أَمْرِ الْمُقَامِ بِدَلِيلِ الْمُحْتَلِمِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُدَّ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا إِلَى الْأَصْلِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إنما أريد به القرية وَالْجُنُبُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ أَفْعَالُ الْقُرْبِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الذِّكْرُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ وَالْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَضٍ أَوْ لِحَاجَةٍ، وَالْجُنُبُ فِيهِمَا كالمحدث فاستويا في حكم الاجتياز (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره ممر الحائض فيه " (القول في دخول الحائض المسجد) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مُقَامُ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ وَلُبْثُهَا فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أُحِلُّهُ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ " فَأَمَّا مُرُورُهَا فِيهِ وَعُبُورُهَا مِنْهُ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهَا إِنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ لِغَلَبَةِ دَمِهَا وَسَيَلَانِهِ وَضَعْفِ شِدَادِهَا وَاسْتِرْخَائِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْعُبُورُ فِيهِ، وَإِنْ أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ لِضَعْفِهِ وَقُوَّةِ شِدَادِهِ جَازَ لَهَا الْعُبُورُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ كَالْجُنُبِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْحَائِضُ بِتَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِمَا يُخَافُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا، فَإِذَا أَمِنَتْهُ زَالَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهُ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ فِيهَا وَيَمْنَعُونَهَا مِنَ اجْتِيَازِهَا، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ على ما ذكرناه مِنَ التَّفْصِيلِ فِي اعْتِبَارِهَا حَالَهَا، لِأَنَّ الْحِجَاجَ يَقْتَضِيهِ مَعَ تَصْرِيحٍ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِهِ (دُخُولُ المستحاضة المسجد) فأما المستحاضة إذ أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ جَازَ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ والمقام فيه كالمحدث، وإن لم يأمن مِنْ سَيَلَانِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالِاجْتِيَازِ خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ لِإِرْسَالِهِمُ النَّجَاسَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَأَطْفَالَكُمْ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 (دخول المشرك المسجد) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ الْمُشْرِكُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (قال المزني) فإذا بات فيه المشرك فالمسلم الجنب أولى أن يجلس فيه ويبيت وأحب إعظام المسجد عن أن يبيت فيه المشرك أو يقعد فيه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ وَقَبُولِ حُرِّيَّتِهِمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا بِإِذْنِنَا إِلَّا الْحَرَمَ، وَمَسَاجِدَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُهُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ لَا الْحَرَمُ وَلَا غَيْرَهُ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة: يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ كُلِّهَا فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فَسَقَطَ بِصَرِيحِ الْآيَةِ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وأبو حنيفة أَجَازَهُ لَهُمْ، وَسَقَطَ بِدَلِيلِهَا قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ خَصَّ مَنْعَهُمْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَعْنِي: الْحَرَمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَرَمِ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهِ، وَلَيْسَ نَصُّهُ عَلَى الْحَرَمِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَنَصَّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثقيفٍ فِي الْمَسْجِدِ " وَرُوِيَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَدْيِ أَسْرَاهُمْ أَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: فَكُنْتُ فِيهِمْ حَيْثُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَدَّ ثُمَامَةَ بْنَ أثالٍ عَلَى ساريةٍ مِنْ سواري المسجد " فأما المزني فإن مَنَعَ الْمُشْرِكَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ بكل قال: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُ لَكَانَ الْجُنُبُ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِهِ لِمَوْضِعِ حُرْمَتِهِ وَتَشْرِيفِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ الْمَبِيتُ فِيهِ كَانَ الْمُشْرِكُ أولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْوَارِدُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا} [النساء: 43] وقال تعالى: {وإن أحداً مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَفَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْمُشْرِكِ الَّذِي هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَجْلِهِ يُرْجَى زَوَالُهُ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمُقَامِهِ فِيهِ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَظُهُورَ حُجَّتِهِ فَرُبَّمَا أَسْلَمَ مِنْ شِرْكِهِ وَلَا يُرْجَى لِمُقَامِ الْجُنُبِ فِيهِ زَوَالُ جَنَابَتِهِ وَارْتِفَاعُ حَدَثِهِ إِلَّا بِالْغُسْلِ والمساجد لم تبن للغسل، وإنما بنت لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ (الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمُرَاحِ الْغَنَمِ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ اخْتِيَارٌ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فإنها جنٌّ من جنٍّ خلقت " وكما قال حين ناموا عن الصلاة " أخرجوا بنا من هذا الوادي فإن به شيطاناً " فكره قربه لا لنجاسة الإبل لا موضعاً فيه شيطانٌ وقد مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيطانٌ فخنقه ولم تفسد عليه صلاته ومراح الغنم الذي تجوز فيه الصلاة الذي لا بول فيه ولا بعر والعطن موضع قرب البئر الذي يتنحى إليه الإبل ليرد غيرها الماء لا المراح الذي تبيت فيه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَأَبَاحَ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ فَأَمَّا الْعَطَنُ، فَهُوَ: مَوْضِعٌ يَكُونُ قَرِيبَ الْبِئْرِ تَنَحَّى إِلَيْهِ الْإِبِلُ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَاءِ لِتَرِدَ غَيْرُهَا وَأَمَّا مَرَاحُ الْغَنَمِ فَهُوَ: مَوْضِعٌ عَالٍ يَقْرُبُ مِنَ الْغَنَمِ يَأْوِي إِلَيْهِ الرَّاعِي لِحِرَاسَتِهَا وَمَنَعَ الْوَحْشَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَطَنُ وَالْمُرَاحُ قَدْ نَجِسَا بِالْبَوْلِ وَالْبَعْرِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ فَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْعَطَنِ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي الْمُرَاحِ مُبَاحَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ فصلوها فَإِنَّهَا سكينةٌ وبركةٌ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَاخْرُجُوا ثُمَّ صَلُّوا فَإِنَّهَا جنٌّ مِنْ جنٍّ خُلِقَتْ أَلَا تَرَوْنَهَا كَيْفَ تَشْمَخُ بِأَنْفِهَا إِذَا نَفَرَتْ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ الْإِبِلَ بِهَا، وَلَيْسَ مَرَاحُ الْغَنَمِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخير أَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَعْطَانِ تُعَرِّي عَنِ الْخُشُوعِ لِمَا يَخْشَى الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نُفُورِ الْإِبِلِ وَلَيْسَ للغنم نفور فيخافه المصلي فيسقط به خشوعه، ألا تراه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ قَوْمًا بِالْإِبِلِ فَذَمَّهُمْ وَشَبَّهَ آخَرِينَ بِالْغَنَمِ فَمَدَحَهُمْ، وَقَالَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْغَنَمِ لينٌ مَشْيُهَا لَا تُؤْذِي مَنْ جَاوَرَهَا " وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ لَيْسَتْ عَلَى اسْتِوَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ بَلْ يُرْتَادُ لَهَا الرَّفْعُ وَالْوَسَخُ وَالْمَكَانُ الْحَزَزُ، لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَلَا يُرْتَادُ لِلْغَنَمِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَجْلَسَهَا تُرْبَةً وَأَعْلَاهَا بُقْعَةً، وَأَسَوَاهَا مَوْضِعًا، وَأَلْطَفَهَا مَرْبَعًا، لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا فِيهِ وَلَا تُنْجِبُ إِلَّا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهَا وَهَلَّا أَوْجَبَ النَّهْيُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ فِيهَا؟ قِيلَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالشَّيَاطِينِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد مر به في صلاة شَيْطَانٌ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 (بَابُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ ويجوز فيها الفريضة والقضاء والجنازة وغيرها) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحْمَدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " وعن أبي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ذلك وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة " وعن الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فارقها " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الصلاة في تلك الساعات وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة وعن جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ منافٍ مَنْ وَلِيَ منكم من أمر النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا البيت أو صلى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نهارٍ " (قال الشافعي) وبهذا أقول والنهي عن الصلاة في هذه الأوقات عن التطوع إلا يوم الجمعة للتهجير حتى يخرج الإمام فأما صلاة فرضٍ أو جنازةٍ أو مأمورٍ بها مؤكدةٍ وإن لم تكن فرضاً أو كان يصليها فأغفلها فتصلى في هذه الأوقات بالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قوله: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " وبأنه عليه السلام رأى قيساً يصلي بعد الصبح فقال ما هاتان الركعتان؟ قال ركعتا الفجر فلم ينكره وبأنه عليه السلام صلى ركعتين بعد العصر فسألته عنهما أم سلمة فقال: " هما ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد " وثبت عنه عليه السلام أنه قال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " فأحب فضل الدوام وصلى الناس على جنائزهم بعد العصر وبعد الصبح فلا يجوز أن يكون نهيه عن الصلاة في الساعات التي نهى فيها عنها إلا على ما وصفت والنهي فيما سوى ذلك ثابت إلا بمكة وليس من هذه الأحاديث شيء مختلفٌ (قال المزني) قلت أنا هذا خلاف قوله فيمن نسي ركعتي الفجر حتى صلى الظهر والوتر حتى صلى الصبح أنه لا يعيد والذي قبل هذا أولى بقوله وأشبه عندي بأصله " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، مِنْهَا: وَقْتَانِ نَهَى عَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ، وَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ، فَهُمَا بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَبَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ العصر إذا دخل فالتنقل فِيهِ جَائِزٌ مَا لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ فَإِذَا صلى العصر منع من التنقل بعدها والدلالة على النهي على الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ الجندعي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشَّمْسُ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ صَلَّى أَحَدُهُمَا الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ الْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يَتَنَفَّلَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ صَلَّى أَنْ يَتَنَفَّلَ فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلْفِعْلِ لَا لِلْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مَوْجُودٌ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ وَهُوَ غير ممنوع من التنقل وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَهِيَ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشمس إلى أن ترفع وَتَنْبَسِطَ، وَإِذَا اسْتَوَتْ لِلزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَزُولَ، وَإِذَا دَنَتْ إِلَى الْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، وَإِذَا اسْتَوَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَرَوَى عَامِرُ بْنُ عُقْبَةَ الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الصلاة من ثلاثة أوقاتٍ وأن تدفن فِيهِنَّ مَوْتَانَا، حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَزُولَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلُهُ: حِينَ تَضَيَّفُ مَالَتْ لِلْمَغِيبِ، وَقَدْ سُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا، لِأَنَّهُ مَالَ إِلَيْكَ وَنَزَلَ عَلَيْكَ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ قِيلَ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَبَعْدَ الْعَصْرِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لِأَجْلِ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجْلِسُ فِيهَا لِمَعَالِمِ دِينِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا يَنْقَطِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ فَنَهَاهُمْ عَنْهَا وَعِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ " وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ لِلشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَرْنُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَجُوسِ، وَغَيْرِهِمْ وَالثَّانِي: جُنْدُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ يَصْرِفُهُمْ فِي أَعْمَالِهِ وَيُنْهِضُهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَيَبْرُزُ بِبُرُوزِهَا وَعِنْدَ قِيَامِهَا، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِيُظْهِرَ مَكْرَهُ ومكائده فيكون كل من يسجد لها سجد لَهُ، وَالْقَرْنُ: عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، فَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَعْضُ الْبُلْدَانِ دُونَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ دُونَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَقَالَ أبو حنيفة: مَكَّةُ فِي النَّهْيِ كَغَيْرِهَا لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهَا مِنَ النَّهْيِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا بِمَكَّةَ وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ " فَإِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ مَكَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ: إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَجَوَازِ فِعْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دُونَ سَائِرِ النَّوَافِلِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَوَازِ فِعْلِ النَّوَافِلِ كُلِّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِعُمُومِ التَّخْصِيصِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفُوا فِي تَنَفُّلِ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا قِيلَ: حِرَاسَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا مِنْ أَنْ يَخْتَطِفَهَا شَيْطَانٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَطْرَافِ الْحَرَمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ " وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ وَانْتِصَافِ النَّهَارِ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ التَّنَفُّلِ فِيهِ دُونَ بَاقِي الْأَوْقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالصَّلَاةِ يَطْرُدُ عَنْهُ النَّوْمَ الْمُفْضِيَ إِلَى نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ فَهِيَ صَلَاةُ نَافِلَةٍ ابْتَدَأَ بِهَا الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَالْمَسْنُونَاتِ فَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْفَائِتَةِ، وَالْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، والعيدين، والاستسقاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وَقَالَ أبو حنيفة: الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ فِيهَا صَلَاةُ فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَأَمَّا صُبْحُ يَوْمِهِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا فِعْلُ النَّوَافِلِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَسْبَابٌ، أَمْ لَا، وَتَجُوزُ فِيهِمَا الْفَرِيضَةُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ فِي الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الصُّنَابِحِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مُنِعَ مِنْ نَوَافِلِ عِبَادَةٍ مُنِعَ مِنْ فَرَائِضِهَا قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ الْفَرْضِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا "، وَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ قَابَلُوا هَذَا الْخَبَرَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ "، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وَقَالُوا: خَبَرُكُمْ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَخَاصٌّ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَخَبَرُنَا عَامٌّ فِي الصَّلَوَاتِ، خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ فَتَسَاوَى الْخَبَرَانِ قُلْنَا: خَبَرُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَنَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ، وَعُمُومُ خَبَرِكُمْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ، وَالْفَرَائِضُ كُلُّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذكرناه ما روي عن قيس بن قهد قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّبْحَ، فَلَمَّا فَرَغْنَا قُمْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ؟ فَقُلْتُ: رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ " وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ؟ فَقَالَ: " رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فشغلني عنهما الوفد من تَمِيمٍ فَنَسِيتُهُمَا " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ فَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ " وَهَذَا نَصٌّ بَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لها سبب فحاز فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَصْلُهُ عَصْرُ يَوْمِهِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَعُمُومِهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي لَا أَسْبَابَ لَهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ تَأْخِيرَهَا وَإِيقَاعَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَعْمِدُوا بِالصَّلَاةِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَغُرُوبَهَا " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَمُنْتَقَضٌ بِشَهْرِ رَمَضَانَ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ الْفَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ النَّفْلِ، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِعَصْرِ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْعَقِدُ فِيهِمَا بِحَالٍ، وَقَدْ تَنْعَقِدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْضُ الصَّلَوَاتِ إِجْمَاعًا وَهِيَ عَصْرُ يَوْمِهِ وَسَائِرُ الْفَرَائِضِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْفَصْلِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهِمَا وَنُوَضِّحُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ فِي اعْتِرَاضِهِ عِنْدَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثم قضى وإن ذكر خارج الصلاة بَدَأَ بِهَا فَإِنْ خَافَ فَوْتَ وَقْتِ الَّتِي حضرت بدأ بها ثم قضى. (قال المزني) قال أصحابنا يقول الشافعي التطوع وجهان. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَكُسُوفِ الشمس والقمر والاستسقاء وصلاة منفرد وصلاة بعضها أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ ثُمَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ومن ترك واحدة منهما أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل وقالوا إن فاته الوتر حتى تقام الصبح لم يقض وإن فاتته رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وإن لم أوجبهما (وقال) إن فاته الوتر لم يقض وإن فاته ركعتا الفجر حتى تقام صلاة الظهر لم يقض وقالوا فأما صلاة فريضة أو جنازة أو مأمور بها مؤكدة وإن لم تكن فرضاً أو كان يصليها فأغفلها فليصل في الأوقات التي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قوله: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " وبأنه عليه السلام رأى قيساً يصلي بعد الصبح فقال: " ما هاتان الركعتان "؟ فقال: ركعتا الفجر فلم ينكره وبأنه صلى ركعتين بعد العصر فسألته عنهما أم سلمة فقال: " هما ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد " وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " وأحب فضل الدوام (قال المزني) يقال لهم فإذا سويتم في القضاء بين التطوع الذي ليس بأوكد وبين الفرض لدوام التطوع الذي ليس بأوكد فلم أبيتم قضاء الوتر الذي هو أوكد ثم ركعتي الفجر اللتين تليان في التأكيد اللتين هنا أوكد؟ أفتقضون الذي ليس بأوكد ولا تقضون الذي هو أوكد؟ وهذا من القول غير مشكل وبالله التوفيق ومن احتجاجكم قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قضاء التطوع: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " فقد خالفتم ما احتججتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 به في هذا فإن قالوا فيكون القضاء على القرب لا على البعد قيل لهم لو كان كذلك لكان ينبغي على معنى ما قلتم أن لا يقضي ركعتي الفجر نصف النهار لبعد قضائهما من طلوع الفجر وأنتم تقولون يقضي ما لم يصل الظهر وهذا متباعد وكان ينبغي أن تقولوا إن صلى الصبح عند الفجر أن له أن يقضي الوتر لأن وقتها إلى الفجر أقرب لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصبح فليوتر " فهذا قريب من الوقت وأنتم لا تقولونه وفي ذلك إبطال ما اعتللتم به " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْفَوَائِتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْقَضَاءِ، وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فَائِتَةً وَهُوَ فِي فَرْضِ وَقْتِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ وَيَقْضِيَ مَا فَاتَهُ، وَدَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِهِ بِمَا لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ إِلَى إِعَادَتِهِ وبالله التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 (باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان) قال الشافعي رضي الله عنه: " الْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْفَصْلُ الْخِلَافَ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ وَاجِبٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذَا غَيْرُ أبي حنيفة وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ بِرِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ " وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ حَافِظُوا عَلَيْهَا " قَالُوا: وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أحدهما: إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوَارِدُ مِنْ جِهَتِهِ وَاجِبٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ تُضَافُ إِلَى شَيْءٍ مَحْصُورٍ، وَالنَّوَافِلَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا " قَالُوا: فَنَفَى تَارِكَ الْوِتْرِ عَنِ الْمِلَّةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِيَسْتَحِقَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِتَرْكِهِ وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ " وَهَذَا أَمْرٌ وَبِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلَفْظُهُ على لفضه وجوب وبرواية فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: " الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ وِتْرٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالْمَغْرِبِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، فَلَوْ كَانَتِ الْوِتْرُ وَاجِبَةً لَكَانَتْ سِتًّا، وَالسِّتُّ لَا تَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وُسْطَى فَعُلِمَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مَا الْإِسْلَامُ قَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ "، وَلَمْ يَقُلْ سِتٌّ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا " فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ غَيْرِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ النفي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ " وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا " فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِهِ مُفْلِحًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ هَلْ تَجِبُ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَعَمَّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ النَّاسِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ الْمُخْدِجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى بِأَبِي مُحَمَّدٍ يَقُولُ إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ قَالَ الْمُخْدِجِيُّ: فَوَجَدْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فَقَالَ: كَذَبَ أَبُوِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " خَمْسٌ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَتْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ قَالَ لَمَّا عَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فُرِضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلْ رَبَّكَ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ: فَتَرَدَّدْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ وَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي إِلَّا أَنِّي قَدْ مَضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي وَجَعَلْتُ لَهُمْ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَمْثَالَهَا: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُتِبَ عَلَيَّ الْوِتْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وَكُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَةُ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْأَذَانُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْكَافَّةِ ابْتِدَاءً بِأَصْلِ الشرع قياساً عَلَى سَائِرِ النَّوَافِلِ، وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ ضَرْبَانِ فَرْضٌ، وَنَفْلٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي جِنْسِ الْفَرْضِ وِتْرٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِ النَّفْلِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِهِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ سُنَنِهَا أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا قِيَاسًا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَلَا يَفْسُقُ تَارِكُهَا، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ تَوَانَى عَنْهَا فَكَانَتْ بِالنَّوَافِلِ أَشْبَهَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَنْ جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا بِصَلَاةِ النَّفْلِ كَمَا أَمَرَنَا بِالْوَاجِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زَادَكُمْ " فَهُوَ دَلِيلُنَا، لِأَنَّهُ زَادَ لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَقَوْلُهُمُ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَحْصُورٍ فَيُقَالُ لَهُمُ النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ: مُؤَكَّدَةٌ، وَغَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، فَالْمُؤَكَّدَةُ مَحْصُورَةُ الْقَدْرِ، كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالنَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا عَلَى أَنَّ مِنْ أَصِلِهِمْ أَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فَرْضًا تُزَادُ عَلَى الْوَظَائِفِ، وَلَا نَفْلًا تُزَادُ عَلَى النَّوَافِلِ فَسَقَطَ مِنْ حَيْثُ أَوْرَدُوهُ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا " فَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ تَارِكَ الْوِتْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا عَنِ الْمِلَّةِ فَاحْتَجْنَا وَإِيَّاهُمْ إِلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَنَحْنُ أَقْدَرُ عَلَى تَأْوِيلِهِ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُوتِرْ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ، فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فعله واستحبابه والثاني: أن في تخصيص أَهْلِ الْقُرْآنِ بِهِ وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ، وَلَا لِقَوْمِكَ " دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً وَنَدْبًا وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ مَسْنُونٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا أَذَانٌ وإقامة، ثم يقال لأبي حنيفة: ما تعم الْبَلْوَى بِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَصْلِكَ بِالْقِيَاسِ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ مَعَكَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلِمَ أَثْبَتَّ وُجُوبَهُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ أَصْلِكَ فَإِنْ ذَكَرَ جَوَابًا كَانَ تَوْقِيفًا وَاعْتِذَارًا تَفْصَحُهُ السِّيَرُ - والله أعلم - (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدَةٍ وَبَعْضُهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ، ثُمَّ ركعنا الْفَجْرِ، وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ أُوجِبْهُمَا، وَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ تَرْكِ جَمِيعِ النَّوَافِلِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ فَالْفَرْضُ: خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَحَدَهُنَّ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ غَيْرَ جَاحِدٍ فَقَدْ فَسَقَ فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ خَمْسُ صلوات العيدان، والخسوفان، الاستسقاء وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا، وَهُوَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَالسُّنَنُ الْمُوَظَّفَاتُ مَعَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَأَمَّا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ آكَدُ، وَأَفْضَلُ مِمَّا سُنَّ مُنْفَرِدًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَرَائِضُ ضَرْبَيْنِ، ضَرْبٌ فُرِضَ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ، وَضَرْبٌ لَمْ يُفْرَضْ فِي جَمَاعَةٍ وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ فِي جَمَاعَةٍ وَضَرْبٌ لَمْ يُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ وَجَدْنَا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَفْرُوضِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمَسْنُونِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجُمُعَةُ أَدَاؤُهَا جَمَاعَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَائِهَا فُرَادَى وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَمْ تُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ وَآكَدُ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهَا، وَظُهُورِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا فِي الْفَضْلِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْكَدَ مِنْ بَعْضٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوَكْدَ مِنْ بَعْضٍ لِاسْتِوَاءِ أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِعْلِهِ لَهَا وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فعلى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 أَوْكَدُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهَا وَقْتًا رَاتِبًا فِي السَّنَةِ مُعَيَّنًا فِي الْيَوْمِ فَشَابَهَتِ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ يَلِيهَا فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ، ثُمَّ خُسُوفِ الْقَمَرِ لِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِمَا، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ فِعْلُهَا مُنْفَرِدًا، فَأَوْكَدُهَا صَلَاتَانِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَفِي أَوْكَدِهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنَ الْوِتْرِ وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ الْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " فَكَانَ ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ أَفْضَلُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَثَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَتْرُكُوهَا وَلَوْ دَهَمْتُمُ الْخَيْلَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْوَادِي خَرَجَ مِنْهُ فَابْتَدَأَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَقَدَّمَهَا عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ. فَدَلَّ عَلَى تَأْكِيدِهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا فِي حَيِّزِ الْفَرْضِ فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَحْصُورَةٌ بالعدد لا يزاد عليها ولا ينقض مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَوْكَدَ مِنَ الْوِتْرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَتْبَعُ الصُّبْحَ، وَالْوِتْرَ يَتْبَعُ الْعِشَاءَ، وَالصُّبْحُ أَوْكَدُ مِنَ الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعُهَا أَوْكَدَ مِنْ مَتْبُوعِ الْعِشَاءِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوِتْرَ أَوْكَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة عَلَى وُجُوبِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمَةِ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ مُجْمَعٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْكَدَ فَمَنْ قَالَ بالقول الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 انْفَصَلَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَوَيَا عَلَى أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا فِيهِ قَوْلًا فلم يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهٌ، وَانْفَصَلَ عَنِ التَّرْجِيحِ بِالِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا، فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ عَلَيْنَا بِمَذْهَبِ غَيْرِنَا (فَصْلٌ) : فَإِذَا أَوْضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْقَوْلَيْنِ، فَصَلَاةُ الْوِتْرِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " فَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ هِيَ الْوِتْرُ نَفْسُهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ غَيْرُ الْوِتْرِ وَهِيَ صَلَاةٌ يُصَلِّيهَا الْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ وِرْدًا لَهُ وَأَصْلُ التَّهَجُّدِ فِي اللِّسَانِ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا نِمْتَ قَالَ لَبِيدٌ: (قَدْ هَجَدْنَا فَقَدْ طَالَ السُّرَى ... وَقَدَرْنَا إِنْ خَنَا الدَّهْرُ غَفَلْ) وَيُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا سَهِرْتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَالتَّهَجُّدُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ يَكُونُ النَّاسُ فِيهِ نِيَامًا، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَلْ تَكُونُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ أَوْكَدُ، لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْفَرَائِضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ الَّتِي لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضٍ قَطُّ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " مَعْنَاهُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتْبَعُ الْوِتْرَ فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنْ صَلَاةِ التَّهَجُّدِ لِمَا تَقَدَّمَ وَالدَّلِيلُ فِي تَأْكِيدِهَا عَلَى الْوِتْرِ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْوِتْرَ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، فَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ قبل العشاء، وركعتين بعدها (فصل: القول في صلاة الضحى) وَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ فَعَلَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَى بِهِ السَّلَفُ فِيهَا وَرُوِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَأَكْثَرَ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَرُوِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 أَنَّ آخِرَ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويختار أن يصليها ثمان رَكَعَاتٍ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ إِذَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ رُبُعُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَيَقُولُ: " هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ " وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنَ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُصَلُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْغَفْلَةِ أَيِّ النَّاسُ غَفَلُوا عَنْهَا وَتَشَاغَلُوا بِالْعَشَاءِ وَالنَّوْمِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَارٌ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " فَيُخْتَارُ فَضْلُ الدَّوَامِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُعِينٌ (الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لَمْ يَقْضِ " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " قال الماوردي: وهذا صحيح. أما إذا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيُصَلِّيهَا وَتَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَأَمَّا إِذَا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَنَقَلَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عُمُومُهُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ يَقْضِي ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ " لَا يُقْضِي بِجَوَابَيْنِ ": أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ أَوْجَبَ قَضَاءَ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِعَادَةَ الصُّبْحِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُمَا: الْأَوَّلُ: إِيجَابُ الْوِتْرِ والثاني: إيجاب تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَقْضِي " يَعْنِي: وَاجِبًا، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَقْضِي وَلَوْ بَعْدَ نَوْمٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةَ وِتْرٍ، وَرَكْعَتَيْ فَجْرٍ فَهَذَا جَوَابٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَضَاءِ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا مِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ " وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَصَرَفَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجْلِ هَذَا، وَأَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِالْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّفْلِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيِ الصُّبْحِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْضَى وَوَجْهُهُ: أَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُفْعَلُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَقْتِ، أَوْ لِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ أَوْ تَبَعًا لِفِعْلِ فَرِيضَةٍ، وَالْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِالْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وَقْتَيْهِمَا قَدْ فَاتَا وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالذِّمَّةِ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَلَيْسَ يُفْعَلَانِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ، لِأَنَّ مَتْبُوعَهَا قَدْ سَقَطَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُفْعَلَانِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُقْضَى وَهُوَ الصَّحِيحُ وَوَجْهُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا وَقْتٌ رَاتِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ فَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِذَا أَكْمَلَ فَرْضَهُ رَكَعَهُمَا وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْكَعْهُمَا قَبْلَ فَرْضِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَأَمَّا إِذَا قِيلَ لَا يَقْضِي فَهَلْ يَسْقُطُ فِعْلُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى أَوْ بِدُخُولِ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ وَالثَّانِي: بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي الْوِتْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ الْوِتْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " وَفِي ذَلِكَ دلالتان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَافِلَ مَثْنَى مَثْنَى بِسَلَامٍ مَقْطُوعَةٍ والمكتوبة موصولة والأخرى أن الوتر واحدة فيصلي النافلة مثنى مثنى قائماً وقاعداً إذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 مقيماً وإن كان مسافراً فحيث توجهت به دابته كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الوتر على راحلته أينما توجهت به " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ (الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ) الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، يَقْطَعُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، بِسَلَامٍ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ مَا بَعْدَهُمَا بِإِحْرَامٍ وَأَيَّ عَدَدٍ صَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا يُكْرَهُ وَقَالَ أبو حنيفة: الْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أربعاً بسلام وأكده أَنْ يَزِيدَ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَفِي الليل على ثماني تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ إِلَّا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ "، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِنْ خَشِيَ أحدكم الصبح فليوتر بواحدة قَبْلَهَا " وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى " فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى: أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ مَثْنَى، قِيلَ: لَا يَكُونُ مَثْنَى إِلَّا بِسَلَامٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعُ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى سَلَامٍ وَإِحْرَامٍ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ الْمَسْنُونَةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدَ، وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّوَافِلِ أَفْضَلَهَا رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَلِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَالِبِ الْفَرَائِضِ وبينها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهَا تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَقْلُ فِعْلٍ قَدْ رَوَيْنَا مَا يُعَارِضُهُ، مَعَ قَوْلٍ يعاضده فكان ما ذهبنا إليه أولى (فصل: القول في فعل النافلة قاعداً) فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام فجائز، ولو صلاها قائماً فكان أَوْلَى، وَلَوْ صَلَّاهَا قَائِمًا مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ جَازَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْقَاعِدِ فِي الْأَجْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ "، وَهَذَا وَارِدٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الْفَرْضِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا حَسْبَ طَاقَتِهِ كَانَ كَالْمُصَلِّي قَاعِدًا فِي التَّمَامِ والأجر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ عَمَلًا فَعَجَزَ عَنْهُ عِنْدَ مَرَضِهِ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكًا يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ مَا تَرَكَ مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ "، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ النَّوَافِلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ لِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثَةٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " أَمَّا الْأَصْلُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ انْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَصَلَّوْا مُتَفَرِّقِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ عَلِمْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرْتُ لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ " وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْمَعُ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ، وَالْعَشْرَ الثَّانِيَ وَيَتَخَلَّى لِنَفْسِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ، إِلَى أَنْ قَرَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 سَمِعُوا قِرَاءَةً طَيِّبَةً تَبِعُوا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلْتُمُ الْقُرْآنَ أَغَانِيَ فَجَمَعَهُمْ إِلَى أبي فصارت ستة قَائِمَةً، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَئِمَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ سُنَّةٍ سَنَّهَا إِمَامٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ فَالَّذِي أَخْتَارُ عِشْرُونَ رَكْعَةً خَمْسُ ترويحات كل ترويحة شفعين كل شفع ركعتين بِسَلَامٍ ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ النَّاسُ بِمَكَّةَ قال الشَّافِعِيُّ: " وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً بسبع ترويحات، ويوثرون بِثَلَاثٍ " وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَهْلَ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَزَادُوا فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا تَرْوِيحَةً طَافُوا سَبْعًا إِلَّا التَّرْوِيحَةَ الْخَامِسَةَ فَإِنَّهُمْ يُوتِرُونَ بَعْدَهَا، وَلَا يَطُوفُونَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ وَأَرْبَعُ طَوَافَاتٍ، فَلَمَّا لم يكن أَهْلَ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي الطَّوَافِ الْأَرْبَعِ، وَقَدْ سَاوَوْهُمْ فِي التَّرْوِيحَاتِ الْخَمْسِ جَعَلُوا مَكَانَ أَرْبَعِ طَوَافَاتٍ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ زَوَائِدَ فَصَارَ لَهُمْ تِسْعُ تَرْوِيحَاتٍ تَكُونُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً لِتَكُونَ صَلَاتُهُمْ مُسَاوِيَةً لِصَلَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَطَوَافِهِمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ لَهُ تِسْعُ أَوْلَادٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَقَدَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَصَلَّى تَرْوِيحَةً فَصَارَتْ سُنَّةً وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ تِسْعَ قَبَائِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ سَارَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَاقْتَتَلُوا فَقَدَّمَ كُلُّ قَبِيلَةٍ رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ تَرْوِيحَةً ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَفِي النَّوَافِلِ الَّتِي تُفْعَلُ فُرَادَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي العباس بن سريج ووالتأويل الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي انْفِرَادِهِ تَعْطِيلُ الْجَمَاعَةِ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا كان ذلك كَذَلِكَ، لِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَأَمَّا إِنْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِانْفِرَادِهِ فَصَلَاتُهُ جَمَاعَةً أَفْضَلُ لِمَا فِي تَعْطِيلِهَا مِنْ إطفاء نور المساجد وترك السنة المأثورة (مسألة: الْقَوْلُ فِي قُنُوتِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْنُتُ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاذٌ الْقَارِي " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَغَيْرُ سُنَّةٍ فِي شيء من السنة إلى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَالَ أبو حنيفة: الْقُنُوتُ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ وَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَا تَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْعَشْرِ الثَّانِي؛ وَتَخَلَّفَ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ فَقَالُوا أَبَقَ أُبَيُّ وَقَدَّمُوا مُعَاذًا فَصَلَّى بِهِمْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَقَنَتَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا غَيْرَ فَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ فِي الْوِتْرِ فَلَيْسَ بثابتٍ لِأَنَّ أُبَيًّا لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ الْمُزَنِيُّ: سَأَلْنَا الشَّافِعِيَّ أَكَانَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ: لَا يُحْفَظُ عَنْهُ قَطُّ، وَحَسْبُكَ بِالشَّافِعِيِّ يَقُولُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ رُوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ حِينَ كَانَ يَقْنُتُ فِي سَائِرِ الصلوات ثم ترك (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَآخِرُ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَوَّلِهِ وَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا فَالْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَحَبَّ الْمُصَلِّي أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِنَوْمِهِ أَوْ لِشُغْلِهِ وَالْآخَرُ لِصَلَاتِهِ، فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَقَامَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ جَاءَ بِلَالٌ " وَلِأَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ نَوْمَهُ كَانَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ، وَأَخْلَى لِقَلْبِهِ، وَأَنْقَى لِرُوعِهِ، وَأَمْكَنَ لَهُ فِي عَادَتِهِ وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَ أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ أَثْلَاثًا فَيَجْعَلُ ثُلُثًا لِنَوْمِهِ وَثُلُثًا لِصَلَاتِهِ وَثُلُثًا لِنَظَرِهِ فِي أَمْرِهِ فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] يَعْنِي: نَاشِئَةَ مَا تَنْشَأُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ يَعْنِي: الْأَسْوَدَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 يَوْمًا، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ الثُّلُثَ وَيَقُومُ النِّصْفَ، وَيَنَامُ السُّدُسَ وَلِأَنَّ أَوْسَطَ اللَّيْلِ أَهْدَأَهُ وَأَخْلَاهُ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَاهُ (مسألة: الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الْمُزَنِيُّ: " قلت أنا في كِتَابِ اخْتِلَافِهِ ومالكٍ قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ أَيَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ والذي اختاره ما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ والحجة في الوتر بواحدةٍ السنة والآثار. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعة الوتر له ما قد صلى " وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ وأن ابن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته وأن عثمان كان يحيي الليل بركعةٍ هي وتره وعن سعد بن أبي وقاصٍ أنه كان يوتر بواحدةٍ وأن معاوية أوتر بواحدةٍ فقال ابن عباس أصاب (قال المزني) قلت أنا فهذا به أولى من قوله يوتر بثلاثٍ وقد أنكر على مالكٍ قوله لا يحب أن يوتر بأقل من ثلاثٍ ويسلم بين الركعة والركعتين من الوتر واحتج بأن من سلم من اثنتين فقد فصلهما مما بعدهما وأنكر على الكوفي أن يوتر بثلاث كالمغرب فالوتر بواحدة أولى به (قال المزني) ولا أعلم الشافعي ذكر موضع القنوت من الوتر ويشبه قوله بعد الركوع كما قال في قنوت الصبح ولما كان من رفع رأسه بعد الركوع يقول: " سمع الله لمن حمده " وهو دعاء كان هذا الموضع بالقنوت الذي هو دعاء أشبه ولأن من قال يقنت قبل الركوع يأمره أن يكبر قائماً ثم يدعو وإنما حكم من كبر بعد القيام إنما هو للركوع فهذه تكبيرة زائدة في الصلاة لم تثبت بأصلٍ ولا قياسٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَقَلُّ الْوِتْرِ عِنْدَنَا رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ أَحَدَ عَشَرَ رَكْعَةً، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ خَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، أَوْ تِسْعٍ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ مَوْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَةٍ أَجَزَأَهُ، أَوْ مَفْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ جَازَ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَفْصُولَةً بِتَسْلِيمَتَيْنِ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّ الْوِتْرِ ثَلَاثَةٌ لَكِنْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرَ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ ركعةٍ واحدةٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُبَّمَا وَصَلُوهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ رَكْعَةٍ وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بركعةٍ " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ واحدةٍ وَيَقُولُ هَذَا وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مسلمٍ، وَلَيْسَ بواجبٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بثلاثٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ فَلْيُوتِرْ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ تُجْزِئُ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ سَائِغٌ وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بواحدةٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ قَوْلًا، وَفِعْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ كَانَ صَلَاةً جَازَ أَنْ يَكُونَ شَطْرُهُ صَلَاةً كَالْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّ أَقَلَّ نَوْعَيِ الْعَدَدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً، كَالشَّفْعِ الَّذِي أَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُفْعَلَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً كَالرَّكْعَتَيْنِ فَمَا تَعَلُّقُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَحَدِيثُ مَجْهُولٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَفْرَادِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْعَدَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ افْتِرَاقُهُمَا فِي غَيْرِ الْعَدَدِ إِذَا صَحَّ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُعَارِضُهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثَةٍ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبِ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ، أَوْ تِسْعٍ " وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَعْضِ الرَّكْعَةِ، فَالْوَصْفُ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا إِذَا نَذَرَهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِانْفِرَادِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ بِسَلَامَيْنِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّرْعِ صَلَاةً لَا يَكُونُ السَّلَامُ فِيهَا قَطْعًا فَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِنَّهَا ثَلَاثٌ لَا يُجَزِئُ أَقَلُّ مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَقَوْلِ أبي حنيفة، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْوِتْرَ هِيَ الْمُفْرَدَةُ فَهُوَ كَقَوْلِنَا، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ اتفاق الجميع على أن الثلاث ركعات يجهز فِيهَا كُلِّهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَيْسَ فِي الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَكَالْمَغْرِبِ، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْوِتْرُ عِنْدَكُمْ رَكْعَةً فَلِمَ لَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ تُبْطِلُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قِيلَ: لِظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَوُرُودِ السُّنَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهُنَّ بخمس لا يجلس إلا في الخامسة أما الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَدْ قَالَ فِي مَوَاضِعَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ ظَنَّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَهُ ثَانٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الوتر واحدة (فصل القول في استحباب تأخير الوتر) إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ اللَّيْلِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ لِيَخْتِمَ بِهِ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ "، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَعْدَ نَوْمِهِ، وَعِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَالِاخْتِيَارُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَصَلَّى أَوْتَرَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ ثُمَّ نَامَ، وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى صَلَاتِهِ جَازَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُوتِرُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ وَمِثْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ وَيُوتِرُ بَعْدَهُ وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَمَّا أَنْتَ فَتَأْخُذُ بِالْحَزْمِ، وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَنْتَ فتعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 عَمَلَ الْأَجْلَادِ، فَلَوْ أَوْتَرَ وَنَامَ ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوِتْرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وأبي حنيفة، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ رَكْعَةَ وِتْرِهِ قَدِ انْتَقَضَتْ فَيَشْفَعُهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَهَجَّدُ، بما أراد أن يوتر ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ وِتْرِهِ وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا وِتران فِي لَيْلَةٍ " فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْدِيمِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْقُنُوتِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الْوِتْرِ، فأبو حنيفة. وَمَالِكٌ يَخْتَارَانِ أَنْ يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بِ " سَبِّحْ "، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِ " سَبِّحْ " وَفِي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ "، وَقَدْ رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِزِيَادَتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 (بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْعُذْرِ بِتَرْكِهَا) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بسبع وعشرين درجة ". قال الشافعي: " ولا أُرخِّصُ لمن قدَر على صلاةِ الجماعةِ في تركِ إتيانها إلا من عُذر " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لِلْجُمُعَةِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَمْ سُنَّةٌ؟ فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا فَرَضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَالْجُمُعَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منهم معك} [النساء: 102] الْآيَةَ فَأَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، وَالشِّدَّةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُر بالحَطب فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُر رَجُلًا فَيَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ وَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ " فَلَمَّا تَوَاعَدَ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَبِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وَرُوِيَ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الضَّرِيرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أتجدُ قَائِدًا قَالَ: لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يحضُروا الْمَغْرِبَ، وعشاءُ الْآخِرَةِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَوْ زَحْفًا " وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " وَهَذَا الْخَبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مُسْنَدًا وَلَا صَحِيحًا، وَلَا فَاسِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ رأيتُنا إِذَا كُنَّا مَرْضَى وَنَحْنُ نُهَادِي إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ "، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صلاةُ الْجَمَاعَةِ أفضلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ " وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَفْظَةَ أَفْضَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِيمَا لِأَحَدِهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 مَزِيَّةٌ فِيمَا شَارَكَهُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ بِمَرَضٍ صَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا قِيلَ: حَمَلَهُ عَلَى الْمَرِيضِ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ مُفْرَدًا كَصَلَاتِهِ الصُّبْحَ جَمَاعَةً فِي الْفَضْلِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا ثُمَّ مَرِضَ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَكَيْنِ أَنْ يَكْتُبَا لَهُ أَجْرَ عملهِ فِي صِحَّتِهِ " فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ هِيَ فِي الجماعة أفضل منها منفدراً قيل: لا يصح حمله على الناقلة، لِأَنَّ صَلَاةَ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَكُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا بَيْنَ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ وَقِلَّتِهِمْ مِنَ الْفَضْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ فَرْضٍ، لِأَنَّ الْعُدُولَ مِنْ قَلِيلِ الْجَمَاعَةِ إِلَى كَثِيرِهَا غَيْرُ فَرْضٍ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي عُمُرِهِ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي جَمَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ " فَخَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِيهَا لَا مَنْ زَعَمَ وُجُوبَهَا أَوْجَبَهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَيَحْمِلُ ذلك على من يرها سُنَّةً أَبَدًا وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ الصَّلَاةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فَقَالَ: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ "، فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ تَأَخُّرَهُ، وَلَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ، وَلَمَا أَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ معه صدقة عليه، ولأنها تؤدى صلاة جَمَاعَةً وَفُرَادَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الْجَمَاعَةُ فِيهَا كَالنَّوَافِلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] فَالْمُرَادُ بِهَا تَعْلِيمُ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَبَيَانُهَا عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي حِرَاسَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ اشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُؤْمَنْ سَطْوَةُ الْعَدُوِّ بِهِمْ عِنْدَ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْهُمْ لِشُغْلِهِمْ، وَلَوْ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا مَعًا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ فَيُصَلِّيَ بِفَرِيقٍ وَيَحْرُسَهُمْ فَرِيقٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثُمَّ أُخَالِفَ عَلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ " هُوَ أَنَّ تَحْرِيقَ بُيُوتِهِمْ لِنِفَاقِهِمْ لَا لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَخَلُّفِهِمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ لَا لِأَجْلِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَرْقُ الدُّورِ، وَنَهْبُ الْأَمْوَالِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِجْمَاعِ والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ: " ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ " وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الصَّلَاةَ بِنَفْسِهِ وَأَدَّاهَا جَمَاعَةً فِي مَنْزِلِهِ قد أدى أنه فَرْضَهُ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِنَا أَنَّ الضَّرِيرَ مَعْذُورٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بيْننا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يحضُروا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ " فَجَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ لِتَخْصِيصِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَعَ اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْحَثِّ والترغيب كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ " كَالْجَوَابِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي مَسْجِدِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمَقْصُودُهُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَهَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ فَالْمُخَالِفُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لَهَا؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ مِنْ شَرْطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِمَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَدَلِيلُنَا مَا تَقَدَّمَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ أساؤا بِتَرْكِهَا، وَلَمْ يَأْثَمُوا وَيُؤْمَرُوا بِهَا، وَيُؤَاخَذُوا عَلَى تَرْكِهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِن ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَمْ تُقَمْ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، عليكم بالجماعة وإن الذثب يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ " فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا فَقَدْ عَصَوْا وَأَثِمُوا بِقُعُودِهِمْ عَنْهَا، وَوَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا وَإِنْ قَامَ بِفِعْلِهَا مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْهُمْ وَانْتَشَرَ ظُهُورُهَا بَيْنَهُمْ سَقَطَ فَرْضُ الْجَمَاعَةِ عَنْهُمْ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَانْتَشَرَتْ وَظَهَرَتْ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَكَانَ لِبَاقِي أَهْلِهَا أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِإِقَامَتِهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا، وَانْتِشَارِهَا، حَتَّى تُقَامَ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ تَظْهَرُ بِهَا الْجَمَاعَةُ وَتَنْتَشِرُ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَمَعَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ صَغُرَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَالْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ، وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَاتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَقَلُّ الْعَدَدِ الَّذِي يُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ اثْنَانِ يَأْتَمُّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَيُدْرِكَانِ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمْعِ الْيَسِيرِ وَالْجَمَاعَةُ الْيَسِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ أَفْضَلُ مَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الْوَاحِدِ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ مَا رَوَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِنُورٍ تَامٍّ فِي الْقِيَامَةِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ " وَأَمَّا إذا لم يكن في المسجد قَبِيلَتِهِ، أَوْ مَحَلَّتِهِ مَنْ يُقِيمُ بِالْجَمَاعَةِ الْيَسِيرَةِ غَيْرُهُ وَكَانَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَالْجَمْعِ الْأَكْبَرِ تَعْطِيلٌ لِجَمْعِ مَسْجِدِهِ الْيَسِيرِ، فَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِهِ وَجَمْعِهِ الْيَسِيرِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ ظُهُورِهَا، وَكَثْرَةِ انتشارها، أو عمارة الْمَسَاجِدِ بِإِقَامَتِهَا (فَصْلٌ) وَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ دَخَلَهُ قَوْمٌ لَمْ يُدْرِكُوا الْجَمَاعَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً كَرِهْنَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنٌ ثَابِتٌ وَإِمَامٌ مُنْتَدَبٌ قَدْ رَسَمَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ وَتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ وَتَشَتُّتِ الْكَلِمَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يظهر طَرِيقٍ تُصَلِّي فِيهِ الْمَارَّةُ، وَالْمُجْتَازُونَ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِرَارًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عَنْهُ: " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ، أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلْيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ " قَالَ فِيهِ أَقُولُ لِأَنَّ الْغَائِطَ يَشْغَلُهُ عَنِ الْخُشُوعِ قَالَ فَإِذَا حَضَرَ فِطْرُهُ أَوْ طَعَامُ مَطَرٍ وَبِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَكَانَتْ نَفْسُهُ شَدِيدَةَ التَّوَقَانِ إِلَيْهِ أَرْخَصْتُ لَهُ فِي تَرْكِ إِتْيَانِ الْجَمَاعَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَقَدِ احْتَجَّ فِي موضعٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فابدءُوا بِالْعَشَاءِ " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) فَتَأَوَّلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِئَلَّا يَشْغَلَهُ منازعةُ نَفْسِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وغنى، وذكرنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا كَانَ مُسِيئًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، أَوْ عَاصِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا ولا عاصياً، والعذر على ضربين [الأول] : خاص [الثاني] : عَامٌّ، فَالْعُذْرُ الْعَامُّ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْبَارِدَةُ، وَالْوَحْلُ الْمَانِعُ إِلَّا أَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ فِي جَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَجَوَازِ الْجَمْعِ بين الصلاتين، والوحل، والريح ليس بِعُذْرٍ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّلْزَلَةُ، وَالْخَوْفُ الْعَامُّ مِنْ مُتَغَلِّبٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ وَفِي النِّعَالِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِهَا النِّعَالَ الْمَعْهُودَةَ فِي اللِّبَاسِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَنَى بِهَا الْأَرْجُلَ وَالْأَقْدَامَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عنى بها حجارة صغاراً: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، أَوْ مَشْغُولًا بِتَمْرِيضِ قَرِيبٍ لَهُ أَوْ نَسِيبٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَيِ: الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُصَلِّي أحدُكم وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يصلي أحدُكم وهو زنّاء " أو يكون تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى الطَّعَامِ عِنْدَ حَضُورِ الْجَمَاعَةِ شَدِيدَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ لِغَلَبَةِ الْجُوعِ عَلَيْهِ فَيَبْدَأُ بما يطفي لهب جوعه ويسكن توقان نَفْسِهِ مِنْ أَكْلِ تَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةٍ أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُدْرِكُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بَادَرَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهُ، فَإِنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْلَهُ وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بالعشاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وحكم العشاء والغذاء فَيَ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَمِنَ الْعُذْرِ أَيْضًا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ماله من سلطان، أو ذا جر، أَوْ يَكُونَ ذَا عُسْرَةٍ يَخَافُ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ شَحِيحٍ، أَوْ يَكُونَ مُسَافِرًا وَيَخَافُ إِنْ صَلَّى جماعة إن رحل أَصْحَابُهُ وَيَنْقَطِعَ عَنْ صُحْبَتِهِمْ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَوْفٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يأتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَقِيلَ: وَمَا الْعُذْرُ قَالَ: الْمَرَضُ وَالْخَوْفُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ تَمْنَعُهُ وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَتَدْعُوهُ إِلَى السَّهْوِ فَعُذِرَ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِهَا، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهَا وَأَشْبَاهُهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَاعِدًا بقيامٍ وَقَائِمًا بقعودٍ) (مسألة) : قال الشافعي وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَتْهُ وَإِيَّاهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَفِعْلُهُ الْآخِرُ ناسخٌ لِفِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَفَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ قَائِمًا وَعَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَكُلٌّ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ قَائِمًا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ مرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ ومُرُوا أَبَا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ وَالثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ مِنَ الْإِلْبَاسِ عَلَى الرَّاجِلِ فَلَا يَدْرِي إِذَا رَآهُ جَالِسًا أَهُوَ فِي مَكَانِ قِيَامٍ، أَوْ جُلُوسٍ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا صَلَّى قاعداً مرتين أو ثلاث فكان الاقتداء بأكثر أفعاله الأولى وَالثَّانِي: أَنَّ خُرُوجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ وَصَلَاتَهُ قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ إِنَّمَا كَانَ لِيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: احْمِلُوني حَتَّى أَعْهَدَ إِلَى النَّاسِ وَالثَّالِثُ: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبَايِنٌ لِسَائِرِ أُمَّتِهِ فِي فَضِيلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ فَكَانَتِ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَائِمٌ فَإِنْ صَحَّ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِف َ فَصَلَ اتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قِيَامًا إِذَا قَدَرُوا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: إِمَامَةُ الْقَاعِدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ الْإِعَادَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامَةُ الْقَاعِدِ جَائِزَةٌ، وَيُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ قَاعِدًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا " وَلِأَنَّ المأموم إذا أكمل ما إِمَامِهِ بِرُكْنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ القارئ بِالْأُمِّيِّ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ مِنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا رَكَعَ فاركعوا، وإذا صلى قائماً فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ وَبِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركب فرساً فصرع فوقع على جِزع نَخْلَةٍ، فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجِئْنَاهُ نعودُه وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَصَلَّى التَّطَوُّعَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ جِئْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا أَنِ اقْعُدُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا تَفْعَلُ الفُرس بعُظمائها وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنَ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ رِوَايَةً مُسْتَفِيضَةً، وَنَقْلًا متواتراً: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ وَجَدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِفَّةً فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَنَحْنَحَ النَّاسُ أَبَا بكر فتأخر قليلا، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى وَمَاتَ فِي يَوْمِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَذَلِكَ سنه على أن قوله مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ ثُمَّ يُقِرُّهُمْ بِالْقِيَامِ خَلْفَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَاصَّةً أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الصَّلَاةُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْقَائِمِ قِيَاسًا عَلَى الْقَائِمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قعوداً أجمعين "، فموضع الدليل منه تجوز إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَلَيْسَ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ مَانِعٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ فَلَمْ يُجِزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا أَصْلُهُ: إِذَا كان إمامه قائماً، أو كان منفرداً، ولا اتِّبَاعَ الْإِمَامِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ رُكْنًا مُقَرَّرًا عَلَيْهِ وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يُسْقِطُهُمَا اتِّبَاعُ الْإِمَامِ وَلَا يَحْمِلُهُمَا إِلَى الْإِيمَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدُكُمْ بَعْدِي جَالِسًا " فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ وَالرَّجْعَةِ، وَيَتَظَاهَرُ بِسَبِّ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَلَوْ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ قُلْنَا: فِي الْأُمِّيِّ كَلَامٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَحَمَّلَ القراءة موثراً فِي إِمَامَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْقِيَامِ مُؤَثِّرًا فيها (فصل) : فأما المضطجع إذا صلى مؤمناً بِقِيَامٍ وَقُعُودٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْقِيَامِ جَائِزَةٌ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ للقائم أن يأتم بالمومئ " قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهَا لَمْ يَصِحَّ الصَّلَاةُ دُونَ بَعْضٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ: أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنِ الْأَرْكَانِ الْكَامِلَةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ جَوَازِ الْإِمَامَةِ، وَلَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَفْرُوضَةِ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا وَصَارَ الْبَدَلُ مَعَ الْعَجْزِ قَائِمًا مَقَامَ الرُّكْنِ الْمَفْرُوضِ فَجَازَتْ إِمَامَتُهُ، وَصَلَاةُ مَنْ أَمَّهُ فَإِنْ قِيلَ: الْإِيمَاءُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّ بَدَلَ الشيء يكون من غيره، ولا يجوز جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَاءُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ نَفْسُهُ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْحِنَاءِ فِي رُكُوعِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَإِنَّمَا كَانَ رُكُوعُهُ دُونَ رُكُوعِ الْقَادِرِ عَلَى الِانْحِنَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّمَا يأتي به من الرجوع هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَذَا فِي الْإِيمَاءِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الشيء بدلاً عنه كالقعود هو جُزْءٌ مِنَ الْقِيَامِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 لِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الِانْتِصَابُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ، ثُمَّ كَانَ الْقُعُودُ بَدَلًا عَنِ الْقِيَامِ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ بدل من الرجوع والسجود فأما الجواب عن قوله ليس يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَلِ ائْتَمَّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يقال: يَتَضَمَّنُهَا فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَتَى بِهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ أَتَى بِبَدَلِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التقسيم فيه، وإجماعنا على صحة ائتمانه به فسقط عنا (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ جَالِسًا رَكْعَةً، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَمَّتْ صَلَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا بِصِحَّتِهِ وَتَرْكِهِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَّبِعُوهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً جَالِسًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَهَذَا غَلَطٌ، لأنه بقيامه قد انتقل من حالة النقض إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ وَانْتِقَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْقَصِ حَالَتِهِ إِلَى أَكْمَلِهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ كَالْمُتَنَفِّلِ رَاكِبًا إِذَا نَزَلَ فَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّقْصِ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْبِنَاءُ، وَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا السُّؤَالُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ حَالَةِ الْكَمَالِ إِلَى حَالَةِ النَّقْصِ، لِأَنَّهَا وَدَمُهَا جَارِي أَحْسَنُ حَالًا مِنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ أَلَا تَرَاهَا مَعَ جَرَيَانِ دَمِهَا لَا يَلْزَمُهَا إِزَالَةُ نَجَسِهِ عَنْهَا، وَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّلَاةُ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَةِ نَجَاسَتِهَا فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ يقول: تبني المستحاضة على صلاتها فإن انْقَطَعَ دَمُهَا، فَسَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ، وَلِأَنَّ كُلَّ حال جاز أن يبن الْمُصَلِّي فِيهَا لِانْتِقَالِهِ مِنْ حَالِ الْكَمَالِ إِلَى حال النقص جاز أن يبني من حالة الانتقاص إلى حالة الْكَمَالِ أَصْلُهُ: الْمَسْتُورُ الْعَوْرَةِ إِذَا سُلِبَ فِي صَلَاتِهِ مَا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا المصلي مضطجعاً مؤمناً إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا قَدَرَ الْمُومِئُ عَلَى القيام أو القعود بطلت صلاته، وكذلك الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ شرائط الصلاة عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ أَصْلًا أَصْلُهُ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ، وَالِاضْطِجَاعَ بَدَلٌ عَنِ القعود، فلما تقرر أن القاعد عَلَى الْقِيَامِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُبْدَلِ، وَيَبْنِي عَلَى صلاته كذلك المضطجع إذا قدر على العقود يَنْتَقِلُ إِلَى مُبْدَلِهِ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالْقَاعِدِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَالْمَعْنَى فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، كَوْنُهَا مُحْدِثَةً فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ فَخَالَفَتِ الْعَاجِزَ إِذَا صَحَّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَاجِزِ الْمُضْطَجِعِ أَنْ يَقُومَ إِذَا قَدَرَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْجُلُوسَ فِي وضع الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاتَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَائِمًا فَقَعَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُعُودِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ لَكِنْ تَصِيرُ نَفْلًا، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ، فَإِذَا بطلت صلاة الإمام بترك القيام ولا يعلم المؤموم بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِمَامِ عَلَى الْقِيَامِ أَمْرٌ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُكَلَّفُوا الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَصَارُوا كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وهم لا يعلموا بِحَالِهِ، وَإِنْ عَلِمُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ إِمَامَتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وَهُوَ يعلم بجنايته (مسألة) : قَالَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى قَائِمًا رَكْعَةً ثُمَّ ضعُف عَنِ الْقِيَامِ أَوْ أصابته عِلّة مانعةُ فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صلاته " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا لِصِحَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لِعِلَّةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ لِضَعْفٍ غَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ جَالِسًا وَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَهَا جَالِسًا لِعَجْزِهِ كَانَ لَهُ إِتْمَامُهَا وَهُوَ جَالِسٌ فَكَانَ مَا افْتَتَحَهُ قَائِمًا، ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ فِي بَعْضِهِ أَوْلَى بِإِتْمَامِهِ، فَإِنْ عجز عن القعود لغلبة عليه ووهي قُوَاهُ اضْطَجَعَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُومِيًا وَأَجْزَأَهُ (مَسْأَلَةٌ) : قال: " وَإِنْ صَلَّتْ أَمَةٌ رَكْعَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَرَكَعَتْ ثُمَّ أُعتقت فَعَلَيْهَا أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 تَسْتَتِرَ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا مِنْهَا،، وَتَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ الْعَوْرَاتِ وَتَفْصِيلَهَا وَدَلَّلْنَا عَلَى إِيجَابِ سَتْرِهَا، وَذَكَرْنَا عَوْرَةَ الرَّجُلِ، وَعَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، وَعَوْرَةَ الْأَمَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ رَأْسَ الْأَمَةِ وَشَعْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَأَنَّ صَلَاتَهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَلْزَمُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَرَأْسُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَلَمْ يَلْزَمْهَا سَتْرُهُ، فَإِذَا صَلَّتِ الْأَمَةُ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَرَأْسُهَا مَكْشُوفٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِكَوْنِهَا حُرَّةً فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا إلا مستورة وإذ تقرر الأمر على هذا فليس يخلوا حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ واحدة لِمَا تَسْتُرُ رَأْسَهَا أَوْ عَادِمَةً، فَإِنْ عَدِمَتْ مَا تَسْتُرُ بِهِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَتْهَا سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعُرْيَانِ الَّذِي لَا يَجِدُ ثوباً فيصلي عريان، ولا إعادة عليه وإن كانت واحدة لِمَا تَسْتَتِرُ بِهِ فَلَهَا حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ عِتْقَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا تعلم به إلا بعد تَقْضِيَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يَخْلُو الثَّوْبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَإِنْ كان الثوب قريباً وجب عليه تَنَاوُلُهُ وَالِاسْتِتَارُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَتَرَتْ بِهِ فِي الْحَالِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَأَمَّا إِنِ اسْتَدْبَرَتِ الْقِبْلَةَ فِي أَخْذِهَا فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْبَارَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا، أَوْ كَانَ قَرِيبًا فَلَمْ تَأْخُذْهُ مُضِيَّ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ إِنَّمَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ كَمَا يَبْطُلُ تَيَمُّمٌ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الثَّوْبِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالْمُتَيَمِّمِ لَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا كَالْمُتَيَمِّمِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الثَّوْبِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ صَلَاتَهَا إِنَّمَا بَطَلَتْ بِالْمُضِيِّ لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَتَطَاوُلِ الْعَمَلِ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهَا ما لم تمضي فَهِيَ عَلَى صَلَاتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ وَإِنْ دُفِعَ الثَّوْبُ إِلَيْهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا تَمْضِي لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَلَا انْتَظَرَتْ من تناولها إياه فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ لَمْ يَمْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ مَضَى، لَكِنْ إِنِ انْتَظَرَتْ مَنْ تناولها الثوب فناولها إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ ولا إحداث عمل فيها طَوِيلٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: قد بطلت صلاتها، ولأن الِانْتِظَارَ عَمَلٌ طَوِيلٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى وَيُجْزِئُهَا، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ لَيْسَ بفعل يبطل الصلاة كالراكع إِذَا أَحَسَّ بِالدَّاخِلِ فَانْتَظَرَهُ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ فِي وُجُوبِ أَخْذِهِ، وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا بَطَلَتْ بِرُؤْيَتِهِ صَلَاتُهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، فإن أحرام بها سقط فرضها، فإن أرحم بِهَا ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي وَقْتٍ سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِصْحَابُ الطَّهَارَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا يَلْزَمُهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا قِيلَ: إِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الطَّهَارَةِ مَعَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ، وَهُوَ فِي الثَّوْبِ يَسْتَعْمِلُ السِّتْرَ مَعَ أَفْعَالِهَا، لَا حُكْمَ السِّتْرِ فَافْتَرَقَا وَالْفَرْقُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ استدامة الثوب كابتدائه في الحكم بدلة أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ وَاسْتِدَامَةُ الطَّهَارَةِ مُخَالِفَةٌ لِابْتِدَائِهَا فِي الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الثَّوْبِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الْمَاءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَالْعُرْيَانُ لَمْ يَأْتِ بِالسِّتْرِ وَلَا بِبَدَلِهِ، لِأَنَّ الْعُرْيَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ السِّتْرِ فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ الْبَدَلِ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ إذا انقطع حيضها لما لم تأتي بِالطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ، وَلَا بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، أَنْ لَا تَعْلَمَ الْأَمَةُ بِعِتْقِهَا إِلَّا بَعْدَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، كَمَنْ صَلَّى وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ مُحْدِثٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَيْنَ خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا صَلَّى بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ فِي رَحْلِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ: فِي الْمُسَافِرِينَ إِذَا رَأَوْا سَوَادًا وَظَنُّوهُمْ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِبِلٌ أَوْ وَحْشٌ والله أعلم (مسألة) : قال المُزنيّ: " وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي عُرياناً لَا يَجِدُ ثَوْبًا ثُمَّ يَجِدُهُ، وَالْمُصَلِّي خَائِفًا ثُمَّ يَأْمَنُ، وَالْمُصَلِّي مَرِيضًا يُومِئُ ثُمَّ يَصِحُّ أَوْ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُحْسِنُ إِنَّ مَا مَضَى جَائِزٌ عَلَى مَا كُلِّفَ وَقَابَضَ عَلَى مَا كُلِّفَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ مَسَائِلُ قَصَدَ الْمُزَنِيُّ بِإِيرَادِهَا نَصَّ قَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لَا يَصِحُّ، وَالْفَرْقُ بينهما قد مضى، فإذا وجد المصلي عريان فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ أَخْذُهُ، كَالْأَمَةِ سَوَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ إِذَا صَلَّى مُومِيًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ أَمِنًا، وَأَجْزَأَهُ؛ فَأَمَّا الْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْهَا فَتُجْزِئُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الرَّكْعَةُ الَّتِي تَعَلَّمَ فِيهَا الْفَاتِحَةَ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: [القسم الْأَوَّلُ] إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِإِدْرَاكِ مَحَلِّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إِدْرَاكِ الْمَحَلِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَدِّلِ " الْمُتَيَمِّمِ " إِذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ في الصلاة " (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يؤدِّبُوا أَوْلَادَهُمْ، ويُعلّموهم الطهارة وَيَضْرِبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عقلُوا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَلْزَمُ الْآبَاءَ حَتْمًا وَاجِبًا أَنْ يُعَلِّمُوا صِبْيَانَهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إِذَا عَقَلُوا وهم إذا بلغوا سبع سنين، ويلزموهم أَنْ يَضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا حِينَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ فِي الْجَوَارِي لِتِسْعٍ وَالْغِلْمَانِ لِعَشْرٍ وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفسَكُم وأَهليكُم ناراً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 [التحريم: 6] . وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَده أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوهم بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "، وَلِأَنَّ فِي تَعْلِيمِهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلْفًا لَهَا وَاعْتِيَادًا لفِعلها، وَفِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ مَا لَيْسَ يَخْفَى ضَرَرُهُ مِنَ التَّكَاسُلِ عَنْهَا عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَالِاسْتِيحَاشِ مِنْ فِعْلِهَا وَقْتَ لُزُومِهَا، فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمْ ذَلِكَ لِدُونِ سَبْعِ سِنِينَ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ في الغالب لَا يَضْبِطُونَ تَعْلِيمَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا يُؤْمَرُونَ، فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعًا مَيَّزُوا وَضَبَطُوا مَا عَلِمُوا، وَتَوَجَّهَ فَرْضُ التَّعْلِيمِ عَلَى آبَائِهِمْ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَجَبَ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُمْرِضٍ، فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ التَّلَفُ مِنْ ضَرْبِهَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمُ الْخِطَابُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّهَارَةِ والصلاة وجميع العبادات (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنِ احْتَلَمَ أَوْ حَاضَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا الْبُلُوغُ فِي الْغِلْمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ، فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَهُوَ الْإِنْزَالُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . وَأَمَّا السِّنُّ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ بَالِغًا لِحَدِيثِ ابْنِ عمر وخالفه أبو حنيفة فِي سِنِّ الْبُلُوغِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا غِلَظُ الصَّوْتِ، وَاخْضِرَارُ الشَّارِبِ، وَنُزُولُ الْعَارِضَيْنِ، فليس ببلوغ لا يختلف، فأما إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فَإِنْ كَانَ زَغَبًا لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ شَعْرًا قَوِيًّا كان بلوغاً في المشركين، ولما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَقَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ، يَعْنِي: سَبْعَ سموات. قَالَ وَكُنَّا نَكْشِفُ مُؤْتَزَرَهُمْ فَمَنْ أَنْبَتَ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ جَعَلْنَاهُ فِي الذَّرَارِيِّ. فَأَمَّا حُكْمُنَا فِي بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْبَاتِ فَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهِمْ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ وَالثَّانِي: أنه دلالة على بلوغهم، فإن قُلْنَا: إِنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ كَالِاحْتِلَامِ، وَإِذَا قُلْنَا دَلَالَةٌ فِيهِمْ فَهَلْ يَكُونُ دَلَالَةً فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَلَالَةً فِيهِمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَكُونُ دَلَالَةً وَلَا يَحْكُمُ فِي بُلُوغِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ الْمُسْلِمَ فِي الْإِنْبَاتِ إِذَا جُعِلَ بُلُوغًا، لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ فِيهِ تَخْفِيفَ أَحْكَامِهِ فَلَهُ حَجْرُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ وَكَوْنُهُ مِنْ أهل الولايات، والكافر غير منهم لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُغَلَّظُ فَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ إِنْ كَانَ وَثَنِيًّا، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُ إِنْ كَانَ كِتَابِيًّا وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْسَابِهِمُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِيهِمْ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَبْلُغُ بِجَمِيعِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْغُلَامُ وَتَبْلُغُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ آخَرَيْنِ: وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ فَأَمَّا الْحَيْضُ فَبُلُوغٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنظر إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا " وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيُعْلَمُ بِهِ سِنُّ الْبُلُوغِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بُلُوغٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلق من ماءٍ دافق يخرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلب وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 45، 46] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَمْلَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ، فَعُلِمَ بِالْحَمْلِ وُجُودُ الْإِنْزَالِ مِنْهَا فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ، فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحِيضَ وَالثَّانِي: أَنْ يُنْزِلَ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ الْحَيْضَ وَالْإِنْزَالَ. فَأَمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ دَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ أَوْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ وَذَكَرِهِ مَعًا كَانَ بُلُوغًا يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ بَلَغَ بِالْإِنْزَالِ مِنْ ذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ بَلَغَتْ بِالْإِنْزَالِ مِنْ فَرْجِهَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَالْحَيْضُ إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَدَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ فمذهب الشافعي أنه بلوغ لجمع بَيْنَ بُلُوغِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " " إِنْ أَنْزَلَ وَحَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا " وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا، وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ أَنْزَلَ أَوْ حَاضَ، فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 (بَابُ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَجَاءَ قَوْمٌ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ يَنْوُونَ الْعَصْرَ أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ جَمِيعًا وَقَدْ أَدَّى كُلٌّ فَرْضَهُ وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ هِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ الْقُنُوتَ ثُمَّ يَعْتَدُّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَةِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَبَنَى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْعَتَمَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَإِذَا جَازَ أَنْ يَأْتَمَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً وَفَرِيضَةً وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمُفْتَرِضِ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ، فِي فَرْضَيْنِ مِثْلَيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ، مِثْلُ الظُّهْرِ خَلْفَ الْعَصْرِ، أَوِ الْعَصْرُ خَلْفَ الظُّهْرِ، وَهَذَا أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالزُّهْرِيِّ وَشُعْبَةَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ نِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِحَالٍ لَا فِي فَرْضٍ وَلَا فِي نَفْلٍ، فَلَا يَأْتَمُّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَلَا الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بالمقترض فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، حَتَّى يَكُونَا مِثْلَيْنِ، فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ وَهَذَا أَضْيَقُ الْمَذَاهِبِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِالْمُفْتَرِضِ فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِلَّا أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مُفْتَرِضٍ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى تَبَايُنِ مَذَاهِبِهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " فَكَانَ أَمْرُهُ بالإتمام عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ أَوْ خَفِيَ مِنْ نِيَّتِهِ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ " وَفِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ اخْتِلَافُ الْقُلُوبِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاقْتِدَاءُ فِيهَا بِالْإِمَامِ كَالْمُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي مَفْرُوضِ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهَا، قِيَاسًا عَلَى مُخَالِفِيهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى بَطْنِ النَّخْلِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ بَنِي سُلَيْمٍ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ". وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَقِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِطَائِفَةٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فرضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَالْأُخْرَى نَافِلَةٌ، وَكِلَاهُمَا لِلْمَأْمُومِينَ فَرِيضَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي كَانُوا يُصَلُّونَ الْفَرْضَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ قُلْنَا: إِعَادَةُ الْفَرْضِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَا مَرْوِيٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً أَمَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ رَدَّهَا بِشَفَاعَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى خَمْسٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَفْرِضْهَا عَشْرًا، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ فَرْضٍ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَائِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْوَادِي وَصَلَّى الصُّبْحَ قِيلَ لَهُ: أَتَقْضِي الصُّبْحَ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا ثُمَّ يَأْمُرُكُمْ بِهِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى مَعَهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَصَلَّاهَا بِهِمْ، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَخَرَجَ رجل من صلاته فأتم لنفسه، فلما قِيلَ لَهُ نَافَقْتَ؟ فَقَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْأَلُهُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ، ثُمَّ يُصَلِّي بِنَا وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ، فَصَلَّى مَعَكَ ثُمَّ صَلَّى بِنَا، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذ: أقتانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؛ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُؤَدِّي فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ يُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ، فَتَكُونُ لَهُمْ فَرِيضَةً وَلَهُ نافل فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ أبي حنيفة: كَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَافِلَةً، وَبِقَوْمِهِ فَرِيضَةً، قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ لثلاثة أشياء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 أَحَدُهَا: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ يَقُولُ: كَانَ معاذٌ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ، هِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ وَلَهُ نَافِلَةٌ " وَجَابِرٌ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا عَنْ عِلْمٍ وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ " فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُعَاذٍ مَعَ سَمَاعِ هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ عِنْدَ قِيَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَالثَّالِثُ: أن معاذ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِهِ إِمَامًا بِقَوْمِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْحَالَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ اخْتِيَارُ أَنْقَصِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَالَ: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَتْ بَنُو سَلَمَةَ هَذَا أَقْرَؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَعْنُونَ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ، وَكَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤمُّكم مُعَاذٌ، إِنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغِ نَافِلَةٌ لَهُ، فَقَدْ جَوَّزَ لِلْمُفْتَرِضِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَسَمِعَ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا، فَقَالَ عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُ هَذَا إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ صَلَاتَهُ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ بَلْ قَالَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ عَزَمْتَ عَلَيْنَا كُلِّنَا فَقُمْنَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ كُنْتُ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسَيِّدًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ عَزَمْتُ عليكم كلكم وأنا معكم ثم مضوا فتوضؤا وَعَادُوا فَصَلَّى بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " فَكَانَتْ صَلَاةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافِلَةً، وَصَلَاةُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَرِيضَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ تُؤَدَّى جَمَاعَةً وَفُرَادَى فَجَازَ أَنْ تُؤَدَّى إِحْدَاهُمَا خَلْفَ الْأُخْرَى أَصْلُهُ: مَعَ أبي حنيفة صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ وَقَوْلُنَا: مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْمُفْتَرِضِ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي " الْكُسُوفَ "، وَقَوْلُنَا: فُرَادَى احْتِرَازًا مِنَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَمَّا اشْتُرِطَتْ لِلْفَضِيلَةِ لَا لِلْفَرِيضَةِ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النِّيَّةِ، كَالنَّوَافِلِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي النية شرطاً معتبر المنع الْمُتَنَفِّلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النِّيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ نِيَّتِهِ، وَمَا خَفِيَ مِنْ أَفْعَالِهِ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، فَلَمْ يَصْرِفِ الْخَبَرَ إلا إلى أَمْكَنَ تَكْلِيفُهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ، أَلَا تَرَاهُ قال: فإذا كبر فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ، فَالْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِمَامُ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يُوَافِقَ نِيَّةَ الْإِمَامِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي سَائِرِ الْفَرَائِضِ لَمْ تَكُنْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ حَنَفِيًّا: انْتَقَضَ عَلَيْهِ بِالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا: قيل قياسك هذا يعترض عليه بالسنة الثانية وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ، وَيَنْكَسِرُ بِصَلَاةِ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ قَدِ اخْتَلَفَتْ نِيَّاتُهُمَا وَتَفَاضَلَتْ أَفْعَالُهُمَا؟ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْتَ مَعَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة قَدْ نَاقَضْتَ أَصْلَكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: أَنَّكَ مَنَعْتَ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ وَأَجَزْتَ النَّذْرَ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ وَإِنْ قَالَ صَلَاةُ النَّذْرِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا، ثُمَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ هُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْمَأْمُومِ تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً لَمْ تَتَضَمَّنْهَا نِيَّةُ إِمَامِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَنْذُورَةِ وَالثَّانِي: أَنَّكَ قُلْتَ إِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ لِسَهْوٍ وَقَعَ فِيهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ مُؤْتَمٌّ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ سُجُودُ السَّهْوِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَفِي هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِكَ، فَإِنْ قَالَ: سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدِي وَاجِبٌ، فَقَدْ صَلَّى مُفْتَرِضٌ خَلْفَ مفترض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 قِيلَ: لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدِي فَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ، وَلَوْ جَعَلْتَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ ظُهْرًا، وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ وَالثَّالِثُ: إِنْ قُلْتَ لَوْ صَلَّى بِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّاهَا كَانَتْ فَرْضَهُ، وَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْجَمَاعَةِ نَافِلَةً فَأَجَزْتَ صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ خَلْفَ النَّافِلَةِ فَإِنْ قِيلَ كَانَتْ لَهُمْ فَرْضًا حِينَ أَمَّهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَتْ نَافِلَةً لِفِعْلِهِ الْجُمُعَةَ فَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْفَرْضَ إِذَا صَحَّ لَمْ يَنْقَلِبْ نَفْلًا، وَلَوْ جَازَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ فَرْضَهُمْ سَقَطَ حِينَ صَارَتْ صَلَاتُهُمْ نَافِلَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَحَسَّ الْإِمَامُ بِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِعٌ لَمْ يَنْتَظِرْهُ وَلْتَكُنْ صَلَاتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ المُزني: وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِانْتِظَارِهِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي إِتْيَانِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ انْتِظَارُ الْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ قَوْمًا يُدْرِكُونَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبَانِ يُكْرَهَانِ وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْمَكْرُوهَانِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَظِرَ فِي صَلَاتِهِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَكَاثُرَهُمْ، فَيُبْطِلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ وَقِرَاءَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لِيَكْثُرَ جَمْعُهُمْ، وَيَتَلَاحَقَ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ انْتِظَارُهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ يَخُصُّهُ بِهِ، إِمَّا إِكْرَامًا لِذِي مَوَدَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ إِعْظَامًا لِذِي رِيَاسَةٍ أَوْ مَهَابَةٍ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الِانْتِظَارِ مَكْرُوهَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطَ حَقِّ السَّابِقِ الْحَاضِرِ بِانْتِظَارِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، وَتَرْكَ الْخُشُوعِ بِقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهُ: أَنْ يُحِسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِرَجُلٍ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْهُ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ. وَإِنِ انْتَظَرَهُ لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ مَعَهُ جَازَ، وَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ وَيَكُونُ مُسِيئًا بِهِ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُكْرَهُ لَهُ وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة؛ فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَبَيْنَ الْعَمَلِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِشْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَفْتَى بِشِرْكِهِ وَإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَنِ الْمِلَّةِ بِوَهْمِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُشْرِكًا بِالِانْتِظَارِ وَقَدِ اسْتَحَبَّهُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُخَرِّجُونَ الْقَوْلَيْنِ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْكَرَاهَةِ، فَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: فَوَجْهُهُ مَا رُوي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى وَأَجْلَسَ الْحَسَنَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ أَطَلْتَ السُّجُودَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ ابْنِي رَكِبَنِي فَأَطَلْتُ السُّجُودَ لِيَقْضِيَ وَطَرَهُ ". فَلَمَّا اسْتَجَازَ بِطَوِيلِهِ لِيَقْضِيَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَرَهُ جَازَ انْتِظَارُ الدَّاخِلِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " وَانْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاتِهِ لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ انْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَ بِهَا، فَلَمَّا انْتَظَرَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِظَارِ لِإِدْرَاكِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَوَجَّهَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ ". وَفِي انْتِظَارِهِ تَطْوِيلٌ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ وَتَثْقِيلٌ، وَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ خُشُوعُهُ بِانْتِظَارِهِ وَتَوَقُّعِ مَجِيئِهِ، وَإِتْيَانُ مَا يُسْقِطُ الْخُشُوعَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّ انْتِظَارَهُ لِيُدْرِكَ الصَّلَاةَ مَعَهُ يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ الْمُبَادَرَةِ وَالتَّوَانِي عَنِ الْإِسْرَاعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَظِرْهُ تَخَوَّفَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فَارْتَدَعَ عَنِ الْإِبْطَاءِ وَانْزَجَرَ عَنِ التَّوَانِي فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَتَمَّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَحِلَّ لِلْإِمَامِ انْتِظَارُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِانْتِظَارُ في وسط الصلاة أولى: (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُؤْتَمُّ بِالْأَعْمَى وَالْعَبْدِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أُوثِرُهَا وَلَا أَكْرَهُهَا، وَلَا أُوثِرُ إِمَامَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَكْرَهُ إِمَامَتَهُ وَأُوثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّ إِمَامَةَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ، وَلَوْ كَانَتْ إِمَامَةُ الْأَعْمَى لَا تُكْرَهُ، وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا إِمَامَةَ الْأَعْمَى، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى صَوَابِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهَا وَيُصَوَّبَ نَحْوَهَا، فَاعْتَوَرَهُ النَّقْصُ بِهَذَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مِرَارًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَكَانَ ضَرِيرًا. وَكَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويعلمه وَكَانَ ضَرِيرًا، لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْمُرُ قَوْمَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَنْكَفَّ بَصَرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَيَكْثُرُ خُشُوعُهُ وَيُخْلِصُ قَلْبُهُ، وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ عُضْوٍ وَفَقْدُ الْأَعْضَاءِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ كَالْأَقْطَعِ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ طَهَارَتُهُ وَالشَّيْءَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَوِ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَرَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْبُصَرَاءِ بهذا الوصف فلم يكن الأعمى مختصاً به وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يُرشد إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُوَجَّهُ نَحْوَهَا، فَذَاكَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا فِي وَقْتِ ائْتِمَامِهِمْ بِهِ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الْقِبْلَةِ وَيَقِينٍ كَالْبَصِيرِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِمَامَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا تُكْرَهُ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مِجْلَزٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِمَامَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ وُلّي عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ بِكُمُ الصَّلَاةَ ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى خَلْفَ مَوْلًى لَهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ الرُّومِيَّ فَصَلَّى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ عَبْدًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. فَلَمْ يَكْرَهْ إِمَامَتَهُ أحد من الصحابة، وروى المسور بن محزمة قَالَ: كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَجَمَاعَةٌ فَتَأْمُرُ عَبْدًا لَهَا يُقَالُ لَهُ أَبُو عَمْرٍو فَيُصَلِّي بِنَا عِنْدَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَتَهُ جَائِزَةٌ وَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِنَقْصِهِ بِرِقِّهِ وَكَمَالِ الْحُرِّ بَحُرِّيَّتِهِ، وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ شَهَادَتِهِ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ الضَّرِيرِ أَفْضَلُ مِنْ إِمَامَةِ الْعَبْدِ الْبَصِيرِ، لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ، فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي الْإِمَامَةِ، قِيلَ إِنْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بِقَدْرِ صَلَاتِهِ فِي الِانْفِرَادِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُ، وَإِنْ تَطَاوَلَ عَنْ حَدِّ الِانْفِرَادِ كَالْجُمُعَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ وَلَدِ الزِّنَا وَإِمَامَةَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَهَى رَجُلًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ. فَإِنْ أَمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 قَوْمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، لِرِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَؤُمُّكُمْ أقرؤُكم وَإِنْ كَانَ وَلَدَ زِنًا ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ التَّابِعِينَ الْفُضَلَاءَ صَلَّوْا خَلْفَ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَهُوَ مِمَّنْ فِي نَسَبِهِ نَظَرٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِجَمَاعَةٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ " وَرُوِيَ " مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ " فَإِنْ أَمَّهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ يُلْحِنُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَإِنْ لحن أَوْ لَفَظَ بِالْعَجَمِيَّةِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْهُ دُونَهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَجْزَأَتْهُمْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا اللحَنَة فِي الْقُرْآنِ فَإِمَامَتُهُ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يؤمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". وَاللُّحَنَةُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا سَمِعَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ وَتُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِ فَإِنْ أَمَّ مَنْ يَلْحَنُ وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يَخْلُ لَحْنُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفَاتِحَةِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحِيلَهُ فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةً، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَوِّمَ لِسَانَهُ بِقَصْدِ الصَّوَابِ، وَمُعَاطَاةِ الْإِعْرَابِ وَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَعَهُّدٍ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا ، فَصَلَ اتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ مِنَ الْقُرْآنِ سَلِيمًا وَكَانَ النَّقْصُ فِيمَا لَا يَضُرُّ تَرْكُهُ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ وَلَا أَثَّرَ فِي صِحَّتِهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ إِحَالَةَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالصَّوَابِ فِيهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ مَعَ إِسَاءَتِهِ وَإِثْمِهِ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْمَعْنَى تُزِيلُ إعجاز اللفظ، ويبطل حكمه، ويخرجه مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جِنْسِ الْكَلَامِ، فَيَصِيرُ كَالْمُتَكَلِّمِ عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَكُونَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحِيلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بفتح الدال {وإياك نستعين اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 5، 6] بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ نَسْتَعِينُ وَفَتْحِ الْأَلِفِ مِنَ اهْدِنَا، فَهَذَا اللَّحْنُ وَأَشْبَاهُهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِلَفْظِهِ وَإِنْ أَسَاءَ فِي الْعِبَارَةِ بِلَحْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ سُوءُ عِبَارَتِهِ مَعَ اسْتِيفَاءِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي صَلَاتِهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ، كَقَوْلِهِ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ التَّاءِ، وَلَا الظَّالِّينَ بِالظَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى الشَّيْءِ، لَا مِنَ الضَّلَالِ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، فَهَذَا فَاسِقٌ بَلْ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاتِهِ، عادل عن وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله فصلاتهم جائزة، إلا أن يحكم بكفر الْإِمَامُ لِاسْتِهْزَائِهِ فَلَزِمَهُمُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله كالمؤتم الكافر وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَعَادَ قِرَاءَةَ مَا أَحَالَ مَعْنَاهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ. فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَإِنْ جَوَّزْنَا صَلَاتَهُ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ وَإِنْ أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يِقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ إِمَّا لِبُطْءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ ضَبْطِهِ، أَوْ لِاضْطِرَابِ لِسَانِهِ وَتَعَذُّرِ اسْتِقَامَتِهِ، فَصَلَاتَهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا يُمْكِنُهُ الزِّيَادَةُ عليه. فأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ بِإِحَالَةِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ بِإِصَابَةِ الْمَعَانِي وَاجْتِنَابِ اللَّحْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقَارِئِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ الْأُمِّيِّ فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَلَوِ اخْتَلَفَ لَحْنُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَأَحَالَ الْإِمَامُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى كَلِمَةٍ أَصَابَ الْمَأْمُومُ مَعْنَاهَا، وَأَحَالَ مَعْنَى كَلِمَةٍ سِوَاهَا فَفِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اللَّحْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَفْضُلُ عَلَى إِمَامِهِ فِيمَا قَصَّرَ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَوَرَهُ النَّقْصُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَيُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ لَا يَلْحَنُ فِيهِنَّ أَوْ لَا يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسَبِّحُ وَلَا يَلْحَنُ، فَفِي إِيجَابِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُحِيلُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا لَفَظَ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَأَحَالَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ بِعَجَمِيَّتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْهَاءِ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَاءِ مُعْجَمَةً، فَهَذَا مُحِيلٌ لِلْمَعْنَى بِكُلِّ حَالٍ، وَهِيَ اللُّكْنَةُ، لِأَنَّ اللُّكْنَةَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الْكَلَامِ اللُّغَةُ الْأَعْجَمِيَّةُ، وَالطَّمْطَمَةُ، أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُشَبَّهًا بِكَلَامِ الْعَجَمِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَنْ أَحَالَ المعنى على ما مضى من الجواب سواه، وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ السَّائِبِ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمَكَّةَ وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ فَأَخَّرَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ بِالْمِسْوَرِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ فَكَانَ فِي الْحَجِّ فَخَشِيتُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ الْحَاجِّ فَيَأْخُذُ بِعَجَمِيَّتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَصَبْتَ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ بِهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ، فإنْ أَمَّ أَجْزَأَ إِذَا قَرَأَ مَا يُجزئُ فِي الصَّلَاةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ أَمَّا التَّمْتَمَةُ: فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي التَّاءِ، وَأَمَّا الْفَأْفَأَةُ فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي الْفَاءِ، فَتُكْرَهُ إِمَامَةُ التَّمْتَامِ وَالْفَأْفَاءِ؛ لِزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْكَلِمَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنْ أمُّوا جاز وصحت صلاته مَنِ ائْتَمَّ بِهِمْ، لِإِتْيَانِهِمْ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَمَا أَتَوْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، كَمَنْ كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا وَأَمَّا الْعُقْلَةُ فَهِيَ: الْتِقَاءُ اللِّسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْكَلِمَةِ ثُمَّ تَأْتِي الْكَلِمَةُ سَلِيمَةً بَعْدَ جُهْدٍ فَهَذَا كَالتِّمْتَامِ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ وَإِنْ كُرِهَتْ؛ وَكَذَلِكَ الرَّدَّةُ وَهِيَ: تَكَرُّرُ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ إِرَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمَالُكٍ لِلْإِمْسَاكِ عَنْهَا، فَأَمَّا الْغُنَّةُ فَهِيَ: أَنْ يَشْرَبَ صَوْتُ الْخَيْشُومِ، وَالْخُنَّةُ أَشَدُّ مِنَ الْغُنَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَأْتِي سَلِيمَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَؤُمُّ الْأَرَتُّ، وَلَا الْأَلْتَغُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَرَتُّ فَهُوَ: الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلِمَةِ إِلَّا بِإِسْقَاطِ بَعْضِهَا، وَأَمَّا الْأَلْتَغُ فَهُوَ: الَّذِي يَعْدِلُ بِحَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ فَيَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا وَاللَّامَ يَاءً وَالسِّينَ شِينًا، فَإِمَامَةُ هَذَيْنِ غير جائرة إِلَّا لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمَا؛ وَإِنَّمَا لم تجز إمامتها، لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا، فَإِذَا عَدَلَ بِحَرْفٍ مِنْهَا أَوْ تَرَكَهُ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ جَمِيعَهَا، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِمَا قَارِئٌ سَلِيمُ اللِّسَانِ كَانَ كَالْقَارِئِ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ لُغَةُ رَجُلَيْنِ فَقَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرْفًا أَتَى بِهِ الْآخَرُ سَلِيمًا لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْجِزُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَرْفِ الَّذِي أَتَى بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ، وَيَجُوزُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ، فَأَمَّا الْحُبْسَةُ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ تَعَذُّرُ الْكَلَامِ عِنْدَ إِرَادَتِهِ وَأَمَّا اللَّفَفُ فَهُوَ: إِدْخَالُ حَرْفٍ فِي حَرْفٍ وَالْعَمْعَمَةُ: أَنْ يُسْمِعَ الصَّوْتَ وَلَا يُبَيِّنَ لَكَ تَقْطِيعَ الْحُرُوفِ؛ وَالْكَلَامُ فِي إِمَامَتِهِ هُوَ كَالْكَلَامِ فِي الْأَرَتِّ، وَالْأَلْتَغِ سَوَاءٌ، فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ نَاطِقًا وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ أَخَرَسَ (القول في إمامة الرجل المرأة) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَأْتَمُّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا بِخُنْثَى، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ بِحَالٍ، فَإِنْ فِعَلَ أَعَادَ صَلَاتَهُ، وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فَجَوَّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤم القوم أقرأهم ". قَالَ: وَلِأَنَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِالرِّجَالِ صح أن يكون إما ما لِلرِّجَالِ كَالرِّجَالِ. قَالَ: وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَشَدُّ مِنْ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ بِالْعَبْدِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِمَامًا لِلْأَحْرَارِ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِإِمَامَتِهِمْ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 23] قال الشافعي فقصرت مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ وِلَايَةٌ وَقِيَامٌ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أخِّروهن مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ "، فَإِذَا وَجَبَ تَأْخِيرُهُنَّ حَرُمَ تَقْدِيمُهُنَّ؛ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ " ولأن المرأة عورة، وفي إمامتها افتنان بِهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّصْفِيقَ لَهَا بَدَلًا مِنَ التَّسْبِيحِ لِلرَّجُلِ فِي نوائب الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِصَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الِائْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ وِلَايَةٌ وَمَوْضِعُ فَضِيلَةٍ وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، أَلَا تَرَاهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَلَا الْقَضَاءَ وَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ " فَالْقَوْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نساءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] . فَلَوْ دَخَلَ النِّسَاءُ فِي الْقَوْمِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُنَّ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم الحصن أَمْ نِسَاءُ) فَأَمَّا الرَّجُلُ: فَالْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ من أهل الولايات، وممن لا يخشى الافتنان بِصَوْتِهِ؛ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ دُونَ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ، لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَزُولُ وَالْأُنُوثِيَّةُ نَقْصٌ ذَاتِيٌّ لَا يَزُولُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهِ (فصل: [القول في إمامة الخنثى] ) لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْخُنْثَى، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَلَا لِلْخُنْثَى أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، لَكِنْ يَجُوزُ للخنثى أن يأتم بالرجل والمرأة والخنثى، فَلَوِ ائْتَمَّ رَجُلٌ بِخُنْثَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَوِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خُنْثَى فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّهُ رَجُلٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ وَقَدْ خُرِّجَ فِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّ أَنَّهُمْ عَدْوٌ فَصَلَّى صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَدُوٍّ، وَلَكِنْ لَوِ ائْتَمَّ خُنْثَى بِامْرَأَةٍ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى امْرَأَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إِمَامَهُ امْرَأَةٌ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ امْرَأَةً فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، كَمَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهَا عِنْدَ إِحْرَامِهِ، وَيَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلًا زَالَ عَنْهُ الْإِشْكَالُ وَبَانَ امْرَأَةً كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِامْرَأَةٍ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهَا جَازَ، لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ امْرَأَةً، وَلَوْ بَانَ رَجُلًا كَرِهْنَا لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ رَجُلًا، وَاللَّهُ تعالى أعلم بالصواب (مسألة) : فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَيَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ كُلِّهَا إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا، إِلَّا الْجُمُعَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا تَجُوزُ إِمَامَتُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: كنتُ بالحاضرة وكان كل مَنْ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمُرُّ بِنَا فَإِذَا رَجَعَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا وَكَذَا فَأَحْفَظُ، وَكُنْتُ عَاقِلًا حَافِظًا، فَحَفِظْتُ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي قَوْمِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفْدًا، فَعَلَّمَهُمُ الصَّلَاةَ وَقَالَ يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ فَقَالُوا هَذَا أَقْرَؤُنَا يَعْنُونَنِي فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ وَعَلَى جَنَائِزِهِمْ وَأَنَا ابْنُ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنَ الْكُتَّابِ لِيُصَلُّوا بِنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَعْمَلُ لَهُمُ الْقَبَلِيَّةَ وَالْحَسَكَاتِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وأكرَه إِمَامَةَ الْفَاسِقِ، وَالْمُظْهِرِ لِلْبِدَعِ، وَلَا يُعِيدُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِمَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، أَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . أَيْ خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ فَاسِقٌ إِذَا كَانَ عريان قَدْ تَجَرَّدَ مِنْ أَثْوَابِهِ، وَتَقُولُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا؛ فَالْفَاسِقُ فِي دِينِهِ: هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِكُرِهَ إِمَامَتُهُ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " فَأَجْهَرَ بِالْفَضْلِ فِي الذِّكْرِ وَنَبَّهَ عَلَى الْفَضْلِ فِي غَيْرِ الذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أصلحكم وأودعكم وَأَرْشَدُكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " انْتَقِدُوا أَئِمَّتَكُمُ انْتِقَادَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَالْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَيُبَايِنَ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ وَيَصِيرَ بِهِ كَافِرًا، كَشَارِبِ الْخَمْرِ بِعَيْنِهَا وَيَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهَا وَتَحْلِيلَهَا، أَوْ مَنْ زَنَى أَوْ لَاطَ مُصِرًّا لَا يَرَى ذَلِكَ حَرَامًا، وَلَا أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّ الْأَمْوَالَ الْمَحْظُورَةَ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ اسْتباح سَفْكَ الدِّمَاءِ الْمَحْقُونَةِ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْفِسْقِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِمَامَتُهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ كَانَ كَمَنِ ائْتَمَّ بِكَافِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْفِسْقِ مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَا يُبَايِنُ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الِاعْتِقَادِ. فَالْفَاسِقُ بِفِعْلِهِ ك " شارب الْخَمْرِ " نَادِمًا، وَالْمُقْدِمِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الْمَحْظُورَاتِ خَائِفًا مُسْتَنْفِرًا، وَالْفَاسِقُ بِاعْتِقَادِهِ كَمَنْ يَرَى سَبَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَكْفِيرَهُمْ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْفِسْقِ لَا يَكُونُ بِهِمَا كَافِرًا وَإِمَامَةُ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَكْرُوهَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَالَ مَالِكٌ: الْفَاسِقُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَفِي الْمُتَأَوِّلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَالصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَسًا صَلَّوْا خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَكَفَى بِهِ فَاسِقًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْعَدْلِ (الْقَوْلُ فِي صلاة القارئ خلف الأمي) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ بِمَنْ يَقْرَأُ أَعَادَ الْقَارِئُ وإن ائتم به مثله أجزأه (قال المزني) قد أجاز صلاة من ائتم بجنب والجنب ليس في صلاة فكيف لا يجوز من ائتم بأمي والأمي في صلاة وقد وضعت القراءة عن الأمي ولم يوضع الطهر عن المصلي وأصله أن كلا مصل عن نفسه فكيف يجزئه خلف العاصي بترك الغسل ولا يجزئه خلف المطيع الذي لم يقصر وقد احتج بان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى قاعداً بقيام وفقد القيام أشد من فقد القراءة فتفهم (قال المزني) القياس أن كل مصل خلف جنب وامرأة ومجنون وكافر يجزئه صلاته إذا لم يعلم بحالهم لأن كل مصل لنفسه لا تفسد عليه صلاته بفسادها على غيره قياساً على أصل قول الشافعي في صلاة الخوف للطائفة الثانية ركعتها مع الإمام إذا نسي سجدةً من الأولى وقد بطلت هذه الركعة الثانية على الإمام وأجزأتهم عنده (قال) ولا يكون هذا أكثر ممن ترك أم القرآن فقد أجاز لمن صلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وإن لم يقرأ بها إمامُهُ وهو في معنى ما وصفت " قال الماوردي: أما الأمي في اللسان فَهُوَ: الْبَاقِي عَلَى أُمِّيَّتِهِ يَعْنِي: عَلَى خِلْقَتِهِ الأولة لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أُمِّيٌّ من ذَلِكَ الشَّيْءِ لَكِنَّ الَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ أُمِّيٌّ هُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ وَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ عِنْدَ إِحْرَامِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِفَسَادِ إِحْرَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ؛ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ فِي الْقَدِيمِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَأَوْجَبَهَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى الْجَدِيدِ تَعْلِيلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَأْتِي بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا وَلَا تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا، وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ يَرَى وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا فَإِنْ قِيلَ: بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَسُقُوطِ الْإِعَادَةِ فِيهِ؛ فَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا صَحَّتْ خَلْفَ الْجُنُبِ وَالْجُنُبُ عَاصٍ لَا طَهَارَةَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، فَالْأُمِّيُّ الَّذِي لَيْسَ بعاصٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، إِلَّا الْقِرَاءَةَ الَّتِي قَدِ انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِمَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الرُّكْنِ أَصْلُهُ: ائْتِمَامُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وَهَذَا نُكْتَةُ هَذَا الْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَوْ نَسِيَ سجدة من الركعة الأولة حَتَّى قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ثُمَّ أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثانية خلفه كان عمله في الثانية كلا عَمَلٍ، إِلَّا السَّجْدَةَ يَجْهَرُ بِهَا الْأُولَى، وَصَحَّتْ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ فَقْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ وَأَصَحُّهَا رواية ابن مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يؤم القوم أقرأهم لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يؤمكم أقرأكم " فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وقراءة السُّورَةَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ لَمْ تَصِحَّ إِمَامَتُهُ وبهذا المعنى فرقنا بين الأمي والجنب، والقاعدة؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَالْقِيَامَ لَا يَتَحَمَّلُهَا الْإِمَامُ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُهُمَا قَادِحًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا إِذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الخوف ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الثَّانِيَةِ قَائِمًا اعْتَدَّ بِهَا للمأموم لِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ، وَالْأُمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ عَدَمُ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَنَسِيَ الْقِرَاءَةَ جَازَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، لِأَنَّ إِمَامَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَقَالَ أبو حنيفة: صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 عَنِ الْمَأْمُومِ وَإِذَا تَضَمَّنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا وَالْأُمِّيُّ عَاجِزٌ عَنْهَا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ... وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنِ ائْتَمَّ بِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَجَبَ إِذَا أَمَّهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَصْلُهُ الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ بَدَلًا مِنَ الْقَارِئِ بِالْقَارِئِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ إِذَا أُئِم بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُ أَصْلُهُ: إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَتَعَدَّى إِلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى لَوْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَطَهِّرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا علماً بِجَنَابَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ لَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْأُمِّيِّ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَحَمُّلَهَا بِالْإِمَامَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِذَا سَلَّمَ لَهُمْ ضَمَانَ تَحَمُّلِهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا وَجَبَ تَحَمُّلًا عَنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَا رُكْنًا مَفْرُوضًا مِنْ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا أَنْ تَبْطُلَ الصَّلَاةُ التي وجبت فيها الصلاة متحملها، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا ضَمَانًا فَاسِدًا أَنَّ الْحَقَّ لَازِمٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ فَلِذَلِكَ هَذَا (فَصْلٌ) : إِذَا صَلَّى مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ خَلْفَ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا وَيُحْسِنُ مَا عَدَاهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ كَصَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالْعَاجِزُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَيْرِهَا مَعَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ كَالْأُمِّيِّ مَعَ الْقَارِئِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ تُجْزِهِ وَلَوْ كَانَا مَعًا لَا يُحْسِنَانِ الْفَاتِحَةَ. إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ وَالْآخَرَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَأَوْلَاهُمَا بِالْإِمَامَةِ أَكْثَرُهُمَا قِرَاءَةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " فَإِنْ أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي فَقْدِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَصَارَتْ مَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا إِذَا أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ فَلَوْ صَلَّى قَارِئٌ خَلْفَ رَجُلٍ لَا يَعْلَمُ أَقَارِئٌ هُوَ أَمْ أُمِّيٌّ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ إِسْرَارٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ وَتُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ صلاة جهر ولم يسمعه قَرَأَ فِيهَا وَلَا عَلِمَهُ قَارِئًا فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسِرًّا بِقِرَاءَتِهَا أَوْ نَاسِيًا لَهَا، وَعَلَيْهِ الإعادة بغلبة الحكم الظَّاهِرِ فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ قَدْ قَرَأْتُ سِرًّا فِي نَفْسِي وَصَدَّقَهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ كَانَ أَوْلَى قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالِاخْتِيَارُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ فَصِيحَ اللِّسَانِ، حَسَنَ الْبَيَانِ، مرتلاً للقرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 ( [القول في إمامة الكافر] ) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ ائْتَمَّ بكافرٍ ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِسْلَامًا مِنْهُ وَعُزِّرَ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ إِمَامًا بِحَالٍ وَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ إِمَامًا فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ إِذَا صَلَّى الْكَافِرُ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ صَلَّى جَمَاعَةً كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أولئك أن يكونوا من المهتدين} فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بُنْيَانَهُ، وَإِنَّمَا عِمَارَتُهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا " وَرُوِيَ " فَهُوَ مُسْلِمٌ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا " وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَأَيْتُمُوهُ مُلَازِمَ الْمَسْجِدِ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ "، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ ". فَلَمَّا حَقَنَ دَمَهُ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ، ويقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَيْتُ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَذَانِ، لِأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقَوْلُهُمْ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا احْتِرَازًا مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ كَمَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى قِيَاسِهِمُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {واقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَرَفَعَ حُكْمَ الشِّرْكِ وَاسْتِبَاحَةَ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّلَاةِ مَعًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الشِّرْكِ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وأمرت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ". فَجَعَلَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَمًا فِي تَحْرِيمِ قِتَالِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ دُونَ الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ فَقَالَ: " إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أَنَا فَمَنْ يَعْدِلُ " وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَاءَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَرَجَعَ، وَقَالَ مَا قَتَلْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَقَدْ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ، فَبَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَاءَهُ ليقتله، فرجع كَذَلِكَ، فَبَعَثَ بِعَلِيٍّ وَرَاءَهُ وَقَالَ إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُ فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَتْلِهِ فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ. قِيلَ: تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِ الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ مُنْفَرِدًا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ جَامِعًا كَالْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِتَرْكِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ فِعْلِهِ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ يَجِبُ إِذَا فَعَلَهُ فِي جَمَاعَةٍ أَلَّا يُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ كَالْجِهَادِ، وَلِأَنَّهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِمَارَةِ الْبِنَاءُ دون إقامة الصلاة اعتباراً بحقيقة الاسم وعرفه، كيف وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة: 18] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِمَارَةِ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ الْإِقَامَةِ ثَانِيَةً وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَنْ عَمَّرَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُؤْمِنُ مَنْ يُعَمِّرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ دَلَالَةً عَلَى الْعِمَارَةِ ودلالة على الإيمان وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من استقبل قبلتنا. . الحديث " فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَإِنْ صَلَّى صَلَاتَنَا كَانَ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، غَيْرَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا صَلَاةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لا تصح إلا بعد تقديم الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ " فمتروك الظاهرة بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَإِنْ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُصَلِّيًا قِيلَ لَهُمْ: إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُتَشَهِّدًا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " فَالْمُرَادُ بِهِ تَثْبِيتُ حُكْمِ تَارِكِهَا دُونَ فَاعِلِهَا، أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَنُبَيِّنُ أَوَّلًا مَذْهَبَنَا فِيهِ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ قَالَ ابْتِدَاءً لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلًا مُسْلِمًا بِنِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا بِإِتْيَانِهِ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ قَالَ حَاكِيًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مسلماً إذا أتى يَصِيرُ الْأَذَانُ أَصْلًا لَهُمْ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ أَنْ لَا يُسْلِمَ فِي الْأَذَانِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَ الْأَذَانِ لَا بِالْأَذَانِ وَالْإِتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ، بَلْ يَجُوزُ مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ وَمُسْتَدْبِرًا، وَقَوْلُهُمْ أَتَى بِكَمَالِهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَذَانُ لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ صَارَ مُسْلِمًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْأَذَانَ وَإِذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا انْتَقَضَتِ الْعِلَّةُ بِالْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا، عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَهُمْ وَإِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ يَصِيرُ مُسْلِمًا، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّهَادَتَيْنِ إِنَّمَا صَارَ بِهَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ مُنْفَرِدًا كَانَ مُسْلِمًا، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا أَتَى بِهَا مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، عَلَى أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِكُفْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ إِمَامِهِ الْكَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِكُفْرِهِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهَدِين َ، فَصَلَ اةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَافِرَ مَعَهُ عِلْمٌ ظاهر يدل على كفره، لأنه يوجد لا يدين بلبس الغيار، وشد الزُّنَّارِ، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ، فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَلِتَفْرِيطِهِ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ إِمَامَةَ الْكَافِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِمَامَةُ الْجُنُبِ قَدْ تَجُوزُ بِحَالٍ، وَهُوَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا صَلَّى بِالْمُتَطَهِّرِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْنَبَ جَمَاعَةٌ وَلَا يَجِدُونَ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِجَنَابَتِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وجب اختلاف حكمهما في الإتمام بهما، وبطلت صلات مَنِ ائْتَمَّ بِالْكَافِرِ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِكُفْرِهِ كَالزَّنَادِقَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى كُفْرِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ إِمَامَةِ الْكَافِرِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْكُفْرِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدَّارِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِكُفْرِهِ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وثيق بِهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمُرْتَدٍّ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَلَوْ شَكَّ فِي إِسْلَامِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ رِدَّتِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ كَانَتْ لَهُ حَالَانِ: حَالُ رِدَّةٍ وَحَالُ إِسْلَامٍ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الْحَالَيْنِ أَمَّهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " أُحِبُّ أَنْ يُعِيدَ " وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِسْلَامِ لَهُ فِي الْحَالِ يَرْفَعُ حُكْمَ رِدَّتِهِ، وَيَدُلُّ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ، وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا أَسْلَمَ ثُمَّ جَحَدَ إِسْلَامَهُ وَقَدِ ائْتَمَّ بِهِ مُسْلِمُونَ. فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَقَبْلَ جُحُودِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَعْدَ جُحُودِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُرْتَدٌّ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَحْرَمَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ جَاءَ الْإِمَامُ فَتَقَدَّمَ بِجَمَاعَةٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ مَعَهُ وَكَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَهَا صَلَاةَ انفرادٍ ثم يجعلها صلاة جماعةٍ وهذا يخالف صلاة الذين افتتح بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصلاة ثم ذكر فانصرف فاغتسل ثم رجع فأمهم لأنهم افتتحوا الصلاة جماعةً وقال في القديم قال قائل يدخل مع الإمام ويعتد بما مضى (قال المزني) هذا عندي على أصله أقيس لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن في صلاةٍ فلم يضرهم وصح إحرامهم ولا إمام لهم ثم ابتدأ بهم وقد سبقوه بالإحرام وكذلك سبقه أبو بكر ببعض الصلاة ثم جاء فأحرم وائتم به أبو بكر وهكذا القول بهذين الحديثين وهو القياس عندي على فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَحْرَمَ الرجل منفرداً بفرض وقته من ظهر أبو عَصْرٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْإِمَامُ فَأَنْشَأَ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً، فَيُخْتَارُ لِهَذَا الْمُنْفَرِدِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ، يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً، وَيَبْتَدِئُ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُؤَدِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا ابْتَدَأَهُ مُنْفَرِدًا، وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَتْبَعِ الْإِمَامَ جَازَ، وَإِنْ تَبِعَ الْإِمَامَ بِإِحْرَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ بِإِمَامَيْنِ أَجَازَ هَذَا، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي صَلَاتِهِ قَوْلًا ثَالِثًا، إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا " فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُ الْمَأْمُومِ عُقَيْبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، فَوَجَبَ إِذَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ صَلَاتَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الِائْتِمَامُ فِيهَا بِالْإِمَامِ أَصْلُهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُحْرِمَ مَعَهُ فَسَبَقَ إِمَامَهُ بِالْإِحْرَامِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لعلةة مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي مَوْقِفِهِ وَأَفْعَالِهِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ إِمَامَهُ فِي مَوْقِفِ الصَّلَاةِ، لَمْ يَجُزْ، فكذلك إذا تقدمه في أفعالها. وإذا قبل بِصِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَهُمْ " كُونُوا كَمَا أَنْتُمْ " وَدَخَلَ وَاغْتَسَلَ وَخَرَجَ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً وَاسْتَأْنَفَ الْإِحْرَامَ وَبَنَى الْقَوْمُ عَلَى إِحْرَامِهِمْ، فَلَمَّا سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاسْتِئْنَافِهِ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْجَنَابَةِ مِنْ إِمَامَتِهِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَأَحْرَمَ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِفَّةً فَتَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ فَلَمَّا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْتَتِحَ صَلَاةَ انْفِرَادٍ ثُمَّ يَأْتَمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 بِهِ رَجُلٌ فَتَصِيرُ جَمَاعَةً، جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ يَأْتَمُّ بِرَجُلٍ فَتَصِيرُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا صَلَاةٌ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا جَامِعًا وَفِي انْتِهَائِهَا مُنْفَرِدًا إِذَا أَحْدَثَ إِمَامُهُ أَوْ مَاتَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا مُنْفَرِدًا وَفِي انْتِهَائِهَا جَامِعًا، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ أَنْقَصُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَبِنَاءَ الْأَفْضَلِ عَلَى الْأَنْقَصِ جَائِزٌ فِيمَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ مُنْفَرِدًا، كَبِنَاءِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ عَلَى صَلَاةِ الْمُقِيمِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَهَا رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً " فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَقْلِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِهِ فِي نَقْلِ صَلَاةٍ إِلَى صَلَاةٍ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ، لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، كَظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ الْأَوَّلِ، لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ، وَلَا عَنِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نَفْلٌ إِلَى نَفْلٍ، لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ كَانْتِقَالٍ مِنْ وِتْرٍ إِلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لم يجب، لأن افتتاحها بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا فَأَمَّا نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: انْتِقَالُ حُكْمٍ، وَالثَّانِي: انْتِقَالُ فِعْلٍ، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ، فَهِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَإِنْ نَوَاهَا فَرْضًا، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْفِعْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ إِحْرَامُهُ بِفَرْضٍ، ثُمَّ يُغَيِّرُ النِّيَّةَ وَيَنْقِلُ صَلَاتَهُ مِنَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا بُطْلَانُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالثَّانِي: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ تَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً، فَيَجُوزُ نَقْلُ الْفَرْضِ إِلَى النَّافِلَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ وَحَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ انْتَقَلَتْ فِي الْحُكْمِ نَافِلَةً، لَا أَنَّهَا انْتَقَلَتْ بِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 (باب موق ف صل اة المأموم مع الإمام) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا قَامَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا أَوِ امْرَأَةً قَامَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا خَلْفَهُ وَحْدَهُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا فَالسُّنَّةُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: يَقِفُ الْمَأْمُومُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَقِفُ خَلْفَهُ إِلَى أَنْ يَرْكَعَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ آخَرُ وَقَفَا خَلْفَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ تَقَدَّمَ وَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّهُ وَامْرَأَةً، فَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْمَرْأَةَ وَرَاءَهُ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وَجَدَ خِفَّةً مِنْ مَرَضِهِ خَرَجَ وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَوَضَّأَ، وَقَامَ لِيُصَلِّيَ، فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ مِثْلَ وُضُوئِهِ، وَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَنْوِي بِهِ التَّحِيَّةَ لِلْمَأْمُومِينَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُحَيِّي فِيهَا، فَلَوْ خَالَفَ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَوَقَفَ خَلْفَهُ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَنَقَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى يَمِينِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْشَأَ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فَأَمَّا إِنْ أَمَّ رَجُلَيْنِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَا صَفًّا خَلْفَهُ، لِمَا رَوَى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّهُ وَيَتِيمًا فَوَقَفَا خَلْفَهُ، وَوَقَفَتْ جَدَّةُ أَنَسٍ خَلْفَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ فَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ صَفًّا، فَلَوْ وَقَفَا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ أَوْ وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ فَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ لِيَأْتَمَّ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْمَأْمُومُ لِيَقِفَ هُوَ وَالْجَائِي صَفًّا، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ عَنْ مَوْقِفِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَقَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ يَسَارِهِ إِلَى يَمِينِهِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَدَخَلَ أَبُو صَخْرٍ وَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَّرَنَا بِيَدَيْهِ حَتَّى صِرْنَا خَلْفَهُ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ وَالْإِمَامَ مَتْبُوعٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ انْتِقَالِ أَحَدِهِمَا فَالتَّابِعُ أَوْلَى (فَصْلٌ) : فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ امْرَأَةً وَحْدَهَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ وَلَمْ تَقِفْ إِلَى جَنْبِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، " خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا " وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّ خُنْثَى مُشْكِلًا وَقَفَ خَلْفَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الرَّجُلِ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُفْرَدَةً خَلْفَ أَنَسٍ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا وَخُنْثَى وَامْرَأَةً وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا وَصِبْيَانًا فَأَصَحُّ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَمَامَ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ يَقِفُ الصِّبْيَانُ خَلْفَ الرِّجَالِ، لِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أَهْلُ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ كُلُّ صَبِيٍّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى تَعْلِيمِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا وَصِبْيَانًا وَخَنَاثَى وَنِسَاءً تَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَ الصِّبْيَانِ الْخَنَاثَى، ثم بعدهم النساء (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وركع أبو بكر وَحْدَهُ وَخَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اصْطَفَّ النَّاسُ خَلْفَ إِمَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُمْ، فَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقِفَ فِي صَفِّهِمْ وَيَجْذِبَ إِلَيْهِ فَيَقِفَانِ جَمِيعًا خَلْفَهُ، فَإِنْ أَبَى وَوَقَفَ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا تصح صلاته إذا انفرد تعلقاً برواية أبي سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى فأبصر رجلاً صلى خلف الصف فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ علي بن شيبان عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ النَّاسِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " أَعِدْ صلاتك، فإنه لا صلاة لفذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَلْهَثُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ الَّذِي رَكَعَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ؟ فَقُلْتُ أَنَا، قَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تُعِدْ " فَلَوْ كَانَ انْفِرَادُهُ قَادِحًا فِي صَلَاتِهِ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَهَاهُ وَقَالَ: لَا تَعُدْ، قُلْنَا: فِي مَعْنَى نَهْيِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ السَّعْيِ وَاللَّهْثِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُعِدْ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ الصَّفِّ مَعَ غَيْرِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا كَالْمَرْأَةِ خَلْفَ الرِّجَالِ فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كانت باطلة لأمره بالإعادة قبل اتهامها، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ فَغَيْرُ كَامِلَةٍ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى إِمَامِهِ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ قُدَّامَ إِمَامِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: بِغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ، وَمُخَالَفَةُ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، كَالْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَفَ عَلَى يَسَارِ إِمَامِهِ أَوِ الْجَمَاعَةُ إِذَا وَقَفُوا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ: صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَالِائْتِمَامُ الِاتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى إِمَامِهِ لَا يَكُونُ تَابِعًا بَلْ يَكُونُ مَتْبُوعًا، وَلِأَنَّ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ في موقفه وأفعاله، فلما لم لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي إِحْرَامِهِ وأفعاله صَلَاتِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا وَالثَّانِي: فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فِي مَنَازِلِهَا، فَإِنْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِي غَيْرِهَا، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَرَاءَ الْإِمَامِ وَتُجَاهَهُ، وَيَكُونُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْمَقَامِ مُسْتَقْبِلًا لِبَابِ الْكَعْبَةِ، مُسْتَدْبِرًا لِبَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَإِنْ وَقَفَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ أَجْزَأَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فإن كان الإمام منها على النحو الذراع تأخر المأمومين نَحْوَ الذِّرَاعَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا الَّذِينَ هُمْ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى، وَإِنْ فَعَلَهُ الَّذِينَ هُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ ": إِذَا تَوَجَّهَ الْإِمَامُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قال أَبُو إِسْحَاقَ إِنَّ فِي صَلَاتِهِمْ قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى، وَحُمِلَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ إِنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا اسْتِعْمَالًا لِظَاهِرِ نَصِّهِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا إِلَى الْبَيْتِ أَقْرَبُ مِنَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ وَمُحَاذَاتِهِ وَغَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ إِلَى الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ صَارَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ اتِّبَاعِهِ، وَسَرَى ذَلِكَ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْإِمَامِ فَيُمْكِنُهُمْ مُشَاهَدَةُ أَفْعَالِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا تَقَدَّمَ إِمَامَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَبُطْلَانِهَا (فَصْلٌ) : وَإِذَا سَبَقَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَسَجَدَ قَبْلَ سُجُودِهِ فَإِنْ سَبَقَهُ قَاصِدًا لِمُخَالَفَتِهِ مُعْتَقِدًا إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ لِمُخَالَفَةِ أَفْعَالِهِ، وَلَا مُنْفَرِدًا عَنْهُ لِاعْتِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمًّا وَلَا مُنْفَرِدًا كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ إِمَامِهِ فَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ كَأَنْ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَاسْتَدَامَ الرُّكُوعَ مَعَهُ فَقَدْ أَسَاءَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ رَأْسِ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوَّلَ رَأْسُهُ رَأْسَ حِمَارٍ " وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ فِي الركن الذي سبقه في فَاقْتَضَى أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَهُ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنَيْنِ مِنَ الرَّكْعَةِ كَأَنْ رَكَعَ وَرَفَعَ ثُمَّ رَكَعَ الْإِمَامُ أَوْ رَفَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ الْإِمَامُ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ تَصِحَّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي مُعْظَمِ فِعْلِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ سَبَقَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ تُجْزِئَهُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ امْرَأَةٌ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي وعائشة رضي الله عنها معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أبي حنيفة فِيهَا وَدَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي طَرَفِهِ وَلَمْ تَتَّصِلِ الصُّفُوفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أو فوق ظهر المسجد بصلاة أجزأه كذلك صلى أبو هريرة فوق ظهر المسجد بصلاةٍ الإمام في الْمَسْجِدِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صلى المأموم في طرق الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي طَرَفِهِ الْآخَرِ فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ، وَطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أوجه إما بمشاهدة وبسماع تَكْبِيرِهِ أَوْ بِمُشَاهَدَةِ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ بِسَمَاعِ تَكْبِيرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بِصَلَاتِهِ عَالِمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ بَعُدَ، حَالَ مَا بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَوْ لَمْ يَحُلْ، اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ تَتَّصِلْ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ إِنَّمَا يُبْنَى لِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهِمْ وَكَثْرَتِهَا فَصَغُرَتْ مَسَاجِدُ الْمَحَالِّ لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَاحِدَةٍ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَعَ إِمَامِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَرَاءَهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِهَا يَمْنَعُ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِيهَا، فَلَوْ صَلَّى الْمَأْمُومُ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُصْطَفًّا بِهِ أَوْ عَلَى سَطْحِهِ، وَكَانَ عَالِمًا بصلاة إمامه فصلاته جائزة؛ لما رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ وَرِحَابَهُ كَالْمَسْجِدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ مِنَ اللُّبْثِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ (فَصْلٌ) : وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَالْمَأْمُومُ فِي أَرْضِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عُلُوٍّ مِنَ الْأَرْضِ لِيُعْلِمَ الْمَأْمُومِينَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كَانَ جَائِزًا مُسْتَحَبًّا، وَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ سَوَاءً وَكَرِهَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ [هَمَّامٍ] قَالَ: صَلَّى بِنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَصَعِدَ دِكَّةً فَجَذَبَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قال له بان مَسْعُودٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ مَا قَبِلْتُ مِنْكَ وَدَلِيلُنَا رواية أبي حازم عن سهل بن السَّاعِدِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَرَكَعَ وَرَفَعَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى حتى نزل فسجد ثم رقا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ". وَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَ مَنْ خَلْفَهُ بَلْ هو الظاهر لأنهم صحابة وَقَدْ عَلِمُوا الصَّلَاةَ مِثْلَ عِلْمِهِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ صَلَّى قُرْبَ الْمَسْجِدِ، وَقُرْبُهُ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَتَّصِلَ بِشَيْءٍ بِالْمَسْجِدِ، لَا حَائِلَ دُونَهُ فَيُصَلِّي مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِنَائِهِ عَلَى قَدْرِ مِائَتَيْ ذراعٍ أَوْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمَأْمُومِ إِذَا صَلَّى مَعَ إِمَامِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ بثلاثة شرائط: أحدهما: الْعِلْمُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مَضَتْ وَالثَّانِي: الْقُرْبُ وَأَبْعَدُهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ أَوْ نَحْوِهَا وَذَلِكَ أَبْعَدُ رَمْيَةِ سَهْمٍ، وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فجعل الثلاث مائة ذِرَاعٍ حَدًّا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وَأَصْلُهُ حِرَاسَةُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ أَذَى عَدُوِّهِمْ وَأَبْعَدُ أَذَاهُمْ رَمْيُ السِّهَامِ، وَغَايَتُهُ فِي الْغَالِبِ مَا ذَكَرْنَا وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ سُورِ الْمَسْجِدِ مِنْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا سُورُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى جَوَازِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ حَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا، لِأَنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ مِنْ مَصَالِحِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ فَصَارَ كَالسَّوَارِي الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ: إِنَّ ذَلِكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ أَبْوَابُهُ الْمُغْلَقَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُصْمَتَةً أَوْ مُشَبَّكَةً، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِنِسْوَةٍ صَلَّينَ فِي سُتْرَةٍ لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْزِلِهَا وَالْمَسْجِدِ إِلَّا سُورُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَابَ مَنْزِلِهَا كَانَ يَنْفُذُ إِلَيْهِ فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثَةُ صَحَّتْ صَلَاةُ مَنْ خَارِجُ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ وَإِنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالنَّخَعِيُّ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُصَلِّي بِصَلَاةِ الْإِمَامِ مَنْ عَلِمَهَا قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا حَالَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا، وَهَذَا غَلَطٌ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ [بِهِ] سائر الفقهاء والدلالة على صحة قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَمَا قَالَهُ مِنْ إِيجَابِ السَّعْيِ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ لَهُمْ سَبِيلُ الْعِلْمِ بِهَا وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " مَعْنَاهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا صَلَاةَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا فِي مَنْزِلِهِ جَائِزَةٌ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ " يَعْنِي: بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنِّسْوَةِ اللَّائِي صَلَّيْنَ فِي مَنْزِلِهَا: " لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ " (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرَائِطِ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُومِ الْوَاقِفِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ الْإِمَامُ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ وَرَاءَهُ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَّا أَنْ يكون محل ذيل الباب مفتوح يُشَاهَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ مَنْ فِيهِ وَيَكُونُ عَلَى قُرْبٍ، وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ سُورِ الْمَسْجِدِ لَا مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَلَا مِنَ انْتِهَاءِ الصُّفُوفِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُحَاذِيًا لِبَابِ الْمَسْجِدِ مُشَاهِدًا لَهُ وَلِأَصْلِهِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سوره دون الثلاث مائة ذراع صحت صلاته وصلات مَنِ اتَّصَلَ بِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَوَرَاءً وَلَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ مَنْ يُقَدِّمُهُ إِمَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِذَا لَمْ يُشَاهِدِ الْمَسْجِدَ صَارَ تَابِعًا لِمَنْ شَاهَدَهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَى مَتْبُوعِهِ كَانَ كَالْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ فَلَوِ اتَّصَلَ الصَّفُّ عَنْ يَمِينِهِ أَمْيَالًا وَيَسَارِهِ أَمْيَالًا وَوَرَاءَهُ أَمْيَالًا صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ مَا لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ مِنْ سُتْرَةٍ أَوْ جِدَارٍ، وَلَا يَبْعُدُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ فصلات مَنْ وَرَاءَ الْحَائِلِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ بَعُدَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فَصَلَاةُ الْمُنْقَطِعِ الْبَعِيدِ بَاطِلَةٌ وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الْخَارِجَةِ وَلَيْسَ الطُّرُقُ النَّافِذَةُ حَائِلًا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وبعض بل حكمها حكم غيرها مِنَ الْمَرْفُوعِ سَوَاءٌ وَقَالَ أبو حنيفة: الطُّرُقُ النافذة حائلاً يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا صَلَّى فِي بُيُوتِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف والمسجد طَرِيقٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ حَائِلًا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ الْجُمَعُ فِي الصَّحْرَاءِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا طُرُقٌ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَوِ اتَّصَلَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَمْيَالًا جَازَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ قال إن الطريق حائل (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك الصحراء والسفينة والإمام في أخرى ولو أجزت أبعد من هذا أجزت أن يصلي على ميل ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الإمام من علمها ولا أقول بهذا (قال المزني) قد أجاز القرب في الإبل بلا تأقيت وهو عندي أولى لأن التأقيت لا يدرك إلا بخبر " قال الماوردي: في أخرى أَمَّا الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ وَجَوَازَ صَلَاتِهِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ، أَوْ بِصَلَاةِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَكَانَ عَلَى قُرْبٍ وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ فِي أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْ مَوْقِفِهِ، فَأَمَّا الْمُصَلِّي فِي سَفِينَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَائِمًا، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ، أَوْ صِغَرِ السَّفِينَةِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ، وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، كَالْمَرْبُوطِ عَلَى خَشَبَةٍ قَالَ: فَلَوْ غَرِقَتِ السَّفِينَةُ وَتَعَلَّقَ رَجُلٌ بِلَوْحٍ وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى مُومِيًا، فَإِنِ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَلَّاهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يُعِيدُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَيُعِيدَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى تَرْكِ الْقِبْلَةِ كَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الْإِيمَاءِ، أَنَّ غَيْرَ الْخَائِفِ قَدْ سَقَطَ فَرْضُهُ بِالْإِيمَاءِ وَهُوَ الْمَرِيضُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ ها هنا غير الْخَائِفِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ تَرْكِ الْقِبْلَةِ فَلَمْ تَصِحَّ هَا هُنَا (فَصْلٌ) : فَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ السَّفِينَةِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً جَازَ، لِأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ جَازَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَازَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ كَالْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتِ السَّفِينَةُ ذات طبقتين علوا وَسُفْلٍ فَإِنْ صَلَّوْا جَمِيعًا فِي إِحْدَى الطَّبَقَتَيْنِ عُلُوٍّ أَوْ سُفْلٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ صَلَّى بَعْضُهُمْ فِي سُفْلِهَا وَإِمَامُ جَمِيعِهِمْ وَاحِدٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ مَنْفَذٌ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بِصَلَاةِ بَعْضٍ، صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مَنْفَذٌ يشاهد الأسفلون منه الأعلون أَوْ بَعْضَهُمْ، وَالْأَعْلَوْنَ مِنْهُ الْأَسْفَلِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ، فَصَلَاةُ مَنْ فِي طَبَقَةِ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي عُلُوِّهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 أَهْلِ السُّفْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُفْلِهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ السُّفْلِ وَبَطَلَتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ، لِأَنَّ الْحَائِلَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّفِينَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُغَطَّاتَيْنِ، أَوْ مَكْشُوفَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُغَطَّاةً وَالْأُخْرَى مَكْشُوفَةً، فَإِنْ كَانَتَا مُغَطَّاتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي دَارٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ أَوْ كَانَا عَلَى ظَهْرِ سَفِينَتَيْنِ مُغَطَّاتَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَشْدُودَتَيْنِ أَوْ مُرْسَلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّفِينَتَيْنِ مَشْدُودَةً بِالْأُخْرَى صَارَتَا كَالسَّفِينَةِ الْوَاحِدَةِ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَإِنْ كَانَتَا مُرْسَلَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا رَبْطٌ وَلَا شِدَادٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قُرْبٌ وَكَانَ اعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ آخَرِ صَفٍّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ عَلَى الشَّطِّ، أَوِ الْإِمَامُ عَلَى الشَّطِّ وَالْمَأْمُومُ فِي سَفِينَةٍ، أَوِ الْإِمَامُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ نَهْرٍ وَالْمَأْمُومُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا قُرْبٌ، وَلَيْسَ الْمَاءُ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا وَقَالَ أبو حنيفة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمَاءَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فِيهِ كَانَ حَائِلًا كَالْحَائِطِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ مَا اتُّخِذَ حَائِلًا وَمَنَعَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَاءُ لَيْسَ بِحَائِلٍ، وَإِنَّمَا لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ، فصار كالنار الحسك الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَائِلًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّابِحِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ حَائِلًا لِلسَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ حَائِلًا لِغَيْرِ السَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ حَائِلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ صَلَّى فِي داء قُرْبَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِأَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَمَّا فِي عُلُوِّهَا فَلَا يُجْزِئُ بِحَالٍ لِأَنَّهَا بَائِنَةٌ مِنَ المسجد وروي عن عائشة أن نسوة صلين في حجرتها فقالت لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حجاب " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا صَلَّى رَجُلٌ فِي دَارٍ تُجَاوِرُ الْمَسْجِدَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَمِنَ الطَّرِيقِ إِلَى الدِّهْلِيزِ، وَمِنَ الدِّهْلِيزِ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةُ مَنْ فِي الصَّحْنِ وَصَلَاةُ مَنْ وَرَاءَهُمْ جَائِزَةً، وَصَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ وَوَقَفَ أَمَامَهُمْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُمْ، فَأَمَّا صَلَاةُ مَنْ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسُورِهَا فَبَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، لِتَعَذُّرِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا صَلَاةَ مَنْ فِي الدَّارِ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الصُّفُوفُ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حُجْرَتِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ تُلَاصِقُ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا سُور ٌ فَصَلَّ ى بِهَا قَوْمٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَالصُّفُوفُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِحَائِلٍ وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي صَلَّيْنَ فِي حُجْرَتِهَا لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ، وَلَمْ يكن بين حجرتها وبين المسجد إلى سُورُهُ، فَلَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ إِلَى سَطْحِ الدَّارِ الْمُلَاصِقَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةً، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّلَاةِ يُوجِبُ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ، كَمَا لَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْ فِي الدَّارِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ أَوْ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَةِ الْإِمَامِ فَأْتَمَّ لِنَفْسِهِ لَمْ يَبِنْ أَنْ يُعِيدَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ مُعَاذٍ بَعْدَمَا افْتَتَحَ مَعَهُ فَصَلَّى لِنَفْسِهِ، وأعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَلَمْ نَعْلَمْهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَيُجْزِئُهُ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً، ثُمَّ خَرَجَتْ فَبَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا فَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا فَدَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ، فَلَا يخو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ معذور فقد أساء في بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ تُخَالِفُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ المنفرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 يَلْزَمُهُ سَهْوُ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ سَهْوُ غَيْرِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا جَرَيَا مَجْرَى الصَّلَاتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الِانْفِرَادِ كَمَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ ظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَةِ مُعَاذٍ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَمْ يَأْمُرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَقْضِي بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَصْلُهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ وَصَوْمُ النَّافِلَةِ، وَعَكْسُهُ صَلَاةُ الْفَرْضِ وَصَوْمُ الْفَرْضِ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْدَمَ بِمُفَارَقَةِ إِمَامِهِ مَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الِائْتِمَامِ وَهُوَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لَا جَوَازُ الصَّلَاةِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا لَا يَنْوِي إِمَامَةَ أَحَدٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ يَنْوِي الِائْتِمَامَ بِهِ، أَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: صَلَاةُ الْمُؤْتَمِّ بَاطِلَةٌ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْمُؤْتَمُّ رَجُلًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَوَضَّأَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ، فَصَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاتَهُ وَلَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ، وَرَوَى ثَابِتٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُصَلِّي فَقُمْتُ بِجَنْبِهِ فَجَاءَ آخَرُ وَقَامَ بِجَنْبِي حَتَّى صِرْنَا وَسَطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى سَلَّمَ ثَمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قُلْتُ فَطِنْتَ بِنَا؟ قَالَ نَعَمْ، مَا صَنَعْتُ الَّذِي صنعته إلا لأجلكم وإنه لو أحرم بعشرة أَنْفُسٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأْتَمَّ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ (فَصْلٌ) : إِذَا ائْتَمَّ بِرَجُلَيْنِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِمَا إِذْ قَدْ يَرْكَعُ أَحَدُهُمَا وَيَسْجُدُ الْآخَرُ فَإِنْ تَبِعَ السَّاجِدَ خَالَفَ الرَّاكِعَ، وَإِنْ تَبِعَ الرَّاكِعَ خَالَفَ السَّاجِدَ، وَالْمَأْمُومُ إِذَا اعْتَمَدَ خِلَافَ إِمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ إِمَامَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الِائْتِمَامُ بِهِ (فَصْلٌ) : لَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ هُوَ مُؤْتَمٌّ بِآخَرَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ وَجَدَ الْخِفَّةَ فِي مَرَضِهِ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمَ فأمر أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ، قِيلَ لَهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَامًا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمِيعِ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَرِّفُهُمْ أَفْعَالَ صَلَاتِهِ وَيُبَلِّغُهُمْ تَكْبِيرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مُؤْتَمًّا (فَصْلٌ) : فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ شَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ هَلْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا؟ فَعَلَيْهِمَا الْإِعَادَةُ؛ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَشَكَّ كُلُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فِعْلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُكْمِ صَلَاتِهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا الْإِمَامُ كَانَتْ صَلَاتُهُمَا جَمِيعًا جَائِزَةً، وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَنْتَ أَنْتَ إِمَامِي وَأَنَا الْمُؤْتَمُّ بِكَ فَصَلَاتُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِتَابِعِهِ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَصَلَاةُ الْأَئِمَّةِ مَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمُّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَحْتَاجُ الْإِمَامُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا، لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمَّ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ، فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ، وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أُطِيلَ الْقِرَاءَةَ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ فَأُخَفِّفُ رَحْمَةً لَهُ ". وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ حِينَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَأَمَّا إِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَالْخِيَارُ إِلَيْهِ وَالْإِطَالَةُ بِهِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَلَا يَسْتَطْرِقُهُمُ الْمَارَّةُ، جَازَ أَنْ يُطِيلَ الصَّلَاةَ بِهِمْ إِذَا اخْتَارُوا (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَيَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤم القوم أقرؤهم " فإن لم يجتمع ذلك في واحد فإن قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في الصلاة فحسن، وإن قدم أقرؤهم إذا علم ما يلزمه فحسن، ويقدم هذا على أن منهما وإنما قيل يؤمهم أقرؤهم أسن من مضى كانوا يسلمون كباراً فيتفقهون قبل أن يقرؤوا ومن بعدهم كانوا يقرؤون صغاراً قبل أن يتفقهوا فإن استووا أمهم أسنهم فإن استووا فقدم ذو النسب فحسن وقال في القديم فإن استووا فأقدمهم هجرة وقال فيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأئمة من قريش " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يتقدم إلى الإمامة من جميع أَوْصَافَهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْقِرَاءَةُ وَالْفِقْهُ وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الدِّينِ وَحُسْنِ الِاعْتِقَادِ، فَمَنْ جَمَعَهَا وَكَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَنْزِلَةُ اتِّبَاعٍ وَاقْتِدَاءٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَمِّلُهَا كَامِلَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِي وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ مَنِ اخْتَصَّ بِأَفْضَلِهَا، وَأَوَّلُهَا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَأَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَقْرَأُ وَالْأَفْقَهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَقَدِيمِ الْهِجْرَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ وَلَا قُرَّاءَ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ". وَإِنَّ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ يَخْتَصَّانِ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ شَرَائِطِهَا وَالْفِقْهَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ لَا تَخْتَصُّ بِهِ الصَّلَاةُ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَأِ أَوِ الْأَفْقَهِ، فَالْفَقِيهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَحْصُورٌ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ محصور؛ لكثرة أحكامها، ووقوع حوادثها وإن قِيلَ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " قُلْنَا هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ، وَكَانَ أَقْرَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْقَهَهُمْ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَانِ؛ لأنهم كانوا يتفقهون ثم يقرؤون ومن في زماننا يقرؤون ثُمَّ يَتَفَقَّهُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا وَنَعْلَمُ أَمْرَهَا وَزَجْرَهَا وَنَهْيَهَا، وَالرَّجُلُ الْيَوْمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ أَحْكَامِهَا شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كنا نجوز على عشرة أيام حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَقْدِيمُ الْأَفْقَهِ ثُمَّ الْأَقْرَأُ فَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْهِجْرَةِ الْقَدِيمَةِ وهل يكون أولى من ذي النسب عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنَ الْمُسِنِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأئمة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 قريش " وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا وَلَا تُعَلِّمُوهَا " وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْمُسِنَّ أَوْلَى مِنْ ذِي النَّسَبِ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أكبركما " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّيْبُ وَقَارٌ وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ عَبْدِي وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ أُعَذِّبَهُمَا بِالنَّارِ) وَلِأَنَّ الْمُسِنَّ أَسْكَنُ نَفْسًا وَأَكْثَرُ خُشُوعًا لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ وَقِلَّةِ شَهَوَاتِهِ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاتَّفَقَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءٌ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَحْسَنُكُمْ وَجْهًا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أحسنكم خلقاً " (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَمَّ مَنْ بَلَغَ غَايَةً فِي خِلَافِ الْحَمْدِ مِنَ الدِّينِ أَجْزَأَ، صَلَّى ابْنُ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ نَصَّ الْكَلَامُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ ائْتَمَّ بِفَاسِقٍ لَمْ يُعِدْ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، إِذَا لَمْ يُخْرِجْ نَفْسَهُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَصَلُّ وا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُنَّةً " فَلَمَّا جَوَّزَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَمُؤَخِّرُ الصَّلَاةِ عَمْدًا فَاسِقٌ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ وَجَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ فِي النَّافِلَةِ صَحَّتْ فِي الْفَرِيضَةِ كَالْعَدْلِ وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِذَا صَلَّيَا خَلْفَ مروان بن لحكم يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ فَقَالَ: لَا مَا كَانَا يَزِيدَانِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُ غَيْرَ النَّوَافِلِ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ فِي بَيْتِ رَجُلٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَأَذِّيهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 إِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ بَيْتَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالسِّنِّ وَالشَّرَفِ، إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَصِحُّ بِهِ إِمَامَتُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَمَّهُمْ أَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَعُوا وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى وَلَمْ يَجْمَعُوا وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنِي أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَذَا كَرَبِّ الْبَيْتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: نَعَمْ رَبُّ الْبَيْتِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ (فَصْلٌ) : فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أُمِّيًّا اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مِثْلَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَأَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَلَّوْا فُرَادَى، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ امْرَأَةً فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِمَامَةِ، إِلَّا أن يكونوا نساء ليس لهن أن يأموا بِإِحْدَاهُنَّ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا اسْتُؤْذِنَ وَلِيُّهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ جَمَعُوا، وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ مِنْهُ، فَلَوْ حَضَرَ رَبُّ الدَّارِ وَمُسْتَأْجِرُهَا فَمُسْتَأْجِرُهَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّهَا، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنْهُ لِمَنَافِعِهَا، فَلَوْ حَضَرَ إِمَامُ الْوَقْتِ أَوْ سُلْطَانُ الْبَلَدِ مَنْزِلَ رَجُلٍ فَفِي أَحَقِّهِمْ بِالْإِمَامَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ، لِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَنَافِعِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ تَصَرُّفًا فِيهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْإِمَامَ وَالسُّلْطَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامَةِ عَامَّةٌ وَوِلَايَةَ رَبِّ الدَّارِ خَاصَّةٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعِي الْجَمَاعَةِ ووالٍ عَلَى الْكَافَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَدَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْوِلَايَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِمَامُ الْعَصْرِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ فِي أَعْمَالِهِ مِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَكَوْنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ إِمَامًا لِجَامِعِ الْبَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانِهِ لما في ذلك من الاستهانة به، وإلا فتيان عليه في ولايته وَإِنْ عُدِمَ السُّلْطَانُ فَارْتَضَى أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمْ جَازَ، فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْعَشَائِرِ وَالْأَسْوَاقِ فَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْدُبَ نَفْسَهُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ السُّلْطَانَ، لِمَا فِي اسْتِئْذَانِهِ مِنَ التَّعَذُّرِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا انْتُدِبَ أَحَدُهُمْ لِإِمَامَةِ مَسْجِدِهِ وَعُرِفَ بِهِ وَرَضِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِإِمَامَتِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَضَرَ مَسْجِدَ مَوْلًى لَهُ فَقِيلَ لَهُ تَقَدَّمْ فَقَالَ لِمَوْلَاهُ تَقَدَّمْ فَإِنَّكَ إِمَامُ الْمَسْجِدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 (باب إمامة المرأة) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا صَلَّتْ بِنِسْوَةٍ الْعَصْرَ فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَمَّتْهُنَّ فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ جَارِيَةً لَهُ تَقُومُ بِأَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ بِنِسَاءٍ تَقُومُ وَسَطَهُنَّ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ فَرْضًا وَنَفْلًا وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ يُكْرَهُ لَهَا الْإِمَامَةُ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّ وَرَقَةَ بِنْتَ نَوْفَلٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ غَزَاةَ بَدْرٍ قَالَتْ أَخْرُجُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأُمَرِّضُ الْمَرْضَى فَلَعَلَّ اللَّهَ أن يرزقني الشهادة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَرِّي فِي بَيْتِكِ وَأَنْتِ شَهِيدَةٌ " قَالَ فَسُمِّيَتِ الشهيدة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَزُورُهَا فِي وَقْتٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ بِمَنْ فِي مَنْزِلِهَا، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَأَيْتُ مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَّتِ النِّسَاءَ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ، وَكَذَلِكَ أَمُّ سَلَمَةَ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ وَصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّأْخِيرَ عَنْ إِمَامَةِ الرِّجَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ فَالْأَوْلَى لِمَنْ أَمَّ مِنْهُنَّ أَنْ تَقِفَ وَسَطَهُنَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَهَلْ جَمَاعَتُهُنَّ فِي الْفَضْلِ وَالِاسْتِحْبَابِ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كَالرِّجَالِ، بِفَضْلِ جَمَاعَتِهِنَّ عَلَى صَلَاةِ الفرد بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ جَمَاعَةَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَتِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 (بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا يَكُونُ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة سافر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أميالاً فقصر وقال ابن عباس أقصر إلى جدة وإلى الطائف وعسفان. قال الشافعي وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي وسافر ابن عمر إلى ريم فقصر قال مالك وذلك نحو من أربعة برذ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، جُمْلَةُ الْأَسْفَارِ عَلَى أربع أَضْرُبٍ، وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ فَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالطَّاعَةِ، وَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمُبَاحُ سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْمَعْصِيَةُ السَّفَرُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ فَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَلَا يُفْطِرَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا السَّفَرُ الْوَاجِبُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُبَاحُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . فَوَرَدَتِ الْآيَةُ بِإِبَاحَةِ الْقَصْرِ بِشَرْطِ الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِي غَيْرِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِتْمَامَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى وَاجِبٍ كَتَرْكِ التَّسَتُّرِ لِلْخِتَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ قَدْ عَجِبْتُ مِمَّا قَدْ عَجِبْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ رُخْصَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سافر أيناً فَقَصَرَ الصَّلَاةَ " فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ فَهِيَ وَإِنِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي الْجِهَادِ فَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا مَعًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ فَمُنْتَقَضٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفِطْرُ، لِأَنَّ دَاوُدَ يُجَوِّزُهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَجَوَازِ قَصْرِهِ فِي الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالسَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِطَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ إِلْحَاقًا بِالتَّيَمُّمِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ إِلْحَاقًا بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِحَدٍّ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ فَرْسَخًا فَقَصَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَلْبَةِ فَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَصَرَ، وَقَالَ إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأُعْلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ قَدْ رَوَيْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُسْنَدًا حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَحْدُودٌ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ حَدِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَكَانَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمُهَا فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرُ الْقَصِيرُ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ غَالِبًا، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْرُ، فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى السَّفَرِ الْمَحْدُودِ بِدَلِيلِنَا وَأَمَّا الْخَبَرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، وَإِنَّمَا قَصَرَ فِي الْفَرْسَخِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ قَبْلَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلرِّوَايَتَيْنِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ مَحْدُودٌ فَحَدُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، لِأَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ ثمانية وأربعون ميلاً، لأن الْفَرْسَخَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَذَلِكَ عَلَى سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَيْرًا مُتَّصِلًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ متفقة، فقال في هذا الموضوع سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ يُرِيدُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ الْمِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْمِيلُ فِي الِانْتِهَاءِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَرْبَعِينَ مِيلًا يُرِيدُ أَمْيَالَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ يُرِيدُ سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَهَذَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فَمَعَانِيهِ مُتَّفِقَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مختلفة وتحقيق ذلك مرحلتان كل مرحة ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ فِي سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عباس وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يجل لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرمٍ " قال الماوردي: فَلَمَّا جَعَلَ الْمَحْرَمَ شَرْطًا فِي الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيمَا دُونَهَا عُلِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 أَنَّ الثَّلَاثَةَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِسَفَرٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليهن " فَقَصَدَ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ جِنْسَ الْمُسَافِرِ فَأَبَاحَهُمُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يُكَرِّرُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَأَكْثَرُ الْقَلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَهُوَ الثَّلَاثُ حَدًّا لَهُ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ مُسَافِرِهِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسَفَانَ " وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُلْحِقُ الْمَشَقَّةَ فِي قَطْعِهَا غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُسْتَوْفَى فِيهَا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فِي الْعَادَةِ، فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ مَضْرُوبِ الْمَسْحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَدَّ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ تَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةُ لَمْ يَكُنْ حَدُّ السَّفَرِ الْقَصْرَ كَالْأُسْبُوعَيْنِ فِي تَكْرَارِ الْجُمُعَتَيْنِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أيامٍ إِلَّا مَعَ ذِي محرمٍ " فَقَدْ رُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمٍ، وَرُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمَيْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْحِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ الثَّلَاثِ فِي مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا سَارَ مَا فِي ثَلَاثٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الثَّلَاثُ أَقَلُّ حَدِّ الْكَثِيرِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّلَاثَ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ مَا دُونَهَا لَا بِحُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ، وَحَدِّ الْمُقَامِ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا فِي السَّفَرِ حُكْمُ مَا دُونَهَا وَنَحْنُ كَذَا نَقُولُ وَالثَّانِي: أَنَّ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي السَّفَرِ بِالسَّيْرِ لَا بِالزَّمَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ فِي الثَّلَاثِ وَجْهٌ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالزَّمَانِ مَعَهَا إِذَا كَانَ قَدْرُ الْمَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يُوجَدُ خَالِيًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 مِنَ السَّيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ، فَلَوْ أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ وَسَارَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ وَهُوَ الْمَسَافَةُ الْمَحْدُودَةُ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأكره ترك القصر رغبة عن السنة، فأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لو قصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتم قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْمُسَافِرُ عِنْدَنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا كَالْحَضَرِ فَيَكُونُ مَا أَتَمَّهُ مِنْ سَفَرِهِ صَلَاةُ حَضَرٍ لَا صَلَاةَ سَفَرٍ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ أَبُو قِلَابَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَفْسَدَهَا وَأَجْمَعُوا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَّ وَلَمْ يَقْصُرْ وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخْبَرَ أَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرَ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ رَكْعَتَانِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلظَّاعِنِ رَكْعَتَانِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ سَافَرُوا قَصَرُوا الصَّلَاةَ وَأَفْطَرُوا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرُّهُمْ مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْطِرْ وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْمُبَاحَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالصَّحَابَةُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: قَدْ تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَتَمَّ لِأَجْلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عُلِمَ أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ لِاعْتِذَارِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالْجُمُعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَةً أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ: فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا جَازَ وَالْوَاجِبُ لَا يَسْقُطُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا كَالْمُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا. وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِوَضْعِ الْجُنَاحِ عَنَّا فِي الْقَصْرِ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ فَكَانَتْ تَطَّوَّفُ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ السَّعْيَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ غَيْرَ جَائِزٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبَاحَتِهِ وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ السَّعْيُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُبَاحًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاجِبَ: بَيْنَهُمَا وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ بِالسَّعْيِ بِهِمَا وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتِ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُبَاحُ لَا الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ مُبَاحًا أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَرَى أَنْ لَا جناحٍ عَلَيَّ إِذَا لَمْ أَطُفْ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ سَنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ [بِهِ] قَصْرَ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْقِيقَ أَفْعَالِهَا لَا تَقْصِيرَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا قيل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 تَأْوِيلٌ قَبِيحٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَيُبْطِلُهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَقَدْ فَهِمَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْآيَةِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْهَيْئَاتِ لَا تَخْتَصُّ بِالْخَوْفِ أَوِ السَّفَرِ الْمَشْرُوطِ فِي الْآيَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْدَادِ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ مَاذَا صَنَعْتِ فِي سَفَرِكِ قُلْتُ أَتْمَمْتُ مَا قَصَرْتُ وَصُمْتُ مَا أَفْطَرْتُ فَقَالَ أَحْسَنْتِ فَدَلَّ ذَلِكَ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنَّا الْمُتِمُّ وَمِنَّا الْمُقْصِرُ. وَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. فَلَمْ يَعِبِ الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرُ وَلَا الْمُقْصِرُ عَلَى الْمُتِمِّ وَلَا الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِغَرَضِ الْإِقَامَةِ فِيمَا يَصِحُّ فِعْلُهُ مُنْفَرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يجز بِهِ أَصْلُهُ: التَّمَامُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُقِيمِ ولأنه عذر بغير فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِغَرَضِ الرَّفَاهِيَةِ كَالْمَرَضِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَصَحَّ أَنْ تُؤَدَّى فِي السَّفَرِ فَرْضَ الْحَضَرِ أَصْلُهُ: الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَا تُقْصَرُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ صَلَّاهَا فِي سَفَرٍ لَمْ تُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصَّلَاةِ تَخْفِيفًا إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا رُخْصَةً لَا وُجُوبًا كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا اقْتَضَى رِفْقًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَا عَزِيمَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ مِنْهُ الْقَصْرُ صَحَّ مِنْهُ الْإِتْمَامُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكَعَاتٍ اسْتَوْفَاهَا فِي فَرْضِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَجَبَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّكَعَاتُ فَرْضَهُ كَالْمُقِيمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي جَوَازَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا تَقُولُ إِنَّ الْمُسَافِرَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ وَهُوَ رَكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ وَأَرْبَعٌ فِي الْحَضَرِ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا أَفْطَرُوا وَقَصَرُوا ". فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَمْ يَلْزَمْ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْفِطْرِ، وَالْقَصْرِ ثُمَّ لَوْ صَامَ جَازَ، كَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فَخَطَأٌ كَيْفَ يَكُونُ إِجْمَاعًا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خالفوا أما عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا أَتَمَّتْ وَأَمَّا أَنَسٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَصَرَ لَمْ يَعِبْ عَلَى مَنْ أَتَمَّ وَأَمَّا سَعْدٌ فَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِهِ وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ بِمِنًى ثُمَّ صَلَّى فَأَتَمَّ. فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ تَعِيبُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ وَتُتِمُّ فَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ، فَعُلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ تُرِكَ لِلْأَفْضَلِ لَا الْوَاجِبِ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يجوز فعله وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ. فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ لَمْ يَجِبِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَاقْتَضَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِهَا فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ لَمْ تُجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الصُّبْحَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرِ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَلَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ الْمُقِيمِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، عُلِمَ أنها واجبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمْ تَرْكَهَا إِذَا قَصَرَ قُلْنَا: نَحْنُ عَلَى مَا جَوَّزْنَا لَهُ تَرْكَ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ حَضَرٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ سَفَرٍ رَكْعَتَيْنِ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَجْزَاهُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْقَصْرُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِأَكْثَرِ أَفْعَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَكْثَرُ أَفْعَالِهِ الْقَصْرُ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. إِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَالرَّاغِبُ عَنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: رَاغِبٌ بِتَأْوِيلٍ وَهَذَا غَيْرُ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ كَمَنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْأَحَادِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ وَرَغِبَ عَنْهَا زَاهِدًا فِيهَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ بِعِلْمِ وُرُودِ السَّنَّةِ بِالْقَصْرِ وَلَا يَقُولُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لِي فَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً وبالاستظهار آخذاً (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَلَا يُقْصَرَانِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَوَاتِ الرُّبَاعِيَّاتِ وَهِيَ ثَلَاثٌ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا يُقْصَرَانِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى إِلَيَّ كُلَّ صلاةٍ مِثْلَهَا إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وترٌ وَالصُّبْحَ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَكَانَ إِذَا سَافَرَ رَدَّهَا إِلَى أَصْلِهَا وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانُ بِشَطْرِهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَضَعْتُ عَنْ عِبَادِي شَطْرَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِمْ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 فَلَمْ يَكُنْ قَصْرُ الْمَغْرِبِ، لِأَنَّ نِصْفَهَا رَكْعَةٌ وَنِصْفُ رَكْعَةٍ وَرَكْعَةٌ وَنِصْفٌ لَا تَكُونُ صَلَاةً فَإِنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا نِصْفُ رَكْعَةٍ صَارَتْ شَفْعًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ شَطْرُ الْمَغْرِبِ فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا إِلَى رَكْعَةٍ لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ وَالْمَقْصُورُ لَا يُقْصَرُ. وَإِنَّمَا يصح قصر الرباعيات لا مكان تَنْصِيفِهَا بِالْقَصْرِ بَعْدَ إِتْمَامِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ وَيَقْضِيَ. فَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في رمضان في سفر " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِهِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَلِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصُومُ فِي سَفَرِي أَوْ أفطر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ فَإِنْ أفطر في سفره فعله الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فإن صام [فيه] لَمْ يُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تعلقاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ بِرًّا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَلَمَّا كَانَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ الْقَضَاءُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ القضاء لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ: " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يَصُومُ وَيُتِمُّ وَيَقْصُرُ وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ وَفَوَاتُهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " فَهَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَرَّ بِرَجُلٍ وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ مُسَافِرٌ قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى بِهِ وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جائز (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَ الْمَنَازِلَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا وَيُفَارِقُ مَوْضِعَهُ إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا نَوَى سَفَرًا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي بَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَبْلَ إِنْشَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إِذَا نَوَى السَّفَرَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ لِلضَّارِبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُقِيمُ لَا يُسَمَّى ضَارِبًا وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَمَّ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقَصَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ النِّيَّةَ لِسَفَرِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَتَمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إِذَا دَخَلَ بُنْيَانَ بَلَدِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْقَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ بَلَدِهِ حِجَاجًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ وَالسَّفَرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْفَارِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْوَطَنِ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عن أخلاق السفر وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِهِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ وَإِنْ لَمْ ينوي سَفَرًا فَكَذَلِكَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَلَدِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ يُسَمَّ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ قَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ السَّفَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُبِيحِ لَهُ فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَغَلَطٌ بَلْ هما متفقان في المعنى لأنه لابد من الْإِقَامَةِ مِنَ الْفِعْلِ مِعَ النِّيَّةِ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَائِرًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ فِي سَفِينَةٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ كَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا وَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ مَعَ اللُّبْثِ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ بَلَدُهُ ذَا سُورٍ فَفَارَقَ سُورَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُورٌ فَفَارَقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ وَإِنْ قَلَّ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ كَانَ سَفَرُهُ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ وَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ النَّهَارُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ما وري عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِالْعَقِيقِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَيَقْصُرُ بِذِي طُوًى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَصْرِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا فَأَمَّا الْحَضَرِيُّ فَإِنْ كان يسكن بلد أَوْ قَرْيَةً لَمْ يَقْصُرْ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ بِالْعُمْرَانِ وَبَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالْخَرَابِ لِأَنَّ بَيْنَ جَامِعِ البصرة ومريدها وَالْعَقِيقِ خَرَابَاتٍ دَارِسَةً قَدْ غَطَّى سِرْبَهَا وَكُلَّ مَنْ حَوَاهُ سُورُهَا مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهَا. فَإِذَا خَرَجَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ. وَإِنِ اتَّصَلَ سُورُ الْبَلَدِ بِبُنْيَانِ الْبَسَاتِينِ كَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ مِنْ دَرْبِ سُلَيْمَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ كَانَتْ بُنْيَانُ الْبَسَاتِينِ متصلاً بالسور، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 لِأَنَّ هَذِهِ الْبُنْيَانَ لَمْ تُبْنَ لِلِاسْتِيطَانِ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِلِانْتِفَاعِ وَالِارْتِفَاقِ فَهِيَ كَ " أَرْضِ الْبَسَاتِينِ "، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِيمًا إِذَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ يَلْبَثُ فِيهِ لِلِاسْتِيطَانِ أَهْلُ الْبَلَدِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِقَرْيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ انْفِصَالٌ وَلَوْ كَذِرَاعٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقَ بُنْيَانَ قَرْيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَاتَّصَلَ بُنْيَانُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يُفَارِقَ مَنَازِلَ الْقَرْيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِالِاتِّصَالِ كَالْبَلَدِ الْجَامِعِ لِقَبِيلَتَيْنِ فَأَمَّا أَهْلُ الْبَسَاتِينِ وَمَكَانِ الْقُصُورِ كَسَاكِنِي دِجْلَةِ والبصرة وَأَنْهَارِهَا الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بَلَدٌ وَلَا تَضُمُّهُمْ قَرْيَةٌ وَإِنَّمَا يَسْتَوْطِنُونَ قُصُورَ الْبَسَاتِينِ فَلَهُمُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقُوا الْمَوْضِعَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَهُمْ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْبَدَوِيُّ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: فِي صَحْرَاءَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي وادٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صحراء اعتبرت حَالُ الْخِيَمِ، فَإِنْ كَانَتْ حَيًّا وَاحِدًا وَبَطْنًا مُنْفَرِدًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَ خِيَامِ الْحَيِّ سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَيِّ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَمُ أَحْيَاءً مُخْتَلِفَةً وَبُطُونًا مُتَفَرِّقَةً فَإِنْ تَمَيَّزَتْ خِيَمُهُمْ فَكَانَ لكل بطن منهم حي منفرداً وَخِيَامٌ مُتَمَيِّزَةٌ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَبُيُوتَ حَيِّهِ، وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْبُطُونُ وَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْخِيَامُ لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ الْخِيَامَ كُلَّهَا فَإِذَا فَارَقَهَا قَصَرَ حينئذٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْقَرْيَتَيْنِ إِذَا اتَّصَلَتَا فَإِنْ كَانَ فِي وَادٍ فإن أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ طُولَهُ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خيام قومه كالصحراء، وأن يَسْلُكَ عَرْضَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الجواب في ظاهره ومنعه من القصر حتى يقطع عرض الوَادِي، وَإِنْ فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قال: لأن عرض الْوَادِي دَارٌ لَهُمْ أَوْ كَالدَّارِ لَهُمْ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قومهم وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يقطع عرض الوادي: إذا كانت خيام قومي مُتَّصِلَةً بِعَرْضِهِ (فَصْلٌ) : إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ بَلَدِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ ذَكَرَهَا أَوْ أَمْرٍ عَرَضِيٍّ وَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ بَلَدِهِ حَتَّى يُفَارِقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِرُجُوعِهِ فِي دَارِ إِقَامَتِهِ فَلَوْ سَافَرَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ إِلَى الْكُوفَةِ يَنْوِي الْمُقَامَ بِهَا فَحِينَ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ بَدَا لَهُ مِنَ الْمُقَامِ شيئاً وَأَرَادَ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ دَارُ إِقَامَةٍ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ يُرِيدُ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ غَيَّرَ الْمُقَامَ فِيهَا لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَتِهِ فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي سَفَرِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي حَجِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي عَيَّنَ النِّيَّةَ فِيهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ إِذَا نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا فَارَقَ مَوْضِعَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَأَقَامَ أَرْبَعَةَ أيامٍ أَتَمَّ الصلاة واحتج فيمن أقام أربعةٌ يتم بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وبأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بمنى ثلاثاً يقصر وقدم مكة فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثاً يقصر ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه لأنه كان فيه سائراً ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائراً وأن عمر أجلى أهل الذمة من الحجاز وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام فأشبه ما وصفت أن يكون ذلك مقام السفر وما جاوزه مقام الإقامة وروي عن عثمان بن عفان من أقام أربعاً أتم وعن ابن المسيب أقامة أربعٍ أتم " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا قَصَدَ بَلَدًا وَكَانَ الْبَلَدُ غَايَةَ سَفَرٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِدُخُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَطَابَ بَلَدًا فِي طَرِيقِهِ فَنَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ وَلَا نَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَكِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سِوَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَالْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وقال أبو حنيفة: يقصر إلى أَنْ يَجْمَعَ مُقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ وَكَانَ يَقْصُرُ بِمَكَّةَ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ لَيْسَتْ حَدًّا لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ. وَالْإِجْمَاعِ. وَالتَّوْقِيفُ مَعْدُومٌ وَالْإِجْمَاعُ حَاصِلٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَا دُونَهُ مُخْتَلِفٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُدَّةً لِلْإِقَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا قِيَاسًا عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الصَّلاةِ} [النساء: 101] . فَأَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ وَالْعَازِمُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ الْقَصْرَ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَمَا دُونَهَا مُدَّةُ السَّفَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ حَرَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة "، فَاسْتَثْنَى الثَّلَاثَ وَجَعَلَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ، وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ وَجَعَلَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا مُقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا فَوْقَهَا حَدُّ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا يَسْتَوْعِبُهَا الْمُسَافِرُ بِالْمَسْحِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ إِذَا أَقَامَهَا كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ تَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسَافِرًا وَلَا عَازِمًا كالخمسة عشر، لأنها مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يُقِيمَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَصَارَتْ كَالشَّهْرِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَصْرِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَغَيْرُ حُجَّةٍ لِأَنَّا نُجِيزُ الْقَصْرَ أَرْبَعًا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ ثَلَاثًا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَحْدِيدَ مدة القصر لا يصار إليها إلا بالتوقف أَوْ إِجْمَاعٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُسَافِرِ إِلَى كَمْ يَقْصُرُ وَإِجْمَاعُنَا وَإِيَّاهُمْ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْخِلَافِ مِنْهُ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ إِجْمَاعٍ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَعَنَا فِي ال ْمَسْأَلَةِ تَوْقِيفًا. وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا ثُمَّ تَضَعُ حَمْلَهَا بَعْدَ يَوْمٍ وَتَرَى دَمَ النِّفَاسِ، فَيَكُونُ طُهْرُهَا الْيَوْمَ الَّذِي بَيْنَ حَيْضِهَا وَوَضْعِهَا وَإِنَّمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِذَا كَانَ بَيْنَ حَيْضَيْنِ عَلَى إِلْزَامِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامُهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَدَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَجْمَعُ السَّيْرَ وَالنُّزُولَ وَالتِّرْحَالَ فَلَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ نَازِلٌ وَلَا يَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ رَاحِلٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَّصِلُ مَسِيرُهُ فِي جَمِيعِ يَوْمِهِ وَإِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالسَّيْرِ فِي بَعْضِهِ وَالْمُنَاخُ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي بَعْضِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهِ فَلَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ لَيْلًا وَنَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةٍ فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ عَنِ الدَّارِكِيِّ أنه لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لَيْلَةُ دُخُولِهِ وَلَا الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِذَا نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَتَمَّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَابِعَةٌ لِيَوْمِهَا وَالْيَوْمَ تَابِعٌ لَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَسِبْ لَيْلَةَ الدُّخُولِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يَحْتَسِبِ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا لأنه تبع لها (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا جَاوَزَ أَرْبَعًا لِحَاجَةٍ أَوْ مَرَضٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ أَتَمَّ وَإِنْ قَصَرَ أَعَادَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي خوفٍ أَوْ حربٍ فَيَقْصُرُ قَصْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عام الفتح لحرب هوازن سبعة عشرة أو ثمانية عَشْرَةَ (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ) إِنْ أَقَامَ عَلَى شَيْءٍ يَنْجَحُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يقصر ما لم يجمع مكثاً أقام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ (قَالَ المزني) ومشهور عن ابن عمر أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر يقول أخرج اليوم وأخرج غداً (قال المزني) فإذا قصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حربه سبع عشرة أو ثماني عشرة ثم ابن عمر ولا عزم على وقت إقامة فالحرب وغيرها سواءٌ عندي في القياس وقد قال الشافعي ولو قاله قائل كان مذهباً " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا أَوْ قَرْيَةً أَوْ نَزَلَ أَرْضًا أَوْ قَبِيلَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بَلْ كَانَ يَنْتَظِرُ حَالًا يَرْجُوهَا أَوْ حَاجَةً يُنْجِزُهَا ثُمَّ يَخْرُجُ وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَهَا فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فَهَذَا لَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحَارِبٍ: فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَيَخْرُجَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقم بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَفِي جَوَازِ الْقَصْرِ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي " الْإِمْلَاءِ ": أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قَصَرَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِبَقَاءِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَأَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصلاة وأما أنس بن مالك أقام بِنَيْسَابُورَ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ فَأَقَامَ بِفَارِسَ سَنَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وَقَصَرَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ إِنَّا نَكُونُ عَلَى حَرْبٍ فَيَكْثُرُ مقامنا أفنقصر فَقَالَ أَقْصُرْ وَإِنْ بَقِيتُ عَشْرَ سِنِينَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْصُرُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ عَزِيمَةٌ، وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فَكَانَ مَا سِوَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا قَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ؛ لِأَنَّهُ إِقْلِيمٌ يَجْمَعُ بُلْدَانًا شَتَّى وَقُرًى مُخْتَلِفَةً كَالْعِرَاقِ فَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَمِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ يَقْصُرُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي الْحَرْبِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَقْصُرُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ نَوَاهَا وَصَارَ بِهَا مُقِيمًا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَجَازَ لِلْمُسْتَوْطِنِ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُحَارِبًا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ أَعْذَارَ الْحَرْبِ تُخَالِفُ مَا سِوَاهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالثَّانِي: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُحَارِبًا وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ بِمُقَامِهِ خُرُوجَ قَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٍ أَوْ بَيْعَ مَتَاعٍ أَوْ زَوَالَ مَرَضٍ ثُمَّ يَخْرُجُ فَهَذَا يقصر تماماً أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقَامَةِ أَوْ بِوُجُودِ فِعْلِ الْإِقَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ قَصَرَ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِقَامَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَإِذَا أَكْمَلَهَا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ فَهَلْ يَقْصُرُ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: مِنْهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ؛ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَرَّجٌ أَحَدُ الْأَقَاوِيلِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ آكَدُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْمُقَامِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ تَحَقَّقَ، وَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْمُقَامِ وَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ كَانَ بِإِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ وَالْقَوْلُ الثاني: وهو قول فِي " الْإِمْلَاءِ " يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَوَقُّعًا لِانْجِلَاءِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَوَقَّعَ إِنْجَازَ أَمْرِهِ وَتَقَضِّيَ أَشْغَالِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَنْجِيزِ أَمْرِهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قِيَاسًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحَارِبِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُسَافِرٌ عَازِمًا عَلَى الرَّحِيلِ عِنْدَ تَنْجِيزِ أَمْرِهِ فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَ " الْمُحَارِبِ " أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُقِيمِ لِعُذْرٍ يَرْجُو زَوَالَهُ فَأَمَّا إِذَا أَقَامَ غَيْرَ مُحَارِبٍ وَلَا مَشْغُولٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي إِقَامَةٍ وَلَا رَحِيلٍ فَهَذَا يَقْصُرُ تَمَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِقَامَتَهُ بَعْدَ أَرْبَعٍ أَوْكَدُ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى مُقَامِ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا مَرَّ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ بِبَلَدٍ لَهُ فِيهَا دَارٌ أَوْ مَالٌ أَوْ ذُو قَرَابَةٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَمَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلَهُمْ بِمَكَّةَ دُورٌ وَمَالٌ وَقَرَابَةٌ، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِنْ لَقِيَ فُلَانًا أَنْ يُقِيمَ فِيهِ شَهْرًا فَإِنْ لَقِيَهُ قَبْلَ أَرْبَعَةٍ صَارَ مُقِيمًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْتَهَى بِلِقَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ وَلَا رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا تَمَامَ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يُتِمُّ فِيمَا بَعْدُ وَلَوْ سَافَرَ فِي ضَالَّةٍ لَهُ أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ لِيَرْجِعَ أَيْنَ وَجَدَهُ فَبَلَغَ غَايَةً تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي سَفَرِهِ بُلُوغَ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ وَجَعَلَ مَوْضِعَ وُجُودِهَا غَايَةَ سَفَرِهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَهَا مَعَ السَّاعَاتِ فَصَارَ كَمَنْ سَافَرَ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِذَا وَجَدَ ضَالَّتَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ سَافَرَ فِي طَلَبِ ضَالَّتِهِ وَرَدِّ آبِقِهِ نَوَى الْقَصْرَ إِلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إِلَى مِثْلِهِ الصَّلَاةُ كَانَ لَهُ الْقَصْرُ، فَإِنْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بَدَا لَهُ فِي طَرِيقِهِ مِنْ إِتْمَامِ سَفَرِهِ فَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي الْبَحْرِ فَمَنَعَتْهُ الرِّيحُ مِنَ الْخُطُوفِ وَالسَّيْرِ حَتَّى رَسَتِ السَّفِينَةُ مَكَانَهَا أَوْ أَقَامَتِ انْتِظَارَ السُّكُونِ لِلرِّيحِ وَإِمْكَانَ السَّيْرِ فَهَذَا فِي حُكْمِ التَّاجِرِ إذا أقام لبيع متاعه أو إنجازه أَمْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ وَفِيمَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنِ اسْتَقَامَتْ لَهُمُ الرِّيحُ فَسَارَتِ السَّفِينَةُ عَلَى مَكَانِهَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهَا، فَإِنْ رَجَعَتِ الرِّيحُ فَرَكَدَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ قَصَرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ على الأقاويل الثلاثة أنه لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَحْبِسَهَا الرِّيحُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على ذلك في " الأم " (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَصَرَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْصُرْ (قَالَ المزني) أشبه بقوله أن يتم لأنه يقول إن أمكنت المرأة الصلاة فلم تصل حتى حاضت أو أغمي عليها لزمتها وإن لم تمكن لم تلزمها فكذلك إذا دخل عليها وقتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وهو مقيم لزمته صلاة مقيم وإنما تجب عنده بأول الوقت والإمكان وإنما وسع له التأخير إلى آخر الوقت " قال الماوردي: وهذا كما قال إذا الرَّجُلُ الْمُقِيمُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يُسَافِرَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَوْ يُسَافِرَ بَعْدَ الْوَقْتِ، أَوْ يُسَافِرَ فِي الْوَقْتِ فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَإِنْ سَافَرَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا فِي سَفَرِهِ. لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا مُسَافِرًا فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ ركعات، مذهب الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَصْحَابِنَا لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا تَعَلُّقًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَامَّةً، وإذا وجبت عليه الصلاة تامة لم تجز لَهُ الْقَصْرُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: الْحَيْضُ أَقْوَى فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ مِنَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ بِأَسْرِهَا وَالسَّفَرَ يُسْقِطُ شَطْرَهَا، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنِ الْحَيْضُ مُغَيِّرًا لِحُكْمِهَا، كَانَ حُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ. وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَلِأَنَّهُ سَافَرَ يَحِلُّ لِمِثْلِهِ الْقَصْرُ فَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا، أَصْلُهُ إِذَا سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَاسْتِقْرَارَ وُجُوبِهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَقَدْرِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى لَوْ زَالَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مَرِيضٍ كَانَ فَرْضُهُمَا الظُّهْرُ أَرْبَعًا فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَرَأَ الْمَرِيضُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ صَحِيحٌ كَانَ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ، فَإِنْ مَرِضَ فِي الْوَقْتِ قَبْلَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا اعْتِبَارًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ أَدَائِهَا مُسَافِرًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَيْضِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ وَإِذَا طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَالسَّفَرُ إِذَا طَرَأَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْأَدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقَصْرِ لِوُجُودِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ الْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ أَدَائِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ جَوَازُ قَصْرِهَا، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بن سلمة يتم لا يَقْصُرُ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّمَامُ وَفَارَقَ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِفَرْقِهِ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَجْهٌ وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَافِرَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَلَا يَقْصُرُهَا لِعَدَمِ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ. وَبِهِ قَالَ أبو علي بن خيران يجوز قصرها، ولأن الصَّلَاةَ قَدْ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فِي أَصْحَابِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَاتِ كَوُجُوبِهَا فِي أَوَّلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يستويا في جواز القصر (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعٌ وَلَوْ كَانَ فَرْضُهَا رَكْعَتَيْنِ مَا صلى مسافر خلف مقيم (قال المزني) ليس هذا بحجةٍ وكيف يكون حجة وهو يجيز صلاة فريضة خلف نافلة وليست النافلة فريضةً ولا بعض فريضةٍ وركعتا المسافر فرضٌ وفي الأربع مثل الركعتين فرض " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، السَّفَرُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا يقصرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ لَا قَاضِيًا وَأَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَقَالَ الْمُزْنِيُّ الْقَصْرُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ بَلْ إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ مَعَ سَلَامِهِ جَازَ، وَإِنْ سَلَّمَ غَيْرُنَا وكان كمن سلم في صلاته لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ عَنْ غَسْلِ وَجْهِهِ كَانَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ النِّيَّةَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ لِأَنَّا مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَحَلِّهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ افْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ فَإِنَّ مَحَلَّ تِلْكَ النِّيَّةِ فِيهَا الْإِحْرَامُ، قِيَاسًا على نية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي انْتِهَائِهَا مَوْجُودًا وَابْتِدَائِهَا كَالْجُمُعَةِ (فَصْلٌ) : إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى التَّمَامَ، قَالَ لِأَنَّ السَّفَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةُ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الصِّيَامَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى صَلَاةِ السَّفَرِ أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا بِسَيْرِ السَّفِينَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِدُخُولِهِ فِيهِ وَالْقَصْرُ لَا يُضَمَّنُ بالقضاء فتحتم عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِدُخُولِهِ فِيهِ فَلَوْ أَحْرَمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِتْمَامِ قَدْ رَفَعَتِ حُكْمَ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ أَوِ الْإِتْمَامِ لَزِمَهُ أَنْ يتم، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ بِالشَّكِّ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَمَنْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَصْرِ هِيَ النَّيَّةُ وَالسَّفَرُ فَإِذَا ذَهَبَتِ العلة القصر ذهب وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةً حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي سفرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ فَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُ فِي الْقَصْرِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَهُوَ مسافرٌ فَإِذَا زَالَ وَقْتُهَا ذَهَبَتِ الرُّخْصَةُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْمَلُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْسَى صلاة ثم يذكرها في حضر ققيها قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَقْصُرُهَا إِنْ شَاءَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ وَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا تَامَّةً لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ فِي الْأُصُولِ مِثْلُ مُبْدَلَاتِهَا أَوْ أَخَفُّ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أَرْبَعَةً، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُغَيِّرَ لِلْفَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ مُسَافِرٍ أَصْلُهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ الْقَصْرُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّمَامِ، فَإِذَا صَارَ مُقِيمًا فَقَدْ زَالَتِ الْمَشَقَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ التَّخْفِيفُ كَالْمُضْطَرِّ لَمَّا جُوِّزَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ كَ " الْمُتَيَمِّمِ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ قَصْرَ الصَّلَاةِ إِلَى شَطْرِهَا كَمَا يُبِيحُ بِالتَّيَمُّمِ قَصْرَ الطَّهَارَةِ إِلَى شَطْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ يُسْتَبَحْ تَيَمُّمُ السَّفَرِ بعد انقضاء السفر لم يستبح قضاء السَّفَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ (وَال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ تَفُوتَهُ فِي سَفَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُ قَصْرُهَا إِنْ شَاءَ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ إِمَّا بِحَالِ الْوُجُوبِ أَوْ بِحَالِ الْأَدَاءِ وَأَيُّهُمَا كَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا قَضَاءً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لَهُمَا مَعًا فَلِذَلِكَ جَازَ قَصْرُهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ (وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا فِي حَضَرٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ إِتْمَامَهَا وَإِنْ سَافَرَ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَإِنْ كَانَ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالَةٍ حَادِثَةٍ فِيمَا بَعْدُ (وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) : أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَغْلَطُ فَيُجِيزُ لَهُ قَصْرَهَا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ وهذا خطأ، لأن الصلاة قد استقر عليها فرضها أَرْبَعًا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُهَا وَقْتَ الْقَضَاءِ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَسِيَ ظُهْرَ الْخَمِيسِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": وَإِذَا نَسِيَ الظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ سَافَرَ وَذَكَرَ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ باقٍ لَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا قَدْ فَاتَ فِي الْحَضَرِ وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ، قَالَ: وَإِنْ نَسِيَ الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَارَ حَاضِرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 فَذَكَرَ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدُ بَاقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ الظُّهْرَ، قَالَ لِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي السَّفَرِ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ جَمِيعًا فَإِذَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَ كَمَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِهَا وَهُوَ حَاضِر ٌ فَصَلَّ ى أَرْبَعًا صَلَاةَ حضر، لأنه مؤدٍ لا قاضي، فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةَ ظُهْرٍ لَا يَدْرِي أَصَلَاةُ سَفَرٍ أَمْ صَلَاةُ حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَسَافِرِينَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التَّمَامِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى وَكَانَتْ نَافِلَةً ثُمَّ اسْتَفْتَحَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعًا وَهَذَا غَلَطٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَوُجُوبُ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُهَا وَهُوَ السَّفَرُ أن نزول رُخْصَةُ الْقَصْرِ كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدًا لِعَجْزِهِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لِزَوَالِ مَرَضِهِ وَكَالْأَمَةِ تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ لِرِقِّهَا ثُمَّ يَلْزَمُهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِعِتْقِهَا فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَصْرًا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِحْرَامِ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ صَلَاتِهِ لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَبْطُلُ عَلَيْهِ مَا مَضَى فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ إِذَا أَتَمَّ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَتِمُّ وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُ قَصْرِهَا أَنْ يَلْزَمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّمَامِ. أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ خَرَجَ وَقْتُهَا (وَالْفَصْلُ الثَّانِي) : أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال أبو دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ إِنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ مُقِيمٍ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُقِيمِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ مؤدٍ لِلصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَهَا كَالْمُنْفَرِدِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ صَلَّيْنَا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا وَإِنْ صَلَّيْنَا فِي بُيُوتِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَلِكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُقِيمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ خَلْفَ الْمُقِيمِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْإِتْمَامُ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ تَرْكُ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِمُتَمِّمٍ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَصْلَيْنِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ وَاسْتَفْتَحَا الصَّلَاةَ جَمِيعًا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي حَالِ صَلَاتِهِ، فَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَلْزَمُ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ قَدِ انْعَقَدَتْ مَقْصُورَةً خَلْفَ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُمْ بِنِيَّةِ إِمَامِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أحرم بالصلاة خلف مقيم (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَحْرَمَ فِي مركبٍ ثُمَّ نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ نَزَلَ فِي مَرْكَبٍ فِي بلد إقامته والمركب واقفاً قَدْ تَهَيَّأَ لِلسَّفَرِ، وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خُطِفَ الْمَرْكَبُ وَسَارَ فَصَارَ الرَّاكِبُ مُسَافِرًا فِي حَالِ صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْرُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَجَوَّزَ لَهُ الْقَصْرَ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الحضر، أصله إذا أنشأ صوم فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا لَيْسَ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ صَلَّى قَاعِدًا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مَرْبُوطَةً لَمْ تَجُزِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا قَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَجْزَأتهُ الْفَرِيضَةُ قَاعِدًا تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 فِي الظَّاهِرِ صَلَاةَ الْقَاعِدِ وَجَعَلَ الْقِيَامَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِرَةً فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَسْقُطُ بِزَوَالِ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ كَالرَّاكِبِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ يُصَلِّي رَاكِبًا وَيَجْزِيهِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ السَّفِينَةِ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي السَّفِينَةِ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَرْبُوطَةٍ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي السَّفِينَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ، لِأَنَّ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ كَالْقَائِمِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءً وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالْخَائِفِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَوْفَ عُذْرٌ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يُنْسَبَ الْخَوْفُ إِلَى فِعْلِهِ، وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْعُذْرُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى افْتَرَقَا في الإعادة والله أعلم (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ خَلْفَ مقيمٍ أَوْ خَلْفَ مَنْ لَا يَدْرِي فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ كَانَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامٌ مسافرٍ بِمُسَافِرِينَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَانِ وَإِنْ شَكَّ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَرْبَعٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مُقِيمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ جَمْعَ الصَّلَاةِ أَوْ أَدْرَكَ قَدْرَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ قَصَرَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَالْجُمُعَةِ وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ التَّمَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِذَا طَرَأَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ أَصْلُهُ: إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ انْتِقَالًا مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ، وَهُوَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ظُهْرًا أَرْبَعًا، فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكٌ كَامِلٌ وَهُوَ رَكْعَةٌ وَفِي التَّمَامِ انْتِقَالٌ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى التَّمَامِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ كَإِدْرَاكِ الْوَقْتِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ اعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ أَنْ يُتِمَّ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ إِذَا أتم برجل من أحد أربعة أقسام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 [الأول] إما أن يعلم أنه مقيم [والثاني] أو يغلب على ظنه أنه مقيم الثالث أو يعلم أنه مسافر الرابع أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَإِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا كَانَ عَلَيْهِ التَّمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ كَأَنْ رَآهُ مُسَافِرًا أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا بِقَصْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهِ الْإِقَامَةَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِنِيَّةِ التَّمَامِ وَالصَّلَاةُ إِذَا انْعَقَدَتْ تَامَّةً لَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا وَإِنْ عَلِمَهُ مُسَافِرًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ بِأَنْ رَآهُ حَاضِرًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فَيَجُوزُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ أَوِ الْقَصْرَ قَطْعًا، أَوْ يَقُولَ إِنْ قَصَرَ إِمَامِي قَصَرْتُ، فَإِذَا نَوَى أَحَدٌ هَذَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ إِمَامَهُ مُتِمًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قَصَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ حَالِ الْإِمَامِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ كَانَ دَاخِلًا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا لَوْ دَخَلَ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في ليلة الشك امرأة أو عبداً فَنَوَى صِيَامَهُ ثُمَّ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِدُخُولِهِ فِيهِ بِاسْتِدْلَالٍ، وَلَوْ صَامَهُ بِغَيْرِ استدلال لم يجزه (فصل : [مسألة الكتاب] ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِالْعِلْمِ أَوْ يَغْلِبُهُ الظَّنُّ وَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَيْسَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِقَامَتُهُ مِنْ سَفَرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ نَوَى التَّمَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَنْ يُخْبِرَهُ إِمَّا قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ التَّمَامَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِمَامِهِ الْمُسَافِرِ أَنَّهُ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَيَقْصُرَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَوْ كَانَ الْمُحْدِثُ هُوَ الْمَأْمُومَ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ إِمَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَبَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِتْمَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ مَلَامِهِ فَإِذَا أَحْدَثَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ شَاكٌّ فِي إِمَامِهِ لَزِمَهُ التَّمَامُ لِوُجُودِ مَا يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ السَّفَرُ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ، وَالتَّمَامُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبٌ فِي كِلَا الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَوَى الْإِتْمَامَ فَلَا يُجْزِئُهُ الْقَصْرُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْتَبِيحُ الْقَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ كَمَنْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ رَعَفَ وَخَلْفَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا كَانَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَعَلَى الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ حَتَّى كَانَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ (قَالَ المزني) هذا غلط الراعف يبتدئ ولم يأتم بمقيم فليس عليه ولا على المسافر إتمام ولو صلى المستخلف بعد حدثه أربعاً لم يصل هو إلا ركعتان لأنه مسافر لم يأتم بمقيم " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ صَلَّى بِمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَرَعَفَ فِي تَضَاعِي فِ صَلَ اتِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِالرُّعَافِ، وَإِنْ غَسَلَ رُعَافَهُ وَعَادَ قَرِيبًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالرُّعَافِ فَعَلَى هَذَا لَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وَحَالٌ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ صَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ صَلَّى المقيمون أربعاً والمسافرون ركعتين إن شاؤوا الْقَصْرَ وَكَانَ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ بِالْخِيَارِ إِذَا اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ أَوْ يَقْصُرَ وَإِنْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ مُسْتَخْلَفٍ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْلِفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا وَنَوَى الْقَصْرَ صَلَّى هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا وَكَانَ لِلْإِمَامِ الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ الْقَصْرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِائْتِمَامِهِمْ بِمُقِيمٍ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّاعِفُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 أَحَدُهَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاعِفَ حِينَ غَسَلَ رُعَافَهُ رَجَعَ فَأَحْرَمَ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ قَالَ: وَتَعْلِيلُ الشافعي يدل على هذا وهو قوله لأنه كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُكْمِلِ الصَّلَاةَ حَتَّى حَمَلَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ. فَهَذَا جَوَابٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِذَا اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا فِي صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْتَمًّا بِمُتَمِّمٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ عَادَ فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَالْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ فَرْعُهُ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَوْكَدَ حَالًا مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْفَرْعِ الْإِتْمَامُ كَانَ الْأَصْلُ به أولى وإذا كان الراعف قد استخلفه الْقَوْمَ مَكَانَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ لَهُ سَوَاءٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاعِفَ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ بِكُلِّ حَالٍ أَعْنِي الرَّاعِفَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَلَيْسَ بِفَرْعٍ لِلرَّاعِفِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ صَلَاتِهِ فِي الْإِتْمَامِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْمُسَافِرُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ وَأَكْثَرَ وَقَدَّمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ إِمَامًا جَازَ وَلَوْ كَانَ إِمَامُهُمْ قَبْلَ الْحَدَثِ وَاحِدًا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ. نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَمْ يَحْضُرِ الرَّكْعَةَ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَرْبَعًا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَلْزَمَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى الْإِتْمَامُ وَقَدْ فَارَقَتِ الْإِمَامَ وَخَرَجَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ: الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْإِمَامِ إِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ الِاعْتِدَالِ وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى مَعَهُ لِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِتْمَامُ لِحُصُولِهِمْ خَلْفَ مُقِيمٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَمْ يَلْزَمِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ إِمَامَتِهِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا وَصَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ خَلْفَ إِمَامٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَزِمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا، قَالَ لِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً فَهِيَ فَرْضُ الْإِقَامَةِ وَالْإِمَامُ فِيهَا مُقِيمٌ فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ صَلَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الْمُسَافِرُ الظُّهْرَ خَلْفَ إِمَامٍ مُقِيمٍ يُصَلِّي الصُّبْحَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ حَصَلَ مُؤْتَمًّا بِمُقِيمٍ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا اسْتَفْتَحَ بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ لَزِمَهُ أَنْ يستأنفها تامة ولا يجوز له قصرها لأنه إِتْمَامَهَا قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَهَا بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مُحْدِثًا جَازَ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ مَعَ الْحَدَثِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْقَصْرِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " وَإِذَا أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ وَنَوَيَا جَمِيعًا الْقَصْرَ ثُمَّ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا يَظُنُّهَا رَكْعَتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا سَهْوٌ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّ إِتْمَامَهَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِمَامَهُ قَدْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا لَمْ يَتْبَعْهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَمَنْ تَبِعَ إِمَامًا قَامَ إِلَى خامسة " (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ يَقْصُرُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَقْصُرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ لِخَوْفٍ أَوْ حُزُونَةٍ فِي الْأَقْرَبِ قَصَرَ وَإِلَّا لَمْ يَقْصُرْ وَفِي الْإِمْلَاءِ إِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ قَصَرَ " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) " وَهَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرَادَ قَصْدَ بَلَدٍ لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا قَرِيبُ الْمَسَافَةِ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ. وَالْآخَرُ بَعِيدُ الْمَسَافَةِ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ سَلَكَ الْأَقْصَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِقُرْبِ مَسَافَتِهِ، وَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْلُكَهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَرَضٍ مِثْلُ عَدُوٍّ فِي الْأَقْرَبِ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِصٍّ يَخَافُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْ طَالِبِ خِفَارَةٍ أَوْ سُلُوكِ عَقَبَةٍ شَدِيدَةٍ أَوْ يَخَافُ قِلَّةَ مَاءٍ أَوْ مَرْعًى أَوْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ كَزِيَارَةِ قَرَابَةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ يَعْرِفُ خَيْرَ مَتَاعٍ فَهَذَا يَقْصُرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ إِنْ شَاءَ لَا يَخْتَلِفُ كَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَقْرَبِ عُذْرٌ وَلَا فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ، فَفِي جَوَازِ قَصْرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ يُقْصِرُ مِثْلُهَا الصَّلَاةَ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ غَرَضٌ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْأَغْرَاضِ وَحُدُوثَ الْأَعْذَارِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَسْفَارِ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاخْتَارَ لَذَّةَ قَلْبِهِ وَطَلَبَ مُرَادِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْذُورًا كَذَلِكَ هَذَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ لِأَنَّ الْبَلَدَ الَّذِي قَصَدَهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَإِذَا سَلَكَ الْأَبْعَدَ صَارَ كَأَنَّهُ قد طول المسافة لأجل القصر وتطول الْمَسَافَةِ لِأَجْلِ الْقَصْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةً لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ فِي مُدَّةٍ تَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فِي طَرِيقٍ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَالْقَوْلُ الأول أصح (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ أَنْ يَقْصُرَ وَلَا يَمْسَحُ مَسْحَ الْمُسَافِرِ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ ولا تخفيف على من سفره في معصية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ منشأ لِسَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَالسَّعْيِ بِالْفَسَادِ أَوْ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ أَبَقًا مِنْ شِدَّةٍ أَوْ هَارِبًا مِنْ حَقٍّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَذْلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ بِحَالٍ قَالَ: لَا يَقْصُرُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَا يُفْطِرُ فِي صِيَامِهِ وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثًا عَلَى خُفِّهِ وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْمُزَنِيُّ: الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ كَالطَّائِعِ فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ هَارِبٍ مِنْ طَائِعٍ أَوْ عَاصٍ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ " قالوا: ولأنه كُلَّ صَلَاةٍ جَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ اسْتَوَى فِي فِعْلِهَا الطَّائِعُ وَالْعَاصِي كَالْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمُقِيمِ رُخْصَةً وَلِلْمُسَافِرِ رُخْصَةً فَلَوْ مَنَعَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ لَمَنَعَتْ مِنْ رُخْصَةِ الْمُقِيمِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ رُخَصَ السَّفَرِ، كَذَلِكَ إِذَا أَنْشَأَ سَفَرَهُ عَاصِيًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخَصَ مَعَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَوْ طَرَأَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي سَفَرِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْعَاصِي أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ كالقصر وغيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي سَفَرِهِ لَاسْتَبَاحَ بِالْمَعْصِيَةِ قَتْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَفْضَى بِهِ الْجُوعُ إِلَى التَّلَفِ وَقَتْلُ النَّفْسِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، ولأن معصيته لَمَّا لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ غَيْرِهِ لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عُمُومًا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ مُضْطَرًّا لَيْسَ بِعَاصٍ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَاصِي الْمُضْطَرُّ كَالطَّائِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِمَا لِعُمُومِ التَّحْرِيمِ وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . فَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا عَامًّا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ: غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِتَنَاوُلِ مَا زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، وَبِقَوْلِهِ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لِأَكْلِ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ، وَلَا عَادٍ، أَيْ: لَا مُتَعَمِّدٍ فِيهَا بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَحَمْلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَرْضِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْمَيْتَةَ لِمُضْطَرٍّ غَيْرِ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ وَالْإِبَاحَةُ لِمُضْطَرٍّ عَلَى حَقٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْمَعْصِيَةِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: هُوَ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالسَّفَرِ وَمَنُوطَةٌ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرُّخَصِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ المعصية فإن قيل: هذا باطل بما جَرَحَ نَفْسَهُ فَعَجَّزَهُ عَنِ الْقِيَامِ، يَجُوزُ لَهُ أن يصلي قاعداً ووإن كَانَ الْجُرْحُ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ مَعْصِيَةً، قُلْنَا جَوَازُ الْقُعُودِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالْعَجْزُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ معصية، وكذلك الصلاة إنما تقسط بِوُجُودِ النِّفَاسِ وَلَيْسَ النِّفَاسُ مَعْصِيَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ الْحَادِثِ عَنْ سَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلِذَلِكَ مَا جَوَّزْنَاهُ وَسَبَبُ هَذِهِ الرُّخَصِ هُوَ السَّفَرُ لَا غَيْرَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ السَّفَرَ حَرَكَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِبَ التَّخْفِيفَ وَالرُّخَصَ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ مِنْ رُخْصَةِ تَخْفِيفٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُمْ وَقُوَّةً عَلَى سَفَرِهِمْ، وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخْصَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَانِعًا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ السَّبَبَ الْمَحْظُورَ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ كَالْخَوْفِ بِالْقِتَالِ الْمَحْظُورِ لَا يُبِيحُ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ إِذَا اسْتُبِيحَتْ بِشَرْطٍ وَكَانَ الشَّرْطُ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ مَفْقُودًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمَّا شُرِطَ فِي عَوْدِهَا إِلَى الْأَوَّلِ نِكَاحُ زَوْجٍ ثَانٍ ثُمَّ كَانَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِفَسَادِهِ كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْقَصْرُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ وَكَانَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَإِذَا عُدِمَ السَّفَرُ حُرِّمَتِ الرُّخْصَةُ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَأَدِلَّتُنَا مُخَصَّصَةٌ لَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ فَوَصْفُ الْعِلَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَفِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّبْحِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِيهِمَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ السَّفَرُ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَاسْتَبَاحَ الرُّخَصَ مَعَ الطَّاعَةِ وَمَنَعَ مِنْهَا مَعَ الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ مَعْصِيَةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ يَمْنَعُ الْمُقِيمَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْمُسَافِرَ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَظْرِ الرُّخَصِ عَلَيْهِمَا فَعَلَى هَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ نَفْسَهَا لَيْسَتْ مَعْصِيَةً لِأَنَّهَا كَفٌّ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ الَّذِي تُوقِعُهُ فِي الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ مَعْصِيَةً لَمْ تَمْنَعِ الرُّخَصَ وَالسَّفَرُ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَعَاصِي فَكَانَتْ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَ الرُّخَصَ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ نَفْسُ الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةً وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ لِزِنًا أَوْ قَتْلِ إِنْسَانٍ قِيلَ: لَا تكون الإقامة معصية وإنما المعصية هو الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَمَا نَوَاهُ مِنَ الزنا وَالْقَتْلِ، أَلَا تَرَاهُ يُعَاقَبُ عَلَى عَزْمِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّةِ مُقَامِهِ وَالسَّفَرُ حَرَكَاتٌ هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَعُلِمَ أَنَّ السَّفَرَ مَعْصِيَةٌ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنْ أَحْدَثَ الْمَعْصِيَةَ فِي سَفَرِهِ وَقَدْ أَنْشَأَهُ طَائِعًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 أحدهما: وهو قول أبو الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ وَعَزَاهُ لِأَصْحَابِنَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ فِي مَعْصِيَةٍ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَرَخَّصَ لِأَنَّ الَّذِي جَلَبَ لَهُ هَذِهِ الرُّخَصَ إِحْدَاثُ السَّفَرِ وَإِحْدَاثُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً وَفِي مَسْأَلَتِنَا إِحْدَاثُهُ مَعْصِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ فَعَلَى هَذَا لَا تَخْفِيفَ وَالثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الرُّخَصِ أَنَّ الرُّخْصَ يُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا، وَالتَّيَمُّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَرْكِهِ وَفِعْلِهِ وَإِنْ تركه كان عاصياً يتركه وَلَوْ تَرَكَ الرُّخْصَةَ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا فَافْتَرَقَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ الْعَاصِي مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ وَحِرَاسَةُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، قُلْنَا: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهَا وهو عاصي وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْدَاثِ التَّوْبَةِ، كَمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهَا مُحْدِثًا إِلَّا بَعْدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْعَاصِيَ قَادِرٌ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ مَمْنُوعٌ فِي سَفَرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ كُلِّهَا فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَى خُفِّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً رُخْصَةٌ لِلْمُقِيمِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أن يمسح على خفيه أصلاً، لأنه عاصي فِي سَفَرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَخَّصَ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُهَا مسافراً عاصياً بسفره (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي والمسافرون ركعتين ثم يسلم بهم وأمر المقيمين أن يتموا أربعاً وكل مسافر فله أن يتم وإنما رخص له أن يقصر الصلاة إن شاء فإن أتم فله الإتمام وكان عثمان بن عفان يتم الصلاة " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 إِذَا اجْتَمَعَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَأَرَادُوا الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فإن كان فيهم إمام الوقت أن سُلْطَانُ الْبَلَدِ فَهُوَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ مُقِيمًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِمَامٌ وَلَا سُلْطَانٌ وَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِمَامَةُ المقيم أولى لأمرين: أحدهما: أن يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَسْتَوِي مَنْ خَلْفَهُ فَيَكُونُ فَرَاغُهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَلِهَذَيْنِ كَانَتْ إِمَامَةُ الْمُقِيمِ أَوْلَى فَإِنْ قَدَّمُوا مُسَافِرًا جَازَ وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَوْلَى، وَهَلْ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُمْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَهُمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُكْرَهُ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فِي إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ وَلَيْسَ اسْتِبَاحَةُ الرُّخْصَةِ نَقْصًا فِيهِ، فَإِذَا أَمَّهُمْ صَلَّى وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا الْقَصْرَ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرُوا لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْإِتْمَامُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه صلاة بِقَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَتِمُّوا أَيُّهَا الْمُقِيمُونَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ الشافعي، اختيروا أَنْ يَأْمُرَ الْمُقِيمِينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا، فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَسَلَّمَ بِسَلَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُقِيمُونَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِمْ أَرْبَعًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُتِمَّ بِهِمْ أَوْ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ وَقِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَفِي جَوَازِ هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِمْ وَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فُرَادَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَافَى مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ صَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ رَكْعَةً فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَؤُمَّ الْمُغِيرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَبْلَ فَرَاغِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 الْإِمَامِ هُوَ أَنَّ كَمَالَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِتَكْمُلَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ كَمَالُ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَ الْكَمَالِ، فَأَمَّا جَوَازُ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِ قَدْ تَقَدَّمَ فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ فمستحبة وغير مكروهة، وقد حكى الشافعي عن شَاذَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَتَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْفَرْضِ مَنَعَ مِنَ النَّفْلِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ السَّفَرِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يَتَخَلَّلُهَا وَضَرْبٌ يَتَعَقَّبُهَا، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْنُونِ فِي حَالِ فَرْضِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ جَازَ أن يأتي بالمسنون عقيب فرضه (مسألة) : وَاحْتَجَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعصر والمغرب والعشاء جميعاً وأن ابن عمر جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء وأن ابن عباس قال ألا أخبركم عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ؟ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وقت الزوال وإذا سافر قبل الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العصر في وقت العصر (قال الشافعي) وأحسبه في المغرب والعشاء مثل ذلك وهكذا فعل بعرفة لأنه أرفق به تقديم العصر ليتصل له الدعاء وأرفق به بالمزدلفة تأخير المغرب ليتصل له السفر فلا ينقطع بالنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أن من له القصر فله الجمع كما وصفت والجمع بين الصلاتين في أي الوقتين " شاء قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجْمَعُ إِلَّا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا حَاضِرًا، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَأَوْجَبَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمَنَعَ مِنْ تَأْخِيرِهَا وَتَقْدِيمِهَا، وَالْجَمْعُ تَأْخِيرٌ أَوْ تَقْدِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَفْرِيطَ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى " فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهَا تَفْرِيطٌ قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ لَا يَجُوزُ للمقيم الجمع بينهما مع زوال العذر، فيجب أن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 يَجُوزَ لِلْمُسَافِرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّفَرِ كَالْعَصْرِ مَعَ الْمَغْرِبِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يجوز للمسافر أن يجمع بينها وبين غدها كَالصُّبْحِ. قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ: وَعُمَرُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ مُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَسْفَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ صَلَاتِهِ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِمَّا تَوْقِيفًا أَوْ إِجْمَاعًا، وهذا الذي قالوا خَطَأٌ وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَارَ فَلَمَّا أَمْسَى قُلْنَا الصَّلَاةَ فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ ثُمَّ نَزَلَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُصَلِّي صَلَاتِي هَذِهِ وَيَقُولُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَجَازَ فِيهِ الْجَمْعُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ رُخْصَةٍ جَازَتْ فِي سَفَرِ الْحَجِّ جَازَتْ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَ " الْقَصْرِ " لِأَنَّ فِعْلَ الصلاة أكد مِنْ وَقْتِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلسَّفَرِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ الْوَقْتِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَتَحَتَّمُ فِي الْحَضَرِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا فِي السَّفَرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَقْتِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَهُوَ الْفِطْرُ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَتَّمَ وَقْتُهَا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهَا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي السَّفَرِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ يَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا، أَلَا تَرَاهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَخَبَرُنَا خَاصٌّ إِذِ الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وَالثَّانِي: أَنَّ خِلَافَنَا فِي السَّفَرِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْجَمْعِ أَمْ لَا؟ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ فَرْعٌ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلُ إِلَى فَرْعِهِ، عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّفَرِ رُخْصَتَانِ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ فَلَمَّا اخْتَصَّ بِالْقَصْرِ بَعْضُ الصَّلَاةِ دُونَ بَعْضٍ كَذَلِكَ الرُّخْصَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْجَمْعُ، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ جَمْعُهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا الْعِشَاءُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالَّتِي بَعْدَهَا الظُّهْرُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْعَصْرِ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ. فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالسَّفَرُ عُذْرٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ بِرِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَدْفَعُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ حَتَّى رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَوَيْنَاهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْجَمْعِ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ فَفِي جَوَازِهِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا يَجْمَعُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْجَمْعُ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ تَخْرِيجُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَجَوَازِهِ فِي طَوِيلِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ بِالْعُذْرِ كَجَوَازِهِ بِالسَّفَرِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ كالتيمم وأكل الميتة (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤَخِّرُ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَلَمْ يَنْوِ مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْجَمْعُ فَإِنْ نَوَى مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ كان له الجمع (قال المزني) هذا عندي أولى من قوله في الجمع في المطر في مسجد الجماعات بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لا يجمع إلا من افتتح الأولى بنية الْجَمْعُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَرَادَ الْمُسَافِرُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا قَدْ يَكُونُ تَارَةً مَعْصِيَةً، وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَامِدًا لِغَيْرِ جَمْعٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مُبَاحًا وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِلْجَمْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَصُورَةُ التَّأْخِيرَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةِ الْجَمْعِ مَعَ التَّأْخِيرِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ تَأْخِيرِ المعصية وغير المعصية، فإذ نَوَى الْجَمْعَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ قَدَّمَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا أَوَّلًا ثُمَّ الْعَصْرَ بَعْدَهَا وَلَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا بَلْ يَأْتِي بِالْعَصْرِ عَقِبَ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ وَلَا فَصْلٍ فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الظُّهْرِ وَقُرْبَ الزَّمَانِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِكِلَا الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ قُرْبُ الزَّمَانِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ تَنَفَّلَ أَوْ صَبَرَ زَمَنًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ لَمْ يَكُنْ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَاضِيًا لِلظُّهْرِ مُؤَدِّيًا لِلْعَصْرِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاصِيًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَالظُّهْرُ قَدْ كَانَ لَهُ تَأْخِيرُهَا، وَإِنْ كَانَ إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْآخَرِ: وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْعَصْرَ أَوَّلًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَيُجْزِئُهُ الصَّلَاتَيْنِ مَعًا ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ عُقَيْبَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ كَأَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ فَهَذَا عَاصٍ لِتَأْخِيرِ الظُّهْرَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَ الْجَمْعَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ عَاصِيًا وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطَيْنِ مَعًا فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْعَلُ الْعَصْرَ بَعْدَهَا لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْعَصْرِ لَا فِي الْأَدَاءِ وَلَا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فِي الْجَمْعِ تَبَعًا لَهَا فَإِنْ قَدَّمَ الْعَصْرَ عَلَى الظُّهْرِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْجَمْعِ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأُولَى مِنْهُمَا وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالنِّيَّةُ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ يَرْفَعُ نِيَّةَ الْجَمْعِ وَيَقْطَعُ حُكْمَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَجْهًا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مع كونه جبر لِلصَّلَاةِ لَوْ سَهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قُرْبَ الْفَصْلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيمِ النِّيَّةِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ: وَنِيَّةُ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى وَاجِبَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لابد مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا فِي الْحَالِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ تَعَذُّرِ فِعْلِهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ نِيَّةِ الْجَمْعِ لَهَا. وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتَ: لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مَجْمُوعَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ أَصْلُهُ: إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَفْعِ نِيَّةِ الْجَمْعِ وَانْقِطَاعِ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَدَعْوَى غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا وَلَا مُوَافَقٍ عَلَى صِحَّتِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَوْ يُشَارِكُهَا فِي حُكْمِهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَسِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا رُكْنًا مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَتَى بِهِ وَلَمْ يَكُنِ السَّلَامُ رَافِعًا لِحُكْمِهِ. كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ السَّلَامُ رَافِعًا لِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ فَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ، لأنه يَنْوِي الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا وَمَسْنُونِهَا وَسُجُودُ السَّهْوِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسْنُونِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ فَفِي مَحَلِّهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ نَوَى الْجَمْعَ بعد إحرامه لم يجزه لأن الرخصة المتعقلة بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ رُخْصَتَانِ قَصْرٌ وَجَمْعٌ فَلَمَّا لَمْ تُجْزِئْهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ لَمْ تُجْزِ نِيَّةُ الْجَمْعِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالْقَصْرِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ جَمْعَانِ، جَمْعٌ هُوَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ، وَجَمْعٌ هُوَ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، فَلَمَّا وَجَبَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَعَ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ نِيَّةُ الْجَمْعِ الثَّانِي مَعَ التَّقْدِيمِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَوَقْتُ الضَّمِّ حَالُ السَّلَامِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّمِّ وَهُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ، كَانَ يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الضَّمِّ وَحِينَ الْفَرَاغِ أَوْلَى. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِذَا نَوَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الضَّمِّ لِيَقْضِيَ الْأُولَى بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الِاتِّصَالُ وَالْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا عَنْ فِعْلِ الْأُولَى لِيَصِحَّ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَإِنْ تَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ أَوْ تَطَاوَلَ أَوْ تَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَذَّنَ بَطَلَ الْجَمْعُ وَأَجْزَأَتْهُ الْأُولَى ولم تجزه الثانية ووجب عليه تأخير ما إِلَى وَقْتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 جَازَ لَأَنَّ الْإِقَامَةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَلَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأُولَى، فَإِنْ قَرُبَ عَلَيْهِ زَمَانُ الطَّلَبِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَإِنْ تَطَاوَلَ بَطَلَ الْجَمْعُ (مسألة) : وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي مَطَرٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالسُّنَّةُ فِي الْمَطَرِ كَالسُّنَّةِ فِي السَّفَرِ (قال المزني) والقياس عندي إن سلم ولم ينو الجمع فجمع في قرب ما سلم بقدر ما لو أراد الجمع كان ذلك فصلاً قريباً بينهما أن له الجمع لأنه لا يكون جمع الصلاتين إلا وبينهما انفصال فكذلك كل جمع وكذلك كل من سها فسلم من اثنتين فلم يطل فصل ما بينهما أنه يتم كما أتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد فصل ولم يكن ذلك قطعاً لاتصال الصلاة في الحكم فكذلك عندي إيصال جمع الصلاتين أن لا يكون التفريق بينهما إلا بمقدار ما لا يطول قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ فِي حَالِ الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ غَيْرُ جَائِزٍ تَعَلُّقًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الطهر وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَطَرِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ أَوْقَاتِهَا وَصَلَّى الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا. فَاتَّصَلَ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتَيْهِمَا جَمِيعًا فَقِيلَ جَمَعَ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِيمَا رَوَيْتُمْ مِنْ جَمْعِهِ فِي الْمَطَرِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ لِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ لِمَا رُوِيَ مِنْ نَقْلِ السَّبَبِ فِي جَوَازِ جَمْعِهِ وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْمَطَرُ لَا يَخْتَصُّ بِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بَلْ يَجُوزُ ذلك في المطر وغيره على أن هذا التَّأْوِيلَ سَاغَ لَنَا فِي رِوَايَتِهِمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ فِي غَيْرِ الْمَطَرِ فَتَأَوَّلْنَا بِهَذَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَةِ وَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 جَوَازِ الْجَمْعِ فِي المطر فَلَمْ يَسُغِ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي وَلَا مَطَرٍ. أَبِي لَا يُصِيبُهُ الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ مُسْتَظِلًّا تَحْتَ سَقْفٍ. فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ: فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِي مَطَرِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهَا فِي مَطَرِ النَّهَارِ، وَهَذَا غَلَطٌ يُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ وَفِي الْمَطَرِ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي السَّفَرِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ كَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَازَ لَهُ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْمَاضِيَةُ فِي جَمْعِ السَّفَرِ وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: اسْتِدَامَةُ الْمَطَرِ وَقْتَ إِحْرَامِهِ بِالْأُولَى إِلَى دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْأُولَى وَلَا مَطَرَ ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا قُبَيْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَأَمْكَنَهُ الدُّخُولُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ حَالَ الْجَمْعِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ غَيْرِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَ الْأُولَى وَالْمَطَرُ قَائِمٌ ثُمَّ انْقَطَعَ فِي خِلَالِهَا ثُمَّ اتَّصَلَ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا جُوِّزَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فِي حَالِ الْجَمْعِ وَهُوَ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْمَطَرِ إِلَى وَقْتِ الْجَمْعِ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لَيْسَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَجَازَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا فِي الْمَطَرِ (فَصْلٌ) : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَابَاطٌ يَرْفَعُ عَنْهُ أَذَى الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَا فِي جَمَاعَةٍ وَلَا مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ وَإِذَا عَدِمَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ جَوَازُ الْجَمْعِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ جَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَعَلَّهُ كَانَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلُ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحْدَهَا فِيهِ (فَصْلٌ) : لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ وَكَثِيرِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ قَلِيلُهُ يَبُلُّ الثَّوْبَ لِحُصُولِ الْأَذَى بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبُلَّ الثَّوْبَ لِقِلَّتِهِ كَالطَّلِّ وَالرَّذَاذِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ لِعَدَمِ الْأَذَى بِهِ وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الثَّلْجِ فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ مَعَ سُقُوطِهِ جَازَ كَالْمَطَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَذُوبُ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ كَالْغُبَارِ وَأَمَّا الْبَرَدُ فَقَلَّ مَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثَّوْبَ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. بَلْ هُوَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَذَى بِهِ أَعْظَمُ فأما الجمع في الزلازل والرياح والعاصفة وَالظُّلْمَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَتْمَةِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْخَوْفِ الْعَامِّ لِوُجُودُ كُلِّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَمَعَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الْمَطَرِ وَأَمَّا الْوَحْلُ فَقَدَ جَوَّزَ مَالِكٌ الْجَمْعَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ وَعِنْدَنَا الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْوَحْلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَطَرِ يُؤْذِي مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلَ، وَالْوَحْلُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرُّخْصَةُ إِذَا أُبِيحَتْ لِمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَلُّقُهَا بِأَحَدِهِمَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 (كتاب الجمعة وغيرها من أمرها) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحْمَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَأَوْجَبَ السَّعْيَ إِلَيْهَا، وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْبَيْعِ لِأَجْلِهَا ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] وكان سبب ذلك ما وري أَنَّ رَبَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ صَيْفِيٍّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، قَالَ للنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْيَهُودِ يَوْمٌ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ، فَلَوْ كَانَ لَنَا يوم، فنزلت سورة الجمعة وقال سبحانه على سبيل " القسم " فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الشَّاهِدُ: الْجُمُعَةُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَذَا دَلِيلُ الْكِتَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَوْمُ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ غَدًا، وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ " وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ عَزَ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سُبْحَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ جُحُودًا بِهَا، وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ شَمْلًا، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ. أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا صَدَقَةَ لَهُ، أَلَا وَلَا بِرَّ لَهُ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، إِلَّا مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَمْلُوكًا " وَرَوَى أَبُو الْجَعْدِ الضَّمْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ رَجُلٌ ثَلَاثًا تَهَاوُنًا بِهَا إِلَّا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ " وَكَانَ ابْتِدَاءَ أَمْرِ الْجُمُعَةِ مَا حَكَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ، وَنَقَلَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَفَذَ إِلَيْهَا وَهُوَ بِمَكَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ يُدْعَى الْقَارِئَ، فَخَرَجَ مُصْعَبٌ مِنْ مَكَّةَ حَتَى وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الْجُمُعَةِ وَأَحَبَّ مُصْعَبٌ أَنْ يُشَرِّفَ أَسْعَدَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَوَاتِ بِنَفْسِهِ، فَصَلَّى أَسْعَدُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، فَيَ حَيِّ بَنِي بَيَاضَةَ بأمر مصعب " وكانت أول جمعة صليت في الإسلام، فإن قيل فلم أمر مصعباً بإقامتها بالمدينة، ولم يصلها هو وأصحابه بمكة؟ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ أَصْحَابِهِ عَنِ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَمُّوا بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والثاني: وكأنه أشهر أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجُمْعَةِ إِظْهَارَهَا وَانْتِشَارَ أَمْرِهَا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَائِفًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْعَةُ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ، لَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْأَعْيَانِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِهِ بِالْمَدِينَةِ " إِنَّ اللَّهَ عَزَ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ: (نَفْسُ الْفِدَاءِ لِأَقْوَامٍ هُمُ خَلَطُوا ... يَوْمَ الْعَرُوبَةِ أَوْرَادًا بِأَوْرَادِ) وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَحَدَ أَوَّلَ، وَالِاثْنَيْنِ أَهْوَنَ، وَالثُّلَاثَاءَ جُبَارًا، وَالْأَرْبِعَاءَ دُبَارًا، وَالْخَمِيسَ مُؤْنِسًا، وَالْجُمْعَةَ عَرُوبَةَ قَالَ الشَّاعِرُ: (أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنَّ يَوْمِي ... بِأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ) (أَوِ التَّالِي دُبَارَ فَإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شيار) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْجُمْعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَوُجُوبُهَا مُعْتَبَرٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ، وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِيطَانُ، فَهَذِهِ سبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ اثْنَانِ مِنْهُمَا شرط في وجوب الجمعة وجوازها والخمسة الباقية شرط فِي وُجُوبِهَا دُونَ جَوَازِهَا فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ هما شرط في وجوبها وجوازها فيهما: الْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ يُمْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَعَدَمَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ. ثُمَّ النَّاسُ فِي الْجُمْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمُ: الَّذِينَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ السَّبْعَةُ وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ الْمُقِيمُونَ فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمْ، كَرَجُلٍ دَخَلَ بِالْبَصْرَةِ فَنَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهَا سَنَةً لِطَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ تِجَارَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِمُقَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ الْجُمْعَةِ بِهِمْ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ انْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمْعَةُ كَالْمُسْتَوْطِنِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، وَأَقَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ يوم الجمعة، فلم يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجمعة، ولا أمر بها أهل مكة وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ اجْتَمَعَا عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ، هَلْ كَانَتْ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ فَقَالَ: جُمْعَةٌ: لِأَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ جُمْعَةٍ لَأَخَّرَ الْخُطْبَةَ. ثُمَّ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَتْ ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ أَسَرَّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جُمْعَةً لَجَهَرَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: صَدَقْتَ. وَقَدْ نُقِلَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبي يوسف رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ: الْمَرْضَى، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حضورها، وَانْعَقَدَتْ بِهِمُ الْجُمْعَةُ إِذَا حَضَرُوهَا لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حُضُورُهَا وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمْ ثَلَاثَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 أَصْنَافٍ: النِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسَافِرُونَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَاهُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا خِلَافَ الْمَرِيضِ؛ لِبَقَاءِ أَعْذَارِهِمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ وَالرِّقُّ، والسفر، وزوال عذر المريض إذا حضر (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَتَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ حَتَى لَا يَسْمَعَ أَكْثَرُهُمُ النِّدَاءَ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمِصْرِ إِذَا سمع النداء وكان المنادي صيتاً وكان ليس بأصم مستمعاً والأصوات هادئة والريح ساكنة ولو قلنا حتى يسمع جميعهم ما كان على الأصم جمعة ولكن إذا كان لهم السبيل إلى علم النداء بمن يسمعه منهم فعليهم الجمعة لقول الله تبارك وتعالى {إذا نودي للصلاة} الآية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا اعْتِبَارَ بِسَمَاعِهِمُ النِّدَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ مَوْضِعٌ لِلنِّدَاءِ، وَمَحَلٌّ لِإِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ، وَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ وَإِنْ كَثُرُوا وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَعَلَى ثلاثة أضرب: [الأول] ضرب تلزمهم الجمعة بأنفسهم فحسب، [الثاني] وضرب لا تلزمهم بأنفسهم وتلزمهم بغيرهم. [الثالث] وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ: فَهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنُونَ، فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَحْرَارًا بَالِغِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِقَامَتُهَا، وَسَوَاءٌ قَرُبُوا مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدُوا سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَمُلَتْ فِيهِمْ، فَإِنْ تَرَكُوا إِقَامَتَهَا فِي مَوْضِعِهِمْ، وَقَصَدُوا البلد فصل وا الجمعة مع أهله فقد أساؤوا بِتَرْكِ إِقَامَتِهَا فِي مَوْضِعِهِمْ وَأَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمْعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ لَا يَبْلُغُهُمْ سَمَاعُ النِّدَاءِ، فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِنُقْصِهِمْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ لَا يَبْلُغُهُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تلزمهم إقامتها بِأَنْفُسِهِمْ وَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ يَسْمَعُونَ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمِصْرِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا فِي الْمِصْرِ، وَاعْتِبَارُ سَمَاعِ النِّدَاءِ بِأَنْ تَكُونَ الرِّيحُ سَاكِنَةً، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةً، وَيَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى سُورَةٍ مِنْ جانبه، ويكون صيتاً ولا يكون المستمع أصماً، فإذا سمعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 النِّدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَقَدْ لَزِمَهُمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْجُمْعَةَ فِي الْمِصْرِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْوُوا بِاللَّيْلِ فِي مَنَازِلِهِمْ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يمكنهم أن لا يأووا لَيْلًا فِي مَنَازِلِهِمْ فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ كَانُوا عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ وَقَالَ رَبِيعَةُ: إِنْ كَانُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا جُمْعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ بِحَالٍ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَنَفَى وُجُوبَ الْجُمْعَةِ عَمَّنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ جَامِعٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُ الْجُمْعَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَدْعُو أَهْلَ العوالي والسواد، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الجمعة، قياساً على من لم يَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَمَاعُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وجب أن يبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى السَّفَرَ، وَفَارَقَ بُنْيَانَ الْبَلَدِ، جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ بَعُدَ عَنْهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى مَنْ بَعُدَ لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ قَرُبَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ قَوْلِهِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَكَانَ عُمُومُ الظَّاهِرِ يَقْتَضِي إِيجَابَ السَّعْيِ إِلَيْهَا عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النِّدَاءَ عَلَمًا لَهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ". فَاسْتَثْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْإِيجَابِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَالْمَمْلُوكِ، فَدَخَلَ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي عُمُومِ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَدْخُلْ خُصُوصَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ جَيِّدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَى قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الطَّائِفِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 عن أبي سلمة بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ". وَهَذَا نَصٌّ فِيمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ النِّدَاءِ فِي أَهْلِ الْمِصْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَإِنْ قِيلَ الْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، غَيْرُ مُسْنَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا: أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفًا على عبد الله بن عمروا بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالْخَبَرُ عِنْدَنَا إِذَا رَوَاهُ رَاوٍ تَارَةً مَوْقُوفًا وَتَارَةً مُسْنَدًا، حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى فَتْوَاهُ وَحُمِلَ الْمُسْنَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ فَلَا يَحْضِرُونَ الْجُمْعَةَ أَوْ لَيَطْبَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ ". وَلِأَنَّ أبا حنيفة خَالَفَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: الاعتبار بسماع النداء وابن عمر وأبا هريرة وأنس قالوا: إن الاعتبار بالإيواء إلى الوطن. ولم يرو عنهم غير هذا. وَالصَّحَابَةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فإحداث قول ثالث محرم، كما إذا أجمعوا على قول واحد كان إحداث قول ثان محرماً، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَوَارِضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْجُمْعَةُ كَأَهْلِ الْمِصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ الأمصار كالظهر، ولأنها عبادة عَلَى الْبَدَنِ شَرْطٌ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ، فَجَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا قَطْعُ مَسَافَةٍ كَالْحَجِّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " لَا جُمُعَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَحُمِلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ، وَخُصَّ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ " لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا خَاصٌّ مِنْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ الْعَوَالِي وَالسَّوَادِ بِهَا فَبُهْتٌ مَعَ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَالْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ شِعَارُ الْجُمْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ بَطَلَ اعْتِبَارُهُ خَارِجَ الْبَلَدِ وَهُوَ نِدَاءُ الْجَامِعِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ وَلَا فِي الْخَارِجِينَ عَنْهُ، وَالنِّدَاءُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ خارج البلد اعتبرناه في البلد هو النِّدَاءُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَاسْتَوَيَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى سَفَرَ مَا قَرُبَ لَمْ يَقْصُرْ، وَلَوْ نَوَى سَفَرَ مَا بَعُدَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَرُبَ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعُدَ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذكرناه فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا (فَصْلٌ) : قال الشافعي في كتاب " الأم ": " وإذا خرب البلد، وتهدم بُنْيَانُهُ، وَبَقِيَ فِيهِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ " (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَفِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَكَانَ يَبْلُغُ أَهْلَ الْبَلَدِ النِّدَاءُ، لَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِلَى الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَفِي الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانُوا إِذَا اجمتعوا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا سَعَى إِلَى الْآخَرِينَ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ، فَلَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُ الجمعة بهم (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلاً وعن عبيد الله بن عبد الله أنه قال " كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة " ومثله عن عمر بن عبد العزيز " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي المكان الذي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ، وَالثَّانِي: فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ فَأَمَّا الْمَكَانُ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْقُرَى إِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ، وَكَانَ لَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَلَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَامِعًا، فَيَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا. وَحَدُّ الْمِصْرِ عِنْدَهُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَجَامِعٌ وَمِنْبَرٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ نَصِّ قَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " قَالُوا: وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يبينه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا خَاصًّا، بَلْ يُشَرِّعُهُ شَرْعًا عَامًّا، وَلَا يُنْقَلُ آحَادًا بَلْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَذَلِكَ معدوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي الْغَالِبِ. فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْبَوَادِي وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جمعوا حيث كنتم " ولم يخض بَلَدًا مِنْ قَرْيَةٍ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَرْيَةٍ مُزَنِيَّةٍ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْخَضَمَاتُ وَلَمْ يَكُنْ مِصْرًا، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ جُمْعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرِينِ تُسَمَّى جُوَاثَا وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ صَلَاةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يكون من شرطها المصر، كسائر الصلوات، ولأنه مَعْقِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَجَازَ أَنْ يُقِيمُوا الْجُمْعَةَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جَامِعٍ " فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه على وهاء في إسناده ثم لَا يَصِحُّ لأبي حنيفة الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ أَنَّ إِمَامًا أَقَامَ الْحُدُودَ، وَقَاضِيًّا نَفَّذَ الْأَحْكَامَ فِي قَرْيَةٍ وَجَبَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنِ الْمِصْرِ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَخْلِفَا، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ الْمِصْرِ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ، فَنَقُولُ لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ الْعَدَدَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا، وَلَا يَرِدُ بِهِ النَّقْلُ آحَادًا، فَيُقَالُ لَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ خَاصًّا، وَيَرِدُ النَّقْلُ بِهِ آحَادًا، فَلَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَالَةَ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَمْ يَرِدْ لَهُ فِي الْكِتَابِ ذِكْرٌ وَلَا بَيَانُ حُكْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ الْجُمْعَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامًّا، عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد عم البيان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مِنْبَرِهِ: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً " وَلَيْسَ فِي الْبَيَانِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوَادِي: فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فَإِذَا ثَبَتَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي الْقُرَى إِذَا اسْتَوْطَنَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ وَكَانُوا مُجْتَمِعِي الْمُنَازِلِ اعْتُبِرَتْ حَالُ مَنَازِلِهِمْ: فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ أَوْ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، أَوْ بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خِيَامًا أَوْ بُيُوتَ شَعَرٍ، أَوْ مِنْ سَعَفٍ، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 قَصَبٍ، فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَازِلَ لَيْسَتْ أَوْطَانًا ثَابِتَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا أَهْلَ مُنَازِلَ مُتَفَرِّقَةٍ وَبُنْيَانٍ مُتَبَاعِدَةٍ غَيْرِ مُجْتَمِعَةٍ، وَلَا مُتَّصِلَةٍ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ، لَا الْمُسْتَوْطِنِينَ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ مَا اجْتَمَعَتْ، وَالْجُمْعَةَ لَا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطناً (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ فَأَرْبَعُونَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْفِضَاضِ النَّاسِ عَنْهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وقال أبو حنيفة رحمه الله تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُزَنِيُّ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ وَاجِبَةٌ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَإِمَامٌ يُجَمِّعُ بِهِمْ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ: إِمَامٌ وَاثْنَانِ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ إِمَامٍ وَآخَرَ، كَمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ فِي عَدَدِهِمْ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِأَوْطَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْمَنَازِلِ، لَهَا أَزِقَّةٌ، وَفِيهَا أَسْوَاقٌ وَمَسْجِدٌ، فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْأَوْطَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مَوْجُودًا عُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَوْطَانِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ مَنْ خَالَفَنَا فِي عَدَدِهِمْ، وَتَعْلِيلُ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِنَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ فِي جَمَاعَةٍ "، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ تَتَرَحَّمُ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمْعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، فَقُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا: هُوَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ كَانَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا أَرْبَعِينَ أَمَرَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَعُلِمَ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِنَّمَا كَانَ انْتِظَارًا لِاسْتِكْمَالِ هَذَا الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهَا، لِأَنَّ فَرْضَهَا قَدْ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ، لَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُرْوَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 تَارَةً أَنَّ مُصْعَبًا صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيُرْوَى تَارَةً أُخْرَى أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى بِهِمْ، وَرُوِيَ تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قِيلَ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، لِأَنَّ مُصْعَبًا كَانَ الْآمِرَ بِهَا، وَأَسْعَدُ الْفَاعِلَ لَهَا، فَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى مُصْعَبٍ فَلِأَجْلِ أَمْرِهِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى أَسْعَدَ فَلِأَجْلِ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَوَى بِبَنِي بَيَاضَةَ فَعَيَّنَ مَوْضِعَ فِعْلِهَا، وَمَنْ رَوَى بِالْمَدِينَةِ فَنَقَلَ أَشْهَرَ مَوَاضِعِهَا، لِأَنَّ بَنِي بَيَاضَةَ مِنْ سَوَادِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَغَلِطَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ، فَأَمَّا غَلَطُ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ: فَهُوَ قَوْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ، وَهَذَا لَعَمْرِي حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا الْمُقَدَّمِ وَأَمَّا غَلَطُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ ضَعِيفًا، طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ نَقَلَهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ أَتْقَنَهُ وَقَدْ روي هذا الحديث من جهة عبد الرازق فَلَمْ يَكُنْ ضَعْفُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُزَنِيِّ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ أَشَارَ بِضَعِيفِ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَسَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَتَوَاضَعُونَ الْحَدِيثَ "، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظُهْرًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نُقِلَ الْفَرْضُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ عَلَى شَرَائِطَ وَأَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَخَ الظُّهْرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ شَرْعًا ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلَالَةِ التَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا تَوْقِيفَ مَعَهُمْ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا إِجْمَاعَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْعَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَلَيْسَ لبعض الأعداد مزية عَلَى بَعْضٍ، كَانَ مَا اعْتَبَرْنَا مِنْ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ، وَمَا دُونَهُ مِنَ الْأَعْدَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَدَدٌ قَدْ وُجِدَ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَسْعَدَ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعَةٍ، فَكَانَ الْعَدَدُ الَّذِي طَابَقَ الشَّرْعَ أَوْلَى، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا اعْتَلُّوا بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَدَدٌ لَا تُبْنَى لَهُمُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِمُ الْجُمْعَةُ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْأَوْطَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ وَالْعَدَدَ شَرْطَانِ مُعْتَبَرَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِمَنْ وَجَبَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي جَمَاعَةٍ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّنَا نُوجِبُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَكِنِ اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِهَا، وَالْخَبَرُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدِ الْأَعْدَادِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ انْفِضَاضَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَدْ كَانَتِ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ، وَاسْتِدَامَةُ الْعَدَدِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ ثُمَّ انْفَضُّوا عنه ثم رَجَعُوا مَكَانَهُمْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا حَتَّى تَبَاعَدَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ فإن لم يفعل صلاها بِهِمْ ظُهْرًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَأَمَّا الْخُطْبَتَانِ فَوَاجِبَتَانِ، وَشَرَائِطُ الْجُمْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِمَا فلا يجوز أن يخطبهما إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، إِذَا حَضَرَهَا أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا، وَوَجَبَ أَنَّ الْخُطْبَةَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ سُنَنِهَا فَإِنْ خَطَبَ فَأَتَى بِوَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَالْعَدَدُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَرْبَعِينَ، حَتَّى يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ، وَيُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ مِعِ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْخُطْبَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الصَّلَاةِ، تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْأَذْكَارَ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ كَالْأَذَانِ وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الْخُطْبَةِ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهَا أَذْكَارٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 مِنْ شَرَائِطِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِهَا الْإِمَامُ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِهَا عَنِ الْعَدَدِ كَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَتِ الْأَذَانَ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَالْخُطْبَةُ عِظَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهَا قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِهَا: (فَصْلٌ) : فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: أن يخطب بهم وهم أربعون فصاعد، ثُمَّ يَنْفَضُّوا عَنْهُ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ: يَعُودُونَ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمْ. وَحَالٌ: لَا يَعُودُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعُودُوا صَلَّى الْإِمَامُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ عَادُوا جَمِيعًا، أَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَلَهُمْ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ. فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ: بَنَى عَلَى مَا مَضَى، وَصَلَّى بِهِمْ جُمْعَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أوقع في خطبته فصل يسير فَإِنَّهُ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَتَلَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ. ثُمَّ بَنَى، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفَصْلِ الْيَسِيرِ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ مَانِعًا مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، كَانَ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا إِنْ بَعُدَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ، اعْتُبِرَتْ مَا مَضَى مِنْ وَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ، فَلَا يخلو من أمرين: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا، وَبَقِيَ بَعْضُهَا. فَإِنْ مَضَى بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا: فَغَرَضُ الْخُطْبَةِ بَاقٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، لِأَنَّ بُعْدَ الزَّمَانِ قَدْ أَبْطَلَهُ كَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ خُطْبَتَيْنِ، وَيُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ مَضَى جَمِيعُ وَاجِبَاتِهَا: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَخْطُبُ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا، لِأَنَّ فَرْضَ الْخُطْبَةِ قَدْ أَقَامَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِقَامَتُهُ ثَانِيَةً، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْطُبْ صَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ لِإِتْيَانِهِ بِهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْخُطْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِبُعْدِ زَمَانِهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْجُمْعَةُ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، وَهِيَ الْخُطْبَةُ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ، فَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَخْطُبُ وَاجِبًا لَا اسْتِحْبَابًا وَيُصَلِّي الْجُمْعَةَ لَا ظُهْرًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَالْعَدَدَ مَوْجُودٌ، قَالَ: وَقَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: " أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ " وَإِنَّمَا أَوْجَبْتُ وَيُصَلِّي بِهِمْ جُمْعَةً، قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا " أَرَادَ بِهِ: إِنْ لَمْ يعقد حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْطَأَ في تخطئته الْمُزَنِيَّ، لِأَنَّ الرَّبِيعَ هَكَذَا نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ " أَوْجَبْتُ " فَعُلِمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يُخْطِئْ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ. والمذهب الثالث: أنه إن كان العذر باقيا خطب استحبابا، وإن زال العذر خَطَبَ وَاجِبًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخُطْبَةِ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِهَا انتهاء. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ حَتَى تَكُونَ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ أَجْزَأَتْهُمُ الْجُمُعَةُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تُجْزِئُهُمْ بِحَالٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ يكمل بهم الصلاة (قال المزني) قلت أنا ليس معني المنفرد في الجمعة ولا جماعة تجب بهم الجمعة عنده أقل من الأربعين فلو جازت باثنين لأنه احرم بالأربعين جازت بنفسه لأنه احرم بالأربعين فليس لهذا وجه في معناه هذا والذي هو أشبه به إن كان صلى ركعة ثم انفضوا صلى أخرى منفردا كما لو أدرك معه رجل ركعة صلى أخرى منفردا ولا جمعة له إلا بهم ولا لهم إلا به فأداؤه ركعة بهم كأدائهم ركعة به عندي في القياس ومما يدل على ذلك من قوله أنه لو صلى بهم ركعة ثم احدث بنوا وحدانا ركعة وأجزاتهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الجمعة مع أربعين رجلا فصاعدا، ثم ينفضوا عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غيرها، بعد سلامة الخطبة، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا، فَمَتَى نَقَصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ واحدا بَنَى عَلَى الظُّهْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا، فَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُمَا المزني إلى هذا الوضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ إن بقي معه بعد انعقادها بالأربعين واحدا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَأَوْلَاهَا فَوَجْهُهُ: شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ اخْتَصَّ بالجمعة في افْتِتَاحُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتَدَامَتُهُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، كَسَائِرِ الشروط مِنَ الْوَقْتِ وَالِاسْتِيطَانِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْخُطْبَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْجُمْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَمَتَى بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: تَقْدِيمُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ. فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الِاسْتِدَامَةِ فَهُوَ: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ضَبْطُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ انْفِضَاضِهِمْ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي افْتِتَاحِهَا، لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، فَشَابَهَ النِّيَّةَ لَمَّا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْإِحْرَامِ كَانَ مُؤْخَذًا بِهَا، وَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتَدَامَتُهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا قد تعذب عنه لم يكن مؤخذا بها إذا عذبت فِي أَثْنَائِهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْوَقْتَ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ اسْتَدَامَتِهِ يُمْكِنُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، كَذَلِكَ الْعَدَدُ فِي الْجُمْعَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي افْتِتَاحِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا فَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ، وَجَوَازِ إِتْمَامِ الْجُمْعَةِ بِهَا هُوَ: أَنَّ الْجُمْعَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْكَامِلِ ثَلَاثَةٌ. وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ مَتَى بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي افْتِتَاحِهَا شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهَا، وَافْتَقَرَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ، كَانَ أَقَلُّهَا فِي الشَّرْعِ اثْنَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ وَصْفُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ حُرًّا، بالغا، مقيما. فإن كان عبدا أو امرأة صبيا أو مسافرا أو بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعْتَبَرٌ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَوْصَافُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْوَصْفِ، وَمَتَى كَانَ الْبَاقِي عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي افْتِتَاحِ الْجُمْعَةِ إِلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ، وَاعْتَبَرَ حَالَ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ خَرَّجَ قَوْلًا رَابِعًا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُمْ رَكْعَةً بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَهُ، وَعَدَّهُ قَوْلًا رَابِعًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا رَابِعًا، فَمَنْ أَثْبَتَهُ فَوَجْهُهُ: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، جَازِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةً. وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ ان ْفَصَلَ عَنْ هَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَقَالَ: إِنَّمَا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لِانْعِقَادِ الْجُمْعَةِ وَحُصُولِهَا لِلْإِمَامِ، فَكَانَ تَابِعًا لِمَنْ كَمُلَتْ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْمَأْمُومِينَ، لِأَنَّهَا تَكْمُلُ بِعَدَدٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا، وَلَا صِحَّةَ لَهُمْ فَتَصِحُّ لَهُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو ركع مع الإمام ثم زحم فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَى قَضَى الْإِمَامُ سُجُودَهُ تَبِعَ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَّ بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُولَى فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى يَرْكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يكن له أن يسجد للركعة الْأُولَى إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَتِهِ لِأَنَّ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سَجَدُوا لِلْعُذْرِ قَبْلَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَيَرْكَعُ مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ وَتَسْقُطُ الْأُخْرَى وَقَالَ فِي الإملاء فيها قولان: أحدهما لا يتبعه ولو ركع حتى يفرغ مما بقي عليه والقول الثاني: إن قضى ما فات لم يعتد به وتبعه فيما سواه (قال المزني) قلت أنا الأول عندي أشبه بقوله قياسا على أن السجود إنما يحسب له إذا جاء والإمام يصلي بإدراك الركوع ويسقط بسقوط إدراك الركوع وقد قال إن سها عن ركعة ركع الثانية معه ثم قضى التي سها عنها وفي هذا من قوله لأحد قوليه دليل وبالله التوفيق ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاةٍ الْجُمْعَةِ، وَرَكَعَ بِرُكُوعِهِ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ مَعَهُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، فَيَلْزَمُهُ السجود عيه، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا زُحِمَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ آخَرَ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ صِفَةَ السُّجُودِ فِي الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِمْكَانِ كَالْمَرِيضِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ حَتَّى يَرْفَعَ الْإِمَامُ مِنْ سُجُودِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ مِعِ الْإِمَامِ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَهُ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ حَرَسُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاتِهِ بِعُسْفَانَ سَجَدُوا بَعْدَ قِيَامِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه قال: " مهما أسبقتكم به إذا ركعت تدركوني إِذَا رَفَعْتُ لِأَنَّنِي بَدَّنْتُ " أَيْ كَبِرْتُ. فَإِذَا سَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ: فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يُجْزِئُهُ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا فَيَحْتَمِلُ عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ، فَصَارَ كَالنَّاسِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ فَاتَهُ رُكُوعُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهَلْ يَأْتِي بِالسُّجُودِ أَوْ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: يَأْتِي بِالسُّجُودِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ في ركوع الثانية ووجد هَذَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ فاسجدوا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَقَدْ فَعَلَ السُّجُودَ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، فَيَأْتِيَ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ مُوَالَاةً بَيْنِ رُكُوعَيْنِ، وَإِيقَاعَ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَهُوَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالسُّجُودِ وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ولا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ " فَمَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي اشْتِغَالِهِ بِالسُّجُودِ مُخَالَفَةٌ فِي أَفْعَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ قَدْ سَقَطَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا أَحْرَمَ وَتَبِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا أَيْضًا يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ فِي الرُّكُوعِ وَإِنْ فَاتَهُ السُّجُودُ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَوْ لَهَا عَنِ السُّجُودِ وَسَهَا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِالسُّجُودِ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَهُ بِزِحَامٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، مَعَ كَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِمَا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا قُلْنَا: عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ فَسَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنَّ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ شَكَّ: لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ في الركوع فتبع وَرَكَعَ مَعَهُ وَسَجَدَ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهَلْ هِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا أَمِ الْأَوْلَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ هَا هُنَا إِنَّهَا الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا دُونَ الْأُولَى، لِتَكُونَ الرَّكْعَةُ مُرَتَّبَةً لَا يَتَخَلَّلُهَا رُكُوعٌ مقصود ولا يعتد بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي الْأَوْلَى قَدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ زِحَامِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي الْأَوْلَى بِقِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ، فَكَانَتِ الْأُولَى أَوْلَى فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا مِنَ الثَّانِيَةِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 فَعَلَى هَذَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُهَا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُلَفَّقَةٍ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَتَكُونُ ظُهْرًا فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مَعْذُورًا جَازَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزِّحَامِ هَلْ هُوَ مَعْذُورٌ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ: أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِهِ، لِأَنَّ أَعْذَارَ الْجُمْعَةِ أَمْرَاضٌ مانعة، وليس الزحام منها، فَعَلَى هَذَا فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ فَخَالَفَ وَتَبَعِ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِإِخْلَالِهِ بِرُكْنٍ مِنْ صَلَاتِهِ عَامِدًا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ وَرَاءَ الْإِمَامِ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَسَجَدَ مَعَهُ فَقَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صلاته. فإن لم يدركه راكعا أدركه سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَصَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبِعَ الْإِمَامَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ مُقَدِّرًا جَوَازَ ذَلِكَ أَلْغَى هَذَا الرُّكُوعَ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّجُودُ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ احْتُسِبَ لَهُ بِهَذَا السُّجُودِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، فَخَالَفَ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِفَرْضِهِ أَوْ عَالِمًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَتَبِعَ الْإِمَامَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَبِعَهُ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فَيَرْكَعَ مَعَهُ وَيَسْجُدَ، فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ الإمام فتبعه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ السُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةَ بِكَمَالِهَا أَوِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الثَّانِيَةُ، فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُدْرِكُ بها الجمعة أم لا على الوجهبن. ثُمَّ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا مَضَى. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ: فَهَذَا تَحْصُلُ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِالثَّانِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ثُمَّ هَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحق يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ السُّجُودِ مُتَشَهِّدًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، أَدْرَكَ بَعْضَهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَهَذَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْجَوَابِ وَالتَّفْصِيلِ. فَأَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ عَالِمًا أَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ. فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ: فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِمَا عَمَدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَيَسَ مِنْهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَنَوَى الِائْتِمَامَ بِهِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ قَصَدَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ: فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ غَيْرِ الزِّحَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، وَيُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ الزِّحَامِ فَهَلْ يَكُونُ الزِّحَامُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْوَجْهَ الثَّانِيَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَلَهُ فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَنْ يستأنف صلاته ظهرا أربعا. والقول الثاني: جائز، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا مُصَلِّيًا لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ غَيْرَ مَعْذُورٍ: أَحَدُهُمَا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وَهُوَ الْقَدِيمُ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ، صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِي الْأُولَى، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ أَحْرَمَ مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَزُحِمَ عَنِ الرُّكُوعِ فِيهَا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا وَجْهًا وَاحِدًا فَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْإِحْرَامَ مَعَهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ. فَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ مَعَهُ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِيهَا حَتَّى جَلَسَ الْإِمَامُ مُتَشَهِّدًا: فَهَذَا يَشْتَغِلُ بِفِعْلِ السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ. وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِيَارِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: اخْتِيَارُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ. وَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ. والله تعالى أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وَإِنْ أَحْدَثَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَدْ كَانَ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ حَدَثِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ ركعتين وإن لم يكن أدرك معه التكبيرة صَلَّاهَا ظُهْرًا لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا يشبه أن يكون هذا إذا كان إحرامه بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَصْلُهَا: جَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ، وَصِحَّةُ أدائها بإمامين قال الشافعي في ذلك قولان: أحدهما: لا تجوز الصلاة بِإِمَامَيْنِ، وَلَا أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَانْصَرَفَ وَاغْتَسَلَ، وَرَجَعَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَوْ أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُتِمُّ بهم ولا جاز لهم يَسْتَخْلِفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِجْمَاعًا، بَلْ يُتِمُّونَ فُرَادَى، كَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ خِلَالِهَا، وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ إِمَامٌ اسْتُخْلِفَ عَلَى مَأْمُومِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يصح، أصله ما ذكرنا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِإِمَامَيْنِ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مرضه، ليصلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 بالناس فأجرم بِهِمْ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِفَّةً فَخَرَجَ، وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ، فَصَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْمُومًا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِمَامًا. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْمَأْمُومِ، كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْإِمَامِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ شَخْصٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَدَّلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَأْمُومِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ إِذَا كان من شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ عَهِدَ الْوَاجِبَ مِنْهَا، فَأَمَّا إذا لم يشهد الخطبة فلا يجوز استخلافها فِيهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِلَّا مَنِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُحْدِثُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخِطْبَةَ، لِاتِّصَالِ الْعَمَلَيْنِ، فَكَانَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ القولين في جواز الصلاة بإمامين، فلا يَخْلُو حَالُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ أَوْ غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَخْلُ حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بَنَوْا عَلَى الظُّهْرِ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ، لِإِخْلَالِهِمْ بِاسْتِدَامَةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمْعَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ يَبْنُونَ عَلَى الْجُمْعَةِ. فَإِذَا قُلْنَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بعد حدثه لا يختلف، لأنه لم يعلق صلاته بصلاته، وإنما يستخلف من أحرم قبل حَدَثِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الإحرام أو الركوع، وَيَبْنِي هَذَا الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ. فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أو بعد. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَمْ لَا، وَيَبْنِي هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ مَعَهُمْ مِنْهَا رَكْعَةً. وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ مِنَ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَبَنَى هَذَا الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ. وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ حَدَثِهِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يكون مدركا للجمعة. وقال آخرون: وهو قال الْأَكْثَرِينَ إِنَّ اسْتِخْلَافَهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ خَلْفَ الصَّبِيِّ الَّذِي تَصِحُّ لَهُ الْجُمْعَةُ. وَإِذَا اسْتَخْلَفَهُ بَنَى هَذَا الْإِمَامُ عَلَى الظُّهْرِ، وَيُتِمُّ صلاته أربعا، وبنى المأمون عَلَى الْجُمْعَةِ، وَكَانُوا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِتَكْمُلَ صَلَاتُهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا غير الصلاة: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهَا مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْعَةِ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نُظِرَ فِي حَدَثِ الْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فِيهَا: فَاسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ. وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الْأُولَى: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَيَجُوزُ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ هُوَ: أَنَّ هَذَا الْمُحْرِمَ بَعْدَ حَدَثِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى صَلَاةِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَدِ اتَّفَقَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَبَنَى عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِعْلَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ، لِأَنَّهَا لَهُ أُولَى، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْهُ. أَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ بَنَى عَلَى صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَقَامَ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ. (فَصْلٌ) : إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمْعَةَ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ سَلَامِهِ أَنَّهُ جُنُبٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ أَرْبَعُونَ فَصَلَّوْا أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ ظُهْرًا، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا تجزئهم. فإن كانوا مع الإمام أربعين لم تجزهم الصَّلَاةُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ، وَاسْتَأْنَفُوا الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا مَنْ لَهُ عُذْرٌ وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمْعَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ". ثُمَّ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا: وَهُمُ الصِّبْيَانُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمُسَافِرُونَ، وَمَنْ فِيهِمُ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا لِبَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْجُمْعَةُ وَهُوَ: الرِّقُّ، وَالْأُنُوثِيَّةُ، وَالسَّفَرُ فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمْعَةَ سَقَطَ فَرْضُهُمْ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا أَتَى بِفَرْضِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أُسْقِطَ فَرْضُهُ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَصَامَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا: وَهُوَ الْمَرِيضُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ بِإِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ إِحْفَاظِ مَالٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا عليهم إذا حضروا لزوال أعذارهم. (مسألة) : قال الشافعي رحمة الله تعالي: " وَلَا أُحِبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِالْعُذْرِ أَنْ يصلي حتى يتأخر انْصِرَافَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي جَمَاعَةً فَمَنْ صَلَّى مِنَ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَجْزَأَتْهُمْ وَإِنْ صَلَّى مَنْ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَعَادَهَا ظُهْرًا بَعْدَ الْإِمَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ حُضُورِ الْجُمْعَةِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِعُذْرٍ. وَضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ. فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا لِعُذْرٍ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ رِقِّهِ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ سَفَرِهِ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فَحَضَرُوهَا، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ، فَلَوْ زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُضُورُهَا. وَضَرْبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالنِّسَاءِ لَا يُرْجَى لَهُنَّ زَوَالُ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظهر لأول وقتها، ولا ينتظروا انْصِرَافَ الْإِمَامِ، لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ: فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْجُمْعَةَ لَا الظُّهْرَ، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 ذَلِكَ قَضَاءً عَنْ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ: فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى حُضُورِ الْجُمْعَةِ لَزِمَهُمْ حُضُورُهَا، لِبَقَاءِ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ فَاتَهُمْ حُضُورُهَا فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ الَّتِي صَلَّوْهَا قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تُجْزِئُهُمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ هَلْ هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ أَوْ هِيَ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْجُمْعَةُ قَضَاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا بِذَاتِهِ قَضَاهَا جُمْعَةً كَالْأَدَاءِ فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ، وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَدَلٌ مُرَتَّبٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَبَدَلٌ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَلَوْ كَانَتِ الجمعة بدل مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا إِلَى الظُّهْرِ، وَلَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. (فَصْلٌ) : إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ ظُهْرًا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَهُ، لَكِنْ تُكْرَهُ لَهُ الْمُظَاهَرَةُ بِفِعْلِ الجماعة خوف التهمة، سَوَاءٌ كَانَ عُذْرُهُ ظَاهِرًا كَالسَّفَرِ وَالرِّقِّ، أَوْ كَانَ بَاطِنًا كَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، وَكَرِهَ أبو حنيفة أن يصلي جماعة ظاهرا باطنا. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن مرض له ولد أو والد فرآه مَنْزُولًا بِهِ أَوْ خَافَ فَوْتَ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَكَانَ ضَائِعًا لَا قَيِّمَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ قَيَّمٌ غَيْرُهُ لَهُ شُغْلٌ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ لَهُ الْجُمْعَةَ تَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ لِمَنْزُولٍ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. حُضُورُ الْجُمْعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ ". وَالْعُذْرِ ضربان: عام، خاص. فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْأَمْطَارِ، وَخَوْفِ الْفِتَنِ، وَحَذَرِ السُّلْطَانِ وَأَمَّا الْخَاصُّ: فَكَالْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ ذِي يَدٍ قَوِيَّةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَخَافُ تَلَفَ مَالٍ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى حِفْظِهِ، أَوْ يَخَافُ مَوْتَ مَنْزُولٍ بِهِ، مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، قَدْ رُوِيَ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِمُّ لِلْجُمْعَةِ فَاسْتُخْرِجَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَتَرَكَ الْجُمْعَةَ وَذَهَبَ إِلَى سَعِيدٍ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْزُولًا بِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ شَدِيدًا مُخَوِّفًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا شَدِيدًا فَإِنْ كَانَ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجُمْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، لِاخْتِصَاصِ الْوَلَدِ بِفَضْلِ الْبِرِّ، وَالْوَالِدِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَيِّمٌ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَمْوَالِ: فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، وَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ وَخَافَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَقَالِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَعَلَيْهِ الْحُضُورُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ، فَهَذَا عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ، لِيَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عن الجمعة. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ طَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يُسَافِرْ حَتَى يُصَلِّيَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. فَمَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: حَالَانِ يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِمَا، وَحَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. فَأَمَّا الْحَالَانِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ: فَأَحَدُهُمَا: قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ. وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ لِيَقْضِيَ الْفَرْضَ، فَإِذَا بَدَأَ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ جَازَ. وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ وَقْتِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَفُوتَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ، لِتَعَيُّنِ فَرْضِهَا، وَإِمْكَانِ فِعْلِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، فَفِي جَوَازِ إِنْشَاءِ السَّفَرِ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ العوام وأبو عبيد بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ: يُجَوِّزُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ السَّفَرَ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشَ مَؤْتَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي أَخَّرَكَ عَنْهُمْ؟ قَالَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَرَاحَ مُنْطَلِقًا. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِهَيْئَةِ السَّفَرِ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلَا الْجُمْعَةُ لَسَافَرْتُ. فَقَالَ: اخْرُجْ، فَإِنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ هَذَا زَمَانٌ قَدْ يَتَعَلَّقُ حُكْمُ السَّعْيِ فِيهِ لِمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ فِي الْمِصْرِ أَوْ مَا قَارَبَهُ إِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ إِلَّا بِالسَّعْيِ فِيهِ، فَكَانَ حُكْمُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ كَحُكْمِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ فِيهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يستوي حكمهما في تحريم السفر فيهما والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 (بَابُ الْغُسْلِ لِلْجُمْعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَمَا يَجِبُ فِي صلاة الجمعة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ كُلُّ مُحْتَلِمٍ وَمَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ وَمَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من توضأ فيها وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ. غُسْلُ الْجُمْعَةِ، سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَشَهِدِ الْخُطْبَةَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَسَلَ وَاغْتَسَلَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، واغْتَسَلَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ، وَالثَّانِي: غَسَّلَ زَوْجَتَهُ لِمُبَاشَرَتِهَا، وَاغْتَسَلَ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَزَمَانُ الْغُسْلِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى رَوَاحِهِ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَوَقْتُ الرَّوَاحِ أَفْضَلُ، وَقَبْلَهُ يُجْزِئُ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إعادته. (مسألة) : قال الشافعي رحمة الله تعالى: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وأذن المؤذنون فَقَدِ انْقَطَعَ الرُّكُوعُ فَلَا يَرْكَعُ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ فَيَرْكَعَ وروي أن سليكا الغطفاني دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب فقال له " أركعت؟ " قال: لا قال : " فصل ركعتين " وأن أبا سعيد الخدري ركعهما ومروان يخطب وقال ما كنت لأدعهما بعد شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةٌ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْجُمْعَةِ. وَالثَّانِيَةِ: جَوَازُ التَّنَفُّلِ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 فَأَمَّا وَقْتُ الْجُمْعَةِ فَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَوَاءً: مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، فَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ خُطِبَ لَهَا أَوْ أُذِّنَ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزَةٌ. اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بن الأكوع عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمْعَةَ فَيَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَرَوَى الْمُطَلِّبُ بْنُ حَنْطَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الجمعة وقد فاء في الْحِيطَانِ ذِرَاعًا أَوْ أَكْثَرَ. وَلِأَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْإِتْمَامِ، قِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ السَّفَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي الصَّيْفِ بِالْحِجَازِ وَلَيْسَ لِلشَّمْسِ فِي الْحِيطَانِ ظِلٌّ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ " فَصَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ الثَّانِيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ السَّعْيُ وَيَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ، وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} . [سورة الجمعة: 9] . فَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَهُ وَأَمَرَ بِهِ: فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ. فَاتْرُكْهُ لَا بَأْسَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 (فصل) : فأما جواز التنعل يَوْمَ الْجُمْعَةِ: فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْإِمَامُ، وَيَجْلِسْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ، وَلِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي صلاة خففها وجلس، وَهَذَا إِجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فإنها نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، فَسَمَّى الْخُطْبَةَ قُرْآنًا، لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا مَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِمَا، تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِيمَنْ يَجْلِسُ مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَالصَّلَاةُ تُضَادُّ الْإِنْصَاتَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ ". قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالْكَلَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّلَاةِ كَالْجَالِسِ إِذَا أَتَى بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ وَقَالَ لِي: " إِنَّ لِكُلِ شَيْءٍ تَحِيَّةً، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا دَخَلْتَ، قُمْ فَصَلِّ " فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جابر بن عبد الله أن سليك الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسْ ". وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَامَ لِيَرْكَعَ، فَقَامَ إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الْأَحْرَاسُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ قَائِمًا، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ هَمُّوا بِكَ، فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: وَمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب، وعليه هيئة بَذَّةٌ، وَقَدِ اسْتَتَرَ بِخِرْقَةٍ، فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَأَلْقَوُا الثِّيَابَ، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال ألا تروق إِلَى هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ لِيَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوْهُ. قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِفِعْلِ رَاوِي الْحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ الأمر بالصدفة لَا يُبِيحُ فِعْلَ الْمَحْظُورِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَجْهُولٌ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَخْصُوصًا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْجَالِسِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّاخِلَ يَأْتِي بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الْأَوْلَى أَوِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا دَخَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَعَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ ". (مسألة) : قال الشافعي رحمة الله تعالى: " وَيُنْصِتُ النَّاسُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَيْسَ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي الْإِنْصَاتِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِهِ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا كَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا كَانَ لَاغِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَلرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: إذ قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتُ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَا جمعة له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَنْ مَوْجِدَةٍ، فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمْعَةَ لَكَ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدق أبي، أو قال أَطِعْ أُبَيًّا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَانَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَمَنْ قَالَ أَنْصِتْ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْخَاطِبِ إِظْهَارُهَا إِلَّا وَتَعَلَقَّ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ اسْتِمَاعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَظَرَ عَلَى الشَّاهِدِ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى إِيجَابِ اسْتِمَاعِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ الْإِنْصَاتَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلَّمَ سُلَيْكًا وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَإِذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْكَلَامُ خَاطِبًا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِ الْإِنْصَاتُ مُسْتَمِعًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لجماعه من أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى أبي الربيع بن أبي الحقيق وكان ألب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخيبر وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَرَجَعُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَجْهُكَ أَفْلَحُ. فَقَالَ: أَقَتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَقَالَ: أَرُونِي سَيْفَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا طَعَامُهُ فِي ذُبَابِهِ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قام والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَقَالَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أَعْدَدْتَ لِقِيَامِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ لَا شَيْءَ وَاللَّهِ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الإنصات لها لكان واجبا إِبْلَاغُهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا وَاجِبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ إِبْلَاغُهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْإِنْصَاتُ لَهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ فِيهَا الْكَلَامُ كَالطَّوَافِ وَالصِّيَامِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَأَوَّلُ زَمَانِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ ظُهُورِ الإمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وَقَالَ أبو حنيفة: يَحْرُمُ الْكَلَامُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ. قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ، فَإِذَا حَرُمَ الرُّكُوعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمَنْقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ: قَوْلٌ وَفِعْلٌ أَمَّا الْفِعْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَعُونَ حَتَّى يَصْعَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمِنْبَرَ، فإذا صعد قطعوا الركوع، ويتكلمون حتى يبتدأ بِالْخُطْبَةِ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهَا قَطَعُوا الْكَلَامَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْكَلَامِ حَرُمَ الْكَلَامُ، وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ، فَقَدَّمَ تَحْرِيمَ الرُّكُوعِ لِيَكُونَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ زَمَانُ تَمَامِ الرُّكُوعِ، وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ تَحْرِيمُهُ إِلَى زَمَانٍ يَتَقَدَّمُ الْخُطْبَةَ. وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، كُلُّهُمْ فِي الْإِنْصَاتِ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: أَنْصِتُوا فَإِنَّ حَظَّ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ كَحَظِّ الْمُنْصِتِ السامع والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَخْطُبُ جَالِسًا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، كَافَّةً إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَصِحَّ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، وَيُوَضِّحُهُ إِجْمَاعُ مَنْ قَبْلَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْخُطْبَةَ والصلاة، فاقتضى أن يكون الأمر بها وَاجِبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ: بِأَنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَكَّدَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِحُضُورِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لَأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 الرَّكْعَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ بِإِجْمَاعٍ، ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِهَا، لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً صَحَّتْ لَهُ الْجُمْعَةُ، فَكَذَلِكَ الْخُطْبَةُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ فَوُجُوبُهَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ. وَالثَّانِي: فِعْلٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قِيَامٌ فِي الْأُولَى، وَجِلْسَةٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، وَقِيَامٌ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى انْقِضَائِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ تَرَكَ الْجَلْسَةَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ جمعة قال الشافعي رحمه الله: فلوا أَتَى بِالْقِيَامَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ وَسَكَتَ لَمْ تُجْزِهِمُ الْجُمْعَةُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَفْتَقِرُ الْخُطْبَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامَيْنِ وَالْجُلُوسِ، وَكَيْفَ مَا خَطَبَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَجْزَأَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ: بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلصَّلَاةِ يَتَقَدَّمُهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْسَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِأَنْ قَالَ: الْخُطْبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَلْسَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُتَوَسِّطَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تجب الأولى منهما لم تجب الثانية. وهذا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (الجمعة: 295) . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ انْفَضُّوا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَالِ قِيَامِهِ فِي الْخُطْبَةِ. فَاقْتَضَى أَنْ يكون القيام واجبا فيهما، ليستحقوا الذي بتركه فيه، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ الْخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ. وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ قَاعِدًا فَقَدْ كَذَبَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقِيَامُ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَذَانِ: فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ فِيهِ وَاجِبًا، وَلَمَّا وَجَبَتِ الْخُطْبَةُ وَجَبَ الْقِيَامُ فِيهَا. وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْجَلْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وأبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 حنيفة يُسْقِطُ وُجُوبَهُمَا مَعًا، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ جِلْسَةُ اسْتِرَاحَةٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْخُطْبَةِ وأزيدت لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْقِيَامِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَمْ يقل بمذهب أبي حنيفة وغيره وحكى الطحاوي أنه لم يقل بمذهب الشافعي رحمة الله غَيْرُهُ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ جَالِسًا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ بَدَلًا مِنَ الْجَلْسَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ وَوَصَلَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ وَاجِبَةٌ، لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ جَلْسَةٍ وَاجِبَةٍ، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي خُطْبَتِهِ لَمْ تُجْزِ الْجُمْعَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ كَلَامَهُ سَكَتَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، فَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ فَخَطَبَ قَاعِدًا لَمْ تُجْزِهِ وَإِيَّاهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِحَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله أجزائهم دُونَهُ. فَلَوْ خَطَبَ جَالِسًا وَذَكَرَ مَرَضًا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ مَأْمُونٌ، وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْجُمْعَةَ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوهُ قَادِرًا، وَيَعْتَقِدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ، فَلَا يجوز لهم اتباعه. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُحَوِّلُ النَّاسُ وُجُوهَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ". وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْأَدَبِ إِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْخُطْبَةِ الْمَوْعِظَةُ وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فَوَاتُ هَذَا الْمَعْنَى. وَيُخْتَارُ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يجلس محتبيا. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا فَرَغَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يقرأ في الأولى بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم " وَبِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ " ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويجهر الإمام بالقراءة ولا يقرأ من خلفه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ مَفْرُوضَتَانِ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمَا، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ، وَالْفِعْلِ الْمَحْكِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ الْعَامِّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْجُمْعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِذَا جَاءَكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الْمُنَافِقُونَ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ، وَلِأَخْذِ الصَّحَابَةِ بِهِ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى تَرْغِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْذِيرًا لِلْمُنَافِقِينَ. فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ جَازَ، وَقَدْ رَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَالْأُولَى أولى، وبما قرأ جاز. قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُخَالِفَ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ فِيمَا يَقْرَأُهُ مِنَ السُّورَتَيْنِ. وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، لِمَا روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ " وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا. فَأَمَّا المأمومين فأحد قوليه فيهم: أنهم ينصتون ولا يقرأون والقول الثاني: وهو الجديد أنهم يقرأون الْفَاتِحَةَ لَا غَيْرَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ مِنَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ سَلَامِهِ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، لَكِنْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا بِتَحْرِيمِ الْجُمْعَةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة قَدْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا وَلَا جُمْعَةً. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ". قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْجُمْعَةِ مَعَ الْعَدَدِ وَبَاقِيهَا بِلَا عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبِبَاقِيهَا فِي خَارِجِ الْوَقْتِ. والدلالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ وَقْتٌ يَحِلُّ فِيهِ أَدَاءُ الْعَصْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ كُلُّ الْجُمْعَةِ لَمْ يَصْحَّ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى الزَّوَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْجُمْعَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: فَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ بِالْعَدَدِ الْكَامِلِ، فَكَانَ بَالِغًا لَهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمْعَةَ فِي وَقْتِهَا، فَلَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْإِمَامِ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا. وَالثَّانِي: يَبْنِي عَلَى الْجُمْعَةِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ، فَجَازَ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ مُمْكِنٌ، فَكَانَ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ وَقْتَ الظُّهْرِ مماذج لِوَقْتِ الْعَصْرِ، فَلِذَلِكَ جَوَّزَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا تَحْرِيمَةٌ أَوْجَبَتِ الْجُمْعَةَ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا هِيَ الْأُخْرَى وَلَا بَعْضُهَا، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجُمْعَةَ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَتُخْتَصُّ بِشَرَائِطَ لَا يُخْتَصُّ الظُّهْرُ بِهَا، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى، كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ. وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْأُخْرَى، فَجَازَ أَنْ يُبْنَى التَّمَامُ مِنْهُمَا عَلَى الْمَقْصُورِ، أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ صَلَّى مُقِيمًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ فَوَجَبَ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا تَبْطُلَ، وَتَعُودَ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَعَادَتْ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلِ الْجُمْعَةُ بِفَقْدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْعَدَدُ إِذَا نَقَصَ، لَمْ تَبْطُلْ بِفَقْدِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْوَقْتُ إِذَا خَرَجَ وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءٌ، وَالْجُمْعَةُ لَا تُقْضَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظُّهْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ: فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى كَصَلَاةِ السَّفَرِ. (فَصْلٌ) : إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ أَمْ لَا؟ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْيَقِينِ. وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطُّهْرَ ثُمَّ شَكَّ فِي الحدث والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمهما جُمُعَةً وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَلَمْ يَدْرِ أَمِنَ الَّتِي أَدْرَكَ أَمِ الْأُخْرَى حَسَبَهَا رَكْعَةً وَأَتَمَّهَا ظهرا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ومعنى قوله إن لم تفته ومن لم تفته صلى ركعتين وأقلها ركعة بسجدتيها ". قال الماوردي: وهذا كما قال. قَالَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ بِهَا الْجُمْعَةَ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وزفر، ومحمد بن الحسن. وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِدُونِ الرَّكْعَةِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ سَلَامِهِ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ استدلالا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ هُوَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهَا كَالرَّكْعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ بِالْإِتْمَامِ فَإِنَّ إِدْرَاكَ آخِرِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ كَإِدْرَاكِ أَوَّلِهَا، أَصْلُهُ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِإِدْرَاكِ آخِرِ الصَّلَاةِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بَادَرَاكِ أَوَّلِهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَاهُ يَاسِينُ بْنُ معاذ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 هُرَيْرَةَ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الْجُمُعَةَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا صَلَّاهَا ظُهْرًا ". وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ". وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْجُمْعَةِ مَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، أَصْلُهُ الْإِمَامُ إِذَا انْفَضُّوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً. وَقَالَ أبو حنيفة - وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِنَا -: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ وَقَدْ رُوِيَ " وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَالتَّمَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا، أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَاقْضُوا " إِذَا أَدْرَكُوا رَكْعَةً، وَ " أَتِمُّوا " إِذَا أَدْرَكُوا دُونَ الرَّكْعَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّكْعَةِ: فَالْمَعْنَى فِي إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ: أَنَّهَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمَامَ خَلْفَ للمقيم لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالْجُمْعَةُ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِسْقَاطٍ إِلَى إِيجَابٍ، وَمِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْإِدْرَاكِ سَوَاءً، كَإِدْرَاكِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي الْجُمْعَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِيجَابٍ إِلَى إِسْقَاطٍ، وَمِنْ كَمَالٍ إِلَى نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَّا بِشَيْءٍ كَامِلٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ يَكُونُ بِرَكْعَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ قَارِئًا فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِرَكْعَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ. فَأَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ رَافِعًا مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا. فَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَقَامَ فَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ أَتَى بِهَا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَسَلَّمَ مِنْ جُمْعَةٍ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى، كَانَتِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَتُبْطُلُ الثَّانِيَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَمَامَ أَرْبَعٍ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ مِنْ ظهر. وإن شك في تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؟ عَمِلَ عَلَى أَسْوَأِ أَحْوَالِهِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى فَيَجْبُرَهَا بِالثَّانِيَةِ وَيَبْنِيَ عَلَى الظهر. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَحُكِيَ فِي أَدَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتِوَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَائِمًا ثُمَّ سلم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذنون ثم قام فخطب الأولى ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الثَّانِيَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمْعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَا يُبَكِّرَ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاقْتِدَاءً بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مَنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا دَخَلَ تَوَجَّهَ نَحْوَ مِنْبَرِهِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا تَنَفُّلٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِهَا وَيَسَارِ مُسْتَدْبِرِهَا فَإِذَا انتهى إليه رقا خَاشِعًا مُسْتَكِينًا، غَيْرَ عَجِلٍ وَلَا مُبَادِرٍ، فَإِنْ كان المنبر صغيرا وقف منه على الدار الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَقَفَ على الدرجة السابقة، وَقَدْ كَانَ مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَ دَرَجٍ فَكَانَ يَقِفُ مِنْهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الثَّانِيَةِ، دُونَ مَوْقِفِ، رَسُولِ اللَّهِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَقَفَ عَلَى الْأُولَى، دُونَ مَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَعِدَ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَوْقِفُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمَ قَلَعَ الْمِنْبَرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ، فَصَارَ عَدَدُ دَرَجِهِ تِسْعًا، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ السَّابِعَةِ، السِّتَّةُ الَّتِي زَادَهَا مَرْوَانُ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَأَيْنَ وَقَفَ مِنَ الْمِنْبَرِ جَازَ، فَإِذَا انْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ، وَسَلَّمَ قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ غَيْرُ مَسْنُونٍ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا دَنَا مِنَ الْمِنْبَرِ سَلَّمَ، ثُمَّ صَعِدَ وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَذَّنَ جَمَاعَةٌ جَازَ. وَهَذِهِ الْجَلْسَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ أَوْجَبَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وَعَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ. فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ قَامَ فَخَطَبَ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً. فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ جَازَ، لَكِنْ يَقِفُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبَلِهَا وَيَمِينِ مُسْتَدْبِرِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَيْنَ وقف جاز. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا خَطَبَ اعْتَمَدَ عَلَى عَنَزَتِهِ اعْتِمَادًا وقيل على قوس (قال) وأجب أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَكِّنَ جَسَدَهُ وَيَدَيْهِ إِمَّا بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُقِرَّهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَيْءٍ لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ الْعِيدَ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا. لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لِرُوعِهِ، وَأَهْدَأُ لِجَوَارِحِهِ، وَأَمَدُّ لِصَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ حَطَّهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ. فَأَمَّا لُبْسُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْبَسُ الْبَيَاضَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعتم بعمامة سوداء، ويرتدي بردا أسحمي، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السَّوَادَ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ شِعَارًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَنْصَارِ صَفْرَاءَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ إِذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَهُ مُؤْثِرًا لِمَا فِي تَرْكِهِ من مخالفته وتغير شعاره. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. من سنة الخطيب أَنْ يَسْتَدْبِرَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا النَّاسَ، لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ يَسْتَقْبِلُنَا بِوَجْهِهِ وَنَسْتَقْبِلُهُ بِوُجُوهِنَا، وَلِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ بِخُطْبَتِهِ، وَيُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُرَاقِبَتِهِ، وكان إقباله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَاسْتِقْبَالُهُمْ بِوَجْهِهِ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِمَاعِ لَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بوجهه قصد وجهه، ولا يلتفت يمينا ولا شِمَالًا وَلَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الْوَقْتِ، مِنَ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِلسُّنَّةِ، آخِذًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ، لِأَنَّ فِي إِعْرَاضِهِ عَمَّنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، وَقَصَدَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، قُبْحَ عِشْرَةٍ، وَسُوءَ أَدَبٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ عَمَّ الْحَاضِرِينَ سَمَاعُهُ، وإذا التفت يمينا قصر عن سماعه يُسْرَتِهِ، وَإِذَا الْتَفَتَ شِمَالًا قَصَّرَ عَنْ سَمَاعِ يَمْنَتِهِ. فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، أَجَزَاهُمْ وَإِيَّاهُ بِحُصُولِ تَبْلِيغِهَا، وَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ منها كالأذان الذي من سنته استقبال القبلة به، وَيُجْزِي وَإِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأجب أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمَعَ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا مُبِيَّنًا مُعْرَبًا بِغَيْرِ مَا يُشْبِهُ الْعِيَّ وَغَيْرِ التَّمْطِيطِ وَتَقْطِيعِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، وَلَا مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْهُ وَلَا الْعَجَلَةِ فِيهِ عَلَى الإفهام ولا ترك الإفصاح بالقصد وليكن كلامه قصيرا بليغا جامعا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالْخُطْبَةِ شيئان: الموعظة، والإبلاغ، فينبغي للإمام أن يرفع صوته بالخطبة ليحصل الإبلاغ، وَيَقْصِدُ بِمَوْعِظَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: إِيرَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَاخْتِيَارُ اللَّفْظِ الْفَصِيحِ وَاجْتِنَابُ مَا يَقْدَحُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، مِنْ تَمْطِيطِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، أَوِ الْعَجَلَةِ فِيهِ عَنْ إِبَانَةِ لَفْظِهِ، أَوْ رَكْبِ مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ غَرِيبِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ. وَلَا يُطِيلُ إِطَالَةً تُضْجِرُ، وَلَا يُقَصِّرُ تَقْصِيرًا يُبْتِرُ، وَيَعْتَمِدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى ذِكْرِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، ويصلي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَتِهِ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمُدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَنْصِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ، يقضي فيها ملك قادر، ألا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وإن الشر كله بحذافيره في النار ألا فاعلموا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَذَرٍ، اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة خير يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ مِنْهُمَا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 يحمد الله ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله وَطَاعَتِهِ وَيَقْرَأَ آيَةً فِي الْأُولَى وَيَحْمَدَ اللَّهَ ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله ويدعو في الآخرة لأن معقولا أن الخطبة جمع بعض الكلام من وجوه إلى بعض وهذا من أوجزه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " ذِكْرِ اللَّهِ " سُبْحَانَهُ الْخُطْبَةَ، فَاقْتَضَى الْعُمُومُ جَوَازَ أَيِّ ذِكْرٍ كَانَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ " فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ. فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالَةً، وَإِنِّي مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مَقَالًا، وَإِنَّكُمْ إِلَى إِمَامٍ فعال، أحوج منكم إلى إمام قوال، وسأعد مَا أَقُولُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى الْجُمْعَةَ، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصحابة. ولأن أي ما ذكرناه غير مجز وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ مِنْهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَارِدُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إلى ذكر الله " سُبْحَانَهُ، وَفِعْلُهُ الْمَنْقُولُ خُطْبَةٌ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَعَارَفِ فِي الشرع إنما هي جمع كلام اختلف أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ خَطِيبًا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورٌ بِشَرَائِطَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي شَرَائِطِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ مَا يُجْمَعُ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِيَ مِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَالْأَذَانِ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ فِيهَا مُجْمَلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بئس الخطيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 أَنْتَ " فَحُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ لِيَصِحَّ اقْتِرَانُ الِاسْمِ بِهِ، كما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَسَمَّاهُ نِكَاحًا لِيُلْحِقَ الْفَسَادَ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَةِ الْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ: فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِحْرَامِ: انْعِقَادُ الصَّلَاةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخُطْبَةِ: الْمَوْعِظَةُ، وَبِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ وَاعِظًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يُجْزِئُ فَلَا بُدَّ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَقَلُّ الْخُطْبَةِ كَأَقْصَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَعَظَ، أَجْزَأَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ مُجْمَلٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ مُفَسَّرٌ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فَتَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَيْضًا: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ خُطْبَةَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَمْدَ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والوعظ، والقراءة في احديهما وَالدُّعَاءَ فِي الْأُخْرَى، فَاقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ بِآيَةٍ، لِتَكُونَ مُمَاثِلَةً لِلْأُولَى، وَيَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَةِ جَازَ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَى جَازَ، فَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى جَوَازِهِ فَقَالَ: وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى أَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى أَوْ قَرَأَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا أَجْزَأَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ بَعْضَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ، لَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. نَصَّ عليه الشافعي. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ فَمَأْمُورٌ بِهَا، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي إجزائه قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: " وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَتَطَهَّرَ، وَيَعُودَ لِيَبْنِيَ عَلَى خُطْبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ وَمَضَى عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ ". وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْأَذَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ كَانَتِ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَتَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ لُقِّنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْإِمَامُ إِذَا حُصِرَ فِي خُطْبَتِهِ وَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ زَالَ حَصْرُهُ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ أَوْ فِي قِرَاءَتِهِ فَهَذَا يُلَقَّنُ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَفِيكُمْ أُبَيٌّ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ هَلَّا ذَكَّرْتَنِي، فَقَالَ مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى أَبَيًّا يُلَقِّنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وروي عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ ". قِيلَ مَعْنَاهُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فَلَقِّنُوهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ ازْدَادَ حَصْرُهُ، وَإِذَا تُرِكَ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ، فَهَذَا يُتْرَكُ وَلَا يُلَقَّنُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السلام " إذا حصر الإمام فلا تلقنه ". (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا قَرَأَ سَجْدَةً فَنَزَلَ فَسَجَدَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ كَمَا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ (قَالَ) واجب أن يقرأ في الآخرة بآية ثم يقول أستغفر الله لي ولكم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ، فَإِنْ قَرَأَ وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَإِنْ نَزَلَ وَسَجَدَ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ وَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجْدَةً فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْزِلَ لِلسُّجُودِ، لِأَنَّ السُّجُودَ سُنَّةٌ وَالْخُطْبَةَ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْوَاجِبُ اشْتِغَالًا بِالسُّنَّةِ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ سَلَّمَ رَجُلٌ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَرِهْتُهُ وَرَأَيْتُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وينبغي تشميت العاطس لأنها سنة وقال في القديم لا يشمته ولا يرد السلام إلا إشارة (قال المزني) رحمه الله قلت: أنا الجديد أولى به لأن الرد فرض والصمت سنة والفرض أولى من السنة وهو يقول إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلم قتله ابن أبي الحقيق في الخطبة وكلم سليكا الغطفاني وهو يقول يتكلم الرجل فيما يعنيه ويقول لو كانت الخطبة صلاة ما تكلم فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وفي هذا دليل على وما وصفت، وبالله التوفيق ". قال الماوردي: وهذا صحيح. قد ذكرنا حكم الْإِنْصَاتَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ سَوَاءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ. فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ: كَإِنْذَارِ ضَرِيرٍ قَدْ كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ أَوِ الْإِنْذَارِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ حَرِيقٍ. وَأَمَّا مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالرَّجُلِ الَّذِي قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَنَا. فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَا يَخْتَلِفُ. فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِخْبَارِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِيَدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ كَانَ مُحَرَّمًا وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ، قِيلَ: لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ أَوْكَدُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مُحَرَّمٌ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَ وَضَعَهُ فَيَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَالْعَاطِسَ عَطَسَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فاستحق التشميت. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والجمعة خلف كل إمام صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ وَغَيْرِ أَمِيرٍ جَائِزَةٌ وَخَلْفَ عَبْدٍ وَمُسَافِرٍ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ، وَمَنْ أَدَّاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ بِهِ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ شُرْطِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُوَلِّيهِ إِقَامَتَهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ إِلَّا السُّلْطَانُ كَالْحُدُودِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَى السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ إِقَامَتِهَا لَاسْتَوَيَا فِي الِاخْتِيَارِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ السُّلْطَانِ أَوْلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي جَوَازِ الْإِمَامَةِ. وَدَلِيلُنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ " وَقِيلَ إِنَّ عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ صَلَّاهَا إِمَامًا وَلَا أَمِيرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّاسُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِي َّ، فَصَلَّ ى بِهِمُ الْجُمْعَةَ وَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا ابْنَ مَسْعُودٍ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِقَامَتُهَا إِلَى سُلْطَانٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنفسه: فلذلك بَيَانٌ لِأَفْعَالِهَا، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ صِفَاتُ الْفَاعِلِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ سُلْطَانًا لَاعْتُبِرَ كَوْنُهُ نَبِيًّا. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ، لِمَا يُتَخَوَّفُ مِنَ التَّحَامُلِ فِي الْحُدُودِ لِطَلَبِ التَّشَفِّي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِي الْجُمْعَةِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدِ اسْتَوَى فِي وُجُوبِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحُدُودِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ جُمُعَتُهُ أَوْلَى دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ: فَغَلَطٌ، لِأَنَّنَا قَدَّمْنَا جُمُعَتَهُ تَرْجِيحًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِتْيَانَهَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " خَلْفَ كُلِّ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْإِمَامَ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مَأْمُورٍ " أَرَادَ بِهِ مَنْ يُقِيمُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ " أَرَادَ بِهِ: الْخَارِجِيَّ وَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَقَوْلُهُ " وَغَيْرِ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْعَامِّيَّ الَّذِي لَيْسَ بِإِمَامٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْ إِمَامٍ ولا متغلب عليه. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ لِعَدَمِ كَمَالِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالصَّلَوَاتِ بِالرَّبَذَةِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ إِمَامَتَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ فِي الْجُمْعَةِ كَالْحُرِّ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فَفِي جَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤمكم أقرأكم ". وَالثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ وَإِنْ جَازَتْ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ لَهَا، فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِكَامِلٍ يَلْزَمُهُ الْفَرْضُ. فَإِذَا جَازَتْ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَإِمَامَةُ الصَّبِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ سِوَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حُرًّا بَالِغًا انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْصُوصُهُ في جميع كتبه خلاف هذا. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُجَمَّعُ فِي مِصْرٍ وَإِنْ عَظُمَ وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ، وَلَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة. وَقَالَ أبو يوسف: إِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارَتَيْنِ انْعَقَدَتْ فِيهِ جُمْعَتَانِ. وَقَالَ محمد بن الحسن: تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَلَا تَنْعَقِدُ ثَلَاثُ جُمَعٍ. وَأَجْرَوْا ذَلِكَ مُجْرَى صَلَاةِ الْعِيدِ. وهذا غلط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْجُمْعَةَ وَشَرَائِطَهَا مُرْتَبِطٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَحْدُودٌ فِيهِ، فَلَا يُتَجَاوَزُ حُكْمُهَا عَنْ شَرْطِهِ وَفِعْلِهِ، فَكَانَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ الْجُمْعَةَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا أَنْ عَطَّلَ لَهَا الْجَمَاعَاتِ وَأَقَامَهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ انْتِشَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَلَوْ جَازَتْ فِي مَوْضِعَيْنِ لَأَبَانَ ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً إِمَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة، أولا يَصِحَّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ اخْتِصَاصًا لَهَا بِتَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ أَصْلٌ ثَابِتٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّهُ مِصْرٌ انْعَقَدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمْعَةِ الثَّالِثَةِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ عِنْدَ إِقَامَتِهَا، فَلَوْ جَازَ إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَيْهِمَا، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ، وَسَعْيُهُ إِلَيْهِمَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ. وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْعَدَدُ وَالْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ. (فَصْلٌ) : إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَالْبِلَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُدُنًا مُتَقَارِبَةً وَقُرًى مُتَدَانِيَةً اتَّصَلَتْ بُنْيَانُهَا وَاجْتَمَعَتْ مَسَاكِنُهَا كَبَغْدَادَ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَهْلِهَا، وَقَدْ دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ كَالْكُوفَةِ فَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِسَعَتِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ كَالْبَصْرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَيُصَلِّي النَّاسُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ الشَّوَارِعِ وَالْأَفْنِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ تَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوَاضِعَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ الْعَظِيمِ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 يُصَلُّوا إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَطَالَ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنْ كَبَّرَ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يَصِلِ التَّكْبِيرُ إِلَى آخِرِهِمْ إِلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ لِرُكْنٍ ثَانٍ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ التَّكْبِيرُ، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَبَّرَ وَانْتَظَرَ بُلُوغَ التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِمْ طَالَ الزَّمَانُ، وَتَفَاحَشَ الِانْتِظَارُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعَ. فَزَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْجَوِينَ غَيْرُ الْبَصْرَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ دَسْكَرَةً وَأُضِيفَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَازَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ بِهَا وجها واحدا والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَيُّهَا جُمِّعَ فِيهِ فَبَدَأَ بِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَهِيَ الْجُمُعَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ يصلونها أربعا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم أحدا منهم جمع إلا فيه ولو جاز في مسجدين لجاز في مساجد العشائر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أُقِيمَتْ جمعتان في مصر واحدا قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ جُمْعَتَيْنِ فِيهِ فلهما حالان: أحدهما: أن تتفق أَوْصَافِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَخْتَلِفَ. فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَوْصَافُهُمَا فَكَانَا سَوَاءً فِي الْكَثْرَةِ، وَإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ حُضُورِ نَائِبٍ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ السُّلْطَانُ، وَلَا حَضَرَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَهُمَا حِينَئِذٍ فِي الْأَوْصَافِ سَوَاءٌ، فَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَتَعَيَّنَ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ سَبَقَ وَقَدْ أُشْكِلَ وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَسْبَقَ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَوِيَا فَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: فَقَدْ بَطَلَتِ الْجُمْعَتَانِ مَعًا، وَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا بَطَلَتَا مَعًا لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِقَامَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ أَبْطَلْنَاهُمَا مَعًا، كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي حَالِهِ. وَالْقِسْمِ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَيَّنَ فَالْجُمْعَةُ لِلسَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْآخِرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمْعَةِ لِلسَّابِقِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا لِلثَّانِي، كَالْوَلِيَّيْنِ إِذَا أَنْكَحَا وَسَبَقَ بِالْعَقْدِ أَحَدُهُمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْجُمْعَةِ لَهُمَا فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا بِالشَّكِّ الطَّارِئِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْيَقِينَ ثُبُوتُ الْجُمْعَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَالشَّكَّ طَارِئٌ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ بَاقِيًا لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِيَقِينٍ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا فَهَلْ يُعِيدَانِ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا لَمْ يَسْقُطْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَرَّةً، وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمَا الْجُمْعَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمَا جُمْعَةً، وَإِذَا أُقِيمَتِ الْجُمْعَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهَا ثَانِيَةً. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صَلَّيَا مَعًا، فَلَا تنعقد الجمعة لواحد منهما. (فصل) : وإذا اختلف أَوْصَافُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَعْظَمَ لِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ الْأَعْظَمُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَصْغَرُ: فَالْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ السَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْأَصْغَرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِيَ: أَنْ يَسْبِقَ الْأَصْغَرُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَعْظَمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَصْغَرِ السَّابِقِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهَا، فَلَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا، وَوَجَبَ اعْتِدَادُ الْجُمْعَةِ لِلْأَسْبَقِ مِنْهُمَا، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ أَهْلُ الْأَعْظَمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُمْعَةَ للأعظم وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ جُمْعَةِ الْأَصْغَرِ إِذَا كَانَ سَابِقًا افْتِيَاتًا عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعْطِيلًا لَجُمْعَتِهِ، وَإِشْكَالًا عَلَى النَّاسِ فِي قَصْدِ مَا تَصِحُّ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِفْسَادِ الصَّلَاةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّبْقِ طَمَعًا فِي حُصُولِ الْجُمْعَةِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ فَأَقَامُوا الْجُمْعَةَ فِي مَسْجِدٍ لَا تَظْهَرُ إِقَامَتُهَا ظُهُورًا عَامًّا أَنْ يَمْتَنِعَ السُّلْطَانُ وَبَاقِي النَّاسِ مِنْ إِقَامَتِهَا، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ وَجَبَ تَصْحِيحُ جُمْعَةِ الْأَعْظَمِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَاهَا مَعًا وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَعْظَمِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَصْغَرِ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ ثَانِيَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ إِذَا اعْتَبَرْنَا حُضُورَ السُّلْطَانِ دُونَ السَّبْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا اعْتَبَرْنَا السَّبْقَ، فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُمُ الْإِعَادَةُ، قَوْلًا وَاحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صليا معا. (فصل) : فأما ما يعتبر في السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَذَكَرُهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ " إِنَّ اعْتِبَارَ السَّبْقِ: بِالْإِحْرَامِ، فَأَيُّهُمَا أَحْرَمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَسْبَقَ سَلَامًا، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِذَا انْعَقَدَتْ بِهِ مَنَعَتْ مِنَ انْعِقَادِ غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسَّلَامِ، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ أَسْبَقَ إِحْرَامًا، لِأَنَّ سُقُوطَ الْفُرُوضِ يَكُونُ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْفَرَاغِ دُونَ الْإِحْرَامِ. والأول أصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 (باب التبكير إلى الجمعة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أنبأنا سفيان بن عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقرن وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قرب بيضة قال فإذا خرج الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْبُكُورُ إِلَى الْجُمْعَةِ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَغَسَلَ وَاغْتَسَلَ وَغَدَا وَانْتَظَرَ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَتْ كَفَارَةً لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَكَّرَ " يَعْنِي فِي الزَّمَانِ. وَ " ابْتَكَرَ " يَعْنِي فِي الْمَكَانِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ " يَعْنِي الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَكَّرَ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّينَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَ يَعْمِدُ لِلصَّلَاةِ " فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا لَهُ الْبُكُورَ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْبُكُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْيَوْمِ الثَّانِي. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ زَمَانَ غُسْلٍ وَتَأَهُّبٍ. فَإِذَا بَكَّرَ فِي الزَّمَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ يُبَكِّرَ فِي الْمَكَانِ، فَيَجْلِسَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 الشَّافِعِيُّ: وَلَا فَضْلَ لِلْمَقْصُورَةِ عَلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُحْدَثٌ، قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الصَّفَّ الْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النداء والصف الأول ثم لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ". وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أن الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْإِمَامِ ثُمَّ عَلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم ". (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا وَأَنْ لَا تُؤْتَى إِلَّا مَشْيًا لَا يَزِيدُ عَلَى سَجِيَّةِ مِشْيَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِقُوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُكْرَهُ الرُّكُوبُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَيُخْتَارُ إِتْيَانُهَا مَشْيًا، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: " مَا رَكِبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ". وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى النَّاسِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ، وَيُخْتَارُ إِذَا مَشَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّتِهِ فِي مِشْيَتِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى إِلَى الْجُمْعَةِ سَعْيًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلى ذكر الله} وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ وَتَسْعَوْنَ سَعْيًا فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ: " ائْتِ الْجُمُعَةَ عَلَى هِينَتِكَ " فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَؤُهَا: فَامْضُوا إلى ذكر الله، ومن قرأها " فاسعوا " قَالَ أَرَادَ بِهِ الْقَصْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَالَ قيس بن الأسلت: (أسعى على جل بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي) وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ السَّعْيُ لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَيُخْتَارُ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجُمْعَةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ، وَلَا يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا انْتَظَرَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَيْهَا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 (باب الهيئة إلى الجمعة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِيدَا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بالسواك ". (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِغُسْلٍ وَأَخْذِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَعِلَاجٍ لِمَا يَقْطَعُ تَغْيِيرَ الرِّيحِ مِنْ جَمِيعِ جسده وسواك ويستحسن ثيابه ما قدر عليه ويطيبها اتباعا للسنة ولئلا يؤذي أحدا قاربه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ غُسْلِ الْجُمْعَةِ وَالْبُكُورِ إِلَيْهَا لَكِنْ يُخْتَارُ ذَلِكَ بَعْدَ حَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ مِنَ الْوَسَخِ، وَعِلَاجِ مَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ والمؤذية مِنَ الْجَسَدِ، وَالسِّوَاكِ، وَمَسِّ الطِّيبِ، وَلُبْسِ أَنْظَفِ الثِّيَابِ لِيَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ زِيٍّ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَاكَ، وَلَبِسَ أَحَسَنَ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَهُ، وَأَتَى الْجُمُعَةَ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، وَأَنْصَتَ حَتَى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، كَانَتْ كَفَارَتُهُ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَى الَّتِي تَلِيهَا ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 16] . (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَحَبُّ مَا يُلْبَسُ إِلَيَّ الْبَيَاضُ فَإِنْ جَاوَزَهُ بِعُصَبِ الْيَمَنِ وَالْقَطَرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُصْنَعُ غَزْلُهُ وَلَا يُصْبَغُ بَعْدَ مَا يُنْسَجُ فَحَسَنٌ وأكره للنساء الطيب وما يشتهون به وأحب للإمام من حسن الهيئة أكثر وأن يعتم ويرتدي ببرد فإنه يقال كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعتم ويرتدي ببرد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 قال الماوردي: بعدما ينسج، فحسن. الباب إلى آخره وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ جُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ أَجْمَلَ مِنْ ثِيَابِهِ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ، لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمْعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهِنَتِهِ. وَيُخْتَارَ من الثياب البياض، فيلبسه أحياءكم وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنِ اسْتَحْسَنَ لُبْسَ غَيْرِ الْبَيَاضِ فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نسجه كالحلل، والأبراد والقطري، وعصب اليمين، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ أَسْحَمِيٍّ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ ". وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنَ الطيب ما كان ذكي الرَّائِحَةِ خَفِيَّ اللَّوْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طِيبُ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَبَطُنَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ الْمَرْأَةِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَبَطُنَ رِيحُهُ ". وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَجَمَالِ الزِّيِّ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّهُ مُتَّبَعٌ. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَنْ كَانَتْ ذَاتَ هَيْئَةٍ وَجِمَالٍ مُنِعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمْعَةِ، صِيَانَةً لَهَا، وَخَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ فَلَا يُمْنَعْنَ، وَيَخْرُجْنَ غَيْرَ مُتَزَيِّنَاتٍ، وَلَا مُتَطَيِّبَاتٍ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ ". (فَصْلٌ) : يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَا يَصِلُ إِلَى مُصَلَّاهُ إِلَّا بِالتَّخَطِّي، أَوْ يَكُونَ مَأْمُومًا لَا يَجِدُ مَوْضِعًا وَيَرَى أَمَامَهُ فُرْجَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَخَطَّى لِلضَّرُورَةِ صَفًّا أَوْ صَفَّيْنِ. وَإِنَّمَا كَرِهْنَا التَّخَطِّيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ: آنَيْتَ وَآذَيْتَ. يَعْنِي أَنَّهُ أبطأ بالمجيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 وَآذَى النَّاسَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " لَأَنْ أُصَلِّيَ بِحَرَّةٍ رَمْضَاءَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ " وَأَغْلَظُ فِي الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ بِنَعْلِهِ. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ، لِمَا لِلْأَوَّلِ مِنْ حَقِّ السَّبْقِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَخْلُفَهُ فِيهِ وَلْيَقُلْ تَوَسَّعُوا وَتَفَسَّحُوا " فَإِنْ قَامَ الرَّجُلُ لَهُ مُخْتَارًا عَنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَكَرِهْنَا ذَلِكَ لِلْقَائِمِ إِلَّا أَنْ يَعْدِلَ لِمِثْلِ مَجْلِسِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ، فَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا يَأْخُذُ لَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَوْضِعًا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِغُلَامِهِ لِيَأْخُذَ لَهُ مَوْضِعًا، فَإِذَا جَاءَ جَلَسَ فِيهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضِعٍ أَفْضَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ لِطَرْدِ النَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعَارِضٍ، ثُمَّ عَادَ وَقَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ فَالسَّابِقُ إِلَى الْمَوْضِعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَائِدِ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثم عاد إليه فهو أحق به ". (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْبَيْعُ قَبْلَ أَذَانِ الْجُمْعَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ لَزِمَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْجُمْعَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا فَمُبَاحٌ لَهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ بَاعَ لِمَنْ لزمه الذهاب إليها فمكروه، ويكره لا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَاوَنَهُ عَلَى مَحْظُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لا يبطل بحال وإن كن مَحْظُورًا، لِأَنَّ الْحَظْرَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاشْتِغَالِهِ عَنِ الذَّهَابِ. (فَصْلٌ) : رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ ". وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَا يَلْزُمُهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِحَالٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 (فَصْلٌ) : وَتُخْتَارُ الزِّيَادَةُ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُكُمْ صَلَاةً عَلَيَّ أَلَا فَأَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ. والله المعين وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 (باب صلاة الخوف) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا صَلَّوْا فِي سَفَرٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ غَيْرِ مَأْمُونٍ صَلَى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً وطائفة وجاءه الْعَدُوِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ فَثَبَتَ قَائِمًا وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَأَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عليها تقرأ بأم القرآن وسورة وتخفف ثم تسلم وتنصرف فتقف وجاء العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالسا وتقوم الطائفة فتتم لأنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام قدر ما يعلمهم تشهدوا ثم يسلم بهم وقد صلت الطائفة جميعا مع الإمام وأخذت كل واحدة منهما مع إمامها ما أخذت الأخرى منه واحتج بقول الله تبارك وتعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] الآية وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل نحو ذلك. يوم ذات الرقاع. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) {النساء: 102) الْآيَةَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ. وَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ مِنْهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " وَصَلَاتُهُ بِ " عُسْفَانَ " وَصَلَاتُهُ بِ " بَطْنِ النَّخْلِ ". فَأَمَّا صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " فَرَوَاهَا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ قَالَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِعُسْفَانَ: فَرَوَاهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِبَطْنِ النَّخْلِ فَرَوَاهَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصَلَاةُ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَالَ أبو يوسف ومحمد وَالْمُزَنِيُّ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَخْصُوصَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ أُمَّتِهِ، وَهِيَ الْيَوْمَ مَنْسُوخَةٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِفِعْلِهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ، فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " صَلَّى الْخَوْفَ بِأَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْشَامِ ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ بِطَبَرِسْتَانَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] فَهَذَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُوَاجَهًا بِهَا، فَهُوَ وَسَائِرُ أُمَّتِهِ شُرَكَاءُ فِي حكمه إلا أن يرد النص بتخصصه كقوله تعالى: {خالصة لك} نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة} ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) {الطلاق: 1) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي) {التحريم: 1) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] فَكَانَ هُوَ وَأُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوَاجَهَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} وَلَوْ سَاغَ لِهَذَا الْقَائِلِ تَأْوِيلُهُ فِي الصَّلَاةِ لَسَاغَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى رَدِّ قَوْلِهِمْ وإبطال تأويلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي إِسْقَاطِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَلْ يُصَلِّيهَا أَرْبَعًا إِنْ كَانَ مُقِيمًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِيَانَتِهَا وَتَغَيُّرِ صِفَةِ أَدَائِهَا وَحُكِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السفر ركعة وبه قال الحسن وطاوس استدلال بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً ". قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْخَوْفِ شَطْرٌ آخَرُ لِتَزَايُدِ الْمَشَقَّةِ. وَدَلِيلُنَا مَا نُقِلَ من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ. فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا عن أحد فمن مَعَهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ مَنْ فَرْضِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ مَا ثبت بالشرع إجماعا بما يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا سَاوَى الْإِمَامَ فِي صِفَتِهِ وَحَالِهِ سَاوَاهُ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ أَوْ مُسَافِرَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ وَإِنْ كَانَ خَائِفًا لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ إِذَا كَانَ خَائِفًا. الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا رَوَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا نَقَلْنَاهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافَهُ فَلَمْ يَلْزَمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ السَّفَرِ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ كَذَلِكَ بِالْخَوْفِ: فَيَبْطُلُ بِالْإِمَامِ، عَلَى أَنَّ لِلْخَوْفِ تَأْثِيرًا فِي الصَّلَاةِ إِذَا اشْتَدَّ لِأَنَّهُ يُصَلِّي رَاكِبًا وَنَازِلًا إِلَى قِبْلَةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ حَسَبَ الْإِمْكَانِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُسْقِطُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ شَيْئًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَصِفَةِ أَدَائِهَا، فَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَقَدِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ وَاسْتَدْبَرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَأْمَنِ الْإِمَامُ نِكَايَةَ الْعَدُوِّ إِنْ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ تُجَاهَ الْعَدُوِّ وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً، فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فَارَقُوهُ وَأَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا وَقَفُوا تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَصَلَّى الْإِمَامُ بِهَا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَالْإِمَامُ جَالِسٌ فِي التَّشَهُّدِ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سَلَّمَ بِهِمْ وَهَذِهِ صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَوَصَفَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بن أبي خيثمة أَيْضًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ركعة ثم تمضي فتقف بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تَمْضِي هَذِهِ الطَّائِفَةُ وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَخْرُجُ تِلْكَ فَتُتِمُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 صَلَاتَهَا وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهَا وَنُسِبَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَذِي قَرَدَ وَرَوَاهَا سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ وَسَاقَ مَا حَكَاهُ. وَإِذَا تَقَابَلَ الْحَدِيثَانِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ وَتَقْدِيمِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن قال: وجدت الأصول مبنية على الْمَأْمُومَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ إِمَامِهِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَفْعَالِهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ التَّرْجِيحِ أَنْ قَالَ: وَالْأُصُولُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْتَظِرَ الْمَأْمُومَ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ. وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِيهِ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَيَقْتَضِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] فَأَضَافَ فِعْلَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ انْفِرَادَهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَبَاحَهُمْ الِانْصِرَافَ بَعْدَ فِعْلِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة، صَلَّيْتَ بِهِمْ رَكْعَةً} فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقِيَامِ الَّذِي هُوَ رَكْنٌ فِيهَا وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] أَيْ: صَلَّوُا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فَلْيَنْصَرِفُوا. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِيهَا، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] فظاهر قوله تعالى: {لم يصلوا} أَيْ لَمْ يُصَلُّوا شَيْئًا مِنْهَا، وَظَاهِرُ قَوْله تعالى: {فليصلوا معك} أَيْ جَمِيعَ الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشْهَرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ. وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْأُصُولِ: فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَعَلَى تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي إِفْسَادِ مَذْهَبِهِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَشْيَ وَالْعَمَلَ إِذَا كَثُرَ فِي الصَّلَاةِ فِي حال الاجتياز أبطلها وَمَذْهَبُهُ يَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ فِي حَالِ الِاجْتِيَازِ يبطلها ومذهبه يقتضيه. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ تَسْوِيَةَ الْإِمَامِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلَى ومذهبنا يقتضيه لأنه يجعل للأولى ركعة وإحرام والثانية ركعة وسلام فَتَسَاوَتِ الرَّكْعَتَانِ وَكَانَ الْإِحْرَامُ مُقَابِلًا لِلسَّلَامِ. وَالثَّانِي: ما كان أبلغ يفي الِاحْتِرَازِ مِنَ الْعَدُوِّ كَانَ أَوْلَى وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِيهِ من وجهين: أحدهما: لسرعة الفراغ. والثاني: مَنْ يَحْرُسُ غَيْرَ مُصَلٍّ يَقْدِرُ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِهِ فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الْأَوَّلُ: فَيَفْسُدُ بِالْإِمَامِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الثَّانِي فيفسد إِذَا كَانَ رَاكِعًا فَانْتَظَرَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَوْلَى وَأَصَحُّ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً أَنْ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُنْتَظِرًا لِفَرَاغِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَدُخُولِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنِ اعْتَدَلَ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَخْرَجَتْ حِينَئِذٍ الطَّائِفَةُ الْأُولَى نَفْسَهَا مِنْ صَلَاتِهِ وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ فَإِنْ فَارَقُوهُ بغير نية بطلت صلاته لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْبِقَ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُؤْتَمٌّ بِهِ، فَإِذَا نَوَوْا إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ أَتَمُّوا الصَّلَاةَ وَأَجْزَأَتْهُمْ. فَلَوْ خَالَفَ الْإِمَامُ فَانْتَظَرَهُمْ جَالِسًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ فَرْضَهُ الْقِيَامُ وَمَنِ اسْتَدَامَ الْجُلُوسَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ بَطَلَتْ بِاسْتِدَامَةِ الْجُلُوسِ لَا بِابْتِدَائِهِ وَهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَ ابْتِدَاءِ جُلُوسِهِ فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ، فَهَلْ يَقْرَأُ فِي انْتِظَارِهِ قَائِمًا أَمْ لَا؟ : عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ: يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُسَبِّحُهُ وَلَا يَقْرَأُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الطَّائِفَةِ مَعَهُ لِيُسَوِّيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يُفَضِّلَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلْقِرَاءَةِ لَا لِلْإِنْصَاتِ وَالذِّكْرِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَقُولُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ لَا يَقْرَأُ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ قَرَأَ لَمْ تُدْرِكِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَقَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَقْرَأُ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ قبل دخول الثانية ومعه فَإِنْ رَكَعَ وَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا أَجْزَأَتْهُمُ الرَّكْعَةُ. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُخَالِفًا صَلَاةَ الْخَوْفِ، مُفَضِّلًا لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، فَهَلْ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَعْدَ تَشَهُّدِهِ لِأَنَّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَهُ إِلَى آخِرِ صَلَاتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يُفَارِقُونَهُ قيل تَشَهُّدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي الْفَرَاغِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا فَارَقُوهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فَهَلْ يَتَشَهَّدُ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ. أَحَدُهُمَا: يَتَشَهَّدُ فِي انْتِظَارِهِ، فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْلِسَ مُنْتَظِرًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحُهُ فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِذَا فَارَقُوهُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِمْ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ إِمَامَتِهِ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأُولَى تُرِيدُ سَبْقَ الْإِمَامِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ سَبْقُهُ مع الإتمام بِهِ، وَالثَّانِيَةَ تُرِيدُ لِحَوْقَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْخُرُوجُ عَنْ إِمَامَتِهِ: (فَصْلٌ) : إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَقَوْلِ أبي حنيفة فَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُنَافِي لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزَةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ وَأَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّائِفَةُ فَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ لِاخْتِلَافِ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) {النساء: 102) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وقَوْله تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) {النساء: 102) أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّ الْمَأْمُورَ فِيهَا أَنْ يُصَلِّيَ بِجِمَاعَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ جَمَاعَةٌ فَكَانَتِ الطَّائِفَةُ عِبَارَةً عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ في الإطلاق ثلاثا وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِدَلِيلٍ لَا بِمُطْلَقِ الْعِبَارَةِ وَظَاهِرِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) {الحجرات: 9) فَحَمَلَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَالْقَبِيلَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فَحَمَلَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَاتِ لِتَعَلِّقِهِ بِالزِّنَا وَلَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] فَحَمَلَ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَقَعُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَخْتَلِفُ حَمْلًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا وَيُقَارِنُهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ طَائِفَةٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ فَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَتَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طائفة منهم معك} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فليصلوا معك} فَإِنْ صَلَّى بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ صَلَّى بِثَلَاثَةٍ وَحَرَسَهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وصلاتهم مجزئة. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: (وإن كانت صلاة المغرب فإن صلى بالطائفة الأولى ركعتين وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَحَسَنٌ وَإِنْ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَجَائِزٌ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا مَا بَقِيَ ثُمَّ يَثْبُتُ جَالِسًا حَتَّى تَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ: فَالْأَوْلَى وَالْمَسْنُونُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَيُتِمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، وَيُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَتُتِمَّ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَتَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخَفُّ انْتِظَارًا وَأَسْرَعُ فَرَاغًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَالَ كَانَتْ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَلَمَّا تَعَذَّرَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تَتَبَعَّضُ كَانَ تَكْمِيلُ ذَلِكَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى أَخَفَّ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ السَّبْقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الصلاة أكمل من آخرها لما يتضمنها من قراءة السورة بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِأَكْمَلِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَكْمَلِ الْبَعْضَيْنِ، فَلَوْ خالف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الْإِمَامُ الْأَوْلَى فِي الْمُسْتَحَبِّ: وَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وبالثانية ركعتين لو كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً لَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَا سُجُودَ عليها. (فَصْلٌ) : فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا أُمِرَ بِهِ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَحَلِّ الِانْتِظَارِ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ جَازَ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْأُمِّ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ وَهَذَا أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيَامَهُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قُعُودِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْفِيفَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ إِطَالَتِهِ، فَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فَعَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تَتَشَهَّدَ مَعَهُ، فَإِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَارَقُوهُ وَأَتَمُّوا ثُمَّ دَخَلَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا تَشَهَّدَتِ الْأُولَى مَعَهُ ثُمَّ فَارَقُوهُ جَالِسًا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ، فَإِذَا أَتَمُّوا أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ خَلْفَهُ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ قِيَامِهِ فَإِذَا كَبَّرَ لِقِيَامِهِ كَبَّرُوا مَعَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ حَضَرٍ فَلْيَنْتَظِرْ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ حَتَى تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا كَمَا وَصَفْتُ فِي الْأُخْرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي السَّفَرِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا صَلَّى ثَلَاثًا عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعَشَاءِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِرْقَتَيْنِ وَصَلَّى لِكُلِّ فَرِيقٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْتِظَارُ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا أَوْ بِالْأُولَى ثَلَاثًا وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَوْ فَعَلَ فِي الْمَغْرِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَغْرِبَ في العدد تنصيفها إِلَى تَفْضِيلِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ اجْتِهَادًا فَسَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ لِمُخَالَفَتِهِ وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الظُّهْرِ شَرْعًا لا اجتهاد ألزم سجود السهو لمخالفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسَا وأتموا كان فيها قولان أحدهما أنه أساء ولا إعادة عليه. والثاني أن صلاة الإمام فاسدة وتتم صلاة الأولى والثانية لأنهما خرجتا من صلاته قبل فسادها لأن له انتظارا واحدا بعد آخر وتفسد صلاة من علم ما الباقيتين بما صنع وائتم به دون من لم يعلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَيُصَلِّي بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً. فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي بُطْلَانِ صلاتهم قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ أَرْبَعَ انْتِظَارَاتٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِاثْنَيْنِ مِنْهَا فَصَارَ كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ فِي رُكُوعِهِ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَمْ تُبْطَلْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ، فَلَأَنْ لَا تَبْطُلَ بِانْتِظَارٍ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَ جَالِسًا يُسَبِّحُ، وَإِنِ انْتَظَرَ قَائِمًا قَرَأَ وَتَطْوِيلُ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: " أَطْوَلُهَا قُنُوتًا ". (فَصْلٌ) : فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشافعي أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِانْتِظَارِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، فَعَلَى هَذَا صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهَا مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا. وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ فَسَادِهَا. فَإِنْ لَمْ يعلموا بحاله فصلاتهم جائزة كما صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَا يَعْلَمُ بِجَنَابَتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الزَّائِدَ هُوَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَبِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ خَرَجَتْ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الِانْتِظَارِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الْأَوَّلَ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ وَالِانْتِظَارَ الثَّانِيَ لِلطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالِانْتِظَارَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ لِلطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا عِنْدَ دُخُولِهَا وَالْآخَرُ عِنْدَ خُرُوجِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ جَائِزَةً لِخُرُوجِهَا مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَسَادِهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الِاجْتِهَادِ فَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمْ تُبْطُلْ صَلَاتُهُ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في تفريق أصحابه وانتظارهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وإذا قيل بجواز صَلَاةُ الْإِمَام ِ فَصَلَ اةُ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ، فَأَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ، هَلْ هُمْ مَعْذُورُونَ بِذَلِكَ أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ تُخْرِجَ نَفْسَهَا بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يُعْذَرُوا بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ رَكْعَةٍ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قولان مبينان على اختلاف قوله فمن أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَعْذُورٍ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ لِأَنَّ إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَكُنْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَلَوْ أَرَادُوا الْمُقَامَ عَلَى الْإِتْمَامِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وإذا أراد الإمام أن يصلي الجمعة بأصحاب صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا خَارِجَ الْمِصْرِ وَفِي ظَاهِرِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مِصْرٍ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا مُتَوَطِّنًا فِي مِصْرٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمْعَةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا أَهْلَ الْجُمْعَةِ فَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ، خَطَبَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ جُمْعَةً، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى الْأُولَى وَصَلَّى بالثانية لم يجز أن بين عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا بِالْجُمْعَةِ جَمَاعَةً لَمْ يَحْضُرُوا الْجُمْعَةَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَأَتَمُّوا وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا وَخَطَبَ بِهِمْ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَأْخُذَ سِلَاحَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا أَوْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ يُؤْذِيَ بِهِ أَحَدًا وَلَا يَأْخُذُ الرمح إلا أن يكون في ماشية الناس ". قال الماوردي: وهذا صحيح ليس يختلف مَذْهَبُهُ فِي اسْتِحْبَابِ أَخْذِهِ وَالْأَمْرِ بِهِ وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فِي إِيجَابِهِ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ اسْتِحْبَابٌ. وَذَكَرَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) {النساء: 102) فَكَانَ الْأَمْرُ بِأَخْذِهِ دَالًّا عَلَى وُجُوبِهِ ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَحَذَّرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) {النساء: 102) ثُمَّ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْ تَارِكِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ لَاحِقٌ بِتَارِكِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَهُ اسْتِحْبَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَخْذِهِ لِعُذْرٍ فَقَدَّمَ حَظْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مَحْرُوسَةٌ بِغَيْرِهَا وَالْقِتَالُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهَا وَحَمْلُ السِّلَاحِ يُرَادُ إِمَّا لِحِرَاسَةٍ أَوْ قِتَالٍ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ قَادِحًا فِي الصَّلَاةِ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَتِ ال ْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. والموضع الذي أوجبت فيه حمل السلاح وهو مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَالسِّكِّينِ وَالْخِنْجَرِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اسْتُحِبَّ فِيهِ حَمْلُ السِّلَاحِ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي كيفية السلاح يترتب على طريقين: فَمَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَرُمَ حَمْلُهُ فِيهَا وَضَرْبٌ كُرِهَ حَمْلُهُ فِيهَا وَضَرْبٌ يَجِبُ حمله فيها وضرب يستحب فِيهَا وَضَرْبٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي. فَأَمَّا الذي يحرم حمله فيها ضربان: نجس ومانع. فالنجس ما غش جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يَدْبَغْ أَوْ نَجِسَ بِدَمِ جَرِيحٍ أَوْ طُلِيَ بِسُمِّ حَيَوَانٍ وَالْمَانِعُ الْبَيْضَةُ السابقة على جبهته، والنور المانع مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ حَمْلُهُ فِيهَا: فَهُوَ السِّلَاحُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِحَمْلِهِ فِيهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ فَهُوَ السِّكِّينُ وَالْخِنْجَرُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَحَبُّ حَمْلُهُ فِيهَا: فَهُوَ الْقَوْسُ وَالنُّشَّابُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي فَكَالرُّمْحِ إِنْ كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ مَنْ جِوَارَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ كَانَ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غيره. ومن قال المسألة على قوليه جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 مُحَرَّمٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَكْرُوهٌ وَمَا وَصَفْنَاهُ، وَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ، وَمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا دَفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَفَعَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ سَهَا فِي الْأُولَى أَشَارَ إِلَى مَنْ خلفه بما يفهمون أنه سَهَا فَإِذَا قَضَوْا سَجَدُوا لِلسَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمُوا وَإِنْ لَمْ يَسْهُ هُوَ وَسَهَوْا هُمْ بَعْدَ الْإِمَامِ سَجَدُوا لِسَهْوِهِمْ وَتَسْجُدُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مَعَهُ لِسَهْوِهِ فِي الْأُولَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السَّهْوُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَحُكْمِهِ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ فَإِذَا حَدَثَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُومِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون في الركعة الأولى أوفى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَعَلَى جَمَاعَتِهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ أَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلِائْتِمَامِهِمْ بِهِ فِي حَالِ سَهْوِهِ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَلِدُخُولِهِمْ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ سَهْوِهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِمَا يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَهَا إِنْ كَانَ سَهْوُهُ خَفِيًّا حَتَّى يَسْجُدُوا لِلسَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ فَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِسَهْوِهِ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِشَارَةِ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلَا تَحْتَاجُ مَعَهُمْ بِحَالٍ إِلَى الْإِشَارَةِ: قَالَ: سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِهِ إِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا سُجُودَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ سَهْوِهِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السهو، فإن قلنا: أنهم يفارقوه قَبْلَ تَشَهُّدِهِ قَامُوا فَأَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَجَدُوا لِلسَّهْوِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ الْإِمَامُ إِلَّا بعد فراغهم ليسجدوا ومعه فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ وَفِرَاقِهِمْ جَازَ وَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَإِذَا أَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ فَهَلْ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا فِيمَنْ أحرم مع الإمام بعد سهوه. فأما إن كان السهو من قبل المأمومين فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ سَهَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، نَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُؤْتَمُّونَ بِمَنْ يَتَحَمَّلُ السَّهْوَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُمْ سَهَوْا وَلَا إِمَامَ لَهُمْ فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِهِ وَسَهَوْا هُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فَرَاغِهِ، فَهَلْ يَتَدَاخَلُ السَّهْوَانِ أَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ سَهْوٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَصَحُّهُمَا قَدْ تَدَاخَلَا وَعَلَيْهِ لَهُمَا سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ. والثاني: يسجد لكل سهو منهما سجدتين لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا، فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا سَهْوُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ إِمَامٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا سُجُودَ عليهم. وإن سها الإمام لزمهم لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الِائْتِمَامِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بن خيران: " عليهم السجود لسهوهم ". وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الاتهام به. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُسَايَفَةُ وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ وَمُطَارَدَةُ الْعَدُوِّ حَتَّى يَخَافُوا إن ولوا أن يركبوا أكتافهم فتكون هزيمتهم فيصلوا كيف أمكنهم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وقعودا على دوابهم وقياما في الأرض على أقدامهم يؤمنون برءوسهم واحتج بقول الله عز وجل {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} (البقرة: 239) وقال ابْنُ عُمَرَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ لَا أَرَى ابن عمر ذكر ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ: وَالْخَوْفُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً لِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَمُطَارَدَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالْمُسَايَفَةِ وَالْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَاخْتِلَاطِ الْعَسْكَرَيْنِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ قِيَامًا وَقُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا وَنُزُولًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ إِلَى وَقْتِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَمِنَ ثُمَّ قَضَى. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) {البقرة: 239) قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَعْنَاهُ " مُسْتَقْبِلُو الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان ذلك قضاء مَرْوِيًّا، وَلِأَنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ عُذْرٌ يُغَيِّرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 صِفَةَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ كَالْمَرَضِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْخَوْفِ فَلَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا رَاكِبًا وَعَلَى اسْتِدْبَارِهَا نَازِلًا لَاسْتَقْبَلَهَا رَاكِبًا لِأَنَّ فَرْضَ الِاسْتِقْبَالِ أَوْكَدُ من فرض القيام. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى عَلَى فَرَسِهِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ رَكْعَةً ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ فَصَلَّى أُخْرَى مُوَاجِهَةَ القبلة وإن صلى ركعة آمنا ثم سار إلى شدة الخوف فركب. ابتدأ لأن عمل النزول خفيف والركوب أكثر من النزول (قال المزني) قلت أنا قد يكون الفارس أخف ركوبا وأقل شغلا لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس ". قال الماوردي: وإذ ابتدأ الصلاة خائفا على فرسه فصلى بعضا إِلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ ثُمَّ أَمِنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ وَيَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُصَلِّي جَالِسًا لِعَجْزِهِ ثُمَّ يَصِحُّ فَأَمَّا إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ آمِنًا مستقبلا للقبلة وأظله العدو فخاف فركب فرسه. قال الشافعي: ها هنا اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَعَلَّلَ بِأَنْ قَالَ الرُّكُوبُ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ صَلَاتَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا إِذَا رَكِبَ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُبْطِلْهَا وَأَجَازَ لَهُ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا إِذَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الرُّكُوبِ وَشِدَّةُ الْخَوْفِ وَهُجُومُ الْعَدُوِّ، فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ لِيُفْسِدَهُ. فَقَالَ: " قَدْ يَكُونُ رُكُوبُ الْفَارِسِ السَّرِيعِ النَّهْضَةِ أَخَفَّ مِنْ نُزُولِ غَيْرِهِ ". وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرْ رُكُوبَ وَاحِدٍ وَنُزُولَ غَيْرِهِ وإنما اعتبر ركوبه بنزوله ومن حق رُكُوبُهُ كَانَ نُزُولُهُ أَخَفَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِتَعْلِيلِهِ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ دُونَ مَنْ شذ منهم وَنَدَرَ وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ ثِقَلُ رُكُوبِهِمْ وَخِفَّةُ نُزُولِهِمْ فَصَحَّ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَبَطَلَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا بأس أَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ فأما إن تابع الضرب أو ردد الطَّعْنَةَ فِي الْمَطْعُونِ أَوْ عَمِلَ مَا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ أَوْ طَعْنَةً أَوْ طَعْنَتَيْنِ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَاكِيًا فِي عَدُوِّهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَكَانَ جَوَازُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أولى فأما إن تابع الضَّرْبَ وَكَرَّرَ الطَّعْنَ حَتَّى طَالَ وَكَثُرَ فَعَلَى قول أبي عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وَأَبِي إِسْحَاقَ إِنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ، وَحَمَلَا جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى فِعْلِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّ صَلَاةَ الخوف مفارقة ل " صلاة الْأَمْنِ " مِنَ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِيهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْبَارُهَا فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ مَعَ الضَّرُورَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مع الضرورة والاختيار اعتبارا بظاهر نصه وأخذ بِمُوجَبِ تَعْلِيلِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ مَهِيبًا أَوْ مُسْتَنْجِدًا أَوْ مُحَذِّرًا أَوْ مُخْتَارًا أَوْ مُضْطَرًّا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِأَنَّ يَسِيرَ الْعَمَلِ مُبَاحٌ وَيَسِيرَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُبَاحٍ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ إِبِلًا فظنوهم عدوا فصلوا صلاة شدة الخوف يؤمنون إيماء ثم بان لهم أنه ليس عدو أَوْ شَكُّوا أَعَادُوا وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُعِيْدُونَ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي أَنْ يُعِيدُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وأصل هذا أن صلاة الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ، فَإِذَا كَانُوا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَرَأَوْا سَوَادًا مُقْبِلًا أَوْ إِبِلًا سَائِرَةً فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَظَلَّهُمْ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِيمَاءً إِلَى قِبْلَةٍ وَإِلَى غَيْرِهَا ثُمَّ بَانَ لَهُمْ خِلَافُ مَا ظَنُّوا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ هَذِهِ الصَّلَاةَ عِنْدَ وُجُودِ الْخَوْفِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الْعَدُوِّ وَقَدْ كَانَ الْخَوْفُ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مَعْدُومًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْأُمِّ: عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا فَتَرْكُهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ كَتَرْكِهِ عَمْدًا فِي الْإِيجَابِ وَقَدْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَاسْتِيفَاءَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ خَاطِئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّلَاةِ قَاضِيًا. قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ كان ببلاد الإسلام قرأوا سَوَادًا فَظَنُّوا عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ ظَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَوْلُهُمْ وَلَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خالف ولا وجه للشافعي يُعَضِّدُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ إِلَّا الْحُجَّاجَ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ الْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ. فَلَوْ غَشِيَهُمُ الْعَدُوُّ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ نَهْرًا أَوْ جَيْشًا حَائِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَانِعًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ، ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 لو صلوا كصلاة ذات الرقاع أوعسفان أَوْ بَطْنِ النَّخْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْقِطُوا فَرْضًا وَلَا غَيَّرُوا رُكْنًا. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ قَلِيلًا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ والمسلمون كثيرا يأمنونهم في مستوى لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ إِنْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ رَأَوْهُمْ صلى الإمام بهم جميعا وركع وسجد بهم جميعا إلا صفا يليه أو بعض صف ينظرون العدو فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوه أولا إلا صفا أو بعض صف يحرسه منهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوهم ثم يتشهدون ثم يسلم بهم جميعا معا وهذا نحو صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم عسفان ولو تأخر الصف الذي حرسه إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرسه فلا بأس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِ (عُسْفَانَ) رَوَاهَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَلَى مُسْتَوًى مِنَ الْأَرْضِ، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غرة قد أصبنا منهم غفلة نهجهم عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَعَزُّ عَلَيْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ يُرِيدُونَ الْعَصْرَ فَنَزَلَ الْوَحْيُّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ صَفَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَأَحْرَمَ بهم، وركع فركعوا ورفع فرفعوا وسجد فسجدوا إلا الصف الذي يليه فإنهم لم يسجدوا لِحِرَاسَتِهِمْ فَلَمَّا رَفَعَ سَجَدُوا وَتَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْأَخِيرُ، فَرَكَعَ بِهِمْ وَرَفَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ إِلَّا الصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجِدُوا لِحِرَاسَةِ النَّاسِ، فَلَمَّا رَفَعَ سَجَدُوا وَلَحِقُوهُ فَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُسْفَانَ. فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَرْبِ بِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا احْتَاجَ إِلَى ثَلَاثَةِ شَرَائِطَ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ عَلَى مُسْتَوًى الْأَرْضِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةً صَلَّى حِينَئِذٍ عَلَى وَصْفِنَا فَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا قَالَ الشَّافِعِيُّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ مَعًا جَازَ وَحِرَاسَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدُوِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أقدر على حراسة الجميع. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى فِي الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سلم ثم صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَهَكَذَا صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ببطن نخل (قال المزني) وهذا عندي يدل على جواز فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ فَخَافَ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعَصْرَ فَقَسَمَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَبِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلَهُمْ رَكْعَتَانِ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ كَذَلِكَ لَهُ سِتٌّ وَلَهُمْ ثَلَاثٌ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ كَصَلَاةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَطْنِ النَّخْلِ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَعَلَ كَفِعْلِهِ فَصَلَّى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ فِي الْأَمْنِ كَصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَوْفِ فَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ بَطْنِ النَّخْلِ، فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ عُسْفَانَ، فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَمْ يَحْرُسْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ جَائِزَةٌ وَفِي صَلَاةِ مَنِ انْتَظَرَ مِنْهُمْ رَفْعَ الْإِمَامِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِمَامِ بِرُكْنٍ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَفِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِطُولِ انْتِظَارِهِمْ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ انْتِظَارَهُ، قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرًا فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صَلَاةٍ. فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، لِأَنَّهُمُ ائْتَمُّوا بِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ. فَأَمَّا الطائفة الأولى ففي صلاتهم قولان مبينان عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِي صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِمَنْ خَالَفُوهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ قَالَ: لَا تَلْزَمُ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ سَهْوُ إِمَامِهِمْ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ أَمِنَ وَطَلَبُهُمُ تَطَوُّعٌ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ وَلَا يُصَلِّيهَا كَذَلِكَ إِلَّا خَائِفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُبَاحَةٌ مَعَ وُجُودِ الْخَوْفِ وَالطَّالِبُ أَمِنَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْعَدُوِّ، أَوْ فِي أَرْضِهِ يَخَافُونَ هُجُومَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ قَالَ الشافعي فلهم أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 (بَابُ مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الخوف) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ قِتَالٍ كَانَ فَرْضًا أَوْ مُبَاحًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ أَرَادَ دَمَ مُسْلِمٍ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَلِمَنْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَمَنْ قَاتَلَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْقِتَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَعْصِيَةٌ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْبُغَّاءِ. فَلِلْمُقَاتِلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِمَا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَقِتَالُ الرَّجُلِ عَنْ مَالِهِ وَحَرِيمِهِ. وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ: فَقِتَالُ الْإِمَامِ اللُّصُوصَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ. وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رُخْصَةٌ، وَالرُّخَصُ تُسْتَبَاحُ فِي الْمُبَاحِ كَاسْتِبَاحِهَا فِي والواجب قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ كَاللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا طُلِبُوا فَخَافُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخَصِ، فَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانُوا كَالْآمِنِينَ إِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَعَادُوا، وَإِنْ صَلَّوْا غَيْرَهَا مِنْ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كَانُوا مُوَلِّينَ لِلْمُشْرِكِينَ أَدْبَارَهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَكَانُوا يُومِئُونَ أَعَادُوا لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ عَاصُونَ وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ لِعَاصٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أول الإسلام على كل رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذين كفروا} كلما كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يقاتل اثنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 66) وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَانْهَزَمُوا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا مِنْ مِثْلِهِمْ فَمَا دُونَ نُظِرَ فِي حَالِهِمْ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لِيَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ لِأَنَّهُمْ عَاصُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (الأنفال: 14) وَلَا فَرْقَ فِي الْفِئَةِ الَّتِي تَنْحَازُ إِلَيْهَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَعِيدَةً أَوْ قَرِيبَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ انْهَزَمُوا مِنَ الْعِرَاقِ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا قِتَالَ مِثْلَيْهِمْ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) {البقرة: 286) . وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الِانْحِيَازُ إِلَى فِئَةٍ قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أبو حنيفة: كَانَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَا مَعًا وَعَلَيْهِمْ أن يقاتلوا ما أمكن. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ غَشِيَهُمْ سَيْلٌ وَلَا يَجِدُونَ نَجْوَةً صَلَّوْا يومئون عدوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرِكَابِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا غَشِيَهُمْ سَيْلٌ أَوْ ظَلَّهُمْ سَبُعٌ أَوْ ضال عَلَيْهِمْ فَحْلٌ أَوْ أَظَلَّهُمْ حَرِيقٌ وَلَمْ يَجِدُوا نَجْوَةً عَالِيَةً وَلَا جَبَلًا مَنِيعًا وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ فسعوا لصلاحهم فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنْ غَشِيَهُمْ غَرَقٌ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِهِ أَوْ هَدْمٌ إِنْ تَنَحَّوْا عَنْ مَسْقَطِهِ أَوْ حَرِيقٌ فِي صَحْرَاءَ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِ الرِّيحِ سَلِمُوا لَمْ تُجْزِهِمْ إِلَّا صَلَاةٌ لَوْ كَانَتْ في غير الخوف أجزأتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 (باب في كراهية اللباس والمبارزة) قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لُبْسَ الدِّيْبَاجِ وَالدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَالْقَبَاءِ بِأَزْرَارِ الذَّهَبِ فَإِنْ فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ فَلَا بَأْسَ ". قال الماوردي: وهذا كما قال: ليس الْحَرِيرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ مُبَاحٌ عَلَى النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَفِي الْأُخْرَى ذَهَبٌ فَقَالَ: " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ: " هَذَا لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ " فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لُبْسِهِ وَافْتِرَاشِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة جَوَازُ افْتِرَاشِهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا " وَلِأَنَّ فِي افْتِرَاشِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْخُيَلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي لُبْسِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ مِنْ إِبْرَيْسِمٍ وَقُطْنٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَيْسِمُ أَكْثَرَ وَأَغْلَبَ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ أَكْثَرَ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فَمَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أصحابنا جواز لبسه مغليا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ تعليقا لحكم الحظر وهذا الأصح لأن الإباحة والخطر إذا استويا غلب حكم الخطر فَأَمَّا الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسِمِ فَلَا بَأْسَ يَلْبَسُهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا حَرِيرًا وَالْآخَرُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ الحرير ظاهره أو باطنه لأن لَابِسٌ لَهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمُفَاجَأَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِعِلَّةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى لُبْسِهِ فَلَا بَأْسَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص للزبير ابن الْعَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي لُبْسِ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الذَّهَبُ فَمُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ خَالِصًا مُنْفَرِدًا أَوْ مَشُوبًا مُخْتَلِطًا بِخِلَافِ الْحَرِيرِ الَّذِيِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ يَسِيرِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الذَّهَبَ يَظْهَرُ قَلِيلُهُ كَظُهُورِ كَثِيرِهِ يَغْلِبُ لَوْنُهُ عَلَى لَوْنِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ وَالْإِبْرَيْسِمُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ طُلِيَ الذَّهَبُ بِغَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَظْهَرْ أَوْ صَدِيَ حَتَّى خَفِيَ لَوْنُهُ جَازَ لُبْسُهُ كَالْقَزِّ إِذَا كَانَ حَشْوَ الْجُبَّةِ. فَإِنِ اسْتُعْمِلَ الذَّهَبُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن طرفة أن عرفجة بن أسعد أُصِيبَتْ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدَّ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَكْرَهُ اللُّؤْلُؤَ إِلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ وَلَا أَكْرَهُ الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ بَلَاءً أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ قَدْ أَعْلَمَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا بَأْسَ بِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بَأْسًا وَإِقْدَامًا أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 بِالْأَعْلَامِ وَرُكُوبِ الْأَبْلَقِ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمَ بِرِيشِ نَعَامَةٍ يَوْمَ بَدْرٍ غَرَزَهَا فِي صَدْرِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا دُجَانَةَ كَانَ يُعَلَّمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ كَانَ يَرْكَبُ الْأَبْلَقَ، وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يعلم بذاؤبة مُلَوَّنَةٍ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْإِحْجَامَ عَنْ لِقَاءِ عَدُّوِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ الْأَعْلَامُ خَوْفًا من هزيمة المسلمين. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ الْبِرَازَ قَدْ بَارَزَ عُبَيْدَةُ وَحَمْزَةُ وعلي بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِذَا اسْتَدْعَى الْمُشْرِكُ الْبِرَازَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَارِزَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَيْهِ قَدْ بَرَزَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: لِيَبْرُزْ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ " وَبَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليه فرماه بحرية فِي صَدْرِهِ فَخَدَشَهُ بِهَا فَمَاتَ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ أَيَقْتُلُكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَدْشِ فَقَالَ - وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) {الأنفال: 17) وَرُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ اسْتَدْعَيَا الْبِرَازَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ، فَقَالُوا: الْأَنْصَارُ قَالُوا: مَا نُعْدِيكُمْ، لِيَقُمْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا، فَبَرَزَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ. وبرز عبيد بْنُ الْحَارِثِ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ وَخَلَصَ حَيَّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْمَدِينَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَارَزَ عَمْرَو بْنَ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ فَقَتَلَهُ وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قِتَالِ الْأَنْصَارِ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وأما إذا بدا الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الْمُسْلِمُ فَاسْتَدْعَى الْبِرَازَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قال لا تبرزن محمدا ولا تَدْعُوَنَّ إِلَى الْبِرَازِ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ فَإِنَّ الداعي باغ والباغي بمصروع. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ، قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَثَّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمًا وَشَوَّقَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا خَرَجْتُ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا إِلَّا الدَّيْنَ قَالَ: فَخَرَجَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ كَرِهَ الْبِرَازَ دَاعِيًا وَمُجِيبًا. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويلبس فَرَسَهُ وَأَدَاتَهُ جِلْدَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخَنْزِيرِ من جلد قرد وقيل وأسد ونحو ذلك لأنه جنة للفرس ولا تعبد على الفرس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُلُودُ الطَّاهِرَةُ الذَّكِيَّةُ وَالْمَدْبُوغَةُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهَا، وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَعَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ غَيْرِ الْجُلُودِ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَمَرَ بِنَزْعِ الْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ عَنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَأَمَّا الْجُلُودُ النَّجِسَةُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهَا جُنَّةً لِفَرَسِهِ، وَآلَةً لِسِلَاحِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ عَلَى فَرَسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهَا، لَكِنْ لَا يُصَلِّي فِيهَا. لِأَنَّ تَوَقِّيَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا جِلْدُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَالٍ لَا فِي آلَةِ السِّلَاحِ وَلَا فِي جُنَّةِ فَرَسٍ، لِأَنَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا بِحَالٍ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الْكَلْبُ مِنْ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ حَيًّا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَاشِيَةِ، فَكَانَ بَاقِي الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 (باب صلاة العيدين) قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حُضُورُ الْعِيدَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ قَوْله تَعَالَى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 25) قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ إِنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ، رَوَى حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم المدينة وللأنصار يوما يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ فَقَالُوا يَوْمَانِ كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا الْعِيْدَيْنِ الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى " وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِيهَا فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَسُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ السُّرُورَ يَعُودُ فِيهِ إليهم. (فَصْلٌ) : لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أنها مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ك (الجهاد) فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يُقِيمَهَا مَنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسَ " فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ وَعُنِّفُوا عَلَى تَرْكِهَا تَعْنِيفًا بَلِيغًا، وَقِيلَ بَلْ يُقَاتِلُهُمْ، لِاسْتِخْفَافِهِمْ بِالدِّينِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حُضُورُ الْعِيدَيْنِ " هَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاةِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، من وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فَرْضًا وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ نَدْبًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فِي عَيْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) : لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمْعَةُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، إِمَّا نَدْبًا أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْمَعْذُورِينَ فَهَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، أَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِهَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ، وَمَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ الْأَئِمَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَهُ حَضَرُوا منى فلم يروا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ صَلَّى الْعِيدَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْجُمْعَةِ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَطَوَّعَ مُنْفَرِدًا صَلَّاهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ بِلَا تَكْبِيرٍ زَائِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ مِنَ الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا، لِعُمُومِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِذَلِكَ مَا ارْتَادَ لَهَا مَكَانًا وَاسِعًا، لِأَنَّهَا يَحْضُرُهَا مَنْ لَا يَحْضُرُ الْجُمْعَةَ، فَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا صَلَّى كَصَلَاةِ الْإِمَامِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ، فأما تركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ بِمِنًى فَلِانْعِكَافِهِ عَلَى الْحَجِّ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ لا لكونه مسافرا. قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ الْغُسْلَ بَعْدَ الْفَجْرِ لِلْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ تَارِكٌ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْعِيدَيْنِ فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جعله الله تعالى عيدا فَاغْتَسِلُوا " فَنَبَّهَ عَلَى غُسْلِ الْعِيدِ لِتَشْبِيهِهِ بِهِ وَيُخْتَارُ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَإِنِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لا يجزئه كَالْجُمْعَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْزِئُهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ. لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبُكُورِ بَعْدَ الْغُسْلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْبُكُورُ غَالِبًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الْغُسْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعِيدِ يَضِيقُ عَلَى الْمُتَأَهِّبِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الفجر، فجاز تقدمه قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 (باب القول في تكبير العيدين وإظهاره) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ إِظْهَارَ التَّكْبِيرِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى فِي لَيْلَةِ الفطر وليلة النحر مقيمين وسفرا في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم ويغدون إذا صلوا الصبح ليأخذوا مجالسهم وينتظرون الصلاة ويكبرون بعد الغدو حتى يخرج الإمام إلى الصلاة وقال في غير هذا الكتاب حتى يفتتح الإمام الصلاة (قال المزني) هذا أقيس لأن من لم يكن في صلاة ولم يحرم إمامه ولم يخطب فجائز أن يتكلم واحتج بقول الله تعالى في شهر رمضان {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة وأبي بكر يكبرون ليلة الفطر في المسجد يجهرون بالتكبير وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجا فذكره التلبية} . قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ فَسُنَّةٌ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَبَّرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ كَبَّرَ إِمَامُهُ قِيلَ لَا، قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ أَحْمَقُ وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ عمل الحركة. وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى دَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ التَّكْبِيرَ يَوْمَ الْفِطْرِ سُنَّةٌ فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَبْتَدِي بِالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الْعِيدِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] فَأَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ إِكْمَالِ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلَ زَمَانِ التَّكْبِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْعِيدَيْنِ من غروب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الْعِيدَيْنِ أَوْكَدُ فِي التَّكْبِيرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ النَّحْرِ أَوْكَدُ، لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْلَةُ الْفِطْرِ أَوْكَدُ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . (فَصْلٌ) : فأما هذا التكبير، فقد قال الشافعي ها هنا فِي الْأُمِّ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنْ يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: إِلَى إِحْرَامِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَحْرُمُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّكْبِيرِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعِيدِ يَنْقَضِي بِفَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافِ أَقَاوِيلَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ، وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِانْصِرَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ انْصِرَافَهُ يَتَعَقَّبُ الْإِحْرَامَ. (فَصْلٌ) : التَّكْبِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُقَيَّدُ: مَا انْتُظِرَ بِهِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ. وَالْمُطْلَقُ: مَا لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، فَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ بِالصَّلَوَاتِ مَسْنُونٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَتَكْبِيرُ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، فَيُكَبِّرُ فِي الْأَحْوَالِ قَائِمًا وَقَاعِدًا أَوْ مَاشِيًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَكْبِيرَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالزَّمَانِ، فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَتَكْبِيرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَوَاتِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لِغَيْرِهَا، فَإِنْ كَبَّرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَكْبِيرًا مُطْلَقًا جَازَ، وَإِنْ كَبَّرَ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ تَكْبِيرًا مُقَيَّدًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أن يكون مضيا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِمَا أمر به من سنة التكبير. (فصل: القول في رفع الصوت بالتكبير) وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا يَرْفَعُ الْحَاجُّ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَيُخْتَارُ لَهُ الْإِكْثَارُ مِنَ الْقُرَبِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِمَّا مُسْنَدًا أَوْ مَوْقُوفًا، أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 " مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ حِينَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي لَيْلَةِ عِيدٍ فَكَأَنَّمَا عَصَاهُ فِي لَيْلَةِ الْوَعِيدِ وَمَنْ عَصَاهُ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي " وَيُخْتَارُ لَهُ الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ السَّبْقِ، وَلِيَرْتَادَ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى الْإِمَامِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ حَيْثُ هُوَ أَرْفَقُ بِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعٍ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ العيد به فِي أَرْفَقِ الْمَوَاضِعِ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْمَسْجِدِ يَسَعُ جَمِيعَ أَهْلِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ، مِثْلَ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى الْيَوْمِ يُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحْرَاءِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِتَحِيَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ مِنَ الْأَنْجَاسِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ البلاد ما اتسعت وضاق سجاها عَنْ سَعَةِ جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يصلي بهم العيد في جنايه وَمُصَلَّاهُ، وَيَسْتَخْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى فِي الصَّحْرَاءِ طَلَبًا لِلسِّعَةِ وَقَدْ صَارَ مُصَلَّى الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ دَاخِلَ البلد، لأن العمارة زادت واتصلت حتى غيرت الْجِبَالَ فَصَارَ مُصَلَّاهُمُ الْيَوْمَ فِي وَسَطِهِ عِنْدَ رَحْبَةِ دَارِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ ربح صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْفِطْرَ فِي مَسْجِدٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفِطْرَ فِي الْمَسْجِدِ في يوم مطير. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمُصَلَّى وَيَلْبَسَ عِمَامَةً وَيَمْشِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 النَّاسُ وَيَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ وَيَمَسُّونَ مِنْ طِيبِهِمْ قَبْلَ أن يغدوا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ (قال الشافعي) وأحب ذلك إلا أن يضعف فيركب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ الْعِيدِ، أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مَا رَكِبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عيد ولا جنازة قط، ولأنه إذا مشى قصرت خطاه فكثر ثوابه، ولأن لا يُؤْذِيَ بِرُكُوبِهِ مَنْ جَاوَرَهُ أَوْ خَالَطَهُ، إِلَّا أَنْ يَضْعُفَ عَنِ الْمَشْيِ لِمَرَضِهِ أَوْ لِطُولِ طَرِيقِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا لِأَهْلِ الْجِهَادِ يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ فَرُكُوبُهُمْ وَإِظْهَارُ زِيِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ وَتَحْصِينِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الرَّاجِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَإِنْ شَاءَ مَشَى. (فَصْلٌ) : الْمُخْتَارُ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الزِّينَةِ، وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ وَلُبْسِ الْعَمَائِمِ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ، وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَاسْتِحْسَانِ الثِّيَابِ، وَلُبْسِ الْبَيَاضِ مَا يَخْتَارُهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَأَفْضَلُ، لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِيدًا لَكُمْ فَاغْتَسِلُوا " فَلَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْعَةِ تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ كَانَ فِعْلُهُ فِي الْعِيدِ أَوْلَى. (مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ في وقت العيد) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُوَافِي فِيهِ الصَّلَاةَ وَذَلِكَ حِينَ تَبْرُزُ الشَّمْسُ وَيُؤَخَّرُ الْخُرُوجُ فِي الْفِطْرِ عَنْ ذَلِكَ قليلا وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " أَنْ عَجِّلِ الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يلبس برد حبرة ويعتم في كل عيد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ هُوَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَتَمَامُ طُلُوعِهَا فَذَلِكَ أَوَّلُ وَقْتِهَا، وَآخِرُهُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى أَطْرَافِ الْجِبَالِ كَالْعَمَائِمِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّاهَا وَالشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ وَرُوِيَ قِيدَ رُمْحَيْنِ فَإِنْ صَلَّاهَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ سَوَاءً لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى فَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، فَيَأْتِي الْمُصَلَّى فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ. (فَصْلٌ) : يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ صَلَاةَ الْأَضْحَى وَيُؤَخِّرَ صَلَاةَ الْفِطْرِ عَنْهَا قَلِيلًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " أَنْ عَجِّلِ الْأَضْحَى وَأَخِّرِ الْفِطْرَ وَذَكِّرِ النَّاسَ "، وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي الْفِطْرِ قَدْ أُمِرُوا بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِمْ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ فَوَسَّعَ لَهُمْ فِي زَمَانِهَا لِاشْتِغَالِهِمْ وَأُمِرُوا فِي الْأَضْحَى بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى نَحْرِ أَضَاحِيِّهِمْ فَقَدَّمَ فعلها لإعجالهم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويطعم يوم الفطر قبل الغدو وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يطعم قبل الخروج إلى الجبان يوم الفطر ويأمر به وعن ابن المسيب قال كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة ولا يفعلون ذلك يوم النحر وروي عن أبن عمر أنه كان يغدو إلى المصلى في يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى فيكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام على المنبر ترك التكبير وعن عروة وأبي سلمة أنهما كانا يجهران بالتكبير حين يغدوان إلى المصلى (قال) وأحب أن يلبس أحسن مَا يَجِدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَطْعَمَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ، وَلَا يَطْعَمُونَ فِي الْأَضْحَى إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِمْ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَطْعَمُ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِي الْأَضْحَى إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأكل الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلَاةِ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا خَمْسًا سَبْعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ مُحَرَّمًا فَاسْتُحِبَّ الْأَكْلُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُعْلَمَ زَوَالُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأَضْحَى. الثاني: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ كَانَتْ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُسَاوِيَ الْفُقَرَاءَ فِي أَكْلِهِمْ مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي يَوْمِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى نُودِيَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا أَنْ يُقَامَ لَهَا وَإِنَّمَا يُنَادَى لَهَا الصَّلَاةَ جَامِعَةً أَوْ الصَّلَاةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر أن ينادى للعبد وَالِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْوُلَاةِ أَحْدَثَ الْأَذَانَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، فَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا مُعَاوِيَةُ، وَخَطَبَ لَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ مَرْوَانُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى مَرْوَانَ وَقَالَ لَقَدْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ وَيَخْطُبُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، قَالَ تِلْكَ سُنَّةٌ مَتْرُوكَةٌ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ وَذَلِكَ لَضَعْفُ الْإِيْمَانِ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ إِلَى أَنْ وَلِيَ بَنُو الْعَبَّاسِ، وَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى حَالِهِ، وَهُوَ الْيَوْمَ سِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قَالَ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، أَوْ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كرهنا ذلك وأجزأه. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يحرم بِالتَّكْبِيرِ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَرَكْعَتَانِ إِجْمَاعًا، وَيَتَضَمَّنُ تَكْبِيرًا زَائِدًا قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدَدِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّكْبِيرَ الزَّائِدَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعٌ فِي الْأُولَى سِوَى الْإِحْرَامِ وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْإِحْرَامِ وَكُلُّ التَّكْبِيرِ مِنْ قَبْلِ الْقِرَاءَةِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: التَّكْبِيرُ الزَّائِدُ إِحْدَى عَشْرَةَ سِتٌّ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وَقَالَ أبو حنيفة: يُزَادُ فِي الْأُولَى ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَيُزَادُ فِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثًا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى كَبَّرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْعِيْدِ أَرْبَعًا، كَتَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ، وَوَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ بِهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ صَدَقَ. وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْعِيدِ أَرْبَعًا وَالْتَفَتَ وَقَالَ أَبْلِغْ كَتَكْبِيرٍ الْجِنَازَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ، وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَوْثَقُ رِجَالًا، وَأَثْبَتُ لَفْظًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ، وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: التَّكْبِيرُ فِي الْأُولَى فِي الْفِطْرِ سَبْعًا وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا كِلْتَاهُمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا نَصٌّ قَدْ رُوِيَ قَوْلًا، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ فَكَانَ مَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 أحدهما: زيادة تكبير. والثاني: كثرة رواته. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويرفع كُلَّمَا كَبَّرَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ نَوَاهَا مَعَ إِحْرَامِهِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ ثُمَّ يُكَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعًا ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يَقْرَأُ، وَقَالَ محمد بن الحسن يَأْتِي بِالتَّوَجُّهِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ، وَقَالَ أبو يوسف يَتَعَوَّذُ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ التَّوَجُّهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ التَّوَجُّهِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِعَاذَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّوَجُّهَ يَتَعَقَّبُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالتَّعَوُّذَ يَتَعَقَّبُهُ الْقِرَاءَةُ. (فَصْلٌ) : وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الزَّوَائِدِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا تَتْبَعُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَيَسْتَوْفِي فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. (فَصْلٌ) : وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ وَسَطًا، يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيُمَجِّدُهُ وَلِيَنْتَهِيَ تَكْبِيرُهُ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَالَ أبو حنيفة، يُكَبِّرُ تِسْعًا مُتَوَالِيَاتٍ، وَقَالَ مَالِكٌ يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ سَاكِنًا، وما ذهبنا إِلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ فِي حَالِ الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا الذِّكْرُ كَتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ، وَيَضَعَ يُمْنَى يَدَيْهِ عَلَى الْيُسْرَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ويجهر بقراءته ثم يركع ويسجد فإذا قام في الثانية كبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام من الجلوس ويقف بين كل تكبيرتين كقدر قراءة آية لا طويلة ولا قصيرة كما وصفت فإذا فرغ من خمس تكبيرات قرأ بأم القرآن وب {اقتربت الساعة وانشق القمر} ثم يركع ويسجد ويتشهد ويسلم ولا يقرأ من خلفه وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبا بكر وعمر كبروا في العيدين سبعا وخمسا وصلوا قبل الخطبة وجهروا بالقراءة وروي أ، النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقرأ في الأضحى والفطر ب {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة وانشق القمر} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ السَّبْعِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَهَا سُورَةَ {قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} فَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ قام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 إلى الثانية فكبر خمسا، وقرأ الفاتحة {واقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الْقِرَاءَةَ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ بِمَاذَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الْعِيدِ؟ فَقَالَ فِي الْأُولَى بِ {قاف} وفي الثانية ب {اقتربت الساعة} فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَدَقْتَ فَلَوْ قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية، أَوِ اقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَهُ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، لِمَا روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنْ أَسَرَّ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَجْزَاهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُنْصِتُ مُسْتَمِعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ فَهَلْ يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ يَعُودُ فَيُكَبِّرُ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلتَّكْبِيرِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الفاتحة فعاد إِلَى التَّكْبِيرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، لِقَطْعِهِ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ فِي التَّكْبِيرِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجَزْأَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة يَمْضِي فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ، لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ وَالْهَيْئَاتُ لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ فِيهَا. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرِ كَبَّرَ مَعَهُ مَا بَقِيَ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا فَاتَ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فَرْضٌ وَالتَّكْبِيرَ هَيْئَةٌ مَسْنُونَةٌ، وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ مَعَهُ خَمْسًا، وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلِيَّةً لِأَنَّهُ تابع الإمام كَبَّرَ خَمْسًا، فَإِذَا قَامَ لِيَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الْفَائِتَةَ كبر خمسا، لأنها ثانية والركعة الثانية من صلاة العيد مضمنة خمس تكبيرات. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَخْطُبُ فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُسَلِّمُ ويرد الناس عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا وَيُنْصِتُونَ وَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خفيفة وأحب أن يعتمد على شيء وأن يثبت يديه وجميع بدنه فإن كان انفطر أمرهم بطاعة الله وحضهم على الصدقة والتقرب إلى الله جل وثناؤه والكف عن معصيته ثم ينزل فينصرف ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ عَشْرُ خُطَبٍ: خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَالْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَأَرْبَعُ خُطَبٍ فِي الْحَجِّ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيَوْمَ الْعَاشِرِ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ هِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَنَوْعٌ يَتَعَقَّبُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الَّذِي يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فخطبتان الجمعة وعرفة، وأما التي تنعقب الصَّلَاةَ فَالثَّمَانِي الْبَاقِيَةُ، وَمَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ، وَمَا يَتَعَقَّبُهَا سُنَّةٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَخُطَبُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ تُفْعَلُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ لِلْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ تَوَجَّهَ إلى منبره فرقأ عَلَيْهِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا يَعْنِي السَّلَامَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ غَالِبًا فِي الصَّحَابَةِ منتشرا فيهم. والثاني: يريد فعل السلام ويروى غَالِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا سَلَّمَ فَهَلْ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً لِلِاسْتِرَاحَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَجْلِسُ بَعْدَ سَلَامِهِ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى خُطْبَتِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَجْلِسَ، لِأَنَّهُ فِي الْجُمْعَةِ يَجْلِسُ انْتِظَارًا لِلْأَذَانِ، وَلَيْسَ لِلْعِيدِ أَذَانٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ وَأَمْضَى لِخَاطِرِهِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ قَائِمًا، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَاهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، فلم يجز أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا، وَخُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ كَالصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ ابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى فَكَبَّرَ تِسْعًا تِسْعًا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا جَلَسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ قَامَ إِلَى الثانية فكبر سبعا لرواية عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ " مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الْأُولَى تِسْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعًا " وَقَوْلُهُ مِنَ السُّنَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ حَسَنٌ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، فَالْأُولَى تَتَضَمَّنُ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ، وَالثَّانِيَةُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، قَالَ الشافعي وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 التَّكْبِيرِ التَّحْمِيدَ وَالثَّنَاءَ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى، وَيُخْتَارُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ، فَإِنْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ تَرَكَهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ وَاجِبَاتِهَا بِأَمَانَةٍ مَا يَلِيقُ بِزَمَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا بَيِّنَ حُكْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، عَلَى مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ زَمَانَ وُجُوبِهَا، وَالْحُبُوبَ الَّتِي يَجُوزُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهَا، وَقَدْرَ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ الْعِيدُ أَضْحَى بَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الضَّحَايَا، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلَ زَمَانِ النَّحْرِ وَآخِرَهُ، وَالْعُيُوبَ الْمَانِعَةَ وَالْأَسْنَانَ الْمُعْتَبَرَةَ، وَقَدْرَ مَا يَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ، وَحُكْمَ التَّكْبِيرِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكَرَ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّحَايَا وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، لِيَعْلَمَ بِبَيَانِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَيَعْلَمَ الجاهل ويتذكر العالم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَفَّلَ الْمَأْمُومُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ وَالْمَسْجِدِ وَطَرِيقِهِ، وَحَيْثُ أَمْكَنَهُ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلَ بْنَ السَّاعِدِيِّ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ كَانَا يُصَلِّيَانِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ، لَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُنْتَظَرٌ وَبَعْدَهَا خَاطِبٌ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا إِذَا فَرَغَ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا كَالْإِمَامِ. وَقَالَ أبو حنيفة يُكْرَهُ لَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ بَعْدَهَا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) {العنكبوت: 45) وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنَّ الْإِمَامَ مُتَّبَعٌ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ التَّنَفُّلَ لَتَبِعَهُ النَّاسُ فِيهِ وَصَارَ ذَلِكَ مسنونا، وليس كذلك المأموم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويصلي العيدين الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمَسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الصَّلَاةِ، وَحُكْمَ مَنْ يُؤْمَرُ بِهَا وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ هَلْ يُؤْمَرُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُؤْمَرُ بِهَا. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ: يُؤْمَرُ بِهَا وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ حُضُورَ الْعَجَائِزِ غَيْرِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ الْعِيدَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وَأُحِبُّ إِذَا حَضَرَ النَّسَاءُ الْعِيدَيْنِ أَنْ يَتَنَظَّفْنَ بالماء ولا يلبسن شهرة مِنَ الثِّيَابِ وَتُزَيَّنُ الصِّبْيَانُ بِالصَّبْغِ وَالْحُلِيِّ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ لِلْعَجَائِزِ الْمُسِنَّاتِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يَحْضُرْنَ صَلَاةَ الْعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تحرموا إماء الله مساجد الله ولتخرجن تَفِلَاتٍ ". وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ جَاءَ إِلَى النِّسَاءِ ماشيا متكئا على قوس فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَحَثَّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، قَالَ جَابِرٌ فَتَصَدَّقَتْ هَذِهِ بِثَوْبِهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ حُلِيِّهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ مَا سَنَحَ لَهَا فَأَمَّا حُضُورُ النِّسَاءِ الشَّبَابِ فَقَدِ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَدَّرَاتِ إِلَى الْمُصَلَّى فَقِيلَ إِنَّهُنَّ يَحِضْنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَشْهَدْنَ الدُّعَاءَ وَالْخَيْرَ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ خُرُوجُهُنَّ مَكْرُوهٌ، لِمَا يُخَافُ مِنَ افْتِتَانِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِهِنَّ، وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِنِسَائِهِ هِيَ هَذِهِ ثُمَّ على طهر، قَالَتْ عَائِشَةُ لَوْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ أَشَدَّ الْمَنْعِ وَمَنِ اخْتَرْنَا حُضُورَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ الطيب والزينة، ولبس الشهوة مِنَ الثِّيَابِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، وَيُخْتَارُ زِينَتُهُمْ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِهِمْ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ بتحريمهما عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ صَغِيرٍ مِنْ كَبِيرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِيمَنْ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ وَتَتَوَجَّهُ الْعِبَادَةُ نَحْوَهُ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى وَأُحِبُّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 قال الماوردي: وهذا كما قَالَ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَحْتَمِلُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِيُسَاوِيَ فِي مُحَرَّفِهِ وَمَمَرِّهِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ فِي مَحَالِّهِمْ، فَيَقُولُونَ مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابِهِ، فَكَانَ إِذَا مَضَى إِلَى الْمُصَلَّى فِي أَحَدِ الْحَيَّيْنِ رَجَعَ فِي الْحَيِّ الْآخَرِ لِيُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينِ الطَّرِيقِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِهِ لِيَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَمِنْهَا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصِدُهُ الْفُقَرَاءُ بِالسُّؤَالِ وَلَا يَحْضُرُهُ مَا يُغْنِيهِمْ، فَكَانَ يَرْجِعُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ تَوَقِّيًا لمسئلتهم، ومنها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سُئِلَ فِي طَرِيقِهِ عَنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ فِي آخَرَ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَسَّعَةِ وَقِلَّةِ الزِّحَامِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي الطَّرِيقِ لِيَزْدَادَ غَيْظًا لِلْيَهُودِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ تَجَنُّبًا لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِبْطَالًا لِكَيْدِهِمْ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَصَّدُوا لَهُ بِالْمَكْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ، وَقِيلَ بَلْ لِتَشْهَدَ الْبِقَاعُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ مَنْ مَشَى فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ شَهِدَتْ لَهُ الْبِقَاعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ فِي شَهَادَةِ الْبِقَاعِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْطِقُهَا فَتَشْهَدُ بِذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ سُكَّانُ الْمَوْضِعِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) {الدخان: 29) يَعْنِي سُكَّانَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ ذِكْرُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي، فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لمعنى يشاركه فيه غيره استحببناه لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ شَكَكْنَا هَلْ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتداء به، وقال أبو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ، كَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ وَأَبَا عَلِيٍّ قَدِ اتَّفَقَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي وَقْتِنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى يختص به هل يكون مستحبا وفي وَقْتِنَا أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يستحب، وعند أبي علي يستحب لقول الله تعالى. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أمرته أن يصلي في المساجد وروي أن عمر صلى بالناس في يوم مطير في المسجد في يوم الفطر (قال) ولا أرى بأسا أن يأمر الإمام من يصلي بضعفه الناس في موضع من المصر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْبِلَادِ، وَأَنَّ مَا كَانَ وَاسِعَ الْجَامِعِ لَا يَضِيقُ بِأَهْلِهِ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ لِلْعِيدِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا ضَيِّقَ الْمَسْجِدِ لَا يَكْفِي جَمِيعَ أَهْلِهِ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مُصَلَّاهُ، فَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُ الْبَلَدِ وَأَطْرَافُهُ وَشَقَّ عَلَى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ إِلَى مُصَلَّاهُ اسْتَخْلَفَ فِي جَامِعِهِ مَنْ يُصَلِّي بِالْعَجَزَةِ وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ وَلَا حَرَكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ خَوْفٍ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْجَامِعِ، فَإِنْ ضَاقَ بِالنَّاسِ اسْتَخْلَفَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِبَاقِيهِمْ وَاللَّهُ سبحانه أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن جاء والإمام يخطب جلس حتى يفرغ فَإِذَا فَرَغَ قَضَى مَكَانَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ (قال) وإذا كان العيد أضحى علمهم الإمام كيف ينحرون وأن على من نحر من قبل أن يجب وقت نحر الإمام أن يعيد ويخبرهم بما يجوز من الأضاحي وما لا يجوز ويسن ما يجوز من الإبل والبقر والغنم وأنهم يضحون يوم النحر وأيام التشريق كلها (قال) وكذلك قال الحسن وعطاء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَوَجَّهَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْخُطْبَةِ بعد فراغه من الصلاة، فلا تخلو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمُصَلَّى، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ الْخُطْبَةَ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ صَلَّى حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ فِي مَوْضِعِهِ بِالْمُصَلَّى، وَإِنْ شَاءَ فِي مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ أَحَقَّ بِهَا فِي الِانْفِرَادِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ صَلَّى وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا وَتَعَذُّرِ قَضَائِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الإمام في المسجد فينبغي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا اسْتَمَعَ بَاقِيَ الْخُطْبَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِيهِ تَحِيَّةً لَهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ الِاسْتِمَاعِ تَحِيَّةً لَهُ، وَلَيْسَ كذلك المصلي، فإذا ثبت أنه يصلي وإن كَانَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ أَوْ تَحِيَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَهُ، وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَجْلِسُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ صَلَّى الْعِيدَ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اتِّبَاعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْخُطْبَةِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ لَا يَزَالُ يُكَبِّرُ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ مِنَ الظُّهْرِ مِنَ النَّحْرِ إِلَى أَنْ يُصُلِّيَ الصُّبْحَ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيُكَبِّرُ بَعْدَ الصُّبْحِ ثُمَّ يَقْطَعُ وَبَلَغَنَا نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَالصُّبْحُ آخِرُ صَلَاةٍ بِمِنًى وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَكْبِيرَ الْعِيدَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، فَالْمُطْلَقُ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ وَتَشْرِيفِهِ وَعَظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَضْحَى وَالْفِطْرُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُهُ، وَإِنَّ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وآخره إلى عِنْدِ ظُهُورِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ وَأَتَى بِهِ فِي أَعْقَابِهَا، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَضْحَى دُونَ الْفِطْرِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُرْمَةِ الْحَجِّ، وَيَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّحْرِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْأَضْحَى، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، يَقْطَعُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب خمس عشر صَلَاةً وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ صَلَاةً، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إِنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ثُمَّ قَالَ وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي التَّكْبِيرِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] فَخَاطَبَ الْحَاجَّ بِذَلِكَ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمَنَافِعِ شُهُودَ عَرَفَةَ، وَقِيلَ أراد به النحر، والحاج يبتدؤن بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 والقول الثاني: يبتدؤن بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهَا لَيْلَةُ عِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا مَسْنُونًا كَالتَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يِبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يُخْتَصُّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَسْنُونًا كَيَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَقَاوِيلَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّمَا قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غيره، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 (باب التكبير) قال الشافعي: رضي الله عنه: " والتكبير كَمَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصلوات (قال) فأجب أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا نَسَقًا وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَسَنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السُّنَّةُ الْمَأْثُورَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا نَسَقًا فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كثيرا، وسبحان الله بكرا وَأَصِيلًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونصر عبده، وسبحان الله وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ كَانَ حَسَنًا، وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَحَسَنٌ. وَقَالَ أبو حنيفة يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الناس في وقتنا، وما ذكرنا مِنَ الثَّلَاثِ النَّسَقِ أَوْلَى، لِأَنَّنَا رُوِّيْنَا عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الصَّفَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ زِيدَتْ شِعَارًا لِلْعِيدِ فَكَانَتْ وِتْرًا كَتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفَ كَبَّرَ جَازَ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ شِيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى ثُمَّ كَبَّرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قد خرج من إمامته فلم يلزم الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مزاده كارها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر خلف الفرائض والنوافل، قال المزني الذي قبل هذا عندي أَوْلَى بِهِ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا خَلْفَ الْفَرَائِضِ ". قال الماوردي: وهذا صحيح أما التكبير فسن لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ الْمُقِيمِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَالْمُسَافِرِ وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] . وإذا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لِلْكَافَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خَلْفَ الْفَرَائِضِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ تَوَارُثًا فِي الْأَمْصَارِ بين الأئمة، فمن قال تمهيدا لهم عما نَقْلِهِ الْمُزَنِيَّ مِنْ تَكْبِيرِهِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ إِلَى التَّكْبِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ، بَلِ النَّوَافِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ مُنْفَرِدًا فَلَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ. وَالثَّانِي: مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْخَسُوفَيْنِ فَهَذَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُكَبَّرُ خَل ْفَ صَلَ اةِ الْجِنَازَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُكَبَّرُ لِفِعْلِهِ فِي جَمَاعَةٍ. وَالثَّانِي: لَا يُكَبَّرُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَتَرَحُّمٌ فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يُكَبِّرْ خَلْفَهَا، وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَلَّاهَا فَائِتَةً قَضَاهَا، وَكَبَّرَ خَلْفَهَا، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ من سنة الوقت. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ فِي الْفِطْرِ بِأَنَّ الْهِلَالَ كَانَ بِالْأَمْسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لم يصلوا لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 عمل في وقت وإذا جاوزه لم يعمل في غيره كعرفة وقال في كتاب الصيام وأحب إن ذكر فيه شيئا وإن لم يكن ثابتا أن يعمل من الغد ومن بعد الغد (قال المزني) قوله الأول أولى به لأنه احتج فقال لو جاز أن يقضي كان بعد الظهر أجوز وإلى وقته أقرب (قال المزني) وهذا من قوله على صواب أحد قوليه عندي دليل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَصْبَحُوا صِيَامًا عَلَى الشَّكِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، لأن ذلك وقت للصلاة، ما لم تزول الشَّمْسُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُمَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ، وَفِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْغَدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُعَادُ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْفَوَاتِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُعَادُ مِنَ الْغَدِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ دائبة فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ، وَقَدْ رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَضَائِهَا مِنَ الْغَدِ، إِلَّا أَنَّ فِي الحديث اضطراب وَلَوْلَا اضْطِرَابُهُ لَأُعِيدَتِ الصَّلَاةُ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قوله أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِتَفَرُّقِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِهِمْ صُلِّيَتْ فِي الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا الْغَالِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ، أَنْ يُؤْتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ بِحَالٍ. (فَصْلٌ) : إِذَا كَانَ الْعِيدُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَعَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهَا، كَمَا قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءُ كَافَّةً، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْجُمْعَةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّ الْعِيدَ سُنَّةٌ وَالْجُمْعَةَ فَرْضٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَفِي سُقُوطِ الْجُمْعَةِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْمِصْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 والوجه الثاني: وهو نص الشافعي أنه سَقَطَتْ عَنْهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأهل العوالي: " وفي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلَيَنْصَرِفْ فإنا مُجَمِّعُونَ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ: أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ إِذَا انْصَرَفُوا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَوْدُ، لِبُعْدِ دَارِهِمْ وَلَا يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِقُرْبِ دَارِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 (باب صلاة خسوف الشمس والقمر) قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي أَيِ وَقْتٍ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَوَاءٌ وَيَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصل ت: 37] فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَرَدَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ حدوث معنى هاتين الآيتين، فأحتج إِلَى بَيَانٍ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاتِهِ عِنْدَ خُسُوفِهَا دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي اليوم الذي مات فيه إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَسَفَتْ بِمَوْتِهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ خَطَبَ وَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَر آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَيُّ وَقْتٍ خَسَفَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّى فِيهِ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمْعَةُ، لَا حَيْثُ تُصَلَّى الْأَعْيَادُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِتَجَلِّي الْخُسُوفِ إِذَا خَرَجَ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ نَادَى " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " بِلَا أَذَانٍ ولا إقامة والله تعالى أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يكبروا وَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بسورة البقرة إن كان يحفظها أو قدرها من القرآن إن كان لا يحفظها ثم يركع فيطيل ويجعل ركوعه قدر قراءة مائة آية من سورة البقرة ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ربنا لك الحمد ثم يقرأ بأم القرآن وقدر مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ما يلي ركوعه الأول ثم يرفع فيسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 سجدتين ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ بأم القرآن وقد مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بقدر سبعين آية من البقرة ثم يرفع فيقرأ بأم القرآن وقدر مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خمسين آية من البقرة ثم يرفع ثم يسجد وإن جاوز هذا أو قصر عنه فإذ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا رُكُوعَانِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة: رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غير ركوع زائد استدلالا براوية الحسن عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا قَالَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِيهِمَا بِرُكُوعٍ زَائِدٍ قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَلَا تَخْتَلِفُ فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا، فَكَانَ مَذْهَبُكُمْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِيهَا. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ وقام قياما طويلا وهو دون الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا دُونَ قِيَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ إِلَى آخِرِهِ وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وروي مثل ذلك جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ يُسَنُّ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى تُبَايِنُ بِهِ غَيْرَهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْمُخْتَصِّ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ. وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه. أحدهما: أَنَّ أَخْبَارَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَزْيَدُ وَأَكْثَرُ عَمَلًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ وَفِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، قَدْ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَخْبَارِنَا أَوْلَى لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الاستعمال فمن ثلاثة أوجه: أحدهما: اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّاوِي وَقَوْلِهِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ أَيْ: يَتَضَمَّنُهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِخِلَافِ الْجِنَازَةِ، وَقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ " كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا " يَعْنِي: مِنْ صَلَاةِ الْخُسُوفِ. وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَمْلُ مَا رُوِّينَاهُ عَلَى الْأَفْضَلِ وَالْمَسْنُونِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَثَلَاثًا لِيَدُلَّ عَلَى الْأَفْضَلِ. وَالثَّالِثُ: حَمْلُ رِوَايَتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخُسُوفَ تَجَلَّى سَرِيعًا وَلَمْ يَطُلْ، فَرَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ أَطَالَ فَرَكَعَ رُكُوعَيْنِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ رَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا ليدل على الجواز، والسنة، فالأولى أن يركع ركوعين في تطويل الخسوف وتجليه فالسنة في طويل الخسوف ركوعان وَفِي قَصِيرِهِ رُكُوعٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، لَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا رُكُوعٌ زَائِدٌ، فَيُقَالُ الصَّلَوَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي هَيْئَاتِهَا وأركانا، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، فَلِصَلَاةِ الْعِيدِ هَيْئَةٌ، وَلِصَلَاةِ الْخُسُوفِ هَيْئَةٌ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْطِلًا لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِتَغْيِيرِ هَيْئَاتِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصَّلَاةَ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، إِلَّا فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا فَوَاضِحُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَعْدَادِهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ أَرْكَانِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنَى يَقْتَضِي الِانْفِصَالَ عَنْهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتُهَا، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْإِحْرَامِ نَاوِيًا صَلَاةَ الْخُسُوفِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهَ وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا، أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطَالَ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، يُسَبِّحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 فِي رُكُوعِهِ وَلَا يَقْرَأُ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ قَبْلَهَا أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثَمَانِينَ آيَةً دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَكُونُ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مُكَبِّرًا، وَفِي الثَّانِي قَائِلًا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَعِيذُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ سَبْعِينَ آيَةً، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ؟ ثُمَّ يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ آيَةً يُسَبِّحُ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ، وَقَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِي بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي الثَّالِثِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي الرَّابِعِ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَيْفَ قَرَأَ أَجَزْأَهُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ جَازَ، وَلَوْ نَسِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى سَجَدَ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ إلى الثانية، وسجد للسهو، فلو أدركه مؤتمر فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَكْثَرُهَا، فَصَارَ بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي فَرْضٍ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ زَائِدٍ، فَإِنْ تَأَوَّلَ مَذْهَبَ أبي حنيفة فَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ سهَا وَكَانَ شَافِعِيًّا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ: وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو يوسف، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْطُبَ لَهَا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسُمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ ثُمَّ خَطَبَ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ سُنَّ لَهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ من شرطها الخطبة كالعيدين. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُسَرُّ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صلاة النهار واحتج بأن ابن عباس قال خسفت الشمس فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والناس معه فقام قياما طويلا قال نحوا من سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله " ووصف عن ابن عباس أنه قال كنت إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فما سمعت منه حرفا لأنه أسر ولو سمعه ما قدر قراءته وروي أن ابن عباس صلى في خسوف القمر ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب فخطبنا فقال إنما صليت كما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي قال وبلغنا عن عثمان أنه صلى في ركعة ركعتين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَلَاةُ كُسُوفِ الْقَمَرِ فَالْجَهْرُ فِيهَا مَسْنُونٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَأَمَّا صَلَاةُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد وَإِسْحَاقُ: يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ كَالْعِيدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُفْعَلُ مِثْلُهَا فِي اللَّيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهَا الْإِسْرَارُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لِخُسُوفِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهَا كَسُنَّةِ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِهَا. أَصْلُهُ: خُسُوفُ الْقَمَرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا خِلَافَهُ، عَلَى أَنَّنَا نَحْمِلُ قَوْلَهَا جَهَرَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُسَمَّى جَهْرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَسَرَّ مَنْ أَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا وَهُوَ أولى لشهادة الأصول له. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَاسْتِسْقَاءٌ وَجِنَازَةٌ بُدِئَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ الإمام أمر من يقوم به وَبُدِئَ بِالْخُسُوفِ ثُمَّ يُصَلّي الْعِيد ثُمَّ أُخِّرَ الاستسقاء إلى يوم آخر وإن خاف فوت العيد صلاها وخفف ثم خرج منها إلى صلاة الخسوف ثم يخطب للعيد وللخسوف ولا يضره أن يخطب بعد الزوال لهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 وإن كان في وقت الجمعة بدأ بصلاة الخسوف وخفف فقرأ في كل ركعة بأم القرآن وقل هو الله أحد وما أشبهها ثم يخطب للجمعة ويذكر فيها الخسوف ثم يصلي الجمعة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَجْتَمِعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ، وَاسْتِسْقَاءٌ، وَجِنَازَةٌ، فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الِاسْتِسْقَاءِ، لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِنْ حَضَرَتْ، لِتَأْكِيدِهَا، وَلِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا، مَعَ مَا يُخَافُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَالتَّأَذِّي بِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْخُسُوفَ، ثُمَّ الْعِيدَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ بَقَاءَ وقت للعيد مُتَيَقَّنٌ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَرُبَّمَا أَسْرَعَ تَجَلِّيهِ، فَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْعِيدِ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ لَمْ يُدْرِكْ صَلَاةَ الْعِيدِ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوَّلًا، ثُمَّ صَلَّى الْخُسُوفَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ فَوَاتَ الْعِيدِ مُتَيَقَّنٌ وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ مُجَوِّزٌ، فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِمَا يُتَيَقَّنُ فَوَاتُهُ أَوْلَى، فَإِذَا صَلَّى الْعِيدَ لَمْ يَخْطُبْ، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ، ثُمَّ خَطَبَ لَهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، لِأَنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ سُنَّةٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: تَصَوُّرُ الشَّافِعِيِّ اجْتِمَاعَ الْخُسُوفِ وَالْعِيدِ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعِيدَ إِمَّا أَنْ يكون في أول للشهر إِنْ كَانَ فِطْرًا، أَوْ فِي الْعَاشِرِ إِنْ كَانَ نَحْرًا، وَالْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ إِنْ كَانَ لِلشَّمْسِ، وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ إِنْ كَانَ لِلْقَمَرِ، فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُ الْخُسُوفِ والعيد. قيل عن هذا أجوبة. أحدهما: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ فِي هَذَا تَصْحِيحَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِإِيقَاعِ التَّفْرِيعِ فِي الْمَسَائِلِ لِيَتَّضِحَ الْمَعْنَى، وَيَتَّسِعَ الْفَهْمُ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْرِيِعِ الْمَسَائِلِ، حَتَّى قَالُوا فِي الْفَرَائِضِ مِائَةُ جَدَّةٍ وَخَمْسُونَ أُخْتًا، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا. جَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تكلم على ما يقتضيه قَوْلُ أَهْلِ النُّجُومِ الَّذِي لَا يُسَوِّغُ قَبُولَ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ فِي الْيَوْمِ الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ كَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ الشَّمْسُ خَسَفَتْ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ فيما ذكروا فقد ينقص عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُجُودِ أَشْرَاطِهَا، فَبَيَّنَ الْحُكْمَ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَجُمْعَةٌ وَضَاقَ وَقْتُ الْجَمِيعِ بَدَأَ بِالْعِيدِ أَوَّلًا، لِتَعْجِيلِ فَوَاتِهِ، ثُمَّ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ الْخُسُوفِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فَلَوْ تَعَجَّلَ وَقْتَ الْخُسُوفِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ لَهُ وَلَمْ يَخْطُبْ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ وَالْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ والعيد، ثم صلى الجمعة. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَسَفَ الْقَمَرُ صَلَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنْ خَسَفَ بِهِ فِي وَقْتِ قُنُوتٍ بَدَأَ بِالْخُسُوفِ قَبْلَ الوتر وقبل ركعتي الفجر وإن فاتتا لأنهما صَلَاةُ انْفِرَادٍ وَيَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الْخُسُوفِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ والتقرب إلى الله عز وجل ويصلي حيث يصلي الجمعة لا حيث يصلي الْأَعْيَادَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، السُّنَّةُ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ أَنْ يُصَلِّي لَهَا جَمَاعَةً كَخُسُوفِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يُصَلِّي النَّاسُ أَفْرَادًا، لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ جَمَاعَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ " وَأَشَارَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَتْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) {فصلت: 37) . وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِكُسُوفِ الْقَمَرِ في جماعة، ثم ركب بعيره وخطب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَمْ أَبْتَدِعْ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدَعَةً، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ خُسُوفٌ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهَا الْجَمَاعَةُ كَخُسُوفِ الشَّمْسِ، ولأنهما صلاتان يتجانسان، فَإِذَا سُنَّ الْإِجْمَاعُ لِأَحَدِهِمَا سُنَّ لِلْأُخْرَى كَالْعِيدَيْنِ، وَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَيُخْطَبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا يُخْطَبُ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن لم يصل حتى تغيب كَاسِفَةً أَوْ مُنْجَلِيَةً أَوْ خَسَفَ الْقَمَرُ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَجَلَّى أَوْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لِلْخُسُوفِ فَإِنْ غَابَ خَاسِفًا صَلَّى لِلْخُسُوفِ بعد الصبح ما لم تطلع الشمس ويخفف للفراغ قبل طلوع الشَّمْسُ فَإِنْ طَلَعَتْ أَوْ أَحْرَمَ فَتَجَلَّتْ أَتَمُّوهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ حَتَّى غَرَبَتْ لَمْ يُصَلِّ لَهَا لِفَقْدِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَهَابِ زَمَانِ الشَّمْسِ وَسُلْطَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ زَمَانُهَا لَكِنْ لم يصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 لَهَا حَتَّى تَجَلَّتْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لَهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَإِنْ تَجَلَّى عَنْ بَعْضِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا صَلَّى لِمَا بَقِيَ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لَهُ حَتَّى غَابَ كَاسِفًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أحوال: أحدهما: أَنْ يَغِيبَ كَاسِفًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَهَذَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ سُلْطَانِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ لَا بِبَقَاءِ الطُّلُوعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ خَاسِفًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لَهُ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخُسُوفُ مَوْجُودًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ بِذَهَابِ نُورِ الْقَمَرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا أَوْ غَائِبًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى يَغِيبَ كَاسِفًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فَلَمَّا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ إِذَا تَقَضَّى النَّهَارُ، لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ إِذَا تَقَضَّى اللَّيْلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إنَّهُ يُصَلِّي لَهُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، لِبَقَاءِ سُلْطَانِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِضَوْئِهِ، وَخَالَفَ الشَّمْسَ الَّذِي يَذْهَبُ ضَوْءُهَا بِدُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَوْ لَمْ يَغِبِ الْقَمَرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ عَلَى كُسُوفِهِ فَفِي الصَّلَاةِ لَهُ قَوْلَانِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ غَابَ خَاسِفًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ فَتَجَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ، أَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ الصَّلَاةَ ولا تبطل بفوات الوقت. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فأن جللها سحاب أو حائل فهي على الخسوف حتى يستيقن تجلى جميعها وإذا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوتَ أَحَدِهِمَا بَدَأَ بِالَّذِي يخاف فوته ثم رجع إلى الآخر وإن لم يقرأ في كل ركعة من الخسوف إلا بأم القرآن أجزأه ولا يجوز عندي تركها لمسافر ولا لمقيم بإمام ومنفردين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَيَقَّنَ الْخُسُوفَ ثُمَّ جَلَّلَهُ سَحَابٌ أَوْ حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ يمنع من النظر إليه فلو يعلم هل تجلى أمر لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْخُسُوفِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ تَجَلِّيهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا غَيْرَ كَاسِفٍ فَغَابَ ضَوْءُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ لِكُسُوفِهِ أَوْ حَائِلٍ تَجَلَّلَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُصَلِّ لَهُ، لِأَنَّ الأصل أنه غير كاسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوَاتَ أَحَدِهِمَا، بَدَأَ بِالَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْآخَرِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ. وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ سُنَّةٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى، لِتَعَلُّقِهَا بِآيَةٍ عَامَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ، فَإِنْ صَلَّاهَا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ صَلَّاهَا الرِّجَالُ فُرَادَى لَمْ يُخْطَبْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لِلْغَيْرِ ". (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا آمُرُ بصلاة فِي سِوَاهِمَا وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ لِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ سِوَى خُسُوفِ الشَّمْسِ وَكُسُوفِ الْقَمَرِ، فَأَمَّا الزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ وَانْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ فَلَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ في جماعة لا فُرَادَى. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَيُصَلَّى جَمَاعَةً فِي كُلِّ آيَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُصَلَّى فُرَادَى. وَمَذْهَبُنَا أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَاتٌ، مِنْهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَالزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ، فَلَمْ يُصَلِّ لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ اصْفَرَّ لَوْنُهُ " وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيَاحَ رَحْمَةً وَالرِّيحَ نِقْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) {الروم: 46) فَكَانَتْ رَحْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) {الأحزاب: 9) فَكَانَتْ نِقْمَةً، فَإِنْ تَنَفَّلَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ جَازَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ صَلَّى جَمَاعَةً فِي زَلْزَلَةٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا بِهِ، وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْنَا بِهِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي الزَّلْزَلَةِ. وَالثَّانِي: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 (باب صلاة الاستسقاء) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ويستسقي الإمام حيث يصلي العيد ويخرج متنظفا بِالْمَاءِ وَمَا يَقْطَعُ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ مِنْ سِوَاكٍ وغيره في ثياب تواضع وفي استكانة وما أحببته للإمام من هذا أحببته للناس كافة ويروى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه خرج في الجمعة والعيدين بأحسن هيئة وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج في الاستسقاء متواضعا وقال أحسب الذي رواه مبتذلا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) {الشورى: 42) وقال تعالى: {وإذا استسقى موسى لقومه فقلت اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) {البقرة: 60) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ) {الأعراف: 160) فَقَدْ قِيلَ إِنَّ الِانْبِجَاسَ أَضْيَقُ من الانفجار وقال تعالى: {استغفر ربكم إنه كان غفارا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11] وَرُوِيَ أَجْدَبُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَجْدَبُوا فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَسُقُوا، فَلَوْ سَأَلْتُمْ صَاحِبَكُمْ فَدَعَا لَكُمْ اسْتُجِيبَ لَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَكَ تَرَى الْجَدْبَ وَمَا نَزَلَ بِنَا، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَا إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ السَّنَةَ يَعْنِي الْجَدْبَ لِأَنْ أَسْتَنْصِرَ بِهِ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ، فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ فَسَأَفْعَلُ فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسُقُوا كَأَفْوَاهِ الْعَزَالِي وَرَوَى شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ لِلْجُمْعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى رَءُوسِ الْجِبَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ فَانْجَابَ كانجباب الثَّوْبِ وَرَوَى أَبُو مُسْلِمٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَثِبُ وَلَا صَبِيٌّ يَصِيحُ ثُمَّ أنشد: (أتيناك والعذر يَدْمَى لَبَانُهَا ... وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنِ الطِّفْلِ) (وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا ... سِوَى الْحَنْظَلِ الْعَامِيِّ وَالْعِلْهِزِ الْغَسْلِ) (وَلَيْسَ لَنَا إلا إليك قرارنا ... وأي قرار النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسْلِ) فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجر رداء حَتَى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، سَحًّا طَبَقًا غَيْرَ رَائِثٍ تُنْبِتُ بِهِ الزَّرْعَ، وَتَمْلَأُ بِهِ الضَّرْعَ، وَتُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ فَمَا اسْتَتَمَّ الدُّعَاءُ حَتَى أَلْقَتِ السَّمَاءُ بِأَبْرَاقِهَا فَجَاءَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْغَرَقُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ، وَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ، مَنِ الَّذِي يُنْشِدُنَا شِعْرَهُ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ أَرَدْتَ قوله: (وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل) (يَلُوذُ بِهِ الْهلال مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ) (كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ يبزي مُحَمَّدَا ... وَلَمَّا نُقَاتِلْ دُوْنَهُ وَنُنَاضِلِ) (وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نصرع حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ) فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَأَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك: (لله الحمد والحمد من شكرٍ ... سُقِينَا بِوَجْهِ النَّبِيِّ الْمَطَرْ) (دَعَا اللَّهَ خَالِقَهُ دَعْوَةً ... وَأَشْخَصَ مَعْهَا إِلَيْهِ الْبَصَرْ) (فَلَمْ يك إلا كإلغاء الرواء ... وَأَسْرَعَ حَتَّى رَأَيْنَا الدُّرَرْ) (رِقَاقُ الْعَوَالِي جَمُّ العنان ... أَغَاثَ بِهِ اللَّهُ عُلْيَا مُضَرْ) (وَكَانَ كَمَا قَالَهُ عَمُّهُ ... أَبُو طَالِبٍ أَبْيَضُ ذُو غُرَرْ) (بِهِ اللَّهُ يَسْقِي صَوْبَ الْغَمَامِ ... وَهَذَا الْعِيَانُ لذاك الخبر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ يَكُنْ شَاعِرا يُحْسِنُ فَقَدْ أَحْسَنْتَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبْرِ رِجَالِهِ فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عَمِّهِ، فَقَدْ دَنَوْنَا إِلَيْكَ مُسْتَعْفِينَ إِلَيْكَ وَمُسْتَغْفِرِينَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَيْنَاهُ تَنْضُجَانِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّاعِي لَا تُهْمِلِ الضَّالَّةَ، فُقِدَ الضَّرْعُ الصَّغِيرُ وَدَقَّ الْكَبِيرُ، وَارْتَفَعَتِ الشَّكْوَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُمَّ فَأَغِثْهُمْ بِغِيَاثِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْنَطُوا فَيَهْلِكُوا فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، قَالَ فَنَشَأَتِ السَّحَابُ وَهَطَلَتِ السَّمَاءُ فَطَبَّقَ النَّاسُ بِالْعَبَّاسِ يَمْسَحُونَ أَرْكَانَهُ وَيَقُولُونَ هَنِيئًا لَكَ سَاقِيَ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: (سَأَلَ الْإِمَامُ وَقَدْ تَتَابَعَ جَدْبُنَا ... فَسَقَى الْإِمَامَ بِغُرَّةِ الْعَبَّاسِ) (عَمِّ النَّبِيِّ وَصِنْوِ وَالِدِهِ الَّذِي ... وَرِثَ النَّبِيَّ بذاك دون الناس) (أحيي الْإِلَهُ بِهِ الْبِلَادَ فَأَصْبَحَتْ ... مُخْضَرَّةَ الْأَجْنَابِ بَعْدَ الْيَأسِ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا كَانَ الْجَدْبُ وَمُنِعَ النَّاسُ الْقَطْرَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِلَى الجبانة، وَحَيْثُ يُصَلِّي لِلْأَعْيَادِ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاقْتِدَاءً بِخُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَأَوْفَقُ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِالْمَاءِ، وَيَسْتَاكَ، وَيَقْطَعَ تَغْيِيرَ الرَّائِحَةِ عَنْ بَدَنِهِ، ويَخْرُجُ مُبْتَذَلًا فِي ثِيَابِ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ نظاف غير جددا، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْرُجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اعْتِذَارٍ وَتَنَصُّلٍ وَسُؤَالٍ وَاسْتِغَاثَةٍ وَتَرَحُّمٍ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّعْظِيمِ فِي تَحْسِينِ الْهَيْئَةِ، وَخَالَفَ الْعِيدُ لِأَنَّهُ يوم سرود وَزِينَةٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذا اخْتَرْنَاهُ للناس كافة. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن تخرج الصبيان ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا مِنْهُنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ لَوْلَا مَشَايُخُ رُكعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا " وَلِأَنَّ الصِّبْيَانَ أَحَقُّ بِالرَّحْمَةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِجَابَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الدَّعْوَةِ، وَقِلَّةِ ذُنُوبِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي لِقَوْمِهِ فَمَا أُسْقِيَ، فَقَالَ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَلْيَرْجِعْ فَانْصَرَفُوا كُلُّهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، فَالْتَفَتَ فَرَآهُ أَعْوَرَ، فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلِي، قَالَ قَدْ سَمِعْتُ وَإِنَّهُ لَا ذنب لي إلا واحد، نَظَرْتُ إِلَى امْرَأَةٍ فَقَلَعَتْ عَيْنِي هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى به فسقي. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَلَا آمُرُ بِإِخْرَاجِ الْبَهَائِمِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ: إِخْرَاجُهُمْ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِإِخْرَاجِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَتَأَذَّى بِالْجَدْبِ فَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً قد وقعت على ظهرها، فرفعت يدها وهو تَقُولُ اللَّهُمَّ نَحْنُ مِنْ خَلْقِكَ فَارْزُقْنَا أَوْ أهلكنا، فسقوا فقال للقوم ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ بِغَيْرِكُمْ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى تَرْكُ الْبَهَائِمِ، وَإِخْرَاجُهَا مَكْرُوهٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ غير أهل التكليف. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره إخراج من يخالف الْإِسْلَامَ لِلِاسْتِسْقَاءِ فِي مَوْضِعِ مُسْتَسْقَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجُوا مُتَمَيِّزِينَ لَمْ أَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهْنَا إِخْرَاجَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الذي آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) وفي إخراجهم معنا رضى به وتولي لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ عُصَاةٌ لَا يُرْجَى لَهُمْ إِجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ، وَرُبَّمَا رُدَّتْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبُ رِزْقٍ وَرَجَاءُ فَضْلٍ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ فِي يَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يخرج فيه المسلمون، لأن لا تَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُضَاهَاةُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ خَرَجُوا فِيهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَهُمْ وَمِنْهُمْ من تركهم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْمُرُ الْإِمَامُ النَّاسَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا مِنَ الْمَظَالِمِ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِلَى أَوْسَعِ مَا يَجِدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِسْقَاءَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِمَّا صِيَامًا وَهُوَ أَوْلَى، وَإِمَّا مُفْطِرِينَ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 أَعْمَالِ الْقُرْبِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وأنا أجازي به} ، لأن الصَّوْمَ مَعُونَةٌ عَلَى رِيَاضَةِ النَّفْسِ وَخُشُوعِ الْقَلْبِ وَالتَّذَلُّلِ لِلطَّاعَةِ، وَالدُّعَاءُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ ". فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا مَنَعْتُمُوهُ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الرَّابِعِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنْ صِيَامِ عَرَفَةَ، قُلْنَا: لِأَنَّ دُعَاءَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي آخِرِهِ، فَرُبَّمَا أَضْعَفَ الصِّيَامُ عَنِ الدُّعَاءِ فِيهِ، وَدُعَاءُ هَذَا الْيَوْمِ فِي أَوَّلِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي إِضْعَافِهِ، وَيَأْمُرُهُمُ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَالْمُشَاجِرِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَالتَّطَوُّعِ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حَصِّنُوا أَمْوَالكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بالصدقة ". (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنَادِي " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ سَوَاءً وَيَجْهَرُ فيهما وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كانوا يجهرون بالقراءة في الاستسقاء ويصلون قبل الخطبة ويكبرون في الاستسقاء سبعا وخمسا عن عثمان بن عفان أنه كبر سبعا وخمسا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يكبر مثل صلاة العيدين سبعا وخمسا ". قال الماوردي: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ قَافْ، وَيُكَبِّرُ فِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ، فَإِنْ صَلَّى كَانَتْ نَافِلَةً، يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَاسْتَقْبَلَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَاسْتَسْقَى، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ، وَرَوَى أَصْحَابُنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ لَهُ الْإِجْمَاعُ وَالْبِرَازُ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَا يُعَارَضُ بِمَا رَوَيْنَاهُ، لِأَنَّنَا نُجَوِّزُهُ وَنَسْتَعْمِلُ أَحَادِيثَنَا عَلَى فِعْلِ الْأَفْضَلِ، وَالْمَسْنُونِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لِزِيَادَتِهَا وَكَثْرَةِ رُوَاتِهَا، وَمُعَاضَدَةِ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم لها. (فصل: القول في وقت صلاة الاستسقاء) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ كَوَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الصِّفَةِ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِهَا أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ الْعِيدِ، لِاسْتِوَاءِ الْوَقْتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ، نَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْتُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدْفَعُ قَوْلَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ نُوحٍ كَانَ حَسَنًا، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَنُزُولِ الغَيْثٍ، فَلَوْ قَرَأَ بِغَيْرِ ما ذكرنا، أو اقتصر على الفاتحة، أو زاد في التكبير، أو نقص منه جاز، لا سجود للسهو عليه. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يخطب الْخُطْبَةَ الْأُولَى ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ يقصر الخطبة الآخرة مستقبل الناس في الخطبتين ويكثر فيهما الاستغفار ويقول كثيرا {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} ثم يحول وجهه إلى القبلة ويحول رداءه فيجعل طرفه الأسفل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن وطرفه الأسفل الذي على شقه الأيمن على عاتقه الأيسر وإن حوله ولم ينكسه أجزأه وإن كان عليه ساج جعل ما على عاتقه الأيسر على عاتقه الأيمن وما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ويفعل الناس مثل ذلك وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كانت عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها (قال) ويدعو سرا ويدعو الناس معه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ مَسْنُونَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ مِثْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ سَلَّمَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَجْلِسُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ يَبْتَدِئُ الْخُطْبَةَ الْأُولَى بِالِاسْتِغْفَارِ، وَيَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تِسْعًا نَسَقًا، بَدَلًا مِنَ التَّكْبِيرِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويقول {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 11، 12] وَيُبَالِغُ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ، وَالتَّخْوِيفِ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَالِفِ أَيَادِيهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ، وَيَسْتَغْفِرُ فِي ابْتِدَائِهَا سَبْعًا نَسَقًا، وَيَدْعُو جَهْرًا، ثُمَّ يَسْتَدْبِرُ النَّاسَ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سِرًّا، وَيَجْهَرُ فِي اسْتِقْبَالِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ خَاطِبٌ، وَيُسِرُّ فِي اسْتِدْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ دَاعٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الجهر والإسرار أولى. (فَصْلٌ) : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ وَيُنَكِّسَهُ، وَتَحْوِيلُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَمَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَتَنْكِيسُهُ: أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ فَحَوَّلَهَا، فَثَبَتَ عَنْهُ التَّحْوِيلُ، وَنَبَّهَ عَلَى التَّنْكِيسِ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، وَلِأَنَّ فِي التَّحْوِيلِ تَفَاؤُلٌ بِالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مَنْ حال القحط إلى حال السعة والخصب. قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِمْ " اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ فَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قارفنا وإجابتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 إِيَّانَا فِي سُقْيَانَا وَسَعَةِ رِزْقِنَا " ثُمَّ يَدْعُو بما يشاء من دين ودنيا ويبدءون ويبدأ الإمام بالاستغفار ويفصل به كلام ويختم به ثم يقبل على الناس بوجهه فيحضهم على طاعة ربهم ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويقرأ آية أو آيتين ويقول أستغفر الله لي ولكم ثم ينزل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى فَكَانَ أَكْثَرَ دُعَائِهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يُبْطِئُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُهُ، فَقِيلَ لَهُ وَمَا مَفَاتِيحُهُ فَقَالَ الِاسْتِغْفَارُ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنَّهُ اسْتَسْقَى فَقَالَ: (رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَا ... قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا) (أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لا أبالكا) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ مَعْنَاهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا أَبَا لَكَ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظَةِ جَفَاءٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ صَحِيحٌ، فإذا فرغ من الدعاء استقبل الناس وأتى بباقي الْخُطْبَةِ ثُمَّ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَاءِ وَتَحْوِيلِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى نَزَعُوهَا مَتَى نَزَعَهَا، وَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ عَقِيبَ دُعَائِهِ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} يونس: 89) وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) {الأنبياء: 88) وَمَا أَشبه ذلك من الآيات تفاؤلا لإجابة الدعوة. (فصل) : (قال الشافعي) فإن سقاهم الله وَإِلَّا عَادُوا مِنَ الْغَدِ لِلصَّلَاةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يسقيهم الله (قال) وإذا حولوا أرديتهم أقروها محولة كما هي حتى ينزعوها متى نزعوها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَسَنٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ نَاحِيَةً جَدْبَةً وَأُخْرَى خِصْبَةً فَحَسَنٌ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَهْلُ الْخِصْبَةِ لِأَهْلِ الْجَدْبَةِ وَلْلِمُسْلِمِينَ ويسأل اللَّهَ الزِّيَادَةَ لِلْمُخْصِبِينَ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " المسلمون تتكافأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " وَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَتَحْفَظُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْخِصْبَةِ أَنْ يَسْتَسْقُوا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْجَدْبَةِ، رَجَاءً لِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ، ورفع الضرر عن أحوالهم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَسْقِي حَيْثُ لَا يُجَمَّعُ مِنْ بَادِيَةٍ وَقَرْيَةٍ ويفعله المسافرون لأنه سنة وليس بإحالة فرض ويفعلون ما يفعل أهل الأمصار من صلاة وخطبة ويجزئ أن يستسقي الإمام بغير صلاة وخلف صلواته ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَالْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْحَاضِرِ وَالْبَادِي، لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِهِمْ فِي الْإِضْرَارِ بِامْتِنَاعِ الْقَطْرِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ، وَلَا مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءَ وَالْبِقَاعُ فِيهِ سَوَاءً، وَيُخْتَارُ لِلْإِمَامِ إِذَا رَأَى مِنَ النَّاسِ كَسَلًا وَافْتِرَاقًا وَقِلَّةَ رَغْبَةٍ فِي الْخُرُوجِ أَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَسْقِي وَحْدَهُ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ الدُّعَاءُ وَالِابْتِهَالُ، فَلَوِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَجْزَأَهُ، قَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ وَدَعَا فَسُقِيَ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ جَدْبٌ أَوْ قِلَّةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ فِي حَاضِرٍ أَوْ بَادٍ لَمْ أُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَرَكَ السُّنَّةَ، فَجَعَلَ قِلَّةَ مَاءِ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ كَامْتِنَاعِ الْقَطْرِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلُحَ الْمَاءُ فَمُنِعَ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ اسْتَسْقَى لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَجْلِ الضَّرَرِ بِهِ وَخَوْفِ الْجَدْبِ مِنْهُ. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِذَا تَهَيَّأَ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ فَمُطِرُوا مَطَرًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَحْبَبْتُ أَنْ يَمْضِيَ النَّاسُ حَتَّى يَشْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سُقِيَاهُ، ويسألونه الزِّيَادَةَ مِنَ الْغَيْثِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، وَلَا يَتَخَلَّفُوا وَيُصَلُّوا كَمَا يُصَلُّونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنْ كَانُوا يُمْطَرُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِمُ الْخُرُوجَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَأَخَّرُوا الْخُرُوجَ لِلشُّكْرِ إِلَى أَنْ يُقْلِعَ الْمَطَرُ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ فَسُقُوا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا اسْتَسْقَى وَأُجِيبُ لَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا خَافُوا الْغَرَقَ مِنْ سَيْلٍ أَوْ نَهْرٍ، أَوْ خَافُوا انْهِدَامَ الدُّورِ دَعَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُفَّ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْمَطَرَ عَمَّا يَضُرُّ إِلَى مَا يَنْفَعُ من رؤوس الجبال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَالْآكَامِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ بِكَفِّ الْمَطَرِ عَنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ " وَقَالَ: حَوَالَيْنَا يَعْنِي: الْجِبَالَ وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ، حَيْثُ يَنْفَعُ فِيهِ دَوَامُ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِثْلَ تَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَضِيقِ الْمَكَاسِبِ، فَيَنْبَغِي لهم أن يدعو اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكَشْفِهَا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُفْتَرِقِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ألظوا فِي الدُّعَاءِ بِيَاذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَسْقَى وَحْدَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ لَوْ خَرَجَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ الِاسْتِسْقَاءَ وَيَخْطُبَ صَلَّى وَخَطَبَ جَالِسًا ". لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقِيَامُ لِلْخُطْبَةِ، وَلَا فِي رُكُوبِ الْمِنْبَرِ بِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَالِسًا وَسَقَطَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ خَطَبَ أَجْزَأَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فَسُقِيَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَفِّيَ بِنَذْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَيَخْرُجُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي بَيْتِهِ، فَلَوْ خَرَجَ وَالنَّاسُ مَعَهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ إِلَّا بِالْخُطْبَةِ قَائِمًا " لِأَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا كَانَ مَعَهُ نَاسٌ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا، وَلَوْ خَطَبَ رَاكِبًا لِبَعِيرٍ جَازَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 (باب الدعاء في الاستسقاء) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ رَبَاحٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا استسقى قال " اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ وَلَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا مَحْقَ وَلَا بَلَاءَ وَلَا هَدْمَ وَلَا غَرَقَ اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ " اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا هَنِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا عَامَّا طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السماء وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ اللَّهُمَّ إِنَا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا " وَأُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا كُلَّهُ وَلَا وَقْتَ فِي الدُّعَاءِ لَا يُجَاوِزَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْقُولٌ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ وَلَا التَّقْصِيرُ عَنْهُ، وَبِمَا دَعَا جَازَ. (فَصْلٌ) : حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَسْقِي فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أَمْطِرْنَا، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لِلْعَذَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) {الشعراء: 137) وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَمَدَّ يَدَيْهِ بَسْطًا اللَّهُمَّ أمطرنا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ: " أَتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وجل؟ " قال اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَقُولُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا في دركم مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النَّوْءَ هُوَ الْمَطَرُ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ، وَالنَّوْءُ: هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَغْرِبِ وَيَطْلُعُ مَكَانَهُ فِي الْمَشْرِقِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ: الْعَبْدُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يُمْطَرُ وَلَا يُفْعَلُ إِلَّا بالله سبحانه، وأما من قال مطرنا ينوء كَذَا عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَطَرِ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَاطِرُ فَهَذَا كَافِرٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ أَوْ نَجْمٌ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ ضَرَرٍ أَوْ نَفْعٍ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يَعْنِي: أَنَّا مُطِرْنَا فِي وَقْتِ نَوْءِ كَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ كُفْرًا، كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْعَادَةَ أَنَّ يُمْطَرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَنْشَأَتْ نَجْدِيَّةٌ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ شَامِيَّةً فَذَلِكَ عَيْنٌ عَذِيقَةٌ " يَعْنِي فِيمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَادَةِ. (فَصْلٌ) : يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يَسْتَمْطِرُوا الْغَيْثَ أَوَّلَ نُزُولِهِ فَيَبْرُزُونَ لَهُ حَتَّى يُصِيبَ ثِيَابَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْزِعُ ثِيَابَهُ فِي أَوَّلِ مَطْرَةِ، إِلَّا الإزار يئتزر بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَتَهُ بِإِخْرَاجِ رَحْلِهِ إِلَى الْمَطَرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " تَوَقَّعُوا الْإِجَابَةَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ، وَكَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرَّعْدِ، وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَاكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، فَيُخْتَارُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 (باب الحكم في تارك الصلاة متعمدا) قال الشافعي رضي الله عنه: " يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بلا عذر لا يصليها غيرك فَإِنْ صَلَّيْتَ وَإِلَّا اسْتَتَبْنَاكَ فَإِنْ تُبْتَ وَإِلَّا قتلناك كما يكفر فنقول إن آمنت وإلا قتلناك وقد قيل يستتاب ثلاثا فإن صلى فيها وإلا قتل وذلك حسن إن شاء الله (قال المزني) قد قال في المرتد إن لم يتب قتل ولم ينتظر به ثَلَاثًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من ترك دينه فاضربوا عنقه " وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان فله حكمه في قياس قوله لأنه عنده مثله ولا ينتظر به ثلاثا ". قال الماوردي: وهذا كَمَا قَالَ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا كَانَ كَافِرًا، وَأجْرى عَلَيْهِ حُكْم الرِّدَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، قِيلَ لَهُ لِمَ لَا تُصَلِّي؟ فَإِنْ قَالَ أَنَا مَرِيضٌ قِيلَ لَهُ صَلِّ كَيْفَ أَمْكَنَكَ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَمَّنْ عَقَلَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ مَرِيضًا وَلَكِنْ نَسِيتُهَا قِيلَ لَهُ صَلِّهَا فِي الْحَالِ فَقَدْ ذَكَرْتَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ أُصَلِّيهَا كَسَلًا وَلَا أَفْعَلُهَا تَوَانِيًا فَهَذَا هُوَ التَّارِكُ لَهَا غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَأَجَابَ إِلَى فِعْلِهَا تُرِكَ، فَلَوْ قَالَ أَنَا أَفْعَلُهَا فِي مَنْزِلِي وُكِّلَ إِلَى أَمَانَتِهِ، وَرُدَّ إِلَى دِيَانَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ فِعْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ وَقَتْلَهُ وَاجِبٌ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَالْمُزَنِيِّ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، لَكِنْ يضرب عند صلاة كل فريضة أدبا وتعزيزا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه أنه كان كَافِر كَالْجَاحِدِ، تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أبو حنيفة وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَالُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَهَذَا قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَمُهُ مَحْقُونًا، وَأَيْضًا وَمَا رَوَاهُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ " وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ فَوَجَبَ أن يكون محقون الدَّمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالصَّوْمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِتَرْكِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِبَاحَةِ دَمِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ شَرْطَيْنِ: التَّوْبَةُ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ التَّوْبَةُ دُونَ الصَّلَاةِ كَانَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ بَاقِيًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ " فَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا سَبَبًا لِحَقْنِ دَمِهِ كَانَ تَرْكُهَا سَبَبًا لِإِرَاقَتِهِ "، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الإسلام الذي لا يدخله النيابة ببدل وَلَا مَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِيمَانَ يَشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى، فَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ فَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى إِيمَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ، وَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِيمَانُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ لا يلزمه الصيام إذا كان شيخا هما، وَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ مَا لَا يَقَعُ إِلَّا طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ يشتمل على أوامر ونواهي، فَلَمَّا قُتِلَ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ اقْتَضَى أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ " إِلَّا بِحَقِّهَا " وَالصَّلَاةُ مِنْ حَقِّهَا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزكاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي وَقَوْلِهِ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ " فَأَبَاحَ دَمَهُ بِالْكُفْرِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَحْكَامُ الْكُفْرِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ على الصوم والعيادات فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَاسْتِيفَاءَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْإِيمَانِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِثْبَاتِ كُفْرِهِ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ أن الشرع يشتمل على أوامر ونواهي، فَلَمَّا لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ، لَمْ يَكْفُرْ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا بِتَرْكِهَا لَكَانَ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا لَمْ يكن كافرا بتركها. فأما الجوال عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ، كَمَا قَالَ: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ إِسْلَامُهُ وَتَقَرَّرَ وُجُوبُ قَتْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي زَمَانِ وَجُوبِهِ. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ قَتْلِهِ. فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي زَمَانِ وُجُوبِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَصْحَابِنَا: أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَدَخَلَ وَقْتُ الْأُخْرَى وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ وَدَخَلَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ، وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَهَلْ يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ أَمْ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا قُتِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يقتل لصلاة الوقت إذا ضاق يعلم فَوَاتُهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا لَمْ يُقْتَلْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 فَصْلٌ وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ صَبْرًا بِضَرْبِ الْعُنُقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ طَمَعًا فِي عَوْدِهِ، ثُمَّ إِذَا أُرِيدَ قَتْلُهُ فَهَلْ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ أَوْ يُنْتَظَرُ ثَلَاثًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِذَا قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الجنائز باب إغماض الميت قال الشافعي رضي الله عنه " أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنْ يَتَوَلَّى أَرْفَقُهُمْ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ بِأَسْهَلِ مَا يقدر عليه وأن يشد لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه لئلا يسترخي لحيه الأسفل فينفتح فوه فلا ينطبق ويرد ذراعيه حتى يلصقهما ثم يمدهما بعضديه أو يردهما إلى فخذيه ويفعل ذلك بمفاصل ركبتيه ويرد فخذيه إلى بطنه ثم يمدهما ويلين أصابعه حتى يتباقى لينه على غاسله ويخلع عنه ثيابه ويجعل على بطنه سيف أو حديد ويسجى بثوب بغطي به جميع جسده ويجعل على لوح أو سرير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَوْتَ حَتْمًا عَلَى عِبَادِهِ، وَمَصِيرًا لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، خَتَمَ بِهِ أَعْمَالَ الدُّنْيَا، وَافْتَتَحَ بِهِ جَزَاءَ الْآخِرَةِ، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَصَاهُ {لِيَجْزِيَ الّذينَ أسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِين أحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) {النجم: 31) فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُقِرُّ بِالْمَوْتِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ، وَلِمَنِ اعْتَرَفَ بِالْآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلَ لَهَا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقاَلَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) {الزلزلة: 7، 8) . وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ عَزَ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، فقد استحى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " وَيَخْتَارُ الْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وثوابها يُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " عائد المريض في محرف من محارف الْخَيْرِ إِلَى أَنْ يَعُودَ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " ما عَادَ مَرِيضًا شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ ملكٍ إِلَى أَنْ يَعُودَ ". وَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَجَابِرًا وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ لِعِيَادَتِهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَلَا يَخُصَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ وَلَا صَدِيقًا مِنْ عَدُوٍّ، ليحرز بِهَا ثَوَابَ جَمِيعِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِيَادَةُ غِبًّا، وَلَا يُوَاصِلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَغِبُّوا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ أَوْ أَرْبِعُوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا " وَيُكْرَهُ إِطَالَةُ الْعِيَادَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِضْجَارِ الْمَرِيضِ، فَإِنْ رَأَى في المريض إمارات الصحة وعلامات البرء دعاء لَهُ بِتَعْجِيلِ الْعَافِيَةِ، لِتَقْوَى بِذَلِكَ نَفْسُهُ، فَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَوَعَدَهُ بِالْعَافِيَةِ وَالْعُمْرِ وَإِنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ رَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ ذَكَّرَهُ الْوَصِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَثَّهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ بِالرِّفْقِ وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ ثُمَّ يُعَجِّلُ الِانْصِرَافَ فَإِذَا قَارَبَ أَنْ يَقْضِيَ حَضَرَهُ أَقْوَى أَهْلِهِ نَفْسًا، وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا، وَلَقَّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إِضْجَارٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " ثُمَّ يُوَجِّهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَتَكُونُ رِجْلَاهُ فِي الْقِبْلَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُضْجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا مَاتَ تَوَلَّى مِنْهُ سَبْعَ خِصَالٍ: أَوَّلُهَا: إِغْمَاضُ عَيْنَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْمَضَ عَيْنَ ابْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَقَالَ إِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي جَمَالِ عِشْرَتِهِ، ولأن لا يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ وَأَوَّلُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُطَبِّقَ فَاهُ وَيَشُدَّ لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه، لأن لا يَفْتَحَ فَاهُ فَيَقْبُحَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، ولأن لا يَلِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 وَالثَّالِثُ: أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَعَضُدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَفَخِذَيْهِ فَيَمُدَّهَا وَيَرُدَّهَا مَنْ لَهُ رِفْقٌ وسهولة لئلا تجسو فتقح، وَلِأَنْ تَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْلَعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا جَمَرَ فِيهَا فَتُغَيَّرُ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ وَمَوْضِعٍ مرتفع من لوح أو سرير، لأن لا تُسْرِعَ إِلَيْهِ عُفُونَةُ الْأَرْضِ وَيَبْعُدَ عَنِ الْهَوَامِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يُسَجَّى بِثَوْبٍ يُغَطَّى بِهِ جَمِيعُ بَدَنِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُجِّيَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لِجَسَدِهِ، وَأَبْلَغُ فِي كَرَامَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ مَا فَضَلَ مِنْ طَرَفَيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِكَيْ لَا يَنْكَشِفَ عَنْهُ إِنْ هَبَّتْ رِيحٌ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ حَدِيدَةٌ أو طين مبلول؛ لأن لا يَرْبُوَ فَيُنْفَخَ بَطْنُهُ فَيُقَبَّحَ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَوَلَّى الرِّجَالُ أَمْرَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ أَمْرَ النِّسَاءِ، فَإِنْ تَوَلَّى خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ جَازَ. فَصْلٌ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِنْذَارُ بِالْمَيِّتِ وَإِشَاعَةُ مَوْتِهِ فِي النَّاسِ بِالنِّدَاءِ وَالْإِعْلَامِ؟ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِمَا فِي إِنْذَارِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدَّاعِينَ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إِخْفَاءً لِأَمْرِهِ وَمُبَادَرَةً بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْغَرِيبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّ الْغَرِيِبَ إِذَا لَمْ يُنْذَرِ النَّاسُ بِهِ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَغَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ زوجها قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْضِي بِالْمَيِّتِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَيَكُونُ كَالْمُنْحَدَرِ قَلِيلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا غُسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ فَفَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُلُّ بِهِ مُخَاطَبُونَ، فَإِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ لم يقم البعض خرج الْكُلُّ لِأَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ وَفُرُوضَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْفِعْلِ، فَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ، وَيسقط عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَلْزَمُ الْكُلَّ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سقط من فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِيجَابِ غُسْلِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا ". فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ دُونَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي طَرِيقٍ مِنْ سَفَرٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَلَمْ يُوَارُوهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ آهِلٍ يَخْتَرِقُهُ النَّاسُ وَالْمَارَّةُ، أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمُ الْفَضْلَ، وَتَضْيِيعِ حَقِّ أَخِيهِمْ، وَكَانَ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَارُوهُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُوَارُوهُ وَتَرَكُوهُ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَجْتَازُ بِهِ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَقَدْ أَثِمُوا وَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى، وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِتَضْيِيعِهِمْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِمُ الْمُسْلِمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي مَخَافَةٍ مِنْ عَدُوٍّ، وَيَخَافُونَ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالْمَيِّتِ أَظَلَّهُمْ، فَالَّذِي يُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ، فَإِنْ تَرَكُوهُ لَمْ يَحْرَجُوا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا عَلَى مَيِّتٍ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ تَرَكُوهُ حرجوا أو أثموا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ، وَيُكَفِّنُوهُ، وَيُصَلُّوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 عَلَيْهِ، وَيَدْفِنُوهُ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يدفنوه، فَإِنِ اخْتَارُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنْ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ لَمْ يُعَجَّلْ بِهِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ بِعَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، افْتِرَاقُ الزَّنْدَيْنِ، وَاسْتِرْخَاءُ الْعَضُدَيْنِ، وَمَيْلُ الْأَنْفِ، وَتَغْيِيرُ الرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَ غَرِيقًا أَوْ حَرِيقًا أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ، أَوْ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ فَأُحِبُّ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَالَ مِنْهُ عَقْلُهُ فَيَثُوبُ، فَإِذَا عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ بُودِرَ بِغُسْلِهِ، وَأُفْضِيَ بِهِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ قُدُومُ غَائِبٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُ الْمُغْتَسَلِ مُنْحَدِرًا وَرَأْسُهُ أَعْلَى، لِكَيْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ الماء. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُعَادُ تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ مَا يُوَارِي مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى سُرَّتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِعَادَةُ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ فَلَمْ يُوجَدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهَذَا دُونَ جَامِعِهِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، لِتَمَاسُكِ أَعْضَائِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَا وَقْتَ غُسْلِهِ، لِتَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ، فَإِنْ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ وَقْتَ غُسْلِهِ جَازَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي غُسْلِهِ فَقَالَ قَوْمٌ يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَقَالَ قومٌ لَا يُغَسَّلُ فِيهَا فَغَشِيَنَا النُّعَاسُ، فَسَمِعْنَا هَاتِفًا يَهْتِفُ فِي الْبَيْتِ وَلَا نَرَاهُ يَقُولُ أَلَا غَسِّلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَغُسِّلَ فِي الْقَمِيصِ، فَإِنْ لم يكن غُسْلُهُ فِي الْقَمِيِصِ لِصَفَاقَتِهِ سُتِرَ مِنْهُ قَدْرُ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُكْمِ عَوْرَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَلِيٍّ: " لَا تَنْظُرْ لِفَخِذِ حي وَلَا مَيِّتٍ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " حرمة المسلم بعد موته كحرمته قَبْلَ مَوْتِهِ وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قبل موته ". مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستر موضعه الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا غَاسِلُهُ وَمَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهِ وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِيَعْرِفَ الْغَاسِلُ مَا غُسِلَ وَمَا بقي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَادَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ مَوْضِعٌ مَسْتُورٌ لِيَخْفَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَلَا يُشَاهِدُوهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُخْتَارُ غُسْلُهُ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ سَمَاءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحْتَ سَقْفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْرَى، وَقَالَ آخَرُونَ: تَحْتَ السَّمَاءِ لِتَنْزِلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ لَا يَرَى الْمَيِّتَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا الدُّنُوُّ مِنْهُ دَنَا وَغَضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، فَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، عَارِفًا بِغُسْلِهِ وَنَظَافَتِهِ، غَاضًّا طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ، لِكَيْمَا يُشَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ سَاتِرًا عليه. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَّخِذُ إِنَاءَيْنِ: إِنَاءً يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ فَيَصُبُّ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ، فَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يُصِبِ الْآخَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُخْتَارُ اتِّخَاذُ إِنَاءَيْنِ كَبِيرٌ بِالْبُعْدِ، وَصَغِيرٌ بِالْقُرْبِ، وَإِنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي الصَّغِيرِ، حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْمَاءُ بِمَا يَتَطَايَرُ مِنْ غُسْلِهِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ إِمَّا بِكَثْرَةِ مَا يَتَطَايَرُ مِمَّا يَنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِمَّا لِنَجَاسَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ تُنَجِّسُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بَلْ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، فَذَهَبَا إِلَى تَنْجِيسِهِ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَلِأَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ جُمْلَتُهُ بَعْدَ الْوَفَاةِ. وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِلَى طَهَارَةِ الْمَيِّتِ كَطَهَارَةِ الْحَيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) فَلَمَّا طُهِّرُوا أَحْيَاءً لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُخَصُّوا بِهَا أَمْوَاتًا لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ " وَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا قَبَّلَهُ مَعَ رُطُوبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَعَبَّدْنَا بِغَسْلِهِ، لَأَنَّ غَسْلَ مَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ يَزِيدُ تَنْجِيسًا وَلَا يُفِيدُهُ الْغُسْلُ تَطْهِيرًا، فَأَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَقَدْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ أَيْضًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْمَيِّتِ بِهِ لِضَعْفِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيِّ، وَلَوْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ طَرَفٌ مُنْفَصِلٌ صُلِّيَ عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَغَيْرُ الْمُسَخَّنِ مِنَ الْمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بردٌ أَوْ يَكُونَ بِالْمَيِّتِ مَا لا ينقيه إلا المسخن فيغسل به ويغسل في قميص ولا يمس عورة الميت بيده ويعد خرقتين نظيفتين لذلك قبل غسله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُسَخَّنَ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسَخَّنَ يُرْخِي لَحْمَ الْمَيِّتِ، وَالْبَارِدَ يَشُدُّ لَحْمَهُ وَيُقَوِّيهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ لِتَسْخِينِهِ، لِشِدَّةِ الْبَرْدِ الْمَانِعِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ يَكُونُ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَسَخِ مَا لَا يَعْمَلُ الْبَارِدُ فِي إِزَالَتِهِ، فَلَا بَأْسَ بِتَسْخِينِ الْمَاءِ وَتَغْيِيرِهِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا مِنْ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ كَثِيرِ الْحَرَكَةِ وَالْجَرَيَانِ، وَيُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُتِرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَا يَمَسُّ الْغَاسِلُ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَيَغْسِلُهَا بِالْخِرْقَةِ الَّتِي يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ، وَيُعِدُّ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ قَبْلَ غَسْلِهِ، إِحْدَاهُمَا لِعَوْرَتِهِ وَالْأُخْرَى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَقِيلَ بَلِ الخرقتان مَعًا لِعَوْرَتِهِ، لِيَكُونَ إِذَا ألقى أحديهما وَاتَّخَذَ الْأُخْرَى غَسَلَ الْأُولَى؛ لِيَعُودَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا ولا ينتظر غسلها فيطول. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلْقِي الْمَيِّتَ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ غَاسِلُهُ فَيُجْلِسُهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إمراراً بليغاً والماء يصب عليه ليخفى شيء إن خرج منه وعلى يده إحدى الخرقتين حتى ينقي ما هنالك ثم يلقها لتغسل ثم يأخذ الأخرى ثم يبدأ فيدخل أصبعه في فيه بين شفتيه ولا يفغر فاه فيمرها على أسنانه بالماء ويدخل طرف إصبعيه في منخريه بشيء من ماء فينقى شيئاً إن كان هناك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْغَاسِلُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمَيِّتِ عَلَى ظَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا: أَنْ يُجْلِسَهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا عُنْفٍ وَيَكُونُ جُلُوسًا مَائِلًا إِلَى ظَهْرِهِ، وَلَا يَكُونَ مُعْتَدِلًا فَيَحْتَبِسَ الْخَارِجُ مِنْهُ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا فِي التَّكْرَارِ لَا فِي شِدَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ مِنْ خَلْفِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ لِيَخْفَى شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لِيَخْفَى " لِيَظْهَرَ شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَعُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّاهِرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ إِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ فَيُنْجِيهِ بِهَا مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ، فَإِنْ أَنْقَى ذَلِكَ أَلْقَى الْخِرْقَةَ تُغْسَلُ وَأَخَذَ الْأُخْرَى وَاسْتَعْمَلَهَا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 أحد الوجهين في إنقاء أسفله، وأنجا قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْقَى عَلَى يَدِهِ، وَيَسْتَعْمِلُهُمَا فِي فَمِهِ وَأَعْلَى جَسَدِهِ، وَيُمِرُّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ لِيُزِيلَ أَذًى إِنْ كَانَ بِهَا، وَلَا يَفْغَرُ فَاهُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، أَوْ يُفْسِدَ لَهُ عُضْوًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتَّى ينقيهما ويسرحهما تسريحاً رفيقاً ". وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ أَيْضًا: فَأَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا أن يوضئه وضوءه للصلاة فيمضمضه وينشفه مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَتَشْبِيهًا بِالْحَيِّ، ثُمَّ يَغْسِلُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، لِأَنَّ رَأْسَهُ أَشْرَفُ جَسَدِهِ وَأَوْلَى مَا ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ تَسْرِيحًا رَفِيقًا بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ مُلَبَّدًا سَرَّحَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُغَسِّلُهُ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُ ظَهْرَهُ وَقَفَاهُ وفخذه وساقه اليمنى وهو يراه متمكناً ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيصنع به مثل ذلك ويغسل ما تحت قدميه وما بين فخذيه وإليتيه بالخرقة ويستقصي ذلك ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى جَمِيعِهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَأُحِبُّ أن يكون فيه كافور (قال) وأقل غسل الميت فيما أحب ثلاثاً فإن لم يبلغ الإنقاء فخمساً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمن غسل ابنته " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كافورٍ " (قال) ويجعل في كل ماءٍ قراحٍ كافوراً وإن لم يجعل إلا في الآخرة أجزأه ويتتبع ما بين أظافره بعودٍ ولا يخرج حتى يخرج ما تحتها من الوسخ وكلما صب عليه الماء القراح بعد السدر حسبه غسلاً واحداً ويتعاهد مسح بطنه في كل غسلةٍ ويقعده عند آخر غسلة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِي غُسْلِهِ بَعْدَ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِمَيَامِنِ جَسَدِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأم عطية حين غسلت بنته: " ابْدَئِي بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وَيُلْقِيهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَغْسِلُ الْأَيْمَنَ وَيَبْدَأُ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَيَدِهِ وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَيَغْسِلُ مَا تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَيَغْسِلُ مَا بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ، وَمَا كَانَ يَغْسِلُهُ حَيًّا فِي جَنَابَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَاءِ السِّدْرِ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْخِطْمِيِّ، لِأَنَّهُ أَمْسَكُ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى لِلْجَسَدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ بِهِ وَسَخٌ مُتَلَبِّدٌ رَأَيْتُ أَنْ يُغَسَّلَ بِأُشْنَانٍ، وَيَرْفُقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِذَا غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ صَبَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى غَسْلِهِ ثَانِيًا بِالسِّدْرِ فَعَلَ، وَإِنِ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، فَإِنْ غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ فِي كُلِّ دُفْعَةٍ وَأَفَاضَ بَعْدَهُ مَاءَ الْقَرَاحِ جَازَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، وَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا وَأَوْسَطُهُ خَمْسًا، وَأَكْثَرُهُ سَبْعًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا سَرَفٌ. فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ كَافُورًا يَسِيرًا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ به في عداد غسلانه. وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَافُورِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الْخَفَّاضِيَّةِ حِينَ غَسَّلَتْ بنته اغْسِلِيهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وسدرٍ، وَاجْعَلِي فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُتْبِعُ مَا بَيْنَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ لَا يَجْرَحُ، حَتَّى يُخْرِجَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْوَسَخِ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَتَعَاهَدُ مَسْحَ بَطْنِهِ فِي كُلِّ غَسْله، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَمَرَ أَنْ يَتَعَاهَدَ مَسْحَ بَطْنِهِ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أراد بالتعاهد تفقد الموضع الممسوس، لأن لا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُفْسِدَهُ، وَلَمْ يُرِدْ مُعَاهَدَةَ مسحه بيده. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شيءٌ أَنْقَاهُ بِالْخِرْقَةِ كَمَا وصفت وأعاد عليه غسله ثم ينشف في ثوب ثم يصير في أكفانه وإن غسل بالماء القراح مرةً أجزأه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِهِ خَارِجٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُعِيدُ غُسْلَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ نَاقِضٌ لِحُكْمِ غَسْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ طَهَارَةٌ غَيْرَ غُسْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ وَيُوَضِّئَهُ كَالْحَيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة لِاسْتِقْرَارِ غُسْلِهِ وَاسْتِحَالَةِ الْحَدَثِ فِيهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَصِيرُ فِي أَكْفَانِهِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نُشِّفَ فِي ثَوْبٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْسَكُ لِبَدَنِهِ وأوفى لكفنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَأَى حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الأظفار ومنهم من لم يره (قال المزني) وتركه أعجب إليّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ وَنَسْأَلُ الله حسن ذلك المصير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَخْذُ شَعْرِهِ وَتَقْلِيمُ ظُفُرِهِ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَفَحُشَ فَأَخْذُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ أَخْذَهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكَهُ أَوْلَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِتَانُ الْوَاجِبُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِهِ فِي الْحَيَاةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَهَذَا أَوْلَى، قَالَ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَصِيرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ أَخْذَهُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكَهُ مَكْرُوهٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ، وَلِأَنَّ تَنْظِيفَ سِنٍّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَعَلَى هَذَا يُخْتَارُ أَنْ يُؤْخَذَ شَعْرُ عَانَتِهِ وَإِبِطَيْهِ بِالنَّوْرَةِ لَا بِالْمُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ، وَيُقَصِّرُ شَعْرَ شَارِبِهِ وَلَا يَحْلِقُ، وَيَتْرُكُ لِحْيَتَهُ وَلَا يَمَسَّهَا، فَأَمَّا شَعْرُ رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا جُمَّةٍ فِي حَيَاتِهِ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ حُلِقَ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يُدْفَنُ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا أَثَرٌ يُسْتَنَدُ إليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقَرِّبُ الْمُحْرِمَ الطِّيبَ فِي غُسْلِهِ وَلَا حنوطه ولا يخمر رأسه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تخمروا رأسه " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وإن ابنا لعثمان توفي محرماً فلم يخمر رأسه ولم يقربه طيباً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: الْإِحْرَامُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَمْ يُغَطَّ رَأْسُهُ، وَلَمْ يُمَسَّ طِيبًا، وَلَمْ يُلْبَسْ مَخِيطًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ، وَجَازَ تَطْيِيبُهُ وَتَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " خمروا مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وولدٍ صالحٍ يَدْعُو لَهُ " فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ. قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الطِّيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْعِدَّةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بَاقِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، كَمَنْ طَيَّبَ مَجْنُونًا مُحْرِمًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: رِوَايَةُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْسِلُوهُ بماءٍ وسدرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يوم القيامة ملبياً ". فإن قيل: فقد عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك بأنه قَالَ: " يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ يُبْعَثُ غَيْرُهُ مُلَبِّيًا أَمْ لَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا عَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الحكم بموته محرماً لا لِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " حرمةُ المسلم بعد موته كحرمته قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 مَوْتِهِ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " فَسَوَّى بَيْنَ حُرْمَتِهِمَا فَاقْتَضَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُحْشَرُ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ إِحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْجُنُونِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ثَبَتَتْ حُكْمًا، يَفْعَلُهُ تَارَةً وَيَفْعَلُ غَيْرَهُ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ كالإغماء والجنون، ولأنه ليس محرم فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ تَحْرِيمُهُ بِوَفَاتِهِ كَالْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَمِّرُوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ قَالَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مُحْرِمٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وإذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ " فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ لَزِمَنَا فِي سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ لَلَزِمَهُمْ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمُحْرِمِ لَمْ يَمْتَنِعْ لَنَا تَخْصِيصُ سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ خَمْسٍ ذَكَرَ فِيهَا حَجٍّ يُؤَدَّى وَدِينٍ يُقْضَى، فَثَبَتَ بنص الخير تَخْصِيصُ الْمُحْرِمِ. وَأَمَّا قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ: أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا نَصٌّ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهَا اخْتِلَافٌ، عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ حُكْمَ الْعِدَّةِ بَاقٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْعِدَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ عَلَى بَدَنٍ فَانْقَطَعَ حُكْمُهُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْعِدَّةِ فَلِأَجْلِ عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَحْرِيمُ الطِّيبِ بَاقٍ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، كَالْمَيِّتِ يَحْرُمُ تَكْسِيرُ عَظْمِهِ لِبَقَاءِ حُرْمَتِهِ، وَسَقَطَ إرشه لزوال منفعته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْمَيِّتِ مِجْمَرَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَى يَفْرُغَ مِنْ غَسْلِهِ فَإِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَا يَتَحَدَّثُ بِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرِ أَخِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِحْدَاثُ الْمِجْمَرِ مِنْ حِينِ غَسْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْهُ: فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِيَقْطَعَ رَائِحَةً إن ندرت مِنْهُ، صِيَانَةً لَهُ، وَمَنْعًا مِنْ أَذَى مَنْ حَضَرَهُ، وَأَمَّا كِتْمَانُهُ لِمَا يَرَى مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَسُوءِ أَمَارَةٍ فَمَأْمُورٌ بِهِ لَا يَحِلُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 مَرَّةً " فَأَمَّا مَا يَرَى مِنْ مَحَاسِنِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَأْمُرُ بِسِتْرِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَهُ مَحَاسِنَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَسَاوِئَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِذَاعَتِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غُسْلِهِ مَا رَآهُ مِنَ النُّورِ وَشَمَّهُ مِنْ رَوَائِحِ الْجَنَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ مَعُونَةِ الملائكة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَأَوْلَى أَهْلِهِ أَنْ يُغَسِّلَهُ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَيَكُونُ أَقْرَبُ عِصَابَتِهِ أَوْلَى بِغُسْلِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَحَقُّ عِصَابَتِهَا بِغَسْلِهَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَعَلَى وجهن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَوْلَى بِغَسْلِهَا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ: إِنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِغَسْلِهَا وَإِنْ كَانَ عَصَبَتُهَا أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا ما ليس للعصبات النظر إليه. مسألة المرأة تغسل زوجها الميت مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويغسل الرجل امرأته والمرأة زوجها غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وعلي امرأته فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالت عائشة لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا نساؤه (قال) وليس للعدة معنىً يحل لأحدهما فيها ما لا يحل له من صاحبه ". قال الماوردي: وهذا صحيح: أما الزوجة فلها أَنْ تُغَسِّلَ زَوْجَهَا إِذَا مَاتَ، لَا يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ: إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَأَفْطِرِي "، وَيُعِينُكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بِكْرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَغَسَّلَتْهُ وَهِيَ صَائِمَةٌ ثُمَّ ذَكَرَتْ عَزْمَةَ أَبِي بَكْرٍ فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْهُ وَقَالَتْ: كِدْتُ أُتْبِعُهُ مَعْصِيَةً. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا نِسَاؤُهُ " فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ غُسْلُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امرأةٍ وَبِنْتِهَا " قَالُوا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا دَلَّ على أن الأمر قد حرم عليه النظر إليها؛ لأن لا يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا، قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى زَوْجَتِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ لِارْتِفَاعِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهَا وَبَقَاءِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: وَارَأْسَاهُ فَقُلْتُ لَا بَلْ وَارَأْسَاهُ فَقَالَ مَا عَلَيْكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ " فَلَمَّا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لَغَسَّلَهَا، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَمُوتُ: دَلَّ على أنه قصد بذلك بيان حكم غيرها مِنَ الْأَزْوَاجِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَتْ أَسْمَاءُ فَغَسَّلَهَا عَلِيٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا مَعَهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُنْكِرًا فِعْلَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سببي ونسبي " قلنا قد بين مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وَالنِّكَاحُ فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعٌ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أنه عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِي بَعْدَ فَاطِمَةَ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنْتَيْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَوْ كَانَ سَبَبُ النِّكَاحِ بَاقِيًا لَحَرُمَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزْوِيجُ أُمَامَةَ، وَعَلَى عُثْمَانَ تَزْوِيجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ رُقَيَّةَ، وَلِأَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ النَّظَرِ قِيَاسًا عَلَى موت الزوج، ولأنه معنى تزيل التكليف فوجب أن لا يحرم كَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ النِّكَاحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْآخَرِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجِ اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَمَّا جَازَ لَهَا النَّظَرُ فِي الْمَوْتِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ النظر إليها. وأما الجواب على قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا: فَدَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ تَفَرُّدُهَا بِالْعِدَّةِ مُوجِبًا لِتَفَرُّدِهَا لِعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ قَبْلَ غُسْلِهِ جَازَ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِدَّةِ كَعَدَمِهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسِّلَهَا ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَذَاتُ رَحِمٍ مِنْهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَامْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ النِّسَاءَ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ، وَالزَّوْجُ أَوْلَى الرِّجَالِ بِزَوْجَتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا إِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهَا، وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ كَرِهْتُ أَنْ تُغَسِّلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ غَسَّلَتْهُ جَازَ لِحُصُولِ الْغُسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ أَنَّ مَيِّتًا غَسَّلَهُ السَّيْلُ أَوِ الْمَطَرُ لَمْ يُجْزِهِ وإن كان الغسل موجود قُلْنَا لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْمَيِّتِ فَإِذَا غَسَّلَهُ السَّيْلُ وَالْمَطَرُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ وَكَذَا الْغَرِيقُ غُسْلُهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا طهار وَاجِبَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ وَجَبَتْ في غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 فَصْلٌ : يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُغَسِّلَ أُمَّ وَلَدِهِ إِذَا مَاتَتْ، وَكَذَلِكَ أَمَتَهُ وَمُدَبَّرَتَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ فِي جَمِيعِهِمْ بَاقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يلزمه موؤنة دَفْنِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ، فَإِن مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لِأَمَتِهِ وَلَا لِمُدَبَّرَتِهِ وَلَا لِأُمِّ وَلَدِهِ أَنْ تُغَسِّلَهُ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَلِزَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُمَا، وَارْتِفَاعِ الْعَصَبَةِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالنِّكَاحُ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ كَمَا أَنَّ الرِّقَّ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ، كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ؟ قُلْنَا وُجُودُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الِاسْتِبَاحَةُ بِالْمَوْتِ جَازَ أَنْ يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ بعد الموت، وليس دوام الولده المدبرة مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّقُّ فِيهَا مَوْجُودًا وَهُمَا فِي إِبَاحَةِ زَوْجٍ، فَضَعُفَ الرِّقُّ عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّيَمُّمُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الرجال ولا في النساء فجاز لكلي الْفَرِيقَيْنِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَسَدِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ امْرَأَةً فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ. وَهَذَا غَلَطٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ غُسْلِهِ لِإِشْكَالِ عَوْرَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ بِذَلِكَ مِنْ تَيَمُّمِهِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذِرَاعَيْهَا كَعَوْرَتِهَا فِي سَائِرِ جَسَدِهَا، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُبَاشَرَتَهُ بِحَرَامٍ كَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ، فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ مُسَاوِيًا لِلْغُسْلِ، فَإِذَا تَسَاوَيَا فَاسْتِعْمَالُ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْخُنْثَى وَاجِبٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ غُسْلِهِ مُظْلِمًا، وَيَتَوَلَّى غُسْلَهُ أَوْثَقُ مَنْ يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَتْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْهُمْ، تُيَمَّمُ وَلَا تُغَسَّلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ، وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَيْ لَا يَمَسَّهَا، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا عِنْدِي. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُنَّ يُغَسِّلْنَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُيَمَّمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ إِيجَابَ غسل المرأة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ قَرَابَتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر علياً فغسل أَبَا طَالِبٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ " إِذَا مَاتَ الْمُشْرِكُ وَلَهُ قَرَابَةٌ ٌمسلمون فَلَهُمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيَتْبَعُوا جِنَازَتَهُ " وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) {لقمان: 15) وَرُوِيَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ عَمُّكَ الضَّالُّ، فَقَالَ: غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ "، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ غَسْلِهِ وَدَفْنِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَلَا يَزُورُوا قَبْرَهُ، وَلَا يَدْعُوا لَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أولِي قُرْبَى) {التوبة: 113) فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُشْرِكُ قَرَابَةً مُشْرِكِينَ وَمُسْلِمِينَ، فَالْمُشْرِكُونَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْمِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 باب عدد الكفن وكيف الحنوط قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَبُّ عَدَدِ الْكَفَنِ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ أثوابٍ بيضٍ رياطٍ ليس فيها قميص ولا عمامةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قميص ولا عمامة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ أَمَّا تَكْفِينُ الْمَوْتَى واجب إِجْمَاعًا، بِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ، إِذَا كَانَ وَاجِبًا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى عَدَدِهِ وَصِفَتِهِ، فَأَمَّا عَدَدُهُ فَالْمُخْتَارُ فِيهِ وَمَا جَرَى الْعَمَلُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَةِ أثوابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ جَازَ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْخَمْسَةِ، لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا فَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ واحدٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ جَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتْ له نمرةٌ واحدةٌ إذا غَطَّى بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غَطَّى بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غَطُّوا رَأْسَهُ وَاطْرَحُوا عَلَى قَدَمَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْإِذْخِرِ " فَإِنْ غَطَّى مِنَ الْمَيِّتِ قَدْرَ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ، وَلَكِنْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ؛ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمْ تَسْتُرْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلَمْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُكَفَّنَ فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ قَدْرُ عَوْرَتِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْأَكْفَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ بِيضًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ البياضُ فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ رياطٍ سُحُولِيَّةٍ، فَالرِّيَاطُ هِيَ الْأُزُرُ الْبِيضُ الْخِفَافُ الَّتِي لَا فق فِيهَا وَلَا خِيَاطَةَ، وَالسُّحُولِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا سُحُولُ، وَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الْبَيَاضُ جُدُدًا لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ الْعِمَامَةَ لِلْمَيِّتِ رجلاً كانت أَوِ امْرَأَةً، وَاخْتَارَ أبو حنيفة الْقَمِيصَ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ عَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عُمِّمَ فِي كَفَنِهِ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ " النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ "، وَلِأَنَّهُ أَجْمَلُ زِيِّ الْأَحْيَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمَوْتَى كَالْإِزَارِ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قيمصٌ وَلَا عمامةٌ " وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَيِّتُ كَالسَّرَاوِيلِ، فَأَمَّا تَعْمِيمُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِصَابَةً شَدَّ بِهَا رَأْسَهُ لِأَجْلِ الضَّرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِهِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كفن في قميص فأما الرِّوَايَةُ أَنَّهُ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَمَّرُ بِالْعُودِ حَتَى يَعْبَقَ بِهَا ثُمَّ يَبْسُطُ أحسنها وأوسعها ثم الثانية عليها ثم التي تلي الميت ويذر فيها بينها الحنوط ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مستلقياً ثم يأخذ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الحنوط والكافور ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 يدخله بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حُمِلَ وزعزع ويشد عليه خرقةٌ مشقوقة الطرف تأخذ إليتيه وعانته ثم يشد عليه كما يشد التبان الواسع (قال المزني) لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو لأن في ذلك قبحاً يتناول به حرمته ولكن يجعل كالموزة من القطن فيما بين إليتيه وسفرة قطن تحتها ثم يضم إلى أليتيه والشداد من فوق ذلك كالتبان يشد عليه فإن جاء منه شيءٌ يمنعه ذلك من أن يظهر منه فهذا أحسن في كرامته من انتهاك حرمته. (قال الشافعي) ويأخذ القطن فيضع عليه الحنوط الكافور فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سجوده وإن كانت به جراح نافذةٌ وضع عليها ويحنط رأسه ولحيته بالكافور وعلى مساجده وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْقَى منه من عند رجليه أقل مما يبقى من عند رأسه ثم يثني عليه ضيق الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يثني ضيق الثوب الآخر على شقه الأيسر كما وصفت كما يشتمل الحي بالسياج ثم يصنع بالأثواب كلها كذلك ثم يجمع ما عند رأسه من الثياب جمع العمامة ثم يرده على وجهه ثم يرد ما على رجليه على ظهور رجليه إلى حيث بلغ فإن خافوا أن تنتشر الأكفان عقدوها عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ في كتاب الربيع ويجمر بالند، وإنما اخترنا ذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي كَرَامَةِ الْمَيِّتِ، وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَةِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَبْسُطُ أَحْسَنَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْحُسْنِ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُهَا أَظْهَرَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي جَمَالِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَاخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَذُرُّ بَيْنَهَا الْحَنُوطَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غير الشافعي من الفقهاء، وإنما اختاره لأن لا يُسْرِعَ بِلَى الْأَكْفَانِ، وَلِيَقِيَهَا عَنْ بَلَلٍ يَمَسُّهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مُسْتَلْقِيًا، وَيَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا، وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حمل ورغرغ ويشد عليه كما يشد التبان الْوَاسِعُ، فَإِنْ كَانَ بِهِ إِنْزَالٌ يُخْشَى عَلَى الثَّوْبِ مِنْهُ فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَ الْخِرْقَةِ مِثْلَ السُّفْرَةِ مِنْ لُبُودٍ فَعَلَ ذَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا كُلَّهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَإِكْرَامًا لِلْمَيِّتِ، وَحِفْظًا لِلْأَكْفَانِ. وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَيُدْخِلُهُ إِدْخَالًا بَلِيغًا فِي الْحَلْقَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِدْخَالًا بَلِيغًا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ انْتِهَاكِ حرمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَأْخُذُ الْقُطْنَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَجَمِيعِ مَنَافِذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِهِ جِرَاحٌ أَوْ قُرُوحٌ وَضَعَ عَلَيْهَا، وَيَحْفَظُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْكَافُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَسَاجِدِهِ وَهِيَ أَعْضَاؤُهُ السَّبْعَةُ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوكِلُ بِهِ مَنْ يَذُبُّ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ النَّارَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ) {الفتح: 29) وَاخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَنَافِذِهِ وَجِرَاحِهِ حِفَاظًا لِلْخَارِجِ مِنْهُ وَصِيَانَةً لِلْأَكْفَانِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الطراز: وهو طيب ومسك يخلط ويداف فَيُوضَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَلَا يَخْتَارُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ منْ تَشْوِيهِ الْبَشَرَةِ، وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عَيْنَيْهِ الزَّاوُوقَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى بَدَنِهِ الْمُرْدَاسَنْجَ، وَالزَّاوُوقُ هُوَ شَيْءٌ لَزِجٌ كَالصَّمْغِ يُمْسِكُهُ وَيَحْفَظُهُ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَحَدٍ يُتَّبَعُ. وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّبْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَا يُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي صُنْدُوقٍ وَهُوَ التَّابُوتُ، وَإِنَّمَا نهي عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَوْصَى فَقَالَ: لَا تَجْعَلُونِي فِي الصُّنْدُوقِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الذي يبقى من عند رجليه أولى مِمَّا يَبْقَى عِنْدَ رَأْسِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمَّا قَصُرَتْ عَنْهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِيُغَطَّى بِهَا جَمِيعُ وَجْهِهِ، وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُثْنى عَلَيْهِ ضَفَّة الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُثْنى ضَفَّة الثَّوْبِ الْآخَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْحَيُّ، وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَهُ فِي أَكْفَانِهِ بَدَأَ بِمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ مَا عِنْدَ رأسه فألقاه على وجهه، لأن لا يَكْشِفَهُ الرِّيحُ وَأَخَذَ مَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَخَافُ أَنْ يَكْشِفَهُ الرِّيحُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرِقَ مِنْهُ ضَفَّةً دَقِيقَةً فَيَشُدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ حُلَّتْ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ قَرِيبًا لَمْ يَشُدَّ، لِأَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ بِالْحَرَمَيْنِ لَمْ تجر بمثله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَدْخَلُوهُ الْقَبْرَ حَلُّوهَا وَأَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَوَسَّدُوا رَأْسَهُ بلبنةٍ وَأَسْنَدُوهُ لِئَلَّا يَسْتَلْقى عَلَى ظَهْرِهِ وَأَدْنَوْهُ إِلَى اللَّحْدِ مِنْ مُقَدَّمِهِ لئلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 ينكب على وجهه وينصب اللبن على اللحد ويسد فرج اللبن ثم يهال التراب عليه والإهالة أن يطرح من على شفير القبر التراب بيديه جميعاً ثم يهال بالمساحي ولا أحب أن يرد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً ويشخص عن وجه الأرض قدر شبر ويرش عليه الماء ويوضع عليه الحصباء ويوضع عند رأسه صخرة أو علامة ما كانت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دَفْنُ الْمَوْتَى فَوَاجِبٌ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتِي أَعَجِزْتُ أنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} (المائدة: 31) فَتَنَبَّهَ قَابِيلُ بِفِعْلِ الْغُرَابِ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ فَدَفَنَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أحْيَاءُ وَأَمْوَاتاً) {المرسلات: 25) يَعْنِي تَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَتَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا، وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهاَ نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) {طه: 55) فَإِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَاجِبًا فَيُخْتَارُ تَعْمِيقُ الْقُبُورِ، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ الْقَامَةِ وَالْبَسْطَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " عمقوا قبور موتاكم لأن لا تريح عليكم ". فَصْلٌ : اللَّحْدُ فِي الْقُبُورِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الشق الضَّرِيحِ فِي وَسَطِهِ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " اللحد لنا والشق لغيرها " وقد كلف عَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ الضَّرِيحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اللَّحْدَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ " فَلَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْمٌ اجْعَلُوا لَهُ ضَرِيحًا وَقَالَ آخَرُونَ لَحْدًا، فَأَنْفَذَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَسُولًا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ الْعَبَّاسُ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ فَسَبَقَ الرَّسُولُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَأَلْحَدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ أَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيُوَسَّدُ رَأْسُهُ بِلَبِنَةٍ وَيُكْرَهُ الْمِخَدَّةُ وَالْمُضْرِبَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَفَاخُرِ الْأَحْيَاءِ وَفِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، فَإِذَا انصب في اللحد قرب منه لأنه لا يَنْكَبَّ، وَأُسْنِدَ مِنْ وَرَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَلْقِيَ، ثُمَّ يُنْصَبُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا قَائِمًا لَا بَسْطًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كذلك فعل به، ولأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 أحكم في عمارة وَأَبْعَدُ فِي بِلَى أَكْفَانِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي اللَّحْدِ فُرُجٌ سَدُّوهَا بِقِطَعِ اللَّبِنِ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَالْإِهَالَةُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ التُّرَابَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهَالَ عَلَى قَبْرِ ميتٍ بِكَفَّيْهِ ثَلَاثًا " ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ بِالْمِسَاحِي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي عَمَلِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُزَادَ في القبر أكثر من ترابه، لأن لا يَعْلُوَ جِدًّا، وَيَخْتَارُ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ عَنِ الأرض قدر شبر أو نحوه ليعلم أن قبر، فيترحم عليه، ولأن لا يَنْسَاهُ مَنْ يَجْهَلُ أَمْرَهُ. فَصْلٌ : الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ تُسْطَحَ الْقُبُورُ وَلَا تُسْنَمَ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أبي حنيفة أَنْ تُسْنَمَ وَلَا تُسْطَحَ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَطَحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فَسَطَحَ قَبْرَهُ " وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَشَفَتْ فَرَأَيْتُ قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُسَطَّحَةً. فَصْلٌ : فَإِذَا سَطَحَ الْقَبْرَ وَفَرَغَ مِنْهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَاءَ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقَاءً، وَلَا يُبَرِّكُهُ الْمَاءَ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُبَرِّدُ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِلْقَبْرِ وَأَبْقَى لِأَثَرِهِ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى الْقَبْرِ حَصًا، وَهُوَ الْحَصَا الصِّغَارُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَصْبَاءِ الْعَرْصَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ صَخْرَةً أَوْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَضَعَ عِنْدَ قَبْرِهِ حَجَرَيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَجْعَلُ لِقَبْرِ أَخِي عَلَامَةً أَدْفِنُ عِنْدَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ ". فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الدَّاعِي لَهُ إِذَا دَرَسَ قَبْرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ " وَيُخْتَارُ لِمَنْ مَرَّ بِالْقُبُورِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا بالرحمة، ويسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 عَلَيْهِمْ وَيَقُولَ أَنْتُمْ لَنَا سَابِقُونَ وَنَحْنُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَأَيْتُ مَنْ أَوْصَى بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَهُوَ عِنْدَنَا حَسَنٌ. فَصْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ فِي بَلْدَةٍ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى غَيْرِهَا وَبِخَاصَّةٍ إِنْ كَانَ مَاتَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَزَادَ الزُّهْرِيُّ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ قُبِرَ بِالْمَدِينَةِ كُنْتُ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَلَهِ شَافِعًا وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَكَأَنَّمَا مَاتَ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا ". فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ لَيْلًا، وَقَدْ كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُفِنَتْ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي مَرْكَبٍ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فَإِنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صُعُودِهِمْ مَخَافَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا سَبُعٍ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوهُ إِلَى قَبْرِهِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بُعْدٌ يُخَافُ أَنْ يَفْسُدَ الْمَيِّتُ إِلَى الْبُلُوغِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ قُرْبٌ وَلَكِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ مِنْ صُعُودِهِمْ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ فَإِنَّهُمْ يَشُدُّونَهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَيُلْقُونَهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ رَجَوْتُ أن يسعهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقَبْرِ فَقَدْ أَكْمَلَ وَيَنْصَرِفُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِذَا ووري فذلك له واسع (قال) وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصباء من حصباء العرضة وأنه عليه السلام رش على قبره وروي عن القاسم قال رأيت قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبي بكر وعمر مسطحة ". قال الماوردي: ووري، فذلك له واسع (وَهَذَا صَحِيحٌ) ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً وَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قيراطان، فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ قِيرَاطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيرَاطِ الْآخَرِ مَتَى يَسْتَحِقُّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا وُورِيَ فِي لَحْدِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَخْتَارُ لِمَنْ يَحْضُرُ دَفْنَهُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ يس وَيَدْعُوَ لَهُ وَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَرَّ بِقَوْمٍ يَدْفِنُونَ مَيِّتًا فَقَالَ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِ فإنه الآن يسأل ". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُبْنَى الْقُبُورُ وَلَا تُجَصَّصُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَجْصِيصُ الْقُبُورِ فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ، فِي مِلْكِهِ وَغَيْرِ مِلْكِهِ، لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن تجصيص الْقُبُورِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي تَجْصِيصَهَا، وَأَمَّا الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ كَالْبُيُوتِ وَالْقِبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن بناء القبور، ولأن فيه تضييق عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَرَأَيْتُ الْوُلَاةَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يَبْنُونَ مِنْهَا، وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَنَازَعَ اثْنَانِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فِي أَرْضٍ مُسَبَّلَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْبِشَهُ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيتَه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِنِ اسْتَعْجَلَ فِي نَبْشِهِ وَكَانَ أَثَرُ الْمَيِّتِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ رَدُّ تُرَابِهِ وَعِظَامِهِ إِلَيْهِ، وَإِعَادَةُ الْقَبْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً لِلدَّفْنِ فَدُفِنَ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهَا، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَوْضِعُ الدَّفْنِ غَصْبٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ، لِأَنَّهُ نَهْكُ حُرْمَتِهِ، فَإِنْ نَقَلَهُ جَازَ، فَلَوْ غَصَبَ كَفَنًا وَكَفَّنَ لَهُ مَيِّتًا ودفن قال أبو حامد لم يخرج، وكان عَلَى غَاصِبِ الْكَفَنِ قِيمَتُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْأَرْضِ أوكد؛ لأن الانتفاع بها مؤيد، والانتفاع بالثوب مؤبداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَنَ رُبَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى صَاحِبِهِ بتكفين الْمَيِّتِ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَالْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَتَعَيَّنُ الدَّفْنُ فِيهَا لِوُجُودِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحِ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَرْضِ أَغْلَظَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ وَيُمْكِنُ قَلْبُ الْفُرُوقِ بِمَا هو أولى منها. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ في غسلها كالرجل وتتعهد بأكثر ما يتعهد به الرجل وأن يضفر شعر رأسها ثلاثة قرون فيلقين خلفها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر بذلك أم عطية في ابنته وبأمره غسلتها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا حَيَّيْنِ اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا مَيِّتَيْنِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِغَاسِلِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَزِيدَ في تفقد بدنها وتعاهد جسدها لمالها مِنَ الْعُكَنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا ثُمَّ يَجْعَلُ شَعْرَ رَأْسِهَا ثَلَاثَ ضَفَائِرَ خَلْفَهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يجعل ضفيرتين تلتقيان عَلَى صَدْرِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى: لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قالت: ظفرنا شَعْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ ابنةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا، وَأُمُّ عَطِيَّةَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُكَفَّنُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ خمارٌ وإزارٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دِرْعًا لِمَا رَأَيْتُ فِيهِ مِنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً مَعَهَا ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ كَفَنِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، أَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْهُ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهَا أَغْلَظُ وَلِبَاسَهَا فِي الْحَيَاةِ أَكْمَلُ، وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي غَسْلِهَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُنَاوِلُهَا بِيَدِهِ ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهَا خَمْسَةً. فَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مِئْزَرٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارَانِ، وَفِي الخامس قولان: أحدهما: إزار ثان. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ دِرْعٌ لِمَا رَوَتْ لَيْلَى الثَّقَفِيَّةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَوَّلُ مَا نَاوَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِزَارَ ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ الثَّوْبَ الَّذِي أَدْرَجْنَاهَا فِيهِ " فَعَلَى هَذَا تُؤَزَّرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُدْرَعُ ثُمَّ تُخَمَّرُ ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبَيْنِ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا بِثَوْبٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الثَّوْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهَا، فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ هُوَ ثَوْبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا وَيُدْفَنُ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ ثَوْبٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُحَلُّ عِنْدَ دفنها أم لا على وجهين؟ أحدهما يُحَلُّ عَنْهَا وَيُؤْخَذُ عِنْدَ دَفْنِهَا. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمُؤْنَةُ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِنَفَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى منه بمؤونته بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُ إِذَا مَاتَ مُعْدِمًا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ إِذَا مَاتَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَفَقَتِهَا: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، كَالْمُنَاسِبِينَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ مَؤُونَتَهَا وَاجِبَةٌ فِي تَرِكَتِهَا دُونَ زَوْجِهَا، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنِّكَاحِ لِأَجْلِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَبِمَوْتِهَا قَدِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، وَزَالَ التَّمَكُّنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُوجِبُهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُنَاسِبِينَ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْكَفَنِ هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ عَلَى مِلْكِ وَارِثِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لما منع من ابتداء المالك مَنَعَ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ. فَصْلٌ : أَمَّا إِذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَدُفِنَ وَأَقْسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ ثُمَّ نُبِشَ وَسُرِقَتْ أَكْفَانُهُ وَتُرِكَ عريان فَالْمُسْتَحَبُّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيَةً، وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ ثَانِيَةً لَلَزِمَهُمْ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِيعَابِ التركة، وإذا الْخُرُوجِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فغير لازم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فِي الْكَفَنِ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إِنْ كَانَ وَسَطًا لَا مُوسِرًا وَلَا مُقِلًّا وَمِنَ الْحَنُوطِ بِالْمَعْرُوفِ لَا سَرَفًا وَلَا تَقْصِيرًا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ رجل وترك ما لا يَضِيقُ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَاخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ وَالْغُرَمَاءُ فِي كَفَنِهِ وَمَؤُونَةِ دَفْنِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ أَوْ فِي عَدَدِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ فَدَعَا الْوَرَثَةُ إِلَى تَكْفِينِهِ بِأَرْفَعِ الثِّيَابِ وَأَعْلَاهَا كَالسَّرْبِ وَالدِّيبَقِيِّ، وَدَعَا الغرماء إلى تكفينه بأدون الثياب كالناف وَغَلِيظِ الْبَصْرِيِّ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْفَرِيقَيْنِ التَّعَارُفَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَسَطًا لَا مَا دَعَا إِلَيْهِ السَّرَفُ، وَلَا مَا صَنَعَ مِنْهُ الشَّحِيحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) {الفرقان: 67) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كَلَّ البَسْطِ) {الإسراء: 29) فَذَمَّ الْحَالَيْنِ، وَمَدَحَ التَّوَسُّطَ بَيْنَهُمَا. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَكْفَانِ فَقَالَ الْوَرَثَةُ نُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْغُرَمَاءِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ، وَلِلْغُرَمَاءِ مَنْعُ الْوَرَثَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ فِي التَّطَوُّعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْوَرَثَةِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَرُجُوعًا إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا لَقَدَّمَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا مَيِّتًا، وَلَوْ قَالَ الْوَرَثَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي خِرْقَةٍ تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا يُخْتَلَفُ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ كَالْكَفَنِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ طِيبَ الْحَيِّ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَذَلِكَ طِيبُ الْمَيِّتِ فَعَلَى هَذَا لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا منه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسَّلُ السَّقْطُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنِ اسْتَهَلَّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَدُفِنَ وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تُوَارِيهِ لِفَافَةُ تَكْفِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ السَّقْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَإِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ لَهُ حِينَ مَاتَ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ وَدُعَاءٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالطِّفْلُ لَا ذَنْبَ لَهُ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مع الظاهر الْعَامَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَوُرِّثَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ " وَرَوَى أَنَسٌ وَالْمُغِيرَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ كَالْكَبِيرِ فِي مِيرَاثِهِ وَإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْكَبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَمْ يُصَلِّ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى ابْنِهِ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى يَعْنِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَعَنَى بِنَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ لِأَهْلِ الْخَطَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ الْمَجْنُونُ وَالْأَبْلَهُ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا ينبغي أن يصلي، لأنه ممن لا ذنب عليه، ولكان الأنبياء عليهم السلام لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ الْجَمِيعُ إِنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْوَاجًا وَزُمَرًا بِغَيْرِ إِمَامٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ وَلَا اسْتِهْلَالٍ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْقُطَ لِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، بَلْ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْقُطَ وَقَدْ بَلَغَ الزَّمَانَ الَّذِي يَنْفُخُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ الرُّوحَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُخْلَقُ أَحَدُكُمْ فَيَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يَأْتِي ملكٌ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَأَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ " وَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَفِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْقَدِيمِ إنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَصَارَ كَثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غُسْلُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَصْلٌ : إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة يُصَلِّي عَلَى أَكْثَرِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَى أَقَلِّهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالرَّأْسِ قِيَاسًا عَلَى مَا قُطِعَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ صَلَّى عَلَى رُؤُوسِ الْقَتْلَى بِالشَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ لمن ذكرنا مخالف فثبت أن إِجْمَاعٌ، فَأَمَّا الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عُضْوَ الْحَيِّ إِنَّمَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى جُمْلَتِهِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمَّا صلّي عَلَى الْمَيِّتِ صلّي عَلَى بَعْضِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُصَلى عَلَى مَا وَجَدَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ وَأَبْعَاضِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ينوي الصلاة جُمْلَةَ الْمَيِّتِ أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْوِي بِالصَّلَاةِ مَا وُجِدَ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا غَيْرَ بَعْدِ غُسْلِ الْعُضْوِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُكَفِّنْهُ جَازَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ مِنْ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِالصَّلَاةِ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعُضْوِ لَزِمَتْهُ لِحُرْمَةِ جُمْلَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ، فَيَخُصُّ بِالصَّلَاةِ الْعُضْوَ الْمَوْجُودَ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 باب الشهيد ومن يصلي عليه ويغسل قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ عَاشُوا وَأَكَلُوا الطَّعَامَ أَوْ بَقَوْا مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَرْبُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمُوا كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى وَالَّذِينَ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي المعترك يكفنون بثيابهم التي قتلوا بها إن شاء أولياؤهم وتنزع عنهم الخفاف والفراء والجلود وما لم يكن من عام لباس الناس ولا يغسلون ولا يصلى عليهم وروي عن جابر بن عبد الله وأنس ابن مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه لم يصل عليهم ولم يغسلهم (قال) وعمر شهيدٌ غير أنه لما لم يقتل في المعترك غسل وصلي عليه والغسل والصلاة سنة لا يخرج منها إلا من أخرجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُغَسَّلُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ، ويقول سَعِيدٍ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى عَشَرَةٍ عَشَرَةٍ وَحَمْزَةُ مَعَهُمْ، حَتَّى كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، وَرَوَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ مَعَكَ، ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَنِمَ فَقَسَمَ لَهُ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا حَظُّكَ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 الْغَنِيمَةِ فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا بَايَعْتُكَ، إِنِّمَا بَايَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُدْمِيَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى حلقةٍ، ثُمَّ نَهَضُوا فَأَصَابَهُ سهمٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَمَاتَ، فَكَفَّنَهُ وَصَلَى عَلَيْهِ " قَالَ وَلِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَنْ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، قَالَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ وَالشَّهِيدُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) {آل عمران: 169) فَأَخْبَرَ بِحَيَاتِهِمْ وَالْحَيُّ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ قَتْلَى أحدٍ وَقَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخُبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ " قَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ ثُمَّ لَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ " وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ " وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي السَّقْطِ لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي الشَّهِيدِ، كَالْغُسْلِ فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُرِنَتْ بِطَهَارَةٍ فَوَجَبَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُ الطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عقبة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ لِي شُعْبَةُ أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ جَاءَنِي يَسْأَلُنِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عمارة وهو يروي عن الحكم بن عيينة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ " هَذَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أحدٍ " عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ترجيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي خَبَرِنَا شَاهَدَ الْحَالَ، وَهُوَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَرَاوِي خَبَرِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْحَالَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَامَ أُحُدٍ سَنَتَانِ، وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ. وَالثَّانِي: مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَنَا نَاقِلٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَخَبَرَهُمْ مُبْقٍ لِحُكْمِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ نَحْمِلَ رِوَايَتَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا بِإِحْرَامٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسَلَامٍ. وَالثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلِأَنَّهُ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالَّذِي إِذَا قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ هُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ثُمَّ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ قُتِلَ فِي غير الْمُعْتَرَكِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ، فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا اسْتِغْفَارٌ فَيَفْسُدُ بِالسَّقْطِ. فَصْلٌ : إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ وَاجِبٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا حَقٌّ لِوَلِيِّهِ، إِنْ شَاءَ نَزَعَهَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ كَفَّنَهُ فِيهَا. وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَمِّلُوهُمْ فِي كُلُومِهِمْ ". وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ " أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَلِيفًا لَهُ لَمَّا قُتِلَا يَوْمَ أُحُدٍ هَمَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَدْفِنَهُمَا بِثِيَابِهِمَا فَمَنَعَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطْلِبِ مِنْ ذَلِكَ وَجَاءَتْ بِثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ فَكَفَّنَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمَا وَدَفَنَهُمَا مَعًا " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِوَلِيِّهِمَا الْخِيَارَ فِي تَرْكِهَا أَوْ أَنْ يَنْزِعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَيَدْفِنَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَوْلَى إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْخِفَافَ وَالْفِرَاءَ وَمَا لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ غَالِبًا عَامًّا، وَيَتْرُكَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَالِبِ اللِّبَاسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ. فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَتِيلِ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَوَاءٌ قُتِلَ بِالْحَدِيدِ أَوْ بِحَجَرِ المنجنيق، أو رفس حيوان، أو تردي مِنْ جَبَلٍ، أَوْ سقوط فِي بِئْرٍ أَوْ عُصِرَ فِي زَحْمٍ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، أَوْ مَاتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ قَتْلُ شَهَادَةٍ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ جُرِحَ فِي حَرْبٍ ثُمَّ خَلَصَ حَيًّا فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي الْمُعْتَرَكِ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَمْ لَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَانْكِشَافِهَا بِزَمَانٍ بَعِيدٍ غُسِّلَ وصلى عليه. وقال أبو حنيفة إذا مَاتَ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ غُسِّلَ، وَالِاعْتِبَارُ بِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عبيدة ابن الْحَارِثِ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ بِبَدْرٍ فَحُمِلَ وَعَاشَ حَتَّى مَاتَ بِالصَّفْرَاءِ، فَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَوْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا وَقَتَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ صَبْرًا فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْجَرِيحِ إِذَا خَلَصَ حَيًّا وَمَاتَ، لِأَنَّ خُرُوجَ رُوحِهِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا بِيَدِ مُشْرِكٍ حَرْبِيٍّ كالقتيل في المعترك، فأما من مات شهيداً بغرق أَوْ حَرْقٍ أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ قُتِلَ غِيلَةً أَوْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَكُلُّ هؤلاء لا يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قُتِلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ. فَصْلٌ : إِذَا قُتِلَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي الْمَرْأَةِ، وَخَالَفَنَا فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّبِيُّ لَا ذَنْبَ لَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ التَّطْهِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْبَالِغَ مُخَاطَبٌ فِي حَيَاتِهِ بِطَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا سَقَطَ لِلشَّهَادَةِ الْغُسْلُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الطَّهَارَتَانِ فِي حَيَاتِهِ فَلَأَنْ تَسْقُطَ بِهَا عَمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ يَجْرِيَانِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمَوْتَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرْكُ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُرِكَ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَرَامَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ جُنُبًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي إِيجَابِ غُسْلِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ غُسْلُهُ لِلْجَنَابَةِ لَا لِلْمَوْتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فَمَنْ أَوْجَبَ غُسْلَهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ " أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 أحدٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ فَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهِ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَرْبِ جُنُبًا " فَلَمَّا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُغَسِّلُهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ غُسْلُ جَمِيعِ بَدَنِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْقَتْلِ، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ قُتِلَ شَهِيدًا. وَمَنْ قَالَ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْقَتْلِ كَالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَلِأَنَّ الْحَيَّ الْجُنُبَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلِّيَ وَالْمَيِّتَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَتِيلُ الْجُنُبُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِغُسْلِهِ، فَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّهَادَةِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إِزَالَةُ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَجَبَ إِزَالَةُ كَثِيرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْأَكْبَرِ. فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ بَاغِيًا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً به، لأنه باين جميع الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُكَفِّرُوا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَإِنْ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ أميرٍ، وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ ميتٍ " وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مقتول فوجب أن يغسل ويصلى عليه ك " الزاني " الْمُحْصَنِ، وَالْقَاتِلِ الْعَامِدِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْتِغْفَارٌ وَرَحْمَةٌ وَالْبَاغِي إِلَيْهَا أَحْوَجُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الحرب فغلط لوقوع الفرق بينهما. فصل : وإن كان المقتول عادلاً ففي غسل وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَتْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ غِيلَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لَمَّا قُتِلَ بِصِفِّينَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةِ عَمَّارٍ، وَأَمْرِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَصْلٌ : إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ صَلَّى عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَنَوَى بِالصَّلَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ مُسْلِمٌ بِمِائَةِ مُشْرِكٍ، أَوْ مُشْرِكٌ بِمِائَةِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ صَلَّى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ كَانُوا سَوَاءً لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثُرَ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يصلى عليهم إذا كان المسلون أَقَلَّ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ كَافِرٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثَرَ، فَعُلِمَ فَسَادُ مَا اعْتَبَرُوهُ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 باب حمل الجنازة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ معاذٍ بين العمودين وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عثمان حمل بين عمودي سرير أمه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور (قال) ووجه حملها من الجوانب أن يضع ياسرة السرير المقدمة على عاتقه الأيمن ثم ياسرته المؤخرة ثم يامنة السرير المقدمة على عاتقه الأيسر ثم يامنته المؤخرة فإن كثر الناس أحببت أن يكون أكثر حمله بين العمودين ومن أين حمل فحسن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا خَمْسَةٌ، أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا وَوَاحِدٌ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ. وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ ابنه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور [ابن مَخْرَمَةَ] وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ وَأَحْصَرُ لِلْمَحْمُولِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَوَجْهُ حَمْلِهَا مِنَ الْجَوَانِبِ، أَنْ يوضع بأسرة السَّرِيرِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَيَتَأَخَّرَ، ويوضع بأسرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ وَيَضَعُ السَّرِيرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأيسر، ثم يتأخر ويضع ثامنة السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ، ثُمَّ يَحْمِلَ الْخَامِسُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ، فَإِنْ ثَقُلَتِ الْجِنَازَةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهَا سِتَّةٌ، وَثَمَانٍ، وَعَشْرٌ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهَا أَعْمِدَةٌ مُعَارَضَةٌ تَمْنَعُ الْجِنَازَةَ، كَذَا حُمِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَدَّنًا ثَقِيلًا، فَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُخْتَارُ لَهُنَّ إِصْلَاحُ النَّعْشِ كَالْقُبَّةِ عَلَى السَّرِيرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَتْ خَلِيقَةً ذَاتَ جِسْمٍ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا رَأَى النَّاسُ جُثَّتَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: قَدْ رَأَيْتُ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ نُعُوشًا لِمَوْتَاهُمْ فَعَمِلَتْ نَعْشًا لِزَيْنَبَ فَلَمَّا عُمِلَ قَالَ عمر رضي الله عنه نعم خبا الظَّعِينَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ دَنَاءَةٌ وَلَا إِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ، بَلْ ذَلِكَ مَكْرُمَةٌ وَثَوَابٌ وَبِرٌّ، وَفِعَالُ أَهْلِ الْخَيْرِ، قَدْ فَعَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَيَتَوَلَّى حَمْلَ الْجِنَازَةِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ، سَوَاءٌ كَانَ الميت رجلاً أو امرأة، وكيف ما حملت الجنازة جاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 باب المشي بالجنازة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ وهو فوق سجية المشي ". قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ. الْمُخْتَارُ لِحَامِلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّةِ مَشْيِهِ كَالْمُسْرِعِ، وَلَا يَسْعَى لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا إليه، وإن كان غير شَيْءٌ وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: " دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُعَجَّلُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذلك فبعد الأهل النَّارِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنْ كَانَ بِالْمَيِّتِ عِلَّةٌ يَخَافُ النَّجَاسَةَ يَعْنِي انْفِجَارَهُ تَرَفَّقَ به في المشي. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ رَاكِبًا فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا كَانَ بِالْخِيَارِ وَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَضْلِ الْمَشْيِ خَلْفَهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 " الْجِنَازَةُ متبوعةٌ لَا تَتْبَعُ لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " وَبِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَامَهَا، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ. قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْجِنَازَةَ تَقُولُ قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ". ودليلنا على فضل الشيء رِوَايَةُ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَلَفْظَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَالْمُقَامِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ الْجَائِزَ مَرَّةً وَلَا يَدُومُ إِلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ مَشَى خَلْفَ الْجِنَازَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّاسِ فِي جِنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ امْشُوا أَمَامَ أُمِّكُمْ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَنْهَى بِفِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِفَضْلِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى مَعَ الْجِنَازَةِ حَامِلُهَا لأن له أجرين، والماشي مَعَ الْجِنَازَةِ أَجْرٌ، ثُمَّ كَانَ مَنْ حَمَلَ قدام الجنازة أفضل من حَمَلَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، كَذَلِكَ مَنْ مَشَى أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ مَشَى خَلْفَهَا. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا وَانْقَطَعَ مِنْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُطَرِّفِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ، عَلَى أن خبرنا أولى منه، لأنه يفعل فعل دوام عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْلَمَانِ فَضْلَ الْمَشْيِ خَلْفَهَا وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ، فَحَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ جَابِرٍ وَكَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَحْرًا قِيلَ لَهُ مَنْ حَدَّثَكَ فَقَالَ: طَائِرٌ مَرَّ بِنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الْجِنَازَة تَقُولُ قَدِّمُونِي " فَمَعْنَاهُ: أَسْرِعُوا بِي. فَصْلٌ : يُكْرَهُ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ، أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وَرَوَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، فَإِذَا عَادَ مِنَ الدَّفْنِ جَازَ أَنْ يَرْكَبَ، وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَهُ، وَرَوَى سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ لَمَّا مَاتَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ تَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جِنَازَتَهُ مَاشِيًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ أُتِيَ بفرسٍ فَرَكِبَهُ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 بَابُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَلِيُّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنَ الْوَالِي لِأَنَّ هَذَا من الأمور الخاصة ". مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ، وَسُلْطَانِهِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ سَائِرِ أَوْلِيَائِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ رجلٌ رَجُلًا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ". وَرُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - عليهما السلام - قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ حَتَّى صَلَّى عَلَى أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي بِإِقَامَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَوَجَّهَ فِي الْجَدِيدِ عُمُومَ قوله تعالى: {وَأَولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) {الأنفال: 75) وَلِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنَّسَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَحَقَّ مِنَ الْوَالِي كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فِي النِّكَاحِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، كَالْقَرِيبِ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَشْفَقُ وَأَحْنَى وَأَرَقُّهُمْ عَلَيْهِ، قُلْنَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَوْلَى لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا الْخَبَرُ فمحمول على الصلوات المفروضات. وأما تقديم الحسين عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَعِيدٍ، وَقَوْلُهُ: لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ، يَعْنِي: أنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْدِيمَ الْوُلَاةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا الْوَاجِبُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَعِيدًا اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ فِيهَا، بِالْوِلَايَةِ دون النسب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَقُّ قَرَابَتِهِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثَمَّ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ ثُمَّ أَقْرَبُهُمْ بِهِ عَصَبَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَالِي، فَأَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ الْأَبُ، لأنه قد شارك الابن في البعضية، وَاخْتُصَّ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَمَنْ عَلَا مِنْهُمْ لِمُشَارَكَتِهِمُ الْأَبَ فِي هذا المعنى، ثم الأب لاختصاصه بالبعضية وقربه بالتعصيب، ثُمَّ بَنُو الِابْنِ وَإِنْ سَفُلُوا لِمُشَارَكَتِهِمُ الِابْنَ في هذا لاختصاصهم المعنى، ثم الإخوة للأب والأم تتقدم على الإخوة للأب، بالرحم مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي التَّعْصِيبِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّهُمْ سَوَاءٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا امْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ فِي الصَّلَاةِ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْتُ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غُسْلِهِ، فَقَوِيَ الْأَخُ بِهَا وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَخُ بِهَا قُوَّةً، فَهُنَاكَ ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، وَالْأُمِّ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ من لا ولي له. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن اجتمع له أولياء فِي دَرَجَةٍ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَسَنُّهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ حَالُهُ فَأَفْضَلُهُمْ وَأَوْفَقُهُمُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَالْوَلِيُّ الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ الْمَمْلُوكِ "، وهو كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلِيَاءَ قَدِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ، كَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُحْسِنُهَا، فَالَّذِي يُحْسِنُهَا مِنْهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ يُحْسِنُهَا، فَأَسَنُّهُمْ إِذَا كان محمود أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسِنُّ أَوْلَى مِنَ الْفَقِيهِ بِخِلَافِ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُسِنِّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِكْرَامُ ذي الشيبة المسلمين) فإن استوت أحوالهم في السن، وتشاحنوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، كَانَ أَوْلَى، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُنَاسِبُ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ. فَصْلٌ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ تُنَفَّذْ فِيهِ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَمِثَالُ هَذَا: وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 باب وقت صلاة الجنازة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ، لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَرِهَ أبو حنيفة فِعْلَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ، وَاسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نُصَلِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تصفر للغروب حتى تغرب ". قال الماوردي: وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَفْرُوضَاتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَبْرِ الْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ منه إجماعاً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَرَادُوا الْمُبَادَرَةَ جَعَلُوا النِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثَمَّ الصِّبْيَانَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ الرِّجَالَ مِمَا يَلِي الْإِمَامَ (قال المزني) قلت أنا والخناثى في معناه يكون النساء بينهن وبين الصبيان كما جعلهم في الصلاة بين الرجال والنساء ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 باب هل يسن القيام عند ورود الجنازة للصلاة وفي كيفية الصلاة والدفن (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع عن الشافعي قال: القيام في الجنائز منسوخ واحتج بحديث علي رضي الله عنه قال إبراهيم قال حدثنا يوسف بن مسلم المصيصي قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن قيس بن مسعود بن الحكم عن أبيه أنه شهد جنازة مع علي بن أبي طالب فرأى الناس قياماً ينتظرون أين توضع فأشار إليهم بدرةٍ أو سوطاً اجلسوا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد جلس بعد ما كان يقوم قال ابن جريج وأخبرني نافع بن جبير عن مسعود عن علي مثله. ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ جَنَائِزَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَتُقَدَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى السَّابِقِ، فَإِذَا جَاءُوا عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يتشاحنوا فَالصَّلَاةُ عَلَى أَفْضَلِهِمْ نَسَبًا وَدِينًا، إِلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْ غَيْرِهِ الْفَسَادُ، فَيُبْدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فإن تشاحنوا فِي التَّقْدِيمِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَبَدَأَ بِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مُنْفَرِدِينَ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإِنْ كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا رجالاً غَيْرَ أَوْ نِسَاءً كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى يَكُونَ أَقَلُّهُمْ فَضْلًا أبعدهم من الإمام وأقربهم الْقِبْلَةِ، كَمَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ الْأَحْيَاءِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ جِنَازَةُ غَيْرِهِ، فَأَمَّا إِنْ سَبَقَتْ جِنَازَةُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَوُضِعَتْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخَّرَ لِجِنَازَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَالْحَيِّ إِذَا سَبَقَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا أَجْنَاسًا بَدَأَ فَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الْخَنَاثَى ثُمَّ بَعْدَهُمُ النِّسَاءَ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ، وَاخْتَارَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ضِدَّ هَذَا، فَقَالَ: يَكُونُ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالنِّسَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ كَالدَّفْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى في الاختيار، لما رَوَاهُ نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِيهِ، وَالنِّسَاءَ صُفُوفًا وَرَاءَ الرِّجَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وَرَوَى عَمَّارٌ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَابْنِهَا زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَا مَاتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَوُضِعَا جَمِيعًا فِي الْمُصَلَّى، وَالْإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ الْأَمِيرُ، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو قَتَادَةَ، فَوَضَعَ الْغُلَامَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، قَالَ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذِهِ السُّنَّةُ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ، كَانَ الرِّجَالُ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، كَذَلِكَ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ الْإِمَامُ، فَأَمَّا الدَّفْنُ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، أَبْعَدَ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ " وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ؛ كَانَ الْفَضْلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ خُولِفَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نص، لكن قال أصحابنا البصريين: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ بِالنِّفَاسِ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ كَعْبٍ، فَوَقَفَ عِنْدَ وَسَطِهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ عَجُزَهَا أَعْظَمُ عَوْرَتِهَا فَاخْتَرْنَا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ لِيَسْتُرَهُ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ في المسجد كَرِهَ مَالِكٌ وأبو حنيفة أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْمَسْجِدَ، وَأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ مَاتَ، أُدْخِلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الناس، فقال عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي سهيلٍ واجباً إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى صُهَيْبٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 فصل: القول في صلاة الغائب يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى مَيِّتٍ مات ببلد آخر. وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ رَدٌّ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ مَاتَ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. فَصْلٌ: الْقَوْلُ في الصلاة على المقتول في حد المتقول فِي حَدٍّ وَقِصَاصٍ يَجِبُ غُسْلُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمَقْتُولُ حَدًّا بِالرَّجْمِ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالْمَقْتُولُ قَوَدًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَقْتُولٍ بِحَدٍّ فِي قَوَدٍ، أَوْ حَدٍّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ أَوْلِيَاؤُهُ: وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ فِي نِفَاسٍ مِنْ زِنًا، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يدخله القبر قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأولى وروي عن ابن عباس أنه قرأ بفاتحة الكتاب وجهر بها وقال إنما فعلت لتعلموا أنها سنة وعن ابن عمر أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة وعن ابن المسيب وعروة مثله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى: فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فَهِيَ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ فِيهَا طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً وَإِنَّمَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، هَذَا قَوْلٌ خَرَقَا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَا فِيهِ الْكَافَّةَ، مَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً فِي الشَّرْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ولاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طهورٍ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى إِحْرَامٍ وَسَلَامٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ، كَسِتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الطَّهَارَةِ فِيهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَتَضَمَّنُهَا فَشَيْئَانِ تَكْبِيرٌ وَأَذْكَارٌ فَأَمَّا عَدَدُ تَكْبِيرِهَا: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعِينَ، أَنَّهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، يُكَبِّرُ ثَلَاثًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يُكَبِّرُ خَمْسًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُكَبِّرُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ مَنْ هُوَ خَبَرٌ مَرْوِيٌّ وَالْأَرْبَعُ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا؛ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 أَحَدُهَا: أَكْثَرُ رِوَايَةٍ فِي أَمْوَاتٍ شَتَّى، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر على قبر سكينة أَرْبَعًا. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعًا، آخر فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ نَاسِخًا لِمُتَقَدِّمِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ آخِرَ مَا كَبَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا، جِنَازَةَ سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَالثَّالِثُ: عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُ وَانْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أربعاً، وكبر علي عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ الْحَسَنُ على علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 فَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَوْتِهِ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَقَالَ قَوْمٌ ثَلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: خَمْسًا، فَجَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُكَبِّرَ فِيهَا أَرْبَعًا، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُزِيلًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَعْدَادِ التَّكْبِيرِ، فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَكَبَّرَ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَهَلْ يُسَلِّمُونَ أَوْ يَنْتَظِرُونَ سَلَامَهُ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُسَلِّمُونَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ مَا لَيْسَ مِنْ صَلَاتِهِمْ. وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُونَ فَرَاغَهُ لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ، حَتَّى يَكُونَ خروجهم بخروجه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر المصلي على الميت ويرفع يديه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تُجْزِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ، كَالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى سُنَّ فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الْقِيَامِ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ العيدين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، إِلْحَاقًا بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِيَكُونَ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا: رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً وَلِأَنَّهَا صلاة تتضمن القيام فوجب أن تتضمن القراءة كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا وَاجِبَةٌ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فأما قوله: " وجهت وجهي " فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ كَالتَّعَوُّذِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالسُّورَةِ، ثُمَّ إِنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ نَهَارًا، أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا لَيْلًا، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَالثَّانِي: يُسِرُّ بِهَا وَلَا يَجْهَرُ، كَمَا يُسِرُّ لِلدُّعَاءِ وَلَا يَجْهَرُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ". ذكر المزني هاهنا، وإذا كبر الثانية ذكر الله تعالى، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعا للمؤمنين والمؤمنات، فذكر ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ: فَلَمْ يَحْكِ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ التحميد، ولم يخيره، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّحْمِيدِ مَأْخُوذٌ بِهَا، وَالْمُزَنِيُّ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ كِتَابٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا " وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ يُرْجَى إِجَابَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ دُعَاءٍ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِهِ " وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ اسْتِحْبَابٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثانياً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وَبِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثَالِثًا، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِهِمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الْإِجَابَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ فِي حَاجَتِهِ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا سئل في حاجتين لم يجب في أحدها وَتَرَكَ الْأُخْرَى " فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بَعْضٍ جَازَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاز. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَيَدْعُو للميت فيقول " اللهم عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه وكان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به اللهم نزل بك وأنت خير منزولٍ به وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه وافسح له في قبر وجاف الأرض عن جنبيه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين " ثم يكبر الرابعة ثم يسلم عن يمينه وشماله ويخفي القراءة والدعاء ويجهر بالسلام ". قال الماوردي: وإذا كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قَالَ: اللَّهُمَّ أَمَتُكَ، وَابْنَةُ عَبْدِكَ، وَأَتَى بِجَمِيعِ الدُّعَاءِ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا، دَعَا لِأَبَوَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُمَا فَرَطًا وَسَلَفًا، وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا، وثقل به موازنيهما، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ جَازَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّابِعَةِ ذِكْرٌ غَيْرُ السَّلَامِ، وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: إِذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّابِعَةِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا وَيسَلّم تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ يَسِيرًا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وجهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فصل شروط صحة صلاة الجنازة قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شُرُوطَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ بِلِبَاسٍ طَاهِرٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ، وَكُلُّهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ تُجْزِهِمْ، وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَةٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ قِيَامًا وَبَعْضُهُمْ قُعُودًا، فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ أَجْزَأَ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ الصَّلَاةِ، لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ الْمُتَطَهِّرُ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لَمْ يَجْزِهِمْ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ لَا تَقَعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا. فَصْلٌ : إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهِ فُرَادَى بِغَيْرِ إِمَامٍ، لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ، فَلَوْ حَضَرَ الرِّجَالُ فِيمَا بَعْدُ، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى النساء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ افْتَتَحَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَضَى مَكَانَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي يوسف. وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَضَى مَا فَاتَهُ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا ثُمَّ يَدْخُلَ مَعَهُ، كَذَلِكَ إذا فاته تكبيرة لم يجز أن يبدئها ثُمَّ يُكَبِّرَ مَعَهُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا " وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ما أدرك معه إلا بتقديم التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مَعَ الْإِمَامِ بِتَقَدُّمِ التَّكْبِيرِ، فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أبو حنيفة فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْمَأْمُومُ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُهُ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أنه لو كبر بعد تكبيرة الإمام جاز، وإذا جاز جاز لمن أتى بعده. فإذا تقرر أن يُكَبِّرَ وَلَا يَنْتَظِرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ جَمِيعِهَا قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَرَأَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 بَعْضَهَا ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَكَبَّرَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ، وَقَدْ يَحْمِلُ الْإِمَامُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَدَخَلَ مَعَهُ، كَانَتْ لَهُ أُولَةٌ يَقْرَأُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ وَهِيَ لِلْإِمَامِ ثَانِيَةٌ يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَتِ الجنازة موضوعة أو مرفوعة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِثْلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَغَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَبْلَ الدَّفْنِ عَلَى جِنَازَتِهِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بَلْ قَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدفن لما يخاف من انفجاره، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَلِيُّهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً سَوَاءً دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه منع من الصلاة على القبر وغلط الْأَمْرَ فِيهِ وَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " قَالُوا وَلَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، لَجَازَتْ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَقَطْ سَقَطَ الْغَرَضُ وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ نَفْلًا، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، ثُبُوتُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: رِوَايَةُ سَهْلِ بن حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ مسكينةٍ. وَثَانِيهَا: رِوَايَةُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ أَسْوَدَ كَانَ يُنَظِّفُ الْمَسْجِدَ فَدُفِنَ لَيْلًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وَثَالِثُهَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بقبرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ مِنَ الثِّقَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ. وَرَابِعُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. وَخَامِسُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على قبر حدث بعد بعد ثلاث. وسادسها: رواية الشعبي عن الن عباس أنه صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثابتة بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ مُبَاهِتًا، وَلِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُبْلَ، كَالْوَلِيِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ، فَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الطَّهَارَةِ لِلْمَكَانِ. وَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَغَيْرُ ثَابِتٍ بوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهُمْ تَعْظِيمُهُ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَأَصَحُّ مَذَاهِبِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَصِرْ رَمِيمًا، وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ عَاصَرَهُ وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ التَّنَفُّلَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، فَيَفْسُدُ بِصَلَاةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، ثُمَّ لم تكن ممنوعة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُدْخِلُ الْمَيِّتَ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ وَيُدْخِلُهُ مِنْهُمْ أَفْقَهُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ بِهِ رحماً ويدخل المرأة زوجها وأقربهم بها رحما ويستر عليها بثوب إذا أنزلت القبر (قال الشافعي) وأحب أن يكونوا وتراً ثلاثة أو خمسة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَ الْمَيِّتِ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، لِأَنَّ الرِّجَالَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَتَنَزُّلَهُمْ فِيهِ أَهْوَنُ وَقَرَابَاتِ الْمَيِّتِ وَأَهْلَ رَحِمِهِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي النَّسَبِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُدِّمَ أَفْقَهُهُمْ، يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا الْقَبْرَ زَوْجُهَا، ثُمَّ أَبُوهَا وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْأَبُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ كَالْغُسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَخُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَخَادِمٌ لَهَا مَمْلُوكٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَخِصْيَانٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونُوا وِتْرًا ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادُوا فَخَمْسَةً، لِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى إِدْخَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةٌ، الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ فَقَالُوا: الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو زُهْرَةَ فَسَأَلُوا إِدْخَالَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْخِلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ أَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، فَدَعَوْا مَوْلًى لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَالُ لَهُ شُقْرَانُ فَأَدْخَلُوهُ مَعَهُمْ حَتَّى صَارُوا خَمْسَةً، وَيُخْتَارُ أَنْ يُسْتَرَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ عِنْدَ إدخاله القبر، لا سيما إذا كَانَتِ امْرَأَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويسل الميت سلا من قبل رأسه وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سل من قبل رأسه (قال) حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا الفضل بن أبي الصباح قال حدثنا يحيى بن المنهال عن خليفة عن حجاج عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل قبراً ليلاً فأسرج له وأخذه قبل من القبلة (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن منيع عن هشيم عن خالد الحذاء عن ابن سيرين أن رجلاً من الأنصار مات فشهده أنس بن مالك فأدخله من قبل رجل القبر. ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهُوَ: أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَاخْتَارَ أبو حنيفة أَنْ تُوضَعَ بَعِيدًا مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ تُحَطُّ عَرْضًا. رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُدِّمَ إِلَى الْقَبْرِ مُعْتَرِضًا. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلَّ مِنْ قِبَلِ رِجْلِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى فِي الِاخْتِيَارِ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ فِي قَبْرِهِ قِبْلَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ شَاهَدَ الْمَوْضِعَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ الْجِنَازَةِ إِلَيْهِ عَرْضًا " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 فصل : حكم نبش القبر قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمَاطَ عنه التراب ويغسل ويكفن يصلى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَرَاحَ لَمْ يُنْبَشْ، وَتُرِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُنْبَشُ وَإِنْ تَغَيَّرَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يُنْبَشْ وَصَلِّي عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَبَعْدَهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قبرٍ مِنْ بَعْدِ شهرٍ ". فَأَمَّا إِذَا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ فَهَلْ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُنْبَشُ كَمَا يُنْبَشُ لِلْغُسْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُتْرَكُ وَلَا يُنْبَشُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَنِ الْمُدَارَاةُ، وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ دُفِنَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنْبَشُ وَيُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَيُرِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي قَبْرِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ أَوْصَى بِذَلِكَ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً. فصل: القول في استخراج الجنين من بطن أمه وهي ميتة إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ حَيٌّ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، يُخْرَجُ جَوْفُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِمُدَّةٍ يجوز أن يعيش لستة أشهر فساعداً شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ، وَإِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا: تُرِكَ. فَصْلٌ : إِذَا ابْتَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُخْرَجُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أَتْلَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُخْرَجُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِوَرَثَتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِ. فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا، وَدَفْنَهَا، وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى المشركين، لكن قد روي عن عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا فِي مقابر المسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الَّذِينَ يُدْخِلُونَهُ " بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ سَلَّمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْتَ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ وَاكْفِهِ كُلَّ هولٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ وَمُوَافِقٌ لِلْحَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُ وَلَا نَقْصٌ عَنْهُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 باب التعزية وما يهيأ لأهل الميت قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ تَعْزِيَةَ أَهْلِ الْمَيِّتِ رَجَاءَ الْأَجْرِ بِتَعْزِيَتِهِمْ وَأَنْ يُخَصَّ بِهَا خِيَارُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ عَنِ احْتِمَالِ مصيبتهم ويعزى المسلم بموت أبيه النصراني فيقول " أعظم الله أجرك وأخلف عليك " ويقول في تعزية النصراني لقرابته " أخلف الله عليك ولا نقص عددك ". وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ التَّعْزِيَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْتِمَاسًا لِلْأَجْرِ، فَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعْنَا هَاتِفًا فِي الْبَيْتِ يُسْمَعُ صَوْتُهُ، وَلَا يرى شخصه، ألا إن في الله عزا عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ ثِقُوا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَقِيلَ هَذَا الْخَضِرُ جَاءَ يُعَزِّي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَرَابَتِهِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَنْ شَيَّعَ الْجِنَازَةَ وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الدَّفْنِ عَزَّى وَانْصَرَفَ، وَمَنْ صَبَرَ حَتَّى يُدْفَنَ عَزَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِهِ جَزَعًا شَدِيدًا وَقِلَّةَ صَبْرٍ، فَتُقَدَّمُ تَعْزِيَتُهُمْ، لِيُسَلُّوا، وَيَخُصُّ التَّعْزِيَةَ أَقَلَّهُمْ صَبْرًا وَأَشَدَّهُمْ جَزَعًا، وَيَخُصُّ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَدِينًا، أَمَّا الْقَلِيلُ الصَّبْرِ فَلْيُسَلُّوا، وَأَمَّا الْكَثِيرُ الْفَضْلِ، فَإِنَّمَا يُرْجَى مِنْ إِجَابَةِ رَدِّهِ وَدُعَائِهِ. فَصْلٌ: القول في ألفاظ التعزية فَأَمَّا أَلْفَاظُ التَّعْزِيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَيِّتَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، أَمَّا الْخَيْرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَدِّ عَنْ ذِي قَبْرٍ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَيَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسُبُّونَ أَبَا جَهْلٍ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ عِكْرِمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَسُبُّوا الْمَوْتَى لِتُؤْذُوا بِهِ الْأَحْيَاءَ ". وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يَسَعُهُمْ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِعْلُ أَهْلِ الْخَيْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَرِهَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ مَوْتِهِ قَالَ لِأَهْلِهِ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ثُمَّ اسْتَدْعَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمُصِيبَةِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، قَالَ الرَّاوِي: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ في الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 باب البكاء على الميت قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُرَخِّصُ فِي الْبُكَاءِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نياحةٍ لِمَا فِي النَّوْحِ مِنْ تَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَمَنْعِ الصبر وعظيم الإثم وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " وذكر ذلك ابن عباس لعائشة فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " ولكن قال " إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " (قال) وقالت عائشة حسبكم القرآن {لا تَزِر وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال ابن عباس عند ذلك الله أضحك وأبكى (قال الشافعي) ما رَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشبه بدلالة الكتاب والسنة قال الله جل وعز {لا تزرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال {لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقال عليه السلام لرجل في ابنه " إنه لا تجنى عليك ولا تنجني عليه " وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه له لا بذنب غيره (قال المزني) بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليه وبالنياحة أو بهما وهي معصيةٌ ومن أمر بها فعملت بعده كانت له ذنباً فيجوز أن يزاد بذنبه عذاباً - كما قال الشافعي - لا بذنب غيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ. أَمَّا النَّوْحُ، وَالتَّعْدِيدُ، وَلَطْمُ الْخُدُودِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ حَرَامٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ، وَنَهَى عَنِ الصِّيَاحِ وَالْمَأْتَمِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عند المصيبة، وصوت عند نغمةٍ " قيل: المراد به النياحة عند المصيبة، والمزمار عند النغمة. وَرَوَتِ امْرَأَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ أَوْ سَلَقَ " فالحلق هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 حَلْقُ الشَّعْرِ، وَالسَّلْقُ هُوَ أَنْ تَنُوحَ بِلِسَانِهَا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (الأحزاب: 19) . وَرَوَى قُتَيْبَةُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ مِنَ النِّسَاءِ السَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ، وَالْخَارِقَةَ وَالْمُمْتَهِشَةَ. فَالسَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالصُّرَاخِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْحَالِقَةُ: الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا، وَالْخَارِقَةُ: الَّتِي تَخْرِقُ ثَوْبَهَا، وَالْمُمْتَهِشَةُ: أن تَخْمُش وَجْهَهَا فَتَأْخُذُ لَحْمَهُ بِأَظْفَارِهَا مِنْهُ، وَقِيلَ نَهْشَةُ الْكِلَابِ، وَالْمُمَهِّشَةُ: الَّتِي تحلق وجهها بالموسى للتزين. فصل البكاء على الميت فَأَمَّا الْبُكَاءُ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ فَمُبَاحٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفِ الْحُزْنِ وَتَعْجِيلِ السُّلُوِّ، وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنَّهُ مَوْعِدٌ صادقٌ، ووعدٌ جامعٌ، وَأَنَّ الْمَاضِيَ فَرَطٌ لِلْبَاقِي، وَأَنَّ الْآخِرَ لاحقٌ بِالْأَوَّلِ، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ مَحْزُونُونَ الْحَقْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَبْكِي عَلَى هَذَا السَّخْلِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ دَفَنْتُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا كُلُّهُمْ أَشَفُّ مِنْهُ كُلُّهُمْ أَدْفِنُهُمْ فِي التُّرَابِ أَحْيَاءً فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَا ذَنْبِي إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ ذَهَبَتْ مِنْكَ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ " لَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توجه عثمان بن مظعون بالحصبة " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الحق لبلغنا الخير أيجهر عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ: وَبَكَى النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ، وَقَالَ دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ وقَالَ إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ وَبَكَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنِهَا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، وَقِيلَ إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوَّجَ عُثْمَانَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عَلَى شَفِيرِ قبر رقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 فَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " حسبكم القرآن " {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) {فاطر: 18) وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ حَمْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: مَا رَوَتْهُ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْتَازَ عَلَى قَبْرِ يَهُودِيٍّ، وَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيُبْكَى عَلَيْهِ، وَإِنَهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يُبْكَى بِهِ الْجَاهِلِيُّ مِنْ حُرُوبِهِ، وَقَتْلِهِ، وَغَارَاتِهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ فَيَكُونُ عَذَابًا عَلَيْهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ وصل بِالْبُكَاءِ، فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: (فَإِنْ مِتُّ فَانْعي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا أم مَعْبَدِ) فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ كَانَ زَائِدًا فِي عَذَابِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَصْلٌ : يُكْرَهُ الْوَطْءُ عَلَى الْقَبْرِ، وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِنْدَهُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، خَلَعَ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ، وَمَشَى مَا أَمْكَنَ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ، فَرَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتَيْكَ قَالَ: فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فخعلهما فَرَمَى بِهِمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَحْشَةِ وَإِزْعَاجِ القلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 فَصْلٌ : وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُسْتَحَبَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْهُجْرُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زُورُوا قُبُورَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا اعْتِبَارًا " والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 كتاب الزكاة أَمَّا الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ فَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ يُقَالُ: زَكَا الْمَالُ إِذَا نَمَا وَزَادَ، وَزَكَا الزرع إذا زاد ربعه ويقال: رجل زاك، إذا كان كثير الخير والمعروف، قال الله تعالى: {قَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) {الكهف: 74) أَيْ نَامِيَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: (قَبَائِلُنَا سبعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ ... وَلَسَبْعٌ أَزْكَى مِنْ ثلاثٍ وَأَكْثَرُ) وَقَالَ الرَّاجِزُ الْمِنْقَرِيُّ: (فَلَا زَكَا عَدِيدُهُ وَلَا خَسَا ... كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا) غَيْرَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الشَّرْعِ، اسْمٌ صَرِيحٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، مِنْ مال مخصوص، على أوصافه مَخْصُوصَةٍ لِطَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: الزَّكَاةُ، اسْمٌ مَا عُرِفَ إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَصْلٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ مؤثراً في أحكام الزكاة. فصل : والأصل فِي وُجُوبِهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاّةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) {البينة: 5) وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) {النور: 56) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ أم لا؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ إِذَا بَلَغَ قَدْرًا مَخْصُوصًا، وَالْآيَةُ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَبَيَانُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، إِلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَقَالَ عدة مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ ما يتناوله اسم الزكاة فلأنه يقتضي وُجُوبَهُ، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنَ الْمَالِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّكَاةِ فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وَالمَحْرُومِ) {الذاريات: 19) وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) فَقَوْلُهُ تَعَالَى خُذْ صَرِيحٌ فِي الْأَخْذِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وقوله تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْأَخْذِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34) وَالْكَنْزُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا، وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، فَأَمَّا ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ: الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ، سَوَاءٌ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ أَمْ لَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ. وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: الْكَنْزُ الْمُحَرَّمُ بِالْآيَةِ، هُوَ مَا لَمْ يُنْفَقْ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ غَلَطٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْكِتَابَ يَشْهَدُ لَهُ، / وَالسُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ يُعَضِّدُهُ، فَأَمَّا مَا يَشْهَدُ من كتاب الله سبحانه، فما ورد فيه مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) {التوبة: 34) إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) {التوبة: 35) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ وَارِدًا فِي حِرْزِ الْأَمْوَالِ وَدَفْنِهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ دَاوُدَ لِإِبَاحَتِهِ ذَلِكَ، وَلَا فِي إِنْفَاقِهَا فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وكما قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، لِأَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَلَيْسَ فِي الْأَمْوَالِ حَقٌّ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَّا الزَّكَاةَ فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ. وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ، فَمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، أكنزٌ هي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مالٍ بَلَغَ الزَّكَاةَ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكنزٍ، وَمَا لَمْ يُزَكِّهِ فَهُوَ كنزٌ ". وَأَمَّا مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْفَنْ، وَكُلُّ مَالٍ أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ دُفِنَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ، يَطْلُبُ صَاحِبَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ: فما روى عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ". وَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: مَا مِنْ رجلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {سَيُطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) {آل عمران: 180) وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُمِرْتُ بِثَلَاثٍ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ". وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ". وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا صَاحِبِ إبلٍ أَوْ بقرٍ وغنمٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا طُرِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقاعٍ فرقرٍ، تنطحه بقرونها، وتكأه بأظلافها، كلما بعدت أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ". فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ. فَأَمَّا طَرِيقُ وُجُوبِهَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قُبِرَ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَفَرَ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَنِ امْتَنَعَ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ، وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ: فَوَكَزَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَهَلْ هَذَا إِلَّا حَقُّ حَقِّهَا، وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقاتلتهم عليه، قال عمر: وشرح الله تعالى صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ مَعَهُ عَلَى وُجُوبِهَا بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ، وَأَطَاعُوهُ عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 باب فرض الإبل السائمة قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ أَوِ ابْنِ فُلَانِ بن أنس شك الشافعي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على المسلمين التي أمر الله جل وعز بها فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ فإن لم تكن بنت مخاضِ فابن لبونٍ ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت ليونٍ أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقه طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائةٍ ففيها حقتان طروقتا الجمل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِزَكَاةِ الْإِبِلِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ، فَبَدَأَ بِهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ أَعْدَادَ نُصُبِهَا أسنان الواجب فيها فصعب ضَبْطُهُ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِ لِتَقَعَ الْعِنَايَةُ بِمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ رَوَى الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ نُصُبِهَا، وَأَبَانَهُ مِنْ فَرْضِهَا، وَأَثْبَتَهُ فِي صَحِيفَةٍ، وَأَخَذَ بِهَا عُمَّالُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَاقْتَدَى بها خلفاؤه رضي الله عنهم من بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَجُمْلَةُ مَنْ رَوَى فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَوْفَاةً أَرْبَعَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، دُونَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ حَزْمٍ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طريقين ثابتين. أحدهما: عن يونس بن يزيد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَالثَّانِي: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ ضَعِيفًا، وَالْآخَرُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا رَوَى عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ غَيْرِ ثَابِتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَالثَّانِي: يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ: أَقْرَأَنِي سَالِمٌ كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحَّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ حَزْمٍ، كَانَ الْأَخْذُ بِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ عَمِلَ عَلَيْهِ إِمَامَانِ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَرَّمَ اللَّهُ وجهيهما، ولم يعملا على رواية علي عليه السلام وَابْنِ حَزْمٍ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ: خَمْسُ شِيَاهٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُجْمَعٌ عَلَى العمل به. فإن قيل: لما خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة بأن كتبها في صحيفة دون سائرها من الْفُرُوضِ، مِنَ الصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا، وَالصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْحَجِّ ومناسكه، ولا اقتصر على القول كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ ونصبها، ومقاديرها، الواجب فِيهَا وَأَسْنَانَ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا، لَمَّا طَالَ وَصَعُبَ احْتَاجَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، دُونَ سَائِرِهِمْ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، بِخِلَافِ الْفُرُوضِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَى الْكَافَّةِ، أَوْدَعَ ذَلِكَ كِتَابًا لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ، وَأَضْبَطَ، فَكَانَتْ نُسْخَةُ ذَلِكَ فِي قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخَذَهَا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَكَانَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مدة حياته. فَصْلٌ أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نُسْخَتِهِ أَنْ كَتَبَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَدَلَّ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بحمد الله تعالى فهو أبتر " يريد لمن يبدأ فيه بحمد اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، فَبَدَأَ بِإِشَارَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا مُؤَنَّثًا، وَقَوْلُهُ فَرِيضَةُ، يَعْنِي نُسْخَةُ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ، فَحَذَفَ ذكر النسخة وأقام الفريضة مَقَامِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة ثُمَّ قَالَ: الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي: الَّتِي قَدَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدرها، ثم أكد ذلك ما روي عن ضمام بن ثعلبة أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فمن يسألها فَلْيُعْطِهَا، يُرِيدُ مَنْ سَأَلَكُمُ الزَّكَاةَ مِنَ الْوُلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتُّهُ، وَكَانَ عَدْلًا، فَأَعْطُوهُ ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " يُرِيدُ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 سُئِلَ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الزِّيَادَةِ مُتَأَوِّلًا بِطَلَبِهَا، كالمالكي الذي يرى أخذ الكبيرة من الصِّغَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " رَاجِعًا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ طالب الزيادة غير متأول فيها، والزيادة لا وجه له في الاجتهاد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " فِيهِ لِأَصْحَابِنَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْطِيهِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ وَلَا الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فَاسِقٌ، وَالْفَاسِقُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَطِيعُوهُمْ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى فَلَا طَاعَةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ " ثُمَّ ابتدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر الإبل فقال: " فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ "، فَكَانَ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ وَجْهٍ، وَإِجْمَالًا مِنْ وَجْهٍ، فَالتَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا إِلَّا الْغَنَمُ، وَالْإِجْمَالُ أَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا، ثُمَّ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ مُفَسِّرًا لِهَذَا الْإِجْمَالِ، " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِابْتِدَاءِ النِّصَابِ، وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ. فَصْلٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ العلماء أن أول النصاب فِي الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا شَاةٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ خمسٍ شاةٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس فيما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقة " والذوذ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ فَإِذَا صَارَتْ عَشْرًا فما فوق صرة من الإبل، فإذا بلغت مائة قيل هنيدة، وَيُقَالُ هُنَيْدِيَّةٌ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِبِلُ الرَّجُلِ عَنْ خَمْسٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى تِسْعٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا إلى أربع عشرة ففيها شاتان فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ غَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي يَجِبُ فِي فَرِيضَةِ الْغَنَمِ. فَأَمَّا صفة هذه الشياه، وهي كُلُّ شَاةٍ يَجُوزُ أُضْحِيَّتُهَا إِمَّا جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ تُجْزِ فِي الضَّحَايَا، لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الِاسْمِ فِي الشرع يتناول ما قيد وصفه من الضَّحَايَا كَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الشَّاةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تجزي ذكراً وأنثى كَالضَّحَايَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 والثاني: أنها لا تجزي إلا أنثى كالواجبة فِي الزَّكَاةِ. وَالثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ إِنَاثًا لَمْ تُجْزِ الشَّاةُ إِلَّا أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا أَجْزَأَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، اعْتِبَارًا بِوَصْفِ الْمَالِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكِرَامِ كَرِيمٌ، وَمِنَ اللِّئَامِ لَئِيمٌ، فَأَمَّا الْوَقْصُ فَهُوَ مَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ كالأربعة إلى الخمس وَالْعَشَرَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ البويطي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن، أَنَّ الْفَرْضَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَمِيعِهِ، فَتَكُونُ الشَّاةُ مَأْخُوذَةً مِنَ التِّسْعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو حنيفة وأبو يوسف، أَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ، وَالْوَقْصَ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ عَفْوٌ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه، وإذا صَارَتِ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، انْتَقَلَ الْفَرْضُ مِنَ الْغَنَمِ إِلَى الْإِبِلِ، وَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَزُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ خَمْسُ شياه، وفي ستة وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَالْحِكَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خمسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ " أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: ثِقَةُ الرُّوَاةِ، وَصِحَّةُ الْإِسْنَادِ. وَالثَّانِي: اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَكُّهُمْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لأن زهيراً يقول: أجبته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَانَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إجماعاً أولى. والثالث: أنه رواية أنس وابن عمر معول على جميعها، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الزكاة من حديث عليّ عليه السلام، لأنه سَائِرَ النُّصُبِ لَا تَقْتَرِنُ حَتَّى يَتَخَلَّلَهَا وَقْصٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَأَمَّا صِفَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَهِيَ: الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ مَخَضَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 بِغَيْرِهَا، أَيْ: حَمَلَتْ، وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ، وَهَذَا السِّنُّ هو أولى للانتفاع بالإبل، لأن ما دون ذلك لا انتفاع بِهِ فِي الْغَالِبِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا لِدُونِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ قِيلَ خدجت الناقة وقيل: سمي خديج إذا وَضَعَتْهُ لِوَقْتِهِ وَزَمَانِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَاقِصُ الْخَلْقِ في نفسه، قيل: أخدجت الناقة، وسمي مخدوج، فَإِذَا وَضَعَتْهُ تَامًا قِيلَ لَهُ هُبَعٌ وَرُبَعٌ، ثُمَّ فَصِيلٌ، ثُمَّ مَلِيلٌ، ثُمَّ حُوَارٌ، ثُمَّ جاسر فإذا تم سَنَةً قِيلَ ابْنُ مَخَاضٍ لِلذَّكَرِ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ للأنثى. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَهِيَ فَرْضُهَا، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فإذا لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَكَانَ في إبله ابن لبون ذكراً، أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وهذا غلط. وقال أبو حنيفة يجوز أن يأخذ مِنْهَا ابْنُ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ ابن لبون مع وجود بنت مخاض في ماله، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَشَرْطُ أَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَعَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَ وُجُودِهَا، فلو لم يكن في ماله بنت خاض، وَلَا ابْنُ لَبُونٍ فَابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ، جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِنِ ابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلِأَنَّ كل من يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالِكًا يَجُوزُ إخراجه إذا ابتاعه، قياساً على ابن مخاض، فلو لم يكن فِي مَالِهِ جَمِيعًا، وَأَرَادَ السَّاعِي مُطَالَبَتَهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ مُطَالَبَتِهِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يخير فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يطالبه ببنت مخاض لأنه الْأَصْلُ، فَإِنْ جَاءَ بِابْنِ لَبُونٍ أُخِذَ مِنْهُ، فلو أَعْطَى حِقًّا ذَكَرًا بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَى سِنًّا مِنَ ابن لبون وأنفع، والوجه الثاني وهو مذهب ضَعِيفٌ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً وَبَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ وَدَرَّ لَبَنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا، وَلَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، بَلْ الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَاخِضًا وَلَا لَبُونًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَعْطَى بَدَلَهَا حِقًّا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ، وَهَذَا خَطَأٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 والفرق بينهما: أن الحق مقارب لبنت اللبون في المنفعة والحمل، ثم يختص ببعض الزكاة فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا لِنَقْصِهِ، وَابْنُ اللبون وإن كان فيه بعض الذُّكُورَةِ فَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ مَا لَيْسَ فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، فَجَازَ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً، فَبَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ، إِلَى السِّتِّينَ، وَالْحِقَّةُ: الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ، وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. والجذعة: التي مالها أَرْبَعُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَقَدْ خَرَجَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَذَعَةً لِأَنَّ أَسْنَانَهَا لَمْ تَسْقُطْ فَيُبَدَّلُ عَلَيْهَا، والجذعة أعلى الأسنان الواجبة على الزَّكَاةِ، وَيُقَالُ لِمَا زَادَ عَلَى الْجَذَعِ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رُبَاعٌ، ثُمَّ سَدِيسٌ، ثُمَّ بَازِلٌ، ثُمَّ مُخَلَّفُ عَامٍ، وَمُخَلَّفُ عَامَيْنِ، وَالْجَذَعُ هُوَ نِهَايَةُ الْإِبِلِ فِي الْحُسْنِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْقُوَّةِ، وَمَا زاد عليه وجوع، كَالْكِبَرِ وَالْهَرَمِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى المائة وَعِشْرِينَ، تَغَيَّرَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهِيَ نَصُّ الْخَبَرِ، وَإِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فإذا بلغت ستة وسبعين ففيها بنت لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الفرض لما زاد على الحقاق وبنات اللبون. فصل : قال الشافعي فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَهُوَ صَحِيحٌ. وَهُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ خَمْسًا، فَتَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ، وَبِنْتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا فَتَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ. وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: يَسْتَأْنِفُ الْفَرْضَ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حِقَّتَانِ وَشَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، كَقَوْلِنَا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ فَرْضَ الشِّيَاهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بن ضمرة عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ استؤنفت الفريضة، في كل خمس شاة، ولرواية أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى الْيَمَنِ: وَفِيهِ الْعَقْلُ، وَالْأَسْنَانُ، وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، قَالُوا وَلِأَنَّ الشَّاةَ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ الْمِائَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بَعْدَهَا كَالْحِقَاقِ وبنات اللبون، قالوا: وَلِأَنَّكُمْ إِذَا أَوْجَبْتُمْ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ لَمْ تَنْفَكُّوا مِنْ مخالفة الخبر ومخالفة أُصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ تَجِبُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْخَبَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ " وَأَنْتُمْ أَوْجَبْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ بَنَاتِ اللَّبُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنَّ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ وَقْصٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْفَرْضُ، خَالَفْتُمْ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مُغَيِّرٍ لِلْفَرْضِ فِي أُصُولِ الزَّكَوَاتِ يَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ مَأْخُوذًا مِنْهُ وَمِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَالسَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسَّادِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّينَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: فإذا بلغت أحد وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلَى غَايَةٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْحَدِّ وَالْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ الزِّيَادَةِ وَكَثِيرُهَا مُغَيِّرًا لِلْفَرْضِ عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ وُجُوبِ بِنْتِ لَبُونٍ فِي أَرْبَعِينَ وَحِقَّةٍ فِي خَمْسِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ "، لأن حُكْمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، لِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 أَرَادَ بِذَلِكَ جُمْلَتَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَبِنْتُ اللَّبُونِ فِي الْأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ، وَفِي الْمِائَةِ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ التَّأْوِيلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ " شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " حُكْمٌ وَالْحُكْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " فَكَانَ هَذَا نَصًّا يُبْطِلُ كُلَّ تَأْوِيلٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، هُوَ أَنَّ الشَّاةَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِيجَابِ فِي الْإِبِلِ قَبْلَ الْمِائَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ كَالْجَذَعَةِ، وَلِأَنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ سِنٌّ لَا يَتَكَرَّرُ قَبْلَ المائة فوجب أن لا يعود بعد المائة كالجذعة، فثبت بهذين القياسين انتفاء وجوب الشاة وبنت المخاض بعد المائة، ثم نقول بابتداء لما ذكرنا، ولأنها نصب مختلفة الترتيب فِي اسْتِفْتَاحِ الْفَرِيضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ تَرْتِيبُهَا الْأَوَّلُ فِيمَا بَعْدُ كَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّا وَجَدْنَا النُّصُبَ الَّتِي قَبْلَ الْمِائَةِ أَقْرَبَ إِلَى فَرْضِ الْغَنَمِ مِنَ النُّصُبِ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَعُدِ الشَّاةُ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أقرب إليها، فالتي لَا تَعُودَ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ منها أولى، فأما الجواب على ما اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ. وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَوْثَقُ رِجَالًا. وَالثَّانِي: أَنَّ بِهِ عَمِلَ الْإِمَامَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ خبرنا متفق على اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فيما دون المائة والعشرين، والمختلف منه فيما زاد على ذلك، وغيرهم مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ مِنْهُ: إِيجَابُ خَمْسِ شِيَاهٍ، وَمَا اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْهُ فما زاد على المائة وعشرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَالرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَنَا مُسْنَدٌ، وَخَبَرَهُمْ يُوقَفُ مَرَّةً، وَيُسْنَدُ أُخْرَى، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ " وَقَوْلُهُ " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ الْفَرِيضَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَقَوْلُهُ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ، يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَهَا عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْتِيبِهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبَانَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتُؤْنِفَتِ الفريضة في كل خمس شاة فإسناد مِنْ غَيْرِ أَعْيَانِهَا كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثم استأنفت فِي حَوْلِهَا خَمْسًا أَوْ عَشْرًا مِنْ غَيْرِ بناتها، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بِهَذَا الْحَوْلِ وَيُخْرِجَ مَنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ الشَّاةَ قَدْ تُؤْخَذُ بَعْدَ المائة بين الستين، على أنا عَارَضْنَاهُمْ بِمِثْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ لَا تَنْفَكُّونَ من مخالفة الخبر وأصول الزَّكَاةِ: فَالْجَوَابُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُلِّ أَعْنِي مِنَ المائة والإحدى والعشرين، ولم يخالف الْخَبَرَ لَكِنْ خَصَّصْنَاهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْوَاحِدَةُ الزَّائِدَةُ عليها لا يتعلق الفرض عليها، تَمَسُّكًا بِالْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ، لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ يُغَيِّرُ فَرْضَ غَيْرِهِ، وَلَا يُغَيِّرُ فَرْضَ نَفْسِهِ، فَمِنْهُمُ الْأَخَوَانِ يُغَيِّرَانِ فَرْضَ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السدس، ولا يغيران حال نفسيهما وَالْعَبْدُ إِذَا وَطِئَ حُرَّةً بِنِكَاحٍ حَصَّنَهَا وَجَعَلَ فَرْضَهَا الرَّجْمَ، وَلَمْ يُغَيِّرْ فَرْضَ نَفْسِهِ فِي الْحَدِّ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مائةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حقة " وكان المعتبر في الزيادة اجتماع الثلاث حقاق وَبَنَاتُ اللَّبُونِ، وَذَلِكَ لَا يَجْتَمِعُ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلَالَةِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، ثُمَّ يَبْطُلُ ما ذكره مِنَ اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ لَا غَيْرَ، وَبِمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ، فَبَطَلَ قَوْلُهُ وأما ابن جرير الطبري فله مذهب خامس أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَشَاةٍ، كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّنَا قَدْ أَسْقَطْنَا مَا رَوَاهُ أبو حنيفة، وَأَسْقَطَ أبو حنيفة مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَسْقَطَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ الشَّاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ الشَّاةُ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ بَنَاتِ اللَّبُونِ فَاعْتِبَارُهُمَا إِسْقَاطُهُمَا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ الزائدة على مائة وعشرين بغير الْفَرْضَ مُوجِبَةٌ لِثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَتْ بَعْضَ وَاحِدَةٍ، هَلْ تُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَتَغَيَّرُ بِهَا الْفَرْضُ، فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَسُدُسٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خمسين حقة " فجعل تغير الْفَرْضِ مُعْتَبَرًا بِالزِّيَادَةِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِكَثِيرٍ دُونَ قَلِيلٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَصَحُّ أن الفرض لا يتغير إلا بتغير كَامِلٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْضَ تَغْيِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَرْضُ بِهَا، وَوَجَبَ فِيهَا حِقَّتَانِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ "، وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ مُحَدَّدٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ كَامِلٍ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ بِهَا كَسَائِرِ الْأَوْقَاصِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ يَتَغَيَّرُ بِمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي اعْتِبَارِ كَثِيرِ الزِّيَادَةِ وَقَلِيلِهَا، وَاعْتِبَارِ بَعِيرٍ كَامِلٍ يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَفِيهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، أَمَّا بِنْتَا لَبُونٍ فَفِي ثَمَانِينَ، وَأَمَّا الْحِقَّةُ فَفِي خَمْسِينَ، ثُمَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَتِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أو خمس بنات لبون. مسألة: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه أو عشرين درهماً فإذا بلغت عليه الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين " (قال الشافعي) حديث أنس بن مالك ثابت من جهة حماد بن سلمة وغيره عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروي عن ابن عمر أن هذه نسخة كتاب عمر في الصدقة التي كان يأخذ عليها فحكي هذا المعنى من أوله إلى قوله " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة، (قال الشافعي) وبهذا كله نأخذ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ. وَأَصْلُهُ: أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْفَرِيضَةُ فِي مَالِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، فَلَهُ الصُّعُودُ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ أَوِ النُّزُولُ وَالرَّدِّ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَاعَ الْفَرْضَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا إِنِ اسْتَيْسَرَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ حِقَّةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جذعة أخذها وأعطاه المصدق شاتين، أو أعطاه المصدق عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالرِّفْقِ بِرَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ جَعَلَ لَهُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بِهِ، إِذْ فِي تَكْلِيفِهِ ابْتِيَاعَ الْفَرْضِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ وَالنُّزُولِ فِيهَا وَالرَّدِّ، فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَيْنِ، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ خلفاً بِأَنَّ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ لَمَّا كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَكَانَ مُطْرَحًا، وَلَيْسَ نُصُبُ الزَّكَوَاتِ بَعْضُهَا مُقَدَّرًا بِقِيمَةِ بَعْضٍ، لِأَنَّ نِصَابَ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ، وَالْغَنَمِ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَقَرَةَ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ فِي الضَّحَايَا بِسَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالْبَقَرِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ وَعُدُولِهِ عَنِ النَّصِّ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ. فَصْلٌ : إِذَا تَمَهَّدَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ أَوْ عشرين درهماً في كل شيء زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرِيضَةُ وَكَانَتْ فِي مَالِهِ مَوْجُودَةً، فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الصُّعُودِ فِي الْأَسَنِّ وَالْأَخْذِ، ولا النزول فيها، ولا الرد لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرَطَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْفَرِيضَةِ عَدَمَهَا فِي الْمَالِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ومن بلغت صدقته جذعة ولم تكن عنده وعنده حقة أخذت منه " فلو وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لبون أخذت منه، وأخذ معها شاتان أو عشرون دِرْهَمًا، وَالْخِيَارُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِتَخْيِيرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمَسَاكِينِ فِي دَفْعِ مَا كَانَ فَقْدُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاض وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَعْطَى ابْنَ لَبُونٍ لِيَقُومَ مَقَامَ بنت مخاض، وأعطى الجيران كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ فِي حُكْمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَصَارَ كَمُعْطِي بِنْتَ مَخَاضٍ، وَالْجُبْرَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ أُقِيمَ مقامه بِنْتِ مَخَاضٍ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَرْضَ، وَالْفَرْضُ هَاهُنَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مكانها ذكر أو جبرها. فَصْلٌ : فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُصَدِّقُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالنُّزُولِ فِيهَا فَقَالَ الْمُصَدِّقُ أَصْعَدُ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَأُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَنْزِلُ إِلَى السن الأدنى وأعطى شاتين وعشرين درهماً ففيه وجهان: ظاهر مذهب الشافعي فيهما: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا فِي أَخْذِ الْأَفْضَلِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِيُ أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْطِي الْأَدْنَى فِي السِّنِّ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الْمُصَدِّقِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ، وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مِنْ ثمانين مِنَ الْإِبِلِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَدِّقُ آخُذُ الْأَدْنَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أُعْطِي الْأَعْلَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ فَالْخِيَارُ لَهُ، ويأخذ الأدنى من شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ مع الشاتين والعشرين درهماً، فإن كَانَ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ إِنْ أَخَذَ الْأَعْلَى كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخِيَارُ لِلْمُصَدِّقِ، وَالثَّانِي لِرَبِّ الْمَالِ. فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، كَمَا جَازَ لَهُمَا النُّزُولُ مِنَ الْحِقَّةِ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى سِنٍّ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، كَمَا يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى حِقَّةٍ، وَيَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ حِقَّةٍ إِلَى جَذَعَةٍ، فَأَمَّا الصُّعُودُ مِنَ الْجَذَعَةِ إِلَى الثَّنِيَّةِ فَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُتَطَوِّعًا بِفَضْلِهَا قُبِلَتْ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ، كَمَا يُقْبَلُ فِي الْغَنَمِ فَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا، وَإِنْ دَفَعَهَا لِيَأْخُذَ فَضْلَ السِّنِّ الزَّائِدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ إحدى وستين بنت مخاض، فأعطى واحد مِنْهَا وَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تؤخذ فَرْضًا، وَلَا يُكَلَّفُ غَيْرَهَا جُبْرَانًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا فرض بعضٍ هذه الجملة إلى أن يعطي جبراناً من الْجَذَعَةِ فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مَعَ الْجُبْرَانِ. فَصْلٌ : إِذَا لم تكن الفريضة موجودة في ماله وأراد أَنْ يَصْعَدَ سِنِينَ وَيَأْخُذَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ سِنِينَ وَيُعْطِيَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أراد أن يصعد بثلاثة أسنان أو ينزل بثلاثة أَسْنَانٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السِّنُّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي مَالِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَلَا حِقَّةٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ مَعَهَا إِمَّا أَرْبَعُ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بنت مخاض فلم يكن عنده بنت مخاض ولا بنت لبون فكان عِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، هَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ جُبْرَانَ السِّنِّ الْوَاحِدِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ درهماً تنبيهاً على السنين والثلاثة توخياً للرفق وطلب المواساة. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّنِّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ، فَفِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلى السن الثاني وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَرِيضَةِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْفَرِيضَةِ إِلَى غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِهَا. فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي دَفْعِ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِمُعْطِيهَا دُونَ آخِذِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقَ كَانَ بِالْخِيَارِ على معنى النظر للمساكين، ليس على دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْمُصَدِّقَ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ شَاةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيره بين شاتين وعشرين دِرْهَمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ خِيَارًا ثالثاً، وكما لَا يَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةً، فَيُخْرِجُ بَعْضَهَا كِسْوَةً، وَبَعْضَهَا طَعَامًا، لَكِنْ لَوِ انْتَقَلَ إِلَى سِنِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فَكَفَّرَ عَنْ أحديهما بالكسوة وعن الأخرى بالإطعام ". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 الْأَمْوَالُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: مَالٌ نَامٍ بِنَفْسِهِ، وَمَالٌ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ، وَمَالٌ غَيْرُ نَامٍ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَمِثْلُ الْمَوَاشِي وَالْمَعَادِنِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَأَمَّا الْمُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ وَالْمُعَدُّ لَهُ فَمِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ: أَنَّ النَّمَاءَ فِيمَا هُوَ نَامٍ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِلْمِلْكِ لَا لِلْعَمَلِ، وَالنَّمَاءَ فِيمَا كَانَ مرصد النماء تَابِعٌ لِلْعَمَلِ وَالتَّقَلُّبِ لَا لِلْمِلْكِ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ كَانَ النِّتَاجُ وَالثَّمَرَةُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ، وَالنَّخْلِ دُونَ الْغَاصِبِ، وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فنمت بالتقلب والتجارة كان النماء الزايد لِلْغَاصِبِ دُونَ رَبِّ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الَّذِي ليس بنام في نفسه ولا مرصداً لِلنَّمَاءِ، فَهُوَ كُلُّ مَالٍ كَانَ مُعَدًّا لِلْقِنْيَةِ، كَالْعَبْدِ الْمُعَدِّ لِلْخِدْمَةِ، وَالدَّابَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلرُّكُوبِ، وَالثَّوْبِ الْمُعَدِّ لِلُّبْسِ، فَأَمَّا مَا لَا يُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ، وَلَا هُوَ نَامٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إِجْمَاعًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صدقة " فنص عليها تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَى حُكْمِهَا، وَأَمَّا الْمَالُ النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ، وَقِسْمٌ لَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ إِلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ فَمِثْلُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ بعد حصاد زرعة، ودياسه، وجداد ثمرته، وجفافها، والتزام المؤن فيها، وما لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده، فمثل المواشي والحكم فِيهَا وَفِيمَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَاحِدٌ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ عَبْدُ الله بن عباس: إذا استفاد مالاً بهبة، أو بميراث أَوْ بِالْعَطَاءِ لَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ يُعْتَبَرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُزَكِّي الْعَطَاءَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَا، لِأَنَّ نَمَاءَ ذَلِكَ مُتَكَامِلٌ بِوُجُودِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَوْلٍ كَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عَلَيْهِ الْحَوْلُ ". وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لِنَمَائِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّمَاءِ وَهُوَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا فِيهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً وَتَطْهِيرًا وَالْجِزْيَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ نِقْمَةً وَصَغَارًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ إلا بالحول، وإذا ثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَوْلَ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا أَوْ بِشَرْطٍ ثَالِثٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِهِمَا وَبِشَرْطٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ، بِالنِّصَابِ، وَالْحَوْلِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي " الْأُمِّ ": إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِشَرْطَيْنِ لَا غَيْرَ: النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَسَنُفَرِّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا يُوَضِّحُ عَنْهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شيءٌ ولا فيما بين الفريضتين شيءٌ وإن وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فابن لبون ذكر فإن جاء بابن لبون وابنة مخاض لم يكن له أن يأخذ ابن لبون ذكر وابنة مخاضٍ موجودةٍ وإبانة أن فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة أن تكون الإبل مائة وإحدى وعشرين فيكون فيها ثلاث بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وثلاثين فإذا كملتها ففيها حقة وابنتا لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وأربعين فإذا كملتها ففيها حقتان وابنة لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وخمسين فإذا كملتها ففيها ثلاث حقاق ولا شيء في زيادتها حتى تكمل مائة وستين فإذا كملتها ففيها أربع بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وسبعين فإذا كملتها ففيها حقة وثلاثة بنات لبون ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وثمانين فإذا بلغتها ففيها حقتان لبون وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مِائَةٍ وَتِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وابنة لبون ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَلَا شَيْءَ، فِيمَا دُونَهَا، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فإذا بلغت كالإبل خمساً ففيها شاة، وهي فرض إلى تسع، والأربعة الزَّائِدَةُ عَلَى الْخَمْسِ تُسَمَّى وَقْصًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاةِ هَلْ تَجِبُ فِيهَا وَفِي الْخَمْسِ، أَوْ تَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَحْدَهَا والوقص عَفْوٌ، وَكَذَا كُلُّ وَقْصٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: وَالْبُوَيْطِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن: أَنَّ الشَّاةَ واجبة في الخمس، وهي النصاب، والوقص الذي عَلَيْهَا عَفْوٌ، وَكَذَا فَرَائِضُ الزَّكَوَاتِ فِي الْمَوَاشِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 كلها مأخوذة من الأوقاص والنصب، وَالْأَوْقَاصُ الزَّائِدَةُ عَلَيْهَا عَفْوٌ لَيْسَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ مَدْخَلٌ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ شَاةٌ " وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَوْجَبَ الشَّاةَ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ واجبة في الزائد عليها. والثاني: أن الشاة في خمس والوقص الزَّائِدَ عَلَيْهَا دُونَ خَمْسٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ فِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ شَيْءٌ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ قَصَّرَ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقٌ بِالْوُجُوبِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي العباس، رِوَايَةَ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الغنم في الأربعة والعشرين كلها فوجب أن لا يختلف الإيجاب بِبَعْضِهَا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَذَكَرَ النِّصَابَ وَالْوَقْصَ، وَأَضَافَ الْفَرِيضَةَ الْوَاجِبَةَ إِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ ماله الذي يجزي فِي حُكْمِ حَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِ كَالْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ تعلق الحكم به، وبالزيادة معها أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّمُ، وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ قُطِعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ دُونَ الزيادة لعدم تأثيرها، ولأن الدَّمَ وَجَبَ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ الْوَقْصُ الزَّائِدُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ تَأْثِيرٌ. فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هو شرط في الوجوب أو الضمان؟ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التفريع عليهما وعلى اختلاف قوله فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ؟ لِأَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُتَّفِقَانِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ، وَلَيْسَ لهذين القولين تَأْثِيرٌ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ وَسَلَامَتِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُمَا مع تلف المال وعطيه، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَحُكْمُ التألف منه حكم ما لا يُوجَدْ، فَإِنْ تَلِفَ جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ اعْتُبِرَ حُكْمُ بَاقِيهِ إِذَا حال حوله، فإذا بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ، فَهَذَا حُكْمُ التَّالِفِ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَأَمَّا التَّالِفُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَهَذَا الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ تَلِفَ بَعْضُ المال أو جميعه، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُهَا، وصار بعد الأمانة ضامناً ك " الوديعة " الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا فَيَضْمَنُهَا الْمُودَعُ بِحَبْسِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ، فَيُخْرِجُهَا مَتَى شَاءَ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ، كَالْوَدَائِعِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ إمكان الأداء، فذلك ضربان: أحدهما: إن تلف جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَقَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَقَدْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِالْحَوْلِ غَيْرَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِلْمَسَاكِينِ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْإِمْكَانِ، وإن كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا بالتلف ك " الوديعة ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْضُ الْمَالِ وَيَبْقَى بعضه، فعند ذلك يتضح تبيين القولين في كل وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ لِفُرُوعِهِمَا وَبَيَانِ تَأْثِيرِهِمَا فَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي الْغَنَمِ. وَالثَّانِي: فِي الْإِبِلِ لنبني عليهما جميع الفروع، فأما الفضل فِي الْغَنَمِ فَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَمَانُونَ شاة يحول عليها الحول ثم تتلف منها أربعون قبل إمكان الأداء وتبقى الأربعون، فَهَذَا تَرْتِيبٌ عَلَى الْأَصْلَيْنِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وعفو الأوقاص، وإن قلنا: إن إمكان الأداء مند شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ، وَمَا تَلِفَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ كَمَا لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَإِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوَقْصِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَقْصَ دَاخِلٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِنَّ الشَّاةَ مأخوذة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 مِنَ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ الشَّاةَ وجبت في ثمانين، فتلف نصفها أمانة لِتَلَفِ نِصْفِ الْمَالِ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: شَاةٌ. وَالثَّانِي: نِصْفُ شَاةٍ. وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ فَتَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سِتُّونَ، وَبَقِيَ عِشْرُونَ، فَيُخْرِجُ زَكَاتَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا زَكَاةَ فِيهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا نِصْفَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا رُبُعَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الثَّمَانِينَ لِبَقَاءِ رُبُعِهَا وَتَلَفِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ يُوَضِّحُ جَمِيعَ فُرُوعِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأْنَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعُهُ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ وَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهَا أَسْهَلُ. وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْإِبِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قَسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْغَنَمِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْإِبِلِ، وَجَوَازُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْآخَرِ، لَكِنْ فِي ذِكْرِهِمَا زِيَادَةُ بيان. فأما فريضة الْغَنَمُ، فَكَرَجُلٍ كَانَ مَعَهُ تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا أَرْبَعٌ قَبْلَ إمكان الأداء وبقي خمسة، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ حَدَثَ وَهُوَ يَمْلِكُ خَمْسًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ وَالْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ من التسع فعليه خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: شَاةٌ كَامِلَةٌ. وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شاة، فلو حال حول عَلَى تِسْعٍ مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ خَمْسٌ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ، فَفِي زَكَاتِهَا ثلاثة أوجه: أحدها: لا زكاة فيها، إذا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الإمكان من شرائط الضمان، لأن الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التِّسْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي فَرِيضَتُهَا مِنْهَا: فَكَرَجُلٍ مَعَهُ خمسة وَثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ منها قبل الإمكان عشرة، وَبَقِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ: فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، لِبَقَاءِ خَمْسَةِ أسباع المال، وفي قدر زكاتها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِنْتُ مَخَاضٍ. وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ فَلَوْ حَالَ حَوْلُهُ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الإمكان خمسة عشر وبقي خمس وعشرون، فَفِي قَدْرِ زَكَاتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان وإن بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَالثَّالِثُ: أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وجبت في خمس وثلاثين لبقاء أربعة أتساع الْمَالِ وَعَلَى هَذَا، وَقِيَاسُهُ يَكُونُ جَوَابُ مَا يَتَفَرَّعُ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبِاللَّهِ تعالى التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعُ حِقَاقٍ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ أَخَذَهَا الْمُصَدِّقُ وإن كانت خمس بنات لبون خيراً منها أَخَذَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا بَلَغَتْ مائتين إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَالِ إِلَّا أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ الْمُصَدِّقُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، حِقَاقًا كَانَتْ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ مَعًا فِي الْمَالِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي أَحَدِهِمَا إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحًا، بَلْ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي جَوَازِ أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْضَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ، لِتَعْلِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْفَرْضَ بِهِمَا، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَخْذِ أَفْضَلِهِمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْحِقَاقُ أَفْضَلَ أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَنَاتُ لَبُونٍ أَفْضَلَ أَخَذَهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يمنعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْخِيَارُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْحِقَاقِ إِنْ شَاءَ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِنْ شَاءَ، كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا بَيْنَ السِّنِينَ بَيْنَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى صِنْفَيْنِ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ فَرْضِهِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ أَوْ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي الْخِيَارِ عَلَى الدَّرَاهِمِ، أَوِ الشَّاتَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ ماله، ومن لزمه في الذمة أخذ حقتين كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالْفَرْضُ فِي الْحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِي الْأَخْذِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ إِلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ إِلَى ابْتِيَاعِ الْفَرِيضَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الشَّاتَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ عَنْ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ إِلَى غَيْرِهِمَا لم يكن مخيراً فيهما. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أخذ من رَبُّ الْمَالِ الصِّنْفَ الْأَدْنَى كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أن يخرج الفضل فيعطيه أهل السهمان فإن وجد أحد الصنفين ولم يجد الآخر الذي وجد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْفَرْضَيْنِ من المال إذا اجتمعا فيه، فإن أخذا دونهما أو أقلهما دفعه لِلْمَسَاكِينِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ عَنِ اجتهاد. والثاني: عن غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْذَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدَ أجزأ رَبَّ الْمَالِ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَهَلْ عَلَيْهِ إخراج الفضل أم لا؟ على وجهين: أحدهما: إِخْرَاجُ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ أَعْطَى دُونَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَمَنْ أَعْطَاهُ شَاةً وَعَلَيْهِ شَاتَانِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا أَدَّاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وجب عليه إخراج الفضل بعد أداء الغرض لاقتضى أن لا يقع المؤدي موقع الآخر، ولو لم يقع موقع الآخر لَوَجَبَ رَدُّهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ان ْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ لأنه بعض ما وجب عليه، والمصدق إن أَخَذَ بَعْضَ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مَا أَخَذَ وَإِنْ كَانَ المصدق في الأصل قد أخذ ذلك من غير اجتهاد، فهل يجزي ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 أحدهما: لا يجزئه، لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ ابْنَ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَفْضَلِ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ مَالِ من استهلكه. والوجه الثاني: يجزئه ذَلِكَ، لِأَنَّ أَخْذَ الْأَفْضَلِ وَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمًا ثَبَتَ بالنص، فعلى هذا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِمَّا لِقِلَّةِ الْفَضْلِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْحَيَوَانِ، أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لا يجزئه غَيْرُ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ الْفَضْلُ فِي شَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كاملاً، ولا يَصْرِفُهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ الْفَضْلِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْفَضْلِ فِي بَقَرَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إخراج الفضل دراهم أو دنانير إن قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَافِي نَقْصٍ وليس بقيم كَالشَّاتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْمَأْخُوذَةِ بَيْنَ السِّنِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الدَّرَاهِمِ أو الدنانير إِلَى الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، وَلَكِنْ لَوْ عَدَلَ إِلَى الْحَيَوَانِ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَنَقْلُ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْلَ الرَّبِيعِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقْلَ الْمُزَنِيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ حَذَفَ الْأَلِفَ منه اسْتِخْفَافًا كَمَا حُذِفَتْ مِنْ صَالِحٍ وَعُثْمَانَ، فَيَكُونَ مَعْنَى نَقْلِ الرَّبِيعِ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ " أَيْ: إذا وجد السن الواجب فِي الْمَالِ لَا يُفَارِقُهَا وَيَعْدِلُ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيُعْطِي أَوْ أَدْنَى وَيَأْخُذُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّقْلَيْنِ صحيحان، ومعناهما مختلف، فمعنى قول الرَّبِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى نَقْلِ الْمُزَنِيِّ " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ " إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ فَرْضَهَا فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ حِقَاقًا وَبَعْضَهُ بَنَاتِ لَبُونٍ، بَلْ إِمَّا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 يَأْخُذَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ مِنَ التَّفْرِيقِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، أُخِذَتْ مِنْهُ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ أَعْطَى ثَلَاثَ حِقَاقٍ وَبِنْتَ لَبُونٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُفَارَقَةَ الْفَرْضِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ مَعَ الْحِقَّةِ وأخذ شاتين مع عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ الْفَرْضِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ أَعْطَى حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَأَمَّا إِذَا كان معه أربع مائة مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ أَعْطَى ثَمَانِيَ حِقَاقٍ جَازَ، وَإِنْ أَعْطَى عَشْرَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ، وَإِنْ أعطى أربع حقاق أو خمس بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ أَيْضًا عَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الْفَرِيضَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ. والفرق بينهما: أن المائتين نصاب فرضه أخذ نسق فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ كَالْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَعْضَهَا كِسْوَةً وَبَعْضَهَا طعاماً، والأربع مائة نصابان لها فَرْضَانِ فَجَازَ تَفْرِيقُهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا فَرَّقَهُمَا فَأَطْعَمَ عن أحديهما وكسا عن الأخرى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بمرضٍ أَوْ هيامٍ أَوْ جَرَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرُ الْإِبِلِ صحاح قيل له إِنْ جِئْتَ بِالصِّحَاحِ وَإِلَّا أَخَذْنَا مِنْكَ السِّنَّ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَرَدَدْنَا أَوِ السِّنَّ الَّتِي هي أسفل وأخذنا والخيار في الشاتين أو العشرين درهماً، إلى الذي أعطى ولا يختار الساعي إلا ما هو خير لأهل السهمان وكذلك إن كانت أعلى بسنين أو أسفل فالخيار بين أربع شياه أو أربعين درهماً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ مائتان من الإبل صحاحاً، وكان الفرضان حقاً فِيهِمَا مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَجْوَافِهَا فَلَا تَزَالُ تَكْرَعُ الْمَاءَ عِطَاشًا حَتَّى تَمُوتَ قَالَ الشَّاعِرُ: (الْقَوْمُ هيمٌ وَالْأَدَاوَى يُبَّسُ ... أَنْ تَرِدِ الْمَاءَ بِمَاءٍ أَكْيَسُ) أَوْ جَرَبٌ، وَهُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ الْفَرْضَ مَعِيبًا مَعَ صِحَّةِ مَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيه) {البقرة: 267) وَرَوَى أَنَسُ بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَتَبَ لَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ، كَانَ له فِي كِتَابِهِ لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَيْبٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَلَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَالرِّفْقِ بِهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمَعِيبِ صَحِيحًا رِفْقًا بِرَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الصَّحِيحِ مَعِيبًا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَعِيبِ فِيهَا، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ أنت بالخيار أَنْ تَأْتِيَنَا بِفَرْضِهَا مِنْ غَيْرِهَا، إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ تُشْبِهُ مَالَكَ، وبين أن نأخذ منك السن الأعلى، أو تعطي السِّنَّ الْأَدْنَى وَتَأْخُذَ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَهُوَ الْجَذَاعُ، صَعِدَ إِلَيْهَا مِنَ الْحِقَاقِ لا من بنات اللبون، لأنه إِذَا صَعِدَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ صَعِدَ إِلَى الْحِقَّةِ وَهِيَ فَرْضُهُ، وَإِنْ أَرَادَ النُّزُولَ نَزَلَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ، وَلَا يَنْزِلُ مِنَ الْحِقَاقِ إِلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَائِرُ الْإِبِلِ صِحَاحٌ، فَيَعْنِي وَبَاقِي الْإِبِلِ صِحَاحٌ، لِأَنَّ لَفْظَةَ سَائِرٍ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ كُلٍّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أكلتم فاسئروا " أي فبقوا وَقَالَ الْأَعْشَى: (بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا ... بَعْدَ ائْتِلَافٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا) وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِمَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ سُؤْرٌ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَأْخُذُ مَرِيضًا وَفِي الْإِبِلِ عَدَدٌ صحيحٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ صِحَاحًا وَمِرَاضًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتَهَا مِرَاضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا مِنَ الصِّحَاحِ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، يَكُونُ فرضها بنت مخاض، فقال: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ مِرَاضِهَا، فَيُقَالُ: مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ من صِحَاحِهَا، فَيُقَالُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُؤْخَذُ نِصْفُ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ وَنِصْفُ الثَّلَاثِمِائَةِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فتضيفهما فَيَكُونَانِ مِائَتَيْنِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنَ الصِّحَاحِ، وَثَمَنُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كانت كلها معيبة لم يكلفه صحيحاً من غيرها ويأخذ جبر المعيب. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مَعِيبًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا صَحِيحًا سَلِيمًا، وَأُخِذَتْ زَكَاتُهَا مِنْهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا الصَّحِيحَةُ عَنِ الْمِرَاضِ، وَالْكَبِيرَةُ عَنِ الصِّغَارِ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تأخذ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عوارٍ " وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ " يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، وَبَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ بِالصَّدَقَةِ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " وَلِرِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " ثَلَاثٌ مَنْ عَمِلَهَا طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وأخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يخرج الدرنة ولا الشرط اللئيمة ولكن أخرج وَسَطَ الْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْلُبْكُمْ خيره، ولم يأمركم بشره " ولأن كل ما تُؤْخَذُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ لَا يُكَلَّفُ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ إِخْرَاجَ الْجَيِّدِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ السَّلِيمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ زَكَاتَهَا صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ فقد قال الشافعي " يأخذ خير المعيب " واختلف أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ أَخْذَ خَيْرِ الْمَعِيبِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بذلك أخذ خير الفرضين وهي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ وَلَمْ يُرِدْ خَيْرَ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بِخَيْرِ الْمَعِيبِ أَوْسَاطَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس) {آل عمران: 110) يَعْنِي: وَسَطًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {كَذَلَكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) {البقرة: 143) وَمَنْ قَالَ بِهَذَا السهم فِي اعْتِبَارِ الْأَوْسَطِ وَجْهَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أحدهما: أوسطها عيباً. مثال ذلك: أن يَكُونُ بِبَعْضِهَا عَيْبٌ وَاحِدٌ، وَبِبَعْضِهَا عَيْبَانِ، وَبِبَعْضِهَا ثلاث عيوب، فيأخذ ما له عَيْبَانِ. وَالثَّانِي: أَوْسَطُهَا فِي الْقِيمَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بعضها مِائَةً، وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهُ أَوْسَطُهَا قِيمَةً فَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ إِنَّهُ يَأْخُذُ خَيْرَ الْفَرْضَيْنِ لَا غَيْرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ: يَأْخُذُ خير المعيب من السن التي وجبت عليه. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهَا غَلَطًا، وَأَضْعَفُهَا: يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَالِ كُلِّهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا عَيْبًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا قِيمَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي كِتَابِ الْأُمِّ: وَإِذَا كَانَ جميع ماله مراضاً والفرض منها مَوْجُودًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الصُّعُودِ وَأَخْذِ الْجُبْرَانِ، وَلَا إِلَى النُّزُولِ وَدَفْعِ الْجُبْرَانِ، لِوُجُودِ السِّنِّ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ مَعْدُومًا فِي مَالِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى سِنٍّ أَدْنَى وَيُعْطِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا لِلسِّنِّ النَّاقِصِ جَازَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ قَبُولُهُ فِي الْجُبْرَانِ عَنْ سِنٍّ صَحِيحٍ جَازَ قَبُولُهُ عَنْ سِنٍّ مَرِيضٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيَأْخُذَ الْجُبْرَانَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ ذَلِكَ جُبْرَانٌ فِي سِنٍّ صَحِيحٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْعَلَهُ جُبْرَانًا فِي سِنٍّ مَرِيضٍ، فَإِنْ أَعْطَى الْأَعْلَى مُتَطَوِّعًا بِالزِّيَادَةِ جَازَ قَبُولُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا وجبت عليه جذعةٌ لم يكن له أن يأخذ منه مَاخِضًا إِلَا أَنْ يَتَطَوَّعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال إن كَانَ فَرْضُ إِبِلِهِ جَذَعَةً لَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أن يأخذ مَاخِضًا، سَوَاءً كَانَتْ إِبِلُهُ حَوَامِلَ، أَوْ حَوَائِلَ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ لِزِيَادَتِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يجوز الْمَاخِضَ بِحَالٍ لِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه لساعيه: لا تأخذ الربا، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ دَفَعَ الْغُرَّةَ حَامِلًا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِي الزَّكَاةِ وهذا خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُصَدِّقًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا فَجَمَعَ لِي مَالَهُ، فَوَجَدَ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقَتُكَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَرَّ فِيهَا وَلَا نَسْلَ خُذْ هَذِهِ النَّاقَةَ السَّمِينَةَ الْكَوْمَاءَ فَفِيهَا دَرٌّ وَنَسْلٌ، فَقُلْتُ لَمْ يَأْمُرْنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مِنْكَ قَرِيبٌ فَائْتِهِ وَاسْأَلْهُ فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ذَاكَ الْوَاجِبُ فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بَخَيْرٍ مِنْهُ آجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ قَبُولَهُ جَائِزٌ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ زِيَادَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَاتِ الْإِبِلِ تَتَغَلَّظُ به وتتخفف بعدمه، وإن كان تزايداً وجب أن يكون قبوله جايزاً، فأما نهي عمر رضي الله عنه عنها فَمَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَرْضَ مَالِكُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَزِيَادَةٌ فِي الْبَهَائِمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ قَبُولِ الْمَاخِضِ فِي الزَّكَاةِ، وَبَيْنَ قَبُولِ الْغُرَّةِ فِي الْحَامِلِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ قَبُولَ الْمَاخِضِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا جَائِزٌ: فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِهَا وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ غيرها إلى سن أعلى، ويأخذ، أو إلى سِنٍّ أَسْفَلَ وَيُعْطِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَقَهَا الْفَحْلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا كَالْمَاخِضِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى سِنٍّ غَيْرِهَا، وَلَوْ دَفَعَ فِي الْغُرَّةِ أَمَةً مَوْطُوءَةً لَزِمَ قَبُولُهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلْتُمْ طَرْقَ الْفَحْلِ لِلْجَذَعَةِ كَالْحَمْلِ، ولم تجعلوا وطأ الْأَمَةِ فِي الْغُرَّةِ كَالْحَمْلِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضِرَابَ الْبَهَائِمِ غَالِبُهُ الْعُلُوقُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ من وطئ الْآدَمِيَّاتِ الْعُلُوقَ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْغُرَّةِ نَقْصٌ يُمْكِنُ الْوَلِيُّ اسْتِدْرَاكَهُ بِرَدِّهِ إِذَا ظَهَرَ، وَالْحَمْلَ فِي الْجَذَعَةِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ رَبُّ الْمَالِ اسْتِدْرَاكَهَا إِذَا ظَهَرَتْ، لِاقْتِسَامِ الْمَسَاكِينِ لَهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ مَعِيبَةً وَفَرِيضَتُهَا شَاةً، وَكَانَتْ أَكْثَرَ ثَمَنًا مِنْ بَعِيرٍ مِنْهَا، قِيلَ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تُعْطِيَ بَعِيرًا مِنْهَا تَطَوُّعًا مَكَانَهَا، أَوْ شَاةً مِنْ غَنَمِكَ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِرَاضٌ أَوْ عِجَافٌ لَا تُسَاوِي جَمَاعَتُهَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا شَاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِخْرَاجِ شَاةٍ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ عَنْهَا، ولا يجزئه إِخْرَاجُ وَاحِدٍ مِنْهَا، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في كل خمس من الإبل شاة " وَلِأَنَّ الْبَعِيرَ بَدَلٌ مِنَ الشَّاةِ، وَالْأَبْدَالُ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذِ الْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ " فَكَانَ نَصُّ الْخَبَرِ وَاعْتِبَارُ الْأُصُولِ يَقْتَضِيَانِ إِخْرَاجَ الفرضين مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أُخِذَتِ الشَّاةُ مِنَ الْخَمْسِ على وجه الترفيه والرفق، فإذا لَمْ يَخْتَرِ التَّرْفِيهَ بِإِخْرَاجِ الشَّاةِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلى حكم الإبل، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَةٍ جَازَ أَخْذُهَا مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، كَأَخْذِ الْجَذَعَةِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْفِيهِ وَالرِّفْقِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ قِيمَةٌ، فَغَلَطٌ لِأَنَّا لَسْنَا نَقُولُ إِنَّهُ بَدَلٌ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ ثَانٍ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ فَرْضَانِ، أَعْلَى وَهُوَ بَعِيرٌ، وَأَدْنَى وَهُوَ شَاةٌ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا فَقَدْ أَخْرَجَ أَعْلَى فَرْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ أَوْسَطَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَعِيرِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْخَمْسِ هَلْ جَمِيعُهُ وَاجِبٌ؟ أَوْ خُمُسُهُ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَاتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خُمُسَهُ وَاجِبٌ وَبَاقِيهِ تَطَوُّعٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ الْخِيَارُ بَيْنَ بَعِيرٍ وَاحِدٍ أَوْ شَاتَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ إِذَا أَخْرَجَ فِي هَدْيِ تَمَتُّعِهِ بَدَنَةً بَدَلًا مِنَ الشَّاةِ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي أَنَّ سُبُعَهَا وَاجِبٌ وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كانت غنمه معزاً فَثَنِيَّةٌ أَوْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ وَلَا أَنْظُرُ إِلَى الأغلب في البلد لأنه إنما قيل إن عليه شاةً من شاء بلده تجوز في صدقة الغنم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ من الخمس، أو بين الشاتين يشتمل عل ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي السِّنِّ. وَالثَّانِي: فِي الْجِنْسِ. وَالثَّالِثُ: فِي النَّوْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 فَأَمَّا السِّنُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دُونَهُ فَهُوَ مَا تَجُوزُ أُضْحِيَتُهُ إِنْ كَانَتْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِعْزَى فَثَنِيَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال: نهينا عن أخذ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعِزِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ. وَأَمَّا الْجِنْسُ فَالْمُرَاعَى فِيهِ غَنَمُ الْبَلَدِ لَا غَنَمُ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا فَمِنْ غَنَمِ مَكَّةَ ضَأْنًا أو معزى، فإن أخرج غَيْرَ الْمَكِّيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَكِّيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ بَصْرِيًّا فَمِنْ غَنَمِ الْبَصْرَةِ ضَأْنًا أَوْ مِعْزَى، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْبَصْرِيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْبَصْرِيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ فَوَصْفُهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَالِبِ الْبُلْدَانِ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ. وَأَمَّا النَّوْعُ فَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمِعْزَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَالِبِ غَنَمِ الْبَلَدِ، وَقَالَ مَالِكٌ اعْتِبَارُ غَنَمِ الْبَلَدِ وَاجِبٌ فِي النَّوْعِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْجِنْسِ، فإن كان غَنَمِ الْبَلَدِ الضَّأْنَ لَمْ آخُذِ الْمَعِزَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْمَعِزَ لَمْ آخُذِ الضَّأْنَ، وَهَذَا غلط، لأن النوع قد ورد الشرع بِتَحْدِيدِ أَصْلِهِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَى اعْتِبَارِ غَالِبِ البلد، وكان هذا الخلاف الْجِنْسِ الْمُطْلَقِ ذِكْرُهُ فِي الشَّرْعِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كانت إبله كراماً لم يأخذ منه الصَّدَقَةَ دُونَهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لِئَامًا لَمْ يكن لنا أن نأخذ مِنْهَا كِرَامًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ كِرَامَ الْجِنْسِ، كَالْبُخْتِ النَّجَّارِيَّةِ وَالْعِرَابِ الْمَجِيدِيَّةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا كِرَامًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالُهُ لِئَامًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا كِرَامًا، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَالُهُ كِرَامًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا لِئَامًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ الْوَصْفِ فَكَانَتْ سماناً لم تؤخذ زَكَاتُهَا إِلَّا سِمَانًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ فَكَانَتْ جِذَاعًا وَثَنَايَا وَكَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا إِلَّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا جَذَعَةٌ وَلَا ثَنِيَّةٌ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَوْ أُخِذَتِ الْجَذَعَةُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِذَا كانت جذاعاً لبطل اعتبار النصب، ولا يستوي فَرْضُ قَلِيلِ الْإِبِلِ وَكَثِيرِهَا، وَكَرَامَةُ الْجِنْسِ لَا تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرْقُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عد عَلَيْهِ السَّاعِي فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ. فأحد قوليه هو مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمْكَانَ مَعْنًى إذا تلف المال قبل وجود سَقَطَ ضَمَانُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَالْحَجِّ الَّذِي يَجِبُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الجديد: أن الإمكان مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَجَعَلَ الْحَوْلَ غَايَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ زَكَاتَهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ زَكَاتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِمْكَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا بَاطِنًا كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فإمكان الأداء بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، أَوْ بِحُضُورِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَإِنْ كَانَ مَالًا ظَاهِرًا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ. فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ " إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِيهِ بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا غَيْرَ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، يَكُونُ إِمْكَانُ أَدَائِهِ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ، أَوْ بِحُضُورِ أهل السهمان. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " وإن فَرَّطَ فِي دَفْعِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَتَى أَمْكَنَهُ إِخْرَاجُهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى هَلَكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وَقَالَ أبو حنيفة إِخْرَاجُهَا عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ طَالَبَ بِهَا فَمَنَعَهُ، قَالَ: لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كالوديعة، والودائع لا يضمنها إلا بجناية، أبو بِمُطَالَبَةِ رَبِّهَا بِهَا، فَيَمْنَعُهُ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، قال: ولأن الزكاة حق للمساكين فهم غَيْرُ مُعَيَّنِينَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ ويصرفها في آخرين، وإذا لم يتعين مستحقها لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ بِحَبْسِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِوُجُودِ الْمَالِ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِتَلَفِ الْمَالِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبِيدِهِ، إِذَا مَاتُوا، وَكَالْحَجِّ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهِ، وَلِأَنَّهَا زكاة قدر على أدائها بعد وجودها، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِهَا، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْوَصْفِ يَجْرِي مجرى تعيين للمستحقين بالاسم، فإذا ألزمه الضَّمَانُ بِمَنْعِ مُسْتَحِقِّيهَا بِالِاسْمِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الضمان بمنع مستحقيها بالوصف، فأما قوله: إِنَّهَا كَالْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ، أَوْ مَنْعٍ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَأْخِيرُهَا بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يَجِبُ ضمانها من غير مطالبته، وَهِيَ مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَالِكِهَا بِإِمْسَاكِهَا، كَالثَّوْبِ إِذَا طَارَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، إِذَا لَمْ يُبَادِرْ بِرَدِّهِ، وإعلامه، وكموت ربه الْوَدِيعَةِ، يُوجِبُ عَلَى الْمُودِعِ رَدَّهَا عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ الزَّكَاةُ لَيْسَ يُعْلَمُ رِضَا مُسْتَحِقِّهَا بحبسها، فوجب أن يلزمه ضمانها، وأما قوله إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ وَيَصْرِفَهَا فِي آخَرِينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأنه إنما يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا عَنْ قَوْمٍ إِلَى غَيْرِهِمْ إِذَا حَضَرَ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبِسَهَا عَمَّنْ حَضَرَ لِيَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وما هلك أو نقص في يدي الساعي فهو أمين حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه عن حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله أنس عن أنس مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَخَذَ السَّاعِي زَكَاةَ الْأَمْوَالِ فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَمُهُمْ فيها، لِأَنَّ السَّاعِيَ وَكِيلٌ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالْوَكِيلُ إِذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ بَرِئَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، سَوَاءٌ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لا، فأما الساعي فإن كان لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا بِيَدِهِ وَإِنَّمَا حَبَسَهَا لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَرَّطَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ حَبَسَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّيهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَتَفْرِيطِ الْأُمَنَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فَإِنْ قِيلَ فَالْوَكِيلُ إِذَا حَبَسَ مَالَ مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ، فَهَلَّا كَانَ السَّاعِي كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَالِهِ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ مُطَالَبَةُ السَّاعِي بِمَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِمْسَاكُهُمْ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فَتَلِفَتْ من يَدِهِ بَعْدَ إِمْكَانِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ فَائِتٌ عَنْ نَفْسِهِ وَالزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 باب صدقة البقر السائمة قال الشافعي رضي الله عنه: " أخبرنا مالك عن حميد بن قيس عن طاوس أن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً ومن أربعين بقرة مسنةً (قال) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر معاذاً أن يأخذ من ثلاثين تبيعاً ومن أربعين مسنةً نصاً (قال الشافعي) وهذا ما لا أعلم فيه بين أحدٍ من أهل العلم لقيته خلافاً وروي عن طاوس أن معاذاً كان يأخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً ومن أربعين بقرةٍ مسنة وأنه أتى بدون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئاً وقال لم أسمع فيه شيئاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى ألقاه فأسأله فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أن يقدم معاذاً وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بشيء ". قال الماوردي: أما زكاة البقر فواجبة الكتاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقال تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَائِلِ} وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ معجمة فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَأَوَّلُ نِصَابِهَا ثَلَاثُونَ، وَفِيهَا تَبِيعٌ، وَمَا دُونُ الثَّلَاثِينَ وَقْصٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِلَى عِشْرِينَ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعٌ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ نُصُبَهَا كَالْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شاة، وفي كل خمسة وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ، بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَيَكُونَ فِيهَا بَقَرَتَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتَيْ لَبُونٍ، استدلالاً بخبر ومعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فأما الخبر: فروى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ صَدَقَاتِ الْإِبِلِ قَالَ في آخره: وكذلك البقر. وأما المعنى: فاشتراكها فِي اسْمِ الْبَدَنَةِ وَالْأُضْحِيَةِ وَالْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ تُسَاوِي حُكْمِهَا فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الْفَرَائِضَ، وَقَالَ فِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَرَوَى طَاوُسٌ الْيَمَانِيُّ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَأُتِيَ بِدُونِ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا حَتَّى أَلْقَاهُ وَأَسْأَلَهُ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ، وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بشيء. قال الشافعي رضي الله عنه: " الوقص ما لم يبلغ الفريضة (قال) وبهذا كله نأخذ وليس فيما بين الفريضتين شيءٌ وإذا وجبت إحدى السنين وهما في بقرةٍ أخذ الأفضل وإذا وجد إحداهما لم يكلفه الأخرى ولا يأخذ المعيب وفيها صحاح كما قلت في الإبل ". قال الماوردي: وَالشِّنَاقُ: مَا بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ، وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِالْوَقْصِ فَيُسْتَعْمَلُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا، فَإِنْ قِيلَ حديث طاوس عن معاذ مرسل، لأن طاوس وُلِدَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ لَهُ سَنَةً حِينَ مَاتَ مُعَاذٌ، وَالشَّافِعِيُّ لا يقول بالمراسيل، فكيف يحتج بها قبل الْجَوَابُ عَنْهُ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَطَرِيقُهُ السِّيرَةُ وَالْقَضِيَّةُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْيَمَنِ خُصُوصًا وَفِي سَائِرِ النَّاسِ عُمُومًا وَطَاوُسٌ يَمَانِيٌّ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ اشْتِهَارِهِ لَا مِنْ طَرِيقِ إِرْسَالِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمَرَاسِيلِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْنَدٌ يُعَارِضُهُ، وإن كان مرسلاً لَا يُعَارِضُهُ مُسْنَدٌ فَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ أَرْسَلَهُ الشَّافِعِيُّ فقد أسند له غَيْرُهُ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 رَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً فَقَالُوا لَهُ فَالْأَوْقَاصُ؟ فَقَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا بِشَيْءٍ، حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا شَيْءَ فِيهَا. فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فَمَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا لَا فِي مَقَادِيرِ نُصُبِهَا، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِبِلِ فِي اشْتِرَاكِهَا فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ في الضحايا فيفسر بالغنم، لأن السبعة عَنْ سَبْعَةٍ، وَيَقْتَضِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ أَنْ يَكُونَ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا شَاةٌ، فَعُلِمَ بِالنَّصِّ فِي الْغَنَمِ فَسَادُ هَذَا الِاعْتِبَارِ وبطلان هذا الجمع. فصل : فإذا ثبت فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ، فَلَا شَيْءَ فيما دونه، فالتبيع ذكر وهو ما له سنة، وَسُمِّيَ تَبِيعًا لِأَنَّهُ قَدْ قَوِيَ عَلَى اتِّبَاعِ أُمِّهِ، فَإِنْ أَعْطَى تَبِيعَةً قُبِلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فإذا بلغتها فهي مُسِنَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ أَعْطَى مُسِنًّا ذَكَرًا نَظَرَ فِي بَقَرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلَّهَا أو ذكوراً كلها، ففي جَوَازِ قَبُولِ الْمُسِنِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لنصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسِنَّةِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِي مُطَالَبَتِهِ بمسنة من غير ما له إضرار بِهِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَعَنْ أبي حنيفة ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: أَحَدُهَا: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ فِي زيادتها حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعَانِ، وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْهُ أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الْمُسِنَّةِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ بِنْتَ لَبُونٍ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ في الإبل إلا بعد فرض الحقة والجذعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 اقتضى أن لا يعد التَّبِيعُ فِي الْبَقَرِ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مُسِنَّةٌ، وَالثَّانِي مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ، وَالْفَرْضُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَاشِرِ فِيمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، وَبَعْدَ السِّتِّينَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْخَمْسِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: رِوَايَةُ سَلَمَةَ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا دُونَ ذَلِكَ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ فَرْضُهَا ابْتِدَاءً إِلَّا بِسِنٍّ كَامِلٍ، كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يَجِبُ بها جبران كَامِلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِهَا الْفَرْضُ، قِيَاسًا عَلَى مَا دُونُ الْخَمْسِينَ وَفَوْقَ الْأَرْبَعِينَ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ فَكَذَلِكَ التَّبِيعُ فَيَبْطُلُ بِالشَّاةِ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الْإِبِلِ، وَبِنْتَيْ لَبُونٍ تجب في ستة وَسَبْعِينَ، ثُمَّ يَجِبُ بَعْدَهَا حِقَّتَانِ فِي إِحْدَى وتسعين، ثم بعده بَنَاتُ اللَّبُونِ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فَرْضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِقَاقُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ أَوْقَاصَ الْبَقَرِ تِسْعٌ فَبَاطِلٌ بِالْوَقْصِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسِنَّةَ: وَهِيَ الَّتِي اسْتَوَى قَرْنَاهَا فَرِيضَةُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ، فَإِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلَى سَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ إِلَى ثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ إِلَى مِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعَشْرَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعَشْرَةً فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ، يَجْتَمِعُ فِيهَا الْفَرْضَانِ جَمِيعًا كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ، وَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ كَاجْتِمَاعِ الْفَرْضَيْنِ فِي الْإِبِلِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْإِبِلِ سَوَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ الْفَرْضَانِ وَلَا أَحَدُهُمَا كُلِّفَ أَنْ يَبْتَاعَ أَحَدَهُمَا، أَوْ يَتَطَوَّعَ بِسِنٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ أَنْ يُطَالَبَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا، وَلَا لَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيُعْطِيَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِبِلِ بَعْدَ التَّوْقِيفِ، أَنَّ الْغَنَمَ لَمَّا وَجَبَتْ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْإِبِلِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ جُبْرَانُهَا فِيمَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَبِيعٌ فِي ثَلَاثِينَ فَأَعْطَاهُ مُسِنَّةً قُبِلَتْ، لِأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ فِي أَرْبَعِينَ فَأَعْطَاهُ تَبِيعَيْنَ قبلا، لأنهما يقبلان في أكثر منها، فأما الْجَوَامِيسُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الْبَقَرِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْجَوَامِيسَ ضَأْنُ البقر، فلو كان ماله جواميس وبقراً عَوَانًا ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَخَذَ زَكَاةَ جميعها، كضم الضأن إِلَى الْمَعِزِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 باب صدقة الغنم السائمة قال الشافعي رحمه الله: " ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صدقة الغنم معنى ما أذكر إن شاء الله تعالى وهو أن لَيْسَ فِي الْغَنَمِ صدقةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فإذا بلغتها ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين فإذا بلغتها ففيها شاتان وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاةً فإذا بلغتها فَفِيهَا ثَلَاثُ شياهٍ ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أربع شياه ثم في كل مائةٍ شاةٌ وما نقص عن مائةٍ فلا شيء فيها وتعد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْغَنَمِ فَوَاجِبَةٌ لِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ معجمة وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زكاةٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوب زكاتها، وأن أول نصابها أربعين وَأَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهَا، وَأَنَّ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، وَأَنْ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَكُلَّمَا زَادَتْ مِائَةً كَامِلَةً فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بن صالح بن حي وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، خِلَافًا لِلْكَافَّةِ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إلى ثلاثماية " قَالُوا: فَهَذَا حَدٌّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " وَهَذَا مَذْهَبٌ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَوِفَاقِ مَنْ تَعَقَّبَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْعَمَلِ الْجَارِي، وَالنَّصِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً: شَاةٌ إِلَى مائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ واحدةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثلاثمائةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ المائة شيء، وقد مضى أَنَسٌ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ " فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ "، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوَضِّحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الأول وتفسر إجماله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وتعد عليهم السخلة قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ (قال الشافعي) والربي هي التي يتبعها ولدها والماخض الحامل والأكولة السمينة تعد للذبح (قال الشافعي) وبلغنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمعاذ " إياكم وكرائم أموالهم " (قال الشافعي) فبهذا نأخذ ". قال الماوردي: فزكاه السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْحَوْلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَسْتَأْنِفُ حولها، وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ ". وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بن مخرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا ولا تأخذ هرمةً ولا ذات عوارٍ ". روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَعْمَلَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ عَلَى الطَّائِفِ، وَمَخَالِيفِهَا فَعَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَالَ عَدًّا وَصِغَارَهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُعَدُّ عَلَيْنَا عَدًّا الْمَالَ وَصِغَارَهُ فَخُذْ مِنْهُ، فَلَقِيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا نَظْلِمُهُمْ، نَعُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَالَ وَلَا نَأْخُذُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَمَرُ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ، وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَخُذِ الْجَذَعَةَ، والثنية " وذلك عدل بين الْمَالِ وَخِيَارِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَكُولَةُ: السَّمِينَةُ تُعَدُّ لِلذَّبْحِ. وَالرَّبِيُّ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا. وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وَالْفَحْلُ: الذَّكَرُ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ، فَجَعَلَ مَا عَدَلَ عنه من عدا الْمَالِ بِإِزَاءِ مَا تَرَكَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِيَارِهِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَجَبَتْ لِأَجْلِ النِّتَاجِ فَلَمْ يجز أن يجب فيها، وسقط فِي النِّتَاجِ وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأُمَّهَاتِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْتُ مع ما وصفت في أن لا يؤخذ أَقَلُّ مِنْ جذعةٍ أَوْ ثنيةٍ إِذَا كَانَتْ في غنمه أو أعلى مها دل على أنهم إنما أرادوا ما تجوز أضحيةً ولا يؤخذ أعلى إلا أن يطوع وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم كلها واحدةً فإن كانت كلها فوق الثنية خير ربها فإذا جاء بثنية إن كانت معزاً أو بجذعة إن كانت ضأناً إلا أن يطوع فيعطي منها إلا أن يكون بها نقص لا تجوز أضحيةً وإن كانت أكثر قيمةً من السن التي وجبت عليه قبلت منه إن جازت أضحيةً إلا أن تكون تيساً فلا تقبل بحالٍ لأنه ليس في فرض الغنم ذكورٌ وهكذا البقر إلا أن يجب فيها تبيع والبقر ثيران فيعطي ثوراً فيقبل منه إذا كان خيراً من تبيع وكذلك قال في الإبل بهذا المعنى لا نأخذ ذكراً مكان أنثى إلا أن تكون ماشيته كلها ذكوراً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السِّنُّ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ هِيَ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي السَّابِعِ، وَالثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعِزِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَالَ أبو حنيفة الْمُسْتَحَقُّ الثني من الضأن والمعز، وقال مَالِكٌ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ , وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ قَالَ أَتَانَا مُصَدِّقُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " نُهِينَا عَنِ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعِزِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سِنٍّ تَقَدَّرَتْ بِهَا الْأُضْحِيَةُ تَقَدَّرَتْ بِهَا زَكَاةُ الْغَنَمِ كَالثَّنِيَّةِ، فَإِنْ أَعْطَى فَوْقَ الْجَذَعَةِ أَوِ الثَّنِيَّةِ قُبِلَتْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ حد الهرمة فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ أَعْطَى دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ تُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَقْبُولَةٌ، وَالنُّقْصَانَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ إِنَّ كَانَتْ غَنَمُهُ إِنَاثًا، أَوْ فِيهَا إِنَاثٌ لَمْ تُؤْخَذِ الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أُخِذَ مِنْهَا الذَّكَرُ، ول يُكَلَّفْ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَرِيضَةِ مِنَ المراض. قال الشافعي: وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم واحدة، إِذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ، إِنْ كَانَ مَالُهُ ضَأْنًا أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعِزِ إِنْ كَانَ مَالُهُ مِعْزَى، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ المال أن يمنعه من اختيار إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْجِذَاعَ وَالثَّنَايَا، كَمَا كَانَ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعتد بالسخلة على رب الماشية إلا بأن يَكُونَ السَّخْلُ مِنْ غَنَمِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَكُونَ أصل الغنم أربعين فصاعداً فإذا لم تكن الغنم مما فيه الصدقة فلا يعتد بالسخل حتى تتم بالسخل أربعين ثم يستقبل بها الحول ". قال الماوردي: ذكرنا أن السخال تزكى بحلول أمهاتها إذا جمعت ثلاث شَرَائِطَ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ الَّتِي فِي مِلْكِهِ، لَا مِنْ غَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ فِي السِّخَالِ، وَجَبَ ضَمُّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ في اختيار النِّصَابِ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ، فَقَدْ قَالَ: لَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، بَلْ تُضَمُّ السِّخَالُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ. أَصْلُ ذَلِكَ: إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ أَرْبَعِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ مِنَ الْمَالِ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِنِصَابٍ مُزَكًّى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُرُوضُ التِّجَارَاتِ، إِذَا اشْتَرَى عُرْضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فربح فيه مائة درهم، زكا الْأَصْلَ وَالنَّمَاءَ، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النماء تابعاً للنصاب. وَالثَّانِي: إِنْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا زَكَّاهُمَا، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرِّكَازُ وَالنَّمَاءُ تَبَعًا لِنِصَابٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا شَرْطٌ فِي وُجُوبِ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجِبْ ضَمُّهَا، فَإِذَا كَمُلَتْ مَعَ السِّخَالِ نِصَابًا، اسْتُؤْنِفَ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ مِنْهُ وَلَا السِّخَالِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ كَمُلَ بِهَا نِصَابُ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا، كَمَا لَوْ مَلَكَ السِّخَالَ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ السِّخَالَ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ (فِيهَا) إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 بِالْحَوْلِ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَهَا تَارَةً يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَتَارَةً يَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبِعَ الْغَيْرَ فِي الْحَوْلِ، وَلَا حَوْلَ لِلْغَيْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَوْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّصَابِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَوْلَ ثَابِتٌ لِلْأُمَّهَاتِ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَهَا السِّخَالُ فِي حَوْلِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دُونَ النِّصَابِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْأُصُولِ فِي زَكَاةِ الْعُرُوضِ، وَمَسْأَلَةِ الرِّكَازِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ: أَمَّا مَسْأَلَةُ عُرُضِ التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ ثُمَّ بَاعَهُ بِنِصَابٍ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ، وَيَقُولُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعُرْضَ بِنِصَابٍ، أَوْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الشِّرَاءِ نِصَابًا، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْعُرْضِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ اعْتِبَارَ تَقْوِيمِ الْعُرْضِ بِنِصَابٍ يَشُقُّ غَالِبًا، وَلَا يَشُقُّ أَنْ يُعْتَبَرَ كَوْنُ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ في الأمهات، لارتفاع مشقته، توضيح ذَلِكَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عُرْضًا بِنِصَابٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ، ثُمَّ عَادَتِ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْحَوْلِ إِلَى النِّصَابِ، لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَتَلِفَ مِنْهَا فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ شَاةٌ، ثُمَّ مَلَكَ مَكَانَهَا شَاةً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ اسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْهُ بِنُقْصَانِ الشَّاةِ، فَقَدْ وَضَحَ بِمَا بَيَّنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُرْضِ وَالسِّخَالِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّكَازِ فَقَدِ اختلف أصحابنا فِيهَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمِائَةِ الرِّكَازِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ الرِّكَازَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الرِّكَازِ لِوُجُودِ النِّصَابِ، وَلَمْ تَجِبْ زَكَاةُ المائة الأخرى لفقد الحول، فعلى هذا القول السُّؤَالُ سَاقِطٌ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ زَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مَوْجُودٌ، وَالْحَوْلَ فيما يعتبر فيه مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِيجَابِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ الرِّكَازَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الحول، والسخال يعتبر فِيهَا الْحَوْلُ، إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِافْتِرَاقِ مَعْنَاهُمَا فِي الْوُجُوبِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ فقالا: كل ما استفاد من جنس ما ضمه إليه في حوله، وإخراج زَكَاتَهُ تَبَعًا لِمَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نِتَاجِ مَالِهِ، أَوْ مَلَكَهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا بَعْدُ، لَكِنْ تقدم الكلام فيها، لأن هذا الوضع أليق بها، فأما مخالفنا فاستدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 برواية ابن الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " اعلموا شهراً تودون فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فقد بين أن السنة تجمع لزكاة المالين جميعاً من الأصل المستفاد، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي خَمْسٍ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ عَشْرًا بِفَائِدَةٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ تَغْيِيرُ الْفَرْضِ بِهَا، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لساعيه " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا زيادة من نفس ماله، فوجب إذا لم يزل بَدَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَا عِنْدَهُ، كَالنِّتَاجِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ حَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِحَوْلِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَكَانَ عَامًّا وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بِغَيْرِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِهِ، وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِمَّا عِنْدَهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهَا، أَصْلُهُ مَا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أبو حنيفة فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ أخرج زكاتها، وأربعون من الغنم من بَقِيَ شَهْرٌ مِنْ حَوْلِهَا، فَاشْتَرَى بِالْمِائَتَيْنِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ شَاةً. قَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَهَا بِحَوْلِ الْأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى أَصْلَهَا وَهُوَ الْمِائَتَانِ، وَلَوْ لَمْ يُزَكِّ أَصْلَهَا ضَمَّهَا، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ مُقْنِعَةٌ، وَلِأَنَّ فِي ضَمِّ الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ أَصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِهَا فِي الحول مراراً. مثال: فِيمَنْ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ، فَابْتَاعَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ فَزَكَّاهَا الثَّانِي بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى ثَالِثٍ حَالُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى رَابِعٍ، وَخَامِسٍ فَيُؤَدِّي زَكَاةَ الْخَمْسِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا، وَهَذَا مُنَافٍ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى إِيجَابِهَا فِي كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اعْلَمُوا شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ رَأْسَ السَّنَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الْمُسْتَفَادِ فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ رَأْسَ سَنَةِ الْأَصْلِ وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَحَمْلُهُ عَلَى سَنَةِ الْمُسْتَفَادِ أَوْلَى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمَقَادِيرِ دُونَ ضَمِّ الْمُسْتَفَادِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِتَاجِ مَالِهِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِمَّا عِنْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الحول، فينكسر من إتباع ماشيته بِمَالٍ قَدْ زَكَّاهُ، فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَاشِيَتِهِ، وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهُ، فَكَانَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا، عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، أَنَّ النِّصَابَ اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ، وَالْحَوْلُ اعْتُبِرَ لِيَتَكَامَلَ فِيهِ نَمَاءُ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ حَتَّى يَحُولَ حَوْلُهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي اعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلِأَنَّ السِّخَالَ تَابِعَةٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي الْإِيجَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا قَبْلَ الْإِيجَابِ، فَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ ضُمَّتْ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا، وَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ، لَمْ تُضَمَّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَفِي إِيجَابِ ضَمِّهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ قَوْلَانِ مبنيان على اختلاف قوليه في الإمكان، قيل هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ في الوجوب وتضم إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ شرط في الضمان دون الوجوب لا تضم إلى الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَاشِيَةِ ". قَالَ الماوردي: وهذا كما قال: إن اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ضَمِّ السِّخَالِ، فَادَّعَى السَّاعِي وُجُودَ جَمِيعِهَا وَإِيجَابَ ضَمِّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَدَمَ بَعْضِهَا وَسُقُوطَ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَكَأَنَ السَّاعِيَ ادَّعَى أَنَّ السِّخَالَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَرْبَعُونَ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا دُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 الْأَرْبَعِينَ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْوِلَادَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَمَا ادَّعَيَاهُ مُمْكِنٌ فِي الظَّاهِرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رب المال مع يمينه، لأنه أمين يرجع إلى ظاهر، وَلَا ظَاهِرَ مَعَ السَّاعِي وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ يَمِينُ اسْتِظْهَارٍ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ ما تسقط بِهِ الزَّكَاةَ وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ فَيَمِينُهُ اسْتِظْهَارٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَعَ السَّاعِي كَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ بَيْعَ مَالِهِ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ابْتِيَاعَهُ فَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ أَيْضًا. وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا اسْتِظْهَارٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا وَاجِبَةٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، لَا بِنُكُولِهِ لَكِنْ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالظَّاهِرِ الْمَوْجُودِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَلَا لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ معينين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له أربعون فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَدِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَتْ أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ حتى ماتت منها شاة فلا زكاة في الباقي لأنها أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ حولها فلم يمكنه دفعها إلى أهلها أو الوالي حتى هلكت لم تجز عنه فإن كان فيما بقي ما تجب فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ، وَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَالزَّكَاةُ عليه واجبة، سواء أمكنه أداء زكاتها إِلَى السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أمكن أداؤها إلى الساعي ضمنها وإن أمكن أَدَاؤُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَبَادَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَتَلِفَ مِنْهُ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فِي يَدِ السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَاقِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِحِسَابِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ، وَيَكُونُ التَّالِفُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَسَاكِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ فائدةٍ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا فَهِيَ لِحَوْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى حَوْلِ مَالِهِ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ أَتَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَمَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثَانِيَةً، ثم ملك بعد هذه أَرْبَعِينَ شَاةً ثَالِثَةً، فَصَارَ جَمِيعُهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فيها وجهين: أحدهما: أنه زكى فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى كُلَّ أَرْبَعِينَ بِحَوْلِهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا شَاةً كَامِلَةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، لِأَنَّهَا لَمَّا افْتَرَقَتْ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي حُكْمِ الخلطة. والوجه الثاني: إن زكى الأربعين الأولة لحولها فيخرج منها شاة كاملة، ثم زكى الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا نِصْفَ شَاةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ، هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ أربعين جزءاً مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ زكى الأربعين الثالثة لحولها فيخرج منها ثلاث شياه، لأنها أربعون من جملة مائة وعشرين، هذا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالَيْنِ مِنْ غيرهما، وقيل إن الزكاة في الذمة، وإن كان قد أخرج الزكاة من المالين، أو قيل إن الزكاة من الْعَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى شَاةً، وَلَا شَيْءَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَتَكُونُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ثَانِيًا، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثَانِيًا حَتَّى صَارَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ شَاتَانِ. وَفِيهَا وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، أَنَّهُ إِنْ خَلَطَ الْجَمِيعَ وَسَامَهَا فِي مَرْعًى واحد كانت تبعاً، وإن فرقها فلكل وَاحِدَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو نتجت أربعين قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ ثُمَّ جَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وبهمةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ من هذا وأخذ من الإبل والغنم أنثى ومن البقر ذكراً وإن لم يجد إلا واحداً إن كانت البقر ثلاثين وإن كانت أربعين فأنثى فإذا كانت العجول إناثاً ووجب تبيع قبل إن شئت فائت بذكر مثل أحدها وإن شئت أعطيت منها أنثى وأنت متطوع بالفضل واحتج الشافعي في أنه لم يبطل عن الصغار الصدقة لأن حكمها حكم الأمهات مع الأمهات فكذلك إذا حال عليها حول الأمهات ولا نكلفه كبيرة من قبل أنه لما قيل لي دع الربي والماخض وذات الدر وفحل الغنم وخذ الجذعة والثنية عقلت أنه قيل لي دع خيراً مما تأخذ إن كان عنده خير منه ودونه وخذ العدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 بين الصغير والكبير وما يشبه ربع عشر ماله فإذا كانت عنده أربعون تسوي عشرين درهماً وكلفته شاةً تسوي عشرين درهماً فلم آخذ عدلاً بل أخذت قيمة ماله كله فلا آخذ صغيراً وعنده كبير فإن لم يكن إلا صغير أخذت الصغير كما أخذت الأوسط من التمر ولا آخذ الجعرور فإذا لم يكن إلا الجعرور أخذت منه الجعرور ولم تنقص من عدد الكيل ولكن نقصنا من الجودة لما لم نجد الجيد كذلك نقصنا من السن إذا لم نجدها ولم ننقص من العدد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاشِيَةِ نَتَجَتْ نِصَابًا، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ النِّتَاجُ فَجَاءَ السَّاعِي فَوَجَدَهَا سِخَالًا، إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، أو فصالاً إن كانت الأمهات إِبِلًا، أَوْ عُجُولًا إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ بَقَرًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَ السِّخَالِ عَلَى حول الأمهات، ويأخذ منها الزَّكَاةَ وَلَا يُبْطِلُ حَوْلَهَا بِمَوْتِ أُمَّهَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ النِّصَابِ الْبَاقِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ نقصت عن النصاب بطل حكم الحول المار، وَلَمْ تَجِبْ فِي السِّخَالِ الزَّكَاةُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ حَوْلِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَاحِدَةٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ جَمِيعُ الْأُمَّهَاتِ بَطَلَ حُكْمُ حَوْلِهَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لِلسِّخَالِ الْحَوْلَ، إِلَّا أَنْ تَصِيرَ ثَنَايَا، فَإِذَا صَارَتْ ثَنَايَا اسْتُؤْنِفَ حَوْلُهَا حِينَئِذٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ فِي السِّخَالِ صَدَقَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي راضعٍ لبنٍ شيءٌ " قال: ولأن الصغار إنما ثبت لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ، فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بِمَوْتِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّابِعِ، قَالَ: ولأن الفرض قد يتغير بالزيادة والعدد، وَبِالزِّيَادَةِ فِي السِّنِّ، ثُمَّ كَانَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ عَنِ النِّصَابِ يُوجِبُ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ، وَتَغْيِيرَ الْفَرْضِ، وجب أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ السِّنِّ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ الزكاة وتغيير الفرض، وتحرر ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَغَيَّرُ له الْفَرْضُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَرْضِ كَالْعَدَدِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ: " وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " وَبِإِجْمَاعِنَا وأبي حنيفة أن العناق لا يؤدى فِي الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ فِيهِ كِبَارٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُؤَدًّى مِنَ الصِّغَارِ، ثُمَّ قَالَ هَذَا بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكُلٌّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فَثَبَتَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ مَوْتُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّصَابِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْحَوْلِ. أَصْلُهُ: مَوْتُ السِّخَالِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْأُمِّ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهُ بِمَوْتِ الْأُمِّ، أَصْلُهُ وَلَدُ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَرِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّجْعَةِ وَالتَّنَاسُخِ مَعَ مُظَاهَرَتِهِ بسبب السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا نَمَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي رَاضِعِ لَبَنٍ شَيْءٌ " يَعْنِي إِذَا انْفَرَدَتْ عَنْ أُمَّهَاتِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا تَبَعٌ فَيُقَالُ لَهُمْ هِيَ تَبَعٌ فِي الِابْتِدَاءِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْلِ فِي الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ يَفْسُدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِوَلَدِ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَأَمَّا قياسهم بفضل السِّنِّ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَقَدْ رَضِينَا بِقِيَاسِهِمْ حَكَمًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ لَا تُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حِقَّةً كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ جَذَعَةً فِي اسْتِوَاءِ فَرْضِهِمَا، وَلَا يكون زيادة من الْجِذَاعِ مُوجِبًا لِزِيَادَةِ الْفَرْضِ فِيهَا فَلَمَّا لَمْ تكن لزيادة السن في زيادة الفرض تأثير وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِنُقْصَانِ السِّنِّ تَأْثِيرٌ في إسقاط الفرض، والعدد بخلاف هذا، إنه يُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَوْتَ الْأُمَّهَاتِ لَا يبطل حق السخال، فزكاتها بعد حول أمهاتها مأخوذ مِنْهَا، وَلَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الْكِبَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا كِبَارٌ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف. وَقَالَ مَالِكٌ لَا آخُذُ الزَّكَاةَ إِلَّا كَبِيرًا، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السِّخَالِ بِحَالٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " نُهِينَا عَنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَإِنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الراعي ولا تأخذها " ولأنه لو كان له ما قال كِرَامَ السِّنِّ وَفَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا رِفْقًا بِرَبِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الْمَالِ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ لِئَامَ السِّنِّ وَدُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يُكَلَّفُوا الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ: " إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ كِرَامٌ فَلَأَنْ لَا يَأْخُذَ الْكَرِيمَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كِرَامٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ، كَالتَّمْرِ الرَّدِيءِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَيِّدًا لَزِمَهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَوَاشِيَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَئِيمًا قِيلَ: هذا حجتنا لأنه لما جاز أخذ الرديء مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ مِنْ جَيِّدِهِ الدُّونُ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الدُّونِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُ الدُّونِ مِنْ جَيِّدِهِ أَوْلَى، فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَالِ الَّذِي فِيهِ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا " فَقَدْ قَالَ " وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ " ثم قال " وذلك عدل بين عدا الْمَالِ وَخِيَارِهِ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَطْلُوبَ هُوَ وَسَطُ الْمَالِ، وَلَيْسَ أَخْذُ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ وَسَطًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَغَيْرُ صحيح، لأنه قد يرتفق برب الْمَالِ بِمَا لَا يَرْتَفِقُ الْمَسَاكِينُ بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ حَوَامِلَ لَمْ يُكَلَّفِ الزَّكَاةَ مِنْهَا رِفْقًا بِهِ، وَلَيْسَ يَرْتَفِقُ المساكين بِمِثْلِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ السَّخْلَةِ مِنَ السِّخَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وهو أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً، أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وَبَهْمَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ، أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا، فهذا قول الشافعي ونصه، ولم يختلف أصحابه أن محل الْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهَا سَخْلَةٌ، وَلَمْ يُكَلَّفْ عَنْهَا كَبِيرَةً، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً مِنْ نِتَاجِ يَوْمِهَا وَحَالَ حَوْلُهَا أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَةً مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَتَانِ مِنْهَا، فَأَمَّا الْإِبِلُ إِذَا كَانَتْ فصالاً والبقر إذا كانت عجولاً، ففيه لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فَصِيلًا فَصِيلَانِ وَيُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِينَ عِجْلًا عِجْلٌ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ عِجْلًا عِجْلٌ وَمِنْ سِتِّينَ عِجْلًا عِجْلَانِ وَمِنْ سَبْعِينَ عِجْلًا عِجْلَانِ ثُمَّ هَكَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ قِيَاسًا عَلَى الْغَنَمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ حُكْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْغَنَمِ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ فُصْلَانِ الْإِبِلِ وَعُجُولِ الْبَقَرِ فَصِيلٌ وَلَا عِجْلٌ بحال، بل يؤخذ منها السن الواجب لقيمة ماله، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِينَارٍ لَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِصَالًا قِيمَتُهَا عِشْرُونَ دِينَارًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا دِينَارٌ، لِتَكُونَ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ نِصْفِ عُشْرِ الْمَالِ، ثُمَّ كَذَلِكَ الْبَقَرُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْغَنَمِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْنَانَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَأَسْنَانَ فَرَائِضِ الْغَنَمِ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِهِ، كَوُرُودِهِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَجَازَ تَرْكُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعُمْدَةُ: أَنَّ فَرَائِضَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ، وَفَرَائِضَ الْغَنَمِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ صَغِيرٌ، لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْغَنَمِ صَغِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي فَرْضُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِهِ وَتَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ: أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْإِبِلِ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ فَهِيَ كَالْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِهَا صَغِيرٌ كَالسِّتَّةِ وَالسَّبْعِينَ وَالْإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ لَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَغِيرٌ، كَالسِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ، ومنها مذهب لا يتحصل لوضوح فساده من الاعتبار والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت ضأناً ومعزاً كَانَتْ سَوَاءً أَوْ بَقَرًا وَجَوَامِيسَ وَعِرَابًا وَدَرْبَانِيَّةً وإبلاً مختلفة فالقياس أن نأخذ من كل بقدرٍ حصته فإن كان إبله خمساً وعشرين عشر مهرية وعشر أرحبية وخمس عيدية فمن قال يأخذ من كل بقدر حصته قال يأخذ ابنة مَخَاضٍ بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مَهْرِيَّةٍ وَخُمْسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمْسَ عيدية. قال الماوردي: أما إن كَانَتْ مَاشِيَتُهُ نَوْعًا وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تتنوع فالواجب أن تؤخذ زكاته منها جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْجَيِّدِ رَدِيئًا لَمْ يُقْبَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (البقرة: 267) وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ غَنَمًا بَعْضُهَا ضَأْنٌ، وَبَعْضُهَا مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا بَعْضُهَا مَهْرِيَّةٌ وَبَعْضُهَا أَرْحَبِيَّةٌ، أَوْ كَانَتْ بَقَرًا بعضها درباسة وبعضها عراب، فذلك ضربان: أحدها: أَنْ يَسْتَوِيَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنِ اسْتَوَى النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ، وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِعْزَى، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى قدر المالين، كأنا نَقُولَ قِيمَةُ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقِيمَةُ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمِعْزَى عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَتُؤْخَذُ نصف القيمتين فتكون خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، إِمَّا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمِعْزَى، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَإِنْ تَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، ثَلَاثُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ وَعَشْرٌ مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ بَقَرًا مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مُتَفَاضِلَةَ الْأَعْدَادِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ زَكَاتُهَا مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَقْضِي عَلَى العدل بغالب أحوالهم وإن أساء على الغالب بِغَالِبِ فِسْقِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ، وَكَمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ السَّائِمَةِ وَإِنْ عُلِفَتْ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، وَلِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً بِأَرْبَابِ الأموال يخرج من مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ جَيِّدًا كَانَ الْغَالِبُ أَوْ رَدِيئًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لِيَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ شَائِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَلِأَنَّا إِذَا علقنا ذَلِكَ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ خِيَارُهُ فِي الْأَقَلِّ، فَنَكُونُ قَدْ بَخَسْنَا الْمَسَاكِينَ حَقَّهُمْ وَأَبَحْنَا رَبَّ الْمَالِ إِعْطَاءَ خَبِيثِ مَالِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيَاسًا على ما لم يختلف مذهبه فيه من الفضة إذا وجبت فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا لَزِمَ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا دُونَ غَالِبِهَا، كَذَلِكَ في الماشية، ويجوز ذلك قياساً أن يقال إنه جنس قَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ كَالْفِضَّةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا اعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ وَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ عَشَرَةٌ مِنْهَا مَهْرِيَةٌ، وعشرة أرحبية، وخمسة محتدية، فقال قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٍ ثَلَاثُونَ دِينَارًا فَيُؤْخَذُ خمساها، لأن خمسي إبله مهرية فيكون اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَيُقَالُ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٍ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَيُؤْخَذُ خُمُسَاهَا، لِأَنَّ خُمْسَيْ إبله أرحبية فيكون ثمانية دنانير ويقال قيمة بنت مخاض محتدية عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا، لِأَنَّ خُمُسَ إِبِلِهِ محتدية فيكون دينارين، ثم تجمع الاثني عشر والثمانية والدينارين فيكون اثنين وعشرين، فيؤخذ من بِنْتُ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، إِمَّا مهرية أو أرحبية، أو محتدية، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْبَقَرِ وَفِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَدَّى فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ شَاةً مُتَفَرِّقَةً كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ، وَعَلَى صَاحِبِ الْبَلَدِ الْآخَرِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَجِيرَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُقِيمًا أَوْ بَائِنًا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فِي غير بلده وجيرانه، كان مسيئاً، وفي الآخر قولان: أحدهما: أنه يجزئه. والثاني: لا يجزئه وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا بِالْبَصْرَةِ وَعِشْرُونَ بِبَغْدَادَ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، وَنِصْفِ شَاةٍ بِبَغْدَادَ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ نصف شاة باقيها للفقراء أو المساكين من أهل الصدقات أجزاه وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجَ نِصْفَ شَاةِ بِاقِيهَا لَهُ أَوْ لِرَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ على ما سواه، فالصحيح أنه يجزئه وَلَا اعْتِبَارَ بِوَصْفِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَكُونَ بَاقِي الشَّاةِ مِلْكًا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَكْمُلُ لَهُمْ نَفْعُهَا، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ إيقاع ضررهم، وَإِدْخَالَ نَقْصٍ فِي حَقِّهِمْ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ يُؤَدِّي إِلَى تَكْلِيفِ مَا يَتَعَذَّرُ، وَاعْتِبَارُ وَصْفِ مَا لم يَلْزَمُ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَأَخْرَجَ شَاةً كَامِلَةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالَيْنِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ نِصْفُهَا عَمَّا فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجْزَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فَكَانَ ابْنُ الْوَكِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ المال إلى غيره، أحدهما يجزئه، والثاني لا يجزئه، وكان باقي أصحابنا يقولون يجزئه ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا: لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ مَشَقَّةً لَاحِقَةً، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَالِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَالَبَهُ وَالِي الْبَلَدِ الْآخَرِ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِأَدَائِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ، أَحْلَفَهُ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِنُكُولِهِ وَلَكِنْ بِالظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لَهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِنُكُولِهِ لَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ، أَوْ يُؤَدِّيَ، لِأَنَّ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ حُكْمًا عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ غَلَطٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا غَلَطُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ مذهبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَهِلَ تَعْلِيلَ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ الظَّاهِرُ الْمُتَقَدِّمُ لَا النكول الطارئ، وأما غلطه على نفسه فإنه أَوْجَبَ حَبْسَ رَبِّ الْمَالِ بِنُكُولِهِ، وَالنُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَبْسَ، كَمَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ فكان ما ارتكبه مساوياً لمثل ما أذكره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال المصدق هي وديعة أو لم يحل عليها الحول صدقة وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ إِلَّا بِأَوْصَافٍ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ مِنْهَا الْمِلْكُ وَالسَّوْمُ وَالْحَوْلُ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَطَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ له وإنها بيده وَدِيعَةٌ فَيَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِ السَّاعِي صِدْقُ قَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْهُ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُصَدَّقٌ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ أَمِينٌ قَدِ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صُدِّقَ لَمْ يُحَلَّفْ وَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِمَالِكِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ، يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا. لِأَنَّ لِلْيَدِ ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اليد تدل على الملك إذا اعتبرت بِدَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَأَمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْيَدِ هِيَ ملكي لكن لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، وإن صَدَّقَهُ السَّاعِي فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، لِأَنَّهُ فِي إِنْكَارِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ وَالسَّوْمِ يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرٍ يُعَاضِدُ قَوْلَهُ مِنْ غير إقرار يقدم بِالْوُجُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْيَمِينُ فِيهِ اسْتِظْهَارًا، وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ الْشَاهِدَانِ أَنَّ لَهُ هَذِهِ الْمِائَةَ بعينها من رأس الحول فقال قد ثم بعتها اشتريتها صَدَّقَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ طَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّ حَوْلَهَا لَمْ يَحُلْ فَقَبِلَ السَّاعِي قَوْلَهُ، ثُمَّ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ الشافعي: لا أقبل شهادتهما حتى يقطعا الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ يَقُولَا كَانَتْ هَذِهِ الْغَنَمُ وَيُشِيرَا إِلَيْهَا لِهَذَا الرَّجُلِ وَيُشِيرَا إِلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ زَادَا أو تمما الشهادة لو قَالَا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ أَحْوَطَ فَإِنْ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فَعَلَى السَّاعِي أن يرجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 إِلَى رَبِّهَا فَيُطَالِبُهُ بِزَكَاتِهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُمَا وَقَدْ شَهِدَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فِي النَّاسِ حَتَى يَشْهَدَ الشُّهُودُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يستشهدوا. قيل: إنما اجتزينا بهذه الشهادة؛ لأنها تتعلق بحق الله تعالى يَسْتَوِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْمُطَالِبُ فَحَسُنَ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْأَيْتَامِ وَالضُّعَفَاءِ وَمَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعَاضِدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الشَّهَادَةِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا فِيهَا "، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَلَى دَعَاوَى الْخُصُومِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَيَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَمْ لَا؟ قِيلَ إِنْ كَانَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِكِ وَأَهْلِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُتَّهَمَانِ أَنْ يَجُرَّا بِالشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَلَا ذِي غَمْرٍ، وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " يَعْنِي بِذِي الْغَمْرِ الْعَدُوَّ، وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَاهَدُونَهُ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كان مِنْ غَيْرِ جِيرَانِ الْمَالِكِ، وَمِمَّنْ لَا تُفَرَّقُ بينهما تِلْكَ الزَّكَاةُ لِبُعْدِهِمَا فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ بِأَنْ تَؤُولَ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِمَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، طُولِبَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِكْذَابِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، وإن أصدق الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعَهَا فِي تضاعيف الحول شراء ثُمَّ ابْتَاعَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى تُوَافِقُ الظَّاهِرَ أَوْ تُخَالِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلظَّاهِرِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْيَمِينُ اسْتِظْهَارًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَنَتَجَتْ شَاةٌ فَحَالَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ إِحْدَى وأربعون فنتجت شاة فحالت عليها سنة ثالثة وهي اثنان وَأَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ فُرُوعِهَا، اخْتِلَافُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَلَهُ في ذلك قولان: أحدهما: وهو قوله أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ لَا فِي عَيْنِ مَالِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَلَيْسَتِ الشَّاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَالِ وَكَانَ الْمَسَاكِينُ فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ إِبْطَالُ شَرِكَتِهِمْ وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِمْ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي ذِمَّتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِ الْمَالِ لا في الذمة لقول اللَّهِ تَعَالَى {وَالّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (المعارج: 24) فاقتضى كلامه هَذَا اللَّفْظِ وَصَرِيحُهُ إِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ رَبِّهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي أَرْبَعِينَ شاةٍ شاةٌ " فَأَوْجَبَ الشَّاةَ فِي عَيْنِهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالدَّيْنِ وَالْفَرْضِ وَكُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ المالك. فصل : قال فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْلِ القديم: أن الزكاة واجبة في الذمة، واختلف أَصْحَابُنَا هَلِ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةً بِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ مُرْتَهَنَةً بِهَا مَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ نكاحه فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مُرْتَهَنَةٌ بِمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي رَقَبَتُهُ مُرْتَهَنَةٌ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلَّا أَخَذَ السَّاعِي ذَلِكَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَبِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسِيرَةُ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ فَيَكُونُ الْفَرْضُ الْوَاجِبُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، لَكِنْ سُومِحَ رَبُّ الْمَالِ بِأَنْ أُبِيحَ لَهُ إِعْطَاءُ الْبَدَلِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَالُ الْغَنِيمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُجُوبٌ مُرَاعًى لَا وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ بِثَمَنِ الْعَبْدِ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِمَالِكِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا وَتَمَهَّدَ مَا قَرَّرْنَا وَكَانَ مَعَ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، لِنُقْصَانِهَا عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى نَظَرْتَ فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ عَقَارٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ فَفِي قَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا هَلْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زكاة عليه فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُخْرِجُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَصَارَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ. أَحَدُهَا: زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وجبت عليه الثلاث زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كان موسراً بغيرها وجبت عليه زكاة الثلاث سنين، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِغَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي الْعَيْنِ لِكَمَالِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ فَنَتَجَتْ شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى نَتَجَتْ شَاةً، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ فَهَذَا عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ خَلَفَتْهَا شَاةٌ مِنَ النِّتَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضلت أو غصبها أحوالاً فوجدها زكاها لأحوالها والإبل التي فريضتها من الغنم ففيها قولان أحدهما أن الشاة التي فيها في رقابها يباع منها بعير فتؤخذ منه إن لم يأت بها وهذا أشبه القولين والثاني إن في خمس من الإبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 حال عليها ثلاثة أحوالٍ ثلاث شياهٍ في كل حولٍ شاة (قال المزني) الأول أولى به لأنه يقول في خمس من الإبل لا يسوي واحدها شاة لعيوبها إن سلم واحداً منها فليس عَلَيْهِ شاةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَكَانَ مِنْ وَرِقٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَضَلَّ مِنْهُ أَوْ غُصِبَ، أَوْ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعٍ فَنَسِيَهُ، أَوْ غَرِقَ فِي بَحْرٍ لَمْ يَجِدْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ عَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الضَّالُّ، وَاسْتَرْجَعَ الْمَغْصُوبَ، وَوَجَدَ الْمَدْفُونَ، وَوَصَلَ إِلَى الْغَرِيقِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ، فَفِي إِيجَابِ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي القديم: لا زكاة عليه ووجه ذلك اثنان. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كالمواشي والزرع وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ دُونَ مَا لَيْسَ بِنَامٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْمَغْصُوبُ مَعْدُومَ النَّمَاءِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَهَاءَ الْمِلْكِ وَنُقْصَانَ التَّصَرُّفِ يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، لِوَهَاءِ مِلْكِهِ، وَنُقْصَانِ تَصَرُّفِهِ، وَرَبُّ الضَّالَّةِ، وَالْمَغْصُوبُ وَاهِي الْمِلْكِ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ "، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِيمَا ضَلَّ أَوْ غُصِبَ بَاقٍ، عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ إِذَا كَانَ نَامِيًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَفْقُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ مَالَهُ عَنْ طَلَبِ النَّمَاءِ حَتَّى عَدِمَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ وَأَرْبَاحَ التِّجَارَاتِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَهِيَ النُّكْتَةُ وَفِيهَا انفصال عن الاستدلال الأول، فأما الاستدال الثَّانِي فَرَدُّهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ المعنى في سقوط الزكاة من الْمُكَاتَبِ نُقْصَانُ مِلْكِهِ لَا نُقْصَانُ تَصَرُّفِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ وَاللَّهُ أعلم. فصل : إذا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ مَاشِيَةً فلهذا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سائمة عند مالكها معلوفة عند غاصبها، فإن كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَهَا حَالَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَالِكِ بِلَا دَرٍّ وَلَا نَسْلٍ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فَقْدُ النماء فاقتضى أن يكون وجود النماء موجب لها، وعند أبي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ وَهَاءُ الْمِلْكِ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَرْدُودًا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ سَائِمَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، لِأَنَّ السَّوْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا، فَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمَالِكُ فَلَا حُكْمَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَرَعَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَوْمًا يُوجِبُ الزَّكَاةَ، كَذَلِكَ سَوْمُ الْغَاصِبِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ سَوْمُ الْغَاصِبِ كَسَوْمِ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا كَانَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاتُهَا كَذَلِكَ، إِذَا غَصَبَ مَاشِيَةً فَسَامَهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ على الملاك زَكَاتُهَا، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ أَنَّ السَّوْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ، لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ رَعَتْ بِنَفْسِهَا لم يكن له عليها حُكْمٌ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ، أَلَا ترى أنه لو نقل طعاماً ليحرزه فانتثر بَعْضُهُ وَنَبَتَ وَبَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا لَزِمَتْهُ زكاته، وإن لم يقصد زراعته. فصل : فلو كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا غَيْرُ سَائِمَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ حُكْمُ سَوْمِهَا ثَابِتٌ وَإِنْ عَلَفَهَا الْغَاصِبُ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ كَمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا لزكاتها عن الملاك، ولو كان المالك صَاغَهَا سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ زَكَاتُهَا، كَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ سَائِمَةً فَعَلَفَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنِ الْمَالِكِ زَكَاتُهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ صياغة المالك كصياغة الغاصب فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ عَلْفُهُ لَا يَكُونُ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلْفَ الْغَاصِبِ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيهِ وإنما هو عاص لغصبه وَصِيَاغَةُ الْغَاصِبِ بِخِلَافِ صِيَاغَةِ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي الصِّيَاغَةِ كَمَعْصِيَتِهِ فِي الْغَصْبِ، وَصِيَاغَةُ الْحُلِيِّ المحظور غير مسقط لِلزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صِيَاغَةُ الْغَاصِبِ كَصِيَاغَةِ الْمَالِكِ، وَكَانَ عَلْفُ الْغَاصِبِ كَعَلْفِ الْمَالِكِ. فَصْلٌ : فأما إذا غصب المالك عن طلبه كَأَنْ أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الرُّومِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أن عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَإِذَا غُصِبَ عَنْ مَالِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ حَاكِمٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مع رجل أربعون شاة فضلت منه أو غصبت فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَغْصُوبَ يُزَكَّى وَإِنَّهَا في الذمة وهو موسر بها. والقول الثالث: عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا لِوُجُودِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّالَّ أَوِ الْمَغْصُوبَ لا زكاة فيه فلا وَإِنْ قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. أَحَدُهُمَا: شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ عَلَى مَا مَضَى، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا مِنْ غير جنسها فلم يتعلق وجوبه بغيرها، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ فُرُوعِهِ. فصل إذا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَضَلَّتْ مِنْهَا شَاةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ عَادَتْ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ حيث أسقط زكاة المال، يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عَوْدِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ الجديد حيث أوجب زكاة المال يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَيُزَكِّي عِنْدَ آخِرِهِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَ مِنْهَا في تضاعيف حولها شَاةٌ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ أَسْبَقَ مِنَ النِّتَاجِ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ مَا نَتَجَتْ، وَإِنْ كَانَ النِّتَاجُ أَسْبَقَ مِنْ مَوْتِ الشَّاةِ بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ حَوْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ وَنِتَاجُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَزَكَّى لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يُنْقَصْ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى مِنْ حَوْلِهَا ستة أشهر ثم ضلت أَوْ غُصِبَتْ وَرُدَّتْ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ وَاجِبَةٌ فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، لِحُلُولِ حَوْلِهَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 يَدِهِ وَيَدِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ المغصوب غير واجبة فهي تبنى عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْغَصْبِ أَوْ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنَ الْغَصْبِ عَلَى وجهين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ارتد فحال الحول على غنمه أوقفته فإن تاب أخذت صدقتها وإن قتل كانت فيئاً خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها لأهل الْفَيْءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ رب المال عن الإسلام فله حالان: أحدهما: أن يكون بعد الحول. والثاني: أن يكون قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، ثُمَّ بَقِيَ مُرْتَدًّا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مِلْكِهِ هَلْ يَكُونُ ثَابِتًا أَوْ مَوْقُوفًا، أَوْ زَائِلًا؟ فأحد الأقاويل وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. إِنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أُخِذَتْ زَكَاتُهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ قُتِلَ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظَةٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ فَقَالَ: لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ مَعْنَاهُ إِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: " إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ " وَيُخَرِّجُ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَابَ، اسْتَأْنَفَ حول وسنذكر توجيه الأقاويل في موضعه إن شاء الله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو غل صدقته عذر إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الجهالة ولا يعذر إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَتَمَ الرَّجُلُ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ السَّاعِي وَأَخْفَاهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ زَكَاتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ، أَوْ جَائِرًا فِيهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، يَأْخُذُ فَوْقَ الْوَاجِبِ أَوْ يَأْخُذُ الواجب ويصرفه في غير مستحقيه فلا تعزيز عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِكَتْمِهِ وَإِنْ كَانَ عَادِلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فَلِرَبِّ الْمَالِ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً فَيَقُولَ لَمْ أَعْلَمْ بِتَحْرِيمِ كَتْمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا مَعْذُورٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُ الواجب عليه من غير تعذير، والثاني: أن تكون له شبهة كَتْمِهَا وَمَنَعَ الْإِمَامَ مِنْهَا لِعِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا فَيَكُونَ بِكَتْمِهَا عَاصِيًا، آثِمًا، وَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ أَدَبًا وَزَجْرًا، ويأخذ منه زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَشَطْرُ مَالِهِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا ثنيا فِي الصَّدَقَةِ " أَيْ: لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ عَمِلَ عَلَيْهِ وصبر إِلَيْهِ، لِأَنَّ رِوَايَةَ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ضَعِيفَةٌ. وقال أبو العباس بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَمْ يَكُنْ أَصْلٌ يَدْفَعُهُ وَلَا إِجْمَاعٌ يُخَالِفُهُ عُمِلَ عَلَيْهِ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَدْفَعُهُ وإجماع الصحابة على ترك العمل به فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ حُجَّةٌ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَتْ غَنَمَهُ فُحُولُ الظِّبَاءِ، لَمْ يَكُنْ حكم أولادها كحكم الْغَنَمِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَغْلِ فِي السُّهْمَانِ حُكْمُ الْخَيْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظِّبَاءُ وَجَمِيعُ الصَّيْدِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، لِاسْتِوَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي تَمَلُّكِهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، أَوْ مِنْ بَقَرِ وَحْشٍ وَأَهْلِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً، وَالْفُحُولُ غَنَمًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا وَالْفُحُولُ ظِبَاءً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَيْضًا، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الظِّبَاءِ فِي الضَّحَايَا وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ أبو حنيفة: حُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَتَجُوزُ فِيهَا الضَّحَايَا، وَلَا يَجِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فِي قَتْلِهَا الْجَزَاءُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أن ولد الأمة ملك لسيدها، ولو نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى شَاةٍ لِغَيْرِهِ كَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ دُونَ الْفَحْلِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَتْ فُحُولُ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إِنَاثَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي أَوْلَادِهَا تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الزَّكَاةِ فِي الْآبَاءِ بِمُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ فِي الْأَوْلَادِ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفُحُولُ ظِبَاءً وَالْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَزَاءُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الْجَزَاءُ وَمَا لا جزاء فيه ك " السبع " الْمُتَوَلَّدِ مِنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ، اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الزَّكَاةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أنه متولد من خسيس لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا زَكَاةٌ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ لا تكون فِيهِ زَكَاةٌ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً وَالْفُحُولُ غَنَمًا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِيجَابُ وَالْإِسْقَاطُ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ، كَمَا لَوْ عَلَفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ وَسَامَهَا الْبَعْضَ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ يُسْهَمُ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حنيفة، وَالْحَمِيرُ لَا يُسْهَمُ لَهَا وَلَا زَكَاةَ فِيهَا، ثُمَّ الْبَغْلُ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَبِيهِ فِي الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِحُكْمِ أُمِّهِ، ثُمَّ قَدْ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ أَيْضًا دون أمه في النسب، وقد يجمعه فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ دَالًّا عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهَا فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ مَعْلُوفَةٍ وَسَائِمَةٍ فَلِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالظِّبَاءَ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِي الْجَزَاءِ الْإِثْبَاتُ دُونَ الْإِسْقَاطِ كَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، فَبَاطِلٌ بِالْبَغْلِ غَلَبَ فِيهِ الْإِسْقَاطُ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وذكر في الدرس جواباً آخر وإن ألحقناه بالصيد في وجوب الجزاء لقتله ألحقناه أيضاً في تحريم أَكْلِهِ فَوَقَفَ الدَّلِيلُ فِيهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جامع وبالله التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 باب صدقة الخلطاء قال الشافعي رضي الله عنه: جاء الحديث " لا يجمع بين مفترق وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ". قال الماوردي: وهذا صحيح الملكة من المواشي ضربان: (الأول) خلطة أعيان. (والثاني) وخلطه أَوْصَافٍ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، إِذَا كَانَتْ شَرَائِطُ الْخُلْطَةِ فِيهِمَا مَوْجُودَةً، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُرَاعَى فِي زَكَاتِهَا الْمَالُ أَوِ الْمُلَّاكُ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرَاعَى فِيهِ الْمَالُ دُونَ الْمُلَّاكِ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ أَوْ خُلَطَاءَ زَكَّوْا زَكَاةَ الْوَاحِدِ، وَكَانَ على جماعتهم شاة، ولو كان مائة وعشرين شاة بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، كَانَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. المذهب الثَّانِي: قَالَهُ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: أَنَّ الْمُرَاعَى الْمُلَّاكُ، وَأَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ مَالَهُ دُونَ النِّصَابِ ولو كان ثَمَانُونَ شَاةً وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شاة، ولو كانت مائة وعشرين بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَيْسَ لخلطهم تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَالَهُ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابٌ زَكَّيَا زَكَاةَ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَحُكْمُهُ حكم الانفراد كقول أبي حنيفة كان يَقُولُ فِي خَلِيطَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ كَانَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ. فَصْلٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أبي حنيفة بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَلَّاهُ الْبَحْرَيْنِ كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ، وَقَالَ فِيهِ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " يُرِيدُ أَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَوَاشِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الزَّكَوَاتِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ زَكَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِالْحَوْلِ وَالنِّصَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَوْلِ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النِّصَابِ، وَيُعْتَبَرُ نِصَابُ كل واحد منهما، على انفراد، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِالْخُلْطَةِ كَالْحَوْلِ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ مُقَدَّرٌ كَمَا أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مُقَدَّرٌ، فَلَمَّا كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ سَرِقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُلَطَاءُ فِي الْمَالِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِقَدْرٍ مِنَ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أربعين شاة شاة، وفي خمس من الْإِبِلِ شاةٌ، وَفِي ثَلَاثِينَ بقرةٍ تبيعٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ أَوْ مُلَّاكٍ وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ". وفيه تأويلان: أحدهما: قوله " لا يجمع بين مفترق، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " أَيْ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مُفْرَدَةٌ، فَلَا تُجْمَعُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، وَتَكُونُ عَلَى تَفْرِيقِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً بَيْنَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مُجْتَمِعَةٌ، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَقَالَ أبو حنيفة أَحْمِلُ قَوْلَهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ عَلَى الْمِلْكِ الْوَاحِدِ، لَا عَلَى الْأَمْلَاكِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ منها ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا فِي الْمَالِ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ " فَكَانَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِفَادَةِ حُكْمٍ آخَرَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ تَفْرِيقٍ، مَا نَهَى عَنْ جَمْعِهِ، فَلَمَّا كَانَ نَهْيُ الْجَمْعِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا في الملك، وجب أن يكون نهي التَّفْرِيقِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا فِي الْمِلْكِ، فَصَحَّتْ هذه الدلالة من الخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 والدلالة الثانية: قَوْلُهُ " وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَالتَّرَاجُعُ يَكُونُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ دُونَ الْأَعْيَانِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيُؤَكِّدُهُ، رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ، وَالسَّقْيِ، وَالرَّعْيِ " وَرُوِيَ: " وَالْفُحُولِ " وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَوِ انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، فَجَازَ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ لِوُجُودِ النِّصَابِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَالٍ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لَا لِنُقْصَانِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِوُجُودِ النِّصَابِ، كَمَالِ الذِّمِّيِّ وَالْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يَفْتَقِرُ إِلَى مَالِكٍ وَمَمْلُوكٍ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَإِنِ افْتَرَقَ الْمِلْكُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ وإن افترق الملاك وأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا " فَهُوَ دَلِيلُنَا: لِأَنَّهُ قَالَ الرَّجُلِ فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْمَعْهُودِ، فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهَا عَلَى المعهود لفقده، فكانت محمولة على الجنس، كَأَنَّهُ قَالَ وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةَ الرِّجَالِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " فَهَذَا حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، وَلِقَوْمِهِ: " مِنْ محمد رسول الله إِلَى الْأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ بِإِقَامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، على البيعة شاة واليتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس لَا خِلَاطَ، وَلَا وِرَاطَ، وَلَا شِنَاقَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْأَقْيَالَ مُلُوكٌ بِالْيَمَنِ دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، وَالْعَبَاهِلَةِ الَّذِينَ قَدْ أُقِرُّوا على ملكهم لا يزالون عنه، والبيعة أربعون من الغنم، واليتيمة الزَّائِدَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْفَرِيضَةُ الْأُخْرَى، وَالسُّيُوبُ الرِّكَازُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا أَرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ وَالْخِلَاطُ الشركة في المواشي، والوراط الخديعة والغش، والشنق مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَالشَّغَارُ عَقْدُ النِّكَاحِ الْخَالِي مِنَ الصَّدَاقِ، فَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ لَا خِلَاطَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْخُلْطَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ ذِكْرٌ، وَالْخُلْطَةُ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا خُلْطَةُ الْجَاهِلِيَّةِ الْوَاقِعَةُ عَلَى صِفَاتٍ حَظَرَهَا الشَّرْعُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النِّصَابِ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْحَوْلِ والنصاب، فالمعنى فيه سَوَاءٌ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ النِّصَابَ مِنْ حِينِ الْخُلْطَةِ لَا فِيمَا قَبْلُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّرِقَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُضَمَّ بَعْضُ سَرِقَاتِهِ إِلَى بَعْضٍ لَمْ تُضَمَّ سَرِقَةُ غَيْرِهِ إِلَى سَرِقَتِهِ، وَلَمَّا ضُمَّ بَعْضُ مَالِهِ إِلَى بَعْضٍ ضُمَّ مَالُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنْ قَالَ إِذَا كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْخُلْطَةُ مُوجِبَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 لِلزَّكَاةِ، لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَزِدْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَعُمُومُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أبي حنيفة يُبْطِلُهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ يَخْلُو حَالُكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ الْمُلَّاكَ كَاعْتِبَارِ أبي حنيفة، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهِ، أَوْ تَعْتَبِرَ الْمِلْكَ كَاعْتِبَارِنَا فَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرْتَهُ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنْ أَرَدْتَ مَعَ اجْتِمَاعِ الْمَالَيْنِ فَغَيْرُ مسلم، بل هما مخاطبان، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعَ انْفِرَادِهِمَا، فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النصاب، وإذا اجتمعا كان النصاب موجوداً. فصل : قال الشَّافِعِيِّ: " وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ ما لم يقسما الماشية خَلِيطَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْطَةَ نَوْعَانِ، خُلْطَةُ أَوْصَافٍ وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ، فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ الشَّرِكَةُ، وَخُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، مَا تعين مال كل واحد منهما بصفة، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُسَمَّى خُلْطَةً لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ تُسَمَّى خُلْطَةً شَرْعًا، لَا لُغَةً؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يتميز، وقال آخرون بل يسمى ذلك لُغَةً وَشَرْعًا، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِمِثْلِهِ فِي قصة داود {إنَّ هذَا أَخِي} ، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيراُ مِنْ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) {ص: 24) فَسَمَّاهُمْ خُلَطَاءَ وَإِنْ كَانَتِ النَّعْجَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ النِّعَاجِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يُقَسِّمَا الْمَاشِيَةَ خَلِيطَانِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، قِيلَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، ثُمَّ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ الشَّرِكَةَ خُلْطَةٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ لَاحِقًا بِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَتَرَاجُعُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ أَنْ يَكُونَا خَلِيطَيْنِ فِي الْإِبِلِ فِيهَا الْغَنَمُ فَتُوجَدُ الْإِبِلُ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا فيؤخذ مِنْهُ صَدَقَتُهَا فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالسَّوِيَّةِ (قَالَ) وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحدٍ منهما ماشيته ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، إِذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَلِرَبِّهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْهُ السَّاعِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أُخِذَ، وإن ظلمه رجع بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنَ الْوَاجِبِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بالزيادة التي ظلم بها، وأما خلطة الأعيان: فإن كانت فريضتها الغنم، فالجواب في التراجع على ما ذكرنا في خلطة الأوصاف، وإن كانت ماشية فريضتها منها فلا تراجع بينهما، سواء كان عدلاً أو حيفاً لأن المأخوذ منهما على قدر ماليهما، ولكن تطوع أحدهما في هذا بأن أعطى زيادة على الواجب، فإن كان بأمر شريكه فلا شيء عليه، وإن كان بغير أمره ضمن حصة شريكه من الزيادة والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يُرِيحَا وَيَسْرَحَا وَيَحْلُبَا معاً ويسقيا معاً ويكون فحولتهما مختلطة فإذا كانا هكذا صدقا صدقة الواحد بكل حالٍ وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ من يوم اختلطا ويكونان مسلمين فإن تفرقا في مراح أم مسرحٍ أو سقيٍ أو فحلٍ قبل أن يحول الحول فليسا خليطين ويصدقان صدقة الاثنين وهكذا إذا كانا شريكين (قال) ولما لم أعلم مخالفاً إذا كان ثَلَاثَةَ خُلَطَاءَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شاة أخذت منهم واحدةً وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق مالهم كانت فيه ثلاثة شِيَاهٍ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَوْ كانت أربعون شاةً من ثلاثةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شاةٌ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صدقة الواحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ فَزَكَاتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسِ شَرَائِطَ، وَهَذِهِ الْخَمْسُ مُعْتَبَرَةٌ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ، شَرْطَانِ مِنْهَا فِي الْمَالِكِ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْمَاشِيَةِ. فَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الْمَالِكِ: فَأَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْمَاشِيَةِ: فَأَحَدُهَا النِّصَابُ. وَالثَّانِي: الْحَوْلُ: وَالثَّالِثُ: السَّوْمُ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَخُلْطَةِ الْأَعْيَانِ جَمِيعًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الِانْفِرَادِ، وخلطة الأعيان، ثم تختص بست شَرَائِطَ أُخْرَى تُعْتَبَرُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ لَا غَيْرَ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَرَاحُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ وَاحِدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرَحُ الَّذِي ترعى فيه وَاحِدًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ الَّذِي تَشْرَبُ منه مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ وَاحِدًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْفُحُولُ الَّتِي تَطْرُقُهَا وَاحِدَةً. وَالْخَامِسُ: نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَلَمْ يَرْوِهِ الرَّبِيعُ أَنْ يَكُونَ حِلَابُهُمَا وَاحِدًا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ الْمُزَنِيِّ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِحَالٍ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَرْوِهِ عن الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَقْلَهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَاعَدَهُ حَرْمَلَةُ فَرَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ حِلَابِهِمَا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَالِبُ وَاحِدًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِنَاءُ الْحَلْبِ وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَاطُ اللَّبَنَيْنِ رِبًا، كما يخلط المسافرون أزوادهم، إذ اجْتَمَعُوا لِلْأَكْلِ، وَلَا يَكُونُ رِبًا، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْحِلَابِ وَاحِدًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " فَقَالَ وَأَنْ تَحْلِبَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَفَرَّقَا فِي مَكَانِ الْحِلَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ زَكَّيَاهُ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ، فَقَدْ أَفْصَحَ بِصَوَابِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَصِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ. وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ إِلَّا بِهَا، لِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي الزَّكَاةِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى قَصْدٍ كَالسَّوْمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُلْطَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خلطة الاعتبار سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ، فَهَذِهِ سِتُّ شَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِخُلْطَةِ الْأَوْصَافِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمَرَاحُ وَالْمَسْرَحُ وَالسَّقْيُ وَالْفُحُولُ، وَشَرْطَانِ مُخْتَلِفٌ فِيهِمَا وَهُمَا الْحِلَابُ وَالنِّيَّةُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " والخليطان ما اختلطا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ " فَنَصَّ عَلَى بَعْضِهَا وَنَبَّهَ عَلَى بَاقِيهَا، فَلَوِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْهَا بطل حكم الخلطة وزكياه زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الخليطين عبداً أو مكاتباً أو كاتباً زَكَّى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي مَرَاحٍ أَوْ مَسْرَحٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ فُحُولٍ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اخْتَلَطَا " فَهِي َ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي، ونذكر ما فيها من الخلاف، فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَمَّا لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا إِذَا كانوا ثلاثة خلطاء لو كان لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً أُخِذَتْ مِنْهُمْ شَاةٌ وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ، فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مال الخلطاء الثلاثة الذين لم يُفَرَّقْ مَالُهُمْ، كَانَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لَمْ يجز، إلا أن يقولوا: لو كانت أربعين شَاةً بَيْنَ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ، لِأَنَّهُمْ صدقوا الخلطاء صدقة الواحد وهذا أرد بِهِ مَالِكًا حَيْثُ قَالَ لَا حُكْمَ لِلْخُلْطَةِ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَمَّا كَانَ ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ في مائة وعشرين يلزمهم شَاةٌ وَاحِدَةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِهِمْ، وَلَوْ كانوا متفرقين لزمهم ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَجَبَ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةَ شُرَكَاءٍ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 أَرْبَعِينَ شَاةً أَنْ تَلْزَمَهُمْ شَاةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ، لِيَرْتَفِقَ الْمَسَاكِينُ فِي الْخُلْطَةِ بِمِثْلِ مَا ارْتَفَقَ بِهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَبِهَذَا أَقُولُ فِي الْمَاشِيَةِ كُلِّهَا وَالزَّرْعِ وَالْحَائِطِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حَائِطًا صَدَقَتُهُ مُجَزَّأَةٌ عَلَى مائة إنسان ليس فيه إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الواحد؟ وما قلت في الخلطاء معنى الحديث نفسه ثم قول عطاء وغيره من أهل العلم وروي عن ابن جريج قال سألت عطاء عن الاثنين أو النفر يكون لهم أربعون شاةً فقال عليهم شاة " الشافعي الذي شك " (قال) وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شاةٍ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ فيها ثلاث شياةٍ ولا يجمع بين مفترق رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شاةٍ وَشَاةٌ وَرَجُلٌ لَهُ مائة شاة فإذا تركا مفترقين فعليهما شاتان وإذا جمعتا ففيها ثلاث شياهٍ والخشية خشيةُ السَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَأَمَرَ أَنْ يُقَرَّ كل على حاله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِهَا، وَتَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ خُلْطَةُ وَصْفٍ، وَخُلْطَةُ عَيْنٍ، فَأَمَّا الْخُلْطَةُ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ، فَلَمَّا جَعَلَ هَذَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، دَلَّ عَلَى أن الخلطة لا تصح في غير المواشي، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ إِنَّمَا جَازَتْ فِي الْمَوَاشِي لِمَا يَعُودُ مِنْ رِفْقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ تَارَةً وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أُخْرَى وَرِفْقُ الْخُلْطَةِ فِيمَا سِوَى المواشي عائد على المساكين والاستدرار بِهَا عَائِدٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي لِارْتِفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا، وَلَمْ تَصِحَّ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي لِاخْتِصَاصِ الْمَسَاكِينِ بِالِارْتِفَاقِ بِهَا، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالِاسْتِضْرَارِ بِهَا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي، وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفرق " وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُعْتَبَرَةٌ في زكاة الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنْ قِيلَ يَبْطُلُ بِالسَّوْمِ هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَوَاشِي دُونَ غَيْرِهَا، قِيلَ قَدْ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَا تَجِبُ زَكَاتُهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ نِصَابًا، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي جَائِزَةٌ كَهِيَ فِي الْمَاشِيَةِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، أَوْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا أو مائة دِرْهَمٍ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ فَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ أَحَدِهِمَا تُلَاصِقُ أَرْضَ الْآخَرِ وَيَكُونَ شُرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَاحِدًا، أَوْ يَكُونَ لِهَذَا مائة درهم وَيَكُونَ لِهَذَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ، وَيَكُونُ حَافِظُهُمَا وَاحِدًا وَحِرْزُهُمَا وَاحِدًا، فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ، وَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخُلْطَةِ ارْتِفَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَقَدْ يَرْتَفِقَانِ فِي هذه الخلطة لقلة المؤونة. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حائطاً صدقته مجزئة عَلَى مِائَةِ إِنْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الْوَاحِدِ؟ وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، وَقَالَ فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ: أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ، فَأَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ إِفْسَادًا لِمَذْهَبِهِ وكسراً لأصله، فإن قيل هذا يَلْزَمُ مَالِكًا، لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَا يُمَلَّكُ، قُلْنَا: الْوَقْفُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَالثَّمَرَةُ مَمْلُوكَةٌ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ قَدْحًا دَاخِلًا عَلَيْهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ لَيْسَ له بيعة ك " ام الْوَلَدِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَلْ قَدْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تعالى كالعبد المعتق، وعلى كل الْقَوْلَيْنِ الزَّكَاةُ فِي زَرْعِ الْوَقْفِ وَثَمَرَتِهِ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ تَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِذَا كَانَ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَصَانِعِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ الزكاة تجب على ملك مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ رِقَابَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةً، فإن قيل رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمَلَّكُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَمِلْكُهَا غير تام كالمكاتب، ألا تراه لايقدر على بيعها ورهنها، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 فصل : قال الشافعي: وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ، وَرَجُلٌ لَهُ مائة شاة، فإذا تركتا متفرقتين ففيها شاتان وإذا جمعا ففيها ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَالْخَشْيَةُ خَشْيَةُ السَّاعِي، أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ، فأمر أن يقر كل على حاله، ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَشْيَتَيْنِ: خَشْيَةُ قِلَّةِ الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى السَّاعِي دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَخَشْيَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي مائتي شاة وشاة مجتمعة بين خليطين يجب فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَإِنْ فُرِّقَتْ وَجَبَ فِيهَا شاتان لفا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَاهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ كُلُّ مَالٍ على حاله في الجمع والتفريق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَعِدَّتُهُمَا سَوَاءٌ فَظَلَمَ الساعي وأخذ مِنْ غَنَمِ أَحَدِهِمَا عَنْ غَنَمِهِ وَغَنَمِ الْآخَرِ شَاةَ رُبًى فَأَرَادَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الشَّاةَ الرُّجُوعَ على خليطه بنصف قيمة ما أخذ عن غنمهما لم يكن له أن يرجع عليه إلا بقيمة نصف ما وجب عليه إن كانت جذعة أو ثنية لأن الزيادة ظلم (قال) ولو كانت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ الْخُلْطَةِ ضَرْبَانِ: خُلْطَةُ أَوْصَافٍ، وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ مع تعيين الْمَالَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ. وَالثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَخْذِ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالِينَ، كَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً بَيْنَ خَلِيطَيْنِ، فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْمَالَيْنِ مُتَعَذِّرٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ، كَمِائَتَيْنِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ فَعَلَيْهِمَا شَاتَانِ، يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، أَوْ يكون بينهما أربعمائة يكون لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَتَانِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ عَلَى السَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى خَلِيطِهِ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبَى هُرَيْرَةَ: أَنَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا وَيَرْجِعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَيَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْوَاجِبَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قد أخذ غير الواجب من غير أن يعدل في الْقِيمَةِ، فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بقيمة حصته من الزكاة، كأن بينهما أربعون شَاةً أَخَذَ السَّاعِي زَكَاتَهَا شَاةً مِنْ مَالِ أحدهما، فله أن يرجع على شريطه بِقِيمَةِ نِصْفِهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَلَا بَيِّنَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَلِيطِ الْغَارِمِ مَعَ يَمِينِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، كَالْحَنَفِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَيْسَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنَ السَّاعِي يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ فلم يجز نقضه، هذا كله إذا أخذ منه قدر الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ مُتَأَوِّلًا، كَالْمَالِكِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أَخَذَ مَعَ الزِّيَادَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ، كأخذ الربا وَالْمَاخِضِ وَالْأَكُولَةِ، وَمَا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّ دَفْعَهُ لَا يُلْزِمُ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ الواجب مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ. فَلِزَكَاتِهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ كَالْإِبِلِ الَّتِي فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، سَوَاءٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ والتراجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا مِنْ جِنْسِهَا، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنْ مَاشَيْتِهِمَا سَوَاءٌ حَافَ أَوْ عَدَلَ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمَا يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَأَقَامَتْ فِي يده ستة أشهر ثم باع نِصْفَهَا ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا أَخَذَ مِنْ نصيب الأول نصف شاة لحوله الأول فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ شَاةٍ لِحَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَاعَ نَصِفَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ. والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاقِي غَيْرَ شائع في الجملة، فإن كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُشَاعًا، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ، وَالثَّانِي فِي زَكَاةِ الْمُشْتَرِي فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِزَكَاةِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ حَوْلَهُ أَسْبَقُ فَنَقُولُ قَدْ مَضَى مِنْ حوله قبل المبيع سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَالْمَالُ عَلَى حَالِهِ مُشَاعٌ فَقَدْ تَمَّ حَوْلُ الْبَائِعِ وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ، وَلَا يَكُونُ بَيْعُ النِّصْفِ مُبْطِلًا لِحَوْلِ الْبَاقِي، هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ كَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ فِي نِصْفِ الْحَوْلِ كَانَ خَلِيطًا لِنَفْسِهِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَانَ خَلِيطًا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ نَصِيبُهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَائِعًا فِي نِصَابٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو عَلِيُّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وابن خَيْرَانَ يُخَرِّجَانِ قَوْلًا ثَانِيًا: أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لما مضى من حوله، وجعل ذلك مبنياً على اختلاف قول الشَّافِعِيِّ فِي الْخُلْطَةِ، هَلْ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، تُعْتَبَرُ فِي آخِرِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَبْطَلَا مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ، وَأَوْجَبَا اسْتِئْنَافَهُ، لتكون الخلطة في جميع الحول، وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَدِيدِ، حَيْثُ اعْتَبَرَ الْخُلْطَةَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا زَكَاةُ الْمُشْتَرِي إِذَا مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ كَامِلٌ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْبَائِعِ، فإن كان أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِنُقْصَانِ الْمَالِ عَنِ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى المشتري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 الزَّكَاةُ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ شَاةً مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى أَوْ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تجب وُجُوبًا مُرَاعًى، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ قُلْتُمْ إن استحقاق المساكين جزء من غير المال يبطل بحكم زَكَاتِهِ وَقَدْ صَارُوا خُلَطَاءَ بِهِ، قُلْنَا لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، أَلَا ترى لَوِ اجْتَمَعَ بِيَدِ السَّاعِي أَرْبَعُونَ شَاةً سَائِمَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى حَالَ حَوْلُهَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْوَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي المبيع إذا كان مشاعاً وأقبضه البائع وقت العقد ما لم يستلمه مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، فَأَمَّا إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ زَمَانًا كَالشَّهْرِ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ حَصَلَ الْقَبْضُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ حَوْلِ الْمُشْتَرِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ مِنْ حَوْلِهِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ، فَعَلَى هذا يكون الجواب لما مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ حَوْلِهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَتِمَّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْنِفُ الْبَائِعُ الْحَوْلَ أَيْضًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُخَالِطًا لِمَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَلِّمَ عَلَيْهَا، وَيُشِيرَ إِلَيْهَا، وَيَقْبِضَهَا قَبْضَ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْرِدَهَا عَنِ الْجُمْلَةِ، فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي بَيْعِ الْمُشَاعِ سَوَاءً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي مَا ابْتَاعَهُ مُفْرَدًا وَيُخْرِجُهُ مِنَ الْمَرَاحِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَيَخْلِطُهُ، فَهَذَانِ يَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْخُلْطَةِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَرَاحِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْبِضَهَا مُفْرَدَةً مُتَمَيِّزَةً فِي الْمَرَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْلِطَهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ لِافْتِرَاقِ الْمَالَيْنِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَرَاحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة، فإن مَا مَضَى لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّ الْمَرَاحَ يَجْمَعُهُمَا وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ كَالْحُكْمِ فِي زَكَاةِ المشاع والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له غنم يجب فِيهَا الزَّكَاةُ فَخَالَطَهُ رَجُلٌ بِغَنَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزكاة ولم يكونا شائعاً زُكِّيَتْ مَاشِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِهَا ولم يزكيا زكاة الخليطين فِي الْعَامِ الَّذِي اخْتَلَطَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ قَابِلٌ وَهُمَا خَلِيطَانِ كَمَا هُمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الخليطين لأنه قد حال عليهما الحول من يوم اختلطا فإن كانت ماشيتهما ثمانين وحول أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلَ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ أخذ منهما نصف شاةٍ في المحرم ونصف شاةٍ في صفر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً خَلَطَاهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا متفقاً. والضرب الثاني: أن يكون حولهما مختلفاً، وإن كَانَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يتخالطا بعضهما مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخَلِيطَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَخَالَطَا بعضهما بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، كَأَنْ مَضَى مِنْ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَلَطَا غَنَمَيْهِمَا خُلْطَةَ أَوْصَافٍ مِنْ غير تبايع فصارت غنمهما ثماني شَاةً، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْخُلْطَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَمَّ حَوْلُهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ، فَهَلْ يُزَكِّيَانِ فِي هَذَا الْعَامِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ اعْتِبَارًا بِآخِرِ الْحَوْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ قَدْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ الَّتِي بِهَا يَتَغَيَّرُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ اعْتِبَارًا بِجَمِيعِ الْحَوْلِ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ مَعْنًى يُغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ جَمِيعُ الْحَوْلِ كَالسَّوْمِ، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مُنْفَرِدِينَ في آخره زَكَّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ خَلِيطَيْنِ فِي آخِرِهِ يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُمَا عَلَى خُلْطَتِهِمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِوُجُودِهَا فِي الْحَوْلِ كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُخْتَلِفًا كَأَنَّ حَوْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلَ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَاهَا بَعْدَ أَنْ مَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ، كَأَنَّهُمَا خَلَطَاهَا فِي غُرَّةِ رَجَبٍ وَقَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِ صَاحِبِ الْمُحَرَّمِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمِنْ حَوْلِ صَاحِبِ صَفَرٍ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ حَوْلَهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، وَعَلَى الْجَدِيدِ يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، لَا تَصِحُّ خُلْطَتُهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَوْلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا، فَجَعَلَ اتِّفَاقَ الْحَوْلِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كان اتفاق حولهما شرطاً في الخلطة يوجب أن يكون تساوي عمالهما شَرْطًا فِي الْخُلْطَةِ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ على فساد ما اعتبره، فإذا قيل إنهما يزكيان عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ لِأَحَدِهِمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ دُونَ صَاحِبِهِ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ الْآخَرُ أَرْبَعِينَ شاة فِي غُرَّةِ صَفَرٍ، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ بِغَنَمِ صاحب الَّتِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا شَهْرٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَاحِبُ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهِ فِي الِانْفِرَادِ شَهْرٌ هَلْ يُزَّكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَوْ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ، عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ، وأما على الْجَدِيدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ شَاةً لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْتَفِقْ خَلِيطُهُ بِهِ لَمْ يَرْتَفِقْ هُوَ بِخَلِيطِهِ. فَصْلٌ : رَجُلَانِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ غَنَمِهِ مُشَاعًا بِنِصْفِ غَنَمِ صَاحِبِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَوْلِهِ، وَخَلَطَا الْمَالَيْنِ فَصَارَ جَمِيعُهُ ثَمَانِينَ شَاةً بَيْنَهُمَا مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهُمَا التي لم تدخل تحت المبيع وَأَرْبَعُونَ شَاةً لَمْ يَمْضِ مِنْ حَوْلِهَا شَيْءٌ وَهِيَ الْمَبِيعَةُ، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَوْلِهَا قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَتَخْرِيجِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ حَوْلُ مَا بِيعَ بَطَلَ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ، يَقُولُ يَسْتَأْنِفَانِ حَوْلَ الثَّمَانِينَ مِنْ وَقْتِ التَّبَايُعِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ بُطْلَانَ حَوْلِ مَا بِيعَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَوْلِ غَيْرِ الْمَبِيعِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَمَّ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ ستة أشهر من بعد التَّبَايُعِ فَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ربعها، وعلى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمَا شَاةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِفُهَا، لِأَنَّ الْخُلْطَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي جَمِيعِ الحول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ الْمَبِيعَةُ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا، فَعَلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ. وَالْوَجْهُ الثاني: أن عليهما شاة على كل واحد منهما نصفها، لأنه لما لم ترتفق تلك الأربعين الْأُوَلُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِينَ لَمْ تَرْتَفِقْ هَذِهِ بِتِلْكَ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِأَحَدِهِمَا ببلدٍ آخر أربعون شاةً أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ شَاةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ الْغَائِبَةِ وَرُبُعُهَا عَنِ الَّذِي لَهُ عِشْرُونَ لِأَنِّي أَضُمُّ مَالَ كُلِّ رَجُلٍ إِلَى مَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخر أربعون شَاةً مُفْرِدَةً، فَفِي قَدْرِ الزَّكَاةِ لِأَصْحَابِنَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَلَيْهِمَا شَاةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ، وَرُبُعُهَا عَنْ صَاحِبِ الْعِشْرِينَ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّجُلِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ وَإِنِ افْتَرَقَ، فَإِذَا ضُمَّتِ الْغَائِبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ صَارَ كَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِجَمِيعِهِ وذلك ستون شاة من جملة ثمانين شاة، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْخُلْطَةُ بِبَعْضِ الْمَالِ خُلْطَةٌ بِجَمِيعِهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا ثلاثين شَاةً وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخَرَ عَشْرٌ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الثَّلَاثِينَ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ وَتُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي هَذَا الْمَالِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا تَكُونُ خُلْطَةً بِجَمِيعِهِ، وَأَنَّ مَا انفرد من مَالِ الْخُلْطَةِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً إِلَّا نِصْفَ سُدُسِ شَاةٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْتَفِقُ بِالْخُلْطَةِ فِيمَا هُوَ خَلِيطٌ به دون غيره يزكي عَنِ الْمُنْفَرِدِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، وَعَنِ الْمُخْتَلَطِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، فَيُقَالُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ سِتُّونَ لَكَانَ عَلَيْهِ شَاةٌ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ ثُلُثَا شَاةٍ، لِأَنَّهَا ثُلُثَا السِّتِّينَ، وَلَوْ كَانَ خَلِيطًا بِجَمِيعِ مَالِهِ لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ، لِأَنَّهَا سِتُّونَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ الَّتِي هُوَ خَلِيطٌ بِهَا رُبُعُ شَاةٍ، لِأَنَّهَا رُبُعُ الثَّمَانِينَ ثُمَّ يَجْمَعُ الثُّلُثَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ إِلَى الرُّبُعِ الْوَاجِبِ فِي الْعِشْرِينَ، فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ ونصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَاةٍ، لِيَرْتَفِقَ صَاحِبُ السِّتِّينَ بِضَمِّ مَالِهِ الْغَائِبِ إِلَى الْحَاضِرِ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ، وَلَا يَرْتَفِقُ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ إِلَّا بِمَالِ الْخُلْطَةِ دُونَ مَا انْفَرَدَ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ سِتُّونَ شَاةً خَالَطَ بِكُلِّ عِشْرِينَ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ عِشْرُونَ فَصَارَ مُخَالِطًا لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ وَجَمِيعُ مَالِهِ وَمَالِهِمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِشْرُونَ، وَلِلْأَوَّلِ سِتُّونَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ: عَلَى جَمَاعَتِهِمْ شَاةٌ، نِصْفُهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ، لِأَنَّ لها نِصْفَ الْمَالِ، وَنِصْفُهَا عَنِ الثَّلَاثَةِ الْخُلَطَاءِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهَا، لِأَنَّ لَهُمْ سِتِّينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَنِصْفٌ، عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهَا شَاةٌ وَنِصْفٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ بِسِتِّينَ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَعًا عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَرُبُعٌ، مِنْهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ شَاةٌ وَنِصْفٌ، على كل واحد منهم نصف شاة، لأنه لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ، فَكَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِهَا مَعَ عِشْرِينَ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ خَالَطَ بِكُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ فَصَارَ جَمِيعُ الْمَالِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَعِيرًا بَيْنَ سِتَّةٍ لِأَحَدِهِمْ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَرْبَعَةٌ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ بِنْتُ مَخَاضٍ، عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ خُمُسُهَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْبَاقِينَ يَكُونُ عَلَى قِيَاسِ مَا مَضَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 باب من تجب عليه الصدقة قال الشافعي رضي الله عنه: " وتجب الصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ مَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ مِنَ الأحرار وإن كان صغيراً أو معتوهاً أو امرأة لا فرق بينهم في ذلك كما تجب في مال كل واحد منهم ما لزم ماله بوجه من الوجوه جناية أو ميراث أو نفقة على والد أو ولد زمن محتاج وسواء ذلك في الماشية والزرع وزكاة الفطرة وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " ابتغوا في أموال اليتيم - أو قال في أموال اليتامى - لا تأكلها الزكاة " وعن عمر بن الخطاب وابن عمر وعائشة أن الزكاة في أموال اليتامى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ فَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ، مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَقَالَ أبو حنيفة التَّكْلِيفُ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إِلَّا زَكَاةَ الفطر والأعشار استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَلْزَمُ الْغَيْرَ عَلَى الْغَيْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ غير مكلف كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمُسْلِمِ تُقَابِلُ جِزْيَةَ الذمي لاعتبار الحول فيها، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّكَاةَ تَطْهِيرًا وَنِعْمَةً وَالْجِزْيَةَ صَغَارًا وَنِقْمَةً، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، اقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي أَمْوَالِهِمْ كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصار وَالذينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسَانٍ} (التوبة: 100) قِيلَ: اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَطْفَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ابتغوا في أموال اليتامى كيلا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ. وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلَا يتركه حتى تأكله الصدقة ". روى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " في مال اليتيم زكاة " فإن قيل: هذا خطاب، والخطاب تكليف، ولا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، قِيلَ الْخِطَابُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: خِطَابُ مُوَاجَهَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غير ما كلف، وَخِطَابُ إِلْزَامٍ كَمَسْأَلَتِنَا وَذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَتَوَجُّهِهِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ كَالْبَالِغِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَكَاةٍ تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ جَازَ أَنْ تَجِبَ في مال غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَحُقُوقُ أموال كالمهر وَالنَّفَقَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الأبد أن يختص به المكلف من غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ، كَذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ، أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ دُونَ غَيْرِهِ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ كَالزَّكَوَاتِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع القلم " فمعنى (رفع القلم) عَنْ نَفْسِهِ، لَا عَنْ مَالِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ، قُلْنَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَالُوا: فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِي مَالِهِ، لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ وَالزَّكَوَاتِ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ وَحُكْمُهُمَا مُفْتَرِقٌ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ زَكَاةِ الفطر وبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 الصَّلَاةِ، وَبِمِثْلِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ أَضْيَقُ، وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ الْمُكَاتَبِ مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فأما مال المكاتب فخارجٌ من مِلْكِ مَوْلَاهُ إِلَّا بِالْعَجْزِ وَمُلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ عَلَيْهِ فَإِنْ عَتَقَ فَكَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِنْ عَجَزَ فَكَأَنَّ مَوْلَاهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الزَّكَاةَ في ماله، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالُوا وَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبِ أَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَهَذَا غَلَطٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ " وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولأن المكاتب ناقص الملك، لأنه لا يورث ولا يرث فَلَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا تَمَامُ الملك، ولهذا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، لِأَنَّ مِلْكَهُمَا تَامٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَرِثَانِ وَيُورَثَانِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَادَ الْمِلْكُ إِلَى سَيِّدِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ عَوْدِهِ وَإِنْ عُتِقَ مَلَكَ مَالَ نَفْسِهِ، وَاسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عِتْقِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ قِيلَ يَمْلِكُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ، لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِرِقِّهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَجِبُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ، وهذا غلط، والأول أصح؛ لأنه ليس له جواز الرجوع فيه بموجب بقائه عَلَى الْمِلْكِ، لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وهب ولده لَهُ، وَلَيْسَ بِبَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِزَكَاتِهِ، كَذَلِكَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ، وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَأَيْنَ يأخذها المصدق قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أَنْ يَبْعَثَ الْوَالِي الْمُصَدِّقَ فَيُوَافِي أَهْلَ الصَّدَقَةِ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ وَأُحِبُّ ذَلِكَ في المحرم وكذا رأيت السعاة عندما كَانَ الْمُحَرَّمُ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَةُ الْأَمْوَالِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ السَّاعِي لِأَخْذِ زَكَاتِهَا فِي وَقْتِ إِدْرَاكِهَا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ وَقْتِهِ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وقت مَجِيءُ السَّاعِي مَعْرُوفًا، لِيَتَأَهَّبَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِدَفْعِهَا، وَيَتَأَهَّبَ الْفُقَرَاءُ لِأَخْذِهَا، وَيَخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه وليترك بقية ماله " ولأن العمل جار به، ولأنه رَأْسُ السَّنَةِ وَمِنْهُ التَّارِيخُ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يؤرخون من رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِوُقُوعِ الْهِجْرَةِ فِيهِ، ثُمَّ رَأَوْا تَقْدِيمَهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ، فَإِذَا تقرر أن المحرم أول فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِذَ السُّعَاةَ وَالْجُبَاةَ قَبْلَ الْمُحَرَّمِ بِزَمَانٍ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَإِذَا وَصَلَ السَّاعِي فِي الْمُحَرَّمِ فَمَنْ حَالَ حَوْلُهُ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَمَنْ لَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ تَعَجَّلَ مِنْهُ الزَّكَاةَ إِنْ أَجَابَ رَبُّ الْمَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعَجِّلَهَا لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى تعجيلها، وكان الساعي بين أن يستخلف من يأخذ منه عند حلولها، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي وقتها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ وَعَلَى رَبِّ الْمَاشِيَةِ أَنْ يُورِدَهَا الْمَاءَ لِتُؤْخَذَ صَدَقَتُهَا عَلَيْهِ وإذا جرت الماشية عن الماء فعلى المصدق أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 يأخذها في بيوت أهلها وأفنيتهم وليس عليه أن يتبعها راعيةً ويحصرها إلى مضيق تخرج منه واحدة واحدة فيعدها كذلك حتى يأتي على عدتها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي زَمَانِ الْأَخْذِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ، وَفِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَاشِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجِدَهَا فِي بُيُوتِ أَهْلِهَا، فَهُنَاكَ يَأْخُذُ زَكَاتَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا، فَلَا يُكَلِّفُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَسُوقَهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَيَأْخُذُ زَكَاتَهَا عَلَى مَاءِ شُرْبِهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ لِحَارِثَةَ بْنِ قَطَنٍ وَمَنْ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ كَلْبٍ إِنَّ لَنَا الضَّاحِيَةَ مِنَ الْبَعْلِ ولكم الضاحية منه من النخل، لا نجمع سارحتكم ولا نعد فَارِدَتَكُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَالضَّاحِيَةُ هِيَ النَّخْلُ الظَّاهِرَةُ فِي الْبَرِّ، وَالْبَعْلُ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ من غير سقي، والضاحية ما تضمها أمصارهم وقراهم، وقوله: " لا نجمع سارحتكم " أي: لا يجمع المواشي السارحة إلى الصدقة، وقوله " لا نعد فاردتكم " لَا تُضَمُّ الشَّاةُ الْفَارِدَةُ إِلَى الشَّاةِ الْفَارِدَةِ لِيُحْتَسَبَ بِهَا فِي الصَّدَقَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجِدَهَا رَاعِيَةً، فَلَا يُكَلَّفُ السَّاعِي أَنْ يَتْبَعَهَا رَاعِيَةً لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي اتِّبَاعِهَا، وَلَا يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْلِبَهَا إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي جَلْبِهَا، بَلْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَجْمَعَهَا عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ " يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جَلْبُهَا إِلَى بيوتهم، ولأنهم أَنْ يُجَانِبُوهَا فَيَتْبَعَهَا السَّاعِي فِي مَرَاعِيهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ الْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الرِّهَانِ وَقَدْ كَانَ للسعاة فيها طبل يضربون به عند مخيمهم لِيَعْلَمَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَيَتَأَهَّبُوا لِجَمْعِ مَوَاشِيهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ جَرِيرٌ: (أَتَانَا أَبُو الْخَطَّابِ يَضْرِبُ طَبْلَهُ ... فَرُدَّ وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدَا) قيل إن العقال الماشية، والنقد الذهب والورق، وَقِيلَ بَلِ الْعِقَالُ الْقِيمَةُ، وَالنَّقْدُ الْفَرِيضَةُ، وَقِيلَ الْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامَيْنِ، وَالنَّقْدُ صَدَقَةُ عَامٍ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: (سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟) (لا صبح الْحَيُّ أَوْتَادًا وَلَمْ يَجِدُوا ... عِنْدَ التَّفَرُّقِ فِي الهيجا جمالين) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ. فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَخْذِ: فَهُوَ: أَنْ يَبْدَأَ السَّاعِي بِأَسْبَقِ الْمَوَاشِي وَأَقْرَبِهَا إِلَيْهِ. فَيَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَضِيقٍ مِنْ جِدَارٍ أَوْ حِظَارٍ أَوْ جَبَلٍ، وَيَحْضُرُ الْكَاتِبُ فَيَكْتُبُ اسْمَ مَالِكِهَا، وَيَقِفُ الْعَادُّ فِي أَضْيَقِ المواضع ليعدها، والحشار يحشرها لِيَعُدَّهَا الْعَادُّ بَعِيرًا بَعِيرًا، وَيَكُونُ بِيَدِهِ عَوْدٌ يشير به إليها ويرفع صوته بالعدد لِتُؤْمَنَ عَلَيْهِ الْخِيَانَةُ وَالْغَلَطُ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ يُثْبِتُهَا الْكَاتِبُ عَلَى رَبِّ المال. قال الشافعي وهذا أخصر العدد وأوحاه، وبه جرت العادة، فإذا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطًا عَلَى السَّاعِي أَوِ ادَّعَى السَّاعِي غَلَطًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أُعِيدَ العدد ليزول الشك. فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، وَلَا أَنْ يُلْزِمَهُمْ جُعْلَ أَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُ وَهُمْ وُكَلَاءُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أُجُورَهُمْ فِي الزَّكَاةِ، وَفَرَضَ سَهْمًا لِلْعَامِلِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ أُجُورِهِمْ إِلَّا مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِمْ، وَلَا يَجُوزَ لِلسَّاعِي أَنْ يَقْبَلَ من أرباب الأموال هدية، لأنهم يهادونه إما لِأَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا، أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْهُمْ ظُلْمًا، فَيَصِيرُ مُرْتَشِيًا عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو إِدْرِيسَ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ " ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " فَالرَّاشِي دَافِعُ الرَّشْوَةِ، وَالْمُرْتَشِي قَابِلُ الرَّشْوَةِ، وَالرَّائِشُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُصَدِّقًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللبية فَجَاءَ بِأَشْيَاءَ فَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ: هَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غضباً شديداً ورقى الْمِنْبَرَ وَقَالَ مَا بَالُ أقوامٍ نُنْفِذُهُمْ إِلَى الصَّدَقَةِ فَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ أَمَا كَانَ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أُمِّهِ ثَمَّ ينظر هل كان يُهْدَى إِلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خوارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُخَالِطُ الصَّدَقَةُ مَالًا إِلَّا أهلكته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي أَنَّ خِيَانَةَ الصَّدَقَةِ تُهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي تُخَالِطُهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْ عِمَالَتِهِ فَهُوَ غُلُولٌ " فَإِنْ قَبِلَ السَّاعِي هَدِيَّةً عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَإِنْ قَبِلَهَا لِشُكْرٍ كَانَ فِي إِنْعَامٍ كَانَ مِنْهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يَسَعُهُ عِنْدِي غَيْرُهُ، إِلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ بِقَدْرِهَا عَلَيْهَا فَيَسَعُهُ تَمَوُّلُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 باب تعجيل الصدقة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكَرًا فَجَاءَتْهُ إبلٌ مِنْ إبل الصدقة قال أبو رافع فأمرني أن أقضيه إياها (قال الشافعي) العلم يحيط أنه لَا يُقْضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا وَقَدْ تَسَلَّفَ لِأَهْلِهَا مَا يقضيه من مالهم وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحالف بالله " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وعن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يحلف ويكفر ثم يحنث وعن ابن عمر أنه كان يبعث بصدقة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين (قال) فبهذا نأخذ (قال المزني) ونجعل في هذا الموضع ما هو أولى به أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسلف صدقة العباس قبل حلولها. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَالْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا جَمِيعًا. وقال أبو حنيفة: يجب تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عبيد مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَنَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَاسْمَهَا وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَنْفِيًّا لَمْ يَكُنِ الْإِجْزَاءُ وَاقِعًا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ زَكَاةٍ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لا تجوز الزروع والثمار، لأنها عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِعَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْعَدَدِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْأَمَدِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ وَإِلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يتعجلها من تَجِبَ لَهُ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ غَنِيًّا وَيَنْتَظِرَ فَقْرَهُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تجب عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ حُجَيَّةُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ الْعَامِ وَالْعَامِ الْمُقْبِلِ) فإذا قِيلَ فَتَعْجِيلُ زَكَاةِ عَامَيْنِ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ جَوَازُ تَعْجِيلِهَا أَعْوَامًا إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُعَجَّلِ نِصَابٌ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا عَنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَجَّلَ ذَلِكَ فِي عَامَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْعَامِ الْمَاضِي وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَزَكَاةَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهِيَ تَعْجِيلٌ، فَنَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُ استسلف منه زكاة عامين، ويدل على مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استسلف من رجل بكراً، فلما جاءته إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ فَلَمَّا رَدَّ الْقَرْضَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدِ اقْتَرَضَ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لَأَهِلَ السُّهْمَانِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَهُ، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ الْمُعَجَّلَ بَدَلٌ وَالزَّكَاةَ مُبْدَلٌ، فَلَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ عَنِ الزَّكَاةِ كَانَ تَعْجِيلُ الْمُبْدَلِ وَهِيَ الزَّكَاةُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْبَدَلِ، فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَائِلُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 أَحَدُهَا: جَوَازُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ قَرْضِ الْحَيَوَانِ. وَالثَّالِثَ: جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اقْتَرَضَ بَكَرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًا وَذَلِكَ أَزْيَدُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، قِيلَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَزْيَدَ فِي السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ فِي الْجَوْدَةِ فَتَكُونَ زِيَادَةُ السِّنِّ مُقَابِلَةً لِنُقْصَانِ الْجَوْدَةِ، فَهَذَا جَوَابٌ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَكَانَ مَا قَابَلَ دَيْنَهُ قَضَاءً وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةً، وَهَذَا جَوَابٌ ثَانٍ، أو كان فَعَلَ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَرْضِ الْفُقَرَاءِ أو يجوز لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ المعنى: أنه حق في مال يجب لسببين يختصان به جاز تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ. وَقَوْلُنَا: حَقٌّ فِي مَالٍ احْتِرَازًا مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ. وَقَوْلُنَا يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ احْتِرَازًا مِنَ الْأُضْحِيَةِ، وَقَوْلُنَا يَخْتَصَّانِ بِهِ احْتِرَازًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، يَجِبُ بِالْحَوْلِ وَيَجِبُ بِغَيْرِ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَا يَجِبُ الحول قَبْلَ حَوْلِهِ كَالدِّيَةِ الَّتِي يَكُونُ عَمْدُهَا حَالًا وعطاها مُؤَجَّلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ: حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ، وَحَقٌّ فِي مَالٍ، فَمَا كَانَ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَمَا كان في مال كَالدُّيُونِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، كَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ، حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَحَقٌّ في مال كالزكاة وَالْكَفَّارَةِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَحُلُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَلِأَنَّ الْآجَالَ إِنَّمَا تَثْبُتُ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرْتَفِقَ بِهِ وَيُؤَدِّيَ الْحَقَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، وَأَرْفَقَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْإِجْزَاءُ فِي مَوْقِعِهِ الْجَوَابُ، أَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِدَلِيلِ مَا مَضَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة يجمع بينهما، ويجيز تعجيل زكاة الزروع وَالثِّمَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْجِيلِ زَكَاتِهَا وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْئَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ تَجِبُ زَكَاتُهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَتِلْكَ بِسَبَبَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ عِنْدَ وجوب الزكاة، لأنه عند التعجيل قصل وَبَلَحٌ وَالْمَوَاشِي فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّصَابِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْحَقَّ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ، وَجَازَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا ممن تجب عليه قبل استحقاقها، ولا يجوز دفعها إلى من تجب له قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الأغنياء عيب لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَهُوَ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ، وَقَدْ تُوجَدُ الْمُوَاسَاةُ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا تُوجَدُ الْحَاجَةُ فِي الْغِنَى، فَأَمَّا تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتَجُوزُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ شَوَّالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا تَسَلَّفَ الْوَالِي لَهُمْ فَهَلَكَ مِنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رشدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَأْخُذُ لَهُ مَا لَا صَلَاحَ لَهُ إِلَّا بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا تعجل والي الزكاة زكاة رجل من مَالِهِ قَبْلَ حَوْلِهِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَنَظَرِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَإِنْ تَعَجَّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ بَلْ غَلَبَ فِي اجْتِهَادِهِ لِمَا رَأَى مِنْ حَالِ الْمَسَاكِينِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ رَجَاءً لِمَصَالِحِهِمْ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: أحدها: إما أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ عِنْدَ أَخْذِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ، وَلِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، وَأَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى مَنْ أخرها منه. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِبَقَاءِ مَالِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يستحق الزكاة والاستعانة فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُرُدُّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُفَرِّقُهَا فِي أهلها ومستحقيها. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ الْوَالِي بِهَا عَلَى مَنْ دفعها إليه، وهذا إِذَا كَانَ الْوَالِي قَدْ فَرَّقَهَا حِينَ أَخَذَهَا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ رَدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَها لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وإن تلفت في يد السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا لِأَرْبَابِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَدُ الْمَسَاكِينِ، وَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ صَرْفِهِ إِلَيْهِمْ لَا يَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنَّ السَّاعِيَ لَمْ يَصْرِفْهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا حتى افتقر رب المال وتلفت الزَّكَاةُ فِي يَدِ السَّاعِي فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ فَقْرِهِ حَتَّى تَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ، وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ أَمِينُهُمْ، وَإِنْ طَالَبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ السَّاعِي لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ويكون مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ رَبُّ المال احتجاجاً لشيئين. أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْوَالِي كَيَدِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي أَيْدِي أَهْلِ السُّهْمَانِ مَضْمُونًا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي مَضْمُونًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَالِيَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، كَذَلِكَ وَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُمْ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شاكياً فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَّا الْعَبَّاسُ فَصَدَقَتُهُ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا " فَأَخْبَرَ أَنَّهَا في ضَمَانِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُفَرِّطُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ. وَالثَّانِي: وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ تَصَرُّفَ غَيْرِهِمْ، وَالْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يتفرق الْيَتِيمُ فِي مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَصَارَ وَالِي أهل السُّهْمَانِ كَالْوَكِيلِ يَضْمَنُ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ يَدَهَمْ كَيَدِهِ قبل صَحِيحٌ، لَكِنْ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا أَذِنَ له، فأما فيما قيل فلا، فأما الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ جَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ نَهَى وَلِيَّهُ عَنْ تَعْجِيلِ حَقِّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ، لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَهْلُ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَلَا يَخْلُو حال من سأله من ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ، وأهل السُّهْمَانِ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ المال أن يتعجلها من دُون أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ. والثانية: أن تكون في يديه. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إليه أربعة أحول مَضَتْ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فلا رجوع. والحال الثانية: أن لا تجب على الدافع ولا يستحقها المدفوع إليه، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَالِي أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مِنْهُ صَارَ الوالي في الدافع نَائِبًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ المدفوع إليها اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا هل يجب عليه رد مثله، أورد قِيمَتِهِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ قِيمَتَهُ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا، وَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَفْعُهَا فِي الزَّكَاةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: يدفعها بعينها ليعينها بِالتَّعْجِيلِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ غَيْرِهَا: لِأَنَّهَا بَعْدَ الِاسْتِرْجَاعِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا استرجع منه مثلها وجهاً واحداً. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عليه الزكاة والمدفوع إليه ممن يسحق الزكاة، فللدافع أن يرجع بها على المدفوع إليه، فإذا رَجَعَ بِهَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي، وَخَالَفَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَكُونُ اسْتِرْجَاعُهُ لَهَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَالِي فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ، أَوْ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَالِي قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الْوَالِي تَعْجِيلَهَا فَالْوَالِي نَائِبٌ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي اسْتِنَابَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزَّكَاةُ مِنْ يَدِ الوالي فلا ضمان على رب الْمَالِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ وَاسْتَنَابَهُ صار أمينه، الأمين غَيْرُ ضَامِنٍ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَعَلَى رَبِّ المال إخراج الزكاة عند وُجُوبِهَا، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا إِلَى مَنِ اسْتَنَابَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي حَقِّ رَبِّ المال، ويضمن قيمة الحيوان وجهاً واحد، لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ. فَصْلٌ : وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فَعَلَى الْأَقْسَامِ الْمَاضِيَةِ، لِأَنَّ الْأَقْسَامَ فِيهَا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِنَّمَا الْأَجْوِبَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ الْأَقْسَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ لِيَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَسْأَلَةِ، وَيَبِينُ جَوَابُ كُلِّ قِسْمٍ، فَأَحَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِي قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 والثالث: أن تكون قد تلفت من يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ عَلَى مَا مَضَى، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلَا يَرْجِعُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزكاة فلرب المال أن يرجع بها على الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، بِخِلَافِ مَا مَضَى قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْوَالِي هُوَ الْآخِذُ وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَإِنْ كَانَتْ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلزَّكَاةِ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، وَصَرْفُهَا فِي غَيْرِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا الْوَالِي بِعَيْنِهَا وَصَرَفَهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا يُصْرَفُ مَصْرَفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ. وَالثَّانِي: يَسْتَرْجِعُ الْمِثْلَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْوَالِي فَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا إلا أن يتغير حاله عند الحول، لأن يد الوالي هاهنا يَدٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَهُنَاكَ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وإن كانت الزكاة قد تلفت من يَدِ الْوَالِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لأنه نائب عنهم، وقد أدى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ رَبِّ المال عند الحلول كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بها في حق نفسه لا في ق أهل السهمان فهذا الكلام فيه إِذَا سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بِأَطْفَالِ الْمَسَاكِينِ حَاجَةً إِلَى التَّعْجِيلِ وَكَانُوا أَيْتَامًا فَاسْتَسْلَفَ لَهُمْ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِسْلَافِهِ وَضَمَانِهِ على وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَيْسَ لِلْوَالِي أَنْ يَسْتَسْلِفَ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَامِنًا، لِأَنَّ لَهُمْ حقاً في خمس الخمس وسهماً فيه ليستغنون بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: ليس لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ أَخْذَ الزَّكَاةِ عند وجوبها فجاز تعجيلها فيهم قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالْبَالِغِينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَالِي النظر على الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ أَوْلَى، وَيَقُومُ نَظَرُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ إِذْنِهِمْ فِي التَّعْجِيلِ وَمَسْأَلَتِهِمْ. فَصْلٌ : وَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِمَسْأَلَتِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لَأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُغَلِّبَ فِيهِ مَسْأَلَتَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدُوا بِالْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لِأَنَّهُمَا قد يتناوبا بِالْمَسْأَلَةِ وَانْفَرَدَ أَهْلُ السُّهْمَانِ بِالِارْتِفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يغلب فيه مسألتهم والله أعلم بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا فَأَتْلَفَاهُ وَمَاتَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمَا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَبْلُغَا الْحَوْلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي صدقةٍ قَدْ حَلَّتْ فِي حَوْلٍ لَمْ يَبْلُغَاهُ وَلَوْ مَاتَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَا قَدِ اسْتَوْفَيَا الصَّدَقَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: " لَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا " فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لا فرق بين أن يستسلف لرجلين أو رجل أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً، وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْوَالِيَ إِذَا تَعَجَّلَ مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا، وَدَفَعَهُ إِلَى فَقِيرٍ، لِمَا رأى من حاجته وشدة خلته، ثُمَّ مَاتَ الْفَقِيرُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 إما أن يكون قبل موته أو بعده، أو شك هَلْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تَرَاجُعَ، وَالزَّكَاةُ مجزئة، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ: وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الإجزاء والاسترجاع، وذلك لا يجزي رَبَّ الْمَالِ، فَكَانَ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، بَلْ تَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، فَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً بَيْنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الفرض أو التطوع، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ بِالدَّفْعِ لَمْ يَحْصُلْ، كَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ وَإِنْ شَكَّ فِي مَوْتِهِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي التَّعْجِيلِ، لِأَنَّهُ متردد بين أن يموت بعد الحول فتجزي، وقبل الحول فلا تجزي، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي الِاسْتِرْجَاعِ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتُسْتَرْجَعُ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تُسْتَرْجَعُ، وَمَا قَدْ ملك بالقبض فلا يجوز استرجاعها بالشك، فعلى هذا يجزي ذلك رب المال، لأنه الاسترجاع إذا لم يجب بالإخراج ثانية لا يَجِبْ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْجَاعِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ لِلْفَقِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا قال الشافعي: يعود بمثله، فأطلق هذا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِمَا يَنْصَرِفُ فِي الزكاة والزكاة لا تنصرف فيها إلا غير الْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَّا بِالْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَعُودُ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الرِّفْقُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَجَرَى مَجْرَى فَرْضِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ بِالْمِثْلِ لَا بِالْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثاني: وهو أقيس يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ يعود بمثله على ماله مِثْلٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 أَصَحُّهُمَا: وَقْتُ الدَّفْعِ وَالتَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مَلَكَ. وَالثَّانِي: وَقْتُ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا بعد الدفع لرجع بِهِ، فَإِذَا كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا تَعَجَّلَهُ الْفَقِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا، أَوْ نَاقِصًا، أَوْ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ جَازَ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزَةٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، فإنه يرجع به وزيادته؛ لأن الزيادة تميزت بمنع الْعَيْنَ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةٌ كَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ، رَجَعَ بِهِ دُونَ زِيَادَتِهِ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِوَارِثِهِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالدَّفْعِ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَالنُّقْصَانُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْمَرَضِ وَالْهُزَالِ، رَجَعَ بِهِ نَاقِصًا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ نُقْصَانِهِ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِتَعْجِيلِهِ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ لِنَقْصِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّقْصِ عَلَى وَصْفِ مَالِ الدَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُتَمَيِّزًا كَبَعِيرَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، رَجَعَ بِالْبَاقِي وَبِمِثْلِ التَّالِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَفِي اعتبار قيمة زمانه وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَيْسَرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَ يُسْرُهُمَا مما دفع إليهما فإنما بُورِكَ لَهُمَا فِي حَقِّهِمَا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا وإن كان يسرهما من غير ما أُخِذَ مِنْهُمَا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَوْلَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا وَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْوَالِي الصَّدَقَةَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَدْفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ أَوْ فَقِيرَيْنِ، فيستغني من تعجيلها، فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِغْنَائِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا تَعَجَّلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعَجَّلَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا، جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ، فَإِذَا كَانَ غَنِيًّا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِرْجَاعِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ إِذَا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ صَارَ فَقِيرًا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِنْ غَيْرِ مَا تَعَجَّلَهُ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِ أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 حنيفة؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الزَّكَاةَ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَسَارُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ، فلو تعجلها وهو فقير فاستغنى عن غَيْرِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَفِي اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ حَالَ الدَّفْعِ وَحَالَ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ بِاسْتِغْنَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ لَوْ تَعَجَّلَهَا وَهُوَ غَنِيٌّ وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنِ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهِيَ لَهُ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ فَقِيرٌ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الارتفاق بأخذها، والغني لا ترتفق بِهَا فَلَمْ تَقَعِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَلَمْ يَمُتِ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، اعتباراً بحال الوجوب، فهلا قلتم لمن عَجَّلَ زَكَاتَهُ لِغَنِيٍّ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ، قِيلَ هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّعْجِيلُ يُمَلَّكُ بِالدَّفْعِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْحَوْلِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ وقت الدفع والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو عجل رب المال زكاة مائتي درهم قبل الحول وهلك ماله قبل الحول فوجد عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُعْطِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْطَى مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا لِغَيْرِ ثوابٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ مَا يَتَعَجَّلُهُ الْفُقَرَاءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهُ الْوَالِي لَهُمْ، فَقَوْلُهُ فِي التَّعْجِيلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْوَالِي أَمِينٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ تَعْجِيلَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَيَقُولُ هَذَا تَعْجِيلُ زَكَاتِي، فَمَتَى تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَجَّلَهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَمُوجِبُهُ الرُّجُوعُ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ، إِلَّا أَنْ يصدقه الفقير المدفوع إليه وأن ذَلِكَ تَعْجِيلٌ، فَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ عَطِيَّتِهِ التَّمْلِيكُ، لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاتِي فَظَاهِرُ الزَّكَاةِ مَا وَجَبَتْ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ فبالدفع قد ملكت، فإن أطلق فوجه إِطْلَاقُهُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَقِيرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ قَوْلُ وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِهِ، أَوْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلدَّعْوَى، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا يَمِينٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةٌ وَمَا فِي يَدِهِ مُدَّعًى، فَافْتَقَرَ إِلَى دَفْعِ الدَّعْوَى بِيَمِينٍ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ، إِمَّا مَعَ يَمِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِلَا يَمِينٍ في الْوَجْهِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ فَلِيَ الرُّجُوعُ، وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لَمْ تَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ، والمدفوع إليه منفرد بالملك مدعي لِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ ملك بالأخذ، وادعى عليه الاستحقاق، فكان ذلك على أصل تملكه مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَتْلَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ دِرْهَمًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالَهُ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ عِنْدَ الْحَوْلِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لِنُقْصَانِ مَالِهِ عَنِ النِّصَابِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِتْلَافِ دِرْهَمٍ لاسترجاع خمسة والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو مات المعطي قبل الحول وفي يدي رَبِّ الْمَالِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فلا زكاة عليه وما أعطى كما تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَنْفَقَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مع رجل نصاب فعجل زَكَاتَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَدَفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ فَمَاتَ الْفَقِيرُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَعَ رَبِّ الْمَالِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا عَجَّلَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعَهُ دُونَ النِّصَابِ، وَيَكُونُ مَا عَجَّلَهُ كَالَّذِي وَهَبَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ، فإن شَرَطَ التَّعْجِيلَ رَجَعَ بِمَا عَجَّلَهُ فِي تَرِكَةِ الْفَقِيرِ، وَصَارَ مَالُهُ مَعَ مَا اسْتَرْجَعَهُ نِصَابًا كَامِلًا، فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ عَنْ دَنَانِيرَ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ اسْتَرْجَعَ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ صَارَ قَرْضًا فِي ذِمَّةِ الْفَقِيرِ، وَالْقَرْضُ دَيْنٌ يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى الْمَالِ النَّاضِّ، وَيُزَكَّيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ مَاشِيَةً عَنْ مَاشِيَةٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يسترجع الذي عجله نفسه. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجَبُ فِيهِ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ الْحَيَوَانِ الْمُعَجَّلِ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ بِعَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فِيمَا يَأْتِي بعد استرجاع ما عجل، لا الْبَدَلَ الْمَأْخُوذَ عَنِ التَّعْجِيلِ، كَالْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَبَاعَ مِنْهَا شَاةً بِشَاةٍ اسْتَأْنَفَ الحول، فكذلك فيما عجل، فإن اسْتَرْجَعَ مَا عَجَّلَهُ بِعَيْنِهِ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ما عجله مضموم إلى ما بعده، وحكم الحول جاز عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أربعين فحال الْحَوْلُ عَلَى تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَكَانَتِ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ مَضْمُومَةً إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي، كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ ضُمَّتْ إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ حِينَ تَمَّ النِّصَابُ بِمَا اسْتَرْجَعَهُ، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً لَا تُرْتَجَعُ أَوْ قَرْضًا يُرْتَجَعُ، فَلَمَّا بَطَلَ كَوْنُهُ زَكَاةً ثَبَتَ كَوْنُهُ قَرْضًا، وَمَنْ أَقْرَضَ حَيَوَانًا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ، ولو أقرض دراهم أو دنانير لزمه زَكَاتُهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ارْتَجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ ضُمَّ وَزُكِّيَ، وَلَوْ كَانَ حَيَوَانًا عَنْ حَيَوَانٍ لَمْ يُضَمَّ وَلَمْ يزك. والفرق بينهما: أن زكاة المواشي لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّوْمِ، وَالسَّوْمُ لَا يَتَوَجَّهُ إلا بما فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ السَّوْمُ مُعْتَبَرًا فِي الدَّرَاهِمِ، فَصَحَّ إِيجَابُ زَكَاةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ آخِذِ التَّعْجِيلِ قبل الحول وَهُوَ الْفَقِيرُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا مَاتَ دَافِعُ التعجيل قبل الحول وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَبْنِي وَرَثَتُهُ عَلَى حَوْلِهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِهِ، لِأَنَّ كل من ملك مالاً بالإرث فإنه بملكه بِحُقُوقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ شِقْصٌ قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَمْلِكُونَ الشِّقْصَ مَعَ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَلَوْ مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ بِرَهْنٍ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ مَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ بِحَقِّهِ وَهُوَ الْحَوْلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول ولا يبنون، لأن الحول ثبت مع بقاء المالك، ويرتفع بانتقال الْمِلْكِ، وَلَا يَبْنِي مَنِ اسْتَفَادَ مِلْكًا عَلَى حول من كان مالكاً، كمن اتهب مَالًا أَوِ ابْتَاعَهُ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَنِ احْتِجَاجِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ حُقُوقُ الْمِلْكِ ضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلْمَالِكِ كَالشُّفْعَةِ وَالرَّهْنِ، وَحَقٌّ على الملك كالحول، فما كان حقاً للمالك انتقل للوارث مَعَ حَقِّهِ، وَمَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْمِلْكِ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ دُونَ حَقِّهِ. يُوَضِّحُ ذلك أن من مات من عَبْدٍ جُنِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ أَرْشِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ هُوَ لَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِصِفَةٍ فَقَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْحَوْلُ هُوَ حق على المالك فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَلِلْوَرَثَةِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الْمَالَ قَبْلَ حَوْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلِهِ، فَإِنِ اقْتَسَمُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَأَكْثَرَ لَزِمَتْهُمُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ قيل إنهم يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِ مَيِّتِهِمْ، كَانَ مَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ مُجْزِئًا عَنْ زَكَاتِهِمْ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول فهل يجزيهم تَعْجِيلُ مَيِّتِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّ ذَلِكَ يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ واقتضاءه قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أِنَّهُ لا يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْنَفُوا الْحَوْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُجْزِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَوْتِ، لأنه يصير تعجيلاً قبل وجوب النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ به، وإن لم يشترط التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، هَذَا إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَسِمُوهُ حَتَّى حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى، إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وإنما المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 الْمُشَاعُ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُمْ خُلَطَاءُ فِي نِصَابٍ فَيَكُونَ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ بَنَوْا أَجْزَأَهُمْ، وَإِنِ اسْتَأْنَفُوا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَاشِيَةٍ فَهَلْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ اسْتَرْجَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يشترط التعجيل لَمْ يَسْتَرْجِعُوهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِي التَّعْجِيلِ عَلَى مَا مَضَى إن قيل إنهم يبنون أجزأهم، فإن قيل إنهم يستأنفون فعلى وجهين. أحدهما: يجزئهم. والثاني: لا يجزئهم فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَلَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان رجلٌ لَهُ مالٌ لَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ فأخرج خمسة دراهم فقال إِنْ أَفَدْتُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ زَكَاتُهَا لَمْ يجز عنه لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِلَا سَبَبِ مالٍ تَجِبُ فِي مثله الزكاة فيكون قد عجل شيئاً ليس عليه إن حال عليه فيه حول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ من نصاب فعجل زكاة نصاب، كأن مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَجَّلَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَأَخْرَجَ شَاةً زَكَاةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ التَّعْجِيلِ تَمَامَ النِّصَابِ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا مَوْجُودًا وَهُوَ النِّصَابُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ قَبْلَ حِنْثِهِ وَيَمِينِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صار أصلاً مقرراً تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ فُرُوعِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ عَنْهَا وَعَنْ رِبْحِهَا فَبَاعَهَا عِنْدَ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلْفِ، لِأَنَّ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ مَوْجُودٌ، وَالرِّبْحُ الزَّائِدُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ فِي حَوْلِهِ فَجَازَ مَا عَجَّلَهُ عَنِ النِّصَابِ وَعَنْ رِبْحِهِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالرِّبْحِ الْحَوْلَ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنِ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ قال يبني على حول المائتين أجزأه التعجيل الأول عَنِ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا فَلَوْ مَلَكَ أَلْفًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثُمَّ تَلِفَتْ فَمَلَكَ بَعْدَهَا أَلْفًا لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ عَنِ الْأَلْفِ الثاني، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 لأنه تعجيل قبل الملك، ولو كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفًا، وَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ، ثُمَّ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلِفِ الْبَاقِيَةِ، لِوُجُودِهَا قَبْلَ التعجيل. فَصْلٌ : وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، رَجُلٌ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ، فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ شاتين منهما عن هاتين المائتين وشاتين عَنْ نِتَاجِهَا، إِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ نَتَجَتْ مِائَتَيْنِ، تَمَامَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهُ الشاتان عن المائتين المأخوذة، وهل يجزيه الشَّاتَانِ الْأُخْرَيَانِ عَنِ الْمِائَتَيْنِ النِّتَاجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ السِّخَالَ إِذَا نُتِجَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ كَانَتْ كَالْمَوْجُودَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْبَعَمِائَةٍ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَهُ تَعْجِيلُ أَرْبَعِ شِيَاهٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا نُتِجَتْ في أثناء الحول. والوجه الثاني: لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّتْ أَرْبَعِينَ بِنِتَاجِهَا لَمْ يُجْزِهِ كَذَلِكَ هذا لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثم تمت أربعين بنتاجها لم يجزه هكذا فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّتَاجِ وَالرِّبْحِ، حَيْثُ جَوَّزْتُمْ تَعْجِيلَ الرِّبْحِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَمَنَعْتُمْ من تعجيل النتاج قبل وجودها، وَكِلَاهُمَا تَبَعٌ لِأَصْلِهُ فِي حَوْلِهِ؟ قِيلَ: هُمَا مستويان فِي الْحَوْلِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْجِيلِ. وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ أَنَّ النِّصَابَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَوْلِ لَا فِيمَا قَبْلُ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ لِأَنَّ النصاب فيها معين فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي التَّعْجِيلِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً، ثُمَّ نَتَجَتْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وبقي النتاج، فإن قيل فيما قِيلَ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ عَنِ الْأَصْلِ وَالنِّتَاجِ، كَانَتِ الشاة التي عجلها عن الأمهات مجزئة عن النتاج، فإن قِيلَ بِإِبْطَالِ التَّعْجِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمْ تَكُنِ الشَّاةُ الَّتِي عَجَّلَهَا عَنِ الْأُمَّهَاتِ مُجْزِيَةً عَنِ النِّتَاجِ، وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَنَتَجَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلًا فَعَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وَبَقِيَتِ السِّخَالُ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنِ السِّخَالِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِوُجُودِهَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عجل شاتين من مِائَتَيْ شَاةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ زَادَتْ شَاةً ٍ أخذ منها شاةً ثالثةً فيجزي عنه ما أعطى منه ولا يَسْقُطُ تَقْدِيمُهُ الشَّاتَيْنِ الْحَقَّ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ رَدَّ عَلَيْهِ شَاةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا عَجَّلَ بزكاة مَالِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْأَخْذِ وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا بِالْوُجُوبِ، لَكِنَّهَا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ضَمَّ مَا عَجَّلَ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَزَكَّاهُمَا مَعًا، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الحول عليه تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَوْ كان معه مائتا شاة فعجل زكاتها شاتي ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُمَا قَدْرُ زَكَاتِهِ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى نُتِجَتْ شَاةً وَصَارَتْ مَعَ التَّعْجِيلِ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةً كَانَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةٌ وَبَقِيَ مَعَهُ مَعَ مَا عَجَّلَهُ مِائَتَا شَاةٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنَ التَّعْجِيلِ شَاةً، اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ. وَقَالَ أبو حنيفة: مَا عَجَّلَهُ كَالتَّالِفِ لَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ يَقِلُّ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً كَانَتْ كالتالفة ولا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ شَاةً، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ نِصَابٌ، وَكَذَا نَقُولُ فِي نُصُبِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، احْتِجَاجًا بِأَنَّ التَّعْجِيلَ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ دَاخِلٌ فِي مِلْكِ آخِذِهِ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ زَكَاةُ مَالٍ هُوَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يُضَمَّ إِلَى جُمْلَةِ مَالِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّعْجِيلِ نِصَابٌ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِي الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كالأموال المتلفة فلا يلزمه زكاتها، أو الموجودة فِي مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاتُهَا، فَلَمَّا أَجْزَأَهُ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ ثَبَتَ أَنَّهَا كَالْمَوْجُودَةِ فِي مِلْكِهِ، لأن ما أتلفه غير مجزي فِي الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُعَجَّلُ لِلْمَسَاكِينِ رفقاً لهم وَنَظَرًا لَهُمْ، وَفِي إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ إِضْرَارٌ بِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَ شَاةً عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 ثُمَّ نُتِجَتْ شَاةٌ، فَقَدَ أَسْقَطَ عَلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ شَاةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَجِّلْ لَزِمَتْهُ شَاتَانِ، وَإِذَا عَجَّلَ لَزِمَتْهُ شَاةٌ، فَيَصِيرُ إِضْرَارُهُ بِالنَّقْصِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِالتَّعْجِيلِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: التَّعْجِيلُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ، لِإِجْزَائِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ زَكَاةَ مَا فِي مِلْكِهِ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْضًا كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الذِّمَمِ الْمَلِيَّةِ، هُوَ فِي مِلْكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَزَكَاتُهُ لَازِمَةٌ له كذلك فيهما عَجَّلَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 باب النية في إخراج الصدقة قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا وَلِيَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ فَرْضٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالدُّيُونُ فِي الذِّمَمِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي الْأَدَاءِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَالْيَتِيمَ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَالْوَالِي يَأْخُذُهَا كَرْهًا مِنْ مَالِ مَنِ امْتَنَعَ وَالْمُكْرَهُ لَا نِيَّةَ لَهُ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ مَا أَجْزَأَتِ الزَّكَاةُ عَنْ هَذَيْنِ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا، وَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) {البينة: 5) فَجَعَلَ الْإِخْلَاصَ وَهُوَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى " فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَهُوَ الزَّكَاةُ وَنَفْلًا وَهُوَ التَّطَوُّعُ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْمَعْنَى فيه أنه ليس بعبادة، وإنما هو حق لا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ تَلْزَمْ فِيهِ النِّيَّةُ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ فِيهَا النِّيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ وَمَا كان من حقوق الله تعالى متعلقاً بالسر كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَكَذَلِكَ مَا تعلق بالمال وأما ما ذكروه مِنْ إِخْرَاجِ الْوَلِيِّ زَكَاةَ الْيَتِيمِ، وَأَخْذِ الْوَالِي زَكَاةَ الْمُمْتَنِعِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ، فَأَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ، وَالْوَالِي الْعَادِلُ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ أَخْذُهُ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَخْذُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فَفِي مَحَلِّهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عِنْدَ إِخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: عِنْدَ عَزْلِهَا وَقَبْلَ دَفْعِهَا كَالصِّيَامِ، وَكَذَا فِي مَحَلِّ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، فَحَصَلَتِ الْعِبَادَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وعبادة لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا بَلْ يَجُوزُ تقديمها كالصيام وعبادة مختلف فيها وهي الزكاة والكفارة، وعلى كلى الْوَجْهَيْنِ لَوْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بَعْدَ دَفْعِهَا إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ صَرْفِهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ صَرْفِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجزئه ذَهَبٌ عَنْ وَرِقٍ، وَلَا ورقٌ عَنْ ذهبٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَدَلًا أَوْ مُبْدَلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارِاتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِتْقًا، فَكُلُّ مَالٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكْنَى دَارٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، كَإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ بَدَلًا عَنْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، هَلْ هي الواجب أبو بَدَلٌ عَنِ الْوَاجِبِ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَرِقِ عَنِ الذَّهَبِ، وَالذَّهَبِ عَنِ الْوَرِقِ لَا غَيْرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: " اغْنُوهُمْ عَنِ المسألة في مثل هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، كَمَا يَكُونُ بِدَفْعِ الْأَصْلِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ، فإن لم يكن فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَنَصَّ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالِيًا عَلَيْهِمْ: " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " فَأَمَرَهُمْ بِدَفْعِ الثِّيَابِ بَدَلًا عَنِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا تَوْقِيفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَجَازَ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَمَالِ التِّجَارَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَالٌ فَجَازَ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الزَّكَاةِ الْعُدُولُ عن الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، وَمِنَ الْغَنَمِ غَنَمًا، وَمِنَ الْإِبِلِ إِبِلًا، وَمِنَ الْبَقَرِ بَقَرًا " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صدقة الفطر من رمضان صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، على كل حر وعبدٍ ذكرٍ أو أنثى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ دُونَ غيرهما، والمخالف فخيره بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يمنع منهما. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مخاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذكرٍ " وفيه دليلان: أحدهما: أنه أمر أن يأخذ ابْنِ لَبُونٍ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأبو حنيفة يُجِيزُ أَخْذَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَصَّ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ وأبو حنيفة يُجِيزُ ثَالِثًا وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَيُسْقِطُ التَّرْتِيبَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ويجعل معها شاتين إن استيسر، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " وَفِيهِ دَلِيلَانِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ الْبَدَلَ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالشَّرْعِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ كَالدِّيَاتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ كَسُكْنَى دَارِهِ، وَهُوَ أَنْ يُسْكِنَهَا الْفُقَرَاءَ مُدَّةً تَكُونُ أُجْرَتُهَا قَدْرَ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجُ قِيمَةٍ فِي الزكاة فوجب أن لا يجزئه، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرًا وَسَطًا عَنْ صَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ، أَوْ أَخْرَجَ شَاةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ مَهْزُولَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ بَاطِلٌ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِخْرَاجُ قيمته، قيل غلط، لأن القيمة ليست مخرجة، وإنما يتعذر بِهَا الْبَدَلُ الْمُخْرَجُ، أَلَا تَرَاهُ يُقَوِّمُ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ وَلَا تُخْرَجُ الدَّرَاهِمُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدَّرٍ مَأْخُوذٍ وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمُقَدَّرٍ مَتْرُوكٍ وَهُوَ النِّصَابُ، فلما ثبت أن القدر الْمَتْرُوكَ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الإبل ثنايا تساوي خمساً مِنَ الْإِبِلِ دُونَ الثَّنَايَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ في معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مُقَدَّرِي الزَّكَاةِ فوجب أن لا يقيم غير مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالنِّصَابِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَالٍ مُزَكًّى وَقَدْرٍ مُؤَدًّى، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ الْمُزَكَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُؤَدَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ كَالْمَالِ الْمُزَكَّى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " اغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَهُوَ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ، وَلَا جِنْسَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ مُفَسَّرًا، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ " فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْجِزْيَةِ لَا فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ: خُذْ من كل حالم ديناراً أو عد له مِنْ مَعَافِرِ الْيَمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ مُعَاذٌ " آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ " وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجِزْيَةِ، قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ عَقَدَ مَعَهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَخْذِ الشعير من زروعهم، يُوَضِّحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِزْيَةِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ، وَالزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمْ، سِيَّمَا عِنْدَ مُعَاذٍ الَّذِي يَقُولُ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَجُوزُ نَقْلُهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في قيمة الفرض، وتخرج زكاة القيمة إلا أنها تجب في الفرض وتخرج قيمة الغرض، وإن قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ بِإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ عَنْ صَاعٍ، وَشَاةٍ عَنْ شَاتَيْنِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَلَيْسَتِ الْقِيمَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ جَازَ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، فَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَادِلًا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إلى غيره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ إِنْ كَانَ مالي الغائب سالما فهذه زكاته أو نافلة فكان ماله سالماً لم يجزئه لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ ونافلةٍ وَلَوْ قَالَ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ أَجَزَأَتْ عَنْهُ لِأَنَّ إِعْطَاءَهُ عَنِ الْغَائِبِ هَكَذَا وَإِنْ لَمْ يقله ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قال الماوردي: وهذا كما قال: المال الغائب عن مالكه حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ مَعَ وَكِيلٍ أَوْ نَائِبٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عن حَوْلِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ بِبَلَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا تُعْلَمُ سَلَامَتُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ غَائِبٌ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَكَانِهِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ في ذمة سيده من غير جنسه فلزمه إِخْرَاجُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ وَزَكَاةُ الْمَالِ فِي عَيْنِهِ أو من جنسه فلم يلزم إخراجها مع غيبته ولو كان في فطرة العبد ترتيب يذكر فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَلْزَمُهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِيَّتِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، فَنَبْدَأُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِفُرُوعِهِ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُخْرِجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَيَقُولَ إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ (سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ أَوْ نَافِلَةٌ فَكَانَ) سَالِمًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَمِنْ شَرْطِ الزَّكَاةِ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلْفَرْضِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ، فَكَانَ مَالُهُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ مَعَ سَلَامَةِ الْمَالِ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا بنية الفرض أو أطلق من غير شرط وقال هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ كَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ مُوجِبِهِ كَانَ ذكره تأكيداً أو لم يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْإِجْزَاءِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَائِبَةً وَمِائَتَا دِرْهَمٍ حَاضِرَةً، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَعَنْ مَالِي الْحَاضِرِ كَانَ كَمَا نَوَى، وَكَانَ عَنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ الْغَائِبُ سَالِمًا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتْ عَنِ الْحَاضِرِ، وَكَذَا أَيْضًا لَوْ قَالَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا أَوْ عَنِ الْحَاضِرِ أَجْزَأَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد أخلص نية الفرض، وإلا جعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 الِاشْتِرَاكَ فِي نَقْلِهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الفرض فيها لا يلزم وبهذا المعنى فارقت الصلاة، لأن تغيير الْفَرْضِ فِيهَا يَلْزَمُ، فَلَوْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضَيْنِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ قَالَ هَذَا عَنْ مَالِي الْغَائِبِ فَتَلِفَ الْمَالُ الْغَائِبُ لم يجزه عَنِ الْحَاضِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي نِيَّتِهِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ يَرِثُهُ من والد أو ولد وكان بعيداً لغيبة فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ فَهَذِهِ زَكَاتُهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَالِ الْغَائِبِ الْبَقَاءُ، وَفِي ذِي الْقَرَابَةِ الْحَيَاةُ، ولهذه المسائل أمثلة في صيام يومي الشَّكِّ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ : إِذَا وَرِثَ مَالًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ مِنْ يَوْمِ وَرِثَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، وَلَوْ أن رجلاً أوصى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَمَاتَ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَلَكَ الْمَالَ، وَفِي زَكَاةِ مَا مَضَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُ زَكَاةَ مَا مَضَى. وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِيمَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُخْرَجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الوصية هل تملك بموت الموصي أو بالموت والقبول. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَهَا لِيَقْسِمَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَهَلَكَ ماله كان له حبس الدراهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إنه يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ، لِأَنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ حَبَسَ مَا بِيَدِهِ وَجَمَعَهُ إِلَى بَاقِي مَالِهِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ لَا غير، لأنه دون ما هلك وإن كان دون النصاب فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضاعت منه الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ تفريطٍ رَجَعَ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي مثله الزكاة زكاه وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ، لَكِنْ فِي تَلَفِ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجَةِ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَبَقِّي، كَأَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَتَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ كَامِلَةً، وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لم يضمن ما تلف، فاعتبر مَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أَخَذَ الْوَالِي مِنْ رَجُلٍ زَكَاتَهُ بِلَا نِيَّةٍ في دفعها إليه أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا يُجْزِئُ فِي الْقَسْمِ لَهَا أَنْ يَقْسِمَهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوِ السُّلْطَانُ وَلَا يَقْسِمُهَا بِنَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا إِيجَابَ النِّيَّةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وَجُوبُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا طَوْعًا، أَوْ تُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ كَرْهًا، فَإِنْ دَفَعَهَا طَوْعًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يدفعها إلى وكيله ليدفعها عَنْهُ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ عِنْدَ دَفْعِهَا، أو عند عزلها على الوجهين الماضين فإن لم ينو لم يجزه، فإن دفعها إلى وكيله فلها أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَنْوِيَا مَعًا، أَوْ لَا يَنْوِيَا أَوْ يَنْوِيَ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ، أَوْ يَنْوِيَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ نَوَيَا مَعًا فَنَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَتْهُ الزكاة، وإن لم ينويا ولأحد مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ زَكَاتِهِ، لِفَقْدِ النية، وإن دفعها يحتمل أن يكون فَرْضًا وَنَفْلًا، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ ففي إجزائهما وجهان: أحدهما: لا يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند الدفع والتفرقة. والثاني: يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند العزل وهو أصح الوجهين، لأن الكل قد أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْمُوَكِّلُ النِّيَّةَ عِنْدَ تَفْرِقَةِ الْوَكِيلِ لَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَدَّاهُ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ دَفْعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الدفعين، وإن رفعها إلى الأمام فلها أيضاً أربعة أحوال: أحداها: أن ينويا جميعاً فيجزئه. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْإِمَامِ فيجزئه وجهاً واحداً، لأن يد الإمام يد للمساكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فيجزئه أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ وَلَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وجهان: أحدهما: وهو الصحيح وهو منصوص الشافعي أنه يجزئه، لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا وَجَبَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قول بعض أصحابه: لا يجزئه لفقد النية المشروطة في الأداء. فَصْلٌ : فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا طَوْعًا: أَخَذَهَا الإمام من ماله قهراً، ويجزئه فِي الْحُكْمِ، نَوَى الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وهل يجزئه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ كَرْهًا بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَإِنْ أُخِذَتْ كَرْهًا لَمْ يُجْزِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ. وَالثَّانِي أَنَّ أَخْذَهَا كَرْهًا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَالِبٍ مُعَيَّنٍ، وَمُسْتَحَقُّ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطِيعِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي كُلِّ سَائِمَة إبلٌ فِي أربعين بنت لبون، ولا تفرق إبلٌ عن حسابها من أعطاها مؤتمراً فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَيْسَ لِآلِ محمدٍ فيها نصيبٌ " ولأنه حق في ماله يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَالْأَعْشَارِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الأول بفقد النِّيَّةَ، يَقْصِدُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ، قِيلَ أَوْصَافُهُمْ مُعَيَّنَةٌ، وإن كانت أشخاصهم غير معينة، ولولا تعيين أَوْصَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِيهِمْ لِجَهْلِهِ به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن يتولى الرجل قسمتها عن نفسه، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ، أَوْ إلى الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 الْعَادِلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، بَيْنَ نَفْسِهِ، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوِ الإمام. فأما الأول وَالْأَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ وَكِيلِهِ، وَالْإِمَامُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فَأَمَّا هُوَ وَالْإِمَامُ فَفِي أَوْلَاهُمَا بِتَفْرِيقِهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِذَا فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. والوجه الثاني: أن يفرقها بِنَفْسِهِ أَوْلَى، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَلِلْإِمَامِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، أَوْ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَفَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِيهَا لَمْ تُجْزِهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي موضعه مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزكاة وفي غيرها فعلى قوله فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فرقها رب المال بنفسه أو وكيله وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ جَازَ، لَكِنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ فِي الْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِيَكُونَ خَارِجًا من الخلاف في الإجزاء، وعلى اليقين مِنْ أَدَائِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ تفريقها بنفسه. رَوَى عَنْ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سألت سعد بن مالك فَقُلْتُ: عِنْدِي مَالٌ مُجْتَمِعٌ يَعْنِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَمَا تَرَى، فَمَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، وَفِي الأولى وجهان: أحدها: دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ أَوْلَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزكاة " ومن سأل فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 باب ما يسقط الصدقة عن الماشية قال الشافعي رضي الله عنه: يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " في سائمة الغنم زكاةٌ " وإذا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ سائمة وروي عن بعض أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ليس في البقر والإبل العوامل صدقة حتى تكون سائمة والسائمة الراعية وذلك أن يجتمع فيها أمران أن لا يكون لها مؤنة في العلف ويكون لها نماء الرعي فأما إن علفت فالعلف مؤنة تحبط بفضلها وقد كانت النواضح عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم خلفائه فلم أعلم أحداً رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ منها صدقة ولا أحداً من خلفائه ". قال الماوردي: وهذا كما قال: الْمَاشِيَةُ ضَرْبَانِ سَائِمَةٌ وَمَعْلُوفَةٌ فَالسَّائِمَةُ: الرَّاعِيَةُ، وَسُمِّيَتْ سَائِمَةً لِأَنَّهَا تَسِمُ الْأَرْضَ بِرَعْيِهَا، وَالسِّمَةُ الْعَلَامَةُ وَلِهَذَا قِيلَ لِأَوَّلِ الْمَطَرِ وَسَمِيٌّ، لِأَنَّهُ يُعَلِّمُ الْأَرْضَ بِآثَارِهِ، فَالسَّائِمَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْعَوَامِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالسَّائِمَةِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَعْلُوفَةُ الْغَنَمِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَمَعْلُوفَةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِقَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهَا بِالْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ بِعُمُومِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أربعين شاةٍ شاةٌ ": ولم يفرق قالوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّائِمَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا فِي قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي السَّائِمَةِ، وَكَثْرَتِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَقِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتُهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إِذَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا بِالسَّقْيِ قَلَّتْ زَكَاتُهَا، وَإِذَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا كَثُرَتْ زَكَاتُهَا، فَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي تَغْيِيرِ الْقَدْرِ لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ " فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِلْغَنَمِ صِفَتَانِ السَّوْمُ، وَالْعَلْفُ، فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ انْتَفَتْ عَنِ الْأُخْرَى، فَصَرَّحَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس في العوامل صدقةٌ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ ". وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ " فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ نُصُوصٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لم تَبْلُغُ نِصَابًا فِي الْغَالِبِ. فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أنا إن سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَهُمْ غَالِبًا فِي الْبَقَرِ فَلَيْسَ بِغَالِبٍ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ سَائِمَةً، وَتَمَامُ النِّصَابِ مَعْلُوفَةٌ، فَيَصِيرَانِ نِصَابًا كَامِلًا، فَعُلِمَ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْعَوَامِلِ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ خَصَّ الْمَعْلُوفَةَ بِنَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ وَالسَّائِمَةَ يَتَسَاوَيَانِ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي الْإِبِلِ الْجَارَّةِ وَلَا الْقَتُوبَةِ ". وَالْجَارَّةُ الَّتِي تُجَرُّ بِأَزِمَّتِهَا وَتُقَادُ. والقتوية: التي يوضع على ظهورها الْأَقْتَابُ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الحديث " ولأنه جنس تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِحَوْلٍ وَنِصَابٍ، فَوَجَبَ أن يشرع نَوْعَيْنِ نَوْعٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَنَوْعٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالثِّيَابِ وَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ. (وَتَسْقُطُ فِي غَيْرِ النَّامِيَةِ كَالْآلَةِ وَالْعَقَارِ) وَالْعَوَامِلُ مَفْقُودَةُ النَّمَاءِ فِي الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّمَاءِ، كَمَا يُنْتَفَعُ بِالْعَقَارِ عَلَى جهة السُّكْنَى، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ كَسُقُوطِهَا عن العقار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَأَخْبَارُنَا تَخُصُّهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّائِمَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا حُصُولُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهَا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَاهَا لِفَقْدِ النَّمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كانت العوامل ترعى مدة وَتَتْرُكُ أُخْرَى أَوْ كَانَتْ غَنَمًا تُعْلَفُ فِي حين وترعى في آخر، فلا يبين لِي أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا صَدَقَةً ". قَالَ الماوردي: وهذا كما قال: الْمَاشِيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: سَائِمَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ. وَمَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا. وَسَائِمَةٌ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مَعْلُوفَةٌ فِي بَعْضِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْعَلَفِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهِ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ وَهِيَ فِي بَاقِي الْحَوْلِ كُلِّهِ سَائِمَةٌ، فَالْحُكْمُ لِلسَّوْمِ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، ولا تأثير لهذا القدر في المعلوفة، وَإِنْ كَثُرَتِ الْعُلُوفَةُ فِي زَمَانٍ لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهَا فِيهِ كَشَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَأْكُلْ ثَلَاثًا تلفت فلا زكاة فيها، سواء كان زمان السَّوْمِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ زَمَانُ السَّوْمِ أَكْثَرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْعُلُوفَةِ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ كَالزَّرْعِ الْمَسْقِيِّ بِمَاءِ السماء وماء الرشا، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ فِي السَّوْمِ إِيجَابًا وَفِي الْعُلُوفَةِ إِسْقَاطًا، وَهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الزَّكَاةِ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ. وَالثَّانِي: إِنَّ سَوْمَ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ كَسَوْمِ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَوْمَ بَعْضِهَا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الْأَغْلَبُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوْمُ جَمِيعِهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يعتبر فيها الْأَغْلَبُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شاة، منها تسعة وثلاثين سَائِمَةً فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، وَشَاةٌ مَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ مَنْ معه أربعون شاة، إذا سمت كُلُّهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، وَعُلِفَتْ فِي بَعْضِهِ، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزُّرُوعِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا اعْتِبَارَ بالأغلب والفرق بينهما الاعتبار بالأغلب فعلى هذا السوآل ساقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وَإِيجَابٍ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ فِيهِ، وَالْمَاشِيَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وإيجاب، فلذلك غلب حكم الإسقاط والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ " (قَالَ) وَلَا صَدَقَةَ فِي خيلٍ وَلَا فِي شيءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِدَلَالَةِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك (قال المزني) قال قائلون في الإبل والبقر والغنم المستعملة وغير المستعملة ومعلوفة وغير معلوفةٍ سواء فالزكاة فيها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض فيها الزكاة وهو قول المدنيين يقال لهم وبالله التوفيق وكذلك فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة في الذهب والورق كما فرضها في الإبل والبقر فزعمتم أن ما استعمل من الذهب والورق فلا زكاة فيه وهي ذهب وورق كما أن الماشية إبلٌ وبقرٌ فإذا أزلتم الزكاة عما استعمل من الذهب والورق فأزيلوها عما استعمل من الإبل والبقر لأن مخرج قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك واحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِمْ، أَوْ فِي الْفِطْرِ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ فَأَمَّا الْخَيْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا بِحَالٍ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف ومحمد. وَقَالَ أبو حنيفة وزفر: إِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَالْمَاشِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً: فَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نصاب، احتجاجاً برواية جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي كُلِّ فرسٍ سَائِمَةٍ دينارٌ، وَلَيْسَ في المرابطة شيء وبرواية عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " الخيل ثلاث لرجلٍ أجرٌ ولآخر شينٌ، وَعَلَى آخَرَ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ فَالَّذِي يُمْسِكُهَا تَعَفُّفًا وَتَجَمُّلًا، فَلَا يَنْسَى حَقَّ الله في طهورها ورقابها " ومما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 قَالَ: " خَيْرُ الْمَالِ سكةٌ مأبورةٌ، ومهرةٌ مأمورةٌ "، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خِيَارِ الْمَالِ كَانَ وُجُوبُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي شِرَارِهِ، قالوا: ولأنه ذو أربعة أهلي يؤكل لحمه فوجب فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْغَنَمِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تجب في الماشية لظهرها ونسلها، وفي الخيل السَّائِمَةُ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عفوت لكم عن صدقة الخيل ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي فرسٍ وَلَا عبدٍ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الكسعةِ صدقةٌ ". فَالْجَبْهَةُ: الْخَيْلُ، وَالْكَسْعَةُ: الْحَمِيرُ، فَأَمَّا النُّخَّةُ فَأَبُو عُبَيْدَةَ يَرْوِيهَا بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ الرَّقِيقُ، وَالْكِسَائِيُّ يَرْوِيهَا بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَالَ هِيَ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ النَّخَّةُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ دِينَارًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنْشَدَ: (عَمِّي الَّذِي مَنَعَ الدِّينَارَ ضاحيةُ ... دِينَارَ نَخَّةِ كلبٍ وَهْوَ وشهودُ) وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا الْخَيْلُ وَالرَّقِيقُ فَزَكِّهِ لنا فقال: لا آخذ شيئاً لم يأخذه صَاحِبَايَ، وَسَأَسْتَشِيرُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَقَالُوا: حَسَنٌ وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السلام ساكت، فقال: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً مِنْ بعدك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ جَرِيبَيْنِ، وَمِنْ كُلِّ فَرَسٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ شَعِيرًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَأَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً، ثُمَّ صَارَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَوْنَ. فَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَدَأَهُمْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَالَ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبَايَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَخَذَاهَا. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ اسْتَشَارَ وَلَوْ كَانَ نَصٌّ مَا اسْتَشَارَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنْ أَمِنْتَ أَنْ لَا تَكُونَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فَافْعَلْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ رَاتِبَةً. وَالْخَامِسُ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَاهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا رِزْقًا، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنْ يُقَالَ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تَجِبُ الزكاة في ذكوره إِذَا انْفَرَدَتْ لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضَحَّى بِهِ فَأَشْبَهَ الْحَمِيرَ، وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّجَاجِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَرِوَايَةُ غَوْرَكَ السَّعْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ استعمالاً وترجيحاً. فَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الدِّينَارِ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَصَّ عَلَى السَّوْمِ وَالسَّوْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ليفرق بينه وبين الغنم، فَلَا يَظُنُّ أَنَّ سَوْمَهَا مُسْقِطٌ لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ كَمَا أَسْقَطَهَا مِنَ النَّعَمِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا التَّرْجِيحُ: فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " وَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الرَّقِيقُ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الْخَيْلُ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى. وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَقَدِّمٌ وَخَبَرَنَا مُتَأَخِّرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَفَوْتُ " يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مَا تَقَدَّمَ، أو يحمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 على الجهاد، لأنه قال " ولا تنس حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا " وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الظَّهْرِ وَإِنَّمَا الْجِهَادُ عَلَى الظَّهْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ فَضْلِ الْجِنْسِ دُونَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي خِيَارِ الْمَالِ كَالْمَعْلُوفَةِ، وَتَجِبُ فِي شِرَارِهِ كَمِرَاضِ السَّائِمَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذُكُورِهَا، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِي إِنَاثِهَا وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ لَمْ تَجِبْ فِي إِنَاثِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إن زكاة الماشية وجب لِظُهُورِهَا وَنَسْلِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا، وَالْخَيْلُ لَا دَرَّ لَهَا فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 باب المبادلة بالماشية والصدقة منها قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا بَادَلَ إِبِلًا بإبلٍ أَوْ غَنَمًا بَغَنَمٍ أو بقراً ببقرٍ أو صنفاً بصنفٍ غَيْرِهَا فَلَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثانية من يوم يملكها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَمَّا الْمُبَادَلَةُ فهو مبايعة الشيء بمثله، كما أن المناقلة من مُبَايَعَةُ الْأَرْضِ بِأَرْضٍ مِثْلِهَا، وَالْمُصَارَفَةُ، وَالْمُرَاطَلَةُ: هِيَ مُبَايَعَةُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِذَا بَادَلَ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِنِصَابٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْمُبَادَلَةِ سَوَاءٌ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ اسْتَأْنَفَ، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَثْمَانِ مِثْلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَنَى، لأن الأثمان لا تتغير عِنْدَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، إِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ آخَرَ كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ اسْتَأْنَفَ، وَإِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ كَإِبِلٍ بِإِبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ بِبَقَرٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أربعين شاةٍ شاةٌ وفي خمسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا بَادَلَ أَوْ لَمْ يُبَادِلْ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ جِنْسٍ حَالَ حَوْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ، أصله ما لم يبدل بِهِ، قَالَ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَادَلَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَالْمَالُ الْحَاصِلُ بِالْمُبَادَلَةِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي مالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَ رَبِّهِ " وَهَذَا أَظْهَرُ نَصًّا وَأَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أن يكون حوله من يوم ملكه، (كما لو بادل إذا اتَّهَبَ أَوِ اشْتَرَى إِبِلًا بِذَهَبٍ، وَلِأَنَّهُ بَادَلَ ما تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ مَلْكِهِ) كَمَا لَوْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ غَيْرِهِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَمْ يبادل فَالْمَعْنَى فِيهِ حُلُولُ الْحَوْلِ وَتَكَامُلُ النَّمَاءِ، وَأَمَّا مَالُ التِّجَارَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، وَالْقِيمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ بِالْمُبَادَلَةِ، وَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ، وَالْعَيْنُ قَدْ زَالَتْ بِالْمُبَادَلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ، فإذا بادل لِوُفُورِ النَّمَاءِ، وَنَمَاءُ الْمَوَاشِي يَفُوتُ بِالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَوْلِ، فَإِذَا بَادَلَ اسْتَأْنَفَ لِفَقْدِ النَّمَاءِ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْفِرَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْمِلْكِ وَالْحَوْلِ لَا بِالْفِرَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ نِصَابًا فِي الْحَوْلِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ غَيْرَ فِرَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِرَارًا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ مَعْذُورًا، كَمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنُ دِرْهَمٍ قَضَاهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَكْثَرَ الْحَوْلِ وَعَلَيْهِ شَاةٌ مِنْ سَلَمٍ حَلَّتْ قَبْلَ الحول، قضاها من الأربعين في زَكَاةَ عَلَيْهِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ مَا فَعَلَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا كَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً بَاعَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ شَاةً، أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا هَرَبًا مِنَ الزَّكَاةِ وَفِرَارًا مِنَ الْوُجُوبِ، فَفِرَارُهُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مُسِيءٌ بِهِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ولا تسقط عنه لفراره استدلالاً بشيئين: أحدهما: أن الله تعالى تواعد لمن تعرض لإسقاط حق الله تعالى وَمَنَعَ الْوَاجِبَ فِيهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أقْسَمُوا لِيَصْرِمُنْهَا مُصْبِحينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنَ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحينَ) {القلم: 17 إلى 21) وَذَاكَ أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَعَجَّلُوا أَخْذَ ثِمَارِهَا قَبْلَ عِلْمِ الْمَسَاكِينِ بِهَا لِيَمْنَعُوهُمُ الْوَاجِبَ فيها، ألا ترى أنه تعالى قال: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أنْ لاَ يَدْخُلَنَّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) {القلم: 23، 24) فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ مُسْتَحَقًّا كَانَ فِعْلُهُ مُحَرَّمًا، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِسْقَاطَ الْمَالِ كَاجْتِلَابِ المال، فلما كان اجتلاب المال لا يحمل بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ مُورِّثًا فَلَا يَرِثُهُ، كَذَلِكَ إِسْقَاطُ الْمَالِ لَا يَحْصُلُ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَمَا أَتْلَفَهُ لِأَجْلِ الْفِرَارِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْبَاقِي دُونَ النِّصَابِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الْبَاقِيَ لَا زَكَاةَ فِيهِ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ كَانَ النَّاقِصُ لِعُذْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا أَتْلَفَهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالٌ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ الِاسْتِثْنَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفِعْلِ وَلَمْ يَفْعَلُوا، وَالْعِقَابُ إِنِ اسْتَحَقُّوهُ فَبِفِعْلِهِمْ لَا بِعَزْمِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهَ إِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ بِسَبَبٍ محرم فغير مسلم، لأنه تَصَرُّفَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا قصده مكروه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ قَبْلَ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ بها الْحَوْلَ وَلَوْ أَقَامَتْ فِيِ يَدِهِ حَوْلًا ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا نَاقِصَةً عَمَّا أَخَذَهَا عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِمَا نَقَصَهَا الْعَيْبُ مِنَ الثَّمَنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا بَادَلَ نِصَابًا مِنَ الْمَاشِيَةِ بِنِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ مُبَادَلَةً صَحِيحَةً، ثُمَّ أَصَابَ أَحَدُهُمَا بِمَا صَارَ إِلَيْهِ عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ بِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْعَيْبِ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَالثَّانِي: بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ الرَّدُّ بِهِ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاشِيَتَهُ اسْتَأْنَفَ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ رَجَعَتْ، لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ يَقْطَعُ الْمِلْكَ، وَلَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرُدُّ الْعَيْنَ الْمَعِيبَةَ دُونَ النَّمَاءِ الْحَادِثِ، فَيَصِيرُ كل واحد منهما مستحقاً الملك مَا ارْتَجَعَهُ، وَمَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَيْبِ. وَالثَّانِي: لَمْ يُخْرِجْهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نفس المال ووسطه، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا من نفس المال فَهَلْ لَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ إِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ، فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ وَلَا رَدَّ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَالثَّانِي: يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ مِنَ الثَّمَنِ بِمَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَهُ الرَّدُّ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ. لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ وَجْهًا آخَرَ فِي المنع من الرد إذا قبل بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ. فَهَذَا إِذَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهَا حَتَّى ظَهَرَ على الْعَيْبُ فَلَا رَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا بوجوب الزكاة في الذمة فالعين مرتهنة بها، وَرَدُّ الْمَرْهُونِ بِالْعَيْبِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ فَالْحَقُّ إِذَا وَجَبَ فِي عين لم يجز ردها بعيب، لا كمن ابتاع عبد فَجَنَى ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ نُظِرَ: فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَعْدَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا أَرْشَ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ بَلْ بَادَرَ إِلَى إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ لِقُرْبِ الْوَقْتِ وَوُجُودِ الرَّدِّ عُقَيْبَ الْعَيْبِ. وَالثَّانِي: لَا يَرُدُّ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ اشتغال بغير الرد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ فَاسِدَةً زَكَّى كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا كَانَتْ مُبَادَلَتُهُمَا فَاسِدَةً فَمَلَكَ كل واحد مِنْهُمَا لَمْ يَزُلْ عَمَّا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، فَيَبْنِي عَلَى حَوْلِهِ وَيُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ ذَلِكَ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُزَكِّيهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا فِي مقابلته عوض ينتفع به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ بَادَلَ بِهَا أو باعها ففيها قولان أحدهما أن مبتاعها بالخيار بين أن يرد البيع بنقص الصدقة أو يجيز البيع ومن قال بهذا قال فإن أعطى رب المال البائع المصدق ما وجب عليه فيها من ماشية غيرها فلا خيار للمبتاع لأنه لم ينقص من البيع شيءٌ والقول الثاني أن البيع فاسدٌ لأنه باع ما يملك وما لا يملك فلا يجوز إلا أن يجددا بيعاً مستأنفاً ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَأَرْبَعِينَ شَاةً، أَوْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً، أَوْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أو عشرين ديناراً أو مائتي درهم. فهذا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا بَاعَهَا بعد أداء الزكاة عنها فالبيع في جميعها جائز، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا، وَصَارَ جَمِيعُهَا مِلْكًا لَهُ خَالِصًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ الْجَمِيعُ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ دَفْعَ الزَّكَاةِ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَشَرْطٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَحَمُّلَ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجِبَ الْعَقْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَثْنِيَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنَ الْبَيْعِ، وَيُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى مَا سِوَى قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْحُبُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مُعَيَّنًا أو شايعاً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاضَلُ أَعْيَانُهُ وَلَا تَتَفَاضَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْمَاشِيَةِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ مَا اسْتَثْنَاهُ لِلزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ، فَإِنْ عَيَّنَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ الشَّاةَ إِلَّا هَذِهِ الشَّاةَ وَأَشَارَ إِلَيْهَا فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لتمييز الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ قَدْرَ الزَّكَاةِ بَلْ قَالَ بِعْتُكَهَا إِلَّا شَاةً لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْغَنَمِ مِنْ أحد أمرين إما أن تكون مختلفة لأسنان أَوْ مُتَسَاوِيَةً، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْغَنَمُ فَكَانَ بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِلْجَهْلِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَسَاوَتِ الْغَنَمُ فِي الْأَسْنَانِ وَتَقَارَبَتْ فِي الْأَوْصَافِ، فَكَانَ جَمِيعُهَا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِهَذَا الْوَصْفِ شَابَهَتِ الْحُبُوبَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْأَسْنَانِ فَقَدْ تَخْتَلِفُ فِي السِّمَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُبُوبُ الْمُتَمَاثِلَةُ الْأَجْزَاءِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جَعْلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ صَدَاقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا. فهل الأداء من غير ما استثنى فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ، كُلُّ أَصْلٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؟ وَالْأَصْلُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إذا جمعت شيئين متغايرن حَلَالًا وَحَرَامًا، أَوْ مِلْكًا وَمَغْصُوبًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَالْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: مَا عَدَا قَدْرَ الزَّكَاةِ فَأَمَّا قَدْرُ الزَّكَاةِ فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا لَا تَعَلُّقَ لِلْعَيْنِ بِهَا، فإذا قيل بجواز القدر فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَفِيمَا عَدَا قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَاشِيَةً يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا، أَوْ حبوباً يقدّر الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً بتقسط الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ حُبُوبًا يَتَقَدَّرُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَنْ بَاعَ قَفِيزَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِدِرْهَمَيْنِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَمَنَ الْمَمْلُوكِ دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيهِ جَهَالَةٌ، وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَثَمَنُ الْمَمْلُوكِ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ الْأَلْفَ يَتَقَسَّطُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ وَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفَسْخِ لِدُخُولِ النَّقْصِ وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَقَامَ فَهَلْ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقَسَّطَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 أَحَدُهُمَا: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فُسِخَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطُهُ مِنْ ثَمَنِهِ، كَمَنِ ابْتَاعَ قَفِيزَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ نُظِرَ فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مَالِهِ حَتَّى أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنَ الْمَالِ الْمَبِيعِ بَطُلَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَقِيَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا مضى وهو مذهب أبي إسحاق لِأَنَّهُ يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، بَلْ لا تفرق الصفقة في الحادث، قولاً واحداً لعدم العلتين في جواز بُطْلَانِهِ، ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّنَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ مَا بَقِيَ هُنَاكَ، إِمَّا لجهالة الثمن، أو لأن اللفظة جمعت حلالان وحراماً وهما معدودان فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا كُلَّهُ وَالثَّمَنُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْضُهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ في الجميع فهاهنا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الجميع فهاهنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ، لِأَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ غَيْرُ ممتنع. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَشَائِعٌ فِيهِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ حُكْمُ بَعْضِهِ كَحُكْمِ جَمِيعِهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ شَاةً بِأَعْيَانِهَا فَقَبَضَتْهَا أَوْ لم تقبضها وحال عليها الحول فأخذت صدقتها ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف الغم وبنصف قيمة التي وجبت فيها وكانت الصدقة من حصتها من النصف ولو أدت عنها من غيرها رجع عليها بنصفها لأنه لم يؤخذ منها شيء هذا إذا لم تزد ولم تنقص وكانت بحالها يوم أصدقها أو يوم قبضتها منه ولو لم تخرجها بعد الحول حتى أخذت نصفها فاستهلكته أخذ من النصف الذي في يدي زوجها شاة ورجع عليها بقيمتها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أحدهما: أن تكون موصوفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَيْنًا حَاضِرَةً فَإِنْ كَانَتْ موصوفة بالذمة، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَكَانَ الزوج ملياً بها لزمها الزَّكَاةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ السَّوْمُ شَرْطًا فِي الدَّرَاهِمِ فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الصداق عيناً حاضراً كَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ بِأَعْيَانِهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ، فَاقْتَضَى أن تملك عوضه، وإن مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الزكاة، واستؤنف له الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قَبْضِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهَا زَكَاتُهُ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ اسْتَأْنَفَتْ حَوْلَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، لأن يد الزوج على الصداق لا يمنع مِنْ تَصَرُّفِهَا فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَالْمَقْبُوضِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ جَارٍ عَلَى صَدَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِهَا فَمَا لَمْ يُطَلِّقْهَا الزَّوْجُ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَخْلُ حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ من الصداق والغنم التي أصدق عَلَى مِلْكِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفً مَا فَرضْتُمْ) {البقرة: 237) فَإِذَا وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حلول الحول أو بعده، فإذا كَانَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَبَقِيَ لَهَا نِصْفُهُ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ إِنِ اقْتَسَمَا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، إِلَّا أن يكون مالكاً لهما من النصاب، وإن لم يقتسمها كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي نِصَابٍ يُزَكِّيَانِهِ بِالْخُلْطَةِ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَ الزَّوْجَةِ أَسْبَقُ مِنْ حَوْلِهِ فَتَكُونُ كمن له أربعون شاة أقامت بيده لستة أَشْهُرٍ ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا إِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الغنم على الزوجة لحلول الْحَوْلِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا تُخْرِجُ عَنْهَا. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا، وَالثَّانِي أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا، والثالث أن لا تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا. فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي أَصْدَقَ لِوُجُودِ الصَّدَاقِ بِكَمَالِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ المساكين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 مِنْهَا شَاةً إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا أَعْطَتْ بَدَلَ تِلْكَ الشَّاةِ مِنْ مَالِهَا فَقَدِ اسْتَحْدَثَتْ مِلْكَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهَا، كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ مَالًا فَبَاعَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْأَبُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِمَا وَهَبَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَبَيْعُ الِابْنِ إِتْلَافٌ يُبْطِلُ الرُّجُوعَ، وَابْتِيَاعُهُ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ فَلَمْ يُوجِبِ الرُّجُوعَ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يرجع بما أصدق إن كان موجوداً، وببدله إِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً وَالرُّجُوعُ لَمْ يَبْطُلْ كَانَ الرُّجُوعُ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْعُدُولِ إِلَى بَدَلِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ أَدَّتِ الزَّكَاةَ مِنْهَا، فَطَلَّقَ الزوج وهي تسعة وَثَلَاثُونَ شَاةً، فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَوْجُودِ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْأَرْبَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْقِيمَةِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَيْنِ وَأَخَذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ مِنْهَا فَلَا مَعْنَى لِلِاجْتِهَادِ وَالْعُدُولِ إِلَى الْقِيمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الشَّاةِ التَّالِفَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ " الْأُمِّ " لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ مَوْجُودًا رَجَعَ بِنِصْفِهِ، وَلَوْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مَوْجُودًا وَبَعْضُهُ تَالِفًا أَنْ يَعْتَبِرَ حُكْمَ مَا كَانَ مَوْجُودًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ، وَحُكْمُ مَا كَانَ مِنْهُ تَالِفًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ ونصف قِيمَةِ التَّالِفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نِصْفِ الْمَوْجُودِ وَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ تَفْرِيقًا لِصَفْقَتِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا بَاقِيَةً لَمْ تُخْرِجْهَا بَعْدُ فَيُمْنَعَانِ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى تُخْرِجَ عَنْهَا الزَّكَاةَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْ غَيْرِهَا اقتسماها على ما مضى، فإن أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْهَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنِ اقْتَسَمَاهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا فَفِي الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؟ أَحَدُهُمَا: الْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ، إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاءُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا اقْتَسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ أَمْرُهَا حَتَّى تُؤَدَّى زَكَاتُهَا، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ وَارْتِهَانِ الْعَيْنِ بِهَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِسْمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى هَذَا لا تخلو حالها عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَالِي بِالزَّكَاةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا، وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا، أَوْ مَا فِي يَدِ الزوجة تالفا وما في يد الزوج باقيا. فَالْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا وَجَبَتْ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَأَيُّهُمَا يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَالِيَ يُطَالِبُ الزَّوْجَةَ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهَا اسْتَقَرَّ. وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْوَالِي مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا إلى الزَّوْجِ، وَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَ وَأَغْرَمَهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الزَّوْجَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزوجة تالفاً، وما في الزَّوْجِ بَاقِيًا، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَجَبَ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِمَّا بِيَدِهِ فَهَلْ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْقِسْمَةَ تَبْطُلُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَالِيَ إِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَصَارَ قَدْرُ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَحَقِّ مِنْهَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فَهُوَ بِمَثَابَةِ وُجُودِ الزَّوْجِ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَعَدَمِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، وَأَخْذُ الْوَالِي كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَكُنِ الْأَخْذُ الْحَادِثُ مُبْطِلًا لِلْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كما لو أتلفت الزوجة شاة فما حَصَلَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِالْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ المأخوذة إن كانت مثل ما وجب عليها، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَفْضَلَ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِالْفَضْلِ الَّذِي ظَلَمَهُ الْوَالِي بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 بَابُ رَهْنِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو رهنه مَاشِيَةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ أُخِذَتْ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ فَرَهْنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ رَجُلٍ نِصَابٌ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، كَأَرْبَعِينَ شَاةً حَالَ حَوْلُهَا، فَرَهَنَهَا قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَهُوَ كَالْبَيْعِ عَلَى مَا مَضَى، فَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الرَّهْنَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ فهو يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَالرَّهْنُ فِي الْبَاقِي جَائِزٌ، وَإِنْ قيل تفريق الصفقة لا يجوز ففي ببطلان رَهْنِ الْبَاقِي وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ عِلَّةِ هذا القول، فإن قيل العلة فيه جَهَالَةُ الثَّمَنِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَا ثَمَنَ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا وَحَرَامًا فَرَهْنُ الْبَاقِي بَاطِلٌ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِنْهَا بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي عَلَى نَحْوِ مَا مَضَى فِي الْبَيْعِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو باعه بيعاً عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا لَهُ وَشَيْئًا لَيْسَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا شَرَطَ رَهْنَ الْغَنَمِ الَّتِي حَالَ حَوْلُهَا فِي عقد بيع فَإِنْ قِيلَ رَهْنُ الْجَمِيعِ جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، ولا خيار للبايع لِحُصُولِ الرَّهْنِ لَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ، وَإِنْ قِيلَ الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ وَفِي الْبَاقِي جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ بِرَهْنِ الْبَاقِي وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِنُقْصَانِ الرَّهْنِ، وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فِي الْجَمِيعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 أحدهما: باطل كبطلان الرَّهْنِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ كَالْأَجَلِ، وَفَسَادُ الأجل مبطل للبيع كذلك الرَّهْنُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبُطْلَانُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْآخَرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِفَوَاتِ الرَّهْنِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو حال عليها حول وجبت فيها الصدقة فَإِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ بِيعَ مِنْهَا فاستوفيت صَدَقَتُهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ رَهْنًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَهَنَ مَاشِيَةً قَبْلَ حَوْلِهَا فَرَهْنُهَا صَحِيحٌ، وَتَجْرِي فِي الْحَوْلِ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ عَلَيْهَا تَامٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ حَالًا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، فَدَفَعَهَا الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ، كَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ، وَامْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ رَهْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ معسراً بها فعلى قولين: إن قيل الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ بُدِئَ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَقُدِّمَتْ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الذمة بدأ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَكَانَتِ الزَّكَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الزَّكَاةِ أَسْبَقَ مِنْ حَوْلِ الدَّيْنِ، فَيَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا قَبْلَ الدَّيْنِ، إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّاهِنُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ الرَّهْنُ عَلَى جُمْلَتِهِ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ من وجوب الدين، فكانت أحق بالتقدمة، وإذا أُخِذَتِ الزَّكَاةُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهَا، وَكَانَ الرَّهْنُ ثَابِتًا فِي الْبَاقِي، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فسخ البيع لنقصان الرهن، لِأَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ بِرِدَّةٍ، أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون حلول الدين أسبق من حلول الزَّكَاةِ، فَيُقَدِّمُ الدَّيْنَ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَإِنْ بِيعَ الرَّهْنُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُطَالَبُ بِهَا الرَّاهِنُ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ كَالسَّقْيِ، وَالْعُلُوفَةِ، وَأُجْرَةِ الرُّعَاةِ، وَالْحَفَظَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 والقسم الثالث: أن يكون حلول الدين وحلول الزَّكَاةِ مَعًا لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا قَادِرًا عَلَى دَفْعِهَا مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ أُخِذَتْ مِنْ ماله وكان الرهن معروفاً فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ غَيْرَ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ سِوَاهُ فَهَلْ يَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ أَوْ بِدَيْنِ الْمُرْتَهِنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ ثَالِثٌ إِنَّهُمَا سواء ويقسط ذلك بينهما. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وما نتج منها خارجاً من الرهن ولا يباع منها مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الرَّاهِنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ وإنما ذكرهما في غير الْمَوْضِعِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا، فَإِذَا رَهَنَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ أَوْ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ فَالْوَلَدُ وَالنِّتَاجُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا تَبَعًا لِأَصْلِهِ وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ النِّتَاجُ تَابِعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاةِ فَهَلَّا كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الرَّهْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ وَالنِّتَاجَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ، وَالزَّكَاةُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالنِّتَاجُ دَاخِلٌ فِي الْمِلْكِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّتَاجَ لَا يَدْخُلُ في الرهن انتقل الكلام إلى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا تُبَاعُ مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يُأْخَذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَا حُكْمَ لَهُ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ يَسْرِي إِلَيْهِ كَمَا يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَسْرِي إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا فَعُلِمَ أَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ يَكُونُ تَبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَيُفْرَدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْحَمْلِ لَا يَسْرِي إِلَى عِتْقِ أُمِّهِ، وَلَوْ كَانَ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا لَسَرَى عِتْقُهُ إِلَى عنقها. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تكون الماشية المرهونة حَوَامِلَ وَيَأْبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ يَبِيعُهَا حَوَامِلَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَحُلُولِ الْحَقِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أن تكون حوامل في الحالين، أو حوامل في الحالين، حوايل فِي الْوَسَطِ أَوْ حَوَامِلَ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، حوايل عند حلول الحق، أو حوايل عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ حَوَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ وَيَحِلَّ الْحَقُّ وَهِيَ أَيْضًا حَوَامِلُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تباع وهي حوامل، سواء قيل إن الحمل تبع أوله قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ كَانَ تَبَعًا لِلْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وهي حوايل ثم تحمل وتضع ويحل الحق وهي حوايل، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَاعَ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّتَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ ثُمَّ تَضَعُ وَيَحُلُّ الحق وهي حوايل فَهَلْ تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين: إن قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الرَّهْنِ لَا تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِهَا تَبَعًا، فَإِذَا انْفَصَلَتْ لم تكن تبعاً وإن قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ بِيعَتْ مَعَ الْأُمَّهَاتِ لِاشْتِمَالِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وهي حوايل ويحيل الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ فَهَلْ تُبَاعُ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ حَتَّى تَضَعَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ بِيعَتْ حَوَامِلُ، فَإِنْ تَأَخَّرَ بَيْعُهَا حَتَّى وَضَعَتْ لَمْ يُبَعِ الْحَمْلُ مَعَهَا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ وَيَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ تُبَعْ وَهِيَ حَوَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ بِيعَتْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا دُونَ حَمْلِهَا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ حَمْلِهَا، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ إِلَى حِينِ الْوَضْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 باب زكاة الثمار قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنِ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوسقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمُنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} (البقرة: 267) فأوجب بأمره الإنفاق مما أخرج مِنَ الْأَرْضِ، وَالثِّمَارُ خَارِجَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فَدَلَّ على أن المراد بالنفقة الصدقة الَّتِي يَحْرُمُ إِخْرَاجُ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الصَّدَقَةَ لَجَازَ إِخْرَاجُ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . وَأَمَّا السُّنَّةُ. فَرِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ ". وَالثِّمَارُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ السَّقْيِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْوُجُوبِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوبها، وإن اختلفوا في قدر ما يجب فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الثِّمَارِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّمَارِ، إِذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَلَا شيء فيما دُونَ ذَلِكَ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سَقَتِ الْسَمَاءُ الْعُشْرُ ". وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ العشرِ " فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ النِّصَابُ، كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالرِّكَازِ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ شَرْطَيْنِ الْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَوْلُ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ فيها معتبراً. وتحريره قياساً: أن أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الثِّمَارِ كَالْحَوْلِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ابتدائه وقص يعفى عنه لكان في انتهائه وَقْصٌ يُعْفَى عَنْهُ كَالْمَاشِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَائِهِ عَفْوٌ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهِ عَفْوٌ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ " فَتَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِنَفْيِ الصَّدَقَةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَدَلِيلُهُ بينها فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَجَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي زرعٍ وَلَا نخلٍ وَلَا كرمٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ". وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي شيءٍ مِنَ الحرثِ حتى يبلغ خمسة أوسقٍ فذا بَلَغَ خَمْسَةَ أوسقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 احْتِمَالَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا دُونَ الْخَمْسَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ العشر ألا ترى أنا نأخذه من المكاتب والذمي وإن لم تؤخذ مِنْهُمَا الزَّكَاةَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الْعُشْرِ زَكَاةً، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَرْثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى عَمَّا دُونَ الْخَمْسَةِ، مَا أَثْبَتَهُ فِي الْخَمْسَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُهُمْ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مال تجب فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالفضة والذهب، ولأنه حق مَالٍ يَجِبُ صَرْفُهُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِمَالٍ مَخْصُوصٍ اعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرٌ مخصوص كالذهب وَالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِي الْمَوَاشِي لِيَبْلُغَ الْمَالُ حَدًّا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ فَعَامٌّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَخَصُّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ (فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ) فَعَنْهُ جَوَابَانِ: تَرْجِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " بَيَانٌ فِي الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ " بَيَانٌ فِي الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ فِي الْإِخْرَاجِ، فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ من خبرنا قاضياً على إجمال المقدار من خبرهم، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خَبَرِنَا. وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِهِ لِأَنَّ أبا حنيفة لَا يُوجِبُ فِي الْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَلَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ شيئاً، وخبرنا خبر متفق على تخصيص بعضه، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ. وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَخَبَرُنَا أَخَصُّ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُمْسِ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ، فَالْمَعْنَى فِي الْغَنِيمَةِ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ النِّصَابُ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِ أَجْنَاسِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِهَا. وَأَمَّا الرِّكَازُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا تَعَبٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّمَارُ الَّتِي يَلْحَقُ فِيهَا تَعَبٌ وَيَلْزَمُ فِيهَا عِوَضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، يَعْتَبِرُونَ فِيهَا النِّصَابَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْحَوْلَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلِ إنَّهُ قصد به تكامل النماء، وَالثِّمَارُ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الحول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فِي الثِّمَارِ [وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا، وَالنِّصَابُ إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ] كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ فِي ابتدائها عفو لكان في انتهائها عَفْوٌ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِنَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوَاشِي حَيْثُ دَخَلَ الْعَفْوُ في أثناء نصبها لأن إيجاب الكثير فِي جَمِيعِ الزِّيَادَةِ مَشَقَّةٌ تَلْحِقُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وأهل السهمان وليس كذلك في الزروع والثمار. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فبهذا نأخذ والوسق ستون صاعاً بصاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أمدادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بأبي هو وأمي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْخَمْسَةِ فَصَاعِدًا، وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الِادِّخَارِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَالْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الِادِّخَارِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا، وَالْكَرْمُ مِمَّا يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زبيباً، والزرع ما يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَعِنَبًا يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَسْقُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: حِمْلُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: (أَيْنَ الشِّظَاظَانِ وَأَيْنَ الْمرْبَعَة؟ ... وأين وسق الناقة الجلنقعه؟) إِلَّا أَنَّ الْوَسْقَ فِي الشَّرِيعَةِ: سِتُّونَ صَاعًا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُدُّ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ، وَهِيَ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ، وألف وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ وَنُقْصَانِهِ أَوْ تقريب لا يؤثر فيه نقصان رطل أو رطلين؟ على وجهين: أحدهما: تقريب؛ لأن الوسق عِنْدَهُمْ حِمْلُ النَّاقَةِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالْآصُعِ تَقْرِيبًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا " فَحَدَّهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ وَافَقَنَا أَنَّ الْوَسْقَ سِتُّونَ صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، وإنما خالف في قدر المد والصاع، فَقَالَ الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ، وَسَنَذْكُرُ الحجاج له وعليه فِي مَوْضِعِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِنْ شَاءَ الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " والخليطان في أصل النَّخْلِ يُصَدَّقَانِ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْخُلْطَةِ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي دُونَ مَا عَدَاهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ المواشي كالخلطة في المواشي، وذكر تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي رُوعِيَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ، وَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَصْلِ النَّخْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ إِذَا تَلَاصَقَتِ الْأَرْضَانِ وَكَانَ شِرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا واحداً وفحول لقاحهما واحدة، وهذا الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْخُلْطَةِ فِي الْمَاشِيَةِ بِالْأَوْصَافِ مَعَ تَمَيُّزِ الْأَمْوَالِ، هَلْ سُمُّوا خُلَطَاءَ لُغَةً أَوْ شَرْعًا؟ فَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ هاهنا. وَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ جوز الخلطة هاهنا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن وَرِثُوا نَخْلًا فَاقْتَسَمُوهَا بَعْدَمَا حَلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فِي جَمَاعَتِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ أول وجوبها كان وهم شركاء اقْتَسَمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فَلَا زكاة على أحدٍ منهم حتى تبلغ حصته خمسة أوسق (قال المزني) هذا عندي غير جائز في أصله لأن القسم عنده كالبيع ولا يجوز قسم التمر جزافاً وإن كان معه نخلٌ كما لا يجوز عنده عرض بعرضٍ مع كل عرضٍ ذهبٌ تبعٌ له أو غير تبعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ نَخْلًا مُثْمِرًا قَدْرُ ثَمَرَتِهَا خَمْسَةُ أوسق فأكثر، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ وَقْتَ صِرَامِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ الِاقْتِسَامُ لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، فإن اقتسموا قبل إخراج زكاتها كان في الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا بِالزَّكَاةِ لَمْ تخل حال حصصهم من الثمر مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ بَاقِيَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ تَالِفَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وحصص بعضهم تالفة، فإن كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وَحِصَصُ الْبَاقِينَ تَالِفَةً أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْحِصَّةِ الْبَاقِيَةِ وَرَجَعَ صَاحِبُهَا عَلَى مَا فِي يَدِ شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: إِنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَالِفَةً نُظِرَ، فَإِنْ كان للميت تركة سوى الزكاة يتسع لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ بِهَا فِي تَرِكَتِهِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ الْمُزَكَّى مِنْ جِهَتِهِمْ، لأن أخذها من تركته أنقص كَمَا لَوْ تَرَكَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا فِيمَا تَرَكَ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ مَا خلف دون الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ سِوَى الثَّمَرَةِ الَّتِي اقْتَسَمَ بِهَا الْوَرَثَةُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مُوسِرِينَ بِهَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُوسِرًا بِهَا وَبَعْضُهُمْ مُعْسِرًا أَخَذَ مِنَ الْمُوسِرِ، وَكَانَ دَيْنًا لِلْمُوسِرِ عَلَى شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ كما لو بقيت حصة أحدهم. فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الثَّمَرَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْتَسِمُوهَا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، وَإِنِ اقْتَسَمُوهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ قِسْمَةً جَائِزَةً، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ وَيُرَاعَى حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَعَلَى الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا فِي قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخرجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ حَالَ قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَبَيْعُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ جُزَافًا لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، قَالَ ولأن أَجَازَهَا لِأَنَّ مَعَهَا جُذُوعًا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ ثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الرِّبَا تَبَعًا لَهُ أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ، فَهَذَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ إِنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي القسمة قولين: أحدهما: أنه إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ قَالَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، فعلى هذا يجوز قِسْمَةُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنها تبع فَعَلَى هَذَا قَدْ تَصِحُّ قِسْمَةُ ثِمَارِ النَّخْلِ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ يَسْقُطُ بِهَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وإنكاره على الشافعي تصور هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ وَتَصْحِيحَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ نَخْلٌ مُثْمِرٌ وَعُرُوضٌ، فَيَبِيعُ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْعُرُوضِ بحصة شريكه من النخل والثمرة، فيصير لأحدهم جَمِيعُ النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ وَلِلْآخَرِ جَمِيعُ الْعُرُوضِ. وَالثَّانِي: أن تكون النَّخْلُ نَوْعَيْنِ حَامِلًا وَحَائِلًا فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْحَائِلِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ، مِنَ النَّخْلِ الحامل والثمرة فيحصل النَّخْلُ الْحَامِلُ بِثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْحَائِلُ بِانْفِرَادِهِ لِلْآخَرِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَيْرُ مُقْنِعَيْنِ لِأَنَّهُمَا بَيْعُ جِنْسٍ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَا قِسْمَةَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ ذَكَرَهُمَا أَصْحَابُنَا فَذَكَرْنَاهُمَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ فِي مَعْنَاهُمَا: أن تكون النَّخْلُ فِي التَّقْدِيرِ نَخْلَيْنِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، ويبتاع من شريكه حصة مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، فَيَحْصُلُ النَّخْلُ الشرقي مع ثمرته لأحدهما وعلى الشركة دِينَارٌ وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ وَعَلَيْهِ لشريكه دينار فيتقاضيان الدِّينَارَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَيَبْتَاعَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَيَصِيرُ النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النخل الشرقي، ويبتاع حصته شريكه من النخل الغربي بحصته من النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، فَيَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَلِلْآخَرِ النَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَخْلِ شَرِيكِهِ، وَلَهُ تَبْقِيَتُهَا إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ، إِلَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْقِسْمَةِ قَطْعَهَا فِي الْحَالِ، فَهَذَا فِي الثَّمَرَةِ إِذَا كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا بَعْدُ فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي صِحَّةِ قِسْمَتِهَا يُبْنَى عَلَى أربعة أحوال: أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ القطع لا يصح. والثاني: أن يبيعها تبع لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: أن شرط القطع مع الإشاعة فيها لَا يَصِحُّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ لِحُصُولِ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ صَحَّ فِي قِسْمَتِهَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْخَامِسُ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّأَمُّلِ وَالْفِكْرِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَحِيحًا، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ جَارِيًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وثمر النخل يختلف فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بِتِهَامَةَ وَهِيَ بِنَجْدٍ بُسْرٌ وبلح فيضم بعض ذلك إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عامٍ واحدٍ وَلَوْ كان بينها الشَهْرُ وَالشَّهْرَانِ وَإِذَا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لم يضم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُدْرَكَ حَالًا بَعْدَ حال، ولا تدرك دفعة واحدة، لما فِي إِدْرَاكِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِهَا، وَإِذَا أُدْرِكَتْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَانَ أَمْتَعَ بها وأنفع لأربابها، وأجرى الْعَادَةَ فِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الْحَامِيَةِ كَتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا، لِغِلَظِ الْهَوَاءِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَفِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ كَنَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا لِرِقَّةِ الْهَوَاءِ وَقُوَّةِ الْبَرْدِ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا وَحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَأَجْرَى فِي عَادَةِ النَّخْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بُدُوِّ إِخْرَاجِهَا وَإطلاعِهَا إِلَى مُنْتَهَى نُضْجِهَا وَإِدْرَاكِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ يَحُولُ فِي السَّنَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ فِي بَاقِي السَّنَةِ حَامِلٌ إِمَّا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ بُلْدَانٍ شَتَّى، فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بتهامة وهو بنجد بسر وبلح وجملته، وهو أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ إِطْلَاعُهُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 أَوْ يَخْتَلِفَ إِطْلَاعُهُمَا، وَتَغَايُرُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا في النوع كالنخل البري وَالنَّخْلِ الْمَعْقِلِيِّ. وَإِمَّا فِي الْمَوْضِعِ كَالنَّخْلِ الْتِهَامِيِّ وَالنَّخْلِ النَّجْدِيِّ، وَإِنِ اتَّفَقَ إِطْلَاعُ النَّخْلَيْنِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ إِدْرَاكُهُمَا أَوِ اختلف لأنها ثمرة عام، وإن اختلفت إِطْلَاعُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: إما أن تطلع قبل بدو الصلاح الأول. أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى. أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى أَوْ مَعَهُ، كَأنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ بُسْرًا لَمْ يبد صَلَاحَهُ بِصُفْرَةٍ وَلَا حُمْرَةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ نَخْلُ نَجْدٍ فَهَذَا يُضَمُّ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ إِطْلَاعِهِمَا مُتَعَذِّرٌ، بَلِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ يَخْتَلِفُ أَطْلَاعُهَا، فكيف بنخل متغاير. وأما القاسم الثَّانِي: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى كَأَنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ تَمْرًا يَابِسًا وَجُدَّ عَنْ نَخْلِهِ وَصُرِمَ، ثُمَّ أَطْلَعَ النَّخْلُ الْآخَرُ، فَلَا تُضَمُّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي ثَمَرَةِ الْعَامِ الواحد بها، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَبِقَاعُهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا تُضَمُّ فَقَدْ أَخْطَأَ نَصُّ الْمَذْهَبِ، وَجَهِلَ عَادَةَ الثَّمَرِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا، كانت الْأُولَى أَطْلَعَتْ وَصَارَتْ رُطَبًا ثُمَّ أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ضَمِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تضم وَيَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ. أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَمَرٌ مُخْتَلِفٌ فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا وَبَعْضُهَا بُسْرٌ وَبَلَحٌ، ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَجَعَلَ عِلَّةَ الضَّمِّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ. وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الثِّمَارِ كَضَمِّ السِّخَالِ، فَلَمَّا اعْتُبِرَ فِي ضَمِّ السِّخَالِ وَجُودُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ضَمِّ الثِّمَارِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ تجب الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُضَمُّ فَيَكُونُ جَفَافُ الثَّمَرَةِ وَأَوَانُ جِدَادِهَا عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ فِي بَعْضِهَا طَلْعٌ، وَفِي بَعْضِهَا بَلَحٌ، وَفِي بَعْضِهَا بُسْرٌ، وَفِي بَعْضِهَا رُطَبٌ، فَأَدْرَكَ الرُّطَبَ فَجَدَّهُ، وَأَدْرَكَ الْبُسْرَ فَجَدَّهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْبَلَحَ فَجَدَّهُ، ثم أدرك الطلع فجده، ضمت بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ لِلثَّمَرَةِ حَالَيْنِ حَالَ ابْتِدَاءٍ وَهُوَ الْإِطْلَاعُ وَحَالَ انْتِهَاءٍ وَهُوَ الْجَفَافُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الضَّمُّ مُعْتَبَرًا بِالِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ، فَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْفَصَلَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِأَنْ قَالَ إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي الضَّمِّ بَيْنَ الطَّلْعِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْإِطْلَاعِ وَالرُّطَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلْعٍ وَرُطَبٍ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ إِطْلَاعِهِ قَبْلَ الْإِرْطَابِ، وَانْفَصَلَ عَنِ الْحِجَاجِ، بِأَنْ قَالَ لِلثَّمَرَةِ حالة ثالثة هي بُدُوُّ صَلَاحِهَا، وَاعْتِبَارُهَا أَوْلَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِهَا يتعلق. فصل : قال الشافعي إذا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لَمْ تُضَمَّ، يَعْنِي: إنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِطْلَاعُ التِّهَامِيِّ ثُمَّ أَطْلَعَ بعد النَّجْدِيُّ فَجَدَّ التِّهَامِيُّ وَالنَّجْدِيُّ بُسْرٌ وَبَلَحٌ ثُمَّ أَطْلَعَ التِّهَامِيُّ ثَانِيَةً قَبْلَ جِدَادِ النَّجْدِيِّ، كَانَ هَذَا الْإِطْلَاعُ الثَّانِي مِنَ النَّخْلِ التِّهَامِيِّ ثَمَرَةَ عَامٍ ثَانٍ، لَا يُضَمُّ إِلَى النَّجْدِيِّ، وَإِنْ أَطْلَعَ قَبْلَ إِرْطَابِهِ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْدِيَّ قَدْ ضم إِلَى التِّهَامِيِّ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ التِّهَامِيُّ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَمًّا بَيْنَ التهامي الأول والتهامي الثاني. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان آخر إطلاع ثمر أطلعت قبل أن يجد فالإطلاع التي بعد بلوغ الآخرة كإطلاع تلك النخل عاماً آخر لا تضم إلا طلاعةً إلى العام قَبْلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَلَامٌ غَلِقٌ، وَالرِّوَايَةُ فِي نَقْلِهِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُوِيَ فَإِذَا كَانَ آخِرُ اطلاع ثمر اطلعت قبل نجد يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ، وَرُوِيَ قِبَلَ نَجْدٍ يَعْنِي نَاحِيَةَ نَجْدٍ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ وَتُقْطَعَ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا كَانَ إِطْلَاعُ آخِرِ ثَمَرٍ اطلعت بنجد قبل عام أَنْ تُجَدَّ ثَمَرُ تِهَامَةَ فَمَا أَطْلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ثِمَارِ تِهَامَةَ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ ثَانٍ لَا يُضَمُّ، لِأَنَّكَ قَدْ ضَمَمْتَ النَّجْدِيَّةَ إلى التهامية الأولة، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضُمَّ التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى النَّجْدِيَّةِ لِأَنَّكَ تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمَّ التِّهَامِيَّةَ الثانية إلى التهامية الأولة، وَهِيَ الْفَرْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ الْجَفَافَ عَلَى الضَّمِّ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ آخِرُ إِطْلَاعٍ ثُمَّ أَطْلَعَتْ بنجد فما اطلع مِنْ ثِمَارِ نَجْدٍ بَعْدَ بُلُوغِ هَذِهِ النَّجْدِيَّةِ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ آخَرَ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عَلَمَ الضم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُتْرَكُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ جَيِّدُ التَّمْرِ مِنَ الْبُرْدِيِّ وَالْكَبِيسِ وَلَا يُؤْخَذُ الْجَعْرُورُ وَلَا مُصْرَانُ الْفَأْرَةِ ولا عذق ابن حبيق ويؤخذ وسط من التَّمْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرَهُ بَرْدِيًّا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَوْ جَعْرُورًا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَسْمَاءُ التَّمْرِ بِالْحِجَازِ، وَجُمْلَةُ ذلك أنه لا يخلو ثمر الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا قَلِيلَةً مُتَمَيِّزَةً، كَنَوْعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن تكون أنواعاً كثيرة لا يمكن تمييزها، وَيَشُقُّ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَسَاوَى الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ فَيَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ وَسَطِهِ لَا مِنْ جَيِّدِهِ وَلَا مِنْ رَدِيئِهِ، لِأَنَّ فِي أَخْذِهَا مِنْ جيده إضرار بِهِ، وَفِي أَخْذِهَا مِنْ رَدِيئِهِ إِضْرَارًا بِالْمَسَاكِينِ وفي أخذها من كل نوع مشقة، فدعته الضَّرُورَةُ إِلَى أَخْذِهَا مِنَ الْوَسَطِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَفَاضَلَ الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ وَيَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ نَوْعٌ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، وَنَوْعٌ آخَرُ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَنَوْعٌ آخَرُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ، وَيَكُونُ الْأَقَلُّ تَبَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْأَغْلَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُؤْخَذُ من الوسط لأنه أعدل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان له نخل مختلفة واحد يحمل في وقت والآخر حملين أو سَنَةٍ حِمْلَيْنِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ فِي النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ فَهِيَ: أَنْ تَحْمِلَ فِي السَّنَةِ حِمْلًا وَاحِدًا فَإِنْ شَذَّ بَعْضُهَا عَنِ الْجُمْلَةِ وَفَارَقَ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ وَحَمَلَ في السنة حملين لم يضم كل واحد منهما إلى الآخر، وتميز كل واحد منهما بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُمَا ثَمَرَتَانِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ آخَرُ فَحَمَلَ حِمْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ضَمَّهُ إِلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ حِمْلَيْ تِلْكَ الشَّاذَّةِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحِمْلَ الْأَوَّلَ ضُمَّ إِلَيْهِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ وَافَقَ الثَّانِي ضم إليه دون الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 باب كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب بالخرص قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صالحٍ التَّمَّارُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ المسيب بن عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمراً " وبإسناده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ليهود خيبر حين افتتح خيبر " أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم " قال فكان يبعث عبد الله ابن رواحة فيخرص عليهم ثُمَّ يَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فلي فكانوا يأخذونه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا بَدَا صَلَاحُ ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا، وَوَجَبَ خَرْصُهُمَا لِلْعِلْمِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِمَا، فَيَخْرُصُهُما رُطَبًا وَيَنْظُرُ الْخَارِصُ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا فَيُثْبِتُهَا تمراً، ثُمَّ يُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ فِيهَا، فَإِنْ شَاءَ كانت في يده أمانة إلى وقت الحداد وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ كَانَتْ في يده مضمونة وله التصرف فِيهَا ضمنَهَا، فَيُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَاسْتِبَاحَةُ رَبِّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَرَةِ إِنْ شَاءَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كرم الله وجوههما، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وأبو ثور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: خَرْصُ الثِّمَارِ لَا يَجُوزُ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن الخرص ورواية جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِّ ذِي ثَمْرَةٍ بخرصٍ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ، لِأَنَّ الْخَارِصَ لا يرجع فيه إلى أصل مقدر وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مَا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِي أَكْثَرِهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي بَعْضِهِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ خَرْصُ الثِّمَارِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ لَجَازَ خَرْصُ الزُّرُوعِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الصدقة فلم يجز تقدير ثمرته بالخرص كالزرع، قَالُوا: وَلِأَنَّ خَرْصَ الثِّمَارِ بَعْدَ جِدَادِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ خَرْصِهَا عَلَى رُؤُوسِ نَخْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي أَقْرَبِهِمَا مِنَ الْإِصَابَةِ لم يجز في أبعدهما، قالوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِقَدْرِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نُقْصَانًا صُدِّقَ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَضْمِينُ رَبِّ الْمَالِ قَدْرَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ بَيْعُ حَاضِرٍ بِغَائِبٍ، فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بَاطِلًا ثَبَتَ أَنَّ الْخَرْصَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِهِ، قَوْلًا وَفِعْلًا وَامْتِثَالًا. فَأَمَّا الْقَوْلُ فيما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " فِي الْكَرْمِ يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَخْلِ تَمْرًا " فَجَعَلَ الْخَرْصَ عَلَمًا لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وجعل لأرباب الأموال أن يودوا زَبِيبًا وَتَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَصَ حَدِيقَةَ امرأةٍ بِوَادِي الْقُرَى عَشْرَةَ أَوْسُقٍ فَلَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَأَمَّا الِامْتِثَالُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ خَرَّاصُونَ مَشْهُورُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 ينفذهم لخرص الثمار، منهم حويصة، ومحيصة، وسهل بن أبي حثمة وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وأبي بردة وابن عمر، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْضًا فَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ لِخَرْصِ الثِّمَارِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِهِ، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " إذا خرصتم فدعو لَهُمُ الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا لَهُمُ الثُلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تأويل الشافعي في القديم أنه يُتْرَكَ لَهُمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ مِنَ الزَّكَاةِ لِيَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهُ فِي فُقَرَاءِ جِيرَانِهِمْ، بَلْ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ ". وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرَصَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَأْكُلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ. وَرَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقول للخراص: " إذا بعثتم احْتَاطُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي النَّائِبَةِ وَالْوَاطِئَةِ وَمَا يَجِبُ فِي الثَمَرَةِ مِنَ الْحَقِّ " وَفِي النَّائِبَةِ تأويلان: أحدهما: الأصناف. وَالثَّانِي: مَا يَنُوبُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْجَوَائِحِ. وَفِي الْوَاطِئَةِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاطِئَةَ الْمَارَّةُ وَالسَّابِلَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمِ الطَّرِيقَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاطِئَةَ سُقَاطَةُ الثَّمَرِ وَمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ فَيُوطَأُ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَارَهُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الْوَطَايَا واحدها وطية، وهي تجري مجرى العرية، وسميت وطئة، لِأَنَّ صَاحِبَهَا وَطَّأَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الْخَرْصِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا فَخَرَصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، ثُمَّ خَيَّرَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَيَدْفَعُوا عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِمْ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، فَقَالُوا هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِهِ قامت السموات والأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْيَهُودَ جَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْخَرْصَ وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْحُلِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ الرِّشْوَةَ سُحْتٌ، وَإِنَّكُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ بُغْضِي لَكُمْ لَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْحَيْفِ عَلَيْكُمْ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا مِنْهُمْ وَحَلِيفًا لَهُمْ، فَإِنْ قَالُوا الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سبع قبل بدو تَحْرِيمِ الرِّبَا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا نَاسِخًا لَهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا نَزَلَ أَخِيرًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا فَمَاتَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أن يثبتها، قِيلَ إِنْ كَانَتْ آيَةُ الرِّبَا نَزَلَتْ أَخِيرًا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُتَقَدِّمًا بِالسُّنَّةِ قَبْلَ حُكْمِ الْخَرْصِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ فَضَالَةَ بْنِ عبيد قال: بيع يوم فتح مكة وهو بخيبر قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ مِنَ الْمَغْنَمِ بِذَهَبٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا حَتَّى تَمِيزَ " لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُ الرِّبَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْخَرْصِ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ مَا عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه ابنه بعث أنه عَبْدَ اللَّهِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَسُحِرَ حَتَّى تَكَوَّعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وليس لها في الصحابة مخالف فثبت أنه إجماع. فَإِنْ قِيلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِنَّمَا خَرَصَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَ الْمُسَاقَاةِ لَا ثِمَارَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَهَا سَاقَاهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ثَمَرِهَا، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنَ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ؟ قِيلَ خَرْصُ ثِمَارِ خَيْبَرَ كَانَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ، وَلِأَجْلِ الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّ نِصْفَ ثِمَارِهَا كَانَ لَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ، وَنِصْفَهَا لِلْمَسَاكِينِ بِالْغَنِيمَةِ، وَالزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ، وَتَضْمِينُهَا لِلْيَهُودِ الْعَامِلِينَ فِيهَا جائز، فَكَانَ الْخَبَرُ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ، وَدَالًّا عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ وُجُودُ الرِّفْقِ بِهِ، وَدُخُولُ الضَّرَرِ بِفَقْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثِمَارِهِمْ، أَوْ يُمَكَّنُوا فَإِنْ منعُوا مِنْهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْبُغْيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي إتمامها ومن الناس من ابتياعها وفوات شَهْوَتِهِمْ مِنْ أَكْلِهَا وَإِنْ مُكِّنُوا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمَكَّنُوا بِخَرْصٍ أَوْ بِغَيْرِ خَرْصٍ فَإِنْ مُكِّنُوا بِغَيْرِ خَرْصٍ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 وَتَمْحِيقِ صَدَقَتِهِمْ، وَإِنْ مُكِّنُوا بِخَرْصٍ ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِتَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحِفْظِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ الْخَرْصُ رِفْقًا بِالْفَرِيقَيْنِ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ ضَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابن جَابِرٍ فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَإِرْخَاصِهِ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ لِاخْتِلَافِهِ فَغَلَطٌ، إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَلَيْسَ وُجُودُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلزَّرْعِ حائلاً يمنع من خرصه، وليس لثمر النخل حائلاً يَمْنَعُ مِنْ خَرْصِهِ. وَالثَّانِي: أنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ داعية إلى خرص الزروع، لأن الانتفاع بما قبل الحصاد غير مقصود، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ خَرْصُهَا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْجِدَادِ لَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الْكَيْلَ نَصٌّ وَالْخَرْصَ اجْتِهَادٌ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَجَازَ خَرْصُهُ، لِأَنَّ فَقْدَ النَّصِّ مُبِيحٌ لِلِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْخَرْصِ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فاحتاج إلى تقدير بِالْخَرْصِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ بَاطِلٌ وَمِنَ التَّضْمِينِ فَاسِدٌ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا أَبْطَلْتُمُ الْخَرْصَ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نقصاناً صدق وهذا فاسد بعد الماشية لأنها تُعَدُّ عَلَى رَبِّهَا وَلَوِ ادَّعَى غَلَطًا يُمْكِنُ مِثْلُهُ صُدِّقَ، وَأَبْطَلْتُمُ التَّضْمِينَ لِأَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ حاضر بثمن غَائِبٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن الزكاة تخرج من ثمرها لَا مِنْ رُطَبِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِّنَهُ من الزكاة هو الواجب فيها، لَا أَنَّهُ بَدَلُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، فَثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْصِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ خَرْصَهَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِكَثْرَتِهَا وَمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي خَرْصِهَا، وَلِمَا جَرَتْ عَادَةُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ بِهَا مِنْ تَفْرِيقِ عُظْمِ مَا يرد إليهم الثنيا مِنْهَا وَتَجَاوُزِهِمْ فِيهِ حَدَّ الصَّدَقَةِ، وَلِإِبَاحَتِهِمْ فِي تعارفهم الأكل منها لِلْمُجْتَازِ بِهَا، فَرَأَى السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أن تؤخذ صدقتها من الكر حتى عند دخول ثمرها البصرة، فيكون ذلك أرفق بِأَرْبَابِهَا وَأَحْظَى لِلْمَسَاكِينِ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ تَمْرًا مَكْنُوزًا منها وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ جَعَلُوا الظُّرُوفَ وَمُؤْنَةَ الْعَمَلِ فيها عوضاً عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 الشيء الَّذِي لَا يُضَايَقُونَ فِي قَدْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُونَ رمي الثنيا من جملة، هَذَا فِي ثِمَارِ النَّخْلِ، فَأَمَّا الْكُرُومُ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ تُخْرَصُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُخْرَصُ على الناس والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَوَقْتُ الْخَرْصِ إِذَا حَلَّ الْبَيْعُ وَذَلِكَ حِينَ يُرَى فِي الْحَائِطِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ وَكَذَلِكَ حِينَ يَتَمَوَّهُ الْعِنَبُ وَيُوجَدُ فِيهِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْخَرْصِ فَهُوَ حِينَ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَكُونُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وَفِي الْعِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهُ أَوْ يَسْوَدَّ إِذَا اسْتُطِيعَ أَكْلُهُ، وَبَدَتْ مَنْفَعَتُهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَمْ تَجِبْ فِيمَا قَبْلُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّكَاةَ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِي الثَّمَرَةِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ، وَاشْتِرَاطُ الْقَطْعِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُرُودُ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خيبر خارصاً إذا حان أَكْلُ الثِّمَارِ ". وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخَرْصِ حِفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَانْتِفَاعُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالتَّصَرُّفِ، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ يُحْفَظُ عَلَيْهِمْ، وَلِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ التَّصَرُّفُ فِي ثِمَارِهِمْ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ خَرَصَهَا السَّاعِي قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَانَ خَرْصُهُ بَاطِلًا، وَأَعَادَ الْخَرْصَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ بَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُ الْآخِرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْرَصَانِ مَعًا وَيَكُونُ حُكْمُ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَيُخْرَصُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ دُونَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا يُخْرَصُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الْآخَرِ فيخرصان معاً والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيُطِيفُ بِهَا حَتَى يَرَى كُلَّ مَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ خَرْصُهَا رُطَبًا كذا وكذا وينقص إذا صار تمراً كذا وكذا فيبنيها عَلَى كَيْلِهَا تَمْرًا وَيَصْنَعُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحَائِطِ وهكذا العنب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْخَرْصِ فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخَرْصِ فَعَلَى مَا وَصَفَهُ الشافعي، وهو: أن يأتي الخارص فيطيف بِكُلِّ نَخْلَةٍ حَتَّى يَرَى مَا فِيهَا، وَيُقَدِّرَهُ رُطَبًا وَيَنْظُرَ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا، ثُمَّ يَفْعَلُ كذلك بجميع النخل، فإن كَانَ النَّخْلُ نَوْعًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَخْرُصَ جَمِيعَ ثِمَارِهَا رُطَبًا وَيُحْصِيَهُ، ثُمَّ يَنْظُرَ كَمْ يصير تمراً ويثبته، وإن كَانَ النَّخْلُ أَنْوَاعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ خَرْصِهِ رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا، حَتَّى يخرص كل نوع منها رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا حَتَّى يَخْرُصَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا رُطَبًا وَيَرُدُّهُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي نُقْصَانِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نِصْفِهِ وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، فَإِذَا أَحْصَى جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ رُطَبًا ثُمَّ جَعَلَهَا تَمْرًا وَنُقْصَانُهُ مُخْتَلِفٌ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِذَا كَانَ نَوْعًا صَحَّ لَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ أَوِ استظهار على ثلاثة مذاهب: أحدهما: إِنَّهُ اسْتِظْهَارٌ وَاحْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَرْطٍ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ النَّخْلِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخَرْصِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ الْخَرْصَ اجتهاد يلزم بذل المجهود فيه. والثالث: وهو أصحهما إنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً عَنِ السَّعَفِ ظَاهِرَةً مِنَ الْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعِرَاقِ فِي تَدْلِيَةِ الثِّمَارِ لَمْ تَكُنْ إطاقة الْخَارِصِ بِكُلِّ نَخْلَةٍ شَرْطًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّ جَمِيعَ ثَمَرِهَا مَرْئِيٌّ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُسْتَتِرَةً بِالسَّعَفِ مُغَطَّاةً بِالْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحِجَازِ كَانَ إِطَافَةُ الْخَارِصِ بِالنَّخْلَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ لِأَنَّ ثَمَرَهَا خَفِيٌّ. فَصْلٌ : فَإِذَا عَرَفَ الْخَارِصُ مَبْلَغَ قَدْرِهَا بِالْخَرْصِ رُطَبًا وَعِنَبًا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ تمراً وزبيباً، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَرَى أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاتِهَا الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ، لِخَبَرِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ ليتولوا إخراجه في فقراء أهلهم، وَأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ: لَا يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ زَكَاتِهَا وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَهَا تَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ به الخرص. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَهُ، فَإِذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَخَذَ الْعُشْرَ عَلَى خَرْصِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 إِذَا خَرَصَ الثِّمَارَ عَلَى أَرْبَابِهَا وَعَرَفَ قَدْرَهَا بَعْدَ جَفَافِهَا أَثْبَتَ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ثِمَارِهِمْ، لِيَقُومُوا بِحِفْظِهَا وَيَتَوَلَّوْا أَمْرَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَمَانَةُ فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِمْ ضَمَّنَهُمْ قَدْرَ زَكَاتِهَا، وَجَازَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَإِذَا تَصَرَّفُوا ضَمَّنَهَا فَيَكُونُ التَّضْمِينُ مُبِيحًا لِلتَّصَرُّفِ، وَالتَّصَرُّفُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ إِلَّا أَنْ يضمنها وليه. مسألة: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته أو شيئاً منه صدقوا فإن اتهموا حلفوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خَرَصَ الْخَارِصُ ثَمَرَةَ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً فَادَّعَى تَلَفَهَا، أَوْ تَلَفَ شَيْءٍ مِنْهَا بجائحة سماء كَبَرْدٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ كَسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ اسْتِحَالَتُهَا وَكَذِبُهَا، فَلَا تُسْمَعُ بِحَالٍ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهَا وَحُدُوثُهَا، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا زَكَاةَ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا أَمَانَةً أَوْ ضَمَانًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَالْأَمِينُ لَا يُضَمَّنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَإِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً فَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، لِأَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَمَا كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ لَمْ يلزَمُ فِيهِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَمَانِهِ قُلْنَا: جَوَازُ التَّصَرُّفِ المؤدي إلى الضمان. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُجَوَّزًا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا ادعاه، لأنه أمين وما ادعاه ممكن به، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلَهُ مَقْبُولٌ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا نُظِرَ فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؟ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قِيلَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَجَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ دُونَ الْإِمْكَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ قَدْ أَحْصَيْتُ مَكِيلَةَ مَا أَخَذْتُ وهو كذا وما بقي كذا وهذا خطأ في الخرص صدق، لأنها زكاة هو فِيهَا أمينٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مضمونة فادعى غلطاً في الخرص أن نقصاناً فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِالْغَلَطِ لَكِنْ أَجْهَلُ قَدْرَهُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْخَرْصُ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا عَلَى مِائَةِ وَسْقٍ وَهِيَ تِسْعُونَ وَسْقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ كثراً لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا مِائَةُ وَسْقٍ وَهِيَ خَمْسُونَ وَسْقًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُسْمَعُ قوله، لأنه ادَّعَى عَلَى الْخَارِصِ مَا لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ بَعْدَ الْأَمَانَةِ والصدق، ورام نقض حكم ثابت بدعوة مُجَرَّدَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ: لَمْ أَجِدْ إِلَّا هَذَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْخَارِصِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْخَرْصِ فَيَكُونُ الْخَارِصُ مُصِيبًا وَالنُّقْصَانُ موجوداً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ سُرِقَ بَعْدَ مَا صَيَّرْتُهُ إِلَى الْجَرِينِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا يَبِسَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْوَالِي أَوْ إِلَى أَهْلِ السهمان فقد ضمن ما أمكنه أن يؤدي ففرط وإن لم يمكنه فلا ضمان عليه وقال في موضع بعد هذا ولو استهلك رجل ثمرة وقد خرص عليه أخذ بثمن عشر وسطها والقول قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْرَقَ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يمينه وإن كَانَ مُتَّهَمًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُسْرَقَ بَعْدَ يُبْسِهَا وَإِحْرَازِهَا وتخزينها فِي جَرِينِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ إِمْكَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ القدرة على دفعها إلى الوالي وحده دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الجديد إنه القدرة على دفعها إلى الولي وَحْدَهُ أَوْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أمانة أو ضماناً، فإن بقي شيء بعدما سُرِقَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْجَرِينُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ الثَّمَرَةُ لِيَتَكَامَلَ جَفَافُهَا وَيُسَمُّونَهُ الْمِرْبَدَ أَيْضًا، وَهُوَ بِلُغَةِ الشَّامِ الْأَنْدُرُ وَبِلُغَةِ الْعِرَاقِ الجوخار والبيدر وبلغة آخرين المسطاح وبلغة آخرين الطهارة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا بَعْدَ الْخَرْصِ ضمن مكملة خَرْصِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَتُرِكَتْ فِي يَدِهِ لِتَصِيرَ تَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُهَا تَمْرًا مِنْ أَوْسَطِهَا نَوْعًا عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَوْسَطِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ السَّاعِي بِبَيِّنَةٍ أَقَلُّهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِمَالِكٍ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُطَالَبُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا رُطَبًا أَوْ مَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ لَهُمْ أَوْفَرَ الْحَظَّيْنِ مِنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، كَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَةً ثُمَّ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا. والثاني: أن يُطَالَب بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 مسألة: قال الشافعي: " وإن أصاب حائطه عطش يعلم أنه إن ترك ثمره أضر بالنخل وإن قطعها بعد أن يخرص بطل عليه كَثِيرٌ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَصَابَ حَائِطَهُ عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَوُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَكَانَ فِي ترك الثمرة على النخل إضرار بها وبالنخل، أَوْ بِهِمَا، فَلَهُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ بِنَخْلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ مُطَالَعَةِ الْعَامِلِ وَاسْتِئْذَانِهِ أَنَّهُ قدرَ عَلَيْهِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ، فَإِنِ اسْتَضَرَّ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ قَطَعَهَا، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِبَعْضِهَا، قَطَعَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا نَظَرًا لِرَبِّ الْمَالِ في حفاظ ماله، ونظراً للمساكين، لأن لا يضر بالنخل لم تحل حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَقْطَعَهَا بِإِذْنِ الْعَامِلِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ قَطَعَهَا بِإِذْنِهِ وَأَرَادَ الْعَامِلُ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْهَا خَرْصًا فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوله في القسمة. أحدها: تجوز إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَعَلَى هَذَا يَخْرُصُ ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَامِلُ عُشْرَهَا مِنْ ثَمَرَاتِ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، ويفعل ما هو أخطى للمساكين، من تفريقه عليهم أو صرف ثَمَنِهِ فِيهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ فَالْحَقُّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا فَيَ الْعَيْنِ فَلِرَبِّ الْمَالِ إِسْقَاطُ حَقِّهِمْ بِالدَّفْعِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِذَا قَبَضَ الْعَامِلُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِيهَا، فَقَدْ تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ نَقْلُ حَقِّهِمْ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ يَقْبِضُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثمرة على هذا القول الثاني فقبضه بعين حق المساكين فيها، فَإِذَا قُطِعَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي بَيْعِهِ مَعَ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ فِي بَيْعِهِ إِنْ كَانَ ثِقَةً أَوْ وَكَّلَ أَمِينًا ثِقَةً، وَيُقَدَّمُ إليه بصرف ثمنه فيهم بعد يبسه وإن كان لهم الأخص فِي إِيصَالِهِ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا إِلَيْهِمْ قَاسَمَهُ الْعَامِلُ عَلَيْهِمْ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا أَخَذَ، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ أَوْ فَوْقه، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّطَبِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فَلِمَ جَوَّزْتُمُوهُ؟ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ الرِّبَا، وَحُصُولُ الرِّبَا، وَالتَّفَاضُلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَكَانَ وَسْقٍ وَسْقَيْنِ جَازَ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَهُمَا فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْ قِسْمَتِهَا خَرْصًا وَهَلَّا أَجَزْتُمُوهُ كَمَا أَجَزْتُمُوهُ كَيْلًا؟ قِيلَ: مَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لَا يَجُوزُ خرصه، لأنه قادر على أن يصل ببقين إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُطْلَبُ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فصل : وإن قطع رب بالمال الثَّمَرَةَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْعَامِلِ فَقَدْ أَسَاءَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً نَظَرَ الْعَامِلُ فِي أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَسَاكِينِ من قسمتها وَأَخْذِ ثَمَنِ عُشْرِهَا، فَإِنْ كَانَ قَسْمُهَا أَحظَّ لَهُمْ قَسَّمَهَا وَفَرَّقَ الْعُشْرَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُهَا أَحَظَّ بَاعَهَا، أَوْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهَا وَصَرْفِ ثَمَنِ عُشْرِهَا فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَالِفَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ عُشْرِهَا حِينَ أَتْلَفَهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَتْلَفَهَا رُطَبًا مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا فَهَلَّا لَزِمَهُ فِي إِتْلَافِ الْعَطَشِ عُشْرُهَا تَمْرًا. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْعَطَشَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ لَزِمَهُ تَرْكُهَا وَأَخْذُ الْعُشْرِ من ثمرها، فإذا خَافَ الْعَطَشَ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَرْكُهَا فَلَمْ يُطَالَبْ بِعُشْرِهَا تَمْرًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا لَزِمَهُ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ. أحدها: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ رَأَى حَظَّ الْمَسَاكِينِ فِي أَخْذِ عُشْرِهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ تَلِفَتْ يَعْنِي: قِيمَةَ الْعُشْرِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقِيمَةِ بِالثَّمَنِ أَوْ عُشْرِهَا رُطَبًا إِنْ بَقِيَتْ، فَالْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ. وَالثَّانِي: عَلَى اخْتِلَافِ حالها لو وجدت أو عدمت. مسألة: قال الشافعي: " ومن قطع من ثمر نَخْله قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ عليه فيه عشرٌ وأكره ذلك له إلا أن يأكله أَوْ يُطْعِمَهُ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْ نَخْلِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وجوب الزكاة ببدو الصلاح، فإذا أقطع ثمرة نخلة قبل بدوة صَلَاحِهَا وَوُجُوبِ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ حَوْلِهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَطَعَهَا لِتُفِيدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ نَخْلِهَا لِحَاجَةٍ فِي أكلها لم يكره له، وإن قطعها مراراً مِنَ الزَّكَاةِ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ خَالَفَنَا مَالِكٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ قَطْعُهُ بِحَالٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في الثمرة، وطلع الفحول لَا يَصِيرُ ثَمَرَةً. فَصْلٌ : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ " وَهُوَ: صِرَامُ النخل ليلاً ليكون الصرام نهاراً بسبب فيسال النَّاسُ مِنْ ثَمَرَتِهَا، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ. وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمَالِ وَقْتَ الصِّرَامِ وَالْحَصَادِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتُوا حَقًّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ". وَالْمُرَادُ بِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْآيَةِ الزَّكَاةُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وإن أكل رُطَبًا ضَمِنَ عُشْرَهُ تَمْرًا مِثْلَ وَسَطِهِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقُلْنَا إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ ثَمَرَةَ نَفْسِهِ رُطَبًا بَعْدَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ وَتَرْكِهَا فِي يَدِهِ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا إِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً، فَإِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِهَا تَمْرًا أَوْ قِيمَتِهَا رُطَبًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: عَلَيْهِ عُشْرُهَا تَمْرًا وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَ الْخَرْصِ وَذَكَرَ هَذِهِ قَبْلَ الْخَرْصِ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ خَرْصِهَا وَمَنْ أَتْلَفَهَا قَبْلَ الْخَرْصِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وإن كان لا يكون تَمْرًا أَعْلَمَ الْوَالِيَ لِيَأْمُرَ مَنْ يَبِيعُ مَعَهُ عُشْرَهُ رُطَبًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَصَهُ لِيَصِيرَ عليه عشره ثُمَّ صَدَّقَ رَبَّهُ فِيمَا بَلَغَ رُطَبُهُ وَأَخَذَ عُشْرَ ثَمَنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. ما لا يتميز مِنَ الثِّمَارِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَصِيرُ تَمْرًا لِضَعْفِهِ. وَضَرْبٌ يَصِيرُ تَمْرًا لَكِنْ لَا يُجَفَّفُ لِقِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ يُؤْخَذُ عُشْرُهَا رُطَبًا، أو ثمن عشرها فإن كانت ثمرة الرجل لا يصير تَمْرًا أَوْ كَرْمُهُ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أَعَلَمَ الْوَالِيَ وَطَالَعَهُ بِهِ، لِتَزُولَ تُهْمَتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ يكون الجواب فِيمَا يَصْنَعُهُ الْوَالِي مَعَهُ عَلَى مَا مَضَى فيمن أراد قطع ثمرته لأجل العطش سواء لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهَا خَرْصًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ، أَوْ يُوَكِّلَهُ فِي بَيْعِهَا، أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى غيره، أو يوكل الغير في بيعها في نصابها وجهان: أحدهما: إذا تلفت خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، لِأَنَّ مَا لَا يُجَفَّفُ مِنَ الرُّطَبِ فَالرُّطَبُ غَايَتُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَوْسُقِ فِي حَالِ غَايَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نِصَابُهُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ ثَمَرِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ جِنْسِهِ فَاعْتُبِرَ حُكْمُهُ بِغَالِبِ جِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ فِي جَفَافِهِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِجَفَافِ الْغَالِبِ مِنْ جِنْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ نِصَابِهِ بِجَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ رُطَبِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا زَكَاةَ. وَالْوَجْهُ الثاني: يعتبر قدر نصابه بِجَفَافِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِتَعَذُّرِ جَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ، وَشِجَاجِهِ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ إِرْشُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ حُرًّا قومٌ لَوْ كَانَ عَبْدًا، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الرُّطَبُ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ غَيْرِهِ مِن الْأَرْطَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهُ. مسألة: قال الشافعي: " فإن أكل أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِهِ رُطَبًا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهُ لا تصير تمراً فاستهلكها رطباً فلا يَلْزَمُهُ مِثْلُ عُشْرِهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ أَكَلَهَا قَبْلَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ رُجِعَ فِي قَدْرِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ أَكَلَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِ خَرْصِهَا رُطَبًا، فَإِنْ ذَكَرَ زِيَادَةً عَنِ الْخَرْصِ أَوِ ادَّعَى نُقْصَانًا مُحْتَمَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَإِنِ اتُّهِمَ أحلف وفي هذا اليمين وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبَةٌ. وَالثَّانِي: اسْتِظْهَارٌ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَمَا قُلْتُ فِي التَّمْرِ فَكَانَ فِي الْعِنَبِ فَهُوَ مِثْلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. حُكْمُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ سَوَاءٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسَائِلِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَهُمَا فِي الْخَبَرِ وَشَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه بعث مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِي كُلٍّ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ وقد قيل يجوز خارص واحدٌ كما يجوز حاكمٌ واحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ قيل يجوز أن يكون خارص دليل على أن الْخَارِصَ الْوَاحِدَ لَا يُجْزِئُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَصِحُّ الْخَرْصُ بِهِ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولَانِ: يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا خَارِصَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ بَعَثَ مَعَهُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، فَإِذَا كَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ حُكْمًا مُسْتَفَادًا بِالشَّرْعِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْخَرْصَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فَشَابَهَ التَّقْوِيمَ وَخَالَفَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، لِأَنَّهُمَا يَقِينٌ لَا اجْتِهَادَ فِيهِمَا، فَلَمَّا ثَبَتَ أن التقويم لا يجزئ فيه إلا مقومان فكذا الْخَرْصُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا خَارِصَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا فَخَرَصَ خَيْبَرَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي ". وَرُوِيَ أنه بعث معه غيره، فلو أن الاثنان شرطاً لما بعثه منفرداً، ولو كان شَرْطًا فِي عَامٍ لكَانَا شَرْطًا فِي كُلِّ عَامٍ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ مُجْتَهِدٌ فِي تَقْدِيرِ الْحُقُوقِ وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 دُونَ غَيْرِهِ فَشَابَهَ الْحَاكِمَ، وَخَالَفَ الْمُقَوِّمَ حَيْثُ لَمْ يُنَفَّذِ الْحُكْمُ بِهِ إِلَّا بِتَنْفِيذِ الْحَاكِمِ لَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُجْزِئُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لَا كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَلَمْ يُجَوِّزْ خَرْصَ مَالِ الصَّغِيرِ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَجَوَّزَ خَرْصَ مَالِ الْكَبِيرِ بِوَاحِدٍ، لِأَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْخَرْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ يُجْزِئُ بِوَاحِدٍ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَوْ يَكُونَ كَالتَّقْوِيمِ، وَالتَّقْوِيمُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِاثْنَيْنِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي " الْأُمِّ " فِي جَوَازِ تَضْمِينِ الْكَبِيرِ ثِمَارَهُ بِالْخَرْصِ دون الصغير فوهم عليه فهذا التأويل في إعداد الخرص. فصل : فأما صفة الخارص فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ شُرُوطٍ فِيهِمْ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَارِصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا كالحاكم لم يجز أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَلَا عَبْدًا وَاعْتَبَرَ فِيهِ كونه رَجُلًا حُرًّا، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا خَارِصَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ وَلَا عبدين، لأن في الخرص ولاية حكم، فَلَمْ يَجُزْ تَفَرُّدُ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا لِيَكُونَ الرَّجُلُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ وَالْمَرْأَةُ أَوِ العبد مشاركاً له في التقدير والحرز؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يكون كيالاً ووزاناً. والثاني: لا يجوز لأن في الخراص اجتهاد يفارق يقين الكيل والوزن فشابه الحكم. مسألة: قال الشافعي: " وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ شيءٍ مِنَ الشَّجَرِ غَيْرِ العنب والنخل فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا قُوتٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزَيْتُونِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ أُدْمًا وَلَا فِي الجوز ولا في اللوز وغيره مما يكون أدماً وييبس ويدخر لأنه فاكهةٌ لأنه كان بالحجاز قوتاً علمناه ولآن الخبر في النخل والعنب خاص ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ نَوْعَانِ زَرْعٌ وَشَجَرٌ، فَالزَّرْعُ يَأْتِي حُكْمُهُ، وَالشَّجَرُ يَنْقَسِمُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ زَكَاتَهُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا، وَقِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الرُّمَّانُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالتِّفَّاحُ، وَالْمِشْمِشُ، وَالْكُمَّثْري، وَالْجَوْزُ، وَالْخَوْخُ، وَاللَّوْزُ، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي وَمَا يُذْكَرُ فِي الْقِسْمِ الْآتِي، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِهِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي بَعْضِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ الزَّيْتُونُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وَالْوَرْسُ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْقِرْطِمُ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي خَامِسٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ الْعَسَلُ، فَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَلَهُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . فاقتضى أن يكون الأمر باتيان الْحَقِّ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالشَّامِ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ الزَّيْتُونِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصحَابة فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ عادة أهل بلاده جارية بإدخاره واقتنائه كالشام وغيرها مما يثكر نَبَاتُ الزَّيْتُونِ بِهَا، فَجَرَى مَجْرَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قال ابن أبي ليلى والحسن بن أبي صَالِحٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: " لَا تَأْخُذِ الْعُشْرَ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ الْحِنْطَةِ، والشَعِيرِ، وَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ " فَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ وَنَفَاهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَأَطْرَافِ الشَّامِ فل يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَذَ زَكَاةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ لَنُقِلَتْ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا نُقِلَتْ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلِأَنَّهُ وإن كثر من بِلَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ مُنْفَرِدًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ أُدْمًا، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ وَلَا تَجِبُ فِي الْإِدَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِلْخَبَرِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَجُوزُ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الزَّيْتُونَ مُسْتَتِرٌ بِوَرَقِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَلَيْسَ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ الْبَارِزِ الثَّمَرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، ثُمَّ لَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوَنَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا اعْتُبِرَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْهُ، وَأُخِذَ عُشْرُهُ زَيْتُونًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ حَالَةُ ادِّخَارِهِ كَالتَّمْرِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتُونًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ مُسْتَخْرَجٌ من الزيتون بصنعة وعلاج فلم يكن كحاله كالدبس والدقيق، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوَرْسُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يوسف عن محمد بن يزيد الخفاشي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُفَّاشٍ بِخَطِّ مُعَيْقِيبٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَهْلِ خفاشٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا الْعُشْرَ مِنَ الْوَرْسِ وَالذُّرَةِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لأحدٍ عَلَيْكُمْ، فَعَلَّقَ فِي الْقَدِيمِ إِيجَابَ زَكَاةِ الْوَرْسِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنْ صَحَّ كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْقَدِيمِ وَاجِبَةً فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ وَقْصٍ مَعْفُوٍّ، لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ لِضِعْفِ الأثر المروي واحتماله التأويل لو صح والله أعلم. فَصْلٌ : وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْعُشْرُ فِي الْوَرْسِ ثَابِتًا احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْعُشْرُ، لِأَنَّهُمَا طَيِّبَانِ وَلَيْسَا كَثِيرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا شَيْءَ فِي الزَّعْفَرَانِ، لِأَنَّ الْوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ ساق وهو ثمرة والزعفران ينبت فجعل الْوَرْسَ لَا شَيْءَ فِيهِ فَالزَّعْفَرَانُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْوَرْسِ الزَّكَاةُ فَالزَّعْفَرَانُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا بِحَالٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِرْطِمُ وَعُصْفُرُهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِيهِ الْعُشْرُ كَانَ مَذْهَبًا، فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنَ الْقِرْطِمِ وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ لِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ عَنِ الْأَقْوَاتِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ فِي إِيجَابِ عُشْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة فِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا من بني سلمة أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثور نخلٍ لَهُمْ فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَحَمَى لَهُمْ وَادِيًا. وَرُوِيَ عن عبد الله بن رياب قَالَ: " قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: فَفَعَلَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ، ثَمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ: فَكَلَّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَلِ وَقُلْتُ لَهُمْ زَكُّوهُ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى، فَقَالُوا: كَمْ تَرَى فَقُلْتُ: الْعُشْرَ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمُ الْعُشْرَ فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فقبضه وجعله في صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ " وَالصَّحِيحُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ فِي إِسْقَاطِ زَكَاةِ الزَّيْتُونِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده أن قَوْمًا آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعشور فحل لَهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُمْ يُقَالُ له: سلمة فحماه لهم، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 أَدَّوْا إِلَيْكَ مَا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاحْمِ لَهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْثُ ذبابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ ". فَلَوْ كَانَ عُشْرُهُ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِ لَهُمْ ثُمَّ قد أخبر في حكمه وإباحته أنه غَيْثُ ذُبَابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَى الْأَكْلِ حَقًّا يُؤَدَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 باب صدقة الزرع قال الشافعي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) دلالةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَمَا جَعَلَ الزَّكَاةَ على الزرع ". أَمَّا الزُّرُوعُ فَمِنَ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في أجناس ما تجب فيه الزَّكَاةُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ في كل زرع نبت من بزره وأخذ بزره مِنْ زَرْعِهِ قَالَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ غَالِبًا مِنَ الزُّرُوعِ قَالَ بِهِ مَالِكٌ. والمذهب السادس: أنها واجبة في الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ. وَالْقُطْنِ أَيْضًا قَالَ بِهِ أبو يوسف. وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مزروع ومغروس من فواكه وبقال وَحُبُوبٍ وَخُضَرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بعموم قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) . وبعموم قوله: {وَالزّيْتُونَ والرُّمَانَ) {الأنعام: 141) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) : وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ مَزْرُوعٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ عُشْرُهُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 السَّلَامُ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ ". وَرَوَى أَبَانُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبُقُولِ زَكَاةٌ ". وروى الأسود عن عاشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما أنبتت الأرض من الخضراوات زَكَاةٌ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ [فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ] فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ "، يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْحُبُوبِ، فأما الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، ولأنه نبت لا يقتات غالباً فاقتضى أنه لَا يَجِبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزكاة إذا وجبت في جنس فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي جِنْسٍ تَعَلَّقَتْ بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ وَسَقَطَتْ عن أدونهما، كالحيوان لم تجب الزكاة إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعَيْهِ وَهُوَ النَّعَمُ السَّائِمَةُ، وَكَالْمَعَادِنِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نوعيها وهي الفضة والذهب، وكالعروض ولم تَجِبِ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعِهَا وَهِيَ عروض التجارات، فاقتضى أن تكون زكاة الزُّرُوعُ مُتَعَلِّقَةً بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزكاة فوجب أن تختص الزكاة بأعلى نوعين مِنْ جِنْسِهِ كَالْحَيَوَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) فَهِيَ عَامَّةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ دعوى الإضمار فيها، فأما أبو حنيفة يقول إلا الفضة وَنَحْنُ نَقُولُ إِلَّا مَا يُقْتَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْإِضْمَارَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَتَعَارَضَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَوَاتِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْفَصِلُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَابَيْنِ آخَرِينَ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتَطَوَّعُ بِهَا يَوْمَ الْحَصَادِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِيتَاءِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِهِ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يجب إخراجها يوم الحصاد إلا بعد الجز وَالدِّيَاسِ فَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِمَا كَانَ مِنْهُ مَحْصُودًا، وَالْحَصَادُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الأشجار والقثاء والخيار، فإن قبل الحصاد هو الاستعمال قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدينَ) {الأنبياء: 15) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحصدهم حصيداً حتى تلقني عَلَى الصَّفَا " وَإِذَا كَانَ الْحَصْدُ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ صار تقدير الآية وآتو حقه يوم اسْتِئْصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَرْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَصَادِ فِي الزُّرُوعِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي غيره، يقال حصد الزرع وجذّ التمر، وقطف العنب وجد الْبَقْلُ وَجُنِيَ الْفَاكِهَةُ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ) وَقَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا لَمْ يكن فيكن ظل ولا جناً ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ مِنْ شَجَرَاتِ) وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الثِّمَارَ لَا تُسْتَأْصَلُ بَلْ تُتْرَكُ أُصُولُهَا وَتُجْنَى ثِمَارُهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا تَكَافَأَ النِّزَاعُ فِيهَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتِ السماء العشر فجوابه كجواب الآية الأولى فنقول قَدْ رَوَاهُ مُعَاذٌ تَامًّا فَقَالَ: وَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، فَكَانَ هذا مخصصاً لعموم ما تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّهُ مُقْتَاتٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْخَضْرَاوَاتُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مُقْتَاتَةٍ شَابَهَتِ الْحَشِيشَ والحطب فلم تجب فيها الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 مسألة: قال الشافعي: " فَمَا جَمَعَ أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ وَيُيَبَّسُ وَيُدَّخَرُ ويقتات مأكولاً خبزاً وسويقاً أو بطيخاً ففيه الصدقة وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والذرة وهذا مما يزرع ويقتات ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ الْمُقْتَاتَةِ فوجوبها معتبر بأربعة شروط: أَحَدُهَا: أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُيَبَّسُ بَعْدَ حَصَادِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُدَّخَرُ بَعْدَ يُبْسِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْتَاتُ حَالَ ادِّخَارِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ وَجْهُ اقتنائه بخبز أو طبيخ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعُ فِي زَرْعٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَهِيَ تَجْتَمِعُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْعَلْسِ، وَالسُّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ والدُّخْنِ وَالْجَاوَرْسِ والباقلي واللوبياء وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْمَاشِ وَالْجُلْبَانِ وَهُوَ كَالْمَاشِ، فَهَذِهِ الأصناف التي تجب فيها الزكاة دون سواها لاجتماع الشرائط فيها. مسألة: قال الشافعي: " ويؤخذ من العلس وهو الحنطة، والسُّلْتِ وَالْقَطَنِيَّةِ كُلِّهَا إِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْعَلْسُ وَالْقَمْحُ صِنْفٌ واحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَوْجَبَ أبو حنيفة الزَّكَاةَ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثِّمَارِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِلَّا الْعَلْسَ فَإِنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْبُرِّ وَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ تَذْهَبُ بِالدِّيَاسِ، إِحْدَاهُمَا وَتَبْقَى الْأُخْرَى لَا تَذْهَبُ إِلَّا أَنْ يُدَقَّ بِالْمِهْرَاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ القشرة التي عليه مثل ضعفه، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ مَعَ قِشْرِهِ، وَقَدْ مَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنَ السَّلَمِ فِيهِ وَمِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَأَمَّا الْأَرُزُّ فَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ، الْقِشْرَةُ الْأُولَى الَّتِي لَا يطبخ بها، ولا يؤكل معها لاحتساب بها كقشرة العلس التي لا يطبخ بِهَا وَالْقِشْرَةُ السُّفْلَى الْحَمْرَاءُ اللَّاصِقَةُ بِهِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُهَا كَقِشْرَةِ الْعَلْسِ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا، وَلَا يَجْعَلُ فِيهِ الزَّكَاةَ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْقِشْرَةِ، وَإِذَا بلغ خمسة أوسق وجبت في الزَّكَاةُ، لِالْتِصَاقِ هَذِهِ الْقِشْرَةِ بِهَا، وَإِنَّهُ رُبَّمَا طُحِنَ مَعَهَا بِخِلَافِ قِشْرَةِ الْعَلْسِ الْجَافِيَةِ عَنْهَا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِطَحْنِهَا مَعَهُ، وَأَمَّا الذُّرَةُ الْبَيْضَاءُ وَالْحَمْرَاءُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 قِشْرَةً خَفِيفَةً لَاصِقَةً بِهَا تُطْحَنُ مَعَهَا، فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَهَذَا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَرُزِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَلَا يُضَمُّ صِنْفٌ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ انْفَرَدَ بِاسْمٍ إِلَى صِنْفٍ وَلَا شَعِيرٌ إِلَى حنطةٍ وَلَا حبةٌ عرفت باسم منفرد إلى غيرها فاسم القطنية يجمع العدس والحمص قيل ثم ينفرد كل واحد باسم دون صاحبه وقد يجمعها اسم الحبوب فإن قيل فقد أخذ عمر العشر من النبط في القطنية قيل وأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العشر من التمر والزبيب وأخذ عمر العشر من القطنية والزبيب أفيضم ذلك كله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَطْنِيَّةُ وَهِيَ الْحُبُوبُ الْمُقْتَاتَةُ سوى البر والشعير كالحمص والباقلي والعدس وَاللُّوبْيَاءِ، وَالْأَرُزِّ وَمَا ذَكَرْنَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قاطنة في المنزل أَرْبَابِهَا إِذَا ادُّخِرَتْ أَيْ: مُقِيمَةٌ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ ضَمَّ الْقَطْنِيَّةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وجعلها جنساً واحداً، واعتبر خمسة أوسق من جميعها وجعل البر والشعير جنساً واحداً أو اعتبر خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْهَا تَعَلُّقًا، بِأَنَّ اسْمَ الْقَطْنِيَّةِ جَامِعٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا كَمَا أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ جَامِعٌ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَنْوَاعَ التَّمْرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْقَطْنِيَّةِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا زكاةَ فِي الزَّرْعِ إِلَّا فِي أربعةٍ الْبُّرِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ واحدٍ منها خمسة أوسق، ولأنها جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ لَا تَخْلُو مِنْ أن تكون متعلقة بالأسامي الجامعة أو الأسامي الْخَاصَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالْأَسَامِي الْجَامِعَةِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ الْحُبُوبُ كُلُّهَا، لِأَنَّ اسْمَ الْحُبُوبِ يَجْمَعُهَا والماشية كلها لأن اسم الحيوانات يجمعها والتمر والزبيب، لأن اسم الثمر يجمعها، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسَامِي الْخَاصَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَالتَّمْرِ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا اسْمُ التَّمْرِ، والعنب يجمع أنواعاً مختلفة يقع على جميع اسْمُ الْعِنَبِ، كَذَا كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَبِهَذَا يفسد ما استدل به وما رواه عن عُمَرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَكَذَا فِي الْقَطْنِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْبُرُّ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالْعَلْسُ نَوْعٌ مِنْهُ وَالشَّعِيرُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالسُّلْتُ نَوْعٌ مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هُوَ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَالدُّخْنُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، والجاروس نَوْعٌ مِنْهُ، ثُمَّ مَا سِوَى هَذِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فَلَا ضم صنف منها إلى صنف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 مسألة: قال الشافعي: " قال وَلَا يَبِينُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْفَثِّ وَإِنْ كَانَ قُوتًا وَلَا مِنْ حَبِّ الْحَنْظَلِ وَلَا مِنْ حَبِّ شجرةٍ بريةٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ بقرِ الْوَحْشِ وَلَا مِنَ الظِّبَاءِ صَدَقَةٌ ولا من القثاء ولا الاسفيوش ولا من حبوب البقول وكذلك القثاء والبطيخ وحبه ولا من العصفر ولا من حب الفجل ولا من السمسم ولا من الترمس لأني لا أعلمه يؤكل إلا دواء أو تفكها ولا من الأبذار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا يَجِبُ، ثُمَّ خَصَّ الشَّافِعِيُّ بالذكر أشياء كيلا تشتبه وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَاتَةً فَمِنْ ذَلِكَ الْفَثُّ قَالَ ابن أبي هريرة: هو حب الغاسول وَهُوَ الْأُشْنَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ نَبْتٌ بِالْبَادِيَةِ يُشْبِهُ الشَّعِيرَ لَهُ رَأْسَانِ يَقْتَاتُهُ النَّاسُ فِي الْجَدبِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَبُّ الْحَنْظَلِ ونبت شجر البر، وكذلك الثفاء وَهُوَ: حَبُّ الرَّشَادِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: تؤدي في الأمرين الثفاء والصبر، والثفاء والصبر قيل إنه البقل الحريف، ولا زكاة في الأسبيوش وهو بزر القطونا، ولا في حب الفجل والقثاء والبطيخ، وفي حَبِّ الْعُصْفُرِ، وَهُوَ الْقرْطمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا خَرَّجَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَا في الترمس وهو أصغر من الأسبيوش يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَارَةِ، يُكْسَرُ بِالْمِلْحِ، يَأْكُلُهُ أَهْلُ الشَّامِ تَفُكُّهًا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَدَاوِيًا وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْبَةِ، وَلَا في الشهدانج، وَلَا فِي بَزْرِ الْكِتَّانِ، وَلَا فِي الْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْكَرَاويَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْوَانِ وَلَا فِي الْجُلْجُلَانِ فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ في " غريب الحديث " فقال الحلوان: العيدق، وَالْجُلْجُلَانُ السِّمْسِمُ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا أُكِلَ مِنَ النَّبَاتِ ضَرْبَانِ: مَزْرُوعٌ، وَغَيْرُ مَزْرُوعٍ، فَمَا كَانَ غَيْرَ مَزْرُوعٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَمَا كَانَ مَزْرُوعًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ يُؤْكَلُ قوتاً كالبر والشعير وما ذكرنا فِيهِ وَاجِبَةٌ وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ، وَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ أبْزَارًا وَأُدْمًا كَالْكَرَاويَا وَالْكُزْبَرَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَدَاوِيًا كَالرَّشَادِ وَالْإِهْلِيلَجِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الزَّكَاةُ بِالْأَقْوَاتِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاخْتَصَّتْ بِمَا عَمَّ نَفْعُهَا ودعت حاجة الكافة إليها. مسألة: قال الشافعي: " ولا تؤخذ زكاة شيءٍ مما ييبس ويداس وييبس ثمره وزبيبه وينتهي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَإِذَا صَارَ الرُّطَبُ تَمْرًا وَالْعِنَبُ زَبِيبًا أُخِذَتْ زَكَاتُهُمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ إِذَا يَبِسَ وَاشْتَدَّ وَقَوِيَ وَاسْتَحْصَدَ، وَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ بَعْدَ دِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ إِذَا صَارَ حَبًّا خَالِصًا، ومؤنته من وقت حصاده إلى حِينِ تَذْرِيَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُؤْنَةُ مِنْ وَسَطِ الْمَالِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 الْمِلْكِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْحَصَادِ إِلَى وَقْتِ التَّصْفِيَةِ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَكَامُلِ مَنَافِعِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَ تَكَامُلِ المنافع فالمؤنة عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِمَامِهَا إِلَّا الْعَلْسَ إِذَا بَقِيَ فِي إِحْدَى قِشْرَتَيْهِ فَإِنَّ الشافعي قال: أخير رب المال بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَوْسُقٍ مِنْهُ وَسْقًا، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْقِشْرَةِ أَبْقَى، وَبَيْنَ أن يخرجه من هذه العشرة وَآخَذُ مِنْ كُلِّ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الْعُشْرَ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي سُنْبُلِهَا وَإِنْ كانت فيه أبقى لتعذر كيلها. مسألة: قال الشافعي: " وَإِنْ أَخَذَهُ رُطَبًا كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ قِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ وَأَخَذَهُ يَابِسًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ زَكَاةِ الثِّمَارِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، وَالزُّرُوعِ بَعْدَ الدِّيَاسِ وَالتَّصْفِيَةِ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي زَكَاةَ النَّخْلِ رُطَبًا، وَالْكَرْمَ عِنَبًا وَالزَّرْعَ سُنْبُلًا كَانَ مُسِيئًا بِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، وَأَخَذَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْجَفَافِ وَالدِّيَاسِ، فإن تلف من يده قبل رده ولزمه رَدُّ قِيمَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالزَّكَاةِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ رُطَبًا باقياً فيبس في يده، فإن كان بقدر الزَّكَاةِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ أجزأته عَنْ زَكَاتِهِ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا عَنْ قَدْرِ الزكاة طالبه رطبه بِمَا بَقِيَ مِنْهَا لَا غَيْرَ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " ولا أجيز بيع بعضه ببعضٍ رطباً لاختلاف نقصانه والقشر مقاسمة كالبيع ". قال الماوردي: وهذا صحيح، كل تمرة لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبِهَا بِرُطَبِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ الْعِنَبِ بِالْعِنَبِ، وَلَا بَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ، وهذا يأتي في كتاب البيوع مستوفى ويذكر الْخِلَافَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْعُشْرُ مُقَاسَمَةٌ كَالْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كالبيع. والثاني: أنها إقرار حق وتمييز نصب، وَسَيَجِيءُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا كَالْبَيْعِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ ثِمَارًا رُطَبَةً، وَإِذَا قِيلَ إنها إقرار حَقٍّ جَازَ اقْتِسَامُهُمْ لَهَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَلَمْ يجز جزافاً، لأن حق كل واحد لَا يَتَمَيَّزُ وَأَمَّا قِسْمَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَأَهْلِ السُّهْمَانِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مُقْنِعًا وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْ عِنَبٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أو من رطب لا يصير تمراً أمرته برده لما وصفت وكان شريكاً فيه يبيعه ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له ولم يكن عليه غرمٌ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا حكم ما لا يصير من الرطب تمراً، وَمِنَ الْعِنَبِ زَبِيبًا، ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ: " إِنْ أَخَذَهُ أَمَرْتُهُ بِرَدِّهِ " ثم قال عقيبه: " ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ " وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ لِلْكَلَامَيْنِ تَأْوِيلٌ وَهُوَ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ إِذَا لَمْ يَتَحَرَّ فِيمَا أَخَذَهُ وَلَا يتعين أنه استوفى في حقه، ثم قال يجزئه إذا أخذه بعد الاستفضاء وَالتَّحَرِّي وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَزِيَادَةٍ فَاخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي الرَّدِّ وَالتَّقَاضِي لِاخْتِلَافِ معنى الأخذ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 باب الزرع في أوقات قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد ثُمَّ تُسْتَخْلَفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَتُحْصَدُ أُخْرَى فَهُوَ زَرْعٌ واحدٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ حَصَدَتُهُ الْأُخْرَى وهكذا بذر اليوم وبذر بعد شهرٍ لأنه وقتٌ واحدٌ للزرع وتلاحقه فيه متقاربٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ فِي الذُّرَةِ أَنَّهَا تُسْتَخْلَفُ بَعْدَ حَصَادِهَا، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ الْعَادَةُ فِيمَا سِوَاهَا، فَإِذَا اسخلفتا الذرة بعدما حصدت فهذا على ثلاث أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ حِينَ اسْتُحْصِدَتْ تَسَاقَطَتْ مِنْ قَصَبَتِهَا فَنَبَتَتْ، فَهَذَا زَرْعٌ ثَانٍ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ بَذْرَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي بذر ولا حصاد، فإذا بَلَغَ النِّصَابَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ قَدْ حُصِدَتْ فَيُسْتَخْلَفُ قَصَبُهَا وَتَحْمِلُ حَبًّا ثَانِيًا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ وَيُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بِذَاتِهِ كَالنَّخْلِ إِذَا حَمَلَ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ لَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا زَرْعٌ وَاحِدٌ عَنْ بَذْرٍ وَاحِدٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّخْلِ إِذَا حَمَلَ حِمْلَيْنِ، هُوَ: أَنَّ النَّخْلَ ثَابِتُ الْأَصْلِ غُرِسَ لِبَقَائِهِ وَتَوَالِي ثَمَرِهِ، وَكُلُّ حِمْلٍ مِنْهُ مُنْفَرِدٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا حَمَلَ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ كَانَ كَمَا لَوْ حَمَلَ فِي عَامَيْنِ، فَلَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّرْعُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتِ الْأَصْلِ وَلَا مَزْرُوعٌ لِلْبَقَاءِ وَتَوَالِي النَّمَاءِ، وَإِنَّمَا زُرِعَ لِأَخْذِهِ بَعْدَ تَكَامُلِهِ فَخَالَفَ النَّخْلَ وَوَجَبَ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ حِينَ بُذِرَتْ تُعُجِّلَ نَبَاتُ بَعْضِهَا وَاسْتُحْصِدَ وَتَأَخَّرَ حَصَادُ الْبَعْضِ الْآخَرِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا قَرِيبًا وَفَصْلُ حَصَادِهِمَا وَاحِدًا، كَأَنَّهُ نَبَتَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ زَحَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَتُعُجِّلَ حَصَادُ مَا قَوِيَ وَتَأَخَّرَ حَصَادُ مَا ضَعُفَ، فَهَذَا زَرْعٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 تَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَى مَا تَأَخَّرَ كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا طَلَعَ بَعْضُهُ وَأُبِّرَ بَعْضُهُ وَزَهَا بَعْضُهُ وأرطب بعضه فجميعه ثمرة واحدة يجب ضم بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَكَذَا الزَّرْعُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهُمَا وَيَخْتَلِفَ فَصْلُ حَصَادِهِمَا كأنه بَذْرٌ فَنَبَتَ بَعْضُهُ وَتَأَخَّرَ بَعْضُهُ حَتَّى حُصِدَ الْأَوَّلُ فِي الصَّيْفِ وَحُصِدَ الثَّانِي فِي الْخَرِيفِ فَهَذَا زَرْعٌ قَدِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِ وَاخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُضَمُّ. وَالثَّانِي: لَا يُضَمُّ وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِيمَا يليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا زَرَعَ فِي السَّنَةِ ثَلَاثَ مراتٍ فِي أوقاتٍ مختلفة في خريف وربيع وصيفٍ ففيه أقاويل منها أنه زرع واحدٌ إذا زرع في سنةٍ وإن أدرك بعضه في غيرها ومنها أن يضم ما أدرك في سنةٍ واحدةٍ وما أدرك في السنة الأخرى ضم إلى ما أدرك في الأخرى ومنها أنه مختلف لا يضم (قال الشافعي) في موضعٍ آخر وإذا كان الزرعان حصادهما معاً في سنةٍ فهما كالزرع الواحد وإن كان بذر أحدهما قبل السنة وحصاد الآخر متأخرٌ عن السنة فهما زرعان لا يضمان ولا يضم زرع سنةٍ إلى زرع سنةٍ غيرها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِالذُّرَةِ أَنْ تُزْرَعَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، فَإِذَا زُرِعَتْ مِرَارًا فَفِي ضَمِّهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ. أَحَدُهَا: إِنَّهُ يُضَمُّ زَمَانُ مَا اتَّفَقَ بَذْرُهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِ وَلَسْنَا نُرِيدُ بِاتِّفَاقِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُمَا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَأَكْثَرُ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْبَذْرَ أَصْلٌ والحصاد نوع، فَكَانَ اعْتِبَارُ الزَّرْعِ بِأَصْلِهِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بنوعه لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ أَفْعَالِنَا وَالْحَصَادَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ من اعتبار أحدهما فاعتبار ما تعلق بفعلنا أَيْسَرُ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ أَجْدَرُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا اتَّفَقَ زَمَانُ حَصَادِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ بَذْرِهِ لِأَنَّ بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ وُجُوبَ زَكَاتِهِ، فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِهِ أَوْلَى كَالثِّمَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُضَمُّ مَا اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِ وَزَمَانُ حَصَادِهِ فَيُرَاعَى الضَّمُّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا وَزَمَانُ حَصَادِهِمَا ضُمَّا، وَإِنِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا وَاخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِمَا أَوِ اتَّفَقَ زَمَانُ حَصَادِهِمَا وَاخْتَلَفَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا لَمْ يُضَمَّا، [هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَرَأَيْتُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 في الأصل إلا ما ذكرها هُنَا] ، لِأَنَّ الْبَذْرَ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْحَصَادَ شَرْطٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِهِمَا. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُ يُضَمُّ مَا جَمَعَتِ السَّنَةُ الْوَاحِدَةُ بَذْرَهُ وَحَصَادَهُ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَإِنَّمَا نَعْنِي عَامَ الزِّرَاعَةِ الَّذِي هُوَ فِي الْعُرْفِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوُهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الطَّرَفَيْنِ وَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِالْعَامِ الْجَامِعِ لَهُمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ضَمُّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ ضَمُّ زَرْعِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض قال الشافعي رضي الله عنه: " بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْلًا مَعْنَاهُ، مَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَفِيهِ نَصْفُ الْعُشْرِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِهِ مِنْ عينٍ أَوْ سماءٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا وَبِهَذَا أَقُولُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ. فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ، فَهُوَ مَا سُقِيَ بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ كان بعلا أَوْ عَثَرِيًّا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ فَهُوَ مَا سُقِيَ بغرب أَوْ نَضْحٍ أَوْ دُولَاب أَوْ زُرْنُوقٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعِبْرَةُ، فَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ما سقته الأنهار والعين ففيه العشر، وما سقته السواقي فَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَالْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي وَالنَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَالْبَعْلُ مِنَ النَّخْلِ مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن رواحة هنالك لا أبالي على سقي ولا بعل وإن عظم الإباء. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب لقطن بن الحارث كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ " وَفِيمَا سُقِيَ بِالْجَدْوَلِ مِنَ العين المعين العشر من تمرها وَمِمَّا أَخْرَجَ أَرْضُهَا وَفِي الْعِذْيِ شَطْرُهُ بِقِيمَةِ الْأَمِينِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ وَظِيفَةٌ وَلَا يُفَرَّقُ " قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعِذْيُ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرٌ يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ، وَقَالَ أَبُو عمر والعذي، والعدي واحد، والسيل ما جرى من الأنهار والعلل الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وَأَمَّا الْعِبْرَةُ فَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ أَنَّ مَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ قَلَّتْ زَكَاتُهُ، وَمَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهُ كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، أَلا تَرَى الرِّكَازَ لما قلت مؤنتها وجب فيها الخمس، وأموال التجارات لما كثرت مؤنتها وجبت فِيهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، فَكَذَا الزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِغَيْرِ آلَةٍ لَمَّا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمَسْقِيَّةُ بِآلَةٍ لَمَّا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا نصف العشر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وما سقي مِنْ هَذَا بنهرٍ أَوْ سيلٍ أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ فَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى يسقي بالغرب فالقياس أن ينظر إلى ما عاش في السقيين فَإِنْ عَاشَ بِهِمَا نِصْفَيْنِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ وَإِنْ عَاشَ بِالسَّيْلِ أَكْثَرَ زِيدَ فِيهِ بقدر ذلك قد قيل ينظر أيهما عاش به أكثر فيكون صَدَقَتُهُ بِهِ وَالْقِيَاسُ مَا وَصَفْتُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رب الزرع يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ. لَا يَخْلُو حال الزرع من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالسَّيْحِ فَهَذَا فِيهِ الْعُشْرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ الرِّشَا وَالنَّضْحِ، فَهَذَا فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَقْيُهُ بِهِمَا جَمِيعًا فذلك ضربان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ فِي زَرْعَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ سُقِيَ أَحَدُهُمَا بالسحي وَالْآخَرُ بِالنَّضْحِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بنفسه، فإذا ضُمَّا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ أُخِذَ عُشْرُ أَحَدِهِمَا وَنِصْفُ عُشْرِ الْآخَرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَرْعًا وَاحِدًا سُقِيَ بِالنَّضْحِ تَارَةً وَبِالسَّيْحِ أخرى فهذا على ضربي. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّقْيَيْنِ مَعْلُومًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا: فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا قَدْ ضُبِطَ قَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَقَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا مَعًا فَيَكُونُ نِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَنِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ الْعُشْرُ إِلَى نِصْفِهِ وَأُخِذَ نِصْفُ مَجْمُوعِهِمَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا فَيَكُونُ أَحَدُ السَّقْيَيْنِ أَكْثَرَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ اسْتِشْهَادًا بِأُصُولِ الشَّرْعِ فِي حُكْمِ الْأَغْلَبِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، وَفِي الْمَاءِ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِمَا مَشَقَّةً فَرُوعِيَ حُكْمُ أَغْلَبِهِمَا تَخْفِيفًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ يُعْتَبَرَانِ مَعًا وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ بِحِسَابِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سَقَتْهُ النَّوَاضِحُ، فَوَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَّقَهُ عَلَيْهِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْأَغْلَبِ تَغْلِيبٌ لِحُكْمِ الْأَقَلِّ عليه، وذلك غير جائز، ولأنه لما اعتبر فِي الزَّرْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِي الزَّرْعِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ فَفِيهِ ثُلُثَا الْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعُشْرِ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ واعتبار ذلك بأعداد السقيات التي يحيي الزَّرْعُ بِهَا، فَإِذَا سُقِيَ بِالسَّيْحِ خَمْسُ سَقْيَاتٍ وَبِالنَّضْحِ عَشْرُ سَقْيَاتٍ كَانَ ثُلُثُهُ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَاهُ بالنضح. فصل : وإن جهل قدر السقيتين وَشَكَّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ وَيَشُكّ فِي أَيِّهِمَا هُوَ الأكثر وإن قِيلَ بِمُرَاعَاةِ الْأَغْلَبِ وَاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَإِنْ قِيلَ بِمُرَاعَاتِهِمَا وَاعْتِبَارِ حسابهما، قلنا عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَدْر وَاجِبِهِ، غَيْرَ أَنَّنَا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد عن نصف العشر، فيأخذ قدر اليقين ويتوقف على الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ هَلْ هما سَوَاءٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَكَثُرُ، فَإِنْ قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَإِنْ قِيلَ: بِاعْتِبَارِهِمَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ الْحَالَيْنِ وَأَثْبَتُ لِحُكْمِ السَّقْيَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُؤْخَذُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ قَدْرُ الْيَقِينِ وَيُتَوَقَّفُ عَنِ الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَإِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا زَرْعُ النَّوَاضِحِ إِذَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ رب المال والوالي وادعى الْوَالِي مَا يُوجِبُ كَمَالَ الْعُشْرِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذِهِ اليمين استظهار، لأنها لا تُطَابِقُ ظَاهِرَ الدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأَخْذُ الْعُشْرِ أَنْ يُكَالَ لِرَبِّ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَيَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ الْعَاشِرَ وَهَكَذَا نِصْفُ الْعُشْرِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَرَادَ السَّاعِي مقاسمة رب المال بدأ أولاً نصيبه لكثرة حقه، فإن نَصِيبَ الْمَسَاكِينِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فِي مَالِهِ الْعُشْرُ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ أَقْفِزَةٍ وَأَخَذَ الْعَاشِرَ وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا وَأَخَذَ قَفِيزًا، وَإِن وَجَبَ ثُلُثَا الْعُشْرِ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا، وَأَخَذَ قَفِيزًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَلَا يَجُوزُ إذا وجب العشر أن يكتال لَهُ عَشْرَةً وَيَأْخُذَ هُوَ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عُشْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، فَأَمَّا صِفَةُ الْكَيْلِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِلَا دَقٍّ وَلَا زَلْزَلَةٍ وَلَا تَحْرِيكٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ وَأَخْذِ الْفَضْلِ، وَلَا يَضَعُ يَدَهُ فَوْقَ الْمِكْيَالِ، وَيَضَعُ عَلَى رَأْسِ الْمِكْيَالِ مَا أَمْسَكَ رَأْسَهُ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ زِيَادَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ الْكَيْلِ وَأَوْلَاهُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مَعَ خَرَاجِ الْأَرْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَرْضُ الْخَرَاجِ مِنْ سَوَادِ كِسْرَى يَجِبُ أَدَاءُ خَرَاجِهَا وَيَكُونُ أُجْرَةً وَيُؤْخَذُ عُشْرُ زَرْعِهَا وَيَكُونُ صَدَقَةً، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ يُؤَدَّى وَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنَعَتِ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا " فَالدِّرْهَمُ الْخَرَاجُ، والقفيز العشر، وقد أخبر أن العراق هي أرض الخراج يمنع منها، وبما روي أن دهقان نهر الملك وهو: فيروز بن يزدجرد لما أسلم قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَلِّمُوا إِلَيْهِ أَرْضَهُ، وَخُذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَأَمَرَ بِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ سَبَخَةً لَمْ يَجِبْ فِيهَا خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ، لِأَنَّهَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا، فَإِذَا كان كل واحد منهما يجب بما يَجِبُ بِهِ الْآخَرُ لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُهُمَا، أَلَا ترى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاتَانِ مَعًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِحُكْمِ الشِّرْكِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَا. والدليل على ما قلناه مِنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ ولأنه حكم يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ [وَجَبَ بِالنَّصِّ وَالْخَرَاجَ وَجَبَ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ] أُجْرَةٌ لَا جِزْيَةٌ، لِجَوَازِ أَخْذِهِ من المسلم، وإذا كان أُجْرَةً لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْعُشْرِ كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا، وَاخْتِلَافُ حقهما أن العشر يَجِبُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ وَالْخَرَاجَ دَارَهِمُ تَجِبُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَاخْتِلَافُ مُوجِبِهِمَا أَنَّ الْخَرَاجَ وَاجِبٌ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وُجِدَتِ الْمَنْفَعَةُ أَوْ فُقِدَتْ، وَالْعُشْرُ وَاجِبُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَسْقُطُ بِفَقْدِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رواية إسحاق بْنِ عَنْبَسَةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مَنْعُ اجْتِمَاعِهِمَا دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ جزية تجب على الذمي ويسقط عن المسلمين وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا إِنْ صَحَّ، وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الْفِتَنَ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْهَا فَكَانَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا مُبْطِلًا لِمَذْهَبِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي دِهْقَانِ نَهْرِ الْمَلِكِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْخَرَاجِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ لَأَمَرَ بِهِ، قِيلَ الْعُشْرُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ حَصَادِ الزَّرْعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ أَمَرَهُ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَالِيًا عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ أَحْكَامِ الشِّرْكِ، وَالْعُشْرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُشْرَ عَلَى الذِّمِّيِّ ثُمَّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَيْسَ من أحكام الشرك لجواز أخذه من المسلمين. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَعُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الزَّرْعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: على المؤجر مالك الأرض بسببين. أحدهما: أن العشر مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَالِكَ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُشْرَ مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَالِكِ الْأَرْضِ كَحَفْرِ الْآبَارِ وكرى الْأَنْهَارِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أبو حنيفة مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) وَالزَّرْعُ مُخْرَجٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ حق الإنفاق عليه على أنه أمر بالاتفاق مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ مَنْ أَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ، وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الحق واجباً على المستأجر دون المؤاجر، ولأنه زرع لو كان لمالك الأرض يوجب عليه الْعُشْرُ فَوَجَبَ إذا كان مِلْكًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ عَلَى مَالِكِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ في مال يجب أَدَاؤُهُ عَنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ كَالْخَرَاجِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهَا، وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْمُؤْنَةِ فَمِثْلُهُ سَوَاءٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجِبُ فِي زُرُوعِهِ وَلَا ثِمَارِهِ الْعُشْرُ. وَقَالَ أبو حنيفة بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي زُرُوعِهِ وَثِمَارِهِ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لأجل منفعة الأرض فوجب أن يستوي فيه المسلم والكفار كَالْخَرَاجِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أن يدل عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ زَكَاةٌ بِقَوْلِهِ فِي الْكَرْمِ يَخْرُصُ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ حَقٌّ مَأْخُوذٌ بِاسْمِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ حَقٌّ يصرف في أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَالزَّكَوَاتِ، فَأَمَّا عُمُومُ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذكرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْخَرَاجِ فَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنِ اخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بينهما. فَصْلٌ : فَلَوِ ابْتَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكُ ذِمِّيٍّ، فَلَوِ ابْتَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا سابق لملكه. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وما زاد مما قل أو كثر فبحسابه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، قَلِيلًا كَانَ الزَّائِدُ أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بَقِيَ مَا زَادَ عَلَيْهَا عَلَى عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ عَفْوَ الزَّكَاةِ عَفْوَانِ أَحَدُهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الزَّرْعِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أَحَدُ الْعَفْوَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْعَفْوُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ. فَصْلٌ : إِذَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا أَحْوَالًا، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَى مَالِكِهَا الْعُشْرُ فِي كُلِّ عَامٍ كَالْمَوَاشِي وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ نَفْيَ ما سوى العشر؛ لأن اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إِيجَابَ عُشْرِهِ بِحَصَادِهِ وَالْحَصَادُ لَا يَتَكَرَّرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ أَيْضًا لَا يَتَكَرَّرُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ، وَمَا ادُّخِرَ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُنْقَطِعُ النماء معرض للنفاد وَالْفَنَاءِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وفارق المواشي والورس التي هي مرصدة للنماء والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 باب صدقة الورق قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عن أبيه قال سمعت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " (قال) وبهذا نأخذ فإذا بلغ الورق خمس أواقٍ وذلك مائتا درهم بدراهم الإسلام وكل عشرة دراهم من دراهم الإسلام وزن سبعة مثاقيل ذهب بمثقال الإسلام ففي الورق صدقة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْوَرِقِ وَهِيَ الْفِضَّةُ فواجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. فأما الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ امْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ) {التوبة: 103) وقوله تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفَضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) {التوبة: 34) وَالْكَنْزُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مَدْفُونًا وَمَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مَدْفُونًا، وَقَدْ دللنا عليه في أَوَّل الْكِتَابِ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ ابْنِ دَاوُدَ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ صَاحِبِ فِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحَ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُ فِي يومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سنةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي الرِّقةِ رُبْعُ الْعُشْرِ " وَفِي الرقة تأويلان: أحدهما: أنها اسْمٌ لِلْفِضَّةِ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ العرب إن الرقين يعطي أفن الأفين قال: والرقيق جَمْعُ رِقَةً وَهِيَ الْفِضَّةُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّ الرِّقَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ ثَعْلَبٌ وَهُوَ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " نحو من نبراس ذهب وفضة " وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ لَا شَاهِدَ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَشَائِعٌ فِي خَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ زَكَاةِ الْوَرِقِ فَلَا زكاة فيما دون خمس أواقي لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمس أواقي صدقةٌ " وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 باب تفسير الأوقية فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَتَكُونُ الخمس أواقي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةٌ بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَبَرَانِ. أَحَدُهُمَا: مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدَاقِ أحدٍ مِنْ نِسَائِهِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ؟ النَّشُّ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَالْخَبَرُ الْآخَرُ: رَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما دون خمس ذود من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهم من الورق صدقة، وحكي عن المعري وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَدَدًا لَا وَزْنًا، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا وَزْنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عدداً وزنها مائة دِرْهَمٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا جَهْلٌ بِنَصِّ الإخبار وإجماع الأعصار وما تقتضيه عبرة الزكوات. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له مِائَتَا دِرْهَمٍ تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ تَجُوزُ جَوَازَ الْوَازِنَةِ أَوْ لَهَا فَضْلٌ عَلَى الْوَازِنَةِ غَيْرَهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أوسقٍ بُرْدِيٌّ خَيْرٌ قيمةٍ مِنْ مِائَةِ وسقٍ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زكاةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَلِقِلَّةِ نُقْصَانِهَا تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، كَأَنَّهَا تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ حَبَّتَيْنِ، فَهَذِهِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ تَنْقُصُ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ أو في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا نَقَصَتْ هَذَا الْقَدْرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " هاتوا إلي رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا "، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شيءٌ حَتَّى تَتِمَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ "، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمُزَكَّى عَنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ فِيهِ كَسَائِرِ النِّصْبِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ جَوَازِهَا بِالْمِائَتَيْنِ فَيَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا، إِنْ أَخْذَهَا بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَامِحَةِ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ النِّصْبِ وَفِيمَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، وَلَقِيلَ إِذَا أَخْرَجَ خَمْسَةً إِلَّا حَبَّةً أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْخَمْسَةِ، وَلَقِيلَ فِي الرِّبَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ إِلَّا حَبَّةً جَازَ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ، وَفِي إِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ. وَال ْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ وَهِيَ لِجَوْدَتِهَا تُؤْخَذُ بِالْمِائَتَيْنِ كَأَنَّهَا تَنْقُصُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهَا لِجَوْدَةِ جَوْهَرِهَا تَزِيدُ عَشَرَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِنُقْصَانِ وَزْنِهَا عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْإِفْسَادِ لقوله. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ ورقٌ رديئةٌ وورقٍ جيدةٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ وَرِقُهُ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا وَكِلَاهُمَا فضة ضَمَّ الْجَيِّدَ إِلَى الرَّدِيءِ كَمَا يَضُمُّ جَيِّدَ التَّمْرِ إِلَى رَدِيئِهِ وَأُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ لِتَمَيُّزِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ جَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ رَدِيئِهِ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَابَلَ الرَّدِيءَ وَكَانَ فِيمَا قَابَلَ الْجَيِّدَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زكاة الجيد، متسأنفاً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَيُخْرِجُ قِيمَةَ مَا بَيْنَهُمَا ذَهَبًا كَمَا لَوْ أَخْرَجَ أَرْدَأَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ. أَخْرَجَ نَقْصَ مَا بَيْنَهُمَا ورقاً والله أعلم. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْوَرِقَ الْمَغْشُوشَ لِئَلَّا يَغُرَّ بِهِ أَحَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا ضَرْبُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشِ فَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَلِمَا فِيهِ مِنْ إفساد النقود وغبن ذَوِي الْحُقُوقِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَانْقِطَاعِ الْجَلْبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 الْمُفْضِي جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الْأُمُورِ، وَفَسَادِ أَحْوَالِ الْجُمْهُورِ فَأَمَّا جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَهُمَا فَصْلَانِ: نَبْدَأُ بِأَحَدِهِمَا: وَهُوَ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا: اعْلَمْ أَنَّ الْمَغْشُوشَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ غِشُّهُ لِرَدَاءَةِ جِنْسِهِ، فَتُكْرَهُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغُرُورِ وَالتَّدْلِيسِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من زافت دراهمه فليأت السوق فليشتري بها الثوب السميق، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ غِشُّهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِنْسِهِ كَالْفِضَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِغَيْرِهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ فِضَّتِهِ مَعْلُومًا، وَجِنْسُ مَا خَالَطَهُ وَغُشَّ بِهِ مَعْرُوفًا، قَدِ اشْتُهِرَتْ حَالُهُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَعَلِمَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لَا يَخْتَلِفُ ضَرْبُهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ فِضَّتُهُ، فَالْمُعَامَلَةُ بِهِ جَائِزَةٌ حَاضِرًا بِعَيْنِهِ وَغَائِبًا فِي الذِّمَّةِ. وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون قدر فضة مَجْهُولًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا خَالَطَ الْفِضَّةَ مَقْصُودًا لَهُ قِيمَةٌ كَالْمَسِّ وَالنُّحَاسِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا لَا قيمة له كالزئبق الزرنيخ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يكون مُمْتَزِجَيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ غَيْرَ مُمَازِجَةٍ لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْمَسُّ فِي بَاطِنِهَا، فَالْمُعَامَلَةُ بِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لَا مُعَيَّنَةٌ وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَإِنْ شُوهِدَتْ فَالْمَقْصُودُ الْآخَرُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، كَمَا لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْفِضَّةِ الْمَطْلِيَّةِ بِالذَّهَبِ، لِأَنَّ أَحَدَ مَقْصُودَيْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مُمَازِجَةً لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ لَمْ تَجُزِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْجُونَاتِ لِلْجَهْلِ بِهَا، وَفِي جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ. وَالْوَجْهُ الثاني: يجوز وهو أظهر وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْاصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ كَيْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْجُونَاتِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهَا، وَخَالَفَ بَيْعَ تُرَابِ الْمَعَادِنِ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 التُّرَابَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْغِشِّ إذا كان مقصوداً، فأما إن كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ مُمْتَزِجَيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا، لَا مُعَيَّنَةً وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا مَجْهُولٌ بِمُمَازَجَةِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْغِشُّ فِي بَاطِنِهَا كَالزَّرْنِيخِيَّةِ فَتَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُشَاهَدٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ، لِأَجْلِ الرِّبَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَاعَ سُقَاطَةَ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْمَغْشُوشِ وَالزَّائِفِ بِوَزْنِهِ مِنَ الْوَرِقِ الْجَيِّدِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَدَّ الْبَيْعَ، فَلَوْ أَتْلَفَهَا رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِثْلُهَا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا وَلَزِمَهُ رَدُّ قِيمَتِهَا ذَهَبًا وَالْحُكْمُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ كَالْحُكْمِ فِي الورق المغشوشة. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ غِشُّهَا مِثْلَ نِصْفِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تباع قدر حصتها نصاباً. فَصْلٌ : فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا حتى يبلغ قدر فضتها نِصَابًا وَإِنْ كَانَ غِشُّهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْغِشَّ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ، حَتَّى لَوِ اقْتَرَضَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً لَا غِشَّ فِيهَا فَرَدَّ عَشَرَةً فِيهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ غِشٍّ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا، وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ تكلف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ فضتها نصاباً فإذا عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ يَقِينًا أَوِ احْتِيَاطًا وَأَخْرَجَ زَكَاتُهُ جَازَ، وَإِنَّ شَكَّ وَلَمْ يَحْتَطْ مَيَّزَهَا بِالنَّارِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا فِضَّةً خَالِصَةً جَازَ، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا مِنْهَا أَجْزَأَهُ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْفِضَّةِ مِثْلَ مَا مَعَهُ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا أم لا، لأنها من جملة ماله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ خَلَطَهَا بِذَهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهَا النَّارَ حَتَى يَمِيزَ بَيْنَهُمَا، فَيُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ كُلِّ واحدْ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ قَدْ خَالَطَهَا ذَهَبٌ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَقِينًا وَكَانَ كل واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 منهما يبلغ بانفراده نصاباً أو بإضافة إِلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَعَمِلَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ مَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَيَّزَهُمَا بِالنَّارِ، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ بَلَغَ بِانْفِرَادِهِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِ نِصَابًا فَصَاعِدًا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ أَخْذَ زَكَاتِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِيَقِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَقَالَ أَعْلَمُ ذَلِكَ قطعاً وإحاطة، كان القول قوله، وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَلَكِنْ قَالَ الِاحْتِيَاطُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ كَذَا وَمِنَ الذَّهَبِ كَذَا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ؛ لأن ذلك اجتهاداً مِنْهُ وَالْإِمَامُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى قَوْلِهِ قَوْلُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى احْتِيَاطِهِ إِذَا تَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرَ مُيِّزَتْ بِالنَّارِ وَخُلِّصَتْ بِالسَّبْكِ، وَفِي مُؤْنَةِ السَّبْكِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَسَطِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاؤُهُ فِي الْمَالِ قَبْلَ السَّبْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمُؤْنَتِهِ دُونَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ الزَّكَاةِ إِلَّا بِهَا كَالْحَصَادِ وَالصِّرَامِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَةٌ مَلْطُوخَةٌ عَلَى لِجَامٍ أَوْ مُمَوَّهٌ بِهَا سَقْفُ بَيْتٍ، وَكَانَتْ تُمَيَّزُ فَتَكُونُ شَيْئًا إِنْ جُمِعَتْ بِالنَّارِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَهْلَكَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَمْوِيهُ السَّقْفِ وَالْأَرْوِقَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَحَرَامٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّحَاسُدِ وَالْبَغْضَاءِ، فإن موه رجل سقف بيته أَوْ حَائِطَ دَارِهِ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ آثِمًا، وَنَظَرَ فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ وَلَا مَرْجِعَ لَهُ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ تَخْلِيصُهُ مُمْكِنًا فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَهُ أَوِ احْتَاطَ لَهُ وَإِلَّا مَيَّزَهُ وَخَلَّصَهُ، وَأَمَّا حِلْيَةُ اللِّجَامِ فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ، وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالذَّهَبِ فَعَلَى هَذَا يُزَكِّيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ لأنه حلي مباح والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان في يديه أقل من خمس أواقٍ وما يتم خمس أواقٍ ديناً له أَوْ غَائِبًا عَنْهُ أَحْصَى الْحَاضِرَةَ وَانْتَظَرَ الْغَائِبَةَ فَإِنْ اقْتَضَاهَا أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِمَا ثُمَّ بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِمَا. فَأَحَدُ الْفَصْلَيْنِ: وُجُوبُ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَجَّلٌ. وَمُؤَجَّلٌ، وَالْمُعَجَّلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَالْوَدِيعَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَغْصُوبِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ فِي الْبَاطِنِ مُمَاطِلٍ فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، خَوْفًا مِنْ جُحُودِهِ وَمَطْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُنْكِرٍ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقِرٍّ مُعْسِرٍ وَجَوَابُهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ بِهِ الْحَوْلَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مَالِكًا له قبل حلول أجله؟ على قولين، وهو قول أبي إسحاق المروزي يكون مالكا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَا حنث فيه ومن حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ حَنِثَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُبَرِّئَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الزَّكَاةِ حُكْمَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا بَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ بَرَّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَلَا الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ثَمَرَةُ الْمِلْكِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُهُ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: وُجُوبُ زَكَاةِ الْمَالِ الْغَائِبِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي غَيْرِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ نَقْلِ الصَّدَقَةِ أَحَدُهُمَا. يُجْزِئُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاتَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِذَا وَصَلَ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَلَا مَعْرُوفِ السَّلَامَةِ فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّالِّ، لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فإذا وصل هل يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْفَصْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ، وَيَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أُخْرَى دَيْنًا أَوْ غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا وَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَزَكَاةِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ جَمِيعًا. وَالْقِسْمُ الثاني: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ بَعْدَ قبضه، فإنه ينتظر بالمائة الحاضرة فيصير دَيْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهُ زَكَّاهَا مَعَ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، وَكَذَا الجواب في الغائبة سَوَاءٌ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا زَادَ وَلَوْ قِيرَاطًا فَبِحِسَابِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَقْصُ فِي الْوَرِقِ مُعْتَبَرٌ في ابتدائه غير معتبر في انتهائه فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا " وَبِرِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ نَجِيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " لَا تَأْخُذْ مِنَ الْكَسْرِ شَيْئًا وَلَا مِنَ الْوَرِقِ حَتَّى تبلغ مائتي درهم ولا تأخذ مما زاد شيئاً حتى تبلغ أربعين فإذا بلغتها ففيها درهم " قال وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ فِي ابْتِدَائِهِ وَقْصٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ وَقْصٌ كَالْمَوَاشِي. وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الرِّقَّةِ رَبُعُ الْعُشْرِ " فَكَانَ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ خَارِجًا، وَمَا سِوَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ بَاقِيًا، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 قَالَ: " هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كل أربعين دِرْهَمًا وَلَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ " وَهَذَا نَصٌّ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَائَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَقْصٌ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَالزُّرُوعِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي جِنْسِ مَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعِينَ، أَوْ كَالذَّهَبِ، وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الزَّكَاةِ وَقْصَانِ: وَقْصٌ فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وهذا موجود في الورق، فاعتبر فيه وقص في أثناء المال، لأن لَا يَجِبَ كَسْرٌ يُسْتَضَرُّ بِإِيجَابِهِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْوَرِقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أخذ الْوَقْصَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْوَقْصُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَعْمَلُ بِمُوجَبِهِ وَهُوَ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمَحْدُودُ عِنْدَكُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا خَرَجَ عَنْهُ وما نقص عن الأربعين فأرج عما أخذ بالأربعين ووجب أن يكون حكمه مخالفاً له قبل ذلك قيل كذلك نقول إلا أنا نُوجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا كَامِلًا، وَلَا نُوجِبُ فِيمَا دُونَهَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا نُوجِبُ بَعْضَ دِرْهَمٍ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي قَوْلِهِ وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، أي: لا شَيْءَ فِيهَا كَامِلٌ هَذَا إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ مِنْ قَدْحٍ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَادَةَ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ الْجَرَّاحِ هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ الجراح بن المنهال، وإنما قلت محمد بن إسحاق باسمه لِضَعْفِهِ وَاشْتِهَارِهِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُبَادَةَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَكَانَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَوَاشِي فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرًا، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي انْتِهَائِهَا وَقْصٌ، والورق ليس في تبعيضها ضرر فذلك لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثْنَائِهَا وَقْصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ارتد ثم حال الْحَوْلُ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَالثَّانِي يُوقَفُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ وَبِهَذَا أَقُولُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ عِنْدِي الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ، وَإِنِ ارْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ وَقُتِلَ أَوْ مَاتَ فَالزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتْي حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ، وَقَوْلٌ ثَالِثُ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُقُوفُ الْأَمْرِ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَجَبَتْ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ تَجِبْ، وَالْقَوْلُ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَامْتَنَعَ مِنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ وسبب اختلافهم فيه. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وحرامٌ أن يؤدي الرجل الزكاة من شر ماله لقول الله جل وعز {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا تُعْطُوا فِي الزَّكَاةِ مَا خَبُثَ أَنْ تَأْخُذُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَتَتْرُكُوا الطَّيِّبَ عندكم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقُلْنَا إِنَّ إِخْرَاجَ الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ لَا يَجُوزُ، وَإِخْرَاجَ الْجَيِّدِ عَنِ الرَّدِيءِ لَا يَجِبُ وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَرَامُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي: الرَّدِيءُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَهُوَ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إلاَّ أنْ تُغْمِضُواْ فِيه) {البقرة: 267) وَالْحَرَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْمَضَ فِي أَخْذِهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَنْقُولٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ عَذْقًا حَشَفًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَدَقَةُ فُلَانٍ، يَعْنُونَ رَجُلًا من الأنصار، فغضب وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غنيٌّ عَنْ فلانٍ وصدقتهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُصَدِّقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه بفصيل محلولٍ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انظروا إلى فلانٍ أتانا بفصيل محلول، فَبَلَغَهُ فَأَتَاهُ بَدَلَهُ بِنَاقَةٍ كوماءٍ، قَالَ أَبُو عبيد المحلول هُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي قَدْ حَلَّ جِسْمُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 بَابُ صَدَقَةِ الذَّهَبِ وَقَدْرِ مَا لَا تَجِبُ فيه الزكاة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي أَنْ لَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالَا جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا أَوْ إِنَاءً أَوْ تِبْرًا فَإِنْ نَقَصَتْ حبةٌ أَوْ أَقَلُّ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الذهب، مع أن الإجماع على وجوب زكاة الذهب، مُنْعَقِدٌ، وَنِصَابُهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، الْوَاجِبُ فِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ الْعِشْرِينَ وَلَوْ حَبَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَلَوْ حَبَّةً وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا فَيَجِبُ فِيهِ مِثْقَالٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الزَّكَوَاتِ اسْتِفْتَاحُ فَرْضٍ بِكَسْرٍ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ نِصَابُ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِقِيمَتِهِ مِنَ الْوَرِقِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، قَالَ لِأَنَّ الْوَرِقَ أَصْلٌ وَالذَّهَبَ فَرْعٌ، فَاعْتُبِرَ نِصَابُهُ بِأَصْلِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ نَقَصَتْ عَنِ الْعِشْرِينَ حَبَّةً وَجَازَتْ جَوَازَ الْوَازِنَةِ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ كَقَوْلِهِ فِي الْوَرِقِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ نَقَصَتْ رُبُعَ مِثْقَالٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ مِثْقَالٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَصِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ شيءٌ، فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهِ نِصْفُ دِينَارٍ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس فيما دون خمس ذودٍ من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهم من الورق صدقة " لأن ذَلِكَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي الذَّهَبِ خَبَرٌ ثَابِتٌ، لَكِنْ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا جَازَ الاحتجاج بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فَصْلٌ : فَإِذَا بَلَغَ الذَّهَبُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ سَبْعَةٍ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ، فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَفِيمَا زاد عليها بِحِسَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا أَوْ إِنَاءً أَوْ تِبْرًا أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً إذا كان جميعها ذَهَبًا وَاسْمُ الْجِنْسِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِجِنْسِهِ لَا بِوَصْفِهِ كَالْوَرِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كَانَتْ لَهُ مَعَهَا خَمْسُ أواقٍ فِضَةً إِلَّا قِيرَاطًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا زكاةٌ وَإِذَا لَمْ يُجْمَعِ التَّمْرُ إِلَى الزَّبِيبِ وَهُمَا يُخْرَصَانِ وَيُعْشَرَانِ وَهُمَا حُلْوَانِ مَعًا وَأَشَدُّ تَقَارُبًا فِي الثَّمَنِ وَالْخِلْقَةِ وَالْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبِ إِلَى الْوَرِقِ فَكَيْفَ يَجْمَعُ جَامِعٌ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ؟ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ " فَأَخَذَهَا فِي أَقَلَّ فَإِنْ قَالَ ضَمَمْتُ إِلَيْهَا غَيْرَهَا قِيلَ تَضُمُّ إِلَيْهَا بَقَرًا فَإِنْ قَالَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا قِيلَ وَكَذَلِكَ فَالذَّهَبُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْوَرِقِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا وَلَوْ بِقِيرَاطٍ وَأَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ لَمْ يُضَمَّا وَلَا زَكَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، والْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفة، وَصَاحِبَاهُ يَضُمُّ الذَّهَبَ إِلَى الْوَرِقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمِّهِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَضُمُّ بِالْعَدَدِ فَيَجْعَلُ كُلَّ عِشَرَةٍ بِدِينَارٍ فَإِذَا كَانَ لَهُ عشر دنانير مائة دِرْهَمٍ ضَمَّهَا وَزَكَّى، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَشَرَةُ تُسَاوِي مِائَةً وَالْمِائَةُ تُسَاوِي عَشَرَةً أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: تُضَمُّ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ دَنَانِيرَ تُسَاوِي مِائَةً ضَمَّهَا وَزَكَّى إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ أَحْوَطَ لِلْمَسَاكِينِ فيأخذ به. واستدلوا على جواز الضم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ) {التوبة: 34) الْآيَةَ فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ يُنْفِقُونَهَا} (التوبة: 34) وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَكُونَا فِي الزَّكَاةِ وَاحِدًا لَكَانَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةً إِلَيْهِمَا بِلَفْظَةِ التَّثْنِيَةِ فَيَقُولُ وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا فَلَمَّا كَنَّى عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُمَا في الزكاة واحد، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي الرِّقَّةِ رَبُعُ الْعُشْرِ " وَالرِّقَّةُ اسْمٌ يَجْمَعُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا فِي كَوْنِهِمَا أَثْمَانًا وَقِيَمًا وَإِنْ قَدَّرَ زَكَاتَهُمَا رُبُعَ الْعُشْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا فِي وُجُوبِ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ كأجناس الفضة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وَالذَّهَبِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَِنْ قَالُوا إِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَالْقِيَمِ فَوَجَبَ أَنْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَأَجْنَاسِ الْفِضَّةِ وَأَجْنَاسِ الذَّهَبِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صدقةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهمٍ مِنَ الورقِ صدقةٌ " فَكَانَ نَصُّ هَذَا الْحَدِيثِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ وَدَالًّا عَلَى بُطْلَانِ الضَّمِّ، وَلِأَنَّهُمَا ما لان نِصَابُهُمَا مُخْتَلِفٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلِأَنَّ مَا اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وَإِنِ انْفَرَدَتْ عَنْ غَيْرِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ قِيمَتُهُ مُنْفَرِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ قِيمَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَوَاشِي، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا لَا غَيْرَ لَمْ تعتبر قيمتها وإن بلغت نصاباً، وهذا الاعتلال يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِانْفِرَادِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ [مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَوَاشِي] . وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَلَمْ يَجِبِ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ كَالْمُنْفَرِدِ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا، لِأَنَّهُ إِنْ جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَصِحَّ لِاخْتِلَافِ نَصِّهَا، وَإِنْ جعلها دليلاً على تساوي حكمها مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِمُوجِبِهَا وَسَوَّيْنَا بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي " الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ " فَهُوَ اسْمٌ لِلْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ عَلَى قَوْلِ ثَعْلَبٍ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إِبَانَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ ولو جاز ضمهما، لأن الاسم يَجْمَعُهُمَا لَجَازَ ضَمُّ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّ اسْمَ الماشية يجمعها، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَجْنَاسِ الْفِضَّةِ وَأَجْنَاسِ الذَّهَبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْفِضَّةَ جِنْسٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ، فَلِذَلِكَ ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ الذَّهَبُ مِنْ جِنْسِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا والله أعلم. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجب عَلَى رجلٍ زكاةٌ فِي ذهبٍ حَتَى يَكُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالَا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ، فَإِنْ نقصت شيئاً ثم تمت عشرين مثقالاً فى زكاة فيها حتى تستقبل بِهَا حَوْلًا مِنَ يَوْمِ تَمَّتْ عِشْرِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 كُلُّ مَالٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِصَابِهِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا نَقَصَتْ قِيرَاطًا ثُمَّ تَمَّتْ، أَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقَصَتْ دِرْهَمًا ثُمَّ تَمَّتْ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ نَقَصَتْ شَاةً ثُمَّ تَمَّتِ اسْتَأْنَفَ لِجَمِيعِهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ تَمَّتْ نِصَابًا، وَيَبْطُلُ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْ حَوْلِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ وَلَا اعْتِبَارَ لِنُقْصَانِهِ فِي أَثْنَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي آخِرِ الْحَوْلِ دُونَ أَوَّلِهِ وَأَثْنَائِهِ احْتِجَاجًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوَرِقِ " فَإِذَا بَلَغَتِ خَمْسَ أَوَاقٍ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ " فََجَعَلَ كَمَالَ النِّصَابِ غَايَةً لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَمُلَ نِصَابُهُ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانُهُ فِي أَثْنَائِهِ مُسْقِطًا لِزَكَاتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ إِذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَالْمَالُ الَّذِي كَمُلَ بِهِ النِّصَابُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ حُكْمَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ نَقَصَ نِصَابُهُ عَنْ حَوْلِهِ فَاقْتَضَى سُقُوطَ زَكَاتِهِ قِيَاسًا عَلَى نُقْصَانِهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ حَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَا تُعْتَبَرُ زَكَاةُ قِيمَتِهِ انْقَطَعَ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ جَمِيعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتِفَادَةِ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي استدامته كالجزية وَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ اعْتُبِرَ فِي وَسَطِهِ كَالسَّوْمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ قَدْرِ النِّصَابِ، وَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول " فلم يكن فيه دلالة عَلَى عُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهَا، وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مَشَقَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي اعْتِبَارِ كَمَالِهِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، وَلِأَنَّ عَرَضَ التِّجَارَةِ لَوْ بَاعَهُ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ بَنَى عَلَى حوله فكذلك لم يعتبر كمال نِصَابِهِ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ، وَلَوْ بَاعَ إِبِلًا ببقر لم يبن واستأنف بها الحول، فكذلك اعْتُبِرَ كَمَالُ نِصَابِهَا فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهَا وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 باب زكاة الحلي قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أبيه عن عائشة أنَهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَ أَخِيهَا أَيْتَامًا فِي حجرها فلا تخرج منه زكاة وروي عن ابن عمر أنه كان يحلي بناته وجواربه ذهباً ثم لا يخرج زكاته (قال) ويروى عن عمر وعبد الله ابن عمرو بن العاص أن في الحلي الزكاة وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُلِيُّ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ذَهَبًا وَفِضَّةً. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَهَذَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَمَا كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً ضَرْبَانِ: مَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ وَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُمَا، فَالْمَحْظُورُ زَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَالْمُبَاحُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وعبد الله بن عمرو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ بَعْدَ الظواهر هي الْعَامَّةُ بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ يَا رسول الله أكنز هي؟ فقال ما بلغت زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكنزٍ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فقالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي يدي فتحاتٌ مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فقال أتودين زكاتهن؟ فقلت: لا قال: فهو حسبك من النار قال الأصمعي الفتحات الْخَوَاتِيمُ وَأَنْشَدَ: (إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَاكْسُوَانِي بُرْقُعًا ... وفتحاتٍ فِي الْيَدَيْنِ أَرْبَعَا) وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَمَنِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعها بنت لها، وفي يدها مسكتان غليظتان مِنْ ذهبٍ، فَقَالَ لَهَا أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالَتْ لَا فَقَالَ أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نارٍ، قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْهُمَا وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَرُوِيَ أَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حُلِيًّا وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنْ فِي حِجْرِي بنت أخٍ لِي، أَفَيَجْزِينِي أَنْ أَجْعَلَ زَكَاةَ حُلِيِّ فيهم قال نعم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ فِي ذَلِكَ أَجْرَانِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت هذا حليي وَهُوَ سَبْعُونَ دِينَارًا فَخُذْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارًا أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ دِينَارٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى امْرَأَةً تطوفُ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهَا مَنَاجِدُ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَسُرُّكِ أَنْ يُحَلِّيكِ اللَّهُ مَنَاجِدَ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتْ لَا، قَالَ فَأَدِّي زَكَاتَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَنَاجِدُ الْحُلِيُّ الْمُكَلَّلُ بِالْفُصُوصِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ مِنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ بِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ " وَرَوَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِثْلَهُ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ وَرَوَتْ فُرَيْعَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَامَةَ قَالَتْ حَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِعَاثًا وَحَلَّى أُخْتِي، وَكُنَّا فِي حِجْرِهِ، فَمَا أَخَذَ مِنَّا زَكَاةَ حُلِيٍّ قَطُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الرِّعَاثُ جَمْعُ رِعْثَةٍ وَهُوَ الْقُرْطُ، وَقَالَ النمر بن تولب: (وكل عليل عليه الرعاث ... والخيلات ضعيفٌ ملق) والخيلات: كُلُّ مَا تَزَيَّنَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُلِيِّ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ زَكَاتُهُ بِشَرْطَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ فِيهِ كَالْمَوَاشِي الَّتِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَائِمَتِهَا وَتَسْقُطُ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا، ولأنه مبدل فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ زَكَاتُهُ كَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ، وَلِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ النَّمَاءِ السَّائِغِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ زَكَاتُهُ كَالْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَلِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْقُنْيَةِ كَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ حُلِيٌّ مُبَاحٌ كَاللُّؤْلُؤِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَخْبَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مُتَقَدِّمِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الْحُلِيُّ مَحْظُورًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَظَرَهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ، وَأَبَاحَهُ فِي حَالِ السَّعَةِ وَتَكَاثُرِ الْفُتُوحِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقَهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاتَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى إِعَارَتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 إعارته على أنها قضايا في أعيان يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى حُلِيٍّ مَحْظُورٍ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الدراهم والدنانير فالمعنى فيها إِرْصَادُهُمَا لِلنَّمَاءِ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاتُهُمَا، وَالْحُلِيُّ غَيْرُ مُرْصَدٍ لِلنَّمَاءِ فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ لَمَّا أُرْصِدَتْ لِلنَّمَاءِ وَجَبَتْ زكاتها، ولو أعدت للقينة ولم ترصد للنماء وجبت زكاتها، وكذا الحلي والله أعلم. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ قَالَ فِيهِ الزَكَاةُ زَكَّى خَاتَمَهُ وَحِلْيَةَ سَيْفِهِ وَمِنْطَقَتَهُ وَمُصْحَفَهُ وَمَنْ قَالَ لَا زَكَاةَ فيه قال لا زكاة في خاتمه ولا حلية سيفه ولا منطقته إذا كانت من ورقٍ فإن اتخذه من ذهب أو اتخذ لنفسه حلي امرأةٍ ففيه الزكاة وللمرأة أن تحلى ذهباً أو ورقاً ولا أجعل في حليها زكاة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْحُلِيِّ مَحْظُورًا فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُبَاحًا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، وَنَحْنُ الآن نذكر الْمُبَاحَ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَالْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا أُبِيحُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالثَّانِي: مَا أُبِيحُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ. وَالثَّالِثُ: مَا أُبِيحُ لَهُمَا، فَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةُ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لِسَيْفِهِ قَبِيعَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا حِلْيَةُ الدِّرْعِ وَالْجَوْشَنِ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، فَأَمَّا حِلْيَةُ اللِّجَامِ بِالْفِضَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَحْظُورٌ وَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ حِلْيَةٌ لِفَرَسِهِ لَا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: مُبَاحٌ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَلٌ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَقِيلَ مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ الْجَمَلُ لِأَبِي جَهْلٍ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنِ اتَّخَذَهُ النِّسَاءُ كَانَ مَحْظُورًا وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَالْخَلَاخِلُ، وَالدَّمَالِجُ، وَالْأَطْوَاقُ وَالْأَسْوِرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بلبسه، وأما المباح فَإِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِهِ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عادة النساء مِمَّا يَلْبَسُهُ عُظَمَاءُ الْفُرْسِ كَانَ مَحْظُورًا، فَأَمَّا الثِّيَابُ الْمُثْقَلَةُ بِالذَّهَبِ الْمَنْسُوجَةُ بِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ كَالْحُلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْرَافِ وَعِظَمِ الْخُيَلَاءِ فَأَمَّا تَعَاوِيذُ الذَّهَبِ فَمُبَاحٌ لَهُنَّ، فَأَمَّا نِعَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَحْظُورَةٌ، وَكُلُّ مَا أبحناهن مِنْ ذَلِكَ فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، فَإِنِ اتَّخَذَهُ الرِّجَالُ لِلتَّحَلِّي بِهِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَلَكِنْ فِي تَحْلِيَةِ الصِّبْيَانِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَحْظُورٌ فَعَلَى هَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: مُبَاحٌ فَعَلَى هَذَا فِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَخَوَاتِمُ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ المصحف، فَأَمَّا حِلْيَتُهُ بِالذَّهَبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْظَامِ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: مَحْظُورٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَأَمَّا حِلْيَةُ عَلَاقَةِ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ فَمَحْظُورٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَيَجُوزُ لِلْأَجْدَعِ مِنَ الرِّجَالِ والنساء من أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَقَدْ رُوِيَ أنَ عَرْفَجَةَ بْنَ أسعدٍ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا من فضةٍ فأنتن عليه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذهبٍ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَشُدَّا أَسْنَانَهُمَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا نُظِرَ، فَإِنْ نَشِبَ فِي الْعُضْوِ وَتَرَاكَبَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ صَارَ كَالْمُسْتَهْلَكِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ فَزَكَاتُهُ عَلَى قولين. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن اتَّخَذَ رجلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءً مِنْ ذهبٍ أَوْ ورقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: اتِّخَاذُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِمَا فيه من الترف وَالْخُيَلَاءِ، وَإِنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْأَعَاجِمِ وَقَدْ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " وَإِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 كان محظوراً فزكاته واجبة، فأما اتخاذها لِلِادِّخَارِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا: أَنَّهُ مَحْظُورٌ، لِأَنَّ ادِّخَارَهُ يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ وَمَا سِوَاهُ مُبَاحٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَمَّا تَعْلِيقُ قَنَادِيلِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الْكَعْبَةِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَتَمْوِيهِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُبَاحٌ كَمَا أُبِيحُ سَتْرُ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمًا لِلدِّينِ وَإِعْزَازًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا لِلْكَعْبَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهُ لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ وَلَا عَمِلَ بِهِ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ وَقْفًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَمَحْظُورٌ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ فإن كان يسير الحاجة كحلقة أو زرة كان مباحاً، قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصْعَةٌ فِيهَا حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَحْظُورٌ تَجِبُ زَكَاتُهُ، وَكَذَا لَوِ اتَّخَذَ مَيْلًا أَوْ مُكْحُلًا أَوْ مُدْهُنًا أَوْ مُسْعُطًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، إِلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمَيْلَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي لِجَلَاءِ عَيْنِهِ فَيَكُونُ مُبَاحًا، كَمَا لَوِ اسْتَعْمَلَ الذَّهَبَ لَرَبْطِ أَسْنَانِهِ فيكون في زكاته قولان: مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ مَصُوغًا أَلْفَيْنِ فَإِنَّمَا زَكَاتُهُ عَلَى وَزْنِهِ لَا عَلَى قِيمَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةُ فَزَكَاتُهَا عَلَى وَزْنِهَا لَا عَلَى قِيمَتِهَا، فَإِذَا كَانَ وَزْنُ الْإِنَاءِ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ لِصَنْعَتِهِ أَلْفَيْنِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ألف اعتباراً بوزنه، وسواء كسر الإناء وأخذ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أَخْرَجَ عَنْهُ الزَّكَاةُ مَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْحُلِيُّ الْمَصُوغُ فَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَزَكَاتُهُ عَلَى وَزْنِهِ لَا عَلَى قِيمَتِهِ كَالْأَوَانِي، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَزْنُهُ أَلْفٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ نعتبر الصنعة ونوجب الزكاة شائعة في جملته ثم يتبع قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهِ مَشَاعًا، إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ المالك قيمة الزكاة ذهباً أو يعطي من هَذَا الْأَلْفِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَصُوغَةً تُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أَعْطَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا قَالَ: لا يجوز، وإن أَرَادَ الْمَالِكُ كَسْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 حُلِّيِّهِ وَإِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ عَيْنِهِ مُنِعَهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْلَافَ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الصَّنْعَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عِنْدِي غَلَطٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ إِذَا وَجَبَتْ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ لَا فِي قِيمَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَزْنُ الْحُلِيِّ مِائَةً وَقِيمَتُهُ لِصَنْعَتِهِ مِائَتَانِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَإِذَا وَجَبَتْ زَكَاةُ الْحُلِيِّ فِي عَيْنِهِ لَمْ يَجِبِ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الصَّنْعَةِ، وَلَيْسَتِ الصَّنْعَةُ عَيْنًا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الصَّنْعَةِ لَوَجَبَ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ أَلْفًا طُولِبَ بِزَكَاةِ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَسْتُ أَجْعَلُ الصَّنْعَةَ عَيْنًا وَإِنَّمَا أَجْعَلُهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَيْنِ وَأَجْعَلُ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَثَلِ تِلْكَ الصَّنْعَةِ كَمَا أَقُولُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا عَلَى مِثْلِ صِفَتِهَا وَضَرْبِهَا، فَإِنْ دَفَعَ ذَهَبًا خَالِصًا غَيْرَ مَضْرُوبٍ مِثْلَ ذَهَبِ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَا فِي الْحُلِيِّ الْمَصُوغِ تَجِبُ زَكَاتُهُ فِي عَيْنِهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ فِي صَنْعَتِهِ، فَإِنْ دَفَعَ مِثْلَ جِنْسِهِ غَيْرَ مَصُوغٍ لَمْ يَجُزْ، قِيلَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ ضَرْبَ الدَّنَانِيرِ وَطَبْعَهَا أُقِيمَ مَقَامَ صِفَاتِ الْجِنْسِ مِنَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَثُبُوتِ ضَمَانِ الْجِنْسِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الزَّكَاةِ كَمَا وجب اعتبار صفات الجنس وليس صِفَةُ الْحُلِيِّ جَارِيَةً مَجْرَى صِفَاتِ الْجِنْسِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا فِي الزَّكَاةِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْتُ، أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً لَزِمَهُ مِثْلُهَا وَلَوْ أَتْلَفَ حُلِيًّا مَصُوغًا لَمْ يَلْزَمْهُ مِثْلُهُ مَصُوغًا، عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُجِيزُ أَخْذَ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَيَمْنَعُ مِنْهَا فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ، فَخَالَفَ الْمَذْهَبَ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْقِيَمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ جَمَعَ فَلَا بِالْمَذْهَبِ أَخَذَ وَلَا لِلْحِجَاجِ انْقَادَ، فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا اعْتِبَارَ بِصِفَتِهِ وَلَا مُعَوَّلَ عَلَى قِيمَتِهِ وَيُزَكِّيهِ عَلَى وَزْنِهِ إِمَّا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى حُلِيًّا مُبَاحًا لِلتِّجَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَا لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فَفِي هَذَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ زَكَاةَ هَذَا فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْمُسْتَعْمَلِ زَكَاةٌ فَهَلْ يُزَكَّى هَذَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْ زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَكَاةَ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَا اعْتِبَارَ بِالصَّنْعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: زَكَاةَ التِّجَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الصَّنْعَةِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ في القيمة. وأما إِذَا أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ حُلِيًّا مَصُوغًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَصُوغًا وَسَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهُ مِمَّنْ تستبيح لُبْسَهُ أَمْ لَا. إِذَا كَانَ الْحُلِيُّ مِمَّا يُسْتَبَاحُ لُبْسُهُ بِحَالٍ، فَإِذَا كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ضُمِّنَ أَلْفَيْنِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وجهان: أحدهما: يضمنها دراهم فيلزمه ألفين دِرْهَمٍ أَلْفٌ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ وَالْأَلِفُ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمَّنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِإِزَاءِ الْأَلْفِ ويعطى مكان الصنعة ذهباً، لأن لا يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أَلْفَيْنِ مَكَانَ أَلْفٍ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ان ْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: لَيْسَتِ الْأَلِفَانِ مَكَانَ أَلْفٍ وَإِنَّمَا أَلْفٌ مَكَانَ أَلْفٍ وَالْأَلْفُ الْأُخْرَى بِإِزَاءِ الصَّنْعَةِ، أَلَا تَرَى أنه لو كسره فأذهب صَنْعَتَهُ وَلَمْ يَنْقُصْ وَزْنُهُ ضُمِّنَ أَلْفًا، وَلَوْ كان كما قال الأول لما جاز أيضاً أن يأخذ ألفاً وذهباً مكان ألف كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَلْفَيْنِ مَكَانَ أَلْفٍ، وَأَمَّا إِنْ أَتْلَفَ إِنَاءً مَصُوغًا وَزْنُهُ أَلْفٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ادِّخَارَهُ مَحْظُورٌ ضُمِّنَ وَزْنُهُ دُونَ صَنْعَتِهِ، لِأَنَّ الصَّنْعَةَ المحظورة لا قيمة لها فتكون أَلْفٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنِّ ادِّخَارَهُ مُبَاحٌ ضُمِّنَ قِيمَتُهُ مَعَ صَنْعَتِهِ كَضَمَانِ الْحُلِيِّ لِإِبَاحَةِ صَنْعَتِهِ فيلزمه ألفان. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن انْكَسَرَ حُلِيُّهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكَسْرُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُمْكِنُ لُبْسُ الْحُلِيِّ مَعَهُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْكَسْرِ، وَيَكُونُ فِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ كَثِيرًا يَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهِ فَلِلْمَالِكِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُعِدَّهُ كَنْزًا وَيَقْتَنِيَهُ مَالًا وَيَصْرِفَهُ عَنْ حُكْمِ الْحُلِيِّ فَهَذَا كَنْزٌ تَجِبُ زَكَاتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ إِصْلَاحَهُ وَيَزِيدَ عَمَلَهُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي إِصْلَاحِهِ وَلَا فِي اقْتِنَائِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا قَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْحُلِيِّ وَصَارَ مَالًا مُقْتَنًى فَتَجِبُ فِيهِ الزكاة قولاً واحداً. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَرِثَ رجلٌ حُلِيًّا أَوِ اشْتَرَاهُ فَأَعْطَاهُ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ أَوْ خَدَمَهُ هِبَةً أَوْ عَارِيَةً أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زكاة في قول من قال لا زكاة فيه إذا أرصده لما يصلح له فإن أرصده لما لا يصلح له فعليه الزكاة في القولين جَمِيعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ حُلِيًّا بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ مَغْنَمٍ فَإِنِ اقْتَنَاهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَعَدَّهُ لِلتِّجَارَةِ بِهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ حَلَّى بِهِ نِسَاءَهُ أَوْ جَوَارِيَهُ فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، وَلَوِ اتَّخَذَ رَجُلٌ حُلِيًّا للإعارة كان مباحاً وفي زكاته قولان. وقال أبو عَبْدُ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَكَانَ شَيْخَ أَصْحَابِنَا فِي عصره: اتخاذ الحلي للكرى وَالْإِجَارَةِ مَحْظُورٌ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ عُرْفِ السَّلَفِ بِالْإِجَارَةِ وعدل عما وردت به السنة والإعارة وَالْحُلِيُّ إِذَا عُدِلَ بِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاةُ الْمَحْظُورِ وَاجِبَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِ الزُّبَيْرِيِّ وَجْهٌ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُكْرَى حُلِيُّ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَحُلِيُّ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ فَإِنْ أَكْرَى حُلِيَّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَحُلِيَّ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ لأنه أُجْرَةٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ خَوْفَ الرِّبَا وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ إِجَارَةِ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ خَوْفَ الرِّبَا لَمُنِعَ من إجارته بدراهم مُؤَجَّلَةً خَوْفَ الرِّبَا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ فدل على فساد هذا الاعتبار والله أعلم. فصل : قال المزني رضي الله عنه: " وقد قال الشافعي في غير كتاب الزكاة لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ فِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةً وَلَيْسَ على المستعمل منها زَكَاةٌ فَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهُمَا زَكَاةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَعَمْرِي حُجَّةُ مَنْ أَسْقَطَ زَكَاةَ الْحُلِيِّ، إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهَا زَكَاةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ زَكَاةٌ، وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهَا زَكَاةٌ وَلِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا، بِأَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ، وَهُوَ السَّوْمُ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فَقَدْ عُدِمَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ فَسَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ، لِأَنَّ زَكَاتَهُمَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ يُعْتَبَرُ فَإِذَا اسْتُعْمِلَا لم يمنع استعمالهما وجوب الزكاة فيهما أو لا تَرَى أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْمَوَاشِي فِيمَا لَا يَحِلُّ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ فِيمَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَوَانِي وَالْحُلِيِّ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْمَوَاشِي وَبَيْنَ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْحُلِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 باب ما لا يكون فيه زكاة مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ من لؤلؤٍ أو زبرجدٍ أو ياقوتٍ ومرجانٍ وَحِلْيَةِ بحرٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَا في مسك ولا عنبر قال ابن عباس في العنبر إنما هو شيء دسره البحر ولا زكاة في شيء مما خالف الذهب والورق والماشية؛ والحرث على ما وصفت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ وَطِيبٍ، فَلَا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أبو يوسف: فِي الْعَنْبَرِ وَحِلْيَةِ الْبَحْرِ الْخُمُسُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَامَلُ عَاجِلًا فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَفَادَةَ نَوْعَانِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة في حجرٍ " اللؤلؤ حَجَرٌ، وَالْجَوَاهِرُ أَحْجَارٌ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَنْبَرُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " فَكَانَ قَوْلُهُ: " لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ " يَنْفِي وُجُوبَ الْخُمُسُ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ، وَقَوْلُهُ: " هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " يَنْفِي أن يكون فيه حق لغيره من أخذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وروي مجاهد عن ابن عباس أن سُئِلَ عَنِ الْعَنْبَرِ أَفِيهِ الزَّكَاةُ فَقَالَ: " لَا إنما هو شيء دسره البحر " أي يَعْنِي: قَذَفَهُ وَأَلْقَاهُ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ نَوْعَانِ: حَيَوَانٌ، وَجَمَادٌ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ مِنْ سُمُوكِهِ وَحِيتَانِهِ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ جَمَادِهِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ، وَبِعَكْسِهِ الْبَرُّ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ غَيْرِ حَيَوَانِهِ، مِنْ زُرُوعِهِ وَجَمَادِهِ. وَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرِّكَازِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَلَوْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ خُمُسِ جَمِيعِ الرِّكَازِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ إِنَّهُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُشْرِكٍ كَالْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِلْيَةُ الْبَحْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ، وَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَرِّ جَازَ أَنْ تَجِبَ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِبْ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 باب زكاة التجارة مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حماسٍ أَنَّ أَبَاهُ حِمَاسًا قَالَ مَرَرْتُ عَلَى عمر ابن الْخَطَّابِ وَعَلَى عُنُقِي أَدَمَةٌ أَحْمِلُهَا فَقَالَ أَلَا تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ المؤمنين مالي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي القرظِ فَقَالَ ذَاكَ مال فضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَامٍ هَذَا مَذْهَبُنَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لا زكاة فيه بحال. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: دَاوُدُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ". فَأَخْرَجَهَا بِالتِّجَارَةِ عَنِ الْحَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءً، لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ بِالتِّجَارَةِ مَعْنًى، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَكَانَ الْعَفْوُ عَلَى عُمُومِهِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا، فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا دُونَ قِيمَتِهَا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ وَمَا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا لَمْ تَجِبْ فِي قِيمَتِهَا، كَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ فَلَمَّا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ لا تأثير إليه فِي سُقُوطِ زَكَاتِهَا بِحَالٍ، كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فَلَمَّا سَقَطَتْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إِذَا نُوِيَ بِهَا الْقِنْيَةِ، عُلِمَ أَنَّ زَكَاتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِ النَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ عَرَضَ لِلنَّمَاءِ كَالْعَقَارِ إذا اؤجر وَالْمَعْلُوفَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عُرُوضُ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، قَبْلَ إِرْصَادِهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ أُرْصِدَتْ لِلتِّجَارَةِ فَهَذَا احْتِجَاجُ من أسقط زكاة التجارة. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهَا مَرَّةً، فَهُوَ أَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ النَّمَاءِ بِالرِّبْحِ، وَالرِّبْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا نَضَّ الثَّمَنُ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، كَالثِّمَارِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ وَإِجْحَافًا بِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا مِنْ زَكَاتِهَا مَا لَمْ يَتَعَجَّلِ الْمَالِكُ مِنْ رِبْحِهَا وَأُصُولُ الزَّكَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ فِي الِارْتِفَاقِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى تِلْكَ، لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ، إِلَّا أَنْ يَنِضَّ الثَّمَنُ وَتِلْكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ سَنَحَ الْخَاطِرُ بِالْأُولَى ثُمَّ أَجَابَ بِالثَّانِيَةِ فَجَرَى الْقَلَمُ بِهِمَا كذلك. والدلالة على وجوب زكاة التجارة قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ أعم الأموال فكانت أولى بالإيجاب، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَلَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ دل على أن ما أثبت في الزكاة عاماً فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُثْبَتَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمَنْفِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مُصَّدِّقًا فَرَجَعَ شَاكِيًا مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنِ جَمِيلٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ ظَلَمْتُمُوهُ لِأَنَّهُ حَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَالْأَعْتُدُ: الْخَيْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَدْرُعَ وَالْخَيْلَ لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ العين فثبت أن الذي وجب فيها زَكَاةُ التِّجَارَةِ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ فقال له: كيف خبرك يا أبا ذكر؟ فَقَالَ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَبَادَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَاحْتَوَشُوهُ وَكُنْتُ فِيمَنِ احْتَوَشَهُ فَقَالُوا لَهُ: حِدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته " قاله بِالزَّاي مُعْجَمَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَزَّ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ زكاة التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ ". وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ ". وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) {البقرة: 267) قَالَ: زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِنَّمَا خُصَّا من بين سائر الجواهر بإيجاب الزكاة فيها لِإِرْصَادِهِمَا لِلنَّمَاءِ، وَطَرِيقُ النَّمَاءِ بِالتَّقَلُّبِ وَالتِّجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهَا، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يجب إخراج زكاتها إلا إذا نَضَّ ثَمَنُهَا، فَحَدِيثُ حِمَاسٍ قَالَ: " مَرَرْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتها يَا حِمَاسُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا لِي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي الْقُرْظِ فَقَالَ: ذاك مال فوضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة "، فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا فِي كُلِّ عَامٍ، هُوَ أَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ، أَنْ يُزَكَّى في كل حول كالفضة والذهب هذه دَلَالَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ لَاقْتَصَرْتُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِذَا قَلَّ أَنْصَارُ الْمُخَالِفِ وَضَعُفَ حِزْبُهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوَفَّى الْعِلْمُ حَقَّهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الصَّدَقَةُ " فَهُوَ إِنَّمَا أَمْرٌ بِالتِّجَارَةِ لِيَكُونَ مَا يَعُودُ مِنْ رِبْحِهَا خَلَفًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا لِإِسْقَاطِ زَكَاتِهَا، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُسْقِطُ لِلَّهِ تَعَالَى حَقًّا أَوْ يُبْطِلُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ والرقيق " فلسنا نوجب الصدقة فيها وَإِنَّمَا نُوجِبُهَا فِي قِيمَتِهَا عَلَى أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ قَدِ اسْتَثْنَى فِي حَدِيثِهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ قُلْنَا: الزَّكَاةُ وَجَبَتْ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَمِنْهُ يُؤَدَّى لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ إِذَا لَمْ تَجِبِ فِي الْعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجِبَ فِي الْقِيمَةِ، هَذَا مِمَّا لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلى أصل، ولا يعتبر بنظير ولا يقصد بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ عَيْنٌ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَجَبَتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِيهِ قُلْنَا: لَيْسَتِ النِّيَّةُ مُسْقِطَةً، وَلَا مُوجِبَةً، وَإِنَّمَا إِرْصَادُهُ لِلنَّمَاءِ بِالتِّجَارَةِ مُوجِبٌ لِزَكَاتِهِ، كَمَا أَنَّ إِرْصَادَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِلتَّحَلِّي بِهِ مُسْقِطٌ لِزَكَاتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي الْحُلِيِّ مُسْقِطَةٌ لِزَكَاتِهِ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي التِّجَارَةِ مُوجِبَةٌ لِزَكَاتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ فَفَاسِدٌ بِالْحُلِيِّ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِذَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَالْمَاشِيَةُ الْمَعْلُوفَةُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أُرْصِدَتْ لِلنَّمَاءِ بِالسَّوْمِ، وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ بِمَا لَمْ يُرْصَدْ لَهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِإِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ وتسقط بفقده، وسائر الْأُصُولِ يَشْهَدُ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنُضَّ ثَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالثَّمَرَةِ، فَفَاسِدٌ بِمَا نَضَّ مِنْ ثَمَنِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنِ ارْتِفَاقِ الْمَسَاكِينِ قَبْلَ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِيمَا لَهُ حَوْلٌ لَمُنِعَ الْمَالِكُ مِنْ تَعْجِيلِ الِارْتِفَاقِ قَبْلَ الْمَسَاكِينِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الِارْتِفَاقَ بِرِبْحِ مَا حَصَّلَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ المساكين بمثله جاز أن يتعجل المساكين مَا لَمْ يَنُضَّ ثَمَنُهُ، وَلَمْ يُحَصَّلْ رِبْحُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ الْمَالِكُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا جَوَابٌ عن الدلالتين معاً. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اتَّجَرَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ ثلاثمائةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ لِحَوْلِهَا وَالْمِائَةَ الَّتِي زَادَتْ لِحْولِهَا وَلَا يضم ما ربح إليها لأنه ليس منها وإنما صرفها في غيرها ثم باع ما صرفها فيه ولا يشبه أن يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بها عرضاً للتجارة فيحول الحول والعرض في يديه فيقوم العرض بزيادته أو بنقصه لأن الزكاة حينئذٍ تحولت في العرض بنية التجارة وصار العرض كالدراهم يحسب عليها لحولها فإذا نص ثمن العرض بعد الحول أخذت الزكاة من ثمنه بالغاً ما بلغ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يزكي الأصل، والربح فيخرج زكاة ثلاثمائة، لا يَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلًا بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ ظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، أو في آخره، لأنه نما أَصْلِهِ، فَضُمَّ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ كَالسِّخَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أو يحابى أو يغين بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ لِمُحَابَاةٍ، أَوْ غَبْنَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ فباعه بثلاث مائة إما لرغبة أو غشه فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُزَكِّي جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيُخْرِجُ زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَفَادَ الزَّكَاةَ بِالْعَرَضِ، كَمَا لَوْ أَفَادَهَا بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَيَسْتَأْنِفُ بِهَا الْحَوْلَ كَالْمَالِ الْمُسْتَفَادِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَرَضِ عِنْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ. فَصْلٌ : وَإِنْ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِائَةِ الزَّائِدَةِ، هَلْ يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ حُصُولِهَا أَوْ يَبْنِي حَوْلَهَا على حول أصلها؟ فقال الشافعي ها هنا: " يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى أَصْلٍ " وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْقِرَاضِ " مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا قَارَضَهُ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً فَحَالَ الْحَوْلُ، وَهِيَ تَسْوِي أَلْفَيْنِ " فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْجَمِيعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ الماس وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ - إِلَى آخِرِ الْفَصْلِ - فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَى ضَمِّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالَّذِي قَالَهُ هُنَا إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ، وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ هُوَ إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَالَّذِي قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ إِنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ لَهَا الحول إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ، وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي ظُهُورِ الزِّيَادَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ ظَهَرَتْ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَوْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا نص عليه ها هنا، وَمَا قَالَهُ فِي " الْقِرَاضِ " مُوَافِقٌ لِهَذَا، لِأَنَّهُ قال: " يزكي رأس المال أو ربحه إِذَا حَالَ الْحَوْلُ " يَعْنِي: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَحَوْلُ الرِّبْحِ مِنْ يَوْمِ نَضَّ، وَحَوْلُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَوْمِ مُلِكَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ قوله: والمذهب الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ المروزي: إذ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَمَّ الزِّيَادَةُ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارِ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ضَمُّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا وُجِدَتْ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، لِأَنَّهَا فِي كُلِّ الْحَالَيْنِ مِنْ نَمَاءِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ عَلَى ما قاله ها هنا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَصَلَتْ بِاجْتِلَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ كَالْمُسْتَفَادِ بِمَغْنَمٍ أَوْ هِبَةٍ، والقول الأول أصح، لأنها عندي إذا أضمت الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهَلَّا ضُمَّتِ الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي تَضَاعِيفِهِ، إِذْ هُمَا سَوَاءٌ لا فرق بينهما ومن تكلف الفرق بينهما كان فرقه واهياً وتكلفه عماء، فلو اشترى عرضاً بمائتي درهم ثم باعه بعد ستة اشهر بثلاثمائة درهم، ثم اشترى بالثلاثمائة عرضاً ثم باعه بعد شهر بأربعمائة، فإن قيل تضم المائة الحاصلة إلى أصله بالربح الأول ضمت المائة الحاصلة بالربح الثاني، فإذا حال حول المائتين أخرج زكاة أربعمائة. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بعرضٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى عَرْضِ التِّجَارَةِ قُوِّمَ بِالْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ بلده دنانير أو دراهم وإنما قومته بالأغلب لأنه اشتراه للتجارة بعرضٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بدراهم أو دنانير أو ماشية وما أشبه فِيهَا الزَّكَاةَ، فَيَأْتِي مَسْطُورًا فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا إن اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلُ سَمُرَةَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ "، وَلِأَنَّهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ كَمَا إِذَا اشْتَرَاهُ بِنَاضٍّ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ذَهَبٍ أَوْ وَرَقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ زَكَاتِهِ قُوِّمَ بَعْدَ حَوْلِهِ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَرَضِ فِي وَقْتِ تَقْوِيمِهِ لَا فِي وَقْتِ ابْتِيَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ قَوَّمَهُ بِالدَّنَانِيرِ، لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ يَقُومُ به، لكان أَوْلَى الْأُمُورِ تَقْوِيمَهُ بِغَالِبِ النَّقْدِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ بِالْغَالِبِ نِصَابًا وَبَلَغَ بِغَيْرِ الْغَالِبِ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْغَالِبِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا غَالِبًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرَضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ وَتُخْرَجُ زَكَاتُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا وَبِالدَّرَاهِمِ لا تبلغ نصاباً فتقوم الدنانير وتخرج زَكَاتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُقَوَّمُ بِالدَّنَانِيرِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ قَوْلِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهِمَا يُقَوَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: هُوَ بِالْخِيَارِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قَوَّمَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِأَنَّ زكاتها مأخوذة بالنض وَزَكَاةُ الذَّهَبِ بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَذَاكَ الْوَجْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُقَوِّمُهُ بِأَحَظِّهِمَا لِلْمَسَاكِينِ وَأَنْفَعِهِمَا لَأَهِلِ السُّهْمَانِ. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ مِنَ الَّذِي قَوَّمَ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُقَوِّمُهُ بِهِ، فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ فِي زَكَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ يُخْرِجُ رُبُعَ عُشْرِ الْعَرَضِ حَتْمًا لَا يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ سَمُرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ " وَإِذَا أَمَرَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَوَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ زَكَاتُهُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ أَيْضًا إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْعَرَضِ، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ فِي تَخْيِيرِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَرِفْقًا بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنْ يُخْرِجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ حَتْمًا، فَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهِ عَرَضًا لَمْ يُجِزْهُ. وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ حِمَاسٍ " قِيمَةَ مَتَاعِهِ " وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أن تخرج الزكاة ما وَجَبَتْ فِيهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا مِنْ عَيْنِهِ وسنوضح معاني هذه الأقاويل بما نذكره في التَّفْرِيعِ. فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى مِائَةَ قَفِيزٍ حِنْطَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حنطة، وعلى القول الثاني فهو مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى زَادَتْ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ أربع مائة، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، يُخْرِجُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بعد الحول هي في ملكه لاحظ للمساكين فيها، فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ مِائَتَيْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ كَنُقْصَانِ السِّلْعَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، عَلَى الْأَوَّلِ يُخْرِجُ قَفِيزَيْنِ ونصف وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ وَبَيْنَ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَادِثٌ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَوْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ لِفَسَادٍ حَصَلَ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ بَلَلٍ أَوْ عَفَنٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ وَمُضَافًا إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النَّقْصِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً مِنْهَا وَدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ لِلنَّقْصِ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ مِثْلَ حِنْطَتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا أَخْرَجَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفًا لَا غَيْرَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سبعة دراهم ونصف لا غير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ فَهَذَا، عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ كما مضى. والضرب الثاني: أن يكون له حادثاً قبل إمكان الأداء فلا يكون ضَامِنًا، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا غَيْرَ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ وبين خمسة دراهم وعلى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ لَا غَيْرَ وَيَكُونُ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَى الْمَسَاكِينِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِ والله أعلم. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان في يديه عرض للتجارة تجب في قيمته الزكاة وأقام في يديه ستة أشهر ثم اشترى به عرضاً للتجارة بدنانير فأقام في يديه سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ معاً وقام أحدهما مكان صاحبه فيقوم العرض الذي في يديه ويخرج زكاته ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ فِي الْحَوْلِ بِعَرَضٍ ثَانٍ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي بِثَالِثٍ، وَالثَّالِثَ بِرَابِعٍ بَنَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَنْ بَادَلَ مَاشِيَةً بِمَاشِيَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ هُمَا دَلَالَةٌ وَفَرْقٌ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْعَرَضَ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ وَمِلْكُ الْقِيمَةِ مُسْتَدَامٌ فِي الْعُرُوضِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِالْبَيْعِ فَلِذَلِكَ بَنَى وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ فِي عَيْنِهَا وَمِلْكِهَا مُنْقَطِعٌ بِبَيْعِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ يَحْصُلُ بِبَيْعِهَا وَتَقْلِيبِ عَيْنِهَا فَلَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ مُبْطِلًا لِحَوْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى عرضاً بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بشيءٍ تَجِبُ فِيهِ الصدقة من الماشية وكان إفادة ما اشترى بِهِ ذَلِكَ الْعَرْضَ مِنْ يَوْمِهِ لَمْ يُقَوِّمِ العرض حتى يحول الحول من يوم أفاد ثَمَنَ الْعَرَضِ ثُمَّ يُزَكِّيهِ بَعْدَ الْحَوْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ درهم أو بعشرين دينار، فَحَوْلُ هَذَا الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِأَنَّ هَذَا الْعَرَضَ فَرْعٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُقَوَّمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِهِ فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ، فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ أم يَبْنِي عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يبني حول الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 أَمَّا الْمَذْهَبُ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَاشِيَةِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قَالَ: " لَمْ يُقَوِّمِ الْعَرَضَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ " فكان صريح نفيه وموجب جمعه من يوم يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مُبْقِيًا عَلَى حَوْلِ أصله. وأما الحجاج، فهو أنه صرف حولاً تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فِي فَرْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُ حَوْلُ الْفَرْعِ مُعْتَبَرًا بِأَصْلِهِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِنِصَابٍ مِنْ ذَهَبٍ أو ورق. والوجه الثاني: وهو قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَسْتَأْنِفُ لَهُ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِيهِ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِشَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ مُخَالِفٌ لِنِصَابِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ إِمَّا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ ثَلَاثُونَ مِنَ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابُ التِّجَارَةِ إِمَّا عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا على الآخر مع اختلاف نصبهما. والثاني: زكاة الماشية مخالفة لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَزَكَاةَ الْمَاشِيَةِ تَارَةً شَاةٌ، وَتَارَةً بَقَرَةٌ، وَتَارَةً بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْنَى حَوْلُ أحدهما على الآخر مع اختلاف زكاتهما وبهذا يَفْسُدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ، فَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ مَذْهَبًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَلَكَ مَاشِيَةً فَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَهَا فِيهِ فَكَانَ حَوْلُ الْعَرَضِ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ الْمَاشِيَةَ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الماشية " فكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يَوْمِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَاشِيَةٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ وَسَامَهَا فَوَجَبَتْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَسَقَطَتْ زَكَاةُ الْعَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ ابْتَاعَ بِهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ، فَحَوْلُ الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَاشِيَةَ لِأَنَّ زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ فِي قِيمَتِهَا كَالْعَرَضِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبَيْنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْمَاشِيَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي جَوَابِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ، وَمُطْلَقُ الْأَثْمَانِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَكَانَ الجواب راجعاً إليهما ومحمولاً. مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ هذا العرض في يديه ستة أشهر ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يديه ستة أشهر زكاها. قال المزني: إذا كانت فائدته نقداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 فحول العرض من حين أفاد النقد لأن معنى قيمة العرض للتجارة والنقد في الزكاة ربع عشر وليس كذلك زكاة الماشية ألا ترى أن في خمس من الإبل السائمة بالحول شاة أفيضم ما في حوله زكاة شاةٍ إلى ما حوله زكاة ربع عشر ومن قوله لو أبدل إبلاً ببقرٍ أو بقراً بغنمٍ لم يضمها في حول لأن معناها في الزكاة مختلف وكذلك لا ينبغي أن يضم فائدة ماشية زكاتها شاة أو تبيع أو بنت لبون أو بنت مخاضٍ إلى حول عرضٍ زكاته ربع عشر فحول هذا العرض من حين اشتراه لا من حين أفاد الماشية التي بها اشتراه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الثَّمَنِ، إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الثَّمَنِ، وَاخْتِلَافَ حُكْمِهِ، فَأَمَّا عَرَضُ التِّجَارَةِ إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَمَنٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الثَّمَنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُونَ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَإِنْ تَمَّ نِصَابًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصَابًا فَصَاعِدًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ما يقوم به ذلك العرض، كأنه دراهم، وَالْعَرَضُ مِمَّا يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ إِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَنَى حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْعَرَضِ أخرج زكاته، لأنه مَا حَصَلَ مِنْ قِيمَتِهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قِيمَتِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يُقَوَّمُ بِهِ ذلك العرض، كأنه دراهم والعرض مما يقوم بِالدَّنَانِيرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ وَإِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ إِلَى عَيْنٍ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْعَرَضِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِهِمَا وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ " عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 العرض، لأن التقلب الَّذِي بِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْعَرَضِ، لَا يَحْصُلُ إلا بتقلب الْأَثْمَانِ وَاخْتِلَافِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْحَوْلِ، وَهَذَا أَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَعُرُوضِ الْقِنْيَةِ فَقَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فيه الزكاة من قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي السَّائِمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا، فَإِنْ نَوَى بِهَا التِّجَارَةَ بَنَى حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ وَزَكَّاهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَأَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ وَالْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِي قِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَلَا فِي عَيْنِهَا لِنَقْصِهَا عَنِ النِّصَابِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ نِصَابًا فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرْصُدَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلْقِنْيَةِ فَإِنْ أَرْصَدَهَا لِلتِّجَارَةِ فَهَلْ يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْ زَكَاةَ الْعَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ كَالَّتِي أَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ، وَأَعَدَّهَا لِلْقِنْيَةِ وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ التِّجَارَةِ، وَهَلْ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ الْمَاشِيَةِ، جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْمَاشِيَةِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النُّصُبِ وَاخْتِلَافِهِمَا في الزكاة. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَرَضَ بِمَائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يقوم إلا بدراهم وَإِنْ كَانَ الدَّنَانِيرُ الْأَغْلَبَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ نِصَابًا إِمَّا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَهَذَا يُقَوِّمُهُ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ غَيْرَهُ فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَوَّمَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَمَّهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ، وَإِذَا اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَّمَ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا، وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَوِّمُهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَمَ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِغَالِبِ النَّقْدِ كَالْمُتْلَفَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَضَ فَرْعٌ لِثَمَنِهِ وَتَقْوِيمُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ أَوْلَى مِنْ تَقْوِيمِهِ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجْمَعْهُمَا غَيْرُهُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَوْلَهُ يعتبر بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي التَّقْوِيمِ، أو لا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِهَا فَإِذَا عدمتها ردت إلى الغالب، وكذلك فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَمَّا الْمُتْلَفَاتُ فَإِنَّمَا قُوِّمَتْ بِالْغَالِبِ لِعَدَمِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جنساً واحداً. والثاني: أن يكون جنسين فإن كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى ثَمَنِهِ لم يقومه بثمنه. والوجه الثاني: يقوم بنفسه وهو أصح لأن فَرْعُهُ فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ جِنْسَيْنِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 أَحَدُهَا: يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَالثَّانِي: بِثَمَنِهِ فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا. وَالثَّالِثَ: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَطَرِيقُهَا النَّصُّ، والدنانير بيع وطريقها الاجتهاد. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ بدراهم وزكيت الدنانير بقيمة الدراهم لأن أصل ما اشترى به العرض الدراهم وكذلك لو اشترى بالدنانير لم يقوم العرض إلا بالدنانير ولو باعه بدراهم وعرض قوم بالدنانير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِدَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ فَإِنْ عَلِمَ قِيمَةَ الْعَرَضِ بِالدَّرَاهِمِ عِنْدَ حُلُولِ حَوْلِهِ أَخْرَجَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قِيمَتَهُ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ الْحَاصِلَةَ مِنْ ثَمَنِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَأَخْرَجَ الزَّكَاةَ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا دَنَانِيرَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا دَنَانِيرَ لَمْ تجزه، لأنه أخرج غير ما وجبت عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِبَيْعِ الْعَرَضِ بِالدَّنَانِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّنَانِيرِ، قَبْلَ الْحَوْلِ، وَتَسْقُطَ زَكَاةُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَمَنْ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَسَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهَا وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ زكاتها. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَا زَكَاةَ فِي الدَّنَانِيرِ الْأَخِيرَةِ وَلَا فِي الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَقَامَتْ بِيَدِهِ أَكْثَرَ الْحَوْلِ " ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا التِّجَارَةَ، وَلَا يَبِيعَهَا لِطَلَبِ الرِّبْحِ فَهَذَا يَسْتَأْنِفُ بِمَا مَلَكَهُ أَخِيرًا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى. وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا الْبَيْعِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا فِي بَيْعِ الْمَوَاشِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفًا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ وَالنَّمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يبني على حَوْلِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى وَيُزَكِّي، وَلَا تَسْقُطُ الزكاة بالبيع اعتباراً بعروض التجارة، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أُصُولِهَا زَكَاةٌ فَلِأَنْ تَجِبَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي أَصْلِهَا زَكَاةً وَلِأَنَّ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ مَعَ عَدَمِ النَّمَاءِ، فَلِأَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ مَعَ حُصُولِ النَّمَاءِ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا زَكَاةَ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَبْنِي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ زَكَاتُهُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بغيره كالمواشي، إذا بادلها بمواشي، وَلِأَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَصْلِ، لِأَنَّ ما يحصل من ربحها يسير، لأن إِنْ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِثْلًا بمثل، فإن بَاعَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا يَدًا بيد ومع ارتفاع النَّسِيئَةِ يَقِلُّ الرِّبْحُ وَهَذَا أَقْيَسُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِغَيْرِ تجارةٍ فَهُوَ كَمَا لو ملك بغير شراءٍ فإن نوى به التجارة فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فيه فإذا نَوَى بَعْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، حَتَّى يَتَّجِرَ بِهِ وَلَا يَكُونُ لِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ حُكْمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ عَرَضَ التِّجَارَةِ، لَوْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ عَرَضُ الْقِنْيَةِ، إِذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْعَرَضِ لِأَجْلِ التجارة، والتجارة تصرف وفعل الحكم إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلٍ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حتى يقترن به الفعل وشاهد ذلك من الزَّكَاةِ، طَرْدٌ وَعَكْسٌ فَالطَّرْدُ أَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِالسَّوْمِ، فَلَوْ نَوَى سَوْمَهَا وَهِيَ مَعْلُوفَةٌ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا السَّوْمُ، وَالْعَكْسُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ إِلَّا أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَوْ نَوَى أَنْ تَكُونَ حُلِيًّا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حتى يقترن بها الفعل، وإن كَانَ شَاهِدُ الزَّكَاةِ طَرْدًا وَعَكْسًا يَدُلُّ عَلَى مَا أُثْبِتَ مِنِ انْتِقَالِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْفِعْلِ حِينَ يُوجَدُ الْفِعْلُ ثَبَتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 أَنَّ عُرُوضَ الْقِنْيَةِ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا فِعْلُ التِّجَارَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَسَنَجْعَلُ الْجَوَابَ عَنْهُ فَرْقًا نَذْكُرُهُ فِي موضعه، من المسألة الآتية بشاهد واضح. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى شيئاً للتجارة ثم نواه لقنيةٍ لم يكن عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَلَا يُشْبِهُ هذا السائمة إِذَا نَوَى عَلَفَهَا فَلَا يَنْصَرِفُ عَنِ السَّائِمَةِ حَتَّى يَعْلِفَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزكاة وثبت له الحول من وَقْتِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَجَرَّدْ عَنِ الْفِعْلِ فَإِنْ قِيلَ: لَوِ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَةِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَةً بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهَا الْقَوْلُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا؟ قِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّاةَ يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ أُضْحِيَةً بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ أُضْحِيَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَرَضُ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْقَوْلِ، وَلَا بِالنِّيَّةِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلتِّجَارَةِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ أُضْحِيَةً يزيل الملك والشراء بجلب الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا، وَجَعْلُ الْعَرَضِ لِلتِّجَارَةِ غَيْرُ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يُنَافِ الشِّرَاءَ فَصَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ فَالزَّكَاةُ جَارِيَةٌ فِيهِ، فَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ صَارَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَسَقَطَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَلَا يَصِيرَ لِلتِّجَارَةِ، أَنَّ الْقِنْيَةَ كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ، فَإِذَا نَوَاهَا فَقَدْ وُجِدَ الْكَفُّ، وَالْإِمْسَاكُ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِهِ فَصَارَ لِلْقِنْيَةِ وَالتِّجَارَةُ، فِعْلٌ وَتَصَرُّفٌ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَإِذَا نَوَاهَا وَتَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلٍ يُقَارِنُهَا لَمْ تَصِرْ لِلتِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يُوجَدْ وَشَاهِدُ ذَلِكَ السَّفَرُ الَّذِي يتعلق بوجوده، أحكام وزواله أَحْكَامٌ، فَلَوْ نَوَى الْمُقِيمُ السَّفَرَ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا، لِأَنَّ السَّفَرَ إِحْدَاثُ فِعْلٍ وَالْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لُبْثٌ وَكَفٌّ عَنْ فِعْلٍ، وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ فَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عَرَضَانِ لِلتِّجَارَةِ، فنوى قنية أحدهما كان ما لم يبقه قِنْيَتَهُ عَلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا نَوَى قِنْيَتَهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ التِّجَارَةِ، لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عرض للتجارة فنوى قنية بعضه، فإن وجد ذلك البعض بإجارة عَنِ الْجُمْلَةِ أَوْ إِشَاعَةٍ مَعْلُومَةٍ، كَانَ مُقْتَنِيًا لما نوى من بعضه متخيراً لما بقي من جملته، وإن لم يجد ذَلِكَ الْبَعْضَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا حُكْمَ للقنية لِلْجَهْلِ بِهَا، وَيَكُونُ جَمِيعُ الْعَرَضِ عَلَى حُكْمِ التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْعَلُ نِصْفُهُ لِلْقِنْيَةِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي لِلتِّجَارَةِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ وَتَعْدِيلًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ. فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِالنِّيَّةِ، وأن يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ مِنْ قِنْيَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ فَأَمَّا مَا اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ عَرَضًا بعرض عنده وَيُعْطِيَهُ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلْقِنْيَةِ فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ فَيَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، وَإِنَّ فِي إِحْدَاثِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَشَقَّةً فَكَانَ ظَاهِرَ حَالِهِ استصحاب التجارة، ما لم تعتبر النِّيَّةَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عند بائعه للقنية، ففيه وجهان: أصحهما: أن يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةً تَنْقُلُ عَنْهُ. والوجه الثاني: أن يَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ الْعَرَضِ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بائعه للتجارة، فإن لَا يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يُسْتَدَامُ حُكْمُهُ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي هذا الموضع. فَصْلٌ : قَدْ مَضَى حُكْمُ الْعُرُوضِ الْمَمْلُوكَةِ بِالشِّرَاءِ، فَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ بِغَيْرِ شِرَاءٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ بِعَرَضٍ كَالصُّلْحِ، وَرُجُوعِ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَرُجُوعِ السِّلْعَةِ عَلَى بَايِعِهَا بِعَيْبٍ، وهذا على ضربين: أحدهما: ما يبتدي بملكه بِعَقْدٍ، وَهُوَ الصُّلْحُ وَمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعُرُوضِ عِوَضًا عَنْ دَيْنِهِ، فَهَذَا كَالَّذِي يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ فَيَعْتَبِرُ نِيَّةَ تَمَلُّكِهِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ كَانَ لِلْقِنْيَةِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ كَانَ لِلتِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ إِلَى تَمَلُّكِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَاسْتِرْجَاعُهُ الْمَبِيعَ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ فَهَذَا يعتبر حكمه، بعد رجوعه إلى تملكه بحكمه قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ، وَجَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلْقِنْيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْقِنْيَةِ وَنَوَى بِاسْتِرْجَاعِهِ التِّجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ نَوَى التِّجَارَةَ فِيمَا بِيَدِهِ لِلْقِنْيَةِ، لِأَنَّهُ لم يبتدي تَمَلُّكَهُ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا عَادَ إِلَى تَمَلُّكِهِ فَعَادَ إِلَى حُكْمِ أَصِلِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَا مَلَكَ بِعِوَضٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا مَلَكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْغَنِيمَةِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى بِتَمَلُّكِهِ التِّجَارَةَ، لأن العرض إنما يصير لتجارة بِفِعْلِ التِّجَارَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّمْلِيكَاتُ مِنَ التِّجَارَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ التِّجَارَةِ، وكانت للقنية لا تجزي فِيهَا الزَّكَاةُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَ بِصَدَاقٍ أَوْ إجارة. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان يملك أقل مما تجب في مثله الزَكَاةُ زَكَّى ثَمَنَ الْعَرْضِ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ العرض لأن الزكاة تحولت فيه بعينها ألا ترى أنه لو اشتراه بعشرين ديناراً وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل سقطت عنه الزكاة لأنها تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشتري به ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِصَابٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَأَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ، فأما إذا اشترى عرضاً بدون النصاب كأن اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَالزَّكَاةُ فِيهِ جَارِيَةٌ وَيَكُونُ أَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ اشْتَرَاهُ، لَا مِنْ حِينِ مَلَكَ الثَّمَنَ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ نِصَابًا جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُؤَثِّرُ نُقْصَانُ قِيمَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَفِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة، وَمِنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، وَتَجِبُ فِي الْعَيْنِ فَلَمَّا كَانَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ، كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْتَدَأَ حَوْلُهُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ مِمَّا يَتْبَعُ أَصْلَ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ، كَمَا أَنَّ سِخَالَ الْمَوَاشِي تَبَعٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي حَوْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَدْخُلِ السِّخَالُ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ نِصَابًا لَمْ يَدْخُلِ الرِّبْحُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 حُكْمِ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَتَحْرِيرُ ذلك، أن يقال: إنه نماء مال فيجري فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنِّصَابِ كَالسِّخَالِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ حَالَ حَوْلُهُ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّرْعِ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ نصابه في أثنائه، وقيل حصاده لم يعتبر نصابه في بدره، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَالٌ لَا يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي ابْتِدَائِهِ كَالزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لا يكون نقصان قيمته قبل الحول منقصاً لِلزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ نَقَصَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عينه. فالمعنى فيه: أن لَمَّا اعْتُبِرَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ اعْتُبِرَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي أَثْنَاءِ حَوْلِ الْعُرُوضِ، لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السِّخَالِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ دُونَ النِّصَابِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تعتبر قيمته عند حلول حول الثمن الذي ابتاعه به كأن بلغت نصاباً فأكثر إخراج زَكَاتِهِ مِنْ قِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ فَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ حَتَّى بَلَغَتْ نِصَابًا، كأن كان يسوي عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ حَتَّى صَارَتْ تُسَوِّي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ الثَّانِي لِنَقْصِ قِيمَتِهِ عَنِ النِّصَابِ، وَقْتَ اعْتِبَارِهَا وَهُوَ رَأْسُ الْحَوْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِحَوْلِهِ الْمَاضِي وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى حِينِ الزِّيَادَةِ. فَصْلٌ : فَإِنِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْمِائَةِ عَرَضًا ثَانِيًا، اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَلَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَضَّ ثمنه وكان دون النصاب بطل حَوْلِهِ وَمَنِ اعْتَبَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا قِيمَةَ الْعَرَضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، يَقُولُ: قَدْ بَطَلَ حَوْلُ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ بِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ حَوْلَ الثَّانِي إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 فَصْلٌ : إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِخَمْسِينَ مِنْهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ، وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ضَمَّهَا إِلَى الْخَمْسِينَ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَرَضِ مَعَ الدَّرَاهِمِ نِصَابٌ كَامِلٌ، وَلَوْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِجَمِيعِ الْمِائَةِ عَرَضًا ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ شَهْرٍ مِائَةً أُخْرَى نُظِرَ، فَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ زَكَّاهُمَا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ زَكَّاهَا أَيْضًا وَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ، وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ لَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى يَحُولَ حَوْلُ الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ فَإِنْ حَالَ حَوْلُهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْمِائَةُ إِذَا ضَمَّهَا إِلَى قِيمَةِ الْعَرَضِ صَارَتْ نِصَابًا كَامِلًا زَكَّى الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُزَكِّهَا. فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى عَرَضَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَوَّمَهُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا شيء عليه، وإن كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَاشْتَرَى بهما عرضين بنى حوليهما عَلَى حَوْلِ الْمِائَتَيْنِ، فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ اعْتُبِرَ حَوْلُ الْبَاقِي مِنْ حِينِ مِلْكِهِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ. فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ بِدَيْنٍ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَالثَّانِي: بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ زَكَّاهُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِحَالٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ عَلَى مُعْسِرٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ بِحُلُولِ حَوْلِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مُوسِرٍ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ فَهَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وَقَبَضَهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بَدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَالِكًا لِلدَّيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ، هَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وقبضه أخرج زكاته. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَمْنَعُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ زَكَاةَ الفطر إذا كانوا مسلمين ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمالٍ إنما هي طهور لمن لزمه اسم الْأَيْمَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَلَكَ عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهِمْ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي رَقَبَتِهِمْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَقَالَ أبو حنيفة: تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وتسقط زكاة الفطر لأنهما زكاتان، فلم يجب اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَالٍ كَسَائِمَةِ الْمَاشِيَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهَا، وَزَكَاةُ السَّوْمِ فِي رَقَبَتِهَا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إِلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَلِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ بِزِيَادَتِهَا، وَتَنْقُصُ بِنَقْصِهَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ عَنِ الرَّقَبَةِ بدليل أنها تجب عن الحرم، والعبد وإذا اختلف سبب وجوبها لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا، كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَجَزَاؤُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ لَا عَنْ رَقَبَتِهِ وَكَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَبْطُلُ ما احتج به من ينافي زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَزَكَاةَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنَّهُمَا حَقَّانِ يَخْتَلِفُ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كالصيد المملوك والحدين المختلفين، ولأن لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِ السَّيِّدِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ، أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَزَكَاةُ التجارة عن قيمته، ولأن زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الخلاف فيها، فلو جاز إسقاط إحديهما بِالْأُخْرَى لَكَانَ إِسْقَاطُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ بِالْفِطْرِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتِّجَارَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْعُشْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الزَّرْعِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ ذَاكَ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ زَرْعًا لِلتِّجَارَةِ أَوْ ورثها زكاها زكاة النخل والزرع وَلَوْ كَانَ مَكَانَ النَخْلِ غراسٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا زَكَّاهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ أَرْضًا أَوْ مَاشِيَةً، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ غَيْرَ سَائِمَةٍ وَالْأَرْضُ غَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، وَالنَّخْلُ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ فَيُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ سَائِمَةً وَالْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَالنَّخْلُ مُثْمِرَةً فَهَذَا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تجب فيها زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ أَوْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ دُونَ الْعَيْنِ وذلك بأن يكون أقل من خمسة مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ وَأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقِ زَرْعٍ وَثَمَرَةٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ، فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الزَّكَاتَانِ جَمِيعًا زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِأَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجِبَ الزَّكَاتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ بِدُونِ الْمِائَتَيْنِ فَيَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِحُلُولِهِ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِحُلُولِهِ، أَوْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا نَخْلًا فَيُثْمِرُ وَيَبْدُو صَلَاحُهُ، بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، بِحُلُولِ الْحَوْلِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا إِحْدَى الزكاتين إجماعاً لأن سبب وجوبها وَاحِدٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الزَّكَاتَيْنِ أَثْبَتُ حُكْمًا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَثْبَتُ وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، دُونَ زَكَاةِ الْعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ، وأخص لِاسْتِيفَائِهَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَاخْتِصَاصُ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِالْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقْوَى مِنْ زَكَاةِ العين وآكد لوجوبها فِي جَمِيعِ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ وَاخْتِصَاصِ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَثْبَتُ، وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، لمعنيين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 أحدهما: أنها أقوى من زكاة التجارة، وأؤكد لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الْخِلَافِ فِيهَا، فَكَانَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، أَوْلَى مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الرَّقَبَةِ، وَزَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْقِيمَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا جَنَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اسْتَوَتِ الزَّكَاتَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ وُجُوبَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ، بِأَنْ يَتَعَجَّلَ حَوْلَ التِّجَارَةِ قَبْلَ صَلَاحِ الثَّمَرَةِ، أَوْ يَتَعَجَّلَ صَلَاحَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ حَوْلِ التِّجَارَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أبو حفص بن الْوَكِيلِ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ: يُزَكِّي أَعْجَلَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا سَبِيلَ إِلَى إسقاط زكاة وجبت في الحال، ويؤكده أن يجب في ثاني الحال. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِتَعَذُّرِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَالِبِ وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إن زكاة البحارة أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ فِي " الْقَدِيمِ " قُوِّمَ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ، وَأُخْرِجَ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَوْلَى أُخْرِجَ عُشْرُ الثَّمَرَةِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا، عَلَى حَسَبِ حَالِهَا، ثُمَّ هَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَأَصْلِ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنُوبُ عَنْهَا، وَيُقَوَّمُ لِلتِّجَارَةِ فَيُخْرَجُ رُبْعُ عُشْرِهَا، إِنْ بَلَغَتِ الْقِيمَةُ نِصَابًا، لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَعْيَانِ مَأْخُوذَةٌ عَنْهَا لَا عَنْ أُصُولِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا زَرَعَ فِي أَرْضِ يَهُودِيٍّ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكَ الْأَرْضِ مِمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ لأن لا يجتمع زَكَاتَانِ فِي مَالٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأرض بياض غير مشغول يزرع وَلَا نَخْلٍ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا فَلَوْ بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ إِذَا قُلْنَا: بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَهَلْ يَعْدِلُ إِلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَيُزَكِّي زَكَاةَ التِّجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ لَا تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: لَا يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " والخلطاء في الذهب والورق في الماشية والحرث على ما وصفت سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ " الزَّكَاةِ " وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا، وَفِي الْجَدِيدِ يُجَوِّزُهَا فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْخُلْطَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فِي أَحَدِ مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِثَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فيكونان خليطين يزكيان زَكَاةَ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَيَشْتَرِيَانِ بِهِمَا عَرَضًا فَيَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ فِيهِ يُزَكِّيَانِهِ زَكَاةَ الْوَاحِدِ، فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَخَلَطَاهَا جَمِيعًا وَتَرَكَاهَا حَتَّى حَالَ حولها، فليست هذه الخلطة تُوجِبُ الزَّكَاةَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا غَيْرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 باب زكاة مال القراض مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا دفع الرجل ألف درهم قراضاً على النصف فاشترى بها سلعةً وحال الحول عليها وهي تساوي ألفين ففيها قولان أحدهما أنه تزكى كلها لأنها ملك لرب المال أبداً حتى يسلم إليه رأس ماله وكذلك لو كان العامل نصرانياً فإذا سلم له رأس ماله اقتسما الربح وهذا أشبه والله أعلم والقول الثاني أن الزكاة على رب المال في الألف والخمسمائة ووقفت زكاة خمسمائة فإن حال عليها حول من يوم صارت للعامل زكاها إن كان مسلماً فإذا لم يبلغ ربحه إلا مائة درهم زكاها لأنه خليط بها وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فلا ربح لمسلمٍ حتى يسلم إلى النصراني رأس ماله في القول الأول ثم يستقبل بربحه حولاً والقول الثاني يحصي ذلك كله فإن سلم له ربحه أدى زكاته كما يؤدي ما مر عليه من السنين منذ كان له في المال فضلٌ قال المزني: أولى بقوله عندي أن لا يكون على العامل زكاةٌ حتى يحصل رأس المال لأن هذا معناه في القراض لأنه يقول لو كان له شركةٌ في المال ثم نقص قدر الربح كان له في الباقي شركٌ فلا ربح له إلا بعد أداء رأس المال ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقِرَاضُ فَبِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْمُضَارَبَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ أَلْفًا قِرَاضًا إِلَى رَجُلٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ رِبْحِهَا فَاشْتَرَى بِالْأَلْفِ سِلْعَةً، وَحَالَ الْحَوْلُ عليها، وقيمتها ألفان ففي زكاتها قولان: بناه على اختلاف قول الشَّافِعِيِّ فِي الْعَامِلِ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ أَوْ أَجِيرٌ لَهُ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: إِنَّهُ أَجِيرٌ مِنَ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لَهُ، وَلَا يَكُونُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ إنما هو داخل ببدنه لا يملكه فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِأَنَّ شَرِكَةَ الأبدان لا تصح، فثبت أنه أجبر. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرِيكًا لَكَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْوَضِيعَةِ وَالْعَجْزِ كَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْفَضْلِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَجْزِ شَرِيكًا لَمْ يَكُنْ فِي الرِّبْحِ شَرِيكًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ بِمَا شُرِطَ فِيهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أنه لو كان أجيراً لكان عوضه معلماً ولا يستحقه وَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مَعْدُومًا، فَلَمَّا جَازَتْ جَهَالَةُ عِوَضِهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا عِنْدَ عَدَمِ رِبْحِهِ لَمْ يَجُزْ، أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا وثبت كونه شريكاً. والثاني: هو أن الإجازة لَازِمَةٌ وَالشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ غَيْرُ أَجِيرٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فالزكاة فرع عليها، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ فَزَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى هَذَا القول ملكاً لَهُ، وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْمَالِ فَشَابَهَتْ سَائِرَ المؤن وهذا أخص بِالْعَامِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخْرِجُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ بأصله وَرِبْحِهِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ، فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ مِنَ الربح خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا أخرجه من أصل المال فأما العالم عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِذَا قَبَضَهَا اسْتَأْنَفَ حولها فإذا قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَصْلُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ، والخمسمائة ربح، ومن أين تخرج زَكَاتُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْعَامِلُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَا شَرِيكَ بِهَا، وَفِي ابتداء حولها وجهان: أحدهما: من حين ظهور الرِّبْحُ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ ظَهَرَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ حِينِ الْمُحَاسَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ، لِأَنَّهَا بِذَلِكَ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا لم يلزم إخراج زكاتها حتى يقبضها بجواز تَلَفِ الْمَالِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهِ فَيَبْطُلُ الرِّبْحُ فَإِنْ قَبَضَهَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ نَصْرَانِيًّا وَرَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ المال زكاة ألف وخمسماية، وَتَسْقُطُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَلَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ شريك فلا زكاة في ألف وخمسماية لأنها ملك النصراني، وعلى العامل زكاة خمسماية، إِذَا حَالَ حَوْلُهَا فَلَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرَضِ بَعْدَ الْحَوْلِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَعَلَى الْعَامِلِ زكاة المائة إن كان مالكاً لتمام النصاب وإن لم يملك سواها، ففي إيجاب زكاتها قولان: من اختلاف قوله في جواز الخلطة في الدراهم والدنانير فعلى القديم لا زكاة عليه فيها، وعلى الجديد عليه زكاتها إلا أن يكون رب المال نصرانياً، فلا زكاة عليه قولاً واحداً لأنه خليط النصراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 بَابُ الدَّيْنِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَزَكَاةُ اللُّقَطَةِ وَكِرَاءُ الدور والغنيمة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ السُّلْطَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ حَتَى حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا ثُمَّ قَضَى غُرَمَاءُهُ بَقِيَّتَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ عَرَضًا أَوْ عَقَارًا بِقِيمَةِ الْمِائَتَيْنِ الدَّيْنِ فَهَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَ سِوَى الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ، وَقَدْ حَالَ حَوْلُهَا وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مُؤَجَّلًا، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ، لَا يَخْتَلِفُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ حَالًّا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ مَا بِيَدِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ من الْجَدِيدِ أَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، وَقَوْلُ أبي حنيفة فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَوَاشِي دُونَ مَا عداهما. والقول الثاني: نص عليه في الجديد إن الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا وَإِنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَبِهِ تَقَعُ الْفَتْوَى. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا في فقرائكم " ومنه دليلان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 أحدهما: أن من استوعب دينه ما بيده فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ صِنْفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَصِنْفًا تُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهَذَا مِمَّنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال في الحرم خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هذا أشهر زَكَاتِكُمُ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ ثُمَّ يزكي بقية ماله ". وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْهَا كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَالٌ يُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مانعاً سنة كالميراث لا يستحق ثبوت الدين فيه وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ وَفِي الْمَالِ زَكَاةٌ، لَوَجَبَتْ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّوْمِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةُ تُطَهِّرَهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) وَمَا بِيَدِهِ مَالُهُ يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَرَوَى عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ مَعَكَ مَائِتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ " وَهُوَ مَالِكٌ لِمَا بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَهْنَ الْمَالِ فِي الدَّيْنِ أَقْوَى واستحقاقه بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الرَّقَبَةِ، وَالدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ فِي الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَانَ أَوْلَى، أَنْ لَا يَكُونَ مُجَرَّدُ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً فِي الْعَيْنِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالْعَبْدِ إِذَا جَنَى وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِثَمَنِهِ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا ثَبَتَ مِنَ الدَّيْنِ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالدَّيْنِ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لِزَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَمْرٍو وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ، يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الدَّيْنُ مِنْ ثُبُوتِهِ كَالْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ مَحْضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ثُبُوتِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِهِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ كَالدَّيْنِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ على مالك وأبي حنيفة أن يقول: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فجاز، أن يجب على ما اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَهُ، كَالْعُشْرِ فِي الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فيه، لأن أول دليله يَنْفِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، وَثَانِي دَلِيلِهِ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُودِ قِسْمٍ ثَالِثٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ بَنُو السَّبِيلِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الْغَائِبَةِ، وَتُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فِي أَسْفَارِهِمْ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الزَّكَاةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ والمجنون، وإن لم يجب الحج عليها، وَوُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَقِيرِ، إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الْوُجُوبِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَلَيْسَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَاصِلٌ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ لَاسْتَحَقَّ مِيرَاثَ مَيِّتِهِ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ كَانَ مَعَهُ قَدْرُ دَيْنِهِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْهُ ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ فَدَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ بَلْ هُمَا مَالَانِ لِرَجُلَيْنِ فَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ، وَزَكَاةُ الدين على مالكه والعين غير الدين. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَنَا زَكَاةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ زَرْعٍ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا، أَوْ مِثْلُ قِيمَتِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ كَانَتِ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنًا فَزَكَاتُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَتَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا درهم ديناً فعلى هذين القولين أحدها: تَجِبُ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْأَرْبَعِمِائَةِ إِذَا قُلْنَا الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نقداً، فقال قبل الحول إن شفا الله مريضي فالله عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى وَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 أَحَدُهُمَا: يَمْنَعُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. والثاني: لا يمنع وعليه زكاة لِأَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ أَوْكَدُ مِنَ النَّذْرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ عَلَى أَدَائِهِ أَمِينٌ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَهُ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ، وَيَسْتَوْفِيهِ وَلَوْ قَالَ ومعه مائتا درهم: إن شفا اللَّهُ مَرِيضِي تَصَدَّقْتُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَعَيَّنَ النَّذْرَ فِيهَا، فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَجَوَابُهَا عَكْسُ ذَلِكَ الْجَوَابِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَمْنَعُ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْنَعُ، لِأَنَّ هَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَمَنَعَ الزَّكَاةَ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَلَمْ يمنع الزكاة، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَجَعَلَ لَهُ مَالَهُ حَيْثُ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُمْ دُونَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وهكذا في الزرع والثمر والماشية التي صدقتها منها كالمرتهن للشيء فيكون للمرتهن ماله فيه وللغرماء فضله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا بِيَدِهِ، فَقَدِمَ إِلَى الْقَاضِي فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَدَائِهِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى مَالِهِ، فَهَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَكُونُ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَيَجْعَلَ لِغُرَمَائِهِ أَخْذَ مَالِهِ حيث وجدوه بتمليك منه كأن قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَدْ جَعَلْتُ لَكَ بِدَيْنِكَ الْعَبْدَ الْفُلَانِيَّ، أَوِ الثَّوْبَ الْفُلَانِيَّ، الَّذِي قد عرفته، وبعتك هو بِمَالِكَ عَلِيَّ فَقَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَصَارَ مِلْكًا لَهُمْ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَمَّا بِيَدِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْكُمَ بِالدَّيْنِ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغُرَمَائِهِ فَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْنَعُ فَهَلْ عَلَيْهِ الزكاة ها هنا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْحَجْرَ مَانِعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ: الصَّبِيُّ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَانِعًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَهَلَّا كَانَ الْحَجْرُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ؟ قُلْنَا: حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَاقِعٌ لِأَجْلِهِمَا، وَلِحِفْظِ أَمْوَالِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَحَجْرُ هَذَا الْمُفْلِسِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ، وَلِحِفْظِ مَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ مُوَهِّيًا لِمِلْكِهِ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَدَّمَهُ غُرَمَاؤُهُ إِلَى الْقَاضِي فَجَحَدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ لَهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أن حجوده غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَيَمِينَهُ الْكَاذِبَةَ غَيْرُ مُبَرِّئَةٍ لِبَقَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جُحُودَهُ مع يمينه فقد أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَصَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ وَاجِبَةً قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مالٍ رُهِنَ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أُخْرِجَ منه الزكاة قبل الدين (وقال المزني) وقد قال في كتاب اختلاف ابن أبي ليلى إِذَا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فلا زكاة عليه والأول من قوليه مشهور ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ الْمَاشِيَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَذَا رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِقِيمَةِ الرَّهْنِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَهَلْ يُقَدِّمُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ أَوِ الدَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَضَتْ، أَحَدُهَا تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالثَّانِي الدَّيْنُ، وَالثَّالِثُ هُمَا سَوَاءٌ فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِ المال وقسطه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، فَعَلَيْهِ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ كَالْوَدِيعَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُرَتَّبَةً، وَسَنَذْكُرُهَا الْآنَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ التَّكْرَارُ مُفِيدًا. اعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حالا، أو مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وفي زكاته قولان كالمال المغصوب. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَا زَكَاةَ فيه حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 يَقْبِضُهُ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ فَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى، أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالدَّيْنِ عَلَى مُعْسِرٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِفًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُمَاطِلًا مُدَافِعًا فَلَا زَكَاةَ فِيمَا عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ فَإِذَا قَدَّمَ فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، لِأَنَّ هذا ك " الوديعة " بل أحسن حالاً منها لأنه في السنة. فصل : فأما ما ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوِ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جحد ماله أو غصبه أَوْ غَرِقَ فَأَقَامَ زَمَانًا ثُمَّ قَدِرَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا واحدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أن لا يكون عليه زكاةٌ حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه لأنه مغلوب عليه أو يكون عليه الزكاة لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى من السنين فإن قبض من ذلك ما في مثله الزكاة زكاه لما مضى وإن لم يكن في مثله زكاةٌ فكان له مالٌ ضمنه إليه وإلا حبسه فإذا قبض ما إذا جمع إليه ثبت فيه الزكاة زكى لما مضى ". قال الماوردي: قد ذكرنا ضم الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمَجْحُودِ وَأَنَّ زَكَاتَهُ قَبْلَ عَوْدِهِ لَا تَجِبُ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وقد ذكرنا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتِلَافَ حَالِ السَّوْمِ فِي الْمَاشِيَةِ، وَلَيْسَتْ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ حَاجَةٌ وَلَا إِلَى الْإِطَالَةِ بِهِ فَاقَةٌ، فَلَوْ دَفَنَ مَالَهُ فَخَفِيَ عَنْهُ مَكَانَهُ أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهُ، فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالتَّائِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ: لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي غَفْلَتِهِ وَقِلَّةِ تَحَرُّزِهِ، وَوَجَدْتُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَائِلًا إِلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ وَظُهُورِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَالْغَائِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ وَالتَّائِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَبَعْدَ ظُهُورِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ خَفَاءُ الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ، إِلَى تَفْرِيطِهِ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ لَكَانَ الْمَالُ وَضَيَاعُهُ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَلَمَّا كَانَ زَكَاةُ التَّائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا فَكَذَلِكَ زَكَاةُ مَا نَسِيَ مَكَانَهُ مِنَ الْمَدْفُونِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا عَرَّفَ لُقَطَةً سَنَةً ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا أَحْوَالٌ وَلَمْ يُزَكِّهَا ثُمَّ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَى الَّذِي وَجَدَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكًا قَطُّ حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا وَالْقَوْلُ فِيهَا كما وصفت في أن عليه الزكاة لما مضى لأنها ماله أو في سقوط الزكاة عنه في مقامها في يد الملتقط بعد السنة لأنه أبيح له أكلها (قال المزني) أشبه الأمر بقوله عندي أن يكون عليه الزكاة لقوله إن ملكه لم يزل عنه وقد قال في باب صدقات الغنم ولو ضلت غنمه أَوْ غَصَبَهَا أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهَا زَكَّاهَا لِأَحْوَالِهَا فقضى ما لم يختلف من قوله في هذا لأحد قوليه في أن عليه الزكاة كما قطع في ضوال الغنم وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لُقَطَةً تَبْلُغُ نِصَابًا مُزَكًّى كَعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا فِيهِ فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهَا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ الضَّالِّ. أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ، وَوَهَاءِ يَدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْرِفَ لَهَا صَاحِبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَرْكَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَلَا فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَإِنْ وُجِدَ صَاحِبُهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَزَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَأَمَّا زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا أَوْلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى، فَفِي الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا كالأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّنَةِ الأولى، لأن فِي الْأُولَى لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِلْكُهُ أَوْهَى مِمَّا تَقَدَّمَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَمَلُّكَهَا فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَلَا تَصِيرُ لَهُ مِلْكًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي صَاحِبِهَا إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَبِمَاذَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَإِذَا اخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَقَدْ مَلَكَهَا سَوَاءٌ انْتَقَلَتِ الْعَيْنُ بِتَصَرُّفِهِ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِغَيْرِ قِيمَتِهَا سِوَاهَا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وعليه مثلها وأما صاحبها، والحكم فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ سَوَاءٌ، كَانَتْ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا. فَأَمَّا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَقَدْ مُلِّكَتِ اللُّقَطَةُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ وَاجِدِهَا فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مَاشِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ عَيْنِهَا لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا، وَتَنْتَقِلُ زَكَاةُ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فإن كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَزَكَاةُ الْعَيْنِ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا مَلِيًّا فَزَكَاةُ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ، وَعَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ متعسراً فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا زَكَاةَ أَصْلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى وَاجِبَةٌ من الْقَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَاجِدَ الْمُلْتَقِطَ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلُقَطَةٍ، إِلَّا بِنَقْلِ عَيْنِهَا فَعَلَى هَذَا مَا لَمْ يَنْقُلْ عَيْنَهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ نَقَلَ عَيْنَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ عَيْنَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَدَلِهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا مَلَكَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ، لَمْ تَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ، فَأَمَّا صَاحِبُهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ أَنَّ الْوَاجِدَ يكون مالكاً لها يمضي الحول، وإن لم يجز التَّمَلُّكَ إِلَّا أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 يَخْتَارَ، أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مِنْ جِنْسِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ فَعَرَّفَهَا الْوَاجِدُ الْمُلْتَقِطُ حَوْلًا فَإِنْ ظَفِرَ بِصَاحِبِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَلَا عرفها فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضَعَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ لَا عَلَى وَاجِدِهَا، وَلَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ جارية فيها. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِمَّا بِاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهَا أَوْ بِنَقْلِ عَيْنِهَا، فَقَدِ انْتَقَلَ حَقُّ مَالِكِهَا مِنْ عَيْنِهَا إِلَى بَدَلِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا مِثْلٍ كَالْمُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مُزَكَّاةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فَلِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ مما فيها الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ، لَكِنْ لَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاجِدِ فِيهَا بِحَالٍ، لِأَنَّهَا قَبْلَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مُزَكَّاةٍ، وَبَعْدَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَأَمَّا مَالِكُهَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ مَعَهَا تَمَامُ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَتْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُمَلِّكَهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ يَسَارِ الْوَاجِدِ وَإِعْسَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ لَمْ يَخْتَرْ نَقْلَ مَالِهِ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلِمَ أَوْجَبْتُمُوهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، قِيلَ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَصْدُ الْمَالِكِ وَاخْتِيَارُهُ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ لَهُ حِنْطَةٌ بَذَرَتْهَا الريح في أرضه فثبتت، خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بذرها ولم يختر زرعها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أَكْرَى دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمَائةِ دِينَارٍ فَالْكِرَاءُ حَالٌّ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا فَإِذَا حَالَ الْحُوَلُ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَفِي الْحَوْلِ الثَّانِي خَمْسِينَ لِسَنَتَيْنِ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ الْخَمْسَةِ والعشرين ديناراً وَفِي الْحَوْلِ الثَّالِثِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا لِثَلَاثِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَفِي الحول الرابع زكى مِائَةً لِأَرْبَعِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ مَا مضى ولو قبض المكري المال ثم انهدمت الدار انفسخ الكراء ولم يكن عليه زكاة إلا فيما سلم له ولا يشبه صداق المرأة لأنها ملكته على الكمال فإن طلق انتقض النصف والإجارة لا يملك منها شيءٌ إلا بسلامةٍ منفعة المستأجر مدةً يكون لها حصةٌ من الإجارة (قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 المزني) هذا خلاف أصله في كتاب الإجارات لأنه يجعلها حالةً يملكها المكري إذا سلم ما أكرى كثمن السلعة إلا أن يشترط أجلاً وقوله هاهنا أشبه عندي بأقاويل العلماء في الملك لا على ما عبر في الزكاة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ آجَرَ دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الأجرة من ثلاثة أحوال: إما أن يشترط تعجيلها، فتكون معجلة إجماعاً. وإما أن يشترط تَأْجِيلَهَا فَتَكُونَ مُؤَجَّلَةً إِجْمَاعًا. وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَعْجِيلًا وَلَا تَأْجِيلًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ مُعَجَّلَةً بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَخَالَفَهُ مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِذَا كَانَتْ مُعَجَّلَةً بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَقَدْ مَلَكَ جَمِيعَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاسْتَحَقَّ قبضها بتسليم الدار المؤجرة هذا، مما لم يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ ملكها بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيُّ وَغَيْرِهِ قَدْ مَلَكَهَا بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ أَمَةً كَانَ لَهُ وَطْؤُهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ملكه مستقر عليها، وليس فيما يطرأ ن حُدُوثِ فَسْخٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، كَالزَّوْجَةِ الَّتِي قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَى جَمِيعِ صَدَاقِهَا بِالْعَقْدِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ اسْتِرْجَاعُ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدخول. والقول الثاني: وهو أظهر فيما نصف عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ مِنَ الْمُدَّةِ كَانَ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُرَاعَاةً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وملك المستأجر على المنفعة غير مستقر لأنها لَوْ فَاتَتْ بِهَدْمٍ رَجَعَ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَلَوِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ عِنْدَ فَوَاتِهَا بِمَا قَابَلَهَا كَالْمُشْتَرِي، إِذَا استقر ملكه على السلعة يقبضها لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّمَنِ عِنْدَ تَلَفِهَا وَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْمُؤْجِرِ لِلْأُجْرَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا تُشْبِهُ الْأُجْرَةُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ لِافْتِرَاقِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ مِلْكَ الزَّوْجَةَ عَلَى الصَّدَاقِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ قبل مضي مُدَّتِهَا، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وَالثَّانِي: أَنَّ رُجُوعَ الزَّوْجِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ تجرد بِالطَّلَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ عَلَى الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَرُجُوعِ المستأجر بالأجرة عند انهدام الدار قبل أن تقضي المدة بالعقد المتقدم لكان ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُؤْجِرِ عَلَى الأجرة قبل أن تَقَضِّي الْمُدَّةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْأُجْرَةِ فَزَكَاةُ الْأُجْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عليهما، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا فِي الْحَوْلِ الأول وما يَلِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ بَاقِيَةً بِيَدِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الْأَوَّلُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الْأُجْرَةِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا زَكَاةَ حَوْلٍ نِصْفَ دِينَارٍ وَثُمُنَ دِينَارٍ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّانِي بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِسَنَةٍ فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ الْأُخْرَى لِسَنَتَيْنِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَرُبْعًا، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّالِثُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قد زكى خمسين ديناراً فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أربع سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسِينَ دِينَارًا فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا، فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا مِنْهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ، فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الرَّابِعَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي الزكاة السنين الثلاث ويزكي الخمسة والعسرين دِينَارًا الرَّابِعَةَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارَيْنِ ونصفاً، وفي حساب زكاتها دوراً ضربت عَنْ ذِكْرِهِ خَوْفًا مِنَ الْإِطَالَةِ، وَقَصَدْتُ أَوْضَحَ طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ لِيَكُونَ مَأْخَذُهَا أَسْهَلَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِعَانَةِ. فَصْلٌ : فَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ وَرَدَّ مِنَ الأجرة ما قابله، وَصَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِيمَا مَضَى، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا قَابَلَهُ وَالْحَكَمُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ، لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنَ 6 الزَّكَاةِ عِنْدَ اسْتِرْجَاعِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَقَبَضَ الْأُجْرَةَ وَلَمْ يُسَلِّمِ الدَّارَ حَوْلًا بَعْدَ حَوْلٍ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَالْإِجَارَةُ قَدْ بَطَلَتْ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْأُجْرَةِ، فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهَا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، شَيْءٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَمَّا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأُجْرَةِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ قبل مضي المدة، فعله يَتَفَرَّعُ الْجَوَابُ بِعَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الْأُولَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا لِسَنَةٍ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ لِسَنَةٍ وَهُوَ خَمْسُونَ دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وهو خمسة وسبعون دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْمِائَةِ كُلِّهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ مَسْأَلَتَانِ فِي الْبُيُوعِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهَا، وَلَا يُسَلِّمَ السِّلْعَةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بِيَدِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخراج زكاته قبل تسليم السلعة التي من مقابله عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهَا قَبْلَ قَبْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَ الأجرة مستقر، وإن طرأ الْفَسْخُ فَمِلْكُ الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَازَ طروء الفسخ وإخراج زكاتها غير واجب، حتى يتقابضا السلعة، ويؤمن طروء الْفَسْخِ. وَال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَايَعَا سَلَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ وَيَقْبِضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ يَنْبَنِي أَوَّلًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي فَسْخِ السَّلَمِ بِعَدَمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ، فَعَلَى هَذَا ملك البايع مُسْتَقِرٌّ عَلَى ثَمَنِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَنْفَسِخُ بِعَدَمِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى ثَمَنِهِ وَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الأجرة قبل مضي المدة، فأما المشتري السَّلَمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ تَأْجِيلَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بَعْدَ مَحِلِّهِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي حُلُولِ الْأُجْرَةِ، وَمِلْكِ الْمُؤْجِرِ لَهَا، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ إِنَّ الْأُجْرَةَ حَالَّةٌ وَإِنَّ الْمُؤْجِرَ لَهَا مَالِكٌ، وَإِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا، وَتَعْجِيلِ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا، وَشَرَحْنَاهُ مُبَيَّنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو غَنِمُوا فَلَمْ يَقْسِمْهُ الْوَالِي حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَقَدْ أَسَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عذرٌ وَلَا زكاةٌ فِي فضةٍ مِنْهَا وَلَا ذهبٍ حتى يستقبل بها حولاً بعد القسم لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لأحدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ للإمام أن يمنعهم قسمته إلا أن يمكنه ولأن فيها خمساً وإذ عزل سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منها لما ينوب المسلمين فلا زكاة فيه لأنه ليس لمالكٍ بعينه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ قَسْمِ مال الْغَنِيمَةِ بَيْنَهُمْ، إِلَّا لِعُذْرٍ مِنْ دَوَامِ حَرْبٍ أو رجعة عدو قد أَخَّرَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ قِسْمَةَ غَنَائِمِهِ مَعْذُورًا لِإِشْكَالٍ عَلَيْهِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُنْكِرْ تَأْخِيرَ قِسْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَأَخَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِسْمَةَ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ قِسْمَتِهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ وَكَرِهَ أبو حنيفة تعجل قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: فِي زَكَاةِ مَالِ الْغَنِيمَةِ. فَأَمَّا مِلْكُ الْغَنِيمَةِ، فَمَتَى كَانْتِ الحرب قائمة فالغنائم غير مملوكة، وإن أجازها الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ غَنِمَ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا مالك أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، لِأَنَّ غَنِيمَةَ الْعَدُوِّ مِنْ تَوَابِعِ الظفر به وهو مع المعاونة وَالْحَرْبِ غَيْرُ مَظْفُورٍ بِهِ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَمَلَّكُوا إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ قَدْ مَلَكُوا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ، أَنْ يَتَمَلَّكَ والوصى له بالموصي ملك أن يتملك وللزوج مَلَكَ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَتَمَلَّكَ وَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ مَلَكَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَلَّكَ وَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ مَلَكُوا، لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ، وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ رَجَعَ سَهْمُهُ عَلَى الَّذِينَ مَعَهُ كَالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا لَهُ كَالْوَرَثَةِ الَّذِينَ إِذَا تَرَكَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ لم يرجع على الذي معه، فكان مَوْقُوفًا لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوا بِالْغَنِيمَةِ أَنْ يَتَمَلَّكُوا فَتَمَلُّكُهُمْ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما باختيار التملك، وذلك بأن ي قولوا قَدِ اخْتَرْنَا أَنْ نَمْلِكَ فَيَمْلِكُونَ كَمَا يَمْلِكُ الموصى له لقبوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وَإِمَّا بِأَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ سَهْمَهُ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَارَهُ، وَمَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السُّهْمَانِ مَا قُسِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا زَكَاةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الغانمون قد تملكوها، فَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ أَجْنَاسًا عُزِلَ مِنْهَا الْخُمُسُ، أَمْ لَمْ يُعْزَلْ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَلَا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْغَانِمُونَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ جَمِيعُ أَجْنَاسِهَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْأَجْنَاسِ بِعَيْنِهِ مِلْكًا لِرَجُلٍ مِنَ الْغَانِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ مَوْقُوفَةً عَلَى نَظَرِهِ فَيُعْطِي بَعْضَهُمْ وَرِقًا، وَبَعْضَهُمْ ذَهَبًا وَبَعْضَهُمْ إِبِلًا وَبَعْضَهُمْ عَرَضًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ جنساً واحداً، فإن كان ما لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْخَيْلِ وَالسَّبْيِ وَالْعُرُوضِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مَاشِيَةً سَائِمَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خُمُسُهَا مَعْزُولًا لِأَهْلِ الْخُمُسِ فَزَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِجَمَاعَةٍ تَجِبُ عَلَيْهِمِ الزَّكَاةُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالْأَمْوَالِ الْمُشَاعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ بَاقِيًا فِيهَا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا وَهُوَ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ " لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ قَسْمَهُ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُ، وَلِأَنَّ فِيهَا خُمُسًا ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ عِنْدِي فِي الْحُكْمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَهُمْ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ مُشَارَكَةَ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا جُمْلَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَانِمِينَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقَسِّمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ سَهْمُهُ نِصَابًا وَيَتِمَّ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ فَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا، وَكَانَتْ مَعَ الْخُمُسِ نِصَابًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ سِوَى الْخُمُسِ نِصَابًا، فَصَاعِدًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ سَوَاءٌ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 مِنْهُمْ نِصَابًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَهُوَ خَلِيطٌ وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي تَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ كَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ نُظِرَتْ فَإِنْ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 باب البيع في المال الذي تجب فيه الزكاة بالخيار وغيره وبيع المصدق وما قبض منه وغير ذلك قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ هُمَا قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَحَالَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ الْبَائِعُ وجبت عليه فيه الزكاة لأنه لا يتم بخروجه من ملكه حتى حال الحول ولمشتريه الرد بالتغير الذي دخل فيه بالزكاة (قال المزني) وقد قال في باب زكاة الفطر إن الملك يتم بخيارهما أو بخيار المشتري وفي الشفعة أن الملك يتم بخيار المشتري وحده (قال المزني) الأول إذا كانا جميعاً بالخيار عندي أشبه بأصله لأن قوله لم يختلف في رجل حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ أنه عتيق والسند عنده أن المتبايعين جميعاً بالخيار ما لم يتفرقا تفرق الأبدان فلولا أنه ملكه ما عتق عليه عبده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمُةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ هَلْ يَنْقُلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ قَدِ انتقل إلى المشتري بنفس العقد، وإن أجاز دَفْعَهُ بِالْخِيَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إَِنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا عُلِمَ، أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ مُنْتَقِلًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ عُلِمَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ مُنْتَقِلًا. وَتَوْجِيهُ هذه الأقاويل من كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ بَقِيَ مِنْ حَوْلِ مَالِهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ فَبَاعَهُ بِخِيَارِ ثَلَاثٍ وَتَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ مُضِيِّهَا أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَالْجَوَابُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ كَالْجَوَابِ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وجوب الزكاة. وال فصل الثاني: فيما تودى منه الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي بِمَا خَرَجَ مِنَ الْمَبِيعِ فِي الزَّكَاةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى المشتري بنفس العقد، فلا زكاة على البايع مِنَ الْمَالِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِفَسْخٍ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ كَمَا اسْتَأْنَفَ مِلْكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى البايع بفسخ لتمام البيع وانبرام الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى البايع سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَمْ لَا، لِحُلُولِ حَوْلِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمُشْتَرِي حَوْلَهُ إن تم عليه ملكه من حين يقضي الخيار لا من حين العقد، لأنه زال وَإِنْ قِيلَ إِنَّ انْتِقَالَ مِلْكِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى انبرام الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، وانبرم فلا زكاة على البايع لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهِ، وَاسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ عَقْدِهِ بَيْعَهُ، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَزَالَ الْعَقْدُ فَهُوَ بَاقٍ على ملك البايع، وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِحُلُولِ حَوْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ كَالسِّلَعِ وَالْعُرُوضِ فَزَكَاةُ هَذَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا فِي قِيمَتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يزكي زكاة التجارة ومن قِيمَتِهِ كَانَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ تَجِبُ زَكَاتُهُ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُزَكِّي زَكَاةَ الْعَيْنِ، كَانَ كَالَّذِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فِي زَمَانِ خِيَارِهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ عَلَى ما مضى من الشرح والترتيب فللبايع حَالَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُجِيبَ إِلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ، فَلَا كَلَامَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْفَعَهَا مِنْ مَالِهِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَّا مِنْ مَالِ الْمَبِيعِ، فَلَهُ حَالَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِهَا فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الزكاة منها سواء وجدها في يد البايع، أو يد الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَطَلَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِهَا فَلَهُ حَالَانِ: إحداهما: أن يكون يريد بامتناعه فسخ العقد فَلَهُ ذَاكَ إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ مَجْلِسٍ، أو خيار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 شرط هو لهما معاً، أوله وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ شَرْطٍ هُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرِيدَ بِامْتِنَاعِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَالْمَالُ الْمَبِيعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَهَذَا يجب أن تؤخذ زكاته من مال بايعه دُونَ الْمَالِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْقِيمَةِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَقْوَى حُكْمًا فِي الْعَيْنِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاةُ عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فَإِنْ قِيلَ الزَّكَاةُ، وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَبِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ في الرقبة وجوباً منبرماً أخذت الزكاة من البايع. فَصْلٌ : بُطْلَانُ الْبَيْعِ إِذَا أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون البايع قد أخرج الزكاة من ماله فإن قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرَى لِسَلَامَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الثَّانِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، وَنَفْسِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ مَا خَرَجَ فِي الزَّكَاةِ بَاطِلٌ، فَأَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْفِضَّةِ والذهب، فالبيع فيه جايز قولاً واحد لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بِمَعْنًى طَارِئً بَعْدَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَاكَ فِي بَيْعِ مَا بَقِيَ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لأجل النقص الطارئ من فسخ البيع والإقامة عليه، فإن أقام، فالصحيح أنه يقيم هاهنا بِحِسَابِ الثَّمَنِ، وَقِسْطِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قولاً ثانياً وهو أنه يقيم لجميع الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَسَخَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون البيع غَيْرَ مُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ كَالْمَاشِيَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن تكون مختلفة الأسباب بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا أَوْ مُخْتَلِفَةَ الْأَوْصَافِ بَعْضُهَا سِمَانًا وَبَعْضُهَا عِجَافًا فَالْبَيْعُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ لَا مِنْ جِهَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَكِنْ لِلْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَسْنَانِ مُتَقَارِبَةَ الْأَوْصَافِ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي على تفريق الصفقة فليس بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا طَرَأَ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ أَمْضَاهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فُسِخَ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُصُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ فَلَوْلَا، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مَا عُتِقَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا، وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَنَّ خِيَارَ المجلس يملك البايع فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، وَقَوْلًا فَإِذَا أَعْتَقَهُ فِي خِيَارِهِ كَانَ فَسْخًا، فَيَصِيرُ عِتْقُهُ كَوُجُودِ الْفَسْخِ وَعَوْدِ الْمِلْكِ وَإِذَا أنفذ عِتْقُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَانَ نُفُوذُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ أَوْلَى، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بقاء الملك والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ مَلَكَ ثَمَرَةَ نخلٍ مِلْكًا صَحِيحًا قَبْلَ أن ترى فيه الصفرة أو الحمرة فالزكاة على مالكها الآخر يزكيها حين تزهي ". قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِذَا مَلَكَ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِلْكًا صحيحاً، إما بأن ورثها أو استوجبها أو ابتاعها مع نخلها، ثم بدأ إصلاحها فِي مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا دُونَ مَنْ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا بِهِ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا وَهُوَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَلَكَهَا بِبَيْعِ خِيَارٍ فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهَا عَلَى البايع، وَإِنْ قِيلَ أَنَّهُ مَوْقُوفُ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فزكاتها على البايع، فَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، وَعَادَتِ الثمرة بعد بدو صلاحها إلى البايع، فَفِي زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 والوجه الثاني: أنها قد انتقلت إلى البايع لِانْتِقَالِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ في العين وجوب استحقاق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَ مَا يَبْدُو صَلَاحُهَا والشعر فِيهَا فَالْبَيْعُ فِيهَا مَفْسُوخٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لَيْسَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُسْتَوْفَاةً، وَسَنُشِيرُ إِلَى جُمْلَتِهَا وَنَذْكُرُ مَا سَنَحَ مِنَ الزِّيَادَةِ، فِيهَا اعْلَمْ أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَتَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ قد أخذها لخرصها وَضَمِنَهَا بِزَكَاتِهَا فَبَيْعُ هَذَا جَائِزٌ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا أَمَانَةً، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا، وَيَسْتَثْنِيَ قدر الزكاة مشاعاً فيها، فهذا بيع جايز. والضرب الثاني: أن يبيعها جميعاً مَعَ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا باطل، إذا قيل: إن الزكاة استحقاق في الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا تقدم من اختلاف العلة: أحدهما: بطل لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جايز فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ فَالصَّحِيحُ، أَنْ يُقِيمَ بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يُقِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزكاة جايز، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ جايز فعلى هذا إن دفع البايع الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ سَلِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَانْبَرَمَ، وَإِنْ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، وَصَارَتْ بِيَدِهِ، فَأَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ فَالْبَيْعُ، لَا يَبْطُلُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضمان المشتري بالقبض لكن يرجع على البايع بمثله، لأن الثمن مِثْلٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي يد البايع لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي بَعْدُ فَالْبَيْعُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنَ الزَّكَاةِ، قَدْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الباقي على الصحيح من المذهب جايز، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى ما مضى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى أَنْ يجدها أخذ بجدها فإن بدا صلاحها فسخ البيع لأنه لا يجوز أن تقطع فيمنع الزكاة ولا يجبر رب النخل على تركها وقد اشترط قطعها ولو رضيا الترك فالزكاة على المشتري ولو رضي البائع الترك وأبى المشتري ففيها قولان. أحدهما: أن يجبر على الترك والثاني أن يفسخ لأنهما اشترطا القطع ثم بطل بوجوب الزكاة (قال المزني) فأشبه هذين القولين بقوله أن يفسخ البيع قياساً على فسخ المسألة قبلها. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُفْرَدَةً فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا، فَإِنْ تَمَادَى الْمُشْتَرِي فِي قطعها ودافع بها حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، فَقَدْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ثم للبايع، والمشتري أربعة أحوال: أحدها: أن يجيب البايع إِلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى حِينِ صِرَامِهَا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ زَكَاتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لَا يُفْسَخُ، وَيَتْرُكُ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وقت الصرام، ولا تُقْطَعُ وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جَفَافِ الثمرة، وجدادها. والحالة الثانية: أن يمتنع البايع مِنْ تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ، وَيَأْبَى الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَرَتِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يفسخ البايع، لأن في إجبار البايع عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِضْرَارًا بِهِ وَفِي إِجْبَارِ المشتري على قطعها إضرار بِالْمَسَاكِينِ، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ، فَإِذَا فُسِخَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَخَلَ فِي ابْتِيَاعِهَا عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ فَسْخَ البيع غير منسوب إليه، فأما البايع فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ هَاهُنَا أَنَّ زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ التَّرْكِ سَبَبٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا، لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ زَكَاتِهَا وَيَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنْ تَرْكِهَا، فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ أَيْضًا وَتَرُدُّ الثَّمَرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، وتؤخذ منه الزكاة وجهاً واحداً، لأن رضى الْمُشْتَرِي بِالتَّرْكِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَانَ امْتِنَاعُ البايع مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي، أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وُجُوبُ الزكاة، لأن لا تَسْقُطَ بَعْدَ وُجُوبِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 والحالة الرابعة: أن يرضى البايع بِتَرْكِهَا، وَيَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وترد الثمرة على البايع لأمرين: أحدهما: أن للبايع الرُّجُوعَ بَعْدَ الرِّضَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مغرراً. والثاني: أن رضا البايع يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَهَا وَهُوَ قَدِ اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا شَرَطَ مِنْ قَطْعِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْجِيلُ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ تَعْجِيلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَيْعَ مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ لَا يُفْسَخُ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَرِهَ لأمرين: أحدهما: أن رضى البايع تركها بدل زيادة غير مثمرة يَرْتَفِعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى قبولها، ويمتنع البايع مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الثَّمَرَةِ بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا نَقْصٌ فِي الثَّمَرَةِ يَجْرِي مجرى العيب، فلم يلزم البايع اسْتِرْجَاعَ ثَمَرَتِهِ نَاقِصَةً وَلَا قَبُولَهَا مَعِيبَةً، وَكَانَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي لَازِمًا وَزَكَاةُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِ حَتْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَا اشْتَرَى وَلَا مَلَكَ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ منهما؛ لأن تمييز ملكها، واشتراط القطع على الواحد منها يَمْنَعُ مِنَ الْخُلْطَةِ وَنُقْصَانُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ النِّصَابِ، يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلْطَةِ، وَإِنْ مَلَكَ الْبَائِعُ تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى وَلَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي غير ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النِّصَابِ مع ما اشترى، ولو يَمْلِكِ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ على البائع، فأما البائع فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ الَّذِي كَمَّلَ النِّصَابَ به وإن ملك البايع كمال النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى، وَمَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النصاب مع ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ، فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَعَلَى مَا مَضَى فَحَصَلَ من ذلك أن أحوال البايع، وَالْمُشْتَرِي مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو استهلك رجل ثمرةً وقد خرصت أُخِذَ بِثَمَنِ عُشْرِ وَسْطِهَا، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ الْمُصَدِّقُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بمثله أو يقسمه على أهله لا يجزى غيره وَأَفْسَخُ بَيْعَهُ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَبَضَ السَّاعِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، مِنْ خَوْفِ طَرِيقٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، يخالف أَنْ تُحِيطَ مُؤْنَتُهَا بِثَمَنِهَا فَإِنْ بَاعَهَا لِضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَيَسْتَرْجِعُ مَا بَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلَفَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ أَكْثَرُ قِيمَتِهِ من قوت بيعه إلى وقت تلفه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ شِرَاءَ صَدَقَتِهِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى أهلها ولا أفسخه ". قال الماوردي: ولذا كرهت له شراء ما تصدقت بِهِ وَاجِبًا وَتَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ فَرَآهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها نصفين وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ القيامة " ولأن لا يسامح في ثمنها فينقص من ثوابه، ولأن لا يتبعها نفسه فيستراب له فإن ابتاعها كان البيع جايزاً، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَهْيِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ أَنْ يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لخمسةٍ " وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ عَوْدَهَا إِلَيْهِ، بِغَيْرِ المعنى الذي تملكته عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا، جَازَ لِمَا رُوِيَ أن رجلاً تصدق على أبيه بحديقةٍ فمات فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ وَبَلَغَتْ مَحَلَّهَا وَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا " وَإِذَا جَازَ عَوْدُهَا إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ جَازَ عَوْدُهَا بِالِابْتِيَاعِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ إِرْثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ ابتياعاً كسائر الأموال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 فأما حديث عمر ففيه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ وَقَفَ فَرَسَهُ وَشِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ بِوِفَاقٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النجس، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ. فَصْلٌ : إذا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ جَعَلَ مَا عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ جَازَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْعَجَبُ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنِ ابْتِيَاعِهَا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا بِدَيْنٍ هَالِكٍ هَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرُ الفساد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 باب زكاة المعدن قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمَعَادِنِ إلا ذهباً أو ورقاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَعْدِنُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَدَنَ الشَّيْءَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ) {النحل: 31) جَنَّاتِ إِقَامَةٍ وَقِيلَ: فِي الْبَلَدِ الْمَنْسُوبِ إِلَى عَدَنَ إِنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ إِنَّهُ كَانَ حَبْسًا لِتُبَّعٍ يُقِيمَ فِيهِ أَهْلُ الْجَرَائِمِ فَالْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، جَوَاهِرَ الْأَرْضِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْمَرْجَانِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْعَقِيقِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَإِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الكحل والزيبق وَالنِّفْطِ فَلَا زَكَاةَ فِي جَمِيعِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِلْكٍ، أَوْ مَوَاتٍ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، دُونَ مَا عَدَاهُمَا وَقَالَ أبو حنيفة الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَا انْطَبَعَ مِنْهَا كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ دُونَ مَا لَا يَنْطَبِعُ مِنَ الذَّائِبِ، وَالْأَحْجَارِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ وَالْمَعَادِنُ تُسَمَّى رِكَازًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ فِي جَمِيعِهَا عَامًّا، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ يَنْطَبِعُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِذَا أُخِذَ مِنْ مَعْدِنِهِ كَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ وَرِثَهُ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ، إِذَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنِّفْطِ وَالْقِيرِ، وَلِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَعْدِنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ، وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْفَيْءَ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ أَوْ مَجْرَى الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ كَالْفَيْءِ، لِأَنَّ خُمُسَ الْفَيْءِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ما انطبع منها ولم يَنْطَبِعْ فَثَبَتَ، أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجْرِي فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَذَا لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّكَازَ غَيْرُ الْمَعَادِنِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِعِلَّةِ، أَنَّهُ يَنْطَبِعُ فَفَاسِدٌ بِالزُّجَاجِ، لِأَنَّهُ يَنْطَبِعُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، أَنَّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَوْ مَلَكَ مِنْ غَيْرِ المعدن والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا خرج منها ذهبٌ أو ورقٌ فَكَانَ غَيْرَ متميزٍ حَتَّى يُعَالَجَ بِالنَّارِ أَوِ الطعن أو التحصيل فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ فَبِاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَأَمَّا وَقْتَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ فَبِتَخْلِيصِهِ وَتَصْفِيَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ وَرِقًا خَالِصًا، أَوْ ذَهَبًا صَافِيًا كَالثِّمَارِ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَصِرَامِهَا كَذَلِكَ مَعَادِنُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ تَجِبُ الزكاة فيه، بالأخذ والاستخراج وتجب الزكاة منها بعد التصفية، والتميز تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، ولا يمكن اعتباره إلا بعد تمييزه، وَعَلَيْهِ الْتِزَامُ مُؤْنَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فإن دفع منه شيئاً قبل أن يحصل ذهباً أو ورقاً فالمصدق ضامن والقول فيه قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الذهب والذهب قَبْلَ التَّمْيِيزِ، وَالتَّصْفِيَةِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ تَمْيِيزِهَا وَتَصْفِيَتِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُصَدِّقِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمِتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَ وَرِقًا غَرِمَ قِيمَتَهُ ذَهَبًا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُصَدِّقِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَيْسَ هَذَا لِي، أَوْ قَدْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمُصَدِّقُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى صَفَّاهُ وَمَيَّزَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ طَالَبَ بِالنُّقْصَانِ كَأَنَّهُ مَيَّزَ مَا أَخَذَهُ فَكَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فيحتسب بهذه العشرة وإن كَانَ جُمْلَةُ مَا أَخَذَ مِنَ الْمَعْدِنِ بَعْدَ تمييزه أربعماية دِرْهَمٍ، فَالْعَشْرَةُ قَدَرُ زَكَاتِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا رُبُعُ الْعَشْرِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ طَالَبَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ رَدَّ ما فضل منها ويشبه ذلك من زَكَاةِ الثِّمَارِ، أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ عُشْرَ الثَّمَرَةِ رُطَبًا وَهِيَ مِمَّا تَصِيرُ تَمْرًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى جَفَّفَهُ احْتَسَبَ بِمَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ زَكَاةِ رَبِّ الْمَالِ وَطَالَبَ بِمَا زَادَ أَوْ رَدَّ مَا نَقَصَ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز بيع تراب المعادن بحالٍ لِأَنَّهُ ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ مختلطٌ بِغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَتُرَابِ الصَّاغَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ دُونَ تُرَابِ الصَّاغَةِ لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ كَالْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالنِّدِّ الْمَعْجُونِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الفرز وفي تراب المعادن، والصاغة أعظم الفرد لأن الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ وَمِثْلُهُ، إِذَا اخْتَلَطَتِ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقْصُودٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ بَاعَ تُرَابَ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَتُرَابَ مَعَادِنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: خَوْفُ الربا. والثانية: جهالة المعقود فَلَوْ بَاعَ تُرَابَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، أَوْ تُرَابَ الذهب بالفضة لم يجز عندنا لجهالة العقود، وَجَازَ عِنْدَ أبي حنيفة لِزَوَالِ الرِّبَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وذهب بعض أهل ناحيتنا إلى أن في المعادن الزكاة وَغَيْرُهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ ركازٌ فَفِيهَا الْخُمُسُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا أَصْحَابُنَا أقاويل للشافعي: أحدها: فِيهَا رُبْعَ الْعُشْرِ كَالزَّكَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، " وَالْإِمْلَاءِ " وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ ". وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ فِيهَا الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَأَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ أُخِذَ بِمُؤْنَةٍ وَتَعَبٍ فَفِيهِ ربع العشر، وإن وجد نُدْرَةً مُجْتَمِعَةً أَوْ وُجِدَ فِي أَثَرِ سَيْلٍ فِي بَطْحَاءَ بِلَا مُؤْنَةٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ فَمَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرِّكَازُ فَقَالَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ رِكَازٌ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُئِلَ عَنْ رجلٍ وَجَدَ كَنْزًا فِي قَرْيَةٍ خربةٍ فقال: إن وجده فِي قريةٍ مسكونةٍ أَوْ فِي سَبِيلِ مِيتَاءَ فعرفه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وإن وجده فِي خَرْبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعِ أَصْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ رُبْعَ الْعُشْرِ بعموم، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطع بلال ابن الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ وَهَذَا مُرْسَلٌ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ضَعِيفٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ قَدْ رَوَى غَيْرُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بن بلال بن الحارث المزني عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةَ وَهَذَا نَصٌّ مستند وروى جوبير عن الضحاك أن النبي قَالَ " فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَفِي الْمَعْدِنِ الصَّدَقَةُ " وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يُمْلَكْ غَيْرُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْحُبُوبِ، وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتَهَا بِالزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا يَقِلُّ بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، إِذَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ نَضْحٍ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَيَكْثُرُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ، إِذَا سُقِيَ بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ فَيَجِبُ فيه العشر، فكذلك المعادن، إن قلنا الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا، وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ وَإِنْ كَثُرَتِ الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَجَبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالنَّاضِّ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الأقاويل الثلاثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّهَبُ مِنْهُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَالْوَرِقُ مِنْهُ خَمْسَ أواقٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قال: ليس يختلف مذهب أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَعَادِنِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالزَّكَاةِ، أَوِ الخمس كالركاز فإن كان وزناً، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بعض المواضع لو كنت الواحد لَهُ لَزَكَّيْتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ فِي السَّفَرِ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَا وَجْهَ فِيهِ لِمَا، وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ لَهُ ذَلِكَ قَوْلًا ثَانِيًا وَقَالَ أبو حنيفة يُخْرَجُ مِنْ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ، وبناء عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ وَإِنَّمَا هُوَ كَخُمُسِ الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَكَذَا الزَّكَاةُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَلَمَّا نفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سِوَى الزَّكَاةِ وَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ وَكَانَ فِي الْمَعَادِنِ، وَالرِّكَازِ حَقٌّ ثَابِتٌ عُلِمَ أَنَّهُ زَكَاةٌ لِنَفْيهِ مَا سِوَاهَا وَلِأَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَالذِّلَّةِ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَالطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَمُوجِبِهِمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ مَعَ مَا سَلَفَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ، وَالذَّهَبِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ ذَهَبَ لحاجةٍ فإذا بجرذ يخرج من أرض دنانير فأخرج سبعة عشرة دِينَارًا ثُمَّ أَخْرَجَ خِرْقَةً حَمْرَاءَ فِيهَا دينارٌ فَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَأْخُذْ زَكَاتَهَا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُضَمُّ مَا أَصَابَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَتَابِعَةِ ". قَالَ الماوردي: وإنما ضم بعضه إلى بع لأنه لا بد من وقوع مهلة من النيل، فلو قلنا أن لَا يُضَمَّ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهُورَ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ الثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِهِ فِي الْجَمِيعِ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا ثَمَرَةً بَعْدَ ثَمَرَةٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ، فكذا المعادن فلو أتلف ما أخذه أو لا حُسِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ مَعَ الثَّانِي نِصَابًا زَكَّاهُ وَفِيمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ غَيْرَ حاقدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فيه ثم استأنفه لم يضم كثر القطع عنه له أو قل والقطع ترك العمل لغير عذرٍ أَدَاةٍ أَوْ عِلَّةِ مرضٍ أَوْ هربٍ عبيدٍ لا وقت فيه إلا ما وصفت ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ غَيْرُ حَاقِدٍ يَعْنِي مَانِعٍ لِنَيْلِهِ يُقَالُ حَقَدَ الْمَعْدِنَ إِذَا مَنَعَ وَأَنَالَ إِذَا أَعْطَاهُ فَلَوْ كَانَ الْمَعْدِنُ مُنِيلًا غَيْرَ حَاقِدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فِيهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْطَعَهُ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ هرب عبيداً، وتعذر آلة فإذا أعاد ضَمَّ مَا أَصَابَهُ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَا أصابه قبل فقد قَطْعِهِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَمَانِ النَّيْلِ، وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَهُ مُخْتَارًا نَاوِيًا تَرْكَ الْعَمَلِ فِيهِ، فَإِنْ عَادَ صَارَ مُسْتَأْنِفًا وَلَمْ يَضُمَّ مَا أَصَابَهُ فِي الثَّانِي إِلَى مَا أَصَابَهُ فِي الْأَوَّلِ كَمَنْ غَيَّرَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا لَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى، وَاسْتَأْنَفَ حُكْمَهَا والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَابَعَ فَحَقَدَ وَلَمْ يَقْطَعِ الْعَمَلَ فِيهِ ضَمَّ مَا أَصَابَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ الْآخَرِ إِلَى الْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ، فَحَقَدَ الْمَعْدِنُ، وَمَنَعَ نَيْلَهُ ثُمَّ أَنَالَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ يَسِيرًا فَهَذَا يَبْنِي، وَلَا تَأْثِيرَ لِحِقْدِهِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ كَثِيرًا وَزَمَانُ مَنْعِهِ طَوِيلًا، فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَأْنِفُ وَلَا يَضُمُّ، لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمِّ بِشَرْطَيْنِ الْعَمَلِ والنيل فلما كان قطع العمل ع اسْتِدَامَةِ النَّيْلِ، لَا يُوجِبُ الضَّمَّ فَكَذَا اسْتِدَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ قَطْعِ النَّيْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَضُمُّ وَلَا يَسْتَأْنِفُ، لِأَنَّ نَيْلَ الْمَعَادِنِ فِي الْعَادَةِ يختلف بنيل تارة وبحقد وبحقد تَارَةً، وَلِأَنَّ انْقِطَاعَ النَّيْلِ عُذْرٌ كَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ انْقِطَاعَ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ يُوجِبُ الضَّمَّ وَكَذَا انْقِطَاعُ النَّيْلِ الَّذِي، هُوَ عذر يوجب الضم مسألة: قال المزني رضي الله عنه: " وقال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالَّذِي أَنَا فِيهِ وَاقِفٌ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْدِنِ وَالتَّبْرِ الْمَخْلُوقِ فِي الْأَرْضِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلٌ فأولى به أن يجعله فائدةً وقد أخبرني عنه بذلك من أثق بقوله وهو القياس عندي وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اعْتِبَارُ الْحَوْلِ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ فَسَاقِطٌ لَا يُعْرَفُ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَيَلْزَمُ الْمُزَنِيَّ الْقَوْلُ بِهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ إِنَّهُ فِيهِ وَاقِفٌ وَعِنْدَنَا، إِنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وُقُوفَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْحَوْلِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَوْلَ لَا يعتبر في المقادير قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ الحول كالزرع ولأن الحول إنما يعتبر كامل النَّمَاءِ وَهَذَا نَمَاءٌ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا من خرج ما رواه المزني قولاً ثابتاً وَاعْتَبَرَ فِيهِ الْحَوْلَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَإِسْحَاقَ بن راهويه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ كَالْمُسْتَفَادِ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ. فَصْلٌ : إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى مَعْدِنٍ فأخذا منه معاً نصاباً، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غير المواشي على قوله في القدير فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَعَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُمَا خَلِيطَانِ فِي نِصَابٍ. فَصْلٌ : إِذَا عَمِلَ الْمُكَاتَبُ فِي الْمَعْدِنِ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا فَلَا زكاة عليه، وإن كان مَالِكًا لِمَا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزكاة كالفيء والغنيمة، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ المكاتب ما لا فَيُؤْخَذَ خُمُسُهُ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْدِنًا أَوْ ركازاً فلا يؤخذ منا؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا وَيَمْلِكُ أَهْلُ الْخُمُسِ مَعَهُ خُمُسَهَا، وَفِي الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ حُرًّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ خُمُسُهُ بَعْدَ مِلْكِهِ، كَمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ خُمُسَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ. فَصْلٌ : فأما الذمي فإنه يمنع من العمل كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فَإِنْ عَمِلَ فيه بعد ملك ما أخذه، لم تلزمه زَكَاتُهُ، لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَعْدِنِ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، فَهَلَّا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَحْيَاهُ مِنَ الْمَوَاتِ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ ضَرَرَ الْإِحْيَاءِ مؤبد فلم يملك به وَضَرَرُ عَمَلِهِ فِي الْمَعْدِنِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَمَلَكَ به كما يملك الصيد والماء العذب والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 باب في الزكاة وما تجب فيه وما تملك به هَذَا بَابٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ نَقْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سلمة وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " أَمَّا الرِّكَازُ فَهُوَ: مَا دَفَنَهُ آدَمِيٌّ فِي أَرْضٍ فَعَثَرَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. رَكَزْتُ الرُّمْحَ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَرَسْتُهُ فَكُلُّ مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَوَاتًا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُحْيَاةً فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ مَوَاتًا، فَالرِّكَازُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن يكون ذهباً أو ورقاً. والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ، فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ لُقَطَةً يُعَرِّفُهُ الْوَاجِدُ حَوْلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَالْإِمْلَاءِ إَِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَعْدِنِ وَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ: إِنَّ فِيهِ الْخُمُسَ، وَلَوْ كَانَ فَخَّارًا وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " فَأَمَّا الْحَوْلُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الرِّكَازِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْفَتْوَى فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَادِنِ حَيْثُ اعتبر ثم الْحَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ كَالرِّكَازِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ، أَنَّ الْمَعَادِنَ يَلْزَمُ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 مُؤْنَةٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْحَوْلُ رِفْقًا كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَالرِّكَازُ نَمَاءٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ لَازِمَةٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُحْيَاةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَامِرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ خَرَابًا فَإِنْ كَانَتْ عَامِرَةً، فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكُ أربابها دون واجده، وإن كان خَرَابًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جَاهِلِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً عَادِيَّةً فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا وُجِدَ فِي الْمَوَاتِ يكون لواجده، كما أن من ضرب الجاهلية عليه الْخُمُسُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَبَلَغَ نِصَابًا وَإِنْ كَانَتْ إِسْلَامِيَّةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا دُونَ وَاجِدِهِ كَالْعَامِرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْوَاجِدِ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مِلْكُ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَاجِدُ، وَإِنْ جُهِلَ مَالِكُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لُقَطَةً كَمَا كَانَ ضَرْبُ الْإِسْلَامِ لُقَطَةً قِيلَ ضَرْبُ الْإِسْلَامِ، وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَكَانَ لُقَطَةً وَهَذَا وُجِدَ فِي مِلْكٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ تشهد به أصول. فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، إِذَا وُجِدَ فِيهَا رِكَازٌ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْعَهْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْعَهْدِ فَحُكْمُ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنَ الرِّكَازِ كَحُكْمِ مَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوجَدَ فِي مَوَاتِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي عَامِرِهِمْ فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ فَهُوَ رِكَازٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ رِكَازًا وَلَا يُؤْخَذُ خُمُسُهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَإِنْ وُجِدَ فِي عَامِرِهِمْ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهَا، وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ غَنِيمَةً، كَقَوْلِنَا لَكِنْ لَا يُؤْخَذُ خُمُسُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا غُنِمَ فِي وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ لَمْ يُخَمَّسْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وَقَالَ أبو يوسف، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ رِكَازًا كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ مَا وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ، رِكَازٌ لِلْجَهْلِ بِمُلَّاكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا وُجِدَ في عامرهم ركاز المعرفة مُلَّاكِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ مَلَكَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَهُوَ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الدَّارَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِمِيرَاثٍ، فَهُوَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ إِرْثِهِ إِنِ ادَّعَاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ إِنِ ادَّعَوْهُ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الْمَوْرُوثَ الدَّارَ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أو لورثته إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكُوا الدَّارَ عَنْهُ، هَكَذَا أَبَدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِابْتِيَاعٍ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، إِنِ ادَّعَاهُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنِ ابْتَاعَ الْبَائِعَ الدَّارَ عَنْهُ، إِنِ ادَّعَاهُ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَإِنِ ادَّعَاهُ مِلْكًا فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ رِكَازٌ وَجَدَهُ فَهُوَ لِمَالِكِ الدَّارِ، إِنِ ادَّعَاهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمَالِكُ الْمُؤْجِرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ مِلْكِي كَنْتُ دَفَنْتُهُ فِي الدَّارِ، وَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ كَانَ رِكَازًا وَجَدْتُهُ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يديه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُقْطَعِ الأرض سواء كان هذا من الْوَاجِدُ أَوْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ بِالْإِقْطَاعِ كما يملكها بالابتياع، وكذا من أحيى أَرْضًا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُحْيِي الأرض سواء كان هو الواجد أو غيره، لأنها ملك فَهَذَا الْكَلَامُ فِي اخْتِلَافِ الرِّكَازِ وَمَوَاضِعِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا اخْتِلَافُ حَالِ الْوَاجِدِ، فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ عَاقِلٍ، أَوْ مَجْنُونٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ إِلَّا رَجُلٌ عَاقِلٌ فَأَمَّا المرأة أو الصبي أو المجنون، فَلَا يَمْلِكُونَهُ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الرِّكَازَ كَسْبٌ لِوَاجِدِهِ كَاكْتِسَابِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَمَا يَسْتُوُونَ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ، وَإِذَا مَلَكُوهُ فَعَلَيْهِمْ خُمُسُهُ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِ وَعَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، أن الإمام يرضخ للعبد فيه وَلَا يُعْطِيهِ كُلَّهُ وَمَا ذَكَرْنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ كسب كالاصطياد وكذا المدبر، والمعتق بصفقه، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ دون سيده لأنه أملك لكسب نفسه، فلا زكاة عليه ولأنه ممن لا يلزمه زكاة ماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعَادِنِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ الْكَافِرُ لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ، وَلَا الْمَعْدِنَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِحْيَاءَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ تَمَلُّكَهُ لِلرِّكَازِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ خِلْسَةً. فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ مَا جَمَعَ وَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ مَنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوِ اشْتَبَهَ ضَرْبُ الْجَاهِلِيَّةِ وضرب الإسلام أو كانت يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَاهِلِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وهو قول البصريين تكون ركازاً، وحكوه عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ طَارِئٌ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ لُقَطَةً وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَحَكَوْهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ، إِلَّا بِيَقِينٍ فَهَذَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ. وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا غَيْرَ مَدْفُونٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ السَّيْلَ قَدْ أَظْهَرَهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَجْرَى السَّيْلِ، أَوْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ وَادٍ فَهَذَا رِكَازٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهِرَهُ السَّيْلُ، فَهَذَا لُقَطَةٌ وَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوْ شك هل أظهره السيل أم لا؟ كمن شَكَّ هَلْ هُوَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَمْ لَا فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رِكَازًا. وَالثَّانِي: لُقَطَةً. فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّكَازِ عَلَى الصَّحِيحِ، مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ فِي الْمَسَائِلِ، فَإِذَا كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا، وَكَانَ وَاجِدُهُ حُرًّا مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ فَلَا يخل حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَمْلِكَ تَمَامَ النِّصَابِ. أَوْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَمَامَ النِّصَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فِي هَذَا الرِّكَازِ وَإِنْ مَلَكَ تَمَامَ النِّصَابِ فعلى ثلاثة أقسام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 أحدهما: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى ما كان بيده كأن كَانَ يَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سِلْعَةً لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ حَالَ حَوْلُهَا وَوَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا حِينَ حَالَ الْحَوْلُ فَهَذَا يَضُمُّ الرِّكَازَ إِلَى ما كان بيده ويزكيها فَيُخْرِجُ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ رُبْعَ الْعُشْرِ لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ، وَمَا كَانَ بِيَدِهِ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَقَدْ بَلَغَا نِصَابًا فَصَارَ تَقْدِيرُهُمَا تَقْدِيرَ نِصَابٍ حَالَ حَوْلُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ عَلَى الْمِائَةِ الَّتِي بِيَدِهِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الرِّكَازِ وَيَضُمُّهُ إِلَى الْمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْحَوْلَ لِأَنَّهُمَا تَمَّا نِصَابًا فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ مِنْهَا الزَّكَاةَ رُبْعَ الْعُشْرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ بَعْدَ حَوْلِ الْمِائَةِ فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ حَوْلُهُ، وَقِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَلَغَتْ نِصَابًا فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَسْتَأْنِفُ لَهُمَا الحول من حين تما نصاباً، فإن حَالَ حَوْلُهُمَا أَخْرَجَ زَكَاتَهُمَا رُبْعَ الْعُشْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَوُجُودِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ فَيَضُمَّهُمَا وَيُخْرِجَ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ ربع العشر فلو وجد ماية دِرْهَمٍ رِكَازًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأم ويستأنف لها الْحَوْلَ مِنْ حِينِ وَجَدَ الْمِائَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا رُبْعَ الْعُشْرِ. فَصْلٌ : إِذَا وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَأَخْرَجَ خُمُسَهَ ثُمَّ أقام رجل البينة أنه ملكه فللمقيم الْبَيِّنَةَ اسْتِرْجَاعُ الرِّكَازِ مِنْ وَاجِدِهِ مَعَ مَا أَخْرَجَهُ الْوَاجِدُ مِنْ خُمُسِهِ، وَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْخُمُسِ عَلَى الْوَالِي إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ضمنه في مال الزكاة وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ أَوْ خِيَانَةٍ ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ. فَصْلٌ : الْخُمُسُ الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ، وَمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: حَقُّ الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَخُمُسُ الرِّكَازِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ واصل من جهة مشرك والدلالة عليهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وَحَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ وَقَدْ مَضَى وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَعْدِنِ، وَالرِّكَازِ بِوَاجِدِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو وجد مُكَاتَبٌ أَوْ ذَمِّيٌّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِوَاجِدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يصرف مصرف الفيء، لأن واجده مسلم وأوجب أَنْ يُصْرَفَ خُمُسُهُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، لِيُصْرَفَ فِي أَهْلِ الفيء والغنيمة ولوجب التَّوَقُّفُ عَنْ تَمَلُّكِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، وَفِيمَا ذكرنا بطلان ما اعتبروه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 بَابُ مَا يَقُولُ الْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ لمن يأخذها منه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {خُذْ مِنْ أمْوِالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيِْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) {التوبة: 103) (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالصَلَاةُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ فَحَقٌّ عَلَى الْوَالِي إِذَا أَخَذَ صَدَقَةَ امرئٍ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ " آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ طهوراً لك وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح. يختار الوالي الصَّدَقَاتِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَرْبَابِهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْهُمْ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {سَكَنٌ لَهُمْ) {التوبة: 103) مَعْنَاهُ وَادْعُ لهم إن دعوتك سكن لهم وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ لي فقال الله صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَشَكَرَهُمْ وَذَمَّ أَهْلَ الْجِزْيَةِ وَأَغْلَظَ لَهُمُ فَوَجَبَ أَنْ يُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الزَّكَاةِ طَهُورًا، وَبَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الْجِزْيَةِ صَغَارًا وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاضِحًا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْوَالِي الدُّعَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ أَمْ لَا، وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَسَلْ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَلَيْسَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ مُؤَدٍّ لِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى غَيْرِهِ الدُّعَاءَ لَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَأَمَّا إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يَجِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَاجِبٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ. فَصْلٌ : وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الْوَالِي، لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ آجَرَكَ اللَّهُ فما أعطيت، وجعله لك طهور أو بارك لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَلَوْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَنَصُّ السُّنَّةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الصَّلَاةُ من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ الدُّعَاءُ وَقَالَ كَثِيرٌ: (صَلَّى عَلَى غرة الرَّحْمَنُ وَابْنَتِهَا لَيْلَى ... وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ) قال الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ كَانَ طَاوُسٌ وَالِيًا عَلَى صَدَقَاتِ بَعْضِ الْبِلَادِ فَكَانَ يَقُولُ أَدُّوا زَكَاتَكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فَإِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْهِ فَرَّقَهَا عَلَى مَسَاكِينِهِمْ، وَمَنْ وَلَّى مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ لَهُ هَلُمَّ، وَلَا ارْجِعْ وَيَنْبَغِي لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يُؤَدُّوا زَكَوَاتِ أَمْوَالِهِمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُهُمْ، كَمَا وَرَدَ الْخَبَرُ وَلَا يُدَافِعُوا الْوَالِيَ بِهَا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَيُحْوِجُوهُ إِلَى الغلظة في أخذها، والخروج عما وصفت لَهُ مِنَ الْمُوَاسَاةِ بِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَتَاكُمْ فَلَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عن رضاً ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 باب من تلزمه زكاة الفطر قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نافعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ المسلمين وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حديث آخر قال " " من تَمُونُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ زَكَاةُ الفطر وزكاة الفطر، فَمَنْ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرِ أَوْجَبَهَا بِدُخُولِ الْفِطْرِ ومن قال زكاة الفطر، فأوجبها عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِطْرَة اللهِ الّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا) {الروم: 30) أَيْ: خِلْقَتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً بِمَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ أَوْ وَجَبَتْ بِغَيْرِهِ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي وَجَبَتْ بِهَا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِعُمُومِهَا فِي الزَّكَاتَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهَا وَجَبَتْ بِغَيْرِ مَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ وَأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكاة فَلَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الزَّكَاةِ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ، أَوْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَبْنِيَّةً عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَعَلَى هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صاعاً من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ عَلَى كُلِّ حر وعبدٍ ذكرٍ وأنثى من المسلمين. وروي جعفر بن محمد عن آبائه وَزَادَ فِيهِ " مِمَّنْ تَمُونُونَ " وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طهرةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الرَّفَثِ وَاللَّغْوِ وطعمةٌ لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زكاةٌ مقبولةٌ ومن أداها بعد الصلاة بهي صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ أَوْجَبَهَا أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أفضل ما أَعْطَى. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْبَيَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا أُخِذَ مِنْهَا بَيَانُ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّيَاتِ، وَمَنْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَهَا فَمَعْنَاهُ قَدَّرَهَا كَمَا قَالَ فِي زَكَوَاتِ الْإِبِلِ: هَذِهِ " فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِمَعْنَى قَدَّرَهَا، لِأَنَّ فَرْضَ زَكَاتِهَا بِالْآيَةِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا بِأَيِّ آيَةٍ وَجَبَتْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14، 15) . وَالثَّانِي: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) {البينة: 5) . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهِيَ فَرْضٌ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا كَالْوِتْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهَذَا الْخِلَافُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 إِذَا قُدِّرَ كَانَ كَلَامًا فِي الْعِبَارَةِ، وِفَاقًا فِي الْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ الْوِفَاقِ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَرْضُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنْ قِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فَرَضَهَا أَيْ قَدَّرَهَا كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا قُلْنَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اختلاف أصحابنا في ظهور وجوبها يقسط هَذَا الِاعْتِرَاضَ ثُمَّ لَوْ لَزِمَ لَكَانَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ وَعِبَارَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ لَقِيلَ فَرَضَ مَا عَلَى النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لَصَحَّ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَجَبَتْ فَافْتُرِضَتْ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْمَالِ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْوُجُوبِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فلم يفرضها إلا على المسلمين فالعبيد لا مال لهم وإنما فرضهم عَلَى سَيِّدِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا حُرًّا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِذَا وَجَدَهَا بَعْدَ قُوتِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا، أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، وَحُكِيَ عَنِ الحسن البصري وسيعد بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى وَصَامَ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَّا الْمُشْرِكُ فلا زكاة عليه، إجماعاً فأما الْعَبْدُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى سَيِّدِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ هِيَ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض زكاة الفطر في رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى الْعَبْدِ كَمَا فَرَضَهَا عَلَى الْحُرِّ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى سَيِّدِهِ، رِوَايَةُ عِرَاكِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هريرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَأَثْبَتَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِ نَصًّا. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وأنثى صاعاً من طعام الحدث فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ وَجَبَتْ زَكَاةُ فطره ابتداء على سيده أو وجبت ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْمِلُهَا سَيِّدُهُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى سَيِّدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ) فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، فَمَعْنَاهُ عَنْ كل حر وعن كل عبد وقد يقوم عَلَى فِي اللُّغَةِ مَقَامَ عَنْ قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 {إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا} أَيْ: إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يَحْمِلُهَا عَنْ عَبْدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَعَلَى هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْعَبْدِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى تَحَمُّلِ السَّيِّدِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقُ نِصْفُهُ فَكَالْعَبْدِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِبَقَاءِ رِقِّهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ لِنُقْصَانِ مِلْكِهِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ نَقَصَ تَصَرُّفُهُ كَالْآبِقِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " فهم وَالْمَرْأَةُ مِمَنْ يَمُونُونَ فَكُلُّ مَنْ لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ أحدٍ حتى لا يكون لها تَرْكُهَا أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَذَلِكَ مَنْ أجبرناه على نفقته من لده الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ الزَّمْنَى الفقراء وزوجته وخادم لها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَهُمْ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ: لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَنْسَابٍ. وَضَرْبٌ: لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَسْبَابٍ فَأَمَّا ذرو الأنساب فضربان والدون ومولودون، فَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَلَهُمْ حَالَانِ حَالُ فَقْرٍ وَحَالُ غِنًى، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَلَهُمْ حَالَانِ حَالُ صِحَّةٍ وَحَالُ زَمَانَةٍ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى فَنَفَقَاتُهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَاجِبَةٌ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ. وَقَالَ أبو حنيفة تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ دون زكاة فطرهم، وإن كان فُقَرَاءَ أَصِحَّاءَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِمُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا الْفَقْرُ وَالزَّمَانَةُ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ فقال أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي خِطَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فتكون المسألة على قول واحد أنه لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا زَمْنَى ويحتمل أن يجعل هذا له قولاً ثانياً فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ، هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وسواهم وَإِنْ سَفُلُوا وَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَغْنِيَاءُ وَالْآخَرُ فُقَرَاءُ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَعَلَى الْوَالِدِ، وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانُوا كِبَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ إِنْ كَانَ أَبًا نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَدًّا فَعَلَيْهِ نَفَقَاتُهُمْ دُونَ فِطْرِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا كِبَارًا أَصِحَّاءَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآبَاءِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الْأَبْنَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَوَهَائِهِ فَيُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ: أنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْرِيجَهُ فِي الْأَبْنَاءِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْآبَاءِ أَوْكَدُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَبْنَاءِ وَوَجْهُ تَأْكِيدِهَا أَنَّ إِعْفَافَ الْأَبِ وَاجِبٌ، وَإِعْفَافَ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَمَّا تأكدت نفقات الأناء جَازَ أَنْ تَلْزَمَ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ وَلَمَّا ضَعُفَتْ نَفَقَاتُ الْأَبْنَاءِ لَمْ تَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ صِغَرٌ، أَوْ زَمَانَةٌ فَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ وَافَقَنَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وخالفنا في زكاة الفطر على ما بيناه وكان من عليه زكاة الفطر إن اعْتَبَرَهَا بِالْوِلَايَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الِابْنِ فِطْرَةَ أَبِيهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ فِطْرَةَ صِغَارِ وَلَدِهِ دُونَ كِبَارِهِمْ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى صِغَارِهِمْ دُونَ كِبَارِهِمْ، ثم ناقض عليه فِي الْجَدِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ ابْنِ ابْنِهِ دُونَ فِطْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَعِلَّتُنَا فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مُتَّصِلًا وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ (ممن تمونون) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 فَاعْتَبَرَ الْفِطْرَةَ بِالْمُؤْنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ أبو حنيفة فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَأَوْجَبَ أبو حنيفة نَفَقَةَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يُوجِبْ زَكَاةَ فِطْرِهِ وسيأتي الكلام معه من ذلك إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا ذَوُو الْأَسْبَابِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَمْلُوكُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَقَدْ مضى الكلام فيه: والضرب الثاني: الزوجان فَعَلَى الزَّوْجِ عِنْدَنَا زَكَاةُ فِطْرِهِنَّ سَوَاءٌ كُنَّ أَيْسَارًا أَوْ أَعْسَارًا. وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُنَّ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِهِنَّ احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ (ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى من المسلمين) وكان عُمُومُ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلزَّوْجَاتِ كَمَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَزْوَاجِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ ماله وجبت عليه فِطْرُهُ كَالزَّوْجِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ رَقِيقِهِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ كَالْخَلِيَّةِ غير ذات الزوج، ولأنه حق لله تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَحَمَّلَ بالزوجة كالزكوات والكفارات، ولأن النكاح عقد مستباح بِهِ الْمَنْفَعَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا، حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض صدقة الفطر على كل حر مسلم وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ، وَالزَّوْجُ مِمَّنْ يُلْزَمُ مُؤْنَتَهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ زَكَاةَ فِطْرِهَا وروي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ) . وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَنْ يَمُونُونَ مِنِ امرأةٍ أَوْ ولدٍ أَوْ مملوكٍ أَوْ صغيرٍ أَوْ كبيرٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدْ جَاءَ بِمَا يُوَافِقُ الْمُتَّصِلَ فَقَبِلْنَاهُ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَجِبَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمِلْكِ وَالنَّسَبِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ جَازَ أَنْ يُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ شَخْصٍ مِنْ أَهْلِ الطهرة، فوجب أن يلزمه فطره مَعَ الْقُدْرَةِ كَعَبِيدِهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ، فَإِنْ قَالُوا هذا باطل بالعبد والمكاتب عليها نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ دُونَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا بِالرِّقِّ قَدْ عَدِمَا الْقُدْرَةَ فَإِنْ قَالُوا: فَهَذَا يَبْطُلُ بِالْمُضْطَرِّ فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَإِنَّمَا لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ يُعْطَاهُ بِالْحَاجَةِ، لِأَنَّ بَاقِيَ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ الْمَصْلَحَةِ مَصْرُوفٌ فِي الْحَاجَةِ، فَلَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةً، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى الْإِمَامِ إِخْرَاجُهَا كَمَا وَجَبَتْ نفقة اليتيم من ماله ووجب على وليه إخراجها فإما احتجاجهم بحدث ابْنِ عُمَرَ فَجَوَابُنَا لَهُمْ فِي الزَّوْجَةِ كَجَوَابِنَا لِدَاوُدَ فِي الْعَبْدِ، وَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الْخَلِيَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ، وَنَفَقَةُ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا، وَلَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ جَازَ أَنْ تُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ نَفَقَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهَا، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةً، كَانَتْ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَاجِبَةً. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةَ فِطْرِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنها وجبت عليه ابْتِدَاءِ وُجُوبِ حَوَالَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزوج معسراً، وهي معسرة لم يلزمها إخراج الزكاة عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا ولم يلزم الزوج إخراجها عَنْهَا، لِأَنَّ إِعْسَارَهُ بِهَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهَا. والوجه الثاني: أنها وجبت ابتداء على الزوج ثُمَّ يَحْمِلُهَا الزَّوْجُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ فَعَلَى هَذَا وهو في الزوج أظهر منه فِي الْعَبْدِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَهِيَ مُوسِرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَالزَّوْجُ بِإِعْسَارِهِ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَإِنْ أَيْسَرَ الزَّوْجُ فِي ثَانِي حَالٍ رَجَعَتْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ بَعْدَ يَسَارِهِ، فَلَوْ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ إِهْلَالِ شَوَّالٍ لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْوُجُوبِ وَالسُّقُوطِ، وَيَلْزَمُهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِدَةً. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَضَرْبَانِ: رَجْعِيَّةٌ وَبَائِنَةٌ فَالرَّجْعِيَّةُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي عِدَّتِهَا، وَعَلَى الزوج زكاة فطرها فأما الباين فَلَهَا حَالَانِ حَامِلٌ وَحَائِلٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ لَهَا زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَهَلْ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لَهَا فَعَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِحَمْلِهَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجُ زَكَاةَ فِطْرِهَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ لَهَا، وَالْحَمْلُ لَا يُزَكَّى عَنْهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا خَادِمُ الزَّوْجَةِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 لِتَبَذُّلِهَا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُهَا، وَلَا الْإِنْفَاقُ على خادمها، فإن كان لها خادم فعليه نَفَقَتُهُ وَزَكَاةُ فِطْرِهِ دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ لِصِيَانَتِهَا وَعُلُوِّ قَدْرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْدَامُهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَ لَهَا خَادِمًا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا خَادِمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ فَيَلْتَزِمُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْدِمَهَا بِنَفْسِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِإِخْدَامِ غَيْرِهِ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْخِدْمَةِ لَا فِي أَعْيَانِ الْخَدَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي لَيْسَ لِلزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِخَادِمٍ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي خِدْمَةِ الزَّوْجِ لَهَا نَقْصًا دَاخِلًا عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَحْتَشِمُ فِي الْعَادَةِ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نُظِرَ فَإِنِ ابْتَاعَ لَهَا خادماً لزمه نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ لَهَا خَادِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا زَكَاةُ فطره، وعليه دفع أجرته، وإن أَنْفَقَ عَلَى خَادِمِهَا فَذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ دُونَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا نَفَقَةُ خادم واحد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤَدِّي عَنْ عَبِيدِهِ الْحُضُورِ وَالْغُيَّبِ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حياتهم واحتج في ذلك بابن عمر بأنه كان يؤدي عن غلمانه بوادي القرى (قال المزني) وهذا من قوله أولى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا عَبِيدُهُ الْحُضُورُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَأَمَّا عَبِيدُهُ الْغُيَّبُ فَلَهُمْ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ حَيَاتَهُمْ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ يَعْرِفُ مَكَانَهُمْ وَيَرْجُو رَجْعَتَهُمْ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا أَبِقُوا لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَالِهِ الْغَائِبِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي عَنْ غِلْمَانِهِ بِوَادِي القرى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وَلِأَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ لَا لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ، أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ فَأَمَّا الْمَالُ الْغَائِبُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وبين العبد مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِمْكَانَ التَّصَرُّفِ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ فَلَمْ يَجِبْ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، إِذَا كَانَ غَائِبًا لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ إِمْكَانُ التَّصَرُّفِ شَرْطًا فِي فِطْرَةِ الْعَبْدِ فَلَزِمَ إِخْرَاجُ فِطْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ إِخْرَاجُ قَدْرٍ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ لَمْ تَجِبْ وَلَيْسَ فِطْرَةُ الْعَبْدِ مِنْهُ فَجَازَ، إِنْ لَمْ يَحْضُرْ أن تجب. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُعْلَمَ حَيَاتُهُمْ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا إِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُمُ الزَّكَاةَ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ وَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُمْ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُؤَدِّي عنهم وإن لم يعلم حياتهم. واختلف أَصْحَابُنَا فَكَانَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَسَاعَدَهُمُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِمْ، وَوُجُوبُ فطرهم فلا تسقط بالشك، ولأنه لو أعتقهم عن كفارة قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَمْ يُجْزِهِ إِلْغَاءٌ لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِلْغَاءً لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ قَوْلًا وَاحِدًا: إنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هذا والكفارة، هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ يَتَعَيَّنُ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ حَيَاةُ الْغَائِبِ فَلَمْ تَسْقُطْ زَكَاةُ فِطْرِهِ بِالشَّكِّ فَبِالْمَعْنَى الَّذِي احْتِيطَ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ بِمِثْلِهِ احْتِيطَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرَةِ فَلَمْ يسقط فرضها بالشك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويزكي عمن كان مرهوناً أو مغصوباً على كل حالٍ ورقيقٍ رقيقه. ورقيقُ الخدمة والتجارة سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَنْ تَمُونُونَ) وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ أَوْكَدُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ زَكَاةَ الْمَالِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ، لَزِمَ السَّيِّدُ إِخْرَاجَهَا مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَقَبَتِهِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتُهُ فِي ماله فذلك زكاة فِطْرِهِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْمَالَ الْمَرْهُونَ حَيْثُ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، وَزَكَاةَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي عَيْنِهِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 الشَّافِعِيُّ: وَيُزَكِّي عَمَّنْ كَانَ مَرْهُونًا، أَوْ مَغْصُوبًا وَرُوِيَ مَغْصُوبًا يَعْنِي زَمِنًا وَأَيُّهُمَا كَانَ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِلْكِ دُونَ التَّصَرُّفِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُؤَدِّي عَنْ رَقِيقِ رَقِيقِهِ، لأنها رَقِيقُهُ وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ حَيْثُ قَالَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ فَإِذَا مَلَكَ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَبِيدًا فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ وَزَكَاةُ عَبِيدِهِ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ، فَأَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ قَالَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ فَفِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وهو أظهر أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ الْمَالِكُ لَهُمْ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَجْلِ رِقِّهِ، وَنَقْصِ مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَهُمْ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ فَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ مِلْكِهِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَقِيقُ الْخِدْمَةِ وَرَقِيقُ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ، وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة، حَيْثُ قَالَ فِيمَنْ مَلَكَ عبيد للتجارة أنه لا يجب عليه زكاة فطرهم لأن لا يَجْتَمِعَ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَنَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَنْ قِيمَتِهِمْ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ زكاة التجارة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان فيمن يَمُونُ كافرٌ لَمْ يُزَكِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يطهر بالزكاة إلا مسلم قال محمد وابن عاصم قال سمعت المعضوب الذي لا منفعة فيه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ كَافِرٍ مِنْ ولد أو والداً وزوجة أبو عَبْدٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا كَافِرًا لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أدوا زكاة الفطر بمن تَمُونُونَ) وَلَمْ يُفَصِّلْ وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ فَجَازَ أَنْ تَلْزَمَهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالَ السَّيِّدِ الدَّافِعِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ اعْتِبَارُ من وجب عَلَيْهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الْمَالُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ حَالِ السَّيِّدِ أَوْلَى لَزِمَتْهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا كَمَا يَلْزَمُهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُعْسِرًا وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إِلَى أَنْ قَالَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيده بالإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ما على المسلم زكاة في عبده ولا فَرَسِهِ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ " وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نفس مسلمة حرة أو مملوكة صدقة، وكان وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مُقَيَّدًا بِالْإِسْلَامِ، فَلَمْ تَجِبْ بِفَقْدِهِ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرفث وطعمةٌ للمساكين، فأخبر أَنَّهَا طُهْرَةٌ وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِهَا وَأَنَّهَا للصائم، والكافر لا صوم له فثبت، أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُشْرِكٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ زَكَاةُ فِطْرِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مِلْكًا لِمُشْرِكٍ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الْفِطْرَةِ عَنْ نفسه أوكد من وجوب أدائه عَنْ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصْلٌ وَهُمْ فَرْعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ بَدَأَ بِأَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبِدَايَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَوْكَدِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ مُؤَثِّرٌ فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ كَافِرًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ عَبْدِهِ، إِذَا كَانَ كَافِرًا، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ بِإِجْمَاعٍ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ أَوِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا مَعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا فِي الْمَدْفُوعِ عَنْهُ وَحْدَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا على غيره فثبت أنه معتبر فيهما مَعَ كَوْنِهِ عَامًّا، وَعَلَى الْأُصُولِ فِي ذَوِي الألباب مطرداً، وبهذا يبطل استدلاله وتعارض قِيَاسَهُ وَبِخَبَرِنَا نَخُصُّ خَبَرَهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْعَبْدُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مُخَرَّجَةٍ مِنِ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ، هَلْ تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ زَكَاتِهِ. أَحَدُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ في رب المال أن عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَعُدْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ زَكَاةَ رَبِّ الْمَالِ مَوْقُوفَةٌ فإن عاد إلى الإسلام وجبت عنه الْفِطْرَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ تَجِبْ كَمَا إِذَا عَادَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ يَجِبْ. فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا، إما بأن كان العبد كَافِرًا فَأَسْلَمَ، وَأَهَّلَ شَوَّالٌ قَبْلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 انتزاعه من يده أو كانت أُمُّ وَلَدِهِ كَافِرَةً فَأَسْلَمَتْ فَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْهُ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ. أحدهما: عليه إخراجها عنه إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّ السَّيِّدَ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى السَّيِّدِ وُجُوبَ حَوَالَةٍ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ فِي وِلَايَتِهِ لَهُمْ أَمْوَالٌ زكى منها عنهم إلا أن يتطوع فيجزي عنهم ". قال الماوردي: قد ذكرنا أن زكاة الفطر تابعة للمنفعة فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَهُمْ أَمْوَالٌ فَنَفَقَتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ مَالِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل، فَإِنَّهُمَا أَوْجَبَا نَفَقَةَ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ " وَمُؤْنَةُ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ تَابِعَةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَالِغَ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ وَالصَّغِيرُ الْفَقِيرُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ، وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى أَبِيهِ وَكَذَا الصَّغِيرُ الْغَنِيُّ، لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَبُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ، أَجْزَأَ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهَا، وَلَوْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِمْ أمين حاكم وجب في أموالهم لوفاق محمد وزفر وَيَتَوَلَّى الْأَمِينُ إِخْرَاجَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَمِينُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا بِهَا لَمْ يُجْزِهِمْ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَمِينِ بِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَمِينِ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلِلْوَلَدِ عَبْدٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَتُهُ وَلَا نَفَقَةُ عَبْدِهِ، وَلَا فِطْرَتُهُ وَلَا فِطْرَةُ عَبْدِهِ وَيُبَاعُ مِنَ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَبْدِهِ وَيُزَكِّيَ عَنْهُ وَعَنْ عَبْدِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ تَطَوَّعَ حُرٌّ مِمَّنْ يَمُونُ فَأَخْرَجَهَا عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَنْ عَدَا الزَّوْجَةِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ الَّذِينَ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا تَطَوَّعُوا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَجْزَأَهُمْ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنُوا الْمُنْفِقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 عَلَيْهِمْ، أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ بِفَقْرِهِمْ وَتَسْقُطُ بِغِنَاهُمْ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَنَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فطرتها أَوْكَدُ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلِذَلِكَ تجب مع فقرها وغناها، وترجع بما أنفقته عَلَى نَفْسِهَا فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجزي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزوج وجوب حوالة. والثاني: يجزي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبَ ضَمَانٍ. فَصْلٌ : لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ عَنْهَا، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا، وَوُجُوبُهَا عَلَيْهِ، لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْحَوَالَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِهِ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْحَوَالَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ الْمُطَالَبَةُ به، وإن جرى مجرى الضمان فليس للمضون عنه المطالبة به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ آخِرِ يومٍ من شهر رَمَضَانَ وَغَابَتِ الشَّمْسُ لَيْلَةَ شَوَّالٍ فَيُزَكِّي عَنْهُ وإن مات من ليلته وإن ولد له بعد ما غربت الشمس ولدٌ أو ملك عبداً فلا زكاة عليه في عامه ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَقْتِ الذي تجب فيه زكاة الفطر فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ آخِرِ شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَأَوَّلِ شَيْءٍ مِنْ لَيْلِ شَوَّالٍ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَبِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَأَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ " وَأَضَافَ الْأَدَاءَ إِلَى الْفِطْرِ، وَعَلَّقَهُ بِهِ وَإِطْلَاقُ الْفِطَرِ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمِ دُونَ لَيْلِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ) وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِعِيدِ الْفِطْرِ كَتَعَلُّقِ الْأُضْحِيَّةِ بِعِيدِ الْأَضْحَى فَلَمَّا كَانَتِ الأضحية متعلقة بنهار النحر دون ليله أَنْ تَكُونَ الْفِطْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِنَهَارِ الْفِطْرِ دُونَ لَيْلَةٍ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِالْيَوْمِ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ الْفِطْرِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَعَلَّقَ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِهَا كَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهَا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قياساً: أنه خصلة عن يوم من رمضان فوجب أن لا يتعلق به زكاة الفطرة كاليوم الأول والدلالة على صحة قوله في الْجَدِيدِ فِي تَعَلُّقِهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ دُونَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ طَهُورًا لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَوَّلُ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ نَهَارِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: طَهُورًا لِلصَّائِمِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطُّهْرَةِ مِنَ الصَّوْمِ، وَقَدْ تحرر هَذِهِ الدَّلَالَةُ قِيَاسًا فَيُقَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي حُكْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَهُ، فَلَمْ يُجْزِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا بَعْدَهُ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يَتَعَقَّبْ زَمَانَ الصَّوْمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ، قِيَاسًا عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِخُرُوجِ رَمَضَانَ، أَوْ بِدُخُولِ شَوَّالٍ، وَغُرُوبِ الشَّمْسِ بجميع الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِغْنَاءَهُمْ بِدَفْعِهَا لَهُمْ لَا بِوُجُوبِهَا لَهُمْ، وَهِيَ تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ لَا فِي اللَّيْلِ، وَتَجِبُ لَهُمْ فِي اللَّيْلِ لا في اليوم. والثاني: أن أمره بإعنائهم عن الطلب فيه لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا، أَوْ دَفْعِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّلَبِ، وَهُمْ يَسْتَغْنُونَ فِيهِ عَنِ الطَّلَبِ بِمَا يُدْفَعُ إليهم من الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وأما قولهم أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ، وَالْفِطْرُ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمَ دُونَ لَيْلِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِ زَمَانِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ جميعاً والنهار لغة وشرعاً. أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ أَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلَيْلَتِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْفِطْرِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ على الأضحية، فإن قصد الجمع بينهما في زمان الإخراج صح خروجه، وَإِنْ قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْوُجُوبِ فَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَيْسَ بِفِطْرٍ عَنْ جَمِيعِ الصَّوْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِطْرٌ عَنْ بَعْضِهِ، وَلَيْلَةُ الْفِطْرِ خُرُوجٌ مِنْ جَمِيعِهِ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي زَمَانِ وُجُوبِهَا، فَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهِمَا مَبْنِيٌّ، فَإِنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ أَوْ عَقَدَ عَلَى زَوْجَةٍ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبَقَوْا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِوُجُودِهِمْ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ وُلِدَ لَهُ الْمَوْلُودُ، وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمَاتُوا، أَوِ انْتَقَلُوا عَنْ حَالِهِمْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ فَلَوْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثم مات الولد، وطلق الزوجة، ومات الْعَبْدُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ عبدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَعَلَى كل واحدٍ منهما بقدر ما يملك مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، فَتَكُونُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ صَاعٌ وَاحِدٌ وَكَذَا لَوْ كَانَ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، لَزِمَهُمَا عَلَى كُلِّ رَأْسِ صَاعٍ وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ مَا تَتَكَرَّرَ زَكَاتُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فيه نصاب يدخل العفر فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 دونه كالمواشي، والنصاب عبد كامل والعفر مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زكاته. والثاني: أن قال العبد المشرك بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْمُكَاتَبِ بَيْنَ سَيِّدِهِ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ في المشرك، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ فِي الْمُكَاتَبِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أن فِطْرَةً عَمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ مِمَّنْ تَمُونُونَ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَعْنِي: عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَكَانَ ظَاهِرُهُ فِي وُجُوبِهَا عَنِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ. والثاني: قوله ممن يمونون فعلقهما بالمؤنة مِمَّنْ يُمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يُزَكَّى عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُشْتَرِكِ كَالنَّفَقَةِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ لأجل الْمُشْتَرِكِ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ فِي الْمَالِ، وَغَيْرِ الْمَالِ أَلَّا تَرَاهَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى أَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَجِبُ حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ نِصَابَيْنِ نِصَابَ الْمَالِ وَنِصَابَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ هَذَا وَاجِبَةً وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَيَفْسُدُ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اعْتِبَارَ الْفِطْرَةِ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّقَبَةِ تَطْهِيرًا، وَكَذَلِكَ تَجِبُ ابْتِدَاءً وَتَحَمُّلًا وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ عَنِ الْفِعْلِ تَمْحِيصًا وَتَكْفِيرًا، وَذَلِكَ يَجِبُ ابْتِدَاءً وَلَا يَجِبُ تَحَمُّلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ اسْتِيعَابًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَيَلْزَمُهُمْ مِائَةُ صَاعٍ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ صَاعٍ، وَهَذَا خُرُوجُ عَنْ مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِمَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ صَاعًا وَاحِدًا، فَلَهُمَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا وَاحِدًا، فَيُخْرِجَانِ مِنْهُ صَاعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ قُوتُ أَحَدِهِمَا بَرًّا والآخر شعيراً ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 أحدهما: وهو قولي أَبِي الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَلَا يَجْبُرُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْبُرِّ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُهُ، لَكِنْ يُخْرِجَانِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَلِأَنَّ مَنْ يَقْتَاتُ الْبُرَّ يَقْدِرُ عَلَى الشَّعِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ فَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الْبُرُّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَيُخْرِجُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ، وَهِيَ ضَأْنٌ وَيُخْرِجُ الْآخَرُ نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غنمه وهي معزى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان يملك نِصْفُهُ وَنِصْفُهُ حُرٌّ فَعَلَيْهِ فِي نِصْفِهِ نِصْفُ زكاته فإن كان للعبد ما يقوته ليلة الْفِطْرِ وَيَوْمِهِ أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نِصْفِهِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا اكْتَسَبَ فِي يَوْمِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحَقِّ مِلْكِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحُرِيَّتِهِ لِيَكُونَ الصَّاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: على العبد بقدر ما عتق منه، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى السَّيِّدِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ممن تمونون، دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُهَايأ أَوْ غَيْرَ مُهَايأ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأً فَجَمِيعُ كَسْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَلِسَيِّدِهِ نِصْفُ كَسْبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ، وَيَكُونُ عَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُهَايَّأً، وَصُورَةُ الْمُهَايَّأَةِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ لِسَيِّدِهِ شَهْرًا، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَلِنَفْسِهِ شَهْرًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ يَوْمًا وَيَوْمًا، فَفِي دُخُولِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الْمُهَايَّأَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَّأَةِ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَّلَ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ. وَالْوَجْهُ الثاني: وهو الْأَظْهَرُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرَةِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُهَايَّأَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفَقَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّتِهِ مِثْلَ مَا تَلْزَمُهُ الْأُخْرَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 فِي مُدَّتِهِ فَدَخَلَتْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا، وَلَيْسَتْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ هَكَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِيَسْتَوِيَا فِيهَا فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ النَّفَقَةِ، وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي إِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا، وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ، وَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُخَارِجُ فَزَكَاةُ فطرته على سيده، وكذلك المؤاجر لبقائه على ملكه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فَأَهَلَّ شوال ولم يختر أنفاذ البيع ثم أنفذه فزكاة الفطر على البائع وإن كان الخيار للمشتري فالزكاة على المشتري والملك له وهو كمختار الرد بالعيب وإن كان الخيار لهما جميعاً فزكاة الفطر على المشتري (قال المزني) هذا غلط في أصل قوله لأنه يقول في رجل لو قال عبدي حر إن بعته فباعه أنه يعتق لأن الملك لم يتم للمشتري لأنهما جميعاً بالخيار ما لم يتفرقا تفرق الأبدان فهما في خيار التفرق كهو في خيار الشرط بوقتٍ لا فرق في القياس بينهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ عَبْدًا تاجراً ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ انْبِرَامِهِ فَزَكَاةُ فِطْرَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَاعَ عَبْدًا بِخِيَارِ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ تَقَضِّيهَا، فَفِي زَكَاةِ فِطْرَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَى الْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا خِيَارٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَانْبَرَمَ فَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وإن انفسخ فهي على البايع وَسَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِلْمُشْتَرِي دون البايع أو للبايع دُونَ الْمُشْتَرِي، فَالْحُكْمُ فِيهِ وَاحِدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْخِيَارِ، فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، وَقَدْ مَضَى، وَقَدْ كَانَ أَبُو الطَّيِّبِ ابْنُ سَلَمَةَ يَزْعُمُ، أَنَّ الْأَقَاوِيلَ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَوْلَى، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَا دَفَعَ ثَمَنَهُ حَتَّى أَهَلَّ شَوَّالٌ زَكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَلَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ لِلْعَلَقَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لِلْبَائِعِ فِيهِ وَهِيَ حَقُّ الِاحْتِبَاسِ، لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَصَارَ كَأَنَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ خياراً وهذا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وغيره بل إن كان المبيع تاجراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ نَافِذٌ، وَصَدَقَةُ فِطْرِهِ لَازِمَةٌ سَوَاءً دَفَعَ ثَمَنَهُ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ بِخِيَارٍ فَهُوَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَلِلْكَلَامِ مَعَ ابْنِ خَيْرَانَ موضع غير هذا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " قال وَلَوْ مَاتَ حِينَ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَلَهُ رَقِيقٌ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَالِهِ مبدأةٌ على الدين وغيره من ميراث ووصايا ولو ورثوا رقيقاً ثم أهل شوال فعليهم زكاتهم بقدر مواريثهم ولو مات قبل شوال وعليه دين زكى عنهم الورثة لأنهم في ملكهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَركَ رَقِيقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ شَوَّالٍ، أَوْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ وَكَذَا الْعُشُورُ وَالزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: يسقط بِالْمَوْتِ الْكَفَّارَاتُ، وَجَمِيعُ الزَّكَوَاتِ إِلَّا الْعُشْرَ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أشهد أن مَنْ فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الرَّجْعَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَقْطَعُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُغَيَّبِ الَّذِي لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَإِذَا كَانَ تَوْقِيفًا، وَالرَّجْعَةُ لَا تُسْأَلُ إِلَّا فيما يُمْكِنُ تَلَافِيهِ ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا تَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ، قَالَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا حَضَرَتْهُ جِنَازَةٌ سَأَلَ عَنْ صَاحِبِهَا هل عليه دين، فإن قَالُوا نَعَمْ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّكَاةُ ك " الدين " لا يسقط بِالْمَوْتِ لَسَأَلَ عَنْهَا، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى صاحبها قالوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ حَالَ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالْعُشْرِ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجْعَةَ لِإِخْرَاجِهَا، فَلَوْ كَانَتْ بِالْمَوْتِ سَاقِطَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُؤَالِ الرَّجْعَةِ، فَأَمَّا سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ دُيُونِ الْمَوْتَى دُونَ الزَّكَوَاتِ، فَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الزَّكَوَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ، وَأَهْلِ الْيَسَارِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَ إِلَّا عَنِ الْمَعْدُومِينَ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالصَّلَاةُ غَيْرُ سَاقِطَةٍ عَنْهُ كَالْحَجِّ وَهُوَ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهَا لَمْ يمكن المطالبة بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سِوَى الزَّكَاةِ دَيْنٌ أَمْ لَا، فإن لم يكن عليه سِوَى الزَّكَاةِ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ بِبَاقِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَدْ وَجَبَ فِي مَالِهِ حَقَّانِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ فإن كانت تركته تسع لَهُمَا قُضِيَا مَعًا، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ اقْتَسَمَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ ضَاقَتْ تركته عنها لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ مِنْ أمرين، إما أن تكون زكاة مال فطره أو زكاة مال فإن كانت زكاته مَالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، أَوْ مَعْدُومًا فإن كان معدوماً استقر الدين وبطل تعلقهما بِالْعَيْنِ وَصَارَتْ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ ثُمَّ هَلْ تُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ، أَوْ يُقَدَّمُ عليها دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فدين الله أحق أن يقضى) . والقوال الثَّانِي: أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا فَيُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا بَقِيَ فيها لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِمَا فَيَخْرُجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِسْطٍ مَا احْتَمَلَتْهُ التَّرِكَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ مَوْجُودًا فِي التَّرِكَةِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَالْعَيْنُ بِهَا مُرْتَهِنَةٌ قُدِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُوبِ، وَتَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِالْعَيْنِ فَكَانَ أَقْوَى وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ كَالْمُرْتَهِنِ يُقَدَّمُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي الدَّيْنِ، وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ الَّتِي قَدْ وَجَبَتْ فِي مَالٍ قَدْ تَلِفَ فَيَكُونُ فِيهَا، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ فَهَذَا حُكْمُ زَكَاةِ الْمَالِ مَعَ الدَّيْنِ فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ مَعَ الدَّيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ: هِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهَا فِي الْغَالِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ فَاسْتَحَقَّتْ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أنه كَزَكَاةِ الْمَالِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فَعَلَى هَذَا فِيهَا، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ، فَزَكَاتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِحَالٍ فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقِيقِهِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْوُجُوبِ أَتَى بَعْدَ انْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَى مِلْكِهِمْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَقَدِ اسْتَقَرَّتِ التَّرِكَةُ فِي مِلْكِهِمْ، وَوَجَبَتْ فِطْرَةُ الرَّقِيقِ عَلَيْهِمْ تقسط بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الميت دين محيط بِقِيمَةِ التَّرِكَةِ وَالرَّقِيقِ، كَأَنَّ قِيمَةُ الرَّقِيقِ أَلْفًا وقدر الدين ألف فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ فِطْرَةَ الرَّقِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْوَرَثَةِ، لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِهَا، وَلَا عَلَى الْمُتَوَفَّى لِمَوْتِهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: التَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُتَوَفَّى لَا يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ، إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ ديْنٍ) {النساء: 11) فَجَعَلَ الْوَارِثَ مَالِكًا لِلتَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، والوصية فدل على انتفاء ملكه مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْوَارِثُ فَهِيَ على الْمَيِّتِ قَالَ: وَلِأَنَّ عُهْدَةَ مَا بِيعَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى وَارِثِهِ وَالْعُهْدَةُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَى الْوَارِثِ لَوَجَبَتِ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْمَيِّتِ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِ وَصَايَاهُ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْضُوا دُيُونَهُ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، وَتَكُونُ التَّرِكَةُ مِلْكًا لَهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّرِكَةَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَخْلُفُوا عَلَى دَيْنِهِ، وَيَسْتَحِقُّوا وَيَقْضُوا مِنْهُ دُيُونَهُ فَلَوْلَا أَنْ مِلْكَ الدَّيْنِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مَا جَازَ أن يخلفوا عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِمْ. وَالثَّالِثُ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَخَلَّفَ اثنين ثم مات أحد الاثنين، وترك ابناً ثم أن الغرماء أبرؤا الْمَيِّتَ مِنْ دُيُونِهِمْ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الِابْنِ الْبَاقِي وَابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ لِلِابْنِ الْبَاقِي، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ هَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ فِي تَرِكَتِهِ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مِنْ أَجْلِ دَيْنِهِ، وَقَدْ يُرْجَعُ بِالْعُهْدَةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، وَدُفِعَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُهْدَتِهِ وَقِيمَتِهِ عَلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَزَكَاةُ فِطْرِ الرَّقِيقِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فعلى هذا تكون فطرة نفسه غير وَاجِبَةً بِحَالٍ، وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ، وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى لرجل بعبدٍ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، فَمَاتَ ثُمَّ أَهَلَّ شوال أوقفنا زكاته فإن قيل فَهِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مِلْكِهِ وَإِنْ رُدَّ فَهِيَ عَلَى الْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ شَوَّالٍ، وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِهِ ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ غَيْرُ واجبة على الميت الموصي بموته قَبْلَ وُجُوبِهَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ مَتَى يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى قولين: أحدهما: أنه يملكها لقبوله فَإِذَا قَبِلَ مِلْكَهَا حِينَئِذٍ فَعَلَى هَذَا فِطْرَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ قَبُولِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَبُولَهُ يُنْبِئُ عن ملك سابق، فإذا قبل أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ إِنْ قَبِلَ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ كَالْمِيرَاثِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ، فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُعِدُّهُ قَوْلًا ثَالِثًا، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ زكاة الفطر عَلَى الْمُوصَى لَهُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ، وَأَنْكَرُوهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَصْرِيحٍ، أَوْ تَلْوِيحٍ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ : إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَبِمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّ زَكَاتَهُ وَنَفَقَتَهُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْفِطْرَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ لَا بالمنفعة ألا ترى أن العبد المؤاجر نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 فَصْلٌ : فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَبْدًا قَبْلَ شوال، ثم أقبضه العبد بعد شوال في زَكَاةِ فِطْرِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْهِبَةِ مَتَى تَمَلَّكَ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ تَمَلَّكَ بِالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى الْوَاهِبِ، لأنه كان في ملكه حتى أَهَلَّ شَوَّالٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا عَلَى الْقَبْضِ فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ الفطر عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ حين أهل شوال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ أَبِيهِمْ لِأَنَّهُمْ بملكه ملكوه ". أَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لَا أَعْرِفُ فِيهَا مُخَالِفًا. ". قال الماوردي: فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِهِ فَقَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَبُولِهِ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ فِي الْقَبُولِ مَقَامَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتِ الوصية بموته قبل قبوله، وليس للورثة قبوله بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الحملة فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ شَوَّالٍ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ وَبَعْدَ شَوَّالٍ فَوَرَثَتُهُ يقومون في القبول مقامه، وإن قبلوا، وقبل إِنَّهُمْ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ يُنْبِئُ عَنْ ملك سابق فزكاة فطره وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ تَرِكَتِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ عَنْهُ يَمْلِكُونَهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ من بقوت ليومه وَمَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَدَّاهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ بِمَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ يَوْمَهُ، وَلَيْلَتَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَلْزَمُهُ قُوتُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَفَضَلَ عَنْ ذَلِكَ قَدْرُ فِطْرَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَجِبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَاعْتَبَرَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ بِالْأُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ) فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَأْخُوذًا مِنْهُ، وَالْفَقِيرَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْفَقِيرُ مَأْخُوذًا مِنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْغَنِيُّ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا النِّصَابُ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ بِاسْمِ الْفَقْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ قُوتِهِ شَيْءٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ وُجُودُ النِّصَابِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَاتِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ فَضْلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِخْرَاجُهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد به تنزيه الفقراء، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّدَقَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا: زِيَادَتُهَا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَنُقْصَانُهَا بِنُقْصَانِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْضُلْ من قوته شيء فالمعنى في أنه غير قادر عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إِلَّا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّى عَنْ بعضهم وإن لم يكون عنده إلا قوت يومه فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ وَجَدَ زَكَاةَ فِطْرِهِ فَاضِلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا، وَاعْتِبَارُ وُجُودِ ذَلِكَ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّ بِهِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يعتبر وجود ذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ تَجِبُ زكاة الفطر، فإذا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، أَوْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 وَاجِدًا لِجَمِيعِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ قُوتِهِ، وَقُوتِ عِيَالِهِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ يَكُونَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِجَمِيعِهَا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى تَلَفَتْ مِنْ يَدِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ إِخْرَاجِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرَةِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ: أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، وَالْفِطْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ تَلَفُهُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ مُسْقِطًا لِضَمَانِهَا وَالْأَوَّلُ أصح. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إخراجها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَلَمْ يجز أن يؤمر بإغناء غير وَيُحْوِجَ نَفْسَهُ إِلَى أَنْ يُعِينَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، إِمَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى الْجَدِيدِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ على القديم لم يلزمه إخراجها، ويستحب ذَلِكَ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَجَدَهَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَأَصْحَابُ مَالِكٍ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَانَ وَجُودُهُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِهَا كَالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ زَكَاةَ الفطر تجب بالإسلام، والقدرة فلو أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَكَذَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَاعًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَسْقُطُ بِهِ بَاقِيهَا ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ أَيِّهِمْ شَاءَ لِأَنَّهُ لو كان واجد الفطرة جَمِيعُهُمْ، لَكَانَ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ إِخْرَاجِهَا عَنْ أيهم شاء فكذا، إذا كان واجد الفطرة أَحَدِهِمْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي إِخْرَاجِهَا عَنْ أَيِّهِمْ شاء. والوجه الثاني: أنه يُخْرِجَهَا عَنْ أَحَدِ الْجَمَاعَةِ لَا يُعَيِّنُهُ لِيَحْتَسِبَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا عَمَّنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ لَوْ كان واجد الفطرة جَمِيعُهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ كُلِّ واحد منهم، وكذا إذا كان واجد الفطرة وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ أَحَدِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَوْكَدِهِمْ حُرْمَةً وَأَقْوَاهُمْ سَبَبًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَقُّهُ أَوْكَدَ، وَأَقْوَى فَهُوَ بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثَمَّ بِمَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 تَعُولُ) ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ نَفْسِهِ بِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ، فَكَذَا فِطْرَةُ نَفْسِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِطْرَةِ أَقَارِبِهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ زَوْجَتِهِ بِأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ وَوُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِاسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ بِأَبِيهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ على أمه، لأن نفقته في صغره قَدْ تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَكَانَتْ نَفَقَةُ أَبِيهِ أَوْكَدَ مِنْ نَفَقَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَبِيهِ بِأُمِّهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى كِبَارِ وَلَدِهِ، لِقُوَّةِ حُرْمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ الْفُقَرَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا وَجَدَهُ بَعْدَ قُوتِهِ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ مَنْصُوصًا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُسْقِطُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَمِيعِهَا وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن الكفارة ترجع فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا، وَالْفِطْرَةُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ إِخْرَاجَ بَعْضِ الصَّاعِ قَدْ يَجِبُ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ لِجَوَازِ تَبْعِيضِهِ وَالْكَفَّارَةُ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا فلم يجز إخراج بعضها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ أحدٌ ممن يقوت واجداً لزكاة الْفِطْرِ لَمْ أُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكِ أَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةَ دُونَ الْأَقَارِبِ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فِطْرِهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهَا، وَالْأَقَارِبُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِزَكَاةِ فِطْرِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ كَمَا سَقَطَتْ عَنْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ، ثُمَّ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً بِهَا، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهَا لِخِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ عَلَيْهَا إِخْرَاجَ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا ثُمَّ يَحْمِلُ الزَّوْجُ عَنْهَا وَيَخْرُجُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي سَيِّدِ الْأَمَةِ إِذَا زَوَّجَهَا لِمُعْسِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي آخر هذا الباب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ أن يؤدي عنها فإن زَوْجُهَا حُرًّا فَعَلَى الْحُرِّ الزَّكَاةُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَعَلَى سَيِّدِهَا فَإِنْ لَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ، أَوْ مَنَعَهَا مِنْهُ فَعَلَى السَّيِّدِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ وَأَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا فَالْكَلَامُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِقِّهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَهُ حالان: أحدها: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ معسراً فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُمَكَّنًا فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهَا بِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ لَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنْهَا بِتَسْلِيمِ السَّيِّدِ لَهَا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَنَفَقَتِهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ أَدَائِهَا إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَغَيْرَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالتَّطَوُّعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ فِطْرِهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ فِطْرَتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ عَوْدِ الصَّدَقَةِ إِلَى مُخْرِجِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنِ ابْتِيَاعِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِآخِذِهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يأخذ غيرها مِنْ مَالِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعْطَاهَا لِمَعْنًى وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَأَخَذَهَا بِمَعْنًى غَيْرَهُ وَهُوَ الْحَاجَةُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْإِعْطَاءِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإِرْثٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّيِّدُ فَإِنْ أَوْجَبْنَا زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وهو أن يكون حرا موسراً ممكناً فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تجب مرة، والزوج يحملها فسقطت عن السيد، وإن لم نوجب زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَانِعًا مِنْهَا غَيْرَ مُمَكِّنٍ لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَزَكَاةُ فِطْرِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 عَلَى السَّيِّدِ مَعَ نَفَقَتِهَا، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْهَا مُمَكِّنًا لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنِ الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا إِمَّا لِرِقِّهِ أَوْ إِعْسَارِهِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ وَعَنِ الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُرَّةُ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَقُولُ: عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحَقَّةُ التَّسْلِيمِ، وَالتَّمْكِينِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَلَيْسَ لَهَا صُنْعٌ فِي نَقْلِ فَرْضِ الزَّكَاةِ إِلَى زَوْجِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهَا لَمْ يَنْتَقِلْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمَةُ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى السَّيِّدِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِ زَكَاتِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ لَا يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِهَا لَمْ تَسْقُطْ عنه، فلم يكن تطوعه بتسليمها سقطاً لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ زَكَاتِهَا وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 باب مكيلة زكاة الفطر قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ (قال الشافعي) وبين في سنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ مِمَا يَقْتَاتُ الرجل وما فيه الزكاة ". قال الماوردي: صَحِيحٌ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نص في زكاة الفطر على أشياه، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (هَذَا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ) وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ (الْحِنْطَةُ وَالزَّبِيبُ) فَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ قُوتًا مُدَّخَرًا لِأَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ قُوتٌ مُدَّخَرٌ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أن الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ مَأْكُولًا مَكِيلًا حَتَّى رَوَى عَنْهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ إِهْلِيلَجٍ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَإِغْنَاؤُهُمْ بِالْقُوتِ أَعَمُّ، وَنَفْعُهُمْ بِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ قد يكون في المأكول ما لا يُغْنِي عَنِ الْقُوتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَخْرُجُ زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْهُ مُقَابِلٌ لِمَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ فِيهِ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ، اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ مُدَّخَرًا قُوتًا، فَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالْعَلَسُ وَالسُّلْتُ وَالْأَرُزُّ وَاللُّوبِيَا وَالْحِمَّصُ وَالْجُلْبَانُ وَالْعَدَسُ وَالْجَاوَرْسُ وَالذُّرَةُ، فَأَمَّا الْبَاقِلَّى فَقَدْ أَحْسَبُهُ يُقْتَاتُ فَإِنْ كَانَ قُوتًا أَجْزَأَهُ، إِذَا أَدَّى مِنْهُ صَاعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ قُوتٌ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ فَيَعْنِي مَا يَبْقَى مُدَّخَرًا لِأَنَّ أَصْلَ الْبَقْلِ مَا يَبْقَى من الشيء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأي قوتٍ كان الأغلب على الرجل أدى منه زكاة الفطر كان حنطة أو ذرةً أو عَلَسًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ، هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التخيير؟ فله فيه قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا، فَمِنْ أَيِّهَا أَخْرَجَ أَجَزْأَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ فَجَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُوَاسَاةٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا أَيْسَرُ والتسوية بين جميعها أرفق، فعلى هذا من أي قوت أَخْرَجَهَا أَجْزَأَهُ، وَبَعْضُ الْأَقْوَاتِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَالتَّمْرُ وَالْبُرُّ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي أَوْلَاهُمَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمْرَ أَوْلَى. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخرج، وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارٍ بِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَفِي مَائِهَا شفاءٌ للعين، والعجوة من الخير، وَفِيهَا شفاءٌ مِنَ السُّمِّ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبُرَّ أَوْلَى. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أنه قال الآن قد أوسع عليكم فأخرجوا البر، ولأن التمر مجمع عليه عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صاع، والبر مختلف فيه، وكان ما اختلفوا فيه هل يجزي أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ أَمْ لَا؟ أَوْلَى مِمَّا أجمعوا على أنه لا يجزي مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ أَوْلَاهُمَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لَكَانَ مَذْهَبًا، وَلَكَانَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَجْهٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الأقل وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِغَالِبِ الْقُوتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ يكون بما يكفيه الْإِنْسَانُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَلَوْ كَانَ الْمُزَكِّي مُخَيَّرًا فِيهِ، لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ فَلَا يَسْتَغْنِي بِهِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ، فَعَلَى هذا هل يُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ أَوْ غَالِبُ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا، وَفِي " الْأُمِّ " وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89) وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بفرض نفسه، فوجب أن يكون اعتباره لقوت نَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، خَاطَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جَمْعًا بِغَالِبِ أَقْوَاتِهِمْ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ تَوْسِعَةً، وَرِفْقًا وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى التَّوْسِعَةِ وَالرِّفْقِ فِي الْمُوَاسَاةِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنْ عَدَلَ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ، فَأَخْرَجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ زَكَاتِهِ أَدْونَ من غالب قوته، كأن أخرج شعيراً، وغالب قوته تمراً فهذا لا يجزئه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون ما أخرجه في زكاته أغلى مِنْ غَالِبِ قُوتِهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَ بُرًّا وَغَالِبُ قوته شعيراً، ففي إجزائه وجهان: أحدهما: لا يجزئه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا عَنْ زَكَاةِ بُرٍّ، وَدَرَاهِمَ عَنْ زَكَاةِ دَنَانِيرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يجزيه قال لأنه أغلى مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ فأخرج أعلى منها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَدَّى مِنْ هَذَا أَدَّى صَاعًا بِصَاعِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ المسألة يشتمل على فضلين: أَحَدُهُمَا: فِي قَدْرِ مَا يُؤَدَّى. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى بِهِ. فَأَمَّا قَدْرُ مَا يُؤَدَّى مِنَ الْأَقْوَاتِ فَصَاعٌ كَامِلٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَخْرَجَ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا فَصَاعٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فنصف صاع وعنه في الترتيب رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: صَاعٌ كَالتَّمْرِ وَالثَّانِيَةُ نِصْفُ صَاعٍ كالبر تعلقاً برواية الزهري عن ثعلبة عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ " أَدُّوا صَاعًا مِنْ قمحٍ عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 كل اثنين " ورواية دَاوُدَ بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ حنطةٍ " وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيًا أَنْ يُنَادِيَ أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الفطر مدانٍ من قمحٍ أو صاعٍ من تمرٍ) وَبِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: أَخْرِجُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَقَالَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ، ثُمَّ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ قَالَ؛ وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ تتعلق بأجناس المال، فوجب أن تختلف باختلاف الْأَجْنَاسِ كَالْمَوَاشِي، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَصَّ عَلَى صَدَقَةِ رَمَضَانَ فَقَالَ عَلَى كُلِّ إنسانٍ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ قمحٍ ". وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعَا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ ". وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ طعامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَكَلَّمَ فِيمَا كَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ تمر الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بذلك قال أبو سعيد: ولم أزل أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ قُوتٌ مُخْرَجٌ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 يَخْتَلِفَ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، كَزَكَوَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فأما استدلالهم بالأخبار هي ضعيفة عند أهل النقل غير مقبولة عند أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. أَمَّا حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَفِي رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَوَجْهُ ضَعْفِهِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْوَاهِيَةَ مَعَ ضَعْفِهَا لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ. وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَزْيَدُ مِنْهَا، والأخذ بالزيادة أولى. والثاني: مَا رَوَيْنَاهُ أَحْوَطُ مِنْهَا، وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ أَوْلَى، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا رويناه من إخراج صاع من بُرٍّ فِي ذَوِي الْيَسَارِ، وَمَا رَوَوْهُ فِي إِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى صاع من تمر تنبيه على صاع من الْبُرِّ فِي الْمُوسِرِينَ، وَفِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي الْمُعْسِرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ فِي وَالِدٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَلَدَيْنِ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَفِي نَصِّهِ عَلَى صاع من مِنْ تَمْرٍ تَنْبِيهٌ عَلَى صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَصٍّ وَتَنْبِيهٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ تتعلق بأجناس فوجب أن تختلف باختلاف أجناسه فباطل بصدقة الزُّرُوعِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَجِبُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَالِ، فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 فَصْلٌ : فَأَمَّا قَدْرُ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى، فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ كُلُّ مُدٍّ مِنْهَا رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فيكون الصاع خمسة أرطال وثلث بِالْعِرَاقِيِّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ وأبي يوسف وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَكْثَرِ فقهاء العرقيين وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: الْمُدُّ رِطْلَانِ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد " والمد رطلان، وقد روت عائشة بنت عجرد عن أن أَنْفَعَ امْرَأَةِ أَبِي السِّعْرِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغتسل بالصاع " والصاع ثمانية أطالٍ " قال وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُرِيَنِي صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: فأخرجت صاعاً حزر به ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهَذَا غَلَطٌ. وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ: احْلِقْ رَأْسَكَ وأنسك نسيك أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَرُوِيَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ، أَوْ تَصَدَّقْ بفرقٍ مِنْ تمرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ القصة واحدة، وقول الأكثر واحد فنقل عنه ثلاثة آصع، ونقل عنه فرق فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثَةَ آصُعٍ فَنَقَلَ الرَّاوِي مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ مَكَانَ الْآصُعِ فَرَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أمر بفرق فنقل معناه وجعل مَكَانَ الْفَرَقِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ثلاثة آصع فرق من تمر في أدى ذلك أقول عَلَى أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَلَمَّا لَمْ يختلف واجد هذين مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْفَرَقَ سِتَّةَ عَشَرَ رطلاً بالعراق، ثبت أن الصاع الذي هو خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلْثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَرَوَى مَالِكٌ قَالَ أَخْرَجَ لِي نَافِعٌ صَاعًا وَقَالَ هَذَا صَاعٌ أَعْطَانِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ هَذَا صَاعُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعيرته فكان بالعراقي خمسة أرطال وثلت، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَجَّ، وَمَعَهُ أبو يوسف فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكٍ، فَسَأَلَ أبو يوسف مَالِكًا عَنِ الصَّاعِ فَقَالَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَأَنْكَرَ أبو يوسف ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى مَالِكٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يُحْضِرَ صَاعَهُ مَعَهُ، فَاجْتَمَعُوا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ منهم صاعه، يقول: هذا وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي وَحَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ قَالَ وَرِثْتُهُ عَنْ جَدِّي، وَأَنَّهُ كَانَ يُخْرَجُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَوَزَنَهُ الرَّشِيدُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فرجع أبو يوسف، إلى هذا الظهور فِي الصَّحَابَةِ، وَاشْتِهَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَتَوَاتُرِ نَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، فَإِنْ قَالُوا هَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قِيلَ: إِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِنَقْلِهِمْ دُونَ عَمَلِهِمْ وَنَقْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 الْمَدِينَةِ وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ " فَكَانَ عَمَلُهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حُجَّةً، فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ سُؤَالُ الكرخي من أصحابهم إنما عبروه خمسة أرطال، وثلث بِالْمَدِينَةِ وَرِطْلُ الْمَدِينَةِ رِطْلٌ، وَنِصْفٌ بِالْعِرَاقِيِّ فَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَرُجُوعُ أبي يوسف وَهْمٌ مِنْهُ قِيلَ لَوْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أبي يوسف وَمَالِكٍ نِزَاعٌ، وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا يَخْفَى عَلَى الرَّشِيدِ وَمَنْ حَضَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِلَافِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ روي أنهم وزنوه خمسة أرطال وثلث بِالْعِرَاقِيِّ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " أَصْغَرُ الصِّيعَانِ صَاعُنَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّاعَ هُوَ أَكْبَرُ، وَأَنَّ صَاعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْأَصْغَرُ فَثَبَتَ قَوْلُنَا إنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ الصِّيعَانِ فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَتُهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَأُمِّ أَنْفَعَ وَارِدٌ فِي صَاعِ الْمَاءِ، وَخِلَافُنَا فِي صَاعِ الزَّكَوَاتِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آصُعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ عَنْ حزر وَالْحِرْزُ فِي الْمَقَادِيرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولا تقوم الزكاة ولو قومت كان لو أدى ثمن صاعٍ زبيبٍ ضروعٍ أدى ثمن آصعٍ حنطةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ دَفْعَ الْقِيمَ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَلَوْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الصَّاعِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَضَى، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى قَدْرٍ مُتَّفَقٍ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَسَوَّى بَيْنَ قَدْرِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَقِيمَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقَدْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دُونَ قِيمَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ قِيمَةُ صَاعٍ مِنْ زبيب ضروع، وهو الزبيب الكبار أضعاف حنطة فأخرج من الزبيب نصف صاع قيمته من الحنطة صاع أن يجزئه فلما أجمعوا على أنه لا يجزئه، وَإِنْ كَانَ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ دُونَ الْمَنْصُوصِ عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يؤدي إلا الحب نفسه لا يؤدي دقيقاً ولا سويقاً ولا قيمةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ بَدَلًا مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا وَلَا بَدَلًا مِنَ التَّمْرِ دِبْسًا وَلَا نَاطِفًا، وَأَجَازَ أبو حنيفة ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جَوَازِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ، وَأَجَازَ مَالِكٌ الدَّقِيقَ بَدَلًا مِنَ الْحَبِّ مَعَ وِفَاقَهُ أَنَّ الْقِيَمَ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَشَّارٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ دقيقٍ. وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْحَبَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْبَذْرِ وَالطَّحْنِ وَالْهَرْسِ وَالِادِّخَارِ وَالدَّقِيقُ مَسْلُوبُ الْمَنَافِعِ إِلَّا الِاقْتِيَاتَ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ لِنَقْصِ مَنَافِعِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ وَهِمَ فِيهِ سُفْيَانُ: مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إليّ لأهل البادية أن لا يؤدوا أقطاً لأنه وإن كان لهم قوتاً فالفث قوت وقد يقتات الحنظل والذي لا أشك فيه أنهم يؤدون من قوت أقرب البلدان بهم إلا أن يقتاتوا ثمرة لا زكاة فيها فيؤدون من ثمرةٍ فيها زكاةٌ ولو أدوا أقطاً لم أر عليهم إعادةً (قال المزني) قياس ما مضى أن يرى عليهم إعادةً لأنه لم يجعلها فيما يقتات إذا لم يكن ثمرةٌ فيها زكاة أو يجيز القوت وإن لم يكن فيه زكاةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَذُّوا بِهِ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَخَالَفُوا فِيهِ نَصَّ السُّنَّةِ، وَلَوْ جَازَ مَا قَالُوا مِنْ سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِ (عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لَجَازَ سُقُوطُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ عَنْهُمْ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ كَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ فِيهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَاتُوا مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ الْحَضَرِ فَعَلَيْهِمْ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْهَا كَأَهْلِ الْحَضَرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَاتُوا الْأَقِطَ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ " كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ " وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو وعن أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ " فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا هَذَا فَضَعِيفٌ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ بِعِلْمِهِ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ، قَوْلًا وَاحِدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ الْأَقِطَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو بعلمه بدلاً صَحَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي إِسْنَادِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ، إِخْرَاجُ الْأَقِطِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ لِأَنَّهُ قُوتٌ مُدَّخَرٌ يَسْتَنِدُ إِلَى أَثَرٍ فَجَازَ إِخْرَاجُهُ كَالتَّمْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ، وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا فَهُوَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ كما لا يجوز لهم إخراج القثاء وَحَبِّ الْحَنْظَلِ وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا عليهم إخراجها من غالب قوت البلاد. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ يَقْتَاتُونَ اللَّبَنَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ لَوِ اقْتَاتُوا الْأَقِطَ لَمْ يجز لهم إخراجه لم يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُ اللَّبَنِ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ قُوتًا لَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْأَقِطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يجوز وهو الأصح. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَقِطِ ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ وَعَدَمُهُ فِي اللَّبَنِ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ فِي حَالِ ادِّخَارِهِ فَجَازَ كَالتَّمْرِ وَاللَّبَنُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَالرُّطَبِ، فَأَمَّا الْمَصْلُ وَالْكَشْكُ فَلَا يَجُوزُ لهم إخراجه لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اقْتِيَاتُهُ مُفْرَدًا، فَأَمَّا أَهْلُ جَزَائِرِ الْبَحْرِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ السُّمُوكَ، وَأَهْلُ الْفَلَوَاتِ النَّائِيَةِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الْبَيْضَ، وَلُحُومَ الصَّيْدِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ نَادِرَةٌ، وَقُوتَهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى أَثَرٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ قُوتًا لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ كُنَّا نُخْرِجُ الْأَقِطَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ قُلْنَا: قَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ كَثِيرًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا كنت في باديتك فارقع صَوْتَكَ بِالْأَذَانِ " عَلَى أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ كِنَايَةً عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلَ بَادِيَةٍ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز أن يخرج الرجل نصف صاعٍ حنطةٍ ونصف صاعٍ شعير إِلَّا مِنْ صنفٍ واحدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَاعًا وَاحِدًا عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُخْرِجُ بَعْضَهُ بُرًّا، وَبَعْضَهُ شَعِيرًا، وَبَعْضَهُ تَمْرًا وَبَعْضَهُ زَبِيبًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 شَعِيرٍ " فَأَوْجَبَ كَمَالَ الصَّاعِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، كَمَا أَوْجَبَ كَمَالَ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ فَيُطْعِمُ خَمْسَةً، وَيَكْسُو خَمْسَةً لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الصَّاعِ فَيُعْطِي نِصْفَهُ بُرًّا وَنِصْفَهُ شَعِيرًا وَلَكِنْ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ خَمْسَةُ آصُعٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا صَاعٌ أَجْزَأَهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ أَوْ كَانَتْ قُوتُهُ أَوْ قُوتُ بَلَدِهِ كَمَا يَجْزِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الكفارات. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ قُوتُهُ حِنْطَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَى التخيير جاز إذا كان قوته تمراً أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ الْقُوتِ إِمَّا بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ. عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَكَانَ غَالِبُ قُوتِهِ بُرًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْهِ، وَأَشْهَرُ نَصِّهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يخرجه مِنْ مسوسٍ وَلَا معيبٍ فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الماوردي: أما المسوس والمغيب وَمَا يَعَافُ النَّاسُ أَكْلَهُ لِنَتَنِ رِيحِهِ وَتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) وَرَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ " قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيه أقناء حشف معلقةٌ وبيده عصا فطعنه فِي الْقِنْوِ، وَقَالَ: إِنْ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا فَعَلَ إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَا يَأْكُلُ غَيْرَ الخشف يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَلِأَنَّ الْمَعِيبَ نَاقِصٌ وَالْمُسَوَّسَ فَارِغٌ. فأما القديم، فإن تغيير لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَإِنَّمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ لِقِدَمِهِ، فَإِخْرَاجُهُ جَائِزٌ وغيره أولى منه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان قوته حبوباً مختلفة فأختار له خيرها ومن أين أخرجه أجزأه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةً وَذَكَرْنَا إِذَا اسْتَوَتْ أَقْوَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا غالباً أن الأولى أن يخرج من أفضلهما نَوْعًا، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا البِّرَ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) {آل عمران: 92) وَإِنْ أَخْرَجَ مَنْ أَدْونِهَا، وَهُوَ غَالِبُ قُوتِهِ أو جملة أقواته أجزاه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَسِّمُهَا عَلَى مَنْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَصْرِفُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، مَصْرِفُ زَكَاةِ الْمَالِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ في كتاب الله تعالى، وقال مالك على الفقراء خاصة، ويجوز أن يدفعها إلى فقير لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَأَشَارَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَأَمَرَ بِإِغْنَائِهِمْ وَإِغْنَاؤُهُمْ لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ صَاعٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إن تولى إخراجه بِنَفْسِهِ جَازَ، أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلى الأمام لم يعطها إِلَّا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ وَضْعُهَا فِي جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَرَبُّ الْمَالِ إِنْ كُلِّفَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ كُلِّفَ تَفْرِيقَ صَاعٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي حَالِهِ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُ قِلَّتُهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين) {التوبة: 60) الْآيَةَ فَجَعَلَ مَا انْطَلَقَ اسم الصدقة عليه مُسْتَحِقًّا لِمَنِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِهَا صِنْفٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا، وَتَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ، وسقط عنه سهم العاملين والمؤلفة لِفَقْدِ مَا اسْتَحَقَّا بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ، فَرَّقَهَا فِيمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى كَافِرٍ وَأَجَازَ أبو حنيفة دَفْعَهَا إِلَى كَافِرٍ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَجَعَلَ مَنْ تُدْفَعُ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِ فقيراً، أو من تؤخذ الصدقة مِنْهُ غَنِيًّا، فَلَمَّا لَمْ تُؤْخَذِ الصَّدَقَةُ إِلَّا مِنْ غَنِيٍّ مُسْلِمٍ وَجَبَ أَنْ لَا تُدْفَعَ الصَّدَقَةُ إِلَّا إِلَى فَقِيرٍ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ، فَلَمْ يُجِزْهُ دَفْعُهُ إِلَى أهل الذمة كزكاة المال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إلى ذوو رحمه إن كان لا تلزمه نفقتهم بحالٍ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 قال الماوردي: أما الأقارب وذووا الْأَرْحَامِ، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ زَمْنَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ، وَالْخَالَاتِ فَالْأَوْلَى إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِهَا صِلَةً لِرَحِمِهِ وَبِرًّا لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تُفْسِدُواْ في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمْ اللهُ) {محمد: 22) فَجَمَعَ بَيْنَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاللَّعْنَةِ إِبَانَةً لِعِظَمِ الْإِثْمِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَبِيَدِهِ مخصرةٌ وهو يومي بِهَا وَيَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بسلامٍ. وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " صلوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ) يَعْنِي الْمُعَادِي وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امرئٍ وَذُو رحمٍ محتاجٌ " وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً كَامِلَةً وَذُو رَحِمِ مُحْتَاجٌ. وَالثَّانِي: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ. وَالثَّالِثُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صدقة إما فرض، وإما تطوع وَذُو رَحِمٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مُحْتَاجٌ، فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيُخْتَارُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ زَوْجُهَا فَقِيرًا، أن تخصه بصدقتها، لأن فِي مَعْنَى أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ زَكَاتُهَا زَكَاتُهَا لَمْ يُجْزِهَا، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّسَبِ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهَا، وَعِصْمَةَ الزَّوْجِيَّةِ يُمْكِنُ قَطْعُهَا فَإِذَا جَازَ وَاسْتُحِبَّ لَهُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَقَارِبِهِ إِذَا كَانَتْ نَفَقَاتُهُمْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ جَازَ لِلزَّوْجَةِ، وَاسْتُحِبَّ لَهَا دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى زَوْجِهَا، إِذْ نَفَقَتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَوْ عَدَلَ الْمُزَكِّي عَنْ أَقَارِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ الفقراء، فقد عدل عن الأولى وأجزأه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ طَرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ أَجْزَأَهُ إن شاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 الله تعالى. سأل رجلٌ سالماً فقال ألم يكن ابن عمر يدفعها إلى السلطان؟ فقال: بلى، ولكن أرى أن لا يدفعها إليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَقَدْ قَالَ أصحابنا وهي جَارِيَةٌ مَجْرَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي، لَكِنْ عُرْفُ السَّلَفِ جَارٍ بِتَوَلِّي النَّاسِ تَفْرِيقَهَا بِنُفُوسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ وَالِيَ الْوَقْتِ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا وجب على قوله القديم دفعها إليه، واستحب ذلك لَهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظاهرة، فأما زكاة الفطرة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَطْرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ فَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَالِي نَزِهًا فَقَدْ أَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَطَاءً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ادْفَعْهَا إِلَى الْوَالِي فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أخرجها بِنَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَإِنَّ عَطَاءً أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَفْتَاكَ الصَّالِحُ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ لَا تَدْفَعْهَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا يُعْطِيهَا هِشَامٌ حَرَسَهُ، وَبَوَّابَهُ وَمَنْ شاء مِنْ غِلْمَانِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَالِمًا فَقَالَ: أَحْمِلُ صَدَقَتِي إِلَى السُّلْطَانِ فَقَالَ: لَا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ أَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُهَا فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَا أَرَى أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ عَلَى كل حال، وهذا يدل على أنه أجزأه مَجْرَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ وَأَوْلَى عِنْدِي. فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَأَمَّا وَقْتُ إِخْرَاجِهَا فَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فِعْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يُطْعِمَ قَبْلَ خروجه لصلاة العيد، فأمر له تفريقها فِي الْفُقَرَاءِ لِيَطْعَمُوا مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْإِمَامُ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْفِطْرِ لِاشْتِغَالِ الْأَغْنِيَاءِ بِتَفْرِيقِهَا، وَاشْتِغَالِ الْفُقَرَاءِ بِأَخْذِهَا فَإِنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا فَإِنْ أخرها عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ كَانَ مُسِيئًا آثِمًا، وَكَانَ بِإِخْرَاجِهَا فِيمَا بَعْدُ قَاضِيًا، وَلَكِنْ لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ، وَكَانَ مودياً لا قاضياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 باب الاختيار في صدقة التطوع قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عياضٍ عَنْ هشامٍ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أحدكم بمن يعول " (قال) : فهكذا أحب أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ لِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَعُولُ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ أَوْلَى بِهِ من النفل ثم قرابته ثم من شاء وروي أن امرأة ابن مسعود كانت صناعاً وليس له مال فقالت لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فقال " لك في ذلك أجران فأنفقي عليهم " والله أعلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ فَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةً، وَلَا مُخْتَارَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ " وَفِي قَوْلِهِ: " عَنْ ظَهْرِ غِنًى تَأْوِيلَانِ ". أَحَدُهُمَا: بَعْدَ اسْتِغْنَاءِ نَفْسِهِ عَنْ تَتَبُّعِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِهِ. وَالثَّانِي: بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ " وَفِيهِ أَيْضًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ كَامِلَةً إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَيُحْتَسَبُ بِالنَّوَافِلِ عَنِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا كَمُلَتِ الْفَرَائِضُ تَقَبَّلَ النَّوَافِلَ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِهَذَا فَإِذَا أَدَّى الرَّجُلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ نَفَقَاتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَمِنْ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ اسْتَحْبَبْنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 حينئذ أن يتصدق بشيء من ماله فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عبدٍ يَتَصَدَّقُ بصدقةٍ مِنْ كسبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إلا طيباً كما يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَى اللُّقْمَةَ فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لَمِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَات} (التوبة: 104) وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: بِجَمِيعِ مَالِهِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. وقال آخرون ينصفه كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بِثُلْثِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمُصَّدِّقِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الْيَقِينِ قَنُوعًا لَا يُقَنِّطُهُ الْفَقْرُ، وَلَا يَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تتصدق فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بنصفِ مَالِي فَقَالَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ قُلْتُ مِثْلَهُ قَالَ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ذلك واستحسنه لِمَا عَلِمَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَصِحَّةٍ يَقِينِهِ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقلالاً " فأما من كان ضعيف اليقين يطعنه الْفَقْرُ، وَيَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِحَسَبَ حَالِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بيضةٍ مِنْ ذهبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ معدن فخذها فهي صدقةٌ لا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَتَى بِهَا مِرَارًا فَأَعْرَضَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ثُمَّ قَالَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَسْأَلُ الناس خير الصدقات ما أبقت عنى " وَأَرَادَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْ يُوَصِّيَ بِمَالِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 كله للمساكين فأكرهه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى رَجَعَ فِيهِ، وَقَالَ: لو مت على رأيك لرجمت قَبْرُكَ كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. فَصْلٌ : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْيَسِيرِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ كَثِيرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) {الزلزلة: 7) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تمرةٍ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُرْدُدْ عَنْكَ حَذْمَةَ السَّائِلِ وَلَوْ بِمِثْلِ رَأْسِ الطَّيْرِ مِنَ الطَّعَامِ "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ معروفٍ صَغِيرَهُ " وَيَخْتَارُ أَنْ يتصدق على ذوي أرحامه لما ذكرنا وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ، وَذَوِي الْفَضْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَأْكُلْ طَعَامَكُمْ إِلَّا مؤمنٌ " فَإِنْ تُصَدِّقَ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) {الإنسان: 8) وَالْأَسِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تعالى مطمعه فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَرَوَى هشامٍ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَدِمَتْ على أمي راعيةً مشركةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إني أمي جاءت راعية مُشْرِكَةً أَفَأَصِلُهَا قَالَ: " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ". فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعطاهم حتى إذا نفذهم ما عندهم قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خيرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يستغنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ مِنْ عطاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ وَرَوَى طَارِقٌ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَصَابَتْهُ فاقةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ يَسُدَّ اللَّهُ فَاقَتَهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ لَهُ بِالْغِنَى أَوْ بِمَوْتٍ عاجلٍ " فَلِذَلِكَ كَرِهْنَا لَهُ السُّؤَالَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً) {البقرة: 273) فَإِنْ سَأَلَ لَمْ يَحْرُمِ السُّؤَالُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَيَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " يد الله العلياء وَيَدُ الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَدُ الْمُسْتَعْطِي السُّفْلَى " فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِمَالٍ، أَوْ بِصِنَاعَةٍ فَهُوَ بِسُؤَالِهِ آثِمٌ، وَمَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا غِنَاهُ، قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلحافاً " وليس الغنى بالمال وحده بل قد يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا بِمَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ، وَصَنْعَتِهِ فَإِذَا اسْتَغْنَى بِمَادَّةٍ مَنْ مَالٍ، أو صنعة كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ، وَحُسْنَ الْكِفَايَةِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُ إِنْ شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 كتاب الصيام أَمَّا الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ يُقَالُ صَامَ فُلَانٌ بِمَعْنَى أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) {مريم: 26) أَيْ: صَوْمًا وَسُكُوتًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَنْ أكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا) {مريم: 26) وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ، قَدْ صَامَ النَّهَارُ لِإِمْسَاكِ الشَّمْسِ فِيهِ عَنِ السَّيْرِ وَتَقُولُ خَيْلٌ صِيَامٌ بِمَعْنَى وَاقِفَةٌ، قَدْ أَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ قَالَ النَّابِغَةُ: (خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غَيْرُ صائمةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا) وَقَالَ الْآخَرُ: {نَضْرِبُ الْهَامَ وَالدَّوَابِرَ مِنْهَا ... ثُمَّ صَامَتْ بِنَا الْجِيَادُ صِيَامًا) أَيْ: قَامَتْ فَلَمْ تَنْبَعِثْ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الصَّوْمَ، إِمْسَاكًا مَخْصُوصًا فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَانْتَقَلَ الصَّوْمُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ. فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) {البقرة: 183) الآية قوله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أَيْ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) {المجادلة: 21) أَيْ: فَرَضَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: {أيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) {البقرة: 184) فَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا زَمَانَ الصِّيَامِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمِنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَعَيَّنَ زَمَانَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُبْهَمًا، وَحَتَّمَ صِيَامَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ صِيَامِهِ، وَإِفْطَارِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) {البقرة: 184) وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 التَّفْسِيرِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ شهادةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ " وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا ثَائِرَ الشِّعْرِ أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسْمَعُ لِصَوْتِهِ دَوِيٌّ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاتَكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ " ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ فَمَنْ جَحَدَهُ فَقَدْ كفر، ومن أقربه وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ فَسَقَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، كَمَا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ قُلْنَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ مُشَابِهَةٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّهُمَا قَوْل اللِّسَانِ، وَاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ فَقُتِلَ تَارِكُهَا كَمَا يُقْتَلُ تَارِكُ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ تَارِكِهَا إِلَّا بِفِعْلِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَرْكُهَا مُوجِبًا لِقَتْلِهِ، وَالصِّيَامُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ تَارِكِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى إِفْطَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِقَتْلِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا صوم عليهم لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 فَصْلٌ : ثُمَّ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَرْضُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ فُرِضَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، فَأَمَّا فَرْضُ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ، لِتَقَدُّمِ فَرْضِهَا وَمُقَارَنَتِهِ الْإِيمَانَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الصِّيَامُ أَفْضَلُ مِنَ الصلاة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي عَلَيْهِ فاخْتَصَّ بِالصِّيَامِ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ قَوْمٌ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ وَالصِّيَامُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ مُرَاعَاةً لِمَوْضِعِ نُزُولِ فَرْضِهِمَا. فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرَ رَمَضَانَ " فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشَّهْرَ جَازَ كَقَوْلِهِ: صُمْتُ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ " وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَائِقٌ فَسُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ رَمَضَانَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ لِأَنَّهُ حِينَ فُرِضَ وَافَقَ شِدَّةَ الْحَرِّ وَقَدْ رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ " أَيْ: يَحْرِقُهَا وَيَذْهَبُ بِهَا. فَصْلٌ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قِيلَ: كَانَ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ أَوْ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمٍ تَقَدَّمَهُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءَ فَرْضِ الصِّيَامِ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ لَهُمْ فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَلَهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الثَّانِي عَشَرَ، وَمَا يَلِيهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 باب النية في الصوم قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ لأحدٍ صِيَامُ فرضٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا نَذْرٍ وَلَا كَفَّارَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صِيَامُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِجْمَاعًا فَأَمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ زفر بن الهذيل، أَنَّهُ قَالَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 85) فَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَالَ: وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصَّوْمِ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ كَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمَّا كَانَ الْفِطْرُ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تَجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) {الليل: 19، 20) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ الْفَاعِلُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " فَنَفَى الْعَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا بِغَيْرِ نيةٍ ". وَرَوَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ". وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ من الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَالْإِمْسَاكُ قَدْ يَقَعُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً عَادَةً، فَالْعَادَةُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْأَكْلِ طُولَ يَوْمِهِ لِتَصَرُّفِهِ بِأَشْغَالِهِ، أَوْ تَقَدُّمِ مَا يَأْكُلُهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ، وَإِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى سُقُوطِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِهَا وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ من وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فَاسِدٌ بِمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرَ مَا يُؤَدِّيهَا فِيهِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانُهَا عَلَيْهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهَا فِيهِ، ثُمَّ النِّيَّةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 وَالثَّانِي: أَنَّ إِيقَاعَ غَيْرِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّا قَدْ نَرَى الْإِفْطَارَ يَتَخَلَّلُهُ، وَفِطْرُ الْعِيدَيْنِ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُ غَيْرُهُ، لِاسْتِحَالَةِ الصَّوْمِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ وَمَحِلُّهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ نَوَى بَعْدَ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ لِصَوْمٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 مُسْتَحَقِّ الزَّمَانِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَجَزَأَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْفَجْرِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِجَمِيعِ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا فِي لَيْلِهِ مَعَ كَوْنِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَرْضًا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ مِنَ النَّهَارِ قَالَ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ أَصْلُهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِوَقْتِ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْفَجْرِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا جُوِّزَ لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى التَّأَخُّرُ عَنِ الْفَجْرِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَقَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ مِنْ شَرْطِهِ مِنَ اللَّيْلِ، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مُسْتَحَقٌّ عَرِيَ عَنِ النِّيَّةِ لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ عَاشُورَاءَ، وَأَهْلِ الْعَوَالِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا لِقَوْلِهِ فِيهِ صِيَامُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فَدَلَّ تَرْكُهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِمْ كَانَ مِنْ حِينَ بَلَغَهُمْ، وَأُنْفِذَ إِلَيْهِمْ وَمِنْ حِينِئِذٍ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِمَا تَقَدَّمَ كَأَهْلِ قُبَاءٍ لَمَّا اسْتَدَارُوا فِي رُكُوعِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حِينِ بَلَغَهُمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حُكْمُ الِاسْتِقْبَالِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِمْ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا نُسِخَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الْحُكْمُ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ شَيْءٌ قِيَاسًا، أَوِ اسْتِدْلَالًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُجْعَلُ فِيهِ الصَّائِمُ مُتَقَرِّبًا بِبَعْضِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَا يُؤَدّي عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْوَاجِبِ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُ يَوْمِهِ أَجْمَعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ إِنَاطَةُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ، فَكَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّأَخُّرِ فَغَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ، إِذَا جُوِّزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ طَرَأَ عَمَلُهَا عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ، وَاعْتِقَادٍ مُقَرَّرٍ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَرَدَ الْفِعْلُ عَارِيًا عَنْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَأْخِيرُهَا فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَنَفَى جِنْسَ الصِّيَامِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ جِنْسُهُ بِوُجُودِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ كَالصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَأَيَّامَهُ كَالرَّكَعَاتِ فِيهَا ثُمَّ كَانَتْ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِيهِ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْ أَجْلِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَمَا يَلِيهِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ تَقَدُّمُ النِّيَّةِ مِنْ لَيْلَتِهِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَعَدَدِ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ مِنْهَا كَالْمُؤَقَّتَاتِ، فِي إِفْرَادِ كُلِّ صلاة منها بينة مُجَرَّدَةٍ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ فِطْرٍ إِلَى صَوْمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ وَجَبَ فِيهِ أَدَاءٌ كَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَدَلِيلُنَا لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ تَبْيِيتَ جِنْسِ الصِّيَامِ فِي جِنْسِ اللَّيْلِ فَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الصِّيَامِ يُبَيَّتُ فِي جِنْسٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبَيَّتَ بِمَا يُبَيَّتُ بِهِ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ كَالصَّلَاةِ فَغَلَطٌ بَلْ كُلُّ يوم منه عبادة، لأنه لا يتعدى فساده إلى غيره. فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَوَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَرْضًا كَمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ لَا تَكُونُ إِلَّا فَرِيضَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَنْوِي أَنْ يصوم فرضاً من رمضان ولذلك فِي الظُّهْرِ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةَ الظُّهْرِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ قَدْ يصلي الظهر، ويصوم رمضان، ولا يكونا لَهُ فَرْضًا فَافْتَقَرَتْ نِيَّتُهُ إِلَى تَعْيِينِ الْفَرِيضَةِ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 صَوْمًا مُطْلَقًا، لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَمَّا نَوَاهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ مُقِيمًا انْصَرَفَتْ نِيَّتُهُ إِلَى رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا صَحَّ لَهُ مَا نَوَاهُ إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ النِّيَّةَ، أَوْ يَنْوِيَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فَتَنْصَرِفُ نِيَّتُهُ إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَسَوَّى أبو يوسف ومحمد حُكْمَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَصَرَفَا النِّيَّةَ فِيهِمَا إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ: زَمَانُ رَمَضَانَ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّوْمِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَعَيَّنَ زَمَانُ اسْتِحْقَاقِهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ كَزَمَانِ الْفِطْرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا فِي الصَّوْمِ تَمْيِيزُ إِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ وَالتَّعْيِينُ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْيِينُ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ، وَوَجَدْنَا صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ قَالُوا: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا نَوَاهُ عَنْ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ، أَوْ تَطَوُّعٍ انتقلت بنته إِلَى فَرْضِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّهْرِ وَعَائِدَةٌ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَلْيَنْوِ الصِّيَامَ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ جِنْسَ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، لَقَالَ: فَلْيَصُمْ فَلَمَّا قَيَّدَهُ بِالْهَاءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى " فَصَرِيحُهُ أَنَّ لَهُ مَا يَنْوِيهِ وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ، وَهَذَا إِذَا نَوَى تَطَوُّعًا لَمْ يَنْوِ صَوْمَ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الِاحْتِسَابُ لَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ يُعْطِي حُصُولَ التَّطَوُّعِ لَهُ غَيْرَ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ أَدَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ وَعَكْسُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ كَانَ شَرْطًا فِيهِ أَدَاءٌ كَأَصْلِ النِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَاوِيَ حَكَمَ مُبْدَلِهِ، أَوْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنْهُ، وَأَضْعَفَ، فَأمَّا أَنْ يَكُونَ آكَدَ مِنْهُ وَأَقْوَى فَلَا، ثُمَّ كَانَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبًا، فَبِأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الْأَدَاءِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، قُلْنَا فاسد بمن بقي عليه من وقت الصلاة قَدْرُ مَا يَفْعَلُهَا فِيهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانَ فِعْلِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْمُسَافِرِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ نَوَى رَمَضَانَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَجَزَأَ عَمَّا نَوَاهُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهِ، فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّعْيِينَ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَيَفْسَدُ أَيْضًا بِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَنَوَّعْ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّنَا مُجْمِعُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ، وَأَجْزَأَهُ وَعِنْدَ أبي حنيفة: لَا يَنْتَقِلُ عَمَّا نَوَاهُ وَعِنْدَ أبي حنيفة إِذَا نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ وَأَجْزَأَهُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا نَوَاهُ وَإِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا لَمْ يُجْزِهِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 بِالْآخَرِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ قَضَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ، لَمْ يَفْتَقِرْ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ، وَلَمَّا افْتَقَرَ قَضَاءُ الصَّوْمِ إِلَى التَّعْيِينِ افْتَقَرَ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَهُوَ اللَّيْلُ مِنْ غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والثاني: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا صيام لمن يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَلَوْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِخُلُوِّ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ عَنِ النِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجَزْتُمْ تقديم النية في الصوم ومنعتم من تقويمها فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؟ قُلْنَا: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهِ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا بِفِعْلِهِ، فَلَمْ تَلْحَقْهُ الْمَشَقَّةُ فِي مُرَاعَاةِ أَوَّلِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَطُلُوعُهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ نِيَامًا، فَلَوْ كُلِّفُوا مُرَاعَاتَهُ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ مَحَلٌّ لِلنِّيَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ قَالَ: لِأَنَّ النِّصْفَ الْأَخِيرَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمَاضِي، أَلَا تَرَى أَنَّ أَذَانَ الصُّبْحِ، وَرَمْيَ الْجِمَارِ يَصِحُّ فِعْلُهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَصِحُّ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِمَا فِي مُرَاعَاةِ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَلَيْهِ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ قَبْلَ الْفَجْرِ، لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ قَالَ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ قَدْ خَالَفَ نِيَّتَهُ، وَمَا عَقَدَهُ مِنَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: غَلَطٌ مَذْهَبًا وَحِجَاجًا، أَمَّا الْمَذْهَبُ: فَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ أَخْرَجَ مَكَانَهُ، وَصَحَّ صَوْمُهُ فَلَوْ لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لَبَطَلَ صَوْمُهُ، لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ تُصَادِفُ أَقَلَّ النَّهَارِ وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَلِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فِي اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَتَرْكُهُ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ مَعَ كَوْنِهِ مُفْطِرًا غَيْرُ مُفِيدٍ. فَصْلٌ : وَلَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ صوم الغد، إن شاء زيداً، وَخَفَّ عَلَيْهِ وَطَابَ لَهُ، فَلَا صَوْمَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَخَفَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ قَصْدُ الْعَمَلِ بِاعْتِقَادٍ خَالِصٍ، وَفِي تَعْلِيقِ النِّيَّةِ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى الْعِبَادَةِ، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْغَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لَا صَوْمَ لَهُ، لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ مَا نِيطَ بِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ لعلتين مدخولتين. أحدهما: أَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَالْأَقْوَالُ لَا تُؤَثِّرُ فِي اعْتِقَادَاتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ صَوْمَهُ وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْعِتْقِ، فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَوْقَعَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ صَوْمِهِ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ نِيَّةٍ وَفِي شَكٍّ مِنْ تقدمها. فصل : إذا أصح نَاوِيًا ثُمَّ اعْتَقَدَ تَرْكَ صَوْمِهِ، وَفَطِرَ يَوْمَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يُجَامِعْ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ طَرَأَ عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ، فلما لما يُفَارِقِ الْإِمْسَاكَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ كَمَا تُبْطُلُ صَلَاتُهُ، إِذَا اعْتَقَدَ تَرْكَهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ فِطْرِهِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ قَدْرُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُفْطِرًا، وَكَانَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَلٍّ بعد ساعة احتمل وجهين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فأما فِي التَطَوُّعِ فَلَا بَأْسَ إِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ واحتج في ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يدخل على أزواجه فيقول " هل من غداءٍ؟ " فإن قالوا لا قال " إني صائمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا بَأْسَ أن ينوي لصوم التطوع نهارا قبل الزوال، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ التَّطَوُّعُ كَالْفَرْضِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي نَفْلِهَا، كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي فَرْضِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ وَمَنْ لَمْ يأكل فليقم " وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ نَافِلَةً، وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَوْمِهِ نَهَارًا. رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ " كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولُ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قُلْنَا: لَا قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 وَرُوِيَ " إِنِّي إِذًا صائمٌ ". وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الخبر في ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ الْتِمَاسَهُ الطَّعَامَ لِيَأْكُلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُفْطِرًا إِذْ لَوْ كَانَ صَائِمًا مَا الْتَمَسَ طَعَامًا وَلَا أَهَمَّ بِالْإِفْطَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا الْتَمَسَهُ لِوَقْتِ الْإِفْطَارِ لَا لِلْأَكْلِ، فِي الْحَالِ، قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَ هَلْ مِنْ عَشَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَكْلَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ خَبَرَ مَنْزِلِهِ، قُلْنَا: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قوله " هل عندكم من غذاءٍ أتغذى بِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا قَالَ: " إِنِّي صَائِمٌ " فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى مُرَادِهِ عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّهُ كَانَ إذا أحضروا الغذاء أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرُوهُ قَالَ إِنِّي صَائِمٌ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِصِيَامِهِ عِنْدَ فَقْدِ الطَّعَامِ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ نِيَّتِهِ، وَأَنَّ صَوْمَهُ إِنَّمَا كَانَ لِفَقْدِهِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ مَحْمُولًا عَلَى سُنَّتِهِ. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْهُ: قَوْلُهُ " إِنِّي إِذًا صَائِمٌ " فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِذًا للابتداء والاستثناء لا لِمَا مَضَى، وَتَقَدَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَتَنَوَّعُ جِنْسُهَا فَرْضًا وَنَفْلًا وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أن يخالف نفلها فرضها في تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَالْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَخْتَلِفُ فَرْضُ الصِّيَامِ ونفله في كفارة الوطئ قُلْنَا: لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا هِيَ مُوجِبَاتُ إِفْسَادِهِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تلزم لجرمة رَمَضَانَ لَا لِفَرْضِ الصِّيَامِ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُخَالِفُ النَّفْلَ مِنْ وُجُوهٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي النِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الصِّيَامِ لَمَّا جَازَ تَقَدُّمُهَا جَازَ تَأْخِيرُهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِيَّةِ الصِّيَامِ أَنَّ مَحَلَّهَا اللَّيْلُ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قام الدليل على جوازها قبل الزوال، وتبقى مَا بَعْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ حَرْمَلَةُ جَوَازُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 صَوْمِ الْفَرِيضَةِ، وَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ ثُمَّ كَانَ النَّهَارُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَجَبَ أن يستوي حكم جميعه. فصل : فإذا نويي صَوْمَ التَّطَوُّعِ نَهَارًا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ فَهَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ وَقْتِ نِيَّتِهِ، وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَيُحْكَمُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَوْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ جَمِيعِ الْيَوْمِ، إِذَا نَوَى فِي بَعْضِهِ لَتَأَخَّرَتْ نِيَّتُهُ عَنِ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ غَلَطٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ صَائِمًا فِي بَعْضِ نَهَارِهِ مُفْطِرًا فِي بَعْضِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ نَوَى أَنْ يَصُومَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ، لَمْ يَصِحَّ لِامْتِنَاعِ تَبْعِيضِ الصَّوْمِ وَتَفْرِيقِ الْيَوْمِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا، وَقَدْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِجَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَمَانَ اللَّيْلِ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ صَحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَكْلِ، وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ الْغَدِ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ النَّهَارِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ، لَمْ يَصِحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَدَاءِ، وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ مَا بَعْدُ وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ الرَّجُلُ بَعْضَ الْعِبَادَةِ وَيُحْكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ جَمِيعِهَا، وَثَوَابِ سَائِرِهَا كَالْمُصَلِّي يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَيُحْتَسَبُ لَهُ بِجَمِيعِ الرَّكْعَةِ، وَثَوَابِ سَائِرِهَا، وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لِبَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ كَانَ أَوْ يَسْتَكْمِلَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ رمضان لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا عُلِمَ دُخُولُهُ، وَالْعِلْمُ بِدُخُولِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِذَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي عَدَدِ الشَّهْرِ عمل على اليقين وهو الثَّلَاثِينَ، وَأَطْرَحَ الشَّكَّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى الْعَدَدِ وَأَسْقَطُوا حُكْمَ الْأَهِلَّةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " شهرا النسك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 لَا يَنْقُصَانِ " يَعْنِي شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الْحَجِّ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى النُّجُومِ وَمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ الْحِسَابِ تَعَلُّقًا بُقُولِهِ {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) {النحل: 16) فَأَخْبَرَ أن الابتداء يكون بالنجم، والدليل عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " فَعَلَّقَ حُكْمَهُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَرَوَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تكلموا الْعِدَّةَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ " فمَنَعَ مِنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَحْنُ أمةٌ أميةٌ لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسِبُ الشَهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مراتٍ، يَعْنِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ: وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ بَسَطَهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ إِبْهَامَهُ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ " وَرُوِيَ بِنْصَرَهُ يَعْنِي: تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا أُنْزِلَ على محمد " ويروى فقد كذب بِمَا أُنْزِلَ عَلَى محمدٍ فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ العدد بقوله " شهر النُّسُكِ لَا يَنْقُصَانِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تَدْفَعُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أنه خرج جواباً لمن أخبر بنقصانها فِي سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، وَكَانَا كَامِلَيْنِ فَأَخْبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُمَا غَيْرُ نَاقِصَيْنِ يَعْنِي فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " فَفِيهِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا، عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 " صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ " وَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ النُّجُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) {النحل: 16) فَالْمُرَادُ بِهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ، وَمَسَالِكُ السَّابِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْألُونَك عَنِ الأَهِلَّةِ) {البقرة: 189) . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ يَحْصُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَا فَرْقَ، بَيْنَ أَنْ يَرَى الْهِلَالَ ظاهراً، أو خفياً ويلزم الصيام برؤيته عللاى أَيِّ حَالٍ كَانَ، فَلَوْ رَآهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَلَدٍ وَلَمْ يَرَهُ بَاقِيهِمْ لَزِمَ جَمِيعَهُمُ الصِّيَامُ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ، عَلَى الْأَعْمَى وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَرَيَاهُ فَلَوْ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَرَهُ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ لم يروه على ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ عَلَيْهِمْ يَصُومُوا إِذْ لَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَفَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى على جميعهم واحداً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُمْ صِيَامُهُ حَتَّى يَرَوْهُ لِأَنَّ الطَّوَالِعَ، وَالْغَوَارِبَ قَدْ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِمَطْلَعِهِمْ وَمُغْرِبِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ يَتَقَدَّمَ طُلُوعُهُ فِي بَلَدٍ، وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ، قَدْ يَتَعَجَّلُ غُرُوبُهَا فِي بَلَدٍ وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ، ثُمَّ كَانَ الصَّائِمُ يُرَاعِي طُلُوعَ الْفَجْرِ وَغُرُوبَ الشَّمْسِ فِي بَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْهِلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَصُومُوا، وَإِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ، لم رُوِيَ أَنَّ ثَوْبَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الشَّامِ فَأَخْبَرَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الْمَدِينَةِ بليلةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَلْزَمُنَا لَهُمْ شَامُهُمْ وَلَنَا حِجَازُنَا فَأَجْرَى عَلَى الْحِجَازِ حُكْمًا وَاحِدًا، وَإِنِ اختلفت بلاده، وفرق بينه وبين الشام. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ صَوْمَهُ مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ صَامَهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَفَّارَةً، أَوْ نَذْرًا إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ، أَوْ يُوَافِقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ؟ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ صَوْمَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَحْوًا فَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْمًا صَامَهُ من رَمَضَانَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالْمَذْهَبُ الرابع: أن الناس في صومه تَبَعٌ لِإِمَامِهِمْ إِنْ صَامَ صَامُوهُ، وَإِنْ أَفْطَرَ أَفْطَرُوهُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إِنْ صَامَهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ صَامَهُ نَافِلَةً جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ صَوْمَهُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِيهِ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: لأن أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدِ اخْتَارَ صومه، واستحبه قال وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ قَالُوا: وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ قَالُوا: وَلِأَنَّ صَوْمَهُ كَالنَّفْلِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا كَالصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ شعبان، فلا يكن فِيهِ مَكْرُوهًا كَسَائِرِ أَيَّامِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بصومٍ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلًا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ حَالَ سحابةٌ أَوْ غَمَامَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا انْتَصَفَ الشَهْرُ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ " وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ يَوْمِ شَكٍّ وَيَوْمِ فِطْرٍ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا صَامَهُ، لِأَنَّ شَاهِدًا شَهِدَ بِالْهِلَالِ عِنْدَهُ كَذَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ، وَكَذَا نَقُولُ، وَأَمَّا صِيَامُ ابْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 عُمَرَ فَلِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ صُمْتُ الدهر لا فطرت يَوْمَ الشَّكِّ وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الشَّكِّ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ التَّنَفُّلَ قَبْلَ الْفَرْضِ، قُلْنَا: يَفْسَدُ عَلَيْكُمْ بِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ إِذَا اسْتَوَتِ الشَّمْسُ لِلزَّوَالِ، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ فَإِنَّ التَّنَفُّلَ فِيهِمَا مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ تَنَفُّلًا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الشَّهْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن شهد شاهدان أن الهلال رؤي قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ووجب الصيام ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ فِي نَهَارِ يَوْمِ الشَّكِّ، أَوْ شهد رؤيته عدلان، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ سَوَاءٌ كَانَ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وأبو يوسف، إِنْ رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ السَّالِفَةِ، وَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، بِقَوْلِهِمْ، وَفِي هِلَالِ شَوَّالٍ بِقَوْلِنَا احْتِيَاطًا وَاسْتِظْهَارًا، وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَوَجَبَ لِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ مُعَلَّقًا بِرُؤْيَتِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْهِلَالَ لَا بُدَّ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى لَيْلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا قَارَبَهُ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ يَوْمَ الشَّكِّ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ المستقبلة ولأنه رُئِيَ هِلَالٌ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فَوَجَبَ أَنْ يكون لليلة المستقبلة إِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصِّيَامِ عِنْدَ حُصُولِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا رَآهُ نَهَارًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ صِيَامِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَقْرَبُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّكَ إِذَا اعْتَبَرْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ إِلَى مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ، وَمِنْ مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ إِلَى أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كان هذا أقرب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عدلٌ واحدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وقال علي عليه السلام " أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أن أفطر يوماً في رمضان " (قال) والقياس أن لا يقبل على مغيبٍ إلا شاهدان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ وَسَائِرُ الْأَهِلَّةِ سِوَى رَمَضَانَ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِتَعَلُّقِهِ بِعِبَادَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ فِيهِ، وَلَا أَثَرَ وَلَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ، فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ عَدْلَانِ وَجَبَ اسْتِمَاعُهُمَا، وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا التَّوَاتُرَ مِمَّنْ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ مُغَيَّمَةً قَبِلْتُ شَهَادَةَ الواحد، قال: لأن الهلال يدرك نجاسة الْبَصَرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِهَا طَائِفَةٌ فَإِذَا لَمْ يَشْهَدْ رُؤْيَتَهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، لَمْ يُقْبَلُوا فَأَمَّا مَعَ الْغَيْمِ فَيُقْبَلُ الْوَاحِدُ، لِأَنَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْجَلِيَ الْغَيْمُ عَنِ الْهِلَالِ فَيَرَاهُ وَاحِدٌ مِنَ الناس، ثم يتحلله السَّحَابُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَتَسْوِيَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَعَلَّمْنَا مِنْهُمْ فَكَانُوا يُخْبِرُونَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صُومُوا، لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فأكملوا العدة ثَلَاثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عدلٍ فَصُومُوا، فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أبي حنيفة وَلَيْسَ اشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي حَاسَّةِ الْبَصَرِ يُوجِبُ تَمَاثُلَهُمْ فِي الْإِدْرَاكِ، لِأَنَّا قَدْ نَجِدُ بَصِيرَيْنِ يَعْتَمِدَانِ نَظَرَ شَيْءٍ عَلَى بُعْدٍ فَيَرَاهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أبي حنيفة إِذَا رَآهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يَرَهُ الْكَافَّةُ مَعَ تَمَاثُلِهِمْ فِي الْحَاسَّةِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهِمْ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْتِيبِ ال ْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عدلٍ فَصُومُوا " فَعَلَّقَ حُكْمَ الشَّهَادَةِ بِعَدْلَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ مُخَالِفٌ لحكمهما، ولأنهما شَهَادَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ عَدْلَيْنِ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ واحد وربه وقال أبو حنيفة إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيَّمَةً، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَرَأَيْتُهُ وَحْدِي فأخبرت رسول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالِ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غداً. وروي عن طاوس قال شهدت المدنية وَبِهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ الْوَالِي أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ فَبَعَثَ الْوَالِي إِلَيْهِمَا يَسْأَلُهُمَا فَأَمَرَاهُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ وَأَخْبَرَاهُ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا الِاثْنَيْنِ وَرَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ، أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ، وأمر الناس بالصيام وقال لأن أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ حَالٌ يستوي في الْمُخْبِرُ، وَالْمُخْبَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ. أَصْلُهُ: حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ، وَثَبَتَتْ قَبْلَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ضَعَّفَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ إِلَّا شاهدين كَسَائِرِ الْأَهِلَّةِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالْأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ: بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ شَاهِدٌ عَبْدًا، وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ مَنْصُوصُهُ خِلَافُهُ، وَلَوْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ لَلَزِمَ فِيهِ قَبُولُ الْوَاحِدِ عَنِ الواحد، ولم يقل بهذا أحد فعلم أنه شَهَادَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَمَرْتُمْ بِالصِّيَامِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثُمَّ أَوْجَبْتُمُ الْفِطْرَ بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ، فَقَدْ قَضَيْتُمْ فِي الْفِطْرِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ قِيلَ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا لَمْ يَرَ النَّاسُ هِلَالَ شَوَّالٍ صَامُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا صَامَ النَّاسُ الثَّلَاثِينَ أَفْطَرُوا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ رَأَوُا الْهِلَالَ أَوْ لَمْ يُرَوْهُ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِابْتِدَاءُ لَمْ يَكُنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِهِ قَادِحًا فِي إِثْبَاتِهِ، كَمَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُهَا أَحْكَامُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ، وَمَا لَا تقبل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وعليه في كل ليلة نية الصيام للغدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ اغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صَوْمَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ثَمَّ يَصُومُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَنْ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنَ احْتِلَامٍ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَلَمَ نَهَارًا كَانَ عَلَى صَوْمِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَمَّا مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ كَانَ فِي اللَّيْلِ، فَعِنْدَ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ يَغْتَسِلُ وَيُجْزِئُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ: أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جماعٍ فَلَا صَوْمَ لَهُ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ، قوله تعالى: {فَالآنََ بَاشِرُوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ {مِن الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} (البقرة: 187) وَكَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّاسِ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيْلِ الصِّيَامِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ النَّوْمِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَتْ: إِنِّي صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ فَوَاقَعَهَا وَأَخْبَرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ) {البقرة: 187) الآية وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ وَكَانَ شَيْخًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يُهَيَّأْ إِفْطَارُهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ثُمَّ أُتِيَ بِالطَّعَامِ، وَقَدْ نَامَ فلم يأكل وأصبح طاوياً، خَرَجَ إِلَى ضَيْعَتِهِ فَعَمِلَ فِيهَا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وخاف التلف فنزل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأَبْيَضُ منَ الخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) {البقرة: 187) فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ، وَالْجِمَاعَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَمِ يَسْتَثْنِ زَمَانَ الْغُسْلِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ واقفٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ لَهُ إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَوْمَ فَقَالَ وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأُرِيدُ الصَّوْمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَغَضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي وَأَيْضًا فَإِنَّ الغسل عن الوطئ كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ عَنِ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ ثُمَّ كَانَ هَذَا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ كَذَلِكَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هريرة فغير ثابت وإن صح فقد رَجَعَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى مَرْوَانَ فَتَذَاكَرْنَا الْجَنَابَةَ، فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ مَرْوَانُ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جماعٍ فَلَا صوم له ثم أقسم مروان علينا أن نسأل عائلة وَأُمَّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جماعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ فَأَقْسَمَ عَلَيْنَا مَرْوَانُ أَنْ نَلْقَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَلَقِينَاهُ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا جَرَى فَقَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مُخْبِرٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْفَضْلُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ مَيِّتًا، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَمْ يَصِحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ يَرَى الْفَجْرَ لَمْ يَجِبْ وَقَدْ وَجَبَ أَوْ يَرَى أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ ولم يجب أعاد ". قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ أَمَّا إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُخُولُ اللَّيْلِ، فَظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، وَأَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَفْطَرَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَكُنْ غَرَبَتْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ إِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَبِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَوِيقٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نَقْضِي مَا جَانَفْنَا إِثْمًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ قومٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: إِنَّا ظَنَنَّا أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَكَلْنَا ثُمَّ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا فَأَمَرَهُمُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِعَادَةِ يومٍ مَكَانَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ ظُهُورُ الشَّمْسِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي: إِنَّ فِيهِ قَضَاءَ يَوْمٍ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَشُقُّ، وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ زَوَالُ الشَّمْسِ فَصَلَّى، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَسُقُوطِهَا عَنِ الصَّائِمِ قُلْنَا: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مُصَلِّيًا حَتَّى يَفْعَلَ الصَّلَاةَ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْقَى عَلَى جُمْلَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَلَا يَتَبَيَّنَ لَهُ الْيَقِينُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِهِ إِلَّا بِيَقِينِ خُرُوجِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَأَكَلَ فَإِنْ كَانَ عَلَى شَكٍّ، وَاشْتِبَاهٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الْفَجْرَ كَانَ طَالِعًا حِينَ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْغُرُوبِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الإباحة في الأكل. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِمُصَادَفَتِهِ زَمَانَ الْإِبَاحَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يَبِينُ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مَا لَمْ يتيقن طلوع الفجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ لَفَظَهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ أَفْسَدَ صَوْمَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، إذا اطلع الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ أَوْ مَاءٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْفِظَ الطَّعَامَ، وَيَمُجَّ الْمَاءَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ، وَكَأَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَإِنِ ازْدَرَدَهُ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْآكِلِ عَامِدًا، لِأَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِي فَمِهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي صَوْمِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ فِي فَمِهِ جَمِيعَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ، وَإِنْ وَصَلَ طَعْمُهُ إِلَى حَلْقِهِ فَلَوْ سَبَقَهُ الطَّعَامُ وَدَخَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِازْدِرَادِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَفِي إِفْطَارِهِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَالثَّانِي: لا قضاء عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مُجَامِعًا أَخْرَجَهُ مَكَانَهُ فَإِنْ مَكَثَ شَيْئًا أَوْ تَحَرَّكَ لِغَيْرِ إِخْرَاجِهِ أَفْسَدَ وَقَضَى وَكَفَّرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ جَامَعَ أَهْلَهُ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِخْرَاجِهِ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَوَاءً، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وزفر بن الهذيل: قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِالْإِخْرَاجِ، كَمَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِالْإِيلَاجِ، لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ، قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفثُ) {البقرة: 187) فَكَانَ جَمِيعُ اللَّيْلِ زَمَانًا لِلْإِبَاحَةِ، فَإِذَا نَزَعَ مَعَ آخِرِ الْإِبَاحَةِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ، وَلِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَضِدُّ الْإِيلَاجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ دَاخِلُهَا فَبَادَرَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ فَبَادَرَ إِلَى نَزْعِهِ لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِخْرَاجِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِيلَاجِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ لَبِثَ عَلَى جِمَاعِهِ، وَأَمْسَكَ عَنْ إِخْرَاجِهِ، فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلصِّيَامِ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مجامع وطلوع الفجر أول الصوم انْعِقَادِ صَوْمِهِ، لِمُصَادَفَةِ مَا نَافَاهُ فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ النِّيَّةِ نَاسِيًا ثُمَّ جَامَعَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بوطء أثم فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 والكفارة أصله إذا ابتدأ لوطأ فِي خِلَالِ النَّهَارِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ أَفْسَدَهُ، فَإِذَا قَارَنَ أَوَّلَهُ مَنَعَ انْعِقَادَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِيمَا يُفْسِدُهُ، وَفِيمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَالْأَكْلِ يَسْتَوِي الْحُكْمُ فِيهِ، إِذَا قَارَبَ طُلُوعَ الْفَجْرِ، وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي خِلَالِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إِذَا فَسَدَ الصَّوْمُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا مَنَعَ انْعِقَادَهُ أَصْلُهُ الْقَضَاءُ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ تَارِكِ النِّيَّةِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لَهُمْ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ، إِذَا قَارَنَ الصَّوْمَ وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فَنَوَى الْإِفْطَارَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ أَيْضًا يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَلَمْ يَعْلَمْ بِطُلُوعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِمَاعِهِ، ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ لَوْ أَقْلَعَ، فَمَكَثَ مُمْسِكًا عَنْ إِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِهَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنْ بَقَايَا أَكْلِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ لَا يُمْكِنُهُ ازدراده خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ لَا يُفْطِرُ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الدُّخَانِ وَالْغُبَارِ وَالرَّوَايِحِ الْعَطِرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ في التحرز منها قائماً إِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ، أَفْطَرَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كَالسِّمْسِمَةِ أَفْطَرَ بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يُفْطِرُ بِهَذَا الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْكُولِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي قَدْرِ مَا يُفْطِرُ بِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فِي أَنَّ الْفِطْرَ وَاقِعٌ بِهِ لِحُصُولِ الِازْدِرَادِ وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْمَغِصَا وَأَمَرَ بِأَكْلِ الْقَضْمِ وَالْمَغِصَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ الْأَسْنَانِ إِلَّا بِالْخِلَالِ، وَالْقَضْمُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ بلذة أكل لم يخرج بالخلال لأنه في حكم المأكول كالقيء وأمر بأكله فَكَانَ إِخْرَاجُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ كَالْبَاقِي فِي الْفَمِ، وَأُطْلِقَ اسْمُ الْأَكْلِ عَلَيْهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الْفِطْرِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا بَلْعُ الرِّيقِ، وَازْدِرَادُهُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْلَعَ ما يتخلف في فمه حالاً فحالا، فهذا جايز لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الاحتراز منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وَالثَّانِي: أَنْ يَمُجَّ الرِّيقَ مِنْ فَمِهِ ثُمَّ يَزْدَرِدُهُ وَيَبْتَلِعُهُ فَهَذَا يُفْطِرُ بِهِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَأْنِفِ لِلْأَكْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَهُ فِي فَمِهِ حَتَّى يَكْثُرَ، ثُمَّ يَبْتَلِعَهُ فَفِي فِطْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِقَلِيلِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُفْطِرُ بِكَثِيرِهِ، وَأَمَّا النُّخَامَةُ إِذَا ابْتَلَعَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ بِهَا. وَالثَّانِي: لَمْ يُفْطِرْ بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ صَدْرِهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهَا فَقَدْ أَفْطَرَ كَالْقَيْءِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ حَلْقِهِ، أَوْ دِمَاغِهِ لَمْ يفطر كالريق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَقَيَّأَ عَامِدًا أَفْطَرَ وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَاحْتَجَّ فِي الْقَيْءِ بِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (قال المزني) وقد رُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) أقرب ما يحضرني للشافعي فيما يجري به الريق أنه لا يفطر ما غلب الناس من الغبار في الطريق وغربلة الدقيق وهدم الرجل الدار وما يتطاير من ذلك في العيون والأنوف والأفواه وما كان من ذلك يصل إلى الحلق حين يفتحه فيدخل فيه فيشبه ما قال الشافعي من قلة ما يجري به الريق (قال) وحدثني إبراهيم قال سمعت الربيع أخبر عن الشافعي قال الذي أحب أن يفطر يوم الشك أن لا يكون صوماً كان يصومه ويحتمل مذهب ابن عمر أن يكون متطوعاً قبله ويحتمل خلافه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَيْءُ عِنْدَنَا كَالْأَكْلِ سَوَاءٌ إِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفَطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَغَلَبَهُ لَمْ يُفْطِرْ. وجكي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقَيْءَ لا يفطر بحال تعلقا بقوله " ثلاث لا يفطرتن الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ ". وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ: أَنَّ الْقَيْءَ يُفْطِرُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَإِبْطَالِ مَا عَدَاهُ: رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ " وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ " وَرَوَى مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاءَ فَأَفْطَرَ فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ الْفِطْرُ بِمَا يَدْخُلُ الْجَوْفَ لَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا أَلَا تَرَى، أَنَّ مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ خَارِجًا مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ بَعْضِ الْقَيْءِ إِلَى جَوْفِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ " فَمَحْمُولٌ عَلَيْهِ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا خَبَرُنَا، فَفِيهِ دَلَائِلُ: أَحَدُهَا: مِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ عَامِدًا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا كفارة؛ لأنه كالمتقيء عَامِدًا. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِفْطَارِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى من غلبه القيء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ لَا يُفْطِرُ عِنْدَنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَالَ أبو حنيفة يُفْطِرُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَكَلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْمَرِيضِ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ طَرَأَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يُفْطِرْ بِهَا كَغُبَارِ الدَّقِيقِ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُكْرَهِ، وَلَا يُفْطِرُ بِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفْطِرَ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَرِيضِ فَهُوَ أَكْلٌ لِأَجْلِ الْمَرَضِ مُخْتَارًا، فَخَالَفَ الْمُكْرَهَ الَّذِي أُوْجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ، فَإِنْ دُفِعَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ، فَأُكْرِهَ بِالتَّخْوِيفِ حَتَّى أَكَلَهُ فَفِي فِطْرِهِ بِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ بِهِ كَالْمَرِيضِ. وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ بِهِ لِارْتِفَاعِ الِاخْتِيَارِ وثبوت الإكراه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَطْعَمْ ثُمَّ اسْتَبَانَ ذَلِكَ لَهُ فَعَلَيْهِ صِيَامُهُ وَإِعَادَتُهُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْهِلَالِ، فَعَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يُمْسِكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، وَلَا يُفْطِرُوا سَوَاءً أَكَلُوا فِي أَوَّلِهِ أَوْ لَمْ يَأْكُلُوا لِأَنَّهُ لَمَّا بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَ الْتِزَامُ حُرْمَتِهِ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِمْسَاكِ هَلْ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعِيًّا بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ فِيهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ إِمْسَاكٌ وَاجِبٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا شَرْعِيًّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ لَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَمْسَكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِمْ، الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ طَعِمُوا بِهِ أَمْ لَا لِإِخْلَالِهِمْ بِالنِّيَّةِ عَنِ اللَّيْلِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ بَانَ لَهُمْ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يَطْعَمُوا أَجْزَأَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ النِّيَّةِ نَهَارًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَ فِي يَوْمِهِ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُفْطِرِ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ وَطِئَ فِي نَهَارِهِ لَزِمَهُ القضاء ولا كفارة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَوَى أَنْ يَصُومَ غَدًا فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يجزئه لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ عَلَى أَنَّهُ فرضٌ وَإِنَّمَا صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ فَنَوَى رَجُلٌ، وَقَالَ أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ دُخُولِهِ، وَلَا مُسْتَنِدٌ إِلَى أَصْلٍ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ شَعْبَانَ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ وَبَيَانُ هَذَا فِي الزَّكَاةِ، أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَيَقُولَ: إِنْ وَرِثْتُ مَالَ وَالِدِي، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا، وَلَمْ يَمُتْ فَهِيَ تَطَوُّعٌ فَبَانَ لَهُ مَوْتُ وَالِدِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ تَمَلُّكِهِ، وَالْأَصْلُ حَيَاةُ وَالِدِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ، فبان أن مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ، لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذكرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وَالثَّانِي: الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالنَّافِلَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رمضان، فإن لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فبان من رمضان لم يجزه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ، فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ شَوَّالٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَنَا مُفْطِرٌ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ، فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ إِنْ بَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَمْ يُجْزِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ حُكْمَ رَمَضَانَ ثَابِتٌ لَهُ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهُ بِحُدُوثِ مَا سِوَاهُ فَصَارَ أَصْلًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَقُولُ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ فَبَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَالِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ تَلَفُهُ، فَلَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مُفْطِرٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ، وَفِطْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ فَإِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ لَمْ يُجْزِهِ، وَمِثَالُهُ مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ، إِنْ كَانَ سَالِمًا، أَوْ نَافِلَةٌ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ سَالِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَقَدَ رَجُلٌ عَلَى أَنَّ غَدًا عِنْدَهُ مِنْ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ شَكٍّ ثَمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ رَآهُ وَحْدَهُ، وَالْقَاضِي لا يسمع قوله، والقاضي أَخْبَرَهُ بِمَا يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَبِيدِهِ فَنَوَى صِيَامَ الْغَدِ، وَالنَّاسُ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ عَنْ دَلَالَةٍ، وَاسْتَفْتَحَ الْعِبَادَةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا بِالشُّبْهَةِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَمِعَ أَذَانَ الظُّهْرِ، فَاسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لم يعلم يقين دخول الوقت أجزأه، ولو استفتحها عن شُبْهَةٍ وَشَكٍّ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ فَكَذَا الصِّيَامُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ بِحِسَابِ النُّجُومِ، وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ فَنَوَى الصَّوْمَ، ثُمَّ بَانَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى دَلَالَةٍ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ النُّجُومَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ النُّجُومَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْعِلْمِ بِدُخُولِ الشَّهْرِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: إِنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَتَقْدِيرِ شَهْرِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَلِمَهُ بِالنُّجُومِ لَمْ يجزه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَكْلُ فَمُبَاحٌ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ الثَّانِي: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) {البقرة: 187) الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ أَخَذَ خَيْطَيْنِ أَبْيَضَ، وَأَسْوَدَ، وَتَرَكَهُمَا عَلَى وِسَادَتِهِ، وَرَاعَاهُمَا إِلَى الصَّبَاحِ فَلَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ " وَالْعَرَبُ تُسَمِّي فَجْرَ الصُّبْحِ خيطاً قال أبو دؤاد الْأَيَادِيُّ (فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سَدَفَةً ... وَلَاحَ مِنَ الصُبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا) وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْخِفَّةِ وَالْحُمْقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ وِسَادَتِهِ وَظَنَّ أَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا فِيهَا، فَإِنَّ وِسَادَتَهُ عَرِيضَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ لَهُ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْخَيْطَ تَحْتَ وِسَادَتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ الثَّانِي أَوَّلُ زَمَانِ الصِّيَامِ، فَشَكَّ فِي طُلُوعِهِ، فَالْأَوْلَى لَهُ اجْتِنَابُ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ مُصَادَفَةِ نَهَارِ زَمَانِ الْخَطَرِ، فَإِنْ أَكَلَ وَهُوَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّكِّ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ طُلُوعُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، فَبِالشَّكِّ لَا يَجِبُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ فَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ، وَلَمْ يَبِنْ لَهُ الْيَقِينُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَثُبُوتُ التَّحْرِيمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن وطئ امرأته وأولج عامداً فعليهما الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّائِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ إِجْمَاعًا فَإِنْ وَطِئَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَلَا كَفَّارَةَ قِيَاسًا عَلَى الْآكِلِ وَعَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ فَلَا مَعْنَى للاحتجاج عليه من حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَلْطِمُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَهُوَ يَقُولُ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَحْرَقْتُ وَاحْتَرَقْتُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ فَقَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ اعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ لَا أَجِدُ فَقَالَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُداً، قَالَ: لَا أَجِدُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق فيه تمرٌ وروي مكتلٌ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ مَنَّا إِلَيْهِ بَيْتًا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ خُذْهُ فَكُلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَارِدٌ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ قُلْنَا: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ غَيْرُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الظِّهَارِ وَرُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَرَادَ وطأ امْرَأَتِهِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ، فَرَأَى خُلْخَالًا لَهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهَا، فَوَاقَعَهَا. وَالْأَعْرَابِيُّ فَإِنَّمَا وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَشْتَبِهَا، فَأَمَّا مَا سِوَى رَمَضَانَ مِنَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يُفَارِقُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِتَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ، وَتَعْيِينِ زَمَانِهِ، وَإِنَّ الْفِطْرَ لَا يَتَخَلَّلُهُ وَالْقَضَاءُ مخالف له. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " والكفارة واحدةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ، أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ إِنَّ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَيْنِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَانِيًا: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا في سائر موجبات الوطء من الماتم وَالْقَضَاءِ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْعُقُوبَةِ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، وَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، كَالْقَتْلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَصْلُهُ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِيجَابُكُمُ الْكَفَّارَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ أَوْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا، فَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْوَطْءُ، وَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ كَفَّارَةٍ وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمَا، مَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَعْتِقْ رَقَبَةً " وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ فِعْلٍ شَارَكَ فِيهِ زَوْجَتَهُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِحُكْمِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ حُكْمًا لِجَمِيعِ الْحَادِثَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَا رَاسَلَهَا بِإِخْرَاجِهَا مَعَ جَهْلِهَا بِالْحُكْمِ، فِيمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهَا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ لِقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، قِيلَ: الْمَنْقُولُ فِي الْخَبَرِ غَيْرُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي عَدَمِ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَا تَهْلِكُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْحَقُهَا فِيهِ إِثْمٌ فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَهَا عُلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَطَاوَعَتْهُ، فَهَلَكَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الزَّوْجُ بِتَحَمُّلِهِ كَالْمَهْرِ فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ فَجَمْعٌ بِلَا مَعْنَى عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ يُعْتَبَرُ بِهَا الْفِعْلُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِهَا الْفَاعِلُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْفِعْلِ، وَيَخْتَلِفَ أَحْكَامُهُمَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا كَالزِّنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أنه ليس من موجبات الوطئ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يَخْلُو حَالُ الْكَفَّارَاتِ، إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ عَلَيْهِمَا قُلْنَا: فِيهِ قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَطْءِ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: كَفَّارَتَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَتَيْنِ رَاعَيْتَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، فَرُبَّمَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَا مَعًا، أَوْ صَامَا مَعًا أَوْ أَطْعَمَا مَعًا وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا، فَصَامَ الْآخَرُ أَوْ صَامَ أَحَدُهُمَا وَأَطْعَمَ الْآخَرُ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِحَالِ صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ حَنِثَا فِي يَمِينٍ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَهْرِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ أَجْزَأَ وَلَا شيء على الزوجة بحال، لَا حَظَّ لَهَا فِي الْوُجُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يُحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهُمَا أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونا الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهَا فَعِتْقُ الزَّوْجِ يَجْزِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهَا، فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا يُجْزِيهَا عِتْقُ الزَّوْجِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَيُجْزِيهِمَا، لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ فِي مَالٍ، وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ زَوْجَتِهِ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَنُوبُ عَنْ إِطْعَامٍ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الزَّوْجِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 نَفْسِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى حِينِ يَسَارِهِ، لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ حَقًّا لَزِمَ عَنِ الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ مُؤْنَةٌ كَالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ بَدَأَ بِالصِّيَامِ لَزِمَهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ صِيَامِهِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ أَوَّلًا نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَعَدَمِ رِقِّهِ أَجْزَأَتْهُ الرَّقَبَةُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهِ أَوْ رِقِّ بَعْضِهِ لم يسقط عنه الصوم، يعتق الرَّقَبَةِ، وَلَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ أَوَّلًا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعِتْقُ، وَلَزِمَهُ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوَّلًا أَجْزَأَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، إِذْ هُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَعَلَى الزَّوْجِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ شَيْءٍ عَنْ زَوْجَتِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ زَوْجَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامِدًا، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَانٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ، كَانَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ وَسَوَاءٌ كَفَّرَ عَنِ الوطئ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كفر عن الوطئ الأول، فعليه للوطئ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، تُجْزِيهِ عَنْهُمَا قَالَ لِأَنَّ اسْمَ رَمَضَانَ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّهْرِ فَصَارَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَشَابَهَ الْحَجَّ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ، إِذْ لَا تَجِبُ إِلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ وَالْحُدُودُ إِذَا تَرَادَفَتْ تَدَاخَلَتْ، وَكَانَ الْحَدُّ الْوَاحِدُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهَا كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ أَفْسَدَ بِوَطْئِهِ صَوْمَ يَوْمَيْنِ، لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ رَمَضَانَ فِي عَامَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ لَوْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسَادِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهُمَا مَعًا أَنْ تَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ، أَصْلُهُ إِذَا كَفَّرَ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فِي عامين، ولأن كل حكم تعق بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي، كَالْقَضَاءِ وَلِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ حُرْمَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عن الآخر لما يلزمه من تجديد النِّيَّةِ، وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادَ الْيَوْمِ، إِلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ مُجَدَّدَةٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّهْرِ يَجْمَعُهُ، فَالْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً واحدة، فإنه يجمع عبادات واحدة كالصلاة هي رُكْنٌ وَاحِدٌ، وَعِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ يَجْمَعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ حُكْمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 نَفْسِهَا فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَسَادِ فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ يَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ يَوْمٍ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَنَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِبَارُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْحَجِّ إِحْرَامًا مَا يَجْمَعُ أَرْكَانَهُ وَيَتَعَدَّى فَسَادُ آخِرِهِ فِي صِحَّةِ أَوَّلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ فَاسِدِهِ وَتَسْتَوِي حُرْمَةُ جَمِيعِهِ فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لِحُرْمَةِ بَعْضِهِ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ حُرْمَةِ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَالْمَعْنَى فِيهَا إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِآدَمِيٍّ فِيهَا نَصِيبٌ، فَلِذَلِكَ تَدَاخَلَتْ، وَالْكَفَّارَاتُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ فَصَحَّ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةً. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، ثُمَّ وَطِئَ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ وَطِئَ فِي آخِرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ قَدِ انْتَهَكَهَا بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً كَالْحَجِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ بَاقِيَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ فَوَطِئَهُمَا مَعًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ وَطِئَ الذِّمِّيَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُسْلِمَةَ بَعْدَهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ وَطِئَ الْمُسْلِمَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الذِّمِّيَّةَ بَعْدَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا كفارة واحدة. فصل : وإذا تقدم الْمُسَافِرُ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ، وَقَدْ أَفْطَرَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ فَصَادَفَ زَوْجَتَهُ، قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فِي تَضَاعِيفِ يَوْمِهَا فَوَطِئَهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، وَلَا كَفَّارَةَ لِارْتِفَاعِ حُرْمَةِ الْيَوْمِ بِالْإِفْطَارِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ مُفْطِرًا فَأَخْبَرَتْهُ بِطُهْرِهَا مِنْ حَيْضِهَا كَاذِبَةً، فَوَطِئَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَصْلِ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ وَخَرَجَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ غَرَّتْهُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ دُونَهَا، فَلَوْ قَدِمَ مُفْطِرًا مِنْ سَفَرِهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِصَوْمِهَا، فَوَطِئَهَا عَالِمًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى حَسَبِ حَالِهَا، فلو قدم من سفره مُفْطِرًا فَصَادَفَهَا صَائِمَةً، وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ بِلَا اختيار منها ولا تمكين، فلا قضاء عليهما وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا عَنْهَا، لِارْتِفَاعِ الْإِثْمِ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَوْ خَوَّفَهَا فَأَجَابَتْهُ خَوْفًا مِنْهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ. فَصْلٌ آخَرُ : وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْوَطْءِ فَشُدَّتْ يَدَاهُ، وَأُدْخِلَ ذَكَرُهُ فِي الْفَرَجِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قَصْدٍ نُظِرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ أَنْزَلَ فَفِي صَوْمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفْطِرْ بِالْإِيلَاجِ لَمْ يُفْطِرْ بِمَا حَدَثَ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَاخْتِيَارٍ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَالثَّانِي: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخْتَارًا وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، لِمَوْضِعِ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ خَوَّفَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ، وَهِيَ صَائِمَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا إِكْرَاهٍ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ فَأَشْبَهَتْ أُرُوشَ جِنَايَاتِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا لأن فعل المجنون، ولا حُكْمَ لَهُ، وَهِيَ الْجَانِيَةُ بِتَمْكِينِهَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا دُونَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 لِأَنَّ النَّائِمَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا فِعْلَ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لَهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَجْنُونَةَ، أَوِ النَّائِمَةَ وَالزَّوْجُ عَاقِلًا مُسْتَيْقِظًا فَوَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: فِي النَّائِمَةِ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ " ذَكَرَ فِيهِمَا النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَلِأَنَّ مَا لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَاسِيًا، لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَائِمًا كَالْأَكْلِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ بِالْأَكْلِ لَا يفطر بالوطئ كَالنَّاسِي. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ فِي صَدْرِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّ فِي آخِرِهِ أَوْ مَرِضَ فَفِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. لِأَنَّ أَوَّلَ الْيَوْمِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ وَإِذَا زَالَتِ الْحُرْمَةُ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِهَتْكِ الْحُرْمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكَفَّارَةَ ثَابِتَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالْوَطْءِ السَّابِقِ الَّذِي انْتُهِكَ بِهِ حُرْمَةُ الصَّوْمِ، وَلَا حُكْمَ لِمَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِهَا، كَمَا لَوْ سَافَرَ بَعْدَ الْوَطْءِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِالسَّفَرِ الطَّارِئِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَزِمَهُمَا الْحَدُّ وَالْقَضَاءُ، وَوَجَبَ عَلَى الزَّانِي الْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا قيل إنها وجبت عليهما، وإنما لمن يَتَحَمَّلْ عَنْهَا الْكَفَّارَةَ كَالزَّوْجَةِ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ حُرْمَةً يَجِبُ بِهَا التَّحَمُّلُ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةً لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَأْتِ فِيمَنْ زَنَا وَلَا الزَّانِي فِي مَعْنَاهُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَكْلِ النَّاسِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ نَاسِيًا فِي نَهَارِهِ، أَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْجِمَاعِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنْ قَالُوا لِأَنَّهُ جِمَاعٌ تَامٌّ صَادَفَ صَوْمًا، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْعَامِدِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا جِمَاعُ الْعَامِدِ فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهَا جِمَاعُ النَّاسِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 كَالْحَجِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ السَّهْوَ فِي الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ يَقَعُ تَارَةً فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ، وَتَارَةً فِي انْتِهَائِهِ، ثُمَّ لَوْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ عِنْدَ أَكْلِهِ وَجِمَاعِهِ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صَوْمِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ عَمْدَ الْحَدَثِ وَسَهْوَهُ سَوَاءٌ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِتَنَافِيهِمَا، فَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ فِي الصَّوْمِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ لِتَنَافِيهِمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: " اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ سَلَبَهُ فِعْلَهُ وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ بِحُكْمِ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا اللَّهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ " فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صَوْمِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْأَكْلُ عَامِدًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْسِدَهَا الْأَكْلُ نَاسِيًا كَالصَّلَاةِ، إِذَا أَكَلَ فِيهَا لُقْمَةً نَاسِيًا، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ يَخْتَصُّ عَمْدُهُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسُدَ بِسَهْوِهِ أَصْلُهُ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ تَارِكُ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالصَّوْمِ، وَلَا تُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِيمَانُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَامِدِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ الاحتراز منه أما قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ قُلْنَا؛ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَفْسُدْ فَسَقَطَ مَا أَوْرَدُوهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ فَسَدَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ فِي الْحَجِّ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ. وَضَرْبٌ فُرِّقَ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ فَأُلْحِقِ الْجِمَاعُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ، لِأَنَّا وَجَدْنَا النَّوَاهِيَ فِيهِ نَوْعًا وَاحِدًا، وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ وَهُوَ الْقَيْءُ، فَوَجَبَ أن يكون الجماع والأكل لاحقان، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا مُخْطِئٌ فِي الْفِعْلِ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَإِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْخَطَإِ فِي الْأَفْعَالِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَصَلَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ أَخْطَأَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدَثِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 أَحَدُهُمَا: وُرُودُ السُّنَّةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِ الْمُنَافَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَجَامَعَ نَاسِيًا، فَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ فَجَامَعَ عَامِدًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ الْحُرْمَةِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ فجامع فعليهما لقضاء وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمُبَاحَ وَالْمَحْظُورَ إِذَا صَادَفَا الْعِبَادَةَ، لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لِمَكَانِ الْآخَرِ كَالْحَجِّ إِذَا صَادَفَهُ لِبَاسٌ وَوَطْءٌ وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ وَلِأَنَّهُ أَكْلٌ لَمْ يُفْسِدِ الصَّوْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ كالمكره على الأكل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رقبةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا ابْتَدَأَهُمَا فَإِنْ لم يستطع فإطعام ستين مداً لكل مسكينٍ بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أخبره الواطئ أنه لا يجد رقبةً ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين ولا يجد إطعام ستين مسكيناً أتى بعرقٍ فيه تمر (قال) سفيان والعرق المكتل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذهب فتصدق به (قال الشافعي) والمكتل خمسة عشر صاعاً وهو ستون مداً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ مُرَتَّبَةٌ بِلَا تَخْيِيرٍ فَيَبْدَأُ بِالْعِتْقِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَصُمْ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، أَنْ يَعْتِقَ أَوْ يَصُومَ، أَوْ يُطْعِمَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ لَا أَجِدُ فَقَالَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَلَمْ يَنْقِلْهُ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْتِيبِهَا، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَكْفِيرٍ يَجِبُ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَأْثَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّرْتِيبِ أَصْلُهُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الشَّرْعِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ بُدِئَ فيها بالأغلظ فكان الترتيب فيها واجبا، مثل كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ بُدِئَ فِيهَا بِالْعِتْقِ وَضَرْبٌ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 بُدِئَ فِيهَا بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ وَجَدْنَا كَفَّارَةَ الْجِمَاعِ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَرِوَايَتُنَا أَوْلَى لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَنَقْلِ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا احْتِمَالٌ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيُبْدَأُ أَوَّلًا بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، وَأَجَازَ أبو حنيفة عِتْقَ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ، وَالْكَلَامُ يَأْتِي مَعَهُ، فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ عَدِمَ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ سِوَى يَوْمِ الْقَضَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: " صُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ " وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ صَامَهُ مُنْفَرِدًا أَجْزَأَهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صم شهرين متتابعين سوى يوم القضاء " فإذا أَفْطَرَ فِيهَا يَوْمًا لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ، أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُزَكَّاةِ عَلَى مَا مَضَى فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ ". وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فَنِصْفُ صَاعٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ لَا أَجِدُ فَدَعَا بِفَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا تَمْرًا وَقَالَ أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، فَدَلَّ على أن الواجب لكل مسلكين مُدٌّ، فَإِنْ عَدِمَ الْإِطْعَامَ، وَلَمْ يَجِدْ إِلَى التَّكْفِيرِ سَبِيلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِلْأَعْرَابِيِّ فِي أَكْلِ التَّمْرِ حِينَ أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا مَعَ جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ فِيهَا، وَقِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا عَدِمَهَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ وَجَدَهَا فِيمَا بَعْدُ لِتَعَلُّقِهَا بِطُهْرَةِ الصَّوْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَازِمَةٌ لَهُ، وَإِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهُ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَجْزِهِ عَنْ أَجْنَاسِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ سُقُوطَهَا عَنْهُ بَلْ أَمَرَ لَهُ بِمَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنَ التَّمْرِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَقِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وإن دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَةً فَلَهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّوْمِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا وَالصَّوْمُ يُجْزِيهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وَلَكِنْ لَوْ وَجَدَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنْ كَفَّرَ بِهَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَأَجْزَأَهُ وَإِنْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى الصَّوْمِ مَعَ الْيَسَارِ الطَّارِئِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ اعْتِبَارٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ قِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْزِيهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ كَمَالِهِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَمَّمَ صَوْمَهُ وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنْ صَوْمِهِ وَأَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: وَالْمُزَنِيُّ، عَلَيْهِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ بِنَاءً عَلَى الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِيهِ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُهُ هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ مَعْنَى وُجُودِهِ يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ، فَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، أَصْلُهُ الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَدَخَلَ فِي السَّبْعَةِ ثُمَّ وجد الهدي قبل كمالها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَكَلَ عَامِدًا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ وَلَا كَفَّارَةَ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْآكِلِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَفْطَرَ بِجِنْسِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ غَالِبًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ كَجَوْزَةٍ أَوْ حصاة لزمه القضاء ولا كفارة واستدلا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكفارة هذا عَامٌّ فِي كُلِّ فِطْرٍ، وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ مُنْفَرِدًا بِهِ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِمَعْصِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ. أَصْلُهُ: الْجِمَاعُ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة مُنْفَرِدًا بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِأَعْلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مِنْ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْجِمَاعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْمُسْتَقِيءُ عَامِدًا كَالْآكِلِ عَامِدًا، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقِيءِ عَامِدًا، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى. أَصْلُهُ: إِذَا ابْتَلَعَ حَصَاةً وَهَذِهِ عَلَى أبي حنيفة، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مَنَعَتْ مِنَ الْوَطْءِ، وَغَيْرِهِ فَحُكْمُ الْوَطْءِ فِيهَا أَعْلَى كَالْحَجِّ، لَمَّا اسْتَوَى حَكَمُ الْوَطْءِ، وَغَيْرُهُ فِي إيجاب الكفارة اختص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 الوطء أغلظ الْأَحْكَامِ تَغْلِيظًا بِإِفْسَادِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ، لَمَّا سَاوَى الْوَطْءُ الْأَكْلَ فِي إِفْسَادِ الصَّوْمِ اقْتَضَى أَنْ يَخْتَصَّ الْوَطْءُ بِالْكَفَّارَةِ تَغْلِيظًا دُونَ الْأَكْلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِيهَا كَفَّارَةٌ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ بِمَحْظُورٍ غَيْرِ الْوَطْءِ كَالْحَجِّ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُفْطِرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَهَذَا مُجْمَلُ رَاوِيَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْجِمَاعِ وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي أَوْلَى مِنْ إِجْمَالِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ عَلَى الْمُظَاهِرِ الِاسْتِغْفَارُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ، لَا بِالظِّهَارِ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ يُوجِبُ عَلَى الْأَكْلِ الِاسْتِغْفَارَ، وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا. وَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة فَفَاسِدٌ بِالْقَيْءِ أَيْضًا إِذَا مَلَأَ الْفَمَ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ، لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بِالسَّهْوِ مَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْلَى الْمَأْكُولِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْأَكْلِ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ فَيُعَزَّرُ عَلَى حسب حاله، ولا تبلغ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ فَوْقَ كَفَّارَةِ الْحَامِلِ، وَدُونَ كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى خَبَرٍ، وَلَا أَثَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ. وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ شَهْرٍ مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ ثَلَاثَةِ آلَافِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وصم يوماً مكانه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى يُنْزِلَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَلَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ أَنْزَلَ فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِجْمَاعًا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أبي حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ إِفْطَارٌ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ أَصْلُهُ إِذَا تَقَيَّأَ عَامِدًا، وَالْمَعْنَى فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ الْإِيلَاجُ لَا الْإِنْزَالُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ بِالْإِيلَاجِ أَنْزَلَ أَوْ لم ينزل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِنْ أَدْخَلَ فِي دُبُرِهَا حَتَى يُغَيِّبَهُ أَوْ فِي بَهِيمَةٍ أَوْ تَلَوَّطَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجٍ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أَوْ أَتَى بَهِيمَةً فِي أَحَدِ فَرْجَيْهَا، أَوْ تَلَوَّطَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مَعَ مَا ارْتَكَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّهُ عَمَدَ هتك حرمة الصوم يوطء فِي الْفَرْجِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَلِأَنَّهُ إِيلَاجٌ يَجِبُ بِهِ الْغَسْلُ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. أَصْلُهُ: قُبُلُ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ بِالتَّحْصِينِ فَيَفْسُدُ بِالزِّنَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّ إِتْيَانَ الْبَهَائِمِ إِذَا قِيلَ لَا حَدَّ فِيهِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْحَدِّ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَأَمَّا مَنِ اسْتَمْنَى فِي كَفِّهِ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَلَوْ حَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضٍ فَأَنْزَلَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا عَلَى وجهين: مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَتَصَدَّقَتْ كُلُّ واحدةٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ يومٍ عَلَى مسكينٍ بِمُدٍّ مِنْ حنطةٍ (قال المزني) كيف يكفر من أبيح له الأكل والإفطار ولا يكفر من لم يبح له الأكل فأكل وأفطر وفي القياس أن الحامل كالمريض وكالمسافر وكل يباح له الفطر فهو في القياس سواءٌ واحتج بالخبر " من استقاء عامداً فعليه القضاء ولا كفارة " (قال المزني) ولم يجعل عليه أحدٌ من العلماء علمته فيه كفارةٌ وقد أفطر عامداً وكذا قالوا في الحصاة يبتلعها الصائم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي إِفْطَارِهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْطِرَا لِخَوْفٍ وَحَاجَةٍ أَمْ لَا فَإِنْ أَفْطَرَتَا بِغَيْرِ خَوْفٍ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى وَلَدِهِمَا وَلَا حَاجَةَ دَعَتْهُمَا إِلَى الْإِفْطَارِ مَاسَّةً فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُفْطِرِ عَامِدًا فِي الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ أَفْطَرَتَا لِخَوْفٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَأَبْدَانِهِمَا فَلَا شُبْهَةَ فِي جَوَازِ فِطْرِهِمَا، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا وَلَا كَفَّارَةَ كَالْمَرِيضِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْحَمْلِ دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ لَهُمَا، فَإِذَا أَفْطَرَتَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِ " الْبُوَيْطِيِّ " تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وإنما يتسحب ذك لَهُمَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَالِثًا للشافعي، ومنهم من أنكره وحكي عن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ، وَأَسْقَطَا الْقَضَاءَ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة وَمَنْ تَابَعَهُ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إن الله وضع على الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَوَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ ". فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ، أَنَّ أَحْكَامَ الصَّوْمِ مَوْضُوعَةٌ مِنْ كَفَّارَةٍ، وَقَضَاءٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ فِي الْفِطْرِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَيُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ. وَضَرْبٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَيُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا بِعُذْرٍ فَخِلَافُ الْأُصُولِ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ الْأَكْلُ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ آثِمًا عَاصِيًا، فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ اللَّذَانِ لَمْ يَعْصِيَا بِالْفِطْرِ، وَلَمْ يَأْثَمَا بِهِ، أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكينٍ) {البقرة: 184) وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ مِمَّنْ يُطِيقُ الصِّيَامَ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى الْمُطِيقِينَ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْفِدْيَةَ قِيلَ: إِنَّمَا نُسِخُ مِنْهَا التَّخْيِيرُ، فِيمَا عَدَا الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لَهُمَا، مَعَ الطَّاقَةِ وَالْقُدْرَةِ فَبَقِيَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهَا مُقِيمَةٌ صَحِيحَةٌ بَاشَرَتِ الْفِطْرَ بِعُذْرٍ مُعْتَادٍ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْكَفَّارَةُ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ فِطْرَانِ فِطْرٌ بِعُذْرٍ، وَفِطْرٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ كَانَ الْفِطْرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ يَثْبُتُ به القضاء حسب وَهُوَ الْأَكْلُ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ حَسْبُ وَنَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ هَذَا فَقُلْتَ: لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْفِطْرِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ سُقُوطَ انْحِتَامِ الصَّوْمِ، لَا يُؤْذِنُ بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى الشَّيْخَ الْهَرِمَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ انْحِتَامُ الصَّوْمِ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ فِطْرٌ يَخْتَصُّ بِنَفْسِهِ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي اجْتِمَاعِهِمَا مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأنه إنما يكون مخالفاً للأصول إن وَافَقَ مَعْنَى الْأُصُولِ، وَخَالَفَهَا فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا إِذَا خَالَفَهَا فِي الْمَعْنَى فَيَجِبُ أَنْ يُخَالِفَهَا فِي الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَعْنَى الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقُفَّازَيْنِ أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنَّهُ فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ، وَخَالَفَ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَتِ الْكَفَّارَاتُ مُعْتَبَرَةً بِكَثْرَةِ الْآثَامِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّدَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنَ الْوَطْءِ، ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ معناهما يتفرق بما ذكرنا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ حَرَّكَتِ الْقُبُلَةُ شَهْوَتَهُ كَرِهْتُهَا لَهُ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْتَقِضْ صَوْمُهُ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ (قَالَ إبراهيم) سمعت الربيع يقول فيه قولٌ آخر أنه يفطر إلا أن يغلبه فيكون في معنى المكره يبقى ما بين أسنانه وفي فيه من الطعام فيجري به الريق وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يقبل وهو صائم قالت عائشة وكان أملككم لإربه بأبي هو أمي (قال) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كانا يكرهانها للشباب ولا يكرهانها للشيخ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ: أَنَّ الْقُبْلَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا قبل الصائم الصائمة فقد أفطره ". وَذَهَبَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ مَعَهَا، فَإِنْ أَنْزَلَ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ بِالْقُبْلَةِ، إِذَا لَمْ يُنْزِلْ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ أَرَاكِ هِيَ فَضَحِكَتْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمُ لِإِرْبِهِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ لِأَرْبِهِ بِفَتْحِهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَرَادَتِ الْعُضْوَ نَفْسَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّهَا أَرَادَتْ شَهْوَتَهُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ زَوْجَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنِ الصَّائِمِ، يُقَبِّلُ زَوْجَتَهُ فَسَأَلَتْهَا، فَقَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ فَرْجَعَتِ الْمَرْأَةُ وَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا فَغَضِبَ وَقَالَ لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخرا ارجعي فاسأليها عَنْ حَالِنَا فَرْجَعَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَخْبَرَتْهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لَا عِلْمَ لِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَا أَخْبَرْتِيهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا فَقَالَتْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَقْوَمَكُمْ عَلَى دِينِهِ وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ أَمْرًا عَظِيمًا فَتَجِدُ لِي مِنْ رجعةٍ فَقَالَ وَمَا ذَلِكَ فَقُلْتُ: قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ يَا عُمَرُ أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِالْمَاء قُلْتُ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ فَفِيمَ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ فَأَمَّا خَبَرُ مَيْمُونَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا أَنْزَلَ، أَوْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ". فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْقُبْلَةُ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا تُبْطِلُ صَوْمَهُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَإِنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ، فَهِيَ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي الْحَالَيْنِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا فِي الْحَالَيْنِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ تَعَلُّقًا، بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَامِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَقُلْتُ: مَا لِي فَقَالَ إِنَّكَ تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَنَعَ مِنَ الْجِمَاعِ مَنَعَ مِنْ دَوَاعِيهِ كَالْحَجِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ فِيهَا شَيْخٌ وَالَّذِي نَهَاهُ عَنْهَا شَابٌّ وَلِأَنَّ الْقُبْلَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ خَوْفَ الْإِنْزَالِ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَرَّكْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ أَمِنَ الْإِنْزَالَ فَلَمْ تُكْرَهْ لَهُ، وَإِذَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، خَافَ الْإِنْزَالَ فَكُرِهَتْ لَهُ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنْهُ لَفْظًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ قُبْلَةَ الصَّائِمِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا نَقَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَفْظًا فِي الْيَقَظَةِ، بِمَا رَوَاهُ فِي الْمَنَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهِ نَسْخًا لِلْخَبَرِ الْآخَرِ وَالنَّسْخُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا يَقَعُ وَاعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنَ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْعَقْدِ وَالطِّيبِ فَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْقُبْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ وَلَمْ يُكَفِّرْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَنْزَلَ أَحَدٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ بِلَا إِيلَاجٍ فَفِيهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ مِثْلُ أَنْ يَمَسَّ، أَوْ يَلْمَسَ أَوْ يُقَبِّلَ أَوْ يُضَاجِعَ أَوْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَدْ دَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ثُمَّ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا وَجَدْنَا كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ، أَوْ غيره فللوطئ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحَجِّ فكذلك الصوم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِالنَّظَرِ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ فَكَّرَ بِقَلْبِهِ فَأَنْزَلَ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ إِجْمَاعًا لِأَنَّ الْفِكْرَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا " فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَأَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ لَمْ يَأْثَمْ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَلَذَّذَ بِهِ فَقَدْ أَثِمَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَنْزَلَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ فَعَلَيْهِ القضاء دون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ " وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ فَسَوَّى بَيْنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ كَالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ، وَلِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ كَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَكَذَا نَقُولُ إِذَا صَدَّقَهُ الْفَرْجُ صَارَ زِنًا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ فَلَا حَدَّ وَلَا كفارة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رجلٍ فَمَضَى لَهُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ وَلَا شَرِبَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَهُوَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صائم وكذلك إن أصبح راقداً ثم استيقظ (قال المزني) إذا نوى من الليل ثم أغمي عليه فهو عندي صائم أفاق أو لم يفق واليوم الثاني ليس بصائم لأنه لم ينوه في الليل وإذا لم ينو في الليل فأصبح مفيقاً فليس بصائم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ نَهَارَهُ أَجْمَعَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَوْمَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِنِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ عَرِيَتْ عَنْ قَصْدٍ وَعَمَلٍ، فَشَابَهَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: صَوْمُهُ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَامَ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ لأنه حُكْمَ الْعِبَادَاتِ جَارٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: صَوْمُهُ بَاطِلٌ قِيَاسًا عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءِ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ جِبِلَّةٌ، وَعَادَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الصِّحَّةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ إِلَّا بِهَا، وَالْإِغْمَاءُ عَارِضٌ مُزِيلٌ لِحُكْمِ الْخِطَابِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَهُ الصِّيَامُ إِذَا اتَّصَلَ، وَاسْتَدَامَ فَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَأَفَاقَ فِي بَعْضِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: إِذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ: وَإِذَا حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مذهب الشافعي على ثلاثة أوجه: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَنْصُوصَةٍ: أَحَدُهَا: مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَمَا قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ، إِذَا حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَهُ عَادَ إِلَى الْحَيْضِ دُونَ الْإِغْمَاءِ وَقَدْ يَجْمَعُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ مَسَائِلَ، ثُمَّ يُعِيدُ الْجَوَابَ إِلَى بَعْضِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ إِغْمَاءَ الْجُنُونِ لَا إِغْمَاءَ الْمَرَضِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَحَمْلُ إِطْلَاقِ بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى مَا قَيَّدَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَإِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَمِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ أَنْ يَكُونَ مُفِيقًا فِي آخِرِهِ، فَاعْتَبَرَ الْإِفَاقَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، يَغْلَطُ فَيُخْرِجُ هَذَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ أَحَدُ مَسَائِلِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي غَلِطَ فِيهَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَمَا يَلِيهِ في أَيَّامِ الْإِغْمَاءِ فَصَوْمُهُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يُخْتَلَفُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصِّيَامِ كَمَا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ يَلْزَمُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهَا فَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالْقَصْدِ فِي بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ زَوَالُ الْقَصْدِ، وَهَذَا الْفَرْقُ تَعْلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ، أَنْ يَسْتَوِيَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِي سُقُوطِ الصَّوْمِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، وَيَسْتَوِي حُكْمُ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، كَمَا اسْتَوَيَا فِي الْجُنُونِ فَأَمَّا الْجُنُونُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فهلا لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ قِيلَ: لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَارِضٌ لَا يَدُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّوْمِ يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَالْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَيُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ القضاء وما ذكرنا مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَدْفَعُ هَذَا الْفَرْقَ الْمَدْخُولَ فِيهِ فَأَمَّا الرِّدَّةُ إِذَا طَرَأَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ الصَّوْمِ فَقَدْ أبطلته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ فِي حَالِ الرِّدَّةِ لِفَسَادِ الْمُعْتَقَدِ فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا يَقْضِي مَا ترك من الصلوات. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا صَوْمَ عَلَيْهَا فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتِ الصَوْمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا مَا كَانَ فِي وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَرُورَةِ كَمَا وَصَفْتُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَائِضَ لا صوم عليها ولا زَمَانِ حَيْضِهَا بَلْ لَا يَجُوزُ لَهَا، وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ عَلَى الصَّوْمِ أَبْطَلَهُ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، تَزْعُمُ أَنَّ الْفِطْرَ لَهَا رُخْصَةٌ فَإِنْ صَامَتْ أَجْزَأَهَا، وَهَذَا مَذْهَبٌ قَدْ شَذَّ عَنِ الْكَافَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَيْسَ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ، وَلَمْ تُصَلِّ فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا " وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيْنَا قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَا نَقْضِيهِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ اشْتِغَالًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَعْنِي قَضَاءَ رَمَضَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَيْضِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْحَائِضِ أَنْ تَكُونَ مُحْدِثَةً، وَالْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ لَا يَمْنَعَانِ الصَّوْمَ، قِيلَ: قَدْ فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ لَا يُسْقِطَانِ الصَّلَاةَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُمَا بِالطَّهَارَةِ، وَالْحَيْضُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ انْقِطَاعِهِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الصَّوْمِ فِيهِمَا فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَائِضَ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، فَإِذَا طَهُرَتْ لَزِمَهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصِّيَامِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ لِتَرَادُفِهَا مَعَ الْأَوْقَاتِ، وَالصَّوْمُ لِقِلَّتِهِ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي إِعَادَتِهِ فَلِهَذَا مَا لَزِمَهَا قَضَاءُ الصيام دون الصلاة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرَ السُّحُورِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. تَعْجِيلُ الْفِطْرِ إِذَا تُيُقِّنَ غُرُوبُ الشَّمْسِ مَسْنُونٌ لِمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ النَاسُ بخيرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ تَأْخِيرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ " فَإِذَا قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يؤخران الإفطار حتى يسود الأفق قال: إِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لَا رَغْبَةً عَنْ فَضْلِ التَّعْجِيلِ، وَلَكِنْ لِيُبَيِّنَا جَوَازَ التَّأْخِيرِ، وَأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ إِفْطَارُهُ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْمَاءُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُفْطِرُ عَلَى رطباتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فتمراتٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فشربةٌ ماءٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا السُّحُورُ فَسُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بن وهرام عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَهَارِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بركةٌ " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْجَمَاعَةُ بركةٌ وَالثَّرِيدُ بركةٌ وَالسَّحُورُ بركةٌ تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى جَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ " ذَكَرَ مِنْهَا تَأْخِيرَ السحور وروي عن العرباض ابن سَارِيَةَ أَنَّهُ قَالَ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فَقَالَ لِي كُلْ فَلَمْ آكُلْ وَوَدِدْتُ أَنْ كُنْتُ أَكَلْتُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ ائْتِنِي بِالْغِذَاءِ الْمُبَارَكِ فَيَتَسَحَّرُ وَيَخْرُجُ فَيُؤْذِنُ وَيُصَلِّي، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ قُوَّةً لِجَسَدِهِ وَمَعُونَةً لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا سافر الرجل بالمرأة سفراً يكون سنة وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ كَانَ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا في شهر رمضان ويأتي أهله فإن صاما في سفرهما أجزأهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَسَافَةٍ جَازَ أَنْ تُقْصَرَ فِيهَا الصَّلَاةُ جَازَ أَنْ يُفْطَرَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ كَالْقَصْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ النَّقْلِ، وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَقَدْرُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْمَرْوَانِيِّ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُفْطِرُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بردٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إلى عسفان وإلى الطايف، فإذا سافر قدر المسافة المذكورة جاز لهما الْفِطْرُ إِنْ شَاءَ بِالْأَكْلِ أَوْ بِالْجِمَاعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِطْرَ الْمُبَاحَ يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ مُبَاحٌ وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السفر " وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الصَّائِمُ فِي السَفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَإِبَاحَةٌ رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَمَّ وَقَضَى وَصَامَ وَأَفْطَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ " فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 184) ففي الآية الإضمار وَهُوَ الْفِطْرُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 السفر " فخارج عن سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ برجلٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَاسُ وَهُوَ يُنْقَلُ مِنْ فَيْءٍ إِلَى فَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ يَعْنِي لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَمَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا اعْتَقَدَ وُجُوبَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ فَالصَّوْمُ أَوْلَى لَهُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْفِطْرُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " قَالَ وَكَمَا أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنْ إِتْمَامِهَا كَذَلِكَ الْفِطْرُ أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ حمولةٌ زَادٍ فَإِذَا شَبِعَ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ " وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا فَرَغَتْ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صُمْتُ وَمَا أَفْطَرْتُ وَأَتْمَمْتُ، وَمَا قَصَرْتُ فَقَالَ لَهَا: أَحْسَنْتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ، وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الرُّخْصَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " فَضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَإِنْ صَحَّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَإِذَا أَحَبَّهُمَا مَعًا، وكان إحداهما مُسْقِطًا لِمَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، فَهُوَ أَوْلَى، وَأَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فَلَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمُ الْإِتْمَامُ أَوْلَى كَالصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَصْرُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْرُ أَوْلَى مِنَ الْإِتْمَامِ، وَأَفْضَلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ ضَمَانٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ضَمَانُ الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَا. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لأحدٍ أَنْ يَصُومَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ديناً وَلَا قَضَاءً لِغَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ لرمضان ولا لغيره صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في السفر وأفطر وقال لحمزة رضي الله عنه " إن شئت فصم وإن شئت فافطر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنْ صَامَ فِيهِ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِهِ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة، وَأَصْحَابِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَدَلَّلْنَا له وعليه بما فيه كافية وغنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا مُفْطِرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أحدٌ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ حَائِضًا فَطَهُرَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ أحل إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَدِمَ رَجُلٌ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ، وَكَانَ قَدْ أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَإِنْ صَادَفَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا، لَكِنْ يَسْتَتِرُ بِهَذَا الْفِعْلِ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكٌ بَقِيَّةَ هَذَا الْيَوْمِ، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ تَقَدُّمِ الْفِطْرِ. قَالَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ. أَصْلُ ذَلِكَ: إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّوْمِ، فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. أَصْلُهُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ أَوِ السَّفَرُ إِذَا اتَّصَلَ فَأَمَّا حَدِيثُ عَاشُورَاءَ فَقَدْ كَانَ تَطَوُّعًا وَأُمِرُوا بِإِمْسَاكِهِ اسْتِحْبَابًا، وَلَوْ صَحَّ وُجُوبُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا وُجُوبَهُ، قَبْلَ الْأَكْلِ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ فَشَابَهَ يَوْمَ الشَّكِّ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ، وَلَمْ يَجُزِ الْفِطْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، لِأَنَّ الْفِطْرَ لَهُ جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ فِي نَهَارِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ فِي نَهَارٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ كَالْمُسَافِرِ، وَالْحَائِضِ، وَخَالَفَنَا أبو حنيفة فَأَلْزَمَهُمُ الْإِمْسَاكَ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ كِفَايَةٌ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ لِمَرَضٍ، ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِهِ فَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَالْمُسَافِرِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعَجْزِهِ عَنِ الصَّوْمِ فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ، وَأَمْكَنَهُ الصَّوْمُ ارْتَفَعَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَلَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، لِأَنَّهُ يُفْطِرُ وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْيَسُ، وَهَذَا أَشْبَهُ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ فَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ ولا شرب ولا نوى الصوم وكان وعلى نِيَّةِ الْفِطْرِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، وَلَوْ أَمْسَكَ كَانَ أَوْلَى وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِتَرْكِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فصار بمثابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ، ثُمَّ قَدِمَ نَاوِيًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، لِأَنَّ زَوَالَ السَّفَرِ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فِي حَرْمَلَةَ أَنَّهُ عَلَى خِيَارِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِأَوَّلِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مُقِيمًا، ثُمَّ سافر لم يجز له أن يفطر اعتبار بِحُكْمِ أَوَّلِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الصَّوْمَ مُسَافِرًا، ثُمَّ أَقَامَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَوَّلِ الْيَوْمِ، فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فِي سِفْرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ نَوَى إِتْمَامَ الصَّلَاةِ ثُمَّ أَرَادَ الْقَصْرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِطْرَ يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ وَعُذْرُ الْإِفْطَارِ قَائِمٌ بِدَوَامِ السَّفَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ ضُمِنَ الْإِتْمَامُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا المعنى فصل بينهما. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ الْفَجْرِ مُسَافِرًا لَمْ يُفْطِرْ يَوْمَهُ لِأَنَّهُ دخل فيه مقيماً (قال المزني) رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه صام في مخرجه إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه ثم أفطر وأمر من صام معه بالإفطار ولو كان لا يجوز فطره ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْتَدِئَ السَّفَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ السَّفَرَ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ مِنَ الْمَدِينَةِ صَائِمًا فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ أَفْطَرَ فَحَصَلَ صَائِمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُفْطِرًا فِي آخِرِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا أُبِيحَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، ثم تبت أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وأن صَامَ فِي أَوَّلِهِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أعْمَالَكُمْ) {محمد: 33) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَوَجَبَ إِذَا ابْتَدَأَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَرُ، أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ إِبَاحَةً بِحَظْرٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا فِي الْحُكْمِ، فكان تغليب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 الخطر أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُزَنِيِّ فَرَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ أَضْرِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، لَمْ يَصِحَّ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنَّمَا جَازَ له الفطر للضرورة الداعية فيما أحدث، بِلَا اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّفَرُ، لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ مُخْتَارًا، وَلَمْ تَدْعُهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْفِطْرِ فِيهِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يُسَافِرُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ السَّفَرِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ، وَبِالشَّكِّ لَا تُبَاحُ الرُّخَصُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ الصِّيَامَ أَصْلًا، ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَهَذَا يُفْطِرُ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ قَدْ ثَبَتَتْ بِأَوَّلِهِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ بِتَرْكِ النية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ فَإِنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أحدٌ وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ بِتَرْكِ فَرْضِ اللَّهِ وَالْعُقُوبَةِ مِنَ السُّلْطَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ، فَقَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِبَادَةِ وَسَوَاءٌ حَكَمَ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ هِلَالَ شَوَّالٍ لَزِمَهُ الْإِفْطَارُ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَشَرِيكٌ وَإِسْحَاقُ لَا يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ، بَلْ هُمَا فِي الْحُكْمِ سِيَّانِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صوموا لرؤيته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالرُّؤْيَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَرَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَإِنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ، فَإِنْ جَامَعَ فِيهِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ شَعْبَانَ فَوَجَبَ، أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَوَجَبَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ، أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، إِذَا هَتَكَ حُرْمَتَهُ بِالْوَطْءِ. أَصْلُهُ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا يَوْمٌ لزمه صومه عن رمضان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَقْبَلُ عَلَى رُؤْيَةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَدْلَيْنِ (قال المزني) هذا بعض لأحد قوليه أن لا يقبل في الصوم إلا عدلين (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع قال الشافعي لا يجوز أن يصام بشهادة رجلٍ واحدٍ ولا يجوز أن يصام إلا بشاهدين ولأنه الاحتياط ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَأَجَازَ أَبُو ثَوْرٍ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا عَدْلَانِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَى الْإِعَادَةِ حَاجَةٌ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَحَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا صَلَاةَ فِي يَوْمِهِ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ وإن لم يكن ثابتاً (قال المزني) وله قولٌ آخر أنه لا يصلي من الغد وهو عندي أقيس لأنه لو جاز يقضي جاز في يومه وإذا لم يجز القضاء في أقرب الوقت كان فيما بعده أبعد ولو كان ضحى غدٍ مثل ضحى اليوم لزم في ضحى يومٍ بعد شهرٍ لأنه مثل ضحى اليوم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ النَّاسُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ شَاكِّينَ فِي يَوْمِهِمْ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ شَوَّالٍ؟ فَعَلَيْهِمْ صِيَامُهُ مَا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ، أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ شَاهِدَانِ نُظِرَ فِي عَدَالَتِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى صَوْمِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَأَفْطَرَ الْقَاضِي أَوَّلًا ثُمَّ الشَّاهِدَانِ، ثُمَّ النَّاسُ بَعْدَهُمْ، وَسَوَاءٌ بَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَعَلَ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ صَلَّى بِهِمْ حَيْثُ أَمْكَنَهُ مِنْ جَامِعٍ، أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهَلْ تُقْضَى أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أن تسقط بالفوات كصلاة الخوف. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ في وقت، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَخْرُجُ قَضَاءُ الْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 تُقْضَى نَظَرَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ، لِتَفَرُّقِهِمْ وَسَعَةِ بَلَدِهِمْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا مِنَ الْغَدِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ مِنْ جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَكَامُلُ الْجَمَاعَةِ، وَإِظْهَارُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَأْثَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَ اجْتِمَاعِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي يَوْمِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُؤَخِّرُهَا إِلَى الْغَدِ لِيُصَلِّيَهَا فِي مِثْلِ وَقْتِهَا وَلَا يُصَلِّيهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَاهَا مِنَ الْغَدِ فَأَمَّا إِنْ بَانَتْ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ " فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَقْضِيَ، وَاعْتَرَضَ بِسُؤَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالَ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ مِنَ الْغَدِ لَجَازَ فِي يَوْمِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَقْتِ أَقْرَبُ قُلْنَا فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقَضَاءَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالْقَضَاءِ بِهَا مِنَ الْغَدِ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ ضُحًى جُعِلَ سَبَبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، فَاحْتَاجَتْ فِي الْقَضَاءِ إِلَى الْأَدَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ قَالَ: لَوْ جَازَتْ فِي ضُحَى الْغَدِ لَجَازَتْ بَعْدَ شَهْرٍ قُلْنَا: إِنَّمَا جَوَّزْنَا لِحُدُوثِ الْإِشْكَالِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا بعد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لمرضٍ أَوْ سفرٍ فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ آخَرُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الشَهْرَ ثُمَّ يَقْضِيَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ لِكُلِّ يومٍ مُدًّا لمسكينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُبَادِرَ بِالْقَضَاءِ وَذَلِكَ مُوَسَّعٌ لَهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ ثَانٍ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثَانٍ صَامَهُ عَنِ الْفَرْضِ، لَا عَنِ الْقَضَاءِ فَإِذَا أَكْمَلَ صَوْمَهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ لِعُذْرٍ دَامَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر) {البقرة: 185) وَفِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَذَلِكَ نَسْخٌ قَالَ: وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهِ الْكَفَّارَةُ، كَالنَّذْرِ وَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهَا كَفَّارَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَعلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةً} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 (البقرة: 184) فَكَانَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ مُطِيقٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ومن أَفْطَرَ رَمَضَانَ بمرضٍ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يقضِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَصُمْ مَا أَدْرَكَهُ ثُمَّ لِيَقْضِ الَّذِي فَاتَهُ وَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يومٍ مسكيناً " ولأنها عبادة تجب الكفارة بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ تَجِبَ بِتَأْخِيرِهَا الْكَفَّارَةُ كَالْحَجِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ وَتَجِبُ بِفَوَاتِ عَرَفَةَ هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ خِلَافٌ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَمْ تَجِبْ بِالْفِطْرِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَوْمِ النَّذْرِ وَالتَّمَتُّعِ، فَيَفْسُدُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا أَخَّرَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ أَعْوَامًا، لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي، عَلَيْهِ بكل عام فدية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ حَتَّى مَاتَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ أَيَّامٍ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ فَلَمْ يَصُمْهَا حَتَّى مَاتَ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي مَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ أَيْضًا وَوَجَبَ فِي مَالِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِنْ شَاءَ أَوْ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَصُومُ عَنْهُ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، قَالَ: لِأَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ بِمَا رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصِّيَامُ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْضِ عَنْهَا وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتِ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ فَسَأَلَ أَخُوهَا، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ عَنْهَا، قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُهَا الْجُبْرَانُ بِالْمَالِ فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ كَالْحَجِّ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَأَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِمَرَضٍ وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ يَعْنِي مُدًّا لِلْقَضَاءِ وَمُدًّا لِلتَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أُطْعِمَ عَنْهُ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَعَ الْعَجْزِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْوَفَاةِ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ، وَعَكْسُهُ الْحَجُّ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَ انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى النِّيَابَةِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِعْلُ مَا يَنُوبُ عَنِ الصِّيَامِ مِنَ الْإِطْعَامِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ لِمِسْكِينٍ، فَلَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَصُمْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثَانٍ ثُمَّ مَاتَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ مُدٌّ، بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ، وَمُدٌّ بَدَلٌ عَنِ التَّأْخِيرِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ مُدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْفَوَاتَ يُضْمَنُ بِالْمُدِّ الْوَاحِدِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَهَذَا غَلَطٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لمرضٍ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يومٍ مدين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ وَمُتَتَابِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ الْأَوْلَى فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا لَمْ يُجْزِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) وَهَذَا أَمْرٌ يَلْزَمُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يُفَرِّقْهُ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ فِي قَضَائِهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَفِي أَيِّ زَمَانٍ قُضِيَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي، قُلْنَا لَنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَاخِي، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّرَاخِي، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَعِدَّةٌ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شيءٌ مِنْ رَمَضَانَ فإن شاء صامه متتابعاً وإن شاء صام مُتَفَرِّقَا " وَرَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدَرْهَمَيْنِ أَمَا كَانَ قَدْ قَضَى دَيْنَهُ فَقَالَ: نَعَمْ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَغْفِرَ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ لَمْ يُبْطِلْ مَا يَلِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ فَأَمَّا الْآيَةُ فَدَلِيلُنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ قَلَبْنَاهُ عنهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ ولا أيام منى فرضاً أو نفلاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ فَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي أَنَّ صَوْمَهُمَا حَرَامٌ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 وَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صَوْمِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ يَوْمَ فِطْرِكُمْ عَنْ صِيَامِكُمْ وَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ لَحْمَ نُسُكِكُمْ ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ محفور فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ صَوْمِهِمَا بِإِجْمَاعٍ، فَلَوْ صَامَهُمَا أَحَدٌ، كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا كَاللَّيْلِ فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا، كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: نَذْرُهُ صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنْ صَامَهُمَا جَازَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ النَّذْرُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ " وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَا يَنْعَقِدُ فِيهِ النَّذْرُ كَاللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ، فَلَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا عَنْ تَمَتُّعِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَلِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ فِي الْعَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ أنها قالت كنا بمنى إذ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاكِبًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ، فَلَا يَصُومُهَا أَحَدٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أيامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَيَوْمِ الشَّكِّ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَمَتُّعًا كَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى فَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَصُومَهَا بِحَالٍ لَا نَذْرًا وَلَا تَطَوُّعًا، وَلَا كَفَّارَةً، وَلَا قَضَاءً وَإِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَهَا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصُومَهَا تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَقَدَّمَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَا يُخْتَلَفُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصُومَهَا وَاجِبًا عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ فَفِي جوازه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ فِي اسْتِثْنَاءِ الْمُتَمَتِّعِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَالْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَلَعَ حَصَاةً أَوْ مَا لَيْسَ بطعامٍ أَوِ احْتَقَنَ أَوْ دَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى يَصِلَ إلى جوفه أو استعط حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَوْفِ رَأْسِهِ فَقَدْ أَفْطَرَ إن كَانَ ذَاكِرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ نَاسِيًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ابْتَلَعَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا، أَوْ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ، وَلَا شَرَابٍ كَدِرْهَمٍ أَوْ حَصَاةٍ، أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ لَوْزَةٍ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهَذَا كُلِّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِذَا كَانَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْكُوفِيُّ: لَا يُفْطِرُ إِلَّا بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ فِي الْبُرُدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَطْعُومٍ وَلَا مَشْرُوبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) {البقرة: 187) وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنَ ابْتِلَاعِهِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُفْطِرُهُ أَلَا تَرَى الْغُبَارَ وَشَمَّ الرَّوَائِحِ لَمَّا لم يفطره ولم يُمْنَعْ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ يُفْطِرُهُ منع منه فكذلك هذا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا احْتَقَنَ بِالدَّوَاءِ، فَقَدْ أَفْطَرَ قليلاً كان ذلك أو كثير أَوْ سَوَاءً وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِرَ فِي إِحْلِيلِهِ دَوَاءٌ أَفْطَرَ بِهِ، وَسَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا لأن باطن السبيلين لا يخوف. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُفْطِرْهُ قَالَ أبو حنيفة يُفْطِرُ بِالْحُقْنَةِ، وَلَا يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ فِي إِحْلِيلِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُفْطِرُ بِهِمَا، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ بِمَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ فَمِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْسَدَ الصَّوْمَ كَثِيرُهُ أَفْسَدَهُ قَلِيلُهُ كَالْأَكْلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أبي حنيفة يَنْفَذُ إِلَى الْجَوْفِ يُفْطِرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَنِيُّ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْفَمِ يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَكْلُ، وَبِمَا خَرَجَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَيْءُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ هُوَ أَنَّهُ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ أَوْصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ مَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَاوَى جُرْحَهُ بِدَوَاءٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يابساً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وَقَالَ أبو حنيفة: يُفْطِرُ بِالرَّطْبِ، وَلَا يُفْطِرُ بِالْيَابِسِ لِأَنَّ الْيَابِسَ يُمْسِكُهُ الْجُرْحُ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَا يُفْطِرُ بِرَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِلَاجًا لَا اغْتِذَاءً فَجَرَى مَجْرَى الضَّرُورَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْفَذٍ أَفْطَرَ بِالدَّاخِلِ فِيهِ، إِذَا كَانَ رَطْبًا، أَفْطَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا كَالْفَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَلَ مِنَ الْفَمِ أَفْطَرَ بِهِ فَإِذَا وَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، أفطر به كالرطب. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ مُخْتَارًا، أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَنَفَذَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى جَوْفِهِ، فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَوْ جُرِحَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُفْطِرْ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يُفْطِرُ بِحَالٍ، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يُفْطِرْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقِيَاسِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، فَأَمَّا إِذَا أَسْقَطَ الدهن أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَلَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ، وَقَالَ دَاوُدُ هُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ: " بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ خوفاً من الفطر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اسْتَنْشَقَ رَفَقَ فَإِنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الرَّأْسِ أَوِ الْجَوْفِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَهُوَ عَامِدٌ ذاكرٌ لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَلْزَمُهُ حَتَى يحدث ازدراداً فأما إن كان أراد المضمضة فسبقه لإدخال النفس وإخراجه فلا يعيد وهذا خطأ في معنى النسيان أو أخف منه (قال المزني) إذا كان الآكل لا يشك في الليل فيوافي الفجر مفطراً بإجماع وهو بالناسي أشبه لأن كليهما لا يعلم أنه صائم والسابق إلى جوفه الماء يعلم أنه صائم فإذا أفطر في الأشبه بالناسي كان الأبعد عندي أولى بالفطر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَنْ أَرَادَ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي صَوْمِهِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَرْفُقَ وَلَا يُبَالِغَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ لَقِيطًا بِذَلِكَ، فَإِنْ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إِلَى رَأْسِهِ أَوْ جَوْفِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ كَالْآكِلِ نَاسِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ قَاصِدًا لِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ، فَهَذَا يُفْطِرُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْآكِلِ عَامِدًا، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ إِلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ، وَإِنَّمَا سَبَقَهُ الْمَاءُ وَغَلَبَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ. وَالثَّانِي: لَمْ يُبَالِغْ فَإِنْ بَالَغَ فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ عَنْ سَبَبٍ مَكْرُوهٍ كَالْإِنْزَالِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْقُبْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَمْ يبالغ فيه فقولان: أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ " فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْقُبْلَةُ مَعَ الإنزال تفطر، فكذلك المضمضمة مَعَ الِازْدِرَادِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِاسْتِنْشَاقِ: " إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " خَوْفًا مِنْ إِفْطَارِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَادِثَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ لَهَا فِي الْحُكْمِ كَالْجَنَابَةِ، يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَالسِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ يَجِبُ أن يستوي حكم السبب فيهما، والمباشرة، ولا ذكره المزني عن قِيَاسِهِ، عَلَى الْأَكْلِ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ، ولأنه واصل إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ أَصْلُهُ الذُّبَابُ إِذَا طَارَ إِلَى حَلْقِهِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَقَعُ تَارَةً بِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَتَارَةً بِمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ بِلَا اخْتِيَارٍ كَالْقَيْءِ وَالْإِنْزَالِ، لَا يُفْطِرُ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ بِالِاخْتِيَارِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ سَوَاءٌ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَفْطَرَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِفَرِيضَةٍ لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّهُ فِي الْفَرِيضَةِ مُضْطَرٌّ، وَفِي النَّافِلَةِ مُخْتَارٌ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا. وَالثَّانِي: إِنَّ حُكْمَ الْفِطْرِ فِي الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَأَكَلَ خَوْفَ التَّلَفِ أَفْطَرَ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَفْطَرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أسيرٍ فَتَحَرَّى شَهْرَ رَمَضَانَ فَوَافَقَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَطْمُورَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ ثُمَّ يَصُومَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أُطْلِقَ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ، وَمُوَافَقَتُهُ رَمَضَانَ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي دُخُولِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ السَّلَفِ قَبْلَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَلِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ بِاجْتِهَادٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، وَصَلَّى وَبَانَ لَهُ صَوَابُ الِاجْتِهَادِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ فَصَلَّى أَجَزْأَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَهَذَا يُجْزِئُهُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا فِيمَا لَا يَصِحُّ صِيَامُهُ مِنَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ بِفَوَاتِ الشَّهْرِ، ثُمَّ وَافَقَ صَوْمُهُ زَمَانَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ صِيَامُ شَوَّالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّهْرَيْنِ أَعْنِي رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَا تَامَّيْنِ، أَوْ نَاقِصَيْنِ أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا، وَشَوَّالٍ نَاقِصًا أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا، وَشَوَّالٌ تَامًّا، فَإِنْ كَانَا تَامَّيْنِ لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا نَاقِصَيْنِ، فَإِذَا قَضَاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا وَشَوَّالٌ نَاقِصًا لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا وَشَوَّالٌ تَامًّا، فَقَدْ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرَ مِنْ شَوَّالٍ بُدِّلَ مِنَ الْيَوْمِ النَّاقِصِ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَامَ نِصْفَ رَمَضَانَ وَنِصْفَ شَوَّالٍ أَجْزَأَهُ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَيَكُونُ نِصْفُ صَوْمِهِ قَضَاءً وَنَصِفُهُ أَدَاءً. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَاقِيًا لَمْ يَفُتْ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّوْمِ فِيهِ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شِهِدَ مِنْكٌمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ قَدْ فَاتَ وَمَضَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ وَلَوْ قَالَ: إِذَا تَأَخَّرَ فَبَانَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ، كَانَ مَذْهَبًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ إِذَا أَدَّاهَا قَبْلَ الْوَقْتِ أَنْ يُجْزِئَهُ كَالْحَاجِّ إِذَا أَخْطَأَ الْوَقْتَ بِعَرَفَةَ، فَوَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ أَصْلُهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْإِنَاءَيْنِ، ثُمَّ بَانَ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا بِيَقِينٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ، أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ كَالصَّلَاةِ قَالَ فَأَمَّا الْحَاجُّ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَلَوْ بَانَ لَهُ صِيَامُ نِصْفِ شَعْبَانَ وَنِصْفِ رَمَضَانَ فَمَا صَادَفَ مِنْ رَمَضَانَ يُجْزِيهِ، وَفِيمَا صَادَفَ مِنْ شَعْبَانَ قَوْلَانِ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَبِينَ لَهُ زَمَانُ صِيَامِهِ هَلْ وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ فَهَذَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الِاجْتِهَادِ صِحَّةُ الْأَدَاءِ، مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ الْخَطَأِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَللصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَيَنْزِلَ الْحَوْضَ فَيَغْطَسَ فِيهِ ويحتجم كان ابن عمر يحتجم صائماً قال ومما سمعت من الربيع (قال الشافعي) ولا أعلم في الحجامة شيئاً يثبت ولو ثبت الحديثان حديث " أفطر الحاجم " وحديث آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احتجم وهو صائم فإن حديث ابن عباس احتجم وهو صائم ناسخٌ للأول، وأن فيه بيان وأنه زمن الفتح وحجامة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اكْتِحَالُ الصَّائِمِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ لَمْ يُفْطِرْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَلَا يُفْطِرَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ سِيرِينَ إِنِ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَزَلَ خَيْبَرَ وَدَعَا بكحلٍ إثمدٍ، فَاكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه سئل عن الكحل للصائم فقال الإثم غُبَارٌ فَمَا يَضُرُّ الصَّائِمَ إِذَا نَزَلَ الْغُبَارُ وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ لَهُ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ، فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِطْرُ كَمَا يَصِلُ بَرْدُ الْمَاءِ إِلَى الْكَبِدِ، وَبَاطِنِ الْجَسَدِ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ بِهِ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 فَصْلٌ : وَأَمَّا اغْتِسَالُ الصَّائِمِ، وَنُزُولُهُ الْمَاءَ فَجَائِزٌ، وَغَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا فَيَغْتَسِلُ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَتَمَاقَلَانِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَا صَائِمَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحِجَامَةُ، فَلَا تفطر الصايم، وَلَا تُكْرَهُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ يَوْمَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ برجلٍ يحتجم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ رَوَاهُ ثَوْبَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ مُعْتَادٌ، فَجَازَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَدَمِ الْحَيْضِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَائِمِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ وَلِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدَهُ في الحجامة فكان أنس يحتجم وهو صايم، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يُفْطَرُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِ، لَا يُفْطَرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ أَصْلُهُ الْفِصَادُ، وَعَكْسُهُ الْقَيْءُ، وَأَمَّا خَبَرُهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَرَدَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثمان وخبرنا في حجة الوداع ستة عَشْرٍ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " يَعْنِي بِغَيْرِ الْحِجَامَةِ كَأَنَّهُ عَلِمَ تَقَوُّمَ فِطْرِهِمَا، أَوْ رَآهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ: أَفْطَرَا بِمَعْنَى أَنَّهُ سَقَطَ ثَوَابُهُمَا، أَوْ عَلِمَ بِهِمَا ضَعْفًا عَلِمَ أَنَّهُمَا يُفْطِرَانِ مَعَهُ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ بِهَذَا لِأَنَّهُ ضَمَّ الْحَاجِمَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِصَادِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى مَكَانِهِ يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره العلك لأنه يجلب الريق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ، لِأُمُورٍ مِنْهَا إِنَّهُ يُجَمِّعُ الرِّيقَ، وَيَدْعُو إِلَى الْقَيْءِ وَيُورِثُ الْعَطَشَ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ فَإِنْ مَضَغَهُ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ فهو على صومه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ واجبٌ عَلَى كُلِّ بالغٍ مِنْ رجلٍ وامرأةٍ وعبدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُسْقِطُ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ إِذَا عَقَلَ وَمَيَّزَ مِثْلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالصِّيَامِ لِيَعْتَادَهُ، وَيَأْلَفَهُ فَإِذَا صَامَ صَحَّ صَوْمُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا حَجٌّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَنَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَجِّهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَهْلَ الْعَوَالِي بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالُوا: فَصُمْنَا وَصَوَّمْنَا الصِّبْيَانَ وَاتَّخَذْنَا لَهُمُ اللُّعَبَ مِنَ الْعِهْنِ لِيَلْعَبُوا بِهَا وَيَشْتَغِلُوا عَنِ الْأَكْلَ بِلُعَبِهِمْ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ احْتَلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ أَوْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أيامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الصَوْمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا فِيمَا مَضَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكَافِرُ، إِذَا أَسْلَمَ فِي أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ مَا بَقِيَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 189) وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْحَسَنَ وَعَطَاءً، فَإِنَّهُمَا قَالَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا مَضَى، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ". فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ صِيَامَ مَا بَقِيَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِنْ أَسْلَمَ لَيْلًا اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَهَارًا فَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِهِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ أَمْ لا؟ على جهين: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ في حرملة والبويطي ليس عليه قضاء، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ إِسْلَامِهِ فِي بَعْضِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَسْلَمَ لَيْلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ مَكَانَهُ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، يُوجِبُ عَلَيْهِ صِيَامَ مَا بَقِيَ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِفْرَادُ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ لَا بِقَضَاءِ يَوْمٍ كَامِلٍ كَمَا نَقُولُ هُوَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ هُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَلَوْ كَانَ فِي الْأَمْدَادِ كَسْرٌ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ مكانه يوماً كاملاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي أيامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ ما بقي، ولا يلزمه قضاء ما مضى فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ لَيْلًا، اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ، وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ نَهَارًا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صَائِمًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ مُفْطِرًا فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ. أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَالثَّانِي: لَا قضاء عليه وإن كان صايماً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُتَمِّمُ صَوْمَهُ وَاجِبًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِالصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ مُفْتَرِضًا فِي آخِرِهِ، كَالصَّائِمِ الْمُتَطَوِّعِ إِذَا نَذَرَ إِتْمَامَ صَوْمِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَإِذَا قَدِمَ زِيدٌ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ابْتِدَائِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ نِيَّتَهُ مِنَ اللَّيْلِ كَانَتْ لِلنَّفْلِ لَا لِلْفَرْضِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا فَقَالَ: إِذَا قِيلَ إِذَا كَانَ مُفْطِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قِيلَ: لَوْ كَانَ مُفْطِرًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَفِي هَذَا وَجْهَانِ: فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفِيقَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ رَمَضَانَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ لَا يَلْزَمُهُ القضاء. وقال أبو العباس بن سريح عَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَيُفَارِقَ الْإِغْمَاءَ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالْجُنُونُ نَقْصٌ يَزُولُ مَعَهُ التَّكْلِيفُ، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يُفِيقَ فِي خِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أن يستأنف صيام ما بقي، ولا يلزمه قضاء ما مضى فإن أفاق ليلاً واستأنف الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ وَإِنْ أَفَاقَ نَهَارًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمِهِ، أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فَأَمَّا قَضَاءُ مَا مَضَى فَلَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَفَاقَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جُزْءًا مِنْهُ فَلْيَصُمْهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جَمِيعَهُ لَوَقَعَ الصِّيَامُ فِي شَوَّالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَجْنُونُ , قَدْ شَهِدَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَالْإِغْمَاءِ قَالَ فَإِنْ مَنَعْتُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الْوَصْفِ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْنَى يُزِيلُ الْعَقْلَ فَوَجَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أَنْ لَا يُنَافِيَ الصَّوْمَ كَالْإِغْمَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ " ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ دَامَ جَمِيعَ الشَّهْرِ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ إِذَا اتصل بعض الشَّهْرِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ أَصْلُهُ الصِّغَرُ وَعَكْسُهُ الْمَرَضُ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ مَرَّ عَلَيْهِ فِي الْجُنُونِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ أَصْلُهُ إِذَا جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا غير ما أدركه، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا مَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ مَا ذَكَرَ، فَإِنْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الشَّهْرِ لَزِمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ صِيَامُ بَعْضِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ وَيُنَازِعُوا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ، أَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ كَالصِّغَرِ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلصَائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صِيَامَهُ عَنِ اللَّغَطِ الْقَبِيحِ، وَالْمُشَاتَمَةِ وَإِنْ شُوتِمَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي صائمٌ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ وَالشَّتْمُ وَالنَّمِيمَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ الصَّائِمَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) {التوبة: 36) إِلَى قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ) {التوبة: 36) فَالظُّلْمُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ فَهُوَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَقْبَحُ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّائِمُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْقُرَبِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدِ إِفْطَارِهِ وفرحةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ به فليس لله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " وَرَوَى الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صَوْمِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ". وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّوْمُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنِ امرؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تأويلات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 أَحَدُهَا: إِنَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صائم شفاء لغيظه وسكوناً لنفسه، فَيَمْتَنِعُ عَنْ جَوَابِ خَصْمِهِ. وَالثَّالِثُ: لِيَعْلَمَ خَصْمُهُ صِيَامَهُ، فَيَكُفَّ عَنْ شَتْمِهِ وَأَذَاهُ، فَلَوْ خَالَفَ هَذَا فَكَذَبَ أَوِ اغْتَابَ أَوْ نَمَّ أَوْ شَتَمَ كَانَ آثِمًا مُسِيئًا وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الْغِيبَةُ وَالنَمِيمَةُ وَالْكَذِبُ وَالنَظَرُ بِالشَّهْوَةِ واليمين الكاذبة " وهذا الخبر ورد علىطريق الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَسُقُوطِ الثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلْ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْكُلُ لحم أخيه ميتاً بالغيبة وإنما أثم كَإِثْمِهِ لَوْ أَكَلَ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ " تَشْدِيدٌ فِي سُقُوطِ الثَّوَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ يَدْفَعُهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُبَاحُ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ، أَصْلُهُ الْقُبْلَةُ وَعَكْسُهُ الأكل والجماع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَوْمَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ يَتَصَدَّقُ عَنْ كُلِّ يومٍ بِمُدٍّ من حنطة وروي عن ابن عباس في قوله جل وعز {وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال المرأة الهم والشيخ الكبير يفطران ويطعمان لكل يومٍ مسكيناً (قال الشافعي) وغيره من المفسرين يقرءونها " يطيقونه " وكذلك نقرؤها ونزعم أنها نزلت حيت نزل فرض الصوم ثم نسخ ذلك قال وآخر الآية يدل على هذا المعنى لأن الله عز وجل قال {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطوَّعَ خَيْراً} فزاد على مسكين {فَهُوَ خَيْراً لَهُ} ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال فلا يأمر بالصيام من لا يطيقه ثم بين فقال {فَمَن شَهِدَ مِنكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإلى هذا نذهب وهو أشبه بظاهر القرآن (قال المزني) هذا بين في التنزيل مستغنىً فيه عن التأويل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ وَالشَّيْخَةُ الْهَرِمَةُ إِذَا عَجَزَا عَنِ الصَّوْمِ لِعَارِضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ فهما كالمريض لهما أن يفطر أَوْ يَقْضِيَا إِذَا أَطَاقَا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا فَأَمَّا إِذَا عَجَزَا عَنِ الصِّيَامِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ، وما لا يرجى زواله، أو كانا يلحقا فِي الصَّوْمِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُطْعِمَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا إِنْ أَمْكَنَهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة قَالَ: يُطْعِمَانِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْبُرِّ مُدَّيْنِ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ في الكفارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا أَفْطَرَا لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمَا بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى الْمَالِ أَصْلُهُ الصَّلَاةُ قَالُوا وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا مَاتَا قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ) {البقرة: 184) وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَيَّرَ النَّاسَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا، ثُمَّ يَفْتَدُوا ثُمَّ حَتَّمَ اللَّهُ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ أَطَاقَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يُطِقْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يطيقونه يَعْنِي يُكَلَّفُونَهُ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى صِيَامِهِ وَقِرَاءَةُ الصَّحَابِيِّ تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا سَمَاعًا، وَتَوْقِيفًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا تَشُذُّ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهم، أنهم قالوا: الهم عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا أَفْطَرَ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ إِلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ أَصْلُهُ الصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ غَيْرُ عَمَلِهِ مَقَامَ عَمَلِهِ أَصْلُهُ الْحَجُّ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عُذْرٌ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فَأَسْقَطَ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا عُذْرٌ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَبَاطِلٌ بِالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَرِيضِ، إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ قُلْنَا: الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ وَذَاكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءُ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ عَنْهُ، فَهُمَا مِنْ مَعْنَى الْعَجْزِ سواء والواجب على الشيخ الهرم الفدية فإذا مات قبل الإمكان سقطت عنه فهما في معنى العجز سواء وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَزِمَهُمَا قَبْلَ الْعَجْزِ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ أَحَالَ قِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنَعَ أن يكون لها وجه تَعَقَّبَهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأنْ تَصُومُواْ خَيْرٌ لَكُمْ) {البقرة: 184) وَالْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ يُؤْمَرُ بِتَرْكِهِ لَا بِفِعْلِهِ قُلْنَا: هَذَا عَائِدٌ إِلَى الْمُطِيقِ فَلَمْ يمتنع ما قاله ابن عباس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ فِي الصَّوْمِ السِّوَاكَ بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَغَيْرِهِ وَأَكْرَهُهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا أُحِبُّ مِنْ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَلَمْ يُحَدِّدْهُ الشَّافِعِيُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 بِالزَّوَالِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَشِيَّ فَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِالزَّوَالِ، فَأَمَّا السِّوَاكُ غُدْوَةً إِلَى قَبْلِ الزَّوَالِ فَجَائِزٌ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وأبي حنيفة جَوَازُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَا أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ خَيْرُ خِصَالِ الصَائِمِ السِّوَاكُ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّائِمِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: نَعَمْ وَلِأَنَّ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِلصَّائِمِ قَبْلَ الزَّوَالِ يُسْتَحَبُّ لَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ عَشِيًّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أَجْزِي عَلَيْهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَمَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا، وَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فَإِزَالَتُهُ مَكْرُوهَةٌ، وَخُلُوفُ الصَّوْمِ يَكُونُ عَشِيًّا، فَأَمَّا غُدْوَةً فَعَنْ نَوْمٍ، وَرُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا صَامَ أَحَدُكُمُ فَلْيَسْتَكْ بِالْغَدَاةِ وَلَا يَسْتَكْ بِالْعَشِيِّ فَمَا مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِالْفَمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِهَا كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَلِأَنَّهَا رَائِحَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ عِبَادَةٍ، فَجَازَ أَنْ يُكْرَهَ قَطْعُهَا أَصْلُهُ غَسْلُ دَمِ الشَّهِيدِ، فَأَمَّا خَبَرُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَغَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أنه يحمل على الجواز وإخبارنا وعلى الْكَرَاهَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَظْرَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا إِنَّهَا لَا تُزِيلُ الْخُلُوفَ، وَلَا تُقْطَعُ بِهَا الرَّائِحَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَحْلِبُ الْفَمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَالْعِلْكِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَالْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِهِ بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الْيَابِسِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ، كَغَيْرِ الصَّائِمِ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْعُودِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ ثُمَّ لَمْ يُمْنَعِ الصَّائِمُ مِنْهَا، كَذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْعُودِ فَأَمَّا الْعِلْكُ، فَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ لِأَنَّهُ يدعوا لقيء وَيُورِثُ الْعَطَشَ، وَيَحْلِبُ الْفَمَ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْعُودِ الرَّطْبِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْرَهُ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عمته عائشة بنت طلحة أنها قالت دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ " أَمَا إِنِّي كنت أريد الصوم ولكن قربيه " قال وقد صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سفره حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر وركع عمر ركعة ثم انصرف فقيل له في ذلك فقال إنما هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص ومما يثبت عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وعن ابن عباس رحمه الله تعالى وجابر أنهما كانا يريان بالإفطار في صوم التطوع بأساً وقال ابن عباس في رجلٍ صلى ركعةً ولم يصل معها له أجرٌ ما احتسب (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فمن دخل في صومٍ أو صلاةٍ فأحب أن يستتم وإن خرج قبل التمام لم يعد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ، أَوْ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُ ذَلِكَ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَعْذُورًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ جَازَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ مَعْذُورًا، كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَالْخِلَافُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ إِتْمَامِهِ. وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ " تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فيلزمك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 التَطَوُّعُ " أَيْضًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِيهِ المضي بالنذر وجب المضي فيه بالفعل كالحرج وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْإِتْمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَفْطَرَتَا يَوْمًا تَطَوُّعًا فَقَالَتَا لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَاشْتَهَيْنَا فَأَفْطَرْنَا فَقَالَ: " لَا عَلَيْكُمَا اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهَا أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْحَجِّ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا احْتِرَازًا مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، أَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ أَدَاؤُهَا فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِتْمَامِ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إِتْمَامِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ: أُرِيدُ الصَوْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِرَادَةٍ يُحْدِثُهَا، قِيلَ قد أخر أَنَّهُ أَرَادَ الصَّوْمَ، فِيمَا مَضَى وَمَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فِيمَا مَضَى كَانَ صَائِمًا فِي الْحَالِ عَلَى أَنَّا رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: " كُنْتُ أصبحت صائماً ولكن قريبه " وروى شعبة عن جعدة عن أم هانئ وَهِيَ جَدَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ فَأَتَى بِإِنَاءٍ مِنْ لبن فشرب ثم ناولني، فقلت إن صائمة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فَإِنْ شِئْتِ فَصُومِي، وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طعامٍ وَهُوَ صَائِمٌ تَطَوُّعًا فَلْيُفْطِرْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ، أَوْ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أم هانئ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشَرِبَ مِنْهُ ثَمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فقال: " إن كان فرضاً فاقض يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ إِذَا تَطَوَّعَ بِالدُّخُولِ فِيهَا ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالطَّهَارَةِ، وَالِاعْتِكَافِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَمَعْنَاهُ إِلَّا أن تتطوع، فيكون ذلك أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَجِّ بِالْفَسَادِ، وَيَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِ بالفساد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وَالثَّانِي: إِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ وَنَفْلَهُ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْسَادِ، وَيُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَهُ الزُّهْرِيُّ، وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَلَى بَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُحَدِّثُ بِهِ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتُمَا " عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَوْمًا مَكَانَهُ أَيْ مِثْلَهُ وَمِثْلُهُ تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 باب النهي عن الوصال في الصوم قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أطعم وأسقى " (قال الشافعي) وفرق الله بين رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبين الناس في أمور أباحها له حظرها عليهم وفي أمورٍ كتبها عليه خففها عنهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ فَهُوَ أَنْ يَصُومَ الرَّجُلُ يَوْمَهُ فَإِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ صَائِمًا فَيَصِيرُ وَاصِلًا بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهَذَا هُوَ الْوِصَالُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ فَانْتَهَوْا ثُمَّ وَاصَلَ فَوَاصَلُوا فَقَالَ: " أَمَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْوِصَالِ " فَقَالُوا رَأَيْنَاكَ وَاصَلْتَ فَوَاصَلْنَا فَقَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ حَقِيقَةً. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَمُدُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْوِصَالُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْوِصَالَ يُورِثُ ضَعْفًا، وَيُقَاسِي فِيهِ مَشَقَّةً وَجُهْدًا فَرُبَّمَا أَعْجَزَهُ عَنْ أَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ، فَإِنْ وَاصَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَوْمُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ النهي توجه إلى غير زمان الصوم فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ، وَفِي اللَّبَنِ أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ، وَفِي الصَّبِرِ أَنَّهُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 باب صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بن شابورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ وَالسَّنَةِ التِّي تليها وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة " قال فأحب صومها إلا أن يكون حاجاً فأحب له ترك صوم يوم عرفة لأنه حاج مضح مسافر ولترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صومه في الحج وليقوى بذلك على الدعاء وأفضل الدعاء يوم عرفة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُسْتَحَبُّ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ " وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ، وَالسَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا، فَأَمَّا صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِسْحَاقَ، أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ إِنْ كان صيفاً، والأولى لَهُمْ إِفْطَارُهُ وَإِنْ كَانَ شِتَاءً فَالْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ إِنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا يَوْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 عَرَفَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ قَالَ: فَأَرْسَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ عَلَى يَدَيِ الْعَبَّاسِ قَدَحًا فِيهِ لَبَنُ الْأَوْرَاكِ، فَشَرِبَهُ وَهُوَ واقفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِالْمَوْقِفِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: حَجَجْتُ مَعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ، وَلَا آمُرُ بِصِيَامِهِ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلِأَنَّ فِي إِفْطَارِهِ تَقْوِيَةً عَلَى أَدَاءِ حَجِّهِ، وَعَلَى الدُّعَاءِ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَهُوَ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قَدْ صَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَأْمُرُ مَنْ أَكَلَ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ بِالصِّيَامِ أَوْ كَانَ السَّبَبُ فِي صِيَامِهِ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ فَقَالَ: مَا هَذَا الْيَوْمُ؟ قَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي فَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْبَحْرَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَقَالَ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَوْمِهِ هَلْ كَانَ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أبو حنيفة وَطَائِفَةٌ: كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا، ثُمَّ نُسِخَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ إِنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَزَلْ مَسْنُونًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَإِنِّي صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرْ " فَأَمَّا يَوْمُ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَيُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَأَصُومَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَمَاتَ قَبْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ شُهُورِ السَّنَةِ، وَأَيَّامُهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، مَا أَنَا ذَاكِرُهُ فَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَضْلِ صِيَامِهِ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ رَجَبٍ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الْأَصَمُّ وَرُوِيَ الْأَصَبُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي رَجَبًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصُبُّ فِيهِ الرَّحْمَةَ صَبًّا، وَسُمِّيَ أَصَمَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِيهِ الْقِتَالَ، فَلَا يُسْمَعُ فِيهِ سَفْكُ دَمٍ، وَلَا حَرَكَةُ سِلَاحٍ ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صِيَامُ أَوَّلِ يومٍ مِنْ رَجَبٍ كَفَّارَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ كَفَّارَةُ شهرٍ ". فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ شَعْبَانُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرٌ من وحر صَدْرِهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أيامٍ مِنْ كل شهرٍ " يعني بشهر الصبر شعبان، وقيل رمضان وقيل وحر صَدْرِهِ يَعْنِي: غِشَّ صَدْرِهِ وَبَلَابِلِهِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إِنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَى نَقُولَ إِنَّهُ لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَهَذِهِ الشُّهُورُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا تَفْضِيلُ الصِّيَامِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَيَّامُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا السُّنَّةُ بِصِيَامِهَا، فَمِنْهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَضْلَ الصِّيَامِ فِيهَا، وَمِنْهَا صِيَامُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أيامٍ مِنَ الشَهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كُنْتَ صَائِمًا فَصُمِ الْغُرَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْغُرُّ الْبَيْضُ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي جَمِيعِهَا. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَنَى بِالشَّهْرِ رَمَضَانَ وَسِرِّهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي تَلِيهِ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهْرِ مُسْتَهَلَّ الشَّهْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْهِلَالَ شهراً قال الشاعر: (أخوان مِنْ نجدٍ عَلَانِيَةً ... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِصِيَامِ الشَهْرِ مِنْ كُلِّ شهرٍ، وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنها أيام الْبِيضُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَكْثَرُهُ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ، هَلْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا سُنَّةٌ لَمْ تَزَلْ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّانِيَ عَشَرَ، وَمَا يَلِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ. فَصْلٌ : وَمِنْهَا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَكَرِهَ صِيَامَهَا مَالِكٌ وأبو حنيفة لِأَنَّ فِي صِيَامِهَا ذَرِيعَةً إِلَى زِيَادَةِ الصَّوْمِ فَشَابَهَتْ يَوْمَ الشَّكِّ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صِيَامَهَا سُنَّةٌ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ بستةٍ مِنْ شوالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَهْرَ كُلَّهُ " يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا فَتَحْصُلُ لَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِثَلَاثِمِائَةِ حَسَنَةٍ وَبِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَذَلِكَ عَدَدُ أيام السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 فَصْلٌ : وَمِنْهَا صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَدْ روى أبو هريرة (و) أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَدَعُ صِيَامَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ هُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ لِي فِيهِمَا عَمَلٌ صَالِحٌ " فَيُخْتَارُ صِيَامُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّهْرِ، وَالْأَيَّامِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالسَّلَفِ مِنْ بَعْدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي ذك أضعاف جده، وَتَرْكُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ عِبَادَاتِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو بن العاصي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: صُمْ يَوْمًا وَلَكَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ قَالَ: زِدْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ فِيَّ قُوَّةً قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ تِسْعَةُ أيامٍ قَالَ: زِدْنِي يَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ ثَمَانِيَةٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَضُمُّ الثَّمَانِيَةَ إِلَى التِّسْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَتَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَتَبْقَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ فَيَصِيرُ لَهُ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 باب النهي عن صيام يومي الفطر والأضحى وأيام التشرق قال الشافعي رضي الله عنه: " وأنهى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التشريق لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها. ولو صامها متمتع لا يجد هدياً عنه عندنا (قال المزني) قد كان قال يجزيه ثم رجع عنه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن صيام سبعة أيام العيدان وَأَيَّامِ مِنًى وَيَوْمِ الشَكِّ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَأَمَّا الْعِيدَانِ فَنَهَى عَنْ صَوْمِهِمَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا أَيَّامُ مِنًى، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى جَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَحَرَّمَهَا كَالْعِيدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا تَطَوُّعًا وَلَا نَذْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة فِي جَوَازِ صِيَامِهَا نَذْرًا، وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَأَمَّا يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَقَدْ رَوَى نَهْيَ صَوْمِهِ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرًا فِي الطَّوَافِ فَقُلْتُ لَهُ: أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ هَذِهِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَلَكَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهُ. فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ كَالْفِطَرِ وَالْأَضْحَى. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيمَنْ أَفْرَدَ صَوْمَهُ دون ومن وَصَلَهُ بِغَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 فَقَالَ لَهَا: أَصُمْتِ يَوْمًا قَبْلَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا فَقَالَ لَهَا: أَتَصُومِينَ يَوْمًا بَعْدَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا فَقَالَ فَأَفْطِرِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالدُّعَاءِ فِيهَا فَكَانَ مَنْ أَضْعَفَهُ؟ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ صَوْمُهُ مَكْرُوهًا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَهُ، قَدْ دَاوَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على صوم شبعان، ومعلوم أنه فِيهِ جُمُعَاتٍ كَانَ يَصُومُهَا كَذَلِكَ رَمَضَانُ فَعُلِمَ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ وَطَلَبِ الْقِرَاءَةِ قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ أَجْوَدَ النَاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ ما يكون في شهر رمضان وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيعرض عليه القرآن فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة (قال الشافعي) وأحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء به ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الْجُودِ وَالْإِفْضَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ فِيهِ بِصَوْمِهِمْ عَنْ طَلَبِ مَكَاسِبِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَسِّعَ فِيهِ عَلَى عِيَالِهِ وَيُحْسِنَ إِلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَمْكَنَهُ إِفْطَارُ صَائِمٍ أَنْ يُفْطِرَهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا. وَرَوَتْ أُمُّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ أَكَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 عِنْدَهُ مُفْطِرُونَ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ الْقَوْمُ يَأْكُلُونَ " وَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَفْطَرَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ التَوْفِيقَ لِمَا قَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 كتاب الاعتكاف أَمَّا الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمُقَامُ وَاللُّبْثُ عَلَى الشَّيْءِ بَرًّا كَانَ أَوْ آثِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فأَتَوْا علَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ) {الأعراف: 138) أَيْ: يُقِيمُونَ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: (تَظَلُّ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ ... وَتَنْتَزِعُ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا) وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: (فَهُنَّ عكوفٌ كَنَوْحِ الْحَمَامِ ... قَدْ شَفَى أَكْبَادَهُنَّ الْهَوَى) ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الِاعْتِكَافَ لُبْثًا عَلَى صِفَةٍ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) {البقرة: 125) وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَطْهِيرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: مِنَ الْأَصْنَامِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَقُرْبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَازِمَةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 الْأَوَاخِرَ " فَعَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَاتِ قَدْ قَرَّرَ لَهَا الشَّرْعُ أَسْبَابًا رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ، أَوْ عَارِضَةً كَالزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ سَبَبٌ رَاتِبٌ، وَلَا عَارِضٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بن إبراهيم بن الحرث التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " قال " وأريت هذه الليلة ثم أنسيتها " قال " ورأيتني أسجد في صبيحتا في ماءٍ وطينٍ فالتمسوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وترٍ " فمطرت السماء من تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انصرف علينا وعلى جبهته وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وعشرين (قال الشافعي) وحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدل على أنها في العشر الأواخر والذي يشبه أن يكون فيه ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين ولا أحب ترك طلبها فيها كلها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِشَرَفِهَا، وَأَنَّهَا تُوَافِقُ عَشْرَ الِاعْتِكَافِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ فِيهَا أُمُورَ السَّنَةِ أَيْ يَقْضِيهَا: وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا عَظِيمَةُ الْقَدْرِ جَلِيلَةُ الْخَطَرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ لَهُ قَدْرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) {القدر: 1) يَعْنِي الْقُرْآنَ جُمْلَةً أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ يَنْزِلُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) {الواقعة: 75) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر: 3) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عُمُرِ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ. وَالثَّانِي: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَمَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ قَالَ: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) {القدر: 4) وَفِي الرُّوحِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 أَحَدُهُمَا: جِبْرِيلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحً الأَمينُ) {الشعراء: 193) . وَالثَّانِي: الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) {النحل: 2) فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا، وَفَضْلِ الْعَمَلِ فِيهَا وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه ". فَصْلٌ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هِيَ بَاقِيَةٌ قُلْتُ: هِيَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: فِي رَمَضَانَ قَالَ قُلْتُ هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ أَوِ الْأَوْسَطِ أَوِ الْأَخِيرِ قَالَ هِيَ فِي الْأَوَاخِرِ وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وترٍ وَرُوِيَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يَرَاهَا فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَى عَمَلِ رَمَضَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْعَشْرِ فَحُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَمَّا أُبَيُّ فَكَانَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ لَهُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الشَّمْسَ تُصْبِحُ لَا شُعَاعَ لَهَا، وَقَدْ رَاعَيْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ فِي صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنِ اعْتَبَرَ كَلِمَاتِ السُّورَةِ فَوَجَدَهَا ثَلَاثِينَ كَلِمَةً بِعَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ، ثُمَّ وَجَدَ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ {سَلاَمٌ هِيَ) {القدر: 5) عَلَى رَأْسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ كَلِمَةً فَعَلِمَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي مِثْلِهَا مِنَ الشَّهْرِ، وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ وَهِيَ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ فَالْتَمِسُوهَا فِيهِ وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ رَآهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَلِرِوَايَةِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرِاهِيمَ فِي أَوَّلِ ليلةٍ مِنْ شَهْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَيْ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عيسى في ثماني عشرة من شهرٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْهِمْ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قالوا: وإنما نزل فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال رأيت هذه الليلة وخرجت لأعلمكم فتلاحا رَجُلَانِ فَأُنْسِيتُهَا وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي ماءٍ وطينٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَرَأَيْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى وَجْهِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرْشٍ، فَوَكَفَ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَصَحُّ، وَأَوْضَحُ وَإِنَّمَا قَالَ: أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الثَّلَاثِ، وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِيمَا زَادَ وَلَمْ يَقْطَعِ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ، بَلْ جَوَّزَهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِي الْعَشْرِ وَبِخَاصَّةٍ فِي كُلِّ وِتْرٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ زَمَانُهَا مَعْرُوفًا لِيَقَعَ الْجِدُّ فِي طَلَبِهَا، وَتَرْكُ الِاتِّكَالِ عَلَيْهَا ثِقَةً بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُ الدُّعَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى جد وحذر ولعمري إن لهذا القول وجه، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ليلة القدر، طلعت فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا، ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أوجب مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ لِدِينِهِ، وَآخِرَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَاذَا أَدْعُو؟ فَقَالَ: تَسْأَلِي اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وقالت عائشة فغسلته وأنا حائض (قال الشافعي) فلا بأس أن يدخل المعتكف رأسه في البيت ليغسل ويرجل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاعْتِكَافُ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ سَابِلٍ مِنْ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْحَكَمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَعَمَّ بِالذِّكْرِ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ وَلَا يَخْلُو ذِكْرُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ. أَوْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَلِأَنَّ كُلَّ موضع يبنى لجماعات الصلاة، فالاعتكاف فيه جايز كَالْجَوَامِعِ. فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، فِي أَنَّ اعْتِكَافَهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ. قَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ تَعَلُّقًا، بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ " فَلَمَّا كُرِهَ لَهَا أَنْ تَصَلِّيَ الْفَرْضَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ سُنَّ لِصَلَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُسَنَّ لِاعْتِكَافِهَا كَالرَّجُلِ لَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا سُنَّ فِيهِ أَدَاءُ صِلَاتِهِ، كَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالطَّوَافِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ كَالطَّرِيقِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَجَمْعِهِمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي طَرِيقٍ وَغَيْرِهِ وَالِاعْتِكَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَفِيهِ دَلَائِلُ مِنْهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُخْتَارُ فِي رَمَضَانَ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ يُنَافِيهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الرَّأْسِ في الاعتكاف جايز، ودل على أن ترجيل الشعر جايز، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُخْرِجَ الْمُعْتَكِفُ بَعْضَ بَدَنِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَأَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ لَا يَحْنَثُ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ عَوْرَةً، ودل على أن من مَسَّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَدَلَّ عَلَى أن بدن الحايض ليس بنجس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " والاعتكاف سنة حسنةٌ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ صومٍ وَفِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النحر وأيام التشريق (قال المزني) لو كان الاعتكاف يوجب الصوم وإنما هو تطوع لم يحز صوم شهر رمضان بغير تطوع وفي اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في رمضان دليل على أنه لم يصم للاعتكاف فتفهموا رحمكم الله ودليل آخر لو كان الاعتكاف لا يجوز إلا مقارناً للصوم لخرج منه الصائم بالليل لخروجه فيه من الصوم فلما لم يخرج منه من الاعتكاف بالليل وخرج فيه من الصوم ثبت منفرداً بغير الصوم وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر أن يعتكف ليلة كانت نذراً في الجاهلية ولا صيام فيها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّيَّةُ فِي الِاعْتِكَافِ، فَوَاجِبَةٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ يَكُونُ اللُّبْثُ تَارَةً عَادَةً، وتارة عبادة فافتقر إلى نية يصح بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ لُبْثِ الْعَادَةِ مِنْ لُبْثِ الْعِبَادَةِ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ بَلْ إِنِ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا جَازَ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَكَفَ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوِ اعْتَكَفَ لَيْلًا جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَلَا فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بصومٍ " وَبِمَا رُوِيَ عن عبد الله ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ يومٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَكِفْ وَصُمْ، وَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قُرْبَةً حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا اعْتَكَفَ إِلَّا وَهُوَ صَائِمٌ، فَدَلَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلا بصوم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 قَالُوا: وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَالنَّذْرُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشرع وليس للاعكتاف أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الصَّوْمُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ فِيهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَكَانَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فِي كُلِّ مُعْتَكِفٍ، وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صومٌ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ " وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْفِ بِنَذْرِكَ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُضَرَبَ لَهُ بناءٌ فَخَرَجَ فَرَأَى أَرْبَعَةَ أبنيةٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةُ؟ فَقِيلَ: هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا لِعَائِشَةَ وَهَذَا لِحَفْصَةَ وَهَذَا لِزَيْنَبَ فَنَقَضَ اعْتِكَافَهُ وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْمَسْجِدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى الصَّوْمِ كَالطَّوَافِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ ابْتِدَائِهَا الصَّوْمُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ اسْتِدَامَتِهَا الصَّوْمُ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَعَكْسُهُ الْمَسْجِدُ، لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَائِهَا، كَانَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَتِهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِبَادَةً عَلَى الْبَدَنِ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي عِبَادَةٍ أُخْرَى كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَعَ حَفْصَةَ فَمَعْنَاهُ لَا اعْتِكَافَ كَامِلًا إِلَّا بِصَوْمٍ أَوْ لِمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بِصَوْمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَحَمَلْنَا رِوَايَتَنَا عَلَى الْجَوَازِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ إِلَيْهِ هِيَ النِّيَّةُ ثُمَّ يُقْلَبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَنَقُولُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الصَّوْمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَأَمَّا اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدِهِ صَائِمًا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَهُ، وَمَسْجِدَهُ مِنْ شَرْطِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّذْرَ يَلْزَمُ فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ بِمَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِدَارِهِ قَدْ لَزِمَهُ نَذْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ، وَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْعُمْرَةِ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُمْ اصل واجب في الشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَإِذَا أَهَلَّ شَوَّالٌ فَقَدْ أَتَمَّ الْعَشْرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَرَجَ منه قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ لِيَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِلْعَشْرِ بِكَمَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ، كَمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الصِّيَامِ إِلَّا بِمُجَاوَزَةِ الْإِمْسَاكِ إِلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَغَسْلُ الْوَجْهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ سَوَاءً كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، لِأَنَّ اسْمَ الْعَشْرِ يَتَنَاوَلُهُ وَلَكِنْ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ أَيَّامًا كَامِلَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ مِنْ شَوَّالٍ لِأَنَّ الْعَشْرَةَ الْأَيَّامَ تُوجِبُ اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَاعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الهلالين فإذا كَانَ تَامًّا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ، فَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا، فَإِذَا اعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، أَجْزَأَهُ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَهَذَا غَلَطٌ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ تَتْبَعُ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْصِدِ اسْتِيفَاءَ الْعَشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْعَشْرِ إِجْمَاعًا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الِاعْتِكَافِ الَّذِي أَوْجَبَهُ بِأَنْ يَقُولَ إِنْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 وَجُمْلَةُ الِاعْتِكَافِ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ. فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَرْطِ الْخِيَارِ إِلَيْهِ فِي المقام على اعتكافه والخروج مِنْهُ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ النَّذْرُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُطْلَقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَمُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ، فَأَمَّا الْمُطْلَقُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ فَإِنِ اشْتَرَطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَقْطَعُ فَهَذَا نذر صحيح، وشرط جائز، فإذا أعرض لَهُ مَا شَرَطَ وَخَرَجَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَتَكُونُ الْمُدَّةُ الَّتِي اعْتَكَفَهَا هِيَ الْقَدْرُ الَّذِي نَذَرَهُ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ وَيَصِحُّ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، فَإِذَا شَرَطَ فِي نَذْرِهِ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِحُدُوثِ عَارِضٍ، فكان نذره إنما انعقد على هذه مُعَلَّقَةٍ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ خَارِجًا عَنِ النَّذْرِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرُجَ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي صِحَّةِ نَذْرِهِ وَجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى مَا نُفَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ، وَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ لزمه العود إليه لأنه قَطْعَ الِاعْتِكَافِ يُوجِبُ رَفْعَهُ، وَالْخُرُوجَ مِنْهُ لَا يُوجِبُ رَفْعَهُ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِ مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ قِيلَ: هُمَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: قَطْعُ الِاعْتِكَافِ. وَالثَّانِي: الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَأَمَّا شَرْطُ الْقَطْعِ فَيَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ فِي الْحَجِّ، قَوْلَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ حَجُّ الْبَيْتِ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا فَأَقْطَعُ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي شَرَطَهُ جَازَ لَهُ قَطْعُ صَوْمِهِ، وَصَلَاتِهِ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ حَجِّهِ وَالْإِحْلَالُ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَيْضًا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ هُوَ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ عَادَ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ، فَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَمَا يُسَنُّ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا، إِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، وَعَادَتْ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ لم يلزمه المضي فيها، فوضع الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا شَرْطُ الْخُرُوجِ، فَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَجُوزُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخُرُوجَ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَيَعُودُ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَيُنَافِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَالْعَوْدُ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَيْرِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَقَدَّرُ بِزَمَانٍ وَلَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَالصَّلَاةُ قَدِ ارْتَبَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَقَدَّرَتْ بِعَمَلٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ مُقَدَّرٌ بِزَمَانٍ لَا يَصِحُّ إِيقَاعُهُ فِي بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ الْخُرُوجِ مِنَ الِاعْتِكَافِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا اشْتَرَطَهُ وَخَرَجَ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، أَوْ مُبَاحًا فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَاسْتِقْبَالِ قَادِمٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ غَرِيمٍ، وَلِقَاءِ سُلْطَانٍ أَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا كَعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَتَشْيِيعِ جِنَازَةٍ، أَوْ كَانَ وَاجِبًا كَحُضُورِ الْجُمُعَةِ جَازَ، وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ مُدَّةُ خُرُوجِهِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ نَذْرِهِ بِالشَّرْطِ كَمَا أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُنَافِي الِاعْتِكَافَ كَالْوَطْءِ فَإِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَوَطِئَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَمْنَعُ مِنَ الْبِنَاءِ، وَيَنْقُضُ حُكْمَ ما مضى فصار بمثابة الوطئ فِي صَوْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ وَلَكِنَّهُ يَنْقُضُهُ كَالسَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَفِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَعْصِيَةِ كَلَا اشْتِرَاطٍ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ خَرَجَ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ وَلَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَذْرَهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا سِوَى مُدَّةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يكن نذر المدة مقصودة بالعمل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه قال: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَكِفَ وَلَا يَنْوِيَ أَيَّامًا مَتَى شَاءَ خَرَجَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِزَمَانٍ بَلْ يَصِحُّ فِعْلُهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، فَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ، فَإِذَا اعْتَكَفَ وَلَوْ سَاعَةً أَجْزَأَهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّذْرِ يَقْتَضِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَجْزَأَهُ صَوْمُ يَوْمٍ وصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 رَكْعَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وكذلك الاعتكاف. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَاعْتِكَافُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ، فَمِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ ". قال المارودي: أَمَّا الْجَوَامِعُ فَالِاعْتِكَافُ فِيهَا أَوْلَى مِنَ الْمَسَاجِدِ لِكَثْرَةِ جَمَاعَتِهَا وَدَوَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صَلَاتُكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ وَحْدَكَ وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ، فَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ كَانَ أَفْضَلَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَكَفَ فِي الْجَامِعِ اسْتَدَامَ لَهُ الِاعْتِكَافُ، وَاتَّصَلَ وَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِاعْتِكَافِهِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ جَامِعٍ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ تَطَوُّعًا فَإِذَا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ لَزِمَهُ إِتْيَانُهَا فَإِذَا عَادَ إِلَى الِاعْتِكَافِ صَارَ كَالْمُسْتَأْنِفِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ نَذْرًا وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَقَلَّ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ نَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ شهر، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَعَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَبَنَى، وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِذَا خَرَجَ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَبَنَى وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ فَإِذَا خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِضَرُورَةٍ، كَمَا لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ التَّتَابُعَ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْعِبَادَةِ كَانَ أَوْلَى فِيهَا عَلَى مَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْمُمْكِنَ فِيهَا مُبْطِلًا لَهَا، مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَدَخَلَ فِي صِيَامِهَا فِي شَعْبَانَ بَطَلَ صِيَامُهُ، لِأَنَّ دُخُولَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَتَابُعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهُ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ فَيَكْمُلُ لَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ كَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ، قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَامِعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ اعْتِكَافِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ. فَصْلٌ : إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنْ ينذر الاعتكاف بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَسْجِدٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ جَازَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِمَا، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ لَهُ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا جاز. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْرُجُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَإِنْ بَعُدَ ". قال الماوردي: أما خروجه للبول والغائط فجايز إِجْمَاعًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْرُجُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ نَذْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْخُرُوجِ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا أَوْ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ مَنْزِلِ صَدِيقِهِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي عدوله عن منزله إلى طريقه بذلة، وَإِلَى مَنْزِلِ صَدِيقِهِ حِشْمَةً فَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ له قصد منزله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَإِنْ أَكَلَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ بَعْدَ فَرَاغِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَاصِدًا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ جَازَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ عليه وكان يسأل عنه. فصل : قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ جَازَ، وَلَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يَقِفَ لِيَأْكُلَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ إِنْ خَرَجَ لِلْأَكْلِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ فِي طَرِيقِهِ، وَلَا يُطِيلُ فَإِنْ أَطَالَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ قَالَا: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِالْأَكْلِ عَلَى عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَى الْخُرُوجِ حَاجَةً وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ خَطَأٌ، لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ فِي أَكْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً وَحِشْمَةً وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصِّيَانَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ يَحْشِمُ مِنْ أَكْلِهِ الْمُصَلُّونَ، فَرُبَّمَا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْخُرُوجِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي طَعَامِهِ قِلَّةٌ فَاسْتَحْيَى مِنْ إِظْهَارِهِ أَوْ كَانَ يَفْسُدُ إِنْ أُخْرِجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ فَإِنِ اشْتَدَّ عَطَشُهُ وَعَدِمَ الْمَاءَ فِي مَسْجِدِهِ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي مَسْجِدِهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْأَكْلِ، وَأَجَازَ لَهُ الْخُرُوجَ، لِأَجْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ لِأَنَّ فِي الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً لَيْسَتْ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ اسْتِطْعَامَ الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ، وَاسْتِسْقَاءَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَقَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَاءَ، وَلَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَمَتَى أَقَامَ الْمُعْتَكِفُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَاجَتِهِ بَطَلَ اعتكافه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ وَيَخِيطَ وَيُجَالِسَ الْعُلَمَاءَ وَيُحَدِّثَ بِمَا أَحَبَّ مَا لَمْ يَكُنْ مأثماً ولا يفسده سباب ولا جدالٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَعَمَلُ الصَّنَائِعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَكْرُوهٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَلِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صُنَّاعَكُمْ فَلَوْ بَاعَ الْمُعْتَكِفُ، وَاشْتَرَى وَعَمِلَ صِنَاعَةً مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ كَثِيرِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَلَمَّا لَمْ يُفَارِقِ اللُّبْثَ فَهُوَ عَلَى الِاعْتِكَافِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ مَعَ تَغْلِيظِ حُكْمِهِمَا، لَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتُهُمْ فَمُسْتَحَبَّةٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِلْمُعْتَكِفِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ قُرْبَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذَنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) {النور: 36) وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 فَصْلٌ : فَأَمَّا مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ فَمُبَاحَةٌ، مَا لَمْ تَكُنْ مَأْثَمًا، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجِئْتُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَقَعَدْتُ وَحَدَّثْتُهُ فَلَمَّا قُمْتُ، وانقلبت قام ليغلبني يعني يردني فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الْمَسْجِدِ مَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمْ شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتِيمَةُ وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ فَمَكْرُوهٌ، لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُعْتَكِفُ بِكَرَاهَتِهِ أَوْلَى كَالصَّائِمِ لِكَوْنِهِ فِي عِبَادَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ، وَاعْتِكَافُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمُبَاحِ، لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمَحْظُورِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: وَإِذَا شَرِبَ الْمُعْتَكِفُ نَبِيذًا فَسَكِرَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ إِذَا سَكِرَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ كُلِّفَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِلسَّكْرَانِ الْمُقَامُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ، قِيلَ لَهُمْ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ اعْتِكَافِهِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَيُبْطِلُهُ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْخُرُوجَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أن المسألة على ظاهرها حتى بالسكر بطل اعتكافه، لأنه بالسر يَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِيهِ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ مِنْهُ فَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الشَّافِعِيَّ أَمَرَ الرَّبِيعَ أَنْ يَخُطَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا تُقْرَأُ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، لِأَنَّهَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ السُّكْرِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلًا آخر من السركان، وَفِي السَّكْرَانِ، قُولًا آخَرَ مِنَ الْمُرْتَدِّ، فَجَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّدَّةِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَفِي السُّكْرِ عَلَى ظَاهِرِهِ يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ، وَالْفَرْقُ بينهما أنه بالسكر فممنوع مِنَ الْمَسْجِدِ، فَصَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَبِالرِّدَّةِ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ يَجُوزُ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 دُخُولُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ فِي الصِّيَامِ لَا تُبْطِلُهُ كَالِاعْتِكَافِ قِيلَ: لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جُنَّ الْمُعْتَكِفُ ثُمَّ أَفَاقَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهِ سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ جُنُونِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ كَلَا فِعْلٍ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النَّاسِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِالْجُنُونِ، لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى زَوَالِ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ، فَصَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ طُولَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى اعْتِكَافِهِ، غَيْرَ أَنَّ مُدَّةَ الْإِغْمَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا، وَمُدَّةُ النَّوْمِ مُعْتَدٌّ بِهَا لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ فِي جَرَيَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَعُودُ الْمَرِيضُ، وَلَا يَشْهَدُ الْجَنَازَةَ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ وَاجِبًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا عِيَادَةُ مَرِيضٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حُضُورُ جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَكِفُ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، كَانَ فِي نِيَّتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِمَرَضِهِ، أَوْ بِدَفْنِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا خَرَجَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ كَالْعِدَّةِ الَّتِي تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِأَجْلِهَا ثُمَّ تَرْجِعُ فَتَبْنِي، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عِيَادَتِهِ، وَحُضُورِ جِنَازَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَضَاءُ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَعُودَ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ فِيمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيْضِ فَيَمُرُّ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ وكان يسأل عنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ مُؤَذِّنًا أَنْ يَصْعَدَ الْمَنَارَةَ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودَ الْمَنَارَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا كَانَتِ الْمَنَارَةُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رِحَابِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا أَوْ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ، وَسَقَطَاتِهِ وَعَلَى سَطْحِهِ جَازَ، وَإِذَا جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهَا فَالْأَذَانُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نُظِرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 فِيهِ مُعْتَكِفٌ مُنِعَ مِنْ صُعُودِهَا، فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَصَعَدَهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَسْجِدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إِلَى مَوْضِعِ الْمَنَارَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلْأَذَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً كَالرِّحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْأَذَانَ بِالصَّلَاةِ لِلْوُلَاةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ كَرَاهَةَ قَوْلِهِ فِي أَذَانِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُعْتَكِفِ، وَغَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَإِنْ فَعَلَ الْمُعْتَكِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى بَابِ الْوَالِي، فَيَقُولُ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا قَدْ كَانَ يُؤَذِّنُ أَذَانًا عَامًّا، ثُمَّ يَقْصِدُ حُجْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيَخُصُّهُ بِإِعْلَامِ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، فَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا بَطَلَ اعتكافه، لأجل خروجه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ شهادةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا مُصَوَّرَةٌ فِي اعْتِكَافٍ وَجَبَ متتابعاً، فإذا اعتكف الشاهد، ثم دعي للإقامة الشَّهَادَةِ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ، فَهَذَا مأمورهم بِالْخُرُوجِ، لِإِقَامَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الشَّهَادَةِ للهِ) {الطلاق: 2) فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ مُضْطَرًّا، أَوْ مُخْتَارًا، فَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ، لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لِلتَّحَمُّلِ اخْتِيَارًا لِلْخُرُوجِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُضْطَرًا لِعَدَمِ غَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ فَإِذَا أَعَادَ بَنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ لِأَمْرٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ، بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ فِيهَا وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 أَحَدُهُمَا: اعْتِكَافُهُ جَايزٌ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، فَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَجِيءُ إِلَيْهِ، ويسمع شهادته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَرِضَ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ وَاعْتِكَافُهُ واجبٌ فإذا برئ أو خلى عَنْهُ بَنَى فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ بُرْئِهِ شَيْئًا مِنَ غَيْرِ عذرٍ ابْتَدَأَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ سَابِقَةٍ فَمَرِضَ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يَسِيرًا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَالصُّدَاعِ ورجع الضِّرْسِ وَنُفُورِ الْعَيْنِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُخْتَارًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ زَائِدًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بَرَأَ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ غَيْرَ مُخْتَارٍ فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ مِنَ الْمَرِيضِ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَفِي مَعْنَى الْمَرِيضِ مَنْ خَرَجَ خَوْفَ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ، فَإِذَا زَالَ خَوْفُهُ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنَ اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ لَهُ ظَالِمًا، وَهُوَ فِي الْخُرُوجِ مَظْلُومٌ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ، فَإِذَا أَطْلَقَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِاخْتِيَارِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ وَلَا مُمْتَنِعٌ مَنْ حَقٍّ، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، لِذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْخُرُوجِ، فَقَدْ وجب أن يبطل اعتكافه، إذا أخرج لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، قِيلَ: لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَاسْتِعَادَةِ الْمِلْكِ لِسَرِقَتِهِ، فَصَارَ كَالْمُعْتَدَّةِ تَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهَا، وَإِنْ فَعَلَتِ النِّكَاحَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ بِالنِّكَاحِ وُجُوبَ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ بِهِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَتَى قُلْنَا إِنَّ اعْتِكَافَهُ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِهِ فَعَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، فَإِنْ وَقَفَ بَعْدَ فَرَاغِهِ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ نَقَضَ اعْتِكَافَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، وَالْعَوْدُ إِذَا شَاءَ وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَضَرْبَانِ: مُتَتَابِعٌ، وَغَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَبْطُلْ بِخُرُوجِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا بَطَلَ بِخُرُوجِهِ، وَإِنْ قَلَّ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنْ خَرَجَ أَكْثَرَ النَّهَارِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَإِنْ خَرَجَ أَقَلَّ النهار لم يبطل هذا خَطَأٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا هُوَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ أَبْطَلَهَا الْخُرُوجُ الطَّوِيلُ، أَبْطَلَهَا الْيَسِيرُ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَعَكْسُهُ الْمُعْتَكِفُ إِذَا أُخْرِجَ لِمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بصومٍ فَأَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِي رَجُلٍ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ بِصَوْمٍ فَأَفْطَرَ فِيهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّوْمَ وَالِاعْتِكَافَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مُفْرَدَةً، فَقَدْ صَارَ صِفَةَ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ عَنْهُ، وَإِذَا أُبْطِلَ أَحَدُ صِفَاتِ الِاعْتِكَافِ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ، وَيَبْنِي عَلَى الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا وَصَلَاةً لَمْ يَقْدَحْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا فِي صِحَّةِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وهو صايم لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هو المقصود، والصوم تبع فإذا بطل المقصود بطل حكم توابعه. مسألة: وقال المزني قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ مَا جَمَعْتُ لَهُ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامَ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ لَا يُبَاشِرُ الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ (وَقَالَ) فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَسَائِلَ فِي الِاعْتِكَافِ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا مَا يُوجِبُ الحد (قال المزني) هذا أشبه بقوله لأنه منهي في الاعتكاف والصوم والحج عن الجماع فلما لم يفسد عنده صوم ولا حج بمباشرة دون ما يوجب الحد أو الإنزال في الصوم كانت المباشرة في الاعتكاف كذلك عندي في القياس ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 أَحَدُهُمَا: فِي الْفَرْجِ. وَالثَّانِي: دُونَ الْفَرْجِ فَإِنْ كانت في الفرج فضربان عامد وناسي فَإِنْ وَطِئَ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ كَالْعَامِدِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ تَعْلِيقِهِ بِالْكَفَّارَةِ لَا يَبْطُلُ بِوَطْءِ النَّاسِي فَكَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى، فإن وطئ عامداً من قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَْنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ، وَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِمَالٍ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهَا الْمَالُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا كَالصَّلَاةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِي غَيْرِ الفرج، فضربان: أحدهما: الشهوة. وَالثَّانِي: لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَأَنْ مَسَّ بَدَنَهَا لِعَارِضٍ، وَقَبَّلَهَا عِنْدَ قُدُومِهَا مِنْ سَفَرٍ غَيْرِ قَاصِدٍ لِلَذَّةٍ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَلَا مُؤَثِّرٌ فِي الِاعْتِكَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كانت تُرَجِّلُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَدَنَهَا قَدْ مَسَّ بَدَنَهُ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَأَنْ قَبَّلَهَا، أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا فَفِي اعْتِكَافِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ أنزل أو لَمْ يُنْزِلْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُبْطِلَهَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ، يُدْرَأُ مِنْهُ كَانَ لِلْوَطْءِ مَزِيَّةٌ، وَاخْتَصَّ بِالتَّغْلِيظِ دُونَ غَيْرِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالْحَدِّ فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِالْمُبَاشَرَةِ كَمَا بَطَلَ بِالْوَطْءِ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ حُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْوَطْءِ، وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ اعْتِكَافَهُ قَدْ بَطَلَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ فَوَجَبَ أَنْ تُبْطِلَهُ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَاشَرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ كَالْحَجِّ فإن قيل فلم كان ك " صوم " لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْزَالِ؟ قِيلَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَالِثًا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ إِنَّهُ يَبْطُلُ إِنْ أَنْزَلَ وَلَا يَبْطُلُ إِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ، وَجَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ، وَفِي الصَّوْمِ حَلَالٌ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي التَّحْرِيمِ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْإِفْسَادِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا طُرُقٌ، وَهَذَا أَصَحُّهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شهرٍ، وَلَمْ يقل متتابعاً أحببته متتابعاً ". قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَفِي ذَلِكَ دليلٌ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مُتَفَرِّقًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ جَمِيعِهِ مُتَتَابِعًا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِأَنَّ الشَّهْرَ جَمِيعُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فَأَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ بَلْ أَطْلَقَ نَذْرَهُ فِيهِ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُهُمَا، فَإِنْ تَابَعَ اعْتِكَافَهُ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ فَرَّقَهُ جَازَ، وَقَالَ أبو حنيفة يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ فَإِنْ فَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَوَجَبَ إِذَا أَطْلَقَ شَهْرًا أَنْ يَلْزَمَهُ مُتَتَابِعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا شَهْرًا لَزِمَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهِ شَهْرًا متوالياً وقوله يصح ليلاً ونهاراً احترازاً مِنَ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَ أبي حنيفة قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَضِيَ إطلاق التَّتَابُعَ كَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الشَّهْرَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الْعَدَدِ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُجْتَمِعًا وَمُتَفَرِّقًا فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِانْطِلَاقِ اسْمِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ نَذَرَ عِبَادَةَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّتَابُعُ كَمَا لَوْ نَذَرَ مُطْلَقًا صِيَامَ شَهْرٍ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْيَمِينِ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ إِنَّا إِنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ الْمُوَالَاةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُوَالَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ شَرْطًا فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ لَا يُوصَفُ بِالْمُوَالَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا يَوْمًا ابْتَدَأَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ وَقْتِهِ فَعُلِمَ، أَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ابْتِدَائِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ إِنْ شَاءَ بَدَأَ فِيهِ مِنْ وَقْتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَالْيَمِينِ، أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا فَيَلْزَمُهُ الْمُتَابَعَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِدَايَةِ بِهِ مِنْ وَقْتِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا بِالنَّهَارِ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى بِاشْتِرَاطِ النَّهَارِ. فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَذَهَبَ الشَّهْرُ بَعْدَ نَذْرِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ شَهْرًا سِوَاهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَضَاءَ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ فَوَاتَ زَمَانِ التَّعْيِينِ يُسْقِطُ حُكْمَ الْمُوَالَاةِ، كَمَا سَقَطَ وُجُوبُ الْمُتَابَعَةِ والموالاة في قضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 رمضان لفوات زمانه، لأن مُوَالَاةَ صِيَامِهِ وَجَبَتْ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْفِعْلِ فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا الشَّهْرُ قَدْ ذَهَبَ قَبْلَ نَذْرِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نذره لم ينعقد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن نوى يوماً فدخل في نِصْفَ النَّهَارِ اعْتَكَفَ إِلَى مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا، وَهُوَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ وَقْتِهِ، إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ، فَيَعْتَكِفُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَحْصُلُ لَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ زَمَانَ اعْتِكَافِهِ فَصَارَتْ تَبَعًا لِلطَّرَفَيْنِ، كَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، دَاخِلَةً فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النهار دون الليل. والمسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ زَمَانَ الِاعْتِكَافِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا كَانَ تَلْفِيقُ اليوم في الحيض. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ يَوْمَيْنِ فَإِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ مِنَ الَيْوَمِ الثَّانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النَهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِمَا التَّتَابُعَ، فَيَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ دَاخِلَةً فِي الِاعْتِكَافِ، إِلَّا أن يكون له نية النهار دون الليل، فَيَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ فَأَمَّا اللَّيْلَةُ الْأُولَى، فَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا وَقَالَ أبو حنيفة يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا تَبَعًا لِلنَّهَارِ، فَيَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِ يَوْمٍ قَبْلَ غروب الشمس وهذا خطأ لأن نذره نعقد عَلَى زَمَانِ النَّهَارِ فَلَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ اللَّيْلَةِ أولى فيه كما نذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 اعتكاف يَوْمٍ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّيْلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بَيْنَ زَمَانَيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مُتَابَعَةُ اعْتِكَافِهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اعْتَكَفَهُمَا مُتَتَابِعًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ يَوْمَيْنِ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَخَلُّلِهَا بَيْنَ زَمَانَيِ الِاعْتِكَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ حكم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجوز اعتكافه ليلةً ". قال الماوردي: وهذا مستقر عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى صِيَامٍ فَجَازَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ ليلةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ لَكُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ نُذُورَ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَكُمْ لَا تَلْزَمُ قُلْنَا: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ فَالْوَفَاءُ بِهَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الإسلام وإن عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاعْتِكَافَ الشَّرْعِيَّ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فلانٍ فَقَدِمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ اعْتَكَفَ فِي مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ محبوساً فإذا قدر قضاه (قال المزني) يشبه أن يكون إذ قدم في أول النهار أن يقضي مقدار ما مضى من ذلك اليوم من يوم آخر حتى يكون قد أكمل اعتكاف يومٍ وقد يقدم في أول النهار لطلوع الشمس وقد مضى بعض يوم فيقضي بعض يومٍ فلا بد من قضائه حتى يتم يوم ولو استأنف يوماً حتى يكون اعتكافه موصولاً كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُوجِبِ النَّذْرِ أَوْ بِبَعْضِهِ مُمْكِنٌ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدُمُ فَلَانٌ قُلْنَا: فِي نَذْرِ الصَّوْمِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ كَالِاعْتِكَافِ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالِاعْتِكَافِ، أَوْ بَعْضِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ، وَلَا بِبَعْضِهِ لِأَنَّهُ إِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا نَذْرَ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا لَمْ يُمْكِنْهُ صِيَامُ مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 بَقِيَ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ فَمَا لَمْ يَقْدُمْ فَلَانٌ، فَلَا اعْتِكَافَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدِمَ حَيًّا مُخْتَارًا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدُمَ لَيْلًا. وَالثَّانِي: نَهَارًا فَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا اعْتِكَافَ عَلَى النَّاذِرِ، لِأَنَّ شَرْطَ نَذْرِهِ لَمْ يُوجَدْ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا، فَلِلنَّاذِرِ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالِكُ التَّصَرُّفِ قَادِرًا عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ، لِأَنَّ شَرْطَ نذره وقد وُجِدَ، وَفِي قَضَاءِ مَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَذَرَ أن يصوم يوم بِقُدُومِ فَلَانٍ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ مَمْلُوكَ التَّصَرُّفِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى التَّصَرُّفِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا صَحَّ وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فِعْلُ عِبَادَةٍ إِذَا كَانَ صَحِيحًا، فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانُهَا وَكَانَ مَرِيضًا كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخْرَجٌ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فِي نَذْرِ الصِّيَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَاجِزِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يتعلق بذمته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبِسَ الْمُعْتَكِفُ، وَالْمُعْتَكِفَةُ وَيَأْكُلَا وَيَتَطَيَّبَا بِمَا شَاءَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ تَشْبِيهًا بِالْمُحْرِمِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ بِخِلَافِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ رَجَّلَ شَعْرَ رَأْسِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنَ الطِّيبِ كَالْمُحْرِمِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحَ، لَا تَمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ أَصْلُهُ الصَّوْمُ، وَعَكْسُهُ الْحَجُّ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ هَلَكَ زَوْجُهَا خَرَجَتْ فَاعْتَدَّتْ ثُمَّ بَنَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِمَا يَمْلِكُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنِ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَرَادَ مَنْعَهَا قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَمْكِينُهَا مِنْ إِتْمَامِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ اعْتِكَافُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 مُتَتَابِعًا، فَإِذَا اعْتَكَفَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، أَوْ وَفَاتِهِ لَزِمَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ تُكْمِلُ اعْتِكَافَهَا، ثُمَّ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا وَجَبَا قُدِّمَ أَقْوَاهُمَا، وَالْعِدَّةُ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِكَافُ وَجَبَ عَلَيْهَا بِإِيجَابِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الْعِدَّةَ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا، وَالِاعْتِكَافُ يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لِعَارِضٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَلِهَذَيْنِ مَا وَجَبَ تقدم الْعِدَّةِ عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا فَبَنَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا خَرَجَتِ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْخُرُوجِ لِلْعِدَّةِ، وَالْخُرُوجِ لِلشَّهَادَةِ فِي بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَوْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخْرِجُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلًا مِنَ الشَّهَادَةِ وَفِي الشَّهَادَةِ قَوْلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّهَادَةِ هُوَ الْأَدَاءُ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا كَانَ خُرُوجُهُ لِأَدَائِهَا مُخْتَارًا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الْفُرْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأُلْفَةُ فَلَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا لِلنِّكَاحِ اخْتِيَارًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ. والثاني: أ، بِالْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ كَسْبُهَا، وَبِهِ تَسْتَفِيدُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ كَسْبًا لِلشَّاهِدِ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى تَحَمُّلِهَا ضَرُورَةٌ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الشَّهَادَةِ أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَهَذَا إِذَا أخرج لِلْأَدَاءِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَمِثَالُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعِدَّةِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَهَا، فَتَخْتَارُ الطَّلَاقَ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِلْعِدَّةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي اعْتِكَافِهَا، خَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا وَبَنَتْ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إِلَى الْخُرُوجِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْمَقَامِ، فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ مِنَ اعْتِكَافِهَا لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْمَقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ تُوضَعَ الْمَائِدَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الطِّشْتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ، لَا يَمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ أَكْلَهُ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَغَسْلَ يَدَيْهِ فِي الطِّشْتِ، أَصْوَنُ لِلْمَسْجِدِ، وَأَحْرَى أَنْ لَا يَنَالَهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 الْمُصَلِّي، وَالْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَنْظَرِ النَّاسِ، وَعَنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ وَكَيْفَ مَا فَعَلَ جَازَ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْكِحَ نَفْسَهُ وَيُنْكِحَ غَيْرَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَمْنُوعٍ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ مَمْنُوعًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالصَّائِمِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاءُوا لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ، حَيْثُ شَاؤُوا مِنَ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ يَتَّصِلُ لَهُ الِاعْتِكَافُ، وَمَا أَحَبَّ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ وَمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، إِذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ اتَّصَلَ لَهُ الِاعْتِكَافُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ دَخَلَ إِلَيَّ مَسْجِدٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ فَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ، إِلَى غَيْرِهِ بَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ جَعَلَ الْمُعْتَكِفُ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ نَذْرًا لِلَّهِ إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ، وَمَعْنَاهُ إِنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَنِّي، فَقَالَ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ كَلَامَ، فُلَانٍ فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ فَهَذَا نَذْرٌ لَازِمٌ، لِأَنَّهُ نَذَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اعْتِكَافِ شَهْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ نُصَّ عَلَيْهِ فِي النُّذُورِ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ بَاقِيًا أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِحَجِّهِ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الِاعْتِكَافِ، وَمَضَى فِي حَجِّهِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ، وَأَوْكَدُ فَإِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّهُ اخْتَارَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِالْإِحْرَامِ، فَلَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ، ثُمَّ خَرَجَ لِعُمْرَتِهِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ لَا يَفُوتُهُ فَلَوْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ اسْتَأْنَفَ. فَصْلٌ : لَيْسَ لِلْعَبْدِ، وَلَا لِلْمُدَبَّرِ، وَلَا لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يَعْتَكِفُوا إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِمْ فَإِنِ اعْتَكَفُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، كَانَ لَهُ مَنْعُهُمْ، وَإِنِ اعْتَكَفُوا بِإِذْنِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ مَكَّنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي النَّذْرِ، فَنَذَرُوا الِاعْتِكَافَ بِإِذْنِهِ، وَأَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْهُ، فَذَلِكَ ضربان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرِ رَجَبٍ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنَ اعْتِكَافِهِ، لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ، فَلَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الِاعْتِكَافِ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَمِهِمْ، وَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَإِنْ دَخَلُوا فِي الِاعْتِكَافِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا. وَالثَّانِي: غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَفْرِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَتَابِعًا، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِالدُّخُولِ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِمَنَافِعِهِ وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ، إِلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْ قُوتِهِ، فَيَكُونَ حِينَئِذٍ لَهُ مَنْعُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي قَدْ عُتِقَ نِصْفُهُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُهَايَأً، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَيَخْدِمَ سَيِّدَهُ يَوْمًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأٍ، فَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِكَافُ، إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحج قال الشافعي رضي الله عنه: " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْحَجَّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بالغٍ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحَجُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَصْدُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الطَّرِيقُ مَحَجَّةً، لِأَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ. قَالَ الشاعر: (يحج مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فَاسْتُ الطَّبِيبِ قَذَاهَا كَالْمَغَارِيدِ) فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ بِهِ النُّسُكُ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَقْصُودٌ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَوْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِنْهُ قول الشاعر: (وأشهد من عوفٍ حلولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُعَصْفَرَا) يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يحجون أي يكثرون التردد إليه لسودده فَسُمِّي بِهِ الْحَجُّ حَجًّا، لِأَنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مِنًى ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ فَيَتَكَرَّرُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ حَجٌّ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي الشَّرْعِ عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَلَى أَوْصَافٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ، وَالْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ فَرْضِ الْحَجِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأًَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) {الحج: 27) فَخَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ يَبْلُغُ نِدَائِي فَقَالَ لَهُ تَعَالَى عَلَيْكَ النِّدَاءُ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَصَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ، وَقَالَ عِبَادَ اللَّهِ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ، فَأَجَابَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، لبيك أداعي رَبِّنَا لَبَّيْكَ فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَحُجُّ إِلَّا مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمّوا الحجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ) {البقرة: 196) أي افعلوها عَلَى التَّمَامِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) الْآيَةَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ) {آل عمران: 97) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، {فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) {آل عمران: 85) قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَجُّهُمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحُجُّوا فَقَالَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ الشافعي: وما أشبه ما قال عكرمة عن مسلم عن سعيد بما قال. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ومن كفر هو من إن حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا وَإِنْ جَلَسَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالِمَيْنِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَقَامَ رجلٌ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عامٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَالِثَةً فَقَالَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ أَلَا وَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ " وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حاجةٌ ظاهرةٌ أَوْ مرضٌ حابسٌ أَوْ سلطانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قِيلَ: مَنْ يَرَهُ وَاجِبًا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحِجُّوا قَالُوا: وَمَا شَأْنُ الْحَجِّ قَالَ: يَقْعُدُ أَعْرَابُهَا عَلَى أَدْنَابِ أَوْدِيَتِهَا فَلَا يَصِلُ إِلَى الْحَجِّ أحدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا حَجَّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا بَلَغَ ". فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ لَسَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ " وَذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ، وَيُفِيقُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا حَجَّ مُفِيقًا أَجْزَأَ عَنْهُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا عبدٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا عُتِقَ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا هَاجَرَ يَعْنِي بِالْهِجْرَةِ الْإِسْلَامَ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ ضَرْبَانِ: اسْتِطَاعَةُ مَكَانٍ. وَاسْتِطَاعَةُ زَمَانٍ وَسَنُبَيِّنُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَلِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْخَمْسَةِ فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْإِجْزَاءِ جَمِيعًا، وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَإِنْ حَجَّ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يُجْزِهِ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ حج غير مستطيع أجزأ عنه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ فَلَيْسَ عليه غيرها ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَتَكَرَّرُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران 97) وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ " فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَانِيَةً فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَالِثَةً فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ أَلَا فَوَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ لِلْأَبَدِ، وَرَوَى طَاوُسٌ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جَعْشَمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَنَا قضاء قومٌ كأنما ولدوا اليوم عمرتنا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ وَالْتِزَامِ مَؤُونَةٍ وَفِي تَكْرَارِ وُجُوبِهِ مَشَقَّةٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ سائر العبادات. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِطَاعَةُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَاجِدًا مِنَ مَالِهِ مَا يُبَلِّغُهُ الْحَجَّ بِزَادٍ وراحلةٍ لِأَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِطَاعَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَادٌ وَرَاحِلَةٌ " وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ بحالٍ وَهُوَ قادرٌ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِطَاعَتِهِ لَهُ أَوْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّنْ لَزِمَهُ فرض الحج كما قدر ومعروف من لسان العرب أن يقول الرجل أنا مستطيع لأن أبني داري أو أخيط ثوبي يعني بالإجارة أو بمن يطيعني وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ خثعمٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نعم " فقالت يا رسول الله فهل ينفعه ذلك؟ فقال: " نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه " (قال الشافعي) فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضاءها الحج عنه كقضائها الدين عنه فلا شيء أولى أن يجمع بينه مما جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينه وروي عن عطاء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 عن شبرمة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَاحْجُجْ " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال لشيخٍ كبيرٍ لم يحج إن شئت فجهز رجلاً يحج عنك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَنْقَسِمُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَمَالِهِ قَادِرًا عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَاجِدًا لِنَفَقَتِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزَّمَانِ، وَانْقِطَاعِ الْمَوَانِعِ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِجْمَاعًا، وَاعْتِبَارُ زَادِهِ وَرَاحِلَتِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَإِنِ اسْتَطَاعَ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ رَكِبَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا رُكُوبَ مَحْمَلٍ، أَوْ سَاقِطَةٍ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِطَاعَتِهِ. فصل : قال الشافعي. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ عَادِمًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَحَاضِرِيهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْحَرَمِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ، وَعَدِمَ الرَّاحِلَةَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ فِي مَشْيِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، فَصَارَ كَمَنْ سَمِعَ آذَانَ الْجُمُعَةِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَإِنْ عَدِمَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ جَمِيعًا، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا صَنْعَةٍ يَكْتَسِبُ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَيَفْضُلُ لَهُ مَؤُونَةُ حَجِّهِ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ، وَقَدْ فَضَلَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكْتَسِبَ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَمَتَى اشْتَغَلَ بِالْحَجِّ أَضَرَّ بِعِيلَتِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ، وَمَقَامُهُ عَلَى عِيَالِهِ أَولَى لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَفَى الْمَرْءَ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَكْثَرُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا إِمَّا بِصَنْعَةٍ، أَوْ مَسْأَلَةٍ، وَنَحْوِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ تَعَلَّقَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً) {الحج: 27) وَقُرِئَ رِجَّالًا مُشَدَّدًا أَيْ مُشَاةً، وَلَهُ يَأْتُوكَ مَعْنَاهُ لِيَأْتُوكَ رِجَالًا فَأَخْبَرَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشَاةِ، وَالرُّكْبَانِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْأَبْدَانِ يَجِبُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الْأَعْيَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْمَالُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَفِيهَا دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْبَيَانِ فَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ، إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا، فَلَمَّا ضَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِطَاعَةِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ مُسْتَطِيعٍ، لَا يَجُوزُ دَلَّ عَلَى أَنَّ انْضِمَامَ ذَلِكَ لِفَائِدَةٍ، وَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَأَمَّا الْبَيَانُ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ) {آل عمران: 97) قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: زادٌ وَرَاحِلَةٌ فَصَارَ هَذَا بَيَانًا مِنْهُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الرَّجُلُ عَنِ اسْتِطَاعَةِ نَفْسِهِ قِيلَ لَفْظَةُ السُّؤَالِ تَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ قَالَ مَا الِاسْتِطَاعَةُ فَسَأَلَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ أَوْ مَذْكُورٍ وَالْمَذْكُورُ مَا فِي الْآيَةِ، وَالْمَعْهُودُ اسْتِطَاعَةُ كُلِّ النَّاسِ فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ اسْتِطَاعَةَ السَّائِلِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من وجد زاد وَرَاحِلَةً، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَالْجِهَادِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً) {الحج: 97) فَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ رِجَالًا، بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ لِضَعْفِهِ وَزَمَانَتِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فَرْضُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ قَدَرَ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الْحَجِّ قَبْلَ زَمَانَتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَلَا يَجُوزُ، أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَازَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَالْمَعْضُوبُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ زادٌ وراحلةٌ فَصَارَ وُجُوبُ الْحَجِّ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَرَوَى سَلْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ خَثْعَمٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ، قال: نعم قالت: أو ينفعه ذَاكَ، فَقَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَعْضُوبِ كَالصِّيَامِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) فَقَدْ وَجَدَ مِنَ الْمَعْضُوبِ السَّعْيَ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ، وَالِاسْتِئْجَارُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ، وَيَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ قَبْلَهُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: لَا حَجَّ عَلَيْهِ تَعَلُّقًا بقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " السُّبِيلُ زادٌ وراحلةٌ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِبَذْلِ طَاعَةِ الْغَيْرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبَانِ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ، فَيَجِبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، فَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا مِلْكُ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَجِبَ عِبَادَةٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ، وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهَا بَذَلَتِ الطَّاعَةَ لِأَبِيهَا وَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ جَرَى لِلْمَالِ ذِكْرٌ، عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ، وَجَبَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شيخٌ كبيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ إِلَّا بِبَذْلِ الطَّاعَةِ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ موسراُ فَلَزِمَهُ الْفَرْضُ بِيَسَارِهِ، لَا بِابْنِهِ قِيلَ الْفَرْضُ بِالْيَسَارِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الِابْنِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَبِ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّ أُمِّي أَسْلَمَتْ وَهِيَ كبيرةٌ لَا تَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ نَذْرًا جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحَجُّ فَرْضًا كَالْمَعْضُوبِ الْمُوسِرِ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَوَجَبَ، أَنْ يَلْزَمَهُ فَرْضُهُ كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " السَّبِيلُ زادٌ وراحلةٌ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَهُوَ بِطَاعَةِ الْغَيْرِ لَهُ مُسْتَطِيعٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَنَحْنُ نقول لا يلزمه بذل الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ فَبَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ، ثُمَّ تَجِبُ على الغير، وتبطل أيضاً بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ لَازِمٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ فَيَجْمَعُ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لِتَصِحَّ النِّيَابَةُ عَنْ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الْبَاذِلِ أَوْلَى إِذْ لَيْسَ حَالُ الْبَاذِلِ أَوْكَدَ مِنَ الْتِزَامِ الْفَرْضِ مِنَ الْمَبْذُولِ لَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّرْطَ فِي بَلَدِهِ لِلطَّاعَةِ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ فِي فَرْضِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْتِزَامَ الطَّاعَةِ بِاخْتِيَارِهِ، فَصَارَ كَحَجِّ النَّذْرِ، وَخَالَفَ بِهِمَا ابْتِدَاءً الْفَرْضَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبْذُولُ لَهُ وَاثِقًا بِطَاعَةِ الْبَاذِلِ، عَالِمًا أَنَّهُ مَتَى أَمَرَهُ بِالْحَجِّ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْبَاذِلِ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ قُدْرَتِهِ فَافْتَقَرَ إِلَى الثِّقَةِ بِطَاعَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَرَضًا لَا يُوثَقُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعَةُ نُظِرَ حِينَئِذٍ فِي الْبَاذِلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ وَالِدَيْهِ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ مَوْلُودٍ بِهِ ابْنًا أَوْ بِنْتًا فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ بِبَذْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ فَفِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الإملاء " والمبسوط، أَنَّهُ كَالْوَلَدِ فِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِ طَاعَتِهِ، لِكَوْنِهِ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ فِي الْحَالَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُ بِبَذْلِ غَيْرِ وَلَدِهِ لما يلحقه من. . فِي قَبُولِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْوَالِدِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ فِي الْقِصَّاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مُخَالِفٌ غَيْرَهُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ اعْتِذَارٌ وَتَقْرِيبٌ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْأَصْلِ. فَصْلٌ : فَإِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ الطَّاعَةُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، بِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ، وَقَبِلَ الْبَاذِلُ إِذْنَهُ، فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مَتَى شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ: فَبَذْلُهُ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولُهُ لِلْإِذْنِ جَارٍ مَجْرَى الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بَذْلَهُ لِلطَّاعَةِ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ، وَفِي رُجُوعِهِ إِسْقَاطٌ لِلْفَرْضِ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بَعْدَ وُجُوبِهِ إِلَّا بِأَدَائِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَلَيْسَتِ الْهِبَةُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ عَلَى أَنَّ قَبُولَهُ الْإِذْنَ بَعْدَ الْبَذْلِ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بَذَلَ الْمَاءَ لِغَيْرِهِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْبَاضُهُ وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا بِبَذْلِهِ فَهَلَّا كَانَ فِي بَذْلِ الْحَجِّ كَذَلِكَ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَذْلَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا غَيَّرَ صِفَةَ الْأَدَاءِ وَبَذْلُ الْحَجِّ أَوْجَبَ فَرْضَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْمَاءُ يَرْجِعُ إِلَى بذل يَقُومُ مَقَامَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمَبْذُولُ لَهُ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ، وَعَلَى الْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنَ الْإِذْنِ، فَهَلْ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ لِلْبَاذِلِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، فَيَأْذَنُ لِلْبَاذِلِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ لَزِمَهُ وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ كَالدَّيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ لَا يَقُومُ مَقَامَ إِذْنِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ كَانَ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَبْذُولُ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ انْتَقَلَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ إِلَى الْبَاذِلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَفَرْضُ الْحَجِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ حَجَّ الْبَاذِلُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَتِ الْحَجَّةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَاقِعَةً عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْحَيِّ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ بَاقِيًا عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَبْذُلُ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ قَبِلَ الْمَالَ لَزِمَهُ الْحَجُّ لِحُدُوثِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ نُظِرَ فِي الْبَاذِلِ لِلْمَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولَ الْمَالِ، وَفَارَقَ قَبُولَ الطَّاعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُحُوقُ الْمِنَّةِ فِي قَبُولِ الْمَالِ وَعَدَمُهَا فِي قَبُولِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِالْغَيْرِ كَاسْتِعَارَةِ ثَوْبٍ وَتَعَرُّفِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَ عِبَادَةً يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِمَالِ الْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أن في قبول المال ومملكه إِيجَابَ سَبَبٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الْفَرْضُ، وَهُوَ الْقَبُولُ وَرُبَّمَا حَدَثَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ كَانَتْ سَاقِطَةً، فَيَلْزَمُهُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا مِنْ وُجُوبِ نَفَقَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَذْلُ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ طَايِعًا، فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ سَبَبٍ، وَلَا خَوْفِ مَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الطَّاعَةِ إِلَيْهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ وَالِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِأَنَّ الِابْنَ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي بَابِ الْمِنَّةِ، فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ الْمَالَ صَارَ فَرْضًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الدَّيْنِ بِذِمَّتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ أَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَقَالَ: " لَا ". فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى نَفَقَةِ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ، أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ حَتَّى يَجِدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ انْقِطَاعِ أَهْلِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ وَمُقَاسَاةِ الْوَحْشَةِ فِي الْبُعْدِ عنهم ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ وَقَدْ وَجَدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ كَمُقَامِهِ بِبَلَدِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْحِشُ بِغُرْبَتِهِ، وَمُفَارَقَةِ وَطَنِهِ كَمَا يَسْتَوْحِشُ بِمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ، لَكِنَّهُ عَادِمٌ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ " فَكَانَ الْمُقَامُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ أَوْلَى مِنَ الْحَجِّ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَدْ أَحَاطَ بِمَا فِي يَدِهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالِاسْتِطَاعَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ أَيْضًا، كَمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ بِعَرَفَةَ فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِهِ. فَصْلٌ : وَالِاسْتِطَاعَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَاجِرٌ إِنَّ حَجَّ بِمَا فِي يَدَيْهِ، كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعِيشَةٌ، وَلَا صَنْعَةٌ غَيْرَ التِّجَارَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، وَنَفَقَةُ أَهْلِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا حَجَّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ نَفَقَتِهِ قَدْرُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ، خَوْفًا مِنْ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ. فَصْلٌ: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْعَاشِرَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مُخَوِّفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى سُلُوكِهِ، لِقِلَّةِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، أَوْ خَوْفِ اللُّصُوصِ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) {البقرة: 195) . فصل : والاستطاعة الحادية عشر : أَنْ يَكُونَ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنَّ الْوَقْتَ يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ زَمَانِهِ، فَلَا حَجَّ، عَلَيْهِ فِي عَامِهِ لِتَعَذُّرِ قُدْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ بِإِنْضَاءِ رَاحِلَتِهِ وَشِدَّةِ سَيْرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ فِي عامه لعظم المشقة. فصل: والاستطاعة الثانية عشر : أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ، وَبَدَنِهِ لَكِنَّ فِي طَرِيقِهِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَذْلِ مَا طُلِبَ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ بَذْلُ الْقَلِيلِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى مَا لَا حَدَّ لَهُ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ فَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 قِيلَ: فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَالْحَجُّ مَعَهُمْ أَوِ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ الْمُقَامِ، قُلْنَا: إِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ كَافِرًا فَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْقُعُودُ عَنِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجُ مَعَهُ إِنْ كَانَ مَأْمُونًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ كَانَ لَهُ الْإِحْلَالُ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ فَلِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَصْلٌ : لَيْسَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا تُرْجَى سَلَامَتُهُ، وَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، كَالْمَعْضُوبِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فِي الْحَالِ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فَصَارَ كَالْمَحْبُوسِ، وَفَارَقَ الْمَعْضُوبَ، لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ نُظِرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ نُظِرَ فِي مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي زَمَانٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ أَنْ حَجَّ عَنْهُ، فَفِي إِجْزَائِهِ قولان: أصحهما: لا يجزي اعتباراً بالابتداء. والقول الثاني: يجزي اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا تُرْجَى سلامته ولا برؤه لكونه زمناً أو معضوياً، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِوُجُودِ الْإِيَاسِ مِنْ بُرْئِهِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ قَبْلَ بُرْئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَصَارَ إِلَى حَالَةٍ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نُظِرَ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ حَجَّ عَنْهُ قَبْلَ صِحَّتِهِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا مَضَى لَا يُجْزِيهِ، وَفَرْضُ الْحَجِّ بَاقٍ عَلَيْهِ لِفَقْدِ مَا بِهِ مِنَ الْإِيَاسِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَعْمَى إِذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَوَجَدَ مَنْ يَقُودُهُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ جَازَ قَالَ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْأَعْمَى كَالْمُجَاهِدِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعَمَى لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ الْهِدَايَةِ بِالطَّرِيقِ، وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ وَالْجَهْلُ بِذَلِكَ لَا يُسْقِطُ، وُجُوبَ الْقَصْدِ كَالْبَصِيرِ يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَالَمِ بِهِ، وَالْجَاهِلِ إِذَا وَجَدَ دَلِيلًا فَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَلِأَنَّهُ فَقَدَ حَاسَّتُهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالصَّمَمِ فَلَوْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ مُسْتَطِيعًا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَوَجَدَ قَائِدًا أَوْ مُعِينًا لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ، وَعِنْدَ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَالْأَعْمَى، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 بَابُ إِمْكَانِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قال الشافعي: رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اسْتَطَاعَ الرَّجُلُ فَأَمْكَنَهُ مَسِيرُ النَّاسِ مِنْ بَلَدِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَإِنْ مَاتَ قُضِيَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ الْحَجِّ مِنْهُ وَلَمْ يَعِشْ حَتَّى يُمْكِنَهُ مِنْ قَابِلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا الشَّرَائِطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، فَهُوَ أَنْ يُمْكِنَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ، فَيُوَافِي الْحَجَّ فِي عَامِهِ فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَإِنْ مات قيل أَنْ يَحُجَّ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ فِي عَامِهِ لِبُعْدِ دَارِهِ، ودنوا الْحَجِّ مِنْهُ أَوْ أَمْكَنَهُ بِمُفَارَقَةِ عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ، فَفَرْضُ الْحَجِّ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي ذِمَّتِهِ، لِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ فَإِنْ مَاتَ فِي عَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، مِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَإِذَا مَرَّ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَلَا قَضَاءَ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، لَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ جُنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقَرَّ فَرْضُ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَضَاهُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِمَوْتِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ وَصَّى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ تَطَوُّعًا فِي ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَالْمَيِّتُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِفَرْضٍ وَلَا مُسْتَطِيعٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 لِحَجٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالْجِهَادِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى، فَشَبَّهَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْحُكْمِ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَجَّ عَنْ وَالِدَيْهِ وَلَمْ يحجا أجزأه عنهما ونشرت أرواحهما وكتبت عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ كَالدُّيُونِ مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ فَقَالَ لَهَا: " حُجِّي عَنْهَا " فَأَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا أَوْصَتْ لَهَا أَمْ لَا؟ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ذَكَرَ مِنْهَا حَجٌّ يُقْضَى فأما الآية فلا دليل فيهما لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِاسْتِطَاعَةَ إِنَّمَا لَزِمَاهُ فِي حَالِ حياته وما على الصلاة فبعيد لأنهما لا تسقط بالموت إنما تصح النيابة فيهما فكذلك لم يؤمر لقضائها وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَصِحُّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، كَذَلِكَ بعد الوفاة. فَصْلٌ : فَأَمَّا النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ، فَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَصَّى بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في أعمال الأبدان أن النيابة فيها لَا تَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ولأجل الضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي التَّطَوُّعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّمَا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهِ أَصْلُهُ: الصَّدَقَاتُ، وَعَكْسُهُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ، وَهَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا أُجْرَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ، كَمَا لَوِ اسْتُؤْجِرَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْقَوْلِ الثَّانِي: لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَمَلَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِحُمُولَةٍ فَحَمَلَهَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَعْطَاهُ حُمُولَةَ غَيْرِهِ، فَالْأُجْرَةُ لَهُ مُسْتَحَقَّةٌ، وَفَارَقَ أَنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْحَجِّ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَالثَّانِي: أَنَّ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْلَفْ لِأَنَّهُ قَدْ أُسْقِطَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، فَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ اختلفا في رد الأجرة. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان عام جذب، أَوْ عطشٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ، وَأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِلسَّبِيلِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا قَوْلُهُ: عَامَ جَدْبٍ يُرِيدُ بِهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ الْعُشْبِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَأِ. وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمِيرَةِ، وَالزَّادِ أَوْ وُجُودُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فِي وَقْتِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَاجِدَ لِلشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ كَالْمُسَافِرِ يَتَيَمَّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ تَيَمَّمَ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ عَطَشٍ يُرِيدُ بِهِ عَدِمَ الْمَاءَ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ وُجُودَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يُرِيدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ قِرْبَةٍ، أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٍ، وَالْحُكْمُ فِي عَدَمِهِ كَالْحُكْمِ فِي عَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ يُرِيدُ مَانِعًا مِنَ الْحَجِّ، إِمَّا بِطَلَبِ مَالٍ، أَوْ نَفْسٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَامًّا فَأَمَّا إِنْ طَلَبَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْحَجِّ عَنْهُ، وَكَانَ كَالْمَرِيضِ لِإِمْكَانِ فِعْلِ الْحَجِّ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، أَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ لِأَجْلِهَا وَبِاللَّهِ التوفيق. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَهْلُ الْبَرِّ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُ الْبَرِّ لِخَوْفٍ فِيهِ، أَوْ مَانَعٍ وَأَمْكَنَهُمْ رُكُوبُ الْبَحْرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُهُ، وَفَرْضُ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَنْهُمْ مَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ لِمَا يَعْتَرِضُهُمْ في البحر من عظيم الخوف، ومن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَحْرُ نارٌ فِي نارٍ " وَأَمَّا سُكَّانُ الْبَحْرِ وَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي الْبَرِّ، فَرُكُوبُ الْبَحْرِ يَلْزَمُهُمْ فِي الْحَجِّ إِذَا أَمْكَنَهُمْ سُلُوكُهُ، وَكَانَ غَالِبُهُ السَّلَامَةَ فَإِذَا اعْتَرَضَهُمُ الْخَوْفُ فَهُمْ كَأَهْلِ الْبَرِّ إِذَا خَافُوا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ، فَلَا مَعْنَى لِمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الصِّغَارِ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِغَارِ الْبَحْرِ وَكِبَارِهَا وَاللَّهُ تعالى أعلم بالصواب. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنْ عطاءٍ وطاوسٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْحَجَّةُ الْوَاجِبَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ لِمَا دَلَّلَنَا عَلَيْهِ، وَوَجَبَ قَضَاؤُهَا عَنْهُ، وَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ للآدميين ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فدين الله أحق أن يقضى " فأما النُّذُورُ وَالْكَفَّارَاتُ وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَكَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ هذا منكسر بالدين، فإذ تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِقَضَاءِ الْجَمِيعِ فَذَاكَ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: تُقَدَّمُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ". وَالثَّانِي: تُقَدَّمُ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ لِتَعَلُّقِهَا بِخَصْمٍ حَاضِرٍ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيَّ دَيْنٌ قَالَ اقْضِ دَيْنَكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَسَّمَ بِالْحِصَصِ. فَصْلٌ : فَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَالثَّانِي: مِنْ ثُلُثِهِ. وَالثَّالِثُ: تُطْلَقُ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا من رأس ماله، وكان وَصِيَّتُهُ أَفَادَتِ الْإِذْكَارَ وَالتَّأْكِيدَ، وَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ وَفَّرَ عَلَى وَرَثَتِهِ فَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِهَا فَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي ثُلُثِهِ، وَلَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ مَعَهَا بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ مِثْلَ عِتْقٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّةَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة تكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فِي ثُلُثِهِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ مَا هُوَ فِي الثُّلُثِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ تَكُونَ الْحَجَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مُفْرَدَةً، وَلَا يُوصِيَ مَعَهَا بِشَيْءٍ سِوَاهَا فَمَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَهُمْ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَكُونُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِخْرَاجَهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لَأَمْسَكَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ إِذْكَارُ وَرَثَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستأجر عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَقَلَّ مَا يُؤَجِّرُ مِنْ مِيقَاتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ الْإِجَارَةِ فِي الْحَجِّ وَسَنَدُلُّ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَنَذْكُرُ خِلَافَ أبي حنيفة وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ عَنِ الْغَيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ، وَيَعُودُ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ، وَجَعَالَةٍ وَمَعُونَةٍ كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَكَتْبِ الْمَصَاحِفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ، فَإِنْ فُعِلَ عَادَ ثَوَابُهُ إِلَى الْفَاعِلِ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِإِجَارَةٍ، وَلَا جَعَالَةٍ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ إِنْ فَعَلَ عَنِ الْغَيْرِ عَادَ إِلَيْهِ نَفْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهُ بِرِزْقٍ وَجَعَالَةٍ كَالْجِهَادِ، وَالْأَذَانِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ فِي مال اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا فَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّ أَوَّلَ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَمَا قَبْلَهُ مَسَافَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، كَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الطَّهَارَةِ بطل بالماء وَإِلَى الصَّلَاةِ، بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ، وَلَيْسَ ذلك من أفعال الطهارة والصلاة. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَحُجُّ عَنْهُ إِلَّا مَنْ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ فَهِيَ عَنْهُ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ فُلَانٍ فَقَالَ لَهُ " إِنَ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فاحجج عن نفسك " وعن ابن عباس أنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 " لبيك عن شبرمة " فقال: ويحك! " ومن شبرمة؟ " فأخبره فقال " احجج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ أَمْ لَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَازَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، تَقَدُّمَ حَجِّهَا عَنْ نَفْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَ قَضَاءَ الْحَجِّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ فَقَالَ: حُجَّ عَنْ نبيشةٍ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِثْلُهَا كَالزَّكَاةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شبرمةٍِ فَقَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: لَا قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ. وَرَوَى عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شبرمةٍ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّ نَفْسِهِ عَلَى حَجِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَقْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِحْرَامَ قَدِ انْعَقَدَ عَنْهُ لَا عَنْ غَيْرِهِ. قِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ التَّلْبِيَةَ لَا الْإِحْرَامَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِفَسْخِ مَا انْعَقَدَ مِنَ الْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ كَانَ الْفَسْخُ جَائِزًا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَخَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَنَقَلَهُمْ إِلَى الْعُمْرَةِ قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْفَسْخَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَكَانَ السَّبَبُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ حَتَّى كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا برأ الدبر وعفي الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرٌ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ الْإِحْرَامَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ وُجُوبِ فَرْضِهَا عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ فَأَمَّا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ، وَقَدْ رَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهَا، أَنَّهَا قَدْ أَدَّتْ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاهَدَهَا فِي الْمَوَاقِفِ مَعَ النَّاسِ وَعَلَى أَنَّهَا قَصَدَتْ بِالسُّؤَالِ بِعَرَفَةَ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى أَبِيهَا، وَلَمْ تَقْصِدْ بِهِ صِفَةَ الْحَجِّ وَكَيْفِيَّةَ النِّيَابَةِ فِيهِ وَأَمَّا حَدِيثُ نُبَيْشَةَ فَرِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نُبَيْشَةَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: جَوَازُ النِّيَابَةِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْحَجُّ لَا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ، قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ بِخِلَافِ قَوْلِ دَاوُدَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اجْعَلْهَا عَنْ نَفْسِكَ " وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْطُلُ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ يَصِيرُ عُمْرَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ عَاوَضَهُ عَلَى عَمَلٍ لَمْ يحصل له. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ مُتَطَوِّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ كَانَ فَرْضَهُ أَوْ عُمْرَةٌ كَانَتْ فَرْضَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ أبي حنيفة وَاحِدٌ فَإِذَا أَحْرَمَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ كَانَتْ عَنْ فَرْضِهِ وَعِنْدَ أبي حنيفة تَكُونُ تَطَوُّعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ إِحْرَامَهُ عَلَى الْغَيْرِ إِحْرَامًا عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِحَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ عَنِ التَّطَوُّعِ، إِحْرَامًا عَنِ الْفَرْضِ، لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الْأَوْلَى بِحَالِهِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ لَا يتطوع به، وعليه فرض كَمَنْ طَافَ يَنْوِي الْوَدَاعَ وَعَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ نَفْلُهَا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُهَا، كَالصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَكَالْحَجِّ سَوَاءٌ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَعْتَمِرْ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنِ اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَحُجَّ جَازَ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَقَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ الْجَمِيعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ القِران كَالنُّسُكِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 بَابُ بَيَانِ وَقْتِ فَرْضِ الْحَجِّ وَكَوْنِهِ عَلَى التراخي قال الشافعي رضي الله عنه: " أُنْزِلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَتَخَلَّفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ لَا مُحَارِبًا ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو كان كمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها مَا تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الفرض ولا ترك المتخلفون عنه ولم يحج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام وهي حجة الوداع وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بالمدينة تسع سنين ولم يحج ثم حج (قال الشافعي) فوقت الحج ما بين أن يجب عليه إلى أن يموت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَالْأَوْلَى بِهِ تَقْدِيمُهُ وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ، وَفِعْلُهُ مَتَى شَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ، وأبو يوسف فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لأبى حنيفة فِيهِ نَصٌّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: تَعَجَّلُوا الْحَجَّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ مَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ وَيَضِلَّ الضال وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا " فَأَمَرَ بِالْمُبَادَرَةِ، وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ الْبَيْتَ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ، لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالصِّيَامِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ آثِمًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَأْثَمْ بِتَأْخِيرِهِ وَدَلِيلُنَا، هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَخَلَّفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ قَادِرِينَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ ثُمَّ حَجُّوا، فَإِنْ قِيلَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ عَشْرٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ منِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ فَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ قِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ فَأُحْصِرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحصْرِتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ، ولم يأمرهم أن يبتدوا حَجًّا قِيلَ: فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ تَارَةً وَالِابْتِدَاءُ تَارَةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ إِنْشَاءَهَا، وَابْتِدَاءَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ ضمام بن ثعلة، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَلَا يُنْكِرُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) {آل عمران: 97) سنة تسع، أو عشر عَلَى وَجْهِ تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَرْضُ الْحَجِّ إِنَّمَا اسْتَقَرَّ سَنَةَ عَشْرٍ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ سَنَةَ سِتٍّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي حَجِّهِ سَنَةَ عشرٍ: أَلَا إِنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ قِيلَ: فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ حُصُولَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا قَدَّمُوهُ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ، وَرُبَّمَا أَخَّرُوهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَادَ تَحْرِيمُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ، لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ، وَخَوْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قِيلَ: مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَذَاكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ فَأَحَلَّ ثُمَّ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَيُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَقَضَاهَا سَنَةَ تِسْعٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ فَحَجَّ فِيهَا بِالنَّاسِ، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، غَيْرَ مَشْغُولٍ بحربٍ وَلَا خَايِفٍ مِنْ عَدُوٍّ، ثُمَّ أَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ نُفُوذِ أَبِي بَكْرٍ، يَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 بَرَاءَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَلِمَ أَنْفَذَهُ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلِمَ أَخَّرَهُ؟ وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَمْنُوعًا مِنَ الْحَجِّ، لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ كَانَ خَائِفًا عَلَى أَصْحَابِهِ لَمَا أَنْفَذَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَأَخَّرَ لِيَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ فَيُبَيِّنَ الْحَجَّ لِجَمِيعِهِمْ، وَهَذَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، قِيلَ: هَذَا ظَنٌّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِيُبَيِّنَ جَوَازَ التَّأْخِيرِ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ نُسُكَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من أراد الحج فليتعجل فعلته بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يُسَمَّ قَاضِيًا، وَلَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فَعُلِمَ أَنَّ وَقْتَهُ مُوَسَّعٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُ جَايِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا سُمِّيَ مَنْ أَخَّرَ فِعْلَهُ قَاضِيًا، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرَتْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ فَقُلْتَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْأَدَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهُ أَصْلُهُ إِذَا حَجَّ عُقَيْبَ الْإِمْكَانِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وُسِّعَ وَقْتُ افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُوَسَّعَ وَقْتُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ قِيلَ: قَدْ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ خَوْفَ الْمَرَضِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ يُسَمَّى قَاضِيًا بِتَأْخِيرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ مَاتَ آثِمًا عَاصِيًا قُلْنَا: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا يُنْسَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى يَعْرِضَ لَهُ عَجْزٌ أَوْ مَوْتٌ إِلَى التَّفْرِيطِ لَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا أَمِنَ الْفَوَاتَ، كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ ضَرْبُ امْرَأَتِهِ عَلَى شُرُوطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى التَّلَفِ عُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُفْرِطٌ عَاصٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُفْرِطٌ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفْرِطٌ مِنْ آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 باب بيان وقت الحج والعمرة قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) الْآيَةَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وذو القعدة مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلَى الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فقد فاته الحج وروي أن جابر بن عبد الله سئل أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ قال لا وعن عطاءٍ أنه قيل له أرأيت رجلاً مهلاً بالحج في رمضان ما كنت قائلاً له؟ قال: أقول له اجعلها عمرة وعن عكرمة قال لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: شُهُورُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ إِلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كُمَّلًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ حَرُمَ عليه الوطء في أشهر الحج، ووطء الحج فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَرَامٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ يَوْمُهَا مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَاللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 عَلَى أَنَّ شُهُورَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) وَالْأَشْهَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ ثَلَاثَةٌ وَلِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ، كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ آخِرُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) الآية وَفِيهَا دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ عِنْدُنَا جَوَازُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ وَعِنْدَهُمُ اسْتِحْبَابُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ فِيهِ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ. وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ زَمَانٌ لِإِدْرَاكِ الْحَجِّ، وَآخِرُ زَمَانِ الْإِدْرَاكِ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَعُلِمَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ، فَلَيْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَصْلُهُ رَمَضَانُ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّهُ يَوْمٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَهُوَ مِنَ النَّحْرِ، قُلْنَا: قَدْ يُمْكِنُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِيهِ، وَهِيَ أَنْ يُعَجِّلَ الرَّمْي، وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ فَيَسْتَبِيحَ فِيهِ الْوَطْءَ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ قُلْنَا: إِنَّمَا أَرَادَ أَفْعَالَ الْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَإِنَّمَا تَقَعُ أَفْعَالُهُ فِي الزَّمَانِ، وَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ كَانَ وَاقِعًا فِي الشَّهْرِ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْجَمْعِ قَدْ يَقَعُ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) {البقرة: 228) وَالْمُرَادُ بِهِ قُرْآنُ، وَبَعْضُ ثَالِثٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَلَا يَجُوزُ لأحدٍ أَنْ يَحُجَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ فَإِنَهَا تَكُونُ عُمْرَةً كرجلٍ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِلَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وابن عباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا وَقْتٌ لِلْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَتَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِزَمَانٍ كَالْعُمْرَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَالزَّمَانُ هُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْمَكَانُ هُوَ الْمِيقَاتُ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، جَازِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الزَّمَانِ وَعَكْسُ هَذَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى زَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَكَانِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَهُوَ شَوَّالٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) يُرِيدُ وَقْتَ الْحَجِّ فَجَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا فَلَوِ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي غَيْرِهَا، لَمْ تَكُنِ الْأَشْهُرُ وَقْتًا لَهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي بَعْضِ وَقْتِهِ. وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَكَانَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ يَصِحُّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنِ الْوُقُوفُ فِي جَمِيعِهَا حَصَلَ الِاخْتِصَاصُ لَهَا، بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا مِنَ الْحَجِّ قُلْنَا هُوَ عِنْدَنَا مِنَ الحج، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا جُعِلَ وَقْتُ اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ أشهر إلا وَقْتَ انْعِقَادِهِ، وَجَوَازِهِ قِيلَ: يَفْسُدُ عَلَيْكُمْ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِوَقْتٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. أَصْلُهُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَصِحُّ اسْتِدَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فِيهِ. أَصْلُهُ: الْجُمُعَةُ إِذَا صَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّ بَعْضُ أَفْعَالِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ اخْتُصَّ الْإِحْرَامُ بِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ كَالصَّوْمِ، وَعَكْسُهُ الْعُمْرَةُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ بِهَا مُؤَقَّتًا كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ) {البقرة: 189) فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ هُوَ الْإِحْرَامُ بِهِ لَا جَمِيعُ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَجِّ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَهِلَّةَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَطْلَقَ مِنَ الْأَهِلَّةِ مَا فَسَّرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بَعْضَ أَفْعَالِهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ لَمَّ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَخَالَفَ الْحَجَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ كَذَلِكَ عَلَى الزَّمَانِ قُلْنَا: إِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ لَا تَجُوزُ وَلَمَّا كَانَتْ مُجَاوَزَةُ الزَّمَانِ تَجُوزُ كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ جَازَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ مُجَاوَزَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْحَجِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَأَيُّ أَصْلٍ دَلَّكُمْ عَلَى هَذَا، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالصَّلَاةِ يَصِحُّ الْإِحْرَامْ بِهَا عُقَيْبَ الزَّوَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، لَا يَجُوزُ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، وَانْعَقَدَ عُمْرَةً. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَبْطُلُ إِحْرَامُهُ بِبُطْلَانِ مَا قَصَدَهُ، وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٌ فَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ رواية ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ يُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ فِي قَصْدِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْحَجِّ، فَإِذَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ حَجَّهُ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، وَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ فَرْضًا لِمُنَافَاةِ الْوَقْتِ صَحَّتْ نَفْلًا. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَوَقْتُ الْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِزَمَانٍ لَمْ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِزَمَانٍ كَالطَّوَافِ لَهَا وَالسَّعْيِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَاجٍّ أَحْرَمَ بِهَا مَتَى شَاءَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاسْتُحِبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا، وَلَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ إِحْلَالِهِ وَرَمْيِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّهَا مِنْ بَقَايَا حَجِّهِ، وَإِنْ أَحَلَّ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَجُوزُ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لسقوط الرمي عنه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَالَ لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً خَالَفَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ أَعَمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شهرٍ واحدٍ مَرَّتَيْنِ، وَخَالَفَ فِعْلَ عَائِشَةَ نَفْسِهَا، وعلي وابن عمر وأنس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْمُزَنِيُّ: لَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْأَمْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ فِي سنةٍ مَرَّتَيْنِ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَعْمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي سنةٍ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ فَلِمَا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَيِ ارْفُضِي عَمَلَ عُمْرَتِكِ فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ الْقِرَانِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُلُّ نِسَائِكَ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ وَأَنَا بِنُسُكٍ واحدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَحَصَلَ لَهَا عُمْرَتَانِ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جزاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ والعمرتان تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ عُمَرٍ وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ عُمْرَةً لِجَوَازِهَا فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ وَسُمَّوا عُمَّارَ الْبَيْتِ لِمُدَوَامَتِهِمُ الِاعْتِمَارَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتًا لِلْعُمْرَةِ، دَلَّ عَلَى تَكْرَارِهَا، وَجَوَازِ فِعْلِهَا مِرَارًا كَالنَّوَافِلِ في الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتٌ يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ، وَهُوَ عَرَفَةُ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 باب بيان أن العمرة واجبة كالحج قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةِ للهِ} (البقرة: 196) فَقَرَنَ الْعُمْرَةَ بِهِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ القرآن أن تكون العمرة واجبة واعتمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الحج ومع ذلك قول ابن عباس والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ} وعَنْ عَطاء قال ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان (قال) وقال غيره من مكيينا وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قران العمرة مع الحج هدياً ولو كانت نافلةً أشبه أن لا تقرن مع الحج وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وروي أن في الكتاب الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمرو بن حزم أن العمرة هي الحج الأصغر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعُمْرَةُ فِي كَلَامِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْقَصْدُ، وَكُلُّ قَاصِدٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مُعْتَمِرٌ قَالَ الْعَجَّاجُ: (لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًا بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَصَبَرْ) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هِيَ الزِّيَارَةُ وَقَالَ أَعْشَى باهلة: (وجَاشت النفس لما جاء فَلُّهُمُ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرًا) يَعْنِي: زَائِرًا هَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، لَكِنَّ الْعُمْرَةَ فِي الشَّرْعِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَحِلَاقٍ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ فَقَالَ لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ وَبِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُعٌ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا كَطَوَافِ اللُّزُومِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالِاعْتِكَافِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّتْ بِزَمَانٍ كَانَ جِنْسُهَا نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ، فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ نَفْلُ الْحَجِّ لِتَكَرُّرِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وجوبها قوله تعالى: {فَأَتِمّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وفيه قرأتان: إِحْدَاهُمَا: قَرَأَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إِذَا صَحَّتْ جَرَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالدَّلَالَةُ فِيهَا من وجهين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 أحدهما: أن إتمامها أَنْ يُفْعَلَا عَلَى التَّمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمهُنَّ) {البقرة: 124) أَيْ فَعَلَهُنَّ تَامَّاتٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِتْمَامِ، وَحَقِيقَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَاجِبًا وَإِتْمَامُهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ عَنِ ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمُّ الْوُضُوءَ قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: صَدَقْتَ فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَرَنَهَا بِالْوَاجِبَاتِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى النَّسَاءِ جهادٌ، فَقَالَ عَلَيْهِنَّ جهادٌ، لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَنَفْلًا كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ رُوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ وَعَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ، حُمِلَ عَلَى سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ عُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ الْحَنَفِيَّ تَابِعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَبَّهَ الْحَجَّ بِالْجِهَادِ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ وَثَوَابِهِ، وَالْعُمْرَةَ بِالتَّطَوُّعِ لِقِلَّةِ مَشَقَّتِهَا، وَإِنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهَا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَجَّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَنِ اعْتَمَرَ فَكَأَنَّمَا صَلَّى النَّافِلَةَ فَجَعَلَ الْعُمْرَةَ كَالنَّافِلَةِ فِي قِلَّةِ عَمَلِهَا، وَثَوَابِهَا، وَالْحَجَّ، كَالْفَرِيضَةِ فِي كَثْرَةِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ سُقُوطُ وُجُوبِهَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَأَشْهُرِهِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَتْ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّوَافِ فَلَيْسَ طواف القدوم، ونسك بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ نُسُكٍ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 جُمْلَةِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُمْ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ جَوَازُ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لا تجب في إفساده، وإما قولهم أن لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ ثُمَّ بِالزَّكَوَاتِ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَلَا نَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ العمرة نفله والجواب: أن يقال إثماً كَانَ لِلصَّلَاةِ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ فرضها يفعل في وَقْتِهَا، وَغَيْرُ وَقْتِ الْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِفَرْضِ الْحَجِّ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ يُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ إلى غيرها قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقْرِنَ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ وَيُهْرِيقَ دماً، والقارن أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْقِرَانُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: الْقَارِنُ يَكْفِيهِ طوافٌ واحدٌ وَسَعْيٌ واحدٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا. وَرَوِيَّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَرَنَتْ بِإِذْنِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بعمرةٍ فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ يَعْنِي فِي حَالِ حَيْضِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَ لَهَا طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ حِينَ قَرَنَ، وَقَدْ أَنْكَرَ عليه زيد ابن صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَفِيهِ تأويلان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا. وَالثَّانِي: لِتَمَيُّزِ التَّمْرِ وَعِزَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَسَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَعْنَاهُ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ وَجْهًا، مِنْهَا أن يدخل بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّوَجُّهِ، أَوْ يُوَاصِلَ بَيْنَ التَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ، أَوْ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْقِرَانِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا معاًُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا قَارِنٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ جَازَ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ عُمْرَتِهِ وَشَرَعَ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا، فَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ لِيَأْخُذَ فِي الطَّوَافِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَازَ، وَكَانَ قَارِنًا وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَخَطَا خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ لِأَخْذِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَلَمْ يَمْشِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُولَى أَبْعَاضِهِ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَلَمَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلطَّوَافِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا أَجْزَأَهُ قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ عَلَى أَلَّا يَتَعَيَّنَ بِمَنْعٍ فَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ كَانَ تَزْوِيجُهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أَجْزَأَهُ. فصل : والضرب الثاني : أي يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَى حَجِّهِ عُمْرَةً قَالَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَجَازَ إِدْخَالُ إِحْدَيْهِمَا عَلَى الْأُخْرَى أَصْلُهُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَضْعَفُ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَاحِمَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَجَازَ لِلْحَجِّ مُزَاحَمَتُهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِنَ الْفِرَاشِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَوْ وَطِئَ أَمَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عليها أختها ثبت نكاحها، وحرم عليه وطؤ الْأَمَةِ، لِأَنَّ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَضْعَفَهُمَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَقْوَاهُمَا، فَلَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ مر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 بِعَرَفَةَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ فِي زَمَانِ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِهَا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا بِوَطْءٍ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ سَلِيمَةٍ، فَكَانَ الثَّانِي عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْفَاسِدَةَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْفَاسِدَةِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، كَذَلِكَ فِي جَوَازِ القِران فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَفِي قَضَاءِ الْحَجِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِسَلَامَةِ الْحَجِّ مِنَ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَنَ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ بِهِمَا، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ فِيهِمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ بِقِرَانِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْقَارِنُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَبَحَ عَنْ جَمِيعِ نِسَائِهِ بَقَرَةً وَنَحْنُ قارناتٌ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَالْقَارِنُ (أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ) فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْقَارِنِ بَدَنَةً، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، لَا تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ فَالْقَارِنُ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ، وَعَلَى هَذَا نَصَّ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ عَنِ الْقَارِنِ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَقَدْ أَتَى بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ، فَالْقَارِنُ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ أَوْلَى بإيجاب الدم عليه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن اعتمد قبل الحج ثم أقام بمكة حتى ينشيء الْحَجَّ أَنْشَأَهُ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ بَعْدَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ أَهَلَّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ فَسَقَطَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وأحرم من أقرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 الْمَوَاضِعِ مِنْ مِيقَاتِهَا وَلَا مِيقَاتَ لَهَا دُونَ الْحِلِّ كَمَا يَسْقُطُ مِيقَاتُ الْحَجِّ إِذَا قَدَّمَ الْعُمْرَةَ قَبْلَهُ لِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ قِرَانًا فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَهٍ حَدَّ الْمَوَاقِيتَ وَقَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ممن أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهَا وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهَا: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ قَالَ جَابِرٌ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهُ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ، أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فِي الْحِلِّ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْآخَرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ إِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ فِيهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِيهِمَا بِقَصْدِ الْبَيْتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) {البقرة: 125) أَيْ: مَرْجِعًا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: (مثابٌ لِأَفْتَاءِ القبائل كلها ... تخب إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الزَّوَامِلُ) وَكُلُّ الْحَرَمِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْبَيْتِ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنَ الْحِلِّ فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، أَوِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الحل ضرورة للوقوف بعرفة، وعرفة حل لأحرم، وَإِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا مِنْ حِلٍّ إلى حرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فَصْلٌ : فَإِذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ، فَإِنْ عَادَ مُحْرِمًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ تَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّ تَوَجَّهَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ. وَالثَّانِي: مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وَالثَّالِثُ: مِنْ حِلٍّ بَيْنَ الْحَرَمِ وَالْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ مِنْ مَكَّةَ رُخْصَةٌ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ خَارِجَ مَكَّةَ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِقَاعُهُ وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ، وَالْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ لَهُ أَحَدُ مِيقَاتَيْنِ فَمِيقَاتُ بَلَدِهِ لِلْأَصْلِ وَمَكَّةُ رُخْصَةٌ فَإِذَا عَدَلَ عَنْهَا صَارَ مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِ مِيقَاتٍ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُفْرِدُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحَرَمِ، فَقَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا بِتَعْجِيلِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى طَافَ، وَسَعَى وَحَلَقَ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَقَدْ تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّ الْحِلِّ مِيقَاتٌ، وَتَرْكُ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ بُطَلَانَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَفْعَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِبَقَاءِ إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَفِي فَسَادِ عُمْرَتِهِ بِوَطْئِهِ، قَوْلَانِ كَالنَّاسِي، وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ حِلٍّ، فَإِذَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْحِلَّ صَارَ فِي مَعْنَى مَنْ طَافَ فِي الْحَجِّ، قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فلا يجزيه عن طواف الفرض. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إلي أن تعتمر مِنَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ التَّنْعِيمِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعَمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بعمرةٍ مِنْهَا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرْعِ مَا نَذْكُرُهُ فَأُولَى ذَلِكَ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَلَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَّةَ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ. وَهِيَ أَبْعَدُ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ الْحُدَيْبِيَةُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الدُّخُولَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالِاخْتِيَارِ، وَمِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ مِنَ الحلي جَازَ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْجِعْرَانَةِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ سنة ثمان عام الفتح، والثالث: مُخْتَلَفٌ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَارِنًا حَصَلَتْ لَهُ ثَلَاثُ عُمَرٍ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَلَهُ عُمْرَتَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 بَابُ بَيَانِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذلك قال الشافعي رضي الله عنه فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُفْرِدَ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ إِنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " (قال الشافعي) ومن قال إنه أفرد الحج يشبه أن يقول قاله على ما يعرف من أهل العلم الذي أدرك وفد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج وأحسب عروة حين حدث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول يفعل في حجه على هذا المعنى وقال فيما اختلفت فيه الأحاديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مخرجه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافاً يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسعٌ كله وثبت أنه خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو فيما بين الصفا والمروة وأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة وقال " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سقت الهدي ولجعلتها عمرة " (فإن قال قائلٌ) فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر وطاوس دون حديث من قال قرن؟ (قيل) لتقدم صحبة جابر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحسن سياقه لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ ولأن من وصف انتظار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة يشبه أن يكون أحفظ لأنه قد أتى في المتلاعنين فانتظر القضاء كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء (قال المزني) إن ثبت حديث أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قرن حتى يكون معارضاً للأحاديث سواه فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض وأداء الفرضين في وقت الحج أفضل من أداء فرضٍ واحدٍ لأن من كثر عمله لله كان أكثر في ثواب اللَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْهَا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَقَالَ أَنَسٌ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ، وَقَالَ إِهْلَالًا كِإِهْلَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال وهو بالعقيرة: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ عمرةٌ فِي حجةٍ قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَنَ وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ وَقَدْ قَرَنَ: هُدِيتَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي القران تعجيل العملين، والإتيان بهما من أَشْرَفِ الزَّمَانَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِفْرَادِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ أَحَدُهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْآخَرِ قَالُوا: وَلِأَنَّ في القران زيادة، وهو دوم نُسُكٍ لَا جُبْرَانٌ وَنَقْصٌ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) {الحج: 36) وَلَوْ كَانَ دَمُ جُبْرَانٍ لَمَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ لِجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا دَخَلَهُ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ الْجُبْرَانِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِلَّا بِعُذْرٍ كَالْحَلْقِ وَاللِّبَاسِ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقِرَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عُلِّقَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ دَمُ نُسُكٍ. فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ التَّمَتُّعُ أَفَضَلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَتَّعَ بِالْحَجِّ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ: إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ فَلَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ بَقَائِهِ عَلَى عُمْرَتِهِ أَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ لِأَجْلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَتَأَسَّفَ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ لَا يَتَأَسَّفُ إِلَّا عَلَى فَوَاتِ الْأَفْضَلِ وَهَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقَدَّمَ. فَصْلٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ الْحَجَّ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنَاسِكِ وَأَحْسَنُ الْجَمَاعَةِ سِيَاقًا لَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ سَنَةَ تِسْعٍ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَا بحجٍ وَلَا بعمرةٍ فَلَمَّا بَلَغَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أقرن الْحَجَّ فَأَتَاهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَنْبَأْنَاكَ بِهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَانَا فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ فَقَالَ إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يحج عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكَشَّفَاتِ الرُّؤُوسِ مِنْ صِغَرِهِ وَأَنَا تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمَسُّنِي لُعَابُهَا وَكُنْتُ اسْمَعُهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ ثَمَانٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي تِسْعِ حِجَجٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ، وَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْرَدُوا الْحَجَّ، وَلِأَنَّ الْمُفْرِدَ يَأْتِي بِعَمَلِ الْعِبَادَتَيْنِ عَلَى كَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْقَارِنِ الَّذِي قَدْ أَدْخَلَ إِحْدَى الْعِبَادَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ إيقاع العشرة فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ رُخْصَةٌ، وَإِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَزِيمَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، حَتَّى أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أُولَى مِنَ الرُّخْصَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا رُخْصَةً، كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما، في وقتها أفضل من الحج بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ يَجِبُ فِيهِمَا دَمٌ، وَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الْحَجِّ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِلنَّقْصِ، لأنها تجب لترك مأموراً بِهِ وَلِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، وَلَيْسَ فِي الْحَجِّ دَمٌ يَجِبُ لِغَيْرِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْحَجِّ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ آخِرًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لَعَدَمِ النَّقْصَ فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ لَزِمَهُ دَمٌ وَلَوْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، فَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِلُ مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ وَالتَّمَتُّعِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَةَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أُولَى لِتَقَدُّمِ صِحَّةِ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَحُسْنِ مَسَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ، وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعَ مَا رُوِّينَا مِنْ فِعْلِهِ قَوْلًا يَرُدُّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ فَكَانَ أُولَى مِنْ فِعْلٍ مُجَرَّدٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَقْلِهِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ أَرَادَ أَنَّهُ أَتَى بِالْعُمْرَةِ عُقَيْبَ الْحَجِّ، وَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الَّتِي يَفْعَلُ إِحْدَيْهِمَا عُقَيْبَ الْأُخْرَى، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَعْنِي أَنَّهُ أَهَّلَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ وَبِالْعُمْرَةِ فِي آخَرَ، فَأَدْرَجَ الرَّاوِي، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَتَيْنِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَيْثُ كَانَ قِبْلَةً، وَعَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ حِينَ صَارَتْ قِبْلَةً وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ خِلَافَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: بِمَاذَا أَهْلَلْتَ قَالَ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَفْرَدْتُ فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ، وَسَقَطَتَا وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ جَوَازَهُ فِي السُّنَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ أَنْكَرَا عَلَى الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ الْقِرَانَ وَقَالَا لَهَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِ أَهْلِهِ فَأَرَادَ عُمَرُ بِمَقَالَتِهِ إِنْكَارَهُمَا وَأَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ هُدًى لَا ضَلَالٌ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ بِقِرَانِهِ فِعْلَ عَمَلَيْنِ، فِي أَشْرَفِ الزَّمَانَيْنِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ عِبَادَةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمْعِهَا مَعَ غَيْرِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَيْسَ وَقْتُ الْحَجِّ زَمَانًا شَرِيفًا لِلْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرِيفٌ لِلْحَجِّ وَفِعْلُ الْعُمْرَةِ فِيهِ رُخْصَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِيهِ زِيَادَةً فَقَدْ أَنْبَأْنَاهُمْ أَنَّ الدَّمَ لِجُبْرَانِ نقص، ولا نسلم لهم جوازاً كله بِحَالٍ وَقَدْ وَافَقُوا فِي الْمَكِّيِّ، إِذَا قَرَنَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ دَمُ نَقْصٍ لَا نُسُكٍ، وَكَذَلِكَ غير المكي وأما ما رَوَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَتَّعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 حَفْصَةَ وَقَوْلُهَا مَا بَالُهُمْ حَلُّوا، وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ فَمَعْنَاهُ لَمْ تُحِلَّ مِنْ إِحْرَامِكَ فَأَخْبَرَهَا، أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَمِرٍ كَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ لَهَا السَّبَبَ فَقَالَ لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي لَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ يَعْنِي: حَتَّى يَحِلَّ الْحَجُّ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ نَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ إِحْرَامَهُ حَجًّا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ يَجْعَلُ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ، وَقَوْلُهُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، وَلَا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ الْأَفْضَلُ، وَإِنَّمَا خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى سَبَبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهَا شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُقِيمًا عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ التَّخْفِيفَ وَالتَّسْهِيلَ فَتَوَقَّفُوا عَنِ الْمُبَادَرَةِ عَنْهُ فِي الْأَغْلَظِ دُونَ الْأَخَفِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ عَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: كَيْفَ نعدوا إلى من وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا يَعْنُونَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ النِّسَاءِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إما على طريق الزجر لهم، أو التطيب لِنُفُوسِهِمْ مَا قَالَهُ بِمَعْنَى إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ أَوْ تَتَوَقَّفُونَ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ الَّذِي قَدْ مَنَعَنِي مِنَ التَّحَلُّلِ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً حَتَّى أَكُونَ مِثْلَكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ سَوْقُ الْهَدْيِ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ بَلْ نَحْرُ الْهَدَايَا، إِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْحَرَمِ جَائِزٌ قِيلَ لَهُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ سَاقَ هَدْيًا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ سَوْقَ الْهَدْيِ عَلَمًا فِي جَوَازِ الْبَقَاءِ عَلَى الْحَجِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ سَوْقَ هَدْيِهِ إِلَى مَحَلِّهِ بِالْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَا يَنْحَرُهَا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ، فَلِذَلِكَ مَا امْتَنَعَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ إِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِمَكَّةَ عِنْدَ إِحْلَالِهِ، مِنْ عُمْرَتِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَصِيرَ الْمَوْضِعُ سُنَّةً لِنَحْرِ الْهَدْيِ، وَمَعْدِنًا لِلْأَنْجَاسِ فَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَيَسْتَضِرُّوا فَإِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ إِلَى إِحْلَالِهِ بِحَجِّهِ مِنْ مِنًى، وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ فَقَدْ زَالَ الْيَوْمَ حُكْمُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْقِرَانِ، وَعَلَى التمتع في أحد القولين، فإنما أراد الحج إذا أَعْقَبَهُ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي عَامِهِ، فَأَمَّا وَهُوَ يُرِيدُ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ عَامِ حَجِّهِ فَالتَّمَتُّعُ والقران أولى، لما يجوزه مِنْ فَضْلِ الْمُبَادَرَةِ، وَالتَّعْجِيلِ وَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجَ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي حَجِّهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، أَيْسَرَ مِنْ هَذَا يَعْنِي: إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ حُكْمٍ، وَلَا إِسْقَاطُ فَرْضٍ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ مُبَاحٌ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الرِّوَايَةَ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِهَا دَلَّ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَتَرْتِيبَ مَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَضَادَّةٍ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِيمَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إِلَّا وَقَدِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ بِحَجٍّ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ التَّمَتُعَ أَفْضَلُ وَأَخَذَ يَتَأَوَّلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْإِفْرَادَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَكَى مَا شَاهَدَ مِنْ حَجِّهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِفَضْلِ الْإِفْرَادِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُطْلَقَةِ وَحَمْلِهَا عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ لِتَفْسِيرِهِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ إِفْرَادِهِ وَالسَّبَبِ فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 باب صوم المتمتع بالعمرة إلى الحج قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَإِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فِي شوالٍ، أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ صَارَ مُتَمَتِّعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ التَّمَتُّعِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ وَضَرْبٌ لَا دَمَ فِيهِ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ شَرَائِطَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَشَرْطٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي سَنَتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَرْجِعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَلَا مِنْ حَاضِرِهِ، والشرط المختلف فيه نية التمتع فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الدَّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا شَرْطٌ خَامِسٌ، لَا يُجِبِ الدَّمُ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ نُسُكَيْنِ، فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي زَمَانِ نِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ التَّمَتُّعَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. وَالثَّانِي: يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ مَا بَيْنَ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى إِحْلَالِهِ مِنْهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي لَا دَمَ فِيهِ، فَهُوَ أَنْ يُخِلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ بِالْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ طَافَ سَعَى فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي رَمَضَانَ، وَطَافَ لَهَا وَسَعَى فِي شَوَّالٍ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ قَوْلَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ طَافَ قَبْلَ شَوَّالٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَأْنَفَهَا فِيهِ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَأَحْرَمُ بِالْحَجِّ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ مُحْرِمًا فَفِي سُقُوطِ الدم عنه، قولان: أحدهما: قد سقط عند الدَّمُ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِإِحْرَامِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمُ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ عَلَى حُكْمِ سَفَرِهِ، فَكَانَ عَلَى حُكْمِ حَجِّهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَحَلَّ إِحْرَامِهِ مَا بَيْنَ بَلَدِهِ وَمِيقَاتِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِيقَاتِهِ سَقَطَ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ، إِلَى آخِرِ مِيقَاتِهِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ جَمِيعِهِ، وَفِيهِ الْفِصَالُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مَعًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ أبو حنيفة يُكْرَهُ لَهُمُ التَّمَتُّعُ والقِران، فَإِنْ فَعَلُوا فَعَلَيْهِمْ دَمٌ كَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {البقرة: 196) فَاسْتَثْنَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي إِبَاحَةِ التَّمَتُّعِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) {البقرة: 196) وَهَذَا شَرْطٌ ثُمَّ قَالَ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: 196) وَهَذَا جَزَاءٌ ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ لِمْنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 196) وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ يَرْجِعُ إِلَى الدَّمِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ لَا إِلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إِلَّا أن يكون مكياً تقديره فلا تعطيه شيئاً، ولأن قوله: فمن تمتع بالعمرة إخبار وقوله: فما استيسر من الهدي حُكْمٌ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضري المسجد الحرام اسْتِثْنَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّمُ فَصَارَ تقدير الآية: فمنع تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ لِأَهْلِ الْآفَاقِ جَازَ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَالْإِفْرَادِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْإِفْرَادُ جَازَ لَهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَأَهْلِ الْآفَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَحَاضِرِيهَا لَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي تَمَتُّعِهِمْ وَقِرَانِهِمْ، فَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَهَا لَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَمَتَّعَ أَوْ يَقْرِنَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ مِيقَاتِهِ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَمَتُّعِهِ فَلَوْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي مَوْضِعِ إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وبين الحرم مسافة تقصر في مثلهما الصَّلَاةُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَمَتُّعِهِ إِنْ تَمَتَّعَ أَوْ لِقِرَانٍ إِنْ قَرَنَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَمَتُّعِهِ، وَلَا لِقِرَانِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ حِينَ يَدْخُلَ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُ التَّمَتُّعِ الْمُوجِبَةُ لِلدَّمِ فَلَهُ حَالَانِ. حَالُ يَسَارٍ وحال إِعْسَارٍ: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَعِنْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ الدَّمُ لِأَنَّ الشَّرَائِطَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّمِ لَا تُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ إِهْلَالِهِ بِالْحَجِّ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّمِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: حَالُ اخْتِيَارٍ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَالثَّانِي: حَالُ جَوَازٍ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَقَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَعِنْدَنَا يُجْزِيهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُجْزِيهِ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) وَمَحِلُّ الْهَدْيِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَلِأَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمِ هَدْيٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْبُلُوغِ وَالْأَضَاحِي، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّع بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) {البقرة: 196) فَعَلِمْنَا أَنَّ الْهَدْيَ يَلْزَمُهُ أَوْ يَجُوزُ لَهُ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَفِي أَيِّهِمَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِلتَّمَتُّعِ فَجَازَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَصْلُهُ الصَّوْمُ وَلِأَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ فَجَازَ، أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وجوبه، وقيل يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحَلَّهُ} فَالْمُرَادُ بِالْمَحِلِّ الدَّمُ لَا يَوْمُ النَّحْرِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَالْأَضَاحِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا بَدَلَ فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 فَصْلٌ: وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَقَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمَالِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ جَازَ تَقْدِيمُهُمَا إِذَا وُجِدَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالزَّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَذَلِكَ دَمُ التَّمَتُّعِ وَيَجِبُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، وَبِكَمَالِ الْعُمْرَةِ قَدْ وَجَبَ مِنْهَا شَيْئَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ حَاضِرٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَبْلَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ تَقْدِيمُ الدَّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ، نَقَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ عَنِ التَّمَتُّعِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ البقاء أَكْثَرِ أَسْبَابِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامٌ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ) {البقرة: 196) وَاعْتِبَارُ يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ بِمَكَّةَ لَا بِبَلَدِهِ، وَخَالَفَ كَفَّارَةَ الْحِنْثِ الَّتِي لَا يَنْتَقِلُ فِيهَا إِلَى الصَّوْمِ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِنْ بَعُدَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الْهَدْيِ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ. وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُ بَدَلِهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَرَادَ الصِّيَامَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصُومَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ عَلَى مَا نَصِفُهُ وَنَذْكُرُهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَلَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ. وَقَالَ أبو حنيفة يُجْزِيهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ} (البقرة: 196) وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْعَجَبُ مِنْ أبي حنيفة يَمْنَعُ مِنَ الْهَدْيِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ، وَيُجِيزُ الصِّيَامَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ بَدَلٌ يَجِبُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ مُبْدَلُهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافُ أُصُولِ الشَّرْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَصُومَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ بحال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْحَجِّ حَتَّى يَصُومَ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَالِهِ مِنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ صِيَامِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَهُ يَخْرُجُ بَعْدَ عَرَفَةَ مِنَ الْحَجِّ وَيَكُونَ فِي يَوْمٍ لَا صَوْمَ فِيهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَا يُصَامُ فِيهِ وَلَا أَيَّامِ مِنًى لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا وَأَنَّ مَنْ طَافَ فِيهَا فَقَدْ حَلَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ أَقُولَ هَذَا فِي حَجٍّ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْهُ وَقَدْ كُنْتُ أَرَاهُ وَقَدْ يَكُونُ مَنْ قَالَ يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ذَهَبَ عَنْهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها (قال المزني) قوله هذا قياسٌ لأنه لا خلاف فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى في نهيه عنها وعن يوم النحر فإذا لم يجز صيام يوم النحر لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه فكذلك أَيَّامِ مِنًى لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْهَدْيِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، فَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَزَمَانُهَا مِنْ بَعْدِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إِلَى قَبْلِ يَوْمِ النَّحْرِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُتَمَتِّعُ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ قَبْلَ النَّحْرِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ النَّحْرِ فَلْيَصُمْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامَ مِنًى وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِيَصُومَ السَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا لِأَنَّ فِطْرَهُ أَفْضَلُ الحاج مِنْ صَوْمِهِ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ يَأْكُلُ الرُّمَّانَ فَقَالَ: ادْنُ فَكُلْ لَعَلَّكَ صَايِمٌ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَصُمْ هَذَا الْيَوْمَ وَلِأَنَّ فِطْرَهُ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دعاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ " فَإِنْ أَحْرَمَ يَوْمَ السَّادِسِ وَصَامَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ جَازَ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ يَوْمَ السَّابِعِ، وَصَامَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَيُجْزِئُهُ لِأَنَّ صِيَامَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، وَغَيْرِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَوْمِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَمَّا أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ، فَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمُهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أيامٍ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَامُوا بَقِيَّةَ الثَّلَاثَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِبَعْضِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهِ لِلْمُتَمَتِّعِ، وَغَيْرِهِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ بِمِنًى إِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُنَادِي، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: إِنَّهَا أَيَّامُ طعمٍ وشربٍ فَلَا يَصُومُهَا أحدٌ وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بَعْدَ الْأَضْحَى فَقَدَّمَ لَنَا طَعَامًا فَقُلْتُ: أَنَا صَائِمٌ فَقَالَ كُلْ وَأَفْطِرْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَانَا عَنْ صِيَامِهَا وَأَمَرَنَا بِإِفْطَارِهَا، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ النَّفْلِ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّمَتُّعِ كَزَمَانِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ كَيَوْمِ النَّحْرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا بَيَانُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَفَّارِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَصْلٌ : فَإِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ قَضَاهَا فِيمَا بَعْدُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا خَرَجَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ قَبْلَ صِيَامِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ وَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَغْلَطُ فَيُخَرِّجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَا يَدُّلُ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا فِي الْحَجِّ، وَأَتَى بِهَا فِيمَا بَعْدُ صَارَ قَاضِيًا، وَالْقَضَاءُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ قَضَاؤُهَا، بعد فوات وقتها لتعلق فعلها بزمان، ويجزيه مخصوص قِيَاسًا أَنَّهُ بَدَلٌ مُوَقَّتٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ وَقْتِهِ مُوجِبًا لِلْعَوْدِ إِلَى مُبْدَلِهِ كَالْجُمُعَةِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى فَاتَتْهُ أَيَّامُ الْعَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَكَانَهَا، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مَخْصُوصٌ بِزَمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفُوتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَجَازَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَقْتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 أَصْلُهُ: صَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَقْتُهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ؟ فَإِنْ أَتَى بِهِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، أَجْزَأَهُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْأُصُولِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَقِسْمٌ يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطٍ كَصَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يُفْعَلُ قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَقِسْمٌ مُطْلَقٌ كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤْتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِ وَقْتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ لَاحِقًا بِأَحَدِهَا فِي جَوَازِ الْإِتْيَانِ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِ وَقْتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ الْقَضَاءِ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَفْتَقِرُ إِلَى دَلَالَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ فَيَبْطُلُ بِالصَّلَوَاتِ، وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِذَا قِيلَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ لَهُ قَضَاءَ الصَّوْمِ هَلْ تُوجِبُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً بِتَأْخِيرِهِ، كَمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، قُلْنَا: لَا تجب عليه الكفارة، وَإِنْ أَخَّرَهُ لِأَنَّهُ جُبْرَانٌ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ قضاء رمضان. فصل : فإذا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ، فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هَلْ يُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَاعَى بِهَا حَالَ الْوُجُوبِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ قِيلَ: الْمُرَاعَى بِهَا حَالَ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُوسِرًا، ثُمَّ أَعْسَرَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالدَّمِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا الدَّمُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ وَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهَا أَغْلَظَ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي التَّمَتُّعِ، فَأَمَّا إِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَهُ إِتْمَامُ صومه، ويجزيه وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثلاثة رجع إلىالهدي، وَإِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ مَضَى فِي صَوْمِهِ، وَأَجْزَأَهُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا ثُمَّ نَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةٌ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ تَلَبَّسَ بِالصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ، فَوَجَبَ إِذَا وَجَدَ الْهَدْيَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ أَصْلُهُ إِذَا وَجَدَهُ فِي السَّبْعَةِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَصُومُ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثََةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ) {البقرة: 196) وَذَكَرْنَا وَقْتَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا وَقْتُ صِيَامِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّهُ هَاهُنَا وَفِي " الْأُمِّ " أَنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَاسْتَقَرَّ فِي بَلَدِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ بَعْدَ كَمَالِ مَنَاسِكِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " أَنْ يَصُومَهَا إِذَا أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنْ يَصُومَهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مَنَاسِكِهِ، وَرَمْيِهِ سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ خَرَجَ مِنْهَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصحاب ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وأبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) {البقرة: 196) أَيْ: رَجَعْتُمْ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ رُجُوعًا عَنِ الْحَجِّ أَيْ: عَنْ أَفْعَالِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ هَذَا الصَّوْمِ لَوَجَبَ إِذَا نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ، أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الصِّيَامُ بِهَا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صِيَامِهِ فِيهَا، إِذَا نَوَى الْمُقَامَ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَهْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِأَنَّ صَوْمَ الْمُتَمَتِّعِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى طَرِيقِ الْجُبْرَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة، قَالُوا: وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالْوَاجِبُ، أَنْ يُؤْتَى بِهِ عَلَى قَوْلِكُمْ قَبْلَ السَّلَامِ، وَعَلَى قَوْلِنَا عُقَيْبَ السَّلَامِ فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي " الْإِمْلَاءِ ". وَحُجَّةُ مَالِكٍ وأبي حنيفة أَنْ يَصُومَهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَاسْتَقَرَّ بِبَلَدِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَ رَجَعْتُمْ) {البقرة: 196) فَلَا يَخْلُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ مَا ذَكَرُوا مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَبَطَلَ، أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّجُوعُ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ وَقْتٌ الْحَجِّ، دُونَ أَفْعَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) وَالصَّوْمُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، لَا فِي أَفْعَالِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ، إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلْيَدْعُ وَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ فِي الْحَجِّ وسبعةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ إِذَا أُطْلِقَ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ اقْتَضَى رُجُوعًا إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ خَرَجَ زَيْدٌ ثُمَّ رَجَعَ فَيُرِيدُونَ بِهِ الرُّجُوعَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ ابْتَدَأَ الخروج، ولأن الغالب في أَمْرِ الْحَاجِّ أَنَّهُمْ يُنْشِئُونَ السَّفَرَ عِنْدَ الْفَرَاغِ وَقَدْ سَامَحَ اللَّهُ الْمُسَافِرَ بِالْإِفْطَارِ فِي الصَّوْمِ الَّذِي وَجَبَ فَرْضُهُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ إِيجَابَ فَرْضٍ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَامَحَهُ فِي تَرْكِ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَائِمًا، وَجَازَ أَنْ يَصُومَ بِهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ لَهُ وَطَنًا كَالْعَائِدِ إِلَى وَطَنِهِ، أَلَا تَرَاهُ قَبْلَ نِيَّةِ مُقَامِهِ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ نِيَّةِ مُقَامِهِ كَالْمُسْتَوْطِنِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ جُبْرَانٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ قِيلَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُ الْجُبْرَانِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، أَوْ عُقَيْبَهَا إِذَا فَاتَ الْجُبْرَانُ بِتَأْخِيرِهِ كَسُجُودِ السَّهْوِ فَأَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ تَفْوِيتُهُ فَصَوْمُ التَّمَتُّعِ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْجِيلُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا وَضَحَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُومَهَا عَقِيبَ رجوعه، فإن أخر صيامها كان مسيئاً فأجزأه وَلَوْ صَامَهَا قَبْلَ رُجُوعِهِ إِمَّا بِمَكَّةَ أَوْ فِي طَرِيقِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ إِذَا قُدِّمَتْ قَبْلَ وَقْتِهَا لَمْ تَجُزْ وَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَ وَقْتِهَا أَجْزَأَتْ كَالصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إِذَا قُدِّمَتْ عَلَى وَقْتِهَا وَتُجْزِئُ إِذَا فُعِلَتْ بَعْدَ وَقْتِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ فَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ فَصَامَهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَوْ أَخَّرَ صِيَامَهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ كَانَ مُسِيئًا وَأَجْزَأَهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ، إِنَّهُ يَصُومُهَا إِذَا فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ حَجِّهِ، فَإِنْ صَامَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ، أَوْ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ جَمِيعِ رَمْيِهِ لَمْ يُجْزِهِ، فَإِنْ صَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَجِّهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي طَرِيقِهِ أَجْزَأَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مُتَابَعَةُ صِيَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ، وَالسَّبْعَةِ الْأَيَّامِ إذا رجع، فمستحبة، وهو وُجُوبِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: أَحَدُهُمَا: واجبة، فعلى هذا القول وإن فَرَّقَ صِيَامَهَا لَمْ يُجْزِهِ. وَالثَّانِي: مُسْتَحَبَّةٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَرَّقَ صِيَامَهَا أَجْزَأَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ فِي الْحَجِّ، وَلَا السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ حِينَ رَجَعَ حَتَّى اسْتَقَرَّ بِبَلَدِهِ وَاسْتَوْطَنَ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ، وَبَيْنَ صِيَامِ السَّبْعَةِ، وَفِي وُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ بِجِهَةِ الزَّمَانِ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَدَاءِ بِجِهَةِ الزَّمَانِ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْقَضَاءِ لِفَوَاتِ الزَّمَانِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 كَمَا أَنَّ تَتَابُعَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقٌّ فِي الْأَدَاءِ لِتَتَابُعِ الزَّمَانِ، غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْقَضَاءِ لِفَوَاتِ الزَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَابَعَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ وَصِيَامَ السَّبْعَةِ أَجْزَأَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجِعْتُمْ) {البقرة: 195) فَجَعَلَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَالرُّجُوعُ فِعْلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ عَنِ الْحَجِّ، أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَطَنِ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَدَاءِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، لَمْ يَبْطُلِ اسْتِحْقَاقُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ مَضَى ذَلِكَ الْفِعْلُ، كَمَا أَنَّ تَتَابُعَ صَوْمِ الظِّهَارِ، وَمُسْتَحَقٌّ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَبْطُلِ اسْتِحْقَاقُ تَتَابُعِهِ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَقَلِّ مَا تَكُونُ بِهِ التَّفْرِقَةُ، وَذَلِكَ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ فِي الصَّوْمِ ضِدَّ الْمُتَابَعَةِ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الْمُتَابَعَةُ بِإِفْطَارِ يَوْمٍ ثَبَتَتِ التَّفْرِقَةُ بِإِفْطَارِ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، إنَّ قَدْرَ التَّفْرِقَةِ فِي الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ فِي الْأَدَاءِ؛ لأنه لما وجبت الفرقة فِي الْقَضَاءِ لِثُبُوتِهَا فِي الْأَدَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ التَّفْرِقَةِ فِي الْقَضَاءِ قِدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْرِقَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي القضاء قدر ما يقع عليه اسم التفرقة، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْأَدَاءِ (قَدْرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْرِقَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَدَاءِ أَصْلَانِ، فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ) : أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ جَوَازُ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا يَجُوزُ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: صِيَامُ السَّبْعَةِ هَلْ يَجُوزُ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ؟ أَوْ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ؟ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ: إِذَا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، كَانَ قَدْرُ التَّفْرِقَةِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِمَا، فَتَكُونُ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ، إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَيَصُومَ السَّبْعَةَ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ، لِيَقَعَ بِهَذَا الْيَوْمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ صِيَامَ مِنًى لَا يَجُوزُ وَإِنَّ صِيَامَ السَّبْعَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ، فَتَكُونُ التَّفْرِقَةُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ، وَقَدْرُ مَسَافَةِ الطَّرِيقِ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِيَامَ أَيَّامِ مِنًى يَجُوزُ وَصِيَامُ السَّبْعَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَدْرِ مَسَافَةِ الطَّرِيقِ إِذَا قِيلَ الَّذِي لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَلَا يَصُومُ السَّبْعَةَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ. فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا وَاجِبَةٌ، فَتَابَعَ بَيْنَ صِيَامِهَا وَوَصَلَ السَّبْعَةَ بِالثَّلَاثَةِ، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا صِيَامُ السَّبْعَةِ فَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا اسْتَحَقَّ فِطْرَهُ عَنْهَا، وَالْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يُسْقِطَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّفْرِقَةِ، عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ السَّبْعَةِ شَيْءٌ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ أَنْ يَكْمُلَ زَمَانُ التَّفْرِقَةِ، وَإِنْ بقي منها شيء أما ستة أيام إذا قيل: إن الواجب أن يفرق بَيْنَهَا بِيَوْمٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِذَا قِيلَ: إن الواجب أن يفرق بينها بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَطَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لم يفطر احتسب له مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ صِيَامَ مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَفْطَرَ، فَهَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ بِصِيَامِ مَا بَقِيَ مِنَ السَّبْعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ مِنْ صِيَامِهَا: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُتَابَعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَيَتِمُّ صِيَامُ السَّبْعَةِ وَيُجْزِئُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا بَقِيَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ السَّبْعَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي السَّبْعَةِ، فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ: فَتُجْزِئُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، إِلَّا أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ نَوَى التَّتَابُعَ بَعْدَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَتْهُ الثَّلَاثَةُ؛ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي السَّبْعَةِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنَّ نَوَى التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ فِيهَا، لَمْ تُجْزِهِ الثَّلَاثَةُ وَلَا السَّبْعَةُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ فَسَادُ نِيَّتِهِ قَادِحًا فِي صَوْمِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّوْمِ وَمُتَابَعَتَهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ، فَلَوْ فَرَّقَ صِيَامَهُ وَلَمْ يَنْوِ كَانَ مُفَرَّقًا، وَلَوْ تَابَعَ وَلَمْ يَنْوِ كَانَ مُتَابِعًا، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّفْرِقَةِ، لَمْ تَكُنْ نِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ قَادِحَةٌ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ التَّفْرِقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ طُرُوءَ الْفَسَادِ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ، لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّوْمِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَصَوْمُ رَمَضَانَ، إِذَا أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فَسَادُ صَوْمِ السَّبْعَةِ قَادِحًا فِي صِحَّةِ صَوْمِ الثلاثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأَيَّامِ الَّتِي أَسْقَطْتُمُوهَا مِنْ صَوْمِهِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُفْطِرًا وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ مُفَرَّقًا؟ قِيلَ الْوَاجِبُ هُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ لَا الْفِطْرُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي زَمَانِ التَّفْرِقَةِ صَائِمًا أَوْ مُفْطِرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤَدِّيًا لِهَذَا الصَّوْمِ فِي زَمَانِهِ فَصَامَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ وَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَصَامَ فِي طَرِيقِهِ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا. حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِصَوْمِ السَّبْعَةِ عَنْ تَمَتُّعِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُجْزِئًا فِي الْأَدَاءِ كَانَ مُجْزِئًا فِي الْقَضَاءِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَى مَاتَ تَصَدَّقَ عَمَّا أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَصُمْهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حنطةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ فَلَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا، فَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ دَمٍ وَلَا صَوْمٍ، أَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَمَتُّعِهِ بِالْحَجِّ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ كَمَالِ أَرْكَانِهِ لَمْ يَكْتَمِلْ لَهُ الْحَجُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ، وَهُوَ فِي مَالِهِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا وَجَبَ بِدُخُولِهِ فِي الْحَجِّ، وَالدَّمُ إِذَا وَجَبَ فِي الْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَجِّ كَدَمِ الوطئ وكفارة الأداء. فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا يُكَفِّرُ بِالدَّمِ، فَالدَّمُ فِي مَالِهِ وَاجِبٌ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ قَدِ اسْتَقَرَّ بِكَمَالِ الْحَجِّ وَمَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا، يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، فَهَذَا عَلَى ضربين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ دُخُولِ زَمَانِ الصَّوْمِ، كَأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ، عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الرَّبِيعُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّمَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِتَمَتُّعِهِ قَدْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، وَبِمَوْتِهِ قَبْلَ زَمَانِ الصَّوْمِ بِطَلَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ هُوَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، فَيُقْضَى عَنْهُ الدَّمُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ بَيْعِ عَرُوضِهِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا فِي حَيَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَالصَّوْمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ بعد موته لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ زَمَانَ الصَّوْمِ، كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، لَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ قَدِ اسْتَقَرَّ بِدُخُولِهِ زَمَانَهُ، وَالدَّمُ لَمْ يَجِبْ لِتَعَذُّرِ إِمْكَانِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ النِّيَابَةُ في الصوم، لا تصح، لَكِنْ يُنْظَرُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ صِيَامِهَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الصِّيَامِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ قَضَائِهَا، وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَنْ كُلِّ يومٍ مُدًّا "، فَلَوْ مَاتَ وَقَدْ أَمْكَنَهُ صِيَامُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، لَزِمَ عَمَّا أَمْكَنَ صِيَامُهُ مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ صِيَامُهُ شَيْءٌ، فَإِذَا وَجَبَتْ هَذِهِ الْأَمْدَادُ بَدَلًا عَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، فَإِنْ فُرِّقَ فِي مَسَاكِينِ غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ مَالٌ، وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَهْلُ الْحَرَمِ كَالدَّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُفَرَّقَ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، فَإِنْ فُرِّقَ فِي غَيْرِهِمْ جَازَ، لِأَنَّ الْإِطْعَامَ بَدَلٌ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَدَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ أَهْدَى فَحَسَنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا تَمَتَّعَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَيَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ أَنَّهُ يَمْضِي فِي صَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ، وَسَوَاءٌ كان يساره في صَوْمِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ أبي حنيفة وَهَلِ الْمُرَاعَى بِإِيسَارِهِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ؟ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَحَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِينَ لَا مُتْعَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ لَيْلَتَيْنِ وَهُوَ حينئذٍ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ سَافَرَ إِلَيْهِ صَلَى صلاة الْحَضَرِ وَمِنْهُ يَرْجِعُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ حَتَّى يَطُوفَ فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُسَافِرًا أَجْزَأَهُ دَمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي مُتَعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) {البقرة: 196) فَاسْتَثْنَى أَهْلَ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُمْ إِذَا تَمَتَّعُوا، وَهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي أَخْذِ التَّمَتُّعِ لَهُمْ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا اسْتَثْنَاهُمْ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ إِذَا تَمَتَّعُوا، وَهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرِفَةُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ كَانَ مِنْ جَوَانِبِ الْحَرَمِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، وَقَدْرُهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَهُوَ بِسَيْرِ النَّقَلِ وَدَبِيبِ الْقَدَمِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُمْ مَنْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَوَاقِيتِ، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: إِنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوًى اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) {البقرة: 196) وَحَاضِرُو الشَّيْءِ مَنْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لَهُ وَقَرِيبًا مِنْهُ، دُونَ مَنْ كَانَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ وَبَعِيدًا مِنْهُ، قَالَ: وَلِأَنَّ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهَا، وَمِيقَاتُ مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَلَوْ أَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ كَانَ دَمُ قِرَانِ الْمِيقَاتِ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانُوا مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي سُقُوطِ التَّمَتُّعِ عَنْهُمْ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي سُقُوطِ دَمِ الْمِيقَاتِ عَنْهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمِيقَاتِ، لَمْ يَكُونُوا كَأَهْلِ مَكَّةَ فِي التَّمَتُّعِ، فَهَذَانِ دَلِيلَا مَالِكٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَيْهِمَا يَتَدَاخَلَانِ، وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِأَنْ قَالَ: الْمِيقَاتُ محل النسك، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الحرام، كأهل منى وعرفات. قال: وَلِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ جُعِلَتْ حَدًّا بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنَ الْحَرَمِ، وَبَيْنَ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لِمَنْ فِيهِ وَدُونَهُ بِأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِيهِ، وَلِمَنْ وَرَاءَهُ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِيهِ. فَصْلٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) {البقرة: 196) . وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: الْحَرَمُ قَالَ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 تَعَالَى: {سُبْحَانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {الإسراء: 1) يَعْنِي: الْحَرَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَنْزِلِ خَدِيجَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ) {الفتح: 25) يعني: الحرم. وقال تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ) {التوبة: 28) وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ عَلَى مَا دَلَّلْنَا إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {البقرة: 144) إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَعْبَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: الْحَرَمُ، فَحَاضِرُو الْحَرَمِ غَيْرُ مَنْ في الحرم قال الله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ) {الأعراف: 163) قال أهل التفسير: هي " أبلة " وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقَارِبَةٌ لِلْبَحْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْحَرَمِ، بَطُلَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَارَبَ قَوْلَهُ وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أبي حنيفة، فَيُقَالُ لَهُ: حَاضِرُو الْحَرَمِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا، كَمَا يُقَالُ: كُنْتُ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ، أَيْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَهَذِهِ حَضْرَةُ الْمَلِكِ لِلْبَلَدِ الَّذِي مُتَوَلِّيهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ بِمَا لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهِ بِالْمِيقَاتِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ فِيهِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ رُخَصَ السَّفَرِ، فَكَانُوا بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ الَّذِينَ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ رُخَصَ السَّفَرِ كَالْأَبَاعِدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَالْأَمْكِنَةِ، وَمَوَاقِيتِ الْبِلَادِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِيقَاتُ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ، وَهِيَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ، وَمِيقَاتُ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ عَلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ بِذِرَاعٍ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ مِنْ حَاضِرِيهِ، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ يَوْمٍ، وَمَنْ كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ وَمِنْ جُمْلَةِ حَاضِرِيهِ، وَبَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَاسِدٌ فِي الْعِبْرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنْ يُقَالَ: كُلٌّ مَنْ لَمْ يَسْتَبِحْ رُخَصَ السَّفَرِ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ، وَكَأَهْلِ ذِي طُوًى. فَأَمَّا أبو حنيفة، فَالْخِلَافُ مَعَهُ يَتَقَرَّرُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ فَوْقَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَاضِرِي الحرم، وعندنا أنه مِنْ حَاضِرِيهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، أَنَّ مَنِ اسْتَبَاحَ رُخَصَ السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ الْآيَةِ، فَقَدْ مَضَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ دَمِ الْفَوَاتِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْحَرَمِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَمَ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ مَنْ كَانَ حَاضِرِي الْحَرَمِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، فَلَمْ يَجُزْ لهم الإحرام من المحرم، فَلَزِمَهُمُ الدَّمُ لِإِخْلَالِهِمْ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهِمْ، وَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة عَلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مثلها الصلاة. وأما قوله " إنما جُعِلَتْ حَدًّا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ "، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حَدًّا لِلْإِحْرَامِ، وَلَمْ تُجْعَلْ حَدًّا لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَوْ جُعِلَتْ حَدًّا لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ لَاسْتَوَتِ الْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَاضِرِي الْحَرَمِ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَكُلُّ مَنْ تَمَتَّعَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمَ أَوْ حَاضِرِيهِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ فَعَلَيْهِ إِذَا تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ دَمٌ، لِتَمَتُّعِهِ أَوْ قِرَانِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِهِ سُقُوطُ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ، وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَمَتَّعَ وَلَهُ وَطَنَانِ، أَحَدُهُمَا بِالْحَرَمِ أَوْ حَاضِرِيهِ، وَالثَّانِي بِغَيْرِهِ، اعْتُبِرَ أَكْثَرُ مُقَامِهِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مُقَامِهِ بِالْحَرَمِ فَهُوَ فِي حُكْمِ أَهْلِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَمَتُّعِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهِ بِغَيْرِ الْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ وَجَبَ تَغْلِيبُ حُكْمِهِ وَلَزِمَهُ الدَّمُ؛ لِتَمَتُّعِهِ، وَإِنِ اسْتَوَى مُقَامُهُ فِيهِمَا اعْتُبِرَ حَالُ مَآلِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا: أَوْ كَانَ فِيهِمَا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ، غَلَبَ حُكْمُ الْوَطَنِ الَّذِي فِيهِ جَمِيعُ مَآلِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَإِنِ اسْتَوَى مَآلُهُ فِي الْوَطَنَيْنِ اعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ فِي العود إلى أحد الوطنين، وغلب حكمه، فإن استوى مآله من الْوَطَنَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا: غَلَبَ حُكْمُ الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَ بِهِ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ عِرَاقِيًّا دَخَلَ مَكَّةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّمَتُّعَ بَعْدَ مُقَامِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَوْ أَنَّ مَكِّيًّا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَنَوَى بِهَا الْمُقَامَ ثُمَّ تَمَتَّعَ لَزِمَهُ الدَّمُ لِتَمَتُّعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَتَّعَ الْعِرَاقِيُّ، ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التمتع (فوجوبه عَلَيْهِ قَبْلَ مُقَامِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: فَلَوْ تَمَتَّعَ الْعِرَاقِيُّ. فَحِينَ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ) وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا فِعْلُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ حَجِّهِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ، فَكَانَ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ دم التمتع. فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ عُمْرَتِهِ وَأَحَلَّ مِنْهَا، فَهُوَ حَلَالٌ كَغَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيَسْتَمْتِعَ بِالنِّسَاءِ، مَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ، سَوَاءٌ سَاقَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَسُقْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا جَازَ، وَإِنْ سَاقَ هَدْيًا لَمْ يَجُزِ احْتِجَاجًا مِمَّا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: " لِأَنِّي لبدت رأسي فقلدت الْهَدْيَ، وَلَا أُحِلُّ حَتَّى انْحَرَ " فَأَخْبَرَ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَانِعٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حجة الوداع، فأحرمنا بعمرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ لَا يُحِلُّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُمَا جَمِيعًا ". وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، فَطَافُوا وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحَلُّوا، فَأُخْبِرْتُ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَحَلَّ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْإِحْلَالِ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَكْمَلَ أَفْعَالَ عُمْرَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهَا كَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، ولأن كل من كَانَ وَقْتًا لِلْإِحْلَالِ لِمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ، كَانَ وَقْتًا لِإِحْلَالِ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ، يُحِلُّ إِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحِلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، كَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَزُولُ عَنْهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، فَلَمْ يَصِحَّ لَنَا وَلَهُمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِاعْتِقَادِنَا خِلَافَهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ لَهُمْ، وَتَرْكُ مَنْعِهِمْ مِنْهُ، وَتَأَوُّلُهُ عَلَى مَا يَصِحُّ فَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ، أَيْ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ حَجِّكَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَمُوا مَعَهُ ابْتِدَاءً بِعُمْرَةٍ أَحَلُّوا مِنْهَا دُونَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَدْ أَحْرَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ إِلَى عُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى حَجِّهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ إِحْرَامُهُ وَإِحْرَامُهُمْ مَوْقُوفًا، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يصرفه إلى الحج، فلما رأت حفصة أَنَّهُمْ قَدْ أَحَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَهُوَ باقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " فَأَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لأبي حنيفة دَلَالَةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَالْمَرْوِيُّ عَنْهَا خِلَافُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ومن كان معه هدي فليهل بالحج ". إنما هو أمر منه عليه السلام لمن كان أحرم بالعمرة أن يهل بِالْحَجِّ فَيَصِيرُ قَارِنًا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ لَا يحل حتى يفرغ منها جَمِيعًا، وَكَذَا نَقُولُ فِي الْقَارِنِ: إِنَّهُ لَا يُحِلَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ النُّسُكَيْنِ جَمِيعًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا فَسْخُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا بالعمرة فالذي يومئ (إليه) الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا، وَإِنَّمَا أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابُهُ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى الْحَجِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ، وَقَالَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ كَانَ فَسْخًا وَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ ويتحلل بعمل عمرة، الرواية بِهَذَا أَشْهَرُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو نَضْرَةَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، جَازَ فِعْلُ مِثْلِهِ فِي وَقْتِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْمَوْقُوفَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ: مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لَمْ يجز (فسخ الحج لنا خاصة، ولا لمن بعدنا، فقال: بل لكم خاصة) فعل مثله في وقتنا هنا، لِمَا رَوَى بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لَنَا وَلِمَنْ بَعْدَنَا فَقَالَ: بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أنه قال: إنما كان ذلك الرهط الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 باب مواقيت الحج قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب وَغَيْرِهَا مِنَ الْجُحْفَةِ وَأَهْلِ تِهَامَةِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَأَهْلِ نَجْدِ الْيَمَنِ قَرْنُ وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَلَوْ أَهَلُّوا مِنَ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمِيقَاتُ فِي لِسَانِهِمْ فَهُوَ الْحَدُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) {البقرة: 189) يَعْنِي أَنَّهَا حَدٌّ لِإِحْلَالِ دُيُونِهِمْ، وَأَوْقَاتِ حَجِّهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ فَمَوَاقِيتُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: ذُو الْحُلَيْفَةِ؛ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: الْجُحْفَةُ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. وَالثَّالِثُ: يَلَمْلَمُ، وَقِيلَ: الْمُسَلَّمُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ تِهَامَةَ وَالْيَمَنِ. وَالرَّابِعُ: قَرْنُ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَالْخَامِسُ: ذَاتُ عِرْقٍ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَوَاقِيتَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا مُقَدَّرَةٍ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ وَيَلَمْلَمُ وَقَرْنُ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنَ ". هَذِهِ الثَّلَاثَةُ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَالَ: " وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ ". وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ (فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ حَيْثُ يَبْدَأُ " فَأَمَّا الْمِيقَاتُ الْخَامِسُ: وَهُوَ ذَاتُ عِرْقٍ، فَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ: هَلْ ثَبَتَ مُقَدَّرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ قِيَاسًا بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؟ فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُؤَقَّتَةٌ بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا أَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ بِنَصٍّ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاقِيتِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُؤَقِّتْ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ سُنَنًا، فَقَالَ: انْظُرُوا مَا حَالُ طَرِيقِهِمْ، قَالُوا: قَرَنُ، قَالَ: اجْعَلُوا مِيقَاتَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ كَانُوا كُفَّارًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ؟ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، اسْتَدَلَّ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عرقٍ ". وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عرقٍ ". وَرَوَى هِلَالُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ ذَاتَ عرقٍ ". وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَغَيْرُ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ كُفْرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ أَيْضًا كُفَّارًا، وَكَانَ بِالشَّامِ قَيْصَرُ، وَبِمِصْرَ الْمُقَوْقِسُ، وَنَصَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى إِسْلَامِهِمْ أَلَا تَرَى مَا رُوي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ". وَقَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: " يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى ". عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمُشْرِقِ مَكَّةَ مِمَّا يَلِي أَرْضَ نَجْدٍ خَلْقٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَّتَهُ لَهُمْ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَحْرَمُوا مِنَ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ؛ وَالْعَقِيقُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ إِلَى مَكَّةَ مِمَّا يَلِي قَرْنَ مِنْ وَرَاءِ الْمَقَابِرِ وَسَيْلِ الْوَادِي عِنْدَ النَّخَلَاتِ الْمُفْتَرِقَةِ؛ وَقَدْ قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 قَوْمٌ: إِنَّ حَدَّ الْعَقِيقِ مَا بَيْنَ بَرِيدِ النقرة إلى العرمة وَعِرْقٍ هُوَ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ عَلَى الْعَقِيقِ، وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الْمُحْدَثَةُ بِهَا، أَحْدَثَهَا طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر الصديق فِي عَهْدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حِينَ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْعَقِيقِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرْوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَأَى رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبُيُوتِ، وَقَطَعَ بِهِ الْوَادِيَ وَأَتَى بِهِ الْمَقَابِرَ، وَقَالَ: هَذِهِ ذَاتُ عِرْقٍ الْأُولَى، فَأَحْرِمْ مِنْهَا يَا ابْنَ أَخِي وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَنِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ: مِنْ ها هنا فَأَحْرِمُ. فَلِذَلِكَ مَا اسْتَحَبَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْعَقِيقِ لِيَكُونَ مُحْتَاطًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ أَثْبَتُ فِي الرِّوَايَةِ مِنَ الْعَقِيقِ مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْعَمَلِ الْجَارِي فِي السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ فِي مَوْضِعٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَخَرِبَ وَأَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهُ قَرْيَةً، فَالْمِيقَاتُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَرِبَ، لَا الْمَوْضِعِ الْمُحْدَثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا كَانَ الْمِيقَاتُ قَرْيَةً أَهَلَّ مِنْ أَقْصَاهُمَا مِمَّا يَلِي بَلْدَهِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَمِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ فِيهِ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْقَرْيَةِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بُيُوتِهَا، أَوْ مِنَ الْوَادِي أَوْ مِنَ الْجَبَلِ إِلَّا مُحْرِمًا، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَقْصَاهَا لِيَكُونَ فِي جَمِيعِ مِيقَاتِهِ مُحْرِمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَدْنَاهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْمِيقَاتِ وَاحِدٌ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ الْمَوَاقِيتِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهَا بِالْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهَا بِالْإِحْرَامِ، وَفِي الْأُولَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي السَّيْرِ، فَأَمَّا قَبْلَ أَخْذِهِ فَلَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَقَدْ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ، وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غُفِرَ لَهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَحْرَمَ مِنَ الشَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 كُرَيْزٍ أَحْرَمَ مِنْ هَرَاةِ خُرَاسَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَعَدُّوهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ وَالِيًا تُحْصَى آثَارُهُ، وَتُعَدُّ هَفَوَاتُهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ نُسُكٌ، وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ طَاعَةٌ، فَكَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْلَى؛ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّ مَرَّةً وَاعْتَمَرَ ثَلَاثًا، فَأَحْرَمَ فِي جَمِيعِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يُحْرِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلَ، وَهُوَ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْأَفْضَلِ لِاخْتِيَارِهِ لنفسه ولفعله ولو مرة ينبه النَّاسَ عَلَى فَضْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَغْلَظَ لَهُ، وَقَالَ: يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ مِنْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ مُبَاحٌ، وَفِعْلَ الْمُحْرِمِ، مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعْصِيَةٌ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَأْمَنْ مُوَاقَعَةَ المعصية باللباس والجماع المقتضي إِلَى الْإِفْسَادِ، فَكَانَ تَرْكُ مَا هُوَ مُبَاحٌ مِنَ الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ أَوْلَى وَمِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " والمواقيت لِأَهْلِهَا، وَلِكُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، وَأَيُّهُمْ مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ، ولم يأت من بلده، كان ميقاته ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي مَرَّ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَمَّا قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا، أَيْ لِسُكَّانِهَا وَالْمُقِيمِينَ بِهَا، كَأَهْلِ ذَاتِ عِرْقٍ، وقوله: " ولكل من يمر بِهَا يُرِيدُ مَنْ كَانَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ إِذَا مَرُّوا بِذَاتِ عِرْقٍ "، وَقَوْلُهُ: " مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً " يُرِيدُ أَنَّ مِيقَاتَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَاحِدٌ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَيْسَ يُعرف فِيهَا مُخَالِفٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، الْخَبَرَ، إِلَى أَنْ قَالَ: " هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلَكُلِّ مَنْ أَتَى عَلَيْهَا مِمَّنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، وَمَنْ كَانَ دُونَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ". وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسَلًا. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَيُّهُمْ مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ بَلَدِهِ، كَانَ مِيقَاتُهُ مِيقَاتَ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي مَرَّ بِهِ، يُرِيدُ أَنَّ الْعِرَاقِيَّ إِذَا عَرَّجَ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى مر (بذي الحليفة صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَزِمَهُ الْإِحْرَامُ من ذي الحليفة، والمدني إِذَا عَرَّجَ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى مَرَّ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 بذات عرق صار في حكم أهل العراق وَلَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَقَوْلُهُ " وَلَمْ يَأْتِ مِنْ بَلَدِهِ " لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، كَمَا وَهِمَ فِيهِ الْمُزَنِيُّ، فَجَعَلَهُ شَرْطًا، بَلْ حُكْمُهُ إِنْ أَتَى مِنْ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُ إِذَا مَرَّ بِمِيقَاتِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مِيقَاتًا لَهُ، لِأَنَّنَا نُجْرِي الْمَوَاقِيتَ مَجْرَى الْقِبَلِ وَإِنَّ كُلَّ مَنْ حَصَلَ فَيَ قِبْلَةِ قَوْمٍ، اسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا، كَالْمَشْرِقِيِّ إِذَا حَصَّلَ بِالْمَغْرِبِ أَوِ الْمَغْرِبِيِّ إِذَا حَصَّلَ بِالْمَشْرِقِ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ، وَأَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتِ غَيْرِ بَلَدِهِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ مِثْلَ مِيقَاتِ بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ، كَالْعِرَاقِيِّ إِذَا مَرَّ بِذَاتِ عِرْقٍ فَلَمْ يُحْرِمْ بِهَا، حَتَّى عَرَّجَ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَقْرَبَ، وَمِيقَاتُ بَلَدِهِ أَبْعَدَ مِنْهُ، كَالْمَدَنِيِّ إِذَا مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا حَتَّى عَرَّجَ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَأَحْرَمَ مِنْهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، كَمَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مِيقَاتِهِ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ مُحْرِمًا، فَسَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَوَاقِيتُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ بقوله: " فَمَنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً " وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ عَامَ حَجِّهِ وَكَانُوا زُهَاءَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا فَأَحْرَمَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ذِي الحليفة، وفيهم حاج ومعتمر. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن سلك برّاً أو بحراً توخى حَتَّى يُهِلَّ مِنْ حَذْوِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا سَلَكَ الرَّجُلُ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ لَهُ مِنْ بَرٍّ أو بحر، فعليه أن يتوخى فِي الْمِيقَاتِ، وَيَجْتَهِدَ حَتَّى يُحْرِمَ بِإِزَائِهِ أَوْ من ورائه، كما يتوخى في جهة القبلة، وكما يتوخى النَّاسُ فِي ذَاتِ عِرْقٍ، عَلَى مَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنْ سَلَكَ مِنْ مِيقَاتَيْنِ فَلَهُمَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أحدهما أقرب إليه من الآخر، فهذا يتوخى فِي الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمِيقَاتَيْنِ سَوَاءٌ، وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا إِلَى الْحَرَمِ أَيْضًا وَعَلَى سَوَاءٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوَتْ حَالُهُمَا فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْحَرَمِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الآخر، فيكون فيهما بالخيار، ويتوخى فِي أَيِّهِمَا شَاءَ حَتَّى يُحْرِمَ بِإِزَائِهِ أَوْ من ورائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا إِلَيْهِ سَوَاءً، وَأَحَدُهُمَا أبعد من الحرم ففيه لأصحابنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَوَخَّى فِي الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الْحَرَمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قال جمهور أصحابنا: إنه مخير فيهما يتوخى فِي أَيِّهِمَا يَشَاءُ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِيقَاتَيْنِ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَبْعَدُ مِنَ الْآخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَإِنْ كان أحدهما أبعد، والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَتَى عَلَى مِيقَاتٍ لَا يُرِيدُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، فَجَاوَزَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُحْرِمَ، أَحْرَمَ مِنْهُ، وَذَلِكَ مِيقَاتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ مَرَّ ميقات بَلَدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عمرة. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ وَلَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصَرِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ، يَبْطُلُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ قَدْ وَرَدَ بِتَقْدِيرِ الْإِحْرَامِ فِي الْمِيقَاتِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِتَقْدِيرِ الْإِحْرَامِ بِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَاجِبٌ، فَعَلَيْهِ إِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فيحرم منه، فإن عاد إليه، فابتداء إِحْرَامَهُ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهُ وَلَمْ يَبْدَأْ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ، وَحَجُّهُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا إِحْرَامَ لَهُ وَلَا حَجَّ، إِلْحَاقًا بِإِحْرَامِ الصَّلَاةِ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَكَفَى بِإِلْحَاقِهِ بِالصَّلَاةِ حُجَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْعَقِدُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ النِّيَّةِ، وَالْمِيقَاتُ فِي الْحَجِّ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فصل " فإذا ثبت أن إحرامه ينعقد، فَإِنْ مَضَى فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ سِوَى مَنْ تَقَدَّمَ خِلَافُهُ وَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ، فقال بعضهم: قد كان واجب عَلَيْهِ الدَّمُ لِمُجَاوَزَتِهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ بِعَوْدِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِفَوَاتِ الْعَوْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ أبو يوسف ومحمد: وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا سَوَاءٌ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وزفر. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ؛ أَنَّهُ إِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ مُلَبِّيًا، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ عَادَ وَلَمْ يُلَبِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَالِكٍ وزفر، فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ، وَلَهُ مَوْضِعٌ، فَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ، مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ "، وَهَذَا تَارِكُ نُسُكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْعُودِ إِلَى الْمِيقَاتِ، كَالْعَوْدِ بَعْدَ الطَّوَافِ. قَالَ: وَلِأَنَّ دَمَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دَمَ الطِّيبِ لَا يَسْقُطُ لِغَسْلِهِ، وَدَمَ اللِّبَاسِ لَا يَسْقُطُ لِخَلْعِهِ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْمِيقَاتِ لَا يَسْقُطُ بِعُودِهِ. قَالَ: وَلِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ جُبْرَانٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ السَّهْوُ، فَكَذَلِكَ إِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَلَزِمَهُ الدَّمُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، لَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ الدَّمِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي فِيهَا، كَمَا أَنَّ دَمَ الْمِيقَاتِ يَجِبُ بِمُجَاوَزَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كُفَّ عَنِ التَّعَدِّي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا دَمَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ حُصُولُهُ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، وَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ ميقاته مبتدأ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُ مَا أُخِذَ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ حَصَلَ مُحْرَمًا فِي مِيقَاتِهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ لِأَجْلِهِ، قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ دَمَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، إِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّفْرِقَةِ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ كَانَ يَلْزَمُهُ قَطْعُهَا بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُحْرِمًا، لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مُتَرَفِّهًا، بَلْ زَادَ نَفْسَهُ مَشَقَّةً، وَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ، لِعَدَمِ مُوجِبِهِ، ولأن من يجاوز الْمِيقَاتَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُحلاً فَأَحْرَمَ مِنْهُ مُبْتَدِئًا، لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَيْهِ الدَّمُ وِفَاقًا فَلِأَنْ لَا يَلْزَمَ الدَّمُ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 محرماً فأحرم منه مبتدئاً لم يلزمه الدم مُحْرِمًا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا، وَلِأَنَّ الدَّمَ يَتَعَلَّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّفْعِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ لَيْلًا سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ إِذَا عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ "، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ نُسُكًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنْ عَادَ بَعْدَ الطَّوَافِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَادَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ إِذَا عَادَ بَعْدَ الطَّوَافِ، فَقَدْ عَادَ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ التَّرَفُّهُ بِاللِّبَاسِ مَوْجُودٌ وَإِنْ خَلَعَهُ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالطِّيبِ حَاصِلٌ وَإِنْ غَسَلَهُ فَالْتَزَمَهُ بالعود إلى الميقات، غير موجود فلذلك يسقط عَنْهُ الدَّمُ وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ، وَدَمُ الْمِيقَاتِ لَا يَجِبُ بِالزِّيَادَةِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالْعَوْدِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ، إِذَا تَعَدَّى فِيهَا فَنَحْنُ وَمَالِكٌ مُجْمِعُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْمِيقَاتِ، لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِالْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي، وَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِالْعَودِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا يَسْقُطُ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِالْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي، وَيَسْقَطُ الدَّمُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ وَجَبَ لِآدَمِيٍّ، وَدَمُ الْمِيقَاتِ وَجَبَ لِلَّهِ تعالى وفرق في الشرع بين إبداء مَا وَجَبَ لِلْآدَمِيِّينَ وَبَيْنَ إِبْرَاءِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا تَنَاوَلَ مَالَ غَيْرِهِ ثُمَّ أَرْسلَهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا أَمْسَكَ صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ. فَصْلٌ فِي دُخُولِ مكة بغير حج أو عمرة وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ دُخُولَ مَكَّةَ لَا لَحْجٍ وَلَا لِعُمْرَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فِيمَنْ أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدْخُلَهُ حَلَالًا بِغَيْرِ نُسُكٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بِأَنْ يُدْخُلَهُ بِغَيْرِ نُسُكٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخُلَهُ إِلَّا مُحْرِمًا بِنُسُكٍ إِمَّا لِحَجٍّ أَوْ لِعُمْرَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، نُظِرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا يُجْبَرُ بِهِ نَقْصُ النُّسُكِ، وَلَا يَجِبُ بَدَلًا مِنْ تَرْكِ النُّسُكِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، نُظِرَ، فَإِنْ عاد إلى الميقات محرماً سقط عنده الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ مُحْرِمًا، وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ لَا يُرِيدَ دُخُولَ مَكَّةَ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلَا حُكْمَ لِاجْتِيَازِهِ بِالْمِيقَاتِ، وَهُوَ كَسَائِرِ الْمَنَازِلِ، لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، فَإِنْ جَاوَزَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي حَدَثَتْ إِرَادَتُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَلَيْهِ الْعُودُ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، كَمَنْ مَرَّ مُرِيدًا لِمِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الْمِيقَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَوْدُ واجباً عليه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ مِنْ أَهْلِهِ لَا يُجَاوِزُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَسْكَنُهُ بين الميقات ومكة كأهل جدة ووج وَعُسْفَانَ، وَالطَّائِفِ، فَمِيقَاتُهُ مِنْ بَلَدِهِ وَدُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَرَاءَهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، أَهَلَّ مِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ " يَعْنِي مِنْ حَيْثُ يَبْتَدِئُ السَّفَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: فِي " قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ) {البقرة: 196) . إِنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ قُدِّرَتْ لِمَنْ كَانَ وَرَاءَهَا، وَلَمْ تُقَدَّرْ لِمَنْ كَانَ دُونَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُمُ الْخُرُوجُ إِلَى الْمِيقَاتِ وَكَذَا مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمِيقَاتِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي قَرْيَةٍ فَهِيَ مِيقَاتُهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أبعد طرفيها إِلَى الْحَرَمِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ من أقرب طرفيها إِلَى الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مُنْزِلُهُ فِي خِيَامٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ طَرَفَيِ الْخِيَامِ إِلَى الْحَرَمِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يحرم من أقرب طرفيها إِلَى الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ مُنْفَرِدًا، فَمِنْهُ يُحْرِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَإِنْ جَاوَزَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ مُحْرِمِينَ كَانُوا كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَعَلَيْهِمْ دَمٌ إِلَّا أَنْ يَعُودُوا مُحْرِمِينَ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْحَرَمِ، فَهُمْ كَأَهْلِ مَكَّةَ لِمِيقَاتِهِمْ فِي الْحَجِّ مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَفِي الْعُمْرَةِ مِنْ أَقْرَبِ الْحِلِّ إِلَيْهِمْ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَيْنَ مِيقَاتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَمَامَهُ، وَالْآخَرُ وَرَاءَهُ، كَأَهْلِ الْأَبْوَاءِ وَالْعَرَجِ وَالسُقْيَا، وَالرَّوْحَاءِ وَبَدْرٍ وَالصَّفْرَاءِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْكَنَهُمْ بَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ، وَهُمَا مِيقَاتَانِ، فَذُو الْحُلَيْفَةِ ورائهم، وَالْجُحْفَةُ أَمَامَهُمْ، فَيَنْظُرَ فِي حَالِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي جَادَّةِ الْمَغْرِبِ وَالشَّامِ الَّذِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 هُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجُحْفَةِ، كَأَهْلِ بَدْرٍ وَالصَّفْرَاءِ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنَ الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ أَمَامَهُمْ، لِأَنَّ الْجُحْفَةَ لَمَّا كَانَتْ مِيقَاتًا لِأَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالشَّامِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ دَارًا مِنْهُمْ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي جَادَّةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى طَرِيقِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، كَأَهْلِ الْأَبْوَاءِ وَالْعَرَجِ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنْ مَوْضِعِهِمُ اعْتِبَارًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، لِكَوْنِهِمْ عَلَى جَادَّتْهَا، وَانْفِصَالِهِمْ عَنِ الْجَحْفَةِ يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَيْنَ الْجَادَّتَيْنِ كَأَهْلِ بَنِي حَرْبٍ، فَإِنْ كَانُوا إِلَى جَادَّةِ الْمَدِينَةِ أَقْرَبَ، أَحْرَمُوا مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِلَى جَادَّةِ الشَّامَ أَقْرَبَ، أَحْرَمُوا مِنَ الْجُحْفَةِ، وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمِيقَاتَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَادَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا بَيْنَ الْجَادَّتَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، وَلَمْ تَكُنْ إِحْدَى الْجَادَّتَيْنِ أَقَرِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأُخْرَى، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ مَوْضِعِهِمْ، كَمَنْ هُوَ إِلَى جَادَّةِ الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاحْتِيَاطِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعِهِمْ، وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْجُحْفَةِ؛ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْحَالَيْنِ يُوجِبُ تساوي الحكمين. فصل : قال الشافعي: " وروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَهَلَّ مِنَ الْفَرْعِ وَهَذَا عِنْدَنَا أَنَهٍ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ لَا يُرِيدُ إِحْرَامًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَهَّلَ مَنْهُ أَوْ جَاءَ إِلَى الْفَرْعِ مِنْ مَكَةَ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَأَ فَأَهَلَّ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا سُؤَالًا عَلَى نَفْسِهِ، لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ رَاوِي الْمَوَاقِيتِ مَرَّ بِذِي الْحَلِيفَةِ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَهَا مِنَ الْفَرْعِ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ، فَلَمَّا حَصَّلَ فِي ضَيْعَتِهِ بِالْفَرْعِ حَدَثَتْ لَهُ إِرَادَةٌ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَأَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالْعُمْرَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ جَائِيًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا حَصَّلَ بِالْفَرْعِ بَدَا لَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَدِينَةِ، وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالْعُمْرَةِ، وَقَدْ نَقَلَ هَذَا بَعْضُ الرُّوَاةِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا صَارَ بِالْفَرْعِ بَلَغَهُ أَمْرُ الْمَدِينَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْفِتْنَةِ وأمر الحرم، وما كان من مسلم بين عقبه المزي مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَحْرَمَ من موضعه بالعمرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 باب الإحرام والتلبية مسألة : قال الشافعي: " وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ مِيقَاتِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْتَسَلَ لِإِهْلَالِهِ ". وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " لَمَّا صِرْنَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تغتسل لِلْإِهْلَالِ ". وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالطَّاهِرُ وَالْحَائِضُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَسْمَاءَ بِالْغُسْلِ وَهِيَ نُفَسَاءُ، وَلَيْسَ الْغُسْلُ فَرْضًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَاخْتِيَارٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا تَرَكْتُ الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ قَطُّ وَلَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ لَهُ مَرِيضًا فِي السَّفَرِ، وَإِنِّي أَخَافُ ضَرَرَ الْمَاءِ وَمَا صَحِبْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ فَرَأَيْتُهُ تَرَكَهُ وَلَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَدَا بِهِ أَنْ رَآهُ اخْتِيَارًا. فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ اخْتَرْنَا لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَرَكَ اخْتِيَارًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ فِي الْحَجِّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ، الْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْغُسْلُ لِوُقُوفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَالْغُسْلِ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَغْتَسِلُ لِرَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ رَمَى أَيَّامَ مِنًى، لَا يَفْعَلُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَانْصِبَابِ الْعَرَقِ، فَكَانَ فِي الْغُسْلِ تَنْظِيفٌ لَهُ، وَجَمْرَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، تُفْعَلْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ، فِي وَقْتٍ لَا يُتَأَذَّى بِحَرِّهِ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْغُسْلِ لَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاسْتُحِبَّ الْغُسْلُ مِنْ هَذَا عِنْدَ تَغْيِيرِ الْبَدَنِ بِالْعَرَقِ وَغَيْرِهِ تَنْظِيفًا لِلْبَدَنِ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْغُسْلَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ وحلق الشعر ولكواف الصدر، فجعل الغسل مستحباً على القديم على عَشَرَةِ مَوَاضِعَ. فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِحَلْقِ شَعْرِهِ، وَتَنْظِيفِ جَسَدِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِلْإِحْرَامِ بِحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الإبط، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وقص الشارب، والأظافر، وغسل رؤوسهم. وَرَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بأشنانٍ وخطمى ". مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتَجَرَّدَ وَلَبِسَ إِزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ لِبَاسَ مَا أَلِفَهُ مِنَ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا نَادَى فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا الَّذِي يَتَجَنَّبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: " لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْخُفَّيْنِ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ ورسٌ ". فَإِذَا نَزَعَ ثِيَابَهُ الْمَعْهُودَةَ، واغتسل لبس إِزَارًا وَرِدَاءً، وَنَعْلَيْنِ، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إزارٍ ورداءٍ وَنَعْلَيْنِ " وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَا جَدِيدَيْنِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنْ يَكُونَا أَبْيَضَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ، فَلْيَلْبَسُهَا أَحْيَاؤُكُمْ، وَلْيُكَفَّنْ فِيهَا مَوْتَاكُمْ "، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْبَيَاضِ إِلَى الْمَصْبُوغِ، فما صبغ عزلاً قَبْلَ نَسْجِهِ، كَعُصُبِ الْيَمَنِ وَالْأَبْرَادِ وَالْحِبَرَةِ، لِأَنَّهُ بِالرِّجَالِ أَشْبَهُ، فَإِنْ لَبِسَ مَا صُبِغَ بَعْدَ نَسْجِهِ، كَانَ عَادِلًا عَنِ الِاخْتِيَارِ وَأَجْزَأَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُعَصْفَرٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَحْرَمَ فِي ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَأَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْرَمَ فِي رِدَائَيْنِ فَإِنْ أَحْرَمَ جُنُبًا وَلَبِسَ ثَوْبًا نَجِسًا كَانَ بِذَلِكَ مُسِيئًا، وَكَانَ إِحْرَامُهُ مُنْعَقِدًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ مِنْ حَدَثٍ أو نجس. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَطَيَّبُ لِإِحْرَامِهِ إِنْ أَحَبَّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ، كَالْبَخُورِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ بِمَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ محرم وَلَا مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وأبو يوسف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وقال مال: يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، فَإِنْ تَطَيَّبَ أُمِرَ بِغَسْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ حَتَّى أَحْرَمَ وَالطِّيبُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ وَبِتَحْرِيمِهِ فِي الصَّحَابَةِ قَالَ عَمْرُ وابْنُ عُمَرَ، وَفِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَفِي الْفُقَهَاءِ محمد بن الحسن، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ فَقَالَ: " أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُحْرِمِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الطِّيبِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ؛ وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَمْتُ وَعَلَيَّ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: انْزَعِ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلِ الصُّفْرَةَ ". فَكَانَ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ اسْتَدَامَتْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ مُحْرِمًا، وَعَلَيْهِ طِيبٌ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَنْ طَيَّبَكَ، فَقَالَ: أَمُّ حَبِيبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ إِلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ عَنْكَ كَمَا طَيَّبَتْكَ. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا أحرمنا، وجد عمر ريح طيب، فَقَالَ: مِمَّنْ هَذَا الرِّيحُ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ امْرَأَتَكَ عَطَّرَتْكَ أَوْ عَطَّارَةٌ، إِنَّمَا الْحَاجُّ الْأَذْفَرُ الْأَغْبَرُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتْرَفَّهُ بِهِ الْمُحْرِمُ، فَوَجَبَ إِذَا مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَائِهِ، أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ، كَاللِّبَاسِ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ القاسم بن محمد عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيَّ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنَّا إِذَا سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى مكة يضمخ جباهنا بالمسك، فكنا إذا عرقنا سال عَلَى وُجُوهِنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، فَلَا يَنْهَانَا. وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ثلاث من إحرامه ولأنه معنى يراد للبقاء والاستدامة، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتَدَامَتْهُ كالنكاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِ: " الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ " فَهُوَ أَنَّ تَطَيُّبَهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ عَلَى أَنَّ الشَّعَثَ إِنَّمَا يَزُولُ بِالْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ. وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، فالأمر إنما كان ينزع اللِّبَاسِ وَغَسْلَ أَثَرِ التَّزَعْفُرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبَاحٌ. لِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّزَعْفُرِ ". وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّطَيُّبِ، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَإِنْكَارُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالْبَرَاءِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ حِينَ رَاجَعَهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ صَحَابَةٌ وَقُدْوَةٌ، فَخَشِيتُ أَنْ يَرَاكُمُ الْجَاهِلُ فَيَقْتَدِيَ بِكُمْ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ طِيبَكُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ. حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ عَلَى رَأْسِهِ، مِثْلَ الرُّبِّ مِنَ الْغَالِيَةِ؛ فَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُ عُمَرَ مَعَ خِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اللِّبَاسِ؛ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ لِيُنْزَعَ، فَكَانَتِ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ. وَالطِّيبُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِتْلَافِ فَلَمْ تَكُنِ الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْإِحْرَامُ مَنَ اسْتِدَامَتِهِ. فَبَاطِلٌ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنَ اسْتِدَامَتِهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ. مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ لَبَّى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يستحب أن يحرم الرجل عقيب صلاة، فإنه كان وقت صلاة مفروضة، صلى (الفرض وإن لم يكن وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، صَلَّى) رَكْعَتَيْنِ. لِرِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ " النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى ذَا الْحُلَيْفَة ِ فَصَلَّ ى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ببطحائها ثم ركب ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ الْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي الِاخْتِيَارِ، فَهُوَ أَنْ تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ، إِنْ كَانَ رَاكِبًا، أَوْ يَتَوَجَّهُ فِي السَّيْرِ إِنْ كَانَ مَاشِيًا. وَقَالَ أبو حنيفة يُمْهَلُ إِذَا صَلَّى وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي لِأَعْجَبِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِهْلَالِهِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَهَّلَ فِي مَحَلَّتِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَهَّلَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْجَبَ فِي محلته، فلما انبعثت به راحلته أهل، فلما أشرف على البيداء أَهَلَّ. وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا، فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَحَلَّتِهِ أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، أَهَلَّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْبَيْدَاءِ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْلَى، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْإِمْلَاءُ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُهِلُّ إِلَّا حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَنَفَى وَأَثْبَتَ، وَالنَّفْيُ مَعَ الْإِثْبَاتِ لَا الْإِثْبَاتُ الْمُجَرَّدُ، بَلْ هُوَ أَوْكَدُ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ فعله وروى سعد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا أخذ في طريق الفرع أهل حين تنبعث به راحلته و ... في طريق إحرامه حين أشرف على البيداء. وهو إخبار عن فِعْلِهِ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ ". فَدَلَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى. وَلَمْ يَكُنْ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارِضًا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلٍ وَفِعْلٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ نَقَلَ فِعْلًا مُجَرَّدًا وَلِأَنَّهُمَا أخبار عن دوام فعل وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ فِعْلٍ مَرَّةً، عَلَى أَنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَخْبَارُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَدَوَامَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً عِنْدَ دخوله فيه وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر بالغسل وتطيب لإحرامه وتطيب ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْإِحْرَامُ يَنْعَقِدُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، إِمَّا التَّلْبِيَةُ، أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ. فَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، إِلَّا أَنْ يُلَبِّيَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ ". وَهَذَا أَمْرٌ وبرواية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُمْ: " إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى فَأَهِلُّوا ". وَحَقِيقَةُ الْإِهْلَالِ، إِظْهَارُ الْحَالَةِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، لَا يُدْخَلُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهَا دُخُولُ الْوَقْتِ، ولأنها عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي انْتِهَائِهَا ذِكْرٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي ابْتِدَائِهَا ذِكْرٌ كَالصَّلَاةِ. وَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَرِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ". فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ التَّلْبِيَةِ، وَمَعْلُومٌ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ إِلَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. فَثَبُتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ سَوْقُ الْهَدْيِ، وَلَا التَّلْبِيَةُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ: " الْعَجُّ وَالثَّجُّ ". فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إِرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ. فَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجَ الْفَضْلِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِرَاقَةِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ لَا يَقِفُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الدُّخُولُ فِيهَا بِغَيْرِ ذِكْرٍ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ شَرْطًا، كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِهْلَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحْرَامِ لَا عَنِ التَّلْبِيَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَيْ إِحْرَامٌ كَإِحْرَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ، فَمُوجِبُهُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ، وَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِحْرَامِ: إِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْوَقْتِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ، لَمْ يَصِحَّ دُخُولُهُ فِيهَا إِلَّا بِذِكْرٍ وَاجِبٍ، وَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ خُرُوجُهُ مِنَ الْحَجِّ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ لَمْ يَفْتَقِرْ دُخُولُهُ فِيهِ إِلَى ذِكْرٍ وَاجِبٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ: اللَّهُمَّ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي وَبَشَرِي وَعَظْمِي وَدَمِيَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَبَّى بِحَجٍّ وَهُوَ يُرِيدُ عُمْرَةً، فَهِيَ عمرةٌ، وَإِنَ لَبَّى بعمرةٍ وَهُوَ يُرِيدُ حَجًّا فَهُوَ حَجٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي إِحْرَامِهِ عَلَى نِيَّتِهِ دُونَ تَلْبِيَتِهِ فَإِذَا نَوَى حَجًّا وَلَبَّى بِعُمْرَةٍ كَانَ حَجًّا، وَلَوْ نَوَى عُمْرَةً وَلَبَّى بِحَجٍّ كَانَتْ عُمْرَةً، وَلَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا، وَلَبَّى بِهِمَا انْعَقَدَ مَا نَوَى، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا دَاوُدَ فَإِنَّهُ شَذَّ بِمَذْهَبِهِ، وَقَالَ: الْمُعَوَّلُ عَلَى لَفْظِهِ دُونَ نِيَّتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". فَلِأَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى النِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ وَلَمْ يَنْوِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَلَوْ نَوَى وَلَمْ يتلفظ كان محرماً، فوجب، إذا اختلفت بنيته ولفظه أن يحكم بنيته دون لفظ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لِمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا إِحْرَامًا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا لِفَقْدِ ما انعقد به الإحرام وهو النية، وحتى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّلْبِيَةَ لِلْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِحْرَامِ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَمْ يَكْرَهِ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضِقْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَقِيَ رُكْبَانًا لِسَالِحِينَ مُحْرِمِينَ فَلَبَّوْا فَلَبَّى ابْنُ مَسْعُودٍ وهو داخل الكوفة. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لَبَّى يُرِيدُ الْإِحْرَامَ وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً فَلَهُ الْخَيَارُ أَيُّهُمَا شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِلْإِحْرَامِ حَالَانِ، حَالُ تَقْيِيدٍ وَحَالُ إِطْلَاقٍ. فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَمَّا أَحْرَمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ نُسُكًا بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فهو أن ينوي إحراماً موقوفاً لا يقيده بِحَجٍّ وَلَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا بَعْدُ فِيمَا شَاءَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ وَأَصْحَابُهُ مُهِلِّينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلْ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ حَجًّا، وَلَبَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو موسى الأشعري رضي الله عنهما باليمين وَقَالَا عِنْدَ تَلْبِيَتِهِمَا: إِهْلَالٌ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمَا وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ من سقايته فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ قَالَ: فَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ، وَلِأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ ولم يكن قد حرم عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ يَصِيرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ تَطَوُّعًا، أَوْ نَذْرًا، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، كَانَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِاعْتِقَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنُسُكٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الصَّلَاةَ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي شُهُورِ الْحَجِّ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ مِنْ نُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِيَصْرِفَ إِحْرَامَهُ الْمَوْقُوفَ إِلَى مَا يَشَاءُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْعُمْرَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعُمْرَةِ، وَيَصِيرُ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ مُنْعَقِدًا بِالْعُمْرَةِ، وَإِذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ الْمَوْقُوفُ فِي شَهْرِ الْحَجِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مَوْقُوفًا، لِيَصْرِفَهُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟ أَوْ يَكُونُ مُعَيَّنًا بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْقُوفَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى صَرْفِهِ إِلَى مَا يَخَافُ فَوْتَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا، أَمْكَنَهُ تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا قدم الحج، لأن لا يَفُوتَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ الْمُعَيَّنَ أَوْلَى، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمدينة لسبع سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَانْطَلَقْنَا لَا نَعْرِفُ إِلَّا الْحَجَّ لَهُ خَرَجْنَا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا طَافَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ، وَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَهُمْ كَانَ مَعْنِيًّا بِالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَيَّنَهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ مَاضِيًا فِي نُسُكِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ كان منظراً لَهُ، وَالدَّاخِلُ فِي نُسُكِهِ أَوْلَى مِنَ الْمُنْتَظِرِ لَهُ، فَلَوْ نَوَى إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَزِمَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَوْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُعَيَّنًا لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ أَحْرَمَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ مَا أحرم فِي تَلْبِيَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْلَى إِظْهَارُهُ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجٍّ، إِنْ كَانَ مُفْرِدًا، أَوْ بِعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أَوْ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ إِنْ كَانَ قَارِنَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَتَانِي آتٍ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: قُلْ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وبعمرةٍ " وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَنْ ذِكْرِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَلْبِيَتِهِ قَطُّ لَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُسَمِّي أَحَدُنَا حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ فَقَالَ: أتنبؤن إِلَيْهِ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ إِنَّمَا هِيَ نِيَّةُ أحدكم ". مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا فَنَسِيَهُ، فَهُوَ قَارِنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَحْرَمَ بِأَحَدِ نسكين، ثم نسيه فلم يدر أبعمرة كَانَ إِحْرَامُهُ أَمْ بِحَجٍّ؟ فَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ فِي بَابِ وجه الإهلال ومن لبى يَنْوِي شَيْئًا، فَنَسِيَ مَا نَوَى، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْرِنَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ بَاقٍ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجَزِّئَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِمَا وَيَجْتَهِدَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي الْإِنَائَيْنِ، وَيَجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الصَّوْمِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الزَّمَانَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، كَالْإِنَائَيْنِ وَالْجِهَتَيْنِ، فَأَمَّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي فِعْلِهِ فَالتَّحَرِّي غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ وَيَبْنِي فيه على اليقين كما لو اشتبه عليه أداء صلاة وأعداد ركعات عمل فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ، فَكَذَا الْإِحْرَامُ، لَمَّا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ وَجَبَ أَنْ يعمل فيه على اليقين، فينوي القرن وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَالتَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا عَلَيْهِ، دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، كَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ عَلَى الْقِبْلَةِ دَلَائِلَ، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْأَوَانِي دَلَائِلَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَى النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ دَلَالَةٌ، يُعْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَا أَمَارَةَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، وَأَمَّا إِذَا شَكَّ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُعْتَمِرًا؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: يَكُونُ قَارِنًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مُحْتَمَلٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَرِّي، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَتَحَرَّى فِي إِحْرَامِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّهَ كان يحج مضى فيه وأجزأه وإن غلب على ظنه إن كَانَ بِعُمْرَةٍ مَضَى فِيهَا وَأَجْزَأَتْهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا، اعْتَقَدَ الْقِرَانَ حِينَئِذٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ، عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْقِرَانَ، وَيَنْوِيَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ قَدْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يَصِيرُ قَارِنًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمَا، فَإِنْ نَوَى الْقِرَانَ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الأجزاء، فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَجُّ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ، فَقَدْ أَدَّاهُ، وَلَا يَضُرُّهُ إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ، فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كان قارناً فهو أحد نسكيه، فأما العمرة فإجزائها يَتَرَتَّبُ، عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَجُوزُ إدخالها عَلَى الْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ إِدْخَالُهَا عَلَى الْحَجِّ فَعَلَى هذا هل تجزئه الْعُمْرَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُجْزِئُهُ، لِأَنَّهَا قَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَيُجْزِئُ، أَوْ أَدْخَلَهَا على الحج فلا تجزئ. والوجه الثاني: تجزئه، لِأَنَّ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، لَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِزَوَالِ الْإِشْكَالِ وَارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ وَحُصُولِ الضَّرُورَةِ فَجَائِزٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا يُجْزِئَانِهِ عَنْ فَرْضِهِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَجَّ يُجْزِئُ وَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُجْزِئُ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إِذَا لَمْ تُجْزِهِ فَالْقِرَانُ لَا يُحْكَمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دَمٌ لِأَجْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، عَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّنَا لَمْ نُسْقِطْ فَرْضَ الْعُمْرَةِ عَنْ ذِمَّتِهِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قد يسقط، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ الدَّمُ احْتِيَاطًا وَإِنْ جاز أن يكون لم يجب، فكذا حُكْمُ شَكِّهِ إِذَا كَانَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ فِي نُسُكِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ، ويرمي، وقد حل من إحرامه بيقين لا تبيانه بِأَفْعَالِ النُّسُكَيْنِ، كَمَالًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَاجًّا، فَقَدْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 عَلَيْهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَدْ أَدْخَلَ الْحَجَّ بَعْدَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يُجْزِهِ الْحَجُّ، وَكَذَا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، أَتَى مَا بَقِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ: إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْدٍ، فَهُوَ جَائِزٌ وَمُحْرِمٌ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ مِنْ حج أو عمرة أو قران، لأن عليّاً بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ، وَقَالَا: إِهْلَالًا كَإِهْلَالِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ هَدْيًا، فَأَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ؛ لأنه قد كان سَاقَ هَدْيًا، وَأَمَرَ أَبَا مُوسَى أَنْ يُحْرِمَ بَعُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَاقَ هَدْيًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا، أَوْ حَلَالًا. وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا، قِيلَ بهذا الْمُحْرِمِ: لَكَ أَنْ تَصْرِفَ إِحْرَامَكَ إِلَى مَا شِئْتَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ زَيْدٌ حَلَالًا، فَهَلَّا كَانَ هَذَا حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا جَعَلَ زَيْدٌ عَلَى نَفْسِهِ. قِيلَ هَذَا، قَدْ عَقَدَ إِحْرَامَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُقَلْ أَنَا مُحْرِمٌ إِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ صِفَةَ إِحْرَامِهِ كَصِفَةِ إِحْرَامِ زَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرِمًا لَمْ يَكُنْ إِحْرَامُ هَذَا مَوْصُوفًا، وَكَانَ مَوْقُوفًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ قِرَانٍ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْمُحْرِمِ، كَإِحْرَامِهِ مِنْ إِحْرَامَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمَ بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ أَحْرَمَ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ حَاجًّا، أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَرَنَ وَالْعِلْمُ بِإِحْرَامِهِ قَدْ يَكُونُ بِإِخْبَارِهِ وَقَوْلِهِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، بِمَاذَا أَحْرَمَ زَيْدٌ، لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ مَاتَ، أَوْ غَابَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقِرَانَ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَارِنًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي إِحْرَامِ نَفْسِهِ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا؟ يَكُونُ قَارِنًا، قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَنَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَدْ قَرَنَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إِحْرَامِي كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ، وَالْآخَرُ بِعُمْرَةٍ كَانَ هَذَا قَارِنًا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَارِنًا وَالْآخَرُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا كَانَ قَارِنًا وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ كَانَ حَاجًّا لَا غَيْرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ كَانَ هذا معتمر، كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلا واحدة. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويرفع صوته بالتلبية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 " أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَنْ مَعِي أَنْ يرفعوا أصواتهم بِالتَّلْبِيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّلْبِيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ، ألب فلان بالمكان ولب إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَمَعْنَى لَبَّيْكَ، أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عِنْدَ طَاعَتِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (مَحَلُّ الفخر أنت به ملب ... مَا تَزُولُ وَلَا تَرِيمُ) وَقَالَ آخَرُ: (لَبِّ بأرض ما تخطاها الغنم) وهذا قول الخيل وَثَعْلَبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَمَعْنَاهَا: إِجَابَتِي لَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: (لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَأَنَا ذَا لَدَيْكُمَا) وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ: وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللَّبِّ، واللباب الذي يكون خالص الشي، وَمَعْنَاهَا: الْإِخْلَاصُ أَيْ أَخْلَصْتُ لَكَ الطَّاعَةَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ لُبِّ الْعَقْلِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ لِبَيْتٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا: أَيْ مُنْصَرِفٌ إِلَيْكَ وَقَلْبِي مُقْبِلٌ عَلَيْكَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمُ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ، إِذَا كَانَتْ لِوَلَدِهَا مُحِبَّةً، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا: مَحَبَّتِي لَكَ وَمِنْهُ قول الشاعر: (وكنتم كأم لبةٍ ظعن ابْنُهَا ... إِلَيْهَا فَمَا دَرَّتْ عَلَيْهِ بِسَاعِدِ) وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ: الْحُجَّاجُ، وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، مَا أَهَلَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 مُهِلٌّ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شرفٍ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ تَكْبِيرَهُ حَتَى يَنْقَطِعَ بِهِمْ مُنْقَطَعُ التُّرَابِ " وَرَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي الْآنَ فَقَالَ: قُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ ". وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاجِبَةٌ وَزَعَمَا أَنَّهُمَا وَجَدَا لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كتبه نص يدل عليه. فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ". قال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ - يَعْنِي فِي الْحَجِّ - فَقَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانُوا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنَ التلبية. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلَبِّي الْمُحْرِمُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَنَازِلًا وَجُنُبًا وَمُتَطَهِّرًا وَعَلَى كُلِ حَالٍ رَافِعًا صَوْتَهُ فِي جميع مساجد الجماعات وفي كل موضعٍ وكان السلف يستحبون التلبية عند اضطمام الرفاق وعند الإشراف والهبوط وخلف الصلوات وفي استقبال الليل والنهار وبالأسحار ونحبه على كل حال ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُلَبِّيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَرَاكِبًا، وَنَازِلًا، وَجُنُبًا، وَمُتَطَهِّرًا، وَعِنْدَ اضْطِمَامِ الرِّفَاقِ، وَعِنْدَ الْإِشْرَافِ، وَالْهُبُوطِ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ السَّلَفِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِ أَحْيَانِهِ ". فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مِنْهَا مَسْنُونٌ: أَحَدُهُمَا: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. وَالثَّانِي: الْمُصَلَّى بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّالِثُ: مَسْجِدُ الْخَيْفِ بِمِنًى، فَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَرْفَعَ النَّاسُ أصواتهم بالتلبية فيها، فأما ما عادها مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَ فِي القديم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ الْمُصَلِّينَ وَالْمُرَابِطِينَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَحَبَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَتِ الْمَسَاجِدُ أَوْلَى الْبِقَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ ". وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَانَ يُوقِظُ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَبُّوا فَإِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " التَّلْبِيَةُ زِينَةُ الْحَجِّ ". فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ في أدبار الصلوات المفروضات مستحبة، وَكَذَا النَّوَافِلُ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي الطَّوَافِ، فَقَدْ كَرِهَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ لِلْأَثَرِ مِنَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُلَبِّي حَوَالَيِ الْبَيْتِ، إلا عطاء والسائب وروي عن سفيان بن عيينة، أنه قال: ما رأيت أحداً يلبي طائفاً حول الْبَيْتِ، إِلَّا عَطَاءٌ وَالسَّائِبُ وَلِأَنَّ فِي الطَّوَافِ أذكار مَسْنُونَةٌ إِنْ لَبَّى فِيهَا تَرَكَهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْأَصْلُ فِي التَّلْبِيَةِ؟ قِيلَ: الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قال الله تعالى له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (الحج: 27) . فَأَجَابَهُ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ: لَبَّيْكَ دَاعِيَ رَبِّنَا لَبَّيْكَ، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ فِي الْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ، أَهْلُ الْيَمَنِ فَكَانَ هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ جَرَى الناس عليها، ووردت السنة بها. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ " لِأَنَّهَا تَلْبِيَةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يضيق أن يزيد عليه وأختار أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقصر عنها ولا يجاوزها إلا أن يرى شيئاً يعجبه فيقول: " لبيك إن العيش عيش الآخرة " فإنه لا يروى عنه من وجه يثبت أنه زاد غير هذا فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَأَلَ اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النار فإنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا لَفْظُ التَّلْبِيَةِ وَصِفَتُهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا فَهُوَ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 هُرَيْرَةَ فَبَعْضُهُمْ رَوَى: " لَبَّيْكَ أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنَّ - عَلَى مَعْنَى - لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَبَعْضُهُمْ رَوَى بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يُقَصِّرَ عَنْهَا، وَلَا يُجَاوِزُهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَ بَعْضَ بَنِي أَخِيهِ يَقُولُ: لَبَّيْكَ يَا ذَا الْمَعَارِجِ، فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَمَا هَكَذَا كما نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ زِيَادَاتٌ، فَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخير بيديك، لبيك والرغبة وإليك وَالْعَمَلُ. وَرَوَى الْمِسْوِرُ بْنُ مَخْرَمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إِلَيْكَ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا ضُيِّقَ عَلَى أَحَدٍ فِي مِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ مَعَ التَّلْبِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يُجَاوِزُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّلْبِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا زِيَادَاتٌ. فَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ ". وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلبي " لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً ". فيستحب أَنْ يُفْرِدَ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا، زَادَ مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ، لَا يُجَاوِزُهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ صُلَحَاءِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ أَنْتَ مَلِيكُ مَنْ مَلَكَ مَا خَافَ عَبْدٌ أَمَّلَكَ. فَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ عَنِ الرَّسُولِ، وَلَا مَأْثُورٍ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ. فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، واختلف أهل اللغة في معنى لقولهم: سَعْدَيْكَ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ: أَيْ مَعَكَ أَسْعَدُ بِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، هَلْ هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّلْبِيَةِ، أَوِ الْإِفْرَادِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَحَّدَةٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ لَهَا وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ خَلْفٍ الْأَحْمَرِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إِذَا لَبَّى، فَاسْتَحَبَّ أَنْ يُلَبِّيَ ثَلَاثًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَ: لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُكَرِّرَ قَوْلَهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَالثَّالِثُ: يُكَرِّرُ جَمِيعَ التَّلْبِيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويسأل اللَّهَ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَمُسْتَحَبَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) {الشرح: 4) قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبًا فِيهِ، كَانَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبَةً فِيهِ كَالصَّلَاةِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحَبًّا فِيهِ، كَانَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَحَبًّا فِيهِ، كَالْأَذَانِ، وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارُ فَلِرِوَايَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عمرةٍ، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ برحمته من النار ". مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ إِلَّا مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنَ السِّتْرِ وَأَسْتَرُ لَهَا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنَّ لَهَا أَنْ تَلْبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَبَاءَ والدرع والسراويل والخمار والخفين والقفازين وإحرامها في وجهها فلا تخمره وتسدل عليه الثوب وتجافيه عنه ولا تمسه وتخمر رأسها فإن خمرت وجهها عامدة افتدت وأحب إليّ أن تختضب للإحرام قبل أن تحرم وروي عن عبد الله بن عبيد وعبد الله بن دينار قال من السنة أن تمسح المرأة بيدها شيئاً من الحناء ولا تحرم وهي غفل وأحب لها أن تطوف ليلاً ولا رمل عليها ولكن تطوف على هينتها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَنَاسِكُهِمَا، فَالْمَرْأَةْ وَالرَّجُلُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، الْإِحْرَامِ، وَالْوُقُوفِ، وَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، فَأَمَّا هَيْئَاتُ الْإِحْرَامِ، فَالْمَرْأَةُ فِيهَا مُخَالِفَةٌ لِلرَّجُلِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ، مَأْمُورَةٌ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، كَالْقَمِيصِ، وَالْقَبَاءِ، وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَلُبْسِ مَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا سَتْرَ جَمِيعِ بَدَنِهَا، إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، وَالرَّجُلُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالْفِدْيَةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ، بِخَفْضِ صَوْتِهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَالرَّجُلِ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ، لِأَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ يَفْتِنُ سَامِعَهُ , وَرُبَّمَا كَانَ أَفْتَنَ مِنَ النَّظَرِ، قَالَ الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 (يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ ... وَالْأُذُنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا) وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ، كَمَا كَانَ حُرْمُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ فَلَا يُغَطِّيهِ، لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تنتقب المرأة وهي محرمة وتلبس الْقُفَّازَيْنِ ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ ". فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ كَشْفَ وَجْهِهَا فِي الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ شَيْئًا مِنْهُ، إِلَّا مَا اسْتَعْلَى مِنَ الْجَبْهَةِ وَاتَّصَلَ بقصاص الشعر الذي لا يمكن للمرأة سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ، إِلَّا بِشَدِّهِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ كَالْعَوْرَةِ فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ، فَإِنْ سَتَرَتْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهَا، بِمَا يَمَاسُّ الْبَشَرَةَ، فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَوْ غَطَّتْهُ بِكَفَّيْهَا، لَمْ تَفْتَدِ، كَالرَّجُلِ يَفْتَدِي إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، وَلَا يَفْتَدِي، إِذَا غَطَّاهُ بِكَفَّيْهِ، فَإِنْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَاسَّ الْبَشَرَةَ، جَازَ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ ثَوْبًا فَتَشُدَّهُ عِنْدَ قُصَاصِ الشَّعْرِ، كَالْكَوْرِ، وَتُسْدِلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ وَتُمْسِكُهُ بِيَدَيْهَا حَتَّى لَا يَمَاسَّ وَجْهَهَا، فإنما جَازَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَقْبَلَ الرَّاكِبُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُسْدِلَ عَلَى وجوهنا سدلاً " وَلِأَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ فَوْقَ رَأْسِهِ وَيُغَطِّيَهُ، كَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ فِي وَجْهِهَا. وَالرَّابِعُ: لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فِي كَفَّيْهَا، فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَهَا لَبْسُهُمَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وأبو حنيفة؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ حُرْمَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، دَلَّ على انتقائه عَنْ سَائِرِ بَدَنِهَا. وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُرْمُهُ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ بَدَنِهِ كَالرَّجُلِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَوْ مَنَعَ مِنْ تَغْطِيَةِ كَفَّيْهَا بِالْقُفَّازَيْنِ، لَمَنَعَ مِنْ تَغْطِيَتِهَا بِالْكُمَّيْنِ، كَالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحْرُمُ بِتَغْطِيَتِهِ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، فَلَمَّا جَازَ تَغْطِيَةُ كَفَّيْهَا بِالْكُمَّيْنِ، جَازَ بِالْقُفَّازَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ: لَيْسَ لَهَا لُبْسُهُمَا، فَإِنْ لَبِسَتْهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهَا الْفِدْيَةُ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَابْنُ عُمَرَ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تنتقب المرأة وهي محرمة وتلبس الْقُفَّازَيْنِ ". وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الْحُرَّةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِحْرَامُ بِهِ كَالْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الرجل لما يتعلق حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِرَأْسِهِ فِي وُجُوبِ كَشْفِهِ تَعَلَّقَ بِسَائِرِ بَدَنِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ، مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 تَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِوَجْهِهَا فِي وُجُوبِ كَشَفِهِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِمَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِيهِ مَعَ جَوَازِ تَغْطِيَتِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ لَهَا أن تختضب لإحرامها بالحناء، ولا يكون عسفاً لرواية موسى بن عبيدة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ فَلْتُلَطِّخْ بَدَنَهَا بِالْحِنَّاءِ ". وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْرَجَتْ يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَرَآهَا بَيْضَاءَ، فَقَالَ: هَذه كَفُّ سبعٍ أَيْنَ الْحِنَّاءُ؟ ". وَلِأَنَّ فِيهِ مُبَايَنَةً لِلرِّجَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. فَأَمَّا الْخِضَابُ فِي حَالِ إِحْرَامِهَا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا فِيهِ، وَإِنْ خَالَفَ أبو حنيفة فِيهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ. ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ طَلَتْ يَدَهَا بِالْحِنَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلُفَّ عَلَيْهَا الْخِرَقَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَفَّتْ عَلَيْهَا الْخِرَقَ وَشَدَّتْهَا بِالْعَصَائِبِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ جَائِزٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَنَّ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهِمَا وَاجِبَةٌ، فَهَلْ عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ فِي الْخِرَقِ وَالْعَصَائِبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ تَشَبُّهًا بِالْقُفَّازَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا تَشَبُّهًا بِالْكُمَّيْنِ. فَصْلٌ: مَا تُخَالِفُ فِيهِ الْمَرْأَةُ الرجل في الوقوف فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا، وَالْمَرْأَةُ نَازِلَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ أَصْوَنُ لَهَا وَأَسْتَرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بِعَرَفَةَ جَالِسَةً وَالرَّجُلِ قَائِمًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُخْتَارُ لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَوْقِفِ وَأَطْرَافِ عَرَفَةَ، وَالرَّجُلَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ. فَصْلٌ: مَا تخالف فيه المرأة الرجل في الطواف فَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِي هَيْئَاتِ الطَّوَافِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِالِاضْطِبَاعِ فِيهِ، وَالرَّمَلِ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ تَمْشِي على هيئتها وستر جَمِيعِ بَدَنِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطُوفَ لَيْلًا، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَالرَّجُلُ يَطُوفُ ليلاً ونهاراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تدنوا مِنَ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ، وَتَطُوفُ فِي حَاشِيَةِ الناس، والرجل بخلافها. فصل : ما تخالفه في السعي وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ السَّعْيِ فثلاثة أشياء: أحدها: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ رَاكِبَةً، وَالرَّجُلُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُمْنَعُ مِنْ صُعُودِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ، والرجل يأمر بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا والمروة من غير سعي والرجل بِالسَّعْيِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا تُخَالِفُهُ فِيهِ مِنْ هَيْئَاتِ الْمَنَاسِكِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ بِرَفْعِ يَدَيْهِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبِيحَةَ نُسُكِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَلْقَ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَتَقْصِيرُ الْمَرْأَةِ أَفْضَلُ، وَحِلَاقُهَا مَكْرُوهٌ. وَمَا سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ وَلُبْسِ الثياب مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً وَلَا برنساً ولا خفين إلا أن يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ خَالَفَ مَعْهُودَهُ فِي لُبْسِهِ فَسُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، فَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: " لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعْهُمَا، حَتَى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَالْأَقْبِيَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ، أَوْ يَلْبَسُ ثَوْبًا فِيهِ وَرَسٌ، أَوْ زَعْفَرَانٌ ". فإن قيل: فلما سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَأَجَابَ بِمَا لَا يَلْبَسُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ. قِيلَ: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّائِلَ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ اللِّبَاسِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا لَا يَلْبَسُ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ طَارِئٌ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عما كان ينبغي أن يسئل عَنْهُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي سُؤَالِهِ، ويخبره حُكْمَ مَا جَهِلَهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَا يجوز له لبسه أكثر فما حُظِرَ عَلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ جَمِيعِهِ إِطَالَةٌ، فَذَكَرَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِبَاحَةِ مَا سِوَاهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى الْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَنَبَّهَ عَلَى الْجُبَّةِ، وَالدُّرَّاعَةِ، وَنَصَّ عَلَى السَّرَاوِيلِ، وَنَبَّهَ عَلَى التُّبَّانِ، وَنَصَّ عَلَى الْبُرْنُسِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي رَأْسِهِ مَخِيطًا، وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِمَامَةٍ، أَوْ مِنْدِيلٍ، وَلَا ثَوْبٍ، وَلَا رِدَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ مَا يلْبَسُ مَخِيطًا، كَالْقَمِيصِ، والجبة، والقباء، والصدرة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وَالسَّرَاوِيلِ، وَالتُّبَّانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ فِي بَدَنِهِ ما يلبس غير مخيط، كالمئذر وَالرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَالْكِسَاءِ لِأَنَّ الْمَخِيطَ يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَمُنِعَ مِنْهُ، وَغَيْرُ الْمَخِيطِ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ يُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ مَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنَ الْمَخِيطِ وَلِمَ يُمْنَعَ مِنْ لَبِسَ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ. قِيلَ: لِأَنَّ مَا لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ، فَيَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَيَتَجَنَّبُ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ، وَاتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ، لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ مَا لَمْ يَزِرَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، فَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْبَسَهُ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَبَاءُ، فَلَا يَجُوزُ أن يلبسه، فإن لبسه، وأدخل يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَإِنْ أَسْدَلَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ خُرَاسَانَ، قَصِيرَةِ الذَّيْلِ ضَيِّقَةِ الْأَكْمَامِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ هَكَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْبِيَةِ الْعِرَاقِ، طَوِيلَةِ الذَّيْلِ وَاسِعَةِ الْأَكْمَامِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَحَفَّظُ بِهَذَا اللُّبْسِ، وَلَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا لُبْسُ الْخُفَّيْنِ فَغَيْرُ جَائِزٍ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، وَإِنْ أَجَازَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لِنَصِّ الْخَبَرِ فَإِذَا عَدِمَ النَّعْلَيْنِ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ إِذَا قَطَعَهُمَا مِنْ دُونِ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُمَا، لَمْ يَجُزْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرَ مَقْطُوعَيْنِ، عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين، فليلبس الْخُفَّيْنِ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا. رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ". فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِزِيَادَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، أَوْ لَبِسَ شمشكينَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. لِأَنَّهُ إنما أمر بقطعهما عند عدم النعلين، ليصير فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ، فَلَا يُتَرَفَّهُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِمَا مَعَ النَّعْلَيْنِ وَعَدَمِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ، إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِهِمَا فَلَا، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِنْ لَبِسَهُمَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ لُبْسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلنَّعْلَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَمْ تُوجَدِ الْإِبَاحَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مع وجود الإزار فإن لبست مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ افْتَدَى، وَإِنْ عَدِمَ الْإِزَارَ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ؛ لَا مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ، وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى. وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ إِبَاحَتِهِ عِنْدَهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لذمته الفدية يلبسه غَيْرُ مَعْذُورٍ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَالْقَمِيصِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ الْقَمِيصِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ، كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَعْذُورِ، وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ، فَمَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، كَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ، كَذَلِكَ هُنَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفَّيْنِ ". فَنَصُّ الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ لُبْسِهِ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى أبي حنيفة فِي سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِي لُبْسِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ السَّرَاوِيلَ مَعَ عَدَمِ الْإِزَارِ، فِي حُكْمِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ الَّتِي أَضْرَبَ عَنِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَلَمْ يُوجِبِ الْفِدْيَةَ فِي لُبْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْإِزَارِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ مُبْدَلِهِ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ أُبِيحَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، كَالْإِزَارِ، وَلِأَنَّهُ لُبْسٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ إِلَّا بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ الْفِدْيَةُ، كَالْقَمِيصِ لِلْمَرْأَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِالْأُصُولِ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ أُبِيحَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْغَيْرِ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ، وَالْأُصُولُ فِي الْحَجِّ، مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنًى فِيهِ وَبَيْنَ مَا أُبِيحَ لِمَعْنَى غَيْرِهِ، ألا ترى أن المحرم لم اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ لِمَجَاعَةٍ نَالَتْهُ فَقَتَلَهُ افْتَدَى، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَهُ لِأَجْلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَفْتَدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ قَتْلَهُ لِأَجْلِ الصَّيْدِ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّرَاوِيلَ إِذَا اتَّزَرَ بِهِ ضَاقَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ، فَاضْطُرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ وَالْقَمِيصُ إِنِ اتَّزَرَ بِهِ اتَّسَعَ لِسَتْرِ جَمِيعِ عَوْرَتِهِ فَلَمْ يضطر إلى لبسه لستر عَوْرَتَهُ. وَالْقَمِيصُ إِنِ اتَّزَرَ بِهِ اتَّسَعَ لِسَتْرِ جَمِيعِ عَوْرَتِهِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى لُبْسِهِ لِسَتْرِ عورته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأن المعذور ليس مباحاً، فلم يلزمه الفدية، وغير المعذور ليس مَحْظُورًا فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمِئْزَرُ إِذَا عَقَدَهُ عَلَى وَسَطِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مَعْقُودًا وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أن يأتزر ذَيْلَيْنِ، ثُمَّ يَعْقِدَ الذَّيْلَيْنِ مِنْ وَرَائِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَعْقِدُ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَغْرِزُ طَرَفَيْ رِدَائِهِ إِنْ شَاءَ فِي إِزَارِهِ، وَإِنْ شَاءَ فِي سَرَاوِيلِهِ، إِذَا كَانَ الرِّدَاءُ مَنْشُورًا، فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ، وَعَقَدَ رِدَاءَهُ مِنْ وَرَائِهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ يَثْبُتُ غَيْرَ مَعْقُودٍ، فَإِذَا عُقِدَ صار كالقميص يحفظ نفسه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلَا وَرَسٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا، " رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا فِيهِ ورسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ " فَنَصَّ عَلَى الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الطِّيبِ، لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَ مِنْ أَدْوَنِ الطِّيبِ، فَأَعْلَاهُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ أَوْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ، كَالْوَرَسِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْمَاوَرْدِ وَالْغَالِيَةِ، وَالْكَافُورِ، وَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُمْنَعِ الْمُحْرِمُ مِنْ شَمِّهِ؛ وَاسْتِعْمَالِهِ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا قَدْ صُبِغَ بِهِ، كالشيح والعيصوم، والأترج، والعنبران، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ذَكِيَّةَ الرِّيحِ، فَلَيْسَتْ طِيبًا تَجِبُ بِشَمِّهَا الْفِدْيَةُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ لَبِسَهُ، اسْتِدْلَالًا بأنه لم يستعمل غير الطيب في بلده، وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَائِحَتُهُ، فَأَشْبَهَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ، وَدَلِيلُنَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُقَدَّمِ، أَنَّهُ نَوْعٌ يُطَيَّبُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِهِ الْمُحْرِمُ، كَاسْتِعْمَالِهِ فِي جَسَدِهِ، وَخَالَفَ جُلُوسَهُ فِي الْعَطَّارِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التطيب، فلم يتعلق عليه حكمه. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا بِطِيبٍ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ وَلَوْنُهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ دُونَ رَائِحَتِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ الْأَمْرَانِ مَعًا؛ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ غَسَلَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 حَتَّى زَالَ لَوْنُ الطِّيبِ وَرَائِحَتُهُ، جَازَ أَنْ يَلْبَسَهُ، وَإِنْ صَبَغَهُ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى زَالَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ ثَارَتْ لَهُ رَائِحَةٌ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ تَبِنْ له رائحة برشٍ عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ لُبْسُهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ رَائِحَةُ الطِّيبِ دُونَ لَوْنِهِ، مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِهِ، وَوَجَبَ فِيهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ. وَإِنْ ظَهَرَ بِالصَّبْغِ لَوْنُهُ دُونَ رَائِحَتِهِ جَازَ لُبْسُهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَفْقُودٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ صُبِغَ ثَوْبٌ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ، فَذَهَبَ رِيحُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ لِطُولِ لُبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ حَرَّكَ رِيحَهُ وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يَلْبَسْهُ الْمُحْرِمُ، وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ رِيحَهُ، فَإِنْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُ لُبْسُهُ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ لَيْسَ بِنَجَسٍ وَلَا أُرِيدُ بِالْغَسْلِ ذَهَابَ الرِّيحِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِغَيْرِ غَسْلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَلَبِسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَا لُبْسَ لَهُ، فَأَمَّا إِنِ افْتَرَشَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَفْضَى بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، وَإِنْ لَمْ يُفْضِ بِجِلْدِهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَوْبِهِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَابِسٍ وَلَا مُتَطَيِّبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلطِّيبِ مُجَاوِرٌ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يَشِفُّ، كَرِهنَا ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشِفُّ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَجُمْلَتُهُ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمِ مُخَالِفَةً لِهَيْئَةِ الْمَحَلِّ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا في الْحَجِّ لَهُمْ هَيْئَةٌ أَنْكَرَهَا فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الدَّاجُّ فَأَيْنَ الْحَاجُّ؟ وَفِي الْحَاجِّ وَالدَّاجِّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أحدهما: أن الحاج إذا أقبلوا، والداج إلى رَجَعُوا، وَهَذَا قَوْلُ مَيْسَرَةَ بْنِ عُبَيْدٍ. وَالثَّانِي: أن الحاج الْقَاصِدُونَ الْحَجَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ، وَالدَّاجَّ الْأَتْبَاعُ، مِنْ تَاجِرٍ ومكارٍ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُمُ الْحَاجُّ وَالدَّاجُّ وَالزَّاجُّ فَالْحَاجُّ أَصْحَابُ الشَّأْنِ وَالدَّاجُّ الْأَتْبَاعُ وَالزَّاجُّ الْمُرَاؤُونَ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: (عِصَابَةٌ إِنْ حَجَّ مُوسَى حَجُّوا ... وَإِنْ أَقَامَ بِالْعِرَاقِ دَجُّوا) (مَا هَكَذَا كَانَ يَكُونُ الْحَجُّ) يَعْنِي مُوسَى بْنَ عِيسَى الْهَاشِمِيَّ. فَصْلٌ : إِذَا لَبِسَ الْحَلَالُ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، ثُمَّ أَحْرَمَ فِيهِ وَاسْتَدَامَ لُبْسُهُ جاز، ولم تجب عليه الفدية؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَطَيَّبَ وَهُوَ حَلَالٌ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَاسْتَدَامَ الطِّيبُ، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ، فَكَذَلِكَ الثَّوْبُ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ فِي ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ، ثُمَّ نَزَعَهُ وَأَعَادَ لُبْسَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ كَالْمُبْتَدِئِ لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ، وَلَهُ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَعَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَشْفُ وَجْهِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَيُحْكَى عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَشْفَ وَجْهِهِ، كَمَا عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مُحْرِمٍ خَرَّ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ: " لَا تُخْمِرُوا رَأْسَهُ، وَلَا وَجْهَهُ ". وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ كَشْفُ وَجْهِهِ، كَالْمَرْأَةِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: في محرم خر من راحلته، فوقصته فَمَاتَ: " لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَخَمِّرُوا وَجْهَهُ ". وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَمَا حُكِيَ عَنِ ابن عمر، فليس مخالفاً لَهُمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّقْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَوْجَبَ كَشْفَهُ لِوُجُوبِ كَشْفِ الرَّأْسِ؛ وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ مُحْرِمٌ، فَوَجَبَ أَنْ لا يلزمه كشفه عُضْوَيْنِ كَالْمَرْأَةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ، فَخَبَرُنَا أَوْلَى لِزِيَادَتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي كَشْفِ مَا لَا يُمْكِنُ كَشْفُ الرَّأْسِ إِلَّا بِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ، وَجَبَ عَلَيْهَا كَشْفُ الْوَجْهِ. وَالرَّجُلُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ غَيْرِ الْوَجْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَشْفُ الْوَجْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ كَشْفَ رَأْسِهِ دُونَ وَجْهِهِ، فَإِنْ غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ بِمَخِيطٍ، وَغَيْرِ مَخِيطٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَكِنْ لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّهِ، لَمْ يَفْتَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهُ بِكَفِّ غَيْرِهِ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، كَالثَّوْبِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِي تَغْطِيَتِهِ بِكَفِّ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ كَفَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ، وَلَيْسَ كَفُّ غَيْرِهِ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ جَازَ، فَافْتَرَقَ حكمهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا، أَوْ زِنْبِيلًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَغْطِيَةَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ قَصْدٍ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، لأن ما أوجب الفدية التَّغْطِيَةُ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَالْمَوْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ فِيهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ بِهِ، وَحَامِلُ الْمِكْتَلِ لَا يَتَرَفُّهُ بِتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِهِ، فَلَمْ يلزمه الفدية لأجله. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُصَدَّعًا، فَشَدَّ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَتَرَ بِهَا رَأْسَهُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ جُرْحٌ فَوَضَعَ فِيهِ دَوَاءً، فَإِنْ شَدَّهُ بِخِرْقَةٍ، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِشَيْءٍ، اعْتُبِرَ حَالُهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِذَا خَضَّبَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الرَّأْسِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِذَا غَسَلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ، وَالسِّدْرِ فَلَا فدية عليه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَلُبْسِ ثَوْبٍ مَخِيطٍ وَخُفَّيْنِ فَفَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ بردٍ أَوْ حَرٍّ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَكَانِهِ كَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحَدَةٌ وَإِنْ فَرَّقَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ لبسةٍ فديةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَحْظُورٍ وَهُوَ بِذَلِكَ مَأْثُومٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا كَانَ مَا فعله مباحاً، ولم يكن يفعله دائماً لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج: 78) وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ، لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَرِيضِ، إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ مَعْذُورًا، وَالْجَزَاءَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَعْذُورًا وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يَتَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، أَوْ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَاللِّبَاسِ، وَالطِّيبِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ إِتْلَافًا، كَأَنَّهُ حَلَقَ شَعْرَهُ، وَقَلَّمَ ظُفْرَهُ، وَقَتَلَ صَيْدًا، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ متوالياً، أو متفرقاً، كفر عن الأول، ولم يكفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ اسْتِمْتَاعًا، كَأَنَّهُ لُبْسٌ، وَتَطَيُّبٌ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ، أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةً، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، لذا فَعَلَهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ، فَكَانَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ إِتْلَافًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَذَا الِاسْتِمْتَاعُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ إِتْلَافًا، وَبَعْضُهُ اسْتِمْتَاعًا كَأَنَّهُ حَلَقَ، وَتَطَيَّبَ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ لَا يَخْتَلِفُ. فَصْلٌ : إِنْ كَانَ مَا تَكَرَّرَ مِنَ الْفِعْلِ، جِنْسًا وَاحِدًا، كَأَنَّهُ لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ، ثُمَّ تَطَيَّبَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَوَالِيًا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، ثُمَّ سَرَاوِيلَ، ثُمَّ عِمَامَةً، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَانَ فِعْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَكَرَّرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ إِلَّا مَرَّةً، فَابْتَدَأَ بِالْأَكْلِ، ثُمَّ اسْتَدْامَهُ إِلَى آخِرِ الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ سِوَى قَطْعِ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِاللِّبَاسِ، لَا بِالْخَلْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا فِي أَزْمَانٍ شَتَّى، كَأَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا، أَوْ فِي يَوْمٍ غَيْرِهِ، ثُمَّ لَبِسَ سَرَاوِيلَ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ عِمَامَةً، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ خُفَّيْنِ، فَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، وَإِنْ لَبِسَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، فَهَلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ فِي كُلِّ لُبْسَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كَالْحُدُودِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا "، ثُمَّ يُثْبِتُ أَنَّ الْحُدُودَ تَتَدَاخَلُ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ، فَكَذَا الكفارة تجب أَنْ تَتَدَاخَلَ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِي أَوْقَاتٍ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ اسْتِمْتَاعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَوَالِيًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ في الجديد: وأن عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ، لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَمَّا قَبْلَهَا، كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلِأَنَّهَا أَفْعَالٌ، لَوْ كَانَتْ أَجْنَاسًا لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَوَجَبَ لَمَّا كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا أَنْ يَلْزَمَهُ التَّكْفِيرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسَةٍ فِدْيَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُ اللُّبْسِ، أو تختلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا. لَا يخلوا حَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُهَا، أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُهَا كَأَنْ لَبِسَ هَذِهِ اللُّبْسَاتِ كُلَّهَا لِأَجْلِ الْبَرْدِ، أَوْ لِأَجْلِ الْحَرِّ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا، فَلَبِسَ قَمِيصًا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَعِمَامَةً، لِجِرَاحَةٍ بِرَأْسِهِ، وَخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْحَفَاءِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِهَا كَالْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ كَاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُحْرِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ حلق رأسه لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) . فَإِنْ قِيلَ: لما مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ؟ قِيلَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا، ويجوز أن يكون ليتذكر بِطُولِ شَعْرِهِ، وَشَعَثِ بَدَنِهِ، مَا هُوَ عَلَيْهِ من إحرامه، فيمنع من الوطئ وَدَوَاعِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ حَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِشَعْرِهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي، وَبَشَرِي، وَلَحْمِي، وَعَظْمِي، وَدَمِي. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْأَوْلَى لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ أَوْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ وَيَعْقِصَهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ، وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يُلَبِّدْ، كَانَ لَهُ إِذَا حَلَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَإِنْ لَبَّدَهُ وَعَقَصَهُ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، وَلَا يُقَصِّرَ، وَذَلِكَ فَائِدَةُ التَّلْبِيدِ، وَالْإِطَالَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهُ إِنْ شَاءَ حَلَقَ، وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ، لعموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: 27) . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِعُذْرٍ، لَمْ يَأْثَمْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) {البقرة: 196) وَأَمَّا الْأَذَى، فَهُوَ الْقَمْلُ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 أَحَدُهُمَا: الْبُثُورُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: الصُّدَاعُ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ، لِيَدُلَّ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَيَ ذَلِكَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَا أَرْقُدُ تَحْتَ بدنةٍ لِي، وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتْ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: احْلِقْ ثُمَّ انْسُكْ نَسِيكَةً، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ أصُعٍ سِتَّةً مِنَ الْمَسَاكِينِ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ". فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُعَاضِدًا لِلْآيَةِ فِي جَوَازِ الْحَلْقِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَمُفَسِّرًا لِمَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالِ الْفِدْيَةِ فَإِنْ حَلَقَ مِرَارًا، كَانَ كَمَا لَوْ لَبِسَ مِرَارًا أَوْ تَطَيَّبَ مِرَارًا فيكون على ما مضى. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ تطيب عامداً فعليه الفدية والفرق في المتطيب بين الجاهل والعالم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر الأعرابي وقد أحرم وعليه خلوق بنزع الجبة وغسل الصفرة ولم يأمره في الخبر بفديةٍ (قال المزني) في هذا دليل أن ليس عليه فدية إذا لم يكن في الخبر وهكذا روي فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصائم يقع على امرأته فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أعتق وافعل " ولم يذكر أن عليه القضاء وأجمعوا أن عليه القضاء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا اسْتَوَى حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُ عَامِدِهِ وَنَاسِيهِ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ فِيهِ وَالنَّاسِي: فَهُوَ مَا كَانَ إِتْلَافًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي: فَهُوَ مَا كَانَ اسْتِمْتَاعًا سِوَى الْوَطْءِ، كَالطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ. فَإِنْ كَانَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ، جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ: النَّاسِي كَالْعَامِدِ، وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ كالعالم، في وجوب الفدية عليه، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِعَمْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِسَهْوِهِ كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْرَامِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ عَمْدِهِ وسهوه، كالحلق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وَالتَّقْلِيمِ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ، وَالْعُذْرُ إِنَّمَا يُبِيحُ الْفِعْلَ وَلَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ، كَالْمَعْذُورِ فِي الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ". وَرَوَى عَطَاءُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلاً بالجعرانة، وعليه جبة متضمخ بِالْخَلُوقِ، وَهُوَ تَصْفَرُّ لِحْيَتِهِ وَرَأْسُهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بعمرةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى فَقَالَ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ ". فَلَمَّا أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ، وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَسَكَتَ عَنِ الْفِدْيَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهَا، سُكُوتُ إِسْقَاطٍ، لَا سُكُوتَ اكْتِفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ حُكْمَ فِعْلٍ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعِ الجبة. وقيل: هذا التأويل غير صحيح؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْتِيَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسُؤَالَهُ عَنْ حُكْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِسْرَارِ الصحابة به، دليل على تقديم تَحَرُّمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: - وَهُوَ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ -: لَيْسَ سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْفِدْيَةِ دَلِيَلًا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ. قِيلَ: لَوْ تَرَكْنَا سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَالْفِدْيَةِ هَا هُنَا، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) {البقرة: 184) عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَاطِئِ: " وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ ". وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ عَمْدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَسَهْوِهِ، كَالْأَكْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا قُلْنَا: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونَ، كَوَطْءِ الْعَاقِلِ فِي لُزُومِ الْمَهْرِ، وَالطِّيبُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ إِتْلَافٌ. وَحُكْمُ الْإِتْلَافِ أَغْلَظُ مِنْ حكم الاستمتاع، فاستوى حكم، عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ؛ لِغِلَظِ حُكْمِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ عَمْدِ الاستمتاع وسهوه؛ لحقة حكمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، وَالْعُذْرُ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ كَالْمُضْطَرِّ. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ عُذْرِ النَّاسِي وَعُذْرِ الْمُضْطَرِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْآكِلَ فِي الصَّوْمِ ناسياً، معذور ولا قضاء عليه، الآكل فِي الصَّوْمِ مُضْطَرًّا فِي الصَّوْمِ مَعْذُورٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، فَهُوَ الْوَطْءُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ فِي الطِّيبِ واللباس لا فدية فيه وَأَنَّ الْعَامِدَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ. وقال أبو حنيفة: اسْتَدَامَ اللِّبَاسَ جَمِيعَ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لم يسند به جَمِيعَ النَّهَارِ فَلَا فِدْيَةَ وَقَالَ أبو يوسف إن استدامه إن نِصْفَ النَّهَارِ فَأَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا فدية. وهذا خطأ؛ لأن كُلَّمَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ فِي النَّهَارِ كُلِّهِ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِوِجُودِهِ فِي بَعْضِهِ كَالطِّيبِ. وَلِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَمْ تَتَقَدِرْ فِدْيَتُهُ بِالزَّمَانِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِ اللِّبَاسِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ كَثِيرِ الزَّمَانِ وَقَلِيلِهِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، لِأَنَّ كَثِيرَ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ كَقَلِيلِ اللِّبَاسِ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا لَبِسَ الْمُحْرِمُ، أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَزَالَهُ حِينَ ذَكَرَ. فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْهُ فِي الْحَالِ، حَتَّى تَطَاوُلَ الزَّمَانُ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ، فَلَا يَفْعَلُ. فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ بَعْدَ الذِّكْرِ كَالْمُبْتَدِئِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَاسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: إِذَا تَطَيَّبَ نَاسِيًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ اسْتَدَامَهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، أن لا فدية عليه. قلنا: لأن الطيب قَبْلَ الْإِحْرَامِ مُبَاحٌ مَعَ النِّسْيَانِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ مَعَ الِاسْتِدَامَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إِزَالَةُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ عَنْ نَفْسِهِ، لِزَمَانَةٍ بِهِ، وَلَيْسَ يَجِدُ مَنْ يُزِيلُهُ عَنْهُ، فَلَا فدية عليه، ما كان هكذا؛ لأن أسوأ من الناسي. فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ إِزَالَةَ مَا عَلَى جَسَدِهِ مِنَ الطِّيبِ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ، كَالْخَلِّ أَوِ الْيَابِسَاتِ كَالتُّرَابِ، وَالْحَشِيشِ. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي إِزَالَتِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ، إِزَالَةُ رَائِحَتِهِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَزَالَهُ أَجْزَأَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُزِيلَهُ بِالْمَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ إِزَالَتُهُ إِلَّا بِالْمَاءِ؛ لِتَعَذُّرِ غَيْرِهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِهِ، فَعَلَيْهِ إِزَالَتُهُ بِالْمَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى إِزَالَةَ ذلك عنه غيره؛ لأن لا يَمَسَّ الطِّيبَ بِيَدِهِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمَسُّهُ لِلتَّرْكِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ. فَصْلٌ : فَلَوْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ جَسَدِهِ، أَوِ الْوُضُوءِ مِنْ حَدَثِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ نَصًّا: أَزَالَ بِهِ الطِّيبَ، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بَدَلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ الطِّيبِ بَدَلٌ. فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ بَعْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الطِّيبِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حدثه، فَجَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِهِ، كَالَّذِي مَعَهُ الماء وهو محتاج إلى شربه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا شَمَّ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، أَوْ أَكَلَ تُفَّاحًا، أَوْ أُتْرُجًّا، أَوْ دَهَنَ جَسَدَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ فَلَا فِدْيَةَ عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ النَّبَاتِ الذَّكِيِّ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ طِيبًا وَيُتَّخَذُ بَعْدَ يُبْسِهِ طِيبًا، مِثْلَ الزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْسِ، وَالْكَافُورِ، وَالْعُودِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالنَّرْجِسِ، وَالْخَيْرِيِّ، وَالزَّنْبَقِ، وَالْكَاذِيِّ، فَهَذَا كُلُّ طِيبٍ مَتَى اسْتَعْمَلَهُ الْمُحْرِمُ بِشَمٍّ، أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا يُتَّخَذُ طِيبًا وَإِنْ كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا يُعَدُّ مَأْكُولًا كَالتُّفَّاحِ، وَالنَّارِنْجِ، وَاللَّيْمُونِ، وَالْمَصْطَلْكِيِّ، والدَّارَصِينِيِّ، وَالزَّنْجَبِيلِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ يُعَدُّ مَعْلُومًا أَوْ حَطَبًا، مِثْلَ الشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ وَالْإِذْخِرِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يُعَدُّ لِزَهْرَتِهِ وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ، لَا لِرَائِحَتِهِ كَالْبَهَارِ، والأدريون وَالْخَزَّامِيِّ، وَالشَّقَائِقِ، وَالْمَنْثُورِ سِوَى الْخِيرِيِّ، وَكَذَلِكَ وَرْدُ الْأُتْرُجِّ، وَالنَّارِنْجِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْمِشْمِشِ، هَذَا كُلُّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَإِنْ شَمَّهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ دقَّهُ وَلَطَّخَ بِهِ جَسَدَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ طِيبًا. لَكِنْ لَا يُتَّخَذُ بَعْدَ يبسه طيباً، مثل الريحان، والمرزنجوش، والشاهين، وَالْحَمَاحِمِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُتَّخَذُ لِلشَّمِّ، لَكِنْ لَا يتخذ بعد يبسه طيباً، ولا يريد بِهِ دَهْنٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْبُسْتَانَ، وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا. وَلِأَنَّهُ نَبْتٌ لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ، كَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ وَعَلَيْهِ الفدية وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ نَبْتٌ يُشَمُّ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ لِأَجْلِهِ الْمُحْرِمُ، كَالْوَرْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَنَفْسَجُ. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَيْسَ بِطِيبٍ، وَإِنَّمَا يريب لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلطِّيبِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالتَّدَاوِي. وَالثَّانِي: إِنَّهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ؛ لِأَنَّ لَهُ دَهْنًا طَيِّبًا، وتأولوا قول الشافعي على تأويلات: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْمُرَبَّى إِذَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ. وَالثَّانِي: مَحْمُولٌ عَلَى الْبَنَفْسَجِ الْبَرِّيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَالرَّيْحَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا النَّيْلَوْفَرُ فَهُوَ كَالْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعَنَاهُ فَأَمَّا الْحُلَيْحَتِينُ الْمُرَبَّى بِالْوَرْدِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ رَائِحَةُ الْوَرْدِ ظَاهِرَةً فِيهِ، مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ مُسْتَهْلَكَةً فِيهِ، لَمْ يُمْنَعْ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ غَيْرِ طيبٍ فعليه الفدية لأنه موضع الدهن وترجيل الشعر (قال المزني) ويدهن المحرم الشجاج في مواضع ليس فيها شعر من الرأس ولا فدية (قال المزني) والقياس عندي أنه يجوز له الزيت بكل حالٍ يدهن به المحرم الشعر بغير طيب ولو كان فيه طيب ما أكله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الدُّهْنُ ضَرْبَانِ: طِيبٌ، وَغَيْرُ طِيبٍ، فأما الطيب فالأدهان المريبة، بِكُلِّ طِيبٍ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ، وَالزَّنْبَقِ، وَالْبَانِ، وَالْخَيْرِيِّ. وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِطِيبٍ كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد والخروع، والآسي. فَأَمَّا دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ، وَالرَّيْحَانِ، فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْهُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ طِيبٌ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِطِيبٍ، لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَانَ دُهْنُهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا دُهْنُ الْأُتْرُجِّ: فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِطِيبٍ؛ لِأَنَّ الْأُتْرُجَّ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْكُولٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وَالثَّانِي: هُوَ طِيبٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا؛ لأن قشره يرتابه كالدهن، كَالْوَرْدِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا. فَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ الطِّيبِ فِي شَعْرِهِ وَجَسَدِهِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي شَعْرِهِ، أَوْ جَسَدِهِ، فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، وَأَمَّا الدُّهْنُ غَيْرُ الطِّيبِ. فَإِنْ رَجَّلَ بِهِ شَعْرَهُ، أَوْ لِحْيَتَهُ، جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ تَرْجِيلِ شَعْرِهِ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المحرم أَشْعَثُ أَغْبَرُ ". وَالتَّرْجِيلُ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: إِنِ اسْتَعْمَلَ الدُّهْنَ فِي جَسَدِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدهن بزيتٍ غير مطيب وهو محرم ". وقال أبو عبيد: غير مطيب أَيْ: غَيْرُ مُطَيَّبٍ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمُحْرِمُ الدُّهْنَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا، فِي جَسَدِهِ دُونَ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَلَوْ دَهَنَ رَأَسَهُ وَكَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ، لَمْ يَجُزْ، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ فِي تَدْهِينِ رَأْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْلُوقًا تَحْسِينَ الشَّعْرِ إِذَا ثَبَتَ فَصَارَ مُرَجَّلًا لَهُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَصْلَعَ الرَّأْسِ، جَازَ أَنْ يَدْهُنَهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْأَمْرَدِ أَنْ يَدْهُنَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ الَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَجَّلًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِجَاجٌ قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ عَنْ مَوْضِعِهَا، جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهَا دُهْنًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ طِيبًا، وَلَا يَفْتَدِي. فَصْلٌ : إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِاللَّبَنِ، جَازَ، وَلَا فِدْيَةَ عليه، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بدهن، ولا يحصل به ترجيل الشعر، الشَّحْمَ وَالشَّمْعَ إِذَا أُذِيبَا كَالدُّهْنِ، يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ من ترجيل الشعر بهما. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَكَلَ مِنْ خبيصٍ فِيهِ زَعْفَرَانٌ، فَصَبَغَ اللِّسَانَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ خَبِيصًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَلْوَاءِ وَالطَّبِيخِ، وَفِيهِ زَعْفَرَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الطِّيبِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطِّيبَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ، نَظَرْتَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ رَائِحَةٌ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمٌ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طَعْمَهُ فِي الْمَأْكُولِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ لَا غَيْرَ. فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا، وَفِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ، أَنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ لَوْنَ الزَّعْفَرَانِ مَقْصُودٌ كَطَعْمِهِ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ لَوْنِهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ رَائِحَتِهِ، وَإِنْ خفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ مَقْصُودَةٌ دُونَ لَوْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُصْفُرَ أَشْهَرُ لَوْنًا مِنْهُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَوْ زَالَتْ مِنَ الثَّوْبِ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةُ، فَكَذَلِكَ الطَّعَامُ الْمَأْكُولُ، إِذَا بَقِيَ فِيهِ لَوْنُ الطِّيبِ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَحْمِلُ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ، إِذَا بَقِيَ مَعَ لَوْنِ الطِّيبِ، إِمَّا رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَسْقَطَ الْفِدْيَةَ إِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ لَوْنِهِ، وَسَوَاءٌ مَا مَسَّهُ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُ. فَصْلٌ : إِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا، افْتَدَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عوداً فلا يفتدي بأكله؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا بِهِ، إِلَّا أَنْ يتخير بِهِ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الطِّيبِ يَكُونُ مُتَطَيِّبًا به بملاقاة بشره وكذلك لو استعاط الطِّيبَ، أَوِ احْتَقَنَ بِهِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى شَمِّهِ، افْتَدَى. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَفْتَدِي بِشَمِّ الطِّيبِ، حَتَّى يَسْتَعْمِلَ فِي جَسَدِهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى شَمِّ الرَّائِحَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، كَمَا لَوْ شَمَّهَا مِنَ الْعَطَّارِينَ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالطِّيبِ، يَكُونُ تَارَةً بِالشَّمِّ، وتارة بالاستعمال في البشرة ثم شمه فَكَانَ بِالْفِدْيَةِ أَوْلَى، وَلَيْسَ شَمُّهَا مِنْ غَيْرِهِ اسْتِمْتَاعًا كَامِلًا، وَلَا يُسَمَّى بِهِ مُتَطَيِّبًا فَافْتَرَقَا. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ، وَلَا في حكم الطيب، وإن ليس الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا جَازَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْعُصْفُرُ لَيْسَ مِنَ الطِّيبِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الطِّيبِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَلَا الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ يُنْفَضُ أَوْ لَمْ يُنْفَضْ، فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ أَوِ الْمُحْرِمَةُ مُعَصْفَرًا، فَإِنْ كَانَ يُنْفَضُ فَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفَضُ، فَلَا فدية عليهما، استدلالاً بأن المعصفر لَوْنًا وَرَائِحَةً، كَالزَّعْفَرَانِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةٍ مَا ذكرنا: رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى النساء في إحرامهم عن القفازين النقاب، وَيَلْبَسْنَ مَا شِئْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ معصفرٍ وَخَزٍّ وَحُلِيٍّ وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: " أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقَالَ: " مَا هَذِهِ الثِّيَابُ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا إِخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ ". وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: مَاذَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كَلُبْسِ مُعَصْفَرِهَا، وَحَرِيرِهَا، وَحُلِيِّهَا ". فَعَلِيٌّ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وعائشة إنما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 أَقَرَّتْ بِمَا شَاهَدَتْ مِنْ إِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَلِأَنَّهُ مَصْنُوعٌ بِمَا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، كَالْمَصْنُوعِ بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُعَصْفَرٌ، فَوَجَبَ أَلَا يُلْزَمَ بِلُبْسِهِ الفدية، قياساً على ما لا ينقص وأما جمعهم بين المعصفر والمزعفر، فغيره صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ طِيبٌ فِي الْغَالِبِ، وَالْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ. فَصْلٌ : وَهَكَذَا إِذَا اخْتَضَبَ الْمُحْرِمُ، والمحرمة بالحناء، لم يفتد واحد منهما وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُسْتَلَذُّ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ الْوَرْسَ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ حُرُمٌ. وَهَذَا نَصٌّ لأنهن لا بفعلته إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَلْوَانِ. وَاسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِاسْتِلْذَاذِ رَائِحَتِهِ، مُنْتَقَضٌ بِالتُّفَّاحِ وَالْأُتْرُجِّ. مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ ريحٌ، فَلَا فِدْيَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَسَّ الْمُحْرِمُ طِيبًا يَابِسًا بِيَدِهِ عَامِدًا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، وَلَا رَائِحَةٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ لَهُ أَثَرٌ وَرَائِحَةٌ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ رَائِحَةٍ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ رَائِحَتُهُ دُونَ أَثَرِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَنَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأَوْسَطِ. وَقَالَ فِي الْأُمِّ: فَإِنْ مَسَّ طِيبًا يَابِسًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي يَدِهِ، وَلَا رَائِحَةٌ، كرهة وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ. فَظَاهِرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّائِحَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الرَّائِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مَا قاله في الأم محتمل. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ، وَيَشْتَرِيَ الطِّيبَ مَا لَمْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ الْعَطَّارِ، أَوْ يَشْتَرِيَ الطِّيبَ وَيَبِيعَهُ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْ تَمَلُّكِهِ، فَلَوْ وَصَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ إِلَى أنفه لم يفتد، ما لم يسمه شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَيِّبًا. فصل : ولو شد المحرم طيباً فِي خِرْقَةٍ، فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ، لَمْ يَفْتَدِ، وَلَوْ شَمَّهُ فِي الْخِرْقَةِ. كَانَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عليه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِاسْتِمْتَاعِهِ بِرَائِحَتِهِ، وَإِنَّ عَادَةَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ جَارِيَةٌ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَائِحَةٌ مُجَاوِرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَصَارَ كشم الرائحة من دكان العطار. فصل : قال الشافعي: إذا وطأ الطيب بقدمه فعلق بها، فعليه الفدية؛ لأنها صار مستعملاً للطيب في بدنه. فلو وطأ الطِّيبَ بِنَعْلِهِ عَامِدًا، حَتَّى عَلِقَ بِهَا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَعْلِهِ صَارَ حَامِلًا لِلطِّيبِ، وَالْمُحْرِمُ إِذَا حَمَلَ الطِّيبَ لَمْ يَفْتَدِ. قِيلِ: إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، إِذَا عَلِقَ الطِّيبُ بِنَعْلِهِ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَهَا، فَإِذَا عَلِقَ بِهَا الطِّيبُ، صَارَ لَابِسًا لِمُطَيَّبٍ، فَلَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا مُطَيَّبًا، وَإِذَا كَانَ حَامِلًا لِلطِّيبِ، لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لطيب فلم يفتد. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجْلِسُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ وَإِنْ مَسَّهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا رَطْبَةٌ فَعَلِقَ بِيَدِهِ طِيبٌ غَسَلَهُ فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ افْتَدَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا جُلُوسُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجْمَرُ فَمُبَاحٌ، كَجُلُوسِهِ عِنْدَ الْعَطَّارِ، وَحُضُورِهِ بَيْعَ الطِّيبِ، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ خَلُوقَ الْكَعْبَةِ؛ وَكَانَ رَطْبًا، أَوْ مَسَّ طِيبًا، رَطْبًا فَعَلِقَ بِيَدِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ أَوْ لا؛ لأن المتطيب ناسياً لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيُبَادِرُ إِلَى إِزَالَةِ الطِّيبِ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَتِهِ، افْتَدَى حِينَئِذٍ لِاسْتِدَامَتِهِ لَا لِمَسِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطِّيبَ رَطْبٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الطِّيبَ يَابِسٌ، فَفِي وجوب الفدية عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَيْهِ، وَتَارِكٌ لِلتَّحَرُّزِ بِمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، وَلَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ لِأَنَّ مَسَّ الطِّيبِ الْيَابِسِ جَائِزٌ لَهُ فَصَارَ كَالنَّاسِي والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَقَ وَتَطَيَّبَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحِلَاقَ إِتْلَافٌ، يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَالطِّيبُ، اسْتِمْتَاعٌ، يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ وَتَطَيَّبَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَتَدَخَّلَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحَلْقِ، دُونَ التَّطَيُّبِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الطِّيبِ، نَاسِيًا فِي الْحَلْقِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الطِّيبِ، يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَنِسْيَانُهُ فِي الْحَلْقِ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الْحَلْقِ، نَاسِيًا فِي الطِّيبِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ واحدة؛ لأن نسيانه في الطيب يسقط للفدية. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ فَمُدَّانِ وَإِنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَدَمٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَفِي كُلِّ شعرةٍ مُدٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا. فَإِنْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ يَجِبُ فِي حَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وبه يقع التَّحَلُّلُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ. وَقَالَ أبو يوسف: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ نِصْفِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِحَلْقِ ثَلَاثَةِ شَعَرَاتٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِِه أَذًى مِنْ رأَسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) {البقرة: 196) تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يُحْلَقُ، وَإِنَّمَا يُحْلَقُ الشَّعْرُ فَإِذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَمْعٍ مُطْلَقٍ، كَانَ حَالِقًا لِرَأْسِهِ وَثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الدَّمِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ يَقَعُ بحلق ثلاث شعرات، أو بقصرها. قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شيءٍ ". وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ، وَيَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ كَالرُّبُعِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بالفدية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَبِهِ قال مالك في إحدى الروايتين عنه وقال: هَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ كَانَ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهَا، كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ إِتْلَافِ أَبْعَاضِهَا، كالصيد، إذا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَاجِبَةً، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ دَمٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ ثُلُثَيْ دَمٍ، وَفِي الثَّلَاثِ دَمًا، وَاخْتَارَهُ الْمَرْوَزِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وَجَبَ فِيهَا دَمٌ فَفِي أَبْعَاضِهَا أَبْعَاضُ ذَلِكَ الدَّمِ كَالصَّيْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُخَرَّجٌ مِنَ الْأُمِّ، فِيمَنْ تَرَكَ حصاة، أن عليه فيها دِرْهَمًا، فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دِرْهَمٌ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمٌ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُكَفِّرِ وَأَنْفَعُ لِلْآخِذِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْبُوَيْطِيُّ، وَعَلَيْهِ يَقُولُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ: أَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْمُجْتَمِعَةِ دَمًا، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الدَّمِ مَشَقَّةً تَلْحَقُ الدَّافِعَ، وَضَرَرًا يَلْحَقُ الْآخِذَ، فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسٍ، يَجِبُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَأَقَلُّ الْإِطْعَامِ فِي الشَّرْعِ مُدٌّ، فَأَوْجَبَاهُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ، اعْتِبَارًا بِالْآحَادِ. الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اللِّبَاسِ إِذَا تَكَرَّرَ، هَلْ يَتَدَاخَلُ حُكْمُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ أَوْقَاتٍ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، إِذَا رُوعِيَ حُكْمُ الِانْفِرَادِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ إِذَا رُوعِيَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ. فَصْلٌ: حُكْمُ شعر اللحية وسائر الجسد فَأَمَّا شَعْرُ اللِّحْيَةِ، وَسَائِرِ الْجَسَدِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ، وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِحْلَالُ بِهِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، تَعَلُّقًا بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَخَصَّ شَعْرَ رَأْسِهِ بِالْمَنْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ الْإِحْلَالُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ تُخْتَصَّ الْفِدْيَةُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَمَسُّ الْمُحْرِمُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا " وَلِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ، وَشَعْرُ الْجَسَدِ يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ تَرْفِيهٌ وَتَنْظِيفٌ، فَكَانَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ أَوْلَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ؛ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى شَعْرِ الْجَسَدِ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الرَّأْسِ فِيهِ وَزِيَادَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ شَعْرُ الرَّأْسِ بِالْإِحْلَالِ، وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْفِدْيَةِ. قُلْنَا: الْإِحْلَالُ نُسُكٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَالْحَلْقُ كَغَيْرِهِ حَظْرٌ يَأْثَمُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ، فَاسْتَوَى شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي التَّرْفِيهِ بِحَلْقِهِ فَاسْتَوَيَا فِي الْفِدْيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِحْلَالِ. فَصْلٌ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ شَعْرِ الْجَسَدِ، كَحُكْمِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَسَوَاءٌ أَخَذَهُ حَلْقًا، أَوْ نَتْفًا، أَوْ قَصًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا: فَلَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ دفعة واحدة فذهب الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ: عَلَيْهِ فِدْيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا لِشَعْرِ رَأْسِهِ، وَالْأُخْرَى لِشَعْرِ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْجَسَدِ، لِتَعَلُّقِ الْإِحْلَالِ بِهِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا، لَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حَلْقٍ وَتَقْلِيمٍ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ، كَاللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ، فَلَوْ لَبِسَ قَمِيصًا، وَعِمَامَةً، وَخُفَّيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ، مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ، جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِمَا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ نِصْفَ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ، أَوْ جَسَدِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عليه من الفدية كقسط أَخَذَهُ مِنَ الشَّعْرَةِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ مُدٍّ عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ، فَرْقًا بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْأَبْعَاضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ مُدٌّ كَامِلٌ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ يَقَعُ، لِنَقْصِ بَعْضِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَقَعُ بِحَلْقِهِ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُ كَمَا يَلْزَمُ بِحَلْقِهِ، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَالْأَوَّلُ أصح. فصل : إذا نبت فِي غَيْرِ الْمُحْرِمِ شَعْرٌ، فَتَأَذَّى بِهِ وَاضْطُرَّ إِلَى قَلْعِهِ فَلَهُ قَلْعُهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّ قَلْعَهُ لِمَعْنًى فِي الشَّعْرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ لَوْ طَالَ شَعْرُ رأسه أو حاجبيه، فاسترسل على عينيه وَمَنَعَهُ النَّظَرَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: قَطَعَهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِأَجْلِ الْهَوَامِّ الْحَاصِلَةِ فِيهِ، أَوْ لِحَمْيِ رَأْسِهِ بِهِ، فَلَهُ حَلْقُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ حَلَقَهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الشَّعْرِ، وَهُوَ الْهَوَامُّ وَشِدَّةُ الْحَرِّ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى قَتْلِ الصيد أكله، وَقَدْ " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَعْبًا بِالْفِدْيَةِ مَعَ ضَرُورَتِهِ إِلَى الْحَلْقِ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 فَصْلٌ : إِذَا قَطَعَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ، أَوْ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ فِدْيَةَ الشَّعْرِ وَجَبَتْ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُتَرَفَّهٍ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَضَرٌّ بِهِ، وَلِأَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ، وَالْعُضْوَ مَتْبُوعٌ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي الْمَتْبُوعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ فِي التَّابِعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ مُنْفَرِدًا، فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي أَخْذِهِ مَعَ غَيْرِهِ. قِيلَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِانْفِرَادِ فِي الشَّيْءِ، مُخَالِفٌ لِحُكْمِ تَبَعِهِ لِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً لَوْ حَرَّمَتْ زَوْجَةَ رَجُلٍ بِرَضَاعٍ، لَزِمَهَا الْمَهْرُ، وَلَوْ قَتَلَتْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقَتْلِ تَحْرِيمٌ وَإِتْلَافٌ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ، وَالْعَمْدُ فِيهَا وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ ". قَالَ الماوردي: أما الأظفار فحكمها حكم الشعر، يمنع الْمُحْرِمُ مِنْهَا، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ لِتَقْلِيمِهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُحْرِمُ أَشَعْثُ أَغَبَرُ " وَتَقْلِيمُهَا مَا يُزِيلُ الشَّعَثَ، ويحدث الترفيه، ولأنه نام يتخلف يَتَرَفَّهُ الْمُحْرِمُ بِإِزَالَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ فِيهِ كَالشَّعْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّعْرِ، وَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ جَمِيعَ شَعْرِهِ، وَلَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فَصَاعِدًا فِي مَقَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يلزمه الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ الدَّمُ، إِلَّا لِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ، أَوْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظَافِرَ مِنْ عُضْوَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَمَا دُونَ الدَّمِ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَمْ لَا؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ: لِأَنَّ الْفِدْيَةَ الْكَامِلَةَ لَا تَلْزَمُهُ، إِلَّا بِتَرْفِيهٍ كَامِلٍ. وَكَمَالُ التَّرْفِيهِ بِتَقْلِيمِ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ كَمَالَ التَّرْفِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَقْلِيمِ جَمِيعِ الْأَظَافِرِ، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُهُ، أَوْ ما يقع عليه اسم جميع مطلق وهو مقولنا ثُمَّ نَقُولُ: لِأَنَّهُ قَلَّمَ مِنْ أَظَافِرِهِ مَا يَقَعُ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ، كَالْخَمْسَةِ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا، كَانَ كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَةً، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: ثُلُثُ دَمٍ. وَالثَّانِي: دِرْهَمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَالثَّالِثُ: مُدٌّ، فَإِنْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ فِي مَقَامٍ، ثُمَّ قَلَّمَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ أُخَرَ، فِي مَقَامٍ آخَرَ، فَعَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا إِتْلَافٌ لَا يَتَدَاخَلُ بِحَالٍ، فَلَوِ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ وتعلق وكان تأذى به، وكان لَهُ قَلْعُهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَالشَّعْرَةِ إِذَا نَبَتَتْ فِي عَيْنِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا اسْتَوَى حُكْمُ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ فَشَابَهَ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَقَدْ مَضَى ذلك، والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَحْلِقُ الْمُحْرِمُ شَعْرَ الْمَحَلِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ، وَلَا مِنْ تَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ، فَإِنْ حَلَقَ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِ الْمَحَلِّ، وَتَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ بِفِعْلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَالصَّيْدِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ، إِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِي قَتْلِهِ، إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ شَعْرَ آدَمِيٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا أَلْزَمُ لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ مَنَعْتُمُ الْمُحْرِمَ تَزْوِيجَ نَفْسِهِ وَمِنْ تَزْوِيجِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ وَمِنْ حَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ) {البقرة: 196) وَهَذَا خِطَابُ الْمُحْرِمِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلْقَ جَائِزٌ لِلْمُحِلِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِلُّ مَمْنُوعًا لَمْ يُوجَبْ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحْرِمٌ أَوْ مُحِلٌّ، كَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا، وَجَبَ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٌّ أَوْ مُحْرِمٌ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَوْ أُفْرِدَ عَنِ الْآيَةِ، صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ قِيَاسًا، فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ شَعْرُ مُحِلٍّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهِ بِحَلْقِهِ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ حَلَقَهُ مُحِلٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِالْمُحِلِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ أَلْبَسَهُ أَوْ طَيَّبَهُ، وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، كَالْبَهَائِمِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، فَمُنْتَقَضٌ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ له حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يلزمه الحلال الجزاء في قتله. وأما قياسهم عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ شَعْرَ نَفْسِهِ، فَغَيْرُ صحيح؛ لأنه إِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ تَجِبُ فِي شَعْرِهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَهُ مُحِلٍّ أَوْ مُحْرِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ انْتَقَضَ بِشَعْرِ الْمُحِلِّ إِذَا حَلَقَهُ مُحِلٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي شَعْرِ الْمُحْرِمِ إِنْ ثَبَتَ لَهُ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْمُحِلِّ، وَأَمَّا مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ النِّكَاحِ فَغَيْرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 لَازِمٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوِلَايَةٍ وَالْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ فَبَطَلَ النِّكَاحُ، وَالشَّعْرُ وَجَبَتْ فِيهِ الْفِدْيَةُ، لِتَرَفُّهِ الْمُحْرِمِ بِهِ، وَالْحَالِقُ الْمُحْرِمُ لَا يَتْرَفَّهُ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ فَإِنْ فَعَلَ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ أَوْ نَائِمًا رجع على الحلال بفديةٍ وتصدق بِهَا فَإِنْ لَمْ يَصِلْ أَلَيْهِ فَلَا فِدْيَةَ عليه (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ ثُمَّ خط عليه أن يفتدي ويرجع بالفدية على المحل وهذا أشبه بمعناه عندي. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَعْرُ الْمُحْرِمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ حَلَالٌ وَلَا مُحْرِمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَمَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنْ يَتَوَلَّى غَيْرُهُ حَلْقَ شَعْرِهِ، فَوَرَدَ الْمَنْعُ عَلَى حَسْمِ الْعَادَةِ فِيهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ الشَّعْرِ، فَاسْتَوَى فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ، كَالصَّيْدِ فِي الْمُحْرِمِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَحَلَقَ مَحَلَّ شَعْرِ الْمُحْرِمِ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ. الثَّانِي: بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ حَلَقَهُ بِأَمْرِ الْمُحْرِمِ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ حَلْقَ شَعْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فله حالان: أحدهما: أن يكون قادراً على منعه. الثاني: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مَنْعِهِ، فَإِنْ لم يكن قادراً على منعه، إما لكونه نَائِمًا أَوْ مَكْرُوهًا، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحَالِقِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا صُنْعَ لَهُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِهَا، فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا الْحَالِقُ الْمُحِلُّ، أَوْ غَابَ، فَهَلْ يَتَحَمَّلُهَا الْمُحْرِمُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا، لِأَنَّهُ شَعْرٌ زَالَ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ، كَمَا لَوْ تَمَعَّطَ عَنْهُ بِمَرَضٍ، أَوِ احْتِرَاقٍ بِنَارٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الْحَالِقِ الْمُحِلِّ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَعْرٌ أُزِيلَ عَنْهُ بِوَجْهٍ هُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ فِدْيَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى حَلْقِهِ لِهَوَامَّ فِي رَأْسِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَأَصَبْتُ فِي سَمَاعِي مِنْهُ، ثُمَّ خط عليه " يعني أن الشافعي رجع على هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْكَبِيرِ، وَلَمْ يَخُطَّ عَلَيْهِ، فَهَذَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَصَحُّ طَرِيقَيْ أَصْحَابِنَا وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْحَالِقِ الْمُحِلِّ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ تَحَمُّلُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي شَعْرِ المحرم، وهي يَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي؟ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ شَرْحُ الْمَذْهَبِ وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ، فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْحَالِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَقَرٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ بها تحملها الْمُحْرِمُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ، إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ تَحَمُّلَ الْفِدْيَةِ عِنْدَ إِعْسَارِ الْحَالِقِ، أَوْ غَيْبَتِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، وَالْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَعْمَالُ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَحَمُّلُهَا عَنِ الْغَيْرِ، بأن افْتَدَى بِالدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، ثُمَّ أَيْسَرَ الْحَالِقُ بَعْدَ إِعْسَارِهِ، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ افْتَدَى بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِ افْتَدَى بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْحَقِّ شَيْءٌ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِدُونِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ، وَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ؛ فَسَقَطَ رُجُوعُهُ بِالتَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَسْقُطْ رُجُوعُهُ بِالْوَاجِبِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَلَالُ إِلَى الْمُحْرِمِ، فَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَالْمُحْرِمُ سَاكِتٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ، فَيَكُفُّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ رِضًى بِالْحَلْقِ؟ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًى يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، فَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ رِضًا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْبِكْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سُكُوتَهُ لَيْسَ بِرِضًى، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُنِيَ عَلَى مَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، لِمَنْعِهِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْجَانِي يَقُومُ مَقَامَهُ، كَذَلِكَ هنا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَالِقِ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : فَلَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ مُحْرِمٍ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مَنْسُوبٌ إِلَى الآمر، وإنما الحالق كالآلة، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْآمِرَ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِقِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ صَيْدٍ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ، فَهَلْ كَانَ الْحَالِقُ مِثْلَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ اسْتِهْلَاكٌ لَا يَعُودُ عَلَى الْآمِرِ بِهِ نَفْعٌ، فَاخْتُصَّ الْقَاتِلُ الْمُتْلِفُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْحَلْقُ اسْتِمْتَاعٌ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْآمِرِ، فاختص بوجوب الفدية دون الحالق. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طيب، فإن كان فيه طيب افتدى ". أَمَّا الْكُحْلُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ؛ لِأَجْلِ طِيبِهِ، فَإِنِ اكْتَحَلَ بِهِ افْتَدَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ طِيبٌ، فَإِنْ لَمْ يكن فيه زينة كالتوتيا وَالْأَنْزَرُوتِ، كَانَ لِلْمُحْرِمِ الِاكْتِحَالُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ وَتَحْسِينٌ، كَالصَّبْرِ وَالْإِثْمِدِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ لَهُ، وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْكُحْلِ، كَالْعِدَّةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَسَأَلْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: اضْمِدْهُمَا بِالصَّبْرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَمِدَتْ عَيْنُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَطَّرَ الصَّبْرُ فِي عَيْنِهِ إِقْطَارًا وَلِأَنَّ الْكُحْلَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زينة، أو دواءاً وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا مَنَعَتْ مِنَ الْكُحْلِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا بأس بالاغتسال ودخول الحمام اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو محرم ودخل ابن عباس حمام الجحفة فقال ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالِانْغِمَاسُ فِيهِ، فَجَائِزٌ، وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِيهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، اخْتَلَفَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 بِالْأَبْوَاءِ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ قَالَ: فَبَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ؛ لِأَسْأَلَهُ عَنِ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْقَرْنَيْنِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بَعَثَنِي ابن عباس، أتيت إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ اغْتِسَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ: " فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ مستتراً به فطأطأ حتى بدا رأسه ثم أقبل بهما وَقَالَ لِمَنْ كَانَ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَنَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغتسل إلى بعيره وَأَنَا أَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي؟ فَقُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعْرَ إِلَّا شَعَثًا فَسَمَّى اللَّهَ، ث م أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ: تَعَالَ أُبَاقِيكَ فِي الْمَاءِ، أَيُّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ، فَلَهُ غَسْلُ جَسَدِهِ، وَدَلْكُهُ، فَأَمَّا رَأْسُهُ، فَيَفِيضُ عَلَيْهِ الماء، ولا يدلكه، لأن لا يسقط شيء من شعر رأسه ولحيه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا، فَيَغْسِلُهُ بِبُطُونِ أَنَامِلِهِ بِرِفْقٍ، وَلَا يَحُكُّهُ بِأَظَافِرِهِ، فَإِنْ حَكَّهُ فَسَقَطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْتَدِيَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَطَعَهُ أو نتفه بفعله فيفتدي واجباً. فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُهُ الْحَمَّامَ، وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ، فَجَائِزٌ نَصًّا، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَزَالَ الْوَسَخَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ". وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مُحْرِمًا وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِكُمْ شَيْئًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْوَسَخِ نُسُكٌ وَلَا أَمَرَ نُهِيَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ نَظِيفٌ " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نعم البيت يُنَقِّي الدَّرَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا غَسْلُ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَالسِّدْرِ، فَغَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: " اغْسِلُوهُ بماءٍ وسدرٍ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " فَأَمَرَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ، وَأَخْبَرَ بِنَقَاءِ إِحْرَامِهِ، وَالسِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ سَوَاءٌ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِيهِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الْعِرْقَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محرماً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنَ الْحِجَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْحِجَامَةِ، رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ بِالْقَاحَةِ وَهُوَ صَائِمٌ، مُحْرِمٌ بِالْقَرَنِ. وَرَوَى حميد عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ بِلَحْيِ جملٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ " وَرَوَى جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ مِنْ وَنًى كَانِ بِهِ ". وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيَبُطَّ جُرْحًا؛ لِأَنَّ الْفِصَادَ شرطة من شرطان الْحِجَامَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحِجَامَةَ تَقْطَعُ الشَّعْرَ. قُلْنَا: إِنْ قَطَعَ الشَّعْرِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن ذلك وقال فإن نكح أو أنكح فالنكاح فاسد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَإِنْكَاحِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَهُ وَإِنْكَاحَهُ بَاطِلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا، بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) {النساء: 24) وبرواية عكرمة عن أبو عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ محرمٌ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِحْرَامِ، كَشِرَاءِ الإماء ولأنه مَنَعَ الْإِحْرَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، مُنِعَ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ كَاللِّبَاسِ، فَلَمَّا جَازَ اسْتَدَامَتُهُ، جَازَ ابْتِدَاؤُهُ. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ، كَسَائِرِ النَّوَاهِي، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ لَمْ يُمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ أن عبد اللَّهِ أَرَادَ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ طَلْحَةَ بِنْتِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَبَعَثَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَكَانَ أَمِيرَ الْحَاجِّ وَكَانَا مُحْرِمَيْنِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانٌ وَقَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكح ". فَإِنْ قِيلَ: نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ ضَعِيفٌ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ مَشْهُورَةٌ، قَدْ حَكَاهَا عَنْ أَبَانٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ نَهْيُهُ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ. قِيلَ: غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ وَمَنْ حَضَرَهُ قَدْ عَقِلُوا مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنكح وَلَا يُنكح " فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَطِئُ غَيْرَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ مَا قَالُوا، لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ حُكْمٌ فَيُسْتَفَادُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ) {البقرة: 197) وَرَوَى عكرمة سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ امْرَأَةٌ تَتَزَوَّجُ وَهِيَ خَارِجَةُ مَكَّةَ: يَعْنِي أَنَّهَا أَحْرَمَتْ وَخَرَجَتْ إِلَى مِنًى فقال: " لا يعقل فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عنه وهنا نَصٌّ فِي الْعَقْدِ وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوَّجُ ". وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وعلي، وابن عمر، وزيد بن زياد، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْفِرَاشُ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، كَالْوَطْءِ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ النَّسَبِ دُونَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ النِّكَاحِ، كَالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَانِعًا مِنْهُ، كَالطِّيبِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَذَاتِ الْمُحْرِمِ وَالْمُرْتَدِّ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ، فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخصوص بجواز النكاح في الإحرام لما كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ فِي الْمَنَاكِحِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ، لَكِنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ واهٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح ميمونة وهو حلال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 فأحدهما: مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وميمون يومئذ على الجزيرة إذ سأل يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ مَيْمُونَةَ كَيْفَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ حَلَالًا وَمَاتَتْ بِسَرِفَ فَهُوَ ذَاكَ قَبْرُهَا بِسَرِفَ تَحْتَ السَّقِيفَةِ أَوْ تَحْتَ الْعَقَبَةِ ". وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْفَذَ أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى مَيْمُونَةَ فَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعَ عشرة العصيبة، فَأَخَذَهَا بِمَكَّةَ وَبَنَى بِهَا بسرفٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رباحٍ، فَسَمِعْتُهُ يخبر رجلاً أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب وَهُوَ حرامٌ وَمَلَكَهَا وَهُوَ حرامٌ. فَلَمَّا تَصَدَّعَ من عنده وحوله، حَدَّثَهُ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهَا فَإِذَا عَجُوزٌ كَبِيرٌ، فَسَأَلَهَا عَطَاءٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو حلالٌ ونكحها وَهُوَ حلالٌ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَتِيقُهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ طِفْلٌ لَا يَضْبُطُ مَا شَاهَدَ، وَلَا يَعِي مَا سَمِعَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ وَلِابْنِ عَبَّاسٍ تِسْعُ سِنِينَ، وَكَانَ تَزْوِيجُ ميمونة قبل موته بثلاثة سِنِينَ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أن من قل هديه وأشعر صَارَ مُحْرِمًا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَ تَقْلِيدِ هَدْيِهِ وَإِشْعَارِهِ، وَقِيلَ عَقَدَ الْإِحْرَامَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ، وَالرَّجْعَةُ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ أَخَفُّ حَالًا مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِي الْعَقْدِ، أَلَا تَرَاهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ، وإنما المقصود منه التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ أَوِ الِاسْتِخْدَامُ فَلِذَلِكَ جَازَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْإِحْرَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِهِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ فَمَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مقصوده، وأما قولهم: إنما منع الإحرام من ابتدائه منع من استدامته، فَبَاطِلٌ بِالطِّيبِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي حنيفة مِنِ استدامته. وأما قولهم: إنما مَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ تُعَلَّقُ بِهِ الْفِدْيَةُ، فَبَاطِلٌ بِالصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ قَتْلِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 وَمِنْ تَمَلُّكِهِ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَمْ يَفْتَدِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْحَجِّ، إِمَّا بِإِتْلَافٍ أَوْ تَرْفِيهٍ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَيَحْصُلُ فِيهِ إِتْلَافٌ أَوْ تَرْفِيهٌ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَصِحُّ، فَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا، أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْوَلِيُّ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ فَاسِدٌ يُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَلَا مَعْنَى لِإِجْبَارِهِ عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ فَاسِدًا فَلَا مَعْنَى فِيهِ لِلطَّلَاقِ. فَصْلٌ : إِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ حَلَالًا، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَهُوَ لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ الْحَلَالُ مُحْرِمًا، فَزَوَّجَهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَ وَكِيلَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ. وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوِكَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُهُ محرماً، كان النكاح باطلاً. فصل : إذا كَانَ شَاهِدُ النِّكَاحِ مُحْرِمًا، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ النِّكَاحُ غَيْرُ جَائِزٍ. " وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَشْهَدُ ". قَالَ: وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْوَلِيِّ، وَهَذَا غَلَطٌ، أَمَّا الْخَبَرُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشُّهُودِ وَأَمَّا الْوَلِيُّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوَلِيُّ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالزَّوْجِ وَالشَّاهِدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا كَالْخَاطِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلِيَّ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ كَالزَّوْجِ، وَالشَّاهِدُ لَا فِعْلَ لَهُ كَالْخَاطِبِ. فَصْلٌ : فَلَوْ وَكَّلَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ: صَحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّى عَقْدَهُ وَكِيلٌ حَلَالٌ لِمُوَكِّلٍ حَلَالٍ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مُحْرِمًا حَالَ الْإِذْنِ، وَالِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا حَالِ الْإِذْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِذْنِ الْمُحْرِمِ فِي التَّزْوِيجِ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ، فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ إِذْنِ الصَّبِيِّ فِي التَّزْوِيجِ، فَيُزَوَّجُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ، وَالْمُحْرِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ قَاضِي الْبَلَدِ مُحْرِمًا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِوِلَايَتِهِ الْحُكْمَ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ كَالْوَالِي الْخَاصِّ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يجوز لهما ذلك، كَمَا يَجُوزُ لَهُمَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ تَزْوِيجُ الْكَافِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ أَعَمُّ، وَجَمِيعَ الْقُضَاةِ خلفاؤه، وفي منعه عن ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَنْعِ سَائِرِ خُلَفَائِهِ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ خَاطِبًا فِي النِّكَاحِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحِلِّ أَنْ يَخْطُبَ مُحْرِمَةً لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ إِحْلَالِهَا، كَمَا يُكْرَهُ لَهُ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِتَزْوِيجِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْرِمَةِ مِنْ فِعْلِهَا يُمْكِنُهَا تَعْجِيلُهُ، وَالْعِدَّةُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهَا، فَرُبَّمَا عَلَيْهَا شِدَّةُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْأَجَلِ لتتعجل تَزْوِيجَهُ. فَصْلٌ : إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا عَقَدْنَا النِّكَاحَ، وَأَحَدُنَا مُحْرِمٌ، وَقَالَ الْآخَرُ عَقَدْنَاهُ وَنَحْنُ حَلَالَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى عَقْدَهُ وَهُمَا حَلَالَانِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ظَهَرَ صَحِيحًا، وَحُدُوثُ الْإِحْرَامِ مُجَوَّزٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُدَّعِي الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُدَّعِيَةً، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَهُمَا عَلَى الزوجية، وإن كان الزوج مدعيه، حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النَّسْخَ، وَهُوَ مقربه، لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمَهْرَ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَنِصْفُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَجَمِيعُهُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ إِذَا طَلَّقَهَا تطليقة، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ كَالنِّكَاحِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ عَقْدًا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِصْلَاحُ خَلَلٍ فِيهِ، وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، يَرْتَفِعُ بِالرَّجْعَةِ مَعَ حُصُولِ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ وَالْعَوْدَةَ، قَدْ أَوْقَعَا فِي الزَّوْجِيَّةِ تَحْرِيمًا يَرْفَعُهُ التَّكْفِيرُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ الْمُظَاهِرُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّكْفِيرِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ مَا طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَأَمَّا النِّكَاحُ، فَمُفَارِقٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَقْدٍ مُفْتَقِرٍ إلى ولي، وشهود، ورضا، وبذل، وَقَبُولٍ وَالرَّجْعَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذلك. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْمِنْطَقَةَ لِلنَّفَقَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لُبْسُ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ جَائِزٌ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِهَا، أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَدَّ فِي وَسَطِهِ حَبْلًا، أَوِ احْتَزَمَ بِعِمَامَةٍ. وقال مالك: لا يجوز ذلك إلا في حجة مَاسَّةٍ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ أَبْرَقَ فَقَالَ: انْزَعِ الْحَبْلَ مَرَّتَيْنِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَهٍ كَانَ يَحْتَزِمُ لِإِحْرَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمُحْرِمِ هَلْ يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ لِبَاسِهِ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ، فَمَا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمُرْسَلٌ، وَإِنْ صَحَّ كان محمولاً على الاستحباب. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ فِي الْمَحْمَلِ، وَنَازِلًا فِي الْأَرْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا وَنَازِلًا، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ نَازِلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ سَائِرًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَطْلُبُ الْفَيَافِيَ وَالظِّلَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ أَيِ اخْرُجْ إِلَى الشَّمْسِ لِأَنَّ الضِّحَّ الشَّمْسُ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْآخَرُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ من الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانُوا إِذَا أرَادُوا دخول دار أتوا الْجِدَارَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَابَ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَبِرًّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} (البقرة: 189) فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ فِي ذَلِكَ عَامَّةً، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَفِيمَا يَلِيهِ مِنَ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَالُوا يُحْرِمُونَ وَهُمْ فِي الْعَمَّارِيَّاتِ وَالْقِبَابِ، لَا يَتَنَاكَرُونَ ذَلِكَ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَ أنه إجماع أهل الأعصار، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ الْمُحْرِمُ نَازِلًا جَازَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِهِ سَائِرًا كَالْيَدَيْنِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ "، فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الِاسْتِظْلَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، لِمَا رُوِيَ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِبَطْنِ نمرةٍ فَدَخَلَهَا وَاسْتَظَلَّ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَافَى عَرَفَةَ أَقَامَ فِي لحف الجبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 قَدْ ظُلِّلَ عَلَى رَأْسِهِ بثوبٍ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَدَلَّ على نَهْيَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ نَازِلًا. قِيلَ: وَنَهْيُهُ إِنَّمَا كان لمحرم نازل. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَنْظُرَا فِي الْمِرْآةِ لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ، وحكي عن عطاء الخراساني أنه كره ذلك لِحَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كره ذلك إلا لحاجة، والدلالة عليهما: مَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان ينظر في المرآة وهو محرم " والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 باب دخول مكة مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ ذِي طُوًى لِدُخُولِ مَكَّةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِهَا مِنْ بَيْنِ ذِي طُوًى، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا. لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ اغْتَسَلَ بِذِي طُوًى ". وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ إِلَى مَجْمَعِ النَّاسِ لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ، واستحب لَهُ الْغُسْلَ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ عَلَى غَيْرِ ذِي طُوًى، اغْتَسَلَ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الِاغْتِسَالُ لَا الْبُقْعَةُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَغْتَسِلُ لِدُخوِلِ مَكَّةَ مِنْ بِئْرِ مَيْمُونٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ ذَوِي طُوًى، اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ ذِي طُوًى، لِبِئْرٍ بِهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً بِالْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا، فَنُسِبَ الْوَادِي إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، فَاغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ، ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، نُظِرَ، فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْ مَكَّةَ كَالْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَخْتَارُ أَنْ يَغْتَسِلَ ثَانِيَةً لِدُخُولِهِ مَكَّةَ، كَمَا قُلْنَا فِي الدَّاخِلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ يَقْرُبُ مِنْ مَكَّةَ كَالتَّنْعِيمِ أَوْ أَدْنَى الْحِلِّ، لَمْ يَغْتَسِلْ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنَّمَا يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَإِزَالَةِ الْوَسَخِ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَهُوَ بَاقٍ فِي النَّظَافَةِ بِغُسْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ، مَعَ قُرْبِ الزَّمَانَيْنِ وَدُنُوِّ الْمَسَافَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَائِضُ، فَهِيَ كَالطَّاهِرِ، مَأْمُورَةٌ بِالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أسماء بالغسل وكانت نفساء، وقال: الحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بِالْبَيْتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَسْمَاءُ إِنَّمَا أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ. قِيلَ: مَنْ أُمِرَ بِالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ، أُمِرَ بِالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَالطَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ قُصِدَ بِهِ تَنْظِيفُ الْجَسَدِ، لَا رَفْعُ الْحَدَثِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَائِضُ وَالطَّاهِرُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغُسْلَ لدخول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 مَكَّةَ مَسْنُونٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْلُ، فَالْوُضُوءُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْوُضُوءُ، فَالتَّيَمُّمُ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ إِعْوَازِهِ أَوْ وُجُودِهِ، أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عليه؛ لأنه ليس بواجب. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويدخل من ثنية كداء وتغتسل المرأة الحائض لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسماء بذلك وقوله عليه السلام للحائض " افعلي ما يفعل الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ الدُّخُولَ مِنْهَا لِمَنْ كَانَ طَرِيقُهُ عَلَيْهَا، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَاءَ ذَا طُوًى، بَاتَ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَدَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ حِينَ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ ثَنِيَّةِ، كداءٍ فَلِذَلِكَ مَا اسْتَحْبَبْنَا لَهُ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ السُّفْلَى، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْعُمْرَةِ أَنْ يَعْلُوَ ثَنِيَّةَ كَدَاءٍ، وفيدخل مِنَ الْمَعْلَاةِ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ بِدُخُولِ الْمُعْتَمِرِينَ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقَلَةِ مِنْ بَابِ إِبْرَاهِيمَ، ومن أين دخل أَجَزْأَهُ وَإِنْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى. فَصْلٌ : اسْتَحَبَّ قَوْمٌ دُخُولَ مَكَّةَ لَيْلًا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَهَا لَمَّا اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا، وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ نَهَارًا وَفِي عَامِ الْفَتْحِ نَهَارًا وَفِي حَجَّةِ سَنَةِ عَشْرٍ نَهَارًا، وَكِلَاهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُمَا، وَاخْتَارَ قَوْمٌ أَنْ يَدْخُلَهَا رَاكِبًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَهَا رَاكِبًا، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَدْخُلَهَا مَاشِيًا حَافِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) {طه: 12) . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ سَبْعُونَ نَبِيًّا، كُلُّهُمْ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ مِنْ ذِي طُوًى تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ " وَكِلَاهُمَا مُبَاحٌ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ. فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ، أَنْ يَدْخُلَهَا بِخُشُوعِ قلب، وخضوع جسد، دَاعِيًا بِالْمَعُونَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَا تجعل منايانا بها حين ندخلها إِلَى أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا ". وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ، ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ: " اللَّهُمَّ هَذَا الْبَلَدُ بَلَدُكَ وَالْبَيْتُ بَيْتُكَ جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَكَ، وَأَلُمُّ طَاعَتَكَ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِكَ، رَاضِيًا بِقَدَرِكَ، مُسَلِّمًا لِأَمْرِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَيْكَ، الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِكَ خَائِفًا لِعُقُوبَتِكَ، أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي بِعَفْوِكَ، وَأَنْ تَتَجَاوَزَ عَنِّي بِرَحْمَتِكَ، وَأَنْ تُدْخِلَنِي جَنَّتَكَ ". وَأَيُّ شَيْءٍ قال ما لم يكن هجراً جاز، قد رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بين يديه ويقول: (خَلُّوا بَنِي الْكُفَارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ) (ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خل عنه يا عمر فإنه أسرع فيكم مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ ". فَصْلٌ : فَأَمَّا مَكَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِاسْمَيْنِ: مَكَّةُ وَبَكَّةُ فَقَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً) {آل عمران: 96) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {وَهُوَ الذِي كَفَّ أيْدِيهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) {الفتح: 23) فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا لُغَتَانِ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُبْدِلُ الْمِيمَ بِالْبَاءِ، فَيَقُولُونَ ضَرْبٌ لَازِبٌ وَلَازِمٌ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُمَا اسْمَانِ، وَالْمُسَمَّى بِهِمَا شَيْئَانِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا، فِي الْمُسَمَّى بِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَكَّةَ اسْمُ الْبَلَدِ، وَبَكَّةَ اسْمُ الْبَيْتِ وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَيَحْيَى. وَالثَّانِي: أَنَّ مَكَّةَ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَبَكَّةَ الْمَسْجِدُ كُلُّهُ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَأَمَّا مَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَكَّكْتُ الْمُخَّ تَمَكُّكًا إِذَا اسْتَخْرَجْتُهُ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الرُّجَّازِ فِي تَلْبِيَتِهِ: (يَا مَكَّةَ الْفَاجِرِ مُكِّي مَكَّا ... ولا تمكي مذحجاً وَعَكَّا) مَكَّةُ الْفَاجِرِ يَعْنِي بِمَكَّةَ الْعَاجِزَ عَنْهَا، وَيُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَأَمَّا بَكَّةُ فَقَدْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ يَدْفَعُ، وَأَنْشَدَ: (إِذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكَّهْ ... فحله حتى يبك بكه) مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا البيت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَمَهَابَةً، وَتَكْرِيمًا، وَزِدْ مِنْ عِظَمِهِ وشرفه، ممن حجه أو اعتمره تشريفاً، وتعظيماً ومهابة، وتكريماً وتقول اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بالسلام ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا دَخَلَ الْمُحْرِمُ إِلَى مَكَّةَ، فَرَأَى الْبَيْتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ بَعْدَهُ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ " فَقَدْ قَالَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَحَكَاهُ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا قَالَ مِنْ حَسَنٍ أَجْزَأَهُ، ويستحب أن يرفع يديه عند دعاه إِذَا رَأَى الْبَيْتَ، وَحُكِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَقَالَ: ما أعرف ذلك إلا لليهود، وقد سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَيْتَ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَبِجَمْعٍ، وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَعَلَى الْبَيْتِ. وَرَوَى حَبِيبٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَفَعَ يَدَيْهِ فَوَقَعَ زِمَامُ نَاقَتِهِ، فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ ورفع يده اليمنى. قال الشافعي: إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ مِنَ الْبَابِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَلِي الْمَعْلَاةَ وَالرَّدْمَ، وَهُوَ بَابُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِبَنِي شَيْبَةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ قَصَدَ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُحَاذِيًا لوجه الكعبة، وبابها والمنبر، وَالْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأْتُواْ البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} (البقرة: 189) . وَلِأَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، لَا مِنْ ظَهْرِهِ، وَلِيَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ، مَا رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ أَمَانَنَا عِنْدَكَ، وَأَنْ تَكْفِيَنَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا، وَكُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ. فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَمْ يَبْدَأْ بَشَيْءٍ غَيْرِ الطَّوَافِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا. لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَالَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى، فَلَمَّا أَتَى بَابَ الْمَسْجِدِ، أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَبَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ، ثُمَّ رَمَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ فَاسْتَلَمَهُ وَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَبْلَ الْحَجَرِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ، الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. وَلِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ، كَمَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ كَانَ قَاصِدُ الْمَسْجِدِ مَأْمُورًا بِتَحِيَّتِهِ، فَكَذَلِكَ قَاصِدُ الْبَيْتِ مَأْمُورٌ بِتَحِيَّتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 فَإِنْ قِيلَ هَلَّا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ. قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَحِيَّتُهُ أَفْضَلَ مِنْ تَحِيَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَالطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ، سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ فَيَجْعَلُ لِلطَّائِفِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَلِّي ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَكْرَمُ سُكَّانِ أَهْلِ السَّمَاءِ عَلَى اللَّهِ، الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ عَرْشِهِ، وَأَكْرَمُ سُكَّانِ أَهْلِ الْأَرْضِ، الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ بَيْتِهِ ". وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ صَافَحَتْ أَحَدًا، لَصَافَحَتِ الْغَازِيَ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ خَوْضٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبَاهِيَ بِالطَّائِفِينَ الْمَلَائِكَةَ ". وَهَذَا الطَّوَافُ سُمِّيَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَطَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ تَارِكٌ، فَحَجُّهُ يُجْزِئُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ نسك، لحجة المحرم، وَعَلَى تَارِكِهِ دَمٌ. قَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَرَكَهُ مُرْهَقًا، أَيْ مُسْتَعْجَلًا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ مُطِيقًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ يَتَعَلَّقُ بالحج، ألا ترى أنه لو ضاق بِهِمُ الْوَقْتَ، فَتَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَةَ، يَسْقُطُ عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ نُسُكًا، لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْضُوا إِذَا عَادُوا، أَوْ يَفْتَدُوا بِدَمٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بنسك. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْتَتَحُ الطَّوَافُ بِالِاسْتِلَامِ، فَيُقَبَّلُ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ، فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَدَأَ بِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحَاذِيَهُ بِيَدَيْهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ فَإِنْ حَاذَى جَمِيعَ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ حاذى بعض الحجر بجميع بدنه، أجزأه، لأن لَمَّا كَانَ الْمُسْتَقْبِلُ لِبَعْضِ الْكَعْبَةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ كَالْمُسْتَقْبِلِ لِجَمِيعِ الْكَعْبَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَاذِي لِبَعْضِ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، كَالْمُحَاذِي لِجَمِيعِ الْحَجَرِ، وَإِنْ حَاذَى جَمِيعَ الْحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، أَوْ حَاذَى بَعْضَ الْحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ، فَحُكْمُ الْبَعْضِ مِنْهُ حُكْمُ الجميع، كالجلد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَقْبِلُ لِلْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْتَقْبِلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ المحاذي الحجر بِبَعْضِ بَدَنِهِ، فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُحَاذِي، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَاذِيَهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَمْسُهُ مَعَ أَوَّلِ الْحَجَرِ، ثم يجوره طَائِفًا، وَلَيْسَ اسْتِقْبَالُهُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا مُحَاذَاتُهُ شَرْطٌ. فَصْلٌ : وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَلَمَهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيُبْعَثَنَّ هَذَا الرُّكْنُ وَلَهُ لسانٌ، وَعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بحقٍ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ ". وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ مَسَحَهُ، فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ ". وَأَمَّا اسْتِلَامُ الْحَجَرِ، فَهُوَ افْتِعَالٌ فِي التَّقْدِيرِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ، وَأَحَدُهَا سَالِمَةٌ تَقُولُ: اسْتَلَمْتُ الْحَجَرَ إِذَا لَمَسْتُهُ مِنَ السَّلَامِ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: (تَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الشَّيْبِ فِي مُتَثَلِّمٍ ... جَوَانِبُهُ مِنْ بصرةٍ وَسَلَامِ) فَالسَّلَامُ الْحِجَارَةُ السُّودُ، وَالْبَصْرَةُ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْبَصْرَةُ لِمَا فِي أَرْضِهَا مِنْ عدوق الحجارة البيض. فصل : الثالث: أَنْ يُقَبِّلَهُ بِفِيهِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَهُ وَقَالَ: يَسْتَلِمُهُ، ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَافَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ على بعير، فاستلم الركن بمحجنه وقبل طَرَفَ مِحْجَنِهِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَرَ، فَاسْتَلَمَهُ فِي وَضْعِ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ: هَا هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ. وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ الْحَجَرِ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ". فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَا إِنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، أَوْدَعَهُ فِي رِقٍّ وَفِي هَذَا الْحَجَرِ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَحْيَانِي اللَّهُ لِمُعْضِلَةٍ لَا يَكُونُ لَهَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ حياً ". قال الشافعي: ويقبل الحجر بلا تصويت وَلَا تَطْنِينٍ هَكَذَا السُّنَّةُ فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 فَصْلٌ : وَالرَّابِعُ: أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ فِيهِ تَقْبِيلًا، وَزِيَادَةَ سُجُودٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: السُّجُودُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدِمَ مَكَّةَ مسبداً رأسه، فقبل الْحَجَرَ، ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّسْبِيدُ، تَرْكُ التَّدَهُّنِ والغسل. فَصْلٌ : وَالْخَامِسُ: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ " بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا لِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بَعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ وَبِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَا ادُّعِيَ دُونَ اللَّهِ إِنَّ ولي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ". وَمَا قَالَ مِنْ ذِكْرٍ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ فَحَسَنٌ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ، فَجَمِيعُهَا سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، إِلَّا مُحَاذَاةَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لَا غَيْرَ، فَإِنْ كَانَتْ زَحْمَةٌ لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ إِلَّا بِزِحَامِ النَّاسِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ إِنْ صَبَرَ يَسِيرًا خَفَّ الزِّحَامُ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِلَامُ صَبَرَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الزِّحَامَ لَا يَخِفُّ، تَرَكَ الِاسْتِلَامَ وَلَمْ يُزْحِمِ النَّاسَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ رَافِعًا لِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلُهَا. وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ، أَنَّ الزِّحَامَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ. فَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نُزَاحِمُ ابْنَ عُمَرَ عَلَى الرُّكْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ زَاحَمَ الْإِبِلَ لَزَحَمَهَا. وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ استلام الركن فقال: استلمه يابن أَخِي وَزَاحِمْ عَلَيْهِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُزَاحِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُدْمَى. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الزِّحَامَ مَكْرُوهٌ، رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُؤْذِي الضَّعِيفَ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا فاستلمه، وإلا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ لَا تُؤْذِي وَلَا يُؤْذَى، لَوَدِدْتُ أَنَّ الَّذِي زَاحَمَ عَلَى الحجر نجا منه كفافاً. فَصْلٌ : أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُخْتَارُ لَهُنَّ الِاسْتِلَامُ وَلَا التَّقْبِيلُ، إِذَا حَاذَيْنَ الْحَجَرَ، أَشَرْنَ إِلَيْهِ. قَدْ رَوَى عَطَاءٌ " أَنَّ امْرَأَةً طَافَتْ مَعَ عَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَتِ الرُّكْنَ قَالَتِ الْمَرْأَةُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَسْتَلِمِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمَا لِلنِّسَاءِ وَاسْتِلَامِ الرُّكْنِ امْضِ عَنْكِ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ عَلَى مَوْلَاةٍ لَهَا. فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ، فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ عِنْدَ خلو الطواف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستلم اليماني بيده ويقبلها ولا يقبله لأني لم أعلم رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قبل إلا الحجر الأسود واستلم اليماني وأنه لم يعرج على شيءٍ دون الطواف ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الرُّكْنِ الْيَمَانِيُّ، وَهُوَ الرَّابِعُ مِنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ، وَيُقَبِّلَ يَدَهُ، وَلَا يُقَبِّلَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهُ وَلَا أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ إِذَا اسْتَلَمَهُ، بَلْ يَمُرُّ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَلِمُهُ، وَلَا يُقَبِّلُ يَدَهُ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَمْ أَمُرَّ بِالرُّكْنِ إِلَّا وَعِنْدَهُ مَلَكٌ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ اسْتَلِمْ ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْأَسْوَدَ فِي كُلِّ طوافٍ، ولا يستسلم الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ. وَرَوَى عَطَاءٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مَرَرْتُ بِهَذَا الرُّكْنِ إِلَّا وَجِبْرِيلُ قَائِمٌ عِنْدَهُ يَسْتَغْفِرُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ ". وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَهُمَا الْعِرَاقِيُّ وَالشَّامِيُّ فَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَلِمَهَا بَلْ يَمُرُّ بِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ مَهْجُورًا؛ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ، مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَلِمُ إِلَّا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، يَعْنِي الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ، فَمَا تَرَكْتُهُمَا مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالْيَمَانِيَّ بُنِيَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاخْتُصَّا بِالِاسْتِلَامِ، وليس ذلك كَذَلِكَ الْعِرَاقِيِّ وَالشَّامِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ تَرْكُ اسْتِلَامِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِنْهُمَا مَهْجُورًا، وَكَيْفَ يهجر ما يطاف به لو كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِهَا مَهْجُورًا هِجْرَانًا لَهُمَا، كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هِجْرَانًا لَهَا، فَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَمَانِيِّ، فَلَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِلَامِ، فَهَلَّا اسْتَوَيَا فِي التَّقْبِيلِ. قِيلَ: السُّنَّةُ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا بتقبيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَحَدِهِمَا عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَشْرَفُ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أشهد بالله ثَلَاثًا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ الْحَجَرَ وَالْمَقَامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَ نُورُهُمَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ". وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْجَنَّةِ وَمَا مِنْ أحدٍ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ. فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَدْعُوَ عِنْدَهُ، فَقَدْ رَوَى سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ يُؤَمِّنَانِ عَلَى دُعَاءِ مَنْ يَمُرُّ بِهِ، وَعَلَى الْأَسْوَدِ مَا لَا يُحْصَى، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا مَرَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة. وقنا عَذَابَ النَّارِ. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَقُولُ هَذَا وَإِنْ كُنْتُ مُسْرِعًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ أَسْرَعَ مِنْ بَرْقِ الْخُلَّبِ وَمَا دعي بِهِ مِنْ شَيْءٍ فحسنٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالرُّكْنِ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ روضةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ " وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالرُّكْنِ: " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة وقنا عذاب النار ". مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَبْتَدِئُ بِشَيْءٍ غَيْرَ الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يجد الإمام في المكتوبة أو يخاف فوت فرض أو ركعتي الفجر (قال) ويقول عند ابتدائه الطواف والاستلام " باسم اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بكتابك وَوَفَاءً بَعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: لِعُذْرٍ قَدْ أَرْهَقَهُ. وَالثَّانِي: لِحُضُورِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: لِعِبَادَةٍ يُخَافُ فَوْتُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُذْرُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، أَوْ عِنْدَهُ مَرِيضٌ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِيَادِ مَسْكَنٍ، أَوْ إِحْرَازِ رَجُلٍ فَهَذَا مَعْذُورٌ بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ، فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يَقْصِدِ الْمَسْجِدَ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمَسْجِدِ إِنَّمَا يُرَادُ لِلطَّوَافِ، فَإِذَا عُذِرَ بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عُذِرَ بِتَأْخِيرِ الدُّخُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ قَصَدَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا. فَصْلٌ : وَأَمَّا حُضُورُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَهُوَ أَنْ يَجِدَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَقَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَيَبْدَأُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَضِيلَةٌ حَاضِرَةٌ، وَالطَّوَافُ شَيْءٌ لَا يَفُوتُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ هَمَّ بِالطَّوَافِ مَنَعَهُ السَّيْرُ بِهِ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، لَمْ يَطُفْ، وَصَلَّى مَعَهُمْ، فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ زَمَانٌ يَسِيرٌ لَا يَتَّسِعُ لِلطَّوَافِ، كَأَذَانِ الْمَغْرِبِ، لَمْ يَطُفْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ يَطُوفُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُتَّسَعًا لِلطَّوَافِ، لَمْ يَنْتَظِرِ الصَّلَاةَ وطاف فإن أقيمت للصلاة قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوَافِ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْطَعَهُ عَلَى وِتْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ، أَوْ خَمْسٍ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَلَى شَفْعٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ". فَإِنْ قَطَعَهُ على شفع جاز، ويخرج من الطوفة عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، لِيَكُونَ قَدْ أَكْمَلَهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، عَادَ فَبَنَى عَلَى طَوَافِهِ وَتَمَّمَ، فَإِنْ خَرَجَ مِنَ الطَّوَافِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوْفَةِ، فَإِذَا عَادَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ابْتَدَأَ مِنْ حَيْثُ قَطَعَ، وَاسْتَظْهَرَ لِيُتَمِّمَ الطَّوْفَةَ الَّتِي قَطَعَهَا، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهَا تَمَامَ سَبْعٍ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يَخَافُ فَوْتَهُ مِنْ عِبَادَاتِهِ، فَمِثْلُ صَلَاةِ الْفَرْضِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا أَوْ صَلَاةِ وِتْرٍ أَوْ رَكْعَتِي فَجْرٍ أَوَ صَلَاةِ فَرْضٍ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ هَذَا كُلَّهُ عَلَى الطَّوَافِ، فَإِذَا فَعَلَهُ طَافَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُخَافُ فَوْتُهُ، وَالطَّوَافُ لَا يَفُوتُ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ هَذَا الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ كَالرَّكْعَتَيْنِ، فَهَلَّا اسْتُغْنِيَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ عَنْهُ كَمَا يُسْتَغَنَى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ جِنْسٌ فَنَابَ بَعْضُهَا مَنَابَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ مِنْ جِنْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ تَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّوَافُ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ، وَلَيْسَ بِتَحِيَّةٍ لِلْمَسْجِدِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، يَعْنِي فِي الْأَمْرِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، إِلَّا امْرَأَةً كَانَ لَهَا شَبَابٌ وَمَنْظَرٌ، فَالْوَاجِبُ لِتِلْكَ أَنْ تُؤَخِّرَ الطَّوَافَ إِلَى اللَّيْلِ لِيَسْتُرَ اللَّيْلُ مِنْهَا. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَضْطَبِعُ لِلطَّوَافِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اضطبع حين طاف ثم عمر (قال) وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَشْتَمِلَ بِرِدَائِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَمِنْ تَحْتِ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ فَيَكُونُ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا حَتَّى يُكْمِلَ سَعْيَهُ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَسُمِّيَ اضْطِبَاعًا؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ إِحْدَى ضَبْعَيْهِ، وَضَبْعَاهُ مَنْكِبَاهُ، وَهُوَ سِنَّةٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَمَا تَرَوْنَ إِلَى أَصْحَابِ محمد، قد وعكتهم حتى يَثْرِبَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْمُلُوا وَاضْطَبِعُوا. كَفِعْلِ أَهْلِ النَّشَاطِ وَالْجَلَدِ لِيَغِيظَ قُرَيْشًا. قَالَ: وَهَذَا سَبَبٌ قَدْ زَالَ، فَيَجِبُ أَنْ يَزُولَ حُكْمُهُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ حِينَ طَافَ، وَقَالَ: " خُذُوا عَنِّي منساككم ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ استلم الركن لسعي، ثم قال: لمن نبرئ الْآنَ مَنَاكِبَنَا وَمَنْ نُرَائِي وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ؟ لَأَسْعَيَنَّ كَمَا سَعَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَمَلَ مُضْطَبِعًا، فَقَدْ أَخْبَرَ بِسُنَّتِهِ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ، وَأَكْثَرُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، كَانَتْ لِأَسْبَابٍ زَالَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ مَسْنُونٌ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ سَعْيٌ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُرِدِ السَّعْيُ بَعْدَهُ، فَلَا يَضْطَبِعُ لَهُ، وَلَا يَرْمُلُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَضْطَبِعْ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَرْمُلْ، وَإِذَا أَرَادَ السَّعْيَ فَاضْطَبَعَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ غَطَّى مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الطَّوَافِ، وَكَشَفَ مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ لِلِاضْطِبَاعِ، فَلَوْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ فِي بَعْضِ الطَّوَافِ، اضْطَبَعَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ اضْطَبَعَ فِي السَّعْيِ وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا إِعَادَةَ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ وِتْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ فِي كُلِّ شفعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاسْتِلَامُ فَمُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ فَالِاسْتِلَامُ فِي كُلِّ وِتْرٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ فِي كُلِّ شَفْعٍ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَلِمًا فِي افْتِتَاحِهِ وَخَاتِمَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ عَدَدًا، وَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الِاسْتِلَامِ قادحاً في طوافه. قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ فَعَلْتَ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلْتُ، اسْتَلَمْتُ الرُّكْنَ وَتَرَكْتُ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أصبت ". مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويرمل ثلاثاً ويمشي أربعاً ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود ويرمل ثلاثاً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثاً والرمل هو الخبب لا شدة السعي والدنو من البيت أحب إليّ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّمَلُ فَهُوَ الْخَبَبُ، فَوْقَ الْمَشْيِ وَدُونَ السَّعْيِ، فَإِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْمُلَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَافٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِوُقُوفٍ، إِلَّا أَنْ يَقِفَ عَلَى اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ، وَيَمْشِيَ فِي أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَلَ مِنْ سَبْعَةٍ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ خَبَبًا لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مَشْيٌ، ثُمَّ كَذَا أَبُو بَكْرٍ عَامَ حَجِّهِ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ كَانُوا يَسْعَوْنَ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَ الرَّمَلَاتُ، وَلَا أَرَى أحداً أرانيه؟ وَمَعَ هَذَا فَمَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثُمَّ الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ قَرِيبَانِ يُفْعَلَانِ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَعْقُبُهُ السَّعْيُ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ لِعِلَّةٍ بِهِ اضْطَبَعَ، وَإِنْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ لِجُرْحٍ بِهِ رَمَلَ، وَإِنْ تَرَكَهُمَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ، وَلَا دَمَ عليه؛ لأنه هبة، والاضطباع والرمل في الحج، والعمرة، والقران، وقيل: عَرَفَةُ وَبَعْدَهَا، سَوَاءٌ فَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي لَا يُسْعَى بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يَمْشِي فِيهِ عَلَى هَيْئَةِ، مَنْ سَعَى وَرَمَلَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَذَا الطَّوَافِ قُرَيْشٌ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَلْيَنُ النَّاسِ فِيهِ مَنَاكِبَ وَأَنَّهُمْ يَمْشُونَ التُّؤَدَةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أَقْرَبَ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبَيْتِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّوَافِ الْبَيْتُ، فَإِذَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ كان أولى. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم يمكنه الرمل فكان إذا وَقَفَ وَجَدَ فُرْجَةً وَقَفَ ثُمَّ رَمَلَ فَإِنْ لم يمكنه أحببت أن يصير حاشية في الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَيَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ مَشْيِهِ مُتَقَارِبًا وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَثِبَ مِنَ الْأَرْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمَلَ مَسْنُونٌ، وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ وَالدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ فَعَلَهُمَا مَعًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنَ الْبَيْتِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ وَقَفَ يَسِيرًا وَجَدَ فُرْجَةً وَأَمْكَنَهُ الرَّمَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَضِرَّ بِوُقُوفِهِ الطَّوَافُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ وَلَا يَثِبَ مِنَ الْأَرْضِ فِي وُقُوفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ يُقْتَدَى بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ وَقَفَ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ فُرْجَةً لَكِنْ إِنْ وَقَفَ اسْتَضَرَّ بِوُقُوفِهِ الطَّوَافُ، فَهَذَا يَبْعُدُ مِنَ الْبَيْتِ، وَيَصِيرُ فِي حَاشِيَةِ الطَّوَافِ لِيَرْمُلَ، لِأَنَّ الرَّمَلَ أَوْكَدُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنَ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا كَانَ الرَّمَلُ أَوْكَدَ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَالدُّنُوَّ فَضِيلَةٌ وَالسُّنَّةُ أَوْكَدُ مِنَ الْفَضِيلَةِ، وَلِأَنَّ الرمل من هيئاته الطَّوَافِ الْمَقْصُودَةِ وَلَيْسَ الدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ مِنْ هيئته، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ صَارَ إِلَى حَاشِيَةِ الطَّوَافِ مَنَعَهُ كَثْرَةُ النِّسَاءِ فَهَذَا يَدْنُو مِنَ الْبَيْتِ وَيُدْرِكُ الرَّمَلَ لِتَعَذُّرِهِ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ النِّسَاءِ مكروهة. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ترك الرمل في الثلاثة لم يقض في الأربع وإن ترك الاضطباع والرمل والاستلام فقد أساء ولا شيء عليه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمَلَ مَسْنُونٌ فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَافِ الْأُولَى، وَالْمَشْيَ مَسْنُونٌ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوْفَةِ الْأُولَى، أَتَى بِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَتَى بِهِ فِي الثالثة وإن تركه في الثالثة كُلِّهَا، لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ، وَالْهَيْئَاتُ لَا تُقْضَى فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، كَمَا لَوْ تَرَكَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، لَمْ يَقْضِهِ فِي السُّجُودِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّمَلَ وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا فِي الثَّلَاثِ، فَالْمَشْيُ مَسْنُونٌ فِي الْأَرْبَعِ فَإِذَا قَضَاهُ فِي الْأَرْبَعِ، تَرَكَ الْمَشْيَ الْمَسْنُونَ فِيهَا بِرَمَلٍ مَسْنُونٍ فِي غَيْرِهَا، فَيَكُونُ تَارِكًا للسُّنَّتَيْنِ مَعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ، وَالِاضْطِبَاعَ، وَالِاسْتِلَامَ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ هَيْئَاتٌ، وَالْهَيْئَاتُ لَا تُجْبَرُ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ، لَمْ يَلْزَمْهُ جُبْرَانٌ فَإِذَا تَرَكَ هيأته، أولى أن لا يلزمه جبران. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وكلما حاذى الحجر الأسود كَبَّرَ وَقَالَ فِي رَمَلِهِ " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا " وَيَقُولُ فِي سعيه " اللهم اغفر وارحم واعف عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وقنا عذاب النار ويدعو فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ ودنيا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَكْبِيرُهُ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ فَمُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ كَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الطَّوْفَةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ كَالِاسْتِلَامِ، الَّذِي إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، اسْتَلَمَ فِي كُلِّ وِتْرٍ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الرَّمَلِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَيَقُولُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ. وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ فِي طَوَافِهِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى التَّيْمِيِّ أَنَّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَقُولُ إِذَا طُفْتَ الْبَيْتَ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَثَرَاتِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي فَإِنْ لَمْ تَخْلُفْنِي تُهْلِكُنِي " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الطَّوَافِ فَلَقِيَنِي شَابٌّ نَظِيفُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَلَا أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: قُلْ " يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سمعٌ عَنْ سمعٍ يَا مَنْ لَا يَغلِطُهُ السَّائلُونَ يَا مَنْ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ أَسْأَلُكَ يَدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ " قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُهَا ثُمَّ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ ذَاكَ الْخَضِرُ ". فَإِذَا دَعَا بِمَا ذَكَرْنَا دَعَا بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ فَمُسْتَحَبَّةٌ، وَحُكِيَ عِنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الطَّوَافِ فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطَّوَافُ صلاةٌ ". ثُمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبَّةً فِي الطَّوَافِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ الْقِرَاءَةَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَرْءُ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي الطَّوَافِ. قِيلَ: أَمَّا الدُّعَاءُ الْمَسْنُونُ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ما من شَيْءٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى " وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَا تَضَمَّنَ الدُّعَاءَ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ ذِكْرَ الدُّعَاءِ الْمَسْنُونِ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، كَذَلِكَ الطَّوَافُ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ مَا سُنَّ فِيهِ فَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مَا تكلم به المرء. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ فَمُبَاحٌ؛ لِرِوَايَةِ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ فِيهِ إِلَّا بِخَيْرٍ ". وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا الْتَقَيْتُمْ فِي الطَّوَافِ فَتَسَاءَلُوا ". وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ كَمْ تَعُدُّ، ثُمَّ قَالَ: تَدْرِي لِمَ سَأَلْتُكَ؟ لِتَحْفَظَهُ إِلَّا أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ إِقْلَالَ الْكَلَامِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِّي أَسْتَحِبُّ إِقْلَالَ الْكَلَامِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمَنَازِلِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِقُرْبِ بَيْتِ اللَّهِ مَعَ رَجَاءِ عَظِيمِ الثَّوَابِ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْشَادُ الشِّعْرِ وَالرَّجَزُ فِي الطَّوَافِ، فَجَائِزٌ إِذَا كَانَ مُبَاحًا؛ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَأَبُو أَحْمَدَ يَقُولُ: (يَا حبذا مكة من وادي) (أرضي بها أهلي وغوادي) (أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَأَنَّهُ يَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: " بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: طُفْتُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَذَكَرُوا حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ فِي الطَّوَافِ فَسَبُّوهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا تَفْعَلُوا أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: (هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجِزَاءُ) (فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ محمدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ) فَقِيلَ لَهَا: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ فِي الْإِفْكِ فقالت عائشة: أَلَيْسَ قَدْ تَابَ ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا: وَإِنِّي لِأَرْجُوَ لَهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَامِلًا أُمَّهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَحْمِلُهَا مَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرُ ... إِنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لَا أَذْعَرُ) وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بن عمر أترى أني جزيتها قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا بِزِقْوَةٍ وَاحِدَةٍ. إِلَّا أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ تَرْكَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَالْكَلَامُ أَيْسَرُ مِنْهُ. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي أَوْفَى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَرْتَجِزُ: (يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي) (أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي) فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قل الله أكبر الله أكبر ". فصل : فأما الأكل والشرب في الطواف بمكروه، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ حَالًا، قَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَشْرَبُ مَاءً فِي الطَّوَافِ. وَيَكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ فِي الطَّوَافِ، أَوْ يَتَنَخَّمَ، أَوْ يَغْتَابَ، أَوْ يشتم، ولا يفسد طوافه شيء من ذلك، وإن أثم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُجْزِئُ الطَّوَافُ إِلَّا بِمَا تُجْزِئُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ وَغَسْلِ النَّجَسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ وَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا، لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَإِزَالَةُ النَّجَسِ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَ طَوَافَهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَ عَنْ فَرْضِهِ، وَلَزِمَهُ دَمٌ لِجُبْرَانِهِ، وَرُبَّمَا ارْتَابَ أَصْحَابُهُ أَنَّ الطِّهَارَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لِيُسَوَّغَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 29) وَاسْمُ الطَّوَافِ يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الِاسْمَ لَهُ مُحْرِمًا، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ، كَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ تَرْكُ الكلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 شرطاً فيها، فوجب أن تَكُونَ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا كَالصَّوْمِ طَرْدًا، وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لِلْحَجِّ أَرْكَانًا وَمَنَاسِكَ، وَلَيْسَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ لَاحِقًا بِأَحَدِهِمَا. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ. وَفِعْلُهُ فِي الْحَجِّ بَيَانٌ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَنَاسِكُ والأركان، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فلا ينطق إلا بالخير ". وَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّى الطَّوَافَ صَلَاةً، وَهُوَ لَا يَضَعُ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ، وَإِنَّمَا يُكْسِبُهَا أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ صَلَاةٌ، لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الطَّوَافَ صَلَاةً، وَاسْتَثْنَى مِنْ أَحْكَامِهَا الْكَلَامَ، فَلَوْ كَانَ الطَّوَافُ صَلَاةً فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِهَا مَعْنًى، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِيهَا الطَّهَارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الطَّوَافِ، كَالْمُحْدِثِ إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَلِأَنَّهُ طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِدَمٍ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَكْرُوهٌ، وَالْأَمْرُ لَا يجوز أن يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، عَلَى أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ أُخِذُ بَيَانُهَا من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ لَمْ يَطُفْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِي السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي الطَّوَافِ، كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ، وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصِّيَامِ فِي الطَّرْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الطَّوَافَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْأَرْكَانِ أَوْ بِالْمَنَاسِكِ. قُلْنَا: لَيْسَ بِلَاحِقٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَجِبُ لَهُ وَلَا تَجِبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَطَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، كَانَ طَوَافُهُ غَيْرَ مُجْزِئٍ، كَمَنْ لَمْ يَطُفْ. فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَفَرَغَ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَتَحَلَّلَ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَرَغَ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَحَلَّلَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا أَنَّهُ طَافَ أَحَدُ الطَّوَّافِينَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَعْلَمُ هَلْ هُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ، أَوْ طَوَافُ الْحَجِّ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، وَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ عَنِ الْحَجِّ. وَالْعُمْرَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ فِيهَا وَلَا بِسَعْيهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ وَقَدْ صَارَ قَارِنًا لِإِدْخَالِهِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ، وَطَوَافُهُ فِي الْحَجِّ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ يَلْزَمُهُ دَمَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ الْحِلَاقِ. وَالثَّانِي: لِأَجْلِ الْقِرَانِ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافٌ وَلَا سَعْيٌ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ. وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، فَقَدْ أَكْمَلَ الْعُمْرَةَ، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَهَا بِالْحَجِّ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا، فَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ طَافَ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ، يَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِتَمَتُّعِهُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ، وَيُجْزِئُهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَعَلَى هَذَيْنِ التَّنْزِيلَيْنِ، يَلْزَمُهُ طَوَافٌ وَسَعْيٌ، لِيُصْبِحَ أَدَاؤُهُ لِفَرْضِ النُّسُكَيْنِ يَقِينًا، وَقَدْ أَجْزَأَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ يَقِينًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ لَزِمَهُ دَمٌ، فَأَمَّا دَمُ الْحِلَاقِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي وُجُوبِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُوبِهِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَمِ الْحِلَاقِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَمَا شَكَّ فِي فِعْلِهِ مِنْ أَرْكَانِ حَجِّهِ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، كَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، وَدَمُ الْحِلَاقِ لَيْسَ مِنَ الْحَجِّ، وَمَنْ شك في لزوم بما لَيْسَ مِنْ حَجِّهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، هَلْ تَكَلَّمَ أَمْ لَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ. فَصْلٌ : فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَتَحَلَّلَ مِنْهَا، ثُمَّ وَطِئَ بَعْدَهَا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَتَحَلَّلَ مِنْهُ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فِي أَحَدِ طَوَافَيْهِ، إِمَّا فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي الْحَجِّ، فَعَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ مَعَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فيها، ولزمه دم لحلقه، لأنه حلق لم يَتَحَلَّلُ بِهِ، ثُمَّ وَطِئَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ، فَأَفْسَدَ عُمْرَتَهُ وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا. وَبَدَنَةٌ، لِإِفْسَادِهَا، ثُمَّ أَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ وَطَافَ وَسَعَى فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فِيمَنْ أَدْخَلَ حَجًّا عَلَى عُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا. هَلْ يَصِيرُ قَارِنًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ قَارِنًا، وَيَكُونُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَاطِلًا، لَكِنْ يَكُونُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ، نَائِبًا عَنْ طَوَافِهِ وسعيه في العمرة، وقد يتحلل مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ قَارِنًا، فَعَلَى هَذَا طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ فِي الْحَجِّ، يُجْزِئُهُ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ، قَدْ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ وَقَضَاءُ الْحَجِّ، على أحد الوجهين، وبدنة للوطئ، وَدَمٌ لِلْحَلْقِ، وَدَمٌ لِلْقِرَانِ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُهُ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِهِ لِلْعُمْرَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا فِي طَوَافِ الْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا قَدْ سَلِمَتِ الْعُمْرَةُ، وَخَرَجَ مِنْهَا خُرُوجًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 صَحِيحًا، وَوَطِئَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَلَمْ يَكُنْ لِوَطْئِهِ فِي الْحَجِّ تَأْثِيرٌ، ثُمَّ طَافَ فِي الْحَجِّ مُحْدِثًا، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ، يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَمَتُّعِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ، يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ، لِيَكُونَ مُتَحَلِّلًا مِنْ إِحْرَامِهِ بِيَقِينٍ، وَهَلْ عَلَيْهِ دَمٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، لأنه يتردد بين أن يكون قارناً فيلزمه دم وبين أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، فَكَانَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَيْهِ يَقِينًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَكُونُ قَارِنًا بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِرًا فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، فَأَمَّا قَضَاءُ الحج والعمرة ووجوب كفارة الوطئ فَلَا يَجِبُ بِحَالٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أن تجب وبين أن لا تجب وَبِالشَّكِّ فَلَا تَجِبُ فَأَمَّا إِجْزَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَالْعُمْرَةُ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَارِيَةً عَنِ الْفَسَادِ، فَتُجْزِئُ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فَاسِدَةً، فَلَا تُجْزِئُ، وَفَرْضُ الْعُمْرَةِ مَعَ الشَّكِّ لَا يَسْقُطُ، وَأَمَّا الْحَجُّ، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَكُونُ قَارِنًا أَمْ لَا؟ ثُمَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا صَارَ قَارِنًا. هَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ قَارِنًا، لَمْ يُجْزِهِ فَرْضُ الْحَجِّ؛ لأنه قد تردد بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَمْ لا، وإن يَكُونُ قَارِنًا. فَإْنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لَزِمَهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ حَجًّا صَحِيحًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ حَجًّا فَاسِدًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْحَجِّ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا فَيَصِحُّ حَجُّهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا فَقَدْ صَحَّ حَجُّهُ، فَيَكُونُ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطٌ بِيَقِينٍ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وجوب الطهارة وما يتفرع عليه. فَصْلٌ : فَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَوَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وشرط في صحته، لا يصح أداؤه؛ لأنه كَالطَّهَارَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَفْضَلَ، لِيَكُونُوا كَمَا خُلِقُوا، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ تَشُدُّ عَلَى فَرْجِهَا سُيُورًا حَتَّى قَالَتِ الْعَامِرِيَّةُ: (الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ) (كَمْ مِنْ لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ ... وناظرٍ يَنْظُرُ فِيمَا يُحِلُّهُ) فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ: وَجَعَلَهُ صَلَاةً وَأَمَرَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِيهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرَاةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ فَأَمَرَنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُنَادِيَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَنَادَيْتُ حَتَّى بح صوتي ". مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَحْدَثَ تَوَضَّأَ وَابْتَدَأَ فَإِنْ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ، فَإِنْ أَحْدَثَ فِي طَوَافِهِ، أَوْ حَصَلَتْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، لَمْ يُجْزِهِ الْبِنَاءُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ طَوَافِهِ وَيَتَطَهَّرَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ حَصَلَتْ فِي نَعْلِهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ خَلَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَخْلَعْهَا وَمَضَى فِي طَوَافِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْخُرُوجَ مِنْ طَوَافِهِ لِلطَّهَارَةِ، فَخَرَجَ وَتَطَهَّرَ ثُمَّ عَادَ. فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ طَوَافِهِ وَأَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ يَسِيرُ التَّفْرِيقِ فِي الطَّوَافِ مُبَاحٌ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِبَاحَةِ جُلُوسِهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا، فَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يَسْتَأْنِفُ وَلَا يَبْنِي؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الطَّهَارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شرط صحتها الموالا كَالصَّلَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَصِحُّ مَعَ التَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ، كسائر أفعال الحج طرداً والصلاة عسكاً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا. فإن قُلْنَا: يَسْتَأْنِفُ أَلْغَى مَا مَضَى وَابْتَدَأَ بِهِ مُسْتَأْنِفًا. وَإِذَا قُلْنَا: يَبْنِي، نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنَ الطَّوَافِ عِنْدَ إِكْمَالِهِ طَوْفَتَهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، عَادَ فَابْتَدَأَ بِالطَّوْفَةِ الَّتِي تَلِيهَا مِنَ الْحَجَرِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي بَعْضِ طَوْفَتِهِ قَبْلَ انْتِهَائِهِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُهَا مِنْ أَوَّلِهَا وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ أَعْدَادِ الْأَطْوَافِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ طَوْفَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوْفَةُ الْوَاحِدَةُ، لَا يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا، فَجَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَعْدَادِهَا. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَبْعَاضِ آحَادِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ. يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ فِي الطَّوْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَطْوَافِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ فِي الطَّوْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَطْوَافِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ طَوَافِهِ لِحَاجَةٍ، كَحُكْمِ الْخَارِجِ مِنْ طَوَافِهِ لِحَدَثٍ فَإِذَا أَعَادَ لِيَبْنِيَ كَانَ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَوْ طَافَ وَهُوَ يَعْقِلُ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ إِكْمَالِ الطَّوَافِ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ وَالطَّوَافَ قَرِيبًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ بَعِيدًا فَجَعَلَ الْإِغْمَاءَ قَطْعًا لِلطَّوَافِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدَثِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنَ الطَّوَافِ لِزَوَالِ تَكْلِيفِهِ بِالْإِغْمَاءِ فَزَالَ بِهِ حُكْمُ الْبِنَاءِ وَبَقِيَ تَكْلِيفُهُ مَعَ الْحَدَثِ فَيَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ البناء. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ طَافَ فَسَلَكَ الْحَجَرَ أَوْ عَلَى جِدَارِ الْحَجَرِ أَوْ عَلَى شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فِي الطَّوَافِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ حَالِ الطَّائِفِ بِالْبَيْتِ أَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ مِنْهَا حالتان مجزئتان وحالتان غير مجزئتين فأما الحالتين المجزئتان فأحدهما حَالَةُ كَمَالٍ وَالثَّانِيَةُ حَالَةُ إِجْزَاءٍ. فَأَمَّا حَالَةُ الْكَمَالِ: فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ دُونَ زَمْزَمَ وَالْحَطِيمِ، فَهَذَا كَمَالُ أَحْوَالِ الطَّوَافِ فِيهِ طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِ مِنَ السَّلَفِ بَعْدَهُ وَأَمَّا حَالَةُ الْإِجْزَاءِ فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ بِالْمَسْجِدِ وَرَاءَ زَمْزَمَ وَسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ وَدُونَ الْجِدَارِ فَهَذَا طَوَافٌ مُجْزِئٌ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَائِلٌ، وَهَكَذَا لَوْ طاف على سطح المسجد الحرام أجزأه؛ لأنه معلوم أَنَّ سَقْفَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْيَوْمَ دُونَ سَقْفِ الْكَعْبَةِ فَكَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ. فَإِنْ قِيلَ لَوِ اسْتَقْبَلَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِجِهَةِ بِنَائِهَا فَأَجْزَأَهُ، وَالْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ تَعْيِينُ بِنَائِهَا، فَإِذَا عَلَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ طَائِفًا بِنَفْسِ بِنَائِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ لَا تُجْزِئَانِ فَإِحْدَاهُمَا لَا تُجْزِئُ لِلْمُجَاوَزَةِ، وَالثَّانِيَةُ لَا تُجْزِئُ لِلتَّقْصِيرِ، فأما ما لا تجزئ للمجاورة فَهُوَ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي الْوَادِي مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، فَهَذَا لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ هذا غير طوائف بالبيت، وإنما هو طائف بالمسجد ولو أجزأه هَذَا أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ حَوْلَ مَكَّةَ، مَا لَا يُجْزِئُ لِلنَّقْصِ فَفِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَطُوفَ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَهَذَا غَيْرُ طَائِفٍ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَائِفٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَطُوفَ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ فَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ طَائِفٌ وَلَيْسَ بِطَائِفٍ بِالْبَيْتِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ عَلَى شَاذَرْوَانِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ شَاذَرْوَانَ الْبَيْتِ هُوَ أَسَاسُهُ، ثُمَّ يَقْتَصِرُ بِالْبِنَاءِ عَلَى بَعْضِهِ، فَالطَّائِفُ عَلَيْهِ لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا طَافَ بِبَعْضِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْبَيْتِ وَفِي الْحِجْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعِتيقِ) {الحج: 29) وَهَذَا طَائِفٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْحِجْرُ مِنْ ورائه لِأَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ مَا رَوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ وَقَالَ صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ وَلَكِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ. وَرَوَى مَرْثَدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ قَالَ حَضَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَقَدْ أدخل على عائشة سبعين رجلاً من كبار قريش وأشرافهم وخيارهم فأخبرتهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَوْلَا حَدَثَانِ قَوْمِكِ بِالشِّرْكِ لَبَنَيْتُ الْبَيْتَ على قواعد إبراهيم وهل تدرين لما قَصَّرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ: لَا، قَالَ: قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ. وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ قَوْمَكِ استَقْصَرُوا عَنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلَا حدثانهم بالكفر لَأَعَدْتُ فِيهِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا فَإِنْ بدا لقومك أن ينوه فَهَلُمَّ لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ قَالَتْ: فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ تِسْعَةِ أَذْرُعٍ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَيَّامِهِ هَدَمَهُ وَابْتَنَاهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ فَهَدَمَ الْحَجَّاجُ زِيَادَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّتِي اسْتَوْظَفَ بِهَا الْقَوَاعِدَ فَهَمَّ بَعْضُ الْوُلَاةِ بِإِعَادَتِهِ، وَقِيلَ عَلَى مَا كَانَ الْمَهْدِيُّ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ فَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ لَا يَأْتِيَ وَالٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي الْبَيْتِ أَثَرٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَالْبَيْتُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُطْمَعَ فِيهِ، وَقَدْ أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ َخُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَحَكَيْنَا مِنْ فِعْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ لَمْ يُجْزِهِ الطَّوَافُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 29) وَإِذَا طَافَ فِي الْحِجْرِ كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ الْجَدِيدِ وَلَمْ يَكُنْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَلَمْ يجزه؛ لأنه طاف ببعضه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ لَمْ يُجْزِهِ بِحَالٍ (قَالَ المزني) الشاذروان تأزير البيت خارجاً عنه وأحسبه على أساس البيت لأنه لو كان مبايناً لأساس البيت لأجزأه الطواف عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّوَافُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَرَ عَنْ يَسَارِهِ وَيَمْضِيَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ فَجَعَلَ الْحَجَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَضَى عَلَى يَسَارِهِ لَمْ يُجْزِهِ بِحَالٍ، وَكَانَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَطُفْ، سَوَاءٌ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ خَرَجَ عَنْهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: تَنْكِيسُ الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ نَكَّسَهُ أَعَادَ إِنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَجَبَرَهُ بِدَمٍ إِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ تَنْكِيسُ الطَّوَافِ يُجْزِئُ وَلَا دَمَ فِيهِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَفُوا بِالبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 29) وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين طاف جعل الحجر على يساره وقضى عَلَى يَمِينِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالْبَيْت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 الْعَتِيقِ) {الحج: 29) مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى البيت فوجب أن يكون التنكيس مانعاً مِنْ صِحَّتِهَا كَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهَا طَوَافٌ مُنَكَّسٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ فَاعِلَهُ كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّنْكِيسَ مَكْرُوهٌ وَالْأَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَكْرُوهَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا أَعْدَادُ الطَّوَافِ فَسَبْعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا، وَقَدْ رَوَى مَعْقِلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السَّعْيُ وَالطَّوَافُ تَوٌّ " وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّعْيَ وَالطَّوَافَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ وتر غَيْرِ شَفَعٍ وَالتَّوُّ الْوِتْرُ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالرَّمْيَ فِي الْحَجِّ وَاحِدٌ لَا يُثَنَّى فِي الْقِرَانِ وَهُوَ فِيهِ كَالْإِفْرَادِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ إِتْمَامِ طَوَافِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ لِإِتْمَامِ طَوَافِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ طَافَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 29) وبأن معظم الشي يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ الشَّيْءِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا كَانَ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالبَيْتِ الْعَتِيقِ} واستئناف نُسُكٍ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ طَوَافٌ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ، كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ بِدَمٍ، فَوَجَبَ إِذَا تَرَكَهُ غَيْرُ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ بِدَمٍ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا طَافَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ أَرْبَعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّنَا وَإِيَّاهُمْ نَعْدِلُ عَنْ ظَاهِرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ ينقص بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَغَيْرِهَا، عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَقَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ مَا فَاتَهُ فَلِذَلِكَ مَا اعْتَدَّ بِهِ وليس كذلك الطواف. فَصْلٌ : طَوَافُ الْمَاشِي أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ طَوَافِ الرَّاكِبِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طاف في عمرة كله مَاشِيًا، وَطَافَ فِي حَجِّهِ طَوَافَ الْقُدُومِ مَاشِيًا، وَإِنَّمَا طَافَ مَرَّةً فِي عُمْرَةٍ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رَاكِبًا وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي النَّاسَ بِزِحَامِ مَرْكُوبِهِ وَلَا يُؤْمَنُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِإِرْسَالِ بَوْلِهِ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَجْزَأَهُ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ وَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَلِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَافَ رَاكِبًا مِنْ شَكْوَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 رَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ قَالَتْ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالطُّورِ وِكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 1) قَالَ: فَإِذَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَاكِبًا لِشَكْوَى وَأَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً لِشَكْوَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِ الطَّوَافِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ شَكْوَى، وَمَنْ فَعَلَ فِي الْحَجِّ مَحْظُورًا لَزِمَهُ الْجُبْرَانُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ طَافَ بِغَيْرِ شَكْوَى رِوَايَةُ سُفْيَانَ عَنْ أبي طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أصحابه أن يتجزوا بالإفاضة وأفاض بنسائه لَيْلًا فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ أَحْسَبُهُ قَالَ وَيُقَبِّلُ طَرَفَ الْمِحْجَنِ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا رَكِبَ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْ مِنْ شَكْوَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَعْلَمُهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ اشْتَكَى، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ لَوْ أَدَّاهُ مَاشِيًا لَمْ يَجْبُرْهُ بِدَمٍ، فَوَجَبَ إِذَا أَدَّاهُ رَاكِبًا أَنْ لَا يُجْبِرَهُ بِدَمٍ كَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ لِجُبْرَانِهِ دَمٌ كَالْمَرِيضِ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَغَيْرُ دالٍ لَهُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ طَوَافُ الرَّاكِبِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ طَوَافِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفْنَا فِي وُجُوبِ الدَّمِ لِجُبْرَانِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ، وَلَا دَمَ فِيهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَحَبَّ أن يشرف للناس ليسألوه وليس لأحد فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلُهُ. فَكَذَا لَوْ طَافَ مَحْمُولًا عَلَى أَكْتَافِ الرِّجَالِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَكَرِهْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِمَانِعٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَطُوْفَ مَحْمُولًا وَلَا يَطُوفَ رَاكِبًا، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا كَانَ أَيْسَرَ حَالًا مِنْ رُكُوبِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَرُكُوبُ الْإِبِلِ أَيْسَرُ حَالًا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَإِنْ طَافَ مَحْمُولًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ عَلَيْهِ طَوَافٌ قَدْ نَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَنِ الْحَامِلِ دُونَ الْمَحْمُولِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَالْمَحْمُولُ تَبَعٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ الطَّوَافُ عَنِ الْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ قد صرف عمله إلى معونة المحصول. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ الطَّوَافُ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ جَمِيعًا؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُمَا عَنْ وُقُوفِهِمَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّوَافِ يُجْزِئُهُمَا عن طوافهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ طَوَافَ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدَّى بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَرْضُ طَوَافَيْنِ فَوَجَبَ اسْتِحْقَاقُ فِعْلَيْنِ وَخَالَفَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ لُبْثٌ لَا يَتَضَمَّنُ فِعْلًا وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ نَائِمًا أَجْزَأَهُ، وَالطَّوَافُ فِعْلٌ مُسْتَحَقٌّ وَهُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يُجْزِ عَنْهُمَا، ثُمَّ إِذَا طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَإِنَّهُ يَضْطَبِعُ، فَأَمَّا الرَّمَلُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا رَمَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي الْمَاشِي لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَشَاطِهِ وَصِحَّتِهِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْمَحْمُولِ وَالرَّاكِبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَرْمُلُ بِهِ إِنْ كَانَ مَحْمُولًا وَيُخَبِّبُ بِيَدَيْهِ إِنْ كَانَ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَسْنُونًا فِي طَوَافِ الْمَاشِي كَانَ مَسْنُونًا فِي طَوَافِ الْمَحْمُولِ وَالرَّاكِبِ كَالِاضْطِبَاعِ. فَصْلٌ : رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ شَوْطٌ وَدَوْرٌ لِلطَّوَافِ وَلَكِنْ يَقُولُ طَوْفٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَرِهَ مُجَاهِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلْيَطَوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 29) وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُعَدَّ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ، كَمْ تَعُدُّ: ثُمَّ قَالَ تَدْرِي لِمَ سَأَلْتُكَ لتحفظه. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَكْمَلَ الطَّائِفُ طَوَافَهُ سَبْعًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُ فِيهِمَا بِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ: {وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} (البقرة: 125) وَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} (البقرة: 125) يَعْنِي صَلَاةً، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُمَا، وَفِعْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ بَيَانًا أَوِ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا. إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا. وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا وَصَلَى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رقبةٍ " وَأَخْرَجَهُ مُخْرَجَ الْفَضْلِ وَجَعَلَ لَهُ ثَوَابَهُ مَحْدُودًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مَحْدُودِ الثَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فَصَلَّاهُمَا جَالِسًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَ كَسَائِرِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِنْ صَلَّاهُمَا جَالِسًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَافَ رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ فَلَوْ جَازَ فِعْلُهُمَا جَالِسًا لَأَجْزَأَهُ فِعْلُهُمَا رَاكِبًا، فَلَمَّا نَزَلَ وَصَلَّاهُمَا عَلَى الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهَا الْقِيَامُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّوَافِ وَتَبَعِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَطُوفَ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَوَافُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَدَاعِ كُلُّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كل طواف. فصل : ويختار أن يدعو عقيبهما بِمَا رَوَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمدا إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَلَدُكَ وَمَسْجِدُكَ الْحَرَامُ وَبَيْتُكَ الْحَرَامُ، أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، أَتَيْتُكَ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ، وَخَطَايَا جَمَّةٍ، وَأَعْمَالٍ سيئةٍ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ دَعَوْتُ عِبَادَكَ إِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ وَقَدْ جِئْتُ طَالِبًا رَحْمَتَكَ مُتَّبِعًا مَرْضَاتَكَ وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". فَصْلٌ : فَإِنْ تَرَكَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا: فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّتَانِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا وَاجَبَتَانِ قَضَاهُمَا فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ قَضَاهُمَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَضَاهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ نَظَرَ، وَإِذَا بِالشَّمْسِ لَمْ يَتِمَّ طُلُوعُهَا، فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى فَصَلَّاهُمَا هُنَاكَ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لَيْسَتَا بِأَوْكَدَ مِنْ سَائِرِ المفروضات فلما لم يختص شيء منه الْفَرَائِضَ بِمَوْضِعٍ فَرَكْعَتَا طَوَافٍ أَوْلَى أَنْ لَا يختص بموضع. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويستحب أن يأتي المتلزم فَيَدْعُوَ عِنْدَهُ. فَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُلْتَزَمٌ مَنْ دَعَا مِنْ ذِي حَاجَةٍ أَوْ ذِي كربةٍ أَوْ ذِي غَمٍ فُرِّجَ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ " وَيُخْتَارُ أَنْ يَلْصِقَ صَدْرَهُ، وَوَجْهَهُ بِالْمُلْتَزَمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 حِينَ يَدْعُو، فَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْصِقُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِالْمُلْتَزَمِ " وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ عَلَيَّ ورضى لِقَضَائِكَ لِي " وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَيْنَ الْحِجْرِ وَالْبَابِ رَبِّي اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَمَتِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ عاقبةٍ بخيرٍ. فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ الْحِجْرَ وَيَدْعُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا أحدٌ يَدْعُو عِنْدَ الْمِيزَابِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلَا تَسْأَلُونِي مِنْ أَيْنَ جِئْتُ؟ قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ جِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَا زِلْتُ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ قَائِمًا تَحْتَ الْمِيزَابِ يَدْعُو اللَّهَ عِنْدَهُ، وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ إِذَا حَاذَى مِيزَابَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ في الطواف اللهم إن أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَيَرْقَى عَلَيْهَا فَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَدْعُو اللَّهَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ فيمشي حَتَّى إِذَا كَانَ دُونَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ بنحوٍ مَنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ الذين بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَارَ الْعَبَّاسِ ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يرقى على المروة فيصنع عليها كما صنع على الصفا حتى يتم سبعاً يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السَّعْيُ سَبْعًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ سَعْيًا وَاحِدًا أَوْ ذِرَاعًا مِنْ سَعْيٍ وَاحِدٍ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ حَتَّى يَعُودَ فَيَأْتِيَ بِهِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: السَّعْيُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ أبو حنيفة هُوَ وَاجِبٌ لَكِنْ يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ وَتَحَقُّقُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الصَفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرَ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) فَأَخْبَرَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْجَنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحُ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (النساء: 101) فَكَانَ الْقَصْرُ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَلِأَنَّ ابن مسعود وأبياً وابن عباس يقرؤون " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا " وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَوَجَبَ رَفْعُ الجناح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 عَنْ تَارِكِ السَّعْيِ، وَذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبًا قَالُوا: وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَهُ، وَمَا كَانَ تَبَعًا لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْحَجِّ، كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَمَّا كَانَ تَبَعًا لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يكن ركناً في الحج وكالمبيت بِعَرَفَةَ. قَالُوا وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ يَتَكَرَّرُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رُكْنًا كَرَمْيِ الْجِمَارِ. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ جَدَّتِهَا حَبِيبَةَ قَالَتْ دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أبي حسين نَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَتَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ حَتَى أني لا أرى رُكْبَتَيْهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعُمَرَ " وَاللَّهِ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) {البقرة: 158) وَعَائِشَةُ لَا تُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ وَتَقْطَعُ بِهِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَالتَّأْوِيلُ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ، وَلِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تُحِلُّوا شَعَائِر اللهِ) {المائدة: 2) وَلِأَنَّهُ مَشَيُ نُسُكٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ. وَمَعْنَى قَوْلِنَا: يَتَنَوَّعُ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ مَاشِيًا وَفِي بَعْضِهِ سَاعِيًا، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا مِنْ شَرَائِطِهَا كَالْإِحْرَامِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مَتْرُوكٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَنَاحِ عَنْ تَرْكِ السَّعْيِ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْعَ كَانَ حَرَجًا آثِمًا فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ السَّعْيِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ السَّعْيُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَذَاكَ أَنَّ قُرَيْشًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اسْمَ الصَّفَا بِإِسَافَ، لِأَنَّ اسْمَهُ مُذَكَّرٌ وَأُنِّثَتِ الْمَرْوَةُ لِأَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثٌ، فَكَانُوا يَطُوفُونَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بِهِمَا، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهَا لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ الزُّبَيْرِيِّ هُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) {البقرة: 158) وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 كَلَامٌ تَامٌّ أَيْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، أَوِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِهِمَا، وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الثَّلَاثَةِ " فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا " فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ لَا صِلَةَ فِي الْكَلَامِ إِذَا تَقَدَّمَهَا حُجَّةٌ كَمَا قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) {الأعراف: 12) مَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمْ ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بكرٍ وَلَا عُمَرُ) وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ كَانَ تَبَعًا لِلطَّوَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ. قُلْنَا: هَذِهِ عِبْرَةٌ فَاسِدَةٌ وَحُجَّةٌ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَهُوَ رُكْنٌ كَالْوُقُوفِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّمْيِ فَالْمَعْنَى فِي الرَّمْيِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْوُقُوفِ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ عَمَّنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَالسَّعْيُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْوُقُوفِ بِدَلِيلِ وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فَلَمَّا كَانَ الرَّمْيُ تَابِعًا لَمْ يَكُنْ رُكْنًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ السَّعْيُ تَابِعًا كَانَ رُكْنًا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السَّعْيِ فَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الطَّوَافُ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْعَ قَطُّ إِلَّا عَقِيبَ طَوَافٍ، وَقَدْ طَافَ وَلَمْ يَسْعَ بَعْدَهُ، وَلَوْ جَازَ السَّعْيُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ طَوَافٌ لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ نُسُكٌ لَا يَقَعُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وجل فجاز فعله متفرداً، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ يُفْعَلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أن يسعى بَيْنَهُمَا فِي حَاجَةٍ عَارِضَةٍ أَوْ أَمْرٍ سَانِحٍ فَافْتَقَرَ إِلَى طَوَافٍ يَتَقَدَّمُهُ لِيَمْتَازَ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَكُونَ خَالِصًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ تَقَدُّمَ الطَّوَافِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: وهو قول أصحابنا البغداديين أَنَّ التَّرَاخِيَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ، فَإِنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِهِ بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنٌ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا تَجِبُ كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أصحابنا البصريين أَنَّ التَّرَاخِيَ الْبَعِيدَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَنَّ فِعْلَ السَّعْيِ عَلَى الْفَوْرِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَمَّا افْتَقَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ لِيَمْتَازَ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى افْتَقَرَ إِلَى فِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ لِيَقَعَ بِهِ الِامْتِيَازُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الِامْتِيَازَ يُوجَدُ بِفِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ عَلَى التَّرَاخِي، فَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ وَسَتْرِ العورة فليست شرطاً في السعي فإن كَانَتْ شَرْطًا فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لعائشة: " افعلي ما يفعل الحاج غير أنك لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، فَخَصَّ الطَّوَافَ بِالنَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرَ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجِسِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الطَّوَافِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ السَّعْيِ فَفَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَعَادَ إِلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ بَعْدَ صِلَاتِهِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى سَعْيِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْصَدُ لَهُ، وَأَقْرَبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّفَا؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَقَالَ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ من شعائر الله فنبدأ بما بدأ الله به " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ابدأوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " ثُمَّ رَقِيَ عَلَى الصَّفَا. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْبِدَايَةِ بِالصَّفَا فَيُخْتَارُ أن ترقى عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَنْتَهِي إِلَى مَوْضِعِ بِدَايَتِهِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ فَيُكَبِّرُ وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَاللَّهِ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ وَيُلَبِّي، إِنْ كَانَ حَاجًّا ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ ثَانِيَةً وَيَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا بَدَا لَهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ ثَالِثَةً وَيَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا سَنَحَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَعْوَاتِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: اللهم اعصمني بعينك وَطَوَاعِيَتِكَ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِكَ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي حُدُودَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلَائِكَتَكَ وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلَائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ اللَّهُمَّ آتِنِي مِنْ خَيْرِ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى وَاغْفِرْ لِي مِنَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أُوفِيَ بِعَهْدِكَ الَّذِي عَاهَدْتَنِي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَعِيمِ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. فَصْلٌ : ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا فَيَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ دُونَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ بِنَحْوِ مَنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا، حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَارَ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَرْقَى عَلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ الْبَيْتُ إِنْ بَدَا لَهُ، ثُمَّ يَصْنَعُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَقَدْ حصل له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 سَعْيٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبًا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ الصُّعُودُ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الصُّعُودَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالصُّعُودِ عَلَيْهِمَا كَمَا لا يمكنه استيفاء غسل الوجه إلا بغسل شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ، وَلَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ إِلَّا بِسَتْرِ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَصَّ الْمَذْهَبِ، فَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُومُ فِي فَرْضٍ فِي أَسْفَلِ الصَّفَا وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يمكنه استيفاء ما بينهما إلا بالصعود عليهما فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْصِقَ عَقِبَهُ بِالصَّفَا ثُمَّ يَسْعَى فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْمَرْوَةِ أَلْصَقَ أَصَابِعَ قَدَمَيْهِ بِالْمَرْوَةِ فَيَسْتَوْفِي مَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ عَلَيْهِمَا. فَصْلٌ : ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي إِلَى الصَّفَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عِنْدَهُمَا السَّعْيَ حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الصَّفَا، فَيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَرَاءِ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ بِنَحْوٍ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي بَدَأَ بِالسَّعْيِ مِنْهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الصَّفَا، فَيَقْطَعُ السَّعْيَ مِنْهُ وَيَمْشِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الصَّفَا، وَيُخْتَارُ أَنْ يَقُولَ فِي سَعْيِهِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ إِنَكَ أَنْتَ الْأَعَزُ الْأَكْرَمُ تَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ " فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّفَا رَقِيَ عَلَيْهِ وَصَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ سَعْيَانِ: السَّعْيُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ، وَالسَّعْيُ الثَّانِي مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا؛ لِأَنَّ الذَّهَابَ سَعْيٌ وَالْعَوْدَ سَعْيٌ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ سَعْيَهُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ وَعَوْدَهُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا سَعْيٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ أَوَّلُ سَعْيِهِ مِنَ الصَّفَا وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ فَيَفْعَلُ هَذَا سَبْعًا يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالصَّفَا، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ الْحَجَرِ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ السَّعْيِ مِنَ الصَّفَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ أَمْرٌ مُسْتَفِيضٌ فِي الشَّرْعِ يَنْقُلُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ أَنَّهُمْ يَبْدَؤُونَ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُونَ بِالْمَرْوَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ كَإِجْمَاعٍ عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعٌ وَالْعَصْرَ أَرْبَعٌ. وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الطَّوَافِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الطَّوَافِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْبَيْتِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ وَذَلِكَ مِنَ الْحَجَرِ فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ فِي السَّعْيِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْمَسْعَى وَذَلِكَ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ فَأَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ السَّعْيُ الْوَاحِدُ هُوَ مِنَ الصفا إلى المروة وأو الرُّجُوعُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا سَعْيٌ ثَانٍ فَعَلَيْهِ إِكْمَالُ سَعْيِهِ سَبْعًا، يَبْدَأُ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ وَفِي الثَّانِي مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا، وَفِي الثَّالِثِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ، وَفِي الرَّابِعِ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا، وَفِي الْخَامِسِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ، وَفِي السَّادِسِ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا وَفِي السَّابِعِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ فَيَكُونُ مُبْتَدِئًا فِي الْأَوَّلِ مِنَ الصَّفَا وَخَاتِمًا فِي السَّابِعِ بِالْمَرْوَةِ، فَإِنْ خَالَفَ فَنَكَسَ سَعْيَهُ فَبَدَأَ فِي الْأَوَّلِ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ فِي السَّابِعِ بِالصَّفَا لَمْ يُجْزِهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالْمَرْوَةِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالصَّفَا وَاحْتَسَبَ بِمَا يَلِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فَيَحْصُلُ لَهُ سِتَّةٌ وَيَبْقَى عَلَيْهِ السَّابِعُ فَيَبْدَأُ فِيهِ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ وَقَدْ أَكْمَلَ سَعْيَهُ وَأَجْزَأَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا نَكَسَ سَعْيَهُ لَمْ يُجْزِهِ وَعِنْدَهُ أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَوْ نَكَسَ الطَّوَافَ أَجْزَأَهُ وَهُوَ رُكْنٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، أَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُجْزِئُهُ إِذَا نَكَسَهُ لِمَا مَضَى، وَأَمَّا السَّعْيُ فَيُجْزِئُهُ لِزَوَالِ التَّنْكِيسِ وَحُصُولِ التَّرْتِيبِ بما بينهما. فَصْلٌ : وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا نَسِيَهُ مِنَ السَّبْعَةِ فَلَوْ نَسِيَ السَّعْيَ السَّابِعَ احْتُسِبَ لَهُ بِالسِّتَّةِ وَأَتَى بِالسَّابِعِ مِنَ الصَّفَا وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ وَلَوْ نَسِيَ السَّعْيَ السَّادِسَ وَسَعَى السَّابِعَ احْتُسِبَ بِخَمْسَةٍ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّعْيِ وَاجِبٌ فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ السَّادِسُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ بِالْمَرْوَةِ وَيَخْتِمُ بِالصَّفَا، فَلَمَّا نَسِيَ السَّادِسَ لَمْ يَحْصُلِ التَّرْتِيبُ فِي السَّابِعِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى السَّعْيَ السَّادِسَ يَبْدَأُ فِيهِ بالمروة ويختم بالصفا، وبسعي السَّابِعِ يَبْدَأُ فِيهِ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، فَلَوْ نَسِيَ الْخَامِسَ لَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّادِسِ، وَجَعَلَ السَّابِعَ خَامِسًا وَأَكْمَلَ ذَلِكَ سَبْعًا. فَصْلٌ : وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ السَّعْيِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي سَعْيِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ لم يسر فيه فِي سَعْيِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ السابع فهذا على ثلاثة أقاويل: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِنْ آخِرِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْوَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الصَّفَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَطِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِهِ عَادَ فَأَتَى بِهِ وَأَجْزَأَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهِ عَادَ فَأَتَى بِالسَّعْيِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِآخِرِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ أَوَّلِهِ، وَيَكُونُ كَمَنْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ مِنْ وَسَطِ الْمَسْعَى احْتَسَبَ مَا تَقَدَّمَ وَأَتَى بِمَا تَرَكَهُ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنَ السَّعْيِ السَّادِسِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِالسَّابِعِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ كَمَالِ السَّادِسِ وَكَانَ الْحُكْمُ فِي السَّادِسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ سَعَى ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ طَوَافِهِ لَمْ يُكْمِلْهُ عَادَ فَأَتَمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 طَوَافَهُ وَأَعَادَ سَعْيَهُ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ إِكْمَالِ الطَّوَافِ فَلَوْ فَرَّقَ سَعْيَهُ فَسَعَى سَبْعًا فِي سَبْعَةِ أَوْقَاتٍ، فَإِنْ كَانَ تَفَرُّقًا قَرِيبًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي الطَّوَافِ فَفِي السَّعْيِ أَجْوَزُ، وَإِنْ قِيلَ فِي الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ فَفِي جَوَازِهِ فِي السَّعْيِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ كَالطَّوَافِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الطَّوَافِ لِجَوَازِهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلَوْ سَعَى رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ سَعْيُهُ مَاشِيًا أَحَبَّ إِلَيْنَا وَرُكُوبُهُ فِي السَّعْيِ أيسر من ركوبه في الطواف. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا وَكَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَ وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ وَقَدْ فَرَغَ مِنَ الْعُمْرَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ الإحرام والطواف والسعي والحلاق رُكْنٌ وَالطَّوَافُ رُكْنٌ وَالسَّعْيُ رُكْنٌ وَفِي الْحِلَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْبَيْتَ الحَرَامِ إنْ شَاءَ اللهُ آمِنينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) {الفتح: 27) فَوَصَفَ نُسَكَهُمْ بِالْحِلَاقِ أَوِ التَّقْصِيرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بن حزم عن عمر عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النَسَاءَ " وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، فَلَمَّا مَيَّزَهُ عَنِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَجَعَلَ ثَوَابَ الْحَالِقِ أَكْثَرَ مِنْ ثواب المقصر على أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسُكٌ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ وَهُوَ أَقْيَسُ، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَحَظَرَ الْحَلْقَ وَجَعَلَ لِحَظْرِهِ غَايَةً وَهُوَ التَّحَلُّلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نُسُكًا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) {المائدة: 2) فَكَذَا الْأَمْرُ بالحق بَعْدَ تَقَدُّمِ حَظْرِهِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ نُسُكًا كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَيَنْعَكِسُ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنْ حَيْثُ كَانَ نُسُكًا فِي وَقْتِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْفِدْيَةُ بِتَقَدُّمِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ مُوجِبًا لِلْفِدْيَةِ قَبْلَ وَقْتِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي وَقْتِهِ. فَصْلٌ : فإذا ثبت توجيه الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَلْقِ فَالْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ به فإذا طَافَ وَسَعَى كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحْلِقَ أو يقصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَقَدْ حَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ بِإِكْمَالِ السَّعْيِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَالْمُسْتَحَبُّ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْحَرَهُ قبل حلقه لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) وَمَوْضِعُ النَّحْرِ عِنْدَ إِحْلَالِهِ وَإِحْلَالُهُ مِنَ الْعُمْرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ فَهُنَاكَ يَنْحَرُ وَإِنْ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يقصر وكلاهما جائز، لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ} (الفتح: 27) لَكِنَّ الْحَلْقَ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ لِأَنِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَعَمُّ مِنَ التَّقْصِيرِ فَكَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْصِيرَ جَائِزٌ وَالْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُلَبِّدْ رَأْسَهُ وَلَا عَقَصَهُ وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَبَّدَ رَأْسَهُ وَعَقَصَهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الْحَلْقُ، لِرِوَايَةِ فُلَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ ". وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُهُ وَإِنْ كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ له لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: 27) . فَصْلٌ فَإِذَا أَرَادَ حَلْقَ رَأْسِهِ بَدَأَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِ الْحَالِقِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْسَرِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْحَالِقِ فَاعْتَبَرَ الْبِدَايَةَ بِيَمِينِ الْحَالِقِ دُونَ الْمَحْلُوقِ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْبِدَايَةَ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ دُونَ الْحَالِقِ وَهَذَا أَوْلَى؛ لِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجَمْرَةَ وَفَرَغَ مِنْ نُسُكِهِ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ قَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَرُوِيَ أَنَّ الَذِي حَلَقَ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ يَمِينِ صَاحِبِ النُّسُكِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ فِي رَأْسِهِ دُونَ رَأْسِ الحالق فإذا ثبت هذا ففي الحلق أربع سنن: أحدها: أن يستقبل القبلة. والثانية: أن يبدأ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ فَرَاغِهِ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَبْلُغُ الْحَلْقُ إِلَى الْعَظْمَيْنِ لِأَنَّهُمَا مُنْتَهَى نَبَاتِ الشَّعْرِ، لِيَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ رَأْسِهِ، فَلَوْ طَلَى رَأْسَهُ بِالنَّوْرَةِ حَتَّى ذَهَبَ شَعْرُهُ أَوْ نَتَفَهُ أَجْزَأَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِزَالَةُ الشَّعْرِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ أَصْلَعَ أَوْ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ وَلَا زَغَبٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يجب عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وَقَالَ أبو حنيفة إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ واجب عليه؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: 27) فَعَلَّقَ الْحَلْقَ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُسْقِطْهُ ذَهَابُ الشَّعْرِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ دُونَ الرَّأْسِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ أَزَالَ الشَّعْرَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّعْرِ سَقَطَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ الشَّعْرِ، كَالْأَقْطَعِ الذِّرَاعِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْغَسْلُ لِزَوَالِ الْعُضْوِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْغَسْلُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجُزْءِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهِ كَأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْحَلْقِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الِاسْمِ، وَلَا يُسَمَّى حَالِقًا بِإِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حلق لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْحَلْقِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْحَلْقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ شَعْرٌ خفي أو زغب غير طاهر أَزَالَهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْأَقْطَعِ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ أَنْ يَمَسَّ مَوْضِعَهُ بالماء، وإن لم يجب عليه ليكون خلقاً مِمَّا فَاتَ، وَمَنَعَ ابْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْحَالِقَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ طُولًا وَعَرْضًا، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ زَغَبُهُ طَاهِرٌ لَزِمَهُ حَلْقُهُ كَمَا لَوْ كَانَ شَعْرُهُ بَاقِيًا. فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَأَرَادَ التَّقْصِيرَ أَخَذَ مِنْ شِعْرِهِ مِمَّا عَلَا المشط وكيف ما أَخَذَهُ بِمِقْرَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَهُ بِيَدِهِ أَوْ قَرَضَهُ بِسِنِّهِ أَجْزَأَهُ، فَلَوْ كَانَ شَعْرُهُ مُسْتَرْسِلًا عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أطرافه وإن لم يحاذي بَشَرَةَ الرَّأْسِ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ في الوضوء إلا أن يحاذي بشرة الرَّأْسِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَالْمَسْحِ فَقَالَ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِتَقْصِيرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَسْحُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُجْزِ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَأْسٍ، وَحُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ فَجَازَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، فَأَمَّا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا حَلَقَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ أَوْ قَصَّرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 فِي عَامِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ سَاقَ هَدْيًا وَأَرَادَ الْحَجَّ فِي عَامِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يُكْمِلَ الْحَجَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ فلم يحتج إلى إعادته. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَلْبِيَةَ حَتَّى يَفْتَتِحَ الطَوَافَ مُسْتَلِمًا أَوْ غَيْرَ مستلمٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السُّنَّةُ فِي الْمُعْتَمِرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ حَتَّى يَفْتَتِحَ الطَّوَافَ فَإِذَا افْتَتَحَهُ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ قَطَعَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ كَالتَّنْعِيمِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ بُيُوتِ مَكَّةَ؛ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا مَا رَوَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي التَّحَلُّلِ من الإحرام وذلك بالمشروع فِي الطَّوَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ حتى يستلم الحجر للطواف. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وليس على النساء حلقٌ ولكن يقصرن ". وَهَذَا كَمَا قَالَ، السُّنَّةُ فِي النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ، وَالْحَلْقُ لَهُنَّ مَكْرُوهٌ؛ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَمَا عَلَى النَسَاءِ تَقْصِيرٌ "، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِيهِنَّ مُثْلَةٌ، وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ فَإِذَا أَرَادَتِ التَّقْصِيرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخَذَتْ مِنْ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ، وَتَعُمُّ جَوَانِبَ رَأْسِهَا كُلَّهَا، وَلَا تَقْطَعُ ذَوَائِبَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهَا وَلَكِنْ تَسُلُّ الذَّوَائِبَ وَتَأْخُذُ مِنْ تَحْتِهِ قُصَاصَهُ وَمِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُبَيَّنُ فَتْحُهُ، فلو حلقت أساءت وأجزأها. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ حَاجًّا أَوْ قَارِنًا أَجْزَأَهُ طَوَافٌ واحدٌ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعائشة وكانت قارناً: " طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إِحْرَامِهِ كَالْمُفْرِدِ يُجْزِئُهُ لَهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ} (البقرة: 196) فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا يُوجِبُ الْإِتْيَانَ بِأَفْعَالِهِمَا، وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ " وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حججت مع إبراهيم بن محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَقَالَ حججت مع محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَقَالَ حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فطاف طوافين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ طَوَافَانِ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُمَا. قَالَ: وَلِأَنَّ الْعِبَادَتَيْنِ إِنَّمَا يتداخلا إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ كَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتَا فِي الْأَفْعَالِ أَوِ الْأَحْكَامِ لم يتداخلا، وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ فَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَفْعَالِ أَنَّ فِي الْحَجِّ وُقُوفًا وَرَمْيًا لَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ للحج إحلالين وللعمرة واحد، وَالْحَلْقُ فِي الْحَجِّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَفِي الْعُمْرَةِ مُتَأَخِّرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ جَمَعَ حَجًّا إِلَى عمرةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا " وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُجْزِئُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ " وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " السَّعْيُ وَالطَّوَافُ تَوٌّ ". وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ تَأْوِيلِهِ أَنَّهُمَا فِي الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَاحِدٌ لَا يُنَافِي الْقِرَانَ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَتْ عَائِشَةُ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا وجابر أنهما قالا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَمِنَا مَنْ قَرَنَ فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَنُوا فَطَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعَوْا سَعْيًا وَاحِدًا وَكَانَ طَاوُسٌ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا أحدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ، يُكْتَفَى فِيهِ بِحِلَاقٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ كَالْإِفْرَادِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَقَعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ النُّسُكَيْنِ كَالْحِلَاقِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَإِتْمَامُهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دَوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِحْرَامَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَغَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مُفْرِدًا وَلَمْ يَكُنْ قَارِنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنْ أَفْرَدَهُمَا، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى حِلَاقَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا افْتَقَرَ إِلَى طَوَافَيْنِ وَلَمَّا كَانَ عَلَى الْقَارِنِ حَلِاقٌ وَاحِدٌ كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ اخْتِلَافَ الْعِبَادَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتَدَاخَلُ مَا اتَّفَقَا. قِيلَ: صَحِيحٌ إِنَّمَا يَتَدَاخَلُ مِنْهُمَا مَا اتَّفَقَ دُونَ مَا اخْتَلَفَ وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ الْمُوَافِقُ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ دُونَ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْفِعْلِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 قِيلَ: اخْتِلَافُ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّدَاخُلِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ مُخَالِفٌ لِبَقَاءِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَا تَدَاخَلَا لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْفِعْلِ وإن اختلفا في الحكم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " غَيْرَ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ الْهَدْيَ لِقِرَانِهِ وَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَى يُتَمِّمَ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ يَعْنِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي تَحَلَّلَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَأَنَّ الْقَارِنَ يُقِيمُ عَلَى إحرامه حتى ينحل مِنْ حَجِّهِ فَيَكُونُ إِحْلَالُهُ مِنْهُمَا إِحْلَالًا وَاحِدًا، كَمَا كَانَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا إِحْرَامًا وَاحِدًا، وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ طوافٌ واحدٌ " ثُمَّ لَا يُحِلُّ حَتَّى يُحِلَّ مِنْهُمَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ مَعَ إِمَامِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، وَإِلَّا فَلَوْ تَحَلَّلَ قَبْلَ إِمَامِهِ فَطَافَ وَرَمَى وَسَعَى أَجْزَأَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَانَ عَلَى قِرَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِيرُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ وَيَكُونُ مُفْرِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لعائشة " ارفضي عمترك وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ " فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مِنَ الْحَجِّ فَلَمْ يُوجِبْ رَفْضَ الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَبْطُلُ بفعل محظور فوجب أن لا تبطل بفعل نسك منها كَالْحَجِّ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّمَا أَمَرَهَا فِيهِ بِالْكَفِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِدُخُولِهَا فِي الْحَجِّ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة يجزئك لحجك وعمرتك. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْغُدُوِّ إِلَى مِنًى ليوافوا الظهر بمنى فيصلي بهم الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ خُطَبُ الْحَجِّ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه فعلها أربع: فالأولى: فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَالثَّانِيَةُ: يَوْمَ التَّاسِعِ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ. وَالثَّالِثَةُ: يَوْمَ النحر بمنى بعد صلاة الظهر. وَالرَّابِعَةُ: يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ بِمِنًى بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَيَكُونُ جَمِيعُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا خُطْبَةَ عَرَفَةَ فَإِنَّهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الظُّهْرِ، فَأَمَّا الْخُطْبَةُ الْأُولَى فَقَدْ روى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْطُبُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بَعْدَ الظُّهْرِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ يَوْمُ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ خَطَبَ الْإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا افْتَتَحَ خُطْبَتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا افْتَتَحَهَا بِالتَّكْبِيرِ وَيُسْتَحَبُّ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ أَوْ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُحْرِمَ وَيَصْعَدَ الْمِنْبَرَ مُحْرِمًا، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِمْ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِنًى لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَقِيهًا أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فقيهاً لم يتعرض لذلك لأن لا يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَعْرِفَتُهُ فَيَكُونُ فِيهِ شَيْنٌ وَقَبَاحَةٌ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا سُئِلَ أَجَابَ ثُمَّ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَاقِي يَوْمِهِ وَلَيْلِهِ فَإِنْ وَافَقَ يَوْمُ السَّابِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَدَأَ فَخَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَصَلَّاهَا ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَخَطَبَ لِلْحَجِّ فَلَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ كَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَحْرَمَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَمَ مِنْ قَبْلُ، وَأَحْرَمَ النَّاسُ مَعَهُ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا تَوْدِيعًا لَهُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ إِلَى مِنًى وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ فَإِذَا حَصَلَ بِمِنًى صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ مِنْ مِنًى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ عِنْدَ الْأَحْجَارِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيِ الْمَنَارَةِ فَإِنَّهُ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ " الْعَيْشُومَةِ " وَذَلِكَ أَنْ فِيهِ عيشومة خضراء في الجدب والخصب بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنَ الْقِبْلَةِ وَتِلْكَ الْعَيْشُومَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ هُنَاكَ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا فِيهِمْ مُوسَى وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قِطْرِيَّتَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مَخْطُومٍ بِخِطَامٍ من ليف، وله ضفيرتان " ويختار عليه أَنْ يَنْزِلَ الْخَيْفَ الْأَيْمَنَ مِنْ مِنًى بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا كنت بين الأخشبين من منى - ونفح بيد نحو الْمَشْرِقِ - فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ وَادِي السُّرَى بِهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا " فَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَالْمَبِيتَ بِهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهِ جُبْرَانٌ مِنْ دَمٍ وَلَا غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ وَدَاعَ الْبَيْتِ بِهَذَا الطَّوَافِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا جُبْرَانَ لِأَنَّهُ بِخُرُوجِهِ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْبَيْتِ وَإِنَّمَا خَرَجَ لِيَعُودَ إليه واختلف الناس لم يسمى الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ التَّرْوِيَةَ فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ النَّاسَ يَرْتَوُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَةَ وَلَا منى ماء. وقال آخرون لأنه الْيَوْمَ الَّذِي رَأَى فِيهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَوَّاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَى فِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ الْمَنَاسِكِ والله بذلك أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَغْدُو إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى تَلْبِيَتِهِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ صَعِدَ الْإِمَامُ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ وَأَخَذَ هو في الكلام وخفف الكلام الآخر حتى ينزل بِقَدْرِ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْأَذَانِ وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ يُقِيمُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ وَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِمِنًى فِي يوم عرفة وهو اليوم التاسع من ذِي الْحِجَّةِ غَدَا الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ بِمِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي غُدُوِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ فَرَوَى بَعْضُهُمْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ رِوَايَةً وَقد رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ غَدَا إِلَى مِنًى بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ غَدا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ عَرَفَةَ وَتَأَهُّبِهِ وَشَدِّ رَحْلِهِ وَمَنْ رَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ سَيْرِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْتَارُ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غدوه إلى عرفة وهي مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ يُقَالُ لَهُ طَرِيقُ ضَبٍّ وَيَكُونُ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ عَلَى تَلْبِيَتِهِمْ ثُمَّ يَنْزِلُ بِنَمِرَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ عَرَفَةَ وَهُوَ مَنْزِلُ الْخُلَفَاءِ الْيَوْمَ وَهُوَ إِلَى الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ فَهُنَاكَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأُلْقِيَ لَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ ثَوْبٌ اسْتَظَلَّ بِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. فَصْلٌ : فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ تَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى وَهُوَ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ فَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَبْتَدِئُهُمَا بِالتَّلْبِيَةِ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ وَاجِبَةٌ بِفِعْلِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْجُمُعَةِ وَهِيَ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فِي خُطَبِ الْحَجِّ وَيَكُونُ عَلَى مِنْبَرٍ إن وجد أَوْ عَلَى نَشْرٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ وَقَدْ رَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بن خارجة قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ خَطَبْنَا عَلَى رَاحِلَتِهِ بِعَرَفَةَ وَإِنَهَا لَتَقْصَعُ بحرها. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَصْعُ ضَمُّكَ الشَّيْءَ عَلَى الشي حَتَّى تَقْتُلَهُ أَوْ تُهَشِّمَهُ كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَصْعِ الحر شِدَّةَ الْمَضْغِ وَضَمَّ بَعْضِ الْأَسْنَانِ عَلَى بَعْضٍ والجزة ما تجتزه الْإِبِلُ فَتُخْرِجُهُ مِنْ أَجْوَافِهَا لِتَمْضُغَهُ ثُمَّ تَرُدَّهُ فِي أَكْرَاشِهَا وَقَدْ سَاقَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا فَعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَحَكَى خُطْبَتَهُ فَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِّلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّ دمائكم وَأَمْوَالَكُمْ حرامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي وَإِنَّ أَوَّلَ دمٍ أَضَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ دِمَاؤُنَا دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا في بني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 سعدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مبرحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ بِالْمَعْرُوفِ وقد تركت فيكم ما إن تضلوا بعده إن اعتصمتم كتاب الله وأنتم مسؤولون عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ فَقَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيُنَكِّسُهَا إِلَى الْأَرْضِ اللَّهُمَّ اشهد ثلاث مراتٍ. فَصْلٌ : وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ وَيُؤَخِّرَهَا وَيُعَرِّفَ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ إِلَى الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ لِيَكُونَ فَرَاغُهُمْ مِنَ الْأَذَانِ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لِتَكُوْنَ خُطْبَتُهُ بَعْدَ الْأَذَانِ كَالْجُمُعَةِ. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ ثُمَّ وَقَفَ قَلِيلًا ثم خطب وأمر بلالاً فأذان وَأَقَامَ فَإِذَا أَذَّنَ أَقَامَ وَصَلَى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فَيُصَلِّيهِمَا بأذانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤَذِّنُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيُقِيمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا يُؤَذِّنُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ بأذانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقَصْرُ وَالْإِتْمَامُ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَصَرَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَصَرَ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ مُقِيمًا بِهَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا. وأتم من خلفه من المسافرين والمقيمين أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ مَالِكٌ يَقْصُرُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَيَقْصُرُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بردٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَالَطَائِفِ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ مَكَةَ بِالْإِتْمَامِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ مَسْنُونٌ هُنَاكَ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما جمعها هناك ليفضل له الدعاء بالوقوف فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وَخَالَفَ الْقَصْرَ فَإِذَا أَجْمَعَ الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْأُولَى فَأَمَّا الَّذِينَ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْوُوا الْجَمْعَ وَيُوصِيَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا وَيُخْبِرُ مَنْ عَلِمَ مَنْ جَهِلَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ جَمْعُ الْإِمَامِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ لَمْ يَصِحَّ جَمْعُ الْمَأْمُومِينَ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِغَيْرِ عَرَفَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إِنْ جَمَعُوا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْجَمْعِ أَجْزَأَهُمْ لِاخْتِصَاصِ الْمَوْضِعِ لِجَوَازِ الْجَمْعِ وَلِحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي إِعْلَامِ الْكُلِّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَادِيَ فِيهِمْ بِالْجَمْعِ وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ جَاءَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا سَوَاءٌ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فرادى وقال أبو حنيفة لا تجمع الصَّلَاةَ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالْجُمُعَةِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا فَاتَهُ الْجَمْعُ مَعَ الْإِمَامِ وَلَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ كُلَّ جَمْعٍ جَازَ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ انْفِرَادُهُ بِهِ كَالْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِذَا صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ إِلَّا بِنِيَّةٍ فَيَجْمَعُ نَاوِيًا إِنْ كَانَ مسافراً أن يقصر إِنْ شَاءَ وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَ مُقِيمًا، وَهَلْ يَجُوْزُ لَهُ الْجَمْعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ. فَصْلٌ : وَيُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَا يَجْهَرُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ لِتَقَدُّمِ الْخُطْبَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَوَى أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى وَلَا مُزْدَلِفَةَ جُمْعَةٌ وَلَا صَلَاةُ عِيدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ فِي حَجَّتِهِ فِي عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً) {المائدة: 3) فَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَكَانَ لَنَا يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَتْ وَاللَّهِ فِي عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ فَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُسِيئًا لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَرُوحُ إِلَى الْمَوْقِفِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ وَحَيْثُمَا وَقَفَ النَّاسُ من عرفة أجزأهم لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 موقف وكل عرفة موقفٌ " (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع قال سمعت الشافعي يقول: " عرفة كل سهلٍ وجبلٍ أقبل على الموقف فيما بين التلعةِ التي تفضي إلى طريق نعمان وإلى حصين وما أقبل من كبكب " وأحب للحاج ترك صوم عرفة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصمه وأرى أنه أقوى للمفطر على الدعاء وأفضل الدعاء يوم عرفة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَاجِبٌ لَا نَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِرِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْحَجُّ عَرَفَاتٌ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أدرك الحج أيام منى ثلاثةٍ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ " فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعُ الْوُقُوفِ. وَالثَّانِي: زَمَانُ الْوُقُوفِ. فَأَمَّا مَوْضِعُ الْوُقُوفِ فَهُوَ عَرَفَةُ، وعرفة ما جاوز وادي عرفة الَّذِي فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ وَلَا وَادِي عرفة من عرفة إلى الجبال القابلة عَلَى عَرَفَةَ كُلِّهَا مِمَّا يَلِي حَوَائِطَ بَنِي عَامِرٍ وَطَرِيقَ الْحِصْنِ فَإِذَا جَاوَزْتَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ عَرَفَةَ وَهَذَا حَدُّ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ بِهِ أَعْرَفُ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ تَوَجَّهَ مِنْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَرَفَةَ وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُسَمَّى الخمس وَكَانُوا لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْحَرَمِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَقِفُونَ بِنَمِرَةَ دُونَ عَرَفَةَ فِي الْحَرَمِ، وَيَقُولُونَ لَسْنَا كَسَائِرِ النَّاسِ نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَقِفُ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحَرَمِ، وَيَخْرُجُ مَعَ النَّاسِ إِلَى عَرَفَةَ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَهَبْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا إِلَى عَرَفَةَ ضَلَّ مِنِّي حَتَّى أَتَيْتُ عَرَفَةَ فَإِذَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاقِفٌ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هَذَا مِنَ الْحُمْسِ فَمَا لَهُ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَلَمَّا حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ ضَرَبُوا قُبَّتَهُ بِنَمِرَةَ عَلَى رَسْمِ قُرَيْشٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَزَلَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ زَالَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ خَرَجَ وَمَضَى إِلَى عَرَفَةَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى هُنَاكَ ثُمَّ رَاحَ إِلَى عرفاتٍ فَقُلِعَتْ قُبَّتُهُ وَرُفِعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) {البقرة: 199) أو ارْجِعُوا مِنْ حَيْثُ رَجَعَ النَّاسُ وَفِي النَّاسِ هَاهُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّهُ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ وَقَفَ بِهَا وَفِي تَسْمِيَةِ قُرَيْشٍ بِالْحُمْسِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُمْ تَحَمَّسُوا فِي دِينِهِمْ أَيْ تَشَدَّدُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ: (وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسٍ) أَيْ شِدَادٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سُمُّوا حمس بالكعبة، لأنها حمساً حَجَرُهَا أَبْيَضُ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى قَدِمْنَا عَرَفَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هذه عرفة وكلها موقف إلا وادي عرفة " وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ خَالٍ لَهُ قَالَ: كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا بِعَرَفَةَ فأتانا ابن مربع الأنصاري قال: أنا رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ هَذِهِ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَرَفَةَ هِيَ الْمُوْقِفُ فَالَّذِي يُخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ نَحْوَ الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الدُّعَاءِ، وَهُوَ مَوْقِفُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالْمَوْقِفُ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هو بين الأجبل الثلاثة وموقفه على الثالث هو الطواف الذي عِنْدَ السِّنِّ الَّذِي خَلْفَهُ مَقَامُ الْإِمَامِ وَقَفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنَ الثَّالِثِ وَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهَذَا أَحَبُّ الْمَوَاقِفِ إِلَيْنَا أَنْ يَقِفَ فِيهِ الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَيْثُ وَقَفَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ فِي جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا وَمَضَارِبِهَا وَجِبَالِهَا وَسُهُولِهَا وَبَطْنِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَسُوقِهَا المعروف بِذِي الْمَجَازِ أَجْزَأَ إِذَا وَقَفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِعَرَفَةَ فَأَمَّا إِذَا وَقَفَ بِغَيْرِ عَرَفَةَ مِنْ وَرَائِهَا أَوْ دُونَهَا فِي عرفة عامداً أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا لَمْ تُجْزِهِ وَقَالَ مَالِكٌ يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ". فَصْلٌ : فَأَمَّا زَمَانُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ قَالَ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ رَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حماراً له جاء على مضرب الحجج وَقَالَ أَيْنُ هَذَا فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ وَعَلَيْهِ ثوبٌ معصفرٌ فقال مالك يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ إِنْ أَرَدْتَ السُّنَّةَ فَالرَّوَاحُ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَمِلَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ وَلَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَمَتَى حَصَلَ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مُقِيمًا أَوْ مُخْتَارًا نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَأَدْرَكَ بِهِ الْحَجَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يُعْتَبَرُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ فَإِنْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا أَجْزَأَهُ وُقُوفُ اللَّيْلِ وَكَانَ وُقُوفُ النَّهَارِ تَبَعًا وَإِنْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ وَقَفَ بِهَا نَهَارًا لَمْ يُجْزِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ لَيْلًا فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا رِوَايَةُ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ أَنَّهُ حَجَّ فلم يدرك الناس إلا ليلاً فجمع فَانْطَلَقَ إِلَى عَرَفَاتٍ فَأَفَاضَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلى جمع فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أكلت مطيتي وأتعبت نفسي فَهَلْ لِي مَنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى مَعَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بجمعٍ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَى يَفِيضَ وَقَدْ أَفَاضَ مِنْ عرفاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ وَتَمَّ حَجُّهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَدَ الْمَوْقِفَ نَهَارًا وَانْصَرَفَ مِنْهُ لَيْلًا فَجَعَلَ النَّهَارَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَقْتًا لِتَرْكِ الْوُقُوفِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهَارَ مَقْصُودٌ، وَاللَّيْلَ تَبَعٌ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِدْرَاكِ اللَّيْلِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى إِدْرَاكِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ آخِرِ الْوَقْتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَوَّلِهِ أَوْ أَضْعَفَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ فَلَمَّا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُدْرَكًا بِآخِرِهِ وَهُوَ اللَّيْلُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُدْرَكًا بِأَوَّلِهِ وَهُوَ النَّهَارُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ " وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ لَيْلًا فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ " فلا، قيل يكون دليل أول الكلام تنبيهة يَصْرِفُ ظَاهِرَ آخِرِهِ إِلَى دَلِيلِ أَوَّلِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْدِيدِ الْمَوْقِفِ وَزَمَانِ الْوُقُوفِ وَالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي وُقُوفِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ " وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي وُقُوفِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا وَنَازِلًا وَوُقُوفُهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي القديم؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَفَ رَاكِبًا، وَلِأَنَّهُ إِذَا رَكِبَ كَانَ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَيَكُونُ مُفْطِرًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَفَ بِعَرَفَةَ مُفْطِرًا، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ " وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ عَشِيَةَ عَرَفَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي قَلْبِي نُورًا اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسَاوِسِ الصَّدْرِ وَمِنْ سَيِّئَاتِ الْأُمُورِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ، وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا الْإِجَابَةُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَدَدًا مِنَ النَارِ مِنْ يَوْمِ عرفة " ويختار للمواقف بِعَرَفَةَ أَنْ يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ وَيُظْهِرَ نَفْسَهُ لَهَا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى يَوْمَ عَرَفَةَ رَجُلًا يَطْلُبُ الْفَيَافِيَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " أَيِ اخْرُجْ إِلَى الشَّمْسِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 تسمى الضحى واختلف الناس لما سيمت عَرَفَةَ فَقَالَ قَوْمٌ لِتَعَارُفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْبَطَ آدَمَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَحَوَّاءَ بِأَرْضِ جُدَّةَ فَتَعَارَفَا بِالْمَوْقِفِ وَقِيلَ: لأن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَنَاسِكَهُ. وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا، وَوُقُوفِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَالْجِبَالُ هِيَ الْأَعْرَافُ وَمِنْهُ قَوْله تعالى: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ) {الأعراف: 46) . قيل سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمِنْهُ قِيلَ عُرْفُ الدِّيكِ وَعُرْفُ الدَّابَّةِ لِنُتُوِّهِ وَعُلُوِّهِ وَكُلُّ نَاتٍ فَهُوَ عُرْفٌ، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَرِفُونَ فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ فَحِينَئِذٍ يغفر لهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ الْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ بِعَرَفَةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَدْفَعُوا مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ فِي رُؤُوْسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوِهِهِمْ وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَحَجُّهُ مُجْزِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إِنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَالْوُقُوفُ بعرفة إلى غروب الشمس نسك فوجب أن يَجِبُ فِيهِ دَمٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَّ الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كما سن الإحرام من مِنَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ عَلَى مُجَاوِزِ الْمِيقَاتِ وَاجِبٌ فَكَذَا الدَّمُ عَلَى الدَّافِعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ الدَّمَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا " مَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا فَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ وَتَمَّ حَجُّهُ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِدَمٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقْتٌ لِإِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كَذَلِكَ إِذَا وَقَفَ بِهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الدَّمَ إِمَّا وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ لَيْلًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ سَوَاءٌ كَانَ عَوْدُهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَثَبَتَ بِهَا إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ لِأَنَّ الدَّمَ إذا وجب لسبب لم يَسْقُطُ وُجُوبُهُ بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَاللَّابِسِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِلِبَاسِهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِنَزْعِهِ، وَالْمُتَطَيِّبِ لَزِمَهُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِغَسْلِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ، فَوَجَبَ إِذَا وَقَفَ بِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِفَوَاتِ الْعَوْدِ لَا بِالدَّفْعِ قَبْلَ الْغُرُوبِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ سَيْرِهِ، إِلَى مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ الْمَشْيُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا سَعْيٍ فَقَدْ رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَفَعَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ سَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا مِنَ الْأَعْرَابِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: " السَّكِينَةَ فَإِنَّ الِبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَشَيَّةَ عَرَفَةَ عَنْ دَفْعِ وَجِيفِ الْخَيْلِ وَإِيضَاعِ الْإِبِلِ قَالَ وَلَكِنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَسِيرُوا سَيْرًا جَمِيلًا وَلَا تُوْطِؤُوا ضَعِيفًا وَلَا تُوْطِؤُوا مُسْلِمًا وَاقْتَصِرُوا فِي السَّيْرِ وَكَانَ يَكُفُّ عَنْ نَاقَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَأْسُهَا مُقَدَّمَ الرَّحْلِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بَالدِّعَةِ " وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفَاضَ وَعَلَيْهِ السِّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَكَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ حَتَّى إِذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ الْعَنَقُ سَيْرُ الْجَمَاعَةِ وَالرِّفَاقِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّصُّ هُوَ التَّحْرِيكُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنَ الدَّابَّةِ أَقْصَى سَيْرِهَا وَيُخْتَارُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْمَأْزِمَيْنِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَكَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ طَرِيقَ ضَبٍّ وَرَجَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ فِي طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَأَيَّ طَرِيقٍ سَلَكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْلَكِ نُسُكٌ، وَلَكِنَّنَا نَخْتَارُ التَّأَسِّيَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَتَى الْمَزْدَلِفَةَ جَمَعَ مَعَ الْإِمَامِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَتَيْنِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلاهما بها ولم يناد في واحدةٍ منهما إلا بإقامة ولا يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا وَحُدُودُ مُزْدَلِفَةَ مِنْ حيث يقضي من مأزمين عرفة وليس المأزمين مِنْهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى قُرْبِ مُحَسِّرٍ وَلَيْسَ الْقَرْنُ مِنْهَا، وَهَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ وَالْقَوَابِلِ وَالظَّوَاهِرِ وَالشِّعَابِ وَالسِّحَاءِ وَالْوَادِي كُلِّهِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا مُزْدَلِفَةَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ يَقْرَبُونَ فِيهَا مِنْ مِنًى وَالِازْدِلَافُ التَّقْرِيبُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتْ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقين) {الشعراء: 90) أَيْ قَرُبَتْ. وَالثَّانِي: إِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ بِهَا، وَالِاجْتِمَاعُ الِازْدِلَافُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) {الشعراء: 64) أَيْ جَمَعْنَاهُمْ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمُزْدَلِفَةَ جَمْعٌ فَإِذَا نَزَلَ بِمُزْدَلِفَةَ جَمَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَى جَمَعَهَا مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ كَمَا قَدَّمَ الْعَصْرَ بِعَرَفَةَ حِينَ صَلَّاهَا مَعَ الظُّهْرِ لِيَتَّصِلَ لَهُ الدُّعَاءُ، وَقَدْ رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ لَمَّا أَفَاضَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عرفة وأتى المزدلفة قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: الصَّلَاةُ، فَقَالَ: " الصَّلَاةُ أمامك " فسار حتى جاء إلى صخرة فِي بَطْنِ الْمَأْزَمِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فِي مَضِيقِ المأزمين فأناخ رحالته وَبَالَ مَنْ وَرَاءِ الصَخْرَةِ وَجِئْتُهُ بِإِدَاوَةِ ماءٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا غَيْرَ كَامِلٍ ثُمَّ قَامَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلَاةُ فَقَالَ: " الصَّلَاةُ أَمَامَكَ إِلَى أَنْ نَزَلَ جَمْعًا " وَفِي قَوْلِهِ وُضُوءًا غَيْرَ كَامِلٍ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَرَكَ تَكْرَارَهُ ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَرَكَ مَسْنُونَاتِهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَصَرَ وَجَمَعَ وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا مُقِيمًا أَتَمَّ وَجَمَعَ كَمَا قُلْنَا بِعَرَفَةَ فَإِذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَاضْطَجَعَ فَبَاتَ بِهَا إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ. وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا سَجْدَةً، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى أبي حنيفة. وَرِوَايَةُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ يَعْنِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُؤَذِّنْ لَهُمَا فَلَوْ صَلَّاهُمَا قَبْلَ مُزْدَلِفَةَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا أَوْ مُفْرِدًا لَهُمَا أَجْزَأَتَاهُ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مُزْدَلِفَةَ لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَسْنُونٌ بِعَرَفَةَ، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ مَسْنُونٌ بِمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ سُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ جَوَازُهُمَا تَرْكَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمَكَانِهِمَا كَالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ كَانَ وَقْتًا لَهَا فِي النُّسُكِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَا يُسَبِّحُ بَيْنَهُمَا " يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ بين صلاتي الجمع، لأن التنفل بَيْنَهُمَا يَقْطَعُ الْجَمْعَ وَلَا فِي إِثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَيْ لَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَا بَعْدَ الْعَشَاءِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأَهُّبِ لِمَنَاسِكِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَبِيتُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمُ شاةٍ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ الليل فلا فدية عليه قال ابن عباس كنت فيمن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مع ضعفة أهله يعني من مزدلفة إلى منى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ فَنُسُكٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَحُكِيَ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحََرَامِ) {البقرة: 198) وَبِهَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ وَقَفَ بِجَمْعٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا رِوَايَةُ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْحَجُّ عَرَفَاتٌ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " وَلِأَنَّهُ مَبِيتٌ تَضَمَّنَ مِنْ صَبِيحَةِ الرَّمْيِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نُسُكًا وَلَا يَكُونُ رُكْنًا كَلَيَالِي مِنًى، وَلِأَنَّ زَمَانَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ هُوَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَوْ كَانَ الْمَبِيتُ بِهَا رُكْنًا لَاخْتَصَّتْ بِزَمَانٍ مُسْتَثْنًى لَا يُشَارِكُ زَمَانَ الْوُقُوفِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الذِّكْرِ دُونَ الْمَبِيتِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى فَوَاتِ فَضِيلَةِ الْحَجِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا نُسُكٌ فَإِنْ بَاتَ بِهَا وَخَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ". وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مع ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى بِلَيْلٍ وَأَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعَجِّلَ الْإِفَاضَةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ سَوْدَةُ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُفِيضَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بليلٍ فَأَذِنَ لَهَا، وَهَذَا نَصٌّ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى النُّسُكَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، نُظِرَ فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ كَالْعَائِدِ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا كَانَ كَمَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ وَلَوْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ لَيْلًا وَحَصَلَ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 نِصْفِ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِتْ بِهَا إِلَّا أَقَلَّ اللَّيْلِ فَصَارَ كَالْخَارِجِ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا أَوْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: اسْتِحْبَابٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " وَالْحُكْمُ فِي هَذَا كَالْحُكْمِ فِي دَمِ الدَّفْعِ عن عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ أَرْبَعَةَ دِمَاءٍ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا مِنْهَا هَذَانِ. وَالثَّالِثُ: دَمُ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى. وَالرَّابِعُ: دَمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَنَّصَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّ الدَّمَ فِيهَا وَاجِبٌ، وَنَصَّ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " أَنَّ الدَّمَ فِيهَا اسْتِحْبَابٌ. فَأَمَّا حُدُودُ مُزْدَلِفَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَادِيَ مُحَسِّرٍ لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنْ بَاتَ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا موقفٌ إِلَّا بَطْنَ محسرٍ ". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْخُذُ مِنْهَا الْحَصَى لِلرَّمْيِ يَكُوْنُ قَدْرَ حَصَى الخذف لأن بقدرها رمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُخْتَارُ لِمَنْ بَاتَ بِمُزْدَلِفَةَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنَ الْمَأْزِمَيْنِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ حصى الجمرة من مزدلفة ونختار أَنْ يَلْتَقِطَهَا وَلَا يَكْسِرَهَا، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَكْسِرَهَا وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْتَقِطُوا وَلَا تُنَبِّهُوا النُّوَّامَ " وَنَخْتَارُ أَنْ يَغْسِلَهَا، وَكَرِهَ آخَرُونَ غَسْلَهَا وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ جِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَمَّا قَدْرُ الْحَصَى الْجِمَارِ وَهُوَ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ وَهُوَ دُونَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا بِقَدْرِ الْبَاقِلَّاءِ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ: " هَاتِ فَالْقِطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذَفِ فَوَضَعْتُهُنَ في يده فقال: بأمثال هؤلاء وإياكم الغلو فَإِنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَاْنَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ ". وَرَوَى حَرْمَلَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ " وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَ الْجِمَارَ وَبِأَيِّ قَدَرٍ رَمَى أَجْزَأَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: حَصَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَصَى لَيُسَبِّحُ فِي الْمَسْجِدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 والثاني: الحصى نجس، لِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةٌ فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهَا بِنَجِسٍ. وَالثَّالِثُ: مَا رُمِيَ بِهِ مَرَّةً، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ وَرَوَى ابْنُ أَبَى سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْجِمَارُ الَّتِي نَرْمِي بِهَا كُلَّ عامٍ فَيَنْحَسِبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ. قال: إنها مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا يُرْفَعُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا مثل الجبال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ أَجْزَأَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ حَجَرٍ مرمرٍ أَوْ برامٍ أَوْ كذانٍ أَوْ فهرٍ فَإِنْ كَانَ كَحْلًا أَوْ زَرْنِيخًا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ لَمْ يُجْزِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: رَمْيُ الْجِمَارِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ وَإِنْ تَنَوَّعَ رِخْوًا كَانَ أَوْ صُلْبًا، فَأَمَّا مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ مِنَ الْآجُرِّ، والطين، والجص والنورة والقوارى، وَالْكُحْلِ، وَالزَّرْنِيخِ، وَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمِلْحِ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُ الْجِمَارِ بِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا يَنْطَبِعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْعُصْفُورِ الْمَيِّتِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شَيْءٍ " وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ " رَمَتْ سِتَّ حصياتٍ فَأَعْوَزَتْهَا السَّابِعَةُ فَرَمَتْ بِخَاتَمِهَا " وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ حَصَى الْجِمَارِ فِي يَدِهِ وَقَالَ: " بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا " فَعُلِمَ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلًا لَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِهِ، وَمِثْلُ الْحَصَى حَصًى، وَلَيْسَ غَيْرُ الْحَصَى مِثْلًا لِلْحَصَى. وَرَوَى أَبُو مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ أَفَاضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَبَطَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ " وَهَذَا أَمْرٌ بِالْحَصَى وَلِأَنَّهُ رَمَى بِغَيْرِ حَجَرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئُ، كَالثِّيَابِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ " فَالْمَقْصُودُ بِهِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ لَا مَا يجوز الرمي به. وأما حدث سُكَيْنَةَ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا رَمَتْ خَاتَمَهَا إِلَى سَائِلٍ كَانَ هُنَاكَ وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا رَمَتْ به بدلاً من الحصى السَّابِعَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَصُّهُ وَكَانَ حَجَرًا وَفَصَّةُ الخاتم تبعاً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مَرَّةً كَرِهْتُهُ وَأَجْزَأَ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّنَا نَكْرَهُ لَهُ الرَّمْيَ بِمَا قَدْ رَمَى بِهِ لِمَا رُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجَرُ قربان فما يقبل رُفِعَ وَمَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تُرِكَ " فَإِنْ رمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ رَمَى بِهِ أَوْ رَمَى بِهِ غَيْرُهُ وَقَالَ طَاوُسٌ: إِنْ رَمَى بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ رَمَى بِهِ هُوَ، أَوْ رَمَى غَيْرُهُ بِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ رَمَى بِهِ غَيْرُهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ رَمَى بِهِ هُوَ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ رَمْيَهُ بِهِ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْحَجَرِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَكُنْ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِهِ مَانِعًا مِنْ أَدَائِهَا ثَانِيَةً بِهِ كَالْكُسْوَةِ، وَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَجَزْتُمُ الرَّمْيَ بِهِ ثَانِيَةً وَبَيْنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ مَنَعْتُمُ اسْتِعْمَالَهُ ثَانِيَةً. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ قَدْ سَلَبَهُ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ وَالرَّمْيُ بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَسْلُبْهَا اسْمَ الْأَحْجَارِ فَجَازَ الرَّمْيُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ ثانية كالعتق في الكفارات. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو رمى فوقعت حَصَاةٌ عَلَى محملٍ ثُمَّ اسْتَنَّتْ فَوَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَصَى أَجْزَأَهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي ثَوْبِ رَجُلٍ فَنَفَضَهَا لَمْ يُجْزِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ عَلَى رَامِي الْجِمَارِ حُصُولَ الْحَصَى فِي الْجِمَارِ بِرَمْيِهِ، فَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ بِحَصَاةٍ فَوَقَعَتْ عَلَى مَحْمَلٍ، أَوْ حَمْلٍ ثُمَّ اسْتَنَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ بِرَمْيِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَالسَّهْمُ الْمُزْدَلِفُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ ازْدَلَفَ فَأَصَابَ الْهَدَفَ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَهَلَّا كَانَ رَمْيُ الْجِمَارِ مِثْلَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الرَّمْيِ حَذْفُ الرَّامِي وَجَوْدَةُ رَمْيِهِ، فَإِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ ثُمَّ ازْدَلَفَ إِلَى الْهَدَفِ أَنْبَأَ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ رَمْيِهِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ حُصُولُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ مَا أَصَابَ الْأَرْضَ ثُمَّ ازْدَلَفَ بِنَفْسِهِ مُعْتَدًّا بِهِ لِحُصُولِهِ بِفِعْلِهِ، فَأَمَّا إِذَا رَمَى بِحَصَاةٍ فَأَصَابَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَنَفَضَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ قَاطِعٌ لِلْأَوَّلِ، فَصَارَ الرَّمْيُ مَنْسُوبًا إليه، فلو رمى بها فأصاب عُنُقَ بَعِيرٍ فَحَرَّكَهُ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فلم يعمل هَلْ وَقَعَتْ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ أَوْ بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الرَّامِي فَيُجْزِئُ؛ وَبَيْنَ أن يكون بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ فَلَا يُجْزِئُ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْقُطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الرَّمْيِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مُتَحَقِّقٌ، وَحُدُوثَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِتَحْرِيكِ الْبَعِيرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ فِعْلٍ مُتَحَقِّقٍ بِفِعْلٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. فَصْلٌ : إِذَا رَمَى بِحَصَاةٍ فوقعت دون الجمرة ثم ازدلفت بحموتها فَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا فِي الْجَمْرَةِ بِفِعْلِهِ، وَلَوْ أَطَارَتْهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَوْ رَمَى فَجَاوَزَ الْجَمْرَةَ وَسَقَطَ وَرَاءَهَا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 حُصُولُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ بِرَمْيِهِ، فَلَوْ وَقَعَتْ فَوْقَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ انْحَدَرَتْ بِنَفْسِهَا وَانْقَلَبَتْ حَتَّى حَصَلَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ انْحِدَارَهَا عَنْ فِعْلِهِ، فَكَانَ حُصُولُهَا فِيهِ مَنْسُوبًا إِلَى رَمْيِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ انْحِدَارَهَا مِنْ عُلُوٍّ لَيْسَ مِنْ حَمْوَةِ رَمْيِهِ وَلَا فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَإِطَارَةِ رِيحٍ أَوْ حَمْلٍ، قِيلَ: وَلَوْ وَقَعَتْ دُونَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ وَانْحَدَرَتْ بِنَفْسِهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَلَوْ رَمَى حَصَاةً دُونَ الْجَمْرَةِ، فَانْدَفَعَتِ الثَّانِيَةُ وَوَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ وَاسْتَقَرَّتِ الْأُولَى دُونَ الْجَمْرَةِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ الثَّانِيَةَ فَتُحْسَبُ بِهَا وَلَا وَصَلَتِ الْأُوْلَى إِلَى الْجَمْرَةِ فَيُعْتَدُّ بِهَا، فَلَوْ رَمَى حَصَاةً فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَيَعْتَدُّ بِهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا مُجَاوِزَةً أَوْ مُقَصِّرَةً فَلَا يَعْتَدُّ بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ جَوَازَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّكِّ مَا لَزِمَهُ بِالْيَقِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَاهُ عَنْهُ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُصُولُ الرَّمْيِ فِي الْجَمْرَةِ، وَلَعَلَّهُ قال ذلك في القديم أنه حكاه عَنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْحَصَاةَ وَكَانَ فِي الْجَمْرَةِ مَحْمَلٌ فَوَقَعَتْ فِيهِ أَوْ مَتَاعٌ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَقَعَ فِي مَكَانِ الْحَصَى، لِأَنَّ الْمَكَانَ مَقْصُودٌ بِالرَّمْيِ، وَلَوْ وقعت في الجمرة وأطارته الرِّيحُ أَجْزَأَهُ؛ لِاسْتِقْرَارِهَا بِالرَّمْيِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِهِ كما لو أخذها بعد رمية أخرى فَرَمَى بِهَا، فَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ ثُمَّ ازْدَلَفَتْ بِحَمْوَتِهَا حَتَّى سَقَطَتْ وَرَاءَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُهَا فِي الْجَمْرَةِ بِرَمْيِهِ دُونَ اسْتِقْرَارِهَا فِيهِ، أَلَا تَرَى لَوْ وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ أَجْزَأَتْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ بِانْتِهَاءِ الرَّمْيِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ، فَلَوْ أَخَذَ الْحَصَى بِيَدِهِ ولم يرمه ولكن مشير إِلَى الْجَمْرَةِ فَوَضَعَهَا فِيهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ دَفَعَ الْحَصَاةَ بِرِجْلِهِ وَكَسَحَهُ حَتَّى حَصَلَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ رَمْيَ الْحَصَى فِيهِ؛ وَكَذَا لَوْ رَمَاهُ عَنْ قوس لم يجزه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَصْبَحَ صَلَى الصُّبْحَ فِي أُوَلِ وَقْتِهَا ثُمَّ يَقِفُ عَلَى قزحٍ حَتَّى يُسْفِرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَدْفَعُ إِلَى مِنًى فَإِذَا صَارَ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ قَدْرَ رَمْيَةِ حجرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا بَاتَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ بِمُزْدَلِفَةَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةً قَبْلَ وَقْتِهَا، إِلَّا صَلَاةَ الصُبْحِ بِجَمْعٍ " يَعْنِي قَبْلَ وَقْتِهَا الَّذِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِيهِ من قبل؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يَأْتِيَ قُزَحَ فَيَقِفَ فِيهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَدْعُو سِرًّا كَمَا دَعَا بِعَرَفَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِلدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ) {البقرة: 198) فَقِيلَ إِنَّ قُزَحَ هُوَ الْمَشْعَرُ وَقِيلَ: إِنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي فِي ذَيْلِهِ الْمَشْعَرُ وَالْمَشْعَرُ الْمَعْلَمُ، وَالْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهَ) {المائدة: 2) أَيْ: مَعَالِمَ اللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُسُكٍ وَلَا دَمَ عَلَى تَارِكِهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ وَاقِفًا عِنْدَ الْمَشْعَرِ إِلَى أَنْ يُسَفِرَ الصُّبْحُ، فَإِذَا أَسْفَرَ وَرَأَتِ الْإِبِلُ مَوَاقِعَ أَخْفَافِهَا دَفَعَ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ، وَرَوَى ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِّيَةِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيْرُ فَأَخَّرَ اللَّهُ هَذِهِ وَقَدَّمَ هَذِهِ " يَعْنِي: قَدَّمَ الْمُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَخَّرَ عَرَفَةَ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مَنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ عَلَى رُؤُوسِ الْجَبَلِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ عَلَى رُؤُوْسِهَا، وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، يُخَالِفُ هَدْيُنَا هَدْيَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ "، فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ. فَصْلٌ : ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِنًى وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ كَسَيْرِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ، حَتَّى إِذَا صَارَ مِنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ قَدْرَ رَمْيِهِ بِحَجَرٍ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ وعبد اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَأَفَاضَ عليه السكينة فلما بلغ وادي محسراً أَوْضَعَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ: وَالْإِيضَاعُ سَيْرُ الإبل إذا سارت للخبب، يقال له الإبضاع قَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا أُعْطِيتُ رَاحِلَةً وَرَحْلًا ... وَلَمْ أوضع فقام على ناعي) فَلَمَّا أَوْضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِسِعَةِ الْمَكَانِ وَهُبُوطِ الرَّاحِلَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْضَعُوا بِمَثَابَةِ نَدْبٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 فَرَوَى حُصَيْنُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَرَّكَ دَابَّتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى إِنَّ فَخْذَهُ لَتَكْدَمُ بِالْقَتْبِ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يحرك في محسرٍ وَيَقُولُ: (إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا) وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَهُوَ يَقُولُ: (إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُخَالِفًا دين النصارى دينها) (معرضاً في بطنها جنينها) مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَتَى مِنًى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بطن الوادي سبع حصياتٍ ويرفع يديه كلما رمى حتى بياض إبطه ما تحت منكبيه وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِ حصاةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حُدُودُ مِنًى فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسِّرٍ - (وَلَيْسَ مُحَسِّرٌ مِنْهَا) - إِلَى الْعَقَبَةِ الَّتِي عِنْدَهَا الْجَمْرَةُ الدُّنْيَا إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَهَا الْأَنْصَارَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَلَيْسَ مَا وَرَاءَ العقبة منها، وسواء سهولها وَجَبَلُهَا، وَعَامِرُهَا وَخَرَابُهَا. فَأَمَّا جِبَالُهَا الْمُحِيطَةُ بِجَنْبَاتِهَا فَمَا أَقْبَلَ مِنْهَا عَلَى مِنًى فَهُوَ مِنْهَا، فَأَمَّا مَا أَدْبَرَ مِنَ الْجِبَالِ فَلَيْسَ مِنْهَا، وفي تسميتها منى ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يُمْنَى فِيهَا مِنْ دِمَاءِ الْهَدْيِ أَيِ: يُرَاقُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَاءُ الطُّهْرِ مَنِيًّا أَيْ: يُرَاقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) {القيامة: 37) . وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِأَنَّ الله تعالى منى فِيهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ فَدَى ابْنَهُ بِكَبْشٍ وَاسْتَنْقَذَهُ مِنَ الذَّبْحِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ فِيهَا عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَهَا قَالَ: " اللَّهُمَّ وَهَذِهِ مِنًى الَّتِي مَنَنْتَ بِهَا عَلَيْنَا فَبَارِكِ اللَّهُمَّ لَنَا فِي رَوَاحِنَا وَغُدُوِّنَا " فَإِذَا أَتَى مِنًى قَالَ هَذَا وَابْتَدَأَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ لِلذَّاهِبِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ أَضْيَقُهُنَّ فيرميها بسبع حصيات، وذلك أو مناسكه الواجبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَتَى الْجَمْرَةَ الَتِي عِنْدَ الشَجَرَةِ رَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ مَنَ الْوَادِي يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْمِيَهَا رَاكِبًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَى وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ " وَيَكُونُ مَوْقِفُهُ إِذَا رَمَى فِي بَطْنِ الْوَادِي؛ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ قال: هذا والذي لا إله غير مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَكَمَةٍ فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ رَمْيِهَا إِلَّا كَذَلِكَ، فَإِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ فَوْقِهَا وَلَمْ يَرْمِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي أَجْزَأَهُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ انْتَهَى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِيَرْمِيَهَا وَرَأَى زِحَامَ النَاسَ صَعِدَ فَرَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَرْفَعُ يَدَهُ مَعَ الرَّمْيِ حَتَّى يُرَى مَا تحت إبطه. فصل : ويكون عَلَى تَلْبِيَةٍ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِرَمْيِهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ دُخُولِ مِنًى قَبْلَ التَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وَكَانَ الْفَضْلُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِحَالِهِ فِي هَذَا المكان، لأنه مكان رديف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْدَفَ فِي حَجَّتِهِ ثَلَاثَةَ نفرٍ، فَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَأَرْدَفَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَدِيمُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَإِذَا ابْتَدَأَهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، وَكَبَّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ؛ لِرِوَايَةِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقْبَةِ مَنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِ حَصَاةٍ وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ، فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ فَقَالُوا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذَفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَإِنْ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ وَكَبَّرَ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، أَوِ اسْتَدَامَ التَّلْبِيَةَ وَلَمْ يُكَبِّرْ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ كَانَ مُخَالِفًا للسنة، ولا فدية عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن رمى قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأ عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعَجِّلَ الْإِفَاضَةَ وَتَوَافِيَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ وَكَانَ يَوْمَهَا فَأَحَبَّ أَنْ يوافيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ رَمَتْ إِلَّا قَبْلَ الْفَجْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّمْيُ الْوَاجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فَهُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجَمَرَاتِ، وَوَقْتُ رَمْيِهَا فِي الِاخْتِيَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا؛ لِرِوَايَةِ أبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ضُحًى فَأَمَّا وَقْتُ رَمْيِهَا فِي الْجَوَازِ، فَمِنْ بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ رَمَى قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَى ضُحًى وَقَالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَبِرِوَايَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ونحن بجمرةٍ أغيلمة بني عبد المطلب وحملنا على حمراتنا فَلَطَّخَ أَفْخَاذَنَا وَقَالَ أَنْ لَا تَرْمُوا إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ " قَوْلُهُ لَطَّخَ أَفْخَاذَنَا: أَيْ ضَرَبَ أَفْخَاذَنَا كَذَا فَسَرَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسَتَدَلَ أبو حنيفة وَمَنْ مَعَهُ بِأَنْ قَالُوا حُكْمُ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَحُكْمِ مَا قَبْلَهُ؛ لِكَوْنِهِ وَقْتًا لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهَا فِي الْمَنْعِ مَعَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا إِنْ رَمَى بِلَيْلٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ، كَمَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الرَّمْيَ يَجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ مِنًى، فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ رَمْيُ أَيَّامِ مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وتحرير ذلك قياساً أن رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ كَأَيَّامِ مِنًى، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ النَّحْرِ شَيْئَانِ رَمْيٌ وَذَبْحٌ فَلَمَّا لَمْ يجز بتقديم الذَّبْحِ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْلَةَ الَنَّحْرِ فَرَمَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَفَاضَتْ ". وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَنْ تَأْتِيَ مِنًى بليلٍ، ورمت قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَاسُ، فَأَذِنَ لَهَا، وَكَانَتِ امرأة ثقيلة بطيئة ". وروى ابن جريج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ أَسْمَاءَ مِنْ جَمْعٍ لَمَّا غَابَ الْقَمَرُ وَأَتَيْنَا مِنًى وَرَمَيْنَا وَصَلَّتِ الصُبْحَ فِي دَارِهَا فَقُلْتُ يَا هَنْتَاهُ رَمَيْنَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الرَّمْيِ حُكْمَ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ رَمْيٌ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَالرَّمْيِ بَعْدَ الْفَجْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَمْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا عَارَضَتْهُ أَخْبَارُنَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاخْتِيَارِ. وأما قياسهم على ما قبل نصل اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْيَوْمِ الْمَاضِي، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَالنِّصْفُ الثَّانِي مِنْ تَوَابِعِ الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى مُخَالِفٌ لِلرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ مِنًى لَا يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَيَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَلِذَلِكَ جَازَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي أَيَّامِ مِنًى قَبْلَ الْفَجْرِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَ يَنْحَرُ الْهَدْيَ إِنْ كَانَ مَعَهُ ثُمَّ يحلق أو يقصر ويأكل من لحم هديه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَحْرُ الْهَدْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَمِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ؛ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عملٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ دمٍ، وإنه ليأتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ يقع في اللَّهِ تَعَالَى بمكانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا " فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَوْمُ النَّحْرِ يَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الرَّمْيُ، وَالنَّحْرُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَتَرْتِيبُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سُنَّةٌ، فَيَبْدَأُ بِالرَّمْيِ ثُمَّ بِالنَّحْرِ ثُمَّ بِالْحَلْقِ ثُمَّ بِالطَّوَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} (الحج: 29) يعني: الرمي. {وَلْيُوفُوا نُذُرَهُمْ} يَعْنِي: نَحَرَ الْهَدْيِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَأَمَرَ بِالْحَلْقِ بَعْدَ نَحْرِ الْهَدْيِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 29) وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَذَبَحَ وَدَعَا بِالْحَالِقِ فَنَاوَلَهُ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ ثُمَّ أَعْطَاهُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ قَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْتِيبَ ذَلِكَ سُنَّةٌ فَخَالَفَ التَّرْتِيبَ فَأَخَّرَ مُقَدَّمًا، أَوْ قَدَّمَ مُؤَخَّرًا نَظَرَ، فَإِنْ قَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحِلَاقِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ أَجْزَأَهُ أَيْضًا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَفَ بِمِنًى لِيَسْأَلَهُ النَاسُ فَأَتَاهُ رجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ ذَبَحْتُ، فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 حَرَجَ وَأَتَاهُ آخَرُ وَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ رَمَيْتُ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ قَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: ما سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ " وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْحَلْقُ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْحَلْقُ قِيَاسًا عَلَى دَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَأَمَّا قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحَلِّ الْحَرَمُ دُونَ الْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 33) فَأَمَّا إِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؟ لِحَلْقِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَّرْتُ الرَّمْيَ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَقَالَ: ارْمِ لَا حَرَجَ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْهَدْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ. وَضَرْبٌ وَجَبَ بِالنَّذْرِ. وَضَرْبٌ تَطَوَّعَ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَاجِبًا بِالْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِحَالٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَمِيعِهِ إِلَّا مِنْ دَمِ الْقِرَانِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْكُلُ مِنْ جَمِيعِهِ إلا من جزاء الصيد، والكلام عليهما يَأْتِي، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير) {الحج: 28) وقال: {وَالقَانِعَ وَالْمُعْتَر) {الحج: 36) وَأَمَّا النَّذْرُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ وَاجِبٌ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِحْرَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالتَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْجُبْرَانِ وَالنَّذْرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنَ التَّطَوُّعِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ مِنْهُ فَيَكُونُ أَكْلُهُ مُبَاحًا وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ وَاجِبًا، فَإِنْ أَطْعَمَ جَمِيعَهُ الْفُقَرَاءَ جَازَ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ جَازَ كَمَا لو أطعم جميعه، وقال أبو حفص، الْوَكِيلُ أَكْلُهُ مِنْهُ وَاجِبٌ، فَإِنْ طَعِمَ جَمِيعَهُ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ أَكَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 جَمِيعَهُ، فَجَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ مُبَاحَيْنِ، وَجَعَلَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبَيْنِ. وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُصِيبٍ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْهَدْيِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ قراباً، وَالْقُرْبَةُ فِي إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ لَا فِي أَكْلِهِ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا) {الحج: 28) كَانَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ حَظْرٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِطْعَامِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْهَدْيِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يَأْكُلُ، وَيَدَّخِرُ الثُّلُثَ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْكُلَ النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) {الحج: 28) فَكَانَ ظَاهِرُهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. فَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْ ذَلِكَ فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا إِلَّا رِطْلًا أَكَلَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا إِلَّا رِطْلًا تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَلَوْ أَكَلَ جَمِيعَهَا وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ وَكَانَ ضامناً، وفي قدرها يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الْجَائِزِ وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفْوِيتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا ضَمَانُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بَعْدَ التَّفْوِيتِ. وَالْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ النِّصْفُ، أَوِ الثُّلُثُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِتَقْدِيرِهِ نَصًّا بِالسُّنَّةِ وَاسْتِوَاءِ حكمها في ظاهر الآية، والأول أقيس والله أعلم. فصل : ويتسحب أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ نَحْرَ هَدْيِهِ بِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاقَ فِي حَجِّهِ مِائَةَ بدنةٍ فَكَانَ سُهَيْلُ بن عمر يُقَدِّمُ الْبُدْنَ بَيْنَ يَدِهِ حَتَّى نَحَرَ مِنْهَا بِيَدِهِ سِتَّةً وَسِتِّينَ بَدَنَةً، وَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَحَرَ الْبَاقِيَ، فَإِنْ ضَعُفَ الْمُهْدِي عَنْ نَحْرِ هَدْيِهِ بِنَفْسِهِ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَنَابَ عَلِيًّا فِي نَحْرِ مَا بَقِيَ، وَيَحْضُرُ نَحْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَعْضِ نِسَائِهِ: " احْضُرِي نَسِيكَتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ هَدْيِهِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الطَّوَافِ وَالْإِفَاضَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر عليا بذلك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ فقط ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْحَجِّ إِحْلَالَيْنِ يَسْتَبِيحُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا بَعْضَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَيَسْتَبِيحُ بِالثَّانِي جَمِيعَهَا، وَفِي الْعُمْرَةِ إِحْلَالٌ وَاحِدٌ يَسْتَبِيحُ بِهِ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْحَجِّ، وَأَقَلُّ عَمَلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّ الْحَاجَّ يَفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: الرَّمْيُ، وَالنَّحْرُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ أَحْكَامِهَا، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِحْلَالَيْنِ، فَالرَّمْيُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَنَحْرُ الْهَدْيِ لَيْسَ بِنُسُكٍ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْحَلْقِ قَوْلَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبَانَةِ الْإِحْلَالَيْنِ وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَالْإِحْلَالُ الثَّانِي يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ: الرَّمْيِ، وَالطَّوَافِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ السَّعْيُ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَعَى بَعْدَ عَرَفَةَ لَزِمَهُ السعي مع هذا وَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَ السَّعْيِ، فَإِذَا فَعَلَ السَّعْيَ والطواف فقد حل إحلال الثَّانِي، وَيَكُونُ إِحْلَالُهُ بِالْأَوَّلِ بِأَحَدِهِمَا إِمَّا بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ أَوْ بِالطَّوَافِ وَحْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ به فالإحلال الثاني أن يكون بثلاث أَشْيَاءَ، بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ فَإِذَا فَعَلَهَا فَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي وَيَكُونُ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْهَا إِمَّا بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ أَوْ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ، أو بالرمي والطواف. فصل : فإذ وَضَحَ حُكْمُ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي انْتُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَالْإِحْلَالِ الثَّانِي. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ الطِّيبُ، وَاللِّبَاسُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْلِيمُ وَالتَّرْجِيلُ، وَوَطْءُ النِّسَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُنَّ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ، وَتَغْطِيَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِحْرَامُ مِنْ رَأْسِ الرَّجُلِ وَوَجْهِ الْمَرْأَةِ فَإِذَا أَحَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي اسْتَبَاحَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَأَمَّا إِذَا أَحَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يستبيح منها خمسة أشياء قولاً واحداً وهو اللِّبَاسُ وَالْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ وَالتَّرْجِيلُ وَتَغْطِيَةُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِحْرَامُ وَيَسْتَدِيمُ حَظْرُ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَوْلًا واحداً هما الْوَطْءُ وَالْمُبَاشَرَةُ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الطِّيبُ، وَالنِّكَاحُ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَدَامَةُ الْحَظْرِ كَالْوَطْءِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ كَالْحَلْقِ وَاللِّبَاسِ لقوله عليه السلام: " فإذا رميتم وحلقتم حَلَّ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الطِّيبَ مُبَاحٌ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَأَنَّ مَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَاهُ عن مالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ وَمَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الثَّانِي، وَمَا يَسْتَبِيحُهُ بِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ، وَمَا يَسْتَبِيحُهُ بِالْإِحْلَالِ الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا مُقَرَّرًا لَمْ يَقَعِ التَّحَلُّلُ بِدُخُولِ زَمَانِ التَّحَلُّلِ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَحِلُّ بِدُخُولِ الزَّمَانِ دُونَ الْفِعْلِ فَإِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ بِزَمَانٍ حَلَقَ وَرَمَى فَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَلَمْ يَحْلِقْ، اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ عِبَادَتَانِ مُتَشَابِهَتَانِ لِتَعَلُّقِ الْكَفَّارَةِ بِهِمَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ صَوْمِهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الْفِطْرِ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لما تحلل من إحرامه بسنوات زَمَانِ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِدُخُولِ زَمَانِ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وذلك دخول نصف الليل من في لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ التَّحَلُّلِ وَلِأَنَّ لِلْحَجِّ إِحْلَالَيْنِ أَوَّلٌ وَثَانٍ فَلَمَّا لَمْ يَتَحَلَّلْ إِحْلَالَهُ الثَّانِيَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ، كَانَ فِي الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى حَالَ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ بِدُخُولِ وَقْتِهِ، فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْفِطْرِ مِنَ الصَّوْمِ فَفَاسِدٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي جَمْعُهُ صَحِيحٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي نَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الصَّوْمِ يَكُونُ مُفْطِرًا، لِخُرُوجِ زَمَانِهِ وَكَذَا فِي الرَّمْيِ يَكُونُ مُحِلًّا؛ لِفَوَاتِ زَمَانِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُحِلًّا بِدُخُولِ زَمَانِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّوْمِ مُفْطِرًا بِدُخُولِ زَمَانِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ مُتَحَلِّلًا بِفَوَاتِ زَمَانِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَلِّلًا بِدُخُولِ زَمَانِهِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعَنًى جَامِعٌ، ثُمَّ هُوَ بِالصَّوْمِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنْهُ بِفَوَاتِ زَمَانِهِ، وَلَا يَكُونُ داخلاً فيه بدخول زمانه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِأَوَّلِ حصاةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ وَعُمَرُ وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد لم يزالوا يلبون حتى رموا الجمرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي مِنْ حِينِ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فَحِينَئِذٍ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ وَيَأْخُذُ فِي التَّكْبِيرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا حَصَلَ بِمِنًى، وَأَخَذَ فِي التَّوَجُّهِ مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ، وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة؛ ولأنه قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 رَمْيِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا أَخَذَ فِي الرَّمْيِ كَانَ آخِذًا فِي التَّحَلُّلِ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ لِتَلْبِيَةِ إِحْرَامِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي التَّحَلُّلِ من إحرامه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَطَيَّبُ لِحِلِّهِ إِنْ شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بالبيت لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تطيب لحله قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التطيب بَعْدَ الْإِحْلَالِ الثَّانِي فَمُبَاحٌ، وَقِيلَ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ فمحظور، فأما بعد الأول وقيل الثَّانِي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ مُبَاحٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ "، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ كَالْمُبَاشَرَةِ، فَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ: جَوَازُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ أَخَفُّ حالاً من اللباس؛ لأن استدامة الطيب بعد الإحلال جَائِزٌ، وَاسْتِدَامَةُ اللِّبَاسِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمَّا اسْتَبَاحَ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ حَالًا كَانَ اسْتِبَاحَتُهُ أخفهما أولى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الرَّمْيَ وَالنَّحْرَ وَالتَّعْجِيلَ لِمَنْ أَرَادَهُ فِي يومين بعد النحر ". قال الماوردي: فقد ذَكَرْنَا أَنَّ خُطَبَ الْحَجِّ أَرْبَعٌ، مَضَى مِنْهَا خُطْبَتَانِ وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ وَهِيَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِمْ، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، وَقَالَ أبو حنيفة: هَذِهِ الْخُطْبَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ فَلَا يَخْطُبُهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جَامِعٍ "، وَلَيْسَتْ مِنًى مِصْرًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْطُبَ بِيَوْمِ النَّحْرِ فِيهَا، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَالْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَى وَقَالَ: مَا يَوْمُكُمْ هَذَا؟ قَالُوا يَوْمُ النَّحْرِ الْأَكْبَرِ. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ شُرِعَ فِيهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ طواف، فَوَجَبَ أَنْ تُشْرَعَ فِيهِ الْخُطْبَةُ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا سُنَّتِ الْخُطْبَةُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ بِذَلِكَ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا مَسْنُونَةٌ فِي غَيْرِ الْحَجِّ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ فَلَيْسَتْ هَذِهِ خُطْبَةَ عِيدٍ وَإِنَّمَا هِيَ خُطْبَةُ حَجٍّ فَجَازَتْ فِي غير مصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ أَوْ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ أَوْ قَدَّمَ الْإِفَاضَةَ عَلَى الرَّمْيِ أَوْ قَدَّمَ نُسَكًا قَبْلَ نسكٍ مِمَّا يُفْعَلُ يَوْمَ النَحْرِ فَلَا حَرَجَ وَلَا فِدْيَةَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما سئل يومئذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قال " افعل ولا حرج ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي يَوْمِ النحر بِالرَّمْيِ ثُمَّ بِالنَّحْرِ ثُمَّ بِالْحَلْقِ ثُمَّ بِالطَّوَافِ لترتيب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ، فَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْفَرْضِ وَهِيَ الْإِفَاضَةُ وَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ النَسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا بِمِنًى وَهِيَ الرَّمْيُ وَالنَّحْرُ وَالْحِلَاقُ، وَالرَّابِعَةُ بِمَكَّةَ وَهِيَ الطَّوَافُ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، أَيِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ يَعْنِي حِينَ يَصْدُرُ النَّاسُ مِنْ مِنًى، وَيُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِزِيَارَتِهِمُ الْبَيْتَ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ لَهُ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ مَفْرُوضٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوْفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 29) ، وَلِرِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِنًى وَذَبَحَ أَفَاضَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ طَلَبَ الْخُلْوَةَ مَعَ صَفِيَّةَ فَقِيلَ: إِنَهَا حَائِضٌ، فَقَالَ: عَقْرَى حَلْقَي أَلَا حَبَسَتْنَا فَلَوْلَا أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لَمْ تَكُنْ حَابِسَةً لَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ رُكْنٌ وَاجِبٌ فَأَوَّلُ زَمَانِ فِعْلِهِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَهَارِ التَّحَلُّلِ، وَوَقْتُهُ فِي الِاخْتِيَارِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ من يوم لنحر، فَإِذَا طَافَ وَسَعَى نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَاسْتَبَاحَ جَمِيعَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يكن سعي قبل عرفة سعي بعده وكان على إحرامه، ولا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ الْإِحْلَالَ الثَّانِيَ حَتَّى يَسْعَى سَبْعًا بَعْدَ طَوَافِهِ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ حَجِّهِ إِلَّا رَمْيُ أَيَّامِ مِنًى، وَالْمَبِيتُ بِهَا، فَإِنْ أَخَّرَ الطَّوَافَ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَسَاءَ إِذَا كَانَ تَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ لَمْ يَطُفْ حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يعود فيطوف، فإذا طاف قد حَلَّ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ كَانَ عَنْ فَرْضِهِ، وَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ إِحْرَامِهِ وَأَجْزَأَهُ، لِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ مِنْ جِنْسِهَا انْصَرَفَتْ إِلَى مَفْرُوضِهَا وَعَلَيْهِ دَمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَأْخِيرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْمَسْنُونَ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهُ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 كِلَا الْوَقْتَيْنِ مُسْقِطٌ لِغَرَضِ الطَّوَافِ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ الْمُخْتَارِ إِلَى وَقْتٍ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ بِتَأْخِيرِهِ قِيَاسًا عَلَى تَأْخِيرِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ من زمان النهار إلى زمان الليل. مسألة: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى سِقَايَةَ الْعَبَّاسِ بَعْدَ إِفَاضَةٍ فَشَرِبَ مِنْ شَرَابِهَا وَكَانَ طَاوُسٌ يَقُولُ: شَرِبَ ذَلِكَ بَعْدَ الِإِفَاضَةِ مَنْ تَمَامِ الْحَّجِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّ تَرْكَهُ تَارِكٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَرَكَ مَحْبُوبًا لَا فَرْضًا، ثُمَّ يَدْخُلُ إِلَى زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْهَا ثَلَاثَ جُرَعٍ وَيَغْسِلُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ لِمَا رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَنُقِلَ مِنَ الْآثَارِ فَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ". قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِنْ شَرِبْتَهُ تُرِيدُ بِهِ الشِّفَاءَ شفاك الله، وإن شربته للظماء أَرْقَاكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِجُوعٍ أَشْبَعَكَ اللَّهُ وهي هزمة جبريل والهزمة العمرة بِالْعَقِبِ فِي الْأَرْضِ. وَرَوَى حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: مَا كَانَ لَنَا طَعَامٌ إِلَّا مَاءَ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخُفَةَ جوعٍ، فَقَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ ". وَرَوَى خَالِدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُتَضَلِّعُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بَرَاءَةٌ مَنَ النِّفَاقِ " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ بِئْرٍ فِي الْأَرْضِ بِئْرُ زَمْزَمَ وَشَرُّ بِئْرٍ مِنَ الْأَرْضِ بِئْرٌ بِحَضْرَمَوْتَ " فَقَالَ: " إِنَّ فِيهَا أَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلُّوا فِي مُصَلَّى الْأَخْيَارِ، وَاشْرَبُوا شَرَابَ الْأَبْرَارِ، قِيلَ: وَمَا مُصَلَى الْأَخْيَارِ، فَقَالَ: تَحْتَ الْمِيزَابِ، قِيلَ: وَمَا شَرَابُ الْأَبْرَارِ، قَالَ: زَمْزَمَ، وَيُخْتَارُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا شَرِبْتَ مَاءَ زَمْزَمَ فَاسْتَقْبِلِ الْبَيْتَ، وَقُلِ اللَّهُمَّ إني أسألك علماً نافاً وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يَرْمِي أَيَّامَ مِنًى الثَّلَاثَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ الْجَمْرَةَ الْأَوْلَى بِسَبْعِ حصياتٍ وَالثَّانِيَةَ بسبعٍ وَالثَّالِثَةَ بسبعٍ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِنَّ آخَرَ مَا يَفْعَلُهُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَقَدْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِيَ مِنْ حَجِّهِ إِلَى الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ وَالْمَبِيتِ بِهَا فَيَرْمِي فِي أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثَةِ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ فَإِنَّ ذَلِكَ نُسُكٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ الْحَادِيَ عشر والثاني عشر والثالث عشر في تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِشْرَاقِهَا نَهَارًا بِنُورِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِهَا لَيْلًا بِنُورِ الْقَمَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يُشَرِّقُونَ اللَّحْمَ فِيهَا فِي الشَّمْسِ. قَالَ الْأَخْطَلُ: (وبالهدايا إِذَا احْمَرَّتْ مَدَارِعُهَا ... فِي يَوْمِ ذَبْحٍ وَتَشْرِيقٍ وَتَنْحَارِ) وَقَدْ سُمِّيَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمَ الْقَرِّ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرْطٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْقَرِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ فِي تَعَبٍ مِنَ الْحَجِّ فَإِذَا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قَرُّوا بِمِنًى فَلِهَذَا سُمِّيَ يَوْمَ الْقَرِّ وَيُسَمَّى الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمَ النقر الْأَوَّلِ وَيُسَمَّى الْيَوْمُ الثَّالِثُ يَوْمَ الْخَلَاءِ لِأَنَّ منى تخلوا فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا فَرَغَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ طَوَافِهِ عَادَ إِلَى مِنًى فَبَاتَ بِهَا فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى مِنَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً فِي كُلِّ جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعٍ، وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَيَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ أبو حنيفة لَا يُجْزِئُهُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ وَيُجْزِئُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْبَابًا لَا قِيَاسًا وَدَلِيلُنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَكَانَ يَرْمِي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ جَمْرَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ بَعْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَوِيلًا وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفُ وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَمَى جَمْرَةَ يَوْمِ النَّحْرِ ضُحًى وَسَائِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَا يُجْزِئُهُ فَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي عَلَى مُزْدَلِفَةَ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ وَهِيَ الْقُصْوَى مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ الَّتِي تليها وهي الوسطى ثم جمرة العقبة هي الدُّنْيَا إِلَى مَكَّةَ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ أَجْزَأَهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 والدلالة عليهم حديث عائشة المتقدم، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَتَكَرَّرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ مُعَيَّنًا كَالطَّوَافِ. فَأَمَّا صِفَةُ الرَّمْيِ فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى، فَيَعْلُوهَا عُلُوًّا وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حتى يرى مَا تَحْتَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُهَا في قفاه ويقف في الموضع الَّذِي لَا يَنَالُهُ مَا تَطَايَرَ مِنَ الْحَصَى ثُمَّ يَقِفُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَ " ثُمَّ يَأْتِي بِالْجَمْرَةِ الْوُسْطَى وَهِيَ الثَّانِيَةُ فيعلوها علواً يرميها بسبع حصيات ويضع كَمَا صَنَعَ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الثَّالِثَةُ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَلَا يَعْلُوهَا كَمَا فِي الجمرتين قبلها لأنها على أكمه لَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ كُلَّهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ ثُمَّ السَّلَفُ بَعْدَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا يَصْنَعُ عِنْدَهَا كَمَا صَنَعَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ رَمْيِهِ فَإِنْ رَمَى بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَجْزَأَهُ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ لَمْ يَفْتَدِ ثُمَّ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَذَلِكَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَتِهَا جَمْرَةً فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّمَا سُمِّيَتْ جَمْرَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّجْمِيرِ يَعْنِي: اجْتِمَاعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْغَرَوَاتِ وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ هُنَاكَ فَحَصَّهُ جَمَرَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَيْ: أَسْرَعَ وَالْإِجْمَارُ الْإِسْرَاعُ. وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَجْمُرُ بِالْحَصَى وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَصَى الصغار جماراً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ رَمَى بِحَصَاتَيْنِ أَوْ ثلاثٍ فِي مرةٍ واحدةٍ فهن كواحدةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمَقْصُودُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ شَيْئَانِ أَعْدَادُ الْحَصَى وَأَعْدَادُ الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ فَإِنْ رَمَى بِهِنَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً قَامَ مَقَامَ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ السَّبْعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الِاعْتِبَارُ بِأَعْدَادِ الْحَصَى فَإِنْ رَمَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَقْصُودُ أَعْدَادُ التَّكْبِيرِ وَالْحَصَى دُونَ الرَّمْيِ فَإِذَا رَمَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً أَجْزَأَهُ إِذَا كَبَّرَ سَبْعًا وَإِنْ لَمْ يُكَبِّرْ سَبْعًا لَمْ يُجْزِهِ. والدلالة عَلَيْهَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْمِي فِي كُلِّ جمرةٍ بِسَبْعِ حصياتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ " وَكَانَ تَكْبِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ رَمَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ فَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وَعَطَاءٍ، فَإِنْ قِيلَ الرَّمْيُ كَالْحَدِّ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ ثُمَّ لَوْ ضُرِبَ بِمِائَةِ سَوْطٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ كَضَرْبِهِ مِائَةَ سَوْطٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ كرميه سبع حَصَيَاتٍ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدَّ عِبَادَةٌ وجبت على المحدود. قد وصل إلى بدنه ضرب مائة فكان وصول مائة سوط دفعة واحدة كوصول الصوت الْوَاحِدِ مِائَةَ دَفْعَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى بَدَنِهِ ضَرْبُ مِائَةٍ وَالرَّمْيُ عِبَادَةٌ عَلَى الرَّامِي وَلَيْسَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَرَمْيِهِ بِسَبْعِ دَفْعَاتٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبْعُ رَمْيَاتٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَعْدَادَ الرَّمْيِ مَقْصُودٌ وَأَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ فَرَمَى فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَرَمَى فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ حَصَاةً بَعْدَ حَصَاةٍ كَانَ رَمْيُهُ بِالسَّبْعِ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى كَرَمْيِهِ بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ فَيُكْمِلُ رَمْيَ الْأُولَى بِسِتِّ حَصَيَاتٍ لِيُكْمِلَ سَبْعًا وَيَسْتَأْنِفَ رَمْيَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِيَكُونَ مُرَتَّبًا وَلَوْ رَمَى في الأولى سبع مرات وَرَمَى فِي الثَّانِيَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ اعْتَدَّ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَبِحَصَاةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ وَكَمَّلَهَا سَبْعًا بِسِتِّ رَمْيَاتٍ وَاسْتَأْنَفَ رَمْيَ الثَّالِثَةِ وَلَوْ رَمَى فِي الْأُولَى سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي الثَّالِثَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ اعْتَدَّ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَحَصَاةٍ مِنَ الثَّالِثَةِ وَكَمَّلَهَا سَبْعًا بِسِتِّ رَمْيَاتٍ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ رَمَى فِي أَحَدِ الْجَمَرَاتِ بِالسَّبْعِ دَفْعَةً وَلَيْسَ يُعَرِّفُهَا حَسَبَهَا الْأُولَى تَغْلِيظًا وَكَمَّلَ رَمْيَهَا وَاسْتَأْنَفَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَعَادَ فَرَمَى حَصَاةً مِنْ تِلْكَ الْجَمْرَةِ لِيُكْمِلَ سَبْعًا وَاسْتَأْنَفَ مَا يليها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَسِيَ مِنَ الْيَوْمِ الْأُوَلِ شَيْئًا مِنَ الرَّمْيِ رَمَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَا نَسِيَهُ فِي الثَّانِي رَمَاهُ فِي الثَالِثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَرَكَهُ مِنْ رَمْيِ أَيَّامِ مِنًى ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يحل حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تنقضي أيام منى أو لا تنقضي فإذا انْقَضَتْ أَيَّامُ مِنًى لَمْ يَقْضِ رَمْيَ مَا تَرَكَهُ لَا يَخْتَلِفُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ تركه عامداً أو ناسياً، لأن المناسك الموقتة لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ أَوْقَاتِهَا كَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَلَيَالِي مِنًى لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ أَيَّامُ مِنًى كَأَنَّهُ تَرَكَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَهَلْ يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ يَقْضِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: وَتَكُونُ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا زَمَانًا لِلرَّمْيِ لَا يَفُوتُ الرَّمْيُ فِيهَا إِلَّا بِخُرُوجِ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَخَّصَ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ وَأَهَّلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ أَنْ يَدَعُوا رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَيَقْضُوهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِهَا وَاحِدٌ وَأَنَّهَا زَمَانٌ لِلرَّمْيِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 جَمِيعُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقْتًا لِنَحْرِ الْأَضَاحِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا وَقْتًا لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يَقْضِي وَيَكُونُ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمُ نَفْسِهِ بِفَوْتِ الرَّمْيِ فِيهِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ مِنًى مُؤَقَّتٌ فَلَوْ كَانَ جَمِيعُهَا وَقْتًا لِرَمْيِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَجَازَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهَا وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَقْتًا لِرَمْيِ جَمِيعِهَا إِجْمَاعًا لَمْ يَكُنِ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ وَقْتًا لِرَمْيِ جَمِيعِهَا حُجَّاجًا وَلَيْسَ تَرْكُ ذَلِكَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ إِذَا تَرَكَ الرَّمْيَ فِيهِ حَتَّى دَخَلَتْ أَيَّامُ مِنًى فَإِنْ قِيلَ إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى حُكْمُ نَفْسِهِ وَأَنَّ مَا تَرَكَ مِنَ الرَّمْيِ فِيهِ لَا يَقْضِيهِ فِي غَدِهِ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ أَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَلَا يَقْضِيَ مَا تَرَكَ مِنْ رَمْيِهِ فِي غَدِهِ وَيَكُونُ وَقْتُهُ مُحَدَّدًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِيهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كُلَّهَا زَمَانُ الرَّمْيِ وَأَنَّ مَا تُرِكَ مِنَ الرَّمْيِ مِنْهَا قَضَاهُ فيما بقي منها، وكان فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْضِي فِي أَيَّامِ مِنًى وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَيَّامِ الْأَرْبَعَةِ واحد، لِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ وَاحِدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ رَمْيَ يَوْمَ النَّحْرِ لَا يُقْضَى فِي أَيَّامِ مِنًى وَإِنِ اسْتَوَى حُكْمُ أَيَّامِ مِنًى لِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ مِنًى فِي عَدَدِهِ وَوَقْتِهِ وَحُكْمِهِ وَرَمِيُ أَيَّامِ مِنًى مُتَّفِقٌ فِي عَدَدِهِ وَحُكْمِهِ وَوَقْتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَهُ ذَلِكَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التشريق ويرتب عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ إِذَا رَمَى الرُّعَاءُ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَصْدُرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى فِي لَيْلَتِهِمْ وَيَدَعُوا الرَّمْيَ مِنَ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ يَأْتُوا مِنْ بَعْدِ الْغِدِ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الْمَاضِي ثُمَّ يعودوا فَيَسْتَأْنِفُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ إِذَا رَجَمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَيَتْرُكُوا رَمْيَ الْغَدِ وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ ثُمَّ يَقْضُونَهُ فِي الثاني عشر فإذا لَمْ يَقْضُوهُ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ عَادُوا فِي الثالث عشر وهو آخر الأيام فيرموا فِيهِ عَنْ جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ فِي الرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ فَأَمَّا الرُّعَاةُ فَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لَهُمْ رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَتَعَاقَبُوا فَيَرْمُوا يَوْمَ النَحْرِ ثُمَّ يَدَعُوا يَوْمًا وليلةٍ ثُمَّ يَرْمُوا مَنِ الْغَدِ. وَقَوْلُهُ: يَتَعَاقَبُوا: أَيْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا وَلِأَنَّ عَلَى الرُّعَاةِ رَعْيَ الْإِبِلِ وَحِفْظَهَا لِتَشَاغُلِ النَّاسِ بِنُسُكِهِمْ عَنْهَا وَلَا يُمْكِنْهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ رَعْيِهَا وَبَيْنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى فَيَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ لِأَجْلِ الْعُذْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وَأَمَّا أَهْلُ السِّقَايَةِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لَهُمْ رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ وَلِأَنَّ أَهْلَ السِّقَايَةِ مُتَشَاغِلُونَ بِإِصْلَاحِ الشَّرَابِ وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ لِيَرْتَوِيَ النَّاسُ مِنْهُ وَيَرْتَقِفُوا بِهِ فَكَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَأْخِيرِهِمْ فَرَخَّصَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَصْلٌ : وَأَمَّا غَيْرُ الرُّعَاةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ الْغَالِبَةُ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى وَالْمُقِيمُ بِمَكَّةَ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ أَنَّهُمْ كَالرُّعَاةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى وَتَأْخِيرُ الرَّمْيِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمْ لِاسْتِوَائِهِمْ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ فِي التَّأْخِيرِ بِالْعُذْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إِنَّ الرُّعَاةَ وَأَهْلَ السِّقَايَةِ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالرُّخْصَةِ وَمَا يَعُودُ بِتَأْخِيرِهِمْ مِنَ الرِّفْقِ وَالْمَعُونَةِ فَبَايَنُوا غَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثبت لِلرُّعَاةِ وَأَهِلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَصْدُرُوا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى فَإِنْ لَمْ يَصْدُرُوا مِنْهَا نَهَارًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَى الرُّعَاةِ الْمَبِيتُ بِهَا وَكَانَ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَصْدُرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِهَا؛ لِأَنَّ عُذْرَ الرُّعَاةِ رَعْيُ الْإِبِلِ وَالرَّعْيُ يَكُونُ نَهَارًا وَلَا يَكُونُ لَيْلًا فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ عُذْرُهُمْ إِصْلَاحُ الشَّرَابِ وَاسْتِقَاءُ الْمَاءِ وَذَلِكَ يَكُونُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَجَازَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِوُجُودِ عُذْرِهِمْ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويخطب الْإِمَامُ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَيُوَدِّعُ الْحَاجَّ وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّعْجِيلَ فَذَلِكَ لَهُ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا حَجَّهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُطَبَ الْحَجِّ أَرْبَعٌ فَالْخُطْبَةُ الْأُولَى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ وَالْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ وَالْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى وَالْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ وهي هذه الْخُطْبَةُ يَخْطُبُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَيْسَتْ هَذِهِ الْخُطْبَةُ سُّنَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الظُّهْرِ بمنى فإذا خطب عليهم أعلمهم أن يؤمهم هَذَا يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَمَنْ نَفَرَ مِنْهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ وَمَنْ أَقَامَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ رَمْيُ الْغَدِ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا حَجَّتَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْحَجِّ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ فَرَجَعَ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ". وَرَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جزاءُ إِلَّا الْجَنَّةُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بِرُّ الْحَجِّ قَالَ: طِيبُ الْكَلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ". وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مِنْ عَلَامَةِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ بَعْدَ حَجِّهِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهُ "، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَعَجَّلَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَتَعَجَّلَ النَّفْرَ جاز وإن أراد أن ينفر في النفر الثَّانِي خَطَبَ وَأَقَامَ وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ لِأَنَّهَا آخِرُ الْخُطَبِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا نَفَرَ بَعْدَهَا فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَكَانَ مُوَدِّعًا بِهَا وَلَوْ تَرَكَهَا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ حَتَّى يُمْسِيَ رَمَى مَنِ الْغَدِ فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ انْقَضَتْ أَيَّامُ مِنًى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى فِي لَيَالِي التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ وَالرَّمْيُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ نُسُكٌ وَالنَّفْرُ مِنْ مِنًى نَفْرَانِ فَالنَّفْرُ الأولى فِي الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ وَالنَّفْرُ الثَّانِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ فَإِنْ نَفَرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيْلَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْجِمَارِ مِنْ غَدِهِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قال تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعْدُودات) {البقرة: 203) يَعْنِي: أَيَّامَ مِنًى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ) {البقرة: 203) . وَرَوَى بُكَيْرُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْحَجُّ عَرَفَاتٌ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أدرك الحج، أيام منى ثلاثةٌ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ". فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّعْجِيلِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَالْمُقَامُ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَتَعَجَّلْ وَأَقَامَ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ وَالْمُقَامَ كَمَالٌ، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ قَدْ تَرَفَّهَ بِتَرْكِ بَعْضِ الأعمال والمقيم لم يتركه. فأما الأيام فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يُقِيمُ إِلَى النَّفْرِ الْأَخِيرِ لِيُقِيمَ النَّاسُ مَعَهُ وَيَقْتَدُوا بِهِ فإن تعجل فلا إثم عليه؛ لأنها فِي الْإِبَاحَةِ كَغَيْرِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا وَقْتُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ بَعْدِ رَمْيِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى قَبْلِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ وَالْأَوْلَى إِذَا رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَهِيَ السُّنَّةُ وَيَرْمِي رَاكِبًا لِأَنَّهُ يَصِلُ رميه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 بِالنَّفْرِ كَمَا يَرْمِي رَاكِبًا يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّهُ يَصِلُ رَمْيَهُ بِالْإِفَاضَةِ بِالطَّوَافِ وَيَرْمِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ نَازِلًا لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِمِنًى وَكَيْفَ رَمَى أَجْزَأَهُ وَأَيُّ وَقْتٍ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ وَيَكُونُ قَدْ رمى تسعة وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً سَبْعَةً فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ يَوْمَ الثَّانِيَ عَشَرَ وَذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَرْمِيهِ الْحَاجُّ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَصَى الْجِمَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِنْ شَاءَ أَلْقَاهُ وَإِنْ شَاءَ دَفَنَهُ فَلَيْسَ فِي دَفْنِهِ نُسُكٌ وَلَا فِي إِلْقَائِهِ كَرَاهَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَجَّلِ النَّفْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِمِنًى وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ فِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً لِيُكْمِلَ رَمْيَهُ سَبْعِينَ حَصَاةً وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَرْمِيهِ الْحَاجُّ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ مَا قَبْلَهُ فِي الْحَجِّ كَلَيْلَةِ عَرَفَةَ وَلَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْجِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْيَوْمِ وَخُرُوجُ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفْرَ نَفْرَانِ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ لَيْلَةِ عَرَفَةَ فَلَيْسَتْ تَبَعًا وَإِنَّمَا هِيَ وَيَوْمُ عَرَفَةَ فيه سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ التَّعْجِيلِ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ فَلَوْ رَكِبَ بِمِنًى وَسَارَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُدُودِ مِنًى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ فِي الْغَدِ، لِأَنَّ النَّفْرَ مِنْهَا لَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِمُفَارَقَتِهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ النَّفْرِ وَسَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْغَدِ سَوَاءٌ عَادَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلَوْ فَارَقَهَا مُتَعَجِّلًا لِلنَّفْرِ مِنْهَا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيُدْرِكَ رَمْيَ الْجِمَارِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى وَرَمْيُ مَا تَرَكَ مِنَ الْحَصَى لِوُجُوبِ الرَّمْيِ وَبَقَاءِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْفِرُ مِنْهَا إِنْ لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهَا فَإِنْ غَرَبَتْ وَهُوَ بِهَا لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى لِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْفِدْيَةُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَلَمْ يُعِدِ الرَّمْيَ لِخُرُوجِ وَقْتِهِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كُلَّهَا زَمَانٌ لِلرَّمْيِ وَأَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ لَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ مَا تَرَكَ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا نُزُولُ الْمُحَصَّبِ بَعْدَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى فَلَيْسَ بِنُسُكٍ وَلَا سُنَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْزِلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 اسْتِرَاحَةٍ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وأبي حنيفة وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْصِبُونَ وَيَقُولُونَ إِنَّ التَّحَصُّبَ سُنَّةٌ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصَّبَ بَعْدَ الزَّوَالِ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ فَيُقِيمُ هُنَاكَ حَتَّى يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وعشاء الآخر ثُمَّ يَنْصَرِفُ مِنَ الْمُحَصَّبِ إِلَى مَكَّةَ أَوْ حيث شاء استدلالاً برواية قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا وَبِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " التَّحْصِيبُ سُنَّةٌ ". وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ لرواية أَبِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا الْإِنَاخَةُ بِالْمُحَصَّبِ سُنَّةٌ. إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انتظر عائشة حتى تأتي وابن عباس اخْتِصَاصِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَجِّهِ مَعَهُ أَعْرَفُ بِبَاطِنِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَنَا ضَرَبْتُ قُبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِالْمُحَصَّبِ فَجَاءَ فَنَزَلَ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ عَلَى ثِقْلِهِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ فَيَحُضُّ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ لِمَا حَكَيْنَا عَنِ السَّلَفِ وَالْمُحَصَّبُ وَهُوَ خيف بني كنانة وحده من الحجون ذهاباً وهو ما بين الجبل الذي عند المقبرة إلى الجبل الذي يقابله مصعداً في الشق الأيسر، وَلَيْسَتِ الْمَقْبَرَةُ مِنَ الْمُحَصَّبِ إِلَى حَائِطٍ حَرَمًا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَلْتَوِي عَلَى شِعْبِ الْجُودِ، وسمي المحصب لأنه حصى جمرة العقبة تسيل إليه وقيل سمي بذلك لأنه موضع كثير الحصاء والحصباء. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْحَجِّ بِعَرَفَةَ ومنى فَجَائِزٌ مُبَاحٌ وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمِجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ، أَسْوَاقَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْحَجِّ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) {البقرة: 198) فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَا يَقْرَآنِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ بِلَا زَادٍ وَإِظْهَارُ التَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى مَسْأَلَةِ الناس فمكروه فروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَسْأَلُونَ النَاسَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) {البقرة: 198) . مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فإن تدارك عليه رميان في أيام منى ابْتَدَأَ الْأَوَّلَ حَتَى يُكْمِلَ ثُمَّ عَادَ فَابْتَدَأَ الْآخَرَ وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَرْمِيَ بِأَرْبَعَ عَشَرَةَ حصاةٍ فِي مقامٍ واحدٍ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيُ يَوْمَيْنِ كَالرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ إِذَا تَرَكُوا رَمْيَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَأَرَادُوا الرَّمْيَ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ وَكَمَنَ تَرَكَ الرَّمْيَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ وَجَوَّزْنَا لَهُ الْقَضَاءَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ أَوْ تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ رَمْيَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَيُرِيدُ الْقَضَاءَ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ فَيَبْدَأَ بِرَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَرْمِي الْيَوْمَ الثَّانِيَ ثُمَّ يَرْمِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ لِيَكُونَ مُرَتَّبًا كَرَمْيِهِ فِي أَيَّامِهِ وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْأُمِّ: إِنَّهُ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي هَلْ يَكُونُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَكُونُ أَدَاءً فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ كَصَلَاتَيِ الْجَمْعِ لَمَّا كَانَتَا إذا وجب الترتيب، وَالثَّانِي: فِيهِمَا يَكُونُ قَضَاءً فَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبُ مُسْتَحَبٌّ وَغَيْرُ وَاجِبٍ كَالصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ لَمَّا كَانَتْ قَضَاءً لَمْ يَجِبِ التَّرْتِيبُ فِيهَا فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي لِأَنَّ التَّرْتِيبَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي أَحَدِ مَوْضِعَيْنِ إِمَّا بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كَالْجِمَارِ الثَّلَاثِ وَكَالْأَعْضَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَرَمْيُ الْيَوْمَيْنِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ؛ لِأَنَّ رَمْيَ الْأَوَّلِ كَرَمْيِ الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَكُونُ وَاجِبًا فِيمَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهِ فَيَصِيرُ كَالْمُخْتَلِفِ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ فِيهِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَفْتَقِرُ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا إِلَى نِيَّةٍ بَلْ إِذَا وَجَبَ الْفِعْلُ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ أَجْزَأَهُ عَنِ الْفَرْضِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا ابتدأه فَرَمَى عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ عَنِ الْيَوْمِ الأول أجزأه عنها جَمِيعًا وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ فَخَالَفَ فَرَمَى عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يُجْزِهِ الرَّمْيُ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي لِمُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ وَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ وَضَعَ قَصْدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يُجْزِئُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَلَا أَعْرِفُ لِلْأَوَّلِ وَجْهًا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَلَيْسَ وُجُودُ مَا قَبْلَهُ مِنَ الرَّمْيِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى عابثاً، ولأن ترتيب الأيام في هَذَا الْقَوْلِ وَاجِبٌ كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ نَكَسَ رَمْيَ الْجِمَارِ اعْتَدَّ لَهُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ إِذَا نَكَسَ رَمْيَ الْأَيَّامِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ لَهُ بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا رَمَى فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً فهذا على ضربين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ بِهَا عَنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِجَمْرَتَيْنِ كَأَنَّهُ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ ثُمَّ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ عَنِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مِنْ رَمْيِ يَوْمِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ السَّبْعُ عَنِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى؛ وَلَا يُجْزِئُهُ السَّبْعُ عَنِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى لِرَمْيِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 والضرب الثاني: أن يرمي بها لِجَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ يَوْمَيْنِ كَأَنَّهُ رَمَى فِيهَا بِسَبْعٍ عَنْ أَمْسِهِ ثُمَّ بِسَبْعٍ عَنْ يَوْمِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ السَّبْعُ الَّتِي رَمَاهَا عَنْ أَمْسِهِ وَهَلْ يُجْزِئُهُ السَّبْعُ الَّتِي رَمَاهَا عَنْ يَوْمِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَرْتِيبَ رَمْيِ الْيَوْمَيْنِ وَاجِبٌ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ أَجْزَأَهُ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْزَأَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْجَمْرَةِ عَلَى جِمَارِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كُلِّهَا كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى بَعْضِ جِمَارِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْلَى. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " إن أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ وَتَرَكَ حَصَاةً فَعَلَيْهِ مُدُّ طَعَامٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمسكين فإن كانت حصاتان فمدان لمسكينين وإن كانت ثَلَاثَ حصياتٍ فدمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا تَرَكَهُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى وَخُرُوجُهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيهِ لَا يَخْتَلِفُ وَقَدْ دَلَّلْنَا عليه من قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَرَكَهُ حَصَاةً وَاحِدَةً وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مِنَ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِدْيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ كَالشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا حَلَقَهَا الْمُحْرِمُ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَيْهِ مُدٌّ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَالثَّالِثُ: وَحَكَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَلَيْهِ ثلاث شَاةٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي حَلْقِ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنْ تَرَكَ حَصَاتَيْنِ فَأَحَدُ الْأَقَاوِيلِ عَلَيْهِ مُدَّانِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ. وَالثَّالِثُ: عَلَيْهِ ثُلُثُ شَاةٍ وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَأَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعْرَاتٍ فَصَاعِدًا وَكَذَا لَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْيَوْمِ كُلِّهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ كُلَّهُ فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ رَمْيَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا وَاحِدًا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ أَيَّامَ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عليه ثلاث دماء وهذا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ فَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ وأيام منى الثلاثة ففيه ثلاث مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ دِمَاءٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمَ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَيْهِ دَمَيْنِ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ وَأَيَّامُ مِنًى كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الرَّمْيِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 يُمْكِنْهُ الرَّمْيُ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ بِهِ أَنْ يُنَاوِلَ الْحَصَى لِمَنْ يَرْمِي عَنْهُ لِيَكُونَ لَهُ فِعْلُ الرَّمْيِ فَإِنْ لَمْ يُنَاوِلْهُ حَتَّى رَمَى عَنْهُ أَجْزَأَهُ وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي أَصْلِ الْحَجِّ فَجَوَازُهَا فِي أَبْعَاضِهِ أَوْلَى فَإِنْ رَمَى عَنْهُ ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى أَجْزَأَهُ الرَّمْيُ وَإِنْ صَحَّ فِي أَيَّامِ مِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ مَا بَقِيَ مِنَ الرَّمْيِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ مَا رُمِيَ عَنْهُ لِيَكُونَ مُبَاشِرًا لَهُ فِي وَقْتِهِ وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الرَّمْيِ عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ قَبْلَ إِغْمَائِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَالنِّيَابَةُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ أَذِنَ فِي إِغْمَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَذِنَ قَبْلَ إِغْمَائِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ حِينَ أَذِنَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطِيقًا لِلرَّمْيِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ مُطِيقًا لِلرَّمْيِ لَمْ يُجْزِ الرَّمْيُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُطِيقَ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ حينئذٍ عَاجِزًا عَنِ الرَّمْيِ بِهُجُومِ الْمَرَضِ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِغْمَاءِ أَجْزَأَ الرَّمْيُ عَنْهُ لِفِعْلِهِ عَنْ إِذْنِ مَنْ يَصِحُّ الْإِذْنُ مِنْهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَحْبُوسُ بِحَقٍّ أَوْ غَيْرِ حَقٍّ إِذَا أَذِنَ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ أَجْزَأَهُ إِذَا رُمِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الرَّمْيِ كَالْمَرِيضِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا مَنَعْتُمْ مِنَ الرَّمْيِ عَنِ الْمَحْبُوسِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنَ الحج عن المريض المرجو برءه. قِيلَ لِأَنَّ لِلرَّمْيِ وَقْتًا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ. فَصْلٌ : وَيُخْتَارُ أَنْ يُرْمَى عَنِ الْمَرِيضِ وَالْعَاجِزِ مَنْ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَحُجُّ عَنِ الْعَاجِزِينَ مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ رَمَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ رَمَى عَنِ الْمَرِيضِ أَوَّلًا ثُمَّ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ رَمْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الرَّمْيَيْنِ أَجْزَأَهُ عَنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي رَمَاهُ عَنِ الْمَرِيضِ أَوْ هُوَ الرَّمْيُ الثاني الذي رماه عن نفسه فَأَحَدُ مَذْهَبَيْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ الرَّمْيُ الثَّانِي لِوُجُودِ الْقَصْدِ فِيهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ نُسُكٌ فَفَعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَالطَّوَافِ فَأَمَّا رَمْيُهُ عَنِ الْمَرِيضِ فَهَلْ يُجْزِئُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِي عَنِ الْمَرِيضِ لِأَنَّنَا إِنْ جَعَلْنَا الرَّمْيَ الْأَوَّلَ عَنِ النَّائِبِ فَالثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْمَرِيضَ وَإِنْ جَعَلْنَا الثَّانِيَ عَنِ النَّائِبِ فَقَدْ وُجِدَ الْأَوَّلُ قَبْلَ رَمْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْمَرِيضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إن رميه عن المريض يجزئ ولأن حُكْمَ الرَّمْيِ أَخَفُّ مِنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنِ الْمَرِيضِ قَبْلَ فِعْلِهِ عن نفسه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ترك الميت لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ ليالٍ فَدَمٌ وَالَدَمُ شَاةٌ يَذْبَحُهَا لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 رُخْصَةَ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى إِلَّا لِرَعَاءِ الإبل وأهل سقاية العباس دون غيرهم ولا رخصة فيها إلا لمن ولي القيام عليها منهم وسواء من استعمل عليها منهم أو من غيرهم لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص لأهل السقاية من أهل بيته أن يبيتوا بمكة ليالي منىً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي مِنًى فَسُنَّةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاتَ بِهَا وَأَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ فِي التأخر عنها فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ عَنْهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى إِلَّا لِمَنْ أَرْخَصَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ترك المبيت بها وهما طائفتان: أحدهما: رُعَاةُ الْإِبِلِ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَهْلُ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ قال الشافعي: دون غيرهم مِنَ السِّقَايَاتِ وَسَوَاءٌ مَنْ وَلِيَ الْقِيَامَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: الرُّخْصَةُ لمن ولي عليها مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِإِصْلَاحِ الشَّرَابِ وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ مَعُونَةً لِلْحَاجِّ وَإِرْفَاقِهِمْ لَهُ فَكَانَ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ وَلِيَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُمْ، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ كَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُقِيمِ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى مِمَّنْ ذَكَرْنَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَتَى مِنًى عَنْ أَمْسِهِ ثُمَّ عَنْ يَوْمِهِ وَأَفَاضَ مِنْهَا فِي يَوْمِهِ مَعَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا مَنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا فِي الليلة الثالثة إن أفاضوا من النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَلَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَيَجُوزُ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِهَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَبَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفِيضَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ مَنْ بَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ جَازَ أَنْ يُفِيضَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَيَدَعَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَكْثَرِ النُّسُكِ وَمُعْظَمِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْأَقَلِّ وَمَنْ بَاتَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى فَقَدْ أَتَى بِأَقَلِّ النُّسُكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْأَكْثَرِ وَإِذَا بَاتَ أَكْثَرَ لَيْلِهِ بِمِنًى أَجْزَاهُ أَنْ يَخْرُجَ أَوَّلَ لَيْلِهِ أَوْ آخِرَهُ عَنْ مِنًى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ شَغَلَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ حَتَّى يَكُونَ لَيْلُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ بِمَكَّةَ لَمْ يكن عليه فدية من قبل إن كَانَ لَازِمًا لَهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ وَإِنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَمَلُهُ تَطَوُّعًا اقْتِدَاءً قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَاسْتُحِبَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْزِلَ بِمِنًى فِي الْخَيْفِ الْأَيْمَنِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْزِلُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفِدْيَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ فَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ عَلَيْهِ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَانٍ إِنَّ عَلَيْهِ دِرْهَمًا، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: إِنَّ عَلَيْهِ ثُلُثَ شَاةٍ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّعْرَةِ وَالْحَصَاةِ فَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: دِرْهَمَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: ثُلُثُ شَاةٍ فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَبِيتٌ مَشْرُوعٌ بِمِنًى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ دَمٌ قِيَاسًا عَلَى لَيْلَةِ عَرَفَةَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى الرَّمْيِ، فَأَمَّا لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَلَيْسَتْ نُسُكًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَاجِبٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الأم " و " الإملاء " أنه استحباب وهذا أحد الدماء الأربعة فقد ذكرنا وجه ذلك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَفْعَلُ الصَّبِيُّ فِي كُلِّ أَمْرِهِ مَا يَفْعَلُ الْكَبِيرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِحْرَامُ الصَّبِيِّ فَصَحِيحٌ فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا صَحَّ إِحْرَامُهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان طفلاً أحرم عنه وليه وكان إحرامه لِلصَّبِيِّ شَرْعِيًّا وَإِنْ فَعَلَ الصَّبِيُّ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَقَالَ أبو حنيفة: إِحْرَامُ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُلْزَمِ الْحَجَّ بقوله لم يلزمه بفعله كالمجنون، ولأنها عبارة عَنِ الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنُوبَ الْكَبِيرُ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بامرأةٍ وَهِيَ فِي مِحَفَّتِهَا فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَخَذَتْ بَعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا وَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: " نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ " فَإِذَا ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ حجاً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَجًّا شَرْعِيًّا وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مُنِعَ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَانَ مُحْرِمًا كَالْبَالِغِ إِذَا أَحْرَمَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ عِنْدَ وُجُودِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ الْوَلِيُّ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ فَكَانَ الْقَلَمُ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِقَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَجْنُونِ أَنَّ إِفَاقَتَهُ مَرْجُوَّةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِجَوَازِ أَنْ يُفِيقَ فَيُحْرِمَ بِنَفْسِهِ وَبُلُوغُ الطِّفْلِ غَيْرُ مَرْجُوٍّ إِلَّا في وقه فَجَازَ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِذَا لَيْسَ يُرْجَى أَنْ يَبْلُغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيُحْرِمَ بِنَفْسِهِ هَذَا مَعَ مَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ إِذْنُ الصَّبِيِّ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إِذَا كَانَ رَسُولًا فِيهَا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنَ الْمَجْنُونِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ عَنِ الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنُوبَ الْكَبِيرُ فِيهَا عَنِ الصَّغِيرِ فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أن يحرم بالصلاة من الطِّفْلِ وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَنِ الطِّفْلِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ وَيَكُونُ حَجًّا شَرْعِيًّا فَلَا يَصِحُّ حَجُّهُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا مُطِيقًا أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ أَحْرَمَ عَنْهُ فَإِنْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَفِي إِحْرَامِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ذَكَرَهُ فِي " الزِّيَادَاتِ " أَنَّ إِحْرَامَهُ مُنْعَقِدٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ إِحْرَامَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يَتَضَمَّنُ إِنْفَاقَ الْمَالِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ فَيَجْرِي مَجْرَى تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ومجرى سَائِرِ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وليه وخالف الإحرام بالصلاة التي لا تتضمن اتفاق فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَهُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: ذَوُو الْأَنْسَابِ. وَالثَّانِي: أُمَنَاءُ الْحُكَّامِ. وَالثَّالِثُ: أَوْصِيَاءُ الْأَبَاءِ، فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَابِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ. وَالثَّانِي: مَنْ لَا يَصِحُّ إِذْنُهُ. وَالثَّالِثُ: مَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ إِذْنِهِ فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ فَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَأَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ إِذْنُهُ فَهُمْ مَنْ لَا وِلَادَةَ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وَلَا تَعْصِيبَ كَالْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَالْأَعْمَامِ لِلْأُمِّ وَالْعَمَّاتِ مِنَ الْأَبِّ وَالْأُمِّ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْحَضَانَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَأَمَّا مَنِ اخْتَلَفَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ إِذْنِهِ فَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِمْ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَعْنَى إِذْنِ الْأَبِّ وَالْجَدِّ فَأَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ اسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِذْنُ الْجَدِّ من الأم ولا يصح إِذْنُ الْأَخِ وَالْعَمِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ " فَأَمَّا الْأُمُّ وَالْجَدُّ فَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِذْنُهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ تَلِي عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُهَا لَهُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " أَنَّ امْرَأَةً أَخَذَتْ بِعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا وَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَلَكِ أجرٌ " وَمَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَكِ أَجْرٌ أَنَّ ذَلِكَ لِإِذْنِهَا لَهُ وَبِإِنَابَتِهَا عَنْهُ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالْعُصْبَةِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُ سَائِرِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَجَمِيعِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لِوُجُودِ الْوِلَادَةِ فِيهِمْ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَافَ بَعَبْدِ اللَّهِ بِنِ الزُّبَيْرِ عَلَى يَدِهِ مَلْفُوفًا فِي خرقةٍ وَكَانَ ابْنَ ابْنَتِهِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَّا سائر العصبات من الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لِعَدَمِ الْوِلَادَةِ فِيهِمْ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى فِي إِذْنِ الْأَبِّ وَالْجَدِّ وُجُودَ التَّعْصِيبِ فِيهِمَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِذْنُ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ وَلَا يَصِحُّ إِذْنُ الْأُمِّ وَالْجَدِّ لِلْأُمِّ لِعَدَمِ التَّعْصِيبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَنْسَابِ، فَأَمَّا أُمَنَاءُ الْحُكَّامِ فَلَا يَصِحُّ إِذْنُهُمْ لَهُ وَهُوَ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ تَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ فَكَانُوا فِيمَا سِوَى الْمَالِ كَالْأَجَانِبِ فَلَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُمْ فَأَمَّا أَوْصِيَاءُ الْآبَاءِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ إِذْنُهُمْ كَالْآبَاءِ لِنِيَابَتِهِمْ عَنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِذْنَهُمْ لَا يَصِحُّ كَأُمَنَاءِ الْحُكَّامِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ لَيْسَتْ بِنُفُوسِهِمْ وَلِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بأموالهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا عَجَزَ عَنْهُ الصَّبِيُّ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حُمِلَ وَفُعِلَ ذَلِكَ بِهِ وَجُعِلَ الْحَصَى فِي يَدِهِ لِيَرْمِيَ فَإِنْ عَجَزَ رُمِيَ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يكون مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ يَكُونَ طِفْلًا يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا مُرَاهِقًا أَذِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 لَهُ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَعَلَ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبَالِغِينَ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَصِحُّ مِنَ الطِّفْلِ مِنْ غَيْرِ نِيَابَةٍ وَلَا مَعُونَةٍ لَهُ وَذَلِكَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إِلَّا بِنِيَابَةِ الْوَلِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَضَرْبٌ يَصِحُّ مِنْهُ لَكِنْ بِمَعُونَةِ الْوَلِيِّ لَهُ وَذَلِكَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَسَنَذْكُرُهَا فِعْلًا فِعْلًا وَنُوَضِّحُ حُكْمَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْهَا. أَمَّا الْإِحْرَامُ فَوَلِيُّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ فَيُحْرِمُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالًا فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي نُسُكٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ وإن كان محرماً؛ لأن الولي لا يتحمل الإحرام عنه فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا حَتَّى يُمْنَعَ مِنْ فِعْلِهِ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَإِنَّمَا يَعْقِدُ الْإِحْرَامَ عَنِ الصَّبِيِّ فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْوَلِيُّ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَهَذَا مذهب البغداديين وعلى اختلاف الْوَجْهَيْنِ يَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِهِ عَنْهُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْرَمْتُ عَنِ ابْنِي وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِلصَّبِيِّ بِالْإِحْرَامِ وَلَا مُشَاهِدٍ لَهُ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ حَاضِرًا فِي الْمِيقَاتِ وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَقُولُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اللَّهُمَّ إني قد أحرمت ببني وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِلصَّبِيِّ بِالْإِحْرَامِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ الصبي محرماً دون الولي قبليه ثَوْبَيْنِ وَيَأْخُذُهُ بِاجْتِيَابٍ مِنْهُ مَا مَنَعَ الْمُحْرِمُ وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُحْضِرَهُ لِيَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فَإِنْ أَمْكَنَ وَضْعُ الْحَصَاةِ فِي كَفِّهِ وَرَمْيُهَا فِي الْجَمْرَةِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَ وَإِنْ عَجَزَ الصَّبِيُّ عَنْ ذَلِكَ أَحْضَرَ الْجِمَارَ وَرَمَى الْوَلِيُّ عَنْهُ وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَحْمِلَهُ فَيَطُوفَ بِهِ وَيَسْعَى وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلطَّوَافِ بِهِ وَيُوَضِّئَهُ فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَوَضِّئَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ الطَّوَافُ وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُتَوَضِّئًا وَالْوَلِيُّ مُحْدِثًا لَمِ يُجْزِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ الطَّوَافَ بِمَعُونَةِ الْوَلِيِّ يَصِحُّ وَالطَّوَافُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بطهارة وإن كان مُتَوَضِّئًا وَالصَّبِيُّ مُحْدِثًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالصَّبِيِّ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْوَلِيِّ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُحْدِثًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الصَّبِيُّ مُحْدِثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بِفِعْلِ الطَّهَارَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ طَهَارَةُ الْوَلِيِّ نَائِبَةً عَنْهُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ صَحَّ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ عَنْهُ، ثُمَّ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ؛ لِجَوَازِ النِّيَابَةِ تَبَعًا لِأَرْكَانِ الْحَجِّ، فَإِنْ أَرْكَبَهُ الْوَلِيُّ دَابَّةً فَكَانَتِ الدَّابَّةُ تَطُوفُ بِهِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعَهُ سَائِقًا أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 قَائِدًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُمَيِّزٍ وَلَا قَاصِدٍ وَالدَّابَّةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا عِبَادَةٌ، ثُمَّ هَلْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَرْمُلَ عَنْهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَلِيِّ طَوَافٌ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ طَافَ عَنِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ طَافَ بِالصَّبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أربعة أقسام: أحدهما: أن ينوي الطَّوَافُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ الصَّبِيِّ، فَهَذَا الطَّوَافُ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّبِيِّ لا يختلف؛ لأنه قد صادق نِيَّتُهُ مَا أُمِرَ بِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ عَنِ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنِ الْوَلِيِّ الْحَامِلِ دُونَ الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ، قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ متطوع عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ انْصَرَفَ إِلَى واجبه كالحج. والقول الثالث: أَنْ يَكُونَ عَنِ الصَّبِيِّ الْمَحْمُولِ دُونَ الصَّبِيِّ الْحَامِلِ، قَالَهُ فِي " الْمُخْتَصَرِ الْكَبِيرِ " وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " جَامِعِهِ "؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ كَالْآلَةِ لِلْمَحْمُولِ فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْمُولِ دُونَ الْحَامِلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وعن الصبي المحمول فيجزئه عن طوافه، وهي يُجْزِئُ عَنِ الصَّبِيِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ تخريجاً من القولين. والقسم الرابع: أن لا يكون لَهُ نِيَّةٌ فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إِلَى طَوَافِ نَفْسِهِ لَا يَخْتَلِفُ؛ لِوُجُودِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ الْمُخَالِفِ لَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَؤُوْنَةُ حَجِّهِ وَمَؤُوْنَةُ سَفَرِهِ فَالْقَدْرُ الَّذِي كَانَ يَحْتَاجُ إلى إبقائه فِي حَضَرِهِ مِنْ قُوتِهِ وَكُسْوَتِهِ فَهُوَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ دُونَ الْوَلِيِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى نَفَقَةِ حَضَرِهِ مِنْ آلَةِ سَفَرِهِ وَأَجْرِ مَرْكَبِهِ، وَجَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ مِمَّا كَانَ مُسْتَعِينًا عَنْهُ فِي حَضَرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ الصَّبِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مصلحته، كأجرة معلمه وموؤنة تَأْدِيبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ ذَلِكَ فِي مَالِ الْوَلِيِّ دُونَ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّبِيِّ؛ إِلَّا فِيمَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى فِعْلِ الْحَجِّ فِي صِغَرِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبْعَثُ عَلَى فِعْلِهِ فِي كِبَرِهِ وَلَيْسَ كَالتَّعْلِيمِ الَّذِي إِنْ فَاتَهُ فِي صِغَرِهِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي كِبَرِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ مَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ فِي حَجِّهِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإحرام الموجبة للفدية فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما: مَا اسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ وَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَإِذَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ فَالْفِدْيَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ، وَأَيْنَ تَجِبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فِي مَالِهِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَ مَالَ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفِدْيَةَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْوَلِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الذي ألزمه الحج بأنه لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ وَمَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، وَذَلِكَ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ فَإِنْ فَعَلَ الصَّبِيُّ ذَلِكَ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ كَالْبَالِغِ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ مِنَ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ، فَعَلَى هَذَا لَا فِدْيَةَ فِيهِ كَالْبَالِغِ النَّاسِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ، فَعَلَى هَذَا الْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ كَالْبَالِغِ الْعَامِدِ وَأَيْنَ تَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: وَلَكِنْ لَوْ طَيَّبَهُ الْوَلِيُّ كَانَتِ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ الصَّبِيِّ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ إِنْ فَعَلَهُ الْبَالِغُ عَامِدًا أَفْسَدَ حَجَّهُ وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَالْعَمْدِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: لَا حُكْمَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا وَطْءُ الصَّبِيِّ نَاسِيًا كَوَطْءِ الْبَالِغِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا وَطْءُ الصَّبِيِّ عَامِدًا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ وَأَيْنَ تَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَالثَّانِي: فِي مَالِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا إن عمده يجري مجرى الخطأ كَالْبَالِغِ النَّاسِي. هَلْ يَفْسَدُ حَجُّهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا حَكَمْنَا بِفَسَادِ حَجِّهِ فَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ: أحدهما: لا قضاء عليه؛ لأنه إِيجَابَ الْقَضَاءِ تَكْلِيفٌ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِوَطْئِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِوَطْئِهِ كَالْبَالِغِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ وَغَيْرُ الْبَالِغِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَلَمْ يَكُنِ الصِّغَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ فِعْلُ الْقَضَاءِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَلَا يَكُونُ الصِّغَرُ مَانِعًا من جوازه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع الْبَيْتِ ثُمْ يَنْصَرِفُ إِلَى بَلَدِهِ وَالْوَدَاعُ الطَوَافُ بِالْبَيْتِ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَطُفْ وَانْصَرَفَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ رَمْيِهِ وَأَكْمَلَ جَمِيعَ حَجِّهِ فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَرَادَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَارِقٍ وَلَا مُوَدَّعٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ المذهب، فأما إذا أراد الرجوع إِلَى بَلَدِهِ فَمِنَ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبَةِ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي الْمَوْسِمِ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ بَلَا وَدَاعٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ألا حتى يكون آخر عهده بِالْبَيْتِ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقَادِمِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ تَحِيَّةً وَتَسْلِيمًا، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّةِ الْخَارِجِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ تَحِيَّةً وَتَوْدِيعًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَانِيًا فَمِنْ سُنَّةِ الْعَائِدِ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِ حَجِّهِ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَعَ مِنَ النَّفْرِ إِلَّا بَعْدَ وَدَاعِ الْبَيْتِ وَنَفْرِ الْحَجِيجِ مِنْ مِنًى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَالَ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ وَمِنًى سَوَاءٌ فِي وَدَاعِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ مِنْ مَسْنُونَاتِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أَشْغَالِهِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَسِيرُ إِلَى بَلَدِهِ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ قَامَ بَيْنَ الْبَابِ وَالْحَجَرِ وَمَدَّ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْبَابِ وَالْيُسْرَى إِلَى الْحَجَرِ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ حَمَلَتْنِي دَابَّتُكَ وَسَيَّرَتْنِي فِي بَلَدِكَ حَتَى أَقْدَمَتْنِي حَرَمَكَ وَأَمْنَكَ وَقَدْ رَجَوْتُ بِحُسْنِ ظَنِّي فِيكَ أَنْ تَكُونَ قَدْ غَفَرْتَ لِي، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ غَفَرْتَ فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا وَقَدِّمْنِي إِلَيْكَ زُلْفًا، وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَغْفِرْ لِي فَمِنَ الْآنَ فَاغْفِرْ لِي قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْكَ وَلَا عَنْ بَيْتِكَ وَلَا مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ، وَاحْفَظْنِي عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ أَمَامِي وَمِنْ خلفي حتى تقدمني فَإِذَا أَقْدَمْتَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي مِنِّي وَاكْفِنِي مُؤْنَتِي وَمُؤْنَةَ عِيَالِي أَوْ مُؤْنَةَ خَلْقِكَ أَجْمَعِينَ، فَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي ". وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيَنْصَرِفَ غَيْرَ مُعَرِّجٍ عَلَى شَيِءٍ حَتَّى يخرج من مكة، فإن أقام بَعْدَ وَدَاعِهِ مُتَشَاغِلًا بِأَمْرِهِ أَعَادَ الْوَدَاعَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عملاًَ يَسِيرًا، كَتَوْدِيعِ صَدِيقٍ أَوْ جَمْعِ رَجُلٍ فَلَا يُعِيدُ الْوَدَاعَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ بَعْدَ وَدَاعِهِ صَلَّاهَا وَلَمْ يُعِدِ الْوَدَاعَ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوَدَاعِ إِذَا طَالَ مُقَامُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ طَوَافٌ لِلصَّدْرِ وَالْوَدَاعِ، فَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ زَمَانِهِ وَزَالَ عَنْهُ اسْمُ مُوجِبِهِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ طَوَافَ صَدْرٍ وَلَا وَدَاعٍ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الصَّدْرِ وَالْوَدَاعِ. فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُوَدِّعِ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ نُسُكٌ، وَلِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ، " وَمَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ". وَالْقَوْلُ الثاني: نص عليه في الإملاء: هو اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نُسُكًا وَاجِبًا لَا يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِلْمُقِيمِ، وَالْحَائِضُ يَلْزَمُهُمَا بِتَرْكِهِ دَمٌ لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِغَيْرِ الْمُقِيمِ وَالْحَائِضِ وَلَمْ يَلْزَمْ بِتَرْكِهِ دَمٌ، فَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ نَظَرَ، فَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ وَذَلِكَ دُونَ الْيَوْمِ والليلة رجع وطاف طَوَافَ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه رد رجل لم يودع البيت من مَرٍّ، وَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِي مثلها الصلاة وذلك يوم وليلة فظن لَمْ يَعُدْ؛ لِاسْتِقْرَارِ فِرَاقِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ وَاجِبًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَاسْتِحْبَابًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلَوْ عَادَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ لاستقراره عليه، وكان مبتدأ للدخول حرم إِذَا دَخَلَ وَيُوَدِّعُ إِذَا خَرَجَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وطواف الوداع لا رمل فيه ولا اضطباع، لِأَنَّهُ طَوَافٌ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِذَا خَرَجَ مُوَدِّعًا وَلَّى ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يُرْجِعِ الْقَهْقَرَى كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُتَنَسِّكِينَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سُّنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ مَحْكِيٌّ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَفَلَ مِنْ جَيْشٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عمرة فأرفأ عَلَى ثنيةٍ أَوَ فدفدٍ قَالَ آمِنُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُ الْبَيْتِ فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حسنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سيئةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي دُخُولِهِ وَحَثٌّ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَفْسِ ثُمَ رَجَعَ إِلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنْتَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لم فعلت، إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دُخُولَهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إلا تائب منيب قد أفلح عَنْ مَعَاصِيهِ وَأَخْلَصَ طَاعَتَهُ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الله بن سليط عن عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٍ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فلما انتهى إليهم سلم عليهم ثُمَ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّهَا مَسْؤُولَةٌ عَمَّا يُفْعَلُ فِيهَا وَإِنَّ سَاكِنَهَا لَا يَسْفِكُ دَمًا وَلَا يمشي بالنميمة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ وداعٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وداعٍ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنَ الْحَجِّ فَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعِ الْبَيْتِ؛ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا أَرَى صَفِيَّةَ إِلَّا حَابِسَتَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ولما، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أليس أنها قَدْ أَفَاضَتْ فَقُلْتُ بَلَى، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فلا حبس عليك. وروي أن زيد بن ثابت نحى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْتَ تُفْتِي أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسأل أَمَّ سُلَيْمٍ وَصَوَاحِبَاتِهَا فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَبْتَسِمُ وَقَالَ الْقَوْلُ ما قلت فإذا ثبت أن الحائض لا تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ فَلَا دَمَ عَلَيْهَا لِتَرْكِهِ؛ لأنها غير مأمورة، فإن طهرت بعد أن نفرت نظر إن طَهُرَتْ فِي بُيُوتِ مَكَّةَ لَزِمَهَا أَنْ تَرْجِعَ فَتُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ؛ لِوُجُوبِ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ طَهُرَتْ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ لِجَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لَهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ بَعْدَ الطُّهْرِ؛ لِحَدِيثِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَيْسَ عَلَى الْجِمَالِ انْتِظَارُهَا حَتَّى تَطْهُرَ بِأَنْ تَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ، وَلَهَا أَنْ تَرْكَبَ فِي مَوْضِعِ غَيْرِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى الْجِمَالِ أَنْ يُحْتَبَسَ لَهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَفَضْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: أجيران وَلَيْسَ بِأَجِيرَيْنِ امْرَأَةٌ صَحِبَتْ قَوْمًا فِي الْحَجِّ فَحَاضَتْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ بِالْبَيْتِ، أَوْ تَأْذَنَ لَهُمْ، وَالرَّجُلُ إِذَا شَيَّعَ الْجِنَازَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَدْفِنَ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ وَلِيُّهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ، وَلَا إِضْرَارَ مِنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ " وَفِي احْتِبَاسِ الْجِمَالِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حبسها مرض لم يلزمه انتظار برؤها، فَكَذَلِكَ إِذَا حَبَسَهَا حَيْضٌ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِظَارُ طُهْرِهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَنْكَرَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَهَذَا آخِرُ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ مِنْ مناسكه في حجه وعمرته. فَصْلٌ : فَأَمَّا زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَأْمُورٌ بِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي وَحُكِيَ عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَى أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَدْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً) {النساء: 64) وَقَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 (نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ) قَالَ الْعُتْبِيُّ فَغَفَوْتُ غَفْوَةً فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: يَا عُتْبِيُّ الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ، وَأَخْبِرْهُ بِأَنَّ الله تعالى قد غفر له. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ الْمُحْرِمَةَ فَغَيَّبَ الْحَشَفَةَ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْمُحْرِمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فِي إِحْرَامِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ قَارِنًا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثَ إِلَى نَسَائِكُمْ) {البقرة: 187) وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمَّا مَنَعَ مِنْ دَوَاعِي الْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ وَالطِّيبِ كَانَ بِمَنْعِ الْوَطْءِ أَوْلَى. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِذَا وَطِئَ فِي إِحْرَامِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامِدٌ وَنَاسِي، فَأَمَّا النَّاسِي فَسَيَأْتِي. وَأَمَّا الْعَامِدُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْفَرْجِ. وَالثَّانِي: دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْجِ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْجِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: فالقسم الأول: أن يطئ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِذَا وَطِئَ تَعَلَّقَ بِوَطْئِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فَسَادُ الْحَجِّ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْإِتْمَامِ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ فَسَادُ الْحَجِّ فَهُوَ إِجْمَاعٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ، أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا حُرِّمَ فيها الوطء وغيره اختص الوطء بتغليط حكم بان بِهِ مَا حَرُمَ مَعَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا حَرَّمَ الْوَطْءَ وَغَيْرَهُ وَاسْتَوَى حُكْمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 الْجَمِيعِ فِي إِفْسَادِ الصَّوْمِ اخْتَصَّ الْوَطْءُ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ الْوَطْءُ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ، فَيَكُونَ تَغْلِيظُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ اخْتِصَاصَهُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَتَغْلِيظُهُ فِي الْحَجِّ اخْتِصَاصَهُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ: فَعَلَيْهِ بَعْدَ إِفْسَادِ حَجِّهِ أَنْ يُتَمِّمَهُ وَيَمْضِيَ فِي فَاسِدِهِ وَهُوَ قول جمهور الفقهاء. وقال ربيعة وداوود: قَدْ خَرَجَ مِنْهُ بِالْفَسَادِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهُ، وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ عملٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ". وَالْحَجُّ الْفَاسِدُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِالْفَسَادِ مِنَ الْإِحْرَامِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا بِالْفَسَادِ مِنَ الْإِحْرَامِ. وَدَلِيلُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ مَضَى فِي فَاسِدِهِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ قَضَاءِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهِ عَنِ الْحَجِّ كَالْفَوَاتِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ " كُلُّ عملٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " فَالَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ صَاحِبِ الشَّرْعِ هُوَ الْوَطْءُ وَهُوَ مَرْدُودٌ فَأَمَّا الْحَجُّ فَعَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجِّ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِالْفَوَاتِ فَكَذَلِكَ خَرَجَ مِنْهَا بِالْفَسَادِ وَالْحَجُّ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَوَاتِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَسَادِ. فصل : فأما الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ، أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِوَطْءٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَفْسَدَ حَجَّهُ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَقْضِي مِنْ قابلٍ ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَقْضِي مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: سَأَلْتُ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتُرَانِي أُخَالِفُ صَاحِبِي، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يُوجِبُ إِتْمَامَهُ وَالْفَسَادُ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا لَمْ يَسْقُطْ مِنَ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ صَارَ بِدُخُولِهِ فِيهِ فَرْضًا فَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَإِذَا تَعَلَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ بِذِمَّتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِإِفْسَادِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي قدرها بعد اتفاقهم على وجوبها، فذهب الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَنَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْكَفَّارَةُ شَاةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِهِ التَّغْلِيظُ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْبَدَنَةُ تَغْلِيظًا، وَلَزِمَهُ الشَّاةُ اعْتِبَارًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ يَجِبُ بِشَيْئَيْنِ فوات، وفساد، فلما وجب بفوات الْقَضَاءِ وَالتَّكْفِيرِ بِشَاةٍ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِالْفَسَادِ الْقَضَاءُ وَالتَّكْفِيرُ بِشَاةٍ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ التَّكْفِيرَ بِشَاةٍ كَالْفَوَاتِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هريرة وأبي موسى أَنَّ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ بَدَنَةً وَلَمْ يُفَرِّقُوا قَبْلَ عَرَفَةَ وَبَعْدَ عَرَفَةَ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَقْوَى مِنْهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ يُوجِبُ الْبَدَنَةَ بَعْدَ الْوُقُوفِ اتِّفَاقًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ يُوجِبُ الْبَدَنَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حُجَّاجًا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ وطء عمد صادق إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْئًا مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ تجب فيه بدنة كالوطء بعد الوقوف بعرفة، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوْجِبُ الْفِدْيَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ، فَالْفِدْيَةُ الْوَاجِبَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ كَالْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ بَعْدَهُ قِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، ولأن كل عبادة يجب الوطء فِيهَا الْكَفَّارَةُ مَعَ الْقَضَاءِ فَتِلْكَ الْكَفَّارَةُ هِيَ الْعُلْيَا كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِهِ التَّغْلِيظُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَبَاطِلٌ بِالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ، عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَغْلِيظٌ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى إِيجَابِهَا مَعَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِهَا، وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأن الكفارة إنما تغلظ لِغِلَظِ الْفِعْلِ وَعِظَمِ الْإِثْمِ وَالْفَسَادُ بِالْوَطْءِ مَعْصِيَةٌ يعظم إِثْمِهَا وَقَدْ لَا يَكُونُ الْفَوَاتُ مَعْصِيَةً يَأْثَمُ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ فَهَذَا حُكْمُ. الْقَسَمِ الْأَوَّلِ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وكذا حكمه لو كان في عرفة. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَطَأَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي وُجُوبِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ فَسَادُ الْحَجِّ؛ وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَهِيَ بَدَنَةٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ فَوَافَقَ فِي الْبَدَنَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِيهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَخَالَفَ فِي فَسَادِ الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا فِيهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَعَلَّقَ إِدْرَاكَ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ وُرُودُ الْفَسَادِ بَعْدَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ حَجٌّ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ قَضَاءُ الْحَجِّ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ كَمَا يَجِبُ بِالْفَسَادِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَوَاتَ يَسْقُطُ بِالْوُقُوفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ يَسْقُطُ بِالْوُقُوفِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قياساً أن أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْوُقُوفِ كَالْفَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ لِأَجْلِ بَقَاءِ الرَّمْيِ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 الْأَوَّلُ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الرَّمْيِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ فَالْوَطْءُ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الرَّمْيِ أَوْلَى أَنْ لَا يُفْسِدَ الْحَجَّ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) {البقرة: 197) فَنَهَى عَنِ الْجِمَاعِ فِيهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ وَطْءُ عَمْدٍ صَادَفَ إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْءٌ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهُ كَالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجْمَعُ تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا فَجَازَ أَنْ يَطْرَأَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَقَعَ الْإِحْلَالُ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وُرُودُ الْفَسَادِ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ إِحْرَامِهَا، وَالْحَجُّ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي إِحْرَامِهِ، قِيلَ هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَبِالْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الْحَجِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْقَدِيمِ، وَإِذَا تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ فَقَدْ أَكْمَلَ الْحَجَّ وَخَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ، فَهُوَ يَطُوفُ وَيَسْعَى فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ مَنَعْتُمُوهُ الْوَطْءَ إذا كان خارجاً من الإحرام قيل: لبقاء حُكْمُهُ كَالْحَائِضِ الَّتِي تُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ لِبَقَاءِ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ يُسْتَفَادُ الْأَمْنُ مِنْ فَوَاتِ الْحَجِّ والأمن من جواز الْعِبَادَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا كَالْعُمْرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ حُكْمُ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِعِبَادَةٍ أُمِنَ فَوَاتُهَا فَجَازَ أَنْ يُفْسِدَهَا الْوَطْءُ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا كَالْعُمْرَةِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الْعُمْرَةِ أَنَّهُ لَا يَخْشَى فَوَاتَهَا بِحَالٍ فَلِذَلِكَ جَازَ وُرُودُ الْفَسَادِ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِحْلَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِمَّا يُخْشَى فَوَاتُهُ فِي حَالٍ جَازَ أَنْ لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ قَبْلَ الْإِحْلَالِ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ بِالظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ قَدِ اسْتَوَيَا فِي وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا وإن كانت الجمعة فخاف فَوَاتَهَا وَالظُّهْرُ يَأْمَنُ فَوَاتَهَا، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَبْلِ الْوُقُوفِ وَبَعْدِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الحج " فهو اسْتِعْمَالَ ظَاهِرِهِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يَأْمَنُ بِهِ فَوَاتَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِمَا اسْتَبَاحَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ فَلِذَلِكَ لَحِقَهُ الْفَسَادُ بِوَطْئِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفَوَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْفَوَاتَ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَسْقُطُ بِإِدْرَاكِ بَعْضِ الشَّيْءِ وَالْفَسَادُ لَا يَسْقُطُ بِإِدْرَاكِ بَعْضِ الشَّيْءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَمِنَ فَوَاتَهَا وَلَا يَأْمَنُ فَسَادَهَا، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْمَنَ بِالْوُقُوفِ فَوَاتَ الْحَجِّ وَلَا يَأْمَنَ فَسَادَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ تَرْكَ الرَّمْيِ لَمَّا لَمْ يُفْسِدِ الْحَجَّ: فَالْوَطْءُ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ الرَّمْيِ أَوْلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 أَنْ لَا يُفْسِدَ الْحَجَّ، قِيلَ لَيْسَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لِأَجْلِ بَقَاءِ الرَّمْيِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ بَقَاءِ الْإِحْرَامِ وَبَقَاءُ الْإِحْرَامِ يُؤْذِنُ بِفَسَادِ الْعِبَادَةِ كالصلاة، والصيام. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطَأَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي: فَحَجُّهُ صَحِيحٌ مُجْزِئٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ فَسَدَ بِوَطْئِهِ مَا بَقِيَ مِنْ حَجِّهِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ حَجِّهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ وَحِلَاقٌ وَذَلِكَ عُمْرَةٌ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِذَا وَطِئَ بَعْدَ التَحَلُّلِ وَرُوِيَ بَعْدَ الرَّمْيِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لَمْ يَفْسَدْ بِهِ الْإِحْرَامُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِهِ تَجْدِيدُ إِحْرَامٍ، كَالِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْفَرْجِ وَسَائِرِ الْمُحْرِمَاتِ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ مَا أَفْسَدَ بَعْضَ العبادة أفسد جمعيها، وَمَا لَمْ يُفْسِدْ جَمِيعَهَا لَمْ يُفْسَدْ شَيْءٌ مِنْهَا، اسْتِشْهَادًا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِمَا مَضَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِمَا بَقِيَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ مُفْسِدًا لِبَاقِي الْحَجِّ دُونَ مَاضِيهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بَعْدَ الْوُقُوفِ مُفْسِدًا لِبَاقِي الْحَجِّ دُونَ مَاضِيهِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاسِدًا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَعْدَ الْإِحْلَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَجَّهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَدَنَةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِاخْتِصَاصِ الْوَطْءِ المحظور بما في ما سِوَاهُ فِي التَّكْفِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفِدْيَةَ كَالْوَطْءِ، دُونَ الْفَرْجِ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ وَالْإِحْلَالُ الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ، فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ بَعْدَ إِحْلَالِهِ الثَّانِي فَحَجُّهُ مُجْزِئٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا. فَصْلٌ : فَأَمَا الْوَاطِئُ نَاسِيًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْوَاطِئِ عَامِدًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِفْسَادِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ كَالْفَوَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفِيَ عَنْ أَمَتِي الْخَطَأُ وَالنَسْيَانُ "، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَجِبُ فِي عَمْدِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعُ ناسٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَالطِّيبِ، وَخَالَفَ الْفَوَاتَ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ فاستوى حكم عمده وسهوه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء وطء مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ فسادٌ واحدٌ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي الْحَجِّ فإذا أفسد حجه وهو يحرم بِوَطْءٍ مُنِعَ أَنْ يَطَأَ ثَانِيًا لِأَنَّ حَجَّهَ وإن فسد محرمة الْإِحْرَامِ بَاقِيَةٌ لِوُجُوبِ الْإِتْمَامِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ وَطِئَ ثَانِيَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْإِحْرَامِ إِنَّمَا كَانَ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ الثَّانِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنْ وَطْئِهِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ لَا يختلف، لأن كلما فعله وابتدأ وجبت فيه فَإِذَا فَعَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ بَدَنَةٌ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تَتَكَرَّرُ الْفِدْيَةُ بِفِعْلِهِ فَفِدْيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي مِثْلُ فِدْيَةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: عَلَيْهِ شَاةٌ، لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَمْ يُفْسِدِ الْحَجَّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ الْفِدْيَةَ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ أَخْفَضُ مِنْ حُرْمَتِهِ قَبْلِهِ لِوُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ الثَّانِي أَخْفَضَ مِنَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ لِضَعْفِهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي قَبْلَ تَكْفِيرِهِ عَنِ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْحَدِّ وَالْحُدُودُ إِذَا تَرَادَفَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتْ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْحَجِّ كَالْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ ثُمَّ كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي فِي الصَّوْمِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ الثَّانِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ؛ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ عُمَدٍ صَادَفَ إِحْرَامًا لَمْ يَتَحَلَّلْ شَيْءٌ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ بِالْوَطْءِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ لَوْ كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهُ وَجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَمَّا قَبْلَهُ كَالصَّوْمِ إِذَا وَطِئَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ حَتَّى وَطِئَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَزِمَتْهُ كَفَارَّةٌ ثَانِيَةٌ كَذَلِكَ الْحَجُّ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّمَا تَدَاخَلَتْ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهَا، وَأَمَّا صَوْمُ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ الثَّانِي فِيهِ كَفَّارَةٌ لِخُرُوجِهِ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، وَالْحَجُّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: " بَدَنَةٌ " عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كَالْوَطْءِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: شَاةٌ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ كَالِاسْتِمْتَاعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ بَدَنَةٌ وَيَحُجُّ مِنْ قابلٍ بِامْرَأَتِهِ وَيُجْزِي عَنْهُمَا هديٌ واحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَطْءَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ والكفارة، وإذا كان لذلك فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ، فَال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا. وَالْفَصْلُ الثَّانِي في وجوب الكفرة عَنْهُمَا، وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إما أن يكون مُحْرِمَيْنِ مَعًا، أَوْ يَكُونَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دُونَ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ؛ فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ مَعًا فَقَدْ أَفْسَدَا حَجَّهُمَا، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهَا، وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِمُ الْمُقْبِلِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى شَاءَا كَانَ لهما أن يقضيا في عام واحد وعامين؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا كَانَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَاخِي، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِأَنَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَضِيقُ وَقْتُهَا وَيَجِبُ فِعْلُهَا عَلَى الْفَوْرِ إِذَا فَاتَتْ كَانَ قَضَاؤُهَا عَلَى التَّرَاخِي كالصوم؛ فَالْحَجُّ الَّذِي نَجْعَلُهُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ بِالْقَضَاءِ أَوَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الفور. والوجه الثاني: أن عليهما الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهُوَ منصوص المذهب؛ لأن القضاء بِالدُّخُولِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، فَقَضَاؤُهُ يَجِبُ أن يكون مثله فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ ثُمَّ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي قد ضاق وقته مطيقاً فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ سِفَاحٍ، أَوْ أَمَةً وُطِئَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ تَكُونَ زَوْجَةً وُطِئَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ سِفَاحٍ فَمَؤُوْنَةُ الْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهَا دُونَ مَالِ الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَحَمُّلِ الْمَؤُونَةِ كَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وُطِئَتْ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَمَؤُونَةُ الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ الْوَاطِئِ دُونَ الْأُمَّةِ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا كَسَبَتْ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً وُطِئَتْ بِعَقْدِ نِكَاحٍ فَفِي مَؤُونَةِ حَجِّهَا فِي الْقَضَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ الزَّوْجَةِ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ وَمَا لَزِمَ الزَّوْجَةَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ فَالنَّفَقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا فِي مَالِ الزَّوْجَةِ لَا يَتَحَمَّلُهُ الزَّوْجُ عَنْهَا كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَؤُونَةَ الْقَضَاءِ فِي مَالِ الزَّوْجِ لِلْوَاطِئِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ، وَحُقُوقُ الْأَمْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَطْءِ يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِهَا الزَّوْجُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دُونَ الْمَوْطُوءَةِ فَعَلَى الْوَاطِئِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ فَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْقَضَاءُ دُونَ الْوَاطِئِ وَالْكَلَامُ فِي تَحَمُّلِ مَؤُونَةِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمَا؛ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مُحْرِمًا دون الموطوءة ففيه كافرة وَاحِدَةٌ عَلَى الْوَاطِئِ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً دُونَ الْوَاطِئِ فَالْوَاجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ شَيْئًا لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْمَوْطُوءَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَحَمَّلُ عَنْهَا لِكَوْنِهِ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا فَعَلَيْهِ تَحَمُّلُ ذَلِكَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ وَالْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمِينَ فَهَلْ تَجِبُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كَفَّارَتَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَفَّارَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَعَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ كَفَّارَةٌ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الْوَاطِئُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ الْكَفَّارَةَ لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أَجْنَبِيَّيَنِ فَعَلَى الْوَاطِئِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْكَفَّارَتَيْنِ عَنْهُ وَعَنِ الْمَوْطُوءَةِ، فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً فَعَلَى هَذَا هَلْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ أَمْ عَلَيْهِمَا ثُمَّ تَحَمُّلُ الْوَاطِئِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَى الموطوءة سواء كانت زوجته أو أَجْنَبِيَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا؛ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَتَهُ فَعَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَتَحَمَّلِ الْوَاطِئُ عَنْهَا. وَوَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ، كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا، وَالْوَاطِئُ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا: فَهُوَ أَنَّهُمَا إِذَا أَحْرَمَا بِالْقَضَاءِ وَبَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا أَعْرِفُ لِلِافْتِرَاقِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي الصَّوْمِ ثُمَّ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُمْنَعَا مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ، كَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصحابة مخالفاً فكان إجماعاً؛ ولأنه بفراقهما يأمن عليهما الشَّهْوَةَ فِي وَطْئِهَا، وَلِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ وَتَنَدُّمًا فِيمَا فَعَلَهُ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَمُخَالِفٌ لِلْحَجِّ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ كَأَصْلِهِ فِي إِفْسَادِهِ بِالْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَقَضَاءُ الصَّوْمِ أَخَفُّ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي إِفْسَادِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 بِالْوَطْءِ لَا تَجِبُ فِيهِ فَافْتَرَقَا؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِرَاقِهَا إِذَا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَطِئَهَا فِيهِ وَاعْتِزَالُهُمَا فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ، فَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الإجماع فيه. والوجه الثاني: اجتناب الوطء مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اجْتِنَابُ الْوَطْءِ والافتراق احتياط. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا تَلَذَّذَ مِنْهَا دُونَ الْجِمَاعِ فَشَاةٌ تُجْزِئُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُفْسِدُ بَدَنَةً فَبَقَرَةً فَإِنْ لم يجد فسبعاً من الغنم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَطْءُ الْمُحْرِمِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْفَرْجِ، وَالْآخِرِ دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَفْسَدِ الْحَجُّ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَعَلَيْهِ " شَاةٌ " أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ " شَاةٌ " وَحَجُّهُ مُجْزِئٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسَدْ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) فَكَانَ الرَّفَثُ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فَيَ الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ كَانَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا الْإِنْزَالُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ كَالصَّوْمِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا إِذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ وُجُودِ الْإِنْزَالِ وعدمه وليس يعرف لهما مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهُمَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْحَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسَدَ الْحَجُّ بِهِ كَالْمُبَاشِرَةِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا وَتَبَايُنِهِمَا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقْتَضِي حَظْرَ الْجِمَاعِ، وَإِطْلَاقُ الْجِمَاعِ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ في الفرج دون غيره، وأما قيامه عَلَى الصَّوْمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِ الْوَطْءِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ وَالْحَجُّ لَا يَبْطُلُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فَضَرْبَانِ: أحدهما: أن يكون في القبل فأما فَالْوَاطِئُ فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِجْمَاعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ يَتَلَوَّطَ، أَوْ يَأْتِيَ بَهِيمَةً فَحُكْمُ ذَلِكَ عِنْدَنَا حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى مَا مَضَى. وَقَالَ أبو حنيفة فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: إِنَّهَا لَا تُفْسِدُ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ إِفْسَادُ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ قَالَ أبو يوسف ومحمد فِي اللِّوَاطِ بِقَوْلِنَا وَفِي إِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ يَقُولُ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ جِمَاعٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسُدَ بِهِ الْحَجُّ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ ولاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ فَجَازَ أَنْ يُفْسِدَ الْحَجَّ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ أَغْلَظُ مِنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ لِتَحْرِيمِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَلَمَّا كَانَ أَخَفُّهُمَا مُفْسِدًا لِلْحَجِّ فَأَغْلَظُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ أَوْلَى، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ بِعِلَّةِ أو وَطْءٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ فَفَاسِدٌ بِوَطْءِ الْإِمَاءِ يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَلَا يَقَعُ بِهِ الإحصان، ثم المعنى في الوطء في الفرج وُجُوبُ الْغُسْلِ فِيهِ، وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ لَا يتعلق بوجوب الْغُسْلِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْزَالِ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ، فَإِنْ قَصَدَ بِالْقُبْلَةِ تحية القادم لغير شهرة فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا الشَّهْوَةَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إِلَى قُبْلَةِ التَّحِيَّةِ أَوْ إِلَى قُبْلَةِ الشَّهْوَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى قُبْلَةِ التَّحِيَّةِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى قُبْلَةِ الشَّهْوَةِ اعْتِبَارًا بِمَوْضُوعِ الْقُبْلَةِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَتِ الْبَدَنَةُ دَارَهِمَ بِمَكَّةَ والدراهم طعاما فإن لم يجد صام عن كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْوَاطِئِ فِي إحرامه المفسد له بوطئه " بدنة " ودليلنا عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُفْسِدُ " بَدَنَةً " " فَبَقَرَةً " فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَوَّمَ " الْبَدَنَةَ " دَرَاهِمَ بِمَكَّةَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا فَجَعَلَ لِلْبَدَنَةِ أَرْبَعَةَ أَبِدَالٍ مُرَتَّبَةٍ، فَبَدَأَ بِالْبَدَنَةِ وَجَعَلَ الْبَقَرَةَ بَدَلًا مِنَ الْبَدَنَةِ، وَجَعَلَ السَّبْعَ مِنَ الْغَنَمِ بَدَلًا مِنَ الْبَقَرَةِ، وَجَعَلَ الطَّعَامَ بَدَلًا مِنَ الْغَنَمِ، وَجَعَلَ الصِّيَامَ بَدَلًا مِنَ الْإِطْعَامِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْغَنَمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي التَّرْتِيبِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْغَنَمِ هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَيَبْدَأُ بِبَدَنَةٍ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبَقَرَةٌ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ تجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 أُضْحِيَةً وَلَا تُجْزِئُهُ الْبَقَرَةُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَدَنَةِ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْغَنَمُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ كَأَغْلَظِ كَفَّارَاتِ الْحَجِّ تَقْدِيرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَأَغْلَظِهَا تَرْتِيبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَقَرَةَ مَعَ وُجُودِ الْبَدَنَةِ أَوْ أَخْرَجَ الْغَنَمَ مَعَ وُجُودِ الْبَقَرَةِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْبَدَنَةَ فِي الْحَجِّ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي قَتْلِ النَّعَامَةِ وَالْإِفْسَادِ فَلَمَّا وَجَبَتِ الْبَدَنَةُ فِي جَزَاءِ النَّعَامَةِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ. فَصْلٌ : فَإِنْ عَدِمَ الثَّلَاثَةَ عَدَلَ حِينَئِذٍ إِلَى الْإِطْعَامِ والصيام بقية أَحَدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْدِيلِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الثَّلَاثَةَ وَجَبَتْ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ قَوَّمَ أَيَّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ وُجُوبَ تَرْتِيبٍ وَهُوَ أَصَحُّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يُقَوِّمُ السَّبْعَ مِنَ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْوَاجِبَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَقْوِيْمِ الْبَدَنَةِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ فَرْعٌ لِلْبَدَنَةِ عِنْدَ وُجُودِهِمَا، فَإِذَا عدمها كَانَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْفَرْعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْبَدَنَةَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْحَرُهَا فِيهِ؛ لِوُجُودِهَا دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ بِوَطْئِهِ، وَلَا يُرَاعِي بِقِيمَتِهَا حَالَ الرُّخْصِ وَالسِّعَةِ، وَلَا حَالَ الْغَلَاءِ وَالْقَحْطِ بَلْ يُرَاعِي غَالِبَ الْأَسْعَارِ فِي أَعَمِّ الْأَحْوَالِ فَيُقَوِّمُهَا فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ، وَيَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ لَمْ تُجْزِئْهُ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الدَّرَاهِمِ فِي الْكَفَّارَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ قِيَمًا وَإِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا تُجْزِئُ، فَإِذَا صَرَفَ الدَّرَاهِمَ فِي الطَّعَامِ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَفِيمَا يُعْطِي كُلَّ فَقِيرٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " أَوْ أَكْثَرَ مِنْ " مُدٍّ " أَجْزَأَهُ كَاللَّحْمِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ وَيُجْزِئُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ " بِمُدٍّ " فَإِنْ أَعْطَى فَقِيرًا أَكْثَرَ مِنْ " مُدٍّ " لَمْ يُحْتَسَبْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُدِّ، وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " لَمْ يُحْتَسَبْ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ الْمُدِّ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الصِّيَامِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَمْدَادِ كَسْرٌ، صَامَ مَكَانَهُ يَوْمًا كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ثُمَّ هَلْ يَنْتَقِلُ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الصِّيَامِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ أَوِ التَّرْتِيبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فَإِنْ صَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِطْعَامِ أَجْزَأَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ينتقل على وجه الترتيب عند تمام الْإِطْعَامِ فَإِنْ صَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِطْعَامِ لم يجزئه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " هَكَذَا كُلُّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ يَعْسُرُ بِهِ مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصُّ خبرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْحَجِّ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَضَرْبٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْبَعَةُ دِمَاءٍ دَمُ التَّمَتُّعِ وَدَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَدَمُ كَفَّارَةِ الْأَذَى وَدَمُ الْإِحْصَارِ فَهَذِهِ الدِّمَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا نَصَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ، فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَى بَدَلِهِ فَثَلَاثَةُ دِمَاءٍ: دَمُ التَّمَتُّعِ، دَمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَدَمُ كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَرْتِيبًا وَتَقْدِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ وَلَا تَخْيِيرٍ وَذَلِكَ دَمُ التَّمَتُّعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) {البقرة: 196) فَجَعَلَ الْبَدَلَ فِيهِ مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ مُرَتَّبًا عِنْدَ عَدَمِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ. وَالثَّانِي: مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَعْدِيلًا مَعَ التَّخْيِيرِ وَهُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قُتِلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفَارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) {المائدة: 95) فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْإِطْعَامِ بِالتَّعْدِيلِ، فَيُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ وَيَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ " مُدٍّ " يَوْمًا فَجَعَلَ الْبَدَلَ فِيهِ تَعْدِيلًا وَتَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ. وَالثَّالِثُ: مَا جَعَلَ بَدَلَهُ تَخْيِيرًا وَتَقْدِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ وَلَا تَرْتِيبٍ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْأَذَى فِي حَلْقِ الشَّعْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ) {البقرة: 196) فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ غير أن ينص على مقدراها فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمِقْدَارَ فِيهَا فَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " احْلِقْ وَانْسُكْ شَاةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ " فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شاة أو صيام أو ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْدِيلٍ، فَهَذَا حُكْمُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَبْدَالِهَا، وَأَمَّا الدَّمُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ فَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ قال الله تعالى: {فَإِذا أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ هَدْيًا وَهُوَ " شَاةٌ " وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ بَدَلٌ وَبَدَلُهُ الصِّيَامُ وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ كَالتَّمَتُّعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وَالثَّانِي: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَالثَّالِثُ: صِيَامُ التَّعْدِيلِ فَيُقَوِّمُ الشَّاةَ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ويصوم عن كل مد يوماً كجزاء والصيد وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ وَحُكْمِ إِحْلَالِهِ قَبْلَ الْفِدْيَةِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا حُكْمُ الدِّمَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الدِّمَاءُ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ. وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ. وَالثَّالِثُ: مَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْإِتْلَافِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ لِتَرْكِ نُسُكٍ فَثَمَانِيَةُ دِمَاءٍ دَمُ الْقِرَانِ وَدَمُ الفوات ودم مجاوزة الميقات، ودم الدافع من عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدَمُ تَارِكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَدَمُ تَارِكِ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَدَمُ تَارِكِ المبيت بمنى، ودم الصادر من مكة بلا وَدَاعٍ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ دِمَاءٍ تَجِبُ لِتَرْكِ نُسُكٍ مَأْمُورٍ بِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ دَمِ التَّمَتُّعِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْبَدَلِ وَالتَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ التَّمَتُّعِ وَجَبَ لِلتَّرْفِيهِ لِتَرْكِ أَحَدِ الْمِيقَاتَيْنِ، فَكَانَ مِثْلَهُ كُلُّ دَمٍ وَجَبَ فِي مَتْرُوكٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ فِي هَذَا الثَّمَانِيَةِ إِلَّا دَمٌ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. أَمَّا مَا وَجَبَ لِأَجْلِ التَّرْفِيهِ فَخَمْسَةُ دِمَاءٍ دَمُ تَقْلِيمِ الظُّفْرِ، وَدَمُ تَرْجِيلِ الشَّعْرِ، وَدَمُ الطِّيبِ، وَدَمُ اللِّبَاسِ، وَدَمُ تَغْطِيَةٍ يُعَلِّقُ بِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ رَأْسِ الرَّجُلِ وَوَجْهِ الْمَرْأَةِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ دِمَاءٍ تجب لأجل الترفيه فكان حكمها حكم فدية الأذى في حلق الشعر في البدل والتخيير لاشتراك جميعها في التَّرْفِيهِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ الْآيَةِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا فَتَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ أَخَذَ ظُفْرَهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ، أَوْ كَانَ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَمِ شَاةٍ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، إِمَّا بِنَصِّ الْآيَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ، وَأَمَّا ما وجب لأجل الإتلاف قدم قَطْعِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْحَرَمِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّخْيِيرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِتْلَافِ فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّمِ أَوْ قِيمَةِ الدَّمِ طَعَامًا، أَوْ عَدْلِ الطَّعَامِ صِيَامًا فَأَمَّا دَمُ الْوَطْءِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: دَمٌ لِفَسَادٍ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ. وَالثَّانِي: دَمُ اسْتِمْتَاعٍ وَهُوَ دَمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ. وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ فَشَاةٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى التَّرْفِيهِ أَوْ مَجْرَى الْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّرْفِيهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَفِدْيَةِ الْأَذِيَّةِ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَمِ شَاةٍ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّخْيِيرِ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الشَّاةِ أَوْ قِيمَةِ الشَّاةِ طَعَامًا، أَوْ عَدْلِ الطَّعَامِ صِيَامًا، فَأَمَّا مَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ بَدَنَةٌ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَدَنَةِ فِي الْإِفْسَادِ، وَإِنْ قُلْنَا شَاةٌ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الشَّاةِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَهَذَا حُكْمٌ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا تَقْدِيمُ هَذِهِ الدِّمَاءِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَجَبَ فِي الْإِحْرَامِ. وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَأَمَّا مَا وَجَبَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ فَدَمَانِ: أَحَدُهُمَا: جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ. الثَّانِي: جَزَاءُ شَجَرِ الْحَرَمِ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَيْنِ الدَّمَيْنِ قَبْلَ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوُجُوبِهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ، وَأَمَّا مَا وَجَبَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الإحرام؛ لأنه سَبَبَ وُجُودِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فما وجب منها يترك نُسُكٍ كَدَمِ الْفَوَاتِ، وَدَمِ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، وَدَمِ الدافع من عرفة قبل غروب الشمس، ودم تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَدَمِ رَمْيِ الْجِمَارِ وَدَمِ تارك المبيت بمنى، ودم الصادر من مكة فلا وَدَاعٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ النُّسُكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الدَّمِ بِهِ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الدَّمِ، كَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِهِ قَبْلَ تَقْدِيمِ الدَّمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بَدَلًا مِنَ النُّسُكِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِغَيْرِ نُسُكٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ مُوجِبِهِ بِحَالٍ وَذَلِكَ الْوَطْءُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ مُوجِبِهِ بِحَالٍ وَهُوَ دَمُ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِشَيْئَيْنِ وَهَمَا الْإِحْرَامُ وَالْفِعْلُ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ سَبَبَيْهِ جَازَ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ الْآخَرِ كَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ سَبَبَيْ وُجُوبِهِ فَلَيْسَ يُرَادُ لِوُجُوبِ الدَّمِ بِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إِذَا نَسَكَهُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُبِيحًا لِتَقْدِيمِ الدَّمِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ مَعَ وُجُودِ الْإِسْلَامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 وَقَبْلَ وُجُودِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ يُرَادُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَجَازَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونُ الطَّعَامُ وَالْهَدْيُ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى وَالصَوْمُ حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ فِي الصَّوْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِدْيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْحَجِّ عَلَى ثلاثة أضرب: أحدها: إما أَنْ يَكُونَ هَدْيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَعَامًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ صِيَامًا، فَأَمَّا الْهَدَايَا مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَنَحْرُهَا فِيهِ وَتَفْرِيقُهُ لَحْمَهَا عَلَى مَسَاكِينِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 33) وقَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحِلِّ، أَوْ يَنْحَرَهَا فِي الحل ويفرقها في الحرم. والقسم الرابع: وهو أن ينحرها من الحل ويفرق لحمها من الْحَرَمِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا طَرِيًّا فِي الْحَرَمِ، فَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُجْزِئُ إِجْمَاعًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْحَرَهَا مِنَ الْحَرَمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَعِنْدَ الْمَرْوَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُحَلُّلِهِ وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَبِمِنًى؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تحلله، وأين نحر منه فِجَاجِ مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ جَمِيعِهِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ رَوَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عرفة كلها موقفٌ ومزدلفة كلها موقفٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَمَنْحَرٌ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخُصَّ بِهَا مَنْ كَانَ قَاطِنًا فِي الْحَرَمِ دُونَ مَا كَانَ طَارِئًا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاطِنَ فِيهِ أَوْكَدُ حُرْمَةً مِنَ الطَّارِئِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا عَلَى الطَّارِئِينَ إِلَيْهِ دُونَ الْقَاطِنِينَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ بِدُخُولِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِمَا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَلَا عَدَدُ مَنْ يُعْطِيهِ مَعْلُومٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَهَا فِي الْحِلِّ، فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِئٍ إِجْمَاعًا، إِلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ نَحْرُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَأَمَّا غَيْرُ دَمِ الْإِحْصَارِ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فَلَا تُجْزِئُ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا، وَلَا فرقت في مستحقيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحِلِّ، فَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فَرَّقَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ أَوْ فُقَرَاءِ الْحِلِّ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الْهَدْيِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي إِبْلَاغَهُ الْكَعْبَةَ فَيُجْزِئُ وَهَذَا هَدْيٌ قَدْ بَلَغَ الْكَعْبَةَ فَوَجَبَ بِحَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُجْزِئَ، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِنُسُكِهِ فَجَازَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُهُ عَنْ نُسُكِهِ فَجَازَ فِيهِ تَفْرِيقُ هَدْيِهِ كَالْحَرَمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) وَالْمُرَادُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَمُ، فَلَمَّا حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِ الْهَدْيِ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ، أَوْ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالتَّفْرِقَةِ دُونَ الْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَحْمًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْإِرَاقَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَنْجِيسَ الْحَرَمِ، وَتَنْجِيسُ الْحَرَمِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، بَلْ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عَنِ الْإِنْجَاسِ قُرْبَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْإِرَاقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ؛ لِمَا فِي نَفْعِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ مِنْ عِظَمِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ وَفَرَّقَ لَحْمَهُ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَقَالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ "، وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الهدي وتفريقه مقصود ثان مَعًا، أَمَّا الْإِرَاقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى فِي الْحَرَمِ لَحْمًا وَفَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ فَهِيَ مَقْصُودَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ نَحَرَ هَدْيَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ مَقْصُودَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ تَجُزِ الْإِرَاقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ لَا تَجُزِ التَّفْرِقَةُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالْإِرَاقَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ فِي الْحَجِّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ، وَكُلُّ نُسُكٍ لَمْ يَخْتَصَّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْحَرَمِ لَمْ يَخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْحَرَمِ، فَلِذَلِكَ جَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَمَّا اخْتَصَّ شَيْءٌ مِنَ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ اخْتَصَّ جَمِيعُهُ بِالْحَرَمِ. أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَمِ فَالْمَعْنَى فِي الْحَرَمِ أَنَّ الْإِرَاقَةَ فِيهِ تُجْزِئُ فَجَازَتِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ وَالْحِلُّ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْإِرَاقَةُ فِيهِ لَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي الْحِلِّ وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا فِي الْحَرَمِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجْزِئُ التَّفْرِقَةُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى الْحِجَاجِ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 " فِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا طُرُقٌ وَمَنْحَرٌ " فَخَصَّ النَّحْرَ بِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالتَّفْرِقَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُصُولِ التَّفْرِقَةِ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى لِحَمًا وَفَرَّقَهُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْإِرَاقَةَ مَقْصُودَةٌ مَعَ التَّفْرِقَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الطَّعَامُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْهَدْيِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّعَامُ الْوَاجِبُ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ وَعَدَدِ مُسْتَحِقِّيهِ وَذَلِكَ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَهُوَ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ، وَهُوَ أَعْلَى الْإِطْعَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَقَدْ سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ تُعُبِّدَ بِقِدْرِ الطَّعَامِ وَأَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا دَفَعَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ آصُعٍ إِلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِنُقْصَانِ الْقَدْرِ، وَإِنْ دَفَعَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ، لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ وَلَا عَلَى عَدَدِ مستحقه، وَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الكفارات التَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ بدل، كالأثمان تنخفض وترتفع؛ لأنه لا يَتَقَدَّرُ الطَّعَامُ فِيهَا إِلَّا بِتَقْوِيمِ الْهَدْيِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِي الطَّعَامِ، فَرُبَّمَا كَثُرَ الطَّعَامُ إِمَّا لِكَثْرَةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ، أَوْ لِقِلَّةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَلَّ الطَّعَامُ إِمَّا لِقِلَّةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ، أَوْ لِكَثْرَةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ، ثُمَّ يَتَقَدَّرُ حِينَئِذٍ بذلك فيصير كالمقدر شرعاً، فأما أعداد مستحقه فَهَلْ مَخْصُوصٌ بِعَدَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يُدْفَعُ إِلَى كل مسكين. فأما الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ؛ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمْدَادُ عَشَرَةً وَجَبَ دَفْعُهَا إِلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمْ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمْ، وَصَارُوا كَالْعَدَدِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا؛ فَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْأَمْدَادِ كَسْرٌ وَجَبَ دَفْعُ الْكَسْرِ إِلَى مِسْكِينٍ آخَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا يدفع إلى كل مسكين غير مقدم كَلَحْمِ الْهَدْيِ، فَعَلَى هَذَا عَدَدُ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ مِسْكِينٍ، وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مِسْكِينَيْنِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُوَاسَى بِهِ كُلُّ مِسْكِينٍ مَدٌّ، فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدًّا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى مِسْكِينَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ، وَيُسْتَحَبُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ عَنْ مُدٍّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُوَاسَى بِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى مُدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُوَاسَى بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 فَصْلٌ : وَأَمَّا الصِّيَامُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُعَيَّنَ الْمَكَانِ، وَذَلِكَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ) {البقرة: 196) فَيَصُومُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِ فِي تَفْرِيقِهِ وَتَتَابُعِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مَا سِوَى صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَهَذَا يُجْزِئُ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْلَى لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَقُرْبِ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ الْهَدْيُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَرَمِ فَجَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَالْهَدْيُ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ هُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالشَّرْعِ وَهُوَ صَوْمُ كَفَّارَةِ التَّعَبُّدِ، فَلَا يَنْخَفِضُ وَلَا يَرْتَفِعُ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ، وهو صوم كفارة البدل، فربما انخفض وربما ارْتَفَعَ، ثُمَّ هَلْ تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ وَطِئَ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ فَعَلَيْهِ بدنة ويتم حجه (قال المزني) قرأت عليه هذه المسألة قلت أنا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْبَدَنَةُ إِجْمَاعًا أَوْ أَصْلًا فالقياس شاةٌ لأنها هديٌ عندي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاطِئَ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَفِيهَا قولان: أحدها: " بَدَنَةٌ ". وَالثَّانِي: " شَاةٌ " وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ الْإِحْلَالِ الْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ، وَاسْتَوْفَيْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةٍ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنَ الْمِيقَاتِ الذي ابتدأها منه فإن قيل فقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عائشة أن تقضي العمرة من التنعيم فليس كما قال إنما كانت قارناً وكان عمرتها شيئاً استحسنته فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بها لا أن عمرتها كانت قضاء لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لها " طوافك يكفيك لحجك وعمرتك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ، سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ قَارِنًا وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَجِّ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنْ وَطِئَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ السعي، أو قبل كمال جَمِيعِ السَّعْيِ، فَقَدْ أَفْسَدَ عُمْرَتَهُ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحِلَاقِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَلْقِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ نُسُكٌ يُتَحَلَّلُ بِهِ أَفَسَدَ عُمْرَتَهُ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ لَمْ يُفْسِدْ فَإِنْ أَفَسَدَ عُمْرَتَهُ لَزِمَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَهِيَ بَدَنَةٌ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ سَوَاءٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ فِيمَا يَحِلُّ فِيهِ وَيَحْرُمُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَالْحَجِّ فِي فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْبَدَنَةِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِيهَا مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ وَالْبَدَنَةِ كَالْحَجِّ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِي فَاسِدِهَا ثُمَّ يَقْضِيَهَا مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِهَا، وَكَذَا الْحَجُّ إِذَا أَفْسَدَهُ يَقْضِيهِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ بَلَدِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ مِيقَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَبِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ، أَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ كَذَلِكَ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ وَالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ بَلَدِهِ؛ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الحديبة ثُمَّ رَفَضَتْهَا وَخَرَجَتْ مِنْهَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ وَرَفَضُ الْعُمْرَةِ كَالْإِفْسَادِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا هُوَ الإتيان بفعل ما لزم فَلَمَّا لَزِمَهُ فِي الْأَدَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْ بَلَدِهِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُلْزِمَهُ الْقَضَاءُ الْإِحْرَامَ مِنْ بَلَدِهِ بِالْإِفْسَادِ لَهُ، لِيَصِيرَ قَاضِيًا لِمَا كَانَ لَهُ مُؤَدِّيًا، فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمْ تَرْفُضْ عُمْرَتَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا بَلْ كَانَتْ قَارِنَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُجْزِئُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكَ " وَإِنَّمَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كل نسائك يتصرفن بِنُسُكَيْنِ وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ، يَعْنِي: بِنُسُكَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ، وَأَنَا قَدْ ضَمَمْتُهَا فِي الْقِرَانِ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَاهَا أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَهَا: " ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ " وقيل إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ أَيْ عَمَلَ عُمْرَتِكِ، وَقَوْلِهِ: وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، أَيِ أَدْخِلِي الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى صَارَتْ قَارِنَةً. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ مُحْرِمًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي نُسُكِهِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى بَلَدِهِ مُحْرِمًا وَمَضَى فِي الْقَضَاءِ كَانَ كَالْمُجَاوِزِ لِمِيقَاتِهِ فَيُجْزِئُهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ؛ فَلَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ مِصْرَ، وَالْمَسَافَةُ مِنْهَا إِلَى الْحَرَمِ وَاحِدَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَسَافَةَ الْإِحْرَامِ فِي الْقَضَاءِ كَمَسَافَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَدَاءِ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْجِهَتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الطريقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْأَدَاءِ وَالْإِحْرَامُ مِنْ مِصْرَ وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِمَسَافَةِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَهُوَ غَيْرُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي إِسْقَاطِ الدَّمِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ فِي الأداء قد مر بميقات بلده مريد الحج فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ بَعْدَهُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ مِيقَاتَهُ، وَبَدَنَةٌ لِوَطْئِهِ وَالْقَضَاءُ فِي الْقَابِلِ مِنْ مِيقَاتِهِ دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِوُرُودِهِ مِنْ بَلَدِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ مَنْ مَرَّ مِيقَاتَهُ مُرِيدًا لِنُسُكٍ فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ، فَإِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الدَّمُ بِمُجَاوَزَتِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بِالْحَرَمِ فَخَرَجَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُجْزِئُهُ إِحْرَامُهُ مِنْهُ وَلَا دَمَ عليه إلا الإحرام من الميقات إنما يَلْزَمُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا بِالْحُصُولِ فِيهِ أَوْ قضاء الإحرام كان منه، وهما معدومان هاهنا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنَ الْحِلِّ، فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْأَدَاءِ وَقَدْ فَعَلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَحَدَ مِيقَاتَيْنِ إِمَّا الْحَرَمُ أَوْ مِيقَاتُ بَلَدِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَارِنُ إِذَا أَفْسَدَ قِرَانَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِوَطْئِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ لِوَطْئِهِ كَفَّارَتَانِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طوافين، ويفتدي في قتل الصيد بجزائين، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيُفْتَدَى فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَاحِدٌ بِجَزَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِوَطْئِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَإِنْ قَضَى قَارِنًا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِقِرَانِهِ وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ قَضَى حجاً مفرداً وعمرة مفردة. قال الشافعي: لم يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ الدَّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِفْرَادِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ وَإِنْ قَضَى مُفْرِدًا وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَانِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِفْرَادِ وَإِنَّمَا دَمُ الْقِرَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ، فَلَوْ أَحَلَّ الْقَارِنُ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ ولم يطف ولم يسع حتى وطء لم يفسد قرانه، إن كان الواطئ فِي الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَصِيرُ كَأَنَّ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ كَذَلِكَ الْقَارِنُ. فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ وَأَفْسَدَهَا بِالْوَطْءِ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَإِنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِيهَا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ لُزُومِ الْمُضِيِّ فِي الصَّحِيحِ ثُمَّ لَوْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ فِي الْحَجِّ الصَّحِيحِ جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ كَذَلِكَ الْفَاسِدُ، فَإِنْ تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ القضاء لا بالإحصار ولكن بالفساد؛ لأن لَيْسَ تَحَلُّلُهُ بِالْإِحْصَارِ مِنَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ ثُمَّ لَوْ أَتَمَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ، فَإِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ ثُمَّ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَكَانَ وَقْتُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ مُمْكِنًا جَازَ أَنْ يُحْرِمَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، فَيَسْتَفِيدُ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذَا الْعَامِ جَوَازَ الْقَضَاءِ فِيهِ. فصل : قال الشافعي في القديم من الزَّعْفَرَانِيِّ: وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ بِهَا ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ أَفْسَدَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ وَاحِدٌ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْقَضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ. فَصْلٌ : إِذَا أَوْلَجَ الْمُحْرِمُ ذَكَرَهُ في فرع خُنْثًى مُشْكِلٍ لَمْ يَفْسَدْ إِحْرَامُهُ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا، فَيَكُونُ الْفَرْجُ مِنْهُ عُضْوًا زَائِدًا، وَالْمُحْرِمُ إِذَا أَوْلَجَ فِي غَيْرِ فَرْجٍ لَمْ يَفْسُدْ إِحْرَامُهُ كَالْمُسْتَمْتِعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ بِشَاةٍ لِاسْتِمْتَاعِهِ بِالْإِنْزَالِ، كَالْمُحْرِمِ إِذَا اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَلَا غُسْلَ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا بَاشَرَ رَجُلًا لَمْ يفتدي، وَإِذَا أَوْلَجَ فِي غَيْرِ فَرْجٍ لَمْ يَغْتَسِلْ. فَصْلٌ : إِذَا بَاشَرَ الْمُحْرِمُ زَوْجَتَهُ فَلَزِمَتْهُ شَاةٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ فَلَزِمَتْهُ الْبَدَنَةُ، فَهَلْ تَسْقُطُ الشَّاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ فِي الْمُبَاشَرَةِ بِمَا وجبت عليه في الواطئ مِنَ الْبَدَنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْمُحْدِثِ إِذَا أَجْنَبَ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ لِحُدُوثِ الْجَنَابَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ بِالْجَنَابَةِ، لِطُرُوءِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ جِنْسِهَا، كَالزَّانِي بِكْرًا لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَزْنِيَ ثَيِّبًا، فَيَكُونُ الرَّجْمُ مُسْقِطًا لِلْجَلْدِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَدَنَةُ مُسْقِطَةً لِلدَمِ الْوَاجِبِ بِالْمُبَاشِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ حُكْمُ حَدَثِهِ بِالْجَنَابَةِ، لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ قَبْلَ حُدُوثِ الْجَنَابَةِ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَنَةُ بِالْوَطْءِ الْحَادِثِ وَالدَّمُ بِالْمُبَاشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَصْلٌ : إِذَا لَفَّ الْمُحْرِمُ ذَكَرَهُ فِي خِرْقَةٍ ثُمَّ أَوْلَجَهُ فِي فَرْجٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ بِهِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ عَلَى وجهين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 أَحَدُهُمَا: يُفْسِدُ الْحَجَّ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ، لِوُلُوجِ ذَكَرِهِ فِي الْفَرْجِ كَالْمُبَاشِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ لم يماس الفرج فكان الفرج كَغَيْرِ الْمُوْلَجِ وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً لَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْحَجُّ، وَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْغُسْلُ وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً فَسَدَ بِهِ الْحَجُّ، وَوَجَبَ بِهِ الْغُسْلُ، لِحُصُولِ اللَّذَّةِ بِهَذِهِ وَعَدَمِهَا بتلك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ اْلَفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النحر فقد أدرك الحج " (قال) ومن فاته ذلك فاته الحج فآمره أن يحل بطوافٍ وسعيٍ وحلاقٍ (قال) وإن حل بعمل عمرةٍ فليس أن حجه صار عمرة وكيف يصير عمرةً وقد ابتدأه حجاً (قال المزني) إذا كان عمله عنده عمل حج لم يخرج منه إلى عمرةٍ فقياس قوله أن يأتي بباقي الحج وهو المبيت بمنىً والرمي بها مع الطواف والسعي وتأول قول عمر افعل ما يفعل المعتمر إنما أراد أن الطواف والسعي من عمل الحج لا أنها عمرةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَذَكَرْنَا تَحْدِيدَ زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ الشمس الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَتَعَلَّقَ بِالْقِرَانِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْقَضَاءِ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَذَلِكَ طَوَافٌ وَسَعْيٌ وَحِلَاقٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ حَجُّهُ عُمْرَةً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَاقِي الْأَرْكَانِ وَالتَّوَابِعِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَيُتِمَّ حَجَّهُ. وَقَالَ أبو يوسف: يَنْقَلِبُ حَجُّهُ فَيَصِيرُ عُمْرَةً، فَإِذَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِأَنْ قَالَ: الْعَجْزُ عن بعض الأركان يُوجِبُ سُقُوطَ غَيْرِهِ مِنَ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ، كَالْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 قَالَ: فَوَاتُ بَعْضِ الْأَرْكَانِ لَا يُبِيحُ التَّحَلُّلَ قَبْلَ كَمَالِ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، كَالْعَائِدِ إِلَى بَلَدِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ لَا يَسْتَبِيحُ الْإِحْلَالَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَكَذَا تَارِكُ الْوُقُوفِ لَا يَسْتَبِيحُ التَّحَلُّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَاسْتَدَلَّ أبو يوسف بِأَنْ قَالَ الْإِحْرَامُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنُسُكٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ لِيَخَلُصَ مِنَ الْأَشْخَاصِ، ثُمَّ يثبت جَوَازَ انْتِقَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْمُعَافَى عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يُفْسِدُ إِحْرَامَهُ بِالْوَطْءِ فَيَنْتَقِلُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَصِيرُ عَنْ نَفْسِهِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ انْتِقَالُ الْإِحْرَامِ مَنْ نَسُكٍ إِلَى نُسُكٍ غَيْرِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَرَجَ حَاجًّا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَادِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ ثُمَّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركت الحج مَنْ قَابِلٍ فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ مِثْلَهُ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه قال: من فاته الحج فليطف، ويسعى، وليحلق، وليحج، من قابل وليهدي فِي حَجِّهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فكان إجماعاً، فبطل له قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِي إِيجَابِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوهُ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ حِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءَ عَلَى إِحْرَامِهِ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّحَلُّلِ وَأَوْجَبُوهُ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي يوسف؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ اصْنَعْ مَا يصنع المعتمر، وقال ابن عمر فليطف ويسعى وَيَحْلِقْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِ الْمُعْتَمِرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَمِرٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الْعُمْرَةِ غَيْرُ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى الْمُزَنِيِّ أَنَّ الرَّمْيَ وَالْمَبِيتَ مِنْ تَوَابِعِ الْوُقُوفِ، بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ فِي الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وُقُوفٌ وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ سَقَطَ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ تَوَابِعِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ نُسُكٌ عَرِيَ عَنِ الْوُقُوفِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ كَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّ الْوُقُوفَ مُعْظَمُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْحَجِّ مُتَعَلِّقٌ بِإِدْرَاكِهِ وَفَوَاتَ الْحَجِّ مُقْرَنٌ بِفَوَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى فَوَاتِ الْحَجِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى أبي يوسف أَنَّ النُّسُكَ نُسُكَانِ، حَجٌّ وَعُمْرَةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ انْتِقَالُ الْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ بِحَالٍ، لَمْ يَجُزِ انْتِقَالُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ بِحَالٍ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ إِحْرَامٌ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِمَّا لَمْ يَكُنْ عَجْزُهُ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا مُسْقِطًا لِشَيْءٍ مِنْ سُنَنِهَا وهيأتها، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ يَقُومُ مَقَامَهُ، كَانَ مَا عَجَزَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 عَنْهُ تَبَعًا لِبَدَلِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُقُوفُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ له، فسقط عنه توابعه بفواته، فأما مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنِ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوُقُوفِ، فَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَدِيمًا لِإِحْرَامِهِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْحَجِّ بِمَكَّةَ، فَعَلَ الطَّوَافَ مَتَى شَاءَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوُقُوفِ لِفَوَاتِ الْحَجِّ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَّا فِي وَقْتِهِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو يوسف مِنْ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ انْتِقَالُ الْإِحْرَامِ مِنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ جَازَ انْتِقَالُهُ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ، قِيلَ إِنَّمَا جَازَ انْتِقَالُهُ مَنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْإِحْرَامَ لِشَخْصٍ صَحَّ فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ فِي الْحُكْمِ مَنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ، وَالْإِحْرَامُ لا به في تعيينه بِنُسُكٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَ التَّعْيِينِ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَقَلْتُمُ الْإِحْرَامَ مَنْ نُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ، وَهُوَ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، قُلْتُمْ إِنَّ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ قَدْ صَارَ عُمْرَةً لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، قِيلَ إِنَّمَا مَنَعْنَا مِنِ انْتِقَالِ الْإِحْرَامِ الْمُنْعَقِدِ بِنُسُكٍ إِلَى نُسُكٍ آخَرَ، وَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ إِلَّا أَنَّهُ انْتَقَلَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إِلَى عُمْرَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ قَبْلَ حِلَاقِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْحِلَاقَ فَهَلْ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ كَانَ عَلَى إحرامه حتى يحلق ويقصر وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ السَّعْيُ، وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِهِ، فَأَمَّا السَّعْيُ فَمُجْزِئٌ، وَإِنَّمَا قال الشافعي هاهنا طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَعَى قَبْلَ الْفَوَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ، فَلَوْ أَرَادَ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامِهِ إِلَى الْعَامِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ كَابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ: فَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِبٌ. وَقَالَ مالك في أحد رِوَايَاتِهِ الْقَضَاءُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَأَمْرِهِمْ بِالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إِجْزَاءِ الْحَجِّ شَيْئَانِ: فَوَاتٌ وَفَسَادٌ، فَلَمَّا كَانَ الْفَسَادُ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَوَاتُ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مَا يَعُمُّ الْإِجْزَاءَ فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ الْقَضَاءَ كَالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ لَا غَيْرَ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أن يقضي حجة وعمرة، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِقَضَاءِ الْحَجِّ وَلَمْ يَأْمُرُوا بِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ إِحْرَامُ الْأَدَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَدَاءِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، اسْتِشْهَادًا بِسَائِرِ الْأُصُولِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْفَسَادِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْفَوَاتِ، فإذا لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 يَلْزَمْهُ بِالْفَسَادِ إِلَّا قَضَاءُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْحَجِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِالْفَوَاتِ إِلَّا قَضَاءَ مَا فَاتَ مِنَ الْحَجِّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ وَحْدَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِ الْمُقْبِلِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ كَأَصْلِ الْحَجِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامِهِ الْمُقْبِلِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا وَلِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ، فَلَوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فِي الْقَضَاءِ كَانَ كَفَوَاتِهِ فِي الْأَوَّلِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عِنْدنَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ " شَاةٌ ". وَقَالَ أبو حنيفة: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُمْ لِيُهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ الْكَفَّارَةَ كَالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ أن الكفارة واجبة فهي زَمَانِ وُجُوبِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْفَوَاتِ فِي عَامِ الْفَوَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَالْبَدَنَةِ فِي الْوَطْءِ، فَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي عَامِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي عَامِ الْفَوَاتِ أَجْزَأَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْفَوَاتِ فِي عَامِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهَا فِي عَامِ الفوات فهي الْإِجْزَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ سَبَبِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ فِي عَامِ الْفَوَاتِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَّارَةُ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لَا تَفُوتُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يُحْصَرْ حَتَّى يُكْمِلَهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلَاقِ، فَأَمَّا الْقِرَانُ فَإِنَّهُ يَفُوتُ كفوات الحج، فَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ قَارِنًا فَفَاتَهُ الْوُقُوفُ طَافَ وَسَعَى وَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ دَمَانِ، دَمٌ لِلْقِرَانِ وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ كفوات الحج فلم يلزمه قَضَاؤُهَا بِالْفَوَاتِ كَالْحَجِّ، وَقَدْ أَكْمَلَ أَفْعَالَهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ بَيْنَهُمَا كَانَتِ الْعُمْرَةُ تَبَعًا، فَلَمَّا أَوْجَبَتِ الْفَوَاتَ قَضَى الْحَجَّ الْمَتْبُوعَ كَانَ إِيجَابُ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ التَّابِعَةِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَنَ فِي الْقَضَاءِ أَجْزَأَهُ الْقِرَانُ عَنْهُمَا، وإن أفردهما أجزأه ذلك عنهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 وعليه ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ دَمٌ لِقِرَانِهِ فِي الْأَدَاءِ وَدَمٌ لِلْفَوَاتِ وَدَمٌ لِقِرَانِهِ فِي الْقَضَاءِ سَوَاءٌ قَضَاهُ قارناً أو مفرداً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَدْخُلُ مَكَةَ إِلَّا بِإِحْرَامٍ فِي حَجٍّ أَوْ عمرةٍ لِمُبَايَنَتِهَا جَمِيعَ الْبُلْدَانِ إِلَّا أَنَّ من أصحابنا من رخص للحطابين ومن يدخله لِمَنَافِعِ أَهْلِهِ أَوْ كَسْبِ نَفْسِهِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَلَعَلَّ حَطَّابِيهِمْ عَبِيدٌ وَمَنْ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ الدَّاخِلِ إِلَى مَكَّةَ لِغَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَهَا مُقَاتِلًا إِمَّا قِتَالًا وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا مِنْ غَيْرِ قِتَالِ مَعْصِيَةٍ كَأَهْلِ الْبَغْيِ إِذَا لَجَؤُوا إِلَيْهَا فَأَرَادَ الْإِمَامُ قِتَالَهُمْ فَيَجُوزُ لِمَنْ دَخَلَهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُقَاتِلًا أن يَدْخُلَهَا حَلَالًّا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ مَكَةَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثمانٍ حَلَالًا وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ وَقَالَ أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لأحدٍ بَعْدِي دَخَلْتُهَا وَعَلَى رَأْسِي مِغْفَرٌ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " وَلَا تَحِلُّ لأحدٍ بَعْدِي " إِلَّا لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِي لِأَنَّ الشَّرْعَ إِذَا ثَبَتَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثبت لغيره أُمَّتِهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَلِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ الْمُحَارِبِ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْقِتَالِ مَشَقَّةً غالية إِذْ لَا يَأْمَنُ رَجْعَةَ عَدُوِّهِ وَهُوَ بِإِحْرَامِهِ قَدْ تَجَرَّدَ فَلَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَبَاحَ لِأَجْلِ ذَلِكَ تَرْكَ الْإِحْرَامِ وَالدُّخُولَ إِلَيْهَا حَلَالًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَهَا لِمَنَافِعِ أَهْلِهَا أَوْ كَسْبِ نَفْسِهِ كَالَّذِينِ يُكْثِرُونَ الدُّخُولَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَالْحَطَّابِينَ وَالسَّاقِينَ وَالْجَلَّابِينَ وَأَصْحَابِ الْمَبَرَّةِ فَيَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، لِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ لِإِقْرَارِ السَّلَفِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِي أَمْرِهِمْ بِالْإِحْرَامِ مَعَ كَثْرَةِ دُخُولِهِمُ انقطاع عن مكاسبهم ومشقة غالية فِي تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ مَعَ تَرَادُفِ دُخُولِهِمْ فَعُذِرُوا بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ أُرَخِّصُ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِذَا دَخَلُوا فِي السَّنَةِ مَرَّةً بِإِحْرَامٍ فَكَانَ أَمْرُهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا فِي السَّنَةِ مَرَّةً لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ عَلَى الإيجاب وإنما قاله استحباباً وفي معنى الخطابين مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُسَافِرًا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ نَسِيَ شَيْئًا فَرَجَعَ لِأَخْذِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ مُحِلًّا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ. وَالضَّرِبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِغَيْرِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا مُتَوَطِّنًا أَوْ قَادِمًا إِلَى وَطَنٍ أَوْ تَاجِرًا أَوْ زَائِرًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا بِنُسُكٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ قَالَ أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ: " لَا بَلْ لِلْأَبَدِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتِهِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَهَا حَلَالًا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ أُسْقِطَ فَرْضُ نسكه فجاز أن يدخلها حلال كَالْحَطَّابِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ قَالَهُ فَيَ الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْحَجِّ أَنَّ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الهَدْيَ وَلاَ القَلائِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامِ) {المائدة: 2) يَعْنِي: قَاصِدِينَ فَمَنَعَ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ قَصْدِ الْبَيْتِ لِمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ وَحَظَرَ تَحْلِيلَ ذَلِكَ بِتَرْكِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} (البقرة: 125) . وَالْمَثَابَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالنُّسُكِ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: (مُثَابٌ لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إِلَيْهِ الْيَعْمُلَاتُ الذَوَامِلُ) وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إن أبي إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا يَدْخُلْهَا أحدٌ إِلَّا محرماً " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَهَا حَلَالًا: " أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لأحدٍ بَعْدِي " فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِحْلَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ دُخُولَ مَكَّةَ أَوِ الْمَشْيَ إِلَى الْبَيْتِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَلَوْ جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا نَذَرَ دُخُولَهَا أَنْ يُحْرِمَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فِي النُّذُرِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الدُّخُولِ، وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا اخْتُصَّتْ بِالنُّسُكَيْنِ وَالْقِبْلَةِ تَشْرِيفًا لَهَا وَحُرِّمَ قَتْلُ صَيْدِهَا وَقَطْعُ شَجَرِهَا لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا اخْتُصَّتْ بِالْإِحْرَامِ لِدُخُولِهَا مُبَايَنَةً لِغَيْرِهَا وَعَلَى كِلَا القولين يستوي حكم القادر إِلَيْهَا مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ قَدِمَ مِنْ دُونِ الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ وَإِنْ قَدِمَ مِنْ وَرَائِهَا لَزِمَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحِيَّةٌ لتعظيم البقعة فاقتضى أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْقَادِمِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ وَوَرَائِهَا فِي وُجُوبِهَا وَاسْتِحْبَابِهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ لِدُخُولِهَا وَاجِبٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ دُخُولِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي شُهُورِ الْحَجِّ أَوْ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ. فَإِنْ دَخَلَ فِي شُهُورِ الْحَجِّ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنْ أَحْرَمَ لِدُخُولِهَا إِحْرَامًا مَوْقُوفًا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ دَخَلَ فِي غَيْرِ شُهُورِ الْحَجِّ صَرَفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ وَلَمْ يَجُزْ صَرْفُ إِحْرَامِهِ إِلَى الْحَجِّ، لِأَنَّ غَيْرَ شُهُورِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ بِالْحَجِّ وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ عُمْرَةً وَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ والحلاق فلا أَحْرَمَ لِدُخُولِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا وَدَخَلَهَا مُحْرِمًا وَلَمْ يَصْرِفْ إِحْرَامَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ شُهُورُ الْحِجِّ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَ الْإِحْرَامِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا جَازَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِحْرَامُهُ فِي غَيْرِ أَشْهَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 الْحَجِّ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى عُمْرَةٍ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ حَجًّا وَكَانَ عُمْرَةً فَكَذَا إِذَا أَحْرَمَ مَوْقُوفًا لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا وَكَانَ عُمْرَةً. فَصْلٌ : فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِنُسُكٍ فَقَدْ أَسَاءَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَعَصَى عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبًا صَارَ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَاجِبًا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نُسُكٌ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ نُسُكٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ نُسُكٍ كَالْمَكِّيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكِّيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فَوَجَبَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِّيٍّ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ كالحطابين والسقايين وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ ثَانِيَةً لِلْقَضَاءِ تَعَلَّقَ الْإِحْرَامُ بِالدُّخُولِ الثَّانِي كَتَعَلُّقِهِ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَخْلُصْ لَهُ حَالَةٌ يَصِحُّ فِيهَا الْقَضَاءُ إِلَّا وَمُتَعَلِّقٌ بِهَا فِعْلُ الْإِحْرَامِ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ فَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَا تُقْضَى لِأَنَّهُ فِي أَيِّ الزَّمَانِ فَعَلَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا وَلَمْ يَكُنْ قَاضِيًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ فلأن قَضَاؤُهُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الْقَضَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَقَضَاءُ الدُّخُولِ يَتَعَلَّقُ به ما يتعلق بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ جُبْرَانًا لِنَقْصٍ دَخَلَ عَلَى نُسُكٍ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالنُّسُكِ لَمْ يَلْزَمْهُ جُبْرَانُ مَا عُدِمَ أَصْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 باب من لم يدرك عرفة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا أنسٌ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ وَلْيَطُفْ بِهِ وَلْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إِنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَيَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا أَدْرَكَ الْحَجَّ قَابِلًا فَلْيَحْجُجْ وَلْيُهْدِ " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ " اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَ قَدْ حَلَلْتَ فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ قَابِلًا فاحجج وأهد ما استيسر من الهدي " وقال عمر رضي الله عنه أيضاًَ لهبار بن الأسود مثل معنى ذلك وزاد " فإن لم تجد هدياً فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيامٍ فِي الْحَجِّ وسبعةٍ إِذَا رجعت " (قال الشافعي) فبهذا كله نأخذ (قال) وفي حديث عمر دلالة أنه استعمل أبو أيوب عمل المعتمر لا إن إحرامه صار عمرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَكَرْنَا حُكْمَ فَوَاتِ الْحَجِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ وَاسْتَوْفَيْنَا الحجاج عليه ولم يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ تَحْدِيدَ الْمَذْهَبِ وَأَفْرَدَ هَذَا الْبَابَ بِذِكْرِ الْحِجَاجِ وَقَدْ مضيا معاً وبالله التوفيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 بَابُ الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْعَبْدِ إِذَا عُتِقَ والذمي إذا أسلم وقد أحرموا مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا بَلَغَ غُلَامٌ أَوْ أُعْتِقَ عَبْدٌ أَوْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ وَقَدْ أَحْرَمُوا ثُمَّ وَافَوْا عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أدركوا الحج وعليهم دم (قال) وفي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ لَا يَبِينُ لَهُ أَنَّ الْغُلَامَ وَالْعَبْدَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ دَمٌ وَأَوْجَبَهُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ قَبْلَ عَرَفَةَ وَهُوَ كافر ليس بإحرام (قال المزني) فإذا لم يبن عنده أن على العبد والصبي دماً وهما مسلمان فالكافر أحق أن لا يكون عليه دم لأن إحرامه مع الكفر ليس بإحرام والإسلام يجب ما كان قبله وإنما وجب عليه الحج مع الإسلام بعرفاتٍ فكأنها منزلةٌ أو كرجل صار إلى عرفة ولا يريد حجاً ثم أحرم أو كمن جاوز الميقات لا يريد حجاً ثم أحرم فلا دم عليه وكذلك نقول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صَبِيٍّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ، وَعَبْدٍ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثم أعتق وكافراً أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَبَدَأَ بِالْكَلَامِ فِي الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ لِبِدَايَةِ الشَّافِعِيِّ بِهِمَا وَاشْتِرَاكِ حُكْمِهِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّ يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أبي حنيفة في الصبي. ودليلنا عليه فإذا ثبت صحة حجمهما فبلغ الصبي وأعتق العبد بعد حجمهما لَمْ تُجْزِهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ فَرْضُ الحج إذا وجب عليهما باقياً في ذمتهما لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ عَشْرَ حِجَجٍ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ بَعْدَ أَنْ يَكْبُرَ وَلَوْ حَجَّ الْعَبْدُ عَشْرَ حججٍ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ " فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْإِحْلَالِ فَلِذَلِكَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبُلُوغُ وَالْعِتْقُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ فِي عَرَفَةَ فَهُمَا سَوَاءٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَيُجْزِئُهَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيُسْقِطُ ذَلِكَ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْهُمَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ حَجُّ الصَّبِيِّ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ حَجُّ الْعَبْدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 تطوعاً بناء على أصله في أن مَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ يَصِحُّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ وَنَحْنُ نَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ، وَأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ مِنَ الْحِجَاجِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ قَالَ كَيْفَ يُجْزِئُ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ عَنْ فَرْضِهِمَا حَجٌّ ابْتِدَاءً تَطَوُّعًا وَلَيْسَ مِثْلُ مَنْ يُحْرِمُ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ لِأَنَّ إِحْرَامَ مَنْ أَحْرَمَ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ لَمْ يُعْقَدْ عَلَى تَطَوُّعٍ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى فَرْضٍ وَإِحْرَامُ هَذَيْنِ انْعَقَدَ عَلَى تَطَوُّعٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إِلَى فَرْضٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَرْضِ نَجْدٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: " الْحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ". فَكَانَ عَلَى عمومه ولأن وُقُوفُ مُكَلَّفٍ تَعَقَّبَ إِحْرَامًا صَادَفَ حُرِّيَّةً وَإِسْلَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ إِحْرَامَ هَذَيْنِ قَدِ انْعَقَدَ تَطَوُّعًا فَلَمْ يَصِرْ فَرْضًا وَخَالَفَ مَنْ أَحْرَمَ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِالتَّطَوُّعِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بِالْفَرْضِ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِهِ لِمَا امْتَنَعَ بما تقدم من الحجاج أن يبتدأ بِالتَّطَوُّعِ وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ وَقَدْ يَتَحَرَّرُ ذَلِكَ قِيَاسًا فَنَقُولُ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ كَالْمُبْتَدِئِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهَلْ عَلَيْهِمَا دَمٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا دَمٌ، لِأَنَّ إِحْرَامَ الْفَرْضِ إِنَّمَا اعْتَدَّا بِهِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَارَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ وَمَا مَضَى مِنْ إِحْرَامِهِمَا الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَكَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَصَارَ كَمَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فَأَحْرَمَ بَعْدَهُ فَلَزِمَهُمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ دَمٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمَا لِإِتْيَانِهِمَا بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ مِنَ الْمِيقَاتِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِمَا كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ بُلُوغُهُمَا وَحُرِّيَّتُهُمَا. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْحَرِيَّةُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْوُقُوفِ فَائِتًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْوُقُوفِ فَائِتًا لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَيَكُونُ حَجُّهُمَا تَطَوُّعًا وَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُمَا الْحَجُّ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَوُجِدَتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ لَزِمَهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنْ عَدِمَا شَرَائِطَ الْوُجُوبِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ وَلَا دَمَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بصلاة وقته ثم بلغ قبل الإسلام مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ عَنْ فَرْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْهَا أَقَلَّهَا فَهَلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 كَانَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ فِي الْحَجِّ يُسْقِطُ عَنْهُ الْفَرْضَ وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَقَلَّ؟ قِيلَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ بَلَغَ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا فَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهَا أَقَلُّهَا وَالصَّبِيُّ لَوْ بَلَغَ بَعْدَ فِعْلِ الْحَجِّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَاعْتَبَرَ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا يَقَعُ بِهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَرْجِعَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ إِلَى عَرَفَةَ أَوْ لَا يَرْجِعَا فَإِنْ رَجِعَا إِلَى عَرَفَةَ فَوَقَفَا بِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُمَا ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ وَهَلْ عَلَيْهِمَا دَمٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا إِلَى عَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَجَّهُمَا يَكُونُ تُطَوُّعًا وَلَا يُجْزِئُهَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ الْوُقُوفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي زَمَانٍ يَكْمُلُ فِيهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ قَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا فَرْضُ الْحَجِّ لِوُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا بِوُجُودِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ لِأَنَّ الوقوف بعد البلوغ والحرية يمكن أَلَا تَرَى أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْحَرِيَّةِ مُمْكِنٌ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْحَجِّ وَفَوَاتَهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْوُقُوفِ دُونَ زَمَانِ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّمَانِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يقف لفوات الزمان وإذا كان لذلك كَانَ وُجُودُ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ كَوُجُودِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَ زَمَانِ الْوُقُوفِ فَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْ فَرْضِهِ مِنْ حِينِ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ قبل الوقوف بعرفة وكان قد سعى قبل بُلُوغِهِ مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ بِعَرَفَةَ لِيَكُونَ السَّعْيُ مَوْجُودًا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَلَا يُجْزِئُهُ سَعْيُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَإِنْ لَمْ يُعِدِ السَّعْيَ كَانَ تُحَلُّلُهُ صَحِيحًا وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ بَاقِيًا وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ السَّعْيِ وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوُقُوفِ وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِحْرَامُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ وَعِبَادَاتُ الْأَبْدَانِ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِسْلَامِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ أَوْ بَعْدَ زَمَانِ الْوُقُوفِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْوُقُوفِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَلَزِمَهُ فَرْضُ الْعُمْرَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِهَا وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا؛ لِأَنَّ فَرْضَهَا عَلَى التَّرَاخِي وَالتَّوْسِعَةِ فَإِنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ زَمَانِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ فِي زَمَانِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَيُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَامِهِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ فِي عَامِهِ فَيَنْوِيَ الْإِحْرَامَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 عَنْ عَامِهِ إِلَى عَامٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عِنْدَنَا عَلَى التَّرَاخِي وَالتَّوْسِعَةِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ عَامِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَرَّ بميقاته مريداً بالحج فِي غَيْرِ عِلْمِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهِ فِي عَامِهِ فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْحَجِّ وَإِنْ أَرَادَ فِعْلَ الْحَجِّ فِي عَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِحْرَامًا بِالْحَجِّ جَدِيدًا؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَإِذَا اسْتَأْنَفَ الْإِحْرَامَ نَظَرَ فَإِنْ عَادَ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ عَرَفَةَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى مِيقَاتِهِ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فِي عَامِهِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ إِحْرَامًا صَحِيحًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ إِحْرَامَهُمَا صَحِيحٌ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ " وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الدَّمَ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا قبله. والثاني: أنه قَالَ إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَهُوَ كَمَنْ مَرَّ بِهِ غَيْرَ مريد للحج فلا يلزمه دم قبل هَذَا مُرِيدٌ لِلْحَجِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ وَفِعْلُ الْإِحْرَامِ يَصِحُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ الْإِحْرَامُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَنَافِي الْعِبَادَاتِ فَلَمْ يَنْعَقِدِ الْإِحْرَامُ مَعَهَا كَالْكُفْرِ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ إِحْرَامِهِ فَفِي بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ حَجُّهُ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ فِيهِ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَجَّهُ لَا يَبْطُلُ لِحُدُوثِ الرِّدَّةِ فِيهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَنَى عَلَى حَجِّهِ وَأَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ فِيهِ بِالرِّدَّةِ فَأَمَّا إِذَا أَتَمَّ الْمُسْلِمُ حَجَّهُ ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ الْمَاضِي وَلَمْ يَبْطُلْ عَمَلُهُ الْمُتَقَدِّمُ إِلَّا أَنْ يموت على الردة فإن عاد إلا الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْحَجِّ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَجِّهِ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبِطَنَّ عَمَلُكَ) {الزمر: 65) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيِمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) {المائدة: 5) فأحبط عَمَلُهُ فِي هَذَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِنَفْسِ الْكُفْرِ دُونَ الْمَوْتِ عَلَيْهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ " فَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي سُقُوطَ جَمِيعِ عَمَلِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْدَثُ إِسْلَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْحَجَّ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ مُرْتَدًّا فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ إِجْمَاعًا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ بِالشِّرْكِ أَوْ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَمُوتُ وَلَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أُحْبِطَ عَمَلُهُ بِالرِّدَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) {البقرة: 275) وَهَذَا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَقَدِ انْتَهَى بِمَوْعِظَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولِئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ) {البقرة: 217) وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنْ حَبْطَ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالْمَوْتِ وَفِيهَا انفصال عن الاثنين، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَلْزَمْهُ حَجَّةٌ أُخْرَى بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْمُسْلِمِ غَيْرِ المرتد. فأما الجواب عن الاثنين فَقَدْ مَضَى وَأَنَّهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ " فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ عَمَلَهُ يَحْبَطُ بِالرِّدَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِالرِّدَّةِ وَبِالْمَوْتِ وَمَا أَحَدٌ مِنَّا يَقُولُ إِنَّ عَمَلَهُ يَحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَالْمَعْنَى فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ فِعْلُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَمَلَهُ إِمَّا أَنْ يَحْبَطَ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالرِّدَّةِ. قُلْنَا: لَا بَلْ عَمَلُهُ يَحْبَطُ بِهِمَا فَأَمَّا بأحدهما فلا والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَفْسَدَ الْعَبْدُ حَجَّهُ قَبْلَ عَرَفَةَ ثُمَّ أُعْتِقَ وَالْمُرَاهِقُ بِوَطْءٍ قَبْلَ عَرَفَةَ ثُمَّ احْتَلَمَ أثما ولم تجز عنهما من حجة الإسلام لأنه رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن امرأةً رفعت إليه من محفتها صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا أحج قال " نعم ولك أجر " (قال) وإذا جعل له حجاً فالحاج إذا جامع أفسد حجه (قال المزني) وكذلك في معناه عندي يعيد ويهدي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ ثُمَّ وطء فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَالْحُرِّ قَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّنْ يِلْزَمُهُ الْحَجُّ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ فَهَلْ يَقْضِي فِي حَالِ رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِنْ قَضَاهُ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرَضٌ وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الرِّقُّ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ إِسْقَاطِ فَرْضِ الْقَضَاءِ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا إِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنما لزمه باختياره والسيد منع عبده مما وَجَبَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ صَلَاةِ النَّذْرِ وَصِيَامِ النَّذْرِ فَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مدة رقه كان له إذا أعتقه فأما القضاء فلم يتناوله لأنه قد صار قضاء حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَهَلْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالْحَجِّ إِذْنٌ بِهِ وَبِمُوجَبِهِ وَالْقَضَاءُ مِنْ مُوجَبِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَنْعُهُ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَجَّ الْأَوَّلَ وَمُوجِبُهُ الَّذِي لا يعرى منه فأما القضاء فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَرَّى مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مُدَّةَ رِقِّهِ وَإِنْ مَكَّنَهُ مِنَ الْقَضَاءِ فِي رِقِّهِ فَقَضَاهُ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ حَتَّى أَعْتَقَ فَقَدْ لَزِمَهُ حَجَّتَانِ الْقَضَاءُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَضَاءِ، لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فَإِنْ قَدَّمَ الْقَضَاءَ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْصَرَفَ إِحْرَامُهُ إِلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ دُونَ الْقَضَاءِ وَلَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِيمَا بَعْدُ لِحَجَّةِ الْقَضَاءِ هَذَا إِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ إلى أن أحل من حجة الفساد والله أعلم. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أُعْتَقَ فِي حَجَّةِ الْفَسَادِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي أَفْسَدَهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَضَاؤُهُ يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَفْسَدَهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَضَاؤُهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَمَنْ بَعْضُهُ حر فأما الصبي إذا وطء فِي حَجِّهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ مِنْ قَبْلُ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ فَإِنْ بَلَغَ فِي حجه الذي أفسده كان لعتق الْعَبْدِ فِي حَجِّهِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ حَجَّهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ الْقَضَاءُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ لَوْ عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ لم يجزئه عن حجة الإسلام. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَدَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهُ حَبْسُهُ وفيه قولان: أحدهما تقوم الشاة دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مد يوماً ثم يحل والآخر لا شيء عليه حتى يعتق فيكون عليه شاةً (قال المزني) أولى بقوله وأشبه عندي بمذهبه أن يحل ولا يظلم مولاه بغيبته ومنع خدمته فإذا أعتق أهراق دماً في معناه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْإِحْرَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ ولم يلزمه أن يحرم، لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَا يَرْتَفِقُ السَّيِّدُ بِهِ فَلَمْ يُجْبِرِ الْعَبْدَ عَلَيْهِ وَغَلَطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَعَلَى الْعَبْدِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ فِيهِ، لِأَنَّ فَوَاتَ حَجِّهِ عَائِدٌ إِلَيْهِ فَجَازِ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهَا وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِاعْتِقَادٍ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ لَمْ تَجِبْ بِإِجْبَارِ السَّيِّدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى التَّطَوُّعِ بِهِمَا وَإِنَّ عَادَ إِلَيْهِ فَوَاتُهُمَا فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْحَجِّ جَازَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهَا بَعْضُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَإِذَا أَحَلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إِلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَأْنَفٍ فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ وَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ بَيْنَ مَنْعِهِ أَوْ تَرْكِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِحْرَامُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ عملٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ "، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِعْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَهُوَ بَاطِلٌ إِذَا عَقَدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَ الصَّبِيِّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ بَاطِلٌ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَتِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٍ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا يَفْتَقِرُ انْعِقَادُهَا إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فَإِنِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ الْعَبْدُ تُطَوِّعَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ كَانَ مُنْعَقِدًا وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَهُ كَذَلِكَ الْحَجُّ بَلْ حَالُهُ أَوْكَدُ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادُ الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ سَيِّدِهِ كَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَتْرُوكُ الدَّلَالَةِ. وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ وَالْإِحْرَامُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فِعْلَ عَبْدِهِ وَالْإِحْرَامُ اعْتِقَادٌ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اعْتِقَادَ عَبْدِهِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَفِي إِحْرَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ فَعَلَى هَذَا بَطَلَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَنَّ الْإِحْرَامَ اعْتِقَادٌ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ فَصَحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا إِلَّا بِاعْتِقَادِ وَلِيِّهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِحْرَامَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ مُنْعَقِدٌ فَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ فِعْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَا وَجَبَ لَهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ مَنَعَهُ صَارَ الْعَبْدُ كَالْمُحْصَرِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْصَرِ وَيَتَحَلَّلُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يُمَلِّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا أَوْ لَا يُمَلِّكَهُ فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَا يُحِلُّ مِنْهُ حَتَّى يُهْدِيَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِدَمِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ وَهَلْ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ إِرَاقَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ بَدَلٌ وَهُوَ الصَّوْمُ وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَالثَّانِي: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِثْلُ فِدْيَةِ التَّمَتُّعِ. وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَعَلَى هَذَا هَلْ يَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ صِيَامِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحُرِّ سَوَاءٌ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّمِ وَقَبْلَ الصَّوْمِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِالتَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ سَيِّدِهِ وَفِي الْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامِهِ أَعْظَمُ إِضْرَارًا بِهِ. فَصْلٌ : إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي الْإِحْرَامِ بحج أو عمرة ثم رجع السيد عَنْ إِذْنِهِ فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَمْ يكن للعبد الإحرام بعد رجوع سيده، لأنه فَعَلَ الْإِحْرَامَ غَيْرَ مُلْزَمٍ لِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ حَجِّهِ وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَمْ يُلْزِمْهُ وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَهُ وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْإِحْلَالِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَبْدَ بِإِحْرَامِهِ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ قَدْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ حَجِّهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 عَبْدِهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَقْدُهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ، فَلَوْ رَجَعَ السَّيِّدُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ إِحْرَامِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُعْلِمِ الْعَبْدَ بِرُجُوعِهِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ وَهَلْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا انْصَرَفَ فِي قِصَاصٍ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ هَلْ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَعَمَلًا مَضْمُونًا أَمْ لَا؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِنَّ وَكَالَتَهُ تَبْطُلُ بِرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ الْوَكِيلُ وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ بَاطِلًا وَعَمَلُهُ مَضْمُونًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بَعْدَ رُجُوعِ سَيِّدِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ كَإِحْرَامِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إِلَّا بِرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ وَعِلْمِ الْوَكِيلِ وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ مَاضِيًا وَعَمَلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِحْرَامُ الْعَبْدِ بَعْدَ رُجُوعِ سَيِّدِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ كَإِحْرَامِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَلَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ. فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ إِنِ السَّيِّدُ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْمَامِ حَجِّهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إِتْمَامِهِ وَيَكُونُ كالمحرم بإذن. فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَرَنَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَانَ قِرَانًا صَحِيحًا وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقَارِنِ كَأَعْمَالِ الْمُفْرِدِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَأَحْرَمَ قَبْلَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَانَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ شَغَلَ نَفْسَهُ عَنْ تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. فَصْلٌ : إِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ السَّيِّدُ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُؤَاجَرِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤَاجَرَ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ وَعَلَيْهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ يَدٌ حَائِلَةٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْعَبْدُ الْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا عَلَيْهِ يَدٌ حَائِلَةٌ فَجَازَ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ فِي إِحْرَامِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا مَعِيبًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِإِحْرَامِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِحْرَامِهِ حَتَّى أَحَلَّ مِنْهُ فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالْحَالِ. وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دفع الضرر عن نفسه يمنع الْعَبْدِ مِنْ إِحْرَامِهِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ وَإِنَّمَا كَانَ بِالْخِيَارِ وإن لم يكن إحرامه في ملكه لأن إحرام العبد لما كان عن غير إذن السيد كان إِحْرَامُهُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَكَانَ لِمَالِكِ رِقِّهِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ وَإِبْطَالِ تَصَرُّفِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَكَّنَهُ الْبَائِعُ وَمَنْعَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ مَنْعُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى مِنْ تَمْكِينِ الْبَائِعِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ مَالِكٍ وَوُجُوبِ التَّمْكِينِ من غير مالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَأَعْطَاهُ دَمًا لِتَمَتُّعِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ إِلَّا الصَّوْمُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا وَيُجْزِي أَنْ يُعْطِيَ عَنْهُ مَيْتًا كَمَا يُعْطِي عَنْ ميتٍ قَضَاءً لِأَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَنِ الْعَبْدِ فِي إِحْرَامِهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجِبَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ السَّيِّدِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُعْسِرًا لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَكَفَّارَتُهُ الصِّيَامُ وَإِنْ مَلَكَّهُ السَّيِّدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ وَيُكَفِّرُ بِالدَّمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ لِقُدْرَتِهِ وَمِلْكِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ حَتَّى أُعْتِقَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ هَلْ يُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حال الأداء؟ على القولين أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْأَدَاءِ كَالصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالدَّمِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الدَّمِ عَنِ الصَّوْمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الصَّوْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يَكُنْ يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ وَكَذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِهِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الصَّوْمُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَجِبَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ عَنْ أَمْرِ السَّيِّدِ فَهَذَا على ضربين: أحدهما: ما لا يستبح فِعْلُهُ وَإِنْ أَمَرَهُ السَّيِّدُ بِهِ كَالْوَطْءِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَهَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا فَعَلَهُ من غير أمر السيد، لأنه أَمْرَ السَّيِّدِ لَا يُبِيحُ مَا كَانَ مَحْظُورًا فَكَانَ وُجُودُ أَمْرِهِ كَعِدْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يستبيح فِعْلُهُ بِأَمْرِ السَّيِّدِ كَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَإِذَا تَمَتَّعَ وَقَرَنَ عَنْ أَمْرِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ يَكُونُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَا يُجْزِئُهُ الدَّمُ وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِخْرَاجُ الدَّمِ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيُجْزِئُهُ الدَّمُ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِهِ فَعَلَى هَذَا عَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ الدَّمِ عَنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْعَبْدِ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ الْعَبْدِ دُونَ فِعْلِ السَّيِّدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ كَالْمُعْسِرِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ كَفَّرَ بِالدَّمِ كَالْمُوسِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 فَلَوْ أَخْرَجَ السَّيِّدُ عَنْهُ الدَّمَ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ عَنِ الْحَيِّ إِلَّا بِأَمْرِهِ. فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالصَّوْمِ وَقَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّدُهُ بِالدَّمِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى السَّيِّدِ فِيمَا أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَعَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُهَا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا لَمْ يَأْمُرْهُ السَّيِّدُ أَوْ فِيمَا أَمَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ السَّيِّدُ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ أَجْزَأَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ أَمْ لَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ سَعْدًا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ تَكْفِيرَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ تَكْفِيرَ السَّيِّدِ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطُ فَرْضٍ لَزِمَهُ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمَسَاكِينِ. قِيلَ: إِنَّمَا أَجْزَأَهُ تَكْفِيرُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِي حَيَاتِهِ، لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالدَّمِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِذْنُهُ فِيهِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَحَّ التَّكْفِيرُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 باب هل له أن يحرم بحجتين أو عمرتين وما يتعلق بذلك مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " من أهل بحجتين أو عمرتين معاً أو بحج ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَجًّا آخَرَ أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بعمرةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَهُوَ حَجٌّ واحدٌ وَعُمْرَةٌ واحدةٌ وَلَا قَضَاءَ عليه ولا فدية (قال المزني) لا يخلو من أن يكون في حجتين أو حجةٍ فإذا أجمعوا أنه لا يعمل عمل حجتين في حالٍ ولا عمرتين في صومين في حالٍ دل على أنه لا معنى إلا لواحدةٍ منهما فبطلت الأخرى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْإِحْرَامُ بِحَجَّتَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ وَكَذَلِكَ بِعُمْرَتَيْنِ فَإِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ بِحَجَّةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى كَانَ حَجًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا أُخْرَى كَانَتْ عُمْرَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْأُخْرَى. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَوَجَّهَ فِي السَّيْرِ رَفَضَ إِحْدَاهُمَا وَقَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ دَمٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِّمُوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامَ جِنْسِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلِأَنَّهُ إِحْرَامٌ تَضَمَّنَ تسكين فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمَا جَمِيعًا كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَرْدًا وَكَالصَّلَاتَيْنِ عَكْسًا وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ لَهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ حَجَّتَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ بِهِمَا لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ بَلْ لِلْأَبَدِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا كَالصَّلَاتَيْنِ فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاتَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَاهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِمَا وَلَمَّا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَى الْحَجَّتَيْنِ انْعَقَدَ بِهِمَا قِيلَ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى فِي الْحَجِّ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَإِذَا أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدْ إِحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا بِنِيَّتِهِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ غَيْرُ وَاجِبٍ فَإِذَا أَحْرَمَ بِهِمَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِإِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِهَا بِنِيَّتِهِ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَصِحُّ الْمُضِيُّ فِيهِمَا فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا كَالصَّلَاتَيْنِ وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مَنَعَ الْوَقْتُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ ابْتِدَائِهِمَا كَالصَّوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ واحد؛ ولأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الْإِحْرَامَ بِالنُّسُكِ يُوجِبُ انْعِقَادَ النُّسُكِ وَالْمُضِيَّ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ الْمُضِيَّ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ فِيهِمَا يُوجِبُ انْعِقَادَهُمَا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَشْتَمِلَ عَلَى حَجَّتَيْنِ كَالْمُضِيِّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ كَالطَّوَافِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ عَنْ حَجَّتَيْنِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ عَنْ حَجَّتَيْنِ كَالطَّوَافِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ إِتْمَامَ مَا انْعَقَدَ وَحَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، وأبو حنيفة يَمْنَعُ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ لِأَنَّ خِلَافَنَا فِي انْعِقَادِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا ولما كان النسكان المتفقان لم يمكن الْمُضِيُّ فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ إِحْرَامُهُ بِهِمَا وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالنَّذْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ أَعَمُّ لَهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْفِعْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَلَاتَيْنِ لَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهِمَا فَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 باب الإجارة على الحج والوصية به مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز أن يستأجر الرجل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مركبٍ لِضَعْفِهِ أَوْ كِبَرِهِ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ يُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْحَجِّ جَائِزَةٌ وَالِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ جَائِزٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ وَقَعَتِ الْحَجَّةُ لِلْحَاجِّ وَكَانَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابٌ يَعْقُبُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَلَا النِّيَابَةُ فِيهَا كَالْجِهَادِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: لَا قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْحَجِّ عَنْ شُبْرُمَةَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْهُ وَالْفَرْضُ سَاقِطًا بِهِ وَرُوِيَ عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَتْ أَيَنْفَعُهُ قَالَ: نَعَمْ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَيَنْفَعُهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى، فَجَعَلَ قَضَاءَ الْحَجِّ عَنْهُ مسقط لفرضه كما أن قضاء الدين عنه مسقطاً لدينه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي رَزِينٍ " حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ " وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ ويصح وعليه عَقْدُ الْإِجَارَةِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَكَتْبِ الْمَصَاحِفِ فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ قُلْنَا يَعْنِي أَنَّهُ يُضِيفُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَجِبُ بِوُجُودِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالزَّكَاةِ. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَالْمَعْنَى فيه: أن الصلاة والصيام لا يتعلق وجوبها بِالْمَالِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ فِيهِمَا النِّيَابَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجُّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهِ لِاسْتِوَاءِ النَّائِبِ وَالْمَنَابِ عَنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ لَازِمٌ كَسَائِرِ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُعَيَّنٍ، وَفِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَقَوْلُهُ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِلْحَجِّ عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ فَإِذَا حَجَّ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ مات بطلب الْإِجَارَةُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ لِيَرْكَبَهُ فِي سفره لم يجز لمؤجره أن يبدله بغير وَيَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْصِيلِ حَجَّةٍ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا حَجَّ غَيْرُهُ جَازَ وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَعِيرٍ فِي الذِّمَّةِ فَلِمُؤَجِّرِهِ أَنْ يُرْكِبَهُ أَيَّ بَعِيرٍ شَاءَ وَإِنْ مَاتَ الْبَعِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبْدِلَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ يَصِحُّ عَلَى هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُعَيَّنًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُعَجَّلًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا فَإِنْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي فِي هَذِهِ السَنَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ مُمْكِنًا وَوَقْتُ مَسِيرِهِمْ مُتَأَتِّيًا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ مَسِيرِ النَّاسِ صَحَّ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، لِأَنَّ مَنْ بِأَقْصَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَبِلَادِ التُّرْكِ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إِذَا ابْتَدَأَ بِالسَّيْرِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى يُقَدِّمَ السَّيْرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ وَأَخَّرَ الْمَسِيرَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا جَازَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَوَقْتُ خُرُوجِهِمْ غَيْرَ متأتٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا لِقُرْبِ الزَّمَانِ وَضِيقِهِ عن إدراك الحج فيه كالعراقي الذي اسْتُؤْجِرَ فِي عَشْرِ النَّحْرِ إِمَّا لِسَعَةِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ عَنْ خُرُوجِ النَّاسِ فِيهِ كَالْعِرَاقِيِّ إِذَا اسْتُؤْجِرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مِنْ تَعْجِيلِ الْحَجِّ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعُقُودَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ بَاطِلٌ وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي وَلَا يُقَيِّدَاهُ بِزَمَانٍ فَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِشَرْطٍ فَيَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ فِي اعْتِبَارِ الْوَقْتِ عَلَى ما مضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُعَجَّلًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا فَإِنْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي فِي هَذَا الْعَامِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ اعْتَبَرْتَ الْوَقْتَ فَإِنْ كَانَ الْمَسِيرُ فِيهِ مُمْكِنًا أَوْ كَانَ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ فَالْعَقْدُ فِيهِ جَائِزٌ وَإِنَّمَا جَازَ الْعَقْدُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ وَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ الْمُعَيَّنُ قَبْلَ وَقْتِ الْمَسِيرِ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ وَتَأْخِيرَ الْمُعَيَّنِ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ كَانَ الْمَسِيرُ غَيْرَ مُمْكِنٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ مِنَ الْحَجِّ فَالْإِجَارَةُ فِيهِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ وَإِنْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ مَا في الذمة يصح تأجيله كالمسلم وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ تَحْصِيلَ حَجَّةٍ لِي وَلَا يُقَيِّدُ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي تَعْجِيلَهُ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ عَقَدَاهُ مُعَجَّلًا عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ مُعَيَّنًا وَفِي الذِّمَّةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: تَعْيِينُ النُّسُكِ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ وَقْتِ النُّسُكِ. وَالثَّالِثُ: تَعْيِينُ مِيقَاتِ النُّسُكِ. وَالرَّابِعُ: تَعْيِينُ مَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ النُّسُكُ. فَأَمَّا تعيين النسك فهو شرط صِحَّةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَافْتُقِرَ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ النُّسُكِ فَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ ذَكَرَهُ انْصَرَفَ الْعَقْدُ عَنِ الْحُلُولِ إِلَى التَّأْجِيلِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا تَعْيِينُ مِيقَاتِ النُّسُكِ فَلِتَنْتَفِيَ عَنِ الْعَقْدِ الْجَهَالَةُ وَيَصِيرَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا فَإِنْ ذَكَرَ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ وَعَيَّنَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ أَغْفَلَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي " الْأُمِّ " الْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول أبي إسحاق المرزوي وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَبْلَ الْمِيقَاتِ وَأَغْرَاضُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَالْعَمَلُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ باطلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْحَجِّ سِوَى الْإِحْرَامِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ بِالشَّرْعِ اسْتُغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِهَا بِالْعَقْدِ فَكَذَا الْإِحْرَامُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَوْجَبَ تَعْيِينَ الْإِحْرَامِ فِيهِ وَأَبْطَلَ الْإِجَارَةَ بِتَرْكِهِ إِذَا كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ حَيًّا، لِأَنَّ لِلْحَيِّ غَرَضًا فِي الْإِحْرَامِ فَافْتُقِرَ إِلَى تَعْيِينِهِ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أَجَازَ فِيهِ الْإِجَارَةَ إِذَا كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مَيِّتًا لِفَقْدِ غَرَضِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِبَلَدِهِ طَرِيقَانِ وَمِيقَاتَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أَجَازَ الْإِجَارَةَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِبَلَدٍ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَمِيقَاتٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ فالحج واقع على الْمَحْجُوجِ وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِهِ فَوَاقِعٌ عَنْهُ أَيْضًا لِوُقُوعِهِ عَنْ إِذْنِهِ وَإِنْ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْعِوَضِ لَكِنْ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى وَأَمَّا تَعْيِينُ مَنْ يُؤَدِّي عَنِ النُّسُكِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي إِجْزَاءِ الْحَجِّ دُونَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى ذِكْرِهِ فِيمَا بَعْدُ فَلَوْ أَمَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أن ينقل الحج عن من أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ لَزِمَ الْأَجِيرَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُحْرِمْ عَنْهُ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ عَمَلٍ عَلَيْهِ وَلَا تَفْوِيتُ غَرَضٍ لَهُ وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَلْ لَمْ يَجُزْ لَهُ، لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ تَعَيَّنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْأَخِيرِ فِيهِ نَاوِيًا عَنْهُ وَالْحَجُّ إِذَا تَعَيَّنَ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يحرم إلا بعد تعيين الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِيَصْرِفَ الْإِحْرَامَ إِلَيْهِ فَلَوْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا ليصرفه إلى المحجوج عنه إذا تعين فهذه عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِئٍ وَيَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِهِ بَعْدَ فِعْلِ جَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جائز فكذلك إِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ الْمَوْقُوفِ وَقَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ مَوْقُوفًا عَلَى تَعْيِينِ النسك جاز أن يكون موقوفاً على تعيين الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إِذَا عَيَّنَهُ وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الأجرة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا فَأَحْرَمَ قَبْلَهُ فَقَدْ زاده وَإِنْ تَجَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ فَرَجَعَ مُحْرِمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دمٌ مِنْ مَالِهِ وَيَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وما وجب عليه من شيء يفعله فمن ماله دون مال المستأجر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَقْدُ تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فخالف الأجير فيها فخلافه إن تعين له ميقاتاً فيحرم من غيره، أو تعيين له نسكاً فيحرم بغيره، أو تعين له عاماً فيحرم بغيره أو تعين لَهُ شَخْصًا فَيُحْرِمُ عَنْ غَيْرِهِ فَيَبْدَأُ بِالْمِيقَاتِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ أَلْيَقَ، لِأَنَّهُ مُتَصَوِّرُ الْمَسْأَلَةِ فَإِذَا عُيِّنَ لَهُ مَوْضِعُ الْإِحْرَامِ لَمْ يَخْلُ حَالُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ، أَوْ بَعْدَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَقَدُّمُهُ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَلَدِ فَقَدْ لَزِمَ الْأَجِيرَ الْإِحْرَامُ مِنْهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا بِالشَّرْعِ وَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ وَإِنْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ كَانَ حَسَنًا وَبِالزِّيَادَةِ مُتَطَوِّعًا وَقَدْ سَقَطَ بِهَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ دَمًا وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْعِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ دُونَ الْأَجِيرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ قَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسْتَأْجِرُ تَارِكٌ لِمَا لَزِمَهُ بِالشَّرْعِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الدَّمُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَجِيرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَهُ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وتطوع بالزيادة. والثالث: أن يحرم بعده فهذه عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودَ مُحْرِمًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الدَّمِ بِالْمُجَاوَزَةِ. وَالثَّانِي: رَدُّ مَا قَابَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُجْرَةِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهَا وَأَحْرَمَ بَعْدَهَا إِمَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ أَوْ قَبْلَ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ أَوْ بَعْدَ مِيقَاتِ الْبَصْرَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 فَكُلُّهُ سَوَاءٌ وَالْحَجُّ مُجْزِئٌ وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّمَا يَجِبُ الدَّمُ فِيمَنْ جَاوَزَ مِيقَاتَ الشَّرْعِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ ميقات الشرع وإنما جاوز العقد المستحق ميقات بِالْإِجَارَةِ فَلَا يُوجِبُ دَمًا، قِيلَ: الدَّمُ قَدْ يَجِبُ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ مِنَ الْبَصْرَةِ فَأَحْرَمَ بَعْدَهَا لَزِمَهُ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِحْرَامَ مِنْهَا كَذَلِكَ الْأَجِيرُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فَإِذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ دَمٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فيحرم بعده فالحج مجزي وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ وَهَذَا أَوْلَى بِالْإِيجَابِ، لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ اللَّازِمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْدِ مَعًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ بَعْدَ ذلك الموضع كأنه أَمَرَهُ بِالْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمِيقَاتِ بِفَرْسَخٍ فَأَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ بِفَرْسَخَيْنِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ دَمَانِ دَمٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الشَّرْعِ وَدَمٌ عَلَى الْأَجِيرِ لِمُجَاوَزَةِ مِيقَاتِ الْعَقْدِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَدِّ مَا قَابَلَ قَدْرَ الْمُجَاوَزَةِ مِنَ الْأُجْرَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا عَلَيْهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ دَمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ رَدَّ شَيْءٍ مِنَ الْأُجْرَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ قَدْ جَبَرَهُ بِدَمٍ وَكَانَ الدَّمُ بَدَلًا مِنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلٌ ثَانٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يرد الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إِذَا كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَمِيعَهَا إِلَّا بِجَمِيعِ الْعَمَلِ فَإِذَا تُرِكَ بَعْضُ العلم سَقَطَ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَهُ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ فأما الدم فإنما أوجبه الشرع عليها مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ حَقٌّ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَيْسَ تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا ثَانِيًا فَإِنْ قِيلَ لَوْ تَطَيَّبَ الْأَجِيرُ فِي إِحْرَامِهِ أَوْ حَلَقَ وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَ فِي إِحْرَامِهِ نَقْصًا وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَهُ بِدَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا فَهَلَّا كَانَ تَارِكُ الْإِحْرَامِ إِذَا جَبَرَهُ بِدَمٍ لَمْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطِّيبَ وَالْحَلْقَ نَقْصٌ فِي ثَوَابِ الْحَجِّ دُونَ عَمَلِهِ وَقَدْ لَزِمَهُ الدَّمُ فَكَانَ جُبْرَانًا لِنَقْصِهِ وَلَمْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا لِكَمَالِ عَمَلِهِ وَنَقْصُ الْإِحْرَامِ نَقْصٌ فِي ثَوَابِ الْحَجِّ وَعَمَلِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ جُبْرَانًا لِنَقْصِ الثَّوَابِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ جُبْرَانًا لِنَقْصِ الْعَمَلِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ فَفِي اعْتِبَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الجديد أنه يعتر بِقِسْطِ الْأُجْرَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ دُونَ الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لِتَكُونَ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ دُونَ السَّفَرِ الْمُوَصِّلِ إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " إِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقِسْطِ الْأُجْرَةِ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَعَلَّلَ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ وَسَفَرٍ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّمَامِ. فَصْلٌ : فأما ما تركه الْأَجِيرُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سِوَى الْإِحْرَامِ فَضَرْبَانِ: رُكْنٌ، وَنُسُكٌ فَإِنْ كَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ مِنَ الْحَجِّ إِلَّا بِفِعْلِهِ وَلَهُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ؛ لأنه ليس بترك شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فضربان: أحدهما: أن يكون تركه وجب الدم كالرمي فهذا متى تركه الأجير فعليه دَمٌ وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِدَمٍ كَطَوَافِ الْقُدُومِ فَهَذَا مَتَى تَرَكَهُ الْأَجِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، لِأَنَّهُ عُمِلَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَا بِبَدَلِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَطَوَافَ الْوَدَاعِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ عَلَيْهِ دَمًا فَهَلْ يَرُدُّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنَ الْأُجْرَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي " الْأُمِّ " وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ فَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِيقَاتِ الْبَلَدِ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ عَنِ الْذِي اسْتَأْجَرَهُ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِيقَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي شَرَطَ أَنْ يُهِلَّ مِنْهُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ الْيَمَنِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَأَجْزَأَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ جَمِيعَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْيَمَنِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَقَدَ أَجْزَأَ ذَلِكَ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ وَعَلَى الْأَجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنَ الْيَمَنِ وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَرُدُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَهُ أُجْرَةُ المثل وليس بصحيح واعتبار الرجوع مسقط ذلك الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ أَنْ يُقَالَ: بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ وَيُحْرِمُ مِنَ الْيَمَنِ فَإِذَا قِيلَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا قِيلَ فَبِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ فَإِذَا قِيلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا الرُّبُعَ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ مِنَ الْعِشْرِينَ رُبُعُهَا فَيَرْجِعُ مَا اسْتَأْجَرَ عَلَى الْأَجِيرِ بِرُبُعِ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ. فَصْلٌ : فَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتٍ بِعَيْنِهِ فَأَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتِ غَيْرِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَبْعَدَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَوْ مِثْلَهُ فَلَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَقْرَبَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ نَظَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لِحُصُولِهِ فِيهِ شَرْعًا وَعَقْدًا وَهَلْ يرد من الأجرة بقسط ما بين الميقاتين على اختلاف أصحابنا فمنهم من قال يرد قَوْلًا وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِمَوْضِعٍ تَعَيَّنَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ بِتَرْكِهِ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَيْنَ الْمِيقَاتَيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتٍ فَأَحْرَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِهِ وَأَحْكَامِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ فَيَ الْعَقْدِ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالْقِرَانِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالتَّمَتُّعِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ قَارِنًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَمَتَّعَ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَعْتَمِرَ لِهَذِهِ الْعُمْرَةِ فَلَا يُسْقِطَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْحَجِّ ثُمَّ لَا يَخْلُو حال المحجوج عنه عن أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعُمْرَةِ وَالْحَيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَرَ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ أَوْ سَاقِطَةً عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ قَدْ نَوَاهُ بِهَا وَالْمَيِّتُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْهُ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهَا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ عُمْرَةُ الْإِسْلَامِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَهَلْ تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ أَوْ عَنِ الْمَيِّتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَعُمْرَةِ التَّطَوُّعِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي تَطَوُّعِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمَيِّتِ وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَابَةَ فِي تَطَوُّعِ ذَلِكَ جَائِزَةٌ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الْأَجِيرِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِهَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا أُجْرَةً وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ بعقد الإجارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيَقْرِنَ عَنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مَيِّتٍ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ فَالْقِرَانُ وَاقِعٌ عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْحَيِّ فِي الْعُمْرَةِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالْحَيُّ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ في العمرة فلم تقع عنه، إذا لَمْ تَقَعْ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَتْ وَاقِعَةً عَنِ الْأَجِيرِ وَإِذَا وَقَعَتِ الْعُمْرَةُ عَنِ الْأَجِيرِ كَانَ الْحَجُّ تَبَعًا لَهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَحَدُ نُسُكَيِ الْفَوَاتِ عَنْ شَخْصٍ وَالْآخَرُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْعُمْرَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ فَهَذَا يَكُونُ عَنِ الْمَيِّتِ فَيَقَعُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مَعًا عَنْهُ وَيَكُونُ الْأَجِيرُ مُتَطَوِّعًا بِالْعُمْرَةِ مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَدْ تَطَوَّعَ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا أُجْرَةً وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فِي مَالِهِ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْعُمْرَةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ مَعًا يَكُونَانِ عَنِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَطَوَّعَ الْأَجِيرُ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِوَضًا وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَجُّ وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَعًا يَقَعَانِ عَنِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ فَوَقَعَتْ عَنِ الْأَجِيرِ وَالْحَجُّ فِي الْقِرَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ عَنِ الْعُمْرَةِ فَوَقَعَ عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةً؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَإِذَا أَسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَقَرَنَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا وَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الْحَيِّ عَلَى مَا قَسَّمْنَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَتَمَتَّعَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي التَّمَتُّعِ مُفْرَدَةٌ عَنِ الْحَجِّ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعُمْرَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وُقُوعِهَا عَنِ الْأَجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ وَقَعَتْ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ الْأَجِيرُ مُتَطَوِّعًا بِهَا فَأَمَّا الْحَجَّةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا دُونَ الْأَجِيرِ لِإِفْرَادِهَا عَنِ الْعُمْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ ليحرم بها من الميقات فأحرم بها عن مَكَّةَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ وَهَلْ يرد قسط مِنَ الْأُجْرَةِ قِسْطَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا وَلَا دَمَ عَلَى الْأَجِيرِ فِي تَمَتُّعِهِ؛ لِأَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا وَقَعَ النُّسُكَانِ مَعًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إِذَا وَقَعَا عَنْ شَخْصَيْنِ فَلَا، إِلَّا أَنْ تَقَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 الْعُمْرَةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَيِّتًا فَيَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِوُقُوعِ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دَمَيْنِ دَمُ الْمُتْعَةِ وَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ: أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ بِحَجٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ فَيَكُونَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْأَجِيرِ لِعَدَمِ إِذْنِ الْحَيِّ وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُمْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مَيِّتٍ فَيَكُونَ عَلَى مَا مَضَى فِي الْعُمْرَةِ مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي بَقَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُ ثُمَّ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُمْرَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيُحْرِمَ قَارِنًا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَهَذَا يَكُونُ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَأَحْرَمَ قَارِنًا لِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ. والجواب الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِعُمْرَةٍ فَيَتَمَتَّعَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَكُونَ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا لِانْفِرَادِهَا عَنِ الْحَجِّ وَلَهُ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنْ كَانَ عَنْ حَيٍّ فَهُوَ وَاقِعٌ عَنِ الْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ الْحَيِّ لِعَدَمِ إِذْنِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي بَقَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُ فَإِنْ أَوْقَعْنَا الْحَجَّ عَنِ الْأَجِيرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ شَخْصٍ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَوْقَعْنَا الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فَعَلَى الْأَجِيرِ دَمُ التَّمَتُّعِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالْقِرَانِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَيُحْرِمَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَتَكُونَ الْحَجَّةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ مُفْرِدًا وَهُوَ الْحَجُّ وَبَقِيَ عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْعُمْرَةُ ثُمَّ لَا تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً أَوْ لَا يَأْتِيَ بِهَا فَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَجِّ وَيَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنَ الْعُمْرَةِ فَيُقَالُ: بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يُحْرِمُ بِالْقِرَانِ. فَيُقَالُ: بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيُقَالُ: بِكَمْ يُوجَدُ مَنْ يُحْرِمُ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَيُقَالُ: بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَيُرْجِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ بِخُمْسِهَا وَإِنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً سَقَطَتْ عَنْهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ مَعَ زِيَادَةِ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهَا وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَقَدْ وَفَّى النُّسُكَ الثَّانِيَ أَيْضًا لَكِنْ قَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَيْنَ الْمِيقَاتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَتَكُونَ الْعُمْرَةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ مُفْرِدًا وَهُوَ الْعُمْرَةُ وَبَقِيَ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَجُّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ لَا يَأْتِيَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ رَدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ أَتَى بِهِ سَقَطَ عَنْهُ النُّسُكَانِ ثُمَّ اعْتَبَرَ مَوْضِعَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْعُمْرَةِ مِنْ قَبْلُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَقْرِنَ فَتَمَتَّعَ فَقَدْ وَفَّى النُّسُكَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلِهَا قَارِنًا فَأَفْرَدَهُمَا فَأَجْزَأَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِإِفْرَادِهِمَا كَمَا يَسْقُطُ بِقِرَانِهَا إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ لِيُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَبِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَكَانَ تَارِكًا لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَهُ دَمٌ لِتَرْكِهِ وَهَلْ يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ؟ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا وَلَزِمَهُ أَخْذُ دَمٍ آخَرَ لِتَمَتُّعِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَدَمُ الْمُتْعَةِ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ دَمًا فَلَمَّا أَوْجَبْتُمْ عليه دماً ثانياً قيل هما وَإِنْ وَجَبَا بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ فَمَعْنَى وُجُوبِهَا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ والآخر واجب الشرع وإذا اختلف معناهما لمن يمتنع وُجُوبُهُمَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدَّمَيْنِ فَدَمُ الْمُجَاوَزَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ وَفِي دَمِ الْمُتْعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ دَمِ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي فِعْلِ النُّسُكَيْنِ على وجه يوجب دماً وقد فعلها عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ دَمًا فَكَانَ الدَّمُ لَازِمًا لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالتَّمَتُّعِ دُونَ الْقِرَانِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّمَتُّعِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا لِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقِرَانِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى التَّمَتُّعِ تَطَوُّعًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْأَجِيرُ مُوجَبَ تَطَوُّعِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِالتَّمَتُّعِ فَيُحْرِمَ بِغَيْرِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَتَكُونَ الْحَجَّةُ وَاقِعَةً عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى أَحَدَ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ الْحَجُّ وَبَقِيَ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْعُمْرَةُ ثُمَّ لَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَإِذَا أَتَى بِهَا سَقَطَ عنه النسك الثاني: ثم ينظر فإن أحرم بهذا مِنَ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَكْمَلَ النُّسُكَ وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَدْ تَرَفَّهَ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِسْقَاطِ دَمِ الْمُتْعَةِ وإن أحرم الثاني بِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَقَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ فكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 مُتَطَوِّعًا بِذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ دَمٌ فِيمَا ترك من الإحرام في العمرة وهي يَرُدُّ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَيَرُدَّ بِقِسْطِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قِيلَ أَفَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ؟ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا لِأَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلَيْنِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ مَيِّتٍ فَلَا خِيَارَ لِمُسْتَأْجِرِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ حَيٍّ كَانَ بِالْخِيَارِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ فيحرم بعمرة مفردة الْعُمْرَةُ وَاقِعَةٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ وَفَّى الْأَجِيرُ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ وَبَقِيَ عَلَيْهِ النُّسُكُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَجُّ وَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ فَإِنْ أَتَى بِالْحَجِّ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِي إِتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَتَمَتَّعَ فَيَقْرِنَ فَيَقَعَ نُسُكَا الْقِرَانِ جَمِيعًا مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لأنه استأجره عليها لِيَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَالْآخِرِ مِنْ مَكَّةَ فَأَتَى بِهَا جَمِيعًا مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْجِرَ لِيُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ فَقَرَنَ بَيْنَهُمَا فَلَزِمَهُ دَمٌ لِأَجْلِ مَا تَرَكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهِمَا، لِأَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَهُمَا لَزِمَهُ أن يطوف وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ أَيُسْقِطُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَا يُسْقِطُ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ بسقوط أحد الإحرامين فكان عليها أن يجبر ذلك بدم وهي يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ أَصْحَابُنَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ يَجِبُ بِقِرَانِهِ دَمَانِ: أَحَدُهُمَا: بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِي إِفْرَادِهِمَا وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَجِيرِ. وَالثَّانِي: بِالْفَوَاتِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ. وَالثَّانِي: عَلَى الأجير لتركه ما أذن فيه وتطوعه يفعل مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ بِنُسُكٍ فَأَحْرَمَ بِغَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ وَأَحْكَامِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ فِي عَامٍ فَيُحْرِمَ فِي غَيْرِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ مَا ثَبَتَ مُؤَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَحَجَّ عَنْهُ فِي الْعَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَهَذَا الْحَجُّ مُجْزِئٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى جَمِيعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ اسْتِحْقَاقَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَجِّلَ مَا ثَبَتَ مُعَجَّلًا وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ فِي عَامِهِ فَلَا يَحُجَّ عَنْهُ فِي عَامِهِ وَيُؤَخِّرَهُ إِلَى عَامٍ غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُعَيَّنًا فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ بِتَأَخُّرِهِ، لِأَنَّ فَوَاتَهُ فِي الْعَامِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَالْعَقْدُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَبَطَلَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ الْأَجِيرُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ قَدْ بَطَلَتْ وَالْوَقْتَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَصَارَ مَا فَعَلَهُ الْأَجِيرُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عَقْدٌ وَلَا إِذْنٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَأَخُّرِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَأَخُّرِهِ عَنْ مَحِلِّهِ كَ " السَّلَمِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَبَيْنَ أن يفسخ؛ لأنه قد يستفيد بفسخه الارتفاق بِالْأُجْرَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِهِ دُونَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْمَالِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَعَلَيْهِ الصَّبْرُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ؛ لأنه ليس بقدر عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ يَحُجُّ قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ له الارتفاق بالمال إذا ارْتَجَعَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهِ مَعْنًى فَإِنْ خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ فَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ رَفْعُ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَتَوَلَّى فَسْخَ الْإِجَارَةِ لِحُكْمِهِ عَلَى حَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ حَالَ الْأَجِيرِ فِي تَأْخِيرِ الْحَجِّ حَتَّى يَحُجَّ في العام المقبل كان الحج واقع عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ دُونَ الْأَجِيرِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِفَوَاتِ الْعَامِ الْمَاضِي لَمْ تَبْطُلْ فَكَانَ فِعْلُهُ مِنَ الْحَجِّ قَدْ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَاسْتَحَقَّ بِهِ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ فِي عَامٍ فَأَحْرَمَ فِي عَامٍ غَيْرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْإِحْرَامَ عَنْ شَخْصٍ فَيُحْرِمَ عَنْ غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرْعِ فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 أَحَدُهُمَا: مَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْعَقْدِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ مُبْتَدِئًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ فَالْحَجُّ وَاقِعٌ عن الأجير أو عن من نَوَاهُ الْأَجِيرُ عَنْهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَكُونُ حَالُ الْأَجِيرِ فِي ذَلِكَ حَالَ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَحُجَّ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْعَقْدِ دُونَ الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ مُبْتَدِئًا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَقْصِدُ صَرْفَ الْإِحْرَامِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِهِ فَالْحَجُّ وَاقِعٌ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِقَادِهِ عَنْهُ وَحْدَهُ. الثَّانِي: غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي انْتِقَالِهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْحَجَّ إِذَا انْتَقَلَ عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِالْقَصْدِ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا إِذَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ بِنُسُكٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا ذَكَرْنَا فَهَلْ لِلْأَجِيرِ الْمُطَالَبَةُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْأُمِّ: أَحَدُهُمَا: لَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَإِنَّمَا انْصَرَفَ حُكْمًا إِلَى مُسْتَأْجِرِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَصَرَفَهُ الْحُكْمُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ عَمَلِهِ كَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ بِعَمَلِهِ فَهُوَ هِبَةٌ لَهُ كَانَ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ بِعَمَلِهِ لِرَبِّ الْمَعْدِنِ دُونَهُ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ كَذَلِكَ الْأَجِيرُ فِي الْحَجِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بَذَلَ الْأُجْرَةَ فِيمَا يَفْعَلُهُ عَنْهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَإِذَا حَصَلَ الْحَجُّ لَهُ لَزِمَهُ مِنَ الْعِوَضِ مَا بَذَلَهُ فَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرُ فِي صَرْفِ الْحَجِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِ الْأُجْرَةِ. وَأَمَّا الضرب الثاني: في الأصل وَهُوَ مَا انْتَقَلَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ بالشرع دون العقد عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْتَقَلَ بِالْفَسَادِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يُفْسِدُهُ بِوَطْءٍ فَيَنْصَرِفَ الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ شَرْعًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالثَّانِي: مَا انْتَقَلَ بِالْفَوَاتِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِمَّا لِخَطَأٍ فِي الْعَدَدِ أَوْ مَانِعٍ خَاصٍّ وينتقل الْإِحْرَامُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا اقْتَضَى حَجًّا سَلِيمًا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَإِذَا تَخَلَّلَهُ فَسَادٌ، أَوْ فَوَاتٌ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ فَنَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ وَعَلَى الْأَجِيرِ الْقَضَاءُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ الِاعْتِدَادِ بِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 أَحَدُهُمَا: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ بِالشَّكِّ الطَّارِئِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ الْأَجِيرُ ثُمَّ يَشُكَّ فَلَا يَعْلَمَ هَلْ أَحْرَمَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ أَمْ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْصَرِفُ بِالشَّرْعِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي إِحْرَامًا يُسْقِطُ الْفَرْضَ والشك لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ فَلِذَلِكَ مَا انْصَرَفَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَيَقَّنَ الْأَجِيرُ بَعْدَ شَكِّهِ إِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ من مستأجره لم يخل حاله من أحل أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ فِعْلِ شيء أَوْ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ فَإِنْ تَيَقَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنْهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ تَيَقَّنَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْكَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلْأَجِيرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْيَقِينِ يَرْفَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ له تأثير ولا يعقبه فِعْلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنِ الْأَجِيرِ وَلَا يَكُونَ حُدُوثُ الْيَقِينِ الرَّافِعِ لِلشَّكِّ نَاقِلًا لِلْإِحْرَامِ إِلَى الْمُسْتَأْجَرِ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فَلَوْ زَالَ الشَّكُّ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الْإِتْمَامِ كَذَلِكَ الْحَجُّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ النُّسُكَ الْوَاحِدَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَنْ شَخْصَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَأْجَرَهُ أَحَدُهُمَا لِحَجٍّ وَاسْتَأْجَرَهُ الْآخَرُ لِعُمْرَةٍ فَأَحْرَمَ قَارِنًا يَنْوِي بِالْحَجِّ أَحَدَهُمَا وَبِالْعُمْرَةِ الْآخَرَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَوَقَعَا مَعًا عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْقِرَانِ حُكْمُ النُّسُكِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ النُّسُكُ الْوَاحِدُ عَنْ شَخْصَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْقِرَانُ عَنْ شَخْصَيْنِ، فَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ عَنْهُ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا لِنَفْسِهِ عُمْرَةً فَصَارَ قَارِنًا عَلَى أحد القولين أو أحرم من غيره بعمرة ثم أدخل عليه لِنَفْسِهِ حَجًّا قَارِنًا قَوْلًا وَاحِدًا فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَقَعَانِ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ؛ لِأَنَّ مُدْخِلَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَالْمُحْرِمِ بِهِمَا معاً والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أفسد حجه أفسد إجارته وعليه لِمَا أَفْسَدَ عَنْ نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَفْسَدَ الْأَجِيرُ حَجَّهُ بِالْوَطْءِ. صَارَتِ الْحَجَّةُ عَلَى الْأَجِيرِ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ وَلَزِمَهُ إِتْمَامُهَا لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا صَارَتِ الْحَجَّةُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ إِذْنِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مُوجَبُ عَقْدِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجًّا سَلِيمًا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ إِذْنِهِ صَارَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي ابْتِيَاعِ شَيْءٍ فَخَالَفَ مُوَكِّلَهُ فِي الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَهُ صَارَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ كذلك الحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ يَحُجَّ قَدِ انْتَقَلَ بِالْفَسَادِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فساده، لأن فساد الْحَجِّ يُوجِبُ الْمُضِيَّ فِيهِ ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ فَاسِدِ الْحَجِّ وَاجِبٌ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ حَجَّ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَفْسَدَ حَجَّ غَيْرِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حَجٍّ فَسَدَ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَنْقَلِبُ بِالْفَسَادِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ وَإِذَا صَارَ الْحَجُّ عَنْهُ دُونَ مُسْتَأْجِرِهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْحَجِّ وَاجِبٌ عليه فلا يخلو حَالُ الْإِجَارَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تكون معينة فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَقَدْ بَطَلَتْ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ لَا تَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ كَالسَّلَمِ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ، فَإِنْ فَسَخَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحُجَّ قَضَاءً عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ فَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّ الْقَضَاءِ عَلَى حَجِّ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْ غَيْرِهِ الْحَجَّ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَجُّ الْإِجَارَةِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ؛ هَذَا إِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَيٍّ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ الْأُجْرَةَ لَيْسَتَأْجِرَ غَيْرَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَجِيرَ لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي عَامِهِ لَمْ يَكُنْ لوليه فسخ الإجارة وأوجبتم هاهنا عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قُلْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي عَامِهِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَلَيْسَ حُكْمُ الْوَلِيِّ إِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يكن لفسخه مع الْعَقْدِ مَعْنًى وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْأَجِيرِ إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي لِأَجْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ وَيُمْكِنُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَإِذَا أَمْكَنَ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ لِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حكمهما والله أعلم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو لَمْ يُفْسِدْ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْحَجَّ فله بقدر عمله ولا يحرم عن رجلٍ إلا من قد حج مرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَحُجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَمَاتَ لَمْ تَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ يَمُوتَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ، أَوْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ كمال الأركان. فأما القسم الأول: وهو أن يموت قبل الإحرام فعلى وجهين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ التَّوَجُّهِ فِي سَفَرِهِ وَقَبْلَ الْحُصُولِ بِمِيقَاتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يستحق بسفره شيئاً عن الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْعَمَلِ فَإِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ عِوَضًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءِ حَائِطٍ فَجَمَعَ الْآلَةَ لِلْبِنَاءِ ثُمَّ لَمْ يَبْنِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّ لَهُ مِنَ الأجرة بقدر المسافة مخرج مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ هَلْ تَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَسَافَةِ وَالْعَمَلِ أَمْ لَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إِنَّمَا تَتَقَسَّطُ الْأُجْرَةُ عَلَيْهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْعَمَلُ الْمَقْصُودُ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْعَمَلُ فَلَا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهَا الْأُجْرَةُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ نُظِرَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً بَطَلَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي الذمة لم تبطل. والوجه الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ التَّوَجُّهِ فِي سَفَرِهِ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ مِيقَاتِهِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكِهِ فَالْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِسَفَرِهِ عَلَى مَا مَضَى لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ دَمٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا الْإِحْرَامَ كَالْحَيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ بِهَا الدَّمُ إِذَا تَعَقَّبَهَا الْإِحْرَامُ وَالْمَوْتُ قَاطِعٌ عَنِ الْإِحْرَامِ فَصَارَ كَمَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ مُرِيدًا الْحَجَّ فَلَمْ يُحْرِمْ فِي عَامِهِ وَلَا دَخَلَ مَكَّةَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ فَقَدْ سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ لِإِتْيَانِهِ بِالْأَعْمَالِ الْمَقْصُودَةِ فَأَمَّا الْبَاقِي مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ دَمٌ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى إِذَا جَعَلْنَا الدَّمَ فِيهِ مُسْتَحَبًّا فَهَذَا الْحَجُّ فِيهِ مُجْزِئٌ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا تَرَكَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُوجِبُ دَمًا فَفِي مَالِ الْأَجِيرِ الدَّمُ الْوَاجِبُ فِي تَرْكِهِ ذَلِكَ وَهَلْ يَسْتَرْجِعُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي رَدِّ الْأُجْرَةِ بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَ دَمًا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تُرَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ كَمَالِ الْأَرْكَانِ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ وَأَتَى بِبَعْضِ الْأَرْكَانِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إِكْمَالِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ معنية. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً فَقَدْ بَطَلَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَرْكَانِ فَأَمَّا الْمَاضِي مِنْهَا فَثَوَابُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَنْقُلِ الْإِحْرَامَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى الْأَجِيرِ وهل يستحق الأجير من الأجرة يقسط مَا عَمِلَ مِنَ الْأَرْكَانِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِيِ الْقَدِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَمَوْتُهُ قَبْلَ كمال الأركان غير مقسط لِلْفَرْضِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَكَانَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ بَعْضَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ هَرَبَ أو مات لم يستحق من العرض شَيْئًا وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَ الْعَمَلِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ رَدُّ الْآبِقِ كَذَلِكَ مَوْتُ الْأَجِيرِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ كَمَالِ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا عَمِلَ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَقْصُودَةِ وَهِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَمَنَاسِكُهُ كَالْإِجَارَةِ عَلَى بِنَاءِ حَائِطٍ أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى أَجْزَائِهِ فَلَوْ مَاتَ الْأَجِيرُ بَعْدَ عَمَلِ بَعْضِهِ اسْتَحَقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الْجَعَالَةَ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ فَتَقَسَّطَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْجَعَالَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِيهَا بِعَمَلِ الْمَقْصُودِ وَلَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَى الْأَعْمَالِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا عَمِلَ فَهَلْ تَكُونُ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى الْمَسَافَةِ وَالْعَمَلِ أَمْ تَكُونُ مُقَسَّطَةً عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْمَسَافَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ سَفَرِهِ وَعَمَلِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُقَسَّطُ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْمَسَافَةِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ عَمَلِهِ دُونَ سَفَرِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْأَجِيرِ لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِكْمَالُ الْأَرْكَانِ لِيَسْقُطَ بِهَا الْفَرْضُ فَلَمْ يَفْتَرِقِ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يُكْمِلَهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ شَخْصَانِ. وَالشَّيْءُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ قَدْ يَكْمُلُ لِشَخْصَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ قَدْ يَكْمُلُ لِشَخْصَيْنِ، لِأَنَّ وَلَيَّهُ يُحْرِمُ عَنْهُ ثُمَّ يَأْتِي الصَّبِيُّ بِبَاقِي الْأَرْكَانِ بِنَفْسِهِ كَذَلِكَ الْأَجِيرُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا فَلَمْ يَجُزْ إِكْمَالُهَا بِشَخْصَيْنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 وَالشَّيْءُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ مَيِّتًا لَجَازَ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ حَيًّا فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِ الْأَجِيرِ إِذَا كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ مِنْ تَرِكَتِهِ مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ فِيمَا عَمِلَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ به اعتداد ولا يسقط بِهِ فَرْضٌ وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْبِنَاءُ عَلَى عَمَلِهِ نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ الْأَجِيرُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَسْتَأْنِفُ عَنْهُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ قَدْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يُعِدِ النَّائِبُ عَنْهُ السَّعْيَ بَعْدَ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى عَمَلِهِ وَيَأْتِي فِيهِ بِبَاقِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْلَ عَرَفَةَ فَعَلَى النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَسْعَى بَعْدَ عَرَفَةَ وَبَعْدَ الطَّوَافِ وَيَأْتِيَ بِبَاقِي الْمَنَاسِكِ مِنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ وَإِنْ مَاتَ الْأَجِيرُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَحْرَمَ النَّائِبُ عَنْهُ وَأَتَى بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ عَنْهُ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا مُسْتَأْجَرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مُحِلًّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ عَنْهُ الْإِحْرَامُ عن غيره فإن قبل فَكَيْفَ تَكُونُ نِيَّتُهُ فِي إِحْرَامِهِ قِيلَ لَا يجوز أن ينوي الإحرام بالحج لأن لا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَلَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَجِّ وَلَا يُجْزِئُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ وَلَكِنْ يَنْوِي الْإِحْرَامَ لِمَا بَقِيَ عَلَى الْأَجِيرِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ بَاقِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ الْأَجِيرُ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ فَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بالطواف والسعي تحلل به وإن لم يكن التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ وَالْحِلَاقِ وَمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْإِحْصَارِ لِتَحَلُّلِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَوِ النَّحْرِ وَالْحِلَاقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِتَحَلُّلِهِ لَا عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْصَارِ مِنْ أعمال الحج فهل يستحق بقسيطه مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِهِ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ عَلَى مَا مَضَى فِي مَوْتِ الْأَجِيرِ سَوَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ فَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَى الْحَجِّ فَجَائِزَةٌ كَالْإِجَارَةِ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الْإِجَارَةِ لِجَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَامِلِ فِيهَا وَمَعَ الْجَهْلِ بِالْعَمَلِ الْمَقْصُودِ بِهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَإِنَّ كَانَ مَكَانُ ذَلِكَ الْعَبْدِ مَجْهُولًا وَالْجَائِي بِهِ مَجْهُولًا وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَلَمَّا صَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ مَعَ ضِيقِ حُكْمِهَا فَالْجَعَالَةُ أَوْلَى أَنْ تَصِحَّ لِسَعَةِ حُكْمِهَا فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ فِي مسائله المنثورة ولو قال: أو مَنْ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَبَادَرَ رَجُلٌ فَحَجَّ عَنْهُ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ وَوَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا غَلَطٌ يجب أن يكون لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا لَمْ يُعَيَّنَ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ وَمَعَ فَسَادِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الْإِجَارَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْمِائَةَ لِأَنَّهَا جَعَالَةٌ وَلَيْسَتْ إِجَارَةً وَالْجَعَالَةُ تَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَامِلِ فِيهَا فَلَوْ قَالَ أَوَّلُ مَنْ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مَا شَاءَ فَهَذِهِ جَعَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِلْجَهْلِ بِالْعِوَضِ فِيهَا فَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ آخَرُ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَكَانَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِالْجَعَالَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَالْمِثْلِ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. فَصْلٌ : إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ حُجَّ عَنِّي وَلَكَ مِائَةٌ صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَتْ جَعَالَةً مُعَيَّنَةً فَإِذَا حَجَّ عَنْهُ أَجْزَأَهُ وَاسْتَحَقَّ الْمِائَةَ فَلَوْ قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِتَحُجَّ عَنِّي أَوْ تَعْتَمِرَ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ فَإِنْ حَجَّ الْأَجِيرُ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ حُجَّ عَنِّي أَوِ اعْتَمِرْ وَلَكَ مِائَةٌ كَانَتْ هَذِهِ جَعَالَةً صَحِيحَةً وَلَيْسَتْ إِجَارَةً وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْجَعَالَةُ وَلَمْ تَصِحَّ أَنْ لَوْ كَانَتْ إِجَارَةً لَأَنَّ الْجَهَالَةَ بالعمل لا يبطل الْجَعَالَةَ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ وَالْجَهَالَةُ بِالْعَمَلِ تَبْطُلُ بِالْإِجَارَةِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ فَلَوْ قَالَ حُجَّ عَنِّي بِنَفَقَتِكَ فَهَذِهِ جَعَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِلْجَهْلِ بِالْعِوَضِ لِأَنَّ الْعِوَضَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْعَمَلِ فَإِنْ حَجَّ كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى زِيَارَةِ قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِوَصْفٍ وَلَا يُقَدَّرُ بِشَرْعٍ فَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ فَإِنْ وَقَعَتِ الْجَعَالَةُ عَلَى نَفْسِ الْوُقُوفِ هُنَاكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَمُشَاهَدَتِهِ لَمْ تَصِحَّ أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ وَإِنْ وَقَعَتِ الْجَعَالَةُ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتِ الْجَعَالَةُ صَحِيحَةً لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالدُّعَاءِ لَا يُبْطِلُهَا وَالدُّعَاءُ مِمَّا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ حَجٌّ يُؤَدَّى وَدَيْنٌ يُقْضَى وولدٌ صالحٌ يَدْعُو لَهُ ". مسألة : قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وارثٌ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا أُحِجَّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أُحِجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ وَلَوْ أَوْصَى لرجلٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ يَحُجُّ بِهَا عَنْهُ فَمَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ فَهُوَ وصيةٌ لَهُ فَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يَحُجَّ عَنْهُ أحدٌ إِلَّا بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ أَوْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ وَجَبَ عنه وَارِثِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَسَوَاءٌ حَجَّ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ وَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَهَا جَمِيعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ دُونَ الْقَدْرِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُعَيِّنَ الْقَدْرَ دُونَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يحج به عنه فهو أن يقول أحجوا عَنِّي زَيْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ هُوَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ من رأس ماله لأن الْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ وَسَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَصِيَّةً يُمْنَعُ فيها الوارث وإنما هي معارضة في مقابلة عمل ليس فيهما مُحَابَاةٌ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنْ وَصَّى زَيْدًا أَنْ يَحُجَّ بِهِ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ زَيْدٌ بِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْرٌ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الثُّلُثِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ وَسَوَاءٌ كَانَ زَيْدٌ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي وَصَّى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أجرة المثل كأن كانت أجرة المثل خمسون دِينَارًا وَقَدْ وَصَّى بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَاجِبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَكُونَ فِي الثُّلُثِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ الْمُعَيَّنِ بِالْحَجِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَ وَارِثًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ وَالْوَارِثُ لَا وصية له إلا أن يجيز ذلك الْوَرَثَةِ وَيُقَالَ لَهُ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ أن يتمتع فيستأجر عنه غيره مِنَ الْأَجَانِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا اسْتَحَقَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ كُلَّهَا وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ اسْتُؤْجِرَ غَيْرُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى التَّرِكَةِ فَإِنْ قَالَ زَيْدٌ أَعْطُونِي الزِّيَادَةَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِي قِيلَ لَا يجوز لأنها وصية لك على صفة وهي أن تحج عن المبيت فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ مِنْكَ الصِّفَةُ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْوَصِيَّةَ كَمَنْ وَصَّى أَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَيُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِثَمَنِهِ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَقَالَ زَيْدٌ لَسْتُ أَبْتَاعُ الْعَبْدَ بِمِائَةٍ وَلَكِنْ بِيعُوهُ بِمِائَتَيْنِ وَأَعْطُونِي مِائَةً لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمِائَةَ إِنَّمَا هِيَ وَصِيَّةٌ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَابَاةِ إِذَا ابْتَاعَ الْعَبْدَ فَإِذَا لَمْ يَبْتَعْهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ الْحِجُّ فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ أَنَا آخُذُ الْمِائَةَ وَأَسْتَأْجِرُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَآخُذُ الزِّيَادَةَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَّى لَهُ بِالزِّيَادَةِ إِذَا حَجَّ بِنَفْسِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ وَلَا يُعَيِّنَ عِوَضَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يستأجر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي ثُلُثِهِ وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِهِ أَوْ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْوَصَايَا تُعْتَبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ بَلَدِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْطًا فِي اسْتِطَاعَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ مَا سِوَاهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ تَطَوُّعًا إِلَّا بِوَصِيَّتِهِ مِنَ الثُّلُثِ وَسَوَاءٌ حَجَّ بِذَلِكَ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يحج به عنه فهو أن يقول: أحجوا عَنِّي زَيْدًا فَيُعَيِّنَهُ وَلَا يُعَيِّنَ عِوَضَهُ فَالْوَاجِبُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ دُونَ مِيقَاتِ بَلَدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ زَيْدٌ فِي بَلَدِهِ وَقَدْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَلِمَ بِإِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَإِذَا كَانَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: له أجرة مثله من نظرائه الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ بِتَبَعِيَّتِهِ عَنْ غيره وجب أَنْ يَتَمَيَّزَ بِأُجْرَةِ مِثْلِ نُظَرَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصٌ إِنَّ لَهُ أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا أَقَلَّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ بِتَعْيِينِهِ قَدْرُ الْعِوَضِ وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ تَمْيِيزُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْيِينِ فِي الثُّلُثِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ زَيْدٌ الْوَصِيَّةَ وَامْتَنَعَ مِنَ الْحَجِّ عَنْهُ اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَيَبْطُلُ حُكْمُ التَّعْيِينِ وَهَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ عَلَى ما مضى من القولين وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يحج به عنه فهو أن يقول أحجوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَيَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا فِي الثُّلُثِ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُتِمَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَيَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 الثُّلْثِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ بِهَا وَارِثٌ لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ فَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنَ الزِّيَادَةِ لِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ بِالتَّرِكَةِ فَيَجُوزَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ لِبُطْلَانِ قَدْرِ الْوَصِيَّةِ وَاسْتِوَاءِ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ فِيمَا عَدَا الْوَصِيَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ أَوْ بَعْضِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن الْوَارِثَ يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ فَيَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَصِيَّةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالْمُسَمَّى فَإِذَا أُسْقِطَ بِبَعْضِ الْمُسَمَّى كَانَ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجَابَةُ الْوَارِثِ إِلَى ذَلِكَ وَيُسْتَأْجَرُ غَيْرُهُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ لِأَنَّ مَعَ الْحَجِّ وَصِيَّةً لَا تَصِحُّ لِلْوَارِثِ يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ وَالْوَصَايَا إِذَا أَمْكَنَ نَفَاذُهَا لَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ إِمَّا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةُ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَوَصَّى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مُتَطَوِّعًا فَفِي صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ النِّيَابَةَ عَنْهُ فِي تَطَوُّعِهِ قَوْلَانِ مْنَصُوصَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي تَطَوُّعِهِ جَائِزَةٌ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي أول الكتاب فإن قلنا ولم يجز النيابة عنه ببطلان الوصية سقط حكمها فِيهَا وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ من يحج عنه ويعين القدر الذي يحج بِهِ فَيَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي زَيْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَارِثًا فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَكَانَ جَمِيعُ الوصية في الثلث لأنها تطوع فإن قيل الْوَصِيَّةَ حَجَّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ أَوْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ وَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَقْبَلْهَا فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بمائة فلم يقبلها لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ يعاوض عليه فلم يكن تعينها فِي شَخْصٍ مَانِعًا مِنْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ عَدَمِ قَبُولِهِ كَمَنْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنَ ابْتِيَاعِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ وَبِيعَ إِلَى غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ تُصْرَفُ جَمِيعُ الْمِائَةِ فِي غَيْرِهِ أَوْ يَصْرَفُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ وَتَعُودُ إِلَى التَّرِكَةِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لِشَخْصٍ لَمْ يَقْبَلْهَا كَمَنْ وَصَّى بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ عَلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنَ ابْتِيَاعِهِ بِيعَ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمِائَتَيْنِ وَلَمْ يُبَعْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمِائَةِ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْ كَانَتْ وَصِيَّةً لِشَخْصٍ لَمْ يَقْبَلْهَا فَبَطَلُ حُكْمُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُصْرَفَ إِلَى غَيْرِهِ جَمِيعُ الْمِائَةِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا صَرْفُ جَمِيعِهَا فِي الْحَجِّ وَالتَّعْيِينُ يُسْتَفَادُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمُسْتَحِقِّ وَالْأَوَّلُ أَقِيسُ وَبِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ وَارِثًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُجَّ بِهَا لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا يَحُجُّ عَنْهُ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَحُجُّ بِهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ فِي الثُّلُثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنَّ حَجَّ بِذَلِكَ وَارِثٌ جَازَ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مَا كَانَ مَحِلُّهُ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةً وَالْوَصِيَّةُ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ فَهَلَّا مَنَعْتُمُوهُ مِنْ ذَلِكَ قِيلَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ وَلَيْسَ يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يعارض عَلَى مَا يُنَفَّذُ فِي الْوَصَايَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَّى بِابْتِيَاعِ عَبْدٍ يُعْتَقُ عَنْهُ أَوْ طَعَامٍ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُبْتَاعَ ذَلِكَ مِنَ الْوَارِثِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَحِلُّهُ فِي الثُّلُثِ فَهُوَ لَيْسَ يَأْخُذُهُ وَصِيَّةً وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مُعَاوَضَةً فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ عِوَضًا من عمله. والقسم الثالث: أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَلَا يُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ يقول: أحجوا عني زيد فَالْوَاجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى زَيْدٍ أَقَلَّ مَا يُوجِبُ مَنْ يَحُجُّ بِهِ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ فَإِنِ امْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعَيِّنَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيُعَيِّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِينَارٍ فَتُصْرَفُ إِلَى غَيْرِ وَارِثٍ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فَإِنْ عُرِضَتْ عَلَى شَخْصٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا نُقِلَتْ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ. فَصْلٌ : إِذَا قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي مَنْ يَرْضَاهُ فُلَانٌ فَرَضِيَ فُلَانٌ إِنْسَانًا كَانَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ الْمُوصِي فَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ وَاجِبٍ كَانَ كَالْمُعَيَّنِ فِي حَجٍّ وَاجِبٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ فِي تَطَوُّعٍ كَانَ كَالْمُعَيَّنِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ وَاحِدٍ يَحُجُّ عَنِّي فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَحَجَّ عَنْهُ غَيْرُ وَارِثٍ فَلَهُ مِائَةٌ وَإِنَّ حَجَّ عَنْهُ وَارِثٌ فَلَهُ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. فَصْلٌ : إِذَا قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي حِجَجًا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَيَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 أَنْ يَخْرُجَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الْحَجِّ مِنَ الميقات لأن إطلاق الحج بوصية وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ بِهَا ثَلَاثَ حِجَجٍ إِذَا أَمْكَنَ. فَصْلٌ : إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَاجِبَةٌ مِنْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ فَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تَطَوُّعًا فَأَحْرَمَ الْأَجِيرُ بِالتَّطَوُّعِ انْصَرَفَ إِحْرَامُهُ إِلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ دُونَ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ عَنْهُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ كَانَ عَنْ حَجِّهِ الْوَاجِبِ فَكَذَا إِحْرَامُ الْأَجِيرِ عَنْهُ فَلَوْ مات وعليه حجتان: أحدهما حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْأُخْرَى حَجَّةُ نَذْرٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا ثُمَّ حَجَّةَ النَّذْرِ فَإِنْ أَحْرَمَ الْأَجِيرُ عَنْهُ أَوَّلًا بِحَجَّةِ النَّذْرِ انْعَقَدَتْ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا فَلَوِ اسْتُؤْجِرَ رَجُلَانِ لِيَحُجَّا عَنْهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا يُحْرِمُ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْآخِرُ لِحَجَّةٍ النَّذْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ يَقُومُ مَقَامَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ فَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلَانِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ حَجَّتَانِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِمَا مِنْهُ وَالْأَجِيرَانِ قَدْ تَصِحُّ مِنْهُمَا حَجَّتَانِ فِي عَامٍ فَاخْتَلَفَا فَعَلَى هَذَا أَيُّ الْأَجِيرَيْنِ سَبَقَ بِالْإِحْرَامِ كَانَ إِحْرَامُهُ مُنْعَقِدًا لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِحْرَامُ الَّذِي بَعْدَهُ مُنْعَقِدًا لِحَجَّةِ النَّذْرِ فَإِنْ أَحْرَمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَسْبَقُهُمَا إِجَارَةً وَإِذْنًا فَيَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالَّذِي بَعْدَهُ بِحَجَّةِ النَّذْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ لَهُ بِإِحْدَاهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُعَيِّنُهَا وَالْأُخْرَى عَنْ حَجَّةِ النَّذْرِ والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 بَابُ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ الْجَزَاءُ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً وَالْكَفَارَةُ فِيهِمَا سواءٌ لِأَنَّ كُلًّا ممنوع بحرمةٍ وكان فيه الكفارة وقياس ما اختلفوا من كفارة قتل المؤمن عمداً على ما أجمعوا عليه من كفارة قتل الصيد عمداً (قال) والعامد أولى بالكفارة في القياس من المخطئ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَتْلُ الصَّيْدِ حَرَامٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) {المائدة: 94) فَفِي قَوْلِهِ {لَيَبْلُوَنَّكُمْ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ. وَالثَّانِي: لَيُكَلِّفَنَكُمْ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} تأويلان: أحدهما: " تناله أيديكم " البيض، ورماحكم: الصَّيْدُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ صغار الصيد وما ضعف منه ورماحكم كِبَارُ الصَّيْدِ وَمَا قَوِيَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ مَعًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَم اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ) {المائدة: 94) وفيه تأويلان: أحدهما: أن معناه لتعلموا أنتم أن الله يعلم ما يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنَّ أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ الْمُهِينِ) {سبأ: 14) . مَعْنَاهُ: تبينت الجن أن الأنس قد علموا أن الْجِنُّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا في الْمُهِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَعْلَمَ عِلْمَ مُشَاهِدَةٍ وَنَظَرٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصيد حُكْمًا قَدِ ابْتُلِيَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ قَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَا إِيجَابُ الْجَزَاءِ فِيهِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَ قَتْلِهِ وَإِيجَابَ الْجَزَاءِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَيُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِيهِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وِللسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) {المائدة: 96) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَا لَفِظَهُ الْبَحْرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا تُزُوِّدَ بِهِ مَمْلُوحًا وَفِيهِ تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " " أَنَّ طَعَامَهُ كُلُّ مَا فِيهِ " وهذا أعم التأولين، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ دُونَ إِيجَابِ الْجَزَاءِ فِيهِ وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنَ الْسُنَّةِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ: أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحم حمارٍ وحشي وهو بالأبواء - أو بودان - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قَالَ: " إِنَهُ لَيْسَ مِنَّا رَدٌّ عَلَيْكَ وَلَكِنَّا حرمٌ ". فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَإِيجَابُ الْجَزَاءِ فِيهِ فَالْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: إِيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ. وَالثَّانِي: إِيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَاطِئِ. وَالثَّالِثُ: إيجاب الجزاء على العائد. فَأَمَّا الْعَامِدُ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ: أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ فِي قَتْلِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا مِنْ قَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ خَاطِئًا فِي قَتْلِهِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ أَوْ خَاطِئًا فِي قَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. فأما العامد فيها لا جزاء عليه قال: لأن الله توعده بِالْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) {المائدة: 94) فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْوَعِيدِ بِالْعُقُوبَةِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْجَزَاءِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمَِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَامِدٍ فِي الْقَتْلِ ذَاكِرٍ لِلْإِحْرَامِ، وَبَيْنَ عَامِدٍ لِلْقَتْلِ، ناسٍ لِلْإِحْرَامِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَغَلَّظُ بِأَعْظَمِ الْإِثْمَيْنِ وَتَخِفُّ بِأَدْوَنِهِمَا فَلَمَّا وَجَبَتْ بِالْخَطَأِ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْعَمْدِ أَوْلَى وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ خَطَأً، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بالتكفير عمداً للآدمي، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَعِيدِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الكفارة للآدمي. فصل : فأما الخاطي فِي قَتْلِهِ وَهُوَ: أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ لِإِحْرَامِهِ فَسَوَاءٌ، وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعَيْنِ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءُ. .) {المائدة: 95) فشرط العمد في إيجاب الجزاء يدل على أنه الْخَاطِئَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَوَجَبَ بِحَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِعَمْدِهِ الْكَفَّارَةُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ الْكَفَّارَةُ كَ " الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ) {المائدة: 95) فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ به معتمداً لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَإِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومِ يَتَنَاوَلُهَا، وَدَاوُدُ يُخْرِجُ مِنَ الْعُمُومِ أَحَدَهُمَا، وَرَوَى مُخَارِقٌ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَرُحْنَا عَشِيَّةً فَبَدَا لَنَا ضَبٌّ فَابْتَدَرْنَاهُ وَنَسِينَا إِهْلَالَنَا فِي الْحَجِّ فَانْصَدَرَ إِلَيْهِ رجلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ فَقَتَلَهُ فَقُلْنَا مَا صَنَعْتُمُ أَلَسْنَا مُحْرِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ صَارَ إِرْبَدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ احْكُمْ فَقَاْلَ: فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْلَمُ مِنِّي قَالَ: إِنِّي لَمْ أَقُلْ لَكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي وَلَكِنِ احْكُمْ قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ جِدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ يَقُولُ قَدْ أَكَلَ وَشَرِبَ قَالَ: فَهُوَ كَمَا حَكَمْتَ فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا اسْتِفَاضَةُ حُكْمِ الْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، والتابعين مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، أَوْ نِزَاعٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ، أَوْ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ عَمْدًا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالتَّكْفِيرِ خَطَأً كَالْآدَمِيِّ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجِبُ الْغُرْمُ بِإِتْلَافِهِ فَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِيهِ سَوَاءٌ كَأَمْوَالِ الأدميين. فأما استدلالهم بالآية فقد جعلنها دَلِيلًا عَلَيْهِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَالْمَعْنَى فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ فَافْتَرَقَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ وَقَتْلُ الصَّيْدِ إِتْلَافٌ فَاسْتَوَى حكم عمده وسهوه. فصل : وأما العائد فِي قَتْلِهِ وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا فَيَفْدِيَهُ أَوَّلًا بِفِدْيَةٍ، ثُمَّ يَقْتُلَ صَيْدًا ثَانِيًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ ثَانٍ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي وَلَوْ عَادَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعَيْنِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخْعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءُ} (المائدة: 95) فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى لَفْظِ " مَنْ " وَالْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ بِلَفْظِ " مَنِ " اقْتَضَى مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَتَكَرَّرِ الْحُكْمُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِمْ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَإِذَا دَخَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا، وَلَوْ عَادَ فِي دُخُولِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ: مَنْ خَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فَهِيَ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ طُلِّقَتْ، وَلَوْ عَادَتْ فَخَرَجَتْ ثَانِيَةً لَمْ تُطَلَّقْ، كَذَلِكَ قَاتِلُ الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ مَرَّةً لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَلَوْ عَادَ لِقَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِم اللهُ مِنْهُ} فَأَخْبَرَ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامُ مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الْمُبْتَدِئِ الْجَزَاءُ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ لِلْعَائِدِ غَيْرُ الِانْتِقَامِ كَمَا أَنْ لَا حُكْمَ لِلْمُبْتَدِئِ غَيْرُ الْجَزَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءَ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) وَفِي هَذِهِ الآية دليلان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ} إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَدْخُلَانِ لِجِنْسٍ أَوْ مَعْهُودٍ، وَلَيْسَ فِي صَيْدٍ مَعْهُودٌ فَثَبَتَ دُخُولُهُمَا لِلْجِنْسِ، وَلَفْظُ الْجِنْسِ يَسْتَوْعِبُ جُمْلَتَهُ وَآحَادَهُ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى جُمْلَةِ الْجِنْسِ وَآحَادِهِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بِهَا الْكِنَايَةَ، وَحُكْمُ الْعَطْفِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} يَعْنِي وَمَنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنَ الْجِنْسِ دُونَ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ جَمِيعَ الْجِنْسِ لَكَانَتِ الْكِنَايَةُ عَائِدَةً إِلَيْهِ بِالْهَاءِ وَالْأَلِفِ فَيَقُولُ: وَمَنْ قَتَلَهَا مِنْكُمْ مُتَعَمَّدًا قِيلَ: إِنَّمَا تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ بِالْهَاءِ وَالْأَلِفِ إِذَا عَادَتْ إِلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ صُيُودٌ فَأَمَّا إِذَا عَادَتْ إِلَى لَفْظٍ يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فَإِنَّمَا تَعُودُ بِكِنَايَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّوْحِيدِ وَهِيَ الْهَاءُ دُونَ الْأَلِفِ كَقَوْلِهِمْ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، " فَمَنْ " وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فقد عادت الكناية إليه في قولهم: فَلَهُ دِرْهَمٌ بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ وَالتَّذْكِيرِ، لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، كَذَلِكَ الصَّيْدُ إِنَّمَا عُلِمَ اسْتِغْرَاقُ جِنْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ دُونَ اللَّفْظِ فَجَازَ أَنْ تَعُودَ الْكِنَايَةُ بِالْهَاءِ دُونَ الْأَلِفِ وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَأَوْجَبَ مِثْلَ مَا قَتَلَ فَإِذَا قَتَلَ صَيْدَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُمَا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُمَا، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالتَّكْفِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ الْقَتْلِ مُوجِبًا لِتَكْرَارِ التَّكْفِيرِ كَنُفُوسِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ غُرْمُ مَالٍ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْغُرْمُ فِيهِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ مِنْهُ كَأَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ مِنَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِمَا لَا يُوجِبُ تَكْرَارَهُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِ " مَنْ " لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ تَكْرَارَ الْفِعْلِ يُوجِبُ تَكْرَارَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ " مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ " فَإِذَا دَخَلَ دَارًا لَهُ استحق درهماً ولو دَخَلَ دَارًا لَهُ أُخْرَى اسْتَحَقَّ ثَانِيًا كَذَلِكَ الصَّيْدُ لَمَّا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالثَّانِي مِثْلَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: " وَمَنْ عَادَ " يعني: في الإسلام " فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ " يَعْنِي: بِالْجَزَاءِ هَكَذَا فَسَّرَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي غَيْرَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُعَاقِبُهُ الْإِمَامُ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا ذَنْبٌ جُعِلَتْ عُقُوبَتُهُ فِدْيَةً إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يَأْتِي ذَلِكَ عَامِدًا مُسْتَخِفًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 باب جزاء الصيد مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله جل وعز: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {قال الشافعي) وَالنَّعَمُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الصَّيْدِ. وَقَالَ أبو حنيفة: تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمُ إِلَى النَّعَمِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ النَّعَمِ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً، وَلَا اعْتِبَارَ بِمِثْلِ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مَثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْجَزَاءِ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ، وَالْمِثْلُ فِي الشَّرْعِ إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمِثْلَ مِنَ الْجِنْسِ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِثْلًا شَرْعًا وَلُغَةً، وَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْقِيمَةَ فَيَكُونَ مِثْلًا شرعاً لا لغةً (ولا يتناول المثل من غير الجنس لا شرعاً ولا لُغَةً) . وَإِذَا كَانَ الْمِثْلُ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا مُرَادَيْنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مِنَ الْجِنْسِ مُرَادًا وَهُوَ أَنْ يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ نعامةٌ وَمِنَ الْحِمَارِ حمارٌ ثبت أن المثل من طريق القيمة مراداً. وقوله تعالى: {مِنَ النَّعَمِ} يَعْنِي أَنَّهُ يُصْرَفُ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي النَّعَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ وَالشَّبَهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يدرك بالمشاهدة والنظر الذي يستوي فيه العادل، وَالْفَاسِقُ، وَالْعَالِمُ، وَالْجَاهِلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْقِيمَةُ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى تَقْوِيمٍ وَاجْتِهَادٍ وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى الْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 الْمِثْلُ فِي الْجَزَاءِ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الصَّيْدِ، وَالْمِثْلُ فِي جَمِيعِهِ واحدٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ مِثْلٌ الْقِيمَةَ دُونَ مَا كَانَ مِثْلًا فِي الشَّبَهِ والصورة إذ المراد بالمثل في جميع الصيد الْقِيمَةَ دُونَ مَا كَانَ مِثْلًا فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلًا وَاحِدًا لِجَمِيعِ الصَّيْدِ، فَيَجْعَلَ لِمِثْلِ بَعْضِهِ حُكْمًا وَلِمِثْلِ بَاقِيهِ حُكْمًا. وَرُبَّمَا جَوَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا: لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِقَتْلِهِ قِيمَتُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الْعُصْفُورِ وَغَيْرِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مضمونة فوجب؛ إذ لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهَا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِقِيمَتِهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ إِيجَابَ مثله في الشبه والصوت يُفْضِي إِلَى أَنْ يَجِبَ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ بدلان مختلفان فليزم مَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَهِيَ مِثْلٌ وَجَزَاؤُهُ بِالْمِثْلِ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ، وَهِيَ مِثْلٌ فَيَخْتَلِفَ الْمِثْلَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ؛ وَهَذَا فِي الْأُصُولِ مُمْتَنِعٌ؛ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمِثْلَ، وَإِطْلَاقُ الْمِثْلِ يَتَنَاوَلُ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ وَالْجِنْسِ حَتَّى يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ نعامةٌ، وَفِي الْغَزَالِ غَزَالٌ فَلَمَّا قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ انْصَرَفَ الْمِثْلُ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ بقي الْمِثْلُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ عَلَى مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بها أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَتْ مِثْلًا فَهِيَ مِنَ الدَّرَاهِمِ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ عَمَّا نَصَّ اللَّهُ تعالى عليه من النعم إلى ما لا يَنُصَّ عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَلَمْ يَقُلْ: " فجزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ الدَّرَاهِمِ " تَصَرَّفَ فِي النَّعَمِ فَيَصِحُّ لَهُمُ الْمَذْهَبُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَذَلِكَ كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَوْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ. فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عدلٍ، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ كَانَتْ رَاجِعَةً إلى النعم، وأبو حنيفة: الْكِنَايَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} لَيْسَتْ رَاجِعَةً إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَلَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ إِلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْمِثْلُ دُونَ النَّعَمِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَوَيْ عدلٍ إِنَّمَا يَحْكُمَانِ بِالْقِيمَةِ دُونَ النَّعَمِ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى بِالظَّاهِرِ وَأَحَقُّ بِالتِّبْيَانِ. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ؛ أصيدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فِيهِ كبشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: وَسَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَارَ كَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الضَّبُعُ صيدٌ يُؤْكَلُ، وَفِيهِ كبشٌ إذا أصابه المحرم وفي هَذَا الْخَبَرُ استدلالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْجَبَ مِنَ الضَّبُعِ كَبْشًا، وأبو حنيفة يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَلَا يُوجِبُ الْكَبْشَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْكَبْشَ بَدَلًا مُقَدَّرًا، وَالْقِيمَةُ لَا تَتَقَدَّرُ وَإِنَّمَا تَكُونُ اجْتِهَادًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِكَبْشٍ جَعَلَهُ كُلَّ مُوجِبِهِ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْكَبْشِ فِي جَزَاءِ الضَّبُعِ وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي جَزَاءِ الضَّبُعِ، وَأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَجِبُ إِذْ لَوْ وَجَبَتِ القيمة لجاز صرفها في الكبش وغيره وكما كَانَ لِلْكَبْشِ اخْتِصَاصٌ بِهِ. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إجماع الصحابة رضي الله عنه وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي قَضَايَا مختلفةٍ فِي بلدانٍ شَتَّى، وأوقاتٍ متباينةٍ فِي الضَّبُعِ بكبشٍ، وَفِي النَّعَامَةِ ببدنةٍ، فَلَمَّا اتَفَقَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ دُونَ قِيمَتِهِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي بلدٍ، وَتَنْقُصُ فِي غَيْرِهِ، وَتَزِيدُ فِي وقتٍ وَتَنْقُصُ فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ حَكَمُوا فِيهِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي النعامةٍ ببدنةٍ وَلَا تُسَاوِي بَدَنَةً، وَحَكَمُوا فِي الضَّبُعِ بكبشٍ وَهُوَ لَا يُسَاوِي كَبْشًا فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَافَقَ قِيمَةُ الضَّبُعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَبْشًا، وَقِيمَةُ النعامة بدنةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ جَازَ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَجَازَ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي غَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ حُكْمُهُمْ فِي كُلِّ وقتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ أَوْجَبُوا فِي الْأَرْنَبِ عِنَاقًا وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً، وَعِنْدَ أبي حنيفة لا يجوز أن يصرف قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي عناقٍ وَلَا جفرةٍ وَإِنَّمَا تصرف فيما يجوز أضحية وجب أن يتنوع حق الله تعالى إلى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ، ونوعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْمِثْلِ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِالْقِيمَةِ. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَكْفِيرُ قَتْلٍ بحيوانٍ فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ مِنَ الْحَيَوَانِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّينَ؛ وَلِأَنَّهُ تكفيرٌ بحيوانٍ وَجَبَ بحرمةِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ كَكَفَّارَةِ الْأَذَى وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ؛ ولأن للحقوق الْمَضْمُونَةَ بِالْإِتْلَافِ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ. فَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْآدَمِيِّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: نوعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ، وَنَوْعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَيْنِ: نوعٌ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ، ونوعٌ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ جِنْسَيْ مَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ ضَمَانُهُ نَوْعَيْنِ: مِثْلًا وَقِيمَةً كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. الْجَوَابُ: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الْأَوَّلُ مِنَ الآية وهو قولهم: إن المثل إما أن يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَالْجِنْسِ، أَوْ فِي الْقِيمَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمِثْلَ إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَقَدْ قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمِثْلَ فِي الصُّورَةِ لا يفتقر إلى اجتهاد وعدلين؛ لِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَإِنَّمَا تَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ القيمة. فالجواب: أن الاجتهاد في المثل والنعم أَخْفَى مِنَ الْاجْتِهَادِ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ يَعْرِفُهَا سُوقَةُ النَّاسِ وَعَوَامُّهُمْ، وَالْمِثْلُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ خَوَاصُّهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ؛ فَكَانَ بِاجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ أَوْلَى. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الثَّالِثُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزَاءَ بِالْمِثْلِ راجعٌ إِلَى جَمِيعِ الصَّيْدِ، فَلَمَّا أُرِيدَ بِبَعْضِهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْمِثْلِ وَهُوَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَا لَهُ مثل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَنَاوَلَتْ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ دُونَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ وَالْآثَارِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ "، فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ، فَإِنْ حَرَّرُوهُ قِيَاسًا عَلَى الْعُصْفُورِ، فَالْمَعْنَى فِي الْعُصْفُورِ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ، فَأَمَّا مَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ دُونَ الْقِيمَةِ، كَمَا أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ مَا لَهُ مِثْلُ مِثْلِهِ دُونَ قِيمَتِهِ، وَبِإِتْلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ الْقِيمَةُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ فَبَاطِلٌ بِقَتْلِ الْحَدِّ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ وَلَا بِالْقَيِّمَةِ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ قِيمَةً لِكَوْنِهَا إِبِلًا ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ هَذَا الْقَدْحِ وَلَمْ يصح الجميع بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُضْمَنُ بِالْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ وَهُوَ الصِّيَامُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَاخْتَلَفَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ إِيجَابَ بَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي متلفٍ واحدٍ ممتنع في الأصول. فالجواب: أَنَّ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ إِذَا كَانَتْ جِهَةُ ضَمَانِهَا وَاحِدَةً، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ ضَمَانِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْبَدَلِ فِيهِمَا كَالْقَتْلِ يُضْمَنُ بِبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُ بَدَلَيْنِ فِي متلفٍ واحدٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَخْتَلِفَ الْبَدَلَانِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مخالفة الأصول. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أُكِلَ مِنَ الصَّيْدِ صِنْفَانِ دوابٌ وطائرٌ فَمَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ مِنَ الْدَوَابِّ نَظَرَ إِلَى أقرب الأشياء من المقتول شبها من النعم ففدى به وقد حكم عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وغيرهم في بلدانٍ مختلفةٍ وأزمانٍ شتى بالمثل من النعم فحكم حاكمهم في النعامة ببدنةٍ وهي لا تسوي بدنةً وفي حمار الوحش ببقرةٍ وهو لا يسوي بقرةٌ وفي الضبع بكبشٍ وهو لا يسوي كبشاً وفي الغزال بعنزٍ وقد يكون أكثر من ثمنها أضعافاً ودونها ومثلها وفي الأرنب بعناقٍ وفي اليربوع بجفرةٍ وهما لا يساويان عناقاً ولا جفرةً فدل ذلك على أنهم نظروا إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبهاً بالبدل من النعم لا بالقيمة ولو حكموا بالقيمة لاختلف لاختلاف الأسعار وتبيانها في الأزمان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْحَيَوَانُ كُلُّهُ ضربان: إنسيٌّ ووحشيٌّ. فأما الإنسي الأصلي فُحُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيهِ كَحُكْمِ الْمُحِلِّ، وَأَمَّا الْوَحْشِيُّ فَضَرْبَانِ مأكولٌ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَيَأْتِي، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَضَرْبَانِ: بريٌّ وبحريٌّ. فَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَيَأْتِي وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَضَرْبَانِ: دَوَابُّ وطائرٌ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 فَأَمَّا الطَّائِرُ فَيَأْتِي، وَأَمَّا الدَّوَابُّ فَفِيهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّعَمِ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ أَقْرَبَ الِأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَيَفْتَدِي بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ حُكْمٌ أَمْ لَا. فَإِنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ فِيهِ بشيءٍ فَلَا اجْتِهَادَ لَنَا فِيهِ، وَحُكْمُ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِنَا، وَقَالَ مالكٌ: لَا بُدَّ فِيهِ من اجتهاد فَقِيهَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَمَرَ بِالرُّجُوعِ فِيهِ إِلَى حُكْمِ ذَوَيْ عدلٍ. وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَوْكَدُ مِنْ عَدَالَتِنَا؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَ، وَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْنَا اهْتَدَيْنَا؛ فَكَانَ حُكْمُهُمْ أَوْلَى مِنْ حُكْمِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا حَكَمُوا بشيءٍ أَوْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِهِ وَسَكَتَ بَاقُوهُمْ عَلَيْهِ صَارَ إِجْمَاعًا وَمَا انْعَقَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى غَيْرِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَكَذَا حُكْمُ التَّابِعِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ كَحُكْمِ الصَّحَابَةِ في وجوب اتباعه، ومنه الِاجْتِهَادِ فِيهِ. فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ حُكْمٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ محرمٌ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَبِيصَةُ لِصَاحِبَيْهِ: وَاللَّهِ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَى سَأَلَ غَيْرَهُ، وَأَحْسَبُنِي سَأَذْبَحُ نَاقَتِيِ فَسَمِعَ عُمَرُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضرباً بالدرة، وقال: أتقتل الصيد محرماً وتغمض الْفُتْيَا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَهَذَا عُمَرُ وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شاةٍ، مَعْنَى قَوْلِهِ: تَغْمُضُ الْفُتْيَا أَيْ: تَحْتَقِرُهَا وَتَتَهَاوَنُ بِهَا، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مَطْعُونًا عَلَيْهِ فِي دِينٍ: إِنَّهُ لَمَغْمُوضٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يجز إلا بحكم عدل يَجُوزُ حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فَقِيهًا عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي بَدَلٍ مُتْلَفٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُتْلِفِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تُرْجَعُ فِي إِتْلَافِهَا إِلَى اجْتِهَادِ مُقَوِّمَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ أَحَدَهُمَا، كَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، وَلِمَا رَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَأَرْبَدَ وَقَدْ قَتَلَ صَيْدًا احْكُمْ، قَالَ: إِنِّي أحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، قَالَ: فَهُوَ كَمَا حَكَمْتَ، فَأَمْضَى عُمَرُ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ أَرْبَدَ، وَقَدْ كَانَ قَاتِلًا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؛ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، كَالزَّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَخَالَفَتْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَمَا حَكَمَتْ فِيهِ الصحابة، إن حَكَمُوا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ حَكَمَ بِذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَفِي الضَّبُعِ بكبشٍِ حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ حَكَمَ بِهِ بَعْدَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وجابرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الضَّبُعُ مِنَ الصيدِ "، وَجَعَلَ فِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةً، حَكَمَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عطاءٌ، وَفِي الْإِبِلِ بَقَرَةٌ، حَكَمَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسِ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، حَكَمَ بِهَا عطاءٌ، وَفِي الْأَرْوَى بَقَرَةٌ، حَكَمَ بِهَا عطاءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَرْوَى: دُونَ الْبَقَرَةِ الْمُسِنَّةِ وَفَوْقَ الْكَبْشِ، فَفِيهِ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ، وَفِي الثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وفي الظبي تيس حكم به على الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، حَكَمَ بِهَا عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي الضَّبِّ جديٌ، حَكَمَ بِهِ عُمَرُ وَأَرْبَدُ وعطاءٌ، وَفِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ، حَكَمَ بِهِ عطاءٌ، وَقَالَ شريحٍ: لَوْ كَانَ مَعِي حَاكِمٌ لَحَكَمْتُ فِي الثَّعْلَبِ بجديٍ، فَإِطْلَاقُ عطاءٍ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ شريحٍ، وَفِي الْوَبَرِ شَاةٌ، حَكَمَ بِهِ عطاءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُ الْوَبَرَ فَفِيهِ جفرةٌ، وَلَيْسَ بِأَكْثَرَ من جفرةٍ بدنا، وفي أم جبين بِحُمْلَانٍ مِنَ الْغَنَمِ، حَكَمَ بِهِ عُثْمَانُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي: حَمَلًا فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهَا فَفِيهَا وَلَدُ شاةٍ. حملٌ أَوْ مِثْلُهُ مِنَ الْمَعْزِ مِمَّا لَا يَفُوتُهُ، فَهَذَا مَا حَكَمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلٌّ دابةٍ مِنَ الْصَيْدِ الْمَأْكُولِ سَّمَيْنَاهَا فَفِدَاؤُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ لَمْ نُسَمِّهَا فَقِيلَ: إِنَّهَا قياساً عَلَى مَا سَمَّيْنَا مِنْهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلُ غَيْرِهِ فَيَصِيرَا اثنين، فيؤخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 حينئذٍ به، فلو حكم به عَدْلَانِ بِمِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ آخَرَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِثْلِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْعَدْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِهِمَا؛ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي اجْتِهَادِ الْفَقِيهَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَلَوْ حَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، كَانَ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ بِالْمِثْلِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ مَنْ حَكَمَ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، ولأن النفي لا يعارض الإثبات. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفْدِي إِلَّا مِنَ النَّعَمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) فَعَلَّقَ الْمِثْلَ بِالنَّعَمِ فَانْتَفَى عَمَّا سِوَى النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فِي الْأَضَاحِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةَُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) {المائدة: 1) قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّهُ غَيْرُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالضَّأْنِ، وَهِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ منَ الضَّأنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المِعْزَ اثْنَيْنِ) {الأنعام: 143) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ} (الأنعام: 144) ، فَهِيَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، فَإِذَا أَجْزَأَ الصَّيْدُ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ حَيًّا إِلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ أَصَابَ الصَّيْدَ فِي حِلٍّ أَوْ حرمٍ، لِقَوْلِهِ تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) ؛ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ حَيًّا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ متعبدٌ بِالْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ وَإِرَاقَةِ دَمِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَعْلَمَ الْفُقَرَاءَ أَنَّ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ وَنَحَرَهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِالدَّفْعِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ هديٌ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ يُوجِبُ تَمْلِيكَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحَ الْجَزَاءَ فِي الْحَرَمِ فَرَّقَ لَحْمَهُ طَرِيًّا عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ بِمَا يُعْطَى كُلُّ فَقِيرٍ مِنْهُمْ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى ثلاثةٍ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا فَلَوْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الثَّالِثِ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَفِي قَدْرِ ضمانه وجهان: أحدهما: يضمن الثلاثة مُسَاوَاةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ في التفرقة لا تلزم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي صِغَارِ أَوْلَادِهَا صِغَارُ أَوْلَادِ هَذِهِ ". قَالَ الماوردي: وهذا لما قَالَ فَيَجِبُ فِي فَرْخِ النَّعَامَةِ فصيلٌ، وَفِي جحش حمار الوحش عجلٌ، فَيَخْتَلِفُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ جزاءٌ واحدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياُ بَالَغَ الكَعْبَةِ} ، فَجَعَلَ الْجَزَاءَ هَدْيًا، وَمُطْلَقُ الْهَدْيِ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَدْيًا لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا مَا يجوزُ فِي الضَّحَايَا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ حَكَمَتْ فِي النَّعَامَةِ ببدنةٍ، وَفِي الضَّبُعِ بكبشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بعنزٍ، وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْ صِغَرِ الْمَقْتُولِ وَكِبَرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْجَزَاءُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّغَرِ والكبر لسألوا عن حاله، ولافتقروا إلى مشاهدته لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ جَزَاءِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَلَمَّا أَمْسَكُوا عَنِ السُّؤَالِ، وَلَمْ يَفْتَقِرُوا إِلَى الْمُشَاهَدَةِ دَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حيوانٌ مخرجٌ بِاسْمِ التَّكْفِيرِ فَوَجَبَ أَلَّا يختلف باختلاف حال ما أتلف من صغر وكبر كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَارَّةِ الْقَتْلِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ يَخْلُو من أن يكون جارياً مجرى الكفارات. ومجرى الدِّيَاتِ، فَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ لَمْ يَخْتَلِفْ باختلاف الصغير والكبير عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الدِّيَاتِ، فَالدِّيَاتُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فَمِثْلُ الصَّغِيرِ صغيرٌ، وَلَيْسَ الْكَبِيرُ مِثْلًا لِلصَّغِيرِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ. وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ. فَلَمَّا كَانَ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ مُعْتَبَرًا حَتَى وَجَبَوَا فِي الضَّبُعِ كَبْشًا، وَفِي الْغَزَالِ عَنْزًا، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ فِي الْخِلْقَةِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ صَيْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ مُعْتَبَرًا فَلَا يَجِبْ فِي الصَّغِيرِ مَا يَجِبُ فِي الْكَبِيرِ اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ فِي الْخِلْقَةِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ صَيْدًا، وَلِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ مُعْتَبَرٌ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْكَفَّارَاتِ وَدِيَاتُ النُّفُوسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَبِالْجِنَايَةِ، وَالدِّيَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ إِنَّمَا وَجَبَ لِحُرْمَةٍ ثَبَتَتْ لَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوِ الْإِحْرَامُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي وَجَبَ ضمانها لحرمة المال والكفارات وديات النفوس إنما وجبت لحرمة النفوس دُونَ غَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَسَائِرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 الْأَمْوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آدَمِيٍّ عِجْلًا صَغِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آدَمِيٍّ ثَوْرًا كَبِيرًا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ ضمان مختلف بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْجَزَاءَ هَدْيًا، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْهَدْيِ إِذَا أُطْلِقَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَلَوْ بَيْضَةً، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، فَعَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِهِ سَاقِطٌ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي مَا يُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ إِذَا كَانَ لَفْظُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا، وَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ، فَحُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ لَفْظِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُكْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ عَنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ؛ فَلِأَنَّ مَفْهُومَ السُّؤَالِ يُغْنِي عَنِ الِاسْتِفْهَامِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ عَنْ جَزَاءِ النَّعَامَةِ يُفْهَمُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فَرْخَ النَّعَامَةِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الصَّيْدِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ، وَالْجَزَاءُ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ أَوْ مَجْرَى الدِّيَاتِ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ يَخْلُو مِنْ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يجري مجرى أموال الآدمين، عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ رَدُّوهُ إِلَى الْكَفَّارَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ رَدُّوهُ إِلَى الدِّيَاتِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّيَاتِ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ حَتَّى كَانَتْ دِيَةُ الْعَرَبِيِّ كَدِيَةِ الْقِبْطِيِّ، وَدِيَةُ الشَّرِيفِ كَدِيَةِ الدَّنِيءِ، وَدِيَةُ الْأَسْوَدِ كَدِيَةِ الْأَبْيَضِ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، اختلف باختلاف الأسنان، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ مَكْسُورًا فَدَاهُ بِمِثْلِهِ وَالصَّحِيحُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُوَ قَوْلُ عطاءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، فَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ فَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَدَاهُ بِالصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى لِكَمَالِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ بِمِثْلِهِ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ، وَقَالَ بعض أصحابنا: لا يجوز أن يفديه بمعين مِثْلِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِصَحِيحٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ تَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) فَمِثْلُ الْأَعْوَرِ أعورٌ، وَلَيْسَ الصَّحِيحُ مِثْلًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ النَّقْصَ قَدْ يَعْتَوِرُ الصَّيْدَ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وَجْهَيْنِ: نَقَصُ صغرٍ، وَنَقْصُ عَيْبٍ، فَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الصِّغَرِ مُعْتَبَرًا فِي الْمِثْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ الْعَيْبِ مُعْتَبَرًا فِي الْمِثْلِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ الْيُمْنَى فَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَعْوَرِ الْيُمْنَى، فَإِنْ فَدَاهُ بِأَعْوَرِ الْيُسْرَى دُونَ الْيُمْنَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ بِحَالٍ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعِيبِ يَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِاعْتِبَارِهِ فِي الْمِثْلِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ مِنْ جِنْسٍ فَأَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ مَعِيبًا فَأَخْرَجَهُ بِعَيْبٍ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعَوَرِ لَيْسَ بِنَقْصٍ دَاخِلٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ لَحْمِهِ إِذَا كَانَ أَعْوَرَ الْيُسْرَى كَقَدْرِ لَحْمِهِ إِذَا كَانَ أَعْوَرَ الْيُمْنَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَجْنَاسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يدخل على الفقراء إضرار به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " (قَالَ) وَيَفْدِي الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخرٍ وَيَفْدِي بِالْإِنَاثِ أَحَبُّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الْجَزَاءِ فَهُوَ أَنْ يَفْدِيَ الذَّكَرَ بِالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى اعْتِبَارًا بِالْمِثْلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، فَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صيداً ذكراً يفيده بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أُنْثَى فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْ هُمَا سواءٌ بِأَنِ اعْتَبَرُوا حَالَ الْمُفْتَدِي فَإِنْ أَرَادَ تَقْوِيمَ الْأُنْثَى فِي الْجَزَاءِ دَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا فَتَقْوِيمُ الْأُنْثَى أَفْضَلُ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ ثَمَنًا وَأَزْيَدُ فِي الطَّعَامِ أمداداً، وأزيد في الصيام أياماً، فلو لَمْ يُرِدْ تَقْوِيمَ الْأُنْثَى مِنَ الْمِثْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَبْحَ الْأُنْثَى، فَهَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَوْلَى أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا أَرْطَبُ لَحْمًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بأفضل من الذكر من الذكر وإن أجزأت لأن لحمها قَدْ يَتَقَارَبَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ أُنْثَى فَفَدَاهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ ذَكَرًا، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى أَرْطَبُ لَحْمًا مِنَ الذَّكَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْدِيَ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ لَحْمًا مِنَ الْأُنْثَى. فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَاخِضًا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ مَاخِضًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَلَا يَذْبَحُهَا، لَكِنْ يُقَوِّمُهَا وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا طَعَامًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنِّي لَوْ قُلْتُ أَذْبَحُ شَاةً مَاخِضًا كَانَتْ شَرًّا مِنْ شَاةٍ غَيْرِ مَاخِضٍ للمساكين، وإنما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 أَرَدْتُ الزِّيَادَةَ لَهُمْ، وَلَمْ أُرِدْ لَهُمْ مَا أُدْخِلُ بِهِ النَّقْصَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ تُقَوَّمُ الشَّاةُ الْمَاخِضُ فَتَكُونُ أَزْيَدَ ثَمَنًا، وَيُتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَيَكُونُ أَزْيَدَ أَمْدَادًا، وَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ كَانَ أَزْيَدَ أَيَّامًا. فَصْلٌ : إِذَا ضَرَبَ الْمُحْرِمُ بَطْنَ بَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ فَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعِيشَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فَقَدْ أَسَاءَ بِضَرْبِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ عَنْ ضَرْبِهِ إِتْلَافٌ يُضْمَنُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَمُوتَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسْقُطَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، فَإِنْ سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يفدي الأم بِبَقَرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَيَفْدِيَ الْوَلَدَ بِعِجْلٍ صَغِيرٍ، وَإِنْ سَقَطَ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ بِوَضْعِهِ، وَلَا يَفْدِيَهُ بِعِجْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ حَيًّا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأُمَّ بِبَقَرَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَمُوتَ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْأُمَّ بِبَقَرَةٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حيٌّ يَعِيشُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمِّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْوَلَدِ، فَإِنْ سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَدَاهُ بِعِجْلٍ صَغِيرٍ، وَإِنْ سَقَطَ مَيِّتًا فَدَاهُ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَهَا حَامِلًا قَبْلَ الْوَضْعِ ثُمَّ حَائِلًا بَعْدَ الْوَضْعِ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّيْدِ إِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَقَصَ بِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَرَحَ ظَبْيًا فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الْعُشْرُ فَعَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ شاةٍ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ النقص أقل أو أكثر (قال المزني) عليه عشر الشَّاةِ أَوْلَى بِأَصْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَسْرِيَ الْجِرَاحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتَ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ؛ لِأَنَّ السَّرَايَةَ تُضْمَنُ بِالتَّوْجِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَسْرِيَ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ تَنْدَمِلَ وَالصَّيْدُ حيُّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهُ عَنِ الِامْتِنَاعِ بِجِرَاحَتِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ بَعْدَ انْدِمَالِ جِرَاحَتِهِ مُمْتَنِعًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِجِرَاحَتِهِ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ: جُرْحُ الصَّيْدِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 فَإِذَا جَرَحَ صَيْدًا، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِهِ انْتَفَى وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِي غَيْرِ قَتْلِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) {المائدة: 95) ، وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَجِبُ فِي النُّفُوسِ، وَلَا تَجِبُ فِي الْأَطْرَافِ وَالْأَبْعَاضِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (المائدة: 96) ، وَالصَّيْدُ هُوَ الْمَصِيدُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَفْعَالَنَا فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْجُرْحُ مُحَرَّمًا كَالْقَتْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً كَانَتْ أَطْرَافُهُ مَضْمُونَةً كَالْبَهَائِمِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي إِيجَابَ الْجَزَاءِ الْكَامِلِ فِي الْقَتْلِ، وَلَا يَبْقَى وُجُوبُ الضَّمَانِ بِنَقْصِ الْجَزَاءِ فِيمَا سِوَى الْقَتْلِ، لَا مِنْ طَرِيقِ النُّطْقِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِاسْمِ الْكَفَّارَةِ، فَهِيَ إِنْ كَانَتْ مُسَمَّاةً بِالْكَفَّارَةِ فَذَاكَ فِي الْإِطْعَامِ دُونَ الْجَزَاءِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى حُقُوقِ الْأَمْوَالِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جُرْحَ الصَّيْدِ وَقَطْعَ عُضْوٍ مِنْهُ مَضْمُونٌ كَضَمَانِ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَى جَارِحِ الصَّيْدِ أَنْ يُرَاعِيَ جُرْحَهُ، وَيَتَعَاهَدَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا انْدَمَلَ الْجُرْحُ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ حينئذٍ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا جُرْحَ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ: قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ قُوِّمَ وَهُوَ مَجْرُوحٌ قَدِ انْدَمَلَ جُرْحُهُ، فَإِذَا قِيلَ: تِسْعُونَ دِرْهَمًا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ بِالْجِرَاحَةِ الْعُشْرَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيَكُونُ عَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ ظَبْيٌ، لَوْ قَتَلَهُ لَافْتَدَاهُ بشاةٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ أبو إبراهيم المزني يقول: عليه عشرة شَاةٍ، فَأَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي الْجِرَاحِ كَمَا أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي النَّفْسِ، وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْمِثْلِ كانت إحداها مَضْمُونَةً بِالْمِثْلِ، كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَتْلَفَ جَمِيعَهُ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ قَفِيزًا مِنْهُ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُونَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ ثَمَنِ شَاةٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالْمِثْلِ كَانَ النَّقْصُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ مَضْمُونًا بِالْأَرْشِ مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا بَلَّهُ بِالْمَاءِ، أَوْ قَلَاهُ بِالنَّارِ، ضَمِنَ أَرْشَ نَقْصٍ دُونَ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي إِيجَابِ عُشْرِ شَاةٍ إِضْرَارًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى شُرَكَاءَ فِي الشَّاةِ لِيَكُونَ شَرِيكِهِمْ فِيهَا بالعشر، فهذا متعذر، وإلى أَنْ يَهْدِيَ شَاةً كَامِلَةً؛ لِيَصِلَ عُشْرُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَفِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يَهْدِيَ عُشْرَ شَاةٍ، أَوْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الْعُشْرِ طَعَامًا، أَوْ يكفر بعدل الطَّعَامِ صِيَامًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرِ نَصِّهِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ عُشْرِ ثمن الشاة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وَبَيْنَ أَنْ يَهْدِيَ عُشْرَ شَاةٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الْعُشْرِ طَعَامًا، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَدْلَ الطَّعَامِ صِيَامًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَابَ الصَّيْدُ الْمَجْرُوحُ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ مَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَوْ عَاشَ؟ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِشَاةٍ كَامِلَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ فَيُقَوَّمُ صَحِيحًا حِينَ جَرَحَهُ، وَمَجْرُوحًا حِينَ غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ يَكُونُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا غَابَ مَجْرُوحًا فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ جُرْحَهُ مُتَحَقِّقٌ وُجُودُهُ وَمَوْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ بِالشَّكِّ لَا تَجِبُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَلَا تَجِبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ فَلَا تَجِبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مِنَ الْجُرْحِ فَتَجِبُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُوبِهَا بِالشَّكِّ وَلَا يُحْكَمَ بِإِسْقَاطِهَا بِالْيَقِينِ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّيْدِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ آدَمِيًّا فَغَابَ عَنْهُ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةُ نَفْسِهِ، وَلَا كَمَالُ دِيَتِهِ، فَالصَّيْدُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ حُرْمَةً أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ بِجَرْحِهِ وَغَيْبَتِهِ كَمَالُ فِدْيَتِهِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن قتل الصيد فإن شاء جزاه بِمِثْلِهِ وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ ثُمَّ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ جَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ عند الشافعي رضي الله عنه وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَلَا يَجُوزُ الطَّعَامُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ، وَلَا الصِّيَامُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وليس بمشهور عنه، بل نصه فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِأَنْ قَالَ: جَزَاءُ الصَّيْدِ كَفَّارَةُ نفسٍ محظورةٍ، وَكَفَّارَاتُ النُّفُوسِ مُرَتَّبَةٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهَا كَالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} ، وَمَوْضِعُ لَفْظَةِ " أَوْ " فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَوَامِرِ لِلتَّخْيِيرِ، كَقَوْلِهِ: اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا وَفِي الْأَخْبَارِ لِلشَّكِّ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عُمْرًا، فَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ أَمْرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا، وَلِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَا هو ممنوع منه بحرمة الحرام فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَالْحَلْقِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، فَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَاخْتِلَافُ الْأَمْرِ بِهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَاتِلُ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ الصَّيَامِ فَإِنِ اخْتَارَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي الشَّبَهِ وَالصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَخِلَافُ أبي حنيفة فِيهِ وَإِنِ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَقَالَ مالكٌ: يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دُونَ الْمِثْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْمِثْلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِطْعَامَ إِنَّمَا وَجَبَ بِقَتْلِ الصَّيْدِ كَمَا أَنَّ الْمِثْلَ إِنَّمَا وَجَبَ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، فَلَمَّا كَانَ الْمِثْلُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْمِثْلِ إلى الإطعام فقد استوى حكم ماله مِثْلٌ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ ضَمَانُ مُتْلَفٍ وَسَائِرُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْتَبَرُ فِيهَا قِيمَةُ الْمُتْلَفِ لَا قِيمَةُ مِثْلِهِ فَكَذَا الصَّيْدُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ لَا قِيمَةُ مِثْلِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) {المائدة: 95) وَفِي الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَرَفَعَ الْجَزَاءَ وَجَرَّ الْمِثْلَ عَلَى قِرَاءَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَزَاءَ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، وَلَمْ يُوجِبْ جَزَاءَ الْمَقْتُولِ، وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَارَةٌ طَعَامُ مَسَاكينَ} يَعْنِي كَفَارَّةَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّيْدِ وَالْمِثْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ الْكَفَّارَةُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ورجوعهما إِلَى الْمِثْلِ دُونَ الصَّيْدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ قَدْ يَتَقَدَّمُهُ الْمِثْلُ وَيَتَعَقَّبُهُ الصِّيَامُ، فَلَمَّا كَانَ مَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْمِثْلِ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ الصَّيْدُ، وَمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الصِّيَامِ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ مِنَ الْإِطْعَامِ، وَيَجِبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ الْمِثْلُ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مُخْرَجٌ فِي الْجَزَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ كَالْمِثْلِ وَالصِّيَامِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْمِثْلَ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا اعْتُبِرَ الْمِثْلُ بِالصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ مِثْلَهُ مُعْتَبَرًا بِمَا يَلِيهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَقَدْ جَعَلْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ لِعَدَمِ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَهُ مِثْلٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا دُونَ أَمْثَالِهَا، فَكَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ قُلْنَا الِاعْتِبَارُ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ قِيمَةُ أَمْثَالِهَا دُونَ الْمُتْلَفَاتِ فِي أَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَمْ قِيمَةُ هَذَا الْمُتْلَفِ؟ إِلَّا أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ قَدْ تَسْتَوِي قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جَنْسِهِ كَالصَّيْدِ قَدْ تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا، ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِالشِّبَعِ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسَ الْيَمَانِيِّ وَعَنِ الْقَاشَانِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الصَّوْمِ بِقَدْرِ مَا يُشْبِعُ الصَّيْدُ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَشْبَعُ مِنْهُ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشْبَعُ مِنْهُ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ وَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ أَنْ يَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَجَعَلَا شِبَعَ يَوْمٍ مِنْهُ مُقَابِلًا لِجُوعِ يَوْمٍ فِي الصَّوْمِ عَنْهُ؛ بقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلَكَ صَياماً} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِكٍ، ثُمَّ فَسَادُ مَا ذَكَرَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الشِّبَعِ، أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَدَّ لِلشِّبَعِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَيْدٌ يَشْبَعُ مِنْهُ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ لِقِلَّةِ أَكْلِهِمْ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ خَمْسَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا فِي الْجَزَاءِ مُعْتَبَرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ وَالشِّبَعُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَحْمِهِ الْمَأْكُولِ دُونَ عَظْمِهِ وَشَعَرِهِ وَجِلْدِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضٌ مَضْمُونًا وَهُوَ اللَّحْمُ وَبَعْضٌ غَيْرَ مضمونٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ وَالْعَظْمُ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الشِّبَعِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِيَامِهِ الطَّعَامُ دُونَ الشِّبَعِ بِالصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَقَالَ أبو حنيفة: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْإِطْعَامَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ فَجَعَلَ صِيَامَ يومٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ وَنَحْنُ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، فَجَعَلْنَا صِيَامَ يومٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ لِيَكُونَ جُوعُ يَوْمٍ بِإِزَاءِ إِشْبَاعِ مِسْكِينٍ فِي يومٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الصِّيَامِ، فَإِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ قُوِّمَ الصَّيْدَ لِلْمَقْتُولِ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَزَاءُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ لَهُ مِنَ النَّعَمِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْجَزَاءُ عَنْ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ الصَّيْدِ بِحَقِّ الْعُمُومِ مُحَرَّمًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ بِحُكْمِ الْبَعْضِ مَضْمُونًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا؛ وَالْبَيْضُ لَا مِثْلَ لَهُ وَقَدْ حَكَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي الْحَمَامَةِ بِشَاةٍ وَفِي الْجَرَادِ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَفِيهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ لَهُ مِثْلٌ إِلَّا أَنَّ الْمِثْلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ. وَالثَّانِي: مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ، وَجَمِيعًا مِثْلَانِ لِلْمُتْلَفِ، كَمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ طَعَامًا بِمِثْلِهِ، وَعَلَى مَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بِقِيمَتِهِ، وَكِلَاهُمَا مِثْلٌ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرُهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَغَيْرِهِ: وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ سواءٌ كَانَ ذَا مثلٍ أَوْ غَيْرَ ذِي مثلٍ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ مَالَهُ مِنَ النَّعَمِ مِثْلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بِمَكَانٍ مخصوصٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَأَمَّا الْمَكَانُ فَمَكَّةُ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَوَقْتُ التَّكْفِيرِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَوِّمَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ تَكْفِيرِهِ لَا فِي وَقْتِ قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ تَكْفِيرِهِ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ تَكْفِيرِهِ لَا وَقْتَ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مِثْلِ الْمُتْلَفِ إِذَا تَعَقَّبَهَا العدل إِلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقَيِّمَةِ وَقْتَ الْعُدُولِ لَا وَقْتَ التَّلَفِ كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ حَتَّى تَعَذَّرَ الْمِثْلُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ التَّعَذُّرِ لَا وقت التلف، وإذا أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ وَقْتَ قَتْلِهِ لَا وَقْتَ تَكْفِيرِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَاعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ إِتْلَافِهِ لَا وَقْتَ عَدَمِهِ كَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ إِتْلَافِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ عَدَمِهِ وَقْتُ قَتْلِهِ. فَأَمَّا مَوْضِعُ تَقْوِيمِ الصَّيْدِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَوِّمُهُ بِمَكَّةَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْإِمْلَاءِ إِلْحَاقًا بِتَقْوِيمِ مَا لَهُ مِثْلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ يَقَوِّمُهُ بِمَكَانِهِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَتْلِ دُونَ وَقْتِ التَّكْفِيرِ وَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ دون موضع التكفير. مسألة: قال الشافعي (رضي الله عنه) : " وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى فَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ كَفَّرَ بِالْهَدْيِ أَوِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ وَنَحْرُ هَدْيِهِ فِيهِ وَتَفْرِيقُ لَحْمِهِ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَفَّرَ بِالصَّيَامِ فَحَيْثُ شَاءَ صَامَ سَوَاءٌ كَانَ فِي حِلٍّ أَوْ حرمٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَا إِلَى إعادة ذلك حاجةٌ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي قَتْلِهِ أَوْ جَرْحِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْدًا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: فِي مُحِلٍّ قَتَلَ صَيْدًا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ محرمٌ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْقَاتِلِ إِنْ أكل منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 وَالثَّانِي: حُكْمُ غَيْرِهِ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الْقَاتِلِ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَيَفْدِيَهُ ثُمَّ يَأْكُلَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَكْلِهِ عَاصِيًا، وَقَالَ أبو حنيفة: أَكْلُهُ لِلصَّيْدِ حرامٌ، وَعَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، وَجَزَاؤُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ حرامٌ عَلَى قَاتِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَجَبَ إِذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ حَيَوَانٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَلَحْمِ الْجَزَاءِ وَلِأَنَّ أَكْلَ هَذَا الصَّيْدِ محرمٌ، كَمَا أَنْ قَتَلَهُ محرمٌ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُهُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ فَعَلَ فِي الصَّيْدِ مَا هُوَ حرامٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي زَيْدٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الضَّبُعِ كَبْشًا فَجَدْيًا " فَكَانَ ظَاهِرُ قَضِيَّتِهِ أَنَّ الْكَبْشَ جَمِيعٌ يُوجِبُهُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْأَكْلِ كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْجَزَاءِ، وَكُلَّ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيْتَةِ، فَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الصَّيْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى قَاتِلِهِ إِذَا أَتْلَفَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ إِذَا أَكَلَهُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: أنه فعل لو أحدثه في ميتته لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ، فَوَجَبَ إِذَا أَحْدَثَهُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ أَلَّا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ كَالْإِتْلَافِ، وَلَأَنُّ لَحْمَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ حرامٌ عَلَى قَاتِلِهِ كَمَا أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ حرامٌ عَلَى قَاتِلِهِ فَلَمَّا كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مِنَ الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ ضَمَانٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ ضَمَانٌ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صيدٌ ضَمِنَهُ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهُ بِالْأَكْلِ كَالْمَقْتُولِ فِي الْحَرَمِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِقَتْلِهِ، كَمَا يَضْمَنُ الْبَيْضَ بِكَسْرِهِ، وَالشَّجَرَ بِقَطْعِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْبَيْضَ بِكَسْرِهِ وَالشَّجَرَ بِقَطْعِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ فِيمَا بَعْدُ بِإِتْلَافِهِ وَأَكْلِهِ فَكَذَلِكَ الصَّيْدُ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهَا عينٌ ضَمِنَهَا بإتلافٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهَا بِالْأَكْلِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، كَالْبَيْضِ وَالشَّجَرِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الصَّيْدَ بِمَوْتِهِ فِي يَدِهِ كَمَا يَضْمَنُهُ بِقَتْلِهِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ صَيْدًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَا أَكَلَ مِنْهُ كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ بِيَدِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صيدٌ مضمونٌ بِالْجَزَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْأَكْلِ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَزَاءِ فَالْمَعْنَى فِي الْجَزَاءِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْأَكْلِ، وَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الصَّيْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ كَانَ غَيْرَ مضمونٍ عَلَيْهِ بِالْأَكْلَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الْأَكْلَ عَلَى الْقَتْلِ فَبَاطِلٌ بِالصَّيْدِ الْمَيِّتِ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَضْمَنُهُ بِالْأَكْلِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ حُصُولُ الْإِتْلَافِ بِهِ وَعَدَمُ النَّمَاءِ بِوُجُودِهِ وَلَيْسَ كذلك الأكل بعد القتل. فَصْلٌ : وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ الْقَاتِلِ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَلَالٌ لِغَيْرِ قَاتِلِهِ مِنَ الْمُحِلِّينَ وَالْمُحْرِمِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاةً لِغَيْرِ قَاتِلِهِ مِنَ الْمُحِلِّينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فِي الصَّيْدِ كَالْحَلَالِ طَرْدًا وَالْمَجُوسِيِّ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ حيوانٌ يَصِحُّ فِيهِ ذَكَاةُ الْمُحِلِّ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ فِيهِ ذَكَاةُ الْمُحْرِمِ كَالنَّعَمِ طَرْدًا وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ ممنوعٌ مِنْ ذَكَاةِ الصَّيْدِ لِعَارِضٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْحَيَوَانِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الذَّكَاةِ لعارضٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْحَيَوَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الذَّكَاةِ كَالْغَاصِبِ يُمْنَعُ مِنْ ذَكَاةِ مَا غَصَبَهُ وَتَصِحُّ مِنْهُ ذَكَاتُهُ فَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ ميتةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِمُحِلٍّ وَلَا لمحرمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذكاةٌ مَمْنُوعٌ مِنْهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَلَّا تَقَعَ بِهَا الْإِبَاحَةُ كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّهَا ذكاةٌ لَا تُبِيحُ الْمُذَكَّى بِوَجْهٍ، فَوَجَبَ أَلَّا تُبِيحَ غَيْرَ الْمُذَكَّى بِكُلِّ وجهٍ قِيَاسًا عَلَى ذَكَاةِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ أَكْلُهُ قِيَاسًا عَلَى قَاتِلِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى أَكْلِهِ سواءٌ قُلْنَا بِتَحْلِيلِهِ أو بتحريمه وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فَيَجُوزُ لَهُ وَلِكُلِّ مُحِلٍّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ معونةٌ فِي قَتْلِهِ وَلَا قَتَلَهُ الْحَلَالُ مِنْ أَجْلِهِ فَهُوَ حلالٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْمُحْرِمِ معونةٌ فِي قَتْلِهِ إِمَّا بَدَلًا لَهُ أَوْ آلَةً أَوْ قَتَلَهُ الْحَلَالُ مِنْ أَجْلِهِ إِمَّا عَنْ إِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ حرامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ؛ هُوَ حرامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حالٍ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللَّهُ عنه) :، وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ حلالٌ لِلْمُحْرِمِ، وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ لَا يَصِلُ إِلَى قَتْلِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ الْقَاتِلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ يَدْفَعَ إِلَى الْقَاتِلِ آلَةً لَوْلَاهَا مَا قَدَرَ الْقَاتِلُ عَلَى قَتْلِهِ فَيَكُونُ الْمُحْرِمُ حينئذٍ قَاتِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَيُحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ. فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حالٍ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جُثَامَةَ قَالَ: أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحم حمارٍ وحشي، وهو بالأبواء، أو بودان، فَرَدَّهُ عَلَيَّ فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قال: إننا لسنا براديه عليك ولكننا حرمٌ. وَأَمَّا أبو حنيفة حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ فَاسْتَدَلَّ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ صيدٌ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُحْرِمُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَحْرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَصْلُهُ إِذَا صَادَهُ الْمُحِلُّ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَعُونَةِ الْمُحْرِمِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ المطلب بن عبد الله بن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ لَكُمْ حلالٌ وَأَنْتُمْ حرمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ "، فَقَوْلُهُ: " لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ لَكُمْ حلالٌ وَأَنْتُمْ حرمٌ " دلالةٌ عَلَى مَنْ مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ، وَقَوْلُهُ: " مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ " دَلَالَةٌ عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُ مَنْ صِيدَ لَهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّهُ كان مع قومٍ وهم محرمون فأصابوا حمار وحشي فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَفْتُوهُ فَقَالَ هَلْ ضَرَبْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوْ أَشَرْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَلُوا، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ عَنِ الضَّرْبِ وَالْإِعَانَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حرامٌ عَلَيْهِمْ بِوُجُودِ الضَّرْبِ وَالْإِعَانَةِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَلَمَّا بَلَغَ الْعَرَجَ أَهْدَى لَهُ صَاحِبُ الْعَرَجِ قَطًا مذبوحاتٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ هُوَ، وَقَالَ: إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي. وَلِأَنَّهُ صيدٌ قُتِلَ بمعونةِ الْمُحْرِمِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَصْلِهِ، إِذَا كَانَ الْمُحِلُّ لَا يَصِلُ إِلَى قَتْلِهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْمُحْرِمِ فَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ محمولٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَادَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فَلِذَلِكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِالْحَالِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ تَنْزِيهًا، وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْمُحْرِمِ. وَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة عَلَى الصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحِلُّ بِغَيْرِ مَعُونَةِ الْمُحْرِمِ فَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي قِيَاسِنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَمْ يَقْتُلْهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ وَلَا بِمَعُونَتِهِ فَقَدْ أَكَلَ حَلَالًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ صيدٍ قَتَلَهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ أَوْ بِمَعُونَتِهِ فَقَدْ أَكَلَ حَرَامًا وَهَلْ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ قَتْلُهُ وَأَكْلُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ؛ لِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْلِهِ الْجَزَاءُ؛ لِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَزَاءِ ثَلَاثَةُ أوجهٍ: أحدهما: أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ لَحْمًا مِنْ لُحُومِ النَّعَمِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ فَيَضْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ عُشْرَ لَحْمِهِ لَزِمَهُ عُشْرُ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ دَرَاهِمَ يَتَصَدَّقُ بِهَا إِنْ شَاءَ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي طَعَامٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ إِنْ شَاءَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ؛ لِأَنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ بِنَفْسِهِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِمَّا قَتَلَهُ الْمُحِلُّ لِأَجْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ فَأَوْلَى أَلَّا يجب عليه الجزاء في أكل ما قتله لِأَجْلِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ صيدٍ محرمٍ، فَوَجَبَ أَلَّا يَلْزَمَهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ محرمٌ وَلِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ أَغْلَظُ مِنْ أَكْلِهِ؛ لَأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا لَزِمَهُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ بِأَكْلِهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ قَتْلَ هَذَا الصَّيْدِ لَا يَجِبُ فِيهِ جَزَاءٌ؛ فَأَكْلُهُ أَوْلَى أَلَّا يَجِبَ فِيهِ جزاءٌ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ صيدٌ لَمْ يُضْمَنْ قَتْلُهُ بِالْجَزَاءِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُضْمَنَ أَكْلُهُ بِالْجَزَاءِ أَصْلِهِ إِذَا أَكَلَهُ محرمٌ وَلَمْ يُصَدْ لَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي: (رضي الله عنه) : " وَلَوْ دَلَّ عَلَى صيدٍ كَانَ مُسِيئًا وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ مُسِيئًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الدَّالِّ، وَقَالَ أبو حنيفة: الدَّالُّ عَلَى الصَّيْدِ كَالْقَاتِلِ، فَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ فَعَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ الدَّالُّ مُحْرِمًا وَالْقَاتِلُ حَلَالًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ دُونَ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا، وَالدَّالُّ حَلَالًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الدَّالِّ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) : " الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلَالَةِ وَالْفِعْلِ، فَدَلَّ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْحُكْمِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هَلْ ضَرَبْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوْ أَشَرْتُمْ، قَالُوا: لَا قَالَ: فَكُلُوا "، فَجَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الضَّرْبِ وَبَيْنَ الْإِشَارَةِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَأَبَاحَ الأكل بعدهما فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ كَانَ الضَّرْبُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بالدلالة موجبةً للجزاء؛ ولأن الدلالة كسب أَفْضَى إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ كَالشَّبَكَةِ إِذَا طَرَحَهَا، وَالْأُحْبُولَةِ إذا نصبها؛ ولأنه تسبب، فحرم بِهِ أَكْلُ الصَّيْدِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِهِ الضَّمَانُ كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يُضْمَنُ بِالتَّسَبُّبِ كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ؛ لِأَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ صَيْدٍ، كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِذَا اسْتَوَى التَسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ تَسْتَوِيَ الدَّلَالَةُ وَالْقَتْلُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ وَالْقَتْلَ مباشرةٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَجَزَاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، فَعَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ، فَاقْتَضَى أَلَّا يَجِبَ الْجَزَاءُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَلَّا تُضْمَنَ بِالدَّلَالَةِ كَالْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ تَوَالَى عَنْهُ جِنَايَةٌ وَدَلَالَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنَ بِالدَّلَالَةِ كَصَيْدِ الْمُحْرِمِ؛ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَقَّانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْجَزَاءُ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الْقِيمَةُ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ حَقُّ الْآدَمِيِّ بِالدَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّلَالَةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا بِالْيَدِ أَوْ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ، فَالْيَدُ أَنْ يَأْخُذَ صَيْدًا فَيَمُوتَ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنَ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَنْ يُبَاشِرَ قَتْلَهُ فَيَضْمَنَهُ، وَالتَّسَبُّبُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فَيَقَعَ فِيهَا الصَّيْدُ فيضمن. وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ يَدًا وَلَا مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَبَبًا يَجِبُ بِهَا الضَّمَانُ، لَوَجَبَ إِذَا انْفَرَدَتْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا يَجِبُ الضَّمَانُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَتَعَلَّقَ بِالدَّلَالَةِ ضَمَانٌ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ " فهو أن المقصود بهذا الحديث الخبر وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَوِ اعْتَمَدَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الصَّيْدِ خَيْرًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ كَفَاعِلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الدَّالَّ بِالْفَاعِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَى الدَّالِّ ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الدَّالِّ وَالْقَاتِلِ فِي الْإِثْمِ، لِأَنَّ الْإِثْمَ قَدْ يَجِبُ بِالْفِعْلِ وَغَيْرِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 عَنْ أَكْلِهِ لَا عَنْ جَزَائِهِ، فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ كَالضَّرْبِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ دُونَ جَزَائِهِ، وأبو حنيفة يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ كَالضَّرْبِ فِي جَزَائِهِ دُونَ أَكْلِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يُوجِبُ ضَمَانَ الصَّيْدِ إِذَا انْفَرَدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّلَالَةُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ حُصُولُ الْإِتْلَافِ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّلَالَةُ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ فَقَدْ بَيَّنَّا أنها غير سبب. والله أعلم. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ صَيْدًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ؛ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا لِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ مُحْرِمًا وَالْقَاتِلُ حَلَالًا؛ فَجَزَاؤُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُمْسِكِ دُونَ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ بِخِلَافِ مَنْ أَمْسَكَ جَزَاءً حَتَّى قَتَلَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ حَلَالًا وَالْقَاتِلُ مُحْرِمًا؛ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْجَزَاءُ دُونَ الْمُمْسِكِ، لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهُ بِالْجِنَايَةِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ وَالْقَاتِلُ مُحْرِمَيْنِ مَعًا؛ فَفِي الْجَزَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمُمْسِكَ ضَامِنٌ بِالْيَدِ وَالْقَاتِلَ ضَامِنٌ بِالْجِنَايَةِ؛ فَيَكُونُ نِصْفُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُمْسِكِ بِحَقِّ يَدِهِ، وَنِصْفُهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِحَقِّ جِنَايَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ كُلُّهُ وَاجِبًا عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ، وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ، سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَلَوْ أَنَّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ أَمْسَكَهُ رَجُلٌ وَقَتَلَهُ آخَرُ كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ : وَلَوْ نَفَّرَ رَجُلٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَصَادَهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ قَاتِلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُنَفِّرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حَلَالًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُنَفِّرُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ حِينَ نَفَّرَهُ أَلْجَأَهُ إِلَى الْحِلِّ، وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مُلْجَأٌ، وَالتَّنْفِيرُ سَبَبٌ، وَإِنْ كَانَ حِينِ نَفَّرَهُ لَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحِلِّ، وَلَا مَنَعَهُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُنَفِّرِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ غَيْرُ ملجأٍ، وَفِعْلُ الْمُبَاشَرَةِ أَقْوَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ ". فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا حَبَسَ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ طَائِرًا لَهُ فَرْخٌ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ الطَّائِرُ فِي الْحِلِّ وَالْفَرْخُ فِي الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الْفَرْخِ دُونَ الطائر؛ لأن الطائر فِي الْحِلِّ فَلَمْ يَضْمَنْهُ، وَالْفَرْخَ مَاتَ فِي الْحَرَمِ بِسَبَبٍ مِنْهُ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ رَمَى من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ سَهْمًا فَقَتَلَ صَيْدًا ضَمِنَهُ، فَلَوْ كَانَ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ فَحَبَسَ فِي الْحَرَمِ طَائِرًا لَهُ فَرْخٌ فِي الْحِلِّ فَمَاتَ الطَّائِرُ وَالْفَرْخُ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا، أَمَّا الطَّائِرُ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ لَهُ فِي الْحَرَمِ، وَأَمَّا الْفَرْخُ فَلِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِ صَيْدٍ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَرَمِ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنَ الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. فَصْلٌ : يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ حَمْلُ الْبَازِيِّ وَكُلِّ صَائِدٍ مِنْ كَلْبٍ وَفَهْدٍ، فَإِنْ حَمَلَهُ فَأَرْسَلَهُ عَلَى صيد فقتله؛ فعليه جزائه، وَإِنْ جَرَحَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ ضَمِنَ جُرْحَهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَقَتَلَ صَيْدًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ؛ لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ بِإِرْسَالِهِ، وَلَا يَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ بِاسْتِرْسَالِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى آدَمِيٍّ وَأَشْلَاهُ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، فلا قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ أَيْضًا؛ قِيلَ لِأَنَّ الْكَلْبَ مُعَلَّمٌ لِاصْطِيَادِ الصَّيْدِ، فَإِذَا صَادَ صَيْدًا بِإِرْسَالِهِ كَانَ كَمَا لَوْ صَادَهُ بِنَفْسِهِ؛ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَالْكَلْبُ لا يعلم قتل الْآدَمِيِّ، فَإِذَا أَشْلَاهُ عَلَى آدَمِيٍّ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ، وَمِثَالُهُ فِي الصَّيْدِ: أَنْ يُرْسِلَ كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ عَلَى صَيْدٍ فَيَقْتُلُهُ فَلَا يَضْمَنُهُ الْمُرْسِلُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ لَا يُنْسَبُ فِعْلُهُ إِلَى مُرْسِلِهِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يؤكل مَا صَادَهُ. وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا كَمَا لَا يؤكل مَا صَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَرْسِلًا؟ فَصْلٌ : إِذَا رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ أَوْ ضَرَبَهُ بِآلَةٍ أَوْ نَصَبَ لَهُ حِبَالَةً أَوْ أَلْقَى لَهُ شَرَكًا فَأَصَابَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ وَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَنَفَذَ السَّهْمُ فِي الصَّيْدِ وَأَصَابَ ثَانِيًا فَقَتَلَهُ ضَمِنَهُمَا جَمِيعًا، وَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا مَعًا، وَكَذَا لَوْ رَمَى صَيْدًا بِحَجَرٍ فَأَصَابَهُ بِهِ ثُمَّ انْكَسَرَ الْحَجَرُ قِطَعًا فَأَصَابَتْ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا صَيْدًا، كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَسَقَطَ الصَّيْدُ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَمَاتَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يُنْظُرُ فِي حَالِ الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ فَإِنْ تَحَامَلَ فَمَشَى بَعْدَ الْإِصَابَةِ قَلِيلًا ثُمَّ سَقَطَ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الصَّيْدِ الَّذِي رَمَاهُ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّيْدِ بَعْدَ تَحَامُلِهِ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ الَّذِي رَمَاهُ لَمْ يَتَحَامَلْ مَاشِيًا بَلْ سَقَطَ بالسهم وحدته فِي الْحَالِ عَلَى صَيْدٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا مَعًا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّيْدِ الَّذِي رَمَاهُ بِفِعْلِهِ، فَكَانَ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَهُ الصَّيْدُ بِسُقُوطِهِ، كَمَا لَوْ أَلْقَى جِدَارًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. فَصْلٌ : إِذَا حَفِرَ الْمُحْرِمُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَمَاتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِحَفْرِهَا وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ يَحْفِرَهَا فِي جَادَّةِ السَّابِلَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفِرَهَا لِأَجْلِ الصَّيْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الصَّيْدِ، كَمَا لَوْ طَرَحَ شَبَكَةً أَوْ نَصَبَ حِبَالَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْفِرَهَا لِلشُّرْبِ لَا لِلصَّيْدِ، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهُ كَالْخَاطِئِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا جَزَاءَ، كَمَا لَوْ صَعِدَ صَيْدٌ إِلَى سَطْحِهِ وَتَرَدَّى إِلَى دَارِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ إِلَى دَارِهِ وَتَرَدَّى فِي بِئْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ رَاكِبًا فَأَتْلَفَ بركوبه صَيْدًا إِمَّا بِرِجْلِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ أَوْ بِذَنَبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ مَرْكُوبِهِ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَاقَ الْمُحْرِمُ مَرْكُوبَهُ أَوْ قَادَهُ فَأَتْلَفَ الْمَرْكُوبُ شَيْئًا ضِمْنَهُ السَّائِقُ أَوِ الْقَائِدُ، وَلَكِنْ لَوْ سَارَ الْمَرْكُوبُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَاكِبٌ وَلَا مَعَهُ سَائِقٌ وَلَا لَهُ قَائِدٌ فَأَتْلَفَ صَيْدًا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ إِذَا انْفَرَدَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ. مسألة: (قال الشافعي) : رضي الله عنه: " وَمَنْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ شَيْئًا جَزَاهُ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال، شجر الحرم ونباته محرم ولا يَجُوزُ قَطْعُهُ وَلَا إِتْلَافُهُ لِحَلَالٍ وَلَا مُحْرِمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَذَا البَلَدُ الأَمِينُ) {التين: 3) ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةَ الّذِي حَرَّمَهَا) {النحل: 91) وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ إلى يوم القيامة، لم يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نهارٍ، ثُمَّ هِيَ حرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، ولا يعضد شوكه، ولا تلتقط لقطته إِلَّا لمعرفٍ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ ولبيوتهم فقال: إلا الإذخر ولا هجرةً ولكن جهادٌ ونيةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَجَمِيعُ مَا نَبَتَ فِي الْحَرَمِ ضَرْبَانِ: شَجَرٌ وَنَبَاتٌ: فَأَمَّا الشَّجَرُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 أحدها: أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوَاتِ كَالْأَرَاكِ وَالسَّلَمِ، فَقَطْعُهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: قَطْعُهُ حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ، وَالشَّجَرُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ مِثْلَهُ مِنَ النَّعَمِ، وَالشَّجَرُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ فِي الشَّجَرِ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ الشَّجَرِ لَوْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ لَكَانَ مَضْمُونًا فِي الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْمُحْرِمِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ مُجَاهِدٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فِي الدَّوْحَةِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا بقرةٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الشَّجَرَةِ بقرةٌ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا مُنِعَ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ كَالصَّيْدِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْجَزَاءَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا تَمَنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ فِي غَيْرِ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَأَمَّا شَجَرُ الْحِلِّ فَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ممنوع مِنْ إِتْلَافِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَجَرُ الْحَرَمِ. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ مِمَّا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ فِي أَمْلَاكِهِمْ، كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالرُّمَّانِ وَالْأُتْرُجِّ، فَقَطْعُ هَذَا مُبَاحٌ، كَالنَّعَمِ الَّتِي يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ قَطَعَهُ مَالِكُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ كَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا: فَصْلٌ وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْلَاكِ دُونَ الْمَوَاتِ، فَقَطْعُهُ حَرَامٌ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَإِنْ قَطَعَهُ مالكه كان عليه جزاؤه، فإن قَطَعَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَجَزَاؤُهُ لِلْفُقَرَاءِ، كَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا، كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَجَزَاؤُهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُزَاحِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ كَانَ يَقْطَعُ الدَّوْحَةَ مِنْ دَارِهِ بِالشَّعْبِ وَيَغْرَمُ عَنْ كُلِّ دَوْحَةٍ بَقْرَةً. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ فِي الْمَوَاتِ دُونَ الْأَمْلَاكِ، فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ غَرْسِ الْآدَمِيِّينَ فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ، وَالْحَيَوَانُ الْأَهْلِيُّ لَا جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ؛ فَكَذَلِكَ غَرْسُ الْآدَمِيِّينَ لَا جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا "؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْحَرَمِ لَا لِلشَّجَرِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ حَلَالًا صَادَ مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا وَأَطْلَقَهُ فِي الْحَرَمِ كَانَ كَصَيْدِ الْحَرَمِ؛ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ، فَكَذَلِكَ الشَّجَرُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَلَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَغَرَسَهُ فِي الْحِلِّ فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَإِنْ نَبَتَ وَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ إِلَى الْحَرَمِ وَغَرْسُهُ فِيهِ فَإِنْ نَقْلَهُ وَغَرْسَهُ وَنَبَتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ أَخَذَ صَيْدًا مِنَ الْحَرَمِ وَأَطْلَقَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى الْحَرَمِ، فَهَلَّا كَانَ الشَّجَرُ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الصَّيْدَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّجَرُ، فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَغَرَسَهُ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْبُتْ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ نَبْتَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَكَانِ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ كَحُرْمَةِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَلَوْ قَطَعَ مِنَ الْحَرَمِ شَجَرًا مَيِّتًا فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ فِي إِتْلَافِ مَا كَانَ نَامِيًا، وَالشَّجَرُ الْمَيِّتُ لَيْسَ بِنَامٍ، فَلَا جَزَاءَ فِيهِ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّبَاتُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ، كَالْبُقُولِ وَالْحُبُوبِ وَسَائِرِ الْخَضْرَاوَاتِ، فَحُكْمُهُ فِي الْحَرَمِ كَحُكْمِهِ فِي الْحِلِّ، مُبَاحٌ لِمَالِكِهِ وَمَحْظُورٌ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ، وَلَا جَزَاءَ فِي جَزِّهِ وَلَا قَطْعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَنْبُتُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ زِرَاعَةِ آدَمِيٍّ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ إِذْخِرَ، فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَجَزُّهُ وَقَلْعُهُ؛ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِسَقْفِهِمْ وَلِقَيْنِهِمْ فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ دَوَاءً كَالسَّنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَأَخْذُهُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبَاحَ أَخْذَ الْإِذْخِرِ لِمَنْفَعَتِهِ فَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ لِحُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ شَوْكًا، كَالْعَوْسَجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَقَلْعُهُ مُبَاحٌ وَلَا شَيْءَ فِي إِتْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ فَشَابَهَ الْبَهَائِمَ الْمُؤْذِيَةَ الَّتِي لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهَا كَالسِّبَاعِ وَغَيْرِهَا. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ حَشِيشًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْلَعَ وَلَا أَنْ يُقْطَعَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يُخْتَلَى خَلَاؤُهَا) ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ، وَقَالَ أبو حنيفة: تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ رَعْيِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) رَأَى أَعْرَابِيًّا يَعْلِفُ رَاحِلَتَهُ فَمَنَعَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَلَا يُخْتَلَى خَلَاؤُهَا إِلَّا لِعَلْفِ دَوَابَّ " وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْ رَعْيِهِ إضرار بمواشيهم، وضيق عليهم، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، فَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ لِلْأَعْرَابِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُ أَنْ يَخْبِطَ وَرَقَ الشَّجَرِ، فَأَمَّا رَعْيُ الْحَشِيشِ فَلَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَعْيَ الْبَهَائِمِ جَائِزٌ، وَأَنَّ قَلْعَهُ وَقَطْعَهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قَلَعَهُ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ الْحَشِيشُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَعَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَلَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِشَيْءٍ، فَأَمَّا مَا جَفَّ مِنْهُ وَمَاتَ فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَقَلْعُهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِنْ كَانَ جَافًّا جَازَ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَمْ يَجُزْ أخذه؛ لأن فيه إضرار بِالشَّجَرِ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَتْفُ شَعْرِ الصَّيْدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارٍ بِالصَّيْدِ، فَإِنْ فَعَلَ وَلَمْ يَمُتِ الشَّجَرُ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ مَعَ بَقَاءِ الشَّجَرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخَذَ مِسْوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ أَوْ عُودًا صَغِيرًا مِنْ شَجَرَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةٍ فَإِنْ عَادَ الْغُصْنُ وَاسْتَخْلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَأَمَّا أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ وَثِمَارِهِ فجائز، وَكَذَلِكَ أَكْلُ ثِمَارِ الْأَرَاكِ مِنَ الْحَرَمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْكَبَاثَ، فَجَائِزٌ لَا بأس به، قد رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجْنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كلوا الأسود منه فإنه أطيب "، يَعْنِي: أَطْيَبَ، فَقَدَّمَ الْيَاءَ عَلَى الطَّاءِ عَلَى لُغَةِ الْيَمَنِ، كَمَا يُقَالُ: طَبِيخٌ وَبَطِيخٌ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَقَدْ رَعَيْتَ؟ فَقَالَ: مَا مِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ قَدْ رعى لأهله ". مسألة: (قال الشافعي) : رضي الله عنه: " وفي الشجرة الصغيرة شاء وَفِي الْكَبِيرَةِ بقرةٌ وَذَكَرُوا هَذَا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وعطاءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا يَجِبُ ضَمَانُهُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَنَبَاتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ شَجَرَةً كَبِيرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ شَجَرَةً صَغِيرَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا. فَأَمَّا الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ فَفِيهَا بَقَرَةٌ أَوْ بَدَنَةٌ؛ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " في الدوحة إذا قطعت من أصلها بقرةٌ "، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ أَعْظَمُ نَبَاتِ الْحَرَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهَا مِنْ أَعْظَمِ النَّعَمَ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الصَّغِيرَةُ - وَحَدُّ الشَّجَرَةِ أَنْ يَقُومَ لَهَا سَاقٌ، أَوْ يُكْسَرَ لَهَا أَغْصَانٌ - فَفِيهَا شَاةٌ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنْ صِغَارِ الشَّجَرِ، وَجَبَ فِيهَا صِغَارُ النَّعَمِ، وَذَلِكَ الْغَنَمُ، وَأَمَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 الْأَغْصَانُ الَّتِي لَمْ تَسْتَخْلِفْ بَعْدَ الْقَطْعِ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَتُقَوَّمُ الشَّجَرَةُ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَإِذَا قِيلَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قُوِّمَتْ بَعْدَ قَطْعِ الْغُصْنِ مِنْهَا، فَإِذَا قِيلَ: بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ، كَانَ النَّقْصُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَهُوَ الْعُشْرُ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ الْعُشْرَ بِمَا يَجِبُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ضَمِنَ عُشْرَ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ضَمِنَ عُشْرَ شَاةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ الدَّرَاهِمَ النَّاقِصَةَ مِنْ قِيمَةِ الشَّجَرَةِ بِالْقَطْعِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا تَصَدَّقَ بِهِ، وَأَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي لَمْ يَسْتَخْلِفُ بَعْدَ قَطْعِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ طَعَامٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا حِجَارَةُ الْحَرَمِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالْمَدَرُ؛ لِمَا لَهُ مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُبَايِنَةِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ جَدَّتِي مَكَّةَ فأتتها صفية بنت شيبة، فأكرمتها وفعلت بها، فَقَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أَدْرِي مَا أُكَافِئُهَا بِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا بِقِطْعَةٍ مِنَ الرُّكْنِ فَخَرَجَتْ بِهَا فَنَزَلْنَا أَوَّلَ منزلٍ فَذَكَرَ مِنْ مَرَضِهِمْ وَعِلَّتِهِمْ جميعاً، قال: فقالت لي - وكنت مَنْ أُمَثِّلُهُمْ -: انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ إِلَى صَفِيَّةَ فَرُدَّهَا وَقُلْ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ فِي حَرَمِهِ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: فَقَالُوا لِي: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَحَيَّنَّا دُخُولَكَ الْحَرَمَ فَكَأَنَّمَا نَشَطْنَا من عقلٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْبِرَامُ يَنْفَكُّ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ؛ أَلَيْسَ الْبِرَامُ مِنَ الْحَرَمِ بَلْ يُحْمَلُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْحِلِّ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ أَوْ مِنْ تُرَابِهِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَإِعَادَتُهُ إِلَى الْحَرَمِ، فَأَمَّا مَاءُ الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى الْحِلِّ؛ لِمَا بِالنَّاسِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي خُرُوجِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ مَاءِ زَمْزَمَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَهْدَى مِنْ سُهِيلِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَأَهْدَى إِلَيْهِ مَزَادَتَيْنِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ على بعيرٍ وطرح عليه كساءٌ. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ مَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الإحرام ". قال الماوردي: فهو مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَْنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْحُرُمِ وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ وَالْحَرَامُ هُوَ مَنْ عَقَدَ الْإِحْرَامَ، فَأَمَّا مَنْ أَوَى إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يُقَالُ لَهُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ مُحْرِمٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْحَرَمَ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ فِيهِ لَكَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ مَا أُدْخِلَ مِنَ الصَّيْدِ إِلَيْهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ فيه، فلما لم يكن الحرام مانعاً من قَتْلَ مَا أُدْخِلَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مَنْ قَتْلِ مَا دَخَلَ فِيهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الضَّبُعُ صيدٌ، وَفِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كبشٌ "، فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءَ مَا قَتَلَ، وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ يُسَمَّى مُحْرِمًا، كَمَا يقال: قد أنجد إذا دخل نجداً، وأنهم إِذَا دَخَلَ تِهَامَةَ، وَأَحْرَمَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، قَالَ الرَّاعِي: (قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولًا) وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ حَرَمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَحَلَّ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ مُحِلٌّ، وَإِنْ لَمْ يُحَلَّلْ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: الْمُحِلُّ؛ لِإِحْلَالِهِ الْقِتَالَ فِيهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: (ألا من لقلب معنى عزل ... يذكر الْمُحِلَّةِ أُخْتِ الْمُحِلْ) وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي حَمَامِ مَكَّةَ شَاةً، وِإِنَّمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى الْمُحِلِّ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ لَمَا اخْتَصَّ بِحَمَامِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ عَامَ الْفَتْحِ يُجَدِّدُ أَنْصَابَ الْحَرَمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بذلك لوقوع الفرق بين صديه وَصَيْدِ غَيْرِهِ وَشَجَرِهِ وَشَجَرِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ قَدْ تَكُونُ أَوْكَدَ مِنْ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ إِنَّمَا يُرَادُ لِدُخُولِ الْحَرَمِ، فَلَمَّا وَجَبَ جَزَاءُ الصَّيْدِ بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ وُجُوبُهُ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَوْلَى، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِ مَا أَدْخَلَ إِلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِ مَا دَخَلَ فِيهِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا أَدْخَلَ إِلَيْهِ قَدْ سَبَقَتْ حُرْمَةُ الْمِلْكِ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دَخَلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ صَيْدًا الْحَرَمَ وَأَطْلَقَهُ حَرُمَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بِزَوَالِ الْيَدِ عَنْهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَيْدَ الْمُحْرِمِ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ فَحُكْمُ الْجَزَاءِ فِيهِ كَحُكْمِ الْجَزَاءِ فِي صَيْدِ الْمُحْرِمِ يَكُونُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَوِ الصِّيَامِ، وَقَالَ أبو حنيفة: ضَمَانُهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ فَلَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ بِحَالٍ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْإِطْعَامِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَهُ إِنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ لَا لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ وَلَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا لِمَعْنًى فِي مَالِكِهَا دُونَ مُتْلِفِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ في ضمانه، لأن ضمانه إنما وجب لمعنى في المحرم، والدليل هو أنه صيد مضمون فجاز أن يدخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 الصيد فِي ضَمَانِهِ كَصَيْدِ الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْمُحْرِمُ مُفَارِقٌ لضَمَانِ أَمْوَالِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ تُضْمَنَ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِالْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَيْدُ الْمُحْرِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَمْوَالَ الْآدَمِيِّينَ مَضْمُونَةٌ ببدلٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَيْدُ الْحَرَمِ، وَإِذَا فَارَقَتْ أَمْوَالُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِضَمَانِ الصَّيْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا أُدْخِلَ الْحَرَمَ بَعْدَ صَيْدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ صَيْدِ الْحِلِّ دُونَ الْحَرَمِ، فَيَجُوزُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ، وَلَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ صَارَ حُكْمُهُ بِدُخُولِ الْحَرَمِ حُكْمَ الصَّيْدِ الْحُرُمِ، فَلَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهُ وَلَا ذَبْحُهُ، وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ عَلَى قَاتِلِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنَ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) {آل عمران: 97) فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَانَ الدَّاخِلِ إِلَيْهِ كَأَمَانِ الْقَاطِنِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا، وبعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا "؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْاصْطِيَادِ كَانَ مَانِعًا مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ كَالْإِحْرَامِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ، فَلَمَّا جَازَ إِدْخَالُ الصَّيْدِ إِلَى حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَإِمْسَاكُهُ فيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ " فَأَقَرَّهُ عَلَى إِمْسَاكِ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَرَّمَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إِدْخَالُ الصَّيْدِ إِلَى الْحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَوْضِعٌ حَرُمَ قَتْلُ صَيْدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْرُمَ فِيهِ قَتْلُ مَا صِيدَ فِي غَيْرِهِ كَالْمَدِينَةِ؛ وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ لَوْ صِيدَ وَأُخْرِجَ إِلَى الْحِلِّ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ حُكْمُ الْحَرَمِ، وَكَانَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَجَبَ إِذَا صَادَ مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا أَوْ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ أَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ حُكْمُ الْحِلِّ وَيَكُونَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى فِي إِبَاحَةِ قَتْلِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ صَيْدٌ أُوجِبَ إِمْسَاكُهُ حُكْمًا فَوَجَبَ أَلَّا يُنْتَقَلَ عَنْ حُكْمِهِ بِانْتِقَالِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا أُخْرِجَ إِلَى الْحِلِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَظَرَ صَيْدَ الْحَرَمِ عَلَى أَهْلِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَأَبَاحَ صَيْدَ الْحِلِّ لِأَهْلِ الْحِلِّ وَالْحُرُمِ، فَلَوْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُذْبَحَ صيد الحل في الْحَرَمِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْحَرَمِ، لَأَدَّى إِلَى حَظْرِ صَيْدِ الْحِلِّ عَلَى أهل الحرم، وإن ذَبَحُوهُ فِي الْحِلِّ رَاحَ وَأَنْتَنَ عِنْدَ إِدْخَالِهِ الْحَرَمَ فَجَازَ لَهُمْ ذَبْحُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ لَيْسَتَبِيحُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ تَكُنْ لُحُومُ الصَّيْدِ تُبَاعُ بِمَكَّةَ إِلَّا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) {آل عمران: 97) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَةَ " مَنْ " لَا تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَعْقِلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَن دَخَلَهُ} وَالصَّيْدُ لَمْ يَدْخُلْهُ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ إِلَيْهِ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا " لَا يَتَنَاوَلُ مَا أُدْخِلَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَيْدِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الإحرام فمنعاهما يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَحَرَّمَ قَتْلَ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَمَا أُدْخِلَ الْحَرَمَ مَصِيدًا لَمْ يَكُنْ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ، فَجَازَ قَتْلُهُ، وَمَا صِيدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أُحْرِمَ فَهُوَ قَتْلُ صَيْدٍ مِنْ مُحْرِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ قَتْلَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا صَادَهُ مُحِلٌّ ثُمَّ أَحْرَمَ فَهَلْ يَزُولُ مَلِكُهُ عَنِ الصَّيْدِ بِإِحْرَامِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ، وَلَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ "؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُزِيلَ الْمِلْكَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُحِلٍّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ، وَإِنْ تَلِفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ صَيْدٌ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ قِيَاسًا عَلَى ابْتِدَاءِ صَيْدِهِ فِي إِحْرَامِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُرَادُ لِلْبَقَاءِ، فَإِذَا مَنَعَ الإحرام من ابتدائه مع مِنَ اسْتَدَامَتْهُ، كَاللِّبَاسِ طَرْدًا وَالنِّكَاحَ عَكْسًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ أَمْوَالِهِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَفِعْلُهُ جَائِزٌ فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَخْلِيَتُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ جَازَ أَنْ يَذْبَحَهُ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ إِحْلَالُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا صَادَهُ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَلَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ وَعَلَيْهِ تَخْلِيَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ حَتَّى يُرْسِلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنِ اغْتَصَبَهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ فَأَرْسَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مُرْسِلِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ نُظِرَ فِي الْقَاتِلِ فَإِنْ كَانَ مُحِلًّا فَالْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ إِذَا كَانَا مُحْرِمَيْنِ: أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُمْسِكَ ضَامِنٌ بِيَدِهِ، وَالْقَاتِلَ ضَامِنٌ بفعله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَزَاءَ كُلَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، فَأَمَّا إِنْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِالْيَدِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحِلٌّ قَاتِلٌ لِصَيْدٍ فِي الْحِلِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُرْسِلَهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لَأَنَّ الْجَزَاءَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ. فَصْلٌ : إِذَا وَهَبَ الْمُحِلُّ صَيْدًا لِمُحْرِمٍ أَوْ بَاعَهُ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الصَّيْدُ بَاقِيًا عَلَى مَلِكِ الْمُحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ فِي إِحْرَامِهِ صَيْدًا، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْمُحْرِمُ عَلَى الصَّيْدِ يَدًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَارَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَبَضَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْبَيْعِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِالْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَبِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ إِنْ كَانَ مَقْبُوضًا عَنْ بَيْعٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا عَنْ هِبَةٍ فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْهِبَةِ: هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمَا الْمُكَافَأَةَ أَمْ لَا؟ : أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُكَافَأَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَبِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ فَيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ إِذَا ضُمِنَ بِالْجَزَاءِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ إِلَّا بِإِرْسَالٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرْسِلَهُ فَيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْجَزَاءِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَالِكِ بَاقٍ عَلَيْهِ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْجَزَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ ضَمَانُ الْجَزَاءِ عَنْهُ. فَصْلٌ : إِذَا مَلَكَ الْمُحِلُّ صَيْدًا ثُمَّ مَاتَ وَوَارِثُهُ مُحْرِمٌ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فِي الصَّيْدِ، وَلَكِنْ هَلْ يَمْلِكُهُ الْوَارِثُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَ إِحْلَالِهِ؟ عَلَى وجهين: أحدهما: أنه يكون باقياً على ملك المبيت وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِلْكَ صَيْدٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُمْلَكُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَبَايَنَ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ. فَصْلٌ : إِذَا بَاعَ الْمُحِلُّ صَيْدًا عَلَى مُحِلٍّ ثُمَّ أحرم البائع وفلس الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ وَهُوَ الصَّيْدُ مَا دَامَ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِهِ أَبْدَى تَمَلُّكَهُ لِلصَّيْدِ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ أَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ. فَصْلٌ : إِذَا اسْتَعَارَ الْمُحْرِمُ صيداً في مُحِلٍّ فَتَلِفَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُحْرِمِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَزَاءِ لِلْمَسَاكِينِ وَالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ، أَمَّا الْجَزَاءُ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ تَلِفَ فِي يَدِ مُحْرِمٍ، وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّهَا عَارِيَةٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ مُسْتَعِيرٍ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَعَارَ الْمُحِلُّ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَتَلِفَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُحْرِمِ: هَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الصَّيْدِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنِ الصيد فعلى المحرم المعبر الْجَزَاءُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْمُعِيرَ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِالْيَدِ وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُسْتَعِيرَ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزَلْ عَنِ الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ، وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْمُحِلِّ الْقِيمَةُ؛ لأنها عارية مملوكة، والعارية مضمونة. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " مُفْرِدًا كَانَ أَوْ قَارِنًا فجزاءٌ واحدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كُلُّ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ كَفَارَّةِ أَذَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَهُوَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ والقرن سَوَاءٌ، فَإِنْ قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ حَلَقَ أَوْ تَطَيَّبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أبو حنيفة: مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ تَتَضَاعَفُ عَلَى الْقَارِنِ، فَإِذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ، وَإِنْ حَلَقَ أَوْ تَطَيَّبَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ، استدلالاً بأنه قال: لأنه أدخل نقضاً عَلَى نُسُكَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِجَزَاءَيْنِ وَكَفَارَّتَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ النُّسُكَانِ مُفْرَدَيْنَ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَقَدْ تُوجِبُ الْقَضَاءَ، فلما كان مما يوجب القضاء وهو الوطء إذا أوقعه فِي الْقِرَانِ مُخَالِفًا لِمَا أَوْقَعَهُ فِي الْإِفْرَادِ ولزمه كَفَّارَتَانِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مُوَجِبِي فعله المحظور في إحرامه، فوجب أن موجب الْقِرَانِ أَغْلَظَ مِمَّا أَوْجَبَهُ فِي الْإِفْرَادِ كَالْقَضَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) وَاسْمُ الْإِحْرَامِ يَقَعُ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُفْرَدِ ثُمَّ عَلَّقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءً وَاحِدًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سواه؛ ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: في الضبع إذا أصابه الحرم كَبْشًا فَعَمَّ بِالْحُكْمِ كُلَّ مُحْرِمٍ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مفردٍ أَوْ قَارَنٍ، وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي النَّعَامَةِ بِدِنَةً، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةً، وَفِي الضَّبُعِ كَبْشًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 بَيْنَ مفردٍ أَوْ قارنٍ؛ وَلِأَنَّهُمَا حُرْمَتَانِ يَجِبُ بهتك كل واحد مِنْهُمَا عَلَى الْإِفْرَادِ جزاءٌ واحدٌ، فَوَجَبَ إِذَا جمعهما أَنْ يَجِبَ بِهَتْكِهِمَا جزاءٌ واحدٌ، كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِقَتْلِهِ إِلَّا جَزَاءٌ واحد، كالمفرد لأنه نَقْصٌ يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فِي نُسُكَيْنِ مُفْرَدَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ، وَلَوْ قَتَلَهُمَا فِي نسكٍ وَاحِدٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَارِنُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا وَاحِدًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ فَمُنْتَقِضٌ بِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَضَاءِ: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ، فَلَمَّا كَانَ مُؤَدِّيًا لِنُسُكَيْنِ فوجب أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنُسُكَيْنِ، وَالْجَزَاءُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّيْدِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّيْدُ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الجزاء واحداً. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صيدٍ لَمْ يَكُنْ عليهم إلا جزاءٌ واحدٌ وهو قول ابْنِ عُمَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَكَ جماعة محرمون فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى جَمَاعَتِهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، ولو كانوا مائة، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، ثُمَّ نَاقَضَ أبو حنيفة فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فَقَالَ: إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ فَعَلَى جَمِيعِهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: هَلِ الْجَزَاءُ يَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ أَوْ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ، واستدلوا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً كَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) فَعَلَّقَ الْجَزَاءَ عَلَى شَرْطِ الْقَتْلِ بِلَفْظَةِ مَنْ، وَلَفْظَةُ (مَنْ) إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ اسْتَوَى حَالُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَلَوْ دَخَلَهَا وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَلَوْ دَخَلَهَا مِائَةٌ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا كَذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَتَكَ حُرْمَةَ إِحْرَامِهِ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ يَدْخُلُهَا الصَّوْمُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَقِضَ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَاتِ، دُونَ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا لِنَفْسِهِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَلَوْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَقَطَ عَنْهُ الْجَزَاءُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا كَانَتْ جَارِيَةً مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَقَطَتْ عَنِ السيد في قتل عبده، ولما كانت الكفارات مخالفة لها لم تسقط الكفارات عَنِ السَّيِّدِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَزِمَهُ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ، فَلَوْ كَانَ الْجَزَاءُ كَالْقِيمَةِ لَمْ يَجْتَمِعَا، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدْخُلُ فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 الصَّوْمُ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ، وَلِأَنَّ مَا سِوَى الْجَزَاءِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَفَارَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَفَّارَةٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أن على جماعتهم جزاء واحد قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) وَمِنْهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِلَفْظِ (مَنْ) عَلَى شَرْطِ الْقَتْلِ، وَالشَّرْطُ إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ (مَنْ) إِنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً كَامِلًا كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فَالْجَزَاءُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَ بِعَبْدِيَ الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَمَنْ شَالَ الْحَجَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي شَيْلِ الْحَجْرِ وَالْمَجِيءِ بِالْآبِقِ فَالدِّرْهَمُ مُسْتَحَقٌّ بَيْنَ جماعتهم، ولا يستحقه كل واحد في شَيْلَ الْحَجْرِ وَالْمَجِيءَ بِالْآبِقِ وُجِدَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْقَتْلُ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ جَزَاءً وَهُوَ مِثْلُ الْمَقْتُولِ، وَمِثْلُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ قَاتَلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ كَمَا أَنَّ مِثْلَ الْعَشْرَةِ عَشْرَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ: حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الضَّبُعُ صيدٌ يُؤْكَلُ وَفِيهِ كبشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ " فَذَكَرَ الْمُحْرِمَ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِلْجِنْسِ؛ ثُمَّ جَعَلَ جَمِيعَ مُوجِبِهِ الْكَبْشَ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ ذَلِكَ عنهم في قضيتين منتشرتين: أحدهما: مَا رُوِيَ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُبَيْرِ أَحْرَمُوا فَمَرَّتْ بِهِمْ ضبعٌ فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ له، فقال: إني لمعرتٌ بِكَمْ: عَلَيْكُمْ كبشٌ، فَقَالُوا: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ٍمنها؟ فَقَالَ: بَلَ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: إِنِّي لمعرت أَيْ: لَمُشَدِّدٌ عَلَيْكُمْ. وَالثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُحْرِمَيْنِ وَطِئَا صَيْدًا بِفَرَسِهِمَا فَقَتَلَاهُ فَسَأَلَا عُمَرَ عَنْهُ فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: عَلَيْهِمَا شَاةٌ، فَقَضَى عُمَرُ عَلَيْهِمَا بِالشَّاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عُمَرَ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُنْتَشِرَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَمِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بقتله إلا جزاء واحداً كَالْقَاتِلِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَيْدٍ لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا اشْتَرَكَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ كَالْمُحِلِّينَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْمُحْرِمِ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ وَيُضْمَنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 بِالْقِيمَةِ، فَلَمَّا اسْتَوَى فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ حَالُ الْوَاحِدِ، وَالْجَمَاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي ضَمَانِ الْجَزَاءِ حَالُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي جِنَايَةِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالْقِيمَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ: أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ، كَمَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِاخْتِلَافِ صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ كَمَا أَنَّ كَفَّارَةَ النُّفُوسِ يَسْتَوِي فِي كِبَارِ الْآدَمِيِّينَ وَصِغَارِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْكَفَّارَةِ لَمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ وَلَكَانَ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ مِثْلَ كَفَّارَاتِ النُّفُوسِ، فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ والجناية ثبت أن ضمانه ضَمَانُ الْأَمْوَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ إِذَا مَاتَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ فَضَمِنَهُ بِالْيَدِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلِهِ؟ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا تُجِبُ فِي الْأَبْعَاضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى المنفرد فقد عارضه قياساً عَلَى الْمُنْفَرِدِ ثُمَّ نَذْكُرُ أَوْصَافَ عِلَّتِهِمْ وَنُعَلِّقُ عَلَيْهَا ضِدَّ حُكْمِهِمْ فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ إِحْرَامِهِ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَدْرُ مَا أَتْلَفَ كَالْمُنْفَرِدِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِقَتْلِ صَيْدٍ كَامِلٍ؛ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَالْجَمَاعَةُ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدٍ لَمْ يَنْفَرِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَتْلِ صَيْدٍ كَامِلٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَقَدْ حَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ نَفْسٍ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ صَحَّ هَذَا بَطَلَ الْقِيَاسُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةً، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كَفَّارَةِ النُّفُوسِ أَنَّهَا لَا تَزِيدُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَزَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْجَزَاءُ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي إِتْلَافِ مِلْكِهِ، قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ إِتْلَافِ مِلْكِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ، وَالصَّيْدُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُمُ الْمَسَاكِينُ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزَاءَ لَوْ كَانَ كَالْقِيمَةِ لَمْ يَجْتَمِعَا، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ إِذَا تَمَاثَلَا، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَمَاثَلَا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْقِيمَةِ، وَكَمَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ كَالضَّمَانِ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الصَّوْمُ؛ قُلْنَا: إِنَّمَا جَازَ فِيهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ آدَمِيٍّ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ، فَجَازَ دُخُولُ الصَّوْمِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَالْمَعْنَى فِي سَائِرِ الدِّمَاءِ: لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَزَاءُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، فَإِنِ اشْتَرَكَ مُحِلٌّ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَلَى الْمُحْرِمِ نِصْفُ الْجَزَاءِ، وَيُهْدَرُ نِصْفُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُحِلَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ نصاً، وكذلك لو اشترك محرم وحالان فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ؛ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُلْثُ الْجَزَاءِ وَسَقَطَ الثُّلْثَانِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ وَحَلَالٌ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمَيْنِ ثُلْثَا الْجَزَاءِ وَسَقَطَ الثُّلُثُ، فَلَوْ جَرَحَ مُحِلٌّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ مَجْرُوحًا فَدَخَلَ الْحَرَمَ فَعَادَ الْمُحِلُّ فَجَرَحَهُ ثَانِيَةً فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ مَاتَ الصَّيْدُ؛ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ مات من جراحتين: أحدهما: غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ، فَعَادَ الْجَارِحُ فَجَرَحَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أُخْرَى فَمَاتَ؛ كَانَ ضَامِنًا لِنِصْفِ دِيَتِهِ، وَلَوْ أَنَّ مُحِلًّا جَرَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ فَخَرَجَ إِلَى الْحِلِّ، فَعَادَ الْجَارِحُ فَجَرَحَهُ جِرَاحَةً ثَانِيَةً فِي الْحِلِّ فَمَاتَ الصَّيْدُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرَحَهُ الْجِرَاحَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْجَزَاءِ، لِأَنَّهُ مَوَّتَهُ مِنْ جُرْحَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ وَالْآخَرُ مَضْمُونٌ، فَصَارَ كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَرَحَهُ ثَانِيَةً بَعْدَ إِسْلَامِهِ؛ ضَمِنَ نصف ديته. والضرب الثاني: أن يثبت لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ عِنْدَ الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَيَكُونَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْجَزَاءِ لِعُدْوَانِ يَدِهِ الْمُوجِبَةِ لِضَمَانِهِ. فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بَعْضُهُ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمْ تَكْمُلْ لَهُ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ أَكْثَرُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ؛ فَفِيهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ فِي الْحِلِّ؛ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الصَّيْدُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ، ففيه الجزاء لأن حرمة الحرم ثابتة له ما لم تفارقه، فإن كان داخلاً من الحل إلى الحرم؛ فلا جزاء فيه، لأن حكم الحل جاز عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ. فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ؛ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ قَاتِلُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَبَيْنَ الْحِلَّيْنِ حَرَمٌ فَاعْتَرَضَ السَّهْمُ الْحَرَمَ وَخَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْحِلِّ وَقَتَلَ الصَّيْدَ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 أحدهما: لا جزاء عليه، لأنه ابتداء الرمي من حل وانتهاؤه إِلَى حِلٍّ، وَحُكْمُ الصَّيْدِ مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثاني: عليه الجزاء؛ لأنه السَّهْمَ أَصَابَ الصَّيْدَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَرَمِ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ رَمْيَهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْكَلْبِ إِذَا أَرْسَلَهُ الْمُحِلُّ مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ؛ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مِنَ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ؛ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَبَيْنَ الْحِلَّيْنِ حَرَمٌ؛ فَالْجَزَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : إِذَا رَمَى الْمُحِلُّ سَهْمًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَجَازَ السَّهْمُ إِلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا؛ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ بِفِعْلِهِ، وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُحِلُّ كَلْبًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَلَ الْكَلْبُ عَنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ إِلَى صَيْدٍ آخَرَ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ؛ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّهْمِ الجائز، لأنه لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا، فَكَانَ عُدُولُهُ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّهْمِ اخْتِيَارٌ، وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا مِنَ الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَا الصَّيْدُ إِلَى الْحَرَمِ فَعَدَا الْكَلْبُ خَلْفَهُ إِلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ مُرْسِلُهُ قَدْ زَجَرَهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ فَلَمْ يَنْزَجِرْ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى اخْتِيَارِ الْكَلْبِ إِذَا كَانَ مَزْجُورًا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَزْجُرْهُ مُرْسِلُهُ ولا منعه منه اتِّبَاعِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إِذَا أُرْسِلَ عَلَى صَيْدٍ تَبِعَهُ أَيْنَ تَوَجَّهَ. فَصْلٌ : إِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَفَرْعُهَا فِي الْحِلِّ وَعَلَى فَرْعِهَا صَيْدٌ فَقَتَلَهُ مُحِلٌّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحِلِّ، وَلَوْ قَطَعَ فَرْعَ الشَّجَرَةِ أَوْ أَصْلَهَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ وَفَرْعُهَا فِي الْحَرَمِ وَعَلَى فَرْعِهَا صَيْدٌ فَقَتَلَهُ مُحِلٌّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَوْ قَطَعَ الْفَرْعَ أَوْ أَصْلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بمكانه من الحل. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَمَا قُتِلَ مِنَ الصَّيْدِ لِإِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ للمساكين وقيمته لصاحبه ولو جاز إذا تحول حال الصيد من التوحش إلى الاستئناس أن يصير حكمه حكم الأنيس جاز أن يضحي به ويجزي به ما قتل من الصيد وإذا توحش الإنسي من البقر والإبل أن يكون صيداً يجزيه المحرم ولا يضحي به ولكن كل على أصله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَمَالِكٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 جَزَاءَ فِيهِ بِحَالٍ، وَجَعَلَا مِلْكَهُ وَاسْتِئْنَاسَهُ مُخْرِجًا لَهُ مِنْ حُكْمِ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ إِلَى حُكْمِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْلُوكٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ، كَالنَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَالثَّانِي: أَنْ قَالُوا: الْجَزَاءُ بَدَلٌ وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ، وَلَا يُجْمَعُ بَدَلَانِ فِي مُتْلَفٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ سَقَطَ الْجَزَاءُ، وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي جِنْسِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَدْخُلَانِ لِلْجِنْسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا يَعُمُّ المملوك وغير المملوك، ولأن حَيَوَانٌ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ، كَالصَّيْدِ الَّذِي لم يملك، ولأنه حق الله يَجِبُ فِي قَتْلِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فِي قَتْلِ حَيَوَانٍ مَمْلُوكٍ كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ بِالِاسْتِئْنَاسِ عَنْ حُكْمِ الصَّيْدِ إِلَى حُكْمِ الْإِنْسِيِّ حَتَّى لَا يَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ لَوَجَبَ أَنْ يصير كالإنس فِي جَوَازِ الْأُضْحِيَةِ بِهِ، وَلَوَجَبَ إِذَا تَوَحَّشَ الْإِنْسِيُّ مِنَ النَّعَمِ أَنْ يَصِيرَ فِي حُكْمِ الصَّيْدِ، فَيَجِبَ فِي قَتْلِهِ الْجَزَاءُ، وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَةُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ، وَالْوَحْشُ إِذَا تَأَنَّسَ أَنْ لَا تَجُوزَ الْأُضْحِيَةُ بِهِ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ؛ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي إِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِي النَّعَمِ: أَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّيْدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ بَدَلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مبدلٍ وَاحِدٍ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مبدلٍ وَاحِدٍ وإذا اتَّفَقَا فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمَا كَمَا تَجْتَمِعُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَالْقِيمَةَ، فَالْجَزَاءُ لِلْمَسَاكِينِ كَامِلٌ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ مَيْتَةٌ؛ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، وَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِجِلْدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مَأْكُولٌ؛ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالذَّبْحِ، فَيُقَوَّمُ حَيًّا، فَإِذَا قِيلَ: بِعَشَرَةٍ قُوِّمَ مَذْبُوحًا، فَإِذَا قِيلَ بِثَمَانِيَةٍ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالذَّبْحِ دِرْهَمَيْنِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ لَا غَيْرَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحِلًّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ، وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي الْحِلِّ، وَلَا حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُحِلٌّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ وَوَجَبَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَهُوَ مَأْكُولٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ عَلَى مَا مضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَهَلْ يُؤْكَلُ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا قُتِلَ فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ مَا قُتِلَ فِي الْإِحْرَامِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ يَسْتَبِيحُ قَتْلَ الصَّيْدِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ، وَالْحَرَمُ لَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُ صَيْدِهِ بِحَالٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَرَمِ أَوْ حُكْمُ الْإِحْرَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَمَا أَصَابَ مِنَ الْصَيْدِ فِدَاهُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ إِحْرَامِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ والسعي والحلاق وخروجه من الحج خروجان الأول الرمي والحلاق وهكذا لو طاف بعد عرفة وحلق وإن لم يرم فقد خرج من الإحرام فإن أصاب بعد ذلك صيداً في الحل فليس عليه شيءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِيهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ إِحْلَالِهِ يَسْتَبِيحُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي إِحْرَامِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقَرَّرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْرِمِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ فَلَهُ إِحْلَالٌ وَاحِدٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحِلَاقُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ طَافَ وَسَعَى وَلَمْ يَحْلِقْ فَهَلْ يَتَحَلَّلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ حَلَّ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْزَمُهُ جَزَاءُ الصَّيْدِ بِقَتْلِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ. وَأَمَّا الْحَجُّ فله إحلالان فإن قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ كَانَ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِوَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ: إِمَّا الرَّمْيُ أَوِ الطَّوَافُ، وَإِحْلَالُهُ الثَّانِي بِهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ كَانَ إِحْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ، أَوِ الرَّمْيُ وَالطَّوَافُ، أَوِ الْحِلَاقُ وَالطَّوَافُ. وَإِحْلَالُهُ الثَّانِي بِالثَّلَاثَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ حَلَّ مِنْ حَجِّهِ الْإِحْلَالَ الثَّانِي حَلَّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ، وَإِنْ حَلَّ إِحْلَالَهُ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: قَدْ حَلَّ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. فَصْلٌ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، فَأَمَّا صَيْدُ الْمَدِينَةِ فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَرَامٌ كَصَيْدِ الْحَرَمِ، وَقَالَ أبو حنيفة: صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَلَالٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مِمَّا تَعُمُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْتَشِرًا وَفِي النَّاسِ مُسْتَفِيضًا، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفَاضَةٌ، فَلَمْ يَصِحَّ تَحْرِيمُهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: مَا رَوَى أَسْعَدُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ، وَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقْطَعَ شَجَرَهَا إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرِهِ " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، ثُمَّ كَانَ صَيْدُ مَكَّةَ حَرَامًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَرَامًا. وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لَأُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا يُقْطَعَ عِضَاهُهَا وَلَا يُقْتَلَ صَيْدُهَا "، وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خيرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَا يَخْرُجْ عَنْهَا أحدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يثبت أحدٌ على لأوائها وجهدها إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَهَذَا نَصٌّ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ. وروى يزيد التميمي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْمَدِينَةَ حرامٌ مَا بَيْنَ عيرٍ إِلَى ثورٍ " وَهُمَا جَبَلَانِ بِالْمَدِينَةِ. وَرَوَى الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فلو وجدت الضياء ما بين لابتيها ما زعرتها وَجُعِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ فَهَلْ يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، وَجَزَاؤُهُ سَلَبُ قَاتِلِهِ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَأَى رَجُلًا يَصِيدُ بِالْمَدِينَةِ فَسَلَبَهُ، فَجَاءَهُ مَوَالِيهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ بِالْمَدِينَةِ فَاسْلُبُوهُ، فَلَا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ فَعَلْتُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ مِنَ الْإِمْلَاءِ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْجَزَاءِ وَالسَّلَبِ، كَالصَّيْدِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صَيْدٍ لَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُ مَصْرُوفًا إِلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَصَيْدِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَقَدْ أَثِمَ قَاتِلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَضْمُونٌ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُؤْخَذَ سَلَبُ قَاتِلِهِ لِحَدِيثِ سَعْدٍ. وَالسَّلَبُ: مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ وَهُوَ ثيابه وسلاحه ودابته وآلته وشبكته، فَأَمَّا حِلْيَتُهُ وَزِينَتُهُ كَالْخَاتَمِ وَالطَّوْقِ وَالسِّوَارِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْقَاتِلِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، فَإِذَا أُخِذَ مِنَ الْقَاتِلِ سَلَبُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أن يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ سَلَبَهُ وَأَخَذَهُ؛ لِأَنَّ سَعْدًا أَخَذَ سَلَبَ قَاتِلِ الصَّيْدِ، وَقَالَ: لَا أَرُدُّ طعمة أطعمنيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ كَانَ صَيْدُهُ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ، كَانَ جَزَاؤُهُ مَصْرُوفًا إِلَى أَهْلِهِ كَالْحَرَمِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ فِي الْإِسْلَامِ صَيْدَ وج من الطائف؛ لأنه يَرْوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّمَهُ فَنَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَلَعَلَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؛ لرواية عروة بن الزبير عن أبي الزبير قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى الطائف فبلغ وج، قَالَ: صَيْدُ وَجٍّ وَعِضَاهُهُ حرامٌ محرمٌ، فَأَمَّا ضمانه فلم يحكى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا نَصَّ لِأَصْحَابِنَا عليه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 باب جزاء الطائر (قال الشافعي) : " وَالطَّائِرُ صِنْفَانِ حمامٌ وَغَيْرُ حمامٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا حَمَامًا فَفِيهِ شاةٌ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عباسٍ وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بِنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: دَوَابُّ وَطَائِرٌ، فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَمَّا الطَّائِرُ فَضَرْبَانِ: مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ: فَيَأْتِي. وَأَمَّا الْمَأْكُولُ: فعلى ثلاث أَضْرُبٍ: حَمَامٌ، وَدُونَ الْحَمَامِ، وَفَوْقَ الْحَمَامِ. فَأَمَّا الحمام فهو عند العرب معروف، ك " القمارى " والدباسي، والفواخت والوارشين، وَكَذَلِكَ الْيَمَامُ كَالْحَمَامِ، وَالْحَمَامُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مَا كَانَ مُطَوَّقًا وَالْيَمَامُ: مَا لَمْ يَكُنْ مُطَوَّقًا، وَكِلَاهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَامَّةُ الْحَمَامِ مَا وَصَفْتُ مَا عَبَّ فِي الْمَاءِ عَبًّا مِنَ الطَّيْرِ فَهُوَ حَمَامٌ، وَمَا شُرْبُهُ قَطْرَةٌ قَطْرَةٌ كَشُرْبِ الدَّجَاجِ فَلَيْسَ بِحَمَامٍ. وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ كُلَّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ وَزَقَّ فَرْخَهُ فَهُوَ حَمَامٌ، وَالْيَمَامُ مِثْلُهُ. وَالْعَبُّ هُوَ: أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَالْهَدْرُ هُوَ: أَنْ يُوَاصِلَ صَوْتَهُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَمَامَ هُوَ مَا وَصَفْتُ، فَإِذَا أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ، فَفِيهِ شَاةٌ، وَقَالَ أبو حنيفة: فِي الْحَمَامِ قِيمَتُهُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ: مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَّةَ فَدَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ فِي يَوْمِ جمعةٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِبَ مِنْهَا الرَّوَاحَ إِلَى الَمَسْجِدِ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى واقفٍ فِي الْبَيْتِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طيرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ، فَأَطَارَهُ فَانْتَهَزَتْهُ حيةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَلَمَّا صَلَّى الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَنَا وَعُثْمَانُ فَقَالَ: " احْكُمَا عَلَيَّ فِي شَيْءٍ صَنَعْتُهُ الْيَوْمَ، إِنِّي دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَقْرِبَ منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 الرَّوَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَأَلْقَيْتُ رِدَائِيَ عَلَى هَذَا الْوَاقِفِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ، فَخَشِيتُ أَنْ يُلَطِّخَهُ بِسَلْحِهِ فَأَطَرْتُهُ عَنْهُ، فَوَقَعَ عَلَى هَذَا الْوَاقِفِ الْآخَرِ، فَانْتَهَزَتْهُ حيةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي أَطَرْتُهُ مِنْ منزلةٍ كَانَ مِنْهَا آمِنًا إِلَى موقفةٍ كَانَ فِيهَا حتفه " فقلت لعثمان بن عفان كيف ترى في عنز ثَنِيَّةِ عَفْرَاءَ تَحْكُمُ بِهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرَ. وَرَوَى عَطَاءٌ أَنَّ ابْنًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ قَتَلَ حَمَامَةً، فَقِيلَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَذْبَحُ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَغْلَقْتُ بَابًا عَلَى حمامةٍ وَفَرْخَتِهَا فِي الْمَوْسِمِ، فَرَجَعْتُ وَقَدْ مُتْنَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عَلَيْكَ بِثَلَاثِ شياهٍ، فَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَرْثِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَمَامِ هَلْ وَجَبَتْ تَوْقِيفًا أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ وَالشَّبَهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا وَجَبَتِ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ وَتَوْقِيفًا عَنِ الصَّحَابَةِ لَا قِيَاسًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَالْمُمَاثِلَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أُنساً وَإِلْفًا، وَأَنَّهُمَا يَعُبَّانِ فِي الْمَاءِ عَبًّا. فَصْلٌ : وَأَمَّا دُونَ الْحَمَامِ فَهُوَ: كَالْعُصْفُورِ، وَالصَّقْرِ، وَالْقُبَّرَةِ، وَالضُّوَعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ طَائِرٌ دُونَ الْحَمَامِ، فَهَذَا كُلُّهُ وَأَشْبَاهُهُ مَضْمُونٌ بالقيمة، وقال داود بن علي: غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَوْجَبَا فِي الْجَرَادَةِ الْجَزَاءَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ قَدْ مَضَى فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ، هَلْ هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أَمْ لَا؟ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالْكُعَيْتُ عُصْفُورٌ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ، فَأَمَّا الْوَطْوَاطُ فَهُوَ فَوْقَ الْعُصْفُورِ وَدُونَ الْهُدْهُدِ، فَفِيهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولًا قِيمَتُهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا كَانَ فوق الحمام فهو كالفتاح وَالْقَطَاةِ وَالْكُرْكِيِّ وَالْحُبَارَى، فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ فَوْقَ الْحَمَامِ، وفيه قولان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ فِيهِ شاةٌ؛ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ فِي الْحَمَامِ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ وَأَكْثَرَ لَحْمًا مِنْهُ، فَالْحَمَامُ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ ثَمَنًا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْفِ وَالْهَدِيرِ وَالصَّوْتِ الْمُسْتَحْسَنِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَيْهِ، حَتَّى ذَكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: (أَحن إلى حمامةٌ بطن وجٍ ... تغنت فوق مرقبةٍ خنينا) وَقَالَ آخَرُ: (وَقَفْتُ عَلَى الرَّسْمِ الْمُحِيلِ فَهَاجَنِي ... بكا حماماتٍ عَلَى الرَّسْمِ وُقَّعُ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: الْحَمَامُ نَاسُ الطَّائِرِ، أَيْ: يَعْقِلُ عَقْلَ الناس، فلما اختص الحمام بهذا ومايز مَا سِوَاهُ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ فِي الْجَزَاءِ بِوُجُوبِ الشَّاةِ مُبَايَنَةً لِمَا سِوَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله -: وَكَذَلِكَ الدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ فِيهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَأَنَّسَ فَهُوَ وَحْشُ الْأَصْلِ، كَالْغَزَالِ الَّذِي قَدْ يَتَأَنَّسُ، وَإِنْ كَانَ وَحْشِيًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَطَائِرُ الْمَاءِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ؛ لأنه وإن رعا فِي الْمَاءِ فَالْبَرُّ مَأْوَاهُ، وَفِيهِ يُفْرِخُ، فَأَمَّا الْإِوَزُّ فَمَا نَهَضَ مِنْهُ طَائِرًا بِجَنَاحِهِ فَهُوَ صَيْدٌ يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ، وَمَا لَمْ يَنْهَضْ مِنْهُ طَائِرًا بِجَنَاحِهِ فَلَيْسَ بِصَيْدٍ، كَالْبَطِّ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، كَمَا لَا جَزَاءَ فِي الدَّجَاجِ، فَأَمَّا الْحَمَامُ الْأَهْلِيُّ الَّذِي يُسَمَّى الدَّاعِي، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ مُسْتَأْنَسًا، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَمَامِ؛ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عليه، ففيه الْجَزَاءُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنِيسٌ كَالدَّجَاجِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ قِيمَةَ مَا كَانَ دُونَ الْحَمَامِ قَوْلًا وَاحِدًا، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِهِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ وَقْتَ قَتْلِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثاني: أن عليه قيمته وقت قلته فِي مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا مَحِلُّ الْهَدْيِ دُونَ الْمَوْضِعِ الذي أصابه فيه. مسألة : قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَهَذَا إِذَا أُصِيبَ بِمَكَّةَ أَوْ أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ قال عطاء في القمري والدبسي شاة (قال) وكل ما عب وهدر فهو حمامٌ وفيه شاةٌ وما سواه من الطير فيه قيمته في المكان الذي أصيب فيه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 قال الماوردي: هذا صحيح، كَانَ مَضْمُونًا مِنَ الطَّائِرِ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْحِلِّ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ، وَالضَّمَانُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، فَإِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ حَمَامَةً فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ أَصَابَ دُونَ الْحَمَامِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ أَصَابَ فَوْقَ الْحَمَامِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَالَ مَالِكٌ: حَمَامُ الْحَرَمِ مَضْمُونٌ بِشَاةٍ، وَحَمَامُ الْحِلِّ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقِيمَتِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي حَمَامِ الْحِلِّ شاةٌ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الْحَرَمِ بِالْجَزَاءِ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْحِلِّ عَلَى الْمُحْرِمِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، كَالصَّيْدِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلِأَنَّهَا حَمَامَةٌ مَضْمُونَةٌ بِالْجَزَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ فِيهَا شَاةً كَحَمَامَةِ مَكَّةَ. مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافعي: رضي الله عنه: " وَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ فِي جَرَادَتَيْنِ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ قَالَ دِرْهَمَيْنِ قَالَ بخٍ دِرْهَمَانِ خيرٌ مِنْ مِائَةِ جرادةٍِ افْعَلْ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي جَرَادَةٍ تَمْرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جرادةٍ تَصَدَّقْ بِقَبْضَةِ طعامٍ وَلْيَأْخُذَنَّ بِقَبْضَةِ جراداتٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ الْقِيمَةَ فَأَمَرَا بِالِاحْتِيَاطِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مِنْ صَيْدِ البحر من بئر جوث، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعَيْنِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الْمُهَزَّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَقِينَا رِجْلًا مِنْ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَقْتُلُهُمْ بِسِيَاطِنَا وَعِصِيِّنَا فَأُسْقِطَ فِي أَيْدِينَا، وَقُلْنَا: مَا صَنَعْنَا وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَسَأَلْنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا بَأْسَ صَيْدُ الْبَحْرِ " فَلَمَّا جَعَلَهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ، كَمَا لَا جَزَاءَ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ؛ ولأن الجراد كصيد البحر في أنه مأكول مَيِّتًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَصَيْدِ الْبَحْرِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ: رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ، فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ أَعِشْهُ بِغَيْرِ رضاعٍ، وَتَابِعْ بيته بغير شياعٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشِّيَاعُ دُعَاءُ الدَّاعِي، أَيْ: يتابع بيته في الطيران؛ لأنه منع بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَأْتَلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَايَعَ كَمَا تُشَايَعُ الْغَنَمُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُطْعِمَهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لا دم فيه، فأطعمها الجراد، وليس من صَيْدِ الْبَرِّ لَحْمٌ لَا دَمَ فِيهِ سِوَى الْجَرَادِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَرْيَمَ: اللَّهُمَّ أَعِشْهُ بِغَيْرِ رضاعٍ، وَتَابِعْ بَيْتَهُ بِغَيْرِ شياعٍ، فَدَعَتْ رَبَّهَا أَنْ يَخُصَّهُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ دَعْوَتِهَا يَعِيشُ بِرِضَاعٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ بِغَيْرِ شِيَاعٍ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ صَيْدِ الْبَرِّ؛ وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ: مَا كَانَ عَيْشُهُ فِي الْبَحْرِ، وَعَيْشُ الْجَرَادِ فِي الْبَرِّ، وَمَوْتُهُ فِي الْبَحْرِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَقْبَلَ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جبلٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي أناسٍ محرمين من بيت المقدس بغمرةٍ، حَتَى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وكعبٌ عَلَى نارٍ يَصْطَلِي مَرَّ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ فَقَتَلَهُمَا وَنَسِيَ إِحْرَامَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ إِحْرَامَهُ فَأَلْقَاهُمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَصَّ كَعْبٌ قصة الجرادتين على عمر قال: مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: دِرْهَمَيْنِ، قَالَ عُمَرُ: بخٍ دِرْهَمَانِ خيرٌ مِنْ مِائَةِ جرادةٍ، فَدَلَّ حَدِيثُ كَعْبٍ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، وَأَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا كَالْعَامِدِ، وَأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ وأن فيه قيمته؛ لأنه صَيْدٌ مَأْكُولٌ يَأْوِي الْبَرَّ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَسَائِرِ الْصُّيُودِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَبَا الْمُهَزِّمِ مَجْهُولٌ، وَأَمَّا جَوَازُ أَكْلِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا فِي الْحَيَاةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ قَتَلَ جَرَادَةً فِي الْحَرَمِ، أَوْ في الإحرام فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِمْلَاءِ: عَلَيْهِ تَمْرَةٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا أكثر من تمرة فعليه قيمتها، وإن كانت قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ تَمْرَةٍ أَحْبَبْتُ أَلَّا تَنْقُصَ عَنْ تَمْرَةٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَبِيحٌ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ جَرَادًا كَثِيرًا احْتَاطَ حَتَّى يَعْلَمَ قَدْرَهُ فَتَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ طَعَامًا أَوْ تَمْرًا يَتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَالدَّبَاءُ جَرَادٌ صِغَارٌ فَفِي الدَّبَاةِ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ تَمْرَةٍ إِنْ شَاءَ الَّذِي يفديه أو لقيمة صغير وَمَا فَدَاهُ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِذَا كسر بيض الجراد فداه، وما فدا به كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 بَيْضَةٍ مِنْهُ مِنْ طَعَامٍ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، فَأَمَّا الْجُنْدُبُ وَالْكَدْمُ فَهُمَا وَإِنْ كَانَا كَالْجَرَادِ فَلَيْسَا مَأْكُولَيْنِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِمَا، وَيُكْرَهُ قَتْلُهُمَا؛ لجواز أن يكون مَأْكُولَيْنِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَإِذَا كَانَ الْمُحْرِمُ عَلَى بَعِيرِهِ أَوْ يَقُودُهُ أَوْ يَسُوقُهُ غَرِمَ مَا أَصَابَهُ بِعِيرُهُ مِنَ الْجَرَادِ، فَإِنْ كَانَ بَعِيرُهُ مُنْفَلِتًا لَمْ يُغَرَّمْ مَا أَصَابَ بِعِيرُهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مَعَهُ نُسِبَتْ إِلَيْهِ أَفْعَالُهُ، وإذا فلت مِنْهُ لَمْ يُنْسَبْ أَفْعَالُهُ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ مُفْتَرِشًا لَا يَجِدُ مَسْلَكًا إِلَّا عَلَيْهِ، فَوَطِئَهُ بِقَدَمِهِ أَوْ سَارَ عَلَيْهِ بعيره، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ لِقَتْلِهِ، فَلَمْ يُضْمَنْ، كَالصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَهُوَ لِمَعْنًى فِيهِ، لَا فِي الْجَرَادِ، فَصَارَ كَاضْطِرَارِهِ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَكْلِهِ، والله أعلم. مسألة : قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ مِنْ بَيْضِ طَيْرٍ يُؤْكَلُ فَفِي كُلِّ بيضةٍ قِيمَتُهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا فرخٌ فَقِيمَتُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْضَ ضَرْبَانِ: مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ. فَغَيْرُ الْمَأْكُولِ: لَا شَيْءَ فِيهِ، كَبَيْضِ الرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالنَّسْرِ وَالْبَازِيِّ. وَأَمَّا الْمَأْكُولُ: فَهُوَ صَيْدٌ يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَرَمُ وَالْإِحْرَامُ، وَيُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ. وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْبَيْضُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا، قَوْله تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) {المائدة: 94) قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تعالى: {تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ} : الْبَيْضُ. وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا "؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى: أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي بَيْضِ الصَّيْدِ الْجَزَاءَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَزَاءِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ بَائِضٍ كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ، فَبَيْضُهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، كَالْبَيْضِ الْمَمْلُوكِ طَرْدًا، وَكَبَيْضِ الْحُوتِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ وَافَقَنَا فِي ضَمَانِ رِيشِ الطَّائِرِ إِذَا نُتِفَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَضَمَانُ بَيْضِهِ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّيشَ لَا يَكُونُ مِنْهُ صَيْدٌ، وَالْبَيْضُ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ صَيْدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْضَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَالْبَيْضُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيْضًا صَحِيحًا لَا فَرْخَ فِيهِ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ بَيْضًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَقِّحَ مَحِلَّهُ عَلَى ذَوْقٍ بِعَدَدِ الْبَيْضِ فَمَا نَتَجَتْ مِنْ شيءٍ تَصَدَّقَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْبَيْضِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، كَالْجَنِينِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ. وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا ". فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ، فَالْقِيمَةُ مُعْتَبِرَةٌ بِاجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ، وَكَذَلِكَ قِيمَةُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ كُلِّهِ، يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا فَقِيهَانِ عَدْلَانِ، كَمَا يَحْكُمَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ الْجَزَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) {المائدة: 94) وَهَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْبَيْضِ فِي مَوْضِعِ إِتْلَافِهِ أَوْ بِمَكَّةَ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا حَكَمَا بِالْقِيمَةِ كَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ يَصْرِفُهَا فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مدٍ يَوْمًا، كَمَا كَانَ مخيراً في جزاء ماله مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِقِشْرِهِ؛ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ قِشْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَيِّتًا لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ جِلْدِهِ، فَهَلَّا كَانَ الْبَيْضُ الْفَاسِدُ أَيْضًا لَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ قِشْرِهِ. قِيلَ: لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَقِشْرُ الْبَيْضِ لَهُ قِيمَةٌ. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ صَحِيحًا فِيهِ فَرْخٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَرْخِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا، أَوْ مَيِّتًا. فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: فِيهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الْأُمِّ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِ الْفَرْخِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ الْأُمَّ بَعْدَ موتها لم يضمنها بالجزاء، فالرخ إِذَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْلَى أَلَّا يَضْمَنَهُ بِالْجَزَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِهِ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبِالْجَزَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَرْخُ بِمَيِّتٍ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ مَضْمُونًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ بِالْجَزَاءِ مَضْمُونًا وَإِنْ كَانَ الْفَرْخُ حَيًّا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يَعِيشَ وَيَمْتَنِعَ أَوْ يَمُوتَ، فَإِنْ عَاشَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، ثُمَّ له حالتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا غَيْرَ مُسْتَقِرِّ الْحَيَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِثْلُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ فَرْخٍ يَحْكُمُ بِهَا عَدْلَانِ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مُسْتَقِرَّ الْحَيَاةِ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِثْلُهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فَرْخَ نَعَامَةٍ، فَفِيهِ وَلَدُ نَاقَةٍ صَغِيرٌ، هُبَعٌ أَوْ كُبَعٌ أَوْ رُبَعٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَرْخَ حَمَامَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ شَاةٌ كَمَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِيهِ وَلَدُ شَاةٍ صَغِيرٌ، رَاضِعٌ أَوْ فَطِيمٌ، يكون قدر بدنةٍ من الشاة يقدر بَدَنِ الْفَرْخِ مِنْ أُمِّهِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَمَامَةِ، هَلْ وَجَبَتْ تَوْقِيفًا أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ وَالْمُمَاثِلَةِ؟ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَرْخَ مَا دُونَ الْحَمَامَةِ كَفَرْخِ الْعُصْفُورِ وَالْقُنْبُرِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ كَمَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ قِيمَتُهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فَرْخَ مَا فَوْقَ الْحَمَامِ كَفَرْخِ الْفَتَخِ وَالْقَطَا، فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِأُمِّهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا فَوْقَ الْحَمَامِ فِيهِ قِيمَتُهُ، فَفِي فَرْخِهِ أَيْضًا قِيمَتُهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ شَاةً، كَفَرْخِ الْحَمَامِ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ شَاةٌ. وَالثَّانِي: وَلَدُ شَاةٍ صَغِيرٌ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ حَمَامٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ دَجَاجٍ، فَإِنْ خَرَجَ وَطَارَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ أَخَذَ بَيْضَ دَجَاجٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ حَمَامٍ، فذعر عن بيض فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا فَسَدَ مِنْ بَيْضٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ حَصَّنَ جَمِيعَهُ، لَكِنْ ضَاقَ عَنْ أَنْ يَدْفِنَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا فَسَدَ مِنْ بَيْضِهِ، فَلَوْ رَأَى عَلَى فِرَاشِهِ بَيْضَ حَمَامٍ فَأَزَالُهُ عَنْهُ فَفَسَدَ بِإِزَالَتِهِ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِفِعْلِهِ. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا بَيْضُ الْحُوتِ، فَهُوَ مَأْكُولٌ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ وَبَائِضِهِ. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَلَا يَأْكُلُهَا محرمٌ لِأَنَّهَا مِنَ الصَّيْدِ وَقَدْ يكون فيها صيداً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْضُ الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْكَلَ بِحَالٍ، فَلَوْ كَسَرَهُ إِنْسَانٌ فَضَمِنَهُ، لم يجز له ولا لغيره، أن أكله قَوْلًا وَاحِدًا، فَأَمَّا بَيْضُ الْحِلِّ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، حَلَالٌ لِلْمُحِلِّ، فَلَوْ أَفْسَدَ الْمُحْرِمُ بَيْضًا فِي الْحِلِّ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُحْرِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي تَحْرِيمِهِ عليهم، فأما المحلون يجوز لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ مُحْرِمٌ، وَجَهِلَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي أَصْحَابِنَا، فَخَرَّجَ جَوَازَ أَكْلِ الْحَلَالِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّيْدِ، وَهَذَا قَوْلٌ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْضَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْمُحْرِمِ فِيهِ غَيْرَ ذَكَاةٍ؛ وَكَذَلِكَ الْجَرَادُ وَلَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ فِي الْحِلِّ جَازَ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَيِّتًا، فَلَمْ يَكُنْ قَتْلُ الْمُحْرِمِ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَيْضِ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ إِذَا أَفْسَدَهُ مُفْسِدٌ أَنْ يُؤْكَلَ بِحَالٍ، وَبَيْنَ بَيْضِ الْحِلِّ إِذَا أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ، حَيْثُ جاز أن يأكل الْمُحِلُّ؟ قِيلَ: لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِكَسْرِهِ، وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي المحلين فزالت عنه بكسره. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَإِنْ نَتَفَ طَيْرًا فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ النَتْفُ فَإِنْ تَلِفَ بَعْدُ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ ممتنعاً حتى يعلم أنه مات من نتفه فإن كان غير ممتنع حبسه وألقطه وسقاه ممتنعاً وفدى ما نقص النتف منه وكذلك لو كسره فجبره فصار أعرج لا يمتنع فداه كاملاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ مِنَ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ النَّتْفِ، أَوْ يَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بَعْدَ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ النَّتْفِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ ب ِفَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ. وَالثَّانِي: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالتَّلَفِ. فَأَمَّا ضَمَانُ نَقْصِهِ بالتلف، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ مَا نَتَفَ مِنْ رِيشِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ يُقَوِّمَهُ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ، فَإِذَا قِيلَ: عَشْرُ دَرَاهِمَ، قَوَّمَهُ بَعْدَ نَتْفِ رِيشِهِ، فَإِذَا قِيلَ: تِسْعَةٌ، عَلِمَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عُشْرُ القيمة، وينظر فِي الطَّائِرِ الْمَنْتُوفِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ، فَعَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعُشْرُ شَاةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ، وَإِنْ كَانَ مَا يَجِبُ قِيمَتُهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَهُوَ: دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَا نُتِفَ مِنْ رِيشِهِ، وَيَعُودَ كَمَا كَانَ قَبْلَ نَتْفِ رِيشِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالنَّتْفِ قَبْلَ حُدُوثِ مَا اسْتَخْلَفَ؛ لِأَنَّ الرِّيشَ الْمَضْمُونَ بِالنَّتْفِ غَيْرُ الرِّيشِ الَّذِي اسْتَخْلَفَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فيمن حنى عَلَى سِنِّهِ فَانْقَلَعَتْ، فَأَخَذَ دِيَتَهَا، ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ وَعَادَتْ هَلْ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْتَنِعَ الطَّائِرُ فَلَا يُعْلَمُ هَلِ اسْتَخْلَفَ رِيشُهُ أَمْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَأَمَّا ضَمَانُ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتْلَفَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ النَّتْفِ فَيَطِيرَ مُتَحَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَيَسْقُطَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ فَيَمُوتَ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَقْصِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَبْلَ النَّتْفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّتْفِ، إِمَّا حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ مَاتَ منه ذَلِكَ النَّتْفِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ كُلَّهُ، وَيَضْمَنَ نَفْسَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ نَتْفِهِ، وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَضْمَنَ إِلَّا قَدْرَ نَقْصِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أَنَّهُ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ صَارَ الطَّائِرُ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يمسكه ويطعمه ويسقيه لينظر ما يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعِيشَ أَوْ يَمُوتَ، فَإِنْ عَاشَ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدهما: أَنْ يَعِيشَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَيَصِيرَ مَطْرُوحًا كَالْكَسِيرِ الزَّمِنِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَفِدَاءُ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ الصَّيْدَ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَقَدْ أَتْلَفَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعِيشَ مُمْتَنِعًا، وَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّتْفِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ - عَلَى مَا مَضَى -: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ نَقْصِهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا مُمْتَنِعًا وَمَنْتُوفًا غَيْرَ ممتنع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعِيشَ وَيَغِيبَ، فَلَا يُعْلَمُ هَلِ امْتَنَعَ أَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ؟ إِلَّا أَنَّ جِنَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، حَتَّى يُعْلَمَ امْتِنَاعَهُ، وَفِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بِالنَّتْفِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، أَوْ فِدَاءُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبِ حَادِثٍ غَيْرِ النَّتْفِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ، مِثْلَ أَنْ يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ، فَيَكُونَ عَلَى الجاني الأول أن يفيده كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ضَامِنًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ، مِثْلَ: أَنْ يَقْتُلَهُ مُحْرِمٌ، أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ وَالصَّيْدُ فِي الحرم، فهذا على فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ، وَبَرَأَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنِ الِامْتِنَاعِ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِشَاةٍ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ بِالنَّتْفِ لَمْ تَسْتَقِرَّ، وَلَا بَرَأَ مِنْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي: قَاتِلًا لِلصَّيْدِ بِالتَّوْجِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ وَيُخْرِجَ حَشَوْتَهُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا وَمَنْتُوفًا؛ لِأَنَّهُ بِالنَّتْفِ جارحٌ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّوْجِيهِ قَاتِلٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي جَارِحًا لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوَيَا فَيَكُونَانِ قَاتِلِينَ، وَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنَايَةِ، أَوْ بِسَبَبِ حادثٍ غَيْرِ الْجِنَايَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلًا؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُدُوثَ سَبَبِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ مَظْنُونٌ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مِمَّا ضَمِنَهُ شيء بالشك. قال الشافعي - رضي الله عنه -: وَمَنْ رَمَى طَيْرًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ، أَوْ كَسَرَهُ كَسْرًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي نَتْفِ رِيشِ الطَّائِرِ سَوَاءٌ، لَا يُخَالِفُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 فَصْلٌ : إِذَا أَخَذَ حَمَامَةً لِيَدْفَعَ عَنْهَا مَا يَضُرُّهَا، أَوْ لِيَفْعَلَ بِهَا مَا يَنْفَعُهَا، مِثْلَ أن يخلص ما في رجلها، أو يخصها من في هِرٍّ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ شَقِّ جِدَارٍ وَلَجَتْ فيه، أو أصابتها لدغة، فساقها تِرْيَاقًا، أَوْ عَالَجَهَا بدواءٍ، فَمَاتَتْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا بِالْيَدِ. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ. فَصْلٌ : فَإِنْ وَقَعَتْ حَمَامَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَأَزَالَهَا عَنْهُ، فَتَلِفَتَ، أَوْ أَخَذَتْهَا حَيَّةٌ فَمَاتَتْ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا هَاهُنَا وُجُوبُهَا عَلَيْهِ، فَلَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ فِي الْحَرَمِ وَكَانَ فِيهِ حَمَامَةٌ تَحْتَهَا بَيْضٌ، فَعَادَ وَقَدْ مَاتَتِ الْحَمَامَةُ عَطَشًا، وَفَسَدَ الْبَيْضُ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ الْحَمَامَةَ وَالْبَيْضَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا وَبَيْضَهَا. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 باب ما يحل للمحرم قتله (قال الشافعي) رضي الله عنه: " وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْفَأْرَةَ وَالْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَمَا أَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ مِثْلُ السَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ صِغَارُ ذَلِكَ وكباره سواءٌ وليس في الرخم والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه جزاءٌ لأن هذا ليس من الصيد وقال الله جل وعز: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمَا} فدل على أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالاً لأنه لا يشبه أن يحرم في الإحرام خاصةً إلا ما كان مباحاً قبله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَحْشِيَّ الْحَيَوَانِ ضَرْبَانِ: مَأْكُولٌ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ. فَالْمَأْكُولُ قَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَوُجُوبِ جَزَائِهِ، وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهِ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ الْهَوَامُّ وَحَشَرَاتُ الْأَرْضِ، فَالْهَوَامُّ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالزُّنْبُورِ، وَالْحَشَرَاتُ كَالدُّودِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجُعُولِ. وَضَرْبٌ فِيهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، كَالسِّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ، وَالْمُخَتَّمِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْحُبَارَى وَالْغُرَابِ، وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ، فَهَذَا غَيْرُ مَأْكُولٍ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ. وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ، وَجَوَارِحُ الطَّيْرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ قَتْلَهَا مباحٌ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهَا وَاجِبٌ، إِلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ، وَقَالَ فِي السِّمْعِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الشَّاةِ أَوْ أَقَلَّ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ وَقَالَ مَالِكٌ: مَا كَانَ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ كِبَارًا فِيهَا عَدْوَى فَفِيهَا الْجَزَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا صِغَارًا لَيْسَ فِيهَا عَدْوَى فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهَا. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الّّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمَّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ، وَالسِّبَاعُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فلانٌ صَارَ سَبْعًا، كَمَا يَقُولُونَ: صَارَ ظَبْيًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَبَسَ مِنَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 بِقَتْلِهِ كَالضَّبُعِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا حَلَّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْلَالِ جَازَ أَنْ يُحَرَّمَ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ كَسَائِرِ الصَّيْدِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بَلْ يَجِبُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: خمسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى قَتْلِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ فَنَصَّ عَلَى الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى الْعُقَابِ وَالرَّخَمَةِ، وَنَصَّ عَلَى الْفَأْرَةِ، لِيُنَبَّهَ عَلَى حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، وَعَلَى الْعَقْرَبِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى الْحَيَّةِ، وَعَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى السُّبُعِ وَالْفَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَإِذَا أَفَادَ النَّصُّ دَلِيلًا وَتَنْبِيهًا كَانَ حُكْمُ التَّنْبِيهِ مُسْقِطًا لِدَلِيلِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) {الإسراء: 22) ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ، وَدَلِيلُ لَفْظِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الضَّرْبِ، فَقَضَى بِتَنْبِيهِهِ عَلَى دَلِيلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ قَتْلَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَاسْمُ الْكَلْبِ يَقَعُ عَلَى السُّبُعِ لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَا اللُّغَةُ: فَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّكَلُّبِ وَهُوَ الْعَدْوَى وَالضَّرَارَةُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي السَّبُعِ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ السَّبُعُ فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي نعم عن الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عما يحل للمحرم قتله فقال: " الحية والعقرب وَالْفُوَيْسِقَةُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ "، وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِ السَّبُعِ ودليلٌ عَلَى سُقُوطِ الْجَزَاءِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُ عَلَى صفةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فيه عدوى وقتل ذلك مباحٌ قبل السِّبَاعُ كُلُّهَا مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا عَدْوَى، كَمَا يُوصَفُ السَّيْفُ بِأَنَّهُ قَاطِعٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَطْعُ، وَالنَّارُ بِأَنَّهَا محرقةٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الْإِحْرَاقُ؛ وَلِأَنَّهُ متولدٌ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُ شيءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ كَالذِّئْبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِقَتْلِ الْقَمْلِ، قِيلَ: الْقَمْلُ لَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِإِزَالَةِ الْأَذَى مِنْ رَأَسِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إِذَا قَتَلَهُ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَتَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ مِنَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ إِنَّمَا يُوجِبُ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ الْكَامِلَةَ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُ السَّبُعِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمِثْلِ وَلَا لِلْقِيمَةِ الْكَامِلَةِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مضمونٍ. فَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتُ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتُ: لِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْمِثْلِ وَلَا بِكَمْالِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَالذِّئْبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ الصَّيْدِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ، وَلَيْسَ السَّبُعُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمِثْلُ عِنْدَنَا أَوِ الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ، وَالسَّبُعُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ وَلَا القيمة الكاملة فلم تكن مِنَ الصَّيْدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الضَّبُعِ فَالْمَعْنَى فيه: أنه صيدٌ مأكولٌ، فليس كَذَلِكَ السَّبُعُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ مقصورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ متولدٌ مَا بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، فَغَلَبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّبُعُ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ صِغَارِ ذَلِكَ وَكِبَارِهِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ، وَيُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ، يَسْتَوِي حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ فَكَذَلِكَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ الْإِحْرَامِ، وَيَسْقُطُ فِيهِ الْجَزَاءُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ، كَالْحَشَرَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ مُؤْذٍ لَمْ يَحْرُمْ قَتْلُهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا فَفِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ قَتْلُهُ لِضَعْفِ حُرْمَتِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَتْلُهُ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ ". فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَإِذَا صَالَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقَالَ فِي السَّبُعِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَحْلُ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، عِنْدَنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ، كَالصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَنَجْعَلُ الصَّيْدَ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 فَصْلٌ : إِذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ حيواناً لا يعلم أوحشي أو إِنْسِيٌّ؟ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَحْشِيٌّ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ مَأْكُولٌ أَوْ غَيْرُ مَأْكُولٍ؟ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَصَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ ولِلسَّيَّارةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) {المائدة: 96) فأباح للمحرمين صيد البحر. قال الشافعي: وكلما عَاشَ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ عَيْشِهِ، وَكَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ أَوْ بِئْرٍ أو ماء مُسْتَنْقَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ وَمُبَاحٌ لَهُ صَيْدُهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَأَمَّا طَائِرُهُ فَإِنَّمَا يَأْوِي إِلَى أَرْضٍ فِيهِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ إذا أصيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 باب الإحصار قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله جل وعز: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} وَأُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ (قَالَ) وَإِذَا أَحُصِرَ بِعَدُوٍّ كافرٍ أَوْ مُسْلِمٍ أَوْ سلطانٍ بحبسٍ فِي سجنٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عمرةٍ وَصُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ فِي ألفٍ وَأَرْبَعِ مائةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَكَانَ التَّحَلُّلُ مُضْمَرًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَصْرِ، وإنما بجب بِالتَّحَلُّلِ فِي الْحَصْرِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، تَحَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عُمْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أحصرنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ عُذْرٌ، وَالْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِالْعُذْرِ جَائِزٌ، كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَذَلِكَ الْحَجُّ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ، فَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّحَلُّلَ إِنَّمَا يَجُوزُ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحَلَّلَ بِإِحْصَارِ عدوٍ كافرٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَصْرِ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ مَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَالْمَصْدُودِ بِعَدُوٍّ مُشْرِكٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ فِي التَّحَلُّلِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حل أو في حرم فإن كان فِي حِلٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِحْصَارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا، أَوْ خَاصًّا. فَإِنْ كَانَ عَامًّا وَهُوَ أَنْ يُصَدَّ جَمِيعُ النَّاسِ عَنِ الْحَرَمِ وَيُمْنَعُوا مِنْ فِعْلِ مَا أَحْرَمُوا بِهِ مَنْ حَجًّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَجِدُوا طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرُوا فِيهَا، أَوْ لَا يَجِدُوا طَرِيقَا غَيْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا غَيْرَهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرْجُوا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ، أَوْ لَا يَرْجُونَهُ. فَإِنْ لَمْ يَرْجُوَا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُمْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَإِنْ لَمْ تفت ففي المقام على الإحرام بلا مَشَقَّةٌ، وَقَدْ كَانَ إِحْرَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُمْرَةٍ فَأَحَلَّ مِنْهَا بِإِحْصَارِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ قِتَالُ عَدُوِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا فِي النَّفِيرِ، فَإِذَا حَلُّوا فَعَلَيْهِمْ دَمُ الْإِحْصَارِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانُوا لَا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانُوا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ وَزَوَالَهُ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِضَهُمُ الْعَدُوُّ مُجْتَازًا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِحْرَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون بحج أو بعمرة، فإذا كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا بَعْدَ انْكِشَافِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ الْحَجِّ بِشَهْرٍ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنَ الْقُوتِ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ إِلَى عِشْرِينَ يَوْمًا فَمَا دُونَ، فَعَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بالإحصار، وإن تيقن أن العدو ينكشف بعد عشرين يَوْمًا، وَلَا يَنْكَشِفُ قَبْلَهَا، فَهَذَا لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ يُدْرِكُ الْحَجَّ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَسَعَيٍ؛ لِزَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَجْلِ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِلْفَوَاتِ دُونَ الْإِحْصَارِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ فإن تيقين انْكِشَافَ الْعَدُوِّ عَنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حد السفر إلى الإقامة، وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ، جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حَيْثُ قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِذَا كان محرماً يحج، فَأُحْصِرَ، وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ، وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ لَا يَفُوتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ، أَنَّ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 الْمَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَأُحْصِرَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَفُوتُ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ هُنَاكَ بَعْدَ شَهْرٍ لَيْسَ يَفُوتُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ لَوْ لَمْ يَحْصُرْ لَمْ يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْتَزِمْ بِالْإِحْصَارِ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِحْصَارٌ لَأَمْكَنَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْتَزِمُ اسْتِدَامَةَ إحرامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَيَقَّنَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَتَيَقَّنْهُ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، وَلَوِ انْتَظَرَ مُرُورَ أَيَّامٍ لا يخالف مَعَهَا فَوَاتَ الْحَجِّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ عَجَّلَ الْإِحْلَالَ كَانَ جَائِزًا، فَلَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَمَضَى فِي إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أَتَى بِأَرْكَانِ الْعُمْرَةِ، وَأَحَلَّ مِنْهَا، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَإِنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، أَتَمَّ حَجَّهُ، وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَأَحَلَّ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وحلاق، ولزمه دَمُ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا لَمْ يكن له طريق غير الطريق الذي أُحْصِرَ فِيهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ في هذا الطريق عدو مَانِعٌ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ: إِمَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ مَاءٍ أَوْ مَرْعَى، أَوْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ لِصٍّ غَالِبٍ، أَوْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ قَاهِرٍ، أَوْ يُضْطَرَّ فِيهِ إِلَى رُكُوبِ بَحْرٍ، أَوْ يَحْتَاجَ فِيهِ إِلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ وَهُوَ لَهَا عَادِمٌ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْذَارُ لَا يَلْزَمُهُ مَعَهَا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الطَّرِيقَ الَّتِي أَحُصِرَ فِيهَا، فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ سُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَهُ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ سَوَاءٌ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِسُلُوكِهِ مُمْكِنًا أَمْ لَا، فَإِنْ سَلَكَهُ وَوَصَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَجُزْأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا حِينَ سَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ عَرَفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ بِالْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ الْإِدْرَاكِ لَمْ يَكُنْ بِالْإِحْصَارِ، وَلَا لِلْإِحْصَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ؛ فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ دَمُ الْفَوَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ حِينَ سَلَكَهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَالْمَسَافَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ كَمَا لَوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِأَنْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْعَدَدِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ تَأْثِيرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ لَمْ يَكُنْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِحْصَارِ بَاقِيًا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا الدَّمُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِلْإِحْصَارِ دُونَ الْفَوَاتِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ إِذَا كَانَ عَامًّا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِحْصَارُ خَاصًّا، وَهُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ يُلَازِمَهُ غَرِيمٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِحَقٍّ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ بِدَيْنٍ هُوَ قَادِرٌ على وفائه، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ قِبَلِهِ، وَهُوَ حَابِسُ نَفْسِهِ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَأَدَاءُ مَا عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَنِ اخْتَارَ الْمَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِحْرَامِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِظُلْمٍ، وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ مَعَ إِعْسَارٍ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، كَالْإِحْصَارِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْإِحْصَارِ دُونَ الْقَضَاءِ، كَالْإِحْصَارِ الْعَامِّ سَوَاءٌ، إِذْ هُوَ بِهِمَا مَعْذُورٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ دَمِ الْإِحْصَارِ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْصَارِ الْعَامِّ حَيْثُ لَمْ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَبَيْنَ الْإِحْصَارِ الْخَاصِّ حَيْثُ وَجَبَ فِيهِ الْقَضَاءُ؟ . قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَعْذَارَ الْعَامَّةَ أَدْخَلُ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْخَاصَّةِ؛ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُجَّاجَ لو أخطأوا جَمِيعُهُمُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ أَجْزَأَهُمْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْمَشَقَّةِ وَلَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ فَوَقَفَ في اليوم العاشر لم يجزه كذلك للإحصار الْعَامُّ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَالْإِحْصَارُ الْخَاصُّ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ بِإِحْصَارٍ خَاصٍّ وَعَامٍّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَعَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بالهدي والحلق، فلا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ، فَإِذَا فَاتَهُ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ، وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَزُولَ إِحْصَارُهُ؛ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِحْلَالِهِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا سَوَاءً؛ وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِكْمَالِ نُسُكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَجَازَ لَهُ الْإِحْلَالُ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَهُ إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَيُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى، وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ؛ وَلِأَنَّهُ إِحْرَامٌ تَامٌّ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنْ بَعْضِهَا أَوْلَى، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْهَدْيِ وَالْحَلْقِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ إِحْلَالِهِ؟ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ إِحْرَامِهِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْرِهِ، كَالْمُصَلِّي إِذَا عَجَزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ كَانَ إِحْلَالُهُ مِنْ بَعْضِهَا أَوْلَى، وَعَلَيْهِ دَمُ الْإِحْصَارِ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ كَالَّذِي أُحْصِرَ فِي طَرِيقٍ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا، فَسَلَكَهَا فَفَاتَهُ الْوُقُوفُ فَأَحَلَّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُحْصَرُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَالْمُحْصَرُ عَنْ بَعْضِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْدُودٍ عَنِ الْبَيْتِ فَصَارَ كَالْغَائِبِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَدْ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَلَيْسَ لِلطَّوَافِ وَقْتٌ يَفُوتُ فَيُوجِبَ الْقَضَاءَ، فَكَانَ الصَّدُّ عَنِ الْوُقُوفِ أَغْلَظَ حُكْمًا؛ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا، فَهَذَا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فروعه وأحكامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " نَحَرَ هَدْيًا لِإِحْصَارِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ فِي حِلٍّ أو حرمٍ ". قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ: عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ دَمٌ لِأَجْلِ إِحْلَالِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مَنْ نُسُكِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَنْتَسِبْ فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْحَجِّ؛ رِفْقًا بِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ تُغْلِظَ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الدَّمِ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَذَكَرَ السَّبَبَ وَحُكْمَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِحْصَارِ عَلَى سَبْعَةٍ؛ لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ مَنْحُورَةً عَنْ سَبْعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مَنْ نُسُكِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ كَالْفَائِتِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ قَدْ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَهَذَا الْمُحْصَرُ قَدْ أَحَلَّ قَبْلَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَلَزِمَهُ دَمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ تَخْفِيفٌ، وَإِيجَابَ الدَّمِ تَغْلِيطٌ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ كَمَا يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّغْلِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَتِّعُ مَحِلَّ تَخْفِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ هَدْيًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِيهِ الْهَدْيَ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُحْصَرًا في حل أو في حرم، فإن كان مُحْصَرًا فِي حَرَمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَ إِحْصَارِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَ، فِي الْحِلِّ، وَكَانَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ مَنْ جَوَّزَ نَحْرَ هَدْيِهِ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُحْصَرُ فِي الْحِلِّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ، حَيْثُ أَحُصِرَ، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 (البقرة: 196) فَأَمَرَ بِإِبْلَاغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ العَتِيقِ} . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَكَانَ يَنْحَرُهُ فِي الْفِجَاجِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَلَوْ جَازَ نَحْرُهُ فِي الْحِلِّ لَكَانَ لَا يَتَعَذَّرُ بِإِنْفَاذِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَكَانَ نَحْرُهُ بِحَضْرَتِهِ أَفْضَلَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَذَهُ إِلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ نَحْرَهُ فِي الْحِلِّ لَا يَجُوزُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَزِمَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ إِرَاقَتُهُ فِي الْحَرَمِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الدِّمَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} فَأَوْجَبَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجْرِ لِلْمَكَانِ ذِكْرٌ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَحْرِهِ عُقَيْبَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ. رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: " أَحُصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " فَدَلَّ عَلَى نَحْرِ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِحْصَارِهِ بِالْحُدَيْبِيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ. قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَرُدُّهُ نَصُّ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، الهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ مَحِلَّهُ مِنَ الْحَرَمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحُدَيْبِيَةُ الَّتِي نَحَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الحرم. قيل: هَذَا صَحِيحٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَلَغَتْ رَاحِلَتُهُ إِلَى ثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ بَرَكَتْ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: ثَقُلَ عَلَيْهَا الْحَرَمُ، وَهُوَ عَلَيَّ أَثْقَلُ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْحَرَمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا فِي حِلٍّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ ولأن مَوْضِعٌ لِتُحَلُّلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِهَدْيِهِ كَالْحَرَمِ، وَلِأَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ، كَذَلِكَ النَّحْرُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيِ التَّحَلُّلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ مِنَ الْحِلِّ كَالْحَلْقِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عن قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مِحِلَّهُ} (البقرة: 196) فَالْمَحِلُّ مَوْضِعُ الإحلال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لضياعة بِنْتِ الزُّبَيْرِ: أَحْرِمِي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّيَ حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ مَحِلُّهَا إلَى البَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 33) وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَذَاكَ فِي غَيْرِ السَّنَةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَرِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ؛ فَلِذَلِكَ لم يجز إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُحْصَرُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَقْضِيَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْصَرَ إِذَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْهَدْيِ وَالْحِلَاقِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ إِحْصَارِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَضَى حَجًّا وَعُمْرَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حجةٌ " فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا: صَدَقَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِالْإِحْصَارِ سَنَةَ سِتٍّ بِالْحُدَيْبِيَةِ، قَضَاهَا سَنَةَ سَبْعٍ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَعُمْرَةَ الْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا حَاضَتْ بِمَكَّةَ، قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ "، ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَأَلْزَمَهَا قَضَاءَ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا، وَتَحَلَّلَتْ مِنْهَا وَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِكْمَالِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَجْلِ الْحَيْضِ، وَلَا أَمْكَنَهَا الْمَقَامُ على العمرة إلا أَنْ تَطْهُرَ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، كَالْفَائِتِ، وَلِأَنَّ الْحَصْرَ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ. فَلَمَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْخَاصِّ، وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَامِّ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَذَكَرَ الْإِحْصَارَ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَهُوَ الْهَدْيُ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ لَهُ غَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُحْصِرَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَأُحْصِرَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ تَحَلَّلُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ، وَهِيَ سَنَةُ سبعٍ خَرَجَ لِلْقَضَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ ناسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَكْثَرُ مَا قِيلَ، سَبْعُمِائَةٍ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا، هُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَوْ كَانَ يَلْزَمُهُمْ لذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمْ لِيَخْرُجَ مَعَهُ جَمِيعُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْفَوْرِ مَنَعَ مِنَ التَّرَاخِي، وَمَنْ جَعَلَهُ عَلَى التَّرَاخِي، مَنَعَ أَنْ يُجْبَرَ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ دَارَ شِرْكٍ، وَكَانَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْعَامِ الَّذِي قَضَى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ مُمْكِنٍ، فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجُوا وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى تَرْكِ الْخُرُوجِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ من نسكه بسبب عام، لم ينسب إِلَى التَّفْرِيطِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، كالمتحلل بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 كَمَالِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ إِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا أَحَلَّ بِفِعْلِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ نَحْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَدَلًا مِنْهَا، وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ أَكْمَلَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَلْزَمَ الْفَائِتَ الْقَضَاءُ. قُلْنَا: دَمُ الْفَوَاتِ وَجَبَ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ بَدَلًا مِنَ الْأَفْعَالِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَامَ الدَّمُ مَقَامَ الْأَفْعَالِ، يَجِبُ أَنْ يُجْزِئَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ بَدَلًا عَنِ الشَّيْءِ فِي حُكْمٍ، وَلَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، كَالتَّيَمُّمِ بَدَلٌ مِنَ الطَّهَارَةِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَلَيْسَ هُوَ ببدلٍ عَنْهُ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ كُلَّ فَرْضٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ، يقتضي أَنَّ الْمُتَحَلِّلَ بِالْمَرَضِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ سَيَأْتِي. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى عُمْرَتَهُ، وَسَمَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ. قُلْنَا: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا من أصحابه، وإنما هو مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاضَى عَلَيْهَا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْهُمْ حِينَ مَنَعُوهُ، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) {البقرة: 194) ، وَأَمَّا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَتْ قَارِنَةً؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهَا: " طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ ". وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْفَوَاتِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْفَوَاتِ حُدُوثُهُ مِنْ تَفْرِيطٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْصَارُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ تَحَلُّلِ الْإِحْصَارِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الْإِحْصَارُ الخاص، ففيه قولان: أحدهما: لا قضاء، فعل هذا قد اسْتَوَيَا. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ ذَكَرْنَاهُ: وَهُوَ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ فِي الْعَامِ، وَعَدَمُهَا فِي الْخَاصِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْإِحْصَارِ الْعَامِّ يَمْتَنِعُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَسَقَطَ الْقَضَاءُ، وَفِي الْخَاصِّ لَا يَمْتَنِعُ سُلُوكُ الطريق، فوجب القضاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ أَوْ كَانَ معسراً ففيها قولان أحدهما أن لا يحل إلا بهديٍ والآخر أنه إذا لم يقدر على شيءٍ حل وأتى به إذا قدر عليه إذا أمر بالرجوع للخوف أن لا يؤمر بالمقام للصيام والصوم يجزئه في كل مكانٍ (قال المزني) القياس عنده حق وقد زعم أن هذا أشبه بالقياس والصوم عنده إذا لم يجد الهدي أن يقوم الشاة دراهم ثم الدراهم طعاماً ثم يصوم مكان كل مد يوماً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْمُحْصَرِ تَحَلُّلَهُ هَدْيًا، فَالْهَدْيُ شَاةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، وَأَقَلُّ مَا يَجُوزُ فِي الْمَيْسُورِ شَاةٌ تَجُوزُ أُضْحِيَةً، وَقَالَ جَابِرٌ: أحصرنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ شَاةٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلشَّاةِ، أَوْ عَادِمًا لَهَا. فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا نَحَرَهَا مَوْضِعَهُ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا -، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ نَحْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: 196) ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ بدلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَرَكَهَا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِهَا، فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ لَهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ النَّحْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحِلَاقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ، فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَحْدَهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ نَاوِيًا بِهِ الْإِحْلَالَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَحَلَّلُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي انْعَقَدَ عَلَيْهَا إِحْرَامُهُ فَيُجْزِئُهُ فعلها بالنية المتقدمة لَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَضْمَنْهُ نِيَّةُ إِحْرَامِهِ، فَافْتَقَرَ فِي نَحْرِهِ إِلَى نِيَّةٍ لِيَقَعَ بِهَا التَّمَيُّزُ، وَيَحْصُلَ بِهَا الْإِحْلَالُ، فَإِذَا نَحَرَ هَدْيَهُ فَقَدْ حَلَّ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ، فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ: وَهُمَا نَحْرُ الْهَدْيِ نَاوِيًا ثُمَّ الْحَلْقُ، فَإِنْ نَحَرَ وَلَمْ يَحْلِقْ فَهُوَ بَعْدُ عَلَى إِحْرَامِهِ، فَهَذَا حكم المحصر إذا كان واجداً لهدي. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ، إِمَّا لِتَعَذُّرِهِ أَوْ لِإِعْسَارِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لَهُ بَدَلٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَا بدلٍ لَنَصَّ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ على غيره، من دم المتعة، والأداء وَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ بَدَلٌ يُنْقَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ لَهَا أَبْدَالٌ تُنْقَلُ إِلَيْهَا مَعَ الْإِعْدَامِ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِهِ، وَهَلْ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَنَحْرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذلك؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 مَحِلَّهُ {البقرة: 196) ، وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَهَا، فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ، فَيَتَحَلَّلَ بِهِ. والقول الثاني: له أن يتحلل في المال قَبْلَ وُجُودِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَالْأَفْعَالُ مُبْدَلَاتٌ مِنَ الْهَدْيِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُبْدَلِ قَبْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْبَدَلِ قَبْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إن الحلاق نسك يقع به الإحلال، ويتحلل بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ، نَوَى الْإِحْلَالَ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ حَلَّ، وَإِذَا قُلْنَا: لِهَدْيِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ بِالْإِعْسَارِ، أَوْ عَادِمًا لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ بإعساره، فبدله الصوم، وفيه ثلاثة أقاويل: أَحَدُهَا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، مِثْلَ كَفَّارَةِ الْأَذَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ كَالْمُتَمَتِّعِ. وَالثَّالِثُ: يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، مِثْلَ جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ، فَهَلْ يَكُونُ الْمُبْدَلُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ طَعَامًا أَوْ صِيَامًا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الصِّيَامُ كَالتَّمَتُّعِ الَّذِي يَنْتَقِلُ فِيهِ عَنِ الدَّمِ إِلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِطْعَامِ، فَعَلَى هَذَا فِي الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ - عَلَى مَا مَضَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِ الْمَسَاكِينِ مِنَ الصِّيَامِ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَدَلَ إِلَى الصِّيَامِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ فَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا، ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الصَّوْمِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَمْ يكون على إحرامه حتى يأتي بالصوم أو الإطعام؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الإتيان به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 فَصْلٌ : إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ ثُمَّ أُحْصِرَ، ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ مِنْ حَجٍّ صَحِيحٍ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَجْلِ الْإِفْسَادِ دُونَ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ، أَمَّا الْبَدَنَةُ فَلِأَجْلِ الْإِفْسَادِ وَأَمَّا الشَّاةُ فَلِأَجْلِ الْإِحْصَارِ، فَإِذَا أَحَلَّ وَزَالَ الْعَدُوُّ، وَكَانَ وَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنًا، جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَجَّ فِي عَامِهِ. فَصْلٌ : إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ أُحْصِرَ ثُمَّ فَاتَهُ الْحَجُّ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ فله أن يتحلل بِالْإِحْصَارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ، وَدَمَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ الْفَوَاتِ. وَالثَّانِي: لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ. فَصْلٌ : إِذَا فَعَلَ الْمُحْصَرُ قَبْلَ إِحْلَالِهِ شَيْئًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَالْحَلْقِ وَغَيْرِهِ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أَطْبُخُ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي، فَقَالَ: يَا كَعْبُ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أُحْصِرُوا وَكَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، كَانَ لَهُمُ الْقِتَالُ وَالِانْصِرَافُ أَيْنَمَا شَاءُوا؛ لِأَنَّ لَهُمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِلَّا فِي النَّفِيرِ، وَأَنْ يَبْدَأُوا بِالْقِتَالِ، فَإِنْ أَرَادُوا قِتَالَ عَدُوِّهِمْ، فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ الرُّجُوعَ عَنْهُمْ، اخْتَرْتُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالَهُمْ، قَاتَلُوا وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَافْتَدَوْا إِنْ لَبِسُوهُ قَبْلَ إِحْلَالِهِمْ، وَإِنْ أُحْصِرُوا بِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، اخْتَرْتُ الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ بِكُلِّ حَالٍ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ أُحْصِرُوا بِالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْحَجِّ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ، وَكَانُوا غَيْرَ مُحْصَرَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ، أَوْ يُعْرَفُ غَدْرُهُمْ، فَيَكُونَ لَهُمُ الِانْصِرَافُ إِذَا كَانُوا هَكَذَا بَعْدَ الْإِحْلَالِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ، فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى جَعْلٍ كَبِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، لَمْ أَرَ أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا فِي الْإِحْصَارِ يَحِلُّ لَهُمْ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَنَالَ الْمُشْرِكُ مِنَ الْمُسْلِمِ أَخَذَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمُ الصَّغَارُ، ولو فعلوا لم يحرم ذلك عليهم، فإني كرهته، كما لو يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا وَهَبُوهُ لِمُشْرِكٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فصل : قال الشافعي رحمه الله: ولو قاتلهم المحصر، فقتل وجرح وأصاب دواباً أَنِيسَةً، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غُرْمٌ، وَلَوْ أَصَابَ لَهُمْ صَيْدًا يَمْلِكُونَهُ جَزَاهُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ جَزَاهُ، وَضَمِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ لِغَيْرِ مَالِكٍ جَزَاهُ الْمُحْرِمُ بِمِثْلِهِ إِنْ شَاءَ مَكَانَهُ فِي الْحِلِّ كَانَ أَمْ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ أَرَادُوا الْإِحْلَالَ ثُمَّ الْقِتَالَ، لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ وَذَهَبَ الْحَصْرُ الْآنَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَا يُحِلَّ محرمٌ حَبَسَهُ بلاءٌ حَتَى يَطُوفَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ عدوٌ (قَالَ) فَيُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ قال فإن أدرك الحج وإلا طاف وسعى وعليه الحج من قابلٍ، وما استيسر من الهدي فإن كان معتمراً أجزأه ولا وقت للعمرة فتفوته والفرق بين المحصر بالعدو والمرض أن المحصر بالعدو خائفٌ القتل إن أقام وقد رخص لمن لقى المشركين أن يتحرف لقتالٍ أو يتحيز إلى فئةٍ فينتقل بالرجوع من خوف قتلٍ إلى أمنٍ والمريض حاله واحدةٌ في التقدم والرجوع والإحلال رخصةً فلا يعدى بها موضعها كما أن المسح على الخفين رخصةٌ فلم يقس عليه مسح عمامةٍ ولا قفازين ولو جاز أن يقاس حل المريض على حصر العدو جاز أن يقاس حل مخطئ الطريق ومخطئ العدد حتى يفوته الحج على حصر العدو. وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ. فَأَمَّا الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْمَرَضِ كَمَا يَتَحَلَّلَ بِالْعَدُوِّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ وَيَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ وَأَحْصَرَهُ الْعَدُوُّ مَعًا، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ عَامَّةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَرَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ، فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عباسٍ، فَقَالَا: صَدَقَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالْمَرَضِ كَالْجِهَادِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ أَشَدُّ من الإحصار بالعدو؛ لأنه لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ، إِمَّا بِقِتَالٍ، أَوْ بِمَالٍ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ بِمَا قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَانَ تَحَلُّلُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: تُرِيدِينَ الْحَجَّ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أن محلي حيث حبستني. والدلالة مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ بِالْمَرَضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، لَأَخْبَرَهَا وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ إِحْلَالِهَا مِنَ الْمَرَضِ بِالشَّرْطِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وَيَنْتَفِي عِنْدَ عَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذَلِكَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْبَصْرَةِ خَرَجَ لِيَحُجَّ، فَوَقَعَ مِنْ على بَعِيرِهِ، فَانْكَسَرَتْ فَخِذُهُ فَمَضَوْا إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ أحدٌ فِي التَّحَلُّلِ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أشهرٍ، ثُمَّ تَحَلَّلَ بعمرةٍ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعِيدَ التَّحَلُّلَ مِنْهُ، كَالصُّدَاعِ طَرْدًا، أَوْ كَانْسِدَادِ الطَّرِيقِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَحَلُّلِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ، كَضَالِّ الطَّرِيقِ طَرْدًا، وَكَالْمُحْصَرِ عَكْسًا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُحْصَرُ إِذَا حَصَرَهُ الْعَدُوُّ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ، لَهُ التَّحَلُّلُ وَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ. قِيلَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ، كَالْمَرِيضِ. وَالثَّانِي: لَهُ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ بَعْضِ الْأَذَى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ جَمِيعِهِ، وَهُوَ الْعَدُوُّ الَّذِي فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْلَالِ وَالْعَوْدِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِقَائِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنها في الإحصار بالمرض كان فَاسِدًا؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّحَابَةُ مُحَاصَرُونَ بِالْعَدُوِّ. فَإِنْ قَالُوا: اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِحْصَارِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْصَارَ بالعدو مراداً، وَإِذَا كَانَ مُرَادًا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ مَجَازًا، وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجَازُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَعْمَلَةً فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا حَقِيقَةً، وَعُمُومَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْهَدْيِ، فَأَمَّا التَّحَلُّلُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَلَا يُدَّعِي فِيهِ الْعُمُومُ، وَالْإِضْمَارُ لَا يُوصَلُ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ لو كان العموم بتناولهما جَمِيعًا، لَكَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْإِحْصَارَ بِالْعَدُوِّ دُونَ المرض من وجهين: أحدهما: قوله في أثناء الآية: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُُ} (البقرة: 196) ، فَمَنَعَ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ، وَهَذَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ بِالْمَرَضِ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِيهَا: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ) {البقرة: 196) وَالْأَمْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ، فَأَمَّا عَنْ مَرَضٍ فَإِنَّمَا يُقَالُ: بُرْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِحْصَارُ الْعَدُوِّ دُونَ الْمَرَضِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ ". قُلْنَا: مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَضْمَرْتُمْ فِي الْخَبَرِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِنَفْسِ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ، فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، بعلة أنه مصدود عن البيت فغير سليم؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَصْدُودٍ عَنِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ لم يحمل المشقة لموصل إِلَيْهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ، أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرِيضُ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَالْجِهَادُ قِتَالٌ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَالْحَجُّ سَيْرٌ، وَالْمَرِيضُ يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَرِيضَ أَسْوَأُ حَالًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ مَعَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِالْمَرَضِ، وهو أن يقول في إحرامه: إن حبستني مرض، أو انقطعت في نَفَقَةٌ، أَوْ عَاقَنِي عَائِقٌ مِنْ ضَلَالِ طَرِيقٍ أو خطأٍ في عدو، تَحَلَّلَتْ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انعقاد هذا الشرط، وجواز الإحلال به، كحديث ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ مُسْنَدًا، وَرَوَى مِثْلَهُ مَوْقُوفًا، فَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: أَتُرِيدِينَ الْحَجَّ، فَقَالَتْ: إِنِّي شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ عَنِ ابن جريج عن أبي الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِنِّي امْرَأَةٌ ثقيلةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ: أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ لِي عائشة رضي الله عنها: هل تثتثني إِذَا حَجَجْتَ؟ قُلْتُ لَهَا: مَاذَا أَقُولُ؟ فَقَالَتْ: قُلِ اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ، وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ لِي فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حابسٌ فَهِيَ عمرةٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ انْعِقَادَ الشَّرْطِ وَجَوَازَ الْإِحْلَالِ بِهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَالْعَمَلُ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: الشَّرْطُ مُنْعَقِدٌ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَدِيدِ تَوَقَّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَجْلِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ الشَّرْطُ قَوْلًا وَاحِدًا وَجَازَ الْعَمَلُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ الشَّرْطُ حَتَّى يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ، فَإِنْ شَرَطَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ الشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إن حبسني مرض، أو انقطعت بي نفقة، أَحْلَلْتُ، أَوْ أَنَا حَلَالٌ، أَوْ يَشْتَرِطُ فَيَقُولُ: إِنْ أَخْطَأْتُ الْعَدَدَ، أَوْ ضَلَلْتُ عَنِ الطَّرِيقِ، أَوْ عَاقَنِي عَائِقٌ، فَفَاتَنِي الْحَجُّ، كَانَ حَجِّي عُمْرَةً، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا مُنْعَقِدَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرُوطِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ أَنَا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ، فَإِنْ أَحْبَبْتُ الْخُرُوجَ مِنْهُ خَرَجْتُ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْنِي زَيْدٌ قَعَدْتُ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فَاسِدَةٌ، لَا تَنْعَقِدُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ بِهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الشَّرْطِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي شَاءَ، فَهَلْ يَصِيرُ حَلَالًا بِنَفْسِ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ أَمْ لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ فَيَنْظُرَ فِي الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ قَالَ: إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ تَحَلَّلْتُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِوُجُودِ الْمَرَضِ حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ وَالْخُرُوجَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ فَأَنَا حَلَالٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ حَلَالًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ اللَّفْظِ فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كسر أو عرج فقد حل ". والوجه الثَّانِي: لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ، فَيَصِيرَ حينئذٍ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنَ الْإِحْلَالِ بِالْمَرَضِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَلَّلْ بِوُجُودِ الْإِحْصَارِ، حَتَّى يَنْوِيَ الْإِحْلَالَ، فَالْمَرَضُ أَوْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالشَّرْطِ، فَهَلْ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَحَلُّلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ دَمٌ كَالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ، أَنَّ مُوجَبَ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مُنْتَهِيًا إِلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ قَدْ كَانَ إِحْرَامُهُ مُوجِبًا لِلْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْإِحْصَارِ فَقَدْ تَرَكَ الْإِتْيَانَ بِفِعْلِ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ؛ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ دَمٌ، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 بَابُ حَصْرِ الْعَبْدِ الْمُحْرِمِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ والمرأة تحرم بغير إذن زوجها (قال الشافعي) رضي الله عنه: وَإِنْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فَهُمَا فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ وَلِلسَّيِّدِ وَالزَوْجِ مَنْعُهُمَا وَهُمَا فِي مَعْنَى الْعَدُوِّ في الإحصار وفي أكثر من معناه فإن لَهُمَا مَنْعَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْعَدُوِّ وَمُخَالِفُونَ لَهُ فِي أَنَّهُمَا غَيْرُ خَائِفِينَ خَوْفَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي إِحْرَامِهِ تَعْطِيلٌ لِمَا مَلَكَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، فَإِذَا أَحْرَمَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ تَمْكِينُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ، وَيَجُوزَ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِإِحْرَامِهِ، وَتَعْطِيلِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَنَافِعِهِ، فَإِذَا مَنَعَهُ السَّيِّدُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِظُلْمٍ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ الْعَبْدُ بِمَنْعِ السَّيِّدِ، إِذْ هُوَ مَمْنُوعٌ بِحُقٍّ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ سَيِّدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ هَدْيًا، أَوْ لَا يُمَلِّكَهُ. فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ هَدْيًا فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَمُ الْإِحْصَارِ لَا بَدَلَ لَهُ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ أَتَى بِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتَحَلَّلُ الْعَبْدُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ فِي بقائه على إحرامه إضرار بِسَيِّدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لِدَمِ الْإِحْصَارَ بَدَلًا فَبَدَلُهُ هَاهُنَا الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَفِي قَدْرِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَالثَّانِي: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ الشَّاةُ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا، وَيَصُومُ عَنْ لك مُدٍّ يَوْمًا، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حتى يصوم أو يحوز أو يتحلل؟ قيل: يَصُومَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَتَحَلَّلُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ دَمًا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 أَحَدُهُمَا: يَنْحَرُهُ وَلَا يَصُومُ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْقَدِيمِ -: إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ - فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَقَدْ يَكُونُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي تُلْزِمُ الرَّجُلَ، وَهِيَ سِتٌّ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ، فَعَلَيْهَا اسْتِئْذَانُ الزَّوْجِ؛ لِمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ، فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا، فَإِنْ أحرمت بغير إذنه، فهل له منعا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ - حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ -: أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَاجِلًا، وَإِحْرَامُهَا إِنْ كَانَ فَرْضًا فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَعْجِيلِهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا، فَالْفَرَائِضُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَبِالدُّخُولِ فِيهِ صَارَ فَرْضًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا منه وإن كَانَ فَرْضًا، كَمَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَمْنَعَهَا مِنَ الْفَرْضِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْنَا: لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا، فَإِنْ مَنْعَهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، وَتَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهَا، وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ مَكَّنَهَا فَعَلَيْهَا إِتْمَامُ حَجِّهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْإِحْلَالُ مِنْهُ، وَلَا لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا جَازَ أَنْ تَخْرُجَ من ذِي مَحْرَمٍ، أَوْ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ، وَلَا امْرَأَةٍ تَثِقُ بِهَا وَإِنْ كَانَ حَجُّهَا وَاجِبًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا لَا تَخَافُ خَلْوَةَ الرِّجَالِ مَعَهَا، جَازَ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَبِغَيْرِ امْرَأَةِ ثِقَةٍ، وهو خلاف نص الشافعي - رضي الله عنه -. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ، كَسَفَرِ الزِّيَارَةِ وَالتِّجَارَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي شيءٍ مِنْهَا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، كَسَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مالك: يجوز أن تخرج من الْفَرْضِ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تُسَافِرِ امرأةٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أيامٍ إِلَّا وَمَعَهَا أَخُوهَا أَوْ أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أو محرم، وبرواية أبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُسَافِرِ امرأةٌ مَسِيرَةَ يومٍ وليلةٍ إِلَّا مَعَ محرمٍ "، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحُجَّنَّ امرأةٌ إِلَّا مَعَ ذِي محرمٍ "؛ وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا قَطْعُهُ بِغَيْرِ حَرَمٍ كَالْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ، وَلِأَنَّ حَجَّ التَّطَوُّعِ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْفَرْضِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا الْخُرُوجُ فِي التَّطَوُّعِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَإِنْ صَارَ بِالدُّخُولِ فَرْضًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فَرْضًا، وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لمرسلٍ: الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ خفارٍ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ وَيُوشِكُ أَنْ تُفْتَحَ كنوز كسرى بن هرمز ويوشك الرجل سعى يبتغي أن يؤخذ فوجد مَالُهُ صَدَقَةً فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ بِغَيْرٍ خِفَارٍ، وَكُنْتُ فِي الْخَيْلِ الَّتِي أَغَارَتْ على المدائن، حتى فتحوا كنوز كسرة، ووالله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ مِنِ اسْتِقَامَةِ الزَّمَانِ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ بِغَيْرِ خِفَارٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لَكَانَ الزَّمَانُ بِفِعْلِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَحِجُّوا هَذِهِ الذُّرِّيَّةَ، وَلَا تَأْكُلُوا أَرْزَاقَهَا وَتَدَعُوا أَوْبَاقَهَا فِي أَعْنَاقِهَا، فَأَمَرَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَجِّ وَأَنْ لَا يُمْنَعْنَ مِنْهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي إِخْرَاجِهِنَّ ذَا مَحْرَمٍ؛ وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي قَطْعِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنِ الْمُحْرِمُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَاسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادُّعِيَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى امْرَأَةٍ غَائِبَةٍ دَعْوَى، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَبْعَثُ إِلَيْهَا لِيُحْضِرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَبْرُزُ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ بِلَا مَحْرَمٍ فِي حَقٍّ لَا يَتَحَقَّقُ وجوبه عليها، إذا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهَا، فَلَأَنْ يَجِبَ فِي حَقٍّ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهُ عَلَيْهَا أَوْلَى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَمَحْمُولٌ بِدِلَالَتِنَا عَلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ دُونَ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فمحمول وإن صح فمحمول عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْهِجْرَةِ كَمَا أَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ ثُمَّ كَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ التَّطَوُّعَ قد يلزم بالدخول كالفرض إِنْ كَانَ لَازِمًا بِالدُّخُولِ كَالْفَرْضِ فَهُوَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْفَرْضِ، فَيَكُونُ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، كَفَرْقِهِمْ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالتَّطَوُّعِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ، كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَيْسَ لها أن تتحل بِهَذَا الْمَنْعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ مَانِعَهَا إِلَى مُدَّةٍ إِذَا بَلَغَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 انقضت عِدَّتُهَا مَضَتْ فِي حَجِّهَا، فَإِنْ أَدْرَكَتِ الْحَجَّ أَجْزَأَهَا، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ أَحَلَّتْ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَدَمُ الْفَوَاتِ كَالْغَائِبِ سَوَاءٌ، فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الْإِحْرَامِ بِوَفَاةِ زَوْجٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَعَلَيْهَا الْمُضِيُّ فِي إِحْرَامِهَا، وَلَا تَكُونُ الْعِدَّةُ مَانِعَةً لَهَا لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهَا حَاكِمٌ لِأَجْلِ عِدَّتِهَا كَانَتْ كَالْمُحْصَرَةِ حِينَئِذٍ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ وَعَلَيْهَا دَمُ الْإِحْصَارِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَوَيْهِ أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِمَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَنْعُهُ وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَ غَيْرِ الْبَالِغِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِحْرَامُهُ يَنْعَقِدُ كَالْبَالِغِ وَلِوَالِدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَيَفْسَخَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَإِحْرَامُهُ مُنْعَقِدٌ فَإِنْ أراد والده أَنْ يَمْنَعَاهُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ فَرْضًا فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ عَلَيْهِمَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَهَلْ لَهُمَا مَنْعُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُمَا مَنْعُهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " كَالْجِهَادِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يُجَاهِدُ فَقَالَ: " أَلَكَ أَبَوَانِ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ يَتَعَيَّنُ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْلَى فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعَاهُ كَانَ كَالْمُحْصَرِ يَتَحَلَّلُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَمَنْعَهُ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ الْآذِنَ مِنْهُمَا الْأَبُ وَالْمَانِعَ الْأُمُّ مَضَى فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَتَحَلَّلْ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعَ الْأَبُ وَالْآذِنَ الْأُمُّ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِأَبَوَيْهِ وَلَا لِأَحَدُهُمَا مَنْعُهُ مِنَ التَّطَوُّعِ كَمَا لَمْ يُمْكِنْ لهما منعه من الفروض؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ قَدْ صَارَ لَازِمًا فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ". فصل : فأما المولى عليه بالسفه فليس لوليه أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ نَفَقَةَ حَجِّهِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ ": لَمْ يُجْبَرْ وَلِيُّهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا، وَيُقَالُ لَهُ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى إِتْمَامِ حَجِّكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَكَ وَلَا لَكَ أَنْ تُحِلَّ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَلَكَ أَنْ تُحِلَّ بِمَا يُحِلُّ بِهِ الْمُحْصَرُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَفَقَةٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَصَارَ كَالْمَمْنُوعِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 باب الأيام المعلومات والأيام المعدودات (قال الشافعي) رضي الله عنه: " والأيام المعلومات العشر وآخرها يوم النحروالمعدودات ثلاثة أيامٍ بعد النحر (قال المزني) سماهن الله عزوجل باسمين مختلفين وأجمعوا أن الاسمين لم يقعا على أيامٍ واحدةٍ وإن لم يقعا على أيامٍ واحدةٍ فأشبه الأمرين أن تكون كل أيامٍ منها غير الأخرى كما أن اسم كل يومٍ غير الآخر وهو ما قال الشافعي عندي (قال المزني) فإن قيل لو كانت المعلومات العشر لكان النحر في جميعها فلما لم يجز النحر في جميعها بطل أن تكون المعلومات فيها يقال له قال الله عز وجل {سَبْع سَمَوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وليس القمر في جميعها وإنما هو في واحدها أفيبطل أن يكون القمر فيهن نوراً كما قال الله جل وعز في ذلك دليلٌ لما قال الشافعي وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ، وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) {الحج: 28) وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ) {البقرة: 203) فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ الْعَشْرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرُ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ آخَرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ الْمَحْضَةِ وَالْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ مُشْتَرِكٌ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) {الحج: 28) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 قَالَ مَالِكٌ: فَلَمَّا جَعَلَ التَّسْمِيَةَ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَشْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ مِنْهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَمَّا قَالَ: {لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ) {الحج: 28) يَعْنِي: الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ مِنْهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُمَا بِاسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فَإِذَا انْفَرَدَا وَلَمْ يَشْتَرِكَا ثَبَتَ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا جَعَلَ الْعَشْرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَيَّامَ التشريق من المعدودات وقال تعالى: {وَالفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) {الفجر: 3) قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: " وليالٍ عشرٍ " يعني: عشر ذي الحجة " والشفع " يعني: يوم النحر والوتر يعني يوم عرفة فلما جعل في الْعَشْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا وَأَقْسَمَ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَعَرَفَةَ وَهُمَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمَ أَنَّ مَا دَخَلَا فِيهِ مِنَ الْعَشْرِ كُلِّهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وروى ابن أبي حسين بن جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذبحٌ " وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنَ الذَّبْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَلِأَنَّ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمٌ يُسَنُّ فِيهِ رَمْيُ الْجَمَرَاتِ الثلاث فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ كَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَلِأَنَّ مَا دَخَلَ فِي أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ انْتَفَى عَنِ الْآخَرِ كَالْعَاشِرِ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْلُومَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْدُودَاتِ وَكَالثَّالِثَ عَشَرَ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمَعْدُودَاتِ انْتَفَى عَنِ الْمَعْلُومَاتِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَمَا قال تعالى: {سَبْع سَمَواِتٍ طِبَاقاً وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) {نوح: 16) وَلَيْسَ الْقَمَرُ في جَمِيعَهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) (البقرة: 197) وَلَيْسَ الْحَجُّ فِي جَمِيعِهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِهَا وَكَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَتِ الْجُمُعَةُ تُقَامُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا تُقَامُ فِي بَعْضِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الذِّكْرَ عَلَى الْبَهِيمَةِ إِلَى الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالذِّكْرُ عِنْدَنَا يَقَعُ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَسَمَّى اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَبَّرَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ عَلَى مَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا الْمَنَافِعُ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) {الحج: 28) فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا الْمَوَاقِفُ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْمَغْفِرَةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 والثالث: إنها التجارة. فإن قيل فلما ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ قِيلَ: لأم عَلِمَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْمَعْلُومَاتِ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَقَعُ فِيهَا كَالتَّعْرِيفِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالطَّوَافِ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا أَنَّ الْحَجَّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ مِنْ أَجْلِ مَا عُلِمَ فِيهِنَّ مِنَ الْحَجِّ وَسَمَّى الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ مُسْتَوِيَةُ الْأَحْكَامِ فِي الرَّمْيِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالنَّحْرِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَوْمُ النَّحْرِ يَقَعُ فِيهِ النَّحْرُ قِيلَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ فيه؛ لأنه يقع لِمَا يَتَعَلَّقُ الْإِحْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ أَيُّ الْأَيَّامِ أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتُ أَوِ الْمَعْدُودَاتُ؟ قيل المعلومات أشرف لقوله تعالى: {وَالفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) {الْفَجْرِ: 1) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا الْمُعَفَّرُ في التراب ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 باب نذر الهدي (قال الشافعي) رضي الله عنه: " وَالْهَدْيُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَمَنْ نَذَرَ لِلَّهِ هَدْيًا فَسَمَّى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّى وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الإبل والبقر والغنم الأنثى فَصَاعِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْهَدْيِ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ فَأَمَّا غَيْرُ الْوَاجِبِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَضَرْبٌ وَجَبَ بِالنَّذْرِ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هَدْيِ الْإِحْصَارِ، وَالْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ، وَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ إِمَّا لِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ لِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ وَقَد ْ فَصَّلْ نَا جَمِيعَهَا وَذَكَرْنَا حُكْمَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَأَمَّا الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ فَضَرْبَانِ: مُعَيَّنٌ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ. فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ، أَوْ هَذِهِ الشَّاةَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ هَذَا الدِّينَارَ، أَوْ هَذَا الطَّعَامَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَا عَيَّنَهُ فِي نَذْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ أُضْحِيَةً أَمْ لَا فَإِنْ أَرَادَ أن يبدله بغيره ولم يَجُزْ سَوَاءٌ أَبَدَّلَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ فَوْقَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عَيَّنَهُ بِنَذْرٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ هَدْيًا غَيْرَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَوَاتِ مَا رَوَى سَالِمُ بْنِ عَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أهدى بختياً له فَأُعْطِيَ بِهِ ثَلَاثَ مِائَةِ دينارٍ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَهْدَيْتُ بُخْتِيًّا فَأُعْطِيتُ بِهِ ثَلَاثَ مِائَةِ دينارٍ فَأَبِيعُهُ وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهِ بُدْنًا؟ قَالَ: لَا انْحَرْهُ " فَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ أَنْ تَعَيَّنَ فِي النَّذْرِ لَأَذِنَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبُدْنَ أَوْفَرُ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِنَ النَّجِيبِ الَّذِي لَا لحم فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ إِيجَابُهُ بِالنَّذْرِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَصِيرُ بِهِ وَاجِبًا وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: إِمَّا أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِنِيَّتِهِ، فَإِنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ وَجَبَ سَوَاءٌ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ أَمْ لَا وَإِيجَابُهُ بِالْقَوْلِ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ بِنِيِّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن لا يوجد منه غير النية حسب من غير أن يقلد ويشعر أن يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَلَّدُ وَلَا يُشْعَرُ فَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيُهُ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُخْرَجَةَ فِي الْقُرَبِ لَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالضَّحَايَا وَالْعِتْقِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضُمَّ إِلَى نِيَّتِهِ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ هَدْيَ هَذِهِ الْبَدَنَةِ وَيُقَلِّدَهَا وَيُشْعِرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِإِيجَابِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ مَعَ النِّيَّةِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ كَالْقَوْلِ فَوَجَبَتْ بِهِ كَمَا تَجِبُ بِالْقَوْلِ فَهَذَا حُكْمُ الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَضَرْبَانِ: مُطْلَقٌ، وَمُقَيَّدٌ. فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ كَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَا سَمَّاهُ سَوَاءٌ جَازَ أُضْحِيَةً أَمْ لَا حَتَّى لَوْ سَمَّى بَيْضَةً لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا فَإِنْ نَوَى هَدْيَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَدْيًا وَيُطْلِقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِي شَيْءٍ وَلَا يُقَيِّدَهُ لِشَيْءٍ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ قَالَهُ فِي كِتَابِ " النُّذُورِ " إِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَجُوزُ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ مِنْ كَثِيرٍ حَتَّى لَوْ أَهْدَى بَيْضَةً أَوْ تَمْرَةً أَجْزَأَهُ؛ لَأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَنْطَلِقُ عَلَى النَّعَمِ وَغَيْرِ النَّعَمِ لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَّا اللُّغَةُ: فَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهَدِيَّةِ وَالْهَدِيَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالنَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) وَقَدْ يَجِبُ فِي الْجَزَاءِ مَا لَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَدْيًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ: " وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة إِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنَ النَّعَمِ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً وَذَلِكَ الثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَاعِزِ وَالْجَزَعُ مِنَ الضَّأْنِ، فَإِنْ أَهْدَى مَا لَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ إِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَمَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ دُونَ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَمَعْهُودُ الشَّرْعِ فِي الْهَدْيِ مَا يَجُوزُ مِنَ النَّعَمِ فِي الْأَضَاحِيِّ دُونَ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُتْعَةِ وَالْإِحْصَارِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ثُمَّ كَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الْهَدْيِ يُوجِبُ إِخْرَاجَ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً مِنَ النَّعَمِ فَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الْهَدْيِ مِنَ النَّذْرِ فَعَلَى هَذَا أَقَلُّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ شَاةٌ إِمَّا جَذَعٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيٌّ مِنَ الْمَعْزِ فَلَوْ أَخْرَجَ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً فَهَلْ يَكُونُ سُبُعُهَا وَاجِبًا أَوْ جميعها؟ على وجهين: أحدهما: أن يكون جَمِيعَهَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَدَنَةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الشَّاةِ فَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرُهُ بَيْنَهَا وبين ما هو أقل منها موجب لِإِسْقَاطِ الْإِيجَابِ فِي بَعْضِهَا كَالْكَفَّارَاتِ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَاجِبَ سُبُعُهَا دُونَ مَا بَقِيَ مِنْ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا، لِأَنَّ كُلَّ سُبُعٍ مِنْهَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ شَاةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مَا قَابَلَ الشَّاةَ مِنْهَا وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ مَالَا يُنْقَلُ مِنَ الْعَقَارَاتِ فَعَلَيْهِ بَيْعُ ذَلِكَ وَحَمْلُ ثَمَنِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَتَفْرِيقُهُ فِي الْمَسَاكِينِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَيُحْمَلَ عَلَى نِيَّتِهِ، فَإِنْ نَوَى أَنْ يُنْفِقَهُ وَيَصْرِفَ غَلَّتَهُ فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ فَعَلَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ نَوَى أَنْ يُنْفِقَهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مَصْرِفِ غَلَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَهُ وَيَصْرِفَ غَلَّتَهُ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. مَسْأَلَةٌ : قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجزئه الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الجذع فصاعداً ". إِذَا نَذَرَ هَدْيًا مِنَ النَّعَمِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الْهَدْيِ وَقَدْ رَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْدَى مِائَةَ بدنةٍ فِيهَا جملٌ لِأَبِي جهلٍ عَلَيْهِ برةٌ مِنَ فِضَّةٍ وَاسْمُ الْجَمَلِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ دُونَ الْأُنْثَى، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهَدَايَا اللَّحْمُ وَلَحْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي جَوَازِ الْأُضْحِيَةِ كَذَلِكَ في الهدايا. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ دُونَ الْحَرَمِ وَهُوَ مَحِلُّهَا لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {ثُمَّ مَحَلُّهَا إِلَى البَيْتِ الَعِتيقِ} إِلَّا أَنْ يُحْصَرَ فَيَنْحَرَ حَيْثُ أُحْصِرَ كَمَا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحديبية ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ أَوْ لَا يُعَيِّنَ فَإِنْ عَيَّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهُ حَيْثُ عَيَّنَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَيَّنَ نَحْرَهُ فِيهِ حِلًّا أَوْ حَرَمًا، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِمَكَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَهُ بِغَيْرِهَا، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِالْبَصْرَةِ فَإِنْ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أولى وإن نحره بغير الْإِرَاقَةَ وَالتَّفْرِقَةَ لِوُجُودِ الْقُرْبَةِ فِي الْإِرَاقَةِ وَفِي غَيْرِ الْحَرَمِ يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّفْرِقَةَ دُونَ الْإِرَاقَةِ فَلَا يَجُوزُ إِذَا عَيَّنَهُ بِالْبَصْرَةِ أَنْ يُفَرِّقَهُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا لِمَسَاكِينِهَا، فَلَوْ سَاقَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فَأُحْصِرَ دُونَهُ جَازَ أَنْ يَنْحَرَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَكَذَلِكَ مَا سَاقَ مَعَهُ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَدَمِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ، وَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَأُحْصِرَ دُونَ الْحَرَمِ فَنَحَرَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ مَحِلُّ إِحْلَالِهِ فَهَذَا الْكَلَامَ فِي الْهَدْيِ الَّذِي عَيَّنَ مَوْضِعَ نَحْرِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَ نَحْرِهِ بَلْ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ يُوجِبُ هَدْيَ مَا يَجُوزُ أُضْحِيَةً مِنَ النَّعَمِ دُونَ غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ بِمَكَّةَ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُكْمَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ كَحُكْمِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلَُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 33) فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ يُجِيزُ هَدْيَ النَّعَمِ وَغَيْرِهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، لِأَنَّنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نُجْرِيهِ مَجْرَى الصَّدَقَاتِ الَّتِي تَجُوزُ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) فَجَعَلَ شرطاً في الهدي إبلاغه الحرم. مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ وَأَشْعَرَهَا وَضَرَبَ شِقَّهَا الْأَيْمَنَ مِنْ مَوْضِعِ السَّنَامِ بحديدةٍ حَتَّى يُدْمِيَهَا وَهِيَ مستقبلةٌ الْقُبْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ شاةٌ قَلَّدَهَا خربَ الْقِرَبِ وَلَا يُشْعِرُهَا وَإِنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ أَجْزَأْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الْهَدْيُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً فَمِنَ السُّنَّةَ تَقْلِيدُهَا وَإِشْعَارُهَا وَإِنْ كَانَتْ شَاةً فَمِنَ السُّنَّةِ تَقْلِيدُهَا دُونَ إِشْعَارِهَا سَوَاءٌ كَانَ هَدْيَ إِحْصَارٍ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْإِشْعَارُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَالتَّقْلِيدُ سُنَّةٌ إِلَّا فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَفِي الْإِشْعَارِ مُثْلَةٌ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَفِي الْإِشْعَارِ تَعْذِيبٌ لَهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهَدْيِ لَحْمُهُ وَالْإِشْعَارُ يَهْزِلُهُ وَيُفْسِدُهُ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ حَتَّى إِذَا أَتَى ذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 الْحُلَيْفَةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ وَلِأَنَّ فِي الْإِشْعَارِ أَغْرَاضًا مُسْتَفَادَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً كَالْوَسْمِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِالْإِشْعَارِ عَنْ غَيْرِهَا وَلِتُعْرَفَ إِذَا ضَلَّتْ فَيَسُوقُهَا وَاجِدُهَا وَلِيُؤْمَنَ بظهور الإشعار أن يرجع فيها مهدياً وليحتسب اللُّصُوصُ سَرِقَتَهَا وَلِيَتْبَعَهَا الْمَسَاكِينُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا. وَأَمَّا " نَهْيُهُ عَنِ الْمُثْلَةِ " فَإِنَّمَا كَانَ فِي عَامِ أحد سنة ثلاث حِينَ مَثَّلَتْ قُرَيْشٌ بِعَمِّهِ حَمْزَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْعَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ مِنَ الْمُثْلَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ فَمَخْصُوصٌ فِيمَا لَا غَرَضَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْإِشْعَارَ يَهْزِلُهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لا يؤثر فيها بها الْوَسْمُ أَشُدُّ عَلَيْهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ سُنَّةٌ فَالتَّقْلِيدُ هُوَ: أَنْ يُقَلِّدَهَا بِالْحِبَالِ الْمَفْتُولَةِ مِنَ الْمَسَدِ وَغَيْرِهِ وَيُشَدُّ فِيهِ نَعْلٌ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ جِرَابٍ أَوْ قِرْبَةٍ. وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ: أَنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ بِحَدِيدَةٍ حَتَّى يَدْمَى. وَقَالَ مَالِكٌ: وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُشْعِرُهَا فِي سَنَامِهَا الْأَيْسَرِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتِ الدَّمَ عَنْهَا ثُمَّ قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِشْعَارَ عَلَى التَّقْلِيدِ لِحَدِيثِ ابن عباس وتختار أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ عِنْدَ إِشْعَارِهَا وَتَقْلِيدِهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا فَعَلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ سَنَامٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أشعر موضع سنامها، فأما الغنم تراجع فيقلدها فِي أَعْنَاقِهَا بِنَعْلٍ أَوْ قِطْعَةٍ مِنْ شَنٍّ وَلَا يُشْعِرُهَا؛ لِأَنَّهَا تَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَعْقِدِ الْإِحْرَامَ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَلَبَّى صَارَ مُحْرِمًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عباسٍ أَنَا قَلَّدْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَى نَحَرَ الْهَدْيَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 مسألة: (قال) : " وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي الْبَدَنَةِ الْوَاحِدَةِ وفي البقرة كذلك وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البدنة بالحديبية عن سبعةٍ والبقرة عن سبعةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ السَّبْعَةِ فِي الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ سَوَاءٌ كَانُوا مُقَرِّبِينَ قُرَبًا مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ تَطَوُّعًا جَازَ وَإِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ مُتَقَرِّبِينَ جَازَ، تَطَوُّعًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ لَمْ يَجُزْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَبَحَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً بَيْنَهُنُّ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَشْتَرِكُ السَّبْعَةُ فِي بدنةٍ أَوْ بقرةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنَةٍ جَازَ أَنْ يُهْدِيَهَا الْوَاحِدُ جَازَ أَنْ يُهْدِيَهَا الْجَمَاعَةُ كَالْمُتَطَوِّعِينَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أبي حنيفة رِوَايَةُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال علي بدنةٌ وأنا موسرٌ وَلَا أَجِدُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اذْبَحْ سَبْعَ شياهٍ فَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَدَنَةَ وَسَبْعَ الشِّيَاهِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً كَانَ كُلَّ سبعٍ مِنْهَا بِإِزَاءِ شَاةٍ فَلَمْ يَضُرَّ اخْتِلَافُ جِهَاتِهِمْ، وَلِأَنَّ كُلَّ هَدْيٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ فِي وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَقَرِّبِينَ إِذَا كَانَتْ وُجُوهُ قُرَبِهِمْ مُخْتَلِفَةً. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اشْتِرَاكِ السَّبْعَةِ فِي الْبَدَنَةِ فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِيهَا نَظَرْتَ فِي أَحْوَالِهِمْ فإنها لا تخلوا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّبِينَ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا ذَبَحُوهَا وَنَوَوْا بِهَا الْوَاجِبَ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَذْبُوحًا فَإِذَا قَبَضُوهُ مُشَاعًا جَازَ أَنْ يتصرفوا فيه كيف شاؤوا وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَإِنْ دَفَعُوهُ إِلَى أحد وَعِشْرِينَ فَقِيرًا لِيَكُونَ كُلُّ سَبْعٍ مِنْهَا مَدْفُوعًا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَجْزَأَ وَإِنْ دَفَعُوهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَإِنْ قَصَدُوا أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ كَفَّارَةٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهَا وَإِنْ أَطْلَقُوهُ لَمْ يَجُزْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وَالْقِسْمُ الثُّانِي: أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّبِينَ عَنْ وَاجِبٍ وَتَطَوُّعٍ فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمُتَطَوِّعُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا خَلَّوْا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ مَذْبُوحَةً عَلَى مَا مَضَى فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَطَوِّعُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ تَطَوُّعِهِ شَيْئًا خلا الْمُعْتَرِضُونَ بَيْنَ حِصَصِهِمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ هَذَا الْمُتَطَوِّعُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ حِصَّتَهُ لَحْمًا فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَقَرِّبًا أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ مُشَاعَةً إِلَى ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ وَيَكُونَ مَنْ أَرَادَ حِصَّتَهُ لَحْمًا شَرِيكًا لَهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَإِذَا أَرَادُوا قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقِسْمَةَ إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَ أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ لَحْمًا طَرِيًّا وَزْنًا وَجُزَافًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ جُزَافًا وَلَا وَزْنًا وَالطَّرِيقُ إِلَى قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَحْمًا يَابِسًا ثُمَّ يَقْتَسِمُوهُ وَزْنًا، وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْحَالِ سَبْعَ حِصَصٍ وَيَأْتِيَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى حِصَّتِهِ مِنْهَا فَيَشْتَرِيَ مِنْ شُرَكَائِهِ حَقَّهُمْ مِنْ تِلْكَ الْحِصَّةِ بِدِرْهَمٍ مَعْلُومٍ فَتَصِيرَ الْحِصَّةُ كُلُّهَا لَهُ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَا لِشُرَكَائِهِ فِيهَا ويفعل كل واحد مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَتَصِيرَ كُلُّ حِصَّةٍ لِوَاحِدٍ وَعَلَيْهِ لِشُرَكَائِهِ ثَمَنُ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا ثُمَّ يُبَرِّئَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي شَاةٍ عَنْ قِرَانٍ أَوْ تَمَتُّعٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقِرَانِهِ شَاةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شَاةٍ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ وَيَكُونُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الشَّاةِ تَطَوُّعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ شَاةٍ وَيَكُونُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ وَاجِبًا فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْرِجًا لِشَاةٍ مُنَصَّفَةٍ مِنْ شَاتَيْنِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَاقَةً فَنَتَجَتْ سِيقَ مَعَهَا فَصِيلُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا سَاقَ الْمُحْرِمُ هَدْيًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنْ سَاقَهُ حَتَّى إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ فَهَذَا الْهَدْيُ عَلَى مِلْكِهِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ بدنة فنتجت فصيلاً أو شاة فَنَتَجَتْ جَدْيًا كَانَ النَّتَاجُ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجِبَهُ بِالنَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَتَصِيرَ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ تَعَلُّقٌ بِذِمَّتِهِ فَهَذِهِ الْبَدَنَةُ قَدْ خَرَجَتْ مَنْ مِلْكِهِ بالنذر وصارت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 مَلِكًا لِلْمَسَاكِينِ وَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ فَإِنْ نَتَجَتْ فِي الطَّرِيقِ لَزِمَهُ أَنْ يَسُوقَ النَّتَاجَ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا كَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا أُعْتِقَتْ فإن كان النتاج لا يبلغ بنفسه حَمَلَهُ عَلَى أُمِّهِ فَإِنْ غَابَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَجْزَأَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ مَعِيبًا، لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهُمْ بِذِمَّتِهِ ضَمَانٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُعَيِّنَهُ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ هَدْيٌ وَاجِبٌ فَيَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ عَمَّا عَلَيَّ وَفِي ذِمَّتِي مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَهْدِيَهَا بِعَيْنِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِغَيْرِهَا كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَمَّا عَلَيَّ لَزِمَهُ عِتْقُهُ وَلَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ تَعْيِينُ هَذِهِ الْبَدَنَةِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَسَاكِينِ سَالِمَةً أَجْزَأَتْهُ وَإِنْ عَابَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُهْدِيَهَا مَعِيبَةً عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَ سَلِيمَةً بَدَلَهَا لِتُكُونَ نَائِبَةً عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا بَعْدَ عَيْبِهَا وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَتْ قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ سَلَامَتِهَا قَدْ كَانَتْ تُجْزِئُهُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فَإِذَا عَابَتْ زَالَ عَنْهَا مَعْنَى الْإِجْزَاءِ فَزَالَ عَنْهَا مَعْنَى الْوُجُوبِ فَلَوْ كَانَتْ عَلَى سَلَامَتِهَا فَنَتَجَتْ فَصِيلًا فَهَلْ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسُوقَهُ مَعَهَا أَوْ يَكُونُ مَلِكًا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسُوقَهُ مَعَهَا لِأَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّعْيِينِ فَوَجَبَتْ أَنْ لَا يَمْلِكَ نَتَاجَهَا كَالَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ بِالنَّذْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ سَوْقُهُ كَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حَقِّ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِيهَا إِذْ قَدْ تَعَيَّنَتْ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ فِيهَا فَلَمْ يَكُنِ النَّتَاجُ تَابِعًا لَهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا لَبَنُ الْهَدْيِ فَلَيْسَ لَهُ شُرْبُهُ وَلَا سَقْيُ أَحَدٍ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ رَيِّ فَصِيلِهَا فَإِذَا ارْتَوَى الْفَصِيلُ مِنْ لَبَنِهَا جَازَ أَنْ يَشْرَبَهُ وَيَسْقِيَ النَّاسَ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّبَنِ والنتاج حيث جاز أن تشرب اللَّبَنَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكَلَ النَّتَاجُ وَكُلَاهُمَا حادث منها؟ قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اللَّبَنَ يستخلف مَعَ الْأَوْقَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّتَاجُ. وَالثَّانِي: إِنَّ في تبقية اللبن إلى بلوغ محله فساد لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّتَاجُ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَرْكَبُ الْهَدْيَ إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ رُكُوبًا غَيْرَ قَادِحٍ وَيُحْمَلُ الْمُضْطَرُّ عَلَيْهَا لِرِوَايَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: " ارْكَبْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا " وَكَذَلِكَ لَوْ رَكِبَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ جَازَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا لِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بدنةٌ فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ " فَلَوْ رَكِبَهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَأَعْجَفَهَا غُرِّمَ قيمة ما نقصها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُنْحَرُ الْإِبِلُ قِيَامًا مَعْقُولَةً وَغَيْرَ معقولةٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَحَرَهَا بَارِكَةً وَيُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ في الإبل أن تنحر في لبتنها قِيَامًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: تُنْحَرُ بَارِكَةً. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوافَّ) {الحج: 36) وَقَرَأَ الْحَسَنُ صَوَافِيَ يَعْنِي قِيَامًا عَلَى ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) {الحج: 36) يَعْنِي: سَقَطَتْ جُنُوبُهَا، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا نُحِرَتْ قِيَامًا؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ مِنِ قِيَامٍ وَيُخْتَارُ أَنْ تُعْقَلَ يَدُهَا الْيُسْرَى لِتَقُومَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ بَدَنَةً قِيَامًا مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى فَإِنْ نَحَرَهَا بَارِكَةً أَجْزَأَهُ. فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَالسُّنَّةُ فيها أن يذبحها في حلقهما مَضْجُوعَةً عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ فَإِنْ ذَبَحَهَا قَائِمَةً أجزأ وقد أساء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ ذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَكَرِهْتُهُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أن السنة في الإبل نحرها في اللبة وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ذَبْحُهَا فِي الْحَلْقِ فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَقَدْ أَسَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ نَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ جَازَ وَإِنْ ذَبَحَ الْإِبِلَ لَمْ يَجُزْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُعْقَرَ الْإِبِلُ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) وَالتَّذْكِيَةُ فِي كَلَامِهِمُ: الْقَطْعُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ نَحْرُهُ جَازَ ذَبْحُهُ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ذَكَاةً فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ ذَكَاةً فِي الْإِبِلِ كَالنَّحْرِ، فَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ عَقْرِ الْإِبِلِ فَإِنَّمَا خُرِّجَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ عَقْرِ الْإِبِلِ فِي أَرْجُلِهَا قَبْلَ نَحْرِهَا، فَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ بِعَقْرٍ وَإِنَّمَا هو ذكاة والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا نَحَرَهُ بَعْدَ مَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ حَاجًّا نَحَرَهُ بَعْدَ مَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ شَاءٍ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السُّنَّةُ فِي نَحْرِ الْهَدْيِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا نَحَرَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ بَعْدَ سَعْيِهِ وَقَبْلَ حِلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَإِنْ كَانَ حَاجًّا نَحَرَهُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِحْلَالِهِ الْأَوَّلِ مِنْ حَجِّهِ فَلَوْ نَحَرَ الْمُعْتَمِرُ بِمِنًى وَنَحَرَ الْحَاجُّ عِنْدَ الْمَرْوَةِ أَوْ نَحَرَا مَعًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَوْ فِي سَائِرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُمَا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ الْمُعْتَمِرَ أَنْ يَنْحَرَ إِلَّا عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَلَا الْحَاجَّ أَنْ يَنْحَرَ إِلَّا بِمِنًى. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَرَفَةُ كُلُّهَا موقفٌ وَمَزْدَلِفَةُ كُلُّهَا موقفٌ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وفجاجٌ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ "، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْحَرَمِ فَجَازَ نَحْرُ الْهَدْيِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مِنًى فِي الْحَجِّ والمروة في العمرة. فَصْلٌ : فَأَمَّا زَمَانُ النَّحْرِ فَالْهَدْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: أحدها: أن يكون وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عن نذر من غير تعلق بالذمة. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا. فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ كَدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ جُبْرَانًا فِي الْحَجِّ فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَنْحَرَهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهَا فَإِنْ نَحَرَهَا قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ أَجْزَأَ وَكَانَتْ تَعْجِيلًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ قَالَ إِنَّ عَلَى النَّاسِ فَرْضَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَبْدَانِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ وَفَرْضٌ مِنَ الْأَمْوَالِ فَيَكُونُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْهَدْيُ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَنْحَرَهُ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنْ نَحَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالضَّحَايَا وَإِنْ كَانَ هَذَا الْهَدْيُ واجباً عن نذر تعين فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ إِلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمُخْتَصَرِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَحَرَهُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ منها تطوعاً أكل منها لقول الله جل وعز {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} وأكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَأَطْعَمَ وَكَانَ هَدْيُهُ تَطَوُّعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْهَدَايَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ وَجَبَ فِي الْحَجِّ جُبْرَانًا، وَضَرْبٌ وَجَبَ نَذْرًا، وَضَرْبٌ سَاقَهُ تَطَوُّعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 فَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ جُبْرَانًا وَهُوَ: مَا وَجَبَ لِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز أن يأكل من دمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَهُ دَمُ نُسُكٍ لَا جُبْرَانٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَمِيعِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ إِلَّا مِنْ دَمَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُمَا وَهُمَا جَزَاءُ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ نَقِيسُ مَا خَالَفُوا فِيهِ عَلَى مَا أَجْمَعُوا هَاهُنَا عَلَيْهِ فَنَقُولُ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَتْ إِرَاقَتُهُ في الحج فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ؛ وَلِأَنَّ الدَّمَ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ فِي الْإِحْرَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَالطَّعَامِ يَعْنِي: الْحِنْطَةُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ فَأَكَلَ كَانَ ضَامِنًا له وفي كيفية ضمانه ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ وَرِقًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قيمته. والوجه الثاني: عليه بقدر وَزْنَهُ لَحْمًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَلَيْهِ وَأَسْهَلُ وَأَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا أَكَلَهُ مِنَ اللَّحْمِ كَمْ هُوَ مِنَ الْهَدْيِ أَنِصْفٌ أَمْ ثُلْثٌ؟ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَذْرًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ سَلِمَ مَالِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَهَذَا لَا يجوز أن يأكل منه؛ لأنه جاري مَجْرَى الْبَدَلِ فَشَابَهَ الْجُبْرَانَ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وإنما هو تبرر: أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِ الْمُجَازَاةِ وَهَلْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ كَالنَّذْرِ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالتَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) {الحج: 28) وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهدى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 مائة بدنةٍ فقدم علي رضوان الله عليه من الْيَمَنِ فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالثُّلْثِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سِتًّا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا فَنَحَرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ جزورٍ بِنِصْفِهِ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَا مِنَ اللَّحْمِ وَحَسَوْا مِنَ المرقِ " فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ مِنْهُ فَيَكُونَ أَكْلُهُ مُبَاحًا وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ وَاجِبًا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ مُبَاحٌ كَالْأَكْلِ فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا جاز وقال أبو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: الْأَكْلُ وَاجِبٌ كَإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ فَإِنْ أَطْعَمَ جَمِيعَهُ الْفُقَرَاءَ لَمْ يَجُزْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَكْلَ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدْيِ الْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَةُ فِي إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ دُونَ أَكْلِهِ فِي نَفْسِهِ. فَإِذَا ثبت هذا فالكلام بعد ذلك في فعلين: أَحَدُهُمَا: فِي الِاسْتِحْبَابِ. وَالثَّانِي: فِي الْإِجْزَاءِ، فَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فِي قَدْرِ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَأْكُلُ وَيَدَّخِرُ الثُّلُثَ وَيُهْدِي إِلَى الْمُتَحَمِّلِينَ الثُّلُثَ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِالثُّلُثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَر} (الحج: 36) فاقتضى فجعله مشتركاً بينه وبين القانع والمعتر أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الَذِي يَقْتَنِعُ بِمَا أَخَذَهُ وَلَا يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَذِي يَعْتَرِيكَ بِالسُّؤَالِ وَهُوَ الْمُلِحُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَدَّخِرَ النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقَ عَلَى المساكين بالنصف لقوله تعالى: {فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) {الحج: 28) . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي قَدْرِ الْجَائِزِ فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ إِلَّا رِطْلًا وَاحِدًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ إِلَّا رِطْلًا وَاحِدًا أَكَلَهُ أجزأه وإن تصدق بجميعه ولم يأكل شيء مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهُ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ ضَامِنًا وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ مِنْهُ قَدْرَ الْجَائِزِ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهُ قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ وَفِي قَدْرِ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ. وَالثَّانِي: الثُّلُثُ، ثُمَّ إِذَا لَزِمَهُ ضَمَانُ قَدْرٍ مِنْهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَضَتْ. مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا عَطِبَ مِنْهَا نَحَرَهَا وَخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 الْمَسَاكِينِ وَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا كَانَ وَاجِبًا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا شَيْئًا فَإِنْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَمَا عَطِبَ مِنْهَا فعليه مكانها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْهَدْيِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فَأَمَّا إِذَا عَطِبَ فِي طَرِيقِهِ وَضَعُفَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ بِمَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ كَدِمَاءِ الْحَجِّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَالنَّذْرِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَغْمِسَ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ وَيَضْرِبَهَا عَلَى صَفْحَتِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ وَيُنَادِيَ فِيهِمْ بِإِبَاحَتِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا رَوَى سِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالنَّذْرِ ثُمَّ يَقُولُ إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثم اغمس نعلك في دمها ثم اضربه صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أحدٍ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ فَإِذَا فَعَلَ بِالْهَدْيِ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ النَّحْرُ وَغَمْسُ نَعْلَيْهِ بِدَمِهِ وَالنِّدَاءُ عَلَيْهِ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَغْنِيَاءِ أَهْلِ رُفْقَتِهِ، فَأَمَّا فُقَرَاءُ رُفْقَتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لا يجوز لهم أن يأكلوا أشياء مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أحدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ " وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا فُقَرَاءُ رُفْقَتِهِ لِأَنَّ بِحُصُولِهِمْ بِالْمَوْضِعِ قَدْ صَارُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ السُّنَّةِ الْمَرْوِيَّةِ وَيُبْطِلُهُ مَعْنَى النَّهْيِ فِي الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ فِي أَكْلِهِ لَجَازَ أَنْ يَتَوَصَّلُوا إِلَى عَطَبِهِ لِيَتَعَجَّلُوا اسْتِبَاحَةَ أَكْلِهِ فَإِذَا مُنِعُوا مِنْ أَكْلِهِ عِنْدَ عَطَبِهِ كان ذلك داعية حفاظه وَسَبَبَ الِاحْتِيَاطِ فِي إِبْلَاغِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ كَانَ ضامناً لقدر ما أكل وعليه إبلاغ مَا ضَمِنَهُ الْحَرَمَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ الْحَرَمَ بِخِلَافِ الْهَدْيِ الَّذِي قَدْ عَطِبَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ الْحَرَمَ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ مِنْهُ وَفَعَلَ بِهِ الْأَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ فَلَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ حَتَّى تَغَيَّرَ أَوْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَمْكِينَ أَهْلِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى نَحْرِهِ فَلَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى هَلَكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَغَرَامَةُ مَثْلِهِ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَحْرِهِ حَتَّى مَاتَ بِعَجَلَةِ هَلَاكِهِ وَسُرْعَةِ مَوْتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إن نحره وخلا بينه وبين المساكين وإباحة أَكْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْبُغَ نَعْلَيْهِ بِدَمِهِ أجزأه واستباح المساكين أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 يَأْكُلُوهُ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قرطٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يوم القر وقرت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدناتٍ خمسٍ أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها فلما وجبت جنوبها قال كلمةً خفيفةً لم أفهمها فسألت بعض من يليني ما قال: قالوا قَالَ: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ " فَأَمَّا إِنْ نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ وَضَرَبَهَا عَلَى صَفْحَتِهِ وَلَمْ يُنَادِ فِي النَّاسِ بِهِ وَلَا أَعْلَمَهُمْ بإباحته فهل يجزئه وتستبيح النَّاسُ بِذَلِكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ هَذِهِ عَلَامَةٌ يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ بِهَا كَالنِّدَاءِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَأْكُلُوهَا فَلَا ضَمَانَ عليه. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَيْسَتْ هَذِهِ عَلَامَةً يُسْتَبَاحُ بِهَا الْأَكْلُ إِلَّا بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي تَطَوُّعٍ يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْتَبِيحُ النَّاسُ أَكْلَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ إِلَّا بِالنِّدَاءِ فعلى هذا وإن لَمْ يَأْكُلْهُ النَّاسُ حَتَّى هَلَكَ أَوْ تَغَيَّرَ ضمانه لمساكين الحرم، فأما حلال الهدي التي عليها فعليه أيضاً لها إِلَى الْحَرَمِ وَتَفْرِيقُهَا فِي مَسَاكِينِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلِمَا رَوَى ابْنُ أَبَى لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أُقَسِّمَ جِلَالَهَا وَجُلُودَهَا وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ وَأَلَّا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا، فهذا حكم هدي التطوع إذا أعطب في طريق فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ وَقَدْ فَعَلَ فِيهَا مَا أُمِرَ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ كَدِمَاءِ الْحَجِّ فَيُعَيِّنَهُ فِي هَدْيٍ بِعَيْنِهِ فَيَقُولُ: هَذَا عَمَّا عَلَيَّ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ أَوِ الْقِرَانِ فَإِنْ عَطِبَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ فَقَدْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ وَجَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ نحره كان لحماً على ملكه أن يَأْكُلُ مِنْهُ إِنْ شَاءَ وَيُطْعِمُ مِنْهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَبِيعُهُ إِنْ شَاءَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالتَّعْيِينِ لِيَكُونَ مُسْقِطًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا غَابَ لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ بِالتَّعْيِينِ كَرَجُلٍ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَتِي فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ فِي كَفَّارَتِهِ فَإِنْ غَابَ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَدَلِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ بَاقٍ لِحَالِهِ فَإِذَا أَخْرَجَ بَدَلَهُ نَظَرَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ بِتَعْيِينِ الْأَوَّلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي الْأَوَّلِ قَدْ أَبْطَلَ وُجُوبَهُ فَسَقَطَ حُكْمُهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَالنَّذْرِ إِذَا تَعَيَّنَ فِي هَدْيٍ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ فَإِذَا عَطِبَتْ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهَا مَحِلَّهَا فَهَلْ عَلَيْهِ بَدَلُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ وِجْهَتَيْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا النَّذْرِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَجْرَيْتَ عَلَيْهِ حُكْمَ هَدْيِ التَّطَوُّعِ فَإِذَا عَطِبَ دون محله نحره في موضعه وخلا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسَاكِينِ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَدَلِهِ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ عِنْدَ بُلُوغِ مَحِلِّهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَحْرُهُ وَإِنْ نَحَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَذَلِكَ إِذَا نَذَرَ هَدْيًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْهَدْيِ إِذَا نَذَرَهُ وَالْعَبْدِ إِذَا نَذَرَ عِتْقَهُ سَوَاءٌ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ: إِذَا نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ، وَلَوْ نَذَرَ هَدْيًا فَقَتَلَهُ لَزِمَهُ بَدَلُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ قَدْ تَعَلَّقَ بنذر الهدي فلزمه وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعِتْقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : إِذَا سَاقَ الْمُحْرِمُ هَدْيًا فَضَلَّ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ فِي عُمْرَةٍ انْتَظَرَ بِهِ أَبَدًا فَإِنْ وَجَدَهُ نَحَرَهُ وَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ تَرَبَّصَ بِهِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ نَحَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُعْتَمِرُ ذَلِكَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَلَا وَجَدَ الْحَاجُّ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَهَلْ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بَدَلًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ بَدَلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَضِلُّ بِتَفْرِيطٍ مِنْ سَائْقِهِ وَإِنْ خَفِيَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ الضَّحَايَا، لَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ وَهُوَ بِالْمَوْتِ غَيْرُ مَرْجُوٍّ فَإِذَا ضَلَّ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الضَّلَالِ مَرْجُوٌّ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْدَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ نَحَرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ فَلَا يَعُودُ فِي مِلْكِهِ أَبَدًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ إِلَى شَيْءٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَجَّتْ فَأَهْدَتْ بَدَنَتَيْنِ وَقَلَّدَتْهُمَا فَضَلَّتَا فَاشْتَرَتْ مَكَانَهُمَا فَقَلَّدَتْهُمَا ثم وجدت الأولتين قَالَ فَنَحَرَتْهُنَّ أَرْبَعَتَهُنَّ فَكَانَتْ كُلَّمَا حَجَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْدَتْ أَرْبَعًا مِنَ الْبُدْنِِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الْبُيُوعِ بَابُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ وَسُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيه (قال الشافعي) : قال الله وجل عز: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بُيُوعٍ تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ اسْتَدْلَلْنَا أَنَّ الله وجل عز أَحَلَّ الْبُيُوعَ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الْبُيُوعِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقولُهُ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ التِّجَارَةِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. أَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْلًا وَفِعْلًا: أَمَّا الْقَوْلُ: فَمَا رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ فَمَرَّ بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فشوِّبوه بالصدقة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا مَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا، وَمَا يَحْرُمُ، قَالَ: " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ". فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ؟ قَالَ: " بَلَى وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ وَيَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ ". وَرَوَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا خَيْرَ فِي التِّجَارَةِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَمْدَحْ بَيْعًا، وَلَمْ يَذُمَّ شِرًى، وَكَسَبَ حَلَالًا فَأَعْطَاهُ فِي حَقِّهِ، وَعَزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْحَلِفَ ". وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ وَالْجُزْءُ الْبَاقِي فِي السَّبَايَا "، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: السَّبَايَا: النِّتَاجُ. وَأَمَّا الْفِعْلُ: مِنْ بُيُوعِهِ الَّتِي عَقَدَهَا بِنَفْسِهِ فَكَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى عَدَدًا، غَيْرَ أنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِأَحْكَامٍ، مُسْتَفَادَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ حِمْلَ خَبَطٍ، فَلَمَّا وَجَبَ الْبَيْعُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اخْتَرْ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: عَمَّرَكَ بَيْعًا. وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ، فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ، فَقَالَ لِلْوَزَّانِ: " زِنْ وَأَرْجِحْ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرٍ عَلَى جَمَلٍ إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَعْطَيْتُهُ، فَنَخَسَهُ وَزَجَرَهُ، فَكَانَ فِي أَوَّلِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: " بِعْنِيهِ " قُلْتُ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " بَلْ بِعْنِيهِ " قَالَ: " قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ولك ظهره حتى نأتي الْمَدِينَةَ "، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا بِلَالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ " فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَقِيرَاطًا زَادَهُ، قَالَ جَابِرٌ: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاعَ لِرَجِلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَا فَقْرًا قَدَحًا وحِلسا بِدِرْهَمَيْنِ فِيمَنْ يَزِيدُ. وَأَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ: فَظَاهِرٌ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ بِجُمْلَتِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ، حَتَّى أَنَّ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ ارْتَسَمُوا بِهِ وَنَدَبُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ، فَرُوِيَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَزِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الطَّعَامِ وَالْأَقِطِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَرُوِيَ عَنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا فِي الْعِطْرِ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَفَرَّدَ بِجِنْسٍ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَلَبَ فِي جَمِيعِ صُنُوفِهَا كَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَدَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ. فَصْلٌ: فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] أَمَّا قَوْلُهُ: {لا تَأْكُلُوا} فَمَعْنَاهُ: لَا تَأْخُذُوا، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] أَيْ: يَأْخُذُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْوَالَكُمْ} فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ مَالَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَأْخُذَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي الْمَحْظُورَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ} فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصْرِفَ فِي الْمَحْظُورَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤْخَذُ بِالِانْتِهَابِ وَالْغَارَاتِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِلِ التِّجَارَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلا أن تكون تجارة} . فَلَفَظُ إِلَّا مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا: لَكِنْ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنْ كُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً، لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى: إِلَّا: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى: الْوَاوِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَكُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أَيْ وَاللَّهُ لَفَسَدَتَا. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: (وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ) أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ أَيْضًا سَيَفْتَرِقَانِ، وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ لَقَالَ: إِلَّا الْفَرْقَدَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى إِلَّا، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالتِّجَارَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مريم: 62] وَلَيْسَ السَّلَامُ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 وقال تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحجر: 30] وَلَيْسَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وَتَعَالَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ) وَالْأَنِيسُ: النَّاسُ. وَالْيَعَافِيرُ: حمير الْوَحْشِ، وَقِيلَ: الظِّبَاءُ، وَاحِدُهَا يَعْفُورٌ مَقْلُوبُ أَعْفَرَ. وَالْعِيسُ: الْإِبِلُ. وَاسْتَثْنَى الْحَمِيرَ وَالْإِبِلَ مِنْ جُمْلَةِ الناس. وقال النابغة الذبياني: (وقفت فيها أُصيلالا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَلَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ) (إِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلِدِ) فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالرَّبْعِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُهُ إِلَّا الْأَوَارِيَّ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: الْأَوَارِيُّ: هِيَ الْمَعَالِفُ. وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: هِيَ الْحِبَالُ الْمَمْدُودَةُ يُشَدُّ عَلَيْهَا الدَّوَابُّ، وَهُوَ جَمْعٌ واحدة أَوْرَى. فَصْلٌ: فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَعَانِيَ الْآيَةِ مُسْتَوْفَاةً جَمِيعَهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ بِكَلَامٍ وَجِيزٍ، فَقَالَ: احْتَمَلَ إِحْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ كُلَّ بَيْعٍ تَبَايَعَهُ مُتَبَايِعَانِ جَائِزًا الْأَمْرَ فِيمَا يَتَبَايَعَاهُ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ مَعْنَى مَا أَرَادَ. فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي أَحْكَمَ فَرْضَهَا فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ كَيْفَ هِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَرَادَ بِإِحْلَالِهِ مِنْهُ وَمَا حَرَّمَ، أَوْ يَكُونُ دَاخِلًا مِنْهُمَا، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أَبَاحَهُ إِلَّا مَا حُرِّمَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - ثُمَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 قَالَ: وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ، فَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ خَلقه، بِمَا فَرَضَ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَنَّ مَا قِيلَ عَنْهُ فَعَنِ اللَّهِ قِيلَ، لِأَنَّهُ بِكِتَابِ اللَّهِ قِيلَ فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ عُمُومٍ يَتَنَاوَلُ إِبَاحَةَ كُلِّ بَيْعٍ إِلَّا مَا خصَّهُ الدَّلِيلُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نهى عن بيّاعات كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَى بَيَانِ الْجَائِزِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ إِلَى بَيَانِ فَاسِدِهَا مِنْهُ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ شَمِلَتْ إِبَاحَةَ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا، فَاسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا. فَعَلَى هَذَا هَلْ هِيَ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ؟ أَوْ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ وَإِنْ دَخَلَهُ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّ الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ وَإِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَقَلُّ، وَالْعُمُومُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيَانَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ، وفيما أريد به العموم متأخر عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مُقْتَرِنٌ بِهِ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى إِبَاحَةِ الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ عُمُومِهَا. فَصْلٌ: الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لَا يُعْقَلُ مِنْهَا صِحَّةُ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنَ السُّنَّةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ: هُوَ أَنَّ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَا يَجُوزُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْجَائِزُ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا نَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا؟ لِتَعَارُضٍ فِيهَا أَوْ هِيَ مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا لِتَعَارُضٍ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا، وَقَوْلُهُ: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُتَفَاضِلًا، فَصَارَ آخِرُهَا مُعَارِضًا لِأَوَّلِهَا، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِنَفْسِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ مِنْ غَرَرٍ، وَمَعْدُومٍ، وَغَيْرِهِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَصَارَتِ السُّنَّةُ مُعَارِضَةً لَهَا، فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا بِغَيْرِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ بِنَفْسِهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي صِيغَةِ لَفْظِهَا وَفِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا؟ أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَا دُونَ صِيغَةِ لَفْظِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ، اسْمٌ لُغَوِيٌّ لَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَمَعْنَاهُ مَعْقُولٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ بِإِزَائِهِ مَا يُعَارِضُهُ تَدَافَعَ الْعُمُومَانِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا إِلَّا بالسنة، صارا مُجْمَلَيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْكِلُ الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَصَارَ مُضَمَّنًا بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً فِي اللُّغَةِ، خَرَجَ اللَّفْظُ بِالشَّرَائِطِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ شَرَائِطُ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ له في اللغة معاني مَعْقُولَةٌ، كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ بِشَرَائِطَ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةٌ فِي اللغة، وإن كان فيها معاني مَعْقُولَةٌ فِي اللُّغَةِ كَالْخُضُوعِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ، فَكَذَلِكَ لَفَظُ الْبَيْعِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ مِنْ فَسَادِهِ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى إِبَاحَةِ الْبَيْعِ فِي أَصْلِهِ. وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ، حَيْثُ جَازَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرَةِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْمُجْمَلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فصل: والقول الثالث: أنه داخل فيهما جميعا، فيكون عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ، وَمُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ دُخُولِ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُمُومَ فِي اللَّفْظِ وَالْإِجْمَالَ فِي الْمَعْنَى. فَيَكُونُ اللَّفْظُ عُمُومًا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ، وَالْمَعْنَى مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعُمُومَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الربا} فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَآخِرُهَا مُجْمَلًا لَحِقَهُ التَّفْسِيرُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُجْمَلًا، فَلَمَّا بينه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَارَ عَامًّا. فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَفِي الْعُمُومِ بَعْدَ الْبَيَانِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْقَوْلِ الثَّانِي. فَصْلٌ: وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ بَيْعًا مَعْهُودًا، وَنَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بُيُوعًا وَحَرَّمَ بُيُوعًا، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البيع} يَعْنِي: الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ مِنْ قَبْلُ، وَعَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ، فَتَرَتَّبَ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ، وَتَنَاوَلَتِ الْآيَةُ بَيْعًا مَعْهُودًا. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الله تعالى قال: {وأحل الله البيع} فَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا لِجِنْسٍ، أَوْ مَعْهُودٍ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجِنْسُ مُرَادًا، لِخُرُوجِ بَعْضِهِ مِنْهُ، ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مُرَادٌ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعٍ وَلَا فَسَادِهِ، بَلْ يَرْجِعُ فِي حُكْمِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السنة التي عرف بِهَا الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الْفَاسِدَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْمَلِ: فَهُوَ أَنَّ بَيَانَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْبُيُوعِ وَأَمَرَ بِهِ سَابِقٌ لِلْآيَةِ. وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ مُقْتَرِنٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَقَعُ بِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومِ: فَأَحَدُهُمَا: مَا مَضَى مِنْ تَقْدِيمِ الْبَيَانِ فِي الْمَعْهُودِ، وَاقْتِرَانِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِالْعُمُومِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ، وَفَسَادُ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْمَعْهُودِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْبُيُوعِ. (فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي مَاهِيَّةِ البيع) فَإِذَا تَقَرَّرَ إِحْلَالُ الْبُيُوعِ فِي الْجُمْلَةِ. فَحَقِيقَةُ الْبَيْعِ فِي اللِّسَانِ: تَبَدُّلُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وَحَقِيقَتُهُ فِي الشَّرْعِ: نَقَلُ مِلْكٍ بِعِوَضٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: نَقْلُ مِلْكٍ، احْتِرَازًا مِمَّا لَا يُمْلَكُ، وَمِمَّنْ لَا يَمْلِكُ. وَقُلْنَا: بِعِوَضٍ احْتِرَازًا مِنَ الْهِبَاتِ، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا. وَقُلْنَا: عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، احْتِرَازًا مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا كالملامسة والمنابذة. أفضل المكاسب وإذا كان ذلك حقيقة البيوع الجائز فِي الشَّرْعِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلِ الْبُيُوعُ الجائزة من أجل المكاسب وأطيبها؟ أو غَيْرَهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ أَجَلُّ مِنْهَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الزِّرَاعَاتُ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا، وَأَطْيَبُ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الِاكْتِسَابِ بِهَا أَحْسَنُ تَوَكُّلًا، وَأَقْوَى إِخْلَاصًا، وَأَكْثَرُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَفْوِيضًا وَتَسْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ الصِّنَاعَاتِ أَجَلُّ كَسْبًا مِنْهَا وَأَطْيَبُ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا اكْتِسَابٌ تُنَالُ بِكَدِّ الْجِسْمِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ " فَظَاهِرُ الِاحْتِرَافِ بِالنَّفْسِ دُونَ الْمَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْبِيَاعَاتُ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا، وَأَطْيَبُ مِنَ الزِّرَاعَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ، حَتَّى أَنَّ محمد بن الحسن قِيلَ لَهُ: هَلَّا صَنَعْتَ كِتَابًا فِي الزُّهْدِ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قِيلَ: فَمَا ذَلِكَ الْكِتَابُ؟ قَالَ: هُوَ كِتَابُ الْبُيُوعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ أَجَلُّ الْمَكَاسِبِ كُلِّهَا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بإحلالها، فقال: {وأحل الله البيع} وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِحْلَالِ غَيْرِهَا، وَلَا ذَكَرَ جَوَازَهَا وَإِبَاحَتَهَا. وَرَوَتْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ " وَالْكَسْبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ التِّجَارَةُ. وَرَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَطْيَبُ؟ فَقَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وَلِأَنَّ الْبُيُوعَ أَكْثَرُ مَكَاسِبِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ أَظْهَرُ فِيهِمْ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ. وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعَمُّ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَكْثَرُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَغْنِي عَنِ ابْتِيَاعِ مَأْكُولٍ أَوْ مَلْبُوسٍ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ صِنَاعَةٍ وَزِرَاعَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَلْمَانُ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّ فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مَكْرُوهًا، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ مَنْهِيًّا. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُكْرَهَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ؟ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَصْرِفَ أَكْثَرَ زَمَانِهِ إِلَى الِاكْتِسَابِ، وَيَشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الْعِبَادَةِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ مُنْقَطِعًا، وَبِهِ مُتَشَاغِلًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ السوْم قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ " يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، حَتَّى يَبْتَدِئَ بِهِ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ، لَا أَنَّهُ حَرَامٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَا تُجَّارُ كُلُّكُمْ فُجَّارٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَ الْحَقَّ وَأَعْطَى الْحَقَّ " فَجَعَلَ الْفُجُورَ فِيهِمْ عُمُومًا، وَمُعَاطَاةَ الْحَقِّ خُصُوصًا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصفات أَجَلِّ الْمَكَاسِبِ. قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ الْبُيُوعِ مَا يَحِلُّ، وَمِنْهَا مَا يَحْرُمُ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَحَبُّ وَمِنْهَا مَا يُكْرَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مَا اتَّجَرُوا إِلَا فِي البُر، وَلَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ النَّارِ مَا اتَّجَرُوا إِلَّا فِي الصَّرْفِ " قَالَ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لِتِجَارَةِ البُر، وَكَرَاهَةً لِتِجَارَةِ الصَّرْفِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ يَبِيعُ الطَّعَامَ وَلَيْسَ لَهُ تِجَارَةٌ غَيْرُهُ، حَاطَ، أَوْ بَاعَ، أَوْ طَاغَ، أَوْ زَاغَ "، يُرِيدُ بِذَلِكَ كَرَاهَةَ التَّفَرُّدِ بِالتِّجَارَةِ فِي هذا الجنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيمَا كُرِهَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا اسْتُحِبَّ مِنْهَا، وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منها. (فصل: في شروط البيع) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ بِهِ: فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ مَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ بِهِ الْبَيْعُ. فَقَالَ: وَجِمَاعُ مَا يَجُوزُ مِنْ كُلِّ بَيْعٍ آجِلٍ وَعَاجِلٍ، وَمَا لَزِمَهُ اسْمُ بَيْعٍ بِوَجْهٍ، لَا يُلْزِمُ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ حَتَّى يَجْتَمِعَا أَنْ يَتَبَايَعَاهُ بِرِضًا مِنْهُمَا بِالتَّبَايُعِ بِهِ وَلَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا عَلَى أَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَأَنْ يَتَفَرَّقَا بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ عَلَى التَّرَاضِي بِالْبَيْعِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيْعُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَّا بِخِيَارٍ، أَوْ فِي عَيْبٍ يَجِدُهُ، أَوْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ، أَوْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ - إِنْ جَازَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ - وَمَتَى لَمْ يَكُنْ هَذَا لَمْ يَقَعِ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ: مِثْلَهُ سَوَاءً فَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يُبَيِّنَ شُرُوطَ الْعَقْدِ، وَشُرُوطَ الرَّدِّ. فَأَمَّا شُرُوطُ الْعَقْدِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا لَازِمًا فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَبَايَعَاهُ بِرِضًا مِنْهُمَا بِالتَّبَايُعِ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَا مُكْرَهَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا، لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يَعْنِي بِذَلِكَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ وَالشُّرُوطَ الْمُبْطِلَةَ لِلْعُقُودِ، وَمَا وَرَدَ النَّهْيُ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْبُيُوعِ كَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ عَلَى أَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْأَعْيَانَ الْمُحَرَّمَةَ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَمَتَى أُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا، فَسَدَ الْعَقْدُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَفْتَرِقَا بَعْدَ تَبَايُعِهِمَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ عَلَى التَّرَاضِي بِالْبَيْعِ. وَهَذَا شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ بَعْدَ وُقُوعِ صِحَّتِهِ. وَكَانَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَضُمُّونَ إِلَى الْأَرْبَعَةِ شَرْطًا خَامِسًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَايِعَانِ جَائِزَيِ الْأَمْرِ، فَلَا يَكُونَا، وَلَا أَحَدُهُمَا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَفَهٍ، لِأَنَّ بَيْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ. وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الشَّرْطِ الْخَامِسِ. وَأَجَابُوا عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ فِي الْبَائِعِ لَا فِي الْبَيْعِ، وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا ذَكَرَ شُرُوطَ الْبَيْعِ، وَهَذَا جَوَابُ الْبَغْدَادِيِّينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وَالثَّانِي: وَهُوَ جَوَابُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ لَا يَعْقِدَاهُ بِأَمْرٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَجْعَلَهُ شَرْطًا خَامِسًا. وَهَذَا أَصَحُّ الْجَوَابَيْنِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَنْ تَرَاضٍ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي الْبَائِعِ دُونَ الْبَيْعِ. فَهَذِهِ شُرُوطُ الْعَقْدِ. فَأَمَّا شُرُوطُ الرَّدِّ وَمَا يَكُونُ بِهِ الْفَسْخُ فَأَرْبَعَةٌ أَيْضًا: أَحَدُهَا: الْخِيَارُ الْمَوْضُوعُ لِلْفَسْخِ، وَهُوَ أَحَدُ خِيَارَيْنِ: إِمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الثَّلَاثِ. وَالثَّانِي: وُجُودُ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ. وَالثَّالِثُ: شَرْطٌ يَشْتَرِطُهُ فِي الْعَقْدِ فَيَعْقِدُهُ، مِثْلُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَهْنًا فِي الثَّمَنِ بِهِ أَوْ كَفِيلًا بِهِ، فَيَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الرَّهْنَ فِيهِ أَوِ الْكَفِيلِ بِهِ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، أَوْ يَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي فِي ابْتِيَاعِ الْعَبْدِ أَنَّهُ ذُو صَنْعَةٍ، فَيَجِدُهُ لَا يُحْسِنُهَا فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ. وَالرَّابِعُ: الرُّؤْيَةُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، إِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ عَلَى مَا سَيَأْتِي. فَهَذِهِ شُرُوطُ الرَّدِّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِ العقد. مسألة في بيع العين الغائبة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا عَقَدَا بَيْعًا مِمَّا يَجُوزُ وَافْتَرَقَا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا رده إلا بعيب أو بشرط خيار (قال المزني) وقد أجاز في الإملاء وفي كتاب الجديد والقديم وفي الصداق وفي الصلح خيار الرؤية وهذا كله غير جائز في معناه (قال المزني) وهذا بنفي خيار الرؤية أولى به إذ أَصْلُ قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعَانِ لَا ثالث لهما صفة مضمونة وعين معروفة وأنه يبطل بيع الثوب لم ير بعضه لجهله به فكيف يجيز شراء مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ قَطُّ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ ثَوْبٌ أَمْ لَا حَتَّى يُجْعَلَ له خيار الرؤية ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ: الْبُيُوعُ نَوْعَانِ: بَيْعُ رَقَبَةٍ، وَبَيْعُ مَنْفَعَةٍ: فَأَمَّا بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَهُوَ الْإِجَارَاتُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا صِنْفٌ من البيوع، ولها كتاب: وَأَمَّا بَيْعُ الرِّقَابِ، فَضَرْبَانِ: بُيُوعُ أَعْيَانٍ، وَبُيُوعُ صِفَاتٍ. فَأَمَّا بُيُوعُ الصِّفَاتِ: فَالسَّلَمُ، وَلَهُ بَابٌ. وَأَمَّا بُيُوعُ الْأَعْيَانِ، فَضَرْبَانِ: عَيْنٌ حَاضِرَةٌ، وَعَيْنٌ غَائِبَةٌ. فَأَمَّا الْعَيْنُ الْحَاضِرَةُ، فَبَيْعُهَا جَائِزٌ. وَأَمَّا الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: مَوْصُوفَةٌ، وَغَيْرُ مَوْصُوفَةٍ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، فَبَيْعُهَا بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَوْلَانِ: وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَوْصُوفَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُهَا مَوْصُوفَةً، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 الْأَدِلَّةُ: اسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ: بعموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} وَبِمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ ". وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصحابة: رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَنَاقَلَا دَارَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْكُوفَةِ، وَالْأُخْرَى بِالْبَصْرَةِ، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: غَبَنْتَ فَقَالَ: لَا أُبَالِي لِي الْخِيَارُ إِذَا رَأَيْتُهَا، فَتَرَافَعَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اشْتَرَى أَرْضًا لَمْ يَرَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اشْتَرَى إِبِلًا لَمْ يَرَهَا. فَصَارَ هَذَا قَوْلُ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْهُ فَقْدُ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ. وَلِأَنَّ فَقْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْجَهْلِ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ، وَالْجَهْلُ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى عَيْبِهِ وَالْمَفْقُودِ لِلرُّؤْيَةِ بِقِشْرِهِ، وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ كَالصِّفَةِ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ صِفَةَ جَمِيعِ السَّلَمِ فِيهِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مُشْتَرِي الصُّبْرَةِ إِذَا رَأَى بَعْضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبْتَاعَ جَمِيعَهَا، عُلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَلِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ. لَكَانَ وُجُودُهَا شَرْطًا فِي حَالِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُسْتَغْنَ بِرُؤْيَةٍ تَقَدَّمَتِ الْعَقْدَ، كَالصِّفَاتِ فِي السَّلَمِ، وَذِكْرِ الثَّمَنِ، فَلَمَّا صَحَّ الْعَقْدُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ: رِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ". وَحَقِيقَةُ الْغَرَرِ؛ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَائِزَيْنِ أَخْوَفُهُمَا أَغْلَبُهُمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وَبَيْعُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلِ الْمَبِيعُ سَالِمٌ أَوْ هَالِكٌ؟ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَصِلُ؟ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ غَائِبٍ بِنَاجِزٍ "، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ "، فَالْمُلَامَسَةُ: بَيْعُ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ. فَإِذَا نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ لِجَهْلٍ بِالْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ حَاضِرًا، كَانَ بُطْلَانُهُ أَوْلَى إِذَا كَانَ غَائِبًا. وَلِأَنَّ بَيْعَ الصِّفَةِ إِذَا عُلِّقَ بِالْعَيْنِ بَطَلَ، كَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ إِذَا عُلِّقَ بِالصِّفَةِ بَطَلَ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ بِصِفَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ. وَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي السَّلَمِ عَلَى الصِّفَةِ، وَالِاعْتِمَاد فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ عَلَى الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالرُّؤْيَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّلَمَ إِذَا لَمْ يُوصَفْ حَتَّى يَصِيرَ السلم فِيهِ مَعْلُومًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَجَبَ إِذَا لَمْ يَرَ الْعَيْنَ حَتَّى تَصِيرَ مَعْلُومَةً بِالرُّؤْيَةِ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ، إِذِ الْإِخْلَالُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْمَرْئِيَّاتِ كَالْإِخْلَالِ بِالصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: إِنَّ جَهْلَ الْمُشْتَرِي بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَالسَّلَمِ إِذَا لَمْ يُوصَفْ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا. فَإِنْ قيل: إنما بطل إذا باعه عبدا، لا أنه غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لِأَنَّهُ بَطَلَ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ. قِيلَ: فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ السَّلَمَ يَصِحُّ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ بَطَلَ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ، وَيُمْكِنُ تَسْلِيمُ عَبْدٍ وَسَطٍ. وَلِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ والطير في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الْهَوَاءِ. وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْمَجْلِسِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّةَ الْعَقْدِ، أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَطَ خِيَارًا مُطْلَقًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: إِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فَخَصَّصَهَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَدْ قَالَ الْحُفَّاظُ مِنْ حَمَلَةِ الْآثَارِ وَالْجَهَابِذَةُ مِنْ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِاخْتِرَاعِ الْأَحَادِيثِ وَوَضْعِهَا، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ، فَغَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَى رِوَايَتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ، لَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ " فِي الِاسْتِئْنَافِ لِلْعَقْدِ عَلَيْهِ، لَا فِي اسْتِصْحَابِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السَّلَمِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ نَاقِصًا عَنِ الصِّفَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فِي حَالِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَ قَدْ رَآهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا وَجَدَهُ نَاقِصًا فِيمَا بَعْدُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ: فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ عُمَرَ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا يُحْتَجُّ بِهِ، أَوْ دَلَالَةً تَلْزَمُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ مُخَالِفًا، لَكَانَ قَوْلُ خَمْسَةٍ لَا يُعْلَمُ انْتِشَارُهُ فِي جَمِيعِهِمْ، وَالْقِيَاسُ يُخَالِفُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِدْرَاكِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي النِّكَاحِ صِفَةَ الْمَنْكُوحَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِيهِ الْوَصْلَةَ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَجَدَهَا مَعِيبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ بِصِفَاتِهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَصِفَاتُ الْمَبِيعِ مَقْصُودَةٌ فِي الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْجَهْلُ بِصِفَاتِهِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ أبا حنيفة قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: عَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ فِي الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ. فَيُقَالَ لَهُ: لَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، كَانَتْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي لُزُومِ النِّكَاحِ، لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ فَقْدَ الرُّؤْيَةِ يُوقِعُ الْجَهْلَ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ، وَالْجَهْلُ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ، يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَالْمَعِيبِ وَالْمَسْتُورِ بِقِشْرِهِ. فَهُوَ أَنَّ الْمَعِيبَ وَالْمَسْتُورَ بِقِشْرِهِ قَدْ جُهِلَ بَعْضُ صِفَاتِهِ، وَالْغَائِبُ قَدْ جَهِلَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ، وَالْجَهْلُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ لَا يُسَاوِي حُكْمَ الْجَهْلِ بِجَمِيعِهَا، لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ عَلَى مَا لَيْسَ بُمَشَاهَدٍ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ الْمَعْلُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ الَّذِي لَمْ يشاهد شَيْئًا مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرُّؤْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: رُؤْيَةٌ لَا تَلْحَقُ فِيهَا الْمَشَقَّة وَهِيَ رُؤْيَةُ الْجُمْلَةِ دُونَ [جَمِيعِ] الْأَجْزَاءِ، وَرُؤْيَةٌ تَلْحَقُ فِيهَا الْمَشَقَّة وَهِيَ رُؤْيَةُ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ كَالْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ وَالْمَأْكُولَاتِ الَّتِي فِي قُشُورِهَا. فَالرُّؤْيَةُ الَّتِي تَجِبُ وَتَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، هِيَ رُؤْيَةُ الْجُمْلَةِ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا [دُونَ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا كَالصِّفَةِ، لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا كَالصِّفَةِ: فَهُوَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الشَّرْعِ مَقَامَ رُؤْيَةِ الْكُلِّ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْهُ لَا خِيَارَ فِيهِ إِذَا شُوهِدَ إِلَّا بِوُجُودِ عَيْبٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمُشَاهَدِ، لَثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْغَائِبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَةُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْبَعْضِ لَمْ يجرِ عَلَيْهَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُ صِفَةِ الْكُلِّ، فَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ ظُنَّ أَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا، لَكَانَ وُجُودُهَا حَالَ الْعَقْدِ شَرْطًا كَالصِّفَةِ فِي السَّلَمِ. فَهُوَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَبْلَ الْعَقْدِ تَجْعَلُ الْمَبِيعَ مَعْلُومًا فِي حَالِ الْعَقْدِ، وَالصِّفَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا تَجْعَلُ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْلُومًا فِي حَالِ الْعَقْدِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعَ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مَعَ الْعَقْدِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بَاطِلٌ إِذَا لَمْ تُوصَفْ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا إِذَا وُصِفَتْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ: فِي الْقَدِيمِ، وَالْإِمْلَاءِ، وَالصُّلْحِ، وَالصَّدَاقِ، وَالصَّرْفِ، وَالْمُزَارِعَةِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ: فِي الرِّسَالَةِ، وَالسُّنَنِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالِاسْتِبْرَاءِ، وَالصَّرْفِ فِي بَابِ الْعُرُوضِ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ، والبويطي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وَقَدْ يَدْخُلُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحجاجينَ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، بِشَيْئَيْنِ: أحدهما: أن قَالَ: أَصْلُ قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: صِفَةٌ مَضْمُونَةٌ، وَعَيْنٌ مَعْرُوفَةٌ. والثاني: أن قَالَ: فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بَيْعُ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ، فَكَيْفَ يُجِيزُ شري مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ قَطُّ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ ثَوْبٌ أَمْ لَا، حَتَّى يُجْعَلَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا قَالَ: الْبَيْعُ بَيْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُجِيزُ فِيهِ بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ، فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِي بَابِ بَيْعِ الْعُرُوضِ وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْبُيُوعِ إِلَّا ثَلَاثَةً: بَيْعُ عَيْنٍ حَاضِرَةٍ، وَبَيْعُ عَيْنٍ غَائِبَةٍ، فَإِذَا رَآهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ، وَصِفَةٌ مَضْمُونَةٌ، فَبَطَلَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: الْبَيْعُ بَيْعَانِ، الْفَرْقَ بَيْنَ بُيُوعِ الصِّفَاتِ الْمَضْمُونَةِ فِي الذِّمَمِ، وَبَيْنَ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ فِي الذِّمَمِ. وَهَذَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: عَيْنٌ حَاضِرَةٌ، وَعَيْنٌ غَائِبَةٌ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي بَيْعِ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا أَبْطَلَ بَيْعَ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُجِيزُ فِيهِ بَيْعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجِيزُهُ، فَهَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ، وَكَيْفَ يُجِيزُ بَيْعَ مَا لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ؟ وَلَا يُجِيزُ بَيْعَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَقَدْ رَأَى بَعْضَهُ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ إِنَّ بَيْعَ الثَّوْبِ يُرَى بَعْضُهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّوْبَ إِذَا رَأَى بَعْضَهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، لِأَنَّ مَا رَأَى مِنْهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَرَ مِنْهُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ، فَصَارَا حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ جَمَعَهُمَا عَقْدٌ وَاحِدٌ، فَبَطَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَائِبًا كُلَّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِنَّمَا أُجِيزَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ عِنْدَ تعذر الرؤية، النَّفْعَ الْعَاجِلَ لِلْبَائِعِ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ، وَلِلْمُشْتَرِي بِالِاسْتِرْخَاصِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَيْسَتْ دَاعِيَةً إِلَيْهِ وَلَا الرُّؤْيَةَ مُتَعَذِّرَةٌ مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إذا وصفت على قَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَيْعَهَا غَيْرُ جَائِزٍ فلا تفريغ عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ إِذَا وُصِفَتْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ الْوَاصِفِ لَهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ، أَوْ عَنْ صِفَةٍ: فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ مُشَاهَدَةٍ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهَا عَنْ صِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَكَّلَ فِي ابْتِيَاعِهَا وكيَلًا، وَوَصَفَهَا الْوَكِيلُ لَهُ بَعْدَ الِابْتِيَاعِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ، ثُمَّ وَصَفَهَا الْبَائِعُ عَنْ صِفَةِ الْوَكِيلِ، فَفِي جَوَازٍ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ؛ جَازَ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، كَانَ أَكْثَرَ غَرَرًا، وَإِذَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، كَانَ أَقَلَّ غَرَرًا، وَالْغَرَرُ إِذَا قَلَّ فِي الْعَقْدِ عُفِيَ عَنْهُ، وَإِذَا كَثُرَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا وَصَفَهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، صَارَ بَائِعًا لَهَا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ كَالْأَعْمَى فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهَا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ. فَعَلَى هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَأَى الْمَبِيعَ وَلَمْ يَرَهُ البائع لكن وصفه له، فعلى الْأَوَّلِ يَجُوزُ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ بِرُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بِصِفَةٍ عَنْ صِفَةٍ. فَصْلٌ: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصِّفَةِ: فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ. فَالْجِنْسُ أَنْ يَقُولَ: عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ. وَالنَّوْعُ أَنْ يَقُولَ فِي الثَّوْبِ: إِنَّهُ قُطْنٌ أَوْ كِتَّانٌ، وَفِي الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: رُومِيٌّ أَوْ زِنْجِيٌّ، لِيَصِيرَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى صِفَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُ مَبِيعٌ غَائِبٌ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الصِّفَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهَلْ يَصِحُّ، أَنْ يَصِفَهُ بِأَقَلِّ صِفَاتِهِ أَوْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذِكْرِ أَكْثَرِ صِفَاتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَصِفَهُ بِأَقَلِّ صِفَاتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْجَهَالَةِ. فَعَلَى هَذَا يَذْكُرُ فِي الْعَبْدِ الرُّومِيِّ بِصِفَةٍ أَنَّهُ خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ، وَفِي الثَّوْبِ الْقُطْنِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ أَوْ هُرَوِيٌّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَصِفَهُ بِأَكْثَرِ صِفَاتِهِ؛ لِيَتَمَيَّزَ بِكَثْرَةِ الصِّفَاتِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ، فَعَلَى هَذَا يَذْكُرُ فِي الْعَبْدِ الرُّومِيِّ الْخُمَاسِيِّ قَدَّهُ وَبَدَنَهُ، وَفِي الثَّوْبِ الْقُطْنِ الْمَرْوِيِّ طُولَهُ وَعَرْضَهُ. فَأَمَّا ذِكْرُ جَمِيعِ صِفَاتِهِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، فَإِن وَصفهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ، وَأَبْلَغُ فِي التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَيَصِيرُ مِنْ بُيُوعِ السَّلَمِ، وَالسَّلَمُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ وَصْفُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا لَا يَجُوزُ. فَهَذَا حُكْمُ الصِّفَةِ. (فَصْلٌ: [بَيَانُ مَوْضِعِ الْبَيْعِ] ) فَأَمَّا ذِكْرُ مَوْضِعِ الْمَبِيعِ، فَيَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمَبِيعِ. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ، فَيَقُولُ: بِعْتُكَ دَارًا بِالْبَصْرَةِ أو بغداد، لأن بِذِكْرِ الْبَلَدِ، يَتَحَقَّقُ ذِكْرُ الْجِنْسِ، وَيَصِيرُ فِي جُمْلَةِ الْمَعْلُومِ. فَأَمَّا ذِكْرُ الْبُقْعَةِ مِنَ الْبَلَدِ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ ذِكْرُهَا. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ الْغَائِبُ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَتَعَجَّلُ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا، وَيَتَأَخَّرُ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا، فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إِلَى ذِكْرِهِ؛ لِيُعْلَمَ بِهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ مِنْ تَأْخِيرِهِ. فَأَمَّا ذِكْرُ الْبُقْعَةِ مِنَ الْبَلَدِ، فَلَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ لَا يَخْتَلِفُ أَطْرَافُهُ كَالْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَإِذَا ذكر لَهُ الْبَلَد الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا. فَإِذَا قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ شُرِطَ فِي السَّلَمِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ جَازَ، فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الغائبة؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قِيلَ: لِأَنَّ السَّلَمَ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَاسْتَوَى جَمِيعُ الْمَوَاضِعِ فِيهِ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْقَبْضُ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ قَدِ اخْتُصَّتْ بِمَوْضِعٍ هِيَ فِيهِ فَلَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا وَشَرْطًا فِي مَعْنَى بَيْعِ ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتُهُ، أَوْ طَعَامٌ أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ طحنه. هَلِ الْعَقْدُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ تَامٌّ أَمْ لَا؟ فَإِذَا عُقِدَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ تَامًّا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحاق المروزي: أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِتَامٍّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَكُونُ بِالرِّضَا بِهِ وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَقَعِ الرِّضَا بِهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ تَامًّا، فَعَلَى هَذَا، لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، لِأَنَّ الْعُقُودَ غَيْرَ اللَّازِمَةِ، تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَعَلَى هَذَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: إِنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ، وَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ وَقَامَ وَلَيُّهُ مَقَامَهُ. وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ. (فَصْلٌ: [بَيَانُ وقت الخيار] ) فَإِذَا رَأَى الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الْمَبِيعَةَ، فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الْعَيْبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالرُّؤْيَةِ تَمَّ الْعَقْدُ. فَعَلَى هَذَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى التَّرَاخِي، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ السِّلْعَةَ نَاقِصَةً عَمَّا وُصِفَتْ أَمْ لَا. وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الثَّلَاثِ، وَتَأْجِيلَ الثَّمَنِ، وَالزِّيَادَةَ فِيهِ، وَالنُّقْصَانَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَثْبُتُ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لأن عِنْدَهُ أَنَّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، قَدْ تَمَّ الْعَقْدُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا عَلَى مَا وُصِفَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، وَإِنْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى الْفَوْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَلَا تَأْجِيلُ الثَّمَنِ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يَكُونَ بَيْعُهُ عَنْ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَنْ صِفَةٍ: فَإِنْ كَانَ بَيْعُهُ عَنْ رُؤْيَةٍ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ أن بِالرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ، وَبِالرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ. وَإِنْ كَانَ بَيْعُهُ عَنْ صِفَةٍ، وَجَوَّزْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَجِدَهُ زَائِدًا عَلَى مَا وُصِفَ لَهُ، أَوْ غَيْرَ زَائِدٍ. فَإِنْ وَجَدَهُ زَائِدًا عَمَّا وُصِفَ لَهُ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، لَا يَخْتَلِفُ كَالْمُشْتَرِي إِذَا رَآهُ نَاقِصًا. وَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ زَائِدًا، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ بِالرُّؤْيَةِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَيَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِغَيْرِ شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَبَاطِلٌ لَا يختلف فيه المذهب، لأنه بَيْعٌ نَاجِزٌ عَلَى عَيْنٍ غَائِبَةٍ، وَهُوَ أَصْلُ الْغَرَرِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ عَلَى شَرْطِ خيار الرؤية، كثوب في سفط، أَوْ مَطْوِيٍّ، يَبِيعُهُ مَوْصُوفًا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يُسَاوِي الْغَائِبَ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِذَا وُصِفَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي زَوَالِ الْغَرَرِ بِتَعْجِيلِ الْقَبْضِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ مَقْدُورٌ عَلَى رُؤْيَتِهِ، فَارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْغَائِبُ لَمَّا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى رُؤْيَتِهِ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. فَأَمَّا بَيْعُ السَّلْجَمِ، وَالْجَزَرِ، وَالْبَصَلِ، وَالْفِجْلِ، فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْعَيْنِ الْغَائِبَةِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَ الْغَائِبِ مُمْكِنٌ؛ لِتَقَدُّمِ الرُّؤْيَةِ لَهُ، وَوَصْفُ هَذَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا فَسَخَ بَيْعَ الْغَائِبِ، أُمْكِنَ رَدُّهُ إِلَى حَالِهِ، وَإِذَا فَسَخَ بَيْعَ هَذَا الْمَقْلُوعِ مِنَ الْأَرْضِ، لَمْ يمكن رده إلى حاله. فَأَمَّا بَيْعُ التَّمْرِ الْمَكْنُونِ فِي قَوَاصِرِهِ وجِلاله: فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ بَيْعَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْغَائِبِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قَوَاصِرِهِ، قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا شَاهَدَ رَأَسَ كُلِّ قَوْصَرةٍ؛ لِأَنَّ فِي كَسْرِ كُلِّ قَوْصَرَّةٍ لِمُشَاهَدَةِ مَا فِيهَا مَشَقَّةً وَفَسَادًا، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَعْصَارِ بِالْبَصْرَةِ. وَأَمَّا مَا سِوَى التَّمْرِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي فِي أَوْعِيَتِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا، أَوْ غَيْرَ ذَائِبٍ. فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ، فَإِذَا شَاهَدَ يَسِيرًا مِمَّا فِي الْوِعَاءِ أَجْزَأَهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَمِيعِهِ وَجَازَ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، كَالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَائِبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهُ، وَيُبَايِنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَالثِّيَابِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ جَمِيعِهَا، إِلَّا أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ أَوِ الْحَاضِرَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ فِي الْغَالِبِ، أَوْ تَتَقَارَبُ كَالدَّقِيقِ وَالْقُطْنِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ جَمِيعِهِ كَالثِّيَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ كَالذَّائِبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 فَصْلٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُؤَجَّلًا وَلَا بِصِفَةٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: مُؤَجَّلًا: يَعْنِي بِهِ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، كَقَوْلِهِ بِعْتُكَ دَارًا بِالْبَصْرَةِ، أَوْ بَغْدَادَ، عَلَى أَنْ أُسَلِّمَهَا إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ، فَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَبضُ الْغَائِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا. قِيلَ: هُوَ مُؤَخَّرٌ بِغَيْرِ أَجْلٍ مَحْدُودٍ، فَجَازَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَيُؤَخِّرُهُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ، وَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَجَلِ، فَيَلْزَمُ تَسْلِيمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا بِصِفَةٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنْ يَصِفَ الْعَيْنَ الْغَائِبَةَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَعْنَى السَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ. وَالثَّانِي: تَأْوِيلُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنْ يَجْعَلَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ يَصِحُّ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ فِيهَا، سَوَاءً كَانَتِ الْعَيْنُ حَاضِرَةً أَوْ غَائِبَةً، لأنه بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَيْسَ كَالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ فِي الذِّمَمِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِمُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَعَ تَقَدُّمِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَدْ شَاهَدَا السِّلْعَةَ ثُمَّ غَابَا عَنْهَا، وَعَقدَا الْبَيْعَ عَلَيْهَا. فَلَا يَخْلُو حَالُ الرُّؤْيَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةَ الْمُدَّةِ، أَوْ بَعِيدَتَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً وَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، حَتَّى تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مُقَارِنَةً لِلْعَقْدِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: قُلْتُ لِمَنْ يُنَاظِرُ عَنِ الْأَنْمَاطِيِّ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ فِي الدَّارِ إِذَا رَآهَا الْمُشْتَرِي، وَخَرَجَ إِلَى الْبَابِ، وَاشْتَرَاهَا؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ. قُلْتُ: فَإِنْ رَأَى خَاتَمًا وَأَخَذَهُ فِي كَفِّهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ. قُلْتُ: فَإِنْ رَأَى أَرْضًا وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى جَانِبِهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا؟ قَالَ: فَتَوَقَّفَ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: يَجُوزُ لَنَاقَضَ مَذْهَبَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، لَمَا أَمْكَنَ ابْتِيَاعُ الْأَرْضِ، فَهَذَا قَوْلُ الْأَنْمَاطِيِّ، وَقَلَّ مَنْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَجَبَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ، كَالصِّفَةِ فِي بَيْعِ السَّلَمِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ شَاذُّ الِاعْتِقَادِ وَاضِحُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا أُرِيدَتْ لِيَصِيرَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلَا يَكُونَ مَجْهُولًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ، كَوُجُودِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْعَقْدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَةُ. فَهَذَا حُكْمُ الرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ قَرِيبَةً. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُدَّةُ الرُّؤْيَةِ بَعِيدَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ أَوْ غَيْرَ ذَاكِرٍ: فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ لِبُعْدِ الْعَهْدِ وَطُولِ الْمُدَّةِ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَرَهُ، فَإِنِ ابْتَاعَهُ عَلَى غَيْرِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنِ ابْتَاعَهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ فِي الْعَادَةِ، كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَى فِيهِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَيْبًا، فَلَهُ الْخِيَارُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَيَّرُ فَلَا يَبْقَى مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، وَالطَّبَائِخِ. فَيُنْظَرُ فِي حَالِهِ حِينَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّةِ مَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ فِيهَا فَبَيْعُهُ جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى فِيهَا وَيَجُوزَ أَنْ يَتْلِفَ، فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعَيْنِ مَا لَمْ يُعْلَمْ تَلَفُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ كَالْحَيَوَانِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُيُوعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَتُهُ وَبَقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ سَلَامَةٍ وَعَطَبٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَإِذَا تَبَايَعَا، بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ رَآهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى مَا كَانَ رَآهُ مِنْ قَبْلُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ رَآهُ مُتَغَيِّرًا، فَلَهُ الخيار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 فَلَوِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: وَجَدْتُهُ مُتَغَيِّرًا، وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ هُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ انْتِزَاعَ الثَّمَنِ مِنْ يَدِهِ، فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 باب خيار المتبايعين ما لم يتفرقا مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ ". (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ خَاصَمَهُ فِيهِ إِلَى أَبِي بَرْزَةَ فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " (قَالَ) وفي الحديث ما لَمْ يَحْضُرْ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ حِفْظُهُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُمَا بَاتَا لَيْلَةً ثُمَّ غدوا عليه فقال لا أراكما تفرقتما وجعل لهما الخيار إذ بقيا في مكان واحد بعد البيع وقال عطاء يخيّر بعد وجوب البيع وقال شريح شاهدا عدل أنكما تفرقتما بعد رضا ببيع أو خيّر أحدكما صاحبه بعد البيع (قال الشافعي) وبهذا نأخذ وهو قول الأكثر من أهل الحجاز والأكثر من أهل الآثار بالبلدان (قال) وهما قبل التساوم غير متساومين ثم يكونان متساومين ثم يكونان متبايعين فلو تساوما فقال رجل امرأتي طالق إن كنتما تبايعتما كان صادقا وإنما جعل لهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الخيار بعد التبايع ما لم يفترقا فلا تفرق بعدما صارا متبايعين إلا تفرق الأبدان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُقُودَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ فِي الْحَالِ دُونَ الْعَاقِدِ الْآخرِ بكل حال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَالرَّابِعُ: مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ، فَهُوَ خَمْسَةُ عُقُودٍ: الْوِكَالَةُ وَالشَّرِكَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْعَارِيَةُ، وَالْوَدِيعَةُ. فَالْخِيَارُ فِيهَا مُؤَبَّدٌ مِنْ جِهَتَيِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا. فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، بَطَلَتْ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ لَازِمَةً، وَهِيَ عُقُودٌ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ، فَهُوَ خَمْسَةُ عُقُودٍ: الْجُعَالَةُ: وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ: مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ. وَالْعِتْقُ بِعِوَضٍ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِدِينَارٍ. وَاسْتِهْلَاكُ الْأَمْوَالِ بِالضَّمَانِ كَقَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ. وَالْقَرْضُ، وَالْهِبَةُ. فَهَذِهِ الْعُقُودُ الْخَمْسَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي الْحَالِ، فَإِنْ جِيءَ بِالْآبِقِ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأُلْقِيَ الْمَتَاعُ فِي الْبَحْرِ، وَاسْتُهْلِكَ الْقَرْضُ، وَأُقْبِضَتِ الْهِبَةُ، لَزِمَتْ. فَيَكُونُ الْخِيَارُ فِيهَا قَبْلَ لُزُومِهَا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا. فَإِذَا لَزِمَتْ سَقَطَ الْخِيَارُ مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا. فَلَوْ شُرِطَ فِيهَا إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ لُزُومِهَا، أَوْ شُرِطَ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ فِيهَا بَعْدَ لُزُومِهَا، بَطَلَتْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَهُوَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ: الرّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالْكِتَابَةُ. فَالْخِيَارُ فِيهَا ثَابِتٌ لِلْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ، وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الضَّامِنِ، وَلِلْمُكَاتَبِ دُونَ السَّيِّدِ. فَإِنْ شُرِطَ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ، أَوْ شُرِطَ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الْخِيَارُ، بَطَلَتْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا كَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَالٍ، لَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ: النِّكَاحُ، وَالْخُلْعُ، وَالرَّجْعَةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 لَيْسَ فِيهَا إِذَا تَمَّتْ خِيَارُ مَجْلِسٍ وَلَا خِيَارُ شَرْطٍ. فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ، بَطَلَتْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ عُقُودٍ: الْإِجَازَةُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالْحِوَالَةُ. وَهَلْ تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَيَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ قَوْلًا وَاحِدًا: وَهُوَ مَا كَانَ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَذَلِكَ عَقْدَانِ: الْمَصْرِفُ، وَالسَّلَمُ. فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا خِيَارُ الثَّلَاثِ بَطَلَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ. وَهُوَ سَائِرُ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ. يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَبِمَذْهَبِنَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالُكٌ: الْبَيْعُ لَازِمٌ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِحَالٍ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، فَنَدَبَ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، لِأَجْلِ الِاسْتِيثَاقِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْعَقْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْصُلِ الِاسْتِيثَاقُ، وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْإِشْهَادِ. وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ ". وَلَوْ جَازَ لِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَالَةٍ لَمْ يَكُنْ لِنَهْيِهِ عَنِ الِافْتِرَاقِ خَشْيَةَ الِاسْتِقَالَةِ مَعْنًى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالِاسْتِقَالَةِ. وَبِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خيار ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 فنوع البيع نوعين: نوعا أثبت فيه الخيار بالشرط، ونوعا نَفَى عَنْهُ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالنِّكَاحِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ مَجْلِسٍ كَالنِّكَاحِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالْكِتَابَةِ. وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مَجْهُولٌ، لَمْ يُوجِبْهُ نَقْصٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي الْبَيْعِ كَالْمَشْرُوطِ مِنَ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ. وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّفَرُّقِ إِنَّمَا هُوَ الْفَسْخُ لَا اللُّزُومُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إِذَا تَصَارَفَا، ثُمَّ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، بَطَلَ الصَّرْفُ، وَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ التَّفَرُّقِ هُوَ الْفَسْخَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ بِهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الواحد مؤثرا في فسخ العقد وفي إلزامهما مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا لَزِمَ بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرِ الْبَيْعَ، فَيَخْتَارُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ بِتَرَاضِيهِمَا حَالَ الْعَقْدَ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ، إِنَّمَا هُوَ رِضًا مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا عِنْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُكْرَهَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. فَصْلٌ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: ثُبُوتُ السُّنَّةِ بِهِ مِنْ خَمْسَةِ طُرُقٍ: فَأَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ. وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. فَأَمَّا نَافِعٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ". وَالثَّانِي: رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ الْبَيْعَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ " قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا ابْتَاعَ الْبَيْعَ، فَأَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دينار عن أبي عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْبَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عن خيار، فإذا كان البيع خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وَالثَّانِي: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ وَكِيعٍ عِنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ ". وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ، فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ خَاصَمَهُ فِيهِ إِلَى أَبِي بَرْزَةَ، فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا لَمْ يَحْضُرْ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ حِفْظُهُ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُمَا بَاتَا لَيْلَةً، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا، وَجَعَلَ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذَا بَاتَا مَكَانًا وَاحِدًا بَعْدَ الْبَيْعِ. وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الخليل عن عبد الله بن الحرث عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا وَجَبَتِ الْبَرَكَةُ فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْعِهِمَا ". وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ ثَلَاثًا " لَا يَفْتَرِقَنَّ بَيِّعَانِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ ". وَالْخَامِسُ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي دَلِيلِ الْمُخَالِفِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ وَدَلِيلِهِ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ، أَوْ يَجْعَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ، فَيَخْتَارُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْكَلَامِ: فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالِافْتِرَاقِ افْتِرَاقُ الْكَلَامِ دُونَ افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ فِي أَنْ يَقْبَلَ أَوْ لَا يَقْبَلَ، وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَذْلِ أَوْ لَا يَرْجِعَ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رَجَعَ الْبَائِعُ، فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ، وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِالْأَبْدَانِ أَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 قَالُوا: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْهُودُ الِافْتِرَاقِ فِي الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] يَعْنِي: بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ كَلَامٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " يَعْنِي: فِي الْمَذَاهِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ حَقِيقَةٌ، وَعَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا يُسَمَّيَانِ فِي حَالِ الْعَقْدِ مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً، وَبَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ: ضَارِبٌ، فَيُسَمَّى بِذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرْبِ حَقِيقَةً، وَبَعْدَ الضَّرْبِ مَجَازًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ دُونَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: دَلِيلٌ، وَانْفِصَالٌ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ دُونَ الْكَلَامِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّفَرُّقَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اجْتِمَاعٍ، فَإِذَا تَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ بَعْدَ الْبَيْعِ، كَانَ تَفَرُّقًا عَنِ اجْتِمَاعٍ فِي الْقَوْلِ حِينَ الْعَقْدِ وَعَنِ اجْتِمَاعٍ بِالْأَبْدَانِ. وَلَا يَصِحُّ تفرقهما بالكلام، لأنهما حال التساوم مفترقان، لأن الْبَائِعَ يَقُولُ: لَا أَبِيعُ إِلَّا بِكَذَا، وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: لَا أَشْتَرِي إِلَّا بِكَذَا. فَإِذَا تَبَايَعَا فَقَدِ اجْتَمَعَا فِي الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ فِيهِ. وَهَذِهِ دَلَالَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ وَقَبْلَ قَبُولِهِ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ، إِذْ لَوْ سَقَطَ خِيَارُهُ بِبَذْلِ الْبَائِعِ لَوَجَبَتِ الْبِيَاعَاتُ جَبْرًا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ بَعْدَ اخْتِيَارٍ وَلَأَفْضَى الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى ضَرَرٍ وَفَسَادٍ، وَالْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ إِلَّا بِالْخَبَرِ، فَكَانَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا لَمْ يُسْتَفَدْ إِلَّا مِنْهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا اسْتُفِيدَ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنْ لَا يَعْرَى الْخَبَرُ مِنْ فَائِدَةٍ. وَهَذِهِ دَلَالَةُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا وَرَدَ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ لَا هُمَا مَعًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ تَمْيِيزُ الْمُرَادِ مِنْهُمَا، كَانَ مَا صَارَ إِلَيْهِ الرَّاوِي هُوَ الْمُرَاد بِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَمَّا كَانَ الِافْتِرَاقُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِافْتِرَاقُ بِالْكَلَامِ مَعَ بُعْدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِافْتِرَاقَ بِالْأَبْدَانِ مَعَ ظُهُورِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَهُمَا مِنْ رُوَاةِ الْخَبَرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ، وَأَبُو بَرْزَةَ قَالَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ حِينَ بَاتَا لَيْلَةً ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ دُونَ الْمَعْنَى الْآخَرِ. وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ، وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " ثُمَّ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّلَاثِ، فَلَمْ تَصِيرُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَاسْتَعْمَلْتُمُ الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. قِيلَ: نَحْنُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ الرَّاوِي فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا فِي النَّسْخِ، وَلَا فِي الْإِسْقَاطِ، وَإِنَّمَا نَقْبَلُهُ فِي تَفْسِيرِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَقَوْلُهُ: " اغْسِلُوهُ سَبْعًا " يَقْتَضِي وُجُوبَ الْغَسْلِ سَبْعًا، وَفَتْوَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ إِسْقَاطٌ لِبَاقِي السَّبْعِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، وَكَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ. فَلَمْ نَقْضِ بِمَذْهَبِهِ عَلَى رِوَايَتِهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا، وَقَوْلُ الرَّاوِي لَا يُقْبَلُ فِي التَّخْصِيصِ. عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَأَحْمِلُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ، وَعَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، فَأَجْعَلُ لَهُمَا فِي الْحَالَيْنِ الْخِيَارَ بِالْخَبَرِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَوْلَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُهُمَا. فَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعْهُودَ الِافْتِرَاقِ إِنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ دُونَ الْأَبْدَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ يَدْفَعُهُ إِجْمَاعُ مَنْ سَلَفَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السّلف حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، حَتَّى أَنَّ مَالِكًا رَوَى الْخَبَرَ، فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ خَالَفْتَهُ؟ قَالَ: وَجَدْتُ عَمَلَ بَلَدِنَا بِخِلَافِهِ، وَرُوِيَ لأبي حنيفة فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ فَحَصَلَ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا، إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَلَمْ يَتَنَازَعَا فِي تَأْوِيلِهِ، وإنَّمَا ذَكَرَا شُبْهَةً وَاهِيَةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التفرق بالأبدان لكان هو حَقِيقَةَ التَّفَرُّقِ فِي اللِّسَانِ، وَالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ رُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا، وَقَدْ حَكَى الرِّيَاشِيُّ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 عَلَى أَنَّ هَذَا وَإِنْ سَاغَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى وَهَنٍ وَضَعْفٍ، فَلَيْسَ يَسُوغُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَدْفَعُهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، فَإِنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْخِيَارِ حِينَ التَّسَاوُمِ حَقِيقَةٌ وَبَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازٌ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهَا وَقْتَ التَّسَاوُمِ مَجَازٌ، وَبَعْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا: فَأَمَّا اللُّغَةُ، فَلِأَنَّ الْبَيْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ، وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا تَنْطَلِقُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ، كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ: لَا يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى بِهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، كَذَلِكَ الْبَائِعُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيِّعِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ، وَالْبَيْعُ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا حِينَ التَّسَاوُمِ فَلَا. فَأَمَّا الشَّرْعُ، فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْمُسَاوَمَةِ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: إِذَا بَاعَهُ بَيْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْعَقْدِ، وَانْقَطَعَ خِيَارُهُ، فَلَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَسْمِيَتَنَا لَهُ بَائِعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ، إِنْ كَانَ مجازا من حَيْثُ يُقَالُ: كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ وَقْتَ التساوم وجاز أيضا حتى يوجد القبول، وإلا فيقال: سَيَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا فِيهِمَا جَمِيعًا، كَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْمَ وَإِنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازًا، فَقَدِ اسْتَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَيْعِ، وَهُوَ قَبْلَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَتِمَّ الْبَيْعُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْمَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، فَلَا يُوجَدُ المشتري إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْبَائِعِ، وَلَا يُوجَدُ الْبَائِعُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ يُسَمَّى بَائِعًا، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ يُسَمَّى مُشْتَرِيًا، فَلَمَّا لَم يُسَمَّ الطَّالِبُ مُشْتَرِيًا إِلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ، لَمْ يُسَمَّ الْبَاذِلُ بَائِعًا إِلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ. عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَوَّغُ مع وهاية فِي قَوْلِهِ: الْمُتَبَايِعَانِ فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ الْبَيِّعَانِ فَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ. فَنَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ، وَنَحْمِلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا. فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ وَالِانْفِصَالِ، وَاسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ فِي أَدِلَّةِ الْأَخْبَارِ. فَأَمَّا الْمَعْنَى النَّظَرِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ خِيَارٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حُكْمُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَصْلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ تَأْثِيرٌ فِيهِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ، وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ. ثُمَّ كَانَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالصِّفَاتِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ. فَالْقِسْمُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ: أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ صَانِعٌ، فَيَجِدُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ لِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّرْطِ. وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ: هُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ لِنَقْصٍ وَجَدَهُ عَنْ حَالِ السَّلَامَةِ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ بِالشَّرْعِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالزَّمَانِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ: وَهُوَ خِيَارُ الثَّلَاثِ. وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ: وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ جِنْسَيِ الْخِيَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ: شَرْطًا وَشَرْعًا قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الصِّفَاتِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ كَالْهِبَةِ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ بَذْلٌ وَقَبُولٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَذْلِ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْقَبُولِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَعْدَهُ كَالْبَذْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِشْهَادُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْعَقْدُ. وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى الْعَقْدِ وَوَثِيقَةً فِيهِ [كَمَا أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي خِيَارِ الثلاث، يكون بعد تقضّي الثلاث، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى العقد ووثيقة فيه] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَقَوْلِهِ: " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " فَهُوَ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: حُجَّةٌ لَهُمْ. فَقَوْلُهُ: " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ " حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَقَعْ لَازِمًا، وَأَنَّ فِيهِ خِيَارًا يَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ. وَقَوْلُهُ: " خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " حُجَّةٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِالْإِقَالَةِ. فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ لِتَعَارُضِهِمَا، فَكَانَ تَغْلِيبُ الظَّاهِرِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ أحق لأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ الْخَبَرِ يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ". وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّبَايُعِ وَتَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ لِجَوَازِهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَجَوَازِهَا قَبْلَهُ. وَإِنَّمَا الْخِيَارُ يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَيَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ، فَصَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ " الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ " فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ عَنْ صَفْقَةٍ وَخِيَارٍ، لِأَنَّهُ قَسَّمَ الْبَيْعَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صَفْقَةٌ، وَالثَّانِي: خِيَارٌ. وَالْخِيَارُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ بَيْعًا إِلَّا مَعَ الصَّفْقَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَاهُ عن صفقة وخيار. والثاني: أن مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ: فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ. وَضَرْبٌ: لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ عَقْدٌ تُبْتَغَى بِهِ الْوَصْلَةُ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْخِيَارُ الْمَوْضُوعُ لِارْتِيَادِ أَوْفَرِ الْأَعْوَاضِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَخَالَفَ سَائِرَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ فِيهِ وَإِنْ صَحَّ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ فِي الْعَقْدِ، لِارْتِيَادِ الْحَظِّ فِيهِ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ إِرْفَاقُ عَبْدِهِ، لَا طَلَبُ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي بَيْعِ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ، فَسَقَطَ خِيَارُهُ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ يُسْتَدْرَكُ بِهِ مَا خَفِيَ عَنْهُ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَخِيَارُهُ ممدود، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ: فَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، وَالْخِيَارُ الْمَجْهُولُ مِنْ مُوجِبَاتِ الشرط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 وَفَرْقٌ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ. فَيَصِحُّ فِيهِ الْجَهَالَةُ، وَمَا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْجَهَالَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، وَخِيَارُ الْمُدَّةِ لَمَّا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، وَكَذَا الْقَبْضُ إِذَا اسْتُحِقَّ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الِافْتِرَاقَ يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لَا فِي لُزُومِهِ كَالصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي الصَّرْفِ مُؤَثِّرٌ فِي لُزُومِهِ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ يَقَعُ الْفَسْخُ فِي الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِعَدَمِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَإِذَا تَقَابَضَا، صَحَّ، وَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِالِافْتِرَاقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَمَّا لَزِمَ الْبَيْعُ بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلِأَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِتَرَاضِيهِمَا حِينَ الْعَقْدِ أَوْلَى: فَهُوَ أَنَّ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْعَقْدِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ بِالصَّمْتِ، وَنَوْعٌ يَكُونُ بِالنُّطْقِ: فَأَمَّا الرِّضَا بِالصَّمْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، فَكَذَا الرِّضَا بِالصَّمْتِ حِينَ الْعَقْدِ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ. وَأَمَّا الرِّضَا بِالنُّطْقِ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اخْتَرْتُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَهَذَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ. وَمِثْلُهُ بِالنُّطْقِ فِي حَالِ الْبَيْعِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ سُقُوطُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ وَيَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ غَرَرَ الْخِيَارِ يَرْتَفِعُ بِهِ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ مُوجِبٌ شَرْطِهِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا تَأَوَّلَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ. فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى حُكْمُ هَذَا الرِّضَا فِي لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَلَا يَسْقُطُ مَعَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّرْطِ، كَالْوَلَاءِ فِي الْعِتْقِ وَالرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّضَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ بَعْدَ العقد، ولا يلزم به البيع إِذَا كَانَ مَعَ الْعَقْدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ خِيَارٍ ثَابِتٍ، فَصَحَّ إِبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَحِينَ الْعَقْدِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ خِيَارٍ غَيْرِ ثَابِتٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، كَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لَمَّا بَطَلَ بَعْدَ الْبَيْعِ لِلرِّضَا بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لَمْ يَبْطُلْ حَالَ الْبَيْعِ مَعَ الرِّضَا بِهِ، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ بِهَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِمُوجَبِهِ، إِذْ مُوجَبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بِهِ، وَالشَّرْطُ إِذَا نَافَى مُوجَبَ الْعَقْدِ أَبْطَلَهُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، والْبُوَيْطِيِّ وَالْأُمِّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّضَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَيَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ إِنْ كَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَكَلُّ مُتَبَايِعَيْنِ فِي سِلْعَةٍ وَعَيْنٍ وَصَرْفٍ وَغَيْرِهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْبَيْعِ حَتَى يَتَفَرَّقَا تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ وَإِذَا كَانَ يَجِبُ التَّفرُّقُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ إذا خّير أحدهما صاحبه بعد البيع وكذلك قال طاوس خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا بعد البيع فقال الرجل عمّرك الله ممن أنت؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " امرؤ من قريش " (قال) فكان طاوس يحلف ما الخيار إلا بَعْدَ الْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا مَضَى خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْبُيُوعِ كُلِّهَا، وَفِي الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ، لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْبُيُوعِ، فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ. لِأَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِمَا، مَنَعَ مِنْ بَقَاءِ عُلْق الْعَقْدِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ يُبْقِي عُلْق الْعَقْدِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَمُنِعَ مِنْهُ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَعَقْدُ الْبَيْعِ يَلْزَمُ بِشَيْئَيْنِ: هُمَا: - الْعَقْدُ. - وَالِافْتِرَاقُ. وَإِذَا كَانَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِهِمَا وَجَبَ بَيَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ الْعَقْدِ وَحُكْمِهِ، ثُمَّ بِالِافْتِرَاقِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْعَقْدُ فَيَصِحُّ بِاعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: اللَّفْظُ الَّذِي يُعَقَدُ بِهِ. وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ الْعَقْدِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْعَقْدُ تَابِعًا بِهِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُعَقَدُ بِهِ. فَأَلْفَاظُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ: يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ؛ وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ؛ وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا مَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، فَلَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قَدْ بِعْتُكَ، وَإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، هُمَا: قَوْلُهُ: قَدِ اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَدِ ابْتَعْتُ، لِأَنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ وَالِابْتِيَاعِ سَوَاءٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ: فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ كَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: قَدْ أَبَحْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، أَوْ قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ أَوْجَبْتُهُ لَكَ، أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ. كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهَا، لِاحْتِمَالِهَا، وَأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهَا. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ قَوْلُهُ: قَدْ مَلَّكْتُكَ. فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ: تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ بِالْعِوَضِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ لَفْظَ التَّمْلِيكِ يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَيَحْتَمِلُ الْهِبَةَ عَلَى الْعِوَضِ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ. وَالْأُخْرَى: أَنَّ التَّمْلِيكَ هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ وَمُوجَبُهُ، فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيمِ الْعَقْدِ، لِيَكُونَ التَّمْلِيكُ يَتَعَقَّبُهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْعَقْدِ بِأَلْفَاظِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْبَائِعِ خَارِجًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِمَّا مَخْرَجَ الْبَذْلِ، أَوْ مَخْرَجَ الْإِيجَابِ. وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي خَارِجًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا: إِمَّا مَخْرَجَ الْقَبُولِ، أَوْ مَخْرَجَ الطَّلَبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُمَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَفْظِهِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي. وَالثَّانِيَةُ: بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّالِثَةُ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ. فَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي: فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْبَائِعُ، فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِهَا، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ: قَدْ بِعْتُكَ، يَكُونُ بَذْلًا، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي: قَدِ اشْتَرَيْتُ، يَكُونُ قَبُولًا، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِيَ مُبْتَدِئًا: قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ بِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي إِلَى إِعَادَةِ الْقَبُولِ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ من المشتري إذا تقدم وإن كان بِلَفْظِ الْقَبُولِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّلَبِ، وَقَوْلُ الْبَائِعِ إِذَا تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَذْلِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِيجَابِ، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، كَمَا يَصِحُّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الْبَائِعُ، فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي عَبْدِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُهُ، لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهَذَا اللَّفْظِ، حَتَّى يَقُولَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ بِعْتُكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: قَدِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي، هُوَ اسْتِخْبَارٌ، وَلَيْسَ بِبَذْلٍ مِنْهُ وَلَا إِيجَابٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَذْلًا وَلَا إِيجَابًا، لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ. وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ: قَدْ بِعْتَنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، حَتَّى يَقُولَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْمُشْتَرِي، لَيْسَ بِقَبُولٍ وَلَا طَلَبٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ قَبُولًا وَلَا طَلَبًا، لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ: فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْبَائِعُ فَيَقُولُ: سَأَبِيعُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ، أَوْ يَقُولُ: أَبِيعُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهُ بِهَا أَوْ سَأَشْتَرِيهِ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: تَبِيعُنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ: أَبِيعُكَ، أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: تَشْتَرِي عَبْدِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعْدِ. وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا تَلَفَّظَا بِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ خَارِجًا مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ: أَتَشْتَرِي عَبْدِي بِأَلْفٍ؟ فَيَقُولُ: قَدِ اشْتَرَيْتُهُ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: أَتَبِيعُ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ؟ فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُهُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ. فَإِنِ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: اشترِ عَبْدِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، إِلَّا أَنْ يَعُودَ الْبَائِعُ فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ بِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي إِلَى إِعَادَةِ الْقَبُولِ عِنْدَنَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ مُبْتَدِيًا لِلْمُشْتَرِي: اشترِ عَبْدِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ: قَدِ اشْتَرَيْتُ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُكَ بِهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ كِلَا اللَّفْظَيْنِ أَمْرًا: أَنَّ الْبَائِعَ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْ جِهَتِهِ الْبَذْلُ مُبْتَدِيًا أَوِ الْإِيجَابُ مُجِيبًا، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: اشترِ، لَمْ يُوضَعْ لِلْبَذْلِ وَلَا لِلْإِيجَابِ. وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يُرَادُ مِنْ جِهَتِهِ الْقَبُولُ مُجِيبًا أَوِ الطَّلَبُ مُبْتَدِيًا، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: بِعْنِي، مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ وَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لِلْقَبُولِ. فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ لَفْظَيِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ عَنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْأَلْفَاظِ. وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سَوَاءٌ، إِذَا ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ الْبَائِعُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 قَدْ بِعْتُكَ بِهَا، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، حَتَّى يَعُودَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ: قَدِ اشْتَرَيْتُهُ، فَيَكُونُ هَذَا قبولا، كما لَوِ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ فَقَالَ: اشترِ عَبْدِي بِأَلْفٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَعْنَى اللَّفْظَتَيْنِ كَافٍ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ مِنْ صِفَاتِ لَفْظِهِ، لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ صِفَاتِ لَفْظِهِ. فَلَمَّا لَوْ كَانَ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَحْتَجِ الزَّوْجُ إِلَى الْقَبُولِ بَعْدَ إِجَابَةِ الْوَلْيِّ، وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ تَزَوَّجْتُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَيْعِ بِمَثَابَتِهِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَوْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْبَذْلُ كَفَاهُ الْقَبُولُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ فِيهِ الطَّلَبُ كَفَاهُ الإيجاب كالنكاح. والثاني: أن كلما لَوْ كَانَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ كَانَ نِكَاحًا، فَإِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَانَ بَيْعًا، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْبَذْلُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا بِعَبْدٍ، وَعَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَالْمُتَبَايِعَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ، فَأَيُّهُمَا جَعَلَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا، لَزِمَهُ حُكْمُهُ. فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِعَبْدِي، فَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ بِعْتُكَ بِهِ، صَحَّ بِهِ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَالَ: اشترِ مِنِّي عَبْدِي هَذَا بِعَبْدِكَ، فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يَصِيرُ الْعَقْدُ تَامًّا بِهِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: تَعْجِيلُ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ تَقَدَّمَ الْبَذْلُ، أَوْ تَعْجِيلُ الْإِيجَابِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَبُ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلَا بُعْدٍ، فَإِنْ فُصِلَ بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ بِكَلَامٍ لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ تَطَاوَلَ مَا بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ بِالْإِمْسَاكِ حَتَّى بَعُدَ مِنْهُ. لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَبُولِ تَأْثِيرٌ، إِلَّا أَنْ يَعْقُبَهُ الْبَائِعُ بِالْإِيجَابِ، فَيَصِيرُ الْقَبُولُ طَلَبًا وَالْإِيجَابُ جَوَابًا، وَيَتِمُّ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ لَوْ حَصَلَ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالْبَذْلِ إِمْسَاكٌ لِبَلْعِ الرِّيقِ وَقَطْعِ النَّفَسِ، تَمَّ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِمْسَاكِ تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي يَقْتَضِي مَا تَضْمَّنَهُ بَذْلُ الْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: قَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِالْأَلْفِ، أَوْ يقول: قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 اشْتَرَيْتُهُ بِهَا، فَيَصِحُّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ قَدْ تَضَمَّنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْبَذْلُ مِنَ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي - حِينَ قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ -: قَدْ قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَزِمَ فِيهِ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ الْمُشْتَرِي بِهَا فِي قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْبَائِعِ قَدْ تَنَاوَلَهَا، وَقَبُولُ الْمُشْتَرِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا؟ أَوْ قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ، صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَلْزَمِ الصَّدَاقُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ؟ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ؟ . قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ الْقَبُولُ، تَضَمَّنَ مَا يَتَنَاوَلَهُ الْبَذْلُ مِنَ الثَّمَنِ، وَالنِّكَاحُ قَدْ يَصِحُّ مَعَ خُلُوِّهِ مِنَ الصَّدَاقِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الصَّدَاقُ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ إِنْ قَبِلْتَ الشِّرَاءَ مِنِّي، فقال: نعم، صح البيع وتم. وكذا لو كَانَ بَيْنَهُمَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْعَقْدِ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ: بِعْتَهُ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتَهُ بِهَا، فَقَالَ: نَعَمْ، صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ. وَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُتَوَسِّطُ بِالْمُشْتَرِي فَقَالَ: اشْتَرَيْتَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ: بِعَتَهُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ، فَقَالَ: نَعَمْ، صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ. وَيُفَارِقُ النِّكَاحُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدِ ابْتَعْتُهُ بِخَمْسمِائَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ قَبِلْتُهُ بِأَلْفَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ عَلَى ثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، حَتَّى يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالْأَلْفِ؛ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، وَالْأَلْفُ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ، إِنْ شَاءَ الْبَائِعُ قَبِلَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا. قَالَ: وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ بِخَمْسمِائَةٍ، صَحَّ الْبَيْعُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ حَطَّهُ خَمْسَمِائَةٍ، وَحَلَّ ذَلِكَ حَطًّا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مُخْتَلِفٌ فِي حَالِ الْعَقْدِ لَمْ يُجْتَمَعْ عَلَيْهِ فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ سَوَاءٌ عَادَ الْبَائِعُ، فَقَبِلَ الزِّيَادَةَ، أَوِ الْمُشْتَرِي فَقَبِلَ الْحَطِيطَةَ أَمْ لَا؟ . وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذَا حُكْمُ العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فَصْلٌ: وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ: فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ الْخِيَارِ، وَلُزُومِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَقَطْعُ هَذَا الْخِيَارِ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِالِافْتِرَاقِ. وَإِمَّا بِالتَّخْيِيرِ الْقَائِمِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ. فَأَمَّا حَدُّ الِافْتِرَاقِ، فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُطْلَقًا، وَمَا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا فِي اللُّغَةِ كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَدِّهِ إِلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ فِي الْمَبِيعَاتِ، وَالْإِحْرَازِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ، فَإِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَى حَيْثُ يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لَهُ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، مِثَالُ ذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا فِي دَارٍ فَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا مِنْهَا، فَيَكُونُ هَذَا افْتِرَاقًا سَوَاءٌ صَغُرَتِ الدَّارُ أَوْ كَبُرَتْ، بَعُدَ الْخَارِجُ مِنْهَا أَمْ قَرُبَ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَلَكِنْ قَامَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً، كَانَ ذَلِكَ تَفَرُّقًا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَوِ الصُّعُودِ إِلَى عُلُوِّهَا. وَكَذَا السَّفِينَةُ إِذَا تَبَايَعَا فِيهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى سَفِينَةٍ غَيْرِهَا، أَوْ إِلَى الْمَاءِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بِقِيَامِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي الصَّدْرِ، ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْمُؤَخَّرِ، أَوْ تَبَايَعَا فِي الْمُؤَخَّرِ ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الصَّدْرِ. فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَا فِي سُوقٍ كَبِيرَةٍ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالتَّفَرُّقُ: أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدُهُمَا ظَهْرَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُوَلِّيَ ظَهْرَهُ وَيَمْشِيَ قَلِيلًا حَتَّى يُزَايِلَ مَوْضِعَ الْعَقْدِ فِي الْعُرْفِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بُيُوعِهِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعِ تَبَايُعِهِمَا وَمَجْلِسِ عَقْدِهِمَا، فَبُنِيَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفَرُّقًا، لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَبْنِيَّ حَائِلٌ، وَالْحَائِلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ بِوُقُوفِهِ. فَأَمَّا إِذَا قَامَا جَمِيعًا عَنْ مَجْلِسِ تَبَايُعِهِمَا، وَمَشَيَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَلَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا، فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدَ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: أَنَّ خِيَارَهُمَا قَدِ انْقَطَعَ بِمُفَارَقَةِ مَجْلِسِهِمَا. وَحَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ حَيْثُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَهُمَا: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَقَلَ مَعْنَى الِافْتِرَاقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا حُكْمُ الِافْتِرَاقِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِذَا تَمَّ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَبُ إِذَا ابْتَاعَ مِنِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا عُلِّقَ عَنْهُ: أَنَّ حَدَّ الِافْتِرَاقِ فِي بَيْعِهِ أَنْ يُفَارِقَ مَجْلِسَ بَيْعِهِ الَّذِي ابْتَاعَ فِيهِ مِنِ ابْنِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفَرُّقًا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا إِلَى بُلُوغِ ابْنِهِ، أَوْ يُخَيِّرُ الْأَبُ نَفْسَهُ عَنِ ابْنِهِ، فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَعَنِ ابْنِهِ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ وَقَطْعَ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ. فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَانْتَقَلَ الْخِيَارُ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي بَلَغَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنْ زَالَ عَنِ الْمَوْضِعِ، سَقَطَ خِيَارُهُ. وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ، غَلَبَ الْفَسْخُ عَلَى الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ قَصْدٍ لِقَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ، أو غير قصد ناسين، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي حَدِّ الِافْتِرَاقِ وَحُكْمِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّخْيِيرُ الْقَائِمُ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ: فَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ، فَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُ مَعَهُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِمَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا حُكْمَ لِلتَّخْيِيرِ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ". وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي كِتَابِنَا رَابِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يَفْتَرِقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ ". وَرُوِيَ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا فَقَالَ لَهُ: " اخْتَرْ " فَقَالَ: عَمَّرَكَ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ ". وَلِأَنَّ الْخِيَارَ خِيَارَانِ: خِيَارُ شَرْطٍ، وَخِيَارُ عَقْدٍ. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْقَطِعُ بِالتَّخْيِيرِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالتَّخْيِيرِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ، فَخَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: فَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْإِمْضَاءَ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ. وَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْفَسْخَ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الفسخ والآخر الإمضاء غلبا الْفَسْخَ عَلَى الْإِمْضَاءِ، وَفُسِخَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الخيار الفسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 فصل: وقد يكون صَرِيحًا: بِأَنْ يَقُولَ: فَسَخْتُ. وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يقوم مقام قَوْله: قَدْ فَسَخْتُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ وَالثَّمَنُ مُؤَجَّلٌ: لَسْتُ أُمْضِي الْبَيْعَ إِلَّا بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: لَسْتُ أُعَجِّلُ الثَّمَنَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ وَيَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: قَدْ فَسَخْتُ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ ذَلِكَ وَأَشْبَاهُهُ. فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ أَلْفُ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ: لَسْتُ أَخْتَارُهُ إِلَّا بِأَلْفِ غُلة، فَقَالَ الْبَائِعُ: لَسْتُ أُمْضِيهِ بالغُلة، كَانَ فَسْخًا، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا وَأَمْضَاهُ الْبَائِعُ بِالْأَلْفِ الغُلة كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافَ عَقْدٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ وَكَانَ لَهُمَا الْخِيَارُ ما لم يفترقا، أو يختارا الإمضاء. ومما يَكُونُ لِلْبَيْعِ وَيَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: قَدْ فَسَخْتُ، أَنْ يَتْلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَيَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ لِتَلَفِهِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ. فَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ، ثُمَّ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَانَتِ السِّلْعَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِالتَّلَفِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْيَدِ. وَلَوْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَوْدَعَهَا الْبَائِعَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، بَطَلَ الْبَيْعُ، وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ، وَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِلْمُشْتَرِي. وَمِمَّا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ أَوْ يُوصِيَ بِهِ، أَوْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَقِفَهُ، أَوْ يَكُونُ عَبْدًا فَيَعْتِقُهُ، أَوْ ثَوْبًا فَيَلْبَسُهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: افْتَرَقْنَا عَنْ فَسْخٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: افْتَرَقْنَا عَنْ تَرَاضٍ: ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أن قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الِافْتِرَاقَ عَنْ تَرَاضٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ إِنْفَاذَ الْبَيْعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مَنْ حَالِ الْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الِافْتِرَاقَ عَنْ فَسْخٍ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْبَيْعِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقْدِ وَإِنْكَارِهِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ دُونَ مُثْبِتِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي إنفاذه وفسخه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنِ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوِ الْخِيَارِ، وَاخْتَارَ الْبَائِعُ نَقْضَ الْبَيْعِ، كَانَ لَهُ، وَكَانَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي بَاطِلًا، لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَمْ يَتمَّ مِلْكُهُ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْبَائِعُ كان جائزا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَوَابُ وَهِيَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى يَمْلِكُ الْمَبِيعَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ بِقَطْعِ الْخِيَارِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ حَاصِلًا بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَاسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ يَكُونُ بِقَطْعِ الْخِيَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ مُسْتَقِرًّا، إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ جَمِيعًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ مَوْقُوفٌ مُرَاعى، فَإِنِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْعَقْدِ عَنْ تراض منهما به، بان أن الْمُشْتَرِيَ كَانَ مَالِكًا لِلْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنْ نقض الخيار عن فسخ، بأن أنّ الْمَبِيعَ، لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، كَانَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ، مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدَّمِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَالْمَبِيعُ قَدْ زَالَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مَلَكَهُ حِينَئِذٍ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِنَا الثَّلَاثَةِ، وَفِي تَوْجِيهِهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ - وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ - فَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ". فَسَمَّاهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى حُصُولِ الْبَيْعِ، وَمُوجَبُ الْبَيْعِ حُصُولُ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِيَارَ نَوْعَانِ: خِيَارُ عَقْدٍ، وَخِيَارُ عَيْبٍ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خِيَارُ الْعَيْبِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ، لَمْ يَكُنْ خِيَارُ الْعَقْدِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْلَاكَ تُسْتَفَادُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: بِقَوْلٍ، وَبِفِعْلٍ. فَلَمَّا كَانَ مَا يُمْلَكُ بِالْفِعْلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ، لَا يَكُونُ مُرُورُ الزَّمَانِ مُؤَثِّرًا فِي تَمَلُّكِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يُمْلَكُ بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَكُونُ مُرُورُ الزَّمَانِ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي تَمَلُّكِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ، فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل بيعين فلا بيع بينهما، حتى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ " فَنَفَى الْبَيْعَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِالِافْتِرَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الْمِلْكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ مُوجَبِهِ، وَمُوجَبُ الْمِلْكِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُنْتَقَلٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَوَجْهُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ، وَالْخِيَارَ يَنْفِي الْمِلْكَ وَأَمْرُهَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي إِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِقَطْعِ الْخِيَارِ عَنْ تَرَاضٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْخِيَارِ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ بِالْفَسْخِ قَبْلَ تَقَضِّي الْخِيَارِ، فَصَارَ كَالْقَبْضِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَيَقِفُ تَصْحِيحُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ بَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَلِفَ بَانَ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخِيَارِ، فَإِنْ تَقَضَّى عَنْ تَرَاضٍ، بَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ، وَإِنْ تَقَضَّى عَنْ فَسْخٍ بَانَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ لِمَ يَنْتَقِلْ بِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقْوَالِ: فَالْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ. أَوْ يَفْسَخَهُ. فَإِنْ أَمْضَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ نَفَذَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ، إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالتَّفَرُّقِ، فَعِتْقُ الْمُشْتَرِي، بَاطِلٌ غَيْرُ نَافِذٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ ". ثُمَّ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عِتْقَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَدِيمَ رِقَّهُ. وَإِنْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ، بَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ ثلاثة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 وَهُوَ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِعِتْقِ مَا لَا يَمْلِكُ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي الْمُعْتِقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، أَوْ مُعْسِرًا: فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا كَافَّةً، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ فَسْخَ الْبَيْعِ؛ لِحِفْظِ الرَّقَبَةِ، وَطَلَبِ الْحَظِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ الْمُشْتَرِي بِعِتْقِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ بِالْفَسْخِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخَرِّجُ نُفُوذَ عِتْقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عِتْقِ الرَّاهِنِ لِعَبْدِهِ الْمَرْهُونِ: أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ عِتْقَهُ بَاطِلٌ؛ لِحَجْرِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا سَرَى إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، كَانَ وُقُوعُهُ فِي الْمِلْكِ وَرَفْعُهُ لِحَجْرِ الْبَائِعِ أَوْلَى. وَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ، يُنْكِرُونَ تَخْرِيجَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَيُبْطِلُونَ الْعِتْقَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالِكًا، فَخِيَارُ الْبَائِعِ يُوَقِعُ عَلَيْهِ حَجْرًا وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ كَالسَّفِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّاهِنِ حَيْثُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِلْمُرْتَهِنِ، أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنَ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَالرَّهْنُ وَثِيقَةٌ فِيهِ، فَضَعُفَ حَجْرُهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ. فَإِنْ قِيلَ: بِبُطْلَانِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ - اسْتَرْجَعَ الْبَائِعُ عَبْدَهُ بِالْفَسْخِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةٌ وَلَا ثَمَنٌ، لِبُطْلَانِ الْعِتْقِ. وَإِنْ قِيلَ: بِنُفُوذِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي، فَلَا بُدَّ لِلْبَائِعِ عَلَى الْعَبْدِ، لِنُفُوذِ عِتْقِهِ، وَصِحَّةِ حُرِّيَّتِهِ. وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ لِلْبَائِعِ، وَفِيمَا يُضَمِّنُهُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَيَصِيرُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مُبْطِلًا لِفَسْخِ الْبَائِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَصَحُّ - يُضَمِّنُهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْخِيَارِ، يُثْبِتُ فَسْخَ الْبَائِعِ، وَفَسْخَ الْبَائِعِ يُوجِبُ رَفْعَ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِيهِ، وَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ، صَارَ الْمُشْتَرِي مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. فَهَذَا حُكْمُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ تَصَرُّفًا غَيْرَ الْعِتْقِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِتْقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِمْضَاءِ الْبَائِعِ دُونَ فَسْخِهِ، وَذَلِكَ: الْوَقْفُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْوَصِيَّةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَرْدُودًا بَاطِلًا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ انْفَسَخَ الْبَيْعُ أَوْ تَمَّ، وَذَلِكَ: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالْهِبَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَذَلِكَ: الْكِتَابَةُ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ كَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي، فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بِعِتْقٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَعَنْ إِذْنِهِ، فَجَمِيعُهُ نَافِذٌ مَاضٍ، وَيكَوْن تَصَرُّف الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا مِنْهُمَا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ مِنْ جِهَتِهِ؟ قِيلَ: لَا يَخْلُو حَالُ تَصَرُّفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ. أَوْ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ. فَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ، كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ، وَيَكُونُ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَكَذَا لَوِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، فَقَالَ: قَدِ اخْتَرْتُ الْإِمْضَاءَ، انْقَطَعَ خِيَارُهُ، ويكون خيار البائع باقيا له بحاله. وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، أَوْ قَالَ: قَدِ اخْتَرْتُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ: فَإِنْ قَابَلَهُ الْبَائِعُ بِالْإِمْضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِمَا: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبِالتَّصَرُّفِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ بِصَرِيحِ اخْتِيَارِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَبِمُقَابَلَتِهِ لَهُ عَلَى إِجَازَةِ تَصَرُّفِهِ. وَإِنْ لَمْ يُقَابِلْهُ الْبَائِعُ بِالْإِمْضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ أَمْسَكَ عَنِ الرِّضَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي تَصَرُّفِهِ بِالِاخْتِيَارِ. فَلَا يَخْلُو تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالتَّدْبِيرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِ وَرِضًا لِلْإِمْضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ وَيَكُونُ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا. وَإِنَّمَا بَطَلَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بَقَاءَ خِيَارِهِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ، فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 تَصَرُّفِهِ لَازِمًا لَهُ، أَوْجَبَ سُقُوطَ خِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ لِافْتِقَارِهِمَا إِلَى صَرِيحِ الِاخْتِيَارِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّهُ يَكُونُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا، كَمَا لَوِ اخْتَارَ قَطْعَ ذَلِكَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ مَعًا، وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمَّا كَانَ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِلْبَائِعِ وَإِنْ حَدَثَ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَقَوْلُهُ مَا حَدَثَ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ حَدَثَ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَقَوْلِهِ مَا حَدَثَ؛ لِيَكُونَا سَوَاءً فِيمَا أَوْجَبَ الْعَقْدُ تَسَاوِيَهُمَا فِيهِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ خِيَارَ الثَّلَاثِ حَيْثُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمُشْتَرِي قَاطِعًا لِخِيَارِهِ وَإِنْ بَقِيَ خِيَارُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي عِتْقِ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا عِتْقُ الْبَائِعِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، فَنَافِذٌ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اعْتِرَاضٌ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِ الْبَائِعِ - حَيْثُ نَفَذَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا - وَبَيْنَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي: أَنَّ عِتْقَ الْبَائِعِ، فَسْخٌ، وَعِتْقَ الْمُشْتَرِي، إِمْضَاءٌ. وَفَسَخُ الْبَائِعِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِمْضَاءِ الْمُشْتَرِي، فَلِذَلِكَ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ تَصَرّفُ الْبَائِعِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ مَاضٍ، وَيَكُونُ فَسْخًا، كَمَا لَوْ آجَرَ، أَوْ رَهَنَ، أَوْ وَهَبَ، أَوْ وَصَّى، أَوْ وَقَفَ، أَوْ دَبَّرَ، كَانَ جَمِيعُهُ مَاضِيًا، وَكَانَ لِلْعَقْدِ فَاسِخًا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ أَقْبَضَ الْمَبِيعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، أَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْقَبْضُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ بَعْدَ أَنْ تَقَابَضَا الْعَبْدَ الْمَبِيعَ، وَهَبَهُ لِلْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، جَازَتِ الْهِبَةُ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَاحْتَاجَ الْمُشْتَرِي إِلَى تَجْدِيدِ قَبْضِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ بِالْبَيْعِ لَا بِالْهِبَةِ. فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ، مَاتَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ الْوَاهِبِ، لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَتِمَّ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْفَسْخِ، وَالْهِبَةُ لَمْ تَتِمَّ بِالْقَبْضِ، فَلَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ، لَمْ يَحْكِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ، وَإِنَّمَا تصح الهبة بالعقد وأن يمضي بعده زمان القبض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْعَبْدُ تَالِفًا مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِصِحَّةِ الْهِبَةِ. فصل: إذا قَالَ الْمُشْتَرِي فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ: إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَنَا وَانْبَرَمَ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَمْنَعُهُ مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ، بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنْ تَعْجِيلِ عِتْقِهِ. ثُمَّ يَنْظُرُ: فَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِفَسْخِ الْبَائِعِ، أَوْ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي، رَجَعَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يُعْتَقْ، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَصَحَّ، عتقَ عَلَى الْمُشْتَرِي، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَتَقَدُّمِ الْقَوْلِ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ وُجِدَتْ صِفَةُ عِتْقِهِ بِتَمَامِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ قَوْلَهُ بِالْعِتْقِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ لَعَبْدِ غَيْرِهِ: إِنْ مَلَكْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَلَكَهُ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ ". فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَ: إِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَنَا فَأَنْتَ حُرٌّ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَصَلَ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يُعْتَقَ، لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ لَيْسَ صِفَةً لِعِتْقِهِ. فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ، قَدْ قَالَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ: إِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ إِمَّا بِفَسْخِهِ أَوْ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي، عَتَقَ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَقْدِ الصَّفْقَةِ بِعِتْقِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَعْجِيلُ عِتْقِهِ، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي مِلْكِهِ. فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَالَ: إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَتَمَّ الْبَيْعُ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، لوجود الصفة في غير ملكه. فَصْلٌ: إِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ خِيَارٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ خِيَارِ الثَّلَاثِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بالعقد، وخيار الثلاثاء بِالشَّرْطِ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ فَسْخَ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَذَلِكَ لَهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ. وَيُفَارِقُ اسْتِئْنَافُ الْمُشْتَرِي عِتْقَ الْأَمَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، حَيْثُ كَانَ مَانِعًا مِنْ فَسْخِ الْبَائعِ فِي تَخْرِيجِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمًا لِمُوجَبِ الْبَيْعِ وَيَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي إِذَا انْفَرَدَ بِهِ جَرَى مَجْرَى الْإِتْلَافِ. فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ: فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا، جَازَ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَقُ حُكْمًا بِالْعَقْدِ الَّذِي يجتمعان عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، جَازَ أَنْ يفسخ إذا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ إِنَّهُ مُرَاعًى، لِأَنَّهُ يَفْسَخُ قَبْلَ تَمَامِ مِلْكِهِ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَانُ خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْفَسْخِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْعَقْدُ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ، وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ حُكْمُ خِيَارِهِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ، وَتَوْفِيرِ الرِّبْحِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِيمَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ، فَلَمْ يَكُنْ لِثُبُوتِ الخيار في ابتياعه وجه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي فَوَطِئَهَا فَأَحْبَلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَاخْتَارَ الْبَائِعُ فَسْخَ الْبَيْعِ، كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَهْرُ مِثْلِهَا، وَقِيمَةُ وَلَدِهِ مِنْهَا يَوْمَ تَلِدُهُ، وَلَحِقَهُ بِالشُّبْهَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَطِئَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَا مَهْرَ فِيهِ سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَوِ انْفَسَخَ. وَهَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَطَأَ في الفرج، هذا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَحْبَلَ بِوَطْئِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَحْبَلَ. فَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ بِوَطْئِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. فَأَمَّا الْمَهْرُ، فَمُعْتَبَرٌ بِتَمَامِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ: فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مُرَاعًى، لِأَنَّ وَطْأَهُ: صَادَفَ مِلْكَهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مَجْرَى خِيَارِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِنْ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ قِيلَ: إنه مراعى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 فَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ: وَإِنْ أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ يَلْحَقُ بِهِ: وَيَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فِي الْمَهْرِ، وَهُوَ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَهُوَ كَالْمَهْرِ. إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا قِيمَةَ لِلْوَلَدِ عَلَيْهِ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مُرَاعًى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَضَعُهُ فِي مِلْكِهِ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ إِنْ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مُرَاعًى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تَضَعُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ، ثُمَّ نَبْنِي جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: إِنْ تَعَلَّقَ بِمَمْلُوكٍ، إِمَّا مِنْ زَوَاجٍ أَوْ زِنًا، فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي حَالٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: إِنْ تَعَلَّقَ بِحُرٍّ فِي مِلْكٍ كَالسَّيِّدِ يَطَأُ أَمَتَهُ، فَتَعَلَّقَ مِنْهُ، فَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ. فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا حَقُّ الْغَيْرِ فَبِيعَتْ فِيهِ كَالْمُرْتَهِنِ إِذَا بِيعَتْ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ مَلَكَهَا مِنْ بَعْدُ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: إِنْ تَعَلَّقَ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ. وَهَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَنْفَسِخَ. فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مُرَاعًى؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 فَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، صَحَّ الْفَسْخُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ؟ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِرَقَبَتِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى حُرِّيَّةِ وَلَدِهَا، كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، إِذَا صَارَتِ الْأَمَةُ الْمَرْهُونَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ. وَإِنْ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي فِيمَا بَعْدُ، فَإِنْ قِيلَ: إنه قد كان مَلَكَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ مُرَاعًى، فَهَلْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي، فَوَطِئَهَا، فَأَحْبَلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ. فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْمٌ، وَقَالُوا: إِحْبَالُهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مُسْتَحِيلٌ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ. وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي فَوَطِئَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ فَأَحْبَلَهَا، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ، فَقَدَّمَ لَفْظَ الْإِحْبَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَالِهِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْبَالَ يَقَعُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ ظُهُورُهُ، وَلَيْسَ تَأَخُّرُ ظُهُورِهِ بِمَانِعٍ مِنْ حُصُولِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ: فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ رَآهُ الْبَائِعُ يَطَأُ كَانَ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعًا لِخِيَارِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَحِقُّ بِخِيَارِهِ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ، فَأَمْسَكَ عَنْ مَنْعِهِ، كَانَ رَاضِيًا بِهِ، فَبَطَلَ خِيَارُهُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قال ذلك لتحقيق صورة ال مسألة، إذ بعيد فِي الْعَادَةِ أَنْ يَطَأَ النَّاسُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُصَوِّرَهَا عَلَى مَا يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْعُرْفِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَرْطًا فِي خِيَارِ الْبَائِعِ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْبَائِعِ وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ قَطْعًا لِخِيَارِهِ، لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرِي، فَهَلْ يَكُونُ قَاطِعًا لِخِيَارِهِ وَرِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يَكُونُ قَاطِعًا لِخِيَارِهِ كَوَطْءِ الْبَائِعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ وَطْءَ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ رِضًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ وَطْءُ الْبَائِعِ رِضًا لِلْفَسْخِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْقَوْلِ، لَمْ يَصِحَّ إِمْسَاكُهُ وَالرِّضَا بِهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ. وَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ إِلَى الْمِلْكِ بِالْفِعْلِ يَفْسَخُ الْبَيْعَ فَيَصِحُّ بِالْفِعْلِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ، فَهِيَ أَمَتُهُ وَالْوَطْءُ اخْتِيَارٌ لفسخ البيع ". قال الماوردي: وهذا صحيح، وإذا وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لِمَا ذَكَرْنَا: مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَمَّا حَصَلَ بِالْفِعْلِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ إِلَيْهِ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ حَيْثُ كَانَ بِالْوَطْءِ، وَبَيْنَ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ، حَيْثُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ: لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْقَوْلِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَالْمِلْكَ لَمَّا حَصَلَ بِالْفِعْلِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ الرَّدُّ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ. مسألة: قال المزني: وَهَذَا عِنْدِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا أَشْبَه أَنْ يَكُونَ قَدِ اخْتَارَهَا، وَقَدْ طُلِّقَتِ الْأُخْرَى، كَمَا جُعِلَ الْوَطْءُ اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ لِأَمَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا حُرَّةٌ، وَيُعَيِّنُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَالْعِتْقِ فِي إِحْدَى أَمَتَيْهِ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ إِحْدَاهُمَا بَيَانًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لِغَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مُعَيَّنًا بِاللَّفْظِ قَبْلَ الْوَطْءِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْهَمَ الطَّلَاقَ فِي زَوْجَتَيْهِ وَالْعِتْقَ فِي أَمَتَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: الْوَطْءُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِإِمْسَاكِ الْمَوْطُوءَةِ وَطَلَاقِ الْأُخْرَى إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً، وَعِتْقِهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: إِنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ بَيَانًا فِي الْمَوْضُوعِ وَإِنْ كَانَ بَيَانًا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ إِزَالَةٌ لِلْمِلْكِ، وَإِزَالَةُ الْأَمْلَاكِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ. وَفَسْخُ الْبَيْعِ اسْتِرْجَاعٌ لِلْمِلْكِ، وَالْأَمْلَاكُ قَدْ تَحْصُلُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالْخِيَارُ لِوَارِثِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَيَكُونُ مَوْرُوثًا. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ: إِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَقَدْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. زَادَ أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ: يُوجِبُ قَطْعَ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَوْرُوثًا لِسَيِّدِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَامِدٍ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وَلَا إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْخِيَارُ بِمُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ، فَأَوْلَى أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْمَوْتِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْخِيَارَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ - وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ - لِأَنَّ الْخِيَارَ قَدْ ثَبَتَ فِي الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَفِي الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الثَّلَاثِ بِالْمَوْتِ وَكَانَ مَوْرُوثًا، وَجَبَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْمَوْتِ وَيَكُونَ مَوْرُوثًا. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِكْرَاهًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَكُونُ مُتَنَقِّلًا إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وسيد المكاتب. وقوله فِي الْمُكَاتَبِ: فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ: قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ يموت عبدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ عَلَى اخْتِلَافِ نَصَّيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَقِلًا عَنِ الْحُرِّ إِلَى وَارِثِهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ. وَلَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمُكَاتَبِ إِلَى سَيِّدِهِ، وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحُرَّ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى وَارِثِهِ بِالْإِرْثِ وَحُدُوثِ الْمَوْتِ، فَقَامَ فِي الْخِيَارِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ، كَمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي غَيْرِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بِالْمِلْكِ الْمُتَقَدِّمِ، لَا بِالْإِرْثِ، فَلَمَّا بَطَلَ خِيَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَوْتِ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى سَيِّدِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ، كَالْوَكِيلِ إِذَا مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْخِيَارُ إِلَى مُوَكِّلِهِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا جُنَّ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَا يَنْقَطِعُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْجُنُونِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِهِ، وَسَوَاءٌ فَارَقَ الْمَجْنُونُ الْمَجْلِسَ أَوْ قَامَ فِيهِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ لَا حُكْمَ لَهُ، فَلَمْ يَنْقَطِعِ الْخِيَارُ بِفِرَاقِهِ. وَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ عَنْهُ إِلَى وَلِيِّهِ، كَمَا يَنْتَقِلُ خِيَارُ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ. وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَعْلَمَا بِالْحَالِ وَلَمْ يُفَارِقِ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ. فَإِذَا عَلِمَ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثُ الْمَيِّتِ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهِمَا الَّذِي عَلِمَا فِيهِ مَا لَمْ يُفَارِقَاهُ. فَإِنْ فَارَقَا الْمَجْلِسَ الَّذِي عَلِمَا فِيهِ، أَوْ فَارَقَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ الَّذِي عُقِدَ الْبَيْعُ فِيهِ، فَقَدِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ أبو حنيفة: خِيَارُ الثَّلَاثِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُورَثُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ خِيَارٌ يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَبِيعِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فَمُنِعَ مِنْ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ فِيهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ بَاطِلًا بِالْمَوْتِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَعْنًى يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَالْأَجَلِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْوَرَثَةُ إِنَّمَا يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ حَقٌّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكَّلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لِوَكِيلِهِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ. وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وَلِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ شُرِطَ لَهُ، وَالْوَارِثُ لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْخِيَارُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ فِي بَيْعٍ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَ مُورِثِهِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْطَعَ الْخِيَارَ الْمُسْتَحَقَّ كَالْجُنُونِ. وَلِأَنَّ كُلَّ خِيَارٍ لَا يَنْقَطِعُ بِالْجُنُونِ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ لَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الْعَقْدِ، فَوَجَبَ إِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ بِحُقُوقِهِ كَالرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي حَقِّهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي خِيَارِ الْقَبُولِ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِالْجُنُونِ، بَطَلَ بِالْمَوْتِ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالتَّرَاخِي وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ. حَتَّى قَالَ: لَوْ كَانَ الْمَوْتُ عُقَيْبَ الْبَذْلِ، فَقَالَ الْوَارِثُ فِي الْحَالِ: قَدْ قَبِلْتُ، صَحَّ الْعَقْدُ، إِذَا لَمْ يَقَعِ التَّرَاخِي بَيْنَ بَذْلِ الْبَائِعِ وَقَبُولِ الْوَارِثِ. وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجَلِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا أَتْلَفَ الذِّمَّةَ الَّتِي أُثْبِتَ فِيهَا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ، أَبْطَلَ الْأَجل، لِتَلِفِ مَحَلِّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ الدَّيْنُ بِأَجَلِهِ إِلَى ذِمَّةِ الْوَارِثِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَبِيعِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَوُجُودِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْتَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا لِلذِّمَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِلْأَجلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ لَهُ الشَّرْطُ: فَهُوَ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ صَانِعٌ فَيُوجَدُ غَيْرَ صَانِعٍ فَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِعَدَمِ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ إِعْرَاضُهُ فِي اخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّيهِ كَالدَّيْنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ مَوْرُوثٌ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، كَانَ بِالْخِيَارِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْمَبِيعِ كُلِّهِ أَوْ فَسْخِ جَمِيعِهِ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً: فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ أَوْ رَدِّ جَمِيعِهِ، فَذَاكَ لَهُمْ. وَإِنْ أَرَادَ بَعْضُهُمُ الرَّدَّ وَبَعْضُهُمُ الْإِمْسَاكَ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ لِمَنْ أَرَادَ الرَّدَّ: لَا حَقَّ لَكَ فِي الرَّدِّ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ الْبَاقُونَ مَعَكَ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ حِصَّتِهِ دُونَ شُرَكَائِهِ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِينَ صَفْقَةً. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُشْتَرِي. أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْبَائِعُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ورثته أن ينفرد، فيفسخ البيع فِي حِصَّتِهِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ. بِخِلَافِ وَرَثَةِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا فَسَخَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْبَائِعِ فِي حِصَّتِهِ، ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْبَاقِي، لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ، فَأَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي فَأَمْسَكَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يُثْبَتُ لَهُ بِذَلِكَ خِيَارٌ يُمُكِّنُهُ أَنْ يَدْفَعَ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. فَصْلٌ: إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الثَّلَاثِ، فَلَمْ يَعْلَمِ الْوَارِثُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ، سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْخِيَارِ بِالثَّلَاثِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِهِ بَعْدَ الثلاث. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ بَهِيمَةً فَنتجَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ثُمَّ تَفَرَّقَا، فَوَلَدُهَا لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْعَقْدَ، وَقَعَ وَهُوَ حَمْلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِلْكُ الْمَبِيعِ بِمَاذَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ. وَالثَّانِي: فِي الْحَمْلِ، هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ تَبَعًا، وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَالسَّمْنِ وَالْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى حَمْلِهَا كَسِرَايَتِهِ إِلَى أَعْضَائِهَا التَّابِعَةِ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ كَاللَّبَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى أُمِّهِ، وَلَوْ كَانَ تَبَعًا لَهَا كَأَعْضَائِهَا لَسَرَى عِتْقُهُ إِلَيْهَا كَمَا يَسْرِي عِتْقُ أَعْضَائِهَا إِلَيْهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ: فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَهِيمَةً حَامِلًا، فَوَضَعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ، صَارَ الْعَقْدُ كَأَنَّهُ قَدْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا. فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْأُمِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ - وَهَذَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا - وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ، حَتَّى يُسَلِّمَهُ، وَمَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا تَسَلَّمَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ: فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَيْعِ مِنْ أَنْ يَتِمَّ، أَوْ يَنْفَسِخَ: فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، فَحُكْمُ الْوَلَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ قلنا: إنه مراع، فَالْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ. وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ، حَتَّى يُسَلِّمَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي نَمَاءِ الصَّدَاقِ. هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ، فَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ رَدُّهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ النَّمَاءِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ النَّمَاءِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَالْوَلَدُ لِلْبَائِعِ، وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ لِلْبَائِعِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ، وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ: إن هذا الخيار يجري مجرى خيار الغيب. وَهَلْ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ ضَمَانَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ نَمَاءٍ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ قَطْعِ الْخِيَارِ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَسْبٍ، كَالْوَلَدِ سَوَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ كُلُّ خِيَارٍ بِشَرْطٍ جَائِزٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَيُرِيدُ بِهِ أن جميع ما تق 6 دم مِنَ الْمَسَائِلِ فِي عِتْقِ الْمُشْتَرِي، وَعِتْقِ الْبَائِعِ، وَوَطْءِ الْمُشْتَرِي، وَوَطْءِ الْبَائِعِ، وَنِتَاجِ الْبَهِيمَةِ، إِذَا حَدَثَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ، فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ. وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانْتِقَالِهِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ على ثلاثة أقاويل. نحن نُوَضِّحُ مَعَانِيَهَا بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً، فَتَحِيضُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ تَقَضِّي الْخِيَارِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، لَمْ تَعْتَدَّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْعَقْدِ أَوْ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعْتَدّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ، لِحُدُوثِهَا فِي مِلْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِبْرَاءِ: أَنَّهُ لَا تَعْتَدّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ، لِأَنَّ الْفَرْجَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي زَمَانِ الْإِبَاحَةِ. وَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ مِنْ زِنًا، كَانَ وُقُوعُ الِاسْتِبْرَاءِ بِهِ كَالْحَيْضِ سَوَاءٌ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، فَفِي جَوَازِ وَطْئِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ، وَأَيَّهُمَا كَانَتْ، حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَطَأُ بِالْمِلْكِ أَمْ بِالزَّوْجِيَّةِ؟ فَإِنْ تَمَّ البيع بينهما، بطل نكاحها، وصارة أَمَةً يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا، وَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَبْلَ وَطْئِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، هَلْ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ مُضِيِّ الْخِيَارِ أَمْ لَا؟ . فَإِنْ قِيلَ: قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ. وَإِنْ قِيلَ: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، أَوْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَهُمَا عَلَى الزوجية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَفِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ لِوُقُوعِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ: إِنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ وَإِنْ تَمَّ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. فَصْلٌ: إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ؟ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا. وَالثَّانِي: قَدْ وَقَعَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَقْعَ الطَّلَاقُ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَرَاجَعَهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ: فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدِ انْفَسَخَ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَفِي صِحَّةِ الرجعة وجهان. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ فِيهَا إِلَى الْمُشْتَرِي. وَكَرِهَ مَالِكٌ دَفْعَ الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلَمْ يَكْرَهْ دَفْعَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّ بِالْمُشْتَرِي حَاجَةً إِلَى تَقْلِيبِ الْمَبِيعِ وَنَظَرِ عَيْنَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ ذَلِكَ، قبض الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ، وَلَا يَكُونُ قَبْضُ الْبَائِعِ قَطْعًا لِخِيَارِ الْمُشْتَرِي. وَيُمْنَعُ الْبَائِعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَيَ الثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ يُوقِعُ حَجْرًا فِي التَّصَرُّفِ. فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، اسْتَقَرَّ وَجَازَ التَّصَرُّفُ. وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ، وَاسْتَرْجَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُشْتَرِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: لَسْتُ أَرُدُّ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الثَّمَنَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: لَسْتُ أَرُدُّ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعَ، لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسَ شَيْءٍ مِمَّا بِيَدِهِ، وَوَجَبَ لِمَنْ بَدَأَ بِالْمُطَالَبَةِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بِيَدِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسُ مَا بِيَدِهِ عَلَى اسْتِرْجَاعِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَانَعَا الْقَبْضَ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ: لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: لَا أَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعَ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسُ مَا بِيَدِهِ عَلَى قَبْضِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ: إِنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الْعَقْدِ، فَكَانَ التَّسْلِيمُ لِأَجْلِ الْيَدِ، لَا بِالْعَقْدِ، وَالْيَدُ تُوجِبُ الرَّدَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا تَمَانَعَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ مَا بِيَدِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ قَبْضَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْبُوسًا عَلَى قَبْضِ الْآخَرِ لَهُ كَمَا فِي الْمُوجَبَيْنِ. فَصْلٌ: فَلَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ رَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَسْخِ. فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخِيَارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ، أَوْ خِيَارَ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ، لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ، إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْغَصْبِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْمَقْبُوضِ لِلسَّوْمِ أَوْ بِعَقْدِ بَيْعٍ فَاسِدٍ، أَوْ مَفْسُوخٍ، فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ خِيَارَ شَرْطٍ نُظِر. فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، لَا يَخْتَلِفُ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ، أَوْ هُوَ موقوف مراع، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْبُيُوعِ - أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ البيع لم يتم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 والثاني: - وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ - أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُ وَحْدَهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ، وَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ، فَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ تَلَفُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ، فَلَا يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ، لَا يَخْتَلِفُ، لِاسْتِقْرَارِ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ الطَّلَبِ، كَانَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَ طَلَبِ الْبَائِعِ وَبَيْعِ الْمُشْتَرِي: فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ بِالْقِيِمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ بِالْمِثْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ الْفَسْخِ وَالطَّلَبِ، صَارَ غَاصِبًا، وَخَرَجَ عن أن يكون معاوضا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ خِيَارٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَوْلَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْمُصَرَّاةِ ولِحبان بن منقذ فيما اشترى ثلاثا ثَلَاثًا لَمَا جَازَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ سَاعَةً وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّمَنِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي الِانْتِفَاعُ بِالْجَارِيَةِ فَلَمَّا أَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ ثَلَاثًا اتَّبَعْنَاهُ وَلَمْ نُجَاوِزْهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا حَدًّا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، خِيَارُ الشَّرْطِ، لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: خِيَارُ الشَّرْطِ يَجُوزُ مُؤَبَّدًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وأبو يوسف، ومحمد، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ مُؤَبَّدًا إِذَا كَانَ مَحْدُودًا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْمَبِيعَاتِ عَلَى قَدْرِهَا وَبِحَسْبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهَا، فَمَا أَمْكَنَ تَعَرُّفُ حَالِهِ فِي يَوْمٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ ثَلَاثًا، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ تَعَرُّفُ حَالَهُ إِلَّا فِي شَهْرٍ، جَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ شَهْرًا. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَوْقَ ثَلَاثٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ ". وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مَعْلُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْبَيْعِ، أَصْلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ؛ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ ثَلَاثًا فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَالْأَجَلِ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ ضَرْبَانِ: خِيَارُ مَجْلِسٍ، وَخِيَارُ شَرْطٍ. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَمْتَدَّ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فَوْقَ ثَلَاثٍ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ " فَأُجِيزَ بِالدَّلَالَةِ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى حُكْمِ الْمَنْعِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ، فَثَقُلَ لِسَانُهُ، وَكَانَ يَخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُبَايَعُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُلْ لَا خِلَابَةَ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه سمعته يقول: " لَا خِذَابَةَ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَخْلُبُوا، وَالْخِلَابَةُ: الْخَدِيعَةُ. وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ ثَلَاثًا: فَكَانَتِ الدَّلَالَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حِبَّانَ كَانَ أَحْوَجَ النَّاسِ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْخِيَارِ لِمَكَانِهِ مِنْ ضَعْفِ النَّظَرِ وَحَاجَتِهِ إِلَى اسْتِدْرَاكِ الْخَدِيعَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَزِدْ بِالشَّرْطِ عَلَى الثَّلَاثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَايَةُ الْحَدِّ فِي الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدَّهُ بِالثَّلَاثِ، وَالْحَدُّ يُفِيدُ الْمَنْعَ إِمَّا مِنَ الْمُجَاوَزَةِ أَوْ مِنَ النُّقْصَانِ، فَلَمَّا جَازَ النُّقْصَانُ مِنَ الثَّلَاثِ، عُلِمَ أَنَّهُ حَدٌّ لِلْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الثَّلَاثِ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ، وَالشَّرْطُ إِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُوجَبِ الْعَقْدِ أَبْطَلَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ بِهِ الْعَقْدُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، أَصْلُهُ إِذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 وَلِأَنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ وَالْعَقْدُ يُمْنَعُ مِنْ كَثِيرِ الْغَرَرِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ قَلِيلِهِ كَعَقْدِ الرُّؤْيَةِ لَمَّا كَانَ غَرَرًا جُوِّزَ فِي تَوَابِعِ الْبَيْعِ وَلَمْ يُجَوَّزْ فِي جَمِيعِهِ، وَالثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثُمَّ بَيَّنَ الْقَرِيبُ فَقَالَ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] فَثَبَتَ أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِهَا فِي الْعَقْدِ لِقِلَّةِ غَرَرِهَا، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ غَرَرِهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ ". فَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْهُ " إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ فَالْمَعْنَى فِيهَا قِلَّةُ الْغَرَرِ بِهَا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزِ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجَلِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ طَلَبُ الْفَضْلِ فِيهِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي زِيَادَةِ الْأَجَلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ. وأما الجواب عن استدلالهم بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، فَجَازَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرْطِ فَلَمْ تَجُزْ فِيهِ الْجَهَالَةُ، كَالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خِيَارَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ. فَمَتَى عُقِدَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ خِيَارٍ يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ خِيَارٍ مَجْهُولٍ، كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، سَوَاءٌ أَبْطَلَا الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِبْطَالِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ قَبْلَ تَقَضِّي الثَّلَاثِ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ، فَسَدَ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ حَالَ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ زَادَا فِي الثَّمَنِ أَوْ نَقَصَا مِنْهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَصَا مِنْهُ، لَزِمَ مَا اشْتَرَطَاهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَمَا يَلْزَمُ لَوْ شَرَطَاهُ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا حَالَ الْعَقْدِ إِبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ إِذَا اشْتَرَطَا بَعْدَ الْعَقْدِ إِبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَدَلِيلُنَا: نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الصِّحَّةُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ فَاسِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهُ، أَصْلُهُ: إِذَا لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّمَا أُبْطِلَ الْعَقْدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَصْحِيحِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَبْطَلَهُ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَصْحِيحِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ. وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْعَقْدُ كَالْأَجْلِ الْمَجْهُولِ. وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ، فَإِذَا بَطَلَ خِيَارُ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، سَقَطَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ، فَصَارَ بَاقِي الثَّمَنِ مَجْهُولًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ فَكَذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْخِيَارِ الْفَاسِدِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَفْسَدُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ إِذَا شَرَطَا إِسْقَاطَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ، فَأَفْضَى إِلَى جَهَالَةٍ فِي بَاقِيهِ وَلَمْ يَفْسُدِ الْبَيْعُ: قيل: هذا لا يلزم، لأن الجهالة صَارَتْ فِي الثَّمَنِ لِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَهُنَاكَ لِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ، فَقَدَحَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَلَمْ يَفْسُدِ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ لِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ بِعْتُكَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا أَرْشَ عَيْبِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ، لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بَعْدَ فَسَادِهِ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ. فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا زِيدَ فِي ثَمَنِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ وَقَعَ صَحِيحًا وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلَمْ يَصِحَّ بَعْدَ فَسَادِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ جَائِزٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ فَاسِدَةٌ، وَالْبَيْعُ مَعَهَا فَاسِدٌ. فَلَا بَأْسَ بِاشْتِرَاطِ الثَّلَاثِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ التَّصَرُّفُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنَ الثَّمَنِ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنَ الْمَبِيعِ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ عَلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي الثَّمَنِ اخْتِيَارًا لِلْإِمْضَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ وَهَلْ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا لِلْإِمْضَاءِ؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي وَقْتِهِ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِمَا مَضَى. فَصْلٌ: وَإِذَا جَازَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الثَّلَاثِ، جَازَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، فَيَجُوزُ أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 يَشْتَرِطَا خِيَارَ يَوْمٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا خِيَارَ يَوْمَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَ يَوْمٍ وَالْآخَرِ خِيَارَ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا خِيَارَ ثَلَاثٍ وَالْآخَرِ خِيَارَ يَوْمٍ. فَلَوْ تَبَايَعَا بِغَيْرِ خِيَارٍ، فَقَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا شَرَطَا فِي الْعَقْدِ خِيَارَ يَوْمٍ، ثَبَتَ لَهُمَا خِيَارُ الْيَوْمِ، فَلَوِ افْتَرَقَا ثُمَّ اجْتَمَعَا قَبْلَ تَقَضِّيهِ، فَزَادَا فِي الْخِيَارِ يَوْمًا آخَرَ، ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنِ اجتمعا في اليوم الثاني، فزاد يَوْمًا ثَالِثًا، ثَبَتَ الْخِيَارُ لَهُمَا فِيهِ، فَإِنِ اجْتَمَعَا قَبْلَ تَقَضِّي الثَّالِثِ، فَزَادَ فِيهِ يَوْمًا رَابِعًا، بَطَلَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، بَطَلَ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَلْحَقَاهُ بِالْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ. فَلَوْ أَنَّهُمَا أَسْقَطَا الْيَوْمَ الرَّابِعَ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لفساد بِاشْتِرَاطِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا تَبَايَعَا نَهَارًا وَشَرَطَا الْخِيَارَ إلى الليل، ينقضي الْخِيَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَوْ تَبَايَعَا لَيْلًا بِشَرْطِ الخيار إلى طلوع الفجر، يقضي الْخِيَارُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا تَكُونُ الْغَايَةُ دَاخِلَةً فِي شَرْطِ الْخِيَارِ. وَقَالَ أبو حنيفة: تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِذَا شَرَطَا فِي بَيْعِ النَّهَارِ الْخِيَارَ إِلَى اللَّيْلِ، دَخَلَ اللَّيْلُ فِي الْخِيَارِ. وَإِذَا تَبَايَعَا لَيْلًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ إِلَى النَّهَارِ، دَخَلَ النَّهَارُ فِي الْخِيَارِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَ " إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: سَافَرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ: دَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَصْرَةَ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِمْ وَالْكُوفَةَ غَايَةُ سَفَرِهِمْ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ خَارِجَةً مِنَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهَا حَدٌّ، وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشْرَةٍ كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعَةٍ، لِأَنَّ الْعَاشِرَ غَايَةٌ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّالِثَةَ غَايَةً. فَصْلٌ: فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَقْدِ خِيَارَانِ: خِيَارُ شَرْعٍ، وَخِيَارُ شَرْطٍ. فَخِيَارُ الشَّرْعِ، مُقَدَّرٌ بِاجْتِمَاعِ الْأَبْدَانِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ، مُقَدَّرٌ بِمَا شَرَطَا مِنَ الزَّمَانِ، فَلَوْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَلَاثًا، فَلِأَصْحَابِنَا فِي ابْتِدَائِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِمَّا بِالتَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ فِي الْآخَرِ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مُسْتَفَادٌ بِالشَّرْعِ وَخِيَارُ الثَّلَاثِ مُسْتَفَادٌ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا كَانَ مُوجَبُهُمَا مُخْتَلِفًا، تَمَيَّزَا وَلَمْ يَتَدَاخَلَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ ابْتِدَاءَ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وَقْتِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ دَاخِلًا فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ بَعْدِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، لَأَفْضَى إِلَى الْجَهَالَةِ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ بِجَهَالَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مَجْهُولًا، لَمْ يَجُزْ، فَاعْتُبِرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مَعْلُومًا. فَيَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ ثَبَتَ خِيَارُ الثَّلَاثِ، ولم يكن خيار الْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ، ثَبَتَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَكُنْ لِخِيَارِ الثَّلَاثِ تَأْثِيرٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الْخِيَارِ بَاقِيًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أبو يوسف. وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْبَيْعِ إِلَّا بِحُضُورِ صَاحِبِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ، فلم يصح بِحُضُورِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ كَالْإِقَالَةِ. وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِمَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِحُضُورِهِمَا. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِحِبَّانَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا وَقَالَ: " قُلْ: لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي خِيَارِهِ حُضُورُ صَاحِبِهِ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ. وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارُ فَسْخِ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَسِخَ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ بِحُضُورِ صَاحِبِهِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخِيَارَ، فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى حُضُورِهِمَا. أَصْلُهُ إِجَازَةُ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ فَسْخًا بِحُضُورِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَانَ فَسْخًا بِغَيْبَةِ أَحَدِهِمَا كَوَطْءِ الْبَائِعِ وَقُبْلَتِهِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَفْتَقِرْ رَفْعُ الْعَقْدِ إِلَى رِضَاهُ، لَمْ يَفْتَقِرْ رَفْعُ الْعَقْدِ إِلَى حضوره، كالزوج في طلاق امرأته طردا والإقالة عَكْسًا. وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ: لِأَنَّهُ لَمَّا افْتَقَرَ الْعَقْدُ وَالْإِقَالَةُ إِلَى رِضَاهُمَا، افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِمَا، وَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرِ الْفَسْخُ إِلَى رِضَاهُمَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُضُورِهِمَا. فَصْلٌ: إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ أَوِ ابْتِيَاعِ شَيْءٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ خِيَارَ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يتشرطَ خِيَار الثَّلَاثِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ صَرِيحٍ، لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ إِلَّا بِشَرْطٍ، فَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْوِكَالَةُ إِلَّا بِإِذْنٍ كَالْأَجْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ زِيَادَةُ نَظَرٍ وَطَلَبُ حَظٍّ بِخِلَافِ الْأَجَلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَشَرَطَ الْوَكِيلُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ خِيَارَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ ثَابِتٌ لِلْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ، أَمَّا الْوَكِيلُ، فَلِأَجْلِ عَقْدِهِ، وَأَمَّا الْمُوَكِّلُ، فَلِحَقِّ مِلْكِهِ. وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ إِلَى قَطْعِ الْخِيَارِ بِفَسْخٍ أَوْ إِجَازَةٍ، صَحَّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ سَبَقَ الْوَكِيلُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ لَزِمَهُ، وَكَذَا لَوْ سَبَقَ الْمُوَكِّلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ صَحَّ. واللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: إِذَا بَاعَ سِلْعَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ فِيهَا لِزَيْدٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: جَازَ، وَكَانَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فِيهِ خِيَارٌ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الشَّرْطِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ الْأَوَّلِ، وَيَصِحُّ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى دُونَ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَمْنَعُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ، وَمُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ مَوْقُوفٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْخِيَارَ فَيَ الْبَيْعِ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ عُقد لَهُ، وَلَيْسَ زَيْدٌ الْمُسَمَّى فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ لَهُ عَاقِدًا وَلَا مَعْقُودًا لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي الْعَقْدِ خِيَارٌ. وَالثَّالِثُ: إِنْ جُعِلَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيلِ لَهُ فِي النَّظَرِ عَنِ الْبَائِعِ، صَحَّ، وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى وَلِلْبَائِعِ مَعًا، وَكَانَ زَيْدٌ وَكِيلًا لِلْبَائِعِ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفَسْخَ أَوِ الْإِمْضَاءَ لَزِمَ: الْوَكِيلَ أَوِ الْمُوَكِّلَ. فَإِنْ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ مِلْكًا لَهُ دُونَ الْبَائِعِ، أَوْ أُطْلِقَ الشَّرْطُ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ بَاطِلًا. وَتَعْلِيلُ هَذَا الْمَذْهَبِ مُشْتَرَكٌ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَذْهَبَيْنِ الأولين وهو أظهر المذاهب الثلاثة [ولأنه لا يجوز أن يثبت الخيار لوكيله دونه] . فَإِذَا قِيلَ: بِصِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى التَّفْصِيلِ المذكور، صح البيع وثبت فيه الشرط. فإذا قِيلَ: بِفَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 بَاطِلًا لِمُنَافَاتِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْبَيْعَ صَحِيحٌ. وَفِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْفَسَادُ مِنَ الشَّرْطِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جُمْلَةُ الْخِيَارِ، فَيَصِيرُ الْبَيْعُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى، وَيَكُوْنُ الْخِيَارُ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ عَلَى اسْتِئْمَارِ زِيدٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْمَرْتُ زَيْدًا فَأَذِنَ لِي فِي الرَّدِّ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ف ي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَازِمٌ. وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِ زَيْدٍ وَإِذْنِهِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَكَافَّةِ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلَهُ الرَّدُّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، سَوَاءٌ اسْتَأْمَرَ زَيْدًا أَمْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهُ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الخيار. فمن قال بهذا لهم عن جواب الشافعي: لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ، تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُرِيدُ بِهِ لَيْسَ لَهُ إِذَا رَدَّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَذِنَ لِي فِي الرَّدِّ، إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ لِئَلَّا يَكُونَ كَذِبًا، فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ مِنْهُ عَنِ الْكَذِبِ لَا عَنِ الرَّدِّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَنَى الِاحْتِيَاطَ إِذَا كَانَ زَيْدٌ أَعْرَفَ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ: أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَظُّ فِي الرَّدِّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 بَابُ الرِّبَا وَمَا لَا يَجُوزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ متفاضلا ولا مؤجلا والصرف سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَرَجُلٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ " (قَالَ) وَنَقَضَ أَحَدُهُمَا التَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَزَادَ الْآخَرُ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّرْفِ وَبِهِ قُلْنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] . مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَضْعَافًا " مُضَاعَفا، أَيْ: أَضْعَافَ الْحَقِّ الَّذِي دَفَعْتُمْ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ أَوْ تُرْبِيَ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَإِلَّا أَضْعَفَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَضْعَفُ لَهُ الْأَجَلَ ثُمَّ يَفْعَلُ كَذَلِكَ إِذَا حَلَّ حَتَّى يَصِيرَ الْحَقُّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ، ثُمَّ أَكَّدَ الزَّجْرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ نَارَ آكِلِ الرِّبَا كَنَارِ الْكَافِرِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] . يَعْنِي لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَسِّ. يَعْنِي: الْجُنُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله البيع وحرم الربا} وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا قَالُوا كَيْفَ يُحَرَّمُ الرِّبَا وَإِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَبْطَلَ جَمْعَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 {فمن جاءه موعظة من ربه} يعني القرآن {فانتهى} {فله ما سلف} يَعْنِي مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] يَعْنِي مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الرِّبَا إِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ تَرَكُوهُ، وَمَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ. ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الزَّجْرِ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} يَعْنِي مَا دَفَعْتُمُوهُ {لا تَظلمون وَلا تُظلمون} [البقرة: 279] ، بأن تمنعوا {رؤوس أَمْوَالِكُمْ} ثُمَّ قَالَ تَيْسِيرًا عَلَى خَلْقِهِ: {وَإِنْ كان} - من قد أربيتموه - (ذو عسرة} بِرَأْسِ الْمَالِ {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] يَعْنِي إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ. وَهَذِهِ آخرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آكِلَ الرِّبَا وَمُؤكلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظلمون وَلَا تُظلمون. فَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا عَمِّي الْعَبَّاسِ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ مِنْ دَمِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ثُمَّ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعِهِ وَكَيْفِيَّةِ تَحْرِيمِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَحَلَّ الزِّنَا وَلَا الرِّبَا فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] يَعْنِي: فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مجمل فسرته السنة. وإن ما جاءت بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مُجْمَلُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرِّبَا نَقْدًا أَوْ نَسَاءً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَعْهُودَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ ثُمَّ وَرَدَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِزِيَادَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ فَاقْتَرَنَتْ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّنْزِيلُ، وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَامِدٍ المروزي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ. فَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ دَخَلَ الْمُسْلِمُ إِلَيْهَا بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ. احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا رِبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرَامٌ كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعِبْرَةِ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الشِّرْكِ كَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَبَاحَ بِهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ. فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ حُجَّةً. فَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ لَكَانَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رِبًا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِجَوَازِ الرِّبَا فلم يكن لهم جملة عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ إِلَّا وَلَنَا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ ثُمَّ حَمْلُنَا أَوْلَى لِمُعَاضَدَةِ الْعُمُومِ لَهُ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُسْتَبَاحَ بِعَقْدٍ فَلَا نُسَلِّمُ إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةً فِي دُخُولِهِ إِلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تُسْتَبَاحُ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَذَا لَا يَسْتَبِيحُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ فُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَمَانِ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِبَاحَةُ مَالِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. ثُمَّ نَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَا اسْتُبِيحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرُوجَ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا مِنْهُمْ بِالْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَذَا الْأَمْوَالُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبِهَا تَرَكْنَا قَوْلَ مَنْ رَوَى عَنْ أُسَامَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وكل ذلك مفسر فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن الربا أفي صنفين مختلفين ذهب بورق أم تمر بحنطة؟ فقال: " الربا في النسيئة " فحفظه فأدى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يؤد الْمَسْأَلَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالرِّبَا ضَرْبَانِ: نَقْدٌ، وَنَسَاءٌ. وَأَمَّا النَّسَاءُ: فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِي قَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا النَّقْدُ: فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ كَالنَّسَاءِ، وَذَهَبَ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى إِحْلَالِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ تَعَلُّقًا بِخَبَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إنَمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ ". فَلَمَّا أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ. فَقُلْتُ: مَا أَرَاهُ يَصْلُحُ هَذَا فَقَالَ: لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَ عَلَيَّ ذَلِكَ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَةَ وَتِجَارَتُنَا كَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ. وَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ تِجَارَةً مِنَّا، فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَصٌّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ. وَقَوْلُهُ: " إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ ". وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَمَنْ زاد واستزاد فَقَدْ أَرْبَى. الْآخِذُ وَالْمُعْطِي سَوَاءٌ ". وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بالدرهمين ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الدَّينَارُ بِالدَّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنِهِمَا ". وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَقَوْلُهُ: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَنَقَلَ أُسَامَةُ جواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَغْفَلَ سُؤَالَ السَّائِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ التَّمَاثُلُ فِيهِ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً. عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمُسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ حِينَ لَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى مَتَى تَأْكُلُ الرِّبَا وَتُطْعِمُهُ النَّاسَ وَرَوَى لَهُ حَدِيثَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا رِبًا كَانَ مِنِّي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَمَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَوَّلِ الْهِجْرَةِ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا متأخر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً " يُعْطِي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ لِمَالِكِ بْنِ أَوْسٍ لَا تُفَارِقْهُ حَتَى تُعْطِيَهُ وَرِقَهُ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أنَّ مخْرَجَ " هَاءً وَهَاءً " تَقَابُضُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. كُلُّ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا وَلَا الِافْتِرَاقُ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا. سَوَاءً كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالشَّعِيرِ بِالْبُرِّ حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَقَوْلِنَا لَا يَصِحُّ فِيهِمَا الْعَقْدُ إِلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا الْأَجَلُ وَلَا خِيَارُ الشَّرْطِ. وَأَجَازَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَجَلُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ صَرْفًا فَلَمْ يَكُنِ التَّقَابُضُ فِيهِ قبل الافتراق شرطا كالثياب بالثياب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 قَالَ: وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ فَلَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَزِمَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا، وَلَمَّا كَانَ مَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ صَارَ مُعَيَّنًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ ". فَشَرَطَ فِي بَيْعِ ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهِ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ يَدًا بِيَدٍ نَفْيًا لِدُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِالنَّقْدِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْجِيلِ الْقَبْضِ. قِيلَ يَبْطُلُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَبَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: " إِلَّا يَدًا بِيَدٍ " مَحْمُولًا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مِثْلُهُ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا حُكْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ الْأَجَلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ إِلَّا عَيْنًا بِعَيْنٍ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَكُونُ عَيْنًا إِذِ الْعَيْنُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَجَلُ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَيْنًا بِدَيْنٍ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِ نَفْيِ الْأَجَلِ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُقَيِّدًا لِحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي نَفْيِ الْأَجَلِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ فَكَانَ حَمْلُ الْكَلِمَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَفْيِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَا هَاءً وَهَاءً، وَالشَّعِيرُ بَالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً ". قَالَ الشَّافِعِيُّ فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: " إِلَّا هَاءً وَهَاءً " مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْطِيَ بِيَدٍ وَيَأْخُذَ بِأُخْرًى فَيَكُونُ الْأَخْذُ مَعَ الْإِعْطَاءِ، وَاحْتَمَلَ أَلَّا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا، فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدْثَانِ صَارَفَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بمَائَةِ دِينَارٍ بَاعَهَا عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ لِمَالِكٍ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْمَعُ فَقَالَ عُمَرُ لِمَالِكٍ لَا وَاللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ وَرِقَكَ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْكَ ذَهَبَكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إِذَا فَسَّرَهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي تَكْلِيفِ النَّاسِ الْإِعْطَاءَ بِيَدٍ وَالْأَخْذَ بِأُخْرَى مَشَقَّةً غَالِبَةً وَالشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَجَلِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصَّرْفِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِيمَا دَخَلَهُ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ الصَّرْفِ كَالْأَجَلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ فَمُنْتَقِضٌ بِالسَّلَمِ حَيْثُ لَزِمَ فِيهِ الْقَبْضُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ عَدَمُ الرِّبَا فِيهَا فَجَازَ تَأْخِيرُ قَبْضِهِمَا وَمَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ كَالصَّرْفِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْقَبْضَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا يَفْسَدُ بِبَيْعِ الْحُلِيِّ بِالْحُلِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ. ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْكَسْرِ لَكَانَ عَكْسُ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَشْبَهَ بِالْأُصُولِ لِأَنَّ السَّلَمَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُثَمَّنُ، ثُمَّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ فِيمَا كَانَ مُعَيَّنًا، وَلَا يُوجِبُهُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، وَلَمَّا انْعَكَسَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَيْهِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ فِيهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْآجَالُ وَيَلْحَقُهَا الرِّبَا مِنْ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ حُكْمَ مَا فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرْفًا كَحُكْمِ مَا فِيهِ الرِّبَا إِذَا كان صرفا فتصارف الرَّجُلَانِ مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ ولم يتقايضا الدَّنَانِيرَ أَوْ تَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ وَلَمْ يَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ حَتَّى تَفَارَقَا فَلَا صَرْفَ بَيْنَهُمَا وَلَزِمَ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْهُمَا سَوَاءً عَلِمَا فَسَادَ الْعَقْدِ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ أَوْ جَهِلَا. فَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَكِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَاخْتَارَ الْإِمْضَاءَ الْقَائِمَ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا كَانَ هَذَا التَّخَيُّرُ بَاطِلًا وَلَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْإِمْضَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَقَضِّي عُلْقِ الْعَقْدِ، وَبَقَاءُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ نَقْضِ عُلْقِهِ فَمَنَعَ مِنِ اخْتِيَارِ إِمْضَائِهِ، فَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ الْعَقْدُ وَاسْتَقَرَّ وَكَانَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرَا. فَلَوْ وُكِّلَ أَحَدُهُمَا فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ، فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ وَأَقْبَضَ قَبْلَ افْتِرَاقِ مُوَكِّلِهِ وَالْعَاقِدِ الْآخَرِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَقْبَضَ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ القبض، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 فَلَوْ تَقَابَضَ الْمُتَصَارِفَانِ مَا تَصَارَفَا عَلَيْهِ فِي مِدَادٍ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ وَلَمْ يَلْزَمْ دَفْعُ جَمِيعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَلْزَمُ قَبْضُ جَمِيعِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَسَوَاءٌ طَالَتْ مُدَّةُ اجْتِمَاعِهِمَا أَوْ قَصَرَتْ. فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا تَفَارَقْنَا عَنْ قَبْضٍ وَقَالَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ وَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا افْتَرَقْنَا عَنْ فَسْخٍ وَقَالَ الْآخَرُ عَنْ إِمْضَاءٍ كَانَ الْقَوْلُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ قَوْلَ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقَبْضِ مِثْلَهُ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّعِيَ الْفَسْخِ يُنَافِي بِدَعْوَاهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ اللُّزُومُ وَالصِّحَّةُ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْفَسْخِ فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى الْقَبْضَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ هُنَاكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخِ إِذَا تَصَارَفَا مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقَابَضَا مِنَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِينَارًا ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ بَقِيَ خَمْسُونَ دِينَارًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْبَاقِيَةِ بَاطِلًا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِسَلَامَةِ الْعَقْدِ وَحُدُوثِ الْفَسَادِ فِيمَا بَعْدُ: وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الصَّرْفَ فِي الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَيْسَ هَذَا التَّخْرِيجُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ فِي حَالِ الْعَقْدِ. وَإِذَا صَحَّ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَازِمَةٌ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ فِي الْفَسْخِ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا عَنْ قَبْضِ الْبَعْضِ رِضًا مِنْهُمَا بِإِمْضَاءِ الصَّرْفِ فِيهِ وَفَسْخِهِ فِي بَاقِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ فَاسِدٌ وَالتَّعْلِيلُ في فسادهما واحد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي النَّقْدِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ وَالْآخَرُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ وَأَبَاهُ فِي النَّقْدِ وَقَالَ: وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَاءُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا فَجُعِلَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ رَبًّا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 أَحَدُهُمَا: التَّفَاضُلُ سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ نَسَاءً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا. وَالثَّانِي: الْآجِلُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَمَاثِلًا. فَأَمَّا الْجِنْسَانِ الْمُخْتَلِفَانِ فَلَا يَدْخُلُهُمَا الرِّبَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ. فَأَمَّا التَّفَاضُلُ أَوِ التَّمَاثُلُ فَيَجُوزُ فِيهِمَا: فإذا باع الفضة بالذهب أبو الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ نَقْدًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا وَإِنْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يجز. سواء كان متماثلا أو متفاضلا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الرِّبَا فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ: الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيمَا عَدَاهَا. فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ. وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ بِأَسْرِهِمْ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّخَطِّي عَنْهَا إِلَى مَا سِوَاهَا تَمَسُّكًا بِالنَّصِّ، وَنَفْيًا لِلْقِيَاسِ، وَاطِّرَاحًا لِلْمَعَانِي. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ومثبتوا الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالْكَلَامُ فِيهَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَهَذَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الظَّاهِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ هذا الطريق ثلاثة أشياء: أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَالرِّبَا اسْمٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ. أَمَّا اللُّغَةُ فَكَقَوْلِهِمْ قَدْ رَبَا السَّوِيقُ إِذَا زَادَ، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ إِذَا زَادَ فِي السَّبِّ، وَهَذِهِ رَبْوَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا زَادَتْ عَلَى مَا جَاوَرَهَا. وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . أَيْ يُضَاعِفُهَا وَيَزِيدُ فِيهَا وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] . أَيْ زَادَتْ وَنَمَتْ. وَإِذَا كَانَ الرِّبَا مَا ذَكَرْنَا اسْمًا لِلزِّيَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا دَلَّ عُمُومُ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَطْعُومٍ مِنْ بُر وَغَيْرِهِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ. أَمَّا اللُّغَةُ فكقولهم طَعِمْتُ الشَّيْءَ أَطْعَمُهُ وَأَطْعَمْتُ فُلَانًا كَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مَطْعُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُرًّا. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] يَعْنِي كُلَّ مَطْعُومٍ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الطَّعَامِ. وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] فَسَمَّى الْمَاءَ مَطْعُومًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُطْعَمُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: عِشْنَا دَهْرًا وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ. وَإِذَا كَانَ اسْمُ الطَّعَامِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِهِ. كَانَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمَخْصُوصٌ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ. قِيلَ: بَيَانُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ. وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ تَخْصِيصًا. وَالدَّلَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى الْبُرِّ وَهُوَ أَعْلَى الْمَطْعُومَاتِ، وَعَلَى الْمِلْحِ وَهُوَ أَدْنَى الْمَطْعُومَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَاحِقٌ بِأَحَدِهِمَا. لِأَنَّهُ يَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَعْلَى لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى. وَيَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَدْنَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الْأَعْلَى كَمَا قَالَ: {وَمِنْهُمْ من إن تأمنه بدينار ولا يؤده إليك} فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَعْلَى فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى كَانَ أَوْكَدَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا بَيْنَهُمَا وَأَقْوَى شَاهِدًا فِي لُحُوقِهِ بِأَحَدِهِمَا. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِيسَ الْوَزْنَ عَلَى الْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مأكُولَيْنِ وَمُبَايِنَانِ لِمَا سِوَاهُمَا وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا رِبَا إِلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ (قال) وهذا صحيح ولو قسنا عليهما الوزن لزمنا أن لا نسلم دينارا في موزون من طعام كما لا يجوز أن نسلم دينارا في موزون من ورق ولا أعلم بين المسلمين اختلافا أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر غير أن من الناس من كره أن يسلم دينار أو درهم في فلوس وهو عندنا جائز لأنه زكاة فيها ولا في تبرها وإنها ليست بثمن للأشياء المتلفة وإنما أنظر في التبر إلى أصله والنحاس مما لا ربا فيه وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ولا يكون مضروب النحاس فلوسا في معنى النحاس غير مضروب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، وَعِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ. فَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ الْعِلَّةِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ. فَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَأَجْرَى الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَمَنَعَ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَتَّى التُّرَابِ بِالتُّرَابِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ البصري أن علة الربا المنفعة في الجنس فَيَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا دِينَارٌ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارَانِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بن جبير أن علة الربا تقارب المنافع فِي الْأَجْنَاسِ فَمَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْحِنْطَةِ بالشعير لتقارب منافعهما، وَمِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْبَاقِلَاءِ بِالْحُمُّصِ وَفِي الدّخْنِ بِالذُّرَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِمَا مُتَقَارِبَةٌ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ جِنْسٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَنَفَاهُ عَمّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مذهب مالك أنه مقتات مدخر جنس فأثيبت الرِّبَا فِيمَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا وَنَفَاهُ عَمَّا لم يكون مُقْتَاتًا كَالْفَوَاكِهِ وَعَمَّا كَانَ مُقْتَاتًا وَلَمْ يَكُنْ مُدَّخَرًا كَاللَّحْمِ. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا كَانَ مَكِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَالْجَصِّ، وَالنَّوْرَةِ، وَنَفَاهُ عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ. وَالسَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِأَحْصَرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقَالَ: مَطْعُومٌ مُقَدَّرُ جِنْسٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَيَنْتَفِي عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَعَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا. وَالثَّامِنُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مَأْكُولُ جِنْسٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَطْعُومُ جِنْسٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَعَمُّ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا فَهَذَا جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. وَسَنَذْكُرُ حُجَّةَ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا وَنَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ. فَصْلٌ: أَمَّا الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ أَجْنَاسًا مَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يدا بيدا ". فَشَرَطَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَبَدًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ إِبِلُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بعيرا ببعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ " فَلَمَّا ابْتَاعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ. وَقَدْ فَعَلَتِ الصَّحَابَةُ مِثْلَ فِعْلِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ رَاحِلَةً لَهُ بِأَرْبَعَةِ رَوَاحِلَ إِلَى أَجَلٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ. فَعَطَفَ عَلَى مَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ الَّتِي أَثْبَتَ فِيهَا الرِّبَا بِالنَّصِّ فَجَوَّزَ فِيهَا التَّفَاضُلَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْمَنْفَعَةُ فِي الْجِنْسِ فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا مَقْصُودٌ بِهِ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ، وَفَضْلُ الْقِيمَةِ يَقَعُ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْقَدْرِ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْقَدْرِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ التَّفَاضُلَ فِي الْقِيمَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ ابْتِيَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ وَفَضْلُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا كَفَضْلِ الْقَدْرِ، وَأَنَّ مَقْصُودَ الْبِيَاعَاتِ طَلَبُ النَّفْعِ وَالْتِمَاسُ الْفَضْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْبِيَاعَاتِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِ الْبِيَاعَاتِ. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ تُفَاضِلِ الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ تَسَاوِي الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَفَاضُلِ الْقَدْرِ وَهَذَا مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جبير أن علة الربا تقارب المنافع في الْأَجْنَاسِ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا تَقَارَبَا فِي الْمَنْفَعَةِ تَقَارَبَا فِي الْحُكْمِ وَالْمُتَقَارِبَانِ فِي الْحُكْمِ مُشْتَرِكَانِ فِيهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وُرُودُ النَّصِّ بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ مَعَ تَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا وَمَا دَفَعَهُ النَّصُّ كان مطرحا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرِّبَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ حَثًّا عَلَى الْمُوَاسَاةِ بِالتَّمَاثُلِ، وَأَمْوَالُ الْمُوَاسَاةِ مَا ثَبَتَ فِيهَا الزَّكَاةُ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْأَمْوَالَ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الرِّبَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ: ابْتِيَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، وَالْإِبِلُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَأُثْبِتَ الرِّبَا فِي الْمِلْحِ وَهُوَ جِنْسٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ فَسَادُ مَذْهَبِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرُ جِنْسٍ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ اعْتِلَالٌ يُشَابِهُ الْأَصْلَ بِأَوْصَافٍ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا بِالْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْقُوتِ، وَالرُّطَبُ فِيهِ الرِّبَا وَلَيْسَ بِمُدَّخَرٍ وَقَدْ وَافَقَ أَنَّ فِيهِ الرِّبَا. فَإِنْ قَالَ إِنَّ الرُّطَبَ يَؤُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ فِي ثَانِي حَالٍ قِيلَ. فَالرُّطَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا لَيْسَ يَؤُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ وَفِيهِ الرِّبَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُخْرِجُ الرُّطَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى حَالَةِ الِادِّخَارِ كَاللَّحْمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُدَّخَرَ فِي ثَانِي حَالٍ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الِادِّخَارِ فَصَارَ كِلَا الْوَصْفَيْنِ بَاطِلًا. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ وَعَلَّلَ بِمَا كَانَ يُعَلِّلُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قُوتٌ أَوْ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ اجْتِمَاعَ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَصحَّ لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ وَلَيْسَ التَّمْرُ مِمَّا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْقُوتَ فِي الثَّلَاثَةِ عِلَّةٌ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ فِي الْمِلْحِ عِلَّةٌ قِيلَ: قَدْ فَرَّقْتَ الْأَصْلَ وَعِلَّتَهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَجَازَ إِسْلَافُ الْمِلْحِ فِي الثَّلَاثَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ كَمَا يَجُوزُ إِسْلَافُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ وَقَدْ جَاءَتِ السَّنَةُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا. ثُمَّ يُقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِقَوْلِكَ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ جَمِيعَ الْأَقْوَاتِ فَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ قُوتَانِ وَلَا يَصْلُحَانِ بِالْمِلْحِ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ بَعْضَ الْأَقْوَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الرِّبَا فِي النَّارِ وَالْحَطَبِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْوَاتِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّادِسُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة إِنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ. فَالِاحْتِجَاجُ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْكَيْلِ عِلَّةٌ. وَالثَّانِي: إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الطعم علة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَكَذَلِكَ مَا يكال ويوزن " فنهى عَنِ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُبَاحٌ وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مَحْظُورٌ وَلَيْسَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي الْمُبَاحُ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَحْظُورِ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّتَهُ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ بِهِ يَمْتَازُ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ وَالْكَيْلَ مِقْدَارٌ وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا وَهُمَا الْمَقْصُودُ فِي الرِّبَا فَثَبَتَ أَنَّهَا عِلَّةُ الرِّبَا. فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَائِلَ احْتَجَّ بِهَا أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ. فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ عِلَّةً فَأُمُورٌ مِنْهَا: أَنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ مُخْتَلِفٌ، وَالْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ مُؤْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ إِدَمًا، وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا، وَالْكَيْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْمَطْعُومِ الَّذِي يَخْتَلِفُ، وَلِأَنَّ الْمَطْعُومَ صِفَةٌ آجِلَةٌ لِأَنَّ الْبُرَّ لَا يُطْعَمُ إِلَّا بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ، وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ لِأَنَّهُ يُكَالُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا صَنْعَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ الْعَاجِلَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ الْآجِلَةِ. وَلِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ هِيَ مَا مَنَعَتْ مِنَ التَّفَاضُلِ وَأَوْجَبَتِ التَّسَاوِيَ وَقَدْ يُوجَدُ زِيَادَةُ الطَّعْمِ وَلَا رِبَا وَلَا يُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ الرِّبَا وَبَيَانُهُ: لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ثَقِيلٍ لَهُ رُبْعٌ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ خفيف ليس له ريع جَازَ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الرِّبَا وَوُجُودِ التَّسَاوِي فِيهِ مَعَ حُصُولِ الرِّبَا، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ مُثْبِتٌ لِلرِّبَا وَالتَّسَاوِي فِيهِ كَافٌّ لِلرِّبَا، فَهَذَا أَقْوَى تَرْجِيحَاتِهِمُ الثَّلَاثَةِ. فَصْلٌ: وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَطْعُومَ عِلَّةٌ. وَالثَّانِي: إِبْطَالُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَطْعُومَ علة: فما رَوَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِمَا بَيَّناهُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطَّعْمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَحَدِّ الزَّانِي لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزِّنَا وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرِقَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وَلِأَنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَوْصَافِهِ، وَمَقْصُودُ الْبُرِّ هُوَ الْأَكْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَلِأَنَّ الْأَكْلَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الْمَعْلُولِ وَالْكَيْلُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَنِ الْمَعْلُولِ وَالصِّفَةُ اللَّازِمَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مِنَ الصِّفَةِ الزَّائِدَةِ. وَلِأَنَّ الْأَكْلَ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا، وَالْكَيْلُ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا أَوْ قَصِيلًا لَا رِبَا فِيهِ لِعَدَمِ الْأَكْلِ عِنْدَنَا وَعَدَمِ الْكَيْلِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا صَارَ سُنْبُلًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ يَصِيرُ مَكِيلًا. قِيلَ: وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا، فَإِذَا صَارَ السُّنْبُلُ خُبْزًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ يَحْصُلُ فِيهِ الرُّبْعُ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ قِيلَ: مَا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا لَا تَخْتَلِفُ عِلَّتُهُ بِاخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ، فَإِذَا صَارَ الْخُبْزُ رَمَادًا فَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَكِيلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّتَنَا يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا، وَعِلَّتُهُمْ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا فِي السُّنْبُلِ وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا فِي الرَّمَادِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ أَصَحُّ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْكَيْلِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ كُلُّهَا مَكِيلَةٌ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَيْلِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا مَأْكُولَةٌ وَلَوْ أَرَادَ الْأَكْلَ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا قِيلَ: لَيْسَ يَلْزَمُنَا هَذَا؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَكْلَ فِيهَا مُخْتَلِفٌ فَالْبُرُّ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالشَّعِيرُ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَالتَّمْرُ يُؤْكَلُ حُلْوًا وَالْمِلْحُ اسْتِطَابَةً فَلَمْ يَقْتَنِعْ بِذِكْرِ إِحْدَى الْمَأْكُولَاتِ لِتَفَرُّدِهِ بِإِحْدَى الصِّفَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن الكيل قد يختلف في المكيلان عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ فَالتَّمْرُ يُكَالُ بِالْحِجَازِ وَيُوزَنُ بِالْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ، وَالْبُرُّ يُكَالُ تَارَةً فِي زَمَانٍ وَيُوزَنُ أُخْرَى، وَالْفَوَاكِهُ قَدْ تُعَدُّ فِي زَمَانٍ وَتُوزَنُ فِي زَمَانٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ فِيهِ الرِّبَا فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهِ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَلَا رِبَا فِي غَيْرِهَا، وَعِلَّةُ الْحُكْمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً فِي الْبُلْدَانِ وَسَائِرِ الْأَزْمَانِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْأَكْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْكَيْلَ عَلَمًا عَلَى الِإبَاحَةِ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَيْلُ عَلَمًا عَلَى الْحَظْرِ. أَلَا تَرَاهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَمًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا سُلِّمَ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً الربا كَالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: عِلَّةُ الْحَظْرِ هِيَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أبي حنيفة عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ صِفَةً فِي الْحَظْرِ، لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَيْلَ مَوْضُوعٌ لِمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الرِّبَا كَالزَّرْعِ وَالْعَدَدِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْكَيْلَ عِلَّةً أَخْرَجَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لِقِلَّتِهِ، فَجَوَّزَ بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ وَكَفِّ طَعَامٍ بِكَفَّيْنِ. وَكُلُّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتِ النُّقْصَانَ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا عَدَاهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَعْقُولُ الِاسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا عُقِلَ عَنِ الِاسْمِ رَافِعًا لِمُوجَبِ الِاسْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورِ يُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ تُوجِبُ نُقْصَانَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَذْكُورِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لِتَضَادِّ الْمُوجَبَيْنِ. لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِسْقَاطُ حُكْمٍ وَنَفْيُهُ، وَالْآخَرُ إِيجَابُ حُكْمٍ وَإِثْبَاتُهُ. فَإِنْ قِيلَ مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ. فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَكِيلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فَصَارَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ، لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ الْمَكِيلَ بِالْبُرِّ الْمَكِيلِ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا يَكُونُ كُلَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: جَاءَنِي النَّاسُ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ بَنِي تَمِيمٍ فَكَذَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ عَامٌّ فِي الْحَظْرِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ خَاصٌّ فِي الْإِبَاحَةِ، وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ لَا مِنَ الْإِبَاحَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْحَظْرِ عَامًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَلِيلَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَظًّا فِي الْمِكْيَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ احْتَاجَ وَفَاءُ الْمِكْيَالِ إِلَى تَمْرَةٍ فَتَمَّ بِهَا تَمَّ الْكَيْلُ وَحَلَّ الْبَيْعُ. فَلَوْلَا أَنَّ التَّمْرَةَ مَكِيلَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 مَا تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْقَوْلِ. لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْقَدَحَ الْعَاشِرَ بِانْفِرَادِهِ هُوَ الْمُسْكِرُ. فَكَذَلِكَ التَّمْرَةُ الْوَاحِدَةُ بِانْفِرَادِهَا هِيَ الَّتِي تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ فَيَخْتَصُّ عُمُومُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَوَجَبَ أَلَّا يَثْبُتَ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ. قُلْنَا: نَحْنُ نُعَارِضُكُمْ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ فَنَقُولُ. مَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ ثَبَتَ فِي قَلِيلِهِ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. ثُمَّ نَقُولُ: قِيَاسُكُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ وَالظَّاهِرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَهُوَ أَنَّهَا زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ لَمْ تَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَعَلَى أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَأَوَّلَةٌ إِذَا كَانَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّسَاوِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. فَهُوَ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَمُ الْإِبَاحَةِ وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا فَهُوَ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا قَابَلْنَاكُمْ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا: تَعْلِيلُنَا بِكَوْنِهِ مَطْعُومًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَجِنْسًا. ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ أَوْلَى لِأَنَّ الطَّعْمَ أَلْزَمُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْحُكْمِ أَخَصَّ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا اخْتَصَّتْ بِالْمَوْصُوفِ، وَالْجِنْسُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذِي جِنْسٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكَيْلَ مُتَّفِقٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْأَكْلُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَأْكُولَاتِ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَّفِقِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُخْتَلِفِ. فَهُوَ أَنَّ الْأَكْلَ مُتَّفِقٌ وَإِنَّمَا صِفَةُ الْأَكْلِ تَخْتَلِفُ، كَمَا أَنَّ الْكَيْلَ وَإِنْ كَانَ مُتَّفِقًا وَصِفَتُهُ قَدْ تَخْتَلِفُ فَبَعْضُهُ قَدْ يُكَالُ بِالصَّاعِ، وبعضه بالمد، وبعضه بالقفير، وَبَعْضُهُ بِالْمَكُّوكِ ثُمَّ يُقَالُ: الْكَيْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَكْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ الْأَكْلُ لِاتِّفَاقِ الْبُلْدَانِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْكَيْلِ الْمُخْتَلِفِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الطَّعْمَ صِفَةٌ آجِلَةٌ وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْبُرَّ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُشْبِعٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْأَكْلِ، كَمَا يُوصَفُ الْمَاءُ بِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ وَإِنْ كَانَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 صِفَتُهُ تُوجَدُ بَعْدَ الشُّرْبِ، ثُمَّ لَوْ قِيلَ إِنَّ الْأَكْلَ أَعْجَلُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَكْلَ مُمْكِنٌ مَعَ فَقْدِ الْآلَةِ وَالْكَيْلُ مُتَعَذَّرٌ إِلَّا بِوُجُودِ الْآلَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ زِيَادَةَ الطَّعْمِ قَدْ تُوجَدُ مَعَ تَسَاوِي الْكَيْلِ وَلَا تَحْرِيمَ وَلَا تُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ مَعَ تَسَاوِي الطَّعْمِ إِلَّا مَعَ وُجُودِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْوَزْنِ تَامًّا، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْكَيْلِ. فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الطَّعْمَ مُتَسَاوٍ فِيهِمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْوَزْنِ. كَمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ وَتَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا زِيَادَةُ الْكَيْلِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ كَانَ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالتَّسَاوِي وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ زِيَادَةُ الْكَيْلِ فَلَمَّا كَانَ الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ عِلَّةً. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا مَأْكُولُ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ يَخْتَصُّ بِصِفَتَيْنِ: الْأَكْلِ وَالْكَيْلِ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَوْلَى فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا جُعِلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِبَاحَةُ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّنَا قَدْ أَبْطَلْنَا فِيمَا مَضَى أَنْ يَكْوِنَ الْكَيْلُ عِلَّةً وَسَنُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةً، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا عِلَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَكْلَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا كِيلَ أَوْ وُزِنَ. وَقِسْمٌ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ. وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا رِبَا فِيهِ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ مَا فِيهِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَوْ مَشْرُوبٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ. وَعَلَّ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومُ جِنْسٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ بِعِلَّةِ الْأَشْبَاهِ. فَمِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا جَعَلَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بعلة الأشباه لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى. فَجَعَلَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْأَصْلِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 خَرَجَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَقِيَاسُهُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُؤْكَلُ، فَجُعِلَ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ لَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ تَرْجِيحًا لِلْعِلَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا عِلَّةُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ غَالِبًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا وَكُلُّ ذَلِكَ قَرِيبٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْعِلَّةُ فِيهِمَا أَنَّهُ مَوْزُونُ جِنْسٍ فَجَعَلَ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنَ كَمَا جَعَلَ عِلَّةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ الْكَيْلَ، وَدَلَائِلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ ثُمَّ خَصَّ الِاحْتِجَاجَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَرْجِيحِ عِلَّتِهِ وَإِفْسَادِ عِلَّتِنَا. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَفَادٌ بِالنَّصِّ وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ يُسْتَفَادُ مِنْهَا حُكْمُ أَصْلِهَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا. وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُتَّعَدٍ وَبِالْأَثْمَانِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. لَجَازَ تَعْلِيلُهُمَا بِكَوْنِهِمَا فِضَّةً وَذَهَبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ الذهب بكونه ذهبا ولا فضة بكونهما فِضَّةً لِعَدَمِ التَّعَدِّي لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَا بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا لِعَدَمِ التَّعَدِّي. . وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَثْمَانِ مُنْتَقَضٌ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَنَقْضُ طَرْدِهِ بِالْفُلُوسِ، هِيَ أَثْمَانٌ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهَا عِنْدَكُمْ. وَنَقْضُهُ عَكْسًا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا وَفِيهَا الرِّبَا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُسْتَمِرٌّ لَا يُعَارِضُهُ نَقْضٌ فِي طَرْدٍ وَلَا عَكْسٍ. . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِنَا وَفَسَادِ عِلَّتِهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ قَبْلِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَزْنِ يُثْبِتُ الرِّبَا فِي الْمَوْزُونِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ، وَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَعْمُولِهِ وَمَكْسُورِهِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ مَعْمُولِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَكْسُوره فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ. فَلَمَّا جَوَّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ دُونَ مَكْسُورِهِ وَتِبْرِهِ حَتَّى أَبَاحُوا بَيْعَ طَشْتٍ بِطَشْتَيْنِ وَسَيْفٍ بِسَيْفَيْنِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ خَاتَمٍ بِخَاتَمَيْنِ وَسُوَارٍ بِسُوَارَيْنِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْعِلَّةِ لَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَزْنُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِلَّةً يَثْبُتُ بِهَا الرِّبَا فِي مَوْزُونِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَمَا مَنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي علة الربا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 فَلَمَّا جَازَ إِسْلَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَلَمْ يَجُزْ إِسْلَامُ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَبَيْنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الرِّبَا. وَهَذَانِ الدَّلِيلَانِ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِبْطَالِ الْوَزْنِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الرِّبَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اخْتَصَّ بِهِمَا وَلَمْ يُقَسْ غَيْرُهُمَا عَلَيْهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمَا لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَلَمَّا حُرِّمَ الشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ اخْتُصَّ النَّهْيُ بِهِمَا دُونَ سَائِرِ الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِهِمَا. كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّبَا الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِمَا مُخْتَصًّا بِهِمَا وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ ثَبَتَ حُكْمُهَا بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ، أَوْ يَكُونَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ يَكُونَ إِثْبَاتًا لَهَا عِلَّةً وَجَعْلَ غَيْرِهَا إِذَا تَعَدَّتْ أَوْلَى مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ أَنْ تَكُونَ علة خالفناكم لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَدِّيَةِ قَدْ تَكُونُ عِنْدَنَا عِلَّةً فَإِنْ دَعَوْا إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا انْتَقَلْنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الْعِلَلُ أَعْلَامٌ نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ فَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا التَّعَدِّيَ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا الْوُقُوفَ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ. كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَةَ تَارَةً عَامَّةً وَتَارَةً خَاصَّةً. كَذَلِكَ جَعَلَهَا تَارَةً وَاقِفَةً وَتَارَةً مُتَعَدِّيَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَالْوَاقِفَةُ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِالنَّصِّ دُونَ الْمَعْنَى كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةَ الْمَعْنَى لَمْ يُسْتَنْبَطْ لَهَا مَعْنًى لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاقِفَةَ مُفِيدَةٌ وَالَّذِي يُسْتَفَادُ بِهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِأَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا وَهَذِهِ فَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا حَدَثَ مَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى فَيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ فَغَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةٍ مِنْهَا. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَبْطَلُوا الْعِلَّةَ الْوَاقِفَةَ. وَإِنْ أَثْبَتُوهَا وَجَعَلُوا الْمُتَعَدِّيَةَ أَوْلَى مِنْهَا كَانَ هَذَا مُسَلَّمًا مَا لَمْ تَبْطُلِ الْمُتَعَدِّيَةُ بِنَقْضٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ وَقَدْ أَبْطَلْنَا تَعْلِيلَهُمْ بِالْوَزْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَلَوْلَاهُمَا لَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ. فَهُوَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْكَلَامِ فِي إِبْطَالِ الْعِلَّةِ الْوَاقِفَةِ وَقَدْ مَضَى عَلَى أَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ قَبْلَ الِاسْتِنْبَاطِ لَا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّعَدِّي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 وَالْعِلَّةُ الْوَاقِفَةُ مُسْتَفَادَةٌ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ فَجَازَ أَنْ يكون علة مَعَ عَدَمِ التَّعَدِّي. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مَنْ نَقْضِ عِلَّتِنَا فِي الطَّرْدِ بِالْفُلُوسِ وَفِي الْعَكْسِ بِالْأَوَانِي فَهُوَ أَنَّ عِلَّتَنَا سَلِيمَةٌ مِنَ النَّقْضِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ لِأَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا، وَالْفُلُوسُ وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَنَادِرٌ فَسَلِمَ الطَّرْدُ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَا ينتقض أيضا بالأواني لأننا قلنا جنس الأثمان والأواني مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا فَسَلِمَتِ الْعِلَّةُ مِنَ النَّقْصِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ. وإذ قَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا إِلَى هَذَا فَسَنَذْكُرُ فَصْلًا مِنَ الْعِلَلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا وَيَصِحُّ بِهَا الْقِيَاسُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ قِيَاسَانِ، قِيَاسُ طَرْدٍ وَقِيَاسُ عَكْسٍ. فَأَمَّا قِيَاسُ الطَّرْدِ: فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ حُكْمًا، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ فِي الْقَوْلِ بِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الْعَكْسِ: فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ نَقِيضِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ. وَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قِيَاسًا وَإِنْ خَالَفَهُمْ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقِيَاسُ الطَّرْدِ، لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَنْ أَصْلٍ، وَفَرْعٍ، وَعِلَّةٍ، وَحُكْمٍ. فَأَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْفَرْعُ فهو الذي يتعدى إليه الحكم غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ الصِّفَةُ الْحَالِيَّةُ لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إِلَى: الْإِبَاحَةِ، وَالْحَظْرِ، وَالْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالِاسْتِحْبَابِ فَالْبُرُّ فِي الرِّبَا أَصْلٌ، وَالْأُرْزُ فَرْعٌ، وَالْأَكْلُ عِلَّةٌ، وَالرِّبَا حُكْمٌ. ثُمَّ الْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِمَا فِي الْفَرْعِ، وَالْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُعْلَمُ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا وَالْحُكْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ. وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بحكم الفرع بخلاف الأصل. لأن بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ يُعْلَمُ حُكْمُ الْفَرْعِ، وَبِوُجُودِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ يُعْرَفُ عِلَّةُ الْأَصْلِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ وَتَعْلِيقُ حُكْمِهِ عَلَى فُرُوعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 الْفَرْعِ أَوْ يَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْفَرْعِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَقِيسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأُرْزِ بِعِلَّةِ الْأَكْلِ، وَالْأُرْزُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ: فَإِنَّ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ جَعْلُ هَذَا أَصْلًا وَكَانَ هَذَا الْأَصْلُ مَعَ مَا أُلْحِقَ بِهِ فَرْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. فَجَعَلَ الذُّرَةَ وَالْأُرْزَ فَرْعَيْنِ عَلَى الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْبُرِّ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَلَيْسَ جَعْلُ الْأُرْزِ الْمَقِيسِ عَلَى الْبُرِّ أَصْلًا لِلذُّرَةِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الذُّرَةِ أَصْلًا لِلْأُرْزِ لاستوائهما فَرْعًا لِلْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ وَرُدَّ الْفَرْعُ إِلَيْهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ غَيْرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ وَمَنَعُوا مِنْهُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ إِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَعِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حُكْمُهُ هِيَ عِلَّةٌ أُخْرَى لَا تُوجَدُ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْعِلَّتَيْنِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ هِيَ كَالنَّصِّ فِي أَنَّهَا طَرِيقُ الْحُكْمِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَرُدُّ بِهَا بَعْضُ الْفُرُوعِ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّتَيْنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ عَلَى الْقِيَاسِ اعْتِبَارُ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لِتَحَرِّيَهَا فِي الْفَرْعِ. وَقَدْ يُعْلَمُ عِلَّةُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا. أَحَدُهَا: النَّصُّ الصَّرِيحُ. وَالثَّانِي: التَّنْبِيهُ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِنْبَاطُ. وَأَمَّا النَّصُّ الصَّرِيحُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] . وَنَحْوُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجَلِ الدَّافةِ ". فَنَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ. وَأَمَّا التَّنْبِيهُ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كَلْبٌ وَدَخَلَ عَلَى آخَرِينَ وَعِنْدَهُمْ هِرَّةٌ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ. فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ. وَفِي مَعْنَى التَّنْبِيهِ الِجَوَاب بِالْفَاءِ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى عِلَّتِهِ وَوَكَّلَ الْعُلَمَاءَ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّتِهِ كَالسِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا. فَاجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَعْنَاهَا. وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لِيُعْلَمَ بِهِ الْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا مِنَ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشُّرُوطِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ أَرْبَعٌ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ شَرْطَيْنِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا. فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ الطَّرْدَ شَرْطًا وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَكْسَ شَرْطًا. وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَسْتَمِرُّ فِي جَمِيعِهَا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّاتِ. وَقَالَ الْأَوَّلُونَ: بَلْ هَذَا الشَّرْطُ مُسْتَمِرٌّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَيْضًا مَا لَمْ يُخْلِفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ عِلَّةً أُخْرَى تُوجِبُ مِثْلَ حُكْمِهَا. وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً بِحُكْمٍ وَاقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا مَوْجُودًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الحكم بعدمها وما لَيَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا. واللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا فَسَادُ الْعِلَّةِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ. بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَحَدُهَا: التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ كَعَاقِدٍ وَقَاتِلٍ وَوَارِثٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْمَ لَقَبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْهُ خَمْرًا. فَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ مَعَ تقدمه على الشرع تأثيرا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُهُ بِجِنْسِهِ وَيُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ بِاسْمِهِ فَيُعَلَّلُ تَحْرِيمُهُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْجِنْسِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّخْفِيفِ، وَالْحُكْمُ الْآخَرُ مَبْنِيًّا عَلَى التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ هَذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 مُفْسِدًا لِلْعِلَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ تَسَاوِيَ حُكْمِهِمَا، وَاخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا يُوجِبُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ فِي حُكْمٍ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ. وَهُوَ أَنْ يَضُمَّ الْمُعَلِّلُ إِلَى أَوْصَافِ عِلَّتِهِ وَصْفًا لَوْ عُدِمَتْهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُعْدَمِ الْحُكْمُ. فَفَسَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً وَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يؤثر عِلَّتُهُ فِي الْأَصْلِ. لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ مَا لَا يَضُرُّ فقده في الحكم إثبات مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْكَسْرُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَزِيدُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ احْتِرَازًا مِنِ انْتِقَاضِهَا بِفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ فَلَا يَجُوزُ ضَمُّ هَذَا الْوَصْفِ إِلَيْهَا وَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا ثُمَّ يَجْرِي فِي فُرُوعِهَا. فإن لم يؤثر وصف منها في فَسَاد الْعِلَّةِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: الْقَلْبُ. وَهُوَ أَنْ يُعَلَّقَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ نَقِيضُ حُكْمِهَا مِثَالُهُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْحَنَفِيُّ وُجُوبَ الصِّيَامِ فِي الِاعْتِكَافِ بِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ اقْتِرَانُ مَعْنًى آخَرَ إِلَيْهِ. أَصْلُهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: فَنَقْلِبُ هَذَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَنَقُولُ لِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَكُونُ فهنا فَسَادًا لِلْعِلَّةِ. وَلَكَ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَنْ تَمْنَعَ الْعِلَّةَ بِوَجْهٍ سَادِسٍ وَهُوَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَنَا أُضُمُّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ النِّيَّةُ فَيَكُونُ هَذَا قَوْلًا بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحُكْمِ إِذَا كَانَ مُجْمَلًا وَيَصِيرُ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَانِعًا من العلة أن تكون موجهة لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْحُكْمِ. وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: النَّقْضُ وَيَكُونُ بِحَسْبَ الْعِلَّةِ. وَالْعِلَلُ ضَرْبَانِ. عِلَّةُ نَوْعٍ، وَعِلَّةُ جِنْسٍ. فَأَمَّا عِلَّةُ النَّوْعِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ الْبُرِّ لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ. وَأَمَّا عِلَّةُ الْجِنْسِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ. فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِنَوْعٍ. كَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ فِيهِ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ فَإِذَا وُجِدَ مَطْعُومٌ لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا. وَلَا يَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلْجِنْسِ كَتَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ كَانَ مَطْعُومًا لَا رِبَا فِيهِ كَانَ نَقْضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعِلَّةِ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَانَ نَقْضًا، وَمَتَى كَانَ الْحُكْمُ جُمْلَةً لَمْ يَنْتَقِضْ بِالتَّفْصِيلِ وَمَتَى كَانَ مُفَصَّلًا انْتَقَضَ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ يُحْتَرَزُ مِنَ النَّقْضِ إِذَا كَانَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا احْتِرَازٌ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا احْتِرَازٌ بِشَرْطٍ مُقَيَّدٍ بِالْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ مِثَالُهُ: تَعْلِيلُ الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان مَحْقُونَا الدَّمِ كَالْمُسْلِمَيْنِ. فَإِذَا نُوقِضَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَعَدَمِ الْقَوْدِ فِيهِ قَالَ: قَدِ احْتَرَزْتُ مِنْ هَذَا النَّقْضِ بِالرَّدِّ إِلَى الْمُسْلِمَيْنِ، فَإِنَّ الْقَوْدَ بَيْنَهُمَا يَجْرِي فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ فَكَذَا فِي الْفَرْعِ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالنَّقْضُ لَازِمٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَنْطُوقُ بِهَا وَالْحُكْمُ مَا صَرَّحَ بِهِ، وَالنَّقْضُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ. وَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِشَرْطٍ فَقَيْدٌ بِالْحُكْمِ. فَمِثَالُهُ: إِذَا عَلَّلَ الْحَنَفِيُّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ، أَنْ يَقُولَ: فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. هَلْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعًا مِنَ النَّقْضِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مِنَ النَّقْضِ وَيَكُونُ هَذَا اعْتِرَافًا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِالذِّكْرِ وَكَانَتْ هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْحُكْمِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِشَرْطٍ يَقْتَرِنُ بِالْحُكْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعٌ مِنَ النَّقْضِ وَالْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: الْمُعَارَضَةُ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ. وَالثَّانِي: بِعِلَّةٍ فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ فَيُنْظَرُ حَالُ النَّصِّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَلٍ كَانَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَارَضَتْهُ فَاسِدَةٌ. لِأَنَّ النَّصَّ أَصْلٌ مُقَدَّمٌ وَالْقِيَاسَ فَرْعٌ مُؤَخّرٌ. وَإِنْ كَانَ النَّصُّ مُجْمَلًا جَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ جَلِيًّا، وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ خَفِيًّا وَجْهَانِ. وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِعِلَّةٍ فَضَرْبَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 أَحَدُهُمَا: الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: الْمُعَارَضَةُ بِقِيَاسٍ آخَرَ مَعَ تَسْلِيمِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ نُظِرَ فِي الْمُعَلِّلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الْعِلَّةُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ على صحتها أو على فسادها مَا عَارَضَهَا مِثْلُ تَعْلِيل الْحَنَفِيِّ الْبُرَّ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ فَيُعَارِضُ الشَّافِعِيّ فِي عِلَّةِ الْبُرِّ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَلَا نُسَلِّمُ التَّعْلِيلَ بِالْكَيْلِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَفَسَادِ مَا عَارَضَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ نُظِرَ فِي الْحُكْمَيْنِ فَإِنْ كَانَا مُتَنَافِيَيْنِ لَمْ تَسْلَمِ الْعِلَّةُ بِالْمُعَارَضَةِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِ مَا عَارَضَهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ الْحُكْمَانِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَمْنَعُ الْمُعَارَضَةُ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلِلْمُعَلِّلِ أَنْ يَقُولَ: أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ مَعًا. وَقِيلَ: بَلْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّتَهُ هِيَ الَّتِي أوجبت الحكم الذي أدعاه ثم يصح حينئذ قوله بالعلتين. وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ فَمَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَيْضًا سَوَاءٌ قَالَ الْمُعَلِّلُ بِالْعِلَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَقُلْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. إِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى عِلَّتِهِ فَيَكُونُ الْقِيَاسُ الْمُتَرَجِّحُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَوْلَى. فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَفَسَادَهَا يعْتَبرُ بِمَا وَصَفْنَا فَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ عِلَّةَ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ أَنْ يَعْتَبِرَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ وَصْفًا بَعْدَ وَصْفٍ فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي بَدَأَ بِاعْتِبَارِهِ مُطَّرِدًا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلِمَ أَنَّهُ الْعَلَمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ وَاعْتَرَضَهُ أَحَدُ وُجُوهِ الْفَسَادِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَانٍ فَإِنْ وَجَدَهُ مُطَّرِدًا عَلِمَ أَنَّهُ عِلَّةُ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَالِثٍ فَاعْتَبَرَهُ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَإِذَا سَلِمَ لَهُ أَحَدُهَا جَعَلَهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. فَلَوْ سَلِمَ لَهُ وَصْفَانِ وَصَحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاطِّرَادِهِ عَلَى الْأُصُولِ، لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِمَا لَكِنْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ بِعُمُومِهِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهِ أَوْ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا تَرْجِيحُ الْعِلَلِ عُلِمَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَرَجَّحَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَوْصَافُ الْأَصْلِ حِينَ اعْتُبِرَ بِهَا لَا يَطَّرِدُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى الْأُصُولِ ضَمَمْتَ أَحَدَ الْأَوْصَافِ إِلَى الْآخَرِ فَإِذَا صَلُحَ لَكَ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ مُطَّرِدَيْنِ جَعَلْتَهُمَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ الْوَصْفَانِ بِاجْتِمَاعِهِمَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِمَا وَصْفًا ثَالِثًا، فَإِذَا وَجَدْتَهَا مُطَّرِدَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 جَعَلْتَهَا مَجْمُوعَهَا عِلَّةَ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ تَطَّرِدْ بِاجْتِمَاعِهَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا رَابِعًا، ثُمَّ خَامِسًا ثُمَّ سَادِسًا وَلَا يَنْحَصِرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ كُلِّهِ وَيَقْتَصِرَ بِالْعِلَّةِ عَلَى نَفْسِ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا فِي عِلَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِ أَوْصَافِهَا انْتَهَى بِنَا التَّعْلِيلُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقُلْنَا: إِنَّ عِلَّتَهُمَا كَوْنُهُمَا أَثْمَانًا وَقِيَمًا. وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ هَذَا بِمَنْعِهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْوَاقِعَةِ. وَمَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا نَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ منها. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسلفَ شَيْئًا بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَا مُتَفَاضِلَيْنِ يَدًا بِيَدٍ قِيَاسًا عَلَى الذَّهَبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُسلفَ فِي الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ الَتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْلَفَ فِي الذَّهَبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَبَايَعَا لَمْ يَخْلُ مَا يَضْمَنُهُ عَقْدُ بَيْعِهِمَا عِوَضًا وَمُعَوَّضًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ نَقْدًا وَنَسَاءً مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِعَبْدٍ، أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ، وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الرِّبَا دُونَ الْآخَرِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِدَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبٍ بِطَعَامٍ فَهَذَا كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالْبُرِّ بِالذَّهَبِ أَوِ الشَّعِيرِ بِالْفِضَّةِ فَهَذَا كَالْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ أَوْ بِالْبُرِّ، وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوْ بِالذَّهَبِ، فَلَا يَجُوزُ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْعِوَضَيْنِ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُمَا إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: التَّسَاوِي، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَصِحُّ وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 وَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ بِالزَّبِيبِ فَبَيْعُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ يَجُوزُ وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُغْنِي. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا إِلَى أَجَلٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ عِلَّتَيِ الرِّبَا أَنَّ مَا عَدَا الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا رِبَا فِيهِ كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَمُتَفَاضِلًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا بِثَوْبَيْنِ وَعَبْدًا بِعَبْدَيْنِ وَبَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ نَقْدًا وَنَسَاءً. وَقَالَ أبو حنيفة: الْجِنْسُ يَمْنَعُ مِنَ النَّسَاءِ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ نَسَاءً، وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْحَيَوَانُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ إِنْسَاءً. وَلِأَنَّهُ بَيْعُ جِنْسٍ فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالْبُرِّ. وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَطْعُومُ جِنْسٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة مَكِيلُ جِنْسٍ، وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالطَّعْمِ أَوِ الْكَيْلِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا كَانَ وَصْفًا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَانَ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ النَّسَاءِ كَالْكَيْلِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَفَرَّتِ الِإبْلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ قِلَاصِ الصَّدَقَةِ. فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ. وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَا يَشْعُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنَهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يقال له العصيفير بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالرَّبَذَةِ. وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حيوان وثياب. وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ دُخُولُ التَّفَاضُلِ فِيهِ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ كَالثِّيَابِ الْمَرْوِيَّةِ بِالْهَرَوِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: " الْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ " جِنْسَانِ فَلِذَلِكَ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِمَا، قِيلَ: جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَبَانَ أَنَّهُ كِتَّانٌ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَلِأَنَّ الرِّبَا قَدْ يَثْبُتُ فِي الْجِنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: التَّفَاضُلُ، وَالْأَجلُ. فَلَمَّا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الرِّبَا فَوَجَبَ أَلَّا يُحَرَّمَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَالتَّفَاضُلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَيْ سَمُرَةَ، وَجَابِرٍ، فَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى دُخُولِ الْأَجَلِ فِي كِلَا الْعِوَضَيْنَ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبُرِّ بِالْبُرِّ فَالْمَعْنَى تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِيهِ، فَذَلِكَ حرمَ الْأَجَل، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الرِّبَا كَالْكَيْلِ، فَالْمَعْنَى فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ إِذَا عُلِّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْأَجَلِ، اخْتَصَّ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الرِّبَا، وَإِذَا عُلِّقَ بِالْجِنْسِ عَمَّ مَا فِيهِ الرِّبَا وَمَا لَا رِبَا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ مَا فِيهِ الرِّبَا، وَبَيْنَ مَا لَا رِبَا فِيهِ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الربا. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ أريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَرِطْلَ نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْضٌ بِعَرْضَيْنِ إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ بِيعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَقَوْلُهُ أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ إِنَّمَا عَنَى بِهِ مَالِكًا حَيْثُ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ بِعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ أَوْ بِعِيرٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَالْمُرَادُ لِلذَّبْحِ أَنْ يَكُونَ كَسِيرًا أَوْ حَطِيمًا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلذَّبْحِ يَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى اللَّحْمِ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ وَجَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ الدَّالَّةِ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ ببعض صحيحا، جاز بعضه كَسْرًا كَالْعَبْدِ الصَّحِيحِ بِالْعَبْدِ الزَّمِنِ. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالصَّحِيحِ. وَلِأَنَّ كَسِيرَ الْحَيَوَانِ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ حَتَّى يُسْتَبَاحَ بِالزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالصَّحِيحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ. وَبِهَذَا يَنْكَسِرُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَرِطْل نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْض بِعَرْضَيْنِ. فَلِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ مَعًا. وَقَوْلُهُ: إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ فَلِأَنَّ السَّلَمَ لَا يصح إلا بهذين الشرطين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ ممَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يُبَاعُ مِنْهُ يَابِسٌ بِرَطْبٍ قِيَاسًا عِنْدِي عَلَى مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ وَمَا يَبْقَى وَيُدَّخَرُ أَوْ لَا يَبْقَى وَلَا يُدَّخَرُ وَكَانَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْ نَقِيسَهُ بِمَا يُبَاعُ عَددا مِنْ غير المأكول من الثياب والخشب وغيرها ولا يصلح على قياس هذا القول رمانة برمانتين عدا ولا وزنا ولا سفرجلة بسفرجلتين ولا بطيخة ببطيختين ونحو ذلك ويباع جنس منه بجنس من غيره متفاضلا وجزافا يدا بيد ولا بأس برمانة بسفرجلتين كما لا بأس بمد حنطة بمدين من تمر ونحو ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ كُلَّهَا ضَرْبَانِ. ضَرْبٌ اسْتَقَرَّ فِي الْعُرْفِ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ فَهَذَا فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ والجديد معا. وضرب استقر في الْعُرْفِ أَنَّهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبَطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ وَالْبُقُولِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: لَا رِبَا فِيهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، رَطْبًا وَيَابِسًا، عَاجِلًا وَآجِلًا وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ الرِّبَا. فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا كَانَ رَطْبًا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهَا فِي حَالِ يَبْسِهَا وَادِّخَارِهَا كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ مِنْهُ رَطْبُهُ بِيَابِسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ حَتَّى إِذَا صَارَ يَابِسًا مُدَّخَرًا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبُقُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا. فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِلْحَاقًا بِاللَّبَنِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ قَبْلَ الِادِّخَارِ وَالْيُبْسِ لِأَنَّ أَغْلَبَ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ رَطْبًا بِرَطْبٍ وَلَا يَابِسًا بِرَطْبٍ حَتَّى يَصِيرَ يَابِسًا مُدَّخَرًا. لِأَنَّ بَعْضَهُ إِذَا يَبِسَ مُخْتَلِفٌ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمَنْفَعَةِ وَخَالَفَ الْأَلْبَانَ وَالْمَائِعَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ لِأَنَّهَا لَا تَيْبَسُ بِأَنْفُسِهَا. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَيُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَقْلِ الْمَأْكُولِ مِنْ صِنْفِهِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ: فإن كان ما يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالْبَطِّيخِ وَالرُّمَّانِ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالنَّبْقِ وَالْعُنَّابِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ، لِأَنَّهُ أَحْصَرُ مِنَ الْكَيْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بالكيل؛ لأنه المنصوص عليه في كتاب الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ رَطْبًا لَا يَجُوزُ بِجِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ لِظُهُورِ التَّفَاضُلِ، وَلَا رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَةٍ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ رُمَّانَةٍ بِسَفَرْجَلَتَيْنِ يَدًا بِيَدٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ. فصْلٌ: فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا، وَلَا كَيْلًا، وَلَا وَزْنًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اللُّبُّ، وَالْقِشْرُ يَخْتَلِفُ. فَإِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ حَتَّى صَارَ لُبًّا فَرْدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا إِنْ كَانَ مَكِيلًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ مَوْزُونًا، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي قِشْرِهِ. وهذا نص الشافعي. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ مِنَ الأدْوَيةِ هُليْلجها وبُليْلجها وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْتَاتُ فَقَدْ تُعَدُّ مَأْكُولَةً وَمَشْرُوبَةً فهي بأن تقاس على المأكول والمشروب للقوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 لأن جميعها في معنى المأكول والمشروب لمنفعة البدن أولى من أن تقاس على ما خرج من المأكول والمشروب من الحيوان والثياب والخشب وغيرها ". قال الماوردي: واعلم أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ قَدْ تَخْتَلِفُ جِهَاتُ أَكْلِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ سِتَّةٍ: أَحَدُهَا: مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَيَتْبَعُ هَذَا النَّوْعَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ. وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ أُدْمًا كَالزَّيْتُونِ وَالْبَصَلِ وَقَدْ يَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَلْبَانُ وَالْأَدْهَانُ. وَالثَّالِثُ: مَا يُؤْكَلُ إِبْزَارًا كَالْكَمُّونِ وَالْفِلْفِلِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمِلْحُ. وَالرَّابِعُ: مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ. وَقَدْ يُضَافُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ الْخُضَرُ. وَالْخَامِسُ: مَا يُؤْكَلُ حُلْوًا كَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ. وَالسَّادِسُ: مَا يُؤْكَلُ دَوَاءً كَالْإِهْلِيلَجِ وَالْبِلِيلَجِ فَيَجْرِي الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنَ السَّقَمُونْيَا وَالْبُرِّ فِي حُصُولِ الرِّبَا فِيهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْبُرُّ يُؤْكَلُ قُوتًا عَامًّا وَالسَّقَمُونِيَا تُؤْكَلُ دَوَاءً نَادِرًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ. فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَأْكُولَاتِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ الْبَهَائِمِ كَالْحَشِيشِ وَالْعَلَفِ فَلَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَكْلِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْبَهَائِمِ. فَأَمَّا مَا يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْهُمَا أَكْلَ الْآدَمِيِّينَ فَفِيهِ الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَغْلَبِ حَالَتَيْهِ كَالشَّعِيرِ الَّذِي قَدْ يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ وَأَكْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ أَغْلَبُ فَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالَتَيْهِ أَكْلَ الْبَهَائِمِ فَلَا رِبَا فِيهِ كَالْعَلَفِ الرَّطْبِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ الْآدَمِيُّونَ عِنْدَ تَقْدِيمِهِ. وَإِنِ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ فَكَانَ أَكْلُ الْبَهَائِمِ لَهُ كَأَكْلِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَغْلَبَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَخْلُصْ. وَالثَّانِي: فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ وَحُصُولِ الزِّيَادَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَسَنُوَضِّحُهُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ الرَّيْحَانَ، وَالنَّيْلُوفَرَ، وَالنَّرْجِسَ، وَالْوَرْدَ، وَالْبَنَفْسِجَ، لا ربا فيها. لأنها قد تتخذ مشمومة إلا أن يريب شَيْءٌ مِنْهَا بِالسُّكَّرِ أَوْ بِالْعَسَلِ كَالْوَرْدِ الْمَعْمُولِ جلجبين فَيَصِيرُ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ صَارَ مَأْكُولًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاءِ الْوَرْدِ. هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وَالثَّانِي: فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعَامِ مَأْكُولًا. فَأَمَّا الْعُودُ، وَالصَّنْدَلُ، وَالْكَافُورُ، وَالْمِسْكُ، وَالْعَنْبَرُ. فَلَا رِبَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهَا طِيبٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الْمُبْتَغَى مِنْهُ لونه كالعصفر. والثاني: فيه الربا لأنه مأكولا وَطَعْمُهُ مَقْصُودٌ. فَأَمَّا الْأُتْرُجُّ وَاللَّيْمُونُ وَالنَّارِنْجُ فَفِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طِيبًا ذَكِيًّا فَهُوَ مَأْكُولٌ وَالْأَكْلُ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ. فَأَمَّا الْعِشَارُ وَالْأَشَجُّ فلا ربا فيهما وكذلك الشيح لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بُخُورًا. وَأَمَّا اللُّبَانُ وَالْعِلْكُ فَفِيهِمَا الرِّبَا، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ الْمِصْطِكي. وَأَمَّا اللَّوْزُ الْمُرُّ وَالْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَالْبَلُّوطُ فَفِيهَا الرِّبَا، لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةَ النَّبْتِ، وَكَذَلِكَ الْقِثَّاءُ وَحَبُّ الْحَنْظَلِ. فَأَمَّا الْقرْطمُ وَحَبُّ الْكِتَّانِ فَفِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُؤْكَلَانِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا عَدَمُ الْأَكْلِ وَإِنْ أُكِلَا نَادِرًا. وَأَمَّا الطِّينُ فَإِنْ كَانَ أَرْمَنِيًّا فَفِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَخْتُومًا. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالطِّينِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ شَهْوَةً فَلَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ أَكْلَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَصَارَ أَكْلُهُ كَأَكْلِ التُّرَابِ. فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ طِلَاءً أَوْ ضِمَادًا، فَلَا رِبَا فِيهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّمْغِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الرِّبَا وَنَفَى عَنْهُ بَعْضُهُمُ الرِّبَا لِأَنَّهُ طِلَاءٌ. وَأَمَّا الْبُذُورُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ نَبْتِهَا كَبِذْرِ الْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَالسَّلْجَمِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لِمَأْكُولٍ وَأَصْلٌ لِمَأْكُولٍ. وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي أَنْفُسِهَا فَجَرَتْ مَجْرَى الْعَجَمِ وَالنَّوَى الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَأْكُولٍ وأصلا لمأكول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، بِخِلَافِ النَّوَى، لِأَنَّ النَّوَى لَا يُؤْكَلُ بِحَالٍ، وَهَذِهِ الْبُذُورُ تُؤْكَلُ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ أَكْلُهَا طَلَبًا لِإِكْمَالِ أَحْوَالِهَا كَالطَّلْعِ وَالْبَلَحِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَصْلُ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَلَا وَزْنًا بِكَيْلٍ لِأَنَّ الصَّاعَ يَكُونُ وَزْنُهُ أَرْطَالًا وَصَاعٌ دُونَهُ أَوْ أَكْثَر مِنْهُ فَلَوْ كِيلَا كَانَ صَاعٌ بِأَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ كَيْلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ الرِّبَا إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي تَمَاثُلِهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ كَانَ بِالْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكيلا، كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا. وَمَا كَانَ مَوْزُونًا كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَادَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا بِمَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَكِيلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَزْنًا بِوَزْنٍ، كَالتَّمْرِ الَّذِي قَدْ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِبَيْعِهِ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَوْزُونًا كَيْلًا بِكَيْلٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: أَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ. وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا أَحْدثَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا مَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِعَادَةِ النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْحِجَازِ وَلَا بِمَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ". وَالتَّمَاثُلُ مَعْلُومٌ بِالْوَزْنِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْكَيْلِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ مِنَ الْكَيْلِ، فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْمَكِيلِ وَزْنًا وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا. وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مَنْصُوصٌ عَلَى الْكَيْلِ فِيهَا فَلَمْ يُجِزْ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَمَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْعَادَةِ. وَعَادَةُ أَهْلِ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ أَوْقَاتٍ سَالِفَةٍ وَبِلَا مُخَالَفَةٍ. لِأَنَّ التَّفَاضُلَ مَوْجُودٌ بِمَقَادِيرِ الْوَقْتِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ ". فَنَصَّ عَلَى التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَاوَى الْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا وَيَتَفَاضَلَانِ وَزْنًا، كَمَا أَنَّهُمَا قَدْ يَتَسَاوَيَانِ وَزْنًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وَيَتَفَاضَلَانِ كَيْلًا، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مُحَرَّمٌ، فَلَوِ اعْتُبِرَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ لَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَصَّ. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ فَلَمَّا جَازَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَإِنْ جَازَ التَّفَاضُلُ فِي الْوَزْنِ، وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّمَاثُلِ فَيَحِلُّ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ التَّفَاضُلِ فَيَحْرُمُ. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ ". وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إِخْبَارًا مِنْهُ بِانْفِرَادِ الْمَدِينَةِ بِالْمِكْيَالِ وَمَكَّةَ بِالْمِيزَانِ. لِأَنَّ مِكْيَالَ غَيْرِ الْمَدِينَةِ وَمِيزَانَ غَيْرِ مَكَّةَ يَجُوزُ التَّبَايُعُ بِهِ وَاعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيمَا يَكِيلُونَهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيمَا يَزِنُونَهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ النَّاسُ عَادَةً فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنْ يَتَبَايَعُوهَا عَدَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ اعْتِبَارًا بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْحِجَازِ مِنْ قَبْلُ. وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ، لَوْ خَالَفَ النَّاسُ فِيهَا الْعَادَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ رَافِعًا لِسَالِفِ الْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَمَاثُلِهِ بِسَالِفِ الْعَادَةِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةُ أَنَّهُ جِنْسٌ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْهُودِ عَلَى زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَعُمُّ مَالِكًا وأبا حنيفة وَفِيهَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْحَالِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ. فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْحَالِ رَاعَيْت فِيهِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ. فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا جَعَلْتَ الْكَيْلَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ وَزْنًا. وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا جَعَلْتَ الْوَزْنَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ كَيْلًا. فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَتِ الْحُبُوبُ عَلَى عَهْدِهِ مَكِيلَةً، وَالْأَدْهَانُ مَكِيلَةً، وَالْأَلْبَانُ مَكِيلَةً، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ أَوْ كَانَ مِنْ مَأْكَلٍ غَيْرِ الْحِجَازِ رَاعَيْتَ فِيهِ عُرْفَ أَهْلِ الْوَقْتِ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ فَجَعَلْتَهُ أَصْلًا. فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ وَزْنًا جَعَلْتَ أَصْلَهُ الْوَزْنَ، وإن كان العرف كيلا جعلت أصله كيلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفٌ غَالِبٌ فَكَانَتْ عَادَتُهُمْ تَسْتَوِي فِي كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: تُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ. وَالثَّانِي: تُبَاعُ كَيْلًا لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ نَصٌّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ مِمَّا عُرِفَ حَالُهُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُلْحَقُ بِهِ. لِأَنَّ الْأَشْبَاهَ مُتَقَارِبَةٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ لِاسْتِوَاءِ الْعُرْفِ فيه. فصل: إذا كَانَتْ ضَيْعَةٌ أَوْ قَرْيَةٌ يَتَسَاوَى طَعَامُهَا فِي الكيل والوزن، لا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهِ بِالْكَيْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ الْعُرْفِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَيَكُونُ الْوَزْنُ فِيهِ نَائِبًا عَنِ الْكَيْلِ لِلْعِلْمِ بِمُوَافَقَتِهِ كَمَا كَانَ مِكْيَالُ الْعِرَاقِ نَائِبًا عَنْ مِكْيَالِ الْحِجَازِ لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَكِيلَيْنِ. فَصْلٌ: إِذَا تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ جُزَافًا ثُمَّ كِيلَا مِنْ بَعْدُ فَوُجِدَتَا سَوَاء كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَلَوْ تَبَايَعَا عَلَى الْمُكَايَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ صَحَّ الْبَيْعُ. فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً لَزِمَ الْعَقْدُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ فَضَلَتْ إِحْدَى الصُّبْرَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصُّبْرَتَيْنِ مَعَ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُ الْعَقْدِ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ صَاحِبُ الْفَضْلِ زِيَادَتَهُ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الصُّبْرَةِ النَّاقِصَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِمِثْلِ صبرته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بَالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَفَاضِلًا فِي نَحْوِ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَحَكَى الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَفَاضِلًا وَجَعَلَهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَمَاثِلًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَمَاثُلِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ. يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ بِالْكَيْلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ إِلَّا بِالْوَزْنِ. فَأَمَّا من ذهب إلى جِنْسَانِ وَجَوَّزَ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ والكرابيسي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا، وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي تَنَافِي التَّجَانُسِ مِنْ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً فَأَكَلَ دَقِيقًا أَوْ لَا يَأْكُلُ دَقِيقًا فَأَكَلَ حِنْطَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا لَحَنِثَ بِأَكْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا حَاصِلَةٌ إِمَّا بِالْكَيْلِ أَوْ بِالْوَزْنِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الدَّقِيقَ حِنْطَةٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَجْزَاءِ وَتَفْرِيقُ أَجْزَائِهَا يُحْدِثُ فِيهَا خِفَّةً فِي الْمِكْيَالِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي كَمَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ خَفِيفَةَ الْوَزْنِ بِكَيْلِهَا حِنْطَةً ثَقِيلَةَ الْوَزْنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَإِنْ عَلِمَ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَزْنِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ هُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَلَيْسَ تَفَرُّقُ أَجْزَائِهَا بِمُخْرِجٍ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا كَصِحَاحِ الدَّرَاهِمِ وَمَكْسُورِهَا فَإِنْ قِيلَ مَكْسُورُ الدَّرَاهِمِ يَصِيرُ صِحَاحًا بِالسَّبْكِ، وَالدَّقِيقُ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا. قُلْنَا: لَيْسَ اخْتِلَافُ الشَّيْءِ بِتَنَقُّلِ أَحْوَالِهِ الَّتِي لَا يَعُودُ إِلَيْهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ جِنْسِهِ فَإِنَّ التَّيْسَ لَا يَعُودُ جَدْيًا، وَالتَّمْرَ لَا يَعُودُ رُطَبًا، وَالرُّطَبَ لَا يَعُودُ بُسْرًا ثُمَّ لَا يَدُلُّ انْتِقَالُهُ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَتَعَذُّرُ عَوْدِهِ إِلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، بَلِ التَّمْرُ مِنْ جِنْسِ الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ رُطَبًا، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ مِنْ جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ حِنْطَةً. فَأَمَّا الْأَثْمَانُ فَمَجْهُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الْأَسَامِي، وَالرِّبَا مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسَانِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ حَرُمَ التَّفَاضُلُ فِيهِ وَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ التماثل فيه. أَمَّا بِالْوَزْنِ فَلِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَمَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَمَاثُلُهُ بِالْوَزْنِ، وَأَمَّا الْكَيْلُ فَلِأَنَّ تَفْرِيقَ أَجْزَاءِ الدَّقِيقِ بِالطَّحْنِ وَاجْتِمَاعُ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِكْيَالِ اخْتِلَافًا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِالْفَضْلِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفَاضُلُ مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ. وَلَيْسَ هَذَا كَالطَّعَامِ الْخَفِيفِ بِالطَّعَامِ الثَّقِيلِ، لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْجَمِيعِ مُجْتَمِعَةً، وَإِنَّمَا خَفَّتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 أَجْزَاءُ أَحَدِهِمَا وَثَقُلَتْ أَجْزَاءُ الْآخَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَخَالَفَ الدَّقِيقُ الَّذِي قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فَانْبَسَطَتْ بِالْحِنْطَةِ الَّتِي قَدِ انْضَمَّتْ أَجْزَاؤُهَا وَاجْتَمَعَتْ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا مَا حَدَثَ عَنِ الدَّقِيقِ مِنَ الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ، أَمَّا الْعَجِينُ فَلِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ الدَّقِيقِ. وَالثَّانِيَةُ: دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ. وأما الخبز فلثلاث علل منها هاتات الْعِلَّتَانِ. وَالثَّالِثَةُ: دُخُولُ النَّارِ فِيهِ. فَأَمَّا السَّوِيقُ بِالْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا بِيعَ الدَّقِيقُ بِالدَّقِيقِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِمَا كَمَا جَازَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لِاجْتِمَاعِ أَجْزَاءِ أَحَدِهِمَا وَتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْآخَرِ. وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الدَّقِيقَ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ جَمِيعِهِ بِالطَّحْنِ فَقَدْ يَكُونُ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ، فَيَكُونُ تَفْرِيقُ أَجْزَائِهِ أَكْثَرَ وَهُوَ فِي الْمِكْيَالِ أَجْمَعُ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ، لِأَنَّ النَّاعِمَ الْمُنْبَسِطَ أَكْثَرُ فِي الْمِكْيَالِ مِنَ الْخَشِنِ الْمُجْتَمِعِ، أَوْ يَكُونُ مَجْهُولَ التَّمَاثُلِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ فَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. فَأَمَّا الْخُبْزُ إِذَا يَبِسَ وَدُقَّ فَتُوتًا نَاعِمًا، وَبِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَيْلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالدَّقِّ قَدْ عاد أَصْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ حَصَلَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الدَّقِيقَ أَقْرَبُ إِلَى التَّمَاثُلِ مِنَ الْخَبْزِ الْمَدْقُوقِ الَّذِي قَدْ دَخَلَتْهُ النَّارُ وَأَحَالَتْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ فَأَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ بَيْعُ الْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ بِالْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَشْهُورٌ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لَكَانَ إِغْفَالُهُ أَوْلَى لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَمُنَافَاتِهِ الْمَذْهَبَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فِي بَيْعِ الدقيق بالدقيق أو الخبز بالدقيق جازه لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ الْبُرِّ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ، وَخُبْزِ الْبُرِّ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، لِأَنَّ الشَّعِيرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبُرِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وَقَالَ مَالِكٌ: الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ وَجَّهَ بِغُلَامٍ لَهُ وَمَعَهُ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ فَقَالَ: اشترِ بِهِ شَعِيرًا فَاشْتَرَى بِهِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَازْدَادَ صَاعًا آخَرَ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا. رُدَّهُ فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ. قَالَ: وَطَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَيَمْتَزِجَانِ فِي الْمُشَاهَدَةِ فَجَرَيَا مَجْرَى شَامِيٍّ وَحَبَشَانِيٍّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلَكِنْ بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ والشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ. فَجَوَّزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا نَصًّا مَعَ قَوْلِهِ: فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَلِأَنَّ الشَّعِيرَ مُخَالِفٌ لِلْبُرِّ فِي صِفَتِهِ وَخِلْقَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَإِنْ قَارَبَهُ مِنْ وَجْهٍ فَحَلَّ مِنَ الْبُرِّ مَحَلَّ الزَّبِيبِ مِنَ التَّمْرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا جِنْسَيْنِ كَمَا أَنَّ الزَّبِيبَ مِنَ التَّمْرِ جِنْسَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُ مَعْمَرٍ دُونَ رِوَايَتِهِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَامْتِزَاجِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَيْسَ تَقَارُبُهُمَا فِي الْمَنْفَعَةِ بِمُوجِبٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِنْسِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَلَيْسَ امْتِزَاجُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ كَالتُّرَابِ الْمُمْتَزِجِ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ بِخَلِّ الْعِنَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ فَلَا خَيْرَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مِثْلًا بِمَثَلٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَلَا بَأْسَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَمُقَدِّمَاتُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَالزَّبِيبُ وَالْعِنَبُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْمَاءَ هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ. وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ لَا يَتَحَوَّلُ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ مَنْ غَصَبَ مَاءً فَتَوَضَّأَ بِهِ جَازَ. وَلَوْ غَصَبَ رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ خَلِّ العنب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 بِخَلِّ الْعِنَبِ جَائِزٌ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ. وَلَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ التَّفَاوُتَ فِيهَا فَصَارَ كَالْأَدْهَانِ، وَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي أحدهما أكثر منه في الآخر فيقضي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمَاثُلِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ الرُّطَبِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ خَلِّ الْعِنَبِ لِأَنَّ خَلَّ الْعِنَبِ عَصِيرٌ لَا يُخَالِطُهُ الْمَاءُ، وَخَلُّ الرُّطَبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِمُخَالَطَةِ الْمَاءِ. فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالْعِنَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِي أَحَدِهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ وَلَكِنْ بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الرطب والتمر فعلى وجهين مبنيان عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْمَاءِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جِنْسَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ فِي الْمَاءِ الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْخَلِّ إِنَّ جَمِيعَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَاللَّبَنِ، فَيَمْنَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ بَيْعِ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ بِكُلِّ حَالٍ. وامتنع سائر أصحابنا من تخريج هذا القول وَقَالُوا إِنَّ الْخَلَّ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَاَل الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي التَّحَرِّي فِيمَا فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رِبًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ إِذَا تَحَرَّى فِيهِ خَلَّالٌ بَصِيرٌ بِصَنْعَتِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي أَحَدِهِمَا مِنَ الْمَاءِ مِثْلَ مَا فِي الْآخَرِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَازَ التَّحَرِّي فِيهِ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ تَخْمِينٌ وَالْيَقِينَ مَعْدُومٌ، وَتَجْوِيزُ التَّفَاضُلِ مَحْظُورٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ أبيِ هُرَيْرَةَ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ ردًّا عَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ يُتَابِعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ تَحَرِّيًا وَاجْتِهَادًا فِي التَّمَاثُلِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ تَعُوزُهُمُ الْمَكَايِيلُ فَاضْطَرُّوا إِلَى التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ كَمَا جَازَ التَّحَرِّي فِي بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ لِلضَّرُورَةِ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وَهَذَا خَطَأٌ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَمُفَارَقَةِ الْقِيَاسِ. رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مَا لَمْ يدْرِ كَيْلُ هَذِهِ وَكَيْلُ هَذِهِ. وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّحَرِّي فِي التَّمَاثُلِ كَأَهْلِ الْحَضَرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَحَرٍّ فِي تَمَاثُلِ جِنْسٍ يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْحَضَرِ، يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ كَالْمَوْزُونِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمِكْيَالِ فَفَاسِدٌ بِفَقْدِ الْمِيزَانِ الَّذِي لَا يَسْتَبِيحُونَ مَعَهُ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ وَخَالَفَ الْعَرَايَا لِأَنَّ كَيْلَ مَا عَلَى رؤوس النخل غير ممكن. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ حَتَى يَكُونَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ". قال الماوردي: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ عِوَضٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مُدُّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٌ بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَلَا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَثَوْبٌ بِدِينَارَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ وَسَيْفٌ بِدِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِهِ فَأَبَاحَ بَيْعَ مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ وَجَعَلَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ، وَأَجَازَ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِذَهَبٍ بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ ذَهَبًا مِنَ الْحِلْيَةِ، لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْهُ ثَمَنًا للسيف ويجعل الذهب بالذهب مثلا بمثل. فاستدل عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَسَادِ. وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمْ لِمُسْلِمٍ مَخْرَجًا فَأَخْرِجُوهُ. فَلَمَّا كَانَ مُتَبَايِعَا الْمُدِّ وَالدِّرْهَمِ بِالْمُدَّيْنِ لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مُدٌّ بِمُدٍّ، وَدِرْهَمٌ بِمُدٍّ صَحَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مَحْمُولًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا. فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا فِي الْمُمَاثَلَةِ لَا فِي الْمَكِيلِ وَلَا فِي الْمَوْزُونِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ كَرًّا مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِكَرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا صَحَّ الْعَقْدُ لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ فِي الْكَيْلِ وَإِنْ حَصَلَ التَّفَاضُلُ فِي الْقِيمَةِ وَإِذَا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ صَارَ الْعَقْدُ مُقْسَّطًا عَلَى الْأَجْزَاءِ دُونَ الْقِيَمِ فَيَصِيرُ مُدٌّ بِإِزَاءِ مُدٍّ وَدِرْهَمٌ بِإِزَاءِ مُدٍّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ خَيْبَرَ بِقَلادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ. فَقَالَ لَا حَتَى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهُ لِأَنَّ ذَهَبَ الْقَلَادَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَبِ الثَّمَنِ قُلْنَا: لَا يَصْحُّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلَقَ الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إِنَّمَا أَرَدْتُ الْخَرَزَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ يَسِيرٌ دَخَلَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ ابْتَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَا يَصْلُحُ هَذَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهُ فَقَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُكَ أَبَدًا. فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى قِيمَتِهِمَا لَا عَلَى أَعْدَادِهِمَا، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ وَعَبْدًا بِأَلْفٍ فَاسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ كَانَ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِأَلْفٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ أَوْ تَلِفَ كَانَ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأَلْفِ وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الْأَلْفِ. وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ تُوجِبُ تَقْسِيطَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ اقْتَضَى أن يكون العقد ها هنا فَاسِدًا لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ. وَالثَّانِي: الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ. لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، أَوْ يَكُونُ دِرْهَمًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ التَّفَاضُلُ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا كَانَ التَّمَاثُلُ مَجْهُولًا، وَالْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ. فَلَمْ يَخْلُ الْعَقْدُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَسَادِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 فَإِنْ قِيلَ: الثَّمَنُ لَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ فِي حَالِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ وَتَقْسِيطُهُ عَلَى الْقِيمَةِ بِهِ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ. قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ. لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا إِمَّا عَلَى الْقِيمَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَدَدِ، فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى الْعَدَدِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَسَّطٌ عَلَى الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ الْجَهْلُ بِالتَّفْصِيلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ مَانِعًا مِنَ الصِّحَّةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ. فَيَنْتَقِضُ بِمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَهُمَا عَقْدَانِ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وجعلوا العقد الواحد ها هنا عَقْدَيْنِ لِيَحْمِلُوهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَانَ هَذَا إِفْسَادًا لِقَوْلِهِمْ. وَلَوْ كَانَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا لَكَانَ بَيْعُ مُدِّ تَمْرٍ بِمُدَّيْنِ جَائِزًا. لِيَكُونَ تَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوَى الْآخَرِ، حَمْلًا لِلْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ. أَوْ يَكُونُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَالْآخَرُ مَحْمُولًا عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ هَذَا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ اعْتِبَارُ إِطْلَاقِهِ فِي الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَإِنَّمَا تَمَاثُلُ الْقَدْرِ مُعْتَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ يُعْلَمُ تَمَاثُلُ الْقَدْرِ أَوْ تَفَاضُلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَبَاعَ الرَّجُلُ مُدًّا مِنْ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَفْصِلَ فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُكَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ فَيَصِحُّ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ يَجْعَلُهُمَا عَقْدَيْنِ وَيَمْنَعُ مِنْ تَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا مَنْ بُرٍّ وَمُدًّا مِنْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ وَلَكِنْ لَوْ باعه مدا من بر ومدا من شعير بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ كَانَ جَائِزًا إِذَا تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا وَاحِدَةٌ. وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِثَوْبَيْنِ كَانَ جَائِزًا وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِكَرٍّ مِنْ بُرٍّ صَحَّ وَجَازَ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالْبُرَّ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا الرِّبَا فَلِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ دِينَارًا وَثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا. لِأَنَّ مَا قَبْلَ الدِّينَارِ مِنَ الدَّرَاهِمِ صَرْفٌ. وَمَا قَابَلَ الثَّوْبَ بَيْعٌ. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَقَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ بِقَفِيزَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ كَانَ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَصَرْفٌ لِأَنَّ مَا قَابَلَ الثَّوْبَ مِنَ الْحِنْطَةِ بَيْعٌ وَمَا قَابَلَ الشَّعِيرَ كَالصَّرْفِ لِاسْتِحْقَاقِ القبض قبل التفرق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ زَيْتٍ وَدُهْنِ لُوزٍ وَجُوزٍ وَبُزُورٍ لَا يَجُوزُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَدْهَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَدُهْنِ الْجُوزِ وَاللُّوزِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَدُهْنُ الْبُطْمِ وَالصَّنُوبَرِ وَالْخَرْدَلِ وَالْحَبِّ الْأَخْضَرِ فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا مَأْكُولَةٌ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا وَمَأْكُولَةُ الْأَصْلِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهَا، فَفِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا، فَأَصْلُهَا مَأْكُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأَنْفُسِهَا فَهِيَ مَأْكُولَةٌ فَلَمْ تَخْلُ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَدُهْنِ الْمَحْلَبِ وَالْأَلْبَانِ وَالْكَافُورِ فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا غَيْرُ مَأْكُولَةِ الْأُصُولِ وَالْأَدْهَانِ جَمِيعًا فَلَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِالْحَالَتَيْنِ مَعًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ وَالْيَاسَمِينِ فَهَذِهِ فِي أَنْفُسِهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي الْعُرْفِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ طِلَاءً لَكِنَّهَا مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ وَهُوَ السِّمْسِمُ فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا. وَالثَّانِي: فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا. وَكَذَلِكَ دُهْنُ السَّمَكِ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ لَكِنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَأَمَّا دُهْنُ الْبَزْرِ وَالْقُرْطُمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أُصُولِهَا هَلْ هِيَ مَأْكُولَةٌ يَثْبُتُ فِيهَا الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهَا فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي أَدْهَانِهَا. وَالثَّانِي: فِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا قَدْ تُؤْكَلُ. فَعَلَى هَذَا فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي أَدْهَانِهَا وَجْهَانِ. لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ وَفَرْعٍ غير مأكول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ لَكِنْ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً. كَدُهْنِ الْخِرْوَعِ وَحَبِّ الْقَرْعِ وَمَا شَاكَلَهَا. فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا. وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ الْمَأْكُولَةَ فِيهَا الرِّبَا عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ إِدْمًا أَوْ دَوَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَكْلِ، كَمَا لَا فَصْلَ فِي غَيْرِ الْأَدْهَانِ مِنَ الْمَأْكُولِ قُوتًا أَوْ دَوَاءً. ثم الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهَا وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَاللُّحْمَانِ، وَالْأَلْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جِنْسٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّخْرِيجِ وَأَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِخِلَافِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِأُصُولِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ اسْمًا جَامِعًا وَهُوَ الْحَيَوَانُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَدْهَانُ إِذْ لَيْسَ لِأُصُولِهَا اسْمٌ جَامِعٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ، فَالزَّيْتُ جِنْسٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَزَيْتُ الْفُجْلِ جِنْسٌ آخَرُ. لِأَنَّ الزَّيْتَ الْمُطْلَقَ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الزَّيْتُونِ، وَالزَّيْتُونُ جِنْسٌ غَيْرُ الْفُجْلِ، ثُمَّ الشَّيْرَجُ جِنْسٌ آخَرُ. فَأَمَّا دُهْنُ الْوَرْدِ وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ إِذَا قِيلَ فِيهِمَا الرِّبَا فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الشَّيْرَجِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِنَ السِّمْسِمِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الترتيب. فإذا كان الجنس واحد حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ جَازَ فِيهِمَا التَّفَاضُلُ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ إِلَّا مُتَمَاثِلًا. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ فِيهِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِلَّا بِهِمَا وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ. وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَخْرَجُ الشَّيْرَجُ إِلَّا بِهِمَا، فَيَخْتَلِفَانِ فِي ثِقَلِ السِّمْسِمِ وَهُوَ الْكُسْبُ. إِذْ لَا يَصِحَّ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ بِالدُّهْنِ ولا بقاء الماء بين أجزائه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز من الجنس الواحد مطبوخ بنيئ مِنْهُ بِحَالٍ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُدَّخَرُ مَطْبُوخًا وَلَا مَطْبُوخٌ مِنْهُ بِمَطْبُوخٍ لِأَنَّ النَّارَ تَنْقُصُ مِنْ بَعْضٍ أَكْثَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 مما تنقص من بعض وليس له غاية ينتهى إليها كما يكون للتمر في اليبس غاية ينتهى إليها (قال المزني) ما أرى لاشتراطه - يعني الشافعي - إذا كان إنما يدخر مطبوخا معنى لأن القياس أن ما ادخر وما لم يدخر واحد والنار تنقصه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَتْهُ النَّارُ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ وَلَمْ تَدْخُلْهُ لِإِصْلَاحِهِ وَتَصْفِيَتِهِ، لَمْ يَجُزِ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بالنيئ، لِأَنَّ النَّارَ نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنَ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بِالْمَطْبُوخِ لِأَنَّ النَّارَ رُبَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ. فَعَلَى هَذَا لَا يجوز بيع الزيت المطبوخ بالنيئ ولا بالمطبوخ، ويجوز بيعه بالشيرج النيئ والمطبوخ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُبَاعُ عَسَلُ نَحْلٍ بِعَسَلِ نَحْلٍ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَمْعِ لِأَنَّهُمَا لَوْ بِيعَا وَزْنًا وَفِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ وَهُوَ غَيْرُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَلِكَ لَوْ بِيعَا كَيْلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَّمْعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّ الشَّمْعَ إِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي الْعَسَلِ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا كَانَ التَّمَاثُلُ فِيهِ مَجْهُولًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ وَفِيهِمَا شَمْعٌ كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَفِيهِمَا نَوًى. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّمْعِ فِي الْعَسَلِ وَبَيْنَ النَّوَى فِي التَّمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ بَعْضٌ مِنْهُ لَا يَتِمُّ صَلَاحُ التَّمْرِ إِلَّا بِهِ وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ الْمُنَقَّى مِنَ النَّوَى بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ الشَّمْعُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَسَلِ وَإِنْ جَاوَرَهُ، وَتَرْكُهُ فِيهِ مُؤَدٍّ إِلَى فَسَادِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَبْقَى لَهُمَا، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِمِثْلِهِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَالشَّمْعُ في العسل مقصود فكان اجتماعهما ها هنا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَظْمَ فِي اللَّحْمِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ وَفِيهِمَا عَظْمٌ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ تَصْفِيَتِهِمَا مِنَ الشَّمْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ التَّصْفِيَةِ مِنْ أحد أمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالشَّمْسِ أَوْ بِالنَّارِ. فَإِذَا كَانَتْ بِالشَّمْسِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّارِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَدُخُولِ النَّارِ فِي الزَّيْتِ، لِأَنَّهَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَسَلِ كَمَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الزَّيْتِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ فِي السَّمْنِ بِخِلَافِ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ، لِأَنَّ النَّارَ دَخَلَتْ فِيهِ لِإِصْلَاحِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ شَمْعِهِ فَلَمْ تَأْخُذْ مِنْ أَجْزَائِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَإِنَّمَا تَأْخُذُ النَّارُ فِيمَا تَدْخُلُ فِيهِ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى أُغْلِيَ بِالنَّارِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّ النَّارَ إِذَا لَمْ تَمَيِّزْهُ مِنْ غَيْرِهِ أَذْهَبَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا السُّكَّرُ وَالْفَانِيذُ فَإِنْ أُلْقِيَ فِيهِمَا مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ أَوْ جُعِلَ فِيهِمَا دقيقا أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ فِي دُخُولِ النَّارِ فِيهِمَا. فَإِنْ كَانَتْ قَدْ دَخَلَتْ لِتَصْفِيَتِهِمَا وَتَمْيِيزِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا جَازَ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ. وَإِنْ دَخَلَتْ لِانْعِقَادِهِمَا وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ دِبْسُ التَّمْرِ وَرَبُّ الْفَوَاكِهِ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ حِنْطَةٍ فِيهَا قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمُدِّ حِنْطَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا حِنْطَةٌ بِحِنْطَةٍ مُتَفَاضِلَةٍ وَمَجْهُولَةٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَطَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَا يَزِيدُ فِي كَيْلِهِ مِنْ قَلِيلِ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنْ تِبْنِهِ فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا الْقَصَلُ فَهُوَ عُقُدُ التِّبْنِ الَّتِي تَبْقَى فِي الطَّعَامِ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ، وَأَمَّا الشَّيْلَمُ وَالزُّوَانُ فَهُمَا حَبَّتَانِ تَنْبُتَانِ مَعَ الطَّعَامِ. فَإِذَا بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ أَوْ يُسَلِّمُ بِطَعَامٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمِثْلِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ لَمْ يَجُزْ، لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ. فَأَمَّا يَسِيرُ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنَ التِّبْنِ إِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ فَبِيعَ بِمِثْلِهِ كَيْلًا جَازَ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمِكْيَالِ. إِذِ الطَّعَامُ إِذَا كِيلَ حَصَلَ بَيْنَ الْحَبِّ خَلَلٌ لَا يَمْتَلِئُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لِضِيقِهِ. فَإِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ يَسِيرُ التُّرَابِ صَارَ فِي ذَلِكَ الْخَلَلِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْكَيْلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَلَيْسَ يُرِيدُ الطَّعَامَ، لِأَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَزْنًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُوزَنُ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا يَسِيرٌ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ لِقَلِيلِ التُّرَابِ تَأْثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمِكْيَالِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الْعَلَسِ بِالْعَلَسِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 قِشْرَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ قِشْرَةِ الْأُخْرَى فَيُؤَدِّيَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ قَبْلَ تَقْشِيرِهِ لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالشَّعِيرِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا التَّفَاضُلِ. فَأَمَّا بيع بِالْأُرْزِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا لَا يَجُوزُ كَالْعَلَسِ فَأَمَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا وَقَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الثَّانِيَةِ الْحَمْرَاءِ. فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِيهَا بِمِثْلِهِ وَيَجْعَلُ النِّصَابَ فِيهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ كَالْعَلَسِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِشْرَةَ الْحَمْرَاءَ اللَّاصِقَةَ بِهِ تَجْرِي مَجْرَى أَجْزَاءِ الْأُرْزِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُطْحَنُ مَعَهَا وَيُؤْكَلُ أَيْضًا مَعَهَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا فِي اسْتِطَابَتِهِ كَمَا يَخْرُجُ مَا لَصِقَ بِالْحِنْطَةِ مِنَ النُّخَالَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ. وَكَذَلِكَ الْأُرْزُ فِي بَيْعِهِ بِالْأُرْزِ مَعَ قِشْرَتِهِ الْحَمْرَاءِ وَنِصَابُهُ فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةُ أوسق معها كالحنطة مع قشرتها الحمراء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَبَنُ الْغَنَمِ مَاعِزِهِ وَضَأْنِهِ صِنْفٌ وَلَبَنُ الْبَقَرِ عِرَابِهَا وَجَوَامِيسِهَا صِنْفٌ وَلَبَنُ الْإِبِلِ مَهْرِيِّهَا وَعِرَابِهَا صنف فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَلَا بَأْسَ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَلْبَانِ هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَصْنَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا عِنْدَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهَا، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَجْنَاسِهَا، كَمَا أَنَّ التَّمْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، إِنَّ الْأَلْبَانَ أَصْنَافٌ وَأَجْنَاسٌ. لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَجْنَاسًا كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَجْبَانِ لَمَّا كَانَتْ فُرُوعًا لِأَجْنَاسٍ كَانَتْ هِيَ أَجْنَاسًا. فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَبَنِ الْإِبِلِ بِلَبَنِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ لَبَنُ الْإِبِلِ جِنْسًا لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ. وَلَبَنُ الْبَقَرِ جِنْسٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِرَابِيَّةِ وَالْجَوَامِيسِ، وَلَبَنُ الْغَنَمِ جِنْسٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضأن والماعز. فإن كان الجنس واحد حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا جَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ إِذَا كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ كَمَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 كَانَ فِيهِمَا شَمْعٌ. قِيلَ: بَقَاءُ الزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ مِنْ كَمَالِ مَنَافِعِهِ، وَهُوَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مَأْكُولٌ مَعَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّمْعُ فِي العسل لأنه ليس من جملته ولا مأكول معه وَاحِدًا. فَيَسْتَوِي سَمْنُ الْغَنَمِ وَسَمْنُ الْبَقَرِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا أَجْنَاسًا. فَيَكُونُ سَمْنُ الْغَنَمِ جِنْسًا، وَسَمْنُ الْبَقْرِ جنسا والتفاضل بينهما يجوز. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا خَيْرَ فِي زُبْدِ غَنَمٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ وَلَا خَيْرَ فِي سَمْنِ غَنَمٍ بِزُبْدِ غَنَمٍ وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ بِزُبْدٍ وَسَمْنٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَأَصْلُ هَذَا ال ْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مُتَّخَذًا مِنَ اللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ اللَّبَنِ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِالزُّبْدِ، وَلَا بِالسَّمْنِ، وَلَا بِالْجُبْنِ، وَلَا بِالْمَصْلِ، وَلَا بِالْأَقِطِ، وَلَا بِالْمَخِيضِ لِأَنَّ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبَ زُبْدًا وَسَمْنًا وَجُبْنًا وَمَصْلًا وَأَقِطًا وَمَخِيضًا. وَالتَّمَاثُلُ فِيهِمَا مَعْدُومٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ: لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ. فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الزُّبْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّبَنِ يَبْقَى فَلَا يُخْرِجُهُ إِلَّا النَّارُ. فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي اللَّبَنِ زُبْدًا، فَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ مُتَفَاضِلًا. وَهَذَا أَصَحُّ الْمَعْنَيَيْنِ. لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنَ اللَّبَنِ يسير غير مَقْصُودٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تُؤَثِّرُ فِي بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَجُوزُ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخِيضِ زُبْدٌ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْنِ لَبَنٌ وَلَا فِي اللَّبَنِ سَمْنٌ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالْجُبْنِ أَوِ الْمَصْلِ أَوِ الْأَقِطِ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ. لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَبَنًا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْمَصْلِ، وَلَا بَيْعُ الْأَقِطِ بِالْجُبْنِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ لَبَنٍ يُعْدَمُ فِيهِ التَّمَاثُلُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 وَهَكَذَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْحَلِيبَ فِيهِ زُبْدٌ. وَالْمَخِيضَ لَبَنٌ فِيهِ مَاءٌ فَعُدِمَ التَّمَاثُلُ بَيْنَهُمَا. لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِاللَّبَنِ الرَّائِبِ وَالْحَامِضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ زُبْدُهُمَا مَمْخُوضًا، لِأَنَّهُ بَيْعُ لَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ بِلَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ فَصَارَ كَبَيْعِ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ. وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ فَلَا يَجُوزُ، لِمَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقِيَّةِ اللَّبَنِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ تَمَاثُلِهِ بِالسَّمْنِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَيْعِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّبَنِ بِنَوْعِ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ: أما بيع اللبن الحليب باللبن الحليب فيجوز وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِي الْمَخِيضِ مَاءً قَدْ مُخِضَ بِهِ لِإِخْرَاجِ الزُّبْدِ مِنْهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي اللَّبَنِ بِغَيْرِ مَاءٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِخْرَاجِ الزُّبْدِ بِغَيْرِ مَاءٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا بَاقِيًا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقَايَا اللَّبَنِ يَسِيرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ، لِأَنَّ غَيْرَ الزُّبْدِ هُوَ الْمَقْصُودُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ وَإِنْ صُفِّيَ بِالنَّارِ، لِأَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِيهِ لِتَمْيِيزِهِ وَتَصْفِيَتِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يُبَعْ إِلَّا كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَزْنًا لِأَنَّ الْوَزْنَ أَحْصَرُ وَالْكَيْلُ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْجُبْنِ فَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ حَرْمَلَةُ. يَجُوزُ بَيْعُهُ إِذَا تَنَاهَى بِنَفْسِهِ وَزْنًا لِقِيمَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ غَايَةُ اللَّبَنِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّ بَيْعَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ جَوَازِهِ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ فِيهِ إِنْفَحَةً تَعْمَلُ بِهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا الْوَدْقِ الْجُبْنُ حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 عُمِلَ فُتُوتًا، وَصَارَ نَاعِمًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لِإِمْكَانِ كَيْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ لِبَقَاءِ الْإِنْفَحَةِ فِيهِ. فَصْلٌ: وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَا يَجُوزُ بيع الزيت بالزيتون لأن فيه ما به وَالتَّمَاثُلَ مَعْدُومٌ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، وَلَا بَيْعُ دُهْنِ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ، وَلَا دُهْنِ اللَّوْزِ بِاللَّوْزِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إِذَا كَانَ الزَّيْتُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ مِنَ الزَّيْتِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ. لِيَكُونَ فَاضِلُ الزَّيْتِ فِي مُقَابَلَةِ عَصِيرِ الزَّيْتُونِ. وَكَذَا يَقُولُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْأَدْهَانِ بِأُصُولِهَا. وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا بَاعَ مُدَّ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَرُبَّمَا كَانَ دُهْنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ. قُلْنَا: دُهْنُ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، كَمَا أَنَّ زُبْدَ اللَّبَنِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ زُبْدُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، فَأَمَّا إِذَا اسْتُخْرِجَ دُهْنُ السِّمْسِمِ وَبَقِيَ كُسْبًا وَحْدَهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَازُ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. فَجَوَّزَ بَيْعَ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ وَزْنًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. بَلْ بَيْعُ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ لَا يَجُوزُ لِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ، وَالْكَيْلُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْوَزْنُ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْكُسْبَ يَخْتَلِفُ عَصْرُهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دُهْنِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الْكُسْبِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الدُّهْنِ إِلَّا بِهِمَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ. فَأَمَّا بَيْعُ طَحِينِ السِّمْسِمِ بِطَحِينِ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِ الدُّهْنِ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ فِي الدَّقِيقِ. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ إِذْ أصله الكيل وطحنه مختلف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي شَاةٍ فِيهَا لَبَنٌ يُقْدَرُ عَلَى حَلْبِهِ بِلَبَنٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِي الشَّاةِ لَبَنًا لَا أَدْرِي كَمْ حِصَّتُهُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي اشْتُرِيَتْ بِهِ نَقْدًا وَإِنْ كَانَتْ نَسِيئَةً فَهُوَ أَفْسَدُ لِلْبَيْعِ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا وَإِنَّمَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قِشْرِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ أَنَّى شَاءَ وَلَيْسَ كَالْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِهِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ فِي الشَّاةِ تَبَعٌ لِلشَّاةِ وَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَتِ الْجَهَالَةُ فِيهِ فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ لِكَوْنِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ تَبَعًا وَغَيْرَ مَقْصُودٍ، جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّبَنِ. وَلِأَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ مُقَسَّطًا لَجَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا. وَلِأَنَّ اللَّبَنَ نَمَاءٌ كَالْحَمْلِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَمْلُ تَبَعًا، فَاللَّبَنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، لِأَنَّ الْحَمْلَ كَأَصْلِهِ، وَاللَّبَنُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ أَصْلِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْصُودٌ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا فَقَالَ: إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَلَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ وَلَبَنَهَا الَّذِي فِي الضَّرْعِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ إِذَا كَانَ مَحْلُوبًا فِي إِنَاءٍ لَأَسْقَطَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غُرْمَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ مَعَ قَضَائِهِ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ شَاةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضُرُوعُ مَوَاشِيكُمْ خَزَائِنُ طَعَامِكُمْ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ خَزَانَةَ أَخِيهِ فَيَأْخُذَ مَا فِيهَا. فَجَعَلَ مَا فِي الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ مِثْلَ مَا فِي الْخِزَانَةِ مِنَ الْمَتَاعِ، فَلَمَّا كَانَ مَتَاعُ الْخِزَانَةِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الضَّرْعِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ. وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَبَنَ الضَّرْعِ مَقْصُودٌ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ وَلَبَنٍ مَحْلُوبٍ بِلَبَنٍ، لِأَجْلِ التَّفَاضُلِ، كَمَا قُلْنَا فِي مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى كَوْنِهِ تَبَعًا لِجَهَالَةِ قَدْرِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِهِ غَرَرٌ، وَالْغَرَرُ الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ مُجَوَّزٌ لِلضَّرُورَةِ. وَبِيعُهُ بِاللَّبَنِ رِبًا، وَالرِّبَا الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُجَوَّزٍ مَعَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ لَبَنِ الضَّرْعِ بِالْعَقْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الثَّمَنِ قِسْطٌ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَلَّا يَأْخُذَ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَبَعًا لِنَخْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدًا وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهَا تَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا. وَكَذَلِكَ أَسَاسُ الدَّارِ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا، وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ. فَأَمَّا إِلْحَاقُهُ بِالْحَمْلِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ تَبَعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قُشُورِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ إِذَا شَاءَ، وَلَيْسَ كَالدَّرِّ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ. يَعْنِي: أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَالْحَمْلَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا دُهْنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، كذا يجوز بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا لَبَنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَاللَّبَنَ جَمِيعًا مَقْصُودَانِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَيْسَ كَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ. لِأَنَّ دُهْنَ السِّمْسِمِ لَا يَمْتَازُ عَنْ كُسْبِهِ فَيَصِيرَانِ مَقْصُودَيْنِ، وَإِنَّمَا الدُّهْنُ تَبَعٌ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُعْتَبَرًا وَجَرَى بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ مَجْرَى بَيْعِ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بنخلة فيها رطب، لما لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّخْلِ وَالرُّطَبِ مَقْصُودٌ، لَمْ يَجُزْ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاةِ وَاللَّبَنِ مَقْصُودٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَبُونٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَجَائِزٌ لِعَدَمِ الرِّبَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بِنَخْلَةٍ لَيْسَ فِيهَا رُطَبٌ، وَلَكِنْ لَوْ بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَمْ يَجُزْ، لَا مِنْ جِهَةِ الرِّبَا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا إِذَا بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِبَقَرَةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ. وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَا يَجُوزُ بِاللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا بِالزُّبْدِ وَلَا بِالسَّمْنِ وَلَا بِالْمَصْلِ وَلَا بِالْأَقِطِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا بَاعَ دَجَاجَةً فِيهَا بَيْضٌ بِبَيْضٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مُخْرِجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ. هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يُأْخَذُ قسطا من الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْبَيْضَ كَالْحَمْلِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ جَازَ بَيْعُ الدَّجَاجَةِ الَّتِي فِيهَا بَيْضٌ بِالْبَيْضِ، لِأَنَّ مَا مَعَ الدَّجَاجَةِ مِنَ الْبَيْضِ تَبَعٌ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ بَيْعَ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ. فَصْلٌ: إِذَا بَاعَهُ دَارًا فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ فِيهَا مَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ جَازَ هَذَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا فِي الْأَجْبَابِ أَوْ حَاصِلًا فِي الْآبَارِ. فَإِنْ كَانَ فِي الْأَجْبَابِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا بَيْعٌ غَيْرُ جَائِزٍ خَوْفَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَاءِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي الْآبَارِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَالِكِ الْبِئْرِ كَمَا يُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فِي الْأَجْبَابِ. فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا فَيَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ وَلَا رِبَا فِيهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالْإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَاءُ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَالِكِ الْبِئْرِ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي بِئْرِهِ أَوْ نَهْرِهِ. فَإِنْ تَصَرَّفَ غَيْرُهُ وَأَجَازَ الْمَالِكُ كَانَ مَا أَجَازَهُ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُمْلَكْ مَاءُ الْبِئْرِ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى دَارًا ذَاتَ بِئْرٍ فَاسْتَعْمَلَ مَاءَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِلْمَاءِ غُرْمٌ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَزِمَهُ غُرْمُهُ كَمَا يُغْرَمُ لَبَنُ الضَّرْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبِئْرِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ. فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فيها ماء. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِيهِ فَالْقَسْمُ فِيهِ كَالْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي خَرْصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثِمَارَ الْمَدِينَةِ وَأَعْنَابَ الطَّائِفِ فَهَلْ كَانَ لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ أَوْ لِإِفْرَازِ حُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ؟ فَإِذَا قِيلَ خَرْصُهَا لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ إِفْرَازُ الْحَقِّ تَبَعًا لِمَعْرِفَتِهَا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْعًا. وَإِذَا قِيلَ إِنَّمَا خَرْصُهَا لِإِفْرَازِ حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْهَا جَازَ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ إِفْرَازَ حَقٍّ وَتَمْيِيزَ نَصِيبٍ. فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَأَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فَوَجْهُهُ: أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. فَإِذَا اقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمَ الدَّارِ وَأَخَذَ الْآخَرُ مُؤَخَّرَهَا صَارَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَائِعًا لِحِصَّتِهِ مِنْ مُؤَخَّرِ الدَّارِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مُقَدَّمِهَا، لِأَنَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ بِمِلْكٍ وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الْمَحْضُ. وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَاز حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَوَجْهُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا خَالَفَتِ الْبَيْعَ فِي الِاسْمِ وَجَبَ أَنْ تُخَالِفَ الْبَيْعَ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا دَخَلَهَا الْجَبْرُ وَالْإِكْرَاهُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْقِسْمَةِ وَلَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالْعَقْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مُخَالِفَةٌ لِلْبَيْعِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ، وَانْتَفَى عَنِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ دَلَّ عَلَى تَنَافِي حُكْمَيْهِمَا وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ إن القسمة بيع فلا يخل حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّرِيكَانِ قِسْمَتَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ، كَيْفَ شَاءَا، وَزْنًا وَعَدَدًا وَجُزَافًا وَمُتَفَاضِلًا، لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي بَيْعِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جِنْسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كالحنطة. فلا يجوز أن يقتسماه إِلَّا كَيْلًا مُتَسَاوِيًا وَيَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلَا يَصْحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، فَتَكُونُ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَسِمَاهُ كَيْلًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الْأَصْلُ فِيهَا الْكَيْلُ وَإِنِ اقْتَسَمَاهُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَصِلُهُ الْوَزْنُ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ. وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بينهما نصفين أخذ هذا قفيزا وأخذ صاحب الثلث قَفِيزًا. وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ قَفِيزَيْنِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قَفِيزًا. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حِصَّتِهِ مِنَ الصُّبْرَةِ ثُمَّ يَكْتَالُ الْآخَرُ مَا بَقِيَ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلِفَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ. وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَبْضِ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ وَإِلَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فِي أَخْذِهِ، وَيَكُونُ اسْتِقْرَارُ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ مِثْلَهُ. فَلَوْ أَخَذَ الْأَوَّلُ قَفِيزًا فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّانِي مِثْلَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى الْقَفِيزِ، وَكَانَ الثَّانِي شَرِيكًا لَهُ فِيهِ، لِيَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ مِثْلَ مَا مَلَكَهُ صَاحِبُهُ، فَهَذَا أَحَدُ الشُّرُوطِ وَفُرُوعُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي قَبْضِ حُقُوقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ، وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزْدَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إِنِ ازْدَادَ أَوْ نَقَصَ صَارَ بَائِعًا لِلطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الصُّبْرَةِ وَثَوْبًا أَوْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نِصْفَهَا وَيُعْطِي ثَوْبًا لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اقْتَسَمَاهَا كَذَلِكَ، فَأَخَذَ صَاحِبُ الثلثين ثلثي الصبر مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزْدَادَ شَيْئًا أَوْ يَنْقُصَ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يُوقِعُ تُفَاضُلًا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ. قِيلَ: التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ لَا بِالتَّمَاثُلِ فِي الْقَدْرِ. فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ فَقَدْ تَسَاوَيَا وَإِنْ كَانَتِ الْحُقُوقُ مُتَفَاضِلَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ وَكِيلُهُ قَابِضًا وَمُقْبِضًا، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا وَعَلَيْهِ حَقًّا. فَلَهُ قَبْضُ حَقِّهِ وَعَلَيْهِ إِقْبَاضُ حَقِّ شَرِيكِهِ، فَإِنْ قَبَضَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الشَّرِيكِ حَقَّهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَقْبَضَ شَرِيكَهُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا مُنَاقَلَةٌ بَيْنَ مُتَعَاوِضَيْنِ فَلَزِمَ فِيهَا الْقَبْضُ وَالْإِقْبَاضُ مَعًا. فَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ ومقبضا عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وَكَذَا لَوْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِزَيْدٍ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَتَوَلَّى الْقَبْضَ وَالْإِقْبَاضَ اثْنَانِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَقَبْضُهُمَا بِالْكَيْلِ وَحْدَهُ دُونَ التَّحْوِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ كَانَ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهِ مُعْتَبَرًا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهَا مُعْتَبَرًا. أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَدِ فَاعْتُبِرَ فِي قَبْضِهِ التَّحْوِيلُ لِتَرْتَفِعَ الْيَدُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ ضَمَانٌ يَسْقُطُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِجَازَةِ وَبِالْكَيْلِ دُونَ التَّحْوِيلِ تَقَعُ الْإِجَازَةُ. فَلَوْ تَقَابَضَا بَعْضَ الصُّبْرَةِ وَلَمْ يَتَقَابَضَا بَاقِيَهَا حَتَّى افْتَرَقَا صَحَّتِ الْقِسْمَةُ فِيمَا تَقَابَضَا قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا صَارَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَقِّهِ مِثْلُ مَا صَارَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصُّبْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشَاعَةِ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: وُقُوعُ الْقِسْمَةِ نَاجِزَةً مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ يُسْتَحَقُّ فِيهَا. لَا خِيَارِ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، وَلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ. أَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْبَيْعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ مَعَ بَقَايَا أَحْكَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا مِثْلَهُ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَالْغَبْنَ قَدِ انْتَفَيَا عَنْهَا وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لِلْقِسْمَةِ حُكْمٌ فِي الشَّرِكَةِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهَا. فَبِهَذَيْنِ سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ فَهُوَ أَسْقَطُ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ أَثْبَتُ فِي الْعُقُودِ مِنْ خِيَارِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي قِسْمِ هَذَا الضَّرْبِ وَهُوَ مَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ، وَالْبُقُولِ، وَالْخُضَرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْتَسِمَهُ الشَّرِيكَانِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا وَلَا جُزَافًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِتَحْرِيمِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَالْوَجْهُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِ، صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ. وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَا ذَلِكَ حِصَّتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ ثُمَّ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ بِدِينَارٍ، وَيَبْتَاعُ مِنْهُ حَقَّهُ مِنَ الْحِصَّةِ الْأُخْرَى بِدِينَارٍ. فَتَصِيرُ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ بِكَمَالِهَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ، وَالْحِصَّةُ الْأُخْرَى بِكَمَالِهَا لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ. ثُمَّ يَتَقَابَضَانِ الدِّينَارَ بِالدِّينَارِ، فَيَكُونُ هَذَا بَيْعًا يَجْرِي عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ المشاعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ. جَازَ لَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَا كُلَّ جِنْسٍ بَيْنَهُمَا مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَوْ لَا رِبَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضًا وَمُقْبِضًا. فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا أَخَذَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ، وَمَا بَقِيَ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ لَكِنْ لَا يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَنَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّرِيكُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةً لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُقَدَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَائِهِ وَلَا إِلَى نَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فِي أَخْذِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَإِنِ اسْتَفْضَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَبَانَ وَظَهَرَ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَفْضَلَ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَإِنْ جَازَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَيْعٌ، وَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا. وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِفْرَازُ حَقٍّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ حَقَّ الْإِشَاعَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِإِذْنٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا أَجَازَهُ الشَّرِيكُ مُشَاعًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ. لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فَجَازَ إِذَا اسْتَوْفَى قَدْرَ حَقِّهِ أَلَّا يَسْتَأْذِنَهُ. وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرٍ بِرُطَبٍ بِحَالٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ " فَنَهَى عَنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الْمُتَعَقِّبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو يوسف ومحمد وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ لَيْسَ يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ. فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا حَالَ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أَجْوَزُ. قَالَ: وَلِأَنَّ الرُّطَبَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يَنْقُصُ بِالْيُبْسِ وَطُولِ الْمُكْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مَنْ بَيْعِهِ بِتَمْرٍ مِنْ جِنْسِهِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ يُبْسِهِ كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ الْحَدِيثِ بِالتَّمْرِ الْعَتِيقِ وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ كَالْعَتِيقِ. قَالَ: وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَقْدِ وَلَا اعْتِبَارَ بِحُدُوثِ التَّفَاضُلِ فِيمَا بَعْدُ كَالسِّمْسِمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالسِّمْسِمِ إِذَا تَمَاثَلَا وَإِنْ جَازَ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهِمَا دُهْنًا أَنْ يَتَفَاضَلَا. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَكُمْ بَيْعُ الْعَرَايَا وَهِيَ تَمْرٌ بِرُطَبٍ عَلَى رؤوس النَّخْلِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا كَيْلًا إِلَّا بِالْخَرْصِ كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا بِالْكَيْلِ أَجْوَزُ وَهُوَ مِنَ الرِّبَا أَبْعَدُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّيْتِ كَيْلًا، وَعَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا. وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ بِالنَّهْيِ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ إِذَا كَانَ عَلَى رؤوس النَّخْلِ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُزَابَنَةِ. قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ بِدَعْوَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بالكيل وكيل ما على رؤوس النَّخْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِيمَا الْكَيْلُ فِيهِ مُمْكِنٌ. وَرَوَى بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَحْصُلُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ ذَلِكَ بِالْخَرْصِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَرَايَا مِنْهَا بِالْخَرْصِ. قِيلَ: النَّهْيُ إِذَا كَانَ عَامًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَخْصُوصًا بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كان خاصا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ قِيلَ نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذًا. وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا. اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: طَعْنُهُمْ فِي رَاوِيهِ فَقَالُوا لَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي مَخْزُومٍ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ. الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَدْحُهُمْ فِي مَتْنِهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ تَمْرًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّقْرِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] . فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ تَقْرِيرًا عَلَى مُوسَى. كَذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَنْقُصُ إِنْ يَبِسَ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَلَوْ أَجَابَ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَكَانَ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَى السُّؤَالِ. الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالْمَشُورَةِ كَأَنْ كَانَ مُشْتَرِي الرُّطَبِ سَأَلَهُ مُسْتَشِيرًا فِي الشِّرَاءِ، فَقَالَ لَا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَلَيْكَ إِذَا يَبِسَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الْعَادَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا دُونَ الْمَتَاجِرِ الَّتِي قَدْ يُشَارِكُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِهَا وَأَنَّ جَوَابَهُ عَنْهَا جَوَابٌ شَرْعِيٌّ وَنَهْيُهُ عَنْهَا نَهْيٌ حُكْمِيٌّ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْدِلَ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ مَوْضُوعِهِمَا وَالْعُرْفِ الْقَائِمِ فِيهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ مُتَسَاوِيَيْنِ كَالْحِنْطَةِ بِالْعَجِينِ وَالْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ طَحْنَ الدَّقِيقِ صَنْعَةٌ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا فَصَارَ فِي خُبْزِ الدَّقِيقِ عِوَضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ جَفَافُ التَّمْرِ بِصَنْعَةٍ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا فَجَازَ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ. قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَجَازَ عَلَى أَصْلِكُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ حَتَّى يُجِيزُوا بَيْعَ صَاعٍ مِنْ دَقِيقٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ لِيَكُونَ صَاعٌ بِصَاعٍ وَالصَّاعُ الْفَاضِلُ مِنَ الْحِنْطَةِ بِإِزَاءِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَقُولُوا بِهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّكُمْ لَمْ تَجْعَلُوا لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّنْعَةَ لَا تَقُومُ فِي عُقُودِ الرِّبَا وَلَا تَأْثِيرَ لِدُخُولِهَا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَ حُلِيًّا مَصْبُوغًا بِذَهَبٍ مَسْبُوكٍ جَازَ إِذَا تَمَاثَلَا وَلَا يَكُونُ وُجُودُ الصَّنْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ لَيْسَ الْمَنْعُ مِنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا لِأَجْلِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ أَنَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَوْ جِنْسَيْنِ وَإِنْ تَقَابَلُوا بِمِثْلِهِ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ ثُمَّ يُقَالَ هُمَا وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ فَهُنَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا كَنُقْصَانِ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ النُّقْصَانِ مِنْ بَيْعِ الْحَدِيثِ بِالْعَتِيقِ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَالْعَتِيقَ قَدْ بَلَغَا حَالَ الِادِّخَارِ فَجَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ نَقَصَا فِيمَا بَعْدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَالَ الِادِّخَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نُقْصَانَ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا يسير لَا يُضْبَطُ فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالْفَضْلِ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ وَالْوَزْنَيْنِ لَمَّا كَانَ يَسِيرًا لَا يُضْبَطُ عُفِيَ عَنْهُ، وَنُقْصَانُ الرُّطَبِ كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ بِالطَّعَامِ الْعَتِيقِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ أَنْدَى وَالْعَتِيقُ أَيْسَرُ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ فَعُفِيَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ مَبْلُولًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّمَاثُلَ مُعْتَبَرٌ حَالَ الْعَقْدِ وَإِنْ حَدَثَ التَّفَاضُلُ فيما بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 كَالسِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ. قُلْنَا: التَّمَاثُلُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِادِّخَارِ، وَالسِّمْسِمُ مُدَّخَرٌ فَصَحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ وَالرُّطَبُ غَيْرُ مُدَّخِرٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْعَرَايَا فَهُوَ أَنَّ الْعَرَايَا وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا لِتَخْصِيصِ الشَّرْعِ لَهَا فَلِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا الْمُمَاثَلَةَ حَالَ الِادِّخَارِ وَأَنْتُمْ أَسْقَطْتُمُ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ حَالَ الِادِّخَارِ، ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ مَأْخُوذَةٌ بِالشَّرْعِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ فِي مُمَاثَلَةِ الْعَرَايَا بِالْخَرْصِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْكَيْلِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَوَاكِهُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْبِهَا بِيَابِسِهَا. فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَ بَيْعُ يَابِسِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ، وَرَطْبِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ. وَأَمَّا النَّوْعَانِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَالرُّطَبِ الْبَرْنِيِّ وَالرُّطَبِ الْمَعْقِلِيِّ فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. لَا يَجُوزُ بيع تمر أحدهما برطب الآخر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ لِأَنَّهُمَا فِي الْمُتَعَقَّبِ مَجْهُولَا الْمِثْلِ تَمْرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَالْمُزَنِيُّ يَجُوزُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرُّطَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهِ فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رُطَبًا وَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ يُبْسِهِ كَاللَّبَنِ. وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا بِيعَ بِالرُّطَبِ مِنْ طَرَفَيْهِ جَمِيعًا فَتَسَاوَيَا فِي حَالِ كَوْنِهِمَا رَطْبًا وَتَسَاوَيَا بَعْدَ جَفَافِهِمَا تَمْرًا. فَلَمَّا جَازَ بَيْعُهُمَا تَمْرًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْجَفَافِ جَازَ بَيْعُ رَطْبِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّطُوبَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ . قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذًا ". فَجَعَلَ عِلَّةَ الْمَنْعِ حُدُوثَ النُّقْصَانِ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ كَوُجُودِهِمَا فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِنُقْصَانِ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الْآخَرِ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَخْتَصُّ بِمَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ وَمَنْ وَافَقَنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بالرطب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاللَّبَنِ فَهُوَ أَنَّ أَكْمَلَ مَنَافِعِ اللَّبَنِ يُوجَدُ إِذَا كَانَ لَبَنًا. فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِكَمَالِ مَنَافِعِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ لِأَنَّ كَمَالَ مَنَافِعِهِ يَكُونُ إِذَا يَبِسَ، إِذْ كَلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الرُّطَبِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ التَّمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ اللَّبَنِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْمَصْلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نَقْصَهُمَا قَدِ اسْتَوَى مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ. عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي النَّقْصِ إِذَا نَقَصَ الرُّطَبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَيَتَبَايَنُ بِتَبَايُنِ أَزْمَانِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ وَبَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا كُلُّ مَا يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ وَلَا بِالتَّمْرِ كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ، وَالْبُسْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُطَبٍ وَلَا بِتَمْرٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ كَالدِّبْسِ وَالنَّاطِقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلَا بِمَا يَصِيرُ تَمْرًا وَرُطَبًا كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ وَالْبُسْرِ. فَأَمَّا بَيْعُ الطَّلْعِ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: جَوَازُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ فَشَابَهَ بَيْعَ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ نَفْسَ الطَّلْعِ يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا، وَلَيْسَ يَصِيرُ نَفْسُ الْقَصِيلِ حِنْطَةً وَإِنَّمَا تَنْعَقِدُ فِيهِ الْحِنْطَةُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْفُحُولُ جَازَ كَالْقَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رُطَبًا. وَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْإِنَاثِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ رُطَبًا. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُجِيزُ بَيْعَ الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا بِمِثْلِهِ لِأَنَّهَا حَالَ كَمَالِ مَنَافِعِهِ كَاللَّبَنِ. وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا لِأَنَّ النَّادِرَ مِنَ الجنس يلحق بالغالب منه في الحكم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَمْحٌ مَبْلُولٌ بِقَمْحٍ جَافٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْيَابِسَةِ. لِأَنَّ الْمَبْلُولَةَ تَنْقُصُ إِذَا جَفَّتْ وَيَبِسَتْ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النُّقْصَانِ إِذَا يَبِسَا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ النَّيَّةِ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَقْلُوَّةِ وَأَحْدَثَتْ فِيهَا انْتِفَاخًا يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ المغلي بالزيت النيئ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ لِأَنَّ مَا أَحْدَثَتْهُ النَّارُ فِيهِمَا قَدْ يَخْتَلِفُ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ بالزيت المغلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّشَا بِالْحِنْطَةِ وَلَا بِالنَّشَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ بِأَعْيَانِهِمَا إِذَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَا فِي مَعْنَى مَنْ لَمْ يُبَايِعْ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ بَاعَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَمِنْ مَالِ بَائِعِهَا لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا فَلَمَّا هَلَكَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ بَائِعِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنَ سَوَاءٌ بَذَلَهَا الْبَائِعُ فَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهَا، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ إِقْبَاضِهَا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهَا. فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ طَلَبَهَا مِنَ الْبَائِعِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ضَمِنَهَا الْبَائِعُ بِالْقِيمَةِ كَالْغَاصِبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي طَلَبَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَالْمُودِعِ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ بَذَلَهَا لِلْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا لِلْمُشْتَرِي حَتَّى هَلَكَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَمْضَى الْبَيْعَ مَعَ تَلَفِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. فَجَعَلَ الْخَرَاجَ مِلْكًا لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَلَمَّا كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ. وَقَدْ يَتَحَرَّرُ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَلَكَ الْمُشْتَرِي خَرَاجَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ كَالْمَقْبُوضِ. وَلِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الثَّمَنِ فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقَبْضَ مُوجِبًا لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] فَجَعَلَ الْمَقْبُوضَ مِمَّا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمِلْكُ فَلَمْ يُوجِبِ اسْتِرْجَاعَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ عُقُودَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا تَقَابَضُوهَا، مُمْضَاةٌ، وَإِنْ عُقِدَتْ فَاسِدَةً. فَلَمَّا كَانَ الْقَبْضُ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَعَدَمُ الْقَبْضِ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ. اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا تَلِفَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَيَبْطُلُ عَقْدَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَمَنَعَ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ. فَمَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لِتَلَفِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَبَّهَ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَبِيعٍ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَتَحْرِيرِهِ. أَنَّهُ قَبْضٌ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالصَّرْفِ. وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلِفَ قبل القبض فوجب أن يكون مسقط لِلضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالْقَفِيزِ الْمَبِيعِ مِنَ الصُّبْرَةِ إِذَا تَلِفَ جَمِيعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُمْ عَكَسُوا الْأَمْرَ فَجَعَلُوا الضَّمَانَ عَلَى مَنْ لَهُ الْخَرَاجُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ وَالْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي فلم لا جاز أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَيَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَقْبُوضِ فَالْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْقَفِيزِ مِنَ الصُّبْرَةِ، ثُمَّ يُقَالُ: هُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ. فَإِذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثَوْبًا بِدَنَانِيرَ مُعَيَّنَةٍ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ. وَفَائِدَةُ التَّعْيِينِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَمَتَى تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَقَالَ أبو حنيفة: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ. فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّ لِلثَّمَنِ شَرْطَيْنِ: أَنْ تَصْحَبَهُ الْبَاءُ وَأَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ فَلَمَّا كَانَ اقْتِرَانُ الْبَاءِ شَرْطًا لَازِمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ شَرْطًا لَازِمًا فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمُقْتَضَى اللِّسَانِ. فَأَمَّا مِنْ طريق الشرح فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ. فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَوْ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ لَمَا جَازَ أَخْذُ بَدَلِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فلما جاز أخذ به لها دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَمَّا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُعَيَّنَةَ كَغَيْرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وإن تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَلَمَّا سَقَطَتْ فَائِدَةُ التَّعْيِينِ وَجَبَ أن يسقط حكمه كما أن تعيين الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَمْ يتعينا وجاز أن يوفيه الثمن بغير ذلك الميزان والوزان. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ. فَوَصَفَ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فَدَلَّ عَلَى تَعْيِينِهِمَا فِيهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ كَالثِّيَابِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ فِيهِ الْأَثْمَانُ كَالْقَبْضِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تُعَيَّنُ بِهِ غَيْرُ الْأَثْمَانِ تُعَيَّنُ بِهِ الْأَثْمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ مَصْنُوعُهُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهِ غَيْرُ مَصْنُوعِهِ كَالصُّفْرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِيهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ كَالسَّلَمِ. فَلَمَّا كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِي الْأَثْمَانِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَنٍ وَمُثَمَّنٍ فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ السَّلَمُ، اقْتَضَى أن يكون الثمن أيضا بتنوع نَوْعَيْنِ: مُعَيَّنٌ بِالْإِشَارَةِ وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ فَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا وَيَكُونُ تَارَةً عُرُوضًا وَسِلَعًا. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا جَازَ أَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا. عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ حُجَّةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلاله بحديث ابن عمر فهو مَحْمُولٌ عَلَى الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ أَحْوَالِ التُّجَّارِ فِي بِيَاعَاتِهِمْ، وَعُرْفِهِمُ الْجَارِي فِي تِجَارَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ مَا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ إِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ فِيهِ نَقْدًا غَالِبًا وَعُرْفًا مُعْتَبَرًا، وَلَوْ كَانَ فِي جِنْسٍ مِنَ الْعُرُوضِ نَوْعٌ غَالِبٌ وَعُرْفٌ مُعْتَبَرٌ جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ كَالنُّقُودِ، وَلَوْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا كَالْعُرُوضِ. لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا بِالْإِشَارَةِ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ، وَإِمَّا بِالْعُرْفِ. سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ تَعْيِينَ النُّقُودِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَجَرَى مَجْرَى تَعْيِينِ الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ اللَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُفِيدَا لَمْ يَتَعَيَّنَا بِالْعَقْدِ. فَهُوَ أَنَّ فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا صَحِيحَةً، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْعَقْدِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْقَبْضِ أَوْ فِي الْغَصْبِ. فَأَمَّا الْمِيزَانُ وَالْوَزَّانُ فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِخِلَافِ النقود المملوكة بالعقد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ حَبَسَ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ حَبَسَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّرْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٌ وَفِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَيَأْتِي مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْعَشْرَةَ دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا. فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ. فَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ عَيْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا. فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ كَأَنْ وَجَدَ الدَّنَانِيرَ نُحَاسًا أَوْ وَجَدَهَا فِضَّةً مَطْلِيَّةً فَالصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَكَانَ كَتَّانًا. وَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَعِيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضَهَا. فَإِنْ كَانَ جَمِيعَهَا فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْجَيِّدِ مِنْهُ. وَبِمَاذَا يُقَيَّمُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ. وَالثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الدَّرَاهِمِ دون الدنانير كان الجواب واحد وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جِنْسًا وَاحِدًا كدراهم بدارهم أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ ثُمَّ وُجِدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ وَكَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا وَقِيلَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي مِنْهَا كَانَ لَهُ إِمْسَاكُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَلَوْ قِيلَ بِأَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ حَصَلَ التَّحْرِيمُ بِالتَّفَاضُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجِنْسَانِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى دَنَانِيرَ عَلَى أَنَّهَا مَغْرِبِيَّةٌ فَكَانَتْ مَشْرِقِيَّةً أَوْ عَلَى أَنَّهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ فَكَانَتْ ذَهَبًا أَصْفَرَ فَالصَّرْفُ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْعَيْبِ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَحُصُولُ الْجِنْسِ كَمَنِ اشْتَرَى ثوبا على أنه مروي فوجده هروي. وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ إِلَى الْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضِهَا. فَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِهَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الصَّرْفِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ أَرْشِ الْعَيْبِ. لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا، فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَأَمْسَكَ الْجَمِيعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 لَهُ. فَإِنْ فَسَخَ الصَّرْفَ فِي الْجَمِيعِ وَاسْتَرْجَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ فَسْخَ الصَّرْفِ فِي الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكَهُ فِي الْجَيِّدِ السَّلِيمِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُمْسِكَ الْجَمِيعَ أَوْ يَفْسَخَ الْجَمِيعَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا أَنْ يَفْسَخَ فِي الْكُلِّ، أَوْ يُقِيمَ عَلَى الْكُلِّ، أَوْ يَفْسَخَ فِي الْمَعِيبِ وَيُقِيمَ عَلَى السَّلِيمِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَيْبُ بَعْضِهَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ فِيمَا يَأْخُذُهَا بِهِ قَوْلَانِ. قِيلَ: الفرق بينهما أن ها هنا قَدْ كَانَ لَهُ الْمَقَامُ عَلَى الْكُلِّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا فَسَخَ فِي الْبَعْضِ الْمَعِيبِ وَأَقَامَ عَلَى الْبَعْضِ السَّلِيمِ طَلَبًا لِلْحَظِّ فَلَوْ قِيلَ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، كَانَ فَسْخُ الْمَعِيبِ سَفَهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعِيبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ فَجَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ السَّلِيمَ بِجَمِيعِ الثمن. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَبَايَعَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ الْمَعِيبَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ففيه أقاويل أحدها أنه كالجواب في العين والثاني أنه يبدل المعيب لأنه بيع صفة أجازها المسلمون إذا قبضت قبل التفرق ويشبه أن يكون من حجته كما لو اشترى سلما بصفة ثم قبضه فأصاب به عيبا أخذ صاحبه بمثله (قال) وتنوع الصفات غير تنوع الأعيان ومن أجاز بعض الصفقة رد المعيب من الدراهم بحصتها من الدينار (قال المزني) إذا كان بيع العين والصفات من الدنانير بالدراهم فيما يجوز بالقبض قبل الافتراق سواء وفيما يفسد به البيع من الافتراق قبل القبض سواء لزم أن يكونا في حكم المعيب بعد القبض سواء وقد قال يرد الدراهم بقدر حصتها من الدينار ". قال المارودي: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ. فَأَمَّا الْمَضْمُونُ فِي الذِّمَّةِ فَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ مِائَةَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةً مَوْصُوفَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ أَوْ مَوْصُوفَةٍ ثُمَّ يَقْبِضُ الدَّنَانِيرَ فَيَجِدُهَا مَعِيبَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يجد بها المعيب قبل التفرق فله إبدال العيب لَا يَخْتَلِفُ. سَوَاءٌ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا لِأَنَّ الْقَبْضَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ. وَاجْتِمَاعُهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَانِعًا مِنْ إِبْرَامِ الْعَقْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَ بِهَا الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجَهَا. فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ بِأَنْ كَانَتْ تَفَرُّقًا فِي الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَعِيبًا وَالْبَاقِي سَلِيمًا بَطَلَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ وَصَحَّ الصَّرْفُ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ الْفَسَادَ طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ بَعْدَ صِحَّتِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَرِنًا بِهَا. فَإِنْ قِيلَ بِتَخْرِيجِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ الصَّرْفَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ. اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الصَّرْفَ فِي السَّلِيمِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَعِيبِ وَيَسْتَرْجِعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْضِيَهُ فِي السَّلِيمِ بِحِصَّتِهِ من الثمن على الصحيح من الذهب. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَهَذَا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ فَهَلْ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْدِلَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. لِأَنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ ما تعين بالقبض لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَبَطَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الصَّرْفُ فَكَانَ فِي إِثْبَاتِ الْبَدَلِ إِبْطَالُ الْعَقْدِ، فَمَنَعَ مِنَ الْبَدَلِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّرْفُ الْمُعَيَّنُ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الصِّحَّةِ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْمَعِيبِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ مَعِيبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يُبْدِلَ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. لِأَنَّ مَا جَازَ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ إِبْدَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ كَالسَّلَمِ وَكَمَا أَنَّ مَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ فَجَازَ إِبْدَالُ مَعِيبِهِ مَعَ صِحَّةِ عَقْدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ الْبَدَلُ، أُبْدِلَ الْمَعِيبُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَإِذَا قِيلَ لَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ، كَانَ حُكْمُهُ كَالْمُعَيَّنِ إِذَا كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْمَعِيبِ. فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَالْفَسْخِ. وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ بَعْضَ الدَّنَانِيرِ فَإِنْ أَمْضَى فِي الْكُلِّ جَازَ. وَإِنْ فَسَخَ فِي الْكُلِّ جَازَ وَإِنْ أَمْضَى فِي السَّلِيمِ وَفَسَخَ فِي الْمَعِيبِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَاطَلَ مِائَةَ دِينَارٍ عِتْقَ مَرْوَانِيَّةٍ وَمَائةَ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ خَيْرٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَدُونَ الْمَرْوَانِيَّةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنِّي لَمْ أَرَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنْ عَبْدٍ وَدَارٍ أَنَّ الثَّمَنَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ فَكَانَ قِيمَةُ الْجَيِّدِ مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِنَ الرَّدِيءِ وَالْوَسَطُ أَقَلَّ مِنَ الْجَيِّدِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ جَيِّدِ الدَّنَانِيرِ وَمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ رَدِيءِ الدَّنَانِيرِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ وَسَطِ الدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَيِّدِ وَفَوْقَ الرَّدِيءِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَهَبٌ جَيِّدٌ وَذَهَبٌ رَدِيءٌ بِذَهَبٍ جَيِّدٍ وَلَا بِذَهَبٍ رَدِيءٍ وَكَذَا الْفِضَّةُ مِثْلُهَا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَالدَّرَاهِمِ الْغُلَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَلَا بِالْغُلَّةِ. وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِ هَذَا كُلِّهِ. احْتِجَاجًا بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ بِالذَّهَبِ الرَّدِيءِ لِتَمَاثُلِهَا فِي الْوَزْنِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْقِيمَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالذَّهَبِ الرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْوَزْنِ وَإِنْ جَازَ أن يتفاضلان فِي الْقِيمَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ. فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَتَسَاوَىَ الْوَزْنُ مَعَ تَفَاضُلِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ قِيمَتُهُمَا عِشْرُونَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزِ التفاضل الْوَزْنِ مَعَ تَمَاثُلِ الْقِيمَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّمَاثُلُ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ وَقَدْ تَمَاثَلَ الْوَزْنَانِ فِي الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ فِي بَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ لِأَنَّ تِلْكَ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ إِجْمَاعٌ أَوْ دَلِيلٌ. وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَتِهَا دُونَ عَدَدِهِمَا. فَإِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ وَسَطٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. كَانَ مِائَةُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْوَسَطِ فِي مُقَابَلَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الرَّدِيءِ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ. الْمُسَامَحَةُ دُونَ الْمُغَابَنَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَابَلَ نَوْعَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّفْقَةَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ قَابَلَتْ نَوْعًا وَاحِدًا فَقُسِّطَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَجْزَاءِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ فَنِصْفُ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ فِي مُقَابَلَةِ نِصْفِ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُقَابَلًا بِنَوْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُمَاثِلَةِ فِي الْقَدْرِ أَوِ الْقِيمَةِ. فَلَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِيمَةِ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ. فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الِاعْتِبَارُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ مَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ صِحَاحًا وَمِائَةَ دِرْهَمٍ غُلَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ وَمِائَةٍ غُلَّةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ جَوْهَرُ الصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ بِالصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ، أَوْ جَوْهَرُ الْغَلَّةِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ، فَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: أَلَّا يَخْتَلِفَ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ لِتَسَاوِي الْعِوَضَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. فَصْلٌ: وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا. لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ آخَرَ مِنْ جَوْهَرٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِذَهَبٍ، لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي هو الثمن جاز ليكون الفاضل من الذهب الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَوْهَرِ. وَإِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الثَّمَنِ جَازَ. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ. وفيما ذكرنا دليل كاف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ مِنَ الصَّرَّافِ وَيَبِيعَهَا مِنْهُ إِذَا قَبَضَهَا بأقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ عَادَةً وَغَيْرَ عَادَةٍ سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صِحَاحًا وَقَبَضَ الدِّينَارَ وَتَمَّ الصَّرْفُ ثُمَّ بَاعَ ذَلِكَ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا غُلَّةً كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. سَوَاءٌ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ أَمْ لَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ حَرَامًا لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ كَالشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَفْظًا كَانَ رِبًا حَرَامًا. كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا. قَالَ: وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ يُضَارِعُ الرِّبَا الْحَرَامَ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَبِيعَ عَشَرَةً صِحَاحًا بِعِشْرِينَ غُلَّةً، وَمَا ضَارَعَ الْحَرَامَ كَانَ حَرَامًا. وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَادَةٍ وَغَيْرِ عَادَةٍ. وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْفِعْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبًا أَوْ غَيْرَ رِبًا. فَإِنْ كَانَ رِبًا لَمْ يَجُزْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا جَازَ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَلَمَّا جَازَ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا وَأَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ النَّقْدِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَادَةَ الْبَلَدِ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ وَلَيْسَ عَادَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالشَّرْطِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ فِي صِفَاتِ الْعَقْدِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْطِ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا عقد نكاحا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وَشَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ فَسَدَ. وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحًا وَكَانَ مُعْتَادًا لِلطَّلَاقِ لَمْ يَفْسَدْ. فَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُضَارِعٌ لِلرِّبَا فَهُوَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَاسِطَةٌ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِبًا صَرِيحًا كَانَ عَقْدًا صَحِيحًا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا جَازَ أَنْ يَعُودَ فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَهَكَذَا لَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ تَخَايَرَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ ثُمَّ اسْتَأْنَفَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ جَازَ. لِأَنَّ التَّخَايُرَ فِي الْعَقْدِ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا، لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ. لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ مِنْهُمَا لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَجَرَى مَجْرَى الْعَقْدِ بَعْدَ التَّخَايُرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي إِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا. لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِالِافْتِرَاقِ وَلَا بِالتَّخَايُرِ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ أَنَّ الرِّضَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَغَلَطٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَارَا الْإِمْضَاءَ فَقَدْ رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَاسْتَقَرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ. وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ، فَصَارَ حُكْمُ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ مُخْتَلِفًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ مُتَّفَقًا فَهَذَا آخِرُ الْبَابِ. فَصْلٌ: وإذ قد مضى مسطور الْبَابِ مُسْتَوْفِيًا فَسَنَذْكُرُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِهِ فُرُوعًا بَعْدَ عَقْدِ مَا مَضَى مَنْشُورًا لِيَكُونَ أَمْهَدَ لِأُصُولِهِ وَأَصَحَّ لِفُرُوعِهِ فَنَقُولُ: إِنَّمَا سُمِّيَ الصَّرْفُ صَرْفًا لِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا لِصَرْفِ الْمُسَامَحَةِ عَنْهُ فِي زِيَادَةٍ أَوْ تَأْخِيرٍ. وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَارَفَةَ صَاحِبِهِ أَيْ مُضَايَقَتَهُ. وَالصَّرْفُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوِ الفضة بالفضة والذهب الذهب. وَشُرُوطُ الصَّرْفِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا ثَلَاثَةٌ لَازِمَةٌ وَرَابِعٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّرْفِ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ اللَّازِمَةَ: فَأَحُدُهَا: إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ. فَلَوْ شَرَطَا فِيهِ أَجَلًا كَانَ بَاطِلًا. فَلَوْ أَسْقَطَا الْأَجَلَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: إِذَا اشْتَرَطَا إِسْقَاطَ الْأَجَلِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَا فِيهِ خِيَارَ الثَّلَاثِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَوْ أَسْقَطَا الْخِيَارَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَسْقَطَاهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ بَاطِلًا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ اللَّازِمَةُ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الرابع: وهو المماثلة فإن كان الجنس واحد كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُعْتَبَرًا. ثُمَّ الصَّرْفُ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً: فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: جِنْسٌ بِمِثْلِهِ كَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَجِنْسٌ بِغَيْرِهِ كَالْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، فَهَذَا يَصِحُّ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ كَرَجُلٍ بَاعَ دَرَاهِمَ لَهُ عَلَى زَيْدٍ دَيْنًا بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى عَمْرٍو دَيْنًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَهُوَ الصَّرْفُ بِالْأجِلِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: بَيْعُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ كَرَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ عَيْنًا. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا صَحَّ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو إن كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَلَمْ تَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ. وَإِذَا صَحَّ فِي الْحَالِّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا فَفِي لُزُومِ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَا سِوَى الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَإِلَّا صَارَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَلَوْ أَخَذَ بَدَلَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسِينَ دِينَارًا وَعَبْدًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ. لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَرْجِعُ بِالْأَلْفِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وَالثَّانِي: جَائِزٌ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ قَبْضُ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَفِي قَبْضِ الْعَبْدِ قَبْلَهُ وَجْهَانِ. فَرْعٌ: فَلَوْ أَحَالَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي قَدِ اسْتَحَقَّ قَبْضَهَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ. فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ لَهَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ. وَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَوَالَةِ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ أَوْ هِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَازَ. كَمَا لَوْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِالدَّفْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. فَرْعٌ: فَلَوْ لَمْ يُحِلَّهُ بِهَا وَلَكِنِ اقْتَرَضَهَا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ جَازَ لِوُجُودِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَرَضَهَا الصَّيْرَفِيُّ مِنَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِيَكُونَ قَبْضًا عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْقَرْضِ مَتَى يَمْلِكُ. وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ القرض يملك بالقبض فعلى هذا يجوز ها هنا وَيَصِحُّ هَذَا الصَّرْفُ، لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مِنَ الصَّيْرَفِيِّ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا بِالْقَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي. فعلى هذا لا يجوز ها هنا وَيَبْطُلُ هَذَا الصَّرْفُ لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مُشْتَرِيًا لَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الصَّيْرَفِيِّ عَلَيْهَا. فَرْعٌ: فَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَحَصَلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الصَّيْرَفِيِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. قَالَ: اجْعَلْ هَذِهِ الْعَشَرَةَ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ حَصَلَتِ الْعَشَرَةُ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ قَبْلَ الصَّرْفِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ حَصَلَتْ قَبْلَ الصَّرْفِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَهُ جَازَ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ صَرْفًا قَدْ عُدِمَ فِيهِ الْقَبْضُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ. وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ. فَرْعٌ: فَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إِنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَشَرَةِ كَانَتِ الْبَرَاءَةُ بَاطِلَةً وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْعَشَرَةُ مُعَيَّنَةً فَوَهَبَهَا الصَّيْرَفِيُّ لَهُ فَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ كَالْبَيْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 فَرْعٌ: وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا بَعْدَ تَلَفِهِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ. وَإِنْ كَانَ قَدِ اشتراه بدراهم ففي جواز الرجوع بأرش عينه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. اعْتِبَارًا بِعُيُوبِ سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ السَّالِفَةِ وَهَذَا أَقَيْسُ الْوَجْهَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدِّينَارِ دَرَاهِمَ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ فِضَّةً رَجَعَ بِأَرْشِ عَيْبِهَا ذَهَبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشُّيُوخِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ حُكْمًا مِنَ الْبِيَاعَاتِ فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُولِ الْأَرْشِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَرْشَ يُعْتَبَرُ بِالْأَثْمَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَثْمَانِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو عَيْبُ الدِّينَارِ الْمُسْتَهْلَكِ إِذَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْجِنْسِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ تَلَفِهِ مَغْرِبِيًّا. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بَدَلَهُ دِينَارًا مِثْلَهُ مَغْرِبِيًّا. وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ مُبَهْرَجًا مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ الدِّينَارَ مُبَهْرَجًا فَعَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِعَيْبِهِ أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْمُبَهْرَجَ لَا مِثْلَ لَهُ. فَإِذَا رَدَّ مِثْلَ الدِّينَارِ الْمَعِيبِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ أَوْ رَدَّ قِيمَتَهُ وَرِقًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ الَّذِي بَانَ عَيْبُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ وَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. فَرْعٌ: وَإِذَا حَصَلَتْ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَرَاهِمُ مَوْصُوفَةٌ وَكَانَتْ نَقْدًا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقِيمَتِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهَا ذَهَبًا فِي آخِرِ يَوْمٍ حُرِّمَتْ. وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُوَكِّسًا لِقِيمَتِهَا، وَمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَهُ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَخْذُ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا كَانَ لَهُ أَخْذُهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَعُدِمَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ وَلَمْ تُوجَدْ، كَانَ لَهُ حِينَئِذٍ أَخْذُ قِيمَتِهَا ذَهَبًا، لِتَعَذُّرِهَا وَاعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ وُجُودِهَا وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ آخِرُ وَقْتٍ كَانَتْ عَيْنُهَا فِيهِ مُسْتَحَقَّةً فَلَوِ ابْتَاعَ دِينَارًا وَثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْمَذْكُورِ فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ، لِأَنَّ الْعُيُوبَ مَا اخْتُصَّتْ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ السُّلْطَانِ فَعَارِضٌ يَخْتَصُّ بِالسِّعْرِ وَنَقْصِهِ، وَنُقْصَانُ الْأَسْعَارِ لَا يَكُونُ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ. فَرْعٌ: وَإِذَا تَبَايَعَا ذَهَبَهُ بِذَهَبِهِ نَظَرَ: فَإِنْ تَبَايَعَاهَا جُزَافًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُوَازَنَةَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَيَتَرَادَّانِ. فَلَوْ وُزِنَتَا جَمِيعًا فَكَانَتَا سَوَاءً لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عَلِمَا ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِنْ عَلِمَاهُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ زفر: يَصِحُّ بِكُلِّ حَالٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَمَذْهَبُنَا فِيهِ أَصَحُّ. لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، ثُمَّ كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَذَا الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ. فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَاهَا مُوَازَنَةً لَمْ يَفْسَدِ الْعَقْدُ وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِمَا يُخْرِجُهُ الْوَزْنُ مِنْ تَمَاثُلِهِمَا أَوْ تَفَاضُلِهِمَا فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِنْ تَفَاضَلَتَا فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّرْفَ بَاطِلٌ لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّرْفَ جَائِزٌ بِإِسْقَاطِ الْفَضْلِ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ، وَلِلَّذِي نَقَصَتْ ذَهَبَتُهُ الْخِيَارُ دُونَ الْآخَرِ لِنُقْصَانِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ. فَرْعٌ: وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ لِأَنَّ السِّعْرَ لَيْسَ بِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. فَرْعٌ: وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ لِأَنَّهُمَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِ الدَّنَانِيرِ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي قَبْضِهَا وَالْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَانَ بِهَا الْعَقْدُ. فَرْعٌ: فَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ نقد سوق وكذا نَظَرَ فِي نَقْدِ تِلْكَ فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ أَظْهَرُ. لِأَنَّهَا صِفَةٌ يَمْتَازُ بِهَا الْمَوْصُوفُ عَنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ يَجُوزُ انْتِقَالُهَا عَنْهُ. فَرْعٌ: فَإِذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ يُسَاوِي الْعَشَرَةَ أَوْ عَلَى أَلَّا غَبِينَةَ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 فِي ثَمَنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْصًى بِهِ فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ. فَرْعٌ: وَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا فَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فِي الْحَالِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ. وَإِنْ عَلِمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا إِذَا عَلِمَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِدِينَارٍ إِلَّا عُشْرَ دِينَارٍ فَيَصِيرُ الْبَيْعُ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ دِينَارٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ قِيمَةَ دِرْهَمٍ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي دَفْعُ الدِّينَارِ كُلِّهِ لِمَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ دَفَعُ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمشترِ فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ فَبَطَلَ. فَرْعٌ: فَإِذَا ابْتَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ دِينَارًا وَرَجَحَ الدِّينَارُ قِيرَاطًا جَازَ لِلصَّيْرَفِيِّ أَنْ يَهَبَ الْقِيرَاطَ الزَّائِدَ لِلْمُشْتَرِي وَجَازَ أَنْ يُودِعَهُ إِيَّاهُ فَيَصِيرُ الصَّيْرَفِيُّ شَرِيكًا لِلْمُشْتَرِي فِي الدِّينَارِ بِالْقِيرَاطِ الزَّائِدِ. فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي قِيرَاطًا مِنْ غَيْرِ الدِّينَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَيَكُونُ اسْتِئْنَافَ صَرْفٍ آخَرَ فِي قِيرَاطٍ بِقِيرَاطٍ. فَلَوْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ حِينَ زَادَ الدِّينَارَ قِيرَاطًا أَخَذَ مِنَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ وَرِقًا جَازَ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْأَوَّلِ وَبِأَقَلَّ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ صَرْفٍ ثَانٍ. وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ الصَّيْرَفِيُّ بَدَلَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ قِيرَاطًا مِنْ ذَهَبٍ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ وَلَكِنْ لَوْ تَبَايَعَا فِي الِابْتِدَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطًا بِدِينَارٍ وَقِيرَاطٍ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ. فَرْعٌ: وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِدِينَارٍ وَوَزَنَ الْمُشْتَرِي الدِّينَارَ فَرَجَحَ فِي الْمِيزَانِ فَأَعْطَاهُ بَائِعُ الثَّوْبِ حِزَامًا أَفْضَلَ مِنَ الدِّينَارِ ذَهَبًا وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَ الزِّيَادَةِ جَازَ. لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَأْنَفَا صَرْفًا فِي ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مُتَمَاثِلٍ مَعَ الْجَهْلِ بِالْقَدْرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ سَبِيكَةَ ذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا جَازَ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ وَإِنْ جَهِلَا الْقَدْرَ. فَرْعٌ: وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا مِائَةَ دِينَارٍ ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الدَّنَانِيرِ لَقِيَ الْمُودَعَ فَبَاعَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيرَ الْوَدِيعَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالدَّنَانِيرُ غَيْرُ حَاضِرَةٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الصَّرْفُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ عَيْنًا حَاضِرَةً تُرَى وَلَا صِفَةً فِي الذِّمَّةِ تُعْرَفُ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُودَعُ قَدْ ضَمِنَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ وَكَانَ هَذَا بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ. فَلَوْ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِهَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّنَانِيرُ وَقْتَ الْعَقْدِ حَاضِرَةً فَيَصِحُّ الصَّرْفُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 فَرْعٌ: وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ يُعْطِي صَاحِبَهَا دَرَاهِمَ عَلَى مَا يَتَّفِقُ عِنْدَهُ وَيَحْصُلُ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُصَارَفَةٍ وَتَقْرِيرِ سِعْرٍ بِالدَّنَانِيرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا صَرْفًا وَلَمْ يَصِرْ قِصَاصًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ لِصَاحِبِهَا اسْتِرْجَاعُهَا مَتَى شَاءَ وَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ. فَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ أَنْ يَحْبِسَ مَا قَبَضَ مِنَ الدراهم على قبض ماله مِنَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى اسْتِرْجَاعِ ثَمَنِهِ. وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ حَاضِرَةً لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا الْقَابِضُ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ بِيعُ دَرَاهِمَ حَاضِرَةٍ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا الْقَابِضُ وَصَارَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ يَتَطَارَحَا وَيَتَبَارَيَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَقُولُ قَابِضُ الدَّرَاهِمِ لِدَافِعِهَا قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا وَيَقُولُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ لَقَابِضِهَا قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ كَذَا دِرْهَمًا فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ مَشْرُوطًا فَلَا يَصِحُّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِرْهَمًا وَيَقُولُ صاحب الدراهم لصاحب الدنانير قد أبرأته مِنْ كَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِينَارًا فَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا بَاطِلًا، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْإِطْلَاقِ. فَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَمْ يُبْرِئْهُ الْآخَرُ مِنْ شَيْءٍ جَازَ وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ وَلَيْسَ لِلْمُبْرِئِ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِشَيْءٍ. فَرْعٌ: وَإِذَا ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ ثَوْبًا ثَانِيًا بِنِصْفِ دِينَارٍ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يَبْتَاعَهُمَا مَعًا بِدِينَارٍ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ فَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ وَابْتَاعَ ثَوْبًا آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ الثَّوْبَيْنِ دِينَارًا صَحِيحًا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَعَ الْبَيْعِ الثَّانِي بَاطِلًا وَصَحَّ بَيْعُ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ دِينَارٍ، لِأَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي مِنَ الشَّرْطِ يُنَافِيهِ. وَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارًا كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَائِزَيْنِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالثَّانِي لَا يُنَافِيهِ. فَرْعٌ: فَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ بَدَلَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ زَائِفٍ أَوْ بَهْرَجَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الضَّمَانَ جَائِزٌ إِلْحَاقًا بِضَمَانِ الدَّرْكِ وَإِنْ كان مترددا بين الوجوب والإسقاء وَهَذِهِ مِنْ مَنْصُوصَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَإِنْ وَجَدَ القابض زَائِفًا أَوْ مُبَهْرَجًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي إِبْدَالِهَا على القاضي إن شاءه أَوْ عَلَى الضَّامِنِ إِنْ شَاءَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 فَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الْقَاضِي بَرِئَ الضَّامِنُ أَيْضًا، وَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الضَّامِنِ رَجَعَ الضَّامِنُ عَلَى الْقَاضِي بِهَا إِنْ ضَمِنَهَا عَنْهُ بِأَمْرِهِ. فَإِنْ قَالَ الضَّامِنُ: أَعْطُونِي الْمَرْدُودَ بِعَيْنِهِ لِأُعْطِيَكُمْ بَدَلَهُ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ وَقِيلَ لَهُ: الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسَخَ الْقَضَاءُ فِي الْمَرْدُودِ وَيَرُدَّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ مَا ضَمِنَهُ، وَهَذَا الْمَرْدُودُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَكَ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ مَا أَدَّيْتَ، فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لِيُبَدِّلَهَا وَقَالَ هِيَ مِمَّا قَبَضْتُهُ وَأَنْكَرَاهُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ دَرَاهِمَ مَعِيبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا وَعَلَى الْقَابِضِ الْبَيِّنَةُ. لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَا قَبَضَ وَبَرِئَا مِنْهُ بِالْقَبْضِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رُجُوعِ الْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَ فِضَّةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا يُقِرُّ بِقَبْضِ النُّحَاسِ قَضَاءً، وَالنُّحَاسُ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَنِ الْفِضَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دَرَاهِمَ فَكَانَتْ نُحَاسًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَلَوْ كَانَتْ فِضَّةً مَعِيبَةً كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَلَوِ اشْتَرَى غُلَامًا فَكَانَ جَارِيَةً كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. والله أعلم بالصواب. قال رحمه الله، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 باب بيع اللحم باللحم مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَاللَّحْمُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَحْشِيُّهُ وَإِنْسِيُّهُ وَطَائِرُهُ لَا يَحِلُّ فِيهِ الْبَيْعُ حَتَّى يَكُونَ يَابِسًا وَزْنًا بِوَزْنٍ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهَا قَوْلَانِ فَخَرَّجَهُمَا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ وَمَنْ قَالَ اللُّحْمَانُ صِنْفٌ وَاحِدٌ لَزِمَهُ إِذَا حَدَّهُ بِجَمَاعِ اللَّحْمِ أَنْ يَقُولَهُ فِي جَمَاعِ الثَّمَرِ فَيَجْعَلُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الثِّمَارِ صِنْفًا وَاحِدًا وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ (قال المزني) فإذا كان تصيير اللحمان صنفا واحدا قياسا لا يجوز بحال وإن ذلك ليس على الأسماء الجامعة وأنها على الأصناف والأسماء الخاصة فقد قطع بأن اللحمان أصناف (قال المزني) وقد قطع قبل هذا الباب بأن ألبان البقر والغنم والإبل أصناف مختلفة فلحومها التي هي أصل الألبان بالاختلاف أولى وقال في الإملاء على مسائل مالك المجموعة فإذا اختلفت أجناس الحيتان فلا بأس بعضها ببعض متفاضلا وكذلك لحوم الطير إذا اختلفت أجناسها (قال المزني) وفي ذلك كفاية لما وصفنا: وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اللُّحْمَانِ، هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ صِنْفَانِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا عِنْدَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهَا، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، كَمَا أَنَّ الثَّمَرَ كُلَّهُ جِنْسٌ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ. وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ وَأَجْنَاسٌ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ فَاقْتَضَى أن تكون أجناسا كالأدقة والأدهان، لما كَانَتْ فُرُوعًا لِأَجْنَاسٍ كَانَتْ هِيَ أَجْنَاسَهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلُحُومُ النَّعَمِ وَلُحُومُ الْوَحْشِ وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهَلْ تَكُونُ لُحُومُ الْحِيتَانِ صِنْفًا مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاللَّحْمَ كُلَّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا} وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لُحُومَ الْحِيتَانِ صِنْفٌ آخَرُ وَإِنْ كَانَتِ اللُّحُومُ كُلُّهَا صِنْفًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لما لم يأكل الْحِيتَانَ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ اللُّحْمَانُ كُلُّهَا صِنْفَيْنِ. فَلُحُومُ حَيَوَانِ الْبَرِّ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ حِيتَانِ الْبَحْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ، فَلَحْمُ الْغَنَمِ صِنْفٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّأْنِ مِنْهُ وَالْمَاعِزِ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْلُوفِ وَالرَّاعِي، وَلَا بَيْنَ الْمَهْزُولِ وَالسَّمِينِ، ثُمَّ لَحْمُ الْبَقَرِ صِنْفٌ آخَرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ، وَلَحْمُ الْإِبِلِ صِنْفٌ آخَرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَهْرِيَّةِ وَالْبَخَاتِ. ثُمَّ لُحُومُ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ أَصْنَافٌ، فَلَحْمُ الطَّيْرِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الثَّعَالِبِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْأَرَانِبِ صِنْفٌ وَلَحْمُ بَقَرِ الْوَحْشِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ حُمُرِ الْوَحْشِ صِنْفٌ، ثُمَّ لُحُومُ الطَّيْرِ أَصْنَافٌ، فَلَحْمُ الْحَمَامِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ صِنْفٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الطَّيْرِ لُحُومُ جِنْسِهَا صِنْفٌ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ لُحُومُ الْحِيتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ تَكُونُ أَصْنَافًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا حِيتَانُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حَيَوَانَ الْبَحْرِ كُلَّهُ مَأْكُولٌ حِيتَانَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَا فِيهِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّيْءُ صِنْفًا وَالنَّتَاجُ صِنْفًا وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِاسْمٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُ صِنْفًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشُّحُومُ فَصِنْفٌ غَيْرُ اللَّحْمِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: كَاللَّحْمِ، وَلَكِنْ هَلْ تَكُونُ الْإِلْيَةُ وَمَا حَمَلَهُ الظَّهْرُ صِنْفًا مِنَ الشَّحْمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صِنْفٌ مِنْ جُمْلَةِ الشَّحْمِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ الشَّحْمِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. وَلِتَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ مَوْضِعٌ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ الْكَبِدُ صِنْفٌ يُخَالِفُ اللَّحْمَ، وَالطِّحَالُ صِنْفٌ آخَرُ، وَالْفُؤَادُ صِنْفٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ الْمُخُّ وَالدِّمَاغُ وَالْكِرْشُ وَالْمُصْرَانُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْبَيْضُ فَنَوْعَانِ: بَيْضُ طَيْرٍ، وَبَيْضُ سَمَكٍ. فَأَمَّا بَيْضُ الطَّيْرِ فَلَا يَكُونُ صِنْفًا مِنْ لُحُومِ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّ الْبِيضَ أَصْلٌ لِلْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صِنْفًا مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ الْحَيَوَانِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ اللَّحْمَ أَصْنَافٌ فَالْبَيْضُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْنَافًا، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدٌ فَفِي الْبَيْضِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا بَيْضُ السَّمَكِ فَهَلْ يَكُونُ نَوْعًا مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِنْفٌ غَيْرُ السَّمْكِ كَمَا أَنَّ بَيْضَ الطَّيْرِ صِنْفٌ غَيْرُ لَحْمِ الطَّيْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ معه حيا وميتا. وَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْصِيلِ اللُّحُومِ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الشُّحُومِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا أَصْنَافٌ جَازَ بَيْعُ الصِّنْفِ مِنْهَا بِصِنْفٍ آخَرَ، مُتَمَاثِلًا وَمُتَفَاضِلًا، رَطْبًا وَيَابِسًا، وَزْنًا وَجُزَافًا كَلَحْمِ الْغَنَمِ بِلَحْمِ الْبَقَرِ لَكِنْ يَدًا بِيَدٍ، وَإِنْ قُلْنَا هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ بَعْضٌ بِبَعْضٍ إِلَّا يَابِسًا بِيَابِسٍ مُتَمَاثِلًا بِالْوَزْنِ. فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ كَمَا جَازَ بَيْعُ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ مَوْجُودٌ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ كَاللَّبَنِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ مَنَافِعِ اللَّحْمِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ عِنْدَ يُبْسِهِ، وَمَنَافِعَ اللَّبَنِ الرَّطْبِ لَا تُوجَدُ فِيهِ عِنْدَ يُبْسِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ الرَّطْبَ بِاللَّحْمِ الرَّطْبِ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ قِيلَ إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى غَايَةِ يُبْسِهِ وَبَلَغَ أَقْصَى جَفَافِهِ جَازَ حينئذ بيع بعضه بعض بِخِلَافِ التَّمْرِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ إِذَا بَلَغَ أَوَّلَ جَفَافِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى غَايَةِ يُبْسِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - إِنَّ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ يُبَاعُ وَزْنًا وَيَسِيرُ النَّدَاوَةُ فِيهِ تُؤَثِّرُ فِي وَزْنِهِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ يُبَاعُ كَيْلًا وَيَسِيرُ النَّدَاوَةُ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي كَيْلِهِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ ادِّخَارَ التَّمْرِ فِي أَوَّلِ جَفَافِهِ يُمْكِنُ وَادِّخَارَ اللَّحْمِ فِي أَوَّلِ جَفَافِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ التَّمْرُ فِي أَوَّلِ الْجَفَافِ مُدَّخَرًا واللحم في أول الجفاف غير مدخر. قال الشَّافِعِيُّ فَإِنْ حُمِلَ اللَّحْمُ الْيَابِسُ فِي بَلَدٍ كَثِيرِ النَّدَى وَكَانَ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّدَى يَزِيدُ فِي وَزْنِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، فَأَمَّا اللَّحْمُ إِذَا كَانَ فِي خِلَالِهِ عَظْمٌ فَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ بِيعِهِ بِاللَّحْمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُ كَمَا لَا يَمْنَعُ النَّوَى إِذَا كَانَ فِي التَّمْرِ مِنْ بَيْعِهِ بِالتَّمْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَصَحُّ - إِنَّ الْعَظْمَ فِي اللَّحْمِ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ، وَفَارَقَ النَّوَى فِي التَّمْرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ النَّوَى فِي التَّمْرِ مِنْ صَلَاحِهِ وَلَيْسَ بَقَاءُ الْعَظْمِ فِي اللَّحْمِ مِنْ صَلَاحِهِ، فَأَمَّا الْجِلْدُ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ غَلِيظًا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يُؤْكَلُ مَعَهُ كَجُلُودِ الْجِدَاءِ وَالدَّجَاجِ فَهَلْ يُمْنَعُ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّحْمِ مِنْ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْعَظْمِ، فَأَمَّا لُحُومُ الْحِيتَانِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ طَرِيًّا وَلَا نَدِيًّا وَلَا مَمْلُوحًا؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَلَكِنْ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ يُبْسِهِ غَيْرَ مَمْلُوحٍ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنَّ الْحِيتَانَ أَصْنَافٌ فَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ مِنْهَا كَانَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ طَرِيًّا وَمَمْلُوحًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 باب بيع اللحم بالحيوان مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَعَنِ ابْنِ عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ أَعْطُونِي جُزْءًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ فَقَالَ أَبُو بكر لا يصلح هذا وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه (قال) وبهذا نأخذ كان اللحم مختلفا أو غير مختلف ولا نعلم أحدا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالف في ذلك أبا بكر وإرسال ابن المسيب عندنا حسن (قال المزني) إذا لم يثبت الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فالقياس عندي أنه جائز وذلك أنه كان فصيل بجزور قائمين جائزا ولا يجوزان مذبوحين لأنهما طعامان لا يحل إلا مثلا بمثل فهذا لحم وهذا حيوان وهما مختلفان فلا بأس به في القياس إن كان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف إلا أن يكون الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثابتا فيكون ما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ بن سعيد وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف: بَيْعُهُ جائز بكل حال، وقال محمد بن الحسين: يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ اللَّحْمُ مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ؛ لِيَكُونَ فَاضِلَ اللَّحْمِ فِي مُقَابِلِهِ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ قِيَاسًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ ثَابِتًا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ اللَّحْمَ فِيهِ الرِّبَا وَالْحَيَوَانَ لَيْسَ فِيهِ رِبًا، وَبَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ كَبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْجِلْدِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بالآخر، فبأن يَجُوزَ بَيْعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ أَوْلَى. وَلِأَصْحَابِنَا فِي الدَّلِيلِ عَلَى المسألة طريقان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ دُونَ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلٌ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ حُجَّةً قِيلَ أَمَّا مَرَاسِيلُ غَيْرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَيْسَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِانْفِرَادِهَا حُجَّةً، وَأَمَّا مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَخَذَ بِهَا فِي الْقَدِيمِ وَجَعَلَهَا عَلَى انْفِرَادِهَا حُجَّةً، وَإِنَّمَا خُصَّ سَعِيدٌ بِقَبُولِ مَرَاسِيلِهِ، لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ مُسْنَدًا، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الرِّوَايَةِ لَا يَرْوِي أَخْبَارَ الْآحَادِ وَلَا يُحَدِّثُ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَوْ رَآهُ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ، أَوْ وَافَقَهُ فِعْلُ أَهْلِ الْعَصْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ رِجَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ هُمْ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ الَّذِي يَأْخُذُ عَمَّنْ وَجَدَ، وَمِنْهَا أَنَّ مراسيل سعيد سيرت فكانت مَأْخُوذَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ يُرْسِلُهَا لِمَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاسُ مِنَ الْأُنْسِ بَيْنَهُمَا وَالْوَصْلَةِ، وَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ فَصَارَ إِرْسَالُهُ كَإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ومذهب الشافعي في الجديد: أنه مُرْسَلَ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَفْنَا اسْتِئْنَاسًا بِإِرْسَالِهِ ثُمَّ اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَارَبَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، فَيَصِيرُ الْمُرْسَلُ حِينَئِذٍ مَعَ مَا قَارَبَهُ حُجَّةً، وَالَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمُرْسَلُ حُجَّةً أَحَدَ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا قِيَاسٌ أَوْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَإِمَّا فِعْلُ صَحَابِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلَالَةٌ سِوَاهُ، وَقَدِ اتَّصَلَ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ هَذَا أَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَمِنْ ذَلِكَ إِسْنَادُ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَثَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِعَنَاقٍ فَقَالَ أَعْطُونِي جَزُورًا بِهَذِهِ الْعَنَاقِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَصْلُحُ هَذَا فَكَانَ قَوْلُ أَبِي بكر مع انتشاره في الناس عدم معارض له وحصول العمل به دليلا وكيدا فِي لُزُومِ الْأَخْذِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَزُورُ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَيْعِهِ بِالْعَنَاقِ. قِيلَ هَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ إنما تتخذ لإطعام الفقراء فلا جَائِزٍ أَنْ يَنْسِبَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ عَاصَرَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْتَمَسَ ابْتِيَاعَ شَيْءٍ مِنْهُ لِعَنَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ ظُهُورِ الْحَالِ بِحُضُورِ أَبِي بَكْرٍ وَلَمَّا كَانَ نَقْلُ الْحَالِ مُفِيدًا فَإِنَّمَا يُفِيدُ نَقْلُهَا فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ ونقل السبب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِيهِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالدِّبْسِ بِالتَّمْرِ، وَالشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا زَالَ عَنْ حَالِ الْبَقَاءِ بِأَصْلِهِ الَّذِي هُوَ عَلَى حَالِ الْبَقَاءِ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ وَكَذَا اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ يَبِيعُ مَا فِيهِ الرِّبَا بِمَا لَا رِبَا فِيهِ كَاللَّحْمِ بِالْجِلْدِ فَهُوَ أَنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ لِأَنَّ فِيهِ لَحْمًا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لُبِّ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِقُشُورِ الْجَوْزِ وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ الْآخَرِ. فَصْلٌ: فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاللَّحْمِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ اللَّحْمُ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْجَزُورِ بِالْعُصْفُورِ، وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِالسَّمَكِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي السَّمَكِ هَلْ هُوَ صِنْفٌ مِنَ اللَّحْمِ أَمْ لَا؟ وَفِي جَوَازِ بِيعِ اللَّحْمِ بِالسَّمَكِ الْحَيِّ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لِحَيَوَانٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَيَّ السَّمَكِ فِي حُكْمِ مَيِّتِهِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِاللَّحْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَيْسَ فِيهِ لَحْمٌ مَأْكُولٌ وَبِهَذَا قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ الْقِيَاسِ فَأَمَّا بَيْعُ الشَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ خَصَّتِ اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ طَرِيقَهَا الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ فِي الْحَيَوَانِ شَحْمًا، وَكَذَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْكَبِدِ والطحال على هذين الوجهين ولما بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ فَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْعَظْمَ مَا لَا رِبَا فِيهِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ، وَكَذَا بِيعُ الْبَيْضِ بِالدَّجَاجِ يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ الْبَيْضُ بَعْضُ الدَّجَاجِ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمٌ رُوِيَ أَنَّ نَبِيًّا شَكَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الضَّعْفَ فَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ كُلِ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ يَعْنِي اللَّبَنَ بِاللَّحْمِ وقال الشاعر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 (نطعمها اللحم إذا عز الشجر ... والجبل فِي إِطْعَامِهَا اللَّحْمَ ضَرَرْ) يَعْنِي أَنْ تُطْعِمَهَا اللَّبَنَ عِنْدَ عِزَّةِ الْمَرْعَى فَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْعَرَبِ لَحْمًا، ثُمَّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَلِذَا بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، قِيلَ: إِنَّمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ اللَّبَنَ لَحْمًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَيْسَ بِلَحْمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا، وَأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَبَنًا، وَالْأَحْكَامُ إِذَا عُلِّقَتْ بِالْأَسْمَاءِ تَنَاوَلَتِ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمَجَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 بَابُ ثَمَرَةِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ مِنْ كَثْبٍ مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) فَإِذَا جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإبار حدا لملك البائع فقد جعل ما قَبْلَهُ حَدًا لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ مُثْمِرٍ أَوِ ابْتَاعَ نَخْلًا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ. وَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا اتَّصَلَ بِالنَّخْلِ من سعف وليف. فأما الثمرة فلا يخلوا حَالُهَا فِي الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا دُخُولَهَا فِي الْبَيْعِ فَدَخَلَ فِيهِ اتِّفَاقًا مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا خُرُوجَهَا مِنَ الْبَيْعِ فَتَكُونُ خَارِجَةً مِنْهُ اتِّفَاقًا مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ لَكِنْ إِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ يَلْزَمِ اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْعَقْدِ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ مَا اسْتُوْفَى عَلَيْهِ الْعَقْدَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا وَإِنْ كانت مؤبرة فهي داخلة في البيع. واستدل أبو حنيفة عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّهَا مِمَّا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فِي الْبَيْعِ كَالْمُؤَبَّرَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَتْبَعُهُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ فَوَجَبَ أَلَّا يَتْبَعَهُ الثَّمَرَةُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ كالرهن. قال: وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ نَمَاءٌ كَالزَّرْعِ فَلَمَّا حَالَ الزَّرْعُ فِي كَوْنِهِ بَذْرًا وَظُهُورِهِ بَقْلًا فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الثَّمَرَةِ فِي كَوْنِهَا فِي الطلع وظهورها مؤبرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 مِنَ الطَّلْعِ فِي أَلَّا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّخْلِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ نَمَاءٌ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ كَامِنًا لَمْ يَتْبَعْهُ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ. بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ انْتَفَى ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنِ الْوَصْفِ الْآخَرِ فَلَمَّا جَعَلَ الْآبَارَ حَدًّا لِمِلْكِ البائع فقد جعل ما قبله حدا لملك الْمُشْتَرِي. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهَا لِلْبَائِعِ بِشَرْطِ التَّأْبِيرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ لَهُ مَعَ عَدَمِ التَّأْبِيرِ. وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ نصه على التأبير لا يخلوا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوِ التَّمَيُّزُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ لِأَنَّ الحكم مَا لَمْ يُؤَبَّرْ أَخْفَى مِنْ حُكْمِ مَا قَدْ أُبِّرَ وَالتَّنْبِيهُ مَا يَقْصِدُ بِهِ بَيَانُ الْأَخْفَى لِيَدُلَّ عَلَى حُكْمِ الْأَظْهَرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّمَيُّزُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْشَدَ قَوْلَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ لَهُ: (جَدَدْتَ جَنَى نخلتي ظالما ... وكان الثمار لمن قد أبر) فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَكَانَ الثِّمَارُ لِمَنْ قَدْ أَبَّرَ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِثْبَاتًا لِهَذَا الْحُكْمِ. كَمَا أَنْشَدَ قَوْلَ الْأَعْشَى: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ ". تَثْبِيتًا لِهَذَا الْقَوْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَبَايَعَا نَخْلًا ثُمَّ اخْتَصَمَا فِي الثَّمَرَةِ فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذِيَ لَقَّحَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّلْقِيحَ وَهُوَ التَّأْبِيرُ عِلْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَرَةِ فَإِنْ لَقَّحَ الْبَائِعُ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ وَإِنْ لَقَّحَ الْمُشْتَرِي اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لَهُ. وَلِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ إِذَا كَانَتْ طَلْعًا بِمَثَابَةِ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ مُسْتَجِنًّا فَإِذَا أَبْرَزَتْ مِنْ طَلْعِهَا كَانَتْ كَالْحَمْلِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ فَلَمَّا كَانَ الْحَمْلُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِي الْبَيْعِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُرُوزِهَا مِنَ الطَّلْعِ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فِي الْبَيْعِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ نَمَاءٌ مُسْتَجِنٌّ فِي أَصْلِهِ فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَبَعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ تَبَعًا. قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ بِأَبْوَابِ الدَّارِ. ثُمَّ يُقَالُ الْحَمْلُ جَارٍ مَجْرَى أَبْعَاضِ الْأُمِّ فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ عَلَى أَبْعَاضِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَى حَمْلِهَا وَالثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ تَجْرِي مَجْرَى أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى أَغْصَانِهَا جَازَ عَلَى ثَمَرِهَا، وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِأَصْلِهَا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا قِيَاسًا عَلَى نَوْرِ الثِّمَارِ قَبْلَ انْعِقَادِهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُؤَبَّرَةِ، فَالْمَعْنَى فِي الْمُؤَبَّرَةِ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فَلَمْ تَكُنْ تَبَعًا كَالْوَلَدِ، وَغَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ كَامِنَةٌ فَكَانَتْ تَبَعًا كَالْحَمْلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ قُلْنَا فِي الرَّهْنِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتْبَعُ الرَّهْنَ مَا كَانَ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: لَا يَتْبَعُ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ عن أن تتبعه الثمرة الحادثة ضعف عن أن تتبعه الثَّمَرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّرْعِ فَالْمَعْنَى فِي الزَّرْعِ أَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ مِنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَبَعًا لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ قَبْلَ تَأْبِيرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ تَابِعًا لِلْعَقْدِ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ كَطَلْعِ الْإِنَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَلَّا يَكُونَ تَابِعًا وَلَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلْعِ الْإِنَاثِ أَنَّ طَلْعَ الْإِنَاثِ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بَعْدَ إِبَارِهِ وَتَنَاهِيهِ بُسْرًا وَرَطْبًا، وَطَلَعَ الْفُحُولِ يُؤْخَذُ قَبْلَ إِبَارِهِ وَيَكُونُ حَالُ تَنَاهِيهِ طَلْعًا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرِجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي طَلْعِ الْإِنَاثِ هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْحَمْلِ قِيَاسُ تَحْقِيقٍ أَوْ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيَاسُ تَحْقِيقٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ طَلْعُ الْفُحُولِ مُؤَبَّرًا بِالتَّشْقِيقِ وَالظُّهُورِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ طَلْعُ الْفُحُولِ مُؤَبَّرًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْعُقُودُ الَّتِي يَمْلِكُ بِهَا النَّخْلَ الْمُثْمِرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ وَالصَّدَاقِ فَهَذِهِ الْعُقُودُ تَتْبَعُهَا الثَّمَرَةُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ كَالْمَبِيعِ إِذَا اسْتَرْجَعَ بحدوث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 الْفَلَسِ فَهَلْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تُؤَبِّرْ تَبَعًا لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ يَذْكُرَانِ فِي الْفَلَسِ، وَكَالرَّهْنِ إِذَا بِيعَ جَبْرًا عَلَى الرَّهْنِ هَلْ يُبَاعُ مَعَهُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَهَلْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تؤبر تبعا له على وجهين يذكران في الْهِبَةِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْمُرَاضَاةِ كَالطَّلَاقِ إِذَا اسْتَرْجَعَ بِهِ نِصْفَ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ دَاخِلَةً فِيهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، وَكَالْوَالِدِ إِذَا رَجَعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَرَةِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَقَلُّ الْإِبَارِ أَنْ يُؤَبَّرَ شَيْءٌ مِنْ حَائِطِهِ وإن قل وإن لم يؤبر الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مَا أُبِّرَ كُلُّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَبَّرَ الْحَائِطَ أَوْ نَخْلَةً مِنْهُ كَانَ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِهِ، وَصَارَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الْحَائِطِ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أُبِّرَ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ لِلْبَائِعِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ " وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّأْبِيرُ فِي جَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّأْبِيرِ فِي كُلِّ نَخْلَةٍ مَشَقَّةٌ وَفِي تَبْعِيضِ الثَّمَرَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي اخْتِلَافٌ وَسَوَاءٌ مُشَارَكَةً فَجَعَلَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أُبِّرَ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ مَا قَدْ أُبِّرَ تَبَعًا لِمَا لم يؤبر في دخوله في البيع. قل: لِأَنَّ الْمُؤَبَّرَةَ ظَاهِرَةٌ وَغَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ بَاطِنَةٌ وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ تَبَعًا لِلظَّاهِرِ وَلَا يَكُونُ الظَّاهِرُ تَبَعًا لِلْبَاطِنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا بَطَنَ مِنْ أَسَاسِ الْحَائِطِ ورؤوس الْأَجْذَاعِ تَبَعٌ لِمَا ظَهَرَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، ولا يكون ما ظهر تبع لِمَا بَطَنَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَأْبِيرَ بَعْضِ النَّخْلِ تَأْبِيرٌ لِجَمِيعِ النَّخْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَوْعًا وَاحِدًا أَوْ أَنْوَاعًا. فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا فَتَأْبِيرُ نَخْلَةٍ منه كتأبير جميعه. وإن كان أنواعا فتأبير نَوْعٌ مِنْهُ فَهَلْ يَكُونُ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ تَأْبِيرَ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ لَا يَكُونُ تَأْبِيرًا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ تَلَاحُقَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مُتَقَارِبٌ وَتَلَاحُقَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلَفَةِ مُتَبَاعِدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبى هريرة أن تَأْبِيرَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّخْلِ تَأْبِيرٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّخْلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَوْفِ الِاخْتِلَافِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ تَأْبِيرُ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاخْتَلَفَ تَأْبِيرُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ. فَصْلٌ: فَإِذَا جَرَى عَلَى جَمِيعِ الْحَائِطِ حُكْمُ التَّأْبِيرِ وَجَعَلَ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ خَارِجَةً مِنَ الْبَيْعِ فَأَطْلَعَتِ النَّخْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ طَلْعًا مُسْتَحْدَثًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْعَامِ الْمَاضِي تَأَخَّرَ ثُمَّ أَطْلَعَ بَعْدَ تَأْبِيرِ مَا تَقَدَّمَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أَبَّرَ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَطْلَعْ تَبَعًا لِمَا قَدْ أَطْلَعَ خَوْفًا أَيْضًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ فِيهِ الشَّرْطُ فَجَازَ أَنْ يَصِيرَ تَبَعًا لِمَا قَدْ أُبِّرَ فِي الْعَقْدِ. وَمَا لَمْ يَطْلَعْ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمْ فِيهِ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَصِرْ تَبَعًا لِمَا قَدِ اسْتَثْنَاهُ الْعَقْدُ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا صَحِيحًا لِجَازَ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الثِّمَارِ تَبَعًا لِمَا قَدْ خُلِقَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يبدو صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا من ذلك دليل الكيل عَلَى وَهَاءِ قَوْلِهِ وَفَسَادِ تَعْلِيلِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا كَانَ لَهُ حَائِطَانِ مُحْرَزَانِ فَبَاعَهُمَا وَقَدْ أُبَّرَتْ ثَمَرَةُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تُؤَبَّرْ ثَمَرَةُ الْآخَرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَائِطَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهِ لِامْتِيَازِهِمَا وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ لِلْبَائِعِ وَثَمَرَةُ الْحَائِطِ الَّذِي لَمَّ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي. وَلَوْ كَانَ حَائِطًا وَاحِدًا فَأُبِّرَتْ ثَمَرَةُ مُقَدَّمِهِ وَلَمْ تُؤَبَّرْ ثَمَرَةُ مُؤَخَّرِهِ فَإِنْ بَاعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ كَانَ كُلُّ الثَّمَرَةِ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَإِنْ أَفْرَدَ الْعَقْدَ عَلَى إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مُقَدَّمِ الْحَائِطِ الَّذِي قَدْ أَبَّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُؤَخَّرِ الْحَائِطِ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْبَائِعِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَائِطَ وَاحِدٌ وَتَأْبِيرُ بَعْضِهِ تَأْبِيرٌ لِجَمِيعِهِ فَيَصِيرُ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ فِي حُكْمِ الْمُقَدَّمِ الَّذِي قَدْ أُبِّرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ إِفْرَادَ الْمُؤَخَّرِ بِالْعَقْدِ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْحَائِطِ الْمُحْرَزِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي التأبير. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ تَشَقَّقَ طَلْعُ إِنَاثِهِ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا أُبِّرَ كُلُّهُ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّأْبِيرُ فَهُوَ التَّلْقِيحُ وَالتَّلْقِيحُ هُوَ أَنْ يُشَقَّقَ طَلْعُ الْإِنَاثِ وَيُوضَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ الْفُحُولِ لِيَشْتَدَّ بِرَائِحَتِهِ وَيَقْوَى فَلَا يَلْحَقُهُ الْفَسَادُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَصَحَّتْ فِيهِ التَّجْرِبَةُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ رَأَى الْأَنْصَارَ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوهُ بِهِ، فَقَالَ لَوْ تَرَكُوهَا لَصَلُحَتْ، فَتَرَكُوهَا فَتَغَيَّرَتْ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَإِلَيْكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَإِلَيَّ ". فَلَوْ تَشَقَّقَ طَلْعُ الْإِنَاثِ وَلَمْ يُلَقَّحْ بِطَلْعِ الْفُحُولِ صَحَّ التَّأْبِيرُ وَخَرَجَتْ مِنَ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّلْقِيحَ رُبَّمَا تُرِك َ فَصَلُ حَتِ الثَّمَرَةُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ مَا يَكُونُ تَرْكُ تَلْقِيحِهِ أَصْلَحَ لثمرته. فلو لم يتشقق لطلع بِنَفْسِهِ لَكِنْ شَقَّقَهُ أَرْبَابُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَزَمَانِ الْحَاجَةِ كَانَ تَأْبِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَفِي غَيْرِ زَمَانِ الحاجة لم يكن تأبيرا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ فِيهَا فُحُولُ نَخْلٍ بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ الْإِنَاثُ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ وَهِيَ قَبْلَ الْإِبَارِ وَبَعْدَهُ فِي الْبَيْعِ فِي مَعْنَى مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ ذَاتِ حَمْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنَ الْبَهَائِمِ بِيعَتْ فَحَمْلُهَا تَبَعٌ لَهَا كَعُضْوٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُزَايِلْهَا فَإِنْ بِيعَتْ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَلْعَ الْفُحُولِ إِذَا تَشَقَّقَ كَانَ مُؤَبَّرًا وَقَبْلَ تَشَقُّقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مُؤَبَّرًا كَطَلْعِ الْإِنَاثِ. وَالثَّانِي: يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ طَلْعًا. فَإِذَا تَبَايَعَا نَخْلًا فِيهَا فُحُولٌ وَإِنَاثٌ فَإِنْ أَبَّرَ طَلْعَ الْإِنَاثِ كَانَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لها سَوَاءٌ تَشَقَّقَ أَوْ لَمَ يَتَشَقَّقْ. وَلَوْ أَبَّرَ طَلْعَ الْفُحُولِ إِمَّا بِالتَّشَقُّقِ أَوْ بِظُهُورِ الطَّلْعِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يُؤَبَّرْ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ الْإِنَاثِ فَهَلْ يَصِيرُ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لَهُ فِي التَّأْبِيرِ حَتَّى يُحْكَمَ بِجَمِيعِهِ لِلْبَائِعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْفُحُولِ فِي التَّأْبِيرِ كَمَا صَارَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْإِنَاثِ فِي التَّأْبِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ طَلْعَ الْإِنَاثِ لَا يَتْبَعُ طَلْعَ الْفُحُولِ وَإِنْ كَانَ طَلْعُ الْفُحُولِ يَتْبَعُ طَلْعَ الْإِنَاثِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَقْصُودَ الثِّمَارِ هُوَ طَلْعُ الْإِنَاثِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بُسْرًا وَرَطْبًا وَتَمْرًا وَطَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعٌ لَهُ لِأَنَّهُ مُرَادٌ لِتَلْقِيحِهِ وَلَيْسَ يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ صَارَ طَلْعُ الْفُحُولِ تَبَعًا لِطَلْعِ الْإِنَاثِ، فِي التَّأْبِيرِ وَلَمْ يَصِرْ طَلْعُ الْإِنَاثِ تَبَعًا لَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 فَصْلٌ: فَإِذَا أَخَذَ طَلْعُ الْفُحُولِ جَازَ بَيْعُهُ فِي قِشْرِهِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ فِي الْقِشْرِ مِنْ صَلَاحِهِ كَالرُّمَّانِ. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِي قِشْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ بَارِزًا وليس هذا بصحيح لما ذكرنا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْكُرْسُفُ إِذَا بِيعَ أَصْلُهُ كَالنَّخْلِ إِذَا خَرَجَ جَوْزُهُ وَلَمْ يَتَشَقَّقْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَإِذَا تَشَقَّقَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكُرْسُفُ فَهُوَ الْقُطْنُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَمِصْرَ وَأَطْرَافِ اليمن والحجاز شجر يلفظ عام بَعْدَ عَامٍ، وَيَكُونُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ زَرْعًا يُحْصَدُ فِي كُلِّ عَامٍ فَتَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى حُكْمِهِ فِي بِلَادِهِ فَإِذَا كَانَ الْقُطْنُ فِي بِلَادٍ يَكُونُ شَجَرًا كَانَ مُنَزَّلًا فِي أَحْوَالِهِ تَنْزِيلَ النَّخْلِ لِأَنَّهُ فِي كِمَامٍ يَنْشَقُّ عَنْهُ، فَإِذَا بِيعَ شَجَرُ الْقُطْنِ مَعَ الْأَرْضِ أَوْ مُفْرَدًا عَنِ الْأَرْضِ وَكَانَ حَمْلُهُ سَاقِطًا أَوْ وَرْدًا أَوْ جَوْزًا مُنْعَقِدًا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي تَبَعٌ لِأَصْلِهِ كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا كَانَ طَلْعًا لَمْ يُؤَبَّرْ، وَإِنْ كَانَ جَوْزُهُ قَدْ تَشَقَّقَ وَقَطْنُهُ قَدْ ظَهَرَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ لَا يَتْبَعُ أَصْلَهُ كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا أُبِّرَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُطْنُ فِي بِلَادٍ زَرْعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مُفْرَدًا عَنِ الْأَرْضِ إِلَّا أن يشتري الْقَطْعَ، وَإِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ نَبَاتُ الْقُطْنِ وَلَا مَا فِيهِ مِنْ وَرْدٍ وَجَوْزٍ كَسَائِرِ الزُّرُوعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُخَالِفُ الثِّمَارَ مِنَ الْأَعْنَابِ وَغَيْرِهَا النَّخْلُ فَتَكُونُ كُلُّ ثَمَرَةٍ خَرَجَتْ بَارِزَةً وَتُرَى فِي أَوَّلِ مَا تَخْرُجُ كَمَا تُرَى فِي آخِرِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى ثَمَرِ النَّخْلِ بَارِزًا مِنَ الطَّلْعِ فَإِذَا بَاعَهُ شَجَرًا مُثْمِرًا فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ لِأَنَّ الثَّمَرَ فَارَقَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْدَعًا فِي الشَّجَرِ كَمَا يَكُونُ الْحَمْلُ مُسْتَوْدَعًا فِي الْأَمَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجَمْلَتُهُ أَنَّ النَّبَاتَ ضَرْبَانِ: شَجَرٌ وَزَرْعٌ. فَأَمَّا الشَّجَرُ فَهُوَ مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ فَلَا يَخْلُو حَالَ حمله من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الْوَرَقُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الْوَرْدُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ الثَّمَرُ. فَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَرَقَ فَكَالْحِنَّا وَالتُّوتِ. فَأَمَّا الْحِنَّا فَإِنَّ وَرَقَهُ يَبْدُو بَعْدَ تَفَرُّعِ أَغْصَانِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي عقدة ينفتح عنها، فإذا بدا وَرَقَهُ بَعْدَ التَّفَرُّعِ صَارَ فِي حُكْمِ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ. وَأَمَّا شَجَرُ الْفِرْصَادُ فَنَوْعَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 - نَوْعٌ مِنْهُ يُعْرَفُ بِالشَّامِيِّ يُقْصَدُ مِنْهُ ثَمَرُهُ دُونَ وَرَقِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ثَمَرِ الْأَشْجَارِ إِذَا طَلَعَ فَلَا اعْتِبَارَ بِظُهُورِ وَرَقِهِ. - وَنَوْعٌ مِنْهُ يُقْصَدُ مِنْهُ وَرَقُهُ دُونَ ثَمَرِهِ، وَوَرَقُهُ يَبْدُو فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ يَنْفَتِحُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ فِي عُقْدَةٍ فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عُقْدَةً قَدِ انْشَقَّتْ وَظَهَرَ وَرَقُهَا لَمْ يُتْبَعْ أصله، وكان للبائع، وكذا القول في كل مَا قُصِدَ مِنْهُ الْوَرَقُ. وَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْوَرْدَ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: - نَوْعٌ مِنْهُ يَبْدُو بَارِزًا كَالْيَاسَمِينِ فَهَذَا إِذَا وُجِدَ الْوَرَقُ فِيهِ لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ. - وَنَوْعٌ مِنْهُ يَبْدُو مُسْتَجِنًّا إِمَّا بِعَقْدٍ يَنْفَتِحُ عَنْهَا أَوْ بِغِطَاءٍ يَنْكَشِفُ عَنْهُ كَالْوَرْدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنْ كَانَ فِي كِمَامِهِ لَمْ يَبْرُزْ فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصِلِهِ، وَإِنْ بَرَزَ عَمَّا تَحْتَهُ لَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ. وَأَمَّا مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّمَرَ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْدُوَا بَارِزًا مُنْعَقِدًا كَالتِّينِ فَهَذَا وُجُودُهُ فِي شَجَرَةٍ كَالتَّأْبِيرِ لَا يُتْبَعُ أَصْلُهُ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: ما يب دو فِي كِمَامٍ يَتَشَقَّقُ عَنْهُ كَالْجَوْزِ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عُلْيَا تَنْشَقُّ عَنْهُ فِي شَجَرِهِ، وَالثَّانِيَةُ سُفْلَى يُؤْخَذُ مَعَهَا وَيُدَّخَرُ بِهَا فَهَذَا فِي حُكْمِ طَلْعِ النَّخْلِ فَإِذَا كَانَ فِي قِشْرَتِهِ الْعُلْيَا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنِ انْشَقَّتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا وَبَرَزَتِ الْقِشْرَةُ السُّفْلَى لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَبْدُو وَرْدًا وَنَوْرًا ثُمَّ يَنْعَقِدُ حَبًّا كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْكُمَّثْرَى وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا كَانَ وَرْدًا وَنَوْرًا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَصِلِهِ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنِ انْعَقَدَ وَتَسَاقَطَ نَوْرُهُ لَمْ يُتْبَعْ أَصْلُهُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ في معناه. فأما الكرم فنوعان: منها مَا يُورِدُ ثُمَّ يَنْعَقِدُ، وَمِنْهُ مَا يَبْدُو حَبًّا مُنْعَقِدًا فَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ بِحُكْمِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ فَهَذَا حُكْمُ الشَّجَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَجَرٌ مِثْلَ بَصَلِ النَّرْجِسِ وَالزَّعْفَرَانِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى سِنِينَ فِي مَوْضِعِهِ فَيَكُونُ كَشَجَرِ الْوَرْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الزَّرْعُ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ إِذَا حُصِدَ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَصِلٌ يُسْتَخْلَفُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَهَذَا لَا يُتْبَعُ أَصْلُهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ وَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَضَرْبٌ آخَرُ يُجَزُّ مِرَارًا وَيُسْتَخْلَفُ كَالْعَلَفِ وَهُوَ الْقَتُّ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْبُقُولِ فَيَكُونُ مَا طَلَعَ مِنْهُ وَظَهَرَ لِلْبَائِعِ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ وهل ينتظر بما طلع بما تَنَاهِيَ جِذَاذِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُنْتَظَرُ بِهِ تَنَاهِيَ جِذَاذِهِ فَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِجِذَاذِهِ عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَهَى مِلْكُ الْبَائِعِ وَيَكُونُ مَا بَعْدُ تِلْكَ الْجُّذَّةِ بكمالها للمشتري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وهذا قول من زعم أن ما أطلع مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِلْبَائِعِ تَبَعًا لِمَا أُطْلِعَ مِنْهَا وَأُبِّرَ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُنْتَظَرُ بِهِ كَمَالُ جِذَاذِهِ بَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَكْمَلْ، وَيُؤْمَرْ بِجِذَاذِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَكْمَلْ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الْبَاقِي وَمَا اسْتَخْلَفَ طُلُوعَهُ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا أَطْلَعَ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِمَا أطلع فيه وأبر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَعْقُولٌ إِذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي تَرْكَهَا فِي شَجَرِهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْجِدَادَ أَوِ الْقِطَافَ أَوِ اللَّقَاطَ فِي الشَّجَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَارَتْ ثَمَرَةُ النَّخْلَةِ لِلْبَائِعِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ تَصِيرَ لَهُ بِالتَّأْبِيرِ أو بالشرط قبل التأبير فإن صارت له بالشرط والاستثناء قبل التأبير فَعَلَى الْبَائِعِ قَطْعُهَا فِي الْحَالِ وَلَا يُلْزِمُ الْمُشْتَرِي تَرَكَهَا عَلَى نَخْلِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَائِعِ لَهَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا الشَّرْطُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامُ مُوجِبِهِ. وَإِنْ صَارَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ بِالتَّأْبِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِلْبَائِعِ تَرْكُهَا عَلَى نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا إِلَى أَوَانِ جِذَاذِهَا وَلِقَاطِهَا وَلَا يَلْزَمُ قَطْعُهَا وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَرْكِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَى الْبَائِعِ قَطْعُهَا وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي تَرْكُهَا احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ مَا ابْتَاعَهُ، فَهُوَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ النَّخْلِ كَمَا يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الدَّارِ، فَلَمَّا كَانَ لَوِ ابْتَاعَ دَارًا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ نَقْلُ مَا فِيهَا مِنْ مَتَاعِهِ لِيُسَلِّمَ المشتري منفعة داره لذلك لَوِ ابْتَاعَ نَخْلًا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ جِذَاذُ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثِمَارِهِ لِيُسَلِّمَ الْمُشْتَرِيَ مَنْفَعَةَ نَخْلِهِ ثُمَّ أَخْذُ الثَّمَرَةِ أَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَهَا مُضِرٌّ وَتَرَكُ الْمَتَاعِ غَيْرُ مُضِرٍّ. وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ تَرْكَ الثَّمَرَةِ لَكَانَ قَدِ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ مَا بَاعَهُ كَمَنْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا فَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاسِدًا كَانَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ فَاسِدًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ مَشْغُولًا بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاسْتَقَرَّ الْعُرْفُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى لَوْ بَاعَ دَارَهُ لَيْلًا لَمْ يُلْزَمِ الِانْتِقَالَ عَنْهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يُصْبِحَ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ مَمْلُوءَةً بِمَتَاعِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي نَقْلِهِ فِي يَوْمِهِ حَتَّى يَنْقُلَهُ فِي الْأَيَّامِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ وَجَبَ إِذَا بَاعَهُ نَخْلًا أَلَّا يُلْزِمَهُ أَخْذَ ثَمَرِهَا فِي الْحَالِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ. وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ فِي حُكْمِ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَثْمَانَ الْمُطْلَقَةَ تُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ النَّقْدِ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ، وَالْعُرْفِ فِي الثِّمَارِ تَرَكَهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ، فَلَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 كَانَ لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ تَرْكَهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ لَزِمَ، وَجَبَ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ أَنْ تُتْرَكَ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ أَنْ تَلْتَزِمَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّارِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَالْعُرْفُ فِيهِمَا مُعْتَبَرٌ لَكِنَّ الْعُرْفَ فِي الدَّارِ أَنْ يَنْقُلَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَفِي الثِّمَارِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْجِذَاذِ ثُمَّ يَقُولُ مَنْفَعَةُ الدَّارِ تَبْطُلُ بِإِقْرَارِ الْمَتَاعِ فيها ولا تبطل منفعة النخل بإقرار الثمرة عليها. وأما الجواب عن استدلاله بأنها مَنْفَعَةُ مُسْتَثْنَاةٌ كَالسُّكْنَى فَهُوَ أَنَّ الْأُصُولَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ اسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْطِ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَوْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مُسْتَثْنًى وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أن اسْتِيفَاءَ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ الْجِذَاذِ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ ثَمَرًا إِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ جِذَاذِهَا ثَمَرًا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ رَطْبًا فَإِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ لِقَاطِهَا رَطْبًا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْخَذُ بُسْرًا فَإِلَى أَوَّلِ قَطْعِهَا بُسْرًا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ فَنُقِرُّ الْكَرْمَ إِلَى وَقْتِ الْقِطَافِ وَالشَّجَرَ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاطِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا كَانَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا السَّقْيُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَخْلِيَةُ الْبَائِعِ وَمَا يَكْفِي مِنَ السَّقْيِ وَإِنَّمَا لَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا فِيهِ صَلَاحُ ثَمَرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ تَرْكَ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ فَقَدْ تَحْتَاجُ الثَّمَرَةُ إِلَى مَا يُصْلِحُهَا مِنَ السَّقْيِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَمْكِينُهُ مِنَ السَّقْيِ لِمَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنْ إِصْلَاحِ ثَمَرَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّقْيِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا أَوْ مُتَعَذِّرًا. فَإِنْ كَانَ السَّقْيُ مُمْكِنًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لِلنَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْقِيَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُمَكِّنَهُ وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ ثَمَرَتِهِ وَإِنْ كَانَ لِنَخْلِ الْمُشْتَرِي فِيهِ صَلَاحٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ السَّقْيِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ النَّخْلِ ثَمَرَتَهُ فَيَجِبُ سَقْيُهَا عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ دُونَ مُشْتَرِي الثَّمَرَةِ أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا بِمَنَافِعِهَا، وَمِنْ مَنَافِعِهَا السَّقْيُ فَوَجَبَ عَلَى بَائِعِهَا دُونَ الْمُشْتَرِي لَهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ الْحَاصِلَةُ لِبَائِعِ النَّخْلِ بِالتَّأْبِيرِ مَضْمُونَةً عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ بِالتَّسْلِيمِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّقْيُ فَلَوِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ سَقْيِ ثَمَرَتِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِمُشْتَرِي النَّخْلِ إِنْ أَرَدْتَ سَقْيَ نَخْلِكَ فَاسْقِهِ وَلَا نُجْبِرُكَ عَلَيْهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ. وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الثَّمَرَةِ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَمْنَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ. فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّمَرَةِ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ الْمَاءَ الَّذِي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ لِسَقْيِ ثَمَرَتِي فَأَسْقِي بِهِ غَيْرَهَا مِنَ الثِّمَارِ أَوِ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا لَوْ أَخَذَ ثَمَرَتَهُ قَبْلَ وَقْتِ جِذَاذِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لِسَقْيِهَا إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَاءِ مَا فِيهِ صَلَاحُ تِلْكَ الثَّمَرَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ نَافِعًا لِلنَّخْلِ مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ مَعَ مَا فِي السَّقْيِ مِنْ مَضَرَّةِ الثَّمَرَةِ؟ . فَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ السَّقْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الثَّمَرَةِ، فَإِذَا مَنَعَهُ كَانَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فَسْخُ الْعَقْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ فِي مَنْعِ السَّقْيِ مِنَ الْمَضَرَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يَسْقِيَ وَيُجْبِرَ صَاحِبَ الثَّمَرَةِ عَلَى تَمْكِينِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ وَلَا خيار، ثم مؤنه السقي ها هنا عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَنْفَعَةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ نَافِعًا لِلثَّمَرَةِ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ فعلى قول أبي إسحاق المروزي لصاحب الثمرة أَنْ يَسْقِيَ لِصَلَاحِ ثَمَرَتِهِ، وَلِصَاحِبِ النَّخْلِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَخْلِهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ له أَنْ يَسْقِيَ ثَمَرَتَهُ جَبْرًا وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ السَّقْيِ لَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِالثَّمَرَةِ، فَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ تَمْكِينُهُ مِنْهُ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوِ التَّقْصِيرِ عَنْهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَاءُ مُتَعَذَّرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ تَعَذُّرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِعْوَازِ الْمَاءِ أَوْ لِفَسَادِ آلَتِهِ. فَإِنْ كَانَ تَعَذُّرُ الْمَاءِ لِإِعْوَازِهِ سَقَطَ حُكْمُ السَّقْيِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ فِي تَرْكِهَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا بِغَيْرِ سُقْيٍ يَضُرُّ بِالنَّخْلِ وَبِهَا فَقَطْعُهَا وَاجِبٌ وَلِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَ الثَّمَرَةِ عَلَى قَطْعِهَا لِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةً بِالنَّخْلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلثَّمَرَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِالنَّخْلِ وَلَا بِهَا فَلَهُ تَرْكُ الثَّمَرَةِ إِلَى وَقْتِ جِذَاذِهَا لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ فِي تَرْكِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ فَصَاحِبُ الثَّمَرَةِ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِ الثَّمَرَةِ أَوْ تَرْكِهَا وَلَا يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ لأنه لا ضرر عليها فِيهَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِرَبِّ الثَّمَرَةِ أَنْ يُقِرَّ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ وَإِنْ ضَرَّ بِنَخْلِ الْمُشْتَرِي لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الثَّمَرَةِ وَدُخُولِ الْمُشْتَرِي مَعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَى رَبِّ الثَّمَرَةِ أَخْذُ ثَمَرَتِهِ وَلِلْمُشْتَرِي إِجْبَارُهُ عَلَى قَطْعِهَا لِيُزِيلَ عَنْهُ ضَرَرَ تَرْكِهَا. فَأَمَّا إِنْ تَعَذَّرَ الْمَاءُ لِفَسَادِ الْآلَةِ أَوْ لِفَسَادِ الْمَجَارِي أَوْ لِطَمِّ الْآبَارِ فَأَيُّهُمَا لَحِقَهُ بِتَأْخِيرِ السَّقْيِ ضَرَرٌ كَانَ لَهُ إِصْلَاحُ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَاءِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا بِالنَّخْلِ وَجَبَ عَلَى مُشْتَرِي النَّخْلِ أَنْ يُزِيلَ الضَّرَرَ عَنْ نَخْلِهِ بِسَوْقِ الْمَاءِ إِلَى نَخْلِهِ وَلَا يُجْبِرُ رَبَّ الثَّمَرَةِ عَلَى قَطْعِ ثَمَرَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالثَّمَرَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ أَوْ يَقْطَعُهَا. وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهِمَا جَمِيعًا لَزِمَ ذَلِكَ صَاحِبُ النَّخْلِ لِمَا ذَكَرْنَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ إِلَى قَطْعِ ثَمَرَتِهِ فيسقط عنه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا كَانَتِ الشَّجَرَةُ مِمَّا تَكُونُ فِيهِ الثَّمَرَةُ ظَاهِرَةً ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْخَارِجَةُ ثَمَرَةَ غَيْرِهَا فَإِنْ تَمَيَّزَ فَلِلْبَائِعِ الثَّمَرَةُ الْخَارِجَةُ وَلِلْمُشْتَرِي الْحَادِثَةُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ ففيها قولان أحدهما لا يجوز البيع إلا أن يسلمه البائع الثمرة كلها فيكون قد زاده حقا له أو يتركه المشتري للبائع فيعفو له عن حقه والقول الثاني أن البيع مفسوخ وكذلك قال في هذا الكتاب وفي الإملاء على مسائل مالك مفسوخ وهكذا قال في بيع الباذنجان في شجره والخربز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ مَسْأَلَتَيْنِ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ إِحْدَاهُمَا وَأَغْفَلَ الْمُقَدِّمَةَ مِنْهُمَا فَكَانَ الْأَوْلَى الْبِدَايَةَ بِمَا أَغْفَلَهُ لِيَكُونَ جَوَابُ الْأُخْرَى مَبْنِيًّا عَلَيْهَا وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَمَرَةَ شَجَرٍ أَوْ بِطِّيخَ مِزَاحٍ أَوْ حَمْلَ بَاذِنْجَانَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَجَرِهِ وَلَا لَقَطَ الْبِطِّيخَ مِنْ مِزَاحِهِ حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى فَالْحَادِثَةُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى بِلَوْنٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ نُضْجٍ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَأَخَذَ الْبَائِعُ الثَّمَرَةَ الْحَادِثَةَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نِزَاعٌ. وإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَ الْمَبِيعُ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدِ اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْقَبْضِ، فَأَوْقَعَ ذَلِكَ جَهَالَةً فِي الْبَيْعِ فَأَبْطَلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَحْدِثَ هِبَةَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ لِيَصِحَّ لَهُ الْعَقْدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ لَكِنْ يُقَالُ لِلْبَائِعِ اسْمَحْ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ، فَإِنْ سَمَحَ لَهُ بِهَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهَا، وَإِنْ شَحَّ الْبَائِعُ بِهَا وَأَقَامَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فِيهَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ امْتِيَازَ الْبَائِعِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ طُرُقِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَسَمَاحَةُ الْبَائِعِ بِالْحَادِثَةِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا نَفْيُ الْجَهَالَةِ وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَشَابَهَتِ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا ذَاتَ شَجَرٍ مُثْمِرٍ، أَوْ بَاعَ الشَّجَرَ وَحْدَهُ وَفِيهِ ثَمَرٌ، فَحَكَمَ بِالثَّمَرِ لِلْبَائِعِ لِأَجْلِ التَّأْبِيرِ، وَبِالشَّجَرِ مَعَ الْأَرْضِ لِلْمُشْتَرِي فَحَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْبَائِعُ ثَمَرَتَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُولَى بِصِغَرٍ أَوْ بِلَوْنٍ، أَوْ نُضْجٍ كَانَتِ الْأُولَى لِلْبَائِعِ وَالْحَادِثَةُ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ. وإن كانت الحادثة لا تتميز عن الأولى نقل المزني في البيع قولان كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَنْسُبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِي نَقْلِهِ، وَيَقُولُ الْبَيْعُ صَحِيحٌ قَوْلًا وَاحِدًا. لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَادِثَةِ بالمتقدمة اختلاط في غير المبيع لأن عَقْدَ الْبَيْعِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَرَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ وَمَا حَدَثَ مِنَ الثَّمَرَةِ لَا يُوجَدُ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَا يُوقِعُ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْعَقْدِ. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي اسْمَحْ بِالْحَادِثَةِ، فَإِنْ سَمَحَ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنَّ شَحَّ بِهَا قِيلَ لِلْبَائِعِ أَتَسْمَحُ بِالْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمُشْتَرِي، فإن سمح بها (له) لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ شَحَّ وَتَنَازَعَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَيْرَانَ أَصَحُّ جَوَابًا وَتَعْلِيلًا، وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحًا وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَوْلَى مِنْ نَصْرِ مَا سِوَاهُ، وَعَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ ابْنِ خَيْرَانَ إِنْ تَرَاضَيَا وَاتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 الْحَادِثَةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لِمَا حَدَثَ تَأْثِيرًا فِي الْبَيْعِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: " هَكَذَا قَالَ (يَعْنِي الشَّافِعِيَّ) فِيمَنْ بَاعَ قِرْطًا جَزَّهُ عِنْدَ بُلُوغِ الْجِزَازِ فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى زَادَ كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يدع له الفضل الذي لا بِلَا ثَمَنٍ أَوْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنِ ابْتَاعَ قِرْطًا جَزَّهُ يَعْنِي عَلَفًا بِشَرْطِ الْجِزَازِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي تُبَاعُ جَزًّا فَأَخَّرَ الْمُشْتَرِي جَزَّهُ حَتَّى طَالَتْ فَقَدْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَضَمَّهَا الْمُزَنِيُّ إِلَى مَسْأَلَةِ الثَّمَرَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْبَيْعُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ طُولَ الْعَلَفِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ مِثْلَ كِبَرِ الثَّمَرَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ إِذَا أَخَّرَ الْمُشْتَرِي قَطْعَهَا حَتَّى كَبِرَتْ لَمْ يَفْسُدِ الْبَيْعُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ وَجَبَ فِي الْعَلَفِ إِذَا أَخَّرَ جَزَّهُ حَتَّى طَالَ أَلَّا يَفْسُدَ الْبَيْعُ وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ كَالثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةٍ حَادِثَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ كِبَرِ الثَّمَرَةِ وَطُولِ الْعَلَفِ أَنَّ كِبَرَ الثَّمَرَةِ لَا يَمْتَازُ عَنْ أَصْلِهِ، وَلَا يُوجَدُ بَعْدَ قَطْعِ الثَّمَرَةِ، وَطُولَ الْعَلَفِ مُتَمَيِّزٌ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا وَيَحْدُثُ بَعْدَ جِزَازِ الْعَلَفِ فَافْتَرَقَا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَتَرَاجَعَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ لَكِنْ يُقَالُ لِلْبَائِعِ أَتَسْمَحُ لِلْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ شَحَّ بِهَا وَأَقَامَا عَلَى التَّنَازُعِ فَسَخَ الحاكم بينهما وتراجعا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كَمَا لَوْ بَاعَهُ حِنْطَةً فَانْثَالَتْ عَلَيْهَا حِنْطَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ أَوْ يَفْسَخَ لِاخْتِلَاطِ مَا بَاعَ بِمَا لَمْ يبع (قال المزني) هذا عندي أشبه بمذهبه إذا لم يكن قبض لأن التسليم عليه مضمون بالثمن ما دام في يديه ولا يكلف ما لا سبيل له إليه (قال المزني) قلت أنا فإذا كان بعد القبض لم يضر البيع شيء لتمامه وهذا المختلط لهما يتراضيان فيه بما شاءا إذ كل واحد منهما يقول لا أدري ما لي فيه وإن تداعيا فالقول قول الذي كانت الثمرة في يديه والآخر مدع عليه ". قال الماوردي: وصورتها فيمن ابتاع طعاما مختلط بِطَعَامٍ لِلْبَائِعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 وَالثَّانِي: بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّعَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ كَانَ كَالثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِثَمَرَةٍ حَادِثَةٍ فَيَكُونُ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَإِنْ تَرَاضَيَا وَاتَّفَقَا وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَذَلِكَ يَكُونُ بأحد ثلاثة أوجه: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْكَيْلِ فَيَعْلَمَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ كَيْلِ الْمَبِيعِ قَدْرَ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَعْلُومِ الْكَيْلِ وَغَيْرُ الْمَبِيعِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فَيَعْلَمُ بِقَدْرِ اسْتِيفَاءِ كَيْلِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ قَدْرَ الْمَبِيعِ. فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَلِطَ الْعَيْنِ مُتَمَيِّزَ الْقَدْرِ وَكَانَ تَمَيُّزُ الْقَدْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْجَهَالَةِ وَهُوَ أَقْوَى الْمَقْصُودِينَ مِنْهُ فَصَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ اخْتِلَاطُ الْعَيْنِ مُغَيِّرًا لِلصِّفَةِ مَعَ تَقَارُبِ الْأَجْزَاءِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ صَارَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحِصَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامَانِ مُتَمَاثِلِيِ الْقِيمَةِ تَقَاسَمَاهُ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ بِيعَ وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الطَّعَامَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا بِقِسْمَةِ ذَلِكَ كَيْلًا عَلَى الْحِصَصِ دُونَ الْقِيَمِ فَيَجُوزُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَاطُ الطَّعَامِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَالْبَيْعُ مَاضٍ لَا يَفْسُدُ لِانْبِرَامِهِ بِالْقَبْضِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّعَامِ إِذَا اخْتَلَطَ بَعْدَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فِيهِ وَبَيْنَ الثَّمَرَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي شَجَرِهَا فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا؟ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْضَ الطَّعَامِ قَدِ اسْتَقَرَّ فَانْبَرَمَتْ عِلَّةُ الْعَقْدِ، وَقَبْضُ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهَا وَفِي شَجَرِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَعِلَّةُ الْعَقْدِ لَمْ تَنْبَرِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَطِشَتْ عَلَى نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهَا، كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي خِيَارَ الْفَسْخِ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا وَالْعَقْدُ مُنْبَرِمًا مَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ كَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الطَّعَامِ مَعْلُومًا بِأَحَدِ الْأَوْجُهِ الَّتِي مَضَتْ تَقَاسَمَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الطَّعَامِ مَجْهُولًا، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِشَيْءٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ وَاقْتَسَمَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ تَنَازَعَا وَاخْتَلَفَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ صُبْرَةَ الْمُشْتَرِي قَدِ انْثَالَتْ عَلَى صُبْرَةِ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قول البائع في قدر ماله مِمَّا لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ صُبْرَةُ الْبَائِعِ قَدِ انْثَالَتْ عَلَى صُبْرَةِ الْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ ماله مِمَّا لِلْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ كَانَتْ عَلَى الطَّعَامَيْنِ مَعًا وَكَانَ أَعْرَفَ بِقَدْرِهِمَا مِنَ الْمُشْتَرِي الْمُسْتَحْدَثِ إِلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْيَدِ فِيهِ كَانَتِ الْيَدُ الثَّانِيَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنَ الْيَدِ الْمُرْتَفِعَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ أَرْضٍ بِيعَتْ فَلِلْمُشْتَرِي جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَأَصْلٍ وَالْأَصْلُ مَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَعْدَ ثَمَرَةٍ مِنْ كُلِّ شَجَرٍ مُثْمِرٍ وَزَرْعٍ مُثْمِرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ لَمْ يَخْلُ حال ابتياعه من ثلاثة أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ الْبَنَّاءِ وَالشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ لَفْظًا فَيَدْخُلُ. وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَهُ لَفْظًا فَيَخْرُجُ. وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ وَيَقُولَ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَيْعِ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَنَصَّ فِي الرَّهْنِ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ فَاقْتَضَى لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي المسألتين على ثلاثة طُرُقٍ: إِحْدَاهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصٍ الْوَكِيلِ أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي الْبَيْعِ إِلَى الرَّهْنِ وَجَوَابَهُ فِي الرَّهْنِ إِلَى الْبَيْعِ وَخَرَّجُوا الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الرَّهْنِ جَمِيعًا كَمَا لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الرَّهْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ تُسْتَبْقَى مُدَّةَ صَلَاحِهَا ثُمَّ تُزَالُ عَنْ نَخْلِهَا وَشَجَرِهَا فَصَارَتْ كَالشَّيْءِ الْمُتَمَيِّزِ فَلَمْ تَدْخُلْ إِلَّا بِالشَّرْطِ، وَالْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ يُرَادُ لِلتَّأْبِيرِ وَالْبِنَاءُ يَجْرِي مَجْرَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ اخْتِلَافَهُ اختلاف نصفه فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 فَجَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُكَ الْأَرْضَ بِحُقُوقِهَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ وَلَوْ قَالَ مِثْلَهُ فِي الرَّهْنِ لَدَخَلَ. وَجَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ قَالَ رَهَنْتُكَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَقُلْ بِحُقُوقِهَا فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَدْخُلْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا جَوَابَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَجَعَلُوا الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ إِلَّا بِالشَّرْطِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُزِيلُ الْمِلْكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِالْمَبِيعِ تبع لَهُ لِقُوَّتِهِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَضْعُفُ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَتْبَعْهُ مَا لَمْ يُسَمِّهِ لِضَعْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ فِي الْبَيْعِ لِلْمُشْتَرِي جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَلَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ فِي الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ الرَّهْنَ أَوْلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ مُسَمَّيَاتِهَا سواء كان آجُرًّا، أَوْ حِجَارَةً، أَوْ تُرَابًا، وَكَذَا تِلَالُ التُّرَابِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْبَصْرَةِ جِبَالًا وَجُوخَاتُهَا وَبَيْدَرُهَا وَقَدْرُهَا وَالْحَائِطُ الَّذِي يَحْظَرُهَا وَسَوَاقِيهَا الَّتِي تَشْرَبُ الْأَرْضُ مِنْهَا وَأَنْهَارُهَا الَّتِي فِيهَا وَعَيْنُ الْمَاءِ إِنْ كَانَتْ فِيهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي فِيهَا. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْمَاءُ مَمْلُوكًا بِالْإِجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِعْمَالُهُ وَلَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا رُدَّ غُرْمُهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى بِالْمَاءِ لِمَا يستحقه من التصرف في ملكه، وأن له مَنْعَ الْغَيْرِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ، فَلَوْ دَخَلَ إِنْسَانٌ فَأَجَارَ مِنْ مَائِهِ صَارَ مَالِكًا لَهُ وَإِنْ تَعَدَّى بِالدُّخُولِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْ مَلَكَ الْمَاءَ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ أَرْضِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ عَنْ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ فَصَارَ كَالْمَاءِ الَّذِي أَجَازَهُ فِي إِنَاءٍ وَلَوْ أَجَازَ مِنْهُ إِنْسَانٌ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَاسْتَحَقَّ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ كَالْمَاءِ دُوِّنَ لَهُ بِالْعُرْفِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي غُرْمُهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ابْتَاعَهَا مَعْدِنٌ كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَأَمَّا مَا فِي الْمَعْدِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَامِدًا كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالرَّصَاصِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا جَارِيًا كَالنِّفْطِ وَالزِّفْتِ وَالْقَارِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا كَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ كَانَ مِلْكًا لِمَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا كَالنِّفْطِ وَالزِّفْتِ وَالْقَارِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَازَةِ، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ مَمْلُوكًا فِي الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَوْ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ لَكَانَ لِمَالِكِهَا مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ مِنْ أَنْهَارِ الْأَرْضِ وَعُيُونِهَا مِنَ السَّمَكِ فَلَا يُمْلَكُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا إِلَّا بِالْحِيَازَةِ كَمَا لَا يُمْلَكُ مَا فَرَخَ مِنَ الصَّيْدِ فِي أَرْضِهِ إِلَّا بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ أَخَذُوهُ فَقَدْ مَلَكُوهُ دُونَهُ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ دُولَابٌ لِلْمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَمَالُ مَنَافِعِهَا فَجَرَى مَجْرَى أَبْوَابِ الدَّارِ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا فَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهَا بِهَا وَإِنَّ فِيهَا كَمَالَ مَنَافِعِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا يَدْخُلُ فيه خشبة الزبوق وَإِنْ سَقَتْ وَلَا بَقَرَةَ الدُّولَابِ وَإِنْ سَقَتْ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَفْصِلُ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ الدولاب صغير يُمْكِنُ نَقْلُهُ صَحِيحًا عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْبُوقِ. وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ صَحِيحًا إِلَّا بِالتَّفْصِيلِ أَوْ بِمَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ. فصل: فأما إن كان في الأرض رَحًا لِلْمَاءِ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بَيْتُ الرَّحَا وَبِنَاؤُهُ. فَأَمَّا حِجَارَةُ الرَّحَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عُلُوًّا وَسُفْلًا لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمَنَافِعِ. وَالثَّانِي: لَا تَدْخُلُ فِيهِ عُلُوًّا وَلَا سُفْلًا لِامْتِيَازِهَا. وَالثَّالِثُ: تَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلَى لِاتِّصَالِهِ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْعُلْيَا لِانْفِصَالِهِ. وَأَمَّا دُولَابُ الرَّحَا الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ فَيُدِيرُ الرَّحَا فَهُوَ تَبَعٌ لِلرَّحَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُخُولِهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالسُّفْلَى أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْعُلْيَا. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ مَقْطُوعٍ وَبِنَاءٍ مَقْلُوعٍ وَعَلَفٍ مَخْزُونٍ وَتَمْرٍ مَلْقُوطٍ وَتُرَابٍ مَنْقُولٍ وَسِمَادٍ مَحْمُولٍ فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِالشَّرْطِ أَوْ يَكُونُ التراب أو السماد قَدْ سَقَطَ فِي الْأَرْضِ وَاسْتُعْمِلَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْأَرْضِ فَبَيَاضُ الْأَرْضِ الَّذِي بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تُبَاعَ الْأَرْضُ فَيَتْبَعُهَا الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ وَبَيْنَ أَنْ يُبَاعَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ فَلَا تَتْبَعُهُمَا الْأَرْضُ. إِنَّ الْأَرْضَ أَصِلٌ وَالْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ فَرْعٌ فَإِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ جَازَ أَنْ يَتْبَعَهَا فَرْعُهَا، وَإِذَا بِيعَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ لَمْ تَتْبَعْهُ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَرْضِ قَرَارًا لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فَفِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ إِلَّا بِهِ فَخَالَفَ بَيَاضَ الْأَرْضِ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا قَالَ بِعْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ فَالْبَيْعُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَرْضِ وَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الشَّجَرُ وَالْغِرَاسُ وَالنَّخْلُ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَصْلٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ لِأَنَّ اسْمَ الْبُسْتَانِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ حَتَّى تَكُونَ ذَاتَ نَخْلٍ وَشَجَرٍ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبُسْتَانِ بِنَاءٌ كَانَ كَقَوْلِهِ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْبِنَاءِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَلَا يَخْلُو مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَإِنْ قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ دخل في البيع سود الْقَرْيَةِ كُلُّهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْحَمَّامَاتِ وَمَا فِي خِلَالِ الْمَسَاكِنِ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَزَارِعُهَا وَلَا أَرْضُهَا وَلَا بَسَاتِينُهَا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مَا اخْتَلَطَ بِبُنْيَانِهَا وَمَسَاكِنِهَا وَمَا كَانَ مِنْ أَفْنِيَةِ الْمَسَاكِنِ وَحُقُوقِهَا دُونَ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ دَارًا وَقَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَطْلَقَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّارُ مِنْ بِنَاءٍ وَسُقُوفٍ وَسُفْلٍ وَعُلُوٍّ وَكُلِّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبُنْيَانِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا مِنَ الْأَبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَالْأَجْنِحَةِ وَالْمَيَازِيبِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَعَ ذَلِكَ مَا كَانَ دَاخِلًا وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ خَارِجًا. وَلِأَجْلِهِ احْتَرَزَ الشُّرْطِيُّونَ فِي كَتْبِ الْوَثَائِقِ فَقَالُوا وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا. وَهَذَا مَذْهَبٌ ظَهَرَ فَسَادُهُ بِإِجْمَاعِ الْكَافَّةِ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاتِّصَالِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُمَا مِنْ آلَةٍ وَقُمَاشٍ وَدَلْوٍ وَبَكَرَةٍ فَكُلُّهُ خَارِجٌ عَنِ الْبَيْعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وَقَالَ زفر: كُلُّ مَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ آلَةٍ وَقُمَاشٍ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَجَمِيعُهُ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ وَلِأَجْلِهِ احْتَرَزَ الشُّرْطِيُّونَ فِي كُتُبِهِمْ فَقَالَ: وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا. وَهَذَا أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ مَذْهَبِ أبي حنيفة، وَلَوْ جَازَ دُخُولُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لِجَازَ دُخُولُ مَا فِي الدَّارِ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ وَمَاشِيَةٍ وَطَعَامٍ وَمَا أَحَدٌ قَالَ بِهَذَا تَعْلِيلًا بِالِانْفِصَالِ. وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا وَكَذَا كُلُّ مَا فَصَلَ مِنْ أَدِلَّةِ الْبِنَاءِ مِنْ آجُرٍّ وَخَشَبٍ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ أَوْ كَانَتْ أَبْوَابًا فَلَمْ تُنْصَبْ فَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهِ. فَأَمَّا السُّلَّمُ وَدَرَجُ الْخَشَبِ فَإِنْ كَانَتْ مُثَبَّتَةَ الطَّرَفَيْنِ دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِالْبُنْيَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً تُرْفَعُ وَتُوضَعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهَا عَنِ الْبُنْيَانِ. وَكَذَا الرفوف فإن كانت مبينة أَوْ مُسَمَّرَةً دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، وَهَكَذَا الْإِغْلَاقُ وَالْإِقْفَالُ مَا كَانَ مِنْهَا مُنْفَصِلًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ وَمَا كَانَ مِنْهَا مُتَّصِلًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَفِي دُخُولِهِ مِفْتَاحَهُ وَجْهَانِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا مَعَ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِمُتَّصِلٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْفَصِلٌ. وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ دُكَّانًا عَلَيْهِ دُرُبَاتٌ تُغْلَقُ بِهَا يُرِيدُ بِهِ أَلْوَاحُ الدُّكَّانِ فَمَا كَانَ مُتَّصِلًا مِنْهَا بِالْحَائِطِ مِنَ الْجَنْبَيْنِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ، وَفِي دُخُولِ الْأَلْوَاحِ الْمُنْفَصِلَةِ وجهان وكذا التثور الْمَبْنِيُّ دَاخِلٌ فِي الْمَبِيعِ وَفِي دُخُولِ رَأْسِهِ وَجْهَانِ، وَهَكَذَا السَّفِينَةُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ آلتها ما كان متصلا وفي دخول مالا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ آلَتِهَا الْمُنْفَصِلَةِ وَجْهَانِ. فَأَمَّا الْحَبَابُ الْمَدْفُونَةُ فَإِنْ كَانَ دَفَنَهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا على التأبيد كحباب الزياتين، والبرازين، وَالدَّهَانِينَ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ دَفَنَهَا اسْتِيدَاعًا لَهَا فِي الْأَرْضِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ حِجَارَةِ الْأَرْضِ مَا كَانَ مَبْنِيًّا وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا. فَأَمَّا إِنِ اتَّصَلَ بِالدَّارِ حُجْرَةٌ أَوْ سَاحَةٌ أَوْ رَحْبَةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الدَّارِ الَّتِي لَا تَمْتَازُ الدَّارُ عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا بِهَا وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا بِذِكْرِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ حُدُودٍ فِي الْغَالِبِ فَإِنِ اسْتَوْفَى ذِكْرَهَا صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ ذَكَرَ مِنْهَا حَدًّا أَوْ حَدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ وَأَغْفَلَ الرَّابِعَ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ لَا تَتَمَيَّزُ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ. وَإِنْ تَمَيَّزَتْ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لِحُصُولِ الِامْتِيَازِ، وَفِيهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْبَيْعَ بِإِغْفَالِ ذِكْرِهِ بَاطِلٌ. فَأَمَّا إِنِ اتَّصَلَ بِالدَّارِ سَابَاطٌ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حُدُودِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا تَدْخُلُ الْحُجْرَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالدَّارِ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنِحَةُ وَالْمَيَازِيبُ. والوجه الثالث: وهو تخريج أبي الغياض أَنْ تَعْتَبِرَ حَالَ الْأَجْذَاعِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَطْرُوحًا عَلَى حَائِطٍ لِهَذِهِ الدَّارِ دَخَلَ السَّابَاطُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ تَبَعٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ مَطْرُوحًا عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَيْسَ بِمَبِيعٍ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ عَبْدًا وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ أَمَةٌ وَعَلَيْهَا جِلْبَابُهَا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَى الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ مِنْ ثِيَابٍ وَحُلِيٍّ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَدٌ قَدْ مَلَكَتْ. وَقَالَ قَوْمٌ بَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ جَمِيعِ مَا عَلَيْهَا قَدْرُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمَبِيعِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلا أن يشتري الْمُبْتَاعُ " وَلَوْ وَجَبَ قَدْرُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ لَلَزِمَ قَدْرُ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ. فَصْلٌ: وَإِذَا ابْتَاعَ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجٌ وَلِجَامٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ آلَتِهَا كَالْحَبْلِ وَالْمِقْوَدِ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ قَوْمٌ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْحَبْلُ وَالْمِقْوَدُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِهِ، لَكِنْ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّابَّةِ النِّعَالُ الْمُسَمَّرَةُ فِي أَرْجُلِهَا لِأَنَّهَا كَالْمُتَّصِلِ وَهِيَ بِخِلَافِ الْقُرْطِ فِي الْأُذُنِ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ نِعَالَ الدَّابَّةِ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْقُرْطُ لَا يُلْبَسُ لِلِاسْتِدَامَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ابْتَاعَ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي جَوْفِهَا لُؤْلُؤَةً أَوْ جَوْهَرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْكَنْزُ الْمَدْفُونُ فِي الدَّارِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي اللُّؤْلُؤَةِ أو الجوهرة فإن كان فيه أَثَرُ مِلْكٍ مِنْ ثُقْبٍ أَوْ صَنْعَةٍ فَهِيَ لُقَطَةٌ لَا تُمْلَكُ لِلصَّيَّادِ الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرُ مِلْكٍ مِنْ ثُقْبٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلصَّيَّادِ الْبَائِعِ كَمَا يَمْلِكُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَعْدِنِهِ، لِأَنَّ الْحُوتَ وَالسَّمَكَ قَدْ يَمُرُّ بِمَعَادِنِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَرُبَّمَا ابْتَلَعَ شَيْئًا مِنْهُ. لَكِنْ لَوِ ابْتَاعَ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي جَوْفِهَا سَمَكَةً كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْبَيْعِ وَمَلِكَهَا الْمُشْتَرِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّمَكَةِ تَكُونُ فِي جَوْفِ السَّمَكَةِ وَبَيْنَ اللُّؤْلُؤَةِ: أَنَّ السَّمَكَةَ قَدْ تَغْتَذِي بِالسَّمَكِ فَصَارَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَغْذِيَتِهِ وَمَحْكُومٌ بِهِ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ. وَهَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ طَائِرًا فَوَجَدَ فِي جَوْفِهِ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مِنْ أَغْذِيَتِهِ، وَلَوْ وَجَدَ فِي جَوْفِهِ خَاتَمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُؤْكَلُ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ الْمَوْجُودُ فِي جَوْفِ الطَّائِرِ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُمَا يُؤْكَلَانِ مَيِّتَيْنِ لَكِنْ بَعْدَ الْغَسْلِ لِنَجَاسَتِهِمَا بِمَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ، وَلَوْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِ الْحُوتِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَمَا فِي جوف الطائر نجس. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ يُتْرَكُ حَتَّى يُحْصَدَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ يُحْصَدُ مَرَّةً وَيُؤْخَذُ دُفْعَةً كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْبَاقِلَّا وَالْكَتَّانِ فَهُوَ لِلْبَائِعِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْغَرْسِ الْمَوْضُوعِ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يُوضَعُ لِلِاسْتِدَامَةِ وَإِنَّمَا يُزْرَعُ لِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْمَتَاعِ الْمُودَعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ فَالثَّمَرَةُ قَبْلَ التأبير تستبقى لتكامل المنفعة ثم تجتنا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ فَهَلَّا كَانَ الزَّرْعُ مِثْلَهَا؟ . قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الثَّمَرَةَ حَادِثَةٌ من خلفة الْأَصْلِ الْمَبِيعِ، وَالزَّرْعُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ وَقَدْ فُرِّقَ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ مَا كان من خلفه الْأَصْلِ فَيَكُونُ تَبَعًا، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مُسْتَوْدَعًا فِي الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ وَجَدَ فِيهَا مَعْدِنًا كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ خِلْقَةٌ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالزَّرْعِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ: فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالزَّرْعِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ ابْتَاعَهَا عَنْ رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَلَمْ يَرَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الزَّرْعَ عَيْبٌ لِمَنْعِهِ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ. فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ فَلِلْبَائِعِ تَرْكُ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ كَمَا يَكُونُ لَهُ تَرْكُ مَا أَبَّرَ مِنَ الثَّمَرِ إِلَى وَقْتِ جِدَادِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فِي تَرْكِهِ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ مِلْكِهِ، مَا احْتَاجَ الزَّرْعُ إِلَى سَقْيٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي التَّمْكِينُ مِنْهُ وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَتُهُ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَوَّلِ أَوْقَاتِ اسْتِحْصَادِهِ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَحْصُدَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَرْكِهِ اسْتِزَادَةً فِي صَلَاحِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْحَصَادِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلزَّرْعِ عُرُوقٌ مُضِرَّةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَتْ لِلزَّرْعِ عُرُوقٌ مُضِرَّةٌ كَانَ عَلَى الْبَائِعِ قَلْعُهَا وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ بِهَا إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي. فَلَوْ جَزَّ الْبَائِعُ زَرْعَهُ قَبْلَ وَقْتِ حَصَادِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ بَعْدَ قَلْعِ الْعُرُوقِ الْمُضِرَّةِ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ الْأَرْضِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مَا كَانَ صَلَاحًا لِذَلِكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 الزَّرْعِ، فَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الزَّرْعِ بَعْدَ جِزَازِهِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ فَزَرَعَهَا مَا يُحْصَدُ فِي خَمْسَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً، وَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لَوْ جُزَّ قَبْلَ حَصَادِهِ قَوِيَ أَصْلُهُ وَاسْتَخْلَفَ وَفَرَّخَ كَالدُّخْنِ فَجَزَّهُ قَبْلَ حَصَادِهِ كَانَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ الْأَصْلِ الْبَاقِي إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الزَّرْعِ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِبْقَاءُ مَا اسْتُخْلِفَ وَفَرَّخَ بَعْدَ الْحَصَادِ لِأَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الزَّرْعِ، وَعَلَى الْبَائِعِ قَلْعُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَمْلِكُ أَصْلَ الْقَتِّ الَّذِي يُجَزُّ مِرَارًا، لِأَنَّ الْقَتَّ أَصْلٌ ثَابِتٌ وَالزَّرْعُ فَرْعٌ زَائِلٌ وَاسْتِخْلَافُ بَعْضِهِ نَادِرٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً وَشَرَطَ دُخُولَ الزَّرْعِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اشْتَدَّ وَبَلَغَ الْحَصَادَ أَوْ لَا. - فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَالَ الْحَصَادِ وَكَانَتْ بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الزَّرْعِ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فُقِدَ الْغَرَرُ بِهِ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِيهِ وَصَارَ كَالثَّمَرَةِ التي لم يبدو صَلَاحُهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ نَخْلِهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْقَطْعُ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدِ اشْتَدَّ وَاسْتُحْصِدَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدَ الْحَبِّ لَيْسَ دُونَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالشَّعِيرِ فَالْبَيْعُ فِيهِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ هَذَا الزَّرْعِ مُنْفَرِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ تَبَعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ غَيْرَ مُشَاهَدِ الْحَبِّ بِكِمَامٍ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ فَفِي بَيْعِهِ لَوْ كَانَ مُفْرَدًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا بَيْعُهُ مَعَ الْأَرْضِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ. وَالثَّانِي: بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لغيره جاز فقد رؤيته وجها له قَدْرِهِ كَأَسَاسِ الْبِنَاءِ وَلَبَنِ الضَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْأَسَاسِ وَاللَّبَنِ. فَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الزَّرْعِ فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ قَوْلَانِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَهُ فِي الْأَرْضِ قَوْلًا وَاحِدًا لِلْجَهْلِ بِحِصَّةِ مَا قَابَلَ الزَّرْعَ الْمَجْهُولَ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا في تعليل تفريق الصفقة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ زَرْعًا يُجَزُّ مِرَارًا فَلِلْبَائِعِ جَزَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا بَقِيَ فَكَالْأَصْلِ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّرْعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: - ضَرْبٌ يُجَزُّ مَرَّةً فَيَذْهَبُ أَصْلُهُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. - وَضَرْبٌ يُجَزُّ مِرَارًا وَهُوَ بَاقِي الْأَصْلِ كَالْقَتِّ وَالْأُشْنَانِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْبُقُولِ. فَإِذَا بِيعَتْ أَرْضٌ فِيهَا مِنْهُ، كَانَ مَا ظَهَرَ مِنْ نَبَاتِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْبَيْعِ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْبَاقِي تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَهَلْ يُنْتَظَرُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ نَبَاتِهِ تَنَاهِي جِزَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَظِرُ بِهِ تَنَاهِي الْجِزَازِ. وَالثَّانِي: لَا يُنْتَظَرُ بِهِ بَلْ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ إِلَّا فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ النَّوْعُ مِنَ الزَّرْعِ بَذْرًا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ فَمَنِ انْتَظَرَ فَمَا ظَهَرَ مِنْهُ تَنَاهِي الْجِزَازِ جَعَلَ مَا ثَبَتَ مِنْ هَذَا الْبَذْرِ أَوَّلَ جَزِّةٍ لِلْبَائِعِ وَمَنْ لَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ التَّنَاهِي وَجَعَلَ حَقَّ الْبَائِعِ مَقْصُورًا عَلَى مَا ظَهَرَ جَعَلَ الْبَذْرَ وَجَمِيعَ مَا يَظْهَرُ مِنْ نَبَاتِهِ لِلْمُشْتَرِي. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ وَمَا تُؤْخَذُ ثَمَرَتُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَكِنْ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِ إِذَا بِيعَتِ الْأَرْضُ وَهُوَ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الشَّجَرِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ مِنْ ثَمَرَتِهِ مَا قَدْ ظَهَرَ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَصْلُ الْبَاقِي وَمَا يَظْهَرُ لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ لَا تُوجَدُ دُفْعَةً فَصَارَ بِالشَّجَرِ أَشْبَهُ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الزَّرْعِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ أَصْلُهُ وَثَمَرُهُ، لِأَنَّهُ زَرْعُ عَامٍ واحد ولو تَفَرَّقَ لُقَاطُ ثَمَرِهِ، وَالشَّجَرُ مَا بَقِيَ أَعْوَامًا فَأُلْحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ مَا بَقِيَ أَعْوَامًا كَالْعَلَفِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا عَامًا وَاحِدًا كَالزَّرْعِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَوْزُ فَأَصْلُهُ لَا يُحْمَلُ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَمُوتُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَكَانَهُ فَرْخًا يَحْمِلُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ سَنَتِهِ، وَالْفَرْخُ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ كَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَبٌّ قَدْ بَذَرَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ أَحَبَّ نَقْضَ الْبَيْعِ أَوْ تَرْكَ الْبَذْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُحْصَدَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا فِيهَا بَذْرٌ لِزَرْعٍ لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ أَصِلٌ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَالْبَذْرُ لِلْبَائِعِ خَارِجٌ مِنَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ لِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِلِاسْتِدَامَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فَإِنْ أَقَامَ كَانَ الْبَذْرُ مَقَرًّا فِي الْأَرْضِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ بَيْعُ الْأَرْضِ الْمَبْذُورَةِ أَوِ الْمَزْرُوعَةِ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ فِي الْحَالَيْنِ مُسْتَحَقَّةٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمَشْغُولَةَ بِزَرْعِ الْبَائِعِ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ يَدٌ مَانِعَةٌ فَصَحَّ بَيْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَالْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهَا؛ لِأَنَّ عليها للمستأجر يد مَانِعَةً فَبَطَلَ بَيْعُهَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ. فَلَوْ شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ دُخُولُ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ حَالَ الْبَذْرِ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ عَلِمَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فَعَلَى هَذَا إِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْبَذْرِ فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ فَعَلَى الْبَائِعِ نَقْلُهَا وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ عَلَى حَالِهَا لَا يَتْرُكُهَا حُفَرًا وَلَوْ كَانَ غَرَسَ عَلَيْهَا شَجَرًا فَإِنْ كَانَتْ تُضِرُّ بِعُرُوقِ الشَّجَرِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضِرُّ بِهَا وَيَضُرُّهَا إِذَا أَرَادَ قَلْعَهَا قِيلَ لِلْبَائِعِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ إِنْ سَلَّمْتَهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ أَبَيْتَ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الرَّدِ أَوْ يَقْلَعُهُ وَيَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ عَلَيْكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ابْتَاعَ أَرْضًا فَظَهَرَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً فِي الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُسْتَوْدَعَةً فِيهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَخْلُوقَةً فِي الْأَرْضِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ قَرَارُ الْأَرْضِ وَطِينُهَا، ثُمَّ لَا يخلو حالها إذا كانت مخلوقة من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ مُضِرَّةً بِالْأَرْضِ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ جَمِيعًا فَهَذَا عَيْبٌ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَبِيعَةً لِغَيْرِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ غَيْرَ مُضِرَّةٍ بِالْغِرَاسِ وَلَا بِالزَّرْعِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وَجْهِ الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا عِرْقُ زَرْعٍ وَلَا غَرْسٍ فَلَيْسَ هَذَا بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ مُضِرَّةً بِالْغِرَاسِ لِوُصُولِ عُرُوقِهِ إِلَيْهَا وَغَيْرَ مُضِرَّةٍ بِالزَّرْعِ لِبُعْدِ عُرُوقِهِ مِنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ عَيْبٌ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ بَعْضَ منافعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ تَصْلُحُ لِلْغَرْسِ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ دُونَ الْغَرْسِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا لِكَمَالِ الْمَنْفَعَةِ بِأَحَدِهِمَا، كَذَلِكَ مَا وُجِدَ فِيهَا مَانِعًا مِنَ الْغَرْسِ دُونَ الزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا خِيَارَ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُرْصَدَةً لِلزَّرْعِ أَوْ بَعْضُهَا لِلْغَرْسِ وَبَعْضُهَا لِلزَّرْعِ فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَلَا خِيَارَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ مُرْصَدَةً لِلْغَرْسِ فَهَذَا عَيْبٌ وَفِيهِ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعُرْفَ الْمُعْتَادَ يَجْرِي فِي الْعُقُودِ مَجْرَى الشَّرْطِ وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْوَجْهَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلَا يَكُونُ فِي الْجَوَابِ اخْتِلَافٌ، لَكِنْ ذَكَرْتُ مَا حَكَى وَبَيَّنْتُ مَا اقتضته الدلالة عندي. فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً فِي الْأَرْضِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِدَامَةِ كَالْبِنَاءِ الظَّاهِرِ، وَغَالِبُ الْحَالِ فِيمَا بُنِيَ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بِغَرْسٍ وَلَا زَرْعٍ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِبُنْيَانِهِ فِي مُسِنَّاتِ الْأَرْضِ وَمَشَارِبِهَا وَمَجَارِي مِيَاهِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُضِرَّةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بِخِلَافِ الْعُرْفِ فِي مَوْضِعٍ مُضِرٍّ بِالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ عَلَى مَا مَضَى إِلَّا أَنْ يَسْهُلَ قَلْعُهَا لِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فَلَا خِيَارَ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ مُسْتَوْدَعَةً فِي الْأَرْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ مَا أُودِعَ فِي الْأَرْضِ لِلْحِرْزِ وَلَمْ يُوضَعْ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالتَّأْبِيدِ فَهُوَ كَالْكَنْزِ الْمَدْفُونِ يَكُونُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحِجَارَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا وَقَلْعُهَا مُضِرًّا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا مُضِرًّا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ وَتَرَكُهَا مُضِرًّا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ لِبُعْدِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ، وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَرْضِ غِرَاسٌ وَلَا زَرْعٌ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ، وَعَلَى الْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ وَيُؤْخَذُ الْبَائِعُ بِقَلْعِهَا، فَإِذَا قَلَعَهَا، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْقَلْعِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ قَلْعِهَا مُسْتَثْنًى كَمَا نُقِرُّ ثَمَرَةَ الْبَائِعِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ بَقَائِهَا مُسْتَثْنًى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ اعْتُبِرَ زَمَانُ الْقَلْعِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِتَفْوِيتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَنْفَعَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحُ حُفَرِهَا بِقَلْعِ الْحِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا عَلَى وجهين. أحدها: تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِتَفْوِيتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا مَلَكَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ القبض. والثاني: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُفَوَّتَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِيَدِ الْبَائِعِ عَلَى الْأَرْضِ. فَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحُ حُفَرِهَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ وَجْهًا وَاحِدًا، لَكِنْ يَجِبُ بِذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَطَعَ الْبَائِعُ يَدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجِبْ لِلْمُشْتَرِي أَرْشٌ لَكِنْ يَسْتَحِقُّ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقَبْضِ لَزِمَتْهُ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فقطع البائع يده فليس الْأَرْشُ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِحُدُوثِ النَّقْصِ فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا لِقُرْبِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ وَقَلْعُهَا مُضِرًّا لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غِرَاسٍ وَزَرْعٍ فَلَا يَخْلُو حال المشتري من ثلاثة أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ وَلَا بِضَرَرِهَا أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِضَرَرِهَا. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الْقَلْعِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعِيبِ يَمْنَعُ مِنَ الْخِيَارِ وَالْعِلْمَ بِالْحِجَارَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحِجَارَةِ وَبِضَرَرِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ لِأَجْلِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ وَالنَّقْصِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مُسْتَحِقَّةً عَلَى مَا مَضَى وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الزَّمَانِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا أُجْرَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحِجَارَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِضَرَرِهَا اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالضَّرَرِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِنْ أَقَامَ لِعِلْمِهِ بِالْحِجَارَةِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَجْعَلُ زَمَانَ قَلْعِهَا مُسْتَثْنًى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 وَعَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ إِقْرَارُ الْحِجَارَةِ فِي الْأَرْضِ إِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَيْعِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ لِبُعْدِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَقَلْعُهَا مُضِرٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غِرَاسٍ وَزَرْعٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَالِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ فَلِلْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا أُجْرَةَ لِأَجْلِ عِلْمِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَرَسَ عَلَيْهَا، أَوْ زَرَعَ كَانَ لِلْبَائِعِ قَطْعُ غَرْسِهِ وَزَرْعِهِ لِيَصِلَ إِلَى قَلْعِ حِجَارَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَالِ قِيلَ لِلْبَائِعِ تَسْمَحُ بِتَرْكِ الْحِجَارَةِ فَإِنْ سَمَحَ بِهَا لَزِمَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِمَا لِيَثْبُتَ لَهُ الْفَسْخُ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ هِبَةٌ وَالْهِبَةُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا. قِيلَ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِتَرْكِهَا الْهِبَةَ حَتَّى لَا يَلْزَمَ قَبُولُهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِتَرْكِهَا إِسْقَاطُ الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا يَلْحَقُهُ بِالْقَلْعِ فَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْهِبَةِ وَسَقَطَتْ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ وَالْمِنَّةُ ثُمَّ لَيْسَ لِلْبَائِعِ إِذَا سَمَحَ بِهَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ وَجَدَ من المشتري القبول أم لَا؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الرُّجُوعُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبُولَ. وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ أُرِيدُ قَلْعَهَا وَلَسْتُ أَسْمَحُ بِهَا. قِيلَ لِلْمُشْتَرِي هَذَا عَيْبٌ تَسْتَحِقُّ بِهِ الخيار فإن فسخ رجع بالثمن، وإن أقام لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ الَّتِي يَضُرُّ بِهَا قَلْعُ الْحِجَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَرْسٌ مُتَقَدَّمٌ قَدْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا غَرْسٌ قَدِ اسْتَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ، أَوْ يَكُونُ فِيهَا زَرْعٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرْسٌ مُتَقَدَّمٌ قَبْلَ الْبَيْعِ يَضُرُّ بِهِ قَلْعُ الْحِجَارَةِ. فَلِلْبَائِعِ قَلْعُ حِجَارَتِهِ وَيَنْظُرُ فَإِنْ قَلَعَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ وَإِنْ طَالَتْ، وَأَرْشُ مَا نَقَصَ الْغَرْسُ بِالْقَلْعِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشُ نَقْصِ الْغَرْسِ، وَلَا تَسْوِيَةِ الْأَرْضِ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْغَرْسُ قَدِ اسْتَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبَيْعِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَنُلْزِمُهُ الْأُجْرَةَ وَنَقْصَ الْغَرْسِ وَتَسْوِيَةَ الْأَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعُ تَرْكَ حِجَارَتِهِ إِلَى مُضِيِّ مُدَّةِ الْغِرَاسِ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَزَرْعُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ الْأَرْضِ وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ حِجَارَتِهِ إِلَى مُضِيِّ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ زَرْعٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ قبل حصاده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرْسِ أَنَّ الْغَرْسَ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِدَامَةِ وَلَيْسَ لِمُدَّتِهِ حَدٌّ وَغَايَةٌ، وَالزَّرْعُ مَوْضُوعٌ للأخذ ولمدته غاية وحد، فَإِذَا حَصَدَ الْمُشْتَرِي زَرْعَهُ قَلَعَ الْبَائِعُ حِينَئِذٍ حِجَارَتَهُ وَلَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُضِرًّا لِقُرْبِهَا مِنْ عُرُوقِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ وَقَلْعُهَا غَيْرَ مُضِرٍّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا غِرَاسٌ وَلَا زَرْعٌ فَالْبَائِعِ فِي هَذَا مَجْبُورٌ عَلَى قَلْعِ الْحِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ مَأْخُوذٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، ثُمَّ الْقَوْلُ فِي الْأُجْرَةِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ عَلَى مَا مَضَى إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَفِي الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ: وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْحِجَارَةِ مُضِرًّا بِالْغِرَاسِ دُونَ الزَّرْعِ لَزِمَ الْبَائِعَ قَلْعُهَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْحِجَارَةِ الْمَخْلُوقَةِ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ الْمُسْتَوْدَعَةَ تَدْلِيسٌ مِنَ الْبَائِعِ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، وَالْمَخْلُوقَةُ بِخِلَافِهِ. وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 بَابٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صلاحه مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهي قِيلَ يا رسول الله وما تزهي؟ قال: " حتى تحمر ". وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابن عمر " حتى يبدو صلاحها " وروى غيره " حتى تنجو من العاهة " (قال) فبهذا نأخذ وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا منع الله جل وعز الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " دلالة على أنه إنما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الثمرة التي تترك حتى تبلغ غاية إبانها لا أنه نهى عما يقطع منها وذلك أن ما يقطع منها لا آفة تأتي عليه تمنعه إنما يمنع ما يترك مدة يكون في مثلها الآفة كالبلح وكل ما دون البُسر يحل بيعه على أن يقطع مكانه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْمَاضِي الْحُكْمَ فِي بَيْعِ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَفَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ مَعَ النَّخْلِ وَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ، أَوْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ. فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ فَلَا يَخْلُو حَالُ بَيْعِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُبَاعَ بَيْعًا مُطْلَقًا. فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ وَالتَّرْكِ فَبَيْعُهَا بَاطِلٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهي، قِيلَ وَمَا تُزْهِي قَالَ حَتَى تَحْمَرَّ ". وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَى تُشْقِحَ، قِيلَ وَمَا تُشْقِحُ، قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ " وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من الْعَاهَةِ ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ تَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَأَلَفَاظُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَمَعَانِيهَا مُتَّفِقَةٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ الْمَعْنَى وَعَبَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا مِثْلُ هَذَا أَنْ يُعَبِّرَ الرَّاوِي عَنِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ بَيْعِهَا لِأَنْ تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ، وَأَنْ لَا تَعْطَبَ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ مِلْكَ أَخِيهِ. وَكَانَ اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا يُؤْمَنُ مَعَهُ عَطَبُهَا وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ بِهَا صَحَّ الْبَيْعُ. فَلَوْ سَمَحَ الْبَائِعُ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الثَّمَرَةِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ جَازَ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَوْ طَالَبَهُ بِالْقَطْعِ لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تُبَاعَ بَيْعًا مُطْلَقًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّبْقِيَةُ وَالتَّرْكُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَطْعُ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة الْبَيْعُ جَائِزٌ وَيُؤْخَذُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِهَا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْقَطْعِ لِأَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرِ وَالتَّسْلِيمُ لَا يَتِمُّ بِالْقَطْعِ، وَإِذَا كَانَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ فِيهَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَطْعِهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَ تَعْجِيلَ الْقَطْعِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَكَذَا مَعَ إِطْلَاقِ الْعَقْدِ الْمُقْتَضِي تَعْجِيلَ القطع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 قَالَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ عَلَى الْقَطْعِ لِيَصِحَّ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّبْقِيَةِ لِيَفْسُدَ. وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ تَرْكُهَا فَجَازَ بَيْعُهَا كَالْمَشْرُوطِ قَطْعُهَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ جَازَ بَيْعُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ بَيْعُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْبَادِيَةِ الصَّلَاحِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْخَمْسَةِ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَعْهُودِ مِنَ الْبَيْعَاتِ، وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْبَيْعِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ دُونَ تَقَيُّدِهِ بِالشَّرْطِ فَصَارَ النَّهْيُ بِالْعُرْفِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْمُقَيِّدِ. وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي أَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ عَلَى شَرْطِ التَّرْكِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لِجَوَازِهِ إِجْمَاعًا، وَلَا عَلَى شَرْطِ التَّرْكِ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ مُطْلَقًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ. وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ وَالتَّرْكَ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْقَبْضِ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ، وَالْعُرْفَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُؤْخَذَ وَقْتَ الْجِدَادِ فَصَارَ الْمُطْلَقُ كَالْمَشْرُوطِ تَرْكُهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ تَرْكِهَا مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فَكَذَا إِطْلَاقُ عَقْدِهَا الَّذِي يَجْرِي بِالْعُرْفِ مَجْرَى اشْتِرَاطِ تَرْكِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ. وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِفْرَادُ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قَطْعِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قطعها فهو أنها دعوى تخالف فِيهَا وَلَيْسَ التَّسْلِيمُ بِالْقَطْعِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ بِرَفْعِ الْيَدِ وَالتَّمْكِينِ. وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُهُ ثُمَّ يَعْتَبِرُ حُكْمَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ قَطْعُهُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التُّرْكَ فَبَطَلَ، وَالْمُشْتَرَطُ قَطْعُهُ لَا يَقْتَضِي التَّرْكَ فَصَحَّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَدَا صَلَاحُهُ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مَطْرُوحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا بَدَا صَلَاحُهُ قَدْ نَجَا مِنَ الْعَاهَةِ وَجَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَلِذَلِكَ جَازَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْدُ صلاحه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَهُوَ يَمْلِكُ نَخْلَهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ بَيْعٌ مُتَقَدَّمٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ وَصِيَّةٌ فَهَلْ يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِي ابْتِيَاعِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْقَطْعُ فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ قَدْ أُفْرِدَتْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِهَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فِي الْمِلْكِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهَا مَعَ النَّخْلِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ مِنَ الثِّمَارِ فَلَا يَخْلُو بَيْعُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ القطع فيجوز بيعها إجماعا. والقسم الثَّانِي: أَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَلْزَمُ تَرْكُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: بَيْعُهَا بَاطِلٌ احْتِجَاجًا بِأَنَّهَا عَيْنٌ بِيعَتْ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهَا بَاطِلٌ كَالْعُرُوضِ وَالْأَمْتِعَةِ. وَلِأَنَّهَا ثَمَرَةٌ بِيعَتْ بِشَرْطِ الترك فوجب أن يكون بيعها باطل كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَدَلِيلُنَا: نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَجَعَلَ غَايَةَ النَّهْيِ بُدُوَّ الصَّلَاحِ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ التَّرْكِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. وَلِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْعُرْفِ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الثِّمَارِ تَرْكُهَا إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ وَهَذَا لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَكَذَا مَا وَافَقَهُ مِنَ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ مَبِيعُ شَرْطٍ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَبْضَ يَتَأَخَّرُ، لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الثِّمَارِ بِالتَّمْكِينِ مِنْهَا كَالْعَقَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُرْفُ فِي الثِّمَارِ تَأْخِيرُ قَبْضِهَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ فِيهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُرْفُ فِي الْعُرُوضِ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُهُ فِيهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَبِيعَهَا مُطْلَقًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلْمُشْتَرِي تَرَكُهَا إِلَى وَقْتِ الْجِدَادِ. وَقَالَ أبو حنيفة بَيْعُهَا جَائِزٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ، وَإِطْلَاقُهُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي التَّرْكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيْعِهِ إِذَا صَارَ أَحْمَرَ أَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 أصفر فقد أذن فيه إذا بدا في النُّضْجُ وَاسْتُطِيعَ أَكْلُهُ خَارِجًا مِنْ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ بَلَحًا وَصَارَ عَامَّتُهُ فِي تِلْكِ الْحَالِ يَمْتَنِعُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْعَاهَةِ لِغَلَظِ نَوَاتِهِ فِي عَامَّتِهِ وبُسره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الثَّمَرِ مَا يُؤْكَلُ. وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ بِقُوَّةِ الثَّمَرَةِ وَاشْتِدَادِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، فَبَدُوَّ الصَّلَاحِ فِي النَّخْلِ بِالِاحْمِرَارِ وَالِاصْفِرَارِ، وَفِي الْكَرْمِ بِالتَّمَوُّهِ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ وَمَا تُزْهِي، قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ. فَأَمَّا اعْتِبَارُهُ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ مِنَ الْبِلَادِ مَا يَتَعَجَّلُ طُلُوعَ الثُّرَيَّا فِيهِ وَيَتَأَخَّرُ صَلَاحُ ثَمَرِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَخَّرُ طُلُوعُ الثُّرَيَّا فِيهِ وَيَتَعَجَّلُ صَلَاحُ ثِمَارِهِ. وَلِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَعَجَّلُ صَلَاحَ ثِمَارِهِ فِي عَامٍ لِاشْتِدَادِ الْحَرِّ وَدَوَامِهِ وَيَتَأَخَّرُ فِي عَامٍ آخَرَ لِاشْتِدَادِ الْبَرْدِ وَدَوَامِهِ، وَطُلُوعُ الثُّرَيَّا لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ بِوُجُودِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ ثِمَارَ النَّخْلِ قَدْ تُؤْكَلُ طَلْعًا ثُمَّ تُؤْكَلُ بَلَحًا وَحَالًا، وَالْكَرْمُ قَدْ يُؤْكَلُ حِصْرِمًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَلَاحًا. وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَهُ بِالْقُوَّةِ وَالِاشْتِدَادِ فغالط لِأَنَّ قُوَّةَ الثِّمَارِ قَبْلَ صَلَاحِهَا فَإِذَا صَلَحَتْ لَانَتْ وَنَضِجَتْ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بُدُوَّ الصلاح بما ذكرنا فبدأ صلاح نخلة مِنْ حَائِطٍ كَانَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَى جَمِيعِ نَخْلِ الْحَائِطِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهِ مِنْ ثِمَارِ الْبَلَدِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَلَا بَيْعَ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ ثمار النخل التي لم يبد صلاحها. وقال مَالِكٌ: إِذَا بَدَا صَلَاحُ نَخْلَةٍ مِنْ حَائِطٍ جَازَ بَيْعُ ثِمَارِ الْبَلَدِ كُلِّهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِذَا بَدَا صَلَاحُ جِنْسٍ فِي ثِمَارِ الْحَائِطِ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ الَّتِي فِي الْحَائِطِ حَتَّى إِذَا بَدَا صَلَاحُ النَّخْلِ جَازَ بَيْعُ الْكَرْمِ وَالْفَوَاكِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ نَخْلَةٍ مِنْ حَائِطٍ كَصَلَاحِ جَمِيعِ الْحَائِطِ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَلَاحُ نَخْلِ حَائِطٍ مِنْ بَلَدٍ كَصَلَاحِ جَمِيعِ نَخْلِ الْبَلَدِ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ يَخْتَلِفُ فِيهِ وَاسْتَدَلَّ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمَيَّزِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ فِي الصَّلَاحِ إِجْمَاعًا خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي لَمْ تُمَيَّزِ الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الصَّلَاحِ حِجَاجًا وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ وَالثَّمَرَةُ لَا تَنْجُو مِنَ الْعَاهَةِ بِصَلَاحِ غَيْرِهَا حَتَّى تَصْلُحَ هِيَ فِي نَفْسِهَا. ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْحَائِطِ الْوَاحِدِ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ لِأَنَّهُ يَتَسَاوَى فِي الْغَالِبِ فِي السَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ الَّتِي يَتَعَجَّلُ الصَّلَاحُ بِهَا وَيَتَأَخَّرُ أَخَّرَ بِعَدَمِهَا وَثِمَارُ الْبَلَدِ كُلُّهُ لَا تَتَسَاوَى فِي السَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ بَلْ تَخْتَلِفُ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ زَمَانُ صَلَاحِهَا. وَيُقَالُ لِلَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَمَيُّزِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِارْتِفَاعِ الْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِزِهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تقرر ما وصفنا اعتبرت بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي ضَمِّ بَعْضِ الثِّمَارِ إِلَى بَعْضٍ بِمَا اعْتَبَرْتَ بِهِ التَّأْبِيرَ فِي ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ. فَإِذَا بَدَا صَلَاحُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ هَلْ يَكُونُ صَلَاحًا لِجَمِيعِ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ الْحَائِطِ فَأُفْرِدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ حَائِطَانِ فَبَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَبَاعَهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ واحد لزم اشتراط القطع فيما لم يبدو صَلَاحُهُ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ بَاعَهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بطل البيع فيما لم يبدو صَلَاحُهُ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيمَا بَدَا صَلَاحُهُ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ كُلُّ ثَمَرَةٍ مِنْ أَصْلٍ يُرَى فِيهِ أَوَّلُ النُّضْجِ لَا كِمَامَ عَلَيْهَا وَلِلْخِرْبِزِ نُضْجٌ كَنُضْجِ الرُّطَبِ فَإِذَا رُئِيَ ذَلِكَ فِيهِ حَلَّ بَيْعُ خِرْبِزِهِ وَالْقِثَّاءُ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهُ أَوْ عِظَمُ بَعْضِهِ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَلَاحَقَ صِغَارُهُ بِكِبَارِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ قَدْ يَخْتَلِفُ بحسب اختلاف الثمار وحملتها أَنَّهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِيهِ بِاللَّوْنِ وَذَلِكَ فِي النَّخْلِ بِالِاحْمِرَارِ وَالِاصْفِرَارِ، وَفِي الْكَرْمِ بِالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ وَالصَّفَاءِ وَالْبَيَاضِ، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ الْمُتَلَوِّنَةُ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ صلاحه بالصفرة كالمشمش منها مَا يَكُونُ بِالْحُمْرَةِ كَالْعُنَّابِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالسَّوَادِ كَالْإِجَّاصِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْبَيَاضِ كَالتُّفَّاحِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالطَّعْمِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحُلْوَةِ كَقَصَبِ السُّكَّرِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحُمُوضَةِ كَالرُّمَّانِ فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَرَارَةُ بِالْحَلَاوَةِ أَوِ الْحُمُوضَةِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالنُّضْجِ وَاللِّينِ كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ فَإِذَا لَانَتْ صَلَابَتُهُ فَقَدْ بدا صلاحه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالْقُوَّةِ وَالِاشْتِدَادِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِذَا بَدَتْ قُوَّتُهُ وَاشْتَدَّ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالطُّولِ وَالِامْتِلَاءِ كَالْعَلَفِ، وَالْبُقُولِ وَالْقَصَبِ فَإِذَا تَنَاهَى طُولُهُ وَامْتِلَاؤُهُ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُجَزُّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقِثَّاءُ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا يُرِيدُ أَنَّهُ يُخَالِفُ الثِّمَارَ كُلَّهَا الَّتِي لَا يَطِيبُ أَكْلُهَا إِلَّا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَالْقِثَّاءُ يَطِيبُ أَكْلُهُ صِغَارًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَلَا يَكُونُ اسْتِطَابَةُ أَكْلِهِ صَلَاحًا لَهُ حَتَّى يَتَنَاهَى كِبَرُهُ وَعِظَمُهُ لِأَنَّهُ عِنْدَ كِبَرِهِ يَنْجُو مِنَ الْعَاهَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ إِنَّ الْقِثَّاءَ يُؤْكَلُ صِغَارًا طَيِّبًا وَإِنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَصْدِ الشَّافِعِيِّ بِهِ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِانْشِقَاقِ كِمَامِهِ كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ، فَإِذَا انْشَقَّ جَوْزُ الْقُطْنِ، وَسَقَطَتِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا عَنْ جَوْزِ الْأَكْلِ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: مَا يَكُونُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ بِانْفِتَاحِهِ وَانْقِشَارِهِ كَالْوَرْدِ، وَالنَّيْلُوفَرِ فَإِذَا انْفَتَحَ الْقِسْمُ الْمُنْضَمُّ مِنْهُ وَانْقَشَرَ فَقَدْ بَدَا صَلَاحُهُ، وَوَرَقُ التُّوتِ فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِأَنْ يَصِيرَ كَأَرْجُلِ الْبَطِّ هَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَنْ تَنْتَهِيَ الثَّمَرَةُ أَوْ بَعْضُهَا إِلَى أَدْنَى أَحْوَالِ كَمَالِهَا فَتَنْجُوَ من العاهة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ يَجُوزُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُمَا وَيَكُونُ لِمُشْتَرِيهِمَا مَا ثَبَتَ أَصْلُهُمَا أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ مَا خَرَجَ مِنْهُمَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ وَكَيْفَ لَمْ يَجُزْ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِرْبِزِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُمَا كَمَا لَا يُحِلُّ بَيْعُ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَيُحِلُّ مَا لَمْ يُرَ وَلَمْ يُخْلَقَ مِنْهُمَا وَلَوْ جَازَ لِبُدُوِّ صَلَاحِهِمَا شِرَاءُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُمَا لَجَازَ لِبُدُوِّ صَلَاحِ ثَمَرِ النَّخْلِ شِرَاءُ مَا لَمْ يَحْمِلِ النَّخْلُ سِنِينَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا بَدَا صَلَاحُ مَا خَرَجَ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ وَوَجَبَ إِفْرَادُ الْعَقْدِ بِالْمَوْجُودِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شُرُوطَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةٌ بِالضَّرُورَةِ فَبُيُوعُ الْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ وُجُودِهَا لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَإِمْكَانِ بَيْعِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَالْإِجَارَةُ هِيَ بُيُوعٌ لِلْمَنَافِعِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ بَيْعِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، فَلَمَّا كَانَ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ يَتَعَذَّرُ بَيْعُهُ إِذَا خُلِقَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْأَوَّلِ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ تَبَعًا لِمَا خلق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُخْلَقْ تَبَعًا لما خلق في البيع. قال وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ كَالطُّولِ وَالْكِبَرِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ. وَدَلِيلُنَا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَهَذَا الْبَيْعُ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَبَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، بَيْنَ الرَّدَاءَةِ وَالْجَوْدَةِ. وَلِأَنَّ النَّخْلَ أَثْبَتُ مِنَ الْبِطِّيخِ أَصْلًا وَحَمْلَهُ أَقَلَّ مِنَ البطيخ خطرا فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ غَيْرِ النَّخْلِ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْبِطِّيخِ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهَا ثَمَرَةٌ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ فَوُجُوبُ إِذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَنْ لَا تَدْخُلَ فِيهِ بِالشَّرْطِ كَالنَّخْلِ لِأَنَّهُ لما لم يجز بيع ما لم يبدو صَلَاحُهُ مَعَ وُجُودِهِ وَقِلَّةِ غَرَرِهِ فَبَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ مَعَ عَدَمِهِ وَكَثْرَةِ غَرَرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ فَدَعْوَى يَرْفَعُهَا الْعَيَّابُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَا خُلِقَ وَبَيْعِهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا في الإجازة وَيُمْكِنُهُ بَيْعُ مَا خُلِقَ وَالسَّمَاحَةُ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا لم يبدو صَلَاحُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلَقْ يَكُونُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ فَالْجَوَابُ عنه أن ما لم يبدو صَلَاحُهُ لَمَّا جَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَنْضَمَّ فِي الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَمْ يُخْلَقْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ فِي الْعَقْدِ لم يجز أن يضم فِي الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَوْ شَرَطَ خُرُوجَهَا مِنَ الْبَيْعِ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ دُخُولِهَا فِي البيع مفسد للعقد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ دُونَهَا حَائِلٌ مِنْ قِشْرٍ أَوْ كِمَامٍ وَكَانَتْ إِذَا صَارَتْ إِلَى مَا يُكِنُّهَا أَخْرَجُوهَا مِنْ قِشْرِهَا وَكِمَامِهَا بِلَا فَسَادٍ عَلَيْهَا إِذَا ادَّخَرُوهَا فَالَّذِي اخْتَارَ فِيهَا أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا فِي شَجَرِهَا وَلَا مَوْضُوعَةً بالأرض للحائل وقياس ذلك على شراء لحم شاة مذبوحة عليها جلدها للحائل دون لحمها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الثِّمَارَ كُلَّهَا ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ بَارِزًا فِي شَجَرَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَالْكُمِّثْرَى فَبَيْعُهُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ جَائِزٌ قَائِمًا في شجره وبعد اجتنابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 وَضَرْبٌ يَكُونُ مَسْتُورًا بِقِشْرٍ وَكِمَامٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِقِشْرَتَيْنِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَوْعٌ لَا يَنْحَفِظُ إِلَّا بِقِشْرَةِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ ذَهَبَتْ رُطُوبَتُهُ وَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ وَأَسْرَعَ فَسَادَهُ كَالرُّمَّانِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَبِيعُ هَذَا فِي قُشُورِهِ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ مَنْفَعَتِهِ وَدَوَامِ مَصْلَحَتِهِ. وَنَوْعٌ يَنْحَفِظُ بِغَيْرِ قِشْرِهِ كَالْقُطْنِ وَالسِّمْسِمِ وَالْعَدَسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قِشْرِهِ لِأَنَّهُ حَائِلٌ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ فَإِذَا أَخْرَجُوهُ مِنْ قِشْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ فَيَتَنَوَّعُ أَيْضًا إِلَى نَوْعَيْنِ: - نَوْعٌ لَا يَبْقَى فِي رَطْبِهِ بِقِشْرَتَيْهِ نَفْعٌ وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُمَا كَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَالْجَوْزِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ يَابِسًا وَلَا رَطْبًا فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا جَازَ بَيْعُهُ بِالْقِشْرَةِ السُّفْلَى الَّتِي يُدَّخَرُ بِهَا لِأَنَّهُ يَنْحَفِظُ بِهَا. - وَنَوْعٌ يبقى في رطبه بقشرتيه وَيُؤْكَلُ مَعَهُمَا عُرْفًا كَالْبَاقِلَّى وَاللَّوْزِ الرَّطْبِ فَإِذَا يبس لم يجز بيعه في قشرتيه فقد اختلف أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِيهِمَا فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ رَطْبًا اعْتِبَارًا بِكَمَالِ نَفْعِهِ وَاسْتِطَابَةِ أَكْلِهِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ رَطْبًا كَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ يَابِسًا فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِيمَا كَانَ مِنَ الثِّمَارِ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ أَوْ كِمَامٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: كُلُّ قِشْرٍ أَوْ كِمَامٍ كَانَ سَاتِرًا لِلثَّمَرَةِ جَازَ بَيْعُهَا مَعَهُ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَصْلِهِ الْخَلَقَةُ فَجَرَى مَجْرَى أَجَلِ الثَّمَرَةِ. وَتَعْلِيقًا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ بِإِحْدَى قِشْرَتَيْهِ وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ جَازَ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ لِأَنَّ مَا كَانَتْ رُؤْيَتُهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِحَائِلٍ أَوْ حَائِلَيْنِ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَالْعُرُوضِ الْمَبِيعَةِ، وَمَا لَمْ تَكُنْ رُؤْيَتُهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِحَائِلٍ أَوْ حَائِلَيْنِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَالْمَنْكُوحَةِ. وَدَلِيلُنَا: نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِي بَيْعِهِ مَسْتُورًا بِقِشْرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ مَصْلَحَتِهِ غَرَرٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ خِلْقَتِهِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهِ كَلَحْمِ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ فِي جِلْدِهَا وَالْحِنْطَةِ فِي تَبْنِهَا وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي تُرَابِ مَعْدَنِهَا فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا بُيُوعًا فَاسِدَةً لِأَنَّهَا مَسْتُورَةٌ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِلْقَةِ أَصْلِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثِّمَارِ مثلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 وَقَدْ يُتَحَرَّزُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ فوجب أن مُبْطِلًا لِبَيْعِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَبِيعٌ يَبْطُلُ بِمَا يَسْتُرُهُ مِنْ غَيْرِ الْخِلْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِسَتْرِ مَا لَا مَصْلَحَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةَ كَاللَّحْمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْقِشْرَ مِنْ أَجْزَائِهِ فَفَاسِدٌ بِالْجِلْدِ وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُعْتَبِرَ بِرُؤْيَتِهِ الْأَجْزَاءُ الْمَقْصُودَةُ دُونَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيقِهِ بِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِإِحْدَى قِشْرَتَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا بِالْقِشْرَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّ إِحْدَى الْقِشْرَتَيْنِ مِنْ مَصْلَحَتِهِ وَفِي رُؤْيَتِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى جَوْدَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ جَوَازُ سَتْرِهِ بِحَائِلٍ مِنْ ثَوْبٍ فَكَذَا بالقشرة العليا التي هي بهذا الحكم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَأْخُذُ عُشْرَ الْحُبُوبِ فِي أَكْمَامِهَا وَلَا يُجِيزُ بَيْعَ الحنطة بالحنظة فِي سُنْبُلِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَأَنَا أُجِيزُ بَيْعَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ فِي تِبْنِهَا أَوْ فِضَّةٍ فِي تُرَابٍ بِالتُّرَابِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الزَّرْعِ بَقْلًا أَوْ فَصِيلًا قَبْلَ اشْتِدَادِهِ وَيَبْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَلَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَائِحِ وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. فَأَمَّا إِذَا اشْتَدَّ وَاسْتَحْصَدَ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يُبْرِزُ الْحَبُّ مِنْهُ بِغَيْرِ كِمَامٍ يَسْتُرُهُ كَالشَّعِيرِ جَازَ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ قَبْلَ دِيَاسَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ لِظُهُورِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَبُّ فِي كِمَامٍ يَسْتُرُهُ كَالْحِنْطَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ جَوَازُ بَيْعِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة وَوَافَقَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَبْسُوطِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ فِي سُنْبُلِهِ. وَدَلِيلُ مِنْ قَالَ بِجَوَازِ بَيْعِهِ: رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ ". فَجَعَلَ غَايَةَ النَّهْيِ أَنْ يَشْتَدَّ فَاقْتَضَى جَوَازُ بَيْعِهِ مِنْ بَعْدِ اشْتِدَادِهِ كَالْعِنَبِ إِذَا اسْوَدَّ. وَبِرِوَايَةِ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهَى وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ ". وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ تَعْلِيلٍ. وَلِأَنَّ بَقَايَا الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا إِبْقَاءٌ لَهَا وَأَمْنَعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 مِنْ فَسَادِهَا وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سنبله إلا قليلا مما تأكلون} وَإِذَا كَانَ بَقَاءُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا أَمْنَعُ مِنْ فَسَادِهَا جَرَى مَجْرَى الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ إِجْمَاعًا فَكَذَا الْحِنْطَةُ فِي سُنْبُلِهَا حِجَاجًا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ بِمَا يُصْلِحُهُ مِنْ أَصْلِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ فِيهِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ. وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ". وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا غَرَرٌ لِأَنَّهُ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَفْرَكَ " يَعْنِي بِفَتْحِ الرَّاءِ وَمَعْنَى الْفَرَكِ التَّصْفِيَةُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَى يَجْرِيَ فيه الصاعان " ولا يمكن أن يجري في الصَّاعُ إِلَّا بَعْدَ التَّصْفِيَةِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا يُدَّخَرُ غَالِبًا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَاطِلًا كَتُرَابِ الْفِضَّةِ وَالشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ. وَلِأَنَّ الْحِنْطَةَ بَعْدَ الدَّرْسِ فِي تِبْنِهَا أَقْرَبُ إِلَى تَصْفِيَتِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي سُنْبُلِهَا. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فِي أَقْرَبِ الْحَالَيْنِ إِلَى التَّصْفِيَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي أَبْعَدِهِمَا مِنَ التَّصْفِيَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يجز أخذ القشرة مِنْهَا إِذَا كَانَتْ فِي سُنْبُلِهَا لِلْجَهْلِ بِهَا وَالْقِشْرُ مُسَاوَاةٌ فَالْبَيْعُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ أَفْسَدُ بِالْجَهَالَةِ مِنَ الْمُسَاوَاةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ مَعَ تَفَرُّدِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِرِوَايَتِهِ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ غَايَةٌ قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهَا غَايَةً أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ يَفْرَكُ وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِغَايَتَيْنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُودِ إِحْدَاهُمَا حَتَّى يُوجَدَا مَعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فَكَانَ النِّكَاحُ غَايَةَ التَّحْرِيمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَحِلَّ بَعْدَهُ فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " صَارَتْ هَذِهِ غَايَةً ثَانِيَةً فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِهِمَا وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يحل بيعه أَنْ يَشْتَدَّ إِلَى أَنْ يُفْرَكَ فَلِمَ جُعِلَ غَايَةُ النَّهْيِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَشْتَدَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 قِيلَ إِنَّ النَّهْيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَايَتَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ الْغَايَةِ الْأُخْرَى فَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يَشْتَدَّ لِأَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ، وَعَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يَفْرَكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ بِفَقْدِ الرُّؤْيَةِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَهِيَ بَعْدَ الْحَمْلِ وَوُجُودِ الْحَيْضِ لَا تَحِلُّ حَتَّى تَغْتَسِلَ بَعْدَ مُضِيِّ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ إِلَّا أَنَّ النَّهْيَ الْأَوَّلَ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالنَّهْيَ بَعْدَهُ لِأَجْلِ الْأَذَى وَهَذَا أَصِلٌ فَلِهَذَا بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهِ وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَفَرُّدِ أَيُّوبَ بِرِوَايَتِهِ. أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ تَرْكَهُ السُّنْبُلَ إِبْقَاءً كَتَرْكِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ فَجَمْعٌ لَا يَسْلَمُ لِوُجُودِ الْفَرْقِ بِتَرْكِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ، وَتَصْفِيَةِ الْبُرِّ مِنْ سُنْبُلِهِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِيهَا اخْتَلَفَ حُكْمُ مَا مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِمَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْجَوْزِ قِشْرَتَانِ وَاحِدَةٌ فَوْقَ الْقِشْرَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا النَّاسُ عَنْهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَيْهِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُرْفَعَ بِدُونِ الْعُلْيَا وَكَذَلِكَ الرَّانِجُ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ فِي قِشْرَتَيْهِ مَعًا يَابِسًا كَانَ أَوْ رَطْبًا، فَإِذَا زَالَتِ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا جَازَ بَيْعُهُ بِالْقِشْرَةِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، وَكَذَلِكَ الرَّانِجُ وَهُوَ النَّارِجِيلُ يَكُونُ عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا وَإِذَا أُزِيلَتْ عَنْهُ جَازَ بَيْعُهُ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا. فَأَمَّا اللَّوْزُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَاقِلَّى عَلَيْهِ قِشْرَتَانِ فَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي قِشْرَتَيْهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ الْعُلْيَا ثُمَّ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِي قِشْرَتَيْهِ وَجْهَانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي بَيْعِ الْبَاقِلَّى الرَّطْبِ لِأَنَّ قِشْرَةَ اللَّوْزِ الْعُلْيَا يُسْتَطَابُ أَكْلُهَا مَعَ اللَّوْزِ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ لِمَزَازَةٍ فيها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ التَّمْرِ مُدًّا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمِ الْمُدِّ مِنَ الْحَائِطِ أَسَهْمٌ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ أَوْ مِنْ مِائَةٍ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَلَوِ اسْتُثْنِيَ رُبْعُهُ أَوْ نَخْلَاتٌ بِعَيْنِهَا فَجَائِزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ وَحَالُ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَيْعِ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَعْلُومًا وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُشَاعٌ وَمُجَوَّزٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 فَالْمُجَوَّزُ: أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ إلا ثمرة هذه النخلات العشر بِعَيْنِهَا فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَالْمُشَاعُ: أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ إِلَّا رُبْعَهَا فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا مُشَاعًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، هَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ عَلَى شَرْطِ الشَّرِكَةِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُكَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا صَحَّ، وَكَذَا فَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا إِلَّا رُبْعَهَا لَأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عشر المساكين جاز، وإن كان مستحق مَجْهُولَ الْعَيْنِ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِثْنَاءُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّهُ مُعَيَّنٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَجْهُولًا وَهُوَ ضَرْبَانِ مُشَاعٌ وَمُجَوَّزٌ. فَالْمُشَاعُ: أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا قُوتَ نَفْسِي أَوْ إِلَّا مَا يَأْكُلُهُ عَبِيدِي فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ لِأَنَّ قَدْرَ قُوتِهِ مَجْهُولٌ وَمَا يَأْكُلُهُ عَبِيدُهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ المبيع الثاني مجهول. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ حَائِطًا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ قُوتَ غِلْمَانِهِ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَثْنَى مِنْهُ قَدْرًا مَعْلُومًا جَعَلَهُ قُوتَ غِلْمَانِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا عَشْرَ قَوَاصِرَ مِنْهَا، أَوْ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَلَّةً مِنْ رُطَبِهَا كَانَ الْمَبِيعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالْمَبِيعِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْمُجَوَّزُ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا عَشْرَ نَخْلَاتٍ مِنْهَا لَا بِعَيْنِهَا وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قَدْرَ ثُلْثِ الثَّمَرَةِ فَمَا دُونَ جَازَ الْبَيْعُ، وَكَانَ لَهُ عَشْرُ نَخْلَاتٍ وُسَطَاءُ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي الْمَبِيعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يَخْتَلِفُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُجَوَّزٍ وَلَا مُشَاعٍ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ النَّخْلُ إِلَّا عَدَدَ مَا اسْتُثْنِيَ فَيَخْتَلِفَانِ فِي الْبَاقِي هَلْ هُوَ الْمَبِيعُ أَوِ الْمُسْتَثْنَى وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْجَهَالَاتِ غَرَرًا فَكَانَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ أَوْلَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَجْهُولًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الثَّمَرَةَ إِلَّا صَاعًا مِنْهَا فَهَذَا بَاطِلٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ رُبْعِهَا وَالرُّبْعُ مَجْهُولُ الْكَيْلِ كَانَ اسْتِثْنَاءُ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْكَيْلِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى فَسَادِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا فِي الْبَيْعِ " وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَلِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ هَلْ هُوَ عُشْرٌ أَوْ رُبْعٌ، وَلَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ هُوَ تِسْعَةُ أَعْشَارٍ أَوْ أَقَلُّ، وَالْمَبِيعُ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ الْبَيْعُ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَهْلَكَ الثمرة إلا قدر ما استثنى فَيَخْتَلِفَانِ هَلْ هُوَ الْمَبِيعُ أَوِ الْمُسْتَثْنَى، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمَبِيعُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى كَانَ بَاطِلًا وَهَذَا مَأْمُونٌ فِي اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا، لِأَنَّ التَّالِفَ مِنْهَا وَالْبَاقِي فِيهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ بَعْدَهُ مَعْلُومًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ مِائَةَ صَاعٍ وَالْبَاقِي لِي، فَإِنْ عَلِمَا أَنَّ مَا فِيهَا مِائَةُ صَاعٍ فَصَاعِدًا صَحَّ الْبَيْعُ إِنْ أَمْكَنَ كَيْلُ الثَّمَرَةِ وَبَطَلَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَيْلُهَا، وَلَا يَصِحُّ الْخَرْصُ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ بِالْخَرْصِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ مُوَاسَاةٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا أَنَّ مَا فِي الثَّمَرَةِ مِائَةُ صَاعٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ، فَلَوْ كِيلَتْ مِنْ بَعْدُ فَكَانَتْ مِائَةَ صَاعٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بَعْدَ فَسَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ حَائِطٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِسِعْرِ مَا بَاعَ صَحَّ الْبَيْعُ، وَكَانَ كَاسْتِثْنَاءِ رُبْعِهَا، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لجواز أن يكون بسعر زائدا أو ناقصا فَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ الْبَاقِي مَجْهُولًا، فَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ هَذَا النَّخْلِ إِلَّا النَّوْعَ الْمَعْقِلِيَّ فَإِنْ شَاهَدَا الْمَعْقِلِيَّ الْمُسْتَثْنَى وَعَلِمَا قَدْرَهُ صح البيع، وإن جهلاه فسد. والله أعلم. فَصْلٌ: وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا وَاسْتَثْنَى حَبَّهُ، أَوْ سمسما واستثنى كبسه، أَوْ شَاةً وَاسْتَثْنَى جِلْدَهَا، كَانَ الْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلًا لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَمَا اسْتُثْنِيَ منه يصير غير معلوم بالمشاهدة ولا مقيد بالصفة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ بَاعَ ثَمَرَ حَائِطٍ وَفِيهِ الزَّكَاةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ مَا جَاوَزَ الصَّدَقَةَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَالثَّانِي إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْفَضْلَ عَنِ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وللسلطان أخذ العشر من الثمرة (قال المزني) هذا خلاف قوله فيمن اشترى ما فيه الزكاة أنه يجعل أحد القولين أن البيع فيه باطل ولم يقله ها هنا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كتاب الزكاة مستوفاة وسنذكر ها هنا مَا يَقْتَضِيهِ الْمَوْضِعُ وَيُسْعِدُنَا بِهِ الْخَاطِرُ فَنَقُولُ: إِذَا بَاعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَقَبْلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ الْبَيْعِ قَدْرَ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: أَلَّا يَسْتَثْنِيَهُ. فَإِنِ اسْتَثْنَى قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَهُوَ بَيْعٌ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ هُوَ الْبَاقِي مِنْهَا بَعْدَ قَدْرِ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا إِنْ كَانَتْ سَيْحًا فَقَدْرُ زَكَاتِهَا الْعُشْرُ، أَوْ تِسْعَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ إِنْ كَانَتْ نَضْحًا فَقَدْرُ زَكَاتِهَا نِصْفَ الْعُشْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِي الْبَيْعِ أَعُشْرٌ هُوَ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ يَلْزَمُ ذِكْرُ الْقَدْرِ، لِإَنَّ الْعِلْمَ بِهِ شَرْعًا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ شَرْطًا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّرْعِ يُغْنِي عَنِ اسْتِثْنَائِهِ بِالشَّرْطِ لَكَانَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُغْنِ فِي الْقَدْرِ. فَإِذَا اسْتَثْنَى الْبَائِعُ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْجِدَادِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الثَّمَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ دَفْعُ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ قَدْرَ الزَّكَاةِ بِعَقْدٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَكِيلِ فِيهَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ الَّذِي كَانَ مَالِكًا لَهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ. فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَهْلَكَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ رَطْبًا كَانَ فِيمَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُطَالَبُ بِعُشْرِ الثَّمَرَةِ تَمْرًا وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُجِيزُ لَهُ دَفَعُ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ضَمَانًا لِعُشْرِهَا تَمْرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُطَالَبُ بِقِيمَةِ عُشْرِهَا رَطْبًا وَهَذَا عَلَى الوجه الذي يمنعه مِنْ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ رَطْبًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ قِيمَةُ عُشْرِهَا رَطْبًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ عُشْرِهَا تَمْرًا فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ النَّقْصِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ لِاشْتِغَالِ الذِّمَّةِ بِهَا. وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ لِزَوَالِ يَدِهِ عَنِ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهَا جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ هل وجهت فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُرْتَهِنَةً بِالْعَيْنِ. فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ. وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ فَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْبَاقِي قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْفَسْخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ قَدْرِ الزَّكَاةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جوز البيع ها هنا فِيمَا سِوَى الزَّكَاةِ وَأَبْطَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ في كتاب الزكاة اعتراض عَلَيْهِ فِي إِغْفَالِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا كَانَ لَهُ قَوْلَانِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُمَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنِ الآخر. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَرْجِعُ مَنِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ بِالْجَائِحَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ وَهَنَ حَدِيثُهُ فِي الْجَائِحَةِ لَصِرْتُ إِلَيْهِ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ وَلَا يَذْكُرُ الْجَائِحَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا وَقَالَ كَانَ كَلَامٌ قَبْلَ وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَمْ أَحْفَظْهُ وَلَوْ صِرْتُ إِلَى ذَلِكَ لَوَضَعْتُ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أُصِيبَ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ جِنَايَةِ أَحَدٍ فَإِمَّا أَنْ يُوضَعَ الثُّلْثُ فَصَاعِدًا وَلَا يُوضَعُ مَا دُونَهُ فَهَذَا لَا خَبَرٌ وَلَا قِيَاسٌ وَلَا مَعْقُولٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رجل باع ثمرة على رؤوس نخلها وسلمت إلى المشتري وتلفت بِالْجَائِحَةِ قَبْلَ جِدَادِهَا فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ بَائِعِهَا وَأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَرَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَبْطُلُ البيع بتلفها وبه قول أبو حنيفة وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 كَانَتْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْرَ الثلث فصاعدا مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الثُّلْثِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْجَوَائِحَ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ بِحَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ ". وَبِحَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ " وَهَذَا نَصٌّ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا يَتِمُّ قبضها إلا بحدها من نخلها بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ عَطِشَتْ وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَيْبِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ، وَإِذَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً مِنْ مَالِ بَائِعِهَا لِأَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. قَالُوا: وَلِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَرَةِ مُلْحَقٌ بِمَنَافِعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُأْخَذَ لُقَطَةً بَعْدَ لُقَطَةٍ، كَمَا تُسْتَوْفَى مَنَافِعُ الدَّارِ مُدَّةً بَعْدَ مُدَّةٍ، فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُبْطِلًا لِلْإِجَارَةِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْكِينُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْجِدَادِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْكِينُ. وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْجَوَائِحَ لَا يَضْمَنُهَا الْبَائِعُ وَلَا يَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهي، قِيلَ وَمَا تَزْهَى، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ ". وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْجَائِحَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ لَمَا اسْتَضَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْجَائِحَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَمَا كَانَ لِنَهْيِهِ عَنْهُ حِفْظًا لِمَالِ الْمُشْتَرِي وَجْهًا لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ إِنْ تَلَفَ فِي الْحَالَيْنِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمَّا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ في الحال التي يخالف من الجائحة فيها لأن لا يَأْخُذَ مَالَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ حَقٍّ، عَلِمَ أَنَّ الْجَائِحَةَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ، وَأَنَّهَا مَضْمُونَةً فِيمَا صَحَّ بَيْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَرَوَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَارَةً مُرْسَلًا وَتَارَةً مُسْنَدًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ ثَمَرَةً فَأُصِيبَ فِيهَا فَسَأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يَحُطَّهُ شَيْئًا فَحَلَفَ بِاللَّهِ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 لَا يَفْعَلَ، فَأَتَتْ أُمُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَأَلَّى فُلَانٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا ". فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخْرَجَ الْحَطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مَخْرَجَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ لَا مَخْرَجَ الْوُجُوبِ وَالْحَتْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُجْبِرِ الْبَائِعَ عَلَى الْحَطِّ عَنِ الْمُشْتَرِي حَتَّى بَلَغَ الْبَائِعَ ذَلِكَ فَتَطَوَّعَ بِحَطِّهِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَجْبَرَهُ عَلَيْهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى ثَمَرًا فَأُصِيبَ فِيهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ ". فَلَوْ أَنَّ الْجَوَائِحَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمَا أَحْوَجَهُ إِلَى الصَّدَقَةِ وَجَعَلَ لِغُرَمَائِهِ مَا وَجَدُوهُ وَلَكَانَ يَجْعَلُهَا مَضْمُونَةً عَلَى بَائِعِهَا وَيَضَعُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الثمرة تصير مقبوضة على رؤوس نَخْلِهَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْلِيَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً لَمْ يَجُزْ، وَتَلَفُ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الثِّمَارِ. فَإِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَا دُونَ الثُّلُثِ يَلْقُطُهُ الطَّيْرُ، وَتَنْشُرُهُ النَّحْلَةُ غَالِبًا فضمه الْمُشْتَرِي لِلْعُرْفِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْجَائِحَةِ. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ تَلَفِ قَلِيلِهِ أَوْ كَثِيرِهِ بِعُرْفٍ مُعْتَادٍ أَوْ غَيْرِهِ. ثُمَّ يُقَالُ لما جَعَلْتَهُ مُحَدَّدًا بِالثُّلُثِ وَهَلَّا حَدَّدْتَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ أو وأكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَقَالَ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ". قِيلَ: فَالثُّلُثُ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حُكْمِ مَا دُونَهُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَأَنْتَ جَعَلْتَهُ فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفْتَ فِيمَا تَعَلَّقْتَ بِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَيْ كَثِيرُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ أنه ملحق بما هو أقل منه. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدِهَا: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّ سُفْيَانَ وَهَّنَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ قَدْ كَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَقَبْلَ أَمْرِهِ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ كَلَامًا لَمْ أَحْفَظْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لَمْ يَحْفَظْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَبِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي بَيْعِ السِّنِينَ الْمُقْتَرِنِ بِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ بُيُوعِ الثِّمَارِ الْفَاسِدَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ أَمْرَهُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ مَحْمُولٌ عَلَى وَضْعِهَا عَنِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي قَوْلُهُ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وَهُوَ جَوَابُ الطحاوي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ كَمَا قال تألا فُلَانٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن قولهم أنها على رؤوس نَخْلِهَا غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْخِيَارِ بِحُدُوثِ الْعَطَشِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْقَبْضِ، قَالَ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ تَامًّا فَكَذَا الثَّمَرَةُ وَلَا يَكُونُ الْخِيَارُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْقَبْضِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ خِيَارَ الْعَطَشِ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي لِوُجُوبِ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِالتَّلَفِ رُجُوعٌ لِأَنَّ الْحَطَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ. وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّ مَا حَدَثَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَيْبِ مِنْ زَمَانِ الْخِيَارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 يُسْتَحَقُّ بِهِ الرَّدُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي بَلْ لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي فَمَا حَدَثَ فِي النَّقْصِ كَانَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ فَلَا يصح بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ مَنَافِعِ الدَّارِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى قَبْضِهِ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الدَّارِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَلَيْسَتِ الثَّمَرَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ يُمْكِنُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَيَحْدُثُ فِي الْحَالِ جَمِيعُهَا، فَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِذَا قَدْ تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَنَسْتَوْفِي حُكْمَ تَلَفِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا فَنَقُولُ إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتْلَفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَالثَّانِي: بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ. وَالثَّالِثُ: بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالْجِدَادِ. فَإِنْ تَلَفَتْ قبل التسليم لم يخل تلفها من ثلاثة أَحْوَالٍ: - إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ، أَوْ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ. - فَإِنْ تَلَفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ البائع فبطل الْبَيْعُ لَا يُخْتَلَفُ، لِأَنَّ تَلَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ. - وَإِنْ تَلَفَتْ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ غَيْرَ الْبَائِعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ يَبْطُلُ كَمَا لَوْ تَلَفَتْ بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ. والثاني: لا يبطل البيع وإن بَدَلُهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَانِي لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ وَمُطَالَبَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ أَوْ قِيمَتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ. وَإِنْ تَلَفَتْ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ كَجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ باطل قَوْلًا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهَا قَوْلَانِ: فَهَذَا الْحُكْمُ فِي تَلَفِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ. - وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ جِدَادِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَأَخَّرَهُ حَتَّى تَلَفَتْ فَتَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْجِدَادِ مَعَ الْإِمْكَانِ تَفْرِيطٌ مِنْهُ والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ جِدَادِهَا حَتَّى تَلَفَتْ فَنَنْظُرُ فِي سَبَبِ تَلَفِهَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ: إِمَّا بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ، أَوْ جِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةِ سَمَاءٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا. وَإِنْ كَانَ تلفها بجائحة أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ بِجَائِحَةِ السَّمَاءِ فَيَكُونُ أَنْ يَبْطُلَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَبْطُلُ بِجَائِحَةِ السَّمَاءِ فَفِي بُطْلَانِهِ بِجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ قَوْلَانِ: وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا تَكُونُ كَجَائِحَةِ السَّمَاءِ فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَا مَضَى. فَهَذَا الْحُكْمُ فِي تَلَفِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَبْلَ الْجِدَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ الْجِدَادِ فَالْبَيْعُ مَاضٍ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِهَا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِقْرَارِ الْقَبْضِ وَانْقِضَاءِ عَلْقِ الْعَقْدِ وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْآدَمِيِّ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ إِنْ يَكُنْ لَهَا مثل والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 باب المحاقلة والمزابنة مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرَقٍ حِنْطَةٍ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ التمر في رؤوس النخل بمائة فرق تمر (قال) وعن ابن جريج قلت لعطاء ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل سواء بيْع الزرع بالقمح قال ابن جريج فقلت لعطاء أَفسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم (قال الشافعي) وبهذا نقول إلا في العرايا وجماع المزابنة أن ينظر كل ما عقد بيعه مما الفضل في بعضه على بعض يدا بيد ربا فلا يجوز منه شيء يعرف بشيء منه جزافا ولا جزافا بجزاف من صنفه. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ. وَعَنِ الثُّنْيَا وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَأَمَّا الْمُحَاقَلَةُ فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ بِطَعَامٍ مُصَفًّى، وَالْمُحْقِلُ هُوَ المسنبل وَهُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الشَّيْءُ فِيهِ كَالْمَعْدِنِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يعني في سنبله. القول في حكم بيع المحاقلة فإذا ثبت هذا فَبَيْعُ الطَّعَامِ فِي مُحْقَلِهِ يَعْنِي: فِي سُنْبُلِهِ بِالطَّعَامِ الْمُصَفَّى لَا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا خَوْفُ الرِّبَا لِلْجَهْلِ، وَالثَّانِيَةُ فَقْدُ مُشَاهَدَةِ مَا فِي سُنْبُلِهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الزُّرُوعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهَا قَائِمًا مِنْ زَرْعِهِ بِمَا قد صفي من جنسه، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فِي كِمَامٍ كَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ كَالْحِنْطَةِ، وَإِنْ كَانَ بَارِزَ الْأَكْمَامِ كَالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ خَوْفُ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِزَوَالِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ لِبَقَاءِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 (فصل القول في بيع المزابنة) وَأَمَّا الْمُزَابَنَةُ فَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى نَخْلِهِ بِتَمْرٍ فِي الْأَرْضِ وَالْمُزَابَنَةُ فِي كَلَامِهِمُ الْمُدَافَعَةُ وَلِهَذَا سُمُّوا زَبَانِيَةً لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَقَالُوا زَبَنَتِ النَّاقَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا دَفَعَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ: (وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَاتِنَا ... فَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ) فَسُمِّيَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُزَابَنَةً لِأَنَّهُ قَدْ دَفَعَ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حُدُوثُ الرِّبَا بِعَدَمِ تَمَاثُلِهِ وَيَجُوزُ بِالدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ هَكَذَا بَيْعُ الْعِنَبِ فِي كَرْمِهِ بِالزَّبِيبِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا بَيْعُ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي شَجَرِهَا بِجِنْسِهَا يَابِسَةً، لَا يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ كَانَ بَيْعُهَا غَيْرَ جَائِزٍ لِدُخُولِهَا فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الزُّرُوعِ هَلْ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمُحَاقَلَةِ أَوْ قِيَاسًا عَلَيْهَا فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ لِدُخُولِ سَائِرِ الثِّمَارِ فِي اسْمِ الْمُزَابَنَةِ وَدُخُولُ سَائِرِ الزُّرُوعِ فِي اسْمِ الْمُحَاقَلَةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهُ نَصًّا لَا قِيَاسًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْحِنْطَةِ والنخل وسائر الزورع مَقِيسَةٌ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي الْمُحَاقَلَةِ وَسَائِرُ الثِّمَارِ مَقِيسَةٌ عَلَى النَّخْلِ فِي الْمُزَابَنَةِ فَكَانَ تَحْرِيمُهُ قِيَاسًا لَا نَصًّا، وَأَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَهُوَ اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَهُ بَابٌ فَأَمَّا الْمُعَاوَمَةُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ السِّنِينَ فَسَنَذْكُرُهُ وَأَمَّا بَيْعُ الثَّنَيَا فَقَدْ مَضَى وَأَمَّا الْعَرَايَا فَتَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". مَسْأَلَةٌ: الضَّمَانُ فِي المحاقلة والمزابنة. قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ أَضْمَنُ لَكَ صُبْرَتِكَ هَذِهِ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَمَا زَادَ فَلِي وَمَا نَقَصَ فَعَلَيَّ تَمَامُهَا فَهَذَا مِنَ الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أتى صبرة طعام لغيره فقال لربها أن أَضْمَنُهَا لَكَ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ نُقْصَانُهَا وَإِنْ زَادَتْ فَلِي زِيَادَتُهَا أَوْ أَتَى قِرَاحًا فِيهِ بِطِّيخٌ فَقَالَ لِرَبِّهِ أَنَا أَضْمَنَهُ لَكَ بِأَلْفِ بِطِّيخَةٍ فَإِنْ زَادَتْ فَلِي وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيَّ أَوْ أَخَذَ ثَوْبًا لِرَجُلٍ فَقَالَ: أَنَا أَقْطَعُهُ لَكَ قَمِيصًا فَإِنْ نَقَصَ أَتْمَمْتُهُ وَإِنْ زَادَ أَخَذْتُ الزِّيَادَةَ فَهَذَا فَاسِدٌ وَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ فَسَادِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَلَيْسَ بِمُزَابَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ مُبَايَعَةٌ وَهَذَا موضوع على أن يدفع عنه النقصان مالا يأخذ عوضه ويأخذ عنه الزيادة مالا يُعْطِي بَدَلَهُ فَصَارَ بِالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بالبيع والمزابنة والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 باب العرايا أخبرنا المزني قال الشافعي أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الشَّكُّ مِنْ دَاوُدَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ في بيع العرايا (قال المزني) وروى الشافعي حَدِيثًا فِيهِ قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: أَوْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِمَا غَيْرِهِ مَا عراياكم هذه؟ فقال فلان وفلانة وَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ من قوتهم من التمر فرخص لهم أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ الَّذِي في أيديهم يأكلونها رطبا (قال الشافعي) وحديث سفيان يدل على مثل هذا أخبرنا ابن عيينة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ في العرايا أن تباع بخرصها من التمر يأكلها أهلها رطبا (قال المزني) اختلف ما وصف الشافعي في العرايا وكرهت الإكثار فأصح ذلك عندي ما جاء فيه الخبر وما قال في كتاب " اختلاف الحديث " وفي الإملاء أن قوما شكوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه لا نقد عندهم ولهم تمر من فضل قوتهم فأرخص لهم فيها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَرَايَا فَجَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَالْعَرِيَّةُ فِي اللُّغَةِ مَا انْفَرَدَ بِذَاتِهِ وَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، يُقَالُ عَرِيَ الرَّجُلُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ ثِيَابِهِ، وَسُمِّيَ سَاحِلُ الْبَحْرِ بِالْعَرَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ خلي مِنَ النَّبَاتِ وَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145] وَقَالَ الشاعر: (فكان الْعَرَايَا فِي النَّخْلِ ... أَنْ يُفْرَدَ بَعْضُ مَحَلِّ الْحَائِطِ) عَمَّا سِوَاهُ حَتَّى يَصِيرَ مُتَمَيِّزًا مِنَ الجملة، والعرايا على ثلاثة أقسام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 القول في أقسام العرايا مُوَاسَاةٌ، وَمُحَابَاةٌ، وَمُرَاضَاةٌ، فَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ نَخْلِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ يَمْنَحَ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَيُفْرِدُهُ عَنْ بَاقِي مِلْكِهِ فَيَصِيرُ عَرِيَّةً مُتَمَيِّزَةً وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِخُرَّاصِهِ: خَفِّفُوا الْخَرْصَ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ. مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُوَاسَاةِ، وَأَمَّا الْمُحَابَاةُ: وَهُوَ أَنَّ الْخُرَّاصَ كَانُوا إِذَا خَرَصُوا نَخْلَ رَجُلٍ تَرَكُوا بَعْضَ نَخْلِهِ عَرِيَّةً لَا تَخْرَصُ عَلَيْهِ لِيَأْكُلَهَا عِلْمًا بِأَنَّهُ سَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهَا وَهَذَا جَائِزٌ قَدْ رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا لَهُمُ الثُّلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ " وَأَمَّا الْمُرَاضَاةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فيها وفي المزاد مِنْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا بَيْعُ الرُّطَبِ خرصا على رؤوس النَّخْلِ بِمِكْيَلَةٍ تَمْرًا عَلَى الْأَرْضِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مَعَ تَعْجِيلِ الْقَبْضِ وَقَالَ مَالِكٌ: " الْعَرِيَّةُ أَنْ تَهَبَ رَجُلًا ثَمَرَ نَخْلَاتٍ مِنْ حَائِطٍ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ عِنْدَهُ بِالْقَبُولِ وَحْدَهُ ثُمَّ يَكْرَهُ مُشَارَكَةَ غَيْرِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَبْتَاعَ ذَلِكَ جَبْرًا بِخَرْصِهِ تَمْرًا وَيُجْرِيَهُ مَجْرَى الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: بَلْ هَذِهِ الْعَرِيَّةُ أَنْ تَهَبَ الرَّجُلَ ثَمَرَ نَخْلَاتٍ لَا يَقْبِضُهَا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِكْرَةَ الرُّجُوعِ فِيهَا فَيَتَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِهَا وَدَفْعِ خَرْصِهَا تَمْرًا مَكَانَهَا فَيَجُوزُ فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا بِمِثْلِهِ مِنَ التَّمْرِ كَيْلًا فَلَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نهى عن المزابنة " والمزابنة بيع التمر بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا وَهَذَا عَامٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُصَ " وَهَذَا أَحَقُّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى النَّخْلِ وَتَجْوِيزُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ خَرْصًا فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ كَثِيرِهِ بِالْخَرْصِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ قَلِيلِهِ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَدَلِيلُنَا بِثُبُوتِ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ مِنْ خَمْسِ طُرُقٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن المزابنة والمزابنة بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا. وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا. وَالثَّالِثُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ بِأَكْلِهَا رُطَبًا ". وَالرَّابِعُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ رَوَى حديثا فيه قلت لمحمود ابن لَبِيدٍ أَوْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِمَا غَيْرِهِ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: وَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَتَبَايَعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ قُوتِهِمْ مِنَ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا. الْخَامِسُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الشَّكُّ مِنْ دَاوُدَ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْخَمْسَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي الْعَرَايَا مِنْ خَمْسَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَرِيَّةَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُزَابَنَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ بيع التمر الرطب فِي نَخْلِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَرِيَّةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْهُمَا هِيَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فِي نَخْلِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَجَازَ الْعَرِيَّةَ بِلَفْظِ الرُّخْصَةِ وَالرُّخْصَةُ مَا كَانَتْ بَعْدَ حَظْرٍ سَابِقٍ وَلَا تَكُونُ الْعَرِيَّةُ رُخْصَةً بَعْدَ حَظْرٍ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا دُونَ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفْنَاهُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَالْبَيْعُ مَا يَتَنَاوَلُ عِوَضًا وَمُعَوِّضًا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا. وَالرَّابِعِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْمُسَاوَاةَ بِالْخَرْصِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي بَيْعِهَا بِالْجِنْسِ وَالْخَامِسِ أَنَّهُ أَبَاحَهَا فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَالْمُخَالِفُ لَا يَعْتَبِرُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَدْرًا مَخْصُوصًا، ثُمَّ حديث محمود بن لبيد مفسرا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مِنَ السِّيَرِ وَجَعَلَهُ مَعَ مَا أَسْنَدَهُ شَاهِدًا لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ واردة قبل تحريم الربا وَمِنْهَا أَنَّهُ اعْتُبِرَ فِيهَا التَّسَاوِي بِالْخَرْصِ وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبِرٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَبَاحَهَا فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ فَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا مَخْصُوصٌ بِظَوَاهِرِنَا وَالْأَقْيِسَةُ مَدْفُوعَةٌ بِنُصُوصِنَا، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّمَا جَازَتِ الْعَرِيَّةُ فيما كان على رؤوس النَّخْلِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا هُوَ عَلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ مَا عَلَى النَّخْلِ مُسْتَدَامُ الْمَنْفَعَةِ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ، وَجَازَتْ فِي الْقَلِيلِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَلَمْ تَجُزْ فِي الْكَثِيرِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَجَازَتْ بِالْخَرْصِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الْبُرِّ لِأَنَّ كَيْلَ مَا عَلَى النَّخْلِ مُتَعَذَّرٌ وَكَيْلُ الْبُرِّ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ وَاخْتِلَافُ حُكْمِ حَالِهَا كَاخْتِلَافِ أَمَاكِنِهَا وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 فَصْلٌ: جَوَازُ الْعَرَايَا مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التَّمْرِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا هُوَ بَيْعُ الرطب على رؤوس النَّخْلِ بِكَيْلِهَا تَمْرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي النَّوْعِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ بِالرُّطَبِ الْبَرْنِيِّ أَوْ يَخْتَلِفَا فِي النَّوْعِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ بِالرُّطَبِ الْمَعْقِلِيِّ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كله، فأما بيع الرطب على رؤوس النَّخْلِ بِرُطَبٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ بِرُطَبٍ عَلَى رؤوس النخل فذهب الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِأَنَّ وُجُودَ الرطب مغني عن بيعه برطب على رؤوس النَّخْلِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَجُوزُ بيع الرطب على الأرض برطب على رؤوس النَّخْلِ لِأَنَّهُ أَدْوَمُ نَفْعًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ على رؤوس النخل برطب على رؤوس النَّخْلِ سَوَاءٌ كَانَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا. وَقَالَ أبو إسحاق الْمَرْوَزِيُّ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ عَلَى الْأَرْضِ برطب على رؤوس النخل، فأما بيع الرطب على رؤوس النخل برطب على رؤوس النَّخْلِ فَإِنْ كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَالْمَعْقِلِيِّ بِالْمَعْقِلِيِّ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَا نَوْعَيْنِ كَالْمَعْقِلِيِّ بِالْإِبْرَاهِيمِيِّ جَازَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى الْأَرْضِ بِرُطَبٍ على رؤوس النَّخْلِ لِأَنَّهُ أَدْوَمُ نَفْعًا وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ النَّخْلِ بِمَا عَلَى النَّخْلِ إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعَيْنِ لِاخْتِلَافِ الشَّهْوَةِ. وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لِفَقْدِ الْغَايَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ فَاسِدٌ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بُطْلَانُ ذَلِكَ كله أصح لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ قِلَّةِ تَفَاضُلِهِ وَقُرْبِ تَمَاثُلِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى النَّخْلِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْغَرَرِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: [الْقَوْلُ فِي مقدار العرية] قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَكُونَ الْعَرِيَّةُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا أَفْسَخُهُ فِي الْخَمْسَةِ وَأَفْسَخُهُ في أكثر (قال المزني) يلزمه في أصله أن يفسخ البيع في خمسة أوسق لأنه شك وأصل بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر حرام بيقين ولا يحل منه إلا ما أرخص فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيقين فأقل من خمسة أوسق يقين على ما جاء به الخبر وليست الخمسة بيقين فلا يبطل اليقين بالشك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَقْصُورٌ عَلَى قَدْرِ مَا أُبِيحَ مِنَ الْعَرِيَّةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَرِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِعُمُومِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَتَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَوْ بِمَدٍّ لِإِبَاحَةِ الْعَرِيَّةِ وَفِي جَوَازِهَا فِي خَمْسَةِ أوسق قولان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ عَامٌّ وَإِبَاحَةُ الْعَرِيَّةِ خَاصٌّ وَالْخَمْسَةُ شَكٌّ وَالْعُمُومُ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّكِّ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا صَدَقَةَ فِي الْعَرِيَّةِ وَالْخَمْسَةُ وَصَاعِدًا فِيهَا الصَّدَقَةُ " فَلَمْ تَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَرِيَّةِ وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ لِتَحْرِيمِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ لِكَثْرَتِهِ وَإِبَاحَتِهَا فِيمَا دُونَ الْخَمْسَةِ لِقِلَّتِهِ وَالْخَمْسَةُ فِي حد الكثرة لوجوب الزكاة فيه وَمَا دُونَهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " جَوَازُ الْعَرِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ إِنَّمَا كَانَ لِدُخُولِهِ فِي الْمُزَابَنَةِ قَطْعًا وَتَحْلِيلُ مَا دُونُ الْخَمْسَةِ لِدُخُولِهِ فِي الْعَرِيَّةِ يَقِينًا وَالْخَمْسَةُ وَإِنْ كَانَتْ شَكًّا فَلَا يَجُوزُ إِلْحَاقُهَا بِالْمُزَابَنَةِ دُونَ الْعَرِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ الشَّكِّ عَنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمُومَ الْمُزَابَنَةِ قَدْ صَارَ مَجْهُولًا بِاسْتِثْنَاءِ الْعَرِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ مِنْهَا وَإِذَا لَمْ يَجُزْ إِلْحَاقُهَا بِالْمُزَابَنَةِ وَجَبَ إِلْحَاقُهَا بِالْعَرِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبُيُوعِ الْإِبَاحَةُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَالثَّانِي: رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ عَلَى وجه التخيير لأنها قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّكِّ. فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْعَرِيَّةِ فِيمَا دون خمسة أوسق] فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْعَرِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا نَعْنِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا تُبَاعُ بِهَا رُطَبًا تَعُودُ إِلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا عَلَى مَا نَصِفُهُ فَلَوْ زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ عَقْدًا فَاسِدًا، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا أَبْطَلْتُمُوهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ وَجَوَّزْتُمُوهُ فِي الْخَمْسَةِ قِيلَ لِأَنَّهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ قَدْ صَارَ مُزَابَنَةً وَالْمُزَابَنَةُ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَ الْعَرِيَّةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَوْ نَقَصَ مِنَ الْخَمْسَةِ مُدٌّ جَازَ وَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا، فَلَوِ ابْتَاعَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا مُدًّا جَازَ لِأَنَّ ابْتِيَاعَ الرَّجُلَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَقْدَيْنِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا نِصْفَ مُدٍّ، وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا مُدًّا جَازَ وَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا نِصْفَ مُدٍّ فَلَوِ ابْتَاعَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ عِشْرِينَ وَسْقًا إِلَّا مُدًّا جَازَ لِأَنَّ ابْتِيَاعَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ عُقُودٍ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ قَدِ ابْتَاعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِلَّا رُبْعَ مُدٍّ فَصَحَّ ولو ابتاعا عشرين وسقا لم يجز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لا يَبْتَاعُ الَّذِي يَشْتَرِي الْعَرِيَّةَ بِالتَّمْرِ إِلَا بِأَنْ يَخْرُصَ الْعَرِيَّةَ كَمَا يَخْرُصُ الْعُشْرَ فَيُقَالُ فِيهَا الْآنَ رُطَبًا كَذَا وَإِذَا يَبِسَ كَانَ كَذَا فَيَدْفَعُ مِنَ التَّمْرِ مَكِيلَةَ خَرْصِهَا تَمْرًا وَيَقْبِضُ النَّخْلَةَ بِتَمْرِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ دَفْعِهِ فَسَدَ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي الْعَرِيَّةِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْقَدْرُ الَّذِي لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: التَّسَاوِي الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ. وَالثَّالِثُ: التَّقَابُضُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ دُونَهُ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْقَدْرُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّسَاوِي فَلِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيمَا يُدْخِلُهُ الرِّبَا وَالتَّسَاوِي مُعْتَبَرٌ فِي التَّمْرِ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ فِيهِ ممكن وفي الرطب الذي على رؤوس النَّخْلِ بِالْخَرْصِ لِأَنَّ كَيْلَهُ مُتَعَذِّرٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ خارص واحد بخلاف الزكاة لأن الخرص ها هنا بَدَلٌ مِنَ الْكَيْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ فَلَمَّا جَازَ كَيَّالٌ وَاحِدٌ جَازَ خَارِصٌ وَاحِدٌ فَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيَخْرُصُهَا بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ قَدْرًا يَكُونُ ثَمَرُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَفَعَ مِثْلَهُ تَمْرًا كَأَنْ يَقُولُ: خَرْصُهَا رُطَبًا سِتَّةُ أَوْسُقٍ وَإِذَا يَبِسَ تَمْرًا أَرْبَعَةُ أَوْسُقٍ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ بِالْكَيْلِ أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ مُدًّا أَوْ نِصْفَ مُدٍّ لَمْ يَجُزْ لِظُهُورِ التَّفَاضُلِ فِيهِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَلِأَنَّ مَا فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فيه، فيقبض المشتري الرطب على رؤوس نَخْلِهِ وَيَدْفَعُ التَّمْرَ إِلَى بَايِعِهِ، وَقَدْ تَمَّتِ الْعَرِيَّةُ فِيهِمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا فَإِذَا افْتَرَقَا لَزِمَتِ الْعَرِيَّةُ وَلَا خِيَارَ ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِيَ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عِنْدَ إِدْرَاكِهَا وَقْتَ إِبَّانِهَا وَلَا تَجُوزُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا فِيمَا بَدَا صَلَاحُهُ بُسْرًا كَانَ أَوْ رُطَبًا. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وبيع صَاحِبُ الْحَائِطِ لِكُلِّ مَنْ أَرْخَصَ لَهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ حَائِطِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَغَيْرِهِ جَوَازُهَا لِلْمُضْطَرِّ الْمُعْسِرِ وَلِلْغَنِيِّ الْمُوسِرِ وَهُمَا فِي إِبَاحَتِهِمَا سَوَاءٌ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ لَا تَجُوزُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ الْمُعْسِرِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَمِنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي إِبَاحَةِ الْعَرِيَّةِ حَاجَةُ ذَوِي الضَّرُورَاتِ وَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَامْتَنَعَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَصَرَّحُوا بِجَوَازِهِ لِلْكَافَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا تَعْوِيلًا عَلَى غَالِبِ نَصِّهِ وَتَأَوَّلُوا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَاخْتِلَافُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْبَارِ عَنْ سَبَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِإِرْخَاصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْعَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 تَقْيِيدٍ بِالضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ لِأَنَّ مَعَهُ التَّمْرَ فَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الرُّطَبِ فَإِنَّمَا يُرِيدُهُ شَهْوَةً وَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ مضطر لَزَالَتْ ضَرُورَتُهُ بِصَاعٍ مِنْهُ وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الضَّرُورَةِ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ لِلْمُضْطَرِّ وَغَيْرِهِ جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ عَرَايَا فِي عُقُودٍ شَتَّى وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَلْفَ وَسْقٍ إِذَا وَفَّى كُلَّ عَقْدٍ شَرْطَهُ وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَلْفِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ عَرَايَا فِي عُقُودٍ شَتَّى إِذَا أَوْفَى كُلَّ حَقٍّ شَرْطَهُ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ عَقْدٍ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْعَرَايَا مِنَ الْعِنَبِ كَهِيَ مِنَ التَّمْرِ لَا يَخْتَلِفَانِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَّ الْخَرْصَ فِي ثَمَرَتِهِمَا وَلَا حَائِلَ دُونَ الْإِحَاطَةِ بِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْعَرِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي الْكَرْمِ بِجَوَازِهَا فِي النَّخْلِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ جَازَتْ فِي الْكَرْمِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا جَازَتْ فِي الْكَرْمِ نَصًّا مَرْوِيًا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا وَالْعَرَايَا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا جَازَتْ فِي الْكَرْمِ قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ لِبُرُوزِ ثَمَرَتِهَا وإمكان الخرص فيهما وَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِمَا ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَأَمَّا الْعَرَايَا فِي سَائِرِ الثِّمَارِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَالْخَوْخِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ الْكَبِيرِ فِي الْأُمِّ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا كَانَ مَذْهَبًا وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَامْتَنَعَ سَائِرُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَوْلَيْنِ وَأَبْطَلُوا الْعَرِيَّةَ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَاحِدًا لِمُبَايَنَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَشْجَارِ مِنْ بُرُوزِ الثَّمَرَةِ وَإِمْكَانِ الْخَرْصِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُصُولِ الِاقْتِيَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 باب البيع قبل القبض مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُكْتَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرَأْيِهِ وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَإِذَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ لِأَنَّ ضَمَانَهُ مِنَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَتَكَامَلْ لِلْمُشْتَرِيَ فِيهِ تَمَامُ مِلْكٍ فَيَجُوزُ بِهِ الْبَيْعُ كَذَلِكَ قِسْنَا عَلَيْهِ بَيْعَ الْعُرُوضِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ مَنْ ابْتَاعَ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ مَأْكُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا فِي الْجُمْلَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ ". فَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى الْمَطْعُومِ وَحَمَلَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَلَى أَنَّهُ مُكَيَّلٌ مَوْزُونٌ وَحَمَلَهُ أبو حنيفة عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ مَنْقُولٌ وَكُلٌّ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ مَعْنَى مَذْهَبِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهَا مَتَاعًا أَوْ عِوَضًا، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْمُثَمَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ مَتَاعًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ الْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالثَّمَنِ وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهُ. فَلَمَّا جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بِالْعِتْقِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 مِلْكَهُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْنِ مَا يُزِيلُ بِهِ الْمِلْكَ فَجَازَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ كَالْعِتْقِ. ثُمَّ انْفَرَدَ أبو حنيفة مُسْتَدِلًّا لِمَذْهَبِهِ بِأَنْ قَالَ: حَقِيقَةُ الْقَبْضِ هو النقل والتحويل فيما يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ تَنْتَفِي عَنْهُ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ لِقَبْضِهِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا لَا يُنْقَلُ مَأْمُونَ الْهَلَاكِ، فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ فَسْخٌ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ بَائِعِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِلْأَمْنِ مِنْ فَسْخِهِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِعَقْدٍ لَا يُخْشَى انْفِسَاخُهُ بِهَلَاكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَأْمُونُ الْفَسَادِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمِيرَاثِ. وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِالْبَيْعِ كَمَا يُزَالُ مِلْكُهُ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا جَازَ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازِ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقَارُ مِلْكٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ تَأَخُّرُ الْقَبْضِ كَالشُّفْعَةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ؟ قَالَ: " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ". فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ عَامًّا فِي كُلِّ مَبِيعٍ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ". وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّ مَا حَدَثَ بِهِ مِنْ عَيْبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، ثُمَّ قَدْ مَنَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إِلَى مَكَّةَ قَالَ لَهُ: " انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَرِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا " وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ بَيْعُهُ كَالْمَطْعُومِ مَعَ مَالِكٍ، وَالْمَنْقُولِ مَعَ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] فَفَصَلَ بَيْنَ مَا قُبِضَ فَلَمْ يُوجِبْ رَدَّهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ الصَّرْفَ يَزُولُ فِيهِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بِتَأَخُّرِ الْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَبَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَاطِلٌ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَعَلَى أبي حنيفة خَاصَّةً أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبِرًا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا. أَصْلُهُ تَمَامُ الْهِبَةِ وَلُزُومُ الرَّهْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 وَانْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي يَسْتَوِي فِيهِ مَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ فِي اعْتِبَارِ الْقَبْضِ فِيهِ كَذَلِكَ الْبَيْعُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ أَنَّهُ لَا دليل فيه من وجهين، أَنَّهُ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ عُمُومُ خَبَرِنَا فَلَمْ يُعَارِضْهُ لِأَنَّهُ لِمَ يُنَافِيهِ وَالثَّانِي أَنَّ تَعَلُّقَهُ لا يحج وَدَلِيلُ الْخِطَابِ فِيهِ لَا يَسْلَمْ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا يَجْعَلُ الْخِطَابَ دَلِيلًا إِذَا عُلِّقَ بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ فَتَعَلُّقُهُ بِالْعَدَدِ كَقَوْلِهِ " فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً " " وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا "، وَتَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ كَقَوْلِهِ فِي " سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ فَلَا نَقُولُ بِهِ وَهُوَ ها هنا مُعَلَّقٌ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ وَلَوِ الْتَزَمَ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ لَمْ نُسَلِّمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الخبر تنبيها يَدْفَعُ دَلِيلَ خِطَابِهِ وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَهُ النَّهْيَ بِالطَّعَامِ مَعَ كَثْرَةِ بَيَاعَاتِهِ وَحُدُوثِ الْحَاجَةِ إِلَى المسامحة في عقود تنبيها عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ مَدْفُوعًا بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَمُنْتَقِضٌ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ بِالْمَطْعُومِ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة بِالْمَنْقُولِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الثَّمَنِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَجَازَ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ بَدَلِهِ وَالْمُثَمَّنُ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِتْقِ فَالْمَعْنَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْعُقُودِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَطْعُومَ وَالْمَنْقُولَ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ أبي حنيفة مَا لَا يُنْقَلُ عَلَى الْمَقْبُوضِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ فَيَنْتَقِضُ بِمَنِ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلًا وَقَبَضَهُ جُزَافًا قَدْ أَمِنَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِهَلَاكِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ كَيْلِهِ وَفِي الْعَكْسِ مَنِ اشْتَرَى عُلُوَّ دَارٍ لَيْسَ يَأْمَنُ فَسْخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ أَنَّهُ صَارَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَجَازَ بَيْعُهُ وَمَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لَيْسَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشُّفْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا نُسَلِّمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْتَحِقُّ جَبْرًا فلم يفتقر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 ثُبُوتُهَا إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فَجَازَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّ عَدَمَ التَّصَرُّفِ وَالْبَيْعِ عَقْدُ تَرَاضٍ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْقَبْضِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ أَوْ أُجُورِ الْمُسْتَأْجِرَاتِ أَوْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ أَوْ صُلْحٍ فِي حُقُوقٍ وَمُطَالَبَاتٍ فَكُلُّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ بَاطِلٌ فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ صَدَاقًا لِزَوْجَةٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَطَلَ الصَّدَاقُ وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ وَلَوْ جَعَلَهُ أُجْرَةً لِدَارٍ اسْتَأْجَرَهَا كَانَتِ الإجابة بَاطِلَةً لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الْأُجْرَةِ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَأَجَّرَهَا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ وَلَوْ جَعَلَهُ صُلْحًا عَلَى دَيْنٍ كَانَ صُلْحًا بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ: فَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ فَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ الَّذِي ابْتَاعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالثَّانِيَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا الْعِتْقُ وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ بَعْضَهُ كَانَ رَهْنُهُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عَلَى ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ جَمِيعَ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى ثَمَنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا هِبَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُ فِيهَا الْمُكَافَأَةُ أَمْ لَا، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ فِيهَا بَطُلَتِ الْهِبَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا صَحَّتِ الْهِبَةُ فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ احْتَاجَ الْوَاهِبُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ لِيَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكُهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَائِعِ ضَمَانُهَا، ثُمَّ يَدْفَعَا إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِيَتِمَّ لَهُ هِبَتُهَا فَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ قَبَضَهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضُ فَلَمْ يكن العقد واحدا نايبا عَنْ عَقْدَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا لَا عَنِ الْبَيْعِ وَلَا عَنِ الْهِبَةِ، أَمَّا عَنِ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي وَأَمَّا عَنِ الْهِبَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَهَا بِالثَّمَنِ حَتَّى لَوْ تَلَفَ بَطَلَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ وَالْمُشْتَرِي الْوَاهِبُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقِيمَةِ حَتَّى إِنْ تَلِفَتْ غَرَّمَهَا لِلْبَائِعِ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَنْ أُجْرَةٍ بِوَجْهِ مُعَاوَضَةٍ. وَهَلْ يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنًا بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوَضَةً. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّ يَدَهُ دَخَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِلْوَاهِبِ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَبَرِئَ الْبَائِعُ مِنَ الضَّمَانِ وَضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ لِلْوَاهِبِ فِيهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيثَاقِ قَبْضٍ لِتَتِمَّ بِهِ الْهِبَةُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ مُقْبِضًا لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ نَقَصَ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ كَانَ أَمْرًا مَحْضًا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنٍ لَا تَعَلُّقَ فِيهِ بِالْعَبْدِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ مَاتَ فِي يَدِهِ فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا وَرَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا لِأَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدَّاهُ، فَخَرَجَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ صَدَاقِهَا ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ بِأَلْفٍ عِوَضًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِالْأَلْفِ الثَّمَنِ دُونَ الْعِوَضِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ فَأَمَّا إِذَا كَانَ النُّقْصَانُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَهَذَا فسخ للبيع الأول واستيثاق بيعه بتسعمائة، فَلَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِتِسْعِمِائَةٍ لَا غَيْرَ لِأَنَّهَا جَمِيعُ الثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا النُّقْصَانُ وَكَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصِحُّ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَلَفَ فَلَوْ لَمْ يَنْقُصْهُ لَكَانَ أَعْطَاهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالثَّمَنِ عِوَضًا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ بِالْأَلْفِ وَاسْتِيثَاقُ بَيْعِهِ بِالْعِوَضِ، وَالْفَسْخُ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى حَالِهِ جَازَ وَكَانَ اسْتِيثَاقُ بَيْعٍ مُبْتَدَأٍ لِلْعَبْدِ بِالْعِوَضِ فَلَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ بِالْعِوَضِ لِأَنَّهُ الثَّمَنُ وَلَا يَكُونُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مُحَرَّمًا حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ الْبَائِعُ قَبْضًا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ أَوْ بَعْدَ النُّقْصَانِ إِنْ كَانَ نَقْصٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ بِالنَّقْصِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ بِالْعِوَضِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الثَّمَنِ وَصَارَ ذَلِكَ بَيْعًا مُبْتَدَأً افْتَقَرَ إِلَى قَبْضٍ بَعْدَهُ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ قَبْضٌ تَقَدَّمَهُ، فَلَوْ تَلَفَ الْعَبْدُ قَبْلَ إِحْدَاثِ قَبْضٍ ثَانٍ بَطَلَ الْبَيْعُ لِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ قَدْ أُسْقِطَ عَنْهُ الثَّمَنُ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي قَبْضِهِ بِعِوَضٍ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ زَادَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ مِائَةً كَانَ عَلَى مَا مَضَى إِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِائَةً هِبَةً لَا يَرْجِعُ بِهَا الْمُشْتَرِي إِنَّ رَدَّ بِعَيْبٍ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَاسْتِيثَاقًا بِأَلْفٍ وَالْمِائَةُ لِلزِّيَادَةِ وَيَرْجِعُ بِهَا مَعَ الْأَلْفِ إِنْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ تَلَفِ الْعَبْدِ أَوْ عِتْقِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ فَقَبَضَ الْعَبْدُ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يُسَلِّمِ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ مَا قَدِ ابْتَاعَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَلَوْ تَلَفَ فِي يَدِهِ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ بَعْدَ أَنْ بَاعَ الْعَبْدَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ وَتَسَلَّمَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ بَاعَهُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 الثَّانِي فِي الْعَبْدِ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ لَكِنَّ عَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَتِهِ إِلَى بَايَعَهُ الَّذِي بَاعَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهِ وَقَدْ خَرَجَ بِالْبَيْعِ مِنْ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ قِيمَتِهِ، فَلَوْ تَلَفَ الْعَبْدَانِ جَمِيعًا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِيمَا ابْتَاعَهُ غُرْمُ قِيمَةِ الْأَوَّلِ وَرَدُّ ثَمَنِهِ عَلَى الثَّانِي لِبُطْلَانِ الْبَيْعَيْنِ فِيهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا فَذَهَبَ عُضْوٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسَلُّمِهِ لَمْ يَخْلُ ذَهَابُ عُضْوِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ. فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْمُشْتَرِي لِأَجَلِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِحُدُوثِ الْآفَةِ بِهِ مَعَ ضَمَانٍ عَلَى بَايِعِهِ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِهِ وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجَانِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ أَجْنَبِيًّا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِيهِ لِحُدُوثِ النَّقْصِ فِي يَدِ بَايِعِهِ، فَإِنْ فَسَخَ كَانَ لِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ رَجَعَ إِلَى مِلْكِهِ بِالْفَسْخِ، فَإِنْ لَمْ يَفْسَخِ الْمُشْتَرِي وَأَحَبَّ الْإِمْضَاءَ فَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَةَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ، لَكِنْ بَعْدَ قَبْضِ الْعَبْدِ فَأَمَّا قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهِ وَتَجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِبَائِعِهِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَجِنَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ بِهَا فَإِنْ تَلَفَ الْعَبْدِ بَعْدَ جِنَايَتِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَصَارَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا أَرْشَ جِنَايَتِهِ لِلْبَائِعِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا بِالْأَرُوشِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْأَعْضَاءِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالثَّانِي: يَضْمَنُهَا بِمَا نَقَصَتْ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَلَى عُضْوِ الْعَبْدِ هُوَ الْبَائِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جِنَايَتِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ مَجْرَى جِنَايَةِ آدَمِيٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ فَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ إِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ كَجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ فَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ إِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ. وَالثَّانِي: فَإِنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ عَلَى الْبَيْعِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْعَبْدِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا وَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْمُقَدَّرِ فِي الْأَعْضَاءِ، وَالثَّانِي: بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنَ الْقِيمَةِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ بِحَقٍّ لَا يُضْمَنُ كَالْقَوَدِ وَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ قَاتِلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ قَبْضًا وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ قَتْلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْتِ وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْجِنَايَةِ إِلَى بَلَدٍ بِخِلَافِ الْمَوْتِ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَإِنْ فَسَخَ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُطَالِبُ لِلْقَاتِلِ بِالْقِيمَةِ لِعَوْدِهِ إِلَى مِلْكِهِ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُطَالِبُ لِلْقَاتِلِ بالقيمة لاستقراره في ملكه فإن كان القتل هُوَ الْبَائِعُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ جِنَايَتَهُ لِحَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ مَاتَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَجِنَايَةِ الْآدَمِيِّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ: فَلَوِ اشْتَرَكَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ فِي قَتْلِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ وَهُوَ مَا قَابَلَ جِنَايَةَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ كَالْقَابِضِ لَهُ بِجِنَايَتِهِ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي الْمُقَابِلِ لِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِنَايَتَهُ كَآفَةٍ مِنْ سَمَاءٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ مَا قَدْ لَزِمَهُ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ تَنَقَّصَتِ الصَّفْقَةُ بِهِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْبَائِعِ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ عَلَى مَا مَضَى. وَلِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُ نِصْفِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ وَاسْتِرْجَاعِ نِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَأَخْذِ نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا. فَصْلٌ: وَلَوِ ابْتَاعَ جَارِيَةً بِكْرًا فَوَطِئَهَا فَأَذْهَبَ بِكَارَتَهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ مَاتَتِ الْجَارِيَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرُهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ كَسْبِهَا وَالْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ لِاسْتِهْلَاكِ مَا زَالَ مِلْكُ المشتري عنه. مسألة: حقيقة القبض " وَمَنِ ابْتَاعَهُ جُزَافًا فَقَبْضُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَقَدْ رَوَى عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا فَيَبْعَثُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِنَقْلِهِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَاعُوهُ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلَقَ ذِكْرَ الْقَبْضِ كَمَا أَطْلَقَ التَّفَرُّقَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِحْيَاءَ فِي الْمَوَاتِ، وَالْإِحْرَازَ فِي السَّرِقَةِ، لِاخْتِلَافِهَا وَأَنَّ لِلنَّاسِ عُرْفًا مُعْتَبَرًا فِيهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَبْضُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَبِيعِ، فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا، أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالْعَقَارِ وَالْأَرْضِينَ فَقَبْضُ ذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْبَائِعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وَتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي، وَتَخْلِيَةُ الْبَائِعِ تَرْفَعُ يَدَهُ وَتَصَرُّفَهُ، فَإِنْ وُجِدَتِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ وَلَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ وَإِنْ وُجِدَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ تُوجَدِ التَّخْلِيَةُ مِنَ الْبَائِعِ فَتَمْكِينُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ كَامِلٍ، وَالْقَبْضُ غَيْرُ تَامٍّ، فَلَوْ بَاعَهُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً فَتَمَامُ الْقَبْضِ يَكُونُ بِالزَّرْعِ مَعَ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ. فَصْلٌ: وإن كان المبيع مَنْقُولًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزَافًا أَوْ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، فَإِنْ كَانَ جُزَافًا غَيْرَ مُكَيَّلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ فَقَبْضُ ذَلِكَ تَحْوِيلُهُ وَنَقْلُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَبْضُ هَذَا بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ دُونَ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّاسَ يَضْرِبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اشْتَرَوُا الطَّعَامَ جُزَافًا أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ إِلَى رَحْلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَنْقُولٌ فَلَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُ بِمُجَرَّدِ التَّمْكِينِ كَالْمُكَيَّلِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبْضَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْبَائِعِ وَلَا إِذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي مَنْعِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرِ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ إِلَى إِذْنِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ بَقِيَتْ لَهُ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي نَقْلُهُ إِلَّا عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ دُونَ حُضُورِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ حَبْسَهُ عَلَى ثمنه، ثم لَا يَسْتَقِرُّ الْقَبْضُ بِالتَّحْوِيلِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنْ نَقْلَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الدَّارِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَلَهُ مِنْ عُلُوِّ الدَّارِ إِلَى سُفْلِهَا أَوْ مِنْ سُفْلِهَا إِلَى عُلُوِّهَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ، لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ وَلَوْ نَقَلَهُ مِنْ بَيْتٍ فِي الدَّارِ إِلَى بَيْتٍ آخَرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ خَانَاتٍ لِلتُّجَّارِ وَكُلُّ بَيْتٍ فِيهَا حِرْزٌ مُفْرَدٌ لِرَجُلٍ، فَيَتِمُّ الْقَبْضُ لِاخْتِلَافِ الِاحْتِرَازِ، فَإِذَا نَقَلَهُ عَنِ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اسْتَقَرَّ الْقَبْضُ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فِي حِرْزِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ لَمْ يَنْقُلْهُ الْمُشْتَرِي مِنْ حِرْزِ الْبَائِعِ حَتَّى اشْتَرَى الْحِرْزَ مِنْهُ لَمْ يُلْزِمْهُ نَقْلُهُ وَاسْتَقَرَّ قَبْضُ الطَّعَامِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ حِرْزِهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ مَعَ مَا فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُ مَا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دَارًا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ لَمْ يَفْتَقِرْ قَبْضُ الْمَتَاعِ إِلَى تَحْوِيلِهِ مِنَ الدَّارِ. وَكَانَ تَمْكِينُهُ مِنَ الدَّارِ قَبْضًا لِلدَّارِ وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ فَلَوِ اسْتَعَارَ الْحِرْزَ وَلَمْ يَشْتَرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ كَانَ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَبْضًا لِأَنَّهُ بِالْإِجَارَةِ قَدْ مَلَكَ الْمَنَافِعَ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا حَتَّى يُنْقَلَ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِرْزِ لَمْ يَنْتَقِلْ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُكَيَّلًا أَوْ مَوْزُونًا قَبْضُهُ يَتِمُّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدِهِمَا كَيْلُ الْمُكَيَّلِ وَوَزْنُ الْمَوْزُونِ وَالثَّانِي النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فَإِنْ نَقَلَهُ عَنْ مُكَيَّلٍ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ لَكِنْ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يُكَالَ أَوْ يُوزَنَ وَإِنِ اكْتَالَهُ أَوْ وَزَنَهُ وَلَمْ يُحَوِّلْهُ لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 يَتِمَّ الْقَبْضُ وَلَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِ بَائِعِهِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ هَذَا الْقَبْضُ إِلَّا بِحُضُورِ الْبَائِعِ كَيْلَهُ أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ فِيهِ وَحُضُورِ الْمُشْتَرِي لِاكْتِيَالِهِ أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ فِيهِ وَحُضُورِ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ تَقَابَضَا الثَّمَنَ أَمْ لَا فَلَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا أن يكون عند الكيل مقبض من جهة البائع وقابض مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْكَيَّالُ أَمِينًا يَرْضَيَانِ بِهِ فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَكِيلُهُ لِنَفْسِي لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِهِ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَنَا أَكْتَالُهُ لِنَفْسِي لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ فَإِنْ تَرَاضَيَا بِكَيَّالٍ وَإِلَّا نَصَبَ الْحَاكِمُ لَهُمَا كَيَّالًا أَمِينًا، وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ. وَقَالَ أبو حنيفة: أُجْرَةُ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَفِيزَ عَلَى الْبَائِعِ وَأُجْرَةُ الَّذِي يُفْرِغُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ تَفْرِيغَ الْقَفِيزِ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَأَمَّا أُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ فَلَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ وَزَّانَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمُشْتَرِي، أَيْضًا مَعَ أُجْرَةِ الْوَزَّانِ لِأَنَّ النَّقْدَ مِنْ كَمَالِ التَّسْلِيمِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَسْتَظْهِرُ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ. وَمَا اشْتُرِيَ كَيْلًا فَلَا يَتِمُّ قَبْضُهُ بِالْوَزْنِ، وَكَذَا مَا اشْتُرِيَ وَزْنًا لَا يَتِمُّ قَبَضُهُ بِالْكَيْلِ وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِمِكْيَالٍ فَاكْتَالَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ لَمْ يَجُزْ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِائَةَ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ قَدِ اكْتَالَهُ بِالْقَفِيزِ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمُكَيَّلَ بِالْوَزْنِ وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ قَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ فَاكْتَالَهُ مِنْهُ بِالْمُكَيَّلِ الَّذِي هُوَ رُبْعُ الْقَفِيزِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: وَكَذَا لَوِ اكْتَالَ الصَّاعَ بِالْمُدِّ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَأَمَّا الْمَعْدُودُ فَيَقْبِضُهُ بِالْعَدَدِ وَالتَّحْوِيلِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا بَاعَهُ الْأَبُ لِنَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِحَقِّ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فَفِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: بِالنِّيَّةِ إِذَا كَانَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تَحْوِيلٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُكَيَّلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلَا بُدَّ مِنْ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ، فَلَوْ أَرْسَلَ الْأَبُ عَبْدَهُ فِي حَاجَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ فَتَلِفَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ مِنَ الرِّسَالَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الْأَبِ، وَسَقَطَ عَنِ الِابْنِ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلَفَ فِي يَدِ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ عَادَ إِلَى يَدِ الْوَالِدِ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ قُدْرَتُهُ ثُمَّ مَاتَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الِابْنِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَلَوْ عَادَ إِلَى يَدِ الْوَالِدِ بَعْدَ بُلُوغِ الِابْنِ رُشْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا بَلَغَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ إِلَّا بِنَفْسِهِ دُونَ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَوَلَّى الْعَقْدَ. وَقَالَ محمد بن الحسن: إِذَا كَانَ الْأَبُ قَدْ تَوَلَّى الْعَقْدَ فِي صِغَرِ ابْنِهِ صَحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بَعْدَ كِبَرِ ابْنِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ تَوَلِّي الْأَبِ الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ عَنِ ابْنِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ مِنَ الِابْنِ بِالصِّغَرِ فَإِذَا كَبُرَ الِابْنُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ مِنَ الِابْنِ بِالْكِبَرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ حِينَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي حَاجَةٍ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إليه العبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 بَطَلَتِ الْهِبَةُ وَكَانَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ، وَقَالَ محمد بن الحسن: يَكُونُ الْعَبْدُ لِلِابْنِ وَلَا يَفْتَقِدُ إِلَى قَبْضٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَأَنَّ الْبَيْعَ مَضْمُونٌ وَالْهِبَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ عَبْدًا آبِقًا جَازَ وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدًا آبِقًا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّمَا جَازَتْ هِبَةُ الْآبِقِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْإِبَاقَ غَرَرٌ يَجُوزُ فِي الْهِبَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي البيع. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ وَرِثَ طَعَامًا كَانَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ بَيْعُ الْمِيرَاثِ قَبْلَ قَبْضِهِ جَائِزٌ لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا أَنَّ تَلَفَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُبْطِلُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ وتلف المبيع قَبْلَ قَبْضِهِ يُبْطِلُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إِنْ تَلَفَ قبل قبضه وليس مضمون عَلَى غَيْرِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُوصَى بِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّتَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْقَبُولِ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْوَدِيعَةِ قبل استرجاعها وَأَمَّا بَيْعُ الْوَدِيعَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا بِالْقَبْضِ فَجَائِزٌ من المودع وغيره، فما ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، لَكِنْ إِنْ بَاعَهَا مِنَ الْمُودَعِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قَبْضِهَا النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا النَّقْلَ، لِأَنَّهَا فِي قَبْضِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي قَبْضَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ إِنَّمَا يَقْبِضُهَا لِنَفْسِهِ بِالْبَيْعِ، فَأَمَّا إِذْنُ الْبَائِعِ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ الثَّمَنَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: القول في بيع العارية قبل استرجاعها وَأَمَّا بَيْعُ الْعَارِيَةِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا فَجَائِزٌ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ تَلَفَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُبْطِلُ سَبَبَ الْمِلْكِ وَلَا يَكُونُ ضَمَانُهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ كَمَا لَا يَكُونُ ضَمَانُهَا بِالسَّوْمِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ، فَإِنْ بِيعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ قَبْضُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِ الْبَائِعِ سَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ أم لا يكون الْإِذْنُ مُسْقِطًا لِضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ الْمُعِيرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ وَضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي بِالْيَدِ وَضَمِنَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِالدَّفْعِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا صَحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ، وَهَلْ يَسْقُطُ ضَمَانُهَا عَنِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُعِيرِ عَنْهَا وَحُصُولِهَا فِي يَدِ مَالِكِهَا فَلَوِ ابْتَاعَهَا الْمُسْتَعِيرُ صَحَّ الْبَيْعُ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ قَبْضُهَا إِلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَدِيعَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الْمَغْصُوبِ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهِ فَإِنْ بِيعَ عَلَى غَاصِبِهِ جَازَ لِأَنَّهُ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَهَلْ يَحْتَاجُ فِي قَبْضِهِ عَنِ الْبَيْعِ إِلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى غَيْرِ غَاصِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْ غَاصِبِهِ ولا المشتري أيضا قادر عَلَى قَبْضِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ فَتَعَذَّرَ قَبْضُهُ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ صَحَّ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ وَإِقْبَاضِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ وانتزاعه صح البيع أيضا فإن انتزاعه ثَبَتَ الْبَيْعُ وَاسْتَقَرَّ الْمِلْكُ وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ لَكِنْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ وَلَهُ الْفَسْخُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ مَا مُلِكَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ جَازَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، لَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنَ الْمَصَالِحِ وَلَا غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ مَا مُلِكَ بِالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَلَفِ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ، هَلْ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ أَوْ بمهر. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْبَيْعِ لِأَنَّ تَلَفَهُ يُبْطِلُ سَبَبَ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِهِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ وَبَاعَ طَعَامًا آخَرَ فَأَحْضَرَ الْمُشْتَرِي مَنِ اكْتَالَهُ مِنْ بَائِعِهِ وَقَالَ أَكْتَالُهُ لَكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ إِلَى رَجُلٍ فَلَمَّا حَلَّ الطَّعَامُ بَاعَهُ عَلَى آخَرَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يستوفيه ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ إِلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ غَيْرَهُ فِي طَعَامٍ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْأَجَلِ، فَحَلَّ الطَّعَامُ الَّذِي لَهُ وَحَلَّ الطَّعَامُ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَالَ: لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ احْضَرْ مَعِي إِلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ حَتَّى أَكْتَالَهُ لَكَ مِنْهُ وَأَقْبِضَهُ لَمْ يَجُزْ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصَّاعَانِ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ مُسْنَدًا عَنْ أَنَسٍ وَمَعْنَى الصَّاعَيْنِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَفْتَقِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَبْضٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ الْوَاحِدُ نايبا عن العقدين فعلى هذا يكون القبض نايبا عَمَّا ابْتَاعَهُ وَلَا يَنُوبُ عَمَّا بَاعَهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ تَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فَاسِدًا فَإِنْ زَادَ الطَّعَامُ بِالْكَيْلِ الثَّانِي كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُ وَإِنْ نَقَصَ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ بَيْنَ الكيلين. مسألة: إجراء الكيلين في السلم قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ قَالَ أَكْتَالُهُ لِنَفْسِي وَخُذْهُ بِالْكَيْلِ الَّذِي حَضَرْتَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَاعَ كَيْلًا فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَكِيلَهُ لِمُشْتَرِيهِ وَيَكُونَ لَهُ زَيَادَتُهُ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُهُ وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ الصِّيعَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ وَحَلَّ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَقَالَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ احْضَرْ مَعِي عِنْدَ مَنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ حَتَّى أَكَتَالَهُ لِنَفْسِي ثُمَّ تَأْخُذُهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ فَفَعَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ عَلَيْهِ كَيْلَهُ ثَانِيَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَيْلَ عَنْ عَقْدٍ أَوَّلٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ استيثاق كيل عَنْ عَقْدٍ ثَانٍ فَإِنْ قَبَضَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ كَانَ قَبْضًا فَاسِدًا، وَيَسْتَأْنِفَانِ كَيْلَهُ فَإِنْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لَا يَرُدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ لِكَثْرَتِهَا لَزِمَهُ رَدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لعلمنا بأنها غَلَطٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَصَ فَالنُّقْصَانُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاجِعُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مِثْلُ النُّقْصَانِ مُحْتَمَلًا، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُهَا لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ لِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَيْلِ فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ الثَّانِي حَاضِرًا لِلْكَيْلِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ هَذَا النُّقْصَانِ الَّذِي لا يحتمله الكيلان وإن كان غايبا قَبِلَ مِنْهُ وَرَجَعَ النُّقْصَانُ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ فَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ صَاعًا وَاحِدًا وَالطَّعَامُ الَّذِي قَدْ بَاعَهُ صَاعًا وَاحِدًا فَاكْتَالَ الصَّاعَ الَّذِي قَدِ ابْتَاعَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ فِي صَاعِهِ مُكَيَّلًا إِلَى مَنْ بَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُفْرِغَهُ مِنَ الصَّاعِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ ثَانِيَةً كَمَا اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا سَلَّمَهُ مُكَيَّلًا فِي صَاعِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَيْلِ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالْمِكْيَالِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمِكْيَالِ صَارَ مِقْدَارٌ بِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَفْرِيقُهُ، وَاسْتِئْنَافُ كَيْلِهِ وَهَذَا أصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 فَصْلٌ: فَلَوْ حَلَّ لَهُ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ وحل عليه طعام لمن سلم فقال من لَهُ الطَّعَامُ: اقْبِضْ مِمَّنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ اقْبِضْهُ لِي ثُمَّ خُذْهُ لِنَفْسِكَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ فَيَكُونُ الْقَبْضُ لَهُ صَحِيحًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْقَابِضُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ كَيْلَهُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ زِيَادَتُهُ الْمُحْتَمَلَةُ وَعَلَيْهِ نُقْصَانُهُ الْمُحْتَمَلُ، ثُمَّ هُوَ قَبْلَ اسْتِيثَاقِ كَيْلِهِ مَضْمُونٌ عَلَى قَابِضِهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ عَنْ قَبْضٍ فَاسِدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ مِمَّنْ لِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِنَفْسِكَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لِهَذَا الَّذِي اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَبْرَأَ مِنْهُ ذِمَّةُ مَنْ كَانَ الطَّعَامُ عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ وَتَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةُ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ إِذْنِ مُسْتَحَقِّهِ وَيَكُونُ الْقَبْضُ الثَّانِي فَاسِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ لِمُسْتَحَقِّهِ لَكِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ إِذْنِهِ وَمَضْمُونٌ عَلَى قَابِضِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ يَسْتَأْنِفَانِ كَيْلَيْنِ كَيْلًا لِلْأَوَّلِ وَكَيْلًا لِلثَّانِي فَمَا زَادَ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ أَوْ نَقَصَ ففي حق الدافع وما زاد بالكيل الثَّانِي أَوْ نَقَصَ فَفِي حَقِّ الْآمِرِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَقْبِضُ الَّذِي لَهُ طَعَامٌ مِنْ طَعَامٍ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَكِيلًا لِنَفْسِهِ مُسْتَوْفِيًا لَهَا قَابِضًا مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِيمَنْ حَلَّ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَدَفَعَ إِلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا لِنَفْسِهِ وَيَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ أَعْنِي لِدَافِعِ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِالْكَيْلِ الَّذِي قَدِ اكْتَالَهُ فَهَذَا الشَّرْطُ جَائِزٌ وَالْقَبْضُ صَحِيحٌ لِلدَّافِعِ لِأَنَّهُ ابْتَاعَ وَقَبَضَ عَنْ وِكَالَةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الطَّعَامَ لِنَفْسِهِ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ كَيْلَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخَذَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقَبْضٍ فَاسِدٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ لِنَفْسِهِ أَعْنِي لِدَافِعِ الدَّرَاهِمِ وَيَقْبِضُهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ بَدَلًا مِنْ طَعَامِهِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلدَّافِعِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَقْبُوضًا لِلدَّافِعِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْمُرَهُ بِالشِّرَاءِ لِيَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ بَدَلًا مِنْ طَعَامِهِ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ فَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِتِلْكَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 الدَّرَاهِمِ طَعَامًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ فِي ثَمَنِهِ كَانَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ فِي ثَمَنِهِ وَطَعَامُهُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ دَافِعِ الدَّرَاهِمِ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِمَنْ لَهُ الطَّعَامُ اخْتَرْ طَعَامًا اشْتَرِهِ لَكَ لِتَأْخُذَهُ مِنْ حَقِّكَ فَاخْتَارَهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ فَاشْتَرَاهَا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا إِنْ كَانَتْ أَنْقَصَ مِنْ حَقِّهِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الصُّبْرَةَ بِعَيْنِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ حَقِّهِ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَ مَنْ لَهُ الطَّعَامُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ أقضِ على طعامي أَنْ أَبِيعَكَ إِيَّاهُ فَقَضَاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ مِثْلَ طَعَامِهِ أَوْ دُونَهُ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا مَوْعِدٌ وَعَدَهُ إِيَّاهُ فَلَوْ كَانَ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْ طَعَامِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ غَيْرُ لَازِمٍ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فَضْلًا وَعَلَيْهِ رَدُّهُ والمطالبة بمثل طعامه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ حَلَّ لَهُ عَلَيْهِ طَعَامٌ فَأَحَالَ بِهِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ طَعَامُ أَسْلَفَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَصْلَ مَا كَانَ لَهُ بَيْعٌ وَإِحَالَتَهُ بِهِ بَيْعٌ مِنْهُ لَهُ بِطَعَامٍ عَلَى غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَقْرَضَ رَجُلًا طَعَامًا وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَسْلَفَهُ إِيَّاهُ لِأَنَّ الْقَرْضَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ يُسَمَّى سَلَفًا ثُمَّ إِنَّ الْمُقْرِضَ حُمِلَ عَلَيْهِ طَعَامٌ قَدْ حَلَّ مِنْ سَلَمٍ فَأَحَالَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ سَلَمٍ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ قَرْضٍ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحِوَالَةَ بَيْعٌ فَكَانَ مُسْتَحِقُّ الطَّعَامِ مِنْ سَلَمٍ قَدْ بَاعَ طَعَامَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمَا يَأْخُذُهُ بِالْحِوَالَةِ مِنْ طَعَامِ الْقَرْضِ وَكَذَا لَوْ كَانَ كِلَا الطَّعَامَيْنِ مِنْ سَلَمٍ هُوَ بَاطِلٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ طَعَامَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الطَّعَامَانِ مَعًا قَرْضًا كَانَ فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ بَيْعِ الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى غَيْرِ مَقْبُوضِهِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَعْطَاهُ طَعَامًا فَصَدَقَهُ فِي كَيْلِهِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ قَبَضَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ فِيمَا وُجِدَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَدَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ إِلَيْهِ طَعَامًا وَقَالَ هَذَا مَكِيلٌ بِقَدْرِ حَقِّكَ فَقَبَضَهُ مِنْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى كَيْلِهِ كَانَ هَذَا الْقَبْضُ فَاسِدًا لِأَنَّ كَيْلَهُ مُسْتَحَقٌّ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ وَقَدْ صَارَ مِنْ ضَمَانِهِ بِهَذَا الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بَدَلًا مِنْ حَقِّهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ كَيْلِهِ فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ بَعْضَهُ قَبْلَ الْكَيْلِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَعَلَيْهِمَا اسْتِئْنَافُ كَيْلِهِ، فَإِنْ وُجِدَ زَائِدًا رُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ وَإِنْ وُجِدَ نَاقِصًا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ قَلِيلًا مُحْتَمَلًا أَوْ كثيرا غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 مُحْتَمَلٍ لِأَنَّ قَابِضَ الطَّعَامِ لَمْ يَحْضُرْ كَيْلَهُ فَلَوِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ قَبْلَ كَيْلِهِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِ مَا اسْتَهْلَكَ وَبَرِئَ مِنْهُ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ فَإِنِ ادَّعَى نُقْصَانًا قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ مِنْ قَرْضٍ فَصَدَّقَ الدَّافِعُ فِي كَيْلِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي كَيْلِهِ فَيَكُونُ قَدِ اسْتَوْفَى حقه ويحتمل أن يكون كاذبا فلا يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ مُسْتَحَقًّا عَنْ بَيْعٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرْضِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ سَلَفًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ يَدًا بِيَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَقْرَضَ رَجُلٌ طَعَامًا لِرَجُلٍ جَازَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ عَلَى مَا أَقْرَضَ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ بَاعَهُ عَلَيْهِ مِمَّا يُدْخِلُهُ الرِّبَا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ يَتَقَابَضَا الثَّمَنَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ الطَّعَامَ الَّذِي أَقْرَضَهُ بِشَعِيرٍ أَوْ بِذُرَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِأَجْلِ الرِّبَا وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَإِنْ بَاعَهُ بِثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ فَفِي جَوَازِ افْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِانْتِفَاءِ الرِّبَا عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ مُقْرِضُ الطَّعَامِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْمُسْتَقْرِضِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَقْرَضَهُ طَعَامًا بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ رَآهُ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، وَقِيلَ لَكَ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ طَعَامِكَ حَيْثُ أَقْرَضْتَهُ بِالْبَصْرَةِ فَإِنْ طَالَبَهُ بِبَغْدَادَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ لَزِمَ الْمُسْتَقْرِضُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ بِبَغْدَادَ قَدْرَ قِيمَةِ الطَّعَامِ بِالْبَصْرَةِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا وَلَوْ أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ سَأَلَ الْمُقْرِضَ حَيْثُ رَآهُ بِبَغْدَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الطَّعَامَ بِمَا لَمْ يَلْزَمِ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ بِالْبَصْرَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ خُذْ مِنِّي قِيمَةَ الطَّعَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهَا لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 حَقَّهُ فِي غَيْرِهَا، وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ طَعَامًا بِالْبَصْرَةِ وَاسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ رَآهُ مَالِكُهُ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ بِالْبَصْرَةِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الطَّعَامِ مُطَالَبَتُهُ بِمِثْلِ مِكْيَلَتِهِ بِبَغْدَادَ كَالْقَرْضِ. وَقِيلَ إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مِثْلَ طَعَامِكَ بِالْبَصْرَةِ أَوْ تَأْخُذَ مِنْهُ بِبَغْدَادَ قِيمَةَ طَعَامِكَ بِالْبَصْرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ بِبَغْدَادَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مَالِكِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يضمن مثل ما غصبه في الموضع الَّذِي قَدِ اسْتَهْلَكَهُ فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِلْغَاصِبِ حِينَ رَآهُ بِبَغْدَادَ أُرِيدُ قِيمَةَ الطَّعَامِ لَمْ يَلْزَمِ الْغَاصِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ، فَلَمَّا قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِلْغَاصِبِ لَسْتُ أَقْبِضُ مِنْكَ طَعَامِي بِبَغْدَادَ وَأُرِيدُ مِثْلَهُ بِالْبَصْرَةِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَيَصِيرُ مَالِكُ الطَّعَامِ إِذَا غُصِبَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ وَاسْتُهْلِكَ بِبَغْدَادَ مُخَيَّرًا بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ غَصْبِهِ وَمِنْ مُطَالَبَتِهِ بِمِثْلِ طَعَامِهِ بِبَغْدَادَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اسْتِهْلَاكِهِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْغَصْبُ مُخَالِفًا لِلْقَرْضِ، فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ رَأَى مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِبَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِطَعَامِهِ بِبَغْدَادَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضِعِ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا دَفْعُ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ إِلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَحَلَّ الطَّعَامُ فَقَالَ من عليه الطعام لمن له الطعام يعني طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِكَ لَأَقْضِيَكَ حَقَّكَ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ فَإِنْ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ مُشْتَرِي الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَضَاهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَإِنْ شَاءَ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فَحَلَّ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُقْرِضَهُ إِيَّاهُ وَأَمَرَ السَّائِلَ أَنْ يَتَقَاضَى ذَلِكَ الطَّعَامَ فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ أَقْرَضَهُ إِيَّاهُ جَازَ. وَكَانَ بَعْدَ اقْتِضَاءِ الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَقْرَضَهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ فَإِنْ مَنَعَهُ وَكَانَ قَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إِذَا تَقَاضَاهُ أَقْرَضَهُ كَانَ لِلْمُقْتَضِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ طَعَامًا بِدِينَارٍ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ ابْتَاعَ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالدِّينَارِ طَعَامًا أَزْيَدَ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ أَنْقَصَ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا خَيْرَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا الطَّعَامَ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ التَّبَايُعَ بِالدِّينَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّعَامَ الثَّانِي لَوِ اسْتَحَقَّ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِالدِّينَارِ لَا بِالطَّعَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 باب بيع المصرّاة مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالتَّصْرِيَةُ أَنْ تَرْبِطَ أَخْلَافَ النَّاقَةِ أَوِ الشَّاةِ ثَمَّ تَتْرُكَ مِنَ الْحِلَابِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهَا لَبَنٌ فَيَرَاهُ مُشْتَرِيهَا كَثِيرًا فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا لِذَلِكَ ثُمَّ إِذَا حَلَبَهَا بَعْدَ تِلْكَ الْحَلْبَةِ حَلْبَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَبَنِهَا لِنُقْصَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ عَنْ أَوَّلِهِ وَهَذَا غُرُورٌ لِلْمُشْتَرِي وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّ أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْأَثْمَانِ فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَدَلَهَا ثَمَنًا وَاحِدًا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّصْرِيَةُ فَهِيَ الْجَمْعُ، يُقَالُ صَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، إِذَا جَمَعْتَهُ. قَالَ الْأَغْلَبُ: (رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته) وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصُّرَّةُ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ مَا فِيهَا، قَالَ الشَّاعِرُ: (إِنَّا صَرَيْنَا حُبَّ لَيْلَى فَانْبَتَرْ ... وَغَرَّنَا مِنْهُ وَكَانَ مِنْ شَعَرْ) فَقِيلَ شَاةٌ مُصَرَّاةٌ لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ صَرَى فِي ضَرْعِهَا أَيْ جُمِعَ وَيُقَالُ مُحَفَّلَةٌ أَيْضًا وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدِ احْتَفَلَ الْقَوْمُ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَهَذَا مَحْفِلٌ مِنَ النَّاسِ أَيْ جَمْعٌ، فَالتَّصْرِيَةُ غِشٌّ وَخِدَاعٌ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شَاةً فَحَلَبَهَا فَبَانَتْ مُصَرَّاةً كَانَتْ عَيْبًا وَلَهُ الرَّدُّ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ والفقهاء. إلا أبا حنيفة ومحمد فَإِنَّهُمَا خَالَفَا الْكَافَّةَ وَقَالَا لَا رَدَّ لَهُ فَمِنْ أَصْحَابِهِمَا مَنْ قَالَ هِيَ عَيْبٌ لَكِنَّ حِلَابَ اللَّبَنِ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الْخَبَرِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيَةِ بِوُجُوهٍ نَذْكُرُهَا مِنْ بعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَعْنَى فِي أَنَّ التَّصْرِيَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ وَذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ كَبِرَ الضَّرْعُ بِالتَّصْرِيَةِ وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ لَبَنَ الْعَادَةِ يَجْرِي مَجْرَى كَبِيرَةِ اللَّحْمِ وَالسِّمَنِ وَظَنَّ الْمُشْتَرِي أنه لكبرة اللَّبَنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ تَكُنِ التَّصْرِيَةُ عَيْبًا تُوجِبُ الرَّدَّ كَمَا لَوْ كَانَ الْجَوْفُ مَلِيًّا بِالْعَلَفِ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ حَمْلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ كِبَرَ الضَّرْعِ بِالتَّصْرِيَةِ لَوْ كَانَ عَيْبًا إِذَا شَاهَدَهُ الْمُشْتَرِي لَكَانَ عَيْبًا وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا مَعَ فَقْدِ الْمُشَاهَدَةِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وُرُودُ السُّنَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ ". وَالثَّانِي: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً أَوْ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ ". وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَحْلِبْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَإِنْ رَضِيَ أَمْسَكَ وَإِلَّا فَإِنْ رَدَّهَا يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا ". وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عمر فرواه أبو داود عن أبو كَامِلٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَاعَ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مثليْ لَبَنِهَا قَمْحًا ". فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ التَّصْرِيَةَ عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نَهْيُهُ عَنِ التَّصْرِيَةِ لِلْبَيْعِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ وَعَيْبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ وَالرَّدُّ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَيْبٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 التَّصْرِيَةِ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطٌ يَسْتَحِقُّ بِنَقْصِهِ الرَّدَّ وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسٌ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الرَّدَّ كَتَسْوِيدِ الشَّعْرِ. فَأَمَّا دَفْعُهُمْ لِلْخَبَرِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْحٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ لَهُ فَأَمَّا قَدْحُهُمْ فِيهِ، فَلِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ قَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ اللَّبَنِ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ وَوُجُوبَ مِثْلِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيمَةَ تَمْرًا وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ جَعَلَهَا مُقَدَّرَةً لَا تَزِيدُ بِزِيَادَةِ اللَّبَنِ وَلَا تَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ، وَمِنْ حُكْمِ الْقِيمَةِ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوَّمِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ الرَّدُّ مَعَ مَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّقْصِ، قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ خَبَرُ التَّصْرِيَةِ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ وَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْأُصُولُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ وَافَقَهُ فَخُذُوا بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فَاتْرُكُوهُ ". وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُ فَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الشَّاةَ تُحْلَبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَيَكُونُ هَذَا شَرْطًا يُفْسِدُ الْبَيْعَ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ هَذَا الشَّرْطِ وَإِبْطَالِهِ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ بَطَلَ الْبَيْعُ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ عَوَّلُوا عَلَيْهَا فِي دَفْعِنَا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ فَاسِدَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ سُنَّةً ثَابِتَةً، أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَيُقَالُ هَذَا خَبَرٌ قَدْ رواه جماعة منهم أبي هُرَيْرَةَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَتَلَقَّاهُ الْبَاقُونَ بِالْقَبُولِ وَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّحَابَةِ انْتِشَارًا وَاسِعًا صَارَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ، عَلَى أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَتْ مَوْرِدًا صَحِيحًا لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ فَفِيهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَرَدَ فِي التَّصْرِيَةِ فَهُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ مُوَافَقَةُ الْأُصُولِ كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْقِيَاسُ لِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ. فَأَمَّا التَّصْرِيَةُ فَلَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَاطِلًا لِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ مَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا لَجَازَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأُصُولُ بَاطِلَةً بِهَذَا الْأَصْلِ وَإِذَا صَحَّ قَلْبُ هَذَا الْأَصْلِ، وَهَذَا الْقَوْلِ كَانَ مطرحا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 وَلَزِمَ اعْتِبَارُ كُلِّ أَصْلٍ بِذَاتِهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كَيْفَ اسْتَخَرْتُمُ اسْتِعْمَالَ الْخَبَرِ فِي الْقَهْقَهَةِ وَالنَّبِيذِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمَا الْأُصُولَ، وَامْتَنَعْتُمْ مِنْ هَذَا فَإِنْ قَالُوا لِوُرُودِ الرِّوَايَةِ قَبْلُ فَكَذَلِكَ التَّصْرِيَةُ، فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما جاءكم عني فاعرضوا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى " فَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصٌّ يَدْفَعُهُ فَخُذُوا بِهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اتَّبَعْنَاهُ، هَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ". وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ التَّصْرِيَةِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ مِنَ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بَلْ فِي الْأُصُولِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُعَاضِدُهُ. أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ غُرْمَ الْقِيمَةِ مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ لَا يَجُوزُ فَالرَّدُّ فِي لَبَنِ التَّصْرِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَقْصُ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْحَلْبِ وَذَهَابُ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِطُولِ الْمُكْثِ، وَالثَّانِي: أَنَّ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ قَدْ خَالَطَهُ مَا حَدَثَ فِي الضَّرْعِ بَعْدَهُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا خَالَطَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ مَعَ وُجُودِ مِثْلِهِ وَجَعَلَهُ مُقَدَّرًا مَعَ اخْتِلَافِ قَدْرِهِ فِي الضَّرْعِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى بَدَلٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ مِثْلٍ وَلَا تُقَوَّمُ كَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ يَسْتَوِي فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَاتُهُمَا وَمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الشِّجَاجِ كَالْمُوَضَّحَةِ الَّتِي تَسْتَوِي دِيَةُ مَا صَغُرَ مِنْهَا وَمَا كَبُرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنِ التَّقْوِيمِ إِلَى الثَّمَنِ فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ فِي الْقِيمَةِ بِمَا يُخَالِفُ جِنْسَ الْأَثْمَانِ كَمَا جَاءَ الشَّرْعُ فِي الدِّيَاتِ بِالْإِبِلِ وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْغَنَمِ وَفِي الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يُوجِبُ الرَّدَّ مَعَ مَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّقْصِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّقْصَ حَادِثٌ فِي اللَّبَنِ دُونَ الشَّاةِ وَهُوَ إِنَّمَا يَرُدُّ الشَّاةَ دُونَ اللَّبَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْصَ الْحَادِثَ الَّذِي لَا يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَّا بَدَلًا يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ كَالَّذِي يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ إذا كر. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشَّرْطِ فَغَلَطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 أَحَدُهَا: أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّصْرِيَةِ لَا يَقْتَضِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الرَّدَّ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَلَوْ كَانَ لِلشَّرْطِ كَانَ لَهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ جَعَلَ الرِّضَا مُوجِبًا لِلْإِمْضَاءِ وَالسَّخَطَ مُوجِبًا لِلرَّدِّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُعَلَّقًا بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَإِسْقَاطُ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنَ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ ظَنَّ سِمَنَ ضَرْعِهَا لَبَنًا وَانْتِفَاخَ جَوْفِهَا حَمْلًا، فَهُوَ أَنَّ سِمَنَ الضَّرْعِ لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا، وَالتَّصْرِيَةُ تَدْلِيسٌ مِنْهُ فَكَانَتْ عَيْبًا وَأَمَّا انْتِفَاخُ جَوْفِهَا بِالْعَلَفِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى إِكْثَارِ عَلَفِهَا وَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ تَدْلِيسًا. وَالتَّصْرِيَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَكَانَتْ تَدْلِيسًا فَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ غُلَامًا قَدْ أَخَذَ دَوَاةً وَأَقْلَامًا وَسَوَّدَ يَدَهُ لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَاتِبٌ فَكَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ اخْتِبَارُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْهُ مُحْتَمَلًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا لِكَاتِبٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْبًا مَعَ الرُّؤْيَا لَكَانَ عَيْبًا مَعَ فَقْدِ الرُّؤْيَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ فَهُوَ أَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ عَيْبٌ مَعَ الرُّؤْيَا وَفَقْدِ الرُّؤْيَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ عَيْبٌ لَا يُوجِبُ الرَّدَّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالتَّصْرِيَةِ فَلَهُ الرَّدُّ إِذَا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أيام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا ثَلَاثًا ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ خِيَارُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ يَمْتَدُّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ كَانَ خِيَارَ عَيْبٍ لَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعُ الْكَشْفِ وَالتَّدْلِيسُ بِالتَّصْرِيَةِ لَا يُعْلَمُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ إِذَا حَلَبَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّصْرِيَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ فَإِذَا حَلَبَهَا الْحَلْبَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَرَآهُ نَاقِصًا جَازَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُ لِأَنَّهَا مُصَرَّاةٌ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُ لِقِلَّةِ إِمْكَانٍ أَوْ تَغْيِيرِ مَكَانٍ فَإِذَا حَلَبَهَا الثَّالِثَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَكَانَ نَاقِصًا عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، يَتَيَقَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّصْرِيَةِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّرَ بِالشَّرْعِ وَقُلْنَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الرَّدُّ كَمَا لَوْ عَلِمَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِيَارُ شَرْعٍ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ فِي الرَّدِّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا رَدَّ بِالتَّصْرِيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ صَاعًا، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ " فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْوَزَ التَّمْرَ أُعْطِيَ قِيمَتُهُ وَفِي مَحَلِّ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ بِلَادِ التَّمْرِ مِنْهُ، وَالثَّانِي: قِيمَتُهُ بِالْمَدِينَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: أَنْ يُعْطِيَ صَاعًا مِنْ أَيِّ الْأَقْوَاتِ الْمُزَكَّاةِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ شَعِيرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ " صَاعًا مِنْ تَمْرٍ " وَقَالَ: فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ إِعْطَاءُ مِثْلٍ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهُ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ صَاعًا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْغَنَمِ أَنْ تَكُونَ الْحَلْبَةُ نِصْفَ صَاعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّهُ يُعْطِي صَاعًا مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ، اعْتِبَارًا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ. فَصْلٌ: فَلَوِ اشْتَرَى شَاةً بِصَاعٍ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ فَفِي قَدْرِ مَا يَرُدُّ مَعَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَدَّرَ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ بِصَاعٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَقْصِهِ، كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِقِلَّةِ اللَّبَنِ وَكَثْرَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّ مِنَ الصَّاعِ بِقَدْرِ نَقْصِ التَّصْرِيَةِ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْمُبْتَغَى مِنَ الرَّدِّ اسْتِدْرَاكُ النَّقْصِ فَعَلَى هَذَا تَقُومُ الشَّاةُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُوِّمَتْ وَهِيَ مُصَرَّاةٌ، فَإِذَا قِيلَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، عُلِمَ أَنْ نَقَصَ التَّصْرِيَةِ هِيَ الْخُمْسُ فَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي مَعَهَا خُمْسَ الصَّاعِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ لَبَنُ التَّصْرِيَةِ بَعْدَ حَلْبِهِ بَاقِيًا وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ مَعَهَا لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ قَبُولُهُ لِنَقْصِهِ بِالْحَلْبِ وَبِغَيْرِهِ وَلَوْ طَلَبَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي دَفْعُهُ لِمَا حَدَثَ فِي الضَّرْعِ مِنْ زِيَادَةِ اللَّبَنِ قَبْلَ الْحَلْبِ وَوَجَبَ رَدُّ بَدَلِهِ صَاعًا إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رد اللبن فيجوز. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَحُكْمُ التَّصْرِيَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيَةَ فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَاحِقٌ بِهِمَا وَلِأَنَّ الْبَقَرَ مِنْ جُمْلَةِ النَّعَمِ الَّتِي تُقْصَدُ أَلْبَانُهَا وَأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إِنْ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ رَدَّ مَعَهَا صَاعًا بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ فَأَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 التَّصْرِيَةُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْأَلْبَانَ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا إِلَّا مِنَ النَّعَمِ فَلَمْ يَكُنْ نَقْصُ اللَّبَنِ فِيمَا عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَيْبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّ التَّصْرِيَةَ فِي كُلِّ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ لِأَنَّ فِي كَثْرَةِ أَلْبَانِهَا نَفْعًا وَغَرَضًا، فَكَانَ نَقْصُهُ عَيْبًا كَالنَّقْصِ فِي أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَبَانَتْ مُصَرَّاةً، فَأَرَادَ رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ أَلْبَانَ الْإِمَاءِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلِ الْحَضَانَةُ مَقْصُودَةٌ وَاللَّبَنُ تَبَعٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِنَاثِ الْخَيْلِ، فَأَمَّا إِنَاثُ الْحَمِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَلْبَانِهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِهِمْ أَنَّهَا نَجِسَةٌ فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ صَاعٍ مَعَهَا لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ لِأَلْبَانِهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: هِيَ طَاهِرَةٌ يَجُوزُ شُرْبُهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ، فَهَلْ يَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْإِمَاءِ وَإِنَاثِ الْخَيْلِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ كَانَ رَضِيَهَا الْمُشْتَرِي وَحَلَبَهَا زَمَانًا ثُمَّ أَصَابَ بِهَا عَيْبًا غَيْرَ التَّصْرِيَةِ فَلَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ وَيَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ثَمَنًا لِلَبَنِ التَّصْرِيَةِ وَلَا يَرُدُّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَرَضِيَ بِالتَّصْرِيَةِ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا غَيْرَ التَّصْرِيَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِعَيْبٍ ثُمَّ وَجَدَ غَيْرَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ الرِّضَا بِمَا عَلِمَ مِنَ الرَّدِّ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ حَالُ عِلْمِهِ بِالتَّصْرِيَةِ وَرِضَاهُ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ وَرَضِيَ بِهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَى عَيْبٍ آخَرَ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَإِذَا رَدَّهَا بِالْعَيْبِ الْآخَرِ رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا يَرُدُّ عَنِ اللَّبَنِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ عِوَضًا لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ وَبَعْدَ ضَمَانِهِ وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، أَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ وَرِضَاهُ بِهَا مَعَ الْعَقْدِ ثُمَّ وَقَفَ عَلَى عَيْبٍ آخَرَ فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا بِهِ وَجْهَانِ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ الصَّفْقَةِ أَحَدُهُمَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ وَيَرُدُّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ تَفْرِيقَ الصفقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 وَالثَّانِي: لَا يَرُدُّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ وَيَرْجِعْ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْرِيقِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ مِنْ فَسْخِ بَعْضِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ الرِّضَا بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَوْجَبَتْ لُزُومَ النَّقْصِ. فَصْلٌ: فلم اشْتَرَى شَاةً غَيْرَ مُصَرَّاةٍ فَكَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَحَلَبَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا جَازَ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ لِأَنَّ مَا كَانَ فِي الضَّرْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ، وَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّهَا بِالْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا قِيمَةَ ذَلِكَ اللَّبَنِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ صَاعٍ لِأَنَّ الصَّاعَ عِوَضٌ عَنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُصَرَّاةٌ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 باب الرد بالعيب مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ أَنَّهُ ابْتَاعَ غُلَامًا فَاسْتَغَلَّهُ ثُمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَدِّهِ وَغَلَّتِهِ فَأَخْبَرَ عُرْوَةُ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَرَدَّ عُمَرُ قَضَاءَهُ وَقَضَى لِمَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ برد الخراج (قال الشافعي) فبهذا نأخذ فما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة فكله في معنى الغلة لا يرد منها شيئا ويرد الذي ابتاعه وحده إن لم يكن ناقصا عما أخذه به ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَقِيلَ: هُوَ مَنْ عَرَفَ ثِقَتَهُ وَتَسَمَّى اسْمَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُمْ جَمَاعَةٌ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمْ بِالذِّكْرِ فَكَنَّى عَنْهُمْ، فَإِذَا ابْتَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ فَإِنْ كَانَتِ الْغَلَّةُ مَنَافِعَ كَالسُّكْنَى وَالِاسْتِخْدَامِ وَالرُّكُوبِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمَنَافِعِ لَهُ وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَّةُ أَعْيَانًا كَالنَّتَاجِ وَالثِّمَارِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَصْلَ بِعَيْنِهِ وَيُمْسِكُ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ مِنَ النَّتَاجِ وَالثِّمَارِ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَرُدُّ الْأَصْلَ وَيَرُدُّ مَعَهُ مِنَ النَّمَاءِ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَالنَّتَاجِ وَلَا يُرَدُّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ كَالثِّمَارِ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ وَلَا يَكُونُ قَطْعًا لِلْمِلْكِ فِي الْحَالِ بِدَلِيلِ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَرَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ يُوجِبُ رَدَّ النَّمَاءِ فَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ النَّمَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النَّمَاءِ الْمُن ْفَصِلِ وَالنَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ فَقَالُوا: لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ نَفْسِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ دُونَ النَّمَاءِ كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ انْفِصَالِهِ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَائِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا فَانْفِصَالُهُ عَنْهَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ كَانْفِصَالِ بَعْضِ أَعْضَائِهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ النِّتَاجَ وَلَا يَرُدُّ الثَّمَرَةَ، فَإِنَّ النِّتَاجَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَّا بِبَعْضِ أَجْزَائِهَا وَلَيْسَتِ الثَّمَرَةُ مِنْ أَجْزَاءِ النَّخْلَةِ فَجَازَ أَنْ يَرُدَّهَا دُونَ ثمرتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لِمَا خَرَجَ مِنَ الشَّيْءِ مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ مَعَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى كَسْبِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ حِينِ الرَّدِّ وَلَيْسَ رَفْعٌ لَهُ مِنَ الْأَصْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ يَكُونُ بِالْإِقَالَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْعَيْبِ، ثُمَّ كَانَ الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ قَطْعًا لِلْمِلْكِ وَلَمْ يَكُنْ رَفْعًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِالْعَيْبِ مِثْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ لَوْ كَانَ رَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ لَأَبْطَلَ حَقَّ الشَّفِيعِ فَلَمَّا لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ الشَّفِيعِ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسْخَ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ حِينِ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِرَافِعٍ مِنَ الْأَصْلِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ النَّمَاءَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ فَسْخِ عَقْدِهِ كَالْإِقَالَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ رَافِعٌ لِلْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ فِيهِ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالْإِقَالَةِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْعَقْدِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكِبَرِ وَالسِّمَنِ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ نَفْسِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرد بالعيب كالطول والسمن ثم يقال المعنى فِي الطُّولِ وَالسِّمَنِ اتِّصَالُهُ وَفِي النَّتَاجِ انْفِصَالُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ كَانْفِصَالِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَالْمَعْنَى فِي انْفِصَالِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَنَّهَا عَيْبٌ يُوكِسُ الثَّمَنَ فَمُنِعَتْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَانْفِصَالُ الْوَلَدِ لَيْسَ بِعَيْبٍ يُوكِسُ الثَّمَنَ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ النَّتَاجَ مِنْ أَجْزَاءِ أَصْلِهِ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ فَعَكْسُهُ لَازَمٌ لِأَنَّ النَّتَاجَ مُنْفَصِلٌ وَالثَّمَرَةَ مُتَّصِلَةٌ، فَلَوْ جَازَ رَدُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَكَانَ رَدُّ الْمُتَّصِلِ مِنَ الثِّمَارِ أَوْلَى مِنْ رَدِّ الْمُنْفَصِلِ مِنَ النَّتَاجِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ تَعْلِيلِهِ وَوَهَاءِ أَصْلِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا حَدَثَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مِنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى شَاةً حَامِلًا فَوَضَعَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَرَادَ رَدَّهَا بِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَدْ نَقَصَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ لَمْ تُنْقِصْهَا الْوِلَادَةُ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ رَدَّهُ مَعَهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ كَانَ تَنَاوَلَهُمَا وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ بَيْعٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ مَعَهَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرُدُّهُ مَعَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهَا حِينَ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، أَلَّا تَرَى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ حِينَ اشْتَرَاهَا فَجَزَّهُ ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا جَزَّ مِنْ صُوفِهَا، فَلَوْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 شَاةً حَايِلًا فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مُوكِسًا فِي ثَمَنِهَا أَوْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ لَمْ يُوكِسْهَا فِي ثَمَنِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ لَمْ تُوكَسْ فِي ثَمَنِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَوَّفًا عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا رَدَّهَا حَامِلًا، فَإِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا كَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِاتِّصَالِهِ بِالْأُمِّ عِنْدَ الرَّدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَقْيَسُ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ وَغَيْرُهُ فِي حُكْمِهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَبَسَ الشَّاةَ الْمَعِيبَةَ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا لَأَخْذِ مِلْكِهِ مِنْهَا وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوِ اشْتَرَى غَنَمًا بِعَشَرَةِ أَقْسَاطٍ مِنْ لَبَنٍ وَصُوفٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَمْ يَتَقَاضَاهَا حَتَّى احْتَلَبَ الْبَائِعُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَقْسَاطٍ مِنْ لَبَنٍ، ثُمَّ مَاتَتِ الْغَنَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ مِنَ الْبَائِعِ مَا احْتَلَبَتْ مِنَ اللَّبَنِ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَيُوجِبُ سُقُوطَ الثَّمَنِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ملك النماء والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا فَالْوَطْءُ أَقَلُّ مِنَ الْخِدْمَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَطْءُ الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ الثَّيِّبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ أبو حنيفة وَطْؤُهُ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا وَهُوَ الْمَهْرُ وَرُوِيَ بِنَحْوِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَعُقْرُهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عُشْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا نِصْفُ الْعُشْرِ " وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْوَطْءَ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِأَنَّهُ وَطْءٌ وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهُ مِنَ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الْبِكْرِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْوَطْءَ كَالْجِنَايَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ. وَالثَّانِي: أنه لا ينفك من وجوب ماله أَوْ وُجُوبِ حَقٍّ فِي بَدَنٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّهُ كَالْجِنَايَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ كَالْعَيْبِ كَالْجِنَايَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَنَّ الْوَطْءَ أَقَلُّ مِنَ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْوَطْءَ يلد ويطرب والخدمة تكدر وتعب فَلَمَّا جَازَ لَهُ الرَّدُّ مَعَ مَا أَكَدَّ وأتعب فأولى أن يجوز مع ما ألد وَأَطْرَبَ وَقَدْ يَتَحَرَّرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا فَيُقَالُ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ كَالْخِدْمَةِ وَلِأَنَّ وَطْءَ الْأَجْنَبِيِّ بِالزِّنَا كَرْهًا أَغْلَظُ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ طَوْعًا فَلَمَّا كَانَ زِنَا الْأَجْنَبِيِّ بِهَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَوَطْءُ الْمُشْتَرِي أَحْرَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِتْلَافًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلِأَنَّهَا أَوْلَى لَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ الزَّوْجِ مَانِعًا لِلْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ فَوَطْءُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الرَّدِّ كَالزَّوْجِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ وَطْءٌ لَوْ كَانَ حَرَامًا، لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ فَأَوْلَى إِذَا كَانَ حَلَالًا أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الرَّدِّ كَالزَّوْجِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ حَدَثَ عِنْدَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ وَجَبَ إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الرَّدِّ كَالْقُبْلَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لو وطأت فِي يَدِ الْبَائِعِ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ فَكَذَلِكَ إِذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَمْنَعُهُ مِنَ الرَّدِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ الْبِكْرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ نَقْصٌ يُوكِسُ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّيِّبُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْوَطْءَ كَالْجِنَايَةِ فَغَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ نَقْصٌ يُوكِسُ الْقِيمَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَطْءُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَايَةَ لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي وُجُودِهَا مِنَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَاخْتَلَفَ عِنْدَهُمْ وَطْءُ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِهَا وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا نَاقِصَةً كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا نَاقِصَةً وَيَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مَعِيبَةً وَصَحِيحَةً مِنَ الثَّمَنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَعِيبَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي وَأَذْهَبَ بَكَارَتَهَا ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبَةً فَأَرَادَ رَدَّهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ إِذْهَابَ الْبَكَارَةِ نَقْصٌ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْبَدَنِ. وَالثَّانِي: فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ لِيَصِيرَ إِلَى بَدَلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ وَاعْتِبَارُ الْأَرْشِ أَنْ تَقُومَ الْجَارِيَةُ وَهِيَ لَا عَيْبَ بِهَا فِي أَوَّلِ حَالَتِهَا فِيهِ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ إِنْ حَدَثَ بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ نَقْصٌ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ وَإِنَّ حَدَثَ زِيَادَةٌ كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْوِيمُهَا فِي أَوَّلِ الْحَالَيْنِ قِيمَةً فَإِذَا قِيلَ قِيمَتُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ بَكْرًا لَا عَيْبَ بِهَا مِائَةُ دِينَارٍ قُوِّمَتْ بِكْرًا وَبِهَا ذَلِكَ الْعَيْبُ فَإِذَا قِيلَ قِيمَتُهَا تِسْعُونَ دِينَارًا كَانَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ النَّقْصِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَهِيَ عُشْرُ الْقِيمَةِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ بِعُشْرِ الْقِيمَةِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثمن وما زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ فَلَوْ كَانَ الْأَرْشُ مُعْتَبَرًا مِنَ الْقِيمَةِ لَكَانَ رُبَّمَا اسْتَوْعَبَ الثَّمَنَ إِنْ كَانَ نَاقِصًا أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْ كَانَ زَائِدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الْمَبِيعِ فِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهُ النَّاقِصَةُ فِي مُقَابَلَةِ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ قَدْرُ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ خَمْسِينَ دِينَارًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِهَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ كَانَ مِائَتَيْ دِينَارٍ رَجَعَ بِعُشْرِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَرْشِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ فِي أَرْشِ كُلِّ عَيْبٍ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِ الْأَرْشِ وَقَالَ أَنَا أَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ ثَيِّبًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ لِلْمُشْتَرِي لَا أَرْشَ لَكَ وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ بِالْعَيْبِ لِأَنَّنَا مَنَعْنَا مِنَ الرَّدِّ عَلَى البائع لأن لا يَلْحَقَهُ نَقْصٌ وَأَوْجَبْنَا لِلْمُشْتَرِي الْأَرْشَ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ الْعَيْبَ فَإِذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِ الْعَيْبِ بَطَلَ الْأَرْشُ وَوَجَبَ الرَّدُّ إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ لَوِ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فَبَذَلَ الْبَائِعُ الْأَرْشَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِي قَبُولُهُ وَكَانَ لَهُ الرَّدُّ وَلَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ بَذْلُهُ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْإِمْسَاكُ أَوِ الرَّدُّ وَلَوْ تَرَاضَيَا جَمِيعًا عَلَى دَفْعِ الْأَرْشِ بَدَلًا مِنَ الرَّدِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ رَدُّهُ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ إِلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ خِيَارٍ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَخِيَارُ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يُوجِبُ تَارَةً الرَّدَّ وَتَارَةً الْأَرْشَ فَلَمَّا جَازَ الرَّدُّ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ اقْتَضَى أَنْ يَجُوزَ الْأَرْشُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَلَا يُشْبِهُ خِيَارَ الثَّلَاثِ وَالشُّفْعَةَ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ إِلَى بَدَلِهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى بَدَلٍ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَرْشِ اعْتُبِرَ عَلَى مَا مَضَى وَإِذَا قِيلَ أَخْذُ الْأَرْشِ لَا يَجُوزُ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ طَلَبَهُ لِلْأَرْشِ رِضًا مِنْهُ بِالْعَيْبِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الرَّدِّ لما ظنه من حصول الأرش فإذا لم يحصل الأرش كان حقه من الرد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 فَصْلٌ: فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِسَرِقَتِهِ حَتَّى قُطِعَ فِي يَدِهِ فقال أبو العباس ابن سُرَيْجٍ لَهُ رَدُّهُ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَا يرده ويرجع بنقصان عيبه في هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي نَظَرٌ، وَلِقَوْلِ أبي يوسف وَجْهٌ وَلَكِنْ لَوْ قُطِعْتَ يَدُهُ قَوَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ اتِّفَاقًا لَأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَحَتَّمُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَصِيرًا حُلْوًا، وَكَانَ مَعِيبًا فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبِهِ حَتَّى صَارَ خَمْرًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْخَمْرِ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بقبوله خَمْرًا أَمْ لَا لِتَحْرِيمِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْخَمْرِ فَلَوْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا فَقَالَ الْبَائِعُ أَنَا أَسْتَرْجِعُ الْخَلَّ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ وَلَا أَدْفَعُ الْأَرْشَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَّ هُوَ عَيْنُ الْعَصِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي فِيهِ عَمَلٌ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ خَوْفًا مِنْ تَفْوِيتِ عَامِلِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْ تَفْرِيعِ أَبِي الْعَبَّاسِ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ مِنْ نَصَرَانِيٍّ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يُنْقِصُ الْعُشْرَ مِنْ ثَمَنِهِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ عَيْبِهِ وَهُوَ عُشْرُ الثَّمَنِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ أَنَا آخُذُ الْخَمْرَ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ حَتَّى صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ أَنَا آخُذُ الْخَلَّ وَأَرُدُّ الثَّمَنَ جَازَ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَقَفَ عَلَى عَيْبِ الْخَمْرِ قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا فَلَمْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ حَتَّى أَسْلَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ إِسْلَامِهِ الرَّدُّ وَلَا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ أَمَّا الرَّدُّ فَلِحُدُوثِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الْأَرْشُ فَلِإِمْكَانِ الرَّدِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ بَعْدَ تَبَايُعِ الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَسْلَمَ وَحْدَهُ جَازَ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ لِاسْتِرْجَاعِ تَمَلُّكِهِ الْخَمْرَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ وَرَدُّ الْمُشْتَرِي إِزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْلِمُ يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ تَمَلُّكَهُ عَنِ الْخَمْرِ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى شَاةً فَذَبَحَهَا، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ عَيْبًا فَلَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهَا فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا أَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِإِمْكَانِ الرَّدِّ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْبَائِعِ لِلذَّبْحِ إِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذَّبْحَ أَثَرٌ هُوَ نَقْصٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا قَدْ خَاطَهُ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ أَرْشَهُ بِالْعَيْبِ وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهِ مَخِيطًا لِأَنَّ فِي الْخِيَاطَةِ عَيْبًا قائمة وَأَثَرًا زَائِدًا. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ غَزْلًا فَنَسَجَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ وُجَدَ فِيهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبُولِهِ مَنْسُوجًا بِعَيْنِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ مَنْسُوجًا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ مَعِيبًا لِأَنَّ النِّسَاجَةَ أَثَرٌ لَا يمتلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَائِعَ إِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ النَّسِيجِ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْغَزْلِ مَنْسُوجًا فَإِنْ أَبَى لَزِمَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّ النِّسَاجَةَ زِيَادَةُ عَمَلٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ بِالْمِائَةِ ثَوْبًا، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ على البائع بالماية وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِائَةُ دُونَ الثَّوْبِ وَلَكِنْ لَوْ بَانَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مَغْصُوبًا رَجَعَ بِالثَّوْبِ دُونَ الْمِائَةِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَبُطْلَانِ الثَّمَنِ وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا رَفَعَ وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالْمِائَةِ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْفَسْخَ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَطَعَ الْعَقْدَ وَلَيْسَ لَهُ بِرَافِعٍ مِنْ أَصْلِهِ بِخِلَافِ الْعَيْبِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَصَابَ الْمُشْتَرِيَانِ صَفْقَةً وَاحِدَةً مِنْ رَجُلٍ بِجَارِيَةٍ عَيْبًا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْإِمْسَاكَ فَذَلِكَ لَهُمَا لِأَنَّ مَوْجُودًا فِي شِرَاءِ الِاثْنَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ لِلنِّصْفِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَجَدَا بِهَا عَيْبًا فَإِنْ رَدَّاهَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَإِنْ أَمْسَكَاهَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا رَدَّ حِصَّتِهِ وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمْسَاكَ حِصَّتِهِ جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الرَّدُّ حَتَّى يُرَدَّا مَعًا وَيُمْسِكَا مَعًا. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ يَدِ بَايِعِهِ صَفْقَةً فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا عَلَيْهِ وَبَعْضُ الصَّفْقَةِ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ قَالَ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَجْرِي عَلَى ابْتِيَاعِهِمَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا قَبُولُ الْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَدَلٌ وَاحِدٌ يَضْمَنُهُ ثَمْنٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ كَانَ لمشترٍ وَاحِدٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ رَدِّ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ على جواز أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ رَدَّ بِالْعَيْبِ جَمِيعَ مَا لَزِمَهُ ثَمَنُهُ بِالْعَقْدِ فَجَازَ لَهُ الرَّدُّ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَاقِدَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حكم العقدين كالمشتري الواحد من بايعين، وَلِأَنَّهُمَا لَوِ اشْتَرَيَا شِقْصًا تَجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ لَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ وَلَوْ تَصَارَفَا مِنْ رَجُلٍ فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَقْبِضِ الْآخَرُ. جَازَتْ فِي حِصَّةِ مَنْ قَبَضَ وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ مَنْ لَمْ يَقْبِضْ وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَبَطَلَ جَمِيعُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ وَجَازَ لِأَحَدِهِمَا الْقَبُولُ دُونَ الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى بَائِعِهِ كَالْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ فَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ فَرَّقَ صَفْقَةَ نَفْسِهِ بِالْبَيْعِ عَلَى اثْنَيْنِ ولم يفرقها بالبيع على واحد عَلَى أَنَّ أبا حنيفة يَقُولُ فِي الْمُشْتَرِي الْوَاحِدِ إِذَا وَجَدَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ عَيْبًا أَنَّ له رد العيب مِنْهُمَا دُونَ السَّلِيمِ وَفِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِمِثْلِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ وَاحِدٌ فَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا قَابَلَ جِنْسًا وَاحِدًا كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى أَجْزَائِهِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ التَّبْعِيضِ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً وَإِذَا قَابَلَ أَعْيَانًا مُخْتَلِفَةً كان حكمه بخلافه، فلو كان لأن الثمن واحدا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ لَوَجَبَ إِذَا ابْتَاعَ رَجُلَانِ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مشترٍ لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَلَمَّا بَطَلَ فِي الْجَهْلِ ثَمَنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَبْطُلْ إِذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ دَلَّ عَلَى ابْتِيَاعِ الِاثْنَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ وَإِنْ كَانَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الرَّدُّ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَاسْتَرْجَعَ مَا دَفَعَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ قَدْ بَطَلَتْ بِالرَّدِّ فَيَكُونُ لِلْمُمْسِكِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلرَّادِّ نِصْفُ الثَّمَنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَالِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِسْمَةٌ فَعَلَى هَذَا نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَنِصْفُ الْعَبْدِ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الْعَبْدِ عَلَيْهِمَا وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيُمْسِكَ النِّصْفَ الْآخَرَ وَهَذَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أبو حنيفة. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَنْ يَرُدَّ ربع العبد على كل واحد من البايعين لِأَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ فَكَذَا لَوِ اشْتَرَى ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ عَبْدًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَرُدَّ تُسْعَ الْعَبْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاعَةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْعُقُودِ التِّسْعَةِ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي ابْتِيَاعِ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَابْتَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوَكِّلِهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ وَجَدَا بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا الرَّدُّ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ وَالْبَائِعَ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الصَّفْقَةُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا. فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ جَمِيعَ الْعَبْدِ عَلَى رَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً نِصْفَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ وَنِصْفَهُ بِحَقِّ الْوِكَالَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الصَّفْقَةِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْبَائِعَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ بِالْعَيْبِ أَوْ يُمْسِكَ جَمِيعَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّفْقَةَ فِي حُكْمِ الْعَقْدَيْنِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ إِحْدَى الحصتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ قَدْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْعَبْدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَهُ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذكرنا من توكيل إحدى الْمُشْتَرِينَ لِصَاحِبِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ فِي عَقْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى بَاقِيهِ فِي عَقْدٍ آخَرَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ كَانَ حُدُوثُ هَذَا الْعَيْبِ بَعْدَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ الثَّانِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الثَّانِيَةَ بِالْعَيْبِ دُونَ الْحِصَّةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ بِالْعَقْدَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ كُلَّهُ بِالْعَقْدَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْحِصَّةَ الثَّانِيَةَ دُونَ الْأُولَى. فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَخَلَّفَ اثْنَيْنِ فَوَجَدَا بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَمْسَكَ أَحَدُهُمَا وَأَرَادَ الْآخَرُ الرَّدَّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ يُعْطِيَ نِصْفَ الْأَرْشِ وَلَا يُخَيَّرُ الَّذِي يُرِيدُ الرَّدَّ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا صَفْقَةً ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ بَعْضَهُ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهُ كُلَّهُ أَوْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صفقة رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَإِنْ رَدَّهُمَا مَعًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ رَدَّ السَّلِيمِ دُونَ الْمَعِيبِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَرَادَ رَدَّ الْمَعِيبِ دُونَ السَّلِيمِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْبَائِعُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَاخْتَلَفَا فِي حِصَّةِ الْمَعِيبِ الْمَرْدُودِ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ السَّلِيمُ مَعْدُومًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَأَمَّا التَّحَالُفُ فَلَا يَجِبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَاهَا جَعْدَةً فَوَجَدَهَا سَبْطَةً فَلَهُ الرَّدُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً جَعْدَةَ الشَّعْرِ فَوَجَدَهَا سَبْطَةَ الشَّعْرِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَرَى شَعْرَهَا عِنْدَ الِابْتِيَاعِ أَوْ لَا يَرَاهُ، فَإِنْ رَأَى شَعْرَهَا عِنْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَكَانَ جَعْدًا صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ بَانَ الشَّعْرُ سَبْطًا وَأَنَّ تَجْعِيدَهُ كَانَ مُزَوَّرًا فَهَذَا عَيْبٌ وَلَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنَّهَا جَعْدَةٌ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ لِأَنَّ رُؤْيَتَهَا جَعْدَةً يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِهَا أَنَّهَا جَعْدَةٌ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ هَذَا بِعَيْبٍ لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَهُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْهُ لِأَنَّ عَدَمَ التَّجْعِيدِ لَا يَسْلُبُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 مَنْفَعَةً وَلَا يَنْقُصُ قِيمَةً، وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ فَقْدُهُ نَقْصٌ لِأَنَّ تَجْعِيدَ الشَّعْرِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْجِسْمِ وَفَقْدِهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْجِسْمِ وَلِأَنَّهُ أَحْسَنُ فِي النَّظَرِ وَأَزْيَدُ فِي الثَّمَنِ، وَإِنِ ابْتَاعَهَا فَلَمْ يَرَ وَجْهَهَا فَفِي بُطْلَانِ الْمَبِيعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ كَسَائِرِ الْجَسَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّ الشَّعْرَ تَبَعٌ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ رُؤْيَتِهِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ فَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهَا جَعْدَةُ الشَّعْرِ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ فَقْدَ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعَانِ مِنَ الرَّدِّ فِيمَا لَيْسَ يَنْقُصُ عَنْ حَالِ السَّلَامَةِ فَإِنْ كَانَ وُجُودُهُ زِيَادَةً كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَظَنَّهُ كَاتِبًا وَكَانَ غَيْرَ كاتب لم يكن له الرد ولكن لو اشترط أَنَّهَا جَعْدَةٌ كَانَ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ الشَّرْطِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَبَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ كَانَ لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنَّهُ كَاتِبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا سَبْطَةٌ فَكَانَتْ جَعْدَةً فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ تَجْعِيدَ الشَّعْرِ زِيَادَةٌ وَاشْتِرَاطُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ سَبْطًا إِنَّمَا هُوَ لِطَلَبِ الرُّخْصِ أَوْ لِسُوءِ الِاخْتِيَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ الرَّدَّ لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَكَانَتْ ثَيِّبًا فَلَهُ الرَّدُّ وَلَوِ اشْتَرَاهَا يَظُنُّهَا بِكْرًا وَكَانَتْ ثَيِّبًا فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ الثَّيِّبَ سَلِيمَةٌ وَالْبَكَارَةُ زِيَادَةٌ وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَكَانَتْ بَكْرًا فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ زِيَادَةٌ. وَالثَّانِي: لَهُ الرَّدُّ لِأَجْلِ الشَّرْطِ وَاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً وكان شعرها أبيضا كَانَ لَهُ الرَّدُّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ سَوَادَ الشَّعْرِ لِأَنَّ بَيَاضَ الشَّعْرِ نَقْصٌ وَلَوِ اشْتَرَاهَا على أن شعرها أبيض فكان أسودا كَانَ فِي الرَّدِّ وَجْهَانِ. فَصْلٌ: إِذَا اشْتَرَى أَمَةً فَكَانَتْ زَانِيَةً أَوْ بِفَمِهَا بَخَرٌ، فَهَذَانِ عَيْبَانِ وَلَهُ فِيهِمَا الرَّدُّ لِأَنَّ الزِّنَا يُفْسِدُ النَّسَبَ وَيُوجِبُ الْحَدَّ وَبَخَرُ الْفَمِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُوكِسُ الثَّمَنَ، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ زَانِيًا أَوْ فِي فَمِهِ بَخَرٌ كَانَ عَيْبًا وَلَهُ الرَّدُّ. وَقَالَ أبو حنيفة الزِّنَا وَبَخَرُ الْفَمِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَبْدِ هُوَ الْعَمَلُ وَالزِّنَا وَالْبَخَرُ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي عَمَلِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا كَانَ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ كَانَ عَيْبًا فِي الْعَبْدِ كَالسَّرِقَةِ وَلِأَنَّ زِنَا الْعَبْدِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَرُبَّمَا أَتْلَفَهُ وَبَخَرُ فَمِهِ يَمْنَعُ مِنِ مُقَارَبَتِهِ وَيُؤْذِي عِنْدَ مُجَالَسَتِهِ وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَكَانَتْ وَلَدَ زِنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يوجب الرد لأن أكثر الرقيق أولاد زنية وَلَيْسَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي أَثْمَانِهِمْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 فَصْلٌ: إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا تُحْسِنُ الْغِنَاءَ وَتَضْرِبُ بِالْعُودِ أَوْ تَنْفُخُ فِي الْمِزْمَارِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا رَدَّ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ هَذَا عَيْبٌ وَلَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْلِقُهَا وَيَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ صِيَانَتِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْغِنَاءَ صَنْعَةٌ تَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا وَالْمُبْتَغَى مِنَ الرَّقِيقِ تَوْفِيرُ الْأَثْمَانِ فَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُفَّهَا وَيَمْنَعَهَا مِنْهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَبَانَ أَنَّهُ بِيعَ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا لَمْ تَخُلُ الْجِنَايَةُ الَّتِي بِيعَ فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَمْ تَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ تَتَكَرَّرُ مِنْهُ كَثِيرًا فَهَذَا عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ تَتَكَرَّرْ مِنْهُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّ النَّادِرَ مِنْ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ لَا يَخْلُو مِنْهُ فِي الْغَالِبِ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَهَذَا عَيْبٌ وَلَهُ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُوجِبُ الرَّدَّ لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ رَفَعَتْ ذَنْبَهُ، وَالثَّانِي لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا تَرْفَعُ النَّقْضَ. فَصْلٌ: فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَكَانَ آبِقًا فَلَهُ الرَّدُّ لَكِنْ إِنْ أَبَقَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا مُخَاصَمَةَ لَهُ مَعَ الْبَائِعِ حَتَّى يُحْضِرَ الْعَبْدَ سَوَاءٌ عَلِمَ بِقِدَمِ إِبَاقِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ مُخَاصَمَةُ الْبَائِعِ إِذَا عَلِمَ بِقِدَمِ إِبَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ حَالَ الْآبِقِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالتَّلَفِ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا اسْتَحَقَّ الرَّدَّ وَاسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ تَالِفًا اسْتَحَقَّ أَخْذَ الْأَرْشِ وَمَا جَهِلَ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَصِحَّ الْمُطَالَبَةُ. فَصْلٌ: وَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَكَانَ يَبُولُ إِذَا نَامَ كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى كَبِرَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ عِلَاجَهُ بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرٌ فَصَارَ كِبَرُهُ عِنْدَهُ كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَخْتُونٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا فَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّ فَقْدَ الْخِتَانَةِ فِي الصِّغَرِ لَيْسَتْ نَقْصًا لِأَنَّهَا غَالِبُ أَحْوَالِ الصِّغَارِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لِأَنَّ فَقْدَ الْخِتَانَةِ فِيهِ نَقْصٌ وَعَلَيْهِ فِيهَا وَكْسٌ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ رَطْبَ الْكَلَامِ أَوْ غَلِيظَ الصَّوْتِ أَوْ ثَقِيلَ النَّفَسِ أَوْ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ أَوْ كَثِيرَ النَّهَمِ أَوْ فَاسِدَ الرَّأْيِ أَوْ قَلِيلَ الْأَدَبِ فَلَا رَدَّ لَهُ بِهَذَا كُلِّهِ لِسَلَامَةِ بَدَنِهِ وَصِحَّةِ جِسْمِهِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ بِهِ بَلَهٌ أَوْ خَبَلٌ أَوْ عَتَهٌ أَوْ سُدُدٌ، أَوْ كَانَ مُؤَنَّثًا أَوْ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْ غَيْرَ مُشْكِلٍ أَوْ فِي كَفِّهِ إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ أَوْ بِهِ بَرَصٌ أَوْ حَرُّ كَبِدٍ أَوْ نَفْحَةُ طِحَالٍ أَوْ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَوْ يَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ أَوْ يَدَعُ الصَّلَوَاتِ أَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ أَخْشَمَ أَوْ أَخْرَسَ أَوْ أَرْثَهُ لَا يُفْهَمُ أَوْ فِي فَمِهِ سِنٌّ زَائِدَةٌ أَوْ مَقْلُوعَةٌ فَكُلُّ هَذِهِ عُيُوبٌ تُوجِبُ الرَّدَّ لِأَنَّهَا وَمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ نَقْصٌ فِي بَدَنِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 وكذلك لو اشترى عبدا أو كان ذَا زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةً فَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ كَانَ لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْعَبْدِ تَسْتَحِقُّ مِنْ كَسْبِهِ النَّفَقَةَ وَزَوْجَ الْأَمَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمْتَاعِ الْمُشْتَرِي بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ فِي عِدَّةٍ أَوْ مُحَرَّمَةً كَانَ الرَّدُّ لَهُ وَلَوْ كَانَتْ صَائِمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ قَرِيبٌ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ لِأَنَّهَا وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَقَدْ تَحِلُّ لِغَيْرِهِ فَخَالَفَتِ الْمُعْتَدَّةَ الَّتِي تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ أُخْتَهُ مِنَ النَّسَبِ فَلَا رَدَّ لَهُ كَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ عُتِقَتْ وَلَا رد له ولا أرش لِأَنَّ الْعَيْبَ هُوَ النَّقْصُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْعَاقِدِ وَعِتْقُ هَذِهِ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ فَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَانَ في ذمته ديون عن معاملة فَلَا رَدَّ لَهُ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَهُ الرَّدُّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ دُيُونَهُ فِي ذِمَّتِهِ لَا يلزم أداؤها إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَهَا وَكِيلٌ أَوْ أَمِينُ حَاكِمٍ أَوْ وَصِيُّ مَيِّتٍ أَوْ أَبٌ يَلِي عَلَى مَالِ ابْنِهِ فَفِي الرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ لِجَوَازِ بُيُوعِهِمْ وَصِحَّةِ عُقُودِهِمْ. وَالثَّانِي: لَهُ الرَّدُّ لِمَا يُخَافُ مِنْ فَسَادِ النِّيَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا أَوْ بَعْضَهَا ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ وَإِنَّمَا لَهُ قِيمَةُ الْعَيْبِ إِذَا فَاتَتْ بِمَوْتٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ حَدَثَ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ لَا يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يُرَدَّ بِهِ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ وَقَدْ كَانَ بِهَا عَيْبٌ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهَا فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ العيب سقوطا مستقرا، فلا رد وله وَلَا أَرْشَ سَوَاءٌ عَادَتْ إِلَيْهِ السِّلْعَةُ أَمْ لَا لِأَنَّ بَيْعَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهَا رِضًى مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ قَبْلَ بَيْعِهَا فقد ذهب عبيد اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ عَلَى الْبَائِعِ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ نَقْصَ الْعَيْبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ لَا أَرْشَ فِي الْحَالِ وَلَا رَدَّ لَهُ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدِ اسْتَدْرَكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ بِمَا حَصَلَ مِنْ سَلَامَةِ الْعِوَضِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعِلَّةُ فِيهِ إِمْكَانُ الرَّدِّ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَكِلَا الْعِلَّتَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا أَرْشَ لَهُ نُظِرَ فِي الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِهِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ سُقُوطُ الْأَرْشِ وَالرَّدُّ، وَإِنْ رَدَّهُ بِهِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ له استدراك الظلامة بحصول الْعِوَضِ عَلَى تَعْلِيلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 أَبِي إِسْحَاقَ وَقَدْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ عَلَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَكِنْ لَوْ عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوِ ابْتِيَاعٍ كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لِاسْتِدْرَاكِ الظُّلَامَةِ لِحُصُولِ الْعِوَضِ السَّلِيمِ. وَالثَّانِي: لَهُ الرَّدُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ بِرُجُوعِهَا إِلَى يَدِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا بَاعَ بَعْضَ السِّلْعَةِ ثُمَّ عَلِمَ بِعَيْبِهَا فَمَا بَاعَهُ فَلَا أَرْشَ لَهُ فِيهِ لِلْعِلَّتَيْنِ الْمَاضِيَتَيْنِ وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَلَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ وَاسْتِرْجَاعُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالتَّوَقُّفُ عَنِ الْبَيْعِ لِيَنْظُرَ مَا يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي رَدِّهِ لِمَا فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى بَايِعِهِ وَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ بِأَرْشِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْأَرْشُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ مَا اسْتَدْرَكَ ظُلَامَتَهُ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا أَرْشَ لَهُ وهو مقتضى تعليل أبو عَلِيٍّ لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ بِرُجُوعِ الْمَبِيعِ مُمْكِنٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ عَادَ إِلَيْهِ مَا بَاعَهُ رَدَّ الْكُلَّ وَإِنْ فَاتَ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالتَّلَفِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ مَا لَمْ يَبِعْ دُونَ مَا بَاعَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ قَدْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْشِهِ بَعْدَ تَلَفِهِ فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ الْجَمِيعِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِ مَا بَقِيَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَا ابْتَاعَهُ فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي يَدِهِ قِيلَ لَهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّكَ مِنْ رَدِّ مَا لَمْ تَبِعْ لِأَنَّكَ أَخَذْتَ أَرْشَهُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَكَ مِنْ رَدِّ مَا بِعْتَ لِأَنَّكَ تُفَرِّقُ صَفْقَتَهُ وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ أَرْشَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَفْرِيقِ صَفْقَتِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ وَيَمْنَعُكَ مِنْ أَرْشِهِ فَهَذَا الْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ وَهَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْهِبَةِ هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْمُكَافَأَةَ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا أَرْشَ لَهُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا كَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدْرِكُ ظُلَامَتَهِ بِالْمُكَافَأَةِ وَلِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ مُمْكِنٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَعَلَى هَذَا فِي رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أبي إسحاق لَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهِ بِالْعِوَضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أبي علي لَا رُجُوعَ لَهُ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ مُمْكِنٌ فَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ على العلتين معا لينظر ما يؤول إِلَيْهِ حَالُ كِتَابَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدْرِكُ ظُلَامَتَهُ بِعِوَضِ الْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ رَدَّهُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا مُمْكِنٌ، وَلَوْ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بِصِفَةٍ كَانَ لَهُ رَدُّهُ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِمْكَانِ رَدِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَوْلَدَهَا رَجْعَ بِأَرْشِهَا لِفَوَاتِ رَدِّهَا، فَأَمَّا إِنْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 أَحَدُهُمَا: لَا أَرْشَ لَهُ وَهِيَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيٍّ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَيُوقَفُ لِيَنْظُرَ مَا يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ: لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَتَعَجَّلَ الْأَرْشَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ بِالْمُعَاوَضَةِ وَيَسْقُطُ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ مِنْ بَعْدُ أَوْ يُوقَفُ لينظر ما يؤول إليه حاله. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ كَانَ لَهُ قِيمَةُ الْعَيْبِ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا نَاقِصَةً فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي حَبْسَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً فَحَدَثَ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَقْبَلَهَا مَعِيبَةً فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْأَرْشِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِعَيْبِهَا فَيُمْسِكُهَا وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْشِهَا وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ بِالْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ الْعَيْبِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ دَلَّسَ الْعَيْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلَامَةً يَسْتَحِقُّ اسْتِدْرَاكُهَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَدْرِكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ الْمُتَقَدِّمِ بِالرَّدِّ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ظُلَامَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِالِامْتِنَاعِ فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِدْرَاكُ الظُّلَامَتَيْنِ وَجَبَّ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الْبَائِعِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَدْلِيسٌ وَقَدْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ وَالْبَائِعُ مُتَقَدِّمُ الْمِلْكِ عَلَى حَالِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْمُصَرَّاةِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ حُدُوثِ النَّقْصِ فِيهَا بِالْحِلَابِ إِذَا رَدَّ مَعَهَا الصَّاعَ الَّذِي هُوَ أَرْشُ النَّقْصِ لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَيْبِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ تَارَةً عَنْ جِنَايَةٍ وَتَارَةً لِحَادِثٍ نَزَلَ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عَنْ جِنَايَتِهِ وَلَمْ يَرُدَّ مَعَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ مِنْهُ لِحُدُوثِ النَّقْصِ فِي الْحَالَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْبَلَهُ مَعِيبًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ أن البائع مدلس وأن المشتري مُعَاوَضٌ فَهُوَ أَنَّ تَدْلِيسَ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ مَا لَمْ يُدَلِّسْهُ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ لَيْسَ مِنْ تَدْلِيسِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَمَانِهِ ومعاوضته الْمُشْتَرِي لَا تُدْفَعُ مِنْ ضَمَانِ مَا نَقَصَ فِي يَدِهِ كَمَا لَا تُدْفَعُ عَنْهُ ضَمَانُ مَا نَقَصَ جِنَايَتُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُصَرَّاةِ فَهُوَ أَنَّ نَقْصَ التَّصْرِيَةِ حَدَثَ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخَالَفَ مَا سِوَاهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَايِلًا فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا فَإِنْ كَانَ حَمْلُهَا نَقْصًا مُوكِسًا مِنْ ثَمَنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا وَرَجَعَ بِأَرْشِ عَيْبِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا مُنَقِّصًا، فَلَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ وَهَلْ لَهُ حَبْسُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا لِلْوَضْعِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَتْبَعُ فَإِنْ حَبَسَهَا مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ حَبْسُهَا حَتَّى تَضَعَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ وَلَوِ اشْتَرَاهَا حَامِلًا فَوَضَعَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَدْ نَقَصَتْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا وَرَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ وَإِنْ لَمْ تُنْقِصْهَا الْوِلَادَةُ رَدَّهَا وَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَمْلِ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّ الْبَائِعِ فَوُجِدَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَى الْبَائِعِ بِالرِّضَاعِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ بِهَذَا الرِّضَاعِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي ثَمَنِهَا فِي الْأَسْوَاقِ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ بَاعَهَا عَلَى آخَرَ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا عِنْدَ الثَّانِي عَيْبٌ وَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا مُتَقَدِّمًا فَطَالَبَ بَائِعَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَرْشَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا دَفَعَ مِنَ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ بِالْعَيْبِ الثَّانِي ثُمَّ يُنَاظِرُ البائع الأول عليه فإما قبله بعيبه وإما رضي بِدَفْعِ أَرْشِهِ فَصَارَ اخْتِيَارُ الْبَائِعِ الثَّانِي لِدَفْعِ الْأَرْشِ رِضًا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ الثَّانِي بِأَرْشِ عَيْبِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا غُرِّمَ مِنْ أَرْشِهِ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَمْنَعُ مِنْ قبوله معيبا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ وَمِثْلُهُ يَحْدُثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ لَقَدْ باعه بريئا من هذا العيب (قال المزني) يحلف بالله ما بعتك هذا العبد وأوصلته إليك وبه هذا العيب لأنه قد يبيعه إياه وهو بريء ثم يصيبه قبل أن يوصله إليه (قال المزني) ينبغي في أصل قوله أن يحلفه لقد أقبضه إياه وما به هذا العيب من قبل أنه يضمن ما حدث عنده قبل دفعه إلى المشتري ويجعل للمشتري رده بما حدث عند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 البائع ولو لم يحلفه إلا على أنه باعه بريئا من هذا العيب أمكن أن يكون صادقا وقد حدث العيب عنده قبل الدفع فنكون قد ظلمنا المشتري لأن له الرد بما حدث بعد البيع في يد البائع فهذا يبين لك ما وصفنا أنه لازم في أصله ما وصفنا من مذهبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَيْبِ إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي تَقَدُّمَهُ لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخَ وَادَّعَى الْبَائِعُ حُدُوثَهُ لِيَمْنَعَهُ الْفَسْخَ إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا عُلِمَ تَقَدُّمُهُ. وَالثَّانِي: مَا عُلِمَ حُدُوثُهُ. وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَأَمَّا مَا عُلِمَ تَقَدُّمُهُ مِثْلُ الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهَا أَوْ شَقُّ جِرَاحَةِ عُنُقِهِ يَسْتَحِيلُ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ حُدُوثُ مِثْلِهَا، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي بِلَا يَمِينٍ لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذَا الْبَائِعُ. وَأَمَّا مَا عُلِمَ حُدُوثُهُ فَمِثْلُ جِرَاحَةٍ طَرِيَّةٍ تُسِيلُ دَمًا يَسْتَحِيلُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا فَالْقَوْلُ فِي هَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنِ ادِّعَاءِ الْعَمَى وَالْعَوَرِ مَعَ اعْتِرَافِ الْمُشْتَرِي بِالرُّؤْيَةِ قَوْلَ الْبَائِعِ بِلَا يَمِينٍ وَلَا رَدَّ لِلْمُشْتَرِي لِعِلْمِنَا بِصِدْقِ الْبَائِعِ وَكَذِبِ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا مَا أَمْكَنَ حُدُوثُهُ وَتَقَدُّمُهُ كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ وَالْكَسْرِ فِي الْإِنَاءِ وَالْجِرَاحِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا وَتَقَدُّمُهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ يَقِينٌ وَتَقَدُّمُهُ شَكٌّ وَالْحُكْمُ بِالْيَقِينِ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي تَقْتَضِي الْفَسْخَ وَدَعْوَى الْبَائِعِ تَقْتَضِي الْإِمْضَاءَ وَلُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ قَبْلُ يُعَاضَدُ قَوْلَ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ فَيَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى الْعِلْمِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْيَمِينُ فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ يَمِينُ الْبَائِعِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ فِيهَا وَلَا يَمْنَعُ حَقَّ الْمُشْتَرِي بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَيْبَ نَقْصُ جُزْءٍ يَدَّعِي الْبَائِعُ إِقْبَاضَهُ وَالْيَمِينُ فِي الْقَبْضِ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى الْعِلْمِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ عَلَى الْبَتِّ فَصِفَةُ يَمِينِهِ تُبْنَى عَلَى مُقَدِّمِهِ، وَهِيَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى فَأَنْكَرَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ إِنْكَارِهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَابِلَ لَفْظَ الدَّعْوَى فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 الْإِنْكَارِ بِمِثْلِهِ أَوْ يَكُونَ نَفْيًا لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَ فِي الْإِنْكَارِ بِمِثْلِ اللَّفْظِ فصفته أن يدعى عليه غصب عبد فيكون جَوَابُهُ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لَهُ قِبَلِي حَقٌّ، وَهَذَا جَوَابٌ كَافٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ يَمِينُ الْمُنْكِرِ لِهَذِهِ الدَّعْوَى مِثْلَ إِنْكَارِهِ لَا مِثْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلِي حَقٌّ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ وَاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَصَبَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوِ ابْتَاعَهُ فَيَأْثَمُ إِنْ حَلَفَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ مُقَابِلًا لِلَفْظِ الدَّعْوَى فَصِفَتُهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ غَصْبَ عَبْدٍ فَيَكُونُ فِي جَوَابِهِ فِي الْإِنْكَارِ أَنْ يَقُولَ مَا غَصَبْتُهُ هَذَا الْعَبْدَ فَعَلَى هَذَا فِي يَمِينِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلِي حَقٌّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الدَّعْوَى بِمِثْلِ لَفْظِهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ. فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ لَمْ يَخْلُ جَوَابُ الْبَائِعِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْعَيْبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِاسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ أَوْ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَفَى اسْتِحْقَاقَ الرَّدِّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ مُطَابَقَةً لِجَوَابِهِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَابِلَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ لَفْظِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَقَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْعَيْبُ فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ مِثْلَ يَمِينِهِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِهَذَا الْعَيْبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مُتَقَدِّمًا لَكِنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ عِلْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَدُّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ مُطَابَقَةً لِقَوْلِهِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ هَذِهِ السِّلْعَةِ مَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ لِأَنَّ جَوَابَهُ بِهَذَا التَّصْرِيحِ يَنْفِي عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ الْبَائِعِ بِاللَّهِ لَقَدْ أَقْبَضْتُهُ بَرِيًّا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ قَالَ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَيْبُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَيْبُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا حَلَفَ لقد باعه بريا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ مَعِيبًا حلف البائع بالله لقد باعه بريا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَنْ يَحْلِفَ لقد أَقْبَضَهُ مَعِيبًا حَلَفَ الْبَائِعُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَقْبَضَهُ بريا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 المشتري أن البائع أقبضه بريا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَحْلِفَ لقد باعه بريا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ فَإِنْ قَالَ الْمُزَنِيُّ فَمَا ذَكَرْتُهُ أَحْوَطُ قِيلَ لَهُ فَأَنْتَ فَإِنِ احْتَطْتَ لِلْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُكَ أَنْ تَحْتَاطَ أَيْضًا لِلْبَائِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِاللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ رَدَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِهَذَا الْعَيْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ عَلِمَ الْعَيْبَ مَعَ تَقْدِيمِهِ وَأَمْسَكَ عَنِ الرَّدِّ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيُضْمَنُ الِاحْتِيَاطُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا أَوْلَى. فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ الْعَيْبِ كَانَ رَدُّ الْمُشْتَرِي مُعْتَبَرًا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَيْبٌ يُوكِسُ الثَّمَنَ وَيُوجِبُ الْفَسْخَ فَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرَّدِّ حُكْمٌ وَالْجَهْلُ بِالْأَحْكَامِ لَا يُسْقِطُهَا، فَلَوْ كَانَ شَاهَدَ الْعَيْبَ قَدِيمًا وَقَالَ ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ زَالَ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعَيْبِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: تَعْجِيلُ الرَّدِّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ الْمُعْتَادِ فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْعَيْبِ لَيْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ فِي الْحَالِ حَتَّى يُصْبِحَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْمَنْعُ فَلَوْ بَادَرَ برده حين علم بعيبه فلقي البائع وأقبل عَلَى مُحَادَثَتِهِ ثُمَّ أَرَادَ الرَّدَّ فَلَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ إِمْسَاكِهِ عَنِ الرَّدِّ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ حِينَ لَقِيَهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَ سَلَامِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنْ لَا رَدَّ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ قَبْلَ السَّلَامِ لِأَنَّ السَّلَامَ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ الرَّدِّ كَالْكَلَامِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ لَهُ الرَّدُّ وَسَلَامُهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ أَدَبًا وَشَرْعًا بِهِ وَلِأَنَّ السَّلَامَ قَرِيبٌ لَا يَطُولُ بِهِ الزَّمَانُ وَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ الْمُوَالَاةُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الْمَبِيعَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يُنَافِي الرَّدَّ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرَّدِّ وَالْأَرْشِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَقَوْلِهِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ وَقَدْ وَقَفَ عَلَى عَيْبِهَا أَغْلِقِي الْبَابَ أَوْ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْيَسِيرُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِمِثْلِهِ فِي غَيْرِ مَالِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَابَّةً فَحِينَ عَلِمَ بِعَيْبِهَا رَكِبَهَا لِرَدِّهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ هَذَا الرُّكُوبُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ لَهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَهُ الرَّدُّ، لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَجَّلَ لَهُ فِي الرَّدِّ وَأَصْلَحُ لِلدَّابَّةِ مِنَ الْقَوْدِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَحِينَ وَقَفَ عَلَى عَيْبِهِ لَبِسَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى بَايِعِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ هَذَا اللُّبْسُ مَانِعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلثَّوْبِ فِي لُبْسِهِ وَلَوْ كَانَ لَابِسًا لِلثَّوْبِ فَوَقَفَ عَلَى عَيْبِهِ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَجَّهَ لِيَرُدَّهُ مُسْتَدِيمًا لِلُبْسِهِ جَازَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ وَإِنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي الطَّرِيقِ بِنَزْعِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَأَلْزَمَ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَتَحَالَفَا وَرُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى الْبَائِعِ فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى حُدُوثِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ لِأَنَّنَا إِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ فِي سُقُوطِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ إِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَنْ يَصِيرَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي فِي سُقُوطِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ كُلُّ مَا اشْتَرَيْتَ مِمَّا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ فَكَسَرْتَهُ فَأَصَبْتَهُ فَاسِدًا فَلَكَ رَدُّهُ وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ فَاسِدًا صَحِيحًا وَقِيمَتِهِ فَاسِدًا مَكْسُورًا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ وَلِلْمُشْتَرِي مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَفَاسِدًا إِلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ الرَّانِجَ مَكْسُورًا كَمَا لَا يَرُدُّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَكَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ بَعْدَ الْكَسْرِ أَوِ الْقَطْعِ عَيْبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْسَرَهُ أَوْ يَقْطَعَهُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ كَثَوْبٍ قَطَّعَهُ قَمِيصًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَسْرُهُ وَقَطْعُهُ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ كَثَوْبٍ قَطَّعَهُ قَمِيصًا ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعِيبًا وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ قَبُولَهُ مَقْطُوعًا فَلَا أَرْشَ لِلْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ خِيَاطَةٌ وَإِنْ كَانَ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَاسَدِهِ قِيمَةً أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِفَاسَدِهِ كَبَيْضَةٍ فاسدة مذرة أو جوزة فَارِغَةٍ أَوْ بِطِّيخَةٍ زَائِدَةٍ فَلِلْمُشْتَرِي فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ. وإن كان مما نقد قِيمَتُهُ كَبَيْضِ النَّعَامِ إِذَا تَغَيَّرَ أَوِ الْبِطِّيخِ إِذَا حَمُضَ أَوِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ إِذَا زَنِخَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ كَسْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهِ إِلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ يَكُونَ أَكْثَرُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِهِ إِلَّا بِمِثْلِهِ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ مَكْسُورًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ لَهُ لِنَقْصِهِ عَمَّا أَخَذَهُ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ صَحِيحًا سَلِيمًا وَصَحِيحًا مَعِيبًا ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الثَّمَنِ لَا مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ صَحِيحًا سَلِيمًا عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ صَحِيحًا مَعِيبًا ثَمَانِيَةً فَقَدْرُ الْعَيْبِ الْخُمْسُ فَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِخُمْسِ الثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ هَذَا الْكَسْرَ لَا يُمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَّا بِهِ كَانَ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَجَرَى مَجْرَى الْمُصَرَّاةِ الَّتِي لَا يَمْنَعُ حَلْبُهَا مِنْ رَدِّهَا فَعَلَى هَذَا إِذَا رَدَّ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مَعَهُ أَرْشَ الْكَسْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرُدُّ أَرْشَ النَّقْصِ بِالْخُمْسِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْذُونِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرُدُّ مَعَهُ أَرْشَ النَّقْصِ كَمَا يَرُدُّ الصَّاعَ بَدَلًا مِنْ لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ فَعَلَى هَذَا يَرُدُّ أَرْشَ كَسْرِهِ مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ صَحِيحًا مَعِيبًا فَيُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَوِّمُ مَكْسُورًا مَعِيبًا فَيُقَالُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ فَيَكُونُ قَدْرُ الْأَرْشِ دِرْهَمَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ كَسْرًا قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْبٍ بِأَقَلَّ مِنْهُ كَالْبِطِّيخِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى عِلْمِ حُلْوِهِ مِنْ حَامِضِهِ بِثَقْبِهِ دُونَ كَسْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إِذَا كَسَرَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى سَوَاءً. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا رَدَّ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَسْرِ لَيْسَتْ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ فَلَمَّا مُنِعَتْ مِنَ الرَّدِّ لَوِ انْفَرَدَتْ فَأَوْلَى أَنْ تُمْنَعَ إِذَا شَارَكَتْ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الرَّدِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا لَمْ يَرُدَّ الرَّانِجَ مَكْسُورًا وَكَذَلِكَ الْجَوْزَ وَاللَّوْزَ فَيُقَالُ لَهُ إِنَّمَا لَا تَرُدُّ الثَّوْبَ مَقْطُوعًا لِأَنَّهُ نَقَصَ لِغَيْرِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ وَكَسْرُ الرَّانِجِ وَالْجَوْزِ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ. فَصْلٌ: إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَطْوِيًّا فَنَشَرَهُ صَحَّ الشِّرَاءُ إِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى طَاقَتَيْنِ لِيَرَى جَمِيعَ الثَّوْبِ مِنْ جَانِبَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَطْوِيًّا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَلَى مَا مَضَى. فَأَمَّا إِذَا نَشَرَهُ بَعْدَ صِحَّةِ بَيْعِهِ فَإِنْ كَانَ نَشْرُهُ لَا يُنْقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ كَانَ لَهُ رَدُّهُ مَنْشُورًا بِمَا وُجِدَ فِيهِ مِنْ عَيْبٍ وَإِنْ كَانَ نَشْرُهُ يُنْقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ كَالسّخَابيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَيَكُونُ كَالَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْبِهِ إِلَّا بِكَسْرِهِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَنْشُرَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُ النَّشْرَ فَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَقَدْ جَنَى فَفِيهَا قَوْلَانِ أحدهما أن البيع جائز كما يكون العتق جائزا وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته والثاني أن البيع مفسوخ من قبل أن الجناية في عتقه كالرهن فيرد البيع ويباع فيعطى رب الجناية جنايته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 وبهذا أقول إلا أن يتطوع السيد بدفع الجناية أو قيمة العبد إن كانت جنايته أكثر كما يكون هذا في الرهن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اعْلَمْ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَنَوْعٌ يُوجِبُ الْمَالَ، فَأَمَّا الْمُوجِبَةُ لِلْقَوَدِ فَغَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ يوجب الْقَوَدَ مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ كَالْمَرَضِ فَإِنْ بَاعَهُ ثُمَّ أَقْبَضَ منه فقد اختلف أصحابنا هل يكون قبله بِالْقِصَاصِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ أَوْ مَجْرَى تَلَفِهِ بِالْمَرَضِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِثَمَنِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِجِنَايَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى تَلَفِهِ بِالْمَرَضِ. فَعَلَى هَذَا لَا رُجُوعَ لَهُ بِالثَّمَنِ لِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ. فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَقُدْهُ السَّيِّدُ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدِيَهُ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ السَّيِّدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْجِنَايَةِ أَوْ مُعْسِرًا؛ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا بَطَلَ بَيْعُهُ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُسْتَحَقٌّ وَتَقْدِيمُهَا أَحَقُّ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَيَبْقَى حُكْمُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ: أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ أَوْكَدُ مِنْ تَعَلُّقِ الرَّهْنِ بِهَا لِتَقْدِيمِ الْجِنَايَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فَلَمَّا كَانَ رَهْنَهُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مَانِعَةً مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ بَيْعُهُ بَاطِلًا فَدَاهُ السَّيِّدُ مِنْ بَعْدُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَقَلَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَوْ كَثُرَ فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ فَإِنَّ السَّيِّدَ مَأْخُوذٌ بِفَكِّهِ مِنْ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ بِإِزَاءِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكَثُرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ أَضْعَافًا لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ مِنْهُ قَطَعَ رَغْبَةَ الرَّاغِبِينَ فِيهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا الْجِنَايَةُ فَإِنْ فَدَاهُ مِنْ جِنَايَتِهِ اسْتَقَرَّ الْبَيْعُ وَصَحَّ وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْهَا فَهَلْ يُؤْخَذُ أَرْشُهَا مِنْهُ جَبْرًا أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَتُبَاعُ فِي الْأَرْشِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ لَكِنْ يَفْسَخُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَرْشُ جَبْرًا وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ وَهُوَ بِالْبَيْعِ مُلْتَزِمٌ لِفَدْيِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ المزني: قلت أنا قوله كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ جَائِزًا تَجْوِيزٌ مِنْهُ لِلْعِتْقِ وَقَدْ سَوَّى فِي الرَّهْنِ بَيْنَ إِبْطَالِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ فَإِذَا جَازَ الْعِتْقُ فِي الْجِنَايَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ مِثْلُهُ؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا عِتْقُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْجَانِي فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا كَانَ لَهُ الِاقْتِصَاصُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ نُظِرَ حَالُ السَّيِّدِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِالْجِنَايَةِ كَانَ عِتْقُهُ نَافِذًا وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لَا يُخْتَلَفُ لِاسْتِهْلَاكِهِ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِالْقَتْلِ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لَأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، لَا تُخْتَلَفُ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ مُسْتَهْلَكٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا فَفِي نُفُوذِ عَتْقِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ. وَالثَّانِي: عِتْقُهُ نَافِذٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي يُفْسَخُ بَعْدَ عَقْدِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ سَوَّى بَيْنَ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَعِتْقِهِ وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ بَيْعِ الْجَانِي وَعِتْقِهِ فَهَذَا سَهْوٌ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ خَالَفَ بَيْنَ بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَعِتْقِهِ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ بَيْعَهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ فِي عِتْقِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْجَانِي وَعِتْقِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ أَقْوَى وَأَنْفَذُ مِنَ الْبَيْعِ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَمْ لا قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَيَكُونَ مَبِيعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ بِالْمِيرَاثِ وَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا أَمْ لَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ يَمْلِكُ بُضْعَ زَوْجَتِهِ؟ . فَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ كَيْفَ يَشَاءُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 وَقَالَ أبو حنيفة وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَإِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إلى أن العبد يملك لقوله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ لَا يُوصَفُ بِالْغِنَى، وَبِمَا رَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ " فَأَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَبِمَا رُوِيَ " أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَكَانَ عَبْدًا حَمَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ إِسْلَامِهِ طَبَقًا فِيهِ رُطَبٌ لِيَخْتَبِرَ حَالَ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا هَذَا قَالَ صَدَقَةٌ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَبَقٍ آخَرَ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ هَدِيَّةٌ فَقَبِلَهُ فَقَالَ: إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا "، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبُولَ هَدِيَّتِهِ وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ بَدَلَهُ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بُضْعَ زَوْجَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مِلْكَ بَدَلِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ الْبُضْعَ نِكَاحًا صَحَّ أَنْ يَمْلِكَهُ شِرَاءً كَالْحُرِّ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ عَلَيْهِ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مَلَكَهُ فِي غَيْرِهِ كَالْمُكَاتَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَفِيهَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الْقُدْرَةَ فَكَانَتْ عَلَى عُمُومِهَا فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى عَنْهُ الْقُدْرَةَ وَقَدْ تَسَاوَى الْحُرُّ فِي الْبَطْشِ وَالْقُوَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يُخَالِفُ الْحُرَّ فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَلْكِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالِيَ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فيما رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] . وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَهَا مَثَلًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ لَمَّا كَانَ عَبِيدُكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا يُشَارِكُونَكُمْ فِي أَمْلَاكِكُمْ كَذَلِكَ أَنْتُمْ عَبِيدِي لَا تُشَارِكُونِي فِي مُلْكِي فَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مِثْلَ سَيِّدِهِ بَطَلَ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ، فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ وَارْتِفَاعِ يَدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ فِي حَالِ مِلْكِهِ وَثُبُوتِ يَدِهِ وَدَلِيلٌ ثَانٍ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ تَابِعٌ لِلْمَالِكِ فَلَوْ كَانَ مَا أُضِيفَ إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الْمَالِ مِلْكًا لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَجْهٌ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ وَكَانَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ بِأَنْ بَانَ مِنْ قَبْلُ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ. وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا كَالْبَهِيمَةِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 صِنْفَانِ: مَالِكُونَ وَمَمْلُوكُونَ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ مَالِكًا وَلِأَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي فِيهِ مِنْ جِنْسِ الرِّقِّ الَّذِي فِي غَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ رِقَّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ رِقَّ غَيْرِهِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ رَقِيقٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الرَّقِيقُ قِيَاسًا عَلَى رِقِّ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ لِحُصُولِ الْمِلْكِ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدُ بِالْإِرْثِ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ التَّمْلِيكَاتِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ بِأَضْعَفِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكَاتِ وَتَحْرِيرُهُ عِلَّةُ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لِيَمْلِكَ بِهِ الْمَالَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْعَبْدُ كَالْإِرْثِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْمِلْكَ بِدَلِيلِ أَنَّ حُدُوثَهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ فَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ قَاطِعًا لِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ وَلِأَنَّ تَمْلِيكَهُ الْعَبْدَ يُؤَدِّي إِلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ عَبْدًا فَيُمَلِّكُهُ مَالًا فَيَشْتَرِي مَوْلَاهُ مِنْ سَيِّدِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ سَيِّدًا لِصَاحِبِهِ فَتَتَنَاقَضُ أَحْكَامُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ قَاهِرًا لِأَنَّ سَيِّدَهُ مَقْهُورًا لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ سَيِّدٌ وَلَهُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَمَا أَدَّى إِلَى تَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ منع منه كالزوجية إِذَا تَمَلَّكَتْ زَوْجَهَا لِمَا كَانَ اجْتِمَاعُ الزَّوْجَيْنِ والملك متناقضا أبطلت الزوجية وأثبتت الْمِلْكُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] . فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ أَنْ يُغْنِيَهُمْ بِحَلَالِ الْوَطْءِ عَنْ حَرَامِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى غِنَاهُمْ بِالْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَلْمَانَ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا وَإِنَّمَا كَانَ حُرًّا مَغْصُوبًا وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَهْدَى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لِأَنَّ من جعل مَالِكًا مَنْعُهُ مِنَ الْهَدِيَّةِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مَالِكٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا بِيَدِهِ. وَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ لِأَجْلِ الْكِتَابِ مِنَ انْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْأَدَاءُ فَيُعْتَقَ وَلَوْ جَازَ لَهُ انْتِزَاعُهُ لَأَعْوَزَهُ الْأَدَاءُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُرِّ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحُرِّ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مَلَكَ غَيْرَهُ وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ بَدَلَهُ فَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ يَمْلِكُ الْبُضْعَ وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الِاسْتِبَاحَةِ سَوَاءٌ كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ عَقْدُ النِّكَاحِ مِلْكَ الْيَمِينِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَمَا جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِهِ جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِ عَبْدِهِ وَمَا حَرُمَ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ مِنْ هَذَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَالِكِ الْعَبْدِ فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ مَالَهُ مَجْهُولًا وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا وَاشْتَرَاهُ بِدَيْنٍ كَانَ هذا بيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 الغرر وشراء الدين بالدين فمعنى قوله " إلا أن يشترطه المبتاع " على معنى ما حل كما أباح الله ورسوله البيع مطلقا على معنى ما يحل لا على ما يحرم (قال المزني) قلت أنا وقد كان الشافعي قال يجوز أن يشترط ماله وإن كان مجهولا لأنه تبع له كما يجوز حمل الأمة تبعا لها وحقوق الدار تبعا لها ولا يجوز بيع الحمل دون أمه ولا حقوق الدار دونها ثم رجع عنه إلى ما قال في هذا الكتاب (قال المزني) والذي رجع إليه أصح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْقَوْلَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ إِذَا مُلِّكَ وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَإِذَا بَاعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ وَقَدْ مَلَّكَهُ مَالًا لَمْ يَخْلُ حَالَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا إِخْرَاجَ مَالِهِ مِنَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا إِدْخَالَ مَالِهِ فِي الْبَيْعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا فَإِنْ شرطا إِخْرَاجَ مَالِهِ خَرَجَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ فَلَمْ يَدْخُلْ مَالُ الْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ جَمِيعُ ما ملكه السيد دون العبد على قولين جَمِيعًا وَقَالَ مَالِكٌ يَكُونُ مِلْكًا لِلْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْمُعْتِقِ " وَهَذَا نَصٌّ فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَا دُخُولَ مَالِهِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ مَالِهِ حَتَّى يَسْلَمَ مَالُهُ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَالرِّبَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَطَ تَبَعًا لِلْعَبْدِ فَلَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا أَوْ دَيْنًا، وَالثَّمَنُ دَيْنٌ أَوْ ذَهَبٌ، وَالثَّمَنُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ، وَالثَّمَنُ فِضَّةٌ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ ثِيَابًا حَاضِرَةً أَوْ عُرُوضًا مُشَاهَدَةً صَحَّ بَيْعُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ ذَهَبًا فَبِيعَ بِالْفِضَّةِ أَوْ فِضَّةً فَبِيعَ بِالذَّهَبِ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ قَدْ جَمَعَ مَبِيعًا وَصَرْفًا فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ مَالِهِ مَعًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ جَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فيه اشتراط المشتري له هو شرط لتبقية مَالَهُ عَلَيْهِ وَمَانِعٌ لِانْتِزَاعِ السَّيِّدِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكَانَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ فَلَمَّا شَرَطَهُ كَانَ الشَّرْطُ اسْتِيفَاءَ إِكْمَالِهِ وَمَنْعًا لِلسَّيِّدِ مِنَ انْتِزَاعِهِ ثُمَّ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْزِعَ مَالَهُ مِنْ يَدِهِ كَمَا لِلْبَائِعِ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ. وَاسْتُدِلَّ لِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ " فَجَعَلَهُ لِلْمُبْتَاعِ بِالشَّرْطِ لَا بِالشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَ يَصِيرُ لَهُ بِالشِّرَاءِ لَقَالَ: فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُبْتَاعُ فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَكُونُ مال العبد مَبِيعًا مِنْهُ فَيَصِحُّ الْمَبِيعُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ دَيْنًا أَوْ غَائِبًا أَوْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 مَجْهُولًا أَوْ مُفْضِيًّا إِلَى الرِّبَا أَوْ كَانَ مُسْتَعَارًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَالُ السَّيِّدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَدِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ الشِّرَاءُ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَنْزِعَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ يَدِهِ وَيَدْفَعَ إِحْدَاهُمَا فِي ثَمَنِهِ وَيَحْصُلَ لَهُ أَلْفٌ وَعَبْدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ دَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ. وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّ تَعْلِيلَهُ وَجَوَازَهُ كَوْنُ الْمَالِ تَبَعًا لَهُ فَصَحَّتِ الْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَبِيعًا مَعَهُ كَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِتَوَابِعِ الْمَبِيعِ فِي الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَحُقُوقِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَلَوْ أُفْرِدَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِهِ كَذَا مَالُ الْعَبْدِ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مُفْرَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا فَأَمَّا الرِّبَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْهُ لِأَنَّ الرِّبَا لَا تَصِحُّ إِبَاحَتُهُ فِي الشَّرْعِ تَبَعًا وَتَصِحُّ دُخُولُ الْجَهَالَةِ فِيهَا تَبَعًا، فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ مَالُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَجْهُولًا لِجَوَازِ الْجَهَالَةِ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَالُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِأَجْلِ الرِّبَا الَّذِي لَا يَحِلُّ فِي الْعِتْقِ قَصْدًا ولا تبعا والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وحرام التدليس ولا ينتقض به البيع (قال أبو عبد الله محمد بن عاصم) سمعت المزني يقول هذا غلط عندي فلو كان الثمن محرما بالتدليس كان البيع بالثمن المحرم منتقضا وإذا قال لا ينتقض به البيع فقد ثبت تحليل الثمن غير أنه بالتدليس مأثوم فتفهم فلو كان الثمن محرما وبه وقعت العقدة كان البيع فاسدا أرأيت لو اشتراها بجارية فدلس المشتري بالثمن كما دلس البائع بما باع فهذا إذا حرام بحرام يبطل به البيع فليس كذلك إنما حرم عليه التدليس والبيع في نفسه جائز ولو كان من أحدهما سبب يحرم فليس السبب هو البيع ولو كان هو السبب حرم البيع وفسد الشراء فتفهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ التَّدْلِيسُ حَرَامًا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ طَعَامٌ مَبْلُولٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ: " لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " أَيْ لَا خَدِيعَةَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ لَا شَوْبَ وَلَا رَوْبَ " أَيْ لَا غِشَّ وَلَا تَغْلِيطَ فَإِنْ دَلَّسَ فِي بَيْعِهِ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لَا يَبْطُلُ بِتَدْلِيسِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِالتَّدْلِيسِ وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ التَّصْرِيَةِ " وَجَعَلَهَا تَدْلِيسًا ثُمَّ قَالَ: مَنِ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا بِالتَّدْلِيسِ لَرَدَّ وَلَمْ يُخَيَّرْ وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَإِذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالنَّهْيِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّدْلِيسِ بِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ دُونَ الْمَعْقُودِ فَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُبْطِلًا لَهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَكْرَهُ بَيْعَ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَالسَّيْفِ مِمَّنْ يَعْصِي اللَّهَ بِهِ وَلَا أَنْقُضُ الْبَيْعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهْنَا بَيْعَ الْعَصِيرِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعِنَبِ عَلَى مَنْ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَبَيْعَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعَ الطُّرُقِ وَأَهْلَ الْبَغْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعُونَتِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا هِيَ مَظْنُونَةٌ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ فَيَجْعَلُ الْعَصِيرَ خَلًّا وَيُجَاهِرُ بِالسِّلَاحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ السِّلَاحِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَحَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ بَيْعَ السِّلَاحِ عَلَيْهِمْ لَمْ يجز في الْعَقْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِتَحْرِيمِ إِمْضَائِهِ. وَالثَّانِي: صَحِيحٌ، وَلَكِنْ يَنْفَسِخُ عَلَيْهِمْ وَالْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ من اختلاف قولين فِي الذِّمِّيِّ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: صَحِيحٌ، وَلَكِنْ يُفْسَخُ عَلَيْهِ وَيُؤْمَرُ بِبَيْعِهِ وَكَذَا الْمُصْحَفُ إِذَا بِيعَ عَلَيْهِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَصَحِيحًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي لَكِنْ يُفْسَخُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا بَيْعُ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْعُ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَيْهِمْ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَهَلْ يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ تَبْدِيلِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَدَلُّوا فِيهَا عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَدَفْعِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 باب بيع البراءة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا بَاعَ الرَّجُلُ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ فَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ قَضَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ عَلِمَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ لَهُ وَيَقِفْهُ عَلَيْهِ تَقْلِيدًا فَإِنَّ الْحَيَوَانَ مُفَارِقٌ لِمَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُفْتَدَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ فَقَلَّمَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ يَخْفَى أَوْ يَظْهَرُ وَإِنْ أُصِحَّ فِي الْقِيَاسِ لَوْلَا مَا وَصَفْنَا مِنَ افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ أَنْ لَا يَبْرَأَ مِنْ عُيُوبٍ تَخْفَى لَهُ لَمْ يَرَهَا وَلَوْ سَمَّاهَا لِاخْتِلَافِهَا أَوْ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَالْأُوَلُ أَصَحُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا وَوَقَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يبرأ من عيوب سماها ولم يقف المشتري عَلَيْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَلَا يَقِفُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا. أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يبرأ من عيوب سماها ووقف المشتري عليها وَهَذِهِ بَرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ بَيْعٍ جَائِزٍ لَا تَنْفِي الْجَهَالَةُ عَنِ الْبَرَاءَةِ وَلُزُومُ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ فَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ غَيْرَ تِلْكَ الْعُيُوبِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا تِلْكَ الْعُيُوبَ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُيُوبٍ سَمَّاهَا وَلَمْ يَقِفِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْعُيُوبُ لَازِمَةً كَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ لَازِمَةٍ كَالسَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ مِنْهَا بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ فَلَمْ يُمْكِنِ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَاكْتَفَى بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا لِأَنَّ لِنَقْصِ الْعَيْبِ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْعَيْبِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَصَارَتِ التَّسْمِيَةُ لَهَا مَعَ عَدَمِ مُشَاهَدَتِهَا جَهْلًا بِهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ الْبَتَّةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَلَا يَقِفُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْحَيَوَانِ قَضَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 يَعْلَمْهُ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ عَلِمَهُ حَتَّى يُسَمِّيَهُ لِلْبَائِعِ وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ تَقْلِيدًا وَأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ وَقَالَ فِي اخْتِلَافِهِ وَمَالِكٍ وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ بَرِئَ مِمَّا عَلِمَ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْ لَكَانَ مَذْهَبًا يُجَافِيهِ حُجَّةٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَبْرَأَ فِي الْحَيَوَانِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِنْ عَيْبٍ أَصْلًا سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِهِ الْحَيَوَانُ مِمَّا عَلِمَهُ وَهَلْ يَبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْحَيَوَانِ أَوْ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ أَصْلًا سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ وَلَا يبرأ في غير الحيوان لا مما يعلمه ولا مما لم يعلم. فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فَوَجْهُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ وَتَقَادَمَتْ فَقَالَ لَهُمَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ إِنَمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " فَبَكَيَا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَرَكْتُ حَقِّي لِصَاحِبِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وَلَكِنِ اقْتَسِمَا وَاسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ " فَلَمَّا أَمَرَهُمَا بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْمَوَارِيثِ الْمُتَقَادِمَةِ الْمَجْهُولَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ. وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَصَحَّ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا كَالْعِتْقِ وَلِأَنَّ مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالْبَيْعِ فَلَمَّا كَانَ الْإِبْرَاءُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّسْلِيمِ صَحَّ فِي الْمَجْهُولِ. وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ فَوَجْهُهُ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ " وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ غَرَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ لَهُ عَلَى قَدْرٍ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْهِبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَخْتَصُّ بِمَا فِي الذمة والهبة بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَالْجَهَالَةِ بِتَوَابِعِ الْمَبِيعِ كَالْأَسَاسِ وَأَطْرَافِ الْأَجْدَاعِ وَطَمْيِ البئر فلما أمكن الاحتراز من الجهال في الإبراء وجب أن تكون الجهال مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِشَرْطٍ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ عَفَا قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ. وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ إِنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ نَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِمَّا عَلِمَهُ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ. فَوَجْهُهُ قَضَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ابْتَاعَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَبْدًا بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ فَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَتَحَاكَمَا فِيهِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَتَحْلِفُ أَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ فَاتَّقَى الْيَمِينَ وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدَ فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: تَرَكْتُ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَعَوَّضَنِي فَقَدْ قَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفَرْقِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَحَكَمَ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّ زَيْدًا رَضِيَ بِقَضَائِهِ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ بِخِلَافِهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الْعَيْبَ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ هَذَا إِجْمَاعًا فَهَلَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ قِيلَ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ عُثْمَانَ دُونَ زَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَإِنَّمَا كَانَ إِمْسَاكُهُمَا اتِّبَاعًا لِعُثْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا قَلَّدَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قِيلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ عِنْدَهُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَلِأَنَّهُ كَانَ يَرَى قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِمَامًا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ صَحَابِيٍّ كَانَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى قَضَاءِ عُثْمَانَ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ فَصَارَ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: فِي أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ يَغْتَذِي بِالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ وَقَلَّمَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ فَلَمْ يَكُنِ الِاحْتِرَازُ مِنْ عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا لِظُهُورِهَا فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَضِيَّةِ عُثْمَانَ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ فَإِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 معلوما ظاهرا أو غير معلوم خفي فَأَمَّا مَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْهَا وَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ بِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا وَإِنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْلَ وُجُوبِهَا. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْبِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَلِي فَسْخُ الْبَيْعِ بِهِ وَقَالَ الْبَائِعُ هُوَ مُتَقَدِّمٌ بَرِئْتُ مِنْهُ فَلَيْسَ لَكَ الْفَسْخُ بِهِ وَأَمْكَنُ مَا قَالَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْعِلَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَيْبِ إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي تَقَدُّمَ الْعَيْبِ عَلَى الْقَبْضِ لِيَفْسَخَ بِهِ الْبَيْعَ وَادَّعَى الْبَائِعُ حُدُوثَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِيَمْنَعَ فَسْخَ الْبَيْعِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ وَلَا فَسْخَ لِلْمُشْتَرِي لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إن العلة فيه إن حدث الْعَيْبِ يَقِينٌ وَتُقَدُّمَهُ شَكٌّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي تَقْتَضِي الْفَسْخَ وَدَعْوَى الْبَائِعِ تُوجِبُ الْإِمْضَاءَ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ يَقِينٌ وَتُقَدُّمَهُ شَكٌّ فَكَانَ الْيَقِينُ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَيُجْعَلَ لَهُ الْفَسْخُ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ حُدُوثَ الْعَيْبِ دُونَ تَقَدُّمِهِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْإِمْضَاءَ أَوْلَى مِمَّا اقْتَضَى الْفَسْخَ فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْبَائِعِ وَيُمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْبَائِعِ تَقْتَضِي الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ فَقَدْ بَطَلَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ نَافَى مُوجَبَ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ لِلْعَقْدِ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ إِنَّهُ لَا يُبْرَأُ مِنْ عُيُوبِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَيُبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ عُيُوبِ الْحَيَوَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُرَادِ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِخَفَائِهِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ لِجَهْلِهِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ خَفْيًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 باب بيع الأمة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا بَاعَهُ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مُوَاضَعَةٌ فَإِذَا دَفَعَ الثَّمَنَ لَزِمَ الْبَائِعَ التَّسْلِيمُ وَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى إِخْرَاجِ مِلْكِهِ مِنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ لَا يَلْزَمُ دَفْعُ الثَّمَنِ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِوَقْتِ دَفْعِ الثَّمَنِ وَفَسَادٌ آخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا مُشْتَرَاةٌ شِرَاءَ الْعَيْنِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَخْذُهَا وَلَا عَلَى بَيْعِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْأَجَلُ مَعْلُومًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ إِلَى أَجَلٍ وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ جَمِيلًا بِعُهْدَةٍ وَلَا بِوَجْهٍ وَإِنَمَا التَّحَفُّظُ قَبْلَ الشِّرَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَاةَ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي؟ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِهِ دُونَ الْبَائِعِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ لِحِفْظِ الْمَاءِ فَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ لِحِفْظِ مَائِهِ السَّالِفِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَ لِحِفْظِ مَائِهِ الْآنِفِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ: أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ، فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ عَلَى عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى الغانمين عن الوطء حتى يستبرؤوا بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمَبِيعَةِ بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ. وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْوَطْءِ حَتَّى يُوجَدَ اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ يَمْنَعُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ مَرَّتَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ. وَهُوَ أَنَّ بَقَاءَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ إِبَاحَةَ الِاسْتِمْتَاعِ فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ لَكَانَ الْمِلْكُ بَاقِيًا وَالِاسْتِمْتَاعُ مُحَرَّمًا وَإِرَادَةُ الْبَيْعِ لَا تُوجِبُ انتقال الملك فوجب أن لا يوجب تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ. وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مَوْطُوءَةٌ فِي مِلْكٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالزَّوْجَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِأَنَّ الْحُرَّةَ لَمَّا وَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَتِّيُّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ يَكُونُ بِالسَّبْيِ والإرث والوصية فلم لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا الْمُشْتَرِي أَفْضَى إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَسْبَابِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَادُ إِلَّا لِلِاسْتِمْتَاعِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَنْ تَحِلُّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ مُعْتَدَّةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ وَلَا مَجُوسِيَّةٍ وَلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا مُحَرَّمَةٍ بِالرَّضَاعِ وَلَا الْمُصَاهَرَةِ. وَالْبَيْعُ يُرَادُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَصَحَّ الْبَيْعُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلِهَذَا صَحَّ فِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلال الحسن فإنهما ماآن فَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِبْرَاءُ مَائِهِ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِمَاءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَائِعُ السَّالِفُ دُونَ الْمُشْتَرِي الْآنِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ أَغْلَظُ مِنَ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَالْأَمَةُ بِقَرْءٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْحُرَّةِ وَاحِدٌ مَعَ تَغْلِيظِ حَالِهَا فَالْأَمَةُ مَعَ خِفَّةٍ أَمْرِهَا أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ يَجِبُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لِيَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى يَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةً. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَجَبَ أَنْ تُوضَعَ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً جَازَ أَنْ تُسْتَبْرَأَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْجَمِيلَةَ تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا فَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمُشْتَرِي أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ عَلَى وَطْئِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَبِيحَةُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْغَانِمِينَ بِالِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ حُصُولِ السَّبْيِ بِأَيْدِيهِمْ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي. وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِاسْتِحْدَاثِ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَالْقَبِيحَةِ الْوَحْشَةِ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ إِذَا مُلِكَتْ بِهِ الْقَبِيحَةُ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ فَوَجَبَ إِذَا مُلِكَتْ بِهِ الْجَمِيلَةُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبْرَاؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِ كَالسَّبْيِ فَإِنَّ مَالِكًا يُوَافِقُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ سَلَّمَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الثَّمَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ تَسْلِيمَ الْمُثَمَّنِ كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ السَّلَمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْمُثَمَّنِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَنْعُ الْمُشْتَرِي منها حتى تستبرأ لَبَطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لَزِمَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ وَهَذَا بَاطِلٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وَالثَّانِي: أَنَّ جَهَالَةَ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ تَجْعَلُ الْأَجَلَ مَجْهُولًا وَهَذَا بَاطِلٌ. فَأَمَّا احْتِجَاجُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمُشْتَرِي غَلَبَةُ شَهْوَتِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْعَدْلِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدِهِ وَمَوْجُودٌ فِي الْقَبِيحَةِ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الْمُشْتَرِي فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا مِنْ تَسْلِيمِ الْوَحْشَةِ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْجَمِيلَةِ إِلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى يَدَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِبْرَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تستبرأ عَلَى يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ الِاسْتِبْرَاءُ وَتَصِيرُ مَضْمُونَةً على المشتري بالقبض. والقسم الثاني: أن تستبرأ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَيُجْزِئُ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ فَأَمَّا ضَمَانُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنِ اخْتَارَ الْعَدْلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَخْتَارَهُ الْبَائِعُ فَتَكُونَ الْأَمَةُ فِي ضَمَانِهِ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّنِ اخْتَارَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي فَتَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَارَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فَتَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ يَدَ الْبَائِعِ لَمْ تَزَلْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُسْتَبْرَأَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَيَصِحُّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ. وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَصِحُّ اسْتِبْرَاؤُهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا الْمُشْتَرِي فِي يَدِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ فِي مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فَكُلُّ مَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكَ أَمَةٍ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ سَبْيٍ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ أَمْ لَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا وَيَحْرُمُ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَطْؤُهَا وَلَا يَحْرُمُ اسْتِخْدَامُهَا. وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَمَةِ: فَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا مِنْ قَبْلُ لِسَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ حَرُمَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ أَوْ فِي بَقَايَا عِصْمَةٍ مِنْ زَوْجٍ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا يُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ كَالَّتِي لَمْ يَطَأْهَا سَيِّدٌ وَلَا زَوْجٌ أَوْ كَالسَّبَايَا لَمْ يُحْرَمِ الِاسْتِمْتَاعُ بِقُبْلَتِهَا وَمُضَاجَعَتِهَا وَإِنْ حُرِّمَ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لَكَانَتْ بِهِ أَمَةٌ مُبَاحَةٌ بِخِلَافِ الْمُسْتَفْرَشَةِ الَّتِي ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَكَانَتْ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ: فَلَوِ ابْتَاعَ أَمَةً وَكَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تكمل مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 الزَّوْجِ ثُمَّ يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ بَعْدُ وَلَا يَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ نَائِبًا عَنْهَا وَعَنِ الِاسْتِبْرَاءِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ لحدوث الملك للرقية مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَتَدَاخَلَا. وَكَذَا لَوْ أَنَّ السَّيِّدَ زَوْجُ أَمَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَى السَّيِّدِ إِذَا عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ إِبَاحَةَ بعضها بِالْمِلْكِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَى السَّيِّدِ الِاسْتِبْرَاءُ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ فِرَاقِ الزَّوْجِ ثُمَّ الِاسْتِبْرَاءُ لِاسْتِمْتَاعِ السَّيِّدِ وَلَا تَنُوبُ الْعِدَّةُ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَا يَنُوبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَنِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ كَاتَبَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْعَجْزِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ قَدْ حُرِمَّتْ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ بِالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَلَوْ أَنَّ رَجَلًا بَاعَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى تَفَاسَخَا الْبَيْعَ بِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِالْبَيْعِ ثُمَّ اسْتَحْدَثَهُ بِالْفَسْخِ. وَلَكِنْ لَوْ تَفَاسَخَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ في انتقال الملك. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِعُهْدَةٍ ولا بوجه وإنما التحفظ قبل الشراء ". قال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِضَامِنٍ مِنْ عُهْدَةٍ أَوْ كَفِيلٍ بِنَفْسٍ خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْأَمَةِ وَأَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ غَرِيبًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ غَرِيبًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ بِنَفْسٍ أَوْ ضَمِينٍ لِعَهْدِهِ اسْتِيثَاقًا لَحِقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ كَفِيلًا أَوْ ضَامِنًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ إِنْ شَاءَ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ سَلَامَتُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الظَّاهِرِ بِالظَّنِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِأَنْ يَشْتَرِطَ كَفِيلًا أَوْ ضَامِنًا فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اسْتِدْرَاكَ ذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ. أَلَا تَرَى لَوْ بَاعَ عَلَى غَرِيبٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِضَامِنٍ لِلثَّمَنِ لِإِمْكَانِ التَّحَفُّظِ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَفِيلًا بِعُهْدَةٍ يُرِيدُ ضَمَانَ الدَّرْكِ. وَقَوْلُهُ وَلَا بِوَجْهٍ يُرِيدُ كَفَالَةَ النَّفْسِ وَإِنَّمَا التَّحَفُّظُ قَبْلَ الشِّرَاءِ يُرِيدُ إِذَا شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 باب البيع مرابحة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدٌ وَقَالَ قَامَتْ عَلَيَّ بِمَائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ أَخْطَأْتُ وَلَكِنَّهَا قَامَتْ عَلَيَّ بِتِسْعِينَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ لِلْمُشْتَرِي بِرَأْسِ مَالِهَا وَبِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَةُ الْبُيُوعِ ثَلَاثَةٌ: بَيْعُ مُسَاوَمَةٍ، وَبَيْعُ مُرَابَحَةٍ، وَبَيْعُ مُخَاسَرَةٍ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ. وَهُوَ أَنْ يَسْتَامَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَطْلُبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ يَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمُمَاكَسَةِ عَلَى تِسْعِينَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ مُرَابَحَةً عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَرْبَحُ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ واحد فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ مَعَ جَوَازِهِ. وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ أَبْطَلَهُ وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَإِنَّ كَذِبَهُ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ غَيْرُ مَأْمُونٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّهُ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ مَعْلُومٌ إِذْ لَا فرق بين قوله بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِمِائَةٍ وَرِبْحُ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدٌ وَأَنَّ كِلَا الثَّمَنَيْنِ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِتِسْعِينَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِمِائَةٍ إِلَّا عَشْرَةً فِي أَنَّ كِلَا الثَّمَنَيْنِ تِسْعُونَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَتَانِ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ مَبْلَغَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ فَقَدْ عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مَبْلَغُ الثَّمَنِ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ. وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ بِأَنَّ كَذِبَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ غَيْرُ مَأْمُونٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ إِذْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِذِكْرِهِ. عَلَى أَنَّ الْمُرْوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ قَوْلَهُمْ ده ذوازده وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَرِهَ عَقْدَهُمْ بالأعجمية وعدولهم عن العربية. والثاني: كره يُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى بَيْعِ الدَّرَاهِمِ فِي جَوَازِ الْعَشْرَةِ بِالِاثْنَيْ عَشْرَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ جَائِزٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالثَّمَنِ مَعَ نَفْسِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَحَرِّي الصِّدْقِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِثَمَنِهِ وَقَالَ قَدْ بِعْتُكَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَبِيعُهُ وَرِبْحُ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا لَوْ قَالَ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ الْحِسَابُ مِنْ ثمنه علي وربح الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَاهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَا بِمَا يَصِيرُ بِهِ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَا يَنْفِي الْجَهَالَةَ عَنْهُمَا وَيَمَنْعُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فَصَارَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ فِيهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ مَعَ الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ أَوْ يُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ مَعَ مُؤْنَةٍ لَزِمَتْهُ عَلَيْهِ. أَوْ يُرِيدُ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ مَعَ عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِالثَّمَنِ وَحْدَهُ وَكَانَ قَدْرُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَلَهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِإِحْدَى ثَلَاثِ عِبَارَاتٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولَ رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ فَبِأَيِّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ عَبَّرَ عَنْهُ جَازَ. وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِثَمَنِهِ وَمُؤْنَةٍ لَزِمَتْهُ عَلَيْهِ مِنْ صُنْعٍ أَوْ قِصَارَةٍ أَوْ عُلُوفَةِ مَاشِيَةٍ أَوْ أُجْرَةِ حُمُولَةٍ كَأَنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ الصَّبْغِ وَالْقِصَارَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَلَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْمَبْلَغِ بِإِحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ وَلَا أَنْ يَقُولَ: قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَبِيعَاتِ عُرْفًا هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ. وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِثَمَنِهِ مَعَ عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةٍ وَيَقُصَرِّهُ بِنَفْسِهِ قِصَارَةً قَدَّرَ أُجْرَتَهَا عَشْرَةً. لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِإِحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ، وَلَا رَأْسُ مَالِي فِيهِ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ وَلَا يَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَيْهِ عَمَلُ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحُمُولَةِ الْمَتَاعِ كَانَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ حَمَلَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِأُجْرَتِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِإِحْدَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ وَعَمِلْتُ فِيهِ بِنَفْسِي عَمَلًا يُسَاوِي عَشْرَةً وأربح في كل عشرة واحد فَيَسْلَمُ مِنَ الْكَذِبِ وَيَصِلُ إِلَى الْغَرَضِ. فَصْلٌ: فَلَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَأَخْذَ أَرْشَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِالْمِائَةِ وَلَزِمَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالتِّسْعِينَ بِإِحْدَى الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْأَرْشَ اسْتِرْجَاعُ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ قَابَلَ جُزْءًا فَائِتًا مِنَ الْمَبِيعِ. وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجُنِيَتْ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ أَخَذَ أَرْشَهَا عَشْرَةً فَفِي قَدْرِ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ ثَمَنِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ فَصَارَتْ كَأَرْشِ الْعَيْبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَابَهَ الْكَسْبَ وَإِنْ أَخْبَرَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِحَالِ الْجِنَايَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ أَخْبَرَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِحَالِ الْجِنَايَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ. وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى دَارًا فَاسْتَعْمَلَهَا أَوْ مَاشِيَةً فَحَلَبَهَا أَوْ نَخْلًا فَأَخَذَ ثَمَرَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا أَخْبَرَ بِالشِّرَاءِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْهُ قَدْرَ مَا أَخَذَ مِنَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَاللَّبَنِ بَلْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَمْ تُقَابِلْ شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ إِلَّا لَبَنَ التَّصْرِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ قَدْرَ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً قَدْرُ أَرْشِهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَفَدَاهُ السَّيِّدُ بِهَا لَمْ يَجُزْ إِذَا أَخْبَرَ بِالثَّمَنِ أَنْ يَقُولَ ثَمَنُهُ مِائَةٌ وعشرة ولا أن يقول قام علي بمائة وَعَشْرَةٍ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ يَجُوزُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ مُؤْنَةِ الْقِصَارَةِ وَالصَّبْغِ أَنْ يَقُولَ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ فَهَلَّا جَازَ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَقُولَ قَامَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِصَارَةَ فِي الثَّوْبِ زِيَادَةٌ فِيهِ تَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ وَفِدَاءُ الْعَبْدِ مِنَ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاءُ مِلْكٍ يَعُودُ إِلَى الْمَالِكِ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ نَقَصَ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِكُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ أبي حنيفة أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَشْرَةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَزِمَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ تِسْعُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ الثَّمَنَ يَسْتَقِرُّ بِمَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَحَّ لِاسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ لَا تُلْحَقُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ. وَجَوَّزَ ذَلِكَ أبو حنيفة وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَاسْتِئْنَافَ عَقْدٍ جَدِيدٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ حَطِيطَةَ الثَّمَنِ كُلِّهِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ فَسْخًا لَاحِقًا بِالْعَقْدِ فَحَطِيطَةُ بَعْضِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونُ فَسْخًا لَاحِقًا بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَطِيطَةَ وَالزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتَا فَسْخًا لِلْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا مُجَدِّدَيْنِ لِلْعَقْدِ لَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّدَاقَ فَيَ النِّكَاحِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا عَادَ إِلَى الصَّدَاقِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ حَطِيطَةٍ فَسْخًا لَمْ يَكُنْ مَا عَادَ إِلَى الْبَيْعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ حَطِيطَةٍ فَسْخًا لَهُ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثَانِيَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُطَّ الرِّبْحَ مِنْ ثَمَنِهِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ أَنَّهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُهُ حَطِيطَةُ الرِّبْحِ وَالْإِخْبَارَ بِأَنَّ ثَمَنَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ يَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدِ انْقَضَى فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ حُكْمِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ خَسِرَ فِي ثَمَنِهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَهَا عَلَى الثَّمَنِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ إِذَا رَبِحَ فِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنَ الثَّمَنِ الثَّانِي. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ مِثْلَ ثَمَنِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ الرِّبْحِ كَأَنِ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ جَازَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ مِنَ الرِّبْحِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبْحُ بَعْضَ ثَمَنِهِ. وَلَوِ اشْتَرَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ بِإِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يُخْبِرَ إِلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ جَائِزٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَاعَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى السَّيِّدُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ عَلَى عَبْدِهِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ إِذَا بَاعَهُ بِإِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يُخْبِرَ إِلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى الْعَامِلُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ إِذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ إِلَّا بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ. فصل: وإذا اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَأَرَادَ بَيْعَهَا مُرَابَحَةً كَانَ عَلَيْهِ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ أَنْ يَذْكُرَ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَأْجِيلَهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ السِّلْعَةَ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَزِمَهُ الثَّمَنُ حَالًا. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَبْسَ الثَّمَنِ عَنِ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْبَيْعِ وَيُخَيِّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ بِالثَّمَنِ الْحَالِّ لِأَنَّ الْأَجَلَ رِفْقٌ بِالْمُشْتَرِي لَا يَتَعَلَّقُ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَخْبَرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِكَاذِبٍ لِدُخُولِ التِّسْعِينَ فِي الْمِائَةِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا عَلِمَ بِذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّ التِّسْعِينَ بَعْضُ الثَّمَنِ وَفِي مُقَابَلِهِ بَعْضُ الْمَبِيعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهَا جَمِيعُ الثَّمَنِ وَفِي مُقَابَلِهِ جَمِيعُ الْمَبِيعِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ إِذَا عَلِمَ بِذَلِكَ. فَصْلٌ: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِأَنَّ ثَمَنَ أَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَلَوْ قَوَّمَ أَحَدَهُمَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَوَّمَ الْآخَرَ بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَى مِائَةَ قَفِيزٍ حِنْطَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَرَادَ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْهَا مُرَابَحَةً جَازَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ ثَمَنَهُ دِرْهَمٌ لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَى أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ دُونَ قِيمَتِهَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ مَنَعَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ الصُّبْرَةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْبَابِ فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَوْبًا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ وَاحِدٍ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ وَأَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ عَادَ يَذْكُرُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الثَّمَنِ وَإِنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَقَدْ أَبَانَ الْبَائِعُ عَنْ أَمَانَتِهِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ بِتِسْعِينَ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ فَيَكُونُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالنُّقْصَانِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ وَقَدْ خَرَجَ قَوْلَانِ آخَرَانِ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمَقَامِ مِنْ مَسْأَلَةِ بَاقِي وَهُوَ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِخِيَانَةِ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَتَرْتِيبِهِ ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي بِالتِّسْعِينَ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَأْخُذُهُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ أخذ بعقد مستأنف لبطل العقد الأول ولا افتقر إِلَى اشْتِرَاطِ قَدْرِ الرِّبْحِ فِيهِ كَمَا افْتَقَرَ إِلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الْمُخَاسَرَةِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ شِرَاءُ هَذَا الثَّوْبِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْ بِعْتُكَهُ مَخَاسَرَةً بِنُقْصَانِ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا فَهَذَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ. وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْمُخَاسَرَةِ كَمَا يَصِحُّ جَوَازُ الْمُرَابَحَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَرُدُّ كُلَّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَيَصِيرُ آخِذًا لِهَذَا الثَّوْبِ بأحد وتسعين درهما إلا جزأ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ رُدَّتْ إِلَى تِسْعِينَ وَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي أُسْقِطَ مِنْهُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا. قَالُوا وَإِنَّمَا رُدَّتِ الْأَحَدَ عَشَرَ إِلَى الْعَشْرَةِ مِنَ الْمُخَاسَرَةِ كَمَا رُدَّتِ الْعَشْرَةُ إِلَى الْأَحَدَ عَشَرَ فِي الْمُرَابَحَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَلْ يَرُدُّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَى تسعة فيحط من الثمن العشر فيصر آخِذًا لِهَذَا الثَّوْبِ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا. قَالُوا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي الْمُرَابَحَةِ أَنْ يُزِيدَ عَلَى كل عشرة واحد وَجَبَ أَنْ يُنْقِصَ فِي الْمُخَاسَرَةِ مِنْ كُلِّ عشرة واحد وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَالْأَصَحُّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ قَالَ وَأَخْسَرُ لِكُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا رُدَّتِ الْأَحَدَ عَشَرَ إِلَى عَشْرٍ كَمَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ وَإِنْ كَانَ قَالَ وَأَخْسَرُ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ وَاحِدًا رُدَّتِ الْعَشْرَةُ إِلَى تِسْعَةٍ كَمَا قَالَهُ الْآخَرُونَ. لِأَنَّ لَفْظَةَ مِنْ تَقْتَضِي إِخْرَاجَ وَاحِدٍ مِنَ العشرة وتخالف معنى الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ قَالَ ثَمَنُهَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَهُوَ مكذب له ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ ثَوْبًا مُرَابَحَةً بِرِبْحٍ فِي الْعَشْرَةِ وَاحِدًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ عَادَ الْبَائِعُ فَذَكَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي إِخْبَارِ الشِّرَاءِ وَأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلِلْمُشْتَرِي حَالَتَانِ حَالٌ يُصَدِّقُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ غَلَطِهِ وَحَالٌ يُكَذِّبُهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا قِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ بِهَذَا الثَّمَنِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ فِيهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ تُسْمِعْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِمَا ادَّعَاهُ فِي الثَّانِي مِنَ الثَّمَنِ أَنَّهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمَنْ حُفِظَ عَلَيْهِ أَكْذَابُ بَيِّنَتِهِ رُدَّتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَإِنْ طَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَفِي جَوَازِ إِخْلَافِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ؟ . فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ لَمْ يَجِبْ إِحْلَافُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَجَبَ إِحْلَافُهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَزِمَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ شِرَاءِ وَكِيلِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ عَادَ فَذَكَرَ أَنَّ الْوَكِيلَ أَخْطَأَ وَأَنَّ الْعَبْدَ غَلِطَ وَأَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَهَلْ تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذلك. على وجهين: أحدهما: لا تسمع بينته كَمَا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قد أكذبها بما تَقَدُّمٌ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ إحلاف المشتري وجهان. والوجه الثَّانِي: أَنَّ بَيِّنَتَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مَسْمُوعَةٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُجْعَلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَبِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ أَوِ الْفَسْخِ. فَإِنْ عَدِمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمُشْتَرِي وَجْهًا وَاحِدًا فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَخْذُ الثَّوْبِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِذَا حَلَفَ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِ الثَّوْبِ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ خَانَهُ حُطَّتِ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ وَلَمْ أُفْسِدِ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمَا مَعًا إِنَمَا وَقَعَ مُحَرَّمًا عَلَى الْخَائِنِ مِنْهُمَا كَمَا يُدَلِّسُ لَهُ بِالْعَيْبِ فَيَكُونُ التَّدْلِيسُ مُحَرَّمًا وَمَا أُخِذَ مِنْ ثَمَنِهِ مُحَرَّمًا وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الخيار ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إِذَا أَخْبَرَ الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ عَادَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا يَدَّعِي خِيَانَةَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَأَنَّهُ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ خِيَانَةِ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ خِيَانَةِ الْبَائِعِ سُمِعَتْ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً بِخِيَانَةِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِانْعِقَادِهِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَخْبَرَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ خِيَانَةَ الْبَائِعِ عَيْبٌ دَلَّسَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالتَّدْلِيسُ بِالْعَيْبِ إِذَا ظَهَرَ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ بِحَطِّ الْخِيَانَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ التَّدْلِيسَ بالعيب إذا أوجب الرجوع بالأرش لم يقتضي جَهَالَةَ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَ حَطُّ الْخِيَانَةِ لَمْ يُؤْذَنْ بِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ بِظُهُورِ الْخِيَانَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّوْبِ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَاقِيًا فَهَلْ تُحَطُّ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إِنَّ الْخِيَانَةَ لَا تُحَطُّ وَأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مِائَةٌ وَعَشْرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِهَذَا الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ يَفْسَخَ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْخِيَانَةَ تُحَطُّ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ كَانَ بِالثَّمَنِ وَرِبْحُ الْعَشْرَةِ وَاحِدٌ فَإِذَا بَانَ الثَّمَنُ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَعَلَى هَذَا هَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَقَالَ فِي الْبَائِعِ إِذَا عَادَ فَأَخْبَرَ بنقصان الثمن أن ليس للمشتري الخيار واختلف أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كل مسألة إلى الأخرى وَتَخْرِيجَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حُطَّتِ الزِّيَادَةُ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَى أَنْ يأخذ الثوب بمائة وعشرة دراهم وصار الْعَقْدُ لَهُ لَازِمًا فَإِذَا أَخَذَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ درهما فأولى أَنْ يَكُونَ تَرَاضِيًا وَيَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِمْضَائِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ابْتِيَاعِهِ بِمِائَةٍ وَعَشْرَةٍ يَفْقِدُهُ إِذَا ابْتَاعَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ وَصِيًّا فِي وَصِيَّةٍ أَوْ حَالِفًا فِي يَمِينٍ فَقَصَدَ أَنْ يَبَرَّ فِيهَا فَإِذَا نَقَصَ مِنَ الثَّمَنِ فَاتَهُ الْغَرَضُ فَوَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا حُطَّتِ الزِّيَادَةُ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا حُطَّتْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ بخيانة البائع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَطِيطَةَ إِذَا كَانَتْ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ دَلَّتْ عَلَى أَمَانَتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْعَقْدِ خِيَارٌ لِسَلَامَتِهِ وَإِذَا كَانَتِ الْحَطِيطَةُ بِالْبَيِّنَةِ دَلَّتْ عَلَى خِيَانَتِهِ وَلَمْ يُؤْمَنْ حُدُوثُ خِيَانَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ جِهَتِهِ فَثَبَتَ فِي الْعَقْدِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. فَإِذَا قِيلَ إِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ عَادَ الثَّوْبُ إِلَى الْبَائِعِ وَإِنِ اخْتَارَ الْمَقَامَ أَوْ قِيلَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ فَهَلْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُشَّ وَلَا دَلَّسَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي ذَكَرَهُ حَقًّا كَانَ أَوْ بَاطِلًا. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّوْبُ تَالِفًا وَقَدْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِخِيَانَةِ الْبَائِعِ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُحَطَّ الْخِيَانَةُ وَحِصَّتُهَا مِنَ الرِّبْحِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ مَعَ التَّلَفِ كَالْعَيْبِ الْمَرْجُوعِ فِيهِ بِالْأَرْشِ ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ خِيَارَهُ ثَبَتَ مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَأَمَّا الْبَائِعُ فَإِنْ قِيلَ لَا خِيَارَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ مَعَ تَلَفِهَا لِأَنَّ تَلَفَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْفَسْخِ لَمْ يَمْنَعِ الْبَائِعَ مِنَ الْفَسْخِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ عَبْدًا بِأَمَتِهِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَوَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا فِيمَا ابْتَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لِمُشْتَرِي الْعَبْدِ خِيَارٌ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ وَوَجَبَ لِمُشْتَرِي الْأَمَةِ الْخِيَارُ وَإِنْ تَلَفَ مَا يُقَابِلُهَا لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ وَالْإِمْضَاءَ كَانَ لَهُ الثَّمَنُ بَعْدَ حَطِيطَةِ الْخِيَانَةِ وَحِصَّتِهَا مِنَ الرِّبْحِ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الثَّوْبِ بِالْعَيْبِ وَرَدَّ مَا قَبَضَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَأَوَّلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِيمَا قَصَدَ بِهِ مَالِكًا فِي إِبْطَالِهِ الْبَيْعَ بِظُهُورِ الْخِيَانَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِمَا مَعًا وَإِنَّمَا وَقَعَ مُحَرَّمًا عَلَى الْخَائِنِ مِنْهُمَا فَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ الثَّمَنِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَقَالَ الْمُزَنِيُّ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ حَرَامًا وَقْتَ الْعَقْدِ لَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ السَّبَبُ وَهُوَ الْخِيَانَةُ دُونَ الثَّمَنِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ الثَّمَنِ فِي عَيْنِهِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْرِيمَ السَّبَبِ وَهُوَ التَّدْلِيسُ وَالْخِيَانَةُ فَكَانَ التَّحْرِيمُ رَاجِعًا إِلَى فِعْلِ الْعَاقِدِ دُونَ الْعَقْدِ وَالتَّحْرِيمُ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْعَاقِدِ دُونَ الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ كَتَحْرِيمِ النَّجْشِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانُ وَلَوْ رَجَعَ التَّحْرِيمُ إِلَى الْعَقْدِ دُونَ الْعَاقِدِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَتَحْرِيمِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَبَيْعِ الْحَمْلِ فَعَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَحْرِيمِ الْفِعْلِ بِتَحْرِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ جَازَ أن يعبر عنه بأنه محرم اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الشَّيْءَ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ يشتريه بأقل من الثمن مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ السَّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ وَيَشْتَرِيَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ بِنَقْدٍ وَعَرْضٍ وَإِلَى أَجَلٍ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عَائِشَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ بَيْعٍ بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا وَكَذَا إِلَى الْعَطَاءِ ثَمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَمَا ابْتَعْتِ أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا أن يتوب (قال الشافعي) وهو مجمل ولو كان هذا ثابتا فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء لأنه أجل معلوم وزيد صحابي وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس وهو مع زيد ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء الْمُشْتَرِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بَاعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ فَافْتَرَقَا عَلَى الرِّضَا بِهِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ، مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَجُلُّ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ بأكثر منه نقدا ونسبا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالنَّقْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً إِلَّا بِمَثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَا لَا رِبَا فِيهِ كَالْعُرُوضِ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَأَقَلَّ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ فِيهِمَا الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جَازَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ قِيَاسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِحْسَانًا. وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ ابْنِ أبي إسحاق السبيعي عن أمه عالية بِنْتِ أَيْفَعَ قَالَتْ: خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ حَبَّةَ إِلَى الْحَجِّ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ مِنْ أَيْنَ؟ قُلْنَا مِنَ الْكُوفَةِ كَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ حَبَّةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَبِعْتُهَا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى الْعَطَاءِ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَقَالَتْ أَرَأَيْتِ لَوْ أَخَذْتُ رَأْسَ مَالِي قَالَتْ فَتَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] . قَالُوا فَلَمَّا أَبْطَلَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا الْبَيْعَ وَجِهَادَ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهَا بَلْ عَنْ نَصٍّ وَتَوْقِيفٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِبْطَالَ الْجِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ بَاعَ حَرِيرَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثَمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَقَالَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً وَحَرِيرَةٌ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا. قَالُوا وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا وَمُؤَدِّيًا إِلَيْهِ وَمَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى الرِّبَا كَانَ مَمْنُوعًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَلَعَنَهُمْ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أَدَّاهُمْ إِلَى الْحَرَامِ. وَلِأَنَّ الْبَائِعَ فِي ابْتِيَاعِهِ الثَّانِي قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهَا بِثَمَنٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ بَائِعِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ كَالْعَرْضِ وَلِأَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْ شَخْصٍ بِعَرْضٍ جَازَ بَيْعُهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعَرْضِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي عِوَضِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الرُّجُوعُ في تقدير ثمنه إلى عاقد كَالْبَيْعِ الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ حُكْمَ نَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ مَعَ التَّرَاضِي وَيَبْطُلُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَفْتَقِرُ إِلَى الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ وَإِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَوَهَاءُ طَرِيقِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ لِمَنِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَتَعْرِفُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ كَيْفَ يَصِحُّ لَكَ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ مَنْ لَا تَعْرِفُهُ عَلَى أَنَّ أبا حنيفة لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَادِيثِ النِّسَاءِ إِلَّا مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا أَبْطَلَتِ الْبَيْعَ إِلَى الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَجْلٌ مَجْهُولٌ وَالْآجَالُ الْمَجْهُولَةُ يَبْطُلُ بِهَا البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا أَنْكَرَتِ الْبَيْعَ الثَّانِي لِأَنَّهَا قَالَتْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ تكريرا لإنكار البيع الثاني قيل هذا غَلَطٌ لِأَنَّهَا قَالَتْ بِئْسَ مَا شَرَيْتِ بِمَعْنَى بِعْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أَيْ بَاعُوهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: (وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّةْ) وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ إِنْكَارَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَوَجَّهَ إِلَى الْبَيْعِ الثَّانِي، دُونَ الْأَوَّلِ لَمَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّ زَيْدًا خَالَفَهَا وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابِيَّانِ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَ أَحَدِهِمَا كَانَ قَوْلُ مَنْ عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى وَالْقِيَاسُ مَعَ زَيْدٍ دُونَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنْ قِيلَ فَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ وَإِنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ جِهَادَ زَيْدٍ بِاجْتِهَادِهَا. قِيلَ لَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهَا عَلَى التَّوْقِيفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِثْبَاتُ نَصٍّ بِاسْتِدْلَالٍ وَإِبْطَالُ قِيَاسٍ بِاحْتِمَالٍ. وَالثَّانِي: إِمْكَانُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ فِي حَمْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ زِيدٌ عَلَى التَّوْقِيفِ فَإِذَا أَمْكَنَ مُعَارَضَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ سَقَطَ وَلَيْسَ مَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَنَّ زَيْدًا قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ دَلِيلٌ عَلَى توقيف لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ عَلِمَ بِنَصٍّ فَخَالَفَهُ وَإِنِ لم يعلم به لَمْ يُبْطِلِ اجْتِهَادَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهَا إِلَّا كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا وَكَقَوْلِهِ فِي الْعَوْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْمَالِ نِصْفًا وَثُلْثَيْنِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ يَعْنِي لَاعَنْتُهُ وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ نَصًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا الْحَرَامِ فَغَلَطٌ بَلْ هُوَ سَبَبٌ يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا الْحَرَامِ وَمَا مَنَعَ مِنَ الْحَرَامِ كَانَ نَدْبًا أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا " قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وِالصَّاعَيْنِ بِثَلَاثَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا تفعل بع الجمع بالدراهم واشتر بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا وَالْجَمْعُ هُوَ التَّمْرُ الْمُخْتَلِطُ الرَّدِيءُ وَالْجَنِيبُ هُوَ الْجَيِّدُ فَجَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَرْكِ الرِّبَا وَنَدَبَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ. أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ بِحُكْمِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ هَذَا وَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ الثَّانِي مع البائع كحكمه من غَيْرِ الْبَائِعِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ قَدْ قَابَلَ عِوَضًا مَضْمُونًا. فَصْلٌ: وَمِمَّا يُضَاهِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَنَّ مَنْ بَاعَ طَعَامًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ طَعَامًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَطْعُومِ. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ أَخَذَ طَعَامًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ عَيْنَ الرِّبَا وَإِنْ أَخَذَ غَيْرَ الطَّعَامِ جَازَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ مُكَيَّلًا وَلَا مَوْزُونًا وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا لما تقدم من الدليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 بَابُ تَفْرِيقِ صَفْقَةِ الْبَيْعِ وَجَمْعِهَا مَسْأَلَةٌ: قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَجَمْعِهَا وَبَيَّضْتُ لَهُ مَوْضِعًا لِأَجْمَعَ فِيهِ شَرْحَ أَوْلَى قَوْلَيْهِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قال الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ليلى وإذا اشترى ثوبين صفقة واحدة فهلك في يده ووجد بالآخر عيبا واختلفا في ثمن الثوب فقال البائع قيمته عشرة وقال المشتري قيمته ثمانية فالقول قول البائع من قبل أن الثمن كله قد لزم المشتري فإن أراد رد الثوب بأكثر من الثمن أو أراد الرجوع بالعيب بأكثر من الثمن فلا يعطيه بقوله الزيادة وقال في كتاب الصلح أنه كالبيع وقال فيه في موضعين مختلفين إن صالحه من دار بمائة وبعبد ثمنه مائة ثم وجد به عيبا أن له الخيار إن شاء رد العبد وأخذ المائة بنصف الصلح ويسترد نصف الدار لأن الصفقة وقعت على شيئين وقال في نشوز الرجل على المرأة وفي كتاب الشروط لو اشترى عبدا واستحق نصفه إن شاء رد الثمن وإن شاء أخذ نصفه بنصف الثمن وقال في الشفعة إن اشترى شقصا وعرضا صفقة واحدة أخذت الشفعة بحصتها من الثمن وقال في الإملاء على مسائل مالك وإذا صرف دينارا بعشرين درهما فقبض تسعة عشر درهما ولم يجد درهما فلا بأس أن يأخذ التسعة عشر بحصتها من الدينار ويتناقضه البيع بحصة الدرهم ثم إن شاء اشترى منه بحصة الدينار ما شاء يتقابضانه قبل التفرق أو تركه عمدا متى شاء أخذه وقال في كتاب البيوع الجديد الأول لو اشترى بمائة دينار مائة صاع تمر ومائة صاع حنطة ومائة صاع علس جاز وكل صنف منها بقيمته من المائة وقال في الإملاء على مسائل مالك المجموعة وإذا جمعت الصفقة برديا وعجوة بعشرة وقيمة البردي خمسة أسداس الثمن وقيمة العجوة سدس العشرة فالبردي بخمسة أسداس الثمن والعجوة بسدس الثمن وبهذا المعنى قال في الإملاء لا يجوز ذهب جيد ورديء بذهب وسط ولا تمر جيد ورديء بتمر وسط لأن لكل واحد من الصنفين حصة في القيمة فيكون الذهب بالذهب والتمر بالتمر مجهولا وبهذا المعنى قال لا يجوز أن يسلف مائة دينار في مائة صاع تمر ومائة صاع حنطة لأن ثمن كل واحد منهما مجهول وقال في الإملاء على مسائل مالك المجموعة إن الصفقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 إذا جمعت شيئين مختلفين فكل واحد منهما بحصته من الثمن وقال في بعض كتبه لو ابتاع غنما حال عليها الحول المصدق الصدقة منها فللمشتري الخيار في رد البيع لأنه لم يسلم له كما اشترى كاملا أو يأخذ ما بقي بحصته من الثمن وقال إن أسلف في رطب فنفد رجع بحصة ما بقي وإن شاء أخر إلى قابل وقال في كتاب الصداق وَلَوْ أَصْدَقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ أَلْفًا قُسِّمَتْ عَلَى مهورهن قال ولو أصدقها عبدا فاستحق نصفه كان الخيار لها أن تأخذ نصفه والرجوع بنصف قيمته أو الرد (قال المزني رحمه الله) فأما قيمة ما استحق من العبد فهذا غلط في معناه وكيف تأخذ قيمة ما لم تملكه قط؟ بل قياس قوله هذا ترجع بنصف مهر مثلها كما لو استحق كله كان لها مهر مثلها وقال في الإملاء على الموطأ ولو اشترى جارية أو جاريتين فأصاب بإحداهما عيبا فليس له أن يردها بحصتها من الثمن وذلك أنها صفقة واحدة فلا ترد إلا معا كما يكون له لو بيع من دار ألف سهم وهو شفيعها أن يأخذ بعض السهمان دون بعض وإنما منعت أن يرد المعيب بحصته من الثمن أنه وقع غير معلوم القيمة وإنما يعلم بعد وأي شيء عقداه برضاهما عليه كذلك كان فاسدا لا يجوز أن أقول أشتري منك الجارية بهاتين الجاريتين على أن كل واحدة منهما بقيمتها منها ولو سميت أيتهما أرفع لأن ذلك على أمر غير معلوم وقال فإن فاتت إحدى الجاريتين بموت أو بولادة لم يكن له رد التي بعيب ويرجع بقيمة العيب من الجارية كانت قيمة التي فاتت عشرين والتي بقيت ثلاثين وقيمة الجارية التي اشترى بها خمسون فصار حصة المعيبة من الجارية ثلاثة أخماسها وكان العيب ينقصها العشر فيرجع بعشر الثمن وهو ثلاثة وقال في كتب الإملاء على الموطأ ولو صرف الدينار بالدراهم فوجد منها زائفا فهو بالخيار بين أخذه ورده وينقض الصرف لأنها صفقة واحدة وقال فيه أيضا في موضع آخر فإن كان الدرهم زائفا من قبل السكة أو قبح الفضة فلا بأس على المشتري في أن يقبله فإن رده رد الصرف كله لأنها بيعة واحدة إن زاف على أنه نحاس أو تبر غير فضة فلا يكون له أن يقبضه والبيع منتقض وقال في كتاب الإملاء على مسائل مالك المجموعة ولا يجوز بيع ذهب بذهب ولا ورق بورق ولا بشيء من المأكول أو المشروب إلا مثلا بمثل فإن تفرقا من مقامهما وبقي قِبَلَ أحد منهما شيء فسد وقال في كتاب الصلح إنه كالبيع فإن صالحه من دار بمائة وبعبد قيمته مائة وأصاب بالعبد عيبا فليس له إلا أن ينقض الصلح كله أو يجيزه معا وقال في هذه المسألة بعينها ولو استحق العبد انتقض الصلح كله وقال في الصداق فإذا ذهب بعض البيع لم أرد الباقي وقال في كتاب المكاتب نصفه عبد ونصفه حر كان في معنى من باع ما يملك وما لا يملك وفسدت الكتابة (قال المزني) وهذا كله منع تفريق صفقة (قال المزني) فإذا اختلف قوله في الشيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 الواحد تنافيا وكانا كلا معنى وكان أولاهما به ما أشبه قوله الذي لم يختلف قال وأخبرني بعض أصحابنا عن المزني رحمه الله أنه يختار الصفقة ويراه أولى قولي الشافعي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّفْقَةُ فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَادَةَ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَارِيَةٌ أَنْ يُصَفِّقَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ عِنْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ. فَالصَّفْقَةُ هِيَ الْعَقْدُ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ أَوْ حَرَامَيْنِ أَوْ أحدهما حَلَالًا وَالْآخَرُ حَرَامًا فَإِنْ كَانَا حَلَالَيْنِ صَحَّ العقد فيهما وإن كان مِنْ جِنْسَيْنِ كَرَجُلٍ اشْتَرَى ثَوْبًا وَسَيْفًا بِدِينَارٍ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهُمَا مُخْتَلِفَةً كَرَجُلٍ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ بِدِينَارٍ أو عبدين فَإِنَّ الثَّمَنَ يَتَقَسَّطُ عَلَى قِيمَتِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ تكون أجزاؤهما مُتَمَاثِلَةً كَالْحُبُوبِ وَالْمَائِعَاتِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَتَقَسَّطُ عَلَى أجزاؤهما وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ جَمَعَتْ حَرَامَيْنِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ فِيهِمَا سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَخِنْزِيرٍ وَزِقِّ خَمْرٍ أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَزِقَّيْنِ مِنْ خَمْرٍ. وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا كَحُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ أَوْ مِلْكٍ وَغَصْبٍ فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي الْحَرَامِ بَاطِلٌ وَفِي الْحَلَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ قِسْطَ الْحَلَالِ مِنَ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ لِأَنَّ تَمْيِيزَ ثَمَنِهِ يَجْعَلُهُ كَالْعَقْدَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْحَرَامُ الْمَضْمُومُ إِلَى الْحَلَالِ لَيْسَ بِمَالٍ كَخَلٍّ وَخَمْرٍ أَوْ عَبْدٍ وَحُرٍّ بَطَلَ الْعَقْدُ أَيْضًا فِي الْحَلَالِ وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَعَبْدٍ تَمَلَّكَهُ وَعَبْدٍ غَصَبَهُ أَوْ جَارِيَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ بَطَلَ فِي الْحَرَامِ وَلَيْسَ يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْحَلَالِ فَلَهُ عِلَّتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْحَرَامِ يَبْطُلُ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَهُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ الْحَلَّالُ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا وَتَبْعِيضُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَغْلِيبُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَاجِبٌ فَكَانَ تَغْلِيبُ حُكْمِ الْحَرَامِ فِي إِبْطَالِ الْعَقْدِ عَلَى الْحَرَامِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الْحَلَالِ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْحَلَالِ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ عَلَى الْحَرَامِ لَا يَجُوزُ وَإِبْطَالَ الْعَقْدِ عَلَى الْحَلَالِ يَجُوزُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بدرهمين لما كان الدرهم بالدرهم والدرهم حلالا الزَّائِدُ حَرَامًا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ. وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْحَلَالِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ خَالَفَهُ حُكْمُ صَاحِبِهِ وَجَبَ إِذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يُخَالِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ صَاحِبِهِ كَالْمُشْتَرِي صَفْقَةً عَبْدًا وشقصا فيه الشفعة. والثاني: أنه لو كان الجميع بَيْنَهُمَا يُوجِبُ حَمْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الصِّحَّةِ عَلَى الْبُطْلَانِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْبُطْلَانِ عَلَى الصِّحَّةِ كَالِانْفِرَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لِتُكَافِئَ الْأَمْرَيْنِ وَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْحَالَيْنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَنَقُولُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّفْقَةِ الَّتِي جَمَعَتِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ عُقُودِ الْبِياعَاتِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْأَثْمَانُ أَوْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ عُقُودِ الْبِياعَاتِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْبِياعَاتِ كَالْهِبَاتِ وَالرُّهُونِ وَالنِّكَاحِ وَهُوَ أَنْ يَنْكِحَ أَجْنَبِيَّةً وَأُخْتًا أَوْ يَهَبَ عَبْدًا وَحُرًّا أَوْ يَرْهَنَ غَصْبًا وَمِلْكًا فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَهِبَةُ الْحُرِّ وَرَهْنُ الْغَصْبِ وَإِنْ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ قَدْ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا فَغَلَبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ لِبُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَهِبَةُ الْعَبْدِ لِبُطْلَانِ هِبَةِ الْحُرِّ وَرَهْنُ الْمِلْكِ لِبُطْلَانِ رَهْنِ الْغَصْبِ. وَإِنَّ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَجْهُولًا صَحَّ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَهِبَةُ الْعَبْدِ وَرَهْنُ الْمِلْكِ لِأَنَّهَا عُقُودٌ لَا تتضمن أثمانا أتبطل بِجَهَالَتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الصَّفْقَةُ مِنْ عُقُودِ الْبِياعَاتِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ أَوْ عَلَى أَجْزَائِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ مِثْلَ قَفِيزَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ أَحَدُهُمَا مَغْصُوبٌ وَالْآخَرُ مَمْلُوكٌ أَوْ عَبْدٌ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ فَإِنْ عَلَّلْنَا لِبُطْلَانِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جمعت حراما وحلالا بطلت الصفقة كلها ها هنا لِوُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَإِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ الثَّمَنَ يصير مجهولا صح البيع ها هنا فِي الْحَلَالِ وَإِنْ بَطَلَ فِي الْحَرَامِ لِأَنَّ ما يتقسط الثمن على أجزاءه قَدْ أَمِنَ فِيهِ جَهَالَةَ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ إِذَا ابْتَاعَ قَفِيزَيْنِ بِدِينَارَيْنِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّصْفَ دِينَارٌ. وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا بِمِائَةٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَهُ بِخَمْسِينَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ كَحُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ وَمَمْلُوكٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ وَأَمَةٍ أَوْ وَقْفٍ وَمِلْكٍ أَوْ شَاةٍ وَخِنْزِيرٍ أَوْ خَلٍّ وَخَمْرٍ فَالصَّفْقَةُ فِيهِمَا بَاطِلَةٌ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا لِأَنَّنَا إِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَجْهُولًا فَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَيْضًا وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ بِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْحَرَامِ وَلَمْ يَبْطُلْ فِي الْحَلَالِ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْحَلَالِ أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَقَامَ اعْتُبِرَ حَالُ الْحَرَامِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ فِي الصَّفْقَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا فِي حُكْمِ الْمَالِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مَالًا كَالْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَجْهُولِ أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ كأم الولد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 وَالْوَقْفِ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ تَقْوِيمَ الْمَالِ كَالْحُرِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَى الْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَرَامَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ فَلَمْ يُقَابِلْهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ وَصَارَ جَمِيعُهُ ثَمَنًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مِنَ الْحَلَالِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا خَرَجَ مِنَ الصَّفْقَةِ مِنَ الْحَرَامِ نَقْصٌ فِي الْمَبِيعِ كَعَبْدٍ قُطِعَتْ يَدُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَكُونُ لِمُشْتَرِيهِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْحَلَالِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَوْلَى أَنْ يَرْضَى بِأَخْذِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْحَلَالِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَلَالِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا تَضَمَّنُهُ بَذْلُ الْبَائِعِ وَقَبُولُ الْمُشْتَرِي فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْمُقَامَ عَلَى الْحَلَالِ وَأَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ فَهَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ لِأَجْلِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الثَّمَنِ. وَالْوَجْهُ الثاني: لا خيار به لِأَنَّ نَقْصَ الثَّمَنِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ بَعْضِ الْمَبِيعِ الْبَاقِي مَعَهُ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَلَالَ الْمَضْمُومَ فِي الصَّفْقَةِ إِلَى الْحَرَامِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَا يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ فِيمَا يَأْخُذُهُ بِهِ قَوْلَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إِلَى مَالٍ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِ. فصل: فإذا بطل بعض الصَّفْقَةِ بِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِي مِنْهَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الْبَيْعَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَسَوَّى بَيْنَ الْفَسَادِ الْمُقَارَنِ لِلْعَقْدِ وَبَيْنَ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَأَجَازُوا بَيْعَ الْبَاقِي قَوْلًا وَاحِدًا لِسَلَامَتِهِ فَلَمْ يَقْدَحْ فِيهَا مَا حَدَثَ مِنْ فَسَادِ بَعْضِهَا لِأَنَّنَا إِنْ عَلَّلْنَا فِي بُطْلَانِ الصَّفْقَةِ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلَالًا عُدِمَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ ها هنا. فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَخَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى قَوْلَيْنِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَإِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ منها لا أدفع حتى أقبض قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ عَوْنِ بْنِ عبد الله بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ (قَالَ) وَقَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تَبَايَعَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا تَبَايَعَا عَبْدًا فَقَالَ الْبَائِعُ بِأَلْفٍ وَالْمُشْتَرِي بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي فَضْلَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي السِّلْعَةَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّانِي فِي صِفَتِهِ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْآخَرُ مَا اشْتَرَيْتُهُ. أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْمَالِكُ مَا بِعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ الْعَقْدِ مَعَ يَمِينِهِ بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا إِلَّا أَنْ يُقِيمَ مُدَّعِي الْعَقْدِ بَيِّنَتَهُ وَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَادَّعَاهُ الْآخَرُ عَلَى وَجْهٍ يُفْسِدُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفِ حَالَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ فَالْقَوْلُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى فَسَادَهُ دُونَ صِحَّتِهِ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمُنْكِرِ لَهُ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ دُونَ أَصْلِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي صِفَتِهِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَوْ فِي صِفَتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا مِمَّا قَدْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي الْخِيَارِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي الرَّهْنِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي الضَّمِينِ أَوْ فِي عَيْنِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ مِنْ قَدَرِ الثَّمَنِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَوْ صِفَتِهِ فَالِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي بِمُكَسَّرَةٍ أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ بِدَرَاهِمَ بِيضٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي بِدَرَاهِمَ سُودٍ وَالِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُثَمَّنِ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بعتك العبد بِأَلْفٍ وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي بَلْ بِعْتَنِي كَذَا بِأَلْفٍ أو يقول البائع بعتك هذا كذا من طعام بِأَلْفٍ فَيَقُولَ الْمُشْتَرِي بَلْ بِعْتَنِي الْعَبْدَ مَعَ الْفَرَسِ بِأَلْفٍ. وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْمُثَمَّنِ أَنْ يَقُولَ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ دِرْهَمًا فِي طَعَامٍ مَيْسَانِيٍّ فَيَقُولُ بَلْ فِي طَعَامٍ شَامِيٍّ أَوْ فِي ثِيَابٍ مَرْوِيٍّ فَيَقُولُ بَلْ فِي هَرْوِيٍّ فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا ذَكَرْتُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَقْدِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مذهب شريح والشعبي أن يقول فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مِلْكِهِ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ تَالِفَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِحَالِهَا تَحَالَفَا. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَتَحَالَفَانِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً أَوْ تَالِفَةً وَلَا اعْتِبَارَ بِالْيَدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تلفها قبل القبض فإن ذلك مبطلا لِلْعَقْدِ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ تَلَفَ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ مِنَ التَّحَالُفِ وَيُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا أَوْ تَرَادَّا " فشرط في التحالف بقاء السلعة. فاقتضى انتفاء التَّحَالُفِ مَعَ تَلَفِ السِّلْعَةِ، وَقَالَ وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ مَعَ بَقَاءِ الْمَبِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَعَ تَلَفِهِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلَفَ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْفَسْخُ أَصْلُهُ إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَبَطَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ تَلَفِهِ الْفَسْخَ قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا قُبِضَ بِالْقِيمَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ فَلَوْ جَازَ تَحَالُفُهُ بَعْدَ الثَّمَنِ لَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَهَذَا مِمَّا يُنَافِي ضَمَانَ الْعَقْدِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا مَا رُوِيَ عَنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المتبايعين مُنْكِرٌ وَمُدَّعٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ بِعْتُ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَبِعْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ أَشْتَرِهِ بِأَلْفٍ صَحَّ ذَلِكَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ وَالْبَيِّنَةُ إِنَّمَا تُسْمَعُ مِنَ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَالَفَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة وَالْيَمِينُ عِنْدَ أبي حنيفة إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي فَثَبَتَ أَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا مُنْكِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ شَرَطَ بَقَاءَ السِّلْعَةِ فِي التَّحَالُفِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ فَصَارَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ كَمَا حَمَلْتُمْ إطلاق العتق في كفارة الظهار على التقييد الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ؟ قِيلَ لَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُقَيَّدِ الَّذِي يَحْمِلُ إِطْلَاقَ جِنْسِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ خَبَرِنَا إِنَّمَا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا فَصَارَ قَوْلُهُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ إِطْلَاقُ خَبَرِنَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ إِذَا اخْتَلَفَا وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي قِيَامِهَا وَتَلَفِهَا قِيلَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى حُكْمِ التَّحَالُفِ مَعَ التَّلَفِ لِأَنَّ بَقَاءَ السِّلْعَةِ يُمْكِنُ مَعَهُ اعْتِبَارُ قِيمَتِهَا فَيَغْلِبُ بِهِ قَوْلُ مَنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَمَعَ التَّلَفِ لَا يُمْكِنُ فَلَمَّا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ هَذَا وَأَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ كَانَ وُجُوبُ التَّحَالُفِ مَعَ تَلَفِهَا أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى بقاء السلعة إسقاط لِاعْتِبَارِ الْيَدِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ حَتَّى إِذَا تَحَالَفَا مَعَ وُجُودِ الْيَدِ كَانَ تَحَالُفُهَمَا مَعَ زَوَالِ الْيَدِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى بَقَاءِ السِّلْعَةِ لِأَنَّ تَلَفَهَا قَدْ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَقَاؤُهَا لَيْسَ يَبْطُلُ مَعَهُ الْعَقْدُ فَيَتَحَالَفَانِ مَعَ بَقَائِهَا وَلَا يَتَحَالَفَانِ مَعَ تَلَفِهَا. فَإِنْ قِيلَ فَلَا دَلَالَةَ لَكُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ قِيلَ قَدْ جُعِلَ الْمُشْتَرِي بَعْدُ بِالْخِيَارِ وَمَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا وَإِذَا ثَبَتَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ يَمِينِ الْبَائِعِ فَخِيَارُهُ فِي قَبُولِ السِّلْعَةِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ أَوْ يَحْلِفُ بَعْدَهُ وَيَفْسَخُ الْبَيْعَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَحَالُفِهِمَا وَإِنَّمَا خص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِالْيَمِينِ ... وَيَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ عَقْدِ بَيْعٍ صَحِيحٍ فَاقْتَضَى أَنْ يُوجِبَ التَّحَالُفَ. أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَاقِي وَالتَّالِفُ كَالِاسْتِحْقَاقِ. وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَرَاضِيهِمَا فَإِذَا صَحَّ مَعَ تَرَادِّ الْأَعْيَانِ صَحَّ مَعَ تَرَادِّ الْقِيَمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ تَلِفَتِ الْجَارِيَةُ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ وَاسْتِرْجَاعُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَلَفِهَا كَمَا كَانَ لَهُ فَسْخُهُ مَعَ بَقَائِهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ مَضَى فِي مُعَارَضَةِ خبرِنا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَيْبَ فِيمَا تَلَفَ يُقْدَرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ بِالْأَرْشِ فَلَمْ يَفْسَخْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي اخْتِلَافِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ إِلَّا بِالتَّحَالُفِ فَجَازَ أَنْ يَتَحَالَفَا مَعَ التَّلَفِ. وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ إِنَّ السِّلْعَةَ بَعْدَ تَلَفِهَا لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ كَمَا لَا يَقْبَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ وَإِنْ أَقَالَهُ الْعَبْدُ الْآبِقُ لَا تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ الْإِقَالَةَ كَمَا لَا يُقْبَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَقُولُ فِيمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَقُتِلَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ أَوْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ وَيَأْخُذَ مِنَ الْقَاتِلِ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَقَدْ جَعَلَ الْعَقْدَ بَعْدَ التَّلَفِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ كَذَلِكَ فِيمَا جَعَلْنَا أَصْلًا مَعَهُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْجَارِيَةِ إِذَا تَلَفَتْ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا أَنَّ لَهُ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَاسْتِرْجَاعَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَجَعَلَ الْعَقْدَ بَعْدَ التَّلَفِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّلَفِ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ يَنْقُضَانِ الْعِلَّةَ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ فَحُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَلَمْ تَسْلَمْ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَقْبُوضَ عَنِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بَاطِلٌ بِمُبْتَاعِ الْعَبْدِ بِالْجَارِيَةِ إِذَا تَلَفَتْ وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ. فَأَمَّا من جعل القول في اختلاف المتبايعين قَوْلَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُقَابَلُ بِمِثْلِهِ. فَيُقَالُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الثَّمَنَ عَلَى مِلْكِهِ فَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَيُقَابَلُ أَيْضًا بِمِثْلِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِسِلْعَةِ الْبَائِعِ فَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ وَسَقَطَ التَّعْلِيلُ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنِ السِّلْعَةُ فِي يَدِهِ فَيُقَابِلُ أيضا بمثله فيقال ها هنا سِلْعَةٌ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَثَمَنٌ فِي يَدِ الْآخَرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنِ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَيَتَسَاوَى الْقَوْلَانِ، وَيَسْقُطُ التَّعْلِيلُ وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيلُ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا مُتَقَابِلًا فِي الْجِهَتَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَصَحَّ مَذْهَبُنَا فِي تَحَالُفِهِمَا لِتَسَاوِي حُكْمِهِمَا وَاللَّهُ أعلم. فصل: فأما إذا اختلف المتبايعان فِيمَا قَدْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَقْدُ كَالْأَجَلِ إِذَا دعاه أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ فِي قَدْرِهِ وَاخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ إِذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخِيَارِ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ أَوِ اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ أَوِ الضَّمِينِ إِذَا ادَّعَاهُ وَنَفَاهُ الْآخَرُ أَوِ اتَّفَقَا عَلَى الرَّهْنِ وَاخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الثمن والمثمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَتَحَالَفَانِ فِي هَذَا كُلِّهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ نَفَاهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ يَصِحُّ مَعَ الْخُلُوِّ مِنْهُ فَصَارَ مُدَّعِيهِ مُسْتَأْنِفًا لِلدَّعْوَى فِيهِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ هُوَ مَا كَانَ عِوَضًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مثمن وهذه كلها غير مقصودة فلم يتساوى مَعَ حُكْمِ الْمَقْصُودِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ لِعُمُومِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَلِأَنَّ صِفَاتِ الْعَقْدِ مُلْحَقَةٌ بِأَصْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا فِي التَّحَالُفِ كَحُكْمِهِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا قَدْ تَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِعَدَمِهَا فَصَارَتْ فِي الْحُكْمِ كَأَجْزَاءِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَلَيْسَ لِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ خلوها من العقد جَائِزٌ وَجْهًا فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّحَالُفِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ قَدْ يَصِحُّ أَنْ تَخْلُوَ مِنَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّحَالُفِ، وَلَا لِقَوْلِهِ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِغَيْرِهَا وَجْهٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا قَدْ تُقْصَدُ وَلِذَلِكَ شُرِطَتْ وَلَوْ لَمْ تُقْصَدْ وَكَانَتْ تَبَعًا لَوَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ بِحُكْمٍ يُسَوِّغُهَا وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا حَلَفَا مَعًا قِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِهِ بِأَلْفٍ أَوْ رَدِّهِ وَلَا يَلْزَمُكَ مَا لَا تُقِرُّ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعِينَ يُوجِبُ التَّحَالُفَ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ وَتَلَفِهَا فَالتَّحَالُفُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ حَاكِمٍ نَافِذِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الدَّعَاوَى إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، ولو تحالفا لأنفسهما لم يكن لأيمانها تَأْثِيرٌ فِي فَسْخٍ وَلَا لُزُومٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَأَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُحَلِّفَهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السُّلَّمِ الْكَبِيرِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمَكَاتَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ثُمَّ خَالَفَ فِي الصَّدَاقِ فَقَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ وَتَحَالَفَا بَدَأْتُ بِالزَّوْجِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَآدَابِ الْقُضَاةِ إِنْ بَدَأَ الْبَائِعُ بِالْيَمِينِ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ بَدَأَ بِهَا الْمُشْتَرِي خُيِّرَ الْبَائِعُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيمَ أَيِّهِمَا شَاءَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ نُصُوصٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى طَرِيقَيْنِ. فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةً وَخَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ أَقْوَى جَنَبَةً لِعَوْدِ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ أَقْوَى جَنَبَةً لِكَوْنِ الْمَبِيعِ وَقْتَ التَّحَالُفِ عَلَى مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثاني أَنَّ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيمَ أَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ لِاخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ وإنما الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْبُيُوعِ وَالصَّدَاقِ فَيَبْدَأُ فِي الْبَيْعِ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ وَفِي الصَّدَاقِ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَحَالُفَهُمَا فِي الْبَيْعِ يَرُدُّ الْمَبِيعَ إِلَى يَدِ بَائِعِهِ فَبُدِئَ بِإِحْلَافِهِ وَتَحَالُفُهُمَا فِي الْمَهْرِ لَا يَرْفَعُ مِلْكَ الزَّوْجِ عَنِ الْبُضْعِ وَهُوَ بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى مِلْكِهِ فَبُدِئَ بِإِحْلَافِهِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي جَازَ وَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْبَائِعِ جَازَ لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا طَرِيقَةُ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى تَقْدِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَيْسَ كَاللِّعَانِ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجِ وَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى مَا شَرَحْنَا مِنَ الْمَذْهَبِ فَهَلْ تَقْدِيمُهُ فِي الْيَمِينِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ قَدَّمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنْ قَدَّمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَحَلَفَ صَاحِبُهُ حُكِمَ لَهُ (قَالَ) وَإِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ عَلَى الْبَيْعِ وَمُخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ بِنَقْضِ الْبَيْعِ وَوَجَدْنَا الْفَائِتَ فِي كُلِّ مَا نَقَضَ فِيهِ الْقَائِمُ مُنْتَقَضًا فَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ فَائِتًا كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ (قال المزني) يقول صارا في معنى من لم يتبايع فيأخذ البائع عبده قائما أو قيمته متلفا (قال) فرجع محمد بن الحسن إلى ما قلنا وخالف صاحبيه وقال لا أعلم ما قالا إلا خلاف القياس والسنة (قال) والمعقول إذا تناقضاه والسلعة قائمة تناقضاه وهي فائتة لأن الحكم أن يفسخ العقد فقائم وفائت سواء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِدَايَةَ فِي تَحَالُفِهِمَا بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا أَوْ يَمِينَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً تَجَمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ تَصْدِيقَ قَوْلِهِ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَاحْتَاجَ إِلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ يَمِينًا أُولَى لِلنَّفْيِ وَيَمِينًا ثَانِيَةً لِلْإِثْبَاتِ كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ دَارًا فِي أَيْدِيهِمَا إِذَا تَحَالَفَا عَلَيْهَا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَتِهَا هَلْ يَتَقَدَّمُ الْإِثْبَاتُ فِيهَا عَلَى النَّفْيِ أَوِ النَّفْيُ عَلَى الْإِثْبَاتِ. عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي يَمِينِهِ بِالْإِثْبَاتِ ثُمَّ بِالنَّفْيِ فَيَقُولُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 الْبَائِعُ: وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَبِعْهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ أَشْتَرِه بِأَلْفٍ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ تَبَعٌ فَوَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَقْصُودِ قَبْلَ التَّبَعِ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ فِي اللِّعَانِ يُبْدَأُ فِيهَا بِالْإِثْبَاتِ قَبْلَ النَّفْيِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالنَّفْيِ ثُمَّ الْإِثْبَاتِ فَيَقُولُ الْبَائِعُ: وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَقَدْ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُشْتَرِي: وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَة لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَنَزَّلُ فِي إِحْلَافِهِ مَنْزِلَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ يَمِينِهِ النَّفْيَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَآخِرُ يَمِينِهِ الْإِثْبَاتَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمُدَّعِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْبَائِعَ يَحْلِفُ فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ إِلَّا بِأَلْفٍ وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُ إِلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ لِأَنَّ هَذَا أَسْرَعُ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] . إِنَّهُ سُرْعَةُ الْقَضَاءِ. فَهَذَا اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي صِفَةِ يَمِينِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ لكل واحد منهما أن يحلف يمينا واحدة. فأما إذا قيل بالوجه الثاني إِنَّ حَظَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَيْنِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى بِالنَّفْيِ وَفِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بِالْإِثْبَاتِ فَيَقُولُ الْبَائِعُ وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي وَاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ ثَانِيَةً فَيَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَةِ أيما نما فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إِذَا حَلَّفَ أَحَدَهُمَا أَنْ لَا يُحَلِّفَ الْآخَرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ الْمَبِيعَ عَلَيْهِ بِمَا حَلَّفَ عَلَيْهِ صَاحِبَهُ فَإِنْ رَضِيَ بِقَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَحْلَفَهُ، فَإِنْ بَدَأَ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَالَ لِلْمُشْتَرِي أَتَرْضَى أَنْ تَقْبَلَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي حَلَفَ الْبَائِعُ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يُحَلِّفْ وَإِنْ قَالَ لا أحلفه، وَلَوْ بَدَأَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِ الْمُشْتَرِي قَالَ لِلْبَائِعِ أترضى أن تمضي البيع بخمسمائة الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يُحَلِّفْهُ وَإِنْ قَالَ لَا أَحْلَفَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ يُحَلِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ فَأَحْلَفَ الْبَائِعَ يَمِينًا أَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَهُ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ قَبُولَ الْمَبِيعِ، فَإِذَا عَادَ الْبَائِعُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ يَمِينًا حِينَئِذٍ عَرَضَ الْمَبِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ يَمِينِهِ الثَّانِيَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عَرْضَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ يَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَى وَيَمِينُهُ الْأُولَى لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يَحْلِفَانِ مَعًا، وَحَالٌ يَنْكُلَانِ مَعًا، وَحَالٌ يَحْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلُ الْآخَرُ. فَإِنْ نَكَلَا مَعًا تَرَكَهُمَا وَلَمْ يَحْكُمْ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَطَعَ الخصومة بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 الْآخَرُ حَكَمَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى النَّاكِلِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ مِنْهُمَا هُوَ الْبَائِعُ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ دَفْعَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ، وَمَتَى قُلْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا يَمِينَيْنِ وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً كَانَ كَالنَّاكِلِ وَقَضَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِذَا حَلَفَا جَمِيعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بينهما بنفس التحالف أو يفسخ بوقع بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ كَالْفَسْخِ بَيْنَ المتلاعنين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحَالَفَا وَتَرَادَّا فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّحَالُفِ أَنْ يَقْبَلَهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ وَكَذَا لَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يَبْذُلَهُ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ التَّحَالُفِ حَتَّى يُوقِعَ الْفَسْخُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِفَسْخِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَعَلَى هَذَا بِمَاذَا يَكُونُ الْفَسْخُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَأَيُّهُمَا فَسَخَ صَحَّ اعْتِبَارًا بِفَسْخِ الْعُيُوبِ الَّتِي تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ وَعُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّهَا عَنِ اجْتِهَادٍ فَعَلَى هَذَا لَوْ فَسَخَهُ الْمُتَبَايِعَانِ لَمْ يَنْفَسِخْ حَتَّى يَفْسَخَهُ عَلَيْهِمَا الْحَاكِمُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهُ بَعْدَ تَحَالُفِهِمَا إِلَّا عَنْ مَسْأَلَتِهِمَا بَعْدَ عَرْضِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يَعْرِضُهُ عَلَى الثَّانِي بَعْدَ يَمِينِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَفْسَخُهُ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ، فَلَوْ تَرَاضَيَا بَعْدَ تَحَالُفِهِمَا وَقَبْلَ فسخه هل الْبَيْعُ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا صَحَّ الْعَقْدُ. فَصْلٌ: فَإِذَا انْفَسَخَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ أَوْ بِإِيقَاعِ الْفَسْخِ بَعْدَ التَّحَالُفِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقَعُ الْفَسْخُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سَوَاءً كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا كَالْفَسْخِ بِاللِّعَانِ وَكَالْفَسْخِ عِنْدَ تَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الْوَلِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَى الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ كَمَا يَفْعَلُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً جَازَ أَنْ يَطَأَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ سَوَاءً كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 فَعَلَى هَذَا إِذَا عَادَ الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ قِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنَّكَ كَاذِبٌ، وَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ صَادِقٌ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بِوَجْهٍ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِكَ، وَأَنْتَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ تَصَرَّفْتَ فِيهِ كُنْتَ كَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ مُتَعَدِّيًا، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَاذِبٌ فَالْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنْتَ مَمْنُوعٌ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَطَأَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً وَأَنْ لَا تَهَبَ وَتَكُونُ كَمَنْ لَهُ مَالٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ، وَظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَتَبِيعُ السِّلْعَةَ لِتَصِلَ إِلَى حَقِّكَ مِنْ ثَمَنِهَا. وَفِي الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا. وَالثَّانِي: تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ، فَإِذَا بِيعَتْ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بِقَدْرِ حَقِّكَ فَلَكَ أَخْذُ حَقِّكَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّكَ فَعَلَيْكَ رَدُّ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّكَ فَالْبَاقِي دَيْنٌ لَكَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا وَالْمُشْتَرِي ظَالِمًا وَقَعَ الْفَسْخُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا لَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَوَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ظَالِمًا صَارَ بِالظُّلْمِ مَانِعًا مِنْ ثَمَنِهَا، فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا من المفلس الذي يزال مِلْكُهُ بِالْإِفْلَاسِ لِتَعَذُّرِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ هَذَا يُزَالُ مِلْكُهُ بِالظُّلْمِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَظْلُومًا فَقَدْ وَقَعَ الْفَسْخُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَازَ لِلْبَائِعِ إِذَا عَادَتِ السِّلْعَةُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ كانت جارية جاز لها أَنْ يَطَأَهَا وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا أُوقِعَ الْفَسْخُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِوَجْهٍ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِآخَرَ وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ حَقِّهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْفَسْخِ بِالتَّحَالُفِ أَوْ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَهَذَا مَا أَعْوَزَتِ الْبَيِّنَةُ. فَأَمَّا مَعَ الْبَيِّنَةِ فَلَا تَحَالُفَ وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْلَى. فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَدْ تَعَارَضَتَا وَفِيهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْعُقُودِ: أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالتَّحَالُفُ. وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا وَقَعَ الْفَسْخُ وَجَبَ رَدُّ السِّلْعَةِ عَلَى بَائِعِهَا سَوَاءً قِيلَ إِنَّ الْفَسْخَ قَدْ وَقَعَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ قَدْ وَقَعَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ تَالِفَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَهَا مِثْلٌ. أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهَا. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهَا وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهَا. وَفِي اعْتِبَارِ أَزْمَانِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَقْتُ التَّلَفِ. وَالثَّانِي: أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَسَوَاءً كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكَثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ أَقَلَّ لِبُطْلَانِ مَا ادَّعَاهُ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ. وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا ضَمِنَهُ بِالْعِوَضِ دُونَ الْمِثْلِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْفَسْخِ مِنْ غَلَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ نِتَاجٍ فَكُلُّهُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا يَلْزَمَهُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ حِينَ اسْتَغَلَّهُ وَإِنَّمَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْفَسْخِ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا تَحَالَفَا أَنْ يَرُدَّ الْمَهْرَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَتَصِيرَ بِوَطْئِهِ ثَيِّبًا فَيَلْزَمُهُ لِلْبَائِعِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَلَوْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّحَالُفِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ وَلَكِنْ إِذَا تَفَاسَخَا بالتحالف رجع عليه بقيمتها. إذا أولد أو أعتق وكذلك لو كان بَاعَهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْعُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا. وَلَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَ مَا ابْتَاعَهُ أَوْ كانت أمة فزوجها ثُمَّ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَلَا النِّكَاحُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَوَلَّاهُ مَالِكٌ حِينَ الْعَقْدِ وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرُ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَمَةِ فِيمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا خَلِيَّةً وَذَاتَ زَوْجٍ وَفِي الْمُؤَاجِرِ فِيمَا بين قيمته مطلقا أو مؤاخرا فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَهَنَهُ فَتَحَالَفَا أَوْ تَفَاسَخَا جَازَ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمُشْتَرِيَ بِفِكَاكِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: كَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي رَهْنِ عَبْدِهِ فَلَوْ بِيعَ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ، وَإِنِ افْتَكَّهُ مِنْهُ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ. وَإِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَاخْتَلَفَا فِي ثَمَنِهِ وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ بِعِتْقِهِ فَلَا حُكْمَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَإِذَا تَحَالَفَا بِاللَّهِ تَعَالَى وَعَادَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عُتِقَ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ عُتِقَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِنْثِهِ، وَلَوْ قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ ثَمَنِهِ أَوْ قَبْلَهَا أُعْتِقَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَدْ أَحْنَثَ نَفْسَهُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ، وَلَوْ سَلَّمَهُ الْبَائِعُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَالَ قَبْلَ يَمِينَهُ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يُعْتَقِ الْعَبْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ عَلَى مَا حَلَفَ وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لَمَّا حَنَثَ بِعِتْقِهِ فَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ عُتِقَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِحِنْثِهِ وَإِذَا ابْتَاعَ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ عَبْدًا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْبَائِعُ فِي ثَمَنِهِ فَهَلْ يَكُونُ التَّحَالُفُ لِلْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَحْلِفُ لِأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ وَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ عَنِ الْيَمِينِ صَارَ الْبَيْعُ لَازِمًا لَهُ دُونَ مُوَكِّلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُوَكِّلَ هُوَ الَّذِي يَحْلِفُ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 نَكَلَ الْمُوَكِّلُ عَنِ الْيَمِينِ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لَهُ دُونَ الْوَكِيلِ وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ بَاعَ لِمُوَكِّلِهِ عَبْدًا ثُمَّ أَحَلَفَ الْوَكِيلَ وَالْمُشْتَرِيَ فِي ثمنه: فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْمُوَكِّلَ يُحَالِفُ الْمُشْتَرِيَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَكِيلَ يُحَالِفُ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ نَكَلَ الْوَكِيلُ عَنِ الْيَمِينِ قُضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ وَأُلْزِمَ الْوَكِيلُ غُرْمَ فَاضِلِ الثَّمَنِ. فَصْلٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ بِعْتَنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ فَلَا تَحَالُفَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي عَقْدَيْنِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحَالُفُ لِلِاخْتِلَافِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدَهُ بِأَلْفٍ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْعَبْدِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ جَارِيَتَهُ بِأَلْفٍ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْجَارِيَةِ فَلَوْ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ. وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ حَكَمْنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ. جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ عَقْدًا لَا يَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي مُلْتَزِمًا لابتياع الْجَارِيَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا بِأَلْفٍ وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ وَمُلْزِمًا لِابْتِيَاعِ الْعَبْدِ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ إِلَّا الْوَطْءِ إِذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَارِيَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَبْضِهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ لِيَسْقُطَ ضَمَانُهُ عَنْ بَائِعِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ وَيَقْبِضُهُ الْحَاكِمُ لِيُبَرِّئَ الْبَائِعَ عَنْ ضَمَانِهِ ثُمَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ أَحْظَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَيْعِهِ وَوَضْعِ ثَمَنِهِ فِي بَيْتِ المال ليعترف به المشتري فيأخذه أو يؤاجره أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْكَسْبِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ ثُمَّ يَكُونُ فَاضِلَ أُجْرَتِهِ وَكَسْبِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَعْتَرِفَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَهُ مَعَ فَاضِلِ كَسْبِهِ وَأُجْرَتِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفِ بِعَيْنِهَا هَذِهِ الْجَارِيَةُ دُونَ هَذَا الْعَبْدِ. فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمُثَمَّنِ فَيَكُونُ كَاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُثَمَّنِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ هُنَاكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفَا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ حَتَى أَقْبِضَ فَالَذِي أَحَبَّ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَقَاوِيلَ وَصْفَهَا أَنْ يُؤْمَرَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ السِّلْعَةِ وَيُجْبَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَفْعِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 الثَّمَنِ مِنْ سَاعَتِهِ فَإِنْ غَابَ وَلَهُ مَالٌ أُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ مَالِهِ وَأُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ السلعة فإذا دقع أُطْلِقَ عَنْهُ الْوَقْفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَهَذَا مُفْلِسٌ وَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ وَلَا يَدَعِ النَّاسَ يَتَمَانَعُونَ الْحُقُوقَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا لِتَرَتُّبِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَبْسَ مَا بِيَدِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ قَبْضِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ فَلِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْتَضِي حِفْظَ الْعِوَضِ فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ الْمُثَمَّنِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ وَهَكَذَا أَيْضًا لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ خَوْفًا مِنْ تَعَذُّرِ قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَلَوْ أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَاقٍ وَإِنَّمَا هَذَا وَثِيقَةٌ فِيهِ وَقَدْ كَانَ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ مُشْتَرِيهِ. لَكِنْ لَوْ أَحَالَ بِالثَّمَنِ حِوَالَةً قَبِلَهَا أَوْ أَعْطَاهُ بِهِ عِوَضًا رَضِيَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِأَجْلِهِ فَلَوْ أَعْطَاهُ بَعْضَ ثَمَنِهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ بِقَدْرِهِ مِنَ الْمَبِيعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَحْبِسَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ جَمِيعَهُ لِتَقَسُّطِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَهُ حَبْسُ الْجَمِيعِ عَلَى بَاقِي الثَّمَنِ وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ كَالرَّهْنِ. وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ فِي يَدِ بَائِعِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ أَصْلَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّخْلِ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ النِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا الْعَقْدُ وَإِنَّمَا حَدَثَا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ بَعْدُ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَأَجَّرَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْهَا كَمَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَمْكِينَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا تَسْلِيمٌ إِلَى الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْذُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا بِيَدِهِ لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّقْدِيمِ فَيَقُولُ الْبَائِعُ: لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: لَا أَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ وَاخْتَارَ أَحَدَهَا فَخَرَّجَهَا أَصْحَابُنَا أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ لَهُ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُمَا عَلَى إِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَإِذَا دَفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَيْهِ وَأَحْضَرَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَيْهِ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا بَدَأَ إِذَا كَانَ حَاضِرًا. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ بَعْضِ الْمَشْرِقِيِّينَ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَقَطْعِ التَّخَاصُمِ فَإِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لَمْ يَدَعِ النَّاسَ يَتَمَانَعُونَ الْحُقُوقَ وَهُوَ يَقْدِرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ. فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْضَرَا ذَلِكَ إِلَى الْحَاكِمِ فَتَلَفَ فِي مَجْلِسِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ هُوَ التَّالِفُ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا بِتَلَفِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا وَلَا يُجْبِرُ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي حَبْسِ مَا بِيَدِهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ لَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنَ التَّخَاصُمِ فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ يَدْفَعُ مَا بِيَدِهِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ حِينَئِذٍ أَنْ يُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشْرِقِيِّينَ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا عَدْلًا وَيَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا صَارَ الْجَمِيعُ مَعَهُ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ المروزي يجعل وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَاحِدًا وَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعْلِهِمَا قَوْلًا وَاحِدًا وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَالتَّسْلِيمَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إلى الحاكم وكان بحكمه وها هنا الْحُكْمُ مِنْهُ فِي نَصْبِ الْأَمِينِ وَالْأَمْرِ بِالتَّسْلِيمِ فَاخْتَلَفَا. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الْبَائِعَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا فَإِذَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْقَبْضِ فوجب إجبار البائع عليه ليستقر الْعَقْدُ بِهِ. وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْحِوَالَةِ وَيَأْخُذُ بَدَلَهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ إِلَّا بِقَبْضِهِ فَأَجْبَرَ الْبَائِعَ عَلَيْهِ لِيَتَسَاوَيَا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مُعَيَّنٌ وَالثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَعْيَانِ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَمِ كَالرَّهْنِ فِي أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ فَعَلَى هَذَا إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِالثَّمَنِ فَهَذَا مُفْلِسٌ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مَعَ إِعْسَارِهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَإِنْ كَانَ مَالُهُ حَاضِرًا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ مَالِهِ حَتَّى يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ ثُمَّ يُطْلِقُ تَصَرُّفَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ فِي الْمَبِيعِ وَجَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَهْلَكَهُ بِتَصَرُّفِهِ وَلَا يَصِلُ الْبَائِعُ إِلَى الْمَبِيعِ وَلَا إِلَى ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ وَيَنْتَظِرُ بِهِ حُضُورَ مَالِهِ بَعْدَ الحجر عليه في المبيع وسائر ماله إذا أَحْضَرَ الثَّمَنَ فَكَّ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ تَصَرُّفَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ مَالِهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَظِرُ بِهِ حُضُورَ مَالِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْجُرُ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ فِي مَالِهِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْتَظِرُ بِهِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ. فَعَلَى هَذَا مَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِرْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْعَلُ كَالْمُفْلِسِ وَيُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ. وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي إِلَى حِينِ وُجُودِهِ، فَإِنْ صَبَرَ بِهِ أُطْلِقَ تصرف الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَغَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْمُفْلِسِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لِوُجُودِ الْمَالِ وَإِنْ بعد منه، ولكن تُبَاعُ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ لِيَصِلَ الْبَائِعُ إِلَى حَقِّهِ مِنْهَا فَإِنْ بِيعَتْ بِقَدْرِ مَا لِلْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ دُفِعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ. وَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ كَانَ الْبَاقِي دَيْنًا لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي. فَصْلٌ: إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَرَضًا بِعَرَضٍ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أدفع حتى أقبضه ففيه أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدَعُهُمَا حَتَّى يَتَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا فَيُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ. وَالثَّالِثُ: يُنَصِّبُ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَدْفَعَانِ ذَلِكَ إِلَيْهِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ يُجْبِرُ الْبَائِعَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ وَالْآخَرُ بِأَنَّهُ مُشْتَرٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَرَضًا بِعَرَضٍ وَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُنْقَلُ فَلَيْسَ إِلَّا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا حَتَّى يَتَطَوَّعَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ يُجْبِرُ الْآخَرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا وَلَا يَجِيءُ الْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ لِأَنَّ إِحْضَارَ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ. وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ بَائِعٌ فَيُجْبَرُ فَيَبْطُلُ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ صَدَاقِهَا وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ دَفْعِ الصَّدَاقِ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِجَبْرِ الزَّوْجَةِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا كَمَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ سِلْعَتِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا سَلَّمَ سِلْعَتَهُ أَمْكَنَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 وَالزَّوْجَةُ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَيَضُرُّ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ وَتَجِيءُ بَاقِي الْأَقَاوِيلِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قَالَ " وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا أَوْ ذَهَبًا بِعَيْنِهِ فَتَلَفَ مِنْ يَدِي الْمُشْتَرِي أَوْ تَلَفَتِ السِّلْعَةُ مَعَ يَدَيِ الْبَائِعِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَمَنًا كَانَ أَوْ مُثَمَّنًا بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ وَذَكَرْنَا خِلَافَ مَالِكٍ فِيهِ وَاحْتَجَجْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنْهُ زِيَادَةً فِيهِ وَفَرَّعْنَا إِلَيْهِ فُرُوعًا نَحْنُ نَتْبَعُهُمْ فَإِذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي يَدِ بَائِعِهِ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِمَوْتِهِ وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَ الثَّمَنَ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ. وَالْأَلْفُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ كَسَبَهَا عَلَى مِلْكِهِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ حِينَ كَسَبَ العبد ألفا حسبها عَنِ الْمُشْتَرِي حَتَّى تَلِفَتَ ضَمَنَهَا بِالْحَبْسِ وَلَزِمَ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمَنَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَلْفٍ هِيَ بِإِزَاءِ الَّتِي لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَتَا قَصَاصًا. مسألة: قَالَ " وَلَا أُحِبُّ مُبَايَعَةَ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ مِنْ رِبًا أَوْ مِنْ حَرَامٍ وَلَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. تُكَرَهُ مُعَامَلَةُ مَنْ لَا يَتَوَقَّى الشبهه فِي كَسْبِهِ وَمَنْ خَلَطَ الْحَرَامَ بِمَالِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَلَنْ تَجِدَ فقْد شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِلَّهِ ". وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حلال بيّن وحرام بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَمَنْ يَحُمْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قَالَ) لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَصِيرُوا كَالْحَنَايَا وصمتم حتى تكونوا كالأتار مَا تُقُبِّلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا بِوَرَعٍ شَافٍ. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ، مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ أَدْخَلَهُ. وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَلَاكُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رأى رَجُلًا دَخَلَ السُّوقَ يَتَّجِرُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ أَبْوَابَ الرِّبَا فَقَالَ: لَا، فَدَفَعَ إِلَيْهِ فَأْسًا وَقَالَ لَهُ: امْضِ فَاحْتَطِبْ. وَالْوَرَعُ فِي الدين مندوب إليه، وتوقي الشبهة فِيهِ مَأْمُورٌ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ تُعَامِلُهِ بِبَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ تَقَبُّلِ هِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يكون ممن يتوقى الشبهة وَيَعْلَمُ أَنَّ مَالَهُ حَلَالٌ فَمُعَامَلَةُ مِثْلِهِ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَبِيعُ الْحَرَامَ وَقَدْ تَعَيَّنَ لَنَا تَحْرِيمُ مَالِهِ فَمُعَامَلَةُ هَذَا حَرَامٌ وَالْعُقُودُ مَعَهُ عَلَى أَعْيَانِ مَا بِيَدِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بَاطِلَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يكون من طالبي الشبهة وَمُلْتَمِسِي الْحَرَامَ لَكِنْ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَالُ لِاخْتِلَاطِهِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْحَلَالِ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمُ الرِّبَا وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَعُمَّالِ الضَّرَائِبِ وَكَالسُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي قَدْ يَأْخُذُ الْأَمْوَالَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا إِلَى مَنْ جَرَى مَجْرَاهُ فَتُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُمْ لِمَا وَصَفْنَا وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا وَلَا يُحَرَّمُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بَلْ يَجُوزُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ آصُعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَدْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَقَّى الرِّبَا. مَعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كَافَّةِ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكالون للسحت} وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَلَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا أَمْوَالُهُمْ لَمَا جَازَ أَنْ نَأْخُذَهَا فِي جِزْيَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا أَقَرُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَوْ حُرِّمَتْ لَحَرُمَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا يُرْبِي أَفَآكُلُ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ: لَكَ مَهْنَأُهُ وعليه مأثمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 باب البيع الفاسد مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَأَمَّا إِنْ تَقَدَّمَهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْطًا وَإِنَّمَا يَكُونُ وَعْدًا أَوْ خَبَرًا. وَالشُّرُوطُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَوَاجِبَاتِهِ كَاشْتِرَاطِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَسَلَامَةِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الدَّرْكِ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ وَاشْتِرَاطُهَا تَأْكِيدٌ فِيهِ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَمُبَاحَاتِهِ كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ وَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَازِمٌ بِالشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِيهِ وَاشْتِرَاطَهُ فِي الْعَقْدِ لَا يُنَافِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْعَقْدِ وَمَحْظُورَاتِهِ. وَهُوَ: كُلُّ شَرْطٍ مَنَعَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ أَلْزَمَ الْبَائِعَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَالَّذِي مَنَعَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ وَاجِبٍ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ لَا تَبِيعَهَا وَلَا تَطَأَهَا، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ لَا تَسْكُنَهَا وَلَا تُؤَاجِرَهَا أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّنِي أَرْكَبُهَا دُونَكَ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْمَاشِيَةَ عَلَى أَنَّ نِتَاجَهَا وَلَبَنَهَا لِي دُونَكَ، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّنِي أَزْرَعُهَا سَنَةً. وَأَمَّا الَّذِي أَلْزَمَ الْبَائِعَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ لَا خَسَارَةَ عَلَيْكَ فِي ثَمَنِهَا أَوْ عَلَى أَنَّنِي ضَامِنٌ لَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ رِبْحِهَا أَوْ بِعْتُكَ هَذَا النَّخْلَ عَلَى أَنَّنِي كَفِيلٌ بِمِائَةِ وَسَقٍ مِنْ ثَمَرِهَا، أَوْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ على أنني قيم لعمارتها وَزِرَاعَتِهَا. فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا مِنَ الشُّرُوطِ بَاطِلَةٌ وَالْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهَا فِيهِ بَاطِلٌ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إِلَى أَنَّهَا شُرُوطٌ لَازِمَةٌ وَالْعَقْدُ مَعَهَا ثَابِتٌ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وبطلان الشرط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِنْ كَانَ شَرْطًا وَاحِدًا صَحَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَهُ الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ أكثر من شرط بطل البيع. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ شَرْطُ الْبَائِعِ مِنْ مَنَافِعِ الْمَبِيعِ يَسِيرًا كَسُكْنَى يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ كَثُرَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ بِحَدِيثِ بَرِيرَة أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتِ شراؤها مَنَعَ مَوَالِيهَا إِلَّا بِأَنْ تَشْتَرِطَ لَهُمُ الْوَلَاءَ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ فاشترها فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشَّرْطَ وَأَمْضَى الْبَيْعَ وَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لَمَنْ أَعْتَقَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَائِعِ فَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَى الثَّمَنِ وَأَدَّتْ إِلَى جَهَالَةٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنْ تَمَامِ مِلْكِهِ لِلْمَبِيعِ وَأَضْعَفَتْ تَصَرُّفَهُ فِيهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ مِنْهُ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَقَالَ لَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَدِينَةَ ". قَالُوا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عقده شرطا فاسدا فدله عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: لَمْ يَكُنْ ذَاكَ مَعَ جَابِرٍ بَيْعًا مَقْصُودًا لِرِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَمَلَ وَقَالَ: " أَتُرَانِي إِنَّمَا مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُمَا لَكَ " فَدَلَّ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَهُ لَا مُبَايَعَتَهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ بِحَدِيثِ بَرِيرَة فَإِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَة وَهُوَ الَّذِي اخْتَصَّ بقول وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ أَيْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] أي عليهم اللعنة. وَقِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ بِهَذَا الشَّرْطِ إِبْطَالَ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ لتقرر الشَّرْطُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فَكَانَ حُكْمُهُ مَخْصُوصًا. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ مِنْ إِجَازَةِ شَرْطٍ وَاحِدٍ وَإِبْطَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الشُّرُوطِ الْجَائِزَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا وَاحِدًا وَكَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ: وَهُوَ بَيْعُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشُّرُوطِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ بَاطِلٌ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة قَالَ: إِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ يَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ لَكِنْ يَضْمَنُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالثَّمَنِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّ عِتْقَهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ. وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ فِي بُطْلَانِ الشَّرْطِ وَالْبَيْعِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْتِقَ فَلَمَّا كان إذا اشتراه بشرط أَنْ لَا يُعْتِقَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ لِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَالشَّرْطُ وَاجِبٌ إِذَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْبَيْعُ لِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ كَمَالِ التَّصَرُّفِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ. وَلِأَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَهُ بِشَرْطِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَسَدَ الْبَيْعُ. وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ دَارًا بِشَرْطِ الْوَقْفِ بَطلَ الْبَيْعُ فَوَجَبَ إِذَا ابْتَاعَهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْحُكْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن البيع صحيح والشرط صحيح ووجه رِوَايَةُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَاتَبَتْ بَرِيرَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِتِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُوقِيَّةٌ فَجَاءَتْ (إِلَى) عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فَقَالَتْ: لَا وَلَكِنْ إِنْ شِئْتِ عَدَدْتُ لَهُمْ مَالَهُمْ عَدَةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَذَكَرَتْ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ. فَجَاءَتْ إِلَى عَائِشَةَ (فَسَأَلَتْهَا مَا قَالَتْ لَهُمْ) فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما ذاك؟ أخبرته عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَقَالَ لَهَا ابْتَاعِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ (فَإِنَّ) الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ وَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشُرُوطُهُ أَوْثَقُ مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُونَ أَعْتِقْ فُلَانًا وَالْوَلَاءُ لَنَا إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ ابْتِيَاعَ بَرِيرَةَ كَانَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ فَصَحَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْعَ مَعَ اشْتِرَاطِهِ وَأَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ إِلَّا لِمُعْتِقِهِ. وَلِأَنَّهُ كَمَا كَانَ لَوْ قَالَ لَهُ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَنَفَذَ الْعِتْقُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْبَاذِلِ عَلَى الْعَبْدِ مَالٌ فَمَا اسْتَقَرَّ بِالْعَقْدِ مَلَكَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ عِتْقَهُ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ وَلِأَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَبَاهُ صَحَّ بَيْعُهُ ونفذ عتقه فوجب إذا لم ينافيه أَنْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ فِيهِ وَلِأَنَّ لِلْعِتْقِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ فِي الْمِلْكِ وَيَسْرِي إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ وَيَقَعُ بِاخْتِيَارٍ وَغَيْرِ اخْتِيَارٍ فِيمَنِ اشْتَرَى وَالِدًا أَوْ ولدا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِهِ وَإِنْ بَطَلَ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 الْعِتْقِ بِأَنْ لَا يُعْتِقَ وَجْهٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِ مَزِيَّةِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا لاعتباره بالكتابة لأن الكتابة معاوضة بشبه اشْتِرَاط بَيْعِهِ وَلَا تُشْبِهُ اشْتِرَاطَ عِتْقِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ جَائِزٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ النَّاقِلُ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي ثَوْرٍ وَوَجْهُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ البيع في موضع بحال فليس جائز أن يكون مذهبا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا فَلَعَلَّ مِنْ دَلِيلِ قَائِلِهِ حَدِيثَ بَرِيرَةَ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَبْطَلَ بَيْعَهَا بِاشْتِرَاطِ الْعِتْقِ وَلَا أَلْزَمَ عائشة عتقها فإنما أُعْتِقَتْ بِاخْتِيَارِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ صَحِيحَانِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِتْقَهُ بِالشَّرْطِ. فَإِنْ أَعْتَقَهُ فَقَدْ فَعَلَ ما لزمه ويكون ولاؤه لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتِقُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي جِنَايَتِهِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي بِفِدْيَتِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ عِتْقِهِ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ فَجَرَى مَجْرَى أُمِّ وَلَدِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عليه لاستقرار مِلْكِهِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِبَائِعِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ. فَلَوْ تَسَلَّمَهُ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُعْتِقْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْمَنَهُ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ صحيح. والوجه الثاني: أنه يضمن بِالثَّمَنِ وَبِالْقَدْرِ الَّذِي سَمَحَ بِهِ الْبَائِعُ حِينَ شَرَطَ عِتْقَهُ لِأَنَّ مَا فِي مُقَابَلَةِ السَّمَاحَةِ فِي الْعِتْقِ لَمْ يُوجَدْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ مَوْتُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ مُبْطِلًا لِبَيْعِهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ فِيهِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ فَعِتْقُهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَى مُشْتَرِيهِ لِفَسَادِ اشْتِرَاطِهِ وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ وَإِمْسَاكِهِ. فَإِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ ولا مضار لبائعه وإذا عَتَقَهُ الْمُشْتَرِي عَنْ كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ فَهَلْ يَجْزِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ وَمُخَيَّرًا فِي عِتْقِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُوكِسٌ في ثمنه فكان كالنقص به. وإن امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ عِتْقِهِ فَهَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا خِيَارَ لَهُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ به كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمبيعِ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمْ وَأَوْجَبَ خِيَارَ الْبَائِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَبَضَهَا فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا إِمَّا لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ وَإِمَّا لِفَسَادِ شَرْطِهِ وَإِمَّا لِتَحْرِيمِ ثَمَنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَهُ فَإِنْ قَبَضَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ كَانَ بَاطِلًا مَرْدُودًا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَقْبُوضُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا ضَعِيفًا فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ قَوى ملكَهُ وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ إِلَّا أن يكون فساد العقد لأن ثمنها مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ بِحَالٍ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ ثَمَّ أَمْضَى عِتْقَهَا وَأَنْفَذَ تَصَرُّفَهَا. قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ وُجِدَ فِيهِ التَّسَلُّطُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النِّكَاحِ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الْبُضْعِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أحكام الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ. قَالُوا وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ إِزَالَةَ مِلْكِ السَّيِّدِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ إِزَالَةَ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ فِي حُصُولِ الْعِتْقِ فِيهَا وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ بِهَا وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي نُفُوذِ التَّصَرُّفِ وَزَوَالِ الْمِلْكِ وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] . فَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بالعقود الفاسدة المحرمة يكون مملوكا ما اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ فَلَمَّا تَوَجَّهَ الْوَعِيدُ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يصِر بِالتَّصَرُّفِ في مِلْكِهِ وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. أَصْلُهُ إِذَا ابْتَاعَهُ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِهِ إِذَا عَقَدَ بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ لَمْ يَحْصُلِ الْمِلْكُ بِهِ إِذَا عَقَدَ بِخِنْزِيرٍ أَوْ خَمْرٍ كَالَّذِي لَمْ يَقْبِضْ لأن كُلَّ أَصْلٍ لَزِمَ رَدُّهُ بِنَمَائِهِ الْمُن ْفَصِلِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِمَنْ لَزِمَهُ رَدُّهُ كَالْغَصْبِ الْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ. وَلِأَنَّ كُلَّ قَبْضٍ أَوْجَبَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ. أَصْلُهُ إِذَا أَقْبَضَهُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطِ الخيار فإن شَرْطَ الْخِيَارِ عِنْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ فِي الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مَعًا. وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ يَمْلِكُ بالعقد والهبة بِالْقَبْضِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلِ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ عَنِ الْقَبْضِ إِلَى الْعَقْدِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ عَنِ الْعَقْدِ إِلَى الْقَبْضِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ مَا قُبِضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 يَتَعَقَّبْهُ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْقَبْضِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ الْعَقْدُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمِلْكُ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ مَعًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْبُيُوعِ الَّتِي يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْبَائِعِ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ اسْتِرْجَاعَهُ مِنَ المشتري ومطالبته بمهر المثل إن وطء الْجَارِيَةَ الْمَقْبُوضَةَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزِ انْتِزَاعُ مِلْكِهُ فِي يَدِهِ وَلَا مُطَالَبَتُهُ بِمَهْرٍ فِي وَطْءِ مِلْكِهُ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمِلْكِ فِي الْأَحْوَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ ابْتِيَاعِهَا كَانَ صَحِيحًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عِتْقُ عَائِشَةَ صَادَفَ مِلْكًا عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَقْدِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ مَيْتَةً أَوْ دَمًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ فَصَحَّ الْمِلْكُ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَاسِدُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ من الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالظِّهَارِ يَنْتَفِي عَنِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ. وَأَمَّا لُحُوقُ النَّسَبِ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ فَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ وَلَيْسَ مِمَّا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكِتَابَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ إِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا بَقِيَ العتق بالصفة فكان العتق بوجود الصِّفَةِ لَا بِالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُمْلَكُ بِهِ وَلَا بِالْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفِ فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا بِنَاءً أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا غَرْسًا لَمْ يَكُنْ للبائع قلع بنائه وَقِيلَ لَهُ إِمَّا أَنْ تُعْطِيَهَ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ قَائِمًا أَوْ تَقْلَعَهُ وَتُعْطِيَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد يَنْقُضُ الْبِنَاءَ وَتُرَدُّ الدَّارُ على بائعها والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَوْلَدَهَا رُدَّتْ إِلَى رَبِّهَا وَكَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهِ يَوْمَ خَرَجَ مِنْهَا فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ابْتَاعَ جارية بيعا فاسدا وقبضها فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحُلَّ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ. وَتَعَلَّقَ بِوَطْئِهَا إِذَا رَدَّهَا خَمْسَةُ أَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهَا، رُبَّمَا اجْتَمَعَتْ وَرُبَّمَا افْتَرَقَتْ وَهِيَ: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا بِالْوِلَادَةِ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا مُدَّةَ كَوْنِهَا عِنْدَهُ، وَقِيمَةُ وَلَدِهَا مِنْهُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ عَنْهَا فَأُوجِبَ المهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 لَهَا كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا أَرْشُ الْبَكَارَةِ فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْأَرْشُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَلَا يَكُونُ وُجُوبُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِكْرًا يُغْنِي عَنْ وُجُوبِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ والأرش في مقابلة الاستهلاك فلما اختلف سببيهما لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ وَطِئَ بِكْرًا حُرَّةً لَزِمَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا فَهَلَّا كَانَتِ الْأَمَةُ كَذَلِكَ قِيلَ لَا، لِأَنَّ الْأَمَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْيَدِ فَلَزِمَهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ النَّقْصِ فِي يَدِهِ. وَالْحُرَّةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ بِالْيَدِ. وَأَمَّا أَرْشُ نَقْصِهَا بِالْوِلَادَةِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ لِضَمَانِ يَدِهِ وَلِحُدُوثِ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِهِ فَلَوْ مَاتَتْ فِي ولادتها لزمه قيمتها وَهَلْ تَكُونُ فِي مَالِهِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَاقِلَةِ هَلْ تَتَحَمَّلُ مَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ. وَأَمَّا أُجْرَةُ مِثْلِهَا فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةُ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَتْ كَالْمَغْصُوبَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهَا فَلَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةٌ. وَأَمَّا قِيمَةُ وَلَدِهَا فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَوْلَادَهَا نَمَاءٌ مِنْهَا وَكَسْبٌ لِسَيِّدِهَا فَلَمَّا عُتِقُوا عَلَى الْوَطْءِ لِلِحُوقِهِم بِهِ فِي شُبْهَةِ مِلْكِهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا مِنْ جِهَتِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ كالشريك إذا أعتق حصته في عَبْدٍ وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ عِنْدَ سُقُوطِهِمْ أَحْيَاءً. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أن عليه قبضهم حِينَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهَا قِيمَةُ مُسْتَهْلِكٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا وَقْتُ الِاسْتِهْلَاكِ وَقَدِ استهلكهم بالعتق وقت الولادة فوجب أن تلزمه قِيمَتُهُمْ إِذْ ذَاكَ وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُمْ وَقْتَ الْعُلُوقِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهَا فَاعْتُبِرَتْ حَالُ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ وَقْتِ الْإِمْكَانِ فَلَوْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ مَيِّتًا لَمْ تَلْزَمْهُ قِيمَتُهُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَخَالَفَ مَوْتُ الْجَنِينِ الْمَضْمُونِ بِالْغِرَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ في سقوط الجنين بالضرب جناية على الولد حَدَثَ الْمَوْتُ مِنْهَا فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْوَطْءِ هَا هُنَا جِنَايَةً عَلَى الْوَلَدِ بِحُدُوثِ الْمَوْتِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْجَنِينِ دِيَّةً مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ فَوَجَبَتْ مَعَ الْمَوْتِ. وَفِي وَلَدِ هَذِهِ الْأَمَةِ الْقِيمَةُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْمَوْتِ فَسَقَطَتْ مَعَهُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ حَتَى تُرَدَّ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْفَاسِدِ أَوْ أَقَلَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَبَضَ الْجَارِيَةَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَإِنْ بَاعَهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَتُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَتُرَدُّ إِلَى بَائِعِهَا الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بالثمن الذي دفع 5 هـ إِلَيْهِ فَلَوْ بَاعَهُ الثَّانِي عَلَى ثَالِثٍ وَالثَّالِثُ عَلَى رَابِعٍ فَعُقُودُ جَمِيعِهِمْ بَاطِلَةٌ وَتُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَثْمَانِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ قَدْ بَاعَهَا عَلَى ثَانٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِحَالِهَا أَوْ أَزْيَدَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ نَقَصَتْ. فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا أَوْ أَزَيْدَ قِيمَةً وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَيَتَرَاجَعَانِ الثَّمَنَ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ تَلِفَتْ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ غَصْبِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ كَضَمَانِ الْأَصْلِ وَمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةٍ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَقْتَ التَّلَفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ فِي الْغَصْبِ عُدْوَانًا يَتَغَلَّظُ بِهِ الضَّمَانُ وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَوَاءً كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ أَوْ أَكْثَرَ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّ الْقَيِمَةَ إِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّمَنِ فَرَضِيَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ بَطَلَ اعْتِبَارُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِعَقْدٍ سَقَطَ حُكْمُهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الثَّمَنُ إِذَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الثَّمَنُ إِذَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْبَائِعِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ قِيمَتِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْتَوِيَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي فَيَقْبِضَهَا الْأَوَّلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَيَقْبِضَهَا الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَمُوتُ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ بِحَقِّ يَدِهِ وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى الثَّانِي فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهَا عَلَى الثَّانِي وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي يَدِ الثَّانِي كأن قبضها الأول وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَنَقَصَتْ فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا ثُمَّ قَبَضَهَا الثَّانِي وَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ ضَامِنًا لِأَلْفَيْنِ وَالثَّانِي ضَامِنًا لِأَلْفٍ وَاحِدٍ وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى الثَّانِي فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِأَلْفٍ مِنْهَا وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَدْرُ قِيمَتِهَا حِينَ قَبَضَهَا لِأَنَّ مَا نَقَصَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَضْمَنُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الأول بالألف الثاني وهو قدر القبض فِي يَدِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَذَا الْأَلْفِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا وَلَا لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ الَّتِي غَرَّمَهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِي قَدِ اسْتَهْلَكَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَقَلَّ وفي يد الثاني أكثر كأن قبضها الأول وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ وَسَلَّمَهَا إِلَى الثَّانِي فَزَادَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ضَامِنًا لِأَلْفَيْنِ أَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُودِ هَذِهِ الْقِيمَةِ مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلثَّانِي وَضَامِنٌ لِمَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِ مَالِكِهِ وَيَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ وَرَجَعَ بِهَا الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ طَالَبَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهَا إِنْ تَلِفَتْ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ تُتْلَفْ وَلَكِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا كَأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ فَنَقَصَتْ حَتَّى صَارَتْ أَلْفًا ثُمَّ رُدَّتْ فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا النَّقْصِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي يَدِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي فَإِنْ حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ فَالْأَلْفُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ حَدَثَ النَّقْصُ فِي يَدِ الثَّانِي فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِهَذَا الْأَلْفِ وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهَا عَلَى الثَّانِي وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. ثُمَّ الْأُجْرَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ فَمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ فِي يَدِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الثَّانِي وَمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ فِي يَدِ الثَّانِي كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ رَجَعَ الْأَوَّلُ بِهِ عَلَى الثَّانِي وَإِنْ رَجَعَ به عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعِ الثَّانِي بِهِ عَلَى الأول. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَى زَرْعًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ كَانَ فَاسِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اشْتَرَى مِنْهُ زَرْعًا بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ كَانَ هَذَا فَاسِدًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَجَازَ مَعَ الِاجْتِمَاعِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِحَّا مَعَ الِاجْتِمَاعِ لِتَنَافِي حُكْمِهِمَا. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ هَذَا بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَصَادَهُ فَقَدْ صَارَ شَرْطًا فِي تَأْخِيرِ الْقَبْضِ وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ بَاطِلٌ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِيمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الزَّرْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُشْتَرِي بَعْدُ وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْعِلَّةُ فِي بطلانه شَرْطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. فَلَوْ قَالَ قَدِ ابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا الزَّرْعَ وَتَحْصُدُهُ لِي بِدِينَارٍ جَازَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ خياطته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 أَوْ طَعَامًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ طَحْنَهُ أَوْ مَتَاعًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ نَقْلَهُ فَالْجَوَابُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ واحد والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ بِعْنِي هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ إِرْدَبٍّ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي إِرْدَبًّا أَوْ أَنْقُصَكَ إِرْدَبًّا كَانَ فَاسِدًا وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَالْبَيْعُ فِيهِ فَاسِدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ جُزَافًا لَا يُعْلَمُ قَدْرَ كَيْلِهَا فَجَائِزٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ تَارَةً وَبِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً وَهَذِهِ الصُّبْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ كَيْلُهَا بِالصِّفَةِ فَقَدْ تَقَدَّرَتْ جُمْلَتُهَا بِالرُّؤْيَةِ. وَإِنْ وَجَدَ الصُّبْرَةَ عَلَى رَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ دَكَّةٍ أَوْ وَجَدَ داخلها عفنا أو ندبا أَوْ مَعِيبًا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْمَقَامِ أَوِ الْفَسْخِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِسُوقِ الطَّعَامِ فَرَأَى طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَرَأَى تَحْتَهُ نَدِيًّا فَأَظْهَرَ النَّدَاوَةَ وَقَالَ هكذا تبيعوا مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَنِي جِبْرِيلُ بِأَنْ أُدْخِلَ يَدِيَّ فِيهِ ". فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ نِصْفَ الصُّبْرَةِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ رُبْعَهَا مَشَاعًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْتَاعَ جَمِيعَهَا مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ كَيْلِهَا جَازَ ابْتِيَاعُ نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا لِأَنَّهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ جُمْلَةٍ مُشَاهَدَةٍ فَصَارَ كَابْتِيَاعِ نِصْفِ دَارٍ مُشَاهَدَةٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ زَرْعِهَا، فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ لِأَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَقَدْ عَقَدَاهُ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا بَعْدَ الْعَقْدِ. فَلَوِ ابْتَاعَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ مِنَ الصُّبْرَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ عَلِمَا أَنَّ فِي الصُّبْرَةِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ فَأَكْثَرَ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. فَلَوِ ابْتَاعَ من الصبرة كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا ابْتَاعَهُ مِنْهَا بِقُفْزَانٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الْجُمْلَةِ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنْهَا مَجْهُولٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي قَفِيزٍ مِنْهَا وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَنْ ذَهَبَ فِي الْإِجَارَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِينَارٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ فِيمَا سِوَاهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ فِي جَمِيعِ الصُّبْرَةِ وَجَمِيعِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَفِيزِ مِنَ الصُّبْرَةِ وَذِكْرَ الشَّهْرِ فِي الْإِجَارَةِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ لا لِتَقْدِيرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمْلَةِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: قَدْ بِعْتُكِ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ قَفِيزًا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْقَفِيزِ الْوَاحِدِ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُ الْمَبِيعِ بِهِ وَبَطَلَ فِيمَا سِوَاهُ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ آجرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ بِحِسَابِهِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ وَبَطَلَتْ فِيمَا سِوَاهُ. فَلَوِ ابْتَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ بِدِرْهَمٍ فَتَلِفَتِ الصُّبْرَةُ إِلَّا قَفِيزًا مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ يَتَعَيَّنُ فِي الْقَفِيزِ الْبَاقِي فَيَصِيرُ كُلُّهُ مَبِيعًا وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّالِفَ مِنَ الصُّبْرَةِ هُوَ تالف من القفيز المبيع ومن سائر الصبرة فيبطل من بيع القفيز بقسط ما تلف من الصُّبْرَةِ وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ عَلَى تَفْرِيقِ الصِّفَةِ إِذَا كَانَ لِمَعْنَى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ. فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ذَكَرْنَاهَا تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ: قَدِ ابتعت منك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي قَفِيزًا أَوْ أَنْقُصَكَ قَفِيزًا فَهَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَجْمَعَ فِي شَرْطِهِ بَيْنَ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْتَصِرْ بِالشَّرْطِ عَلَى أَحَدِهِمَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا لِأَنَّنَا إِنْ أَثْبَتْنَا الزِّيَادَةَ صَارَ كُلُّ قَفِيزٍ وَشَيْءٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ أثبتنا النقصان صار كل قفيز إلا شيء بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: قَدِ ابتعت منك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي قَفِيزًا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْهَلَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَاهُ. فَإِنْ جَهِلَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأن الصبرة إن كانت عشرة أقفزة كان كل قفيز وعشر بدرهم وإن كَانَتْ خمسة أَقْفِزَةٍ كَانَ كُلُّ قَفِيزٍ وَخمس بِدِرْهَمٍ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ الَّذِي يَبْطُلُ مَعَهُ الْعَقْدُ. وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ وَأَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ فَإِنْ كَانَ الْقَفِيزُ الَّذِي استزاده غَيْرَ مُشَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا أَوْ فِي صُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَفِيزِ الْمُسْتَزَادِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَاهُ هِبَةً أَوْ مَبِيعًا أَوْ يُطْلِقَاهُ. فَإِنْ جَعَلَاهُ هِبَةً بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِشَرْطِ الْهِبَةِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ قَدِ ابْتَعْتُ دَارَكَ هَذِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَهَبَ لِي هَذَا الْعَبْدَ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ، وَإِنْ جَعَلَا الْقَفِيزَ الْمُسْتَزَادَ مَبِيعًا لَا هِبَةَ صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبْتَاعًا لِأَحَدَ عَشَرَ قَفِيزًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ قَفِيزٍ وَعُشْرٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ أَطْلَقَا ذِكْرَ الْقَفِيزِ الْمُسْتَزَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْصَرِفُ إِطْلَاقُهُ إِلَى الْهِبَةِ أَوْ إلى المبيع على وجهين: أحدهما: أنه يَنْصَرِفُ إِلَى الْهِبَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ حَالَتَيِ الشَّرْطِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا كَمَا لَوِ اشْتَرَطَهُ لَفْظًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِطْلَاقُهُ إِلَى الْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الشُّرُوطِ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ مَا شُرِطَتْ فِيهِ فَعَلَى هَذَا يكون البيع صحيحا كما لو شرطه لَفْظًا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن أَنْقُصَكَ قَفِيزًا: فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا يَجْهَلُ كَيْلَ الصُّبْرَةِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ. وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَ الصُّبْرَةِ وَأَنَّهَا عَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ كَانَ البيع صحيحا لأنه يصير بائعا كل قَفِيز إِلَّا عُشْرَ بِدِرْهَمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَطَ فِي بَيْعِ السَّمْنِ أَنْ يَزِنَهُ بِظُرُوفِهِ مَا جَازَ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ وَزْنَ الظُّرُوفِ جَازَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلٌ مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا ابْتَاعَ سَمْنًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الزَّائِبَاتِ جُزَافًا فِي ظُرُوفِهِ جَازَ الْبَيْعُ إِذَا فَتَحَ الظُّرُوفَ وَشَاهَدَ مَا فِيهَا أَوْ بَعْضَهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ كَيْلِهَا. وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ نِصْفَ مَا فِي الظُّرُوفِ جُزَافًا أَوْ بَعْضَهُ جَازَ أَيْضًا كَالصُّبْرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْتَاعَ السَّمْنَ مَعَ ظُرُوفِهِ مُوَازَنَةً كُلُّ منٍّ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَزْنَ السَّمْنِ وَوَزْنَ الظَّرْفِ جَازَ لِأَنَّهُمَا إِذَا عَلِمَا أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةَ مَنٍّ وَإِنْ وَزَنَ الظَّرْفَ مِنْهَا عشرة أمنا فَقَدْ تَبَايَعَا تِسْعِينَ مَنًّا سَمْنًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ مَنٍّ إِلَّا عَشَرَةً بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ جَهِلَا ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ عَلِمَا وَزْنَ السَّمْنِ دُونَ الظُّرُوفِ أَوْ وَزْنَ الظُّرُوفِ دُونَ السَّمْنِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ مَا تَبَايَعَاهُ مِنَ السَّمْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يتبايعا السمن موازنة في ظرفه ويشترطا إِنْزَالَ الظَّرْفِ بَعْدَ وَزْنِهِ فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لِأَنَّ الزَّائِبَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظَرْفٍ وَلَيْسَ يُمْكِنُ بَيْعُهُ مُوَازَنَةً إِلَّا هَكَذَا. فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ مِنْهُ جَامِدًا فِي ظَرْفِهِ مُوَازَنَةً بِشَرْطِ إِنْزَالِ الظُّرُوفِ كَالدَّقِيقِ وَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاسْتِغْنَاءِ الْجَامِدِ عَنْ ظَرْفٍ يُوزَنُ مَعَهُ وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ بَعْدَ إِنْزَالِ ظَرْفِهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ كَالسَّمْنِ وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتُرِطَ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَسَدَ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِمَا فِيهِ مُقْنِعٌ. فَإِذَا شُرِطَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَفِي ابْتِدَاءِ زَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ شَرَطَاهُ مِنْ بَعْدِ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْخِيَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ زَمَانِ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ بَعْدِ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّهُمَا خِيَارَانِ ثَبَتَ أَحَدُهُمَا شَرْعًا وَثَبَتَ الْآخَرُ شَرْطًا فَلَمْ يَتَدَاخَلَا لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهُمَا فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا خِيَارَ الثَّلَاثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا شرطا فيه إسقاط خيار المجلس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 باب بيع الغرر مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ قَالَ وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ". أما بيع الفرد فنذكره من بعد. قال الماوردي: وَأَمَّا عَسْبُ الْفَحْلِ الَّذِي تَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ: هُوَ أُجْرَةُ طَرْقِ الْفَحْلِ وَنَزْوِهِ، فَجَعَلُوا الْأُجْرَةَ هِيَ الْعَسْبُ، وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ هُوَ مَاؤُهُ الَّذِي يَطْرُقُ بِهِ الْإِنَاثَ وَيَنْزُو عَلَيْهَا. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَسْبُ هُوَ الْأُجْرَةُ فَلَا يُوَضَّحُ ذَلِكَ لِأَنَّ نَهْيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَجَّهَ إِلَى ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ. فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ النَّهْيُ إِلَى الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ هِيَ ثَمَنٌ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا عَسْبُهُ لَرَدَدْتُمُوهُ ... وشر منيحة أيْر معار) فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا جَوَّزَا أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ضِرَابِ الْفَحْلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي كِلَابٍ آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَهَاهُمْ عَنْ كِرَاءِ عَسْبِ الْفَحْلِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَطْرُقُ إِكْرَامًا فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَرْقِ الْفَحْلِ إِنْزَالُ مَائِهِ وَإِنْزَالُ الْمَاءِ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ وَالْعَلُوقُ مِنْهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلَيْسَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِالضَّرُورَةِ وَجْهٌ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا وَارْتِفَاعُهَا لَا يَحْظُرُ مُبَاحًا عَلَى أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَى الْكِرَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِالْعَارِيَةِ وَإِنَّمَا يَتَكَسَّبُ بِهَذَا دُنَاةُ النَّاسِ وَأَرْذَالُهُمْ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ عَلَى وجهين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِدَنَاءَتِهِ وَاتِّبَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ مِمَّا تَحْرُمُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عنه. والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَبَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالْعَبْدِ الآبق والطير والحوت قبل أن يصطادا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَقْدِ الْغَرَرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْغَرَرِ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ تَارَةً مُرْسَلًا وَتَارَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا. وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَحَقِيقَةُ الْغَرَرِ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ الْأَغْلَبُ مِنْهُمَا أَخْوَفْهُمَا فَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ الَّتِي يَبْطُلُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ بَيْعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَبَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالطَّيْرِ وَالْحُوتِ قَبْلَ أَنْ يصطادا. فَذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَةَ مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَأَبْطَلَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا. وَنَحْنُ نَشْرَحُ الْقَوْلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. أَمَّا قَوْلُهُ وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً لَا يَمْلِكُهَا بَيْعًا عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ مَالِكِهَا ثُمَّ يَمْضِي فَيَبْتَاعُهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَى مُشْتَرِيهَا وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا لِوُرُودِ النَّهْيِ نَصًّا فِيهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بَعْدَ قُدُومِهِ إِلَى المدينة مسلما لم يَبْلُغْنِي يَا حَكِيمُ أَنَّكَ تَبِيعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا حَتَّى يُجَوِّزَ قَوْمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا فِي إِبْطَالِ السَّلَمِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَيْضًا. وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهَك عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ، فَقَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وقال آخرون: بل أراد الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ مَنْ مَذْهَبُهُ بطلان بطل الْبَيْعِ فِيهَا لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ غَرَرٌ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُرِدْ بهذا القول بيع ملك الغير على إجازته لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ وَاحْتَجَّ عَلَى مُخَالِفِيهِ فِيهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَرَرٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَلِمَا رُوِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن بيع التجْر وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا بَطَلَ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُنْفَرِدًا بَطَلَ بَيْعُ الْأُمِّ دُونَ حَمْلِهَا لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْعَقْدِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً حَامِلًا بِحُرٍّ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا لِأَنَّ بَيْعَ حَمْلِهَا لَا يَصِحُّ فَصَارَ مُسْتَثْنَى مِنَ الْعَقْدِ وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ مِنَ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ. وَلَوِ ابْتَاعَ أَمَةً أَوْ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٍ دَالَّةً عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ شَرْطُ مَا لَا يَتَيَقَّنُهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الْعَبْدِ الْآبِقِ فَبَاطِلٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَ الْآبِقِ مَا لَمْ يَتَقَادَمْ عَهْدُهُ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ إِذَا عُرِفَ مَكَانُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعُ الْآبِقِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ مَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَالْآبِقُ مُتَعَذَّرُ التَّسْلِيمِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْجَمَلُ الشَّارِدُ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَالٍّ أَوْ ضَائِعٍ، فَلَوْ بَاعَ آبِقًا ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي لِفَسَادِ بَيْعِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا بَيْعَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْعُ الْآبِقِ فَاسِدٌ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ صَحَّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فِيهِ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ. لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا، وَقِسْمٌ يَنْعَقِدُ بَاطِلًا لَا يَصِحُّ مِنْ بَعْد، وَقِسْمٌ يَقَعُ فَاسِدًا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الصِّحَّةُ مِنْ بَعْد كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ فَإِنْ وُجِدَ صَحَّ، وَكَالْبَيْعِ إذا اشترط فِيهِ خِيَارٌ أَكْثَرُ مِنَ الثَّلَاثِ فَاسِدٌ إِلَّا أَنْ يَبْطُلَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ قَبْلَ تَقَضِّي الثَّلَاث فَيَصِحُّ. وَهَذَا مَذْهَبٌ يُغْنِي ظُهُورُ فاسده عَنْ تَكَلُّفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ لَوْ جَازَ أَنْ يَصِحَّ لِحَادِثٍ مِنْ بَعْد لَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلَّ عَقْدٍ وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ شُرُوطَ صِحَّتِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ بَعْد وَفِي هَذَا مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ فِيمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعُقُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَمُ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: تَعَذُّرُ تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ تَعَذُّرُ تَسْلِيمِهِ، فَلَوْ كَانَ الطَّيْرُ حَمَامًا قَدْ يَرْجِعُ بَعْدَ الطَّيَرَانِ إِلَى بُرْجِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قد لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 يَعُودُ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا قَدْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَةٍ جَازَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعُودَ فَهَلَّا كَانَ الطَّيْرُ الْأَلِفُ مِثْلَهُ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ يَعْجِزُ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ وَإِنْ بَعُدَ عَنْ سَيِّدِهِ فَكَانَ في حكم المقدور عليه، ليس كَذَلِكَ الطَّيْرُ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ وَكَانَ خُرُوجُهُ عَنِ الْيَدَيْنِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الطَّيْرُ فِي بُرْجِ مَالِكِهِ: فَإِنْ كَانَ بَابُ الْبُرْجِ مَفْتُوحًا لم يجز بيعه لأن قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ فَصَارَ فِي حُكْمِ مَا طَارَ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْبُرْجِ مُغْلَقًا جَازَ بَيْعُهُ لِظُهُورِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِهِ بِالتَّمْكِينِ مِنْهُ فِي بُرْجِهِ، وَتَمَامِ قَبْضِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بُرْجِهِ. أَمَّا إِذَا فَرَّخَ الطَّائِرُ فِي دَارِ رجل لم يكن فَرْخَهُ وَكَذَا مَا وَلَدَهُ الصَّيْدُ فِي أَرْضِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْلَى بِصَيْدِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ لما يستحقه من التصرف في ملكه وأن له منع الناس عنه من دخول أرضه وداره. فلو أن غير صَاحِبَ الدَّارِ بَاعَ فَرْخَ الطَّائِرِ أَوْ وَلَدَ الصَّيْدِ قَبْلَ أَخْذِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ صَاحِبِ الدَّارِ لَوْ أَخَذَ الْفَرْخَ مَلَكَهُ. فَأَمَّا بَيْعُ نَحْلِ الْعَسَلِ فإن لم يكن طائرا لِصِغَرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي كَنْدُوجِهِ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ كَنْدُوجِهِ طَائِرًا لِرَعْيِهِ ثُمَّ يَعُودُ لَيْلًا إِلَى كَنْدُوجِهِ عَلَى عَادَةٍ جَارِيَةٍ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ كَالطَّيْرِ الْآلِفِ إِذَا طَارَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ طَائِرًا بِخِلَافِ الطَّيْرِ الطَّائِرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّحْلَ إِنْ حُبِسَ عَنِ الطَّيَرَانِ تَلِفَ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالرَّعْيِ وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا عِنْدَ طَيَرَانِهِ لِيَرْعَى مَا يَسْتَخْلِفُ عَسَلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنَ الطَّيْرِ لِأَنَّ حَبْسَهُ مُمْكِنٌ وَمَنْفَعَتَهُ مَعَ الْحَبْسِ حَاصِلَةٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ بِئْرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا فِي بِرْكَةٍ أَوْ حَوْضٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَإِنْ كَانَ فِي بِرْكَةٍ أَوْ حَوْضٍ وَحُظِّرَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّمَكِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا أَوْ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَاهَدٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَغَلُطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ كَالْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا بِيعَتْ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْغَائِبَةَ قَدْ يُمْكِنُ صِفَتُهَا لِتَقَدُّمِ مُشَاهَدَةِ الْبَائِعِ لَهَا وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ مُشَاهَدَتُهُ وَلَا يُمْكِنُ صِفَتُهُ وَلَا تُعْلَمُ قِلَّتُهُ وَلَا كَثْرَتُهُ وَلَا جَوْدَتُهُ وَلَا رَدَاءَتُهُ. فَإِنْ كَانَ السَّمَكُ مُشَاهَدًا لِقِلَّةِ الْمَاءِ وصفائه، وإن كان السمك كثيرا يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ آلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ فَرْخُ الطَّائِرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُصُولَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 الْفَرْخِ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَحُصُولَ السَّمَكِ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلَّا بِآلَةٍ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَيْدِهِ إِلَّا بِشَبَكَةٍ فَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدَ فَوْتِ الْقُدْرَةِ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا آخَرَ إنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومما يدخل في هذا المعنى أن يبيع الرَّجُل عَبْدًا لِرَجُلٍ وَلَمْ يُوَكِّلُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ أجازه السيد أو لم يجزه كما اشترى آبقا فوجده لم يجز البيع لأنه كان على فساد إذ لم يدر أيجده أو لا يجده وكذلك مشتري العبد بغير إذن سيده لا يدري أيجيزه المالك أو لا يجيزه ". وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بغير أمره ليكون موقوفا على إجازته ". قال الماوردي: وَأَجَازَ مَالِكٌ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَمِيعًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَأَجَازَ أبو حنيفة الْبَيْعَ عَلَى الْإِجَازَةِ دُونَ الشِّرَاءِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ فَرَقْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَيَّ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً أَوْ أُضْحِيَةً فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَةً فَاشْتَرَى أُضْحِيَتَيْنِ بِدِينَارٍ وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ ثُمَّ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأضحية ودينار. قال هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى جَوَازٍ لَهُ وُقُوفُ الْبَيْعِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَقَدَ لَهُ لم يجز في الْحَالِ فَجَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْوَصِيَّةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَى إِجَازَتِهِ كَالْمَرِيضِ إِذَا حَابَى فِي بَيْعِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقْدِ أَكْمَلُ مِنْ شَطَرِهِ فَلَمَّا وَقَفَ شَطَرَهُ وَهُوَ الْبَدَلُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبُولِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ وَقْفُ جَمِيعِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ إِذَا ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِمْضَاءِ إِنَّمَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ الْإِذْنُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جَوَازَيْنِ. وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهَك عَنْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. يَعْنِي مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وَرَوَى وَائِلَةُ بْنُ عَامِرٍ أَوْ عَامِرُ بْنُ وَائِلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَا تَمْلِكُ. وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقُلُ مِلْكًا عَنِ البائع إلى مالك هو المشتري فلم لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَجْدِيدِ مِلْكِهِ فأولى أن يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِزَاعِ مِلْكِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْمُشْتَرِي فَإِنْ قَالَ أبو حنيفة إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَاقِدُ فَلَمْ يُوقِفْ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَازَ وُقُوفُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَاقِدُ فَوَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْعَاقِدَ لَمْ يَتَوَلَّ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ لِغَيْرِهِ. وَأَقْوَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ مَا اشْتَرَاهُ لِمُوَكِّلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ، لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ فِي الشِّرَاءِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ، وَتَوْكِيلُ الرَّجُلِ فِي شِرَاءِ أَبِيهِ يَجُوزُ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَوْ مَلَكَهُ لَعُتِقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَ مِلْكَهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ. وَإِذَا كَانَ كذلك فيمن صحت وكالته فأولى أن يكون كذلك فمن لَمْ تَصِحَّ وَكَالَتُهُ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا أنه بيع بغير رضى مَنْ يَلْزَمُ الْعَقْدُ رِضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ باطلا كبيع المكره ولأنه بيع عن لَا قُدْرَةَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى إِيقَاعِ قَبْضٍ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْمَاءِ. وَلِأَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مِلْكٍ وَعَنْ إِذْنِ مَنْ لَهُ الْمِلْكُ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَقَدَ على غير ملك كالخمر ثم صار المعقود عَلَيْهِ مِلْكًا بِأَنْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ إِذَا عَقَدَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَنْفُذِ الْعَقْدُ ثُمَّ أَذِنَ الْمَالِكُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أنه عقد بيع لم ينفذ عنه عَقْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ بَعْدِهِ أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ إِذَا صَارَ مِلْكًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِهِ وَلَوْ صِرْنَا إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّرَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُقُوفُهُ عِنْدَهُمْ وَالْبَيْعُ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُقُوفُهُ عِنْدَنَا وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالثَّنَاءُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمُخَالَفَتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ إِذْنِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى رَأْيِهِ فَرَأَى مَا فَعَلَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاةً عَنْ إِذْنِهِ الْمُتَقَدَّمِ. أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَصَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَصَايَا أَوْسَعُ وَحُكْمَ الْعُقُودِ أَضْيَقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبُولَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ، وَالْقَبُولُ فِي الْبُيُوعِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُحَابَاةِ الْمَرِيضِ فَلَا يَصِحُّ. لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَعْنَى فِي جَوَازِ وَقْفِ الْوَصَايَا عَلَى الْإِجَازَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ وُقُوفُ الْبَدَلِ عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي جَازَ وُقُوفُ الْعَقْدِ كُلِّهِ عَلَى إِذْنِ الْمَالِكِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ يُوقِفُ الْبَدَلَ عَلَى إِجَازَتِهِ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ حَقًّا وَإِنَّمَا تَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ وُقُوفُ الْعَقْدِ عَلَى الْفَسْخِ جَازَ وُقُوفُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْفَسْخِ أَنَّهُ دَفَعَ لِلْعَقْدِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَجَازَ وُقُوفُهُ، وَالْإِجَازَةُ إِنَّمَا هِيَ وُقُوفُ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ صِحَّتُهُ. فَجَازَ وُقُوفُ مَا صَحَّ وَلَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَا لَمْ يَصِحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَى مَائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ لِجَهْلِهِ بِالْأَذْرُعِ وَلَوْ عَلِمَا ذرَعَهَا فَاشْتَرَى مِنْهَا أَذْرُعًا مُشَاعَةً جَازَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا أَوْ أَرْضًا بِحُدُودِهَا وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ ذَرْعِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا كَالصُّبْرَةِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بِالْمُشَاهَدَةِ مَعْلُومَةٌ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى نِصْفَ جَمِيعِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ الَّتِي يُعْرَفُ مَبْلَغُ ذَرْعِهَا مَشَاعًا جَازَ وَلَوِ اشْتَرَى أَرْضًا مُذَارَعَةً كُلُّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ ذَرْعِهَا جَازَ. وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ ذَرْعِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول البغداديين أن لَا يَجُوزَ لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِعَقْدِهِ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِهِ كَالصُّبْرَةِ إِذَا بَاعَهَا كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ كَيْلِهَا. فَلَوْ بَاعَهُ الْأَرْضُ مُذَارَعَةً كُلُّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ فَخَرَجَتْ مِنَ الذَّرْعِ تِسْعَةَ أَجْرِبَةٍ وَنَقَصَتْ جَرِيبًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَنُقْصَانُهَا عَيْبٌ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى التِّسْعَةِ بِالْحِسَابِ مِنَ الثَّمَنِ. وَلَوْ خَرَجَتْ فِي الذَّرْعِ تَزِيدُ جَرِيبًا يَعْنِي خَرَجَ أَحَدَ عَشَرَ جَرِيبًا فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْضِ بِحُدُودِهَا مَعَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ مِنْ عَدَدِ الْجُرْبَانِ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَيَكُونُ الْبَائِعُ شَرِيكًا بِالْجَرِيبِ الزَّائِدِ إِلَّا أَنَّ هَذَا عَيْبٌ لِأَنَّ دُخُولَ الْيَدِ بِالشَّرِكَةِ نَقْصٌ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الذَّرْعِ الْمَشْرُوطِ دُونَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ. فَلَوِ اشْتَرَى مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الْجُرْبَانِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضًا مَجْهُولًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ جَرِيبًا مِنْ أَرْضٍ فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَرْعَ الدَّارِ وَأَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ صَحَّ الْبَيْعُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَى سَهْمٍ مِنْهَا كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ عُشْرٍ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ قَدِ اشْتَرَيْتُ عُشْرَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدِ اشْتَرَيْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَهِيَ أَلْفُ ذِرَاعٍ فِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عُشْرُهَا. فَأَمَّا إِنْ جَهِلَا مَبْلَغَ ذَرْعِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِنْهَا يَصِيرُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ، إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ نِصْفًا أَوْ عُشْرًا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارُ إِلَّا مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ إِنْ جَهِلَا مَبْلَغَ ذَرْعِهَا وَجَازَ إِنْ عَلِمَاهُ. وَلَوْ قَالَ قَدِ ابْتَعْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ مَحُوزَةً عَلَى أَنْ تُذْرِعَ لِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شِئْتَ مِنْهَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِاخْتِلَافِ قِيَمِ أَمَاكِنِهَا، بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ الَّتِي تُسْتَثْنَى، وَأُقِيمَ جَمِيعُهَا، وَجَرَى مَجْرَى مَنِ ابْتَاعَ بطيخا أو رمانا عددا قبل أن يجوزه فَبَطَلَ بَيْعُهُ لِاخْتِلَافِ قِيمَةِ ذَلِكَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ قَدِ ابْتَعْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ تُذْرِعَ لِي مِنْ مُقَدَّمِهَا أَوْ قَالَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُذْرِعُ ذَلِكَ لَهُ فِي عَرْضِ الدَّارِ كُلِّهِ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْتَمِسَ مِنْ مُقَدَّمِهَا طُولًا مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْعَرْضِ. وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُسْتَوْفِي الْمِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ مُقَدَّمِهَا فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَا الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الذَّرْعُ صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحُوزًا. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَوْضِعَ الِانْتِهَاءِ في صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ تَعْيِينَ الِابْتِدَاءِ يُفْضِي إِلَى مَعْرِفَةِ الِانْتِهَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ مَشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا مَحْدُودًا بِالْإِجَازَةِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا بَيْعُ الثِّيَابِ عَدَدًا وَذَرْعًا فَيُنْظَرُ: فَإِنَّ بِيعَ الثَّوْبِ مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ سَوَاءً عَلِمَا مَبْلَغَ ذَرْعِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ جَهِلَاهُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبَغْدَادِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مُذَارَعَةً وَهُوَ حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ عَلَيْهِمْ. فَلَوْ تَبَايَعَا الثَّوْبَ مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بدرهم على أنه عشرة أذرع فنقص ذراعا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِهِ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ فَسْخِهِ، وَلَوْ زَادَ ذراعا كان في بيعه قولان: كَالْأَرْضِ فَلَوْ بَاعَهُ ذِرَاعًا مِنَ الثَّوْبِ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ عَلِمَا ذَرْعَ جَمِيعِهَ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا ذَرْعَ جَمِيعِهِ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَا مَوْضِعَ الذِّرَاعِ الْمَبِيعِ مِنَ الثَّوْبِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. فَإِنْ عَيَّنَاهُ فَإِنْ قَدَّرَاهُ وَعَلِمَا انْتِهَاءَهُ جَازَ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِمَا فِي قَطْعِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّقْصِ فِي الذِّرَاعِ الْمَبِيعِ وَالثَّوْبِ الْبَاقِي وَهَذَا تَعْلِيلٌ يُفْضِي إِلَى نَقْصٍ فِي جَمِيعِ الْمُبَاعَاتِ لِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ قِسْمَتِهَا الْمُفْضِي إِلَى نَقْصِ الْحِصَصِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مطْرحًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وَإِنْ عَيَّنَا ابْتِدَاءَهُ وَلَمْ يُعَيِّنَا انْتِهَاءَهُ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْأَرْضِ. فَأَمَّا بَيْعُ الثَّوْبِ عَدَدًا وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ رِزْمَةَ ثِيَابٍ عَدَدًا كُلَّ ثَوْبٍ بِدِينَارٍ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فَلَوْ بَاعَهُ الرِّزْمَةَ كُلَّ ثَوْبٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا عَشَرَةَ أَثْوَابٍ وَكَانَ فِيهَا تِسْعَةُ أَثْوَابٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِسْطِ مِنَ الثَّمَنِ. وَلَوْ زَادَتْ ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ إِذَا بِيعَا مُذَارَعَةً. لِأَنَّ الثِّيَابَ قَدْ يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ الزَّائِدُ مَشَاعًا فِي جَمِيعِهَا وَمُسَاوِيًا لِبَاقِيهَا وَمَا زَادَ عَلَى الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالْأَرْضِ فَمُتَقَارِبٌ لِبَاقِيهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا فِي جَمِيعِهِ. وَلَوْ بَاعَهُ ثوب واحد مِنَ الرِّزْمَةِ بِدِينَارٍ فَإِنْ عَيَّنَهُ عَلَيْهِ صَحَّ البيع فيه، لَمْ يُعَيِّنْهُ عَلَيْهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا لِاخْتِلَافِ الأثواب ولو ابتاع رزمة ثياب وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَدَهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ جَازَ إِذَا شَاهَدَ كُلَّ ثَوْبٍ مِنْهَا كَالصُّبْرَةِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوِ ابْتَاعَ نِصْفَهَا أَوْ رُبْعَهَا مَشَاعًا صح البيع. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضُّرُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ لَا كَيْلًا وَلَا جُزَافًا. وَأَجَازَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَيْعَهُ فِي الزَّمَانِ الْقَرِيبِ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ مَعَ الشَّاةِ جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْهَا. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْلَبَنِ فِي الضِّرْعِ وَالُصُوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَقَدْ روي هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلَا مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْلَبُ فِي زَمَانٍ يَخْتَلِطُ بِهِ لَبَنٌ حَادِثٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَيَصِيرُ تَسْلِيمُهُ مُتَعَذَّرًا وَمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ بَطَلَ بَيْعُهُ. فَأَمَّا بَيْعُهُ فِي الشَّاةِ تَبَعًا لَهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَهُوَ تَبَعٌ لِمَعْلُومٍ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْبَيْعِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الْبِنَاءِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَبَيْعُهُ مِنَ الْأَلْبَانِ وَيُحَرَّمُ: فَجُمْلَةُ الْأَلْبَانِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ وَبَيْعُهُ وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، وَقِسْمٌ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ كَانَ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ طَاهِرٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَتِهِ وَتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ لَبَنِ الْحَيَوَانِ مُعْتَبَرٌ بِطَهَارَتِهِ فِي حَيَاتِهِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ. فَصْلٌ: وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ عِنْدَنَا طَاهِرٌ وَشُرْبُهُ حَلَالٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يَسَّارٍ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الصِّغَارِ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ طَاهِرٌ وَشُرْبُهُ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ فَلَوْ جَازَ في الشرع لاختلفت فيه الْعَادَةُ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ وَإِنْ كان طاهرا فهو كالدموع والعرق، فلم لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ. وَرُوِيَ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ ". فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ لَمْ يَحْرُمْ ثَمَنُهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَجَازَ بَيْعُهُ كَلَبَنِ النَّعَمِ طَرْدًا وَالْكِلَابِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ عُرْفًا وَشَرْعًا فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمَاءِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَادَةَ الجارية حالة عَلَى شَرْعٍ سَالِفٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَيْعِ الْمَنَافِعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَعِنْدَنَا أَنَّ بَيْعَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ إِذَا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّةٍ وَإِنْ خَالَفُونَا فِيهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي لَبَنِ الْحَاضِنَةِ هَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْكَفَالَةُ مقصودة واللبن تبع فعلى هذا لا نسلم التَّعْلِيل. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْكَفَالَةُ تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُسْتَبَاحُ هَذَا اللَّبَنُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهَا. وَبَعْدَ الظُّهُورِ لَا يَجُوزُ بعقد الإجارة وتلك هي للحالة التي يجوز بيعه فيها وَأَمَّا الدُّمُوعُ وَالْعَرَقُ فَلَمَّا كَانَ مُحَرَّم الشُّرْبُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ لَمَّا جَازَ شُرْبُهُ وَانْتُفِعَ بِهِ جَازَ بيعه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهُ بَيْعَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنِ فِي ضُرُوعِهَا إِلَّا بِكَيْلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَالْبَقْلِ وَالْقَصِيلِ وَهَذَا خَطَأٌ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع اللبن في الضرع والصوف على الظَّهْرِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جُزْءًا لِمَا يَبْقَى مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 منه حلقا لما يضر به وَمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، أَمَّا الْقَصِيلُ وَالْبَقْلُ فَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الجزء لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي الصُّوفِ لَا يُمْكِنُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهُ بَعْدَ الْجَزَازِ مُوكِسٌ لِثَمَنِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ بَيْعُهُ هَلَكَ، وَالصُّوفُ مُخَالِفٌ لَهُ. فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي بيع المسك في فأرة] مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَةٍ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى كَمْ وَزْنُهُ مِنْ جُلُودِهِ (قال المزني) يجوز أن يشتريه إذا رآه بعينه حتى يحيط به علما جزافا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمِسْكُ فَطَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ حَلَالٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ. وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ دَمٌ جَامِدٌ فِي جِلْدِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اسْتَعْمَلَهُ، وَأَهْدَاهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَقَبِلَهُ فِي هَدِيَّةِ الْمُقَوْقَسِ الْعِجْلِيِّ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَأَيْتُ وَبِيصَ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَكُلُّ هَذَا يَنْفِي عَنِ الْمِسْكِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ الظَّاهِرِ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَتَرْكِ النَّكِيرِ فِيهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ دَمٌ جَامِدٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ دَمًا فَاسْتَحَالَ وَصَارَ مِسْكًا فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ الذي أخبره اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ نَجِسٍ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْكُولٌ لِأَنَّهُ مِنْ غَزَالٍ وَقَدِ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِيهِ الْمُتَنَبِّي: (فَإِنْ تَفقِ الْأَنَام وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ) وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا لِأَنَّ الْعَسَلَ طَاهِرٌ وَإِنْ خَرَجَ مِنَ النَّحْلِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ حَلَالٌ وَأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ بَيْعِهِ مِنْ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 يكون في فأرة، فإن لَمْ يَكُنْ مَفْتُوحًا مُشَاهَدًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا مُشَاهَدًا: فَإِنْ بَاعَهُ جُزَافًا جَازَ، وَإِنْ بَاعَهُ وزنا فعلى ضربين: أحدهما: أن يشترط إنذار ظُرُوفِهِ مِنَ الْوَزْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالسَّمْنِ فِي ظُرُوفِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ ظُرُوفِهِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ الْمِسْكِ الْمَقْصُودِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الزَّبَادُ وَهُوَ لَبَنُ سِنَّوزٍ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ يحلب لبنا كالمسك ربحا وَاللَّبَنُ بَيَاضًا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْبَحْرِ طِيبًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طِهَارَتِهِ إِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ لَبَنِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ اعْتِبَارًا بِجِنْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ كَالْمِسْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 بَابُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَشِرَاءِ الأعمى قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجَ الَّتِي في بطنها (قال الشافعي) فَإِذَا عَقَدَا الْبَيْعَ عَلَى هَذَا فَمَفْسُوخٌ لِلْجَهْلِ بوقته وَقَدْ لَا تُنْتِجُ أَبَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِهِ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ فَيَقُولُ إِذَا نَتَجَتْ نَاقَتِي هَذِهِ وَنَتَجَ نِتَاجُهَا فَقَدْ بِعْتُكَهُ بِدِينَارٍ فَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي النِّتَاجِ الْأَوَّلِ وَالثَانِي لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ فَإِذَا أَنْتَجَتْ فَقَدْ يَتَقَدَّمُ نِتَاجُهَا وَيَتَأَخَّرُ، وَيَكُونُ تَارَةً ذَكَرًا وَتَارَةً أُنْثَى فَكَانَ بَيْعُهُ مَعَ هَذَا الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ بَاطِلًا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَبَلُ الْحَبَلَةِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ فِي الْبَيْعِ مُقَدَّرًا بِهِ وَلَا يَكُونُ هُوَ الْمَبِيعُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِدِينَارٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى نِتَاجِ هَذِهِ النَّاقَةِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ وَأَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ قَدْ تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ، وَقَدْ يَقْرُبُ نِتَاجُهَا وَيَبْعُدُ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ بظاهر اللفظ فهذا تأويل الثَّانِي أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ فَسَّرَهُ بِهِ، وَلِأَنَّ بَيْعَ النِّتَاجِ قَدْ تَضْمَنَّهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَكَانَ حَمْلُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوْلَى. وَأَيُّ التَّأْوِيلَيْنِ كَانَ فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي التَّأْوِيلَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ. فَصْلٌ: وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْتِيَ وَبِيَدِهِ حصاة إلى بزاز وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثِيَابٌ فَيَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ الْمَبِيعُ. فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِعَيْنِ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ مِنْ يَدِهِ وَهَذَا أَيْضًا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى حَيْثُ انْتِهَاءِ إِلْقَاءِ الْحَصَاةِ ثُمَّ يَرْمِي الْحَصَاةَ فَإِلَى أَيْنَ انْتَهَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ الْقَدْرُ الْمَبِيعُ، وَهَذَا أَيْضًا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ ما يتناول العقد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةُ عِنْدَنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ مَطْوِيًا فَيَلْمِسَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَقُولَ رَبُّ الثَّوْبِ أَبِيعُكَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ فَنَظَرُكَ إِلَيْهِ اللَّمْسُ لَا خِيَارَ لَكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ أَنْبِذَ إِلَيْكَ ثَوْبِي وَتَنْبِذُ إِلَيَّ ثَوْبَكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا خِيَارَ إِذَا عَرَفْنَا الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَكَذَلِكَ أَنْبِذُهُ إِلَيْكَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ، أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فَالْمُلَامَسَةُ وَالْمُنَابَذَةُ، وَأَمَّا اللِّبْسَتَانِ فَاشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ فَهُوَ مَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ مَطْوِيًّا أو في سفط أَوْ تَكُونُ ظُلْمَةٌ فَيَقُولُ أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ تَلْمِسَهُ بِيَدِكَ وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا أَبْصَرْتَهُ وَعَرَفْتَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ لِعَدَمِ النَّظَرِ، وَلِمَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ مِنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ. (فَأَمَّا) بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ: وَالنَّبْذُ فِي كَلَامِهِمُ الْإِلْقَاءُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] وَقَالَ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] أَيْ أَلْقَوْهُ. وَصُورَةُ المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه هوذا أَنْبِذُ إِلَيْكَ ثَوْبِي، أَوْ مَا فِي كُمِّي عَلَى أَنْ تَنْبِذَ إِلَيَّ ثَوْبَكَ أَوْ مَا فِي كُمِّكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنَّا بَعْدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 النَّظَرِ فَهُنَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هوذا أَنْبِذُ إِلَيْكَ مَا فِي كُمِّي بِدِينَارٍ وَلَا خِيَارَ لَكَ بَعْدَ نَظَرِكَ إِلَيْهِ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْغَرَرَ كَثِيرٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَسْلُوبٌ مِنْهُ. فَصْلٌ: وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ، وَرُوِيَ عَنْ بَيْعِ الأربون، وروي أنه نهى عن بيع المسكان. وهو بيع قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ أَوْ يَتَكَارَى الدَّابَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ دِينَارًا عَلَى أَنِّي إِنْ رَجَعْتُ عَنِ الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ فَمَا أَعْطَيْتُكَ لَكَ. وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِحُدُوثِ الشَّرْطِ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِمَارِ قَدْ تَضَمَّنَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ. وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا تَبَايَعْتُمُ الْعِينَةَ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ". وَصُورَةُ بَيْعِ الْعِينَةِ هُوَ: أَخْذُ الْعَيْنِ بِالرِّبْحِ مشْتَقُّ الِاسْم مِنَ الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ وَأَنْشَدَنِيهِ أبو حامد الإسفراييني: (أندان أم نعتان أَمْ يَنْبَرِي لَنَا ... فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ هزت مضاربه) قوله: يدان: من الدين، ويعتان: من العينة. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا يجوز شراء الأعمى وإن ذاق ماله طَعْمٌ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي الثَّمَنِ بِاللَّوْنِ إِلَّا فِي السَّلَمِ بِالصِّفَةِ وَإِذَا وَكَّلَ بَصِيرًا يَقْبِضُ لَهُ عَلَى الصِّفَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) يُشْبِهُ أَنْ يكون أراد الشافعي بلفظة الْأَعْمَى الَّذِي عَرَفَ الْأَلْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى فَأَمَّا مَنْ خُلِقَ أَعْمَى فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَلْوَانِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنِ اشْتَرَى مَا يَعْرِفُ طَعْمَهُ وَيَجْهَلُ لَوْنَهُ وَهُوَ يُفْسِدُهُ فَتَفُهِّمَهُ وَلَا تُغْلِظْ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْبُيُوعُ ضَرْبَانِ بَيْعُ عَيْنٍ وَبَيْعُ صِفَةٍ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ شَاهَدَ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْعَمَى فيصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَبِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَشْتَرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ من الصحابة. فدل على أنهم مجمعون عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ كَالْبَصِيرِ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَصِيرُ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ الضَّرِيرُ كَالنِّكَاحِ. وَدَلِيلُنَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ، وَعَقْدُ الضَّرِيرِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ. ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ، وَبَيْعُ الضَّرِيرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا. وَلِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِفَقْدِ الرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِ كَالْبَصِيرِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا نَقْلُهُمُ الْإِجْمَاعَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ مَعَهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاشَرُوا عَقْدَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَمَى. وَلَوْ نَقَلُوهُ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ رِضًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَصِيرِ فَالْمَعْنَى فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ حُصُولُ مُشَاهَدَتِهِ، وَالْأَعْمَى مَفْقُودُ الْمُشَاهَدَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّكَاحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِ صَحَّ مِنَ الْأَعْمَى وَلَمَّا كَانَ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْمنع لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَعْمَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الصِّفَةِ فَهُوَ السَّلَمُ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَى بَيْعًا وَشِرَاءً لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي المختبرات، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُشَاهَدَاتِ. فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَكَأَنَّ الْمُزَنِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ السَّلَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ عَرَفَ الْأَلْوَانَ ثُمَّ عَمِيَ. فَأَمَّا الْأَكْمَهُ الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ السَّلَمُ لِجَهْلِهِ بِالْأَلْوَانِ. وَخَرَّجَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ المزني. وذهب جمهورهم إلى من عقد السلم في عَقْدِ السَّلَمِ بَيْنَ الْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا وَبَيْنَ مَنْ خُلِقَ أَعْمَى لَمْ يُبْصِرْ، لِأَنَّ مِنْ خُلِقَ أَعْمَى وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَلْوَانَ فَهُوَ يَعْرِفُ أَحْكَامَهَا، وَيَعْلَمُ اخْتِلَافَ قِيَمِ الْأَمْتِعَةِ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا، وَأَنَّ الْحِنْطَةَ الْبَيْضَاءَ أَجْوَدُ مِنَ الحنطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 السَّمْرَاءِ، فَصَارَ فِيهَا كَالْبَصِيرِ وَكَالْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ وُصِفَ لَهُ مَتَاعٌ لَمْ يَرَهُ وَلَا عَرَفَهُ فِي بَلَدٍ تَبْعُدُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُسَلَمَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِذَا عَلِمَ تَفَاصِيلَهَا بِاخْتِلَافِهَا. فَكَذَلِكَ سَلَمُ الْأَعْمَى. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَصِحُّ مِنْهُ فَقَبَضَهُ عِنْدَ حُلُولِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ، فَجَرَى مَجْرَى عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى عَيْنٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى حَتَّى يُوَكِّلَ فِيهِ بصيرا يعقد عنه أوله. كذلك لا يصح من الأعمى قبض السلم فِيهِ وَلَا إِقْبَاضُهُ حَتَّى يُوكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا أَوْ يَقْبِضُ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَائِعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ، وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي بُطُونِ الِإِنَاثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ، وَالْمَلَاقِيحِ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ. وَالثَّانِي: مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ المزني وأنشد ابْنُ هِشَامٍ لِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: (إِنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُلْبِ ... مَاءُ الْفُحُولِ في الظهور الحدب) (ليس بمغن عنك جهد الكرب) وَأَنْشَدَ أَيْضًا: (مَنَّيْتَنِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ ... تُنْتَجُ مَا يَلْقَحُ بَعْدَ أَزْمُنِ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ بَاطِلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ. وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ، وَلِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِيهِ غَرَرٌ، فَإِنْ قيل: فإذا كانت هذه البياعات الَّتِي نَهَى عَنْهَا غَرَرًا دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ عَنِ بَيْعِ الْغَرَرِ، فَهَلَّا اكْتَفَى بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ بِالنَّهْيِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَلِأَنَّ هَذِهِ بِيَاعَاتٌ قَدْ كَانَتْ مَأْلُوفَةً لَهُمْ فَخَصَّهَا بِالنَّهْيِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي جملة نهيه عن بيع الغرر لأن لا يَجْعَلُوا الْعَادَةَ الْمَأْلُوفَةَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْبُيُوعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَكَانَ تَخْصِيصُهَا بِالنَّهْيِ أَوْكَدَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 بَابُ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ وَبَيْعِ النجَشِ وَنَحْوِ ذلك مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وهما وجهان أحدهما أن يقول قد بعتك هذا العبد بألف نقدا أو بألفين إلى سنة قد وجب لك بأيهما شئت أنا وشئت أنت فهذا بيع الثمن فهو مجهول. والثاني أن يقول قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف فإذا وجب لك عبدي وجبت لي دارك لأن ما نقص من كل واحد منهما مما باع ازداده فيما اشترى فالبيع في ذلك مفسوخ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا ". فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَفِي بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ إِذَا وَجَبَتْ لَكَ دَارِي وَجَبَ لِي عَبْدُكَ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ فِي الْعَقْدَيْنِ مَعًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ. وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَلِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ مَعَ الثَّمَنِ بَيْعُ مَا لَا يَلْزَمُ فَصَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا بِبَعْضِ الشَّرْطِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ صِحَاحًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ غَلَّةً تَأْخُذُهَا بِأَيِّهِمَا شِئْتَ أَنْتَ أَوْ شِئْتُ أَنَا وَيَفْتَرِقَانِ عَلَى هَذَا، أَوْ يَقُولُ بِأَلْفٍ عَاجِلَةٍ وَبِأَلْفَيْنِ آجِلَةٍ فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ الْبَيْعُ صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 وَهَذَا خَطَأٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ نَصًّا وَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ خُصُوصًا. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِجَهْلِهِمَا بِاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْأَلْفِ الْعَاجِلَةِ أَوِ الْأَلْفَيْنِ الْآجِلَةِ وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِيهِ. وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُؤَاجِرَنِي عَبْدَكَ هَذَا بِمِائَةٍ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِاشْتِرَاطِ الْإِجَارَةِ فِيهِ وَتَكُونُ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً لِاشْتِرَاطِ الْبَيْعِ فِيهَا لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ قَدْ أَجَّرْتُكَ دَارِي هَذِهِ عَلَى أَنْ تُؤَاجِرَنِي عَبْدَكَ هَذَا كَانَ عَقْدَا الْإِجَارَةِ بَاطِلَيْنِ كَالْبَيْعَتَيْنِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ عَقْدٍ شُرِطَ فِيهِ عِنْدَ عَقْدِهِ عَقْدًا آخَرَ فَإِنَّهُمَا يَبْطُلَانِ مَعًا سَوَاءً كَانَ الْعَقْدَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوَ مِنْ جِنْسَيْنِ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ بَلْ قَالَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا فَبِعْنِي دَارَكَ هَذِهِ صَحَّ الْعَقْدُ الَّذِي عَقَدَاهُ فِي الْحَالِ وَكَانَ الثَّانِي طَلَبًا إِنْ قَابَلَهُ بالإجازة فيه صح أيضا. ولكن لو قال بعد بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ بِعْتَنِي دَارَكَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ قَدِمَ زيد. والله تعالى أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن النجش (قال الشافعي) وَالنَّجْشُ خَدِيعَةٌ وَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدِّينِ وهو أن يحضر السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي بها السوام فيعطي بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يعلموا سومه فهو عاص لله بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعقد الشراء نافذ لأنه غير النجش ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مالك عن نافع ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَنَاجَشُوا ". فَأَصْلُ النَّجْشِ: هُوَ الْإِثَارَةُ لِلشَّيْءِ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلصَّيَّادِ: النَّجَّاشُ، وَالنَّاجِشُ لِإِثَارَتِهِ لِلصَّيْدِ وَكَذَا قِيلَ لِطَالِبِ الشَّيْءِ نَجَّاشٌ فَالطَّلَبُ نَجْشٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إنفاش ... غير السرى وسائق نجّاش) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وَحَقِيقَةُ النَّجْشِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يحضر الرجل السوق فيرى السلعة تباع فبمن يَزِيدُ فَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا وَهُوَ لَا يَرْغَبُ فِي ابْتِيَاعِهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ الرَّاغِبُ فَيَزِيدُ لِزِيَادَتِهِ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِرُخْصِ السِّلْعَةِ اغْتِرَارًا بِهِ. فَهَذَا خَدِيعَةٌ مُحَرَّمَةٌ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبُهُمَا فِي النَّارِ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ ". أَيْ لَا خَدِيعَةَ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّجْشَ حَرَامٌ فَالْبَيْعُ لَا يبطل؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنِ اقْتَدَى بِهِ فَقَدْ زَادَ باختياره فإن علم المشتري بحال الناجش من غروره وَأَرَادَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِهِ نُظِرَ فِي حَالِ النَّاجِشِ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَجَشَ وَزَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ نَصَّبَهُ لِلزِّيَادَةِ كَانَ النَّاجِشُ هُوَ الْعَاصِي وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ فِي بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ نَصَّبَ النَّاجِشَ لِلزِّيَادَةِ فَفِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ مِنَ الْبَائِعِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ زَادَهَا عن اختياره. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا بيع على بيع بعض " (قال الشافعي) : وَبَيَّنَ فِي مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَتَوَاجَبَا السِّلْعَةَ فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي مُغْتَبِطًا أَوْ غَيْرَ نَادِمٍ فيأتيه رجل قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَيَعْرِضَ عَلَيْهِ مِثْلَ سِلْعَتِهِ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَيَفْسَخَ بيع صاحبه بأن له الخيار قبل التفرق فيكون هذا إفسادا وقد عصى الله إذا كان بالحديث عالما والبيع فيه لازم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبيع بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ". وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّهْيِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ وَلَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِأَرْخَصَ مِنْ ثَمَنِهَا، أَوْ يَعْرِضَ عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 خَيْرًا مِنْهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا لِيَفْسَخَ عَلَى الْأَوَّلِ بَيْعَهُ. فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِضْرَارِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ عَصَى إِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ وَبَيْعُهُ مَاضٍ سَوَاءً فَسَخَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يفسخ. هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءِ أخيه. رُويَ - وَإِنْ لَمْ أَجِدْهُ مُسْنَدًا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ. وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً وَلَا يُفَارِقُ بَائِعَهَا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْ بَائِعِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. فَإِنْ فَعَلَ وَاشْتَرَى فَقَدْ أَثِمَ وَعَصَى وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فِي الْمَجْلِسِ جَائِزٌ. وَفِي مَعْنَى هَذَيْنِ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً وَلَا يُفَارِقُ بَائِعَهَا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ يُرْبِحُ الْمُشْتَرِيَ فِي ثَمَنِهَا فَهُوَ أَيْضًا مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ طَمَعًا فِيمَا بُذِلَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَاءِ الرَّجُلِ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ. وَلَكِنْ لَا بَأْسَ أَنْ يُرْبِحَهُ فِي ثَمَنِهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فَلَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا خِيَارَ الثَّلَاثِ فَيَمْنَعُ هَذَا الرَّاغِبُ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ. وَاللَّهُ أعلم. فَصْلٌ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَصُورَةُ سَوْمِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ فِي السِّلْعَةِ ثَمَنًا فَيَأْتِي آخَرُ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَاجَبَا الْبَيْعَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ جَازَ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَنَّ السَّوْمَ لَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الطَّلَبِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا فِيمَنْ يَزِيدُ، وَابْتَاعَ ثَوْبًا مُزَايَدَةً ". فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ وَكَانَ بَيْعَ الْمُنَاجَزَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ بَائِعِ السِّلْعَةِ حِينَ بَذَلَ لَهُ الطَّالِبُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ الثَّمَنَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ يَقُولَ لَا أَبِيعُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ يُمْسِكُ. فَإِنْ قَالَ قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا الثَّمَنِ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَسُومَ عَلَيْهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 وإن لم ينعقد البيع بينهما لما من ذلك في الْفَسَادِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ نَصًّا. وَخَالَفَ بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ لِأَنَّ الْمُسَاوِمَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ. وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وُكِّلَ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ فِي مَكَانٍ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ من رجل وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِبَيْعِهِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ مُسَامَحَتَهُ فِيهِ أَوْ تَمْلِيكَهُ إِيَّاهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ تَمْلِيكُ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي مَكَانٍ فَبَاعَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ غَيْرَ وُفُورِ ثَمَنِهِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ فِي غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ. كَذَلِكَ فِي السَّوْمِ إِنْ كَانَ فِي الْمُزَايَدَةِ لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ الْغَرَضَ وُفُورُ الثَّمَنِ دُونَ تَعْيِينِ الْمُلَّاكِ، وَفِي بَيْعِ الْمُنَاجَزَةِ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعْيِينِ الْمُلَّاكِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ قَالَ: لَسْتُ أَرْضَى بِمَا بَذَلْتُهُ مِنَ الثَّمَنِ فَهَا هُنَا لَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الطَّالِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَسُومَ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُسَاوِمَ فِي السِّلْعَةِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، لِأَنَّ عَدَمَ الرِّضَا لَوْ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ طَلَبِهَا أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَائِعِهَا. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَالِكُ فَلَا يُجِيبُ بِرِضًا وَلَا بِكَرَاهَةٍ فَإِنْ كَانَ الْإِمْسَاكُ دَالًّا عَلَى الْكَرَاهَةِ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْأَمَارَةِ لَمْ يَحْرُمِ السَّوْمُ. وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى الرِّضَا فَفِي تَحْرِيمِ السَّوْمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ حَرُمَ سَوْمُ تِلْكَ السِّلْعَةِ عَلَى غَيْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاضِي كَنُطْقِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَوْمَهَا جَائِزٌ مَا لَمْ يُصَرِّحِ الْمَالِكُ بِالرِّضَا وَالْإِجَابَةِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ كِنَايَةٌ فَلَمْ تَقُمْ مَقَامَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الشَّرْعُ مِنْ إِذْنِ الْبِكْرِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرِجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي خِطْبَةِ الزَّوْجِ إِذَا أَمْسَكَ الْوَلِيُّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالْإِجَابَةِ وَالرَّدِّ. والله أعلم. مسألة: (قال المزني) وَكَذَلِكَ الْمُدَلِّسُ عَصَى اللَّهَ بِهِ وَالْبَيْعُ فِيهِ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ حَلَالٌ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) الثَّمَنُ حرام على المدلس. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ التَّدْلِيسَ حَرَامٌ وَالثَّمَنَ حَلَالٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ لَازِمٌ كَمَا أَنَّ بَيْعَ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَرَامٌ وَالثَّمَنَ فِيهِ حَلَالٌ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ ثَمَنَ التَّدْلِيسِ حَرَامٌ لَا ثَمَنَ الْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا فَاتَ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ عَيْبِ التَّدْلِيسِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ بِغَيْرِ استحقاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالنَّهْيِ عن تلقي السلع قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ " وَزَادَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " (قال) فَإِنْ بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَهُوَ عَاصٍ إِذَا كان عالما بالحديث ولم يفسخ لأن في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " يتبين أن عقدة البيع جائزة ولو كانت مفسوخة لم يكن بيع حاضر لباد يمنع المشتري شيئا من فضل البيع وإنما كان أهل البوادي إذا قدموا بسلعهم يبيعونها بسوق يومهم للمؤنة عليهم في حبسها واحتباسهم عليها ولا يعرف من قلة سلعته وحاجة الناس إليها ما يعلم الحاضر فيصيب الناس من بيوعهم رزقا وإذا توكل لهم أهل القرية المقيمون تربصوا بها لأنه لا مؤنة عليهم في المقام بها فلم يصب الناس ما يكون في بيع أهل البادية ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ". فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ بِكُلِّ حَالٍ وَأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ. وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الشِّرَاءِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكٌ وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي بِكُلِّ حَالٍ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وَلِلْحَدِيثِ سَبَبٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ كَانُوا يَجْلِبُونَ السِّلَعَ فَيَبِيعُونَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ من المؤونة فِي حَبْسِهَا وَالْمُقَامِ عَلَيْهَا فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيُصِيبُونَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَضْلًا إِذَا أَمْسَكُوهَا، فَعَمَدَ قَوْمٌ مِنْ سَمَاسِرَةِ الْأَسْوَاقِ فَتَرَبَّصُوا لِلْبَادِيَةِ بِأَمْتِعَتِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ الْجَلَبُ بَاعُوهَا لَهُمْ بِأَوْفَرِ الْأَثْمَانِ فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو بلغه ذلك من شكوى فنهى عن غير ذَلِكَ وَقَالَ لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا، لِمَا فِي استعمال النهي لو عم مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْحَضَرِ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ، وَإِضْرَارِ الْحَاضِرِ مِنِ انْقِطَاعِ الْجَلَبِ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُفْضِي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى سَالِمٌ الْمَكِّيُّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَقْدَمَ بِجَارِيَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنَ يُبَايِعُكَ فَشَاوِرْنِي حَتَى آمُرَكَ وَأَنْهَاكَ. قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ طَلْحَةَ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ. قِيلَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ وَسَمِعَ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَوَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَى السُّوقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهَا لَهُ فِي السُّوقِ حَاضِرٌ أَيْضًا. وأما من ترك الحديث وجعله مفسوخا فَهُوَ تَارِكٌ لِسُنَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِأَرْبَعَةِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا فِي الْحَالِ وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ وَالِانْتِظَارَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْدَأَهُ الْحَضَرِيُّ فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَرْكِ السِّلْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ فِي ذَلِكَ رَأْيٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُضَرُّ بِأَهْلِهِ حَبْسُ ذَلِكَ الْمَتَاعِ عَنْهُمْ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ تَعَيَّنَ النَّهْيُ وَحَرُمَ الْبَيْعُ. فَإِذَا خَالَفَ الْحَضَرِيُّ النَّهْيَ وَبَاعَ الْمَتَاعَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَاصٍ إِنْ كَانَ بِالْحَدِيثِ عَالِمًا. وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ دُونَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ "، وَلَوْ بَطَلَ الْبَيْعُ لَامْتَنَعَ الرِّزْقُ فَأَمَّا إِنْ عَدِمَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا: فَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فَإِنْ كَانَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَضَرِيِّ أَنْ يَبِيعَ لَهُ لِأَنَّ الْبَدَوِيَّ قَدْ كَانَ يَحْبِسُ مَتَاعَهُ بِمُقَامِهِ لَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاضِرُ لَهُ. وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَأَرَادَ الْبَدَوِيُّ تَأْخِيرَ مَتَاعِهِ وَالِانْتِظَارَ بِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لَهُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا صُنْعَ لَهُ في الحبس، ولأن البدوي لو لم يكن من ذلك لقطع الجلب. وإن عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَكَانَ الْبَدَوِيُّ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْحَاضِرَ فِعْلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الحاضر مَتَاعه لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَكَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ بَيْعُهُ عَلَى الْحَاضِرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ لِأَنَّ حَبْسَ الْحَاضِرِ لَهُ وَتَأْخِيرَ بَيْعِهِ لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَلَا يَمْنَعُهُمُ الرِّزْقَ وَلَا فَرْقَ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْبَادِيَةِ وَبَيْنَ الْأَكْرَادِ فِي جَلَبِ الْأَمْتِعَةِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السَّوَادِ وَالرُّسْتَاقِ وَأَهْلِ الْبَحَارِ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ فِي تَرَبُّصِ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَمْتِعَتِهِمْ. (والله أعلم بالصواب) . مسألة: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تتلقوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَسَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " فَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أن يقدم السوق " (قال) وبهذا نأخذ إن كان ثابتا وهذا دليل أن البيع جائز غير أن لصاحبها الخيار بعد قدوم السوق لأن شراءها من البدوي قبل أن يصير إلى موضع المتساومين من الغرر بوجه النقص من الثمن فله الخيار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا تلقوا الركبان للبيع ". قال الماوردي: رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَلَقَّوا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ السُّوقَ فَهُوَ بالخيار. فعلى هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِابْتِيَاعِ أَمْتِعَتِهِمْ قَبْلَ قُدُومِ الْبَلَدِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ. فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَوْمًا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الركبان إذا وردت بالأمتعة فيخبرونهم برخص الأمعتة وَكَسَادِهَا وَيَبْتَاعُونَهَا مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْعَارِ، فَإِذَا وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْمَدِينَةَ شَاهَدُوا زِيَادَةَ الْأَسْعَارِ وَكَذِبِ مَنْ تَلَقَّاهُمْ بِالْأَخْبَارِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ الرُّكْبَانِ وَعُدُولِهِمْ بِالْأَمْتِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَلَقِّيهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَدِيعَةِ الْمُجَانِبَةِ لِلدِّينِ، كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ لِتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ بِالْفَرِيقَيْنِ بِالنَّظَرِ لَهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ أَنَّ مَنْ كَانَ يَبْتَاعُهَا مِنْهُمْ يَحْمِلُهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهَا زِيَادَةَ السِّعْرِ، فَلَا يَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِ المدينة ولا ينالون نقصا مِنْ رُخْصِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ حَتَّى تَرِدَ أَمْتِعَتُهُمُ السُّوقَ فَتَجْتَمِعَ فِيهِ وَتَرْخُصَ الْأَسْعَارُ بِكَثْرَتِهَا فَيَنَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَفْعًا بِرُخْصِهَا، فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أعلم. فصل: وإذا صح ما ذكرنا معنى النهي فتلقى قوم الركبان قَبْلَ وُرُودِ الْبَلَدِ فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ، ثُمَّ وَرَدَ أرباب الأمتعة وباعتها البلد فإذا أغبنهم فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ بَيْعِهِمِ الْمَاضِي أَوْ فَسْخِهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ الَّسَّوْقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَاسْتَدْرَكَ بِالْفَسْخِ إِزَالَةَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَبْنِ بِاسْتِرْخَاصِ أَمْتَعَتِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُغْبَنُوا فِي بَيْعِهَا وَأُخْبِرُوا بِالْأَسْعَارِ عَلَى صِدْقِهَا وَكَانَ سِعْرُ الْعَسَلِ بِالْبَلَدِ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ سِعْرَهُ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقْهُمْ غَبْنٌ فِي بَيْعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا أَخْبَرُوهُمْ وَالسِّعْرُ عَشْرَةُ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ وَأَنَّهُ يُسَاوِي أَحَدَ عَشَرَ مَنًّا بِدِينَارٍ فَيَكُونُوا بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ الْغَبْنِ. وَالثَّانِي: لَهُمُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ. ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْخِيَارُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ، فَمَتَى أَمْكَنَهُمُ الْفَسْخُ بَعْدَ قُدُومِ الْبَلَدِ فَلَمْ يَفْسَخُوا سَقَطَ. وَالْوَجْهُ الثاني: في الأصل أن هذا الخير خِيَارُ شَرْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ معنى النهي عن تلقي الركبان أن تجتمع الْأَمْتِعَةُ فِي الْبَلَدِ فَتَرْخُصُ عَلَى أَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ سَوَاءً غُبِنُوا فِي بَيْعِهَا أَمْ لَا، صَدَقُوهُمْ فِي الْأَسْعَارِ أَمْ كَذَبُوهُمْ. وَفِي زَمَانِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالْعَيْبِ فَإِنْ تَرَكَ الْفَسْخَ مَعَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْمُصَرَّاةِ. فَلَوْ وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْبَلَدَ فَتَلَقَّاهُمْ قَوْمٌ قَبْلَ حُصُولِهِمْ فِي السُّوقِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَسْعَارِ فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ وَكَذَبُوهُمْ فِي أَسْعَارِهَا فَلَا خِيَارَ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ فِي الْفَسْخِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى تَعَرُّفِ الْأَسْعَارِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ قَدْ شَاهَدُوا حُصُولَ أَمْتِعَتِهِمْ فَلَوْ خَرَجَ قوم عن البلد لحاجة لَهُمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَوَجَدُوا الرُّكْبَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ بِالْأَمْتِعَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ فِي إِخْبَارِهِمْ بِأَسْعَارِهَا فَفِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ مَا يَلْحَقُ أَرْبَابُ الأمتعة من الاسترخاص من أصحاب الركبان من الغبن. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُمْ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ حُصُولُ الْأَمْتِعَةِ أن ذلك محظور عليهم وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عن تلقيهم كثرة الْأَمْتِعَةِ فِي الْبَلَدِ لِيَرْخُصَ عَلَى أَهْلِهِ، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ سَلَفٍ جر منفعة وتأخير الحق مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَذَلِكَ أَنَّ من سنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تكون الأثمان معلومة والبيع معلوم فَلَمَّا كُنْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ دَارًا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ أُسَلِّفَكَ مِائَةً كُنْتُ لَمْ أَشْتَرِهَا بِمَائَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا بِمِائَتَيْنِ وَالْمِائَةُ السَّلَفُ عَارِيَّةٌ لَهُ بِهَا مَنْفَعَةٌ مَجْهُولَةٌ وَصَارَ الثَّمَنُ غَيْرَ مَعْلُومٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَى الْحِجَازِيُّونَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ وَالسَّلَفُ هُوَ الْقَرْضُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ قالهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلُغَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَاحِدًا رَوَاهُ الْحِجَازِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ وَرَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ إِذَا كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ جَلِيًّا وَالِاحْتِمَالُ عَنْهُ مُنْتَفِيًا. وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ، وَالْقَرْضَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ وَاجْتِمَاعَهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ قَرْضٌ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مائة، وهذا بَيْعٌ بَاطِلٌ وَقَرْضٌ بَاطِلٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا: نَهْيُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ. وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنِيِّ الْمُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَذَاكَ أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ قَرْضًا صَارَ بَائِعًا سِلْعَتَهُ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَبِمَنْفَعَةِ الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الشَّرْطَ سَقَطَتْ مَنْفَعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَالْمَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنَ الثَّمَنِ أَفْضَتْ إِلَى جَهَالَةٍ نَافِيَةٍ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ مبطلة للعقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ شِرَاءٌ وَقَرْضٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ عَبْدَكَ هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مِائَةً، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ وَقَرْضٌ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَلِّفَهُ مَائَةً عَلَى أَنْ يقْبضهُ خَيْرًا مِنْهَا وَلَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا فِي بَلَدِ كَذَا، وَلَوْ أَسْلَفَهُ إِيَّاهَا بِلَا شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْكُرَهُ فيقضيه خيرا منها ". قال الماوردي: وهذا صحيح أَمَّا الْقَرْضُ فَإِنَّمَا سُمِّيَ قَرْضًا لِأَنَّ الْمُقْرِضَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمُقْتَرِضِ. وَالْقَطْعُ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْقَرْضُ فَلِذَلِكَ قِيلَ: ثوب مقروض أي مقطوع، وسمي الْمِقْرَاضُ مِقْرَاضًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ. وَالْقَرْضُ مَعُونَةٌ وَإِرْفَاقٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَإِبَاحَتِهِ: مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًّا وَقَالَ: خِيَارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: اسْتَقْرَضَ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ أَلْفًا ثُمَّ أَتَى بِمَالٍ فَقَالَ: ادْعُوا لِيَ ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَقَالَ: هَذَا مَالُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَوَلَدِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْوَفَاءُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ صَاعًا فَرَدَّ عَلَيْهِ صَاعَيْنِ. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا لَمْ يَجُرَّ مَنْفَعَةً. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ فَهُوَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، فَأَمَّا مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالضِّيَاعِ فَلَا يَجُوزُ قَرْضُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا، وَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا، وَإِنَّ ثُبُوتَهَا فِي الذِّمَمِ لَا يَصِحُّ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَقَرْضُ هَذَا يَصِحُّ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِمِثْلِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلَكِنْ يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَقَرْضُ ذَلِكَ جَائِزٌ إِلَّا الْجَوَارِي فَإِنَّ قَرْضَهُنَّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ هَذَا الضَّرْبُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ كَالْمَغْصُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وُصِفَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَرَدَّ حَيَوَانًا. وَلِأَنَّ الْقَرْضَ إِرْفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَبَايَنَ حُكْمُ الْمَغْصُوبِ بِالْمُفَاضَلَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ وَالْمَعْجُونَاتِ مِنْ طِيبٍ أَوْ دَوَاءٍ وَالْخُبْزِ وَالْبُرِّ الْمُخْتَلِطِ بِالشَّعِيرِ فَهَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَرْضَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِمِثْلٍ وَلَا صِفَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِقْرَارُهُ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ. فَتَكُونُ الْعِلَّةُ فِيمَا يَصِحُّ قَرْضُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ، وَمَا لَا يَصِحُّ قَرْضُهُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ قَرْضَهُ جَائِزٌ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِيمَا يَجُوزُ قَرْضُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِالْقِيمَةِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ مَا ضُمِنَ مِنَ الْقَرْضِ بِالْقِيمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ قَبْضِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ حين قبض إلى حين تصرف. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَإِنَّ أبا حنيفة مَنَعَ مِنْ جَوَازِ قَرْضِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ السَّلَفَ فِيهِ لَا يَجُوزُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَرْضِهِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَلًا رَبَاعِيًّا. وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا وَسَلَمًا كَالثِّيَابِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِنَفْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ أبا حنيفة يجوز للوالي أن يقرض الْحَيَوَانَ لِلْمَسَاكِينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْجَوَارِي فَإِنَّ الْمُزَنِيَّ وَدَاوُدَ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ يُجِيزُونَ قَرْضَهُنَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِنَّ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرْضِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِأَنَّ لِلْمُقْرِضِ اسْتِرْجَاعَهُ وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدَّهُ وَالْوَطْءُ لَا يَجُوزُ إِلَّا في ملك تام، لأن لا يَصِيرَ الْإِنْسَانُ مُسْتَبِيحًا لِلْوَطْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ جَارِيَةً لِوَلَدِهِ فِي جَوَازِ الْهِبَةِ مَعَ جَوَازِ اسْتِرْجَاعِ الْأَبِ لَهَا، لِأَنَّ مِلْكَ الْأَبِ قَدِ انْقَطَعَ بِالْهِبَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهَا بِالِاسْتِرْجَاعِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَنْفَعَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْعَارِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالْقَرْضِ كَالْحُرَّةِ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَارِيَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا. أَوْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ عِنْدَ إِحْلَالٍ مِنْ إِحْرَامٍ أَوْ إِسْلَامٍ مِنْ رِدَّةٍ أَوْ خُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ لَمْ يَجُزْ قَرْضُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ قَرْضِهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَانِيًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا. بَلْ مَنْصُوصَاتُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ قَرْضِهِنَّ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا إِمَّا لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ امْرَأَةٌ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّ قَرْضَهَا إِذَا حَرُمَ وَطْؤُهَا جَائِزٌ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَرْضٌ لَا يُفْضِي إِلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَجَرَى مَجْرَى قَرْضِ الْعَبِيدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إنَّ قَرْضَ مَنْ حَرُمَ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ كَمَا أَنَّ قَرْضَ مَنْ حَلَّ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُنَّ يَصِرْنَ جِنْسًا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ شَخْصٍ لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمُبَاحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قَرْضِ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُقْتَرِضِ بِالْقَبْضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ لِلْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَبْضِ اسْتِرْجَاعُهُ وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدُّهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِلْكُهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَلِلْمُقْرِضِ مَعَ بَقَاءِ الْقَرْضِ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ سَوَاءً تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ، وَلَيْسَ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اسْتِرْجَاعِ عَيْنِهِ بِإِعْطَاءِ بَدَلِهِ، لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ اسْتُحِقَّتْ فَاسْتِرْجَاعُهَا مَعَ بَقَائِهَا أَوْلَى مِنِ اسْتِرْجَاعِ بَدَلِهَا. فَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِ الْمُقْتَرِضِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِبَدَلِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ فَمِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ فَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْعَيْنَ الَّتِي مُلِّكَتْ عَلَيْهِ لِيَرُدَّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ بِعَيْنِهَا، لِأَنَّ مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهَا وَلَا إِزَالَةُ مِلْكِهِ. فَلَوْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أو ميراث فهل للمقرض الرجوع بِعَيْنِهَا أَوْ بِبَدَلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهَا عَيْنُ مَا اقْتَرَضَ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْبَدَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ عَيْنِهَا إِلَّا بِرِضَا الْمُقْتَرِضِ وَيَرْجِعُ إِلَى بَدَلِهَا لِسُقُوطِ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ وَعَوْدِهَا بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكٍ آخَرَ. فَلَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَهَنَ مَا اقْتَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ. فَلَوْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ قَبْلَ الرُّجُوعِ بِبَدَلِهِ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ دُونَ بَدَلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِالرَّهْنِ. فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ أَجَّرَهُ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعَ الْإِجَارَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَبْطُلُ بِرُجُوعِ الْمُقْرِضِ، وَالْأُجْرَةِ لِلْمُقْتَرِضِ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ إجارته بعض لا يلزمه الرضا به. فلو كان القرض في يد المقترض فحدث بِهِ عَيْبٌ عِنْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ كَانَ الْمُقْرِضُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَا أَقْرَضَ مَعِيبًا وَلَا أَرْشَ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا، وخالف الْمَغْصُوبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْ عَيْنِهِ مَعَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْقَرْضُ يُزِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقَرْضِ مَعِيبًا وَبِأَرْشِ عَيْبِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ فَلَيْسَ لِلْقِيمَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَكَذَلِكَ الأرش، وما لا مثل له لما وجبت قِيمَتُهُ دَخَلَهُ الْأَرْشُ. فَصْلٌ: وَلِصِحَّةِ الْقَرْضِ فِيمَا يجوز قرضه ثلاثة شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٌ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْقَرْضِ حَالًا مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَجَلًا وَقَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إِلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ الْقَرْضُ مُؤَجَّلًا وَيُلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ وَيَتَنَاوَلُ كَلَامًا لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ مَنْ يُسَلِّفُهُ الْمَالَ حَالًا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَةً. وَأنَّ دَلِيلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَازُ الْقَرْضِ مُؤَجَّلًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَ يَرَى تَأْجِيلَ الْقَرْضِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ لِأَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لَا يَجْرِي نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا مَجْرَى نَظَرِ الْمَالِكِينَ. وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَظْرِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ إلى ذهب جَوَازِ تَأْجِيلِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْمُرَاضَاةِ إِذَا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُعَجَّلًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا كَالْأَثْمَانِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. فَأَثْبَتُ أَحْكَامِ الشُّرُوطِ إِذَا جَاءَ النَّصُّ بِهَا وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ التَّفَاضُلِ مِنْهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ كَالصَّرْفِ. وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْقَرْضِ أَنْ يُمَلَّكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ مِثْلَ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ مَلَكَ الْقَرْضَ مُعَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ قَدْ مَلَكَ بَدَلَهُ مُعَجَّلًا. وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فَمَخْصُوصٌ بِخَبَرِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ فَمُنْتَقِضٌ بِالصَّرْفِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَثْمَانِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ الزِّيَادَةُ فِيهَا صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهَا، وَالْقَرْضُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ تَأْجِيلَ الْقَرْضِ لَا يَجُوزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُبْطَلُ الْقَرْضُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الْقَرْضُ لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إنَّ الْقَرْضَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْأَجَلَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ فَتَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ فَلَمْ يَتَنَافَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ نَفْعًا زَائِدًا عَلَى مَا اقْتَرَضَ لِنَهْيِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةً عَلَى الْقَرْضِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَمَتَى شَرَطَ فِيهِ زِيَادَةً لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْقَرْضُ بَاطِلًا سَوَاءً كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: قد أقرضتك هذه المائة العلة بِمِائَةٍ صِحَاحٍ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ عَلَى أَنْ تخد مني شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ تَكْتُبَ لِي بِهَا سَفْتجَةً إِلَى بَلَدِ كَذَا، لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ يَعُودُ عَلَيْهِ لِمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ فَالْقَرْضُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهِ بِهَذَا الْوَجْهِ يُمْنَعُ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَ مَا شَرَطَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ قَرْضًا بَاطِلًا لِأَنَّ القرض ليس بلازم والاستخدام لوضح شَرْط لَازِمٌ فَتَنَافِيَا. وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ إِمَّا فِي قَدْرِهِ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِثَوْبَيْنِ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ، أَوْ فِي صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ فَفِي صِحَّةِ القرض وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إنَّهُ قَرْضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة وأبي حامد المروروذي أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْقَرْضِ انْصَرَفَ عَنْ حُكْمِ الْقَرْضِ إِلَى الْمَبِيعِ فَصَارَ بَيْعًا بِلَفْظِ الْقَرْضِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَاضِحُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَقْلَ الْقَرْضِ الْمَقْصُودِ إِلَى بَيْعٍ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى الْمُقْرِضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ وَكَانَ مُحْسِنًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّ مَكَانَ بكْرٍ رَبَاعِيًّا وَقَالَ خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً. وَرَدَّ مَكَانَ صَاعٍ صَاعَيْنِ. لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَالصِّحَاحِ مَكَانَ الْغَلَّةِ أَوِ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ مَكَانَ الْعَتِيقِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا. وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ كَالصَّاعَيْنِ مَكَانَ الصَّاعِ وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكَانَ الدِّرْهَمِ فَهِيَ هِبَةٌ لَا يَلْزَمُ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ إِذَا كَانَ زَائِدًا. فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ كَأَنْ أَقْرَضَهُ صِحَاحًا لِيَرُدَّ مَكَانَهَا غَلَّةً، أَوْ طَعَامًا حَدِيثًا لِيَرُدَّ مَكَانَهُ عَتِيقًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَفِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهِ وَجْهَانِ كَالْأَجَلِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ نَاقِصٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهَا وَبَيْنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الْفَرْقِ فِي الرهن وبين الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِيهِ وَالشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ مِنْهُ فَأَمَّا شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْقَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِيثَاقٌ فِيهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْضِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الضَّمِينُ وَالرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ جَازَ شَرْطُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِيمَةَ فَفِي صِحَّةِ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَةَ الْقَرْضِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَكْثَرِ أَحْوَالِهِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ بِقِيمَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ عَلِمَا قَدْرَ قِيمَتِهِ عِنْدَ شَرْطِهِ وَوَقْتَ قَبْضِهِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ، وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مَعْلُومًا، وَالْعِلْمُ بِهِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِهِ وَلَا صِفَتِهِ إِذَا صَارَتِ الْقِيمَةُ مَعْلُومَةً لِاسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 أحدهما: معرفة قدره. والثاني: معرفة صفته فتنتفي الجهالة عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ. فَأَمَّا الصِّفَةُ فَمُعْتَبِرَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِهَا فِي السَّلَمِ. وَأَمَّا الْقَدْرُ فَيَكُونُ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا وَبِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا وَالذَّرْعِ وَالْعَدَدِ إِنْ كَانَ مَذْرُوعًا أَوْ مَعْدُودًا. فَلَو كَانَ الْقَرْضُ مَكِيلًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ وَزْنًا جَازَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ به مَعْلُومًا بِهِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ خَوْفَ الرِّبَا كَالْبَيْعِ. والثاني: يجوز وبه قال أبو حامد المروذي لِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَتَوْسِعَةٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ مَا يُرَاعَى فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ. أَلَا تَرَى لَوْ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا مُحَرَّمًا. وَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ مَوْزُونًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ كَيْلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَنْتِفِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا جَازَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى وجهين. ولكن لو أقرضه جزافا فلم يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ. فصل آخر يشتمل على فروع في القرض وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَقْرِضْ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ وَلَا بَأْسَ بِهِ. فَلَوْ أَنَّ الْمَأْمُورَ أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَشَرَةَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهَا بُذِلَتْ لَهُ عَلَى قرض من غيره. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ رَدِّ الْقَرْضِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى، لِمَا رُوِيَ أَنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه اسْتَقْرَضَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا وَكَانَ يُهَادِيهِ فَامْتَنَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ فَرَدَّ زَيْدٌ الْقَرْضَ وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا يَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنِي وبينك. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالَ فَأَخَّرَهُ بِهِ مُدَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا أَخَذَ مِنْهُ عِوَضًا فَيَلْزَمُهُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ لَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دَيْنٌ حَالَ فَسَأَلَ تَأْجِيلَهُ فَأَجَّلَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْأَجَلُ وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَالًا. وَلَوْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَأَجَّلَهُ بِهِ كَانَ حَسَنًا. وَقَالَ مَالِكٌ: مَتَى أَنْظَرَهُ بِالدَّيْنِ وَأَجَّلَهُ لَهُ مُدَّةً لَزِمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ سَوَاءً كَانَ من ثمن مبيع أو قيمة متلف أَوْ غَيْره، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الهبة تلزم العقد دُونَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَجَلُ يَلْزَمُ بِالْوَعْدِ وَيَصِيرُ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ قِيمَةَ مُتْلَفٍ لَا مَدْخَلَ لِلْأَجَلٍ فِي أَصْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجَلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ قَدْ يَصِحُّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ لَزِمَهُ تَأْجِيلُهُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ مِنْ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فِي الثَّمَنِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَكَرَاهُ حِينَ الْبَيْعِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِالِافْتِرَاقِ لَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ أَجَلٌ وَلَا خِيَارٌ وَلَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ وَلَا نُقْصَانٌ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَا شَرَطَا مِنَ الْأَجَلِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ بِمُقَارَنَةِ الْعَقْدِ لَزِمَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ كَالرَّهْنِ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يملكان فيها الفسخ يملكان فيها شَرْطَ الْأَجَلِ أَصْلُهُ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . فَلَوْ صَحَّ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِمَا يُقَدِّمُ مِنَ الْعَقْدِ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ مُعَجَّلًا فلم يعد التأخير مُؤَجَّلًا قِيَاسًا عَلَى قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدِ اسْتَقَرَّ لُزُومَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا يُغَيِّرُ أَصْلَهُ إِذَا كَانَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا زِيدَ فِي الثَّمَنِ لَاحِقًا بِالْعَقْدِ لَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْعَقْدِ، وَجَازَ إِذَا زَادَ الْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الشَّفِيعِ. وَفِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ إِلَّا عَلَى مَا اتَّفَقْنَا دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِمِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَمُعَارِضٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى الاستحباب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَسْتَقِرُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَكَذَا الْأَجَلُ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ لَكِنَّ قَبْضَ الْأَجَلِ يَقْضِي زَمَانَهُ فَمَا لَمْ يمضي الزَّمَانُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ مَا لَمْ يُقْبَضْ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لُزُومُهُ وَهُوَ بَعْدَ الْخِيَارِ مُسْتَقِرٌّ فَثَبَتَ مَا ذَكَرَنَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 باب تصرف الوصي في مال موليه مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ أَنْ يَتَّجِرَ الْوَصِيُّ بِأَمْوَالِ مَنْ يَلِي وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَدِ اتَّجَرَ عُمَرُ بِمَالِ يَتِيمٍ وَأَبْضَعَتْ عَائِشَةُ بِأَمْوَالِ بَنِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ وَهُمْ أَيْتَامٌ تَلِيهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] فَكَانَ النَّهْيُ عُمُومًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْأَحْسَنِ فِي حِفْظِهِ خُصُوصًا. وَلِأَنَّ التِّجَارَةَ بِالْمَالِ خَطَرٌ وَطَلَبُ الرِّبْحِ بِهِ مُتَوَهَّمٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ خَطَرًا مُتَيَقَّنًا لِأَجْلِ رِبْحٍ مُتَوَهَّمٍ. وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ مَالِهِ كَالْمُودِعِ الْمَنْدُوبِ لِحِفْظِ مَا أَوْدَعَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُودِعِ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْوَدِيعَةِ طَلَبًا لِرِبْحٍ يَعُودُ عَلَى مَالِكِهَا فَلَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتِيمِ طَلَبًا لِرِبْحٍ يَعُودُ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . وَالْوَلِيُّ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُمْلِيَ مَا حَدَثَ مِنْ دَيْنٍ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ بَيْعٍ وَهُوَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَيَتَوَلَّاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي تَوَلَّاهُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ". وَرُوِيَ: " اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّجَرَ بِمَالِ يَتِيمٍ كَانَ يَلِي عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ بِأَمْوَالِ بَنِي أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ وَهُمْ أَيْتَامٌ تليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَقَامَ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الرَّشِيدِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ كَانَ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَنْدُوبًا إِلَى أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ. وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ يُثْمِرَ مَالُهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ، وَالتِّجَارَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَلِيُّ بِهَا أَوْلَى. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: فَمَذْهَبُ ابْن أَبِي لَيْلَى خَارِجٌ مِنْهَا وَمَذْهَبُنَا دَاخِلٌ فِيهَا. أَحَدُهَا: أَنَّ الَّتِي هِيَ أحسن التجارة وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ إِنِ افْتَقَرَ وَيُمْسِكَ عَنِ الْأَكْلِ إِنِ اسْتَغْنَى وَهَذَا قَوْلُ ابْن زَيْدٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنِ التِّجَارَةَ خَطَرٌ وَالرِّبْحَ مُتَوَهَّمٌ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَلَامَةَ الْمَالِ فِي أَحْوَالِ السَّلَامَةِ أَغْلَبُ، وَظُهُورُ الرِّبْحِ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْأُمُورِ أَظْهَرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَيْنِ غَالِبًا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ كَالْمُودِعِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحِفْظِ فَخَطَأٌ لِأَنَّ الْمُودِعَ نَائِبٌ عَنْ جَائِزِ الْأَمْرِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبٌ عَامُّ التَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَشِرَاءَ الْعَقَارِ لَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التِّجَارَةِ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا يَتَّجِرُ بِمَا كَانَ نَاضًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا وَلَا أَرْضًا، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاضِّ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ أَنْ يُعَمِّرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ مِنْ عَقَارِهِ أَوْ ضِيَاعِهِ إِذَا كَانَ فِي عِمَارَتِهَا حِفْظُ الْأَصْلِ. وَلَيْسَ لِمَا يَبْنِي بِهِ الْعَقَارَ مِنَ الْآلَةِ صِفَةٌ مُحَدَّدَةٌ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَحُدُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَبْنِيَ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ وَلَا يَبْنِيَهُ بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ. قَالَ: لِأَنَّ لِلْآجُرِّ وَالطِّينِ مَرْجُوعًا إِنْ هُدِمَ وَبَقَاءٌ إِنْ تُرِكَ، وَالْجِصُّ فِي الْآجُرِّ لَا مَرْجُوعَ لَهُ وَإِذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ خَرِبَ جَمِيعُهُ، وَاللَّبِنُ وَالطِّينُ قَلِيلُ الْبَقَاءِ. وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عُرْفًا وَلِكُلِّ بَلَدٍ عَادَةً، فَمِنَ الْبِلَادِ مَا لَا يَسْتَحْكِمُ الْبِنَاءُ فِيهِ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ وَالنَّوْرَةِ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ، وَمِنْهَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، وَمِنْهَا بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 فَإِذَا بَنَاهُ الْوَلِيُّ عَلَى أَحْكَمِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَجْزَأَهُ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ لَوِ ابتاع له عَقَارًا أَوْ أَرْضًا عَادَ عَلَيْهِ مِنْ فَاضِلِ غَلَّتِهِ قَدْرُ كِفَايَتَهُ فَابْتَاعَ الْعَقَارَ وَالْأَرَضِينَ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنَ التِّجَارَةِ بِهِ، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ أَصْلًا وَأَقَلَّ خَطَرًا مَعَ اسْتِوَاءِ الْعَادَةِ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ لَوِ ابْتَاعَ بِهِ عَقَارًا لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ مِنْ فَاضِلِ غَلَّتِهِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ جَازَ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى شُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ أَمِينًا، وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا، وَالتِّجَارَةُ مُرْبِحَةً. فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُخَوِّفًا لَمْ يَتَّجِرْ بِالْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا طَمِعَ فِيهِ بِجُورِهِ، وَإِنْ كَانَتِ التِّجَارَةُ غَيْرَ مُرْبِحَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْفَضْلِ الْمَقْصُودِ بِالتِّجَارَةِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ أَمْنِ الزَّمَانِ وَعَدْلِ السُّلْطَانِ وَأَرْبَاحِ الْمُتَاجِرِ جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِمَالِهِ عَلَى شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ وَشُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْبَيْعِ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشِّرَاءِ فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ وَإِنْ بَقِيَ لِأَنَّ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ لَا يَتَحَفَّظُ ثَمَنُهُ وَأَنْ يَقَعَ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ وَكْسٌ، وَأَمْوَالُ الْيَتَامَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةَ الْأَصْلِ مَوْجُودَةَ النَّمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ فِيهِ غَالِبًا إِمَّا بِظُهُورِهِ فِي الْحَالِ وَإِمَّا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِهِ فِي ثَانِي حَالٍ فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فِي الظَّنِّ ظُهُورُ الرِّبْحِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ حَظٌّ فِي صَرْفِ مَالِهِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ لَا بِالنّسَاءِ، لِأَنَّ شِرَاءَ النَّقْدِ أَرْخَصُ وَالرِّبْحَ فِيهِ أَظْهَرُ، لِأَنَّ فِي النّسَاءِ إِلْزَامَ دَيْنٍ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ تَلَفُ الْمَالِ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ. فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مِنْ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ جَمِيعًا. فَإِنْ أَخَلَّ الْوَلِيُّ بِهَا أَوْ بِأَحَدِهَا لَمْ يَلْزَمِ الشِّرَاءَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَكَانَ بَاطِلًا إِنْ عَقَدَ بِعَيْنِ الْمَالِ وَيُلْزَمُ الْوَلِيُّ إِنْ لَمْ يَعْقِدْ بِعَيْنِ الْمَالِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ مَا اشْتَرَى مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الثَّمَنِ نَاضًّا لِأَنَّ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ تَغْرِيرًا وَهَذَا شَرْطٌ فِي حَقِّ الْوِلَايَةِ لَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنْ أَخَلَّ بِهِ الْوَلِيُّ صَحَّ الْعَقْدُ وَكَانَ ضَامِنًا لِمَا عَجَّلَ مِنَ الثَّمَنِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَيْعِ فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الثَّمَنِ وَكَمَالِ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ فِي الظَّنِّ حُدُوثُ زِيَادَةٍ فِيهِ لِمَا فِي بَيْعِهِ قَبْلَ كَمَالِ الرِّبْحِ مِنْ تَفْوِيتِ بَاقِيهِ. فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْحَظِّ لِلْيَتِيمِ فِي بَيْعِهِ. وَالثَّانِي: الِاجْتِهَادُ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الزِّيَادَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 فِيهِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءً كَانَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ تَرْكَ الزِّيَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عُدُولٌ عَنِ الْحَظِّ لِلْيَتِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ دُونَ النّسَاءِ لِأَنَّ بَيْعَ النَّقْدِ أَحْفَظُ لِلْمَالِ مَعَ اتِّصَالِ التِّجَارَةِ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النّسَاءُ أَحَظَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: زِيَادَةُ الثَّمَنِ عَلَى سِعْرِ النَّقْدِ. وَالثَّانِي: قُرْبُ الْأَجَلِ. وَالثَّالِثُ: ثِقَةُ الْمُشْتَرِي وَيَسَارِهِ. وَالرَّابِعُ: الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: الرَّهْنُ فِيهِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ مَا بَاعَهُ نَقْدًا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ نَاضًّا. وَهَذَا شَرْطٌ فِي حَقِّ الْوِلَايَةِ لَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنْ أَقْبَضَ الْمَبِيعَ كَانَ ضَامِنًا لِثَمَنِهِ لَا لِلْمَبِيعِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ سَقَطَ ضَمَانُهُ عَنِ الْيَتِيمِ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ فَيَصِيرُ الْوَلِيُّ بِدَفْعِ ذَلِكَ ضَامِنًا لِمَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي حَصَلَ التَّفْرِيطُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِهِ بَرًّا وَلَا بَحْرًا لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِالْمَالِ. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قلْت إِلَّا مَا وقى الله " أي على خطر. فَإِنْ سَافَرَ بِمَالِهِ ضَمِنَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ قَرِيبَةً وَالطَّرِيقُ آمِنًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ بِأَمْوَالِ بَنِي أَخِيهَا فِي الْبَحْرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي سَاحِلِ بَحْرِ الْجَارِ بِحَيْثُ يَقْرُبُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ غَالِبُ ذَلِكَ السَّلَامَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ ضَمِنَتِ الْمَالَ بِالْغَرَرِ إِنْ تَلِفَ مُبَالَغَةً في طلب الربح لبني أخيها. فَإِذَا اتَّجَرَ الْوَلِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَهَلْ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ بِحَقِّ عَمَلِهِ أَمْ لَا؟ يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَاطِعًا لَهُ عَنْ عَمَلِهِ وَلَا مَانِعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي شُغْلِهِ وَكَانَ وَاجِدًا مُكْتَفِيًا فَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ كَسْبِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 أَحَدُهُمَا: لَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ مُخْتَارًا عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَا عَنْ عِوَضٍ مَبْذُولٍ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ الْأَيْتَامِ وَتَرْكِ مُرَاعَاتِهِمْ وَالتِّجَارَةِ بِأَمْوَالِهِمْ. وقاد قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] إنَّ السَّرْفَ هُوَ أَخْذُهَا عَلَى غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى. وقوله: {وبدارا أن يكبروا} قال ابن عباس: هو أن يأكل الْيَتِيمِ بِبَادِرٍ أَنْ يَبْلُغَ فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ماله، وقوله: {ومن كان غنيا فليستعفف} يعني بمال نفسه عن مال اليتيم وقوله: {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحدُهَا: أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِهِ إِذَا احْتَاجَ ثُمَّ يَقْضِي إِذَا وَجَدَ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أُجْرَةً مَعْلُومَةً عَلَى قَدْرِ خِدْمَتِهِ. وهذا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَيَلْبَسُ مَا وَارَى الْعَوْرَةَ وَلَا قَضَاءَ وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَمَكْحُولٍ وقتادة. وروى سعد عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَمَّ ثَابِتِ بْنِ رِفَاعَةَ وَثَابِتٌ يَوْمَئِذٍ يَتِيمٌ فِي حِجْرِهِ أَتَى نَبِيَّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: إِنَّ ابْنَ أَخِي يَتِيمٌ فِي حِجْرِي فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلَا تَتَّخِذَ مِنْ مَالِهِ وَفْرًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ مَا يَقِيَانِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ. رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ إِنَ فِي حِجْرِي أيتاما وإن لهم إبلا فما يَحِلُّ لِي مِنْ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَفْرُطُ عَلَيْهَا يَوْمَ وِرْدِهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا كُنَّا نَأْمُرُ الْوَصِيَّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لَهُ عَقَارًا إِلَّا لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ غِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيمَا سِوَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَاعَ عَقَارًا وَلَمْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ فِيِ مِثْلِهِ فَذَلِكَ مَالٌ قَمِنٌ أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ " أَيْ حَقِيقٌ أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ أَنْ يَبْتَاعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ عَقَارًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِبَيْعِ عَقَارِهِ إِلَّا فِي حَالَتَيِ الْغِبْطَةِ وَالْحَاجَةِ فَالْغِبْطَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مُشَاعٌ مِنْ عَقَارٍ يَرْغَبُ فِيهِ الشَّرِيكُ لِيَعْمَلَ لَهُ الْمِلْكَ فَيَبْذُلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، أَوْ يَكُونُ لَهُ عَقَارٌ مَحُوزٌ يَرْغَبُ فِيهِ الْجَارُ أَوْ غَيْرُهُ لِعَرْضِ حِصَّتِهِ فَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ زِيَادَةً ظَاهِرَةً لَا يَجِدُهَا الْوَلِيُّ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَ وَقْتِهِ. فَهَذِهِ غِبْطَةٌ يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا وَيَأْخُذَهَا لِلْيَتِيمِ فَيَبِيعُ لِأَجْلِهَا الْعَقَارَ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ فَيَبْتَاعُ لَهُ بِهِ عَقَارًا مُسْتَرْخِصًا مُغِلًّا فِي مَوْضِعِ حَيٍّ كَامِلِ الْعِمَارَةِ أَوْ مُتَوَجِّهٍ إِلَى كَمَالِ الْعِمَارَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَهُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ خَرِبَ أَوْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْخَرَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ مَالِهِ أَمَّا بَيْعُهُ فِي الْحَاجَةِ، فَالْحَاجَةُ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ غَلَّةُ عَقَارِهِ لَا تَكْفِيهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهِ قَدْرَ مَا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَيْعَةٌ قَدْ خَرِبَتْ أَوْ عَقَارٌ قَدِ انْهَدَمَ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمِّرُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهِ قَدْرَ مَا يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرَبَ مِنْ ضِيَاعِهِ أَوِ انْهَدَمَ مِنْ عَقَارِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ كَثُرَ خَرَابُهُ وَخِيفَ ذَهَابُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُبتاعَ بِثَمَنِهِ فِي مَوْضِعٍ عَامِرٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ فِي بَلَدٍ يَبْعُدُ عَنِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيِّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ مِنْ أُجْرَةِ الْقَيِّمِ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَلَّتِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ لِيَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ عَقَارًا فِي بَلَدِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيِّ، لِيَقْرُبَ عَلَى الْوَلِيِّ مُرَاعَاتِهِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَى الْيَتِيمِ غَلَّتُهُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَشْبَاهِ مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا بَيْعُ عَقَارِهِ فِي التِّجَارَةِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنْ بَيْعِ الْمَتَاعِ وَشِرَائِهِ لِلتِّجَارَةِ وَمِنْ بَيْعِ الْعَقَارِ فِي الْغِبْطَةِ وَالْحَاجَةِ وَشِرَائِهِ للقنْية فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلِيِّ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِأُبُوَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِوَصِيَّةٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِتَوْلِيَةِ حَاكِمٍ عَنْ أَمَانَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بالأبوة كالآباء والأجداد الذي يَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَعُقُودُهُمْ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِمْ مَاضِيَةٌ، وَعَلَى الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ إِنْفَاذُهَا مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِهِمْ بَيِّنَةً لِحُصُولِ الْحَظِّ فِيمَا عَقَدُوهُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ مَا عَقَدَهُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَمْ يَكُنْ حَظًّا فَيُبْطِلُهُ حِينَئِذٍ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَفِعْلُهُ مَاضٍ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَقَوْلُهُ فِيمَا أَنْفَقَ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ لِانْتِفَاءِ التُّهَمِ عَنِ الْآبَاءِ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَوْلَادِهِمْ وَطَلَبِ الْحَظِّ الْأَوْفَى فِي تَثْمِيرِ أَمْوَالِهِمْ. فَأَمَّا الْأَوْصِيَاءُ وَأُمَنَاءُ الْحُكَّامِ فَمَا فَعَلُوهُ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ تُقْبَلُ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ بِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ وَهُوَ التِّجَارَةُ لَهُمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا يُكَلَّفُوا فِيمَا بَاعُوهُ وَاشْتَرَوْهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْعَرُوضِ إِثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ لِحُصُولِ الْحَظِّ فِيهِ، بَلْ عَلَى الْحُكَّامِ إِمْضَاؤُهُ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ حَظٌّ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهَا عُقُودٌ يَعْسُرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِحُصُولِ الْحَظِّ فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنْهَا اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْعَامِلِ فِي صِحَّةِ مَا عَقَدَهُ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ يُكَلَّفُهَا. فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ مَا بَاعُوهُ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَقَارٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْحُكَّامِ إِمْضَاءُ الْعَقْدِ فِيهِ إِلَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ حَظٌّ لِوُجُودِ الْغِبْطَةِ أَوْ حُدُوثِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَيْعِ ذَلِكَ عَلَى الْأَيْتَامِ الْحَظْرُ وَالْمَنْعُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مَا ابْتَاعُوهُ لِلْأَيْتَامِ مِنْ عَقَارٍ فَبَنُوهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ مَقْبُولٌ فِيهِ، وَعَلَى الْحُكَّامِ إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِ بَيِّنَةٍ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَاتِ وَكَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْآبَاءِ فِي الْبِيَاعَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ بِأَنَّ مَا ابْتَاعُوهُ لِلْأَيْتَامِ حَظٌّ فَإِذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِمْضَاؤُهُ، وَمَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لَمْ يُمْضُوهُ. كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْآبَاءِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُهُمْ دُونَ الْآبَاءِ، وَلِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ لَا يشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 باب تصرف الرقيق قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا ادَّانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا كَانَ عَبْدًا وَمَتَى عُتِقَ اتَّبَعَ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ حَجْرُ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَإِنْ صَحَّ تَأَدِّيهِ. وَجُمْلَةُ أَحْوَالِ الْمَحْجُورِ عليهم في أشربتهم أَنَّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقِسْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ لَا بِإِذْنٍ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقِسْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِإِذْنٍ، وَقِسْمٌ يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ فَهُوَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ غُرَمَائِهِ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ فِي مَالِهِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَائِهِ بِهِ، وَلَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ دَفَعَ مِنْهُ. وَكَذَا الْمُكَاتِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ عُقُودَهُ مَاضِيَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، وَلَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ مِمَّا فِي يَدِهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ وَيَكُونُ مِنْ عَقْدِ المفلس والمكاتب مع صحتهما: قد كان أحدهما أن عقد المفلس ماضي مَعَ الْمُحَابَاةِ وَعَقْدَ الْمُكَاتِبِ مَرْدُودٌ فِي الْمُحَابَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُفْلِسَ يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مِمَّا فِي يَدِهِ وَالْمُكَاتِبَ لَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ. فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَهُوَ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ أَمَّا الْمَجْنُونُ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَلَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَقَالَ أبو حنيفة: عُقُودُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ عَقْدُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَهَذَا غَلَطٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ". وَرَفْعُ الْقَلَمِ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ إِجَازَةِ عَقْدِهِ لِمَا فِي إِجَازَتِهِ مِنْ إِجْرَاءِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُهُ كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّبِيِّ حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَوَلِّي عُقُودِهِ. وَالثَّانِي: حِفْظُ مَالِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ حِفْظَ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ تَوَلِّي عُقُودِهِ. فَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مُكَلَّفًا صَحَّ عَقْدُهُ وَالصَّبِيُّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ لِسَيِّدِهِ فَجَازَ لِلسَّيِّدِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ بِالْإِذْنِ لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَى الصَّبِيِّ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عُقُودَ الصَّبِيِّ بَاطِلَةٌ بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ بِإِذْنٍ وَهُوَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ إِنْ عَقَدَ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَمْنُوعُ التَّصَرُّفِ مَنْعًا عَامًّا، وَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ مِنْهُ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَإِنِ اشْتَرَى بِإِذْنِ وَلَيِّهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَالصَّبِيِّ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ كَالْعَبْدِ، وَلَكِنْ لَوْ عَيَّنَ لَهُ الْوَلِيُّ مَا يَشْتَرِيهِ وَقَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ فَعَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّمَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ صَحَّ عَقْدُهُ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ التَّفْوِيضِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ مُكَلَّفٍ قَدْ صُرِفَ عَنِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّقْدِيرِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّفَهِ فِيهِ تَأْثِيرٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَهُوَ الْعَبْدُ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَقِّهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ شِرَاءَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ نِكَاحًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ بَاطِلًا، وَجَبَ إِذَا عَقَدَ بَيْعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشِّرَاءَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 وَأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا بِيَدِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ كَانَ عقد المفلس جائزا فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَخَالَفَ النِّكَاحُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ مُوكِسٌ لِثَمَنِهِ فَمُنِعَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشِّرَاءُ. (وَكَذَا) الْحُكْمُ فِي ضَمَانِهِ وَاقْتِرَاضِهِ إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ وَيُؤْمَرُ بِرَدِّ الْقَرْضِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْقَرْضِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ عُقُودِهِ كَانَ ضَمَانُهُ لَازِمًا فِي ذِمَّتِهِ يُوَجَّهُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ وَقَدِ اسْتَفَادَ مَا ابْتَاعَهُ وَاقْتَرَضَهُ، وَكَانَ ضَامِنًا لِثَمَنِ مَا ابْتَاعَ وَمِثْلُ مَا اقْتَرَضَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّ ما استفاده البعد مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ. فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ برقه الْعَبْدِ فَأَرَادَ الْفَسْخَ حِينَ عَلِمَ بِرِقِّهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ تَأْخِيرِ الثَّمَنِ إِلَى حِينِ عِتْقِهِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ بِرِقِّهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ عُقُودِهِ كَانَ ضَمَانُهُ بَاطِلًا وَابْتِيَاعُهُ فَاسِدًا وَاقْتِرَاضُهُ مَرْدُودًا وَعَلَى الْعَبْدِ رَدُّ مَا ابْتَاعَهُ وَاقْتَرَضَهُ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ فِي ذمته لا فِي رَقَبَتِهِ، يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَاسْتَدَانَ الْعَبْدُ دَيْنًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَتِ الدُّيُونُ الْحَادِثَةُ عَنْ مُعَامَلَاتِهِ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ وَلَا فِيمَا بِيَدِهِ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ فَإِنْ فَعَلَ وَقَدَرَ السَّيِّدُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ مِمَّنْ صَارَ إِلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ غُرْمِ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ وَلَا فِي رَقَبَتِهِ مَالٌ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مأذون لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَضَى دُيُونَ مُعَامَلَاتِهِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ لِأَنَّ إِذْنَهُ لِلتِّجَارَةِ إِذْنٌ بِهِ وَبِمَوْجِبِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا بِيَدِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دُيُونِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الضَّمَانِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ. فَلَوْ كَانَتْ دُيُونُهُ أَلْفًا وَبِيَدِهِ أَلْفَانِ فَأَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ الْفَاضِلَةَ مِنْ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 أحدهما: أنه كالمرهون بدينه، وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا فَضُلَ عَنِ الدَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُلْزَمُ قَضَاؤُهُ مِنَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى. فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ عَنْ دُيُونِهِ إِمَّا لوضيعة أَوْ جَائِحَةٍ كَانَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة تَكُونُ دُيُونُهُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِعَبْدِهِ عَنْ إِذْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ كَالرَّهْنِ، قَالَ: وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ فَلَمَّا كَانَ أذنه بِالتِّجَارَةِ فَوَجَبَ تَعَلُّقُ دَيْنِهِ بِكَسْبِ التِّجَارَةِ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ إِذَا عَدِمَ كَسْبَ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمَّا أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ أَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِالْمِلْكِ الْآخَرِ. وَهَذَا غَلَطٌ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ كل حق لزم برضى مُسْتَحِقِّهِ أَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِالذِّمَّةِ دُونَ الرَّقَبَةِ كَمَا لو أدّان بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ من الديون ضربان: ضرب لزم برضى مستحقه كأثمان المبيعات، وضرب لزم بغير رضى مُسْتَحِقِّهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَا لزم بغير رضى مُسْتَحِقِّهِ كَانَ مَحَلُّهُ مِنَ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ وَاحِدًا وَهُوَ الرَّقَبَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لزمه برضى مُسْتَحِقِّهِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مِنَ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ وَاحِدًا وَهُوَ الذِّمَّةُ، وَلِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ أَوْ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ جَاهٍ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَالرَّقَبَةُ خَارِجَةٌ عَنْ إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِدَيْنِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّهْنِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكَسْبِ فَالْكَسْبُ لَمْ يَمْلِكْهُ السَّيِّدُ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَقَبْلَ قَضَائِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ فَجَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ دُيُونُهُ بِكَسْبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّقَبَةُ؛ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا دُيُونُهُ. وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ جِنَايَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُوجِبُ الْمَالُ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ أَوْ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ فَإِقْرَارُهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقَ السَّيِّدُ أَوْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ فَيُلْزَمُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ إِقْرَارُهُ بِرَقَبَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَفِّذَ إِقْرَارَهُ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِقْرَارَ السَّيِّدِ بِهَا لَازِمٌ فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهَا فِي ملكه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 والثاني: أن العبد متهوم فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَإِقْرَارِ الْجَانِي بِالْخَطَأِ لَا يُقْبَلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَرْشَ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ كَالْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْعَاقِلَةَ لَزِمَتْهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهَا مَقْبُولٌ عَلَى السَّيِّدِ وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقَوَدَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وزفر ومحمد بن الحسن وَدَاوُدُ إِنَّ إِقْرَارَهُ بِهَا مَرْدُودٌ كَالْمَالِ لِأَنَّهُ مُقِرٌ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كلما لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يُقْبَلْ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ قُبِلَ كَانَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ فِيهِ، وَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ نَفْسِهِ إِضْرَارًا لِغَيْرِهِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الْمَالُ حَيْثُ لَمْ يَمْضِ إِقْرَارُهُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ حِرْزِهَا يُقْطَعُ فِي مِثْلِهَا قَطَعْنَاهُ وَإِذَا صَارَ حُرًّا أَغْرَمْنَاهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ فِي يَدَيْهِ فَأَخَذْنَاهُ وَالْآخَرُ لِلْنَاسِ فِي مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَأَخَّرْنَاهُ بِهِ كَالْمُعْسِرِ نُؤَخِّرُهُ بِمَا عَلَيْهِ فَإِذَا أَفَادَ أَغْرَمْنَاهُ وَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي مَالِ سيده ". قال المزني: هذا غلط لأن هذا إن كان صادقا فإن يغرم على مولاه فيقطع ويغرم مولاه، وإن كان كاذبا فذلك أبعد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَطْعُ فِيهَا أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَكَانَ كَالْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عن إتلاف أو جناية ويكون في ذمة يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ. فَإِنْ لَزِمَهُ الْقَطْعُ قُطِعَ فِي الْحَالِ، لَا يُخْتَلَفُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ فِي يَدِهِ يُنَفِّذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لَهُ. فَأَمَّا الْغُرْمَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتُهْلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ. فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْرَارَهُ يُنَفَّذُ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ. وَيَتَعَلَّقُ الْغُرْمُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَيُؤَدِّي فِي سَرِقَتِهِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التُّهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ تَنْتَفِي عَنْهُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ، إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ التُّهْمَةُ لَزِمَ وَإِنْ أَوْجَبَ مَالًا كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهَا لِاسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ بِهَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَالِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنِ الْقَوَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْغُرْمِ لَا يُقْبَلُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَطْعًا وَغُرْمًا، وَقَدْ يَصِحُّ انْفِرَادُ الْغُرْمِ عَنِ الْقَطْعِ، فَلَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَطْعُ قَطَعْنَاهُ، وَلَمَّا اتُّهِمَ فِي الْآخَرِ وَهُوَ الْغُرْمُ رَدَدْنَاهُ. وَلَيْسَ كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ أَحَدُ مُوجِبِهَا عَنْهَا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِإِقْرَارِهِ. وَأَمَّا نُفُوذُ إِقْرَارِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَقَرَّ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَا يُنَفِّذُ إِقْرَارَهُ فِيهِ فَالْعَيْنُ الَّتِي بِيَدِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُنَفِّذَ إِقْرَارَهُ فِيهَا عَلَى سَيِّدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِقْرَارَهُ فِي غُرْمِ الْمُسْتَهْلِكِ نَافِذٌ عَلَى سَيِّدِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ هَلْ يُنَفَّذُ إِقْرَارُهُ فِيهَا عَلَى سَيِّدِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيهَا نَافِذٌ وَقَوْلُهُ فِي سَرِقَتِهَا مَقْبُولٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بن سريج؛ لأنه لَمَّا قَبِلَ إِقْرَارَهُ فِي الْعُمُومِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَتِهِ وإن كَانَتِ الرَّقَبَةُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ قَبِلَ إِقْرَارَهُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ يَدًا لِسَيِّدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْرَارَهُ بِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بها كإقراره بِمَا فِي يَدِ سَيِّدِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِي الْغُرْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُنَفِّذَ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ أَنَّ الْعَيْنَ رُبَّمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ أَضْعَافًا فَيُفْضِي إِقْرَارُهُ إِلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِهِ مِلْكَ سَيِّدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغُرْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُهَا وَهُوَ مَحْدُودٌ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَيْنَ تُرَدُّ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا ادعاها ويتعلق غرم قيمتها في رقبته استدرارا لِمَا يُخَافُ مِنْ وُفُورِ قِيمَةِ الْعَيْنِ وَاسْتِيعَابِ مال السيد فيتعلق غُرْمُهَا بِرَقَبَتِهِ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيمَا بِيَدِ سَيِّدِهِ بَلْ يَجِبُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة تُسْتَرَدُّ الْعَيْنُ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ لِوُجُوبِ قَطْعِهِ وَأَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا يَجِبُ لِثُبُوتِ سَرِقَتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 وَقَالَ محمد بن الحسن أُسْقِطَ الْقَطْعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْخُولٌ، وَتَعْلِيلُ أبي حنيفة لِرَدِّ الْعَيْنِ بِوُجُوبِ قَطْعِهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ. وَتَعْلِيلُ محمد بن الحسن لِإِسْقَاطِ قَطْعِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّ بَدَلَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ الْبَدَلُ مُوجِبًا لِقَطْعِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ إِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ فَسَوَاءً كَانَ إِقْرَارُهُ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ فِي يَدِهِ أَوْ بِمُسْتَهْلَكٍ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ وَلَيِّهِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَبْدِ تَصْدِيقُ سَيِّدِهِ لِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ فَجَازَ أَنْ يُلْزَمَ تَصْدِيقُهُ والولي غير مالك فلم يلزم تصديقه. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ عَلَى سَيِّدِهِ كَانَ إِقْرَارُ السَّفِيهِ مَقْبُولًا فِي مَالِهِ فَيُقْطَعُ وَيُغَرَّمُ، وَإِنْ قِيلَ إِنْ إِقْرَارَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى سَيِّدِهِ وَأَنَّهُ لَازِمٌ فِي ذِمَّتِهِ فَفِي إِقْرَارِ السَّفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُقِرٌّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَلَمْ يقبل إقراره منه، والسفيه مقرض مِلْكٍ فَيُنَفَّذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا يُقْطَعُ وَيُغَرَّمُ السَّرِقَةَ فِي مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْرَارَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا فَالْحَجْرُ قَدْ مُنِعَ مِنْ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِ فَصَارَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ، لِأَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً يَثْبُتُ الْغُرْمُ فِيهَا إِذَا أُعْتِقَ، وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ ذِمَّةٌ يَثْبُتُ فِيهَا الْغُرْمُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الْغُرْمُ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ وَبَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. وَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ لِسُقُوطِ الْغُرْمِ. وَالثَّانِي: يُقْطَعُ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْغُرْمَ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 بَابُ بَيْعِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يجوز مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الكاهن (قال الشافعي) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " قَالَ وَلَا يَحِلُّ لِلْكَلْبِ ثَمَنٌ بِحَالٍ وَلَوْ جَازَ ثَمَنُهُ جَازَ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. بَيْعُ الْكَلْبِ باطل وثمنه حرام ولا قيمة على متلفه بِحَالٍ سَوَاءً كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: بَيْعُ الْكَلْبِ جَائِزٌ وَثَمَنُهُ حَلَالٌ وَالْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ وَاجِبَةٌ سَوَاءً كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ وَثَمَنُهُ لَا يَحِلُّ لَكِنْ عَلَى قَاتِلِهِ الْقِيمَةُ. وَاسْتَدَلُّوا على ذلك برواية الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالْهِرِّ إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ. فَجَوَّزَ ثَمَنَ الْكَلْبِ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جستاس عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَلْبِ الصَّيْدِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَفِي كَلْبِ الْغَنَمِ بِشَاةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَفِي كَلْبِ الزَّرْعِ بِفَرْقٍ مِنْ زَرْعٍ وَفِي كَلْبِ الدَّارِ بِفَرْقٍ مِنْ تُرَابٍ حَقٌّ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، وَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الْكَلْبِ أَنْ يَأْخُذَه فَأَثْبَتَ لَهُ قِيمَةً. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمَاشِيَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وَدَلِيلُنَا: مَا أَسْنَدَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. وَرَوَى مَعْرُوفُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ علي بن أبي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ. وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ قَيْسِ بْنِ حَبْتَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسًا عَنْدَ الرُّكْنِ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ. فَدَلَّتْ نُصُوصُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ ثَمَنُهُ وَقِيمَتُهُ كَالْخِنْزِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: ضَعْفُ إِسْنَادِهِ لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ مُطَّرَحُ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ " إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ " رَاجِعٌ إِلَى مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَاقْتِنَائِهِ إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ فَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ يَعْنِي: وَالْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ، فَتَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَاوِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] يَعْنِي: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَأَضْعَفُ إِسْنَادًا لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ مَرْدُودُ الْقَوْلِ، ثُمَّ الْمَتْنُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ خَارِجًا مَخْرَجَ الزَّجْرِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ عَلَى أَرْبَابِهَا حَتَّى لَا يُسْرِعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ قَتْلِ الْعَبِيدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْفَهْدِ بِعِلَّةِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ: فَهُوَ أَنَّهُ يَرْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطْرَحًا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفَهْدِ طَهَارَتُهُ حيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ جواز الوصية به. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ إِلَا لِصَاحِبِ صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ جَازَ اقْتِنَاؤُهُ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ جَازَ اقْتِنَاءُ جَمِيعِ جِنْسِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ طَرْدًا وَالْخَنَازِيرِ عَكْسًا. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ ذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الزَّرْعَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا. فَجَعَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ هَذَا الْقَوْلَ مِنِ ابْنِ عمر قد حافى أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَعْنًا عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ - تَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - يَرْوِي عَامَّةَ نَهَارِهِ وَلَقَدْ كَانَ السَّامِعُ يَسْمَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلَامًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعُدَّهُ لَعَدَّهُ وَأَحْصَاهُ. وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ بِرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُتْرَكُ فَأوهي بِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَحَادِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُنِعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِهَا وَرَامَ لِنُصْرَةِ أبي حنيفة أَنْ لَا يَكُونَ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ مَخْصُوصًا. وَهَذَا فِعْلُ مَنْ عَانَدَ صَحَابَةَ نَبِيِّهِ حَتَّى سَبَّهُمْ ظَنًّا وَجَعَلَ لَدَيْهِمْ غَدْرًا، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ زَلَلِ الْهَوَى وَمَيْلِ الْعِبَادِ وَسَمِعِ فِيهِمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] لَوَضَحَ لَهُ مَا لَا يَجِدُ عُذْرًا مَعَهُ، وَلَعَلِمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ سَمَاعًا وَحِفْظًا وَالْمَقْبُولِينَ رِوَايَةً وَنَقْلًا لِقِلَّةِ شُغْلِهِ وَكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَشْغَلْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَرْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا غَرْسُ وَدِيٍّ وَكُنْتُ امْرَأً فَقِيرًا أَلْزَمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَحْفَظُ عَنْهُ مَا لَا يَحْفَظُونَهُ. وَلِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا أَبَا هُرَيْرَةَ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. وروي أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من بسط ثوباه فَأُحَدِّثُهُ بِأَحَادِيثَ لَا يَنْسَاهَا فَبَسَطْتُ ثَوْبِي فَحَدَّثَنِي بأحاديث فَجَمَتُ أَطْرَافَهَا فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلَّمَا سَمِعْتُ مِنْهُ. وِقِدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثْنَى عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَفِظَ اللَّهُ عَلَيْكَ كَمَا حَفِظْتَ عَلَيْنَا سُنَنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ قَدْحًا وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ زَرْعًا فَحَفِظَ ذِكْرَ الزَّرْعِ وَلَيْسَ لِابْنِ عُمَرَ زَرْعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ زَرْعًا فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْإِذْنِ فِي كَلْبِ الزَّرْعِ. وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَيْهِ الْكَثْرَةَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا أَنْكَرَتْ كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ لَا أَنَّهَا نَسَبَتْهُ إِلَى التَّخَوُّضِ وَالْكَذِبِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَقِلَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَقِلُّوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ بِرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَنَقُولُ: لَيْسَ لَهُ مَحْصُولٌ: لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنْ كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ وَجَبَ قَبُولُ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ، فَأَمَّا قَبُولُ بَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ. ثُمَّ لَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَتِنَا، لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَوْ عَدَلْنَا عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لَكَانَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَافِيًا فِي تَحْرِيمِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَقَصَ مِنْ أجره كل يوم قيراطان: فيهما عِبَارَةٌ عَنْ جُزْأَيْنِ مِنْ عَمَلِهِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلِ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ عَمَلِهِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَاضِي عَمَلِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ مُسْتَقْبَلِ عَمَلِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ عَمَلٍ يَذْهَبُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جُزْءًا مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ وَجُزْءًا مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جُزْءًا مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ وَجُزْءًا مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكِلَابُ ضَرْبَانِ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَمَا كَانَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ حَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا صورة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 ثم إن كان مالا يُنْتَفَعُ بِهِ عَقُورًا مُؤْذِيًا قُتِلَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْكِلَابُ أُمَّةٌ فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بِهِيمٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ. قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَطُوفُ عَلَيْهَا وَبِيَدِهِ الْحَرْبَةُ فَيَقْتُلُهَا. فَأَمَّا مَا كَانَ غَيْرُ عقور ولا مؤذي فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ ". وَأَمَّا الْمُنْتَفَعُ بِهِ فَقَدْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: فِي الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ. فَأَمَّا كَلْبُ الصَّيْدِ فَهُوَ مَا كَانَ مُعَلَّمًا يُصَادُ بِهِ فَاقْتِنَاؤُهُ لِمَنْ يَصِيدُ بِهِ مُبَاحٌ، لِأَنَّ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يَصِيدُهُ جَارِحٌ غَيْرَ الْكَلْبِ كَالثَّعَالِبِ وَالْأَرَانِبِ فَكَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى اقْتِنَائِهِ. فَأَمَّا كَلْبُ الْحَرْثِ فَهُوَ كَلْبُ أَصْحَابِ الزُّرُوعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ زُرُوعَهُمْ مِنَ الْوَحْشِ لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ مَعَ قلة النوم الْكَلْبِ وَسُرْعَةِ تَيَقُّظِهِ. وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فدعت حاجة أصحاب الرزق إِلَى اقْتِنَائِهِ. وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الزُّرُوعِ أَصْحَابِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ. وَأَمَّا كَلْبُ الْمَاشِيَةِ فَهُوَ الْكَلْبُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى الْمَاشِيَةِ إِذَا رَعَتْ فَيَحْفَظُهَا مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، فَدَعَتْ حَاجَةُ الرُّعَاةِ إِلَيْهِ فَجَازَ لَهُمُ اقْتِنَاؤُهُ، وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الْمَوَاشِي أَصْحَابُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. فَأَمَّا الْبَوَادِي وَسُكَّانُ الْخِيَامِ فِي الْفَلَوَاتِ فَيَجُوزُ لَهُمُ اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ لِتَحْرُسَهُمْ مِنَ الطُّرَّاقِ وَالْوَحْشِ، فَإِنَّ لِلْكِلَابِ عُوَاءً عِنْدَ رُؤْيَةِ مَنْ لَمْ يَأْلَفُوهُ يَنْتَبِهُ بِهِ أَرْبَابُهَا عَلَى الِاسْتِيقَاظِ وَحِرَاسَةِ الْبُيُوتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا أَوْ أَهْلَ بَيْتٍ مُفْرَدٍ، يَعْنِي الْبُيُوتَ الْمُفَرَّقَةَ فِي الصَّحَارِي. وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الْخِيَامِ مِنَ الْبَوَادِي أَهْلُ الْحُصُونِ وَالْبُيُوتِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَطْرَافِ الرَّسَاتِيقِ وَهَكَذَا أَهْلُ الْقَوَافِلِ وَالرِّفَاقُ. وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَجَّ وَمَعَهُ كَلْبٌ فَقِيلَ لَهُ تَحُجُّ وَمَعَكَ كَلْبٌ فَقَالَ يَحْفَظُ عَلَيْنَا ثِيَابَنَا. فَأَمَّا اتِّخَاذُ الْكِلَابِ لِحِرَاسَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ جَوَازُ اتِّخَاذِهِ لحراسة البيوت لما فيه من التيقظ والعواء عَلَى مَنْ أَنْكَرَ فَصَارَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ لِحِرَاسَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ فِي الْمُدُنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِالدُّرُوبِ وَالْحُرَّاسِ فِيهَا عَنِ الْكِلَابِ؛ وَلِأَنَّ الْكِلَابَ لَا تُغْنِي فِي الْمَنَازِلِ ما تغني في الزرع وَالْمَوَاشِي، لِأَنَّ حِفْظَ الْمَنَازِلِ مِنَ النَّاسِ، وَالْكَلْبُ رُبَّمَا احْتَالَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ يُطْعِمُهُ حَتَّى يَأْلَفَهُ فَلَا يُنْكِرُهُ إِذَا وَرَدَ لِلسَّرِقَةِ وَالتَّلَصُّصِ، والزروع وَالْمَوَاشِي تُحْفَظُ مِنَ الْوَحْشِ وَالسِّبَاعِ فَلَا يَتِمُّ فِيهَا حِيلَةً فِي أَلِفِ الْكَلْبِ لَهَا فَافْتَرَقَ الْمَعْنَى فِيهِمَا. وَأَمَّا اقْتِنَاءُ جَرْوِ الْكِلَابِ وَصِغَارِهَا لِتَعَلُّمِ الصَّيْدِ أَوْ حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالْمَوَاشِي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا لِلتَّعْلِيمِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَهَا مَنْفَعَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّعْلِيمِ فَلَوْ مُنِعَ مِنْ تَعْلِيمِهَا لَمُنِعَ مِنَ الصَّيْدِ بِهَا. وَأَمَّا مَا انْتُفِعَ بِهِ مِنْ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِذَا اقْتَنَاهَا مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ صَيْدٌ وَلَا حَرْثٌ وَلَا مَاشِيَةٌ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اعْتِبَارًا لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَالثَّانِي: لا يجوز اعتبارا بأربابها ولأنه لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ. وَهَكَذَا لَوِ اتَّخَذَ صَاحِبُ الْحَرْثِ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوِ اتَّخَذَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ كَلْبَ حَرْثٍ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فصل: حكم إجارة الكلاب مباحة الانتفاع فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا وَاقْتِنَاؤُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِمَا وَصَفْنَا، فَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهَا لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مِنْ عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِ الْأَصْلِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ إِجَارَتِهِ كَالْوَقْفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَارَتَهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِنْهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَإِنْ أُبِيحَتْ بِخِلَافِ الْوَقْفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ غَاصِبًا لَوْ غَصَبَ كَلْبًا مُنْتَفَعًا بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَيَلْزَمْهُ فِي الوقف أجرة مثله. أَقْسَامُ الْحَيَوَانِ وَحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي حياته بيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وَحَلَّ ثَمَنُهُ وَقِيمَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُؤْكَلُ مِنْ ذَلِكَ الْفَهْدُ يُعَلَّمُ لِلْصَيْدِ وَالْبَازِيُّ وَالشَّاهِينُ وَالصَّقْرُ مِنَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَمِثْلُ الْهِرِّ وَالْحِمَارِ الْإِنْسِيِّ وَالْبَغْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ حَيًّا وَكُلُّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنْ وَحْشٍ مِثْلَ الْحِدَأَةِ وَالرَّخَمَةِ وَالْبُغَاثَةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْجُرْذَانِ والوزغان وَالْخَنَافِسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أن لَا يَجُوزَ شِرَاؤُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ على من قتله لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْمَنْفَعَةِ فِيهِ حَيًّا وَلَا مَذْبُوحًا فَثَمَنُهُ كَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَةُ الْحَيَوَانِ ضَرْبَانِ: آدَمِيٌّ وَغَيْرُ آدَمِيٍّ، فَالْآدَمِيُّ ضَرْبَانِ: حُرٌّ وَمَمْلُوكٌ، فَالْحُرُّ لَا يجوز بيعه وإن جازت إجازته. وَالْمَمْلُوكُ ضَرْبَانِ: مُسْلِمٌ وَغَيْرُ مُسْلِمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا جَازَ بَيْعُهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ صَغِيرًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ كَبِيرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل: لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِإِسْلَامِهِ مِنَ الْمَمَالِيكِ الصِّغَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَيُبَاعُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ فِي الْعُرْفِ يَثْبُتُونَ عَلَى دِينِ سَادَتِهِمْ فَيُشْرِكُونَ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مشركا ويسلمون إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُسْلِمًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَإِسْلَامُهُ مَظْنُونٌ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ إِنْ كَانَ سَيِّدُهُ مُشْرِكًا وَبِيعَ عَلَى الشِّرْكِ. وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ مُسْلِمًا فَلَمْ يَكُنْ مَا اعْتَبَرَهُ صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَصِحُّ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا عَلَى مُسْلِمٍ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لِعُلُوِّهِ لَا تَعْلُوهُ يَدُ مُشْرِكٍ. فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عَلَى مُشْرِكٍ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ مُنِعَ الْكَافِرُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ كَحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ مُنِعَ مِنِ ابْتِدَائِهِ كَالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْقُرْبَةُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِتْقِ كَابْتِيَاعِ الْوَلَدِ وَهُوَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، أَوْ حُصُولِ الرِّبْحِ بِطَلَبِ الْفَضْلِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الرِّبْحُ، وَإِذَا زَالَ عَنْ مَقْصُودِ الْبَيْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ جَرَى مَجْرَى بَيْعِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَانَ بَاطِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة: إِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ كَافِرًا صَحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ مُسْلِمًا كَالْمُسْلِمِ. وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُمْنَعُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُمْلَكُ بِهِ كَالْإِرْثِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَرِثَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مُسْلِمًا. فَعَلَى هَذَا لَا يجوز أن يقر عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ صَحَّ الْبَيْعُ. وَيُؤْخَذُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ. فَإِنْ دَبَّرَهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ كَاتَبَهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقِرُّ عَلَى الْكِتَابَةِ لِيُنْظَرَ مَا يَكُونُ فِي حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْضِي إِلَى عِتْقِهِ وَزَوَالِ رِقِّهِ. فَصْلٌ: حُكْمُ غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ فَضَرْبَانِ: طَاهِرٌ وَنَجِسٌ. فَأَمَّا النَّجِسُ فَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَحَيَوَانٌ طَاهِرٌ. فَهَذَا نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ خِلَافٌ قَبْلَ عَطَاءٍ فِي أَنْ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِ الْكَلْبِ حَتَّى ذَهَبَ إِلَيْهِ عَطَاءٌ وَتَابَعَهُ مَالِكٌ. وَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ قَبْلَ أبي حنيفة فِي أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى قَالَهُ أبو حنيفة. وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ: قَالَ إِلَّا الْكَلْبَ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَضَرْبَانِ: مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ. فَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ حَيًّا وَمَذْبُوحًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَيِّتًا إِلَّا الْحُوتَ وَالْجَرَادَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ: فَضَرْبَانِ: مُنْتَفَعٌ بِهِ وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ. فَمَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَبَيْعُهُ حَيًّا جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ غَيْرَ حَيٍّ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُرْجَى نَفْعُهُ أَبَدًا كَالسَّبْعِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَسَائِرِ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ فَبِيعُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَيْعَهُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْجَى نَفْعُهُ فِي ثَانِي حَالٍ كَالْفَهْدِ الَّذِي إِذَا عُلِّمَ نَفَعَ، وَالْفِيلِ الَّذِي إِذَا تَأَنَّسَ قَاتَلَ أَوْ حُمِّلَ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ فِي ثَانِي حَالٍ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 فصل: حكم بيع النبات فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ سُمًّا قَاتِلًا فَبِيعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ مَنْفَعَةٍ إِمَّا بِأَكْلٍ أَوْ عُلُوفَةٍ أَوْ وَقُودٍ. وَأَمَّا السُّمُّ فَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ تَدَاوِيًا كَالسَّقَمُونِيَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ جَازَ بَيْعُهُ. وَأَمَّا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ تَدَاوِيًا بِحَالٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ فَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَيَصِيرُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَ كَثِيرُهُ وَلَا يَقْتُلُ قَلِيلُهُ أَوْ يَقْتُلَ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا يَقْتُلُ بِانْفِرَادِهِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي بَيْعِهِ فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيْعُهُ بَاطِلٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: بَيْعُهُ جَائِزٌ لِقُصُورِهِ عَنْ حَالِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يَقْتُلُ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِ كَثِيرِهِ الَّذِي يَقْتُلُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ جَوَازَ بَيْعِهِ مَوْقُوفًا عَلَى قَدْرٍ مِنْهُ كَالْمَأْكُولَاتِ، وَكُلُّ جِنْسٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ بَيْعِهِ مَوْقُوفًا عَلَى قَدْرٍ مِنْهُ كَالنَّجَاسَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فصل: كم بيع النجاسات فَأَمَّا النَّجَاسَاتُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَتْ عَيْنُهُ نَجِسَةٌ. وَالثَّانِي: مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَجَاوَرَتْهُ. فَأَمَّا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَجَوَّزَ أبو حنيفة بَيْعَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَجَوَّزَ أَيْضًا بَيْعَ السِّرْجِينِ وَرَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ فِعْلُ الْأَمْصَارِ فِي سَالِفِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَلَوْلَا إِبَاحَتُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ لَأَنْكَرُوهُ أَوْ بَعْضُهُمْ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ جَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا إِنَ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُحُومَ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ ". وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَلِأَنَّهُ رَجِيعُ نَجِسٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كالعذرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ وَلَا إِنْكَارٍ، فَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ جهال الناس وأرذالهم فلو لم يَكُنْ فِعْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يَدُلُّ عِنْدَ أبي حنيفة عَلَى الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ يُعْطَونَ أُجْرَةَ الْمُعَلِّمِ يَفْعَلُهُ الْعَالِمُ الْفَاضِلُ وَيَأْخُذُهُ الْعَالِمُ الْفَاضِلُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ أَخْذِ أُجْرَةِ التعليم فكيف يجعل ها هنا فِعْلُ جُهَّالِ النَّاسِ حُجَّةً عَلَيْنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْحُرِّ وَالْوَقْفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ. وَأَمَّا مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَجَاوَرَتْهُ فَنَجِسَ بِهَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: ضَرْبٌ يَصِحُّ غَسْلُهُ، وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ غَسْلُهُ، وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّةِ غَسْلِهِ. فَأَمَّا مَا يَصِحُّ غَسْلُهُ كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي وَالْحُبُوبِ وَجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَذُوبُ بِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَغَسْلُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ مُمْكِنٌ وَبَيْعُهُ قَبْلَ غَسْلِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ طَاهِرَةٌ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا مُمْكِنٌ وَإِزَالَةُ مَا جَاوَرَهَا مِنَ النَّجَاسَةِ مُتَأَتٍّ. وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ غَسْلُهُ كَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ وَالدُّهْنِ وَسَائِرِ مَا إِذَا لَاقَاهُ الْمَاءُ ذَابَ فِيهِ، وَالْخَلُّ، فَغَسْلُهُ لَا يُمْكِنُ وَبَيْعُهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ بَاطِلٌ وَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ حُكْمُ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي صِحَّةِ غسله: فالأدهان كلها اختلفوا فِي جَوَازِ غَسْلِهَا. فَمَذْهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غَسْلَهَا لَا يَجُوزُ وَلَا يُمْكِنُ، وَبَيْعُهَا إِذَا نَجِسَتْ بَاطِلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: غَسْلُهَا مُمْكِنٌ وَبَيْعُهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَائِزٌ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا فَجَازَ بَيْعُهَا مَعَهَا كَالثَّوْبِ. وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالدُّهْنِ الطَّاهِرِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْفَأرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ. فَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَنَعَ مِنْ إِرَاقَتِهِ فَصَارَ كَالْخَمْرِ الْمَأْمُورِ بِإِرَاقَتِهِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِهِمَا فِيمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا. فَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ إِمْكَانَ الْغُسْلِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِتَعَذُّرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ، وَالْغُسْلُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ يُجَاوِزُ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي الدُّهْنِ لِأَنَّهُ يَطْفُو عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْن سُرَيْجٍ: غَسْلُ الزَّيْتِ مُمْكِنٌ وَهُوَ أَنْ يُرَاقَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ بِأَشَدِّ تَحْرِيكٍ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَعَلَى هَذَا خَرَجَ جَوَازُ بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيْعُهُ جَائِزٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أَفْضَى إِلَى الطَّهَارَةِ فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ جَازَ بَيْعُهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ. وَهَكَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ حَرَّمَ بَيْعَ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَصْلٌ: فِي بَيَانِ الْجَلَّالَةِ وَحُكْمِهَا وَأَمَّا الْجَلَّالَةُ مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَهِيَ الَّتِي تَرْعَى الْأَقْذَارَ وَالزِّبْلِ فَبَيْعُهَا جَائِزٌ لِطَهَارَتِهَا. وَإِنَّ ما رعته من الأقذار صار في مجل الْأَنْجَاسِ، وَأَكْلُهَا جَائِزٌ لِهَذَا الْمَعْنَى. لَكِنِ جَاءَ الْأَثَرُ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ ذَبْحِهَا بَعْدَ رَعْيِ الْأَقْذَارِ، فِي الْبَعِيرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْبَقَرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالشَّاةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَيَخْتَارُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ. فَصْلٌ: فِي بَيَانِ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَحُكْمُ بَيْعِهَا فَأَمَّا الْمَلَاهِي كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِذَا فُصِلَتْ جَازَ بَيْعُهَا، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ. لَكِنْ يُكْرَهُ بَيْعُ ذَلِكَ قَبْلَ تَفْصِيلِهِ لِبَقَاءِ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ. فَإِنْ بِيعَ عَلَى حَالِهِ جَازَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ إِذَا فُصِلَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ بِحَالٍ، وَهَذَا نَادِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصْلُحُ لِلْحَطَبِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَبِيعَهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلِ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى إِحْدَاثِ مَعْصِيَةٍ. فَصْلٌ: فِي بيان حكم بيع دور مكة وإجارتها فَأَمَّا بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَعَقَارِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَبِإِجَارَتِهَا أَرْضِهَا وَبِنَائِهَا. وَرَوَاهُ الحسن بن زياد عَنْ أبي حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا إِجَارَتُهَا مِنَ الْوَارِدِينَ إِلَيْهَا. وَرَوَاهُ أبو يوسف ومحمد عَنْ أبي حنيفة، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] . فَسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ فِيهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وَأَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعَ الْحَرَمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] . فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: رِبَاعُ مَكَّةَ لَا تُبَاعُ وَلَا تُؤَاجَرُ. (وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ الْكِنَانِيُّ) قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَكَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى بِالسَّوَائِبِ. وَمَعْنَاهُ طَلْقٌ تَشْبِيهًا بِالسَّوَائِبِ. وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ يُضْمَنُ صَيْدُهَا بِالْجَزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] . فَأَضَافَ الدِّيَارَ إِلَيْهِمْ كَإِضَافَةِ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي تَمْلِيكِهَا وَجَوَازِ بَيْعِهَا فَكَذَلِكَ الدِّيَارُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". فَأَضَافَ الدَّارَ إِلَيْهِ. وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَةِ الْوَدَاعِ أَيْنَ تَنْزِلُ أَفِي دُورِ عَمَّاتِكَ أَوْ خَالَاتِكَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِيعٍ، نَحْنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ مِنًى. فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَ أَخِيهِ طَالِبٌ دُونَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ، لِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ وَكَانَ عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ مُسْلِمَيْنِ فَبَاعَ عَقِيلٌ دُورَ أَبِيهِ الَّتِي وَرِثَهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَكَانَ بَيْعُهَا بَاطِلًا لَمَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَأَقَرَّ مِلْكَ الدُّورِ عَلَى حُكْمِهَا الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْأَعْصَارِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى وَقْتِنَا يَتَبَايَعُونَ مَنَازِلَ مَكَّةَ وَيُشَاهِدُونَ ذَلِكَ من غيره وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بَاعَ دَارَ بَنِي جَحْشٍ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال: ألا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 تَرْضَى يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ تَعَالَى دَارًا هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ لَكَ. فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ كَلَّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ فِي دَارِهِمُ فَأَمْسَكَ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَرْجِعَ فِي شيء أصيب من أَمْوَالِهِمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: (أَلَا بَلِّغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَةْ ... دَارَ ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا تَقْضِي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَةْ) (اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا طَوَّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةْ) فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيْعِ تَأْثِيرٌ مَا جَعَلَ الْمُشْتَرِيَ أَحَقَّ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بَيْعُ مَنَازِلِهِ وَعَقَارِهِ كَالْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] ، فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَكَّةَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] يَعْنِي حَرَّمَ صَيْدَهَا وَشَجَرَهَا. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَحْمُولًا على الاستحباب. وأما قول علقمة بن نضلة إنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ فَالسَّائِبَةُ لا حكم لها عندها وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْوُقُوفِ بِهَا. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَمَعِيَ مَالٌ، فَقِيلَ لِي لَوِ اشْتَرَيْتَ بِهَا دَارًا تَكُونُ لَأَهْلِكَ فَلَمْ أَفْعَلْ لِعِلْمِي بِكَثْرَةِ الْوُقُوفِ بِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَسَاجِدِ الْبِلَادِ لَا يَدُلُّ تَحْرِيمُ بَيْعِهَا عَلَى تَحْرِيمِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 باب السلم قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي كثير أو ابن كثير الشك من المزني عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَرُبَّمَا قَالَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ معلوم وأجل مَعْلُومٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا السَّلَفُ وَالسَّلَمُ فَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنَى وَاحِدٍ فَالسَّلَفُ لُغَةٌ عِرَاقِيَّةٌ وَالسَّلَمُ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282] . فَدَلَّ هَذَا النَّقْلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي إِبَاحَةِ السَّلَمِ ثُمَّ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي إِثْبَاتِهَا: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] . وَهَذَا فِي الْبَيْعِ النَّاجِزِ فَدَلَّ أَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَوْصُوفِ غَيْرِ النَّاجِزِ. ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَةِ مَا قَدَّمَهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. قال الشافعي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 وَأَخْبَرَنِي مَنْ أُصَدِّقُهُ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَجَلِ وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَقَدْ حَفِظْتُهُ عَنْ سُفْيَانَ مِرَارًا كَمَا وَصَفْتُهُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي السَّلَفِ فَبَعَثُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إِلَى قَوْمٍ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ. وَرَوَى عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَرَوَى جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ طَارِقٍ المجازي قَالَ: كُنْتُ فِي رُفْقَةٍ فَنَزَلْنَا قُرْبَ الْمَدِينَةِ فَكَانَ مَعَنَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَقَالَ: تَبِيعُونَ النَّاقَةَ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ بِكَمْ فَقُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ النَّاقَةَ وَلَمْ يَتَرَبَّصْ فَلَمَّا أَخَذَهَا وَتَوَارَى بَيْنَ جُدْرَانِ الْمَدِينَةِ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ أَتَعْرِفُونَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ: بَعْضُنَا: أَمَّا وَجْهُهُ بِوَجْهِ غَدَّارٍ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ جَاءَنَا رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا حَتَى تَشْبَعُوا وَأَنْ تَكْتَالُوا حَتَى تَسْتَوْفُوا قَالَ فَأَكَلْنَا حَتَى شَبِعْنَا وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا. فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ ابْتَاعَ النَّاقَةَ بِثَمَنٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ. فَدَلَّ عَلَى أمرين: أحدهما: جوازه السلم في الأصل. والثاني: جواز حَالًا. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ بلفظ البيع كقول: بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ هَلْ يَكُونُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ سَلَمًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّ السَّلَمَ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ وَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ السَّلَمَ اسْمٌ هُوَ أَخَصُّ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ. ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا تَنَوَّعَ الثَّمَنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ الْمُثَمَّنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا فَالْمُعَيَّنُ الْبُيُوعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 النَّاجِزَةُ وَالْمَوْصُوفُ السَّلَمُ فِي الذِّمَّةِ فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَعْنَى عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ. فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْعَقَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَلَمْ يُخَالِفْ بَعْدَهُمْ إِلَّا ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَدْ حُكِيَتْ عَنْهُ حِكَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهُ أَبْطَلَ السَّلَمَ وَمَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ إِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ فَمَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمُوا مَعَ مَا ذكرنا من النصوص الدالة والمعنى الموجب. قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قد أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ فَلَا بَأْسَ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَثِيقَةٌ فِي الثَّمَنِ دُونَ الْمُثَمَّنِ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَرَدَ هَذَا فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ إِبَاحَةُ الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ نَصًّا وَفِي غَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُثَمَّنِ وَجَازَ فِي الثَّمَنِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي السَّلَمِ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَجُوزَ فِي الْمُثَمَّنِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِيهِ رَهْنًا كَانَ لِلْمُسَلِّمِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ بِيعَ الرَّهْنُ بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ ثُمَّ اشْتَرَى بِمَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسَلِّمُ فِي سِلْمِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الرَّهْنُ بِالسَّلَمِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا عَنْ رِضَا الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الرُّهُونَ الْمَبِيعَةَ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنَّمَا تُبَاعُ بِغَالِبِ أَثْمَانِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْوَثِيقَةُ فِي السَّلَمِ ضَمَانًا ضَمِنَهُ فَالْمُسَلِّمُ إِذَا حَصَّلَ حَقَّهُ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ أَوِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ فَإِنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ مَعَهُ وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُسَلِّمُ مِمَّا يَضْمَنُ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْمِثْلِ كَالْحِنْطَةِ أَوْ بِالْقِيمَةِ كَالثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ لِلضَّامِنِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ مَا ضَمِنَ عَنْهُ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِخِلَافِهِ؛ فَلَوْ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ دَفَعَ السَّلَمَ إِلَى الضَّامِنِ فَإِنْ جَعَلَهُ رَسُولًا فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُسَلِّمِ جَازَ فَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الضَّامِنِ لَمْ يُلْزِمْهُ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِ قَضَى مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الضَّامِنَ يَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهُ مَا لَيْسَ لَهُ فَلَوْ تَلِفَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 ذَلِكَ مِنْ يَدِ الضَّامِنِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى الْبَدَلِ وَلَوْ كَانَ الضَّامِنُ باعه بَيْعُهُ بَاطِلًا فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ بَاعَ ما لم يملكه بغير أمر مالكه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا جاز السلم في التمر السنتين وَالتَّمْرُ قَدْ يَكُونُ رُطَبًا فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ الرُّطَبَ سَلَفًا مَضْمُونًا فِي غَيْرِ حِينِهِ الَذِي يَطِيبُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْلَفَ سنتين كَانَ فِي بَعْضِهَا فِي غَيْرِ حِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. السَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا كَانَ مَوْجُودًا أَوْ وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا فِيمَا يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْمَحَلِّ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعْدُومًا فَاعْتَبَرَ طَرَفَي الْعَقْدِ لَا غَيْرَ. وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَجْرَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخِيلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا يَعْنِي فِي تَمْرِ النَّخْلِ وَبِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكْمًا عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ". وَقَالَ أبو حنيفة: وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَحَلِّ يَجُوزُ وَحُلُولُ مَا عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ وَاجِبٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مِنْ حِينِ العقد إلى أن يقدر السَّلَمُ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تأخير القبض في الأعيان المبيعة ثبت الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كل مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ قد ثبت الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يُوجِبُ الْخِيَارَ ولا يبطل العقد وَقْتِ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ كَمَا كَانَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ وَهُوَ عُمْدَتُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقَالُوا كُلُّ وَقْتٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِيهِ مُسْتَحَقًا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْعَقْدِ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ فَلَمَّا كَانَ وَجُودُهُ فِي انْتِهَائِهِ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَجُوُدُهُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ شَرْطًا كَالطَّرَفِ الثَّانِي. وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا بِأَنْ قَالَا ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنِ انْتِهَائِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ وَقْتَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ وَإِنْ وُجِدَ مِنْ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ شَرْطًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وُجُودُهُ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُحْرَسَ مما يخاف حدوثه من الغرر حتى لا يكثر فيه فيبطل ذلك وَعَدَمُ ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِثْبَاتِهِ غَرَرٌ فَوَجَبَ أَنْ يُحْرَسَ مِنَ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الشَّيْءِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِهِ فَلَمَّا بَطَلَ السَّلَمُ بِجَهَالَتِهِ وقت العقد فأولى أن يبطل بعدمه وقت الْعَقْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ والثلاث فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ معلوم وأجل مَعْلُومٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثِّمَارَ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَهَذِهِ مُدَّةٌ يَعْدَمُ الرُّطَبُ فِي أَكْثَرِهَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَإِنْ عَدِمَ قَبْلَ أَجْلِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلسَّلَمِ عَقْدًا لَمْ يَكُنْ وَجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْأَجَلِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مُعْتَبَرًا كَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ قَبْضَ السَّلَمِ يَفْتَقِرُ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ فَلَمَّا صَحَّ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ صَحَّ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مَجْهُولٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا نَهْيُ حَكِيمٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ حَلَّ بِمَوْتِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ فَهَذَا اعْتِبَارٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ تُحْمَلُ عَلَى السَّلَامَةِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ كون مِثْلُ هَذَا مُعْتَبَرًا لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ لِجَوَازِ تلفها وحدوث مِنْ صِحَّتِهَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَحَلِّ أَجَلًا مُسْتَحَقًّا لَكَانَ مَجْهُولًا، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ وَفِي تَرْكِ اعْتِبَارِ هَذَا دَلِيلٌ على ترك اعتبار ما قالوا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِالطَّرَفِ الثَّانِي فَإِنَّمَا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فِيهِ وَلَمْ يكن وجوده وقت العقد معتبر لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعَقْدَ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْقَبْضِ فَهَذَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ فَأَمَّا فِي السَّلَمِ فَحَالُ الْقَبْضِ وَالْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومًا وَقْتَ الْمَحَلِّ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ الْمَظْنُونِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَرٍ كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَرَرٌ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَهَذَا غَرَرٌ فِي غَيْرِ حَالِ السَّلَامَةِ. والثانية: من الغرر وقبل الْمَحَلِّ وَهَذَا غَرَرٌ قَبْلَ الْمَحَلِّ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِجَهَالَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ فَقَدَ الرُّطَبَ أَوِ الْعِنَبَ حَتَّى لَا يبقى منه شيء في البلد الذي أسلفه فيه قيل المسلف بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا بَقِيَ مِنْ سَلَفِهِ بِحِصَّتِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ إِلَى رُطَبٍ قابل وقيل ينفسخ بحصته ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حكيما عن بيع ما ليس عنده وأجاز السلف فدل أنه نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونا وذلك بيع الأعيان ". قال الماوردي: وهذا باطل إِذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ يُوجَدُ غَالِبًا فِيهِ فَحَلَّ الْأَجَلُ وَقَدْ أُعْدِمَتِ الثَّمَرَةُ لِحَاجَةٍ حَدَثَتْ أَوْ لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى فُقِدَتْ فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْأَجَلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلَمٌ فِي مَعْدُومٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلِمَا عِنْدَ العقد مَعْدُومٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَلَفُ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَعَذُّرَ السَّلَمُ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ وجب أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يوجب الخيار ولا يبطل العقد. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ. فلو اختلفا في قدر الثمن فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْبَائِعِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الثَّمَنَ مُسَلَّمًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بعد قبضه؛ لأن لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ قَدْ أَخَذَ بِالسَّلَمِ رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الرَّهْنِ عَلَى الثَّمَنِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ الثَّمَنِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَقَامَ الأجل وهذا خطأ؛ لأن الأجل قد يبطل فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ مَعْقُودًا بِهِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ فَالْمُسَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ نَقْصٌ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَفِي هَذَا الْخِيَارِ وَجْهَانِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ فَسَخَ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَإِنْ أَقَامَ لَزِمَهُ الصَّبْرُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ قَبْلَهُ. فَإِنْ جَاءَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَالثَّمَرَةُ أَيْضًا مَعْدُومَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا بِعَدَمِ الثَّمَرَةِ فِي الْعَامِ الثَّانِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامِ إِلَى الْعَامِ الثَّالِثِ ثُمَّ هَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَانٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ مَعْدُومَةً وَلَكِنْ عَزَّتْ وَغَلَتْ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ قول واحد يُؤْخَذُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِدَفْعٍ ذَلِكَ مَعَ عِزَّتِهِ وَغُلُوِّ سِعْرِهِ فَإِنْ ضَاقَ بِهِ أَوْ أَعْسَرَ عَنْهُ صَارَ كَالْمُفْلِسِ فَيَكُونُ لِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ. فَصْلٌ: وأما إِنْ وُجِدَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ الَّتِي أَسْلَمَ فِيهَا وَعَدِمَ بَاقِيهَا لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى نَفَذَتْ أَوْ لجائحة حدثت فالمسلم فِي الْمَعْدُومِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا هُوَ فِي الْمَوْجُودِ أَجْوَزُ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَانَ السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَهَذَا فَسَادٌ طَرَأَ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ مَعَ تَقَدُّمِهِ صِحَّتُهَا فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي أن مَا طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ لِفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَيُجْعَلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْفَسَادُ الطَّارِئُ عَلَى الصَّفْقَةِ لِمَعْنَى حَادِثٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَاقِي مِنْهَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزًا وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلًا فَيَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُسَلِّمُ الثَّمَنَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزٌ وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الْمَوْجُودِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلَمَ فِي الْكُلِّ جَائِزٌ فَيَكُونُ الْمُسَلَّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي الْجَمِيعِ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وبين أن يقيم على العقد وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 وَالثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا أُجِيزَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هذا بما يُقِيمُ عَلَى الْمَوْجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ. وَالثَّانِي: بِالْحِسَابِ وَالْقِسْطِ وَهُوَ أَصَحُّ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإذا أجازه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بصفة مضمونا إِلَى أَجَلٍ كَانَ حَالًا أَجْوَزُ وَمِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدَ فَأَجَازَهُ عَطَاءٌ حَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ عَقْدُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًا حَتَّى يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة يَقُولُ: يَجُوزُ إِلَى كُلِّ أَجَلٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ فيه أقل من ثلاثة أيام. واستدلا عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرْطِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ". فَجَعَلَ الْأَجَلَ فِيهِ شَرْطًا، وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّعْجِيلُ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّأْجِيلُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْمُسَلِّمِ فَوَجَبَ أَلَّا يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَالثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدٌ عَلَى مَا لَا يَمْلُكُهُ الْعَاقِدُ فِي الْحَالِ ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ عَاقِدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مَوْضُوعٌ عَلَى ارْتِفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِهِ وَارْتِفَاقِ الْمُشْتَرِي بِاسْتِرْخَاصِهِ وَارْتِفَاقِ الْبَائِعِ بِتَأْخِيرِهِ فَإِذَا عَقَدَ حَالًا زَالَ وَضْعُ حَقِّ حَمْلِ الْبَائِعِ بِهِ فَبَطَلَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَلِأَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا سُمِّيَ سَلَمًا لِاخْتِصَاصِهِ بِتَأْجِيلِ الْمُثَمَّنِ وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَمَّا وُضِعَ الِاسْمُ لَهُ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ حَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بَيْعُ عَيْنٍ وَبَيْعُ صِفَةٍ فَلَمَّا صَحَّتْ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ حَالَّةً وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ بُيُوعُ الصِّفَاتِ حَالَّةً. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ حَالًا كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ فِي بَيْعِ الصِّفَاتِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ مِنْ عَقْدِ المعاوضة دخله التعجيل والتأجيل كالثمن ولأنها مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بَعْدَ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ كَالْخِيَارِ وَكَالْأَجَلِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ التَّنْجِيمُ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 كَالنِّكَاحِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْأَجَلَ غَرَرٌ فَلَمَّا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ كَانَ حَالًا أَجْوَزُ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى سَبَبِهِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم. فيكون تقرير ذَلِكَ فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنِ الْكَيْلُ مَعْلُومًا، وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ فَلْيَكُنِ الْوَزْنُ مَعْلُومًا وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مُؤَجَّلٍ فَلْيَكُنِ الْأَجَلُ معلوما يدل على ذلك من الحديثان: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا بِمَوْزُونٍ فِي الْعَدَدِ الْمَزْرُوعِ وَلَمْ يَكُنِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمُؤَجَّلِ وَلَا يَكُونُ الْأَجَلُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَاجْتِمَاعُهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَلِكَ ضَمُّ الْأَجَلِ إِلَيْهِمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ السَّلَمِ فَكَانَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَالثَّمَنِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ رَدَّ الْفَرْعَ إِلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُهُ الْأَصْلُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يُلْزِمَ فِي الْمُثَمَّنِ الْأَجَلَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ ثُمَّ يَقُولُ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهَا وَسُقُوطِ الْأَجَلِ فِيهَا ثُمَّ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْمُثَمَّنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِغَيْرِ مُدَّةٍ فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ تَجُوزُ حَالًا وَمُؤَجَّلَةً فَإِنْ رَدُّوهُ إِلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ وَضَرْبٌ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا تَتَقَدَّرُ إِلَّا بِالْمُدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْمُدَّةِ فِيهَا لِتَصِيرَ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ فِيهَا وَلَا يَصِحُّ رَدُّ السَّلَمِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّلَمَ لَمَّا تَقَدَّرَ بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَوْضُوعَ السَّلَمِ ارْتِفَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ فِي إِسْقَاطِ الْأَجَلِ إِبْطَالُ مَوْضُوعِهِ فَهَذِهِ حُجَّةُ تُقْلَبُ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَمَّا كَانَ مَا وُضِعَ لَهُ السَّلَمُ مِنْ رِفْقِ الْمُشْتَرِي بِالِاسْتِرْخَاصِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ دِينَارًا فِيمَا يُسَاوِي دِرْهَمًا جَازَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَ لَهُ مِنْ رِفْقِ الْبَائِعِ بِالْأَجَلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَالًا جَازَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِنَّمَا اخْتَصَّ بِاسْمِ السَّلَمِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَجَلِ فَدَعْوَى غَيْرِ مسلم بَلْ سُمِّي سَلَمًا لِاسْتِحْقَاقِ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَصْلُ فِيهِ التَّأْجِيلُ أَوِ الْحُلُولُ رُخْصَةٌ أَوِ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ والتأجيل رخصة على ثلاثة أوجه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 أحدها: أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّأْجِيلُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْحُلُولُ رُخْصَةٌ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحُلُولُ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ وَالتَّأْجِيلُ رُخْصَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا وَجَوَازِ السَّلَمِ مَعَهُمَا وَلِهَذَا الْخِلَافُ تَأْثِيرٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللهٌ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ: (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا وَالَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ لَا يُسَلِّفَ جُزَافًا مِنْ ثِيَابٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا حتى يصفه بوزنه وسكته وَبِأَنَّهُ وَضَحٌ أَوْ أَسْوَدُ كَمَا يَصِفُ مَا أسلم فيه (قال المزني) قلت أنا فَقَدْ أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يَدْفَعَ سِلْعَتَهُ غَيْرَ مَكِيلَةٍ وَلَا مَوْزُونَةٍ فِي سَلَمٍ (قال المزني) وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ مُشَاهَدًا فَهَلْ يَلْزَمُ صِفَتُهُ جِنْسًا وَقَدْرًا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّلَمِ صِفَةُ الثمن كما أن صحته صفة المثمن؛ ولأن عَقْدَ السَّلَمِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودِ السَّلَمِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِثَمَنِهِ وَمَا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ لَمْ تُغْنِ مُشَاهَدَتُهُ عَنْ صِفَتِهِ كَالْقَرْضِ وَمَالِ الْقِرَاضِ لَمَّا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ افْتَقَرَ إِلَى صِفَةِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ وَلَمْ تُغْنِ الْمُشَاهَدَةُ عَنْ صِفَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ تُغْنِي عَنْ صفته. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَبَيَّنَهَا لَهُمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَ صِفَةَ السَّلَمِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ فِيهَا مُعَيَّنًا تَارَةً فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ وَفِي الذِّمَّةِ تَارَةً فَيَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ كَذَلِكَ السلم لما تعين فيه الثمن لم يفتقر إلى الصفة ولما لم يتعين فيه الثمن افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الصِّفَةِ. وَلَوْ قَلَبَ هَذَا عَلَى أبي حنيفة لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ مَالِهِ مِثْلٌ أَسْهَلُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صِفَةَ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَعْلَمَ بِهَا الْقِيمَةَ وصفة ماله مثل غير مستحقه لأنه لا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقِيمَةِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ مَا قَالَهُ وَلَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الصِّفَةَ فِي كُلِّ الثَّمَنِ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي كُلِّ الثَّمَنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَوْصُوفًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَنْهُ بِصِفَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُشَاهَدٍ وَلَا مَوْصُوفٍ فَهَذَا بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا غَيْرَ مُشَاهَدٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يَصِفُهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ يَصِفُهَا ثُمَّ يَتَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ. فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ رَجَاءٍ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ سَلَمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يصير كلا الْبَدَلَيْنِ مَوْصُوفًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلَا تَرَى أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فِيهِ مَوْصُوفًا وَهُوَ الثَّمَنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الْآخَرُ مَوْصُوفًا وَهُوَ الْمُثَمَّنُ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا كَانَ مَوْصُوفًا وَأُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى صِفَتِهِ اسْتُغْنِيَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ كَالثَّمَنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُشَاهَدًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ الَّتِي قَدْ شَاهَدْتَهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مِنْ حَالِهَا وَصِفَتِهَا فَهَذَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ شَرْطٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ فِي السَّلَمِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فيه السلم ولا يضبط بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَيَكُونُ جَوَازُ السَّلَمِ إِذَا كَانَ هَذَا ثَمَنًا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ الْمُشَاهَدِ شَرْطٌ؛ لأن صفته مقدرة. وَال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْلِمَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي جنسين مختلفين كما أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابِ قُطْنٍ وَخَمْسَةِ أَثْوَابِ كَتَّانٍ فَيَكُونُ السَّلَمُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ فِيهِ الوصف الثَّمَنُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِحُّ السَّلَمُ وَإِنْ لَمْ يذكر قسط كل جنس من الثمن على القول الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ فَأَمَّا إِنِ اسْتَلَمَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي عَشَرَةِ أَكَرَارٍ حِنْطَةً لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ كُرٍّ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالثَّمَنَ عَلَى أَجْزَائِهِ مُتَقَسَّطٌ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسْلِمَ ثَمَنًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ: أَحَدُهُمَا: إِلَى أَجَلِ شَهْرٍ، وَالْآخَرُ إِلَى أَجَلِ شَهْرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ فَيَكُونُ السَّلَمُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ على القول الذي يوجب فيه وصف الثمن حَتَّى يُمَيِّزَ ثَمَنَ الْحَالِ مِنْ ثَمَنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومَا الْقَدْرِ إِلَّا بِالْصِّفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ. وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِأَحَدِهِمَا رَهْنًا وَضَمِينًا جَازَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ مَا يَأْخُذُ فِيهِ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِهِ لأنها وثيقة لا تتعلق بالثمن. مسألة: (وقال المزني) والذي أحتج به فِي تَجْوِيزِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسَلَّفَ بَكْرًا فَصَارَ بِهِ عَلَيْهِ حَيَوَانًا مَضْمُونًا وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاعَ جَمَلًا بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إِلَى أَجَلٍ (قَالَ المزني) قلت أنا وَهَذَا مِنَ الْجُزَافِ الْعَاجِلِ فِي الْمَوْصُوفِ الْآجِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا ال ْفَصْلُ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشافعي وأراد به الشافعي شيئا وأراد به المزني غَيْرَهُ فَأَمَّا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِهِ فَهُوَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أبو حنيفة: السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ. احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووزن معلوم وأجل مَعْلُومٍ " فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ السَّلَمِ وَبِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، فَمَنَعَ مِنَ النِّسَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذمة وما لا يثبت في الذمة يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ. وَرَوَى جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ وَاحِدٍ بِاثْنَيْنِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فيه نساء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجُلُودَ وَالْأَكَارِعَ وَالرَّوْسَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ وَالسَّلَمُ فِيهَا لَا يَجُوزُ، فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ أَوْلَى، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِهِ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِي كُلِّهِ كَالْجَوَاهِرِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَجْمَعُ أَشْيَاءً مُتَغَايِرَةً لِأَنَّهُ يَجْمَعُ لَحْمًا وَشَحْمًا وَجِلْدًا وَعَظْمًا. وَمَا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ وَتَغَايَرَتْ أَخْلَاطُهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ كَالْمَعْجُونَاتِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قُوَّتُهُ وَصَبْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّوَائِمِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَثْرَةُ الدَّرِّ وَصِحَّةِ النِّتَاجِ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّكُوبِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ سُرْعَةُ الْمَشْيِ ووطء الظهر، وإن كان عبدا فالمقصود منها ثقته وخدمته، وإن كانت جارية فالمقصود منه جَمَالُ مَحَاسِنِهَا وَحَلَاوَةُ شَمَائِلِهَا وَعِفَّةُ فَرْجِهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ بَلْ هِيَ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشًا فَعَزَّتِ الِإِبِلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ. فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَرْضًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَمٌ وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْهِجْرَةِ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا كَالثِّيَابِ طَرْدًا وَالْجَوْهَرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا كَالْحِنْطَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِيهِ كَالنِّكَاحِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَجَازَ فِيهِ السَّلَمُ كَالْحُبُوبِ. وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تذبحوا بقرة} إلى قوله تعالى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله لمهتدون قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تثير الأرض} الْآيَةَ، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 67: 71] . قَالَ قَتَادَةُ مَعْنَاهُ الْآنَ ثَبَتَ الْحَقُّ. فَلَوْلَا أَنَّ الصِّفَةَ مَضْبُوطَةٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَيَانٌ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 لَوْلَا أَنَّ الْوَصْفَ لَهَا يَقُومُ مَقَامَ النَّظَرِ إِلَيْهَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَكْتَفِي بِالصِّفَةِ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ حَتَّى وَصَفُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصِفَاتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَعْرِضُوا فَرَسًا لِلْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ وَصَفُوهُ صِفَةً تُغْنِي عَنِ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: " مِنْ وَصْفِكَ فَقَدْ سَمَّاكَ الْعَرَبُ "، وَإِذَا ضَبَطَ صِفَةَ الْحَيَوَانِ بِأَيِّ صِفَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ صَحَّ فِيهِ السَّلَمُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النَّهْيِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ مِنَ الْمَزْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَي سَمُرَةَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ النِّسَاءِ وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالصِّفَةِ فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا كَانَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا. فَصْلٌ: فَأَمَّا قَصْدُ الْمُزَنِيُّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ تُغْنِي عَنِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِيهَا أَنَّهُمْ وَصَفُوا مَا دَفَعُوهُ مِنَ الْحَيَوَانِ سَلَفًا فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ شَرْطَهُ بِالصِّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ صِفَتِهِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهَا فَكَذَلِكَ الثَّمَنُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَلْزَمَ وَصْفَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهُ. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الجلد لما لم يجز السلم فيه وهو بعض الحيوان كان جميع الحيوان أولى فهذا مما لا يصح اعتباره والأصول تدفعه ألا ترى أن الحمل لا يصح بيعه ويصح بيع الأم مع حملها فكذا الجلد وإن لم يصح السلم فيه لا يمنع من السلم في الحيوان. وأما الجواب عن قولهم إن الحيوان يجمع أشياء مختلفة فلم يجز السلم فيه كالمعجونات فهو أن جملة الحيوان مقصود وليس تقدير ما فيه من أنواعه مقصود وهو متشاغل الخلقة وكل ما فيه مقدر وليس كالمعجونات التي يقصد منها تقدير أنواعها وإذا صبغها الآدميون أمكنهم زيادة جنس ونقصان غيره فاختلفا. وأما قوله إنه غير مضبوط الصفة فقد دللنا على أنه مضبوط الصفة بالشرع والعرف فدل بما ذكرنا على جواز السلم في الحيوان وهو ما قصده الشافعي بهذا الفصل. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ سَوَاءً كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْإِبِلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْبَقَرِ إِلَّا الْجَوَارِي سَلَمًا فِي الْجَوَارِي فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ جَارِيَةً سَلَمًا مِنْ جَارِيَةٍ لِعِلَّتَيْنِ: الأولى: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ فَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ وَاحِدًا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فَاسِدَةٌ يُسْلَمُ الْبَعِيرُ فِي الْبَعِيرِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يقبض الجارية على صفة المسلم فيها فَيَرُدُّهَا وَيَصِيرُ مُسْتَمْتِعًا بِهَا بِغَيْرٍ بَدَلٍ وَهَذِهِ العلة فاسدة بالمنع إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جَارِيَةً سَلَمًا فِي جَارِيَةٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يكون العبد سلما في عبد، والفرس سلما في فرس فعلى هذا إذا كان العبد الذي هُوَ الثَّمَنُ عَلَى مِثْلِ صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الْمُثَمَّنُ أَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ فَدَفَعَهَا الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ. فَهَلْ يَلْزَمُ الْمُسَلِّمُ قَبُولَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا لِلثَّمَنِ كسائر أملاكه. فيلزمه قَبُولُهَا إِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غيرها من أملاكه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا فِي السَّلَمِ أَجَلًا فَذَكَرَاهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَلَوْ أَوْجَبَاهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مُتَعَاقِدَيِ السَّلَمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوال: أحدها: أن يعقداه مؤجلا. والثاني: أن يَعْقِدَاهُ حَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا. فَإِنْ عَقَدَاهُ حَالًا كَانَ عَلَى حُلُولِهِ. وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا بَطَلَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ لَا يَصِحُّ فِيهِ وَالْأَجَلُ لَا يَتَقَدَّرُ بِإِطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي السَّلَمِ هَلْ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ أَوِ التَّأْجِيلُ؟ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَمَ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَصْلِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْأَجَلِ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ وَيَكُونُ حَالًا إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَقْتَضِيهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ بِعَقْدٍ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَقَدْ عَلَّلْنَا ذَلِكَ فِي بَابِ الْخِيَارِ فِيمَا لَمْ يَفْتَرِقَا، وَالْعَقْدُ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ فإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 افْتَرَقَا عَلَيْهِ فَقَدْ لَزِمَ فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا ثُمَّ أَجَّلَاهُ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا ثَبَتَ مُؤَجَّلًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ كَذَا لَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ أَوْ زَادَا فِي الثَّمَنِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ ثَبَتَ الْعَقْدُ عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ فَأَمَّا إِذَا عَقَدَاهُ عَلَى صِفَةٍ وَافْتَرَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَّلَا مَا كَانَ مُعَجَّلًا أَوْ عَجَّلَا مَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْ مَا أخذناه بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَكَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَلْحَقُهُ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَخَالَفَ أبو حنيفة فِيهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا وَافْتَرَقَا ثُمَّ جَعَلَاهُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَلْزَمْ فيه الأجل ويستحب للمسلم أن لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ وَصَبَرَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ وكذا لو عقداه مؤجلا ثم جعلاه حالا بعد التفرق لم يلزم فيه الحلول وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ أَنْ لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ، وَعَجَّلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَا عَقْدَ بَيْنِهِمَا. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ فِي السَّلَفِ حَتَى يَدْفَعَ الثَّمَنَ قبل أن يفارقه ويكون ما سلف فيه موصوفا وإن كان ما سلف فيه بصفة معلومة عند أهل العلم بها وأجل معلوم جاز قال الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فلم يجعل لأهل الإسلام علما إلا بها فلا يجوز إلى الحصاد والعطاء لتأخير ذلك وتقديمه ولا إلى فصح النصارى وقد يكون عاما في شهر وعاما في غيره على حساب ينسئون فيه أياما فلو أجزناه كنا قد عملنا في ديننا بشهادة النصارى وهذا غير حلال للمسلمين ولو كان أجله إلى يوم كذا فحتى يطلع فجر ذلك اليوم (قال) وإن كان ما سلف فيه مما يكال أو يوزن سميا مكيالا معروفا عند العامة ويكون المسلف فيه مأمونا في محله فإن كان تمرا قال صيحاني أو بردي أو كذا وإن كان حنطة قال شامية أو ميسانية أو كذا وإن كان يخلف في الجنس الواحد بالحدارة والرقة وصفا ما يضبطانه به وقال في كل واحد جيدا وأجلا معلوما أو قال حالا وعتيقا من الطعام أو جديدا وأن يصف ذلك بحصاد عام كذا مسمى أصح ويكون الموضع معروفا ولا يستغنى في العسل من أن يصفه ببياض أو صفرة أو خضرة لأنه يتباين في ذلك ولو اشترطا أجود الطعام أو أردأه لم يجز لأنه لا يوقف عليه ولو كان ما أسلف فيه رقيقا قال عبدا نوبيا خماسيا أو سداسيا أو محتلما ووصف سنه وأسود هو أو وضيء أبيض أو أصفر أو أسحم وكذلك إن كانت جارية وصفها ولا يجوز أن يشترط معها ولدها ولا أنها حبلى وإن كان في بعير قال من نعم بني فلان من ثني غير مودن نقي من العيوب سبط الخلق أحمر مجفر الجنبين رباع أو قال بازل وهكذا الدواب يصفها بنتاجها وجنسها وألوانها وأسنانها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 ويصف الثياب بالجنس من كتان أو قطن أو وشي إسكندراني أو يماني ونسج بلده وذرعه من عرض وطول أو صفافة أو دقة أو جودة وهكذا النحاس يصفه أبيض أو شبه أو أحمر ويصف الحديد ذكرا أو أنثى وبجنس إن كان له في نحو ذلك وإن كان في لحم قال لحم ماعز ذكر خصي أو غير خصي أو لحم ماعزة ثنية أو ثني أو جذع رضيع أو فطيم وسمين أو منقى من فخذ أو يد ويشترط الوزن في نحو ذلك ويقول في لحم البعير خاصة بعير راع من قبل اختلاف لحم الراعي ولحم المعلوف وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ ويجوز السلم في لحوم الصيد إذا كانت ببلد لا تختلف ويقول في السمن سمن ماعز أو ضأن أو بقر وإن كان منها شيء يختلف ببلد سماه ويصف اللبن كالسمن فإن كان لبن إبل قال لبن عود أو أوارك أو حمضية ويقول راعية أو معلوفة لاختلاف ألبانها في الثمن والصحة ويقول حليب يومه ولا يسلف في اللبن المخيض لأن فيه ماء وهكذا كل مختلط بغيره لا يعرف أو مصلح بغيره (قال المزني) يدخل في هذا الطيب الغالية والأدهان المربية ونحوها (قال الشافعي) ولا خير في أن يسمي لبنا حامضا لأن زيادة حموضته زيادة نقص ويوصف اللبأ كاللبن إلا أنه موزون ويقول في الصوف صوف ضأن بلد كذا لاختلافه في البلدان ويسمي لونا لاختلاف ألوانها ويقول جيدا نقيا ومغسولا لما يعلق به فيثقل فيسمى قصارا أو طوالا بوزن وإن اختلف صوف فحولها من غيرها وصفا ما يختلف وكذلك الوبر والشعر ويقول في الكرسف كرسف بلد كذا ويقول جيدا أبيض نقيا أو أسمر وإن اختلف قديمه وجديده سماه وإن كان يكون نديا سماه جافا بوزن (قال إبراهيم) وحدثنا الربيع قال سمعت الشافعي يقول ولا يجوز السلف فيها حتى يسمى أخضر أو أبيض أو ربيريا أو سبيلانيا وبأن لا يكون فيه عرق ولا كلى ويقول في الحطب سمر أو سلم أو حمض أو أراك أو عرعر ويقول في عيدان القسي عود شوحطة جدل مستوي البنية (قال) ولا بأس أن يسلف في الشيء كيلا وإن كان أصله وزنا ويسلف في لحم الطير بصفة ووزن غير أنه لا سن له يعني يعرف فيوصف بصغير أو كبير وما احتمل أن يباع مبعضا وصف موضعه وكذلك الحيتان وما ضبطت صفته من خشب ساج أو عيدان قسي من طول أو عرض جاز فيه السلم وما لم يكن لم يجز وكذلك حجارة الأرحاء والبنيان والآنية (قال) ويجوز السلف فيما لا ينقطع من العطر في أيدي الناس بوزن وصفة كغيره والعنبر منه الأشهب والأخضر والأبيض ولا يجوز حتى يسمى وإن سماه قطعة أو قطعا صحاحا لم يكن له أن يعطيه مفتتا ومتاع الصيادلة كمتاع العطارين ولا خير في شراء شيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 خالطه لحوم الحيات من الدرياق لأن الحيات محرمات ولا ما خالطه لبن الترياق ما لا يؤكل لحمه من غير الآدميين ولو أقاله بعض السلم وقبض بعضا فجائز قال ابن عباس ذلك المعروف وأجازه عطاء (قال) وإذا أقاله فبطل عنه الطعام وصار عليه ذهبا تبايعا بعد بالذهب ما شاءا وتقابضا قبل أن يتفرقا من عرض وغيره ولا يجوز في السلف الشركة ولا التولية لأنهما بيع والإقالة فسخ بيع ولو عجل له قبل محله أدنى من حقه أجزته ولا أجعل للتهمة موضعا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 باب ما لا يجوز السلم فيه قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز السلم في النبل لأنه لا يقدر على ذرع ثخانتها لرقتها ولا وصفه ما فيها من ريش وعقب وغيره ولا في اللؤلؤ ولا في الزبرجد ولا الياقوت من قبل أني لو قلت لؤلؤة مدحرجة صافية صحيحة مستطيلة وزنها كذا فقد تكون الثقيلة الوزن وزن شيء وهي صغيرة وأخرى أخف منها وهي كبيرة متفاوتتين في الثمن ولا أضبط أن أصفها بالعظم ولا يجوز السلم في جوز ولا رانج ولا قثاء ولا بطيخ ولا رمان ولا سفرجل عددا لتباينها إلا أن يضبط بكيل أو وزن فيوصف بما يجوز (قال) وأرى الناس تركوا وزن الرؤوس لما فيها من الصوف وأطراف المشافر والمناخر وما أشبه ذلك لأنه لا يؤكل فلو تحامل رجل فأجاز السلف فيه لم يجز إلا موزونا (قال) ولا يجوز السلف في جلود الغنم ولا جلود غيرها ولا إهاب من رقّ لأنه لا يمكن فيه الذرع لاختلاف خِلقته ولا السلف في خفين ولا نعلين ولا السلف في البقول حزما حتى يسمي وزنا وجنسا وصغيرا أو كبيرا وأجلا معلوما ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 باب التسعير قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ بِسُوقِ الْمُصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ لَقَدْ حُدثت بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ سِعْرَكَ فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءً إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ وكيف شئت فبع (قال الشافعي) وهذا الحديث مستقصى ليس بخلاف لما روى مالك ولكنه روى بعض الحديث أو رواه من روى عنه وهذا أتى بأول الحديث وآخره وبه أقول لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم وهذا ليس منها ". قال الماوردي: وهذا كما قال: ولا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهِ بَطَلَ السَّلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَحَّ السلم. وإن لم يتقابضا حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ بَطَلَ. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ فَأَمَرَ بسلف المال فيه، وذلك يقتضي التعجيل، ولأن السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنْ إِسْلَامِ الْمَالِ وَهُوَ تَعْجِيلُهُ فلو جاز تأخيره عَنِ الْمَجْلِسِ لَسُلِبَ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّ فِي السلم غررا فلو جاز فيه تأخير الثَّمَنِ لَازْدَادَ فِيهِ الْغَرَرُ وَزِيَادَةُ الْغَرَرِ فِي العقد تبطله ولأن الثمن إذا تأخر مع تأخير الْمُثَمَّنِ صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تعجيل الثمن في السلم من شرط صحته تعجيل نِصْفِ الثَّمَنِ وَبَقِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 النِّصْفُ ثُمَّ افْتَرَقَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الكل؛ لأن من شرط صحته تسليم جميع ثمنه فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ جَمِيعُ الثَّمَنِ عَدِمَ الشَّرْطَ فبطل كله. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ السَّلَمَ فيما تقابضاه جائز وفيما بقي باطل لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَابَضَا الْجَمِيعَ لَصَحَّ، وَلَوْ لَمْ يَتَقَابَضَاهُ لَبَطَلَ فَوَجَبَ إِذَا تَقَابَضَا الْبَعْضَ وَبَقِيَ البعض أن يصح فيها فِيمَا قَبَضَ، وَيَبْطُلَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ قَالُوا وَلَا خِيَارَ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا عَلَى الْبَعْضِ رِضًا مِنْهُمَا بِالتَّفْرِيقِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أن المسلم فِيمَا لَمْ يَتَقَابَضَاهُ بَاطِلٌ وَفِيمَا تَقَابَضَاهُ عَلَى قولين من تفريق الصفقة وللمسلم إليه الخيار دون المسلم في أن يمضي العقد في البعض أو يفسخ. فصل: فأما إذا تقابضا الثمن ثم بان بعد التفرق أنه رديء معيب فإن عبيه لا يُخْرِجُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَإِنْ كَانَ مَعِيبًا قِيلَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تسمح بعيبه أو تفسخ العقد به، وليس له أبدا له لتعيينه، وإن لم يكن الثمن معينا، وكان موصوفا على مذهب من يجيزه فَهَلْ لَهُ إِبْدَالُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ. فيمن صارت دراهم، غير معيبة فبانت بعد التفرق معيبة رديئة فَهَلْ لَهُ الْبَدَلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَذَلِكَ. مَسْأَلَتُنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَهُ الْبَدَلُ وَلَا خِيَارَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بَدَلَ لَهُ وَيَكُونُ له الخيار بين أن يسمح بعيبه أو يفسخ العقد به. فصل: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُثَمَّنِ وَسَنَذْكُرُهَا مِنْ بَعْدُ إِذَا تَقَدَّمَ شَرْحُهَا. وَالثَّانِي: مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الثَّمَنِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهَا وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا. أَحَدُهَا: تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ بَطَلَ السلم والثاني: إلى آخر الباب، وَلَيْسَ يُعْرَفُ خِلَافُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ الْأَقْوَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُسَعِّرَهَا مَعَ السِّعَةِ وَالرُّخْصِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْغَلَاءِ وَزِيَادَةِ الْأَسْعَارِ فقد قال مالك: إن لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَهَا عَلَيْهِمْ بِسِعْرٍ، وَلَا يَجُوزَ لَهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَإِنْ خَالَفُوهُ أَدَّبَهُمْ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ فَلَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمْ تَسْعِيرُ الْأَقْوَاتِ عَلَى أَرْبَابِهَا وَهُمْ مُسَلَّطُونَ عَلَى بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ التَّسْعِيرَ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الجالب مرزوق، والمحتكر ممحوق " فَلَمَّا زَجَرَ عَنِ الِاحْتِكَارِ كَانَ لِلْإِمَامِ الزَّجْرُ عَلَيْهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن مَرَّ بِحَاطِبٍ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ إِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَعَّرَ عَلَى قَوْمٍ طَعَامًا فَخَالَفُوهُ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَدِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] لِأَنَّ الْإِلْحَادَ فِيهِ هُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِيهِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَحْتَكِرُوا الطَّعَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِلْحَادٌ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى فِعْلِ الْمَصَالِحِ فَإِذَا رَأَى فِي التَّسْعِيرِ مَصْلَحَةً عِنْدَ تَزَايُدِ الْأَسْعَارِ جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَسْعَارِ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19] وَفِي التَّسْعِيرِ عَلَيْهِ إِيقَاعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ". وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ بَلْ أَدْعُو ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ "، وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مال. ولأن الناس مسلطون على أملاكهم والتسعير عَلَيْهِمْ إِيقَاعُ حَجْرٍ فِي أَمْوَالِهِمْ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِيمَنْ جَازَ أَمْرُهُ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْكَافَّةِ وليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِأَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ لِوُفُورِ الثَّمَنِ، وَإِذَا تَقَابَلَ الأمران وجب تفريق الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاجْتِهَادِ لِأَنْفُسِهِمْ فَيَجْتَهِدُ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِرْخَاصِ وَيَجْتَهِدُ الْبَائِعُ فِي وُفُورِ الرِّبْحِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الجالب مرزوق والمحتكر ممحوق " فَهَذَا يَكُونُ فِي الِاحْتِكَارِ، وَالتَّسْعِيرُ غَيْرُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمُسَعِّرَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إِلَى الَّذِي يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَيُسَعِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُقَدِّرُ لَهُ الثَّمَنَ فيه، لأن لا يزيد عليه، والمحتكر الممتنع من بيعه على أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْحَدِيثِ الْإِرْشَادُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كَانَ مَعْمَرُ يَحْتَكِرُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ تَامًّا وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَاطِبٍ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي، وَلَا قَضَاءَ، وَإِنَمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ. . الْحَدِيثُ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيقِ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَحْرِيقُهَا عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بسوق التمارين بالبصرة فأنكر عليهم بعض باعاتهم وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ النَّاسِ فِي رُخْصِ أَسْعَارِهِمْ عَلَيْهِ فَهَذَا غَلَطٌ بَلْ فِيهِ فَسَادٌ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ، لِأَنَّ الْجَالِبَ إِذَا سَمِعَ بِالتَّسْعِيرِ امْتَنَعَ مِنَ الْجَلَبِ فَزَادَ السِّعْرُ، وَقَلَّ الْجَلَبُ، وَالْقُوتُ، وَإِذَا سَمِعَ بِالْغَلَاءِ وَتَمْكِينِ النَّاسِ مِنْ بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ احْتَوَوا جَلَبَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْفَضْلِ فِيهِ، وَإِذَا حَصَلَ الْجَلَبُ اتَّسَعَتِ الْأَقْوَاتُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الْأَقْوَاتِ عَلَى النَّاسِ فَخَالَفَ وَسَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَبَاعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ بِمَا سَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا، وَلَا يُمَكِّنَهُمْ مِنْ تَرْكِهَا فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَعَلَى مُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَا بَاعَهُ وَيَسْتَرْجِعَ مَا دَفَعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَصِحُّ وَقَالَ أبو حنيفة بيع المكروه بِالسُّلْطَانِ بَاطِلٌ وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ فَبَيْعُهُ جائز؛ لأن الإكراه من غير السلطان قادر، وَدَفْعُهُ مُمْكِنٌ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ بَيْعُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لِرِوَايَةِ صَالِحٍ، وَعَامِرٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ تَمِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَقَالَ: سَيَأْتِي عَلَى الناس زمان عضوض يعض الموسى عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَتَبَايَعَ الْمُضْطَرُّونَ. وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قبل أن يبدو صلاحها والمكره مضطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 وقال قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ "، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُكْرَهٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْمُكْرَهِ بِالسُّلْطَانِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَوْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ، فَوَجَبَ إِذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالْإِمْضَاءِ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ السُّلْطَانِ لِمَا لِلسُّلْطَانِ مِنْ حَقِّ الطَّاعَةِ فَلَمَّا أُبْطِلَ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ كَانَ بُطْلَانُ مَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَوْلَى. فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُسَعِّرَ السُّلْطَانُ فَيَبِيعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ مُخْتَارِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ لَكِنَّهُمْ كَارِهِينَ لِلسِّعْرِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّنَا نَكْرَهُ الِابْتِيَاعَ مِنْهُمْ إِلَّا إِذَا عُلِمَ طِيِبُ نُفُوسِهِمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْإِكْرَاهُ جَائِزًا بِكُلِّ حَالٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الِاحْتِكَارُ وَالتَّرَبُّصُ بِالْأَمْتِعَةِ. فَلَا يُكَرَهُ فِي غَيْرِ الْأَقْوَاتِ، وَأَمَّا الْأَقْوَاتُ فَلَا يُكْرَهُ احْتِكَارُهَا، مَعَ سِعَةِ الْأَقْوَاتِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ. لِأَنَّ احْتِكَارَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا احْتِكَارُهَا مَعَ الضِّيقِ، وَالْغَلَاءِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَمَكْرُوهٌ مُحَرَّمٌ، وَالنَّهْيُ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَنَصُّ الْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْحَالِ وَلَوِ اشْتَرَاهَا فِي حَالِ الْغَلَاءِ وَالضِّيقِ طالبا لربحها لم يكن احتكارا والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 بَابُ الزِّيَادَةِ فِي السَّلَفِ وَضَبْطِ مَا يُكَالُ وما يوزن قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَصْلُ مَا يَلْزَمُ الْمُسَلِّفَ قَبُولُ مَا سَلَّفَ فِيهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ زَائِدًا يَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مَا سَلَّفَ فِيهِ أُجْبِرَ عَلَى قَبْضِهِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ تَطَوُّعًا فَإِنِ اخْتَلَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ ثَمَنٍ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا قَدْ أَسْلَفَ فِيهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ صِفَاتِهِ الَّتِي شَرَطَهَا فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهَا وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ صِفَتِهِ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّفَ إليه في تمر جيد حديث فَيُعْطَى تَمْرًا عَتِيقًا أَوْ رَدِيئًا فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِنَقْصِهِ عَنْ حَقِّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ زَائِدًا فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ فَإِنْ أُعْطِيَ مَكَانَ صَاعٍ صَاعَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَمَلُّكِهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي تَمْرٍ عَتِيقٍ فَيُعْطَى تَمْرًا حَدِيثًا أَوْ فِي رَدِيءٍ فَيُعْطَى جَيِّدًا فَعَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ بِزِيَادَتِهِ لِاتِّصَالِهَا بِحَقِّهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ زَائِدًا مِنْ وَجْهٍ وَنَاقِصًا مِنْ وَجْهٍ، مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي تَمْرٍ عَتِيقٍ جَيِّدٍ فَيُعْطَى تَمْرًا حَدِيثًا رَدِيئًا فَكَوْنُهُ حَدِيثًا زِيَادَةً وَكَوْنُهُ رَدِيئًا نَقْصًا فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ ذَلِكَ لِأَجْلِ النَّقْصِ سَوَاءً كَانَ النَّقْصُ مَجْبُورًا بِالزِّيَادَةِ أَمْ لَا لِأَنَّ النَّقْصَ مُسْتَحَقٌّ وَالزِّيَادَةَ تطوع، وله المطالبة بمثل صفته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَقَلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ عَلَى أَوْصَافٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ فَإِنْ جَاءَهُ بِتَمْرٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَيِّدِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وَقَالَ مَالِكٌ لَهُ أَوْسَطُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ فَإِذَا كَانَ التَّمْرُ وَسَطَ الْجَيِّدِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهِ مَنْزِلَةً لم يلزمه؛ لأن أوسط الْأُمُورِ أَعْدَلُهَا. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِاسْمٍ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِأَقَلِّ ذَلِكَ الِاسْمِ كَالْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوْدَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْأَوْسَطَ فَقَدْ ضَمَّ إِلَيْهَا صِفَةً ثَانِيَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى صِفَاتِ السَّلَمِ صِفَةً غَيْرَ مشروطة فصح ما ذكرنا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا نَقِيَّةً مِنَ التِّبْنِ وَالْقَصَلِ وَالْمَدَرِ وَالزُّوَانِ وَالشَّعِيرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ مَوْصُوفٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مختلطا بغيره سواء اختلط بماله قِيمَةً أَوْ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ السَّلَمُ فِي حِنْطَةٍ لَمْ يلزمه أن يأخذ فيها تبنا ولا نصلا وَلَا مَدَرًا وَلَا زُوَانًا، حَتَّى تَكُونَ نَقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَقَدِ اخْتَلَطَتْ بِشَعِيرٍ بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ سَوَاءً كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فِي الْحِنْطَةِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا من التبن والزوان وَالْقَصَلِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْحِنْطَةِ تُرَابٌ فَإِنْ كَانَ التُّرَابُ كَثِيرًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَّا نَقِيَّةً لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ يَسِيرًا فَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ يَسِيرِ التُّرَابِ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْمِيزَانِ، وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِيهَا كَيْلًا لَزِمَهُ أَخْذُهَا مَعَ التُّرَابِ الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمِكْيَالِ لِحُصُولِهِ فِي الْخَلَلِ الَّذِي بَيْنَ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِهِ مَؤُونَةٌ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ وَكَذَا التَّمْرُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْحَشَفَ، فَأَمَّا أَقْمَاعُ التَّمْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا الْمُلْتَصِقَ بِالتَّمْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يأخذه إذا أخرج منه. مسألة: قال الشافعي: " وَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرًا فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِثْلَ قِشْرِ الْأُرْزِ، أَوْ قِشْرِ الْحِنْطَةِ أو قشر العدس، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُبُوبَ ذَاتَ الْكِمَامِ كَالْحِنْطَةِ، وَالْعَلَسِ، وَالْأُرْزِ، وَالْعَدَسِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا إِلَّا خَارِجَةً مِنْ كِمَامِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْكِمَامِ مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ، وَالصِّفَةِ، وَمَا جُهِلَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ، فَأَعْطَى ذَلِكَ فِي كِمَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَا يَقَعُ مَوْقِعَهُ ". مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ إِلَّا جَافًّا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَلِأَنَّهُ قَبْلَ جَفَافِهِ لَا يَكُونُ تَمْرًا فَمَتَى كَانَ رَطْبًا لم يجمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 بَعْدُ، أَوْ قَدْ جَمَدَ ظَاهِرُهُ، دُونَ بَاطِنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُهُ فَإِذَا جَمَدَ الرُّطَبُ، وَصَارَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْجَفَافِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا هُوَ أَجَفُّ مِنْهُ وَأَيْبَسُ، فَلَوْ أَعْطَاهُ تَمْرًا قَدْ تَنَاهَى جَفَافُهُ وَيُبْسُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَدَاوَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَبَقَاءُ النَّدَاوَةِ فِي التَّمْرِ أَحْفَظُ لَهُ وَأَوْفَرُ لَدَيْهِ، وَأَمْنَعُ من فساده. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لَحْمَ طَائِرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْوَزْنِ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ الْفَخْذَيْنِ لِأَنَّهُ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَحْمَ حِيتَانٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْوَزْنِ وَالرَّأْسِ وَلَا الذَّنَبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَحْمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ فِي لَحْمِ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ الرَّأْسِ فِيهِ، وَلَا مَا دُونَ الْفَخْذَيْنِ مِنَ الطَّيْرِ، وَالذَّنَبِ مِنَ الْحِيتَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: مَا كَانَ مِنَ الطَّيْرِ صَغِيرًا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ مُبَعَّضًا لَزِمَ فِيهِ أَخْذُ الرَّأْسِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَكَذَا مَا صَغُرَ مِنَ الْحِيتَانِ لَزِمَ فِيهِ أَخْذُ الرَّأْسِ، وَالذَّنَبِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَهُ وَيُطْبَخُ مَعَهُ إِلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ قَطْعُ ذَلِكَ كَالْعَظْمِ، وَلِهَذَا وَجْهٌ. وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِغَارِ ذَلِكَ وَكِبَارِهِ لِتَمْيِيزِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ عَنِ اللَّحْمِ وَلَيْسَ كَالسَّلَمِ الَّذِي هُوَ تَدَاخُلٌ فِي اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ مُتَرَاكِبٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَ اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ لَحْمُ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَحْمَ طَيْرٍ أَوْ حُوتٍ لَزِمَهُ أَخْذُ الْجِلْدِ مَعَ اللَّحْمِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ مَعَهُ، وَلَا يَكَادُ يُفْصَلُ عَنْهُ وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ قَبُولُهُ مِنَ الْعَظْمِ الَّذِي قَدْ يُفْصَلُ عَنْهُ، وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهُ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ السَّلَمُ فِي لُحُومِ الْحِدَاءِ الصِّغَارِ لَزِمَ قَبُولُ الْجِلْدِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فِي أَكْلِهِ مَعَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْغَالِبِ عَنْهَا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَعْطَاهُ مَكَانَ كَيْلٍ وَزْنًا أَوْ مَكَانَ وَزْنٍ كَيْلًا أَوْ مَكَانَ جِنْسٍ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ لِأَنَّهُ بَيْعُ السَّلَمِ قَبْلَ أَنْ يستوفى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْلِمَ فِي مُقَدَّرٍ فَيَقْبِضُ بِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَ فِي جِنْسٍ فَيَأْخُذَ غَيْرَهُ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ فِي الشَّيْءِ كَيْلًا فَيَقْبِضَهُ بِالْوَزْنِ أَوْ يُسْلِمَ فِيهِ مَوْزُونًا فَيَقْبِضَهُ بِالْكَيْلِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا لَا مِنْ جِهَةِ الرِّبَا وَلَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَكِيلِ يَتِمُّ بِالْكَيْلِ، وَقَبْضَ الْمَوْزُونِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ، وَلَا يَكُونُ قَبْضُ الْمَكِيلِ بِالْوَزْنِ، وَلَا قَبْضُ الْمَوْزُونِ بِالْكَيْلِ، لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ بِالْوَزْنِ إِذَا كِيلَ إِنَّمَا زَادَ عَلَى الْوَزْنِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ، وَكَذَا الْمُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ إِذَا وَزَنَهُ زَادَ عَلَى الْكَيْلِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ فَيُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ بِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَبَضَ الْمُسَلِّمُ مَكَانَ كَيْلٍ وَزْنًا أَوْ مَكَانَ وَزْنٍ كَيْلًا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسَلِّمِ بَيْعُ ذَلِكَ حَتَّى يَكْتَالَ مِنْهُ الْمَكِيلُ، وَيَزِنَ مِنْهُ الْمَوْزُونُ لَكِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ عَنْ عَقْدٍ مُعَاوَضَةً، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ التَّلَفِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ سَلَمِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّلَفِ مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَوْ جَعَلَ قَصَاصًا لَكَانَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا تَلِفَ عَنْ يَدِهِ وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ، بِمَا أَسْلَمَ عَلَى مِثْلِ صِفَتَهِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَ جِنْسِ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي حِنْطَةٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهَا شَعِيرًا أَوْ فِي تَمْرٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ زَبِيبًا أَوْ فِي غَنَمٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهَا بَقَرًا فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ مُعَاوِضًا عَلَيْهِ وَبَائِعًا لِلسَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ فِي تَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَيَأْخُذَ مَكَانَهُ تَمْرًا مَعْقِلِيًّا أَوْ يُسْلِمَ فِي غَنَمٍ ضَأْنٍ فَيَأْخُذَ بَدَلَهَا مِعْزًى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ مُخَالِفٌ كَالْجِنْسِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْجِنْسِ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ النَّوْعِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ تَنَوَّعَا وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّوْعَيْنِ إِذَا جَمَعَهُمَا الْجِنْسُ، وَجَبَ ضَمُّهُمَا فِي الزَّكَاةِ، وَجَرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حُكْمُ الْآخَرِ، وَخَالَفَ الْجِنْسَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى جِنْسًا فَبَانَ غَيْرُهُ بَطَلَ الْبَيْعُ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبَ قُطْنٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَوْبُ كَتَّانٍ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَبُولِهِ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأَصْلُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِالْحِجَازِ فَكُلُّ مَا وُزِنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَصْلُهُ الْوَزْنُ وَمَا كِيلَ فَأَصْلُهُ الْكَيْلُ وَمَا أحدث الناس رد إلى الأصل وَلَوْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَإِنْ كَانَ نُحَاسًا أَوْ تِبْرًا أَوْ عَرَضًا غَيْرَ مَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ وَلَا ذِي رُوحٍ أَجْبَرْتَهُ عَلَى أَخْذِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا فَقَدْ يُرِيدُ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ جَدِيدًا وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَلَا غِنَى بِهِ عَنِ الْعَلْفِ أَوِ الرَّعْيِ فلا نجبره عَلَى أَخْذِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِهِ فَعَلَى هذا، هذا الباب كله وقياسه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 قَصَدَ بِذِكْرِهَا أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلَ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ وَزْنًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا والفرق إذا دخله الربا إلا كيلا أو ما أصله الوزن جاز السلم فيه كيلا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا وزنا، والفرق بَيْنَ الرِّبَا وَالسَّلَمِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي السَّلَمِ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ يَصِيرُ الْمِقْدَارُ مَعْلُومًا بِكَيْلِ الموزون ومن وزن المكيل. وأصل الرِّبَا الْمُمَاثَلَةُ، وَفِي التَّخْيِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا حُصُولُ التَّفَاضُلِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْكَيْلِ وَيَتَفَاضَلَانِ فِي الْوَزْنِ، أَوْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْوَزْنِ وَيَتَفَاضَلَانِ فِي الْكَيْلِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنِ اعْتِبَارِ أَصْلٍ فِيهِ تكون المماثلة له. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ، فَإِنْ كَانَ نُحَاسًا أَوْ تِبْرًا أَوْ عَرَضًا غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَلَا مَشْرُوبٍ، وَلَا ذِي رُوحٍ أَجْبَرْتَهُ عَلَى أَخْذِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا فَقَدْ يُرِيدُ أَكْلَهُ، وَشُرْبَهُ جَدِيدًا، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَلَا غِنَى بِهِ عَنِ الْعَلْفِ، أَوِ الرَّعْيِ، فَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى أَخْذِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْتِهِ فَعَلَى هَذَا الْبَابِ وَقِيَاسِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مَوْصُوفٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْرُوفٍ فَجَاءَهُ بِالسَّلَمِ عَلَى صِفَتِهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: مَؤُونَةُ ضِرْسِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَعَامًا رَطْبًا إِنْ تُرِكَ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَسَدَ أَوْ عَتَقَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ أَيْضًا لِمَا فِي تَرْكِهِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَحُدُوثِ التَّغْيِيرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: ألا يكون طعاما رطبا فهو عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا كَافِيًا لِإِحْرَازِهِ، وَمَؤُونَتِهِ وَلِإِحْرَازِهَا، وَحِفْظِهَا قَدْرُ مَؤُونَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ مَؤُونَتِهِ إِلَى حُلُولِ أَجَلِهِ يَضُرُّ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَيْسَ لِإِحْرَازِهِ مَؤُونَةٌ، وَلَا يَحْدُثُ بِتَرْكِهِ نَقْصٌ كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ سُوقٌ مُنْتَظَرَةً وَزِيَادَةُ سِعْرٍ مُتَوَقَّعَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَعُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ قَبْضِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ أَخْذِهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلَمِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمُسَلِّمِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الْقَبْضِ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِهِ مِنِ انْتِظَارِ سُوقٍ، وَلَا غَيْرِهِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ سَلَمِهِ فَلَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ بِالتَّعْجِيلِ أُجْبِرَ الْمُسَلِّمَ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ، وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ عَلَى الْقَبْضِ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ عَلَى صِفَتِهِ وَكَمَالِهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قَبْضِهِ قَبَضَهُ الْقَاضِي عَنْهُ لِيَقَعَ بَرَاءَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ مِنْهُ ثُمَّ يضعه في النائب للمسلم حتى يختار أخذه متى شاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الرهن) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ فِي الدَّين والدَّين حَقٌّ فَكَذَلِكَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ فِي حِينِ الرَّهْنِ وَمَا تَقَدَّمَ الرَّهْنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا كما قال الرهن أحد الوثائق فِي الْحُقُوقِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَقُرِئَ " فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ " وَفِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: فَرِهَانٌ جَمْعٌ، وَرُهُنٌ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَرِهَانٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، وَقَوْلُهُ: فَرُهُنٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَأَمَّا الرَّهِينَةُ، فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي ارْتِهَانِ النُّفُوسِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: (وَمِنَّا الَذِي أَعْطَى يَدَيْهِ رَهِينَةً ... لِغَارَيْ مَعَدٍّ يَوْمَ ضَرْبِ الْجَمَاجِمِ) ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لا يغلق الرهن الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ غيره وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِتَلَفِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ: أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مَحَلِّهِ. قَالَ زُهَيْرٌ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 (وَفَارَقَتْكَ بِدَيْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فأنسى الدين قَدْ غَلِقَا) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَقْرَبُ النَّفَقَةُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ فَكَاكِهِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: افْتَكَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى وَهَذِهِ صِفَةٌ تَنْتَفِي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى مَحْمُولًا عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً. (فَصْلٌ) وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ إِذَا تَمَّ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ رَامَ الرَّاهِنُ فَسْخَهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَأَصْلُ الرَّهْنِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِاحْتِبَاسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مُحْتَبَسَةٌ. وَقَالَ الأعشى: (فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ أَنْ يَأْتِيَنْ) (عَلَيَّ رَقِيبٌ لَهُ حَافِظٌ ... فَقُلْ فِي امْرِئٍ غَلِقٍ مُرْتَهِنْ) فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا. فَالرَّهْنُ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْكَاتِبِ وَعَدَمِهِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَلَا مَعَ وُجُودِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 الْكَاتِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَأَبَاحَهُ بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ: السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَيْفٌ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا رَافِعٍ اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: بِعْنِي إِلَى رَجَبٍ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُهُ إِلَا بِرَهْنٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ إِلَيْهِ. فَرَهَنَهُ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ سَفَرًا فَجَازَتْ حَضَرًا كَالضَّمِينِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ فِيهَا الضَّمِينُ جَازَ فِيهَا الرَّهْنُ كَالسَّفَرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا ذكر فيها السفر لتعذر الشهادة فيه غَالِبًا لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَجِبُ فِي مَالٍ، وَضَرْبٌ يَجِبُ فِي غَيْرِ مَالٍ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ: فَكَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي مَالٍ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ قَدْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْوَدَائِعِ وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ بِالتَّلَفِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّلَفِ قَالَ: لِأَنَّهُ مَالٌ مَضْمُونٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الذِّمَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ كَالشَّهَادَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهَا عَيْنٌ بَاقِيَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا كَالْعَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً. وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً. أَصْلُهُ: مَا فِي يَدِ الْبَائِعِ من العين المبيعة. ولأن الرهن وثيقة لاستيقاء الْحَقِّ مِنْهُ، وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ بَقَائِهَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ بَدَلِهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 وَلَا الْعُدُولُ إِلَى قِيمَتِهَا دُونَ أَنْ تُرَدَّ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ، وَكُلُّ رَهْنٍ لَمْ يُمْلَكِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْوَقْفِ. فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ، فَجَازَ فِيهِ الرَّهْنُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ جَازَتْ عَلَى عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجُزْ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ في كفالات النفوس لا يجوز. (فصل) [أقسام الأموال باعتبار ما لزم للذمة وما لا يلزم وما يؤول إلى اللزوم] . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ ثَابِتًا فِيهَا كَالْأَثْمَانِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّلَمِ فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ، يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنَ الذِّمَّةِ فِي الْحَالِ وَلَا تُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثاني حال مِثْلُ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الرَّهْنُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الذِّمَّةِ، وَمَالُ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِلذِّمَّةِ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَالِ الْجَعَالَةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَالدُّيُونِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ لُزُومِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعَمَلِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الْحَالِ، كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ بِحُصُولِ الْعَمَلِ فَمَا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْجُعْلِ مِنَ الْعَمَلِ لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْجُعْلُ بِالْخِيَارِ أَبَدًا إِنْ شَاءَ عَمِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَعْمَلْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ قد يفضيان إلى اللزوم بما افترقا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ فِي عِوَضِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِهِ بِوُجُودِ السَّبْقِ، وَحُصُولِ النِّضَالِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ كَالدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ، فَهُوَ مبني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ، أَوْ مَجْرَى الْجَعَالَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وقال الله تبارك وتعالى {فرهان مقبوضة} ". قال الماوردي: وبه قال أبو حنيفة عِنْدَنَا عَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وكذلك الهبة. وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. كَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِنَفْسِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ كَالْأَجَلِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ. وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَالدَّلَالَةُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ كَوَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ وَالِاعْتِكَافِ بِالْمَسْجِدِ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ، ثُمَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ شُرُوطًا، فَكَذَا الْقَبْضُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ غَيْرَ الرَّهْنِ مِنَ الْعُقُودِ وَلَمْ يَصِفْهَا بِالْقَبْضِ، وَذَكَرَ الرَّهْنَ وَوَصَفَهُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ، أَوْ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ. وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ يُوجِبُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً لَا تُسْتَفَادُ بِحَذْفِ ذِكْرِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ لَمْ يُجْبَرْ وَارِثُهُ على الإقباض، فلو كَانَ لَازِمًا بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ لَاسْتَحَقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْبَيْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْجَعَالَةِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَهْنٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ تَسْلِيمُهُ كَالْوَارِثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ وَارِثَ الْعَاقِدِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْعَاقِدَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْجَعَالَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْقَرْضِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وَقَوْلُنَا: شَرْطُهُ الْقَبُولُ احْتِرَازًا مِنَ الْوَقْفِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الضَّمَانِ فَالْمَعْنَى فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ لَمَّا تَمَّ بِالضَّامِنِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ تم بالقول وَحْدَهُ وَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ بِالرَّاهِنِ وَحْدَهُ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الْقَوْلُ جَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْأَجَلِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَجَلِ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ لَهُ إِنْ شُرِطَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ تَمَامِ ثُبُوتِهِ لَوْ شرط في العقد وأما قياسه على البيع فالمعنى في البيع: أنه لما لزم الورثة لزم المتعاقدين والرهن لما لم يلزم الورثة لم يلزم المتعاقدين وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ كَالْمَعْنَى في البيع. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ وَحِينَ أُقْبِضَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ. فَأَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولُهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا بُعْدٍ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ تَسْلِيمٌ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَجَوَازُ أَمْرِهِمَا أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا بِبُلُوغِهِمَا وَعَقْلِهِمَا وَارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُمَا، فَإِذَا كَانَا كَذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ، فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ وَصَارَ لَازِمًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَجْرِ حَاكِمٍ، ثُمَّ جَازَ أَمْرُهُمَا عِنْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْقَبْضُ فَاسِدًا لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَخَذَ قَابِضُ الرَّهْنِ بِرَدِّهِ، وَلَهُمَا اسْتِئْنَافُ عَقْدِهِ، وَتَجْدِيدُ قَبْضِهِ. فَلَوْ كَانَا جَائِزَيِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا بِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَتَقَابَضَاهُ كَذَلِكَ فَالْقَبْضُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَبْضٌ لَا يَجُوزُ إِقْبَاضُهُ، أَوْ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ وَلَكِنَّ الْعَقْدَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ، حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ قَبْضٌ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَانَا رَشِيدَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ، لَكِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ الْقَبْضِ عَدَمُ رُشْدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَاقِلَيْنِ، فَيَعْقِدَا الرَّهْنَ، ثُمَّ يُجَنُّ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ يَفِيقُ فَيَقْبِضُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ الرَّهْنِ وَتَمَامُهُ لِوُجُودِ الرُّشْدِ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْجُنُونِ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ: لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، دُونَ اللَّازِمَةِ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ، كَالْوِكَالَاتِ وَالشِّرْكِ وَالْجَعَالَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ الَّتِي تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ مَا لَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَعَاقَدَا الرَّهْنَ وَهُمَا رَشِيدَانِ ثُمَّ جُنَّ الْمُرْتَهِنُ فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ مِنَ الرَّاهِنِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ تَمَّ الرَّهْنُ، وَقَامَ مَقَامَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَهُوَ رَشِيدٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ وَلِيِّ الْمُرْتَهِنِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرَّهْنَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا هُوَ الرَّاهِنَ فَأَرَادَ وَلِيُّهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ الرَّهْنَ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ. فَأَمَّا على مذهب الشافعي، فَيُعْتَبَرُ حَالُ الرَّهْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَسْلِيمِهِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْطُلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا، فَتَسْلِيمُهُ وَإِنْ صَحَّ الْعَقْدُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالْوَلِيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ حَظٌّ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فيه فضل وإن لم يسلم الرهن فسخه الْبَائِعُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْمَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا صِفَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَهُوَ مُجَامِعٌ لِلْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَجْهٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجَامِعُهُ فِيهِ هُوَ قَبْلَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُخَالِفُهُ فِيهِ هُوَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ بِإِقْبَاضٍ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ. فَأَمَّا صِفَةُ الْإِقْبَاضِ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، فَإِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ: أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ وَيُسَلِّطَهُ عَلَيْهِ. وَقَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا، أَوْ يَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ. وَتَصَرُّفُهُ فِي رَقَبَتِهِ: أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ يَدَ مَالِكِهِ، فَيَتِمُّ الْقَبْضُ هَاهُنَا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَهُوَ كَأَنْ يَرْهَنَهُ قَفِيزًا مِنْ صَبْرَةٍ فَلَا يَتِمُّ إِقْبَاضُ الرَّاهِنِ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَتَوَلَّى كَيْلَهُ لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ وَيَتَوَلَّى الْمُرْتَهِنُ اكْتِيَالَهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ بِفِعْلِهِمَا جَمِيعًا. فَلَوْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّى كَيْلَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِوَكِيلِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ. وَكَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ الرَّاهِنُ: قَدْ وَكَلْتُكَ فِي قَبْضِهِ لِنَفْسِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لو وكل الراهن رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ عَنْهُ، وَوَكَّلَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ صَارَ ذَلِكَ الْوَكِيلُ نَائِبًا عَنِ الرَّاهِنِ فِي الْإِقْبَاضِ عَنْهُ، وَنَائِبًا عَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ لَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ هَذَا قَبْضًا فَاسِدًا لَا يَتِمُّ بِهِ الرَّهْنُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. فَأَمَّا الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقْبَاضِ البائع بنفسه، أو بوكيله أو قبض الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ أَمْ لَا. فَإِنْ تَسَلَّطَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الْبَائِعِ، لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لَكِنْ يَصِيرُ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ، إِلَّا بِإِذْنِ الْبَائِعِ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّهْنِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ، كَانَ قَبْضًا فَاسِدًا، وَكَانَ لِلْبَائِعِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَالْقَبْضُ فِيهِ يَصِحُّ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْبَائِعُ لَهُ فِي قَبْضِهِ أَمْ لَا. لِأَنَّهُ بِقَبْضِ ثَمَنِهِ قَدْ لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنْعِهِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صحة القبض إلى إذنه. (فَصْلٌ) أَمَّا مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَأُمُورٌ: مِنْهَا: أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ بَعْدَ رَهْنِهِ، وَقَبْلَ قَبْضِهِ فَيَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ صَدَاقًا لزوجته. ومنها: أن يقربه لِرَجُلٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيُعْتِقُهُ أَوْ يُكَاتِبُهُ، فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِزَوَالِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَى الْمُكَاتَبِ وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَدَبَّرَهُ فَهَلْ يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ. لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَجَوَازِ تَصَرُّفِهِ، فَالتَّدْبِيرُ تَصَرُّفٌ يُخَالِفُهُ عَقْدُ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ، لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَبَعْدَهُ، فَلَوْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ أَوْ رَهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ وأقبضه بطل رهن الأول بزوال مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ وَانْعِدَامِ تَصَرُّفِهِ بِالرَّهْنِ، وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ، كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ كَالتَّدْبِيرِ. وَأَمَّا إِذَا آجَرَهُ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَبْطُلْ بِإِجَارَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ: وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ. لِأَنَّهُ لَمَّا لم يبطل الرهن بتزويجها بعد القبض ولم يَبْطُلْ بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَطِئَهَا الرَّاهِنُ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْئِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ. كَانَ وطؤه فسخا للبيع فهلا كان وطوء الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلرَّهْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ يُنَافِي الْبَيْعَ، فَكَانَ فَسْخًا وَلَيْسَ وَطْءُ الرَّاهِنِ يُنَافِي الرَّهْنَ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْهُ بحق الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ جَازَ. وَقَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَلْزَمْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ الْوَطْءُ مُنَافِيًا له فلم يكن فسخا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَقَبْضُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِيهَا. وَالثَّانِي: ذِكْرُ الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا. فَأَمَّا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فَقَوْلُهُ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ. فَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرْوِي ذَلِكَ: وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رُهِنَ، وَحِينَ أُقْبِضَ. وَمَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ. فَيَجْعَلُ الْجَائِزَ الْأَمْرِ فِي الرَّهْنِ، مَنْ جَازَ بَيْعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَمِرًّا. وَعَلَى الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا. فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ - يَعْنِي فِي مشاع وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ. وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا، كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ مِنَ الْأَجْنَاشِ أَوِ الْأَنْجَاشِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ وَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الْمَرْهُونِ إِلَى أَجَلٍ يَفْسَدُ فِيهِ. وَقَدْ يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ مَا أَفْصَحَ بِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مِنْ رَهْنِ الْمُشَاعِ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ أَجَازَ بَيْعَ الْمُشَاعِ وَمَنَعَ مِنْ رَهْنِهِ فَقَالَ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَا. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ غَالِبَ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَمَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لَكِنَّ الْغَالِبَ بِخِلَافِهِ، فَجَعَلَ قَائِلُ هَذَا الْجَوَابِ جُمْلَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ. ضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ كَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ. وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا رَهْنُهُ كَالْأَوْقَافِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. وَضَرْبٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ عَلَى أحد القولين كالمدبر والمعتق نصفه. وَضَرْبٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ رَهْنُهُ، كَالْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا دُونَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى صِفَتِهِ وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَاعْتِبَارًا صَحِيحًا، وَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ رَهْنِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْأَمَةِ ذَاتِ الْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ مُطْلَقًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ يَجُوزُ، فَتُبَاعُ الْأَمَةُ مَعَ وَلَدِهَا، وَالثَّمَرَةُ بِشَرْطِ قَطْعِهَا فَصَارَ بَيْعُ ذَلِكَ جَائِزًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ. فَفِي جَوَازِ رَهْنِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ نِصْفُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَمَرَّ الْجَوَابُ، وَسَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَهُ الْبَائِعُ فَصَارَ رَهْنُهُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ فِي أَحْوَالِ مُرْتَهَنِهِ مُخْتَلِفًا فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَتَفْسِيرِ كلامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْخِلَافُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَلِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: هَلْ رَهْنُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فَتَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لأبي حنيفة أَصْلٌ يُنْشِئُ بُطْلَانَ رَهْنِ الْمُشَاعِ عَلَيْهِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِ الرَّهْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ. فَإِنْ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ، أَوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْإِعَارَةِ أَوِ الْغَصْبِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ. وَقَالَ أبو حنيفة: اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَالْإِجَارَةِ، أُبْطِلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالْغَصْبِ وَالْإِعَارَةِ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِاسْتِحْقَاقٍ أو بقدر عَلَى انْتِزَاعِهِ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرهن بقوله تعالى: {فرهن مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَجَعَلَهُ بِالْقَبْضِ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الْقَبْضِ يُزِيلُ وَثِيقَةَ الْمُرْتَهِنِ. وَلِأَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْيَدِ عَنْهُ مُزِيلًا لِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ أَصْلُهُ: الْمَبِيعُ الْمُحْتَبِسُ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ حُصُولُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ ثُمَّ كَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مِنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنْ قُبِضَ صَارَ لَازِمًا. فَلَمَّا كَانَ لُزُومُهُ بِالْقَبْضِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: [الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَفَقَةُ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] الرَّهْنَ مَرْكُوبًا وَمَحْلُوبًا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى الرَّاكِبِ وَالشَّارِبِ نَفَقَةَ الرَّهْنِ، وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ جَوَازُ ذَلِكَ لِلرَّاهِنِ، فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِإِزَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ. ثُمَّ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الرَّهْنِ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّرْفِ. وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، لِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ. فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَعَ قُوَّتِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ؛ فَلَأَنْ لَا تَكُونُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ فِيهِ شَرْطًا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَةُ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً أَوْ حُكْمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ مُشَاهَدَةً، لِجَوَازِ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِهِ بِعَارِيَةٍ أَوْ عَلَى يَدِ عَدْلٍ. فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي صِحَّةِ اسْتِدَامَةِ قَبْضِهِ حُكْمًا، وَهَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ بِاسْتِحْقَاقٍ. فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ سُلْطَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تعالى: {فرهن مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ وَثِيقَةً بِحُصُولِ الْقَبْضِ. فَإِذَا حَصَلَ الْقَبْضُ مَرَّةً فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْقَبْضُ وَحَصَلَ الرَّهْنُ وَثِيقَةً أَبَدًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَبِيعِ فِي يَدِ بَائِعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ بِحَقِّ الْيَدِ لَا الْعَقْدِ. فَإِذَا زَالَتِ الْيَدُ زَالَ حُكْمُ الِاحْتِبَاسِ وَالرَّهْنُ مَحْبُوسٌ بِحَقِّ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، فَإِذَا زَالَ اسْتِصْحَابُهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ كَقَبْضِ الْهِبَاتِ وَالصَّرْفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ حُصُولُ الِاحْتِبَاسِ وَالْقَبْضُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ، فَحُجَّةٌ تُعْكَسُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، بَلْ لَوْ شَرَطَ أَلَّا يُزِيلَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ عَنِ الْمَبِيعِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ أَلَّا تَكُونَ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لُزُومَهُ لَمَّا كَانَ بِالْقَبْضِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ لُزُومُهُ بِزَوَالِ الْقَبْضِ، فَبَاطِلٌ بِالْعَارِيَةِ فَإِنَّهُ قَدْ زَالَ بِهَا الْقَبْضُ وَلَمْ يَزُلْ بها لزوم الرهن على قولنا أَنَّ لُزُومَهُ كَانَ بِالْقَبْضِ لَا بِاسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ يَدِهِ يُزِيلُ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ وَلَا يُزِيلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَزُلْ مَا بِهِ لَزِمَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِهِ مُسْتَدَامٌ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ رَهْنِ الْمُشَاعِ مِنَ الشَّرِيكِ، وَغَيْرِ الشَّرِيكِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ أبو حنيفة: رَهْنُ الْمُشَاعِ يَصِحُّ مِنَ الشَّرِيكِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ. قَالَ: لِأَنَّ رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ يُوجِبُ مُهَايَأَةً بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالشَّرِيكِ. وَالْمُهَايَأَةُ تُوجِبُ انْتِزَاعَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِاسْتِحْقَاقٍ قَارَنَ الْعَقْدَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ. أَصْلُهُ. إِذَا رَهَنَ شَيْئًا مَغْصُوبًا. قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تُوجِبُ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ يَوْمًا وَانْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ يَوْمًا، وَلَوْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ هَذَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ بَاطِلًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ كَالْمُجَوَّزِ فَإِنْ قِيلَ: فَالْخِلَافُ فِي صِحَّةِ قَبْضِهِ لَا في صحة عقده، قلنا: كلما صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي الرَّهْنِ كَالْمَحُوزِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ رَهَنَ شَيْئًا مَحُوزًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ الرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُشَاعًا رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَكَذَا إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ مُشَاعًا رَهْنًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُطْلَقًا. وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ جَمِيعُهُ عِنْدَ شَخْصٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْهَنَ بَعْضُهُ مُشَاعًا عِنْدَ ذَلِكَ الشَّخْصِ. أَصْلُهُ: إِذَا رَهَنَ الْمَحُوزَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى رَهْنِ الْمَغْصُوبِ بِعِلَّةِ أن المهايأة واجبة، وهي توجب انتزاع مِنَ الْيَدِ. قُلْنَا: الْمُهَايَأَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَنَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ بَيْنَ الْمَالِكَيْنَ، فلم يلزم أحدهما: أن يعارض عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ بِمَا يَعْتَاضُهُ مِنْ مَنْفَعَةِ ملك صاحبه. والثاني: أن في المهايأة تعجيل لحق مؤجل وتأجيل لِحَقٍّ مُعَجَّلٍ. وَتَعْجِيلُ مَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَتَأْجِيلُ مَا كَانَ مُعَجَّلًا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَوْ وَجَبَتِ الْمُهَايَأَةُ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ فَيَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشَاعُ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا رَهْنًا، وَيَوْمًا غَيْرَ رَهْنٍ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 رَهْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، وَقَبْضُهُ حُكْمٌ مُسْتَدَامٌ، وَخُرُوجُهُ فِي يَوْمِ الْمُهَايَأَةِ عَنْ يَدِهِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ قَبْضِهِ عَنْهُ، وَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ غَيْرِهِ. فَصَارَ كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ يَوْمًا وَعَلَى يَدِ عَدْلٍ يَوْمًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُرْهِنُكَ يوما واسترجعه منك يوما. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إِلَى وَارِثِهِ ومنعه ". قال الماوردي: موت الراهن أو المرتهن بعد العقد وقبل القبض إِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَبْلَ قَبْضِهِ: فَظَاهِرُ نَصِّهِ هَاهُنَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفَسَخَ الرَّهْنَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَفْسَخْهُ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَخْرُجُ ذَلِكَ على قولين: أحدهما: أنه يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَهُوَ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى اللُّزُومِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَسِخَ الرَّهْنُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا يَنْفَسِخَ بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُوَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِهِ وَكَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُؤَجَّلًا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ مؤجلا قبل موته وكان الرَّاهِنُ الْمَعْقُودُ فِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِهِ، وليس كذلك الراهن؛ لأن الدين عليه، فإنما مَاتَ حَلَّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، فَاسْتَحَقَّ مُطَالَبَةَ الْوَرَثَةِ به. فلم يكن لبقاء الرهن معنى. كذلك الفسخ. (فَصْلٌ) فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّهْنَ قَدِ انْفَسَخَ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فَيَ بَيْعٍ فَلَا مَقَالَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ كَانَ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ وَارِثُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. فَإِنْ أَحَبَّ وَرَثَةُ الرَّاهِنِ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِعَقْدِهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ رَهْنَهُ لِجَوَازِ أَمْرِهِ، وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْوَصَايَا، جَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَقَبْضٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ لِحُصُولِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ أَجَابَ الْوَرَثَةُ إِلَى إِقْبَاضِهِ، لِأَنَّ فَسْخَ الرَّهْنِ قَدْ أَوْجَبَ لَهُ خِيَارًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يُسْقِطْهُ مَا حَدَثَ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَارِثِ بِالرَّهْنِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَلَّقَ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِلْوَارِثِ وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِقْبَاضَهُ، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ، أَوِ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا. فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ، أَوْ وَصَايَا أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ دُيُونٌ أَوْ وَصَايَا لَمْ يَجُزْ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ يقبضوا الرهن للمرتهن ما لم توف حُقُوقُ أَرْبَابِ الدَّيْنِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّهْنِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ لِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ رُشْدِهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ. إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الْمُرْتَهِنَ الرَّهْنَ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ. لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ مُخَيَّرًا فَوَارِثُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَبَيْنَ مَنْعِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَهُ الرَّهْنَ فَذَلِكَ لَهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ عَقْدًا جَدِيدًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْوَارِثِ الرَّاهِنِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِهِ أَمْ لَا لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَا يُخْتَلَفُ، لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ مِنَ الرَّهْنِ قَدْ صَارَ إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ لِصِغَرِهِ، أَوْ لِعَدَمِ رُشْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ، أَوْ لَا حَظَّ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَتَوَلَّى إِقْبَاضَ الرَّهْنِ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ إِقْبَاضَ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ، مَا كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ لَهُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. وَإِنْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَظٌّ فِي إِقْبَاضِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي بَيْعٍ فِيهِ فَضْلٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَطَوِّعًا فِي مَالِ الْوَارِثِ بِإِقْبَاضِ مَا لَا يَلْزَمُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ الرَّهْنَ عَنِ الْوَارِثِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الْحَظِّ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الرَّاهِنِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ فِي تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِقْبَاضِهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ مَنْعِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ الْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ مَعَ وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَهُمُ الرَّهْنَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، وَأَقْبَضَهُمْ إِيَّاهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّهُ عَلَى حَالِهِ فِي الصِّحَّةِ. فَإِذَا قَبَضُوا الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِحُصُولِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي حَيَاتِهِ. وَإِنْ مَنَعَهُمُ الرَّهْنَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ، وَالدَّيْنُ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِبُلُوغِهِمْ وَرُشْدِهِمْ فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، أَوْ فَسْخِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ، أَوْ فَسْخِهِ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُمْ لِصِغَرِهِمْ، وَعَدَمِ رُشْدِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّهِمْ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لِأَنَّ فِي إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ تَغْرِيرٌ بِثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي إِمْضَائِهِ حَظٌّ، لِوُفُورِ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا أَوْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ أَمِينًا مُوسِرًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُفْسَخُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ. وَالثَّانِي: لَا يُفْسَخُ لِمَا فِيهِ مِنْ وُفُورِ الْحَظِّ وَأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِغَيْرِهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي وَلِيِّ وَرَثَةِ الرَّاهِنِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ إِقْبَاضُ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَاضِهِ حَظٌّ لَهُمْ أَمْ لَا؟ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْمُرْتَهِنِ. فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا. فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي وَرَثَةِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا مَضَى وَفِي وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا مَضَى. فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ قَبْضِ الرَّهْنِ، فَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَدْ لَزِمَ. وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي فَدَايَنَهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَعْقِدَا الرَّهْنَ مع الحق أو بعده (قال) حدثنا الربيع عن الشافعي قال لا يجوز إلا معه أو بعده فأما قبله فلا رهن ". قال الماوردي: والثاني أَنْ يَعْقِدَ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الحال الأولى: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ ضَمَانِ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ، فيصير الدين ثابت فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. ثم إن من عليه الدين يَدْفَعُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ رَهْنًا بِهِ. فَهَذَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِالرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ بِذَلِكَ رَهْنًا، لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَتُهُ برهن. فإذا رهنه بالدين شيئا وأقبضه، فقدم لَزِمَ الرَّهْنُ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا بَعْدَ فكاكه. وأما الضرب الثاني. الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 يَكُونُ فِي مَوْضِعَيْنِ: إِمَّا فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي دَارَكَ رَهْنًا. أَوْ فِي الْقَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَبْدَكَ رَهْنًا، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ مَعْقُودًا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ عَلَيْهِ وَلَا تَأَخُّرٍ عَنْهُ. فَهَذَا أَيْضًا رَهْنٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ صَحَّتْ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الرَّهْنِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ، وَبَيْنَ مَنْعِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّهْنَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ، وَإِنْ مَنَعَ إِقْبَاضَهُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ. وَقَالَ أبو حنيفة يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ قَدْ صَارَ صِفَةً لِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُجْبَرَ عَلَيْهَا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ ضَمِينٍ، لَمْ يُجْبَرْ فِيهِ عَلَى إِقْبَاضِ رَهْنٍ. أَصْلُهُ: الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ بِغَيْرِ ضَمِينٍ وَلَا رَهْنٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ صَارَ بِالشَّرْطِ صِفَةً لِلْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ، لَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ أَنْ يَصِيرَا صِفَةً لِلْعَقْدِ. وَالرَّهْنُ عَقْدٌ عَلَى حَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يَصِيرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ. (فصل) الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ رَهَنْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي، أَوْ تُبَايِعَنِي، أَوْ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَكَ عَلَيَّ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ إذا ضمن له ما لا قَبْلَ ثُبُوتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَدُّمُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ جَائِزٌ لِجَوَازِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فَجَعَلَ لُزُومَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ تَقَدُّمَ الْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ قَبْلَ، وَبَعْدَ. وَلَوْ كَانَ تَقَدُّمُ الْحَقِّ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ لَقَيَّدَ الرَّهْنَ بِهِ، كَمَا قَيَّدَهُ بِالْقَبْضِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ هِيَ وَثِيقَةٌ لِلْبَائِعِ فِي الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحَقِّ كَالْبَائِعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 يَحْبِسُ الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ، لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمَ الْيَدِ قَبْلَ حَقِّهِ. كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ الْبَائِعُ رَهْنًا فِي يَدِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ. قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ سَوَاءٌ، عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ بَعْدَ الْحَقِّ وَقَبْلَهُ ثُمَّ قَدْ أَجْمَعْنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. فَإِذَا جَازَ الضَّمَانُ فِي مَوْضِعٍ، جَازَ الرَّهْنُ مَعَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لِأَنَّكُمْ قَدْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْحَقِّ فِي الْجَوَازِ، وَقَبْلَ الْحَقِّ فِي الْمَنْعِ. وَأَحَدُ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الضَّمَانُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَنْ يَقُولَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. أَوْ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ. فَإِذَا أَلْقَى مَتَاعَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ. وَالثَّانِي: ضَمَانُ الدَّرْكِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَ الضَّامِنَ غُرْمُ ثَمَنِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِهِ. وَالثَّالِثُ: ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِذَا ضَمِنَهَا عَنِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيٌّ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا وثيقة يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ بِهَا مَعَ الْحَقِّ، فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهَا بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ. أَصْلُهُ: إِذَا قَالَ: قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ. أَوْ قَدْ رَهَنْتُكَ هَذَا عَلَى مَا تُدَايِنُ بِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ؟ وَلِأَنَّ الِارْتِهَانَ هُوَ احْتِبَاسٌ بِالْحَقِّ وَوَثِيقَةٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُ الِاحْتِبَاسِ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ يَقَعُ بِهِ الِاحْتِبَاسُ. وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ رَهْنٍ بِصِفَةٍ، وَالْعُقُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ. كَقَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي. وَلِأَنَّ مَا يُدَايِنُهُ فِي ثَانِي حَالٍ مَجْهُولُ القدر، والرهن في المجهول لا يصح فأما الآية فحجة عليه لأنه تعالى قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 283] ثم قال تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] فَكَانَ الدَّيْنُ الْمَذْكُورُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِيَدٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَغَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِيَدِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ بِعَقْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 البيع الحادث. وأما الذي ذَكَرَهُ مِنْ صِحَّةِ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا نَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِنَا شَرْحًا وَانْفِصَالًا: أَمَّا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، فَلَيْسَ هَذَا بِضَمَانٍ. وَإِنَّمَا اسْتِدْعَاءُ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ يَجْرِي الْحُكْمُ فِيهِ مَجْرَى الْمُعَاوَضَاتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِاللَّفْظِ، وَالضَّمَانُ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالْإِتْلَافِ، لَا بِاللَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ: ضَامِنٌ، وَمَضْمُونٌ عَنْهُ، وَمَضْمُونٌ لَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا ضَمَانُ دَرْكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ضَمَانُ الدَّرْكِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ ضَمَانُهُ جَائِزٌ وَلَا يَكُونُ ضَامِنَ مَالٍ قَبْلَ وُجُوبِهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مِلْكًا، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا، فَالضَّمَانُ لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فَقَدِ اسْتَحَقَّ ثَمَنُهُ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ مَا قَدْ وَجَبَ. فَإِنْ قِيلَ: إذا جاز ضمان الدرك فهل لا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ، وَدَفْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ إِضْرَارًا بِرَاهِنِهِ. إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلَيْسَ فِي الضَّمَانِ إِضْرَارٌ بضامنه فَجَازَ الضَّمَانُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ فِيهِ وَلَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ، لِحُصُولِ الضَّرَرِ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا ضَمَانُ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ ضَمَانُهَا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: مَتَى تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ. فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً، وَيُسْتَحَقُّ قَبْضُهَا بِالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا وَجَبَ وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ الضمان. والثاني: لا يجوز كالدرك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ الْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَهُ وَرَهْنُهُمَا عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يبيعا ويفضلا ويرتهنا فأما أن يسلفا ويرتهنا فهما ضامنان لأنه لا فضل له في السلف يعني القرض ومن قلت لا يجوز ارتهانه إلا فيما يفضل من ولي ليتيم أو أب لابن طفل أو مكاتب أو عبد مأذون له في التجارة فلا يجوز له أن يرهن شيئا لأن الرهن أمانة والدين لازم (قال) فالرهن نقص عليهم فلا يجوز أن يرهنوا إلا حيث يجوز أن يودعوا أموالهم من الضرورة بالخوف إلى تحويل أموالهم أو ما أشبه ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ يَرْهَنُ وَيَرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ. فَأَمَّا الْمَوْلَى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِرَهْنٍ وَلَا ارْتِهَانٍ. وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ وَصِيٌّ لِلْوَرَثَةِ أَوْ أَمِينٌ حَاكِمٌ فَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالثَّانِي: فِي الرَّهْنِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِارْتِهَانُ لَهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ فَيَأْخُذُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا. فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِي دَيْنٍ قَدِ اسْتَقَرَّ بِلَا رَهْنٍ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ وَفَضْلٌ نُظِرَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ بِعَقْدٍ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي شَيْءٍ يَبِيعُهُ مِنْ مَالِهِ. وَالثَّانِي: فِي شَيْءٍ يُقْرِضُهُ مِنْ مَالِهِ. فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا كَانَ لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِنَقْدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِنَسَاءٍ. فَإِنْ كَانَ بِنَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رَهْنًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ. فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ أَوْلَى مِنْ تَسْلِيمِهِ وَأَخْذِ رهن بثمنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِنَسَاءٍ فَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خَمْسَةِ شُرُوطٍ: فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ في الثمن فضل، وهو مثل أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ نَقْدًا بِمِائَةٍ فَيَبِيعُهَا نَسِيئَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَيَكُونُ حَظُّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي النَّسِيئَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ فَضْلِ الرِّبْحِ، وَأَمَّا أَنْ يَبِيعَهُ نَسِيئَةً بِالثَّمَنِ الَّذِي يُسَاوِي نَقْدًا وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي تَأْجِيلِ حَقٍّ يُقْدَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ثِقَةً مُوسِرًا فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَصْفَانِ: الثِّقَةُ وَالْيَسَارُ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْمَالُ تَائِهٌ وَإِنْ كان خائنا فالجحود مَخُوفٌ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مُقْتَصِدًا غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَا مُتَطَاوِلٍ؛ لِأَنَّ فِي بُعْدِ الْأَجَلِ وَتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَغْرِيرًا بِالدَّيْنِ، وَإِضَاعَةً لِلْحَقِّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْدِيدِ الْأَجَلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ: فَحَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّنَةِ وَقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَجَلُ زَائِدًا عَلَى السَّنَةِ لَمْ يَجُزْ. وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَحْدِيدِهِ بِالسَّنَةِ وَاعْتَبَرُوا فِيهِ عُرْفَ النَّاسِ وَشَاهِدَ الْحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ. وَتَبَايُنِ العادات فيها، فيجوز مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ تَعَارُفِ النَّاسِ فِي آجَالِ تِلْكَ السِّلْعَةِ، وَمَنَعُوا مِنْهُ مَا خَرَجَ عن تعارف الناس من آجال تلك السلعة. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا لِيَكُونَ وَثِيقَةً فِي الْحَقِّ، فَلَا يُخْرِجُ مِنْ يَدِهِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ مَالًا إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ لَهُ عَلَيْهِ مَالًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ رَهْنًا مِنَ الثَّمَنِ: فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَأْخُذُ الرَّهْنَ بِالْفَاضِلِ عَلَى ثَمَنِ النَّقْدِ. وَيَتَعَجَّلُ قَبْضَ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقْدًا كَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ تساوي نقدا مائة نقدا وَنَسَاءً مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَعَجَّلَ قَبْضَ الْمِائَةِ وَأَجَّلَ قَبْضَ الْخَمْسِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّلَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِمَالِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: يَأْخُذُ مِنْهُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَكُونُ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ مُنِعَ مِنْ هَذَا حَتَّى يَقْبِضَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ نَقْدًا وَيُؤَجِّلَ الْبَاقِيَ وَيَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا لَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَذَّرًا بَلْ لَا أَحْسَبُهُ فِي الْغَالِبِ مُمْكِنًا، وَلَا أَظُنُّ عَاقِلًا يَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ رَهْنًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ يُقَيَّمُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَكُونَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ خَوْفًا أَنْ يَصِيرَ إِلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 حَالَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ، وَأَوْكَدُ فِي التَّوَثُّقِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِالشَّهَادَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ، كَالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ. وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَالرَّهْنُ أَقْوَى اسْتِيثَاقًا مِنْهَا، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْوَلِيُّ إِلَيْهَا. فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ مَالِهِ وَأَخْذِ رَهْنٍ بِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا قَرْضُ ماله وأخذ رهن بِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا، وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا لَا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ. وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ؛ لِأَنَّ فِي إِقْرَاضِهِ والحالة هذه عدم حظ وقل نَظَرٍ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ كَانَ ضَامِنًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مَخُوفًا وَالسُّلْطَانُ جَائِرًا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ التَّلَفُ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا فَالْقَرْضُ مَخُوفٌ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَحَدَ الْخَوْفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ قَرْضَهُ أَقَلُّ غَرَرًا وَتَرْكَهُ أَكْثَرُ خَوْفًا. فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَرْضِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرِضَهُ لِرَجُلٍ ثِقَةٍ مليء بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ مَالَ الْمَوْلَى إليه كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. فَإِنْ أَقْرَضَهُ غَيْرَ ثِقَةٍ، أو كان ثقة غير مليء لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْمَالِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا بِذَلِكَ لِيَكُونَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ فِي الرَّهْنِ وَفَاءً بِالْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ رَهْنًا أَوْ أَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَلَّا يَأْخُذَ عَلَى الْقَرْضِ رَهْنًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؟ لِأَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَخْرُجَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ، جَازَ أَلَّا يَأْخُذَ رَهْنًا تَخَوُّفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَالَ إِنْ تَلِفَ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ. وَلَيْسَ الرَّهْنُ إِنْ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الِارْتِهَانِ لَهُ فِي دَيْنِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الرَّهْنُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي دَيْنٍ مُتَقَدِّمٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يكون في دين مستحدث. فأما إن كَانَ الدَّيْنُ مُتَقَدِّمًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِعْطَاءَ رَهْنٍ مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ يَتَطَوَّعُ فِي مَالِهِ. بِإِخْرَاجِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَحْدَثًا عَنْ عَقْدٍ فَشَيْئَانِ: ابْتِيَاعٌ وَاقْتِرَاضٌ. فَأَمَّا الِابْتِيَاعُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رَهْنًا. وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شِرَاءِ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ أَوْ كَانَ فِيهِ حَظٌّ لَهُ. فإن كان واجدا لثمنه ابتاعه نَقْدًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ نَسَاءً لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي ابْتِيَاعِهِ بِالنَّقْدِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَ الْمَالُ وَكَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ بِالنَّقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ مَعَ الثَّمَنِ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ، فَلَمْ يُؤْمَنْ تَلَفُ الرَّهْنِ مِنْ مَالِهِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ الثَّمَنُ. فَهَذَا حُكْمُ مَا ابْتَاعَهُ لَهُ بِالنَّقْدِ وَذَلِكَ يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا، أَوْ جَارِيَةٍ يستخدمها أو ثوب يلبسه أو طعام يأكله. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، كَالْأَمْتِعَةِ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعَقَارَاتِ الْمُسْتَصْلَحَةِ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلثَّمَنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا بِالنَّسِيئَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلى مالا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ مَأْكُولٍ، أَوْ لِبَاسٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ. فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِالنَّسِيئَةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي مَالِهِ مَا يَبْتَاعُهُ لَهُ بِالنَّقْدِ. فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَبْتَاعُ مِنْهُ بِالنَّسَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ رَهْنًا فَعَلَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ رَهْنًا بِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبِيعُهُ بِالنَّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَمَا دُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَزْيَدَ قِيمَةً مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الَّذِي يُعْطِيهِ مِمَّا يَقِلُّ الْخَوْفُ عَلَيْهِ، كَالْأَرَضِينَ وَالْعَقَارَاتِ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ بِذَلِكَ رَهْنًا اعْتُبِرَتْ حَالُ الْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، خَوْفًا أَنْ يَدَّعِيَ هَلَاكَهُ وَيُطَالِبَ بِدَيْنِهِ، وَوَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ثِقَةٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَمَانُ الْقَرْضِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْقَرْضِ إِمَّا لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَالِهِ فِي عمارة ما خرب من ضياعه ومرماه ما استهدم من عقاره وليس ينص شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ، جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ حَسَبَ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. فَإِنْ أَمْكَنَ أَلَّا يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ رَهْنًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِإِعْطَاءِ رَهْنٍ، وَإِنْ لَمْ يمكن الِاقْتِرَاضُ لَهُ إِلَّا بِرَهْنٍ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْقَرْضِ، وَيُوضَعُ عَلَى يَدَيِ الْمُقْرِضِ إِنْ كَانَ عَدْلًا أَوْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْرِضُ عَدْلًا، فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُقْرِضِ وَلَيْسَ بِعَدْلٍ كَانَ الْوَلِيُّ ضَامِنًا لَهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فِي رَهْنِهِ وَارْتِهَانِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَلَى دَيْنٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ رَهْنٍ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ فِي دَيْنٍ مُسْتَحْدَثٍ فَإِنْ كَانَ قَرْضًا كَانَ وَلِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنْ كَانَ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا عَلَى ثَمَنٍ مَبِيعٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَيَأْخُذَ رَهْنًا بِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ نَسَاءً لَمْ يَخْلُ حَالُ إِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ لَا غَيْرَ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ، وَإِنْ بَاعَ نَسَاءً كَانَ بَاطِلًا سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ نَسَاءً، فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الثَّمَنِ رَهْنًا سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي أَخْذِهِ أَمْ لَا مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ زِيَادَةُ احْتِيَاطٍ لِلسَّيِّدِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ النَّقْدَ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ بِالنَّسَاءِ. فَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْعِوَضِ فَعَلَى هَذَا: إِنْ بَاعَ بِالنَّسَاءِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ بَاطِلًا، سَوَاءٌ أَخَذَ عَلَيْهِ رَهْنًا أَمْ لَا. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَهْنًا فِيمَا بَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا فَقَالَ الْعَبْدُ: قَدْ فَسَخْتُ الرَّهْنَ لَمْ ينفسخ، ولأنه وَثِيقَةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِقَوْلِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ فَسَخْتُهُ. انْفَسَخَ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دُيُونٌ فَلَا يَنْفَسِخُ الرَّهْنُ بِفَسْخِ السَّيِّدِ لِأَنَّ دُيُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْطِلَ حُقُوقَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ مِنَ الرَّهْنِ، وَالِاسْتِيثَاقِ بِهِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا أَخَذَ رَهْنًا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: قَدْ فَسَخْتُهُ، لَمْ يَنْفَسِخْ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ نَافِذٍ، وَحَالُهُ مَعَهُ كَحَالِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَيَرْهَنَ عِنْدَ سَيِّدِهِ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَبْدُ المأذون له في التجارة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لِابْنِهِ الطِّفْلِ عَلَيْهِ حَقٌّ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ وَلِيُّ الطِّفْلِ أَبًا أَوْ جَدًّا، فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ وَكَثْرَةِ نَفَقَتِهِ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عنه في تصرفه، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَفَ حَالَهُ مَعَ وَلَدِهِ فَقَالَ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ مَجْهَلَةٌ فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا، جَازَ أن يفعل فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ غَيْرِهِ من الأجانب. فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِابْنِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ وَيَجُوزَ أَنْ يُقْرِضَ لِابْنِهِ وَيَقْتَرِضَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَهُ وَيُقْرِضَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ. وَيَجُوزَ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنَ ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ مِنْهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يرهنه ويرتهنه من الأجانب. ولو حصل لِابْنِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهِ. وَلَوْ حَصَلَ لَهُ عَلَى ابْنِهِ دَيْنٌ بِلَا رَهْنٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ رَهْنًا بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِهِ. فَيَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ نَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوِي تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ ابْنِهِ مَعَ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَكَثْرَةِ الشَّفَقَةِ وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. وَأَمَّا الْأُمُّ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا كَالْأَبِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ كَالْأَبِ لِمُشَارَكَتِهِ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَمُّ الْأُمِّ الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ كَالْأُمِّ. وَأَمَّا أَبُو الْأُمِّ فَهَلْ يَكُونُ لَهُ؟ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلِي بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْأُمُّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهَا وَكَانَ لِابْنِهَا وِلَايَةٌ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْوِلَايَةِ مُشَارِكًا لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ وَإِنْ وَلِيَتْ بِنْتُهُ كَمَا لَا حَضَانَةَ لَهُ. ولأنه لما ضعف من الْإِرْثِ، كَانَ عَنِ الْوِلَايَةِ أَضْعَفَ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا وِلَايَةَ لِأُمٍّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي حُنُوِّهِ وَشَفَقَتِهِ، فَلِلْأَبِ اخْتِصَاصٌ بِفَضْلِ النَّظَرِ، وَصِحَّةِ التَّدْبِيرِ، وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ. فَبَايَنَ بِهِ الْأُمَّ لِضَعْفِ النِّسَاءِ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، وَقِلَّةِ وُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِنَّ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمِّ وِلَايَةٌ بِنَفْسِهَا ولا لأحد أدلى بِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَبْتَاعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ، أَوْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ يَرْهَنَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعْقِدُ ذَلِكَ لَفْظًا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ مِنَ ابْنِهِ: قَدْ بِعْتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِ ابْنِي عَلَى نَفْسِي بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِنَفْسِي. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعَ عَلَى ابْنِهِ قَالَ: قَدْ بِعْتُ دَارِي الَّتِي بِمَوْضِعِ كَذَا عَلَى ابْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلْتُ ذَلِكَ لِابْنِي فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتِمُّ. ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْعًا فَلَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَوْضِعَهُ الَّذِي عَقَدَ فيه. فإذا فارقه قام مقام افتراق المتعاقدين بأبدانهما في انبرام البيع. والوجه الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِدُ بِنِيَّتِهِ دُونَ لَفْظِهِ. فَيَنْوِي أَنَّهُ قَدْ بَاعَ عَلَى ابْنِهِ كَذَا وَكَذَا وَيَنْوِي أَنَّهُ قَبِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا لِنَفْسِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ أكثر أصحابنا ولا يكون مخاطبا لنفسه، لأنا نحصل أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْآخَرَ عَنِ ابْنِهِ، فيصير كأنه مخاطب لابنه. (مسألة) قال الشافعي: رضي الله عنه " وإن اقْتَضَى الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، صَارَ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَانَ لَازِمًا مِنْ جِهَتِهِ لِيَصِحَّ الِاسْتِيثَاقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ فَسْخَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا صَحَّ هَذَا وَتَمَّ الرَّهْنُ بِالْقَبْضِ فَقَضَى الرَّاهِنُ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ. أَلَا تَرَى أن ذمة الضامن معقولة بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الرَّهْنِ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الْحَقِّ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّنِي كُلَّمَا قَضَيْتُكَ مِنْهَا مِائَةً خَرَجَ عَشَرَةٌ مِنَ الرَّهْنِ، كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا لِاشْتِرَاطِهِ مَا يُنَافِيهِ فَلَوْ طَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ، وَسَأَلَ فَكَاكَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: لَا أَدْفَعُ الْحَقَّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الرَّهْنِ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أَرُدُّ الرَّهْنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ إِحْضَارِ الرَّهْنِ. فَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُرْتَهِنَ دَفْعُهُ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْحَقِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 (فَصْلٌ) إِذَا قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ إِلَى سَنَةٍ، عَلَى أَنَّنِي إِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لي. وإن لم أقضك مَعَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ لَكَ قَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ وَبَيْعٌ بَاطِلٌ. أَمَّا الرَّهْنُ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِيهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنْ يُمْلَكَ بِالْحَقِّ عِنْدَ تَأَخُّرِ قَضَائِهِ. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ. فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ وَكَانَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ قَبَضَ هَذَا الرَّهْنَ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ. فَإِذَا انْقَضَّتِ السَّنَةُ صار مضمونا عليه. وإنما كان غير مضمون عليه في السنة، ومضمونا عَلَيْهِ بَعْدَ السَّنَةِ، لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ فَاسِدٍ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِأَنَّ الرَّهْنَ الصَّحِيحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَهُوَ بَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مَضْمُونٌ. (فَصْلٌ) وَلَوْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ إِلَى سَنَةٍ. فَإِنْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ مَعَ السَّنَةِ فَالْعَبْدُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَالْعَبْدُ لَكَ، وَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ، كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا، وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، بِخِلَافِ ال ْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: عَلَى أَنَّنِي إِنْ لَمْ أَقْضِكَ، فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ. وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْضِكَ فَقَدْ بِعْتُهُ عَلَيْكَ. فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ. وَبَطَلَ الْبَيْعُ كَمَا بَطَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَعَلُّقِهِ بِالصِّفَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثُمَّ هُوَ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ، وَبَعْدَ السَّنَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا أَرْضًا، فَغَرَسَهَا الْمُرْتَهِنُ، نُظِرَ فِي غِرَاسِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ قَبْلَ تَقَضِّي السَّنَةِ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلَصِهِ وَلَا يُغَرَّمُ أَرْشَ نَقْصِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَرَسَهُ بَعْدَ تَقَضِّي السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ، إِلَّا أَنْ يُغَرَّمَ أَرْشَ نَقْصِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ قَبْلَ السَّنَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْغَرْسِ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ بِيَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا. فَلِذَلِكَ أَخَذَ بِقَلْعِهِ. وَبَعْدَ السَّنَةِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الْغَرْسِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَيْهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيما ابتاعه، فلذلك لم يؤخذ بقلعه. (فَصْلٌ) إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضَمِنَ لَهَا الْأَلْفَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَعْطَاهَا الْعَبْدُ نَفْسَهُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ رَهْنُهُ بِهَا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الْعَبْدِ فلم يجز أن يجعل رَهْنًا فِي الدَّيْنِ، لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ غَيْرُ الْمَوْثُوقِ فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وَنَظِيرُهُ مِنَ الضَّمَانِ: أَنْ يَضْمَنَ زَيْدٌ عَنْ عَمْرٍو أَلْفًا ثُمَّ يَعُودُ عَمْرٌو لِيَضْمَنَهَا عَنْ زَيْدٍ، فَيَكُونُ ضَمَانُ زَيْدٍ بَاطِلًا. فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ مَالٌ عَنْ مُعَامَلَةٍ: فَأَعْطَاهَا زَوْجَهَا رَهْنًا بِمَالِهَا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَهَا لَهُ اسْتِيثَاقٌ بِهِ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ النكاح. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أكرى الرهن من صاحبه أو أعاره إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ خُرُوجَ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ قَبْضِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ خِلَافًا لأبي حنيفة. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِيَّاهُ قَصَدَ الشَّافِعِيُّ. وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى مَذْهَبِكُمْ أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَنَمَاءَهُ لِلرَّاهِنِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّهْنَ أَوْ يَسْتَعِيرَهُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ؟ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ عَوْدَ الرَّهْنِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ لَا يَفْسَخُ الرَّهْنَ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ جَعَلَ عَوْدَهُ إِلَى يَدِهِ فَاسِخًا لِلرَّهْنِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهَا لَفْظُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَأَوْرَدَهُ عَلَى جِهَتِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ صحة إجاراته، وَإِعَارَتِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ إِضْمَارًا يَصِحُّ عَوْدُ الْجَوَابِ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَهْنٍ فَقَدْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الرَّاهِنِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِي يَدِهِ بِعَقْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ. وَالثَّانِي: عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى رَقَبَتِهِ. فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ لِأَجْلِ الْإِجَارَةِ مَالِكًا لِمَنَافِعِهِ. فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَالْعَارِيَةُ جَائِزَةٌ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ. وَقَدْ يَصِحُّ مَثَلٌ فِي الْوَصَايَا فِي رَجُلٍ وَصَّى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ أَوْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَوْتِهِ وَقَبُولِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ رَهَنَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بالمنفعة، فصارت المنفعة بِالْوَصِيَّةِ وَالرَّقَبَةِ فِي يَدِهِ بِالرَّهْنِ، فَلَوْ عَادَ الراهن فاستأجر الْعَبْدَ الْمَرْهُونَةُ رَقَبَتُهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ، كِنَايَةٌ تَعُودُ إلى المرتهن دين الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ رَهْنِهِ، كَمَا يُضَافُ إِلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 الرَّاهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ أَوِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ السَّابِقِ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْحَادِثَةِ. وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الشَّافِعِيِّ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الرَّاهِنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ: وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مَنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ يُرِيدُ أَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنِ انْتَفَعَ بِالرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَفَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ فَأَمَّا مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَيُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَذَا الْجَوَابُ ذَكَرَهُ ابْنُ أبي هريرة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ وَأَذِنَ له بقبضه فجاءت عليه مدة يمكنه أن يقبضه فيها فَهُوَ قَبْضٌ لِأَنَّ قَبْضَهُ وَدِيعَةً غَيْرُ قَبْضِهِ رهنا (قال) ولو كان في المسجد والوديعة في بيته لم يكن قبضا حتى يصير إلى منزله وهي فيه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ رَهَنَهَا عِنْدَ الْمُودَعِ بِحَقٍّ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِالْوَدِيعَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِهَا وَقَدْ شَاهَدَاهَا جَازَ رَهْنُهَا. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ كَانَ ارْتِهَانُ مَا بِيَدِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ ارْتِهَانُهَا جَائِزًا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ وَقَبْضٍ. فَأَمَّا الْعَقْدُ فَبَذْلٌ مِنَ الرَّاهِنِ وَقَبُولٌ مِنَ الْمُرْتَهِنِ كَسَائِرِ عُقُودِ الرَّهْنِ. وَأَمَّا الْقَبْضُ فَيَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ لَهَا حَالَتَيْنِ: إحداهما: أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ كَوْنَهَا فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ. فَإِنْ تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ فَقَبْضُهَا: أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ الرَّهْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الرَّاهِنِ فِي الْقَبْضِ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ: مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ: إِذَا وَهَبَ لَهُ وديعة في يده وقبلها الموهوبة لَهُ فَاتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْقَبْضِ فَقَدْ تَمَّ قَبْضُهَا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَاكَ الْإِذْنَ فِي الْقَبْضِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا لَا يَلْزَمَانِ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ مَالِكِهَا وَفِي ارْتِهَانِهَا أَوْ هِبَتِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الْحُكْمِ فِي يَدِ الْمَالِكِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِذْنٍ فِي الْقَبْضِ كَمَا لَمْ يَزَلْ فِي يَدِ الْمَالِكِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ وَيَكُونُ أَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ بَعْدِ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ. فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمُدَّةٍ يراعى زَمَانُ الْقَبْضِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُعْتَدًّا بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ لَا فِي الْهِبَةِ وَلَا فِي الرَّهْنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِذْنَ فِي الرَّهْنِ تَأْكِيدًا. وَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ: فَقَبْضُ مَا يُنْقَلُ: أَنْ ينقله لِلْقَابِضِ، وَقَبْضُ مَا لَا يُنْقَلُ: أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَابِضِ. كَذَلِكَ قَبْضُ مَا فِي الْيَدِ: أَنَّ يَمُرَّ عَلَيْهِ زَمَانُ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْقَابِضِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ، وَأَوَّلُ زَمَانِ الْقَبْضِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَحْتَاجُ رَهْنُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ هِبَةُ الْوَدِيعَةِ إِلَى إِذْنٍ فِي قَبْضِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فَضَعُفَ عَنْ أَنْ يَتِمَّ إِلَّا بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ، وَالْهِبَةَ تَنْقُلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَتْ عَنْ أَنْ يَفْتَقِرَ تمامه إِلَى الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ. وَيَتِمُّ فِي الرَّهْنِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا تَيَقَّنَ كَوْنَهَا بِيَدِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ حَيَوَانًا يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فِي مَوْضِعٍ قَدْ حَدَثَ فِيهِ خَوْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ فِيهِ. فَمِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فِي هَذَا: أَنْ يَمْضِيَ الْمُودِعُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَى مَوْضِعِ الْوَدِيعَةِ فَيُشَاهِدَهَا بَاقِيَةً فِيهِ. وَهَلْ يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى مُضِيِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِيَعْلَمَ بَقَاءَهَا فَتَكُونُ عَلَى حَالِهَا فِي حُكْمِ أَصْلِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُضِيٌّ لِلْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ شَرْطًا فِي الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ. فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى مُضِيِّ الْمُرْتَهِنِ جَازَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ مَعَهُ لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ عَقْدِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَضَى أَحَدُهُمَا لِمُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ مَضَيَا جَمِيعًا أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمَا مِنْ نَائِبٍ أَوْ وَكِيلٍ فَشَاهَدَاهَا بَاقِيَةً فَيَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَسْتَأْنِفَا عَقْدَ الرَّهْنِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِذْنِ فِي قَبْضِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْوَدِيعَةِ. فَلَوْ مَرَّ عَلَيْهَا زَمَانُ الْقَبْضِ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يصح الْقَبْضُ. وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْمُشَاهَدَةِ. فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: الْمُضِيُّ إلى موضع الوديعة لمشاهدتها باقية فيه. فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا بَعْدَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا. فَإِنْ أَذِنَ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَقَعِ الْإِذْنُ مَوْقِعَهُ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لِيَتِمَّ بِهِ الْقَبْضُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُضِيَّ الْمُرْتَهِنِ وَحْدَهُ لِمُشَاهَدَتِهَا جَائِزٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهَا قَبْلَ الْمُضِيِّ لِمُشَاهَدَتِهَا فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ حَتَّى يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ زَمَانُ الْقَبْضِ، فَيَتِمُّ حِينَئِذٍ الْقَبْضُ فَيَكُونُ تَقَدُّمُ الْإِذْنِ وَتَأَخُّرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حُضُورِ الرَّاهِنِ مَعَ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَيْهِمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ إِلَّا مَا حَضَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ لَا حَائِلَ دُونَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ. فَإِنْ وَكَّلَ الرَّاهِنَ فِي قَبْضِهِ لَهُ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنُ عَبْدَ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ لَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ سَيِّدِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الرَّاهِنِ فِي قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ عَبْدِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ ابْنَ الرَّاهِنِ أَوْ أَبَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّ يَدَ الِابْنِ وَالْأَبِ لَيْسَتْ يَدًا لَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 وَأَمَّا حُضُورُ الرَّاهِنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِهِ وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى إذنه دون حضوره. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْرَارِهِمَا، كَمَا يَلْزَمُ بِمُشَاهَدَةِ قَبْضِهِمَا، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ بِهِمَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِلرَّهْنِ الْمُقَرِّ بِقَبْضِهِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا. فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَحَّ إِقْرَارُهُمَا بِقَبْضِهِ سَوَاءٌ أَطْلَقَا الْإِقْرَارَ بِقَبْضِهِ أَوْ قَيَّدَاهُ بِزَمَانٍ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِقْرَارِ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا ... فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا كَانَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِهِ لَازِمًا، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّا وَهُمَا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ مَرْهُونَةٍ بِالْكُوفَةِ وَلَا يَذْكُرَانِ زَمَانَ الْقَبْضِ فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِقْرَارِهِمَا بِالْقَبْضِ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانٍ مُمْكِنٍ فَلِذَلِكَ لَزِمَ. وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّمَانِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهِ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ. فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ فَهَذَا إِقْرَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فَصُورَتُهُ أَنْ يُقِرَّا بِالْبَصْرَةِ بِقَبْضِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهَذَا إِقْرَارٌ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَالْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ لِلرَّهْنِ جَائِزٌ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُرْتَهِنَ أَنَّهُ قَبَضَ مَا كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِهِ أَحْلَفْتَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، فَيَصِيرُ مَقْبُوضًا بِإِقْرَارِهِمَا ثُمَّ يَرْجِعُ الرَّاهِنُ فِي إِقْرَارِهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ قَدْ أقر بتعليم الرَّهْنِ عَلَى جَهَالَةٍ. فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا قَبْضَ وَالرَّهْنُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالرَّاهِنُ فِيمَا بَعْدُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ الرَّهْنَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ. وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُرْتَهِنُ فِي رُجُوعِهِ وَادَّعَى حُصُولَ الْقَبْضِ الَّذِي حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي حُصُولِ الْقَبْضِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الرَّاهِنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ الَّذِي أَقَرَّ بِقَبْضِهِ غَائِبًا عَنْهُمَا. فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ بِاللَّهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ قَبَضَ الرَّهْنَ. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا فَإِقْرَارُ الرَّاهِنِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَوْلِ وَكِيلِهِ أَنَّهُ سَلَّمَ الرَّهْنَ. ثُمَّ يَعْلَمُ كَذِبَ الْوَكِيلِ. وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الرَّهْنَ فَيَكُونُ لِمَا ادَّعَاهُ ثَانِيَةً مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ السَّابِقِ بِإِقْرَارِهِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ حُكِمَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَتَمَامِ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَكَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ تَامٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِنْ شَاءَهُ وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَحُكِمَ بِتَمَامِ الرهن. والثاني: أن يكون الرهن المقر بقبضه حاضرا قبل حلف المتهم؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي علي بن خيران: أن يَجِبُ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاضِرِ عَنْ قَوْلِ وَكِيلِهِ، كَمَا يَحْتَمِلُ فِي الْغَائِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حكم اليمين منهما. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ وَإِنْ حَلَفَ فِي الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِ الْحَاضِرِ أَنَّهُ تَوَلَّى تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بِرُجُوعِهِ يَمِينٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ تَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَالٍ، أَوْ قَبْضِ ثَمَنٍ فِي مَبِيعٍ، ثُمَّ عَادَ الْمُقِرُّ فَقَالَ: كَانَ إِقْرَارِي بِالْمَالِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، وَإِقْرَارِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَسَأَلَ يَمِينَ الْمُقَرِّ لَهُ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ الْحَاضِرِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْلِفُ وهو قول أبي إسحاق. (فَصْلٌ) إِذَا أَنْكَرَ الرَّاهِنُ تَسْلِيمَ الرَّهْنِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ وَتَمَّ الرَّهْنُ. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ إِحْلَافُهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِتَقَدُّمِ التَّسْلِيمِ، فَيَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحَلِّفُونَهُ. وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا، فَتَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُحَلِّفُونَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِحْلَافِ الْمُرْتَهِنِ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَهُ جَرْحًا لِلشُّهُودِ، وَتَعْلِيلًا لِشَهَادَتِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ بِمُسْتَأْنِفٍ لِدَعْوَى، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ شَيْئًا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى، فَجَازَ أَنْ يُحَلَّفَ الْمُرْتَهِنُ عنها. (فَصْلٌ) إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ ثُمَّ عَادَ الْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ وَيَدَّعِي أَنَّ إِقْرَارَهُ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ عَلَى جَهَالَةٍ كَمَا ادَّعَى الرَّاهِنُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الرَّاهِنِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رُجُوعِ الرَّاهِنِ وَسُؤَالِهِ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ، لاستوائهما في تمام القبض بإقرارهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَبْضُ فِي الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَمَا يَحُولُ أَنْ يَأْخُذَهُ مُرْتَهِنُهُ مِنْ يَدَيْ رَاهِنِهِ وَقَبْضُ مَا لَا يَحُولُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ أَنْ يُسَلَّمَ لَا حَائِلَ دُونَهُ وَكَذَلِكَ الشِّقْصُ وَشِقْصُ السَّيْفِ أَنْ يَحُولَ حَتَّى يَضَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ يَدَيِ الشَّرِيكِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقَبْضِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حُكْمِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَدْ مَضَى. وَالثَّانِي: فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِهِ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا لِلْمُشْتَرِي صَارَ بِهِ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا لِلْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الرَّهْنَ ضَرْبَانِ: مَحُوزٌ وَمُشَاعٌ. فَأَمَّا الْمَحُوزُ فَضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ. فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ: الدُّورُ وَالْعَقَارُ وَالْأَرَضُونَ. وَقَبْضُ ذَلِكَ يَكُونُ بِرَفْعِ يَدِ الرَّاهِنِ عَنْهَا، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَهَا، وَالْمَنْقُولُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَقَبْضُهُ بِشَيْئَيْنِ: الْكَيْلُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ مَكِيلًا. وَالْوَزْنُ وَالتَّحْوِيلُ إِنْ كَانَ موزنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 وضرب لا يحتاج إلى كيل لا وزن. فقبضه ينقله عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِالنَّقْلِ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ أَمْ لَا؟ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ لَا يَكُونُ قَبْضًا حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حَتَّى يَحُوزَهُ التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُشَاعُ فَضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ وَغَيْرُ مَنْقُولٍ. فَغَيْرُ الْمَنْقُولِ كأرض أو دار منه سهاما منها مشاعا، فصحة القبض في هذا مفتقرا إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ وَلِلشَّرِيكِ يَدٌ فَكَانَ حُضُورُهُ فِي الْقَبْضِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ. فَإِذَا حَضَرَ الشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَرَفَعَ الرَّاهِنُ يَدَهُ عَنْ حِصَّتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَصَارَتْ فِي قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ تَرَاضَيَا الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ. وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الشَّرِيكِ جَازَ. وَإِنْ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ جَازَ. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ كَسَهْمٍ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَوْهَرَةٍ أَوْ عَبْدٍ، فَقَبْضُ ذَلِكَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى حُضُورِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ. فَإِنْ أَذِنَ الشَّرِيكُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي نَقْلِ جَمِيعِهِ صَحَّ، وَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلشَّرِيكِ فِي قَبْضِ جَمِيعِهِ لَهُ بِالتَّحْوِيلِ جَازَ، وَإِنْ أَذِنَا لِعَدْلٍ فِي قبضه لهما جاز. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ بِغَصْبٍ لِلرَّاهِنِ فَرَهَنَهُ إِيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ كَانَ رَهْنًا وَكَانَ مضمونا على الغاصب بالغصب حَتَّى يَدْفَعَهُ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ يُبَرِّئَهُ من ضمان الغصب (قال المزني) قلت أنا يشبه أصل قوله إذا جعل قبض الغصب في الرهن جائزا كما جعل قبضه في البيع جائزا أن لا يجعل الغاصب في الرهن ضامنا إذ الرهن عنده غير مضمون ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ ثم إن الغاصب حصل لَهُ عَلَى الْمَالِكِ مَالٌ فَرَهَنَهُ الْمَالِكُ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ، فَالرَّهْنُ جَائِزٌ وَيَصِيرُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ. وَإِنَّمَا جَازَ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ الْمُرْتَهِنِ عليه يد وَمَنْ عَقَدَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى مِنْ عَقْدِهِ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ. فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ كَانَ تَمَامُهُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُضِيُّ زَمَانِ الْقَبْضِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ بَقَاؤُهَا مَعْلُومًا. وَالثَّانِي: الْإِذْنُ فِي قَبْضِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْمُودِعَ قَابِضٌ مُتَسَلِّمٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْغَاصِبُ لَيْسَ بِقَابِضٍ، فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنٍ. فَإِذَا تَمَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بَاقِيًا لَا يَزُولُ عَنْهُ بِالرَّهْنِ الْحَادِثِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ: قَدْ زَالَ ضَمَانُ الْغَصْبِ بِالرَّهْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لا يقتضي زمان الْغَصْبِ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَلَيْهِ سَقَطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ فَوَجَبَ إِذَا رَهَنَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْغَصْبِ لوجب إذا ورد على ضمان الغصب أن يسقطه كَالْبَيْعِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ يُنَافِي الضَّمَانَ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْكَ لَمْ يَصِرْ مضمونا، وإذا تنافيا بابتداء لَمْ يَجْتَمِعَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، فَلَمَّا ثَبَتَ عَقْدُ الرَّهْنِ اتِّفَاقًا انْتَفَى الضَّمَانُ حِجَاجًا. قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْغَصْبِ حُكْمَيْنِ: الضَّمَانُ بِابْتِدَائِهِ. وَالْإِثْمُ بِاحْتِبَاسِهِ. فَلَمَّا كَانَ عَقْدُ الرَّهْنِ رَافِعًا لِلْإِثْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلضَّمَانِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْغَصْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ كَالْإِثْمِ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ كَمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ، فَلَمَّا صَارَ مَقْبُوضًا رهنا وجب أن ينتقل عن كونه كَمَا لَوْ صَارَ مَقْبُوضًا وَدِيعَةً. فَانْتَقَلَ عَنْ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا غَصْبًا وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِضَمَانِ الْغَصْبِ كَالْوَدِيعَةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى غَاصِبِهِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يُنَافِي ضَمَانَ الْغَصْبِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِانْتِهَاءِ لَمْ يَمْنَعْ ضَمَانَ الْغَصْبِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ عَقْدُ رَهْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَالِانْتِهَاءِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ كَمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَنْفِي ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْفِيَ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ ضَمَانٌ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ بِالرَّهْنِ كَضَمَانِ الْجِنَايَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ قَدْ يَصِيرُ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ، كَمَا يَصِيرُ مَرْهُونًا بِعَقْدِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى الْغَاصِبِ جِنَايَةً وَجَبَ أَرْشُهَا فِي رَقَبَتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا بجنايته فوجب إِذَا رَهَنَهُ بِحَقٍّ فَصَارَ وَثِيقَةً فِي رَقَبَتِهِ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ وُجُوبَ ضَمَانِهِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَاصِبِ بِرَقَبَتِهِ كَالْجِنَايَةِ. وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَوْ سَقَطَ بِارْتِهَانِ الْغَاصِبِ لَسَقَطَ بِارْتِهَانِ غَيْرِ الْغَاصِبِ. فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْغَاصِبِ إِذَا ارْتَهَنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْغَاصِبِ ضَمَانُهُ وَجَبَ إِذَا ارْتَهَنَهُ الْغَاصِبُ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ عَنْهُ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ ضَمَانُهَا بِعَقْدِ الرَّهْنِ. أَصْلُهُ: إِذَا رَهَنَهُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ زَالَتْ أَحْكَامُ مِلْكِهِ، وَالضَّمَانُ مِنْ أَحْكَامِ مِلْكِهِ، فَسَقَطَ وَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكُ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكَ فَلَمْ يَزُلِ الضَّمَانُ، عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ مُنَافِيًا لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي اسْتِدَامَتِهِ كَانَ غَيْرَ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فِي ابْتِدَائِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ فغلط، لأن ابتداء الرهن، إنما كان منافيا للضمان من ناحية الرهن. وكذلك فِي اسْتِدَامَتِهِ مُنَافٍ لِلضَّمَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الضَّمَانُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّهْنِ فَلَا يُنَافِيهِ فِي ابْتِدَائِهِ كَمَا لَا يُنَافِيهِ فِي اسْتِدَامَتِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ، فَالْمَعْنَى فِي الْإِثْمِ: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِاحْتِبَاسِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ، وَبِالرَّهْنِ زَالَ احْتِبَاسُهُ بِالْعُدْوَانِ وَصَارَ مُحْتَبِسًا بِحَقٍّ فَلِذَلِكَ زَالَ الْإِثْمُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْغَصْبِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ رَافِعًا لِلْإِثْمِ المستحق باحتباسه قبل الرهن ولما كَانَ رَافِعًا لِلْإِثْمِ فِيمَا بَعْدُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ رَافِعٍ لِلضَّمَانِ الْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الرَّهْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَدِيعَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي الْوَدِيعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن يَدَ الْإِنْسَانِ لَا تُبَرِّئُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَجَانِبِ، كما لو كان عَلَيْهِ طَعَامٌ فَوَكَّلَهُ فِي اكْتِيَالِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي يَدِهِ فَفَعَلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ. فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى حُكْمُ الرَّهْنِ وَالْوَدِيعَةِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَسْقُطُ بِالْوَدِيعَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ فَصَارَ بِالْوَدِيعَةِ كَالْعَائِدِ إِلَى يَدِ مَالِكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ يَدَهُ لِنَفْسِهِ دُونَ مَالِكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالضَّمَانَ يَتَنَافَيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُودِعًا وَإِذَا تَنَافَيَا وَصَحَّتِ الْوَدِيعَةُ سَقَطَ الضَّمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالضَّمَانَ لَا يَتَنَافَيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرْتَهِنًا فَلَمْ يسقط الضمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِالرَّهْنِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبَرِّئَهُ الْمَالِكُ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَيَقُولُ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الضَّمَانِ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ الشَّيْءُ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ إِمَّا قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَا بَعْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ اخْتَارَهُ الرَّاهِنُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ فَأَمَّا إِنْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا إِنْ أَجَرَهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ قِيلَ: بِالْوَدِيعَةِ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَبِالْإِجَارَةِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الضَّمَانِ، وَإِنْ قِيلَ: بِالْوَدِيعَةِ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَفِي الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَبْرَأُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ. وَالثَّانِي: يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْإِجَارَاتِ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ يَسْتَحِقُّ فِيهَا عِوَضًا. فَأَمَّا إِنْ جَعَلَهُ مُضَارَبَةً فِي يَدِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ كَالْوَدِيعَةِ وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي الْمَالِ بِحَقِّ الْمُضَارَبَةِ فَالضَّمَانُ بَاقٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ نُظِرَ، فَإِنِ ابْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الْمَالَ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، وَإِنِ ابْتَاعَ بِعَيْنِ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ صَارَ دَافِعًا لِلْمَالِ إِلَى مستحقه عن إذن المال فبرئ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِذَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ صَارَ قَاضِيًا لِدَيْنٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ شَيْئًا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَإِنْ رَهَنَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَغْصُوبِ فِيمَا مَضَى مِنَ التَّفْرِيعِ. إِذَا اسْتَعَارَ الرَّجُلُ عَارِيَةً فَقَدْ ضَمِنَهَا، فَإِنِ ارْتَهَنَهَا فَهَلْ تَبْطُلُ الْعَارِيَةُ أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الرَّهْنِ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا كَانَ مُنْتَفِعًا بِهَا قَبْلَ الرَّهْنِ فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: قَدْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِالرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ ضَمَانُهَا، بخلاف الغصب، لأن الرهن هاهنا قَدْ رَفَعَ الْعَارِيَةَ فَارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الغصب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ دَارَيْنِ فَقَبَضَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يَقْبِضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا دُونَ الْأُخْرَى بِجَمِيعِ الحق ". قال الماوردي: إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ فَإِنْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُمَا كَانَتَا رَهْنًا مَعًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ. وَلَوْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ أَقْبَضَهُ الدَّارَيْنِ كَانَتَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ، وَإِنْ أَقْبَضَهُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَتِ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِحِصَّتِهَا مِنَ الْأَلْفِ، وَلَا تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ اسْتِدْلَالًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ عُقِدَ عَلَى عَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ كَالْبَيْعِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ بَاعَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كانت كل واحدة منهما مبيعة بحصتهما مِنَ الْأَلْفِ، وَلَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ضَمِنَا أَلْفًا عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَكُونُ الْأَلْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. كَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا رَهَنَهُ دَارَيْنِ بِأَلْفٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمَا وَلَا تَكُونُ جَمِيعُ الْأَلْفِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ حَتَّى لَوْ رَهَنَهُ عَلَى أَلْفٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِالدِّرْهَمِ الْبَاقِي، دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ رَهْنٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِالْمَبِيعِ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ ثَمَنِهِ كَانَ لَهُ حَبْسُ جَمِيعِهِ بِالْبَاقِي؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ مَا قَبَضَ وَيَحْتَبِسُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ حَتَّى لَوْ بَاعَ كُرَّيْنِ من طعام بألف وقبض منها نَصِفَهَا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الْكُرَّيْنِ، وَكَانَ لَهُ احْتِبَاسُ الْكُرِّ الْبَاقِي فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ. ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ فِي الْمَبِيعِ حَقَّيْنِ: حَقَّ اسْتِحْقَاقٍ، وَهَذَا مُتَقَسِّطٌ وَحَقُّ اسْتِيثَاقٍ وَهَذَا غَيْرُ مُتَقَسِّطٍ كَالرَّهْنِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْتَبِسُهُ بِحَقِّ الِاسْتِيثَاقِ لَا بِحَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالرَّهْنِ. وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَذِمَّةَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 الضَّامِنِ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ كُلِّهِ وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ وثيقة في الحق كله وفي كل جزء مِنْ أَجْزَائِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَبِيعِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْمَبِيعِ عِوَضٌ عَنْهُ وَالْعِوَضُ عَنْ جَمِيعِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ بَعْضِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَثِيقَةٌ، وَالْوَثِيقَةُ فِي الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَثِيقَةً فِي بَعْضِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الضَّامِنَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الضَّامِنَيْنِ هُمَا كَالْعَاقِدَيْنِ فَلِذَلِكَ تَبَعَّضَ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ إِذَا كَانَ فِي عَقْدَيْنِ كَانَ مُتَبَعِّضًا كَالضَّامِنَيْنِ. وَأَمَّا الْعَقْدُ الْوَاحِدُ فَهُوَ كَالضَّامِنِ الْوَاحِدِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُوضَةَ مِنَ الدَّارَيْنِ تَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْحَقِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْمَبِيعِ بِارْتِهَانِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لِأَنَّهُ شَرَطَ ارْتِهَانَ دَارَيْنِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلا ارتهان إحداهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا وَمَا سَقَطَ مِنْ خَشَبِهَا أَوْ طُوبِهَا يعني الآجر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا رَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، سَوَاءٌ انْهَدَمَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، لِبَقَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ؟ فَهَلَّا كَانَ إِذَا ارْتَهَنَ دَارًا فَانْهَدَمَتْ بَطَلَ الرَّهْنُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ تَبْطُلُ الْمَنَافِعُ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. وَعَقْدُ الرَّهْنِ عَلَى عَيْنِ الدَّارِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ لَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ وَلَوِ ارْتَهَنَ دَارًا مَهْدُومَةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا صَحَّ الرَّهْنُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ تَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ. فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ بِالْعَيْبِ خِيَارٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَمَا بَقِيَ مِنَ الدَّارِ ما سَقَطَ مِنْ خَشَبٍ وَطُوبٍ رَهْنٌ بِحَالِهِ يُبَاعُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ إِنْ تَعَذَّرَ استيفاؤه من الرهن. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَقَرَّ بِهِ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَهَنَ جَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ لَا يَدَّعِيهِ: فَإِنِ ادَّعَاهُ وَلَدًا مِنْ وَطْءٍ كَانَ قَبْلَ الرَّهْنِ، فالولد لا حق بِهِ بِدَعْوَاهُ سَوَاءٌ صَدَّقَ الْمُرْتَهِنُ أَوْ كَذَّبَ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ. وَأَمَّا الْأُمُّ فَتَرْجِعُ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ وَتَكْذِيبِهِ فِيهَا لِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي رَقَبَتِهَا بَعْدَ الرَّهْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ صَارَتِ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ فَلِلرَّاهِنِ حَالَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ إِقْبَاضِهَا لِلْمُرْتَهِنِ وَيُعْلَمُ ذَلِكَ إِمَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ فَيُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَطْءٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَقَوْلُ الرَّاهِنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِعِلْمِنَا بِكَذِبِهِ إِذِ الْحَمْلُ لَا يَكُونُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ رَهْنًا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَا حُفِظَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا. فَهَذَا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تضعه أقل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَتَخْرُجُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعُلُوقِ عَلَى الْقَبْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْجَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ عُلِمَ حُدُوثُ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَدُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَتَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ كَالْوَاطِئِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّاهِنِ إِذَا ادَّعَى بَعْدَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ أَنَّ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ. كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فَمَعَ يَمِينِهِ لَا يَخْتَلِفُ. فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا، فَإِنْ بَدَأَتِ الْجَارِيَةُ الْيَمِينَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَجَابُوا إِلَى الْيَمِينِ عِنْدَ نكول المفلس قيما يَسْتَحِقُّهُ بِيَمِينِهِ إِنْ حَلَفَ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ القول قول الراهن نفي الْيَمِينِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا اعْتَرَفَ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ قَبْلَ رَهْنِهِ، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَقِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الراهن هل عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَذَلِكَ هاهنا وإذا كان القول قوله هل عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ. فَإِنْ حَلَفَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا ادَّعَاهُ الرَّاهِنُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ وَلَدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 أحدهما: ألا يكون منه إقرارا بِوَطْئِهَا وَلَيْسَ يَدَّعِي وَلَدَهَا. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ، وَالْجَارِيَةُ فِي الرَّهْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ، لِأَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ عِنْدَنَا خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَهُوَ حُرٌّ إِذَا وَضَعَتْهُ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءَهَا فَإِنِ ادعى استبراءها كان القول قوله مع يمينيه وَكَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ. فَأَمَّا خُرُوجُ الْأُمِّ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ فِي شَرْحِهِ: لَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ قَالَ: لِأَنَّ الْوَلَدَ لَحِقَ بِهِ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ لَا بِالِاعْتِرَافِ وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي غير صحيح؛ لأن خرجها مِنَ الرَّهْنِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا صَارَتْ أُمَّ ولد، وهي تصير أم ولد بالفراش فَوَجَبَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا لَحِقَ وَلَدُهَا بِالِاعْتِرَافِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لأقل من ستة أشهر خرجت من الراهن فَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ. فلو قالت الجارية: هذا الولد من زنا وَلَيْسَ مِنَ الرَّاهِنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ السَّابِقِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا وَضَعَتْهُ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَوْ بَقَائِهَا فِيهِ مَعَ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِالرَّاهِنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَإِلَى حُكْمِهَا إِنْ بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ، فَأَمَّا حُكْمُهَا إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَصَفْنَا. فَخُرُوجُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِعُلُوقٍ قَبْلَ الرَّهْنِ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَبَطَلَ الرَّهْنُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَطْءِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْإِحْبَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ. فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وقبل القبض والبيع جَائِزٌ لَا يُخْتَلَفُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَصَارَ بُطْلَانُهُ كَبُطْلَانِ الرَّهْنِ التَّالِفِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ الَّذِي شَرَطَهُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ الْعَقْدِ فَقَدْ بَانَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا وَلَا الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَصَارَ الثَّمَنُ معقودا بشرط رهن باطل فكان البيع قولان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ فِي الْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِاسْتِقْلَالِ الْبَيْعِ بِحُكْمِهِ وَصِحَّةِ تَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. . فَهَذَا حُكْمُ الْجَارِيَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ وخيار المرتهن. فأما حكمهما إِذَا بَقِيَتْ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنَ الرَّاهِنِ. فَإِذَا استوفى الحق فيه خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ، ثُمَّ هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ بِيعَتْ لِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ عَادَ الرَّاهِنُ فَمَلَكَهَا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بيعها ورهنها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اغْتَصَبَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَطِئَهَا فَهِيَ بِحَالِهَا فَإِنِ افْتَضَّهَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَحْبَلَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا لَمْ تُبَعْ مَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَلَدَتْ بِيعَتْ دُونَ وَلَدِهَا وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تَكُونُ رَهْنًا أَوْ قصاصا من الحق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَمَّا إِذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ رَهْنَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ تَحْبَلْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ أَقْبَضَهَا بِذَلِكَ الْعَقْدِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ حَالَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ اللَّاتِي يُخَافُ مِنْ وَطْئِهِنَّ الْحَبَلُ. فَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهَا؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى إِحْبَالِهَا وَإِحْبَالُهَا مُبْطِلٌ لِرَهْنِهَا وَمَا أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ الرَّهْنِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا دُونَ الْفَرْجِ. إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِحْبَالٌ لَهَا قِيلَ: لَا يجوز. لأن وطئها دُونَ الْفَرْجِ دَاعٍ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ، وما كان داعيا أَمْرٍ مَمْنُوعٍ مِنْهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعًا منه كإمساك الخمر فما كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ تَنَاوُلِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ إِمَّا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَفِي جَوَازِ وَطْءِ الرَّاهِنِ لَهَا وجهان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا الْمُفْضِيَ إِلَى إِبْطَالِ رَهْنِهَا مَأْمُونٌ. فَصَارَ الْوَطْءُ كَالِاسْتِخْدَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا، لِأَنَّ الْإِيَاسَ مَظْنُونٌ وَحَبَلُ الْمُرَاهِقَةِ غَيْرُ مَأْمُونٍ. فَصَارَ كَالشَّرَابِ لَمَّا كَانَ مَا يُسْكَرُ مِنْهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ. وَيَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْأَشْرِبَةِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَوَطْؤُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَهِيَ بِحَالِهَا رَهْنٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَطَأَ فِي الْفَرْجِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ثُمَّ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْبِلَهَا. وَالثَّانِي: أَلَّا يُحْبِلَهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْبِلْهَا فَلَهَا حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِكْرًا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا. فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ الْوَاطِئِ مِنْ مَهْرٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ كَسْبِهَا وَكَسْبُهَا لِلرَّاهِنِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ وَطِئَهَا فَلَزِمَهُ الْمَهْرُ كَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ هُوَ الرَّاهِنَ لَمْ تَلْزَمْهُ غَرَامَةُ الْمَهْرِ فِي الرَّهْنِ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَمَا نَقَصَهَا الِافْتِضَاضُ بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا لِيَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْبَكَارَةِ بَدَلٌ مِنْ إِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْهَا وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا فَلَزِمَهُ أَرْشُهَا كَانَ الْأَرْشُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُزِيلَ الْبَكَارَةِ هُوَ الرَّاهِنَ لَزِمَهُ غَرَامَةُ الْأَرْشِ فِي الرَّهْنِ. فَهَذَا حُكْمُ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ. فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ فَالْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشِ وَسُقُوطِ الْمَهْرِ، ثُمَّ هِيَ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا رَهْنٌ بِحَالِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ غَلَطًا أَوْ رِيحًا. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرَّهْنِ قَبْلَ وَضْعِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ صَحِيحًا. فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَكَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 فَأَمَّا الْأُمُّ فَهِيَ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ. وَهَلْ تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنْ كَانَ معسرا لم تخرج من الرهن فإن كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَطُولِبَ بِقِيمَتِهَا. وَتَكُونُ رَهْنًا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ. فَحَصَلَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْإِعْسَارِ. وَإِذَا قُلْنَا: تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا، كَذَلِكَ حَبْسُ الْجَارِيَةِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ بِوَطْءِ الرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ يَحْرُمُ بَيْعُهَا. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، وَحُكْمُ الْإِحْبَالِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ، وَالْحَقَّانِ إِذَا تَرَادَفَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ، كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ، كَالْجِنَايَةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنَ الرَّهْنِ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُتَقَدِّمَةً لِتَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَقَعُ فِي الْمِلْكِ وَيَسْرِي إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ. وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِحْبَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّشِيدُ وَغَيْرُ الرَّشِيدِ وَالرَّهْنُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ رَشِيدٍ. فَإِذَا كَانَ الْإِحْبَالُ أَقْوَى مِنَ الرَّهْنِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَزِيَادَةً غَلَبَ حُكْمُ الْإِحْبَالِ عَلَى الرَّهْنِ ... فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ فَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الجارية المرهونة كما أن حق المجني عليه يتعلق برقبة الجانية، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنِ الْإِحْبَالُ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهَا فِي الرَّهْنِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ نُفُوذَ الْإِحْبَالِ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لِوَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الرَّهْنِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُ الرَّاهِنِ غَيْرَ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ غَيْرَ نَافِذٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ نُفُوذِ الْإِحْبَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ أَسْبَقُ مِنَ الْإِحْبَالِ فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا، وَالْإِحْبَالُ حَادِثٌ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ مَا تَمَّ بِاخْتِيَارِهِمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُ الرَّهْنِ أَوْلَى مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْبَالِ تَأْثِيرٌ فِيهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ. وَإِذَا قلنا: إنها تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَلَا تَخْرُجُ منه فِي الْإِعْسَارِ فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، فَلَمَّا كَانَ إِحْبَالُ الشَّرِيكِ نَافِذًا فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُ الرَّاهِنِ نَافِذًا فِي الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا وَفِي الْيَسَارِ يمكن استيفاءهما وَفِي الْإِعْسَارِ لَا يُمْكِنُ تَقَدُّمُ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ أَسْبَقُهُمَا. وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْإِحْبَالَ تَصَرُّفٌ فِي عَيْنٍ تَعَلَّقَ بِهَا اسْتِيفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْيَسَارُ فِي إِمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ، وَالْإِعْسَارُ فِي رَدِّ تَصَرُّفِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التصرف موجب للغرم وَالْمُوسِرُ قَادِرٌ عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْمُعْسِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَدَّ التَّصَرُّفِ حَجْرٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِحَقِّ الدَّيْنِ هُوَ الْمُعْسِرُ دُونَ الْمُوسِرِ فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبَانَةِ حُكْمِ الْجَارِيَةِ إِذَا قُلْنَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ، وَإِلَى حُكْمِهَا إِذَا قُلْنَا بِبَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فَقَدْ صَارَتْ لِلرَّاهِنِ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 يَخْتَلِفُ. وَلَيْسَ كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ. فَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ. وَالثَّانِي: بِدَفْعِ الْقِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ اعْتِبَارًا بِوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ وَطْءَ الرَّاهِنِ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْقِيمَةَ لَا غُرْمًا لِلْمُتْلَفِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُرْتَهِنِ فَصَارَتْ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ أُمَّ وَلَدٍ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أُمَّ وَلَدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ كَانَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِصَّةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، فَعَلَيْهِ دَفْعُ قِيمَتِهَا إِلَى الْمُرْتَهِنِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا، سَوَاءٌ جَعَلْنَا الْيَسَارَ شَرْطًا فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ أَمْ لَا. لِأَنَّهُ لَمَّا غَرِمَ أَرْشَ نَقْصِهَا بِجِنَايَتِهِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الرَّهْنِ، فَأَوْلَى أَنْ يُغَرَّمَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا بِخُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهَا فِي الْحَالِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ غَرِمَ قِيمَتَهَا إِذَا أَيْسَرَ وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعُلُوقِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ بِالْعُلُوقِ قَدِ اسْتُهْلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ رَهْنًا مكانها أو تكون قصاصا من الحق فإن جعلها رهنا. فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَهْنًا بَدَلًا عَنِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ إِلَّا حَقُّهُ، وَالزِّيَادَةُ لِلرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ فَقَدْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ عَجَّلَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُ بَاقِيهِ فَهَذَا حكمها إذا خرجت من الرهن. (فصل) فإذا تقرر توجيه الأقاويل فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ وَضْعِهَا، لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ، أَوْ لَا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا، أَوْ لَا تَمُوتُ وَلَا تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ بِالْوَضْعِ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِأَنَّ مَوْتَهَا بِسَبَبٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اسْتَكْرَهَ أَمَةً عَلَى الْوَطْءِ فَأَحْبَلَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا فَهَلَّا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إِذَا مَاتَتْ مِنْ وَضْعِهَا بِإِحْبَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 قُلْنَا: لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً وَدِيَتَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً. فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْهُونَةِ وَغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ وَلَا فِي الْأَمَةِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا قِيمَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّاهِنِ حَيْثُ غَرِمَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: أَنَّ الرَّاهِنَ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مَوْتِهَا. وذلك من جهته فلزمه غرم قيمتها والمكره على الزنا لا يلحق به الولد، فلم يكن سبب موتها من جهته، فلم يلزم غُرْمُ قِيمَتِهَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ قِيمَتِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْقِيمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَقْتَ الْعُلُوقِ؛ لِأَنَّ بِالْوَطْءِ كَانَ التَّعَدِّي. وَالثَّانِي: وَقْتَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ بِهِ اسْتَقَرَّ التَّلَفُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْغَصْبِ. فإذا غرم القيمة كان بالخيارين أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا سَوَاءً كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الْحَقِّ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَلَّا تَمُوتَ لَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْوَضْعِ: فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا مَعَهَا كَانَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِالْحَقِّ أَمْ لَا. وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ كَانَ قِصَاصًا. فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ كَانَتِ الْجَارِيَةُ بِحَالِهَا رَهْنًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَمُتْ وَلَمْ تَنْقُصْ بِالْوَضْعِ: فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا: فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ قَبْلَ اسْتِغْنَاءِ الْوَلَدِ عَنِ ارْتِضَاعِ اللِّبَأِ فَإِذَا ارْتَفَعَ اللِّبَأُ وَوُجِدَتْ مُرْضِعَةٌ تُرْضِعُهُ تَمَامَ الرَّضَاعِ جَازَ حِينَئِذٍ أَنْ تُبَاعَ فِي الدَّيْنِ وَيُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ سَبْعًا، فَهَلَّا قُلْتُمْ كَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ إِذَا كَانَ حُرًّا؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا أَمْكَنَ أَنْ تُبَاعَ مَعَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ الْحُرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا فَحَضَانَتُهُ لِلْأُمِّ فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا سَقَطَتِ الْحَضَانَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُرُّ؛ لِأَنَّ حَضَانَتَهُ لِلْأَبِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إِسْقَاطٌ لِلْحَضَانَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهَا، أَوْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ قِيمَتِهَا وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رَاهِنِهَا بيعت وصرف ثمنها في الدين وكذلك إن كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي الدَّيْنِ وَكَانَ بَاقِي الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا أَلْفًا وَالدَّيْنُ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَّا أَنْ لَا يَشْتَرِيَ النِّصْفُ بِحَالٍ فَتُبَاعُ جَمِيعُهَا وَيَصِيرُ الدَّيْنُ كَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ، وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ. فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ بَيْعُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَلَوْ كَانَ لَهُ غُرَمَاءُ يَسْتَحِقُّونَ بَقِيَّةَ ثَمَنِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الْبَاقِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ إِنَّمَا بِيعَ فِي دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَاقِي غُرَمَائِهِ، فَإِذَا بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ النِّصْفُ كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي أُمَّ وَلَدٍ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُهُ وَكَانَ هُوَ وَشَرِيكُهُ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ، فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ عَتَقَتْ حِصَّتُهُ وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ. لِأَنَّ التَّقْوِيمَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَجِبُ، وَتَكُونُ حِصَّةُ شَرِيكِهِ بَاقِيَةً عَلَى الرِّقِّ، وَإِنَّمَا يُعْتِقُ عَلَى الرَّهْنِ قَدْرَ حِصَّتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا فَتَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَوَقَّفَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: قَدْ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: الْأَمْرُ عَلَى مَا ذكرت، ومذهب الشافعي لَمْ يَخْتَلِفْ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُخَالِفُ فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُعْتَقُ بِالْمَوْتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا وَلَيْسَ إِجْمَاعًا كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ: إِنَّهَا إِجْمَاعٌ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: أَنَّ مَنْ خَالَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خلافا. (مسألة) قال الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَا مَالَ لَهُ فأبطل العتق وتباع (قال المزني) يعني إذا كان معسرا. (قال الشافعي) فإن كانت تساوي ألفا والحق مائة بيع منها بقدر المائة والباقي لسيدها ولا توطأ وتعتق بموته في قول من يعتقها (قال المزني) قلت أنا قد قطع بعتقها في كتاب عتق أمهات الأولاد (قال) وفي الأم أنه إذا أعتقها فهي حرة وقد ظلم نفسه ". قال الماوردي: وَالْحُكْمُ فِي عِتْقِ الرَّهْنِ كَالْحُكْمِ فِي إِحْبَالِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ كَمَا قُلْنَا فِي إِحْبَالِهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ فَدَلِيلُهُ نُفُوذُ الْعِتْقِ بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْعِتْقِ إِبْطَالَ حَقٍّ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَلَيْسَ فِي إِبْطَالِ الرَّهْنِ إِبْطَالُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَكَانَ تَنْفِيَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى حِرَاسَةً لِلْحَقَّيْنِ وَإِثْبَاتًا لِلْأَمْرَيْنِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ: وَوَجْهُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ وَرَقَبَةِ الرَّهْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّاهِنُ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِالْحِوَالَةِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَنْقُلَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَقَبَةِ الرَّهْنِ إِلَى قِيمَتِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَنْ عَقْدٍ وَهَذَا عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِهِ كَانَ عِتْقُ الرَّاهِنِ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْيَسَارِ بَاطِلٌ فِي الْإِعْسَارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَوَجْهُهُ مَا مَضَى مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قُلْنَا يَبْطُلُ فِي الْإِعْسَارِ فَوَجْهُهُ مَا مَضَى فِي الْقَوْلِ الثاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْأَقَاوِيلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ عِتْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ وَكَأَنَّ لَفْظَ الْعِتْقِ لَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قُلْنَا بِنُفُوذِ عِتْقِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ موسرا، واعتبار القيمة من وَقْتِ تَلَفُّظِهِ بِالْعِتْقِ، وَهُوَ حُرٌّ بِاللَّفْظِ دُونَ دَفْعِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْبَالِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ صَادَفَ مِلْكَهُ فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عِتْقِهِ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ بَعْدَ يَسَارِهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلرَّهْنِ ومن لزمه غرم مات اسْتَهْلَكَ وَأَعْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ إِذَا أَيْسَرَ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ بِيعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا وَصَفْتُ ثُمَّ مَلَكَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ بِذَلِكَ الْوَلَدِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ لا تصير أم ولد له لأن قوله إن الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يجز بعده حتى يبتدأ بما يجوز وقد قال لا يكون إحباله لها أكبر من عتقها (قال) ولو أعتقها أبطلت عتقها (قال المزني) قلت أنا فهي في معنى من أعتقها من لا يجوز عتقه فيها فهي رقيق بحالها فكيف تعتق أو تصير أم ولد بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أعتقها محجور ثُمَّ أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حرة عليه أبدا بهذا ". قال الماوردي: إِذَا أَوْلَدَ الرَّاهِنُ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ ثُمَّ بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا أَوْ مَلَكَ مَا بَاعَ مِنْهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْإِحْبَالِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا سَوَاءٌ مَلَكَهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَمْلِهَا بِحُرِّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا بِيعَتْ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ عَادَتْ إِلَى حُكْمِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ وَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عَتَقَتْ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا قَدْ كَانَ مَحْكُومًا بِهِ وَإِنَّمَا بِيعَتْ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِرَقَبَتِهَا قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ وَعَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ كَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ. وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا مَلَكَ أُمَّ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِلَّا بِإِحْبَالٍ مُسْتَحْدَثٍ بَعْدَ الْمِلْكِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: أَنْ قَالَ: الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَهُ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْإِحْبَالَ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ مَوْقُوفًا، أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْبَالَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَإِحْبَالِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَلَوْ كَانَ عَقْدًا مَا صَحَّ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَا لَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 تَصِحُّ مِنْهُ سَائِرُ عُقُودِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدًا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى أُمِّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تُبَاعُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: أَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَبْطَلْتُ عِتْقَهَا فَإِنْ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِحْبَالِ وَالْعِتْقِ فِي النُّفُوذِ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا سَوَّى الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبْطَالِ بَعْدَ الْمِلْكِ: فَقَالَ: إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ فَبِيعَتْ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ مَلَكَهَا عَتَقَتْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَحْبَلَهَا فَبِيعَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أن العتق قول فإذا أبطل فِي الْحَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الثَّانِي. وَالْإِحْبَالُ فِعْلٌ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةِ مِلْكٍ لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ مَلَكَهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهَا ومن بَعْدُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ قَالَ: كَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى من أعتقها محجورا عَلَيْهِ ثُمَّ أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حُرَّةً عَلَيْهِ إِنْ مَلَكَهَا فَكَذَلِكَ الْإِحْبَالُ إِذَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ. الْحُكْمُ فِي إِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ لَمْ تُعْتَقْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ إِحْبَالِ الرَّاهِنِ بِإِحْبَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعِتْقُ الرَّاهِنِ بِعِتْقِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ إِحْبَالَهُمَا يَنْفُذُ وعتقهما لا ينفذ. فأما قول الشافعي وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِتْقِهَا فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْإِحْبَالَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْعِتْقِ، بَلِ الْإِحْبَالُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنَ الْعِتْقِ لِنُفُوذِهِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ دُيُونُهُ بِتَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَعْنًى ذَهَبَ عَلَى الْمُزَنِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ فِي الْحَالِ وَالْإِحْبَالَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ فِي ثَانِي حَالٍ قَالَ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الرَّهْنِ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَنْفُذُ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْإِحْبَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ في ثاني حال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي عِتْقِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ إِحْبَالِهَا فَأَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ، وَخَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ معان: أحدهما: أَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِحْبَالَ فَسْخٌ إِذْ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْحُرِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَلَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ فَفَسَخَهُ صَحَّ الْفَسْخُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَأَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ وَقَعَ الْفَسْخُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ وَالْإِحْبَالُ إِتْلَافٌ لِلرِّقِّ. وَإِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي إِتْلَافِ الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ بَطَلَ الرَّهْنُ كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ فَفَعَلَ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَقَّيْنِ: حَقِّ مِلْكٍ لِلرَّاهِنِ هُوَ أَقْوَاهُمَا وَحَقِّ اسْتِيثَاقٍ لِلْمُرْتَهِنِ هُوَ أَضْعَفُهُمَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ زَالَ حَقُّ مِلْكِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ فَفَعَلَ زَالَ حَقُّ اسْتِيثَاقِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَيْسَ بِفَسْخٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهِ الْفَسْخُ. وَإِنْ فَعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ فَإِنْ كَانَ عِتْقًا نَفَذَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ وَطَأَ وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ إِحْبَالٌ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْإِحْبَالِ فِي الْأَمَةِ جَرَى مَجْرَى الْخِدْمَةِ وَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ إِحْبَالٌ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ. فَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا دُونَ إِحْبَالِهَا فَوَطِئَهَا وَأَحْبَلَهَا خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْإِحْبَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ مَأْذُونًا فِيهِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ فِي إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَوِ الْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لِوُجُودِهِ بَعْدَ فَسْخِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْإِحْبَالِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْتِقَ وَلَا أَنْ يَطَأَ. فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ وَطِئَ فَأَحْبَلَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِرُجُوعِهِ. فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَحْبَلَ أَوْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ غَيْرَ نَافِذٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ غُرْمُ الْقِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرُجُوعِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ الْوَكِيلِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا رَجَعَ مُوَكِّلُهُ عَنِ الْإِذْنِ ثُمَّ بَاعَ الْوَكِيلُ قَبْلَ الْعِلْمِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إِذْنِهِ بَاقِيًا حَتَّى يَعْلَمَ بِالرُّجُوعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ نَافِذًا وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِذْنِ قَدْ زَالَ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَنْ أَحْبَلَ وَأَعْتَقَ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجَائِزًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ. (فَصْلٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابٍ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ مِنْ " الْأُمِّ ": وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي ضربها فضربها فَمَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِي ضَرْبِهَا يَتَنَاوَلُ قَلِيلَ الضَّرْبِ وَكَثِيرَهُ، فَصَارَ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِنَ الضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَلَفِهَا عَنْ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ إِسْقَاطًا لِلْحَقِّ مِنْ رَقَبَتِهَا وَجَرَى مجرى الفسخ بعتقها أو إحبالها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَعْتَقْتُهَا بِإِذْنِكَ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ رَهْنٌ وهذا إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ موسرا أخذ منه قيمة الجارية والعتق والولاء له تكون مكانها أو قصاصا ". قال الماوردي: إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بَعْدَ عِتْقِ الرَّاهِنِ أَوْ إِحْبَالِهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ بِإِذْنِكَ فَفِعْلِي نَافِذٌ وَالرَّهْنُ مُنْفَسِخٌ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَفِعْلُكَ مَرْدُودٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمَضْمُونٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. فَإِنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ نَفَذَ عِتْقُهُ وَإِحْبَالُهُ. وَفِي الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذن المرتهن نافذ فإنه لِلْقِيمَةِ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ فِي ضَمَانِ مَالٍ وَالْأَمْوَالُ يُحْكَمُ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ. لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي إِذْنَ الْمُرْتَهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قول المنكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، أُحْلِفَ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ حَلَفَ صَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ نَافِذًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ لَهَا فَجَازَ أَنْ تَحْلِفَ فِي حَقِّهَا. فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَتْ صَارَ الرَّاهِنُ كَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ أَحْبَلَ بِإِذْنٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَافِذًا وَلَا ضمان عليه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِوَطْئِهَا وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ لَهَا وَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ له ولا يصدق المرتهن وفي الأصل ولا يمين عليه (قال المزني) أصل قول الشافعي أنه إن أعتقها أو أحبلها وهي رهن فسواء فإن كان موسرا أخذت منه القيمة وكانت رهنا مكانها أو قصاصا وإن كان معسرا لم يكن له إبطال الرهن بالعتق ولا بالإحبال وبيعت في الرهن فلما جعلها الشافعي أم ولد لأنه أحبلها بإذن المرتهن ولم تبع كأنه أحبلها وليست رهن فكذلك إذا كان موسرا لم تكن عليه قيمة لأنه أحبلها بإذن المرتهن فلا تباع كأنه أحبلها وليست برهن فتفهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالْإِذْنِ فِي وَطْئِهَا عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ وَتَخْرُجْ أُمُّهُ مِنَ الرَّهْنِ وَذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ وَطِئَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا وَضَعَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْهَا لَمْ تَلْتَقِطْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّ بَيْنَ وَطْئِهِ وَوَضْعِهَا مُدَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا. فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا، أَوْ مِنْ زِنًا، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ هُوَ مِنِّي وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِي خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا وَالْأَمَةُ إِذَا صَارَتْ فِرَاشًا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا إِذَا كَانَ لُحُوقُهُ بِهِ مُمْكِنًا، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ادِّعَائِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَاحِقٌ بِهِ وَالْجَارِيَةُ قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ وَلَا قيمة عليه في اليسار والإعسار. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ أَحَدَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِذْنُ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: أَذِنْتَ لِي فِي وَطْئِهَا وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: لَمْ آذَنْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ الْوَطْءُ، فيقول الراهن: وطأتها بِإِذْنِكَ وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: لَمْ تُطَأْ. فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قول المرتهن ولا يمين عليه؛ لأن الوطأ فِعْلُهُ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْوَطْءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْوَضْعُ، فَيَقُولُ المرتهن: قد أذنت لك في وطئها فوطئها وَلَكِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ الْوَلَدَ أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهُ وَلَكِنِ الْتَقَطَتْهُ. وَيَقُولُ الرَّاهِنُ بَلْ وَضَعَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ لِلشَّرْطِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْمُدَّةُ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْإِذْنِ، فَالْجَارِيَةُ رَهْنٌ. وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ. فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي زَمَانِ الْوَطْءِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْوَطْءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بالراهن لإقراره. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فَتُؤْخَذُ قيمة الجارية ويكون رهنا مكانها أو قصاها. ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا فَقَالَ: كَيْفَ نُلْزِمُهُ قِيمَتَهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ إِنَّمَا أَحْبَلَهَا بِإِذْنٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمُهُ قِيمَةٌ فِي الْيَسَارِ وَلَا فِي الْإِعْسَارِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ وَلَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَتُهَا إِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبِلَهَا: إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ قِيمَتُهَا إِذَا كَانَ مُوسِرًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَنَقَلْتَهُ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُزَنِيُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ ذكره الشافعي في الأم صحيحا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ حُدَّ وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا مَهْرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْجَهَالَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ حَدِيثًا أَوْ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ وَمَا أَشْبَهَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الرَّاهِنِ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ. فَأَمَّا وَطْءُ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمَ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَأَنَّ وَطْأَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الزَّانِي وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْحَدِّ. وَالثَّانِي: انْتِفَاءُ النَّسَبِ. والثالث: سقوط المهر إن طَاوَعَتْ، وَوُجُوبُهُ إِنْ أُكْرِهَتْ. فَأَمَّا الْحَدُّ فَهُوَ واجب عليه. وأما هي إن طَاوَعَتْهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُبُهَاتِ " وَعَقْدُ الرَّهْنِ شُبْهَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْرَأَ بِهَا الْحَدَّ قَالَ: وَلِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ في الرهق حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَنَّ لِلسَّيِّدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى السَّيِّدِ فِي وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَجَبَ أَلَّا يَجِبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ حَدٌّ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْجَبَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا كَالْمُكَاتَبَةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لِلْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا، فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا. أَصْلُهُ: مَا ذَكَرْنَا. وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَةِ الْأَمَةِ الْجَانِيَةِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْأَمَةِ الْمَرْهُونَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَرَأَ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ قُدِّمَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَقْوَى وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مَعَ ضَعْفِهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ الرَّهْنَ شُبْهَةٌ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْحَدِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ شُبْهَةَ عَقْدٍ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ كَمَنْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ. وَلَيْسَ الرَّهْنُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ: فَالْمُكَاتَبَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَتَقَتْ وَلَوْ عَجَزَتْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ. فَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَرْهُونَةُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ". وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ الْمَهْرِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ وَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الْوَطْءِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَذْلِهَا وَإِبَاحَتِهَا كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا لَمْ يَسْقُطِ الْأَرْشُ عَنِ الْجَانِي عَلَيْهَا. وَهَذَا غَلَطٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ " وَهَذِهِ بِمُطَاوَعَتِهَا بَغِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَهْرُهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ بِهِ الْمَهْرُ كَالْحُرَّةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِذْنِهَا فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَطْعَ إِتْلَافٌ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُهُ بِإِذْنِ مَنْ لَا يَمْلِكُهُ، وَهَذَا الْوَطْءُ زِنًا وَالزِّنَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَهْرَ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا، أَوْ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِأَنَّ وَطْءَ الْمَرْهُونَةِ زِنًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ أَوْ كَانَ بِبَعْضِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ النَّائِيَةِ عَنْ أَقَالِيمِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ لِسَبَبٍ اعْتَرَضَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِزَانٍ وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِتَحْرِيمِهِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُنَّا بِالشَّامِ فَتَذَاكَرْنَا حَدِيثَ الزِّنَا فَقَالَ رَجُلٌ: زَنَيْتُ فَأَنْكَرْنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَحْرَامٌ الزِّنَا؟ فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَانْهَوْهُ فَإِنْ عَادَ فَارْجُمُوهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ أَمَةً وَزَوَّجَهَا مِنْ رَاعٍ فَزَنَتْ فَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهَا: زَنَيْتِ يَا لَكْعَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ مرعونين بِدِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ: لِعَلِيٍّ مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: قَدِ اعْتَرَفَتْ عَلَيْهَا الْحَدُّ. فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: كَمَا قَالَ أَخِي عَلِيٌّ. فَقَالَ لِعُثْمَانَ: مَا تَقُولُ فِيهَا؟ فَقَالَ: أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ عَلِمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. وَقَوْلُهُ: أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ يَعْنِي تَعْتَرِفُ بِهِ اعْتِرَافَ مَنْ لَا يَعْلَمُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ حُدَّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ. فَأَمَّا الْمَوْطُوءَةُ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ جَاهِلَةً بِتَحْرِيمِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَعَلَيْهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: لُحُوقُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَيَكُونُ حُرًّا، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ حَيًّا لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُرْتَهِنِ لَكَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، وَمَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الْحُرِّيَّةُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَالشَّرِيكَيْنِ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا وَكَانَ مُوسِرًا. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: الْمَهْرُ: وَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَوْطُوءَةِ: فَإِنْ كَانَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً، فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَطْءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْوَاطِئِ: هُوَ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ فَإِنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ لَحِقَ بِهِ النَّسَبُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ انْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَالَّذِي يُعْتَبَرُ بِالْمَوْطُوءَةِ: وُجُوبُ الْمَهْرِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شُبْهَةٌ وجب لها المهر وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شُبْهَةً سَقَطَ الْمَهْرُ. وَالَّذِي يَعْتَبِرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: الْحَدُّ. فَإِنْ كَانَ لَهُمَا شُبْهَةٌ سَقَطَ عَنْهُمَا الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شُبْهَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ عَمَّنْ لَهُ الشبهة دون الآخر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ رَبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا وكان يجهل درىء عَنْهُ الْحَدُّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرْمَ وَالْآخَرُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ. فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالْإِذْنُ غَيْرُ مُبِيحٍ لَهُ الْوَطْءَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الرَّاهِنِ الْآذِنِ التَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ الْوَاطِئُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ جَاهِلًا بِهِ. وَشُبْهَتُهُ فِي الْجَهَالَةِ بِتَحْرِيمِهِ مَعَ إِذْنِ الرَّاهِنِ أَقْوَى مِنْ شُبْهَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ: فَعَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَانْتِفَاءِ النَّسَبِ وَاسْتِرْقَاقِ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَكَانَ حُرًّا. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى أَلَّا يَجِبَ وَهُوَ أَنْ تُطَاوِعَهُ الْجَارِيَةُ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ، فَلَا مَهْرَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِوُجُوبِ الحد على الموطوءة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 فإذا قُلْنَا: إِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ إِذَا وَطِئَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ مُكْرَهَةً مَعَ عِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهَا إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ. وَالثَّانِي: لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الْمَهْرُ. كَمَا أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. وَالثَّانِي: لِلْآدَمِيِّ وَهُوَ الدِّيَةُ. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ قِيمَتِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهُ مِنْ مَهْرِهَا دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَدِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عليه المهر؛ لأن هذا الوطأ موجب للمهر. كما أن الوطأ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ، ثُمَّ ثَبَتَ أنه لو وطأ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِإِذْنِ الْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ. كَذَلِكَ إِذَا وَطِئَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْمَهْرُ. وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ إِذَا لَحِقَ بِهِ وَصَارَ حُرًّا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ قَوْلَانِ كَالْمَهْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الولد والمهر من وجهين: أحدهما: أن الوطأ مَأْذُونٌ فِيهِ فَسَقَطَ غُرْمُ بَدَلِهِ وَالْإِيلَاءُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ بَدَلِهِ. وَالثَّانِي: أن الوطأ استهلاك غير موجود فجاز أن يسقط غرمه عنه. وَالْوَلَدُ اكْتِسَابُ مَوْجُودٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَأَمَّا غُرْمُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهِ قَوْلَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ. أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وهذان القولان من اختلاف قوليه فيمن زنا بِأَمَةٍ فَأَحْبَلَهَا وَمَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا هَلْ يَلْزَمُهُ غرم قيمتها أم لا؟ (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى مَلَكَهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ (قَالَ المزني) قلت أنا قَدْ مَضَى فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَبَدًا (قال أبو محمد) وهم المزني في هذا في كتاب الربيع ومتى ملكها لم تكن له أم ولد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدِ اسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ. فَأَمَّا كَوْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْطُوءَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَيْسَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهِيَ رَهْنٌ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهَا. فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ حُلُولِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بَعْدُ لَمْ تَضَعْ، أَوْ قَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا. فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِحُرٍّ يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ وَضْعِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ حُرًّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا يَصْلُحُ إِقْرَارُهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِحَقِّهِ وَإِنْ حَلَّ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيْعِ الرَّهْنِ مَنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِمَمْلُوكٍ، فَإِنْ أَجَابَ الرَّاهِنُ إِلَى بَيْعِهَا حَامِلًا جَازَ، لِأَنَّ حَمْلَهَا بِمَمْلُوكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَهَا. فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَيْعِهَا حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تُبَاعَ حَامِلًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ حَلَّ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بيعها حاملا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ، هَلْ هُوَ تَبَعٌ، أَوْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَضَعَ. وَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا حَامِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. فَهَذَا حُكْمُ بَيْعِهَا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا حَلَّ الْحَقُّ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَلْحَقُ بِالْمُرْتَهِنِ، أَوْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 فَإِنْ كَانَ حُرًّا جَازَ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ ارْتِضَاعِ اللِّبَأِ وَمَا لَا قِوَامَ لِبَدَنِهِ إِلَّا بِهِ. وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَهَا وَلَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ بَيْعِهَا فِي حَقِّهِ لِأَجْلِ وَلَدِهِ إِلَى حِينِ نُشُوئِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقٍّ عَاجِلٍ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَعَهَا فَإِذَا بِيعَا مَعًا أُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهَا مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ وَأَخَذَ الرَّاهِنُ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْوَلَدِ. فهذا حكم بيعها في ملك الراهن. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا مَلَكَهَا الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْمُرْتَهِنِ، لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَاحِقًا بِالْمُرْتَهِنِ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الذي نقله المزني هاهنا وَرَوَاهُ حَرْمَلَةُ: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ، فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، كَمَا لَوْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ وهو أصح: أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، فَوَجَبَ أَلَّا تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ كَمَا لَوْ عَلِقَتْ مِنْهُ فِي نِكَاحٍ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عُلُوقَ الْأَمَةِ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعْلَقَ بِهِ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، لَهُ، كَالسَّيِّدِ إِذَا أَوْلَدَ أَمَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَعْلَقَ مِنْهُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ، فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، إِذَا مَلَكَهَا لَا يُخْتَلَفُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعْلَقَ مِنَ الْوَاطِئِ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا عَقْدٍ كَمَسْأَلَتِنَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) إِذَا وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ وَادَّعَى عَلَى الرَّاهِنِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ بَاعَهَا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا مُبَقَّاةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُرْتَهِنِ مِلْكَهَا إِقْرَارٌ بِفَسْخِ ارْتِهَانِهَا، وَالْمُرْتَهِنُ إِذَا أَقَرَّ بِفَسْخِ الرَّهْنِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِيَدِهِ وهل تكون دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا تَكُونُ شُبْهَةً لِمَا قَابَلَهَا مِنَ الْإِنْكَارِ، وَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا غَيْرَ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَاهُ به ولم نعتقه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 عليه؛ لأن الراهن لاحق لَهُ فِي نَسَبِهِ، فَقَبِلْنَا إِقْرَارَ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَالرَّاهِنُ مَالِكٌ لِرِقِّهِ، فَلَمْ نَقْبَلْ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ لَكِنْ إِنْ مَلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ عَتَقَ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ: أَنَّهَا شُبْهَةٌ لِتَجْوِيزِ مَا ادَّعَاهُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. فَإِنْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ فِيمَا بَعْدُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ لَا يُخْتَلَفُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ مَا ادَّعَاهُ شُبْهَةٌ أَمْ لَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُقِرًّا لَهُ بِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ، فَصَارَ كَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ زَيْدٍ عَبْدَهُ وَأَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ زَيْدٌ الْبَيْعَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ مَلَكَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْعَبْدَ مِنْ بَعْدِ عِتْقٍ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ وَادَّعَى عَلَى الرَّاهِنِ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِهَا وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمُرْتَهِنِ بِهَا لَا يُبْطِلُ ارْتِهَانَهَا، وَخَالَفَ دَعْوَاهُ ابْتِيَاعُهَا؛ لِأَنَّ ابْتِيَاعَهَا يُبْطِلُ ارْتِهَانَهَا. ثُمَّ هَلْ تكون هذه الدعوى شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِيهِ مِنْ زِنَا وَالْمُرْتَهِنَ يَدَّعِيهِ مِنْ نِكَاحٍ وَمِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ بالمرتهن، لأن الراهن لاحق لَهُ فِي نَسَبِهِ فَقُبِلَ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ بِهِ. فَإِنْ مَلَكَ الْمُرْتَهِنُ الْجَارِيَةَ لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ لَا يُخْتَلَفُ؛ لِأَنَّ أَحْسَنَ حَالَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ وَذَلِكَ لَا يَجْعَلُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا مَلَكَهَا ... فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ وَطْءَ الْمُرْتَهِنِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ إِذَا حَبِلَتْ مِنْهُ وَلَحِقَ وَلَدُهَا بِهِ عَلَى ثلاثة أقسام: أحدها: ما تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّانِي: مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ. فَأَمَّا مَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى ابْتِيَاعَهَا مِنَ الرَّاهِنِ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. وَأَمَّا مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى تَزْوِيجَهَا مِنَ الرَّاهِنِ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، فَهُوَ إِذَا ادَّعَى الْجَهَالَةَ ثُمَّ مَلَكَهَا، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي وَطْءِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنَ الْأَحْكَامِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ. وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ ذَاتَ زَوْجٍ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الرَّاهِنَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَطْءَ الرَّاهِنِ ذَرِيعَةٌ إِلَى خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَوَطْءُ الزَّوْجِ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الرَّهْنِ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِالزَّوْجِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالزَّوْجِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ الْمَرْهُونَةِ فِيهِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا ذَاتَ زَوْجٍ نَقْصٌ يُوكِسُ مِنْ ثَمَنِهَا. فَلَوِ ارْتَهَنَهَا وَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَى رَهْنِهِ. فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ فَاسِدًا. فَلَوِ ارْتَهَنَهَا وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ خَلِيَّةً وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَ الْخَلِيَّةَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَكِنْ لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَعَ الرَّجْعَةِ مُقِيمٌ عَلَيْهَا بالنكاح المتقدم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إِلَى أَجَلٍ فَأَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ فَجَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَلَا مَكَانَهُ رَهْنًا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ تَعْجِيلُ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ نَافِذٌ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ مَالِكِ الْإِذْنِ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمَلِكِ مُبْطِلٌ لِلرَّهْنِ كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إِنَّمَا كَانَ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ بِحَقِّهِ وَمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْ بَيْعِهِ. وَإِذْنُهُ فِي الْبَيْعِ مُبْطِلٌ لِمَعْنَى الرَّهْنِ. فَكَذَلِكَ إِذَا بِيعَ بِإِذْنِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَيْعِ وَبُطْلَانُ الرَّهْنِ. فَالثَّمَنُ لِلرَّاهِنِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ قِصَاصًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ رَهْنًا. أما التَّعْجِيلُ فَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُهُ إِلَّا بِرِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَالرَّاهِنُ غَيْرُ رَاضٍ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تعجيله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 وَأَمَّا كَوْنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ رَهْنٍ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالرَّاهِنُ غَيْرُ مُخْتَارٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَهْنُهُ. فَإِنْ قيل: أو ليس لَوْ جَنَى عَلَى الرَّهْنِ فَتَلِفَ كَانَتْ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَهَلَّا كَانَ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْجِنَايَةَ غَيْرُ مُبْطِلَةٍ لِلرَّهْنِ، وَإِنَّمَا نُقِلَتِ الْوَثِيقَةُ مِنَ الرَّهْنِ إِلَى بَدَلِهِ. فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ أَصْلِهِ وليس كذلك البيع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ. فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا كَمَنْ بَاعَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِنَّمَا بَيْعُ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَسْخٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِذْنُ فَسْخًا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِهِ وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي إِذْنِهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِفَسْخِ عَقْدٍ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي فَسْخِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ فَبَاعَهُ الرَّاهِنُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ قَبْلَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِحُصُولِهِ عَنْ إِذْنٍ صَحِيحٍ وَرُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَبَعْدَ عِلْمِ الرَّاهِنِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ رَافِعٌ لِلْإِذْنِ فَصَارَ مَبِيعًا بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَقَبْلَ عِلْمِ الرَّاهِنِ بِرُجُوعِهِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَجَعْتُ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ بَيْعِكَ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ رَجَعْتَ بعد البيع فالرهن باطل والبيع نافذ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّجُوعَ مِنْ فِعْلِهِ، فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُهُ: وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ وَالرَّهْنِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 فَإِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ صَارَ الرَّاهِنُ بَائِعًا لِلرَّهْنِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَيَكُونُ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَيُسْتَرْجَعُ لِيَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ رَهْنًا فَإِنْ فَاتَ اسْتِرْجَاعُهُ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي ثَمَنَهُ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الشَّرْطَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَذِنْتُ لَكَ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَ لِيَ الْحَقَّ، فَكَانَ الْإِذْنُ فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ بَاطِلًا. وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ أَذِنْتَ إِذْنًا مُطْلَقًا فَالْإِذْنُ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ نَافِذٌ. فَإِنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِطْلَاقِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ بَيْعِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الرَّهْنِ، وَدَعْوَى الرَّاهِنِ تُنَافِيهِ، وَإِنْكَارُ الْمُرْتَهِنِ يَقْتَضِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ صَارَ الرَّاهِنُ فِي حُكْمِ مَنْ بَاعَ الرَّهْنَ عَنْ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لم يأذن له إلا على أن يعجله حقه قبل محله والبيع مفسوخ به وهو رهن بحاله (قال المزني) قلت أنا أشبه بقول الشافعي في هذا المعنى أن لا يفسخ الشرط البيع لأن عقد البيع لم يكن فيه شرط ألا ترى أن من قوله لو أمرت رجلا أن يبيع ثوبي على أن له عشر ثمنه فباعه أن البيع جائز يفسخه فساد الشرط في الثمن وكذا إذا باع الراهن بإذن المرتهن فلا يفسخه فساد الشرط في العقد (قال المزني) قلت أنا وينبغي إذا نفذ البيع على هذا أن يكون الثمن مكان الرهن أو يتقاصان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً يُبْنَى الْجَوَابُ عَلَيْهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 وَصُورَتُهَا: فِي رَهْنٍ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ صَحِيحٌ، فَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّ نَقْلَ عَيْنِ الرَّهْنِ إِلَى بَدَلٍ يَكُونُ مَكَانُهُ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ مُتْلِفٌ فَأُغْرِمَ الْقِيمَةَ لَمْ يَفْسَدِ الرَّهْنُ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ. كَذَلِكَ إِذَا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَيَكُونُ الرَّهْنُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ يَقْتَضِي ارْتِهَانَ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ الَّذِي يُحَصَّلُ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَارْتِهَانُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ بَطَلَ الْإِذْنُ وَإِذَا بَطَلَ الْإِذْنُ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ. فَأَمَّا إِذَا رَهَنَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ رَهَنْتُكَ عَبْدِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبَاعَ وَيَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ رَهْنًا مُسْتَقِرًّا فَكَانَ بَاطِلًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: أَنْ يأذن المرتهن للراهن في بيع الرهن عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ الثَّمَنَ قِصَاصًا مِنْ حَقِّهِ الْمُؤَجَّلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِذْنُ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَنَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْإِذْنَ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ مَفْسُوخٌ، وَالرَّهْنَ بِحَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِذْنَ صَحِيحٌ وَالْبَيْعَ مَاضٍ وَالشَّرْطَ مَفْسُوخٌ وَيَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُهُ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعَ مَفْسُوخٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الشَّرْطُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَهُ صَحَّ الْإِذْنُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا. وَلَمَّا فَسَدَ الشَّرْطُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَسَدَ الْبَيْعُ وَالْإِذْنُ قَوْلًا وَاحِدًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى صِحَّةِ الْإِذْنِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ فَقَالَ: الْبَيْعُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الثمن رهنا مكانه أَوْ قِصَاصًا لِمَا مَضَى مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْإِذْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْبَيْعِ فَصَحَّ الْبَيْعُ بِخُلُوِّهِ مِنَ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِذْنِ شَرْطٌ كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: بِعْ ثَوْبِي عَلَى أَنَّ لَكَ عُشْرَ ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا. كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ ثَمَنَهُ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْوِكَالَةِ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الْإِذْنِ فَصَحَّ الْبَيْعُ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ، وَفَسَدَتِ الْأُجْرَةُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أُجْرَةٌ مِثْلُهُ. وَالشَّرْطُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِذْنِ، فَلِذَلِكَ فَسَدَ مِنْ أَجْلِهِ الْبَيْعُ؛ لأن صحة البيع لصحة الإذن. والوجه الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْوِكَالَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ عُشْرُ الثَّمَنِ، أَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَصَارَ الشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبُولُهُ لازم فصح البيع. ولما كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ فِي تَعْجِيلِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُ بَدَلٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ فَكَذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فلو كان الرهن بحق حال فأذن فباع وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي حَقٍّ حَالٍّ، أَوْ فِي مُؤَجَّلٍ مُحَلٍّ، ثُمَّ إِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَنَفَذَ وَلَزِمَ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا فِي دَيْنِهِ. فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذَ جَمِيعَهُ. وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ. وَكَانَ الْبَاقِي رَاجِعًا عَلَى الرَّاهِنِ. وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ الرَّاهِنِ وَلَزِمَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْحَقُّ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ لِيُبَاعَ عِنْدَ مَحَلِّهِ وَيَكُونُ مَصْرُوفًا فِيهِ. فَإِذَا بِيعَ عِنْدَ مَحَلِّهِ، لَزِمَ دَفْعُ ثَمَنِهِ فِي الْحَقِّ اعْتِبَارًا بِحُكْمِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ مَحَلِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بَيْعُهُ مِنْ حَقِّهِ صُرِفَ فِي حَقِّهِ وَبِيعَ الرَّهْنُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ مِنْ حَقِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 الرَّاهِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَيْعُهُ من حقه صرف في حقه. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهِ وَوُجُوبُ صَرْفِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَسَوَاءٌ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ أَمْ لَا، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِيهِ فَكَانَ الشَّرْطُ تَأْكِيدًا مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي بَيْعِ الرَّاهِنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، شَرْطَانِ مِنْهَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَشَرْطٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ. فَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ. فَأَحَدُهُمَا: بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. وَالثَّانِي: بَيْعُهُ بِثَمَنٍ عَاجِلٍ غَيْرِ آجِلٍ وَأَنَّ بَيْعَهُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا مَعْنَى لِبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ. فَإِنْ بَاعَهُ بِنَقْصٍ فِي الثَّمَنِ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ آجِلٍ غَيْرِ عَاجِلٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَيَصِحُّ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ: فَهُوَ أَلَّا يُسَلِّمَ السِّلْعَةَ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ مَاضِيًا وَكَانَ لِلثَّمَنِ ضَامِنًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شَرْطٍ رَابِعٍ وَهُوَ إِطْلَاقُ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ خِيَارِ الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ ثَالِثٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ وَتَمْلِيكُ الثَّمَنِ مُخَالِفٌ مُوجِبُ الْإِذْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِلْبَيْعِ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْخِيَارَ زِيَادَةٌ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ الْفَائِتِ بِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَيْعِ الرَّاهِنِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةً فِي بَيْعِهِ وَكَيْفَمَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ جَازَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ يَبِيعُ الرَّهْنَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَصَارَ كَبَيْعِهِ سَائِرَ أَمْلَاكِهِ الَّتِي لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِهَا أَوْ نُقْصَانِهِ وَلَا فِي حُلُولِهِ أَوْ تَأْجِيلِهِ. وَبَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ يَبِيعُ الرَّهْنَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا رَهَنَهُ عَبْدًا فِي حَقٍّ بَعْضُهُ حَالٌّ وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلٌ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 فَبَاعَهُ الرَّاهِنُ فَلِلْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَمَنِهِ مَا قَابَلَ حَقَّهُ الْحَالَّ وَلِلرَّاهِنِ مَا قَابَلَ الْمُؤَجَّلَ. فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ بَاعَ الْعَبْدَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ لَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي بَعْضِهِ فَغَلَبَ حُكْمُهَا فِي جَمِيعِهِ إِلَّا مَا أَمْكَنَ تَبْعِيضُهُ مِنْهَا. فَإِنْ بَاعَهُ فِي عَقْدَيْنِ جَازَ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْمُرْتَهِنِ. وَهُوَ مَا قَابَلَ الْحَالَ. وَاعْتِبَارُ الشُّرُوطِ فِيهِ وَاجِبَةٌ. وَالثَّانِي: لِلرَّاهِنِ. وَهُوَ مَا قَابَلَ الْمُؤَجَّلَ وَاعْتِبَارُ الشُّرُوطِ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. (فَصْلٌ) فَلَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْحَقِّ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ هُوَ حَالٌّ فَالثَّمَنُ لِي قِصَاصًا مِنْ حَقِّي. وَقَالَ الرَّاهِنُ: هُوَ مُؤَجَّلٌ فَالثَّمَنُ لِي وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ بِبَيْعِي. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حُلُولَ حَقٍّ يَدَّعِيهِ الْمُرْتَهِنُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ. فَإِذَا حَلَفَ كَانَ أَوْلَى بِالثَّمَنِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمَاضِيَةُ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَإِنْ نَكَلَ فَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالثَّمَنِ وَاعْتُبِرَ فِي بَيْعِهِ الشُّرُوطُ الْمَاضِيَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ. (فَصْلٌ) فَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي حَقٍّ حَالٍّ، وَالْآخَرُ فِي مُؤَجَّلٍ وَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْبَيْعِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي بَيْعِ الْحَالِّ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: أَذِنْتَ لِي فِي بَيْعِ الْمُؤَجَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ سَالِمٌ وَعَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ في الْمُؤَجَّلِ أَنَّهُ غَانِمٌ وَيَخْتَلِفَا، هَلْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ سَالِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِّ أَوْ فِي بَيْعِ غَانِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ إِذْنًا يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَصِيرُ بَائِعًا لِرَهْنٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بَيْعَ سَالِمِ الْمَرْهُونِ فِي الْحَالِّ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ مُعْتَرِفٌ بِحُصُولِ الْإِذْنِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَذِنَ فِي بَيْعِ سَالِمٍ دُونَ غَانِمٍ وَيَخْتَلِفَا هَلْ غَانِمٌ مَرْهُونٌ فِي الْحَالِّ أَوْ فِي الْمُؤَجَّلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي أَصْلِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَصَارَ مُنْكِرًا لِحُلُولِ حَقٍّ يَدَّعِيهِ الْمُرْتَهِنُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ. فَإِذَا حَلَفَ صَحَّ بَيْعُهُ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 الْعَبْدَ الْآخَرَ الْمَرْهُونَ فِي الْحَالِّ إِلَّا بِإِذْنِ مستأنف، لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا كَانَ فِي بَيْعِ غيره وقد بيع (والله أعلم) . (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ وَقَدْ صَالَحَهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا على خراج يضر به عَلَيْهَا. فَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ وَبَعْدَهُ وَهَذِهِ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ لِلْمُسْلِمِينَ إِمَّا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ثُمَّ يَقِفُهَا الْإِمَامُ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا فِي كُلِّ عَامٍ وَيُقِرُّهَا فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ. فَهَذِهِ أُجْرَةٌ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ وَالْأَرْضُ وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا. وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ فَهِيَ مَا مُلِكَ مِنْ أَرْضِ كِسْرَى وَحْدَهُ طُولًا، مِنْ حديثة الْمَوْصِلِ إِلَى عَبَّادَانَ وَعَرْضًا: مِنْ عُذَيْبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ يَكُونُ مَبْلَغُ طُولِهِ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا وَمَبْلَغُ عَرْضِهِ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا. فَهَذِهِ الْأَرْضُ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ فَاسْتَطَابَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفُسَهُمْ عَنْهَا، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهَا وَأَقَرَّهَا فِي أَيْدِي الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينِ وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خراجا يؤدونه في كل عام على جريب الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَمِنِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَهَا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ الْخَرَاجَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا أُجْرَةً تُؤَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاعَهَا عَلَى الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينِ وَجَعَلَ الْخَرَاجَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا ثَمَنًا فِي كُلِّ عَامٍ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَلِلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَوْضِعٌ يُسْتَوْفَى فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ فِيهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَهُوَ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَلَا يَكُونُ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَرْضِ الْخَرَاجِ ذَاتِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي الرَّهْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ دُونَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَهَذَا رَهْنٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ مَعَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا فَالرَّهْنُ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ بَاطِلٌ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ جَائِزٌ فَالْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ جَائِزٌ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِارْتِهَانِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ دُونَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِهِ فِي الْأَرْضِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فسخه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَدَّى عَنْهَا الْخَرَاجَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ بِأَمْرِهِ فيرجع به كرجل اكترى أرضا من رجل اكتراها فدفع المكتري الثاني كراءها عن الأول فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ ارْتَهَنَ غِرَاسًا وَبِنَاءً فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ ثُمَّ أَدَّى الْخَرَاجَ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِأَمْرِ الْمَالِكِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَدَّاهُ مُكْرَهًا أَوْ مُخْتَارًا صَدِيقًا كَانَ أو عدوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدَّاهُ مُكْرَهًا رَجَعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ أَدَّاهُ مُخْتَارًا، فَإِنْ كَانَ صَدِيقًا لِلرَّاهِنِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الرَّجُلِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ فَقَضَاهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ، وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَلَوْ كَانَ يَثْبُتُ لِعَلِيٍّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَيِّتِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَكَانَ لَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَيْهِ وَإِنِ انْتَقَلَتْ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ. فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عُلِمَ سُقُوطُ ذَلِكَ عَنْهُ. وَإِنْ أَبْقَى لِعَلِيٍّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَوْ أَدَّاهُ الْعَدُوُّ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ الصَّدِيقُ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا نُهِيَ عَنْ أَدَائِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَوْ أَدَّاهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ أَدَائِهِ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ فَإِذَا أَدَّاهُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ أَدَائِهِ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ كَالْعَدُوِّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ وَيَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ بِهِ، فَيَقُولُ: أَدِّ عَنِّي وَارْجِعْ بِهِ عَلَيَّ فَهَذَا يَرْجِعُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الرُّجُوعِ غَيْرُ مُتَطَوِّعٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، فَيَقُولُ: أَدِّ عَنِّي. فَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُرْجَعُ بِهِ. لِأَنَّ إِذْنَهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلَبًا، لِأَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِيَرْجِعَ بِهِ وَمَعَ احْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّ إِذْنَهُ فِي أَدَائِهِ عَنْهُ كَإِذْنِهِ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ فَقَالَ: أَتْلِفْ عَلَيَّ مَالِي سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِإِذْنِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِسُقُوطِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَدَائِهِ فَقَالَ: أَدِّ عَنِّي وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَرَهَنَهُ قَبْلَهَا فجائز وَهُوَ قَطْعٌ لِخِيَارِهِ وَإِيجَابٌ لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَتَمَّ لَهُ مِلْكُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ وَمِلْكُهُ عَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ تَامٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وَجُمْلَةُ الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَبِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: خِيَارُ مَجْلِسٍ، وَخِيَارُ شَرْطٍ، وَخِيَارُ عَيْبٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ. فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رهنه وكان فسخا للبيع وإن رهنه المشتري لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَهَنَهُ عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إِذْنَ البائع إمضاء، ورهن المشتري إمضاء، وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ تَمَّ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ الْخِيَارُ. فَأَمَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ رَهْنُ الْبَائِعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَجُزْ رَهْنُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْبَائِعِ فَسْخٌ، وَرَهْنَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءٌ وَالْخِيَارُ مَوْضُوعٌ لِلْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ. أَلَا تَرَى لَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَأَمْضَى الْآخَرُ حُكِمَ بِالْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ: خِيَارُ الشَّرْطِ. فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمَا جَمِيعًا. فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رهنه وكان فسخا للبيع وإن رهنه المشتري لَمْ يَجُزْ وَكَانَ رَهْنًا بَاطِلًا. لِحَقِّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَهَنَهُ بِأَمْرِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ. وَيَكُونُ إِذْنُ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي صَحَّ رَهْنُهُ وَكَانَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ. وَكَانَ رَهْنُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْبَائِعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ رَهْنُهُ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ. وَيَكُونُ إِذْنُ الْمُشْتَرِي اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ صَحَّ رَهْنُهُ وَكَانَ فسخا للبيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 وإن رهنه المشتري لم يجز إلا أن يَكُونَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَيَصِحُّ رَهْنُهُ، وَيَكُونُ إِذْنُ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ. وَإِنَّمَا صَحَّ رَهْنُ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ رَهْنَ الْبَائِعِ فَسْخٌ وَرَهْنَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءٌ. فَلَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ يَوْمٍ وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ يَوْمَيْنِ، فَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَازَ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي جَازَ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعَ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ. فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. فَإِنْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِيَ صَحَّ رَهْنُهُ، وَكَانَ رِضًا بِالْعَيْبِ، وَمَانِعًا مِنَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ. وَإِنْ رَهَنَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ لِغَيْرِهِ. فَلَوْ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ أَنْ رَهَنَهُ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي فِي خِيَارِ الْبَائِعِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا وَإِنْ تَمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ. فَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْمُشْتَرِيَ بِالْعَيْبِ حَتَّى رَهَنَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ صَحَّ رَهْنُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ مَا كَانَ بَاقِيًا. وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَيْبِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ الْأَرْشَ فِي الْحَالِّ. وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ فِي الرَّهْنِ فَإِنْ بِيعَ فِيهِ رَجَعَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ. ( [الْقَوْلُ فِي بيع ورهن العبد المرتد] ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ جَائِزٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى جَوَازِ رَهْنِهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ: وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ خَوْفِ هَلَاكِهِ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا، وَرَجَاءَ سَلَامَتِهِ إِنْ تَابَ مِنْهَا، وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَإِنْ خِيفَ هَلَاكُهُ بِالْمَوْتِ وَرُجِيَتْ سَلَامَتُهُ بِالْبُرْءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ رَهْنِهِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. فَإِذَا بِيعَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنَ الرِّدَّةِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا. فَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فَقَدْ مَضَى الْبَيْعُ سَلِيمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالرِّدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ فَيَجْعَلُ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَانَ مَغْصُوبًا وَاسْتَحَقَّ رَدَّهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الرِّدَّةَ عَيْبٌ كَالْمَرَضِ وَقَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ، فَإِذَا قُتِلَ فِي يَدِهِ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بِالْمَرَضِ لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ نَقْصِهِ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ قَتْلِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ فَهَذَا عَيْبٌ قَدْ عَلِمَهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ. فَإِنْ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَأَرَادَ الْمَقَامَ عَلَى الْبَيْعِ فَلَا أَرْشَ لَهُ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنَ الرِّدَّةِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا، فَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْمِلْكُ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوِ استحق. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ بِمَرَضٍ قَدْ رَضِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 بِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ يُوجِبُ الرَّدَّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ يُوجِبُ الرَّدَّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ وَإِمْسَاكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِّ لِأَنَّ الْعَيْبَ إِنَّمَا كَانَ بِالرِّدَّةِ وَالرِّدَّةُ قَدْ زَالَتْ بِالتَّوْبَةِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الرَّدُّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الرَّدُّ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا رَدَّ لَهُ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ كما لو استحق. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ دُونَ ثَمَنِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ مَرِيضًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِمَرَضِهِ حَتَّى مَاتَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِأَرْشِهِ دُونَ ثَمَنِهِ. وَاعْتِبَارُ أَرْشِهِ أَنْ يُقَوَّمَ مُرْتَدًّا وَغَيْرَ مُرْتَدٍّ وَيَرْجِعَ بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ بِثَمَنِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَرَجَعَ بِأَرْشِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ. فَهَذَا حُكْمُ بَيْعِ الْمُرْتَدِّ. (فَصْلٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَمَّا رَهْنُ الْمُرْتَدِّ فَجَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يتوب من رِدَّتِهِ أَوْ يُقْتَلَ بِهَا: فَإِنْ تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ قُتِلَ بِرِدَّتِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِرِدَّتِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مَضَتْ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ وَهُوَ عَلَى رِدَّتِهِ. فَعَلَى هَذَا هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ وَبَيْنَ إِمْضَائِهِمَا. فَإِنْ فُسِخَ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَمْضَاهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ رِدَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ فِي الْبَيْعِ، أَوْ يُقْتَلَ فِي رِدَّتِهِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ فَهَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ، فَعَلَى هَذَا هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِعَيْبٍ. فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَمَا لَوِ اسْتَحَقَّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِالْأَرْشِ. أما فَسْخُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَلَفَ الرَّهْنِ كَانَ بِيَدِهِ، وَإِذَا كَانَ تَلَفُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبٍ مُتَقَدِّمٍ لَمْ يُوجِبْ خِيَارًا فِي الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ، كَمَا لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدًا مَرِيضًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَرَضِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ فَلَيْسَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مَبِيعًا فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي بِرِدَّتِهِ حَتَّى قُتِلَ بِهَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ فَهَلَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِرِدَّتِهِ حَتَّى قُتِلَ بِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ فَرْقُ أَبِي علي: أن الرُّجُوعَ بِالْأَرْشِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِيمَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمَّا أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْشِ، وَلَمَّا لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْشِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَحْدَهُ اخْتَلَفَ بَيْعُ الْمُرْتَدِّ وَرَهْنُهُ. فَلِذَلِكَ أَعَدْتُ تَقْسِيمَهُ وَلَمْ أَجْعَلِ الْجَوَابَ فِي الرَّهْنِ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَوَابِ في البيع خوف الاشتباه. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والقاتل فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الرَهْنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَاتِلَ خَطَأٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي جَوَازِ رَهْنِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَاتِلَ عَمْدٍ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. مَا الَّذِي يُوجِبُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَحْدَهُ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ وَالْعَفْوِ عَنْهُ كَالْمُرْتَدِّ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ، وَسَلَامَتِهِ بِالتَّوْبَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْقَوَدُ وَإِمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ كَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لأنه قَدْ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَأَمَّا بَيْعُهُ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْحَالِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَيْبٌ إِذَا عُلِمَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِيهَا ثُمَّ يَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ. فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقِصَاصِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ لِعِلْمِهِ بِجِنَايَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِصَاصِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ سَيِّدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَا يَفْدِيَهُ. فَإِنْ فَدَاهُ مِنْ مَالِهِ وَدَفَعَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْ عِنْدِهِ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ وَلَا غَيْرُهُ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ عَلِمَ بِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْعَفْوِ إِلَى مَالٍ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ فَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَاسْتَقَرَّ رَهْنُهُ. وَلَا خِيَارَ فِي الْبَيْعِ بِحَالٍ. فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ غَيْرَ عَالِمٍ بِجِنَايَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا. فَإِذَا عَلِمَ بِهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَرَدُّهُ مُمْكِنٌ. فَإِنْ أَقَامَ صَارَ كَالْمُرْتَهِنِ عَالِمًا بِجِنَايَتِهِ. فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ مِنَ اقْتِصَاصِهِ أَوْ عَفْوِهِ عَلَى مَالٍ أَوْ عَفْوِهِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ ... ثُمَّ الْحُكْمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَعْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بِجِنَايَتِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْقِصَاصِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ فَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الِاقْتِصَاصِ منه على ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ، فَلَا يَبْطُلُ رَهْنُهُ بِالْقِصَاصِ لِبَقَائِهِ فِيهِ لَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ لِإِمْكَانِ رَدِّهِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَالْمُسْتَحَقِّ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ لِفَوَاتِ رَدِّهِ كَالْعَيْبِ. وَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ. فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ، وَيُبَاعُ فِي جِنَايَتِهِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمُسْتَحَقِّ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّهِ كَالْمَعِيبِ. فَإِنِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالٍ، فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ جِنَايَتِهِ وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى حَالِهِ، فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَإِنْ تَابَ الْعَبْدُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَانْتَهَى مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهَا، فَهَلْ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْحَالِّ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَيْبٌ. فَعَلَى هَذَا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِّ. فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا رَهْنُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ قَاتِلًا فِي الْحِرَابَةِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرْهَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَهَذَا فِي حُكْمِ الْفَاعِلِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي رَهْنِهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ قَتْلَهُ فِي الْحِرَابَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ كَالْمُرْتَدِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مَحْتُومٌ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُرْتَدِّ الَّذِي قَدْ يَتُوبُ فَيُعْفَى عَنْهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مَالَا فِي الْحِرَابَةِ، أَوْ سَرَقَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَوْجُودًا مَعَهُ، فَيُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ فَرَهْنُ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ غُرْمٌ. وَوُجُوبُ قَطْعِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَهْنِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ قَطْعِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ قَدْ تَلِفَ مِنْ يَدِهِ فَالْحُكْمُ فِي رَهْنِهِ كَالْحُكْمِ فِي رَهْنِ الْجَانِي خَطَأً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ لِتَعَلُّقِ الغرم برقبته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَفَهُ بِرَهْنٍ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَزِيدَهُ أَلْفًا وَيَجْعَلَ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ رَهْنًا بِهَا وبالألف الأولى ففعل لم يجز الآخر لأنه كان رهنا كله بالألف الأولى كما لو تكارى دارا سنة بعشرة ثم اكتراها تلك السنة بعينها بعشرين لم يكن الكراء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 الثاني إلا بعد فسخ الأول (قال المزني) قلت أنا وأجازه في القديم وهو أقيس لأنه أجاز في الحق الواحد بالرهن الواحد أن يزيده في الحق رهنا فكذلك يجوز أن يزيده في الرهن حقا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا رَهَنَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ أَلِفًا أُخْرَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَلْفَيْنِ مَعًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْسَخَا الرَّهْنَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفَاهُ بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا جَائِزٌ إِجْمَاعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَاهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ رَهْنًا بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وأبو يوسف وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة. فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا فَصَارَتْ ذِمَّتُهُ مَرْهُونَةً بِهَا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى فَتَصِيرُ ذِمَّتُهُ مَرْهُونَةً بِأَلْفَيْنِ. كَذَلِكَ إِذَا رَهَنَهُ عَبْدًا بِأَلْفٍ جَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَلْفٍ أُخْرَى، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ. وَلِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مَرْهُونًا بِجِنَايَتِهِ كَمَا يَكُونُ مَرْهُونًا بِحَقِّ مرتهنه، ثم ثبت أنه لو جنا جِنَايَةً صَارَ مَرْهُونًا بِهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ جِنَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَصِيرُ مَرْهُونًا بِهَا. . كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا بِحَقِّ مُرْتَهِنِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ حُدُوثِ حَقٍّ ثَانٍ لِمُرْتَهِنِهِ، فَيَصِيرُ مَرْهُونًا به. ولأنه لو كان مرهونا بألف وجنا جِنَايَةً أَرْشُهَا أَلْفٌ فَغَرِمَهَا الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ رَهْنًا بِالْأَلْفِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ مَرْهُونًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي غَرَسَهَا جَازَ وَصَارَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ. كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ حَصَلَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ أَلْفٌ أُخْرَى مِنْ مُعَامَلَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ مَرْهُونًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا جَازَ وَصَارَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِأَلْفَيْنِ. وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الدَّيْنِ الْوَاحِدِ رَهْنًا عَلَى رَهْنٍ، جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ دَيْنًا عَلَى دَيْنٍ. وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لِشَخْصٍ جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ حَقًّا آخَرَ. وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَرْهُونٌ بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ الْحَقَّ إِلَّا جُزْءًا مِنْهُ كَانَ الرَّهْنُ كُلُّهُ مَرْهُونًا فِي الْجُزْءِ الْبَاقِي مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مَرْهُونًا بِحَقٍّ آخَرَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ كَمَنْ أَجَرَ دَارًا سَنَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا ثَانِيَةً لِاشْتِغَالِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَقِّ. فَلَوْ جَازَ إِدْخَالُ حَقٍّ ثَانٍ عَلَى الرَّهْنِ لَصَارَ الرَّهْنُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَقِّ. وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَتْبَعُ الْبَيْعَ لِاقْتِرَانِهِ بِهِ، وَاشْتِرَاطِهِ فِيهِ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِذَا ابْتَاعَ شَيْئًا أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. لَمْ يَجُزْ إِذَا ارْتَهَنَ شَيْئًا أَنْ يَرْتَهِنَهُ ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الضَّمَانِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ أن الضمان لا يستغرق ذمة الضامن بدليل أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ لِشَخْصٍ آخَرَ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ حَقًّا آخَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَغْرَقَهُ ... أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ شَخْصٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِحَقٍّ آخَرَ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَطْرَأَ أَرْشٌ عَلَى أَرْشِهِ، جَازَ أَنْ يَطْرَأَ أَرْشُهُ عَلَى أَرْشِهِ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطْرَأَ رَهْنُ غَيْرِهِ عَلَى رَهْنِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطْرَأَ رَهْنُهُ عَلَى رَهْنِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا فَدَاهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَصَارَ مَرْهُونًا بِهِمَا: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ وَكِلَاهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَجُوزُ فِي الْجِنَايَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ إِذَا طَرَأَتْ عَلَى الرَّهْنِ صَارَ الرَّهْنُ مَعْلُولًا بِهَا لِتَعَرُّضِهِ لِلْفَسْخِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الْحَقِّ كَالْبَيْعِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ لَمَّا كَانَ مُعَرَّضًا لِلْفَسْخِ جَازَ أَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلْفَسْخِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الْحَقِّ كَالْبَيْعِ بَعْدَ تَقَضِّي الْخِيَارِ لِمَا لَمْ يَكُنْ مُعَرَّضًا لِلْفَسْخِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي ارْتِهَانِهِ بِمَا قَدْ فَدَاهُ مَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ استصلاح لِرَهْنِهِ فَجَازَ أَنْ يَرْتَهِنَهُ بِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 ثَانِيَةً مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ كَمَا يَفْدِي الْمُشْتَرِي عَبْدَهُ إِذَا جَنَى عَلَى الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ ثَانِيَةً كَمَا يَفْدِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِصْلَاحٌ لِلرَّهْنِ الْأَوَّلِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَاعَهُ ثَانِيَةً فِي غَيْرِ الْجِنَايَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ عَلَى دَيْنٍ وَاحِدٍ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ عَلَى رَهْنٍ وَاحِدٍ. فَيُقَالُ: الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقٌ لِلرَّهْنِ وَلَيْسَ الرَّهْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلدَّيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ يُبْطِلُ الرَّهْنَ، وَسُقُوطُ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ. فَلِذَلِكَ جَازَ دُخُولُ رَهْنٍ ثَانٍ عَلَى أَوَّلَ فِي دَيْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ دَيْنٍ ثَانٍ عَلَى أَوَّلَ فِي رَهْنٍ واحد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ هَذَا الرَّهْنَ فِي يَدِهِ بِأَلْفَيْنِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ تَصَادَقَا فَهُوَ مَا قَالَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال. فإذا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ حَصَلَتْ لَهُ أَلْفٌ أُخْرَى فَجُعِلَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُمَا بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْحِ الْحَالِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا. فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْحِ مَا جَرَى مِنْ حَالِهِمَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ حَاكِمٍ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِاجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ حَكَمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ رهن بألفين. وإن كان يرى قوله في الجديد حكم بأن العبد رهن بالألف الأولى دُونَ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَأَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَا إِلَى الْحَاكِمِ مَا سَمِعَاهُ مِنْ إِقْرَارِهِمَا مَشْرُوحًا. فَإِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ حَكَمَ فِي الرَّهْنِ بِاجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَوْلَ الْقَدِيمَ حَكَمَ بِأَنَّ الرَّهْنَ بِأَلْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَوْلَ الْجَدِيدَ حَكَمَ أَنَّ الرَّهْنَ بِأَلْفٍ. فَلَوْ أَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَلَّا يَذْكُرَا شَرْحَ الْإِقْرَارِ وَشَهِدَا أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمَا شَرْحُ الْإِقْرَارِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا يُؤَدِّيهِمَا إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا أَوْ يَشْرَحَا لَهُ الْإِقْرَارَ اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَتِهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَجْتَهِدَا فِي الْإِقْرَارِ وَيُؤَدِّيَا إِلَى الْحَاكِمِ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يَصِحُّ مِنَ اجْتِهَادِهِمَا. فَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ شَهِدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ وَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ شَهِدَا أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفٍ وَأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِأَلْفٍ أُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَنْقُلَا الْإِقْرَارَ إِلَى الْحَاكِمِ مَشْرُوحًا عَلَى صُورَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ وَالِاجْتِهَادُ إِلَى الْحَاكِمِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ. فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا. فَإِنْ أَقَرَّا بِذَلِكَ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يُقِرَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِظَاهِرِ إِقْرَارِهِمَا وَاجِبٌ فَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ إِمَّا بِإِقْرَارِهِمَا أَوْ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهِمَا. فَلَوْ عَادَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا إِلَى الْحَاكِمِ فَاعْتَرَفَا عِنْدَهُ بِالْحَالِّ وَشَرَحَا لَهُ الصُّورَةَ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ كَانَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ حَكَمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ عَادَ الْمُرْتَهِنُ وَحْدَهُ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَوْ عَادَ الرَّاهِنُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ. فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ قَالَ لِلرَّاهِنِ: هَذِهِ الدَّعْوَى مُؤَثِّرَةٌ فِي الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ يَرَى قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الرَّاهِنِ لِتَقَدُّمِ إِقْرَارِهِ. وَهَلْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ الْيَمِينُ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا أَقَرَّ لِلْمُرْتَهِنِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ ثُمَّ عَادَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَسَأَلَ إِحْلَافَهُ هَلْ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: كَذَلِكَ هَهُنَا. فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ حِينَ شَهِدَا عَلَى الرَّاهِنِ بِإِقْرَارِهِ الْمُطْلَقِ عَلِمَا الْحَالَ فِي الْبَاطِنِ، فَهَلْ عَلَيْهِمَا إِذَا شَهِدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُخْبِرَا بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا الْإِخْبَارُ بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُؤَدِّي مَا تَحَمَّلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ. أَنَّ عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا بِالْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ وَيُخْبِرَا بِمَا عَلِمَا فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَنْقُلُ إِلَى الْحَاكِمِ بِمَا عَلِمَهُ. فَسَوَاءٌ كَانَ إِقْرَارًا أَوْ غَيْرَ إِقْرَارٍ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا عَلَيْهِ مَعَ مَا تَحَمَّلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَهُ يُنَافِي مَا تَحَمَّلَهُ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا تَحَمَّلَهُ فَيَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ ... وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي اجْتِهَادِ الشَّاهِدِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا قَدْ صَارَتْ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ أَوْ فِي مَالٍ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَلَوْ أَبْطَلَ رَبُّ الْجِنَايَةِ حَقَّهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِهِ بِحَقٍّ لَهُ فِي عُنُقِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَخَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ وَهَذَا مَوْضِعُهُ فَإِذَا كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ لِيُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ سَقَطَ أَرْشُهَا لِفَوَاتِ رَقَبَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ وُجُوبُهَا إِلَى رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِي رَقَبَتِهِ لَكَانَ كَالْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ لَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ عِتْقِهِ إِلَى ذِمَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ مَا جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى رَقَبَتِهِ فِي الِانْتِهَاءِ كَالدَّيْنِ، لَمَّا كَانَ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى رَقَبَتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ مِنْ جِنَايَتِهِ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْهَا جَازَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْهَنَهُ لِفَكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَاقِيًا فِي رَقَبَتِهِ لَمْ يَجُزْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْهَنَهُ لِأَنَّهُ مرهون بأرش جنايته، فإن رهنه باطلا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي رَهْنِهِ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فِي ذِمَّتِهِ. فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ اسْتَقَرَّ رَهْنُهُ وَإِنْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ بَطَلَ رَهْنُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ أَوْكَدُ مِنْ حَقِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 الْمُرْتَهِنِ لِتَقْدِيمِهِ إِذَا طَرَأَ عَلَى الرَّهْنِ ثُمَّ كَانَ الْمَرْهُونُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ، فَالْجَانِي أَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَقَبَتِهِ. فَلَوْ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَبْطَلَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَا تَجْدِيدَ رَهْنٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَصِحُّ بِزَوَالِ ما وقع به فاسدا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُسَاوِي دِينَارًا وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَهْنَهُ بِحَقٍّ ثُمَّ رَهَنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ الثَّانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ رَهْنَ الْعَبْدِ الْجَانِي خَطَأٌ عَلَى نَفْسٍ. أَوْ مَالٍ لَا يَجُوزُ قَبْلَ فَكَاكِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ سَوَاءٌ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ مِثْلَ قيمته أو أقل حتى إن كانت قيمته أَلْفًا وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ مِائَةً لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ بِمَا فَضَلَ مِنْ جِنَايَتِهِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ رَهَنْتُكَ الْفَاضِلَ مِنْ جِنَايَتِهِ لَمْ يَجُزْ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ وَأَوْكَدُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْهَنَهُ ثَانِيَةً بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ لِأَنَّ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، فَصَارَ مُسْتَغْرِقًا لَهَا كَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ إِذًا رَهَنَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ أَلَا يَجُوزَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ. قُلْنَا: لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِغْرَاقِهِ بِالْمِائَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ قِيمَتُهُ مِائَةً فيصير الثاني مشاركا للأول منهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ارْتَهَنَهُ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً ادَّعَى بِهَا فَفِيهَا قولان أحدهما أن القول قول الراهن لأنه أقر بحق في عنق عبده ولا تبرأ ذمته من دين المرتهن وقيل يحلف المرتهن ما علم فإذا حلف كان القول في إقرار الراهن بأن عبده جنى قبل أن يرهنه واحدا من قولين أحدهما أن العبد رهن ولا يؤخذ من ماله شيء وإن كان موسرا لأنه إنما أقر في شيء واحد بحقين لرجلين أحدهما من قبل الجناية والآخر من قبل الرهن وإذا فك من الرهن وهو له فالجناية في رقبته بإقرار سيده إن كانت خطأ أو شبه عمد لا قصاص وإن كانت عمدا فيها قصاص لم يقبل قوله على العبد إذا لم يقر بها والقول الثاني أنه إذا كان موسرا أخذ من السيد الأقل من قيمة العبد أو أرش الجناية فيدفع إلى المجني عليه لأنه يقر بأن في عنق عبده حقا أتلفه على المجني عليه برهنه إياه وكان كمن أعتق عبده وقد جنى وهو موسر أو أتلفه أو قتله فيضمن الأقل من قيمته أو أرش الجناية وهو رهن بحاله وإنما أتلف على المجني عليه لا على المرتهن وإن كان معسرا فهو رهن بحاله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 ومتى خرج من الرهن وهو في ملكه فالجناية في عنقه وإن خرج من الرهن ببيع ففي ذمة سيده الأقل من قيمته أو أرش جنايته (قال المزني) قلت أنا وهذا أصحها وأشبهها بقوله لأنه هو والعلماء مجمعة أن من أقر بما يضره لزمه ومن أَقَرَّ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ لَمْ يجز عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حق فهو ضامن بعدوانه، وقد قال إن لم يحلف المرتهن على علمه كان المجني عليه أولى به منه وقد قال الشافعي بهذا المعنى لو أقر أنه أعتقه لم يضر المرتهن فإن كان موسرا أخذت منه قيمته فجعلت رهنا مكانه ولو كان معسرا بيع في الرهن (قال) ومتى رجع إليه لأنه مقر أنه حر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ رهن عبده رجلا فَادَّعَى أَجْنَبِيٌّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً. فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ جِنَايَةَ خَطَأٍ تُوجِبُ الْمَالَ. فَإِنِ ادَّعَى جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ وَدُونَ الْمُرْتَهِنِ ولأن الدَّعْوَى تُسْمَعُ عَلَى مَنْ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا دُونَ سَيِّدِهِ وَمُرْتَهِنِهِ. فَإِذَا سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ رهن بحاله فإن اعترف بها العبد بَعْدَ إِنْكَارِ الْعَبْدِ وَيَمِينِهِ لَمْ يَكُنْ لِاعْتِرَافِهِ تَأْثِيرٌ. وَإِنِ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ وَأَقَرَّ بِهَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِيهَا سَوَاءٌ اعْتَرَفَ السَّيِّدُ أَوْ أَنْكَرَ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ. فَإِذَا ثَبَتَ إِقْرَارُهُ بِهَا فَلِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيُبَرِّئَهُ مِنْهَا. فَيَكُونُ رَهْنًا بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ عَنْهُ إِلَى مَالٍ. فَلَهُ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ له. فإن قيل: إقرار الْعَبْدِ بِالْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِمَ حَكَمْتُمْ فِي الْمَالِ بِإِقْرَارِهِ؟ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ إقراره بالمال، وإنما تفرع عنه الْمَالُ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّنَةِ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ عَبْدٍ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْمَالَ وَجَبَ فِي مَالِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الْجِنَايَةِ مُحِيطًا بِقِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ. بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ وَكَانَ ما بقي منه رهنا مكانه ولأنه لَمَّا لَمْ تَكُنْ جِنَايَتُهُ مَانِعَةً مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْعُ بَعْضِهِ فِيهَا مُبْطِلًا لِرَهْنِ بَقِيَّتِهِ ... فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْدِيمُهَا لِاشْتِمَالِ التَّقْسِيمِ عَلَيْهَا وَقُرْبِ الْكَلَامِ فِيهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا ادَّعَى جِنَايَةً خَطَأً أَوْ عَمْدًا تُوجِبُ الْمَالَ فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهَا هُوَ السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا: فَيَكُونُ الرَّهْنُ بَاطِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ رَهْنَ الْجَانِي خَطَأٌ لَا يَصِحُّ وَقَدْ ثَبَتَتْ جِنَايَتُهُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَبَطَلَ حُكْمُ الرَّهْنِ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ ارْتِهَانُ الْعَبْدِ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ ثُمَّ الرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ. فَإِنْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَلَمْ يَفْدِهِ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي الْجِنَايَةِ: فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا مِثْلَ قِيمَتِهِ فَأَكْثَرَ. بِيعَ، وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَكَانَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ. وَإِنْ فَدَاهُ نُظِرَ فِي أَرْشِ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ فَدَاهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا لَوْ بِيعَ فِي جنايته بذل الْمُشْتَرِي فِيهِ قَدْرَ قِيمَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا. كَذَلِكَ إِذَا فَدَاهُ الرَّاهِنُ الْمَالِكُ بِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَوْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ أَنْ يَحْدُثَ رَاغِبٌ فِي ابْتِيَاعِهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ فَإِذَا فَدَاهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ لَمْ يَصِحَّ بِمَا يَطْرَأُ فِيمَا بَعْدَهُ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُكَذِّبَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا: فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ أَقَرَّ لَمْ تَثْبُتِ الْجِنَايَةُ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ إِذَا أَنْكَرَ أَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِإِنْكَارِهِ فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَأَجَابَ الْمُرْتَهِنُ إِلَى الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَجَابُوا إِلَى الْيَمِينِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُفْلِسِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ بَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَأُبْطِلَ الرَّهْنُ وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ إِذَا أَجَابَ إِلَى الْيَمِينِ. فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا شَيْءَ لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ حِينَئِذٍ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْأَرْشُ وبطل الرهن وإن نكل فلا شيء له وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَيُكَذِّبَهُ الرَّاهِنُ: فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِبُطْلَانِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي شَهَادَتِهِ. وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِإِقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ. فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ لِمُدَّعِي الْجِنَايَةِ وَلَا يَكُونُ بُطْلَانُ الرَّهْنِ بِتَصْدِيقِ الْمُرْتَهِنِ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلَا مُوجِبًا لِلْخِيَارِ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى مُدَّعِي الْجِنَايَةِ. فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِأَرْشِهَا وَبِيعَ الْعَبْدُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الرَّاهِنُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُرْتَهِنُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكِهِ بِمَا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِإِقْرَارِهِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ حَجْرَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالْمَرَضِ ثُمَّ كَانَ الْمَرِيضُ لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَتِهِ فِي رَقَبَةِ عَبْدٍ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا فَوَجَبَ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِقْرَارِ الرَّاهِنِ إِبْطَالًا لِلرَّهْنِ بَعْدَ لُزُومِهِ. وَالرَّهْنُ إِذَا لَزِمَ فَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ إِلَى إِبْطَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ حَجْرًا يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِهِ وعتقه كالسفيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 الَّذِي يَمْنَعُهُ الْحَجْرُ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ عِتْقِهِ ثُمَّ كَانَ لَوْ أَقَرَّ السَّفِيهُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِقْرَارِهِ لِأَجْلِ حَجْرِهِ. كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِجِنَايَةٍ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِقْرَارِهِ لِأَجْلِ حَجْرِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا. فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ وَالْيَمِينُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ. لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ مُبْطِلٌ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَمُنْكِرٌ لِصِحَّةِ رَهْنِهِ. فَافْتَقَرَ إِلَى يَمِينٍ يَدْفَعُ بِهَا مُطَالَبَةَ الْمُرْتَهِنِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ. وَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فهي يمين إثبات. ويبين الْإِثْبَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ. فَإِذَا قُلْنَا لَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ. أَوْ قُلْنَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ. أَوْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ. فَإِنْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لَهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي الْأَرْشِ وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ قَوْلَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ شَرَطَ رَهْنًا وَجَبَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لِقِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُبَاعُ نِصْفُهُ فِي الْجِنَايَةِ لِيُصْرَفَ فِي أَرْشِهَا وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِيهِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُبَعْ فِي الْأَرْشِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّنَا قَدْ حَكَمْنَا بِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَالْجَانِي لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ فِيمَا فَضَلَ مِنْ جِنَايَتِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَهْنُ جَمِيعِهِ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِجِنَايَتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ رَهْنٌ بِحَالِهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فَقَالَ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى جِنَايَتِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ حَلَفَ وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِهِ وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ أَوْلَى بِهِ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ جِنَايَتَهُ وَيَكُونُ مَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ رَهْنًا. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّاهِنِ إِنَّمَا نَفَذَ فِي الْجِنَايَةِ بِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الراهن لو أقر بالجناية ولم يدعيها الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَانَ الرَّاهِنُ بِحَالِهِ لَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ. وَإِذَا كَانَ إِقْرَارُهُ إِنَّمَا نَفَذَ لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فَضَلَ مِنْ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَيَكُونُ رَهْنًا بِحَالِهِ فَلَوْ لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ بِيعَ جَمِيعُهُ. وَدُفِعَ مِنْ ثَمَنِهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْفَاضِلُ مِنْهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ. فَأَمَّا إِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ مِنْ جِنَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَإِنْ زَادَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى قِيمَتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ. فَإِنْ فَدَاهُ فَهَلْ يَكُونُ عَلَى حَالِهِ فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي الْفَاضِلِ عَنْ جِنَايَتِهِ هَلْ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا أَمْ لَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ. (فَصْلٌ) وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ عَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينَ فَنَكَلَ عَنْهَا وَجَبَ رَدُّهَا وَفِيمَنْ تُرَدُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَرْشَ صَائِرٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَأُخْرِجَ عَنِ الرَّهْنِ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْأَرْشِ عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ لَوْ حَلَفَ فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ وَعَادَ إِلَى الرَّاهِنِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مِنْهُ. وَإِنْ بِيعَ فِي الرَّهْنِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّاهِنِ بَطَلَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ نُكُولَ الرَّاهِنِ يُوجِبُ نَقْلَ الْيَمِينِ مِنْ جِهَتِهِ إِلَى جِهَةِ مَنْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ المرتهن حلف على العام لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَرْشَ جِنَايَتِهِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا فِيمَا بَعْدُ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ القولين في رُجُوعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ عِنْدَ يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عليه. وهذا على القول الذي يقول إن لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَلَى الرَّاهِنِ لَوْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ أَلَّا تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ أَنْ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ لَوْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ فِي يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ إِسْقَاطًا لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ عَنْهَا أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَبَتَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَأُخْرِجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ لِيُبَاعَ فِي الْأَرْشِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ عَلَى مَا مَضَى. فَهَذَا جُمْلَةُ التَّفْرِيعِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ قَبْلَ رجوعه فاحتاج إلى يمين يرتدع بها لجواز أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا. فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رهنا في يديه ولا اعتراض فيه هل للمجني عَلَيْهِ، وَهَلْ عَلَى الرَّاهِنِ غُرْمُ الْجِنَايَةِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ وَإِقْرَارُهُ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمَ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ صِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ انْتِزَاعُ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنَ الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى هَذَا إِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ إِمَّا بِفَكَاكٍ أَوْ بيع فابتاعه أو ورثه أَوِ اسْتَوْهَبَهُ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ لِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِهَا وَبِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الرَّاهِنُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غُرْمُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بِالرَّهْنِ قَدْ حَالَ بَيْنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَبَيْنَهُ، وَأَتْلَفَ عَلَيْهِ حَقَّهُ. فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ قَتَلَهُ فإن كان موسرا بها في الحال أو غرم وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُنْظِرَ إِلَى أَنْ يُوسِرَ ثُمَّ يُغَرَّمُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ غُرِّمَ جَمِيعَهَا وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكَثُرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ جَمِيعِهَا. وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ أَضْعَافًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمُ الزِّيَادَةِ. فَيَكُونُ غَارِمًا لِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْهُونٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَلَا يُلْزَمُ غُرْمَ الزِّيَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَرْهُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَرْهُونٍ أُمْكِنَ بَيْعُهُ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فَصَارَ مُتْلِفًا لَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُ الزِّيَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَزِمَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ كَمَا يَفْدِي أُمَّ وَلَدِهِ وَإِذَا غَرِمَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ عَادَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَهَذَا حُكْمُهُ إِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ. (فَصْلٌ) فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْيَمِينِ وَجَبَ رَدُّهَا وَفِيمَنْ تُرَدُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ حَلَفَ لَمْ يَغْرَمِ الرَّاهِنُ شَيْئًا فَلَا مَعْنَى لِرَدِّهَا عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَرُدَّتْ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا حَقَّ نَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَبِيعَ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا. وَإِنْ نَكَلَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْحَالِّ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ لَوْ حَلَفَ فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ أَوْ يفديه الراهن منها. وإن لم يجد إِلَيْهِ وَبِيعَ فِي الرَّهْنِ سَقَطَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الرَّاهِنِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ حَلَفَ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِيَمِينِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْشِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُفْلِسِ أَوِ الْوَرَثَةِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ هَلْ تُرَدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ. فَكَذَلِكَ رَدُّ الْيَمِينِ. عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُخَرَّجٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَبِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بِعِوَضِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ إِلَى الرَّاهِنِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيُبَاعَ فِي الْجِنَايَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الرَّاهِنُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّاهِنِ، وَبِيعَ فِي الرَّهْنِ سَقَطَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَرْجِعُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاهِنِ فَيُغْرِمُهُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُلْزِمُهُ غُرْمَ أَرْشِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُتْلَفًا عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلُزِمَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ بِرَهْنِهِ وَنُكُولِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُلْزِمُهُ غُرْمَ أَرْشِهَا وَتَكُونُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا عَادَ إِلَى الرَّاهِنِ بِيعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ سَقَطَتْ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِهَا فَهَذَا جُمْلَةُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَى وأنكر المرتهن. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ: وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ، فَتَصِيرُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالْعِتْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى مَا مَضَى من التفريع عليهما. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا آجَرَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُؤْجِرُ بِجِنَايَتِهِ وَأَنْكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُؤْجِرِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ بَيْعَهُ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ بِخِلَافِ الرَّهْنِ. فَلَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِ الْمُسْتَأْجِرِ تَأْثِيرٌ فِي عَقْدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى الْمُؤْجِرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَهَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ عِتْقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ يَأْتِي مَوْضِعُ تَوْجِيهِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَوْ أَقَرَّ الْمُؤْجِرُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ، لأن إقراره لوضع لأبطل الإجارة فصار كإقراره بجناية المرهون ويغصبه فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَنَى أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْبَائِعِ قَوْلًا وَاحِدًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ جَنَى أَوْ غَصَبَ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ حَيْثُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ الرَّهْنِ حَيْثُ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. أَنَّ إِقْرَارَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ إِقْرَارٌ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَإِقْرَارُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ إِقْرَارٌ فِي مِلْكِهِ. فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَارَ أَنَّ عَلَى الرَّاهِنِ غَرَامَةَ الْأَرْشِ وَهَذَا أَيْضًا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَعِيفٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 فَأَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ أَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ وَالْعُلَمَاءَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَضُرُّهُ قبل إقراره وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِنَفْسِهِ فقيل إضرارا بِغَيْرِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ. فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: لَيْسَ يُمْتَنَعُ قَبُولُ إِقْرَارِ مَنْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ فيه إقرارا بِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ تَلْحَقْهُ تُهْمَةٌ فِي إِقْرَارِهِ. . أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِجِنَايَةِ عَمْدٍ قُبِلَ إِقْرَارُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِسَيِّدِهِ، لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَلْحَقُهُ فِي إِقْرَارِهِ. كَذَلِكَ الرَّاهِنُ وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِالْمُرْتَهِنِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَلْحَقُهُ فِي إِقْرَارِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ لِعُدْوَانِهِ. فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ مِنَ الرَّاهِنِ إِتْلَافٌ لِمَا فِيهِ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَهُوَ بَاقٍ لَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاهِنُ وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدٌ مَعَ بَقَاءِ الرَّقَبَةِ وَوُجُودِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَهُوَ أَنْ قَالَ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ لَمْ يَضُرَّ الْمُرْتَهِنَ. فَيُقَالُ لَهُ: وَهَذَا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْجِنَايَةِ. فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ ثُمَّ بَرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ رَهْنٌ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّهْنِ كَانَ صَحِيحًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَجَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ لَا يَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَمْ يَزُلْ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَبْطُلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الرَّهْنِ؟ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَقَدُّمُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ لِضَعْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ الرَّهْنِ لِقُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَحَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدَّمَ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِثَلَاثَةِ معان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ في الذمة. إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَجَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ لَا يَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَمْ يَزُلْ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَبْطُلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الرَّهْنِ؟ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَقَدُّمُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ لِضَعْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ الرَّهْنِ لِقُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَحَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدَّمَ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ حَقِّ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ وَفِي تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ. كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَالْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ يُقَدَّمُ الْقِصَاصَ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي طَرَفِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَوِيَ حَقُّ الْجِنَايَةِ فِي مَنْعِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمًا، قَوِيَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّ أقوى الحقين يقدم على أضعفها. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ فَإِنْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سقط حق الجناية وبقي حقه الرَّهْنِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَعْدَ الْعَفْوِ كَمَا كَانَ رَهْنًا قَبْلَ الْجِنَايَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهَا وَطَالَبَ بِحَقِّهِ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ أَوْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ. فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فَإِذَا اقْتَصَّ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي طَرَفِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِهِ كَانَ رَهْنًا بَعْدَ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ رَهْنًا قَبْلَ الْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِهِ بَعْدَ الْقِصَاصِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَإِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ مِنْ مَالِهِ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ. فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِيعَ جَمِيعُهُ فَإِذَا بِيعَ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَكَانَ مَا بَقِيَ رَهْنًا إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بَيْعُ بَعْضِهِ فَيُبَاعَ جَمِيعُهُ، وَيَكُونُ مَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ الْأَرْشِ هُنَا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ خِيَارٌ فِي الْبَيْعِ بِحُدُوثِ ذلك بعد الرهن. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ عِتْقًا قَدْ يَقَعُ قَبْلَ حُلُولِ الرَّهْنِ فَلَا يَسْقُطُ الْعِتْقُ وَالرَّهْنُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي التَّدْبِيرِ إلا بأن يخرجه من ملكه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّدْبِيرُ: فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بِمَوْتِي، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ فِي دُبُرِ حَيَاتِي. فَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، وَيَكُونُ عِتْقُهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ رَقِيقٌ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي التَّدْبِيرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبَعْضِ الْجَدِيدِ: أَنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصَايَا لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةً فِي الثُّلْثِ فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْوَصَايَا كَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْمِلْكِ وَمَعَ خُرُوجِهِ مِنْهُ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْوَصَايَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْمِلْكِ وَخُرُوجِهَا مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِمَوْتِهِ كَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِمَوْتِ غَيْرِهِ. فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِ غَيْرِهِ فَقَالَ: إِذَا مَاتَ زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ فَقَالَ: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي التَّدْبِيرِ أَنَّهُ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ أَوْ مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ فَرَهَنَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَهُ فَفِي رَهْنِهِ ثلاثة أقوال: أحدهما: أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَتَبْطُلُ الْوَثِيقَةُ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ. - وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ وَصِيَّةٌ أَوْ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَطْرَأَ عليه التدبير فَيَكُونُ الرَّهْنُ صَحِيحًا لِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ أَنْ يَطْرَأَ الرَّهْنُ عَلَى التَّدْبِيرِ فَيَكُونُ الرَّهْنُ جَائِزًا لِجَوَازِ بَيْعِهِ وَلَيْسَ مَا يَطْرَأُ مِنْ جَوَازِ أَنْ يُعْتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ وذلك بمانع مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَبَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عَتَقَ بِصِفَةٍ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّ الرَّهْنَ رُجُوعٌ عَنِ التَّدْبِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَالرُّجُوعُ عَنِ التَّدْبِيرِ مَعَ بَقَاءِ الملك ويجوز إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلِذَلِكَ جَازَ رَهْنُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ. وَلِأَصْحَابِنَا فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ مُضْطَرِبَةٌ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَصَحُّهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي حُكْمِ رَهْنِهِ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ فَالتَّدْبِيرُ بِحَالِهِ بَاقٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ رَهْنَهُ صَحِيحٌ فَهَلْ يَبْطُلُ التَّدْبِيرَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ بَطَلَ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَبْطُلُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّدْبِيرَ قَدْ بَطَلَ فَهُوَ رَهْنٌ يُبَاعُ فِيهِ وَإِنِ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ لَمْ يَعُدِ التَّدْبِيرُ وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إِذَا بَطَلَ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَبْطُلُ، فَإِنِ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ كَانَ مُدَبَّرًا بِعِتْقٍ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَكَّهُ بِيعَ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِذَا بِيعَ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّاهِنُ فِيمَا بَعْدُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَهَلْ يَعُودُ إِلَى التَّدْبِيرِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْأيْمَانِ بِالصِّفَاتِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إِذَا وَقَعَتْ فِي عَقْدٍ هَلْ يَقَعُ الْحِنْثُ بِهَا فِي عَقْدٍ ثَانٍ أَمْ لَا. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ وَلَا بِيعَ فِي الرَّهْنِ حَتَّى مَاتَ الرَّاهِنُ، فَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً لِقَضَاءِ الْحَقِّ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ إِذَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً لِقَضَاءِ الْحَقِّ بِيعَ فِي الحق، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ، لأن مَحَلَّ التَّدْبِيرِ فِي الثُّلُثِ وَالدَّيْنُ مِنْ رَأْسِ المال وبما وَجَبَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِمَّا وَجَبَ فِي الثُّلُثِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ بِالتَّدْبِيرِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَعَتَقَ مِنَ الْبَاقِي بِالتَّدْبِيرِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا رَهَنَ عَبْدًا غَيْرَ مُدَبَّرٍ، ثُمَّ دَبَّرَهُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ وَلَمْ يَبْطُلْ رَهْنُهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا إِذَا دَبَّرَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ صَحَّ رَهْنُهُ وَلَمْ يَبْطُلْ تَدْبِيرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ تَدْبِيرُ الْمَرْهُونِ بَاطِلًا كَمَا كَانَ عِتْقُهُ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ بَاطِلًا؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ التَّدْبِيرُ إِزَالَةَ مِلْكٍ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ التَّدْبِيرُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الرَّهْنِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ التَّدْبِيرُ مُتَقَدِّمًا مُنِعَ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الرَّهْنِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَى الرَّهْنِ لَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ الرَّهْنِ وَلَوْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الرَّهْنِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَاخْتَارَ أَنَّ الرَّهْنَ مُبْطِلٌ لِلتَّدْبِيرِ كَمَا كَانَ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ. فَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعِتْقٍ بِصِفَةٍ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِمَسْأَلَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ فِيهِمَا دَلِيلٌ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ قَالَ لِمُدَبَّرِهِ: إِنْ أَدَّيْتَ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّدْبِيرِ. وَلَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ التَّدْبِيرِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ قَالَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ولو وجب الْمُدَبَّرُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِي التَّدْبِيرِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ تَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ. فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ فِي تِلْكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ أَوْ عِتْقٌ بِصِفَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ أَحَدُ مُوَجِبَيْ زَوَالِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالرَّهْنُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَلَا هُوَ أَحَدُ مُوَجِبَيْ مَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْهِبَةُ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ الرَّهْنِ. فَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الرَّهْنَ مُبْطِلٌ لِلتَّدْبِيرِ كَمَا كَانَ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَلَا يَكُونُ الرَّهْنُ رُجُوعًا عَنِ التَّدْبِيرِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ إِذَا تَجَدَّدَ هَلْ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَالْوَصِيَّةَ أَمْ لَا. عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا يَبْطُلَانِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَالرَّهْنُ كَالْقَوْلِ فِي الرُّجُوعِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ صَحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَسَلِمَ لَهُ الدَّلِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَلَا الْوَصِيَّةَ جَمِيعًا لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الرجوع. وإنما صارت رقبته وَثِيقَةً بِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ رُجُوعًا كَمَا لَمْ تَكُنْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ رُجُوعًا. فَعَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَلَا سَلِمَ لَهُ الدَّلِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي التَّدْبِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّدْبِيرَ أَقْوَى مِنَ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عَطِيَّةٌ تَقَعُ بِالْمَوْتِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ فَقَوِيَ حُكْمُهَا وَلَمْ تَبْطُلْ بِالرَّهْنِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تُمَلَكُ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَتْ أَضْعَفَ مِنَ التَّدْبِيرِ فَبَطَلَتْ بِالرَّهْنِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ صَحَّ لِلْمُزَنِيِّ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يسلم له الدليل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حر ثم رهنه كان هكذا (قال المزني) قلت أنا وقد (قال الشافعي) إن التدبير وصية فلو أوصى به ثم رهنه أما كان جائزا؟ فكذلك التدبير في أصل قوله وقد قال في الكتاب الجديد آخر ما سمعناه منه ولو قال في المدبر إِنْ أَدَّى بَعْدَ مَوْتِي كَذَا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ وَهَبَهُ هِبَةَ بَتَاتٍ قُبِضَ أَوْ لَمْ يقبض ورجع فهذا رجوع في التدبير هذا نص قوله (قال المزني) قلت أنا فقد أبطل تدبيره بغير إخراج له من ملكه كما لو أوصى برقبته وإذا رهنه فد أوجب للمرتهن حقا فيه فهو أولى برقبته منه وليس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 لسيده بيعه للحق الذي عقده فيه فكيف يبطل التدبير بقوله إن أدى كذا فهو حر أو وهبه ولم يقبضه الموهوب له حتى رجع في هبته وملكه فيه بحاله ولا حق فيه لغيره ولا يبطل تدبيره بأن يخرجه من يده إلى يد من هو أحق برقبته منه وبيعه وقبض ثمنه في دينه ومنع سيده من بيعه فهذا أقيس بقوله وقد شرحت لك في كتاب المدبر فتفهمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ الْمُدَبَّرِ. فَأَمَّا رَهْنُ الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِحُلُولِ الْحَقِّ قَبْلَ وجود الصفة. وهو أن يقول إذا أهل رَمَضَانُ فَأَنْتَ حُرٌّ وَيَكُونُ حُلُولُ الْحَقِّ فِي شَعْبَانَ. فَهَذَا رَهْنٌ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا أَهَّلَ شَعْبَانُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَكُونُ حُلُولُ الْحَقِّ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِخُرُوجِهِ بِالْعِتْقِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْحَقِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْدَمَ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي إِحْدَاهُمَا وَلَا يَصِحُّ فِي الْأُخْرَى فَشَابَهَ بَيْعَ الْغَرَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ رَهْنُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَتُهُ وَإِنْ جَازَ عِتْقُهُ، كَمَا كَانَ الْأَصْلُ حَيَاتَهُ وَإِنْ جَازَ مَوْتُهُ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ مَوْتِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ عِتْقِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا صَحَّ رَهْنُهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ كَانَ كَالْمُدَبَّرِ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَيَكُونُ عَلَى مَا مضى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا حُلْوًا كَانَ جَائِزًا فَإِنْ حَالَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا أَوْ مُرًّا أَوْ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ فَإِنْ حَالَ الْعَصِيرُ إِلَى أَنْ يُسْكِرَ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ لِأَنَّهُ صَارَ حَرَامًا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا فَمَاتَ الْعَبْدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. رَهْنُ الْعَصِيرِ الْحُلْوِ جَائِزٌ لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 إِمَّا أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ عَصِيرًا حُلْوًا، أَوْ يَنْقَلِبَ عَنْ كَوْنِهِ عَصِيرًا حُلْوًا فَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ عَصِيرًا بِيعَ فِي الْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الرَّهْنِ كَحُكْمِ غَيْرِهِ. وَإِنِ انْقَلَبَ عَنْ كَوْنِهِ عَصِيرًا حُلْوًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقَلِبُ إِلَى مَالٍ فَيَصِيرُ خَلًّا أَوْ مُزًّا أَوْ مُزَِيًّا أَوْ مَا لَا يُسْكِرُ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ. لِأَنَّ انْقِلَابَ الرَّهْنِ مِنْ مَالٍ إِلَى مَالٍ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا قُتِلَ وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ الرَّهْنُ مَنْ مَالٍ إِلَى مَالٍ. كَذَلِكَ الْعَصِيرُ إِذَا انْقَلَبَ خَلًّا، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَصِيرُ مُزَيًّا قِيلَ: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يُرْوَ فِي أَكْثَرِهَا. وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَإِنْ صَارَ مُزًّا وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يَصِيرَ مُزَيًّا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَصِيرَ الشَّعِيرِ فَيَصِحُّ انْقِلَابُهُ مُزَيًّا أَوْ يَكُونَ عَصِيرَ الْعِنَبِ فَيُطْرَحُ فيه دقيق الشعير فينقلب مزيا. (فصل) والثاني: أَنْ يَنْقَلِبَ الْعَصِيرُ خَمْرًا فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ. لِأَنَّ انْقِلَابَ الرَّهْنِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ الرَّهْنِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا مَاتَ وَجَبَ بُطْلَانُ الرَّهْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا. وَلِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ أَوْكَدُ مِنْ حَقِّ الرَّهْنِ فَلَمَّا كَانَ انْقِلَابُهُ خَمْرًا يُبْطِلُ الْمِلْكَ فَأَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ فِيهِ قَدْ بَطَلَ بِانْقِلَابِهِ خَمْرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَهْنَهُ بَطَلَ فِي الْحَالِ الَّتِي صَارَ فِيهَا خَمْرًا، وَقَدْ كَانَ الْعَقْدُ وَقَعَ عَلَيْهِ صَحِيحًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: إِنَّ انْقِلَابَهُ خَمْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَهُ في الزمان الثاني دليل على ابتدائه بالقدح فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْعَصِيرِ جَائِزٌ وَبَعْدَ انْقِلَابِهِ خَمْرًا بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ رَهْنَ الْعَبْدِ جَائِزٌ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بَاطِلٌ وَلَا يُوجِبُ بُطْلَانُهُ الْإِذْنَ بِالْمَوْتِ بُطْلَانَهُ وَقْتَ عَقْدِهِ كَذَلِكَ هَهُنَا. وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَنَّ ظُهُورَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى ابْتِدَائِهِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فِي إِبْطَالِ الرَّهْنِ لَوَجَبَ إِذَا بِيعَ الْعَصِيرُ فَانْقَلَبَ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيُوجِبَ اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ وَمَا أَحَدٌ يَقُولُ بِهَذَا فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ. (فَصْلٌ) وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا عَادَ بِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ رَهْنُهُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِهِ خِيَارٌ لِصِحَّةِ رَهْنِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَحُدُوثُ فَسَادِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَوْ كان خمرا وقت العقد. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ " فَإِنْ صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَهُوَ رَهْنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا رَهَنَ عَصِيرًا حُلْوًا ثُمَّ صَارَ الْعَصِيرُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ خَمْرًا ثُمَّ انْقَلَبَ الْخَمْرُ فِي يَدِهِ فَصَارَ خَلًّا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ فَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى الرَّهْنِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا، فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَعُدْ إِلَى الصِّحَّةِ فِيمَا بَعْدُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ لَا تَصِحُّ بَعْدَ بُطْلَانِهَا وَلِأَنَّ رَهْنَ الْعَصِيرِ بَطَلَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا كَمَا يَبْطُلُ رَهْنُ الشَّاةِ بِالْمَوْتِ وَتُطَهَّرُ الْخَمْرُ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا كَمَا يُطَهَّرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَلَمَّا كَانَ جِلْدُ الشَّاةِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا دُبِغَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ لِبُطْلَانِهِ مِنْ قَبْلُ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ إِنَّمَا كَانَ لِبُطْلَانِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرَّهْنِ بِعَوْدِهِ إِلَى الْمِلْكِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ سَبَبٌ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ سَبَبٌ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَهُ بِحُقُوقِهِ كَالْوَرَثَةِ إِذَا مَلَكُوا الرَّهْنَ مَلَكُوهُ بِحُقُوقِهِ مَرْهُونًا كَذَلِكَ إِذَا مَلَكَ الرَّاهِنُ الْخَمْرَ بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِحُقُوقِهِ مَرْهُونًا وَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَصِيرِ خَمْرًا تُوجِبُ إِتْلَافَهُ بِالْإِرَاقَةِ كَمَا أَنَّ ارْتِدَادَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ يُوجِبُ إِتْلَافَهُ بِالْقَتْلِ. فَلَمَّا كَانَ زَوَالُ مَا بِهِ يُوجِبُ إِتْلَافَ الْمُرْتَدِّ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الرَّهْنِ وَهُوَ أَنْ يَعُودَ فَلَمَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ مَا بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِتْلَافُ الْخَمْرِ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الرَّهْنِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَحِيلَ خَلًّا وَلِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ إِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا بِسَبَبٍ سَابِقٍ لَا بِسَبَبٍ حَادِثٍ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ خَمْرًا فَاسْتَحَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ خَلًّا لَوَجَبَ أَنْ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذَ مِنْهُ وَصَايَاهُ، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَاخْتَصَّ بِهِ الْوَرَثَةُ وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ قَضَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَلَا إِنْفَاذُ وَصَايَاهُ وَإِذَا عَادَ إِلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ وَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الرَّهْنِ لِكَوْنِهِ رَهْنًا فِي السَّابِقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 7 - فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الرَّهْنَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَصِحَّ بِسَبَبٍ يَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا جَازَ عَوْدُهُ إِلَى الْمِلْكِ بَعْدَ بُطْلَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ سَائِرَ الْأَمْلَاكِ جَازَ عَوْدُهُ إِلَى الرَّهْنِ بَعْدَ بُطْلَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ سَائِرَ الْعُقُودِ عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ مُنْبَرِمًا بِاسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مُرَاعًى، فَإِنْ صَارَ خَلًّا بَانَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ خَلًّا بَانَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَطَلَ كَمَا نَقُولُ فِي ارْتِدَادِ الزَّوْجَةِ: إِنَّ النِّكَاحَ مُرَاعًى. فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ الْعِدَّةَ بَانَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ كَانَ بَاطِلًا بِالرِّدَّةِ وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بَانَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَبْطُلْ بِالرِّدَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِجِلْدِ الشَّاةِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا دُبِغَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْجِلْدَ يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ بِالدِّبَاغَةِ كَمَا يَعُودُ الْخَمْرُ إِذَا صَارَ خَلًّا بِالِاسْتِحَالَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الرَّهْنِ بِالدِّبَاغَةِ وَإِنْ عَادَ الْعَصِيرُ بِالِاسْتِحَالَةِ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِلْدَ لَمَّا لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ إِلَّا بِفِعْلٍ حَادِثٍ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ حَادِثٍ وَلَمَّا عَادَ الْخَمْرُ إِلَى الْمِلْكِ إِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا بِغَيْرِ فِعْلٍ حَادِثٍ عَادَ إِلَى الرَّهْنِ بِغَيْرِ عَقْدٍ حَادِثٍ. (فَصْلٌ) إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ خَمْرًا لِغَيْرِهِ بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتَحَالَ خَلًّا فِي يَدِهِ كَانَ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ دُونَ مَنِ اسْتَحَالَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْخَمْرَ غَيْرُ مُقَرٍّ فِي يَدِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ الْيَدُ عَلَى الْخَمْرِ فَصَارَ اسْتِحَالَتُهَا فِي يَدِهِ كَاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا فِي غَيْرِ يَدِهِ وَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا فِي غَيْرِ يَدِهِ كَانَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهِ كَذَلِكَ وَإِنِ اسْتَحَالَ فِي يَدِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ جِلْدَ مَيْتَةٍ بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَدَبَغَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِرَبِّهِ الْأَوَّلِ دُونَ الدَّابِغِ كَالْخَمْرِ إِذَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلدَّابِغِ وَلَا يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُلِكَ بِغَيْرِ إِحْدَاثِ فعل. وعلى هذين الوجهين يبني عود للجلد المدبوغ إلى الرهن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَارَ خَلًّا بِصَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَلَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَحِلُّ تَخْلِيلُ الْخَمْرِ، فَإِنْ خَلَّلَهَا بِخَلٍّ أَوْ مِلْحٍ أَلْقَاهُ فِيهَا فَهِيَ نَجِسَةٌ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا لَكِنْ لَا يَفْسُقُ مُسْتَحِلُّهَا، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة تَخْلِيلُ الْخَمْرِ جَائِزٌ وَهِيَ بِالتَّخْلِيلِ طَاهِرَةٌ وَشُرْبُهَا مُبَاحٌ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نعم الإدام الخل ولم يفرق بما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُحِلُّ الدِّبَاغُ الْجِلْدَ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ الْخَمْرَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْلِيلِهَا وَإِبَاحَةِ تَخْلِيلِهَا وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ نَجَسَتْ لِعَارِضٍ فَجَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ. أَصْلُهُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ حَيْثُ يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ، وَالثَّوْبُ النَّجِسُ حَيْثُ يُطَهَّرُ بِالْغَسْلِ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِغَيْرِ فِعْلٍ آدَمِيٍّ جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ كَالْبَيْضِ الْمَحْضُونِ إِذَا نَجُسَ بِأَنْ صَارَ دَمًا وَعَلَقَةً لَمَّا جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ فَيَصِيرَ فَرْخًا بِغَيْرِ فِعْلٍ آدَمِيٍّ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَاصِّيَّةٍ جَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ كَذَلِكَ الْخَمْرُ لَمَّا جَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ جَازَ أَنْ تُطَهَّرَ إِذَا خُلِّلَتْ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا فَلَمَّا كَانَ تَنْجِيسُهَا وَتَحْرِيمُهَا عِنْدَكُمْ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ فِيهَا وَعِنْدَنَا لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عليها وكان تخليلها يزيل الشدة منها وبنقل اسْمَ الْخَمْرِ عَنْهَا وَجَبَ أَنْ يُزِيلَ تَنْجِيسَهَا وَتَحْرِيمَهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِهَا مَعَ تَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا تَفْسِيقُ مُتَنَاوِلِهَا وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا، فَلَمَّا كَانَ تَخْلِيلُهَا مَانِعًا مِنْ تَفْسِيقِ مُتَنَاوِلِهَا، وَمُسْقِطًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْخَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالتَّخْلِيلِ كَالْحَدِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَخْلِيلٌ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا وَتَخْلِيلٌ بِنَقْلِهَا وَتَحْوِيلِهَا فَلَمَّا كَانَ تَخْلِيلُهَا بِنَقْلِهَا مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ وَتَعْرِيضِهَا لِلْحَرِّ وَالرِّيحِ رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا مُوجِبًا لِتَطْهِيرِهَا وَتَحْلِيلِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيلُهَا بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا رَافِعًا لِتَنْجِيسِهَا وَتَحْرِيمِهَا مُوجِبًا لتطهيرها وتحليلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّخْلِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ التَّطْهِيرُ وَالتَّخْلِيلُ كَالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَى أنس بن مالك (رضي الله عنه) أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَهْرِقْهَا. قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَعَمَدْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ عِنْدَنَا فَكَسَرْتُهَا فَأَرَقْتُهَا. وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ تَخْلِيلِهَا، وَلَوْ كَانَ تَخْلِيلُهَا سَبَبًا لِطَهَارَتِهَا وَإِبَاحَتِهَا لَأَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِطَهَارَةِ الْجِلْدِ أَمَرَ بِهِ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حَيْثُ رَآهَا مَيْتَةً وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَالُ يَتِيمٍ وَأَمْوَالُ الْيَتَامَى تَجِبُ حِرَاسَتُهَا. فَلَوْ كَانَ التَّخْلِيلُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهَا وَإِبَاحَتِهَا لَأَمَرَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهَا. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفَسَادَهُ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْتَفِعُوا بِخَمْرٍ أَفْسَدْتُمُوهَا حَتَّى يَقْلِبَ اللَّهُ عَيْنَهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرُوا الْخَلَّ مِنَ الْخَمَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَّلَهَا. فَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ لَا يُطَهَّرُ بِالْمُكَاثَرَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يُطَهَّرَ بِالْعِلَاجِ وَالصَّنْعَةِ ... أَصْلُهُ: مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ. وَلِأَنَّ مَا اسْتُبِيحَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ فِعْلٍ لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْمَحْظُورِ مِنَ الْفِعْلِ، كَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ لَمَّا كَانَ يُسْتَبَاحُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْوَارِثِ لَمْ يُسْتَبَحْ بِقَتْلِ الْوَارِثِ كَذَلِكَ الْخَمْرُ لَمَّا اسْتُبِيحَتْ بِاسْتِحَالَتِهَا خَلًّا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مَحْظُورٍ لَمْ تُسْتَبَحْ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَتَنْجِيسَهَا لِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِيَةِ فِيهَا وَالشِّدَّةُ قَدْ تَزُولُ تَارَةً بِإِلْقَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 الْعَسَلِ فِيهَا فَتَحْلُو، وَتَارَةً بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا فَتَحَمُضُ فَلَمَّا كَانَ زَوَالُ الشِّدَّةِ إِذَا حَلَتْ بِإِلْقَاءِ الْعَسَلِ فِيهَا لَا يُوجِبُ إِبَاحَتَهَا وَتَطْهِيرَهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الشِّدَّةِ إِذَا حَمُضَتْ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا لَا يُوجِبُ إِبَاحَتَهَا وَتَطْهِيرَهَا وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ فِعْلٍ تَزُولُ بِهِ الشِّدَّةُ فَوَجَبَ أَلَّا تَقَعَ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَزَوَالِهَا بِالْحَلَاوَةِ. وَكَانَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَعْتَمِدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْخَلَّ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ فَقَدْ نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ الْخَمْرِ فَلَا يُطَهَّرُ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا لِنَجَاسَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنَ الْخَلِّ كَمَا لَوْ كَانَ الْخَلُّ نَجِسًا مِنْ قَبْلُ وَيَزْعُمُ أَنَّ هَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَى دَلَائِلِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا دليل في المسألة أو رهن مِنْهُ لِظُهُورِ فَسَادِهِ بِكُلِّ مَا تَقَعُ الطَّهَارَةُ بِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ وَهُوَ أَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي التَّطْهِيرِ يُنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهَا وَطَهَارَةِ مَحَلِّهَا. وَالْأَحْجَارُ تُنَجَّسُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فِي مَحَلِّهَا وَلَا تَمْنَعُ إِزَالَةَ حُكْمِهَا. وَالشَّثُّ وَالْقَرْظُ فِي الدِّبَاغِ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَطْهِيرِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ نَجِسًا قَبْلَ الْمُلَاقَاةِ لَمْ تَقَعْ بِهِ الطَّهَارَةُ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخَلِّ كَذَلِكَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " نِعْمَ " لَفْظُ تَفْضِيلٍ وَتَشْرِيفٍ، وَمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إِبَاحَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ وَالتَّشْرِيفَ وَتَخْلِيلُ الْخَمْرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ لَفْظٍ يُنَافِيهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ قُصِدَ بِهِ إِبَاحَةُ الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ مُبَاحٌ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا اخْتُلِفَ فِي تَنْجِيسِ الْبَعْضِ لِمَعْنًى أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا فِيهِ كَمَا لَا يُجْعَلُ دَلِيلًا فِي طَهَارَةِ مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: يُحِلُّ الدِّبَاغُ الْجِلْدَ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ الْخَمْرَ مَعَ ضَعْفِهِ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْخَلَّ الَّذِي قَدِ اسْتَحَالَتْ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ خَلًّا أُلْقِيَ فِيهَا ... فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى هَذَا لِأَنَّ بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا لَا تَطْهُرُ إِجْمَاعًا حَتَّى تَسْتَحِيلَ مَعَ ذَلِكَ خَلًّا وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الطَّهَارَةِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الدِّبَاغِ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ فَبَاطِلٌ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَتُهُ لِعَارِضٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي دِبَاغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَحْظُورٍ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ وَلَمَّا كَانَ التَّخْلِيلُ مَحْظُورًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْبَيْضِ إِذَا صَارَ دَمًا وَعَلَقَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَيْضِ إِذَا صَارَ كَذَلِكَ هَلْ هُوَ نَجِسٌ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي عَلَقَةِ الْآدَمِيِّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ. فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الدَّلِيلُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْضِ وَبَيْنَ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ فِي الْبَيْضِ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ وَفِي الْخَمْرِ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا هُوَ نَجِسٌ مِنَ الْبَيْضِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ كَمَا يُطَهَّرُ الْخَمْرُ بِالِاسْتِحَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَمْرُ النَّجِسُ لِأَنَّ فِعْلَ التَّخْلِيلِ حَادِثٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَهَّرَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا زَالَتْ وَجَبَ زَوَالُ حُكْمِهَا فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ قَدْ زَالَتْ وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ الْخَلِّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على سقوط الحد وزوال التفسيق فيقال بموجبه لأن نجاسة الخمر قد زالت وإنما بقيت نجاسة أخرى وهي نَجَاسَةُ الْخَلِّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَحْلِيلِهَا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ أَوْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْهَوَاءِ وَالرِّيحِ. أَوْ بِكَشْفِ رُؤُوسِهَا حَتَّى أَطَارَتِ الرِّيحُ الْمِلْحَ فِيهَا فَهَلْ تَكُونُ طَاهِرَةً كَمَا لَوِ اسْتَحَالَتْ أَوْ تَكُونُ نَجِسَةً كَمَا لَوْ خُلِّلَتْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَمَا لَوْ خُلِّلَتْ لِأَنَّ تَحْوِيلَهَا وَكَشْفَ رَأَسِهَا سَبَبٌ لِإِتْلَافِهَا وَمَانِعٌ مِنَ اسْتِحَالَتِهَا بِذَاتِهَا وَخَالَفَ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْتِيقُهَا وَاسْتِصْلَاحُهَا وَيُقْصَدُ بِكَشْفِهَا اسْتِهْلَاكُهَا وَإِتْلَافُهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: (فَهِيَ لِلْيَوْمِ الَّذِي نَزَلَتْ ... وَهِيَ تِرْبُ الدَّهْرِ فِي الْقِدَمِ) فَعَلَى هَذَا: سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا طَاهِرَةٌ كَمَا لَوِ اسْتَحَالَتْ بِخِلَافِ التَّخْلِيلِ لِأَنَّ التَّخْلِيلَ إِحْدَاثُ فِعْلٍ فِيهَا فَلَمْ تُطَهَّرْ بِهِ وَلَيْسَ كَشْفُ رُؤُوسِهَا وَتَحْوِيلِهَا إِحْدَاثَ فِعْلٍ فِيهَا فَجَازَ أَنْ تُطَهَّرَ بِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَهَنْتُكَهُ عَصِيرًا ثُمَّ صَارَ فِي يديك خمرا وقال المرتهن رهنتيه خمرا ففيها قولان أحدهما أن القول قول الراهن لأنه يحدث كما يحدث العيب في البيع ومن قال هذا أراق الخمر ولا رهن له والبيع لازم والثاني أن القول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 قول المرتهن لأنه لم يقر أنه قبض منه شيئا يحل له ارتهانه بحال وليس كالعيب في العبد الذي يحل ملكه والعيب به والمرتهن بالخيار في فسخ البيع (قلت) أنا هذا عندي أقيس لأن الراهن مدع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ ارْتَهَنَ عَصِيرًا حُلْوًا شَرَطَهُ فِي مَوْضِعِ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُمَّ وَجَدَ الْعَصِيرَ خَمْرًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَصِيرَ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ بَطَلَ فِيهِ الرَّهْنُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَصِيرَ خَمْرًا فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَيَقْبِضُهُ الْمُرْتَهِنُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ فَقَدْ بَطَلَ بِهِ الرَّهْنُ وَوَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِالْقَبْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَصِيرُ قَدْ صَارَ خَمْرًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ إِلَّا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ ارْتِهَانِ الْخَمْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِاسْتِقْلَالِ الْبَيْعِ بِحُكْمِهِ، وَجَوَازِ تَفَرُّدِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وبين فسخه فهذا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَخْتَلِفَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَالَ الْبَائِعُ الْمُرْتَهِنُ: كَانَ خَمْرًا فِي يَدِكَ أَيُّهَا الرَّاهِنُ فَقَبَضْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِهِ عَلَى الْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي الرَّاهِنُ: قَبَضْتَهُ مِنِّي عَصِيرًا حُلْوًا فَصَارَ فِي يَدِكَ خَمْرًا فَلَا خِيَارَ لَكَ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ الْحَالُ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ حُكِمَ لَهُ رَاهِنًا كَانَ أَوْ مُرْتَهِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ وَلَا فِي الْحَالِّ بَيَانٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ كَوْنَ الْعَصْرِ خَمْرًا مِثْلُ كَوْنِهِ مَعِيبًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى تَقَدُّمَ عَيْبٍ فِي الرَّهْنِ وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَقَدُّمَ كَوْنِهِ خَمْرًا وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قول الراهن. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ المرتهن البائع لأن كون االعصير خَمْرًا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَقَوْلُ الْمُرْتَهِنِ: أَقْبَضْتَنِيهِ خَمْرًا إِنْكَارٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ وَقَوْلُ الرَّاهِنِ أَقْبَضْتُكَهُ عَصِيرًا ادِّعَاءٌ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوِ ادَّعَى الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَأَنْكَرَهُ الْمُرْتَهِنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ. كَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ القبض وأنكره المرتهن وكان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ وَكَانَ هَذَا مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَيْبِ لِأَنَّهُمَا فِي الْعَيْبِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْقَبْضِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِهِمَا: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْقَوْلَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي كَوْنِهِ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فِي أَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْقَوْلَانِ فِي اخْتِلَافِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِيهِ وَكَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَصْلَ الْعَقْدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَى فَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَفِي الْبَيْعِ إِذَا حَلَفَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَيْعِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ مَا ادَّعَى فَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ عَصِيرًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صَارَ خَمْرًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَمْرًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ. وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ أَيْضًا، فَهَلْ يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِنُكُولِهِ وَقَوْلُ الْمُرْتَهِنِ يستند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 إِلَى صُورَةِ الرَّهْنِ وَصِفَتِهِ. وَلِأَنَّ نُكُولَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الرَّاهِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الرَّاهِنِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ. كَذَلِكَ نُكُولُ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْمُرْتَهِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى لَوْ حَلَفَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِئْنَافَ حُكْمٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ نُكُولُ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ فِيهِ اسْتِدَامَةَ حُكْمٍ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يُرِقْهُ حَتَّى صَارَ خَلًّا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ، فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ خُرُوجًا لَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فَيَصِيرُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ أَنَّهَا اسْتَحَالَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا وَلَهُ بَيْعُهَا وَالتَّفَرُّدُ بِثَمَنِهَا. وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: اسْتَحَالَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا وَقَالَ الرَّاهِنُ: صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَتَكُونُ رَهْنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ أَنَّهَا صَارَتْ خَلًّا بِالتَّخْلِيلِ وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ وَتَحْرُمُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْهَنَ الْجَارِيَةَ وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْرِقَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا وَلَا يُبَاعَ وَلَدُهَا دُونَهَا. فَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَيَجُوزُ أَنْ تُرْهَنَ الْجَارِيَةُ دُونَ وَلَدِهَا وَالْوَلَدُ دُونَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَضَانَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُرْهَنَ دُونَ وَلَدِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ دُونَ وَلَدِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَلَيْهَا يَجْرِي مَجْرَى إِجَارَتِهَا بَلْ هُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يُوجِبُ حَبْسَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْمَنَافِعِ وَعَقْدُ الرَّهْنِ يُوجِبُ حَبْسَ الرَّقَبَةِ وَلَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فَلَمَّا جَازَتْ إِجَارَتُهَا دون ولدها جاز رهنها دون ولدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهَا دُونَ وَلَدِهَا فَحَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ رَهْنٌ فَإِنْ أَمْكَنَ الرَّاهِنَ قَضَاءُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ لَمْ تُبَعْ عَلَيْهِ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بِيعَتْ فِي الرَّهْنِ حينئذ فهل يَجُوزُ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ بَيْعُهَا دُونَ وَلَدِهَا لِلضَّرُورَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى ذَلِكَ كَمَا تُبَاعُ لَوْ كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهَا تُبَاعُ مَعَ وَلَدِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهَا دُونَ وَلَدِهَا كَانَ الرَّهْنُ مُفْضِيًا إِلَى بَيْعِهَا وَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صَارَ الْعَقْدُ مُوجِبًا لِبَيْعِهِ مَعَهَا. فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَا مَعًا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ الْوَلَدِ فَمَا قَابَلَهَا مِنَ الثَّمَنِ دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَا قَابَلَ الْوَلَدَ دُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ. وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَحْدَهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ فَإِذَا قِيلَ: أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيلَ: وَكَمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَحْدَهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أُمِّهِ، فإذا قيل: خمسمائة درهم قسمت الثَّمَنُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ الثُّلُثَيْنِ، وَدُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ الثُّلُثَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَسَّمْتُمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهَا وَحْدَهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ وَقَدْ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصٌ وَهَلَّا قَسَّمْتُمُوهَا عَلَى الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهَا وَحْدَهَا أَنْ لَوْ بِيعَتْ مُفْرَدَةً بِلَا وَلَدٍ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَحَدَثَ فِيهَا شَجَرٌ فَبِيعَتِ الْأَرْضُ مَعَ الشَّجَرِ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بِغَيْرِ شَجَرٍ؟ قِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الشَّجَرَ حَادِثٌ بَعْدَ الرَّهْنِ فَكَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بَيْضَاءَ وَكَذَا لَوْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ أَنْ لَوْ بِيعَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ. وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ أَنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّجَرُ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ كَانَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ أَنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ الشَّجَرِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَجْعَلُونَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ بِوَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ قِيلَ: إِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ الرَّهْنِ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا تُبَاعُ دُونَ وَلَدِهَا لَا خِيَارَ لَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا تُبَاعُ مَعَ وَلَدِهَا فِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ النَّقْصِ فِي قِيمَتِهَا إِذَا بِيعَتْ مَعَ الْوَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ بَيْعَهَا مَعَ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ النَّقْصَ يَقِينًا وَقَطْعًا بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَ فِي قِيمَتِهَا زِيَادَةً وتوفير. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ ارْتَهَنَ نَخْلًا مُثْمِرًا فَالثَّمَرُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ طَلْعًا كَانَ أَوْ بُسْرًا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعَ النَّخْلِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ تُرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا رَهَنَهُ نَخْلًا مُثْمِرًا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ الثَّمَرَةِ فِي الرَّهْنِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ فِيهِمَا مَعًا وَيَكُونَانِ رَهْنَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَهَا مِنَ الرَّهْنِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ فِي النَّخْلِ وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الرَّهْنَ فَلَا يَشْتَرِطُ دُخُولَ الثَّمَرَةِ فِي الرَّهْنِ وَلَا خُرُوجَهَا مِنْهُ فَلَا تَخْلُو الثَّمَرَةُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ تَابِعَةً لِعَقْدِ الْبَيْعِ مَعَ قُوَّتِهِ فَأَوْلَى أَلَّا تَكُونَ تَابِعَةً لِعَقْدِ الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْبَيْعِ. . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ فَدَخَلَتِ الثَّمَرَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ تَابِعَةً لِلْمَبِيعِ كَانَتِ الْمُتَقَدِّمَةُ كَذَلِكَ وَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِي الرَّهْنِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْمُتَقَدِّمَةُ كَذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الرَّهْنِ حَقَّيْنِ: حَقُّ الْمِلْكِ لِلرَّاهِنِ وَحَقُّ الْوَثِيقَةِ لِلْمُرْتَهِنِ وَالثَّمَرَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ دُونَ الْوَثِيقَةِ، فَلِذَلِكَ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ تَبَعًا لِلْمِلْكِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ تَبَعًا لِلْوَثِيقَةِ. فَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. وَفِيهَا تَخْرِيجٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ نَذْكُرُهَا وَهِيَ قِيمَةُ رَهْنِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ هَلْ يَكُونُ الصُّوفُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 أَوْ رَهَنَ شَاةً حَامِلًا، هَلْ يَكُونُ الْحَمْلُ إِذَا وَضَعَتْهُ رَهْنًا مَعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَوْ رَهَنَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ هَلْ يَكُونُ اللَّبَنُ إِذَا حُلِبَ مِنْهَا رَهْنًا مَعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْحَمْلَ وَالصُّوفَ وَاللَّبَنَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ كَالثَّمَرَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الثَّمَرَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ حَتَّى تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ أَمْ لَا؟ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجُ فِيهَا قَوْلًا ثَانِيًا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ فَيُخْرِجُ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهِ كَالصُّوفِ وَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعَانِ مِنْ تَخْرِيجِ الثَّمَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصُّوفِ وَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْبَصْرِيِّينَ. وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي الثَّمَرَةِ دليل على الفرق بينهما لأنه علل للثمرة فِي خُرُوجِهَا مِنَ الرَّهْنِ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهَا عَيْنٌ تُرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَمْلُ وَاللَّبَنُ. فَأَمَّا الصُّوفُ وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاةِ وَأَبْعَاضِهَا فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا فِي دُخُولِهِ فِي الرَّهْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّخْلَةِ، وَلَا بَعْضًا مِنْهَا فَلَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ مَعَهَا كَالْمُؤَبَّرَةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا هَلَكَ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. صَحِيحُ الرَّهْنِ وَفَاسِدُهُ عِنْدَنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ وَأَوْجَبَ أبو حنيفة ضَمَانَ صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ فِي حُكْمِ صَحِيحِهِ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ أَوْ فِي سُقُوطِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَالشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَاتُ الْفَاسِدَةُ كَالصَّحِيحَةِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِهِ فِي بَابٍ يُسْتَوْفَى فِيهِ إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَهُ مَا يَفْسَدُ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ أَوْ مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَابِسًا مِثْلَ الْبَقْلِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَجَائِزٌ وَيُبَاعُ وَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ يَفْسَدُ إِلَيْهِ كَرِهْتُهُ وَمَنَعَنِي مِنْ فَسْخِهِ أَنَّ لِلرَّاهِنِ بَيْعَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ بِلَا شَرْطٍ فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ إِلَى أَنْ يَحِلَّ الْحَقُّ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الرَّهْنِ أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يَبْقَى وَلَا يَفْسَدُ غَالِبًا كَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَرَهْنُ هَذِهِ جَائِزٌ فِي الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ. فَإِنْ حَدَثَ بِهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِهَا مِثْلُ عَتٍّ يَأْكُلُ الثَّوْبَ، أَوْ كَسْرٍ يُصِيبُ الْحَيَوَانَ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ هَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهِ قَبْلَ ضِمَادِهِ لِيَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِهِ دُونَ بَيْعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِمَا فِي الْبَيْعِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْوَثِيقَةِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْمَعْلُوفَةِ وَالنَّفَقَةِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَفْسَدُ وَلَا يَبْقَى كَالْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِصْلَاحُهُ لِلتَّبْقِيَةِ مُمْكِنًا كَالرُّطَبِ الَّذِي إِنْ جُفِّفَ صَارَ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ الَّذِي إِنْ جُفِّفَ صَارَ زَبِيبًا، فَرَهْنُ هَذَا جَائِزٌ فِي الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ، لِإِمْكَانِ تَبْقِيَتِهِ بِالتَّجْفِيفِ. فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَجْفِيفِهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مِلْكِ الرَّاهِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِصْلَاحُهُ مَعَ التَّبْقِيَةِ غَيْرَ مُمْكِنٍ كَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَسَائِرِ الطَّبَائِخِ كَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ رَهْنُهُ مِنْهُ جَائِزًا لِوُجُوبِ بَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَالْأَجَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ قَبْلَ فَسَادِهِ فَرَهْنُهُ جَائِزٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ بَعْدَ فَسَادِهِ فَهَذَا عَلَى ضرين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَبْقِيَةَ الرَّهْنِ إِلَى وَقْتِ حُلُولِهِ فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِعِلْمِنَا بِتَلَفِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَا رَهْنَهُ وَلَا يَشْتَرِطَا تَبْقِيَتَهُ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي رَهْنِ مَا يَفْسَدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ أَلَّا يَمْتَنِعُوا مِنْ بَيْعِهِ إِذَا خِيفَ فَسَادُهُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَجَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُؤَجَّلِ تَغْلِيبًا لِبَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ عُرْفًا كَمَا جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُعَجَّلِ تَغْلِيبًا لِبَيْعِهِ قَبْلَ فَسَادِهِ حُكْمًا وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُعَجَّلِ جَازَ رَهْنُهُ فِي الْمُؤَجَّلِ كَالَّذِي لَا يَفْسَدُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الْفَسَادِ بِمَا لَا يَفْسَدُ جَارٍ مَجْرَى فَسَادِ مَا يَفْسَدُ لِأَنَّهُمَا قَدْ يقضيان إلى التلف. فلما كان لو رهن مالا يَفْسَدُ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِثْلَ كَسْرِ الْحَيَوَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمُ الْفَسَادِ فِيمَا يَفْسَدُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ جَوَازِ الرَّهْنِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ فَسَادٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الرَّهْنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهُ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ شَرَطَ نُطْقًا فَلَمَّا كَانَ شَرْطُ تَبْقِيَتِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ عَقْدِهِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ رَهْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مُوجِبَاتِ أُصُولِهَا دُونَ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيهَا وَحَبْسُ الرَّهْنِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ وَاجِبٌ وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى بَيْعِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لِأَجْلِ فَسَادِهِ تَطَوُّعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَطَوُّعِهِمَا بِبَيْعِهِ لِيَصِحَّ الرَّهْنُ وَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وُجُوبِ إِمْسَاكِهِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ لِيُفْسِدَ الرَّهْنَ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا آبِقًا أَنْ يَحْمِلَ الْبَيْعَ عَلَى جَوَازِ وَجُودِهِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ وَحَمَلَ عَلَى تَعَذُّرِ وُجُودِهِ وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ رَهْنِهِ كَانَ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ قَوْلَانِ: وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ رَهْنِهِ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ بَيْعُهُ عِنْدَ فَسَادِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا فِي أَلَّا يَجِبَ بَيْعُهُ عِنْدَ فَسَادِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَفْسَدُ فِي وُجُوبِ بَيْعِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ حُدُوثِ فَسَادِهِ: أَنَّ الْبَيْعَ يَمْنَعُ مِنَ الْفَسَادِ فَوَجَبَ بَيْعُ مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا إِذَا حَدَثَ فِيهِ الْفَسَادُ لِيَكُونَ الرَّهْنُ بَاقِيًا فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى حُكْمِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا كَانَ فَاسِدًا وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ فَسَادِهِ لِأَنَّ فَسَادَهُ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا بِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بِلَا نَخْلٍ فَأَخْرَجَتْ نَخْلًا فَالنَّخْلُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَلْعُهَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهَا حَتَّى يحل الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 فإن بَلَغَتْ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَمْ تُقْلَعْ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قُلِعَتْ وَإِنْ فُلِّسَ بِدُيُونِ النَّاسِ بِيعَتِ الْأَرْضُ بِالنَّخْلِ ثُمَّ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ بِلَا نَخْلٍ وَعَلَى مَا بَلَغَتْ بِالنَّخْلِ فَأُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَ الْأَرْضِ وَالْغُرُمَاءٌ ثَمَنَ النَّخْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا رَهَنَ أَرْضًا فِي حَقِّ مَحَلِّ الْحَقِّ وَفِي الْأَرْضِ نَخْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الرَّهْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّوَى الَّذِي نَبَتَ فِيهِ قَبْلَ الرَّهْنِ وَعُلُوقُهُ وَظُهُورُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الرَّهْنِ. فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَصُورَتُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا ثُمَّ يَحْدُثُ فِيهَا نَخْلٌ إِمَّا بِأَنْ يَغْرِسَهُ الرَّاهِنُ أَوْ يَنْغَرِسَ بِنَفْسِهِ مِنْ نَوْعٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ فَيَنْبُتُ فِيهَا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ يُمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ الْغَرْسِ فَإِنْ غَرَسَ لَمْ يُقْلَعْ فِي الْحَالِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ انْتِفَاعٌ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِأَرْضِهِ الْمَرْهُونَةِ وَلَا يَكُونُ النَّخْلُ الْحَادِثُ فِيهَا دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ مَعَهَا لِأَنَّ حُدُوثَ النَّخْلِ نَمَاءٌ وَالنَّمَاءُ الْحَادِثُ مِنَ الرَّهْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَلَا يُقْلَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، نُظِرَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ. فَإِنْ قَضَى الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ خَرَجَتِ الْأَرْضُ مِنَ الرَّهْنِ وَكَانَ النَّخْلُ مُقَرًّا فِيهَا لِلرَّاهِنِ وَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ قَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي بَيَاضِ الْأَرْضِ: فَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِهِ وَفَاءُ الْحَقِّ بِيعَ بَيَاضُ الْأَرْضِ وَقُضِيَ بِهِ الْحَقُّ وَكَانَ النَّخْلُ عَلَى حَالِهِ مُقَرًّا فِي الْأَرْضِ لَا يَعْرِضُ لِبَيْعِهِ وَلَا لِقَلْعِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِ بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفَاءٌ لِلْحَقِّ نُظِرَ فِي الرَّاهِنِ فَإِنْ أَجَابَ إِلَى بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ بِعْنَاهُمَا مَعًا وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا وَالرَّاهِنَ مَا قَابَلَ النَّخْلَ. وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ أَوْ يَكُونُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 عَلَى بَيْعِ الْأَمْلَاكِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي رَهْنٍ أَوْ غَرِيمٍ مُفْلِسٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَخْلِ الرَّاهِنِ أَحَدُ هَذَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بَيْعِهَا. وَإِذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهَا وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَلْعِهَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْضِ وَهِيَ بَيْضَاءُ وَفِي تَرْكِ النَّخْلِ فِيهَا تَفْوِيتٌ لِمَعْنَى حَقِّهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يؤخذ بقلعها إلا أن تبذل لِلْمُرْتَهِنِ تَمَامَ قِيمَةِ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا فَلَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِهَا وَيُبَاعُ بَيَاضُ الْأَرْضِ سِوَى النَّخْلِ الْقَائِمِ فِيهَا. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ تَمَامَ الْقِيمَةِ أُجْبِرُ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ فَإِذَا قَلَعَهَا بِيعَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَلْعِ النَّخْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ فِي نَقْصِ قِيمَتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ قَلْعُ النَّخْلِ قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لِمَا أَحْدَثَ مِنَ الْحَفْرِ فِيهَا وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُغْرَمَ أَرْشَ نَقْصِهَا بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ هُوَ الْغَارِسَ لِلنَّخْلِ لِأَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ فِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَرْشِهِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ قَدْ نَبَتَ بِنَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْرِسَهُ الرَّاهِنُ لَمْ تَلْزَمْهُ غَرَامَةُ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ حَدَثَ نَقْصٌ بِالرَّهْنِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْلَعَ النَّخْلُ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِالنَّخْلِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْأَرْضِ وَوَجَبَ بَيْعُ الْأَرْضِ مَعَ النَّخْلِ لِتَكُونَ الْأَرْضُ مَبِيعَةً مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالنَّخْلُ مَبِيعَةً فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ. فَإِذَا بِيعَا مَعًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ فِي بَيْعِهَا مَعَ النَّخْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ نَقَصَتْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ زَادَتْ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ النَّخْلِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَدْ بِيعَا مَعًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ الْأَرْضَ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَإِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ النَّخْلَ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ قَدْ نَقَصَتْ بِالنَّخْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ ألف درهم وقيمة النخل خمسمائة وقد بيعا مَعًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيُجْبَرُ لِلْمُرْتَهِنِ نَقْصُ الْأَرْضِ وَيُعْطِي تَمَامَ الْأَلْفِ وَيُدْفَعُ مَا تَبَقَّى إِلَى الْغُرَمَاءِ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةَ النَّقْصِ بِقَلْعِ النَّخْلِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ قَدْ زَادَتْ بِالنَّخْلِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بَيْضَاءَ ألف درهم وقيمة النخل خمسمائة وقد بيعا مَعًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي قِيمَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فَتُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْأَرْضِ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُلُثَيْهَا، وَحِصَّةُ النَّخْلِ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُلُثَهَا فَيُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قِيمَةُ الْأَرْضِ وَهِيَ أَلْفٌ وحصتها من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 الزِّيَادَةِ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ. وَيُدْفَعُ إِلَى الْغُرَمَاءِ قِيمَةُ النَّخْلِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّتُهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ. فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مُقَدَّمًا قَبْلَ الرَّهْنِ. فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ الْأَرْضِ جَبْرًا، وَلَا أَنْ يُؤْخَذَ الرَّاهِنُ بِقَلْعِهَا جَبْرًا لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الرَّهْنِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ بِيعَ بَيَاضُ الْأَرْضِ دُونَ النَّخْلِ وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ أَمْ لَا. وَيَكُونُ النَّخْلُ مُقَرًّا فِي الْأَرْضِ لِلرَّاهِنِ. فَإِنِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ بَيْعَ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ بِيعَا مَعًا وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَهِيَ ذَاتُ نَخْلٍ، وَدُفِعَ إِلَى الرَّاهِنِ مَا قَابَلَ النَّخْلَ. وَإِنَّمَا دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَهِيَ ذَاتُ نَخْلٍ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ حِينَ ارْتَهَنَهَا ذَاتَ نَخْلٍ وَدُفِعَ إِلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَ ارْتَهَنَهَا بَيْضَاءَ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُؤْخَذُ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا وَجَبَ بَيْعُ النَّخْلِ مَعَ الْأَرْضِ جَبْرًا فَتَكُونُ الْأَرْضُ مَبِيعَةً فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالنَّخْلُ مَبِيعَةً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا حَصَلَ مِنَ الثَّمَنِ: فَإِنْ كَانَ بِإِزَاءِ قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ دُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ ذَاتَ نَخْلٍ، وَإِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ النَّخْلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَزْيَدَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا مَضَى مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَنْقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَ النُّقْصَانُ مُقَسَّطًا عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا مَضَى لِأَنَّ نَقْصَ الْأَرْضِ هُنَاكَ مَجْبُورٌ وَنَقْصَ الْأَرْضِ هَهُنَا غَيْرُ مَجْبُورٍ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ نَبَاتِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ وَظُهُورُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي إِذَا كَانَ ظُهُورُهُ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَلْعِ النَّخْلِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ النَّخْلِ وَيَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ الْأَرْضِ ذَاتَ نَخْلٍ، لِأَنَّ حُدُوثَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 النَّخْلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرَّهْنِ. فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الثَّانِي سَوَاءً إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ النَّوَى الْمَزْرُوعِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ مَعَ الرَّهْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ وَمِثْلُهُ يَخْفَى. وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّخْلِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا قَبْلَ الرَّهْنِ خِيَارٌ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يخفى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا وَنَخْلًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَحْدَثْتَ فِيهَا نَخْلًا وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ وَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ وَأَمْكَنَ مَا قَالَ الرَّاهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَهَنَ رَجُلًا أَرْضًا مَعَ نَخْلِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ مِنَ النَّخْلِ هَلْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَدَخَلَ فِي الرَّهْنِ؟ أَوْ حَادِثًا فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ؟ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: كَانَ مُتَقَدِّمًا فَهُوَ رَهْنٌ. وَقَالَ الرَّاهِنُ: أَحْدَثْتُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ. فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يعهد الْحَالُ بِصِدْقِ الرَّاهِنِ فِي ذَلِكَ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمُدَّةُ الرَّهْنِ عِشْرِينَ سَنَةً. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَتَكُونُ النَّخْلُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ الْحَالُ بِصِدْقِ الْمُرْتَهِنِ: وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسِ عِشْرِينَ سَنَةً وَمُدَّةُ الرَّهْنِ عَشْرُ سِنِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَتَكُونُ تِلْكَ النَّخْلُ رَهْنًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَلَّا يَكُونَ فِي الْحَالِ شَاهِدٌ وَيُمْكِنُ مَا قَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّهْنِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّخْلُ مِنْ غَرْسٍ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غُرِسَ لِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا ادَّعَاهُ مَعَ إِمْكَانِ دَعْوَاهُ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ قَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي إِنْكَارِ رَهْنِ النَّخْلِ كَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَوْ أَنْكَرَ رَهْنَ الْأَرْضِ. فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ فَالنَّخْلُ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعٍ أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ بِاللَّهِ: لَقَدْ كَانَ النَّخْلُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ. فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِالْبَيْعِ إِلَّا بِرَهْنٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَكَانَ لَهُ فَسْخُهُ إِذَا حَلَفَ فيصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 الرَّاهِنُ حَالِفًا وَالْمُرْتَهِنُ حَالِفًا إِلَّا أَنَّ يَمِينَ الرَّاهِنِ عَلَى خُرُوجِ النَّخْلِ مِنَ الرَّهْنِ وَيَمِينُ الْمُرْتَهِنِ لِفَسْخِ الْبَيْعِ. فَلَوْ حَلَفَ الرَّاهِنُ فَخَرَجَتِ النَّخْلُ بِيَمِينِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَنَكَلَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَلَوْ نَكَلَ الرَّاهِنُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ كَانَتِ النَّخْلُ دَاخِلَةً فِي الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّخْلَ دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ لِتَصَادُقِهِمَا بِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ كَانَ عَلَى جَمِيعِ النَّخْلِ الَّذِي كَانَ في الأرض وهذا نَخْلٍِ فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا لَمْ يُخْرِجْهُ الرَّاهِنُ بِيَمِينِهِ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّخْلَ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ عَلَى مَا ادَّعَى الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ قَدْ سَقَطَ بِنُكُولِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِهِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّخْلُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ نَاكِلٌ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَسْأَلَتِنَا ثُمَّ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا: يَعْنِي فِي بَيْعِ الْأَرْضِ دُونَ النَّخْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غُرَمَاءَ فَيُبَاعَانِ مَعًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النَّخْلَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا: هَلْ رَهَنَهُ الْأَرْضَ مَعَ النَّخْلِ أَوْ رَهَنَهُ الْأَرْضَ دُونَ النَّخْلِ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا عَلَى مَا مَضَى. فَإِذَا حَلَفَ خَرَجَتِ النَّخْلُ مِنَ الرَّهْنِ وَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ دَخَلَتِ النَّخْلُ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ فَالنَّخْلُ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أصحابنا لأنه ليس سَبَبٌ يَغْلِبُ بِهِ دُخُولُ النَّخْلِ فِي الرَّهْنِ بخلاف ما مضى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ إِذَا حَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَبِيعَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بِأَنْ يَحْضُرَهُ رَبُّ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا اشْتَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حُضُورِ الرَّاهِنِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا وَوِكَالَةً فَاسِدَةً. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الرهن كالأجنبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِ عَيْنٍ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ. أَصْلُهُ: مَا سِوَى الرَّهْنِ. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ فِي بَيْعِهَا فَجَازَ تَوْكِيلُ الْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهَا. أَصْلُهُ: إِذَا بَاعَهُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي بَيْعٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ قَصْدُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِخِلَافِ قَصْدِهِ لَمْ يَصِحَّ قِيَامُهُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الرَّجُلِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا فِي ابْتِيَاعِهَا مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِخِلَافِ قَصْدِ مُوَكِّلِهِ. كَذَلِكَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ قَصْدُهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ قَصْدَ الرَّاهِنِ التَّوَقُّفُ عَنِ الْبَيْعِ لِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَقَصْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْبَيْعِ لِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ كَمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ بَائِعُ السِّلْعَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِدَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي الِابْتِيَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ كَالْمِلْكِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وِكَالَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا الْمِلْكُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الرَّهْنُ كَالِابْتِيَاعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِي الْأَجْنَبِيِّ أَنَّ قَصْدَهُ لَا يُخَالِفُ قَصْدَ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ مَا سِوَى الرَّهْنِ فَالْمَعْنَى فِيمَا سِوَى الرَّهْنِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ قَصْدٌ يُخَالِفُ قَصْدَ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّاهِنُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِهِ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَالْبَيْعُ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّاهِنِ وَقَدْ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ قَصْدِهِ وَمَنْعُ الْمُرْتَهِنِ مِنَ التَّفَرُّدِ بِقَصْدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا تَفَرَّدَ بِبَيْعِهِ فِي غَيْبَتِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ فَاسِدَةٌ وَاشْتِرَاطَهَا بَاطِلٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً بَعْدَ الرَّهْنِ أَوْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ وَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَهَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُوجِبَ الرَّهْنِ وَالشُّرُوطُ فِي الرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الرَّهْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 ضَرْبٌ مِنْهَا يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهَذَا إِذَا شُرِطَ فِي الرَّهْنِ أَبْطَلَهُ وَضَرْبٌ مِنْهَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ فَهَذَا إِذَا شُرِطَ فِي الرَّهْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: وَشَرْطُ الْوَكَالَةِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا عَلَيْهِ فَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لا، على قولين. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ امْتَنَعَ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَالِكَ لِبَيْعِ الرَّهْنِ هُوَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَقَّ الِاسْتِيثَاقِ وَلِلرَّاهِنِ حَقُّ الْمِلْكِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ قَدْ أَوْقَعَ فِيهِ حَجْرًا عَلَيْهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى مَا مَضَى إِلَّا أن يكون الراهن حاضرا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهِ. فَيَجُوزُ وَيَكُونُ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهِ الرَّاهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ بَيْعِهِ. فَيَجُوزُ لِرِضَا الْمُرْتَهِنِ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَاسْتِبْقَاءِ رَهْنِهِ وَرِضَا الرَّاهِنِ بِاسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ مَعَ بَقَاءِ دَيْنِهِ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الرَّاهِنُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الْمُرْتَهِنُ فَيَنْبَغِي للراهن أن يأتي الحاكم ليأذن له في بيعه بدلا من إذن المرتهن بعد أن يحضر الحاكم المرتهن فَيَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا يَسُوغُ مِثْلُهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا أَذِنَ الْحَاكِمُ لِلرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْكِيلِ الْحَاكِمِ عَنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى إِذْنٍ مُجَرَّدٍ، وَالْحَاكِمُ قَدْ أَذِنَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَكِيلٍ لَهُ. فَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثَمَنِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَأَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْمُرْتَهِنَ بِذَلِكَ. فَإِنْ سَأَلَ حَقَّهُ أَمَرَ الْحَاكِمُ الرَّاهِنَ بِدَفْعِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ حَقَّهُ أَعْلَمَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ يُطْلِقُ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ. وَإِنْ أَذِنَ لِلرَّاهِنِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَ الْمُرْتَهِنَ حَقَّهُ أَمَرَ الْحَاكِمُ الْمُرْتَهِنَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ إِبْرَائِهِ مِنْهُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ قَبْضِهِ أَوْ إِبْرَائِهِ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ لِيَبْرَأَ مِنْهُ الرَّاهِنُ وَتَرَكَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِلْمُرْتَهِنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 هَذَا إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. فَأَمَّا إِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ لِوُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الْمُرْتَهِنُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الرَّاهِنُ وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ لِيُوَكِّلَ عَنِ الرَّاهِنِ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْضُرَ الرَّاهِنُ فَيَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا يَسُوغُ مِثْلُهُ فِي امْتِنَاعِهِ لَمْ يُوَكَّلْ عَنْهُ فِي بَيْعِهِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنْهُ مَنْ يَبِيعُ الرَّهْنَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ مَنْ يَبِيعُ عَلَيْهِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبِيعَ الرَّاهِنُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ فِيهِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ كَالدُّيُونِ. وَكُلُّ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُ فِيهِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُ وَلَا يُوَكِّلُ عَنْهُ كَمَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَلَمْ يَخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. فَلَمَّا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ جَائِزًا، وَجَبَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ الْحَاكِمُ. إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَمِينٍ يُوَكِّلُهُ عَنِ الرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ الْحَاكِمُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ وإن جاز أن يأذن للراهن عنه امْتِنَاعَ الْمُرْتَهِنِ مِنْ بَيْعِهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الرَّاهِنِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِهِ وَكَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِهِ. فَإِذَا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنِ الرَّاهِنِ مَنْ يَبِيعُ عَلَيْهِ الرَّهْنَ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يحيط بِقِيمَةِ الرَّهْنِ بِيعَ جَمِيعُهُ وَسُلِّمَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يُقَابِلُ بَعْضَ قِيمَةِ الرَّهْنِ بِيعَ مِنَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ الْحَقِّ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ غَيْرَ مَبِيعٍ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَا قَابَلَ الْحَقَّ إِلَّا بِبَيْعِ جَمِيعِهِ وَدُفِعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ قَدْرُ حَقِّهِ وَدُفِعَ الْبَاقِي إِلَى الرَّاهِنِ. فَإِنْ بَاعَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ إِتْيَانِ الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِتْيَانِ الْحَاكِمِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْيَانِهِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْهَا تَخْرِيجُ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ لَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 حَقٌّ عَلَى غَرِيمٍ جَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ هَلْ يَجُوزُ إِذَا قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَمْ يَأْتِي الْحَاكِمَ حَتَّى يَبِيعَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ لِأَنَّ العادم للبينة عند الحاكم كالعادم للحاكم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَدْلِ جَازَ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَفْسَخَا أَوْ أَحَدُهُمَا وِكَالَتَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَشَرَطَا لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ، فَهَذَا الْعَقْدُ قَدْ تَضَمَّنَ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْعَقْدِ. فَهَذَانِ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَلَا يَتِمُّ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ تَوْكِيلٍ فِيمَا بَعْدُ. فَإِذَا سَلَّمَا الرَّهْنَ إِلَى الْعَدْلِ وَوَكَّلَاهُ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَقَدْ تَمَّ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَازِمًا وَالثَّانِي مِنْهُمَا جَائِزًا لِأَنَّ الْوِكَالَةَ جَائِزَةٌ وَلَيْسَتْ لَازِمَةً. فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ وِكَالَةٌ مَعْقُودَةٌ بِصِفَةٍ وَهِيَ مَحَلُّ الْحَقِّ وَالْعُقُودِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَلَّقَ بِالصِّفَاتِ قِيلَ الْوِكَالَةُ مُنْجَزَةٌ غَيْرُ مُعَلَّقَةٍ بِصِفَةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّصَرُّفُ فِيهَا مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ وَهَذَا جَائِزٌ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّهُ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ وَأَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَاجِّ أَوْ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ الشَّهْرِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوِكَالَةِ مُنْجَزٌ وَالْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ، فَصَحَّ كَذَلِكَ تَوْكِيلُ الْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَا لِلْعَدْلِ قَدْ وَكَّلْنَاكَ فِي بَيْعِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ وَجَعَلَا الصِّفَةَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْوِكَالَةِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الْوِكَالَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ والمرتهن من أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يُقِيمَا عَلَى الْوِكَالَةِ إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ. فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا مَنْعٌ لِصِحَّةِ وِكَالَتِهِ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ كسائر الوكلاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْجِعَا جَمِيعًا عَنْ وِكَالَتِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ رُجُوعِهِمَا لِبُطْلَانِ وِكَالَتِهِ مِنْهُمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْجِعَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَقَدِ انْفَسَخَتْ وِكَالَتُهُ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ وِكَالَةَ الْعَدْلِ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وِكَالَتَهُ صَحَّتْ بِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا لَهُمَا وَمَنْ كَانَ وَكِيلًا لِنَفْسَيْنِ بَطَلَتْ وِكَالَتُهُ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا كَالشَّرِيكَيْنِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْجِعَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ كَافَّةً: أَنَّ وِكَالَتَهُ قَدِ انْفَسَخَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْوِكَالَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْعَدْلُ مِنَ الْبَيْعِ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْفَسِخَ وِكَالَتُهُ. قَالَ: لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلرَّاهِنِ وَمَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ فِي إِذْنِهِ بِقَادِحٍ فِي صِحَّةِ وِكَالَتِهِ. وهذا قول لا يتحصل لأن بعضه ينقص بَعْضًا، لِأَنَّ الْوِكَالَةَ إِنَّمَا هِيَ إِذْنٌ بِالْبَيْعِ فَإِذَا مُنِعَهُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَدْ زَالَ مُوجِبُ الْوِكَالَةِ وَهَذَا صَرِيحُ الْفَسْخِ إِلَّا أَنَّ وِكَالَةَ الرَّاهِنِ لَا تَنْفَسِخُ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا لَا تَنْفَسِخُ وِكَالَةُ الْمُرْتَهِنِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ. فَلَوْ مَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ كَمَا لَوْ رَجَعَا أَوْ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ الْوِكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَمَا تَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ فَلَوْ وَكَّلَا رَجُلَيْنِ ثُمَّ أَبْطَلَا وِكَالَةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي مِنْهُمَا الْبَيْعُ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا أَوْ يُوَكِّلَا مَعَهُ مَنْ يقوم مقام الميت. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَاسُ بِمِثْلِهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَى جَاءَ مَنْ يَزِيدُهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وُكِّلَ الْعَدْلُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْوَكِيلِ فِي بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ الْإِذْنُ مُطْلَقًا خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الِاجْتِهَادُ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَأَلَّا يَبِيعَهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا وَلَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا وَلَا مُنَجَّمًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ شُرُوطٍ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ. وَالرَّابِعُ: أَلَّا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. وَهَذَا شَرْطٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ نَاجِزًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ 0 وَفِي هَذَا الشَّرْطِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَلَا فِي الضَّمَانِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ تَخْتَصُّ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ الْغَبْنُ فِي الثَّمَنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ مَا يُضَاهِيهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِثَمَنٍ غُبِنَ فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثمن الرهن مائة درهم وغبنه مِثْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ بَاعَ الْعَدْلُ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا. فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَاسَبَةِ وَالِاحْتِرَازُ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَبِينَةِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ مِائَةً وَغَبِينَةُ مِثْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقَدْ بَاعَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَيُمْنَعُ الْعَدْلُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي صَارَ الْعَدْلُ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا لَا بِالْعَقْدِ وَعَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ فَاتَ اسْتِرْجَاعُهُ فَقَدِ اسْتَتَرَ الضَّمَانُ فِي ذِمَّةِ الْعَدْلِ، وَفِي قَدْرِ مَا يضمنه قولان: أحدهما: أنه يضمن القدر الذين لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ التَّفْرِيطُ، وَالتَّفْرِيطُ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْرِ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. فَأَمَّا الْعَشَرَةُ الَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا فَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا فَلَمْ يَلْزَمْ ضَمَانُهَا. أَمَّا الْخَمْسُونَ فَهُوَ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِيهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ السِّلْعَةِ بِهِ وَمَنْ سَلَّمَ سِلْعَةً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا كَانَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ ضَمَانُ الْغَبِينَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْخَمْسِينَ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْخَمْسِينَ دِرْهَمًا الثَّمَنَ فَقَدْ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَى الْعَدْلِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهَا ثُمَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْغَبِينَةِ إِنْ شَاءَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ بِدَفْعِ الرَّهْنِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي لأنه يقبض الرَّهْنِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعَشَرَةُ الَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهَا لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ ضَامِنٌ عَلَى الصَّحِيحِ من المذهب ضمان غصب. فإذا غرم الْمُشْتَرِي ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْعَدْلِ بِشَيْءٍ. فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ مَا فَرَّطَ فِيهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لَهَا فَيَصِيرُ الرَّاهِنُ رَاجِعًا عَلَى الْعَدْلِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْمُشْتَرِي بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَرْبَعِينَ الَّتِي غَرِمَهَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لَهَا فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا كَانَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَ الْخَمْسِينَ الثَّمَنَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَدْلُ لَمْ يَقْبِضْ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى الْعَدْلِ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَلَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى الْعَدْلِ. وَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لَا غَيْرُ لِأَنَّهَا الْقَدْرُ الَّذِي ضَمِنَهُ بِالتَّفْرِيطِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَهُوَ سِتُّونَ دِرْهَمًا. وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَرْبَعِينَ الَّتِي غَرِمَهَا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا. (فَصْلٌ) وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِنْ شَاءَ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ شَاءَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ ضَمَانَ غَصْبٍ وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا مِنْ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ إِلَى الْعَدْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، لِأَنَّ الْعَدْلَ صَارَ ضَامِنًا لِلْكُلِّ بِالتَّعَدِّي فَصَارَ خَارِجًا مِنَ الْأَمَانَةِ وَاسْتَوَى حَالُهُ وَحَالُ الْمُشْتَرِي فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا لِلرَّاهِنِ فَلَمْ يَبْرَأْ أَحَدُهُمَا بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى صَاحِبِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ الْعَدْلُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى الْمُشْتَرِي، كَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِلَى الْعَدْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لِقَدْرِ الْغَبِينَةِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ مَا سِوَى الْغَبِينَةِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَانَ أَمِينًا فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَالْغَبِينَةَ لَمْ يَبْرَأِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْغَبِينَةِ لِضَمَانِ الْعَدْلِ لَهَا، وَبَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ الَّتِي هِيَ قِيمَةُ الرَّهْنِ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ بَعْضَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْمِائَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عليه بما كان فسد دَفْعَهُ إِلَيْهِ مِنْهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِثَمَنٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بُذِلَتْ لَهُ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِرَغْبَةِ رَاغِبٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا، لِتَمَامِ الْبَيْعِ بِالِافْتِرَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَعَلَيْهِ قَبُولُهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْبَرِمْ وَالْفَضْلَ فِي الثَّمَنِ بِالْبَذْلِ قَدْ تَعَيَّنَ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ وَأَقْبَضَ الرَّهْنَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَمَذْهَبُ الشافعي أنه يكون ضامنا لما لَوْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَاطِلًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ قَبُولَهَا غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ قَبُولُهَا غَيْرَ لَازِمٍ لَهُ لِأَنَّهَا قَدْ تُبْذَلُ لِرَغْبَةٍ وَقَدْ تُبْذَلُ لِفَسَادٍ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا فَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهَا لَازِمًا. وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ بَذْلَ الزِّيَادَةِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ كَبَذْلِهَا فِي حَالِ الْعَقْدِ فَلَمَّا كَانَ قَبُولُهَا فِي حَالِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَذْلُهَا مُتَحَقَّقًا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبُولَهَا وَاجِبٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِتَرْكِ قَبُولِهَا بَاطِلًا وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَدْلِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ فَفِي قَدْرِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قَدْرَ الزِّيَادَةِ لَا غَيْرَ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. فَعَلَى هَذَا إِذَا غَرِمَهَا الْعَدْلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُشْتَرِي ضَمَانُ غَصْبٍ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمَبْذُولَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَى الْعَدْلِ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ فَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ بِهِ لِلْكُلِّ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَى هَذَا لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ رَجَعَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَيَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ وَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ الزِّيَادَةُ الَّتِي بُذِلَتْ لَهُ. وَإِذَا غَرِمَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ. (فَصْلٌ) وَلَيْسَ الرَّاهِنُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقًّا لِلرُّجُوعِ بِهَا دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلَا الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ وَلَكِنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ جَمِيعًا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ بِهَا. أَمَّا الرَّاهِنُ فَبِحَقِّ مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَبِحَقِّ وَثِيقَتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَابِضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ جَمِيعًا قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى قَبْضِهَا فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا ثُمَّ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِيهَا ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا رَهْنًا فَتَكُونُ رَهْنًا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا فَتَكُونُ قِصَاصًا كَمَا اتَّفَقَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ تَكُونَ رَهْنًا وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى أَنْ تَكُونَ قِصَاصًا إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ إِنَّمَا كَانَ لِقَضَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَكُنْ لِتَرْكِ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَيْسَ فَسَادُ الْبَيْعِ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ هَذَا الْحُكْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ لَهَا هُوَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَيَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرَّهْنِ وَالْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي بِحَقِّ الْمِلْكِ. فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ جَنَى عَلَى الرَّهْنِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِالْأَرْشِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي ضَامِنًا لِحَقِّ الْمِلْكِ؟ فَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي لِأَنَّ الْجَانِيَ ضامن للحقين معا، إذ ليس بجب ضَمَانُ حَقِّ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الْمُشْتَرِي. فَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يرجع الرَّاهِنِ بِمَا دَفَعَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ لَوْ كَانَ دَفَعَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ، وَيَصِيرُ الْعَدْلُ مُتَطَوِّعًا بِمَا دَفَعَهُ إِلَى الرَّاهِنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 والقسم الثالث: أن يكون القباض لَهَا هُوَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ فَيَكُونُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْعَدْلِ إِنْ شَاءَ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الْمِلْكِ وَالْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرَّهْنِ. وَالْعَدْلَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ وَحَقِّ الرَّهْنِ، وَالْمُشْتَرِيَ ضَامِنٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا بِحَقِّ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِحَقِّ الرهن، والعدل ضامن لحق الرهن دون المشتري. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي نُظِرَ فِي الْمُرْتَهِنِ الْقَابِضِ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ مِنَ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَوْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إِلَى الرَّاهِنِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ. وَيَصِيرَ الْعَدْلُ مُتَطَوِّعًا بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الْغَالِبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِهِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ فَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنَ الْغَبِينَةِ فِي ثَمَنِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَهُنَا ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ لأنه ليس جزء منه متميزا عن الضمان وسببه، وَالْغَبِينَةُ هُنَاكَ مُتَمَيِّزَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ الضَّمَانُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الثَّالِثِ وَهُوَ حُلُولُ الثَّمَنِ بِبَيْعِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ فَإِنْ فَاتَ رَدُّهُ كَانَ مَضْمُونًا بِقِيمَتِهِ دُونَ ثَمَنِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ يُبْطِلُ حُكْمَ الثَّمَنِ، وَيُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِلَى الْعَدْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الرَّابِعِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِهِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى دُونَ الْقِيمَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ فِيهِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثَّمَنِ. فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِلَى الْعَدْلِ بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ ضَامِنًا لَهُ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِضَمَانِ غَصْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَانُ تَفْرِيطٍ سَبَبُهُ تَأْخِيرُ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْعَدْلِ مَانِعًا مِنْ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفُصُولِ الْمَاضِيَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَبْرَأُ بِمَا يَدْفَعُهُ إِلَى الْعَدْلِ إِذَا ضَمِنَهُ الْعَدْلُ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ غَصْبٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْخَامِسِ وَهُوَ بَيْعُهُ نَاجِزًا بِغَيْرِ خيار شرط فيبيعه باشتراط خِيَارِ الثَّلَاثِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَإِنْ فَاتَ الرَّدُّ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا ضَمَانَ غَصْبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 (باب بيع الحاكم للرهن في الاستحقاق) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَثَمَنُهُ مِنَ الرَّاهِنِ حَتَى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ ". قَالَ الماوردي: وهذا صحيح. إِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَثَمَنُهُ مِنَ الرَّاهِنِ حَتَى بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ فَثَمَنُهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى بَيْعَ الرَّهْنِ فَثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهُ الْعَدْلُ أَوِ الْحَاكِمُ فَثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرَّهْنَ مَبِيعٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ مَبِيعٌ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا بِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فِي حَقِّهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الرَّهْنِ إِذَا بِيعَ مِنْ ضَمَانِ المرتهن مَبِيعٌ فِي حَقِّهِ، وَدَلِيلُنَا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّ يَدَ الْعَدْلِ كيد الراهن لأن جواز بيعه وتصرفه موقوفا عَلَى إِذْنِ الرَّاهِنِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّاهِنَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ كَانَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ عَلَى مِلْكِهِ فَوَجَبَ إِذَا بَاعَهُ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ عَلَى مِلْكِهِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَبِيعٌ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ أَصْلُهُ: إِذَا بَاعَهُ الرَّاهِنُ، وَلِأَنَّهُ ثَمَنٌ مَبِيعٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِكِ كَالْوَكِيلِ. وَأَمَّا ثَمَنُ الْعَبْدِ الْجَانِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ السَّيِّدِ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ بِالدَّرْكِ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِتَلَفِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَمَانِ غَيْرِهِ كَمَا بَطَلَ حَقُّهُ بِتَلَفِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَإِنْ كَانَ عَلَى ملك غيره والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَأَمَرَ الْحَاكِمُ عَدْلًا فَبَاعَ الرَّهْنَ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدَيِ الْعَدْلِ فَاسْتَحَقَّ الرَّهْنَ لَمْ يَضْمَنِ الْحَاكِمُ وَلَا الْعَدْلُ لِأَنَّهُ أمين وأخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 الْمُسْتَحِقُّ مَتَاعَهُ وَالْحَقُّ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ والعهدة عليه كهي لَوْ بَاعَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَيْسَ الَّذِي بِيعَ لَهُ الرَّهْنُ مِنَ الْعُهْدَةِ بِسَبِيلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الرهن موضوعا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَإِذْنٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ مَا بَقِيَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى إِذْنِهِمَا وَجَوَازِ أَمْرِهِمَا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ فِي جَوَازِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ إِلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَبَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِمَا أَوْ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ عِنْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ مِنْهُمَا فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ. فَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَعَدٍّ فِيهِ، فَالْعَدْلُ ضَامِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أبي حنيفة أَنَّهُ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. فَلَوِ اسْتَحَقَّ الرَّهْنَ الْمَبِيعَ في يد مشتريه بعد تلف الثمن في يد العدل كانت عهدة المبيع بِالثَّمَنِ، مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ أبو حنيفة عُهْدَةُ الْمَبِيعِ فِي رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فِي مَالِ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً على أصله في أن لثمن الرهن الْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ، وَنَحْنُ نَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ ثَمَنَ الرَّهْنِ الْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فَأَغْنَى عَنْ تَجْدِيدِهِ فِي الْفَرْعِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يَكُونُ فِي مَالِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَالْمُشْتَرِي وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةٌ لِأَنَّ اتِّسَاعَ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْحُقُوقِ فَصَارُوا فِيهِ أُسْوَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا يَضِيقُ مَالُهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ يُدْفَعُ مَا بَقِيَ إِلَى الْغُرَمَاءِ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. يَتَحَاصُّونَ مَعًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ال ْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِظَاهِرِ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ على جميع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 الْغُرَمَاءِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ رَاضِيًا بِذِمَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَاضَاهُ عَلَى ذِمَّتِهِ وَالثَّانِي أَنَّا لَوْ لَمْ نُقَدِّمْهُ بِهِ لَأَدَّى إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ ابْتِيَاعِ مَالِ الْمُفْلِسِ خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فِي تَأْخِيرِ الثَّمَنِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ بِهِ كَمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُنَادِي بِأُجْرَتِهِ وَالدَّلَّالِ بِجَعَالَتِهِ، لِيُقْدِمَ النَّاسُ عَلَى مُعَامَلَتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِ وَإِيَّاهُمْ فِي تَعَلُّقِ الْغُرْمِ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ جَنَى عَلَى مَالِ رَجُلٍ فَتَعَلَّقَ الْغُرْمُ بِذِمَّتِهِ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ إِذَا لَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنِ الْمُفْلِسِ فَيُقَدَّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدَيِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ الثَّمَنُ مَعَ بَاقِي الدُّيُونِ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ أَصَابَ مَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ أسوة الغرماء. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ الْعَدْلُ فَقَبَضَ الثَّمَنَ فَقَالَ ضَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا قَالَ الْعَدْلُ الْمَأْمُونُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ قَدْ بِعْتُهُ وَقَبَضْتُ ثَمَنَهُ وَضَاعَ مِنْ يَدَيَّ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَقَوْلُ الْأَمِينِ فِي تَلَفِ مَا بِيَدِهِ مَقْبُولٌ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَوْ تَكْذِيبِهِمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا أَنْ يُصَدِّقَا جَمِيعًا الْعَدْلَ عَلَى تَلَفِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ بِتَصْدِيقِهِمَا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُكَذِّبَا جَمِيعًا الْعَدْلَ فِي تَلَفِ الثَّمَنِ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ، لِأَنَّهُمَا بِالتَّكْذِيبِ يَدَّعِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْحُكْمِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ حلف الراهن كان على العدل عزم الثَّمَنِ وَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِهِ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ وَبَذَلَ الْمُرْتَهِنُ الْيَمِينَ لِأَجْلِ أَنَّ الثَّمَنَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ غُرَمَاءَ الْمُفْلِسِ فِيمَا نَكَلَ عَنْهُ الْمُفْلِسُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ وَإِنْ نَكَلَ بَرِئَ الْعَدْلُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى هَذَا القول برئ من الثمن بنكول الراهن، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 والحال الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الْمُرْتَهِنُ وَيُكَذِّبَ الرَّاهِنُ فَعَلَى الْعَدْلِ الْيَمِينُ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَلَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ إِحْلَافِ الْعَدْلِ عَلَى مِلْكِهِ لِأَجْلِ تَصْدِيقِ غَيْرِهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْعَدْلُ بَرِئَ من الثمن، وإن نكل عن اليمين ردت الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ، فَإِذَا غَرِمَ الثَّمَنَ اخْتُصَّ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ لِإِقْرَارِهِ بِتَلَفِ مَا كَانَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، فَإِنْ سَأَلَ الرَّاهِنُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي غَرِمَهُ الْعَدْلُ وَيُبَرِّئُ الرَّاهِنَ مِنْ حَقِّهِ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يُقِرُّ أَنَّ الْعَدْلَ مظلوم به وأنه باق على ملكه. والحال الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الرَّاهِنُ وَيُكَذِّبَ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ إِحْلَافُ الْعَدْلِ، وَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَهَلْ تَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنِ الْعَدْلِ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ الْمُرْتَهِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مُدَّعِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ هَلْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ الْعَدْلُ إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الثَّمَنِ فَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ - أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْعَدْلَ قَدْ بَرِئَ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ إِحْلَافُهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لِلْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ الْعَدْلُ لِلْمُرْتَهِنِ بَرِئَ مِنَ الْحُكْمِ، وَإِنْ نَكَلَ الْعَدْلُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ صَائِرٌ إِلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ وَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ بِإِزَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِجَمِيعِهِ، فَإِذَا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ قَبْضُ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَمُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا قِدْرَ حَقِّهِ، فَإِذَا أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بما بقي من الثمن يعد حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْعَدْلَ مَظْلُومٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قِيلَ، فَإِذَا كَانَ مَا قبضه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 الْمُرْتَهِنُ ظُلْمًا فَكَيْفَ يَبْرَأُ بِهِ الرَّاهِنُ؟ قُلْنَا إِنَّمَا سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ، فَأَمَّا بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ من الباطن فالله أعلم بذلك. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَى الدَّافِعِ الْبَيِّنَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا لَهُ دَفْعُ ثَمَنِهِ إِلَى الرَّاهِنِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمَا مَعًا، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ جَازَ وَكَانَ وَكِيلًا لَهُ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْعَدْلِ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ رُجُوعِ الرَّاهِنِ، كَانَ دَافِعًا لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ فَصَارَ لَهُ ضَامِنًا. فَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلْعَدْلِ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ كَانَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِحَقِّ وَثِيقَتِهِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَنْ إِذْنِهِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ، لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لِبُطْلَانِ حَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَانَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الرَّاهِنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَكَانَ ثَمَنُ الرَّهْنِ بِيَدِ الْعَدْلِ فَادَّعَى تَسْلِيمَهُ وَدَفْعَهُ فَهَذَا عَلَى ثلاثة أحوال. أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ، وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ عَلَى الرَّاهِنِ مَقْبُولٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لَهُ وَأَمِينٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ إِذَا حَلَفَ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أو العدل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ وَقَبَضَ مِنْهُ بَرِئَ الرَّاهِنُ والعدل جميعا، لا وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ وَأَغْرَمَهُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا غَرِمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ غُرْمَهُ بِحَقِّ نِيَابَتِهِ عَنْهُ وَوِكَالَتِهِ لَهُ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ وَالرَّاهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ من مطالبة الراهن وإن أنكر، لأن قول عليه مقبول ولم يبرأ العدل مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ وَقَبَضَ مِنْهُ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِمَا غَرِمَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ وَأَغْرَمَهُ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ عَلَى الرَّاهِنِ مَقْبُولٌ فِيمَا بِيَدِهِ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الرُّجُوعِ بِهِ، فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الراهن. (فصل) فأما القسم الثاني وهو أن يدعي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. وَالْمُرْتَهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِإِذْنِهِ، وَبَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِقْرَارِهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ لَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَمِينٌ لِلرَّاهِنِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا الراهن فله حالتان: أحدهما: أَنْ يُكَذِّبَ الْعَدْلَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَبْرَأُ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ عَلَى الرَّاهِنِ فِيمَا يَدَّعِي تَسْلِيمَهُ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ فِيمَا يَدَّعِي تَسْلِيمَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ عَلَى حَقِّهِمَا مِنْ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ أَوِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ وإن أغرمه الراهن رجع الراهن على العدل. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ الْعَدْلَ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِ الْعَدْلِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ بِحُضُورِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مَنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِإِنْكَارِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْعَدْلِ أَوِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ الْعَدْلَ مَظْلُومٌ بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَظْلُومٌ بِهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ الْمُصَدِّقُ غَائِبًا عِنْدَ الدَّفْعِ، فَهَلْ يَبْرَأُ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ بِتَصْدِيقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ بِتَصْدِيقِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهِ ثُمَّ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ أَغْرَمَ الْعَدْلَ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ أَغْرَمَ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْجِعِ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدْلَ لَا يَبْرَأُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ عَلَى الدَّفْعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ مُفَرِّطٌ حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ، لِأَجْلِ تَفْرِيطِهِ فَعَلَى هَذَا الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ أَوِ الْعَدْلِ، فَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ، فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَوَجَدْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّ الْعَدْلَ قَدْ بَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالثَّمَنِ لِحُصُولِ الْإِبْرَاءِ لِلرَّاهِنِ بِإِقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ بِالْقَبْضِ. وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ عَلَى الْعَدْلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِلرَّاهِنِ وَإِنْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مُتَعَدٍّ بِالدَّفْعِ مُتَطَوِّعٌ بِالْأَدَاءِ، فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ بِتَعَدِّيهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِتَطَوُّعِهِ كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِإِنْكَارِ قَبْضِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ غَرَامَةِ الثَّمَنِ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ، كَالثَّمَنِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَهُ غَرَامَةُ ثَمَنَيْنِ، فَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، فَإِنْ غَرِمَ الثَّمَنَ لِلرَّاهِنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ ثانية، وإن غَرِمَ الثَّمَنَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ كان الراهن أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ ثَانِيَةً وَلِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّاهِنِ مَعًا، فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ غَرِمَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ بَرِئَ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ وَإِنْ غَرِمَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَدْلُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَلَى أربعة أضرب: - أحدهما: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا مَعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ. فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرْهُ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ. ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ، أَوِ الْعَدْلِ فَإِنْ طَالَبَ الرَّاهِنَ فَأَغْرَمَهُ فَقَدْ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ. وَإِنْ طَالَبَ الْعَدْلَ فَأَغْرَمَهُ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ فِيمَا يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الرُّجُوعِ بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فِيمَا بِيَدِهِ مَقْبُولًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ الْمُرْتَهِنُ وَيُنْكِرَ الرَّاهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّهِمَا، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا الراهن فلقبول قوله. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ الرَّاهِنُ وَيُنْكِرَ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ الْعَدْلُ مِنْ حَقِّ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ أَوِ الْعَدْلَ، فَإِنْ أَغْرَمَ الرَّاهِنَ بَرِئَ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ. فَإِنْ أَغْرَمَهُ الْعَدْلَ بَرِئَ الْعَدْلُ وَالرَّاهِنُ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِإِغْرَامِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ، فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الْعَدْلِ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بِدَيْنٍ كَانَ ضَامِنًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ إِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَكَانَ لِجَمِيعِ قِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ بِمَا حَدَّا لَهُ مِنَ الْأَجَلِ أَوْ بِمَا لَا يَتَفَاوَتُ مِنَ الْآجَالِ إِنْ لَمْ يَحُدَّا لَهُ الْأَجَلَ، فَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا لِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ مَعَ حُصُولِ مَا يُقْصَدُ مِنَ التَّوْفِيرِ لِلْأَجَلِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِدُونِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ مُطْلَقًا، فَإِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي بَيْعَ النَّقْدِ كَمَا لَوْ صَرَّحَا بِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالدَّيْنِ فَبِأَيِّهِمَا بَاعَ جاز، وكذلك الوكيل مع الإطلاق لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ كَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْوِكَالَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْذَنَ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَيَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهِ، فَأَمَّا بِالنَّقْدِ فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا يُسَاوَى بِالنَّقْدِ دُونَ مَا يُسَاوَى بِالدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْإِذْنِ حُكْمُ النَّقْدِ فِي التَّعْجِيلِ وَحُكْمُ الدَّيْنِ فِي التَّوْفِيرِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ وَيَأْذَنُ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ فَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَبِيعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ وَالتَّعْجِيلِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي التَّأْخِيرِ فَقُبِلَ إِذْنُهُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ إِذْنُهُ فِي التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَفَارَقَ إِذْنَ الرَّاهِنِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَذِنَا لِلْعَدْلِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ بَعْدَ شَهْرٍ فَبَاعَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا وَلَوْ أَذِنَا فِي بَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ فَبَاعَهُ بِالْبَصْرَةِ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ الثَّمَنَانِ وَاحِدًا وَكَانَ لِثَمَنِهِ ضَامِنًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَبَطَلَ بَيْعُهُ، وَإِذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَ مَأْذُونًا فِي بَيْعِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ وضمن ثمنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِعْ بِدَنَانِيرَ وَالْآخَرُ بِعْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَبِعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَحِقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي ثَمَنِ الرَهْنِ وَحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رَقَبَتِهِ وَثَمَنِهِ وَجَاءَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ يَصْرِفُهُ فِيمَا الرَّهْنُ فِيهِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ إِذْنِهِمَا لِلْعَدْلِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي يبيع الرهن به من أربعة أقسام: أحدهما: أَنْ يُعَيِّنَا فِي الْإِذْنِ جِنْسَ الثَّمَنِ فَيَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَّاهُ لَهُ، فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَا الْإِذْنَ وَلَا يُعَيِّنَا جِنْسَ الثَّمَنِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": يَبِيعُهُ بِجِنْسِ حَقِّهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا أَرَادَ بِجِنْسِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَحَمَلُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَنَانِيرَ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ بِدَرَاهِمَ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا وَكَانَ لِقِيمَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ فِي بَيْعِهِ بِمَا رَأَى مِنَ الْأَثْمَانِ فَلَهُ بَيْعُهُ بِمَا رَأَى مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْبُرِّ أَوْ بِالشَّعِيرِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَثْمَانِ يَتَنَاوَلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ دُونَ غَيْرِهِمَا إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي إِذْنِهِمَا فَإِنْ بَاعَهُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَأْذَنُ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَيَأْذَنُ الْآخَرُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّنَانِيرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ هُوَ مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ وَلَا بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ، أَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا أَذِنَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، فَهَذَا يَبِيعُهُ الْعَدْلُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَمْلِكُ إِمْسَاكَ الرَّهْنُ ثُمَّ الْإِذْنُ فِي بَيْعِهِ إِمَّا بِجِنْسِ الْحَقِّ أَوْ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِذَا أَذِنَ فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِهِمَا، كَانَ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ دَاعِيًا إِلَى بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ، فَكَانَ إِذْنُهُ مَاضِيًا وَمَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ مَرْدُودًا، فَلِذَلِكَ جَازَ الْقَوْلُ بِبَيْعِهِ بِمَا أَذِنَ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ. لِأَنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ في تقليب قول أحدهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ النَّقْدِ مَا أذن فيه أَحَدُهُمَا إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ وَجِنْسُ الْحَقِّ مَا أَذِنَ بِهِ الْآخَرُ إِمَّا الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ، فَلَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ فَافْتَقَرَ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لِيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي اخْتِلَافِهِمَا بِأَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَاعَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَإِطْلَاقُهُ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ يَقْتَضِيهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُهُ إِذَا اخْتَلَفَا على ما وصفت فقد قال الشافعي: وَجَاءَ الْعَدْلُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ ابْتِدَاءً إِذْ لَيْسَ فِي بَيْعِهِ حَقٌّ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْحَاكِمَ مُسْتَعْدِيًا، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَإِضْمَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاهِنَ أَوِ الْمُرْتَهِنَ، جَاءَ إِلَى الْحَاكِمِ مُسْتَعْدِيًا فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُحْضِرُ الْعَدْلَ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَظُّ لَهُمَا. فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ تَقَدَّمَ بِدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَقَدَّمَ بِصَرْفِهِ فِي جِنْسِ الْحَقِّ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى المرتهن والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الرَّاهِنِ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ وَعَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ أَوْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ أَمْ لَا، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ بِبَيْعِهِ فَذَاكَ لَهُمَا سواء تغيرت حال العدل أم لا وإن دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى إِخْرَاجِهِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَالَتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُ حُكْمًا لَزِمَ بِعَقْدٍ وَاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا لِفِسْقٍ فِي دِينِهِ، أَوْ عَجْزٍ فِي حِفْظِهِ، أَوْ عَدَاوَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ لِمَالِكِ الرَّهْنِ أَوْ مُرْتَهِنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من دعا إلى إخراجه يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لَحِقِّهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ يَدِهِ قَالَ لَهُمَا الْحَاكِمُ: اتَّفِقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِهِ وَضَعَهُ فِي يَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا وَاخْتَارَ الرَّاهِنُ عَدْلًا وَاخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ عَدْلًا وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَخْتَارُهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَدْلُ الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّهْنِ، فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي وُجُوبِ إِقْرَارِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 (فَصْلٌ) إِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِهِ لِحَقِّ وَثِيقَتَهُ وَأَبَى الرَّاهِنُ. لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى وَضْعِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ اسْتِيثَاقِهِ، وأمرهما الحاكم باختيار عدل بوضع عَلَى يَدِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى اخْتِيَارِ عَدْلٍ وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا، وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَلَوْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فَأَخَذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ، صَارَ ضَامِنًا لَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الرَّاهِنِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ يَدِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ فَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْعَدْلِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إِلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكَيْلُ الرَّاهِنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) إِذَا رَضِيَ الرَّاهِنُ بِتَرْكِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ سَأَلَ إخراجه من يده إلى غيره، فإن تغيير حَالُ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعُهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، أَوْ يَرْضَاهُ الْحَاكِمُ لَهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ يتغير حال المرتهن، وجب إقراراه فِي يَدِهِ، كَمَا يَجِبُ إِقْرَارُهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ أَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَوْ وَصِّيهِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَخْتَارَهُ، وَقِيلَ لِوَارِثِهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ لِوَصِيِّهِ: تَرَاضَ أَنْتَ وَالرَّاهِنُ بِعَدْلٍ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ فَإِنْ تَرَاضَيَا وَإِلَّا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ وَهُمَا حَاضِرَانِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِهِمَا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ لَمْ أَرَ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى حَبْسِهِ وَإِنَمَا هِيَ وِكَالَةٌ لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ إِلَى عَدْلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدْلَ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ نَائِبٌ عن الرهن والمرتهن في حفظ الراهن، فَإِذَا أَرَادَ رَدَّ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُتَطَوِّعًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الرَّهْنِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَازِمٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَهُ رَدُّهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِذَا كَانَ لَهُ رَدُّهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَدْلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ لَهُ مَعَ حُضُورِهِمَا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِمَا، كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ لِرَدِّهِ عليهما إلا بإذنهما فإن أخرجه بغير إذنها ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِخْرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ الرَّهْنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُمَا بِأَخْذِهِ مِنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِهِ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَجَابَا الْحَاكِمَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَا غَائِبَيْنِ فَإِنْ حَضَرَ لَهُمَا وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُمَا، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَدْلٍ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَلَا يَخْلُو الْعَدْلُ فِي رَدِّ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا لِسَفَرٍ يُرِيدُهُ أَوْ مَرَضٍ يُعْجِزُهُ أَتَى الْحَاكِمَ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بَعِيدَيِ الْغَيْبَةِ أَمْ لَا. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمَضَرَّةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَسَلَّمَهُ إِلَى عَدْلٍ ثِقَةٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَمِينٍ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنَ الْمُودَعِ أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا طَوِيلًا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى عَدْلٍ يَرْضَاهُ لَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعْذُورًا وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُمَا قَصِيرًا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَرْكِهِ فِي يَدِهِ وَأَنْفَذَ إِلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لِيَخْتَارَا عَدْلًا يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ. لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا رَضِيَا غَيْرَ مَنْ يَخْتَارُهُ لَهُمَا، فَإِنِ اخْتَارَا عَدْلًا أَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَارَا عَدْلًا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَأَمَرَهُ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ إِلَيْهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَاضِرًا وَالْآخَرُ غَائِبًا. فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْغَائِبِ، فَإِنْ حَضَرَ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ تَرَاضَى الْحَاضِرُ وَوَكِيلُ الْغَائِبِ بِعَدْلٍ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِهِ فَإِنِ ارْتَضَيَا بِعَدْلٍ وَإِلَّا ارْتَضَى لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ وَكِيلٌ حَاضِرٌ، نَابَ الْحَاكِمُ عَنِ الْغَائِبِ فِي اخْتِيَارِ عَدْلٍ يُوضَعُ على يده. (فصل) وإن سَافَرَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ حَاضِرَيْنِ أَوْ كَانَا غَائِبَيْنِ لِأَنَّ فِي السَّفَرِ تَغْرِيرًا بِهِ فَإِنْ قَالَ إنما سافرت به إليهما لا رده عَلَيْهِمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ لِعَدَمِ إِذْنِهِمَا فَلَوْ لَقِيَهُمَا فِي السَّفَرِ فَسَأَلَهُمَا أَخْذَ الرَّهْنِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَخْذُهُ. وَوَجَبَ عَلَى الْعَدْلِ رَدُّهُ إِلَى الْبَلَدِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِهِ فِي السَّفَرِ فَيَبْرَأُ مِنْهُ بِأَخْذِهِمَا لَهُ، فَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِهِ، مِنْهُ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَرْضَ الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرِ الْمُمْتَنِعُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الراض بِأَخْذِهِ وَكَانَ فِي ضَمَانِهِ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى بلده. (فَصْلٌ) إِذَا وَضَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حِفْظِهِ وَإِحْرَازِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَانِ أَنْ يُقِرَّا الرَّهْنَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ يُقَسِّمَانِهِ لِيَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثلاثة أحوال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَا لَهُمَا بِذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَيَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَدْلَيْنِ فِعْلُهُ لِصَرِيحِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ نُظِرَ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ نِصْفِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ وَلَكِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَعَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ضَمَانٌ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِذْنٍ وَلَا نَهْيٍ فَفِي جَوَازِ ذلك قولان: حكاهما ابن سريج: أحدهما: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ لَمْ يَرْضَيَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ فَعَلَا لَزِمَ الضَّمَانُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِهِمَا فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَازَ أَنْ يُقَسِّمَاهُ لِيَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فإن لم يقتسماه وَاتَّفَقَا عَلَى كَوْنِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُخْرِجِ لَهُ مِنْ يَدِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عليه. والثاني: عليه ضمان نصفه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا فَلَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ جِنَايَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِمَا وَلَا أَرْشَ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْأَرْشَ لَا يَجِبُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ سابقا. والضرب الثاني: أن يكون عمدا توجب القود فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلرَّدْعِ وَحِرَاسَةِ النُّفُوسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَاسْتَوَى حُكْمُ السَّيِّدِ وَغَيْرُهُ فِي الْقِصَاصِ فَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ صَارَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 هَدَرًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مِلْكِهِ لِمَحَلِّ الْأَرْشِ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ السَّيِّدُ مَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَلَا عَفَا عَنْهُ حَتَّى مَاتَ السَّيِّدُ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ كَانَ لِوَارِثِهِ الْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ السَّيِّدِ فَمَلَكَ عَنْهُ مَا كَانَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقْتَصَّ لَهُ السُّلْطَانُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ إِذَا زَنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَقْتَصَّ السُّلْطَانُ لَهُ لِأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ وَالْخَصْمُ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَالْأَجْنَبِيِّ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ هَدَرًا فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ. كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ هَدَرًا وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِي الْجِنَايَةِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الدِّيَةِ مَتَى تَجِبُ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَتُنَفَّذُ فِيهَا وَصَايَاهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي مِلْكِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ وُجُوبُهَا مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ هَدَرًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ وَلَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَبَيْعُهُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَاجِبًا فِي التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ بالغا ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَطْلُبَ الْقَوَدَ وَيُرِيدَ الْقِصَاصَ فَذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَحَلَّ الْقِصَاصَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ الْوَارِثُ بَطَلَ الرَّهْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِالتَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْفُوَ الْوَارِثُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الْعَبْدُ، هَاهُنَا رَهْنًا عَلَى حَالِهِ يُقَدِّمُ الْمُرْتَهِنَ بِثَمَنِهِ عَلَى جَمِيعِ غُرَمَائِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ لِيُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دِيَةِ الْمَقْتُولِ مَتَى تَجِبُ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ هَدَرًا لِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَبْدُ رَهْنًا على حاله يقدم المرتهن بثمنه على جميع الْغُرَمَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهَا فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ وَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ الْمَأْخُوذُ مِنَ الدِّيَةِ مَضْمُونًا إِلَى التَّرِكَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِتُقْضَى مِنْهَا دُيُونُ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ وَتُنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ فِي ثَمَنِهِ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أُسْوَةً كما يكونوا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ أُسْوَةً. (فَصْلٌ) فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى ابْنِ سَيِّدِهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ، وَمَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ فَوَرِثَهُ السَّيِّدُ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ ثَانِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ فَيُخْرِجَهُ مِنَ الرَّهْنِ وَيَبِيعَهُ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِهِ وَلَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَرْشَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا كان يستحقه الابن الوارث قائم مَقَامَ مُوَرِّثِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى سيده فللسيد أن يقتص منه إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَيَجِبَ عَلَيْهِ أَرْشُهَا إِنْ كَانَتْ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَجِبُ لَهُ عَلَى مُكَاتَبِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ - إِذْ لَيْسَ يَمْلِكُ مَحَلَّ الْأَرْشِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، فَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَرْشِ لِسَيِّدِهِ سَقَطَ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْعَجْزِ عَبْدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ آخَرَ مَرْهُونٍ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ فَالْمَالُ مَرْهُونُ فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ الَّذِي بِهِ أَجَزْتُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجِنَايَةَ مِنْ عُنُقِ عَبْدِهِ الْجَانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ مَرْهُونٍ جَنَى عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدٍ آخَرَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا أَوْ غَيْرَ مَرْهُونٍ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرْهُونٍ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمَالَ وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا تُوجِبُ القود فالسيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ، فَإِنْ عَفَا صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا وَكَانَ الْعَبْدُ الْجَانِي رَهْنًا بِحَالِهِ، وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَذَلِكَ لَهُ رَدْعًا لِلْجَانِي إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ كَانَ رَهْنًا بِحَالِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا فَعَلَى ضربين: أحدهما: أن يكون مرتهنا عِنْدَ مُرْتَهِنٍ ثَانٍ غَيْرِ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَأَرْشُهَا ثَابِتٌ فِي رَقَبَةِ الْجَانِي لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْشِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قِيمَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ خَمْسَمِائَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُبَاعَ مِنَ الْجَانِي بِقَدْرِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ نَصِفُهُ وَيَكُونُ النِّصْفُ الثَّانِي رَهْنًا بِحَالِهِ، وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ مَا بِيعَ مِنَ الْأَرْشِ فَيُوضَعُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الْجَانِي أَوْ كَانَ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْجَانِي فَهُمَا سَوَاءٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْقَلَ الْجَانِي مِنَ الرَّهْنِ فَيُوضَعَ رَهْنًا فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ لِأَنَّ بَيْعَهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ ثَمَنِهِ رَهْنًا فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ فَإِذَا اسْتَوْعَبَتِ الْجِنَايَةُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِبَيْعِهِ وَارْتِهَانِ ثَمَنِهِ مَعْنًى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَانِيَ يُبَاعُ وَيُوضَعُ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِجَوَازِ حُدُوثِ رَاغِبٍ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ. فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْهَا رَهْنًا بِيَدِ مُرْتَهِنِهِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ، فَإِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ فَذَاكَ لَهُ، فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ كَانَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِمَا، وَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَرْشِ كَحُكْمِ الْأَرْشِ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَرْهُونًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَيَكُونُ مُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْهُونٍ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهُوَ هَدَرٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَتَعَلُّقِهِ بِالْجَانِي، فَلَمْ يَكُنْ لِبَيْعِ الْجَانِي فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتْ هَدَرًا وَكَانَ الْجَانِي عَلَى حَالِهِ رَهْنًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَرْهُونَيْنِ عِنْدَ مُرْتَهِنٍ وَاحِدٍ بِحَقَّيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالًا أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَجَّلًا، فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ بنقل ثمن القاتل إلى موضع المقتول شيئا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ وَصْفُ الْحَقَّيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَالًا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْقَاتِلِ وَوَضْعُ ثَمَنِهِ مَوْضِعَ الْمَقْتُولِ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ رَهْنًا فِي الْحَالِ وَالْقَاتِلُ فِي الْمُؤَجَّلِ اسْتَفَادَ بِبَيْعِ الْقَاتِلِ أَنْ يَصِيرَ ثَمَنُهُ رَهْنًا فِي مُعَجَّلٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي مُؤَجَّلٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمَقْتُولُ فِي الْمُؤَجَّلِ فَقَدْ يَكُونُ الرَّاهِنُ مُوسِرًا فِي الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْمُعَجَّلِ وَلَا يَأْمَنُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَعْسُرَ الرَّاهِنُ عِنْدَ حُلُولِ الْمُؤَجَّلِ فَيَسْتَفِيدُ الْمُرْتَهِنُ ببيع القاتل أن يعتبر ثمنه رهنا قيما يُخَافُ إِعْسَارُ الرَّاهِنِ بِهِ فِي الْمُؤَجَّلِ. (فَصْلٌ) وأما الضرب الثاني: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَخْتَلِفَ قِيمَةُ العبدين فمثاله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 أَنْ يَكُونَ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا، وَتَكُونُ قِيمَةُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خمسمائة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون القاتل أكثرهما قيمة من المقتول، فللراهن أَنْ يَبِيعَ مِنَ الْقَاتِلِ بِقِدْرِ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ النِّصْفُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ، وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ يَسْتَفِيدُ بها أن يعتبر لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ رَهْنًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَقَلَّ قِيمَةً من المقتول وهو أن تكون قيمة القاتل خمسمائة وقيمة المقتول ألفا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ لِأَنَّ المرتهن لا يستفيد بنقل ثمنه إلى أقل الحقين شيئا بل يعتبر مستضرا. والضرب الثالث: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَقَلِّ الْحَقَّيْنِ فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لأن المرتهن يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا في أكثر الحقين. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ قَدْرُ الْحَقَّيْنِ وَتَسْتَوِيَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ، فَمِثَالُهُ أَنْ يكون قدر أَحَدِ الْحَقَّيْنِ أَلْفًا وَالْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ. وَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ أَلْفًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ فَالْجِنَايَةُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يستفيد بنقل قيمته إِلَى مَوْضِعِ الْقَاتِلِ شَيْئًا بَلْ يَصِيرُ مُسْتَضَرًّا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ رَهْنًا فِي أقل الحقين فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رهنا الْمَقْتُولِ وَلَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ هَدَرًا لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا فِي أَكْثَرِ الْحَقَّيْنِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ رَهْنًا فِي أَقَلِّهِمَا فَهَذَا حُكْمُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَلَى عَبْدِ الرَّاهِنِ مَرْهُونٍ وَغَيْرِ مَرْهُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى عَلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى مُكَاتَبٍ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى طَرَفِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ مَاتَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَهِيَ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفِ الْمُكَاتَبِ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 الْعَبْدِ الْجَانِي فَيُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لسيده، حق لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حق على سيده فكذا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقٌّ فِي رَقَبَةِ عَبْدِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالْمُكَاتَبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فإن قيل أليس المكاتب ممنوع مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْأَرْشِ وَهُوَ مَالٌ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْعَفْوِ لِحَقِّ السَّيِّدِ وَحِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ فَصَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَقْتَصَّ الْمُكَاتَبُ وَلَا أَخَذَ الْأَرْشَ حَتَّى مَاتَ عَلَى كِتَابَتِهِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِهِ الْجَانِي وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي الْأَرْشِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ الْأَرْشُ، فَهُوَ إِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي قَدْ كَانَ مالكا للأرش والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْنَعُ الْمُرْتَهَنُ السَّيِّدَ مِنَ الْعَفْوِ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ مَالٌ حَتَى يَخْتَارَهُ الْوَلِيُّ وَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ رَهْنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ. وَالثَّانِي: مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ. وَالرَّابِعُ: مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ فَفِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ. وَالثَّانِيَةُ: فِيمَا لَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ، يَجِبُ فِيهِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمَا يَجِبُ فِي نَقْصِ الْغَصْبِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَطْرُفِ إِذَا سَاوَى بِالِاتِّفَاقِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ فِيهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ. وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الْعَفْوُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ كَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَرْشِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ عَفْوُهُ باطلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وَلِلْمُرْتَهِنِ أَخْذُ الْأَرْشِ مِنَ الْجَانِي لِيَكُونَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ الْأَرْشَ فَكَانَ رَهْنًا مَكَانَ الْعَبْدِ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ إِنَّ الرَّاهِنَ قضى المرتهن حقه من ماله، فللمرتهن أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْجَانِي لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَفْوِهِ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يُبْرِئِ الْجَانِيَ فَكَانَ الْأَرْشُ مَأْخُوذًا مِنْهُ بِحَقٍّ لَازِمٍ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقْطَعَ الْجَانِي ذَكَرَهُ فَتَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْقِيمَةُ بِالْجِنَايَةِ مَضْمُونَةً وَبِالْغَصْبِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّاهِنُ وَلَا تَكُونُ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ كَالنَّمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ النَّقْصَ الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ، وَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ صَحَّ عَفْوُهُ وَبَرِئَ الْجَانِي مِنْهُ، لِأَنَّهُ عَفَا عَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حق المرتهن فكان عفوه صحيحا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَزِيدُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ فَمِثَالُهُ: أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَيْهِ فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمَضْمُونُ بِالْغَصْبِ فَيَكُونُ نِصْفَ الْقِيمَةِ وهو قدر ما يضمن بالغصب وهنا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي الزَّائِدُ بِالْجِنَايَةِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ الْمُعْتَبَرِ بِالنَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ الزَّايِدِ عَلَى ضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ النِّصْفُ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي يَضْمَنُهُ بِالْغَصْبِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ أَنْفَهُ وَلِسَانَهُ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ، وَكَانَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ النِّصْفَ. لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ رَهْنًا وَاخْتَصَّ الرَّاهِنُ بِالْبَاقِي وَهُوَ قِيمَةٌ وَنِصْفٌ. فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ قِيمَةٍ وَنِصْفٍ وَهُوَ قَدْرُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا يَنْقُصُ فِيهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَمِثَالُهُ أَنْ تُقْطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْقِيمَةِ، فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْجِنَايَةِ وَيَكُونُ النَّقْصُ الزَّايِدُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّيْءِ التَّالِفِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الْقِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ رَهْنًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ. فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ خطأ توجب المال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلرَّاهِنِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ. فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنْ يَطْلُبَ الْقِصَاصَ دُونَ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَا يَأْخُذَ الْمَالَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْقِصَاصِ وَجَبْرُهُ عَلَى أَخْذِ المال، وأما الحال الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنَ الْمَالِ وَجَبْرُهُ عَلَى الْقِصَاصِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَعَنِ الْمَالِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَهَلْ يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا قَابَلَ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ في جناية العمد ما الذي توجب؟ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَوَدَ. فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا تُوجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ، إِمَّا الْقَوَدُ أَوِ الْمَالُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْمَالِ لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَا يُصَرِّحَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ وَلَا يَخْتَارَهُ، فَقَدْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِ وَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْآخَرِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ وَقَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَالَ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فَيَجِبُ الْمَالُ بِهِ وَقَدْ سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ عَفْوِهِ. (فَصْلٌ) قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَأَمَّا جِنَايَةُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ ضَمَانَ غَصْبٍ لِمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ ذَلِكَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّصْفُ، وَقَدِ اسْتَوَى النَّقْصُ بِهَا وَالْمُقَدَّرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ بِالْقَطْعِ ثُلُثَ الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَقَلَّ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ ثُلْثَا الْقِيمَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثُّلُثَانِ وَيَكُونُ النَّقْصُ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَجِبُ على السيد بجناية أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِجِنَايَتِهِ؟ قِيلَ: لَمَّا اخْتَلَفَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ بِالْغَصْبِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْأَجْنَبِيِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 ضَمَانُ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَاتِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النَّقْصِ أَوْ أَقَلَّ وَفِي السَّيِّدِ ضَمَانُ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُقَدَّرِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ ضَمِنَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ ضَمَانُ أَكْثَرِ الْأَرْشَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ بِالْجِنَايَةِ أَوِ النَّقْصِ بِالْغَصْبِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَغْصِبَهُ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ، وَكَانَ الزَّايِدُ عَلَى النَّقْصِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاهِنُ وَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمِنَهُ الْجَانِي بِالنَّقْصِ ضَمَانَ غَصْبٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَكْثَرُ الْأَرْشَيْنِ، وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا لَا يَخْتَصُّ الرَّاهِنُ بشيء منه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِمَا فِيهِ قِصَاصٌ جَائِزٌ كَالْبَيِّنَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. قَدْ مَضَى هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ بِتَمَامِهِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِالْجِنَايَةِ كَإِقْرَارِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ، كَانَ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا يُتْبَعُ بِهِ إِذَا أُعْتِقَ وَأَيْسَرَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَقَبَتَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَا يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِقْرَارِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ إِضْرَارٌ بِسَيِّدِهِ لِلْخَلَاصِ مِنْ يَدِهِ وَالْمُتَّهَمُ فِي إِقْرَارِهِ مَرْدُودُ الْإِقْرَارِ كَالسَّفِيهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ، كَانَ إقراره نافذا مقبولا وقال زفر بن الهزيل ومحمد بن الحسن وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ مَرْدُودٌ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْعَمْدِ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ كَالْخَطَأِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ يَجِبُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ كَالرِّدَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالسَّفِيهِ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْعَمْدِ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْخَطَأِ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ فَالْمَعْنَى فِي الْمَجْنُونِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ وَلَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِإِقْرَارِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَالْمَعْنَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَمَّا كَانَ مُتَّهَمًا فِيهَا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا وَلَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِهَا. (فَصْلٌ) إِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ مَقْبُولٌ فَالْمُقَرُّ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْعَبْدِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ فَإِنْ عَفَا عَنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِحَالِهِ وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِهِ كَانَ بَعْدَ الْقِصَاصِ رَهْنًا بِحَالِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ الْمَالُ فِي رَقَبَتِهِ وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِبَيْعِهِ، وَإِنْ قَابَلَ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ رَهْنًا بحاله. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ قِيلَ لِسَيِّدِهِ إِنْ فَدَيْتَهُ بِجَمِيعِ الْجِنَايَةِ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ وَهُوَ رَهْنٌ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا جِنَايَةُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ لَا تَلْزَمُ الرَّاهِنَ وَلَا تَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّقَبَةَ إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْجِنَايَةِ أَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ الْأَرْشُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَاجِبَةٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ وَمُرْتَهِنِهِ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة قَدْ صَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى السَّيِّدِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ قَدْ مَلَكَ الْأَرْشَ وَاسْتَحَقَّهُ وَالْحُقُوقُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِرَّةً فِي ذِمَّةٍ مَضْمُونَةٍ كَالدُّيُونِ، أَوْ مُسْتَقِرَّةٍ فِي عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ كَالْإِرْثِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ بِتَلَفِ الذِّمَّةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الرَّقَبَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ مَعَ بَقَائِهَا وَسُقُوطِهِ مَعَ عَدَمِهَا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ وَالْأَعْيَانُ لَا تُمْلَكُ عَنْ أَرْبَابِهَا بِالْجِنَايَاتِ كَالْفَحْلِ إِذَا صَالَ فَأَتْلَفَ مَالًا، لَا يَصِيرُ الْفَحْلُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ. وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ: أَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَوَجَبَ أَلَّا تُعْتَبَرَ الْجِنَايَةُ مَمْلُوكَةً كَالْفَحْلِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ مُسْتَقِرًّا فِي عَيْنٍ مملوكة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 فَمُنْتَقَضٌ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فِي ذِمَّةٍ، وَلَا مَلَكَ بِهِ عَيْنَ التَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي مَا لَمْ يَفْدِهِ السَّيِّدُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ. فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ لِيُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْهَا، فَإِنْ سَلَّمَهُ لِيُبَاعَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ، نُظِرَ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ مُحِيطًا بِقِيمَتِهِ بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ مَلَكَهُ السَّيِّدُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ لِبُطْلَانِهِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ يُقَابِلُ بَعْضَ قِيمَتِهِ بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ رَهْنًا. وَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ لَزِمَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يقدر بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ إِذَا زَادَتْ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْشِ، فَإِنْ زَادَ الْأَرْشُ فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ السَّيِّدَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ ثَمَنِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لِلْعَبْدِ لَوْ بِيعَ رَاغِبٌ يَبْتَاعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيَمَتِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ لِيَفْدِيَهُ مُنِعَ مِنْ زِيَادَةِ الرَّغْبَةِ فَلَزِمَهُ جَمِيعُ الْأَرْشِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقِيمَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِذَا فَدَاهُ السَّيِّدُ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا، لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تُبْطِلْ رَهْنَهُ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَتْ عَلَى الرَّاهِنِ حَقًّا زَاحَمَهُ فَإِذَا سَقَطَ الْحَقُّ ثَبَتَ الرهن والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن تطوع المرتهن لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَإِنْ فَدَاهُ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهِ مَعَ الحق فجائز (قال المزني) قلت أنا هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزْدَادَ حَقًّا فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْدِيَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ وَاسْتَقَرَّ فِي الرَّهْنِ، وَبِمَاذَا يَفْدِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالرَّاهِنِ، أَحَدُهُمَا يَفْدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَفْدِيهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهِ. فَإِنْ فَدَاهُ وَخَلَصَ مِنَ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي فِدْيَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَفْدِهِ بِالْجِنَايَةِ لِتَرْجِعَ عَلَيَّ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا فَدَاهُ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَفْدِهِ عَنِّي، فَلِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. (فَصْلٌ) فَإِنْ فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ رَهْنًا بِالْحَقِّ الْأَوَّلِ وَبِالْأَرْشِ الَّذِي فَدَاهُ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ مِنْ إِدْخَالِ حَقٍّ ثَانٍ عَلَى أَوَّلٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ يَعْنِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِالْأَرْشِ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ ارْتِهَانِهِ بِحَقٍّ ثَانٍ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ فِدْيَتَهُ بِالْأَرْشِ اسْتِصْلَاحٌ لِلرَّهْنِ، فَجَازَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُبْتَدَأَةِ فِي الرهن والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ بَالِغًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ بِالْجِنَايَةِ فَجَنَى الْعَبْدُ عَنْ أَمْرِ السَّيِّدِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ لَا تَجُوزُ، أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَاعَ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ إِتْلَافٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ جَنَى غَيْرَ مُكْرَهٍ وَلَا مُجْبَرٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ جِنَايَتِهِ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ السَّيِّدُ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا إِذَا كَانَ بِحَظْرِ مَا فَعَلَهُ عَالِمًا، لِأَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ امْتِثَالُهُ فِيمَا أُبِيحَ فِعْلُهُ دُونَمَا حَظْرٍ، وَأَمْرُ السَّيِّدِ بِالْمَحْظُورِ غَيْرُ مُمْتَثَلٍ. بَلْ يَكُونُ بِأَمْرِهِ آثِمًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْأَمْرِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُعَاوِنًا، وَالْمُؤَاخَذُ بِالْجِنَايَةِ هُوَ الْعَبْدُ الْجَانِي دُونَ السَّيِّدِ الْآمِرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْمَالَ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا اقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا كَالْخَطَأِ وَلَا غُرْمَ عَلَى السَّيِّدِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِالْجِنَايَةِ مُكْرَهًا عَلَيْهَا مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمَالِ فَيَكُونُ الْغُرْمُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي لِكَوْنِ السَّيِّدِ جَانِيًا بِإِكْرَاهِ عَبْدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُوجِبَ الْقَوَدَ فَيَكُونُ الْقَوَدُ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكْرَهِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَهَذَا حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورِ لَا تَجُوزُ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَاعَةِ السَّيِّدِ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الجلب الْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ الْمُعْتَقِدِ طَاعَةَ السَّيِّدِ فِيمَا أَمَرَهُ مِنْ مَحْظُورٍ أَوْ مُبَاحٍ فَالْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ الْآمِرِ دُونَ الْعَبْدِ الْجَانِي - لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ صَارَ كَالْآلَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ كَلْبٍ يُشْلِيهِ أَوْ سَهْمٍ يَرْمِيهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْقَوَدَ فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْمَالَ فَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ. فَإِنْ أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْعَبْدُ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَرْشُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ بِحَالِهِ فِي الرَّهْنِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّيِّدِ وَجِنَايَاتُ السَّيِّدِ إِذَا أَعْسَرَ بِأَرْشِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَاعَ فِيهَا أَمْوَالُهُ الْمَرْهُونَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَرْشِ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَنِ الْعَبْدِ صَدَرَتْ وَمِنْ فِعْلِهِ حَدَثَتْ وَإِنَّمَا غُلِبَ فِيهَا السَّيِّدُ لِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ، وَأَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ فَأَوْلَى الْأُمُورِ أَنْ يُبَاعَ فِيهَا الْجَانِي، فَإِذَا بِيعَ بَطَلَ الرَّهْنُ، فَإِنْ أَيْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا فِيمَا بَعْدُ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا أَمَرَ صَبِيًّا صَغِيرًا بِقَتْلِ إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ دُونَ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ وَكَانَ الرَّجُلُ الْآمِرُ مُعْسِرًا بِهَا وَالصَّبِيُّ الْقَاتِلُ مُوسِرًا بِهَا أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ وَكَانَتِ الدِّيَةُ دَيْنًا لِلصَّبِيِّ عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يَرْجِعُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى غَيْرِهِ وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَى الرَّجُلِ الْآمِرِ يُؤْخَذُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ إِذَا أَعْسَرَ السَّيِّدُ بِهَا، قِيلَ. أَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِ - وَحَكَمَ فِي الْعَبْدِ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَأَمَّا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ وَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ لِأَنَّهُ لِمَ يَقُلْ: بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حُكْمًا بِبَيْعِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِ إِنْ بِيعَ بِرَأْيِ حَاكِمٍ أَوِ اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَحَكَمَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِذَا بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا وَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ يَكُونُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَعَلَى السَّيِّدِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ بَلْ يَكُونُ عَلَى حَالِهِ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَصَحُّ. قِيلَ قَدْ أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ هَذَا جَوَابَيْنَ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ السَّيِّدِ أَنَّهُ أَمَرَهُ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ بَيْعِهِ أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ بِهَا، فَلَمْ يُفْسَخِ الْبَيْعُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَأُخِذَ مِنَ السَّيِّدِ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ إِلَّا بِقَوْلِ السَّيِّدِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ أَمَرَهُ بِهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ فِي تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ فَإِذَا أَيْسَرَ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ عَنِ السُّؤَالِ حَسَنٌ عَلَى أَصْلٍ مِنَ المذهب صحيح. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أُذِنَ لَهُ بِرَهْنِهِ فَجَنَى فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ فَأَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ وَلَيْسَ كَالْمُسْتَعِيرِ الَّذِي مَنْفَعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ عَنْ مُعِيرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ رَقَبَةَ عَبْدِهِ جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ الِانْتِفَاعَ بِرَقَبَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُوَثَّقًا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِاسْتِوَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ وَرَقَبَةِ عَبْدِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ أَرْفَقَ الرَّاهِنُ مَنْفَعَتَهُ فِيمَا اسْتَأْذَنَ بِهِ مِنْ رَهْنِ رَقَبَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ وَكَانَتْ ذِمَّةُ السَّيِّدِ بَرِيَّةً مِنْ حَقِّ مُرْتَهِنِهِ انْصَرَفَ عَنِ الضَّمَانِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ إِلَى العارية لاختصاصه بِالْمَنْفَعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَةِ عَبْدِهِ كَمِلْكِهِ لِذِمَّةِ نَفْسِهِ ثُمَّ كَانَ لَوْ جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ كَانَ ضَمَانًا وَلَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَجَبَ إِذَا جُعِلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُوَثَّقًا في رقبة عبده أن يكون ضمانا لا تكون عَارِيَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَارِيَةَ تَخْتَصُّ بِالْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانَ يَخْتَصُّ بِالْوَثِيقَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ لَمْ يَكُنْ عَارِيَةً وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوَثِيقَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَرَهْنُهُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَالرَّهْنُ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بَعْدَ تَمَامِهِ فَلَمَّا تَنَافَيَا حُكْمُ الْعَارِيَةِ وَالرَّهْنُ لَمْ يَصِحَّ إِعَارَةُ الرَّهْنِ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَائِزَةً وَلَازِمَةً، فَالْجَائِزَةُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَاللَّازِمَةُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا كَإِعَارَةِ حَائِطٍ لِوَضْعِ جُذُوعٍ وَإِعَارَةِ أَرْضٍ لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدِ الرَّهْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ رَهْنِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ جَازَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَمَالِكِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِمَنْفَعَةِ الْعَارِيَةِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا، فَلَوْ أُذِنَ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ مَعْلُومٍ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ لِمُسْتَعِيرِهِ أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 يُخَالِفَ نَعْتَ مُعِيرِهِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ لِجِنْسِ الْحَقِّ وَقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَالِكِ الْحَقِّ وَجْهَانِ: فَأَمَّا جِنْسُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لِيَعْلَمَ جِنْسَ مَا ضَمِنَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ وَأَمَّا قَدْرُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِائَةٌ أَوْ أَلْفٌ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَمَّا ضَمِنَهُ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ. وَأَمَّا وَصْفُ الْحَقِّ فَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ حَالٌ أَوْ مؤجل؛ لأن الجهالة يوصفه كَالْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ وَجِنْسِهِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَالِكِ الْحَقِّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الضَّمَانِ هَلْ تَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قُلْنَا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ شرطا في صحة الضمان جاز جهله بِالْمُرْتَهِنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَرَهَنَهُ كَذَلِكَ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ وَلَزِمَ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الْجِنْسِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْقَدْرِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْوَصْفِ أَوْ يُخَالِفَهُ فِي الْمَالِكِ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِنْسِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَنَانِيرَ فَيَرْهَنُهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ فِي دَرَاهِمَ فَيَرْهَنُهُ بِدَنَانِيرَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. لِأَنَّنَا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَمَنْ ضَمِنَ دَنَانِيرَ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَمَنْ أَعَارَ لِمَنْفَعَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَةِ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْقَدْرِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِأَلْفٍ فَيَرْهَنُهُ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَقَلَّ مَنْ أَلْفٍ جَازَ رَهْنُهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْأَلْفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصِّفَةِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِدَيْنٍ حَالٍ فَيَرْهَنُهُ فِي مُؤَجَّلٍ أَوْ فِي مُؤَجَّلٍ فَيَرْهَنُهُ فِي حَالٍ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. لِأَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي حَالٍ فَرَهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدِمِ الضَّمَانُ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِنْ أَذِنَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ فِي مُؤَجَّلٍ فَرَهَنَهُ فِي حَالٍ فَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 مَنْ أَعَارَ شَيْئًا لِيُنْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَفَعَ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ قُلْنَا يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِنْ ضَمِنَ شَيْئًا إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْمَالِكِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ عِنْدَ زَيْدٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ لِزَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَرْهُونًا عِنْدَ غَيْرِ مَنْ أُذِنَ لَهُ، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ مَنِ ارْتَهَنَهُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الِارْتِهَانِ لِزَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَلَّا يُوضَعَ عَلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ وَيُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَهْنَهُ لَا يَصِحُّ إِذَا خَالَفَهُ فَرَهَنَهُ رَهْنًا صَحِيحًا كَمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخَلَاصِهِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِخَلَاصِهِ وَيُطَالِبَهُ بِفَكَاكِهِ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ، فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَلِلضَّامِنِ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِفَكَاكِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَكَاكِهِ لِأَنَّ الضَّامِنَ إِلَى أَجَلٍ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِفَكَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ وَالثَّانِي أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُفَكَّ مِنَ الرَّهْنِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِإِبْرَاءِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ، خَلَصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ الرَّاهِنُ عَنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ بِقَضَاءِ الْحَقِّ، نُظِرَ فَإِنْ فَكَّهُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ قَلِيلًا كَانَ الْحَقُّ أَمْ كَثِيرًا، وَإِنِ افْتَكَّهُ بِقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الرَّاهِنِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ كَمَنْ ضَمِنَ عَنْهُ حَقًّا بِأَمْرِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا غَرِمَهُ فِي ضَمَانِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي افْتَكَّهُ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ مَا أَعَارَهُ وَلَا تُوجِبُ غُرْمَ مَا تعلق بالمعار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ فِي الرَّهْنِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا لِكَوْنِ الرَّاهِنِ مُعْسِرًا وَإِمَّا لِيَصِيرَ بِهِ مُوسِرًا فَإِذَا بِيعَ وَقَضَى بِهِ الْحَقَّ الْمَرْهُونَ فِيهِ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا بِيعَ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: أَنْ يُبَاعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُبَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ. فَإِنْ بِيعَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَالضَّامِنُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّى وَهُوَ أَلْفٌ. فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَإِنْ بِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَفِيمَا يَضْمَنُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيُرْجَعُ به على المالك المغير قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِأَلْفٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثاني: أنه يستحق الرجوع بألف ومائة وإذا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ. وَإِنْ بِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَيُبَاعُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْمَالِكُ المعير قولان: أحدهما: أنه يستحق الرجوع بألف إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِتِسْعِمِائَةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَلَوْ بَقِيَ لِلْمُرْتَهِنِ بَقِيَّةٌ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْمُعِيرِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَالْمُعِيرُ لَا يَلْزَمُهُ غُرْمٌ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الضَّمَانِ فَهُوَ إِنَّمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ فِيمَا ضَاقَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 عَنْهُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَوْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ فَضْلَةٌ كَانَ الْمَالِكُ أَحَقَّ بِهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُهَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُتْلَفَ فِي الرَّهْنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا وَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الرَّهْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى رَاهِنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَدَّى عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَالِفًا مِنْ مَالِ مَالِكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَعِيرِهَا فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّلَفِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، فَإِذَا قَبَضَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِبُطْلَانِ الرَّهْنِ بِتَلَفِهِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا غَصْبٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا كان تلف بِالْقِيمَةِ كَالْجِنَايَةِ كَانَتِ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ فَهَلَّا كَانَتِ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رَهْنًا مَكَانَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَانِيَ عَلَى الرَّهْنِ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَعِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا يُغْرِمُهُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِالْإِتْلَافِ فَلَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِالْإِتْلَافِ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ فِي الرَّهْنِ قَائِمَةً مَقَامَ الرَّهْنِ، وَقِيمَةُ الْعَارِيَةِ وَاجِبَةً بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِالتَّلَفِ فَلَمْ تَكُنِ الْقِيمَةُ رَهْنًا يَبْطُلُ بِالتَّلَفِ كَمَا لَوْ بِيعَ بِثَمَنٍ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ رَهْنًا وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالْبَيْعِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 أحدهما: أن يكون بجناية عمدا يوجب القود. والثاني: أن تكون جناية خطأ يوجب الْمَالَ. فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِالْقِصَاصِ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَبَدَلَ الْمِلْكِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً تُوجِبُ الْمَالَ كَانَ الْجَانِي ضَامِنًا لِأَرْشِهَا وَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ فَإِذَا اسْتَحَقَّهُ وَضَعَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ بِكَوْنِهِ رَهْنًا مَكَانَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ الْمُسْتَعِيرَ يَكُونُ ضَامِنًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْجَانِي أَوِ الرَّاهِنِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنْ أُغْرِمَ الْجَانِي لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَكَانَ الْأَرْشُ رَهْنًا مَكَانَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِ الْفَاضِلِ عَلَى قِيمَتِهِ وَتَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ لَا غَيْرَ رَهْنًا مَكَانَهُ. فَإِنْ أُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. فَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ جَمِيعَهَا وَلِلْمُسْتَعِيرِ إِذَا غَرِمَهَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَكْبَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُغْرِمَ الْمُسْتَعِيرَ قَدْرَ قِيمَتِهِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَيُغْرِمَ الْجَانِي مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنَ الْأَرْشِ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ تَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا مَكَانَهُ دُونَ الزِّيَادَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ جَنَاهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ بِيعَ فِيهَا وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ مُسْتَوْعِبًا لِقِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونُ ضَامِنًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مجرى الضمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 وَالثَّانِي: يَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ اخْتَصَّ الْمَالِكُ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى بَعْضِهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ يَكُونَ الْأَرْشُ الَّذِي بِيعَ فِيهِ يُقَابِلُ قِيمَةَ بَعْضِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَاقِي رَهْنًا بحاله وهل يَكُونُ الرَّاهِنُ الْمُسْتَعِيرُ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِلسَّيِّدِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ عَبْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا مَنَافِعُ الرَّهْنِ فَهِيَ مِلْكٌ لِرَاهِنِهِ دُونَ مُرْتَهِنِهِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الرَّهْنَ لِيَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لِمَنَافِعِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ لِيَتَوَلَّى الْمُسْتَعِيرُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِذَا كَانَتْ دَارًا سَكَنَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً رَكِبَهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا اسْتَخْدَمَهُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ: لَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالرَّهْنِ الصَّغِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُعِيرَهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إِذَا عَادَ إِلَى يَدِهِ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ جُحُودُ مُرْتَهِنِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ، لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ بِإِجَارَتِهِ وَإِعَادَتِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى يَدِهِ خَوْفًا مِنْ جُحُودِ مُرْتَهِنِهِ لَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ خُرُوجِهِ إِلَى يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ، عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لَا تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ عِنْدَ جُحُودِ رَاهِنِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ وَكَانَ الْجُحُودُ غَيْرَ مَأْمُونٍ مِنْهُ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَوَّزَ لَهُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَكَانَ الجحود مأمونا عنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْخَصْمُ فِيمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَإِنْ أَحَبَّ الْمُرْتَهِنُ حَضَرَ خُصُومَتَهُ فَإِذَا قَضَى لَهُ بِشَيْءٍ أَخَذَهُ رَهْنًا وَلَوْ عَدَا الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ، الْمُطَالِبُ بِمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الراهن دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطَالِبُ بِهِ وَالْخَصْمُ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ له حق المطالبة كالمالك والدليل بِنَاؤُهُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ لِمَالِكِهِ كَغَيْرِ الرَّهْنِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ تُوجِبُ الْقَوَدَ تَارَةً وَالْمَالَ أُخْرَى ثُمَّ أَنَّهَا لَوْ أَوْجَبَتِ الْقَوَدَ كَانَ الْخَصْمُ فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ مِلْكِهِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَتِ الْمَالَ يَجِبُ أن يكون بالخصم فِيهَا الرَّاهِنَ لِحَقِّ الْمِلْكِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي الْعَمْدِ كَانَ خَصْمًا فِي الْخَطَأِ كَغَيْرِ الْمَرْهُونِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَصْمًا فِي غَيْرِ الْمَرْهُونِ كَانَ خَصْمًا فِي الْمَرْهُونِ كَالْعَمْدِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مَنْ بَنَاءِ عَلَى أَصْلِهِ فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَقِّ الْيَدِ فَيَنْتَقِضُ بِالْمُسْتَأْجِرِ لَهُ يَدٌ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَصْمَ فِي الْجِنَايَةِ هُوَ الرَّاهِنُ فَلِلْمُرْتَهِنِ حُضُورُ خُصُومَتِهِ لِيَرْتَهِنَ مَا يُقْضَى بِهِ مِنْ أَرْشٍ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يُنْكِرَهَا فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْجِنَايَةِ نُظِرَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَيْهَا، كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَوَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ وَكَذَّبَهُ الْمُرْتَهِنُ كَانَ الْأَرْشُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُرْتَهِنُ وَكَذَّبَهُ الرَّاهِنُ كَانَ الْأَرْشُ الْمَأْخُوذُ وَثِيقَةً لِلْمُرْتَهِنِ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ وَجَبَ رَدُّ الْأَرْشِ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ الْأَرْشِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأَرْشِ لِكَوْنِهِ وَثِيقَةً فِيهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْأَرْشِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ بَقِيَّةٌ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْجَانِي. فَهَذَا حُكْمُ اعْتِرَافِ الْجَانِي. وَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ بِمُوجِبِهَا فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَهَلْ يَجِبُ إِحْلَافُ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَانِي إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ أَوْ تَكُونَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً يُوجِبُ الْمَالَ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ قَبْضُ أَرْشِهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ خَصْمًا فِيهِ فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِأَرْشِهَا وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 يُثْبِتَ عَلَى الْجَانِي مَا وَجَبَ بِهَا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ مَا كَانَ قَابِضًا لِلرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ بَرِئَ الْجَانِي وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَدْلِ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ، وَإِنْ عَفَا الْمُرْتَهِنُ عَنِ الْأَرْشِ دُونَ الرَّاهِنِ بَطَلَتْ وَثِيقَةُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْأَرْشِ وَلَمْ يَبْرَأِ الْجَانِي وَكَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ الْأَرْشَ دُونَ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَدْلَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَرْشَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ قَدْ أَبْطَلَ وَثِيقَتَهُ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْعَدْلِ نِيَابَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ عَفْوَ الرَّاهِنِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ، وَعَفْوُ الْمُرْتَهِنِ يُبْطِلُ وَثِيقَتَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ حَجْرًا عَلَيْهِ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الرَّاهِنِ فَلِلْعَدْلِ قَبْضُ الْأَرْشِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ نِيَابَةِ الْعَدْلِ عَنِ الرَّاهِنِ إِذْ عَفْوُهُ لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ عَنِ الْأَرْشِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنَ الْأَرْشِ كَانَ الْفَاضِلُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْعَفْوُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الْمَالِ فَإِنِ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْمُرْتَهِنُ. وَقَالَ أبو حنيفة لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْتَصَّ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الرَّهْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الرَّهْنِ. وَإِنِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الْمَالَ وَعَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا مَضَى فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْبِضَهُ وَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهِ مَنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ. فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ مَعًا فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَهَلْ يَصِحُّ عَنِ الْمَالِ أم لا على قولين مضيا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا بِدَنَانِيرَ وَعَبْدًا بِحِنْطَةٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَتِ الْجِنَايَةُ هَدَرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقَّيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَقَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسَيْنِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَهْنًا على عشرين دينارا والآخر رهنا على كسر حنطة، فإن كان قيمة الحنطة عشرين دينار فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَكْثَرَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدَيْنِ إِذَا رُهِنَا بِحَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مُشْرِكٍ مُصْحَفًا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى يدي مسلم ولا بأس برهنه مَا سِوَاهُمَا رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - درعه عند أبي الشحم اليهودي (قال الشافعي) في غير كتاب الرهن الكبير: إن الرهن في المصحف والعبد المسلم من النصراني باطل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، كُلُّ شَيْءٍ جاز أن يملكه الْمُشْرِكُ جَازَ أَنْ يُرْهَنَ عِنْدَ الْمُشْرِكِ كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالْمَوَاشِي وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثَاثِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَهَنَ دِرْعِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالضَّمَانِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُشْرِكُ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ إِذَا رَهَنَهُ مُسْلِمٌ عِنْدَ مُشْرِكٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدَيِ الْمُشْرِكِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَاطِلًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مَحْظُورٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ فَيَكُونُ رَهْنُهُ جَائِزًا لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ مُبَاحٌ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا رَهْنَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْأُمِّ، أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ وَالثَّانِي جَائِزٌ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ لَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ الرَّهْنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ الْمُشْرِكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَرَّ يَدُهُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مُصْحَفٍ فَوَجَبَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ مُسْلِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 (باب اختلاف الراهن والمرتهن) قال الشافعي رضي الله عنه: " ومعقول إذا أذن الله جل وعز بِالرَّهْنِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ وَشَرْحٍ. أَمَّا قَوْلُهُ وَمَعْقُولٌ فَيَعْنِي أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ وَثِيقَةً بِنَصِّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا عُقِلَ اسْتِنْبَاطًا مِنْ إِبَاحَتِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَوْضِعٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعْقُولٌ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَعْقُولَ الشَّرْعِ، لَا مَعْقُولَ الْبَدِيهَةِ وَالْعَقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْنِ فَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ، وَقَوْلُهُ زِيَادَةٌ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَكَقَوْلِهِ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَقِيلَ: بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ صِلَةً، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَثِيقَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ زِيَادَةٌ مَعَ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ وَثِيقَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِإِبَاحَةِ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ وَثِيقَةٌ، فَصَارَ الرهن وثيقة زايدة مَعَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ الْحَقَّ بعينه ولا جزء مِنْ عَدَدِهِ فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى أبي حنيفة فِي إِيجَابِهِ ضَمَانَ الرَّهْنِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ وَلَا جزء مِنْ عَدَدِهِ فَلِمَ أُبْطِلَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ أَبْرَأَ الرَّاهِنَ ومِنَ الرَّهْنِ بَرِئَ مِنْهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ لَكَانَ إِذَا بَرِئَ مِنْهُ بَرِئَ مِنَ الْحَقِّ. وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا جُزْءًا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ ولو كان جزءا منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 لكل زِيَادَةٍ فِي الْقَرْضِ وَالزِّيَادَةُ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَهَذَا تَفْصِيلُ كَلَامِهِ وَبَيَانُ شَرْحِهِ، وَمَا قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِضَمِيرِ قَلْبِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَعْرِفَانِهِ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ جَائِزٌ، فَإِنْ بَاعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا وَكَانَ الرَّهْنُ مُعَيَّنًا كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَالرَّهْنُ جَائِزًا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنما جَازَ اشْتِرَاطُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مَعَ الْعَقْدِ لِأَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يَلْزَمُ مَعَ الْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْأَجَلِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ جَائِزًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعَقْدِ جَائِزًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ مُوجِبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ جَازَ اشْتِرَاطُهُ فِيهِ كَالْخِيَارِ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ لِمُوجِبِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا وَضْعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِهِ مَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا حَصَلَ الرَّهْنُ بِيَدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ. فَفِي الرَّهْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّ الْيَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهَذَا أَصَحُّ أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ لِمَا لَمْ يَلْزَمْ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَإِلَّا اخْتَارَ لَهُمَا الْحَاكِمُ عَدْلًا وَأَمَرَهُمَا بِوَضْعِهِ عَلَى يده. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ تَامًّا حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَوِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبِرْهُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي إِتْمَامِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ دون الرهن ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَعَلَى أبي حنيفة فِي أُخْرَى. أَمَّا عَلَى مَالِكٍ فَقَوْلُهُ: إِنَّ الرَّهْنَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا عَلَى أبي حنيفة فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الرَّهْنَ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ أُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى قَبْضِهِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَإِنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ حَقَّهُ لَزِمَهُ وَسَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بلا رهن وبين فسخه لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ حَتَّى شَرَطَ رَهْنًا يَتَوَثَّقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّوَثُّقُ بِالرَّهْنِ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَهَذَا الْخِيَارُ يَجِبُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ وَالِامْتِنَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الطلب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ لَهُ فَلَهُ رَدُّ الْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الضَّمَانُ فَهُوَ أَحَدُ الْوَثَائِقِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّمَنِ ضَامِنًا مُعَيَّنًا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ كَالرَّهْنِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الضَّامِنُ الْمَشْرُوطُ سَقَطَ خِيَارُ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْبَارِ وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا ضَمَانٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ فِي شَرْطِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُقِيمُ لَكَ بِالثَّمَنِ ضَمِينًا غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِضَمَانِ الثَّانِي وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ لِاخْتِلَافِ الذِّمَمِ وَفَقْدِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَأَلَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ ضَمِينًا غَيْرَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِالشَّرْطِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ شَهَادَةَ شَاهِدِينَ مُعَيَّنَيْنِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ لَازِمٌ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، فَإِنْ أَشْهَدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِشْهَادُ غَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِمَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الضَّامِنُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ إِقَامَةُ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ بِمَوْتِهِ، وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ إِشْهَادِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمَا، لَمْ يُجْبَرِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا، وللبائع الخيار لفقد شرطه، فو أَشْهَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ غَيْرَهُمَا مِنَ الشُّهُودِ الْعُدُولِ. فَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ وَجْهَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَامِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ الرِّضَا بِضَمَانِ غَيْرِهِ وَإِذَا شَرَطَ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَخْذُ رَهْنٍ غَيْرِهِ، كَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ قَدْ أُسْقِطَ بِإِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ الْمُعَيَّنَيْنِ الْمَشْرُوطَيْنِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اشْتِرَاطُ شَاهِدَيْنِ غَيْرِ مُعَيَّنَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنَا وَإِنْ شَرَطَا مُعَيَّنَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَزِمَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّمَانِ وَالرَّهْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذِمَمِ الضُّمَنَاءِ وَقِيَمِ الرُّهُونِ. وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشُّهُودِ، وَلِهَذَا لَوْ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ فَعَدَلَ عَنْ إِشْهَادِهِمَا إِلَى إِشْهَادِ غَيْرِهِمَا كَانَ خِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، والله أعلم بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ يَكُونُ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مُعَيَّنًا أَوْ ضَمِينًا مَعْرُوفًا ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ أَوْ قَبُولِ الضَّمَانِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبْضِ أَوِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِامْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَبُولِ الضَّمَانِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبْضِ الرَّهْنِ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ. وَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا أبو حنيفة فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ عَلَى مُرْتَهِنِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ مَنْ قَبْضِهِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ بِحَقِّهِ فَثَبَتَ لِلرَّاهِنِ الْخِيَارُ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ يُسْقِطُ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ الضَّمَانِ صَارَ مُمْتَنِعًا مِنْ نَقْلِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَشَرْطُ الضَّمَانِ قَدْ أَلْزَمَهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ فَثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا أَنَّهَا وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ قَبُولِهَا مُوجِبًا لِخِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ النَّقْصَ فِي صِفَةِ الْبَيْعِ نَقْصَانِ، نَقْصٌ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْبَائِعِ، وَنَقْصٌ فِي الْمُثَمَّنِ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي. فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي الْمُثَمَّنِ بِظُهُورِ الْعَيْبِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْبَائِعِ لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي الثَّمَنِ لِعَدَمِ الْوَثِيقَةِ إِذَا أَوْجَبَ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يُوجِبْ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ مَا ثَبَتَ مِنْ خِيَارِ الْبَائِعِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَا جَهِلَا الرَّهْنَ أَوِ الْحَمِيلَ فَالْبَيْعُ فاسد (قال المزني) قلت أنا هذا عندي غلط الرهن فاسد للجهل به والبيع جائز لعلمهما به وللبائع الخيار إن شاء أتم البيع بلا برهن وإن شاء فسخ لبطلان الوثيقة فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا مَجْهُولًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا، كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ فَاسِدَيْنِ مَا لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَعَيُّنِهِ بِالشَّرْطِ كَالْأَثْمَانِ وَالْعُرْفُ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ بِقِيمَةِ الْحَقِّ، وَفِي الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّهَا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِأَنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا مُعَيَّنًا، وَلَيْسَ الضَّمَانُ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ كَالْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ جَهَالَةُ الْمَبِيعِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَرْهُونِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة: أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الضَّمَانِ، أَصْلُهُ إِذَا شَرَطَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَنْ شَاءَ زَيْدٌ. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَمَّا لم يتعين بِالتَّعَيُّنِ جَازَ إِطْلَاقُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ بِالتَّعَيُّنِ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعُرْفِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ إِنَّمَا تتعين مِنْهَا بِالْعُرْفِ وَصْفُهَا دُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 قَدْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الرُّهُونُ فِي تَعْيِينِ قَدْرِهَا وَوَصْفِهَا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْأَثْمَانِ وَاحِدٌ فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ، وَلَيْسَ جِنْسُ الرهن واحد فَيَصِحُّ تَعَيُّنُهُ بِالْعُرْفِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّهْنِ عُرْفٌ يَتَعَيَّنُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْهَنُ الْقَلِيلَ فِي الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرَ فِي الْقَلِيلِ، فَأَمَّا فَرْقُ أبي حنيفة بَيْنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي أَصْلِهِ كَمَا نُخَالِفُهُ فِي فَرْعِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَهَالَةَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ قَادِحَةٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ إِلَّا مُعَيَّنَيْنِ، فَالضَّامِنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنَّهُ تَضْمَنُ لِي هَذَا وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ تَسْمِيَةً أَنْ يَقُولَ عَلَي أَنْ يَضْمَنَ لَكَ هَذَا زَيْدٌ، وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ الْإِشَارَةِ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى. وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةً أَوْ تَسْمِيَةً كَقَوْلِهِ: عَلَى أن أرهنك عبدي أَوْ أُرْهِنَكَ عَبْدِي سَالِمًا، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ وَهَذَا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي السَّلَمِ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ عَبْدًا خُمَاسِيًّا وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهُ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي السَّلَمِ فَيَصِيرُ مُعَيَّنَ الْوَصْفِ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ عَبْدًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ صَارَ مُعَيَّنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إبداله بعد قبضه بعيد عَلَى وَصْفِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ تَعَيُّنَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ بِمَا وَصَفْنَاهُ، فَشَرَطَ فِي الْبَيْعِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا صَحَّ، وَإِنْ شَرَطَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا مَجْهُولًا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، فَقَدْ صَارَ الشَّرْطُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَالْأَجَلِ، ثُمَّ كَانَ الْجَهْلُ بِالْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُعَرَّى مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يَنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ، كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْعَقْدِ، لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ، وَلِهَذَا فَارَقَ فَسَادَ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ فَسَادُهُ فِي الْعَقْدِ مُفْسِدًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: الرَّهْنُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِهِ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَهَالَةِ فِي الرَّهْنِ وَفَسَادَهُ يُوجِبُ دُخُولَهُ الْجَهَالَةَ فِي الثَّمَنِ المضمون به، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ كَانَ فَاسِدًا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعْلُومًا يَعْرِفَانِهِ جَمِيعًا بِعَيْنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ رَهْنَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا قَالَ: أُرْهِنُكَ أَحَدَ عَبِيدِي، أَوْ أَحَدَ عَبْدَيَّ هَذَيْنِ، فَالرَّهْنُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَالْجَهَالَةُ حَاصِلَةٌ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الرَّهْنُ مِنَ الْعَبْدَيْنِ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا، إِذْ لَيْسَ بِمَوْصُوفٍ، وَلَا مُعَيَّنٍ، وَلِأَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ جَوَازَ بَيْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ جَوَازَ رَهْنِهِ كَرَهْنِ مَا فِي الصندوق أو القفل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصَابَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالرَّهْنِ عَيْبًا فَقَالَ كَانَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَنَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَحْدُثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَجَدَ الرَّهْنَ مَعِيبًا، فَادَّعَى الْمُرْتَهِنُ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ لِيَفْسَخَ بِهِ الْبَيْعَ، وَادَّعَى الرَّاهِنُ حُدُوثَهُ لِيَمْنَعَ الْمُرْتَهِنَ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَلَّا يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي تَقَادُمِ الْعَيْبِ بِلَا يَمِينٍ، لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الرَّاهِنِ، فَإِنِ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ عَالِمًا بِهَذَا الْعَيْبِ، لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ بِادِّعَائِهِ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَقَدُّمِ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يُمْكِنَ تَقَدُّمُ مِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالشَّجَّةِ الدَّامِيَةِ إِذَا وُجِدَتْ بِهِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْضُ الرَّهْنِ سَابِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ بِلَا يَمِينٍ، لِعِلْمِنَا بِصِدْقِهِ وَكَذِبِ الْمُرْتَهِنِ. وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُمْكِنَ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَيُمْكِنَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِمَا يَدَّعِيهِ، عُمِلَ عَلَيْهَا. وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بِدَعْوَاهُ يُرِيدُ فَسْخَ عَقْدٍ قَدْ ثَبَتَ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدَّعِي تَقَدُّمَ عَيْبٍ لَمْ يُشَاهِدْهُ إِلَّا فِي يَدِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخٌ، وَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قتل الراهن بردة أو قطع بِسَرِقَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ (قال المزني) قلت أنا في هذا دليل أن البيع وإن جهلا الرهن أو الحميل غير فاسد وإنما له الخيار في فسخ البيع أو إثباته لجهله بالرهن أو الحميل وبالله التوفيق. (قال الشافعي) وإن كان حدث ذلك بعد القبض لم يكن لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ حَالَ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ وَالسَّارِقِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْمَوْضِعُ، فَإِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِرِدَّةٍ أَوْ قِصَاصٍ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الرِّدَّةِ وَالْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً، فَإِذَا كَانَتْ حَادِثَةً فَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ، لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ كَحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ، فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِرِدَّتِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ يَجْرِي قَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِالسَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ الْقَبْضِ، نُظِرَ فِي حَالِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِسَرِقَتِهِ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ على رده. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ فِي يَدَيْهِ وَقَدْ دَلَّسَ لَهُ فِيهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِمَا فَاتَ مِنَ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَلَّسَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حَتَّى خَفِيَ عليه، ثم علم المرتهن به فلا يخل حَالُ الرَّهْنِ بَعْدَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِأَجْلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَيْبِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ فِيمَا ابْتَاعَهُ عَيْبٌ. وَإِذَا بَذَلَ لَهُ الرَّاهِنُ أَرْشَ الْعَيْبِ لِيَزُولَ عَنْهُ الضَّرَرُ، فَيَمْتَنِعَ مِنَ الْفَسْخِ، لَمْ يَلْزَمِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الْمُرْتَهِنَ قَبُولُ الْأَرْشِ، وَكَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، لِاسْتِحْقَاقِهِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ رَدَّ مَا ابْتَاعَهُ لِوُجُودِ الْعَيْبِ. وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْأَرْشَ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى حَدَثَ عِنْدَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ آخَرُ، كَانَ لَهُ فَسْخُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ إِذَا حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَيْبَ الْمَبِيعِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ، وَلَيْسَ عَيْبُ الرَّهْنِ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ضَمَانِهِ، وَكَانَ لَهُ رَدُّهُ بَعْدَ حُدُوثِ عَيْبِهِ. فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْبِ حَتَّى ارْتَفَعَ فِي يَدِهِ، كَانَ فِي خِيَارِهِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ، اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ فِي الِانْتِهَاءِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا قَبْلَ عِلْمِ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْبِهِ، كَعَبْدٍ مَاتَ فِي يَدِهِ، أَوْ ثَوْبٍ سُرِقَ مِنْ حِرْزِهِ، ثُمَّ عَلِمَ حِينَئِذٍ بِعَيْبِهِ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِفَوَاتِ رَدِّهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِأَرْشِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ؟ فَهَلَّا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِأَرْشِهِ عِنْدَ فَوَاتِ رَدِّهِ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَلِيمًا أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا، ولما لم يجبر الراهن على تسليم الراهن سَلِيمًا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِ أَرْشِهِ مَعِيبًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ دَفْعُ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَرْشِ لِفَوَاتِ رَدِّ الرَّهْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْأَرْشِ تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُوَثَّقٌ فِي ذِمَّةِ رَاهِنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِ رَاهِنِهِ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ رَدُّ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ رَدِّ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبٍ كَانَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَدْ أَوْجَبَ مَالًا، تَرَكَ مَكَانَهُ رَهْنًا، وَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ فَاتَ رَدُّ العبد بعينه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 فَقَدْ رَدَّ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْجَبَ قِصَاصًا، اقْتُصَّ لَهُ مِنْ قَاتِلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي اقْتِصَاصِ سَيِّدِهِ وَاسْتِرْجَاعِ بَدَلِهِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ خُرُوجِهِ بِالْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ مِنْ يَدِهِ، فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ الْفَسْخُ إِذَا عَلِمَ بِعَيْبِهِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ بِيعَ الرَّهْنُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِتَقَدُّمِ عَيْبِهِ، لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُرْتَهِنُ بِعَيْبِهِ، تَكُونُ الْقِيمَةُ الْمَأْخُوذَةُ قَائِمَةً مَقَامَ رَدِّهِ بِعَيْبِهِ، وَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ عَاوَضَ عَلَيْهِ سَلِيمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَقْصُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَيْبُهُ إِلَّا بَعْدَ نُفُوذِ بَيْعِهِ كَالْمُشْتَرِي إِذَا بَاعَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخٌ وَلَا أَرْشٌ، وَلَيْسَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ قِيمَتُهُ الَّتِي كَانَ يَسْوَاهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ مَعَ نَقْصِهِ بِالْعَيْبِ فَافْتَرَقَا. فَلَوْ أَنَّ مُشْتَرِيَ الرَّهْنِ ظَهَرَ عَلَى عَيْبِهِ فَرَدَّهُ بِهِ، وَطَالَبَ بِرَدِّ ثَمَنِهِ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ يَدِ الْعَدْلِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالثَّمَنِ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِسَلَامَةِ الثَّمَنِ لَهُ وَارْتِفَاعِ ضَرَرِ النَّقْصِ عنه، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ فَتَطَوَّعَ المشتري فرهنه فلا سبيل له إلى إخراجه مِنَ الرَّهْنِ وَبَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، التَّطَوُّعُ بِالرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ جَائِزٌ كَجَوَازِهِ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِهَا كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهِ إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ، فَصَحَّ عَقْدُهُ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي فَأَعْطَى الْبَائِعَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَيْهِ، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ بِإِقْبَاضِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي انْتِزَاعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْحَقِّ كُلِّهِ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَحْكَامِ هَذَا الرَّهْنِ كَأَحْكَامِ الرَّهْنِ للشروط فِي الْبَيْعِ. إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ الْمُرْتَهِنَ إِذَا بَانَ لَهُ بِالرَّهْنِ عَيْبٌ مُتَقَدِّمٌ لَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ. وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فَقَدْ دَخَلَ عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 بِظُهُورِ الْعَيْبِ نَقْصٌ، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ تَطَوَّعَ بها المشتري. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الْمَبِيعَ إِلَا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا عَلَى الْمُشْتَرِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ مَا ابْتَاعَهُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ، كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا، وَبَيْعًا بَاطِلًا أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عُقِدَ الرَّهْنُ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا ابْتَاعَهُ، إِمَّا بِالْعَقْدِ، وَالِافْتِرَاقِ، أَوْ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَهُوَ عَقَدَ الرَّهْنَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ، فَكَانَ رَهْنًا لَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَالرَّهْنُ قَبْلَ الْمَلِكِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ فَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالتَّعَدِّي كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ. فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ الْمَضْمُونَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ بِالثَّمَنِ، صَارَ مُشْتَرِطًا فِي الرَّهْنِ ضَمَانًا يُنَافِيهِ فَبَطَلَ. فَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَعَقْدَ الرَّهْنِ يُوجِبُ حَبْسَ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا فَقَدْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ، وَبُيُوعُ الْأَعْيَانِ بشرط تأخير التسليم باطلة. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقُلُ مَنَافِعَ الْمَبِيعِ للمشتري كَمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَإِذَا شَرَطَ ارْتِهَانَ الْمَبِيعِ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ: ارْتِهَانُ الْمَبِيعِ إِنَّمَا هُوَ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ ما باعه حتى يقبض ثَمَنَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ، كَانَ مَعَ شَرْطِ ارْتِهَانِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنُ يَنْفِي ضَمَانَ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: أَنِ الْمَبِيعَ الْمَحْبُوسَ عَلَى ثَمَنِهِ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ تَأَخُّرِ ثَمَنِهِ وَالرَّهْنُ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ مَا رُهِنَ بِهِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَبَايَعَا سِلْعَةً بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا صَارَتْ فِي قَبْضِ المشتري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 رَهَنَهَا عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى ثَمَنِهَا، كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ رَهَنَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ وَأَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ شَرَطَ مَنْفَعَةَ مَا بَاعَهُ. (فَصْلٌ) فَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِغَيْرِ شَرْطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ رهنها قبل قبضها. عند بايعها أو غير بايعها، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ رَهَنَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ فَرَهْنُهُ غَيْرُ جَائِزٍ سَوَاءٌ رهنه عند البائع أو عند غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ فَلَا مَعْنَى لِارْتِهَانِهِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَلَا عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يجوز رهنه عند بائعه وغير بائعه، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ جَوَّزَ إِجَارَةَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ لَا مِنْ بَائِعِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِجَارَةِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ رَهْنَهُ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ وَرَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ رَهْنَهُ عِنْدَ بَائِعِهِ يُوجِبُ اسْتِدَامَةَ ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ الْمُنَافِي لِلرَّهْنِ، وَرَهْنَهُ عِنْدَ غَيْرِ بَائِعِهِ يَنْفِي هَذَا الضَّمَانَ، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أُرْهِنُكَ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَا فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ وَيَرُدُّ مَا زَادَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِمَنْ هُوَ لَهُ: أُعْطِيكَ بِحَقِّكَ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْحَقَّ مُؤَجَّلًا، أَوْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى سَنَةٍ فَقَالَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ: أُعْطِيكَ بِهِ رَهْنًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مُؤَجَّلًا إِلَى سَنَتَيْنِ فَفَعَلَا ذَلِكَ وَأَجَّلَا الْحَقَّ وَوَثَّقَاهُ بِالرَّهْنِ، فَالشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ بَاطِلٌ، وَالرَّهْنُ فَاسِدٌ. أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الأجل فلمعنيين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَنْفَرِدُ عَنِ الْعَقْدِ وَلَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ عَرَّى الْأَجَلَ هَاهُنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنِ الْأَجَلِ رِبًا، وَالرَّهْنُ عِوَضٌ مَأْخُوذٌ عَنِ الْأَجَلِ، فَلَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَ الشَّرْطُ فِي الْأَجَلِ، بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ فَالْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ حُلُولٍ أَوْ تأجيل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدَيْهِ قَبَضَ الرَّهْنَ جَعَلْتُهُ رَهْنًا وَلَمْ أَقْبَلْ قَوْلَ الَعَدْلِ لَمْ أَقْبِضْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِصَارٌ، وَصُورَتُهَا فِي مُتَبَايِعَيْنِ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ رَهْنًا يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَأَقَرَّ الرَّاهِنُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، وَأَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَأَنْكَرَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ الرَّهْنَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَالرَّهْنُ قَدْ تَمَّ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْعَدْلِ، لِأَنَّ مَنْ بِهِ يَتِمُّ الرَّهْنُ هُوَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ دُونَ الْعَدْلِ، وَقَدْ أَقَرَّا بِتَمَامِهِ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمَا مَقْبُولًا فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ، لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَلَا لِلرَّاهِنِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ غَيْرَ أَنَّ إِقْرَارَهُمَا بِالرَّهْنِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْعَدْلِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَدْلِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا قَبَضْتُهُ إِنِ ادَّعَيَاهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا حَلَفَ صَارَ الرَّهْنُ تَالِفًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَحْكُومٌ بِتَلَفِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَاهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا: فَلَا يَمِينَ عَلَى الْعَدْلِ، وَلَهُمَا أَنْ يَضَعَاهُ عَلَى يَدِ مَنْ يَرْتَضِيَانِهِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ، وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الراهن مع يمينه بالله ما أقبض، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ الَّذِي أَقَرَّ الْعَدْلُ وَالْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلِلرَّاهِنِ انْتِزَاعُهُ وَاسْتِرْجَاعُهُ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ قِيلَ لَهُ: إِنْ أُقْبِضْتَ الرَّهْنَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ إِقْبَاضِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ، بَيْنَ فَسْخِهِ أَوْ إِمْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا فَلَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَدْلِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ كُلَّ واحد منهما مقر بقبضه، وقد حكمنا بإقرار أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الرَّهْنِ، فَصَارَ مَقْبُوضًا بِالتَّعَدِّي فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ بِالتَّلَفِ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ وَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ فَلَا رُجُوعَ لِلْعَدْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاهِنَ ظَلَمَهُ بِهَا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الرَّهْنِ، فَإِنْ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَأَغْرَمَهُ قِيمَةَ الرَّهْنِ، فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَدْلِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْعَدْلَ أَمِينٌ، وَأَنَّ الرَّاهِنَ ظَالِمٌ، وَلِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ لِأَنَّ حُكْمَنَا عَلَيْهِ يُغَرِّمُ القيمة وهو حكم يرد الرَّهْنَ، فَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ مَانِعًا مِنَ الْفَسْخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الرَّاهِنُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْعَدْلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِرَدِّ الرَّهْنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْعَدْلُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّهْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ مِنْ قَبْلُ، أُمِرَ بِقَبْضِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ ثُمَّ تَلِفَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ تَالِفًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ: بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الرَّهْنَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الرَّاهِنُ مِنَ الْإِقْبَاضِ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ: لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْعَدْلِ بِقَبْضِهِ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَدْلِ عَزْمُ مَا تَلِفَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ وَالْمُرْتَهِنُ مُنْكِرٌ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ فَأَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا مَاتَ أَحَدُ مُتَعَاقِدَيِ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَازِمٌ، وَالْعُقُودُ اللَّازِمَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الرَّاهِنَ، فَقَدْ حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُؤَجَّلِ بِمَوْتِهِ وَالرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْحَقَّ مِنْ وَرَثَتِهِ أَوْ يُبَاعَ الرَّهْنُ إِنِ امْتَنَعَ الْوَارِثُ، لِيَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ، فَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، إِلَى أَجَلِهِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحَلُّ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ لَهُ، ثُمَّ ينظر في الرهن فإن كانت عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَجَبَ إِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِخْرَاجِهِ، ثُمَّ لِوَارِثِ الْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِالْحَقِّ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَمْ يَلْزَمِ الرَّاهِنَ إِقْرَارُ الرَّهْنِ فِي يَدِ وَارِثِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِ الْوَارِثِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ وَيَضَعَانِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، فَإِنْ تَمَانَعَا وَاخْتَلَفَا ارْتَضَى الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا، فَإِنْ مَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ ضَمِنَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَارِثُ الْمَيِّتِ عَلَى حَالِهِمَا، إِنْ أَحَبَّا أَنْ يُمْضِيَا الرَّهْنَ أَمْضَيَاهُ، لِأَنَّ الرَّهْنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمٍ. ثُمَّ هَلْ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ؟ حَتَّى إِنْ أَحَبَّا إِمْضَاءَ الرَّهْنِ، اسْتَأْنَفَاهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ المزني: قلت أنا وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ جُمْلَةً مُجْمَلَةً لَهَا تَفْصِيلٌ، وَبَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي تَأْوِيلِهَا خِلَافٌ. وَلِلْكَلَامِ فِيهَا مُقَدِّمَةٌ، فَمُقَدِّمَتُهَا وَمَا بِهِ يَنْكَشِفُ إِجْمَالُهَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي الْحَقِّ، وَفِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الرَّهْنِ، فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحَقِّ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَصْفِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ رَهَنْتَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا. فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ بَيْعٍ وَلَا قَرْضٍ، أَوْ يَقُولُ: أَقْرَضَتْنِي أَلْفًا وَلَمْ تُقْبِضْنِي وَرَهَنْتُكَ سَالِمًا عَلَى أَنْ تُقْبِضَنِي مَا أَقْرَضْتَنِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَاهَا، أَوْ مَا أَقْبَضَهُ الْأَلْفَ الَّتِي أَقْرَضَهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا حَلَفَ الرَّاهِنُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا رَهْنَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ، رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِخَمْسِمِائَةٍ وَمُنْكِرًا مَا زَادَ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَفْسِ مَا زَادَ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي الْحُكْمِ مِمَّا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ سَالِمٌ رَهْنًا بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا وَمُنْكِرًا أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ رَهْنًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ: بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا إِلَّا فِي خَمْسِمِائَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا أَوْ خَمْسَمِائَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ سَالِمٌ الْمَرْهُونُ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَمَا زَادَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ رَهْنًا بِالْأَلْفِ، اسْتِدْلَالًا بِالْعَادَةِ وَاسْتِشْهَادًا بِالْعُرْفِ، إِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ رَهْنًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". وَلِأَنَّ إِنْكَارَ الرَّاهِنِ مَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، أَغْلَظُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِيهَا مَعَ إِقْرَارِهِ بِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِشْهَادُ بِالْعُرْفِ فِي اعْتِبَارِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ فِي إِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ، لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهِ فِي إِثْبَاتِ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّ إِنْكَارَهُ الْأَلْفَ فِي جَمِيعِ الرَّهْنِ، أَعْظَمُ مِنْ إِنْكَارِهِ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعُرْفُ فِي الرَّاهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ، وَلَا فِي الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُوثَقُ بِذِمَّتِهِ إِلَّا بِرَهْنٍ، وَجَبَ إِذَا أَنْكَرَ الرَّهْنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الدَّعَاوَى لَا تَقْوَى بِالتَّعَارُفِ وَظُهُورِ الْحَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ دَعْوَى الْعَدْلِ التَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ الْغَوِيِّ فِي الشَّيْءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعَارُفِ صِدْقَ الْمُدَّعِي فِيهَا، وَدَعْوَى الْعَطَّارِ عَلَى الدَّبَّاغِ عِطْرًا لَا يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الْعَطَّارِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الرَّهْنِ يَخْتَلِفُ، فَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى الْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْهَنُ مَا فِيهِ نُقْصَانٌ عَنِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مَعَ اخْتِلَافِهِ مُعْتَبَرًا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا فِي أَلْفٍ حَالَّةٍ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَلْفَ حَالَّةً وَأَنَّ لَهُ أَلْفًا مُؤَجَّلَةً، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ، رَهَنْتَنِي سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ فِي الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا فِي الْأَلْفِ الْحَالَّةِ، وَيَخْرُجُ سَالِمٌ مِنَ الرَّهْنِ فِي الْمُؤَجَّلَةِ وَالْحَالَّةِ، أَمَّا الْحَالَّةُ فَبِيَمِينِ الرَّاهِنِ وَأَمَّا الْمُؤَجَّلَةُ فَبِإِنْكَارِ الْمُرْتَهِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ سَالِمًا رَهْنٌ بِهَا، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي حُلُولِهَا وَتَأْجِيلِهَا، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: هِيَ حَالَّةٌ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: بَلْ هِيَ مُؤَجَّلَةٌ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ، بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ حَالَّةٌ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفِ حَالَّةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ: بِاللَّهِ أَنَّ الْأَلْفَ مُؤَجَّلَةٌ، وَيَصِيرُ سَالِمٌ رَهْنًا فِي أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، هَلْ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي الْأَجَلِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الرَّهْنِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَتِهِ وَعَيْنِهِ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ، رَهَنْتَنِي عَبْدَكَ سَالِمًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، فَيَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، مَا رَهَنْتُكَ سَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا، وَيَصِيرُ الْأَلْفُ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ فَصُورَتُهُ، أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ: بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهَا عَبْدَكَ سَالِمًا، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: بِعْتَنِي دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا رَهْنَ بِهَا، فَيَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ. فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي شِرَاءَ الدَّارِ بِلَا رَهْنٍ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي عَقْدَ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، فَيَبْدَأُ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لِإِنْكَارِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَيَمِينَ الْبَائِعِ لِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرَّهْنِ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِلَا رَهْنٍ. ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَائِعُ، بِاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا بِرَهْنٍ، فَإِذَا حَلَفَا جَمِيعًا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْبَائِعَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَإِنْ حَلَفَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالثَّمَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 عَبْدَيْكَ سَالِمًا وَغَانِمًا فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ عَبْدِي سَالِمًا وَحْدَهُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ سَالِمٌ وَحْدَهُ رَهْنًا فِي الْأَلْفِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَحْدَهُ أَلْفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ سَالِمٍ وَغَانِمٍ مَعًا أَلْفًا، فَالْقَوْلُ قول المرتهن ويكون سالم غانم رَهْنًا وَقَدْ مَضَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي سَالِمًا وَغَانِمًا، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُرْهِنَكَ سَالِمًا دُونَ غانم، فإنهما يتحالفان ثم يكون البائع في البيع بالخيار بين إمضائه برهن سالم وحده وبين فسخه. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي صفة الرهن وعينه، فعلى ضربين أيضا: أحدهما: أن يكون بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: رهنتني عبدك سالما فِي الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: رهنتك عبدي غانما فِي الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ سَالِمًا، فإذا حلف خرج سالم بيمين الراهن، ولم يكن غانم في الرهن لإنكار المرتهن. والضرب الثاني: أن يكون قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحَقِّ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُرْتَهِنُ: بعتك داري بألف على أن ترهنني عبدك سالما، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُ دَارَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أرهنك عبدي غانما، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فإذا حلفا لم يكن سالم ولا غانم رهنا، والمرتهن بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فهذا حكم اختلافهما في الرهن، فإن اختلفا في الحق والرهن معا، كان اختلافهما في الحق على ما وصفنا وفي الرهن على ما بينا، وهذه مقدمة أوضحنا بها شرح المذهب، لنبني عليها كلام المزني واختلاف أصحابنا في تأويله. (فَصْلٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ فَصَحِيحٌ مُطَّرِدٌ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ قَالَ الْحَقُّ أَلْفٌ وَقَالَ الرَّاهِنُ الْحَقُّ خَمْسُمِائَةٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوِ ادَّعَى فِي الْحَقِّ رَهْنًا، وَأَنْكَرَهُ الرَّاهِنُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ مُرَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ بَعْدَ تَلَفِهِ. فَقَالَ الرَّاهِنُ: تَلِفَ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 أَيُّهَا الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِهِ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ تَلَفِ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي، فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ مَعَ يَمِينِهِ، بِاللَّهِ أَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: هُوَ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ، أَنَّ مُرَادَهُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: ابْتَعْتُهُ بِلَا رَهْنٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: مَا بِعْتُكَ إِلَّا بِرَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ أَنَّهُ لَزِمَهُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ، فَأَمَّا فِي تَلَفِهِ بِتَعَدٍّ أَوْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ أَحَدُهُمَا، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا هَذَا بِمِائَةٍ وَقَبَضْتُهُ مِنْكُمَا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَنِصْفُهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ فَإِنْ شَهِدَ شَرِيكُ صَاحِبِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ وَكَانَ عَدْلًا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ مَعَهُ وَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَلَا مَعْنَى فِي شَهَادَتِهِ نَرُدُّهَا بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلَيْنِ، أَنَّهُمَا رَهَنَاهُ عَبْدَهُمَا سَالِمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِمَا، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِمَا لَهُ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ، خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَاهُ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا، فَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا، فَإِنْ كَانَا يَعْتَرِفَانِ بِالْحَقِّ وَيُنْكِرَانِ الرَّهْنَ، كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمَا بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ كَانَا يُنْكِرَانِ الْحَقَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ، بَدَأَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ وَرُدَّتْ يَمِينُ النَّاكِلِ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا رُدَّتْ يَمِينُهُمَا عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا، فَإِذَا حَلَفَ لَهُمَا حُكِمَ عَلَيْهِمَا بِدَعْوَاهُ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا ادَّعَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، أَنْ يُصَدِّقَهُ أَحَدُهُمَا وَيُكَذِّبَهُ الْآخَرُ، فَتَكُونُ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عَلَى خَمْسِينَ، وَعَلَى الْمُكَذِّبِ الْيَمِينُ، فَإِنْ حَلَفَ، كَانَتْ حِصَّتُهُ خَارِجَةً مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ، رُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا بِمِائَةٍ، نِصْفُهُ بِتَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا بِخَمْسِينَ. وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُكَذِّبِ مِنْهُمَا رَهْنٌ بِخَمْسِينَ، فَأَيُّهُمَا قَضَاهُ خَمْسِينَ، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ، وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَكَانَتْ حِصَّةُ الْآخَرِ بَاقِيَةً مِنَ الرَّهْنِ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَدْلًا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَرِيكِهِ الْمُكَذِّبِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا تَجُرُّ لَهُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا، فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ مَعْنًى، فَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ عَدْلٌ آخَرُ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي، فَقَدْ كَمُلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُكَذِّبِ وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا لَهُمَا عِنْدَهُ عَلَى مِائَةٍ نِصْفُهُ بِالتَّصْدِيقِ وَنِصْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ، أَنَّهُ رَهَنَهُمَا عَبْدَهُ عَلَى مِائَةٍ لَهُمَا عَلَيْهِ، فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ، وَحَلَفَ الْمُكَذِّبُ فَلَوْ أَرَادَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ عَدْلٌ أَنْ يَشْهَدَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ، لَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ، لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِشَرِيكِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْهَدُ عَلَى شَرِيكِهِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا رَهَنَاهُمَا عَبْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا فَصَدَّقَا أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ، كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الرَّاهِنَيْنِ أَنْ يَحْلِفَا لِلْمُكَذِّبِ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَا، كَانَ نِصْفُهُ بَيْنَهُمَا خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ. فَلَوْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَدْلًا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا، فَإِذَا شَهِدَ حَلَفَ مَعَهُ الْمُرْتَهِنُ الْمُكَذِّبُ، وَصَارَ جَمِيعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، نِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا بِتَصْدِيقِ الرَّاهِنَيْنِ وَنِصْفُهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ الْمُكَذِّبِ رَهْنٌ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرَّاهِنَيْنِ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُهُ رَهْنٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالنِّصْفُ الثَّانِي مِنَ الْعَبْدِ وَهِيَ حِصَّةُ الْمُكَذِّبِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ إِذَا حَلَفَ. فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَكَذَّبَ الْمُرْتَهِنُ الْآخَرُ، وَكَذَّبَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَيْنِ مَعًا، كَانَ رُبْعُ الْعَبْدِ وَهِيَ نِصْفُ حِصَّةِ الرَّاهِنِ الْمُصَدِّقِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 الْمُرْتَهِنَيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ خَارِجَةٌ مِنَ الرَّهْنِ نِصْفُهُ لِمُكَذِّبِ الْمُرْتَهِنَيْنِ وَرُبْعُهُ لِمُكَذِّبِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ. فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الرَّاهِنَيْنِ أَحَدَ الْمُرْتَهِنَيْنِ، وَصَدَّقَ الرَّاهِنُ الْآخَرُ الْمُرْتَهِنَ الْآخَرَ، وَكَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّاهِنَيْنِ مَنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ، كَانَ نِصْفُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الرُّبُعُ رَهْنًا عِنْدَ مَنْ صَدَّقَهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ كَذَّبَهُ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقُوا أَحَدَ الثَّلَاثَةِ: كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدِّقِ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَهُوَ تُسْعُ الرَّهْنِ، عِنْدَ الْمُصَدِّقِ عَلَى ثُلُثٍ مِنَ الْمِائَةِ، وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ تُسْعُ الْمِائَةِ، خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَهِيَ تُسْعُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا عَاقَدُوا ثَلَاثَةً، جَرَى عَلَى عَقْدِهِمْ حُكْمُ عُقُودٍ تِسْعَةٍ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ الثَّلَاثَةِ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُصَدِّقِ وَهِيَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُسْعُ الْعَبْدِ رَهْنٌ عَلَى تُسْعِ الْمِائَةِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى أَرْبَعَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ. أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ لِأَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ فِي رُبْعِ رُبْعِ الْمِائَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَرُبْعٌ، فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعَ الأربعة، كانت حصة المصدق وهي ربع العبد رَهْنًا عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ رُبْعِ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَرُبْعٍ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى ثَلَاثَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَهُمْ، أَنَّهُمْ رَهَنُوهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَصَدَّقَ جَمِيعُ الْأَرْبَعَةِ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ كَانَ ثُلُثُ الْعَبْدِ رَهْنًا لِلْأَرْبَعَةِ عند المصدق من الثلاثة على ثلث المائة لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ رُبْعُ ثُلُثِ الْعَبْدِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى رُبْعِ ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ. فَلَوْ صَدَّقَ أَحَدُ الأربعة جميع الأربعة كانت حصة المصدق وهي رُبْعُ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ عَلَى رُبْعِ الْمِائَةِ، عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ رُبْعِ الْعَبْدِ وَاحِدٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَهْنٌ عَلَى ثُلُثِ الْمِائَةِ ثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ، فَهَذِهِ فُصُولٌ كَافِيَةٌ وَفُرُوعٌ مُقْنِعَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كَانَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْقَاضِي هِيَ الَّتِي فِي الرَهْنِ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ هِيَ الَّتِي بِلَا رَهْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفَانِ، أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَقَضَاهُ مِنَ الْأَلْفَيْنِ أَلْفًا، فَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً فِي الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَتْ كَذَلِكَ، وَخَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ جَعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَتْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَى حَالِهِ في الألف الأخرى وثيقة للمرتهن. فإن دَفَعَهَا مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَهَا فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي: إن لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً فِي أَيِّ الْأَلْفَيْنِ شَاءَ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الطَّلَاقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الرَّهْنُ فَذَلِكَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تكون قَضَاءً فِي الْأَلْفَيْنِ مَعًا، فَيَكُونُ نِصْفُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ قضاء من الألف التي ليس فيها الرهن، لِاسْتِوَاءِ الْأَلْفَيْنِ وَحُصُولِ الْإِبْرَاءِ بِالدَّفْعِ، فَلَمْ تَكُنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى. فَعَلَى هَذَا وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ الدَّفْعِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَتُعْتَبَرُ الْأَلْفُ الْمَدْفُوعَةُ قَضَاءً فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ، جَازَ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ قَدْ حَصَلَ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا كَانَ الدَّفْعُ قَدْ جَعَلَهَا مِنَ الْأَلْفَيْنِ نِصْفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ بِاتِّفَاقِهِمَا قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ نَقْلَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. (فَصْلٌ) فَلَوْ دَفَعَ الْأَلْفَ قَضَاءً مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الدَّافِعُ الْقَاضِي: دَفَعْتُهَا قَضَاءً مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بِرَهْنٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بَلْ دَفَعْتَهَا مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي بَلَا رَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ الْقَاضِي، لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مُزِيلٌ لِمِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ إِزَالَةِ مِلْكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ الْقَاضِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ الْقَابِضِ مِنْ أحد أمرين، إما أن يدعي على القاضي، أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا الَّتِي بَلَا رَهْنٍ، أَوْ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ، وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ الْقَاضِي الْيَمِينُ، بِاللَّهِ أَنَّهُ دَفَعَهَا قَضَاءً مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِنْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 الدَّفْعِ، وَسَأَلَ يَمِينَهُ، فَفِي الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِإِنْكَارِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مُرَادِهِ، وَمُرَادُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَابِضِ سَبِيلٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ. (فَصْلٌ) وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبَرِّئَ الرَّاهِنَ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي لَا رَهْنَ فِيهَا، وَيَقُولُ الرَّاهِنُ: بَلْ أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الْمُبَرِّئِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالْقَضَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاضِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْيَمِينِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ، إِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ عَنْهُ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَنْهُ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْقَاضِي: قَضَيْتَ الْمَضْمُونَةَ عَنِّي، وَيَقُولُ الْقَابِضُ: بَلْ قَبَضْتُ غَيْرَ الْمَضْمُونَةِ عَنْكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَهُ مِنْ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُبَرِّئُ، أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَقَالَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: أَبْرَأْتَنِي مِنَ الْأَلْفِ الْمَضْمُونَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُبَرِّئِ وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى، وَالدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ مَسْمُوعَةٌ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ. (فَصْلٌ) وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَانِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالضَّامِنُ، فَيَقُولُ الْقَاضِي: قَضَيْتُ عَنِ الْأَلْفِ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ فَقَدْ خَرَجَ الرَّهْنُ وَبَقِيَ الضَّمَانُ يَقُولُ الضَّامِنُ: بَلْ قَضَيْتَ الْأَلْفَ الَّتِي ضَمِنْتُهَا عَنْكَ فَقَدْ خَرَجَ الضَّمَانُ وَبَقِيَ الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا وَالْكَلَامُ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَضَى، ثُمَّ لَا يَخْلُو صَاحِبُ الدَّيْنِ، مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ الْقَاضِيَ أَوِ الضَّامِنَ، فَإِنْ صَدَّقَ الْقَاضِيَ، كَانَ الضَّمَانُ بِحَالِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ إِحْلَافُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا لَهُ إِحْلَافُ الْقَاضِي. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَدْ صَدَّقَ الضَّامِنَ وَكَذَّبَ الْقَاضِيَ، كَانَ تَصْدِيقُهُ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَبَرَاءَةِ الضَّامِنِ، وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَى الْقَاضِي فِي بَقَاءِ الرَّهْنِ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ لَهُ بِلَا رهن وضمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 (فَصْلٌ) وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ، إِحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِضَمِينٍ فَيَقْضِي ألفا ويبرؤه صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ أَلْفٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْقَاضِي وَالْمُبَرِئُ، فَيَقُولُ الْقَاضِي قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، وَيَقُولُ الْمُبَرِئُ: أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَقَضَيْتَنِي الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا بِعَكْسِ ذَلِكَ، لِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَلْفَيْنِ مَعًا، بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، وَخُرُوجِ الرَّهْنِ والضمين، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْقَاضِي: قَضَيْتُكَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ وَأَبْرَأْتَنِي مِنَ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ، وَقَالَ الْمُبَرِئُ: بَلْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الَّتِي فِيهَا الرَّهْنُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ، وَقَوْلُ الْمُبَرِئِ فِي إِبْرَائِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا تَأْثِيرَ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ قَبْلَهُ بِالْقَضَاءِ، وَتَكُونُ الْأَلْفُ الَّتِي فِيهَا الضَّمِينُ بَاقِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ مَنْقُولًا عَمَّا فِيهِ الرَّهْنُ لِتَقَدُّمِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ، إِلَى مَا فِيهِ الضَّمِينُ لِبَقَائِهِ عليه، ويبرأ من الألفين والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَهَنْتُهُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْهِ فَغَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا مِنِّي رَجُلٌ وَأَنْزَلَهُ فِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا هُوَ مِنِّي فَنَزَلَهَا وَلَمْ أُسْلِمْهَا رَهْنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِهِ أَنَّهَا مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ عَلَى أَلْفٍ لَهُ عَلَى مَالِكِهَا، وَقَالَ الْمَالِكُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رَهَنْتُهُ الدَّارَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّنِي لَمْ أُقْبِضْهُ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا غَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا أَوِ اسْتَعَارَهَا أَوْ تَكَارَاهَا رَجُلٌ فَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكِهَا مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْخُلْفُ فِي الْقَبْضِ، خُلْفًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الرَّاهِنِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا ثُمَّ وُجِدَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَقْبَضَنِيهَا وَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُ وَلَمْ أَقْبِضْ، لَكِنْ غَصَبَنِيهَا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِحُصُولِ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ أَقْبَضَنِيهَا الْمُؤَجِّرُ، وَقَالَ الْمُؤَجِّرُ: بَلْ غَصَبَنِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ يَدِهِ فَهَلَّا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ لِحُصُولِ يَدِهِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ في تمامه لا يصح أن يجبر عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُؤَجِّرُ، فَكَانَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، أَنَّ إِجَارَةَ الرَّهْنِ مِنْ مُرْتَهِنِهِ جَائِزَةٌ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ لكونها في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 قبضه، ورهن ما في الإجارة من مستأجره جَائِزٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي قَبْضِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقَبْضَ الرَّهْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 (باب انتفاع الراهن بما يرهنه) " قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال أخبرني المزني قال (قال الشافعي) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " الرهن مركوب ومحلوب " (قال) ومعنى هذا القول أَنَّ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ دَرٍّ وَظَهْرٍ لَمْ يمنع الراهن من ظهرها ودرها وأصل المعرفة بهذا الباب أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره وما يحدث مما يتميز منه غيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ نَمَاءُ الرَّهْنِ وَمَنَافِعُهُ مِنْ ثَمَرَةٍ وَنِتَاجٍ وَدَرٍّ وَرُكُوبٍ وَسُكْنَى، مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، سَوَاءٌ أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لَا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: جَمِيعُ نَمَاءِ الرَّهْنِ وَسَائِرُ مَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ أَمْ لا. وقال أبو ثور: إذا كان الراهن هو الذي ينفق على الرهن، فالنماء والمنافع له. وإذا كان المرتهن هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَى الرَّهْنِ، فَالنَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ لَهُ. فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى الرَّهْنِ هَذَا الْحُكْمَ، لَمَّا حَدَثَ عَقْدُ الرهن، فلم يجز أن يكون الحلب وَالرُّكُوبُ مُضَافًا إِلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّهْنِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، لِيَصِيرَ حُكْمُهُ مُسْتَفَادًا بِالرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ كَالْبَيْعِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ عَلَى مِلْكٍ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَقْدُ الْبَيْعِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ يَجْعَلُ نَمَاءَ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الرَّهْنُ يُرْكَبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ " قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّمَاءَ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَوَلَّى النَّفَقَةَ، قَالَ: وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي مُقَابَلَةِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ نَقْصٌ وَغُرْمٌ وَالنَّمَاءَ زِيَادَةٌ وَكَسْبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُ النَّمَاءِ لِمَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ نَقْصُ النَّفَقَةِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا حَدِيثُ ابن المسيب مرسلا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَجَعَلَ لِمَالِكِ الرَّهْنِ غُنْمَهُ مِنْ نَمَاءٍ وَزِيَادَةٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ غرمه من مؤونة وَنَقْصٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ، كَانَ لَهُ نَمَاءُ ذَلِكَ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْفُرُوعَ تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ عَلَى مِلْكِ الراهن، وجب أن يكون النماء على ملك الراهن كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَمَلُّكَ الْمَنَافِعِ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ كَتَعَلُّقِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تعلق حق الجناية بالرقبة موجبا لتملك الْمَنَافِعِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ مُوجِبًا لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " فَيَعْنِي لِرَاهِنِهِ وَقَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْبَيْعِ فَالْبَيْعُ لَمَّا نَقَلَ مِلْكَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي نَقَلَ نَمَاءَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَقْدُ الرَّهْنِ الْمِلْكَ إِلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَنْقُلْ نَمَاءَ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ مِنَ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّاهِنُ بِدَلِيلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِمَنْ تَطَوَّعَ بِالنَّفَقَةِ. وَالنَّفَقَةُ واجبة على الرهن دُونَ الْمُرْتَهِنِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، النَّمَاءُ وَاجِبًا لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّمَاءَ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَالْكَلَامُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَخِلَافِ مَالِكٍ وأبي حنيفة فِيهِ يَأْتِي مِنْ بعد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعُ الْأَرَضِينَ وَغَيْرُهَا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ نماء الرهن ومنافعه ملك للراهن دون المرتهن، فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعَ الْأَرَضِينَ فَإِنْ كان الرهن دارا فللراهن حالات، حَالٌ يُرِيدُ سُكْنَاهَا وَحَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ بِيعَتْ فِيهِ. وَقَالَ فِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَالرَّهْنِ الْقَدِيمِ: يُمْنَعُ مِنْ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ، وَقِيلَ: لَكَ أَنْ تُؤْجِرَهَا غَيْرَكَ وَلَا تَسْكُنَهَا بِنَفْسِكَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُهَا عَلَى قولين. وقال آخرون وهذا الصَّحِيحُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْكُنَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً يُؤْمَنُ جُحُودُهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ الرَّاهِنَ أَنْ يَسْكُنَهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُؤْمَنُ جُحُودُهُ. فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ إِجَارَتَهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مُدَّةَ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّهْنِ وَأَجَلُ الْحَقِّ سَنَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا سَنَةً فَمَا دُونَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَإِنْ آجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ آجَرَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، صَحَّتِ الْإِجَارَةُ وَلَزِمَتْ، وَإِنْ أَجَّرَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ. وَالثَّانِي: غَيْرُ جَائِزَةٍ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ جَائِزٌ، جَازَتِ الْمُؤَاجَرَةُ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ بَيْعَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ لَا يَجُوزُ لَمْ تَجُزِ الْإِجَارَةُ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِجَارَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ. وَإِذَا قُلْنَا الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ فَهِيَ لَازِمَةٌ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنْ كَانَتْ تُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ، بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ، وَهَلْ تَبْطُلُ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الرَّاهِنُ مِمَّا يُوكِسُ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ مَرْدُودٌ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ لَمْ يَرْضَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أرضا. فللراهن حالات، حَالٌ يُرِيدُ إِجَارَتَهَا وَحَالٌ يُرِيدُ زِرَاعَتَهَا، فَإِنْ أَرَادَ إِجَارَتَهَا كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِي إِجَارَةِ الدَّارِ، وَإِنْ أَرَادَ زِرَاعَتَهَا فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ يَدًا عَلَى الدَّارِ فَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ لِلزَّارِعِ يَدٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَدُهُ عَلَى الزَّرْعِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الرَّاهِنُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يُحْصَدُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ أَوْ مَعَهُ، فَإِنْ زرعها ما يحصد يعد محل الحق ففيه قولان مبينان عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ دُونَ الزَّرْعِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مَزْرُوعَةً دُونَ الزَّرْعِ، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا فَإِنْ زَرَعَ لَمْ يُقْلَعْ زَرْعُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ أَخَذَ بِقَلْعِ الزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ تَأْخِيرَ حَقِّهِ إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِهَا، فَإِذَا زَرَعَهَا وَحَلَّ الْحَقُّ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا، فَإِنْ قَضَاهُ الْحَقَّ تُرِكَ زَرْعُهُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ بِيعَتِ الْأَرْضُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الزَّرْعِ فِيهَا، وَفَاءٌ لِلْحَقِّ، لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ الزَّرْعِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ فِيهَا قَائِمٌ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ وَفَاءَ حَقِّهِ إِلَّا بِأَنْ يَقْلَعَ الزَّرْعَ، أَخَذَ بِقَلْعِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِحَقِّهِ عَلَى أَنَّهُ يَقْلَعُ الزَّرْعَ، ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي الزَّرْعَ فِي أَرْضِهِ إِنْ شَاءَ مُتَطَوِّعًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ الْأَرْضَ أَوْ يَبْنِيَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ بَيْعَ بَيَاضِ الْأَرْضِ دُونَ غِرَاسِهَا وَبِنَائِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ وَالْبَقَاءُ وَهُوَ يُوكِسُ قِيمَةَ الْأَرْضِ عَنْ حَالِهَا بَيْضَاءَ، فَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَقِّ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ، فَإِنْ حَلَّ الْحَقُّ وَكَانَ فِي بَيَاضِ الْأَرْضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ بِيعَ الْبَيَاضُ مُفْرَدًا، وَأُقِرَّ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَاضِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ، أُخِذَ بِقَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ وَبِيعَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْلِسًا فَتُبَاعُ الْأَرْضُ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ، وَيُدْفَعُ إِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ قِيمَةَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ. (فصل) فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا عَيْنًا أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا. فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ وَالْبِئْرُ يُزِيدَانِ فِيهَا وَلَا يُنْقِصَانِ ثَمَنَهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَا يُنْقِصَانِهَا قَبْلَ أَنْ يَكُونَا فِيهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده وَيَرْكَبَ دَوَابَّهُ وَيُؤَاجِرَهَا وَيَحْلِبَ دَرَّهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا وَتَأْوِيَ بِاللَّيْلِ إِلَى مُرْتَهِنِهَا أَوْ إِلَى يَدَيِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 وَقَدْ مَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَإِجَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اسْتِدَامَةِ قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ. فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا، فَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ كَالدَّارِ، فَأَمَّا اسْتِخْدَامُهُ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً جَازَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا خَرَجَ فِي سُكْنَى الدَّارِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُكْنَاهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَيْرَ ثِقَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ بِنَفْسِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَبْدِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ الدَّارِ عَنْ مُرْتَهِنِهَا، فَإِذَا اسْتَخْدَمَهُ أَوْ آجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ فَهُوَ كَالدَّارِ إِذَا سَكَنَهَا أَوْ آجَرَهَا لِلسُّكْنَى فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَرْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَالْعَبْدَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا، وَيَرْجِعُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهِ أَوِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، وَسُكْنَى الدَّارِ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ، لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا، ثُمَّ تَعُودُ فِي اللَّيْلِ إِلَى يَدِ مُرْتَهِنِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَلَا بِدَابَّتِهِ وَلَا يُؤَاجِرَهُمَا مِمَّنْ يُسَافِرُ بِهِمَا لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمَا وَإِحَالَةِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُمَا. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ ماشية فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون عامل كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ فِي الْحُمُولَةِ وَالنَّاضِحِ. فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّوَابِّ، لِأَنَّهَا مَفْقُودَةُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مُرْصَدَةٌ لِلرُّكُوبِ وَالْعَمَلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَوَامِلَ قَدْ أُرْصِدَتْ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، أَوْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مَفْقُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَكُلَّمَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَهُوَ لِلرَّاهِنِ. فَعَلَى هَذَا فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَحْلِبَهَا وَيَجِزَّ صُوفَهَا، أَمَّا الْحِلَابُ فَفِي وَقْتِ الْعَادَةِ وَلَا يَسْتَقْصِي فِيهِ اسْتِقْصَاءً يَضُرُّ بِالْمَاشِيَةِ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا جَزُّ الصُّوفِ فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يَضُرُّ أَخْذُهُ بِالْمَاشِيَةِ، يَأْخُذُهُ جَزًّا وَلَا يَأْخُذُهُ حَلْقًا، وَيُبْقِي مِنْهُ بَعْدَ الْجَزِّ مَا يَكُونُ حَافِظًا لِلْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَمْلٌ وَفِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَعَلَى ظُهُورِهَا صُوفٌ، فَفِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهَا قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ اللَّبَنَ وَالصُّوفَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحَمْلِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: يَدْخُلُ الصُّوفُ فِي الرَّهْنِ وَلَا يَدْخُلُ اللَّبَنُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اللَّبَنَ مُنْفَصِلٌ لَا يُسْتَبْقَى وَالصُّوفُ مُتَّصِلٌ يُسْتَبْقَى. فَأَمَّا مَا حَدَثَ مِنَ اللَّبَنِ وَالصُّوفِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فيه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ وَلَدِ أَمَةٍ وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ وَثَمَرِ شَجَرَةٍ وَنَخْلَةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ يُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: مَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ النَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ كَسْبُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ مَا سِوَى الْكَسْبِ مِنَ النَّمَاءِ الْمُنْفَصِلِ كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالدَّرِّ وَالصُّوفِ وَأَوْلَادِ الْإِمَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة، أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الرَّهْنِ كَالْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّرِّ وَالثَّمَرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ نَمَاءٌ فِي الرَّهْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ كَالنَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يكون ماؤه محبوسا معه كالمبيع، إذا حبسه البائع على ثمنه كان نماؤه الْحَادِثُ مَحْبُوسًا مَعَهُ كَالْمَبِيعِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 يَكُونَ النَّمَاءُ الْحَادِثُ بَعْدَهُ تَابِعًا لَهُ كَالْمَبِيعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَالْكِتَابَةِ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِيهِ تَابِعًا لِأُمِّهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الرَّهْنِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ " فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ، وَلِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " لا يغلق الرهن الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَغُنْمُهُ نَمَاؤُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غُنْمَهُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ وَإِنَّمَا نَخْتَلِفُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ غُنْمَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَدُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الرَّهْنِ وَبَيْنَ غُنْمِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ عَلَى مِلْكِ رَاهِنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ مِنْ غُنْمِهِ مُخَالِفٌ لِمَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَيْهِ مِنْ رَهْنِهِ وَلَا وَجْهَ يَخْتَلِفَانِ فِيهِ إِلَّا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ مِنَ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ كَالْكَسْبِ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ عَيْنٌ يَصِحُّ أَنْ تُفْرَدَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ إِلَّا بِعَقْدٍ كَالْأُمِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْرِيَ حُكْمُهُ لِلْوَلَدِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ مُحْتَبَسَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ زَوَالِ مِلْكِ مَالِكِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا كَالْعَيْنِ الَّتِي آجَرَهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ آكَدُ ثُبُوتًا مِنْ حَقِّ الرَّهْنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ يَطْرَأُ عَلَى الرَّهْنِ وَحَقُّ الرَّهْنِ لَا يَطْرَأُ عَلَى الْجِنَايَةِ، ثُمَّ كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مَعَ تَأَكُّدِهِ لَا يَسْرِي عَلَى وَلَدِ الْجَانِيَةِ، فَحَقُّ الرَّهْنِ مَعَ ضَعْفِهِ أَوْلَى أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ. وَتَحْرِيرُ عِلَّتِهِ، أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْرِيَ إِلَى وَلَدِهَا كَالْجِنَايَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ فَمُنْتَقَضٌ أَوَّلًا بِالْكَسْبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُتَّصِلِ أَنَّهُ تابع للأصل فِي مَوْضِعِ الْأُصُولِ، لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ وَالْمُنْفَصِلُ غير تابع للأصول لتمييزه عنه ألا ترى أن المتصل تابع للأصل في الإجارة والجناية والبيع إذا رد بعيب، فَكَذَلِكَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ، وَالْمُنْفَصِلُ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجِنَايَةِ وَلَا الْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَبِيعِ إِذَا حَبَسَهُ الْبَائِعُ عَلَى ثَمَنِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا حَبَسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ النَّمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَبِيعِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَدَلِيلُنَا أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ النَّمَاءِ لِمَالِكِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ الْأَصْلَ، كَذَلِكَ الرَّهْنُ لَمَّا كَانَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلرَّاهِنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَنْعُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَالرَّهْنُ لَا يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اسْتِيفَائِهِ وَثِيقَةً لِمُرْتَهِنِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا بَيْعُهُ يُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ سَلِمَ لَهُمُ الْوَصْفُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَتْبَعُهَا وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ أُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَإِنْ عُتِقَتِ الْمُكَاتَبَةُ بِالْأَدَاءِ وَالْمُدَبَّرَةُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، عُتِقَ وَلَدُهُمَا وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ رَقَّ وَلَدُهَا فَإِنْ قِيلَ لَا يَتْبَعُهَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَإِنْ قِيلَ يَتْبَعُهَا فَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الْحُكْمُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ وَلَدَ الْمَرْهُونَةِ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ، وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَمَّا تَبِعَهَا كَسْبُهَا تَبِعَهَا وَلَدُهَا وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ الْكَسْبُ لَمْ يَتْبَعْهُ الْوَلَدُ وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ فِي أَنَّ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَالْقِيَاسُ مُنْتَقَضٌ بِوَلَدِ الْجَانِيَةِ. ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّ سَبَبَ حُرِّيَّتِهَا مُسْتَقِرٌّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى الْوَلَدِ لِقُوَّتِهِ وَالرَّهْنُ لَا يَسْتَقِرُّ اسْتِقْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ إِزَالَتِهِ، فَلَمْ يَسْرِ إِلَى الْوَلَدِ لِضَعْفِهِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَهَلْ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ ... حُكْمُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَأَمَّا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْمَاخِضِ ارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحَوْلِ السِّخَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ، فَأَمَّا وَلَدُ الْمُوصَى بِهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتْبَعْهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ تَبِعَهَا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 أَحَدُهُمَا: لِلْوَرَثَةِ، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ التَّمَلُّكُ. وَالثَّانِي: لِلْمُوصِي لَهُ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ يُبْنَى عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَلَدِ الْمَرْهُونَةِ. وَأَمَّا وَلَدُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتْبَعُ لِلْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَكَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا عَلَى مِلْكِ الْمَسَاكِينِ. وَأَمَّا وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ فَيَتْبَعُ لِأُمِّهِ فِي الضَّمَانِ لِحُصُولِ التَّعَدِّي فِيهِمَا. وَأَمَّا وَلَدُ الْمُودَعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَأُمِّهِ أَمَانَةٌ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِخِلَافِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى أُمِّهِ دُونَ وَلَدِهَا. وَأَمَّا وَلَدُ الْعَارِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَأُمِّهِ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ مَضْمُونٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِخِلَافِ أُمِّهِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأُمِّ أَوْجَبَ ضَمَانَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الِانْتِفَاعُ بِالْوَلَدِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رُهُونِهِ وَمَنْ مَاتَ مِنْ رَقِيقِهِ فعليه كفنه والفرق بين الأمة تعتق أو تباع فيتبعها ولدها وبين الرهن أنه إذا أعتق أو باع زال ملكه وحدث الولد في غير ملكه وإذا رهن فلم يزل ملكه وحدث الولد في ملكه إلا أنه محول دونه لحق حبس به لغيره كما يؤاجرها فتكون محتبسة بحق غيره وإن ولدت لم يدخل ولدها في ذلك معها والرهن كالضمين لا يلزم إلا من أدخل نفسه فيه وولد الأمة لم يدخل في الرهن قط ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. كُلُّ نَفَقَةٍ احْتَاجَ الرَّهْنُ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَةِ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَنَفَقَةِ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ وَنَفَقَةِ مُرَاعَاةٍ وَحِفْظٍ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ على الرهن دُونَ الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَنَفَقَةُ الْمُرَاعَاةِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الدُّبُرِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الْحَقِّ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ بِالْقِسْطِ، مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِقِيمَةِ نِصْفِ الرَّهْنِ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ فَجَعَلَ الْغُرْمَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلنَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْمُلَّاكِ وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ شَرَطَهَا الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، كَانَ الشَّرْطُ وَالرَّهْنُ بَاطِلَيْنِ. من غير شرط، كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، أَوْ أَذِنَ الْحَاكِمُ عِنْدَ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النَّفَقَةِ وَمَا يَجِبُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجِبُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَتْ وَاجِبَةً. وَالثَّانِي: مَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فَهِيَ نَفَقَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ فِي الْحَيَوَانِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي تَرْكِهَا، وَلَا تَخْيِيرَ بينها وبين غيرها. فإن كانت مما تعلف ولا ترعى وجب عليه علفها، وإن كانت مما ترعى ولا تعلف وجب عليه رعيها ولم يكن له علفها. لأن ما يرعى ولا يعلف يضر به العلف. وإن كَانَتْ مِمَّا تَرْعَى وَتُعْلَفُ مَعًا، فالراهن مخير بين رعيها وعلفها، إلا أن يكون الرعي مخوفا فليس له رعيها وعليه علفها حفظا لوثيقة الرهن. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَنَفَقَةُ الدَّوَاءِ وَعِلَاجِ الْمَرَضِ لا يجب على الراهن، وقال الشافعي رحمه الله: لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ وَكَذَلِكَ لو كان الرهن دارا فاستهدمت لَمْ يَلْزَمْهُ عِمَارَتُهَا. فَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ عِلَاجَ مَا مَرِضَ وَمِرَمَّةَ مَا اسْتُهْدِمَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ كَانَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَمْنَعْهُ إِذَا كَانَ مَا يُعَالِجُهَا بِهِ نَافِعًا، فَإِنْ عَالَجَهَا بِشَيْءٍ يَنْفَعُ فِي حَالٍ وَيَضُرُّ فِي أخرى منع، فإن فعل ضمن. فَأَمَّا مَا كَانَتْ مِنَ النَّفَقَةِ وَاجِبَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَنَفَقَةُ الْحِفْظِ وَالْمُرَاعَاةِ وَارْتِيَادِ الْحِرْزِ وَالسَّكَنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا بِمَالِهِ وجب عليه وكذا مؤونة نَقْلِ الرَّهْنِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ إِلَى يَدِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا. وأما مؤونة رَدِّهِ بَعْدَ الْفِكَاكِ وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَفِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا عَلَى الرَّاهِنِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِهَا بِالْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بعد استيفاء الحق فكانت مؤونة الرَّدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 فأما مؤونة رد العبد الآبق والجمل الشارد فواجب عَلَى الرَّاهِنِ وَكَذَا عَلَيْهِ كَفَنُ مَنْ مَاتَ من رقيقه ومؤونة دَفْنِهِ. (فَصْلٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فِي بَادِيَةٍ فَأَجْدَبَ مَوْضِعُهَا، لَمْ يُؤْمَرِ الْمَالِكُ بِعَلْفِهَا إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً وَكُلِّفَ رَبُّهَا النُّجْعَةَ بِهَا، فَإِنْ أَرَادَ النُّجْعَةَ بِهَا وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهَا، قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ إن رضيت أن تنجع بها وإلا اختر أَنْ تَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَنْجَعُ بِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ رَبُّهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَاشِيَةُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ وَالْمُرْتَهِنُ الْمَقَامَ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ: لَيْسَ لَكَ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي رَهَنْتَهَا بِهِ إِلَّا مِنْ ضَرَرٍ عَلَيْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فَوَكِّلْ بِرَشْلِهَا مَنْ شِئْتَ يَعْنِي بِالرَّشْلِ اللَّبَنَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ النُّجْعَةَ مِنْ غَيْرِ جَدْبٍ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَكَ تَحْوِيلُهَا مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتَهَنْتَهَا بِهِ وَبِحَضْرَةِ مَالِكِهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، فَتَرَاضَيَا بِمَنْ شِئْتُمَا، مِمَّنْ يُقِيمُ فِي الدَّارِ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدَيْهِ مَا كَانَتِ الدَّارُ غَيْرَ مُجْدِبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى رجل تأوي إليه. (فصل) فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الَّتِي رَهَنَهَا بِهَا غَيْرَ مُجْدِبَةٍ وَغَيْرُهَا أَخْصَبُ مِنْهَا، لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَقْلِهَا مِنْهَا، وَإِنْ أَجْدَبَتْ فَاخْتَلَفَتْ نُجْعَتُهَا إِلَى بَلَدَيْنِ مُشْتَبِهَيْنِ فِي الْخِصْبِ، فَسَأَلَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ وَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، قِيلَ لَهُمَا: إِنِ اجْتَمَعْتُمَا بِبَلَدٍ فَهِيَ مَعَ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا أُجْبِرْتُمَا عَلَى عَدْلٍ تَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَنْتَجِعُ إِلَيْهِ رَبُّ الْمَاشِيَةِ لِيَنْتَفِعَ بِرَشْلِهَا، فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى بَلَدٍ فِيهِ عَلَيْهَا ضَرَرٌ لَمْ يَجِبْ إِلَيْهِ لِحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رِقَابِهَا وَرَشْلِهَا وَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ في رقابها. (فصل) قال الشافعي رحمه الله، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي حَالِ تَسَاقُطِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْهُزَالِ وَالضَّرَرِ: مُرْ مَنْ يَذْبَحُهَا وَيَبِيعُ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ يُحْدِثُ لَهَا الْغَيْثَ فَيَحْسُنُ حَالُهَا، وَإِنْ كَانَ حَالًّا أَخَذَ الرَّاهِنُ بِبَيْعِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَصَابَهَا مَرَضٌ وَكَانَ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ، لَمْ يُكَلَّفِ الرَّاهِنُ عِلَاجَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَذْهَبُ بِغَيْرِ عِلَاجٍ. وَلَوْ كَانَتِ الماشية أوارك أو خميصه أو غوادي فاستؤنيت مَكَانَهَا، فَسَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يَنْجَعَهَا إِلَى مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَرْعَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ رَهْنَ الْأَمَةِ إِلَّا أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا رَهَنَ أَمَةً لَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ذَاتُ فَرْجٍ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا ذَا زَوْجَةٍ جَازَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ كَانَ مَأْمُونًا لَكِنَّهُ أَعْزَبُ غَيْرُ ذِي زَوْجَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْهِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا. سواء كَانَتْ جَمِيلَةً تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً لَا تَدْعُو الشَّهْوَةُ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْقَبِيحَةَ تَشْتَهَى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَحْبَلُ مِثْلُهَا أَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْبَلُ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ لِأَجْلِ الْإِحْبَالِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَسَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الرَّاهِنُ أَمْ لَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَجْلِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى يَدِهِ، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَتُوضَعُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، فَلَوْ رَهَنَهَا وَلَمْ يَشْرُطْ فِي الْعَقْدِ مَنْ تُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ، صَحَّ الْعَقْدُ بِخِلَافِ رَهْنِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَمْلَاكِ الْمَنْقُولَةِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ مَنْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْأَمَةِ لَا يَبْطُلْ وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ لَهَا إِلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِيهَا، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَغَيْرُهَا مِنَ الرُّهُونِ لَهُ جِهَاتٌ شَتَّى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَبَطَلَ الرَّهْنُ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَحَدِ الوجهين لاختلاف الجهات. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا لِلْخِدْمَةِ خَوْفًا أَنْ يُحْبِلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَبَبٌ يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ أَمَةً، فَلَهَا مَنْفَعَتَانِ، اسْتِخْدَامٌ وَاسْتِمْتَاعٌ فَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا. وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخَافُ حَبَلُهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لِأَنَّ حبلها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخَافُ حَبَلُهَا لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ، فَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَجُوزُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ مِنْهَا وَلَا إِلَى النُّقْصَانِ فِيهَا. وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِيهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَمْلِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّمَا أَسْرَعَ إِلَيْهَا بِقُوَّةِ الطَّبْعِ وَفَرَطِ الْحَرَارَةِ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ لِضَعْفِ الطَّبْعِ وَكَثْرَةِ الْبُرُودَةِ، فَكَانَ حَسْمُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ الْإِحْبَالِ أَوْلَى. كَمَا أَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ لَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ فِي السُّكْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْكَرُ بِالْقَلِيلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْكَرُ بِهِ، مُنِعَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا خَوْفًا مِنْ مُوَاقَعَتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جَمِيلَةً أَمْ لَا، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُرْتَهِنُ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَيْسَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْعِ الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا أَذِنَ جَازَ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، جَازَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ لَهَا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا أَنْ يَطَأَ وَالْوَطْءُ مُبَاحٌ لَهُ، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا كَانَتْ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا مِثْلَ الْجَارِيَةِ تَكْبُرُ وَالثَّمَرَةِ تَعْظُمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا وَهِيَ رَهْنٌ كُلُّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فيما مضى قبل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا فَأَرَادَ أَنْ يَخْتِنَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَى شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ أَوِ الدَّابَّةُ إِلَى تَوْدِيجٍ أَوْ تَبْزِيعٍ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِمَّا فِيهِ لِلرَّهْنِ مَنْفَعَةٌ وَيَمْنَعُهُ مِمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الرهن مَاشِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ ذُكْرَانًا فَلَهُ أَنْ يُنْزِيَهَا عَلَى إِنَاثِهِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ فِيهَا الْعُرْفَ، لِأَنَّ الْإِنْزَاءَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا وَلَا يَنْتَقِصُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهَا، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا فَأَرَادَ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا ذُكْرَانًا، فَإِنْ كَانَتْ تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ، لِمَا فِي مَنْعِهِ مِنْ تَعْطِيلِ نَفْعِهَا وَذَهَابِ نِتَاجِهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ جَارِيَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا خَوْفًا مِنْ حَبَلِهَا. فَهَلَّا كَانَ مَمْنُوعًا فِي الْمَاشِيَةِ مِنَ الْإِنْزَاءِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَبَلِهَا قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 أَحَدُهَا: أَنَّ النِّتَاجَ فِي الْمَاشِيَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالنَّمَاءُ الْمَطْلُوبُ غَالِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ غَالِبَ الْوِلَادَةِ فِي الْإِمَاءِ مُخَوَّفٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِي الْإِمَاءِ فِي الْغَالِبِ نَقْصٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَا تَضَعُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ، فَهَلْ لَهُ الْإِنْزَاءُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الماشية هل تباع إذ حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ وَإِنْ حَمَلَتْ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ إِذَا حَمَلَتْ حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، لَوْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، كَانَ وُجُوبُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ذُكْرَانِهَا وأنثاها، عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا أُنْزِي عَلَيْهَا وَأَبِيعُهَا عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ حَوَامِلَ، كَانَ هَذَا وَعْدًا، وَلَهُ أَلَّا يَفْعَلَ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا وَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَخْتِنَهُ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ، فَإِنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ، لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ بُرْئِهِ نَقْصًا فِي ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ بَعْدَ بُرْئِهِ مِنَ الْخِتَانِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ بِالْعَبْدِ ضَنًى مِنْ مَرَضٍ يُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ خُتِنَ فَيُمْنَعَ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ الزَّمَانُ فَيَزُولَ الْمَرَضُ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْجُمَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ الْحِجَامَةَ نَافِعَةٌ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مُخَوِّفَةٍ فِي الْعَادَةِ. فَأَمَّا الْفِصَادُ فَهُوَ أَخْوَفُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " قَطْعُ الْعُرُوقِ مَسْقَمَةٌ وَالْحِجَامَةُ خَيْرٌ مِنْهُ ". فَإِنْ لَمْ تَدْعُهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ مُنِعَ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَتْهُ إِلَى الْفِصَادِ حَاجَةٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ أَرْخَصَ لِأُبَيِّ بِنْ كَعْبٍ فِي الْفَصْدِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 وَأَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِي عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَكَلَةٌ فَأَرَادَ قَطْعَهَا فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْقَطْعِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَكَلَةِ، مُنِعَ مِنْ قَطْعِهَا، وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ لَمْ يُمْنَعْ. وَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَكَلَةِ كَالْخَوْفِ مِنَ الْقَطْعِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ يُزِيدُ فِي ثَمَنِهِ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيدُ فِيهِ مُنِعَ. فَأَمَّا شُرْبُ الدَّوَاءِ فَنَوْعَانِ، مُخَوِّفٌ وَغَيْرُ مُخَوِّفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُخَوِّفِ كَالشَّرَابِ وَالسَّعُوطِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمُخَوِّفُ فَمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ السَّلَامَةُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنَ الْخَوْفِ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَغْلَبَ مِنَ السَّلَامَةِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السَّلَامَةُ وَالْخَوْفُ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ دَابَّةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدِ وَحُكْمُ التَّوْدِيجِ وَالتَّبْزِيغِ حُكْمُ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ، لِأَنَّ التَّوْدِيجَ فِي الرَّقَبَةِ وَالتَّبْزِيغَ فِي الْيَدَيْنِ فَيَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَالٍ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غير ملكه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 (باب رهن المشترك) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَاهُ مَعَا عَبْدًا بِمَائَةٍ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ فَجَائِزٌ وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِمَّا عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ - إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَرَهَنَا مَعًا عِنْدَ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صَحَّ الرَّهْنُ، بِوِفَاقِ أبي حنيفة: وَإِنْ كَانَ فِي رَهْنٍ مَشَاعٍ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَيْعُ عَبْدِهِمَا عَلَيْهِ صَحَّ رَهْنُ عَبْدِهِمَا عِنْدَهُ وَإِذَا صَحَّ رَهْنُهُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصَّفَهُ بِخَمْسِينَ، فإن قضاه أحدهما: أو أبرأه أَحَدَهُمَا خَرَجَتْ حِصَّتُهُ وَهِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا لَمْ تَخْرُجْ حِصَّتُهُ مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الشريك ما عليها، وتبرئه الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ لَا يَجُوزُ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي انْتِهَاءِ فَكِّهِ. وَدَلِيلُنَا الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ رَهْنَ الْمَشَاعِ جَائِزٌ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الرَّهْنُ مَشَاعًا فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ مِلْكُهُ مَرْهُونًا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يخرج من الرهن كالمتفرد، ولأنها براءة تنفك بِهَا رَهْنُ الْمُنْفَرِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَكَّ بِهَا رَهْنُ الْمُشْتَرِي. أَصْلُهُ: إِذَا بَرِئَ الشَّرِيكَانِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِمَائَةٍ وَقَبَضَاهُ فَنِصْفُهُ مَرْهُونٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِينَ فَإِنْ أَبْرَأَهُ أَحَدَهُمَا أَوْ قَبَضَ مِنْهُ نِصْفَ الْمِائَةِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَهَنَ رجل واحدا عَبْدًا لَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَهُمَا عَلَيْهِ وَصَحَّ الرَّهْنُ، كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدًا، وَالْمُرْتَهِنُ اثْنَيْنِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَهِنُ وَاحِدًا وَالرَّاهِنُ اثْنَيْنِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، فَإِذَا بَرِئَ الرَّاهِنُ مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ حقه وتبرئه منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 (فَصْلٌ) إِذَا رَهَنَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ عَبْدَيْنِ لَهُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ على ضربين: أحدها: أَنْ يَرْهَنَ جَمِيعَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ، فَهَذَا رَهْنٌ وَاحِدٌ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عَبْدَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ أَحَدَ الْمِائَتَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ، فَإِنْ قَضَاهُ جَمِيعَ الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ جَمِيعُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمِائَتَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ فِي مِائَةٍ فَيَصِيرَا رَهْنَيْنِ رَاهِنُهُمَا وَاحِدٌ، وَمُرْتَهِنُهُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قَضَاهُ إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ انْفَكَّ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ كَانَ الْمَقْبُوضُ رَهْنًا فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ رَاهِنَيْنِ أَوْ مُرْتَهِنَيْنِ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ قَضَيْتُ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَكْثَرُ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ بَلْ قَضَيْتَ الْمِائَةَ الَّتِي فِيهَا أَقَلُّ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً يَنْوِي بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ بِهَا أَكْثَرَ الْعَبْدَيْنِ قِيمَةً، وَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفُكَّ أَقَلَّهُمَا قِيمَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي تَعْيِينِهَا فِي أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ الْعَبْدَيْنِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمِائَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ الْمِائَةَ الْمَقْضِيَّةَ لَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى خِيَارِ الرَّاهِنِ فِي التَّعْيِينِ، وَلَا عَلَى خِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لِوُقُوعِ الْإِبْرَاءِ بِالْأَدَاءِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ فِي إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا، وَخَرَجَ مِنَ الرَّاهِنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَبَقِيَ فِي الرَّهْنِ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْهُونُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَفْكُوكُ، وَيُوضَعُ الْعَبْدَانِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمَفْكُوكِ مِنَ الْمَرْهُونِ، إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى فَكِّ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَبَقَاءِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ قَضَاهُ مِائَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَنْوِ بِهَا إِحْدَى الْمِائَتَيْنِ بِكَمَالِهَا كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى أَيِّ الْمِائَتَيْنِ شَاءَ، وَيُفَكُّ بِهَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَكُونُ قَضَاءً مِنْ قَضَاءٍ مِنَ الْمِائَتَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَلَا يَنْفَكُّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَبْدَيْنِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَانَ لِلَّذِيَ افْتَكَّ نِصْفَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُرْتَهِنَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا عَطَفَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ اثْنَيْنِ وَالْمُرْتَهِنُ وَاحِدٌ، فَيَنْفَكُّ حِصَّةُ أحد الراهنين من الرهنين، إِمَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرهن إذا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ جَبْرًا وَلَا صُلْحًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ، فَتَكُونُ الْحِصَّةُ الْخَارِجَةُ مِنَ الرَّهْنِ شَائِعَةً، وَلِمَالِكِهَا التَّصَرُّفُ فِيهَا، كَتَصَرُّفِ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَشَاعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا، وَهُوَ ما تماثل أجزاؤه من الحبوب المكيلة والمائعات الموزونة، فإذا ادعى الشريك إلى القيمة أَجْبَرَ الشَّرِيكُ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ، فَإِنْ قسم ذلك بنفسه، وأخذ من الحملة قَدْرَ حِصَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَاسَمَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالشَّرِيكُ وَالرَّاهِنُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لا يجوز، لأن الملك مشترك بينها فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِتَمْلِيكِ بَعْضِهِ، وعلى هذا يكون ما أخذه بالقسمة بينها، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَمَا تَرَكَهُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ لَوْ كَانَ غَاصِبًا ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا كَانَ شَرِيكًا ضَمِنَهُ بِحَقِّهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ بِالْقِسْمَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مَلَكَ مِنْهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَضَمِنَ الزِّيَادَةَ لِشَرِيكِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَسَّمُ صُلْحًا وَلَا يقسم جبرا، وهو ما اختلقت أجزاؤه وتفاضلت قيمته، كالبقر والأرض والعروض والنبات، فلا تصح للقسمة إلا برضى الرَّاهِنِ الْبَاقِي وَالْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِمُقَاسَمَتِهِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ لِلرَّاهِنِ حَقَّ الْمِلْكِ وَلِلْمُرْتَهِنِ حق المنفعة الْوَثِيقَةِ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يجبر المرتهن؛ لحقه في الْوَثِيقَةِ، فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ دُونَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يجبر المرتهن؛ لحقه فِي الْوَثِيقَةِ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ دُونَ الرَّاهِنِ لَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ، وَلَكِنْ لَوْ رَضِيَا مَعًا وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 الْآخَرِ مُقَاسَمَةَ الشَّرِيكِ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّتِ الْقِسْمَةُ، سَوَاءٌ قَاسَمَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ قَاسَمَهُ بإذن الراهن. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ فِي أَنْ يَرْهَنَ عَبْدَهُ إِلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أَجَلٍ مَعْلُومٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيْعِ الْحَاكِمِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَاسْتَوْفَيْنَا منصوصها، واستقصينا فروعها، فإذا استعار أرضا لرهنه جَازَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَارِيَةِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ لِيَرْهَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ وَوَصْفَهُ وَمُسْتَحَقَّهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الضَّمَانِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الْحَقِّ ووصفه ومستحقه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ مِنَ الرَّهْنِ شيء ". قال الماوردي: لأنا قد ذكرنا إِذَا أَذِنَ لَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِمِائَةٍ، جَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْمِائَةِ فَمَا دُونَ، فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ كَانَ رَهْنُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ بَاطِلًا، وَفِي الْمِائَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ بِمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَهُ بِافْتِكَاكِهِ وَكَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ له وتبع في ماله حتى يوفى الغريم حقه ولو لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده المرهون وإن كان أذن له إلى أجل معلوم لم يكن له أن يأخذه بافتكاكه إلا إلى محله ". قال الماوردي: قد ذكرنا أنه إذا رهن الْمُسْتَعِيرُ بِمَا أُذِنَ لَهُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثُمَّ أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِفِكَاكِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُنْجَزًا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَارِيَ مُسْتَرْجَعَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْمَحَلِّ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا فِي فُصُولٍ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ فُصُولًا تَتَعَلَّقُ بها. (فَصْلٌ) إِذَا اسْتَعَارَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَرَهَنَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، كَانَ نصفه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 رَهْنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أَقْضَاهُ أَحَدُهُمَا خَمْسِينَ خَرَجَ نِصْفُهُ مِنَ الرَّهْنِ، وَلَوِ اسْتَعَارَ رَجُلٌ عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَرَهَنَهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْتَكَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَدْفَعَ نِصْفَ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَا لِمَالِكَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْعَقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِأَنَّ الْعَبْدَيْنِ لِرَجُلَيْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ ارْتِهَانُ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا بِأَنَّ العبدين الاثنين فإن قضاه الراهن ما قضاه مجتمعا وافتكها معا فلا خيار له، وإن قَضَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَافْتَكَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ. أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِبَقَاءِ وَثِيقَتِهِ فِي بَاقِي الْحَقِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ فَكَّهُمَا مَعًا خَيْرٌ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ فَكِّ أَحَدِهِمَا. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَاسْتَعَارَهُ رَجُلٌ لِرَهْنِهِ عِنْدَ رجل، وأقر بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ عَلَى الْمِائَةِ، ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا أَنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَفُكَّ أَيَّ الْحِصَّتَيْنِ شَاءَ، بِأَنْ يَدْفَعَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ جَاهِلًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لِرَجُلَيْنِ فهل للراهن أن يفك إحدى الحصتين، قيل فِكَاكِ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عليهما في الرهن الكبير في الْجَدِيدِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَفُكَّ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ رَهْنٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ رَهَنَ عَبْدًا لِنَفْسِهِ بِمِائَةٍ ثُمَّ أَدَّى تِسْعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْبَيْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: لَهُ أَنْ يَفُكَّ حِصَّتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَيَخْرُجُ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّهْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا وَمِنْ آخَرَ عَبْدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَفُكَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالرَّجُلَانِ، وَإِنْ كان في ملكيهما فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَأَحْكَامُهُمَا في البيع والرهن حكم مالكي العبدين المتفرقين، فَعَلَى هَذَا هَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ البيع أم لا؟ على قولين. وكذا لو كان عبدين شريكين فاستعار أحد الشريكين حصة شريكه وَرَهَنَهَا مَعَ حِصَّتِهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفُكَّ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى قولين. (فصل) ولو كان العبدان رَجُلَيْنِ فَأَذِنَا لِرَجُلٍ أَنْ يَرْهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ بمائة فَرَهَنَهُ بِهَا، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُعْطِيَ خَمْسِينَ لِأَحَدِهِمَا وَيَفُكَّ نِصْفَ الْعَبْدِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَيَفُكَّ رُبْعَ الْعَبْدِ أَمْ لَا؟ على قولين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 فَلَوْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنَانِ رَجُلًا يَقْبِضُ حَقَّهُمَا فَأَعْطَاهُ الراهن خمسين وقال هي قضاء ما عَلَيَّ وَلَمْ يَدْفَعْهَا الْوَكِيلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى قَالَ لَهُ ادْفَعْهَا إِلَى أَحَدِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ لِلَّذِي أَمْرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَهُ الْوَكِيلُ إِلَيْهِمَا مَعًا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْآخَرِ مَا قَبَضَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ لِغَرِيمِهِ مَالًا وَأَخَذَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَرِيمِهِ إِخْرَاجُهُ مِنْ يَدِهِ. (فصل) قال الشافعي فِي الرَّهْنِ الْكَبِيرِ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ: وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ مَتَاعًا فَقَالَ ارْهَنْهُ عِنْدَ فُلَانٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، فَقَالَ الرَّاهِنُ: إِنَّمَا أَمَرْتُ الرَّسُولَ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَكَ بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ جَاءَنِي فِي رِسَالَتِكَ أَنْ أُسَلِّفَكَ عِشْرِينَ فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا وَكَذَّبَهُ الرَّسُولُ فَالْقَوْلُ قَوْلِ الرسول والمرسل؛ لأنها ينكران دعواه وله إحلاف كل واحد منها. قال الشافعي: وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ. قَالَ الشافعي: فَلَوْ صَدَّقَهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَبَضْتُ مِنْكَ عِشْرِينَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى الْمُرْسِلِ وَكَذَّبَهُ الْمُرْسِلُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَانَ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالرَّسُولُ ضَامِنٌ لِلْعَشَرَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِقَبْضِهَا الزَّائِدَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِقَبْضِهَا. (فَصْلٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ الرِّسَالَةِ فِي الرَّهْنِ: وَلَوِ اختلف الرسول والمرسل فقال المرسل أمرتك أَنْ تَسْتَلِفَ مِنْهُ عَشَرَةً بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْسِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عليه؛ ولأن ضمانه على الرسول من الْعَشَرَةِ، لِأَنَّ الْمُرْسِلَ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَأْخُذَ عَشَرَةً عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ، وَقَالَ الرَّسُولُ بَلْ على ثوبك منها، أو عبد غير العبد الَّذِي قَالَهُ الْمُرْسِلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، وَالْعَشَرَةُ حَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا رَهْنَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْسِلُ، وَلَا فِيمَا رَهَنَ الرَّسُولُ، إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَ فِيهِ رَهْنًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ ما رهنه الرَّسُولُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُرْسِلُ، وَمَا أَذِنَ فِيهِ الْمُرْسِلُ لَمْ يَرْهَنْهُ الرَّسُولُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: ولو أقام المرتهن يسأل الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَهْنِ الْعَبْدِ دُونَ الثَّوْبِ، وَأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ رَهْنِ الثَّوْبِ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ، وَجَعَلْتُ مَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ رهنا، والبينتان ههنا يمكن أن تكونا صادقتين؛ لأنه قد بينها عَنْ رَهْنِهِ بَعْدَ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْهَنُ ولا يَنْفَسِخُ ذَلِكَ الرَّهْنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ رَجُلَيْنِ وَأَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 بِقَبْضِهِ كُلِّهِ بِالرَّهْنِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ رَهْنَهُ وَقَبْضَهُ كَانَ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَدَّقَ الرَّاهِنُ أَحَدَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْكَرَ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ أُحْلِفَ وَكَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا وَصَدَّقَ الَّذِي ليس في يديه ففيها قولان: أحدهما يصدق والآخر لا يصدق لأن الذي في يديه العبد يملك بالرهن مثل ما يملك المرتهن غيره (قال المزني) قلت أنا أصحهما أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فيه إقرار المرتهن ورب الرهن (قال المزني) ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هو في يديه لأن الراهن مقر له أنه أقبضه إياه في جملة قوله وله فضل يديه على صاحبه فلا تقبل دعوى الراهن عليه إلا أن يقر الذي في يديه أن كل واحد منهما قد قبضه فيعلم بذلك أن قبض صاحبه قبله. ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لرجل عبد فادعى عليه رجلان بارتهانه منه فقال: أحدهما رهنتني عبدك هذا، وأقبضت كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ رَهَنْتَنِيهِ وَأَقْبَضْتَنِيهِ قَبْلَ كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَقِّي، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكَذِّبَهُمَا مَعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُكَذِّبَ أَحَدَهُمَا وَيُصَدِّقَ الْآخَرَ. وَالثَّالِثَ: أن يصدقهما معا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُكَذِّبَهُمَا جَمِيعًا فَيَقُولُ مَا رَهَنْتُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْكُمَا، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِ المدعيين حُكِمَ بِهَا وَجُعِلَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، وَالْبَيِّنَةُ هَاهُنَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا مَسْمُوعَةٌ فِيمَا يُفْضَى إِلَى مَالٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِسْقَاطُهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى. وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا وَالْحُكْمُ لِمَنْ قُرِعَتْ منهما، والثالث: استعمالها وقسم الشيء بينها، فَيَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالرُّجُوعُ إِلَى الدَّعْوَى. وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَ البينتين والحكم لمن قرعت منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَجَعْلُ الْعَبْدِ بينهما نصفين على وجهين وهذا حُكْمُ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا رَهَنَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ فَالْعَبْدُ غَيْرُ مَرْهُونٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ نَكَلَ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا مَعًا، أَوْ يَنْكُلَا مَعًا، أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ، فَإِنْ حَلَفَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ يَمِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُعَارِضُ يَمِينَ صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ نَكَلَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ رَهْنًا عِنْدَ واحد منها. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِهِ رَهْنًا لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي تَكْذِيبِهِ لَهُمَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدَهُمَا وَيُكَذِّبَ الْآخَرَ فَيَقُولُ: رَهَنْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَأُقْبِضُهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَذَّبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بينة فالقول قول الراهن المقر من كَوْنِ الْعَبْدِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُصَدَّقِ وَهَلْ عَلَيْهِ اليمين أم لا؟ على قولين، المنصوص منها فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ زَجْرًا لِلْمُسْتَحْلَفِ لِيَرْجِعَ عَنْهَا فَيُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ، وَهَذَا الرَّاهِنُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِرُجُوعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَحَهَا الْوَلِيَّانِ وَصَدَّقَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الرَّاهِنِ إِذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ أن عليه اليمين وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ، وَوَجْهُ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَفَادُ بِهَا إِنْ نَكَلَ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْمُكَذَّبِ فَيَسْتَحِقُّ بِهَا إِنْ حَلَفَ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُصَدَّقِ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينِ وَيَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ، أَوْ يَنْكُلَ عَنْهَا وَلَا يَعْتَرِفَ لِلْمُكَذَّبِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا وَاعْتَرَفَ لِلْمُكَذَّبِ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُكَذَّبِ، لِحُدُوثِ الِاعْتِرَافِ لَهُ، وَيَصِيرُ الرَّاهِنُ بِهَذَا الِاعْتِرَافِ رَاجِعًا عَنِ الأول مقر لِلثَّانِي فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَقَرَّ فِي دَارٍ بِيَدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ خَرَجَ مِنْهُمَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِتَفْوِيتِهِ الرَّهْنَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِمَا لَزِمَهُ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مَالًا فَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ، وَهَذَا إِنْ نَكَلَ وَاعْتَرَفَ، فَأَمَّا إِنْ نَكَلَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ فَإِنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُكَذَّبِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُكَذَّبِ وَإِنْ حَلَفَ الْمُكَذَّبُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وكانت يَمِينُهُ بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِهِ للأول فاستويا، وإذا كان كذلك فقد حكاهم ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أن الرهن منسوخ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ يُجْعَلُ رَهْنًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُمَا فِيهِ مُتَسَاوِيَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبْدَ رَهْنٌ لِلْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُغَرَّمَ قِيمَتَهُ وَتَكُونَ رَهْنًا بِيَدِ الثَّانِي لِأَجْلِ اعْتِرَافِهِ، فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِلْمُكَذَّبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَدَّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْمُكَذَّبِ، أَوْ لَا تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حُكِمَ لِلْمُكَذَّبِ بِبَيِّنَتِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُكَذَّبِ دُونَ الْمُصَدَّقِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان للمصدق بينة سمعت لا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ وَالْمُقِرُّ لَا تُسْمَعُ عليه البينة بإقراره، ولكن تسمع في معارضة بينة المكذب، فإذا تعارضت قوى المصدق بالإقرار له فحكم له لقوله، وَسَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَارُضِهِمَا، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُصَدَّقِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي تَصْدِيقِ أحدهما ويكذب الْآخَرِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُمَا مَعًا، فَيَقُولُ قَدْ رَهَنْتُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَأَقْبَضْتُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِرَهْنِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْهُمَا أو لا يعلم، فإن قال كنت علمت المتقدم فيهما فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لواحد من المرتهنين بينة، وإنما لزمه الْيَمِينُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُمَا وَعَنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا قُبِلَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ لَازِمَةً لَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يَنْكُلَ، فَإِنْ حَلَفَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرهن مقسوم وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فَيَ الدَّعْوَى، وَسُقُوطِ دَعْوَيْهِمَا بِالْيَمِينِ، وَفِي الرَّهْنِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ يَمِينُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَكُنْ لِنَفْيِ الرَّهْنِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لِنَفْيِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا الرَّهْنُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلِ الرَّهْنُ بِيَمِينِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ نَكَلَا عَنِ اليمين وجب ردها على المرتهنين ولها ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكُلَا عَنْهَا، فَالرَّهْنُ حِينَئِذٍ مَفْسُوخٌ لِنُكُولِهِمَا، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ مَالِكِهِ غير مرهون. الحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ، فَيُقْضَى لِلْعَبْدِ رَهْنًا فِي يَدِ الْحَالِفِ مِنْهَا دُونَ الناكل. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ مَفْسُوخٌ لِتَعَارُضِ بَيِّنَتِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَهْنٌ بَيْنَهُمَا لِتَسَاوِيهِمَا، وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ هُوَ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ. فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ رَهْنًا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ، وَهَلْ عليه التمييز أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ زَجْرًا لَهُ لِيَنْكُلَ عَنْهَا فَتُرَدَّ عَلَى الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِي الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَضَتْ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا لتعارضهما. والثاني: يكون بينها لتساويهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 وَالثَّالِثُ: يَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ، ويغرم للراهن قِيمَتُهُ تَكُونُ رَهْنًا بِيَدِ الْآخَرِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْعَبْدِ بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِيَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ لِمَنْ هُوَ في يده، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِمَنْ لَيْسَ الْعَبْدُ بِيَدِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ المرتهن، ووجهه أن فِي الْيَدِ يُنَافِي التَّدَاعِي، أَلَا تَرَى لَوْ تداعيا عبد بعبد مَبِيعًا لَا رَهْنًا وَكَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَصَدَّقَهُمَا عَلَى الْبَيْعِ وَأَقَرَّ بِالتَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِهِ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِيَدِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ ارْتِهَانَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ قَدْ بَطَلَ بنكوله ومع هذا الإقرار لم يحتج إلى يمين. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَدَ فِي الرَّهْنِ لَيْسَتْ بَيَانًا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَلَا ترى لو أنكر الرهن وكان فِي يَدِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صحة دعواه، وكذلك إِذَا اعْتَرَفَ أَنَّ رَهْنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ رَهْنًا فَاسِدًا، كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَالْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ أَزَالَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَصَارَ مُقَرًّا فِي غَيْرِ مَالِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَالرَّهْنُ لَمْ يُزِلْ مِلْكَ الراهن وكان مُقَرًّا فِي مِلْكِهِ، وَكَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَهَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى حَلِفِهِ وَنُكُولِهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي كَوْنِ الْعَبْدِ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ جَمِيعًا. فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنَيْنِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَهَلْ عَلَى الرَّاهِنِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ الَّذِي فِي يَدِ المرتهن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 الْآخَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ وَفُضِّلَ أَحَدُهُمَا بِالْإِقْرَارِ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يكون الرهن في يد أجنبي، فإنه يسأل عن يده، فإن كانت نابتة عَنِ الرَّاهِنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ في يد الراهن، وإن كانت نابتة عَنْ أَحَدِ الْمُرْتَهِنَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَاصِبَةً لا ينوب بها عن أحد، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْيَدِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ الفصل إلى آخره. وكان أَوَّلُ كَلَامِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ دُونَ صَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنْ يُصَدَّقَ يَعْنِي الرَّاهِنَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبِّ الرَّهْنِ، ثُمَّ آخِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ دُونَ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِلْمُزَنِيِّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمُزَنِيَّ قَالَ: أَصَحُّهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ صَرِيحُ أُصُولِهِ، وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَذْهَبِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اخْتِيَارِهِ قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ بِنَصِّ اخْتِيَارِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 (باب رهن الأرض) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا رَهَنَ أَرْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِبِنَائِهَا وَشَجَرِهَا فَالْأَرْضُ رَهْنٌ دُونَ بِنَائِهَا وَشَجَرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا رَهَنَ أَرْضًا ذَاتَ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ رَهْنًا مَعَ الْأَرْضِ وِفَاقًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ خُرُوجَ نَبَاتِهَا وَشَجَرِهَا مِنَ الرَّهْنِ فَيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَتَكُونَ الْأَرْضُ وَحْدَهَا رَهْنًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ الرَّهْنُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ شَرْطٌ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ أن الأرض تكون رهنا دون نباتها، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: إِذَا بَاعَهُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مُطْلَقًا، كَانَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ خَارِجٌ مِنَ الْعَقْدِ وَغَيْرُ تَابِعٍ لِلْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَحَمَلُوا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْبُيُوعِ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ بِحُقُوقِهَا، وَأَمَّا مَعَ الْإِطْلَاقِ فَلَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ خَرَّجُوا فِي الرَّهْنِ مِنَ الْبُيُوعِ قَوْلًا، وَفِي الْبُيُوعِ في الرَّهْنِ قَوْلًا، وَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الرَّهْنِ وَالْبُيُوعِ مَعًا على قولين: أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ فَأَشْبَهَ حُقُوقَ الْأَرْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: خُرُوجُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بِالشَّرْطِ كَالْأَرْضِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ يَدْخُلَانِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيِ عَقْدِ الرَّهْنِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ عقد ينقل الملك قد حل فِيهِ تَوَابِعُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لِقُوَّتِهِ، وَعَقْدُ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا مَا سُمِّيَ لِضَعْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا تَبِعَهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ تَبِعَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ، وَالرَّهْنُ لَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَتْبَعْهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ. (فَصْلٌ) إِذَا قَالَ رَهَنْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ فَإِنَّ الْغِرَاسَ وَالشَّجَرَ يَدْخُلَانِ فِي الرَّهْنِ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْبُسْتَانَ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ جَمِيعُ بِنَائِهَا، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا مَعَ بِنَائِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَبَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ فَالشَّجَرُ رَهْنٌ دُونَ الْبَيَاضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إلا ما سمي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَهَنَ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ بَيَاضُ الْأَرْضِ، وَكَذَا الْبَيْعُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، لِأَنَّ الشَّجَرَ فَرْعٌ تَابِعٌ وَالْأَرْضَ أَصْلٌ مَتْبُوعٌ، وَالْفَرْعُ قَدْ يَتْبَعُ أَصْلَهُ، وَالْأَصْلُ لَا يَتْبَعُ فَرْعَهُ. فَأَمَّا قَرَارُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْأَرْضِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرَّهْنِ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُ فِيهِ كَالرَّهْنِ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْبَيْعِ وَضَعْفِ الرَّهْنِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَ ثَمَرًا قَدْ خَرَجَ مِنْ نَخْلَةٍ قبل يحل بَيْعُهُ وَمَعَهُ النَّخْلُ فَهُمَا رَهْنٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ حَلَّ جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَكَذَلِكَ إِذَا بلغت هذه الثمرة قبل محل الحق وبيعت خُيِّرَ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا مَرْهُونًا مَعَ النَّخْلِ أَوْ قِصَاصًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ هذه الثمرة تيبس فلا يكون لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا رَهَنَهُ تَمْرًا مَعَ نَخْلِهِ صَحَّ الرَّهْنُ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بادية الصلاح أو غير بادية الصلاح، مرة كانت أو غير مرة، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ صِحَّةُ الرَّهْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 إِلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ للنخل يجوز بيعها من غير شرط، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِيهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا اسْتَقَرَّتْ صِحَّةُ الرَّهْنِ فِي النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَيْبَسُ وَتَبْقَى مُدَّخَرَةً أَمْ لا؟ لأن تعجيل حقها مُسْتَحَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مُؤَجَّلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ قَبْلَ تَنَاهِي الثَّمَرَةِ وإدراكها فالراهن فِيهِمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ محله بعد تناهي الثمرة من إدراكها فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرة مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَذَلِكَ أَزْيَدُ فِي ثَمَنِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِمَّا ييبس مدخرا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ وَلَا يَيْبَسُ مُدَّخَرًا. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً وَيَكُونُ أَوْفَرَ مِنْ ثَمَنِهَا كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تمرا، أو العنب الَّذِي يُصِيرُ زَبِيبًا، فَالْوَاجِبُ تَجْفِيفُهَا وَاسْتِبْقَاؤُهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ، فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى اسْتِبْقَائِهَا حُكِمَ بِقَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اسْتِبْقَائِهَا، لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ يَقْتَضِيهِ، وَإِنِ اتُّفِقَ عَلَى بَيْعِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهَا. فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِفَسَادِ الشَّرْطِ وَتَأْخِيرِ الْحَقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ إِذَا بِيعَتْ، ولا حق للمرتهن في ثمنها. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا لِيَكُونَ ثَمَنُهَا رَهْنًا مَكَانَهَا، فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: صحيح ويكون الثمر رهنا. والثاني: بَاطِلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ قَبْلُ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً لَكِنَّ ذَلِكَ مُوكِسٌ لِثَمَنِهَا وَبَيْعُهَا قَبْلَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ أَوْفَرُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا إِلَى حُلُولِ الْحَقِّ جَازَ، وَكَانَ النَّقْصُ لِجَفَافِهَا دَاخِلًا عَلَيْهَا بِاخْتِيَارِهِمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا، أَوْ بِيعَتْ مُطْلَقًا حَقَّ الْبَيْعُ وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ لِحِفَاظِ الْحَقِّ، وَتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ كَالَّذِي تَقَدَّمَ، فَإِنْ بِيعَتْ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الرَّهْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى بَيْعِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَحِفْظِ الزِّيَادَةِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مِمَّا تُؤْكَلُ رَطْبًا وتفكها ولا تيبس مدخرة فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ تَفْسُدُ إِنْ تُرِكَتْ إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنِ ارْتَهَنَ طَعَامًا رَطْبًا إِلَى أَجَلٍ يَفْسُدُ قَبْلَ مَحَلِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَأَمَّا رَهْنُ هَذِهِ الثَّمَرَةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصْفِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ وَفِي النخل معا. وفي القول الثَّانِي: الرَّهْنُ بَاطِلٌ فِي الثَّمَرِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي النَّخْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: الرَّهْنُ فِي الثَّمَرَةِ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ تَبَعٌ لِلنَّخْلِ فَلَمْ يُغَيَّرْ حُكْمُهَا مُفْرَدَةً كسائر التوابع وليس الطعام الرطب كذلك؛ لأن غَيْرُ تَبَعٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ فِي التَّمْرِ لَا يَبْطُلُ فَهَلْ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى بَيْعِهَا عِنْدَ تَنَاهِيهَا وَإِدْرَاكِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ حدوث فساده. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ. وَالْفَرْقُ بينهما: أن الثمرة هاهنا تبع لأصل باقي وَهُوَ النَّخْلُ فَالْحَقُّ يَحْكُمُ أَصْلَهُ، وَوَجَبَ بَيْعُهُ لِيَكُونَ بَاقِيًا مَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ؛ لأنه لا يتبع أصلا باقيا فكان يحكم نفسه مفردا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ الثَّمْرَ دُونَ النَّخْلِ طَلْعَا أَوْ مُؤَبَّرَةً أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجُزِ الرَّهْنُ إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا حَلَّ حَقُّهُ قَطَعَهَا وَبَاعَهَا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ لِأَنَّ المعروف من الثمر أنه يترك إلى أن يصلح أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا لمعرفة الناس أنها تترك إلى بدو صلاحها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ النَّخْلِ مَعَ الثَّمَرَةِ آنِفًا، وَمَضَى الْكَلَامُ فِي رهن النخل على الإطلاق في حكمه، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رَهْنِ الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ وَهِيَ إِذَا رُهِنَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ. فَإِنْ كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرْهَنَ فِي حَقٍّ حَالٍّ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً أَمْ لَا. وَالثَّانِي: أَنْ تُرْهَنَ فِي مُؤَجَّلٍ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُلُولُ الْحَقِّ قَبْلَ جَفَافِهَا أَوْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا تَيْبَسُ وَلَا تَجِفُّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ قَبْلَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الْأَجَلِ بَعْدَ تَنَاهِيهَا وَفَسَادِهَا، فَفِي رَهْنِهَا قَوْلَانِ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ سَوَاءٌ، بَلْ هِيَ طَعَامٌ رَطْبٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ. (فَصْلٌ) وإن كانت الثمرة غير بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرْهَنَ فِي دَيْنٍ حَالٍّ. وَالثَّانِي: فِي مُؤَجَّلٍ. فَإِنْ رُهِنَتْ فِي دَيْنٍ حَالٍّ فَهَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ رَهْنِهَا اشْتِرَاطُ قَطْعِهَا، أَمْ لَا؟ عَلَى قولين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 أحدهما: إن اشتراط القطع شرط في صِحَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ رُهِنَتْ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا كَالْبَيْعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَحَّ رَهْنُهَا بِاشْتِرَاطِ قَطْعِهَا فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ بِعْتُهَا عَلَى رؤوس النَّخْلِ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ لَسْتُ أَبِيعُهَا إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ، وَيُؤْخَذُ الْمُرْتَهِنُ بِقَطْعِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ الصحيح: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صحة الرهن، فَإِنْ رَهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ، وَوَجَبَ بِالْقَطْعِ، فَإِنْ رَهَنَهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ شَرْطًا، وَإِنْ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ شَرْطًا، أَنَّ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ اسْتِحْلَالِهِ فِي الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فِيمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ " فَكَانَ الْقَطْعُ شَرْطًا فِي صحته، لأن لا يُؤَدِّيَ إِلَى اسْتِحْلَالِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ حُصُولَهُ فِي يَدِ مُشْتَرِيهِ، وَالرَّهْنُ لَا يُقَابِلُ ثَمَنًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْحَقِّ وَثِيقَةً، فَلَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ فِي صِحَّتِهِ شَرْطًا. (فَصْلٌ) وَإِذَا رُهِنَتِ الثَّمَرَةُ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَالْأَجَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَهْنِهَا فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ، وَهَلْ يَكُونُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِي صِحَّةِ رَهْنِهَا شَرْطًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ قَبْلَ بدو الصلاح قبل أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الدَّيْنِ بَعْدَ شَهْرٍ وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ مَعَ الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ قَطْعُهَا فِي الرَّهْنِ فَسَدَ الرَّهْنُ، سَوَاءٌ شُرِطَ قَطْعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الطَّعَامِ الرَّطْبِ، لِأَنَّ قَطْعَهَا واجب. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ شَرْطَ قَطْعِهَا مَعَ حُلُولِ الدَّيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُشْتَرَطَ قَطْعُهَا مَعَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا رَهْنُهَا جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَيْبَسُ وَتَجِفُّ أَمْ لَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَا حَالَ الْعَقْدِ، وَلَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَعَ الْبَيْعِ، فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَقْطَعُهَا عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَأَبِيعُهَا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْهَا على رؤوس النخل يشرط الْقَطْعَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يَضُرُّ ولا يوجبه شرط ولا عقد إذا جرت العادة بيعها على رؤوس النَّخْلِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِبَيْعِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 مَقْطُوعَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَهُ، فَأَمَّا إِذَا رَهَنَهَا بِشَرْطِ التبقية كان رهنها باطلا قولا واحد؛ لِأَنَّ رَهْنَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَبْقِيَتِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَمَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ ثِمَارِ النَّخْلِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ثِمَارِ النَّخْلِ كالحكم في ثِمَارِ النَّخْلِ، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَكَالثَّمَرَةِ أَيْضًا وَالِاشْتِدَادُ كَبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَعَدَمُ الِاشْتِدَادِ كَعَدَمِ الصَّلَاحِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّرْعُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُشْتَدٍّ، فَإِنْ رهنه في حق معجل فصل يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ فِي حَقٍّ مُؤَجَّلٍ: فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بائنا فِي سُنْبُلِهِ غَيْرَ مَسْتُورٍ بِحَائِلٍ كَالشَّعِيرِ فِي سنبله جاز فِي الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَجَّلِ، لِأَنَّ الْحُبُوبَ الْمَزْرُوعَةَ تَيْبَسُ مُدَّخَرَةً فِي الْغَالِبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فِي سُنْبُلِهِ بِحَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ كالتين، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ، كَالْبَيْعِ مُعَجَّلًا كَانَ الْحَقُّ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لم يجز رهنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَخْرُجُ فَرَهَنَهُ وَكَانَ يَخْرُجُ بَعْدَهُ غَيْرُهُ مِنْهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ الْمَرْهُونُ مِنَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أن يقطع في مدة قبل أن يلحفه الثَّانِي فَيَجُوزَ الرَّهْنُ فَإِنْ تُرِكَ حَتَى يُخْرِجَ بعده ثمرة لا تتميز ففيها قولان أحدهما أنه يفسد الرهن كما يفسد البيع. والثاني أنه لا يفسد والقول قول الراهن في قدر الثمرة المختلطة من المرهونة كما لو رهنه حنطة فاختلطت بحنطة للراهن كان القول قوله في قدر المرهونة من المختلطة بها مع يمينه (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله وقد بينته في هذا الكتاب في باب ثمر الحائط يباع أصله (قلت أنا) وينبغي أن يكون القول في الزيادة قول المرتهن لأن الثمرة في يديه والراهن مدع قدر الزيادة عليه فالقول قول الذي هي في يديه مع يمينه في قياسه عندي وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً تُخْرِجُ بَعْدَهَا ثَمَرَةً أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَقِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون معجلا، أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ مُعَجَّلًا جَازَ رَهْنُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَجَلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُلُولُهُ قَبْلَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى، أَوْ بعد حدوثها فإن كان حلوله قيل حُدُوثِ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَرَهْنُهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهَا وَقْتَ الْبَيْعِ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ حُلُولُهُ بَعْدَ ثَمَرَةٍ أُخْرَى فَلَا يَخْلُو حَالُ رَهْنِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، فَرَهْنُهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ حُلُولُ الْأَجَلِ غَيْرُ مُمْتَازَةٍ، وَإِفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ مَعَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ تَخْرُجْ فِيهَا الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ، فَالْحُكْمُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ لَا تَبْقَى، فَإِنْ كَانَتْ تَبْقَى إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ تَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ فَرَهْنُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا شَرْطِ التَّرْكِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ رَهْنَهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الرَّهْنِ يُوجِبُ تَرْكَهَا إِلَى حُلُولِ الأجل، فهذا الرهن بَاطِلٌ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ خَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَهْنَهَا جَائِزٌ، قَالَ لأنهما يتطوعان ببيعها وقطعها. (فصل) فإذا ثبت جَوَازَ رَهْنِهَا مَشْرُوطٌ بِمَا ذَكَرْنَا فَرَهْنُهَا جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ تُقْطَعْ حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْحَادِثَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ الْأُولَى، فَرَهْنُ الْأُولَى عَلَى حَالِهِ فِي الْجَوَازِ لَا يَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ مَا يُمَيَّزُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونَ الرَّهْنُ بَاطِلًا لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الْمَرْهُونِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّهْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَائِزًا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ جَائِزٌ لِسَلَامَتِهِ إِلَى حِينِ تَمَامِهِ بِالْقَبْضِ، وَبَقَاءُ مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الرهن، وَالْجَوَابُ فِي الرَّهْنِ مِمَّا يُخَالِفُ الْجَوَابَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ إِذَا حَدَثَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي تَمَامِهِ، وَفِي الْبَيْعِ حَقٌّ مِنْ أَحْكَامِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فَفِي زَمَانِ بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ حِينَ اخْتِلَاطِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ فَيَكُونُ قَاطِعًا لِتَمَامِهِ وَاسْتِدَامَتِهِ، وَلَا يَكُونُ رَافِعًا مِنْ أَصْلِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ حُدُوثُ الِاخْتِلَاطِ وإلا عَلَى الْجَهَالَةِ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ، فَيَصِيرُ رَافِعًا لَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِالرَّهْنِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يسامحه. والثالث: أن لا يفعل أحدهما ولكن يريد أخذها. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَهَا أَوْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِهَا، فَرَهْنُهَا جَائِزٌ سَوَاءٌ رَهَنَهَا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ صَارَ مُدْخِلًا رَهْنًا ثَانِيًا عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ فِي حَقٍّ واحد، وذلك جائز، فيكون جَمِيعُ الثَّمَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهَا وَالْحَادِثَةِ رَهْنًا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي حَقٍّ ثَانٍ صَارَتِ الثَّمَرَةُ رَهْنَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّهْنَيْنِ مُبْتَاعٌ فِي الرَّهْنِ الْآخَرِ، فيكون بقدر الثَّمَرَةِ الْأُولَى الَّذِي قَدْ عَلِمَاهُ، أَوِ اتَّفَقَا عِلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ رَهْنًا فِي الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَالثَّمَرَةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي قَدْ عَلِمَاهَا أَوِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا مِنْ ثُلُثٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ رهنا مساغا في الْحَقِّ الثَّانِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَا قَدْرَ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ وَلَا يَتَّفِقَا عَلَيْهَا، وَإِنْ رَهَنَهَا فِي غَيْرِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ كَانَ رَهْنًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنْ رَهَنَهَا في الحق الأول فعلى وجهين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 أحدهما: أنه رَهْنٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَهْنٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى رَهْنٍ أَوَّلٍ صَارَا جَمِيعًا رَهْنًا وَاحِدًا، وَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ صحة الرهن للجميع جهالة قدر الثاني، وهذا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُسَامِحَهُ بِهَا فَيَقُولَ قَدْ سَامَحْتُكَ بِالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ، فَهَذِهِ الْمُسَامَحَةُ تُتْرَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَلَيْسَتْ رَهْنًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ، وَيُطَالِبَهُ بِهَا، وَمَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِهَا فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلرَّهْنِ تُبَاعُ مَعَهُ إِذَا بِيعَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُسَامَحَةُ قَطْعًا لِلِاخْتِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَنَهَا وَلَا يُسَامِحَ بها ويطالب بأحدها فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الرَّهْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهَا وَأَنَّهَا ثُلُثُ الْجُمْلَةِ أَوْ رُبُعُهَا سَقَطَ النِّزَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَشَاعًا فِي الثَّمَرَةِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: هِي النِّصْفُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ، هِيَ الثُّلُثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ حَلِفٌ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ يُوجِبُ فَسْخَ الرَّهْنِ، كَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ، قِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَبِيعِ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْجَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ كَالْبُقُولِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْجَزِّ، فَإِذَا تَأَخَّرَ جَزُّهَا حَتَّى زَادَتْ وَطَابَتْ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزَّائِدِ مِنْهَا صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ غَيْرَ مُنْفَصِلَةٍ كَالْعَلَفِ إِذَا طَالَ وَالْبَقْلِ إِذَا زَادَ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي جَائِزٌ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي فَسْخِ الرَّهْنِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مَا لا ينفصل يستحيل العلم بحقيقة قدره، وهل الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالرَّهْنِ إِذَا كَانَتْ فِي الْبَيْعِ، كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الرَّهْنِ فَاسْتَوَيَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي يَدِهِ، كَالْمُشْتَرِي إِذَا قَبَضَ مَا ابْتَاعَهُ وَاخْتَلَطَ بِمَالِ الْبَائِعِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فَاسِدٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمُرْتَهِنِ: أَنَّ نِزَاعَهُمَا فِي البيع نزاع في الملك. واليد تدل، فَكَانَ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ، وَنِزَاعُهُمَا فِي الرَّهْنِ نِزَاعٌ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ، وَالْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الرَّهْنِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْيَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا وَصَلَاحُهَا وَجِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفْقَةُ الْعَبْدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: كُلَّمَا احْتَاجَتِ الثَّمَرَةُ إليه من نفقة سقي أو مؤونة حِفَاظٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّهْنِ لَوْ كَانَ دَابَّةً لَوَجَبَتْ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، فَأَمَّا الْجِدَادُ وَالتَّشْمِيسُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ فَالْحَقُّ لَمْ يَحِلَّ بَعْدُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِهَا وَصَلَاحِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ الرَّاهِنُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا هُوَ إِذَا بَلَغَ وَقْتَ الْجِدَادِ وَالتَّشْمِيسِ وَالْحَقُّ قَدْ حَلَّ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي بَيْعِهَا دُونَ تَبْقِيَتِهَا فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاهِنِ جِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ قَطْعُهَا قَبْلَ أَوَانِهَا إِلَّا بِأَنْ يَرْضَيَا بِهِ وَإِذَا بَلَغَتْ إِبَّانَهَا فَأَيُّهُمَا أَرَادَ قَطْعَهَا جُبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَطْعِهَا فَذَاكَ لَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِدْرَاكِهَا أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لهما، وإن اتفقا على تركها فذلك لها، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَرْكِهَا وَالْحَقُّ مُؤَجَّلٌ لَمْ يَحِلَّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُدْرَكَةً أَوْ غَيْرَ مُدْرَكَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى تَرْكِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيدَ فِي ثَمَنِهَا، وَفِي نَفْسِهَا إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهَا، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ بِالرَّهْنِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَدَاخِلَةٌ فِي وَثِيقَةِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَمْ يُجْبَرِ الرَّاهِنُ عَلَى قَطْعِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ مِلْكِهِ مِنْ زِيَادَتِهَا وَلَمْ يُجْبَرِ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قَطْعِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ استساقة زيادتها، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُدْرَكَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ دَاعِيًا إِلَى قَطْعِهَا أَوِ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهَا بعد الإدراك إضاعة لها وإتلاف وفي قطعها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 حِرَاسَةٌ لَهَا وَحِفْظٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ دَعَا إِلَى حِرَاسَتِهَا وَحِفْظِهَا، دُونَ مَنْ دَعَا إِلَى إِضَاعَتِهَا وَإِتْلَافِهَا. فَلَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَطْعِهَا فِي أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجْتَنَى رَطْبًا وَلَا يُشَمَّسُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا مِنْ أَوَّلِ إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّهُ أحفظ لها، وإن كانت مما يجفف وتشمس، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى قَطْعِهَا بَعْدَ تَنَاهِي إِدْرَاكِهَا، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِزِيَادَتِهَا وَأَوْفَرُ لِثَمَنِهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَبَى الْمَوْضُوعَةُ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ قِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْكَ لَهَا مَنْزِلٌ تُحْرَزُ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِهَا فَإِنْ جِئْتَ بِهِ وَإِلَّا اكْتَرَى عَلَيْكَ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ الرَّهْنُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ لِيَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَأَبَى الْعَدْلُ أَنْ يُحْرِزَهُ فِي مَنْزِلِهِ إِلَّا بِكِرَاءٍ، لَمْ يُجْبَرِ الْعَدْلُ عَلَى إِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ، وَلَا الرَّاهِنُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَدْلِ الْكِرَاءَ، وَقِيلَ: لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَى نَقْلِهِ إِلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَطَوَّعُ بِإِحْرَازِهِ فِي مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ كِرَاءٍ، وَإِلَّا عَلَى الرَّاهِنِ كِرَاءُ مَنْزِلٍ يُحْرِزُ فِيهِ، لِأَنَّ كِرَاءَ الْمَنْزِلِ مِنْ مؤونة الرَّهْنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " له غنمه وعليه غرمه ". وإن امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ اكْتِرَاءِ مَنْزِلٍ اكْتَرَى الْقَاضِي عليه من ماله فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ اكْتَرَى فِيهِ وَلَمْ يَبِعْ مِنَ الرَّهْنِ مَا يُكْتَرَى فيه، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا غَيْرَ الرَّهْنِ بَاعَ مِنَ الرَّهْنِ بِقَدْرِ مَا يَكْتَرِي بِهِ مَنْزِلًا يُحْرِزُهُ فِيهِ، وَيَكُونُ مَكْرِيُّ الْمَنْزِلِ مُقَدَّمًا بِالْكِرَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَعَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. (فَصْلٌ) فَإِنِ اكْتَرَى الْمُرْتَهِنُ مَنْزِلًا مِنْ مَالِهِ لِإِحْرَازِ الرَّهْنِ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الرَّاهِنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْتَهِنِ فِي دَفْعِ الْكِرَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِإِذْنِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ بِمَا يَدْفَعُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 فَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ مِنَ الْكِرَاءِ، عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَرْهُونٌ فِي يَدِهِ بالحق المتقدم، والأجرة المستأخرة فَيَصِيرُ مُدْخِلًا لِحَقٍّ ثَانٍ عَلَى حَقٍّ أَوَّلٍ فِي رَهْنٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا فَجَرَى مَجْرَى جِنَايَةِ الْعَبْدِ إِذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهَا وَبِحَقِّهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَكُونُ جَوَازُ ذلك على قولين، ومنهم من قال قَوْلًا وَاحِدًا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا، فَإِنْ دَفَعَ الْمُرْتَهِنُ الْكِرَاءَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فَلَهُ الرجوع به، وإن كان بغير إذنه: فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ قَادِرًا فَلَا رُجُوعَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْكِرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَهَلْ لِلْمُرْتَهِنِ الرُّجُوعُ بِالْكِرَاءِ أم لا؟ على وجهين والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 (بَابُ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ مِنَ الشَّرْطِ وَمَا لا يفسده وغير ذلك) قال الشافعي رضي الله عنه: " إِنِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عُقِدَ هَذَا الْبَابُ وَمُقَدَّمَتُهُ وَمَا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّهْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ. وَالرَّابِعُ: مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ سُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْ مُرْتَهِنِهِ، وَتَمْلِيكِ مَنَافِعِهِ لِرَاهِنِهِ، وَبَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَقَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ قَبْضِهِ وَهَذِهِ وَمَا بَيَّنَّا كُلُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا لَوَجَبَتْ وَإِذَا اشْتَرَطَهَا تَأَكَّدَتْ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جَائِزَاتِهِ، فَمِثْلُ اشْتِرَاطِ وَضْعِهِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِهِ نِيَابَةً لِرَاهِنِهِ وَمُرْتَهِنِهِ، فَإِنْ شُرِطَ هَذَا مَعَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَازَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَخَلَّا بِتَعْيِينِهِ وَبِالشَّرْطِ صَحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ الشَّرْطُ، فَأَمَّا حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ فَلَيْسَ مِنْ جَائِزَاتِ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ الدَّيْنِ، لَا عَقْدِ الرَّهْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الدَّيْنِ مِنْ حُلُولِهِ وَتَأْجِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ حَالًّا، فَإِنْ عُقِدَ مُؤَجَّلًا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِمَّا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الرَّهْنِ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ عَقَدَهُ حَالًّا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِدَامَةَ التَّوَثُّقِ إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُلُولُ الرَّهْنِ وَتَأْجِيلُهُ عَلَى حَسَبِ الدَّيْنِ وَتَأْجِيلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ النَّاقِصَةِ قَبْلَ اشْتِرَاطِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ شَهْرًا بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ حُلُولِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ رَاهِنِهِ، أَوْ يُبَاعُ بِيَمِينٍ عِنْدَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 اسْتِحْقَاقِ بَيْعِهِ، فَإِذَا بِيعَ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْحَقِّ مِنْ ثَمَنِهِ فَهَذِهِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا شُرُوطٌ يَمْنَعُ الرَّهْنُ مِنْهَا، وَهِيَ شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ فَكَانَتْ بَاطِلَةً، لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَكَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ مُوجَبِ الرَّهْنِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَهَلْ يَبْطُلُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِعَدَمِهِ، وَيَنْقُصُ بِاشْتِرَاطِهِ كَالْخِيَارِ، وَالْأَجَلِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ بَطَلَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، وَيُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ بَاقِي الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ الْمَجْهُولُ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِحُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ فَسَادُهُ مُوجِبًا لِفَسَادِ الْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ، كَالصَّدَاقِ الَّذِي لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا عَنِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ الَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ كَانَ بُطْلَانُهُمَا مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ لِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ مَمْنُوعَاتِهِ الزَّائِدَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ صِفَةٍ فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: زِيَادَةً وَثِيقَةً كَالرَّهْنِ. وَالثَّالِثُ: زِيَادَةَ تَمْلِيكٍ مِنَ الرَّهْنِ. فَأَمَّا زِيَادَةُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ: فَمِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ في العقد ببيع الرَّهْنِ مَتَى شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِطَ بَيْعَهُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهُ شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الرَّهْنِ فَكَانَتْ بَاطِلَةً لِمُنَافَاتِهَا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ لِشَرْطِ مَا يُنَافِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ شُرُوطًا زَائِدَةً، كَمَا يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الشُّرُوطَ النَّاقِصَةَ تَمْنَعُ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَكَانَتْ مُبْطِلَةً، وَالشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهَا مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الْوَثِيقَةِ فِي الرَّهْنِ فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا أَنْتَجَتْ كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ مَا اسْتُغِلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ رَهْنًا مَعَهَا، فَهَذَا وَمَا يَشَاءُ كُلُّهُ مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي وَثِيقَةِ الرَّهْنِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا لَازِمَةٌ وَعَقْدُ الرَّهْنِ بِاشْتِرَاطِهَا صَحِيحٌ وَتَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ تَبَعًا لِلرَّهْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: غُرْمُهُ وَقْتَ عَقْدِهِ. وَالثَّانِي: جَهَالَةُ قَدْرِهِ. فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ بِبُطْلَانِ هَذَا الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ وَإِنْ بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ، وَالْبَائِعُ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِي إِرْهَانِ الْحَادِثِ. وَأَمَّا زِيَادَةُ التَّمْلِيكِ فِي الرَّهْنِ: فَمِثْلُ أَنْ يَرْهَنَ نَخْلًا عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ ثَمَرَتَهَا، أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ لَهُ نِتَاجَهَا، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ لَهُ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنَّ لَهُ رُكُوبَهَا، فَهَذَا وَمَا شَاءَ كُلُّهَا مِنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي تَمَلُّكِهِ مِنَ الرَّهْنِ، إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَطَةً فِي رَهْنٍ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الرَّهْنُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَأْخُوذًا فِي بَيْعٍ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلَةً، لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الشُّرُوطُ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ لَمْ تَخْلُ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ أَوْ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الرَّهْنِ كَانَتِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةً، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ أَجْوَزُ، وَالْبَائِعُ فِي الْبَيْعِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَالثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ بَاطِلًا، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَهِيَ أَعْيَانٌ مَجْهُولَةٌ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ فَبَطَلَتْ وَبَطَلَ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِهَا، وَلَا رَهْنَ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعَ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، كَانَ كَاشْتِرَاطِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي قَدِ ارْتَهَنَ فِيهِ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، أَوِ ارْتَهَنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 فِيهِ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا سَنَةً، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ حِصَّةُ الْبَيْعِ مِنْ حِصَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ جَائِزَانِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ لَازِمًا، وَالْبَيْعُ صَحِيحًا، وَالرَّهْنُ جَائِزًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ بَاطِلَانِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ مُخْتَلِفَا الْحُكْمِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلًا، وَالْبَيْعُ فاسد، وَالرَّهْنُ مَحْلُولًا، فَهَذَا عَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمُقَدِّمَتُهُ وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَالْبَابُ كُلُّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تِسْعِ مسائل مسطورة. فأول مسائله. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرهن شيئا فالشرط باطل، وصورتها في رهن مستقر من ثمن مبيع، أو أرش جناية، أو صداقه زَوْجَةٍ، أَخَذَ بِهِ رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ أَعْيَانًا أَوْ مَنَافِعَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَقِرًّا بِلَا رَهْنٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَبْطُلْ كَانَ وَثِيقَةً فِي الدين ولا خيار له. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ فَقَالَ زِدْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَكَ بِهِمَا مَعًا رَهْنًا يَعْرِفَانِهِ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ أَقْرِضْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى عَبْدِي الْفُلَانِيِّ رَهْنًا، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِي الْأُولَى فَصَارَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا " وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى وَفِي الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الرَّهْنِ؛ لِبُطْلَانِ الْقَرْضِ، وَبَطَلَ فِي الأولى؛ لأن الرهن فيهما كان يشرط الْقَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ، وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ على مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ أصحابنا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْنِي عَبْدًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي رَهْنًا فَفَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ والرهن مفسوخا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ لِمَنْ لَهُ الْأَلْفُ بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي هَذِهِ رَهْنًا، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، أَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ، فَلِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ رَهْنًا فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ رَهْنًا فَبَطَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا إِلَى الثَّمَنِ فَأَدَّى إِلَى جَهَالَةٍ فِي بَابِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَيَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ، لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَبَطَلَ فِي الْأَلْفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِيهَا كَانَ بِشَرْطِ الْبَيْعِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَكَانَ شَرْطًا بَاطِلًا، وَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذكر؛ لأن التعليل يقتضيه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي السَّلَفِ ". قَالَ الماوردي: صورتها فِي رَجُلٍ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ لَهُ مَنَافِعَ الرَّهْنِ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ مَنَافِعَ الرَّهْنِ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وَرَهْنٌ بَاطِلٌ، لأنه مشروط في قرض قد بطل. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَنَافِعِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا وَهِيَ أَعْيَانٌ، فَالْقَرْضُ لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّ فَسَادَ الرَّهْنِ فِي الْقَرْضِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْقَرْضِ، وَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ صَحِيحٌ، وَتَكُونُ الْمَنَافِعُ رَهْنًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا تَكُونُ الْمَنَافِعُ الْحَادِثَةُ رَهْنًا، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الرهن قولان. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إِثْبَاتِهِ والرهن ويبطل الشرط (قال المزني) قلت أنا أصل قول الشافعي كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يجوز وإن أجيز حتى يبتدأ بما يجوز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا وَشَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِهِ رَهْنًا معينا على أن منافع الرهن للمرتهن، وهذا على ضربين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 أحدهما: وهو مسألة الكتاب: أن يكون الشرط بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين: أحدهما: إنه باطل، فعلى هذا من بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ، وَالثَّانِي جَائِزٌ، وَلِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ فَسْخُهُ وَإِنْ صَحَّ الرَّهْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا فَاتَهُ الشَّرْطُ ثَبَتَ له الخيار، وقد كان بعض أصحابنا يرتبها غير هذا الترتيب، وخرج الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: بُطْلَانُ الشَّرْطِ فِي الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ وَجَوَازُ الْبَيْعِ. وَالثَّالِثُ: بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَجَوَازُ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا كَالنِّتَاجِ وَالثِّمَارِ، أَوْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَلَا رَهْنَ أَصْلًا. وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِزَمَانٍ وَإِنَّمَا شُرِطَتْ ما بقي الرهن، فالبيع باطل؛ لأن الرهن قَدْ يُعَجِّلُ قَضَاءَ الْحَقِّ أَوْ يُؤَخِّرُهُ، فَتُجْهَلُ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ إِلَى الثَّمَنِ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَالرَّهْنُ مَجْهُولًا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِزَمَانٍ كَأَنَّهُ شَرَطَ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ سَنَةً، أَوْ شَرَطَ رُكُوبَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ شَهْرًا، فَهَذَا عَقْدٌ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ وَلَا رَهْنَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا جَائِزَانِ وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ الْمُرْتَهِنِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ وَاسْتِيفَائِهِ. (فَصْلٌ) قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أُجْبِرَ حَتَّى يَعْقِدَا بِمَا يَجُوزُ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ عَلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. ظَنَّ فِيهِ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ فِيهِ الْخِيَارَ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ يُجْعَلُ الْخِيَارُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ، وَهَذَا غَلَطٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 مِنَ الْمُزَنِيِّ وَهِمَ فِيهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إِمْضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ إِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ وجواز البيع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ لَا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ إِلَّا بِمَا يُرْضِي الرَّاهِنَ أَوْ حَتَى يَبْلُغَ كَذَا أَوْ بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا حَتَى لَا يَكُونَ دُونَ بَيْعِهِ حائل عند محل الحق ". قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَمْنَعُ مِنْهَا الرَّهْنُ ضربين: أَحَدُهَا: شُرُوطٌ نَاقِصَةٌ. وَالثَّانِي: شُرُوطٌ زَائِدَةٌ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ: فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الرَّاهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَأَمَّا الشُّرُوطُ الزَّائِدَةُ فَهِيَ مَا شَرَطَهَا الْمُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ نَاقِصًا كَاشْتِرَاطِ الرَّاهِنِ لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا يَرْضَى، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بِمَا سَمَّى، أَوْ لَا يُبَاعَ إِلَّا بَعْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ، أَوْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ إِلَّا الْبَعْضُ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِمُنَافَاتِهِ الرَّهْنَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ بَيْعَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الحق، رضي الراهن أو لم يرض، ويثمن مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ مَحَلِّ الْحَقِّ، وَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ وَالشَّرْطُ إِذْنًا فِي الْعَقْدِ لَوَجَبَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ، وَإِذَا صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْعَقْدَ بَاطِلَانِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ زَائِدًا فَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُهُ، فَإِذَا بَطَلَ الشَّرْطُ كَانَ فِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَالشَّرْطِ فِي النَّاقِصِ. وَالثَّانِي: الرَّهْنُ جَائِزٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ النَّاقِصِ وَالشَّرْطِ الزَّائِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاقِصَ قَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَأَبْطَلَهُ، وَالزَّائِدَ قَدِ اسْتَوْفَى مَعَهُ مُوجِبَاتِ الرَّهْنِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ النَّاقِصَ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ، وَالزَّائِدَ مُنْتَظَرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَصَارَ الرَّهْنُ بِالشَّرْطِ النَّاقِصِ مُقْتَرِنًا ومن الشرط خاليا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا نَتَجَتْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ كَانَ الرَّهْنُ مِنَ النَّخْلِ وَالْمَاشِيَةِ رَهْنًا وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَلَا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ إِذَا كَانَ الرَّهْنُ بِحَقٍّ وَاجِبٍ قَبْلَ الرَّهْنِ وَهَذَا كَرَجُلٍ رَهَنَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ أُخْرَى غَيْرَ أَنَّ الْبَيْعَ إِنْ وَقَعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُسِخَ الرَّهْنُ وَكَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يتم له الشرط (قال المزني) قلت أنا وقال في موضع آخر هذا جائز في قول من أجاز أن يرهنه عبدين فيصيب أحدهما حرا فيجيز الجائز ويرد المردود (قال المزني) وفيها قول آخر يفسد كما يفسد البيع إذا جمعت الصفقة جائزا وغير جائز (قال المزني) قلت أنا ما قطع به وأثبته أولى وجواباته في هذا المعنى بالذي قطع به شبيه وقد قال لو تبايعا على أن يرهنه هذا العصير فرهنه إياه فإذا هو من ساعته خمر فله الخيار في البيع لأنه لم يتم له الرهن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَيْعًا وَشَرَطَ فِيهِ رَهْنًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ دَاخِلَةٌ فِي الرَّهْنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنَافِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا أَوْ آثَارًا، فَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ آثَارًا كَدَارٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ سُكْنَاهَا، أَوْ دَابَّةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ رُكُوبِهَا، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ارْتِهَانَ سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ مَحَلِّهِ، وَالرُّكُوبُ وَالسُّكْنَى يَتْلِفُ بِمُضِيِّهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ، وَإِذَا بَطَلَ الرَّهْنُ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ أَعْيَانًا كَنَخْلٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَتِهَا، أَوْ مَاشِيَةٍ ارْتَهَنَهَا وَشَرَطَ مَعَهَا ارْتِهَانَ ما يحدث من نتاجها فإنه منصوص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الْقَدِيمِ وَفِي الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنَ الْجَدِيدِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا تَشَارَطَا عِنْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْدُثُ مِنَ النِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ رَهْنًا يُشْبِهُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدِي، وَإِنَّمَا أَجَزْتُهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، ثُمَّ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى بِالْيَمَنِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيٌّ " أَنَّ مَنِ ارْتَهَنَ نَخْلًا فَثَمَرَتُهَا مَحْسُوبَةٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ وَأَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ يُخَرِّجَانِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مَجْهُولًا فَهُوَ تَبَعٌ لموجود معلوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّرْطَ فِي ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ دُخُولُهُ فِي الرَّهْنِ بِغَيْرِ شَرْطٍ صَارَ رَهْنًا مَقْصُودًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ بِنَصٍّ صَرِيحٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ الشَّرْطِ كَانَ الرَّهْنُ صَحِيحًا، وَالْبَيْعُ لَازِمًا، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ. وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ وَلَهُ مَا شَرَطَهُ مِنِ ارْتِهَانِ مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ نِتَاجٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُرَتِّبُ ال ْمَسْأَلَةَ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَيُخَرِّجُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ كُلُّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ وَالرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ كُلُّهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالرَّهْنَ وَالْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ الْمَيْمُونِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَتِّبُ الْمَسْأَلَةَ تَرْتِيبًا ثَالِثًا وَيَقُولُ فِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا الرَّهْنُ وَالشَّرْطُ أَبْطَلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا فِي الرَّهْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا الشَّرْطُ أَبْطَلُ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا فِي الشَّرْطِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَلَهُ الْخِيَارُ. والثاني: جاز وليس له خيار. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ صَحِيحًا، وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ جَازَا وَإِنْ بَطَلَ الرَّهْنُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 وَاسْتَدَلَّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ بِمِثْلِهِ، وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ بِمِثْلِهِ. فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ مَعَ بُطْلَانِ الشَّرْطِ فَهِيَ أَنْ قَالَ: لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا فَإِنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ جَائِزٌ فِي الْمَمْلُوكِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ فِي الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ بَاطِلٌ فِي الْحُرِّ وَفِي الْمَمْلُوكِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا بَطَلَ فِي الثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ، وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ بُطْلَانِ الرَّهْنِ فَهِيَ إِنْ قَالَ: لَوِ ارْتَهَنَ مِنْهُ عَصِيرًا حُلْوًا فَصَارَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ القبض خمرا إذ الرَّهْنَ فِي الْعَصِيرِ بَاطِلٌ، وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَهَذِهِ المسألة في العصير تخالف مسألتنا في الصُّورَةِ وَالْحُكْمِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْعَصِيرِ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَ الْفَسَادُ بَعْدَ صِحَّتِهِ بِمَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الَّتِي صَارَ بِهَا خَمْرًا، فَجَرَى مَجْرَى تَلَفِ الرَّهْنِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ بعد الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَبَطَلَ الرَّهْنُ لِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يَبْطُلْ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ حِينَ الْعَقْدِ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَا شرطه من الرهن. ومسألة الكتاب إن كان عَقْدُ الرَّهْنِ فِيهَا فَاسِدًا فَكَانَ فَاسِدُ الرَّهْنِ قَادِحًا فِيمَا قُرِنَ مِنَ الْبَيْعِ فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فِيهَا دَلِيلٌ والله تعالى أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقًّا فَقَالَ قَدْ رَهَنْتُكَهُ بِمَا فِيِهِ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَرَضِيَ كَانَ الْحَقُّ رهنا وَمَا فِيهِ خَارِجًا مِنَ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ لِجَهْلِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا فِيهِ وَأَمَّا الْخَرِيطَةُ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهَا إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ دُونَ مَا فِيهَا وَيَجُوزُ فِي الْحَقِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَقِّ أَنَّ لَهُ قِيمَةً وَالظَّاهِرَ مِنَ الْخَرِيطَةِ أَنْ لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنَمَا يُرَادُ مَا فِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا رَهَنَهُ حَقًّا أَوْ خَرِيطَةً وَفِي جَوْفِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ عَرَضٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْهَنَهُ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ دُونَ الْحَقِّ [أو الخريطة] فهذا ينظر فيه فإن كان يَعْلَمَانِ مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ صَحَّ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ بَطَلَ الرَّهْنُ. وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ فَفِي بُطْلَانِ الرَّهْنِ قَوْلَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ أَوِ الْخَرِيطَةَ دُونَ مَا فِيهَا، فَالرَّهْنُ فِي الْحَقِّ جائز، لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 غَالِبَ الْحِقَاقِ أَنَّ لَهَا قِيمَةً فَجَازَ رَهْنُهَا، وَالرَّهْنُ فِي الْخَرِيطَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الْخَرِيطَةِ لَا قِيمَةَ لَهَا فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا كَالْخَرِيطَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قِيمَةٌ جَازَ رَهْنُهَا كَالْحَقِّ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرْهَنَهُ الْحَقَّ وَالْخَرِيطَةَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهَا صَحَّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ وَالْخَرِيطَةِ مَعَ مَا فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ مِمَّا لَهَا قيمة أو لَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا لِمَا لَهُ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَا يَجْهَلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَا فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ كَانَ رَهْنُ مَا فِيهَا باطل لِلْجَهْلِ بِهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ أَوِ الْخَرِيطَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي الْحَقِّ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ، وَيَبْطُلُ فِي الْخَرِيطَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ، وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ، وَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ فيه بين الإمضاء والفسخ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا شُرِطَ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَمَانُ الرَّهْنِ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَقْدُهُ أَوْثَقُ "، وَلِأَنَّ لِلْعُقُودِ أُصُولًا مُقَدَّرَةً وَأَحْكَامُهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تُغَيِّرُهَا الشُّرُوطُ عَنْ أَحْكَامِهَا فِي شَرْطِ سُقُوطِ الضَّمَانِ وَإِيجَابِهِ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّرِكَةُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْعُقُودِ لَا تُعْتَبَرُ مَضْمُونَةً بِالشُّرُوطِ وَالْقُرُوضِ وَالْعَوَارِي لَمَّا كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ الرَّهْنُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ضَمَانِ الرَّهْنِ فَاسِدٌ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ صَحَّ الرَّهْنُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَكُنْ بُطْلَانُهُ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَهَذَا مِنَ الشروط الناقضة لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ يَنْفِي بَعْضَ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَكَانَ الرَّهْنُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ، لَكِنْ يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ بِلَا رَهْنٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 (باب الرهن غير مضمون) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ وَالرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَضَمَانُهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ " ثَمَّ أَكَدَهُ بِقَوْلِهِ " لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " وَغُنْمُهُ سَلَامَتُهُ وزيادته وغرمه عطبه ونقصانه ألا ترى لو ارتهن خاتما بدرهم يساوي درهما فهلك الخاتم فمن قال ذهب درهم المرتهن بالخاتم زعم أنه غرمه على المرتهن لأن درهمه ذهب وكان الراهن بريئا من غرمه لأنه قد أخذ ثمنه من المرتهن ولم يغرم له شيئا وأحال ما جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يغلق الرهن " لا يستحقه المرتهن بأن يدع الراهن قضاء حقه عند محله (قال الشافعي) ملك الرهن لربه والمرتهن غير متعد بأخذه ولا مخاطر بارتهانه لأنه لو كان إذا هلك بطل ماله كان مخاطرا بماله وإنما جعله الله تبارك وتعالى وثيقة له وكان خيرا له ترك الارتهان بأن يكون ماله مضمونا في جميع مال غريمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرَّهْنِ هَلْ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ. إِحْدَاهَا: وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ لَا يُضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِأَقَلِّ أَمْرَيْنِ: مِنْ قِيمَتِهِ أَوِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ. مثاله: أن تكون قيمة الرهن ألفا والحق أَلْفَيْنِ فَيَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ، وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ، وَالْحَقُّ أَلْفًا، كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصحابة عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْحَقِّ وَيَتَرَادَّا فِي الْفَضْلِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا وَالْحَقُّ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَلْفٍ وَرَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِبَقِيَّةِ الْقِيمَةِ وَهِيَ أَلْفٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْحَقِّ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا، وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفَيْنِ ضَمِنَهُ بِالْحَقِّ وَهُوَ أَلْفٌ، حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ هذا المذهب: لو كان قيمة الرهن درهم وَالْحَقُّ أَلْفًا ضَمِنَهُ بِأَلْفٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَلَفُهُ ظَاهِرًا كَالنُّصْبِ وَالْحَرِيقِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَنَفَاقِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بَاطِنًا كَالسَّرِقَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ. (فَصْلٌ) فَمَنْ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ فَرَسًا فَنَفَقَ الْفَرَسُ فِي يَدَيِ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَلَفَا فَتَدَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذهب حقك قالوا: فلما خير الْمُرْتَهِنُ بِذَهَابِ حَقِّهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرْ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ أَوْ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ أَوْ بِذَهَابِ دَيْنِهِ فَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُخْبِرَ بِذَهَابِ وَثِيقَتِهِ لِأَنَّ هَذَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً بِالْحُسْنِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَهَابِ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِهِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِبَدَلِهِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ تَلَفِهِ فَيَذْهَبُ بِتَلَفِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَهَابِ دَيْنِهِ، وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ ". قَالُوا: فَلَمَّا جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ ثُمَّ ثبت أن تلف العبد الجاني مسقطا للأرش فكذا تلف الرهن مسقط للحق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 وتحريره علة أَنَّهُ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ تَعَلَّقَ ابْتِدَاءً بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِتَلَفِ الْعَيْنِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي وَقَوْلُهُمُ ابْتِدَاءً: احْتِرَازًا مِنْ وَلَدِ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُسْقِطُ بِتَلَفِهِ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ مُحْتَبَسٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِالْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ مُحْتَبِسٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الثَّمَنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الحق. وتحريره علة أَنَّهُ مُحْتَبِسٌ بِعَقْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيثَاقِ لِاسْتِيفَاءِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْمَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَلَفِهِ ضَمَانُ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّوْمِ، لِأَنَّ الْمُسَاوِمَ يأخذ الشيء على وجد الْبَدَلِ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ الْبَدَلُ كَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يَأْخُذُ الرَّهْنَ عَلَى وَجْهِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ تَلِفَ بِالْحَقِّ. وتحريره علة أَخَذَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إِذَا تَلِفَ حُكْمَ الْمُسْتَوْفَى كَالسَّوْمِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ فَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الرَّهْنِ مَضْمُونًا كَالدُّيُونِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ غَيْرَ مضمون كالودائع. تحريره أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الدَّيْنِ، ولأنه عقد يقضي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْحَالِ كَالْقَرْضِ. وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَالدَّلَالَةُ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ تَأَخُّرِ الْحَقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ غَلْقًا فَيَتْلَفَ الْحَقُّ بِتَلَفِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُبْهَمَ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَجُزِ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي مُوجَبِهِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهِ. وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُهُ " الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ " يَعْنِي: مِنْ ضَمَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 صَاحِبِهِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ حَرْفَ التَّمْلِيكِ هُوَ اللَّامُ فَلَوْ أَرَادَ الْمِلْكَ لَقَالَ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ وَلَفْظَةُ " مِنْ " مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا مِنْ ضَمَانِ فُلَانٍ فَلَمَّا قَالَ: " مِنْ صَاحِبِهِ " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ وَالدَّلَالَةُ الثالثة من الخبر قوله " لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عنه: غنمه زيادة وَنَمَاؤُهُ وَغُرْمُهُ عَطَبُهُ وَنَقْصُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْغُرْمُ فِي اللِّسَانِ هُوَ الْتِزَامُ الْبَدَلِ عَنِ الشَّيْءِ عَنْ تَلَفِهِ وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ تَلِفَ الشَّيْءُ مِنْ مَالِهِ. قِيلَ: قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرْمِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ غَارِمًا لِلْحَقِّ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا فرهن مقبوضة} [البقرة: 282] فجعل الله تعالى الرهن بدل مِنَ الْكِتَابِ وَالْإِبْدَالِ فِي عَامِّ أَحْكَامِهَا وَفِي حُكْمِ مُبْدَلَاتِهَا، كَالصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالْعِتْقِ، وَكَالتَّيَمُّمِ فِي الطَّهَارَةِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْمَاءِ كَانَ فِي الْوُجُوبِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّاهِدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّهْنِ حُكْمَ الْكِتَابِ فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الرَّهْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ كَالضَّمَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَلَفِ الضَّامِنِ وَجَبَ أن لا يسقط بتلف الرهن. وتحريره علة أَنَّهُ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ تَلَفُهُ مُسْقِطًا لِلْحَقِّ كَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ مَرْدُودٌ إِلَى صَحِيحِهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ فَاسِدُهُ مَضْمُونًا كَانَ صَحِيحُهُ مَضْمُونًا، وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَاتُ لَمَّا كَانَ صَحِيحُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ فَاسِدُهَا غَيْرَ مَضْمُونٍ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ الصحيح غير مضمون. وتحريره علة أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَاتِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ يَبْطُلُ بِتَلَفِهِ كَمَا يَبْطُلُ بِفَسْخِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْفَسْخِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانَهُ بِالتَّلَفِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ مَعْنًى يُبْطِلُ الرَّهْنَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْحَقَّ كَالْفَسْخِ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَانَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْوَدَائِعِ وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَانَ جَمِيعُهُ مَضْمُونًا كَالْبُيُوعِ والغصوب، فلما كان كَانَ بَعْضُ الرَّهْنِ غَيْرَ مَضْمُونٍ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْحَقِّ. وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَا يُوجِبُهُ ضَمَانُ بَعْضِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانُ جَمِيعِهِ كَالْوَدَائِعِ، وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْهُونٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا بِالْحَقِّ لَكَانَ وَثِيقَةً عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَعْنَى الرَّهْنِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمرتهن الفرس " ذهب حقك " فراويه مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَطَاءٍ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَا يَجِبُ بِهَا الْعَمَلُ، ثُمَّ هو مرسل لأنه عن عطاء ثم هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، فَلَزِمَ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَجَاءَ مَجِيئًا يُلْزِمُ الْآخِذَ بِهِ لَكَانَ عَنْ قَوْلِهِ " ذَهَبَ حَقُّكَ " جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ سَقَطَ لِحَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ، وليس سقوط حقه من الوثيقة مسقط لِحَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهِ ذَهَابَ حَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ لَقَالَ ذَهَبَ حَقُّكَ، فَلَمَّا قَالَ: " ذَهَبَ حَقُّكَ " وَأَشَارَ إِلَى حَقٍّ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ دُونَ الدَّيْنِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ حَقُّكَ، مَحْمُولٌ عَلَى ذَهَابِ حَقِّهِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكَانَ يَسْتَحِقُّ فَسْخَ الْبَيْعِ فَإِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ فِي الْجَائِزِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْبَيْعِ فَأَذْهَبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ " الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ " إن صح مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِمَا فِيهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زِيَادَةٌ لِضَمَانٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ، وَهُوَ عَلَى بَقَائِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى مُرْتَهِنِهِ حِينَ يَتْلَفُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ بَقَائِهِ وَثِيقَةٌ بِمَا فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الدَّلَالَةُ مِنْهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَالْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ الْجَانِي أَنَّ الْأَرْشَ تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ رَقَبَةُ الْجَانِي فَإِذَا تَلِفَ الْعَبْدُ بُذِلَ الْأَرْشُ كَتَلَفِ مَحَلِّهِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَلَّيْنِ أَحَدُهُمَا: ذِمَّةُ الرَّاهِنِ. وَالثَّانِي: رَقَبَةُ الرَّهْنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 فَإِذَا تَلِفَ الرَّهْنُ فَقَدْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتْلَفِ الْحَقُّ لِبَقَاءِ أَحَدِ مَحَلَّيْهِ كَالدَّيْنِ الْمَضْمُونِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحَلَّيْنِ يَلْزَمُهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، وَبِذِمَّةِ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ تَلَفُ الضَّامِنِ لِلدَّيْنِ مُبْطِلًا لِلْحَقِّ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. فَالْمَبِيعُ غَيْرُ مُحْتَبَسٍ بِعَقْدٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَسْلِيمَهُ، وَيَمْنَعُ مِنْ حَبْسِهِ، وَإِنَّمَا تَأْخِيرُ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَبْسَهُ أَلَا تَرَاهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسًا قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ فِي قَوْلِهِمْ مُحْتَبَسٌ بِعَقْدٍ وَإِذَا لَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ انْتَقَصَتِ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزِيَادَاتِ الرَّهْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالنِّتَاجِ وَهِيَ مُحْتَبَسَةٌ بِالْحَقِّ ثُمَّ لَا يَضْمَنُهَا. الْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَسْقُطُ بِالْفَسْخِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّلَفِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السَّوْمِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يُضْمَنُ إِذَا تَلِفَ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ دَلِيلُنَا. وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ كُلِّ شَيْءٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمُ سَبَبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْ مُسَاوِمِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ مُبَايَعَةٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَخَذَ الشَّيْءَ لِمُرْتَهِنِهِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَجَبَ إِذَا أَخَذَهُ عَنْ عَقْدِ رَهْنٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقُرُوضِ الْمَأْخُوذَةِ بِالدَّيْنِ، وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَرْضِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مِنَ الْحَقِّ بِدَلِيلِ أَنَّ قِيمَتَهُ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْحَقِّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَخَفِيَ سَوَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرَّهْنِ شَيْئًا إِلَّا فِيمَا يَضْمَنَانِ فِيهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ بالتعدي ". قال الماوردي: وهذا له ردا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ أَوْجَبَ ضَمَانَ حَقَيْ هَلَاكِهِ مِنَ الرَّهْنِ وَأَسْقَطَ ضَمَانَ مَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَكَانَ مِنْ صِحَّتِهِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إِلَى الرَّهْنِ فَلَوْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِمَّا خَفِيَ هَلَاكُهُ لَصَارَ ذَرِيعَةً إِلَى ادِّعَاءِ تَلَفِ الرَّهْنِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ كَانَ ذَلِكَ مَأْمُونًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّهْنِ خَوْفًا مَنِ ادَّعَى بِتَلَفِ الرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ وَلَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالشِّرَكِ وَالْأَمَانَاتِ فَيَجِبُ ضَمَانُ مَا خَفِيَ هَلَاكُهُ مِنْهَا، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ مَا ظَهَرَ، وَلَا غَيْرَ مِثْلِهِ فِي الْعَوَارِي ولغصب فَلَمَّا كَانَتِ الْأَمَانَاتُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبُ مَضْمُونَةً فِيمَا خَفِيَ هَلَاكُهُ أَوْ ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ لَاحِقًا لِأَحَدِهِمَا فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ أَوْ سُقُوطِهِ إِذْ هُمَا أَصْلَانِ لَيْسَ لَهُمَا ثَالِثٌ فيرد الرهن إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَضَاهُ مَا فِي الرَّهْنِ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ فَحَبَسَهُ عَنْهُ وَهُوَ يُمْكِنُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُهُ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ مُحْتَبَسٌ بِحَقِّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْحَقِّ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ فَحَبَسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ فَإِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ وَرَفْعُ يَدِهِ فَإِنْ حَبَسَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ حَتَّى تَلِفَ بِطَرَفَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي حَبْسِهِ بِحُدُوثِ سَبَبٍ مَنَعَ مِنْ رَدِّهِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي حَبْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ صَارَ بِحَبْسِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مُتَعَدِّيًا فَلَوِ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِيهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ حَبَسَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: حَبَسَهُ مَعْذُورًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ حَبَسْتُهُ مَعْذُورًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَرَى الذِّمَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا آخِرُ كِتَابِ الرَّهْنِ مِنَ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (فَصْلٌ) فِي فُرُوعِ الرَّهْنِ يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الدَّنَانِيرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ فِي الدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْهُونَةُ مَوْزُونَةً أَوْ غَيْرَ مَوْزُونَةٍ إِذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةً؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنْهَا مُمْكِنٌ وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جُزَافًا جَائِزٌ. فَرْعٌ: وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرَ فِي الدَّنَانِيرِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الْمَرْهُونَةُ جُزَافًا أَوْ مَوْزُونَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ بِالْجَوَازِ أَحَقَّ. فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُجِزْهُ، لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِعَيْنٍ فَيُمْكِنُ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ فَرَهْنُهُ بَاطِلٌ. فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِحَقِّهِ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَرَاهِمُ وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ مِنْ سَلَمٍ فَيَرْهَنُهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمَالِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ كَانَ فَاسِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. فَرْعٌ: إِذَا رَهَنَهُ بِدَيْنِهِ سُكْنَى دَارٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ فَاتَتْ، فَلَا يَبْقَى رَهْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ. فَرْعٌ: إِذَا آجَرَهُ دَارًا سَنَةً جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ. فَرْعٌ: إِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا مَعْلُومًا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَمَلِ رَهْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ معينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ فِي عَيْنِهِ لِبِنَاءِ دَارٍ، أَوْ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ رَهْنًا، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ من العمل تعين عليه لا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ كَالْعَوَارِي وَالْغُصُوبِ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ بِنَاءُ دَارٍ أَوْ عَمَلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الْأُجْرَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ رِضًا، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ وَالْعَمَلُ قَبْلَ دَفْعِ الْأُجْرَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ إِلَيْهِ فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ فِي الْعَمَلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ مِنَ الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ فِيهِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ لَهُ قِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّهْنِ فَجَازَ فِيهِ كَالدَّيْنِ. (فَصْلٌ آخَرُ) : إِذَا ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا وَاسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْأَلْفِ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا رَهْنًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ. فَرْعٌ: وَلَوْ ضَمِنَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا رَهْنًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي أُعْطِيكَ بِهَا رَهْنًا كَانَ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ رَهْنُ شَرْطٍ مَعَ وُجُوبِ الْحَقِّ كَالْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا الضَّامِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ وَمَنْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الضَّمَانُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الِاسْتِيثَاقَ بِالرَّهْنِ صَارَتْ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ وَاهِيَةً فَبَطَلَتْ والله أعلم. فرع: فلو أعطاه رهن بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الْأَلْفَ فُلَانٌ كَانَ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الضَّمَانِ [لِأَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ كَشَرْطِ الرَّهْنِ فِي الضَّمَانِ] أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الرَّهْنَ صَحِيحٌ، وَالْمَشْرُوطُ ضَمَانُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ أَوْ يَمْتَنِعَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّهْنَ فَاسِدٌ لِوَهَاءِ الِاسْتِيثَاقِ بِهِ عِنْدَ شَرْطِ الضَّمَانِ فِيهِ. فَرْعٌ: وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفٌ فَأَعْطَاهُ بِهَا رَهْنًا وَأَقَامَ لَهُ بِهَا ضَامِنًا جَازَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ، وَالضَّمَانَ وَثِيقَةٌ، فَلَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا مِنْ حَقٍّ وَاحِدٍ كَاجْتِمَاعِ الشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ، فَإِذَا حَلَّ الْحَقُّ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الضامن به، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ إِزَالَةِ مِلْكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بَيْعَ الرَّهْنِ وَاسْتِيفَاءَ حَقِّهِ مِنْ صُلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ بِيَدِهِ أَخْذُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَيْنِ وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ بِالْخِيَارِ فِي حَقِّهِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ وَبَيْنَ بَيْعِ الرَّهْنِ فِيهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْحَقِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ غَيْرِهِ بِهِ وَمُطَالَبَةُ غَيْرِهِ بِهِ لَا تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَضَمِنَهُ ضَامِنٌ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا تَكُونُ مُطَالَبَةُ أَحَدِهِمَا مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَةِ الْآخَرِ. (فَصْلٌ) إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ فَأَحَالَ بِهَا عَلَى رَجُلٍ انْتَقَلَتِ الْأَلْفُ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا رَهْنًا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ. فَرْعٌ: وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحِيلُ بِهَا رَهْنًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ نَقَلَتِ الْحَقَّ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَهْنًا فِيهِ، وَلَيْسَ كَالضَّمَانِ الَّذِي لَا يَنْقُلُ الْحَقَّ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فِيهِ رَهْنًا. فَرْعٌ: وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْأَلْفِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ رَهْنًا بِهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْعٌ، فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ مِنْهَا جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ فَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهَا بَاطِلٌ وَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ لِقَدْحِ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِيهَا. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ لِخُرُوجِهَا عَنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلُحُوقِهَا بِعُقُودِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَعُونَاتِ. (فَصْلٌ) إِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدًا فَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنًا فَاسِدًا؟ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَوْ رَهَنَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ كَانَ رَهْنُهُ جَائِزًا سَوَاءٌ وَهَبَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ كَالْوَالِدِ أَمْ لِإِتْمَامِ الْمِلْكِ بِحُصُولِ الْقَبْضِ، فَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا وَأَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ صَحَّ الرَّهْنُ وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالرَّهْنِ لَيْسَ بِقَبْضٍ فَتَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ. وَالرَّهْنُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ فَقَدْ رهنه بإذن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 مَالِكِهِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصِّحَّةِ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثَمَّ الرَّهْنَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ عَنْ إِذْنِهِ، وَالْقَبْضِ الْحَادِثِ عَنْ إِذْنِهِ، وَلَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ، لِأَنَّ قَبْضَهُ رَهْنًا غَيْرُ قَبْضِهِ هِبَةً، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْعَبْدِ كَحُكْمِ الْمُعَارِ فِي الرَّهْنِ. فَرْعٌ: إِذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَرَهَنَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضْ عَنْهُ. فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِثَمَنِهِ فَصَارَ كَالْمَرْهُونِ فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهُ قَبْلَ فَكَاكِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ. أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِتَمَامِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 (كتاب التفليس) قال الشافعي رضي الله عنه: " حدثنا محمد بن عاصم قال سمعت المزني قال (قال الشافعي) أَخْبَرَنَا ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قال حدثني أبو المعتمر بن عمر بْنِ نَافِعٍ عَنْ خَلْدَةَ أَوِ ابْنِ خَلْدَةَ الزرقي (الشك من المزني) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَفْلَسَ فَقَالَ هَذَا الَذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ أَنَّهُ جَعَلَ نَقْضَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ إِنْ شَاءَ إِذَا مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كِتَابُ التَّفْلِيسِ، وَيُقَالُ كِتَابُ الْفَلَسِ قَالَ بَعْضَ أَصْحَابِنَا وَأَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ كِتَابُ الْإِفْلَاسِ، لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْيَسَارِ وَالتَّفْلِيسُ يُسْتَعْمَلُ فِي حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَى الْمَدْيُونِ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَالِ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ وَقَالَ لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا مَعَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا مَا وَجَدْتُمْ وَرَوَى عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِغُرَمَائِهِ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ " وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ أُسَيْفِعُ أَفْلَسَ فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ وَكَانَ يُغَالِي بِالرَّوَاحِلِ رَضِيَ مِنَ أَمَانَتِهِ وَدِينِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ فَأَدَانَ مَعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَإِنَّا آخِذُوا مَالَهُ وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنُ فَإِنَّ أُوَلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْحَجْرُ بِالْمَرَضِ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمَالَ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوهُ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ الْحَجْرُ بِدُيُونِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَالَ لهم وقد استحقوه في الحال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْغُرَمَاءِ فَإِذَا سَأَلُوهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ لَهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقِعَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ دُيُونِهِمْ وَثُبُوتُهَا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِإِقْرَارِهِ وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ فَإِذَا ثَبَتَ دُيُونُ الْغُرَمَاءِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ قَدْرَ مَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ دَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَإِنْ عَجَزَ مَالُهُ عَنْ ديونه وجب على الحاكم أن يعجز عَلَيْهِ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ سَأَلَهُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أَوْ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِهِ إِضَاعَةً لِدُيُونِهِمْ وَإِبْطَالًا لِحُقُوقِهِمْ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ قَضَاءَ بَعْضِهِمْ وَتَرَكَ دُيُونَ الْبَاقِينَ تَالِفَةً فكان الحجر عليه أولى ليمتنع من التبذير ويصل جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ إِلَى حُقُوقِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ يَفِي بِدُيُونِهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن تظهر منه إمارات الإفلاس أو لا يظهر فإن لم يظهر منه إمارات الإفلاس - بل كان مَالُهُ يَفِي بِدُيُونِهِ وَيَكْتَسِبُ قَدْرَ نَفَقَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُبَذِّرًا لِمَالِهِ - لَمْ يَجُزِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ بِهَا إِنْ سَأَلَ أَرْبَابُهَا وَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أمَارَاتُ الْفَلَسِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا مِنْ عَجْزٍ عَنْ كَسْبِهِ عَنْ قَدَرِ حَاجَتِهِ وَإِمَّا مِنْ تَبْذِيرِهِ وَإِسْرَافِهِ فِي نَفَقَتِهِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ: لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ إِضَاعَةً لَهُ وَإِبْطَالًا لِحُقُوقِ غُرَمَائِهِ وَيَسْتَدِلُّ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ لِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ: إِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ حَتَى أَقْبِضَ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السِّلْعَةِ وَفِي جَمِيعِ مَالِهِ. فَقَدْ أَوْقَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ كَانَ مَالُهُ يَفِي بِدَيْنِهِ وَيَزِيدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ وَلِأَنَّ فِي إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ تَعْجِيلُ الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ مَظْنُونَةٍ غَيْرِ مُتَحَقِّقَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وما يخالف مِنْ تَبْذِيرِ مَالِهِ قَدْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَجْرَ بِالْفَلَسِ مُسْتَحِقٌّ بِمَا ذَكَرْنَا فَحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِعَجْزِ مَالِهِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ كَانَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَعَ وَفَاءِ مَالِهِ بِدُيُونِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهَلْ لِمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ الرُّجُوعُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ كَالْعَاجِزِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ فِي الْحَجْرِ بِالْعَجْزِ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ نَقْصٌ وَصَاحِبُ الْوَفَاءِ قَدْ يَصِلُ جَمِيعُ غُرَمَائِهِ إِلَى دُيُونِهِمْ فَلَمْ يَلْحَقْ أَرْبَابَ الْأَعْيَانِ بِتَرْكِهَا نَقْصٌ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ أَعْيَانٌ لَمْ يُؤَدِّ أَثْمَانَهَا وَقَدْ زَادَتْ أَسْعَارُهَا فَإِنِ اسْتَرْجَعَهَا أَرْبَابُهَا عَجَزَ مَالُهُ عَنْ دَيْنِهِ وَإِنْ تَرَكُوهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَاجِزِ عَنْ دَيْنِهِ أَوْ حُكْمُ الْمَلِيءِ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَاجِزِ عَنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ مُسْتَحَقَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا فِي مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَلِيءِ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ فَكَانَتْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا مِلْكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ أمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ فَفِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا فَكُلُّ غَرِيمٍ لِلْمُفْلِسِ ثَبَتَ دَيْنُهُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِذَا لَمْ يَقْبِضِ الْبَائِعُ ثَمَنَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فِيهَا وَيَأْخُذَ بِثَمَنِهَا وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ وَيُسَلِّمَهَا وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهَا وَهَذَا قَوْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَيْسَ يُعْرَفُ خِلَافٌ فِيهِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة: يُقَدِّمُ بَائِعُهُ بِثَمَنِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا وَخَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوِ اسْتِهْلَاكٍ فَالْبَائِعُ لَهَا أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ يَضْرِبُ بِثَمَنِهَا مَعَهُمْ كَأَحَدِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ وَبَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الرُّجُوعَ بِهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِهَا وَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا بِثَمَنِهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ، عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُبَّمَا أَسْنَدُوهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: أيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَلِأَنَ الْبَائِعَ حَبَسَ الْمَبِيعَ عَلَى ثَمَنِهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَبْسَ الرَّهْنِ على حقه فلما كان المرتهن لورد الرَّهْنَ عَلَى رَاهِنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَقِّهِ وَجَبَ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إِلَى مُشْتَرِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ له الرجوع إليه عند تعذر ثمنه، وتحديد ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْهُ مُسْقِطًا لِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ وَالثَّانِي: حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى قَبْضِ ثَمَنِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ لِحُدُوثِ الْفَلَسِ وَجَبَ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِالتَّسْلِيمِ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ لِحُدُوثِ الْفَلَسِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ حَقٍّ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ بِالْفَلَسِ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَعْيَانِ بِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُوسِرِ إِذَا مَطَلَ، وَلِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ يَمْنَعُ حَقَّ الْإِمْسَاكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ كَالْهِبَةِ إِذَا قُبِضَتْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ مَلَكَ الْمَبِيعَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَكَانَ الثَّمَنُ مُسْتَقِرًّا فِي ذِمَّتِهِ كَدُيُونِ غُرَمَائِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَائِعِ كَحُكْمِ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَحُكْمُ الْمَبِيعِ كَحُكْمِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَدِيثُ خَلْدَةَ أَوِ ابْنِ خَلْدَةَ الزُّرَقِيِّ قَاضِي الْمَدِينَةِ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ فَقَالَ: هَذَا الَذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِالْمَتَاعِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ هُوَ خَلْدَةُ أَوِ ابْنُ خَلْدَةَ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَكَّ فِي اسْمِهِ لَا فِي عَيْنِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْأَخْذِ بِرِوَايَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَكٌّ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ، لِأَنَّ خَلْدَةَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَابْنَ خَلْدَةَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَالشَّكُّ بَيْنَ رَاوِيَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ إِذَا كَانَا ثِقَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ". فَإِنْ قَالُوا: هَذَا حديث تفرد به أبو هريرة ولم يساعده عَلَيْهِ غَيْرهُ وَذَلِكَ وَهَنٌ فِي الْحَدِيثِ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ؟ قُلْنَا: أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ تَفَرُّدُهُ بِالْحَدِيثِ مَانِعًا مِنَ الْأَخْذِ بِهِ كَمَا تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا " ثُمَّ قَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِهِ وَعَمِلُوا وَكَمَا تَفَرَّدَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ " بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " وتفردت عائشة رحمها الله بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَهُوَ مَا رَوَى فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا عَدِمَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ "، وَإِنْ قَالُوا: فَقَوْلُهُ: " صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ " لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَيْسَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُشْتَرِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُفْلِسِ إِذَا كَانَ مُودَعًا أَوْ غَاصِبًا لِيَصِحَّ كَوْنُ الْمَتَاعِ مِلْكًا لِمُسْتَرْجِعِهِ قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِمَتَاعِهِ بِوُجُوبِ شَرْطٍ وَهُوَ حُدُوثُ الْفَلَسِ وَصَاحِبُ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ مُسْتَحِقٌّ اسْتِرْجَاعَ مَالِهِ بِشَرْطٍ وَغَيْرِ شَرْطٍ وَفَلَسٍ وَغَيْرِ فَلَسٍ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ ". الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْمَتَاعِ كَمَا قَالَ (الله) تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62] يَعْنِي الَّتِي كَانَتْ بِضَاعَتَهُمْ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِمْ، وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ إِخْوَتِهِ: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] يَعْنِي: الَّتِي كَانَتْ بِضَاعَتَنَا، عَلَى أَنَّنَا قَدْ رُوِّينَا مَا ذَكَرْنَاهُ نَصًّا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ " ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ قَدْ مَلَكَ بِهِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا مَلَكَ بِهِ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ بِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الْفَسْخَ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ المبيعة فوجب أن يستحق البائع الفسخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 كَالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَمَّا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ يَقْتَضِي الْفَسْخَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَجْزُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنَ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ البيع يقتضي الفسخ، وتحديد ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ عَنْ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِتَعَذُّرِهِ كَالثَّمَنِ فِي السَّلَمِ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ (كَمَا مَلَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ) فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعَ مَا بَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ استحقه بعد القبض وتحديد ذَلِكَ أَنَّهُ مُشْتَرٍ أَفْلَسَ بِثَمَنِ مَا ابْتَاعَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَ مَا بَاعَهُ - إِذَا كَانَ عَلَى مَالِهِ - قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ مُسْتَوْفًى مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ السُّكْنَى فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَوْفَاةٌ مِنَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَلَمَّا كَانَ خَرَابُ الدَّارِ يَقْتَضِي فَسْخَ الْإِجَارَةِ وَاسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَرَابُ الذِّمَّةِ يَقْتَضِي فسخ البيع واسترجاع العين المبيعة، وتحديد ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَرَابُ الْمَحَلِّ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ مُوجِبًا لِلْفَسْخِ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ قَدْ نَقَلَ مِلْكَ الْبَائِعِ عَنِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ قَدْ نَقَلَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمَّا كَانَ عَجْزُ الْمَكَاتَبِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مُوجِبًا لِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الْمُشْتَرِي عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مُوجِبًا لِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ يَنْتَقِلُ بِهِ حَقُّ الْمُعَاوَضِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى ذِمَّةٍ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْعَيْنِ عِنْدَ خَرَابِ الذِّمَّةِ كَالْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَقَدْ تَفَرَّدَ قَتَادَةُ بِنَقْلِهِ وَغَلِطَ فِيهِ وَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ مَاتَ مُوسِرًا. وَإِمَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا حَامِدٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْغُرَمَاءَ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا عَيْنَ لَهُ فَيُضْرَبُ بِدَيْنِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ فَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمَّا كَانَ عَقْدًا بَطَلَ بِفَسْخِهِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الرَّهْنِ إِلَّا بِاسْتِيثَاقِهِ وَحَقُّ الْحَبْسِ هَاهُنَا كَانَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ بَعْدَ رَفْعِ يَدَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ لِبَقَاءِ الْحَقِّ إِلَى آخِذِهِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الثَّمَنِ فَالْإِبْرَاءُ لَمَّا أَسْقَطَ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَرَفْعُ يَدِهِ عَنِ الْمَبِيعِ لَمَّا لَمْ يُسْقِطِ الْحَقَّ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُوسِرِ الْمُمَاطِلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَطَلَ الْمُوسِرِ لَمْ تَخْرَبْ بِهِ الذِّمَّةُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخُ وَالْفَلَسُ قَدْ خَرِبَتْ بِهِ الذِّمَّةُ فَاسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوسِرَ إِذَا مَطَلَ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ جَبْرًا بِالْحَاكِمِ وَالْمُفْلِسُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْهِبَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْحَقِ الْوَاهِبُ ضرر بفلس من وهب لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ وَلَمَّا لَحِقَ الْبَائِعُ ضَرَرٌ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِعَيْنِ الْبَائِعِ فَهُوَ أَنْ عَيْنَ الْبَائِعِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِعَيْنٍ لَمْ يَنْصَرِفْ دَيْنُهُ إِلَيْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِهِ لِلْعَيْنِ وَبَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَمْنَعَ الْغُرَمَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِيهِ كَالرَّهْنِ وَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ وَاسْتِرْجَاعَ السِّلْعَةِ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ مَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بِهِ. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ ثَالِثٌ يُخَالِفُهُمَا فَكَانَ مُطْرِحًا هَذَا مَعَ عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ". فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُ الْفَسْخِ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ أَخَّرَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ بَطَلَ خِيَارُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَعْزِمِ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ كَالْقِصَاصِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَكُونُ الْفَسْخُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يكون بصريح القول أو بالفعل كما نفسخ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ دُونَ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَجَازَ أَنْ يَفْسَخَ بِالْفِعْلِ وَمِلْكُ الْمُفْلِسِ مُسْتَقِرٌّ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْسَخَ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ دُونَ الْفِعْلِ. (فصل) فأما ما إِنْ كَانَ عَيْنُ مَالِ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ. أَوْ لَا يَمْنَعُ فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّصَرُّفِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَجَّرَهُ أَوْ يَكُونَ عَبْدًا قَدْ زَوَّجَهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بَعْدَ إِجَارَتِهِ وتزويجه والإجازة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 عَلَى حَالِهَا وَالْأُجْرَةُ لِلْمُشْتَرِي تُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ دُونَ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَذَلِكَ صَدَاقُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَانِعًا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي رَقَبَتِهِ مِثْلَ الرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَالْجِنَايَةِ مُنِعَ الْبَائِعُ مِنَ اسْتِرْجَاعِهِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ فَإِذَا رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِثَمَنِهِ وَلَا حَقَّ لِمَانِعِهِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُومُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْهُ. فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مَمْنُوعًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَيْدٌ أَزَالَتْ يَدَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ فَأَوْلَى أَنْ يزيل يد البائع عنه وكذلك لو جنا جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ. فَلَوْ فُكَّ مِنَ الرَّهْنِ وَعَجَزَ فِي الْكِتَابَةِ وَأُبْرِئَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ بِثَمَنِهِ الْبَائِعُ مِنَ الْغُرَمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَهَلْ لَهُ الْفَسْخُ وَاسْتِرْجَاعُهُ عَيْنَ مَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ إِلَى حَالٍ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الِاسْتِرْجَاعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِالْفَسْخِ وَأَخْذُهُ بِالثَّمَنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ وَكَانَ الْبَيْعُ قَدْ لَزِمَ بِالِافْتِرَاقِ وَتقضي زَمَنَ الْخِيَارِ مُنِعَ الْبَائِعُ مِنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ لِبَقَاءِ زَمَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي الَّذِي بَاعَهُ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ، لِأَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَلْزَمُ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ الْبَائِعُ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَقْرَضَهُ وَأَقْبَضَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ يَدِ مُقْرِضِهِ كما كان المشتري بَعْدَ قَرْضِهِ وَإِقْبَاضِهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِلْكِهِ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ إِلَى حَالٍ لَا يَصِحُّ اسْتِرْجَاعُهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ لِوُجُودِهِ فِي مِلْكِ مُبْتَاعِهِ قَبْلَ دَفْعِ ثَمَنِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى فَلَسَ كَانَ الْبَائِعُ الثَّانِي أَحَقَّ بِاسْتِرْجَاعِهِ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَفَا الْبَائِعُ الثَّانِي عَنِ اسْتِرْجَاعِهِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ اسْتِرْجَاعَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَهُ عَلَى ثَالِثٍ ثُمَّ ابْتَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ يدفعه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 حَتَّى فَلَسَ فَحَضَرَ الْبَاعَةُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ كَانَ الْبَائِعُ الثَّالِثُ أَحَقُّ بِاسْتِرْجَاعِهِ فَإِنْ عَفَا الثَّالِثُ عَنْهُ: فَهَلْ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَقٌّ فِي اسْتِرْجَاعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِرْجَاعِهِ. وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّهُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَسْتَرْجِعَانِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا فَاسْتَحَقَّتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَفَلَسَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ حَضَرَ الْبَائِعُ وَالشَّفِيعُ وَتَنَازَعَا فِي أَخْذِ الشِّقْصِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِأَخْذِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الشَّفِيعِ لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى الشَّفِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّ الشَّفِيعَ أَوْلَى بِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ بِالْبَيْعِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْبَائِعُ اسْتَحَقَّ الِاسْتِرْجَاعَ بِالْفَلَسِ الْحَادِثِ فَكَانَ الشَّفِيعُ أَوْلَى لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي لَوْ بَاعَ الشِّقْصَ كَانَ الشَّفِيعُ أَوْلَى بِأَخْذِهِ فَأَوْلَى إِذَا أَفْلَسَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ. فَهَلْ يُقَدَّمُ الْبَائِعُ بِثَمَنِهِ أَوْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِعَ يُقَدَّمُ بِثَمَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ كَمَا كَانَ مُقَدَّمًا بِاسْتِرْجَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَائِعَ أُسْوَةُ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهِ لِفَوَاتِ الْعَيْنِ وَأَنَّ مَا دَفَعَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّمَنِ فِي حُكْمِ مُشْتَرٍ لَوِ اشْتَرَاهُ فَدَفَعَ الثَّمَنَ كَانَ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةً فَكَذَلِكَ مَا دَفَعَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّمَنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ أُسْوَةً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ويقال لمن قبل الحديث في المفلس فِي الْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْحَيِّ فَحَكَمْتُمْ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ فَكَيْفَ لَمْ تَحْكُمُوا فِي الْمُفْلِسِ فِي مَوْتِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا حَكَمْتُمْ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ لِلْوَرَثَةِ أَكْثَرَ مِمَّا لِلْمُوَرِّثِ الَّذِي عَنْهُ مَلَكُوا وَأَكْثَرُ حَالِ الْوَارِثِ أَنْ لَا يكون له إلا ما للميت ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَوْتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ بَقَاءِ السِّلْعَةِ مَعَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَمُوتَ مُفْلِسًا. أَوْ مُوسِرًا فَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا: كَانَ الْبَائِعُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا بَاعَ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: مَنْ يَتَّهِمُ أَنَّ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعَ مَالِهِ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا كَمَا لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي لِخَرَابِ الذِّمَّةِ بِالْإِفْلَاسِ كَانَ رُجُوعُهُ بِعَيْنِ مَالِهِ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِتَلَفِ ذِمَّتِهِ بِالْمَوْتِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ رُجُوعَ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمَّا لَمْ يَلْحَقْهُ مِنَ الضَّرَرِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ - وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمُفْلِسِ الْحَيِّ وَمَعْدُومٌ فِي الْمُوسِرِ الْمَيِّتِ - فَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي افْتِرَاقِ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ " بِمَعْنَى: مَاتَ مُفْلِسًا أَوْ أَفْلَسَ حَيًّا، وَتَلَفُ الذِّمَّةِ بِالْمَوْتِ لَيْسَ يَمْنَعُ عَنْ وُصُولِ الْبَائِعِ إِلَى حَقِّهِ وَخَرَابُهَا بِالْفَلَسِ فِي الْحَيَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ فلم يكن للاستدلال بهذا وجه. (فَصْلٌ) وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا فَلِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ مَالِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيما رجل باع مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ " وَهَذَا نَصٌّ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِوَارِثِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ بِفَلَسِ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: وَلِأَنَّ دُيُونَ الْمَيِّتِ قَدِ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى عَيْنِ تَرِكَتِهِ، فَاسْتَوَى الْبَائِعُ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِي تَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِأَعْيَانِ تَرِكَتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ". وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِفَلَسِ الْحَيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَاءِ ذِمَّتِهِ فَرُجُوعُهُ بِفَلَسِ الْمَيِّتِ أَوْلَى ذِمَّتَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَالرَّهْنِ إِذَا مَاتَ رَاهِنُهُ وَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ سَيِّدُهُ، وَأَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ: مِنْ أَنَّ أَقْوَى أَحْوَالِ الْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ مَوْرُوثِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُفْلِسِ أَنْ يَمْنَعَ الْبَائِعَ مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَوَارِثُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْعُ الْبَائِعِ مِنَ الرُّجُوعِ بعين ماله. اعترض الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَبْسِ: إِذَا هَلَكَ أَهْلُهُ رَجَعَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمَحْبَسِ. قَدْ جَعَلَ الْأَقْرَبَ بِالْمَحْبَسِ فِي حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَحْبَسِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 يُرِيدُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ فَهَلَكُوا فِي حَيَاتِهِ كَانَ الْوَقْفُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْوَاقِفِ. وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَاقِفِ لَكِنْ رَوَى الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِهِمْ فَظَاهَرُ هَذَا اسْتِوَاءُ الْأَغْنِيَاءِ فِيهِ وَالْفُقَرَاءِ. وَرَوَى حَرْمَلَةُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ قَالَ الْمُزَنِيُّ: قَدْ جُعِلَ لِوَرَثَتِهِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ فِي حَيَاتِهِ. فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابِينَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَ الْوَقْفَ لِلَّهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي قَرَابَتِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رُجُوعَ الْوَقْفِ إِلَى قُرَابَةِ الْوَاقِفِ لَيْسَ بِالْإِرْثِ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ، وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَعَمًّا رَجَعَ الْوَقْفُ إِلَى بِنْتِ الْبِنْتِ وإن لم تكون وَارِثَةً لِأَنَّهَا أَقْرَبُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْعَمِّ وَإِنْ كَانَ وَارِثًا لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فَإِذَا لَمْ يَرْجِعِ الْوَقْفُ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْثِ لَمْ يَقُومُوا فِيهِ مَقَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ وَمَالُ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا صَارَ إِلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ لَا يَلْزَمُ، وَلَوِ الْتَزَمْنَاهُ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ مَاتَ مُوسِرًا. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا لَمْ يُرِدِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُوَرَّثِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَنْ شِقْصٍ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ كَانَ الشِّقْصُ مُنْتَقِلًا إِلَى الْوَارِثِ مَعَ مَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ كَذَلِكَ مَالُ الْمُفْلِسِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ بِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الِاسْتِرْجَاعِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ دُيُونَ الْمَيِّتِ قَدِ انْتَقَلَتْ بِتَلَفِ الذِّمَّةِ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ فَاسْتَوَى الْبَائِعُ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ: فَهُوَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمَا جَازَ للورثة أن يفضوا دُيُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا هَذَا لَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا سِوَى الْأَعْيَانِ الَّتِي بِيعَتْ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ بَائِعِهَا بِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ حَيًّا وَمَيِّتًا. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مُفْلِسًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ. أَوْ يَكُونَ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ أَنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَالْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ شيئين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 أَحَدُهُمَا: حِفْظُ مَالِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ لِيَصِلُوا إِلَى حُقُوقِهِمْ مِنْهُ. وَالثَّانِي: رَدُّ الْأَعْيَانِ إِلَى بَائِعِهَا إِذَا لَمْ يَقْضُوا أَثْمَانَهَا وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقَعَ الْحَجْرُ حَجْرَ الْمُفْلِسِ عَلَى مَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ قَدْرِ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ سَقَطَ حَجْرُ الْمُفْلِسِ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ فِي الْحَيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْحَيَّ يُخَافُ تَبْذِيرُهُ فَجَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْوَفَاءِ وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِكُلِّ حَالٍ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِيقَاعُ حَجْرِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَالِهِ مَعَ وُجُودِ الْوَفَاءِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْحَجْرِ عِنْدَ عَجْزِ الْمَالِ رَدُّ الْأَعْيَانِ عَلَى بَائِعِهَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْ أَثْمَانَهَا فَأَمَّا حِفْظُ التَّرِكَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ مَعَ وُجُودِ الْفَلَسِ وَعَدَمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَجْعَلُ لِلْغُرَمَاءِ مَنْعَهُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَلَا لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحق به منهم (قال المزني) قلت أنا وقال في المحبس إِذَا هَلَكَ أَهْلُهُ رَجَعَ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلى المحبس فقد جعل لأقرب الناس بِالْمَحْبَسِ فِي حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَحْبَسِ وهذا عندي غير جائز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ عَيْنُ مَالِ الْبَائِعِ زَائِدَ الْقِيمَةِ عَلَى ثَمَنِهِ فَبَذَلَ لَهُ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَافِيًا لِيَبِيعُوا السِّلْعَةَ مَعَ زِيَادَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَكَانَ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ إِذَا بَذَلُوا لَهُ الثَّمَنَ مُوفَرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا بَذَلَ الْغُرَمَاءُ لِلْبَائِعِ ثَمَنَ سِلْعَتِهِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رُجُوعَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ إِنَّمَا كَانَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهُ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ مِنْ مُشَارَكَةِ الْغُرَمَاءِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الْغُرَمَاءُ الثَّمَنَ مُوفَرًا زَالَ عَنْهُ الضَّرَرُ فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ كَمَا سَقَطَ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْعَيْنِ، لِأَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا قُدِّمَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْغُرَمَاءَ لَوْ بَذَلُوا لِلْمُرْتَهِنِ دَيْنَهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الرَّهْنِ وَجَبَ إِذَا بَذَلُوا لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِفَلَسِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي فَلَمَّا كَانَ الْغُرَمَاءُ لَوْ بَذَلُوا لِلْمُؤَجِّرِ الْأُجْرَةَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ وَجَبَ إِذَا بَذَلُوا لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ الْفَسْخِ، وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ". وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي كَوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ فَلَمَّا كَانَ بَذْلُ الْبَائِعِ أَرْشَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ الثَّمَنَ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي انْتِزَاعِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا كَانَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 الثَّمَنَ لِلشَّفِيعِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ كَانَ بَذْلُ الْغُرَمَاءِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَبْذُولَ لِلْبَائِعِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ للمفلس. أو للغرماء فَإِنْ كَانَ لِلْمُفْلِسِ لَمْ يَجُزْ بَذْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالتَّوْفِيرِ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ وَأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَأْمَنُ ظُهُورَ غَرِيمٍ لَمْ يَرْضَ وَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ لِأَنَّهُ لَا مُعَامَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَسَادَهُ بِبَذْلِ أَرْشِ الْعَيْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرَرَ لَمْ يَزُلْ لِجَوَازِ حُدُوثِ غَرِيمٍ لَمْ يَرْضَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالرَّهْنِ فَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيثَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ فَإِذَا وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الِاسْتِيثَاقُ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِبَذْلِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِحَقِّهِ وَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الْعَيْنِ بِحَقِّهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْإِجَارَةِ: فَهُوَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنِ الشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ مَشْغُولًا بِزَرْعٍ لِلْمُفْلِسِ فَلِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِبَذْلِ الْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِزَرْعِهِ وَاتَّفَقَ الْغُرَمَاءُ عَلَى بَذْلِ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ فَلِلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخُ وَأَخْذُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا يَسْتَرْجِعُ الْأَرْضَ قَبْلَ حَصَادِ الزَّرْعِ فَقَدْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْجِعِ الْأَرْضَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا إِذَا بَذَلَ لَهُ ثَمَنَ مَثَلِهَا وَجَازَ لِلْبَائِعِ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ وَإِنْ بَذَلَ لَهُ ثَمَنَ مِثْلِهَا أَنَّ بَذْلَ الْأُجْرَةِ مِنَ اسْتِصْلَاحِ مَالِ الْمُفْلِسِ فَيَقَعُ لَازِمًا لَا خِيَارَ فِيهِ لِمَنْ غَابَ مِنَ الْغُرَمَاءِ كَمَا يَبْذُلُ مِنْ مَالِهِ أُجُورَ حِفَاظِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَذْلُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لَازِمًا وَلَا فِيهِ اسْتِصْلَاحٌ لِبَاقِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ بِنَقْصٍ فِي بَدَنِهَا بِعَوَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ زَادَتْ فَسَوَاءٌ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا كَمَا تَنْقُصُ الشُّفْعَةُ بِهَدْمٍ مِنَ السَّمَاءِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فَصْلٌ يَجِبُ تَفْصِيلُهُ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السِّلْعَةَ الْمَبِيعَةَ إِذَا تَغَيَّرَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ بِنَقْصٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِنَقْصٍ فَالنَّقْصُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَقْصُهَا مُتَمَيِّزًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَقْصُهَا غَيْرَ مُمَيَّزٍ فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُمَيَّزًا وَلَمْ يَكُنْ تَبَعًا لِمَا بَقِيَ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ثَوْبَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ مُقْسَطًا عَلَيْهِمَا وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِحِصَّةِ التَّالِفِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الثَّمَنُ مُقْسَطًا عَلَى قِيمَتِهِمَا، لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمَاثَلُ الْأَجْزَاءِ مِثْلَ: قَفِيزَيْنِ مِنْ طَعَامٍ يَتْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ فَيَأْخُذُ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِيَقْسِطَ ذَلِكَ عَلَى أَجْزَائِهِمَا وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ مِنْهُمَا بِاسْتِهْلَاكٍ مِنْهُ أَمْ لَا فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ فِيمَا يَأْخُذُ الْبَاقِي بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ: وَالثَّانِي: بِحِسَابِهِ كَمَا لَوْ تَلِفَ حِينَ الْعَقْدِ كَانَ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمُشْتَرِي بِهِ قَوْلَانِ؟ قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَائِلَ الْعُقُودِ تُؤَكَّدُ بِمَا لَا يُؤَكَّدُ بِهِ أَوَاخِرُهَا فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي تَفْرِيقِ الصفقة ليأكد الْعَقْدُ فِي أَوَّلِهِ أَنْ يُجْعَلَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ حَتَّى لَا يُوقِعَ جَهَالَةً فِي الثَّمَنِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْنِفْ عَقْدًا تَقَعُ الْجَهَالَةُ فِي ثَمَنِهِ، فَهَذَا حُكْمُ النَّقْصِ إِذَا تَمَيَّزَ وَانْفَصَلَ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ، وَضَرْبٌ لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ مِثْلَ عَوَرِ الْعَبْدِ أَوْ ذَهَابِ يَدِهِ أَوْ هُزَالِهِ بَعْدَ سِمَنِهِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ وَلَا يَرْجِعَ عَلَى الْمُفْلِسِ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ نَقْصِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ضَمَنَهُ بِثَمَنِهِ وَمَنْ ضَمِنَ الشَّيْءَ بِثَمَنِهِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ نَقْصِهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مِنْ يَدِهِ كَالْبَائِعِ لَمَّا ضَمِنَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصِهِ فِي يَدِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْغَاصِبِ، لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ بِقِيمَتِهِ دُونَ ثَمَنِهِ ضَمِنَ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ فَأَرْشُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا بِالثَّمَنِ وَيَرْجِعَ بِأَرْشِ النَّقْصِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى جِنَايَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَجَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ وَأَخَذَ أَرْشَ نَقْصِهِ وَإِذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 وَجَبَ لِلْبَائِعِ. - إِذِ اسْتَرْجَعَ الْعَبْدَ بِثَمَنِهِ - أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ نَقْصِهِ نَظَرَ فِي الْأَرْشِ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْجَانِي لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِهِ وَلَا يُشَارِكَ الْغُرَمَاءَ فِيهِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَيْنِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِاسْتِرْجَاعِهَا فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ قَدْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي وَاسْتَهْلَكَهُ ضَرَبَ الْبَائِعُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ مُسْتَهْلَكِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَفِيهَا وَجْهَانِ: ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ إِذَا جَنَى الْبَائِعُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَبِيعِ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ - كَحَادِثٍ مِنَ السَّمَاءِ - فَعَلَى هَذَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ وَلَا أَرْشَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَعَلَى هَذَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ نَاقِصًا بكل الثمن وضرب مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَرْشِ النَّقْصِ فَهَذَا حُكْمُ النَّقْصِ الْمُتَّصِلِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَّصِلُ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ كَدَارٍ انْهَدَمَتْ أَوْ بَعْضُهَا أَوْ كَأَرْضٍ غَرِقَ شَيْءٌ مِنْهَا فَرَوَى الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ: أَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ وَرَوَى الرَّبِيعُ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْقَدِيمِ فِي الشُّفْعَةِ: أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ ذَلِكَ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ عَلَى أَرْبَعَةِ طُرُقٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ مَسْأَلَةَ الْمُفْلِسِ وَالشُّفْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إنَّ لِلْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَاهُ نَاقِصًا بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّ النَّقْصَ تَابِعٌ فَأَشْبَهَ الْعَوَرَ وَذَهَابَ الْيَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ لِلْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَاهُ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّ النَّقْصَ لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ جَرَى مَجْرَى الْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ إِذَا تَلِفَ أَحَدُهُمَا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ فِي الْفَلَسِ يَرْجِعُ الْبَائِعُ بِهِ نَاقِصًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ وَفِي الشُّفْعَةِ إِذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ نَاقِصًا عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ فِي الْفَلَسِ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ نَاقِصًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ وَفِي الشُّفْعَةِ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَالْبُوَيْطِيُّ وَنُسِبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى الْخَطَأِ حِينَ نَقَلَ فِي الفلس وكذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 الشُّفْعَةُ وَكَانَ مِنْ فَرْقِهِ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالشُّفْعَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ فِي الشُّفْعَةِ يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ لَزِمَهُ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ الْمَبِيعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي مُقَابَلَةِ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ فِي الْفَلَسِ لَا يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَقْطَعُ الْعَقْدَ الْمُتَقَدِّمَ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الضَّرَرِ الْمُسْتَحْدَثِ فَلِذَلِكَ زَالَ بِقَطْعِ الْعَقْدِ جَمِيعُ الثَّمَنِ. وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِكُلِّ الثَّمَنِ فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ بعد الهدم باقية لأن للنقص آثار غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْعَوَرِ وَالْهُزَالِ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ وَالْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ فِي الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ بَعْدَ الْهَدْمِ تَالِفَةً لِأَنَّهُ نَقْصٌ مُمَيَّزٌ وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُ التميز أتلف بَعْض الْمَبِيعِ كَمَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَتَلَفِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَدْ زَادَ فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ مُتَمَيِّزَةٌ وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَنْ تَتْبَعَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ لَا يُوجِبُ رَدَّ زِيَادَتِهِ الْمُتَمَيِّزَةِ كَذَلِكَ فِي الْفَلَسِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَصْلِ زَائِدًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ مِنْ حُكْمِهِمَا أَنْ تَتْبَعَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ رَدَّ زِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الصَّدَاقُ إِذَا زَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ مُنِعَ الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا وَرَجَعَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ فَهَلَّا كَانَ فِي الْفَلَسِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا فِي الْفَلَسِ لِتَعَذُّرِ الْبَذْلِ عَلَيْهِ وَإِعْوَازِهِ بِالْفَلَسِ وَالزَّوْجُ لَمَّا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ بِبَذْلِ الصَّدَاقِ لَمْ يَرْجِعْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا وَلَوْ تَعَذَّرَ بَذْلُ الصَّدَاقِ مِنْ جِهَتِهَا بِحُدُوثِ فَلَسِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِيهِمَا مَعَ الْيَسَارِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْعَيْنِ فِي الْفَلَسِ فِي الرُّجُوعِ بِزِيَادَةِ الْعَيْنِ. وَفَرَّقَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالصَّدَاقِ: بِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمَّا كَانَ لَوْ تَلِفَ رَجَعَ الزَّوْجُ إِلَى قِيمَتِهِ الَّتِي لَا تَزِيدُ عَلَى الصَّدَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ مَعَ الْبَقَاءِ بِزِيَادَةِ الصَّدَاقِ وَلَمَّا كَانَ المبيع لَوْ تَلِفَ رَجَعَ الزَّوْجُ إِلَى قِيمَتِهِ الَّتِي لَا تَزِيدُ عَلَى الصَّدَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ مَعَ الْبَقَاءِ بِزِيَادَةِ الصَّدَاقِ وَلَمَّا كَانَ الْمَبِيعُ لَوْ تَلِفَ رَجَعَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَدْ يَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَعَ الْبَقَاءِ بِزِيَادَةِ الْمَبِيعِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بفرق ثاني فَيَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِزِيَادَةِ الصَّدَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَا تَعَلَّقَ بِالصَّدَاقِ وَإِنَّمَا اسْتُحْدِثَ الْحَقُّ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي الْفَلَسِ لَمَّا كَانَ حَقُّ البائع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَلَسِ وَكَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَبِيعِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ ثَالِثٍ فَيَقُولُ: لَمَّا كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِطَلَاقِهِ صَارَ مُتَّهَمًا بِالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالصَّدَاقِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْبَائِعِ عَيْنَ مَالِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِفَلَسِهِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنِ الْبَائِعِ بِالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ. وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ رَابِعٍ فَيَقُولُ: لَمَّا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا إِلَى الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ أَضْعَافَ الْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ مَعَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ إِذَا كان زائدا. والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا فِيهِ ثَمْرٌ أَوْ طَلْعٌ قَدْ أُبِّرَ وَاسْتَثْنَاهُ الْمُشْتَرِي وَقَبَضَهَا وَأَكَلَ الثَّمَرَ أَوْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ثَمَّ فَلَسَ أَوْ مَاتَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ مَالِهِ وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي حِصَّةِ الثَّمَرِ يَوْمَ قَبْضِهِ لَا يَوْمَ أَكْلِهِ وَلَا يَوْمَ أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَبْتَاعَ النَّخْلَ مَعَ الثَّمَرَةِ ثُمَّ فَلَسَ وَقَدْ بَقِيَتِ النَّخْلُ وَتَلِفَتِ الثَّمَرَةُ فَلَا تَخْلُو الثَّمَرَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً. أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ إِلَّا بِالشَّرْطِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ قَدْ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ مَقْصُودَيْنِ بِهِ فَإِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَرِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا لَوْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ تَلَفُ التَّالِفِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَدُخُولُهَا فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَا بِالشَّرْطِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو تَلَفُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَائِحَةٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِجِنَايَةٍ بِاسْتِهْلَاكِ آدَمِيٍّ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِاسْتِهْلَاكِ آدَمِيٍّ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٌّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا غَيْرُهُ فَقَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فَصَارَتْ فِي الْحَالَيْنِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ فَيَضْرِبُ بِهِ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجَائِحَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ إِنْ شَاءَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ هَاهُنَا تَبَعٌ وَلَمْ يَصِلِ الْمُشْتَرِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلَمْ يلزمه غرمها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ التَّالِفَةَ مِمَّا يُمْكِنُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ النَّخْلَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ تَقُومَ النَّخْلُ مَعَ الثَّمَرَةِ فِي أَقَلِّ الْحَالَيْنِ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَقَلَّ فَمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ بِحَادِثٍ في ملك المشتري فلم يجز أن يقوم فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ فَنَقْصُهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ وَمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ عَلَى غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ مَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي أَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَإِنَّ مُرَادَهُ: أَنْ يُقَوَّمَ وَقْتَ الْقَبْضِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ فِيهِ أَقَلَّ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ وَجَبَ أَنْ تُقَوَّمَ وَقْتَ الْعَقْدِ فَتُقَوَّمَ النَّخْلُ مَعَ الثَّمَرَةِ فإذا قبل قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ قُوِّمَتِ النَّخْلُ، فَإِذَا قِيلَ قِيمَتُهَا تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ قِسْطُ الثَّمَرَةِ عُشْرَ الْقِيمَةِ فَيَضْرِبُ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِعُشْرِ الثَّمَنَ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا فَعُشْرُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَعُشْرُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهَا مَعَ ثَمَرٍ فِيهَا قَدِ اخْضَرَّ ثُمَّ فَلَسُ وَالثَّمَرُ رُطَبٌ أَوْ تَمْرٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَدْ دَخَلَ فِي التَّقْسِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمُ الْجَوَابُ عَنْهُ: وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ نَخْلًا مَعَ ثَمَرَةٍ وَالثَّمَرَةُ بَلَحٌ أَوْ خِلَالٌ أَخْضَرُ وَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتِ الثَّمَرَةُ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّخْلِ مَعَ الثَّمَرَةِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَرَةِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَصَارَتْ تَبَعًا لِلْمِلْكِ فَإِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ لَمْ تَنْفَصِلِ الزِّيَادَةُ عَنْهُ وَرَجَعَ بِهِ زَائِدًا وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ فَسِيلًا فَصَارَ الْفَسِيلُ نَخْلًا رَجَعَ بِهَا نَخْلًا زَائِدًا وَكَذَلِكَ أَشْبَاهُ ذلك. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ بَاعَهُ زَرْعًا مَعَ أَرْضٍ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ثُمَّ أَصَابَهُ مُدْرَكًا أَخَذَهُ كُلَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ حَالِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ إِذَا بِيعَتْ مَعَ زَرْعِهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ الَّذِي فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَذْرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَقْلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سُنْبُلًا فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا مَدْفُونًا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ فَإِنْ جَهِلَا جِنْسَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 وَقَدْرَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْبَذْرِ، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْأَرْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ الْبَذْرِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالْقَدَرِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا وَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ هَاهُنَا - جَوَازُهُ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِمَعْلُومٍ لَمْ تَضُرَّ الْجَهَالَةُ بِهِ كَأَسَاسِ الْبِنَاءِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَهُوَ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ الْأَسَاسِ وَاللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِشَرْطٍ وَتَأَوَّلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ " لِمَعْنَى خَرَجَ سُنْبُلُهُ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ سُنْبُلُهُ - فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَكُونُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا فَبَيْعُهُ مُفْرَدًا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَمَعَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كما يجوز بيع الثمرة على رؤوس نَخْلِهَا قَبْلَ بَدْوِّ صَلَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حبه بارزا لإكمام عَلَيْهِ كَالشَّعِيرِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْنًا بِكِمَامٍ كَالْحِنْطَةِ فَإِنْ كَانَ بَارِزًا بِغَيْرِ كِمَامٍ جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا وَجَازَ بَيْعُهُ مَعَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْنًا بِكِمَامٍ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ مُفْرَدًا قولان: أحدهما: إن بيعه منفردا جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِذَا بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ جَائِزًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بيعه منفردا بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا فِي بَيْعِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِكَوْنِهِ تَبَعًا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَبْطَلَ بِيعَ الْأَرْضِ قَوْلًا وَاحِدًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا وَقُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا نُظِرَ حَالُهُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ بَذْرًا أَيْضًا لَمْ يَنْبُتْ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَرْضِ مَعَ بَذْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ قَدْ نَبَتَ وَصَارَ بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا رَجَعَ بِالْأَرْضِ وَفِي رُجُوعِهِ بِالزَّرْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِالزَّرْعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْبَذْرِ فَصَارَ الْبَذْرُ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَوْجُودِ الْعَيْنِ فَيَرْجِعُ بِالْأَرْضِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا قَابَلَ الْبَذْرَ - وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَاعَهُ بَيْضًا فَحَضَنَهُ حَتَّى صَارَ فِرَاخًا لَمْ يَرْجِعِ الْبَائِعُ بِالْفِرَاخِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ البيض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجِعُ بِالزَّرْعِ بَعْدَ نَبَاتِهِ، لِأَنَّ نَبَاتَ الزَّرْعِ هُوَ مِنْ عَيْنِ الْبَذْرِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ مَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ كَانَ الزَّرْعُ بَعْدَ نَبَاتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ بَذْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ بَيْضًا فَحَضَنَهُ حَتَّى صَارَ فِرَاخًا كَانَتِ الْفِرَاخُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِبَائِعِ الْبَيْضِ إِذَا صَارَ فِرَاخًا أَنْ يَرْجِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ حِينَ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ بَقْلًا نُظِرَ حَالُهُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ قَصِيلًا أَوْ سُنْبُلًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَفِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ حِينَ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ مَعَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَبُّ بَاقِيًا فِي سُنْبُلِهِ أَوْ قَدْ صُفِّيَ وأخرج منه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهُ حَائِطًا لَا ثَمَرَ فِيهِ أَوْ أَرْضًا لَا زَرْعَ فِيهَا ثُمَّ فَلَسَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَ وَالْأَرْضُ قَدْ زُرِعَتْ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي النَّخْلِ وَالْأَرْضِ وَتَبْقَى الثِّمَارُ إِلَى الْجِدَادِ وَالزَّرْعُ إِلَى الْحَصَادِ إِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ تَأْخِيرَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا زَرْعَ فِيهَا فَزَرَعَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ أَخْضَرُ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ لِتَكَامُلِ مَنْفَعَتِهِ فَصَارَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ وَيَرْجِعُ بِالْأَرْضِ وَحْدَهَا الَّتِي هِيَ عَيْنُ مَالِهِ وَعَلَيْهِ إِذَا رَجَعَ بِالْأَرْضِ أَنْ يُقِرَّ الزَّرْعَ فِيهَا إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ إِذَا شَاءَ ذَلِكَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ زَرْعَهَا كَانَ بِحَقٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْطَعَ وَلَزِمَ أَنْ يُقِرَّهُ ثُمَّ لَا أُجْرَةَ لِلْبَائِعِ فِي تَرْكِ الزَّرْعِ فِي أَرْضِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ حِينَ زُرِعَ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَهَا مُدَّةً ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا الْبَائِعُ بِفَلَسِهِ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً لِلْبَائِعِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْأُجْرَةُ مِلْكٌ لِلْمُفْلِسِ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَنَافِعِهَا حِينَ أَجَّرَ فَكَذَلِكَ فِيمَا زَرَعَ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا لَا ثَمَرَ عَلَيْهِ فَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً، أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي تُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي تَرْكِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الزَّرْعِ وَعَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ سَقْيِهَا وَكَذَلِكَ سَقْيُ الزَّرْعِ. وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ: أَنَّ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ إِنْ رَجَعَ بِالنَّخْلِ تَبَعًا كَمَا يَكُونُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 الْبَيْعِ تَبَعًا لَهَا وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ الزَّرْعَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ مِنْ خِلْقَةِ الْأَصْلِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْبَائِعُ كَمَا لَا يَدْخُلُ فِي البيع والثمرة الحادثة حادثة من خلقة الأصل يرجع بِهَا الْبَائِعُ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ: أنَّ الثَّمَرَةَ لِلْمُفْلِسِ لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهَا وَيَرْجِعُ بِالنَّخْلِ دُونَهَا لِأَنَّ: الْبَائِعَ يَسْتَرْجِعُ الْمَبِيعَ جَبْرًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُهُ، وَفَارَقَ ذَلِكَ حَالَ الْمَبِيعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَنْ مُرَاضَاةٍ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ تَوَابِعُ الْمَبِيعِ وَهَذَا عَنْ إِكْرَاهٍ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَّا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمَّا كَانَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ لَفْظًا دَخَلَتْ فِيهِ الثَّمَرَةُ إِطْلَاقًا وَلَيْسَ يُقَدَّرُ فِي فَلَسِ الْمُشْتَرِي عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَافْتَرَقَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ لَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ تَرْكُهَا عَلَى النَّخْلِ إِلَى أَوَانِ الجذاذ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ الْجُذَاذِ وَالزَّرْعِ بَقْلًا فَذَلِكَ لَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فَصَارَتِ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ لِلْمُفْلِسِ فَلَهُ وَلِغُرَمَائِهِ أَرْبَعَةُ أحوال: أحدهما: أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ الْجُذَاذِ وَالزَّرْعِ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ فَذَلِكَ لَهُمْ وَعَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ عَلَى مَا مَضَى. وَالْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ فِي الْحَالِ بُسْرًا أَخْضَرَ وَبَيْعِ الزَّرْعِ فِي الْحَالِ بَقْلًا أَخْضَرَ فَذَلِكَ لَهُمْ لِيَتَعَجَّلُوا الْحَقَّ وَيَأْمَنُوا الْخَطَرَ. وَالْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْعُوا الْغُرَمَاءَ إِلَى تَرْكِهَا إِلَى وقت الجذاذ والحصاد ليتوفر عليهم ثمنها ويدعو الْمُفْلِسَ إِلَى بَيْعِهَا فِي الْحَالِ لِيُأْمَنَ خَطَرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ وَتُبَاعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ وَلَا يُأْمَنُ تَلَفُ الثَّمَرَةِ وبقاء الدين. والحال الرابع: أن يدعوا الْمُفْلِسُ إِلَى تَرْكِهَا إِلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ لِيَزِيدَ ثَمَنُهَا فَيَخِفَّ دَيْنُهُ وَيَدْعُوَ الْغُرَمَاءُ إِلَى بَيْعِهَا فِي الْحَالِ لِيَتَعَجَّلُوا حُقُوقَهُمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ وَتُبَاعُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا وَهَكَذَا لَوْ رَضِيَ أَكْثَرُ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسُ بِتَرْكِهَا وَكَرِهَ أَقَلُّهُمْ وَطَلَبُوا تَعْجِيلَ بَيْعِهَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ مَنْ دَعَا إِلَى تَعْجِيلِ الْبَيْعِ. وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لِأَنَّهُ لا يلزمه تأخير حقه برضى غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانَتْ لَهُ الْأَمَةُ إِنْ شَاءَ وَالْوَلَدُ لِلْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى كَانَتْ لَهُ حُبْلَى لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْإِبَارَ كَالْوِلَادَةِ وَإِذَا لَمْ تُؤْبَرْ فَهِيَ كَالْحَامِلِ لَمْ تَلِدْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ: الْحَمْلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا؟ وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا كأعضائها، لأنها لو أعتقت سوى الْعِتْقُ إِلَى حَمْلِهَا كَمَا يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَاللَّبَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ حَمْلَهَا لَمْ يَسْرِ إِلَيْهَا عِتْقُهُ وَلَوْ كَانَ كَالْعُضْوِ مِنْهَا عُتِقَتْ بِعِتْقِهِ كَمَا تُعْتَقُ بِعِتْقِ أَعْضَائِهَا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَكَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً حَصَلَ مِنْهَا حَمْلٌ أَوْ وَلَدٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: - أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْفَلَسِ فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ الَّذِي مَعَهَا وَقْتَ الْفَلَسِ هُوَ الْحَمْلُ الَّذِي كَانَ مَعَهَا وَقْتَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا حَامِلًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ تَبَعٌ وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا فَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ قِسْطٌ. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ الَّذِي مَعَهَا وَقْتَ الْفَلَسِ غَيْرَ الْحَمْلِ الَّذِي كَانَ مَعَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا حَامِلًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ حَامِلًا وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا دُونَ حَمْلِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتَ الْفَلَسِ مَعَهَا وَيَرْجِعُ بِالْوَلَدِ الَّذِي وَضَعَتْهُ وَكَانَتْ حَامِلًا بِهِ وَقْتَ بَيْعِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ وَحَامِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ وَكَانَ حَمْلُهَا وَوَضْعُهَا مَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْفَلَسِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا دُونَ حَمْلِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا وَلَا كَانَ فِي الْحَالَيْنِ تَبَعًا فَإِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأَمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا " لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ جَوَّزَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ عَلَى مِثْلِ مَا قَالَ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرَّهْنِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ إِذْ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَيَصِلُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُمَا فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ تُعْطِي ثَمَنَ الْوَلَدِ فَإِنْ دَفَعَ ثَمَنَ الْوَلَدِ أُجْبِرَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَنِ وَدَفْعِ الْوَلَدِ وَإِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ أَنْ يَدْفَعَ ثَمَنَ الْوَلَدِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْأُمِّ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِهَا وَبِيعَتْ مَعَ وَلَدِهَا فَمَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِهَا دُفِعَ إِلَى الْبَائِعِ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْأُمَّ ذَاتَ وَلَدٍ وَدُفِعَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 إِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ الْوَلَدَ إِذَا كَانَ مَعَ أُمِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا دَفَعْتُمْ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ مُفْرَدَةً غَيْرَ ذَاتِ وَلَدٍ كَمَا دَفَعْتُمْ إِلَى مُرْتَهِنِ الْأَرْضِ إِذَا غَرَسَهَا الرَّاهِنُ بَعْدَ الرَّهْنِ نَخْلًا وَبِيعَا مَعًا ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لَا نَخْلَ فِيهَا؟ . قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِغَرْسِ النَّخْلِ فِي الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ دَفَعَ ضَرُورَةَ تَعَدِّيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ المشتري تعد في إيلاد الْجَارِيَةِ لَمْ يَكُنْ دَفْعُ الضَّرُورَةِ عَنِ الْبَائِعِ بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِهَا عَنِ الْمُشْتَرِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ حَائِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا رَجَعَ بِالْأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا، أَوْ تَالِفًا فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بَاقِيًا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا وَإِنْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِالْأُمِّ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِمَا قَابَلَ الْوَلَدَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ حِينَ أُقْبِضَ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَكْثَرُ ثَمَنًا وَكَثْرَةُ ثَمَنِهِ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَوَّمَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَتُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا وَقْتَ الْقَبْضِ وَحَائِلًا وَيُنْظَرُ مَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ الَّذِي يُقَابِلُ ثَمَنَ الْحَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْخُمْسَ ضَرَبَ بِخُمْسِ الثَّمَنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا وَقْتَ الْبَيْعِ حَامِلًا وَقْتَ الْفَلَسِ. فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تَبَعًا رَجَعَ الْبَائِعُ بِالْأُمِّ حَامِلًا وَلَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي حَمْلِهَا. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ وَكَانَ الْحَمْلُ لِلْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ وَلَا يَلْزَمُ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ حَامِلًا لِحَقِّ الْمُفْلِسِ فِي الْحَمْلِ وَلَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهَا فِي يَدِ الْمُفْلِسِ أَوْ غُرَمَائِهِ لِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الْأُمِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْبَائِعِ قِيمَةُ الْحَمْلِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ دُونَ أُمِّهِ وَتُوضَعُ الْأَمَةُ الْحَامِلُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ فَإِنِ اخْتَلَفَا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا عَدْلًا وَنَفَقَتُهَا عَلَى الْبَائِعِ مَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْمُفْلِسِ مَالِكِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ تَجِبُ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا، لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَاخْتَصَّتْ بِالْمِلْكِ الظَّاهِرِ الْمُتَحَقِّقِ. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا لَا ثَمَرَ فِيهَا ثُمَّ أَثْمَرَتْ فَلَمْ تُؤَبَّرْ حَتَّى أَفْلَسَ فَلَمْ يَخْتَرِ الْبَائِعُ حَتَّى أُبِّرَتْ كَانَ لَهُ النَّخْلُ دُونَ الثَّمْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ مَالِهِ إِلَّا بِالتَّفْلِيسِ وَالِاخْتِيَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْجَوَابُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَفْلَسَ وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مُؤَبَّرَةٍ كَانَتْ لِلْبَائِعِ إِذَا رَجَعَ بِالنَّخْلِ فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الرَّبِيعِ: أَنَّهَا لِلْمُفْلِسِ فَلَا مَعْنَى لِتَفْرِيعِهَا فَإِذَا فَلَسَ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مُؤَبَّرَةٍ فَتَأخير اخْتِيَارُ الْبَائِعِ عَيْنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 مَالِهِ حَتَّى أُبِّرَتِ الثَّمَرَةُ ثُمَّ اخْتَارَ عَيْنَ مَالِهِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَيْسَ يَمْلِكُ عَيْنَ مَالِهِ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ وَإِنَّمَا مَلَكَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَيْنَ مَالِهِ بِالِاخْتِيَارِ فَإِذَا اخْتَارَ عَيْنَ مَالِهِ صَارَ حِينَئِذٍ مِلْكًا لَهُ بِالِاخْتِيَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الثَّمَرَةِ وَعِنْدَ تَمَلُّكِهِ بِالِاخْتِيَارِ لَا وَقْتَ الْحَجْرِ بِالْفَلَسِ وَالثَّمَرَةُ وَقْتَ تَمَلُّكِهِ بِالِاخْتِيَارِ مُؤَبَّرَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ فِي أَكْمَامٍ فَيَنْشَقُّ كَالْكُرْسُفِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِذَا انْشَقَّ فَمِثْلُ النَّخْلِ يُؤَبَّرُ وَإِذَا لَمْ يَنْشَقَّ فَمِثْلُ النَّخْلِ لَمْ يُؤَبَّرْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَيْضًا يَتَفَرَّعُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ دُونَ الرَّبِيعِ. فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ شَجَرًا غَيْرَ مُثْمِرٍ فَفَلَسَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَثْمَرَ الشَّجَرُ فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي حُكْمِ الْمُؤَبَّرَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يُمْكِنْ لِلْبَائِعِ فِيهَا حَقٌّ إِذَا رَجَعَ بِالشَّجَرِ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ كَالْكُرْسُفِ الَّذِي لَمْ يَتَشَقَّقْ فِي جَوْزِهِ وَالْوِرْدِ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ فِي شَجَرِهِ وَمَا جَرَى ذَلِكَ مِمَّا اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ: أَحَدُهُمَا: لِلْبَائِعِ إِذَا رَجَعَ بِعَيْنِ مَالِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ. وَالثَّانِي: لِلْمُفْلِسِ تُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ اخْتَرْتُ عَيْنَ مَالِي قَبْلَ الْإِبَارِ وَأَنْكَرَ الْمُفْلِسُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْبَائِعِ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ أَجْعَلْ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِهِ لِلْبَائِعِ وَأَجْعَلُهُ لِلْغَرِيمِ سِوَى مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ وَيُحَاصُّهُمْ فِيمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ من الغرماء عدلان فيجوز وإن صدقه المفلس وكذبه الغرماء فمن أجاز إقراره أجازه ومن لم يجزه لم يجزه وأحلف له الغرماء الذين يدفعونه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ وَحَرْمَلَةَ حَيْثُ جَعَلَا لِلْبَائِعِ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ فَإِذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ قَبْلَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقُوهُ جَمِيعًا عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ النَّخْلَ قَبْلَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ فَتَكُونَ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ يَأْخُذُهَا مَعَ الْأَصْلِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبُوهُ جَمِيعًا الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَعَلَى الْمُفْلِسِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 الْيَمِينُ لِأَنَّ حُدُوثَ الثَّمَرَةِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْبَائِعِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ الْمُفْلِسُ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ مَقْسُومَةً بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُفْلِسُ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ يَجُوزُ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُونَ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَصِيرُ إِلَيْهِمْ فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفُوا اقْتَسَمُوا الثَّمَرَةَ وَإِنْ نَكَلُوا أُحَلِفَ الْبَائِعُ عَلَيْهَا وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمُ اسْتَحَقُّوا بِأَيْمَانِهِمْ بِقِسْطِ دُيُونِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ يَخْتَصُّونَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَحَلَفَ الْبَائِعُ عَلَى الْبَاقِي وَاسْتَحَقَّهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْتَسِمُونَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ أَحَدٌ بِيَمِينِ غَيْرِهِ مَالًا - فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُفْلِسِ فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ فَلَوْ شَهِدَ لِلْمُفْلِسِ شَاهِدَانِ مِنْ غُرَمَائِهِ أَنَّ الثَّمَرَ أُبِّرَتْ عَلَى مِلْكِهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ الثَّمَرَةَ إِذَا حَصَلَتْ لِلْمُفْلِسِ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ فَيُوَفَّوْنَ حُقُوقَهُمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُفْلِسُ وَيُكَذِّبَهُ الْغُرَمَاءُ فَيَقُولُ الْمُفْلِسُ لِلْبَائِعِ: اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لَكَ فَيَقُولُ الْغُرَمَاءُ: بَلِ اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُفْلِسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُفْلِسِ وَتُدْفَعُ الثَّمَرَةُ إِلَى الْبَائِعِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُ وَالْمُقِرُّ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ وَعَلَى الْمُنْكَرِ الْيَمِينُ - وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِمَالٍ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ مشاركا لجميع الغرماء إذا كذبوه؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَجْرِ الْمُفْلِسِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ - فَإِذَا حَلَفَ الْغُرَمَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ دَيْنًا لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُفْلِسُ وَيُصَدِّقَهُ الْغُرَمَاءُ فَيَقُولَ الْمُفْلِسُ اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ وَالثَّمَرَةُ لي ويقول الغرماء بل اخْتَرْتَ عَيْنَ مَالِكَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لَكَ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لِلْبَائِعِ عَدْلَانِ مِنَ الْغُرَمَاءِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُفْلِسِ وَحُكِمَ بِالثَّمَرَةِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَنْفِي عَنْهُمُ التُّهْمَةَ فِيهَا فَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَاحِدٌ حُلِّفَ الْبَائِعُ مَعَهُ وَاسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهُ مَالٌ يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مَنْ شَهِدَ مِنَ الْغُرَمَاءِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ حُلِّفَ الْمُفْلِسُ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 تَسْلِيمِ الثَّمَرَةِ إِلَى غُرَمَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِهَا لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ بَذَلَهَا الْمُفْلِسُ لَهُمْ وَطَالَبَهُمْ بِأَخْذِهَا مِنْ دُيُونِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَخْذُهَا لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ ذِمَّتَهُ مِنْ دُيُونِهِمْ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ وَقِيلَ لِلْغُرَمَاءِ: إِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا الثَّمَرَةَ مِنْ ديونكم أو تبرؤوه مِنْهَا فَإِذَا قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تُقَسَّمَ عَيْنُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ ثَمَنُهَا فَإِنْ قُسِّمَتِ الثَّمَرَةُ عَلَيْهِمْ - لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ دُيُونِهِمْ - وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَبَضُوهَا مِنْ ديونهم أن يردوها على البائع لإقرارهم بأنه الثَّمَرَةَ مِلْكٌ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ إِنَّ الشَّاهِدَ اشْتَرَى الْعَبْدَ عُتِقَ عَلَيْهِ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بِيعَتْ وَقُسِّمَ فِيهِمْ ثَمَنُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُمْ رَدُّ ثَمَنِهَا عَلَى الْبَائِعِ صَاحِبِ النَّخْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ مِنَ الثَّمَرَةِ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الثَّمَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ إِنْ كَانَتْ لَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالثَّمَنُ مَرْدُودٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ ثَمَنَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُفْلِسُ وَبَعْضُ الْغُرَمَاءِ وَيُكَذِّبَهُ بَاقِي الْغُرَمَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ فِي حِصَصِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حِصَصِ الَّذِينَ خَالَفُوهُ وَأَكْذَبُوا الْبَائِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَإِنْ شَهِدَ عَدْلَانِ مِنَ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ تَابَعُوا الْمُفْلِسَ فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْمُفْلِسِ بِهَا وَإِنْ قبل إقراره فَلَا مَعْنَى لِلشَّهَادَةِ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُفْلِسُ وَبَعْضُ الْغُرَمَاءِ وَيُصَدِّقَهُ الْبَاقُونَ مِنَ الْغُرَمَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُفْلِسِ فِي التَّكْذِيبِ مَعَ يَمِينِهِ لِحُدُوثِ الثَّمَرَةِ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ جَائِزُ الشَّهَادَةِ فَشَهِدُوا لَهُ بِالثَّمَرَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ حُلِّفَ الْمُفْلِسُ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَ مَنْ تَابَعَهُ فِي تَكْذِيبِ الْبَائِعِ مِنْ غُرَمَائِهِ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِمَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنْهُمْ فَإِنْ قَالَ الْمُفْلِسُ أُرِيدُ أَنْ أَقْسِمَ الثَّمَرَةَ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِ دُيُونِهِمْ فَهَلْ يُجْبَرُ مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُونَ كَمَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ مُصَدِّقِينَ فَمَا حَصَلَ مَعَ الْغُرَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لِلْبَائِعِ مَلَكُوهُ وَمَا حَصَلَ مَعَ الْغُرَمَاءِ الْمُصَدِّقِينَ لِلْبَائِعِ رَدُّوهُ عَلَيْهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ مِنَ الْغُرَمَاءِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَرَةِ مِنْ دَيْنِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِجْبَارِهِمْ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُفْلِسِ مِنْ دُيُونِهِ وَذِمَّتُهُ تَبْرَأُ مِنْ دُيُونِ الْمُكَذِّبِينَ بِدَفْعِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمُفْلِسِ مِنْ جَمِيعِ دُيُونِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ أَنْ تَبْرَأَ مِنْ بَعْضِ دُيُونِ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ كَانَ لَهُ بِحِصَّتِهِ وَيَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي بَقِيَّتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ لِدُخُولِهِ فِي التَّقْسِيمِ الْمَاضِي فَإِذَا بَاعَهُ شَيْئَيْنِ يَتَقَسَّطُ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِصَاحِبِهِ كَعَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَعْضِهِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي مَعْدُومًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِعَيْنٍ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ جَمِيعِ الْعَيْنِ أَوْ بَعْضِهَا كَالرَّهْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَاقِي فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ غَلِطَ فَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَائِعِ إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْغَلَطَ - فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَقْتَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ فِي أَقَلِّ الْحَالَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ الْقَبْضِ فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قِسْطِ مَا تَلِفَ مِنَ الثَّمَنِ وَلَا بَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ إِلَّا بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ دَارًا فَبُنِيَتْ أَوْ أَرْضًا فَغُرِسَتْ خَيَّرْتُهُ بَيْنَ أَنْ يُعْطَى الْعِمَارَةَ وَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ أَوْ يَكُونَ لَهُ الْأَرْضُ وَالْعِمَارَةُ تُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ أَنْ يُقْلِعُوا وَيَضْمَنُوا مَا نَقَصَ الْقَلْعُ فَيَكُونَ لَهُمُ (وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْعِمَارَةَ وَأَبَى الْغُرَمَاءُ أَنْ يَقْلَعُوهَا لَمْ يَكُنْ له إلا الثمن يخاض به الغرماء (قال المزني) قلت أنا الأول عندي بقوله أشبه وأولى لأنه يجعل الثوب إذا صبغ لبائعه يكون به شريكا وكذلك الأرض تغرس لبائعها يكون بها شريكا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا الْمُشْتَرِي بِنَاءً وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا ثُمَّ أَفْلَسَ وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ فَلِلْمُفْلِسِ وَلِغُرَمَائِهِ حَالَانِ: حَالٌ يَتَّفِقُوا عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ بَيْضَاءَ فَإِنْ كَانَ قَلْعُ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بَعْدَ رُجُوعِ الْبَائِعِ بِأَرْضِهِ وَكَانَ لِقَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ نَقْصٌ قَدْ أَضَرَّ بِالْأَرْضِ فَإِنْ أَمْكَنَ إِزَالَةُ النَّقْصِ بِتَسْوِيَةٍ لِلْأَرْضِ وَتَعْدِيلِهَا فَعَلَيْهِمْ تَسْوِيَتُهَا وَإِزَالَةُ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَةُ النَّقْصِ بِتَسْوِيَتِهَا فَعَلَيْهِمْ غُرْمُ ما نقصت الأرض يرجع لكون البائع مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِاسْتِصْلَاحِ مَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَلْعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَبْلَ رُجُوعِ الْبَائِعِ بِأَرْضِهِ فَهَلْ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمُفْلِسِ غُرْمُ نَقْصِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ - مِنَ اخْتِلَافِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 الْوَجْهَيْنِ فِيمَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ مِنْ نَقْصٍ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ مَجْرَى جِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ - أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثٍ مِنْ سَمَاءٍ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْغُرْمُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى جِنَايَةِ آدَمِيٍّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِقَدْرِ غَرَامَةِ النَّقْصِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ عَلَى اسْتِهْلَاكٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُفْلِسِ وَغُرَمَائِهِ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يُجْبَرُوا عَلَى قَلْعِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس لعرق ظالم حق ". فدل على غَيْر الظَّالِمِ لِعِرْقِهِ حَقٌّ، وَالْمُشْتَرِي حِينَ بَنَى وَغَرَسَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَإِذَا لَمْ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَوْ يَمْتَنِعَ. فَإِنْ بَذَلَ لَهُمْ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا فَلِلْبَائِعِ - إِذَا بَذَلَ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِهِ وَيُجْبِرَ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ قَائِمًا أَوْ قَلْعِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنَ الرُّجُوعِ بِأَرْضِهِ وَإِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا وَامْتَنَعَ الْمُفْلِسُ وَغُرَمَاؤُهُ مِنْ قَلْعِهِمَا مَعًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى: أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ. وَقَالَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى: أَنَّهُ يَكُونُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ. وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْضِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَطَائِفَةٌ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بِأَرْضِهِ وَلَا يَكُونُ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ مَصْبُوغًا بِصَبْغِ الْمُشْتَرِي وَيَكُونُ الصَّبْغُ لِلْمُشْتَرِي وَالْأَرْضُ الْمَغْرُوسَةُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْغِرَاسُ لِلْمُشْتَرِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلْبَائِعِ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِالْأَرْضِ لِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ بِالْأَرْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِيهَا ضَرَرًا لَاحِقًا بِمَالِكِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِأَنَّ حِيطَانَ الْبِنَاءِ وَسُقُوفَهُ تَزُولُ مَنَافِعُهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّصَرُّفُ فِي الْأَرْضِ وَالْغِرَاسِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِطْرَاقُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزِيلَ عَنِ الْبَائِعِ ضَرَرًا بِاسْتِرْجَاعِ الْأَرْضِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا بَنَى وَغَرَسَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ إِلَّا بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ ضَرَرًا عَنِ الشَّفِيعِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ، لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَجَعَ بِالثَّوْبِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمُفْلِسِ ضَرَرٌ فِي الصَّبْغِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ يَسْتَوْدِعُ أَمِينًا حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 يُبَاعَ لَهُمَا فَلَا يُدْخِلُ ضَرَرًا عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ: فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ بِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْضِهِ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ يَسِيرًا أَوْ أَكْثَرُ مَنَافِعِ الْأَرْضِ إِذَا اسْتُرْجِعَتْ بَاقِيًا لِبَقَاءِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْأَرْضِ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ كَثِيرًا أَوْ أَكْثَرُ مَنَافِعِ الْأَرْضِ مَشْغُولًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَزَوَالِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَتَصِيرَ مُسْتَهْلَكَةً. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِذَا قُلْنَا: إن لَا رُجُوعَ لِلْبَائِعِ بِالْأَرْضِ بِيعَتْ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ وَكَانَ الْبَائِعُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِهَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لِلْبَائِعِ أن يرجع بالأرض فإذا رجع بها فإن رَضِيَ أَنْ تُبَاعَ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ - بِيعَتْ مَعَ ذَلِكَ وَدُفِعَ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ وَدُفِعَ إِلَى الْغُرَمَاءِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ - وَهَلْ يُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ نِصْفُ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ أَوْ مَا قَابَلَ ثَمَنَهَا مَعَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ مَعَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لِيَكُونَ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِغَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّقْصِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ - أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لِيَكُونَ النَّقْصُ إِنْ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا يَكُونُ النَّقْصُ فِي الثوب المصبوغ داخلا عليه لأن المشتري غير مدعو بغرس وبناء فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّقْصِ دُونَ غَيْرِهِ. والوجه الثاني: وهو أصح أن يدفع إلى البائع ما بلغت الْأَرْضِ بَيْضَاءَ لِيَكُونَ النَّقْصُ إِنْ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا يَكُونُ النَّقْصُ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ دَاخِلًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى قَلْعِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لَزِمَهُمْ أَنْ يُغَرَّمُوا نَقْصَ الْأَرْضِ بِقَلْعِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ مَعَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْجَارِيَةِ مَعَ وَلَدِهَا وَكَمَا يُجْبَرُ عَلَى بيع الثوب مع صبغه. والقول الثاني: وهو أصح يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِ وَيُبَاعُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ مُنْفَرِدًا لِإِمْكَانِ إِفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ عَقْدًا بِخِلَافِ الصَّبْغِ - وَشَرْعًا - بِخِلَافِ الْوَلَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ وَغِرَاسًا مِنْ آخَرَ وَغَرَسَهُ فِيهَا ثُمَّ أَفْلَسَ وَحَضَرَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْغَرْسِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيَرْجِعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَصَاحِبُ الْغِرَاسِ بِغَرْسِهِ فَإِنْ أَحَبَّ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قَلْعَ غَرْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَلْعِهِ وَبَذَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ قَائِمًا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْغِرَاسِ إِقْرَارُ غَرْسِهِ وَقِيلَ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَلْعِ غَرْسِكَ أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ قَائِمًا وَإِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مَنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ قَائِمًا وَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْغَرْسِ مِنْ قَلْعِهِ - فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِإِقْرَارِ الْغَرْسِ فِي أَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ مُقَرًّا وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَا بَقِيَ الْغَرْسُ فِي أَرْضِهِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ إِقْرَارِهِ فِي أَرْضِهِ فَهَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ عَلَى قَلْعِ غَرْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ الْمُفْلِسُ - لَوْ كَانَ الْغَرْسُ لَهُ - عَلَى قَلْعِهِ لِأَنَّهُ عِرْقٌ لَيْسَ بِظَالِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُفْلِسُ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُفْلِسَ قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى غَرْسٍ نَامٍ وَقَلْعُهُ يُزِيلُ النَّمَاءَ فَلَحِقَهُ بِقَلْعِهِ ضَرَرٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَائِعُ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَامِيًا حِينَ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَلْحَقْهُ بَعْدَ قِلْعِهِ ضَرَرٌ فَلِذَلِكَ أجبر عليه. والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ بِمَائَةٍ فَقَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ وَبَقِيَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ نِصْفُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الَّذِي قَبَضَ ثَمَنَ الْهَالِكِ كَمَا لَوْ رَهَنَهُمَا بِمَائَةٍ فَقَبَضَ تِسْعِينَ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْآخَرُ رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا أَصْلُ قَوْلِهِ أَنْ لَيْسَ الرَّهْنُ مِنَ الْبَيْعِ بسبيل لأن الرهن معنى واحد بمعنى واحد ما بقي من الحق شيء (قال) ولو بقي من ثمن السلعة في التفليس درهم لم يرجع في قوله من السلعة إلا بقدر الدرهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِنَقْصِ الثَّمَنِ أَوِ المبيع عند فلس المشتري ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَدْ تَلِفَ وَالثَّمَنُ عَلَى حَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ قَدْ قُبِضَ وَالْمَبِيعُ عَلَى حَالِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَدْ تَلِفَ وَبَعْضُ الثَّمَنِ قَدْ قُبِضَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِهِ فَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ وَقَدْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ الْمُبِيعَيْنِ وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً أَخَذَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَضَرَبَ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةً قَسَّطَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِمَا وَأَخَذَهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الثَّمَنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِهِ: فَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعُ بَاقٍ وَقَدْ قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ ثَمَنِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ وَيَكُونَ بَاقِي الْمَبِيعِ لِلْمُفْلِسِ يُبَاعُ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الثَّمَنِ وَحَكَى نَحْوَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. إِمَّا مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيما رجل باع سلعة بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ " وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إِنَّمَا يَرْجِعُ بِعَيْنِ مَالِهِ لِيُزِيلَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي اسْتِرْجَاعِ بَعْضِ الْمَبِيعِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَفْرِيقِ صَفْقَتِهِ وَسُوءِ مُشَارَكَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزِيلَ ضَرَرًا عَنْ نَفْسِهِ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ بِالْفَسْخِ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى بعضها بالفسخ كالمزوج يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ الصَّدَاقِ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِلَى نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَى: أَنَّ الْبَائِعَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ وَيُبَاعُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ مَا بَقِيَ فَيَصِيرَ وَافِيَهُ أُسْوَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ الْبَائِعُ بِجَمِيعِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ فَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَالْمُفْلِسُ فَلَا يُسْتَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بَلْ يُبَاعُ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَا بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَبْضَ بَعْضِ الْمَبِيعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْمَبِيعِ بِقِسْطِ بَاقِي الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ نِصْفَ الثَّمَنِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَبِيعِ مَشَاعًا فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدَيْنِ رَجَعَ بِنِصْفِهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ ثُلُثَ الثَّمَنِ وَالْبَاقِي الثُّلُثَانِ رَجَعَ بِثُلُثَيِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا عبد مَشَاعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضَ مِنَ الثَّمَنِ الثُّلْثَانِ رجع بثلث الثلاثة إلا عبد مَشَاعًا حَتَّى يَتَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ بَعْدُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِهِ - وَهُو َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ - فَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيُفْلِسَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْبَائِعُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَمَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعَبْدِ الْبَاقِي بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءً وَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ التَّالِفِ مِنَ الْعَبْدَيْنِ فَلَوْ كَانَ الْبَاقِي بِأَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَرَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّهُمَا ثَمَنًا اسْتَرْجَعَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِيهِ فَهَذَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 الْفَلَسِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ - وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ فِي يَدِهَا - عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ - كَمَا قَالَ فِي الْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْبَاقِي وَبِنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ - بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْمُفْلِسِ - فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ مَسْأَلَةَ الْمُفْلِسِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ. أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُ نِصْفَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِنِصْفِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَيَضْرِبُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةَ هِيَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدَيْنِ الْمُبِيعَيْنِ جَمِيعًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَبْدَانِ بَاقِيَيْنِ وَقَدْ قَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَيَجْعَلَ الْمَقْبُوضَ مِنْ ثَمَنِ أَحَدِهِمَا بَلْ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعَبْدَيْنِ وَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنْ ثَمَنِهِمَا فَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ - بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا - مِنْ ثَمَنِهِمَا مَعًا صَارَ نِصْفُ الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الْبَاقِي وَنِصْفُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْبَاقِي فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْعَبْدِ الْبَاقِي لِبَقَاءِ نِصْفِ ثَمَنِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي لِقَبْضِ ثَمَنِهِ. وَالْقَوْلُ الثاني: وهو المنصوص عليه هاهنا - أن الباقي بجميع الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ وَيَكُونُ نِصْفُ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ التَّالِفِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُزِيلَ جَمِيعَ الثَّمَنِ مِنَ الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ الْجَمِيعُ بَاقِيًا إِلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ جَمِيعُهَا بَاقِيًا جَازَ أَنْ يَنْقُلَ بَعْضَ الثَّمَنِ مِنَ الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ بَاقِيًا إِلَى بَعْضِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا بَاقِيًا لِيَكُونَ فِي الْحَالَيْنِ وَاصِلًا إِلَى حَقِّهِ بِعَيْنِ مَالِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مِنْ ثَمَنِ الْجُمْلَةِ مُتَحَيِّزًا فِي بَعْضِهَا كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُمَا وَدَفَعَ مِنَ الثَّمَنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَمَاتَ أَحَدُ العبدين ووجد بالباقي عيبا فرده صارت الخمسين المقبوضة ثمنا للتالف فلا يرجع بها والخمسين الباقية ثمنا للمردود غير مطالب بِهَا وَكَذَلِكَ الْفَلَسُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ بِاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ كَمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ ثُمَّ كَانَ لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ فَقَبْضَ مِنْهَا تِسْعِينَ وَمَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْعَبْدُ الْبَاقِي رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ كَذَلِكَ الْبَائِعُ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَيْنِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ. فَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهَا وَقَالَ: لَيْسَ الرَّهْنُ مِنَ الْبَيْعِ بِسَبِيلٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ الرَّهْنِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَرْهُونٌ بِالْحَقِّ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ وَلَيْسَ جَمِيعُ الْمَبِيعِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَبِيعًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَةِ الشَّافِعِيِّ. لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 افتراقهما مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْغُرَمَاءَ مِنَ الْمَبِيعِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ ضَرَرُ الْعَجْزِ بِهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي الْفَلَسِ إنَّهُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ رُجُوعَ الْبَائِعِ فِي الْفَلَسِ أَقْوَى مِنْ رُجُوعِ الزَّوْجِ فِي الصَّدَاقِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَبِيعِ زَائِدًا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ زَائِدًا فَجَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ مِنَ الْبَاقِي لِضَعْفِ سَبَبِهِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْبَاقِي لِأَنَّ ذِمَّةَ الزَّوْجَةِ مَلِيئَةٌ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ وَالْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِ مَا بَقِيَ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُشْتَرِي بِالْفَلَسِ خَرِبَةٌ وَوِزَانُ ذَلِكَ أن تكون الزوجة مفلسة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَكْرَاهُ أَرْضًا فَفَلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فِي أَرْضِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِقَدْرِ مَا أَقَامَتِ الْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ إِلَى أَنْ أَفْلَسَ وَيَقْلَعَ الزَّرْعَ عَنْ أَرْضِهِ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ بِأَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ إِجَارَةً مِثْلَ الْأَرْضَ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ لِأَنَّ الزَّارِعَ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِفَلَسِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الرَّجُوعَ بِسِلْعَتِهِ فِي الْمَبِيعِ دُونَ غَيْرِهِ وَمَا سِوَاهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} . وَهَذَا خَطَأٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ "، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُضَمَّنُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمُسَمَّى وَفِي الْفَاسِدِ بِالْمِثْلِ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْفَلَسُ اسْتِرْجَاعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهُ إِذَا كَانَ مَنْفَعَةً، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ فَلَمَّا جَازَ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ، وَلِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تَحْدُثُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ فَلَمَّا جَازَ بِالْفَلَسِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي فَسْخِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ إِلَّا فِي ثَانِي الْحَالِ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو فَلَسُ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا لَمْ يَدْفَعِ الْأُجْرَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَقَضِّي جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُدَّةِ كَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَيَسْتَرْجِعَ الْأَرْضَ الْمُؤَاجَرَةَ وَيَسْقُطَ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ جَمِيعُ الْأُجْرَةِ كَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أُقْبِضَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ كَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ مِنَ الْمُدَّةِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ بَعْدَ تَقَضِّي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَقَدْ صَارَ الْمَعْقُودُ عليه مستهلك فَصَارَتِ الْأُجْرَةُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ مُسْتَقِرَّةً فَيَضْرِبُ بِهَا الْمُؤَاجِرُ مَعَ الْغُرَمَاءِ كَالْبَائِعِ إِذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي عَيْنَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْفَلَسُ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا كَأَنْ قضى نِصْفهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ مَا مَضَى مِنْ نِصْفِ الْمُدَّةِ وَكَانَ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الْمُدَّةِ وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ إِذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَإِذَا فَسَخَ الْمُؤَاجِرُ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ حِينَئِذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْغُولَةً بِزَرْعِ الْمُفْلِسِ أَوْ خَالِيَةً مِنْ زَرْعِهِ فَإِنْ كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ زَرْعِهِ اسْتَرْجَعَهَا الْمُؤَاجِرُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعُهُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا قِيمَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ حَشِيشًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ كُبْرِهِ وَطُولِهِ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَرَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَالِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ قَلْعُهُ لِلْمُفْلِسِ وَلَا لِلْغُرَمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ لِعَيْنٍ نَامِيَةٍ وَإِتْلَافِ مَالٍ مَوْجُودٍ وَإِذَا أَقَرَّ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَصِيلًا لِمِثْلِهِ قِيمَةٌ وَفِيهِ إِنْ قُلِعَ مَنْفَعَةٌ فَلِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ فَذَلِكَ لَهُمْ وَيَتَسَلَّمُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَرْضَهُ بَيْضَاءَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَرْكِهِ إِلَى وَقْتِ كَمَالِهِ وَحَصَادِهِ لِيَكُونَ أَوْفَرَ ثَمَنًا فَذَلِكَ لَهُمْ إِنْ بَذَلُوا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَةَ مِثْلِ أَرْضِهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى قَلْعِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِرْقٍ ظَالِمٍ فَيُقْلَعُ وَإِنَّمَا هو زرع بحق فأقر فإذا أقر اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أُجْرَةَ مِثْلِ أَرْضِهِ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْأُجْرَةِ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِقَلْعِ الزَّرْعِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَسَخَ لِيَصِلَ إِلَى مَنَافِعِ أَرْضِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِفَوَاتِهَا عَلَيْهِ وَفِي إِقْرَارِ الزَّرْعِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إِبْطَالٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ بَائِعِ الْأَرْضِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 حَيْثُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ زَرْعِ الْمُفْلِسِ وَبَيْنَ الْمُؤَاجِرِ حَيْثُ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ لِمَا يُسْتَبْقَى فِيهَا مِنْ زَرْعِ الْمُفْلِسِ وَهُوَ أَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ فِي الْمَبِيعِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُعَاوِضٍ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْبَائِعُ الرَّقَبَةَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ الَّذِي عَارَضَ وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْمَنْفَعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ بِالْفَلَسِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَهَا فَقَدْ صَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا الْحُكْمُ فِي الزَّرْعِ: إِذَا اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى تَرْكِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الْمُفْلِسُ إِلَى تَرْكِهِ إِلَى وقت الحصاد ليتوفر عليهم ثمنه ويدعوا الْغُرَمَاءُ إِلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ فِي تَعْجِيلِ قَلْعِهِ فِي الْحَالِ وَبَيْعُهُ فِي حُقُوقِهِمْ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَأْخِيرُهَا وَلِأَنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الزَّرْعِ خَطَرًا لِحُدُوثِ الْجَائِحَةِ بِهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الْمُفْلِسُ إِلَى قَلْعِهِ فِي الْحَالِ لِيَتَعَجَّلَ قَضَاءَ دَيْنِهِ وَيَدْعُوَ الْغُرَمَاءُ إِلَى اسْتِبْقَائِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ لِوُفُورِ ثَمَنِهِ فَالْقَوْلُ فِي تَعْجِيلِ قَلْعِهِ قَوْلُ الْمُفْلِسِ، لِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنٍ يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِ قَضَائِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرُهُ وَلِمَا يُخَافُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ حُدُوثِ الْجَائِحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ السَّقْيِ قِيلَ لِلْغُرَمَاءِ إِنْ تَطَوَّعْتُمْ بِأَنْ تُنْفِقُوا عَلَيْهِ حَتَى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ فَتَأْخَذُوا نَفَقَتَكُمْ مَعَ مَالِكُمْ بِأَنْ يرضاه صاحب الزرع وإن لم تشاؤوا وَشِئْتُمُ الْبَيْعَ فَبِيعُوهُ بِحَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اتَّفَقَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ وَكَانَ الزَّرْعُ يَحْتَاجُ إِلَى سَقْيٍ وَمُؤْنَةٍ فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ النَّفَقَةُ - وَلَا وُجِدَ مَنْ يَبْذُلُهَا فَلَا مَعْنَى لِاسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى السَّقْيِ الْمُعْوَزِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَلَفِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ نَفَقَةَ بَعْضِ السَّقْيِ ومؤونة الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ أَنْفَقَ وَكَانَ الزَّرْعُ مُقَرًّا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُنْفِقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُنْفِقَ بِأَمْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرٍ فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرٍ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَنْفَقَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرٍ فَلِلْآمِرِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْغُرَمَاءُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ فَلَهُ الرُّجُوعُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 بِمَا أَنْفَقَ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ مُقَدَّمًا بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ حُكْمٌ مِنْهُ يَلْزَمُ إِمْضَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْمُفْلِسِ وَحْدَهُ فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ لا يشارك الغرماء به ويكون كالديون الذي اسْتَحْدَثَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ الْآمِرِينَ لَهُ دُونَ الْمُفْلِسِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْغُرَمَاءِ وَالْمُفْلِسِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُسْتَزَادِ مَالِهِ وَهَلْ تَتَقَدَّمُ نَفَقَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَوْ يَكُونُ بِهَا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ - أَنَّهُ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِنَفَقَتِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَوْ أَرَادَ تَعْجِيلَ قَلْعِهِ اسْتَغْنَى عَنْ سَقْيِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بَعْدَ الْحَجْرِ فِيمَا فيه صلاح ما له فأشبه أجرة المنادي. (مسألة) قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَإِنْ بَاعَهُ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَالِهِ إِلَّا زَائِدًا بِمَالِ غَرِيمِهِ وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ أَقُولُ وَلَا يُشْبِهُ الثَّوْبَ يصبغ ولا السويق يلت لأن هذا عين ماله فيه زيادة والذائب إذا اختلط انقلب حتى لا يوجد عين ماله والقول الثاني أن ينظر إلى قيمة زيته والمخلوط به متميزين ثم يكون شريكا بقدر قيمة زيته أو يضرب مع الغرماء بزيته (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله لأنه جعل زيته إذا خلط بأردأ وهولا يتميز عين ماله كما جعل الثوب يصبغ ولا يمكن فيه التمييز عين ماله فلما قدر على قسم الزيت بكيل أو وزن بلا ظلم قسمه ولما لم يقدر على قسم الثوب والصبغ أشركهما فيه بالقيمة فكذلك لا يمنع خلط زيته بأجود منه من أن يكون عين ماله فيه وفي قسمه ظلم وهما شريكان بالقيمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَبِيعَ زَيْتًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَدْهَانِ أَوِ الْحُبُوبِ أَوِ الْأَدِقَّةِ فَيَخْلِطُهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِهِ ثُمَّ يُفْلِسُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَهُ بِجِنْسِهِ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ جِنْسِهِ. فَإِنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَالزَّيْتِ يَخْلِطُهُ بِدَهْنِ الْبَذْرِ وَدَهْنِ الْبَانِ أَوْ كَدَقِيقِ الْبُرِّ يُخْلَطُ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ أَوْ دَقِيقِ الْأُرْزِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ مَالِهِ كَيْلًا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَيَصِيرُ مُسْتَرْجَعًا بِغَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ؟ عَلَى وجهين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهُ قَدْ بَطَلَ مِنْ ثَمَنِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا وَيَضْرِبُ الْبَائِعُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ وَيُبَاعُ مَا اخْتَلَطَ عَلَى مِلْكِ الْمُفْلِسِ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ وَلَا يَخْتَصُّ الْبَائِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَا يَبْطُلُ مِنْهُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَيُبَاعُ الْكُلُّ مُخْتَلِطًا وَيُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ مَا اخْتَلَطَ بِهِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ فَيَخْلِطُهُ الْمُشْتَرِي بِصَاعٍ مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي دِرْهَمًا فيباع ذلك مختلطا ويدفع إلى البائع ثلثي ثَمَنِهِ وَإِلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثُ ثَمَنِهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالزَّيْتِ، أَوْ جِنْسًا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالدَّقِيقِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالزَّيْتِ إِذَا خَلَطَهُ بالزيت فلا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ فِي الْجَوْدَةِ أَوِ الرَّدَاءَةِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْهُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَإِمْكَانِ تَمْيِيزِهَا بِالْقِسْمَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُكَالُ قَسَمَهُ بِالْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوزَنُ قَسَمَهُ بِالْوَزْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَاعَهُ بِالْكَيْلِ أَخَذَهُ بِالْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِالْوَزْنِ أَخَذَهُ بِالْوَزْنِ لِأَنَّ مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ وَزْنًا وَمَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ كَيْلًا إِذَا كَانَ مَبِيعًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الِاعْتِبَارُ فِي أَخْذِهِ وَقِسْمَتِهِ بِأَصْلِهِ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي يَكُونُ الِاعْتِبَارُ فِي أَخْذِهِ وَقِسْمَتِهِ بِبَيْعِهِ بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ لَسْتُ آخُذُ مَكِيلَةَ زَيْتِي مِنْهُ لِاخْتِلَاطِهِ بِغَيْرِهِ وَلَكِنْ بِيعُوا الْجَمِيعَ لِآخُذَ ثَمَنَ زَيْتِي مِنْ جُمْلَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ بِأَخْذِ مَكِيلَتِهِ فَكَانَتِ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِهِ عَنتًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ بِالِاخْتِلَاطِ غَيْرُ مُمَيَّزَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّقْدِيرِ أَخْذٌ لِبَدَلِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ وَاسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَبِيعِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقِّهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْ زَيْتِهِ فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِهِ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُ بِمَا هُوَ أَرْدَأُ نَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزُ كَالْهُزَالِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ نَاقِصًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الْبَائِعِ. عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَكِيلَةِ زَيْتِهِ لَا غَيْرَ وَيَكُونُ النُّقْصَانُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ كَانَ زَيْتُهُ مُتَمَيِّزًا فَتَغَيَّرَ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِنْ شَاءَ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِنَقْصِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ الزَّيْتِ وَيُقَسَّمَ عَلَى قِيمَةِ الزَّيَتَيْنِ فَيُدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ مَا قَابَلَ ثَمَنَ زَيْتِهِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ زَيْتُ الْبَائِعِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ وَزَيْتُ الْمُفْلِسِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَيُبَاعَ الصَّاعَانِ وَيُدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَإِلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ الثُّلُثُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ إِذَا أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِحَقِّهِ كَامِلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ نَاقِصًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ زَائِدًا وَفِي قِسْمَةِ ثَمَنِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ انْتِفَاءُ نَقْصٍ يَدْخُلُ عَلَى مَالِ الْبَائِعِ وَزِيَادَةٍ تُوجَدُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْ زَيْتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الرُّجُوعِ بِمَالِهِ بَاقٍ لَا يَبْطُلُ إِذَا اخْتَلَطَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَيْنُ مَالِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَالنَّقْصِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَيْنُ مَالِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَالزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ كَالْحَادِثِ بِهِ مِنْ نَقْصٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِي أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَبْغُ الثَّوْبِ لَمَّا كَانَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ مَصْبُوغًا وَكَذَا السَّوِيقُ إِذَا أَلَتَّهُ بِزَيْتٍ لَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ مَلْتُوتًا فَأَوْلَى فِي الزَّيْتِ إِذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ مِمَّا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِرْجَاعِ الْبَائِعِ لَهُ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ مُخْتَلِطًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ قَدْ بَطَلَ حَقُّ الْبَائِعِ مِنَ اسْتِرْجَاعِ مَالِهِ لِأَنَّهُ إِنِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْجُمْلَةِ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ اسْتَفْضَلَ زِيَادَةً غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ وَأَدْخَلَ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ مَضَرَّةً فَإِنْ أَخَذَ مِنَ الْمَكِيلَةِ بِقَدْرِ قِيمَةِ زَيْتِهِ صَارَ مُعَاوِضًا عَنْ صَاعٍ بِنِصْفِ صَاعٍ وَذَلِكَ رِبًا حَرَامٌ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الرُّجُوعُ بِالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بَطَلَ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْهَا وَصَارَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِيهَا. وَفَارَقَ الزَّيْتَ إِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَخْذِ مَكِيلَتِهِ مِنَ الْأَرْدَأِ نَقْصٌ يَضُرُّ بِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْغُرَمَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَدْوَنَ تَبَعٌ لِلْأَعْلَى فَلَمْ يَسْقُطْ حق البائع من الأعلى بمخالطته الأدون وسقط حَقه مِنَ الْأَدْوَنِ بِمُخَالَطَةِ الْأَعْلَى لِأَنَّ الْأَعْلَى متبوع وليس تبيع. وَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا صُبِغَ وَالسَّوِيقُ إِذَا أُلِتَّ فَمُخَالِفٌ لِلزَّيْتِ إِذَا اخْتَلَطَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَدُخُولَ الصَّبْغِ عَلَيْهِ تَبَعٌ وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ أَصْلٌ وَلَتُّهُ بِالزَّيْتِ تبع فلم يبطل استرجاع الأصل بحدوث البيع وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّيْتُ لِأَنَّهُ خَالَطَهُ مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ وَالسَّوِيقِ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ صَارَ الصَّبْغُ مُجَاوِرًا لِلثَّوْبِ وَالزَّيْتُ مُجَاوِرًا لِلسَّوِيقِ فَجَازَ الرُّجُوعُ بِهِمَا لِبَقَاءِ عَيْنِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ لِأَنَّ عَيْنَهُ مُسْتَهْلَكَةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْجَاعِ كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ يَضْرِبُ مَعَهُمْ بِثَمَنِهِ وَيُبَاعُ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ فِي حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِرْجَاعِ مَالِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُبَاعَ الزَّيْتُ الْمُخْتَلِطُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ لَهُ فَإِذَا كَانَ زَيْتُهُ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمًا وَالْمُخْتَلِطُ بِهِ صَاعًا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ بيع ذلك مختلطا ودفع إلى البائع ثلثا ثمنه وإلى الغرماء ثلثي ثَمَنِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَيْلًا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ مِنَ الصَّاعَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ وَقِيمَتُهُمَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ثُلُثَيْ صَاعٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه لا يجوز، لأنه يَصِيرُ آخِذًا لِثُلُثَيْ صَاعٍ بَدَلًا مِنْ صَاعٍ وَذَلِكَ رِبًا حَرَامٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعُ صَاعٍ بِثُلُثَيْ صَاعٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعُهُ فِي مَكِيلَةٍ وَنُقْصَانٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ أَقُولُ يَأْخُذُهَا وَيُعْطِي قِيمَةَ الطَّحْنِ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَالِهِ (قَالَ) وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْبُغُهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ يأخذه وللغرماء زيادته فإن قصره بأجرة درهم فزاد خمسة دراهم كان القصار شريكا فيه بدرهم والغرماء بأربعة دراهم شركاء بها وبيع لهم فإن كانت أجرته خمسة دراهم وزاد درهما كان شريكا في الثوب بدرهم وضرب مع الغرماء بأربعة وبهذا أقول والقول الآخر أن القصار غريم بأجرة القصارة لأنها أثر لا عين (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله وإنما البياض في الثوب عن القصارة كالسمن عن الطعام والعلف وكبر الودي عن السقي وهو لا يجعل الزيادة للبائع في ذلك عين ماله فكذلك زيادة القصارة ليست عين ماله وقد قال في الأجير يبيع في حانوت أو يرعى غنما أو يروض دواب فالأجير أسوة الغرماء فهذه الزيادات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 عن هذه الصناعات التي هي آثار ليست بأعيان مال حكمها عندي في القياس واحد إلا أن تخص السنة منها شيئا فيترك لها القياس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ ثَوْبًا فَخَاطَهُ أَوْ قَصَّرَهُ ثُمَّ فَلَسَ فَاخْتَارَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فَهَلْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ بِالطَّحْنِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ كَالْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ أَوْ يَكُونُ كَالْآثَارِ الْمُتَّصِلَةِ مِنَ السِّمَنِ وَالطُّولِ لَا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ فِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّهَا آثَارٌ يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَلَا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُزَنِيُّ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنَّ الطَّحْنَ وَالْخِيَاطَةَ وَالْقِصَارَةَ هِيَ آثَارٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ لِأَنَّ الطَّحْنَ تَفْرِيقُ أَجْزَاءٍ مُجْتَمِعَةٍ وَالْخِيَاطَةَ تَأْلِيفُ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَالْقِصَارَةَ إِزَالَةٌ كهد مِنْ لَوْنِهِ فَكَانَتْ كَتَعْلِيمِ الْعَبْدِ صَنْعَةً أَوْ خَطأ وَأَسْوَأَ مِنْ حُدُوثِ السِّمَنِ وَالْكُبْرِ حَالًا، لِأَنَّ السِّمَنَ وَالْكُبْرَ أَعْيَانٌ مُتَّصِلَةٌ وَالطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَلَمَّا كَانَ السِّمَنُ الْحَادِثُ فِي الْغَنَمِ بِرَعْيِ الرَّاعِي وَالْكُبْرُ الْحَادِثِ فِي الْوَدِيِّ بِسَقْيِ السَّاقِي لَا تَكُونُ أَعْيَانًا يَنْفَرِدُ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِهَا وَيَرْجِعُ الْأَجِيرُ عِنْدَ فَلَسِهِ بِهَا فَالطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونُ أَعْيَانًا يَنْفَرِدُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَيَمْلِكُهَا وَيَرْجِعُ الْأَجْرُ عِنْدَ فَلَسِهِ بِهَا بَلْ تَكُونُ آثَارًا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ مَعَ عَيْنِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَغْصُوبُ إِذَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ كَالصَّبْغِ فَلَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ لَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ ثَوْبًا فَقَصَّرَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ الْمَغْصُوبُ لَمْ يَرْجِعِ الْغَاصِبُ بِالطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ كَمَا لَا يَرْجِعُ بِالسِّمَنِ وَالْكُبْرِ كَذَلِكَ فِي الْفَلَسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّحْنَ وَالْخِيَاطَةَ وَالْقِصَارَةَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّحْنَ وَالْقِصَارَةَ إِحَالَةُ صِفَةٍ إِلَى غَيْرِهَا كَالصَّبْغِ لِأَنَّهُ إِحَالَةُ لَوْنٍ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمَّا كَانَ الصَّبْغُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ كَذَلِكَ الطَّحْنُ وَالْقِصَارَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّحْنَ وَالْقِصَارَةَ أُمُورٌ تُنْسَبُ إِلَى فَاعِلِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِهَا فَيَسْتَأْجِرُهُ عَلَى الطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ فَجَرَى مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا وَخَالَفَ سِمَنَ الْغَنَمِ الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَى الرَّاعِي وَكُبْرَ الْوَدِيِّ الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَى السَّاقِي وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِهِ وَلَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى سِمَنِ الْغَنَمِ وَكُبْرِ الْوَدِيِّ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 وَجَوَابٌ فَأَمَّا الْغَاصِبُ فَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ بِالطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ لِأَنَّهُ أَحْدَثُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَإنَّهُمَا آثَارٌ فِي حُكْمِ النَّمَاءِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ السِّمَنِ وَالْكُبْرِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ حِنْطَتَهُ دَقِيقًا مَطْحُونًا وَثَوْبَهُ مَخِيطًا وَمَقْصُورًا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الطَّحْنِ وَالْخِيَاطَةِ إِذَا لم يخطه بخيوطه لَهُ وَلِلطَّحَّانِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يَرْجِعَا بِأُجْرَتِهِمَا عَلَى الْمُشْتَرِي يَضْرِبَانِ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ كَالثَّمَرَةِ يَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ بِهَا الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّحْنِ وَالْقِصَارَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَعَمَلِهِ أَوْ تَكُونَ بِعَمَلِ أَجِيرٍ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي تَوَلَّى عَمَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو عَيْنُ الْمَالِ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَمَلِ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زيادة ولا نقصان مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَيُقَصِّرَهُ فيسوى بَعْدَ الْقِصَارَةِ عَشَرَةً فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ مَقْصُورًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثوبا يساوي عشرة ويقصره، فيسوى بَعْدَ الْقِصَارَةِ ثَمَانِيَةً فَقَدِ اسْتَهْلَكَ الْعَمَلُ وَنَقَصَ الثَّوْبُ فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ هَذَا نَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ الثَّوْبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ تَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ بِقِيمَتِهِ لَا بِثَمَنِهِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَزِيدُ على القيمة وينقص والحال الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ قَدْ زَادَ فِي قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَيُقَصِّرَهُ فَيُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالزِّيَادَةُ للمشتري - وهي ثلثه - فَيَصِيرُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِهَا فِي الثَّوْبِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْبَائِعُ فَلَحِقَ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِمِلْكِ الْبَائِعِ لَهُ وَيُوضَعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يُبَاعَ فَيُعْطِيَ الْبَائِعَ ثُلُثَيْ ثَمَنِهِ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ أكثر وَيَكُونَ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ يَدْفَعُهُ إِلَى غُرَمَائِهِ قَلَّ الثَّمَنُ أَوْ كَثُرَ فَهَذَا حُكْمُ الْعَمَلِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى عمله. فلا يخلو أيضا حال الثوب مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يؤثر فيه العمل زيادة ولا نقصان وَكَانَ يُسَاوِي قَبْلَ الْقِصَارَةِ عَشَرَةً وَيُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ تِلْكَ الْعَشَرَةَ فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُسْتَهْلِكًا وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ مَقْصُورًا وَيَضْرِبُ الْقَصَّارُ بِأُجْرَتِهِ مَعَ الغرماء لاستهلاك عمله. فإنه قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ كَالْعَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الْقَصَّارُ وَالْبَائِعُ شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ بِقِيمَةِ الْعَمَلِ وَقِيمَةِ الثَّوْبِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَالْعَيْنِ إِذَا كَانَ لِقِيمَتِهِ تَأْثِيرٌ فِي الثَّوْبِ فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَأْثِيرِهِ فَيَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْقِصَارَةُ قَدْ نَقَصَتْ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّوْبِ مَقْصُورًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِنْ شَاءَ أَوْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ وَلِلْقَصَّارِ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ سَوَاءٌ أَخَذَ الْبَائِعُ ثَوْبَهُ أَوْ تَرَكَهُ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَصَّارِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ الْقِصَارَةُ قَدْ زَادَتْ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي قَبْلَ الْقِصَارَةِ عَشْرَةً فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الْقِصَارَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالزِّيَادَةُ بِهَا قَدْرُ الثُّلُثُ فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أُجْرَةِ الْقَصَّارِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ أَوْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ - خَمْسَةً - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا كَالْعَيْنِ لَهُ فَيَصِيرُ الْقَصَّارُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ وَلَا يُسَلَّمُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُبَاعَ فَيُعْطَى صَاحِبُ الثَّوْبِ ثُلُثَيِ الثَّمَنِ وَالْقَصَّارُ ثُلُثَ الثَّمَنِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ بِيَدِهِ عَلَى قَبْضِ أُجْرَتِهِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ لِلْقَصَّارِ ذَاكَ لَا مَعَ الْمُفْلِسِ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الثَّوْبِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحْتَبَسٌ بِأُجْرَتِهِ وَلَكِنْ يُوضَعُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَحْبِسُهُ لِلْقَصَّارِ عَلَى أُجْرَتِهِ وَيَنُوبُ عَنْ مَالِكِ الثَّوْبِ فِي حُصُولِ الْيَدِ على ثوبه، وإن كانت أُجْرَةُ الْقَصَّارِ أَقَلَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ درهمين ونصف وَالزِّيَادَةُ خَمْسَةٌ صَارَ فِي الثَّوْبِ مَقْصُورًا ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ فَالْبَائِعُ شَرِيكٌ فِيهِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِهِ لِأَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ عَشَرَةٌ مِنْ جُمْلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْقَصَّارُ شَرِيكٌ فِيهِ بِسُدُسِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ قَدْرَ أَجْرَتِهِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْمُفْلِسُ شَرِيكٌ فِيهِ بِسُدُسِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ الْفَاضِلَ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ مَقْصُورًا بَعْدَ قِيمَتِهِ وَأُجْرَتِهِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ؟ قِيلَ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ لَهُ فَقَدْ أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنْهَا حِينَ رَضِيَ بِالْأُجْرَةِ الْمُقَدَّرَةِ ثُمَّ لَا يُسَلَّمُ الثَّوْبُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِحَقِّ الْآخَرِينَ فِيهِ وَيَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ لِيُبَاعَ وَيُقَسَّمَ ثَمَنُهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَتُدْفَعُ حِصَّةُ الْمُفْلِسِ إِلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ أَكْثَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَشَرَةً وَالزِّيَادَةُ خَمْسَةً كَانَ الْقَصَّارُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فِي الثَّوْبِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ الثُّلُث وَلِلْبَائِعِ الثُّلُثَانِ ثُمَّ يَضْرِبُ الْقَصَّارُ بِبَاقِي أُجْرَتِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ مَعَ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فإذا كَانَتِ الزِّيَادَةُ هِيَ عَيْنُ مَالِهِ فَهَلَّا أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أُجْرَتِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا زَائِدَةً لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا نَاقِصَةً، لِأَنَّ أُجْرَتَهُ مُقَدَّرَةٌ - وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الطَّحَّانِ وَالْخَيَّاطِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ - وَهَكَذَا إِذَا اشْتَرَى سَاجَةً فَعَمِلَهَا بَابًا أَوْ ذَهَبًا فَصَاغَهُ حُلِيًّا أَوْ صُفْرًا فَضَرَبَهُ إِنَاءً أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَالْقَوْلُ فِي جَمِيعِهِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا فَصَبَغَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ فِي صَبْغِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنٌ جَاوَزَتِ الثَّوْبَ وَحَلَّتْ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مَعَ الثَّوْبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ قَدِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الصَّبْغَ مِنْ بَائِعِ الثَّوْبِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبْغًا يُسَاوِي عَشَرَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِمَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ لَمْ تَزِدْ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ أَوْ تَكُونَ قَدْ زَادَتْ أَوْ تَكُونَ قَدْ نَقَصَتْ فَإِنْ كانت قيمته لم تزد ولم تنقص وكان يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِثَوْبِهِ مَصْبُوغًا وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَالْعَمَلُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا وَقَدْ نَقَصَ الثَّوْبُ وَالصَّبْغُ نَقْصًا لَا يَتَمَيَّزُ فَيَكُونَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَهُ مَصْبُوغًا بِجَمْعِ الثَّمَنَيْنِ وَذَلِكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ دُونَ الْأَعْيَانِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ زَائِدًا وَلَا حَقَّ لِلْمُفْلِسِ فِيهِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ يُشَارِكُ الْبَائِعَ بِهَا فِي الثَّوْبِ فَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي ثُلُثِ الثَّوْبِ وَالْبَائِعُ شَرِيكًا فِي ثُلُثَيِ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِآخَرَ غَيْرِ بَائِعِ الثَّوْبِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّوْبِ بَعْدَ الصَّبْغِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ أَوْ نَقَصَ أَوْ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةٌ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَالْعَمَلُ مستهلك وبائع الثوب وبائع الصبغ نظيران شريكين فِيهِ نِصْفَيْنِ فَبَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكٌ بِنِصْفِهِ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَ بَعْدَ الصَّبْغِ يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذَا النُّقْصَانُ قَدْرُهُ خَمْسَةٌ وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى الصَّبْغِ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ لَمْ تَنْقُصْ وَلِأَنَّ عَيْنَ الصَّبْغِ تَبَعٌ لِلثَّوْبِ بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ: قَدْ نَقَصَ عَيْنُ مَالِكَ نَقْصًا لَا يَتَمَيَّزُ فَإِنِ اخْتَرْتَ الرُّجُوعَ بِهِ نَاقِصًا صِرْتَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ وَلَا شَيْءَ لَكَ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ ضَرَبْتَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِ صَبْغِكَ وَكَانَ الْمُفْلِسُ شَرِيكًا لِبَائِعِ الثَّوْبِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ وَبِيعَ الثَّوْبُ مَصْبُوغًا فِي حَقِّهَا، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا فَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا - فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فَلَا حَقَّ لِلْمُفْلِسِ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَيَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَ بَائِعِ الثَّوْبِ وَبَائِعِ الصَّبْغِ نِصْفَيْنِ فَتَعُودُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ وَصَارَ شَرِيكًا بِهَا فِي الثَّوْبِ فَيَصِيرُ بَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَبَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَالْمُفْلِسُ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِلْمُفْلِسِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فَصَارَ يُسَاوِي بَعْدَ الصَّبْغِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالنَّقْصُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالِكِ الصَّبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثوب بالثلث وإن كانت قِيمَتُهُ قَدْ زَادَتْ فَصَارَ يُسَاوِي مَصْبُوغًا ثَلَاثِينَ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَانِ فِي الثَّوْبِ شَرِيكَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ جَارٍ مَجْرَى الْأَعْيَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 فَالزِّيَادَةُ لِلْمُفْلِسِ بِحَقِّ عَمَلِهِ وَيَصِيرُ شَرِيكًا فِي الثوب وصار شريكا فِي الثَّوْبِ فَيَصِيرُ بَائِعُ الثَّوْبِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَبَائِعُ الصَّبْغِ شَرِيكًا فِي ثُلُثِهِ وَالْمُفْلِسُ شريكا في ثلثه وكان الصبغ للمفلس فإن كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، فإن كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عِشْرِينَ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نقصت فصارت تساوي بعد الصبغ خمسة عشرة فالقصر دَاخِلٌ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالِكِ الصَّبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا ويصير شريكا في الثوب بالثلث وإن كانت قيمته قد زادت فصار يساوي مصبوغا بثلاثين فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْآثَارِ فزيادتها بينهما فيكونان فِي الثَّوْبِ شَرِيكَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ فالزيادة للمفلس بحق عمله بثمن الصبغ وبالزيادة ويكون ثلثي الثمن للمفلس وثلثه للبائع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَبَايَعَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَفَلَسَا أَوْ أَحَدُهُمَا فلكل واحد منهما إِجَازَةُ الْبَيْعِ وَرَدُّهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ مُسْتَحْدَثٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بَاعَ سِلْعَةً بِخِيَارٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ فَسَخَ جَازَ وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي الْإِجَازَةِ وَإِنْ أَجَازَ صَحَّ وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي الْفَسْخِ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَيَقْضِي الْخِيَارَ هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْحَجْرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُسْتَحْدَثَةِ بَعْدَهُ فَأَمَّا الْعُقُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْحَجْرِ فِيهَا وَالْفَسْخِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَالْإِمْضَاءِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِ اخْتَارَ الْأَحَظَّ مِنَ الْإِجَازَةِ أَوِ الْفَسْخِ صَحَّ وَإِنِ اخْتَارَ مَا لَا حَظَّ فِيهِ بِأَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ وَكَانَ مَغْبُونًا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّ لِلْغُرَمَاءِ فَسْخَهُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ بِنَقْصِ الْغَبِينَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُزْعَمُ فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَكَذَا لَوْ فَسَخَ الْمُفْلِسُ وَكَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ إِجَازَةُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِهِ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُزْعَمُ فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقْضِي الْخِيَارُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقِّ عَقْدٍ تَقَدَّمَ عَلَى الْحَجْرِ وَلَيْسَ لِلْحَجْرِ تَأْثِيرٌ فِيهِ وَلَا لِلْغُرَمَاءِ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِجْبَارًا عَلَى تَمْلِيكِ مَالٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ إِجْبَارُهُ عَلَى قَبْضِ هِبَةٍ قَدْ قَبِلَهَا - وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْبَرُ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَظَّهُمَا الْفَسْخُ - لِأَنَّهُ كَانَ مَغْبُونًا - أُجْبِرَ عَلَى الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ أَحَظَّهُمَا الْإِجَازَةُ - لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا - أُجْبِرَ عَلَى الْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقْضِي الْخِيَارُ. وَهُوَ كَمَا ذكرنا غير صحيح والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَخَذَهُ دُونَ صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ سَلَمًا فَحَلَّ السَّلَمُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَقَبَضَهُ دُونَ صِفَتِهِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ حَدِيثٍ فَقُبِضَ عَتِيقًا أَوْ فِي جَيِّدٍ فَأُخِذَ رَدِيئًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرْضَ غُرَمَاؤُهُ بِهِ، لِأَنَّ قَبْضَهُ دُونَ صِفَتِهِ نَقْصٌ يَدْخُلُ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي حُقُوقِهِمْ، لأن نَقْصَ الصِّفَةِ كَنَقْصِ الْعَيْنِ فَإِنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِقَبْضِهِ دُونَ صِفَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ تَامُّ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ وَإِنَّمَا الْحَجْرُ وَاقِعٌ عَلَيْهِ لِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ فَإِذَا رَضُوا بِالنَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِمْ جَازَ فَلَوْ وَهَبَ المفلس مالا يَرْضَى بِهِ غُرَمَاؤُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَنَقْصِ الْوَصْفِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَبْضَ السَّلَمِ دُونَ صِفَتِهِ مُسَامَحَةٌ فِي عَقْدٍ تَقَدَّمَ الْفَلَسَ فَصَحَّ مِنْهُ مَعَ رِضَا الغرماء اعتبارا بعقد ما مَضَى وَالْهِبَةُ فِي الْفَلَسِ عَقْدٌ مُبْتَدَأٌ وَاسْتِهْلَاكُ مَالٍ مُسْتَأْنَفٍ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ رِضَا الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَنْهُ غَائِبٌ لَمْ يرض به. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَفَهُ فِضَّةً بِعَيْنِهَا فِي طَعَامٍ ثُمَّ فَلَسَ كَانَ أَحَقَّ بِفِضَّتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ فِضَّةً فِي طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فَفَلَسَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفِضَّةِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَنًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُفْلِسِ، فَلِلْمُسَلِّمِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُثَمَّنًا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا كَانَ ثَمَنًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بِالْفَلَسِ فَسْخُ الْبَيْعِ الْمُنْبَرِمِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بِهِ فَسْخُ السَّلَمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْبَرِمٍ وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مُسْتَهْلَكَةً فَهَلْ يَسْتَحِقُّ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ خِيَارًا فِي فَسْخِ السَّلَمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ السَّلَمِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالْفَلَسِ خِيَارَ الْفَسْخِ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْخِيرِ الْمُثَمَّنِ اسْتَحَقَّهُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَأْخِيرِ الْمُثَمَّنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ - أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ لِأَنَّ الْفَسْخَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 بِالْفَلَسِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ إِذَا ارْتَفَعَ بِهِ الضَّرَرُ عَنِ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْجَاعِ عَيْنِ مَالِهِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُ الْغُرَمَاءُ وَيَصِلَ إِلَى جَمِيعِ حَقِّهِ وَفَسْخُ السَّلَمِ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ بِهِ إِذَا فَسَخَ كَمَا يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَمْ يَفْسَخْ فَالضَّرَرُ لَاحِقٌ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهِ مَعْنًى. فَإِذَا قيل بالوجه الأول عنه يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى السَّلَمِ وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ السَّلَمَ وَيَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ الطَّعَامَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ وَقَدْرِهِ بِسِعْرِ وَقْتِهِ فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا صَارَ حَقُّهُ أَلْفًا فَيَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ فَإِذَا خَرَجَ قِسْطُهُ بِمُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ بِإِزَاءِ نِصْفِ دُيُونِهِ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ وَاشْتَرَى لَهُ بِهَا طَعَامًا، لِأَنَّ قَبْضَهُ لِلدَّرَاهِمِ بَيْعٌ لِلطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيُوَلِّي الْحَاكِمُ شِرَاءَ الطَّعَامِ لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ فَرُبَّمَا اشْتَرَى بِسِعْرِ مَا قُوِّمَ فَيَحْصُلَ لَهُ نِصْفُ طَعَامِهِ وَرُبَّمَا اشْتَرَى بِأَزْيَدَ مِنَ الْقِيمَةِ لِغَلَاءِ السِّعْرِ فَيَحْصُلَ لَهُ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَرُبَّمَا اشْتَرَى بِأَنْقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ لِرُخْصِ السِّعْرِ فَيَحْصُلَ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ فَيُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ قَدْرُ مَا قَبَضَ بِالشِّرَاءِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ دُونَ مَا قَوَّمَهُ بِهِ حِينَ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ أَنْ يَبْقَى دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ فِيمَا بعده. والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَكْرَى دَارًا ثُمَّ فَلَسَ الْمُكْرِي فَالْكَرَاءُ لِصَاحِبِهِ فَإِذَا تَمَّ سُكْنَاهُ بِيعَتْ لِلْغُرَمَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ عَبْدًا ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُؤَجِّرُ أَوْ رَبُّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا وَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِالدَّارِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ قَدْ أَزَالَ مِلْكَ الْمُؤَاجِرِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَحَجْرُ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَمْ تَزُلْ مِلْكِيَّةُ الْمُفْلِسِ عَنْهُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا قَبْلَ فَلَسِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ حُدُوثُ فَلَسِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَحُقُوقَ الْغُرَمَاءِ تعلق بِالذِّمَّةِ فَكَانَ تَقَدُّمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَوْلَى كَالرَّهْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْلَى فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَسْخِ بِفَلَسِ الْمُؤَاجِرِ، لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَأَنَّ الدَّارَ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ نُظِرَ فَإِنْ رَضِيَ الْغُرَمَاءُ بِتَأْخِيرِ بَيْعِ الدَّارِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ إِجَارَتِهَا لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهَا بَعْدَ تَقَضِّي الْإِجَارَةِ فَذَاكَ أَوْلَى وَإِنْ سَأَلُوا بَيْعَهَا فِي الْحَالِ لِيُقْسَمَ ثَمَنُهَا فِيهِمْ جَازَ بَيْعُهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنْ لَيْسَ دُونَهُ حَائِلٌ يَمْنَعُ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 رَدِّهِ وَكَمَا يَجُوزُ لِمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا ثَانِيَةً وَإِنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ لغيره ذكرنَا فَأَمَّا بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ تَحُولُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ باطلا كالمغصوب. والثاني: أنه يصير مستثنا لِمَنَافِعِ مَا بَاعَهُ وَلَوِ اسْتَثْنَى مَنَافِعَ مَا باعه شَهْرًا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَثْنِيًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ وَعَقْدَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَاقِعًا عَلَى رَقَبَةٍ مُسْتَحِقَّةِ الْمَنْفَعَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ النَّخْلِ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةَ الْمَنَافِعِ جَازَ بَيْعُ الدَّارِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةَ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ مَعْلُومَةٌ وَمُدَّةُ بَقَاءِ الثَّمَرَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. (فَصْلٌ) فإذا تقرر وجود الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَالْمُشْتَرِي إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ وَعَلَيْهِ إِنْ أَقَامَ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ رُدَّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إِجَارَتِهِ بِيعَتْ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، وَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَزِمَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا مَضَى عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ بِقِسْطِهِ وَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ وَاسْتَرْجَعَ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ شَارَكَهُمْ فِيهِ وَضَرَبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ - أَعْنِي: انْهِدَامَ الدَّارِ - بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ مَاضِيَةٌ وَيَكُونُ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ أُجْرَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ بَعْدِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ لِيَضْرِبَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَاقِي أُجْرَتِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ كَمَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ غَرِيمٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِبَاقِي الْأُجْرَةِ إِنَّمَا هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 مُسْتَحَقٌّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَجَرَى مجرى من تقدم حقه من الغرماء. وهو أن الْوَجْهَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُهُمَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الْأُجْرَةِ هَلْ يَكُونُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا أَوْ مُرَاعَاةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَكْرَاهُ سَنَةً وَلَمْ يَقْبِضِ الْكِرَاءَ ثُمَّ فلس المكتري كان للمكري فسخ الكراء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا فَلَسَ مُسْتَأْجِرُ الْأَرْضِ وَكَانَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ مِثْلَهُ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً ثُمَّ فَلَسَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأُجْرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ أُقْبِضَ جَمِيعُهَا فَلَا خِيَارَ لِلْمُؤَاجِرِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ إِذَا قَبَضَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّارَ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ إِجَارَتِهَا فَتَكُونَ الْأُجْرَةُ مَوْقُوفَةً لِتَمْضِيَ الْمُدَّةُ سَلِيمَةً خَوْفًا مِنَ اسْتِحْقَاقِ اسْتِرْجَاعِهَا بِانْهِدَامِ الدَّارِ قَبِلَ تَقَضِّي إِجَارَتِهَا. فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ سَلِيمَةً قُسِّمَتِ الْأُجْرَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الغرماء والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بِكَمَالِهَا بَاقِيَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلِلْمُؤَاجَرِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَاسْتِرْجَاعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَيْهَا وَمُسَاهَمَةِ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهَا فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ وَجَبَ إِجَارَةُ الدَّارِ مَا يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقَسَّمَ أَجْرَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ الْمُؤَاجَرُ أُسْوَتَهُمْ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا اخْتَصَّ الْمُؤَاجَرُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ؟ قِيلَ لَيْسَتِ الْأُجْرَةُ عَيْنَ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ عَيْنُ مَالِهِ وَالْأُجْرَةُ بَدَلٌ مِنْهَا فَصَارَ بِمَثَابَةِ بَائِعِ السِّلْعَةِ إِذَا اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ فَإِذَا بِيعَتِ السِّلْعَةُ لَمْ يَخْتَصَّ الْبَائِعُ بِثَمَنِهَا بَلْ كَانَ فِيهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّهُ بدن مِنْ عَيْنِ مَالِهِ كَذَلِكَ الْأُجْرَةُ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَقْبَضَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَلَا فَسْخَ لِلْمُؤَاجَرِ فِيمَا قَبَضَ أُجْرَتَهُ مِنَ الْمُدَّةِ وَعَلَيْهِ الْمَقَامُ إِلَى انْقِضَائِهَا وَلَهُ الْفَسْخُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ أُجْرَتَهُ مِنَ الْمُدَّةِ فَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ اسْتَرْجَعَ الدَّارَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا قَابَلَ الْمَقْبُوضَ مِنَ الْمُدَّةِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنِ اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ أَقَامَ عَلَى الْإِجَارَةِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِبَاقِي الْأُجْرَةِ وَوَجَبَ إِجَارَةُ الدَّارِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِنقسمَ الْأُجْرَة بَيْنَ غُرَمَاءَ الْمُفْلِسِ عِنْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثَمَّ قَدِمَ آخَرُونَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِقَسْمِ مَالِ الْمُفْلِسِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَيُشْهِرُ فِي النَّاسِ أَمْرَهُ لِيَعْلَمَ بِهِ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ قَدْ رُبَّمَا كَانَ لَهُ غَرِيمٌ غَائِبٌ لَا يُعْلَمُ بِحَالِهِ فِي الْغَيْبَةِ فَإِذَا تَوَقَّفَ وَبَحَثَ وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ غَرِيمًا غَيْرَ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ قَسَّمَ حِينَئِذٍ مَالَهُ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُكَلِّفَ الْغُرَمَاءَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أَنْ لَا غَرِيمَ لَهُ سِوَاهُمْ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُمْ فَهَلَّا كَانَ الْغُرَمَاءُ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِهِ وَالْغَرِيمُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ دَيْنِهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ لَهُ غَرِيمًا سِوَاهُ فَلَمَّا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ جَازَ الْحُكْمُ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصْرَفَ بِالشَّكِّ عَنْ حَقِّهِ يُوَضِّحُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَوْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ مِنَ التَّرِكَةِ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ وَلَوْ عَفَا أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَنْ حَقِّهِ رُدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَوْفَوْا بِتِلْكَ الْقِسْمَةِ حُقُوقَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عِنْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَاجْتِمَاعِ مَالِهِ ثُمَّ حْضَرَ لَهُ غَرِيمٌ آخَرُ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِهِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا أَخَذُوهُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا مَضَى بِالْقِسْمَةِ وَيَكُونُ حَقُّهُ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ مَالٍ قَالَ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحَاكِمِ مَالَ الْمُفْلِسِ حُكْمٌ مِنْهُ نَفَذَ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ بِاجْتِهَادٍ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ إنما وقع لجميع غرمائه وقسم بالله إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ دُيُونِهِ كَمَا أَنَّ مَالَ الْمَيِّتِ مُنْتَقِلٌ إِلَى جَمِيعِ وَرَثَتِهِ وَمَقْسُومٌ بِقَدْرِ فَرَائِضِهِمْ مِنْ تَرِكَتِهُ فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ثُمَّ حَضَرَ وَارِثٌ كَانَ غَائِبًا نَقَضَ الْقِسْمَةَ وَاسْتَأْنَفَهَا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَجَبَ إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ حَضَرَ غَرِيمٌ كَانَ غَائِبًا أَنْ ينقص الْقِسْمَةَ وَيَسْتَأْنِفَهَا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ إِذَا أَمْضَى الْحُكْمَ بِاجْتِهَادٍ خَالَفَ فِيهِ نَصًّا كَانَ حُكْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ مَنْقُوضًا، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدِ اسْتَحَقُّوا دُيُونَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ إذا كان حيا كما استحق دُيُونَهُمْ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَسَّمَ تَرِكَةَ الْمُفْلِسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ مَنْ عَلِمَ مِنْ غُرَمَائِهِ ثُمَّ حَضَرَ قسم كان غائبا نقص تِلْكَ الْقِسْمَةَ وَشَارَكَهُمُ الْغَائِبُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ وَجَبَ إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْحَيِّ ثُمَّ حَضَرَ غَائِبٌ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فَلَا يَسْقُطُ بِالْقِسْمَةِ حَقُّهُ مَعَهُمْ، وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ شُرَكَاءُ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ كَالشُّرَكَاءِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ كَانَ الرَّهْنُ لَوْ قَسَّمَ ثَمَنَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُرْتَهِنِهِ فَمَنْ حَضَرَ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ حَقُّ مَنْ غَابَ وَشَارَكَهُمْ فِيهِ إِذَا حَضَرَ فَكَذَلِكَ الْغُرَمَاءُ إِذَا اقْتَسَمُوا مَالَ الْمُفْلِسِ ثُمَّ حَضَرَ غَائِبٌ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنَ الْحَاكِمِ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ. فَهُوَ أَنَّنَا نَقَضْنَاهُ بِنَصٍّ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَائِبِ بِحُضُورِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 كَالنَّصِّ وَالِاجْتِهَادُ مَنْقُوضٌ بِالنَّصِّ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَرِيمَ الْغَائِبَ يُشَارِكُ الْحَاضِرِينَ فِيمَا أَخَذُوهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى تُنْقَضُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُهَا الْحَاكِمُ بَعْدَ دُخُولِ الْغَائِبِ فِيهِمْ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمَّا تَقَدَّمَتْ قَبْلَ وَقْتِهَا بَطَلَتْ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِهِ - أَنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى مُقَرَّةٌ عَلَى حَالِهَا، وَيَرْجِعُ هَذَا الْغَائِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقِسْطِ دَيْنِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا سِوَاهُ. مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ دُيُونُ الْغُرَمَاءِ الْحَاضِرِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ وَدَيْنُ هَذَا الْغَائِبِ أَلْفًا فَتَصِيرَ جَمِيعُ الدُّيُونِ سِتَّةَ آلَافٍ. فَيَكُونَ لِهَذَا الْغَائِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِسُدْسِ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ بِقِسْطِ دَيْنِهِ وَيَبْقَى فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ مَا قَبَضَهُ مِلْكًا لَهُ بِالْقِسْمَةِ الْأُولَى فَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ جَمِيعُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ مَا سِوَى حَقِّ الْغَائِبِ مَوْضُوعٌ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لِفَسْخِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِهَا مِنْ بَعْدُ وَجْهٌ. (فَصْلٌ) إِذَا قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ثُمَّ وَجَدَ لَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ مَالًا كَانَ أَخْفَاهُ، فَجَمِيعُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَمْ يَنْفَكْ عَنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَاكِمُ قَسْمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِهِمْ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى لَا يَخْتَلِفُ فَلَوْ ظَهَرَ لِلْمُفْلِسِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ وَاسْتَفَادَ مَالًا حَادِثًا وَظَهَرَ لَهُ غَرِيمٌ غَائِبٌ وَحَدَثَ لَهُ غَرِيمٌ مُسْتَحْدَثٌ فَالْمَالُ الْمُتَقَدِّمُ لَا حَقَّ فِيهِ لِمَنْ حَدَثَ مِنَ الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ بِقِسْطِ دَيْنِ الْغَائِبِ فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى قَبْلَ حُضُورِ الْغَائِبِ تَكُونُ بَاطِلَةً ضَمَّ الْحَاكِمُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ مُتَقَدِّمًا إِلَى مَا بِأَيْدِي الْغُرَمَاءِ بِالْقِسْمَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تَبْطُلُ دَفَعَ هَذَا الْمَوْجُودَ إِلَى الْغَرِيمِ الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ قِسْطِ دَيْنِهِ مِنْهُ أُقِرَّتِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ دفع إليه قسطه منه وَرَدَّ فَاضِلَهُ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَخَذَهُ كُلَّهُ ثُمَّ اسْتَرَدَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ قِسْطِ دَيْنَهُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَاكِمُ قِسْمَةَ الْمَالِ الَّذِي اسْتُحْدِثَ مِلْكُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بَيْنَ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُسْتَحْدَثِينَ. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ بَيْعَ مَتَاعِهِ أَوْ رَهْنَهُ أَحْضَرَهُ أَوْ وَكِيلَهُ لِيُحْصِي ثَمَنَ ذَلِكَ فَيَدْفَعَ منه حق الرهن مِنْ سَاعَتِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا يَخْتَارُ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الْمُفْلِسِ بَيْعَ مَتَاعِهِ لِمَعَانٍ: أحدهما: أَنَّهُ أَعْرَفُ بِأَثْمَانِهَا فَلَا يَلْحَقُهُ غَبْنٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 وَالثَّانِي: لِتَوَلِّي الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَرْغَبَ وَنَفْسُ الْبَائِعِ بِهِ أَطْيَبَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ مَا حَصَلَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَمَا يَبْقَى مِنْ دَيْنِهِ بَعْدَهَا فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ الْمُفْلِسِ أَحْضَرَ الْحَاكِمُ وَكِيلَهُ لِيَقُومَ فِي الْخُصُومَةِ مَقَامَهُ حَتَّى تَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ عَنِ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ وَكَّلَ لَهُ الْحَاكِمُ وَكِيلًا يَنُوبُ عَنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَخْتَارُ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الْغُرَمَاءِ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْعِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا رَغِبَ بَعْضُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَأَخَذَهُ بِثَمَنٍ مَوْفُورٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمُوا قَدْرَ الْأَثْمَانِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ وَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِبَيْعِ الْمَتَاعِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْمُفْلِسِ وَغُرَمَائِهِ صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّ حُضُورَهُمُ اسْتِحْبَابٌ فَلَمْ يَفْسُدْ بِغَيْبَتِهِمُ الْعَقْدُ كَاسْتِئْذَانِ الْأَبِ الْبِكْرَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ الرَّهْنُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعَلُّقُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فَيُرَدَّ عَلَى غُرَمَائِهِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْجَانِي يُقَدَّمُ بَيْعُهُ كَالرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بِقَدْرِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ أُخِذَ مِنْهُ قَدْرُ دَيْنِهِ وَيَرُدُّ بَاقِيَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ أَخَذَهُ كُلَّهُ وَضَرَبَ بِبَاقِي دَيْنِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْجَانِي فَإِنْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ رُدَّ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَإِنْ عَجَزَ فَلَا شيء للمجني عليه سَوَاءٌ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ ارْتَضُوا بِمَنْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ الثَّمَنُ وَبِمَنْ يُنَادِي عَلَى متاعه فيمن يزيد ولا يقبل الزيادة إلا من ثِقَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّهْنُ وَالْعَبْدُ الْجَانِي إِذَا بِيعَا عَلَى الْمُفْلِسِ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ ثَمَنِهِمَا وَعُجِّلَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ وللمجني عليه أرشه من ثمن العبد الْجَانِي وَأَمَّا سَائِرُ أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ إِذَا بِيعَتْ فلا يخلو أن يكون غريمه واحد أَوْ جَمَاعَةً. فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَحْبِسْ عَنْهُ ثَمَنَ مَا بِيعَ، لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً وَجَبَ أَنْ يَحْبِسَ أَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ حَتَّى تَتَكَامَلَ جَمِيعُهَا وَلَا يُعَجِّلُ بِقَسْمِ مَا حَصَلَ مِنْ أَثْمَانِ بَعْضِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ جَمِيعِهَا عَلَى دَيْنِهِ وَقَبْلَ تَكَامُلِهَا يَشق عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا تَأَخَّرَ غَرِيمٌ لَهُ لَا يُعْلَمُ بِهِ فَيَحْضُرُ عِنْدَ عِلْمِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَلَا يَضَعَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِذْلَةِ ولحقوق التهمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فِيمَنْ يُزِيدُ فَإِنْ كَانَ أَشْهَرَ لِحَالِهِ وَأَقَرَّ لِثَمَنِهِ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى مُنَادٍ ثِقَةٍ يُنَادِي عَلَى الْمَتَاعِ فِيمَنْ يُزِيدُ وَإِلَى عَدْلٍ يَجْمَعُ الْمَالَ عِنْدَهُ إِلَى حِينِ تَكَامُلِهِ فَيَقُولُ لِلْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ اخْتَارُوا مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى مَتَاعِهِ وَعَدْلًا يَكُونُ الْمَالُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدَيْهِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي عَدَالَتِهِ وَأَمَانَتِهِ فَإِنْ كَانَ أَمِينًا أَمْضَى اخْتِيَارَهُمْ لَهُ وَأَقَرَّ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يُمْضِ اخْتِيَارَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِاخْتِيَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اخْتَارَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ أَنْ يَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ غَيْرِ أَمِينٍ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِمُ اعْتِرَاضٌ فَهَلَّا إِذَا اخْتَارَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ وَضْعَ الْمَالِ عَلَى يَدِ غَيْرِ أَمِينٍ أَنْ لَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِمُ اعْتِرَاضٌ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ نَظَرٌ فِي الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَمَّا كَانَ لِلْحَاكِمِ نَظَرٌ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ. وَالثَّانِي: أَنْ حَقَّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَا يَتَجَاوَزُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِمَا فِي الِاخْتِيَارِ وَحَقُّ الْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ قَدْ رُبَّمَا تَجَاوَزَهُمْ إِلَى غَرِيمٍ غَائِبٍ فَجَازَ لَحِقُهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ فِي الِاخْتِيَارِ فَاخْتَارَ الْمُفْلِسُ رَجُلًا وَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ غيره فإن للحاكم أن يَنْظُر فِي الرَّجُلَيْنِ فَإِنْ وَجَدَ أَحَدَهُمَا أَمِينًا عَدْلًا وَالْآخَرَ غَيْرَ أَمِينٍ كَانَ الْأَمِينُ أَوْلَى وَأَقَرَّهُ الْحَاكِمُ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَا أَمِينَيْنِ مَعًا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَطَوِّعًا وَالْآخَرُ مُسْتَجْعِلًا كَانَ الْمُتَطَوِّعُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ أَوْ مُسْتَجْعِلَيْنِ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَضُمَّ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَعَلَ فَإِنَّهُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ اخْتَارَ الْحَاكِمُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ وَأَعْدَلَهُمَا فِي نَفْسِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا ثِقَةً. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ ثِقَةٍ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَلَامَيْنِ تَأْوِيلٌ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا ثِقَةً: يُرِيدُ أَنَّ الْمُفْلِسَ وَالْغُرَمَاءَ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلٍ لَمْ يَقْبَلِ الْحَاكِمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ ثِقَةٍ: يَعْنِي بِهِ: الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِ الْمَتَاعِ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ مِمَّنْ يُزِيدُ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْمُزَايَدَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً لَا يَرْجِعُ عَنْ زِيَادَتِهِ لِمَا فِي رُجُوعِهِ مِنَ الْفَسَادِ (والله أعلم) . (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن يرزق من ولي هَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَعْمَلْ إِلَّا بِجُعْلٍ شَارَكُوهُ فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا اجْتَهَدَ لَهُمْ وَلَمْ يُعْطَ شَيْئًا وَهُوَ يَجِدُ ثِقَةً يَعْمَلُ بِغَيْرِ جُعْلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ - وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ الْحَاكِمُ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِبَيْعِ الْمَتَاعِ وَحِفْظِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا جُعْلًا عَلَيْهِ لَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَصْرُوفٌ في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 الْمَصَالِحِ وَلَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْغُرَمَاءِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَإِنْ لَمْ يُجْدِ الْحَاكِمُ مُتَطَوِّعًا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ جُعْلًا فَإِنْ رَأَى مِنَ الْأَصْلَحِ أَنْ يُشَارِطَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ وَإِنْ رَأَى أَنْ لَا يُشَارِطَهُ لِيُعْطِيَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فَعَلَ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ فِيهِ مَالٌ لِمَا فِي ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ وَيَكُونُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُرْصَدِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَلَا يَجُوزُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ أَوْ كَانَ فَلَمْ يَسْمَحْ بِهِ الْإِمَامُ إِمَّا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْأُجْرَةَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي مَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ أُجْرَةَ الْوَالِي عَلَى مال اليتيم من ماله. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُبَاعُ فِي مَوْضِعِ سُوقِهِ وَمَا فِيهِ صَلَاحُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْمَتَاعِ فِي سُوقِهِ فيبيع البز في البزازين، ويبيع الْعِطْر فِي الْعَطَّارِينَ، وَيَبِيعُ الرَّقِيقَ فِي النَّخَّاسِينَ لِأَنَّ أَهْلَ سُوقِهِ فِيهِ أَرْغَبُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ كَثِيرًا يَلْزَمُ فِي نَقْلِهِ مؤونة فيرى الحاكم من الأصلح أنه لا يحمله إِلَى سُوقِهِ وَيَسْتَدْعِي أَهْلَ السُّوقِ إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالصَّلَاحِ الظاهر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا حَتَى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بَذْلُ الثَّمَنِ. فَإِنْ بَذَلَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَقَالَ: لَا أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ إِلَى مَجْلِسِهِ لِيَدْفَعَ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَعْدَ حُصُولِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّ الْحَاكِمَ يَنْصِبُ لَهُمَا عَدْلًا يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أنَّ الْحَاكِمَ يَدَعُهُمَا وَلَا يُخَيَّرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أنَّهُ يُخَيِّرُ الْبَائِعَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي بَعْدَهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْجَوَابُ فِي مَتَاعِ الْمُفْلِسِ إِذَا بِيعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُشْتَرِي بَذْلٌ لَمْ يَجُزْ لِلْعَدْلِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 وَإِنْ ظَهَرَ مِنَ الْمُشْتَرِي بَذْلُ الثَّمَنِ وَقَالَ: لَا أَدْفَعُهُ حَتَّى أَقْبِضَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كَالْمَبِيعِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُفْلِسٍ لَكِنْ لَا يَجِيءُ هَاهُنَا إِلَّا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَأْمُرُهُمَا بِإِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَى مَجْلِسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْصِبَ لَهُمَا عَدْلًا غَيْرَ الْعَدْلِ الَّذِي يَتَوَلَّى مَالَ الْمُفْلِسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُجْبِرُ بَائِعَ مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى التَّسْلِيمِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الدَّفْعِ لِلثَّمَنِ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أنَّ الحاكم يدعهما معا فلا يجئ هَاهُنَا قَالُوا وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا يدفع إلى من اشترى شيئا حتى يقبض الثَّمَنَ. يَعْنِي: حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ بَذْلُ الثَّمَنِ. قَالُوا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَإِنْ لَزِمَهُ الِاحْتِيَاطُ لِلْمُفْلِسِ فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ: بَلْ لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ مَالِ الْمُفْلِسِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ بِمُفْلِسٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِهِ وَالْمُشْتَرِي مَالُهُ دَاخِلٌ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ مَالِ الْمُفْلِسِ بِحُكْمِهِ فَالْمُشْتَرِي يَأْمَنُ فِي تَعْجِيلِ الثَّمَنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ مَا لَا يَأْمَنُ فِي غَيْرِهِ فَكَانَ مَا يَتَخَوَّفُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُفْلِسِ مَأْمُونًا في ابتياع مال المفلس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا ضَاعَ مِنَ الثَّمَنِ فَمِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا وَضَعَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْمُبْدَلِ فَهَلَاكُ بَدَلِهِ مِنْ مَالِهِ كَالْوَكِيلِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ بِمَا يغني عن الإعادة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَبْدَأُ فِي الْبَيْعِ بِالْحَيَوَانِ وَيَتَأَنَّى بِالْمَسَاكِنِ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَهْلُ الْبَصَرِ بِهَا أَنَّهَا قَدْ بلغت أثمانها ". وَهَذَا صَحِيحٌ. يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ مَا كَانَ تَرْكُهُ أَخْوَفَ فَأَوَّلُ مَا يُقَدِّمُ بَيْعَهُ الْحَيَوَانُ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَفْسٌ يُخَافُ تَلَفُهَا. وَالثَّانِي: ما يحتاج إليه من مؤونة عَلَفٍ فِيهَا وَكَذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الِاحْتِيَاطِ اقْتِنَاءَ الحيوان وقالوا: مؤونة ضِرْسٍ وَضَمَانُ نَفْسٍ. فَلِهَذَيْنِ أَوَّلُ مَا قُدِّمَ بِيعُ الْحَيَوَانِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ إِلَّا أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 يَكُونَ فِي مَالِهِ طَعَامٌ رَطْبٌ فَيُقَدِّمُ بَيْعَهُ عَلَى بَيْعِ الْحَيَوَانِ لِمَا يُعَجَّلُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ ثُمَّ يَبِيعُ الْحَيَوَانَ بَعْدَهُ ثُمَّ يَبِيعُ بَعْدَ الْحَيَوَانِ مَا كَانَ مَنْقُولًا مِنَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْتِعَةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الدُّورِ وَالْعَقَارِ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُعَرَّضٌ لِلسَّرِقَةِ وَيَبْدَأُ فِي بَيْعِ الْمَنْقُولِ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ كَالثِّيَابِ وَيُقَدِّمُهَا فِي الْبَيْعِ عَلَى النُّحَاسِ وَالصُّفْرِ ثُمَّ يَتَأَنَّى فِي بَيْعِ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِينَ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُهَا وَيَتَأَهَّبَ الْمُشْتَرِي لَهَا وَيُقَدِّمُ بَيْعَ الْعَقَارِ عَلَى بَيْعِ الْأَرْضِينَ، وَلِأَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْأَرْضُونَ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ أَثْمَانَهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَالِهِ المبيعة عليه. والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يُسْلِفُهُ الْمَالَ حَالًّا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطَ فِي حِفْظِهِ فَإِذَا وَجَدَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَأْخُذُ ثَمَنَ مَا بيع من ماله مَضْمُونًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ إِيَّاهُ مُؤْتَمَنًا، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ قَرْضًا وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْغُرْمِ إِنْ تَلِفَ. وَمَا أَخَذَهُ وَدِيعَةً فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ إِنْ تَلِفَ فَكَانَ الْقَرْضُ أَحْفَظُ لَهُ مِنَ التَّرْكِ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثِقَةً مَلِيئًا فَتَرْكُهُ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ الْمَالَ حالا وهو لا يجيز القرض مؤجل فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ أَلَا تَرَى أن جواز القرض مؤجلا؟ قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَيُجِيزُ الْقَرْضَ مُؤَجَّلًا، وَيَجْعَلُهُ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَخْطِئَةِ هَذَا الْقَوْلِ وَفَسَادِ مَذْهَبِهِ لِأَنَّ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ تُبْطِلُهُ وَأُصُولَ مَذْهَبِهِ تَدْفَعُهُ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يُلْزِمُ إِلَّا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَيْسَ الْقَرْضُ بِلَازِمٍ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ وَجَدَ مَنْ يُسْلِفُهُ الْمَالَ حَالًّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَاكِمَ إِذَا رَأَى قَوْلَ مَالِكٍ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ الْمُؤَجَّلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرِضَ مَالَ الْمُفْلِسِ إِلَى أَجَلٍ وَجَعَلَهُ قَرْضًا حَالًّا حَتَّى لَا يُدْخِلَهُ الْأَجَلُ عَلَى مَذْهَبِ أَحَدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَنْبَغِي إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ وَقَفَ مَالَهُ عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَهِبَ وَمَا فَعَلَ مِنْ هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ فَضُلَ جَازَ فِيهِ مَا فَعَلَ والآخر أن ذلك باطل (قال المزني) قُلْتُ أَنَا قَدْ قَطَعَ فِي المكاتب إن كاتبه بعد الوقف فأدى لم يعتق بحال ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَجْرُ الْفَلَسِ فَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى رَجُلٍ بِالْفَلَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ قَوْلًا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْحَجْرُ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمَ: قَدْ وَقَفْتُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 مَالَكَ وَمَنَعْتُكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ بِهِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْحَاكِمُ: قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ بِالْفَلَسِ. وَقَالُوا لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ يَتَنَوَّعُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ لِيَمْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ وَقْفَ الْمَالِ وَالْمَنْعَ مِنَ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجْرِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَجْرُ فَإِذَا تَلَفَّظَ الْحَاكِمُ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْحَجْرُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ أَشْهَرَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْإِشْهَادُ شَرْطٌ فِي تَمَامِ الْحَجْرِ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: الْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ، لِأَنَّ نُفُوذَ الْحُكْمِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِشْهَادِ فِيهِ فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَجْرِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَجْرِ الشُّهْرَةُ وَإِظْهَارُ الْأَمْرِ فِيهِ وَلَا يَكُونُ مُشْتَهِرًا إِلَّا بِالشَّهَادَةِ وَجَرَى مَجْرَى اللَّعَّانِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الشُّهْرَةُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ أَوْ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ. لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَنْعُ مِنْ تَبْذِيرِ الْمَالِ لِيَكُونَ مُوَفَّرًا كَالسَّفِيهِ الَّذِي يُقْصَدُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمَالَ مِنَ التَّبْذِيرِ لِيَكُونَ مَوْفُورًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَجْرٌ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَحُكْمٍ فَشَابَهَ حَجْرَ السَّفِيهِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَحُكْمٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ الْوَاقِعِ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَعُقُودُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ وَتَصَرُّفُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي وَقَعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ أَوْ يَبِيعَ سَلَمًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ يَضْمَنَ ضَمَانًا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَكُلُّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ نَافِذٌ مَاضٍ لَا اعْتِرَاضَ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ أَوْ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ اخْتُصَّ بِمَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ فَلَوِ ابْتَاعَ فِي حَالِ الْحَجْرِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَأَرَادَ الْبَائِعُ لَهَا أَنْ يَرْجِعَ بِهَا لِفَلَسِهِ فإن كان البائع عَالِمًا بِفَلَسِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا لِأَنَّ عَقْدَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ أَقْوَى مِنْهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا جَازَ اسْتِرْجَاعُ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ اسْتِرْجَاعُ مَا ابْتَاعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْلَامِ حَالِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْعَالمِ بِهِ وَلَا يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي ذَلِكَ عُذْرًا وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدِي، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْفَلَسِ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْفَسْخُ بِالْفَلَسِ وَجَمِيعُ مَا مَلَكَهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِابْتِيَاعٍ أَوِ اصْطِيَادٍ أَوْ قَبُولِ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ يَصِيرُ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَجْرِ كَأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْحَجْرِ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا حُكْمُ عُقُودِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ وَعُقُودُهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي يَدِهِ. مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِهِ مَتَاعًا أَوْ يَهَبَ مَالًا أَوْ يُكَاتِبَ عَبْدًا أَوْ يُحْدِثَ عِتْقًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَجْرُ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ وَفِي عُقُودِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِ السَّفِيهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ لِصِحَّةِ عُقُودِ الْمَرِيضِ وَوُقُوفِهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ بِسِعْرٍ زَادَ أَوْ رِبْحٍ حَدَثَ أَوْ كَسْبٍ اسْتُفِيدَ كَانَ جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ وَعِتْقٍ مَاضِيًا نَافِذًا لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ وَجَبَ أَنْ يُرَدَّ تَصَرُّفُهُ وَتُنْقَضَ عُقُودُهُ وَيَبْدَأَ مِنْهَا بِمَا لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ كَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَعْرِضْ لِفَسْخِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَأُمْضِيَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ فُسِخَتِ الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَعْرِضْ لِفَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَبِيعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ حَتَّى صَارَ مَغْبُونًا فَهَذَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ وَيُسْتَرْجَعُ الْمَبِيعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ حَتَّى صَارَ غَابِنًا فَهَذَا الْبَيْعُ مَاضٍ وَلَا مَعْنَى لِفَسْخِهِ لِأَنَّ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ أَوْفَرُ لِحُقُوقِ الْغُرَمَاءِ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي ثَمَنِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا عَلَيْهِمْ بِالْفَسْخِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَهُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فهذا ينظر فيه فإن كان الثمن قد زَادَ قِيمَتُهُ أَوِ الْمَبِيعُ قَدْ نَقَصَ سِعْرُهُ أَمْضَى الْعَقْدَ وَلَمْ يُفْسَخْ عَلَيْهِ لِمَا فِي فَسْخِهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدِ الثَّمَنُ وَلَا يَنْقُصْ سِعْرُ الْمُثَمَّنَ فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 كَانَ الثَّمَنُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُفْلِسُ حَتَّى صَارَ في ذمته فسخ البيع لأن يُسْتَفَادَ بِفَسْخِهِ بِبَيْعِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَلَا يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَدَثَ عَنْ مُعَامَلَةٍ بَعْدَ فَلَسِهِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرْنَا إِذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ الثَّمَنُ مُسْتَهْلَكًا فُسِخَ الْبَيْعُ أَيْضًا وَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا مُعَيَّنًا فَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ، لِأَنَّ فَسْخَ عُقُودِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِضَرُورَةٍ يُسْتَفَادُ بِهَا شَيْءٌ وَالْفَسْخُ هَاهُنَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِأَنَّهُ إِنْ أَوْجَبَ اسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ لِيُبَاعَ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ أَوْجَبَ ذَلِكَ رَدَّ الثَّمَنِ إِلَى الْمُعَيَّنِ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُفْلِسِ وَهُمَا فِي الْقِيمَةِ سَوَاءٌ فَكَانَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ لِيَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ كَفَسْخِ الْبَيْعِ لِيُبَاعَ الْمَبِيعُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَسْخِ تَأْثِيرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ إِمْضَاءُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَبَيْعُ الثَّمَنِ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِهِ دَرْكًا كَانَ هَذَا فَائِدَةَ الْفَسْخِ قِيلَ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِتَوَهُّمِهِ لِيُفْسَخَ بِهِ الْعَقْدُ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ فَسْخُ جَمِيعِ العقود لمعان متوهمة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَزِمَهُ قَبْلَ الْوَقْفِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَائِزٌ كَالْمَرِيضِ يَدْخُلُ مَعَ غُرَمَائِهِ وَبِهِ أَقُولُ وَالثَّانِي أَنَّ إِقْرَارَهُ لَازِمٌ لَهُ فِي مَالٍ إِنْ حَدَثَ لَهُ أَوْ يَفْضُلُ عَنْ غُرَمَائِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُفْلِسِ بِالدَّيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ زَوَالِ حَجْرِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ مُشَارِكًا لِغُرَمَائِهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ قَبْلَ الْحَجْرِ وَلِأَنَّ الْمُدَايِنَ لَهُ بَعْدَ فَلَسِهِ رَاضٍ بِخَرَابِ ذِمَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ أَيْضًا وَهَلْ يَكُونُ الْمُقَرُّ لَهُ مُشَارِكًا لِغُرَمَائِهِ بِدَيْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَجْرِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَيَكُونُ الدَّيْنُ لَازِمًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ الْمُقِرِّ عَلَى ما يستفيده بعد فك الحجر وهنا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى السَّفَهِ. وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِأَعْيَانِ حاله كالرهق ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَرْهُونِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ وَيَكُونُ أُسْوَةً لَهُمْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ. وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ لَزِمَ بِالْإِقْرَارِ كَلُزُومِهِ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ لَوْ كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ يُوجِبُ مُشَارَكَةَ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ ثُبُوتُهُ بِالْإِقْرَارِ يُوجِبُ مُشَارَكَتَهُمْ وَبِهَذَا فارق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 الْمَالَ الْمَرْهُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَارِكِ الْمُرْتَهِنَ فيه إذا ثبت بينة بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فلو كان إقرار المفلس حين قال فِي يَدِهِ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوِ اسْتِعَارَتِهِ أَوِ اسْتِئْجَارِهِ أَوْ كَانَ صَائِغًا أَوْ صَبَّاغًا فَأَقَرَّ بِحُلِيٍّ فِي يَدِهِ أَوْ ثِيَابٍ قَدْ صَبَغَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَازِمٌ كَالْبَيِّنَةِ فَيَدْفَعُ الْأَعْيَانَ إِلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِيهَا. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُشَارِكُهُمْ في المال أو كَانَ دَيْنًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّ إِقْرَارَهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَيْنِ بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا وَيُبَاعُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ سِوَى الْأَعْيَانِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فَإِنْ وَفَتْ بِدَيْنِهِ دُفِعَتِ الْأَعْيَانُ حِينَئِذٍ إِلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا وَإِنْ عَجَزَ مَالُهُ عن وفاء دَيْنِهِ بِيعَتِ الْأَعْيَانُ فِي حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا دَيْنًا لِلْمُقَرِّ لَهُمْ بِهَا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَبِيعُونَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَلَوِ احْتَاجَ وَفَاءُ دَيْنِهِ إِلَى بَيْعِ الْبَعْضِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْيَانِ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا لِوَاحِدٍ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَيَكُونُ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الْأَعْيَانِ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرِدَ حَقَّ أَحَدِهِمْ بِالْبَيْعِ دُونَ الْبَاقِينَ وَبِيعَ كُلُّ عَيْنٍ أقر بها لشخص يقسط مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الأعيان إلى أربابها لتقع التسوية بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيمَا يُبَاعُ عَلَيْهِمْ وَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا ادُّعِيَ عَلَى الْمُفْلِسِ مَالٌ وَأَنْكَرَ وَعُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَنَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِهِ وَاسْتَحَقَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَكُونُ الْيَمِينُ بَعْدَ النُّكُولِ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ مَجْرَى الْإِقْرَارِ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ - فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُدَّعِي بعد - عينه مُشَارِكًا لِلْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ - فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مُشَارِكًا لِلْغُرَمَاءِ بِدَيْنِهِ أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ إِلَى أَنَّ دُيُونَ الْمُفْلِسِ إِلَى أَجَلٍ تَحِلُّ حُلُولَهَا عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يؤخر المؤخر عنه لأن له ذمة وقد يملك والميت بطلت ذمته ولا يملك بعد الموت (قال المزني) قلت أنا هذا أصح وبه قال في الإملاء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِالْمَوْتِ. وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ لَا تَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَتَكُونُ عَلَى آجَالِهَا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْأَجَلِ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْمَيِّتِ مِثْلَ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ مُدَّةُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ لَمْ تَبْطُلْ مُدَّةُ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى حُلُولِ دُيُونِهِ بِالْمَوْتِ أَنَّ مَالَهُ قَدْ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى الْغُرَمَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 بِدُيُونِهِمْ وَإِلَى الْوَرَثَةِ بِإِرْثِهِمْ فَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ حَالًا، لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ حَالًّا، لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ أَيْضًا مِلْكٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ التَّرِكَةِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً إِلَى حُلُولِ الدَّيْنِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ فِي تَأْخِيرِ إِرْثِهِمْ وَالْإِضْرَارِ بِالْمَيِّتِ فِي تَأْخِيرِ دَيْنِهِ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى ". وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْوَرَثَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لَهُمْ بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُقَسِّمُوا قَدْرَ الدَّيْنِ لِيَكُونَ فِي ذِمَّتِهِمْ أَوْ يَعْزِلُوهُ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَجُزْ إِقْسَامُهُمْ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَلِأَنَّ أرباب الديون لم يرضوا بذمهم. ولم يجز أن يعزلوه، لأن فيه تعزيرا به وَتَعْلِيقًا لِنَفْسِ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ وَعَدَمَ فَائِدَةٍ لَهُمْ وَلِلْمَيِّتِ بِعَزْلِهِ لَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلُوهُ لِيَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مِنْهُ وَيَقْتَسِمَ الْوَرَثَةُ مَا فَضَلَ عَنْهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا حُلُولُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِحُدُوثِ الْفَلَسِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه يحل بالفلس كَمَا يَحِلُّ بِالْمَوْتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْرِي حَجْرَ الْفَلَسِ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ يَنْتَقِلُ مَالُهُ بِالْفَلَسِ إِلَى غُرَمَائِهِ كَمَا يَنْتَقِلُ مَالُ الْمَرِيضِ بِالْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ يُوجِبُ حُلُولَ الْأَجَلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَلَسُ بِمَثَابَتِهِ يُوجِبُ حُلُولَ الْمُؤَجَّلِ، وَيُلَخِّصُ هَذَا الثُّلْثُ: أَنَّ خَرَابَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ كَالْمَوْتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّهَا عَلَى آجَالِهَا - لَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْرِي مِنْهَا حَجْرُ الْمُفْلِسِ مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ، لِأَنَّ دُيُونَ السَّفِيهِ لَا تَحِلُّ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ وَجَوَازِ اسْتِفَادَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمُفْلِسُ لَمَّا كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ وَيَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِلْكٌ وَيَبْقَى لَهُ ذِمَّةٌ لَمْ تَحِلَّ دُيُونُهُ وَخَالَفَ الْمَيِّتَ الَّذِي لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِلْكٌ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذِمَّةٌ حَيْثُ حَلَّتْ دُيُونُهُ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ إِنَّمَا كَانَ بِالدُّيُونِ الْحَالَّةَ دُونَ الْمُؤَجَّلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ دُيُونُهُ مُؤَجَّلَةً لَمْ يَجُزِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَا وَالْمُفْلِسُ إِنَّمَا يَجِبُ صَرْفُ مَالِهِ فِيمَنْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَدَثَ دَيْنُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ لَمْ يَكُنْ مُشَارِكًا فِي مَالِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ فَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهَا إِلَى آجَالِهَا - لَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ - صُرِفَ مَالُهُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ ثُمَّ يُحَالُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ إِذَا حَلَّتْ عَلَى مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ مِلْكٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّهَا تَحِلُّ بِالْفَلَسِ كَانَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِهِ وَيَرْجِعُ مَنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ مَبِيعِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ قَدْرُ مَا يَخُصُّهُمْ مِنَ الدَّيْنِ بالعين فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو الصَّحَابَةِ - أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى أرباب يتملكونه كما يدفع ذلك إلى مثل دَيْنه حَال لِيَتَمَلَّكَهُ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ قَدْ صَارَ بِالْفَلَسِ كَالْمُعَجَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبي علي بن أبي هريرة: أنه يكون باقيا على ملك الْمُفْلِسِ لَا يُدْفَعُ إِلَى غُرَمَائِهِ حَتَّى تَحِلَّ دُيُونُهُمْ وَيَكُونَ تَأْثِيرُ مُشَارَكَتِهِمْ لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ وَرُجُوعِهِمْ بِأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ أَنْ لَا يُصْرَفَ جَمِيعُ مَالِهِ في الديون الحالة وأنه ربما يكسب بَعْدَ الْحَجْرِ مَا لَا يَقْضِي بِهِ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ وَلَوِ اكْتَسَبَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا بِهِ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ يُطْلَقُ تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ فِيهِ حَتَّى إِذَا حَلَّتِ الْآجَالُ صَرَفَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وقسم فيهم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُفْلِسِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمَالِ إِمَّا فِي الْخَطَأِ وَإِمَّا فِي الْعَمْدِ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ مَلَكَ أَرْشَهَا وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ مِنْ إِرْثٍ وَغَيْرِهِ فَإِنْ أَبْرَأَ الْجَانِيَ مِنْهُ كَانَ كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالًا فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَكُونُ بَاطِلًا. وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ السَّفِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ بَطَلَ الْإِبْرَاءُ فِيمَا قَابَلَ بَقِيَّةَ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ مُقَابِلًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ بَطَلَ جَمِيعُ الْإِبْرَاءِ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلًا لِبَعْضِهَا بَطَلَ مِنَ الْإِبْرَاءِ بِقَدْرِ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي. وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ بِالْفَلَسِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَالْمُفْلِسُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْمَالَ سَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَانْتَقَلَ إِرْثًا إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ وَإِنْ أَرَادَ الْمَالَ كَانَ لَهُ وَقُسِّمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَإِنْ عُفي عَنِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يُصَرَّحْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ. وَفِي سُقُوطِ الْمَالِ قَوْلَانِ. مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ مَا الَّذِي تُوجِبُ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ - فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَخْتَرْهُ فِي الْحَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ إِمَّا الْقِصَاصَ أَوِ الْمَالَ - فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَسْقُطُ الْمَالُ بِعَفْوِهِ عن القصاص فأما إن عفى الْمُفْلِسُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا مِنَ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ وَصَرَّحَ بِهِمَا فِي عَفْوِهِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَفِي عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أحدهما: أَنَّ عَفْوَهُ صَحِيحٌ وَقَدْ سَقَطَ الْمَالُ. وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الولي فيسقط المال يعفوه عَنْهُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَمَلُّكِ مَالٍ مِنْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَمُطْلَقٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَفْوَهُ عَنِ الْمَالِ بَاطِلٌ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ وَتُقَسَّمُ بينَ غُرَمَائِهِ وَهُنَا إِذَا قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوِ الْمَالَ وَإِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَفْوَهُ مَوْقُوفٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارٍ مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ لِيَنْظُرَ هَلْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَيَصِحَّ أَوْ عجز عنه فيبطل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْلِسِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَذُو الْعُسْرَةِ يُنْظَرُ إِلَى مَيْسَرَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْمُفْلِسِ دُيُونٌ بَعْدَ قِسْمَةِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاجِرَ بِهَا وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ الْحَاكِمُ بِأُجْرَةٍ تُقْضَى بِهَا بَاقِي دُيُونِهِ. اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاعَ سَرْقًا فِي دَيْنٍ وَالْحُرُّ لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَجَّرَ مُفْلِسًا " وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ بِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي تَعَلُّقِ دُيُونِ الْمُفْلِسِ بِهِمَا وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمُسَمَّى وَفِي الْفَاسِدِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ ثُمَّ إِذَا كَانَتِ الْأَعْيَانُ مَبِيعَةً عَلَى الْمُفْلِسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَبِيعَةً عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ بَعْدَ الْإِعْسَارِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ قَالَ لِغُرَمَائِهِ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ " وَرُوِيَ " لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ "، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ إِلَى تَمَلُّكِ الْمَالِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ إِذَا أَفْلَسَ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَعَلَى خُلْعِ الزَّوْجَةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ بَاعَ سَرْقًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 فِي دَيْنٍ: فَهُوَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَا يَلْزَمُنَا الْأَخْذُ بِهِ وَلَوْ لَزِمَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ عَبْدًا بَاعَهُ فِي دَيْنِ سَيِّدِهِ أَوْ حُرًّا أَجَّرَهُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ أَوْ بَاعَهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الشَّرْعُ وَارِدًا فِي الْحُرِّ بِجَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ: فَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمُفْلِسِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فَفَاسِدٌ بِذَاتِ الرُّوحِ فِي أَنَّ الرُّوحَ تَقُومُ مَقَامَ الْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَقُومُ مقام فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِالْأَبَوَيْنِ كَالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ دُونَ الدَّيْنِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُهَا الْمُحْتَاجُ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الكسب ليس بِمَالٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ: فَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي الثَّانِي مَالًا وَلَوْ كَانَتْ مَالًا لَوَجَبَ عَلَى غَاصِبِ الْحُرِّ ضَمَانُ مَنَافِعِهِ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُتْرَكُ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ مَا لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ وَأَقَلُّ مَا يَكْفِيهِ وَأَهْلَهُ يَوْمَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِنْ كَانَ لِبَيْعِ مَالِهِ حَبْسٌ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ كُلَّ يَوْمٍ أَقَلَّ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ كَانَ ذَلِكَ فِي شِتَاءٍ أَوْ صَيْفٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ قَسْمِ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ". قال الماوردي: وهذا كما قال مؤونة الْمُفْلِسِ فِي زَمَانِ حَجْرِهِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهِ وكذلك مؤونة مَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الدُّيُونِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ: إِنَّ مَعِي دِينَارًا. قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ: إِنَّ مَعِي آخَرَ قَالَ: " أَنْفِقْهُ عَلَى زَوْجَتِكَ ". قَالَ: إِنَّ مَعِيَ آخَرَ. قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ، وَلِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَسْلُوبُ النَّفْعِ مُعَطَّلُ الْكَسْبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ لَوَجَبَ نَفَقَتُهُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَنْ يَقَدَّمَ بِإِنْفَاقٍ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ فَأَمَّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ الَّتِي هِيَ مواساة وهو بنفسه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَمْ يُقَدَّمْ بِهَا قِيلَ، لِأَنَّ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ تَجْرِي قَبْلَ الْفَلَسِ مَجْرَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ فَأُجْرِيَتْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ فَلَسِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ فِي مُدَّةِ حجرة تقدر مؤنته ومؤنة زوجته وأقاربه. فالمؤونة: هِيَ الْقُوتُ وَالْكُسْوَةُ، فَأَمَّا الْقُوتُ فَمُقَدَّرُ الزَّمَانِ بِمُدَّةِ حَجْرِهِ وَمُعْتَبَرُ الْقَدْرِ بِحَسَبِ كِفَايَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَجْرِ يَوْمًا وَاحِدًا لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ شَهْرًا لَمْ يُقْصَرْ عَنْهُ وَلَا يُعْتَبَرْ فِي الْقُوتِ حَالُ شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُوتُ مِثْلِهِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَأَمَّا الْكُسْوَةُ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ مُتَمَاسِكَةٌ لَيْسَ فِيهَا سَرَفٌ تُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كُسْوَةٌ أَوْ كَانَتْ قد أخلقت اشتهى لَهُ مِنْ مَالِهِ كُسْوَةَ مِثْلِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لِمُدَّةِ حَجْرِهِ كَمَا اعْتَبَرْنَا في الفوت لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَبْعِيضَ الْقُوتِ مُمْكِنٌ وَتَبْعِيضُ الْكُسْوَةِ عَلَى الزَّمَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ مُعَرَّضًا لِلْكَسْبِ بِمَا يَتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ ثِيَابٍ فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً فَكُسْوَةُ مِثْلِهِ فِي الشِّتَاءِ وَإِنْ كَانَ صَيْفًا فَكُسْوَةُ مِثْلِهِ فِي الصَّيْفِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ كُسْوَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كانت ثيابه كلها عوالي مُجَاوِزَةَ الْقَدْرِ اشْتَرَى لَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أَقَلَّ مَا يُلْبَسُ أَقْصِدُ مَا يَكْفِيهِ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتْرُكُ عَلَيْهِ مَا لَا غَنَاءَ بِهِ عَنْهُ فَإِذَا كَانَتْ ثِيَابُهُ غَوَالِيَ كَثِيرَةَ الْأَثْمَانِ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَا هُوَ أَقَلُّ ثَمَنًا مِنْهَا فَيُبَاعُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِي لَهُ مِنْهَا كُسْوَةَ مِثْلِهِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا وَيُقَسِّمُ فَاضِلَ ثَمَنِهَا بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ كسى أَقَارِبَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ ثِيَابًا غَوَالِيَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي كُسْوَةِ نَفْسِهِ لِبَقَائِهَا على ملكه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَاتَ كُفِّنَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ الْغُرَمَاءِ وَحُفِرَ قَبْرُهُ وَمُيِّزَ بِأَقَلِّ مَا يَكْفِيهِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ غُرَمَائِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَاتَ الْمُفْلِسُ أَوْ مَاتَ مِنْ أَقَارِبِهِ من تلزمه مؤونته وجب أن يقدم تكفينه ومؤونة دَفْنِهِ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَائِهِ لأنه لما قدم لمؤونته حَيًّا فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ بِهَا مَيِّتًا، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً قَالَ: " هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ " فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: صَلُّوا عَلَيْهِ " وَيَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ في كفن ولم يوجب بيعه في دينه فإذا ثبت أن يُقَدَّمَ تَكْفِينُهُ فَهَلْ يَقْتَصِرُ بِهِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُكَفَّنَ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ كَمَا يُكَفَّنُ بِهَا إِذَا كَانَ حَيًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يكفن في ثوب واحد، لأن الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَخَالَفَ الْحَيَّ لِأَنَّ الْحَيَّ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحَمُّلِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْمَكَاسِبِ. وَأَمَّا الْحَنُوطُ فَفِيهِ وجهان أحدهما أن يشتري من ماله العرق الْجَارِيَ بِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الطِّيبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ سَعَةٌ لَهُ - وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كَفَنِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَاتُهُمْ فَأَمَّا كَفَنُ زَوْجَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ أَيْضًا وَالثَّانِي فِي مَالِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُبَاعُ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ لِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ بدا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي دَيْنِهِ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ وَإِنْ كَانَ إِلَيْهِمَا مُحْتَاجًا. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ بيعها عليه. ورووا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " حَظُّ ابْنِ آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ خِرْقَةٌ تُوَارِيهِ وَكُسْوَةٌ تَكْفِيهِ وَمَسْكَنٌ يُؤْوِيهِ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَزِيدُ فِيهِ وَزَوْجَةٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَسْكَنِهِ وَخَادِمِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمَا قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَالْمُعْسِرِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَكَالْفُقَرَاءِ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُفْلِسِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ غَيْرُهُ ". وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَمَلُّكِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَسْكَنٍ يَكْرَى وَخَادِمٍ بِأُجْرَةٍ وَبِذَلِكَ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا. أَيْ مِنْ مِلْكِ الْمَسْكَنِ دُونَ سُكْنَاهُ وَمِنْ مِلْكِ الْخَادِمِ دُونَ اسْتِخْدَامِهِ وَإِذَا كَانَ عَنْ ذَلِكَ مُسْتَغْنِيًا وَجَبَ بَيْعُهُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا بِيعَ عَلَيْهِ ضَيَاعُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى اسْتِغْلَالِهَا جَازَ أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ دَارُهُ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى سُكْنَاهَا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُفْلِسِ لِأَنَّهُ قَالَ: " حَظُّ ابْنِ آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ ". وَالْمُفْلِسُ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا حَظٌّ وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهَا نَصِيبٌ وَأَمَّا تَرْكُ ثِيَابِهِ عَلَيْهِ فَلِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِجَارَتِهَا وَهِيَ بِإِجَارَةِ الدُّورِ وَالْخَدَمِ جَارِيَةٌ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَيْنِ الْمُفْلِسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَّسِعُ لِلْمُسَامَحَةِ فَلَمْ يُبَعْ فِيهَا الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ وَالدَّيْنُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ يَضِيقُ عَنِ الْمُسَامَحَةِ فَبِيعَ فِيهِ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْكَفَّارَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَالِ وَهُوَ الصِّيَامُ فَلَمْ يُبَعْ عَلَيْهِ مَسْكَنُهُ لِرُجُوعِهِ إِلَى بَدَلٍ وَلَيْسَ لِلْمَالِ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ بَدَلٌ وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ كَالْفُقَرَاءِ مَعَ وُجُودِ الْخَادِمِ وَالْمَسْكَنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ الْغَنَاءِ وَفِي الْفَلَسِ قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَ مَعَ وُجُودِ بَعْضِ الْغَنَاءِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَلَمْ يَحْلِفْ مَعَ شَاهِدِهِ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا ليس لَهُمْ إِلَّا مَا تَمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ دُونَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُفْلِسٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا وَأَقَامَ عَلَى دَعْوَاهُ شَاهِدًا فَإِنْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَجَبَ لَهُ الْمَالُ وَإِنْ نَكَلَ وَأَجَابَ الْغُرَمَاءُ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ وَأَنَّ الْمَالَ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى الْمُفْلِسُ مَالًا لَيْسَ لَهُ بِهِ شَاهِدٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْلِفْ وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُفْلِسِ فَنَكَلَ وَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَحْلِفُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ فَالْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَفِي جَوَازِ إِحْلَافِ الْغُرَمَاءِ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وَهُوَ الْقَدِيمُ - يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَالَ الْمُفْلِسِ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ كَمَا يَصِيرُ مَالُ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ فَلَمَّا جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ جَازَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَالِ الْمُفْلِسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ أَثْبَتُ مِنْ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ فَلَمَّا جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَحْلِفَ فِي إِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْبَائِعُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ إِحْلَافُ الْغُرَمَاءِ لِثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ الْجَدِيدُ - أنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالَ يَمْلِكُهُ الْمُفْلِسُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ كَانَ تَالِفًا فِي حَقِّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ لِأَنَّهَا تَكُونُ نِيَابَةٌ فِي الْأَيْمَانِ وَالنِّيَابَةِ فِي الْيَمِينِ لَا تَصِحُّ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ غَيْرُ الْغُرَمَاءِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ يَمِينِهِمْ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا وَمُرْتَهِنُ الرَّهْنِ لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ اسْتِيفَائِهِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَى الْمُفْلِسِ كَالْيَمِينِ فِي نَفْيِ الدَّعْوَى عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا فِي نَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفُوا فِي إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ إِذَا صَارَتِ الْيَمِينُ لَهُ فَنَكَلَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا فِي إِثْبَاتِ الدَّعْوَى لِلْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يَحْلِفُوا فِي نَفْيِ الدَّعْوَى عَنْهُ وَهَذَا تَوْجِيهٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قِيلَ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجُوزُ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا فَلَا مَسْأَلَةَ. وَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا حَلَفَ جَمِيعُهُمْ كَمَا يَحْلِفُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ قضي لَهُ مِنَ الدَّعْوَى بِقَدْرِ حِصَّةِ دَيْنِهِ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ نكول غيره بمسقط لِحَقِّهِ بَعْدَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ قضي لَهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 (بَابٌ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ المفلس) قال الشافعي رضي الله عنه: " مَنْ بِيعَ عَلَيْهِ فِي دَيْنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَفْلِيسِهِ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كَهِيَ فِي مَالِ الْحَيِّ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بِيعَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَلَيْهِ وَضَاعَتْ مِنْ أَيْدِي الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا كَانَ تَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ دُونَ غرمائه وكذا ما باعه ولي على طِفْلٍ أَوْ وَصِيٌّ فِي تَرِكَةٍ أَوْ وُكل فِي بَيْعِ رَهْنٍ أَوْ عَلَى مُوَكَّلٍ وَقَالَ أبو حنيفة: الثَّمَنُ التَّالِفُ مِنْ مَالِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْمُفْلِسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حُقُوقِهِمْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جنس حقهم سلعة أو عوضا فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَصَارَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَاسِدًا بِالْحَجَاجِيزِ وَسَنَذْكُرُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّوْجِيهِ لِصِحَّةِ الْمَذْهَبِ فِيهِ فَنَقُولُ إِنَّ بَدَلَ كُلِّ شيء في حكم مبدله فإما كَانَ تَلَفُ الْمَبِيعِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ فَكَذَا تَلَفُ بَدَلِهِ، وَلِأَنَّ أَمِينَ الْحَاكِمِ فِي الْبَيْعِ يَنُوبُ عَنِ الْمُفْلِسِ فِيهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَلَفَ الثَّمَنِ إِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ هُوَ الْبَائِعُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ دُونَ غُرَمَائِهِ فَكَذَا تَلَفُهُ مِنَ النَّائِبِ عَنْهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ دون غرمائه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بِيعَتْ دَارُهُ بِأَلْفٍ وَقَبَضَ أَمِينُ الْقَاضِي الثَّمَنَ فَهَلَكَ مِنْ يَدِهِ وَاسْتُحِقَّتِ الدَّارُ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي بِيعَتْ لَهُ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْعُهْدَةِ الْمَبِيعُ عَلَيْهِ فَإِنْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ بِيعَ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي مَالُهُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ بِبَيْعٍ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فإن لم يوجد له شيء فلا ضمان على القاضي ولا أمينه ويقال للمشتري أنت غريم المفلس أو الميت كغرمائه سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا بِيعَتْ دَارُ الْمُفْلِسِ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّتِ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَوِ اقْتَسَمَهُ الْغُرَمَاءُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَدْ تَلِفَ مِنْ يَدِ الْأَمِينِ فَالَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْدَمُ بِالثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أصحابنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَقَدَّمُ بِالثَّمَنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجَّهَهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهَا إِلَّا أَنْ يتعجل مالا يصير حقه متعلقا بها أُجُور الْبَاعَةِ وَأَكْرِيَة الْخَانَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَحَرْمَلَةُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَسَاوَى الْغُرَمَاءَ فِيهِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي مَحَلِّ الْحَقِّ وَلَيْسَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ يُوجِبُ تَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ غَصَبَ مَالًا فَأَتْلَفَهُ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَخَالَفَ أُجُورَ الْبَاعَةِ وسائر المؤن التي هي مصلحة لماله لَا يَسْتَغْنِي الْمُفْلِسُ عَنْهَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَجَعَلَ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ فِي تَقْدِيمِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَرِوَايَةَ الرَّبِيعِ وَحَرْمَلَةَ فِي مُشَارَكَةِ الْمُشْتَرِي لِلْغُرَمَاءِ إِذَا كَانَ حُدُوثُ الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ فَكِّ الحجر عنه فإذا أحدث له حجر ثَانِيًا كَانَ الْمُشْتَرِي وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ أُسْوَةً فِيمَا بيده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 (باب جواز حبس من عليه الدين) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فإن ذكر عسرة قبلت منه البينة لقول الله جل وعز {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وأحلفه مع ذلك بالله وأخليه ". قال الماوردي: وهذا كما قال إذا حجر عَلَى الْمُفْلِسِ بِدُيُونِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَا يَظْهَرَ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ بِيعَ فِي دَيْنِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُفْلِسُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا لِيَقَعَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْحَاكِمُ فِيهِ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمِلْكِ مَا بَاعَ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ بَيْعَ مَالِهِ أَوْ حَضَرَ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَهُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ تَمَلُّكِهِ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَيُقَدَّمُ بِالْبَيْعِ إِلَى أَمِينٍ لَهُ وَأَجَازَ الْحَاكِمُ بَيْعَهُ فَإِذَا بِيعَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالُهُ الظَّاهِرَةُ فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَكَّ حَجْرَهُ فِي الْحَالِ لِزَوَالِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ وَالْحَجْرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَرْتَفِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَفْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بِيعَ مِنْ مَالِهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ منه كمن لم يظهر له مال وإذا لم يظهر له مال سُئِلَ عَنْ مَالِهِ؟ فَإِنْ ذَكَرَ مَالًا حُكِمَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي مَالِهِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا وَادَّعَى الْعُسْرَةَ. سُئِلَ الْغُرَمَاءُ عَنْهُ فَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الْإِعْسَارِ خُلِّيَ عَنْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ وَفَكَّ حَجْرَهُ لِيَكْتَسِبَ بِتَصَرُّفِهِ مَا يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ وَإِنْ كَذَّبُوهُ فِي الْإِعْسَارِ وَادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَسَارَ لَمْ تَخْلُ حَالُ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَالٌ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ وَغُرْمِ الْعَوَارِي وَالضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْإِعْسَارُ وَيُفَكُّ حَجْرُهُ وَيُطْلَقُ وَلَا يُحْبَسُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْغُرَمَاءُ الْبَيِّنَةَ بِيَسَارِهِ - فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُ فِي مُقَابَلَةِ مال كأثمان المبيعات ويدل الْقَرْضِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْإِعْسَارَ لِثُبُوتِ يَسَارِهِ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِإِعْسَارِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِهِ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ فَإِنْ شَهِدَتْ بِهَلَاكِهِ وَتَلَفِهِ سُمِعَتْ سَوَاءٌ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ أَمْ لَا لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ بِثُبُوتِ جَائِحَةٍ قَدْ يَعْلَمُهَا الْبَعِيدُ كَمَا يَعْلَمُهَا الْقَرِيبُ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْهَدُوا بِتَلَفِ مَالِهِ. فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِعْسَارِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ يُخْبَرُ بَاطِنَ أَمْرِهِ فَإِذَا ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ إِحْلَافَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِعْسَارِ أَحَلَفَ لَهُمْ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْأُصُولِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ مَا يُطَالَبُ بِالْيَمِينِ عَلَى نَفْيِهِ غَيْرُ مَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ تَنْفِي مَا ظَهَرَ مِنَ الْمَالِ وَيَمِينُهُ يَنْفِي مَا خَفِيَ مِنَ الْمَالِ فَصَارَ الْمَنْفِيُّ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرَ الْمَنْفِيِّ بِالْيَمِينِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ وَأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّ مَا أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ مَا نَفَاهُ بِالْيَمِينِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ فَحَلَفَ وَجَبَ أَنْ يُفَكَّ عَنْهُ الحجر ويخلى وبماذا يفك حجر عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. أَنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَقِرَ فَكُّ الْحَجْرِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ إِعْسَارِهِ يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ كَمَا يُوجِبُ قَضَاءَ دَيْنُهُ ثُمَّ كَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ يَقَعُ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ فَكَذَلِكَ الْإِعْسَارُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِذِمَّتِهِ يَقْتَضِي وُجُوبَ مُطَالَبَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُكْمٍ بِخِلَافِ الْمُؤَدِّي لِجَمِيعِ دَيْنِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ مخرجان مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ - فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ انْفَكَّ الحجر عنه بغير مرض كَالْمَرِيضِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ كَالسَّفِيهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ وَجَبَ حَبْسُهُ بِدُيُونِهِ - إِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ - وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ أَحَدٌ فِي دَيْنٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا حَبَسَ فِي دَيْنٍ! قَطُّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا " يَعْنِي بِالْيَدِ: الْحَبْسَ وَالْمُلَازَمَةَ وَبِالْمَقَالِ: الِاقْتِضَاءَ وَالْمُطَالَبَةَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ ". يَعْنِي بِإِبَاحَةِ الْعَرْضِ: الْمُطَالَبَةَ وَالتَّوْبِيخَ بِالْمُمَاطَلَةِ. وَبِالْعُقُوبَةِ: الْحَبْسَ، لِأَنَّ مَا سِوَى الْحَبْسِ مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ وَقَوْلُهُ: " لَيُّ الْوَاجِدِ ". يَعْنِي: مَنْعَهُ وَمُمَاطَلَتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: (تُطِيلِينَ ليالي وَأَنْتِ مُلِيَّةٌ ... فَأَحْسِنْ بِآدَابِ الْوِسَاخِ التَّقَاضِيَا) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبَسَ رَجُلًا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي تُهْمَةٍ " فَلَمَّا جَازَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ حَبْسُهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إِلَّا بِهِ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْمُلَازَمَةِ فَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ - فَإِذَا اتَّفَقَ غُرَمَاؤُهُ عَلَى حَبْسِهِ حُبِسَ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ أُطْلِقَ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى مُلَازَمَتِهِ دُونَ حَبْسِهِ لُوزِمَ، لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْحَبْسِ فَأَمَّا إِنْ سَأَلَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ حَبْسَهُ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِإِطْلَاقِهِ وَجَبَ أَنْ يُحْبَسَ لِمَنْ سَأَلَ حَبْسَهُ - وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَأَقَلَّ جَمَاعَتِهِمْ حَقًّا - وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ لِبَعْضِهِمْ إِذَا أَطْلَقَهُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى حَبْسِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ حَبْسَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَفْوِ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ فَفِي مَالِهِ دُونَ غُرَمَائِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى غُرَمَائِهِ الْحَابِسِينَ لَهُ. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وهذا مذهب مطروح وَقَوْلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ حُبِسَ لِغُرَمَائِهِ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى حُقُوقِهِمْ بِحَبْسِهِ فَلَوْ لَزِمَتْهُمْ نَفَقَتُهُ لَأَضَرَّ الْحَبْسُ بهم دونه ولا ارتفق بِهِ دُونَهُمْ فَتَبْطُلُ فَائِدَةُ الْحَبْسِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ فَعَمِلَهَا فِي حَبْسِهِ فَفِي مَنْعِهِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ، لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ وَعَمَلِهِ تَأْخِيرُ أَمْرِهِ وَيُطَاوَلُ، حَبْسُهُ اتِّكَالًا عَلَى عَمَلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ يُفْضِي إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُهُ إِلَى الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا بِتَأَخُّرِهِ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا عَلِمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ وَغَالِبِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ اسْتِئْذَانَ الْمَانِعِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَإِنْ مُنِعَهُ امْتَنَعَ، لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ حُبِسَ فِي ثَمَنِ زَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ فَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَأْذِنُ فَإِذَا مَنَعَهُ السَّجَّانُ رَجَعَ وَلَوِ اسْتَأْذَنَ صَاحِبَ الدَّيْنِ كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إِذْنُ السَّجَّانِ فَلَا يُؤَثِّرُ وَلَوْ تَمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ. (فَصْلٌ) وَلَوْ حُبِسَ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ فَجَاءَ آخَرُ فَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَقًّا جَازَ لِلْحَاكِمِ إِخْرَاجُهُ مِنْ حَبْسِهِ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْأَوَّلِ مِنْ حَبْسِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ الثَّانِي مِنْ دَعْوَاهُ وَيَرُدَّ إِلَى حَقِّ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ مَالِكٌ صَحِيحًا لَكَانَ الْحَبْسُ نَافِعًا لَهُ فِي دَفْعِ الدَّعَاوَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 عَنْهُ فَلَوْ مَاتَ الْمَحْبُوسُ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ مِنْ حَبْسِهِ وَدَفْعُهُ إِلَى أَهْلِهِ لِيَتَوَلَّوْا كَفَنَهُ وَدَفْنَهُ وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ دَفْنِهِ فَإِنْ مَنَعُوا نُهُوا فَإِنِ انْتَهَوْا وَإِلَّا عُزِّرُوا. (فَصْلٌ) فَلَوْ هَرَبَ الْمَحْبُوسُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَاكِمِ طَلَبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَبْسِهِ وَكَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَطْلُبَهُ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَوْضِعٍ تَعَذَّرَ عَلَى الْخَصْمِ إِحْضَارُهُ مِنْهُ لَزِمَ الْحَاكِمَ إِحْضَارُهُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مِنْ عَمَلِهِ فَإِذَا حَضَرَ أَعَادَهُ إِلَى الْحَبْسِ إِذَا سَأَلَ ذَلِكَ الْخَصْمُ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ هَرَبِهِ؟ فَإِنْ قَالَ هَرَبْتُ لِإِعْسَارِي لم يعزر، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ - وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْإِعْسَارَ عَزَّرَهُ، وَلَا يُمْنَعِ الْمَحْبُوسُ مِنَ التَّطَلُّعِ إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ كُوَّةٍ وَلَا مِنْ مُحَادَثَةِ مَنْ يَزُورُهُ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَبْسُ عَلَى امْرَأَةٍ حُبِسَتْ عِنْدَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ أَوْ عِنْدَ ذِي مَحْرَمٍ وَمُنِعَ الزَّوْجُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُرْضِعًا حُمِلَ الطِّفْلُ إِلَيْهَا لِتُرْضِعَهُ مَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمُنِعَتْ غُرَمَاءُهُ مِنْ لُزُومِهِ حَتَى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنْ قَدْ أَفَادَ مَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ الْمُفْلِسَ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِإِعْسَارِهِ مُنِعَ غُرَمَاؤُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ وَقَالَ أبو حنيفة لَهُمْ أَنْ يُلَازِمُوهُ لَا عَلَى جِهَةِ التَّعْطِيلِ عَنْ مَكَاسِبِهِ وَلَكِنْ لِحِفْظِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَمُلَازَمَتُهُ تَمْنَعُ مِنْ إِنْظَارِهِ. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِغُرَمَاءِ مُعَاذٍ: " لَيْسَ لَكُمْ إِلَّا مَا وَجَدْتُمْ " وَرُوِيَ " لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ ". وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُلَازَمَةُ بِهِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. فَأَمَّا المخبر فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُوسِرِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْيَدِ فِي الْمُلَازَمَةِ وَالْمَقَالِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُوسِرِ دُونَ الْمُعْسِرِ كَذَلِكَ الملازمة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدَيْهِ مَالًا سَأَلْتُهُ فَإِنْ قَالَ مُضَارَبَةٌ قُبِلَتْ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أُطْلِقَ الْمُفْلِسُ بَعْدَ ثُبُوتِ إِعْسَارِهِ فَادَّعَى غُرَمَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ أَيْسَرَ وَسَأَلُوا الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ بِيَسَارِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْيَسَارِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَا أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ بَعْدَ يَسَارٍ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ بِيَسَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ عَلَى إِعْسَارِهِ وَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ - وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْغُرَمَاءُ عَلَى يَسَارِهِ وَحُبِسَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ وَإِنْ كَانَ الْغُرَمَاءُ حِينَ ادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَسَارَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ - فَإِنْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ أَيْسَرَ لَمْ يُحْكَمْ بِهَذَا القول منهم حتى يذكروا وما بِهِ صَارَ مُوسِرًا وَيَصِفُوهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا وَيُعَيِّنُوهُ إِن كَانَ حَاضِرًا فَإِنْ عَيَّنُوهُ أَوْ وصفوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 نَظَرَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِمِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَحْتَجَّ الْحَاكِمُ إِلَى سُؤَالِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَالَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِمِلْكٍ سئل المفلس عنه فإن ادعا إما مِلْكًا لِنَفْسِهِ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ مِلْكًا سُئِلَ عَنْ مَالِكِهِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحْلَفَ الْغُرَمَاءَ وَاسْتَحَقُّوا حَبْسَهُ دُونَ أَخْذِ الْمَالِ وَاسْتَكْشَفَ الْحَاكِمُ عَنْ حَالِهِ حَتَّى يَبِينَ فَإِنْ ذَكَرَ مَالِكَ الْمَالِ وَقَالَ هُوَ مُضَارَبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ فُلَانٍ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَإِنْ حَلَفُوا لَمْ يَحْكُمْ لَهُمْ بِالْمَالِ وَلَكِنْ يَحْبِسُ لَهُمُ الْمُفْلِسَ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ له بالمال حَاضِرًا سُئِلَ عَنْهُ فَإِنْ أَنْكَرَ وَأَكْذَبَ الْمُفْلِسَ في إقراره نزع الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَقُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَحُبِسَ لَهُمْ بِهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ وَاعْتَرَفَ بِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِيهِ الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِاحْتِمَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْغَائِبُ. وَالثَّانِي: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ فَلَمْ يَكُنْ لِزَجْرِهِ بِالْيَمِينِ تَأْثِيرٌ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُ فمتى استقر عند الحاكم ما وصفت لم يكن له حبسه ولا يغفل المسئلة عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ لِغُرَمَائِهِ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ اسْتَكْشَفَ الْحَاكِمُ أَمْرَهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِلَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ أَنْ يَعْقِلَهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِعُسْرَتِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ الْكَشْفَ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَيْلٌ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ بَلْ يَلْزَمُهُ رَفْعُ الظُّلْمِ وَحَبْسُ الْمُفْلِسِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا ظُلْمٌ وَالْمَحْبُوسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَزِمَ الْحَاكِمَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَشْفَ عَنْ حَالِهِ لِيُقِرَّ الْحَقَّ مَقَرَّهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَظِرَ بِهِ بقضي مُدَّة وَقَالَ أبو حنيفة فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْهُ: يُحْبَسُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُخَلَّى. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: أَنَّهُ يُحْبَسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُخَلَّى. وَرَوَى غَيْرُهُمَا: أَنَّهُ يُحْبَسُ أَرْبَعِينَ يوما ثم يخلى. وكل هذا فاسد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ دَلَّتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا عَنْ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ بِهَا كَسَائِرِ الدَّعَاوِي. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ قَبْلَ الْحَبْسِ تُوجِبُ تَرْكَهُ فِي الْحَالِ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَبْسِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُطْلَقُ فِي الْحَالِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِعُسْرَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 يُحَلِّفُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فَإِنْ حَلَفَ أَطْلَقَهُ وَإِنْ نَكَلَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا يُطْلِقُهُ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي هي ظاهر حاله. الوجه الثَّانِي أَنْ يُتْرَكَ مَحْبُوسًا حَتَّى يَحْلِفَ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَفَادَ مَالًا فَجَائِزٌ مَا صَنَعَ فِيهِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ السُّلْطَانُ وَقْفًا آخَرَ لِأَنَّ الْوَقْفَ الْأُوَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أُطْلِقَ حَجْرُ الْمُفْلِسِ بَعْدَ ثُبُوتِ إِعْسَارِهِ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا أَفَادَ مِنْ كَسْبِهِ وَمَلَكَ مِنْ مَالٍ جَائِزًا وَكَانَتْ عُقُودُهُ مَاضِيَةً وَعِتْقُهُ نَافِذًا وَهِبَتُهُ جَائِزَةً وَإِبْرَاؤُهُ صَحِيحًا وَإِقْرَارُهُ لَازِمًا لِأَنَّهُ عَادَ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ عَنْهُ فَإِنْ سَأَلَ الْغُرَمَاءُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ حَجْرًا ثَانِيًا جَازَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً إِذَا حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْحَجْرِ الثَّانِي كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْحَجْرِ الْأَوَّلِ وَيَسْتَأْنِفُ قِسْمَةَ مَالِهِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ غُرَمَائِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَى مَنِ اسْتُحْدِثَ مِنَ الْغُرَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَيَكُونُ جَمِيعُهُمْ أُسْوَةً فِي مَالِهِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَيَخْتَصُّونَ بِمَالِهِ دُونَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالَ مَا حَدَثَ بِيَدِهِ أَنَّهُ مَالُ مَنْ حَدَثَ مِنْ غُرَمَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَحَقَّ بِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمِ يَكُنْ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْحَجْرِ الْأَوَّلِ لَا يكون لمن كان ثبوت حقه أقرب فصل ا عَلَى مَنْ كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ أَبْعَدَ فَهَذَا يُفْسِدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ لَكَانَ تقديم المقدم أولى لسبقه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِلَى أَجَلٍ السَّفَرَ وَأَرَادَ غَرِيمُهُ مَنْعَهُ لِبُعْدِ سَفَرِهِ وَقُرْبِ أَجَلِهِ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ مُنِعَ مِنْهُ وَقِيلَ لَهُ حَقُّكَ حَيْثُ وَضَعْتَهُ وَرَضِيتَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ أَنْ يُسَافِرَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَنْعُهُ وَلَا أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَهْنٍ وَلَا كَفِيلٍ سَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا حتى لو كان الباقي منه يوم أَوْ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فَإِنْ تَعَرَّضَ لِمَنْعِهِ مَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ فَإِنْ أَعْطَاهُ بِدَيْنِهِ رَهْنًا أو كفيلا وإلا كان له يمنعه مِنَ السَّفَرِ قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. ودلينا: أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةُ الْمُقِيمِ بِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةُ الْمُسَافِرِ بِهِ كَالْأَدَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يَسْتَحِقُّ أَدَاؤُهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّوَثُّقُ بِهِ كَالْحَاضِرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 أَنْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ لَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ إِذَا سَافَرَ لِبُعْدِ عَوْدِهِ جَازَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ إِذَا أَقَامَ خَوْفًا مِنْ هَرَبِهِ بَلْ يُقَالُ لَهُ: حَقُّكَ حَيْثُ وَضَعْتَهُ مِنَ الذِّمَمِ وَإِلَى الْوَقْتِ الَّذِي رَضِيتَهُ مِنَ الْأَجَلِ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُكَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ لِنَفْسِكَ بِاشْتِرَاطِ الْوَثِيقَةِ مِنَ الرَّهْنِ أَوِ الضَّمَانِ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ فَتَأْمَنَ مَا اسْتُحْدِثَ خَوْفُهُ فَصِرْتَ بِتَرْكِ ذَلِكَ مُفَرِّطًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا نُظِرَ فِي سَفَرِهِ - فَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ فَإِنْ كَانَ سَفَرُ جِهَادٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْفَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَيُطَالِبَهُ بِالْوَثِيقَةِ، لِأَنَّ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ تَعْرِيضًا لِلشَّهَادَةِ فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْفَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 (كتاب الحجر) أَمَّا الْحَجْرُ فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَنْعُ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ باختياره. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَمَعْنَى قَوْلِهِ (ابْتَلُوا) أَيِ اخْتَبِرُوا، وَقَوْلُهُ (الْيَتَامَى) هُمُ الصغار الذين ليس لهم آباء لأن اليتم فِي الْآدَمِيِّينَ بِمَوْتِ الْآبَاءِ وَفِي الْبَهَائِمِ بِمَوْتِ الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْسَبُ إِلَى أُمِّهَا فَكَانَ يُتْمُهَا بِمَوْتِ الْأُمِّ، وَالْآدَمِيُّ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُتْمُهُ بِمَوْتِ الْأَبِ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بلغوا النكاح} [النساء: 6] يعني الاحتلام لأن بالاحتلام يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَيَزُولُ عَنْهُ الْيُتْمُ. قَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ) . وَقَوْلُهُ {فَإِنْ آنَسْتُمْ} أي علمتم منهم رشدا في الرُّشْدِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَقْلُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَقْلُ وَالصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحُ فِي الْمَالِ وَهُوَ قول ابن عباس. والحسن والبصري. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] يَعْنِي الَّتِي تَحْتَ أَيْدِيكُمْ {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} أَيْ لَا تَأْخُذُوهَا إِسْرَافًا يَعْنِي عَلَى غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَكُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 وَأَصْلُ الْإِسْرَافِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ. {وَبِدَارًا أَنْ يكبروا} يَعْنِي تَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ مُبَادِرًا أَنْ يَبْلُغَ فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] يَعْنِي بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فليأكل بالمعروف} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لِلْفَقِيرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقَرْضُ يَسْتَقْرِضُ ثُمَّ يَقْضِي إِذَا وَجَدَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَيَلْبَسُ مَا وَارَى الْعَوْرَةَ وَلَا قَضَاءَ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ. وَمَكْحُولٍ وَقَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ رَسْلِ مَاشِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعْلُومَةً عَلَى قَدْرِ خِدْمَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَجْرِ أَيْضًا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يستطع أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . أَمَّا السَّفِيهُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجَاهِلُ بِالصَّوَابِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لَهُ فِي الْجِهَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ. أَمَّا الضَّعِيفُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. " أَمَّا الَذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْأَخْرَسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْخَرَسَ وَالْغَيْبَةَ لَا يُوجِبَانِ الْحَجْرَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ وَلِيَّ الْحَقِّ وَهُوَ صَاحِبُهُ أَنْ يَعْدِلَ فِي إِمْلَائِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى وَلِيِّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيمَا لَزِمَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] بِمَعْنَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ. فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى الْحَجْرِ. أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ وَهُمَا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِمْلَاءِ عَنِ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنَّهُ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ بِدَيْنِهِ) فَلَمَّا أَوْقَعَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ وُقُوعُهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدَعُ فِي بِيَاعَاتِهِ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ عقوده منبرمة وجعل له خيار ثلاث وَقَالَ لَهُ: " إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَإِجْمَاعُ بَاقِي الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ حَتَّى كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا سَنَذْكُرُهُ. (فصل: القول في أسباب الحجر) فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحَجْرُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثمانية أوجه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 أَحَدُهَا: حَجْرُ الصِّغَرِ. وَالثَّانِي: حَجْرُ الْجُنُونِ. وَالثَّالِثُ: حَجْرُ السَّفَهِ. وَالرَّابِعُ: حَجْرُ الْفَلَسِ. وَالْخَامِسُ: حَجْرُ الْمَرَضِ. وَالسَّادِسُ: حَجْرُ الرِّدَّةِ. وَالسَّابِعُ: حَجْرُ الرِّقِّ. والثامن: حجر الكتابة. وينقسم الحجر إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ بِهِ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَحَجْرُ السَّفَهِ. وَقِسْمٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ وَحَجْرُ الْمَرَضِ وَحَجْرُ الرِّقِّ وَحَجْرُ الْكِتَابَةِ. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ حجر الردة. (أقسام الحجر باعتبار أثره) ثُمَّ هِيَ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَجْرُ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ. وَقِسْمٌ يَثْبُتُ الْحَجْرُ فِيهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ حَجْرُ الْفَلَسِ وَالْمَرَضِ وَالرِّدَّةِ وَالرِّقِّ وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعٌ. وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْكِتَابُ بِحَجْرِ الصِّغَرِ وَحَجْرِ السَّفَهِ. (الْقَوْلُ فِي عَلَامَاتِ وَزَمَانِ البلوغ) 1 - البلوغ بالاحتلام: (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْبُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ الغلام أو تحيض الجارية قبل ذلك وقال الله تبارك وتعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فليملل وليه بالعدل} فأثبت الولاية على السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل هو وأمر وليه بالإملاء عنه لأنه أقامه فيما لا غنى به عنه في ماله مقامه وقيل الذي لا يستطيع يحتمل أن يكون المغلوب على عقله وهو أشبه معانيه به والله أعلم ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثُمَّ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الصِّغَرِ وَحَدِّ الصِّغَرِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ والنساء وهي: الاحتلام، والإنبات، وَالسِّنُّ، وَشَيْئَانِ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ. فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَإِنَّمَا كَانَ بُلُوغًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْهَا الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَالِاحْتِلَامُ هُوَ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ فِي الْغِلْمَانِ عَشْرُ سِنِينَ، وَفِي الْجَوَارِي تِسْعُ سِنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْإِنْبَاتُ فَقَدْ مَنَعَ أبو حنيفة أَنْ يَكُونَ لَهُ بالبلوغ تعلق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. فَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ حَدًّا لِبُلُوغِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْوَجْهِ بُلُوغًا فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْعَانَةِ بُلُوغًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا أَنَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا مِنْ حُصُونِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَعْدٌ حُكْمِي فِيهِمْ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى قُتِلَ وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ " لِأَنَّ السَّمَاءَ رُقَعٌ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْعَانَةِ وَالْإِنْزَالَ يَخْتَصَّانِ بِعُضْوٍ يَحْدُثَانِ عِنْدَ وَقْتِ الْبُلُوغِ بِالْإِنْزَالِ شَرْعًا وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنْبَاتِ شَرْعًا. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ شَرْعًا كَالْإِنْزَالِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْعَانَةِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ حُجَّةٌ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْإِنْبَاتَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهَلْ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالْإِنْزَالِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دلالة على بلوغهم، لأن سعد جَعَلَهُ دَلِيلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِسِنِّهِمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 فَعَلَى هَذَا هَلْ هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن المشرك تغلظ أحكامه ببلوغه كوجوب قَتْلِهِ وَأَخْذِ جِزْيَتِهِ فَانْتَفَتْ عَنْهُ التُّهْمَةُ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ. وَالْمُسْلِمُ تُخَفَّفُ أَحْكَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي فَكِّ حَجْرِهِ وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ فَصَارَ مُتَّهَمًا فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دعت إلى جعل الإنبات بلوغا في المشرك لِأَنَّ سِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِهِ وَخَبَرُ الشركِ لَا يُقْبَلُ. وَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي سِنِّهِ مَقْبُولٌ. ثُمَّ لَا اعْتِبَارَ فِي الْإِنْبَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَعْرًا قَوِيًّا فَأَمَّا إِنْ كَانَ زغبا فلا فلو أن غلاما من المسلمين نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى عَانَتِهِ فَشَهِدَ لَهُ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ بُلُوغُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِنْبَاتَ يَكُونُ بُلُوغًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ. وَإِنْ كَانَ سِنُّهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِنْبَاتَ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ إِذَا عُلِمَ نُقْصَانُ سِنِّهِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا السِّنُّ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بالاحتلام وغلظ الصوت وانشقاق الغضروف لأن البلوغ يختلف بحسب اختلاف الحلق وَتَبَايُنِ النَّاسِ كَاخْتِلَافِ أَعْمَارِهِمْ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اخْتِلَافِهِ حَدًّا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ بَالِغًا مِنَ السِّنِّ وَفِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ بُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبُلُوغُ الْغُلَامِ بِثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبَانِ اسْتِصْحَابَ الصِّغَرِ إِلَى الِاحْتِلَامِ وَتَعْلِيقِ التَّكْلِيفِ بِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ". ثُمَّ كَانَ هَذَا السِّنُّ مُجْمَعًا عَلَى الْبُلُوغِ بِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا دُونَهُ مردودا بظاهر الثمن. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ بَدْرٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ولم يرني بلغت وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ. فَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ عَلِمَ أَنَّ إِجَازَتَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَعْنًى ثُمَّ يُجِيزُهُ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَجَازَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْمُقَاتِلَةِ وَهُمُ الْبَالِغُونَ وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنَّ هَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أن يكون ابن عمر بلغ خمس عشرة سنة بِالِاحْتِلَامِ لَا بِالسِّنِّ قِيلَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْقُولَ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ. كَمَا نُقِلَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَا فَرُجِمَ. وَالسَّبَبُ الْمَنْقُولُ هُوَ السِّنُّ فَعُلِمَ أَنَّ الْبُلُوغَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّدَّ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لِلضَّعْفِ وَالْإِجَازَةَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْقُوَّةِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: " عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّنِي وَأَجَازَ غُلَامًا فَقُلْتُ رَدَدْتَنِي وَأَجَزْتَهُ وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ، فَقَالَ صَارِعْهُ فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَجَازَنِي ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ وَالْإِجَازَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ. قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ لِلضَّعْفِ وَالْإِجَازَةُ لِلْقُوَّةِ حَمْلًا لَهُ عَلَى سَبَبِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عمر للسن حملا على سببه. فإن قيل: لحديث ابْنِ عُمَرَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَةً وَقَدْ رَوَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ. قُلْنَا: نَقْلُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ الْوَاقِدِيِّ. وَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ عَلَيْهِ عام أحد وهو في أول ستة أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَعُرِضَ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ في آخر ستة خمس عشرة فصار بينهما سنتان فإن قيل إن ابن عُمَرَ لَا يَعْرِفُ سِنَّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ ير قط وِلَادَته فَلَمْ يَصِحَّ إِخْبَارُهُ بِهِ، قُلْنَا لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا حَتَّى لَا يَجُوزَ الْإِخْبَارُ بِهِ لَمَا جَازَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِنَسَبِهِ، وَلَمَا جَازَ بِأَنْ يَقُولَ أَنَا ابْنُ عُمَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ وِلَادَةَ نَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِ عُمَرَ. فإن قيل: فقد يعلم بنسبه بالاستعاضة قيل وقد يعلم بسنه بالاستعاضة. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشرَةَ سنة كتب ماله وَمَا عَلَيْهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ ". وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَبِمَا ذَكَرْنَا يَفْسُدُ وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِمْ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ بُلُوغِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَأَنَّ لِلسِّنِّ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ الْبُلُوغُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالِاحْتِلَامِ. وَلِأَنَّ الضَّعْفَ مَعْنًى يُوجِبُ الْحَجْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالْجُنُونِ وَلِأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِهِ تَصَرُّفُهُمَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ وَلَا يَتَفَاضَلَا كَالرُّشْدِ، وَلِأَنَّهُ حَالٌ لَوْ أَسْلَمَ فِيهَا صَحَّ إِسْلَامُهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِبُلُوغِهِ كَالثَّمَانِيَ عَشْرَةَ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِخَمْسَ عَشرَةَ سَنَةً فَإِنَّمَا يَعْنِي السِّنِينَ الْقَمَرِيَّةَ الَّتِي كُلُّ سَنَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلَالًا. وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَكَذَا لَا مِيرَاثَ لَهُ حَتَّى يَنْفَصِلَ جَمِيعُهُ حَيًّا مِنَ الرَّحِمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْمَوْلُودِ مِنَ الرَّحِمِ فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ أَوَّلَ سَنَةٍ. وَإِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ عِنْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ بَاقِيهِ مَيِّتًا وَرِثَ. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَالٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ لَمْ يَزَلْ حُكْمُهَا إِلَّا بِالِانْفِصَالِ عَنْهَا كَالْإِيمَانِ. وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ لَمَّا أَوْجَبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَمْ تَنْقَضِ إِلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الولادة لتنافيهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 (فَصْلٌ) أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ بُلُوغٌ فِي النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا " فَجَعَلَهَا بِالْحَيْضِ عَوْرَةً يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِالْحَيْضِ صَارَتْ بَالِغَةً. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَا بِخِمَارٍ " يَعْنِي بَلَغَتْ وَقْتَ الْحَيْضِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ كَوْنَهَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَصِحُّ مِنْهَا الصَّلَاةُ بِحَالٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحَمْلُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَ بِبُلُوغٍ فِي نَفْسِهِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خلق من ماء دافق يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7، 8] ، يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا خلقناه من نطفة أمشاج نبتليه} [الدهر: 2] أَيْ أَخْلَاطٍ فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْ ماءيهما دل الحمل على تقدم إنزالهما فصار دليلا على تقدم بلوغهما. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ إِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْإِنْزَالِ. وَحَالٌ يَنْفَرِدُ بِالْحَيْضِ. وَحَالٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْإِنْزَالِ. فَإِذَا أَنْزَلَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهَا مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا. وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ بُلُوغًا. وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَفَرْجِهِ جَمِيعًا كَانَ بَالِغًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ أَنْزَلَتْ مِنْ فَرْجِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 فَإِنْ حَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا بِحَالٍ سَوَاءٌ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فَرْجَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَنَزَلَ وَحَاضَ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ فلا يكون بلوغا لجواز أن يكون رجلا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ وَالْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ فَرْجِهِ وَالدَّمُ من ذكره فلا يكون بلوغا فجواز أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ ذَكَرِهِ بُلُوغًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَالْحَيْضُ مِنْ فَرْجِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ أَنْزَلَ مِنْ ذَكَرِهِ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ وَلَوْ حَاضَ أَوِ احْتَلَمَ فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَلَوْ حَاضَ وَاحْتَلَمَ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، فَأَمَّا بُلُوغُهُ بِالْإِنْبَاتِ فَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ وَفِي المسلمين على ما ذكرنا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا أمر الله جل وعز بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ بِأَمْرَيْنِ لَمْ يُدْفَعْ إليهم إلا بهما وهو الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالرُّشْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْيَتِيمُ لَا يَنْفَكُّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ وَمَالِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فُكَّ حَجْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَذِّرًا. فَيُسْتَدَامُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ يُفَكُّ حَجْرُهُ. وَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ صَحَّ تَصَرُّفُهُ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . فَذَكَرَ الرُّشْدَ مُنَكَّرًا فَاقْتَضَى رُشْدًا " مَا " وَصَلَاحُهُ لِمَالِهِ فِي حَالَة " مَا " نَوْعٌ مِنَ الرُّشْدِ. وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ غَيْرُ مُبَذِّرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهُ كَالرَّشِيدِ فِي دِينِهِ. وَلِأَنَّ بُلُوغَ الْكَافِرِ عَاقِلًا يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ مَعَ عَدَمِ الرَّشَادِ فِي دِينِهِ فَالْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 عَاقِلًا أَوْلَى بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْيَتِيمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَنِكَاحِهِ فَلَمَّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ نِكَاحِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا. وَجَبَ أَنْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَأَمَرَ بِدَفْعِ أموالهم إليهم بشرطين: البلوغ والرشد. فلم يجز أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِوُجُودِ الرشد دون البلوغ فمن لَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا فِي دِينِهِ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالرُّشْدُ هُوَ الْعَقْلُ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن الرشد عرفا مستعملا فِي صَلَاحِ الدِّينِ وَالْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْضَ شَرَائِطِ الرُّشْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِاخْتِبَارِهِ قَبْلَ الرُّشْدِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارٍ لِظُهُورِ أَمْرِهِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ أَمْرُهُ لِيَحْتَاجَ إِلَى اخْتِبَارٍ أَوْلَى وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اقْبِضُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ ". وَالْعَادِمُ لِلرُّشْدِ سَفِيهٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَلَى يَدِهِ مَمْنُوعًا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ وَلِأَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَالِهِ كَالْمَجْنُونِ أَوِ الْمُبَذِّرِ قَبْلَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ كَالصَّغِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحَيْ رُشْدِهِ وَهُمَا صَلَاحُ نَفْسِهِ بِالدِّينِ وَصَلَاحُ مَالِهِ بِالْقَصْدِ فَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ مَالِهِ بِالْبُلُوغِ مُعْتَبَرًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَلَاحُ نَفْسِهِ مُعْتَبَرًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا لَنَا وَمَا حَمَلُوهَا عَلَيْهِ مِمَّا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ رُشْدٍ. " مَا " غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ رُشْدٌ وَدَفْعُ الْأَذَى مِنَ الطَّرِيقِ رُشْدٌ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرُوا لَا يَكُونُ رُشْدًا مُطْلَقًا وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّشِيدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ النِّكَاحِ " وَالْمَالِ " فَهُمَا سَوَاءٌ مَتَى لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ نِكَاحِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ رَشِيدٌ فِي دِينِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الرُّشْدَ هُوَ أَنْ يَنْتَهِيَ عَمَّا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَيَفْعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُسْنَهُ وَوُجُوبَهُ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي رُشْدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْغَيْرُ مِنْ قُبْحٍ وَحَظَرٍ فَكَانَ اسْمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 الرُّشْدِ مُنْطَلِقًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الرُّشْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ فَاسِقًا فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. كَمَا يَلِي الْكَافِرُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ وَلَا يَلِي الْفَاسِقُ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَعَ إِصْلَاحِ الْمَالِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّهَادَةُ جَائِزَةً مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَلَا يَرْتَكِبُ مَحْظُورًا وَلَا يَأْتِي قَبِيحًا وَلَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرُّشْدِ جَائِزَةً لِظُهُورِ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ وَانْتِشَارِ سِدَادِهِ عِنْدَ أَكْفَائِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِصْلَاحُ الْمَالِ بِأَنْ يُخْتَبَرَ الْيُتْمَانُ وَالِاخْتِبَارُ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ حَالِ الْمُخْتَبَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَذِلُ فَيُخَالِطُ النَّاسَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ فَيَقْرُبُ اخْتِبَارُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارَهُ أَبْعَدُ فَيُخْتَبَرُ فِي نَفَقَتِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ إِنْفَاقَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَشِرَاءَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْ يُدْفَع إِلَيْهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ فَإِذَا أَحْسَنَ تَدْبِيرَهُ وَتَوْفِيرَهُ وَلَمْ يُخْدَعْ عَنْهُ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَاخْتِبَارُ الْأَيْتَامِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي زَمَانِهِ. وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ. فَأَمَّا زَمَانُ الِاخْتِبَارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ وَتَصِحُّ فِيهِ عُقُودُهُ وَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخْتَبَرُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِيَصِلَ إِلَى قَبْضِ مَالِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ. كَمَا لَزِمَ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ قَبْلَ البلوغ حتىلا يَتَأَخَّرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ تَشَاغُلًا بِالتَّعْلِيمِ. فَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَفِي كَيْفِيَّةِ اخْتِبَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ يُعْطِيهِ مَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ يَسِيرِ الْمَالِ. فَيَبِيعُ بِهِ وَيَشْتَرِي وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَتِيمَ يُبَاشِرُ بِمَا دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ الْمُسَاوَمَةَ وَتَقْدِيرَ الثَّمَنِ وَاسْتِصْلَاحَ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ تَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ الْعَقْدُ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا صِفَةُ الِاخْتِبَارِ فَقَدْ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِدِينِهِ وَهُوَ لُزُومُ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبُ الْمَحْظُورَاتِ وَتُوَقِّي الشُّبُهَاتِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ اخْتِبَارًا لِمَالِهِ وَهُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الِاكْتِسَابِ وَالْقَصْدِ فِي الْإِنْفَاقِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرِكًا فِي اخْتِبَارِ دِينِهِ وَمَالِهِ وَهُوَ حَالُهُ فِيمَنْ يُصَاحِبُ مِنَ النَّاسِ أَوْ يُخَالِطُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُولَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً. فَأَمَّا الْغُلَامُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُسْتَبْذَلُ بِدُخُولِ الْأَسْوَاقِ. أَوْ مِمَّنْ يُصَانُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْأَسْوَاقَ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي دُخُولِ السُّوقِ الَّتِي تَلِيقُ بِمِثْلِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ وَرَاعَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ. فَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِيهَا حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهَا لَا يُغْبَنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُ بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى مِنْهُ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلِمَ صِحَّةَ قَصْدِهِ فِيهِ كَالْكَلْبِ إِذَا عُلِّمَ فَأَمْسَكَ مَرَّةً لَمْ يَصِرْ مُعَلَّمًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ صَارَ قَصْدًا فَصَارَ مُعَلَّمًا. فَإِذَا رَآهُ الْوَلِيُّ مِرَارًا يَمْضِي عَلَى شَاكِلَتِهِ فِي الْقَصْدِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ وَحُسْنِ التَّقْدِيرِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي الْمَالِ. وَإِنْ رَآهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَصْدِ وَحُصُولِ الْغَبْنِ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُصَانُ عَنِ الْأَسْوَاقِ فَاخْتِبَارُهُ أَشَدُّ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ نَفَقَةُ يَوْمٍ ثُمَّ مِنْ بعدها نفقة أسبوع ثم نفقة شهر. ورعاه الْوَلِيُّ فِي تَقْدِيرِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِهَا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيْعَةٍ أَذِنَ لَهُ فِي تَدْبِيرِهَا. فَإِنْ رَآهُ مُصِيبَ الرَّأْيِ فِيهَا وَاضِعًا لِلْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا يُقَدِّرُ النَّفَقَةَ عَلَى وَاجِبِهَا عَلِمَ رُشْدَهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ رَآهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِيهِ فَهَذَا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي الْمَالِ. وَأَمَّا اخْتِبَارُ رُشْدِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ بِمُرَاعَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَمُصَاحَبَةِ مَنْ يُخَالِطُ وَيُمَاشِي، فَإِنْ كَانَ مُقْبِلًا عَلَى عِبَادَاتِهِ فِي أَوْقَاتِهَا الرَّاتِبَةِ مُجَانِبًا لِلْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ مُمَاشِيًا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مُحَافِظًا عَلَى مُرُوءَةِ مِثْلِهِ عَلِمَ رُشْدَهُ فِي دِينِهِ. وَإِنْ كَانَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي الدِّينِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 فَإِذَا اجْتَمَعَ رُشْدُهُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ وَجَبَ فَكُّ حَجْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِرُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ لَمَّا ثَبَتَتْ بِغَيْرِ حُكْمٍ ارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِأَمِينِ حَاكِمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ بِحُكْمٍ لَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لِوَصِيِّ أَبٍ أَوْ جَدٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ كَالْأَبِ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ بِغَيْرِ حُكْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمٍ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِغَيْرِهِ كَأَمِينِ الْحَاكِمِ. فَإِذَا صَارَ مَفْكُوكَ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ تَسْلِيمُ مَالِهِ إِلَيْهِ فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ صَارَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ عَقَدَ لَهُ فِيهِ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَ عَقْدُهُ بَاطِلًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أُجْرَةً بِحَقِّ قِيَامِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ أَجْرَ مثله بحق قيامه عليه. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] يَعْنِي بِمَالِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ قِيَامِهِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَا فَقِيرٌ دُونَ غَنِيٍّ كَسَائِرِ الْأُجُورِ. وَتَكُونُ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَاخْتِبَارُ الْمَرْأَةِ مَعَ عِلْمِ صَلَاحِهَا لِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَبْعَدُ فَتَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ وَذَوُو الْمَحَارِمِ بِمِثْلِ مَا وَصَفْتُ فَإِذَا أُونِسَ مِنْهَا الرُّشْدُ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ كَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْغُلَامِ نَكَحَ أَوْ لم ينكح لأن الله تبارك وتعالى سوى بينهما في دفع أموالهما إليهما بالبلوغ والرشد ولم يذكر تزويجا واحتج الشافعي في الحجر بعثمان وعلي والزبير رضي الله عنهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: وَاخْتِبَارُ الْجَارِيَةِ فِي رُشْدِهَا أَصْعَبُ مِنَ اخْتِبَارِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغُلَامِ أَظْهَرُ وَحَالَ الْجَارِيَةِ أَخْفَى وَالَّذِي يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهَا ذَوُو مَحَارِمِهَا وَنِسَاءُ أَهْلِهَا بِخِلَافِ الْغُلَامِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَوَلَّى اخْتِبَارَهُ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا. وَحَالُ النِّسَاءِ أَيْضًا يَخْتَلِفُ فِي الْبُرُوزِ وَالْخُفْيِ فَيُدْفَعُ إِلَيْهما مِنْ مَالِهَا مَا تَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَفِي تَدْبِيرِ خَدَمِهَا وَمَنْزِلِهَا فَإِذَا وُجِدَ مِنْهَا الْقَصْدُ فِي جَمِيعِهِ وَأَصَابَتْ تَدْبِيرَ مَا يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ أُمُورِ الْمَنَازِلِ وَاسْتِغْزَالِ الْكِسْوَاتِ مَعَ صَلَاحِ رُشْدِهَا فِي الدِّينِ عُلِمَ رُشْدُهَا وَوَجَبَ فَكُّ حَجْرِهَا سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَكَّ حَجْرُهَا حتى تتزوج، ولا يجوز تصرفها بعد التزويج إلا أن تصير عجوزا معنسة. إلا بإذن الزوج. وَاسْتُدِلَّ عَلَى بَقَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَبُلُوغُ النِّكَاحِ هُوَ التَّزْوِيجُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي فَكِّ الْحَجْرِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] . وَبِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بَعْدَ أَنْ ملك الزوج عصمتها بِإِذْنِهِ ". وَهَذَا نَصٌّ وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ". وَلِأَنَّ مَالَ الزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ مَقْصُودٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِزِيَادَةِ صَدَاقِهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا وَقِلَّتِهِ لِقِلَّةِ مَالِهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ مَنْعَهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَبُلُوغُ النِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ بُلُوغُ زَمَانِهِ كَالْغُلَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثَالِثٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ. وَلِأَنَّ مَا انْفَكَّ بِهِ الْحَجْرُ بَعْدَ التَّزْوِيجِ انْفَكَّ بِهِ حَجْرُ الْجَارِيَةِ كَالْمُزَوَّجَةِ وَلِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ جِهَازِهَا وَنَفَقَةِ نَفْسِهَا وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهَا وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا. وَالْغُلَامُ ضِدُّهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّزْوِيجِ أَسْمَحُ لِقِلَّةِ مَؤُونَتِهِ وَبَعْدَ التَّزْوِيجِ أَشَحُّ لِكَثْرَةِ مَؤُونَتِهِ، فَلَمَّا جَازَ فَكُّ الْحَجْرِ عَنِ الْغُلَامِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَسْمَحِ حَالَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يُفَكَّ حَجْرُ الْجَارِيَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فِي أَشَحِّ حَالَيْهَا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ مَا رُوِيَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ عَلَى النَّسَاءِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ بِخَاتَمِهَا وَقُرْطِهَا. وَلَمْ يُعْتَبَرْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 فِيهِ إِذْنُ زَوْجِهَا، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَ مَالِهِ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ كَالْغُلَامِ؛ وَلِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقًّا فِي يَسَارِ الزَّوْجِ فِي زيادة النفقة مَا لَيْسَ لِلزَّوْجِ فِي يَسَارِ الزَّوْجَةِ فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ مَعَ حَقِّهَا فِي يَسَارِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِيَسَارِهَا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا فَكَانَ جَوَابًا عَنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ. وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَتْ تَلْتَمِسُ الْقِصَاصَ فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا الْقِصَاصَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] . ثُمَّ نَزَلَتْ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] . فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُبَذِّرَةِ إِذَا وَلِيَ الزَّوْجُ الْحَجْرَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةُ شَيْءٍ إِلَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الزَّوْجِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْمَهْرَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ مَالِهَا وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلِأَجْلِ مَا يَعُودُ فِي الزَّوْجِ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَالِ بِالْإِرْثِ وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا أَنْ يَحْجُرَ عَلَى مَنْ قَارَبَ الْبُلُوغَ وَقَدْ عَقَلَ نَظَرًا لَهُ وَإِبْقَاءً لِمَالِهِ فَكَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِمَالِهِ وأكثر إتلافا له لَا يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بِهِ فِيهِ قَائِمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: السَّفِيهُ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا. وَقَالَ أبو حنيفة وزفر: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا مُبَذِّرًا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ وَنَهَى عَنِ الْإِمْسَاكِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] . وَقَالَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس لك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ " فَكَانَ ذَلِكَ حَثًّا مِنْهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِلْمَالِ وَتَرْكِ إِمْسَاكِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ " فَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ كَغَيْرِ الْمُبَذِّرِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ كَالْمَجْنُونِ وَمَنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي إِقْرَارِهِ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي عُقُودِهِ كَالرَّشِيدِ. فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحَّ فِي مَالِهِ وَعُقُودِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ. وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي مَالِهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِبْطَالُ عُقُودِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. فَأَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ فِي غَيْرِهِ أَنْ يُبْطِلَ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] الْآيَة. وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ، لأن السفه صفة قيام لَا تَتَوَجَّهُ إِلَّا عِلْمًا مُكَلَّف فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمُ الْقِيَامَ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، ولا يجوز أن يتولى ذلك الأولى. وقوله تعالى: {أموالكم} يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لِتَصَرُّفِهِمْ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا وَلَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . فَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْتَاعُ وَكَانَ فِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَصْبِرُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ بِأَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي عُقُودِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مُنْبَرِمَةً. وَالثَّانِي: سُؤَالُهُمُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَإِمْسَاكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْإِنْكَارِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ " وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِلَّا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ. وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ فَكَانَ الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَرْضٍ سَبِخَةٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: كَانَتْ لِفُلَانٍ وَاشْتَرَاهَا عبد الله بن جعفر بسنين أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَكُونَ لِي بِنَعْلَيْنِ. ثُمَّ رَأَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لِمَ لَا تَقْبِضُ عَلَى يَدِ ابْنِ أَخِيكَ وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِذَلِكَ فَلَقِيَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَذَكَرَ لَهُ الْحَالَ فَقَالَ شَارِكْنِي فِيهَا فَشَارَكَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ الْحَجْرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى مَنْ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ. وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْسَاكِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَصَارَتْ شَرِكَتُهُ شُبْهَةً تَنْفِي اسْتِحْقَاقَ الْحَجْرِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِنْ بَاقِي الصَّحَابَةِ فِي إِمْسَاكِهِمْ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا تُبَذِّرُ مَالَهَا في العطايا والصلاة وَالصَّدَقَاتِ فَقَالَ: لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ حَتَى رَكِبَ إِلَيْهَا فَاعْتَذَرَ لَهَا وَكَفَّرَتْ عَنْ يَمِينِهَا وَكَلَّمَتْهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْبَالِغِ مَشْهُورٌ، فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وهم في موجبه لأن عن مَنْ صَرَفَ مَالَهُ فِي الْقُرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْحَجْرَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ رَاسَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّدْبِيرِ وَوُجُودَ التَّبْذِيرِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحَجْرِ كَالصَّغِيرِ: وَلِأَنَّ مَا يُسْتَدَامُ بِهِ الحجر لاستدامته وجب إذا طرأ أن يبتدئ الْحَجْرُ بِهِ كَالْجُنُونِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَهُوَ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ دُونَ التَّبْذِيرِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نُهِي عَنْهُ وَدَلَّ عَلَى قُبْحِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَجْرَ عَلَى حُرٍّ ". فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَلَوْ صح لاحتمل حجر حَجْرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرشيد فالمعنى فيه فيه وجود الإصلاح منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ على نفسه فالمعنى فيه انتقاء التهمة عنه فيما يتعلق بنفسه ولحقوقها فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ كَالْعَبْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُقُودِ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُبْطِلْ عُقُودَهُ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ الْعُقُودِ مِنْهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذِي الْمَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَهَذَا هُوَ الرَّشِيدُ الَّذِي يَجُوزُ أمره وتصح عقوده. والحال الثاني: أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِظُهُورِ فِسْقِهِ فِي مَالِهِ لِظُهُورِ تَبْذِيرِهِ فَهَذَا هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ أحوال التبذير. والحال الثالث: أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا لِدِينِهِ مُفْسِدًا لِمَالِهِ بِالتَّبْذِيرِ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَبْذِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِالْغَبْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي بَيُوعِهِ وَأَشْرِيَتِهِ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الْمَعَاصِي فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّبْذِيرُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ وَالصِّلَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا وَهُوَ فِيهِ مَأْجُورٌ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ تَبْذِيرُهُ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَالْإِسْرَافِ فِي مَلْبُوسِهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي شَهَوَاتِهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ فِي جَمِيعِهَا الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ وَالْقَدْرَ الْمَعْرُوفَ فَفِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْفَاقٌ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَجْرَ عَلَيْهِ في ذلك لإباحته فهذا حكم الحال الثالث. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ لِفِسْقِهِ وَفُجُورِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ بأنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَسَادُ الدِّينِ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ كَالْفَسَادِ فِي الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ بِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ وَعَدَمِ ابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ بِإِفْسَادِ الدِّينِ بِأَنَّ الصَّغِيرَ قَدْ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِرُشْدٍ كَامِلٍ وَالْكَبِيرُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ إِلَّا بِسَفَهٍ كامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 (فَصْلٌ) فَأَمَّا الشَّحِيحُ الَّذِي يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ حَسْبَ كِفَايَتِهِ وَلَا يَلْبَسُ بِقَدْرِ حَالِهِ شُحًّا عَلَى نَفْسِهِ وَبُخْلًا وَحُبًّا لِلْمَالِ وَجَمْعًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُوجِبَانِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالشُّحِّ وَالتَّقْصِيرِ كَمَا يُوجَبُهُ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ. لأن الله تعالى فقد نَهَى عَنْهُمَا فَقَالَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يُفِيدُ جَمْعَ الْمَالِ وَإِمْسَاكَهُ لَا إِنْفَاقَهُ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ. فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عُقُودِهِ وَلَا كَفَّهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَلَكِنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ جَبْرًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ إِخْفَاءُ مَالِهِ لِعِظَمِ شُحِّهِ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَجَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ حَجْرِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لِأَنَّ ثُبُوتَ السَّفَهِ يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلسَّفِيهِ أَبٌ وَأُمٌّ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ سَفَهِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ. وَحَجْرُ السَّفَهِ أَعَمُّ مِنْ حَجْرِ الْفَلَسِ لِأَنَّ حَجْرَ الْفَلَسِ يَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَالِهِ وَحَجْرُ السَّفَهِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ عُقُودِهِ. فَيَقُولُ فِي السَّفَهِ قد حجزت عَلَى فُلَانٍ بِخِلَافِ الْفَلَسِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَجْرِ أَعَمُّ. فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا عَلَى مَا مَضَى أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَهَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الحجر عليه أم لا على وجهين: أحدهما: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْحَجْرَ حُكْمٌ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَجْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ إِظْهَارُ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحَصَّلُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ الْحَجْرُ قَبْلَ الْإِشْهَادِ. وَيَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فَإِذَا أَشْهَدَ فَقَدْ تَمَّ الْحَجْرُ. وَيُخْتَارُ لَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أشهر لأمره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 فَإِنْ لَمْ يُنَادِ فِيهِمْ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ جَازَ وكان تصرفه بعد الإشهاد مردود أو سواء أَظْهَرَ الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ أَوْ كَتَمَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مُبَايَعَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْبَائِعُ انْتُزِعَ مَا بَاعَ مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يده الْمُشْتَرِي كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الْمُشْتَرِي كَانَ لِبَائِعِهِ انْتِزَاعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِ السَّفِيهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّفِيهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. لِأَنَّ مَنْ عَامَلَهُ مَعَ ظُهُورِ حَالِهِ صَارَ هُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ. وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ فُتْيَا لَا حُكْمًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَالِكِ لِمُعَامَلَتِهِ رِضًا مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ اسْتِهْلَاكَ مَالٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَلَكِنْ لَوْ ضَمِنَ مَالًا بَطَلَ ضَمَانُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْغُرْمُ حُكْمًا وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا وَاحِدًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمَانِ اسْتِهْلَاكٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ إِذَا بَطَلَ سَقَطَ حُكْمُهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا عَقْدُ الْخُلْعِ فَيَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَحْرَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِعِوَضٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ مَالٍ مَحْضٍ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ خَلْعِهِ أَنْ تُسَلِّمَ الزَّوْجَةُ مَالَ الْخَلْعِ إِلَيْهِ وَتُسَلِّمُهُ إِلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ. فَإِنْ قَبَضَهُ السَّفِيهُ فَبَادَرَ الْوَلِيُّ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجَةِ. وَإِنْ أَتْلَفَهُ السَّفِيهُ كَانَ الْحَقُّ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ وَعَلَيْهَا دَفْعُهُ ثَانِيَةً إِلَى الْوَلِيِّ وَلَا رُجُوعَ لَهَا عَلَى السَّفِيهِ بِمَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ. وَهَكَذَا إِذَا قَبِلَ السَّفِيهُ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَقْبَضَهُ ذَلِكَ غُرْمُ الْوَصِيَّةِ دُونَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ بِقَبُولِهِ فَيُلْزَمُ غُرْمَهَا لَهُ وَلَمْ يَمْلِكِ الْهِبَةَ بِقَبُولِهِ فَلَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مُسْتَأْجِرًا كَانَ أَوْ مُؤَجِّرًا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 فَإِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ عَمَلِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ صَانِعًا وَعَمَلُهُ مَقْصُودٌ فِي كَسْبِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَتَوَلَّى الْوَلِيُّ الْعَقْدَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ وَكَالَةٍ فِي عَمَلٍ وَلَيْسَ عَمَلُهُ مَقْصُودًا فِي كَسْبِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَالِهِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْ غَيْرِهِ بهذا العمل فأولى أن يجوز منه بعضو. (فَصْلٌ) فَأَمَّا هِبَتُهُ وَعِتْقُهُ وَكِتَابَتُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَلَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّدْبِيرُ وَالْوَصِيَّةُ. لِأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ بِالْمَوْتِ. فَلَوْ مَرِضَ السَّفِيهُ وَأَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَجْرُ السَّفَهِ أَوْ حَجْرُ الْمَرَضِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَغْلِبُ حَجْرُ السَّفَهِ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ وَلِأَنَّ حُدُوثَ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْحَجْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ أَغْلَبُ لِأَنَّهَا حَالٌ تَسْتَحِقُّ حِفْظَ الْمَالِ فِيهَا لِلْوَارِثِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ مَاضِيًا فِي ثُلُثِهِ كَالْمَرِيضِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مُدَايَنَاتُهُ فَتَنْقَسِمُ ثلاثة أقسام: [الأول] : قِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَالْقَرْضِ وَمُهُورِ الزَّوْجَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ فَهَذَا لَا يَضْمَنُهُ وَغُرْمُهُ لا يلزمه. [الثاني] وَقِسْمٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِلَا اخْتِيَارِ أَرْبَابِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمَتْلَفَاتِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَيَلْزَمُهُ غُرْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ الصَّبِيَّ والمجنون، فأولى أن يجب على السفيه. [الثالث] : قِسْمٌ يَكُونُ السَّبَبُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَحُصُولُ الْوُجُوبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالْوَدِيعَةِ إِذَا تَلِفَتْ وَالْعَارِيَةِ إِذَا اسْتُهْلِكَتْ فَلَا يَخْلُو تَلَفُ ذَلِكَ وَهَلَاكُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ السَّفِيهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَانَ ضَمَانُهُ هَدْرًا وَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ، لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِ قَدْ عَرَّضَهُ لِهَلَاكِهِ. وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِفِعْلِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَهَا أَوِ اسْتَهْلَكَ الْعَارِيَةَ الَّتِي اسْتَعَارَهَا فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: غُرْمُهُ عَلَى السَّفِيهِ وَاجِبٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِقْرَارُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَلْزَمُ. وَقِسْمٌ لَا يَلْزَمُ. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٍ فِي لُزُومِهِ. فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِبَدَنِهِ كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قَوْدًا فَيسْتَوْفي ذَلِكَ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا لَمْ يَقَعِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ. فَلَوْ عَفَا مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْقَوْدِ إِلَى الْمَالِ ثَبَتَ لَهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِقَوْدٍ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ. وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِابْنٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ فَلَوْ أَقَرَّ بِابْنِ أَمَةٍ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَصَارَ حُرًّا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِقْرَارُهُ بِهِ بَاطِلٌ لَا يُثْبِتُ نَسَبًا وَلَا يُوجِبُ عِتْقًا. وَقَالَ محمد بن الحسن: يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَصِيرُ حُرًّا يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ. وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِهِ مُقِرًّا. وَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ لِحُصُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَنْ إِتْلَافٍ لَزِمَ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مُعَامَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَلَوْ فُكَّ حَجْرُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحُكْمِ مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ. وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ قَدْ لَزِمَهُ قَبْلَ حَجْرِهِ بِقَرْضٍ كَانَ اقْتَرَضَهُ أَوْ بَيْعٍ كَانَ ابْتَاعَهُ لَزِمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَدَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لُزُومُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَفِي لُزُومِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ بِهِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: جِنَايَاتُ الْخَطَأِ عَلَى النُّفُوسِ فَفِي لُزُومِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَالِ كَإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَلْزَمُ بِإِقْرَارِهِ لِتَغْلِيظِ النُّفُوسِ وَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَمْدُهَا بِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ خَطَؤُهَا بِإِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ السَّرِقَةُ يُقِرُّ بِهَا فَفِي لُزُومِهَا وَوُجُوبِ غُرْمِهَا بِإِقْرَارِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَلْزَمُ وَيَجِبُ غُرْمُهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ الَّذِي يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُ فِي إِقْرَارِهِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ أَصْلَ إِقْرَارِهِ إِنَّمَا هُوَ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ. فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ: فَأَمَّا إِقْرَارُ وَلَيِّهِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ وَلَا فِيمَا وَجَبَ فِي الْمَالِ عَنْ جِنَايَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَا فِيمَا تَوَلَّاهُ السَّفِيهُ مِنْ عُقُودِهِ. وَيَصِحُّ فِيمَا تَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَالِهِ فَيُقِرُّ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَبِالِابْتِيَاعِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَبِصِفَاتِ الْعَقْدِ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ وَثُبُوتِ خِيَارٍ وَانْبِرَامِ عَقْدٍ عَنْ تَرَاضٍ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 (فَصْلٌ) فَأَمَّا عِبَادَاتُهُ فَتَصِحُّ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِيهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطي نَفَقَةَ الْحَجِّ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ نَفَقَةَ حَجِّهِ. فَلَوْ أَفْسَدَهُ بِوَطْءٍ مَكَّنَهُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُضِيِّ فِيهِ حتى ينهيه فأما نفقة لقضاء فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْطِيهِ لِوُجُوبِهِ وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن. وَالثَّانِي: لَا يُعْطِيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِإِفْسَادِهِ وَأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ فِي الثَّانِي مِثْلُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ حَجْرِهِ كَفَّارَةٌ فَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَخْيِيرٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ. وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِعْسَارِ فَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ أَوِ الْإِعْسَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَسَارِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُعْسِرِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ حَتَّى فُكَّ حَجْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا الْمَالُ لِأَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا وَإِنَّمَا ثُبُوتُ الْحَجْرِ عليه كان مانعا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِ الْحَجْرِ حُجِرَ عَلَيْهِ وَمَتَى رَجَعَ بَعْدَ الْحَجْرِ إِلَى حَالِ الْإِطْلَاقِ أُطْلِقَ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّفَهِ ثُمَّ ظَهَرَ رُشْدُهُ وَجَبَ على الحاكم أن يفك حجره وفي هذا الرُّشْدِ الَّذِي يُوجِبُ فَكَّ حَجْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُوجَدِ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ. أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِصْلَاحُ فِي الدِّينِ وَجَبَ اسْتِدَامَةُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق المروزي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 فَإِذَا ظَهَرَ رُشْدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. لِأَنَّ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الْحَجْرِ يَفْتَقِرُ إلى اجتهاد بخلاف الجنون لذي الْإِفَاقَةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ. وَيَرْتَفِعُ الْحَجْرُ بِوُجُودِ الْإِفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوِلَايَةُ عَلَى السَّفِيهِ مَرْدُودَةً إِلَى أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ. بِخِلَافِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَابْتِدَاءُ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ يَثْبُتُ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ مَعَ الْأَبِ بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَإِذَا فَكَّ الْحَاكِمُ الْحَجْرَ عَنْهُ بِعَوْدَةٍ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ جَازَ تَصَرُّفُهُ فَلَوْ عَادَ إِلَى حَالِ التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ. فَإِنْ عَادَ إِلَى حَالِ الرُّشْدِ رَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ كُلَّمَا عَادَ إِلَى السَّفَهِ حُجِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى الرُّشْدِ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتْ حُكْمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَوَالُ تِلْكَ الْعِلَّةِ مُوجِبًا لِزَوَالِ ذَلِكَ الحكم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَجَزْتَ إِطْلَاقَهُ عَنْهُ وَهُوَ إِتْلَافُ مَالٍ؟ قِيلَ لَيْسَ بِإِتْلَاف مَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمُوتُ فَلَا تُورثُ عَنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَا تَحِلُّ لَهُ فِيهَا هِبَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ وَيُورَثُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ وَيُمْلَكُ ثَمَنُهُ فَالْعَبْدُ مَالٌ بِكُلِّ حَالٍ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونَ لَهُ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ دُونَ سَيِّدِهِ وَلِمَالِكِهِ أَخْذُ مَالِهِ كُلِّهِ دُونَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ وَاقِعٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وأبو يوسف طَلَاقُهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِتْلَافُ مَالٍ كَالْعِتْقِ لِأَنَّ الْبُضْعَ يُمْلَكُ بِالْمَالِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْمِلْكُ بِالْمَالِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَرَجَعَ الشَّاهِدَانِ لَزِمَهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْلَافَ مَالٍ مَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ الْمَالِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 وَلِأَنَّ السَّفِيهَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ لِحُرِّيَّتِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْعَبْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ السَّفِيهِ. وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِطَلَاقِهِ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَيُجْبَرَ عَلَى التزام النفقة. وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَالٌ كَالْعَبْدِ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ يصح بيعه ورهنه ويورث عنه ولا يصح ذلك في الزوجة. وَغُرْمُ الشَّاهِدَيْنِ الْمَهْرَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَا أَوْقَعَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ عليهما وإن لم يتلقا بِشَهَادَتِهِمَا مَالًا. كَمَا لَوْ شَهِدَا بِمَا أَوْجَبَ الْقَوْدَ لَزِمَتْهُمَا الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مالا. والله أعلم بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 (كِتَابُ الصُّلْحِ) أُمْلِيَ عَلَيَّ كِتَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَالِاتِّفَاقُ فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} [النساء: 128] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: " يَا أَبَا أَيُّوبَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يَرْضَى اللَّهُ مَوْضِعَهَا. قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تَسْعَى فِي صُلْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَتُقَارِبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ". وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَرْثِ. " اعْلَمْ أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يُلَازِمُ غَرِيمًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِكَعْبٍ " خُذْ مِنْهُ الشَّطْرَ وَدَعِ الشَّطْرَ. وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا. وَرَوِيَ أَنَّ أَكْثَرَ قَضَايَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ صُلْحًا. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: الصُّلْحُ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَالثَّانِي: فَصْلُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: سُرْعَةُ الْقَضَاءِ وَبَتِّ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الِاتِّفَاقُ فَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِبَاحَتِهِ بِالشَّرْعِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ: رُخْصَةٌ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ. أَوْ هُوَ: مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ رُخْصَةٌ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأُصُولٍ يُعْتَبَرُ بِهَا فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ بِذَاتِهِ فَصَارَ لِاعْتِبَارِهِ بِغَيْرِ رُخْصَةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِهِ وَجَرَى الْعَمَلُ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ أَبُو حَامِدٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُهُ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ. هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ مُحْمَلٌ عَلَى وجهين: أحدهما: أنه محمل وَهُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَصْلًا بِذَاتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ أَصْلًا بِذَاتِهِ. فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ فَهُوَ: أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ بِالصُّلْحِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ السُّكْنَى وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ فَهُوَ: أَنْ يُصَالِحَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ. فَيَسْتَحِلُّ بِالصُّلْحِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الربا والخمر والخنزير. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ وَمَا بَطَلَ فِيهِ بَطَلَ فِي الصُّلْحِ ". قَالَ الماوردي: وهذا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الصُّلْحِ ضَرْبَانِ: مُعَاوَضَةٌ، وَحَطِيطَةٌ. فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، مِثْلَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، فَهَذَا بَيْعٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالصُّلْحِ عَلَى الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لَزِمَ فِيهِ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَدَخَلَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ مما لا ربا فيه جاز في الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الثَّلَاثِ. وَصَحَّ فِيهِ دُخُولُ الْأَجَلِ وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ وَهُوَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا الْحَطِيطَةُ فَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى بَعْضِهِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً. فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَصُورَتُهُ: أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَعْتَرِفُ بِهَا فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا فَهَذَا يَكُونُ إِبْرَاءً. فَإِنْ حَطَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ فَقَالَ قَدْ صَالَحْتُكَ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا وَأَبْرَأْتُكَ مِنَ الْبَاقِي صَحَّ. إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ الْإِبْرَاءُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي خَمْسِينَ دِينَارًا فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنَ الْبَاقِي. أَوْ يَقُولَ قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا إِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ خَمْسِينَ دِينَارًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إِنْ أَقْرَرْتَ لِي بِحَقِّي فَقَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا فَأَقَرَّ لَمْ يُبْرَأْ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ حَطَّ الْبَاقِيَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِبْرَاءِ فَقَالَ: قَدْ صَالَحْتُكَ مِنَ الْمِائَةِ عَلَى خَمْسِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ يَصِحُّ. وتوجيه هذين القولين مَبْنِيٌّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ عَنْهُمَا فِيمَا بَعْدُ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً فَصُورَتُهُ: أَنْ يَدَّعِيَ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَيَعْتَرِفَ لَهُ بِهَا وَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى نِصْفِهَا فَهَذَا يَكُونُ هِبَةً. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّارِ قَدْ وَهَبْتُ لَكَ نِصْفَهَا صَحَّ. وَاعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ مِنَ الْقَبُولِ وَمُرُورِ زَمَانِ الْقَبْضِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهِ فِي الْقَبْضِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بَلْ قَالَ: صَالَحْتُكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى نِصْفِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لأنه مَالِكٌ لِجَمِيعِ الدَّارِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى بَعْضِهِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَنِ الْأَعْيَانِ عَلَى بَعْضِهَا. وَمِنْ هَذَيْنِ يُخَرَّجُ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الصُّلْحِ هَلْ هُوَ فرع لغيره أو أصل بذاته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَالَحَ رَجُلٌ أَخَاهُ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَإِنْ عَرَفَا مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ جَازَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ بِهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ وَمَا بَطَلَ فِيهِ بَطَلَ فِي الصُّلْحِ، فَإِذَا وَرِثَ أَخَوَانِ تَرِكَةً صَالَحَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَلَى مَالٍ مِنْ حَقِّهِ لِتَصِيرَ لَهُ التَّرِكَةُ كُلُّهَا بِإِرْثِهِ وَصُلْحِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا مِنْ أَخِيهِ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ فَيَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ يُعْتَبَرُ بِهَا صِحَّةُ الْبَيْعِ: أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ التَّرِكَةِ بِالْمُشَاهَدَةِ لَهَا وَالْإِحَاطَةِ بِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُصَالِحُ بِالْإِرْثِ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: كَوْنُ الْعِوَضِ مَعْلُومًا تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عَنْهُ. فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ التَّرِكَةَ أَوْ جَهِلَا حِصَّةَ الْمُصَالِحِ أَوْ قَدْرَ الْعِوَضِ بَطَلَ الصُّلْحُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ صَاحِبُهُ مَا أعطاه ". قال الماوردي: وهذا كما قال بالصلح عَلَى الْإِنْكَارِ بَاطِلٌ حَتَّى يُصَالِحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّعْوَى. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَا وَقَى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ". وَالصَّدَقَةُ تُسْتَحَبُّ لِبَاذِلِهَا وَتَحِلُّ لِآخِذِهَا فَهَكَذَا الصُّلْحُ. وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا فِي الصُّلْحِ مُخْتَارًا فَصَحَّ كَالْمُقِرِّ بِهِ. وَلِأَنَّهُ مُدَّعٍ لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ فَصَحَّ صُلْحُهُ كَالْمُقَرِّ لَهُ. وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصُّلْحُ بِاسْمٍ غَيْرِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَكَانَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ الصُّلْحِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْأُصُولِ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدًا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ الشَّاهِدُ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهِ لِاعْتِقَادِ إِحْلَالِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَحِلُّ لِلْآخِذِ وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُنْكِرًا. وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ مَنْعًا مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ يُبْعِدُ الصُّلْحَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحَلٌّ إِلَّا مَعَ الْإِنْكَارِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مُحَرِّمٌ لِلْحَلَالِ وَمُحِلٌّ لِلْحَرَامِ لِأَنَّهُ يُحِلُّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَيُحَرِّمُ عَلَى الْمُدَّعِي بَاقِيَ حَقِّهِ وَذَلِكَ حَلَالٌ. وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوِ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ فَصُولِحَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِنْكَارِ. وَلِأَنَّهُ اعْتَاشَ عَنْ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ عِوَضَهُ. أَصْلُهُ إِذَا ادَّعَى وَصِيَّةً فَصُولِحَ بِمَالٍ. وَلِأَنَّهُ صَالَحَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا لَوْ عَلِمَ كَذِبَهُ. وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعَ الْإِنْكَارِ كَالْبَيْعِ. وَلِأَنَّ الصُّلْحَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَجْهُولِ الْوَصْفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى مَجْهُولِ الْعَيْنِ. وَلِأَنَّ الْمَبْذُولَ بِالصُّلْحِ لا يخلو من أربعة أحوال: [الأول] : إما أن يكون مبذولا لكف الأذى. [الثاني] : أو يكون مبذولا لقطع الدعوى. [الثالث] : أو يكون مبذولا للإعفاء من اليمين. [الرابع] : أَوْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِلْمُعَاوَضَةِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِدَفْعِ الْأَذَى لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ اعْتِبَارِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا وَهُوَ: إِذَا كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ دَرَاهِمَ صُولِحَ عَلَيْهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا وَلَوْ كَانَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لَجَازَ الِافْتِرَاقُ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِعْفَاءِ مِنَ الْيَمِينِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْذُولٌ لِلْمُعَاوَضَةِ. وَالْمُعَاوَضَةُ تَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ وَتَبْطُلُ مَعَ الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ مِنَ الْحُقُوقِ لَمْ يَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ [بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ] " كُلُّ مال وفى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ". فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْبِرُّ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَخْلُو الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: [الأول] : إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْقُرْبَةُ وَهُوَ الصَّدَقَةُ. [الثاني] : أو الصلة وهو الهبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 [الثالث] : أَوِ الْمُعَاوَضَةُ وَهُوَ الْبَيْعُ. وَلَيْسَ مَالُ الصُّلْحِ مَقْصُودًا بِهِ الْبِرُّ وَلَا الصِّلَةُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُعَاوَضَةُ وَالْخَبَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُعَاوَضَةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُقِرِّ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُقِرِّ أَنَّ الْعِوَضَ مَأْخُوذٌ عَمَّا ثَبَتَ لَهُ فَصَحَّ. وَفِي الْمُنْكِرِ عَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ مُخَالِفًا لِلْبَيْعِ. فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ مُخَالِفٌ لِلصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بَعْدَ التَّنَازُعِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْبَيْعُ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ الْإِرْفَاقُ وَبِالْبَيْعِ الْمُعَاوَضَةُ. فَكَانَ افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ كَالشَّاهِدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالشَّاهِدُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ابْتِيَاعُ مَنْ شَهِدَ بِعِتْقِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ لِبَايِعِهِ. وَإِنْ قَصَدَ مُشْتَرِيهِ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ رِقِّهِ كَمَا أَنَّ قَصْدَ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ أَسْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الصُّلْحِ مِنَ الْإِنْكَارِ يُفْضِي إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ قَدْ يُصَالَحُ أَيْضًا إِمَّا لِكَوْنِ الْمُقِرِّ غَاصِبًا بِيَدِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُمَاطِلًا بِحَقِّهِ وَيَرَى أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْكُلِّ بِالْغَصْبِ أَوِ الْمَطلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَجُوزُ فَلَوْ صَالَحَهُ مَعَ إِنْكَارِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَلَزِمَ رَدُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَقَعِ الْإِبْرَاءُ حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَدْ أَنْكَرَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَمْ يُبْرَأْ مِمَّا بَقِيَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بِالْأَلْفِ بَيِّنَةً عَادِلَةً كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ بِالصُّلْحِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُهُ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَالْإِبْرَاءُ كَانَ مَقْرُونًا بِمِلْكِ مَا صَالَحَ بِهِ فَلَمَّا لَزِمَهُ رَدُّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ بَطَلَ إِبْرَاؤُهُ لِعَدَمِ صِفَتِهِ، وَكَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بَيْعًا فَاسِدًا فَأَذِنَ لِمُشْتَرِيهِ فِي عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِهِ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ إِذْنَهُ إِنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِمِلْكِ الْعِوَضِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَيَسَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا بُذِلَ لَهُ بِالصُّلْحِ مع الإنكار إذا كان محقا قيل بسعة ذَلِكَ وَيَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا فَأَنْكَرَهُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ بَرِئَ مِنْهَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُطْلَقًا فَصَحَّ وَإِذَا كَانَ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُقَيَّدًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 بِصِحَّتِهِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهَا بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَقَالَ قَدْ حَطَطْتُهَا عَنْكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَبَرِئَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ أَحَدُ أَلْفَاظِ الْإِبْرَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَاقِيَةٌ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ إِسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ لُزُومِهِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي فَكَانَ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مُسْتَحِقًّا فَالصُّلْحُ صحيح والإبراء لازم. ويرجع على المقر ببذل مَا اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ إِذَا أُخِذَ بِهِ مَالٌ مُعَيَّنٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ إلا بأحد أمرين: [الأول] : إما الاستقرار بالقبض باستقرار الملك. [الثاني] : وَإِمَّا لِتَعْيِينِهِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ هُوَ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَوِّضَاتِ اللَّازِمَةِ. فَغَلَبَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَلَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ فِي إِبْطَالِ الصُّلْحِ. (فَصْلٌ) إِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ ثُمَّ أَنْكَرَ جَازَ الصُّلْحُ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَصُولِحَ ثُمَّ أَقَرَّ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ الْحَادِثِ فَصَحَّ الصُّلْحُ إِذَا أَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ لُزُومِ الْحَقِّ. وَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ إِذَا كَانَ عَقِيبَ إِنْكَارِهِ وَقَبْلَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْحَقِّ. (فَصْلٌ) فَلَوْ أَنْكَرَ الْحَقَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ جَازَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ لِلُزُومِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ كَلُزُومِهِ بِالْإِقْرَارِ. فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إِنْكَارِهِ فَقَالَ صَالِحْنِي عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ. وَلَوْ قَالَ مَلِّكْنِي ذَلِكَ كَانَ إِقْرَارًا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ صَالِحْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْخُصُومَةِ وَكَفَّ الْأَذَى فلم يضره مُقِرًّا. وَقَوْلُهُ مَلِّكْنِي لَا يَحْتَمِلُ فَصَارَ بِهِ مقرا والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ يُقِرُّ عَنْهُ بِشَيْءٍ جَازَ الصُّلْحُ وَلَيْسَ لِلَّذِي أَعْطَى عَنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 قال الماوردي: وصورتها ما شرحه الشافعي فِي " الْأُمِّ " أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلَانِ الصُّلْحَ وَيَكْرَهَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤَدِّي إِلَى الْمُدَّعِي مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ صَحِيحًا وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى حَقًّا فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى حَقًّا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَنْهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ. لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِنَّمَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَضَى الدَّيْنُ عنه بغير إذنه صَحَّ فَكَذَلِكَ إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الصُّلْحِ أَنْ يُقِرَّ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالْحَقِّ فَيَقُولُ حَقُّكَ ثَابِتٌ عَلَى فُلَانٍ فَصَالِحْنِي عَنْهُ. وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدِي بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ حَقُّكَ ثَابِتٌ عَلَى فُلَانٍ وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدِي بِهِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ عَنْ إِقْرَارِهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ إِقْرَارِهِ أُخْرَى. فَإِذَا أَقَرَّ فَصَالَحَ عَنْهُ صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْمُصْلِحَ عَنْ غَيْرِهِ دَفْعُ مَا اتَّفَقَا عَلَى الصُّلْحِ بِهِ وَبَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا صَالَحَ بِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالْغُرْمِ عَنْهُ كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. فَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ دُونَ الْأَدَاءِ فَيَقُولُ صَالِحْ عَنِّي فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّاهُ فِي الصُّلْحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْأَدَاءِ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَدَاءِ فَيُنْظَرُ فِي إِذْنِهِ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ قَالَ لَهُ صالح وأدى لِتَرْجِعَ عَلَيَّ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ أَدِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِإِذْنِهِ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْأَدَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنَى التَّطَوُّعِ بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 يَكُونُ لِمَعْنَى الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنِ الْإِذْنُ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَيْنًا قَائِمَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَالِحِ عَنْهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا لِنَفْسِهِ. أَوْ يُصَالِحَ عَنْهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنَّ صَالَحَ عَنْهَا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ جَازَ وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِذْنِ لِلْوَكِيلِ فِي الصُّلْحِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَا عِنْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ إِذْنِهِ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يُقِرَّ بِهَا عِنْدَهُ لِلْمُدَّعِي ثُمَّ يُقِرُّ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُدَّعِي عِنْدَ صُلْحِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الصُّلْحَ يَصِحُّ بِإِذْنِهِ لِلْوَكِيلِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقْرَارِهِ عِنْدَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ وَكِيلَهُ فِي الصُّلْحِ نَائِبٌ عَنْهُ، فَإِقْرَارُهُ عِنْدَهُ كَإِقْرَارِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا يُقِرُّ الْوَكِيلُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَزِيدُ فِيهِ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي فِي الصُّلْحِ عَنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَكُونُ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا إِذَا صلح عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ، إِنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَنِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سلمة وأبو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذْنٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ تَمْلِيكَ عَيْنٍ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ تَمَلَّكَهَا كَمَنِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ مَا فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّ طَرِيقَهُ الْإِبْرَاءُ وَيَصِحُّ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْرِئَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهَا لِنَفْسِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مَغْصُوبًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِالْمِلْكِ وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَصِحَّ هَذَا وَيَكُونَ بَيْعًا مَحْضًا، فَإِنِ انْتَزَعَ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ بَرِئَ الْمُدَّعِي مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَادَ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهَا مِنْ يَدِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ. (فَصْلٌ) إِذَا أَوْقَفَ رَجُلٌ دَارًا بِيَدِهِ ثُمَّ ادَّعَاهَا مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا كَانَ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ مِلْكِهِ بِالْوَقْفِ، وَهَكَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الَّذِينَ وُقِفَتِ الدَّارُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْطُلِ الْوَقْفُ لِمَا تعلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 به من حقوق غيرهم من البطن الثَّانِي أَوِ الْفُقَرَاءِ لَكِنْ لَا حَقَّ لِمَنْ صَدَّقَ مِنْهُمْ فِي الْوَقْفِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُصَدِّقْ. وَيَصِحُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْوَقْفُ أَنْ يُصَالِحَ الْمُدَّعِي الْمُقِرَّ لَهُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ دَارًا فِي يَدِهِ مَسْجِدًا وَخَلَّفَهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِتَسْبِيلِهَا لَمْ تَصِرْ سُبْلَةً بِهَذَا الْقَدْرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: مَتَى خَلَّفَهَا وَجَعَلَهَا بِرَسْمِ الْمَسَاجِدِ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِذَا صَلَّى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَكُلُّ هَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ إِزَالَةَ الْأَمْلَاكِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالطَّلَاقِ. فَلَوْ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا فَادَّعَاهَا مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَيْهَا صَحَّ صُلْحُهُ، فَلَوْ سَبَّلَهَا مَسْجِدًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلِ التَّسْبِيلُ وَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ صُلْحُهُ. وَلَوْ صَالَحَهُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَجِيرَانُ الْمَسْجِدِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمُسَبِّلِ بِشَيْءٍ ما لم يأمرهم بالصلح عنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقِ نَافِذَةٍ فَصَالَحَهُ السُّلْطَانُ أَوْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَنُظِرَ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ تُرِكَ وَإِنْ ضَرَّ قُطِعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَشْرَعَ مِنْ دَارِهِ جَنَاحًا أَوْ سَابَاطًا عَلَى طَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّرِيقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَافِذَةً أَوْ غَيْرَ نَافِذَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَنَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ. فَإِنْ كَانَ الْجَنَاحُ الْخَارِجُ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِيهِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِدَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُطِّرَ عَلَيْهِ مِنْ مِيزَابِهِ مَاءٌ فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ قَلَعْتَ مِيزَابًا نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُعَادُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِي فَرَكِبَ الْعَبَّاسُ ظَهْرَهُ وَأَعَادَ الْمِيزَابَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ قَدِيمًا يَفْعَلُونَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خُلَفَائِهِ يُشَاهِدُونَهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَقِرٌّ وَإِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلنَّاسِ الِارْتِفَاقُ بِالطُّرُقِ وَالْمَقَاعِدِ مِنْهَا جَازَ لَهُمُ الِارْتِفَاقُ بِهَوَائِهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَضْعِ سَارِيَةٍ فِي الطَّرِيقِ وَبِنَاءِ دَكَّةٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُرْفَقًا وَالْعَمَلُ بِهِ جَارِيًا فَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ. قِيلَ السَّارِيَةُ وَالدَّكَّةُ مُضِرٌّ بِالنَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضَايُقِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِمْ. وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا ازْدَحَمُوا فَأَضَرَّ بِهِمْ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ فَتَأَذَّى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَنَاحُ فِي الْهَوَاءِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَنَاحُ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ قُلِعَ، وَلَمْ يُقَرَّ، وَأَمَرَ الْإِمَامُ بِهَدْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمِ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ خُوصِمَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ قَلَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَاصَمْ تَرَكَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَ حَاكِمٌ وَلَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا لِطَالِبٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ لِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الرِّضَا بِهِ فِي التَّرْكِ وَكَذَا مَا لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِنْكَارِهِ فِي الْقَلْعِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَلَا يَحْكُمُ إِلَّا لِخَصْمٍ لِأَنَّ الخصم فيه لا يتعين فإنما كَافَّة النَّاسِ فِيهِ شَرْعٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا وَجَبَ قَلْعُهُ فَبَذَلَ صَاحِبُهُ مَالًا صُلْحًا عَلَى تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى إِقْرَارِ مُنْكَرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَى. فَأَمَّا حَدُّ مَا يَضُرُّ مِمَّا لَا يَضُرُّ فَمُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَمُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: حَدُّ الضرر أن لا يمكن الفارس أن يحتاز تَحْتَهُ بِرُمْحٍ قَائِمٍ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ شُرَيْحٍ. وَهَذَا التَّحْدِيدُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الرِّمَاحَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يُخْرِجَ أَحَدٌ جَنَاحًا لِأَنَّ الرُّمْحَ قَدْ يَعْلُو عَلَى الْمَنَازِلِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ. وَلِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَى صَاحِبِ الرُّمْحِ فِي الِاجْتِيَازِ بِرُمْحِهِ مَائِلًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ بِحَسَبَ الْبِلَادِ. فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَدْ تَجْتَازُ فِي طُرُقِهِ الْجِمَالُ الَّتِي عَلَيْهَا الْكَبَائِسُ وَالْعَمَّارِيَّاتُ وَذَلِكَ أَعْلَى مَا يُجْتَازُ فِي الطُّرُقَاتِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْكَبَائِسِ وَالْعَمَّارِيَّاتِ تَحْتَهُ وَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِيَازُهَا فليس بمضر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْكَبَائِسِ وَالْعَمَّارِيَّاتِ أَنْ تَجْتَازَ بِهِ وَجَرَتْ عَادَةُ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ أَنْ تَجْتَازَ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهَا أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ تَحْتَهُ. وَإِنْ أَمْكَنَ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ. وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْبَلَدِ بِاجْتِيَازِ الْجِمَالِ الْمُحَمَّلَةِ فِيهِ وَجَرَتْ عَادَةُ الْفُرْسَانِ بِالِاجْتِيَازِ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الْفَارِسِ تَحْتَهُ. فَإِنْ أَمْكَنَ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ. وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْبَلَدِ بِاجْتِيَازِ الْفُرْسَانِ فِيهِ فَحَدُّ الْإِضْرَارِ فِيهِ أَنْ لَا يُمْكِنَ اجْتِيَازُ الرَّجُلِ التَّامِّ إِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ حُمُولَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَحَدُّ الْإِضْرَارِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ أَهْلِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْجَنَاحُ مُضِرًّا أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ. لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي لَا تَنْفُذُ مَمْلُوكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلَّا بِحَقِّ الِاجْتِيَازِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَعَدَّى إِلَى إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ كَالْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَحَقَّةِ. فَإِنْ صَالَحَ أَهْلَ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ فِي إِقْرَارِ الْجَنَاح لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَى. إِلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالْعُرْضَةِ كَبِنَاءِ بَعْضِهِ فِي عُرْضَةِ الطَّرِيقِ ثُمَّ يَرْفَعُهُ فَيَجُوزَ. وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنَ الْعُرْضَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الْبِنَاءُ فَلَوْ أَذِنُوا جَمِيعًا لَهُ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ جَازَ مُضِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُضِرٍّ. لِأَنَّهُ حَقٌّ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ كَالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ فَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ إِذْنِهِمْ، فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِمْ تَأْثِيرٌ وَكَانَ لَهُ إِقْرَارُ الْجَنَاحِ مَا بَقِيَ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ فَكَانَ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ كَمَنْ أَخْرَجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَكَذَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَا وَرَثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعْهُ فِيهِ (قَالَ الْمَزَنِيُّ) قَلْتُ أَنَا يَنْبَغِي في قياس قوله أن يبطل الصلح أقرب فِي حَقِّ أَخِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ لِأَخِيهِ بِإِقْرَارِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَالَحَ بِأَمْرِهِ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِمَا أَوْ نَسَبَا ذَلِكَ إِلَى جِهَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا غَيْرِ الْمِيرَاثِ كَقَوْلِهِمَا ابْتَعْنَاهَا مِنْ زَيْدٍ أَوِ اسْتَوْهَبْنَاهَا مِنْ عَمْرٍو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 فَيَكُونَ حُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا نَسَبَا ذَلِكَ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْيَدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُمَا وَيُقِرَّ لَهُمَا فَيَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إِلَيْهِمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهُمَا وَيُنْكِرَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَخَوَيْنِ بَيِّنَةٌ. فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْأَخَوَيْنِ فَإِنْ حَلَفَا كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُ الدَّارِ لِلْحَالِفِ بِيَمِينِهِ لَا يُشَارِكُهُ أَخُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مُقَرٌّ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى نِصْفِهَا وَيُكَذِّبَ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ وَيُنْزَعُ النِّصْفُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ نِصْفَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نَسَبَا دَعْوَاهُمَا إِلَى جِهَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا وَيَشْتَرِكَانِ فِيمَا مَلَكَاهُ بِهَا وَكَانَ إِنْكَارُهُ النِّصْفَ لِأَحَدِهِمَا يَجْرِي مَجْرَى غَصْبِهِ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِمَا. وَلَوْ غصب من تركة أبيهما قبل القسمة واحد مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ دَارًا مِنْ دَارَيْنِ كَانَتِ الدَّارُ الْبَاقِيَةُ وَالْعَبْدُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَالْمَغْصُوبُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ أَنْكَرَهُمَا وَنَكَلَ فَحَلَفَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ كَانَ النِّصْفُ لِلْحَالِفِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ النَّاكِلُ؟ . قِيلَ نَعَمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاكِلَ سَقَطَ حَقُّهُ بِنُكُولِهِ إِذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ أحد لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِ غَيْرِهِ شَيْئًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّصْفَ الْمُقَرَّ يَكُونُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ مَعًا فَصَالَحَ الْأَخُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ لِلْمُقِرِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى حَقِّهِ وَهُوَ الرُّبُعُ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَالشُّفْعَةُ فِيمَا صَالَحَ مِنَ الرُّبُعِ وَاجِبَةٌ وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ لِأَخِيهِ الْمُشَارِكِ فِي نِصْفِ الدَّارِ دُونَ الْمُقِرِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ لِأَخِيهِ وَلِلْمُقِرِّ الَّذِي صُولِحَ. فَلَا يَكُونُ لِلْأَخِ أَنْ يَنْزِعَ مِنَ الْمَصَالَحِ إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ، وَفِي حَقِّهِ قَوْلَانِ: - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنَ أَثْلَاثًا. وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جَمِيعِ النِّصْفِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَالِحَهُ بِإِذْنِ أَخِيهِ فَالصُّلْحُ فِي النِّصْفِ كُلِّهِ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْمَالُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ بِهِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ نِصْفَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ أَخِيهِ فَيَكُونُ الصُّلْحُ فِي حَقِّ أَخِيهِ وَهُوَ الرُّبُعُ بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ. وَيَكُونُ الْمُصَالِحُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ وَاسْتِرْجَاعِ الْعِوَضِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْأَخُ إِلَى أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الصُّلْحِ فِي حَقِّهِ وَبِمَاذَا يُقِيمُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِجَمِيعِ الْعِوَضِ وَإِلَّا فُسِخَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَهُوَ النِّصْفُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْإِمَامُ الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ كَلَامًا مُحْتَمَلًا وَتَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا فَاسِدًا ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمَا لَوْ صَحَّ تَأْوِيلُهُ لَصَحَّ اعْتِرَاضُهُ وَهُوَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. إذ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِهِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شيء كان لأخيه أن يدخل معه فيه. فَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ صُلْحَهُ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ ثُمَّ جَعَلَ أَخَاهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِ الصُّلْحِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ الصُّلْحُ فِي حَقِّ أَخِيهِ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي تَأْوِيلِهِ، لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِيهِ: يَعْنِي فِي النِّصْفِ مِنَ الدَّارِ لَا فِي النِّصْفِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَوَابُ فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا شَرَحْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهِمَا نِصْفَهَا فَأَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ وَجَحَدَ لِلْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ وَكَانَ على خصومته ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ادَّعَى أَخَوَانِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يَنْسُبَاهَا إِلَى أنهما مَلَكَاهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ وَيَنْفَرِدُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ. لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِمِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَيَاهَا مِيرَاثًا مَقْبُوضًا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمَا عَلَيْهَا بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ فَصَدَّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى النِّصْفِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ تَفَرَّدَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ الْآخَرُ فِيهِ. كَمَا لَوْ لَمْ يضيفا ذَلِكَ إِلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ بِالْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. أَلَا تَرَى لَوِ اقْتَسَمَا دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا إِحْدَى الدَّارَيْنِ ثُمَّ غُصِبَتْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ أَحَدِهِمَا انْفَرَدَ الْآخَرُ بِالْبَاقِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا أَخُوهُ. وَلَوْ غُصِبَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَشَارَكَهُ فِيهَا كَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ إِذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا عَلَى النِّصْفِ قبل القسمة شاركه الآخرة فِيهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ الآخر فيه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ لِلْآخَرِ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ فَلَهُ الْكُلُّ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّ لَهُ النِّصْفَ وَلِأَخِيهِ النِّصْفَ كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا ادَّعَى الْأخَوَانِ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَأَنْكَرَ الْآخَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْسُبَا تِلْكَ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِيهَا فَتَكُونَ الدَّارُ لِلْأَخَوَيْنِ مَعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْسُبَاهَا إِلَى جِهَةٍ يَتَسَاوَيَانِ فِيهَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ حَالَانِ: حَالٌ يَقْبَلُ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِهَا، وَحَالٌ لَا يَقْبَلُ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِهَا كَانَ لَهُ النِّصْفُ الَّذِي ادَّعَاهُ. فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ مُقَرًّا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونَ الْمُكَذَّبُ خَصْمًا لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ مَعَ أَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُنْزَعُ النِّصْفُ مِنْ يَدِهِ وَيُوضَعُ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مُسْتَحِقُّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ أَوْجَبَ رَفْعَ يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى مُدَّعِيهِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ لَهُ فِيهِ. وَإِنْ قَبِلَ مُدَّعِي النِّصْفَ الْإِقْرَارَ بِالْكُلِّ انتزعه الْكُلُّ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ قَدْ حَفِظَ عَلَيْهِ تَصْدِيقَ أَخِيهِ فِي ادِّعَائِهِ النِّصْفَ إِمَّا قَبْلَ الْإِقْرَارِ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النِّصْفِ إِلَى أَخِيهِ. بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَلْزَمُ فَإِذَا صَارَ الْقَبْضُ إلى يده لزمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 ألا ترى أن رَجُلًا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ مَغْصُوبَةٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ فَلَوْ صَارَتِ الدَّارُ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إِلَى مَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِهَا مِنْهُ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُدَّعِي النِّصْفِ صَدَّقَ أَخَاهُ فِي دَعْوَاهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِأَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَيَصِيرَ خَصْمًا لَهُ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ إِنَّمَا ادَّعَى النِّصْفَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْكُلُّ وَيُزَادَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ قِيلَ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَكَانَ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ يَقُولُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى نِصْفَهَا مِلْكًا وَبَاقِيهَا يَدًا. فَإِذَا أَقَرَّ لَهُ بِالْجَمِيعِ دُفِعَ إِلَيْهِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ هَذَا لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ إِلَّا النِّصْفُ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: بَلْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ جَمِيعُهَا وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ سَابِقًا إِلَّا نِصْفَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ فَيَدَّعِ نِصْفَهَا لأمور: منها: أن يكون نصفها مصدق عَلَيْهِ فَلَمْ يَدَّعِيهِ وَنِصْفُهَا مُنَازِعٌ فِيهِ فَادَّعَاهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ بِنِصْفِهَا بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَبِنِصْفِهَا بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ فَيَدَّعِيَ نِصْفَهَا لِتَشْهَدَ بِهِ الْبَيِّنَةُ الْحَاضِرَةُ وَيُؤَخِّرَ الدَّعْوَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَ الْبَيِّنَةُ الْغَائِبَةُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلْخُصُومَةِ وَهِيَ تَأْخِيرُ النِّزَاعِ. فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ صَحَّ إِذَا ادَّعَى النِّصْفَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْجَمِيعُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَارٍ أَقَرَّ لَهُ بِهَا بِعَبْدٍ قَبَضَهُ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ إِلَى الدَّارِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فِي يَدِهِ فَأَقَرَّ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُعَيَّنًا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ دَارًا بِعَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ. وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالدَّارِ كَمَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ. إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ صُلْحًا ثَانِيًا وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُوصًى بِعِتْقِهِ أو معتقا بصفة. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ موصوف فِي الذِّمَّةِ، فَالصُّلْحُ لَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَبْدٍ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ كَمَا لو استحق العبد المقبوض في المسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُعَيَّنًا فَقُتِلَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصُّلْحِ بِقَتْلِهِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي البيوع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَقْتًا فَهِيَ عَارِيَةٌ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فَاعْتَرَفَ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْمُقِرُّ سَنَةً كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا. لِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عَاوَضَ عَلَى مَا يَمْلِكُ بِمَا لَا يَمْلِكُ. وَهَذَا قَدْ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا مَلَكَ سُكْنَاهَا. فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِهَا جَازَ، قِيلَ قَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى النِّصْفِ هِبَةٌ. وَالْهِبَةُ لَازِمَةٌ فَصَارَ الصُّلْحُ بِهَا لَازِمًا وَالصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى عَارِيَةٌ وَالْعَارِيَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ فَصَارَ الصُّلْحُ بِهَا غَيْرَ لَازِمٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ بَاطِلٌ فَلِمَالِكِ الدَّارِ أَنْ يُسْكِنَهُ إِيَّاهَا إِنْ شَاءَ وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ كَالدَّارِ الْعَارِيَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ. فَلَوْ جُعِلَ الصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى شَرْطًا فِي إِقْرَارِهِ فَقَالَ قَدْ أَقْرَرْتُ لَكَ بِهَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ أَسْكُنَهَا سَنَةً بَطَلَ اشْتِرَاطُ السُّكْنَى وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ: فَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ إِلَى بُطْلَانِهِ لِكَوْنِهِ إِقْرَارًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِشَرْطٍ فِي عَارِيَةٍ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أو صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ سَنَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ وَتَكُونَ الْخِدْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْمُصَالَحِ أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا صَالَحَ الْمُقِرُّ بِالدَّارِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ سَنَةً جَازَ الصُّلْحُ. لِأَنَّ الْمُقِرَّ عَاوَضَ عَلَى الدَّارِ بِمَا مَلَكَهُ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ. وَصَارَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالدَّارِ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَبْدِ سَنَةً بِالدَّارِ الَّتِي قَدْ مَلَكَهَا بِالْإِقْرَارِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 فَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ وَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: - أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الرَّقَبَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامُ. وَيُمَكَّنُ الْمُصَالِحُ مِنْهُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِدْمَةِ. وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَتِهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ عَقْدِهِ. أَمَّا إِذَا ابْتَاعَهُ الْمُصَالِحُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا. إِلَّا أَنَّ فِي قَبْضِهِ وَانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَنْفَسِخُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا قَدِ انْفَسَخَتْ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْبَيْعِ الطَّارِئِ. كَذَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ السَّالِفَةُ بِالْبَيْعِ الْحَادِثِ فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الصُّلْحُ وَمُلِكَ الْعَبْدُ بِالْبَيْعِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الَّذِي صَالَحَ بِخِدْمَتِهِ فَعِتْقُهُ نَافِذٌ. لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا فَلَمْ يُمْنَعِ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَعِتْقِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ خِدْمَةُ الْمُصَالَحِ بَاقِي السَّنَةِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ بِأُجْرَةِ الْخِدْمَةِ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ عِتْقِهِ لِأَنَّ نُفُوذَ عِتْقِهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَنَافِعِهِ فَصَارَ كَالْآخِذِ لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَضَمِنَ كَالْغَاصِبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ عِتْقَ السَّيِّدِ أَزَالَ مَا كَانَ مَالِكًا لَهُ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ، تِلْكَ السَّنَةَ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ الْعِتْقِ بِهَا وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَبْدُ رُجُوعًا بِسَبَبِهَا كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ إِذَا عُتِقَتْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَى سَيِّدِهَا بِالْمَهْرِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَاتَبَهُ السَّيِّدُ فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ وَلَا عَلَى تَمَلُّكِ كَسْبِهِ وَلَكِنْ لَوْ دَبَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ بِصِفَةٍ. فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُصَالَحِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى مَا بَعْدَ السَّنَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ بِشَرْطِ تَأْخِيرِ الْقَبْضِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 أَمَّا إِذَا رَهَنَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الرَّهْنَ مَجْرَى الْبَيْعِ فَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ: - وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا فَأَمَّا إِذَا وَهَبَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ سَوَاءٌ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ جَازَ مِنَ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا اسْتُخْدِمَ وَبَطَلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَى الدَّارِ بِخِدْمَتِهِ سَنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا فَالصُّلْحُ قَدْ بَطَلَ لِتَلَفِ الْعِوَضِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَتَلَفِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِلْمُصَالَحِ أَنْ يَرْجِعَ بِالدَّارِ كَمَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ كُلِّهَا فَالصُّلْحُ قَدْ تَمَّ وَحُكْمُهُ قَدِ انْبَرَمَ وَمَوْتُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ وبقاء بعضهما فَالصُّلْحُ قَدْ بَطَلَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ قَبْضِهِ بِالْمَوْتِ، وَأَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ الْمُسْتَوْفَاةِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفَسَادِ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ. فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ، فَجَعَلَ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الصُّلْحُ فِيمَا بَقِيَ وَوَجَبَ عَلَى الْمُصَالَحِ أُجْرَةُ مَا اسْتَخْدَمَ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ لَكِنْ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمَقَامِ فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالدَّارِ وَغُرِّمَ أُجْرَةَ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الصُّلْحِ. وَالثَّانِي: بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْفَسَادَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِلْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ لِسَلَامَةِ الصَّفْقَةِ عِنْدَ عَقْدِهَا. فَيَكُونُ الصُّلْحُ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ جَائِزًا قَوْلًا وَاحِدًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 فَعَلَى هَذَا. هَلْ لِلْمُصَالَحِ خِيَارٌ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ لِاسْتِقْرَارِ قَبْضِهِ وَفَوَاتِ رَدِّهِ. فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصُّلْحِ وَقِسْطِهِ وَيَرْجِعُ مِنَ الدَّارِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مُدَّةٍ كَامِلَةٍ وَصَفْقَةٍ سَلِيمَةٍ فَكَانَ النَّقْصُ فِيهَا غَبْنًا مُوجِبًا لِلْخِيَارِ كَالنَّقْصِ فِي الْأَعْيَانِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الصُّلْحَ فِيمَا مَضَى وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ. فَإِنْ فَسَخَ فِيمَا مَضَى غُرِّمَ مِثْلَ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَاسْتَرْجَعَ الدَّارَ كُلَّهَا. وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى بِجَمِيعِ الصُّلْحِ. وَالثَّانِي: بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ جِدَارًا بَيْنَ دَارَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ الْبُنْيَانِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ إِلَّا مِنْ أَوَّلِ الْبُنْيَانِ جَعَلْتُهُ لَهُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بَعْدَ كَمَالِ بُنْيَانِهِ مِثْلُ نَزْعِ طُوبَةٍ وَإِدْخَالِ أُخْرَى أَحْلَفْتُهُمَا بِاللَّهِ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِوَاحِدٍ مِنْ بِنَائِهِمَا أَوْ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا جَمِيعًا جَعَلْتُهُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ أُحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ تَنَازَعَهُ الْمَالِكَانِ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ لِي دُونَكَ وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَاهُ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَائِطِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا أَوْ يَكُونَ مُن ْفَصِلً ا عَنْ بِنَائِهِمَا أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا مُنْفَصِلًا عَنْ بِنَاءِ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا ببنائهما أو منفصلا عن بنائهما فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَاتِّصَالُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا قَدِ اتَّصَلَ بِبِنْيَةِ الْحَائِطِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ فَصَارَتْ حَائِطَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُعَارَضَةُ مُسْنَدة بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: اتِّصَالُ الْبِنَاءِ أَنْ يَكُونَ تَرْبِيعُ دَارِ أَحَدِهِمَا مُسْنِدَة بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَلَا يَكُونَ اتِّصَالُ بَعْضِ الْحُدُودِ مُؤَثِّرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِبَعْضِ حُدُودِ الدَّارِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ. كَمَا أَنَّ اتِّصَالَهُ بِجَمِيعِ الْحُدُودِ تَرْبِيعًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا أَزِجٌّ أَوْ قُبَّةٌ نُظِرَ فِي الْحَائِطِ فَإِنْ كَانَ قَدْ بُنِيَ مِنْ أَسَاسِهِ مُتَعَرِّجًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ الْقُبابِ وَالْأزاجِ فَهَذَا اتِّصَالٌ. لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيجَ لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحَائِطِ مُتَعَرِّجًا فَالْأَزُجُّ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ وَالْقُبَّةُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْحَائِطِ كُلِّهِ لِأَنَّ إِحْدَاثَ مِثْلِ الْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ عَلَى الْحَائِطِ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ مُمْكِنٌ فَصَارَ كَالْأَجْذَاعِ. لَكِنْ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَى الْحَائِطِ خَارِجًا عَنْ تَعْرِيجِ الْقُبَّةِ وَالْأَزُجِّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْقُبَّةِ وَالْأَزُجِّ، وَمَا انْحَدَرَ عَنْهُ مِنَ انْتِصَابِ الْحَائِطِ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ يَنْتَهِي طُولًا إِلَى أَنْ يَتَجَاوَزَ مِلْكَ أَحَدِهِمَا وَلَا يَتَجَاوَزُ مِلْكَ الْآخَرِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ طُولُ الْحَائِطِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَعَرْصَةُ أَحَدِهِمَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَعَرْصَةُ الْآخَرِ عِشْرُونَ ذِرَاعًا فَيَتَنَازَعَانِ مِنَ الْحَائِطِ مَا كَانَ بَيْنَ عَرْصَتَيْهِمَا مَعًا دُونَ الْقَدْرِ الْمُجَاوِزِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ هَذَا فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ بِعَرْضِهِ فِي بِنَاءِ أَحَدِهِمَا بِمِثْلِ مَا اتَّصَلَ بِطُولِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّصِلًا وَيَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْعَرْضِ لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ وَاتِّصَالُ الطُّولِ يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاتِّصَالَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لِمَنِ اتَّصَلَ بِبِنَائِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ لِصَاحِبِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمَا لَهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ يَدٌ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْمُتَصَرِّفَةِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ كَمَنْ نُوزِعَ شَيْئًا فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمِلْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَلُّكِهِ كَمَنْ نُوزِعَ بِنَاءً فِي أَرْضِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ مُنَازَعَةٍ. ثُمَّ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ لِأَنَّ هَذَا دَالٌّ عَلَى الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لَهُ فَلَزِمَتْ فِيهِ الْيَمِينُ كَالْيَدِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إذا كان متصلا ببنائيهما أو منفصلا عن بنائيهما فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ بِإِحْلَافِ أَيِّهِمَا شَاءَ أَوْ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا لِاسْتِوَائِهِمَا. وَالثَّانِي: يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ. وَفِي قَدْرِ مَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ. أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نِصْفِهِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ وَالَّذِي يَصِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ وَهُوَ يَدَّعِي جَمِيعَهُ. ثُمَّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ يَمِينُهُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ. لِأَنَّهُ يَنْفِي مِلْكَ غَيْرِهِ وَيُثْبِتُ مِلْكَ نَفْسِهِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُحْتَاجُ إِلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ يُحْتَاجُ إِلَى يَمِينَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلنَّفْيِ وَالْأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدًا تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ لِلْقَضَاءِ وَأَثْبَتُ لِلْحُكْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَطَائِفَةٍ إِنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ أَحَدهُمَا لِلنَّفْيِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ بِهَا، وَالثَّانِيَةَ لِلْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ بِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: - إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَيُجْعَلُ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا بِأَيْمَانِهِمَا. أَوْ يَنْكُلَا مَعًا فَيُمْنَعَانِ مِنَ التَّخَاصُمِ وَلَا يُحْكَمُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَيْءٍ مِنْهُ وَيَكُونُ الْحَائِطُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ فَيُحْكَمُ بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ. وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا يَمِينَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ بِيَمِينَيْنِ وَكَانَ الْحَالِفُ يَمِينًا بِمَثَابَةِ النَّاكِلِ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَكْمُلْ. فَلَوْ أَقَامَ النَّاكِلُ بَيِّنَةً كَانَ أحق ببينته من يمين صاحبه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَلَا الدَّوَاخِلُ وَلَا أَنْصَافُ اللَّبْنِ وَلَا مَعَاقِدُ الْقِمْطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا دَلَالَةٌ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالدَّوَاخِلُ هِيَ وُجُوهُ الحيطان. والخوارج هي ظهور الحيطان وَأَنْصَافُ اللَّبْنِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كُسُورُ أَنْصَافِ اللَّبْنِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ مِنْهُ إِلَى الْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِفْرِيزٌ يُخْرِجُهُ الْبِنَاءُ فِي أَعْلَى الْحَائِطِ نَحْوَ نِصْفِ لَبِنَةٍ لِيَكُونَ وِقَايَةً لِلْحَائِطِ مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَعَاقِدُ الْقَمْطِ فَتَكُونُ فِي الْأَخْصَاصِ وَهِيَ الْخُيُوطُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْخُصُّ. لِأَنَّ الْقَمْطَ جَمْعُ قِمَاطٍ وَهُوَ الْخَيْطُ. فَإِذَا تَنَازَعَ جَارَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ إِلَى أَحَدِهِمَا الدَّوَاخِلُ وَأَنْصَافُ اللَّبْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ. وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى خُصًّا وَكَانَ إِلَى أَحَدِهِمَا مُعَاقِدُ الْقَمْطِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَجَعَلَ أبو يوسف ومحمد هَذِهِ دَلَائِلَ عَلَى الْمِلْكِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا جِدَارًا بَيْنَهُمَا فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُذَيْفَةَ أَنْ يَحْكُمَ فَحَكَمَ بِالْجِدَارِ لِمَنْ إِلَيْهِ مَعَاقِدُ الْقِمْطِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصَبْتَ. قَالُوا: لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِي بِنَاءِ الْحَائِطِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ إِلَى مَالِكِهِ وَظُهُورُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَعَاقِدُ الْخُصِّ تَكُونُ إِلَى مَالِكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِظَاهِرِ الْعَادَةِ. كَمَا يُحْكَمُ بِهَا فِي اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". وَلِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ قَدْ يُقْصَدُ بِهَا فِي الْبِنَاءِ الْجَمَالُ. فَرُبَّمَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ أَنْ يَجْعَلَ أَجْمَلَ بُنْيَانِهِ، وَأَحْسَنَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرُبَّمَا أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهُ خَارِجًا فِيمَا يَرَاهُ النَّاسُ. فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَادَةِ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَغْرَاضِ أَنْ يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ كَالتَّزَاوِيقِ وَالنَّقْشِ لَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ جَانِبِ أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ دَهْثَمُ بْنُ قِرَانٍ وَهُوَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. فَإِنْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَعَاقِدَ الْقَمْطِ عِلَّةً فِي الْحُكْمِ وَإِنَّمَا جُعِلَ تَعْرِيفًا لِمَنْ حُكِمَ لَهُ كَمَا لَوْ قِيلَ حُكِمَ لِلْأَسْوَدِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّوَادَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ وَإِنَّمَا يَكُونُ سِمَةً وَتَعْرِيفًا لِمَنْ وَجَبَ لَهُ الْحُكْمُ. وَأَمَّا ادعاؤهم العرف لمعتاد فِيهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الأغراض فيه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ أَحَلَفْتُهُمَا وَأَقْرَرْتُ الْجُذُوعَ بِحَالِهَا وَجَعَلْتُ الْجِدَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلَ بِالْجُذُوعِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَنَازَعَ الْجَارَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ. قَالَ أبو حنيفة: صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَحَقُّ بِهِ إِذَا كَانَتْ جُذُوعُهُ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَكَانَ بَدَلُ الجذوع متصلا فيهما فِيهِ سَوَاءً اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ أَوْكَدُ مِنَ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ. لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ يُثْبِتُ يَدًا وَارْتِفَاقًا. وَاتِّصَالُ الْبِنَاءِ يُثْبِتُ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الِارْتِفَاقُ دُونَ الْيَدِ فَلَمَّا كَانَ اتِّصَالُ الْبِنَاءِ إلا عَلَى الْمِلْكِ كَانَ وَضْعُ الْجُذُوعِ أَوْلَى بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمِلْكِ. وَلِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ كَالْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ. وَلِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ هُوَ تَرْكِيبٌ عَلَى الْحَائِطَيْنِ يَجْرِي مَجْرَى رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ دَابَّةً لَوْ تَنَازَعَهَا رَاكِبُهَا وَأخذ بِلِجَامِهَا كَانَ رَاكِبُهَا أَحَقَّ بِهَا مِمَّنْ هُوَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا فَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إِذَا تَنَازَعَهُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ وَغَيْرُهُ. كَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَحَقَّ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ قَلِيلُهُ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ كَثِيرُهُ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ كَالْقَصَبِ وَالرُّفُوفِ. وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ كَالْجِصِّ وَالنَّقْشِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ صَاحِبِ الْأَجْذَاعِ وَالْحَائِطِ طَرِيقٌ نَافِذَةٌ كَالسَّابَاطِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ أَجْذَاعِهِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ لَهُ، كَذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ بِمِلْكِهِ. لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ لَوْ كَانَ يَدًا لَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الِاتِّصَالِ بِالْمِلْكِ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ. وَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَجْذَاعِ فِي الْحَائِطِ قَدْ يَكُونُ بِالْمِلْكِ تَارَةً وَبِالْإِذْنِ أُخْرَى وَبِالْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 تَارَةً. فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاتِّصَالِ الْبُنْيَانِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ كَمَالِ الْبُنْيَانِ فَجَازَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمِلْكِ لِافْتِرَاقِهِ بِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجُذُوعُ. وَبِمِثْلِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنِ الْأَزُجِّ وَالْقُبَّةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْبُنْيَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ رَاكِبِ الدَّابَّةِ وَقَائِدِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمَا فِي الدَّابَّةِ سَوَاءٌ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاكِبَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْآخِذِ بِلِجَامِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ وَضْعِ الْجُذُوعِ وَتَرْكِيبِهَا عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإجماع مانع من ركوب دابة الإنسان لا بِإِذْنِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ رُكُوبُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ. وَالْخِلَافُ مُنْتَشِرٌ فِي أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ جَبْرًا فِي حَائِطِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ وَضْعُهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرُّكُوبَ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بَيْنَ وُجُودِهِ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ جَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ. وَلَمَّا كَانَ وَضْعُ أَجْذَاعِ السَّابَاطِ الَّذِي لَا يَتَّصِلُ بِالْمِلْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ الْأَجْذَاعِ دَالًّا عَلَى الْمِلْكِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا وَتُقَرُّ الْجُذُوعُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضَعَهَا بِحَقٍّ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكِ الْحَائِطَ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا تَنَازَعَا حَائِطًا فِي عَرْصَةٍ هِيَ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ تَنَازَعَا عُلُوَّ حَائِطٍ أَسْفَلُهُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ. وَلَكِنْ لَوْ تَنَازَعَا عَرْضه حَائِط هُوَ لِأَحَدِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهَا أظهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ كَوَضْعِ الْجُذُوعِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَائِطٍ هَلْ يَدْخُلُ قَرَارُهُ فِي إِقْرَارِهِ. أَوْ بَاعَ حَائِطًا هَلْ يَدْخُلُ قَرَارُهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ. فَقَدْ رُوِيَ فِي الْقَدِيمِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَاللَّهِ لِأَرْمِيَنَّهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. فَكَانَ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ جَبْرًا بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ تَعَلُّقًا بِهَذَا الْحَدِيثِ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي لِجَارِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ جَارِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ، فَالْجَارُ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحَتْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَارَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي حَائِطِهِ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالْجَارِ فِي مَنْعِ ضَوْءٍ أَوْ إِشْرَافٍ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَقُولُ هَذَا، قُلْنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بأمره يعني مجاهرا وبغير أَمْرِهِ يَعْنِي سَاتِرًا. وَالثَّانِي: بِأَمْرِهِ يَعْنِي بِاخْتِيَارِهِ وبغير أَمْرِهِ يَعْنِي بِإِجْبَارِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي جِدَارِهِ. وَكَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ فِي الْجِدَارِ مَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْأَجْذَاعِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 ولو صالحه من وضع الْأَجْذَاعِ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَجُزْ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَلَيْهِ. وَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ لَمْ يَلْزَمْ مَالِكُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ. فَإِنْ بناء كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يُعِيدَ أَجْذَاعَهُ فِيهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْجَارُ بِنَاءَ الْحَائِطِ عِنْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ من بنائه كان له ذَلِكَ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِيهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ. فَلَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يَضَعَ أَجْذَاعَهُ فِي الْجِدَارِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا، فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَتْ عَارِيَةً وَجَازَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَدَدَ الْأَجْذَاعِ وَلَا يَعْلَمُ طُولَهَا وَلَا مَوْضِعَ تَرْكِيبِهَا، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِمَنَافِعِ الْعَارِيَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا. ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَةِ مَا بَقِيَ الْحَائِطُ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْأَجْذَاعِ يُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ فَكَانَ إِطْلَاقُهُ الْإِذْنَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ. كَمَنْ أَعَارَ أَرْضَهُ لِدَفْنِ مَيِّتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَارِيَتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنْهَا بَعْدَ دَفْنِهِ وَلَكِنْ لَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ وَأَعَادَهُ مَالِكُهُ فَهَلْ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ أَنْ يُعِيدَ وَضْعَهَا فِيهِ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا عَلَى التَّأْيِيدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بَاقِيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَحْدَثٍ. لِأَنَّ حُكْمَ الْعَارِيَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِانْهِدَامِ الْحَائِطِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ تَأْيِيدَ ذَلِكَ لِمَا فِي نَزْعِهَا مِنَ الْأَضْرَارِ بِهِ وَقَدْ لَحِقَهُ ذَلِكَ بِانْهِدَامِهِ. وَلَكِنْ لَوْ أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَنَبَشَهُ سَبُعٌ أُعِيدَ دفنه فيها من غير إذن ستحدث وَجْهًا وَاحِدًا. وَلَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَنَ غَيْرُهُ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ لِذَهَابِ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَنْفَعَةِ الْعَارِيَةِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ جِذْعٍ فِي حَائِطِهِ فَانْكَسَرَ الْجِذْعُ كَانَ لَهُ إِعَادَةُ غَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الرُّجُوعِ فِي عَارِيَةِ الْقَبْرِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ. فَإِذَا أَكَلَهُ السَّبُعُ انْقَضَتْ حُرْمَتُهُ عَنِ الْمَكَانِ. وَالْمَنْعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعِ الْأَجْذَاعِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ بِانْهِدَامِ السَّقْفِ وَهَذَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 مَوْجُودٌ بَعْدَ انْكِسَارِ الْجِذْعِ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ عَلَى وَضْعِ أَجْذَاعِهِ عِوَضًا فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ الْأَجْذَاعِ وَطُولِهَا وَامْتِلَائِهَا وَمَوْضِعِهَا مِنَ الْحَائِطِ وَقَدْرِ دُخُولِهَا فِيهِ. لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَحْرُسُ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ إِذَا انْتَفَتِ الْجَهَالَةُ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بَيْعًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَلَى التَّأْيِيدِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ فِيهِ وَمَتَى انْهَدَمَ الْحَائِطُ ثُمَّ بُنِيَ أُعِيدَ وَجْهًا وَاحِدًا. بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ الَّتِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا الْجَهَالَةُ بِمُدَّةِ مَنْفَعَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ أَنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً وَلَا يَكُونُ بَيْعًا. لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ لَا عَيْنٍ. فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَتَقَدَّرُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَائِهَا. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا إِنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ صَحَّ وَكَانَتْ إِجَارَةً، وَهَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَوْضِعِهِ وَتَقْدِيرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ ثُمَّ إِنْ قَدَّرَ بِمُدَّةٍ صَحَّ وَكَانَتْ إِجَارَةً وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا لِمَا حُدَّ مِنَ الْأَرْضِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ عَلَى التَّأْيِيدِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ بَاطِلًا إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً. وَأَمَّا إِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَقْيِ مَاشِيَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ قَدْرَ مَا تَشْرَبُهُ الْمَاشِيَةُ مَجْهُولٌ. وَهَكَذَا الزَّرْعُ وَلَكِنْ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ الْعَيْنِ أَوْ ثُلُثِهَا جَازَ وَكَانَ بَيْعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِيهِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ. وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ خَرَجَ عَنِ الْبَيْعِ إِلَى الْإِجَارَةِ فَكَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ إِجَارَةَ عَيْنِ الْمَاءِ مِنْهَا لَا يَجُوزُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ أَجْعَلْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كَوَّةً وَلَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كَوَّةً وَلَا يَضَعَ فِيهِ جِذْعًا وَلَا يُسَمِّرَ فِيهِ وَتَدًا إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ. وَجَوَّزَ الْعِرَاقِيُّونَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْحَائِطِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ مِنْ فَتْحِ كَوَّةٍ وَإِيتَادِ وَتَدٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 وَالثَّانِي: أَنَّهُ هَدْمُ بَعْضِ الْحَائِطِ فَلَمْ يَجُزْ كَالْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ كَوَضْعِ الْجُذُوعِ فِيهِ فَيَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَائِطَ مَوْضُوعٌ لِلْحَيْلُولَةِ وَوَضْعُ الْأَجْذَاعِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْحَيْلُولَةِ. وَفَتْحُ الْكَوَّةِ يَمْنَعُ مِنْهَا. فَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي فَتْحِ كَوَّةٍ ثُمَّ أَرَادَ سَدَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ. لِأَنَّهُ زِيَادَةُ بِنَاءٍ عَلَى حَائِطِهِ. وَالشَّرِيكَانِ فِي الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الْبِنَاءُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِيهِ. وَكُلمَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لِلْجَارِ أَنْ يَفْعَلَهُ. فَلَوْ صَالَحَ جَارَهُ عَلَى فَتْحِ كَوَّةٍ فِي حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ وَالضَّوْءِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ كَوَّةً فِي حَائِطِهِ فَأَرَادَ جَارُهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي وَجْهِهَا حَائِطًا فِي مِلْكِهِ يَمْنَعُهُ الضَّوْءَ مِنَ الْكَوَّةِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْكَوَّةِ أَنْ يَمْنَعَهُ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارٌ ظَهْرُهَا إِلَى زُقَاقٍ مَرْفُوعٍ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ مِنْ ظَهْرِ دَارِهِ إِلَى الزُّقَاقِ كَوَّةً أو ينصب شباك لِلضَّوْءِ جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ أَرَادَ فَتْحَ بَابٍ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ فَتْحَهُ لِلِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِطْرَاقِ الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ. وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ فَتْحَهُ لِيَنْصِبَ عَلَيْهِ بَابًا وَلَا يَسْتَطْرِقُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَدْمَ حَائِطِهِ كُلِّهِ جَازَ فَإِذَا أَرَادَ هَدْمَ بَعْضِهِ فَأَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَلِأَنَّهُ لو أراد يَحُولَ بَيْنَ دَارِهِ وَالزُّقَاقِ بِبِنَاءٍ جَازَ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا بِبَابٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلِاسْتِطْرَاقِ. لِأَنَّ الْبَابَ مِنْ شَوَاهِدِ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَدْمُ بَعْضِ الْحَائِطِ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ فِي الزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ دَارَانِ لِرَجُلَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي أَوَّلِهِ وَالْأُخْرَى في آخره فأراد صاحب الدار الأولى تَغْيِيرَ بَابِهِ وَنَقْلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَهُ إِلَى بَابِ الزُّقَاقِ كَانَ لَهُ. لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِطْرَاقَ إِلَى غَايَةٍ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا فَصَارَ تَارِكًا لِبَعْضِ حَقِّهِ. وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ بَابِهِ إِلَى صَدْرِ الزُّقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَجَاوِزًا لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِطْرَاقِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ عَرْصَةَ الزُّقَاقِ كُلَّهَا مُشْتَرِكَةً بينهما تخريجا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 مِنْ عَرْصَةِ السُّفْلِ، إِذَا تَنَازَعَهَا صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. فَأَمَّا صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِي صَدْرِ الزُّقَاقِ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ بَابِهِ جَازَ إِنْ لَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى دَارِهِ. وَإِنْ أَرَادَ إِدْخَالَ مَا وَرَاءَ الْبَابِ الْمُسْتَحْدَثِ إِلَى صَدْرِ الزُّقَاقِ فِي دَارِهِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا: هَلْ عَرْصَةُ الزُّقَاقِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الدَّارَيْنِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ مَنَعَ صَاحِبَ الصَّدْرِ مِنْ إِدْخَالِ ذَلِكَ فِي دَارِهِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُشْتَرِكَةً وَإِنَّ مَا يَتَجَاوَزُ بَابَ الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ بِمِلْكِ صَاحِبِ الصَّدْرِ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقِرَّ بَابَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَفْتَحَ دُونَهُ بَابًا ثَانِيًا جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ. وَقَالَ أبو حنيفة: أَمْنَعُهُ مِنْ فَتْحِ بَابٍ ثَانٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَدْخَلًا وَاحِدًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَدْخَلَيْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَدْخَلٍ أَوْ مَدْخَلَيْنِ. وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْبَابِ الْمُسْتَحْدَثَ لَوْ أَرَادَ هَدْمَهُ لِغَيْرِ بَابٍ جَازَ فَكَذَا الْبَابُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارَانِ مُتَلَاصِقَانِ وباب كل واحدة منها إِلَى زُقَاقٍ مَرْفُوعٍ فَأَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ الَّذِي بَيْنَ الدَّارَيْنِ جَازَ. وَلَوْ أَرَادَ فَتْحَ بَابٍ مِنْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى غَيْرِ نَافِذٍ لِيَسْتَطْرِقَهُ لَمْ يَجُزْ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَطْرِقًا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ مِنَ الزُّقَاقِ الَّذِي لَا حَقَّ لَهَا فِي الِاسْتِطْرَاقِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزُّقَاقَ مَرْفُوعٌ فَيَجْعَلُهُ بِفَتْحِ الْبَابِ مُسْتَطْرَقًا غَيْرَ مَرْفُوعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَخَبَّرَنَا بِهِ الإمام أبو علي الحسين بْنُ صَالِحِ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاءَا إِنْ كَانَ عَرْضُهُ ذِرَاعًا أُعْطِيهِ شِبْرًا فِي طُولِ الْجِدَارِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَزِيدَ مِنْ عَرْصَةِ دَارِكَ أَوْ بَيْتِكَ شِبْرًا آخَرَ لِيَكُونَ لَكَ جِدَارٌ خَالِصٌ فَذَلِكَ لَكَ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَرَادَ إِجْبَارَ شَرِيكِهِ عَلَيْهَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهَا لَمْ يخل ذلك من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ بِنَاءً لَا عَرْصَةَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أن يكون مَعًا. فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بِنَاءً لَا عَرْصَةَ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسَّمَ جَبْرًا لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا يُعْلَمُ مَا فِيهِ لِيَتَسَاوَيَا فِي الِاقْتِسَامِ بِهِ إِلَّا بَعْدَ هَدْمِهِ وَفِي هَدْمِهِ ضَرَرٌ فَلَمْ يَدْخُلْهُ إِجْبَارٌ فَإِنِ اصْطَلَحَا عَلَيْهِ جاز. وإن كان ذلك عرصة لأبناء فِيهَا دَخَلَهَا الْإِجْبَارُ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ دَعَا الطَّالِبُ إِلَى قسْمَةِ عَرْصَة الْحَائِطِ طُولًا أُجِيبَ إِلَيْهَا وَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ طُولُ الْعَرْصَةِ عَشَرَةَ أذرع وعرضها ذراع فيدعوا إِلَى قِسْمَةِ الطُّولِ لِيَكُونَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ أَيَّ النِّصْفَيْنِ حَصَلَ لَهُ بِالْقُرْعَةِ نَفَعَهُ، فَإِنْ دعي إلى القسمة عرضا ليكون له شبرا مِنَ الْعَرْضِ فِي الطُّولِ كُلِّهِ فَفِي جَوَازِ الْجَبْرِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ لَا يُجَابُ إِلَيْهَا وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ مَا دَخَلَتْهَا الْقُرْعَةُ. وَدُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مُضِرٌّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقُرْعَةِ مَا يَلِي صَاحِبَهُ، فَلَا يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ، وَعَادَتْ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَالْقِسْمَةُ إِذَا عَادَتْ بِضَرَرِ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَدْخُلْهَا الْإِجْبَارُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يُجَابُ إِلَيْهَا، وَيُقْسَمُ عَرْضُ الْعَرْصَةِ بَيْنَهُمَا، وَيُدْفَعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ منهما النصف الذي يليه بغير ذرعه، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ لِتَمْيِيزِ مَا اشْتَبَهَ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْأَنْفَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ مَا يَلِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِدُخُولِ الْقُرْعَةِ وَجْهٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَزِيدَ مِنْ عَرْصَةِ دَارِكَ أَوْ بَيْتِكَ شِبْرًا آخَرَ لِيَكُونَ لَكَ، جِدَارًا خَالِصًا فَذَلِكَ لَكَ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ مَشُورَةً كَمَا عَابَهُ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَنْتَفِعُ بِمَا صَارَ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ، بِأَنْ يَضُمَّ إِلَى الْعَرْصَةِ شِبْرًا لِيَصِيرَ جِدَارًا كَامِلًا. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بِنَاءً وَعَرْصَةً نُظِرَ فِي طَالِبِ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ دُعِيَ إليها عرضا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 لِيَكُونَ لَهُ شِبْرٌ مِنْ عَرْضِ الْبِنَاءِ، وَالْعَرِصَةِ مِنَ الطُّولِ كُلِّهِ، لَمْ يُجَبْ إِلَيْهَا جَبْرًا، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَرَاضِيًا وَاخْتِيَارًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَصِيرُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نِصْفِ الْعَرْضِ مُضِرٌّ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ. لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ هَدْمَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِهَدْمِ مَا لِشَرِيكِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ أَرَادَ وَضْعَ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَقَعَ الثِّقَلُ عَلَى مَا لِشَرِيكِهِ فَأَضَرَّ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا؟ قِيلَ إِنْ تَرَاضَيَا بِهَدْمِهِ فِي الْحَالِ وَالِاقْتِسَامِ بِآلَتِهِ جَازَ. وَإِنْ تَرَاضَيَا بِقِسْمَتِهِ بِنَاءً قَائِمًا، وَتَحْدِيدَ مَا لكل واحد منهما متصلا لم يجز وإن لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ فِيمَا بَعْدُ. وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَدْعُو إِلَى قِسْمَتِهِ طُولًا، لِيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ طُولًا فِي الْعَرْضِ كُلِّهِ جَازَتْ بِالتَّرَاضِي. وَفِي جَوَازِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا يُجَابُ إِلَيْهَا وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَدْمِ النِّصْفِ الَّذِي صَارَ لَهُ إِلَّا بِهَدْمِ شَيْءٍ مِنْ نِصْفِ صَاحِبِهِ فَصَارَتْ ضَرَرًا عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْبِرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ بِالْقُرْعَةِ، لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَدْمِ حِصَّتِهِ يَسِيرٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقِسْمَةِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ وَلَهُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِقَطْعِ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا بِالْمِنْشَارِ، فَلَا يَنْهَدِمُ مِنْ حِصَّةِ الآخر شيء. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ هَدَمَاهُ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا شَاءَ عَلَيْهِ إِذَا بَنَاهُ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ وَإِنْ شَاءَا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قُسِّمَتْ أَرْضُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا هَدَمَ الشَّرِيكَانِ حَائِطًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اصْطَلَحَا عِنْدَ بِنَائِهِ بِمَالِهِمَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِنْ أَجْذَاعٍ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا صُلْحٌ بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَذَلَ بِصُلْحِهِ عَلَى الثُّلُثِ بَعْدِ مِلْكِهِ النِّصْفَ سُدْسًا بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَبَذْلُ الْمِلْكِ فِي الصُّلْحِ إِذَا كَانَ عَبَثًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَصِحُّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الِانْتِقَالَ لِمِلْكِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ ارْتِفَاقًا مَجْهُولًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَانَا قَدْ عَمِلَا بِهِ وَوَضَعَا فَوْقَ الْحَائِطِ مَا شَاءَا فَالْمِلْكُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يأخذا صَاحِبَهُ بِقَلْعِ مَا وَضَعَهُ فِي الْحَائِطِ مِنْ أَجْذَاعِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ فَهُوَ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَفَسَدَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِذْنِ. وَلِأَنَّ الْإِذْنَ يَقْتَضِي وَضْعَ مَا يَسْتَأْنِفُهُ، كَمَا يَقْتَضِي وَضْعَ مَا تَقَدَّمَهُ ثُمَّ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْمُسْتَأْنِفِ، فَكَذَلِكَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا وَجْهَ، لِأَنْ يُقِرَّ أَجْذَاعَ مَنْ شَرَطَ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَضْعِ مَا شَاءَ مِنْ أَجْذَاعِهِ. (فَصْلٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ شَاءَا أَوْ أَحَدُهُمَا، قُسِّمَتْ أَرْضُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْعَرْصَةِ جَبْرًا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِيقَاعِهَا جَبْرًا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ طُولًا لَا عَرْضًا. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِيقَاعِهَا جَبْرًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ طُولًا وَعَرْضًا وَقَدْ مَضَى مشروحا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ السُّفْلُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْعُلُوُّ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا سَقْفَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ سَقْفَ السُّفْلِ تَابع لَهُ وَسَطْحَ الْعُلُوِّ أَرْضٌ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا كَانَ بَيْتٌ سُفْلُهُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ، فَاخْتَلَفَا فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَتَدَاعَيَاهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْعُلُوِّ إِلَّا بِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى مِلْكِهِ كَالْجِدَارِ الْمَبْنِيِّ فِي أَرْضِهِ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَلَطٌ وَكَوْنُ السَّقْفِ بَيْنَهُمَا أَصَحُّ. لِتَسَاوِي أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ وَتَصَرُّفِهِمَا فِيهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 فَهُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ سَقْفٌ وَمِرْفَقٌ، وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَرْضٌ وَمَقْعَدٌ، وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَالِهِمَا وَمُجَاوِرٌ لِمِلْكَيْهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ كَالْحَائِطِ إِذَا كَانَ بَيْنَ دَارَيْهِمَا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ مِنْ قَبْلُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَإِحْرَازُ الْمَتَاعِ الْمُعْتَادِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلَا تَعَدٍّ. كَالْحَائِطِ إِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لِأَحَدِهِمَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَأُقِرَّتِ الْأَجْذَاعُ عَلَى حَالِهَا. وَأَمَّا صَاحِبُ السُّفْلِ فَارْتِفَاقُهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَظِلًّا بِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى تَعْلِيقِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السَّقْفَ لَمْ يُوضَعْ غَالِبًا إِلَّا لِلِاسْتِظْلَالِ. وَلَا وَجْهَ لِمَا أَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَعْلِيقِ زِنْبِيلٍ عَلَيْهِ. وَوَضْعِ خُطَّافٍ فِيهِ. لِأَنَّ إِيتَادَ الْوَتَدِ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَسْبَلُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي السَّقْفِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ السُّفْلَ، فَهُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إِلَى مُنْتَهَى وَضْعِ الْأَجْذَاعِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ. وَلَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِط الْعُلُوّ، فَهُوَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مِمَّا فَوْقَ أَجْذَاعِ السَّقْفِ، لِأَنَّهُ فِي يَدَيْ صَاحِبِ الْعُلُوِّ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ. وَمَا كَانَ مِنَ الْحَائِطِ بَيْنَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ فِي خِلَالَ أَجْذَاعِ السَّقْفِ فَهُوَ بَيْنُهُمَا، لِأَنَّهُ تَبَعٌ للسقف المشترك بينهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ سَقَطَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا انْهَدَمَ الْبَيْتُ الَّذِي سُفْلُهُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ مَهْدُومًا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمَا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بِنَائِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا، وَيَخْتَصُّ صَاحِبُ السُّفْلِ بِبِنَاءِ السُّفْلِ إِلَى انْتِهَاءِ وَضْعِ الْأَجْذَاعِ. وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ الْعُلُوِّ إِلَى حَيْثُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ. فَلَوِ اخْتَلَفَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا أَنَّ ارْتِفَاعَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، فَقَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ، السُّفْلُ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُ الْعُلُوِّ خمسة أذرع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 وَقَالَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بَلِ ارْتِفَاعُ السُّفْلِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ وَارْتِفَاعُ الْعُلُوِّ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. فَقَدِ اخْتَلَفَا عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ لَا نِزَاعَ فِيهَا وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَاخْتَلَفَا فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ ادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَيْدِيهِمَا مَعًا عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهَا وَيُجْعَلُ الْعَشَرَةُ الْمُخْتَلَفُ عَلَيْهَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا مَعًا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ. ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ، بَعْدَ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبِنَاءِ حَقِّهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّقْفُ لِأَحَدِهِمَا، فَيَخْتَصُّ الَّذِي هُوَ لَهُ بِبِنَائِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنَ الْبِنَاءِ، وَيَدْعُوَ صَاحِبُ السُّفْلِ إِلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِبِنَاءِ سُفْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ عُلُوِّهِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي بِنَائِهِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّقْفُ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي إِجْبَارِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمُبَانَاةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ السُّفْلِ مِنْ بِنَائِهِ وَيَدْعُوَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ إِلَيْهِ لِيَبْنِيَ الْعُلُوَّ عَلَيْهِ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلَانِ: وَهَكَذَا الشَّرِيكَانِ فِي حَائِطٍ قَدِ انْهَدَمَ، إِذَا دُعِيَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْبِنَاءِ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ. هَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبِنَاءِ لِيَصِلَ الْآخَرُ إِلَى حَقِّهِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ مِنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ". فلما نفى لحقوق الْإِضْرَارِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِجْبَارِ. وَلِمَا رُوِيَ: أن الضحاك بن خليفة أنبع ماء بالعريص وَأَرَادَ أَنْ يُجْرِيَهُ إِلَى أَرْضِهِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِمْرَارِهِ عَلَى أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَامْتَنَعَ مُحَمَّدٌ مِنْ ذَلِكَ وَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ لِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ لَيَمُرَّنَّ بِهِ أَوْ أُمِرُّهُ عَلَى بَطْنِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ " قُضِيَ عَلَى بَعْضِ الْأَنْصَارِ، بِمِثْلِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ لِلْزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَلَى بَعْضِ الْأَنْصَارِ حَتَّى قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ ابن عمتك فتعمر وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجر بينهم ". فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا لِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنِ الْجَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ بِالْإِجْبَارِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتُحِقَّتِ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الضَّرَرِ بِهَا وَوَجَبَتِ الْقِسْمَةُ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِيَنْتَفِيَ الْإِضْرَارُ مَعَهَا، كَانَ وُجُوبُ الْمُبَانَاةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَضَاعُفِ الضَّرَرِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وبه قال أبي حنيفة أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِي ذَلِكَ وَيُتْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى أَنْ يَخْتَارَ الْبِنَاءَ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ". وَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى عِمَارَةِ مِلْكِهِ، وَلَا عِمَارَةِ مِلْكِ غَيْرِهِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى عِمَارَتِهِ فِي حَالِ الِاشْتِرَاكِ كَالزَّرْعِ وَالْغِرَاسِ طَرْدًا وَكَنَفَقَةِ البهائم عكسا. ولأنه لا يخلوا أَنْ يَكُونَ الْإِجْبَارُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، أَوْ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى واحد منهما. فأما الجواب عن قوله " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْيِ الضَّرَرِ عَنِ الطَّالِبِ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، بِأَوْلَى مِنْ نَفْيِهِ عَنِ الْمَطْلُوبِ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الطَّالِبِ. إِذْ لَيْسَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ عَنْهُمَا، فَتَنَاوَبَ الْأَمْرَانِ فِيهِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِعُمُومِهَا وَلَعَلَّ إِجْرَاءَ الْمَالِ قَدْ كَانَ مُسْتَحَقًّا مِنْ قَبْلُ. لِأَنَّ الإجماع لا يلزم أحد أَنْ يُجْرِيَ مَاءَ غَيْرِهِ عَلَى أَرْضِهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ بِهَا، فَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْغَيْرِ إِضْرَارٌ بِهَا. لِأَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُ مَا قُدِّرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْمُبَانَاةِ. وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلَيْسَتْ غُرْمًا، وَإِنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْمِلْكَيْنِ وَإِقْرَارِ الْحَقَّيْنِ وَالْعِمَارَةُ غُرْمٌ مَحْضٌ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِإِجْبَارِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 الْقَدِيمِ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَخَذَ بِالْعِمَارَةِ فِي الْحَالِ. فَإِنْ كَانَ فِي حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ كَانَتِ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ. وَإِنْ كَانَ فِي سُفْلٍ وَعُلُوٍّ اخْتَصَّ صَاحِبُ السُّفْلِ بِعِمَارَةِ سُفْلِهِ وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِعِمَارَةِ عُلُوِّهِ، وَاشْتَرَكَا فِي السَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُعْسِرًا قِيلَ لِلطَّالِبِ الدَّاعِي إِلَى الْعِمَارَةِ صَاحِبُكَ مُعْسِرٌ، وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْمُرَ جَمِيعَهُ بِمَالِكَ وَتَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِكَ إِذَا أَيْسَرَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ أَوْ تَكُفَّ. فَإِنْ بَادَرَ الطَّالِبُ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُوسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا أَيْسَرَ بِهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهَا حُكْمًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ لَا رُجُوعَ لَهُ بِهَا لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ وُجُوبُهَا إِلَّا بِحُكْمٍ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَمْنَعَ شَرِيكَهُ مِنْ بَيْعِ حِصَّتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا إِلَّا بَعْدَ أَخْذِ نَفَقَتِهِ، فَيَصِيرَ كَالْمَرْهُونِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ أبو حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ بِسَبَبِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِي الْعِمَارَةِ تَرْكًا وَمَنْعًا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ، وَقِيلَ لِطَالِبِهَا إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْمُرَ مُتَطَوِّعًا لِتَصِلَ إِلَى حَقِّكَ لَمْ تُمْنَعْ، وَلَا رُجُوعَ لَكَ بِشَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِكَ، وَلَا لَكَ مَنْعُ صَاحِبِكَ من بيع حصته والانتفاع بها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِأَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَبْنِيَ عُلُوَّهُ كَمَا كَانَ فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ سُكْنَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ مَنْعُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ مِنْ بِنَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّطَوُّعِ بِهَا. وَلَا لَهُ إِذَا بَنَاهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ سُكْنَى سُفْلِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ. فَأَمَّا الِارْتِفَاقُ بِحَائِطِ السُّفْلِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِآلَةِ صَاحِبِ السُّفْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الِارْتِفَاقِ بِحَائِطِهِ كَمَا جَرَتِ العادة به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 وَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ بِآلَةِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالِاسْتِنَادِ عَلَيْهِ. وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْقَرَارِ وَالِارْتِفَاقِ بِهِ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ رَسْمٌ فِي وَضْعِ جِذْعٍ أَوْ نَصْبِ رَفٍّ أَوْ إِيتَادِ وَتِدٍ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرَّسْمُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ جَارِيًا بِهِ. لِأَنَّ رَسْمَهُ كَانَ فِي حَائِطِهِ الْمَبْنِيِّ بآلته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَنَقْضُ الْجُدْرَانِ لَهُ وَمَتَى شَاءَ أَنْ يَهْدِمَهَا هَدَمَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا تَطَوَّعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ بِبِنَاءِ السُّفْلِ، ثُمَّ أَرَادَ هدمه لم تخل الآلة التي بنا بِهَا السُّفْلَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ أَوْ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ. فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِصَاحِبِ السُّفْلِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ هَدْمُ الْبِنَاءِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ. وَلَيْسَ لَهُ فِي هَدْمِ ذَلِكَ نَفْعٌ فَصَارَ كمن غصب نقرة فضربها دراهما، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا، أَوْ طِيبًا فَضَرَبَهُ لَبِنًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِعَادَةُ الدَّرَاهِمِ نَقْرَةً، وَالثَّوْبِ غَزْلًا، وَاللَّبَنِ طِينًا، لِأَنَّهُ عَيْبٌ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا. وَإِنْ كَانَتِ الْآلَةُ مِنَ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَاللَّبِنِ وَالطِّينِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَلَهُ هَدْمُ ذَلِكَ وَاسْتِرْجَاعُ آلَتِهِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى عَيْنِ مَالِهِ. فَإِنْ بَذَلَ لَهُ صَاحِبُ السُّفْلِ قِيمَةَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عَلَى قَبُولِهَا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. إِنْ قِيلَ: إِنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ إِذَا سَأَلَهُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ. يَجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ إِذَا بَذَلَهَا صَاحِبُ السُّفْلِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ مَا لَوْ طَالَبَ بِهِ مِنْ قَبْلُ لَلَزِمَهُ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ. لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ إِذَا تَطَوَّعَ بِالْبِنَاءِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ مَا لَوْ طولب به لم يلزمه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ لَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْإِصْلَاحِ لِضَرَرٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا يُمْنَعُ الْمَنْفَعَةَ فَإِنْ أَصْلَحَ غَيْرَهُ فَلَهُ عَيْنُ مَالِهِ مَتَى شَاءَ نَزَعَهُ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الشُّرَكَاءِ، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ نَهْرٌ فأفسد أو عين فغارت أو بئر ما فَانْطَمَثَ وَدَعَا بَعْضُهُمْ إِلَى حَفْرِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ وَامْتَنَعَ الْبَاقُونَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُونَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُونَ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْبَرُونَ، فَإِنِ اخْتَارُوا جَمِيعًا حَفْرَهُ وَإِلَّا تُرِكُوا. وَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْحَفْرِ جَبْرًا، أَوِ اخْتِيَارًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَؤُونَةِ الْحَفْرِ كَيْفَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ. فَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ أَهْلَ النَّهْرِ يَجْتَمِعُونَ مَعَ الْأَوَّلِ فَيَحْفِرُونَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْأَوَّلُ إِلَى آخِرِ مِلْكِهِ. خَرَجَ وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّانِي، وَخَرَجَ عِنْدَ آخِرِ مِلْكِهِ، وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّالِثِ هَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَخِيرِ، فَيَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِحَفْرِ مَا يَلِيهِ. قَالَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَاءَ أَهْلِ النَّهْرِ كُلَّهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكُوا جَمِيعًا فِي حَفْرِهِ وَلَيْسَ يَجْرِي مَاءُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْفِرَ مَعَهُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَؤُونَةَ الْحَفْرِ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى مِسَاحَاتِ الْأَرَضِينَ وَقَدْرِ جَرَيَانِهَا. لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ فِيهِ يَسْبَحُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَاتِهَا وَجَرَيَانِهَا وَمِنْهُمْ من قسطها على قدر مساحة وجوه الأرضين الَّتِي عَلَى النَّهْرِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقول أصحابه لأن مؤنة الْحَفْرِ تَزِيدُ بِطُولِ مِسَاحَةِ الْوَجْهِ الَّذِي عَلَى النَّهْرِ، وَتَقِلُّ بِقِصَرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَطَوَّعَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبِئْرِ أَوِ النَّهْرِ، بِحَفْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ بَاقِي شُرَكَائِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ قَبْلُ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهِ. وَإِنْ تَفَرَّدَ هَذَا بِآثَارِ الْحَفْرِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ آلَةٌ قَدْ نَصَبَهَا لاستسقاء الماء كالرشا ودلو عَلَى بِئْرٍ أَوْ دُولَابٍ وَبَكَرَةٍ عَلَى بِئْرٍ فَلَهُ مَنْعُ شُرَكَائِهِ مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ بِآلَتِهِ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِ. فَإِذَا أَرَادُوا تَعْلِيقَ رِشَا وَدَلْوٍ، أَوْ نَصبَ دُولَابٍ وَبَكَرَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ اسْتِسْقَاءِ الْمَاءِ الَّذِي هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ. فَإِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا رِشَا وَدَلْوًا وَاحِدًا قِيلَ لَهُ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُمَكِّنَهُمْ مِنَ السَّقْيِ بِرِشَاكَ وَدَلْوِكَ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْفَعَ رِشَاكَ وَدَلْوَكَ عِنْدَ اكْتِفَائِكَ لِيَنْصِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ رِشَا وَدَلْوًا، فَإِنْ رَضِيَ بِتَمْكِينِهِمْ مِنَ السَّقْيِ بِرِشَاهُ، وَدَلْوِهِ. وَأَبَوْا أَنْ يَسْقُوا إِلَّا بِرِشَاهُمْ وَدَلْوِهِمْ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَمْ فِي وَضْعِ دَلْوِهِمْ وَرِشَاهُمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُمُ الِاسْتِقَاءُ بَدَلْوِهِ وَرِشَاهُ، لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ ضمانها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الدعوى والبينات على كتاب اختلاف أَبِي حَنِيفَةَ: " فَإِذَا أَفَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ مَالًا أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ مَا أَنْفَقَ فِي السُّفْلِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا الْأَوَّلُ أَوْلَى بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الثَّانِي مُتَطَوِّعٌ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاضِيَهُ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا كِتَابُ الدَّعْوَى عَلَى كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَالَهُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ أَجْبَرَ فِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْمُحَافَرَةِ، كَمَا أَجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ. فَصَارَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الْمُبَانَاةِ وَالْمُحَافَرَةِ. فَإِنْ أُعْسِرَ بِهَا الْمُمْتَنِعُ وَأَنْفَقَ الطَّالِبُ، رَجَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ يَسَارِهِ بِمَا أَنْفَقَ إِذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْإِجْبَارَ عَلَى الْمُبَانَاةِ وَالْمُحَافَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ مَعَ سُقُوطِ الْإِجْبَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ السُّفْلِ قَدْ أَذِنَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ، فَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ عِنْدَ يَسَارِهِ، بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِإِذْنِهِ وَنَائِبًا عَنْهُ. أَوْ يَكُونَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ اتَّفَقَا عَلَى الْهَدْمِ لِيَبْنِيَا ذَلِكَ مِنْ بَعْدُ، فَإِذَا هَدَمَاهُ أُجْبِرَ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى الْبِنَاءِ، قَوْلًا وَاحِدًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يُخْرِجُ الْإِجْبَارَ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالَّذِي مَضَى، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُمَا لَمَّا اصْطَلَحَا عَلَى الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ صَارَ الْبِنَاءُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ لِيَفِيَ بِشَرْطِهِ. فَلَوْ أُعْسِرَ بِالْبِنَاءِ، كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ لِيَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ، فَيَكُونُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى عَلَى أبي حنيفة هُوَ مَا ذَكَرْنَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ فَاسْتَعْلَتْ وَانْتَشَرَتْ أَغْصَانُهَا عَلَى دَارِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ قَطْعُ مَا شَرَعَ فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى تَرْكِهِ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ نَخْلَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ، فَاسْتَعْلَتْ أَغْصَانُهَا وَانْتَشَرَتْ إِلَى دَارِ جَارِهِ، وَطَالَبَهُ الْجَارُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ فِي دَارِهِ مِنَ الْأَغْصَانِ فَذَلِكَ لَهُ. وَعَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ عَنْهُ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا مَلَكَ الِارْتِفَاقَ بِعُلُوِّهَا وَالْهَوَاءَ فِيهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ يَابِسَةً، قَطَعَ الْأَغْصَانَ الْمُنْتَشِرَةَ عَنْهَا. وَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً ثَنَاهَا وَشَدَّهَا إِلَى الشَّجَرَةِ أَوْ قَطَعَهَا إِنْ شَاءَ. فَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَطَعَ مَا انْتَشَرَ فِي دَارِهِ مِنَ الْأَغْصَانِ، فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً لَا تَنْثَنِي جَازَ وَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يُضَمَّنُ إِذَا قَطَعَهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ اتِّفَاقًا فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهِ مُؤَثِّرًا. فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَغْصَانُ رَطْبَةً فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الشَّجَرَةِ بِقِطَعِ الْغُصْنِ مِنْهَا، لِأَنَّ قَطْعَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عنه بأن يثني الغصن إلى الشجرة ويشد مَعَهَا فَصَارَ يَقْطَعُهُ مُتَعَدِّيًا،. فَإِنْ طَالَبَ صَاحِبُ الْغُصْنِ أَنْ يُصَالِحَهُ الْجَارُ عَلَى تَرْكِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ فِي الْهَوَاءِ لَمْ يَسْتَنِدْ عَلَى حَائِطِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَكَانَ بَاطِلًا. لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْهَوَاءِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ كَالْمَرَافِقِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ قَدِ اسْتَنَدَ عَلَى حَائِطِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْغُصْنُ يَابِسًا فَالصُّلْحُ عَلَى إِقْرَارِهِ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى وَضْعِ جِزْعٍ فِي حَائِطِهِ. وَإِنْ كَانَ الْغُصْنُ رَطْبًا فَفِي الصُّلْحِ عَلَى إِقْرَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّ الصُّلْحَ عَلَى إِقْرَارِهِ بَاطِلٌ، لأنه ينمى مَعَ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ صُلْحًا عَلَى مَجْهُولٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ النَّمَاءِ تَبَعًا لَا يَبْطُلُ بِالْجَهَالَةِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَرَافِقِ وَالْأَسَاسِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 (فَصْلٌ) إِذَا غَرَسَ الرَّجُلُ غَرْسًا فِي أَرْضِهِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْغَرْسَ إِذَا كَبُرَ وَطَالَ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُهُ إِلَى دَارِ الْجَارِ، لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قَلْعَ الْأَغْصَانِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي دَارِهِ وَلَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَوْجُودَةً. وَقَدْ لَا تُوجَدُ مِنْ بَعْدُ، وَإِنْ وُجِدَتْ فَقَدْ يَزُولُ مِلْكُ الْجَارِ فِيمَا بَعْدُ. وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَ حَفْرَ بِئْرٍ فِي أَرْضِهِ، وَكَانَتْ تَصِلُ نَدَاوَةُ الْبِئْرِ إِلَى حَائِطِ جَارِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَفْرِهَا، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ وَقُودِ النَّارِ وَإِنْ تَأَذَّى بِالدُّخَانِ. (فَصْلٌ) إِذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ إِلَى دَارِ جَارِهِ، فَطَالَبَهُ الْجَارُ بِإِزَالَةِ الْمَيْلِ عَنْ دَارِهِ فَذَلِكَ لَهُ، وَعَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَهْدِمَهُ لِيَزُولَ الْمَيْلُ. أَوْ يَهْدِمَ مِنْهُ الْقَدْرَ الْمَائِلَ. لِيَتَصَرَّفَ الْجَارُ فِي هَوَاءِ دَارِهِ كُلِّهِ. وَلَوْ كَانَ مَيْلُ الْحَائِطِ إِلَى دَارِ صَاحِبِهِ، وَكَانَ الْجَارُ خَائِفًا مِن انْهِدَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْ هَدْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَقًّا وَلَا أتلف عليه ملكا، وانهدامه في الثاني مضنون وَقَدْ لَا يَكُونُ. (فَصْلٌ) حَكَى أَبُو بَكْرِ بن إدريس عن أبي حامد المروروذي أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ سُئِلَ عَنْ شَجَرَةِ الْأُتْرُجِّ إِذَا انْتَشَرَتْ أَغْصَانُهَا إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ، وَدَخَلَ رَأَسُ الْغُصْنِ فِي بَرْنِيَّةٍ لَهُ وَانْعَقَدَتْ فِيهِ أُتْرُجَّةٌ وَكَبُرَتْ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهَا إِلَّا بقطع الغصن والأترجة أو كسر البرنية ما الْوَاجِبُ؟ فَقَالَ الْوَاجِبُ قَطْعُ الْغُصْنِ وَالْأُتْرُجَّةِ لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ، لِأَنَّ الْغُصْنَ لَمَّا شَرَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِإِزَالَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُزِلْهُ صَارَ مُسْتَعْدِيًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَ تَعَدِّيهِ. وَيَكُونُ الْقَطْعُ الْمُتَقَدِّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ صَاحِبِ الْبَرْنِيَّةِ تَعَدٍّ فِي وَضْعِهَا فِي مِلْكِهِ. فَقِيلَ لِأَبِي حَامِدٍ مَا تَقُولُ فِي الْبَرْنِيَّةِ إِذَا كَانَتْ وَدِيعَةً. فِي بَيْتِ رَجُلٍ، فَوَضَعَهَا فِي سَطْحِهِ حَتَّى وَقَعَتْ فِيهَا أُتْرُجَّةٌ مِنْ غُصْنِ جَارِهِ فَقَالَ: يَقْطَعُ الْأُتْرُجَّةَ لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ. لِأَنَّ قَطْعَ الْغُصْنِ قَدْ كَانَ مُسْتَحَقًّا مِنْ قَبْلُ. وَذَلِكَ أَسْبَقُ مَنْ وَضْعِ الْبَرْنِيَّةِ، فَقِيلَ لَهُ فَمَا تَقُولُ إِنْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ فِي دَارِهِ وَالْبَرْنِيَّةُ فِي يَدِهِ قَالَ يُقْطَعُ الْغُصْنُ أَيْضًا لِتَسْلَمَ الْبَرْنِيَّةُ. لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِ الْبَرْنِيَّةِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ غُصْنُ الشَّجَرَةِ فِيهَا. فَقِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي حَيَوَانٍ بَلَعَ لُؤْلُؤَةً. قَالَ لَا آمُرُ بِذَبْحِهِ وَأَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ خَيْطًا وَخَاطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ لَمْ يُكَلَّفِ الرَّدَّ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنْ قَبَضَ بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضٌ جَازَ فِيمَا قَبَضَ وَانْتُقِضَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ إِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُصَالِحُ الْقَابِضُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَاعْتَرَفَ بِهَا وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ إِذَا تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرَاهِمِ عِوَضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ صَرْفٌ يَلْزَمُ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَهَذَا يُوَافِقُنَا عَلَيْهِ أبو حنيفة فَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ الصُّلْحَ مُعَاوَضَةً يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ. وَلَوْ كَانَ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ حَتَّى يَجُوزَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَجَازَ فِيهِ إِسْقَاطُ حُكْمِ الرِّبَا وَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَابَضَا جَمِيعَ الْأَلْفِ قَبْلِ الِافْتِرَاقِ فَقَدِ انْتَجَزَ الصُّلْحُ وَانْبَرَمَ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّنَانِيرِ وَاسْتَوْفَى مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الصُّلْحِ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَيَعُودُ الْمُصَالِحُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيُطَالِبُ بِهَا دُونَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَضَا بَعْضَ الدَّرَاهِمِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَيَبْقَى بَعْضُهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. فَأَمَّا فِي الْمَقْبُوضِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ بمثابة الفساد المقترن بالعقد، يكون الصُّلْحُ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِبُطْلَانِهِ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِمَا فَارَقَ الْعَقْدَ. وَإِنَّ فَسَادَ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الصَّفْقَةُ بِمَا يَأْتِي مِنَ الْفَسَادِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ مَا بَقِيَ إِذَا عَرِيَ عَنِ الْفَسَادِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصُّلْحُ فِي الْمَقْبُوضِ جَائِزًا قَوْلًا وَاحِدًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمُصَالَحِ فَإِنْ كَانَ مَا اخْتَارَ الْفَسْخَ عِنْدَ فِرَاقِهِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَقِيَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ لِأَنَّ فِرَاقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَاقِي رِضًى مِنْهُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهَا بَعْدَ التَّرَاضِي. وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ فِرَاقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَاقِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ أَوْ يَفْسَخَ فَإِنْ فَسَخَ رَدَّ مَا قَبَضَ وَطَالَبَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ. وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي إِسْحَاقَ يَجْعَلُ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ الْمَطْلُوبَ الْمَقْبُوضَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الدَّنَانِيرِ. وَالثَّانِي: بِالْحِسَابِ وَالْقِسْطِ. وَعَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِهِ يُجْعَلُ الْمَقْبُوضُ مَأْخُوذًا بحسابه وقسطه قولا واحدا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا صَالَحَهُ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى نِصْفِهَا فَهَذَا حَطِيطَةٌ وَإِبْرَاءٌ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ. لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى قَبْضِ مَا بَقِيَ. (فَصْلٌ) وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ وَيَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ بِثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيهِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ. لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِيهِ يَجْعَلُهُ بَيْعَ دَيْنٍ بدين. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي دَارٍ فِي أيديهم يحق لِرَجُلٍ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَالْوَارِثُ الْمُقِرُّ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى إِخْوَتِهِ بِشَيْءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا عَلَى وَرَثَتِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَنَّ الْمُتَوَفَّى كَانَ قَدْ أَخَذَهَا مِنْهُ إِمَّا بِغَصْبٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ فَصَدَّقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَأَقَرَّ لَهُ بِالدَّارِ وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَالٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّارِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 وَالثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ عَنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصَالِحَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ صَالِحَهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ صَحَّ الصُّلْحُ فِيهَا وَكَانَ الْمُدَّعِي عَلَى مُطَالَبَتِهِ بَاقِي الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ شُفْعَةٌ فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ بِإِنْكَارِ الدَّعْوَى مُعْتَرِفُونَ بِإِبْطَالِ الصُّلْحِ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ لَهُمُ الشُّفْعَةَ فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ لَا بِالْإِرْثِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ عَنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ صَحَّ الصُّلْحُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِمْ وَفِي حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِيمَنْ صَالَحَ عَنْ غَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ أَيْضًا وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ فِي حِصَصِ بَاقِي الْوَرَثَةِ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْمُصَالِحِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَنِ ابْتَاعَ دَارًا بَعْضُهَا فِي يَدِهِ وَبَعْضُهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ صَحَّ الصُّلْحُ فِي الْجَمِيعِ. وَإِلَّا بَطَلَ الصُّلْحُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِيمَا بيده على قولين. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا فِي يَدَيْهِ فَاصْطَلَحَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لأحدهما سطحه والبناء على جدرانه بناء معلوم فَجَائِزٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا لَا يَجُوزُ أَقِيسُ عَلَى قَوْلِهِ فِي إِبْطَالِهِ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ مَالًا عَلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي بِنَائِهِ حَقًّا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدْرَانِهِ بِنَاءً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِمَسْطُورِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَد رَجُلٍ فَأَقَرَّ لَهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ صالح المقر بِأَنْ وَهَبَ لَهُ عُلُوَّ الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ صُلْحَ هِبَةٍ لَا صُلْحَ عَلَى مُعَاوَضَةٍ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ مَعَ بَيَانِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدي رَجُلٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِسُفْلِ الْبَيْتِ دُونَ عُلُوِّهِ. ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى السُّفْلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بِالْعُلُوِّ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِيَبْنِيَ عَلَى الْعُلُوِّ بِنَاءً مَعْلُومًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 [فهذا صلح جائز لأنه بيع سفل يعلو لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا فَيَكُونُ صُلْحَ مُعَاوَضَةٍ] فَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قول أبي الطيب ابن سَلَمَةَ إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِيمَنِ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ لَهُ بِجَمِيعِهِ ثُمَّ إِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ تَرَكَ لِلْمُقِرِّ سُفْلَ الْبَيْتِ تَرْكَ إِبْرَاءٍ لِيَبْنِيَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْعُلُوِّ بِنَاءً مَعْلُومًا. فَهَذَا صُلْحٌ جَائِزٌ وَيَكُونُ صُلْحَ حَطِيطَةٍ وَإِبْرَاءٍ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ مَنَعَ جَوَازَ الصُّلْحِ عَلَى سَقْفِ بَيْتِهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِخْرَاجِ جَنَاحٍ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَهَذَا خَطَأٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ صُلْحٌ عَلَى الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ عِوَضًا. وَالصُّلْحُ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى السَّقْفِ صُلْحٌ عَلَى مَمْلُوكٍ فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى الْبِنَاءِ فِي قرار أرضه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عُلُوَّ بَيْتٍ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدْرَانِهِ وَيَسْكُنَ عَلَى سَطْحِهِ أَجَزْتُ ذَلِكَ إذا سمينا مُنْتَهَى الْبُنْيَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْأَرْضِ فِي احْتِمَالِ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا عِنْدِي غَيْرُ مَنْعِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنْ يَقْتَسِمَا دَارًا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا السُّفْلُ وَلِلْآخَرِ الْعُلُوُّ حَتَّى يَكُونَ السُّفْلُ وَالْعُلُوُّ لِوَاحِدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عُلُوَّ بَيْتٍ دُونَ سُفْلِهِ. وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ إِفْرَادِ الْعُلُوِّ بِالْعَقْدِ دُونَ السُّفْلِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ تَبَعٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَرَافِقِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعُلُوَّ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ كَالسُّفْلِ. وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ لِلْعَرْصَةِ فِي الْبَيْعِ وَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ وَكَذَلِكَ الْعُلُوُّ وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ بِيعِ الْعُلُوِّ مُنْفَرِدًا دُونَ السُّفْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا إِذَا تَبَايَعَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ. فَإِنِ اشْتَرَطَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرْطِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا عَلَيْهِ بِنَاءً مَعْلُومًا بِصِفَاتِهِ طُولًا وَعَرْضًا وَيَصِفَانِ آلَتَهُ آجُرٌّ وَجَصٌّ وَلَبِنٌ وَطِينٌ فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ وَشَرْطٌ لَازِمٌ. وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا لِلْبَائِعِ الْمَنْعُ مِنْهُ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَبْنِيَ مَا شَاءَ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ وَبَيْعٌ بَاطِلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بُطْلَانِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَخَالَفَ الْأَرْضَ إِذَا عَاوَضَهُ عَلَى الْبِنَاءِ فِيهَا. لِأَنَّ الْأَرْضَ تَحْتَمِلُ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالشَّرْطِ. وَالْعُلُوُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِلَى حَدٍّ مُقَدَّرٍ فَافْتَرَقَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَا الْبِنَاءَ وَلَا يَشْتَرِطَا قَدْرَهُ وَلَا وَصَفَا طُولَهُ وَعَرْضَهُ بَلْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُطْلَقًا فَفِي الشَّرْطِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَازِمٌ وَيَبْنِي عَلَيْهِ مَا احْتَمَلَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَدَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْمُعْتَادِ الْمَأْلُوفِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالشَّرْطِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَادَاتِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ لَا يَتَّفِقُونَ فِيهِ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْحَالِ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا. لِفَسَادِ مَا ضُمِّنَ مِنَ الشَّرْطِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَبَايَعَاهُ بِشَرْطِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِذَا تَبَايَعَاهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ وَيَرْتَفِقَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ بَعْدَ أَنْ لَا يَبْنِيَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ وَقَدْ تَضَمَّنَهُ شَرْطٌ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَرْضًا عَلَى أَنْ لَا يَبْنِيَ فِيهَا. قِيلَ الشَّرْطُ لَمْ يَتَضَمَّنْ حَجْرًا فِيمَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ. وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ الْمَنْعَ مِنْ إِحْدَاثِ مَا لَيْسَ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُلُوِّ حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 بَيْعُهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْنِيَ فِيهَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمَبِيعَةَ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ فِيهَا حَقٌّ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْبُنْيَانِ فِيهَا ضَرَرٌ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعُلُوُّ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَفِي الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إِضْرَارٌ بِهِ فَصَارَ الشَّرْطُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِحَقِّهِ فَافْتَرَقَا. فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إذا شرط أَنْ لَا يَبْنِيَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِذَا تَبَايَعَاهُ مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْنِي عَلَيْهِ مَا احْتَمَلَهُ. لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ مَنَافِعِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالسُّفْلِ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى السُّكْنَى وَالِارْتِفَاقِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لَازِمٌ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى إِبْطَالِ بَيْعِ الْعُلُوِّ مُفْرَدًا عَنِ السُّفْلِ كَقَوْلِ أبي حنيفة. وَتَعَلُّقًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصُّلْحِ عَلَى إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ الَّذِي قَدْ مَضَى الِانْفِصَالُ عَنْهُ. ثُمَّ لِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِسْمَةِ دَارٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا سُفْلُهَا وَلِلْآخَرِ عُلُوُّهَا. فَجَعَلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا مَنَعَ مِنْ قِسْمَةِ الدَّارِ أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَسُفْلُهَا لِلْآخَرِ إِجْبَارًا أَوْ كُرْهًا. لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ تُوجِبُ تَعْدِيلَ الْمِلْكِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ لِيَكُونَ شَطْرُ الدَّارِ عُلُوًّا وَسُفْلًا لِأَحَدِهِمَا وَشَطْرًا لِلْآخَرِ بِقَدْرِ السِّهَامِ فِي الْمِلْكِ. فَأَمَّا إِذَا تَرَاضَيَا الشَّرِيكَانِ بِقِسْمَةِ الدَّارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ سُفْلُهَا لِأَحَدِهِمَا وَعُلُوُّهَا لِلْآخَرِ جَازَ. وَالصُّلْحُ إِنَّمَا هُوَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْتَبَرَ فيه قسمة الإجبار. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ مَنَازِلُ سُفْلٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالْعُلُوُّ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا الْعَرْصَةَ فَهِيَ بَيْنَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ عُلُوُّهَا لِرَجُلٍ وَسُفْلُهَا لِغَيْرِهِ وَاخْتَلَفَا فِي عَرْصَةِ الدَّارِ فَادَّعَاهَا صَاحِبُ السُّفْلِ وَقَالَ هِيَ لِي وَادَّعَاهَا صَاحِبُ الْعُلُوِّ وَقَالَ هِيَ لِي، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرْصَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا مَمَرٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَوْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مَمَرٌّ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَمَرٌّ وَاسْتِطْرَاقٌ لِأَنَّهُ يَصْعَدُ إِلَى عُلُوِّهِ بَعْدَ اجْتِيَازِهِ فِيهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهَا. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِيهَا فَصَارَتْ بِأَيْدِيهِمَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَمَرٌّ وَلَا لَهُ فِيهَا اسْتِطْرَاقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ محولة عن ممره وموضع استطراقه بِبَابٍ أَوْ بِنَاءٍ كَدَوَاخِلِ الْبُيُوتِ فَيَكُونَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ قَدْ تَفَرَّدَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَصَارَ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَمَرِّهِ وَمَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ دُونَهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَمَرُّهُ فِي بَعْضِ الصَّحْنِ وَبَاقِيهِ مُتَّصِلٌ بِهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ اسْتِطْرَاقٌ فِيهِ. فَالْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ مَمَرًّا أَوِ اسْتِطْرَاقًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَمَا وَرَاءَهُ مِمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِطْرَاقِهِ وَلَا حَائِلَ دُونَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: - أَصَحُّهُمَا: يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ لِتَفَرُّدِهِ بِالْيَدِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا. لِاتِّصَالِهِ بِمَا هَذَا حُكْمُهُ. وَمِنْ هذين الوجهين مضى تخريج الوجهين في عرضة الزقاق المرفوع. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ فِيهَا دَرَجٌ إِلَى عُلُوِّهَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ كَانَتْ مَعْقُودَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُودَةٍ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ مَمَرًّا وَإِنِ انْتُفِعَ بِمَا تَحْتَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اخْتَلَفَ صَاحِبُ السُّفْلِ وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ فِي دَرَجَةٍ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا مِرْفَقٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهَا مِرْفَق لِصَاحِبِ السُّفْلِ بَلْ كَانَتْ صَمَّاءَ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ لِأَنَّهَا لَا تُتَّخَذُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا مَمَرًّا فَصَارَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَحَقَّ بِهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَالْيَدِ عَلَيْهَا. فَكَانَ أَحَقَّ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا مِرْفَقٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِرْفَقًا كَامِلًا كَبَيْتٍ أَوْ خِزَانَةٍ تَصْلُحُ لِلسُّكْنَى أَوْ إِحْرَازِ الْقِيَاسِ فَتَكُونُ الدَّرَجَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. كَالسَّقْفِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا تَصَرُّفًا وَلَهُ عَلَيْهَا يَدًا فَصَارَا فِيهَا سَوَاءً. إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِالتَّصَرُّفِ فِي سُفْلِهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ الصُّعُودُ عَلَيْهَا. وَصَاحِبُ الْعُلُوِّ مُخْتَصٌّ بِالصُّعُودِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا تَحْتَهَا. كَالسَّقْفِ الْمَجْعُولِ بَيْنَ صَاحِبِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمِرْفَقُ نَاقِصًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا رَفٌّ أَوْ مَوْضِعُ جُبٍّ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْتًا كَامِلًا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَالْبَيْتِ لِارْتِفَاقِهِمَا بِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهَا أَكْمَلُ وَيَدَهُ عَلَيْهَا أقوى وهذا قول أبي حامد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ زَرْعًا فِي أَرْضٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ فَجَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ زَرْعَهُ أَخْضَرَ مِمَّنْ يَقْصِلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ زَرْعٌ فِي أَرْضٍ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَذَلَهُ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّرْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُها: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِكُلِّ حَالٍ كَالزَّرْعِ إِذَا اشْتَدَّ وَكَانَ بَارِزَ الْحَبِّ كَالشَّعِيرِ فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا بِحَالٍ كَالْبَذْرِ قَبْلَ نَبَاتِهِ وَمَا اشْتَدَّ مِنَ الزَّرْعِ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا فِي أَكْمَامِهِ كَالْحِنْطَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الصُّلْحُ. وَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَالِحِ بَاذِلِ الْمَالِ أَوْ لَا تَكُونَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لَهُ بَطَلَ صُلْحُهُ عَلَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَبْطُلُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ فَفِي صُلْحِهِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فَصَارَ كَمُشْتَرِي الزَّرْعِ مَعَ الْأَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ قَدِ انْفَرَدَ بِالزَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِمَا لَمْ يَدْخُلِ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسَّمَ الزَّرْعُ أَخْضَرَ وَلَا يُجْبَرُ شَرِيكُهُ عَلَى أَنْ يَقْلَعَ مِنْهُ شَيْئًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَصَالَحَهُ الْمُصَدِّقُ عَلَى نِصْفِهِ بِمَالٍ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ. كَسُنْبُلِ الشَّعِيرِ وَمَا بَرَزَ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُشْتَدَّةِ جَازَ الصُّلْحُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْقَطْعِ فِيهِ كَالزَّرْعِ الَّذِي هُوَ بَقْلٌ لَمْ يَشْتَدَّ نُظِرَ. فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لِلْمُقِرِّ الْمُصَالِحِ فَهَذَا الصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِي نِصْفِ الزَّرْعِ مُشَاعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَقِسْمَتُهُ لَا تَلْزَمُ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمُقِرِّ الْمُصَالِحِ فَفِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ: إِنْ قِيلَ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهِ لَازِمٌ بَطَلَ الصُّلْحُ لِتَعَذُّرِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَطْعِ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ صَحَّ الصُّلْحُ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ لِمُدَّعِيهِ بِنِصْفِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ كَانَ الصُّلْحُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ لَهُ وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُصَالِحًا عَلَى نِصْفِهِ مُشَاعًا فَتَعَذَّرَ اشْتِرَاطُ قَطْعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وهو حسبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 (كتاب الحوالة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا اتبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. فَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْهَا طَرِيقَيْنِ وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ الثَّالِثَ. أَحَدُهَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ". وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) . وَالثَّالِثُ: تَفَرَّدَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، فَرَوَاهُ أَبُو بِشْرِ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ " وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فِيمَا نَحْكِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا بَعْدُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحَوَالَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ بِمُحِيلٍ، وَمُحْتَالٍ، وَمُحَالٍ عَلَيْهِ وَمُحَالٍ بِهِ. فَأَمَّا الْمُحِيلُ، فَهُوَ الَّذِي كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، فَنَقَلَهُ بِالْحَوَالَةِ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِنَقْلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا لِأَنَّ رِضَاهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لَا نَقْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ نَقْلَ الحق إلى عين يعطها بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَذَا لَوْ سُئِلَ نَقْلَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى وَرِضَاهُ بِنَقْلِ الْحَقِّ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَلَيْسَ قَبُولُهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ قَبُولُهَا إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ وَاجِبٌ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ ". وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا " فَكَانَ عَامًّا. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي فِي الذِّمَمِ قَدْ تَنْتَقِلُ تَارَةً إِلَى ذِمَّةٍ بِالْحَوَالَةِ، وَتَارَةً إِلَى عَيْنٍ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ نَقْلَهُ إِلَى الْعَيْنِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، فَنَقْلُهُ إِلَى الذِّمَّةِ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، لِأَنَّهُ بِنَقْلِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى قَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ وَبِنَقْلِهِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً سِلْمًا وَتَارَةً دَيْنًا فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي السِّلْمِ، لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي الدَّيْنِ أَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حَظْرٍ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَنِ انْتَقَلَ الْحَقُّ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّتِهِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، بَلْ تَتِمُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ سَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَرْضَ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ الْحَوَالَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَرْضَ بِهَا لَمْ تَصِحَّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ كَانَ وَجُودُهُ فِي الْحَوَالَةِ شَرْطًا كَانَ رِضَاهُ فِيهَا شَرْطًا كَالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ. وَلِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَصْلًا وَبِالرَّهْنِ فَرْعًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُوَلّى الرَّهْنَ غَيْرُهُ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُوَلّى الذِّمَّةَ غَيْرُهُ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَسْهَلَ اقْتِضَاءً وَأَسْهَلَ مُعَامَلَةً وَأَسْمَحَ قَبْضًا، فَلَا يَرْضَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِمُعَامَلَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ مُعَامَلَتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ بَقَاءُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِهِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، مَمْلُوكُ الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي نَقْلِ الْمِلْكِ، كبيع العبد المملوك، ولأن بالحوالة يزول ملكه عَنِ الدَّيْنِ كَالْإِبْرَاءِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُبَرَّأِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ، لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَلِأَنَّ مَالِكَ الدَّيْنِ مُخَيَّرٌ فِي اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَالْوَكِيلِ وَكَذَلِكَ بِالْمُحْتَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ فَالْمَعْنَى فِي الْمُحِيلِ أَنَّهُ مَالِكٌ فَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْمُحْتَالِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتِمَّ الْبَرَاءَةُ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ، لَمْ تَتِمَّ الْحَوَالَةُ بِهِ إِلَّا عَنْ رِضَاهُ، وَلَمَّا تَمَّتِ الْبَرَاءَةُ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرَّهْنِ فَهُوَ إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُحِيلُ مَالِكًا لِلدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرَهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِمُعَامَلَتِهِ وَلَا دَخَلَ إِلَّا تَحْتَ مِلْكِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْوَكِيلِ ثُمَّ يُقَالُ هُوَ كَمَا قَدْ مُلِكَتْ ذِمَّتُهُ كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فِي تَمْلِيكِ رَقَبْتِهِ أَشْبَهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُحَالُ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَحَوَّلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلِلْحَقِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ لَازِمًا مُسْتَقِرًّا، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا مُسْتَقِرًّا كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَقْبُوضِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ إِذَا كَانَتْ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ جَائِزَةٌ فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِدَنَانِيرَ وَلَوْ كَانَ بِصِحَاحٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِمُكَسَّرَةٍ. وَلَوْ كَانَ حَالًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِمُؤَجَّلٍ، حَتَّى يُحِيلَهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ وَفِي الصِّحَاحِ بِصِحَاحٍ، وَفِي الْحَالِّ بِحَالٍّ، وَفِي الْمُؤَجَّلِ بِمُؤَجَّلٍ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُسْتَقِرُّ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْقَرْضِ وَمَا اسْتُهْلِكَ بِالْغَصْبِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ جَائِزَةٌ. كَمَا تَجُوزُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالسَّلَمِ، فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ بِهِ وَجْهَيْنِ مِن اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَوَالَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، فَجَوَّزَ الْحَوَالَةَ بِهِ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَأَبْطَلَهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَ لَازِمٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ كَمَالِ الْجَعَالَةِ وَعِوَضِ الْكِتَابَةِ فَالْحَوَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ قَبْلَ الْحَوَالَةِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا بِالْحَوَالَةِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَفِي جَوَازِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَجُوزُ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَالثَّانِي: لَا تَجُوزُ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْحَقِّ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ فَمَتَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَقُّ الَّذِي أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا لِلْمُحْتَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ وَتَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ قَبْلَ أَدَائِهَا، فَإِنْ أَدَّاهَا بِأَمْرٍ رَجَعَ بِهَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ السَّلَمِ إِنَّ الْحَوَالَةَ بَيْعٌ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ قَدْ عَاوَضَ عَلَى ذِمَّةٍ بِذِمَّةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الْبُيُوعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. فَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ بَيْعُ دَيْنٍ بَدَيْنٍ يَخْتَصُّ بِالشَّرْعِ أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: ثُمَّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الثَّلَاثِ فَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَعَلَى الوجه الذي نقول إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ في عقود المعاوضات وعلى الوجه الذي نقول إِنَّهَا [عَقْدُ بَيْعٍ فَفِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَهَذَا على الوجه الذي نقول إِنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ إِذَا قِيلَ] إِنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهَا وَالضَّمَانِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا بيع دين بدين. ( مسألة ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي هَذَا دَلَالَة أَنَّ الْحَقَّ يَتَحَوَّلُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ الْمُحِيلُ فَلَا يَرْجِعُ عليه أبدا كان المحال عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 مُعْدِمًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَبِلَ الْمُحْتَالُ الْحَوَالَةَ فَقَدِ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ جَحَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ وَقَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا أَوْ جَحَدَ الْحَقَّ حَيًّا، وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَإِذَا أَفْلَسَ حَيًّا وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ خليد بن جعفر عن أبي إياس معونة بْنِ قُرَّةَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ يَرْجِعُ صَاحِبُهَا لَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي الذِّمَمِ قَدْ تَنْتَقِلُ تَارَةً إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَوَالَةِ وَتَارَةً إِلَى عَيْنٍ بِالْمُعَاوَضَةِ فَلَمَّا كَانَ تَلَفُ الْعَيْنِ قَبْلَ قَبْضِهَا يُوجِبُ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَلَفُ الذِّمَّةِ قَبْلَ قَبْضِ الْحَقِّ مِنْهَا. يُوجِبُ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا إِنَّهُ حَقٌّ انْتَقَلَ مِنَ الذِّمَّةِ إِلَى جِهَةٍ فَاتَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الذِّمَّةِ الَّتِي كَانَ ثَابِتًا فِيهَا. كَالْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ خَرَابَ الذِّمَّةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَيْبِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ جَرَى مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ فَقَدْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْعَيْبِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى. قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَرَابُ الذِّمَّةِ بِالْفَلَسِ يُوجِبُ عِنْدَكُمْ عَوْدَ الْحَقِّ إِلَى الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ كَانَ مَا يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى الذِّمَّةِ الْأُولَى أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ " فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمَا كَانَ لِاشْتِرَاطِ الْمُلَاءَةِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ رَجَعَ فَلَمَّا شَرَطَ الْمُلَاءَةَ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ قَدِ انْتَقَلَ بِهَا انْتِقَالًا لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ فَاشْتَرَطَ الْمُلَاءَةَ حِرَاسَةً لِحَقِّهِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي قَوْلُهُ: فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ فَأَوْجَبَ عُمُومُ الظَّاهِرِ اتِّبَاعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَبَدًا، أَفْلَسَ أَوْ لَمْ يُفْلِسْ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِحَزْنٍ جَدِّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالٌ، فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَرَجَعَ حَزْنٌ إِلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ: قَدْ مَاتَ مَنْ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَدِ اخْتَرْتَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا أَبْعَدَكَ اللَّهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَلَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 فَإِنْ عُورِضَ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ، كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَا نَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ بَقَاءِ عَلَقَةٍ يمنع مِنْ عَوْدِهِ كَمَا لَوْ سَقَطَ بِقَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَلِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْحَوَالَةِ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ حَيًّا، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ فِي ذِمَّتِهِ فَمَوْتُهُ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ لِأَجْلِهِ كَالْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِذَا مَاتَ لَمْ يُوجِبْ مَوْتُهُ فَسْخَ الشِّرَاءِ وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الْحَقِّ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِبْدَالِ فِي الْأَعْيَانِ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالْحَقِّ تَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ صَرْفٌ يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ قَبَضَ لَبَطَلَ بِالِافْتِرَاقِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُحِيلَ لَوْ مَاتَ جَازَ لِوَرَثَتِهِ الِاقْتِسَامُ بِالتَّرِكَةِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِيهَا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَقْبُوضٌ وَالْحُقُوقُ الْمَقْبُوضَةُ إِذَا تَلِفَتِ الرُّجُوعُ بِهَا كَالْأَعْيَانِ الْمَقْبُوضَةِ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَاهُ، وَهُوَ تُحَوُّلُ الْحَقِّ بِهِ كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ انْضِمَامِ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ بَعْدَ تَحَوُّلِهِ إِلَّا بِمِثْلِ مَا انْتَقَلَ بِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا رِوَايَةُ خُلَيْدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ لَمْ يَلْقَ عُثْمَانَ وَالْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ فَكَانَ شَكًّا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ يَرْجِعُ وَفِي الْحَوَالَةِ لَا يَرْجِعُ، وَالشَّكُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِهِ فِي الْحَوَالَةِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِأَنَّهُ قَالَ لَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فَيُحْمَلُ أَنَّهُ لَا تَوَى عَلَى مَالِ الْمُحْتَالِ وَلَيْسَ أَحَدُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ أَوْلَى وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ فَهُوَ إِنَّ الْحَوَالَةَ قَبْضٌ لِلْحَقِّ بِدَلِيلِ مَا مَضَى وَمَا تَلِفَ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِهِ كَالْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْعَيْبِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعَيْبِ وَالْعُيُوبُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهَا كَالْأَعْيَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا أَلْزَمُوهُ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ إِنَّنَا جَمِيعًا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الرُّجُوعَ فِي الْحَوَالَةِ دُونَ الْمَبِيعِ وَنَحْنُ نُوجِبُ الرُّجُوعَ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الْحَوَالَةِ فَهَذَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ. ثُمَّ الْفَرْقُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إنَّ الْعَلَقَ فِي الْحَوَالَةِ مُنْقَطِعَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ فِيهَا وَالْعَلَقُ فِي الْمَبِيعِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ الْحَقُّ إِلَى المبيع بالفلس الحادث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه: " غرمنه أو لم يغرمنه ولو كان كما قال محمد بن الحسن إذا أفلس أو مات مفلسا رجع على المحيل لما صبر المحتال على من أحيل لأن حقه ثابت على المحيل ولا يخلو من أن يكون حقه قد تحول عني فصار إلى غيري فلم يأخذني بما برئت منه لأن أفلس غيري أو لا يكون حقه تحول عني فلم أبرأني منه قبل أن يفلس المحال عليه واحتج محمد بن الحسن بأن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ يَرْجِعُ صَاحِبُهَا لَا تَوَى عَلَى مال مسلم وهو عندي يبطل من وجهين ولو صح ما كان له فيه شيء لأنه لا يدري قال ذلك في الحوالة أو الكفالة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحَالَهُ بِالْحَقِّ عَلَى رَجُلٍ فَكَانَ وَقْتَ الْحَوَالَةِ مُعْسِرًا لَمْ يَرْجِعِ الْمُحْتَالُ كَمَا لَوْ حَدَثَ إِعْسَارٌ سَوَاءٌ غَرَّهُ بِذِكْرِ يَسَارِهِ أَوْ لَمْ يَغُرَّهُ وقال مالك: إن غره بذكر يساره يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَغُرَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ بِالْغُرُورِ فِي الْعَيْبِ وَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُحْتَالُ بِالْغُرُورِ فِي الْيَسَارِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرُّجُوعَ إِذَا لَمْ يَكُنْ غُرُورًا وَكَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ مَعَ الْغُرُورِ وَالْعُيُوب لَمَّا رَجَعَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْغُرُورِ بِهَا رَجَعَ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِعْسَارَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ قَدْ يصل إليه من غير المحيل فلم يكون لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ، وَالْعُيُوبُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْبَائِعِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِهَا مَعَ الْغُرُورِ فَصَحَّ أَنْ لَا رُجُوعَ لِلْمُحْتَالِ بِإِعْسَارِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ إِعْسَارًا حَادِثًا أَوْ سَالِفًا مَغْرُورًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَغْرُورٍ. (مَسَائِلُ الْمُزَنِيِّ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ المزني: " هذه مسائل تحريت فيها معاني جوابات الشافعي في الحوالة (قال المزني) قلت أنا من ذَلِكَ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاحْتَالَ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بَطُلَتِ الْحَوَالَةُ وَإِنْ رَدَّ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْبَائِعُ مَا احْتَالَ بِهِ رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَكَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهُ بَرِيئًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ أَحَالَ الْبَائِعَ بِالْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ أَلْفٌ، فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُحِيلًا وَالْبَائِعُ مُحْتَالًا وَالْأَجْنَبِيُّ مُحَالًا عَلَيْهِ، وَفِي مَذْهَبِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَلَيْسَ رِضَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 المحال عليه شرطا فيها فصارت الحوالة هاهنا تَامَّةً بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوَالَةِ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا مُتَقَدِّمًا فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْبِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْأَلْفَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ بِرَدِّ الْعَبْدِ وَبَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا لِأَنَّهُ دَفَعَهَا عَنْ أَمْرِ الْمَالِكِ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا رَدَّ الْعَبْدَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِهَا لِأَنَّ رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضِ الْحَوَالَةَ قَبْلَ رَدِّ الْمُشْتَرَى عليه العبد بالعيب، فقد قال المزني هاهنا فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ إِنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ. وَهَكَذَا قَالَ فِي حِكَايَةٍ شَاذَّةٍ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ: الْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ لَا تُبْطِلُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ، وَجُمْهُورِ النُّسَخِ مِنْ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَإِنَّ مَنْ حَكَى عَنِ الْجَامِعِ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ خَاطِئٌ فِي النَّقْلِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَمَّتْ بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَقَدِ اتَّفَقْنَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى إِبْطَالِ سَبَبِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَكُونَ الْبَائِعُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الْحَوَالَةَ ثَابِتَةٌ لَا تَبْطُلُ عَلَى الْحِكَايَةِ الشَّاذَّةِ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَإِنَّ مَا قَالَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ خَطَأٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَهَذِهِ أَسْوَأُ الطُّرُقِ. وَكَانَ مِنْ دَلِيلِهِ عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ فَسَادِهَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَبُطْلَانِهَا بِالْحِجَاجِ الصَّحِيحِ أَنْ قَالَ أَخْذُ الْبَائِعِ بالثمن حوالة كأخذه بالثمن عوضا فَلَمَّا كَانَ إِذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ عِوَضًا أَوْ ثَوْبًا ثُمَّ تَرَادَّا بِعَيْبٍ لَمْ يَنْفَسِخْ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنِ الْعِوَضِ الَّذِي أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ دُونَ الْعِوَضِ، كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ حَوَالَةً لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ وَكَانَ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذكره إن أخذه بالثمن عوضا هو عقد بيع ثَانٍ فَلَمْ يَكُنْ فَسْخُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَخْذُ الْحَوَالَةِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ فَإِذَا انْفَسَخَ بَطَلَ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ كِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضُوعُ الَّذِي أَبْطَلَ الْحَوَالَةَ إِذَا كَانَ رَدُّ الْعَبْدِ قَبْلَ قَبْضِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَعْدَ قَبْضِهَا قَدِ انْقَطَعَتْ عُلْقَتُهَا وَانْبَرَمَتْ وَلَمْ يَلْحَقْهَا الْفَسَادُ وَهِيَ قَبْلَ قَبْضِهَا مَوْقُوفَةٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 عليه وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ إِنْ صَحَّ النَّقْلَانِ مَعًا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ النَّقْلَانِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى. فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ حُرًّا، أَوْ مُسْتَحِقًّا فَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ - عِنْدَ كَافَّةِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ بِحَالٍ. وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ الْحَوَالَةَ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَقَدِّمًا فَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَثْبَتَهَا إِذَا جَازَ حُدُوثُ مِثْلِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ وَرُدَّتْ عَلَى الْمُشْتَرِي - وَحَلَفَ وَاسْتَحَقَّ الرَّدَّ، فَالْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُلُ بِاتِّفَاقِ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ كَمَا كَانَ تَمَامُهَا بِهِمَا، - وَإِذَا أَنْكَرَ الْبَائِعُ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ صَارَ بُطْلَانُهَا لَوْ أُبْطِلَتْ بِقَوْلِ الْمُحْتَالِ وَحْدَهُ وَهُوَ الْمُشْتَرِي، وَالْحَوَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِقَوْلِهِ وحده وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي. (قال المزني) وفي إبطال الحوالة نظر (قال) وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَحَالَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الألف رجلا له عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَصَادَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَبَايَعَاهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَإِنَ الْحَوَالَةَ لَا تَنْتَقِضُ لِأَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ بِقَوْلِهِمَا حَقًّا لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمُحْتَالُ أَوْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ انْتَقَضَتِ الْحِوَالَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَيَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَلْفٌ فَيُحِيلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، فَيَصِيرُ الْبَائِعُ مُحِيلًا، وَالْأَجْنَبِيُّ الْغَرِيمُ مُحْتَالًا، وَالْمُشْتَرِي مُحَالًا عَلَيْهِ، وَالْحَوَالَةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا تتم بالمحيل والمحتال فتصير حينئذ هاهنا تَامَّةً بِالْبَائِعِ وَالْغَرِيمِ الْأَجْنَبِيِّ. ثُمَّ إِنِ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ بَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَقُومَ بِحُرِّيَّتِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ فَتَبْطُلَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا تَقُومَ بَيِّنَةٌ وَإِنَّمَا يَتَصَادَقُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حُرِّيَّتِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْغَرِيمُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ، وَأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بِثَمَنِهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ تَمَّتْ بِهِ الْحَوَالَةُ قَدِ اعْتَرَفَ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ الْبَائِعُ الْمُحِيلُ وَالْغَرِيمُ الْمُحْتَالُ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَمَّتْ بِالْبَائِعِ وَالْغَرِيمِ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْبَائِعِ وَحْدَهُ. وَهَكَذَا لَوْ صَدَّقَهُمَا عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ الَّذِي تَبَايَعَاهُ وَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِثَمَنِهِ وَذَكَرَ أَنَّهَا بِمَالِ غَيْرِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَرِيمِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ وَالْحَوَالَةُ بِحَالِهَا صَحِيحَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِعَيْبٍ وَتَفَاسَخَا الْبَيْعَ فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْغَرِيمُ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَ ثَمَنُهُ لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ وَإِنْ صَادَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِهِ فَإِنْ تَرَادَّا الْبَيْعَ وَتَفَاسَخَا بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، لَمْ تَبْطُلِ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا إِذَا تَمَّتْ لَمْ يَكُنْ فَسْخُهَا مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَمَامُهَا مُعْتَبَرًا بِهِ وَإِنْ تَفَاسَخَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَفِي بُطْلَانِ الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ لِمَا عَلَّلْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَبْطُلُ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إِذَا نَفِذَ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْفَسْخِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَلَمْ يَبْقَ له علقة. (قال المزني) : " ولو أَحَالَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُحِيلُ أَنْتَ وَكِيلِي فِيهَا وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَنْتَ أَحَلْتَنِي بِمَالِي عَلَيْكَ وَتَصَادَقَا عَلَى الْحِوَالَةِ وَالضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالُ مُدَّعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَحَالَ رَجُلًا بِأَلْفٍ عَلَى رَجُلٍ، وَكَانَ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ مَالٌ، وَالْحَوَالَةُ مُطْلَقَةٌ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ الْمُحِيلُ بِأَنَّهَا مِنْ حَقِّكَ، وَلَا بِأَنَّكَ نَائِبٌ فِي قَبْضِهَا عَنِّي، وَلَيْسَتْ مِنْ حَقِّكَ بَلْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُحِيلُ: أَرَدْتَ الْوَكَالَةَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ لِتَكُونَ نَائِبًا فِي قَبْضِهَا عَنِّي فَهِيَ لِي فِي يَدِكَ، وَلَيْسَتْ مِنْ حَقِّكَ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ هِيَ حَوَالَةٌ مِنْ حَقِّي، وَلَسْتُ نَائِبًا فِيهَا عَنْكَ وَلَا وَكِيلًا لَكَ، فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مُدَّعى عَلَيْهِ يَمْلِكُ الْحَوَالَةَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُحِيلِ فِي بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَصَارَ لَفْظُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعَارًا فِي الْوَكَالَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَافَقَ دَعْوَاهُ فَكَانَ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، حَيْثُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُحِيلِ، لَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْتَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا، لِأَنَّ الْمُحِيلَ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بالْوَكَالَة، فَالْمُحْتَالُ مُنْكِرُهَا بِادِّعَاءِ الْحَوَالَةِ. فإن خالف وَقَبَضَهَا فَهَلْ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِن اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، هَلْ تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً، أَوْ وَكَالَةً فَاسِدَةً؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: إِنَّهَا تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: تَكُونُ وَكَالَةً فَاسِدَةً فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ دَفَعَهَا عَنْ إِذْنِ مَالِكِهَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُحْتَالِ كَانَ لِلْمُحِيلِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ مَنْعُهُ مِنْهَا إِلَّا أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى حَقِّهِ لِمَطْلِهِ إِلَّا بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَحْبِسَهَا عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِي أَمَانَةً فِي يَدِكَ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِي وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ تَلِفَتْ بَعْدَ أَنْ أَخَذْتُهَا مِنْ حَقِّي فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي مِنْكَ. فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أن تكون الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَهَا، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُحِيلِ لَمْ يُقْبَلْ فِي إِبْطَالِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ بِأَلْفٍ وَضَمِنَهَا لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ، وَضَمِنَهَا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: - أَحَدُهَا: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ ضَمَانُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَالزُّبَيْرِيِّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي حَوَالَةٍ عَلَى مَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ، فَتَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ وَلَا تَصِحُّ إلا برضاه وقبوله. (مسألة) (قال المزني) : " وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ لِأَقْبِضَهُ لَكَ وَلَمْ تُحِلْنِي بِمَالِي عَلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمُحِيلُ مُدَّعٍ لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا بِعَكْسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا وَهُوَ إِنَّهُمَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْتُكَ بِمَالِكِ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتَنِي لِأَقْبِضَهُ لَكَ نِيَابَةً عَنْكَ وَحَقِّي باقي فِي ذِمَّتِكَ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ: الْقَوْلُ قَوْلُ المحتال، لأن المحيل مدعي للبراءة من حقه فكان فالقول قَوْلَ الْمُحْتَالِ: وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، لَا يَخْلُو حَالُ الْحَوَالَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْتَالُ قَبَضَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 وَرَجَعَ بِحَقِّهِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَهَلْ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهَا لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ الْحَوَالَةِ مُعْتَرِفٌ بِهَا لِلْمُحْتَالِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِحَقٍّ قَدِ اعْتَرَفَ بِهِ لِغَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عليه، لأن اعترافه به لِلْمُحْتَالِ مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مِنْ ذِمَّتِهِ كَانَ مَالُ الْحَوَالَةِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً، أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَهِيَ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِلْكِ الْمُحِيلِ، وَيُقَالُ لِلْمُحْتَالِ اسْتَوْفِ حَقَّكَ مِنْهَا، لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُحِيلِ أَنَّهُ أَحَالَهُ بِهَا مِنْ حَقِّهِ إِذْنٌ مِنْهُ بِقَبْضِهَا مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً كَانَ تَلَفُهَا مِنْ مَالِ الْمُحِيلِ، وَحَقُّ الْمُحْتَالِ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْحَوَالَةِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِإِذْنِهِ. وَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ، إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحِيلِ نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا الْآنَ، وَلَا يَكُونُ إِنْكَارُهُ لَهَا مِنْ قَبْلُ بِمَانِعٍ لِقَبْضِهَا مِنْ بَعْدُ، وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ لَهَا بَعْدَ الْخِلَافِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَوْ تَالِفَةً. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ ضَمِنْتُ لَكَ مَالَكَ عَلَى فُلَانٍ، عَلَى أَنَّهُ بَرِئَ مِنْهُ، فَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ يَصِحُّ هَذَا، وَتَكُونُ حَوَالَةً بِلَفْظِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعَارَةٌ. وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ ضَمَانًا بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَحَلْتُكَ عَلَى زَيْدٍ، عَلَى أَنَّنِي ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ يَكُونُ هَذَا ضَمَانًا بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، فَيَصِحُّ إِذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعَارَةٌ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ تَكُونُ حَوَالَةً فَاسِدَةً اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ فَسَادِ الشرط. (مسألة) قال المزني: " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَهُ بِهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى ثَالِثٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهِمٍ بَرِئَ الْأَوَّلَانِ وَكَانَتْ لِلطَّالِبِ عَلَى الثَّالِثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أُحِيلَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ بِذَلِكَ عَلَى ثَالِثٍ، وَأَحَالَهُ الثَّالِثُ عَلَى رَابِعٍ، صَحَّ ذَلِكَ وَجَازَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالْمُعَاوَضَةِ وَهَكَذَا لَوْ أُحِيلَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَحَالَ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ غَيْرَهُ، وَأَحَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِثَالِثٍ، وَأَحَالَ الثَّالِثُ رَابِعًا جَازَ أَيْضًا، فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِنَقْلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَالْمُحْتَالُ وَاحِدٌ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَقُّ لَا يَنْتَقِلُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ مُحْتَالٍ إِلَى مُحْتَالٍ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 (كِتَابُ الضَّمَانِ) تَحَرَّيْتُ فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَقِيَاسَ قوله: - (مسألة) قال المزني: " قال الله جل ثناؤه {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَقَالَ عز وجل {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ " وَالزَّعِيمُ فِي اللُّغَةِ هو الكفيل وروي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَتْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هل على صاحبكم من دين "؟ فقالوا نَعَمْ دِرْهَمَانِ قَالَ " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَقَالَ علي رضوان الله عليه هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصل ى عليه ثم أقبل على علي رضي الله عنه فَقَالَ " جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَفَكَّ رهانك كما فككت رهان أخيك " (قال المزني) قلت أنا وفي ذلك دليل أن الدين الذي كان على الميت لزم غيره بأن ضمنه وروى الشافعي في قسم الصدقات أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة " ذكر منها رجلا تحمل بحمالة فحلت الصدقة (قلت أنا) فكانت الصدقة محرمة قبل الحمالة فلما تحمل لزمه الغرم بالحمالة فخرج من معناه الأول إلى أن حلت له الصدقة ". قال الماوردي: أما الضمان فهو أخذ الوثاق فِي الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْوَثَائِقَ ثَلَاثَةٌ: الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ وَصِحَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فَإِنْ قِيلَ: فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا حِكَايَةُ حَالٍ مُحَرَّفَةٍ وَنَقْلُ قِصَّةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ. لِأَنَّ الصُّوَاعَ لَمْ يُفْقَدْ وَالْقَوْمَ لم يسرقوا. وإذا كان موضوعا كَذِبًا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فَاسِدًا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُنَادِي، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِمَا فَعَلَ يُوسُفُ، فَلَمَّا فُقِدَ الصُّوَاعُ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ سَرَقُوهُ فَنَادَى بِهَذَا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ. وَالثَّانِي: إنَّ يُوسُفَ فَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِإِخْوَتِهِ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ إِلَى حَدِّ الْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ، ثُمَّ رَغَّبَ النَّاسَ فِيمَا بَذَلَهُ لَهُمْ، بِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ لُزُومُهُ وَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى طِلْبَتِهِمْ، وَتَحْقِيقِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِمْ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ ضَمَانَ مَالٍ مَجْهُولٍ، لِأَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ مَجْهُولٌ وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ كَانَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالْوَسْقِ كَانَ مَوْضُوعًا لِحِمْلِ النَّاقَةِ ثُمَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: صِحَّتُهُ فِي الْقَدْرِ الْمَجْهُولِ، فَلَمَّا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ كَانَ الْبَاقِي عَلَى مَا اقْتَضَاهُ التَّنْزِيلُ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ ضَمَانُ مَالِ الْجَعَالَةِ، وَضَمَانُ مَالِ الْجَعَالَةِ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ضَمَانِ مَالِ الْجَعَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ ضَمَانُهُ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ ضَمَانِ مَالِ الْجَعَالَةِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِبَاقِي الْآيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَلْهُمْ أيهم بذلك زعيم} [القلم: 40] وهذا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّحَدِّي فَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ وَالَزَّعِيمُ الضَّمِينُ وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَالْحَمِيلُ وَالصَّبِيرُ، وَمَعْنَى جَمِيعِهَا وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الضَّمِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْحَمِيلَ فِي الدِّيَاتِ، وَالْكَفِيلَ فِي النُّفُوسِ، وَالزَّعِيمَ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَالصَّبِيرَ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ كان الضمان يصح بكل واحد منهما وَيَلْزَمُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ قَالَ: " ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا "، ثُمَّ قَالَ: " الْعَارِيَةُ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ ". وَرَوَى زَائِدَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا فَغَسَّلْنَاهُ، ثُمَّ كَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَخَطَا خَطْوَةً، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهَا أَبُو قَتَادَةَ، وَقَالَ: عَلَيَّ الدِّينَارَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أعليك حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ ، قَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِ بِالْغَدِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَيْتُهَا قَالَ الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَتْ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَحَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ، أَوْ يَأْتِيَهُ بِحَمِيلٍ، فَجَرَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَزِمَنِي فَاسْتَنْظَرْتُهُ شَهْرًا فَأَبَى حَتَّى آتِيَهُ بِحَمِيلٍ، أَوْ أَقْضِيَهُ فَوَاللَّهِ مَا أَجِدُ حَمِيلًا وَمَا عِنْدِي قَضَاءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَلْ تَسْتَنْظِرُها إِلَّا شَهْرًا قَالَ لَا قَالَ فَأَنَا أَتَحَمَّلُ بِهَا عَنْكَ فَتَحَمَّلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَتَاهُ بِقَدْرِ مَا وَعَدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الذَّهَبُ؟ قَالَ مِنْ مَعْدِنٍ قَالَ: اذْهَبْ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَوَى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: صَلِّ عَلَيْهَا فَقَالَ أَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يَنْفَعُكَ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ دَيْنَهُ قُمْتُ فَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ. وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ قَضَاءً، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَامَ فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ " مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ " تَأْوِيلَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ مَنْ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ مَال الصَّدَقَاتِ وَسَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: مَنْ تَرَكَ دَيْنًا لَهُ وَمَالًا فَعَلَيَّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِخْرَاجُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ مَعَ مَالِهِ الَّذِي تَرَكَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إِذَا مَاتَ مُعْسِرًا، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا مَاتَ مُوسِرًا؟ وَالْمُعْسِرُ فِي الظَّاهِرِ مَعْذُورٌ، وَالْمُوسِرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ؟ ، قِيلَ: لِأَنَّ الْمُوسِرَ يُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْمُعْسِرُ لَا يُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ، وَقَدْ قَالَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى، فَلَمَّا كَانَ مُرْتَهَنًا بِدَيْنِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَلَا الدُّعَاءُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ أَنْ يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى أَخْذِ الدُّيُونِ لِيَكُفُّوا عَنْهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمُعْسِرِ فَلَا يَضِيعَ لِأَحَدٍ دَيْنٌ وَلَا يَبْقَى عَلَى مُعْسِرٍ دَيْنٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الضَّمَانِ، بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَالضَّمَانُ يَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: بِضَامِنٍ وَمَضْمُونٍ لَهُ وَمَضْمُونٍ عَنْهُ وَمَضْمُونٍ فِيهِ. وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ الضَّامِنُ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْحَقِّ الَّذِي ضَمِنَهُ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْتَاجُ الضَّامِنُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ، وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ أم لا؟ على ثلاثة مذاهب: أحدهما: إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ ضَمِنَا عَمَّنْ عَرَفَاهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفَاهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَمَنْ يَجِيءُ بِهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ، وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَهُوَ: مَذْهَبُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، لَزِمَ مَعْرِفَةُ مَنْ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُعَامِلًا لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَاحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ لِيَعْرِفَ حُسْنَ مُعَامَلَتِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِيَعْرِفَ هَلْ هُوَ مَوْضِعٌ لِمَا يَفْعَلُ بِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْمُعَامَلَةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ فَاحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمَضْمُونِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونِ الْأَصْلِ، فَإِذَا كان غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 مَضْمُونِ الْأَصْلِ كَالْوَدَائِعِ وَالشِّرَكِ وَالْمُضَارَبَاتِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ضَمَانَ أَصْلِهِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَإِنْ كَانَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنًا قَائِمَةً فَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ صَحَّ ضَمَانُهُ، عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ فِي اسْتِقْرَارِ لُزُومِهِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً كَالْمَغْصُوبِ، وَالْعَوَارِي، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ ضَمَانَهَا بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ تَتْلَفَ فَيَسْتَقِرَّ غُرْمُهَا فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ جَائِزٌ كَضَمَانِ مَا فِي الذِّمَمِ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ قَدْ لَزِمَ وَحَكَاهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْوَاجِبُ رَدُّهَا، وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الضَّامِنُ، فَإِنْ تَلِفَتْ لَزِمَ غُرْمُ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَضْمَنْهُ الضَّامِنُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْجَهَالَةِ. فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ بَاطِلًا وَلَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ مُطَالَبَةٌ بِسَبَبِهَا وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ الضَّمَانُ لَهَا لَازِمٌ وَيُؤْخَذُ الضَّامِنُ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ مَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا صَارَ كَالْمُعْسِرِ بِالْحَقِّ يُؤَخَّرُ بِهِ إِلَى حِينِ قُدْرَتِهِ فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ كَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسٍ فَتَلِفَتْ وَبَطَلَتِ الْكَفَالَةُ لِفَوَاتِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ عِنْدَ تَلَفِهَا وَلَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ قَدْرِهَا مِنْ لُزُومِ ضَمَانِهَا لِأَنَّهَا تَفَرَّعَتْ عَنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ، وَخَالَفَتِ الْكَفَالَةَ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ لَا يَنْقُلُهَا إِلَى بَدَلٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَصِحُّ الضَّمَانُ إِلَّا بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ يُخَاطِبُ بِهِ الضَّامِنُ، أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ، إِمَّا أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ الْمَضْمُونَ لَهُ فَيَقُولَ قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ يُخَاطِبَ وَكِيلَ الْمَضْمُونِ لَهُ أَوْ يُقِرَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ شَاهِدٍ فَإِنْ خَاطَبَ بِهِ مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ بِخِطَابِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ صَاحِبُ الْوَثِيقَةِ وَمُسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةِ، فَكَانَ عَقْدُ الضَّمَانِ مَعَهُ أَوْ كَسِبَهُ وَأَمَّا وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ فَلِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَوْفِي الْحُقُوقِ، وَالنَّائِبُ عَنِ الْغَائِبِ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ضَمِنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَاطَبَاهُ فَأَمْضَاهُ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يُحْفَظُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ خَاطَبَهُ الْمَضْمُونُ لَهُ فَتَمَامُ الضَّمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ، وَهَلْ يَكُونُ مَشْرُوطًا بِقَبُولِهِ أَوْ رِضَاهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إنَّ تَمَامَ الضَّمَانِ مَشْرُوطٌ بِقَبُولِ الْمَضْمُونِ لَهُ فِي الْحَالِ لَفْظًا، لِأَنَّ الضَّمَانَ عُقَدُ وَثِيقَةٍ، يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ الضَّامِنِ بِالضَّمَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَفْتَقِرَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 إِلَى قَبُولِ الْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ كَمَا لَا يَصِحُّ بِتَرَاخِي الْقَبُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ إِنَّ رِضَا الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ باللفظ، لأن الضمان لو كان كسائر كالعقود فِي أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْقَبُولِ، لَكَانَ مُوَاجَهَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَعَ غَيْبَتِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْقَبُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ ضَمِنَ عَلِيٌّ وأبو قتادة (رضوان الله عليهما) دَيْنَ الْمَيِّتِ مَعَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا دُونَ الْقَبُولِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا رَضِيَ الْمَضْمُونُ لَهُ بِالضَّمَانِ، بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا فِي مَجْلِسِ الضَّمَانِ جَازَ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَنْ مَالِ الضَّمَانِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالضَّمَانِ حَتَّى فَارَقَ الْمَجْلِسَ فَلَا ضَمَانَ، وَلِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ فِي ضَمَانِهِ فَلَا رُجُوعَ لِلضَّامِنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ وَلَزِمَ. فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْمَضْمُونُ لَهُ فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الضَّامِنُ لِلْوَكِيلِ قَدْ ضَمِنْتُ لِمُوَكِّلِكَ فَلَانِ ابْنِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ، فَيُنْظَرُ فِي الْوَكِيلِ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي أَخْذِ الضَّمَانِ، تَمَّ الضَّمَانُ بِقَبُولِ الْوَكِيلِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَبِرِضَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَلَا يَكُونُ تَمَامُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَفَهٍ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي أَخْذِ الضَّمَانِ، كَانَ تَمَامُ الضَّمَانِ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِ الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ رِضَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ وَكِيلُ الْمَضْمُونِ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الضَّامِنُ لِلْحَاكِمِ، قَدْ ضَمِنْتُ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَجَازَ الْحَاكِمُ ضَمَانَهُ فَإِذَا أَجَازَ صَارَ تَامًّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ رَشِيدًا لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ، كَانَ تَمَامُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عِلْمِهِ، ثُمَّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ قَبُولِهِ أَوْ بِرِضَائِهِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجِيزَ الضَّمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ وَثِيقَةً لَهُ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ. فَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ إِذَا خُوطِبَ بِهِ الْحَاكِمُ، فَأَمَّا إِذَا خُوطِبَ بِهِ شَاهِدٌ أَشْهَدَهُ بِالضَّامِنِ عَلَى نَفْسِهِ بِالضَّمَانِ، فقال: قد ضمنت لفلان عن فلان ألف فَاشْهَدْ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ فَاشْهَدْ عَلَيَّ فَتَمَامُ هَذَا الضَّمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ لَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى وَلِيِّهِ إِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُجِيزَ الضَّمَانَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ حَقًّا فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الضَّمَانُ وَثِيقَةُ الْمَالِ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَّا بِالْأَدَاءِ وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَقَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا فيبرئان مَعًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ قَدِ انْتَقَلَ الْحَقُّ بِالضَّمَانِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، إِلَى ذِمَّةِ الضَّامِنِ كَالْحَوَالَةِ. وَقَالَ زفر بن الهذيل الْحَوَالَةُ كَالضَّمَانِ لَا يَنْتَقِلُ بِهَا الْحَقُّ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ بِالضَّمَانِ كَالْحَوَالَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ " فَلَمَّا خَصَّهُ بِالْغُرْمِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَرِيئًا مِنَ الْغُرْمِ وَبِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا ضَمِنَ دَيْنَ الْمَيِّتِ صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ عَلَى بَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالضَّمَانِ: - أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا لَكَانَ الِامْتِنَاعُ قَائِمًا. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ " فَلَمَّا أَخْبَرَ بِفَكِّ رِهَانِهِ دَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ الْوَاحِدُ فِي مَجْلِسَيْنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْوَاحِدُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّتَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالضَّمَانِ حَتَّى يُقْضَى، وَلِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَثَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَضَاءِ مَا ضَمِنَهُ، فَلَمَّا قَضَاهُ، قَالَ لَهُ الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي قَتَادَةَ حِينَ ضَمِنَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَنْهُ عَلَيْكَ حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُ. قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ بَرِئَ مِنْ رُجُوعِكَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ مَعْنَاهُمَا فَالْحَوَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ، وَالضَّمَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ أَسْمَائِهِمَا مِنَ اخْتِلَافِ مَعَانِيهِمَا مُوجِبًا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ فِي الْحَقِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْحَقُّ كَالرَّهْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " الزَّعِيمُ غَارِمٌ " فَهُوَ إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ غَارِمًا، وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا، فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ صَارَ كَمَنْ تَرَكَ وَفَاءً، فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ، وَأَمَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 قَوْلُهُ: " فَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ "، فَمَعْنَى فَكَّ فِيمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمُ اسْتِحَالَةَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتَيْنِ، فَغَلَطٌ، لِأَنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْوَاحِدُ يُسْتَحَقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِشَخْصَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا، ثُمَّ غَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ آخَرُ، وَاسْتَهْلَكَهُ كَانَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا، كَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَنْقُلُ الْحَقَّ، فَالْمَضْمُونُ لَهُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ لَا يَجُوزُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ بِالْحَقِّ إِلَّا بَعْدَ عَجْزِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا مُحْتَمَلًا وَخَرَّجَهُ لِنَفْسِهِ وَجْهًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِمُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِذَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِشَيْءٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا وَصَفْنَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ كُلِّ واحد منهما، وتمنع من إيقاع الحجر عليه مُطَالَبَتُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَحَجَرَ عَلَيْهِمَا بِالْفَلَسِ أَعْنِي الضَّامِنَ وَالْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَأَرَادَ الْحَاكِمُ بَيْعَ أَمْوَالِهِمَا فِي دينهما، فقال: الضامن أبرأ بِبَيْعِ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِنْ وَفَى بِدَيْنِهِ بَرِئْتُ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ عَجَزَ بِيعَ مِنْ مَالِي بِقَدْرِهِ، وَقَالَ الْمَضْمُونُ لَهُ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ مَالَ أَيِّكُمَا شِئْتُ بِدَيْنِي، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ إِنْ كَانَ الضَّامِنُ ضَمِنَ بِأَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْخِيَارُ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِ أَيِّهِمَا شَاءَ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ وَغَرِمَ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ ضَمِنَ مَالًا عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِأَمْرِهِ وَالْأَدَاءُ بِأَمْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أن يضمن بغير أمره ويؤديه به بِأَمْرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَيُؤَدِّيَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 بِحَالٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَصَدَ بِهِ خَلَاصَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ رَجَعَ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا قَتَادَةَ لَوِ اسْتَحَقَّا الرُّجُوعَ بِمَا ضَمِنَا لَمَا كَانَ فِي ضَمَانِهِمَا فَكٌّ لِرِهَانِ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالضَّمَانِ وَالْأَدَاءِ، فَصَارَ كَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى رَقَبَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَفِ بَهَائِمِهِ، لم يرجع بما أنفق لتطوعه. وأما القاسم الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ لَا يَخْتَلِفُ. لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ التَّطَوُّعِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بِأَمْرِهِ، فَلَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يَقُولُ: أَدِّ مَا ضَمِنْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: أَدِّ عَنِّي ذَلِكَ فَهَذَا لَا رُجُوعَ لِلضَّامِنِ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ. لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِمَا كَانَ لَازِمًا له بالضمان. الذي تطوع به. والحال الثاني: أَنْ يَقُولَ: أَدِّ عَنِّي مَا ضَمِنْتَهُ لِتَرْجِعَ بِهِ عَلَيَّ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ فِي أَمْرِهِ بالأداء. والحال الثالث: أَنْ يَقُولَ: أَدِّ عَنِّي مَا ضَمِنْتَهُ، فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْغُرْمِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّطَوُّعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَيُؤَدِّيَهُ بغير أمره فهذا بنظر، فَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ لَهُ وَالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ وَمُحَاكَمَتِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَفِي رُجُوعِهِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ مُتَطَوِّعًا بِالْأَدَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا لَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ مُسْتَحَقٌّ بِالضَّمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، وَهَكَذَا حَالُ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي وَزْنِ الثَّمَنِ عَنْهُ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ وَإِنْ نَهَاهُ عَنْ وَزْنِ الثَّمَنِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي وَزْنِهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ فَإِنْ وَزَنَهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمُحَاكَمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَإِنْ وَزَنَهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ فَفِي الرُّجُوعِ بِهِ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاسْتَحَقَّ الضَّامِنُ الرُّجُوعَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَهُ فِيمَا أَدَّاهُ حَالَتَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا ضَمِنَ. فَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا ضَمِنَهُ مِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُعْطِي بِالْأَلْفِ عَبْدًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مِنَ الْأَلْفِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ رَجَعَ بِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُغَرَّمْ غَيْرَهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ رَجَعَ بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَهُ فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ حَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَقَدْرِهِ وَحَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَدُونَ قَدْرِهِ، وَحَالٌ يُؤَدِّيهِ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ، وَحَالٌ يؤديه دون قدره دون صِفَتِهِ. فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ مِثْلَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ وَدُونَ قَدْرِهِ، فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فيؤدي عنها تسعماية درهم بيضا صحاحا فله أن يرجع بتسعماية وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَدَّاهُ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي سُومِحَ بِهِ هُوَ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أُبْرِئُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمِائَةِ الَّتِي سُومِحَ بِهَا الضَّامِنُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُبْرِئَ مِنْهَا وَحْدَهُ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِذَا طُولِبَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبْرَأَ مِنْهَا الضَّامِنَ وَالْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَا جَمِيعًا مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مِثْلِ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ، فَمِثَالُهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا فَيُؤَدِّيَ عَنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ سُودًا أَوْ مُنْكَسِرَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ مَا أَدَّى سُودًا أَوْ مُنْكَسِرَةً وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ مَا ضَمِنَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِيضًا صِحَاحًا لِأَنَّهُ سَامَحَ الضَّامِنَ بِهَا فَصَارَ ذَلِكَ كَهِبَةٍ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الْمَالِ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا سَامَحَ بِدُونِ الصِّفَةِ فَأَوْلَى أَلَّا يَرْجِعَ بِهِ وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الضَّامِنِ ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ، فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَةِ إِذَا وَهَبَتِ الصَّدَاقَ بَعْدَ قَبْضِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي وَهَبَتْهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَأَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ دُونَ قَدْرِهِ وَدُونَ صِفَتِهِ فَمِثَالُهُ. أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بيضا صحاحا فيؤدي عنها تسعماية سُودًا أَوْ مُكَسَّرَةً فَنُقْصَانُ الْقَدْرِ لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَرْجِعُ بِمِثْلِ الصِّفَةِ الَّتِي أَدَّاهَا سُودًا أَوْ مُكَسَّرَةً، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ يَرْجِعُ بِهَا بِيضًا صِحَاحًا. (فَصْلٌ) إِذَا ضَمِنَ عَنْهُ كَرَّ حنطة من مسلم فَأَدَّى الضَّامِنُ الْكَرَّ الْحِنْطَةَ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ أَنَّ الضَّامِنَ صَالَحَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ عَلَى الْحِنْطَةِ عَلَى مَالٍ أَوْ عوض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 جَازَ إِذَا تَقَايَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَإِنْ لَمْ يَتَقَايَضَاهُ حَتَّى تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَنِ الْكَرِّ الْحِنْطَةِ عَلَى نِصْفِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ جَازَ وَكَانَتْ حَطِيطَةً وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ كَرِّ حِنْطَةٍ إِلَى أَجَلٍ جَازَ لِأَنَّهُ حِطَّةٌ وَأَجَّلَهُ أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَجَلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَطِيطَةِ ولو ضمن عنه كر حنطة من مسلم ثُمَّ إِنَّ الضَّامِنَ صَالَحَ الْمُسْلِمَ الْمَضْمُونَ لَهُ عَلَى رَأْسِ مَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ صَالَحَهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إِقَالَةٌ وَالضَّامِنُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ يَمْلِكُهَا ثُمَّ يَبْطُلُ الضَّمَانُ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالْإِقَالَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ الْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الضَّمَانُ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الضَّامِنُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْه ِ فَصْلٌ آخَرُ. وَأَمَّا إِذَا عَجَّلَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إِلَى الضَّامِنِ مَا ضَمِنَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الضَّامِنُ فَإِنْ جَعَلَهُ فِيمَا عَجَّلَهُ رَسُولًا لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ جَازَ وَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ ضَمَانِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الضَّامِنَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ شَيْئًا قَبْلَ غُرْمِهِ وَلِأَنَّهُ دَفْعٌ لَا يَبْرَأُ بِهِ لَكِنْ يَكُونُ مَا أَخَذَهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَجَّلَ لِلضَّامِنِ بَدَلًا مِنَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ عَبْدًا أَوْ عِوَضًا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا لَمْ يَجِبْ وَذَلِكَ تَعْجِيلٌ ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ أَنْ يُبْرِئَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مِنْ مَالِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ فَيَكُونَ الْإِبْرَاءُ مُخَرَّجًا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَإِنْ قِيلَ تَعْجِيلُ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزِ الْإِبْرَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) (قَالَ الْمُزَنِيُّ) : " قلت أنا وَكَذَلِكَ كُلُّ ضَامِنٍ فِي دَيْنٍ وَكَفَالَةٍ بِدَيْنٍ وَأُجْرَةٍ وَمَهْرٍ وَضَمَانِ عُهْدَةٍ وَأَرْشِ جُرْحٍ وَدِيَةِ نفس فإن أدى ذلك الضامن عن المضمون عنه بأمره رجع به عليه وإن أداه بغير أمره كان متطوعاً لا يرجع به ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ أعيان وفي الذمم ومعنى الْكَلَامُ فِي الْأَعْيَانِ وَأَنَّ ضَمَانَهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَمِ فَضَرْبَانِ لَازِمٌ وَغَيْرُ لَازِمٍ فَأَمَّا اللَّازِمُ فَضَرْبَانِ: مُسْتَقِرٌّ وَغَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ كَمِثْلِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَأَثْمَانِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ فَضَمَانُ هَذَا كُلِّهِ جَائِزٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّ فَمِثْلُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْمَذْهَبُ جَوَازُ ضَمَانِهِ لِلزَّوْجَةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 اسْتِقْرَارِهِ. فَأَمَّا ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأُجْرَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الْفَسْخُ فَصَحَّ ضَمَانُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ لَازِمًا فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَا يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فَضَمَانُهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ فَرْعٌ لِلُزُومِ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنْ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَالِ الْجَعَالَةِ فَفِي جَوَازِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْحَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ضَمَانَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اللُّزُومِ فِي ثَانِي حَالٍ. (فَصْلٌ) إِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَالتَّفْرِيعُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ سَبْعَةَ أَشْيَاءَ فَقَالَ كُلُّ ضَامِنٍ فِي دَيْنٍ يَعْنِي ضَمَانَ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ ثُمَّ قَالَ وَكَفَالَةٍ بِدَيْنٍ يَعْنِي أَنَّ الضَّامِنَ لِدَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ يَجُوزُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأُجْرَةٍ وَمَهْرٍ يَعْنِي أُجُورَ الْمُسْتَأْجَرَاتِ وَمُهُورَ الزَّوْجَاتِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ جَازَ ضَمَانُهُ لِاسْتِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ كَانَ ذَلِكَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يُقْبَضْ لِمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ مِنَ الْفَسْخِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْمُسْتَقِرِّ يَجُوزُ ضَمَانُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِ الْمُسْتَقِرِّ كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى. ثُمَّ قَالَ وَضَمَان عُهْدَةٍ يَعْنِي ضَمَانَ الدَّرَكِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاق الْمَبِيعِ وَضَمَانُ هَذَا جَائِزٌ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الدَّارَ إِنْ لَمْ تُسْتَحَقَّ فَلَا ضَمَانَ وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ بَانَ وُجُوبُ رَدِّ الثَّمَنِ وَصِحَّةُ الضَّمَانِ وَلَا يَلْزَمُ ضَامِنَ الدَّرَكِ شَيْءٌ إِلَّا إِذَا اسْتُحِقَّتْ فَأَمَّا إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ أَوْ تَقَابَلَا الْبَيْعَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ فَلَوِ اسْتَحَقَّ نِصْفَهَا وَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ فِيهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ إِلَّا بِنِصْفِهِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمُسْتَحِقِّ دُونَ الْمَرْدُودِ بِالْفَسْخِ فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ مَعَ الْعُهْدَةِ قِيمَةَ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ بِنَاءٍ وَغَرْسٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ لَهُ أَرْشَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ عَيْبٍ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّهُ يَصِحُّ مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَدِيمِ في ضمان نفقة الزوجة، وهو غلط لأن نفقة الزوجة محدودة الأكثر بخلاف أرش الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 العيب لأنه غير محدود الأكثر وليس يَنْتَهِي إِلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِذَا بَطَلَ الضَّمَانُ فِيمَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِن اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ فِيهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَرْش جُرْحٍ وَدِيَة نَفْسٍ، وَضَمَانُ ذَلِكَ إِنْ قُدِّرَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَائِزٌ فَأَمَّا الْإِبِلُ فَفِي جَوَازِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ، مُخَرَّجَانِ مِن اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي جَعْلِ إِبِلِ الدِّيَةِ صَدَاقًا، أَحَدُهُمَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهَا، والوجه الثاني ضَمَانهَا جَائِزٌ لِأَنَّ قَبِيصَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَعِنِّي فَلَمْ يُنْكِرْ تَحَمُّلَهُ لَهَا، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِهَا، وَلِأَنَّهَا مَوْصُوفَةُ الْأَسْنَانِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا ضَمَانُ مَالِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ جَازَ فَأَمَّا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَصِحَّ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ الْجَعَالَةِ فَيَكُونُ فِي صِحَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا ضَمَانُ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَفَقَةِ مُدَّةٍ مَاضِيَةٍ فَضَمَانُهَا جَائِزٌ إِذَا عُرِفَ قَدْرُهَا لِأَنَّ وُجُوبَ مَا مَضَى مُسْتَقِرٌّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: ضَمَانُ نَفَقَةِ مُدَّةٍ آتِيَةٍ فَإِنْ أَطْلَقَ الْمُدَّةَ وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ بَلْ قَالَ عَلَيَّ ضَمَانُ نَفَقَتِكَ عَلَى زَوْجَتِكَ أَبَدًا أَوْ مَا بَقِيتَ عَلَى الزَّوْجَةِ أَوْ مَا مَكَّنْت مِنْ نَفْسِك فَهَذَا ضَمَانٌ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِهِ وَإِنْ قَدَّرَ الْمُدَّةَ وَضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَةَ مُعْسِرٍ فَفِي صِحَّةِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ، مِن اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَاذَا وَجَبَتْ؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا وَجَبَ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَعَلَى هَذَا ضَمَانُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يجب. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَةَ مُوسِرٍ، فَضَمَانُ نَفَقَةِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ لِيَسَارِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَقَاءَ الْيَسَارِ مَجْهُولٌ فَصَارَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ فَأَمَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ فَعَلَى الْجَدِيدِ ضَمَانُهَا بَاطِلٌ، وَعَلَى الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " فإن أخذ الضامن بالحق وكان ضمانه يأمر الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَخَذُهُ بِخَلَاصِهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ضَمِنَ رُجلٌ عَنْ رَجُلٍ مَالًا وَأَرَادَ الضَّامِنُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ مِنَ الضَّمَانِ وَفِكَاكِهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِالْغُرْمِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ قَدْ طُولِبَ بِغُرْمِ مَا ضَمِنَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ بِفِكَاكِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْغُرْمِ إِذَا غَرِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْخَلَاصِ إِذَا طُولِبَ، وَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ لَمْ يُطَالَبْ بِغُرْمِ مَا ضَمِنَهُ فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِخَلَاصِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ القولين في تَعْجِيلِ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْغُرْمِ. فَلَوْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ صَغِيرًا أَوْ كَانَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ عَنْهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ ثُمَّ طُولِبَ الضَّامِنُ بِالْغُرْمِ، فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَلَى صِغَرِهِ لَمْ يَبْلُغْ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَب بِخَلَاصِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِالْخَلَاصِ دُونَ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْأَبِ قَدْ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ فَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِخَلَاصِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ عَلَى صِغَرِهِ أَوْ قَدْ بَلَغَ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ. (فَصْلٌ) إِذَا طُولِبَ الضَّامِنُ بِأَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ وَحُبِسَ بِهِ فَأَرَادَ الضَّامِنُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ، وَكَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ مَا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْلَ الْغُرْمِ مَالًا يَحْبِسُهُ بِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا صِفَةُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ فَيَقُولَ لِلضَّامِنِ اضْمَنْ عَنِّي لِفُلَانٍ كَذَا، فَيَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ، وَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الضَّامِنُ، فَيَقُولَ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ أَضْمَنُ عَنْكَ لِفُلَانٍ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ أَيْضًا، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَكُونُ هَذَا أَمْرًا بِالضَّمَانِ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدِي سَوَاءٌ بَلِ الثَّانِي أَوْكَدُ. (فَصْلٌ) فَلَوْ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ بِجُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْجُعْلُ بَاطِلًا وَالضَّمَانُ إِنْ كَانَ بِشَرْطِ الْجُعْلِ فَاسِدًا بخلاف ما قاله إسحق بْنُ رَاهَوَيْهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، وَلَيْسَ الضَّمَانُ عَمَلًا فَلَا يُسْتَحَقُّ به جعلا. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَمِنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَمْرِهِ ضَامِنٌ ثُمَّ ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ بِأَمْرِهِ فَجَائِزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ مَالًا عَنْ رَجُلٍ ثُمَّ ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 ضَامِنٌ آخَرُ مَا ضَمِنَهُ عَنِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَكَانَ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ فَرْعًا لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ وَأَصْلًا لِلضَّامِنِ الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الضَّمَانُ وَثِيقَةً كَالرَّهْنِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ عَنِ الرَّهْنِ فَهَلَّا مَنَعْتُمْ مِنْ أَخْذِ ضَامِنٍ عَنْ ضَامِنٍ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَأَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى الْوَثِيقَةِ لَا يَجُوزُ وَالضَّمَانُ قَدْ أَوْجَبَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا، وَأَخْذُ الضَّمَانِ فِي الدَّيْنِ يَجُوزُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ وَأَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ وَالْمَضْمُونُ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ يَجُوزُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الضَّامِنِ رَهْنٌ بِمَا ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ، فَأَمَّا الضَّامِنُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ رَهْنًا بِمَا ضَمِنَهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّامِنِ الدَّيْنَ جَازَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَدَائِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْجِبْ حَقًّا يَأْخُذُ عَلَيْهِ رَهْنًا. (فَصْلٌ) إِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ مَالًا ثُمَّ ضَمِنَهُ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ آخَرُ، فَأَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ أَصْلُ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنَيْنِ مَا ضَمِنَاهُ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا لَوْ ضَمِنَ عَنْ أَحَدِهِمَا إِمَّا عَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يكن ثابتا في الذمة والحق هاهنا قَدْ كَانَ قَبْلَ الضَّمَانِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ، وَالثَّانِي إِنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ أَصلٌ وَالضَّامِنَ فَرْعُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِفَرْعِهِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ ضَمِنَهَا ضَامِنٌ ثُمَّ ضَمِنَهَا أَيْضًا ضَامِنٌ آخَرُ، عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ جَازَ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْعًا لِمَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَيْسَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ فَإِنْ أَرَادَ مَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ مَا ضَمِنَهُ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنِ الْآخَرِ مَا ضَمِنَهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّ ضَمَانَهُ عَنْهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ عَنِ الضَّامِنِ فَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ سريج: يصح ضمانه فيصير ضامن لِلْأَلْفِ عَمَّنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَعَنِ الضَّامِنِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّامِنَ قَدْ صَارَ مَا ضَمِنَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ فَرْعًا لِصَاحِبِهِ، فَجَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ صَاحِبِهِ مَا ضَمِنَهُ مَعَهُ ثُمَّ إِذَا أَدَّاهُ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَأَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مَعَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ إِذَا أَدَّاهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الأصل والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 (مسألة) (قال المزني) : " فَإِنْ قَبَضَ الطَّالِبُ حَقَّهُ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْلُ الْمَالِ أَوْ أَحَالَهُ بِهِ بَرِئُوا جَمِيعًا وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الضَّامِنِ الْأَوَّلِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَبَرِئَ مِنْهُ الضَّامِنُ الْآخَرُ وَإِنْ قَبَضَهُ مِنَ الضَّامِنِ الثَّانِي رَجَعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ الْأَوَّلِ وَرَجَعَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَأَبْرَأَ الطَّالِبُ الضَّامِنَيْنِ جَمِيعًا بَرِئَا وَلَا يَبْرَأُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ وَلَكِنَّ الْحَقَّ عَلَى أَصْلِهِ وَالضَّامِنُ مَأْخُوذٌ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنٌ ثَانٍ، وَعَنِ الثَّانِي ثَالِثٌ، وَعَنِ الثَّالِثِ رَابِعٌ هَكَذَا أَبَدًا إِلَى مِائَةِ ضَامِنٍ فَأَكْثَرَ وَيَكُونُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمْ شَاءَ فَإِذَا ضَمِنَ ضَامِنٌ عَنْ ضَامِنٍ عَنْ مَضْمُونٍ عَنْهُ، فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ فَإِنْ سَقَطَ الْحَقُّ الْمَضْمُونُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتُوْفِيَ بِالْأَدَاءِ أَوْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ الْمَضْمُونُ له بالأداء فإن أَدَّاهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَرِئَ مِنْهُ وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ عَنْهُ لِأَنَّ ضَمَانَهُمَا لِلْحَقِّ وَثِيقَةٌ فِيهِ، فَإِذَا اسْتُوفِيَ الْحَقُّ ارْتَفَعَتِ الْوَثِيقَةُ كَالرَّهْنِ إِذَا اسْتُوفِيَ مَا رُهِنَ فِيهِ بَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ أَدَّاهُ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ بَرِئَ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَإِذَا أُدِّيَ سَقَطَ، ثُمَّ لِلضَّامِنِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِنْ ضَمِنَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَإِنْ أَدَّاهُ الضَّامِنُ الثَّانِي بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ برئ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، ثُمَّ لِلضَّامِنِ الثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الضَّامِنِ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلِلضَّامِنِ الْأَوَّلِ إِذَا غَرِمَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِنْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَلَوْ كَانَ الضَّامِنُ الثَّانِي ضَمِنَ عَنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَضَمِنَ الْأَوَّلُ عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الضَّامِنَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ، أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ وَهَكَذَا لَوْ دَفَعَ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ عِوَضًا أَوْ أَحَالَ بِهِ حَوَالَةً. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَإِنْ أَبْرَأَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَ، وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ سَقَطَ فَزَالَتِ الْوَثِيقَةُ فِيهِ كَإِبْرَاءِ الرَّاهِنِ يُسْقِطُ الرَّهْنَ، وَإِنْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الْأَوَّلَ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ، وَلَمْ يَبْرَأِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الضَّامِنِ إِسْقَاطٌ لِلْوَثِيقَةِ، وَسُقُوطُ الْوَثِيقَةِ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ كَمَا لَوْ فَسَخَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَلَوْ أَبْرَأَ الضَّامِنَ الثَّانِي بَرِئَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَبْرَأِ الضَّامِنُ الْأَوَّلُ وَلَا الْمَضْمُونُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ الْمَالُ الْمَضْمُونُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَرَدَّهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بِعَيْبٍ بَرِئَ، وبرئ الضامنان لو اسْتُحِقَّ، فَلَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ لَهُ فَوَرِثَهُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ بِالْإِرْثِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ، وَسُقُوطُ الْحَقِّ يُبْطِلُ الضَّمَانَ، وَلَكِنْ لَوْ وَرِثَهُ الضَّامِنُ بَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ مَا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَاقِيًا بِحَالِهِ لِلضَّامِنِ إِرْثًا، فَلَوْ كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 الْمَالُ الْمَضْمُونُ صَدَاقًا فَفُسِخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ، وَبَطَلَ الضَّمَانُ، فَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَبَطَلَ ضَمَانُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ وَعَلَى الضَّامِنَيْنِ ضَمَانُهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَعْطَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ بِالْحَقِّ عَبْدًا بَرِئَ، وَبَرِئَ الضَّامِنَانِ، فَلَوْ رَدَّهُ الْمَضْمُونُ لَهُ بِعَيْبٍ عَادَ حَقُّهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى ضَمَانِ الضَّامِنَيْنِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، وَلَكِنْ لَوْ بَانَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " قلت أنا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مَنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ فَدَفَعَهَا أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهَا عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ أَحَدَهُمَا مِنَ الْأَلْفِ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُهَا الَّذِي عَلَيْهِ وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِ نِصْفِهَا الَّذِي عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ صَاحِبُهَا مِنْ نِصْفِهَا الَّذِي عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ نِصْفُهَا مِمَّا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَنَصِفُهَا مِمَّا ضَمِنَهُ عَنْ صَاحِبِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَا هُنَا فَصْلَانِ، فَصْلٌ فِي الْأَدَاءِ، وَفَصْلٌ فِي الْإِبْرَاءِ، فَأَمَّا الْأَدَاءُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْأَلْفِ، أَوْ نِصْفَهَا، فَإِنْ أَدَّى جَمِيعَ الْأَلْفِ بَرِئَا جَمِيعًا، وَكَانَ عَلَى الْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ، فَإِنْ أَدَّى نِصْفَهَا مِثْلَ أَنْ يؤدي خمسماية، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي هَذَا الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ، دُونَ مَا ضَمِنَهُ، فَيَبْرَأَ مما عليه من الأصل وهو خمسماية ويبرأ صاحبه من ضمانها، وبقي عليه خمسماية وَهِيَ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْ صَاحِبِهِ فَيَصِيرُ عَلَى كل واحد منهما خمسماية. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِمَّا ضَمِنَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ فَيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِ الخمسماية الَّتِي عَلَى صَاحِبِهَا وَيَبْرَأَ صَاحِبُهُ مِنْهَا وَيَرْجِعَ عليه بها ويبقى عليه خمسماية الَّتِي عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانُهَا. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ أَصْلِ مَا عليه ومن ضمانه فيبرأ من خمسماية نصفها من أصل ما عليه ونصفها من ضمانه وله الرجوع بها ويبقى عليه خمسماية نصفها من أصل ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ خمسمائة نصفها من أصل ما عليه ونصفها مِنْ ضَمَانِهِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَهَا مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا أَحَدَ الْمَالَيْنِ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا تَكُونُ أَدَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ نَصِفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ لِاسْتِوَاءِ الْحَقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَنْهُمَا نِصْفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي إِفْصَاحِهِ إِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى خِيَارِهِ لِيَجْعَلَهَا أَدَاءً مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ ضَمَانِهِ، لِأَنَّ التَّعْبِيرَ إِلَيْهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ إِلَى خِيَارِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَلَهُ حَالَتَانِ حَالَةٌ يُبْرِئُ أَحَدَهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ، وَحَالَةٌ يُبْرِئُ مِنْ نِصْفِهَا، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ برئ منها كلها، وبرئ صاحبه من خمسمائة الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ لِسُقُوطِهَا بِالْإِبْرَاءِ، وَبَقِيَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِبْرَاءَ ضَامِنِهَا لَا يَكُونُ إِبْرَاءً لِمَنْ عَلَيْهِ أَصْلُهَا. وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَخْلُ فِي هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَبْرَأَهُ مِنْهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، فَيَبْرَأَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ صَاحِبُهُ مِنْ ضَمَانِهَا، وَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا ضَمِنَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ، مِنَ الْأَصْلِ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ هِيَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ، نِصْفُهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، وَنِصْفُهَا مِنْ ضَمَانِهِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، وَمِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِنْ أَصْلِ مَا عَلَيْهِ، وَمِئَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ ضَمَانِهِ عَنْ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْبَاقِي عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً فَيَكُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَكُونُ إِبْرَاءً مِنَ الْمَالَيْنِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي يَكُونُ مَرْدُودًا إِلَى خِيَارِهِ لِيَجْعَلَهَا إِبْرَاءً مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ عَلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فَإِذَا جَعَلَهَا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ جَازَ عَلَى ما مضى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 (مسألة) قال المزني: " ولو أَقَامَ الرَّجُلُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ رَجُلٍ غَائِبٍ عَبْدًا وَقَبَضَاهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ لِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ قَضَى عَلَيْهِ وَعَلَى الْغَائِبِ بِذَلِكَ وَغَرِمَ الْحَاضِرُ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَرَجَعَ بالنصف على الغائب (قال المزني) قلت أنا وَهَذَا مِمَّا يُجَامِعُنَا عَلَيْهِ مَنْ أَنْكَرَ الْقَضَاءَ عَلَى غَائِبٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ، أَنَّهُ بَاعَ عَلَيْهِ وَعَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقْبَضَهَا إِيَّاهُ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ مَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ، فَصَارَ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَاضِرِ بِشِرَائِهِ وَضَمَانِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَاضِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقِرَّ، أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّعْوَى لَزِمَهُ دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ لَازِمٌ لَهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِغَيْرِهِ وَإِنْ أَنْكَرَ وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ عَلَيْهِ وَقُضِيَ بها، فإن ذكرت البينة في شهادتها الْغَائِب بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ قُضِيَ عَلَى الْحَاضِرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ شِرَائِهِ وَضَمَانِهِ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْغَائِبَ بِاسْمِهِ، سُمِعَتْ عَلَى الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ، وَهَلْ تُسْمَعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِن اخْتِلَافِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَعْرِفَتَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الضَّمَانِ عَنْهُ لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ بالضمان وقضى عليه بخمسماية لِشِرَائِهِ دُونَ ضَمَانِهِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَعْرِفَتَهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، سُمِعَتْ عَلَيْهِ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لِشِرَائِهِ وَضَمَانِهِ فَإِذَا قَضَيْنَا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا بِالْبَيِّنَةِ الْمَسْمُوعَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَأَرَادَ الْحَاضِرُ أن يرجع عليه بالخمسماية الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ نُظِرَ فِي الْحَاضِرِ، حِينَ أَنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ الشِّرَاءَ أَوِ الضَّمَانَ وَأَكْذَبَ الدَّعْوَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِبَيِّنَتِهِ، مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ ظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَ الشِّرَاءَ وَالضَّمَانَ وَلَا أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ وَإِنَّمَا دَفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ، وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بِأَلْفٍ، وَحُجَّةً لَهُ عَلَى الغائب بخمسماية. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أبا حنيفة يُوَافِقُ عَلَى هَذَا مَعَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ يَذْهَبُونَ إِلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَإِنَّ مَذْهَبَ أبي حنيفة بِهِ مُنْكَسِرٌ، لِأَنَّ فِيهَا إِلْزَامَ الشِّرَاءِ لِلْغَائِبِ لِيَلْزَمَ الْحَاضِرَ ضَمَانُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 وَكَانَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ مَا قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ أُحْلِفَ المدعي مع بينته والمدعي هاهنا لَا يَحْلِفُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الغائب والله أعلم. (مسألة) قال المزني: " وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ فَدَفَعَهَا بِمَحْضَرِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ شَيْئًا حَلَفَ وَبَرِئَ وَقَضَى عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى الطَّالِبِ وَيَدْفَعُ أَلْفًا إِلَى الضَّامِنِ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِأَمْرِهِ وَصَارَتْ لَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَلَا يُذْهِبُ حَقَّهُ ظُلْمُ الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ طَلَبَ الضَّامِنَ فَقَالَ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيَّ شَيْئًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا ثَانِيَةً وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إِلَّا بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّ الثَّانِيَةَ ظُلْمٌ مِنَ الطَّالِبِ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا بِأَمْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ وَأَنْكَرَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الضَّامِنِ فِي دَفْعِهِ الْأَلْفَ إِلَى الطَّالِبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا يُشْهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَشْهَدْ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيِّنَةً عِنْدَ إِنْكَارِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ. فَإِنْ أَشْهَدَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ، مِثْلَ أن يشهد شاهدين عدلين أو شاهد وَامْرَأَتَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ بَقِيَ الشُّهُودُ عَلَى حَالِهِمْ أَوْ مَاتُوا، أَوْ فَسَقُوا، لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ وَالْفِسْقِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَهَلْ يُرَاعَى فِيمَنْ أَشْهَدَهُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ كَشُهُودِ النِّكَاحِ، أَوْ تُرَاعَى فِيهِمُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ إِنْفَاذَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تُرَاعَى فِيهِمُ العدالة الظاهرة كالنكاح، لأن العدالة الباطنة يتعزز الْوُصُولُ إِلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَاعَى فِيمَنْ يَشْهَدُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِثْبَاتُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 فعلى هذا إن شهد عدلين في الظاهر فاسقين فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرْجِعْ، فَكَانَ مُفَرِّطًا، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَهُ نَاقِصَ الْعَدَدِ نَاقِصَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدًا وَاحِدًا. . عَبَدَا أَوْ فَاسِقًا فَهَذَا كَمَنْ لَمْ يُشْهِدْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ إِثْبَاتُ الْحَقِّ بِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا حَقٌّ، فَكَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَ، كَامِلَ الْعَدَدِ نَاقِصَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَبْدَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بَيِّنَةً، وَهِيَ كَمَنْ لَمْ يُشْهِدْ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، فَلَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدَانِ أَوْ عُدِّلَ الْفَاسِقَانِ بَعْدَ إِشْهَادِهِمَا فَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِمَا رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَمَوْتِهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا رُجُوعَ بِهِ لَهُ لِتَفْرِيطِهِ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ أَشْهَدَهُمَا. وَإِنْ كَانَ مَنْ أَشْهَدَهُ نَاقِصَ الْعَدَدِ كَامِلَ الصِّفَةِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِشْهَادِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بَيِّنَةً وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِشْهَادِهِ لِيَحْلِفَ مَعَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيِّنَةٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ كَالشَّاهِدَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونَ مُفَرِّطًا بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ، لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ واليمين إذا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَأَشْهَدَ مَنْ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا بِإِشْهَادِهِ عَلَى مَا بَيَّنَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُثْبِتَ بِهِمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُنْكَرِ لِلْقَبْضِ أَمْ لَا، فَإِنْ ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَبَرِئَ مِنْهُ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ، وَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّاهُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ لِمَوْتِهِمْ أَوْ حُدُوثِ فِسْقِهِمْ أَوْ بَعْدِ غَيْبَتِهِمْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ الْمُنْكِرُ مَعَ يَمِينِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنَ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَأَخَذَ حَقَّهُ مِنْهُ بَرِئَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ مَعًا، وَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا أَدَّاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فَيَصِيرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ غَارِمًا لِأَلْفَيْنِ أَلْفًا مِنْهَا أَدَاءٌ إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ، وَأَلْفًا غَرِمَهَا لِلضَّامِنِ بِأَدَائِهَا عَنْهُ، وَإِنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ حِينَ حَلَفَ عَلَى الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ بِالثَّانِيَةِ مَظْلُومٌ فَلَا يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ، فَهَذَا حُكْمُ الضَّامِنِ إِذَا أَشْهَدَ فِيمَا دَفَعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشْهِدِ الضَّامِنُ فِيمَا دَفَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ حِينَ دَفَعَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهَا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ فَرَّطَ حِينَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْمَضْمُونُ لَهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى حَقِّهِ من مُطَالَبَةَ مَنْ شَاءَ مِنَ الضَّامِنِ أَوِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَإِنْ طَالَبَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ وَأَغْرَمُهُ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ مَعَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا كَانَ دَفَعَ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِدَفْعِهِ حِينَ لَمْ يُشْهِدْ، وَإِنْ أُغْرِمَ الضَّامِنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 بَرِئَ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ وَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُولَى لَمْ يَقَعْ بِهَا الْإِبْرَاءُ وَالْأَلْفُ الثَّانِيَةُ هُوَ مَظْلُومٌ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الرُّجُوعُ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهَا مِنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ فَعَلَى هَذَا بِأَيِّ الْأَلْفَيْنِ يَرْجِعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ الْأُولَى لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي الْبَاطِنِ كَانَ بِهَا، وَالثَّانِي يَرْجِعُ بِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ سَقَطَتْ بِهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَاضِرًا عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا أَدَّاهُ بِمَحْضَرِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِيثَاقَ بِالْإِشْهَادِ إِذَا حَضَرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إِلَيْهِ، دُونَ الضَّامِنِ، فَلَمَّا لَمْ يُشْهِدْ صَارَ هُوَ التَّارِكَ بِحَقِّهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ دُونَ الضَّامِنِ، ثُمَّ لِلْمَضْمُونِ لَهُ إِذَا حَلَفَ أَنْ يَرْجِعَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَوِ الضَّامِنِ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَيُغَرِّمَهُ أَلْفًا، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ فَأَغْرَمَهُ أَلْفًا ثَانِيَةً كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ حُضُورَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ الدَّفْعَ لَا يُسْقِطُ عَنِ الضَّامِنِ حق الْوَثِيقَةِ بِالْإِشْهَادِ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ دَفْعًا مُبَرِّئًا، فَصَارَ ذَلِكَ مَقْرُونًا بِالْإِشْهَادِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَحْضُرِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّفْعَ فَإِنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ لَمْ يَرْجِعِ الضَّامِنُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ فَهَلْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِإِحْدَى الْأَلْفَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مَا قَضَى بِهِ لَهُ عَلَى آخَرَ أَوْ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيْهِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) لَا يَجُوزُ هَذَا وَهَذِهِ مُخَاطَرَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ وَاجِبًا مَعْلُومًا، وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَا مَا كَانَ مَجْهُولًا وَلَا الْإِبْرَاءُ مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ، وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ وَالْهِبَةُ لَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ لَمَّا جَازَ اتِّفَاقًا مَعَ جَهَالَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضِهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ بِهِ حِجَاجًا وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَبْطُلُ بِهَا الْأَثْمَانُ، فَإِنَّهُ يُبْطَلُ بِهَا الضَّمَانُ، قِيَاسًا عَلَى جَهَالَةِ الْجِنْسَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ بِجَهَالَةِ جِنْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا لِجَهَالَةِ قَدْرِهِ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ، كَالرَّهْنِ وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مَجْهُولٍ فوجب أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 يَكُونُ بَاطِلًا، قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَالَ ضَمِنْتُ بَعْضَ مَالِكَ عَلَى فُلَانٍ، فَأَمَّا الدَّرَكُ فَهُوَ ضَمَانٌ وَاجِبٌ مَعْلُومٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ ضَمَانَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَا يُسْتَحَقُّ فِي الثَّانِي مِنْ كُلِّ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ فُلَانًا، أَوْ مَا تُبَايِعُ بِهِ فُلَانًا مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى مِائَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَخْرِيجًا مِنْ تَجْوِيزِهِ ضَمَانِ نَفَقَةِ الزوجات على قول فِي الْقَدِيمِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ ضَمَانٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ مِنْ ضَمَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ كَانَ يَرَى وُجُوبَهَا بِالْعَقْدِ فَصَارَ ضَمَانُ مَا قَدْ وَجَبَ، وَهَذَا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَالَ هَذَا وَكِيلِي وَعَلَيَّ ضَمَانُ كُلِّ مَا تُعْطِيهِ أَوْ تُبَايِعُهُ، صَحَّ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ كُلِّ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي مُبَايَعَتِهِ وَعَطَائِهِ، وَلَيْسَ لُزُومُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الضَّمَانِ فَيَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ لَكِنْ لَمَّا جَعَلَهُ وَكِيلَهُ صَارَتْ يَدُهُ كَيْدِهِ فَلَوِ ادَّعَى الْمَضْمُونُ لَهُ مِنَ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَطَاءِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْوَكِيلُ وَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ الضَّامِنُ وَلَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَلُ قَوْلُ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَيْهِ قَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ: أَقْرِضْ زَيْدًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيَّ ضَمَانُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ مُقْتَرِنٌ بِالْقَرْضِ فَصَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَبَضَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، فَضَمِنَ ضَامِنٌ نَقْصَهَا فِي الْوَزْنِ، أَوْ فِي الصِّفَةِ، صَحَّ وَجَرَى هَذَا مَجْرَى ضَمَانِ الدَّرَكِ، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ وَمَا لَمْ يَجِبْ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ ضَمَانَ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الضَّمَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فَلَوِ ادَّعَى الْقَابِضُ أَنَّهَا نَقَصَتْ عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ، كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ أَوِ الضَّامِنِ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ جَمِيعًا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَى الدَّافِعِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ دَيْنِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الضَّامِنِ حَتَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الدَّافِعِ، وَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى الضَّامِنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّافِعِ هُوَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ وَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَلِذَلِكَ قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الدَّافِعِ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الضَّامِنِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا رَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الضَّامِنِ بِالنَّقْصِ فَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ بأمره لأنه بإكذاب القابض مقرا بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ. وَلَكِنْ إِنْ أَكْذَبَهُ الدَّافِعُ وَصَدَّقَهُ الضَّامِنُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى الدَّافِعِ مَقْبُولٌ وَالضَّامِنُ قَدْ صَدَّقَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ أَيْضًا، لِإِنْكَارِ الدَّافِعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ الْقَابِضِ عَلَى الدَّافِعِ وَلَا يُقْبَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الضَّامِنِ، إِنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَمُرْتَهَنُ الذِّمَّةِ بِحَقِّ الْقَابِضِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا إِذَا ضَمِنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يُبَدِّلَ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ رَدِيئًا فِيهَا فَإِذَا رَدَّ مِنْهَا شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يُبَدِّلَهَا مِمَّنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ وَالضَّامِنِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهَا مِنَ الدَّافِعِ كَانَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْبَدَلِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الرَّدِّ الْمُبْدَلِ وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ بَدَلِهَا مِنَ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْبَدَلِ لِيَسْتَرْجِعَ الرَّدَّ الْمُبْدَلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَالدَّافِعُ يَمْلِكُهُ، وَقِيلَ لِلضَّامِنِ لَكَ أَنْ تَفْسَخَ الْقَضَاءَ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَتَدْفَعَ إِلَيْهِ بِوَزْنِهِ جَيِّدًا وَيَكُونُ الرَّدُّ مَعَ الْقَابِضِ لِيَتَوَلَّى رَدَّهُ عَلَى الدَّافِعِ. فَإِنْ قَبَضَ الضَّامِنُ الرَّدِيءَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، وَصَارَ بِقَبْضِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الدَّافِعُ فِي اسْتِرْجَاعِهِ إِذْنًا صَرِيحًا فَلَا يَضْمَنُ. فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ رَدِيئًا زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدَّرَاهِمِ فَكَذَّبَهُ الدَّافِعُ وَالضَّامِنُ مَعًا فَإِنْ كَانَ رَدُّهَا عَيْبًا لَا يخرجها من جنس الدراهم كالعتق والصفة الجنسية لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْقَابِضِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ رَدُّهَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ كالزائفة وَالصُّفْرِ الْمَطْلِيِّ فَقَوْلُ الْقَابِضِ مَقْبُولٌ عَلَى الدَّافِعِ كَمَا لَوِ ادَّعَى نَقْصَ الْوَزْنِ، وَهَلْ يُقْبَلُ عَلَى الضَّامِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعِيبَ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَبْضًا مِنَ الْفِضَّةِ فَصَارَ بِقَبْضِهِ مُسْتَوْفِيًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الرَّدِّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبْتَدِئًا لِإِثْبَاتِ حَقٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعِيبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْضًا مِنَ الْفِضَّةِ فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ، فَلَمْ يَصِرْ بِادِّعَاءِ الرَّدِّ مُبْتَدِئًا بِإِثْبَاتِ حَقٍّ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ صَدَّقَهُ الضَّامِنُ وَكَذَّبَهُ الدَّافِعُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهَا عَلَى الضَّامِنِ وَلِلضَّامِنِ هَاهُنَا أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الْمُبْدَلِ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِ الرَّدِّ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا إِذَا صَدَّقَهُ، لِأَنَّ الضَّامِنَ مَعَ تَكْذِيبِ الدَّافِعِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ، فَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الرَّدِّ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا ضَمِنَ نَقْصَ الصِّفَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الْوَزْنِ، وَنَقْصَ الصِّفَةِ، فَيَصِيرَ ضَامِنًا لَهُمَا وَيَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، فَيَجْتَمِعَ الْحُكْمَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَ الدَّرَاهِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ نَقْصَ الْوَزْنِ، أَوْ نَقْصَ الصِّفَةِ، فَيَكُونَ ضَامِنًا لِنَقْصِ الْوَزْنِ لَا يَخْتَلِفُ، وَهَلْ يَضْمَنُ نَقْصَ الصِّفَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ لِإِطْلَاقِ النَّقْصِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي مِثْلِهِ خَارِجٌ عَنْ نَقْصِ الْوَزْنِ دون الصفة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ بَعْدَ مَا يَعْرِفُهُ وَيَعْرِفُ لِمَنْ هُوَ فَالضَّمَانُ لَازِمٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ سَوَاءٌ مَاتَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَيَصِحُّ ضَمَانُهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا مَاتَ مُعْسِرًا سَقَطَ عَنْهُ دَيْنُهُ وَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ فِي أَحَدِ مَحَلَّيْنِ إِمَّا فِي ذِمَّةٍ أَوْ عَيْنٍ وَالْمَيِّتُ لَا ذِمَّةَ لَهُ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِيهَا وَالْمُعْسِرُ لَيْسَ لَهُ عَيْنُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا سَاقِطٌ لِعَدَمِ مَحَلٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ لَا يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ ضَمَانِ دَيْنِهِ مَعَ إِعْسَارِهِ، فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ لَا يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ مَنْ أُخِذَتْ دُيُونُهُ مِنْ مَالِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِإِعْسَارِهِ كَالْحَيِّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ إِذَا كَانَ حَيًّا لَزِمَهُ إِذَا كَانَ مَيِّتًا كَالْمُوسِرِ، وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُعْسِرِ مُؤَثِّرٌ فِي تَأْخِيرِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِهِ كَإِعْسَارِ الْحَيِّ، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَرَاءَةٌ لِلضَّامِنِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ مَالًا ثُمَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ مُعْسِرًا لَمْ يَبْرَأِ الضَّامِنُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَازِمٌ. لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ مُعْسِرًا. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ دَيْنِ الْمَيِّتِ جَائِزٌ مَعَ إعساره فما رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمَا ضَمِنَا دَيْنَ مَيِّتَيْنَ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا وَفَاءً، وَلَوْ تَرَكَا وَفَاءً لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا بَلْ قَدْ كَانَ الَّذِي ضَمِنَ علي رضي الله عنه. رجل مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلِأَخْبَرَ بِإِبْطَالِ الضَّمَانِ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَعَ يَسَارِهِ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَعَ إِعْسَارِهِ كَالْحَيِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إِذَا كَانَ حَيًّا صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا، كَالْمُوسِرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ضَمَانِ الدَّيْنِ عَنِ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ضَمَانِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، أَصْلُهُ وُجُودُ عَيْنِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمْ يَكُنِ الْيَسَارُ بِهِ شَرْطًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِدَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ محل، فهو أنه استدلال يدفع إِجْمَاعٌ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمَيِّتَ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَاهُ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِوَضًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ سَقَطَ لَمَا اسْتُحِقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا حَاصِلًا كَانَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَاسِدًا. (فَصْلٌ) لَا يَخْلُو حَالُ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ حَالًّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ الضَّامِنُ حَالًّا، وَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ مُؤَجَّلًا فَلَا يُسْتَحَقُّ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ الَّذِي ضَمِنَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَيُطَالَبُ بِهِ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَالًّا وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مُؤَجَّلَةً فِي حَالٍّ، وَلَا حَالَّةً فِي مُؤَجَّلٍ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ تَحَوُّلَ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ، وَالضَّمَانُ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ عَلَى مَا عُقِدَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ الضَّامِنُ إِلَى أَجَلِهِ وَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ حَالًّا، وَلَا يُجْبَرُ الضَّامِنُ عَلَى التَّعْجِيلِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي ضَمَانِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُؤْخَذُ الضَّامِنُ بِتَعْجِيلِ مَا ضَمِنَهُ لِأَجْلِ شَرْطِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ حَالَ الضَّامِنِ أَضْعَفُ مِنْ حَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ تَعْجِيلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِنْ أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ فَالضَّامِنُ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلضَّامِنِ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا ضَمِنْتَ. لِتَفِيَ بِشَرْطِكَ، فَإِذَا أَبَيْتَ إِلَّا الْأَجَلَ الْمُسْتَحَقَّ لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُكَ التَّعْجِيلَ زِيَادَةَ تَطَوُّعٍ مِنْكَ لَا تُلْزِمُكَ إِلَّا بِالْقَبْضِ. فَلَوْ أَطْلَقَ الضَّامِنُ تَعْجِيلَ مَا ضَمِنَهُ أَوْ تَأْجِيلَهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ فِي الْحُلُولِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 وَالْأَجَلِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ حَالًّا وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ مُؤَجَّلًا. فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَضَمِنَهُ إِلَى أَجَلِهِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ إِلَى أَجَلِهِ ثُمَّ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْأَجَلُ حَلَّ دَيْنُهُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ عِنْدَ كَافَّةِ الفقهاء إلا طاووس وَالزُّهْرِيَّ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَوْتِهِ كَانَ عَلَى الضَّامِنِ إِلَى أَجَلِهِ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ بِحُلُولِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ وَمُطَالَبَةِ وَرَثَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ حَالًّا مِنْ تَرَكْتِهِ فَلَوْ مَاتَ الضَّامِنُ حَلَّ مَا عَلَيْهِ وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ أخذه من تركته وهو على المضمون عنه إِلَى أَجَلِهِ فَلَوْ تَعَجَّلَ الْمَضْمُونَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ الضَّامِنِ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ إِذْنَهُ فِي الضَّمَانِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَرْجِعَ بِهِ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. (فَصْلٌ) لَا يَخْلُو حَالُ الْآجَالِ الَّتِي انْعَقَدَ الضَّمَانُ إِلَيْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا تَعَيَّنَ وَقْتُهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ، كَشُهُورِ الْأَهِلَّةِ وَالسِّنِينَ الْهِلَالِيَّةِ فَالضَّمَانُ إِلَيْهَا جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا عُرِفَتْ جُمْلَتُهَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَقْتُهَا، كَالنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَفِصْحِ النَّصَارَى فَتَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ. وَفِي جَوَازِ تَأْجِيلِ الضَّمَانِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا جُهِلَ وَقْتُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ جُمْلَتُهَا كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُجُومِ الْبَرْدِ وَخُرُوجِ الْحَاجِّ وَقُدُومِ الْغُزَاةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ أَجَلًا فِي الْأَثْمَانِ وَلَا فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ شُرِطَ فِي الْأَثْمَانِ بَطَلَ العقد وإن شرط في الضمان ففي بطلانه قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الضَّمَانِ إِذَا شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَفِي بُطْلَانِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا الْأَجَلُ إِلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْجُزَازِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ فَبَاطِلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَلًا فِي الْأَثْمَانِ وَلَا فِي الضَّمَانِ، كَالْعَطَاءِ وَخُرُوجِ الْحَاجِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ زَمَانُهُ الَّذِي يَصْلُحُ فِيهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَهَذَا مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي عُرِفَتْ جُمْلَتُهُ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَقْتُهُ وَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ الْأَثْمَانِ إِلَيْهِ وَفِي جَوَازِ تَأْجِيلِ الضَّمَانِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ والله أعلم بالصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالتَّجَارَةِ لِأَنَّ هَذَا اسْتِهْلَاكٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَالضَّمَانَ عَنْهُ يَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ، فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَضْمَنَ الْعَبْدُ عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ مَالًا لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فَلَا يَخْلُو ضَمَانُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ ضَمَانُهُ، وَكَانَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ - وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ إِنَّ ضَمَانَهُ إِذَا كَانَ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدِ فِي كَسْبِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي التَّزْوِيجِ كَانَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لَهُ بِالضَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ إِذْنٌ بِالْمُعَامَلَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بِالْمُبَايَعَةِ، ثُمَّ لَوِ ابْتَاعَ الْعَبْدُ مَالًا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ دُونَ كَسْبِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَكَذَا الضَّمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْنُهُ بِالتَّزْوِيجِ، لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْكَسْبِ. وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ فَبَطَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ السيد كالبيع. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ضَمَانَهُ صَحِيحٌ، وَيَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ يُعْتَبَرُ فِيمَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِيهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ مِنَ الضَّمَانِ لَا يَدْخُلُ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ضَرَرٌ فَجَازَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنْ ضَمِنَ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى إِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: وَإِنْ ضَمِنَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ مَرْصَدٌ لِلرِّبْحِ وَالزِّيَادَةِ وَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ. وَإِنْ ضَمِنَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِيمَا بِيَدِهِ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ ضَمَانُهُ، وَيُؤَدِّي مَا بِيَدِهِ فِيهِ فَإِنْ وَفَّى بِضَمَانِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ حَتَّى عَتَقَ أَدَّاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْحُرُّ إِنْ ضَمِنَ مَالًا عَيَّنَهُ بِيَدِهِ مَا حُكْمُهُ؟ قُلْنَا يَكُونُ الضَّمَانُ بَاطِلًا لأن الضمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلٍّ يُؤْمَنُ تَلَفُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِيمَا بِيَدِ الْعَبْدِ إِنَّمَا يُصْرَفُ إِلَى الْأَدَاءِ دُونَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ فَصَحَّ وَالتَّعْيِينَ فِي الْحُرِّ انْصَرَفَ إِلَى الضَّمَانِ فَبَطَلَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ فَهَلْ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ لِأَجْلِ دُيُونِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا: لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا لِسَيِّدِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ سِوَى السَّيِّدِ كَالْحُرِّ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ أَذِنَ لَهُ فِي هِبَةِ الْمَالِ صَحَّتْ هِبَتُهُ، لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ يَدْفَعُ حَجْرَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِمَنْ سِوَاهُ حَجْرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعَبْدَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيمَا بِيَدِهِ بِدَيْنِ غُرَمَائِهِ كَمَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُعَامَلُ بِمَا فِي يَدِهِ لِضَعْفِ ذِمَّتِهِ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُدْخِلُ الضَّرَرَ عَلَى غُرَمَائِهِ، بِهِبَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَعَلَى هَذَا فِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَرَفَهُ إِلَى جِهَةٍ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْأَدَاءُ فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الضَّمَانِ، وَفِيمَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ قَبْلَ الضَّمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ. (فَصْلٌ) وَالْفَصْلُ الثَّانِي هُوَ أَنْ يُضَمِنَ الْعَبْدُ مَالًا عَنْ سَيِّدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ إِذَا كَانَ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْزَمُهُ دَيْنُهُ كَالْحُرِّ، فَصَارَ ضَمَانُهُ عَنْ سَيِّدِهِ كَضَمَانِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى الضَّمَانِ عَنْهُ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ مَالَ ضَمَانِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَى سَيِّدِهِ الرُّجُوعُ بِهِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجِبَ لَهُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ مَالٌ، وَإِنْ أَدَّاهُ عَنِ السَّيِّدِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بِذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّهُ أَدَّاهُ فِي حَالٍ يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ لَا رُجُوعَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ قَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 كَانَ ضِمْنَهُ عَنْهُ فِي حَالٍ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، فَاعْتَبَرَ أَبُو حَامِدٍ حَالَ الضَّمَانِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ حَالَ الْأَدَاءِ. (فَصْلٌ) وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الْعَبْدُ مَالًا لِسَيِّدِهِ عَنْ أَجْنَبِيٍّ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ضَمَانُهُ لِسَيِّدِهِ جَائِزٌ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَالٌ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الذِّمَّةَ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَالِبَ عَبْدَهُ بِالضَّمَانِ إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ فِي مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ مِثْلَ مَا يَقُولُ فِي الضَّمَانِ، فَقَدْ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ وَكَانَ لِقَوْلِهِ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ مُبَايَعَتِهِ، فَقَدْ نَاقَضَ وَفَسَدَ مَذْهَبُهُ، وَلَسْتُ أَعْرِفُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ نَصًّا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْهُ، مِنْ تَجْوِيزِهِ بَيْعَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بِابْتِيَاعِ نَفْسِهِ حُرًّا، وَيُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَمَنَعَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ بَيْعِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ غَيْرَ نَفْسِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْعَبَّاسِ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَتَخَيَّرَ الْأَمْرَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بينهما بأن بيع نفسه عليه مفضي إِلَى عِتْقِهِ فَجَازِ، وَبَيْعَ غَيْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ لَا يُفْضِي إِلَى عِتْقِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِفَقْدِ مَزِيَّةِ الْعِتْقِ. (فَصْلٌ) وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ مَالًا لِأَجْنَبِيٍّ فَيَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ كما لزم الحر والعبد لَا يَلْزَمُهُ دَيْنُ عَبْدِهِ فَجَازَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ بضمانه فَإِنْ أَدَّاهُ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ قَبْلَ عِتْقِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يَرْجِعُ بِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الضَّمَانِ. (فَصْلٌ) وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ مَالًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ تِجَارَةٍ، مَأْذُونًا فِيهَا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ ضَمَانُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ كَضَمَانِهِ لِنَفْسِهِ فَبَطَلَ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي ضَمَانِ السَّيِّدِ لَهُ وَجْهَانِ، مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي غُرَمَاءِ الْعَبْدِ هَلْ يَسْتَحِقُّونَ حَجْرًا عَلَيْهِ بِدُيُونِهِمْ أَمْ لَا فَإِنْ قِيلَ لَا حَجْرَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ قِيلَ لَهُمْ حَجْرٌ عَلَيْهِ فَضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ جَائِزٌ. فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ دَيْنَهُ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَلَا يَبْرَأَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ وَعَلَيْهِ أَدَاءُ ذَلِكَ إِلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي عَقْدَيْهِمَا كَالْعَبْدِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّقِّ فَضَمَانُهُمَا وَالضَّمَانُ عَنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِهِ وَالضَّمَانِ عَنْهُ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُكَاتَبِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَمْلَكُ لِذِمَّتِهِ مِنَ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ فِيمَا بِيَدِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ. فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ لِأَجْلِ كِتَابَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي غَيْرِ الكتابة مؤثرا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَالًا فِي يَدَيْ وَصِيٍّ أَوْ مُقَارِضٍ وَضَمِنَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطَلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَأَمَّا مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ لَهُ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ وَإِسْقَاطَ مَالِ الْكِتَابَةِ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ غَيْرَ لَازِمٍ فَضَمَانُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ، وَكَذَا الْأَمْوَالُ الَّتِي فِي يَدِ مَنْ لَا يَضْمَنُهَا كَمَالِ الشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَمَا فِي يَدِ الْأَوْصِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنُوهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَيَسْتَقِرَّ ضَمَانُ بَدَلِهِ فِي ذِمَمِهِمْ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ ضَمَانُهُ عَنْهُمْ. فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِي فَيَصِحُّ ضَمَانُ بَدَلِهَا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فَأَمَّا ضَمَانُ أَعْيَانِهَا مَعَ بَقَائِهَا فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَوَّزَهُ ابْنُ سريج وقد تقدم الكلام معه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَضَمَانُ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَيَصِحُّ مِنَ الْمَرْأَةِ كَالرَّهْنِ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ ثُبُوتَ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ كَالْبَيْعِ وَيَجُوزُ ضَمَانُ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَأَنْ تَضْمَنَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا وَالزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَالِابْنُ لِأَبِيهِ كَمَا يَصِحُّ بَيْنَ الأجنبيين والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُبَرْسَمٍ يَهْذِي وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ وَلَا أَخْرَسَ لَا يَعْقِلُ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ وَالْكِتَابَ فَضَمِنَ لَزِمَهُ ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: ضَمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ الْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُمَا لِزَوَالِ عَقْلِهِمَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَلَا مُبَرْسَمٍ يَهْذِي؟ ؟ أَيَكُونُ الْهَذَيَانُ شَرْطٌ فِي بُطْلَانِ ضَمَانِهِ؟ قُلْنَا لَا اعْتِبَارَ بِالْهَذَيَانِ فَمَتَى كَانَ المبرسم ذابل الْعَقْلِ بَطَلَ ضَمَانُهُ وَسَائِرُ عُقُودِهِ سَوَاءٌ كَانَ يَهْذِي أَمْ لَا، وَلِأَصْحَابِنَا عَنْ قَوْلِهِ يَهْذِي جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زِيَادَةٌ ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ لَغْوًا وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ لَهَا فَائِدَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبَرْسَمَ يَهْذِي فِي أَوَّلِ بِرْسَامِهِ مَعَ قُوَّةِ جنسه فَإِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَضْعَفَ جِسْمَهُ فَلَمْ يَهْذِ، فَأُبْطِلَ ضَمَانُهُ (فِي الْحَالِ الَّتِي يَهْذِي فِيهَا لينبه على بطلان ضمانه) في الحالة التي هي أغلظ منها وهي الحالة الَّتِي لَا يَهْذِي فِيهَا. فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ بَطَلَ ضَمَانُهُ وَسَائِرُ عُقُودِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ وَالْكِتَابَةَ فَضَمِنَ بِكِتَابَتِهِ وَإِشَارَتِهِ (صَحَّ وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِهِ وَإِنْ ضَمِنَ بِإِشَارَتِهِ دُونَ كِتَابَتِهِ) صَحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ بالإشارة أُقِيمَتْ فِيهِ مَقَامَ نُطْقِهِ. وَإِنْ. . ضَمِنَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ إِشَارَتِهِ لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقُمْ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ لِاحْتِمَالِهَا حتى تنضم إليه الإشارة فيزول إليه احْتِمَالُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَضَمَانُهُ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِتَرِكَتِهِ بَطَلَ ضَمَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَانَ قَدْرُ ضَمَانِهِ خَارِجًا مِنْ ثُلُثِهِ صَحَّ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَا ضَمِنَهُ خَارِجًا مِنْ ثُلْثِهِ صَحَّ مِنْ ضَمَانِهِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَبَطَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ، فَلَوْ ضَمِنَ مَالًا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ضَمَانِهِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِتَرِكَتِهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ أَحَقُّ بِمَا نَزَلَ مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ وَالضَّمَانَ تُطَوُّعٌ، وَلَا يُؤَثِّرُ تَأْخِيرُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ أَوْ تَأَخَّرَ، فَلَوْ ضَمِنَ مَالًا لِلْوَرَثَةِ بَطَلَ الضَّمَانُ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ لِأَنَّ ضَمَانَهُ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ فَلَوْ ضَمِنَ فِي مَرَضِهِ مَالًا وَأَدَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا بِجَمِيعِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ وَارِثًا وَبِثُلُثَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ أَجْنَبِيًّا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَضَمَانُهُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ معا ولا يشارك الضمون لَهُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالضَّمَانِ مُسْتَحْدَثٌ بَعْدَ الْحَجْرِ وَيَكُونُ مَالُ الضَّمَانِ فِيمَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ كَطَلَاقِهِ وَيَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ مِنَ الْقَدِيمِ إِنَّ ضَمَانَهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ عَلَى الْقَدِيمِ إِنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 (مسألة) قال المزني: " وَضَعَّفَ الشَّافِعِيُّ كَفَالَةَ الْوَجْهِ فِي مَوْضِعٍ وَأَجَازَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَّا فِي الْحُدُودِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَمَّا مَضَى ضَمَانُ الْأَمْوَالِ عَقَّبَهُ الْمُزَنِيُّ بِكَفَالَةِ الْأَبْدَانِ فَإِذَا تَكَفَّلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَكْفُولِ مُطَالَبَةٌ بِحَقٍّ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي ثَلَاثَةِ كُتُبٍ عَلَى جَوَازِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَفِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمَوَاهِبِ. وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ بَعْدَ أَنْ نَصَّ عَلَى جَوَازِهَا غَيْرَ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ ضَعِيفَةٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. لِاخْتِلَافِ مَا حَكَيْنَا عَنْهُ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُونَ الْكَفَالَةُ فِي الْحُدُودِ بَاطِلَةٌ وَفِي الْأَمْوَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ وَدَلِيلُ جَوَازِهَا قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وَالْمَوْثِقُ الْكَفِيلُ فَامْتَنَعَ يَعْقُوبُ مِنْ إِرْسَالِ وَلَدِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ إِلَّا بِكَفِيلٍ يَكْفُلُ بِهِ وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَكَفَّلَ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ عَامَ الْفَتْحِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ حِينَ تَوَقَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ. فَكَفَلَتْ بِهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ لِأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةَ عُمَرَ وَقِيلَ بَلْ كَفَلَتْ بِهِ أُخْتُهُ حَفْصَةُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ إِنِّي مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوَّاحَةَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ فَكَذَّبْتُ سَمْعِي وَوَقَفْتُ حَتَّى سَمِعْتُ أَهْلَ الْمَسْجِدِ يَضِجُّونَ بِهِ فَبَعَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ فَدَعَاهُ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ مَا صَنَعْتَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي كُنْتَ تَتْلُوهُ قَالَ كُنْتُ أَتَّقِيكُمْ بِهِ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا يُسْتَتَابُونَ، وَيُكْفَلُونَ، فَاسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا، وَكَفَلَهُمْ عَنْ عَشَائِرِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ ضَمَانُ ذِي الذِّمَّةِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ضَمَانِ الْحَقِّ وَبَيْنَ ضَمَانِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدَ عَلَى عَيْنٍ، لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهَا فَلَمَّا جَازَتِ الْإِجَارَةُ وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الْكَفَالَةُ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ إِنَّمَا كَانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فَكَذَا كَفَالَةُ النُّفُوسِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّوْسِعَةِ وَهُوَ أَنْ يَرْتَفِقَ الْمَكْفُولُ بِهِ فِي الْإِطْلَاقِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْحَقِّ وَيَسْتَوْثِقَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْتِمَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ كَفَالَةَ النُّفُوسِ بَاطِلَةٌ، وَدَلِيلُ بُطْلَانِهَا قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 78] فَكَانَ قَوْلُهُ معاذ الله إِنْكَارًا لِلْكَفَالَةِ أَنْ تَجُوزَ حِينَ سَأَلَهُ إِخْوَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمْ كَفِيلًا مِمَّنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الضَّامِنِ الْمُطَالَبَةُ بِمُقْتَضَاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَضَمَانِ الْقِصَاصِ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ أَخْذُهُ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ، كَبَيْعِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّهُ ضَمَانٌ عُيِّنَ فِي الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَصِحَّ كالمسلم فِي الْأَعْيَانِ وَلِأَنَّهَا كَفَالَةٌ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ بِإِذْنِهِ، أَصْلُهُ إِذَا كَفَلَ بِالشُّهُودِ لِيُحْضِرَهُمْ لِلْأَدَاءِ وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحَقِّ وَحَبْسُهُ إِنْ حُبِسَ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَقِّ فَلِأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُ الْمَكْفُولِ بِهِ أَوْلَى. لِأَنَّ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ فَأَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَ الضَّامِنَ وَلِأَنَّهُ إِنِ اسْتَحَقَّ إِحْضَارَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَهُوَ عَلَى الْحَاكِمِ أَوْجَبُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ الْحَاكِمُ فَالْكَفِيلُ عَنْهُ أَعْجَزُ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ الْكَفَالَةُ بِالنُّفُوسِ جَائِزَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي الْحُدُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَثُّقِ فِيهَا بِالْكَفَالَاتِ وَسَوَاءٌ فِي الْحُدُودِ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ أَوْ مَا كَانَ لِلَّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ غَيْرَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ يَعْنِي غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا ضَعِيفٌ لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي إِبْطَالِهَا، كَمَا قَالَ فِي النَّائِمِ قَاعِدًا لَوْ صِرْنَا إِلَى النَّظَرِ تَوَضَّأْ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ، فَأَسْقَطَ النَّظَرَ لِلْخَبَرِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيهِ وَكَمَا قَالَ فِي الْقَدِيمِ آذَانُ الصُّبْحِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ لَكِنِ اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانٍ فَمَنْ أَبْطَلَ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَنْ جَوَّزَهَا فِي الْحُدُودِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى إِبْطَالِ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ لَا بِنَفْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَصِحَّتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ بِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ الْمَالِ الْمَضْمُونِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمَضْمُونِ لَهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ بِهِ وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَقِّهِ؟ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لَا تَلْزَمُ وَأَنَّ جَهَالَتَهُ بِهِ لَا تَضُرُّ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ عَنْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَإِذْنِهِ، فَإِنْ كَفَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ تَصِحَّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ كَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ غُرْمَ مَالٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْكَفَالَةُ تُوجِبُ تَسْلِيمَ نَفْسٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَمْكِينِ الْمَكْفُولِ بِهِ. فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِمَا، وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَلَوْ أَمَرَهُ الِابْنُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْأَبِ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْكَفَالَةُ وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَوْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِوَجْهِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ بِرُوحِ فُلَانٍ وَفِي مَعْنَى الثَّانِي أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِرَأْسِ فُلَانٍ فَتَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهَذَا كُلِّهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِجِسْمِ فُلَانٍ، أَوْ بِبَدَنِ فُلَانٍ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ فَأَمَّا إذا ذكر في الكفالة عضو مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مَا يُعَبَّرُ به عن الجملة لقوله (كَفَلْتُ لَكَ بِعَيْنِ فُلَانٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 صَحَّتِ الْكَفَالَةُ كَمَا لَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِوَجْهِ فُلَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ لا يحيى بِفَقْدِهِ مِثْلَ الْكَبِدِ وَالْفُؤَادِ، فَإِذَا قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِكَبِدِ فُلَانٍ أَوْ فُؤَادِ فُلَانٍ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ بِنَفْسِ فُلَانٍ، وَإِنْ كان العضو مما يحيى مَعَ فَقْدِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَإِذَا قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِ فُلَانٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْقِدُ ذَلِكَ الْعُضْوَ الَّذِي عُيِّنَ فِي الْكَفَالَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَقِّ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنِصْفِ فُلَانٍ أَوْ بِثُلُثِ فُلَانٍ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ فِيهِ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ فَكَانَ أَقْوَى فِي الْحُكْمِ مِنْ أَعْضَائِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ لَفْظِ الْكَفَالَةِ فَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَحْبُوسًا لِأَنَّ تَعَسُّرَ إِحْضَارِهِ بِالْحَبْسِ وَالْغَيْبَةِ جَارٍ مَجْرَى إِعْسَارِ الضَّامِنِ بِالْمَالِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِعْسَارَ الضَّامِنِ بِالْمَالِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ضَمَانِهِ فَكَذَا تَعَذُّرُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْكَفَالَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ أَوْ مُطْلَقَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً اسْتَحَقَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ عَاجِلًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَكَفَّلَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَتَقْيِيدُهَا بِالزَّمَانِ أَنْ تَقُولَ عَلَيَّ أَنَّنِي أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَتَقْيِيدُهَا بِالْمَكَانِ أَنْ تَقُولَ عَلَيَّ أَنَّنِي أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ بِالْبَصْرَةِ، أَوْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا لَا يَحِلُّ قَبْلَ الشَّهْرِ أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ لَا تَحْضُرُ قَبْلَ شَهْرٍ لَمْ يَبْرَأْ بِتَسْلِيمِهِ إِلَّا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ حَالًّا وَبَيِّنَتُهُ حَاضِرَةً بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَأْخِيرِهِ شَيْئًا، وَهَكَذَا لَوْ كَفَلَ بِهِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ بِالْبَصْرَةِ فَسَلَّمَهُ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ مِنْ يَدٍّ غَالِبَةٍ أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْبَصْرَةِ وَفِي حمله إلى البصرة مؤونة، لَمْ يَبْرَأْ بِتَسْلِيمِهِ إِلَّا بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ آمِنًا وَالْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مُمْكِنًا بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِحَمْلِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ شَيْئًا فَلَوْ كَفَلَ بِهِ إِلَى وَقْتٍ فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ حَاضِرًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ حُبِسَ الْكَفِيلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِ يَجِبُ إِنْظَارُهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ مِنْ أُعْسِرَ بِالدَّيْنِ حَتَّى يُوسِرَ، فَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ فَإِنْ أَبَى الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ أَشْهَدَ الْمَكْفُولُ بِهِ الدَّافِعَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي كَفَالَةِ فُلَانٍ وَبَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهَا وَهَكَذَا لَوْ أَحْضَرَهُ الْكَفِيلُ فَأَبَى الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ أَشْهَدَ الْكَفِيلُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَأَبْرَأَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَدْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَبْرَأْ نَفْسَهُ مِنَ الكفالة برئ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 (فَصْلٌ) فَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْكَفِيلِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَهَكَذَا يَقُولَانِ إِذَا تَطَاوَلَتْ غَيْبَتُهُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَالَةِ التَّوْثِيقُ فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَوْ كَانَ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمًا لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْكَفَالَةِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَضْمَنْهُ وَالْمَكْفُولُ بِهِ قَدْ مَاتَ فَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ جَازَ إِذَا كَفَلَ بِالنَّفْسِ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ لَجَازَ إِذَا ضَمِنَ الْمَالَ أَنْ يَصِيرَ كَفِيلًا وَلَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يختص بحكمه فلماذا ثَبَتَ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ نَظَرْنَا فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ إِحْضَارُ الْمَيِّتِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَقَدْ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ بِمَوْتِهِ وَإِنْ لَزِمَ إِحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ على عينه ولا تعرف وَلَا تُعْرَفُ اسْمُهُ وَلَا نَسَبُهُ فَلَا بَأْسَ بِإِحْضَارِ الْمَيِّتِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ أَوْ يَحْضُرُ الْحَاكِمُ إِلَى مَوْضِعِ الْمَيِّتِ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَفَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاقِيَةٌ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَيِّتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فلم يحتج إلى الكفل. (فَصْلٌ) فَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَةَ الْوَارِثِ بِشَيْءٍ وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنْ لَا تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا عَلَى مَذْهَبِهِ قَدْ تُفْضِي إِلَى مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَكِنْ لَمْ أَجِدْ نَصًّا فِيهِ، وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ كَانَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَبْطُلُ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ. فَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ حِينَ مَاتَ خَلَّفَ وَرَثَةً وَغُرَمَاءَ فَوَصَّى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ إِلَى وَصِيٍّ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَفَالَةِ الْوَارِثَ وَحْدَهُ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا وَإِنْ كَانَ مَالًا لَمْ يَبْرَأِ الْكَفِيلُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَالْوَصِيِّ وَكَذَا الْمَالُ الْمَضْمُونُ فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْوَرَثَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَصِيِّ أَوْ إِلَى الْغُرَمَاءِ دُونَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيِّ أَوْ إِلَى الْوَصِيِّ دُونَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ إِلَى الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَأَهْلِ الْوَصَايَا دُونَ الْوَصِيِّ فَفِي بَرَاءَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ، أَحَدُهُمَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَإِنَّمَا الْوَصِيُّ نَائِبٌ وَوَسِيطٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَكُونَ الْوَصِيُّ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَسَلَّمَهُ لِأَنَّ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا فَصَارَ كَوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ مَاتَ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 وَبَطَلَ الضَّمَانُ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ وَلَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَالضَّمَانُ مَعًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الضَّمَانَ الْفَاسِدَ مَشْرُوطًا فِي الْكَفَالَةِ فَبَطَلَا جَمِيعًا وَلَكِنْ لَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَضَمِنْتُ لَكَ مَا عليه وهو معلوم فبهذه كَفَالَةٌ صَحِيحَةٌ، وَضَمَانٌ صَحِيحٌ، وَبِالْعَكْسِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنْ يَقُولَ قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفًا فَإِنْ لَمْ أُؤَدِّهَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ صَحَّ الضَّمَانُ وَبَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَلَوْ قَالَ ضَمِنْتُ لَكَ عَنْهُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي إِنْ لَمْ أُؤَدِّهَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ بَطَلَ الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ لِرَجُلَيْنِ فَسَلَّمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ وَبَرِئَ مِنْ حَقِّ مَنْ تَسَلَّمَهُ منه وكان الاتفاق على حق مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِهِ. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ بِرَجُلٍ مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَكْفُولُ بِهِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَكْفُولِ بِهِ وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بَرِئَا مِنْهُ جَمِيعًا. (فَصْلٌ) وَلَكِنْ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ ثَانٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ ثَالِثٌ كَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَلَاءِ عَلَى انْفِرَادٍ فَإِذَا سَلَّمَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْرَأِ الْآخَرَانِ مِنْ كَفَالَتِهِ؟ بِخِلَافِ الضَّمَانِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُ الضُّمَنَاءِ الْمَالَ، لِأَنَّ أَدَاءَ أَحَدِهِمُ الْمَالَ يُبَرِّئُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ، فَبَرِئَ بَاقِي الضُّمَنَاءِ، وَتَسْلِيمُ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ الْمَكْفُولَ بِهِ لَا يُبَرِّئُهُ مِنَ الْحَقِّ فَلَمْ يَبْرَأْ بَاقِي الْكُفَلَاءِ. فَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِالْكَفِيلِ آخَرُ ثُمَّ كَفَلَ بِالْكَفِيلِ الثَّانِي كَفِيلٌ ثَالِثٌ جَازَ وَكَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْ تَكَفَّلَ بِهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ به الأول برؤا جَمِيعًا، وَلَوْ مَاتَ الثَّانِي بَرِئَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْكُفَلَاءِ، وَلَوْ مَاتَ الثَّالِثُ بَرِئَ مَنْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مَنْ قَبْلَهُ كَمَا قُلْنَا فِي بَرَاءَةِ الضُّمَنَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) أَخْذُ السَّفَاتِجِ بِالْمَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِقَرْضٍ حَادِثٍ، فَأَمَّا الدَّيْنُ الثَّابِتُ إِذَا سَأَلَ صَاحِبُهُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ سُفْتَجَةً إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى كَتْبِ سُفْتَجَةٍ جَازَ. وَأَمَّا الْقَرْضُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِيهِ كَتْبُ السُّفْتَجَةِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُقْرِضِ فَيَقُولُ هُوَ ذَا أَقْرَضْتُكَ لِتَكْتُبَ لِي بِهِ سُفْتَجَةً إِلَى بَلَدِ كَذَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُقْتَرِضِ فَيَقُولُ: هُوَ ذَا أَقْتَرِضُ مِنْكَ لِأَكْتُبَ لَكَ فِي سُفْتَجَةٍ إِلَى بَلَدِ كَذَا فَهَذَا قَرْضٌ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَخْذُ السُّفْتَجَةِ بِهِ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَرْضًا مُطْلَقًا ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَتْبِ سُفْتَجَةٍ فَيَجُوزُ هَذَا كَالدَّيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السُّفْتَجَةِ بِالدَّيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالرِّسَالَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، فَإِذَا وَرَدَتِ السُّفْتَجَةُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ بِدَيْنِ الْمَكَاتِبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ بِدَيْنِ الْمَكْتُوبِ لَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كِتَابُ الْمُحِيلِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهُ كَتَبَهُ مُرِيدًا أَنَّهُ الْحَوَالَةُ فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَزِمَهُ أَدَاءُ مَا فِي السُّفْتَجَةِ مِنَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ ضَمِنَهُ لَفْظًا أَمْ لَا وَإِنِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِ الْكَاتِبِ وَأَنْكَرَ دَيْنَ الْمَكْتُوبِ لَهُ أَوِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِهِمَا وَأَنْكَرَ الْكِتَابَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْحَوَالَةُ. وَلَوِ اعْتَرَفَ بِدَيْنِهِمَا وَبِالْكِتَابَةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَاتِبُ أَرَادَ بِهِ الْحَوَالَةَ فَالْمَذْهَبُ الَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحَوَالَةَ لَا تَلْزَمُهُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَتَى اعْتَرَفَ بِالْكِتَابِ وَالدَّيْنِ لَزِمَتْهُ الْحَوَالَةُ وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِرَادَةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّ الوصول إلى الإرادة متعذر، فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْكِتَابِ لَكِنْ أَجَابَ إِلَى دَفْعِ الْمَالِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ جَازَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَالِ مِنْهُ قَبْلَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ، وَأَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَالِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ مَا لَمْ تَثْبُتْ صِحَّةُ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّفْتَجَةُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالرِّسَالَةِ لَمْ تَلْزَمِ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهَا لَفْظًا سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْكِتَابِ وَالدَّيْنِ أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن وَقَالَ أبو يوسف إِذَا قَرَأَهَا وَتَرَكَهَا تَرْكَ رِضًا لَزِمَتْهُ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ إِذَا أَثْبَتَهَا فِي حِسَابِهِ لَزِمَتْهُ. وَكُلُّ هَذَا عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ بِهِ السُّفْتَجَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ قَدْ قَبِلْتُهَا حَتَّى يَضْمَنَهَا لَفْظًا ثُمَّ لَا تَلْزَمُ الْكَاتِبَ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا لَفَظًا فَلَا تَلْزَمُهُ بِاعْتِرَافِهِ بِالْخَطِّ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنِ اعْتَرَفَ بِالْخَطِّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِنِ اعْتَرَفَ بِالْخَطِّ فِي الْحَوَالَةِ لَزِمَتْهُ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ آخَرُ كِتَابِ الضَّمَانِ بحمد الله ومنه وتوفيقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 (كتاب الشركة) تَحَرَّيْتُ فِيهَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " الشَّرِكَةُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا الْغَنِيمَةُ أَزَالَ اللَّهُ عَزَ وَجَلَّ مِلْكَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَيْبَرَ فَمَلَكَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْمُؤْمِنُونَ وَكَانُوا فِيهِ شُرَكَاءَ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا خُمُسَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِأَهْلِهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَسْمِ الْأَمْوَالِ وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا بِالسِّهَامِ وَمِنْهَا الْمَوَارِيثُ وَمِنْهَا الشَّرِكَةُ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْهَا التِّجَارَاتُ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْقَسْمُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ وَطَلَبَهُ الشَّرِيكُ وَمِنْهَا الشَّرِكَةُ فِي الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ وَهِيَ الْأَحْبَاسُ وَلَا وَجْهَ لِقَسْمِهَا فِي رِقَابِهَا لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ عَنْهَا فَإِنْ تَرَاضَوْا مِنَ السُّكْنَى سَنَةً بِسَنَةٍ فَلَا بَأْسَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الشَّرِكَةِ وَإِبَاحَتِهَا - الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى خُمُسَ الْغَنَائِمِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ وَجَعَلَ الْبَاقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ وَبَيَّنَ الْخُمُسَ لِأَهْلِهِ عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُمْ كَمَا قَالَ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ لِلْأَبِ وَقَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَجَعَلَ التَّرِكَةَ شَرِكَةً بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ. فَجَعَلَ أَهْلَ السِّهَامِ شُرَكَاءَ فِي الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] يَعْنِي الشُّرَكَاءَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ وَكَانَ يُشَارِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ مَرْحَبًا بِأَخِي لَا يُدَارِي وَلَا يماري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 ثَمَّ قَالَ كَمْ يَا سَائِبُ كُنْتَ تَعْمَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَعْمَالًا لَا تُقْبَلُ مِنْكَ وَهِيَ اليوم تقبل وكان ذا سلف وصداقة. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ السَّائِبِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي. وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِنْ خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا. وَرَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي سِهَامِ خَيْبَرَ وَفِي الْأَزْوَادِ فِي السَّفَرِ وَاشْتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ فِي أَزْوَادِهِمْ يَخْلِطُونَهَا فِي سَفَرِهِمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الشَّرِكَةِ فَقَدْ ينقسم ما تكون فيه الشركة أقسام أَرْبَعَةً: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي الرِّقَابِ وَالْمَنَافِعِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ فِي الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ الرِّقَابِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّقَابِ وَالْمَنَافِعِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الِاثْنَانِ أَوِ الْجَمَاعَةُ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ عَرْضًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ مَغْنَمٍ أَوْ هِبَةٍ فَيَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي رَقَبَةِ الشَّيْءِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ فَهُوَ أَنْ يُوصِيَ رَجُلٌ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ سُكْنَى دَارِهِ أَوْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ فَيَكُونَ الْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ، وَيَكُونَ الْوَرَثَةُ شُرَكَاءَ فِي الرَّقَبَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ في المنافع دون الرقاب فأما المنافع على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةً من عين مملوكة كَالرَّجُلَيْنِ إِذَا اسْتَأْجَرَا دَارًا أَوْ أَرْضًا فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي مَنَافِعِهَا دُونَ رِقَابِهَا وَالْوَقْفُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ أَرْبَابُهُ شُرَكَاءَ فِي مَنَافِعِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ إِنْ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمْلَكُ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَرْبَابُهُ شُرَكَاءَ فِي مَنَافِعِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ أن رقبة الوقف لا يملك. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً مِنْ عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ بِالدُّهْنِ النَّجَسِ وَالرَّوْثِ وَالسَّمَادِ فَهَذَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ أَوْلَى بِهِ لِثُبُوتِ يَدِهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنَّمَا لَمْ تُمْلَكِ الْمَنْفَعَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا فَيَكُونَ الشُّرَكَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ شُرَكَاءَ فِي إِبَاحَةِ مَنَافِعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَأْخُوذَةً مِنْ عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ هَلْ تَكُونُ مَمْلُوكَةً أَوْ مُبَاحَةً وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَمْلُوكَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ إِجَارَةِ الْكَلْبِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي حُقُوقِ رِقَابٍ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ في الرقبة مفضيا للتمليك. وَالثَّانِي: أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الِاسْتِهْلَاكِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُفْضِيَ إِلَى التَّأْدِيبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ تَمَلُّكُ رِقَابٍ فَكَالشُّفْعَةِ يُسْتَحَقُّ بِهَا مِلْكُ مَا وَجَبَ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ اسْتِهْلَاكُ رِقَابٍ فَكَالْقِصَاصِ يَجِبُ بِتَنَاوُلِهِ إِتْلَافُ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ تَأْدِيبُ رِقَابٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ يَجِبُ بِهِ تَأْدِيبُ مَنْ كَانَ مِنْهُ الْقَذْفُ. (فَصْلٌ) ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْقِسْمَةِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ وجملة الأموال المشتركة أنها اقْتِسَامُ الشَّرِكَةِ بِهَا عَلَى أَصْنَافٍ أَرْبَعَةٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 أَحَدُهَا: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَجَبْرًا. وَهُوَ مَا تَسَاوَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَالْأَدْهَانِ وَالْحُبُوبِ. وَالثَّانِي: مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَلَا جَبْرًا كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ لِمَا فِيهَا مِنَ اخْتِلَافِ قِيمَتِهِ وَاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَلَا تَصِحُّ جبرا الأرض وَالْعَقَارِ إِذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ أَمَاكِنِهِ وَدَخَلَ الرَّدُّ فِي قِسْمَتِهِ فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الرَّدُّ عَلَى إِدْخَالِ الْقُرْعَةِ وأخذ ما خرج بها فهل يلزمهما ذَلِكَ إِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ أَمْ يَكُونَا عَلَى خِيَارِهِمَا. عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهَكَذَا لَوِ اسْتَقَرَّتِ الْقِيمَةُ عَلَى فَصْلِ مِسَاحَةِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَا مَعْنَى للقرعة في التزام ما خرج بها ويكونا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ عَلَى خِيَارِهِمَا قَبْلَ الْقُرْعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ لَزِمَهُمَا ذَلِكَ لِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْقِسْمَةُ صُلْحًا وَفِي دُخُولِ الْقِسْمَةِ فِيهِ جَبْرًا قَوْلَانِ. وَذَلِكَ مَا تَسَاوَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَمَاثَلَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ إِنْ تَرَاضَوْا بِالْقِسْمَةِ عَلَيْهِ جَازَ وَإِنْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا فَهَلْ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ. فَأَمَّا الْوَقْفُ فَإِنْ كَانَ فِي الشركة وقفا لَمْ يَجُزْ قِسْمَتُهُ بَيْنَ أَرْبَابِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا إن رقبة الوقف ملكا لِلَّهِ أَوْ عَلَى مِلْكِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ملكا لله قسمة مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِمْ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان ملكا لهم فهم إنما يملكوه مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ ثُمَّ يَمْلِكُهُ الْبَطْنُ الثَّانِي بَعْدَهُمْ وَالْقِسْمَةُ مَا تَأَبَّدَتْ وَالتَّأْبِيدُ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْضُ الشَّيْءِ وَقْفًا وَبَعْضُهُ مِلْكًا فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا إِقْرَارٌ جَازَتْ قِسْمَتُهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشَّرِكَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَالشُّرَكَاءُ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَوْقَافِ. وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ فَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بعد على أقسامه. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الْعَرْضِ وَلَا فِيمَا يَرْجِعُ فِي حال المفاصلة إِلَى الْقِيمَةِ لِتَغَيُّرِ الْقِيَمِ وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ وَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِمَالٍ وَاحِدٍ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا إِلَّا عَرْضٌ فَإِنَّ الْمَخْرَجَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ صَاحِبِهِ وَيَتَقَابَضَانِ فَيَصِيرَ جَمِيعُ الْعَرْضَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنَ وَيَكُونَا فِيهِ شَرِيكَيْنِ إن باعا أو حبسا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 أو عارضا لأفضل فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا (قَالَ) وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ اعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بين الشريكين عَنْ عَقْدٍ وَاخْتِيَارٍ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: شَرِكَةُ الْعِنَانِ. وَالثَّانِي: شَرِكَةُ الْعُرُوضِ. وَالثَّالِثُ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ. وَالرَّابِعُ: شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ. وَالْخَامِسُ: شَرِكَةُ الْجَاهِ. وَالسَّادِسُ: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ: أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مِثْلَ مَالِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَاهُ فَلَا يتميز وبإذن كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْمَالِ فِيمَا رَأَى مِنْ صُنُوفِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَالْخُسْرَانُ كذلك فهذه أصح الشرك واختلف الناس لما سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ. قَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمَالِ مَأْخُوذًا مِنَ اسْتِوَاءِ عِنَانِ الْفَرَسَيْنِ إِذَا تَسَابَقَا وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ جعل لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْمَالِ فِيمَا رَأَى مِنْ صُنُوفِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَالْخُسْرَانُ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أَصَحُّ الشرك واختلف الناس لما سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ. قَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمَالِ مَأْخُوذًا مِنَ اسْتِوَاءِ عِنَانِ الْفَرَسَيْنِ إِذَا تَسَابَقَا وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ جعل لصاحبه أن يتجر فيما عن له أي عَرَضَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا يَمْلِكُ عِنَانَ فَرَسِهِ فَيَصْرِفُهُ كَيْفَ يشاء. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ شَرِكَةُ الْعُرُوضِ فهو أن يخرج هذا متاعا فيقيمه ويخرج هذا متاعا فيقيمه ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ بِالْقِيمَتَيْنِ لِيَكُونَ الْمَتَاعَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَبِحَا فِيهِ كَانَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ خَسِرَا فِيهِ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِمَا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرْضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جنسين لأمرين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ قِيمَةُ الْعَرْضِ الْوَاحِدِ فَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ مِنْ رِبْحِهِ قِسْطًا. وَيَنْقُصُ فَيَلْتَزِمُ مِنْ خُسْرَانِهِ قِسْطًا وَلَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ شَيْئًا. والثاني: أنهما إن أرادا رد قيمته عنه فَصْلِ الشَّرِكَةِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ قِيمَتُهُ زيادة تستوعب الربح كله وإن أرادا رَدَّ قِيمَتِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ فإذا ثبت ما ذكرناه مِنْ بُطْلَانِ شَرِكَةِ الْعُرُوضِ فَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى كلاما فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِيهَا طَرِيقًا وَذَكَرَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا طَرِيقًا ثَانِيًا وَذَكَرَ الْبَصْرِيُّونَ طَرِيقًا ثَالِثًا. فَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ: فَهُوَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ صَاحِبِهِ وَيَتَقَابَضَاهُ فَيَصِيرُ - كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرْضَيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْذَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ إِذَا لَمْ يَتَبَايَعَا عَلَى شَرْطِ الشَّرِكَةِ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْبَغْدَادِيِّينَ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شِرَاءِ مَتَاعٍ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا ثُمَّ يَدْفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرْضًا بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَةً إِلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فَلَيْسَتْ شَرِكَةً فِي الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةٌ فِي الْمَتَاعِ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْعَرْضَ عِوَضٌ فِيهِ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْبَصْرِيِّينَ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِ صَاحِبِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَتَقَابَضَانِ الثَّمَنَ أَوْ يَتَبَادَلَانِهِ. فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَرْضَيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذِهِ مُزَنِيَّةٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُزَنِيِّ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ فِي هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْمُزَنِيِّ هَلْ يُفْتَقَرُ إِلَى الْعِلْمِ بِقِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْقِيمَةِ لِيَعْلَمَا مَا يَحْصُلُ لَهُمَا مِنْ فَضْلٍ أَوْ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا مِنْ عَجْزٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِقِيمَةِ الْعَرْضَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَسَاوَيَا فِي مِلْكِهِ تَسَاوَيَا فِي رِبْحِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِمَا حَاجَةٌ إِلَى تَمْيِيزِ الرِّبْحِ مِنَ الْأَصْلِ. فَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الثَّمَنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِهِ فَهَذَا فِيمَا لَا يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ، فَأَمَّا الَّذِي يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ مِثْلُ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ الْمُتَّفِقَةِ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ إِذَا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا قَدْرًا فِيهَا كَأَنْ أَخْرَجَ كَذَا مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَأَخْرَجَ الْآخَرُ كَذَا مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَخَلَطَاهَا لِيَكُونَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا وَيَرُدَّانِ مِثْلَهُ عِنْدَ الْمُفَاضَلَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَنَقْصِهَا كالعروض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهَا شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ وَيُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ الِانْفِصَالِ فأشبهه الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَزِيَادَةَ السِّعْرِ تَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَنَقْصُهُ يَعُودُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى قِيمَةً مِنَ الْآخَرِ وَيُخَالِفُهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تَجُزِ الشَّرِكَةُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِيَمُيِّزَهُ إِذَا خُلِطَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الناض من أموالها كله دون العروض لِيَرُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ - فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا يَكُونُ بَاطِلًا إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ إِنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ جَائِزَةٌ إِذَا اسْتَوَى الْمَالَانِ وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الْكَسْبِ إِلَّا الْمِيرَاثَ وَيَلْزَمُ فِيهَا غُرْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا الْجِنَايَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَهَذَا عَقْدٌ فَلَزِمَهُمَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَفَاءُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَوَجَبَ أَنْ يلزمهما ما شرطاه قَالَ: وَلِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ وَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ أَعَمُّ مِنْ شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَعُمُومُ الشَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَتَكُونُ تَارَةً عَامَّةً إِذَا تَشَارَطَا التِّجَارَةَ فِي كُلِّ نَوْعٍ فَلَمَّا جَازَتْ فِي حَالِ عُمُومِهَا كَجَوَازِهَا فِي حَالِ خُصُوصِهَا كَذَلِكَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ. تَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً كَجَوَازِ غَيْرِهَا مِنَ الشِّرَكِ الْخَاصَّةِ وَلِأَنَّ الرِّبْحَ فِي الْأَمْوَالِ قَدْ يُقَابِلُ الْمَالَ تَارَةً كَالشَّرِكَةِ وَقَدْ يُقَابِلُ الْعَمَلَ تَارَةً كَالْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلْمَالِ أَوْ لِلْعَمَلِ - وَلِأَيِّهِمَا قَابَلَ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ. ودليلنا " نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ " وَلَا غَرَرَ أَعْظَمُ مِنَ الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا يَدْخُلُ كَسْبًا أَوْ يَخْرُجُ غُرْمًا لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ تَفَاضُلِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ مَعَ تَسَاوِي أَصْلِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَلِأَنَّ كُلَّ شَرِكَةٍ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ " وَالْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ " لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. أَصْلُهُ: إِذَا تَفَاضَلَا فِي الْمَالِ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَفَرَّعْ عَنْ أَصْلٍ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْمِيرَاثِ وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ مُخْتَلِفَيِ الدِّينَيْنِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ مُتَّفِقَيِ الدِّينَيْنِ كَشَرِكَةِ الْعُرُوضِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِنَهْيِهِ عَنِ الْغَرَرِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَمَلٌ وَلِلْآخَرِ سِقَاءٌ وَالثَّالِثُ عَامِلٌ بِيَدَيْهِ لِيَكُونُوا شُرَكَاءَ فِي الْكَسْبِ فَهُوَ نَوْعُ شَرِكَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَصِحُّ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ: جَوَازُهَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ 7 الدِّينَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُمُومَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا. فَهُوَ أَنَّنَا لَمْ نَمْنَعْ مِنْهَا لِعُمُومِهَا وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْهَا لِدُخُولِ الْغَرَرِ فِيهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الرِّبْحَ قَدْ يُقَابِلُ الْمَالَ تَارَةً وَالْعَمَلَ أُخْرَى فهو أنه يصح إذا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَلَا وَهَاهُنَا - وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ أَوْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُؤْمِنُونُ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ كالمضاربة، ولأن الْعَمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ فَلَمَّا جَازَ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ كَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ عَمَلًا فَيَسْتَحِقُّ مَعَ قِلَّةِ مَالِهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ أَكْثَرَ رِبْحًا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ أَصْلُهُ إِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ. وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تُفْضِي إِلَى الرِّبْحِ تَارَةً وَإِلَى الْخُسْرَانِ تَارَةً أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ الْخُسْرَانُ يُقَسَّطُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّبْحِ مِثْلُهُ يَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّبْحَ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ شَرْطُهُ مُخَالِفًا لِمُطْلَقِهِ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ كَالْخُسْرَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَوْ كَانَ فِي الْخُسْرَانِ بَطَلَ بِهِ الْعَقْدُ وَوَجَبَ إِذَا كَانَ فِي الرِّبْحِ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْعَقْدُ، أَصْلُهُ إِذَا شرط بينهما الأجنبي وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ مُودَعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى تَفَاضُلِ الْمَالِ كَالْمَاشِيَةِ وَالثَّمَرَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَقَدْ قَالَ فِيهِ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُضَارَبَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي تَسَاوِيَهَا فِي الرِّبْحِ جَازَ أَنْ يَتَشَارَطَا التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّرِكَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الشَّرِكَةِ لَا يُقَابِلُ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ أَلَا ترى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 أَنَّهُمَا لَوْ أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ لَمْ يَتَقَسَّطِ الرِّبْحُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا اسْتَحَقَّ عِوَضًا فِيهِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَشَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحَيْنِ. مِثَالُهُ أَنْ يكون المال بينهما نصفين والربح بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحَيْنِ مِثَالُهُ. أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْمَالَيْنِ وَيَتَفَاضَلَا بِحَسْبِهِ فِي الرِّبْحَيْنِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ المال بينهما أثلاثا لأحدهما ثلثا وَلِلْآخَرِ ثُلْثُهُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَاهُ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهَا مُقَسَّطٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِهَا حَتَّى يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَالشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَانِهَا فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ فَجُعِلَ قَوْلُهُ مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ مَحْمُولًا عَلَى مِثْلِهَا فِي الْقَدْرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِثْلِ إِنَّمَا هُوَ الْمِثْلُ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ دُونَ الْعَقْدِ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ شَرِكَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي الضَّرْبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: فَهَلْ يَكُونُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِيهَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الشَّرِكَةِ بِمَعْنَى بُطْلَانِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الْإِذْنُ لِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ كَانَ كَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ عَنْ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن اشتراط التفاضل بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بِالْحِصَصِ فَلَوْ كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَثُلُثَاهُ لِلْآخَرِ فَشَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتِّجَارَةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَحْدَهُ جَازَ وَكَانَتْ هَذِهِ شَرِكَةً وَمُضَارَبَةً بِالْبَدَنِ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَأْخُذُ الثُّلُثَ بِمُلْكِهِ وَتَمَامَ النِّصْفِ بِعَمَلِهِ وَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُفَاضَلَةِ إِلَى حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ شَرِكَةُ الْجَاهِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْوُجُوهِ فَهُوَ أَنْ يكون الرجل ذا جاه فَيَقُولَانِ عَلَى جَاهِنَا وَنَشْتَرِي مَتَاعًا وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا فَهَذِهِ شَرِكَةُ الْجَاهِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْوُجُوهِ، وَمِنْ أصحابنا من جعل شركة الجاه من النَّوْعَ الْأَوَّلَ إِذَا كَانَ الْجَاهُ لِأَحَدِهِمَا وَشَرِكَةَ الْوُجُوهِ إِذَا كَانَ الْجَاهُ لَهُمَا، وَهَذَا خِلَافٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ وَهِيَ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ وَقَالَ أبو حنيفة هِيَ شَرِكَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي غَيْرِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً كَالشَّرِكَةِ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ عَلَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِكَةَ الجاه لا تصح فلا يخلوا حَالُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ لِصَاحِبِهِ. والثالث: أن يشتريه بينهما فإن اشتراه بنفسه صَحَّ شِرَاؤُهُ وَصَارَ مِلْكًا لَهُ إِنْ رَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ وَإِنْ خَسِرَ فَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ فِي رِبْحِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي خُسْرَانِهِ وَإِنِ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ لِصَاحِبِهِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ نِصْفِهِ وَيَكُونُ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ فِي النِّصْفِ الزَّائِدِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ فَأَمَّا النِّصْفُ الْمَأْذُونُ فِيهِ فَيَلْزَمُ الْأَمْرُ عَلَى شُرُوطِهِ الَّتِي نَذْكُرُهَا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وإن اشتراه بينهما فهو في النصف مشتري لِنَفْسِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَفَ لَهُ النَّوْعَ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ سَوَاءٌ، كَانَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يُوصَفْ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ فَلَا نِهَايَةَ لَهُ بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةِ الْمُقَدَّرَتَانِ بِالْمَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِمَا بِالذِّكْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ أَنَّهُ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ عن المشتري إلى موكله إلا ببينة سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْذُونُ فِي ابْتِيَاعِهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا كَقَوْلِهِ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ صَحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوكِّلِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَهَذَا فَرْقٌ يُوجِبُ الْقِيَاسَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ اشْتَرَى لِغَيْرِ الْعَاقِدِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ شُرُوطِهِ النِّيَّةُ أَصْلُهُ مَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَأَمَّا مَا يَشْتَرِيهِ الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَيَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ فِي أَنَّهُ فِي حَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِذَا صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُمَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْخُسْرَانُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فِيمَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِأَنَّهُ عُمِلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ إِذَا حَصَلَ الرِّبْحُ فِيهَا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَكَانَ الْعَمَلُ لَهُمَا رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مثله فإن تساويا تقاضا وَإِنْ تَفَاضَلَا تَرَادَّا الْفَضْلَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِلْعَامِلِ عَلَى الْآخَرِ نِصْفُ أُجْرَةِ مثله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ أُجْرَةٌ فِي عَمَلِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الشَّرِكَةِ لَا يُقَابِلُ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ لِوُجُودِهِ تَأْثِيرٌ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرِكَةِ إِذَا زَالَ بِفَسَادِهَا غَلَبَ فِيهَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ وَهُوَ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ لِيَعْمَلَا بِأَبْدَانِهِمَا وَيَشْتَرِكَانِ فِي كَسْبِهِمَا فَهَذِهِ شَرِكَةٌ بَاطِلَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيِ الصَّنْعَةِ ولا تجوز إذا كان مُخْتَلِفَيِ الصَّنْعَةِ وَقَالَ أبو حنيفة تَجُوزُ مَعَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ وَاخْتِلَافِهَا وَلَا تَجُوزُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْعَمَلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: تَجُوزُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. اشْتَرَكُوا فِيمَا يَغْنَمُونَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. فَغَنِمَ سَعْدٌ بَعِيرَيْنِ وَقِيلَ بَلْ أَسَرَ أَسِيرَيْنِ وَلَمْ يَغْنَمِ الْآخَرَانِ شَيْئًا وَاقْتَسَمُوا هَذِهِ الشَّرِكَةَ فِي الْأَبْدَانِ لَا فِي الْأَمْوَالِ وَقَالُوا وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا يَتَشَارَكُونَ بِأَبْدَانِهِمْ فَلَا يَتَنَاكَرُونَهُ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ كَشَرِكَةِ الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْبَدَنِ أَصْلًا قَدْ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ إِذَا انْفَرَدَ وَالْمَالُ فَرْعٌ عَلَيْهِ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ النَّمَاءُ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ فَلَمَّا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَأَوْلَى أَنْ تَصِحَّ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ ولأن العامل في القراص شَرِيكٌ بِبَدَنِهِ فِي مَالٍ غَيْرِ مُمَاثِلٍ لِعَمَلِهِ فَكَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي أَعْمَالِ الْأَبْدَانِ الْمُمَاثِلَةِ أَوْلَى. ودليلنا نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ وَشَرِكَةُ الْأَبْدَانِ غَرَرٌ. لِأَنَّهُ قَدْ يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَعْمَلُ الْآخَرُ وَقَدْ يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ مِنَ الْآخَرِ وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ عَرِيَتْ عَنْ مُشْتَرِكٍ فِي الْحَالِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً أَصْلُهُ إِذَا اشْتَرَكَا فِيمَا يَسْتَوْهِبَانِهِ. وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي مَنَافِعِ أَعْيَانٍ مُتَمَيِّزَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً إِذَا اشْتَرَكَا فِي بَعِيرَيْنِ لَا يُؤَجِّرَاهُمَا وَيَشْتَرِكَا فِي أُجْرَتِهِمَا. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ هُوَ الْعَمَلُ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ هُوَ الْمَالُ فَلَمَّا كَانَتِ الْجَهَالَةُ بِقَدْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ فَسَادُ الشَّرِكَةِ وَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَهَالَةُ بِالْعَمَلِ تُوجِبُ فَسَادَ الشَّرِكَةِ وَالْعَمَلُ مَجْهُولٌ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ مَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُقَدَّرٍ. وَقَدْ يَمْرَضُ فَلَا يَعْمَلُ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا هُوَ أَنَّ وُقُوعَ الْجَهَالَةِ بِحِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ خَلَطَا مَالَيْنِ لَا يَعْرِفَانِ قَدْرَهُمَا وَالثَّانِي هُوَ أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَوْ كَانَتْ فِي الْأَمْوَالِ بَطَلَتْ بِالْجَهَالَةِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِي الْأَعْمَالِ أَنْ تَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ أَصْلُهُ إِذَا قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَبْنِيَ لِي عَلَى أَلَّا أَضْبُعَ لَكَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي اشْتِرَاكِ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا يَغْنَمُونَ فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهَا وَاقِعَةٌ بِالْعَمَلِ دُونَ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْغَانِمِينِ شَرْطٌ كَانَتْ غَنِيمَةُ أَحَدِهِمْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا مِنَ الْأَفْعَالِ. كَمَا أَنَّ أبا حنيفة لَمْ يَجْعَلْ إِجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى أَخْذِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ فِي الْكَتَاتِيبِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْكَسْبِ أَصْلٌ وَالْمَالَ فَرْعٌ فَلَمَّا جَازَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْفَرْعِ فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ فِي الْأَصْلِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ إِنَّمَا بَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْعَمَلِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ بِجَهَالَةِ الْمَالِ فَاسْتَوَيَا وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقِرَاضِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْمَالِ وَجَهَالَةُ الْبَيْعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَعْلُومًا وليس كذلك شركة الْأَبْدَانِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا - هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ فَبَطَلَتْ بِكَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا فَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ فَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا اخْتُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَانَ مَا حَصَلَ لَهُمَا مِنَ الْكَسْبِ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قُدُورِ أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا فَيَصْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْكَسْبِ بِقِسْطِهِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي اصْطِيَادِ صَيْدٍ لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ صَيْدِهِ. فَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى صَيْدٍ مَلَكَاهُ جَمِيعًا لِاسْتِوَاءِ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ. فَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إِنْ كَانَ وَإِلَّا تَقَاصَّا لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ عَنْ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ شَرِكَةٍ مَلَكَاهُ وَلَا أُجْرَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَهَكَذَا لَوْ وَضَعَا شَبَكَةً أَوْ شِرْكًا بَيْنَهُمَا فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدٌ مَلَكَاهُ مَعًا وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ أُجْرَةِ نصف حصته من الشبكة وذلك أجرة ربع الشبكة فلو وكل رجلان في اصطياد صَيْدٍ أَوِ احْتِشَاشِ حَشِيشٍ جَازَ وَمَلَكَ الْمُوَكِّلُ مَا حُصِّلَ مِنَ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ فِي اصْطِيَادِ صَيْدٍ مَلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِإِجَارَتِهِ وَفَعَلَ فَعَلَيْهِ لِلْأَجِيرِ أُجْرَتُهُ الْمُسَمَّاةُ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُمْ لِإِحْيَاءِ مَوَاتٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ لِلْأُجَرَاءِ فِيمَا أَحْيَوْهُ الْأُجْرَةُ وَمَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ بِإِحْيَاءِ الْأَجِيرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ للأجير ملك ينتقل عنه. (فصل) وإذا اشتركا أَرْبَعَةٌ فِي زِرَاعَةِ أَرْضٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْأَرْضُ وَمِنَ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَمِنَ الْآخَرِ بَقَرُ الْحَرْثِ وَمِنَ الْآخَرِ الْعَمَلُ كَانَتْ شَرِكَةً فَاسِدَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ إِذَا خُلِطَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ. (فَصْلٌ) فَلَوِ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي طَحْنِ حِنْطَةٍ لِرَجُلٍ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الرَّحَا وَمِنَ الْآخَرِ الْبَغْلُ وَمِنَ الْآخَرِ الْبَيْتُ وَمِنَ الْآخَرِ الْعَمَلُ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا فِي ذِمَمِهِمْ وَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ. فَإِذَا طَحَنُوا فَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 أَصْحَابِهِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الرَّحَى عَلَى الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ رَحَاهُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالرُّبُعِ وَالرُّبُعُ الْآخَرُ يُقَسَّطُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ هَكَذَا وَصَاحِبُ الْبَغْلِ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ، وَلَوْ تَوَلَّى أَحَدُهُمُ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتِ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا لَهُ وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعُ أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوِ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي اسْتِقَاءِ وَبَيْعِهِ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْبَعِيرُ وَمِنَ الْآخَرِ السقاء والآخر عامل ببدنه فِي سَقْيِ الْمَاءِ فَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ الْآخِذِ لَهُ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ وَالسِّقَاءِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْبَعِيرِ وَالسِّقَاءِ وَرَوَى أبو علي الْبُوَيْطِيُّ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ أَثْلَاثًا وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى صَاحِبِهِ ثُلُثَا أُجْرَةِ مَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ الْآخِذِ لَهُ كَالشُّرَكَاءِ فِي الزَّرْعِ يَكُونُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمْ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى أصل الشركة لأن الماء بصير كَرَأْسِ مَالٍ تَسَاوَوْا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ النَّقْلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّ ثَمَنَ الْمَاءِ لِآخِذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِالْأَخْذِ لِنَفْسِهِ وَرِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى الشَّرِكَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْآخِذَ لِلشَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَالشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ مِثْلَ دَنَانِيرِ صَاحِبِهِ وَيَخْلِطَاهُمَا فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا يَتَخَلَّطُ فَلَا يَتَمَيَّزُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ، وَلَا يُخْرِجُ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةً وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةً وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ صِحَاحًا وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ مكسرة وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَنَانِيرَ صِحَاحًا وَالْآخَرُ دراهم مُكَسَّرَةً وَلَا أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ عَلَى ضَرْبِ سِكَّةٍ وَنَقْشٍ يُخَالِفُهَا دَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي السِّكَّةِ وَالنَّقْشِ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَتَمَيَّزُ بَعْدَ خَلْطِهِ وَجَوَّزَ أبو حنيفة الشَّرِكَةَ فِي هَذَا كله لأنه مال ناض فلم يؤثر اخْتِلَافُ أَوْصَافِهِ فِي الشَّرِكَةِ بِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا يَتَمَيَّزُ بَعْدَ خَلْطِهِ لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِ كَالْعُرُوضِ فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالنِّقَادِ وَالسَّبَائِكِ لِتَمَيُّزِهَا وَأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْعُرُوضِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ وَنَقْصِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُتَّفِقَةٍ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ لَا يخالف أحدها الْأُخْرَى بِصِفَةٍ تَتَمَيَّزُ بِهَا فَإِذَا حَصَلَ وَكَانَ مَالُهَا مُشْتَبِهًا لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ فَمِنْ تَمَامِ الشَّرِكَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 أَنْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ وَمَا لَمْ يَخْلِطَاهُ فَهُمَا غَيْرُ شَرِيكَيْنِ فِيهِ وَقَالَ أبو حنيفة تَصِحُّ الشَّرِكَةُ وَإِنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا مَعَهُ فِي كِيسٍ وَيَشْتَرِيَانِ مَعًا وَيَدْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَرَاهِمِهِ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِنَّمَا هُوَ وَعْدٌ بِالشَّرِكَةِ ثُمَّ يَسْتَقِرُّ بِالشِّرَاءِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ فَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ وَالِاخْتِلَاطِ وَمَعَ تَمْيِيزِ الْمَالَيْنِ فَلَا تَكُونُ شَرِكَةٌ وَلَا خُلْطَةٌ. (فَصْلٌ) إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِمَنْ هِيَ عَلَيْهِ اجْعَلِ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ شَرِكَةً بَيْنِي وَبَيْنَكَ تُخْرِجُ مِنْ مَالِكَ أَلْفًا بِإِزَائِهَا وَتَتَّجِرُ بِالْأَلْفَيْنِ لِيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ بِدَيْنٍ وَشَرِكَةُ الدَّيْنِ فَاسِدَةٌ حَتَّى يَقْبِضَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَالَهُ وَيُخْرِجَ الْآخَرُ مِثْلَهُ وَيَخْلِطَاهُ فَيَصِيرَا حِينَئِذٍ شَرِيكَيْنِ فَتَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " فَإِنِ اشْتَرَيَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ فَإِنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يَتَّجِرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا رَأَى مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ قَامَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ صَاحِبِهِ فَمَا رَبِحَا أَوْ خَسِرَا فَلَهُمَا وَعَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا خَلَطَ الشَّرِيكَانِ مَالَ الشَّرِكَةِ لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِهِ وَيَتَّجِرَ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِذَا خَلَطَاهُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَوِ ابْتَاعَا مَتَاعًا لِلشَّرِكَةِ جَازَ أَنْ يَتَصَرَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ لِلْإِذْنِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمَقْصُودِ الشَّرِكَةِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ خَلْطَ الْمَالِ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنَ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَحُدُوثُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ لَا يُوجِبُ التَّصَرُّفَ فِي جَمِيعِهِ كَمَا لَوْ وَرِثَا مَالًا أَوِ اسْتَوْهَبَاهُ وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِحَقِّ النِّيَابَةِ إِنَّمَا يَكُونُ وَكَالَةً وَالْوَكَالَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مَالٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ وَاسْتِشْهَادُ أَبِي الْعَبَّاسِ بِالْعُرْفِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُقْتَنَعُ فِيهَا بِالْعُرْفِ دُونَ التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ فِي تَصَرُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ وَحُكْمُ الْمِلْكِ فِي تصرفه في مال نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالتِّجَارَةِ فَتَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التِّجَارَةُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ الْإِذْنُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِذْنًا عَامًّا فِيمَا رَأَى مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَصُنُوفِ الْأَمْتِعَةِ فَيَقْتَصِرُ بِالْإِذْنِ عَلَى خُصُوصِهِ ثُمَّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ خُصُوصِ الْإِذْنِ وَعُمُومِهِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 بِصَرِيحِ الْإِذْنِ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِ وَلَا أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِيهِ وَلَا أَنْ يُضَارِبَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُجَاوَزَةِ إِذْنِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ النَّسِيئَةَ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِمُطْلَقِ إِذْنِهِ وَجَوَّزَ أبو حنيفة ذَلِكَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ أَحْكَامَ الْوَكِيلِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ وَتَصَرُّفَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ الصَّرِيحُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لا يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فَيَنْتَفِي عَنِ الشَّرِكَةِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ وَيَصِيرُ تَصَرُّفُ كل واحد منهما مقصور عَلَى حِصَّتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا يَأْذَنَ الْآخَرُ فَيَكُونُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْإِذْنِ وَخُصُوصِهِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلَّا فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ. كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَصَارَ مَجْمُوعُ مَا شَرَحْنَا أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَنْتَظِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: اتِّفَاقُ الْمَالَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ. وَالثَّانِي: خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. وَالثَّالِثُ: الْإِذْنُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا بِيعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ عَرْضٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي حِصَّتَهُ من الألف وذلك خمسمائة وَكَانَ لَقَابِضِهَا أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا وَيَبْطُلَ مِنَ الشَّرِكَةِ بِقَدْرِهَا، وَيَجُوزُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِحِصَّتِهِ وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ فإن أعسر فَلَا رُجُوعَ لِهَذَا الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ الْقَابِضِ أو لا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ قَبَضَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ إِلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ فَلَوْ قَبَضَ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِنِصْفِهِ وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ الْقَابِضُ وَهَبَ مَا قَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ وَرَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ الْوَاهِبِ بِمِثْلِ حِصَّتِهِ فِيمَا قَبَضَهُ وَكُلُّ هَذَا عِنْدَنَا فَاسِدٌ وَالْقَابِضٌ مَلَكَ لِمَا قَبَضَهُ إِذَا كَانَ قَابِضًا لَهُ مِنْ حِصَّتِهِ وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ حَجْرٌ وَمَا فِي الذِّمَّةِ مَوْكُولٌ إِلَى خِيَارِ ذِي الذِّمَّةِ فِي تَقْدِيمِ مَنْ شَاءَ لِحَقِّهِ والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَمَتَى فَسَخَ أَحَدُهُمَا الشَّرِكَةَ انْفَسَخَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَبِيعَ حَتَّى يَقْسِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِ كُلِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، دُونَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فَإِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الشَّرِكَةَ انْفَسَخَتْ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا وَمَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ الشَّرِكَةَ قَدِ انْفَسَخَتْ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ قَدْ بَطَلَ؛ لِأَنَّ المال المشترك قد تميز؛ لأن تَمْيِيزَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي قَدْرِ حَقِّهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ - كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لِلْمَضَارِبِ - إِذَا فُسِخَتْ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ جَازَ لَهُ الْبَيْعُ بَعْدَ الْفَسْخِ فَهَلَّا جَازَ لِلشَّرِيكِ ذَلِكَ. قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ وَذَلِكَ لَا يُعَلَمُ إِلَّا بِالْبَيْعِ فَجَازَ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ الْفَسْخِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنَ الرِّبْحِ وَالشَّرِيكُ حَقُّهُ فِي عَيْنِ الْمَالِ مَعْلُومٌ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ الْفَسْخِ. (فَصْلٌ) إِذَا كَانَ لِلشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ فَسْخِ الشَّرِكَةِ دُيُونٌ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فِي ذِمَمٍ شَتَّى فَاقْتَسَمَ الشَّرِيكَانِ فِي الدُّيُونِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ فِيهَا بَعْضَ الْمُتَعَامِلِينَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَتْ قِسْمَةً بَاطِلَةً لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الذِّمَمِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَكُونُ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْهُ اقْتَسَمَاهُ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحَدَهُمَا بِحَقِّهِ فَيَصِحُّ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِدُيُونِهِ والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ وَقَاسَمَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ شَرِيكَهُ فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ بَالِغًا رَشِيدًا فَأَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى مِثْلِ شَرِكَتِهِ كَأَبِيهِ فَجَائِزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ انْفَسَخَتِ الشَّرِكَةُ بِمَعْنَى بَطَلَ الْإِذْنُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَالْوَكَالَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُتَوَفَّى دُيُونٌ وَوَصَايَا أَوْ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ أَوْ غَيْرَ جَائِزٍ فَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ يُقَاسِمَ عَلَيْهَا فَتَمْتَازُ حِصَّتُهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ مُشْتَرَكًا عَلَى حَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَإِمَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَصِيرُ شَرِيكًا كَمَا كَانَ شَرِيكًا لِمُوَرِّثِهِ فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيهِ كَانَ فِيهِ الْحَظُّ أَوْ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ جَازَ أَمْرُهُ نَفَذَتْ عُقُودُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَظٌّ لَهُ وَيُخْتَارُ لِهَذَا الْوَارِثِ إِذَا أَحَبَّ الْمَقَامَ عَلَى الشَّرِكَةِ أَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ الْمَالِ الَّذِي وَرِثَهُ عَنْ مَيِّتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِكَةِ فَيَعْلَمُ قَدْرَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 لِيَمْتَازَ عَمَّا مَلَكَهُ الْوَارِثُ مِنْ رِبْحِهَا الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالَّذِي لَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جاز لأن التخوف من ظهور الدين ملغا باعتبار الأصل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ الشَّرِكَةُ عَقْدٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْمَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قِيلَ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ وَلَا يَلْزَمُ مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا وَوَضَعَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوَضَعَ الْآخَرُ بِإِزَائِهَا وَاشْتَرَكَا بِهَا. وَاتَّجَرَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَا وَزْنَهَا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ لِلْعِلْمِ بِحِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ الْوَارِثُ فِي التَّرِكَةِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ غير جائز التصرف إما بصغر أو جنون أو سفله فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ أَحَظَّ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِلْوَارِثِ فَإِنْ كَانَ أَحَظُّ الْأُمُورِ لَهُ الْمُقَاسَمَةَ عَلَيْهَا قَاسَمَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِيمَ الشَّرِكَةَ وَإِنْ كَانَ أَحَظُّهَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ أَذِنَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَظُّهَا لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الِاشْتِرَاكِ بِالْمَالِ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ وَلَا إِذْنٍ بِالتَّصَرُّفِ فَعَلَ فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَظِّ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ كَانَ فِعْلُهُ مَرْدُودًا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى الْمُتَوَفَّى دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ وَلَا لِوَلِيِّ مَنْ لَيْسَ بِرَشِيدٍ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الشَّرِكَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا سِوَى الشَّرِكَةِ وَفَّى بِالدَّيْنِ أَمْ لَا لِأَنَّ الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى قَدْ وَصَّى بِوَصِيَّةٍ فِي تَرِكَتِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً فِي شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ غَيْرِ الدَّيْنِ جَازَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي التَّرِكَةِ وَيَأْذَنَ لِلشَّرِيكِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا قَبْلَ وُصُولِ الْوَصِيَّةِ إِلَى أَرْبَابِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهَا إِنْ بَقِيَتْ فَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ تَلِفَتْ فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي لَوْ بَقِيَ يَسِيرٌ مِنَ التَّرِكَةِ صُرِفَ فِيهِ وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا صَارَ بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ شَرِيكًا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ وَكَانَ لَهُ وَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي الْمُقَاسَمَةِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَى الشَّرِكَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَعَلَى الْوَارِثِ مُقَاسَمَةُ الشَّرِيكِ لِيُوصِلَ حِصَّةَ الشَّرِيكِ إِلَى مَنْ تَتَنَاوَلُهُمُ الْوَصِيَّةُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جُنَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ وفعل الولي أَحَظَّ الْأُمُورِ لَهُ مِنَ الْقِسْمَةِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ فَرْضُ عِبَادَةٍ كَانْتِ الشَّرِكَةُ عَلَى حَالِهَا لِأَنَّهُ فَرْضٌ قَدْ يَطْرَأُ كَثِيرًا وَإِنْ كَثُرَ الْإِغْمَاءُ حَتَّى أَسْقَطَ فَرْضَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ ورد وقتها بطلت الشركة. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَيَا عَبْدًا وَقَبَضَاهُ فَأَصَابَا بِهِ عَيْبًا فأراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْإِمْسَاكَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَعْقُولًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اشْتَرَى نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إِذَا بَاعَاهُ صَفْقَةً مِنْ رَجُلٍ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّ جَمِيعِهِ عَلَيْهِمَا وَلَهُ رَدُّ نَصِفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وهذا ما وَافَقَ عَلَيْهِ أبو حنيفة فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا بَيْنَهُمَا صَفْقَةً مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَلَهُمَا رَدُّ جَمِيعِهِ عَلَى بَائِعِهِ وَلِأَحَدِهِمَا رَدُّ نِصْفِهِ دُونَ شَرِيكِهِ وَمَنَعَ أبو حنيفة أَنْ يَرُدَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِلَّا مَعَ شريكه وقد مضى الكلام عليه. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ قَدِ انْفَرَدَ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ بِوَكَالَةِ صَاحِبِهِ ثُمَّ وَجَدَاهُ مَعِيبًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَلِّي لِلشِّرَاءِ حِينَ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ لِلْبَائِعِ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ النصف حتى يرد جميعه أو يمسكا جَمِيعَهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَإِنْ ذُكِرَ أَنَّ الشِّرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ فَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّدِّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي علي بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ كَالْمُبَاشَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الرَّدِّ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ كَانَتِ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا لَازِمَةً لِمُتَوَلِّي الشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَتْ صَفْقَتَيْنِ لَتَفَرَّقَتْ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ نِصْفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَيْعِ ذَكَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ شَرِيكٌ فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ نِصْفِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ بِرَدِّ النِّصْفِ حَتَّى يَرُدَّ جَمِيعَهُ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ مُتَوَلِّي الْعَقْدِ وَاحِدٌ فَصَارَتِ الصَّفْقَةُ بِهِ وَاحِدَةً. وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ النِّصْفِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّ افْتِرَاقَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ لَتَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ وَصَحَّ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِذْنُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ رُومِيٌّ وَلِآخَرَ عَبْدٌ تُرْكِيٌّ فَوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَيْدًا فِي بَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يُمَيِّزْ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ منهما فقد ذكر الشافعي في من تَزَوَّجَ أَرْبَعَةَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقٍ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 مِنْهُنَّ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالثَّانِي أَنَّهُ جَائِزٌ وَتُقَسَّطُ الْأَلْفُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَيُخَرَّجُ بَيْعُ الْعَبْدَيْنِ بِالثَّمَنِ الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ فِيهَا بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَيُقَسَّطُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَصِيرُ معلوما بعد الْعَقْدِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُبْطِلُ بَيْعَ الْعَبْدَيْنِ لِلرَّجُلَيْنِ بِالثَّمَنِ الْوَاحِدِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لِلصَّدَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الصَّدَاقَ بَيْعٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِهِ فَكَانَ الصَّدَاقُ بِمَثَابَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْجَهَالَةُ بِهِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَسَّطَةً عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ فِي الْعَقْدِ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعَيْنِ فِي الْأَلْفِ بِالْقِسْطِ مِنْ قِيمَةِ عَبْدِهِ وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فَإِنْ صدق المشتري على ذلك أو قامت به بَيِّنَةٌ اسْتَرْجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَهُ وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدَيْنِ إِلَّا لِمَنْ بَاعَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْمَبِيعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَإِذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ فَاسِدًا ثُمَّ قَدْ أُحِيلَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكَيْنِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ فَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ بِإِزَاءِ قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ اقْتَسَمَاهَا عَلَى الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهِيَ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ حَقٌّ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُهَا لِاعْتِرَافِهِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ الْعَبْدَيْنِ وَلَكِنْ تُقَدَّرُ فِي يَدِ الْبَائِعَيْنِ وتدفع إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهَا إِلَى أَنْ يَقَعَ التَّصَادُقُ أَوْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) (قال المزني) رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَا اشْتَرَى لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَلَوْ أَجَازَهُ شَرِيكُهُ مَا جَازَ لِأَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ". قَالَ الماوردي: وهذا صحيح فقد ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ جَارٍ مَجْرَى الْوَكِيلِ وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَغَابَنُوا بِمِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي عَقْدِهِ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَأَمَّا مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَكُلِّ نَائِبٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وَصِيٍّ وَأَمِينٍ فَإِذَا اشْتَرَى الشَّرِيكُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَخْلُ الشِّرَاءُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْمَالِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ لَازِمًا لَهُ دُونَ شَرِيكِهِ وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بَاطِلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مُوجِبِ الْإِذْنِ سَوَاءٌ أَجَازَهُ الشَّرِيكُ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 لم يجزه لأن العقد إذا وقع فاسد لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ فَأَمَّا الشِّرَاءُ فِي حِصَّةِ الْعَاقِدِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَالشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى حَالِهَا. وَالثَّانِي: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فِي قَدْرِ ثَمَنِ النِّصْفِ لِيُمَيِّزَهُ عَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَتَكُونُ الشَّرِكَةُ فِيمَا سِوَاهُ بَاقِيَةً. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَاطِلًا لَا تَصِحُّ بِإِجَازَتِهِ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْبَائِعِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا قَدْ بَطَلَتْ وَالشَّرِكَةُ فِيهِ عَلَى حَالِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِي حِصَّتِهِ وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فِيهَا لَا غَيْرَ وَلَا يَكُونُ الشَّرِيكُ ضَامِنًا لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ بِالْعَقْدِ فَإِنْ سَلَّمَ ضمنها بالتسليم ولو كان مودعا فباع. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: ضَمِنَ بِالْعَقْدِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَكَانَ بَيْعُهُ تَعَدِّيًا وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّرِيكَ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي بَيْعِ الْغَيْبَةِ كَالْمُودَعِ وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لَزِمَ الْمَالِكَ فَصَارَ هُوَ وَالْمُودَعُ سَوَاءً فِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُمَا الضَّمَانُ عِنْدِي إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَرْفَعُ حُكْمَ لَفْظِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي ضَمَانِهَا بِالتَّغَلُّبِ لَا بِالْعَقْدِ وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ لِتَغْلِيبِ الْمُشْتَرِي لَهَا وَالشَّرِيكُ لَا يَضْمَنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا ادَّعَى فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا شَيْئًا فَهُوَ مُدَّعٍ وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَالٌ وَادَّعَى صَاحِبُهُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ هُوَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ وَادَّعَاهُ صَاحِبُ الْيَدِ مِلْكًا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَدِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهَا وَهَكَذَا لَوِ اشْتَرَى أَحَدُ الشريكين عبد فِي ثَمَنِهِ غَبَطَهُ فَادَّعَى الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي الشَّرِكَةِ وَادَّعَى مُشْتَرِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَا فِي الشَّرِكَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُتَوَلِّي الشِّرَاءِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ شَرِيكًا لِغَيْرِهِ وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدًا حَدَثَ بِهِ نَقْصٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي الشَّرِكَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ إِلَّا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا ادَّعَى خِيَانَةَ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دَعْوَاهُ الْخِيَانَةَ فَغَيْرُ مُقْنِعَةٍ حَتَّى يَصِفَهَا بِمَا يَصِيرُ خَائِنًا بِهَا ثُمَّ يَذْكُرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 قَدْرَهَا فَتَتِمُّ دَعْوَاهُمَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ مُدَّعِي الْخِيَانَةِ بَيِّنَةً بِمَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلِأَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا زَعَمَ أَنَّ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ فَهُوَ أمين وعليه اليمين ". قال الماوردي: بِسَبَبِ وَصْفِهِ أَوْ لَمْ يَصِفْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّلَفِ مُمْكِنًا لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَشَابَهَ الْمُودَعَ وَالْوَكِيلَ فَإِنْ ذَكَرَ تَلَفَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا ذَلِكَ الْمَالَ فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ادَّعَى تَلَفَهُ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَمِينَهُ السَّالِفَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْحَادِثَةِ وَيُلْزَمُ غُرْمَ الْمَالِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَوْلَى مِنْ يَمِينِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ إِنَّ يَمِينَهُ لَا تَبْطُلُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنْ ذَكَرَهُ مَعَ يَمِينِهِ الْمَاضِيَةِ لَمْ يَغْرَمْ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ غُرِّمَ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُغَرَّمُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يُسْأَلُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا اشْتَرَى الشَّرِيكَانِ سِلْعَةً وَقَبَضَاهَا فَتَلِفَتَ كَانَ التَّلَفُ مِنْ مَالِهِمَا وَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِمَا فَإِنْ دَفَعَا الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمَدْفُوعِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ أَيْضًا مِنْهُمَا قَبْلَ دَفْعِهِ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ التَّالِفَةِ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ تَوَلَّى الشِّرَاءَ دُونَ صَاحِبِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِتَفَرُّدِهِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ وَلَا رُجُوعَ وَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ نُظِرَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنِضَّ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُؤَدِّي فِي ذَلِكَ الثَّمَنَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِهِ نَاضًّا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى شَرِيكِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرِكَةِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِهَا فَصَارَ عُدُولُهُ عَنْهُ إِلَى مَالِ نَفْسِهِ تَطَوُّعًا مِنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ المزني: رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَمَرَ أَحَدُهُمَا صاحبه ببيعه فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَائِعُ وَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُقِرِّ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ نِصْفَ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَيُسَلَّمَ لَهُ وَيَحْلِفُ لِشَرِيكِهِ مَا قَبَضَ مَا ادَّعَى فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ صَاحِبُهُ وَاسْتَحَقَّ الدَّعْوَى ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَلْفَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَهَا الْبَائِعُ وَصَدَّقَهُ عَلَيْهَا الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ فَقَدْ بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِتَصْدِيقِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ مِنْ حِصَّتِهِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ لَهَا ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَخْتَصُّ بِهَا وَيَحْلِفُ لِشَرِيكِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ قَوْلَ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ قَدْ تَضَمَّنَ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ وَدَعْوَى عَلَى شَرِيكِهِ فَكَانَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولًا فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي فِي حقه وادعائه عَلَى شَرِيكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ يَمِينِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَقْسُومًا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لم يقتسما عليه قبل مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ حَقٌّ لَهُ لَا يَجُوزُ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي مُقِرٌّ بِأَنَّ الْبَائِعَ ظَالِمٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا يُقِرُّ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لَمَّا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ بِتَصْدِيقِهِ صَارَ كَالْقَابِضِ لِحَقِّهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ حَقٌّ يُقَاسِمُ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَامَ عَلَى الْبَائِعِ بَيِّنَةً بِدَفْعِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ لَهَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ قَبْضُ الثَّمَنِ كُلِّهِ فَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْبَائِعِ شَرِيكُهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لِيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي مَعَهُ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ إِذَا رُدَّ بَعْضُهَا هَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ رَدَّ بَاقِيهَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ فَلَوْ عَدِمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ وَنَكِلَ الْبَائِعُ عَنِ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَحَلَفَ بَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ كله وكان الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بحصته يمين الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَعْدَ النُّكُولِ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوْ مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الرُّجُوعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: ولو كَانَ الشَّرِيكُ الَّذِي بَاعَ هُوَ الَّذِي أَقَرَّ بِأَنَّ شَرِيكَهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَادَّعَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ قَبَضَ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ أَمِينٌ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالنِّصْفِ الْبَاقِي فَيُشَارِكُهُ فِيهِ صاحبه لأنه لا يصدق على حصة من الشركة تسلم إليه إنما يصدق في أن لا يضمن شيئا لصاحبه فأما أن يكون في يديه بعض مال بينهما فيدعي على شريكه مقاسمة يملك بها هذا البعض خاصة فلا يجوز ويحلف لشريكه فإن نكل حلف شريكه واستحق دعواه ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا كَال ْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا بَاعَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَدَّعِي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ إِلَى الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَيُصَدِّقُهُ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ الَّذِي بَاعَ وَيُنْكِرُ مَنْ لم يبع أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ إِذْنَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ إِذْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ مَا مَضَى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ أَنَّ شَرِيكَهُ النَّائِبَ عَنْهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ لَمْ يَبِعْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَبْلُ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ ثُمَّ لَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى تَسْلِيمِ حَقِّهِ إِلَى شَرِيكِهِ فَقَدْ سَلَّمَهُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ثُمَّ قَدْ بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْبَائِعِ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ وَكَالَتِهِ فِيهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمَا أَلْفًا، خَمْسَمِائَةٍ إِلَى الْبَائِعِ وَخَمْسَمِائَةٍ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ فَإِنِ ابْتَدَأَ وَدَفَعَ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَظْلُومٌ بِهَا وَإِنْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إِلَى الْبَائِعِ خَمْسَمِائَةٍ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا إِنْ شَاءَ وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِيهَا وَيَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بكل حصته إِنْ شَاءَ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي دَافِعًا الْأَلْفَ خَمْسَمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى الْبَائِعِ وَخَمْسَمِائَةٍ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشَارِكَهُ الْبَائِعُ فِيمَا أَخَذَ فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ الْمَالَ مشتركا لَمْ يَقْتَسِمَا عَلَيْهِ وَالْبَائِعُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى شَرِيكِهِ فِي إِبْطَالِ الشَّرِكَةِ فِيهِ فَإِذَا أَخَذَ مِنَ الْبَائِعِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ حَقِّهِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ تَمَامَ خَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ بَعْدَ رُجُوعِ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَحْكُمُ فَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي غَارِمًا لِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ دَفَعَهَا إِلَى الْبَائِعِ فَشَارَكَهُ فِيهَا الَّذِي لَمْ يَبِعْ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دَفَعَهَا إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ فَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِالْبَائِعِ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِيهَا مُتَّهَمٌ بِمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ رُجُوعِ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ بِمَا يَأْخُذُهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ صَدَّقَ الْبَائِعَ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِهِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَنْسُبُهُ إِلَى الْغَلَطِ وَأَنَّهُ نَقَلَ جَوَابَ محمد بن الحسن فِيهَا لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ غَلَطًا مِنَ الْمُزَنِيِّ وَسَهْوًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ النَّقْلُ صَحِيحٌ وَالْجَوَابُ مُسْتَقِيمٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبْرَأُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 مُطَالَبَةِ الْبَائِعِ بِهَا لِبُطْلَانِ وَكَالَتِهِ فِيهَا وَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبِعْ فَكَانَ جَوَابُهُ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي مَحْمُولًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ وَأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي مِنَ النِّصْفِ بَرَاءَةٌ تَامَّةٌ غَيْرَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ الْمَأْذُونِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْقَبْضِ سَوَاءٌ كَانَ بَائِعًا أَوْ غير بائع فإن أمكن حمل جوابه على الصحة فلا وجهة لتخطئته فِيهِ كَمَا فَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِنْ أَمْكَنَ إِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي مِنْهَا فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى إِبْطَالِ الْوَكَالَةِ فِيهَا كَمَا نَقَلَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَغَصَبَ رَجُلٌ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ إِنَّ الْغَاصِبَ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ بَاعَا الْعَبْدَ مِنْ رَجُلٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَاصِبِ وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَغْصُوبُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِتَجْدِيدِ بَيْعٍ فِي مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ نَفْسَيْنِ غَصَبَ رَجُلٌ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اتَّفَقَ الْغَاصِبُ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ صَفْقَةً عَلَى رَجُلٍ كَانَ الْبَيْعُ فِي الْحِصَّةِ الْمَغْصُوبَةِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بَاعَهَا فِيمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ بَيْعَهَا بِمِلْكٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَوْ أَجَازَهَا الْمَالِكُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِيهَا إِلَّا بِتَجْدِيدِ عَقْدٍ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْإِجَازَةِ وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فَجَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مِنَ الِاثْنَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدَيْنِ وَإِذَا انْفَرَدَ الْعَقْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِفَسَادِ الْآخَرِ وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ وَكَّلَ الشَّرِيكَ فِي بَيْعِةٍ فَانْفَرَدَ الشَّرِيكُ فِي بَيْعِهِ أَوْ كَانَ الشَّرِيكُ قَدْ وَكَّلَ الْغَاصِبَ فِي بَيْعِ حِصَّتِهِ فَانْفَرَدَ الْغَاصِبُ بِبَيْعِ جَمِيعِهِ كَانَ الْبَيْعُ فِي الْحِصَّةِ الْمَغْصُوبَةِ بَاطِلًا وَهَلْ يَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 (كتاب الوكالة) (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنستم منهم رشدا} الآية فأمر بحفظ أموالهم حتى يؤنس منهم الرشد وهو عند الشافعي أن يكون بعد البلوغ مصلحا لماله عدلا في دينه وقال تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو فليملل وليه بالعدل} ووليه عند الشافعي هو القيم بماله (قال المزني) فإذا جاز أن يقوم بماله بتوصية أبيه بذلك إليه وأبوه غير مالك كان أن يقوم فيه بتوكيل مالكه أجوز وقد وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عقيلا (قال المزني) وذكر عنه أنه قال هذا عَقِيلٌ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا قُضِيَ لَهُ فَلِي (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَلَا أَحْسَبُهُ كَانَ يوكله إلا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَعَلَّهُ عِنْدَ أَبِي بكر رضي الله عنهما ووكل أيضا عنه عبد الله ابن جعفر عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعلي حاضر فقبل ذلك عثمان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْوِفَاقُ وَالْعِبْرَةُ فَأَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْآيَتَيْنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] . وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ نَظَرُ الْأَوْلِيَاءِ وَنَظَرُهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَوْصِيَةِ أَبٍ أَوْ تَوْلِيَةِ حَاكِمٍ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ كَانَ تَوْكِيلُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ أَجْوَزَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] فلما أضاف الورق إلى جميعهم رجل لَهُمُ اسْتِنَابَةَ أَحَدِهِمْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّةِ الِاسْتِنَابَةِ وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَكْثَرُ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَحَلُّ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا خَيْرٌ طَعَامًا وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَفِي قَوْلِهِ فَلْيَتَلَطَّفْ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلْيَسْتَرْخِصْ. وَالثَّانِي: وَلِيَتَلَطَّفَ فِي إِخْفَاءِ أَمْرِكُمْ فَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ لِلْعَزِيزِ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] أَيْ وَكِّلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:] وَالْحَكَمُ وَكِيلٌ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ وَإِذَا بَاعَ الْمُجِيزَانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ جَائِزَةٌ وَرَوَى شَبِيبُ بْنُ عُرْوَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ. وَرَوَى أَبُو الْحَصِينِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَرَجَعَ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَصَدَّقَ بِهِ وَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ على ترقوته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا وَقَالَ إِنَّ لِلْخُصُومَاتِ قُحَمًا وَإِنَّهَا لَتَخْلُفُ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُهَا وَإِنِّي إِنْ حضرت خفت وأن أغضب إن غَضِبْتُ خِفْتُ أَلَّا أَقُولَ حَقًّا وَقَدْ وَكَّلْتُ أَخِي عَقِيلًا فَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا قُضِيَ لَهُ فَلِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْسَبُهُ كَانَ تَوْكِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَعَلَّ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عِنْدَ عُثْمَانَ لَمَّا كَبُرَ عَقِيلٌ فِي شِرْبٍ كَانَ يُنَازِعُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَرَكِبَ عُثْمَانُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَا يَتَحَاكَمَانِ فِيهِ حَتَّى أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا فِي الشِّرْبِ فَصَارَ هَذَا إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ. وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ إِمَّا لِمَنْ أَحَبَّ صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْبِذْلَةِ فِيهَا وَإِمَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُبَاحٌ وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ أَشَدُّ مَاسَّةً. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فَالْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحِفْظِ وَالْمُرَاعَاةِ لِمَا عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ حفظ كل فِيهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 39] أَيْ حَفِيظًا. وَقَالَ تَعَالَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] أَيِ الْحَفِيظُ. وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الشَّرْعِ: إِنَّمَا هِيَ إِقَامَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فيه. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " فَلِلنَّاسِ أَنْ يُوَكِّلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ وَطَلَبِ حُقُوقِهِمْ وَخُصُومَاتِهِمْ وَيُوصُوا بِتَرِكَاتِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَةُ الْوَكَالَةِ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: - بِمُوَكِّلٍ، وَوَكِيلٍ، وَمُوَكَّلٍ فِيهِ. فَبَدَأَ الْمُزَنِيُّ بِمَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوَكُّلُ، فَيَبْدَأُ بِتَفْضِيلِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُ الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَهُ، حَيْثُ ذَكَرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 وَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: - قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ. وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ، مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ. وَقِسْمٌ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ، مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْعَجْزِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ. فَأَمَّا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَمِنْهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إِخْرَاجِهَا، وَتَفْرِقَتِهَا. وَمِنْهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَتَارَةً تَكُونُ عَقْدًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَتَارَةً تَكُونُ نَقْدًا كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَتَارَةً يَكُونُ رِفْقًا كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ، وتارة يكون تركا كالإبراء والمسامحة، وتارة يكون أخذا كالقبض والمطالبة وتارة يكون فضلا كالشركة والمضاربة وتارة يكون عَمَلًا كَالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فَحُقُوقُ الْأَمْوَالِ تَتَنَوَّعُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّبْعِ وَالتَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ. وأما ما يجري مجرى الأموال فتارة يكون عقدا كالنكاح والرجعة وتارة يكون حلا كالطلاق والعتق، وتارة يكون اسْتِيثَاقًا كَإِثْبَاتِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالْمُخَاصَمَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ إِلَّا اسْتِيفَاءَ الْحُدُودِ وَإِثْبَاتَهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، فَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ إِخْلَاصًا كَالصَّلَاةِ أَوْ زَجْرًا كَالْأَيْمَانِ وَاللِّعَانِ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَالنِّيَابَةُ وَهُوَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ. وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أُمِرَ عَلَى أَعْضَاءِ رَجُلٍ بِأَمْرٍ وَنَوَى الْمَغْسُولُ أَعْضَاؤُهُ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ جَازَ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَكَالَةً وَكَانَتْ مَعُونَةً كَمَا يُعَاوِنُهُ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَبِإِعَارَةِ ثَوْبٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الطَّهَارَةِ مَا سَقَطَ فَرْضُهُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَكَالَةً وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. فَإِذَا فَعَلَهُ أَحَدُهُمْ أَسْقَطَ بِهِ الْفَرْضَ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا. وَمِنْ هَذَا القسم اختيار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 الزَّوْجَاتِ فِي مَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَقَدْ مَضَى مِنْ حُكْمِ النِّيَابَةِ فِيهِمَا مَا يُغْنِي عَنْ زِيَادَةٍ فِيهِ وَيَكُونُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ يَفْعَلُهَا النَّائِبُ تَبَعًا لِأَرْكَانِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مِمَّا لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِ مَعَ الْعَجْزِ فَهُوَ الصِّيَامُ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَيًّا لَمْ يَجُزِ الصِّيَامُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا أَوْ مُطِيقًا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ الصِّيَامُ عَنْهُ لخير رُوِيَ فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنَ الصِّيَامِ عَنْهُ لِضَعْفِ الْخَبَرِ وَاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهِ إِنْ صَحَّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا بُدَّ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ مِنْ لَفْظٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ وَأَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِذِكْرِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْوَكَالَةُ ثُمَّ قَبُولُ الْوَكَالَةِ فَتَتِمُّ الْوَكَالَةُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ شَرْطَانِ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ وَهُمَا: اللَّفْظُ بِالْوَكَالَةِ وَذِكْرُ الْمُوَكَّلِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْقَبُولُ فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ لَفْظُ الْعَقْدِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: - قِسْمٌ هُوَ صَرِيحُ الْعَقْدِ. وَقِسْمٌ هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ. وَقِسْمٌ يَخْرُجُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا مَقْصُودًا. فَأَمَّا صَرِيحُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ وَكَّلْتُكَ وَأَنْتَ وَكِيلِي أَوْ قَدْ جَعَلْتُكَ لِي وَكِيلًا فَيَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ لِمَفْهُومِ الْمُرَادِ بِهِ. وَأَمَّا مَقْصُودُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي أَوْ قَدْ جَعَلْتُكَ نَائِبًا عَنِّي فَيَصِحُّ عَقْدُ الوكالة بهذا اللفظ أيضا لأن هُوَ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ، وَالصَّرِيحُ فِيهَا فَكَانَ أَحَقَّ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ قَدِ اسْتَنَبْتُكَ صَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ سَأُوَكِّلُكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أُوَكِّلُكَ لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ. وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ صَرِيحٍ وَمَقْصُودٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوَّلًا عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ أَوِ اسْتَكْفَيْتُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلَّا أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَصِحَّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ ذِكْرُ مَا وُكِّلَ فِيهِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: - قِسْمٌ يَكُونُ عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَقِسْمٌ يَكُونُ خَاصًّا فِي حَالٍ بِعَيْنِهَا. وَقِسْمٌ يَكُونُ عَامًّا في وجه وخاصا فِي وَجْهٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْعَامُّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوْ قَدْ وَكَّلْتُكَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أَوْ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي فِعْلِ مَا رَأَيْتَهُ صَلَاحًا فِي مَالِي. فَهَذِهِ وَكَالَةٌ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا وَمُضَادَّةُ الِاحْتِمَالِ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ فِي حِفْظِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَحْتَمِلُ بَيْعَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُمَا ضِدَّانِ مُتَبَايِنَانِ فَبَطَلَتِ الْوَكَالَةُ مِنْ أَجْلِهِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْخَاصُّ فِي حَالٍ بِعَيْنِهَا فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ فِي اقْتِضَاءِ هَذَا الدَّيْنِ أَوْ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي مُخَاصَمَةِ هَذَا الْمُدَّعِي فَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ خُصُوصًا فِي الْمَأْذُونِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا مَا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ خَالَفَ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ الْوَصِيَّ فِي شَيْءٍ وَصِيًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَجْعَلُ الْوَكِيلَ فِي شَيْءٍ وَكِيلًا في كل شيء وعند الشافعي أنهما سواء في أن عملهما مقصور على المأذون فيه دون غيره. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْعَامُّ مِنْ وَجْهٍ الْخَاصُّ مِنْ وَجْهٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون خصوصة بجعل العموم معلوما فتصبح فِيهِ الْوَكَالَةُ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ مَالِي لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَيْعِ قَدْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِعُمُومِ مَالِهِ مَعْلُومًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَصِيرَ الْعُمُومُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّخْصِيصِ مَعْلُومًا فَالْوَكَالَةُ فِيهِ بَاطِلَةٌ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَى مَا رَأَيْتَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ مَالِي لِأَنَّ جِنْسَ مَا يَشْتَرِيهِ بِمَالِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا فَبَطَلَتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذَا الْأَلْفِ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْعُرُوضِ أَوْ مَا عَلِمْتَ فِيهِ حَظًّا مِنَ الْإِبْرَاءِ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ بَاطِلَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ طَلَبَ الرِّبْحِ دُونَ التَّمْلِيكِ. فَيَجُوزُ كَالْمُضَارَبَاتِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ دَفَعَ فِي الْمُضَارَبَةِ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ الْعَامِلُ مَا رَأَى فِيهِ صَلَاحًا جَازَ فَهَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمُضَارَبَةِ طَلَبُ الرِّبْحِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا فَصَحَّ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَكَالَةِ تَمَلُّكُكَ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَاةَ وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ لَا يَجْعَلُ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَعْلُومًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 فبطل فعلى هذه الأصول يكون جواب ما تضمنه الموكل فاعتبره بها يتقرر لكل الحكم فيه فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: قَدْ وَكَّلْتُكَ في شراء عَبْدٍ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَصِفَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ لِلْوَكِيلِ مُرَادُهُ فِي الْعَبْدِ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ صِفَتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السِّلْمِ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فَلَوْ قال له قد وكلتك في شراء من رأيت من العبيد أو في شراء مَا رَأَيْتَ مِنَ الْخَيْلِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَجَهْلِ الْوَكِيلِ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْ مَنْ رَأَيْتَ مِنْ عَبِيدِي أَوْ بِعْ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَيْلِي، لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْعَدَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ بِصِفَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ يوكله في شراء عبد أَوْ ثَوْبٍ وَإِنْ لَمْ يُشِرْ إِلَى صِفَاتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رَأْيِ وَكِيلِهِ الْمُوَكَّلِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَقْدُ الْوَكَالَةِ وَبَيَانُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ". (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَبُولُ الْوَكِيلِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَلِ الَّذِي وَكَّلَ فِيهِ فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ كَانَ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا وَقَبُولُهَا فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ: قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ فَجَرَتْ مَجْرَى سَائِرِ الْعُقُودِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَكَالَةَ لَهُ إِذْنٌ بِالتَّصَرُّفِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْجِيلِ الْقَبُولِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ كَالْوَصِيَّةِ ثُمَّ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِمُكَاتَبَةٍ جَازَ لَوْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّةُ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي فَكَذَلِكَ فِي الْمُشَافَهَةِ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَقَدْ تَمَّتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ أَشَهِدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا أَمْ لَا. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ فِي ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا في صحتها. فلو كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا فِي وَقْتَ الْوَكَالَةِ، فَشَهِدَ بِوَكَالَتِهِ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنْ صَدَّقَهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ بها وليس قبول الحاكم لها بمعنى عَنْ تَصْدِيقِهِ. وَلَوْ رَدَّهَا الْحَاكِمُ لِمَعْنًى أَوْجَبَ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا وَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْوَكِيلِ صِدْقُهُمَا جاز له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا وَلَيْسَ رَدُّ الْحَاكِمِ لَهَا بِمَانِعٍ مِنْ عَمَلِ الْوَكِيلِ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ قَوْلَهُمَا عِنْدَهُ خَبَرٌ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ شَهَادَةٌ. فَإِذَا سَأَلَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِوَكَالَتِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيمَا إِذَا جَحَدَهَا الْمُوَكِّلُ تَعَلَّقَ بِالْوَكِيلِ فِيهَا زَائِدَةُ ضَمَانٍ كَالْبَيْعِ إِنْ لَزِمَهُ الْمُوَكِّلُ لَزِمَهُ الْوَكِيلُ ضَمَانُ مَا أُقْبِضَ مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ كَالشِّرى إِنْ جَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَزِمَ الْوَكِيلَ الْمُشْتَرِي أَوْ كَفِيلُ الْأَمْوَالِ يَلْزَمُهُ مَعَ الْجُحُودِ الضَّمَانُ أَوْ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ يلزمه مع الجحود غرم مَا قُضِيَ. فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَكَالَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِيمَا إِنْ جَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْوَكِيلِ فِيهَا ضَمَانٌ كَالْوَكَالَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالشُّفْعَةِ وَمُقَاسَمَةِ الشُّرَكَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَكَالَةِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ عَلَى أَجَلٍ أَوْ شَرْطٍ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشُّرُوطِ وَالْآجَالِ فَاسِدَةٌ. فَإِذَا قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً لِعَقْدِهَا إِلَى أَجَلٍ وَلَوْ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ جَازَ، لِأَنَّهُ عَجَّلَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ وَإِنَّمَا جَعَلَ رَأْسَ الشَّهْرِ مَحَلًّا لِوَقْتِ الْبَيْعِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَتْ زَيْنَبُ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِ زَيْنَبَ إِنْ شَاءَتْ جَازَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَاهُ فَقَدْ يَنْقَسِمُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: مَا كَانَ عَمَلُ الْوَكِيلِ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ دُونَ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي إِثْبَاتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدَيْنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَإِنْ وَكُلَّهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ فِي دَارٍ يَدَّعِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبَضُهَا وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي إِثْبَاتِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا لَمْ يَكُنْ له انتزاعها وكان عمل الوكيل في هذا الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَمَلُ الْوَكِيلِ فِيهِ مُتَجَاوِزًا إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنْ مَقْصُودِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرًى فَلَهُ إِذَا عَقَدَ الْبَيْعَ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ وَيَتَسَلَّمَ الثَّمَنَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ الْمُوَكِّلُ بِهِ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ مَا بَاعَهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ إِلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ. وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَى سِلْعَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْفَعَ ثَمَنَهَا لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ دَفْعَ الثَّمَنِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 فَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي صَحَّتِ الْوَكَالَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ كَانَ فِي الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ: ذَكَرَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ أَحَدُهُمَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِذَا أُخِذَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَخَذَ بِهِ الْمُوَكِّلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَكَالَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ إِقْبَاضَ الْمَبِيعِ مِنْ لَوَازِمِ الْبَيْعِ فَإِذَا نَهَاهُ عَنْهُ بَطَلَ التَّوْكِيلُ فِي سَبَبِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيهِ هَلْ يَكُونُ عَمَلُ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ أَوْ تَجُوزُ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ وَهُوَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَّا بِهِ كَالْوَكَالَةِ فِي مُقَاسَمَةٍ فِي دَارٍ وَقَبْضِ الْحِصَّةِ مِنْهَا إِذَا جَحَدَ الشَّرِيكُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ الْمُخَاصَمَةُ فِيهَا وَإِثْبَاتُ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَيْهَا؟ وَكَالْوَكَالَةِ فِي قَبْضِ دَيْنٍ إِذَا جَحَدَهُ الْمَطْلُوبُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ مُخَاصَمَتُهُ وَإِثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجًا: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَقْصُودُ الْعَمَلِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ صَرِيحُ الْإِذْنِ لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ فَشَابَهَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَّا بِهِ فَصَارَ بِوَاجِبَاتِهِ أَشْبَهَ كَالْقِسْمِ الثاني والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوُكَلَاءِ وَلَا عَلَى الْأَوْصِيَاءِ وَلَا عَلَى الْمُودَعِينَ وَلَا عَلَى الْمُقَارِضِينَ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّوْا فَيَضْمَنُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَيْدِي فِي أَمْوَالِ الْغَيْرِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: - يَدٌ ضَامِنَةٌ وَيَدٌ أَمِينَةٌ وَيَدٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هَلْ هِيَ ضَامِنَةٌ أَوْ أَمِينَةٌ. فَأَمَّا الْيَدُ الضَّامِنَةُ فَيَدُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسَاوِمِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَقْرِضِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ ضَمَانُ مَا هَلَكَ بِأَيْدِيهِمْ وَإِنْ كَانَ هَلَاكُهُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ مُتَعَدٍّ بِيَدِهِ أَوْ مُعَارِضٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ. وَأَمَّا الْيَدُ الْأَمِينَةُ فيه الْوَكِيلِ وَالْمَضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَعَدَّوْا وَيُفْرِطُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مُتَعَدٍّ بِيَدِهِ وَلَا مُعَاوِضٌ عَلَى غَيْرٍ وَأَمَّا الْيَدُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا قيد الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا هَلَكَ بِيَدِهِ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِيهِ وَلَا تَعَدٍّ عَلَيْهِ. فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا يَدٌ ضَامِنَةٌ يَلْزَمُهَا ضَمَانُ مَا هَلَكَ فِيهَا كَالْمُسْتَعِيرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا يَدٌ أَمِينَةٌ لَا ضَمَانَ فِيمَا هَلَكَ فِيهَا كَالْمُودَعِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْوَكِيلُ أَمِينٌ فِيمَا بِيَدِهِ لِمُوَكِّلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ هَلَكَ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ ضَمَانَ مَا بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ الَّذِي هُوَ بِمَثَابَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ وَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْصُودِ الْإِرْفَاقِ وَالْمَعُونَةِ فِيهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولُ: إِذَا كَانَتْ بَعِوَضٍ جَرَتْ مَجْرَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَكُونُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ فِي اللُّزُومِ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِهَا فِي الضَّمَانِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ مُوَكِّلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَخْرُجُ أَوْ لَا تَخْرُجُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا. وَالثَّانِي: فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهَا. فَأَمَّا الْخِلَافُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى لِيَتَمَهَّدَ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ مَشْرُوحًا وَالْخِلَافُ فِيهَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُوَكِّلَ في المخاصمة خضيرة كَانَتْ أَوْ بَرْزَةً وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ الخضرة الَّتِي لَا تَبْرُزُ أَنْ تُوَكِّلَ وَلَا يَجُوزُ لِلْبَرْزَةِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ أَنْ تُوَكِّلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْمُخَاصَمَةِ حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ الْمَعْذُورِ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَنْ يُوَكِّلَ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عليها لتقارب الخلاف بينهما يقول تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] وَمَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْحُضُورِ بِالْوَكَالَةِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْإِجَابَةِ. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ وَفِي مُقَابَلَةِ الْخَصْمِ بِالْوَكِيلِ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَلِأَنَّ حُضُورَ الْخَصْمِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي بِدَلَالَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُلَازَمَةٍ لِلْخُصُومَةِ وَمَنْعِهِ مِنَ اشْتِغَالِهِ وَفِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْحُضُورِ بِالتَّوْكِيلِ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُدَّعِي مِنَ الْحُضُورِ وَلِأَنَّ جَوَابَ الدَّعْوَى مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ تَارَةً إِقْرَارًا وتارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 إِنْكَارًا وَالْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِنْكَارِ دُونَ الْإِقْرَارِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِالتَّوْكِيلِ حَقُّهُ فِي أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ وَمَا قَدْ يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي لَا يَنُوبُ الْوَكِيلُ عَنْهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فَرْعٌ لِمُوَكِّلِهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ هِيَ فَرْعٌ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ شُهُودَ الْفَرْعِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَجَبَ أَلَّا يَقْتَنِعَ بِالْوَكِيلِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمُوَكِّلِ. وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ فَلَمَّا ثَبَتَتِ الْوَلَايَةُ لِعَجْزِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ لِعَجْزِ الْمُوَكِّلِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سَمِعَ دَعْوَى حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَوَلِيُّهُ كَانَ حَاضِرًا فَمَا أَنْكَرَ دَعْوَاهُمْ لَهُ مَعَ حضوره فلو كانت وَكَالَةُ الْحَاضِرِ غَيْرَ جَائِزَةٍ لِأَنْكَرَهَا حَتَّى يَبْتَدِئَ الْوَلِيُّ بِهَا أَلَا تَرَاهُ أَنْكَرَ عَلَى مُحَيِّصَةَ حِينَ ابْتَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبِلَ حُوَيِّصَةَ وَقَالَ لَهُ كَبِّرْ كَبِّرْ وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْأَكْبَرِ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَدَبٌ فَكَيْفَ يَكُفُّ عَنْ إِنْكَارِ مَا هُوَ وَاجِبٌ؟ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَّلَ عَقِيلًا أَخَاهُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَعَلَّهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ كَانَ حَاضِرًا وَوَكَّلَ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حِينَ أَسَنَّ عَقِيلٌ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَكَانَ عَلِيٌّ حَاضِرًا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا عَلَى وَكَالَةِ الْحَاضِرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا صَحَّ تَوْكِيلُهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا كَالتَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ وَاسْتِخْرَاجِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِي الْعُقُودِ مَعَ الْغَيْبَةِ صَحَّ تَوْكِيلُهُ مَعَ الْحُضُورِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَرَضِ الْعَاقِدِ وَصِحَّتِهِ وَحُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكَالَةِ إِنَّمَا هُوَ مَعُونَةُ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ صِيَانَةُ مَنْ كَانَ مَهِيبًا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَعْذُورِ. فَأَمَّا جَوَابُهُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُعْرِضًا عَنِ الْإِجَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَعَا إِلَى الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَكَالَةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِبْطَالُ التَّسَاوِي. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ حُضُورَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ خَرَجَ مِنَ الدَّعْوَى بِغَيْرِ حُضُورٍ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ ولو حضر من بغير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 خروج لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي فِي الْخُرُوجِ فِي الدَّعْوَى لَا فِي حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ وَلَا لِلْمُدَّعِي قَطْعُهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الدَّعْوَى أَوْ وَكَّلَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْجَوَابَ قَدْ يَكُونُ إِقْرَارًا فَهُوَ مَنْ يَخْرُجُ فِي دَيْنِهِ بِالْإِقْرَارِ مَعَ حُضُورِهِ كَانَ مُتَخَرِّجًا بِالْخُرُوجِ مِنَ الْحَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَهُوَ جَمْعٌ بِغَيْرِ مَعْنًى ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدها: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ شُهُودَ الْفَرْعِ بِرِضَا الْخَصْمِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْوَكِيلِ بِرِضَا الْخَصْمِ مَعَ زَوَالِ الْعُذْرِ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالضَّرُورَةِ فِي الْوَكَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فَمَا لَمْ يُضْطَرَّ إِلَيْهَا لَمْ يُكَلَّفْ سَمَاعَهَا. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْخَصْمِ وَلَا يَكْشِفُ عَنْ حَالِهِ فَجَازَ سَمَاعُهُ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ. وَأَمَّا استدلالهم بالوصي والولي فذلك لأنه نائب عن من لَمْ يَخْتَرْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا مَعَ الضَّرُورَةِ والوكيل نائب عن من اخْتَارَهُ فَجَازَ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَغَيْرِ الْبَرْزَةِ وَمِنَ الرَّجُلِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى فَصْلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ. وَالثَّانِي: مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُوَكَّلَ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ تَصِحُّ فِيهِ. النِّيَابَةُ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَسَمَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: - قِسْمٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُمْ مَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا رَشِيدًا فَتَصَرُّفُهُمْ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُوَكِّلُوا إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُمْ تَصَرُّفَ مِلْكٍ لَا نِيَابَةٍ. فَأَمَّا الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِنِيَابَةٍ عَنْ غَيْرِهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ مُوَكِّلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْأَحْوَالِ فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْوَصِيِّ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُمُ الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُمْ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُمْ فَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَكَّلَ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ مَجْنُونًا وَكَّلَ ثُمَّ أَفَاقَ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً لِفَسَادِ وُقُوعِهَا فَلَمْ يَصِحَّ لِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَعْدُ. فَأَمَّا الْعَاقِلُ إِذَا وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: - إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَطُولَ بِهِ الْجُنُونُ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُوَلَّى عَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالْجُنُونِ بَاطِلَ التَّصَرُّفِ كَانَ تَصَرُّفُ مَنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَتِهِ أَبْطَلَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَطُولَ بِهِ الْجُنُونُ حَتَّى يُفِيقَ مِنْهُ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَسَوَاءٌ صَارَ مَأْلُوفًا أَوْ غَيْرَ مَأْلُوفٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ لَا سِيَّمَا إِذَا صَارَ مَأْلُوفًا لِأَنَّ قُصُورَ مُدَّتِهِ وَسُرْعَةَ إِفَاقَتِهِ تَجْعَلُهُ عَفْوًا كَأَوْقَاتِ النَّوْمِ لِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ عَنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ وَفِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ السَّفِيهُ وَالْمُفْلِسُ وَالْعَبْدُ. فَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَاهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَى الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ إِنَّمَا تَنَاوَلَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ دُونَ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهِ لِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكَّلَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَتَصَرُّفُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ وَقَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِنْ بَاعَهُ السَّيِّدُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَصِيرُ فِيهِ بِالْإِذْنِ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ سَيِّدِهِ كَالنِّكَاحِ. فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِيهِ فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِانْتِقَالِ الْحَقِّ إِلَى غَيْرِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ لِانْتِقَالِ الْحَقِّ إِلَى نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بِالْإِذْنِ مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ مُسْتَنِيبِهِ كَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَكُونُ فِي التِّجَارَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا بِمَثَابَةِ الْوَكِيلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَرُّدِ بِهِ إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنٍ مِنْ سَيِّدِهِ. فَإِنْ وَكَلَّهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحَقِّ السَّيِّدِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ. فلو وكل وكيلا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَصَارَ رَقِيقًا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. فَلَوْ أَدَّى وَعَتَقَ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى حَالِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِصَاصِهَا بِحُقِّ نَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فِي مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرَ وَكِيلًا فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلَ غَيْرِهِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَحْوَالُ النَّاسِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْحُرُّ الرَّشِيدُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي كُلِّ مَا تَصِحُّ فِيهِ الْوَكَالَةُ. فَأَمَّا الْفَاسِقُ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ فِيمَا لَا وِلَايَةَ فِيهِ. فَأَمَّا مَا فِيهِ وِلَايَةٌ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْإِذْنِ فِيمَا عليه وولي الْيَتِيمِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ وَلَا قَيِّمًا عَلَيْهِ. وَضَرْبٌ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْإِذْنِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ فَاسِقًا لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى وَلَايَةٍ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ نِيَابَةٌ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ فَفِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ الْفَاسِقَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ لِمَا فِيهِ فِي الْوَلَايَةِ الَّتِي يُنَافِيهَا الْفِسْقُ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ وَلَيْسَ بِمُطْلَقِ الْوَلَايَةِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا فِيهِ وِلَايَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِ لَا يَنْعَقِدُ بِكَافِرٍ بِحَالٍ. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي نِكَاحِ كَافِرٍ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ مُسْلِمٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَ مسلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّلَا لِأَحَدٍ فَمَنْ وَكَّلَهُمَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ الْوَكِيلُ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جُنُونِ الْمُوَكِّلِ إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ إِلَى حَالٍ يَصِيرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بَطَلَ تَوْكِيلُهُ، وَإِنْ أَفَاقَ مِنْهُ قَرِيبًا بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجَازَتْ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ: - أَحَدُهُمَا: مَنْ مُنِعَ التَّصَرُّفَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالسَّفِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ عُقُودُهُ بِالسَّفَهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَبْطُلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعِ مِنَ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ لَا لِعَدَمِ رُشْدِهِ فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِي تَشَاغُلِهِ بِالْوَكَالَةِ فِي تَفْوِيتِ مَنَافِعِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ جَازَ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِسَيِّدِهِ وَغَيْرِ سَيِّدِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو مَا يُوَكَّلُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْوِلَايَاتِ كَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَازَةِ، وَالدَّعْوَى وَالْمُخَاصَمَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ مَعَانِي الْوِلَايَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُوَكِّلِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى طِفْلٍ أَوْ فِي مَالِ يَتِيمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ صَحَّ وَإِنْ تَوَكَّلَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ ثُمَّ بَاعَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِمَا قَدْ مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مَنَافِعِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ لِسَيِّدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ جَدَّدَ لَهُ الْمُشْتَرِي إِذْنًا بِالْوَكَالَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ إِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ إِذْنِهِ وَيَصِيرُ عَلَى وَكَالَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ إِذَا جَدَّدَ لَهُ الْمُشْتَرِي إِذْنًا بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَارْتَفَعْ بِحُدُوثِ إِذْنِهِ وَحْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِذْنٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ إِبْطَالَهَا قَدْ رَفَعَ أَسْبَابَهَا كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا بَطَلَ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يَبْتَدِئَ عَقْدًا صَحِيحًا. فَأَمَّا إِنْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِسَيِّدِهِ أَوْ غَيْرِ سَيِّدِهِ فَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِغَيْرِ سَيِّدِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ بِعِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِسَيِّدِهِ فَفِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِعِتْقِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَثْبُتُ وَكَالَةُ غَيْرِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ أَمْرٌ فَبَطَلَتْ كَسَائِرِ أَوَامِرِهِ الَّتِي تَبْطُلُ بِعِتْقِهِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَتَوَكَّلَ لِزَوْجِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ زَوْجِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَوَكَّلَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِمَا قَدْ مَلَكَهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِتَصَرُّفِهَا. وَإِنَّ وَكَّلَهَا الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ جَازَ، فِيمَا سِوَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ. فَإِنْ وُكِّلَتْ فِي النِّكَاحِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ. وَإِنْ وُكِّلَتْ فِي الطَّلَاقِ كَانَ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ مَلَكَتْ طَلَاقَ نَفْسِهَا صَحَّ فَجَازَ أَنْ تَتَوَكَّلَ فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا، فَلَوْ وَكَّلَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى حَالِهَا سَوَاءٌ تَوَكَّلَتْ لِلزَّوْجِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَلَيْسَتْ أَمْرًا يَلْزَمُ امْتِثَالُهُ كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " حَضَرَ خَصْمٌ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ جَائِزٌ (قَالَ الشافعي) لَيْسَ الْخَصْمُ مِنَ الْوَكَالَةِ بِسَبِيلٍ وَقَدْ يُقْضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ حَقًّا يَثْبُتُ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ غَائِبًا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عَلَى خَصْمٍ غَائِبٍ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ يُرِيدُ سَفَرًا أَوْ يُقِرُّ بِهَا الْمُوَكِّلُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَأَمَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْمَعُهَا إِلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً صَحَّ ثُبُوتُهَا بِحُضُورِ أَحَدِهِمْ، وَجَعَلَ امْتِنَاعَهُ فِي ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ وَفِي إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ عَلَيْهِ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَفَتِنَا للأصل الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يكن عنده تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمَا خَصْمٌ وَهَذِهِ حَالٌ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحَابَةِ وَكُلٌّ أَقَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهَا. وَلِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حُضُورُ الْخَصْمِ كَالْوَكَالَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الدُّيُونِ ولأن ما يُشْتَرَطْ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ عِنْدَ مَرَضِ الْمُوَكِّلِ وَسَفَرِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَمَغِيبِهِ كَالشَّهَادَةِ طَرْدًا وَالْقَوْلِ عَكْسًا وَلِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتِمَّ بِالْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ وَلِأَنَّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ فِي الْعُقُودِ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَكَالَةُ فِي مُطَالَبَةِ الْخُصُومِ كَوَكَالَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ. وَلِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ حُضُورُهُ. وَأَصْلُهُ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ أَوْ وُكِّلَ عَنْهُ حَاكِمٌ وَلِأَنَّهُ مُسْتَعَانٌ بِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ حُضُورُ الْخَصْمِ كَإِشْهَادِ الشُّهُودِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى مَدْفُوعَةٌ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ وَعَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ فِيهَا حَقٌّ، وَلَا عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِحُضُورِ الْوَكَالَةِ حَقٌّ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ الْخَصْمُ مِنَ الْوَكَالَةِ بِسَبِيلٍ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ يُقْضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ حَقًّا ثَبَتَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَصْمَ لَوِ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْخَصْمِ بِالْبَرَاءَةِ إِلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ حَقِّهِ وَلَوْلَا الْوَكَالَةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ الْوَكِيلُ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَمَا أَمْكَنَ الْخَصْمَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِالْبَرَاءَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الْخُصُومَةِ يَصِحُّ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ ومن موكل حاضر وغائب فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مَعَ وَكِيلِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى مِنْ وَكِيلِهِ عَلَى الْخَصْمِ مَعَ حُضُورِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَسْمَعَ دَعْوَى الْوَكِيلِ وَمُخَاصَمَتَهُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكَالَةِ أنها معونة العاجز وصيانة المهيب، فَاسْتَوَى حَالُهُ مَعَ حُضُورِهِ وَمَغِيبِهِ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْوَكَالَةِ أنها تقارب هذا المعنى فقال: إن الخصومات تحمل وَإِنَّهَا لَتَخْلُفُ. وَإِذَا صَحَّ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ وَكِيلِهِ مَعَ حُضُورِهِ فَسَوَاءٌ عَرَّفَهُ الْقَاضِي بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ أَمْ لَا. وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا عَنِ الدَّعْوَى، فَلَا يَخْلُو ثُبُوتُ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ. فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِهَا لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ. فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ وَكَالَتِهِ. وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِهَا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ مِنْهُ وَثَبَتَتْ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ لِئَلَّا يَدَّعِيَ نَسَبَ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ حاكم دعوى على رجل فالمدعى عليه بالخيارين أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ وَكِيلًا يَحْضُرُ مَعَ الْمُدَّعِي فَيَقُومُ حُضُورُ وَكِيلِهِ مَقَامَ حُضُورِهِ، كَمَا كَانَ المدعي بالخيارين أَنْ يَدَّعِي بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الدَّعْوَى فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِنَابَةِ وَكِيلِهِ فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً وَسَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِلْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 (فَصْلٌ) فَإِذَا وَكَّلَ الْمُدَّعِي رَجُلًا بِطَلَبِ دَيْنٍ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَبْرَأَهُ وَاسْتَوْفَاهُ وَأَرَادَ يَمِينَهُ، قِيلَ لَهُ: إنه مَا ثَبَتَ عَلَيْكَ ثُمَّ اطْلُبْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ إِذَا وَجَدْتَهُ وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْبِسَ مَا ثَبَتَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ بِمَا اسْتَحْدَثْتَهُ مِنَ الدَّعْوَى. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي بِاللَّهِ لَقَدْ شَهِدَ شُهُودُهُ بِحَقٍّ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاسْتِيفَاءِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِحَسْبَ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاسْتِيفَاءِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَيْهِ فَصَدَّقَهُ الْخَصْمُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا بَيِّنَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي لِلْوَكَالَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ: - أَنْ يَدَّعِيَ الْوَكَالَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ أَوْ يَدَّعِيَ الْوَكَالَةَ فِي قَبْضِ مَالٍ. فَإِنِ ادَّعَى الْوَكَالَةَ فِي قَبْضِ مَالٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْخَصْمُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا. قَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَزِمَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعَ الْمُزَنِيِّ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنِ ادَّعَى الْوَكَالَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَيَسْمَعُ تَخَاصُمَهُمَا لِأَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلَمْ يَكُنْ إِضْرَارًا به. وإنما هو قامة بينة على المطلوب يجوز مع حضور الموكل وَغَيْبَتِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَصْمَانِ عَلَى أَنْ وَكَّلَا رَجُلًا وَاحِدًا وَكَانَ تَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُخَاصَمَةِ صَاحِبِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ وَإِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُثْبِتُ عَلَى كل واحد مِنْهُمَا حُجَّةَ صَاحِبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي تَحْقِيقِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا يُنَافِيهِ فَيُعَارِضُ بَعْضُ قَوْلِهِ بَعْضًا. وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُخَاصِمَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَوْكَلَ الرَّجُلُ رَجُلًا في مخاصمة رجل عند قاضي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَلَا لَهُ إِنْ عُزِلَ الْقَاضِي أَنْ يُخَاصِمَهُ عِنْدَ الْمُوَلَّى مَكَانَهُ. وَلَوْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْقَاضِي وَلَمْ يُعَيِّنْهُ جَازَ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَ مَنْ صَلُحَ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا مِنَ القضاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي مُخَاصَمَةِ كُلِّ خَصْمٍ يَحْدُثُ لَهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا وَكَالَةٌ بَاطِلَةٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْجَهَالَةِ بِالْمُوَكَّلِ فِيهِ وَأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فِي الْحَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهَا وَكَالَةٌ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْجَهَالَةِ. وَلِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَادِثِ الْمَجْهُولِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي اسْتِيفَاءِ مَالِي عَلَى زَيْدٍ فَمَاتَ زَيْدٌ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَارِثِهِ. فَلَوْ قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي اسْتِيفَاءِ مَالِي مِنْ زَيْدٍ فَمَاتَ زَيْدٌ. لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَارِثِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِيفَائِهِ من ما على زَيْدٍ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَالِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ من ورثته، وإلا من استيفائه من زيد متوجه إِلَى زَيْدٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال المزني رضي الله عنه: " فَإِنْ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةٍ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ قَبِلَ فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ ثَبَتَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَعَقْدُ الْوَكَالَةِ إِرْفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ افْتَقَرَ إِلَى مُدَّةٍ يَلْزَمُ الْعَقْدُ إِلَيْهَا وَصِفَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَوْفِي بِهَا كَالْإِجَارَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ تَقْرِيرُهَا بِمُدَّةِ الِاسْتِيفَاءِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ صِفَةٍ دَلَّ عَلَى جَوَازِهَا دُونَ لُزُومِهَا. وسواء كانت تطوعا أَوْ بِعِوَضٍ، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَهِيَ مَعُونَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِوَضٍ فَهِيَ في معنى الجعالة. وإذا وكل رجل رجلا فالوكيل بالخيارين قَبُولِ الْوَكَالَةِ وَرَدِّهَا. وَقَبُولُهُ إِنْ قَبِلَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عَلَى مَا مَضَى فَإِذَا قَبِلَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ثَبَتَ عَلَى الْوَكَالَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمُخَاصَمَةِ وَالْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا بِحُضُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ بغير حضوره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُوَكِّلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شُرُوعَ الْوَكِيلِ فِي الْمُخَاصَمَةِ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَّا إِلَى مُسْتَحِقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ لَيْسَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِدَامَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا إِلَّا إِلَى مُسْتَوْدَعِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي دَفْعِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُعْتَبَرًا فِي رَفْعِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ طَرْدًا وَكَالْإِقَالَةِ عَكْسًا وَكَانَ كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ فَسْخُ الْوَكَالَةِ بِحُضُورِ صَاحِبِهِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهَا كَالْمُوَكِّلِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وكالة يصح من الموكل أن ينفرد بفسخه فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْوَكَالَةِ التي لم يشرع الوكيل في المخاصمة فيها. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْسَخَ إِلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ كَالْبَيْعِ أَوْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْجَعَالَةِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرِّضَا فِيهِ مُعْتَبَرًا كَانَ التَّفَرُّدُ بِفَسْخِهِ جَائِزًا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ إِضَاعَةً لِحَقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حَقًّا كَالْمُودَعِ الَّذِي بِيَدِهِ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، فَسَخَ الْوَكِيلُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ: إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ خَرَجْتُ مِنْهَا. سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ بِالْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ. فَأَمَّا فَسْخُ الْمُوَكِّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ عَزَلْتُ الْوَكِيلَ عَنْهَا أَوْ أَخْرَجْتُهُ مِنْهَا وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ بِهِ الْوَكِيلَ أَمْ لَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفَسْخُ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَإِعْلَامِ الْوَكِيلِ بِفَسْخِهِ فَمَتَى لَمْ يَعْلَمُ فَهُوَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِيمَا عَقَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَلِّهَا. وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَقْيَسُ شَيْئَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْوَكِيلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ رَفْعُهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ جَازَ لَهُ رَفْعُهُ بِغَيْرِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 عِلْمِهِ، كَالنِّكَاحِ يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْفَسْخِ بِحَالِ الْعَقْدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَسَادُهُ بِفَسْخِ الْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا كَانَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَسْخُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ فِي الْخُصُومَةِ، لَمْ يَسْمَعِ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ إِلَّا مِنْهُمَا حَتَّى يُوَكِّلَهُمَا وَكِيلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. فَلَوْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْخُصُومَةِ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِذْنِ التَّفَرُّدِ فِيهَا. فَلَوْ وَكَّلَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ ثُمَّ عَزَلَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمَعْزُولُ بِعَيْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْزُولَ بِعَيْنِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا فِي دَعْوَى دَارٍ ثُمَّ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْهَا، فَجَازَ الْوَكِيلُ لِيَشْهَدَ لِمُوَكِّلِهِ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ أَنْ خَاصَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ صَارَ فِيهَا خَصْمًا، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فِيهَا فَفِي قبول شَهَادَتَهُ بِهَا - قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَكَالَةِ قَدْ صَارَ خَصْمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُخَاصِمْ لَمْ يَصِرْ خَصْمًا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ لَوِ ادَّعَى الْوَكِيلُ الدَّارَ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنِ ادَّعَاهَا لِمُوَكِّلِهِ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّعْوَى وَبَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ القولين والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " فَإِنْ ثَبَتَ وَأَقَرَّ عَلَى مَنْ وَكَّلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا بالصلح ولا بالإبراء وكذلك قال الشافعي رحمه الله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَأَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ وَسَوَاءٌ أَقَرَّ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَإِنْ أَقَرَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ وَقَالَ أبو يوسف إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 لُزُومِ إِقْرَارِهِ لِمُوَكِّلِهِ، بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا: وَهَذَا عَقِيلٌ مَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وما لَهُ فَلِي. فَجَعَلَ الْقَضَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ قَضَاءً عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَلِأَنَّ فِي التَّوَكُّلِ بِالْمُخَاصَمَةِ إِذْنًا بِهَا وَبِمَا تَضَمَّنَهَا، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ تَارَةً وَالْإِنْكَارَ تَارَةً فَصَارَ الْإِقْرَارُ مِنْ مُتَضَمَّنِ إِذْنِهِ فَلَزِمَهُ. وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْجَوَابِ وَالْجَوَابُ قَدْ يَكُونُ تَارَةً إِقْرَارًا وَتَارَةً إِنْكَارًا فَلَمَّا قَامَ إِنْكَارُهُ مَقَامَ إِنْكَارِ مُوَكِّلِهِ وَجَبَ أَنْ يَقُومَ إِقْرَارُهُ مَقَامَ إِقْرَارِ مُوَكِّلِهِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ جَوَابَيِ الدَّعْوَى فَجَازَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ كَالْإِنْكَارِ وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْقَبْضَ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ كَالْمُوَكِّلِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ نُدِبَ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ كَالْوَصِيِّ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْوَكِيلُ مِنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كَالْإِبْرَاءِ طَرْدًا وَالْقَبْضِ عَكْسًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالْجِنَايَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ مَعَ النَّهْيِ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ مَعَ التَّرْكِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَيْسَ بِقَضَاءٍ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ. وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا وَإِنْكَارًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَتَضَمَّنُ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ الْإِنْكَارَ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعُونَةِ وَحِفْظِ الْحَقِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا قَامَ فِي الْإِنْكَارِ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَثَابَتِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ فِي الْإِنْكَارِ مَعُونَةً لِمُوَكِّلِهِ وَحِفْظًا لِحَقِّهِ، فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ وَفِي الْإِقْرَارِ مَعُونَةٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ، وَإِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْإِبْرَاءَ مَلَكَ الْإِقْرَارَ وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْوَكِيلُ الْإِبْرَاءَ لَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمُوَكِّلِهِ فَقَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ خَارِجًا عَنِ الْوَكَالَةِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَأَمَّا إِبْرَاءُ الْوَكِيلِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَلَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنَ الْوَكَالَةِ فِيمَا أَبْرَأَ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالْإِقْرَارِ أَنَّ مَضْمُونَ إِقْرَارِهِ أَنَّ مُوَكِّلَهُ ظَالِمٌ فِي مُطَالَبَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا يُقِرُّ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَلَيْسَ فِي إِبْرَائِهِ اعْتِرَافٌ بِظُلْمِ مُوَكِّلِهِ، فَجَازَ أَنْ يُطَالِبَ. فَلَوْ صَدَّقَ لِلْمُوَكِّلِ وَكِيلُهُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، صَارَ بِالتَّصْدِيقِ مُقِرًّا بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ فَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: كُلُّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَيَّ فَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لِلْجَهَالَةِ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيَّ فَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ وَلَازِمٌ لِي لَمْ يَلْزَمْهُ مَا شَهِدَ بِهِ فُلَانٌ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَيَشْهَدَ مَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ فَيَصِيرَ بَيِّنَةً يَلْزَمُهُ مَا شَهِدَ عَنْهُ بِهِ، صَدَقَ أَوْ كَذَبَ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 وَهَكَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى مَا وَكَّلَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ أَوْ يَكُونَ إِبْرَاءً فَلَا يَصِحُّ وَلَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي الْإِقْرَارِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَدْرَ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ وَيَصِفُهُ، لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ مِنَ الْآمِرِ إِقْرَارًا كَمَا لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا أَمْرًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَعَلَهُ أَمْرًا مِنْ عُمَرَ وَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ إِلَّا خَبَرًا فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِشَهَادَةِ آخَرَ مَعَهُ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ وَيَلْزَمُ الْإِقْرَارُ بِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ. فَلَمَّا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ بِالْإِبْرَاءِ. كَانَ جَوَازُهَا فِي الْإِخْبَارِ بِسُقُوطِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَلَمَّا صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِي الْإِنْكَارِ لِأَجْلِ إِذْنِهِ صَحَّ فِي الْإِقْرَارِ لِأَجْلِ إِذْنِهِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُ الْإِقْرَارُ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ فِيهِ أَمْ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ الْإِقْرَارُ لَازِمًا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِهِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ الْمُوَكِّلُ أَمْ لَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ وَأَمْرُهُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِمَا وَكَّلَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ إِقْرَارًا لَازِمًا إِلَّا بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بَعْدَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ بِالْإِقْرَارِ لا يكون إقرار حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ الْإِقْرَارُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِالْإِقْرَارِ لَهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْإِبْرَاءِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُبْرَأَ وَلَا الْقَدْرَ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَإِنْ ذَكَرَ الْمُبْرَأَ وَالْقَدْرَ الَّذِي يُبْرَأُ مِنْهُ وَصِفَتَهُ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ، وَلَا يَقَعُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِهِ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْهُ الْوَكِيلُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِسْقَاطٍ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ كَالْإِقْرَارِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي إِبْرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مُبْرِئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَائِبًا لِنَفْسِهِ فِي دُيُونِ مُوَكِّلِهِ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي مبرئا ومبرأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ طَلَاقَ نَفْسِهَا. فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ وَصَفَهَا بِثَمَنٍ مِنْ جُمْلَةِ دَيْنٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ وَكِيلِهِ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ تِلْكَ السِّلْعَةَ لِمُوَكِّلِهِ بِثَمَنٍ وَزَنَهُ مِنْ جُمْلَةِ دَيْنِهِ صَحَّ، وَبَرِئَ الْوَكِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ تَلِفَتِ السِّلْعَةُ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلُ بَرِيءٌ مِنْ ثَمَنِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وُكِّلَ فِي ابْتِيَاعِهِ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بَرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ تَلِفَ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ثَمَنِهِ إِذَا تَلِفَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُقَرِّرٌ لِلثَّمَنِ عَنْ إِذْنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْمَوْصُوفِ وَالْمُعَيَّنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ، فَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ جَازَ إِطْلَاقُ الْقَدْرِ فِيهِ وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ مَعَ إِطْلَاقِ الثَّمَنِ بِمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ الَّذِي لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ صُلْحًا يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِذِكْرِ الْقَدْرِ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الْإِبْرَاءِ إِلَّا بِذِكْرِ الْقَدْرِ الَّذِي يبرأ منه. فلو وكله أن يصالح عنه كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي تَوْكِيلِهِ لِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ. فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ لِزَيْدٍ مَا رَأَى مِنْ أَمْوَالِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ. فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي هِبَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مَعْلُومٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ جَائِزًا. وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي هِبَةِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " فَإِنْ وَكَّلَهُ بِطَلَبِ حَدٍّ لَهُ أَوْ قِصَاصٍ قُبِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا حَضَرَ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ لَمْ أَحُدَّ وَلَمْ أُقِصَّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَحْدُودُ لَهُ وَالْمُقَصُّ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ لَهُ وَيُكَذِّبُ الْبَيِّنَةَ أَوْ يَعْفُو فَيُبْطِلُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَلَى تَثْبِيتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَائِزَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أبو يوسف لا يجوز الوكالة في إثبات الحدود اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِي اسْتِيفَائِهِ لَمْ تُجِزِ الْوَكَالَةَ فِي إِثْبَاتِهِ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ فَجَازَ مَعَ غَيْبَتِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ جَازَ تَوْكِيلُهُ فِي الْحُدُودِ كَالْحَاضِرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَعْنَى فِيهَا إِدْرَاؤُهَا بِالشُّبَهَاتِ فَلَمْ يَجُزْ تَأْكِيدُهَا بِالتَّوْكِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ من ثلاثة أحوال: - أحدهما: أَنْ يَنْهَاهُ فِي الْوَكَالَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْإِثْبَاتِ وَلَا يَذْكُرَ الِاسْتِيفَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلَا بِالْأَمْرِ بِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ليلى: يجوز له استيفاءه مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِثْبَاتِ، فَجَازَ فِعْلُهُ مَعَ إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ كَالْمُوَكِّلِ فِي بَيْعٍ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِيهِ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَنَهُ بِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ لَا يَقْتَضِي تَفْوِيتَهُ إِلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ مُوجِبَاتِ إِثْبَاتِهِ لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ وَكَالَتِهِ فَلَمَّا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْقَبْضُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَخَالَفَ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْقِصَاصِ مَعَ مَا فِي الْقِصَاصِ مِنْ فَوَاتِ الِاسْتِدْرَاكِ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يقتص فتنحا بِهِ ثُمَّ عَفَا الْمُوَكِّلُ، وَقَتَلَ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ ال ْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ فِي فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهَا إِنْ حَدَثَ مِنَ الْمُوَكِّلِ عَفْوٌ عَنْهَا وَأَنَّهُ إِنْ حَضَرَ كَانَ أَرَقَّ قَلْبًا فِي الْعَفْوِ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ قِيَاسًا عَلَى تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَالْأَمْوَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّ التَّوْكِيلَ فِي اسْتِيفَائِهِ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَحَمَلَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا عَلَى الْمَنْعِ إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ حُضُورِ مُوَكِّلِهِ. وَأَنَّ معنى قوله فتنحا بِهِ عَنْ قُرْبِ مُوَكِّلِهِ إِلَى حَيْثُ يُسْتَوْفَى لَهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ، وَهُوَ شَاهِدُهُ، فَيُمْكِنُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْحُضُورِ اسْتِدْرَاكُ عَفْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعَمَلِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ. وَضَرْبٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ. فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُهُ التَّفَرُّدُ بِعَمَلِهِ فَكَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي نَقْلِ حُمُولَةٍ أَوْ فِي عمارة ضيعة أو بناء. فَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ صَرِيحًا. وَيَكُونُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ وَكِيلَيْنِ لِلْمُوَكِّلِ لَا يَنْعَزِلُ الثَّانِي بِعَزْلِ الْأَوَّلِ. وَهَكَذَا لَوْ وُكِّلَ فِيمَا يُمْكِنُ الْوَاحِدُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ إِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُحْسِنُ عَمَلَهُ وَلَا يَعْرِفُ صُنْعَهُ كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي نِسَاجَةِ ثَوْبٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ النَّسْجَ، أَوْ فِي صِيَاغَةِ حُلِيٍّ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَيَسْتَنِيبَ فِي عَمَلِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى تَوْكِيلِهِ فِيهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ اسْتِنَابَتَهُ فِي تَوْكِيلِ مَنْ يُحْسِنُهَا. وَهَكَذَا لَوْ وُكِّلَ فِيمَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهُ، كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي النِّدَاءِ عَلَى ثَوْبٍ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالنِّدَاءِ أَوْ وُكِّلَ فِي غُسْلٍ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالْغُسْلِ فَيَجُوزُ لَهُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ مَا وكل فيه يمكنه التفرد بعمله وَعَادَتُهُ جَارِيَةٌ بِعَمَلِهِ كَرَجُلٍ وُكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ وُكِّلَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ أَوْ وُكِّلَ فِي اقْتِضَاءِ دَيْنٍ أَوْ مُقَاسَمَةِ خَلِيطٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِسْمَةِ وَأَصْحَابِ الِاقْتِضَاءِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مَعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَنْهَاهُ فِي عَقْدِ وَكَالَتِهِ عَنْ تَوْكِيلِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ النَّهْيِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ تَوْكِيلُهُ بَاطِلًا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عَقْدِ وَكَالَتِهِ فِي تَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَاسْتِنَابَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنَصِّبَهُ عَلَى تَوْكِيلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ. كَانَ مَنْ عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ عَلَيْهِ أَمِينًا عَدْلًا أَوْ كَانَ خَائِنًا فَاسِقًا لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمُوَكِّلِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنَصِّبَهُ عَلَى تَوْكِيلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَيَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْخِيَارَ فَوَكِّلْ مَنْ رَأَيْتَ فَعَلَى الْوَكِيلِ إِذَا أَرَادَ التَّوْكِيلَ أَنْ يَخْتَارَ ثِقَةً أَمِينًا كَافِيًا فِيمَا يُوَكَّلُ فِيهِ - فَإِنْ وَكَّلَ خَائِنًا فَاسِقًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُرَى تَوْكِيلُ مِثْلِهِ - فَلَوْ وَكَّلَ ثِقَةً أَمِينًا صَحَّ تَوْكِيلُهُ. فَإِنْ حَدَثَ فِسْقُهُ وَطَرَأَتْ خِيَانَتُهُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ الْمُوَكِّلِ فِي عَزْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ إِلَّا بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فِي عَزْلِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مُوَكِّلَهُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي تَوْكِيلَ ثِقَةٍ عَدْلٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ عَنِ الْمُوكِّلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَكِيلَيْنِ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنْ عُزِلَ الْأَوَّلُ كَانَ الثَّانِي عَلَى وَكَالَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ عَنِ الْوَكِيلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلًا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَبَطَلَتْ وَكَالَتُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِذْنُهُ فِي التَّوْكِيلِ مُطْلَقًا من غير تصريح، من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْمُوَكِّلِ أَوْ عَنِ الْوَكِيلِ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَيَّنَ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَنْ يُوَكِّلُهُ. كَانَ الثَّانِي الْمُعَيَّنُ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جواز توكيله معتبر بإذنه. والوجه الثاني: أنه يَكُونَ وَكِيلًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِ. فَعَلَى هَذَا يَنْعَزِلُ الثَّانِي بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا بِعَزْلِ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا بِعَزْلِ الْأَوَّلِ لَهُ وَإِمَّا بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ لَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَنْعَزِلُ إِلَّا بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَحْدَهُ. وَهَذَا إِذَا صَرَّحَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ بِالتَّوْكِيلِ فَأَمَّا إِذَا عَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ كَقَوْلِهِ قَدْ وَكَّلْتُكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ أَوْ مَا صَنَعْتَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَهَلْ يَكُونُ مُطْلَقُ التَّفْوِيضِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ التَّفْوِيضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ التَّفْوِيضِ يَنْصَرِفُ إِلَى فِعْلِهِ لَا إِلَى فِعْلِ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً لَا يَأْذَنُ لَهُ وَلَا يَنْهَاهُ عَنْهُ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا أَقَامَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِوَكَالَتِهِ حُصُولُ الْعَمَلِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَعِينَ فِيهِ بِغَيْرِهِ، لِحُصُولِ الْعَمَلِ فِي الْحَالَيْنِ لِمُوَكِّلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مُقْتَصِرٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ فِي التَّوْكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَسْكُنُ فِي عَمَلِهِ إِلَى أَمَانَةِ وَكَيْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ لَمْ يَسْكُنِ الْمُوَكِّلُ إِلَى أَمَانَتِهِ كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِأَمَانَتِهِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ هَذَا أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَعَمْرِي أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي فِعْلِ مَا وُكِّلَ فِيهِ، لَا فِي غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ وَلَا يُبْرِئَ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَهَبَ وَيُبْرِئَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْغَرَضَ حُصُولُ الْعَمَلِ فَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ وَارْتَضَى أَمَانَتَهُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِعَيْنِهِ لِعَمَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ فِي عَمَلِهِ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعَمَلِ مِنْ جِهَةِ الأجير وفعله لا يفعل غيره كذلك ههنا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ نَهَاهُ الْإِمَامُ عَنِ الِاسْتِخْلَافِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَرِيحًا بِالِاسْتِخْلَافِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلَمْ يَنْهَهُ، اعْتُبِرَ حَالُ عَمَلِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَكَالَةِ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَمَلِ بَيْنَ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ لِسَعَةِ عَمَلِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بباقي عمله، والله أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَقِسْمٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ فِي رَدِّ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ الْأَيْدِي الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِهَا فِي رَدِّ مَا مَعَهُ وَهُوَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْمَالِكُ عَلَى مَالِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ فِي أَمَانَتِهِ كَالْمُودَعِ فَقَوْلُهُ فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ عَلَى رَبِّهَا مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا كَقَوْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 وَالثَّانِي: مَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ وَهُوَ مَنْ يَدُهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الرَّهْنِ عَلَى رَاهِنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: مَنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى مُؤْتَمِنِهِ وَهُوَ مَنْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْمَالِكِ، لَكِنْ لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَيْهِ فِي نِيَابَتِهِ كَالْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ مَقْبُولٌ فِي رَدِّ مَا بِأَيْدِيهِمْ لِنِيَابَتِهِمْ عَنِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: أَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي رَدِّ مَا بِأَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ عَوْدَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْمُتَصَرِّفِينَ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ كَالْمُرْتَهِنِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لِلْأَصْلِ فَالْوَكِيلُ إِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَقَوْلُهُ فِي رَدِّ مَا بِيَدِهِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ وَجْهَانِ: فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ إِذْنًا فِي تَصَرُّفٍ كَقَوْلِ الْوَكِيلِ: أَمَرْتَنِي بِبَيْعِ كذا، أو بإعطاء زيدا كَذَا، فَيُنْكِرُ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَثَابَةِ مُدَّعِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ، وَمُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ادِّعَائِهَا. فَكَذَلِكَ مُدَّعِي الْإِذْنِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ادِّعَائِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، كَقَوْلِ الْوَكِيلِ أَمَرْتَنِي بِإِعْطَاءِ زَيْدٍ أَلْفًا. فَقَالَ: بَلْ أَمَرْتُكَ بِإِعْطَائِهِ ثَوْبًا. وَكَقَوْلِهِ أَمَرْتَنِي بِبَيْعِ عَبْدِكَ بِأَلْفٍ فقال لا بَلْ أَمَرْتُكَ بِأَلْفَيْنِ. فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْوَكِيلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى ادِّعَائِهِ وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ وَكَالَةٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْوَكِيلِ فِيهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَ فِي عَمَلِهِ فَيَدَّعِي الْوَكِيلُ إِيقَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَيُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ، كَتَوْكِيلِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِقْبَاضِ مَالٍ. فَيُنْكِرُ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ مَعَ تَصْدِيقِ الْبَائِعِ وَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُطَلَّقَةِ وَالْقَابِضِ وَالْمُعْتَقِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَحْكِيَّانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. فَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْمَشْهُودِ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهَا عُقُودٌ فَلَمْ تَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ نَفَذَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ كَنُفُوذِ قَوْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ. فَهَذَانِ قَوْلَا الشَّافِعِيِّ الْمَحْكِيَّانِ عَنْهُ. وَأَمَّا وَجْهَا أَبِي الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَيْنِ ذَكَرَ احْتِمَالَهُمَا وَنَصَرَ تَوْجِيهَهُمَا. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ، كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَصِحُّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى نُصْرَتِهِ: أَنَّ مَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ كَإِيقَاعِهِ قُبِلَ قَولُهُ فِيهِ وَمَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْقَوْلِ بِهِمَا وَجْهٌ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بَاقِيًا عَلَى الْوَكَالَةِ فَأَمَّا مَعَ عَزْلِهِ عَنْهَا فَلَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهِمَا لِمَا يَقْتَضِيهِ تَعْلِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَانَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا وَصُورَتُهَا فِي مَنْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ. فَادَّعَى الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَقَبْضَ الثَّمَنِ، وَتَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَبَضَهُ مِنْهُ، كَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ لَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الدَّفْعِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَأَنْكَرَ قَبْضَ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ. لِأَنَّ قَوْلَ الْوَكِيلِ يَدَّعِي عَمَلًا يُنْكِرُهُ الْمُوَكِّلُ. وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ بِشِرَى عَبْدٍ فَقَالَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَلِ اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ بِيَدِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي شِرَى الْعَبْدِ بِالْأَلْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَوْلَى فِي الْحَالَيْنِ لِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي أَصْلِ الشِّرَى وَكَذَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ أَصْلِ ثَمَنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال المزني رضي الله عنه: " فإن طَلَبَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَمَنَعَهُ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَهُ إِلَّا فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ دَفْعُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا حَصُلَ مَعَ الْوَكِيلِ ثَمَنُ مَا بَاعَ لِمُوَكِّلِهِ، فَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْعِهِ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَحُدُوثٍ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَوْضِعِ الثَّمَنِ، أَوْ لِحُضُورِ فَرْضٍ مِنْ جُمُعَةٍ أَوْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 مَكْتُوبَةٍ قَدْ ضَاقَ وَقْتُهَا، أَوْ لِضَيَاعِ مِفْتَاحٍ بِدِيَارِ غَيْرِهِ أَوْ لِمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ لَهُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. فَهَذَا عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الدَّفْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ قَبْلَ الدَّفْعِ. وَإِنْ مَنَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ صَارَ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ تَلِفَ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ دَفْعِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: - أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ فِي الدَّفْعِ. فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا وَعَلَيْهِ الْغُرْمُ إِنْ تَلِفَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الدَّفْعِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ لِيَسْلَمَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الْإِكْذَابِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا وَلَا غَرْمَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ قَبَضَ الْمَالَ بِالْإِشْهَادِ، لَمْ يَدْفَعْ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ. وَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ لَزِمَهُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ضَامِنًا كَالْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ أَوْ كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ كَالْمُرْتَهِنِ. فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَإِنْ قُلْنَا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّ قَوْلَهُ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَمْ يَلْزَمْهُمُ الدَّفْعُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدَّفْعِ مَقْبُولٌ، فَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا مَنَعَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ مِنَ الثَّمَنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا، وَكَانَ الثَّمَنُ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ مَنْعِهِ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِاعْتِقَادِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الرَّدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِتَلَفِ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " فَإِنْ أَمْكَنَهُ فَمَنَعَهُ ثُمَّ جَاءَ لِيُوصِّلَهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ ضَمِنَهُ وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَنَعَ الْوَكِيلُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَنْعِ صَارَ ضَامِنًا. فَلَوْ حَمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَتَلِفَ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِأَنَّ مَا صَارَ مَضْمُونًا لَزِمَ غُرْمُهُ بِالتَّلَفِ، فَلَوِ ادَّعَى بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الدَّفْعِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِذِمَّتِهِ. فَلَوْ طَلَبَ الْإِشْهَادَ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالدَّفْعِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 فَلَوْ أَبْرَأَهُ الْمُوَكِّلُ مِنَ الضَّمَانِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِ الشَّيْءِ، فِي يَدِهِ وَتَعَلُّقِ الْغُرْمِ بِذِمَّتِهِ صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَفِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ كَالْإِبْرَاءِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ - فَعَلَى هَذَا إِذَا ادَّعَى رَدَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ كَالْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ ضَمَانُهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ - فَعَلَى هَذَا إِنِ ادَّعَى رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ صَاحِبُهُ لَهُ قَدْ طَلَبْتُهُ مِنْكَ فَمَنَعْتَنِي فَأَنْتَ ضَامِنٌ فَهُوَ مُدَّعٍ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَحَوَّلَتْ مَضْمُونَةً وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَنَعَهُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا. فَقَالَ الْوَكِيلُ: مَنَعْتُكَ مَعْذُورًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ. وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: مَنَعَتْنِي غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مُمْكِنًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ فِي انْتِقَالِهِ عَنِ الْأَمَانَةِ إِلَى الضمان. وبالله التوفيق. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ مَتَاعِي وَقَبَضْتَهُ مِنِّي فَأَنْكَرَ ثُمَّ أَقَرَّ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ مِنَ الْأَمَانَاتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْوَكَالَةَ وَقَبْضَ الْمَتَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْوَكَالَةِ وَقَبْضِ الْمَتَاعِ، صَارَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُحُودِ عَنِ الْأَمَانَةِ فَصَارَ كَجَاحِدِ الْوَدِيعَةِ، فَلَوِ ادَّعَى بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ تَلَفَهَا أَوْ رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ مَالًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ مُكَذِّبًا لِهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ. وَهَكَذَا لَوْ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَتَاعِ فَادَّعَى تَلَفَهُ أَوْ رَدَّهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ، فَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِرَدِّهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ بِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ جُحُودِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا بِسَابِقِ إِنْكَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّ بَيِّنَتَهُ مَقْبُولَةٌ لِتَقَدُّمِ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَى الْجُحُودِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ. وَالْوَجْهُ الأول أصح. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ مَتَاعِي فَبِعْتَهُ فَقَالَ مالك عندي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 شَيْءٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ صَدَقُوا وَقَدْ دَفَعْتُ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ لِأَنَّ مَنْ دَفَعَ شَيْئًا إِلَى أَهْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ أَمَانَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ فِي مَتَاعٍ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ لِيَبِيعَهُ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ أَوْ لَيْسَ لَكَ فِي يَدِي حَقٌّ. فَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ فِي الدَّعْوَى، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينٍ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَكُلُّ مَنِ ادَّعَى عليه مال فِي يَدَيْهِ وَذَكَرَ الْمُدَّعِي سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْكِرًا أَنْ يُجِيبَ بِأَحَدِ جَوَابَيْنَ. إِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا أَخَذْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْوَدِيعَةَ وَلَا غَصَبْتُكَ هَذَا الْمَالَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا لَكَ قِبَلِي حَقٌّ. فَكِلَا الْجَوَابَيْنَ مُقْنِعٌ فِي إِنْكَارِ الدَّعْوَى وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ وَصِفَةُ إِحْلَافِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ: فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ بِأَنْ قَالَ لَيْسَ لَكَ قِبَلِي حَقٌّ. أُحْلِفَ عَلَى مَا أَجَابَ بِاللَّهِ أَنَّ مَا لَهُ قَبَلَهُ حَقٌّ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُحْلِفَهُ مَا أَخَذَ وَدِيعَتَهُ أَوْ مَا غَصَبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَّكَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ اسْتَوْفَى ثَمَنَهُ فَلَا يَكُونَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ وَيَحْنَثُ إِنْ حَلَفَ مَا اسْتَوْدَعَ وَلَا غَصَبَ. وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: مَا غَصَبْتُكَ أَوْ قَالَ: مَا أَخَذْتُ وَدِيعَتَكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ إِحْلَافِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ احْتِرَازًا مِمَّا ذَكَرْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا أَجَابَ بِاللَّهِ مَا غَصَبَهُ وَلَا أَخَذَ وَدِيعَتَهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ الِاحْتِرَازَ فِي جَوَابِهِ يَنْفِي التَّوَهُّمَ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَوَابَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مُقْنِعٌ، فَحَلَفَ ثُمَّ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِقَبْضِ الْمَالِ أَوْ عَادَ فَأَقَرَّ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَهُ أَوْ رَدَّ ثَمَنِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا لِأَمْرَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا ادَّعَاهُ فِي الثَّانِي مُطَابِقٌ لِمَا أَجَابَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَنْ رَدَّ الشَّيْءَ عَلَى مَالِكِهِ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي جَوَابِهِ الْأَوَّلِ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْمَتَاعَ كَانَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَنْ أَجَابَ بِأَنْ لَا شَيْءَ لَكَ عِنْدِي، صَارَ ضَامِنًا، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ كَذِبٌ وَجُحُودٌ، فَصَارَ ضَامِنًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 (مسألة) قال المزني رضي الله عنه " وإن أمر الموكل الوكيل أن يدفع مالا إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لَمْ يقبل منه إلا ببينة واحتج الشافعي في ذلك بقول الله تعالى {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} وبأن الذي زعم أنه دفعه إليه ليس هو الذي ائتمنه على المال كما أن اليتامى ليسوا الذين ائتمنوه على المال وقال الله جل ثناؤه {فإذا دفعتم إليهم أموالهم} الآية وبهذا فرق بين قوله لمن ائتمنه قد دفعته إليك يقبل لأنه ائتمنه وبين قوله لمن لم يأتمنه عليه قد دفعته إليك فلا يقبل لأنه الذي ليس ائتمنه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِدَفْعِ مَالٍ إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى الْوَكِيلُ الدَّفْعَ وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ الْقَبْضَ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوِ ادَّعَى دَفْعًا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، فَوَكِيلُهُ فِي دَفْعِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ. وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى حَقِّهِ فِي مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِدَيْنِهِ. وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِهِ. فَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّفْعِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَمِينًا لَهُ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ لِلْمُوصِي وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي دَفْعًا إِلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِهِ مَالَهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] لِأَنَّ غَيْرَ الْأَيْتَامِ ائْتَمَنُوهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْأَوْصِيَاءِ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْوَصِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ مال يتيم إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، لِأَنَّ الِائْتِمَانَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. فَكَذَا قَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ مُوَكِّلِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى غَيْرِ مُؤْتَمَنِهِ. إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْتَمَنُ مُوصِيًا مَاتَ أَوْ مُوَكِّلًا بَاقِيًا. فَأَمَّا إِنْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا لِلدَّفْعِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ مَعَ تَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ كَمَا كَانَ ضَامِنًا مَعَ تَكْذِيبِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَقَدْ فَرَّطَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ يَقْتَضِي دَفْعًا يُبْرِئُهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ جَوَازِ الْجَحُودِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ فَصَارَ الْوَكِيلُ بِتُرْكِ الْإِشْهَادِ مُفَرِّطًا فَيَضْمَنُ بِهِ كَمَا يَضْمَنُ بِالْخِيَانَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لِدَفْعِ الْوَكِيلِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَكِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا حَضَرَ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ الْمُسْتَوْثِقَ لِنَفْسِهِ بِالْإِشْهَادِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَكِيلِ تَفْرِيطٌ يَضْمَنُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَيَلْزَمُهُ فِي الدفع الإشهاد لأن ما كان من شروطه مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ مَعَ حُضُورِهِ، وَلَيْسَ مَا أَنْفَقَ مِنْ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ بِمُسْقِطٍ لِحَقِّ الِاسْتِيثَاقِ عَنِ الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا مَضْمُونَةً فِي يد الموكل كالعواري والغصوب، فيدعي الْمَأْمُورُ بِالدَّفْعِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَهَا إِلَى رَبِّهَا وينكر بها ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الدَّفْعِ. وَلِصَاحِبِ الْعَارِيَّةِ وَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ تَثْبُتُ لَهُ يَدٌ عَلَى عَيْنِ مَالٍ لِرَبِّ الدَّيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْوَكِيلِ فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ وَالْغَصْبِ يَدٌ عَلَى عَيْنِ مَالِ رَبِّ الْعَارِيَّةِ وَالْغَصْبِ فَكَانَتْ يَدُ الْوَكِيلِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَالْمُوَكِّلِ. فَإِنْ رَجَعَ رَبُّ الْعَارِيَّةِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمُوَكِّلِ رَجَعَ الْمُوَكِّلُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الدَّفْعِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ وَكَانَ غَائِبًا عَنِ الدَّفْعِ، رَجَعَ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ رَجَعَ رَبُّ الْعَارِيَّةِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَرْجِعِ الْوَكِيلُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إِنْ كَذَّبَهُ وَلَا إِنْ صَدَّقَهُ وَكَانَ غَائِبًا. وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَدِيعَةً فِي يَدِ الموكل فلا يخلو حال رب الوديعة أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ المودع أَنْ يُوَكِّلَ فِي رَدِّهَا وَإِمَّا لَا. فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهِ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ وَالْمُودَعُ ضَامِنٌ لِلْوَدِيعَةِ. وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي رَدِّهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي هَذَا مَقْبُولًا عَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا لَهُ وَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُكَذِّبَهُ فِي التَّوْكِيلِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالْإِذْنِ فِيهِ. فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي الْوَكَالَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ عَنْ رَبِّ الْوَدِيعَةِ وَيَصِيرُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ عَقْدَ تَوْكِيلٍ عَلَى غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي الرَّدِّ وَيَصِيرُ الْمُودَعُ ضَامِنًا، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا غَرِمَ الْوَدِيعَةَ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي التَّوْكِيلِ، فَصَارَ ضَامِنًا لِتَفْرِيطِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَدِيعَةً لِلْمُوَكِّلِ وَيَأْمُرَ وَكَيْلَهُ بِإِيدَاعِهَا عِنْدَ رَجُلٍ، فَيَدَّعِيَ الْوَكِيلُ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ فَيُكَذَّبَ فِي دَعْوَاهُ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ، وَيُكَذِّبَهُ الْمُودَعُ فِي الْقَبْضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِتُرْكِ الْإِشْهَادِ مُفَرِّطًا وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ بَعْدَ ضَمَانِهِ بِالتَّفْرِيطِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَوِ ادَّعَى تَلَفَهَا، بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ مَقْبُولٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُودَعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَقَوْلُهُ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُودَعِ. فَإِذَا حَلَفَ الْمُودَعُ مَا تَسَلَّمَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ بَرِئَ مِنَ الدَّعْوَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُودَعُ عَلَى قَبْضِهَا مِنْهُ، وَيَدَّعِيَ تَلَفَهَا وَيُكَذِّبَهُ الْمَالِكُ الْمُوَكِّلُ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا بَرِيءٌ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمُودَعِ بِالْقَبْضِ أَقْوَى مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا بَرِئَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ بِالْإِقْرَارِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا وَلِيُّ الطِّفْلِ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ صَرَفَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَما: أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ أَوْ وَصِيَّ أَبٍ. فإن كان الولي آبا يَلِي بِنَفْسِهِ فَهُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 مَقْبُولُ الْقَوْلِ عَلَى وَلَدِهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَفِيمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، فَكَانَ بِقَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى وَلَدِهِ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِ الْحَيِّ. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَمِينَ حَاكِمٍ، فَقَوْلُهُ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ مَقْبُولٌ، وَفِيمَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي رَدِّ مَالِهِ عَلَيْهِ مَقْبُولٌ كَقَبُولِهِ فِي النَّفَقَةِ. وَهَذَا خَطَأٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَرَدِّ الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَحِينَ الْوَلَايَةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا وَرَدَّ مَالِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النَّفَقَةِ مُتَعَذِّرٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا، وَالْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ. وَهَكَذَا حَالُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ يَسْتَوِي فِيهِ مَالُ الْأَبِ وَوَلِيِّ الْحَاكِمِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَا يُقْبَلُ فِي رَدِّ الْمَالِ بَعْدَ الرُّشْدِ. وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الطِّفْلِ وَصِيًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَأَمِينِ الْحَاكِمِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّفَقَةِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَايَتَهُ بِغَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْأَبِ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي النَّفَقَةِ وَرَدِّ الْمَالِ. لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ أَمِينَ الْحَاكِمِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَاكِمِ وَقَوْلَهُ فِي رَدِّ الْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ فَكَذَا الوصي والله أعلم. (مسألة) قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ جَعَلَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا وَكَّلَهُ جُعْلًا فَقَالَ لِلْمُوَكِّلِ جُعْلِي قِبَلَكَ وَقَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ مَالَكَ فَقَالَ بَلْ خُنْتَنِي فَالْجُعْلُ مَضْمُونٌ لَا تُبَرِّئُهُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْخِيَانَةَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ تَجُوزُ بِجُعْلِ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ وَلَا يَصِحُّ الْجُعْلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. فَلَوْ قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّ جُعْلَكَ عُشْرُ ثَمَنِهِ أَوْ مِنْ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ لَمْ يَصِحَّ لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ بِجُعْلٍ مَعْلُومٍ فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ بِالْبَيْعِ يَقْتَضِي مَا صَحَّ مِنْهُ. فَصَارَ الْفَاسِدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ جُعْلًا عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 فَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَقَبَضَ ثَمَنَهُ وَتَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ لِوُجُودِ الْعَمَلِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّانِعِ إِذَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ قُصَارَتِهِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَمَلِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَجِيرِ تَسْلِيمُهُ الْعَمَلَ الْمُسْتَحَقَّ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ فَمَا لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ لَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْعِوَضِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَكِيلِ وُجُودُ الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّوْبَ فَتَلِفَ الثَّوْبُ فِي يَدِهِ، قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَبْطُلْ جُعْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ بُطْلَانَهُ بِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَصَارَ بِالْعَمَلِ مَوْجُودًا مِنْهُ وَكَانَ بِخِلَافِ وُقُوعِ الْبَيْعِ فَاسِدًا. فَلَوْ سَلَّمَ الثَّوْبَ إِلَى مُشْتَرِيهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَلِلْوَكِيلِ جُعْلُهُ لِأَنَّ بُطْلَانَهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ. فَصَارَ مَقْصُودُهُ بِالْإِذْنِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الصِّحَّةِ وَقَدْ وَجَدَ مِنَ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْعَمَلَ. أَمَّا رُجُوعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ: أَنَّهُ يُرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، دُونَ الْوَكِيلِ، لِأَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ عَلَى الْمُفْلِسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ تَأْثِيرًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْوَكَالَةِ بِالْجُعْلِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَطَالَبَ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ بِجُعْلِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَا وُكِّلَ فِي بَيْعِهِ وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّ ثَمَنَهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلِلْمُوَكِّلِ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يُنْكِرُ الْعَمَلَ الَّذِي ادَّعَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ. وَحَالَةٌ يَعْتَرِفُ بِهِ. فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَا جُعْلَ لِلْوَكِيلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى الْبَيْعِ، سَوَاءٌ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا. لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَمَلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ جُعْلًا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَعْوَاهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى ذَلِكَ، وَادَّعَى دَفْعَ الْجُعْلِ إِلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مُدَّعٍ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ جُعْلٍ تَعَلَّقَ بِهَا. فَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ عَلَى الْبَيْعِ إِنَّكَ خُنْتَنِي فِي عَمَلِكَ بِقَدْرِ جُعْلِكَ فَبَرِئْتَ عَنْهُ بِخِيَانَتِكَ وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ الخيانة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِجُعْلِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جُعْلَهُ ثَابِتٌ وَالْمُوَكِّلُ يَدَّعِي الْبَرَاءَةَ مِنْهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمِينٌ لِمُوَكِّلِهِ وَالْمُوَكِّلُ يَدَّعِي حُدُوثَ خِيَانَةٍ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ طَعَامًا فَسَلَّفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِمِثْلِهِ طَعَامًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَالطَّعَامِ لَهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ وَكَالَتِهِ بِالتَّعَدِّي وَاشْتَرَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةً لَا يُسْتَغْنَى عَنْ شَرْحِهَا وَتَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ فِيهَا لِيَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا. وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي ابْتِيَاعِ مَتَاعٍ لَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ وأم لَا. فَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ إِلَيْهِ، جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، نَاوِيًا بِهِ أَنَّهُ لِمُوَكِّلِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ وَاقِعًا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَقَعُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ لِلْوَكِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْدِ غَيْرِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى مُتَمَلِّكِهِ كَالشُّفْعَةِ يَقَعُ الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الشَّفِيعِ. وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِعَقْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْمِلْكُ بِعَقْدِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ مُعْتَبَرًا بِالْعَاقِدَيْنِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ مِنَ الْمِلْكِ وَاقِعًا لِلْعَاقِدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ كُلَّ مَا عَقَدَ الْوَكِيلُ لِلْمُوَكِّلِ اقْتَضَى وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَابَ فِي الْعَقْدِ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ بِهِ لِلْمَعْقُودِ لَهُ دُونَ عَاقِدِهِ قِيَاسًا عَلَى وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِي الطِّفْلِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا لِلْمُوَكِّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَى لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ الْمُثَمَّنَ وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِالْمِلْكِ لِلْمُوَكِّلِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُوَكِّلُ بِالْعَقْدِ قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشُّفْعَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الشَّفِيعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالثَّمَنِ فَسَنَذْكُرُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ فكذا موجبه في الملك واقعا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ وَبِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِدْلَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يَسْلَمُ مِنَ الْكَسْرِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ يَكُونُ وَاقِعًا بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَلِلْوَكِيلِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ فَيَقُولُ: قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ فَيَكُونَ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ. وَالثَّانِي لَا يلزمه ضمانه لأنه غير مالكه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْوَكِيلُ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ، وَلَكِنْ يَنْوِي بِقَلْبِهِ أَنَّ الشِّرَى لِمُوَكِّلِهِ. فَعَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ. وَهَلْ يَصِيرُ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ الثَّمَنُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ بِهِ أَوِ الْمُوَكِّلِ. فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَرِئَا مَعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ الْوَكِيلَ وَحْدَهُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَبْلَ أَدَائِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَدَائِهِ عَنْهُ، فَإِنْ أَدَّاهُ الْوَكِيلُ عَنْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَكِيلَ قَدِ اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ بِهِ قَبْلَ أدائه، وإن أبرء الْوَكِيلَ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ دَفَعَ بِالثَّمَنِ عَرْضًا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ دُونَ قِيمَةِ الْعَرْضِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ عَرْضًا رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَةِ الْعَرْضِ. فَلَوْ أَرَادَ الْوَكِيلُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُوَكِّلَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَبْتَعْهُ مِنْهُ. (فَصْلٌ) فَإِنْ جَحَدَ الْمُوَكِّلُ إِذْنَهُ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِهِ وَلَا يَلْزَمُ الشِّرَى. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ الْمُوَكِّلَ فِي عَقْدِ الشِّرَى أَمْ لَا. فَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ نُظِرَ حَالُ الْبَائِعِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَإِنْ كَذَّبَ الْوَكِيلَ فَهَلْ يَصِيرُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ هَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ مَعَ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ لَهُ أم لا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَكِيلُ قَدْ ذَكَرَ مُوَكِّلَهُ فِي عَقْدِ الشِّرَى نُظِرَ فِي حَالِ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَذَّبَ الْوَكِيلَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ فَالشِّرَى لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْإِذْنِ فَفِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوَكِّلِ هَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لِلْوَكِيلِ فِي الْتِزَامِ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا قِيلَ يَبْطُلُ الشِّرَى سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ أَدَّاهُ. وَإِذَا قِيلَ بلزوم الشِّرَى لِلْوَكِيلِ فَهَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا لَهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَزِيَادَةَ ثَمَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي يَدِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ مَا أَدَّاهُ فِي ثَمَنِهِ. فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ لَمْ يَمْلِكِ الزِّيَادَةَ وَلَا فَاضِلَ الْكَسْبِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَبُ الطِّفْلِ وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا اشْتَرَيَا شَيْئًا لِلطِّفْلِ أَوِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ اسْمَ الطِّفْلِ، كَانَ الْأَبُ وَالْوَلِيُّ ضَامِنَيْنِ لِلثَّمَنِ، وَلَا يَضْمَنُهُ الطِّفْلُ فِي ذِمَّتِهِ وَيُؤَدِّيَا ذلك من ماله، وإن ذكر اسْمَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْهُمَا ضَمَانٌ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ أَنْ شِرَى الْوَلِيِّ لَازِمٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَلْزَمِ الْوَلِيَّ ضَمَانُهُ. وَشِرَى الْوَكِيلِ يَلْزَمُ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَلَزِمَ الْوَكِيلَ ضَمَانُهُ. فَهَذَا أَحَدُ فَصْلَيِ الْمُقَدِّمَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمُقَدِّمَةِ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الْمُوَكِّلُ مَالًا إِلَى وَكِيلِهِ لِيَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِهِ. فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْمَالَ عَبْدًا فَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بِعَيْنِ مَالِ مُوَكِّلِهِ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْ لِلْمُوَكِّلِ وَكَانَ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بِعَيْنِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَهُوَ في كلا الحالين لازم للموكل. وبنا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِتَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عِنْدَنَا فِي الْعُقُودِ كَمَا تَتَعَيَّنُ فِي الْغُصُوبُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُودَعِ وَمَالُ الْوَدِيعَةِ مُتَعَيَّنٌ وَكَذَا مَا بِيَدِ الْوَكِيلِ مُتَعَيَّنٌ. وَإِذَا تَعَيَّنَ مَا بِيَدِهِ لِمُوَكِّلِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَى مَحْمُولًا عَلَى مُوجِبِ إِذْنِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ ويفقد الْمَالَ فِي ثَمَنِهِ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ صَحَّ، وَكَانَ لَازِمًا لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي إِفْصَاحِهِ: أَنَّ الشِّرَى جَائِزٌ وَهُوَ لِلْمُوَكِّلِ لَازِمٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَحْوَطُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ الشِّرَى بَاطِلٌ، لَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّمَنِ. فَصَارَ فِعْلُ الْوَكِيلِ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ. فَلَوِ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ وَاشْتَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ثم نقد الثمن من عنده بري الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مِنْهُ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِنَقْدِ هَذَا المال في الثمن يتضمن نَهْيًا عَنْ نَقْدِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْإِذْنَ فِي الشِّرَى عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ. فَيَقُولُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِلتَّعْيِينِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْعَبْدِ شَاهِدٌ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ عَلَى الْعُمُومِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. فَهَذَا شَرْحُ الْمُقَدِّمَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَعَامًا، فَتَسَلَّفَ الْمَالَ قَرْضًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالِهِ طَعَامًا. فَالشِّرَى غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَذِنَ فِي الشِّرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الشِّرَى لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِذْنُ بِالْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِتَلَفِ الْمَالِ وَاسْتِهْلَاكِهِ بَاطِلَةٌ لِانْعِقَادِهَا بِهِ. وَإِذَا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ فَعَقْدُهُ لَازِمٌ لِنَفْسِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ. فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَسْتَهْلِكِ الْمَالَ وَلَكِنْ تَعَدَّى فِيهِ تَعَدِّيًا صَارَ لَهُ بِهِ ضَامِنًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْعَزِلُ بِتَعَدِّيهِ عَنِ الْوَكَالَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْعَزِلُ عَنِ الْوَكَالَةِ بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ كَالْمُودَعِ الَّذِي يَنْعَزِلُ بِالتَّعَدِّي عَنِ الْوَدِيعَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ مُوَكِّلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا يَنْعَزِلُ عَنْهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ كَالْمُرْتِهَنِ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 (فَصْلٌ) فَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ابْتَعْ لِي مِنْ مَالِكِ عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ ثُمَّ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْضٌ فِيهِ وَكَالَةٌ. فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ كَانَ فَاسِدًا لِأَنَّ الْقَرْضَ الْمَجْهُولَ بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَقْدُ وَكَالَةٍ فِيهِ قَرْضٌ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ كَانَ جَائِزًا، لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ الْمُوَكِّلُ عَلَى قَدْرِ ثَمَنِهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: قَدْ أقرضتك ألف على أن ما رزق الله تعالى فيها من ربح فهو بيننا نصفين. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ قَرْضٌ فَاسِدٌ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَلَهُ الرِّبْحُ دُونَ الْمُقْرِضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ دُونَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَابِلُ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ، فَيَصِحَّ وَيَكُونَ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُعْتَبَرَ حَالُ زَيْدٍ الْمُشْتَرَى لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ وَأَذِنَا فِيهِ كَانَ الشِّرَى لِلْعَاقِدِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زِيدٌ هُوَ الْعَاقِدَ دُونَ الْقَابِلِ الضَّامِنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِزَيْدٍ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَالثَّمَنُ عَلَى الضَّامِنِ. وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة لِأَنَّ لِلثَّمَنِ مَحَلًّا قَدْ ثَبَتَ فِيهِ فَلَمْ يَفْتَرِقْ حُكْمُ ثُبُوتِهِ في ذمة المشتري. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الشِّرَى بَاطِلٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مَا أَوْجَبَ بِتَمْلِيكِ الْمَبِيعِ عِوَضًا. وَهَذَا عَقْدٌ قَدْ خَلَا عَنْ عِوَضٍ عَلَى الْمَالِكِ بِهِ فَكَانَ بَاطِلًا. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْ عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى زَيْدٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ عَلَيَّ دُونَهُ فَفَعَلَ كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي حنيفة وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي أَلْفٌ وَالضَّامِنَ خَمْسُمِائَةٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَاطِلٌ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ بِعْ عَبْدَكَ هَذَا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَا ضَامِنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا فَبَاعَهُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَكُونُ الضَّمَانُ في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 الْخَمْسِمِائَةِ لَازِمًا لِلضَّامِنِ، عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: إن يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ ضَمَانَهَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ضَمِنَهَا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لَعَبْدِ غَيْرِهِ: اشْتَرِ لِي نَفْسَكَ مِنْ سَيِّدِكَ فَاشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَمْرِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الشِّرَاءُ جَائِزٌ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِلْكًا لِلْآمِرِ. وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ بِالْعَقْدِ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لِلْوَكِيلِ لَعَتَقَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ مَلَكَ نَفْسَهُ وَهُوَ لَا يُعْتِقُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى سيده فصار السيد مبايعا لنفسه. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ وَلَا الْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَدْ تَكُونُ فِي أَرْبَعَةِ أوجه: - أحدهما: مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ عَلَى ابْنِهِ الطِّفْلِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِلِحَاكِمْ أَوْ أَمِينِهِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ. وَالثَّالِثُ: مِنْ جِهَةِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى الطِّفْلِ. وَالرَّابِعُ: مِنْ جِهَةِ الْوَكَالَةِ وَهُوَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ الرَّشِيدِ. فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَبِيعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَهُمْ بَيْعُهُ وَيَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا لهم شراؤه على أربعة مذاهب: - أحدهما: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِجَمِيعِهِمْ أَنْ يَبِيعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَهُمْ بَيْعُهُ وَيَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ زفر بن الهذيل أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَمِيعِهِمْ أَنْ يَبِيعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُمْ إِلَّا الْوَكِيلَ وَحْدَهُ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِمْ إِلَّا الْأَبَ وَحْدَهُ وَالْجَدُّ مِثْلُهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِهِ لِجَمِيعِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ حُصُولُ الثَّمَنِ وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 الشِّرَى حُصُولُ الْمُشْتَرِي وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُ مَنْ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ. فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ حُصُولِ الثَّمَنِ مِنَ النَّائِبِ وغيره الحصول الْمَقْصُودِ فِي الْحَالَيْنِ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْأَبِ بِعِلَّةِ أن كل من جاز له بَيْعُ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالْأَبِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ جَوَازَهُ لِجَمِيعِهِمْ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى تَغْلِيبِ حَظِّ نَفْسِهِ عَلَى حَظِّ غَيْرِهِ وَالنَّائِبَ مَنْدُوبٌ إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِمُسْتَنِيبِهِ فَإِذَا بَاعَ مِنْ نَفْسِهِ انْصَرَفَ بِجِبِلَّةِ الطَّبْعِ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ بِالنِّيَابَةِ مَعْدُومًا فَلَمْ يَجُزْ. وَقِيَاسًا عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْعَقْدِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِلْوَكِيلِ وَحْدَهُ وَأَجَازَ لِمَنْ سِوَاهُ بِأَنَّ نِيَابَةَ الْوَكِيلِ عَنْ جَائِزِ الْأَمْرِ فَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ. فَصَارَ أَنْقَصَ حَالًا مِنْ ذِي الْوَلَايَةِ، فَجَازَ لِلْوَلِيِّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ كَالْأَبِ. وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ ذِي الْوَلَايَةِ مِنَ الْوَكِيلِ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ لِضَعْفِ سَبَبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ فَأَرَادَ الْوَصِيُّ بَيْعَ فَرَسٍ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ جَوَازِهِ فَقَالَ لَهُ لَا. وَلَيْسَ نَعْرِفُ لَهُ مخالف مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّ جِبِلَّةَ الطَّبْعِ تَصْرِفُهُ عَنْ حَظِّ غَيْرِهِ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ من كانت ولايته بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ لَهُ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ هُوَ أَنَّ الْأَبَ مَجْبُولٌ بِحُنُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَشِدَّةِ الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ عَلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلَدِهِ وَالشُّحِّ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ لِوَلَدِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ مَجْبَنَةٌ فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي مُبَايَعَةِ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِيمَنْ عَدَاهُ فَصَارَ هَذَا الْحُكْمُ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَعْنَاهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ مُنْتَفِيًا عَمَّنْ سِوَاهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ فَلَوْ وَكَّلَ الِابْنُ الْبَالِغُ أَبَاهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى نَفْسِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي حَجْرِهِ وَتَغْلِيبًا لَحُكْمِ الْأُبُوَّةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَجْرِ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ الْوَكَالَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْوَصِيُّ وَالْوَكِيلُ إِذَا أَرَادَا بَيْعَ مَا يَتَوَلَّيَاهُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ عَلَى ابْنِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى أَبِ نَفْسِهِ. فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبَايِعٍ لِنَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي الْمَيْلِ إِلَى وَلَدِهِ، كَمَا كَانَ مَتْهُومًا فِي الْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لِوَلَدِهِ، كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ. فَلَمْ تَجُزْ مُبَايَعَةُ وَلَدِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ كَمَا لَمْ تَجُزْ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْمُوَكِّلُ إِلَى وَكِيلِهِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ الْمَقْصُودِ وَتَنَافِي الْغَرَضَيْنِ. لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْصَاءَ لِمُوَكِّلِهِ وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ انْصَرَفَ إِلَى الِاسْتِقْصَاءِ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى زَوْجَتِهِ الطَّلَاقَ لِنَفْسِهَا أَوْ، إِلَى أَمَتِهِ عِتْقَهَا. وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ والطلاق والعتق في ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ فِي الْبَيْعِ ثَمَنًا يَخْتَلِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَصَارَ بِالْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ مَتْهُومًا فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ثَمَنٌ تَصِيرُ بِالْمَيْلِ إِلَى نَفْسِهَا مَتْهُومَةً فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ أوسع لوقوعها بالصفات وتعليقها عَلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ وَالْبَيْعِ أَضْيَقُ حُكْمًا مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ قَبُولٌ مُعْتَبَرٌ، وَفِي الْبَيْعِ قَبُولٌ مُعْتَبَرٌ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ قَابِلًا. فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَهُ الْآخَرُ فِي شِرَى الْعَبْدِ الْمُوَكَّلِ فِي بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَنَافِي الْمَقْصُودِ فِي الْعَقْدَيْنِ. وَكَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْدَى الْوَكَالَتَيْنِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَسْبَقِهِمَا فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ جَازَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا كَانَ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ شَرْطَ الْأُولَى يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الثَّانِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لا تلزم فلم يكن للمتقدمة منهما تأثيرا وتبطل بقبول الثانية. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَمَنْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَفٌ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلِلْمُوَكِّلِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ بِبَيْعِهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ إِطْلَاقٍ وَحَالَةُ تَقْيِيدٍ. فَأَمَّا حَالَةُ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لِوَكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ. فَعَلَى الْوَكِيلِ فِي بَيْعِهِ ثَلَاثَةُ شروط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ. فَإِنْ عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ. فَإِنْ بَاعَهُ بِمُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو حنيفة: هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَجَلٍ كَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا وَلِمُوَكِّلِهِ لَازِمًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ الْبَيْعِ وَتَخْصِيصُ الْمُطْلَقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَالْمُطْلَقِ مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْبَيْعِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَعَلَى الْمُؤَجَّلِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَأْذُونٌ فِيهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِالْمُعَجَّلِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِأَنَّهُ بَيْعٌ بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ فَصَحَّ كَالْمَبِيعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بِبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِهِ جاز البيع الْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ بِهِ، قِيَاسًا عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ إِلَى أَجَلٍ بِأَنَّ الْأَجَلَ مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يملكها قياسا الوكيل على خيار الثلاث. وهذا خطأ كله والدليل على ما قلنا في الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ بَيْعَهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَ بغير نقد البلد، ولم يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِوَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ. وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبْتَاعَ بِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ بِهِ قِيَاسًا عن الْبَيْعِ بِغَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَبِالْمُحَرَّمَاتِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ لَمْ يجز بيعه بالدنانير. ولو كلا كل النَّقْدَيْنِ سَوَاءً، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا غَالِبًا لَزِمَ الْوَكِيلَ بَيْعُهَا بِأَحَظِّهِمَا لِلْمُوَكِّلِ فَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَ حِينَئِذٍ مُخَيَّرًا فِي بَيْعِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِنْ بَاعَهُ بِكِلَا النَّقْدَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ صَحَّا جَمِيعًا إِذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ " كَمَا جَازَ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْدَيْنِ ". وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ غَالِبَ الْبِيَاعَاتِ تَتَنَاوَلُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنَ الْأَثْمَانِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَالِبِهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (فَصْلٌ) وَالدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْطِ الثَّانِي وَأَنَّ بَيْعَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَنْ وَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكِ الْمُحَابَاةَ فِيهِ كَالْوَصِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَلِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَالْهِبَةِ لِاعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ. فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ هِبَةُ المال أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 بَعْضِهِ. لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ اسْتَهْلَكَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْهِبَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْمِثْلَ مُعْتَبَرٌ وَأَنَّ الْبَيْعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بمثله باطل فالاعتبار بالغبن عُرْفُ النَّاسِ فِي مِثْلِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ حَدُّ الْغَبْنِ فِي البيوع والثلث فصاعدا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. وَقَالَ أبو حنيفة حَدُّ الْغَبْنِ نِصْفُ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي زِكْوَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَكُونُ غَبْنًا كثيرا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، فَمِنَ الْأَجْنَاسِ مَا يَكُونُ رُبُعُ الْعُشْرِ فِيهِ غَبْنًا كَثِيرًا وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيهِ غَبْنًا يَسِيرًا كَالرَّقِيقِ وَالْجَوْهَرِ وَالطُّرَفِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعَ اخْتِلَافِهِ فِي عُرْفِهِمْ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَيْهِمْ فما كان في عرفهم غبنا كثيرا بطلنا وما كان فيه غبنا يسيرا أمضين أن البيوع لا تنفك من يسير المفانيات لِأَنَّهَا أَرْبَاحُ التِّجَارَاتِ. فَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا. وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ فَإِنْ سَلَّمَهُ صَارَ بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنًا وَلَزِمَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا. فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا. أَمَّا الْمُشْتَرِي فَضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ قَابِضٌ عَنْ عَقْدِ بَيْعٍ فَاسِدٍ. وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا غَبَنَ فِيهِ مِنْ قَدْرِ الْمُحَابَاةِ لأنه بد فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ. وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَكِتَابِ الرَّهْنِ مَا يُقْنِعُ. (فَصْلٌ) وَالدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَأَنَّ بَيْعَهُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ لَا يَجُوزُ هُوَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْبَيْعِ يَدْخُلُ تَارَةً فِي الْمُثَمَّنِ فَيَصِيرُ سِلْمًا وَتَارَةً فِي الثَّمَنِ فَيَصِيرُ دَيْنًا. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُدْخِلَ الْأَجَلَ فِي الْمُثَمَّنِ فَيَجْعَلَهُ سِلْمًا. لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْخِلَ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ فَيَجْعَلَهُ دَيْنًا. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ تَأْجِيلُ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنَ الْوَكِيلِ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ قِيَاسًا عَلَى تَأْجِيلِ الْمُثَمَّنِ. وَلِأَنَّ الْأَجَلَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْمَالِكَ فِي عَقْدِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ صَرِيحٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ. لِأَنَّ إِطْلَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْآخَرِ وَسَوَاءٌ طَالَ الْأَجَلُ أَوْ قَصُرَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْقَوْلِ وَارْتِبَاكٌ فِي الدَّعْوَى بَلِ الْإِطْلَاقُ فِي الْإِذْنِ يَقْتَضِي الْعُرْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِذْنِ بِالشِّرَاءِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَشْرِيَةِ وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ بِالْبَيْعِ لَا يَقْتَضِي عموم البيوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعُرْفَ الْمَعْهُودَ يَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ فِي الْغَبْنِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْغَبْنُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشِّرَاءِ فَكَذَا فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ فِي الْأَجَلِ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي جَوَازِهِ لِلْوَكِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ مِنَ الْوَكِيلِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الدَّلِيلُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ مُنْتَقَضٌ بِالْأَجَلِ فِي الثَّمَنِ ثُمَّ فِي الْمَعْنَى فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ مَلَكَهُ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ. فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ مَعَ إِطْلَاقِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا حَالَةُ التَّقْيِيدِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الْمُوَكِّلِ فِي الْبَيْعِ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْمُوَكِّلُ فِي بَيْعِ وَكِيلِهِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ وَكَالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَكَالثَّمَنِ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَبْطُلُ الْعَقْدُ مَعَهَا. فَقَدْ صَارَ الْمُوَكِّلُ بِهَا آذِنًا لِوَكِيلٍ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. فَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَصِحُّ وَإِنْ رَضِيَ الْمَالِكُ بِفَسَادِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إِقْبَاضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ لِلْإِذْنِ بِهِ. وَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بَيْعًا جَائِزًا لِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ لَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: بَيْعُهُ جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَيْعَ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ سَقَطَتْ مِنْ إِذْنِهِ وَصَارَ الْإِذْنُ مُجَرَّدًا عَنِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَالدَّلَالَةُ عن بُطْلَانِ بَيْعِهِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَإِذَا بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا صَارَ مُزِيلًا لِمِلْكِهِ عَمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً فَوَهَبَهَا أَوْ أَعَارَهُ عَارِيَةً فَبَاعَهَا. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْمُوَكِّلُ فِي بَيْعِ وَكِيلِهِ يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ. فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَلَا يَتَجَاوَزَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بِالْمُجَاوَزَةِ مَوْجُودًا مَعَ زِيَادَةٍ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ. وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّرْطُ عَلَى ضربين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَصَّ بِأَحْوَالِ الْعَقْدِ وَالثَّانِي أَنْ يَخْتَصَّ بِصِفَاتِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِأَحْوَالِ الْعَقْدِ فثلاثة أشياء: أحدهما: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ. فَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلَازِمٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى بَيْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ، فَلَمْ يَصِحَّ عُدُولُ الْوَكِيلِ عَنْهُ كَالْهِبَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى وَارِثِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِ وَارِثِهِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَامْتَنَعَ مِنَ ابْتِيَاعِهِ لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ، فَلَازِمٌ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا بَعْدَهُ. أَمَّا قَبْلَهُ فَلِأَنَّ وَقْتَ الْإِذْنِ لَمْ يَأْتِ. وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِالْفَوَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ إِلَى زَمَانٍ بِعَيْنِهِ. فَأَمَّا إِذْنُهُ بِبَيْعِهِ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ أَوْ جَوْدَةِ النُّقُودِ. فَهُوَ شَرْطٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ. فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فهو بِالتَّسْلِيمِ ضَامِنٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ غَرَضٌ صَحِيحٌ. وَلَا مَعْنًى مُسْتَفَادٌ نُظِرَ فِي صِفَةِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَالَ: لَا تَبِيعُوا إِلَّا فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ فِي سُوقِ كَذَا لَزِمَ وَكَانَ الْبَيْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بَاطِلًا لِصَرِيحِ النَّهْيِ عَنْهُ. وَإِنْ قَالَ بِعْهُ فِي سُوقِ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَمَّا سِوَاهُ. فَفِي لُزُومِ اشْتِرَاطِهِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِأَحْوَالِ إِذْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِفَسَادِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْعَقْدِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا اخْتَصَّ بِجِنْسِ الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِقَدْرِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَصَّ بِزَمَانِهِ فِي حُلُولِهِ وَأَجَلِهِ. فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِجِنْسِ الثَّمَنِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْ عَبْدِي بِدَرَاهِمَ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 يَبِيعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مِنْ غَالِبِ النُّقُودِ أَمْ لَا فَلَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِحِنْطَةٍ فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ حِنْطَةً. لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. وَشِرَاءَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. فَلَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ حِنْطَةً فَبَاعَ الْعَبْدَ بِالْحِنْطَةِ. لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ جِنْسٌ لَمْ يَأْذَنْ بِبَيْعِ الْعَبْدِ فِيهِ وَهَكَذَا لَوْ قال بع عبدي بماية درهم فباعه بماية دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِقَدْرِ الثَّمَنِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْ عَبْدِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَلَوْ بِقِيرَاطٍ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا لِحُصُولِ الْمِائَةِ الَّتِي أَرَادَهَا، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا زِيَادَةُ حَظٍّ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْمِائَةِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى غَيْرِهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْقَدْرِ صَارَ مُسَامِحًا لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. فَلَوْ بَاعَ نصف العبد بماية دِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ. لِأَنَّ بَقَاءَ نِصْفِ الْعَبْدِ مَعَ حُصُولِ الْمِائَةِ الَّتِي أَرَادَهَا أَحَظُّ. فَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ لَمْ يَجُزْ لِتَفْوِيتِ مَا أَرَادَهُ مِنْ كَمَالِ الثَّمَنِ وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبِيدٍ فَبَاعَ كُلَّ عَبْدٍ فِي عَقْدٍ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ قَدْرَ الثَّمَنِ جَازَ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي بَيْعِ الْعَبِيدِ جَارِيَةٌ بِإِفْرَادِهِمْ فِي الْعُقُودِ. وَلَوْ ذَكَرَ قَدْرَ الثَّمَنَ فَقَالَ: بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَاعَ أَوَّلَ صَفْقَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَشْتَرِي الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِمَا بَقِيَ مِنْ تَكْمِلَةِ الْأَلْفِ. وَإِنْ بَاعَ أَوَّلَ صَفْقَةٍ مِنَ الْعَبِيدِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ جَازَ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَ حُصُولِ الْأَلْفِ؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز لأنه مَقْصُودَهُ بِالْبَيْعِ حُصُولُ الْأَلْفِ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَتِ الْوَكَالَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهَا وَبَاطِلَةً فِيمَا سِوَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبِيدِ لِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِبَيْعِهِمْ. وَلَا يَكُونُ حُصُولُ الثَّمَنِ بِكَمَالِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَانِعٍ مِنْ بَيْعِ بَاقِيهِمْ كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَلْفِ وَيَكُفَّ عَنْ بَيْعِ بَاقِيهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ. فَأَمَّا الْعَدَدُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا، وَأَمْكَنَ أَنْ تُبَاعَ صَفْقَةً وَتَفَارِيقَ فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ بَيْعِ جَمِيعِهَا صَفْقَةً أَوْ أَفْرَادٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ أَحَظِّهِمَا لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُوَكِّلِ تَصْرِيحٌ بِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِزَمَانِ الثَّمَنِ مِنْ حُلُولٍ وَتَأْجِيلٍ فَلِلْمُوَكِّلِ فِيهِ ثلاثة أحوال: - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِبَيْعِهِ نَقْدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ مُؤَجَّلًا قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كثر وسواء كان البيع النسبة أَضَرَّ أَوْ أَنَفَعَ فَلَوْ بَاعَهُ بِأَجَلٍ ثُمَّ احْتَبَسَ الْمَبِيعَ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ لم يجز لوقوع العقد فاسدا. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ أَجَلًا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَجَلًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَدَّرَ أَكْثَرَهُ بِحَوْلِ الدَّيْنِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودِ الْأَكْثَرِ بِالْحَوْلِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَنْ لَا يَصِيرَ الْأَجَلُ خَارِجًا عَنْ غَالِبِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ. فَإِنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي حَالِ الْأَثْمَانِ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ لَوْ عَدَلَ عَنْ بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ وَبَاعَهُ نَقْدًا. فَإِنْ كَانَ حِينَ أَمَرَهُ بالنسبة نَهَاهُ عَنِ النَّقْدِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ نُظِرَ فَإِنْ بَاعَهُ نَقْدًا بِمَا يُسَاوِي نِسْبَةً جَازَ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ مَعَ التَّعْجِيلِ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ النَّسِيئَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ فَضْلَ النَّسِيئَةِ. والحالة الثَّالِثَةُ: إِطْلَاقُ الْإِذْنِ وَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَقْدًا وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أبي حنيفة أَنْ يَبِيعَهُ نَسِيئَةً. (فَصْلٌ) وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدَ مُوَكِّلِهِ ثُمَّ أَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَازِمٌ لَا يُنْتَقَضُ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَ بَيِّنَةً أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَ بِذَلِكَ. فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: إِذَا تَصَادَقَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ عَلَى الْبَيْعِ بِإِذْنٍ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْبَيْعُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِتَقَدُّمِ الْإِذْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَيْتَهَا بِعِشْرِينَ فَقَالَ الْوَكِيلُ بَلْ أَمَرْتَنِي بِعِشْرِينَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ وتكون الجارية في الحكم للوكيل (قال المزني) والشافعي يحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر للمأمور فيقول إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فقل بعته إياها بعشرين ويقول الآخر قد قبلت ليحل له الفرج ولمن يبتاعه منه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا بِثَمَنٍ مُقَدَّرٍ، فاشتراها بعشرين دينار ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُوَكِّلُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بعشرة فاشتريتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 بعشرين فالشرى لَا يَلْزَمُنِي وَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ دُونِي. وَقَالَ الْوَكِيلُ: بَلْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ، فَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لَكَ وَالثَّمَنُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ. فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ حُكِمَ لَهُ بِهَا. وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ أَصْلُهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُولًا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ مَقْبُولًا فِي صِفَتِهِ كَالطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَقْبُولًا فِي أَصْلِهِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي عَدَدِهِ. فَإِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ صَارَ الْوَكِيلُ بِمَثَابَةِ الْمُشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ شِرَائِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ فَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَشْرُوحًا مِنْ قَبْلُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَارَ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ لَازِمًا لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ دَفَعَ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ، كَانَ ضَامِنًا لَهُ وَرَدَّ مِثْلَهُ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ وَأُلْزِمَ دَفْعَهُ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ. لِحُصُولِ الشِّرَاءِ لَهُ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَحِبُّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَرْفُقَ الْحَاكِمُ بِالْوَكِيلِ حَتَّى يَقُولَ لِلْوَكِيلِ إِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ فَقَدْ بِعْتُهَا عَلَيْكَ بِعِشْرِينَ. وَيَقُولُ لِلْوَكِيلِ: اقْبَلْ مِنْهُ الشِّرَاءَ بِعِشْرِينَ لِيَحِلَّ لَكَ الْفَرْقُ بِيَقِينٍ وَلِمَنْ يَبْتَاعُهَا مِنْكَ. وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إِنْ كَانَ صَادِقًا صَارَ بِهَذَا الِابْتِيَاعِ مَالِكًا. وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنَ الْمُوَكِّلِ بَيْعُ مَا هُوَ شَاكٌّ فِي تَمَلُّكِهِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُحْتَاطًا كَمَنْ شَكَّ فِي إِرْثِ مَالٍ فَبَاعَهُ وَبَانَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَرِثَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا لِلشَّكِّ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّكَّ فِي مَسْأَلَتِنَا وَاقِعٌ فِي مِلْكِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْعَاقِدِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَبَيْعُ الْمُوَكِّلِ مَعْقُودٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ أَمَرْتُكَ أَنْ تَشْتَرِيَهَا بِعِشْرِينَ فَقَدْ بِعْتُهَا عَلَيْكَ بِعِشْرِينَ وَهَذَا شَرْطٌ يَفْسُدُ مَعَهُ الْبَيْعُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُزَنِيَّ إِنَّمَا اخْتَارَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 وَالسَّبَبُ الْمَعْقُودُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَاهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَإِذَا ذَكَرَاهُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ بَلْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا مِنْ هَذَا الشَّرْطِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَعْقِدَاهُ كَذَلِكَ لأنه هكذا يَكُونُ فِي الْحُكْمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَلْفُوظًا بِهِ فِي الْعَقْدِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وصفنا فللموكل حالتان: أحدهما: أَنْ يُجِيبَ إِلَى بَيْعِهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَيَصِيرَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَبَيْعُهَا وأخذ الفضل عن ثمنها. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُجِيبَ إِلَى بَيْعِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَوْ كَانَ مَالِكًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ. وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مَالِكًا لَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي سعيد الإصطخري: أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا تَامًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ عَنِ الْمُوَكِّلِ بِيَمِينِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْوَكِيلِ بِعَقْدِهِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا. وَإِنْ بَاعَهَا مَلَكَ الْفَضْلَ مِنْ ثَمَنِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِهَا مَا غَرِمَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمُوَكِّلِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا وَإِذَا كَانَ فِي ثَمَنِهَا فَضْلٌ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ وجهي أصحابنا في من لَهُ دَيْنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَقَدْ ظَفِرَ بِمَالٍ لِغَرِيمِهِ. هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بنفسه أو الحاكم؟ على وجهين: أحدهما يبيعه بنفسه. والثاني: يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بِقَدْرِ مَا دَفَعَ نَقْدًا اسْتَوْفَاهُ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِبَاقِيهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ. وَهَلْ يَجُوزُ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ فِيهَا أَوْ يَنْزِعُهَا الْحَاكِمُ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقِرُّهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنْزِعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ قَدْ جُهِلَ مُسْتَحِقُّهُ فَصَارَ كَأَمْوَالِ الْغَيْبِ ثُمَّ يَكُونُ مُشْتَرِي الْجَارِيَةِ مَالِكَهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَلَا يَكُونُ عَدَمُ مِلْكِ الْبَائِعِ لَهَا بِمَانِعٍ مِنَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا كَالْمُشْتَرِي مِنْ وكيل في بيعها. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً فَاشْتَرَى غَيْرَهَا أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهُ غَيْرَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ وَكَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي لَا للآمر ". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً فَاشْتَرَى غَيْرَهَا أَوْ عَلَى صِفَةٍ فَاشْتَرَاهَا بِخِلَافِهَا فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعَقْدِ فَالشِّرَى لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ غَيْرَهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا. وَلَمْ يَصِرِ النِّكَاحُ لِلْوَكِيلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ أَعْيَانُ الْمُتَنَاكِحِينَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إِلَّا بِتَسْمِيَةِ الزَّوْجِ. وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِالْجَهْلِ بِقَدْرِ الصَّدَاقِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي البيع أعيان الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِلْكُ الْمَبِيعِ وَلِذَلِكَ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الْمُشْتَرِي لَهُ وَصَارَ مِلْكًا لَهُ إِذَا نَوَاهُ الْوَكِيلُ. وَبَطَلَ الْبَيْعُ بِالْجَهْلِ بِالثَّمَنِ. وَصِفَةُ خِطْبَةِ الْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي فِي تَزْوِيجِهِ بِفُلَانَةَ. فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُ فُلَانًا مُوَكِّلَكَ بِفُلَانَةَ. فَيَقُولُ الْوَكِيلُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِفُلَانٍ. ولا يصح العقد الْوَكِيلِ النِّكَاحَ إِلَّا هَكَذَا. فَصَحَّ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُنَوِّهَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَيْعِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ شَخْصٍ إلى غيره. وعقد النكاح لا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ شَخْصٍ إِلَى غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا بَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِمُخَالَفَتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ عَنْ مُوَكِّلِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ضَمِنَهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ بَاطِلًا. وَلَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَبُولِهِ الْعَقْدَ كَمَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الشراء قد يحصل له فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الثَّمَنُ وَالنِّكَاحُ لَا يَحْصُلُ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ. وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ ضَمِنَ الصَّدَاقَ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ أَمَرَهُ بِإِنْكَاحِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَنْكَرَهَا كَانَ الْوَكِيلُ غَارِمًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَانِ صَدَاقِهَا. وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ نِصْفَهُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يعين ثمنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثَمَنَهُ. كَقَوْلِهِ اشْتَرِ لِي سَالِمًا بِمِائَةِ دينار. فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: - أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِالْمِائَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِالدَّنَانِيرِ لَكِنْ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ كَأَنِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، صَحَّ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ. لِأَنَّ حُصُولَ الْعَبْدِ لَهُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ أَحَظُّ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى زَيْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَبَاعَهُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي مُحَابَاتِهِ. فَمَثَلًا إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنْ لَا يَجُوزَ الشِّرَاءُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي مُحَابَاتِهِ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ بِالْمِائَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ الزِّيَادَةِ. وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ قَبْضُ مَا مُنِعَ مِنْ قَبْضِهِ. وَإِذَا وُكِّلَ فِي الشِّرَاءِ بِالْمِائَةِ جَازَ الشِّرَاءُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الزِّيَادَةِ وَدَفْعُ الْوَكِيلِ الْبَعْضَ جَائِزٌ وَإِنْ مَنَعَ الزِّيَادَةَ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَا يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ اشْتَرِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَا تَشْتَرِيهِ بِخَمْسِينَ دِينَارًا جَازَ أن يشتريه بالمائة ربما بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِخَمْسِينَ لِلنَّهْيِ عَنْهَا. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْدُوبٌ إِلَى الِاسْتِرْخَاصِ إِلَّا مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنَ الْقَدْرِ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْمِائَةِ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْخَمْسِينَ دَاخِلًا فِيهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا. فَهَذَا حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ من المائة كأن اشتراه بماية وَخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ وَقِيرَاطٍ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ بِعَيْنِ الْمَالِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: الشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي عُيِّنَ عَلَيْهَا وَالْوَكِيلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 ضَامِنٌ لِلزِّيَادَةِ فِي مَالِهِ. وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا لِلْبَائِعِ لأنه يصير لمجاوزته القدر المعين مُتَطَوِّعًا بِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ الَّذِي لَزِمَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ حُكْمُهُ. وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الْمُغَابَنَةِ فِي الشِّرَاءِ مَضْمُونَةً عَلَى الْوَكِيلِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ لَكَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ الْمُغَابَنَةِ فَيَ الْبَيْعِ مَضْمُونًا عَلَى الْوَكِيلِ مَعَ لُزُومِ الْبَيْعِ لِلْمُوَكِّلِ. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَرَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْبَيْعِ. فَبَطَلَ المذهب إليه في الشراء. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بالمائة دينار صح ولزم الموكل. وإن اشتراه بمائة درهم لم يلزم الموكل وإن كانت الدراهم أقل من قيمته لأن عدوله عن جنس الثمن كعدوله عن عين العبد. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ لَا يعين العبد ولا يعين ثمنه كقوله اشتر لِي عَبْدًا فَإِنْ وَصَفَهُ صِفَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا مُرَادُهُ مِنَ الْعَبِيدِ صَحَّ. وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فِي شِرَائِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ الْوَكَالَةَ فِي شِرَاءِ أَيِّ عَبْدٍ كَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَ صَحَّ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ بِقَدْرٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ وَيَكُونُ لِلْوَكِيلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ بِوِفَاقِ أَبِي الْعَبَّاسِ هَاهُنَا. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ هُنَاكَ. فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَشَرَةِ أَعْبُدٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ صَفْقَةً وَتَفَارِيقَ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فَإِنْ قَالَ اشْتَرِهِمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ تَفَارِيقَ. فَلَوْ كَانُوا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَاهُمُ الْوَكِيلُ مِنْهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً. فَإِنْ كَانَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنْ صَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ مِنَ الْعَبِيدِ بِكَمَالِهِمْ وَلِلْآخَرِ خَمْسَةٌ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ هَذَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُمَا صَفْقَتَانِ وَهُوَ إِنَّمَا أَمَرَ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْعَقْدِ لِكُلِّ خَمْسَةٍ ثَمَنًا لَزِمَ الْوَكِيلَ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ خَمْسَةٍ مِنْهُمْ ثَمَنًا وَاحِدًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ قَوْلًا: أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلُ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه في من تَزَوَّجَ أَرْبَعًا عَلَى صَدَاقٍ بِأَلْفِ مُبْهَمَةٍ بَيْنَهُنَّ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَإِنْ كَانَ الْعَشَرَةُ كُلُّهُمْ شَرِكَةً بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَفِي لُزُومِ هَذَا الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَازِمٌ لِحُصُولِ جَمِيعِهِمْ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِ الْمَالِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَاقِدَانِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ العقدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 فأما إن اشترى الوكيل في شراء الْعَبْدِ الْوَاحِدِ نِصْفَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ عَقْدُهُ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَلَا يُعَيِّنَ ثَمَنَهُ. كَقَوْلِهِ: اشْتَرِ لِي سَالِمًا. فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ الْمَثَلِ فَمَا دُونَ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ بِوِفَاقِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَبِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ بِالثَّمَنِ الْمُقَدَّرِ. وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ فَرَّقَ أَبُو الْعَبَّاسِ بِأَنَّ الْمُعَيَّنَ عَلَى ثَمَنِهِ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ اجْتِهَادٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِهَا. وَلَهُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى ثَمَنِهِ اجْتِهَادٌ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا بِهَا. كَانَ فَرْقُهُ مُنْتَقَضًا بِالْبَيْعِ حَيْثُ بَطَلَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْمُقَدَّرِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّرِ. فَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ وَقَدِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْ أَجَزْتُهُ وَقَبِلْتُ الشِّرَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمُخَالَفَةِ قَدْ صَارَ لِلْوَكِيلِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْمُوَكِّلِ بِالْإِجَازَةِ وَالْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لِلْمُوَكِّلِ قَبُولُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ وَيَصِيرُ الْمِلْكُ لَهُ بِالْقَبُولِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ مَنْعُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَرَفَ عَقْدَ الشِّرَاءِ عَنْهُ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ نَظَرًا لَهُ فَلَمَّا سَامَحَ فِي النَّظَرِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ، قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلَا وَلَمْ يَصِحَّ بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ بِمُخَالَفَتِهِ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَمْ يَصِحَّ بِالْإِجَازَةِ. وَشِرَاءَ الْوَكِيلِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ يَكُونُ صَحِيحًا لِنَفْسِهِ فَصَحَّتْ فِيهِ الْإِجَازَةُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ وَيُعَيِّنَ ثمنه. فكقوله: اشتر لي عبدا بماية دِرْهَمٍ. فَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مُرَادُهُ مِنَ الْعَبِيدِ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ ذِكْرُ الثَّمَنِ مَقَامَ الصِّفَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الصِّفَةِ لِتَمْيِيزِ الْعَبْدِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِي ابْتِيَاعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّفَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى جِنْسٍ مِنَ الْعَبِيدِ دُونَ غَيْرِهِ فِي الْأَجْنَاسِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَكَالَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَاطِلَةً. وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ إِطْلَاقَهَا مِنْ أَصْحَابِنَا جَائِزَةً. فَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدَ بِالْمِائَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَنَصَّ عَلَيْهَا وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً صَحَّ. وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ، وَهُوَ يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِلْمُخَالَفَةِ فِيهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَلَا يُسَاوِي الْمِائَةَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةً. فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي الْمِائَةَ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَهُ بِالْمِائَةِ كَانَ بِمَا دُونَهَا أَلْزَمَ لَهُ. فَلَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى لَهُ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ. فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ لَا يُسَاوِي مِائَةً فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ للموكل. وإن كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي مِائَةً فَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدَيْنِ بِالْمِائَةِ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْمِائَةِ كَانَ بِهِمَا أَرْضَى. وَلِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ حَيْثُ وَكَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُوَكِّلَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمَا بِقِسْطِ ثَمَنِهِ مِنَ الْمِائَةِ لِأَنْ لَا يَلْتَزِمَ بِمِلْكِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ. فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ يُسَاوِي مِائَةً وَالْآخَرُ يُسَاوِي أَقَلَّ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَأْخُذُهُمَا جَمِيعًا بِالْمِائَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الَّذِي يُسَاوِي الْمِائَةَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُسَاوِي مِائَةً فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ. (مَسْأَلَةٌ) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِقَبْضِهِ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ وَتَلِفَ وَأَنْكَرَ رَبُّ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فَإِذَا أُغْرِمَ الدَّافِعُ لَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَكِيلٌ بَرِيءٌ وَإِنْ أُغْرِمَ الْقَابِضُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أنه مظلوم بريء ". قال الماوردي: وصورتها في من غَابَ وَلَهُ مَالٌ عَلَى رَجُلٍ أَوْ فِي يَدِهِ فَحَضَرَ رَجُلٌ ادَّعَى وَكَالَةَ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ مَالِهِ. فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فِي الْوَكَالَةِ بَيِّنَةً عَادِلَةً حُكِمَ بِهَا. وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِأَبِيهِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ مِنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِأَبِيهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ بِهَذَا الدَّفْعِ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِيهِمَا ابْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى أَبِيهِ لَا لَهُ. فَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالْوَكَالَةِ أَجْبَرَ الْحَاكِمُ مِنْ عَلَيْهِ الْمَالُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَى الْوَكِيلِ. لِأَنَّ لصاحب الحق أن يستوفيه بنفسه إن شاءه أو بوكيله إن شاءا وليس لمن هو عليه أن يمتنع في تَسْلِيمِهِ إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَكَالَةِ بَيِّنَةٌ يُثْبِتُ بِهَا الْوَكَالَةَ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مُدَّعِي الْوَكَالَةِ. سَوَاءٌ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ أَوْ كَذَّبَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ إِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَزِمَهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ كَالْمُصَدِّقِ لِمُدَّعِي مِيرَاثِ رَبِّ الْمَالِ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ دَفْعٌ لَا يُبَرِّئُهُ مِنْ حَقِّ الْوَكِيلِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْوَكَالَةِ وَمَنْ لَمْ يَبْرَأْ بِالدَّفْعِ عِنْدَ إِنْكَارٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ بِوَثِيقَةٍ فَلَهُ الِامْتِنَاعُ عَنِ الدَّفْعِ إِلَّا بِإِشْهَادِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فَفِي جَوَازِ امْتِنَاعِهِ مِنَ الدَّفْعِ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ لأن لا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ يَمِينٌ عِنْدِ ادِّعَائِهِ بَعْدَ دَفْعِهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَقِّ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ الْحَقَّ بَعْدَ أَدَائِهِ حَلَفَ بَارًّا. وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي هُوَ تَعْلِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَمُدَّعٍ عَقْدَ وَكَالَةٍ لِغَيْرِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَوْ أَقَرَّ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّ هَذَا الْحَاضِرَ وَصِيُّهُ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ لَمْ يَلْزَمْ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فَكَذَا الْوَكِيلُ فَأَمَّا اعْتِرَافُهُ لِلْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ أَنَّهُ مُقِرٌّ لِلْوَارِثِ بِالْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ الدَّفْعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَبْرَأُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَصِيرُ الْوَكِيلُ مَالِكًا وَلَا يَبْرَأُ بِقَبْضِهِ مِنَ الْحَقِّ. فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ أَحَالَ هَذَا الْحَاضِرَ بِهِ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ. وَالثَّانِي: لَا يُلْزِمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ عِنْدَ الْجُحُودِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهِ بِالتَّوْكِيلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَ الْوَكِيلَ أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَأَنْكَرَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ عِنْدَ أبي حنيفة وَالْمُزَنِيِّ الْيَمِينُ لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عِنْدَهُمَا مَعَ التَّصْدِيقِ. وَلَا يَجُوزُ مَعَ تَكْذِيبِهِ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ. وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَدِمَ صَاحِبُ الْحَقِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوَكَالَةِ أَوْ يُنْكِرَهَا، فإن اعترف بها بريء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالدَّفْعِ سَوَاءٌ وَصَلَ الْمُوَكِّلُ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ بِتَلَفِهِ. فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهِ ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالَةُ حَقِّهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا. فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ عَيْنًا قَائِمَةً كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ ضَامِنٌ لَهَا. أَمَّا الدَّافِعُ فَلِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ. وَأَمَّا الْقَابِضُ فَلِيَدِهِ عِنْدَ إِنْكَارِ تَوْكِيلِهِ. وَيَكُونُ رَبُّهَا بِالْخِيَارِ في المطالبة مَنْ شَاءَ بِهَا مِنَ الدَّافِعِ أَوِ الْقَابِضِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِهَا وَمُطَالَبَةُ الدَّافِعِ بِاسْتِرْجَاعِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ طَالَبَ بِهَا الدَّافِعَ وَأَغْرَمَهُ بَرِئَا. وَلَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَى الْقَابِضِ بِغُرْمِهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْقَابِضَ وَكَيْلٌ بَرِيءٌ مِنْهَا وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا وَإِنْ طَالَبَ الْقَابِضَ فَأَغْرَمَهُ بَرِئَا وَلَمْ يَرْجِعِ الْقَابِضُ عَلَى الدَّافِعِ بِغُرْمِهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهَا وَأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ بِهَا. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ فَالدَّافِعُ ضَامِنٌ لَهُ لِبَقَائِهِ فِي ذِمَّتِهِ. وَهَلْ يَكُونُ الْقَابِضُ ضَامِنًا لَهُ وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَتُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَلِصَاحِبِهِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِ حَقِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَابِضَ غَيْرُ ضَامِنٍ لَهُ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ الْقَابِضِ بِهِ. لِأَنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ حَقُّهُ فِي مَا صَارَ بِيَدِ الْقَابِضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَ الْقَابِضَ بِهِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا رَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَطَالَبَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ وَاسْتَوْفَاهُ مِنْهُ. نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَائِمًا فِي يَدِهِ رَجَعَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ بِغُرْمِهِ. لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بأنه وكيل بريء مِنْهَا وَأَنَّهُ هُوَ الْمَظْلُومُ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَإِنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ سِلْعَةٍ فَبَاعَهَا نَسِيئَةً كَانَ لَهُ نَقْضُ الْبَيْعِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا وَكَّلَهُ إِلَّا بِالنَّقْدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنٍ مِنْ مُوَكِّلِهِ وَأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الثَّمَنِ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلَّقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَرْبَعَةِ فُصُولٍ: فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فَيَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَيَشْتَرِيَ بالنسيئة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ فَيَبِيعَ بالنسيئة فللوكيل والمشتري أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَى أَنَّ إِذْنَهُ كَانَ بِالنَّقْدِ فلا يميز عَلَى الْمُوَكِّلِ لِتَصْدِيقِهِمَا لَهُ بِذَلِكَ وَيَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: وَالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ بَاطِلًا. أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَكِيلِ التَّسْلِيمُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى الْمُشْتَرِي كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنًا. أَمَّا الْوَكِيلُ فَلِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ يَدِهِ عَلَى مَا لَزِمَ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِيَةُ: قَبْضُهُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا اسْتَرْجَعَهُ الْمُوَكِّلُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَكِيلَ بِاسْتِرْجَاعِهِ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِ وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَيَرْجِعَ بِهِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهًا فِي الْقَدِيمِ. حَيْثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ: إِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا أَجَّرَ مَا غَصَبَهُ كَانَ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْإِجَارَةِ وَأَخْذِ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ فَسْخِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَجَعَلَ الْمُوَكِّلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ تَالِفًا. فَإِنْ أَمْضَيَا الْبَيْعَ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ فُسِخَ فَلَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بالقيمة وأنكر باقي أصحابنا هذا التخريج. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي وَيَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَذِنَ فِي بَيْعِ النَّسِيئَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي صِفَتِهِ. وَيَحْلِفُ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُمَا أَكْذَبَاهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. فَإِذَا حَلَفَ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا اسْتَرْجَعَهُ وَإِنْ كان تالفا يرجع القيمة عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي لِكَوْنِهِمَا ضَامِنَيْنِ بِمَا بَيَّنَّا. فَإِنْ رَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ إِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ. سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا. وَإِنْ رَجَعَ الْمُوَكِّلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَكِيلِ. فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بما زَادَ فِي الْقِيمَةِ عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مقر الْمُوَكِّلَ ظَالِمٌ بِهَا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَكِيلُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْمُكَذِّبِ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ الْقِيمَةُ. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ لِتَصْدِيقِهِ لَهُ. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ مِنَ الْيَمِينِ لتكذيبه له. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي وَيُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْمُصَدِّقِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ الْقِيمَةُ. فَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ لِتَصْدِيقِهِ لَهُ. وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينٍ لِتَكْذِيبِهِ لَهُ. هَذَا حُكْمُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أُذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَرَجَ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ أَمْ لَا. فَإِنْ نَهَاهُ صَرِيحًا عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّقْدِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ نَقْدًا بِمَا يُسَاوِي بِالنَّقْدِ. فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ فَضْلَ النَّسِيئَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يبيعه نقدا بما يساوي نسيئة كأن يُسَاوِيَ بِالنَّقْدِ مِائَةً وَبِالنَّسِيئَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَيَبِيعَهُ بِمِائَةً وَخَمْسِينَ نَقْدًا. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِحُصُولِ الزِّيَادَةِ مَعَ التَّعْجِيلِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ مَلِيٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَيْعِ النَّسِيئَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَخْرِيجُ الْبَيْعِ لِلْكَسَادِ أَوْ عَيْبٍ. وَإِمَّا طَلَبُ الْفَضْلِ فِي الثَّمَنِ وقد حصل الْأَمْرَانِ لَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ. فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ مَلِيٍّ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إِذَا عَجَّلَهُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ بِهِ الثَّمَنَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ. فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ الْعَيْنِ كَانَ مُخَالِفًا وَلَزِمَ الْوَكِيلَ. وَإِنِ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ إِلَى أَجَلٍ كَانَ بَاطِلًا وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ وَلَا الْوَكِيلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يشتري بما يساوي نسيئا وَبِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي نَقْدًا. فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 لِلْمُوَكِّلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِ فَضْلِ النَّسَاءِ وَالشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ مُوَكِّلِهِ. وَإِنْ ذَكَرَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بَاطِلٌ. وَالثَّانِي لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهُ نَسِيئَةً بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ النَّسَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ غَرَضُهُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ مَعَ تَأْجِيلِ الثَّمَنِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِمُخَالَفَتِهِ وَبَقَاءِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ النَّسَاءِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ نَقْدًا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ فَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِمَا يُسَاوِي نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِهِ تَعْجِيلَ ثَمَنٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. وَهَكَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إِلَى أَجَلٍ فَاشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ هُوَ أَقْرَبُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ. وَلَوِ اشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ هُوَ أَبْعَدُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ غَيْرُ لَازِمٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي اشْتِرَاطِ خِيَارِ الثلاث في عقده فَلَا يَشْتَرِطُهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ عقده لازما وقد أذن له في عقده غَيْرُ لَازِمٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَرْكِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَإِنْ شَرَطَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ غَيْرَ لَازِمٍ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِذْنُهُ مُطْلَقًا فَإِنْ عَقَدَهُ الْوَكِيلُ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ. وَإِنْ عَقَدَهُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ الْخِيَارَ زِيَادَةُ نَظَرٍ لَهُ وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِالْخِيَارِ يَصِيرُ غير لازم. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ فَأَصَابَ بِهَا عَيْبًا كَانَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ مَا رَضِيَ بِهِ الْآمِرُ وَكَذَلِكَ الْمُقَارِضُ وهو قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا أَمَرَ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَصِفَهُ وَلَا يُعَيِّنَهُ. فَإِنْ وَصَفَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ سَلِيمًا مِنَ الْعُيُوبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 لِأَنَّ إِطْلَاقَ الصِّفَةِ يَقْتَضِيهِ وَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يَشْتَرِيَ السَّلِيمَ وَالْمَعِيبَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ لِلْقِنْيَةِ وَلَيْسَ فِي الْمَعِيبِ صَلَاحٌ لِلْمُقْتَنِي وَشِرَاءَ الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ. وَقَدْ يُوجَدُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ كَوُجُودِهِ فِي السَّلِيمِ. فَإِنِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ عَبْدًا عَلَى الصِّفَةِ وَكَانَ مَعِيبًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِيَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ. فَالشِّرَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ لِإِقْدَامِهِ عَلَى ابْتِيَاعِ مَا لَمْ يَقْتَضِهِ الْإِذْنُ. وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْإِذْنِ فِي الْعَقْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ فَلِلْمُوَكِّلِ إِذَا عَلِمَ بِعَيْبِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ وَلَا يَلْزَمَهُ اسْتِئْذَانُ مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ رَدَّ الْمَعِيبِ فِي حُقُوقِ عَقْدِهِ. فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ أَمْهَلْتُكَ فِي رَدِّهِ فَطَالِعْ مُوَكِّلَكَ بِعَيْبٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْمُطَالَعَةُ وَكَانَ لَهُ تَعْجِيلُ الرَّدِّ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ رَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ الْمُوَكِّلُ رَاضِيًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لِرِضَاهُ بَعْدَ الرَّدِّ تَأْثِيرٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ بِالرَّدِّ قَبْلَ الرِّضَا. وَلَوْ رَضِيَ بِعَيْبِهِ قَبْلَ رَدِّ الْوَكِيلِ، لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الرَّدُّ. وَلَوْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ بِعَيْبِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ. وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِيهِ شِرْكٌ، فَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْوَكِيلِ حين أراد الرد أن موكله راض بِالْعَيْبِ فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ. فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِرِضَا مُوَكِّلِهِ بِالْعَيْبِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أنه ما علم موكله مُوَكِّلُهُ بِالْعَيْبِ. وَلَهُ الرَّدُّ وَاسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ ثُمَّ لِلْبَائِعِ إِذَا رَدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْوَكِيلِ وَظَفِرَ بِالْمُوَكِّلِ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ أَيْضًا مَا رَضِيَ بِعَيْبِ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مُوَكِّلُهُ قَبْلَ رَدِّهِ. فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْبَائِعُ وَحُكِمَ لَهُ بِلُزُومِ الْبَيْعِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ. فَهَذَا حُكْمُ الْوَكِيلِ إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ رَضِيَ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ نُظِرَ فِي الْمُوَكِّلِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ نُظِرَ فِي عَقْدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى مُوَكِّلَهُ فِيهِ فَلَهُ الرَّدُّ. لِأَنَّ مَالِكَ الشِّرَاءِ لَا يَلْتَزِمُ عَيْبًا لَمْ يَرْضَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلَ فِي عَقْدِهِ نُظِرَ فِي الْبَائِعِ فَإِنْ صَدَّقَ الْوَكِيلَ أَنَّ عَقْدَ الشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ. وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ لَهُ وَلَا رَدَّ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْبَائِعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِضَاهُ. فَأَمَّا الْمُوَكِّلُ فَلَا رَدَّ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَائِعِ الْمَالِكِ لِلثَّمَنِ، وَلَكِنَّ لَهُ أَنْ يرجع عليه بنقصان العيب لأنه قد صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِضَاهُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الْمُوَكِّلِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ النَّقْصِ مِنْ ثَمَنِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ يُسَوِّي مَعِيبًا بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ لِعَدَمِ النَّقْصِ فِي الثَّمَنِ. اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 مَنِ ادَّعَى بَيْعَ عَبْدِهِ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْبَيْعِ فَحُكِمَ لَهُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ أَلْفًا فَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ غُرِّمَ الشُّهُودُ بِرُجُوعِهِمْ قَدْرَ النَّقْصِ مِنْ ثَمَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كَانَ يَسْوَى قَدْرَ ثَمَنِهِ مَعِيبًا أَمْ لَا. لِأَنَّ الْعَيْبَ إِذَا كان معه الرد مقدرا بالأرش ولم يَكُنْ مُعْتَبَرًا بِنَقْصِ الثَّمَنِ. وَلَيْسَ كَالَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ رُجُوعِ الشُّهُودِ لِأَنَّ غَارِمَ الثَّمَنِ بِشَهَادَتِهِمْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمَا غَرِمَ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ يَغْرَمُهُ. فَهَذَا حُكْمُ التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا فَهَلْ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ مُوَكِّلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا رَدَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِ مُوَكِّلِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِيهِ وَلَعَلَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِشِرَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. لَهُ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِأَنَّ الرَّدَّ من حقوق عقده ولأن لا يكون مأخوذا به إن لم يرضى الْمُوَكِّلُ بِعَيْبِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَيْبِهِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ بِالْعَيْبِ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ قَبْلِ بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُمْكِنُ حُدُوثُ مِثْلِهِ. فَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا عَلَى تَقَدُّمِ عَيْبِهِ كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ عَلَى تَقَدُّمِ عَيْبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِيَمِينِهِ عِنْدَ نُكُولِ الْوَكِيلِ فَهَلْ لِلْوَكِيلِ رَدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ النُّكُولِ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ؟ (فَصْلٌ) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إِلَى وَكِيلِهِ دَرَاهِمَ لِيَدْفَعَهَا سِلْمًا فِي طَعَامٍ، وَأَسْلَمَهَا الْوَكِيلُ فِي طَعَامٍ ثُمَّ إِنَّ المسلم إليه رد من الدراهم ردية وَصَدَّقَهُ عَلَيْهَا الْوَكِيلُ فَأَكْذَبَهُ الْمُوَكِّلُ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَفِيهَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِهَا عَلَى الْوَكِيلِ وَيَكُونُ الطَّعَامُ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمُوَكِّلِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُشْتَرِي الدَّرَاهِمِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا إِذَا أَصَابَ بِهَا بَعْدَ الْقَبْضِ عَيْبًا إنَّهُ يُبَدِّلُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى الْوَكِيلِ. فَإِذَا أَدَّى الطَّعَامَ إِلَى الْمُوَكِّلِ رجع على الوكيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 بحصة مَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ. مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عُشْرَ الثَّمَنِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِعُشْرِ الطَّعَامِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ مُشْتَرِيَ الدَّرَاهِمِ إِذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا وَلَمْ تُبَدَّلْ. فَعَلَى هَذَا لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِيمَةَ مَا دَفَعَ مِنْ عُشْرِ الطَّعَامَ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمَعِيبَةِ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ بِإِزَاءِ حَقِّهِ اسْتَوْفَاهُ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا. فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُوَكِّلُ الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ بِقِسْطِ الْمَعِيبِ فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا فِي يَدِ الْوَكِيلِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَعِيبَةِ. لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ. وَلَا لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا. لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ. فَإِنْ عَادَ الْمُوَكِّلُ فَصَدَّقَ الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ عليها أَنَّهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ رَجَعَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ. لِأَنَّهُ يَقُولُ هِيَ لِي وَقَدْ أَبْرَأَنِي الْمُوَكِّلُ مِنْ طَعَامِهِ فَبَرِئْتُ. وَإِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: هِيَ دَرَاهِمِي فَلِي الرُّجُوعُ بِهَا. فَلِلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ) إِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي الرُّجُوعِ بَدَرْكِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْوَكَالَةِ الْأُولَى أَمْ لَا؟ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ عَقْدِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ خَصْمًا إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ وَكَالَةٍ. لِأَنَّ مَا اقْتَضَتْهُ الْوَكَالَةُ قَدْ تَقَضَّى وَالصَّحِيحُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنْ نَنْظُرَ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِ الْوَكِيلِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، كَانَ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي الرُّجُوعِ بِدَرَكِهِ. وَإِنِ اسْتَحَقَّ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ وَكَالَةٍ، لِأَنَّ بِحُصُولِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ قَدْ نُقِضَتْ أَحْكَامُ وَكَالَتِهِ وَانْقَطَعَتْ عَلَقُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ وَقَدْ وُكِّلَ هَذَا بِقَبْضِهِ لَمْ يَقْضِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَيَقُولُ لَهُ إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ أَوْ دَعْ وَلَا أَجْبُرُكَ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ (قال) وللوكيل وللمقارض أن يردا ما اشتريا بالعيب وليس للبائع أن يحلفهما ما رضي رب المال وقال ألا ترى أنهما لو تعديا لم ينتقض البيع ولزمهما الثمن وكانت التباعة عليهما لرب المال ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مُدَّعِيَ وَكَالَةِ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ لَا يَلْزَمُ دَفْعَ الْمَالَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِهِ وَسَوَاءٌ صَدَّقَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِهِ أَوْ كَذَّبَ وَيَجُوزُ لَهُ مَعَ تَصْدِيقِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ جَوَازًا لَا وُجُوبًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. آخِرُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين كثيرا يتلوه كتاب الإقرار . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الْإِقْرَارِ بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ وَالْمَوَاهِبِ وَالْعَارِيَّةِ مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يَجُوزُ إِلَّا إِقْرَارُ بَالِغٍ حُرٍّ رشيدٍ وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي الْإِقْرَارِ وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ: - الْكِتَابُ. وَالسُّنَّةِ. وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أنْفُسِكُمْ) {النساء: 135) وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) {آل عمران: 81) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العْهَدَ كَانَ مَسْْولاً) {الإسراء: 34) يَعْنِي بِوَفَاءِ الْإِقْرَارِ وَالْتِزَامِ حُكْمِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيُمْلِل الّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) {البقرة: 282) يعني بالإملاء والإقرار بِهِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الْتِزَامِهِ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) {التوبة: 102) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعترفت فارجمها ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ماعزاً بإقرار، وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهَا وَقَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ بِإِقْرَارِهِ. وَقَدْ حَكَمَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِالْإِقْرَارِ فِي قَضَايَاهُمْ وَلَمْ يَزَلِ الْحُكَّامُ يَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ. وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْحُقُوقِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْإِقْرَارِ فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى الْأَخْذِ بِهِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى الْعَمَلِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ احْتِمَالِهَا كَانَ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ مَعَ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ كَتَبَ الْحُكَّامُ فِي قَضَايَاهُمْ إِذَا كَانَتْ عَنْ شَهَادَةٍ: أَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ عَلَى حَقِّهِ، وَلَمْ يَكْتُبُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ، فَحَقِيقَةُ الْإِقْرَارِ: الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ: الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ. فَاجْتَمَعَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ وَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ، وَالْحَقَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: بِمُقِرٍّ، وَمُقَرٍّ لَهُ، وَمُقَرٍّ بِهِ، وَمُقَرٍّ عِنْدَهُ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُقِرُّ: فَهُوَ الْمُخْبِرُ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ وَالْمُقِرُّونَ ضَرْبَانِ: مُكَلَّفٌ وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَإِقْرَارُهُمَا بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ بِمَالٍ أَوْ بدَنٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ. وَجَوَّزَ أبو حنيفة إِقْرَارَ الْمُرَاهِقِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ أَهْلِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي عَقْدٍ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ صَحَّ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ كَالْبَالِغِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِقْرَارٍ مَنَعَ مِنْهُ الْجُنُونُ مَنْعَ مِنْهُ الصِّغَرُ كَالْإِقْرَارِ بِالْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ إقراره أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 مِمَّنْ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَيَجُوزُ عَقْدُهُ، لَا نُسَلِّمُهُ بَلْ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفِيًا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ: فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِقْرَارِهِ وَوَصِيَّتِهِ: أَنَّ فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِهِ فَسَقَطَ. وَفِي صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ رِفْقًا بِهِ فَأُمْضِيَتْ. وَأَمَّا الْمُكَلَّفُ فَضَرْبَانِ: مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَغَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ. أَمَّا غَيْرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ: فَهُوَ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ الْعَاقِلُ فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ إِذَا أَقَرَّ مُخْتَارًا وَبَاطِلٌ إِنْ أَقَرَّ مُكْرَهًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقِرُّ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا وَإِقْرَارُ جَمِيعِهِمْ لَازِمٌ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ فَهُوَ السَّفِيهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِبَدَنٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ نَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ فِيهِ مَا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَاقِيًا، فَإِنْ فُكَّ حَجْرُهُ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ حُكْمًا لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ لُزُومِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقًّا لِآدَمِيٍّ. فَلَوْ كَانَ حِينَ أَقَرَّ سَفِيهًا لَكِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، وَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ كَالرَّشِيدِ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهُمُ: الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ. وَالثَّانِي: الْمُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ. وَالثَّالِثُ: الْمَرِيضُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ وَرَثَتِهِ. وَالرَّابِعُ: الْمُرْتَدُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ. وَمَعْنَى الْحَجْرِ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْتَلِفٌ وَسَنُفْرِدُ الْحُكْمَ فِي إِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. أَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ على ضربين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 أَحَدُهُمَا: فِي بَدَنٍ كَحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَإِقْرَارُهُ بِهِ لَازِمٌ وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحَالِ وَاجِبٌ صَدَّقَ السَّيِّدُ أَوْ كَذَّبَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي مَالٍ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ جِنَايَةٍ فَإِقْرَارُهُ بِهِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَ السَّيِّدُ فَيَتَعَلَّقُ الْإِقْرَارُ بِرَقَبَتِهِ وَتُبَاعُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُكَذِّبًا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ وَيُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مُعَامَلَةٍ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا فِيمَا بِيَدِهِ صَدَّقَ السَّيِّدُ أَمْ كَذَّبَ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ إِقْرَارُهُ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ سَوَاءٌ صَدَّقَ السَّيِّدُ أَمْ كَذَّبَ. وَنَحْنُ نَسْتَوْفِي شَرْحَ ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ فِيهِ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي حَال حَجْرِهِ لَكِنْ إِنْ صَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ يُخَاصِمُهُمْ بِقَدْرِ مَا أُقِرَّ بِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَجْرِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُشَارِكُ الْغُرَمَاءَ بِهِ وَيُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ فَعَلَى هَذَا يُشَارِكُهُمْ فِي مَالِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي أُقِرَّ به. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِقْرَارُهُ لَازِمٌ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ تَأْتِي مَسْطُورَةً. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ لَازِمٌ قَبْلَ الْحَجْرِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا إِقْرَارُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَجْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ الْمَرَضِ فَعَلَى هَذَا عُقُودُهُ لَازِمَةٌ وَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ فَعَلَى هَذَا عُقُودُهُ بَاطِلَةٌ وَفِي إِقْرَارِهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ قَبْلَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عليه إلا بحكم حاكم فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِقْرَارُهُ لَازِمًا نَافِذًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلَا يَخْلُو حَالُ سُكْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْصِيَةٍ. أَوْ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ. فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ لَا يَلْزَمُ فِي مَالٍ وَلَا بَدَنٍ كَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَلَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ. وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ مَعْصِيَةً فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِقْرَارِهِ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ كَمَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. وَقَدْ خَرَّجَ الْمُزَنِيُّ قَوْلًا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ فَعَلَى هَذَا إِقْرَارُهُ لَا يَلْزَمُ فِي مَالٍ وَلَا بَدَنٍ. فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ، فَإِنْ أَقَرَّ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ لَزِمَ إِقْرَارُهُ. فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ هَلْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي حَالِ الْجُنُونِ أَمِ الْإِفَاقَةِ؟ فَقَالَ الْمُقِرُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مَجْنُونًا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ كُنْتَ مُفِيقًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُقِرِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِحَالٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ مِنْ حَقٍّ وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا. أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ. فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. فَإِنْ كَانَ حراً حُرًّا صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكُوا. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ دُونَ سَيِّدِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ كَانَ الْإِقْرَارُ لِسَيِّدِهِ وَكَانَ اسْمُ الْعَبْدِ مُعَارًا فِيهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ السَّيِّدِ دُونَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ لِغَيْرِ آدَمِيٍّ كَإِقْرَارِهِ لِبَهِيمَةٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ فَلَا يخلو حال الإقرار في ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضَافَ إِلَى وَجْهٍ مُسْتَحِيلٍ كَإِقْرَارِهِ لِذَلِكَ بِدَيْنٍ مِنْ مُعَامَلَةٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُضَافَ إِلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَلَا يَسْتَحِيلُ كَإِقْرَارِهِ لِمَسْجِدٍ بِمَالٍ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ لِرِبَاطٍ بِمَالٍ مِنْ وَقْفٍ عَلَيْهِ، أو لماشية مسبلة بعلوفة مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، فَهَذَا إِقْرَارٌ لَازِمٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ بِجِهَاتٍ يَنْصَرِفُ المال فيها. والقسم الثالث: أن يكون مطرقاً وَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ في المقر للحمل بإقرار مطلقا فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي. فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُقَرُّ بِهِ فَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ حَدٌّ لِمَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلِمَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِهِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى فِيهِ، وَمَا رُدَّ فِي أَحَدِهِمَا رُدَّ فِي الْآخَرِ وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي مَجْهُولٍ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَصَّى لِي زَيْدٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَتُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةُ عَلَى وَارِثِهِ وَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهَا لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالشَّيْءِ الْمَجْهُولِ وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةُ فِيمَا سِوَاهُ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَدَنٍ. أَوْ مَالٍ. فَأَمَّا الْبَدَنُ فَضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ. وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ. فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزنى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى سَتْرِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ". وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ والتمكين وَأَمَّا الْمَالُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وَالثَّانِي: حَقُّ الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ عَيْنًا كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ دَيْنًا كَمَالٍ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مَنْفَعَةَ مَالٍ كَمَنَافِعِ الْإِيجَارَاتِ. وَالرَّابِعُ: مَا كَانَ مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مِنْ غَيْرِ مَالٍ كَالْأَنْجَاسِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا وَالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ. وَالْخَامِسُ: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالشُّفْعَةِ. وَالسَّادِسُ: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ غَيْرِ الْأَمْوَالِ كَالزَّوْجِيَّةِ وَالْقَسَمِ. فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مُسْتَحِقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ مَا لَمْ يَقَعْ تَنَافُرٌ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ لَزِمَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا، الْإِقْرَارُ بِهِ وَالْأَدَاءُ لَهُ. فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْمُقَرُّ عِنْدَهُ فَهُوَ مَنْ يَصِيرُ بِهِ الْحَقُّ مَحْفُوظًا. وهو أحد تفسير أَمْرَيْنِ: إِمَّا حَاكِمٌ يُلْزِمُ. أَوْ شَاهِدٌ مُتَحَمِّلٌ. وَلَيْسَ لِلْإِقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ هَذَيْنِ تَأْثِيرٌ. فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ حَاكِمٍ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سَمَاعِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ عنده قبل سماع الدعوى من غَيْرِ دَعْوَى فَفِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَصْرِيِّينَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا مُخَرَّجًا مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ: هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: بِجَوَازِ حُكْمِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى. وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُمَا الْإِقْرَارُ، فَيَقُولُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ اشْهَدَا عَلَيَّ بِذَلِكَ. فإن لم يسترعيهما وَأَقَرَّ عِنْدَهُمَا أَوْ سَمِعَاهُ يُقِرُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُمَا، فَفِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِمَا وَجَوَازِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شيءٌ ثُمَّ جَحَدَ قِيلَ لَهُ أَقِرَّ بِمَا شِئْتَ مِمَّا يقع عليه اسم شيءٍ من مالٍ أو تمرةٍ أَوْ فلسٍ وَاحْلِفْ مَا لَهُ قِبَلَكَ غَيْرُهُ فَإِنْ أَبَى حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادعى واستحقه مَعَ نُكُولِ صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُفَسَّرٍ وَمُجْمَلٍ فَالْمُفَسَّرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُسْتَوْفًى وَمُقَصِّرٌ. فَالْمُسْتَوْفَى كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مئة دِينَارٍ قَاشَانِيَّةٌ، فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ مَفْهُومَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ عَنْهُ وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ قَبِلَهُ الْمُدَّعِي. وَالْمُقَصِّرُ أَنْ يقول: له علي مئة دِينَارٍ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ مَفْهُومَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ مُقَصِّرًا، فَيُسْأَلُ عَنْ صِفَةِ الدَّنَانِيرِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ صِفَتِهَا إِنْ قَبِلَهُ الْمُدَّعِي. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامٌّ. وَخَاصٌّ. فَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ فَكَانَ خَاصًّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَالِ دُونَ غَيْرِهِ وَمُجْمَلًا مِنْ جِنْسِهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ. وَأَمَّا الْعَامُّ فَقَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَاخْتُلِفَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومَاتِ. فَإِنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِهِ جِنْسًا وَصِفَةً وَقَدْرًا لِأَنَّ اسم الشيء لا يدل على واحد منهما، ثم له حالتان: حالة تفسير. حالة لَا تَفْسِيرٍ. فَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ عِنْدَ سُؤَالِ الْحَاكِمِ لَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ أَعَادَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً فَإِنْ أَبَى التَّفْسِيرَ أَعَادَ عَلَيْهِ ثَالِثَةً. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعَادَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَقِيلَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَمِ اسْتِحْبَابٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ قَبْلَهُ لِيَسْتَحِقَّ بِالتَّكْرَارِ امْتِنَاعَهُ من التفسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِ قَبْلَ إِعَادَةِ الْقَوْلِ ثَلَاثًا أَجْزَأَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ. فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ بَعْدَمَا وَصَفْنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: وهو المنصوص عليه من هَذَا الْمَوْضُوعِ وَفِي أَحَدِ كِتَابَيِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ نَاكِلًا، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ حَلَفَ عَلَيْهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّفْسِيرِ كَالْمُمْسِكِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى فَاقْتَضَى أَنْ يَصِيرَ نَاكِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْكِتَابِ الْآخَرِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُفَسِّرَ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُقِرًّا وَبِالِامْتِنَاعِ عَنِ التَّفْسِيرِ يَصِيرُ كَالْمَانِعِ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْبَسَ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ فَسَّرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَفْسِيرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: - إِمَّا أَنْ يُفَسِّرَ بِمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ. أَوْ بِمَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ؟ فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ كَقَوْلِهِ: أَرَدْتُ شَمْسًا أَوْ قَمَرًا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ رِيحًا أَوْ نَارًا، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُفَسَّرًا، وَكَذَا لَوْ فَسَّرَهُ بِتَافِهٍ حَقِيرٍ كَتَمْرَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ لَمْ يَكُنْ مُفَسَّرًا لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَيْهِ مُنْطَلِقًا فَهُوَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مُطَالَبَةٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِقْرَارٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ارْتِفَاعُ الْيَدِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: مُسَاوَاةُ الْجَمِيعِ فِيهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالًا. وَالثَّانِي: غَيْرُ مَالٍ. فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا كَتَفْسِيرِهِ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا؟ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِالدَّرَاهِمِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِقَدْرِ الدَّعْوَى مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا مُقِرٌّ بِجَمِيعِ الدَّعْوَى وَمُصَدِّقٌ عَلَيْهَا فَصَارَ مُصَدَّقًا فِي تَفْسِيرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِقَدْرِ الدَّعْوَى مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عليه مائة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 دِرْهَمٍ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي فَسَّرَهُ وَيَحْلِفُ عَلَى بَاقِي الدَّعْوَى الَّذِي أَنْكَرَهُ. فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجِنْسِ الدَّعْوَى مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ دَرَاهِمَ فَيُفَسِّرُ الشَّيْءَ بِالدَّنَانِيرِ فَيُقَالُ لِلْمُدَّعِي: هَلْ تَدَّعِي عَلَيْهِ مَا فَسَّرَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَدَّعِيهَا وَأَدَّعِي الدَّرَاهِمَ، حُكِمَ لَهُ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي فَسَّرَهَا الْمُقِرُّ وَأُحْلِفَ لَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ قَالَ: لَسْتُ أَدَّعِي الدَّنَانِيرَ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَى الْمُقِرِّ بِهَا وَأُحْلِفَ الْمُقِرُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي صَدَّقَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّيْءِ مَا فَسَّرَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَلَكِنْ قَالَ هُوَ غَيْرُ مَا ادَّعَيْتَ أُحْلِفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَإِنْ قَالَ: بَلْ أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَا ادَّعَيْتُهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنْ كَذِبَ فِي التَّفْسِيرِ حَلَفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ مَا أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ بِهَا. فَأَمَّا إِذَا فَسَّرَ الشَّيْءَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ مِثْلَ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ فَفِي قَبُولِ هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَقْبُولٌ وَيُسْأَلُ عَنْهُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ مَعَ انْطِلَاقِ الشَّيْءِ عليه مما تمتد إليه اليد. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَيَكُونُ كَمَنْ لَمْ يُفَسِّرْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا تُقَرُّ عليه اليد وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْكَلْبِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ كَانَ مُفَسِّرًا بِهِ لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ تَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْخَمْرِ والخنزير ولم يَكُنْ بِهِ مُفَسِّرًا لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مالٌ أَوْ مالٌ كثيرٌ أو عظيمٌ فإنما يقع عليه اسم مالٍ فأما من ذهب إلى ما تجب فيه الزكاة فلا أعلمه خبراً ولا قياساً أرأيت إذا أغرمت مسكيناً يرى الدراهم عظيماً أو خليفةً يرى ألف ألف قليلاً إذا أقر بمالٍ عظيمٍ مائتي درهمٍ والعامة تعلم أن ما يقع في القلب من مخرج قوليهما مختلفٌ فظلمت المقر له إذ لم تعطه من خليفة إلا التافه وظلمت المسكين إذا أغرمته أضعاف العظيم إذ ليس عندك في ذلك إلا محمل كلام الناس ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 قال الماوردي: وهذا صحيح إذا قال: له عَلَيَّ مَالٌ، فَهَذَا مِنَ الْمُجْمَلِ الْخَاصِّ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْهُ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ، رَجَعَ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ، فَمَا فَسَّرَهُ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ قُبِلَ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمُحَرَّمٍ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا. فَأَمَّا إِذَا وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِأَنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ مَالٌ عَظِيمٌ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى: فَقَالَ أبو حنيفة: لَا نَقْبَلُ منه أقل من مئتي دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا وَهُوَ النِّصَابُ الْمُزَكَّى مِنَ الْأَثْمَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَقْبَلُ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، هُوَ النِّصَابُ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ. وَقَالَ اللَّيْث بْنُ سَعْدٍ أَقَلُّ مَا نَقْبَلُ مِنْهُ اثْنَانِ وسبعون درهماً. وقال الشافعي: يرجع إِلَى تَفْسِيرِهِ فَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ أُخِذَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة لِمَذْهَبِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْلِفُ فِي الْمَقَامِ فَقَالَ لَهُ: أَفِي دَمٍ؟ قِيلَ: لَا، قَالَ: أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ؟ قِيلَ: لَا، فَقَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ. فَحَمَلْتُمْ قَوْلَهُ أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ على مئتي دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَلَزِمَكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ. قَالَ: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرَهُمْ) {التوبة: 103) . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ مَالٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ لَمْ تؤخذ الزكاة من أقل من مئتي دِرْهَمٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا لِخُرُوجِهِ مَنْ حُكْمِ اللَّفْظِ فَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: مَا كَانَتْ تقطع اليد في عبد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مَالٌ تَافِهٌ حَقِيرٌ، فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا عَظِيمًا وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ فِي الشَّرْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} (التوبة: 25) . فَعُدَّتْ فَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مَوْطِنًا. والدليل على جميعهم أن العظم إذا كانت صفة لقدر لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَظِيمٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أكثر من درهم لو لم يصفه بعظيم، فَكَذَا إِذَا كَانَ صِفَةً لِمُجْمَلٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ. فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مُقَدَّرًا وَجَبَ إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ أَنْ لَا يَصِيرَ مُقَدَّرًا. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لِأَنَّ الْقَلِيلَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، وَالْعَظِيمُ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدًّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى) {النساء: 77) فَجَعَلَ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) فَجَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِتَوَجُّهِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَيْهِ فَصَارَ إِطْلَاقُ الْعَظِيمِ يَقْتَضِي إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ لَا يَتَقَيَّدُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ حَدًّا وَلَا يَخْتَصُّ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَظِيمُ الْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بالعظيم أنه حلال أو أنه موجب للثوابوالعقاب وَلِأَنَّ عَظِيمَ الْقَدْرِ قَدْ يَخْتَلِفُ عِنْدَ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ. فَالْخَلِيفَةُ يَرَى الْأَلْفَ قَلِيلًا وَالْفَقِيرُ يَرَى الدِّرْهَمَ عَظِيمًا. ثُمَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَةِ النُّفُوسِ وَضِيقِهَا، فَذُو النَّفْسِ الْوَاسِعَةِ يَرَى الْكَثِيرَ قَلِيلًا وَذُو النَّفْسِ الضَّيِّقَةِ يَرَى الْقَلِيلَ كَثِيرًا عَظِيمًا. وَمَعَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ وَتَبَايُنِ الْمُرَادِ بِهِ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدًّا أَوْ يَتَنَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ أَنَّ مُرَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يُعْرَفْ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِنَّمَا عُرِفَ بِقَرِينَةِ صُحْبَتِهِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدَّمِ تَغْلِيظًا فَعَقَلَ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَ مَا شَاهَدَهُ مِنْ حَالِهِ فِيهِ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ مئتا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَلَوْ وُجِدَ فِي الْإِقْرَارِ مِثْلُهُ لَقُلْنَاهُ. ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ اسْتِدْلَالًا بِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِيمَا ورد فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالنِّصَابِ مِنْهُمَا لَتَقَدَّرَ فِي الْمَوَاشِي بِالنُّصُبِ فِيهَا، ثُمَّ الْمَالُ لَا يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ دُونَ غَيْرِهِمَا فلم يجعله مُخْتَصًّا بِهِ أَوْ مُقَدَّرًا فِيهِمَا وَهَلَّا جَعَلَهُ فِي الْأَمْوَالِ وَمُقَدَّرًا بِنِصَابٍ مِنْ كُلِّ مَالٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فَهُوَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ التَّافِهَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِتَافِهٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ كَالْغَاصِبِ وَالْجَانِي عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتْ تَافِهًا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ لَا أَنَّهُ تَافِهٌ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَسُوغُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ فِيمَا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ، فَإِذَا حَصَلَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ كَانَ الْأَوْلَى رَدُّهُ إِلَى الْأَقَلِّ وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ؟ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ اللَّيْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَددهَا عَلَى أَنَّهُ عَدَدُ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ لَا الْمَالُ الْكَثِيرُ. فَصْلٌ : فإذا ثبت أنه إقرارغير مُقَدَّرٍ فَسَوَاءٌ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ أَوْ لَهُ مَالٌ جَزِيلٌ أَوْ ثَقِيلٌ أَوْ مُغْنٍ أَوْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ عَظِيمٌ جَزِيلٌ ثَقِيلٌ مُغْنٍ فَكُلُّهُ سَوَاءٌ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فَمَا فَسَّرَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَلَوْ قِيرَاطًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ مُدَّ حِنْطَةٍ أَوْ بَاقَةً مِنْ بَقْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَإِلَّا فَلَهُ إِحْلَافُهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ عَلَيَّ ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا وَاحِدًا أَوْ أَقَلُّ قُبِلَ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ فَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَ قَدْ بَيَّنَ إِقْرَارَهُ بِدِرْهَمٍ قُبِلَ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْذِبُ الشُّهُودُ فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ عَلَيَّ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِدِرْهَمٍ وَأَقَرَّ لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قُبِلَ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِالْأَكْثَرِ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ وَبِالْأَقَلِّ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّ الْحَلَالَ كَثِيرٌ وَالْحَرَامَ قَلِيلٌ، فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لِزَيْدٍ جِنْسًا ثُمَّ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بمئة دِينَارٍ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ إِلَّا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالذَّهَبِ قَلِيلًا بَيَّنَ أَوْ كَثِيرًا لِاحْتِمَالِ قَوْلِهِ أَكْثَرَ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْقَدْرِ وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَالِ زَيْدٍ. فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَكْثَرُ ما لزيد عدداً ثم أقر لزيد بمئة دينار لزمه أن يبين أكثر من مئة وَسَوَاءٌ بَيَّنَ مِنَ الدَّنَانِيرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. فلو قال له علي أكثر مما لزيد عدداً وجنساً ثم أقر لزيد بمئة دِينَارٍ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِأَكْثَرِ مِنْ مئة دِينَارٍ وَلَوْ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَزَالَ الِاحْتِمَالَ بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالْعَدَدِ. فَلَوِ ابْتَدَأَ الْمُدَّعِي فقال: لي عليك مئة دِينَارٍ، فَقَالَ لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْهَا ثُمَّ بين درهماً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 قُبَلِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا أكثر من مئة عَدَدًا، وَسَوَاءٌ بَيَّنَ الدَّنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهَا. وَلَوْ قَالَ أَكْثَرُ مِنْهَا جِنْسًا وَعَدَدًا لَمْ يُقْبَلْ منه إلا أكثر من مئة دِينَارٍ وَلَوْ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَقُلْهَا فَهِيَ ثلاثةٌ ". قَالَ الماوردي: وهذا صحيح. إذا قال: له عليَّ دَرَاهِمُ فَأَقَلُّ مَا يُقْبَلُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَعْدَادِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ اثْنَانِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " وَبِقَوْلِهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السُّدُسُ) {النساء: 11) . ثُمَّ كَانَتِ الْأُمُّ تُحْجَبُ بِالِاثْنَيْنِ وَإِنْ ذُكِرُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّ اللِّسَانَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْآحَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَالْآحَادُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنَ الْأَعْدَادِ وَالتَّثْنِيَةُ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ، وَالْجَمْعُ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ يَسْلَمُ فِي التَّثْنِيَةِ وَلَا يَسْلَمُ فِي الْجَمْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقَ العدد فيهما مَعَ اخْتِلَافِ صِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُمَا. فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جماعةٌ " فَهُوَ الدَّلِيلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي اللِّسَانِ لَاسْتغْنى فِيهِ عَنِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَعْلَمُ الْأَسْمَاءَ وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ فِي اللُّغَةِ. فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ فِيهِ عَلَى صَرْفِ الْحُكْمِ عَمَّا اقْتَضَاهُ اللِّسَانُ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى اللِّسَانِ وَقَالَ: تَرَكْتَ لِسَانَ قَوْمِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عُثْمَانُ مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فأخبره أَنَّ الدَّلِيلَ صَرَفَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَمْعِ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ فَيُقَالُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ كَمَا أَنَّ التَّثْنِيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اجْتِمَاعِ الِاثْنَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَسَوَاءٌ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَوْ قَالَ لَهُ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ إِنْ بَيَّنَهَا قُبِلَتْ مِنْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فِي إِقْرَارِهِ بِالدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ أَوِ الْعَظِيمَةِ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ. وَيُوشِكُ أَنْ يبينهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَقَلِّ الْمَهْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّنَا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ بِالْكَثْرَةِ وَالْعِظَمِ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ قَدْرٍ مَحْدُودٍ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالتَّجْوِيزِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مَوْضُوعٌ عَلَى إِلْزَامِ الْيَقِينِ وَاطِّرَاحِ الشَّكِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَوَاءٌ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمَاتٌ لَمْ يُقْبَلْ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَدَرَاهِمُ لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ إِذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ دُونَ الْعَدَدِ. فَأَمَّا إِنْ صَرَّحَ بِالْعَدَدِ دُونَ الْمَعْدُودِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهَا، فَإِنْ بَيَّنَهَا مِنْ جِنْسٍ أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَتْ. وَقَالَ محمد بن الحسن لَا أَقْبَلُهَا مَعَ إِطْلَاقِ الْعَدَدِ إِلَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْإِقْرَارِ يُطْرَحُ وَالْيَقِينُ مُعْتَبَرٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي الْأَعْدَادِ أَنْ يَتَنَاوَلَ جِنْسًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَجْنَاسِ كَمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجِنْسِ. فَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالثَّلَاثَةِ فُلُوسًا قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا أَمْ لَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا وَفَلْسًا قُبِلَ مِنْهُ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ ألفٌ ودرهمٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْأَلْفَ قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ أَيَّ ألفٍ شِئْتَ فُلُوسًا أَوْ غَيْرَهَا وَاحْلِفْ أَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَقْرَرْتَ بِهَا هِيَ هَذِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بألفٍ وعبدٍ أَوْ أَلْفٍ ودارٍ لَمْ يجعل الألف الأول عَبِيدًا أَوْ دُورًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَأَحْوَالٌ ثَلَاثٌ، فَمِنْهَا حالتان متفق على حكمهما: - إحداهما: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ فَكُلُّ ذَلِكَ دَرَاهِمُ إِجْمَاعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ الْأَلْفَ قَبْلَ الدِّرْهَمِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ إِجْمَاعًا لِإِبْهَامِهَا وَلَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا تَفْسِيرًا لَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ لِإِبْهَامِهَا وَلَا يَكُونُ الْعَطْفُ بِالدِّرْهَمِ تَفْسِيرًا لَهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِيرُ الْأَلْفُ بِالدِّرْهَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا دَرَاهِمَ كُلُّهَا وَلَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهَا اسْتِدْلَالًا، بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَطْفِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْنَا زَيْدًا وَعَمْرًا دَلَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ لِعَمْرٍو لِعَطْفِهِ عَلَى زَيْدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَهُ عليّ ألف ومئة درهم تفسيراً للألف بالمئة الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلْفًا وَدِرْهَمٌ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ بِالدِّرْهَمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدَدٌ مُفَسِّرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى عَدَدٍ مُبْهَمٍ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْعَطْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ: أَلْفٌ وَعَبْدٌ لَا يَكُونُ الْأَلْفُ كُلُّهَا عَبِيدًا وَلِأَنَّ الْعَطْفَ لَوْ كَانَ بَيَانًا لَاسْتَحَالَ أَنْ يُعَادَ مَعَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَلَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: مَرَرْتُ بِأَلْفِ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ كَمَا لَا يصح أن يقول: مررت بألف رجل صبي، وَلَوَجَبَ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ، أَنْ يَلْزَمَهُ أَلْفُ دِينَارٍ وَدِينَارٍ. لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِمَا يُوجِبُ نَعْتَ الْأَلْفِ بِالدَّنَانِيرِ. وَفِي الْقَوْلِ بِخِلَافِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ فِي الْعَطْفِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَطْفِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِهِمْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا فَخَطَأٌ. لِأَنَّ حُكْمَ الْعَطْفِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ عَمْرٍو مَعْلُومَةٌ بِرُؤْيَةٍ زَيْدٍ، وَهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْأَلْفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مَأْخُوذًا مِنَ الْعَطْفِ بَعْدَهَا وَهُمَا ضدان. وأما قوله: له عليّ ألف ومئة دِرْهَمٍ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ كَالدِّرْهَمِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا، فَعَلَى هَذَا، الْفَرْق بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ عَلَى الْأَلْفِ عَدَدٌ زَائِدٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفْسِيرٌ لِلْعَدَدِ الأول، وهو إذا قال ألف ومئة فَقْدِ اسْتَكْمَلَ الْعَدَدَ ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ بِالدِّرْهَمِ تَفْسِيرٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَعْضِ الْعَدَدِ دُونَ بَعْضٍ وَصَارَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الدِّرْهَمِ فَإِنْ فَسَّرَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسٍ أَوْ جَوْزٍ قُبِلَ مِنْهُ. وَكَذَا لَوْ فَسَّرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 الْأَلْفَ بِأَجْنَاسٍ كَثِيرَةٍ قُبِلَ أَيْضًا، وَأُحْلِفَ إِنْ أَكْذَبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ. وَهكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمَانِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفِ. فَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَلْفٌ وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهَلْ يصير ذ لك تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ الْمُبْهَمَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَدَدُ الزَّائِدُ دِرْهَمًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْأَلْفِ عَدَدًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ. وَإِنْ كَانَ عَدَدًا مَنْصُوبَ التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَمَا زَادَ كَانَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ أَخَصُّ بِالصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ وَيَصِيرُ تَقْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنَ الدَّرَاهِمِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ ألفٌ إِلَّا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَقِرَّ لَهُ بِأَيِّ ألفٍ شِئْتَ إذا كان الدرهم مستثنى منها ويبقى بعده شيءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِقْرَارِ يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ هَلْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقَالَ محمد بن الحسن وزفر بن هزيل: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِحَالٍ، لَا فِي مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا غَيْرِهِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَبَعْضُهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاَّ رَبُّ العَالَمِينَ) {الشعراء: 77) وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُهُمْ أجْمَعُونَ إلاَّ إبْلِيسَ) {الحجر: 30، 31) وَقَالَ الشَّاعِرُ: (وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا رَجَعَ إِلَى جُمْلَةٍ صَارَ الْمُرَادُ بِهَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْمُرَادِ جِنْسًا أَوْ غَيْرَ جِنْسٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَكُمْ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ جِنْسٍ وَلَمْ تُجَوِّزْهُ فِي غَيْرِ الإقرار؟ ذ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: قِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحُقُوقِ الْمُقَرُّ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بَدَلًا عَنْهَا وَيَبْعُدُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسٍ وَغَيْرِ جِنْسٍ، فَأَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا وَغَيْرُ، وَعَدَا، وَخَلَا، وَمَا خَلَا، وَحَاشَا وَجَمِيعُهَا فِي الْحُكْمِ وَصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاحِدٌ. فَأَمَّا إذا قال له: عليّ ألف استثني مئة، أو أحط مئة أو أندر مئة فَقدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِحُكْمِهِ فَأَغْنَى عَنْ لَفْظِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا إِذَا قَالَ: أَسْتَثْنِي أَوْ أَحُطُّ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا قَالَ أَحُطُّ أَوْ أَنْدُرُ. ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا فَإِنِ انْفَصَلَ بَطَلَ لِاسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ. وَلَا يَخْلُو إِذَا اتَّصَلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: - إِمَّا أَنْ يَرْفَعَ كُلَّ الْجُمْلَةِ. أَوْ يَرْفَعَ أَقَلَّهَا. أَوْ يَرْفَعَ أَكْثَرَهَا. فَإِنْ رَفَعَ كُلَّ الْجُمْلَةِ كَانَ بَاطِلًا كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفًا لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. وَإِنْ رَفَعَ الْأَقَلَّ صَحَّ كَقَوْلِهِ: ألف إلا مئة أَوْ إِلَّا أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَصِيرُ الْبَاقِي مِنَ الْأَلْفِ بعد الاستثناء أربعمائة أكثر الألف، هو ستمائة، وَيَكُونُ هَذَا الْمُرَادُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَكُونُ مَا خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُرَادًا بِاللَّفْظِ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ. أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) {العنكبوت: 14) . وَإِنْ رَفَعَ الْأَكْثَرَ كَقَوْلِهِ: أَلْفٌ إِلَّا تِسْعُمِائَةٍ أَوْ إِلَّا سِتُّمِائَةٍ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنَ الْأَلْفِ بَعْدِ الِاسْتِثْنَاءِ درهم صح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا أَنْ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْجُمْلَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةٌ يُوجَدُ سَمَاعًا، وَلَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ كَمَا لَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَبَعٌ لِبَاقِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَقَلِّ: وَهَذَا خَطَأٌ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بَمَا أَغْوَيْتَنِي لأَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ إلاَّ عِبَادَكَ منهم المُخْلَصِينَ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيم أنَّ عِبَادِيَّ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ) {الحجر: 39، 42) . فَاسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنَ الْمُخَلَصِينَ تَارَةً وَالْمُخْلَصِينَ مِنَ الْغَاوِينَ أُخْرَى، وَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ وَظَاهِرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: (رُدوا التي نقصت تسعين عن مئةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالَا) وَلِأَنَّ الْخَارِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُرَادٌ بِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ كذلك قال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تِسْعُمِائَةٍ صَحَّ، وَكَانَ المراد باللفظ مئة، وجرى مجرى قوله: له عليّ مئة. فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَأَلْفٌ وَأَلْفٌ إلا ألفاً، فهي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَلْفًا مِنَ الْأَلْفِ فَبَطَلَ وَلَزِمَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَحِيحٌ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَإِنْ كَانَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فَصَحَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا أَلْفًا وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفَانِ، وَهَكَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَلْفَيْنِ لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى كُلِّ الْجُمْلَةِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفٌ. وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 ويجوز أن يتعاقب الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَهُ اسْتِثْنَاءٌ ثَانٍ، وَيَتَعَقَّبَ الثَّانِي ثَالِثٌ، وَيَتَعَقَّبَ الثَّالِثَ رَابِعٌ إِلَّا أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ يَعُودُ إِلَى مَا يَلِيهِ فَيُثْبِتُ ضِدَّ حُكْمِهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنْ عَادَ إِلَى إِثْبَاتٍ كَانَ نَفْيًا وَإِنْ عَادَ إِلَى نَفْيٍ كَانَ إِثْبَاتًا أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ كَانَ يَنْفِي رُؤْيَةَ بَنِي تَمِيمٍ مُثْبِتًا لِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُواْ إنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلاَّ آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنْجُوهُمْ أجْمَعِينَ إلاَّ امْرَأَتَهُ) {الحجر: 58، 61) فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنْ آلِ لُوطٍ. فإذا قال: عليّ ألف إلا خمسمائة إلا ثلاثمئة إلا مئتين إلا مئة كَانَ هَذَا إِقْرَارًا بِسَبْعِمِائَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِثْبَاتٌ لَهَا ثُمَّ إِلَّا خَمْسَةً نَفْيٌ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ، فَيَبْقَى مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِلَّا ثَلَاثَةً إِثْبَاتٌ لَهَا مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ التي نفاها، فيضم إلى المثبت فتصير ثمانمئة ثم قوله إلا مئتين نَفْيٌ لَهَا مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا، فَتَخْرُجُ مِنَ الْمُثَبَتِ فَيَبْقَى سِتُّمِائَةٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِلَّا مئة إثبات لها من المئتين الَّتِي نَفَاهَا فَتُضَمُّ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ الْإِقْرَارُ بِسَبْعِمِائَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِثْبَاتَيْنِ وَلَا بَيْنَ نَفْيَيْنِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ ألف إلا مئتين وإلا مئة كَانَا جَمِيعًا نَفْيًا مِنَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ فَلَمْ يَعُدْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَعَادَ جَمِيعًا إِلَى الْجُمْلَةِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفٌ إِلَّا مئة، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَكُونُ عَلَيْهِ أَلْفٌ. وَالثَّانِي: يَكُونُ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةٍ. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ عَلَيْهِ مئة. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ رَفَعَ جَمِيعَ الْجُمْلَةِ فَبَطَلَ وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي رَجَعَ إِلَى اسْتِثْنَاءٍ بَاطِلٍ فَبَطَلَ فَلَزِمَهُ آلاف لبطلان الاستثناء منها. فإذا قلنا يلزمه تسعمئة فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ بَطَلَ لِرَفْعِهِ الْجُمْلَةَ فأقيم الثاني مقامه وهو مئة فصار الباقي من الألف تسعمئة. وإذا قلنا يلزمه مئة فَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْجُمْلَةَ إذا لم عقبه استثناء، فإذا يعقبه استثناء مئة صَارَ الْبَاقِي مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ تِسْعُمِائَةٍ فَإِذَا رجعت إلى الألف كان الباقي منها مئة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً فَيَكُونُ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ درهم ومئة ديناً إِلَّا خَمْسِينَ فَأَرَادَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةِ جِنْسًا غَيْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ أَوْ هُمَا قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ فَاتَ بَيَانُهُ فَعِنْدَ أبي حنيفة يَعُودُ إِلَى مَا يَلِيهِ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَعُودُ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُسْتَثْنَى مِنَ الْأَلْفِ درهم خمسون ومن المئة دِينَارٍ خَمْسُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَيُسْتَثْنَى مِنَ الدَّرَاهِمِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنَ الدَّنَانِيرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَعِنْدَنَا أَنه يَرْجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْأَلْفِ وَلَا يَصِيرُ بِاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا دَرَاهِمُ كُلُّهَا. وَعِنْدَ أبي حنيفة ومحمد يَصِيرُ الْأَلْفُ كُلُّهَا دَرَاهِمَ لِاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا لِمَنْعِهِمْ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَوْ قَالَ أَلْفٌ إِلَّا عَبْدًا لَمْ تَصِرِ الْأَلْفُ عَبِيدًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وصارت عند محمد بن حسن عَبِيدًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْأَلْفِ فَأَيَّ شَيْءٍ بَيَّنَهُ قَبِلْنَا بَيَانَهُ فِيهِ، فَإِنْ بَيَّنَ الْأَلْفَ دَرَاهِمَ أَسْقَطْنَا منها درهماً لاستثناءه إِيَّاهُ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ بَيَّنَهَا فُلُوسًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ خَرَزًا أَوْ جَوْزًا قَبِلْنَاهُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ مَعْلُومًا قَوَّمْنَاهُ وَأَسْقَطْنَا مِنْ قِيمَتِهِ الدِّرْهَمَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا سَأَلْنَاهُ عَنْ قِيمَتِهِ وَأَسْقَطْنَا مِنْهُ الدِّرْهَمَ الْمُسْتَثْنَى. فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدِّرْهَمِ بَقِيَّةٌ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الدِّرْهَمِ بَقِيَّةٌ مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ بِأَلْفِ جَوْزَةٍ قِيمَتُهَا دِرْهَمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ الْمُسْتَثْنَى حَتَّى يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَقِيَّةٌ وَإِنْ قُبِلَتْ فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَ كَمَنْ أَقَرَّ بِمُجْمَلٍ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ حَتَّى يُبَيِّنَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وَالثَّانِي: يُجْعَلُ كَالنَّاكِلِ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَى وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ من قيمة الألف جوزة الَّتِي بَيَّنَهَا وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِذَا بَيَّنَ أَلْفَ جَوْزَةٍ قَوَّمَهَا دِرْهَمًا وَاسْتَثْنَى مِنْهَا دِرْهَمًا كَانَ كَمَنْ قَالَ لَهُ دِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَلْزَمُهُ الدِّرْهَمُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الرَّافِعَ لِلْجُمْلَةِ بَاطِلٌ كَذَلِكَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ ألفٌ إِلَّا كَرَّ حِنْطَةٍ أَوْ إِلَّا عَبْدًا أَجْبَرْتُهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ استثناء عاد إلى جملة لم يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَسَّرًا مِنْ جُمْلَةٍ مُفَسَّرَةٍ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا فَيَصِحُّ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُفَسَّرًا صَحِيحًا كَجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَمِنَ الْجِنْسِ وَيَسْقُطُ مِنَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ بَقِيَّةُ الدِّينَارِ الْمُسْتَثْنَى وَيَكُونُ الْبَاقِي هُوَ الْمُقَرُّ بِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلًا مِنْ مُجْمَلٍ، كَقَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا شَيْئًا، فَيَبْدَأُ بِسُؤَالِهِ عَنِ الْأَلْفِ فَإِذَا فَسَّرَهَا بِمَعْلُومٍ سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَعْلُومٍ أُسْقِطَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَكَانَ الْبَاقِي هُوَ الْمُقَرُّ بِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا أَلْفًا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ الْمُقَرِّ بِهِ ثُمَّ عَنِ الْأَلْفِ الْمُسْتَثْنَاةِ مِنْهَا، فَإِذَا فَسَّرَهُمَا بِمَعْلُومٍ لَزِمَ الْبَاقِي وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفَ ثَوْبٍ إِلَّا عَبْدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ فَهُوَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَسَّرًا مِنْ مُجْمَلٍ كَقَوْلِهِ لَهُ: علي ألف إلا درهماً، ويسئل عَنِ الْأَلْفِ الْمُجْمَلَةِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَسَّرِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَلْفُ ثَوْبٍ إِلَّا دِينَارًا لِأَنَّ الْأَلْفَ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةَ الْجِنْسِ فَهِيَ مُجْمَلَةُ الصِّفَةِ فَاحْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ سِلْمًا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ دُونَ القيمة. وإن كان عقباً مُسْتَهْلَكًا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْقِيمَةِ دُونَ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ دَلِيلٌ فَيُسْأَلُ عَنْهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلًا مِنْ مُفَسَّرٍ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا شَيْئًا. فَيُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْأَلْفِ الْمُفَسَّرَةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا عَبْدًا سُئِلَ عَنِ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ فَهُوَ مَجْهُولُ الصِّفَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْأَلْفِ بِالدَّرَاهِمِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا: فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ تَفْسِيرٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ وَتَفْسِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا للمستثنى منه والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي منديلٍ أَوْ تمرٍ فِي جِرَابٍ فَالْوِعَاءُ لِلْمُقِرِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي ظَرْفٍ كَقَوْلِهِ: لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ أَوْ حُلِيٌّ فِي حُقٍّ أَوْ جَوْهَرَةٌ فِي دُرْجٍ أَوْ سَمْنٌ فِي عُكَّةٍ أَوْ زَيْتٌ فِي دُبَّةٍ فَالْإِقْرَارُ يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ دُونَ ظَرْفِهِ وَيَكُونُ الظَّرْفُ خَارِجًا مِنْ إِقْرَارِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ الظَّرْفُ دَاخِلًا فِي إِقْرَارِهِ وَأَصْحَابُهُ يَحْكُونَ ذَلِكَ عَنْ محمد، وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: إِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ذَائِبًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظَرْفِ دَخْلَ الظَّرْفُ فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا لَمْ يَدْخُلْ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ بِقَوْلِهِ: عِنْدِي يَقْتَضِي تَنَاوُلَ مَا يَعْقُبُهُ وَجَاءَ بَعْدَهُ، فَإِذَا قَالَ ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ صَارَا دَاخِلَيْنِ فِي إِقْرَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ: أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْإِقْرَارِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الظَّرْفَ شَيْئَانِ: - مَكَانٌ، وَوِعَاءٌ. فَلَمَّا كَانَ ظَرْفُ الْمَكَانِ لَا يَدْخُلُ فِي الإقرار كقوله: له عندي بغل في إسطبل أَوْ عَبْدٌ فِي دَارٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفُ الْوِعَاءِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ، كَقَوْلِهِ لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مَنْدِيلٍ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِلْمُقَرِّ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إِقْرَارِهِ كَالْمَكَانِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُلْزِمُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ ثَوْبًا فِي مَنْدِيلٍ لي، وزيت فِي دُبَّةٍ لِي، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالظَّرْفِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَ مَا فِيهِ، كَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِمَا فِي الظَّرْفِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ لِانْفِصَالِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بَعْدَ فَسَادِهِ لِخُرُوجِ الْمَكَانِ مِنْ إِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِلَفْظِهِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَلَزِمَ، وَلَا يَنْتَفِي عَنِ الظَّرْفِ فَلَمْ يَلْزَمْ. فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي فَرَسٌ مُسْرَجٌ أَوْ بَغْلٌ مُلْجَمٌ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالْفَرَسِ وَالْبَغْلِ دُونَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ دَارًا مَفْرُوشَةً قُمَاشًا كَانَ إِقْرَارًا بِغَصْبِ الدَّارِ دُونَ الْقُمَاشِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي دَابَّةٌ مَعَ سَرْجِهَا، أَوْ غَصَبْتُهُ دَارًا بِقُمَاشِهَا كَانَ إقرار بِالْجَمِيعِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ مُطَرَّزٌ، فَإِنْ كَانَ الطِّرَازُ مَنْسُوجًا مَعَهُ دَخَلَ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا عَلَيْهِ فَفِي دُخُولِهِ فِي الْإِقْرَارِ وَجْهَانِ: - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ لِاتِّصَالِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ لِتَمْيِيزِهِ وَاحْتِمَالِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي دُبَّةٌ فِيهَا زَيْتٌ أَوْ غِرَارَةٌ فِيهَا حِنْطَةٌ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالدُّبَّةِ وَالْغِرَارَةِ دُونَ الزَّيْتِ وَالْحِنْطَةِ لِتَمْيِيزِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَهُوَ مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أبو حنيفة فَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي رَأْسُ عَبْدٍ كَانَ إِقْرَارًا بِجَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ رَأْسَ الْعَبْدِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي فَصُّ خَاتَمٍ كَانَ إِقْرَارًا بِالْفَصِّ دُونَ الْخَاتَمِ لِتَمْيِيزِهِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ كَانَ إِقْرَارُهُ بِهِ وَبِفَصِّهِ لِأَنَّ اسم الخاتم بجمعهما. وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ عَبْدًا إِلَّا رَأْسَهُ أَوْ إِلَّا يَدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَكُونُ غَاصِبًا لجميعه لاستحالة مَا اسْتَثْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِجُزْءٍ مِنْهُ يُرْجَعُ فِي بَيَانِهِ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لَهُ قِبَلِي كَذَا أَقَرَّ بِمَا شَاءَ وَاحِدًا وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا أَقَرَّ بِمَا شَاءَ اثْنَيْنِ وَإِنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ دِرْهَمَيْنِ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِرْهِمٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ هُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلَ مِنْ دَرْهِمٍ وَلَا يُعْطَى إِلَا الْيَقِينُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح. وهي ثلاث مسائل تشتمل كل مسألة منها على فصل ين: أحداها: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ,. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا فَهُوَ إِقْرَارٌ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ فَسَّرَهُ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ قِيرَاطٍ قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا يُقْبَلُ فِي تفسير إقراره بشيء. فإن ضم ذكر الدراهم إِلَى قَوْلِهِ كَذَا، فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ، أَوْ كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ، أَوْ كَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَعَلَى تَصَانِيفِ الْإِعْرَابِ فِيهَا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِعْرَابِ في نحو دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِائَةَ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يَكُونُ تَمْيِيزُهُ مَخْفُوضًا بِالْإِضَافَةِ غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَوْجَبُوا فِيهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَذَا يَتَنَاوَلُ مِنَ الْأَعْدَادِ وَاحِدًا وَقَوْلُهُ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِجِنْسِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 فَصْلٌ : وَأَمَّا ال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا فَهُوَ إِقْرَارٌ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ لِأَنَّ حَذْفَ وَاوِ الْعَطْفِ يَجْعَلُ التَّكْرَارَ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ شَيْءٌ. أَوْ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ دِرْهَمًا وَاحِدًا. وَإِذَا كَانَ بِمَا وَصَفْنَا إِقْرَارًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ رُجِعَ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ فَإِنْ ضَمَّهُ إِلَى ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ نُظِرَ، فَإِنْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ وَكَذَا كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَإِنْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ نَحْوِيًّا يُعْرِبُ كَلَامَهُ أَمْ لَا، وَقَالَ محمد بن الحسن عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا سَوَاءٌ كَانَ نَحْوِيًّا أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يُعْرِبُونَ فِي الْكَلَامِ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ كَانَ نَحْوِيًّا فَعَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَمَا قَالَ محمد بن الحسن اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَعْدَادِ الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي يَكُونُ تَمْيِيزُهَا مَنْصُوبًا فَأُلْزِمَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ إِذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرُ الْجِنْسِ لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَعْدَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ كَذَا دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ في إيجاب مئة دِرْهَمٍ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْجِنْسِ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْعَدَدِ كَذَلِكَ فِي النَّصْبِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ لِدُخُولِ وَاوِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا ثُمَّ كَذَا كَانَ إِقْرَارُهُ بِشَيْئَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا بَلْ كَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِقْرَارًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ الثَّانِي إِثْبَاتًا لِلْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ إِقْرَارًا بِشَيْئَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُ زَيْدًا بَلْ زَيْدًا، يَعْنِي الْأَوَّلَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عَنَى غَيْرَهُ. فَإِنَّ ضَمَّهُ إِلَى ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا بِالنَّصْبِ أو درهم بالخفض، قال الشافعي: ههنا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ جَوَابِهِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ: إِحْدَاهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ المسألة على قولين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 أحدها: يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ كَذَا وَكَذَا شَيْئَانِ فَأَوْجَبَ تفسرهما بِالدِّرْهَمِ أَنْ يَكُونَا دِرْهَمَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ كَذَا يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ الشَّيْئَانِ دِرْهَمًا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلَافِ إعراب الكلامين فقوله ههنا عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ إِذَا قَالَهُ مَنْصُوبًا، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِذَا قَالَهُ مَرْفُوعًا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ لِاخْتِلَافِ لفظه، فقوله: ههنا عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ إِذَا ذَكَرَ بَيْنَهُمَا الْوَاوَ فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا الْوَاوَ فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، أَوْ شَكَّ الْحَاكِمُ هَلْ ذَكَرَ الْوَاوَ فِي إِقْرَارِهِ أَمْ لَا. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ إِلَّا التَّفْسِيرُ قَالَ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْأُمِّ. وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ لِاخْتِلَافِ إرادته فقوله " ههنا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ " إِذَا أَرَادَهُمَا أَوْ أَطْلَقَ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ " يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ " إِذَا أَرَادَ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَلَمْ يُطْلِقْ. فَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ. فَأَمَّا محمد بن الحسن فَيَقُولُ يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ مُرَكَّبٍ دَخَلَتْهُ الْوَاوُ. وَكَانَ تَفْسِيرُهُ مَنْصُوبًا، وَهَكَذَا يَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَنْ كَانَ نَحْوِيًّا وَفِيمَا ذكرنا عليهما مقنع والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ والمرض سواء يتخاصمون مَعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بَدَيْنٍ فِي صِحَّتِهِ وَأَقَرَّ لِآخَرَ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ فَكِلَا الْحَقَّيْنِ لَازِمٌ، فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِقَضَائِهِمَا قُضِيَا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ عَنْهُمَا كَانَ فِيهِ سَوَاءٌ وَتَسَاوَى غَرِيمُ الْمَرِيضِ وَغَرِيمُ الصِّحَّةِ فَيَقْتَسِمَانِ الْمَالَ بِالْحِصَصِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَدَّمُ غَرِيمُ الصِّحَّةِ عَلَى غَرِيمِ المريض فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ تَفَرَّدَ بِأَخْذِ الْمَالِ كُلِّهِ وَإِنْ فَضَلَ عَنْهُ فَضْلَةٌ أَخَذَهَا غَرِيمُ الْمَرَضِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ غَرِيمِ الصِّحَّةِ جَمِيعَ دِينِهِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْكَدُ وَأَقْوَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَالِ الْمَرَضِ لنفوذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 عَطَايَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَرَدِّهَا فِي الْمَرَضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّ دُيُونَ الْغُرَمَاءِ تَصِيرُ بِالْمَرَضِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَنْعِهِ مِنْ هِبَتِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ دُيُونِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ حَجْرًا وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ الْحَجْرِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَهُ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ إِقْرَارٍ نَفَذَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَانَ لُزُومُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءً. أَصْلُهُ إِذَا أَقَرَّ بِثَمَنِ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ أَوْ بِمَهْرٍ لِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَلْزَمُ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَجَبَ أَنْ يستوي حكمه في الصحة والمرض إذا ثبت بِالْإِقْرَارِ قِيَاسًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يَسْتَوِي فِيهِمَا ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ كَالصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُحْدِثُ حَجْرًا فِي الْإِقْرَارِ بِدَلَالَةِ نُفُوذِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الْمَرَضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَسَادُهُ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسَلَّمٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي لِلْوَرَثَةِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِيمَا دُونَ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا اعْتِرَاضَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الدُّيُونَ بِالْمَرَضِ تَصِيرُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِ لَا يُبْطِلُ دُيُونَهُ وَثُبُوتُ غَيْرِ دُيُونِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَصِيرُ دُيُونُهُمْ بِالْمَوْتِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ دُونَ الْمَرَضِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا فَهُوَ أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ وَالْحَجْرُ فِيمَا سِوَى الْمَرَضِ وَاقِعٌ فِي الْإِقْرَارِ. فَصْلٌ : إِذَا ضَاقَ مَالُ الْمَرِيضِ عَنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ فَقَدَّمَ بَعْضَ غُرَمَاءِهِ بِدَيْنِهِ فَقَضَاهُ لَمْ يُشْرِكْهُ الْبَاقُونَ فِيهِ، وَقَالَ أبو حنيفة لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْمَرَضِ فَصَارَ الْحَجْرُ وَاقِعًا عَلَيْهِ فِيهَا. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا لَزِمَ قَضَاؤُهُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَضَى ثَمَنَ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ وُجُودِ الْوَفَاءِ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّحِيحِ طرداً، والصغر عكساً والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ لوارثٍ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى حَدَثَ لَهُ وارثٌ يَحْجُبُهُ فَالْإِقْرَارُ لازمٌ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ وارثٌ فَمَنْ أَجَازَ الْإِقْرَارَ لِوَارِثٍ أَجَازَهُ وَمَنْ أَبَاهُ رَدَّهُ وَلَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وارثٍ فَصَارَ وَارِثًا بَطُلَ إِقْرَارُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ فِي الصِّحَّةِ فَلَازِمٌ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ. وَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ لُزُومَ إِقْرَارِهِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ بُطْلَانَ إِقْرَارِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي غَيْرِ الشَّرْحِ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَازِمٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ. وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُ إِقْرَارَهُ لِلْوَارِثِ لَازِمًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَجْعَلُ مَا قَالَهُ مِنْ بُطْلَانِ إِقْرَارِهِ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ استدلالاً بأمرين: - أحدها: أَنَّهُ فِي إِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ مَتْهُومٌ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِ كَالتُّهْمَةِ بِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَيْلِ إِلَيْهَا فَوَجَبَ أن لا يقبل إقراره كما لا بقبل ادِّعَاؤُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ يَخْتَصُّ بِمَنْعِ الْوَارِثِ مِمَّا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْأَجْنَبِيُّ لِأَنَّ عَطِيَّتَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ جَائِزَةٌ إِذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ وَعَطِيَّتُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ، وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ إِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ كَالصَّحِيحِ طَرْدًا وَالسَّفِيهِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ كَالْمُقِرِّ لِغَيْرِ الْوَارِثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِالْوَارِثِ صَحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ كَالْمُقِرِّ بِمَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِوَارِثٍ أَعَمُّ مِنْ إِقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ يَتَضَمَّنُ نَسَبًا وَوِلَايَةً وَمَالًا فَكَانَ إِقْرَارُهُ بِمَالٍ لِلْوَارِثِ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ مِنْ إِقْرَارِهِ بِوَارِثٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مَتْهُومٌ فِي إِقْرَارِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ لِهَذَا الْمَعْنَى فَسَادُ إِقْرَارِهِ كَالدَّعْوَى اسْتَوَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي الْإِبْطَالِ كَمَا اسْتَوَى حَالُ ادِّعَائِهِ لِنَفْسِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَبْعَدُ عَنِ التُّهْمَةِ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا حَالٌ يَجْتَنِبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ وَيُخْلِصُ الطَّاعَةَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وَهَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ آخِرِ عَهِدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلِ عَهْدِهِ بِالْآخِرَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ حَجْرَ الْمَرِيضِ يَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ لِاخْتِصَاصِهِ بِبُطْلَانِ الْعَطِيَّةِ لَاقْتَضَى أَنْ يَبْطُلَ إِقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ كَمَا بَطَلَتْ عَطِيَّتُهُ فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ إِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَعَطِيَّتِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ دَلِيلٍ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْوَارِثِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُرَاعَى كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاءِ؟ فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُرَاعَى فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِاقْتِرَانِ التُّهْمَةِ بِالْإِقْرَارِ لَا بِمَا يَحْدُثُ عِنْدَ الْوَفَاةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَمَالِكٌ يُرَاعَى فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا عِنْدَ الْوَفَاةِ لَا عِنْدَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوَفَاةِ فِي تَقْدِيرِ ثُلُثِهِ وَنُفُوذِ عَطِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ فِي إِقْرَارِهِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ وَارِثُهُ أَخًا فَأَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى حَدَثَ لَهُ ابْنٌ حَجَبَ الْأَخَ فَهَذَا إِقْرَارٌ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فَيَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَكُونُ إِقْرَارًا لِوَارِثٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِقْرَارِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ لَمْ يَمُتِ الْمُقِرُّ حَتَّى مَاتَ الِابْنُ فَصَارَ الْأَخُ وَارِثًا، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ إِقْرَارًا لِوَارِثٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِي الْقَوْلَيْنِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَكُونُ إِقْرَارًا لِغَيْرِ وَارِثٍ فَيَصِحُّ. فَصْلٌ : فَلَوْ مَلَكَ أَخَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَفِي مِيرَاثِهِ قَوْلَانِ: - أَحَدُهُمَا: لَا يَرِثُ إِذَا قِيلَ إنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ مَرْدُودٌ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يُوجِبُ رَدَّ الْإِقْرَارِ لَهُ، وَرَدُّ الْإِقْرَارِ يُبْطِلُ الْحُرِّيَّةَ وَيُسْقِطُ الْإِرْثَ فَأَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ بِثُبُوتِ الْإِقْرَارِ وَسَقَطَ الْإِرْثُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرِثُ إِذَا قِيلَ إنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ مَقْبُولٌ فَيَكُونُ الْعِتْقُ نَافِذًا بِإِقْرَارِهِ وَالْإِرْثُ ثَابِتًا بِنَسَبِهِ وَلَا يَرْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ ابْنَ هَذِهِ الْأَمَةِ وَلَدُهُ مِنْهَا وَلَا مَالَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 غيرها ثم مات فهو ابنه وهما حران بموته ولا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا وَيَجُوزُ إِبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ حريةٍ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ يَمْلِكُ أَمَةً ذَاتِ وَلَدٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ: هَذَا ابْنُ هَذِهِ الْأَمَةِ وَلَدِي مِنْهَا، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَقَدْ صَارَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ رِقٌّ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْأُمِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: أن يقول في إقراره ببينونة أَنِّي اسْتَوْلَدْتُهَا فِي مِلْكِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: اسْتَوْلَدْتُهَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ استولدتها بِوَطْءِ شُبْهَةٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُطْلِقَ. فَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا فِي مِلْكِي صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِإِقْرَارِهِ تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ وَالْوَلَدُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَسَوَاءٌ خَرَجَا مِنَ الثلث أو لَا صَدَّقَ الْغُرَمَاءُ أَمْ كَذَّبُوا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُ قَوْلٌ يَقَعُ بِهِ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ أَوْكَدُ مِنْ إِيقَاعِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي صِحَّتِهِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ وَنَجُزَ عِتْقُهُ وَلَوِ ابْتَدَأَ عِتْقَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَالدُّيُونُ مُحِيطَةٌ بِقِيمَتِهِ بَطَلَ عِتْقُهُ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا وَصَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَأَنْ تَصِيرَ كَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ عَنْ فِعْلِ الصِّحَّةِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: وَهُوَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ فِيهَا حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِعِتْقِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِرِقِّهَا وَهُوَ الدُّيُونُ وَجَبَ إِثْبَاتُ أَوْكَدِهِمَا وَالْعِتْقُ أَوْكَدُ مِنْ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ عِتْقٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَجُوزُ إِسْقَاطُ الدُّيُونِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فَلِهَذَيْنِ صَارَا بِمَوْتِهِ حُرَّيْنِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُمَا حُرَّانِ بِمَوْتِهِ وَالْوَلَدُ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ رِقٌّ؟ قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ اجْتَمَعَتْ فِيهِمَا بِمَوْتِهِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِمَا وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي أَحَدِهِمَا. فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَالْوَلَدُ قَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ وَصَارَ حُرًّا بِالْمِلْكِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ مَمْلُوكًا لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ مَمْلُوكٌ وَلَهُ الْوَلَاءُ عَلَى وَلَدِهِ لِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ رِقِّهِ وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَلَاءٌ لِأَنَّهُ خُلِقَ حُرًّا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، فَأَمَّا الْأُمُّ فَلَا تَصِيرُ لَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهَا لَمْ تُعَلَّقْ بِحُرٍّ وَإِنَّمَا عُلِّقَتْ بِمَمْلُوكٍ، وَحُرِّيَّةُ أم الولد إنما ثبتت بِحُرِّيَّةِ وَلَدِهَا، وَتَكُونُ عَلَى الرِّقِّ بَعْدَ مَوْتِهِ وتباع في ديون غرماءه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ اسْتَوْلَدْتُهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا فَالْوَلَدُ خُلِقَ حُرًّا لِأَنَّهُ مِنْ شُبْهَةِ مَلِكٍ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ وَهَلْ تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لعدم ملكه عند الاستيلاد. وَالثَّانِي: وَهُوَ رِوَايَةُ حَرْمَلَةَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِعُلُوقِهَا مِنْهُ بِحُرٍّ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي الْقَدِيمِ يَعْتَبِرُ فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَنْ تُعَلَّقَ مِنْهُ بِحُرٍّ، وَفِي الْجَدِيدِ يَعْتَبِرُ أَنْ تُعَلَّقَ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ أَطْلَقَ إِقْرَارَهُ وَلَمْ يُضِفِ اسْتِيلَادَهَا إِلَى مِلْكٍ وَلَا غَيْرِهِ فَالْوَلَدُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْأَمَةِ فَإِنْ لَمْ تَدَّعِ إِصَابَتَهَا فِي الْمِلْكِ فَهِيَ عَلَى الرِّقِّ، وَإِنِ ادَّعَتْ إِصَابَتَهَا فِي الْمِلْكِ فَإِنْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَلَا اعْتِبَارَ بِإِكْذَابِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَقُومُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ فِي الْإِقْرَارِ، وَإِقْرَارُ الْمَوْرُوثِ مَقْبُولٌ مَعَ تَكْذِيبِ الْغُرَمَاءِ فَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ أَكْذَبَهَا الْوَرَثَةُ وَادَّعَوُا اسْتِيلَادَهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ اسْتِصْحَابًا لِرِقِّهَا الثَّابِتِ ثُمَّ تُبَاعُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ مَرْقُوقَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمَةِ مَعَ يَمِينِهَا عَلَى الْبَتِّ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْمِلْكِ، وَعَدَمِ النِّكَاحِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بالموت والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لحملٍ بدينٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا حَتَّى يَقُولَ كَانَ لِأَبِي هَذَا الْحَمْلِ أَوْ لِجَدِّهِ عَلَى مالٍ وَهُوَ وَارِثُهُ فَيَكُونُ إقراراً له (قال المزني) رحمه الله هَذَا عِنْدِي خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي الرَّجُلِ يُقِرُّ أَنَّ فُلَانًا وَكِيلٌ لفلانٍ فِي قَبْضِ مَا عَلَيه إنَّهُ لَا يَقْضِي عليه بدفعه لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالتَوْكِيلِ فِي مالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَيَقُولُ لَهُ إِنْ شِئْتَ فَادْفَعْ أَوْ دَعْ وَكَذَلِكَ هَذَا إِذَا أَقَرَّ بمالٍ لرجلٍ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَاتَ وَوَرِثَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا عِنْدِي بالحق أولى وهذا وذاك عندي سواء فيلزمه ما أقر به فيهما على نفسه فإن كان الذي ذكر أنه مات حيًّا وأنكر الذي له المال الوكالة رجعا عليه بما أتلف عليهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ إِقْرَارِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْزِيهِ إِلَى جِهَةٍ مُمْكِنَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْزِيهِ إِلَى جِهَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرْسِلَهُ مُطْلَقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 فَإِنْ عَزَاهُ إِلَى جِهَةٍ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ إِرْثٌ مِنْ أَبِيهِ أَوْ وَصِيَّةٌ عَنْ مُوصٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلَزِمَ. وَإِنْ أَرْسَلَهُ وَأَطْلَقَهُ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمَوَاهِبِ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقْلَهُ الْمُزَنِيُّ ههنا: إِنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف، لأن إثبات الحقوق يجري بين الأحياء الموجودين غَالِبًا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنِ الْحَمْلِ فَبَطَلَ بِغَالِبِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَصِحَّ لَهُ إِقْرَارٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا كِتَابٌ لَمْ يَنْقُلِ الْمُزَنِيُّ مِنْهُ شَيْئًا أَنَّ إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَزِمَ وَلَمْ يَبْطُلْ لِاحْتِمَالِ فَسَادِهِ وَجْهٌ كَمَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِلطِّفْلِ وَإِنِ اسْتَحَالَ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِمُعَامَلَتِهِ لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ. وَإِنْ عَزَا إِقْرَارَهُ إِلَى جِهَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ، فَكَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لِمُعَامَلَتِي إِيَّاهُ أَوْ بِجِنَايَتِي عَلَيْهِ فَهَذِهِ حَالَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ فِي الْحَمْلِ فَإِذَا وَصَلَ الْإِقْرَارُ بِهَا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ إِقْرَارِهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ فَهَذَا إِذَا وَصَفَهُ بِالْمُحَالِ أُبْطِلَ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ فَفِيهِ إِذَا وَصَلَهُ بِصِفَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ قَوْلَانِ مِنْ تبعيض الإقرار فيمن قال: ضمنت ألفا على أَنَّنِي بِالخِيَارِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِقْرَارَ لَازِمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَالصِّلَةُ رُجُوعٌ فَلَمْ يُقْبَلْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ وَحُكْمُهُ أَوَّلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ إِقْرَارِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ لِمَا يَسْتَحِيلُ أَوْ مَعَ الْإِطْلَاقِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بصحة إقراره مع التقييد بالمكن أَوْ مَعَ الْإِطْلَاقِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. فَنَقُولُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَرِّ لِحَمْلِهَا مِنْ أَنْ تَضَعَ حَمْلًا أَوْ لَا. فَإِنْ لَمْ تَضَعْ حَمْلًا وَكَانَ مَا بِهَا غلظاً وربحاً بَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهُ، ثُمَّ نُظِرَ فِي الْإِقْرَارِ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَاهُ إِلَى وَصِيَّةٍ بَطَلَتْ وَرُدَّتْ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَاهُ إِلَى مِيرَاثٍ رُدَّ عَلَى غَيْرِ الْحَمْلِ مِنْ وَرَثَةٍ مُسْتَحِقَّةٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَهُ أُقِرَّ فِي يَدِ الْمُقِرِّ لِعَدَمِ مُدَّعِيهِ. وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَضَعَهُ حياً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ مَيِّتًا. فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَدَمِ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ وَصِيَّةً وَلَا يَسْتَحِقُّ إِرْثًا. وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَقَلَّ الحمل ستة أشهر فيعلم بوضعه قبلها إن كَانَ مَخْلُوقًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ فَصَحَّ لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةَ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ فَيُعْلَمُ بِوَضْعِهِ بَعْدَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ فَبَطَلَ وَكَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلٍ فَلَمْ يُوضَعْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِحَمْلِهَا مِنْ أَنْ تُصَابَ بِوَطْءٍ تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا لِزَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ أَوْ ذِي شُبْهَةٍ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا مُفْتَرِشٌ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا فَالظَّاهِرُ مِنْ تَقَدُّمِ حَمْلِهَا وَلُحُوقِهِ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ كَحُكْمِنَا بِتَقَدُّمِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْوَطْءِ مَنْ قَبْلِهِ. وَإِنْ أَصَابَهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ مُفْتَرِشٌ تَصِيرُ لَهُ فِرَاشًا فَالظَّاهِرُ حُدُوثُ حَمْلِهَا وَلُحُوقُهُ بِالْوَاطِئِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَحُكْمِنَا بِحُدُوثِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْوَاطِئِ مِنْ بَعْدِهِ. فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالثَّانِي لِأَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ فَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِتَقَدُّمِ الثَّانِي لِعِلْمِنَا بِتَقْدِيمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَهُمَا حَمْلَانِ وَالثَّانِي مِنْهُمَا مُتَأَخِّرٌ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ فَتَقَدَّمَهُ وَبَطَلَ الثَّانِي لِتَأَخُّرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ مَوْطُوءَةً بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَمْ لَا؟ فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ لِلْحَمْلِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ وَضْعِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضَعَ وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا فَإِنْ وَضَعَتْ وَاحِدًا فَجَمِيعُ الْإِقْرَارِ لَهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِقْرَارُ وَصِيَّةً أَوْ مِيرَاثًا. وَإِنْ وَضَعَتْ عَدَدًا فَإِنْ كَانَ ذُكُورًا لَا غَيْرَ أَوْ إِنَاثًا لَا غَيْرَ فَالْإِقْرَارُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِيرَاثًا فَهُوَ بَيْنُهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كانت وَصِيَّةً فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّسَاوِي حَتَّى يُعْلَمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 سَبَبُ التَّفَاضُلِ فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ اسْتِيلَادِهِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِيرَاثًا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ وَقَعَ مَيِّتًا سَقَطَ سَهْمُهُ وَكَانَ الْإِقْرَارُ لِمَنْ سِوَاهُ مِنَ الْحَمْلِ. فَصْلٌ : أَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْوَكَالَةِ إِذَا ادَّعَاهَا رَجُلٌ لِغَائِبٍ فِي قَبْضِ حَقِّهِ فَصُدِّقَ عَلَيْهَا أَنَّ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْوَكِيلِ بِالتَّصْدِيقِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْمَالِ إِلَى الْحَمْلِ الْوَارِثِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ غَيْرَ مُقِرٍّ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِ وَفِي الْوَارِثِ مُقِرٍّ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ فَلَزِمَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إِلَى الْوَكِيلِ لَا يَبْرَأُ مِنَ التَّبِعَةِ وَمُطَالَبَةِ الْغَائِبِ بِهِ إِنْكَارَ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يُلْزَمْ إِلَّا بِمَا تَزُولُ مَعَهُ التَّبِعَةُ مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ تُشْهَدُ لَا يُلْزَمُ الدَّفْعَ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى قَبْضِهِ لِتَزُولَ التَّبِعَةُ عِنْدَ إِنْكَارِ الْقَبْضِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَزِمَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ لِزَوَالِ التَّبِعَةِ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوَارِثِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ مُقِرٌّ بِارْتِفَاعِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ مَجْنُونٌ بمال كان الإقرار لازماً إن وصله يمكن أَوْ أَطْلَقَهُ لَا يَخْتَلِفُ. وَإِنْ وَصَلَهُ بِمُسْتَحِيلٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ لِدَابَّةِ زَيْدٍ أَوْ لِدَارِ عَمْرٍو بِمَالٍ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ مِلْكِ الدَّابَّةِ وَالدَّارِ شيئا. وَلَوْ أَقَرَّ لِعَبْدِ زِيدٍ بِمَال فَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ فَفِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ كَالْإِقْرَارِ لِلْبَيْعَةِ. وَالثَّانِي: يصح لإمكان معاملته في ذِمَّتِهِ وَهَذَا أَصَحُّ. فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ لِمَصْنَعٍ أَوْ مَسْجِدٍ بِمَالٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ صَرْفَ ذَلِكَ الْمَالِ فِي عِمَارَتِهِ مِنْ غَلَّةٍ وُقِفَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ وَصِيَّتِهِ لَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَصِلَ إِقْرَارَهُ بِذَلِكَ فَيَصِحُّ، والأول أصح. أما إِنْ أَقَرَّ لِبَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ بِمَالٍ بَطَلَ الْإِقْرَارُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا الْوَصِيَّةُ لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ يُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُ مَالٍ مِنْ جِهَتِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ فَإِنْ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِمُمْكِنٍ كَقَوْلِهِ وَصَّى لِي بِرَقَبَتِهَا وَلَهُ بِحَمْلِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ وَلَزِمَ، وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الإقرار أو أرسله، فالذي نقله الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ مُنْفَرِدًا بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا مِيرَاثٍ. وَيَجِيءُ قَوْلٌ ثَانٍ مِنَ الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ صَحِيحٌ لِإِمْكَانِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ هَذَا الرَّقِيقُ لَهُ إِلَّا وَاحِدًا كان للمقر أن يأخذ أيهم شاء ". قال الماوردي: وهؤلاء العبيد له إلا واحد صَحَّ الْإِقْرَارُ وَكَانَ مَجْهُولًا لِأَنَّ الْوَاحِدَ الْمُسْتَثْنَى مجهول وجهالة الاستثناء مفضي إِلَى جَهَالَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْجَهَالَةُ فِي الْإِقْرَارِ لَا تُبْطِلُهُ لِإِمْكَانِ بَيَانِهِ مِنْ نَفْيِ الْجَهَالَةِ بِسُؤَالِهِ كَالْمُقِرِّ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْمُقِرُّ بِبَيَانِ الْعَبْدِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنْ إِقْرَارِهِ وَأَيُّ عَبْدٍ بَيَّنَهُ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ بَيَّنَ أَعْلَاهُ أَوْ أَدْنَاهُ. وَمَنْ مَنَعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا نفى أَكْثَرَ الْجُمْلَةِ مَنَعَ مِنْ بَيَانِ أَكْثَرِهِمْ قِيمَةً وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْإِقْرَارِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَهُ حِينَ إِقْرَارِهِ صَحَّ فَكَذَلِكَ بَعُدَ إِقْرَارُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ أَحْلَفَهُ وَاسْتَحَقَّهُ فَلَوْ مَاتَ الْعَبِيدُ كُلُّهُمْ إِلَّا وَاحِدًا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ هُوَ هَذَا الْوَاحِدُ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لفوات من مات فيصير باستثناءه رَافِعًا لِجَمِيعِ إِقْرَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ لِجَوَازِ بَيَانِهِ قَبْلَ مَوْتِ مَنْ سِوَاهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ فَمَاتَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً رَافِعًا لِلْجُمْلَةِ كَمَا لَا يَكُونُ مَوْتُ جَمِيعِهِمْ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ قُتِلَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا وَاحِدًا فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَذَا الْوَاحِدَ قُبِلَ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَمْ يَفُتْ لِاسْتِحْقَاقِ قِيمَتِهِ عَلَى الْقَاتِلِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ إِلَّا وَاحِدًا ثُمَّ مَاتُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ لَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمَغْصُوبِينَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فلانٍ وَمِلْكُهَا لفلانٍ فَهِيَ لفلانٍ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ غصبها منه ولا تجوز شهادته للثاني لأنه غاصبٌ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو فَعَلَيْهِ تسليمها إلى زيد الذي أقر بغضبها منه وهو مستأنف للشهادة بملكها لعمرو فلم تسمع الشهادة منه لأنه غاصب والغاصب مردود الشهادة ثم لا غرم عليه لعمرو الذي أقر له بملكها لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَالِكًا وَغَيْرُهُ أَحَقُّ بِالْيَدِ الإجارة أَوْ رَهْنٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا إِلَى صَاحِبِ الْيَدِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ دُونَ الْمُقَرِّ بِمِلْكِهَا لَهُ وَسَقَطَ الْغُرْمُ عَنْهُ لِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِ الْيَدِ لَهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَالِكًا لَهَا ثُمَّ يَكُونُ عَمْرٌو الْمُقَرُّ لَهُ بِمِلْكِهَا خَصْمًا فِيهِ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ بِغَصْبِهَا فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِمِلْكِهَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَجْلِ يَدِهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مِلْكُ هَذِهِ الدَّارِ لِزَيْدٍ غَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو فَهِيَ لِزَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهَا دُونَ عَمْرٍو الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِغَصْبِهَا فَصَارَ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ إِقْرَارًا مَحْضًا لِثُبُوتِ يَدِهِ مِنْ قَبْلُ وَوُجُوبِ رَفْعِهَا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ بَدَأَ بِذِكْرِ الْغَصْبِ كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ شَهَادَةً مَحْضَةً ثُمَّ إِذَا جُعِلَتْ لِلْأَوَّلِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ، فهل يلزمه غرم قيمتها للثاني المقر له أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِيمَا بَعْدُ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: اسْتَعَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَمَلْكُهَا لِعَمْرٍو لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى زَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي اسْتَعَارَهَا مِنْهُ، وَصَارَتْ شَهَادَتُهُ بِمِلْكِهَا لِعَمْرٍو لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْتَعِيرِ جَائِزَةً بِخِلَافِ الْغَاصِبِ. وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَاسْتَعَرْتُهَا مِنْ عَمْرٍو لَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى زَيْدٍ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو الْمُعِيرِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهَا مِنْ فلانٍ لَا بَلْ مِنْ فلانٍ كَانَتْ لِلْأَوَّلِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ للثاني وكان الثاني خَصْمًا لِلْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو، أَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو، أَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ وَغَصَبَهَا زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو أَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَغَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو. فَالدَّارُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ لِزَيْدٍ الْأَوَّلِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْغَصْبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقَدُّمُ الْإِقْرَارِ لَهُ وَالْمَنْعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ لِلْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَصَارَ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي مُقِرًّا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَرُدَّ وَلَمْ يُقْبَلْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِلثَّانِي بِمَا عَقَّبَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْمِلْكِ أَوِ الْغَصْبِ أَمْ لا؟ على قولين: أحدهما: نقله المزني ههنا مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمَوَاهِبِ مِنَ الْأُمِّ أَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ الَّذِي لم ينقل به الْمُزَنِيُّ شَيْئًا أَنَّ الْغُرْمَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. فَإِذَا قِيلَ بِسُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْهُ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ فَعَلَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا رَفَعَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ بِالْأَوَّلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ فِعْلِ الْوَاجِبِ غُرْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَيْنَ الدَّارِ قَائِمَةً وَالْقِيمَةَ مَعَ وُجُودِهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ مُفَوِّتٌ لَهَا عَلَى الثَّانِي بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقِرٌّ لِلثَّانِي بِالْغَصْبِ وَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ مِنَ الْغَاصِبِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا الْمُقِرُّ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ لِأَجْلِ إِقْرَارِهِ بِتَسْلِيمِهَا إِلَى الْأَوَّلِ فِي أَنَّ وُجُوبَ الْغُرْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ سَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ لُزِمَ الْغُرْمَ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَا بَاشَرَهُ مِنَ الْأَصَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ. فَإِنْ سَلَّمَهَا الْحَاكِمُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ سَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يُغَرَّمْ وَإِنْ سَلَّمَهَا الْحَاكِمُ غُرِّمَ، قَالَ لِأَنَّ تَسَلُّمَ الْحَاكِمِ تَمْلِيكٌ فَصَارَ الْمَلِكُ مُسْتَهْلَكًا عَلَى الثَّانِي فَاسْتَحَقَّ الْغُرْمَ وَتَسْلِيمُهُ بنفسه ليس بتمليك فلم يغرم. وعكسه ما ذَكَرْنَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ. فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَصْبِهِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ وَلَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْغَصْبِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ قَدْ عَاوَضَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ فَغُرِّمَ وَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُغَرَّمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 ولو أعتق عبداً ثم أقر بغضه لَمْ يُبْطُلِ الْعِتْقُ وَكَانَ غُرْمُ قِيمَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُتَطَوِّعًا أَوْ عَنْ كَفَّارَةٍ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالْإِقْرَارِ أَحَدَهُمَا فَيُؤْخَذُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا عَيَّنَ أَحَدَهُمَا تَوَجَّهَ الْإِقْرَارُ إِلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَبْدِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ بِالْإِقْرَارِ. فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدَهُمَا وَقَالَ لَسْتُ أَعْرِفُهُ حَلَفَ لَهُمَا، وَكَانَ الْعَبْدُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا، وَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ مُقِرٌّ بِغَصْبِهِ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِمَا وَلَا غُرْمَ. وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ زَيْدٍ وَغَصَبْتُهُ مِنْ عَمْرٍو فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أحدهما: أن يَكُونُ كَالْمُقِرِّ بِغَصْبِهِ لِثَانٍ بَعْدَ أَوَّلٍ، فَيُسَلَّمُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِلثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُقِرِّ بِغَصْبِهِ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَلَا غُرْمَ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ زَيْدًا أَوْ غَصَبْتُ مِنْ زَيْدٍ وَلَمْ يَصِلْ هَذَا الْإِقْرَارَ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ بِغَاصِبٍ لِشَيْءٍ يُوجِبُ غُرْمًا لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْتُ زَيْدًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ حَبْسَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَمَنْعَهُ مِنْ عَمِلِهِ، وَقَوْلُهُ غَصَبْتُ مِنْ زَيْدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ حَقِيرٍ تَافِهٍ، فَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ زَيْدًا كَلْبًا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، لِتَحْرِيمِ قِيمَتِهِ وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُ زَيْدًا خَمْرًا أَوْ قَالَ خِنْزِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ، وَأُرِيقَ الْخَمْرُ وَقُتِلَ الْخِنْزِيرُ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِقْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي الْمَالِ إِلَّا بأن يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ فَمَتَى عُتِقَ وَمَلَكَ غُرِّمَ وَيَجُوزُ إِقْرَارُهُ فِي الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْحَدِّ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ إِقْرَارِ الْعَبْدِ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: (الأول) : قسم يتعلق ببدنه. (الثاني) : قسم يتعلق بماله. (الثالث) : وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ وَمَالِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِبَدَنِهِ فَإِقْرَارُهُ بِقَتْلٍ يُوجِبُ قَوَدًا أَوْ زِنًا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قَذْفًا يُوجِبُ جَلْدًا وَذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ وَمَأْخُوذٌ بِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِتَكْذِيبِ سَيِّدِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وزفر ومحمد بن الحسن وَدَاوُدُ: إِنَّ إِقْرَارَهُ بِتَكْذِيبِ السَّيِّدِ مَرْدُودٌ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَدَنَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَكَانَ إِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ إِقْرَارًا فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ وَلِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي إِقْرَارِهِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا كَإِقْرَارِهِ بِالْمَالِ وَهَذَا خَطَأٌ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مُبْدٍ لِصَفْحَتِهِ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَى بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِقْرَارُهُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ يُقْبَلُ فِيهِ إِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ كَالرِّدَّةِ طَرْدًا وَالْمَالِ عَكْسًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِقْرَارِهِ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ فَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ وَلَوْ مَلَكَهُ لَنَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ فَهُوَ أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ إِضْرَارًا بِغَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مُدَايَنَةُ مُرَاضَاةٍ. وَالثَّانِي: جِنَايَةُ إِكْرَاهٍ. فَأَمَّا مُدَايِنَةَ الْمُرَاضَاةِ فَهُوَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ وَمُعَامَلَةٍ مُسْتَوْجَبَةٍ كَالْأَثْمَانِ وَالْقُرُوضِ وَالْأُجُورِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ. فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ إِقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ مُسَلَّطٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمُوجِبِهَا، فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ دَيْنِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ كَانَ الْفَاضِلُ عَنْهُ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا عُتِقَ وَأَيْسَرَ بِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ دُيُونِ إِقْرَارِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ مُوجِبٌ لِضَمَانِ دُيُونِهِ كَمَا يُوجِبُ إِذْنُهُ بِالنِّكَاحِ ضَمَانَ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَبَتَ بِرِضَا مُسْتَحِقِّهِ كَانَ مَحَلُّهُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ الرَّقَبَةِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حَقُّ الْجِنَايَةِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمُدَايَنَةِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالصَّدَاقِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السُّؤَالُ سَاقِطًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 وَالثَّانِي: يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى السَّيِّدِ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ إِذَا احْتَاجَ وَسَأَلَ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَالْمُدَايَنَةِ وُجُوبُ الْإِذْنِ لَهُ بِالتَّزْوِيجِ فَكَانَ مُلْتَزِمًا لِلصَّدَاقِ فِيهِ كَالنَّفَقَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَلَمْ يُلْزَمْ ضَمَانَ مَا حَدَثَ مِنْ مُدَايَنَةٍ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَجَمِيعُ دُيُونِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ كَسْبِهِ وَلَا إِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا أَنْ يَصْرِفَهُ فِي دُيُونِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ أَوْ لَا. وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ عَلَى الدُّيُونِ أَمْ لَا، وَيُمْنَعُ الْغُرَمَاءُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فِي حَالِ الرِّقِّ وَبَعْدَ عِتْقِهِ حَتَّى يُوسِرَ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ جِنَايَةٍ وَاسْتِكْرَاهٍ كَأُرُوشِ الْجِنَايَةِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَدِيَاتِ الْخَطَأِ وَكُلُّ مَا وَجَبَ لِمُسْتَحَقِّهِ بغير اختيار ورضى فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّيِّدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ. أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنَّ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ عَلَى إِقْرَارِهِ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِوُجُوبِهِ ولزومه فهو متعلق برقتبه يُبَاعُ فِيهَا وَيَقْضِي وَإِنْ ضَاقَتِ الْقِيمَةُ عَنْ جِنَايَتِهِ فَفِي الْفَاضِلِ مِنْهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ هَلْ تَعَلَّقَ ابْتِدَاءً بِرَقَبَتِهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى رَقَبَتِهِ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي رَقَبَتِهِ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ مِنْ بَقِيَّةِ جِنَايَتِهِ وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا هَدْرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى رَقَبَتِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَاضِلُ عَنْ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ وَالِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِقْرَارُ بِرَقَبَتِهِ وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَضَاهُ مِمَّا فِي يَدَيْهِ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ كَالْحُرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لَا يَتَضَمَّنُ إِذْنًا بِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَاسْتَوَى حَالُ جِنَايَتِهِ مَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ وَلِأَنَّ أَرْشَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 سَوَاءٍ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ أَرْشُ كُلِّ جِنَايَةٍ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِ التِّجَارَةِ لَمْ يُجِزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَالِ التِّجَارَةِ كَأَرْشِ الْبَكَارَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ، فَالسَّرِقَةُ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهَا الْقَطْعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ أَوْ لِنَقْصِ النِّصَابِ كَانَ كَالْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ عَنْ جِنَايَةٍ وَاسْتِهْلَاكٍ إِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ عَلَى السَّيِّدِ مَعَ التَّكْذِيبِ. وَإِنْ وَجَبَ فِيهَا الْقَطْعُ بِكَمَالِ النِّصَابِ وَوُجُودِ الْحِرْزِ كَانَ إِقْرَارُهُ نَافِذًا عَلَى يَدِهِ فِي الْقَطْعِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لِتَعَلُّقِهِ بِبَدَنِهِ. فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ فِيهِ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ فِيهِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَقْبُولُ الْإِقْرَارِ فِيهِ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ لِأَدَائِهِ لِأَنَّ اقْتِرَانَهُ بِالْقَطْعِ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ وَاحِدٌ قَدْ حُكِمَ بِبَعْضِهِ فَحُكِمَ بِبَاقِيهِ فَلَوْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ إِقْرَارُهُ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي الْمُسْتَهْلَكِ فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ أَيْضًا كَالْمُسْتَهْلَكِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِتِلْكَ إِقْرَارًا فِيمَا بِيَدِ سَيِّدِهِ فَرُدَّ وَلَمْ يُقْبَلْ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَمَقْبُولُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ وَيَتَعَلَّقُ مَا أَقَرَّ بِهِ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ وَلَا مَالَ مَعَهُ فَتَكُونُ دُيُونُ مُعَامَلَاتِهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَغُرْمُ جِنَايَتِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُؤَدَّى مِنْ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ كَالْعَبْدِ. وَأَمَّا الَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ فِي نِصْفِهِ الْحُرِّ نَافِذُ الْإِقْرَارِ كَالْحُرِّ وَفِي نِصْفِهِ الْمَرْقُوقِ كَالْعَبْدِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رجلٌ لفلانٍ عَلَيَّ ألفٌ فَأَتَاهُ بألفٍ فقال هي هذه الَّتِي أَقَرَرْتُ لَكَ بِهَا كَانَتْ لَكَ عِنْدِي وديعةٌ فَقَالَ بَلْ هَذِهِ وَدِيعَةٌ وَتِلْكَ أُخْرَى فالقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 قول المقر مع يمينه لأن من أودع شيئاً فجائز أن يقول لفلانٍ عندي ولفلانٍ عليّ لأنه عليه ما لم يهلك وقد يودع فيتعدى فيكون عليه ديناً فلا ألزمه إلا باليقين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ابْتَدَأَ الْمُقِرُّ فَقَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ ثُمَّ أَتَاهُ بِهَا وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي كُنْتُ أَقْرَرْتُ بِهَا كَانَتْ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَأَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَقَالَ: هَذِهِ لَعَمْرِي وَدِيعَتِي فِي يَدِكَ وَتِلْكَ أَلْفٌ أُخْرَى دَيْنٌ لِي فِي ذِمَّتِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْوَدَائِعِ فَصَارَ ظَاهِرَ الْإِقْرَارِ يُوجِبُ تَصْدِيقَ الْمُقَرِّ لَهُ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ تَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا احْتَمَلَهُ الْإِقْرَارُ فَهُوَ مَقْبُولٌ مِنَ المقر، وما قاله المقر ههنا مُحْتَمَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ يَعْنِي رَدَّهَا. وَالثَّانِي: عَلَيَّ لِأَنَّنِي تَعَدَّيْتُ فِيهَا فَضَمِنْتُهَا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِهَا وَدِيعَةً قَدْ تَلِفَتْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ مَا تَلِفَ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَيُحْتَمَلُ عَلَيَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلى. وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ، وَلَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِ التَّعَدِّي فَلَمْ يَكُنْ لِسُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهٌ فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ، ثُمَّ أَحْضَرَ أَلْفًا وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي أَقْرَرْتُ لَهُ بِهَا كَانَتْ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ هَذِهِ الْوَدِيعَةُ وَتِلْكَ دَيْنٌ غَيْرُهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا لِاحْتِمَالِ قَوْلِهِ فِي ذِمَّتِي لِتَعْدِيَةٍ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ بِأَلْفٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُضَافَ إِلَى ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ بَعْدَ التَّلَفِ فَتَنَافَيَا والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ درهمٍ وَدِيعَةً أو مضاربةً ديناً كانت ديناً لأنه قد يتعدى فيها فتكون مضمونة عليه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْهَا فَقَدْ يَقَعُ التَّعَدِّي فِيهِمَا فَيَجِبُ ضمانها وَمَا وَجَبَ ضَمَانُهُ بَعْدَ الْأَمَانَةِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَدِيعَةً ديناًَ مُتَنَافِيًا وَلَا مُمْتَنِعًا، فَصَارَ مُقِرًّا بِأَلْفٍ هِيَ دَيْنٌ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّتِهِ عَنْ وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ وَلَا وَجْهَ لِإِلْغَاءِ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ صِلَةَ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْوَدِيعَةِ فِي سقوط الضمان لإمكان اجتماعهما بما بيننا. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ دَفَعَهَا إِلَيَّ أَمَانَةً عَلَيَّ أَنِّي ضامنٌ لها لم يكن بشرط ضَمَان مَا أَصْلُهُ أَمَانَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال: كان عقد كل أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا بِاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ وَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ مَضْمُونًا كَالْعَوَارِيِّ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ بِاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ لِأَنَّ الْعُقُودَ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَحْكَامِ أُصُولِهَا وَلَا يُغَيَّرُ الشَّرْطُ الْأَصْلُ عَنْ حُكْمِهِ فَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا دَفْعَ إِلَيْهِ وَدِيعَةً عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا فَهِيَ أَمَانَةٌ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ درهم وهي وَدِيعَةٌ دَفَعَهَا إِلَيَّ بِشَرْطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ الْأَلْفَ بِذِكْرِ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ تَصِرْ بِالشَّرْطِ مَضْمُونَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَكُونُ مَضْمُونَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ ثُمَّ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ: دَفَعَهَا إِلَيَّ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ظَاهِرُهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ درهمٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ فَإِنْ قَالَ نَقَدَ فيه ألفاً قيل كم لك منه؛ فما قال إنه لَهُ مِنْهُ اشْتَرَاهُ بِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ لِأَنَّهُمَا قَدْ يُغْبَنَانِ وَيَغْبِنَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَالَ: لِزَيْدٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ مُجْمَلٌ لَا يُوقَفُ عَلَى مُرَادِهِ إِلَّا بِبَيَانِهِ لِاحْتِمَالِهِ وُجُوهًا فَيُسْأَلُ عَمَّا أَرَادَ بِهِ فَإِذَا قَالَ أَرَدْتُ أَنَّهُ نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ أَلْفًا، فَهَذَا خَبَرٌ أَنَّهُ مَلَكَ مِنْهُ بِالِابْتِيَاعِ شيئاً أيهمه وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ صَارَ إِقْرَارُكَ مَعْلُومَ الْجِهَةِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَهَلْ شَرَيْتُمَاهُ صفقه أو صفقتين؟ فإن قال: شربناه صَفْقَةً، قِيلَ لَهُ: فَكَمْ نَقَدْتَ فِي ثَمَنِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: أَلْفًا، كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَلْفَانِ إِحْدَاهُمَا لَهُ. وَإِنْ قَالَ نفدت فِيهِ أَلْفَيْنِ. كَانَ إِقْرَارًا بِثُلُثِهِ وَإِنْ قَالَ: نَقَدْتُ فِيهِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ كَانَ إِقْرَارًا بِرُبْعِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا أَنْظُرُ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ نَقَدَ في ثمنه ألفاً، لم أسأله وقيمت الْعَبْدَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنَّ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ لَهُ عشره، فَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمَا قَدْ يُغْبَنَانِ وَيَغْبِنَانِ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً أَزْيَدَ مِنَ الْقِيمَةِ وَتَارَةً أَنْقَصَ فلم يجز من أجل ذلك أن نعتبر الْقِيمَةُ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْنَاهُ صَفْقَتَيْنِ سُئِلَ عَنْ قَدْرِ حِصَّتِهِ وَلَمْ يُسْأَلْ عَنْ قَدْرِ مَا نَقَدَ فِي ثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّفْقَتَيْنِ قَدْ يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ كَالصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا بَيَّنَ لِنَفْسِهِ قَدْرًا مِنْهُ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَصَارَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا أَلْفٌ قُبِلَ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِاحْتِمَالِ إِقْرَارِهِ وَأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ. فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِهِ قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي احْتِمَالِ إِقْرَارِهِ وَيُبَاعُ الْعَبْدُ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ بِهَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنْ نَقَصَ ثَمَنُ الْعَبْدِ عَنْ أَلْفٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ زَادَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ مَرْهُونٌ عِنْدَهُ بِأَلْفٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي احْتِمَالِ إِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِي الِاحْتِمَالِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّ لِلْأَلْفِ تَعَلُّقًا بِرَقَبَتِهِ فِي اسْتِيفَائِهَا مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِي الِاحْتِمَالِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّهْنِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْعَبْدِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ حَقَّ الرَّهْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ وَالرَّهْنِ فَكَانَ أَوْكَدَ مَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ. فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ فِي هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ أَلْفٌ، لِأَنَّهُمَا حَرْفَا صِفَةٍ يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَيْسَتِ الْأَلْفُ جُزْءًا مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا مِنَ الْعَبْدِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وفي، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ بِقِيمَةِ أَلْفٍ، فَهَذَا إِقْرَارٌ بِمِلْكِ جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ قَدْرُهُ بِقِيمَةِ أَلْفٍ، فَهَلْ يَصِيرُ الْإِقْرَارُ مُقَدَّرًا بِالْقِيمَةِ أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ؟ على وجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِهِ وَلَا يَصِيرُ مُقَدَّرًا بِالْقِيمَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ وَلَا تَقِفُ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى حَدٍّ وَلَا النَّاسُ فِيهَا مُجْمِعُونَ عَلَى قَدْرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدَّرَ الْإِقْرَارُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَمَلُّكَ شَيْءٍ بِقِيمَةٍ مُطْلَقَةٍ. فَلِهَذَيْنِ مَا رُجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي الْقَدْرِ فَإِنْ بَيَّنَ قَدْرًا يَتَقَيَّمُ بِأَلْفٍ أَوْ أَقَلَّ قُبِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدَّرُ إِقْرَارُهُ بِالْقِيمَةِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري وأن العبد يقيم فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ مَلَكَ مِنْهُ بِقِسْطِ الْأَلْفِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْمُقَرُّ لَهُ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْ يُوجِبُ التَّبْعِيضَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ بَعْضِهِ مِنْ إِقْرَارِهِ وَزَعَمَ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفٌ وَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ أَلْفًا أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِجَمِيعِهِ، وَأَنَّ مِنْ قَدْ يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ تَارَةً وَلِلتَّمْيِيزِ أُخْرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ) {الحج: 30) أَيِ اجْتَنِبِ الْأَوْثَانَ الرِّجْسَ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِكَةٌ رَجَعَ فِي قَدْرِ الشَّرِكَةِ إِلَى بَيَانِهِ فَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سَهْمٍ وَإِنْ قَلَّ قُبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ أبو يوسف: لَا أَقْبَلُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) {النساء: 12) وَكَانَ الثُّلُثُ فِي الشَّرْعِ حَدًّا فِي الشَّرِكَةِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الثُّلُثَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْرًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِكِ فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَدْرًا لِلسَّهْمِ الْمُشَارِكِ بِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَدًّا لِأَقَلِّ الشَّرِكَةِ لَمَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فِيهِ وَلَصَارَ حَدًّا لِأَكْثَرِ مَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ درهمٍ كَانَ إِقْرَارًا عَلَى أَبِيهِ بدينٍ وَلَوْ قَالَ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي كَانَتْ هِبَةً إلا أن تريد إِقْرَارًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا وَالْجَوَابُ مِنْهُمَا. فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْهُمَا أَنْ يَقُولَ: لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إِقْرَارٌ عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ فِي تَرِكَتِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَتَكُونُ غَيْرَ لَازِمَةٍ إِلَّا أَنْ يريد إقرارً بدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ حَيْثُ كَانَ فِي الْأُولَى مُقِرًّا بِدَيْنٍ وَاجِبٍ وَفِي الثَّانِيَةِ بِهِبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى: فِي مِيرَاثِ أَبِي فَأَضَافَ الْمِيرَاثَ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ مِلْكَ أَبِيهِ قَدْ زَالَ عَنِ الْمَالِ بِمَوْتِهِ وَلَا يَصيرُ مِيرَاثُ الْأَبِ لَهُ إِلَّا لِدَيْنٍ يَتَعَلَّقُ فَلِذَلِكَ صَارَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ: فِي مِيرَاثِي مِنْ أَبِي فَأَضَافَ مِلْكَ الْأَبِ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِيرَاثَ أَبِيهِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا فَانْصَرَفَ الْإِقْرَارُ عَنِ الدَّيْنِ إِلَى الْهِبَةِ لِاحْتِمَالِهَا. وَمِثَالُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ: لَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ نِصْفُهَا وَمِنْ دَارِي نِصْفُهَا لِأَنَّ هَذَا كَانَ إِقْرَارُهُ هَذَا هِبَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي ألف درهمٍ عاريةً كانت مضمونةً ". وهذا صحيح، وجملته أن عارية الدراهم جائزة وفي جواز إجارتها وجهان لفرق بينهما نذكره في موضعه، فإذا قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةٍ كَانَتْ مضمونة لأن العارية مضمونة فاستوى حكم قوله: عارية مضمونة كما يستوي حكم قوله: مغصوبة ومضمونة. وهكذا لو قال: له عندي ألف درهم قرضاً كانت مضمونة لأن القرض مضمون والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أقر في عبد في يده لفلانٍ وأقر العبد لغيره فالقول قول الذي هو في يَدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا حُكِمَ بِرِقِّ الْعَبْدِ فِي يَدِ رَجُلٍ وَالْحُكْمُ بِرِقِّهِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ بِرِقِّهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِسَبْيٍ فَلَا يقبل فيه إِلَّا شَاهِدَانِ: وَإِمَّا لِوِلَادَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ عَنْ إِصَابَةِ زَوْجٍ أَوْ سِفَاحٍ فَيُقْبَلُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِوِلَادَتِهِ. وَالثَّانِي: الْيَدُ وَهُوَ أَنْ يَلْتَقِطَ صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ فَيَدَّعِيهِ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا فَيَحْكُمُ لَهُ بِرِقِّهِ فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ الِاسْتِرْقَاقِ فِي اسْتِخْدَامِهِ ثُمَّ بَلَغَ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِرِقِّهِ. وَالثَّالِثُ: الْإِقْرَارُ أَنْ يَدَّعِيَ رِقَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُصَدِّقُ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِرْقَاقِهِ فَيَصِيرُ عَبْدًا بِإِقْرَارِهِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ فَإِنْ عُرِفَ لَهُ نَسَبٌ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهَا بِالرِّقِّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ. فَإِذَا حُكِمَ بِرِقِّهِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَكَانَ فِي يَدَيْ سَيِّدِهِ فَأَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ لِزَيْدٍ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لِعَمْرٍو فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ إِقْرَارًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَنَفَذَ فِيهِ إِقْرَارُ السَّيِّدِ لِأَجْلِ يَدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ السَّيِّدِ نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ قَبِلَ زَيْدٌ إِقْرَارَ السَّيِّدِ حُكِمَ لَهُ بِرِقِّهِ وَكَانَ عَمْرٌو إِنِ ادَّعَى رِقَّهُ خَصْمًا لِزَيْدٍ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ زَيْدٌ إِقْرَارَ السَّيِّدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ حُرًّا يَرْتَفِعُ رِقُّهُ بِإِنْكَارِ مَنْ صَارَ مَحْكُومًا لَهُ بِمُلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى رِقِّهِ وَلَا يَصِيرُ حُرًّا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمِلْكِ لَا تُزِيلُ عَنِ السَّبْيِ حُكْمَ الْمِلْكِ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهُ يَدُ السَّيِّدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْتَفِعُ عَنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْإِقْرَارِ فَعَلَى هَذَا مَنْ سَبَقَ إِلَى ادِّعَائِهِ مِلْكًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ سَوَاءٌ سَبَقَ إِلَى الدَّعْوَى مَنِ اعْتَرَفَ لَهُ الْعَبْدُ بِالْمِلْكِ وَهُوَ عَمْرٌو أَوْ غَيْرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تقر يَدُ السَّيِّدِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَسْتَحِقُّ بِالْيَدِ دَفْعَ الْمُدَّعِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِمِلْكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَانِيًا عَلَى مَا مَلَكَهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلْعَبْدِ فِي إِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ زَالَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي رَفْعُ يَدِهِ وَلَا يُمْنَعُ الثَّانِي مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْمِلْكِ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَرَكَهُ أَبُوهُ لفلانٍ ثُمَّ وَصَلَ أَوْ لَمْ يَصِلْ دَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ فَقَالَ بَلْ لفلانٍ آخَرَ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ وَلَا يُصَدِّقُ عَلَى إِبْطَالِ إِقْرَارِهِ فِي مالٍ قَدْ قَطَعَهُ لِلْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ وَارِثُ مَيِّتٍ قَدْ تَرَكَ أَبُوهُ عَبْدًا: هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي تَرَكَهُ أَبِي لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ الله وصل أو لم يصل هل يُلْزَمُ غُرْمَ قِيمَتِهِ لِلثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَا وَجْهَهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضُوعِهِمَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْقَوْلَانِ إِذَا سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَ هَذَا الدَّافِعَ، لَهُ غَرِمَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْقَوْلَانُ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لأنه قال ههنا: دَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا فِي إِقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ أَوْ خَاطِئًا لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ. وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إِنْ أَخْطَأَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِدَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَاهُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رجلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَرَدَّا ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْبَائِعُ رَدَّ الثَمَنَ وَكَانَ لَهُ الْوَلَاءُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا عُتِقَ بِإِقْرَارِهِمَا وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَوْقُوفًا حَتَى يُصَدِّقَهُمَا فَيَرُدُّ الثَّمَنَ إليهما والولاء له دونهما (قال المزني) رحمه الله أصل قوله أن من له حق منعه ثم قدر عليه أخذه ولا يخلو المشتريان في قولهما في العتق من صدقٍ أو كذبٍ فإن كان قولهما صدقاً فالثمن دينٌ لهما على الجاحد لأنه باع مولى له وما ترك فهو لمولاه ولهما أخذ الثمن منه وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا كَذِبًا فَهُوَ عَبْدُهُمَا وَمَا ترك فهو لهما واليقين أن لهما قدر الثمن من مال الميت إذا لم يكن له وارثٌ غير بائعه وترك أكثر من الثمن وإن كان ما ترك أقل من الثمن لم يكن لهما غيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَأَنْكَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ عَلَى الرِّقِّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْعِتْقِ وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى السَّيِّدِ بِعِتْقِهِ شَاهِدَانِ فَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا وَعُتِقَ الْعَبْدُ بِهَا وَصَارَ حُرًّا وَلِلسَّيِّدِ وَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِعِتْقِهِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ مُوجِبٌ لِلْوَلَاءِ وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْوَلَاءِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ بَعْدِ الْعِتْقِ إِلَى حِينِ الْحُكْمِ إِلَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ رُدَّا وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى الرِّقِّ وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَتَصَرُّفِهِ مِنْ قَبْلُ فِي تَمَلُّكِ اكْتِسَابِهِ وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ بِيعِهِ. فَإِذَا عَادَ الشَّاهِدَانِ بِعِتْقِهِ فَاشْتَرَيَاهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَهُمَا الثَّمَنُ وَكَانَ الْعَقْدُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ بيعاً ومن جهة الشاهدين اقتداءاً وَإِنَّمَا صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِنِ اعْتَقَدَا حُرِّيَّتَهُ اسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ رِقِّ ظُلْمٍ وَأَسْرِ عُدْوَانٍ كَالْمُسْلِمِ إِذَا اشْتَرَى مَأْسُورًا مِنْ مُشْرِكٍ صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِنْ كَانَ حُرًّا اسْتِنْقَاذًا مِنْ أَسْرِ الظُّلْمِ وَيَدِ التَّغَلُّبِ لَا لِمِلْكِ مَا اشْتَرَى كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ثُمَّ بَذَلَ للزوج في خلعها ما لا صَحَّ الْخُلْعُ وَلَزِمَهُ الْعِوَضُ وَإِنِ اعْتَقَدَ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الْخُلْعِ اسْتِنْقَاذًا لَهَا مِنْ فَرْجٍ حَرَامٍ فَلِذَلِكَ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَ الثَّمَنُ وَلَيْسَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ مِنَ الرَّضَاعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِنْقَاذٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا غَرَضٌ يَصِحُّ لِقَاصِدٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الشِّرَاءِ وَلَزِمَ الثَّمَنُ عُتِقَ عَلَيْهِمَا وَصَارَ حُرًّا بِسَابِقِ إِقْرَارِهِمَا لِأَنَّ قَوْلَهُمَا وَإِنْ كَانَ يُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمَا فَهُوَ إِقْرَارٌ مِنْهُمَا نَافِذٌ عَلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَنْ أَتَى بِمَالٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ وَقَالَ: هُوَ مَغْصُوبٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ مَا لَمْ يُكْمِلْ بِقَوْلِهِ بَيِّنَةً عَادِلَةً وَكَانَ لِغَرِيمِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَبْضِهِ أَوْ إِبْرَائِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِغَصْبِهِ مِنْهُ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ رُدَّ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِذَا عُتِقَ صَارَ حُرًّا مَلَكَ كَسْبَهُ وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْعَبْدِ أَمَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ قَدْ وَلَدَتْ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَمَلَكَ الشَّاهِدَانِ أَوْلَادَهَا عُتِقُوا لِإِقْرَارِهِمَا بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ. فَلَوْ مَلَكَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ النِّصْفَ مِمَّنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ عُتِقَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ النِّصْفُ وَلَا تَقْوِيمَ عَلَيْهِمَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِأَنَّنَا لَمْ نُمْضِ الْعِتْقَ عَلَيْهِمَا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا أَمْضَيْنَاهُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا وَالْعَبْدَ مُعْتَرِفُونَ بحرية جميعه والبائع مُعْتَرِفٌ بِرِقِّ جَمِيعِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُعْتَرِفٌ بِمَا يُوجِبُ التَّقْوِيمَ فَسَقَطَ ثُمَّ هَكَذَا الْكَلَامُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ هُوَ الْمُشْتَرِي فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَنُفُوذِ الْعِتْقِ إِذْ هُوَ بِهِ مُقِرٌّ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنْ وِرِثَهُ عُتِقَ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ حُصُولَ مِلْكِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كان موجب لِعِتْقِهِ بِالْإِقْرَارِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ عِتْقِهِ فَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ الْمُشْتَرِيَيْنِ يُقِرَّانِ بِهِ لِلْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ بِإِنْكَارِ الْعِتْقِ مُنْكِرٌ لَهُ. فَإِذَا عَادَ الْبَائِعُ فَاعْتَرَفَ بِالْعِتْقِ ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ فِي حَيَاةِ الْعَبْدِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا عَلَى حَالِ الْإِنْكَارِ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ الْمَحْكُومُ بعتقه على الشاهدين وترك ما لا وَجَبَ أَنْ يُعَانَ مِنْهُ حَتَّى يُوَارَى فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ بِغَيْرِ الْوَلَاءِ مِنْ ذِي فَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ فَلَهُ مِيرَاثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَلَا بِالْوَلَاءِ فَمِيرَاثُهُ مَوْقُوفٌ لِوُقُوفِ وَلَائِهِ حَتَّى يُتَبَيَّنَ فَيُورَثُ بِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ طَلَبَ الشَّاهِدَانِ الْمُشْتَرِيَانِ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرَ ما ورثاه في ثمنه، قال المزني لهما لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو قَوْلُهُمَا بِالْعِتْقِ مِنْ صِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ. فَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَالثَّمَنُ دَيْنٌ لَهُمَا عَلَى الْبَائِعِ الْجَاحِدِ وَالتَّرِكَةُ مَالُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا الْوُصُولُ إِلَى الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَوَصَّلَا مِنْهُ إِلَى أَخْذِهِ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا كَذِبًا فَهُوَ عَبْدُهُمَا وَمَا تَرَكَهُ مَالٌ لَهُمَا فَصَارَا مَالِكَيْنِ لِقَدْرِ الثَّمَنِ مِنْهُ يَقِينًا. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ على ما ذكره المزني وأنه يحكم للمشترين بِقَدْرِ الثَّمَنَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا قَالَ الشافعي ههنا: كَانَ مَالُهُ مَوْقُوفًا يَعْنِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ إِرْثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِيَانِ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَنَسَبَ قَائِلَ هَذَا الْوَجْهِ الْمُزَنِيُّ إِلَى الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ مَا بَذَلَهُ الْمُشْتَرِيَانِ فِدْيَةٌ تَطَوُّعًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا بَعْدَ التَّطَوُّعِ الرُّجُوعُ بِهَا وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَائِلِهِ خَطَأٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْأَسِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِ مُتَطَوِّعٌ بِمَا بَذَلَ مِنْ ثَمَنِهِ عَلَى وَجْهِ الْفِدْيَةِ ثُمَّ لَهُ ارْتِجَاعُهُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَوْ غَنِمَ الْمَالَ مِنْ يَدِ الْمُشْرِكِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْغَانِمُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ لِمُسْلِمٍ. قال الشافعي رضي الله عنه: ولم أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ وَالْمَالُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ وَلِبَاذِلِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا مَا بَذَلَهُ الْمُشْتَرِيَانِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُمَا يَجُوزُ لَهُمَا ارْتِجَاعُهُ مَعَ التَّطَوُّعِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ ثُمَّ قَالَ هِيَ نقضٌ أَوْ زيفٌ لَمْ يُصَدَّقْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّرْهَمَ فِي حَقِيقَتِهِ عِبَارَةٌ عَنْ وَزْنٍ وَقَدْرٍ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَضْرُوبِ غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ مِنْهُ وَمَقَادِيرُهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي الْبِلَادِ. فَدَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ أَوْسَطُهَا وَهِيَ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ دَوَانِقَ وَكُلُّ دَانَقٍ مِنْهَا ثَمَانِ حَبَّاتٍ وَوَزْنُ كُلِّ عَشْرَةِ مِنْهَا سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ وَهِيَ أَوْسَطُ الدَّرَاهِمِ قَدْرًا وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْهِرَقْلِيَّةُ. وَالدِّرْهَمُ الثَّانِي وَهُوَ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ أَعْلَاهَا وَوَزْنُهُ ثَمَانِيَةُ داونق يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمِ الْإِسْلَامِ ثُلُثَ وَزْنِهِ، وَالدِّرْهَمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الطَّبَرَيُّ وَهُوَ أَدْنَاهَا وَوَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ بِنَقْصٍ عَنْ دِرْهَمِ الْإِسْلَامِ ثُلُثَ وَزْنِهِ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ ذَلِكَ دَرَاهِمُ بِلَادٍ تُقَارِبُ فِي الْقَدْرِ وَزْنَ هَذِهِ كَالدِّرْهَمِ الْخُوَارَزْمِيِّ وَوَزْنُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّرْهَمِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ: هِيَ مِنْ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا أَوْ مُن ْفَصِلً ا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ دَرَاهِمَ النَّاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمَعْهُودُ عرفاً من مطلق دراهم الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 فإذا قَالَ: أَرَدْتُ الدَّرَاهِمُ الْبَغْلِيَّةَ فَمَقْبُولٌ لِزِيَادَتِهَا عَلَى دَرَاهِمِ غَالِبِ النَّاسِ، وَإِنْ قَالَ: مِنَ الدَّرَاهِمِ الطَّبَرِيَّةِ وَهِيَ طَبَرَيَّةُ الشَّامِ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا فَهُوَ مَقْبُولٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ نَقْصَ الْوَزْنِ كَنَقْصِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَعْدَادِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّتِي هِيَ وَزْنُ دَرَاهِمِهِمْ. أَوْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ مِنْهُمْ وَلَكِنْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ لِأَنَّهُمَا نَقَصَا عَدَدًا وَقَدْرًا. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَفِيهِ كَأَهْلِ طَبَرِيَّةِ الشَّامِ إِذَا أَقَرَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ مُنْفَصِلًا: أَرَدْتُ الدِّرْهَمَ الطَّبَرَيِّ، أَوْ كَأَهْلِ خُوَارِزْمَ إِذَا قَالَ الْمُقِرُّ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ: أَرَدْتُ الدِّرْهَمَ الْخُوَارِزْمِيَّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أبو حامد المروررذي فِي جَامِعِهِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقِ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ عُرْفَ الْبِلَادِ فِي الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْبَيْعِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ: هِيَ زَيْفٌ فَهَذَا نَقَصَ الْجِنْسُ دُونَ الْقَدْرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ تِلْكَ الزَّيْفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فِضَّةٌ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا فِضَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَالَهُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُهَا فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الرَّافِعِ لِكُلِّ الْجُمْلَةِ يَكُونُ مَرْدُودًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا. وَإِنْ كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ قَالَهُ مُنْفَصِلًا لَمْ يُقْبَلْ كَالِاسْتِثْنَاءِ لِبَعْضِ الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ تِلْكَ دَرَاهِمُهُمْ فَيُخْرِجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ، فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ مِنْ وَزْنِ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ وَزْنُهُ سِتَّةُ دَوَانِقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْبَغْلِيَّ الَّذِي هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ بِإِرَادَتِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ، وَقَالَ أَرَدْتُ الطَّبَرِيَّ الَّذِي وَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ قُبِلَ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ الدَّرَاهِمِ وَزْنًا فَكَانَ إِقْرَارُهُ لِبَيَانِهِ مُحْتَمَلًا وَخَالَفَ حَالَ الْإِطْلَاقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن قَالَ هِيَ مِنْ سَكَّةِ كَذَا وَكَذَا صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ كَانَ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ أَوْ أَوْسَطُهَا جائزةً بغير ذلك الْبَلَدِ أَوْ غَيْرُ جَائِزَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ أَعْطَاهُ أَيَّ ثوبٍ أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْبَسُهُ أَهْلُ بَلَدِهِ (قال المزني) رحمه الله فِي قَوْلِهِ إِذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 قَالَ لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ أَوْ دُرَيْهِمَاتٍ فَهِيَ وازنةٌ قضاءٍ على قوله وإذا قال له علي دراهم فهي وازنةٌ ولا يشبه الثوب نقد البلد كما لو اشترى بدرهم سلعةً جاز لمعرفتهما بنقد البلد وإن اشتراها بثوبٍ لم يجز لجهلهما بالثوب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالدَّرَاهِمِ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِي صِفَتِهَا وَسَكَّتِهَا فَإِنْ قَالَ: هِيَ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَصْرَةِ أَوْ سَكَّةِ بَغْدَادَ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى مُتَّصِلًا أَوْ مُن ْفَصِلً ا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَلْزَمُهُ فِي إِطْلَاقِ إِقْرَارِهِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَى اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ وَزْنًا يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دراهم الإسلام ولا يرجع إلى بيانه فيما وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ جِنْسًا يُوجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الْعُرْفِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُطْلَقُ ذِكْرِهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ ذِكْرِهَا فِي الْإِقْرَارِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دَرَاهِمِ الْبَلَدِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمُطْلَقِ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ثِيَابِ بَلَدِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْمُطْلَقِ مِنَ الدَّرَاهِمِ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى دَرَاهِمِ بَلَدِهِ وَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ الثِّيَابِ فِي الْبَيْعِ وَجَازَ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ هُوَ إِخْبَارٌ بِمُسْتَحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِقَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَسْمِيَةٍ فِي عَقْدٍ فَصَحَّ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فِي بَيَانِ إِقْرَارِهِ وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ ابْتِدَاءٌ حَتَّى يُوجِبَ إِطْلَاقَهُ الْعُرْفُ الْمَقْصُودُ فِيهِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْوَزْنِ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّ غَيْرَهَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْقَدْرِ فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الِانْفِصَالِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْقَدْرِ فَصَحَّ وَقُبِلَ كَالصِّحَاحِ والمكسرة والله أعلم بالصواب. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ درهمٌ فِي دينارٍ فَإِنْ أَرَادَ دِرْهَمًا وديناراً وإلا فعليه درهمٌ ". قال الماوردي: وهذا صحيح إذا قال: له عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ فَإِنْ أَرَادَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا وَجَبَا عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُرِدْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدِّينَارَ ظَرْفًا وَالظَّرْفُ لَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا لَوْ قَالَ: ثَوْبٌ فِي سَفَطٍ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فِي دِرْهَمٍ فَإِنْ أَرَادَهُمَا لَزِمَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمَا لَزِمَهُ الدِّينَارُ الْمُتَّصِلُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدِّرْهَمُ الَّذِي جَعَلَهُ ظَرْفًا، فَإِنْ قِيلَ فَالدِّرْهَمُ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلدِّينَارِ وَلَا الدِّينَارُ ظَرْفًا لِلدِّرْهَمِ، قِيلَ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا عِيَانًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا حُكْمًا. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ فَعَلَيْهِ الدِّرْهَمُ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّ الثَّوْبَ ظَرْفٌ وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ اشْتَرَيْتُهُ مُؤَجَّلًا فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ إِقْرَارًا بَاطِلًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ دِرْهَمًا مِنْ سَلَمٍ افْتَرَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَانَ بَاطِلًا. وَإِنْ كَذَّبَهُ فَفِي بُطْلَانِهِ قَوْلَانِ مِنْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بَعْدَ إِبْطَالِهِ كَمَنْ قَالَ ضُمِّنْتُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي بِالْخِيَارِ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ إِلَى أَجَلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلَهُ عَلَيْهِ الثَّوْبُ دُونَ الْخَمْسَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْخَمْسَةُ دُونَ الثَّوْبِ وعلية ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَعْطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ سَلَمًا فِي ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ مُؤَجَّلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِعَقْدِ سَلَمٍ يَسْتَحِقُّ فِيهِ الثَّوْبَ الْمُسْلَمَ فِيهِ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَارَ مُنْكِرًا لِلْعَقْدِ فَاسْتَحَقَّ الثَّمَنَ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ درهمٌ ودرهمٌ فَهُمَا دِرْهَمَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الْأَوَّلِ بِوَاوِ النَّسَقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فِي لُزُومِ طَلْقَتَيْنِ وَيُخَالِفُهُ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فِي أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُطَلِّقُ ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: يُطَلِّقُ اثْنَتَيْنِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالثَّالِثَةِ اسْتِئْنَافًا. وَلَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخْرِجُ الدِّرْهَمَ الثَّالِثَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالطَّلَاقِ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ مُؤَكَّدٌ فِي الْعَادَةِ فَجَازَ أَنْ يجمل الثَّالِثَ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَالْإِقْرَارُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ فِي الْعَادَةِ فَحُمِلَ الثَّالِثُ مِنْ لَفْظِهِ على الاستئناف. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ درهمٌ فدرهمٌ قِيلَ إِنْ أَرَدْتَ فدرهمٌ لازمٌ فَهُوَ درهمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ دِرْهَمَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: يَلْزَمُهُ فِي الْأُولَى دِرْهَمَانِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الطَّلَاقِ طَلْقَتَانِ وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ. وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ أَنَّ الدِّرْهَمَ فِي الْإِقْرَارِ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُوصَفَ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ: فَدِرْهَمٌ أَجْوَدُ مِنْهُ أَوْ أَرْدَأُ، وَالطَّلَاقُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُوصَفُ الطَّلَاقُ. بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا صِفَةً لِلطَّلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ حَالٌ يَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُطَلِّقِ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى السَّوَاءِ. فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَالنَّسَقِ كَالْوَاوِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ، قِيلَ: الْفَاءُ قَدْ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ وَالصِّفَةِ فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْيَقِينُ وَخَالَفَتِ الْوَاوُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلْعَطْفِ دُونَ الصِّفَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمُ ثُمَّ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ ثُمَّ مَوْضُوعَةٌ لِعَطْفِ التراخي والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ درهمٌ تَحْتَ درهمٍ أَوْ درهمٌ فوق درهمٍ فعليه درهمٌ لجواز أَنْ يَقُولَ فَوْقَ درهمٍ فِي الْجَوْدَةِ أَوْ تَحْتَهُ فِي الرَّدَاءَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ تَحْتَ دِرْهَمٍ، أَوْ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ، أَوْ دِرْهَمٌ تَحْتَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ دِرْهَمٌ فَوْقَهُ دِرْهَمٌ فَإِنْ أَرَادَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ دِرْهَمَيْنِ فَهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمَا فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشافعي ههنا فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ الرَّبِيعُ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمَوَاهِبِ مِنَ الْأُمِّ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ الْأَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْكَلَامِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ وأظهر والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكذلك لو قَالَ درهمٌ مَعَ درهمٍ أَوْ درهمٌ مَعَهُ دينارٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَعَ دينارٍ لِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمٌ مَعَهُ دِرْهَمٌ أَوْ مَعَ دِينَارٍ أَوْ مَعَهُ دِينَارٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُرِدِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: مَعَ دِينَارٍ لِي، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْإِقْرَارِ إِلَّا الْيَقِينَ وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ أَنَّ عَلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ عَمْرٍو، فَالظَّاهِرُ مِنْ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُقِرٌّ لِزَيْدٍ بِدِرْهَمٍ هُوَ مَعَ عَمْرٍو وَالْيَقِينُ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِدِرْهَمٍ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَيُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فَإِنْ بَيَّنَ الْأَظْهَرَ مِنْ حَالَتَيْ إِقْرَارِهِ قَبِلْنَا وَإِنْ بَيَّنَ الْيَقِينَ مِنْهُ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ لَهُمَا قَبِلْنَاهُ. وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: يَا هِنْدُ أَنْتِ طَالِقٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 مَعَ زَيْنَبَ، فَتُطَلَّقُ هِنْدُ دُونَ زَيْنَبَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ زَانِيَةٌ مَعَ زَيْنَبَ كَانَ قَاذِفًا لِلْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ درهمٌ قَبْلَهُ درهمٌ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ دِرْهَمان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ أَوْ قَبْلَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَ دِرْهَمٍ، فَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ دِرْهَمَانِ، لِأَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الصِّفَةِ وَمَحَلُّ الدِّرْهَمِ الْأَوَّلِ هُوَ الذِّمَّةُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ وَعَلَّلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ فَلَزِمَهُ دِرْهَمَانِ والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مَعَهُ دينارٌ كان عليه قفيزٌ لأنه قد يقول مع دينارٍ لي ولو قال له عليّ قفيزٌ لَا بَلْ قَفِيزَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قفيزان ". قال الماوردي: وهذا صحيح، إذ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ لَا بَلْ قَفِيزَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قَفِيزَانِ وَقَالَ أبو حنيفة يَلْزَمُهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَفِيزَانِ وَفِي الْقِيَاسِ ثَلَاثَةُ أَقْفِزَةٍ وَوَافَقْنَا اسْتِحْسَانًا وَخَالَفْنَا قِيَاسًا: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَاجِعٌ بِذَلِكَ عَنِ الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ مُثْبِتٌ بَعْدَهُ لِقَفِيزَيْنِ آخَرَيْنِ فَلَزِمَ الْجَمِيعَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعُ. وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْقِيَاسِ شَرْعًا، وَفِي مُقْتَضَى اللِّسَانِ لُغَةً مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُتَّصِلَ بِالْإِقْرَارِ أَكْثَرُ امْتِزَاجًا مِنَ اللَّفْظِ الْمُن ْفَصِلِ عَنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ ثُمَّ أَمْسَكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ انْفِصَالِ كَلَامِهِ: عَلَيَّ قَفِيزَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قَفِيزَانِ لَا غَيْرَ، فَإِذَا قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ: عَلَيَّ قَفِيزٌ لَا بَلْ قَفِيزَانِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا قَفِيزَانِ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ لَا بَلْ قَفِيزَانِ يُوجِبُ ضَمَّهُمَا إِلَى الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ قِيَاسًا لَوَجَبَ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ لَا بَلْ أَكْثَرُ مِنْ قَفِيزٍ وَقَدْ أَجْمَعُوا قِيَاسًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا قَفِيزٌ وَشَيْءٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَا بَلْ قَفِيزَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ قَفِيزَانِ، لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْقَفِيزِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكُ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُثْبَتَ الْبَاقِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمَنْفِيُّ وَالْقَفِيزُ دَاخِلٌ فِي الْقَفِيزَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُ الْقَفِيزَيْنِ نَفْيًا لِلْقَفِيزِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَفْهُومَ اللِّسَانِ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا لَا بَلْ رَجُلَيْنِ، أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ رَجُلَيْنِ بِكَلَامِهِ كُلِّهِ غَيْرُ رَاجِعٍ بِآخِرِهِ عَنْ أَوَّلِهِ. وَفِي هَذَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ لَا نَفْيٌ فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ لُغَةً وَقِيَاسًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَفَ بَيْنَ جِنْسَيْنِ فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ لَا بَلْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ الْأَمْرَانِ دِينَارٌ وَقَفِيزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُدْخِلِ الْأَوَّلَ فِي الثَّانِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ صَارَ رُجُوعًا وَلَمْ يَكُنِ اسْتِدْرَاكًا، وَالْمُقِرُّ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ وَلَزِمَهُ اعْتِرَافُهُ بِالثَّانِي كَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ فَأَخَذَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ: هِيَ حَفْصَةُ لَا بَلْ هِيَ عَمْرَةُ طُلِّقَتَا جَمِيعًا. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِرْهَمٌ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِدُخُولِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ اسْتِدْرَاكًا وَكَانَ رُجُوعًا فَلَزِمَاهُ مَعًا والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال لَهُ عَلَيَّ دينارٌ لَا بَلْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ كان مقرًّا بهما ثابتاً على القفيز راجعاً عن الدينار فلا يقبل رجوعه وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دينارٌ فقَفِيزُ حِنْطَةٍ لزمه الدينار ولم تلزمه الحنطة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فَقَفِيزُ حِنْطَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِينَارٌ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَفِيزَ حِنْطَةٍ خَيرٌ مِنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فَدِرْهَمٌ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِينَارٌ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ: فَدِرْهَمٌ أَقَلُّ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ، فَكَذَا فِي الْجِنْسَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ فَعَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهَا عَدَدٌ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ إِلَى عَشْرَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ زفر عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَدٌّ لِلِابْتِدَاءِ وَالْعَاشِرَ حَدٌّ لِلِانْتِهَاءِ فَلَمْ يَدْخُلَا لخروج من المحدود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْعَاشِرَ حَدٌّ خَارِجٌ عَنِ الْمَحْدُودِ وَالْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ بِهِ فَدَخَلَ فِي الْمَحْدُودِ إذ دخل. وَقَالَ محمد بن الحسن: يَلْزَمُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فيه لعاشر مَعَ كَوْنِهِ حَدًّا وَهَذَا مَذْهَبٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ يَوْمَ السَّبْتِ بِدِرْهَمٍ وَأَقَرَّ لَهُ يَوْمَ الْأَحَدِ بدرهمٍ فَهُوَ درهمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ دُفْعَتَيْنِ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ صِفَتَيْهِمَا أَوْ سَبَبَيْهِمَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِ حُكْمٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِدِرْهَمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا فِي صَكٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ يَشْتَرِكَانِ فِي حُكْمِ اللُّزُومِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ، هَذَا إِذَا أَقَرَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ وَلِأَنَّ إِعَادَةَ الْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ، فَإِذَا أَعَادَ الْإِقْرَارَ فِي وَقْتَيْنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمَانِ. وَدَلِيلُنَا مَفْهُومُ الْخِطَابِ لِسَانًا ثُمَّ مُقْتَضَى الشَّرْعِ حِجَاجًا، فَأَمَّا مَفْهُومُ الْخِطَابِ فِي اللُّغَةِ وَاللِّسَانِ فَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ وَتَكْرَارُ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْمُخْبَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ ثَانِيَةً: رَأَيْتُ زَيْدًا لَمْ يَقْتَضِ مَفْهُومُ كَلَامِهِ تَكْرَارَ رُؤْيَةٍ لِزَيْدٍ فَكَذَلِكَ مُوجِبُ إِقْرَارِهِ. وَأَمَّا مُقْتَضَى الشَّرْعِ حِجَاجًا فَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ أَوْكَدُ لُزُومًا مِنْ تَكْرَارِهِ فِي مَجْلِسَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَتَضَاعَفِ الْإِقْرَارُ بِتَكْرَارِهِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَضَاعَفَ فِي الْمَجْلِسَيْنِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَتَكَرَّرْ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسَيْنِ كَالْمَكْتُوبِ فِي صَكٍّ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ لَا يُوجِبُ مُضَاعَفَةَ الْإِقْرَارِ بِشَيْئَيْنِ وَإِعَادَتِهِ الْمُفَسَّرَ عِنْدَ الشُّهُودِ لَا يَصِيرُ إِقْرَارًا بِحَقَّيْنِ فَكَذَا الْمُفَسَّرُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَيَتَحَرَّرُ فِيهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَا يَتَكَرَّرُ بِالْمُجْمَلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ بِالْمُفَسَّرِ كَالْإِقْرَارِ عِنْدَ الشُّهُودِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَا يَتَكَرَّرُ عِنْدَ الشُّهُودِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمُجْمَلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ إِيقَاعٌ وَالْإِقْرَارٌ إِخْبَارٌ فَإِذَا أَعَادَ لَفْظَ طَلَاقِهِ وَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أَعَادَ لَفْظَ إِقْرَارِهِ لَمْ يَكُنْ خَبَرًا غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ لَكَانَ إِقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَا يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَمَا لَا يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ الْمَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمَعْنَى فِي لُزُومِ الدِّرْهَمَيْنِ أَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَى الْأَوَّلِ مِثْلَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَالنَّسَقِ فَلَزِمَاهُ، وَلَوْ حَذَفَ الْوَاوَ لَمْ يَلْزَمَاهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَفَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ لَزِمَهُ الدِّرْهَمَانِ، وَمُخَالَفَتُهُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَصْرِيٌّ، وَفِي الْيَوْمِ الْآخَرِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَغْدَادِيٌّ. وَمُخَالَفَتُهُ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ ثَوْبٍ، وَفِي الْيَوْمِ الْآخَرِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ فَيَلْزَمُهُ الدِّرْهَمَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُخْتَلِفَيْنِ فَسَقَطَ احْتِمَالُ التَّكْرَارِ فيهما والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا قَالَ له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَكَمَا قَالَ لِأَنَّهُ وَصَلَ فَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدِهِ هِيَ وديعةٌ وَقَدْ هَلَكَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ ضَمِنَ ثُمَّ ادَّعَى الْخُرُوجَ فَلَا يُصَدَّقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَلْفَاظُ الْإِقْرَارِ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عندي. والثالث: أني يَقُولَ لَهُ بِيَدِي. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ قِبَلِي. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ فِي ذِمَّتِي. فَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي ذِمَّتِي، فَكَقَوْلِهِ: لَهُ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَقْتَضِي الدُّيُونَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَمِ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ ذِمَّتِهِ لِأَنَّ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهَا بِالذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِيَدِهِ فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ أَنَّهَا الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إِلَّا بَعْدَ التَّلَفِ فَامْتَنَعَ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْوَدِيعَةُ الْبَاقِيَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُهَا بِالتَّعَدِّي فَتَصِيرُ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ إِنْ هَلَكَتْ فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي يَدِي، فَكَقَوْلِهِ: لَهُ فِي يَدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَيَقْتَضِي الْأَعْيَانَ الَّتِي لَمْ يَسْتَقِرَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَمِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَالْغُصُوبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً كَالْوَدَائِعِ وَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فِي يَدِهِ هِيَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ قُبِلَ مِنْهُ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ أَغْلَظُ ثُبُوتًا لِكَوْنِهِ دَيْنًا مَضْمُونًا مِمَّا بِيَدِهِ وَقَدْ تَكُونُ أَمَانَةً وَمَضْمُونَةً وَقَدْ يَسْتَهْلِكُ مَا بِيَدِهِ فَيَصِيرُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ قَالَ هِيَ وَدِيعَةٌ فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ دَعْوَاهُ الْهَلَاكُ مُنْفَصِلًا عَنْ حَالِ الْإِخْبَارِ قَبْلَ مِنْهُ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ عقيب إقراره، وإن وصل وقال لَهُ بِيَدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً وَقَدْ هَلَكَتْ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَا قَدْ هَلَكَ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: قِبَلِي، فَكَقَوْلِهِ: لِفُلَانٍ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَلَفْظٌ مُحْتَمَلٌ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنَ الدُّيُونِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الْيَدِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالِاحْتِمَالِ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ، فَإِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ صَارَ بِالْإِرَادَةِ مُقْتَضًى وَكَلَامُهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ حُكْمِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيَّ: فَكَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَيَقْتَضِي مَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ عَيْنٍ وَدَيْنٍ، وَخَالَفَ قَوْلُهُ: فِي ذِمَّتِي مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ: أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَقْتَضِي مَا ثبت فيهما مِنْ دَيْنٍ وَلَا يَقْتَضِي مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ ضَمَانِ عَيْنٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مِنَ المجاز إذا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي احْتِمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُهُ: عِنْدِي فَكَقَوْلِهِ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ أَوْ أَمَانَةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ دَيْنٍ مَضْمُونٍ وَخَالَفَ قَوْلُهُ بِيَدِي مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ: أَنَّ مَا بِيَدِهِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي بِيَدِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فَإِنْ أَحْضَرَهَا وَلَمْ يَدَّعِ تَلَفَهَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى خِلَافُ أبي حنيفة وَالْكَلَامُ مَعَهُ وَإِنِ ادَّعَى تَلَفَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا عَنْ إِقْرَارِهِ فَقَوْلُهُ فِي تَلَفِهَا وَسُقُوطِ غُرْمِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ سَوَاءٌ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِالْوَدِيعَةِ فَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةً، أَوْ لَمْ يَصِلْ وَلَوْ كَانَ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَهَا مِنْ بَعْدُ قُبِلَ مِنْهُ لِمَا ذكرنا من الفرق بين قوله عليّ وعندي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ فَيَقُولُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً وَقَدْ تَلِفَتْ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَسُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْهُ قَوْلَانِ: مِنْ تَبْعِيضِ - الْإِقْرَارِ فِيمَنْ قَالَ: ضَمِنْتُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي بِالْخِيَارِ فَيَبْطُلُ أَوَّلُ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: يُقْبَلُ لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْكَلَامِ بِبَعْضِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ إِبْطَالَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَإِبْطَالِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ سئل فَإِنْ قَالَ هِبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتَبَيَّنَ فلا يلزمه إلا أن يقر ورثته ولو قال له من داري هذه نصفها فَإِنْ قَالَ هِبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتَبَيَّنَ لم يلزمه إلا أن يقر ورثته ولو قال له من هذه الدار نصفها لزمه ما أقر به ". قال الماوردي: وهذا صحيح. إذا قال: له مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا هِبَةٌ لَا تُلْزَمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يُعْمِلَ إِقْرَارَهُ بِمَا يَزُولُ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ بِأَنْ يَقُولَ: لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَاجِبَةٌ أَوْ بِحَقٍّ فَيَكُونُ إِقْرَارٌ بِدَيْنٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ دَارِي هَذِهِ نَصِفُهَا كَانَتْ هِبَةً إِنِ ادَّعَاهَا أَوْ وَارِثُهُ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ تَلْزَمْ إِلَّا بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ فِي إِضَافَتِهَا إِلَى نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ لَهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ مِيرَاثِي عَنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَتْ هِبَةً. فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ يَسْتَوِي حُكْمُهَا لِاسْتِوَاءِ تَعْلِيلِهَا إِلَّا أَنْ يَقُولَ: بِحَقٍّ وَاجِبٍ فَيَصِيرُ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ هذا إقرار لَازِمًا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَى مِلْكِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: مِنْ هَذِهِ الدَّارِ نَصِفُهَا كَانَ إِقْرَارًا بِحَقٍّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ يَسْتَوِي حُكْمُهَا لِاسْتِوَاءِ تَعْلِيلِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: كَانَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ وَخَالَفَ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ قَوْلِهِ: مِنْ مَالِي، فَجَعَلَهُ هِبَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فِي مَالِي، فَجَعَلَهُ إِقْرَارًا وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّهُ بِقَوْلِهِ: فِي مَالِي، جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فَلَمْ يَمْنَعْ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ ثُبُوتِ الْأَلْفِ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا قَالَ: مِنْ مَالِي لَمْ يَصِرِ الْمَالُ ظَرْفًا وَكَانَتِ الْأَلْفَ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ فَيَمْنَعُ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا إذا قال: له من دَارِي هَذِهِ نِصْفُهَا فَهُوَ هِبَةٌ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ، وَيَسْتَوِي قَوْلُهُ فِي دَارِي، وَمِنْ دَارِي، وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ: فِي مَالِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَلْفٍ مِنَ الْمَالِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى الْبَاقِي مَالًا وَاسْتِحْقَاقُ نِصْفِ الدَّارِ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى الْبَاقِي دَارًا. وَلَوْ قَالَ فِي مِيرَاثِي عَنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، كَانَ كَقَوْلِهِ: مِنْ مِيرَاثِي عَنْ أَبِي وَخَالَفَ قَوْلَهُ: فِي مَالِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهَا لِرَجُلٍ وَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ وقال أبو حنيفة كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالنِّصْفِ ثُلُثُ الدَّارِ وَلِلْمُقِرِّ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ النِّصْفِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلشَّرِيكِ الْمُكَذِّبِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُقِرَّ بِالنِّصْفِ يَقُولُ: لِي وَلِشَرِيكِي النِّصْفُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَكَ أَيُّهَا الْمَقَرُّ لَهُ. فَيَكُونُ ذَلِكَ مَثَلًا مَالِي - فَإِذَا تَفَرَّدَ الشَّرِيكُ بِتَكْذِيبِهِ بِالنِّصْفِ - صَارَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَنَا أَثْلَاثًا لِي مِنْهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَكَ مِنْهُ سَهْمَانِ مِثْلَا مَالِي. وحكى أبو العباس ابن الرَّجَاءِ الْبَصْرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَذْهَبَهُ سُؤَالُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنِّصْفِ: أَلَهُ فِي الدَّارِ بَاقِي مِلْكٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَا شَيْءَ لِي فِي الدَّارِ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِيهَا بِالنِّصْفِ وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلشَّرِيكِ. وَإِنْ قَالَ: لِي نِصْفُهَا لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِرُبْعِهَا، وَكَانَ الرُّبْعُ الْآخَرُ لَهُ، وَالنِّصْفُ لِلشَّرِيكِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ شَرِيكِهِ فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَرُدَّ عَلَى شَرِيكِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ. وَلَوْ قِيلَ يُلْزَمُ إِقْرَارَهُ فِي النِّصْفِ كُلِّهِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُشَاعَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهُ لِرَجُلٍ فَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ يَكُونُ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا مَا لَمْ يَقْتَسِمَا، فَإِذَا اقْتَسَمَا وَصَارَ الْبَيْتُ لِلْمُقِرِّ لَهُ لَزِمَهُ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ صَارَ الْبَيْتُ لِلشَّرِيكِ ضُرِبَ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَعَ الْمُقِرِّ بِقِيمَةِ الْبَيْتِ فِيمَا صَارَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 وَعَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ رَجَاءٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ رُبْعُ الْبَيْتِ مَشَاعًا وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ احْتِمَالِ التَّخْرِيجِ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ الْبَيْتِ مَشَاعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّا دُونَهُ بِقِسْمَتِهِ. فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ وَصَارَ الْبَيْتُ فِي حِصَّةِ الْمُقِرِّ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ جَمِيعِهِ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ صَارَ لِلشَّرِيكِ لَزِمَ الْمُقِرَّ أَنْ يَغْرَمَ لِلْمُقَرِّ لَهُ قِيمَةَ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَيْتِ بَعْدَ مَا صَارَ لَهُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ رُبْعٍ أَوْ نِصْفٍ. وَإِنَّمَا لَزِمَ غُرْمُ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُعَاوِضًا عَلَيْهِ بِالْقِسْمَةِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إِلَّا بِنَاءَهَا صَحَّ وَكَانَ إِقْرَارًا بِالْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ وَقَالَ: أبو حنيفة يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُسَمَّى دَارًا بِغَيْرٍ بِنَاءٍ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إِلَّا نَصِفُهَا، صَحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهَا وَلَوْ كَانَ النِّصْفُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُسَمَّى دَارًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِغَيْرِ حُكْمِ الْجُمْلَةِ عَنْ إِطْلَاقِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا أَقَرَّ بِحَائِطٍ لَمْ يَدْخُلْ أَرْضُ الْحَائِطِ فِي إِقْرَارِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي إِقْرَارِهِ بِالْحَائِطِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِنِصْفِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي إِقْرَارِهِ. وَكَفَى بِمُنَاقَضَةِ قَوْلِهِ كَسْرًا لِمَذْهَبِهِ وَقَدْ وَافَقَ أنه لو أقر به بنخلة لم يدخ قرارها في الإقرار كما لو أقر بِنِصْفِهَا فَهَلَّا اسْتَوَى فِي الْحَائِطِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِنِصْفِهِ وَجَمِيعِهِ كَمَا اسْتَوَى فِي النَّخْلَةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَصِحُّ أَنْ يَخْتَلِفَ لَهُ الْحُكْمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي، صَحَّ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ إِلَّا هَذَا الْبَيْتَ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ وَرُجُوعٌ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الِاسْتِثْنَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْخَاتَمُ لِزَيْدٍ وَفَصُّهُ لِي صَحَّ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة أَلَّا يَصِحَّ لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِفَصِّهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: هَذِهِ الثَّمَرَةُ لِزَيْدٍ مِنْ نَخْلَتِي هَذِهِ، وَهَذَا الْعَبْدُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَهَذَا الْبَيْضُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّجَاجَةِ كَانَ إِقْرَارًا بِمَا أَسْمَى مِنَ الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَالْبَيْضِ دُونَ أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ النَّخْلَةِ وَالْأَمَةِ وَالدَّجَاجَةِ وَلَيْسَ مِلْكُ النَّمَاءِ مُوجِبًا لِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ بِابْتِيَاعٍ أو هبة والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ هِبَةَ عَارِيَّةٍ أَوْ هِبَةَ سُكْنَى كَانَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ هِبَةَ عَارِيَّةٍ أَوْ هِبَةَ سُكْنَى، قُبِلَ مِنْهُ وَكَانَ إِقْرَارًا بِإِعَارَتِهَا وَإِبَاحَةِ سُكْنَاهَا وَلَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا لِأَنَّهُ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِمَا اقْتَضَاهُ فَصَارَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ لَكَانَ إِقْرَارًا بِمِلْكِهَا فَلَمَّا وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَارِيَّةَ أَوْ هِبَةَ سُكْنَى خَرَجَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَكَ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا قَدْ رفع أول كلامه بآخر، فَهَلَّا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهَا. قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي ادِّعَاءِ الْقَضَاءِ رَافِعٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يُقْبَلْ، وَفِي وَصْلِهِ ذَلِكَ بِالْعَارِيَّةِ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى صِفَةٍ مُحْتَمَلَةٍ فَيُقْبَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ هِبَةً، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ حَتَّى يَصِلَ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ قَالَ لَكَ سُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ فَهَذَا إِقْرَارٌ لَازِمٌ بِمِلْكِ السُّكْنَى عَنْ إِجَارَةٍ فِي الظَّاهِرِ فَإِنِ ادَّعَاهَا وَطَلَبَ الْأُجْرَةَ لَزِمَ الْمُقَرَّ لَهُ دَفْعُ الْأُجْرَةِ إِنْ قَبِلَ الْإِقْرَارَ لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ السُّكْنَى مُلِكَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ رَدَّ الْإِقْرَارَ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَا سكنى له والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أقر للميت بحق وَقَالَ هَذَا ابْنُهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ قُبِلَ مِنْهُ (قال المزني) هذا خلاف قوله فيما مضى من الْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ وَهَذَا عِنْدِي أَصَحُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِمَيِّتٍ بَدَيْنٍ لَزِمَهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى وَارِثِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِوَكَالَةٍ قُبِضَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى وَكِيلِهِ وَسَوَّى الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْوَكِيلِ كَمَا أَوْجَبَ الْمَالَ إِلَى الْوَرَثَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا. فَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَاهُ وَأَقَرَّ لِمَيِّتٍ بَدَيْنٍ وَقَالَ: هَذَا ابْنُهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا أَوْ لَا يُعْرَفُ. فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَيْهِمَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى الثُّمُنُ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي إِلَى الِابْنِ فَلَوْ عَادَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَقَالَ: بَلِ ابْنُ الْمَيِّتِ وَزَوْجَتُهُ هَذَانِ الْأَخِيرَانِ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ذَلِكَ لِلْآخَرَيْنِ أَمْ لَا؟ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَزِمَهُ غُرْمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِمَّنْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 فَصْلٌ وَإِنَّ عُرِفَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ غَيْرُ مَنْ ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِدَفْعِهِ إِلَى وَارِثِهِ الْمَعْرُوفِ فَإِنِ اعْتَرَفَ الْوَارِثُ الْمَعْرُوفُ بِمَنْ ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ اشْتَرَكُوا فِي الْإِرْثِ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ تَفَرَّدَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِنْ دَفَعَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ لَمْ يُغَرَّمْ لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ شَيْئًا لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَى الْمَعْرُوفِ حُكْمٌ مِنْهُ بِإِبْطَالِ مِيرَاثِ غَيْرِهِ، وَإِنْ دَفَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ غُرِّمَ لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ حَقِّهِ فِي الِاشْتِرَاكِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ ديناً لتقديم الْإِقْرَارِ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى مَنْ أَقَرَّ بِهِمْ مِنَ الْوَرَثَةِ ثُمَّ قَدِمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ حَيًّا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُقِرِّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُقَرُّ لَهُ على أخذه إن قدر عليه. فصل : وإن أَقَرَّ لِوَرَثَةِ فُلَانٍ بِمَالٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ تَعْرِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَارِثِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِرْثَ وَأَنْكَرَهُ مَنْ قَلَّ سَهْمُهُ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ المقر لاحتماله والله أعلم. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ جَارِيَتِي هَذِهِ فَأَوْلَدْتَهَا فَقَالَ بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا وَهِيَ أَمَتُكَ فَوَلَدُهَا حُرٌّ وَالْأَمَةُ أُمُّ ولدٍ بِإِقْرَارِ السَّيِّدِ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ بِالثَّمَنِ وَيَحْلِفُ وَيُبَرَّأُ فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِوَلَدِهِ مِنَ الْأَمَةِ وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَطَأَ أَمَةً تَسَلَّمَهَا مِنْ سَيِّدِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَالْوَاطِئُ، فَقَالَ السَّيِّدُ: بِعْتُكَهَا بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَأَنْتَ وَاطِئٌ فِي مِلْكٍ، وَقَالَ الْوَاطِئُ: بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا فَأَنَا وَاطِئٌ فِي نِكَاحٍ، فَيَصِيرُ السَّيِّدُ مُدَّعِيًا عَلَى الْوَاطِئِ بِشِرَائِهَا وَالْوَاطِئُ مُنْكِرٌ ثُمَّ الْوَاطِئُ مُدَّعٍ عَلَى السَّيِّدِ بِتَزْوِيجِهَا وَالسَّيِّدُ مُنْكِرٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَاطِئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْلَدَهَا بِوَطْئِهِ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْلَدَهَا حَلَفَ الْوَاطِئُ لِلسَّيِّدِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَى وَحَلَفَ السَّيِّدُ لِلْوَاطِئِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا زَوَّجَ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ واحد منهما على نفي ما ادعى عليه فَحِينَئِذٍ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْيَمِينِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفَا فَلَا يَلْزَمُ الواطئ الشراء، ليمينه ولا يلزم اليد التَّزْوِيجُ لِيَمِينِهِ وَلِلسَّيِّدِ بَيْعُهَا لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ لم يقر فيها بها يَمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِهَا لِلْوَاطِئِ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ عَلَى الْوَاطِئِ الثَّمَنَ الَّذِي ادَّعَاهُ لَمْ يَمْلِكِ الْوَاطِئُ عَلَيْهِ الْأَمَةَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا لَهُ وَتَحْرُمُ عَلَى الْوَاطِئِ إِصَابَتُهَا بَعْدَ أيمَانِهِمَا وَجْهًا وَاحِدًا. وَهَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ أَمْ لَا؟ على وجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 أَحَدُهُمَا: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا عَلَى مَلِكِ الْوَاطِئِ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ بِمَنْعِ الثَّمَنِ فَجَعَلَ لَهُ بَيْعَهَا لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى ثَمَنِهَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهَا بَعْدَ بَيْعِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي ادَّعَاهُ مِنْ ثَمَنِهَا فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ تَمَلُّكُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : ثُمَّ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الْوَاطِئِ بِثَمَنٍ وَلَا مَهْرٍ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالْمَهْرُ لَا يَدَّعِيهِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِوَطْئِهِ فِي مِلْكٍ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ فَهَذَا الْحُكْمُ إِنْ حَلَفَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْكُلَا فَهُوَ نُكُولٌ عَنْ يَمِينِ نَفْيٍ وَإِنْكَارٍ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمَا يَمِينُ الدَّعْوَى فِي الْإِثْبَاتِ فَيَحْلِفُ السَّيِّدُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ الْأَمَةَ بِالْأَلْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَاطِئَ نَاكِلٌ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِلشِّرَاءِ وَالثَّمَنِ. وَيَحْلِفُ الْوَاطِئُ بِاللَّهِ لَقَدْ زَوَّجَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّ السَّيِّدَ نَاكِلٌ عَنْ يَمِينِ إنكاره بِالتَّزْوِيجِ. فَإِنْ نَكَلَا عَنْهَا أَيْضًا لَمْ يَحْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِمَّا ادَّعَاهُ مِنْ تَزْوِيجٍ وَلَا شِرَاءٍ وَحَرُمَتْ عَلَى الْوَاطِئِ بِنُكُولِهِ عَمَّا ادَّعَاهُ مِنَ النِّكَاحِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَجْهَانِ. وَإِنْ حَلَفَ السَّيِّدُ وَنَكَلَ الْوَاطِئُ حكم السَّيِّدُ عَلَى الْوَاطِئِ بِالشِّرَاءِ وَقُضِيَ لَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَحَرُمَتْ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَجْهَانِ. وَإِنْ حَلَفَ الْوَاطِئُ وَنَكَلَ السيد حكم له بالتزويج وبطل عَنْهُ دَعْوَى الشِّرَاءِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى السَّيِّدِ حَلَّالٌ لِلْوَاطِئِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ حَلَفَا مَعًا قُضِيَ بِيَمِينِ السَّيِّدِ فِي الشِّرَاءِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ عَلَى يَمِينِ الْوَاطِئِ فِي ادِّعَاءِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُ لَهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ ابْتِيَاعِهَا وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى السَّيِّدِ حَلَالٌ لِلْوَاطِئِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ السَّيِّدُ وَيَنْكُلَ الْوَاطِئُ فَهَذِهِ الْيَمِينُ مِنَ السَّيِّدِ إِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ التَّزْوِيجِ وَقَدْ نَكَلَ الْوَاطِئُ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ وَيُرَدُّ عَلَى السَّيِّدِ الْيَمِينَ لِيَحْلِفَ ثَانِيَةً عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْأُولَى لِنَفْيِ التَّزْوِيجِ وَالثَّانِيَةُ لِإِثْبَاتِ الشِّرَاءِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ فَتَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَجْهَانِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا ثَمَنَ لَهُ وَالْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَاطِئِ جَمِيعًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْلِفَ الْوَاطِئُ وَيَنْكُلَ السَّيِّدُ فَهَذِهِ الْيَمِينُ مِنَ الْوَاطِئِ إِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ مَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ وَقَدْ نَكَلَ السَّيِّدُ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ التَّزْوِيجِ فَتُرَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ الْيَمِينُ لِيَحْلِفَ بِهَا ثَانِيَةً عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّزْوِيجِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْأُولَى لِنَفْيِ الشِّرَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِإِثْبَاتِ التَّزْوِيجِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِهَا زَوْجَةً لَهُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 فَلَيْسَتْ لَهُ بِزَوْجَةٍ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلِلسَّيِّدِ فِي الْحَالَيْنِ بَيْعُهَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ بِإِنْكَارِ الشِّرَاءِ. فَهَذَا حُكْمُهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَاطِئُ قَدْ أَحْبَلَهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ قَدْ أَحْبَلَهَا وَأَوْلَدَهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا: فَدَعْوَى السَّيِّدِ الشِّرَاءَ تَتَضَمَّنُ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ وَأَنَّ الْأَمَةَ أُمُّ وَلَدٍ وَأَنَّ الْأَوْلَادَ أَحْرَارٌ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَاطِئَ مَالِكًا ودعوى الواطئ الزوجة تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا بِالْمَهْرِ وَثُبُوتًا لِلزَّوْجِيَّةِ وَأَنَّ الْأَمَةَ وَأَوْلَادَهُ مِنْهَا مَرْقُوقُونَ لِلسَّيِّدِ فَيُلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ضَرَّهُ مِنْ دَعْوَاهُ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا مَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِيمَا نَفَعَهُ فَصَارَ مُدَّعِيًا لَهُ وَغَيْرَ مَتْهُومٍ فِيمَا ضَرَّهُ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِ وَالَّذِي يَضُرُّ السَّيِّدَ مِنْ دَعْوَاهُ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ وَكَوْنُ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ وَالَّذِي يَنْفَعُهُ اسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الثَّمَنِ وَلَزِمَهُ عِتْقُ الْأَوْلَادِ وَكَوْنُ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ، وَمِثَالُهُ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَيْعَ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَعْتَقَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ فَيُنْكِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشِّرَاءَ وَالْعِتْقَ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا عَلَى السَّيِّدِ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَمَنِهِ. وَكَمَنِ ادَّعَى عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ خَالَعَهَا بِأَلْفٍ عَلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الْمَالِ. وَالَّذِي يَضُرُّ الْوَاطِئَ مِنْ دَعْوَاهُ الْإِقْرَارُ بِالْمَهْرِ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَدَّعِيهِ، وَالَّذِي يَنْفَعُهُ ادِّعَاءُ الزَّوْجِيَّةِ وَثُبُوتُ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْوَاطِئِ الْيَمِينُ لِلسَّيِّدِ فِي إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، وَهَلْ تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ الْيَمِينُ لِلْوَاطِئِ فِي إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الزَّوْجِيَّةِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْهُ فِي إِيقَاعِ الْحُرِّيَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ عَنْ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ وَصَدَّقَ الْوَاطِئَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشِّرَاءِ وَلَا فِي التَّصْدِيقِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى إِنْكَارِهِ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاطِئِ فِي إِثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أن اليمين عليه واجبة لإنكاره ما لَا يَجْعَلُ ثُبُوتَهُ رَافِعًا لِضَرَرِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ عَنْ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ وَصَدَّقَ الْوَاطِئَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشِّرَاءِ وَقُبِلَ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَكَانَتْ فِي الْحُكْمِ أُمَّ وَلَدٍ وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْوَاطِئِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَالْتَزَمَا مِنَ الْأَيْمَانِ مَا بَيَّنَّا تَوَجَّهَ الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: لُزُومُ الْمَهْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 وَالثَّانِي: جَوَازُ الْوَطْءِ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ النَّفَقَةِ. وَالرَّابِعُ: اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ. فَأَمَّا لُزُومُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ السَّيِّدُ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمَهْرِ أَوِ الثَّمَنِ لِاعْتِرَافِهِ لِلسَّيِّدِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْهُ أَمَّا الثَّمَنُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَدَّعِيهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَطْءُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى السَّيِّدِ لإقراره بأنها أم ولد لغيره، هل يحل وطئها لِمُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يحل له وطئها لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِبَاحَتِهِ إِمَّا بِالْمِلْكِ عَلَى قَوْلِ السَّيِّدِ وَإِمَّا بِالزَّوْجِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْوَاطِئِ فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُكَ أَمَتِي وَقَبَضْتُ عَنْهَا وقال: بل وهبتنيها فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَطَأَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِ مِلْكِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِبَاحَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ سَبَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لا يحل له وطئها لِأَنَّهُمَا بِإِنْكَارِ الْعَقْدَيْنِ قَدْ أَبْطَلَا أَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ أَمَةٌ وَلَا زَوْجَةٌ فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُكَ أَمَتِي بِأَلْفٍ لَمْ أَقْبِضْهَا، وَقَالَ: بَلْ وَهَبْتَنِيهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى سَبَبِ الْإِبَاحَةِ فَهُنَاكَ ثَمَنٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَنْعَ مِنَ الْإِبَاحَةِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ وَخَالَفَ حَالَ الْمُقِرِّ بِقَبْضِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَنَفَقَتَانِ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ. وَنَفَقَةُ الْأُمِّ. أَمَّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ فَعَلَى الْأَبِ الْوَاطِئِ لَا يُخْتَلَفُ لِأَنَّهُمْ قَدْ عُتِقُوا بِإِقْرَارِ السَّيِّدِ وَالْوَلَدِ إِذَا أُعْتِقَ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْمُنَاسِبِ بِدُونِ مَوْلَاهُ الْمُعْتِقِ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأُمِّ فَإِنْ جَعَلْنَا الْوَاطِئَ مُدَّعِي الزَّوْجِيَّةَ أَنْ يَطَأَ وَيَسْتَمْتِعَ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ دُونَ السَّيِّدِ بَدَلًا مِنِ اسْتِمْتَاعِهِ. وَإِنْ مُنِعَ الْوَاطِئُ مِنْ وَطْئِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا عَنْهُ لَا يُخْتَلَفُ. وَأَيْنَ تَجِبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي كَسْبِهَا إِنْ كَانَ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ مَلَكَ الْكَسْبَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبي علي بن أبي هريرة أن نَفَقَتَهَا عَلَى السَّيِّدِ وَيَكُونُ كَسْبُهَا مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِسْقَاطِ النَّفَقَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ مَوَارِيثَ: مِيرَاثُ الْوَاطِئِ وَمِيرَاثُ الْأَوْلَادِ وَمِيرَاثُ الْأُمِّ. فَأَمَّا مِيرَاثُ الْوَاطِئِ فَلِأَوْلَادِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا وَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ فِيهِ لِأَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ يَتَحَرَّرُ عِتْقُهَا بِمَوْتِهِ. وَأَمَّا مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ فَلِأَبِيهِمْ إِنْ كَانَ حَيًّا وَلَا شَيْءَ لِأُمِّهِمْ فِيهِ لِأَنَّهَا قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْأَوْلَادِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ تَرِكَتِهِمْ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حُرَّةً بِمَوْتِ أَبِيهِمْ ثُمَّ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِعَصَبَتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَمَوْقُوفٌ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ. وَأَمَّا مِيرَاثُهَا فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ عِتْقِهَا بِمَوْتِ الْوَاطِئِ فَموروثٌ لِأَوْلَادِهَا إِنْ كَانُوا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَمَوْقُوفٌ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا قَبْلَ عِتْقِهَا بِمَوْتِ الْوَاطِئِ فَلَا مِيرَاثَ لِأَوْلَادِهَا لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُورَثُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالسَّيِّدِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ وَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ طَلَبَ السَّيِّدُ بَاقِي ثَمَنِهَا مِنَ الْمَوْقُوفِ مِنْ مَالِهَا حِينَ قُضِيَ لَهُ عَلَى الْوَاطِئِ الْمَهْرُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ أَوْ طَلَبَ جَمِيعَ الثَّمَنِ حِينَ لَمْ يُقْضَ لَهُ عَلَى الْوَاطِئِ بِشَيْءٍ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّاهِدَيْنِ إِذَا طَلَبَا ثَمَنَ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَاهُ بعدما شهدا بعتقه مما ترك بعد موته. فَصْلٌ : إِذَا ادَّعَى رجلٌ جَارِيَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ فَجَحَدَهَا صَاحِبُ الْيَدِ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي وَاسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا ثُمَّ قَالَ: كَذَبْتُ فِي دَعْوَايَ وَيَمِينِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ أَوْلَادِهَا لِإِقْرَارِهِ بِمِلْكِهَا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا إلا أن يشتريها منه لأنه يدفع الْقِيمَة لَا يَصِيرُ مَالِكًا لِأَنَّهُ يُغَرَّمُ قِيمَةَ مُسْتَهْلَكٍ فَإِذَا اشْتَرَى قَبْلَ دَفْعِ الْقِيمَةِ سَقَطَتِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَنْهَا بَدَلٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اشْتَرَاهَا بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ كَانَتِ الْقِيمَةُ قِصَاصًا من ثمنها وتراجعا ال فصل وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَ صَاحِبُهُ مَعَ نُكُولِهِ وَاسْتَحَقَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَالَ جَوَابًا عَنِ الدَّعْوَى: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا بِإِقْرَارٍ وَلَا إِنْكَارًا وَهُوَ كَالْمَسْكُوتِ مِنْهُ عَنِ الْجَوَابِ فَيَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إِنْ أَجَبْتَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَإِلَّا جَعَلْنَاكَ نَاكِلًا وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِكَ. يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَحَسَنٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَسْتَقِرُّ بِحُكْمِ النُّكُولِ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ ثَلَاثًا. وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ بِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النُّكُولِ يَسْتَقِرُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَكْرَارِهِ ثَلَاثًا إِلَّا مَا عَلِمَهُ مِنْ حُكْمِ النُّكُولِ بِالْأَوَّلِ وَلِأَنَّ النُّكُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ التَّكْرَارُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا فَلَمْ يَكُنْ فِي النُّكُولِ مُعْتَبَرًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَا أُنْكِرُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا وَيَحْتَمِلُ لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا فَلَمْ يَصِرْ مَعَ الِاحْتِمَالِ مُقِرًّا، وَلَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ مُحِقًّا فِي دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا بِهَذِهِ الدَّعْوَى كَانَ مُقِرًّا لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أُقِرُّ لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ. وَلَوْ قَالَ أَنَا مُقِرٌّ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا يَكُونُ مُقِرًّا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَا مُقِرٌّ بِبُطْلَانِ دَعْوَاكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَوَابًا عَنِ الدَّعْوَى انْصَرَفَ الْإِقْرَارُ إِلَيْهَا وَكَانَ أَبْلَغَ جَوَابًا مِنْ نِعَمْ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَجَابَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ بَلَى أَوْ نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ صَدَقَتْ أَوْ أَيْ لَعَمْرِي كَانَ مُقِرًّا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ لِتَصْدِيقٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي وَإِنْ قَالَ لَعَلَّ وَعَسَى وَيُوشِكُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ لِلشَّكِّ وَالتَّرَجِّي وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَظُنُّ وَأُقَدِّرُ وَأَحْسَبُ وَأَتَوَهَّمُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهَا مِنَ الشَّكِّ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي عِلْمِي كَانَ إِقْرَارًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقِرُّ بِهَا فِي عِلْمِهِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِتَشْكِيكِهِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا فِي عِلْمِي صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي يوسف وَبَطَلَتْ عِنْدَ أبي حنيفة. فصل : وإذا قال الطالب أقضيني الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ فَقَالَ نَعَمْ، أَوْ أَجَلْ أَوْ غَدًا أَوْ أَنْظِرْنِي بِهَا، كَانَ إِقْرَارًا وَإِذَا قَالَ: أَنْظِرْنِي أَوِ ارْفُقْ بِي أَوْ أَنْفِذْ رَسُولَكَ إِلَيَّ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لِاحْتِمَالِهِ. وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ عَبْدِي هَذَا أَوْ قَالَ أَعْطِنِي عَبْدِي هَذَا فَقَالَ نَعَمْ كَانَ إِقْرَارًا بِهِ. وَلَوْ قَالَ لَا أَفْعَلُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ إِقْرَارًا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ إِنْكَارَ الْجَوَابِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا بِالْجَوَابِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ جَوَابًا عَنِ ادِّعَاءِ أَلْفٍ عَلَيْهِ خُذْ أَوِ اتَّزِنْ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ خُذِ الْجَوَابَ مِنِّي وَاتَّزِنْ حَقًّا إِنْ كَانَ لَكَ عَلَى غَيْرِي، وَلَوْ قَالَ خُذْهَا أَوِ اتَّزِنْهَا فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ إِقْرَارًا وَبِهِ قَالَ أَهْلَ الْعِرَاقِ لِأَنَّ هَاءَ الْكِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّعْوَى. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِأَنَّهُ قَدْ يَزِنُ وَيُعْطِي مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَجَابَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ: صِحَاحٌ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا وَلَوْ قَالَ: هِيَ صِحَاحٌ قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: يَكُونُ إِقْرَارًا لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِصِفَتِهَا فَصَارَ إِقْرَارًا بِهَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصِّفَةِ إِقْرَارٌ بِالْمَوْصُوفِ وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِأَنَّهَا صِفَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الدَّعْوَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لإقرار لم يذكر. فصل : وإذ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ رَافِعَةٌ لِحُكْمِ مَا نِيطَ بِهَا وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا فِي حِسَابِي أَوْ مَا خَرَجَ بِخَطِّي أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ زَيْدٌ عَنِّي فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِقْرَارٌ يُلْزِمُ لِأَنَّهُ مُحِيلٌ بِالْإِقْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُقِرٍّ. فَلَوْ قَالَ: مَا شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ عَلَيَّ فَهُوَ لَازِمٌ لِي، وَلَمْ يَصِرْ مُقِرًّا بِمَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ كَمُلَتْ بِزَيْدٍ بَيِّنَةُ عَدْلٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ دُونَ إِقْرَارِهِ وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بَيِّنَةً مَسْمُوعَةً لِأَنَّهُ أَلْزَمَ ذَلِكَ نَفْسَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إذا لم تكم بِزَيْدٍ بَيِّنَةُ عَدْلٍ فَهِيَ حِوَالَةٌ بِالْإِقْرَارِ. فَصْلٌ : وإذا قال: لفلان علتي أَلْفٌ إِنْ شَاءَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لِأَنَّهُ على الْإِقْرَارَ بِصِفَةٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ مَاتَ عَمْرٌو وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ مُتُّ كَانَ عِنْدَ أبي حنيفة إِقْرَارًا مَاتَ أَوْ عَاشَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِإِقْرَارٍ مَاتَ أَوْ عَاشَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِقْرَارِ بِشَرْطٍ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ شَكٍّ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَلْفٌ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْهَا بَعْدَ إِثْبَاتِهَا وَالتَّعْلِيلُ بِالشَّكِّ فِي نَفْيِ اللُّزُومِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ فَصَارَ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا لِأَحَدِهِمَا بِالْأَلْفِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ وَلَا يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمُقَرِّ بِهِ كَذَا إِذَا أَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمُقَرِّ لَهُ وَخَالَفَ قَوْلُهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لَا لِكَوْنِهِ شَاكًّا فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ وَسُقُوطِهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ مُتَيَقِّنٌ لِلْإِقْرَارِ شَاكٌّ فِي مُسْتَحِقِّهِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ وَقَبَضْتَهَا ثُمَّ قَالَ لَمْ تَكُنْ قَبَضْتَهَا فَأُحْلِفَ أَحْلِفَتَهُ لقد قبضها فإن نكل رددت الْيَمِينُ عَلَى صَاحِبِهِ وَرَدَدْتُهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ إِلَّا بِالْقَبْضِ عَنْ رِضَا الْوَاهِبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّهْنِ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الرَّاهِنِ. فَإِذَا أَقَرَّ مَالِكُ الدَّارِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِبَتِهَا لِرَجُلٍ وَأَنَّهُ أَقْبَضَهُ إِيَّاهَا وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى قَبْضِهَا وَهِبَتِهَا ثُمَّ عَادَ الْوَاهِبُ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُقْبِضْهَا وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ سَهْوٌ أَوْ كَذِبٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ فَإِنْ أَكْذَبَهُ وَادَّعَى الْقَبْضَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ الْوَاهِبَ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ رَاجِعٌ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فَإِنْ سَأَلَ الْوَاهِبُ إِحْلَافَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَبَضَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَاهِبِ عِنْدَ إِقْرَارِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ غَائِبَةً وَأَقَرَّ أَنَّ وَكِيلَهُ أُقْبِضَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَبَضَ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْبِرُهُ الْوَكِيلُ ثُمَّ يَعْلَمُ كَذِبَهُ أَوْ يُزَوَّرُ عَلَى الْوَكِيلِ كِتَابٌ مِنْهُ بِالْقَبْضِ ثُمَّ يُعْلَمُ تَزْوِيرُهُ فَإِنْ حَلَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْقَبْضِ اسْتَقَرَّ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاهِبِ فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا كَانَتِ الدَّارُ عَلَى مِلْكِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ حَاضِرَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُقْبِضَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ غَائِبَةً فَأَقَرَّ بِإِقْبَاضِهَا بِنَفْسِهِ فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبْضِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاهِبِ وَالدَّارُ لَهُ لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ أَنْ يَكُونَ سَابِقَ الْإِقْرَارِ عَنِ اتِّفَاقٍ أَنْ يُعْقِبَهُ الْإِقْبَاضَ وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ النَّاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يُجَابُ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ فَرُدَّتْ وَلَيْسَ لِتَخْرِيجِ الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ إِلَّا عَلَى كَذِبٍ فِي إِحْدَى الْحَالَيْنِ فَكَانَ حَمْلُ الْإِقْرَارِ عَلَى الصِّدْقِ وَالدَّعْوَى عَلَى الْكَذِبِ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الْوَاهِبُ: قَدْ وَهَبْتُ لَهُ هَذِهِ الدَّارَ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ عِنْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ قَوْلُهُ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا مَحْمُولًا عَلَى الْإِقْبَاضِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَاهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ نَصًّا فِي جامعه الكبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ سُئِلَ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا لِاحْتِمَالِهِ مَعَ كَوْنِ الدَّارِ فِي يَدِهِ فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَبْضِ قُبِلَ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بألفٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ عُتِقَ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ وَإِنْ أنكر فهو حر والسيد مدعى الْأَلْفِ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِنْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفًا فَأَنْتَ حرٌّ فَهَذَا عِتْقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي يُعْطِيهَا الْعَبْدُ فِي حَالِ الرِّقِّ هِيَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَلَا تَصِحُّ مُعَاوَضَةُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ عَلَى مَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ وَلَمْ تَكُنْ مُعَاوَضَةً وَخَالَفَ قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُ. فَلَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ لَمْ تَكُنْ دَعْوَى لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ اسْتِحْقَاقَ مَالٍ وَكَانَ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْعِتْقِ لَا يُرَاعي فِيهِ تَصْدِيق الْعَبْدِ، وَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ ذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ كَانَ مُدَّعِيًا عِتْقًا يُنْكِرُهُ السَّيِّدُ فَيَحْلِفُ لَهُ وَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إِنْ ضَمِنْتَ لِي أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إِلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا غَيْرُ مُعَاوَضَةٍ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِ مُوجِبٌ لِمَالٍ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِلْكُهُ فَصَارَ مُعَاوَضَةً عَلَى عِتْقِهِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ تَضَمَّنَ عِتْقًا بِصِفَةٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالضَّمَانِ. وَلَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفٍ ضَمِنَهَا وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ حَلَفَ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَعُتِقَ الْعَبْدُ عَلَى السَّيِّدِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِعِتْقِهِ وَصَارَ كَمَنْ قال لرجل: بعتك عبدي بألف عليك فأعتقه، فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي إِنْكَارِ الْأَلْفِ وَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدَ عَلَى السَّيِّدِ إِقْرَارُهُ بِالْعِتْقِ وَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ ذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ حَلَفَ لَهُ وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ وَيَقْبَلُ الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ ابْتِيَاعًا فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ وَمُخْتَصَرِهِ جَوَازُ ذَلِكَ وَصِحَّتُهُ قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَحْكِيَانِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا يُخْرِجَانِهِ مَذْهَبًا لِتَفَرُّدِ الرَّبِيعِ بِتَخْرِيجِهِ لِنَفْسِهِ وَكَانَ أَبُو حامد المورروذي والإسفراييني يحكيانه ويخرجانه وتبعهما متأخروا أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الْأَصَحُّ، جَوَازُهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ حُكْمًا وَأَعْجَلُ مِنْهُ تَحْرِيرًا وَعِتْقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِنْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَذَاكَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ مَالٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مَحَلٌّ ثَبَتَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ بَيْعُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ ثَمَنًا وَلَا يَلْتَزِمُ بِهِ ثَمَنًا عِتْقًا وَلَا يَكُونُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَلَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ أَثَرٌ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الصَّحِيحِ فَجَوَازُهُ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِأَحَدٍ رِقٌّ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَادَّعَى السَّيِّدُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنْكَرَهُ الْعَبْدُ حَلَفَ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ ظَاهِرًا مِنْ ثَمَنِهِ وَعُتِقَ عَلَى سَيِّدِهِ لِإِقْرَارِهِ بِعِتْقِهِ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا أَقَرَّ بِمِلْكِ نَفْسِهِ بَيْعًا عَلَى ثَمَنٍ فَهَلَّا إِذَا فَاتَه الثَّمَنُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ كَمَا إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِابْتِيَاعِ عَبْدِهِ عَلَى ثمن أنكره رجع عليه بعبده قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْبَيْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا وَالْعِتْقُ لَا يَقِفُ عَلَى مُتَعَاقِدَيْنِ فَلَزِمَ بِإِقْرَارِ الْمَالِكِ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ يَصِحُّ نَقْضُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ لِإِعْوَازِ الثَّمَنِ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ إِعْوَازُهُ بِالْإِنْكَارِ أَحَقُّ بِالْفَسْخِ وَالْعِتْقُ لَا يَصِحُّ نَقْضُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَلَا الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَمِثْلُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْبَيْعِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيُنْكِرُهُ فَيُعْتَقُ عَلَى الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ لرجلٍ بِذِكْرِ حَقٍّ مِنْ بيعٍ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ أَحَلَفْتُهُ مَا قَبَضَ وَلَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إِلَّا بِالْقَبْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ ادَّعَى مِنْ بَعْدُ أَنَّهَا ثَمَنُ مَبِيعٍ لَمْ يَقْبِضْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ. فَأَمَّا إِذَا أضاف إقراره إلى ثمن مبيع فقال له: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِذِكْرِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْعَبْدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الْعَبْدَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنَّ عَيَّنَ الْعَبْدَ الَّذِي هِيَ مِنْ ثَمَنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ، كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَقَالَ: مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد. هُوَ مُقِرٌّ بِالْأَلْفِ مُدَّعٍ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إِنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْعَبْدَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِدْلَالًا مِنْهُمَا بِأَنَّ مَا يَعْقُبُ الْإِقْرَارَ مِنْ قَوْلٍ بِرَفْعِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 مَرْدُودٌ كَدَعْوَاهُ الْقَضَاءَ وَاسْتِثْنَائِهِ الْكُلَّ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْمُثَمَّنِ مِنْ عَبْدٍ بَاعَهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِ ثَمَنِهِ، كَذَلِكَ إِقْرَارُهُ بِثَمَنِ عَبْدٍ ابْتَاعَهُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَهُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الْإِقْرَارِ بِهِ لَهُ مَوْقُوفًا عَلَى لُزُومِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَخَالَفَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْإِقْرَارِ وَفِي ادِّعَائِهِ الْقَضَاءَ مُتَّصِلًا بِالْإِقْرَارِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ وَيَسْتَوِيَانِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الثَّمَنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرَ لَازِمٍ أَدَاؤُهُ فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُهُ وَالدَّيْنُ لَازِمٌ فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْقَضَاءِ قَوْلُهُ. فَلَوِ ادَّعَى الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ اسْتَوْجَبَ قَبْضَ ثَمَنِهِ وَأَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي التَّسْلِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مُدَّعِي الْقَضَاءَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّعِيَ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ حَقٌّ فَجَازَ أَنْ يقبل قوله ومدعي تسليم المبيع ويثبت فِي دَعْوَاهُ حَقًّا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي فَلَانٌ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْهَا، كَانَ قَوْلُهُ عِنْدَنَا مَقْبُولًا وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ لَهُ. وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُلْزَمُ بِالْقَبْضِ فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارِهِ فَلَيْسَ بِمُقِرٍّ بِلُزُومِهِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ شاهدٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بألفٍ وَآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ زَعَمَ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ أَنَّهُ شَكَّ فِي الْأَلْفَيْنِ وَأَثْبَتَ أَلْفًا فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ ألفٌ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ الْأَلْفَ الْأُخْرَى حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَكَانَتْ لَهُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ ثَمَنِ عبدٍ وَقَالَ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ ثيابٍ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الأَلْفَيْنِ غَيْرُ الْأَلْفِ فَلَا يَأْخُذُ إِلَّا بيمينٍ مَعَ كُلِّ شاهدٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّهَادَةِ من أحد أمرين: إما أن يختلف جهاتها. أو لا يختلف. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُمَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ ثَمَنِ دَارٍ فَلَمْ يَجْتَمِعِ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الْحَقَّيْنِ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ غَيْرَ ثَمَنِ الدَّارِ فَاخْتَلَفَا وَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ: احْلِفْ إِنْ شِئْتَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاسْتَحَقَّ مَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُمَا حُكِمَ لَهُ بِثَلَاثَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ جِهَتَيْنِ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهُمَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حُكِمَ لَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ بِهِ. فَصْلٌ : وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْجِهَتَانِ فَشَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ أَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُطْلَقَةً أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالْأُخْرَى مُقَيَّدَةً صَارَ الشَّاهِدَانِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِثْبَاتِ أَلْفٍ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ أَلْفٍ فَحُكِمَ لِلْمُدَّعِي بِأَلْفٍ بِشَاهِدَيْنِ وَلَهُ أَلْفٌ ثَانِيَةٌ بِشَاهِدٍ إِنْ حَلَفَ مَعَهُ حُكِمَ لَهُ بِهَا فَيَصِيرُ آخِذًا لِأَلْفٍ بِشَاهِدَيْنِ وألف بشاهد يمين. وَقَالَ أبو حنيفة: هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ فَلَا أَحْكُمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْقَدْرِ وَصِيغَةِ اللَّفْظِ يَمْنَعُ مِنْ أن يكونا متفقين على قدر وصار كَاخْتِلَافِهِمَا فِي جِهَةِ الْحَقِّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا مَعَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى شُرُوطِهَا كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى شُرُوطِهَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا مَعَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا وَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا بِحَقَّيْنِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْآخَرِ بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَبْدٍ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلِأَنَّ التَّنَافِيَ فِي الشَّهَادَةِ يُوجِبُ مُضَاعَفَةَ الْإِقْرَارِ وَالْمُوَافَقَةَ تُوجِبُ الْمُدَاخَلَةَ فِي الْإِقْرَارِ. فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِأَلْفٍ إِذَا أَقَرَّ بَعْدَهَا بِأَلْفَيْنِ أَوْجَبَ دُخُولَ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ دَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا وَعَدَمِ تُنَافِيهِمَا. وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَلْفِ عَلَى صِيغَتِهِ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ الْأَلْفَيْنِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَنْ تَنْضَمَّ إِلَيْهِ أَعْدَادٌ زَائِدَةٌ وَزِيَادَةُ الْأَعْدَادِ عِنْدَهُ لَا يَقْتَضِي التَّنَافِي كَشَهَادَةِ أَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَزِيَادَةُ التَّثْنِيَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَضِيَ التَّنَافِيَ وَيَبْطُلُ بِهَذَا مَا ادَّعَاهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ. فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ فَالشَّاهِدُ بِأَلْفَيْنِ قَدْ أَثْبَتَ أَلْفًا وَزَادَ أَلْفًا وَالْآخَرُ قَدْ أثبت ألفاً فصار عَلَيْهَا مُتَّفِقَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى غَيْرَ مُتَّفِقَيْنِ وَلَا مُخْتَلِفَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ حُكِمَ بِمِائَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ صِيغَةِ اللَّفْظِ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ دُخُولِ الْأَقَلِّ فِي الْأَكْثَرِ وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ بِالْفَارِسِيَّةِ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِأَلْفٍ مِنْهَا وَتَفَرَّدَ الْآخَرُ فِي شَهَادَتِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَمِ التَّنَافِي فِي شَهَادَتِهِمَا وَدُخُولِ الْأَلْفِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا أَحَدُهُمَا فِي الْأَلْفَيْنِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْآخَرُ عَجَّلَ الْحَاكِمُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ الْحُكْمَ بِأَلْفٍ وَتَوَقَّفَ عَلَى إِحْلَافِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يَسْأَلَ الشَّاهِدَ بِالْأَلْفِ: هَلْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 عِلْمَ لِي بِهَا، أُحْلِفَ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ الْآخَرِ وَقُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهَا وَلَكِنْ قَبْضَهَا مِنَ الْمُقِرِّ بِهَا فَشَهِدْتُ بِالْأَلْفِ الْبَاقِيَةِ وَلَمْ أَشْهَدْ بِالْأَلْفِ الْمَقْبُوضَةِ، قِيلَ لِلْمُدَّعِي قَدْ حَصَلَ لَكَ أَلْفٌ بِشَاهِدَيْنِ وَأَلْفٌ ثَانِيَةٌ بِشَاهِدٍ وَعَلَيْكَ بِقَبْضِهَا شَاهِدٌ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ شَاهِدِهِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِهَا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ، وَإِنْ أَجَابَ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُحَلِّفَهُ مَعَهُ أَمْ لَا؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلِّفَهُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِقَبْضِهَا قَدْ قَابَلَ الشَّاهِدَ فِي إِثْبَاتِهَا فَتَعَارَضَا فَلَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ مَعَ الشَّهَادَةِ وَتَعَارُضِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحَلِّفُهُ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعَ شَاهِدِهِ لِكَمَالِ بَيِّنَةٍ فَجَرَتْ مَجْرَى شَاهِدٍ آخَرَ. وَلَا يَجُوزُ لِحَاكِمٍ أَنْ يَمْنَعَ شَاهِدًا ثَانِيًا أَنْ يَشْهَدَ بِهَا فَكَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ مَعَ شَاهِدِهِ فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ لَزِمَتْكَ أَلْفٌ ثانية بشاهد ويمين لك أَنْ تَدْفَعَهَا بِشَاهِدٍ فَإِنْ حَلَفْتَ مَعَهُ تَمَّتْ بَيِّنَتُكَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَسَقَطَتْ عَنْكَ وَإِنْ لَمْ تحلف لزمتك لأن البينة بها عليك تامة والبينة لك بدفعها غير تامة. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ أَلْفًا فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ بِاقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَى عَلَى أَلْفٍ مُكَذِّبًا لِلشَّاهِدِ لَهُ بِأَلْفَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلزِّيَادَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ادَّعَى فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ ويبقى مع الشَّاهِدُ بِالْأَلْفِ فَيَحْلِفُ مَعَهُ وَيَسْتَحِقُّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا لَهُ لِجَوَازِ اقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَى عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ وَلِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّاهِدُ بِقَبْضِهِ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الدَّعْوَى تَكْذِيبُ الشَّاهِدِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ ثَمَنَ عَبْدِهِ أَلْفًا فَيَشْهَدُ بِأَنَّ ثَمَنَهُ أَلْفَانِ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ لِتَكْذِيبِهِمَا بِالدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ تَكَفَّلَ لَهُ بمالٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَأَنْكَرَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْخِيَارَ فَمَنْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ وَاحِدًا أَحْلَفَهُ عَلَى الْخِيَارِ وَأَبْرَأَهُ لأنه لا يجوز بخيار ومن زعم أنه ببعض إِقْرَاره أَلْزَمَهُ مَا يَضُرُّهُ وَأَسْقَطَ مَا ادَّعَى المخرج به (قال المزني) رحمه الله قوله الذي لم يختلف أن الإقرار واحدٌ وكذا قال في المتايعين إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ أَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَقَدْ قَالَ إذا أقر بشيءٍ فوصفه ووصله قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَمْ أَجْعَلْ قَوْلًا وَاحِدًا إِلَّا حكماً واحداً ومن قال أجعله في الدراهم والدنانير مقراً وفي الأجل مدعياً لزمه إذا أقر بدرهم نقد البلد لزمه فإن وصل إقراره بأن يقول طبري جعله مدعياً لأنه ادعى نقصاً من وزن الدرهم ومن عينه ولزمه لو قال له عليّ ألفٌ إلا عشرة أن يلزمه ألفاً وله أقاويل كذا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَاطِلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: جَائِزٌ لِدُخُولِ الضَّامِنِ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ أَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَبَطَلَ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ وَالْإِثْبَاتَ وَالْخِيَارُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَالْإِثْبَاتَ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْعَقْدِ مَا يُنَافِيهِ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ وَطَلَبِ الْحَظِّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الثَّلَاثِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ بِهَا وَمُخْتَصًّا بِالْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُغَابَنَةِ وَلَيْسَ الضَّمَانُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ يُسْتَدْرَكُ بِالْخِيَارِ فِيهِ الْمُغَابَنَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِهِ كَالنِّكَاحِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضمان مال ضمن تَمَام الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ وَلُزُومُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَا يَلْزَمُ بَاطِلٌ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَلَيْسَ تَسْمِيَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَرَطًا فِي الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِذَا كَمُلَتِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ: ضَمِنَ لِي أَلْفَا دينا عَلَى غَرِيمٍ. سُئِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْهَا، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالضَّمَانِ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ ففيه ثلاثة مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَ قَدْ ضَمِنْتُ إِلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ يَقُولُ: إِنَّمَا ضَمِنْتُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، لِأَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا فَمَعْلُومٌ مِنْ صِيغَةِ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ الضَّمَانَ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ الصِّلَةُ لِتَقَدُّمِ أَمَارَتِهَا كَالْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولًا وَلَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ ضَمَانٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا ثُمَّ يَدَّعِي بَعْدَ انْفِصَالِ كَلَامِهِ أَنَّ ضَمَانَهُ كَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَقَدْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْخِيَارِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفِ فِيهِ الْمَذْهَبُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِالضَّمَانِ مَوْصُولًا بِالْخِيَارِ فَيَقُولُ: ضَمِنْتُ لَهُ أَلْفًا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْخِيَارِ وَادَّعَى إِطْلَاقَ الضمان ففيه قولان منصوصان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 أحدهما: أن قَوْلهُ فِي ادِّعَاءِ الْخِيَارِ مَقْبُولٌ وَإِقْرَارَهُ بِالضَّمَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَلٍ فِي كَلَامِهِ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ شَرَعَا كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِأَنَّهُ لما كانت صلة إقراره بمشيئة الله تعالى مقبولة فِي رَفْعِ الْإِقْرَارِ كَانَ صِلَتَهُ بِمَا يَصِلُ من حكمه من الخيار مقبولة فِي بُطْلَانِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْبَيْعِ إِذَا وَصَلَهُ بِصِفَةٍ يَبْطُلُ مَعَهَا مَقْبُولًا وَلَا يُجْعَلُ فِي الْبَيْعِ مُقِرًّا وَفِي الْفَسَادِ مُدَّعِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِالضَّمَانِ إِذَا وَصَلَهُ بِمَا يَبْطُلُ مَعَهُ مَقْبُولًا وَلَا يُبَعَّضُ إِقْرَارُهُ فَيُجْعَلُ فِي الضَّمَانِ مُقِرًّا وَفِي الْخِيَارِ مُدَّعِيًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخِيَارِ مَرْدُودٌ وَإِقْرَارَهُ بِالضَّمَانِ لَازِمٌ يَنْقُضُ إِقْرَارَهُ وَيَحْلِفُ لَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَضُرُّهُ لَزِمَهُ وَمَنِ ادَّعَى مَا يَنْفَعُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَهُوَ فِي الضَّمَانِ مُقِرٌّ بِمَا يَضُرُّهُ وَفِي الْخِيَارِ مدع بمَا يَنْفَعُهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ فَصَارَ كَاسْتِثْنَاءِ جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ إِيَّاهَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُبَعَّضُ إِقْرَارُهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَيُبَعَّضُ عَلَيْهِ إِقْرَارُهُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ إِلَى سَنَةٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَيُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْجِيلِ شَيْءٌ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أن القرائن والصلاة أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِمَالٍ ثُمَّ يَقُولُ: مِنْ شَرِكَةٍ كَذَا، فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَصْلٌ أَوْ فَصْلٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفًا، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَصْلٌ أَوْ فَصْلٌ لِفَسَادِهِ فِي الْكَلَامِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الِانْفِصَالِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالنَّقْصِ وَالزَّيْفِ وَمَا لَا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْإِقْرَارِ إِنْ وَصَلَ قُبِلَ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ وَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ؟ قِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَعْضِ مَسْمُوعٌ فِي الْكَلَامِ وَصَحِيحٌ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ فَجَازَ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا يَصِحُّ فِي مَفْهُومِ خِطَابِهِمْ فَبَطَلَ لِإِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَحِيحًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَعْضِ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ وَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مُبْطِلٌ لِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَصِحُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُقْبَلُ فِي الِانْفِصَالِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِهِ فِي الِاتِّصَالِ وَهُوَ مَا رَفَعَ جَمِيعَ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَكَانَ صَحِيحًا فِي كَلَامِ النَّاسِ وَمَفْهُومِ خِطَابِهِمْ كَقَوْلِهِ: ضَمِنْتُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ، أَوْ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ، أَوْ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ مُؤَجَّلٌ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَصِحُّ فِي كَلَامِهِمْ وَإِنَّمَا بَطَلَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ وَاسْتِحَالَةُ الْكَلَامِ بِاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْكَلَامِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنِ اتَّصَلَ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ لِصِحَّتِهِ فِي الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَفَعَ أَوَّلَ كَلَامِهِ لَفْظًا وَبَيْنَ مَا رَفَعَهُ حُكْمًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ قَبُولَ إِقْرَارِهِ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ ثُمَّ احْتَجَّ لِنُصْرَتِهِ بِالْبَيْعِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ بِخِيَارٍ ادَّعَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيهِ. فَيُقَالُ لِلْمُزْنِيِّ: إِنْ أَرَدْتَ خِيَارَ الثَّلَاثِ الْجَائِزَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ أَرَدْتَ خِيَارَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُبْطِلَ لِلْعَقْدِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُمَلِّكُ بِهِ عِوَضَ مَا مُلِكَ عَلَيْهِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي فَسَادِهِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْعِوَضِ وَلَيْسَ كَالضَّمَانِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ لِنَفْسِهِ مَا يَبْطُلُ لِبُطْلَانِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسَادِهِ ثُمَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَلَا أَجْعَلُ قَوْلًا وَاحِدًا إِلَّا حُكْمًا وَاحِدًا وَهَذَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ بِاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَمِنَ لَهُ عُهْدَةَ دارٍ اشْتَرَاهَا وَخَلَاصَهَا واستحقت رجع بالثمن عَلَى الضَامِنِ إِنْ شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: ضَمَانُ دَرْكِ الْبَيْعِ جَائِزٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ وَالْعُهْدَةِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَا لَفْظًا. وَقَالَ أبو يوسف: سَأَلْتُ أبا حنيفة عَنِ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا الْعُهْدَةُ، الْعُهْدَةُ الْكِتَابُ، فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ضَمَانِ الدَّرْكِ بِضَمَانِ الْعُهْدَةِ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ قَدْ أَلَّفَهَا النَّاسُ وَاتَّسَعُوا فِيهَا فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا مَعَ أَنَّ إِنْكَارَ الْعِبَارَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْحُكْمِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: ضَمَانُ الدَّرْكِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَا يَجِبُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَوْ لا يستحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَانٌ مَجْهُولٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وزفر: إن ضمان الدَّرْك بِأَمْرِ الْبَائِعِ صَحَّ وَإِنَّ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بَطَلَ، لِالْتِزَامِهِ حُكْمَ عَقْدِهِ وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ صَحَّ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِهِ وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى ضَمَانِ الدَّرْكِ لِمَا لِلنَّاسِ مِنْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى التَّوَثُّقِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ لَا يُوثَقُ بِذِمَّةِ الْبَائِعِ لِهَوَانِهَا فَاحْتِيجَ إِلَى التَّوْثِيقِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَالْوَثَائِقُ ثَلَاثٌ: الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ. وَالشَّهَادَةُ إِنَّمَا تُقَيِّدُ التَّوْثِيقَ مِنْ ذِمَّتِهِ لَا غَيْرَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ وَالرَّهْنُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ ضَرَرٍ لِاحْتِبَاسِهِ إِلَى مُدَّةٍ لَا يُعْلَمُ غَايَتُهَا وَأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَصِلُ إِلَى غَرَضِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا أَعْطَاهُ رِهَانَهُ وَهَذَا الضَّرَرُ زَائِلٌ عَنِ الضَّمَانِ وَالتَّوَثُّقُ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِهِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَجَوَازِهِ وَلَا يَكُونُ ضَمَانًا مَوْقُوفًا كما قال أبو العباس لأن المبيع إذا كَانَ مُسْتَحَقًّا حِينَ الْعَقْدِ فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَلَا ضَمَانَ فَلَمْ يَتَرَدَّدْ بَيْنَ حَالٍ نَظَرًا فَيَصِيرُ مَوْقُوفًا وَلَا يَكُونُ ضماناً مجهولاً لأن الثمن معلوم ويكون اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ مُفْضِيًا إِلَى جَهَالَتِهِ كَمَا يَكُونُ ضَمَانُهُ ألفا إِذَا قَامَتْ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بَيِّنَةٌ بِأَدَاءِ بَعْضِهِ فَسُقُوطُ الضَّمَانِ فِيهِ مُفْضٍ إِلَى جَهَالَتِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ جَائِزٌ فَهُوَ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانِ الْبَتِّيِّ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ مُوجِبٌ لِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ مَا كَانَ مَوْجُودًا إِلَّا أَنْ يَتْلَفَ فَيَغْرَمُ مِثْلَهُ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا أَوْ عَقَارًا. وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: أَنَّ ضَامِنَ الدَّرْكِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ ضَمَانِهِ لَزِمَهُ تَخْلِيصُ الْمَبِيعِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ غَرِمَ ثَمَنَهُ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَفَسَادُهُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَا تَضَمَّنَهُ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالْمَدْفُوعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْتَحَقِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُسْتَحِقِّ فَلَمْ يَنْصَرِفِ الضَّمَانُ إِلَيْهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ فَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى جَوَازِهِ وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ بِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ ضَمِنَ لَهُ عُهْدَةَ دَارِهِ وَخَلَاصِهَا وَهَذَا خَطَأٌ عَلَيْهِ فِي التَّأْوِيلِ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْخَلَاصِ إِنَّمَا هُوَ خَلَاصُ مَا يَجِبُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنَ الثَّمَنِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: فَالثَّمَنُ عَلَى الضَّامِنِ؟ وَإِنَّمَا بَطَلَ ضَمَانُ خَلَاصِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الِاسْتِحْقَاقُ. وَالْإِقَالَةُ. وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِ الْمَبِيعِ مَغْصُوبًا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الضَّامِنِ أَوِ الْبَائِعِ؟ وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فِيهَا عَلَى الْبَائِعِ دُونَ ضَامِنِ الدَّرْكِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ بِتَرَاضِيهِمَا فَلَمْ يُضْطَّرَّ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِدْرَاكِ حَقِّهِ بِضَمَانِ الدَّرْكِ. وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْعَيْبِ فَفِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ لِأَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ فَصَارَ كَالِاسْتِحْقَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الدرك لأن رده واستحقاق ثمنه عن رضى منه واختيار كالإقالة. وهكذا الرجوع بأرض الْعَيْبِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَمُوجِبٌ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيهِ وَفِي بطلانه في باقيه قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ، فَعَلَى هَذَا يُرْجَعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى ضَامِنَ الدَّرْكِ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فِي الْمُسْتَحَقِّ صَحِيحٌ فِي الْبَاقِي، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ عَيْبًا فِي بَاقِيهِ فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِيهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ رَجَعَ بِثَمَنِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ وَإِنْ فَسَخَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مَا فُسِخَ فِيهِ الْبَيْعُ من باقيه؟ على ما ذكرناه من وجهين: فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا وَغَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ غَرْسِ الْمُشْتَرِي وَبِنَائِهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا عَلَى الْبَائِعِ وَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ الْغَرْسِ مِنَ الْبَائِعِ وَقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَبَيْنَ إِجْبَارِهِ عَلَى قَلْعِهِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْغَصْبِ عِنْدَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِمًا أَوْ يُقِرَّهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَخَذَ بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى الْبَائِعِ فِي الْحَالَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَأْخُوذٌ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَغَرِمَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ بِقَلْعِهِ عَالِمًا بِالْحَالِ أَوْ جَاهِلًا، ثُمَّ لَهُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا بَيْنَ قِيمَةِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَائِمًا وَمَقْلُوعًا وَبِمَا غَرِمَ مِنْ نَقْصِ الْأَرْضِ بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ قَدْ أَلْجَأَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 بِالْغُرُورِ إِلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ اطِّرَادًا وَأَقْوَاهَا حِجَاجًا ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ بِغُرْمٍ وَجَبَ بِالْغُرُورِ وَلَيْسَ يضمن مستحق العقد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أقر أعجمي بأعجمية كان كالإقرار بالعربية العقل فهو على الصحة حتى يعلم غيرها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتِلاَفِ ألْسِنَتَكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: 22) ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِيُبَيِّنَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ عَنْ غَرَضِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ كُلُّ كَلَامٍ فُهِمَ عَنْ قَائِلِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِيمَانُ الْأَعْجَمِيِّ بِلِسَانِهِ كَالْعَرَبِيِّ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ كَالْعَرَبِيِّ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ لَهُ، وَهَكَذَا الْعَرَبِيُّ إِذَا أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ فَأَمَّا الْعَرَبِيُّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ إِذَا أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَنَّهُ يُسْأَلُ: هَلْ قَصَدَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: أَعْرِفُهُ، لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ قَالَ: لَسْتُ أَعْرِفُهُ وَإِنَّمَا جَرَى لِسَانِي بِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ. وَهَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: عَرَفْتُ مَعْنَى مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَازِمٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَاكِمِ الْمُقَرِّ عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِهِ أَمْ لَا. فَإِذَا كَانَ عَارِفًا بِهِ اكْتَفَى بِمَعْرِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ احْتَاجَ إِلَى تُرْجُمَانٍ يُتَرْجِمُ لَهُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِ، فَقَالَ أبو حنيفة: يُجَزِئُ تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يجزي أَقَلُّ مِنْ تُرْجُمَانَيْنِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ لِمَا فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ إِثْبَاتٍ لِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لِيُجْبَرَ عَلَى الْحُكْمِ وَخَالَفَ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي يَسْتَوِي فيه المُخْبِرُ والمُخْبَرُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهدوا على إقراره ولم يقولوا بأنه صحيح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْأَوْلَى بِالشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَسْتَوْفُوا الشَّهَادَةَ بِمَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ فَيَقُولُونَ: أَشْهَدْنَا وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ فَإِنْ أَطْلَقُوا الشَّهَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا صِحَّةَ الْعَقْلِ وَجَوَازَ الْأَمْرِ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا لِاحْتِمَالٍ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَغْلَبِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَالِ وَالْأَغْلَبُ السَّلَامَةُ وَالصِّحَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ من حال الشهود أنهم لا يؤدوا مَا تَحَمَّلُوا إِلَّا عِنْدَ وُجُوبِ إِثْبَاتِهِ وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْحَاكِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَأْمُرَ الشُّهُودَ بِإِكْمَالِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَلْقِينٍ لَهُمْ لِيَزُولَ الْخِلَافُ وَيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا: فَإِنِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْجُنُونَ عِنْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْ دَعْوَاهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهَا لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالْجُنُونَ عَارِضٌ. وَلَوِ ادَّعَى الْإِكْرَاهَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُكْرَهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَأَحْكَامَ الْمَجْنُونِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا احْتَمَلَتْهُ الشَّهَادَةُ مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا كَالْجَهَالَةِ بِالْعَدَالَةِ وَفِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِهَا مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ كَمَا فِي إِنْفَاذِهِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ الْجُنُونِ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ أَظْهَرَ لَكَانَ أَعْذَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالَيْنِ عُذْرٌ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ، وَأَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِالْبَيَانِ فَقَالَ: هُوَ باب أو جذع أو قماش أو إيجارة سَنَةٍ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى حقاً فِي الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ سَهْمٌ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِوُضُوحِ الفرق بينهما لأن السهم شَائِعٌ وَالْحَقَّ مُتَمَيِّزٌ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عليّ ألف إلا مئة قَضَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مُقِرًّا بالألف مدعياً لقضاء مائة فألزمه الألف وإلا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فَجُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يكون استثناءاً صَحِيحًا يَرْجِعُ إِلَى الْمَقْضِيِّ دُونَ الْقَضَاءِ وَصْفًا وَسَبَبًا لِصِحَّتِهِ وَلَوْ أَمْسَكَ عَنْهُ وَعُدِمَ مَا ذَكَرَهُ مُنِعَ مِنْهُ فَيَصِيرُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ قَدِ ادَّعَى قَضَاءَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 باب إقرار الوارث بوارث ٍ مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: " الَّذِي أَحْفَظُ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بأخٍ أَنَّ نَسَبَهُ لَا يَلْحَقُ وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ وَرِثَ وَوَرَّثَ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ حق لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ عندنا والله أعلم وذلك مثل أن يقر أنه باع داراً من رجلٍ بألفٍ فجحد المقر له البيع فلم نعطه الدار وإن أقر صاحبها له وذلك أنه لم يقل إنها ملكٌ له إلا ومملوكٌ عليه بها شيءٌ فلما سقط أن يكون مملوكاً عليه سقط الإقرار لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَادَّعَى ثَالِثٌ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَأَخُو الِابْنَيْنِ، فَلِصِحَّةِ دَعْوَاهُ شَرْطَانِ إِنْ لَمْ يُوجَدَا بَطَلَتْ: أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ سِنَّيْهِمَا زَمَانٌ أَقَلُّهُ عَشْرُ سِنِينَ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِاسْتِحَالَتِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَجْهُولَ النَّسَبِ لِيَصِحَّ أَنْ يَلْحَقَ نَسَبُهُ بِمَنْ يَدَّعِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِبُطْلَانِهَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الشَّرْطَانِ صَحَّتِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتْ عَلَى الِابْنَيْنِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الِابْنَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّا بِهِ. أَوْ يُنْكِرَاهُ. أَوْ يُقِرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وينكره الآخر. فإذا أقر بِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَشَارَكَهُمَا فِي الْإِرْثِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ. وَإِنْ أَنْكَرَاهُ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ إِنْ كَانَتْ عَلَى إِقْرَارِ الْمَيِّتِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَعَدْلَانِ أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثم يحكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 لَهُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الِابْنَانِ إِرْثَهُ مَا أَقَامَا عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنْ رَجَعَا عَنْهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَرِثَاهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أُحْلِفَ الِابْنَانِ عَلَى إِنْكَارِ نَسَبِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ فَإِنْ حَلَفَا فَهُوَ مَدْفُوعُ النَّسَبِ عَنْهُمَا، وَإِنْ نَكَلَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ فَيَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ دُونَ الْعِلْمِ لِأَنَّهَا يَمِينُ إِثْبَاتٍ وَثَبَتَ نَسَبُهُ وَاسْتَحَقَّ الْإِرْثَ، وَإِنْ نَكَلَ فَهُوَ مَدْفُوعُ النَّسَبِ عَنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ حَلَفَ وَنَكَلَ الْآخَرُ لَمْ تُرَدَّ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَسْتَحِقُّ إِحْلَافَ الْمُنْكِرِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِجْمَاعًا مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُنْكِرِ نُكُولٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَةَ الْمُقِرِّ فِي الْمِيرَاثِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُ. فَقَالَ أبو حنيفة: يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَحِقُّ ثُلُثَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ مِيرَاثِ الْمُقِرِّ شَيْئًا. وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ (وَالَّذِي أَحْفَظُ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ) مَنْ تَقَدَّمَ مَالِكًا مِنَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ عَاصَرَ مَالِكًا فَرَدَّ قَوْلَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ وَارِثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسَبُهُ ثَابِتًا بِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَضْمَّنَ شَيْئَيْنِ: نَسَبًا وَإِرْثًا. فَإِذَا رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُوجِبْ رَدَّ إِقْرَارِهِ بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْأُصُولُ تشهد لِصِحَّتِهِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: بِعْتُكَ نَفْسَكَ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِادِّعَاءِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ وَأَنْكَرَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَلْفِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهَا فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّحْرِيمِ. وَلَوِ ادَّعَى بَيْعَ شِقْصٍ مِنْ دَارٍ عَلَى رَجُلٍ أَنْكَرَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي ادِّعَاءِ الثَّمَنِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَسْلِيمِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ. قَالُوا فَكَانَتْ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ تُوجِبُ قِيَاسًا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْإِرْثَ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ إِقْرَارٌ يُفْضِي إِلَى ثُبُوتِ حَقَّيْنِ يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا فَجَازَ إِذَا انْتَفَى مَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهِ أَنْ يُلْزِمَهُ مَا اخْتَصَّ بِنَفْسِهِ كَالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ قَدْ يُوجِبُ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً: مِنْهَا الْعِتْقُ. وَمِنْهَا التَّحْرِيمُ. وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ. ثُمَّ كَانَ الْعِتْقُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَثْبُتَانِ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِمَا مِنَ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخُوَّةِ عَبْدٍ تَرَكَهُ أبوه، عتق وإن لَمْ يَثْبُتْ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِهِ. وَمَنْ أَقَرَّ بِأُخُوَّةِ امْرَأَةٍ أَنْكَرَتْهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ بِمَثَابَتِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ مِنَ النَّسَبِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أن مَا أَوْجَبَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ انْتِفَائِهِ كَالْعِتْقِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَوْجَبَ عِتْقَ النَّسَبِ وَتَحْرِيمَهُ أَوْجَبَ إِرْثَهُ كَالنَّسَبِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِرْثَ قَدْ يُسْتَحَقُّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ فَلَمَّا كَانَ اعْتِرَافُ أَحَدِهِمَا بِالزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ إِرْثَهَا مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهُ بِالنَّسَبِ يُوجِبُ إِرْثَهُ مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْإِرْثَ مَعَ ثُبُوتِهِ جَازَ أَنْ يُوجِبَهُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ كَالزَّوْجِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ أَوْجَبَ الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُوجَبَ الْإِرْثُ بِالنَّسَبِ كَإقرَارِهِمَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّرِكَةَ قَدْ تُسْتَحَقُّ بِسَبَبَيْنِ إِرْثٍ وَدَيْنٍ، فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِالدَّيْنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حِصَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِالْإِرْثِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حِصَّتِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِقَّتْ بِهِ التَّرِكَةُ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ إِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِالدَّيْنِ. فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {يُوْصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَكِرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 فَأُثْبِتَ الْمِيرَاثُ لِلِابْنِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْبُنُوَّةُ لَمْ يَثْبُتِ الْمِيرَاثُ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّسَبَ يُوجِبُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَيْنِ فَيَرِثُ بِهِ وَيُورَثُ فَلَمَّا لَمْ يَرِثْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُورَثَ بِهِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِرْثٌ مُسْتَحَقٌّ بِنَسَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ كَإِرْثِ الْمُقِرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِنَسَبٍ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ إِرْثًا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهِ إِرْثًا كَالْإِقْرَارِ بِمَعْرُوفِ النَّسَبِ. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْإِقْرَارِ قَدْ يَمْتَنِعُ تَارَةً مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ بِهِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَلَمَّا كَانَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِإِنْكَارِ الْمُقِرِّ بِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَإِنْ طَلَبَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِعَدَمِ اجْتِمَاعِ الْوَرَثَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَإِنْ طَلَبَهُ. وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِقْرَارٌ مُفْرَدٌ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعِي وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَسَبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهِ إِرْثٌ كَالْإِقْرَارِ بِمُنْكَرٍ. وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ اخْتِصَاصَ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ مِيرَاثُ الْمُقِرِّ لَوْ مَاتَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِمَا وَرِثَهُ الْمُقِرُّ. وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِقْرَارٌ يَسْقُطُ حُكْمُهُ فِي الْمُقِرِّ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ الْمُقِرِّ كَإِقْرَارِ الصَّغِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارٌ رُدَّ فِي النَّسَبِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ فِي الْإِرْثِ قِيَاسًا عَلَى الْإِرْثِ مِنْ تَرِكَةِ الْمُقِرِّ. وَالدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ حُكْمَيْنِ: أَقْوَاهُمَا: ثُبُوتُ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ. وَأَضْعَفُهُمَا: اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مَعَ عَدَمِ الْمِيرَاثِ وَلَا يَنْتَفِي النَّسَبُ وَيَكْمُلُ الْمِيرَاثُ فَلَمَّا انْتَفَى ثُبُوتُ النَّسَبِ عَنْ هَذَا الْإِقْرَارِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ وَيَتَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيْ إِقْرَارِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا كَالنَّسَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا مَنَعَ النَّسَبَ مَنْعَ الْإِرْثَ كَالسِّنِّ إِذَا اسْتَوَى فِيهَا الْمَيِّتُ وَالْمُدَّعِي. وَالدَّلِيلُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالْبَيِّنَةِ أُخْرَى فَلَمَّا كانت شهادة أحد الشاهدين يمنع ما اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِشَهَادَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُ أَحَدِ الْوَارِثِينَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِإِقْرَارِهِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ اسْتُحِقَّ الْمِيرَاثُ بِقَوْلِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا كَالشَّاهِدَيْنِ وَالدَّلِيلُ السَّابِعُ: أَنَّهُ مَالٌ يَقْتَضِي ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ سَبَبِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ. أَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدَ زَيْدٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ لَمْ نَقْضِ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إِقْرَارٌ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ فَلَزِمَ فِيمَا عَلَيْهِ وَرُدَّ فِيمَا له فبطلانه بمعروف النسب لأنه لو تميز أحدهما عن الآخر في مجهول النسب لتميز في معروف النسب وكان يستحق الميراث وإن كان منكر النسب وكان لَا يَقْتَضِي قِسْمَتَهُ عَلَى الْمَوَارِيثِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنَّسَبِ، وَفِي كُلِّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اتِّصَالِهِ بِالنَّسَبِ وَعَدَمِ انْفِصَالِهِ عَنْهُ. ثُمَّ نُجِيبُ عَنْ كُلِّ أَصْلٍ جَعَلُوهُ شَاهِدًا، أَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ بِعْتُكَ نَفْسَكَ وَلِزَوْجَتِهِ (خَالَعْتُكِ) فَإِنَّمَا لَزِمَهُ عِتْقُ عَبْدِهِ وَطَلَاقُ زَوْجَتِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَنْفَرِدُ عَنِ استحقاق العوض، والميراث لا ينفرد من ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَأَمَا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَزِمَهُ التَّحْرِيمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَعْ لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ حَقًّا ثَبَتَ لِثُبُوتِهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ وَفِي إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ قَدِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ حَقًّا لِأَنَّ النَّاسَ يُورَثُونَ مِنْ حَيْثُ يَرِثُونَ فَلَمَّا لَمْ يَرِثْ لَمْ يُورَثْ. وَأَمَّا مُدَّعِي الْبَيْعِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ شَرْحَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا شُفْعَةَ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَلَزِمَهُ التَّسْلِيمُ لِحُصُولِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الثَّمَنِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْمُقِرِّ بِالنَّسَبِ مِيرَاثُ الْمُدَّعِي فَلَمْ يُثْبِتْ إِقْرَارُهُ لِلْمُدَّعِي حَقًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّانِي بأن ما أوجبه النَّسَب مِنَ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيمِ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّسَبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ. وَلَمَّا أَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْمِيرَاثُ بِغَيْرِ النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي إِقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ حَقًّا فَلَزِمَهُ وَفِي الْمِيرَاثِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةٍ ذَلِكَ مِيرَاثًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الثَّالِثِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي الزَّوْجِيَّةِ إِذَا أَقَرَّ بِهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إِرْثًا فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا يُسْتَحَقُّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ إِرْثًا فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَةَ تَرِثُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ فَجَازَ أَنْ تَرِثَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْمُنَاسَبُ لَا يَرْتَفِعُ نَسَبُهُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرِثَ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ إِقْرَارِهِ بِمِيرَاثِهَا مِيرَاثًا لِنَفْسِهِ مِنْهَا فَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَالْمُنَاسِبُ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الرَّابِعِ فِي الدَّيْنِ فِي لُزُومِ الْمُقَرِّ فَسَقَطَ مِنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُرَاعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ حَقًّا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ بُطْلَانِ الْإِرْثِ لِبُطْلَانِ النَّسَبِ وَأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي وَرِثَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى إذا علم مصدق الْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي وَرِثَهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ لِأَنَّ بُطْلَانَ النَّسَبِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَنَحْنُ نُلْزِمُهُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ دُونَ ظَاهِرِهِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْفَاضِلِ مِنْ سَهْمِهِ إِذَا اشْتَرَكُوا وَهُوَ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ وَإِيَّاهُ فِي مَالِ أَبِيهِ سَوَاءٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ وَيَضْمَنُ لَهُ سُدُسًا فِي يَدِ أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاسَمَهُ. بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَا يَضْمَنُ مِمَّا فِي يَدِ أخيه شيئاً والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أقر جميع الورثة ثبت نسبه وَوَرِثَ وَوُرِّثَ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ابن وليدة زمعة وقوله " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أن إقرار الوارثين بمدعى النبوة يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِهِ وَهَكَذَا لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَأَقَرُّوا أَوْ كَانَ وَاحِدًا وَأَقَرَّ لَأَنَّ الْمُرَاعَى إِقْرَارُ مَنْ يحوز الْمِيرَاثَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ النَّسَبُ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا أَقَلُّهُمُ اثْنَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ لُحُوقَ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الورثة بما رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ " يَعْنِي السَّعْيَ إلى ادعاء النَّسَبِ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْحَمِيلَ وَهُوَ الَّذِي يُحْمَلُ نسبه على غير مقربه وَالْمَيِّتُ غَيْرُ مُقِرٍّ وَإِنْ أَقَرَّ وَارِثُهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْيِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ بِنَفْيِ الْوَارِثِ وَلِعَانِهِ لَمْ يَنْتَفِ بِتَصْدِيقِهِ وَإِقْرَارِهِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ حَالَيِ النَّسَبِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَارِثُ كَالنَّفْيِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْيَ النَّسَبِ لَمْ يَمْلِكْ إِثْبَاتَهُ كَالْأَجَانِبِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إِلْحَاقُ وَلَاءٍ بِالْمَيِّتِ بِعِتْقِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ نَسَبًا بِإِقْرَارِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ اللُّحْمَتَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إِثْبَاتُهُ كَالْوَلَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثْبَاتُ النَّسَبِ كَالْأَوْصِيَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِمْ مِنْ خمسة أوجه: أحدهما: مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَهِدَ إِلَيَّ أَخِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ أَنْ أَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَأَلْحَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَلَدَ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِاعْتِرَافِ أَبِيهِ وَجَعَلَهُ أَخَاهُ. فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا جَعَلَهُ عَبْدًا لِعَبْدٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَخَاهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ لَكَ عَبْدُ. فَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ مُسَدَّدًا رَوَى عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ وَوِلَادَتِهِ حُرًّا عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِرِقِّهِ. وَمَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ لَكَ عَبْدُ فَإِنَّمَا أشار إليه بالقول اختصاراً يحذف النِّدَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوسُفُ أَعْرِضُ عَنْ هَذَا) {يوسف: 29) . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي عَلَيْهِ. أَنْ قَالُوا إِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْفِرَاشِ لَا بِالْإِقْرَارِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ الْفِرَاشَ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْفِرَاشِ إِقْرَارٌ بِالنَّسَبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ بِثُبُوتِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْفِرَاشِ الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ الدَّالِّ عَلَى ثُبُوتِ الْفِرَاشِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ عَلَيْهِ: أَنْ قَالُوا: لَا دَلِيلَ لَكُمْ فِيهِ لِأَنَّ عَبْدًا هُوَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ وَسَوْدَةُ زَوْجَةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْتُهُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهَا دَعْوَى لَهُ وَلَا إِقْرَارٌ بِهِ وَلَا دَعْوَى لَهُ. وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا يُوجِبُ بِالْإِجْمَاعِ ثُبُوتَ النَّسَبِ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبْدًا هُوَ وَارِثُ أَبِيهِ وَحْدَهُ لِأَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهَا وَكَانَ عَبْدٌ عَلَى كُفْرِهِ فَكَانَ هُوَ الْوَارِثَ لِأَبِيهِ الْكَافِرِ دُونَ أُخْتِهِ الْمُسْلِمَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمَتْ أُخْتِي سَوْدَةُ فَحَمَلْتُهَا وَلَيْتَنِي أَسْلَمْتُ يَوْمَ أَسْلَمَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَوْدَةَ قَدْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَاسْتَنَابَتْ أَخَاهَا فِي الدَّعْوَى لِأَنَّ النساء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 عَادَتِهِنَّ الِاسْتِنَابَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَلَوْلَا أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِهِ كَانَتْ مُقِيمَةً عَلَى الِاحْتِجَابِ الْأَوَّلِ. وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ عَلَيْهِ: أَنْ قَالُوا: أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ أُخْتًا لَهُ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: لِقُوَّةِ الشَّبَهِ الذي رأى فيه من عتبة أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ إِمَّا كَرَاهَةُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهَا نِزَاعٌ مِنْ قَضَائِهِ، وَإِمَّا اسْتِظْهَارٌ لِمَا تَتَخَوَّفُهُ بَاطِنًا مِنْ فَسَادٍ أَصَابَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنَ الظُّهُورِ لِأَخِيهَا وَأَهْلِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَنْعِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ النَّسَبِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ: مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحِقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ. وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ مُورِثَهُمْ فِي حُقُوقِهِ إِثْبَاتًا كَالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ وَقَبْضًا كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ، وَالنَّسَبُ حَقٌّ لَهُ إِثْبَاتُهُ حَيًّا فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إِثْبَاتُهُ مَيِّتًا. وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا مَلَكَ الْمُوَرِّثُ إِثْبَاتَهُ مِنْ حُقُوقِهِ مَلَكَ الْوَرَثَةُ إِثْبَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ مَلَكَ إِثْبَاتَ الْحُقُوقِ مَلَكَ إِثْبَاتَ الْأَنْسَابِ كَالْمَوْرُوثِ. وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: ثُبُوتُهُ وَإِرْثُهُ. فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْإِرْثَ بِإِقْرَارِهِمْ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ بِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ كَالْمَوْرُوثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ حُقُوقِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْمَوْرُوثِ لَزِمَ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ كَالْمِيرَاثِ. وَالدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ إِقْرَارَ الْوَرَثَةِ بِالْحَقِّ أَقْوَى ثُبُوتًا مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا صَحَّ ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ بِالْحُقُوقِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْأَنْسَابُ كَالشَّهَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ فَوَارِدٌ بِاسْتِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ بالزنى لِأَنَّ تَمَامَ الْخَبَرِ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ لَحِقَهُ بِعَصَبَتِهِ وَمَن ادعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رشْدة فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْحَمِيلَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ حُمِلَ نَسَبُهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ إِنْكَارِ وَرَثَتِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمَسْبِيِّ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبٍ لِيَرْتَفِعَ إِرْثُ الْوَلَاءِ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَفْيِ النَّسَبِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالِابْنِ لَوْ أَقَرَّ لَحِقَ وَلَوْ أَرَادَ نَفْيَ أَبٍ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا الْأَخُ لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ جَازَ وَلَوْ نَفَاهُ لَمْ يَجُزْ. وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فِي إِفْصَاحِهِ أَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَدُخُولِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَدُخُولِ الْمَنْفِيِّ فِي جُمْلَتِهِمْ فَيَقُولُ إِذَا نَفَوْهُ عَنْ أَبِيهِمْ: لَسْتُ بِابْنِ أَبِيكُمْ، تَصْدِيقًا لَهُمْ فَيَنْتَفِي. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَجَابَ بِهِ أبو علي هل يصح في الحكم أم لَا؟ فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَمْنَعُ مِنْ صحته فيقول: إن من لحق نسب مَنْ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِاجْتِمَاعِهِ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى نَفْيِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِي الْحُكْمِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ انْتَفَى بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْوَلَاءِ فَهُوَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِنَسَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَوِ اسْتَحْدَثُوهُ لَمْ يَجُزْ وَبَطَلَ إِلْحَاقُهُمْ بِوَلَاءٍ مُسْتَحْدَثٍ وَلَوْ أَقَرُّوا بِوَلَاءٍ مُتَقَدِّمٍ جَازَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ فَالْأَنْسَابُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ لَهُ وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهِ وَضَرْبٌ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا لا يدخل بين متداعييه وسبط فِي لُحُوقِهِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الِابْنُ فِي ادِّعَاءِ الْبُنُوَّةِ. وَالثَّانِي: الْأَبُ فِي ادِّعَاءِ الْأُبُوَّةِ. لِأَنَّ لُحُوقَ أَنْسَابِهِمَا مُبَاشَرَةً لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ أَصْلٍ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّسَبَيْنِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَالْأَوْلَى فِي ادِّعَاءِ مِثْلِ هَذَا النَّسَبِ إِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ لِمَنِ ادَّعَاهُ أَبًا: أَنَا ابْنُكَ، وَيَقُولُ الْأَبُ لِمَنِ ادَّعَاهُ ابْنًا: أَنْتَ ابْنِي، لِأَنَّ النَّسَبَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَبِ فَأُضِيفَتِ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَيْهِ فَلَوْ قَالَ الِابْنُ: أَنْتَ أَبِي، وَقَالَ الْأَبُ أَنَا أَبُوكَ، صَحَّتِ الدَّعْوَى حُكْمًا وَإِنْ فَسَدَتِ اخْتِيَارًا لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْأَبُ أَوْ الِابْنُ. فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الِابْنُ فَلَا تُسْمَحُ دَعْوَاهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ مَضَيَا. أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ النَّسَبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وَالثَّانِي: جَوَازُ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ. وَبِشَرْطٍ آخَرَ فِي الْأَبِ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْعَقْلُ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ الْإِقْرَارُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ بينة فتسمح دَعْوَاهُ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَجْنُونًا. فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعُ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِيهِ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى. وَأَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ. وَأَنْ يَجُوزَ وِلَادَةُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهِ. وَرَابِعٌ فِي الْأَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَصِحُّ عَلَيْهِ الدَّعْوَى. سُمِعَتْ حِينَئِذٍ وَسُئِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفَ الْأَبُ عَلَى إِنْكَارِهِ انْتَفَى عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَاتِ الْأَبِ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لِبُطْلَانِ النَّسَبِ بِيَمِينِ الْأَبِ. وَإِنِ اعْتَرَفَ الْأَبُ بِدَعْوَاهُ وَأَقَرَّ بِبُنُوَّتِهِ لَحِقَ بِهِ وَصَارَ وَلَدًا لَهُ صَحِيحًا كَانَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ أَوْ مَرِيضًا، صَدَّقَهُ الْعَصَبَةُ وَالْوَرَثَةُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ مِمَّنْ يَرِثُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ أَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ لِاخْتِلَافِهِمَا بِرِقٍّ أَوْ فِي دِينٍ، حَجَبَ الْوَرَثَةَ أَوْ لَمْ يَحْجُبْهُمْ: فَلَوْ عَادَ الْأَبُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَأَنْكَرَهُ فَإِنْ لم يتابعه الابن على الإنكار ونفس النَّسَبِ وَأَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى فَهُوَ عَلَى نَسَبِهِ فِي اللُّحُوقِ بِهِ يَرِثُهُ إِنْ مَاتَ وَيَرِثُ سَائِرَ عَصَبَاتِهِ. وَإِنْ تَابَعَهُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ مَعْرُوفًا لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ مَجْهُولًا فَالنَّسَبُ مُلْحَقٌ بِالْإِقْرَارِ المتقدم وفي رَفْعِهِ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى نَفْيِهِ وَجْهَانِ حَكَيْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ يَنْتَفِي النَّسَبُ وَتَرْتَفِعُ الْأُبُوَّةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ النَّسَبَ عَلَى ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَفِعُ وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى نَفْيِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُ مَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ الْمَعْرُوفِ وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى نَفْيِهِ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْأَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُمَا: جَهْلُ نَسَبِهِ. وَجَوَازُ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ. ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 كَبِيرًا، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أُلْحِقَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَا يُعْتَبَرُ فِي لُحُوقِهِ تَصْدِيقُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلصَّغِيرِ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ بَلَغَ فَأَنْكَرَ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَمْ يُلْحَقْ بِالْمُدَّعِي إِلَّا بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ حُكْمًا فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ لَحِقَ بِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الْأَبْنَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوْلَادُ أَنْكَرُوا أَوْ لَا، وَإِنْ أَنْكَرُوا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. فَإِنِ ادَّعَى الْأَبُ وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ صَغِيرًا لَحِقَ بِهِ وَوَرِثَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَصَارَ بِدَعْوَاهُ لَاحِقًا بِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُوسِرًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِادِّعَائِهِ لِإِرْثِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الإقرار بالأنساب لا تؤثر فِيهَا التُّهْمَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ أَقَرَّ وَهُوَ زَمِنٌ فَقِيرٌ بِابْنٍ صَغِيرٍ مُوسِرٍ لُحِقَ بِهِ وَلَا تَكُونُ التُّهْمَةُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ فِي مَالِ الِابْنِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ كَذَلِكَ فِي مِيرَاثِ الْمَيِّتِ. فَأَمَّا إِنْ كان الولد الذي ادعاه بعد موته كَبِيرًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُقِرَّ بِهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَهَذَا أَحَدُ ضَرْبَيِ الْأَنْسَابِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهَا وَاتِّصَالِهَا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْسَابِ وَهِيَ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهَا وَاتِّصَالِهَا كَالْأُخُوَّةِ يَصِلُ الْأَبُ بَيْنَ أَنْسَابِهِمْ وَكَالْجَدِّ الَّذِي يَصِلُ الْأَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الِابْنِ. فَإِنْ كَانَ الْوَسِيطُ الْوَاصِلُ بَيْنَ أَنْسَابِهِمْ بَاقِيًا فلا اعتبار بإقرار عن سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا اعْتُبِرَ إِقْرَارُ جَمِيعِ وَرَثَتِهِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْمُدَّعِي مِنْ عَصَبَتِهِ أو ذي فرض رحم، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ إِقْرَارُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا فِي لُحُوقِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْإِرْثَ كَالْمُنَاسِبِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُعْتَبَرُ إفرادهما في لحوقه لأنه لا حق لَهُمَا فِي النَّسَبِ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا إِقْرَارَهُمَا بِالنَّسَبِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يُرَاعَى فِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ تَصْدِيقُ الْأَخِ لِلْأَبِ إِذَا كَانَ وَارِثًا؟ وَفِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ هَلْ يُرَاعَى تَصْدِيقُ الْأَخِ لِلْأُمِّ إِذَا كَانَ وَارِثًا؟ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ يُرَاعَى تَصْدِيقُهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهِ وَارِثًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُرَاعَى تَصْدِيقُهُ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدَ يَكُونُ بَيْنَ أَنْسَابِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَسِيطٌ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَسِيطَانِ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ وَسَائِطَ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَسِيطٌ وَاحِدٌ فَكَالْإِخْوَةِ فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ إِخْوَتَهُ وَأَنَّهُ ابْنُ أَبِيهِمْ فَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ دَعْوَى النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَيِّتًا، ثُمَّ يَكُونُ لُحُوقُهُ مُعْتَبَرًا بِإِقْرَارِ وَرَثَةِ الْأَبِ كُلِّهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا فَصَدَّقَ الْمُدَّعي عَلَى نَسَبِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنَّ تَرْكَ ابْنَيْنِ فَصَدَّقَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ تَرَكَ أَبًا وَابْنًا فَاجْتَمَعَا عَلَى تَصْدِيقِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَخَا فَاجْتَمَعَا عَلَى تَصْدِيقِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَخًا وَأُخْتًا، وَلَوْ تَرَكَ أَخَا وَاحِدًا فَصَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ الْأَخَ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا وَاحِدَةً فَصَدَّقَتْهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ النِّصْفَ وَلَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ وَالْبَاقِيَ بَعْدَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْإِمَامُ مَعَهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ مَعَ الْأُخْتِ إِقْرَارًا مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ حَقَّ بَيْتِ الْمَالِ فَيَثْبُتُ الْإِقْرَارُ وَلَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيُرَاعَى إِقْرَارُهُمْ فِيهِ فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُ الْإِمَامِ لِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ بِنَسَبِهِ فذلك حكم منه تثبت بِهِ النَّسَبُ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ إِقْرَارُ الْأُخْتِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَامَتْ بِهِ فَإِقْرَارُهُ لَغْوٌ وَنَسَبُ الْمُدَّعِي غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَوْ كَانَ لِلْأُخْتِ وَلَاءُ عِتْقٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَقَرَّتْ بِالْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّهَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ بِالْفَرْضِ وَالْوَلَاءِ. وَهَكَذَا إِقْرَارُ الْبِنْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ابْنٌ كَإِقْرَارِ الْأُخْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَخٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهَا لِأَنَّهَا لَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى الْأَبِ وَلَاءٌ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهَا لِأَنَّهَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ بِالْفَرْضِ وَالْوَلَاءِ. فَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا فَصَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ وَارِثٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إِقْرَارُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِي النَّسَبِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ الْكَافِرُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي لَمْ يَنْتَفِ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثَ أَبِيهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمَيِّتُ كَافِرًا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا فَصَدَّقَهُ الِابْنُ الْكَافِرُ ثَبَتَ نَسَبَهُ لِأَنَّهُ وَارِثُ أَبِيهِ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ لِأَبِيهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا كَانَ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْحُرَّ وَارِثٌ وَالْعَبْدُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَإِنْ عُتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُهُ وَلَا إِنْكَارُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا. فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ صَغِيرًا أَوْ مَعْتُوهًا فَأَقَرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ مِنْهُمَا بِنَسَبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الْمُدَّعِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْوَارِثِينَ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَعْتُوهُ فَيُقِرُّ بِهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ تُوقفَ حِصَّةَ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُوقَفُ كَمَا فِي حِصَّةِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُوقَفُ مِنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ اعْتِبَارًا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ مَا لَمْ يَبْطُلْ بِإِنْكَارِ أَخِيهِ. فَإِنْ مَاتَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَعْتُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوِ الْإِفَاقَةِ رُوعِيَ إِقْرَارُ وَارِثِهِ فَإِنْ كَانَ وَارِثُهُ الْأَخُ الْمُقِرُّ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُدَّعِي بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِقْرَارٍ ثَانٍ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ. فَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُكَذِّبُ فَوَرِثَهُ الْمُصَدِّقُ فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ صَارَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ كُلِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَثْبُتُ لِأَنَّ تَكْذِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْمِيرَاثِ مُبْطِلٌ لِلدَّعْوَى فَصَارَ كَتَكْذِيبِ الْأَبِ فِي حَيَاتِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا لِنَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ الْوَرَثَةُ بَعْدَهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَاحِدًا فَصَدَّقَ الْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ فَإِنِ ادَّعَى آخر أنه ابن الميت فإن صدقه الابنان الْأَوَّلُ الْمَعْرُوفُ وَالثَّانِي الْمُقَرُّ بِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الثَّالِثِ وَخَرَجَ الثَّانِي مِنَ النَّسَبِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّصْدِيقِ ابْنًا فَرُوعِيَ إِقْرَارُهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ الثَّالِثُ حِينَ ادَّعَى النَّسَبَ أَنْكَرَهُ الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الثَّالِثِ وَكَانَ الثَّانِي عَلَى نَسَبِهِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي رَابِعٍ وَخَامِسٍ لَوِ ادَّعَى نَسَبَ الْمَيِّتِ فَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخَوَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُمَا حَتَّى يُصَدِّقَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ نَسَبُهُمَا فَإِنْ تَكَاذَبَا انْتَفَيَا. وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَكْذَبَهُ الْآخَرُ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُكَذِّبِ، وَلَوْ كَانَا عَلَى تَكَاذُبِهِمَا فَعَادَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَاسْتَأْنَفَ الْإِقْرَارَ ثَانِيَةً بِأَحَدِهِمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَكَانَ نَسَبُ الثَّالِثِ مُعْتَبَرًا بِتَصْدِيقِ الثَّانِي فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبَهُ وَخَرَجَ الثَّانِي مِنَ النَّسَبِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَ الثَّالِثُ. وَإِذَا أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِتَوْأَمَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ لِأَنَّ نَسَبَ التَّوْأَمَيْنِ وَاحِدٌ. وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ بِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مَعًا لِأَنَّ نَسَبَهُمَا لَا يَفْتَرِقُ فَلَوْ أَنْكَرَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ النَّسَبَ الَّذِي ادَّعَاهُ أَخُوهُ وَقَدْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِهِ نُظِرَ فِي إِنْكَارِهِ فَإِنْ لَمْ يُدَّع مَعَهُ نَسَب إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ وَلَحِقَ نَسَبُهُمَا مَعًا بِمَنِ ادَّعَاهُ أَخُوهُ لِأَنَّ فِي إِنْكَارِهِ إِبْطَالُ نَسَبِهِ وَنَسَبُ أَخِيهِ إِلَى غَيْرِهِ نسب يدعيه وإن ادعى مع إنكار نَسَبًا إِلَى غَيْرِهِ فَصَارَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ مُدَّعِيًا نَسَبًا إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقَرَّ بِهِ وَارِثُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِوَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ لِأَنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 نَسَبَ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ وَلُحُوقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنِ ادَّعَاهُ يُوجِبُ اجْتِذَابَ الْآخَرِ إِلَيْهِ فَتَمَانَعَا لِتَعَارُضِهِمَا وَوَجَبَ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَافَةِ لِيَحْكُمُوا فِيهِمَا بِالشَّبَهِ كَمَا يَحْكُمُونَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْأَبَوَيْنِ. فَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ إِذَا كَانَ الْوَسِيطُ فِي نَسَبِهِمَا وَاحِدًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَوَسَّطَ بَيْنَ نَسَبِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ اثْنَانِ يَتَّصِلُ النَّسَبُ بِهِمَا فَمِثَالُهُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ بابْن أَخٍ لَهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ اثْنَانِ. أَحَدُهُمَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ أَبُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَالثَّانِي أَبُوهُ الَّذِي يَجْمَعُهُ وَأَخَاهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَسِيطَيْنِ بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَخُ بَاقِيًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ابْنٌ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ بَاقِيًا دُونَ الْأَخِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ابْنُ ابْنٍ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ وَالْأَبُ الْوَسِيطَانِ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ مَيِّتَيْنِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْوَارِثُ لِأَخِيهِ وَحْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَصَارَ ابْنَ أَخٍ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ وَارِثُ ابْنِهِ الَّذِي هُوَ أَخُ الْمُقِرِّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَخُ هُوَ وَارِثُ ابْنِهِ وَحْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُ ابْنِ الْأَخِ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأَخِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي مِيرَاثِ الِابْنِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يعتبر إقراره فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ حَتَّى يُصَدِّقَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَبِ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَنْ أَفْضَى إِلَيْهِ مِيرَاثُ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ. فَصْلٌ : وَإِنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ نسب المتداعيين ثلاثة يتصل بِهِمْ فَمِثَالُهُ: أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ بِابْنِ عَمٍّ فيكون بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ: أَبَوَانِ وَالْجَدُّ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الْبَاقِي مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَحَدٌ نُظِرَ فِي حَالِ وَارِثِ الْعَمِّ الَّذِي أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ ابْنٌ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَدُّهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِأُبُوَّتِهِ. أَوْ يَكُونُ أَبُوهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِالْأُخُوَّةِ. أَوْ يَكُونُ هُوَ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ. فَإِنْ كَانَ هُوَ وَارِثَ عَمِّهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَارِثَ عَمِّهِ نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي مِيرَاثِ أبيه ثبت نسب المقر به أَيْضًا لِأَنَّ مِيرَاثَ الْمُقَرِّ بِهِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنْ أَبِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مِيرَاثِ أَبِيهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِيهِ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَنْ أَفْضَى إِلَيْهِ مِيرَاثُ الْعَمِّ، وَإِنْ كَانَ جَدُّهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ وَلَا لِأَبِيهِ وَارِثٌ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ هُوَ وَارِثَ جَدِّهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَ جَدِّهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ لِأَنَّ مِيرَاثَ عَمِّهِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ عن جده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 وَإِنْ كَانَ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ وَلِأَبِيهِ وَارِثٌ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ الْجَدِّ ثُمَّ بِالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي مِيرَاثِ الْأَبِ. وَإِنْ كَانَ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ وارث غيره اعتبر في ثبوت النسب تصديق الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ الْجَدِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ لَكِنْ كَانَ لِأَبِيهِ وارث غيره اعتبر في ثبوت النسب تصديق الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ أَبِيهِ. عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ يَكُونُ ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ بِالْإِقْرَارِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا أَوْضَحْنَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِالْإِقْرَارِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مِيرَاثِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ أَنْ يَحْجُبَ الْمُقِرَّ عَنْ إِرْثِهِ أَوْ لَا يَحْجُبُهُ. فَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهُ وَرِثَ مَعَهُ كَابْنِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ صَارَا ابْنَيْنِ لِلْمَيِّتِ فَاشْتَرَكَا فِي مِيرَاثِهِ، وَكَانَ الْمَيِّتُ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِابْنِهِ الْمَيِّتِ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ابْنًا لَا يَحْجُبُ الْأَبَ عَنْ فَرْضِهِ فَيَأْخُذُ الْأَبُ فَرْضَهُ وَالِابْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَهُ، وَكَأَخِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِبِنْتٍ لِأَخِيهِ الْمَيِّتِ وَرِثَتْ مِنْهُ فَرْضَهَا وَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَخِ لَا يُحْجَبُ بِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ عَنْ إِرْثِهِ كَأَخِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِأَخِيهِ الْمَيِّتِ، وَكَابْنِ الِابْنِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِجَدِّهِ لِأَنَّ الِابْنَ يَحْجُبُ الْأَخَ وَيَحْجُبُ ابْنَ الِابْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِرِهِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَا يَرِثُ وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ حَجْبًا لِلْمُقِرِّ عَنْ إِرْثِهِ وَحَجْبُ الْمُقِرِّ عَنْ إِرْثِهِ مُوجِبٌ لِرَدِّ إِقْرَارِهِ وَرَدُّ إِقْرَارِهِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ نَسَبِ الْمُقَرِّ بِهِ وَسُقُوطُ نَسَبِهِ مَانِعٌ مِنْ إِرْثِهِ فَصَارَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إِلَى سُقُوطِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ فَمُنِعَ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيَثْبُتَ لَهُ النَّسَبُ لِأَنَّ مَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى سُقُوطِهِ وَسُقُوطِ غَيْرِهِ مُنِعَ مِنْ ثُبُوتِهِ لِيَكُونَ مَا سِوَاهُ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ وَسَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَهَا وَيُمَهِّدُ أُصُولَهَا فَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُهُ لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ وَتَوْرِيثَهُ مَانِعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ وَالْمَنْعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ عِتْقِهِ وَبُطْلَانُ عِتْقِهِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ إِرْثِهِ فَصَارَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهِ وَمِيرَاثِهِ فَثَبَتَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ مِيرَاثُهُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُعْتَقُ وَيَرِثُ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً إِذِ الْوَصِيَّةُ زَوَالُ مِلْكٍ بِغَيْرٍ بَدَلٍ وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ أَبَاهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ عَلَيْهِ بَعْدَ مِلْكِهِ إِيَّاهُ وَلَوْلَا الْمَلِكُ لَمْ يُعْتَقْ فَصَارَ عِتْقُهُ بَعْدَ الْمِلْكِ زَوَالَ مِلْكٍ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ وَصِيَّةً. وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِابْنِهِ وَهُوَ عَبْدٌ فَيَمُوتُ قَبْلَ قَبُولِهِ وَيَخْلُفُ أَخَاهُ فَيَقْبَلُهُ الْأَخُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ لِأَنَّ الِابْنَ لَوْ وَرَّثْنَاهُ لَحَجَبَ الْأَخَ وَلَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ فَيَعُودُ الِابْنُ رَقِيقًا فَأَثْبَتْنَا عِتْقَهُ وَأَبْطَلْنَا إرثه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وَمِنْهَا أَنْ يُعْتِقَ الْمَرِيضُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَيَصِحُّ نِكَاحُهَا وَيَبْطُلُ مِيرَاثُهَا لِأَنَّ عِتْقَهَا وَصِيَّةٌ لَوْ وَرِثَتْ بَطَلَتْ وَبُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهَا مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَإِرْثِهَا فَثَبَتَ النِّكَاحُ وَسَقَطَ الْإِرْثُ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الَّتِي أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَ قِيمَتُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَسْقُطُ مِيرَاثُهَا وَمَهْرُهَا. أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ وَأَمَّا مَهْرُهَا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّهَا إِذَا أَخَذَتْهُ مِنَ التَّرِكَةِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَخْرُجُ قِيمَتُهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الصَّدَاقِ يَكُونُ مَعَ قِيمَتِهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُلُثُهَا: سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا فَتَوَجَّبُ أَنْ يُعْتَقَ ثُلُثَاهَا وَيُرَقَّ ثُلُثُهَا وَفِي اسْتِرْقَاقِ ثُلُثِهَا بُطْلَانُ نِكَاحِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَةً يَمْلِكُهَا أَوْ يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا وَبُطْلَانُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ صَدَاقِهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الصَّدَاقُ لِيَخْرُجَ قِيمَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا فِي دَفْعِهِ مِنْ بُطْلَانِ الصَّدَاقِ وَالنِّكَاحِ. وَمِنْهَا أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُعْتِقُهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَيُخَلِّفُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ ثلاثمائة درهم مائة درهم قيمتها ومئة دِرْهَمٍ صَدَاقُهَا وَمِائَةُ دِرْهَمٍ تَرِكَةُ سَيِّدِهَا فَتُعْتَقُ لِخُرُوجِ قِيمَتِهَا مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يَكُونُ لَهَا إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا الْعَبْدِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّ فَسْخَهَا لِنِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ لِصَدَاقِهَا فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَعْدَ الصَّدَاقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا يَخْرُجُ قِيمَتُهَا مِنْ ثُلُثِهَا فَيُرَقُّ بَعْضُهَا لِعَجْزِ الثُّلُثِ وَرِقُّ بَعْضِهَا يَمْنَعُهَا مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ فَصَارَ اخْتِيَارُهَا لِلْفَسْخِ مُفْضِيًا إِلَى بُطْلَانِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ فَأُثْبِتَ الْعِتْقُ وَأُبْطِلَ الْفَسْخُ. وَمِنْهَا أَنْ يُعْتِقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدَيْنِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَيَدَّعِي عَلَيْهِ رجل ديناً يحيط بقيمتيها فَيَشْهَدُ لَهُ الْمُعَتَقَانِ بِدَيْنِهِ فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا لِمَا فِي إِثْبَاتِهَا مِنْ إِبْطَالِ عِتْقِهِمَا وَرَدِّ شَهَادَتِهِمَا. فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى شَوَاهِدُ تِلْكَ الْأُصُولِ فَلَوْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ أَخًا فَادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ فَأَنْكَرَهُ الْأَخُ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَفِي مِيرَاثِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي: هَلْ تَجْرِي مَجْرَى البينة أو مجرى الإقرار؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَا مِيرَاثَ لِلْمُدَّعِي وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالْبُنُوَّةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِمَا فيه توريثه من حجبه. والقول الثاني: أنه يَمِينَهُ بَعْدَ النُّكُولِ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ فَعَلَى هَذَا يَرِثُ الِابْنُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بنسبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ اقْتِسَامِهِمُ التَّرِكَةَ أَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِدَيْنٍ عَلَى مُوَرِّثِهِمْ وَأَنْكَرَ بَاقِي الْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شُرَكَائِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ أَوِ امْرَأَتَيْنِ أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعِي وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي التَّرِكَةِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ مِنْهُمْ عَدْلًا حَلَفَ الْمُنْكِرُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَبَرِئُوا. وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ فِي حِصَّتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ إِذَا هَلَكَ بَعْضُهَا كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتُحِقَّ قَضَاؤُهَا مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ بَعْضُهَا وَقَدْ فَاتَ الْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالشَّهَادَةِ حِينَئِذٍ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ إِلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ بِالْبَاقِي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ وَالدَّيْنَ كَالْعَيْنِ فَلَمَّا اسْتَوَى حَالُ الشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ فِي الْتِزَامِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ إِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ فِي الْتِزَامِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا لَزِمَهُ بِالشَّهَادَةِ لَزِمَهُ بِالْإِقْرَارِ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعِتْقِ وَالْوَقْفِ لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ. فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَلْفًا وَالْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَزِمَهُ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا جَمِيعُ حِصَّتِهِ فَلَا يُلْزَمُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهَا وَهِيَ جَمِيعُ حِصَّتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَلْزَمُهُ مِنْهَا نصفها مئتان وَخَمْسُونَ. فَلَوْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفًا وَحَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى أَبِيهِمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْأَكْبَرُ عَلَى جَمِيعِهَا وَصَدَّقَهُ الْأَوْسَطُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَصَدَّقَهُ الْأَصْغَرُ عَلَى أَلْفٍ مِنْهَا، فَعَلَى الْأَكْبَرِ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَهِيَ كُلُّ مَا بِيَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا الْأَوْسَطُ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ ثلثا الْأَلْفُ الَّتِي بِيَدِهِ وَأَمَّا الْأَصْغَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَلْفٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَنِ ابْنٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَخَلَّفَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْصَى لِي أَبُوكَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى قَالَ آخَرُ: لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفٌ، فَصَدَّقَهُمَا مَعًا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ لِمُدَّعِي الْوَصِيَّةِ رُبْعُ الْعَبْدِ وَلِمُدَّعِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي التَّصْدِيقِ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْعَبْدُ مَقْسُومًا عَلَى عَبْدٍ وَثُلُثٍ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْوَصِيَّةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلدَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ صَدَّقَ مُدَّعِي الدَّيْنِ قَبْلَ مُدَّعِي الْوَصِيَّةِ صَارَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا فِي الدَّيْنِ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ صَدَّقَ مُدَّعِي الْوَصِيَّةِ قَبْلَ مُدَّعِي الدَّيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ ثُلُثَاهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: أَعْتَقَنِي أَبُوكَ فِي صِحَّتِهِ، وَقَالَ آخَرُ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَصَدَّقَهُمَا مَعًا صَارَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنَصِفُهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ يُبَاعُ فِي دينِهِ، فَلَوْ كَانَ سَبَقَ إِقْرَارُهُ لِلْعَبْدِ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَوْ سَبَقَ إِقْرَارُهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ صَارَ لَهُ جَمِيعُهُ وَلَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ تَقْدُمُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ ومعها ولد فيدعيه رجل بأرض الإسلام أنه ابنه ولم يكن يعرف أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ وَلَدَ امْرَأَةٍ قَدِمَتْ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَلَمْ نَعْلَمْهُ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَا اعْتِبَارَ بِتَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ أَوْ تَكْذِيبِهَا لَهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي نَسَبِ الْمَوْلُودِ فَلَمْ يعتبر من جهتها التصديق أو التكذيب مَا لَمْ يَدَّعِ نِكَاحَهَا وَإِنَّمَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ دُخُولُهُ إِلَى أَرْضِ الروم لأن الأنساب يلحق بِالْإِمْكَانِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ. وَلَوْ أَحَطْنَا عِلْمًا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَرْضَ الرُّومِ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَدْ دَخَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهَا فَصَارَ اجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنًا فَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ مَعَ الْإِمْكَانِ. فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ حَاكِمٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا عُقَيْبَ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُلْحَقُ بِهِ إِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ سَوَاءً لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْعَقْدِ فِرَاشًا. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْإِمْكَانِ يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَمِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ فِي عَقْدٍ يَعْقُبُهُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي طَلَاقٌ أَنْ يُمْكِنَ فِيهِ إِصَابَةٌ تُوجِبُ لُحُوقَ الْوَلَدِ فَانْتَفَى. فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِالْمَشْرِقِ امْرَأَةً بِالْمَغْرِبِ فَجَاءَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ أبو حنيفة: يُلْحَقُ بِهِ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الْإِمْكَانَ وَإِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمَا قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ مُحَالٌ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ. وَهَكَذَا إِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْرِ الْمَسَافَةِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْرُ الْمَسَافَةِ يُلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهَا بِأَنْ سَافَرَ إِلَيْهَا سِرًّا أَوْ سَافَرَتْ إِلَيْهِ سِرًّا وَالْأَنْسَابُ تُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ لِتَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْزَلَ مَنِيًّا في قطنة وأرسلها إليه فَاسْتَدْخَلَتْ فَعَلِقَتْ مِنْهَا فَلَحِقَهُ بِهِ لِأَجْلِ هَذَا الإمكان وَهَذَا مَذْهَبٌ شَنِيعٌ وَتَعْلِيلٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ وَطْءٌ وإحبال بالمراسلة والله المستعان. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كانت لَهُ أَمَتَانِ لَا زَوْجَ لواحدةٍ مِنْهُمَا فَوَلَدَتَا وَلَدَيْنِ فَأَقَرَّ السَّيِّدُ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَمَاتَ أَرَيْتُهُمَا الْقَافَةَ فَأَيُّهُمَا أَلْحَقُوهُ بِهِ جَعَلْنَاهُ ابْنَهُ وَوَرَّثْنَاهُ مِنْهُ وَجَعَلْنَا أُمَّهُ أُمَّ ولدٍ وأوقفنا ابنه الآخر وأمه فإن لم تكن قافة لم تجعل وَاحِدًا مِنْهُمَا ابْنَهُ وَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ أَعْتَقْنَاهُ وَأُمَّهُ وَأَوْقَفْنَا الْآخَرَ وَأُمَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَتَانِ لِكُلِّ واحدة منهما ولد، قال: أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي فَتَأْثِيرُ إِقْرَارِهِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا زَوْجٌ فَإِنَّ ذات الزوج ولدها لا حق به. والثاني: أن لا تعلم إحداهما فراشاً للسيد بالإصابة لأنهما إذا صارت فإذا وجد الشرطان فصورة الْمَسْأَلَةِ فِي تَأْثِيرِ إِقْرَارِهِ. وَلَهُ فِي الْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَ وَطِئْتُهَا فِي ملكي. والثانية: أن يقول وطئتها في غير ملكي. والثالثة: أن يطلق. فيؤخذ بعد إقراره ببيان وَلَدِهِ مِنْهُمَا فَإِذَا أَبَانَ أَحَدَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ حُرًّا وَصَارَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ إِنْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَانَتْ أَمَةً. وَإِنْ أَطْلَقَ سُئِلَ وَعُمِلَ على قوله منها. فإذا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ سُئِلَ وَارِثُهُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَيَانٌ عُمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَيَانِهِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلُحُوقِ الولد وَكَوْنِ أَمَتِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ أَمَةٌ لَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَلَكِنْ تُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمِيرَاثِ الِابْنِ لَهَا لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أُمَّهُ عُتِقَتْ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْوَارِثِ بَيَانٌ وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ إِنْ وُجِدُوا لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ تَمْيِيزِ الْأَنْسَابِ الْمُشْتَبِهَةِ فَإِذَا بَيَّنُوا أَحَدَهُمَا لَحِقَ بِهِ وَصَارَ حُرًّا وَعُتِقَتْ أُمُّهُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ إِنْ كَانَتْ أم ولد بإقراره، أو يملكها ابْنُهَا إِنْ جُعِلَتْ أُمُّهُ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِي ظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: الإصابة فِي الْمِلْكِ فَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّانِي: فِي غير الملك ليستديم لَهَا حُكْمُ الرِّقِّ. فَإِنْ جُعِلَتْ أُمَّ وَلَدٍ عُتِقَتْ عَلَى السَّيِّدِ بِمَوْتِهِ. وَإِنْ جُعِلَتْ أَمَةً عُتِقَتْ عَلَى الِابْنِ بِمِلْكِهِ وَكَانَ الْوَلَدُ الْآخَرُ وَأُمُّهُ مَمْلُوكَيْنِ. وَاسْتِدْلَالُ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ أَحَدِهِمَا بِالْمُقِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إما أن يكونوا عارفين بالمقر فيستدلوا بِمَا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ شَبَهِهِ بِالْوَلَدِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْرِفُوهُ فَيَتَعَجَّلُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ قَبْلَ دفنه. وإما أن يفوتهم ذلك فيستدلوا بِشَبَهِ عَصَبَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَافَةِ بَيَانٌ لَعَدَمِهِمْ أَوْ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ فَاتَ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَدُ أَحْكَامِ الْوَلَدِ لِأَنَّ لَهُ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ. وَالثَّالِثُ: الْمِيرَاثُ. فَإِذَا انْتَفَى ثُبُوتُ النَّسَبِ سَقَطَ الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنِ النَّسَبِ وَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَجُوزُ أَنْ تَنْفَرِدَ عَنِ النَّسَبِ وَيُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا بِالْقُرْعَةِ إِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْقَافَةِ فَيُقْرَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فَإِذَا قُرِعَ أَحَدُهُمَا صَارَ حُرًّا وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: فَيَصِيرُ بِالْقُرْعَةِ وَلَدًا حُرًّا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ لَهُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ أَصْلُهَا وَيَبْقَى حُكْمُهَا. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَنْسَابِ الْمُشْتَبِهَةِ وَتَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْحُرِّيَّةِ الْمُشْتَبِهَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَنَازُعَ رَجُلَيْنِ فِي وَلَدٍ يُمْنَعُ مِنَ الْإِقْرَارِ بَيْنَهُمَا فِي نَسَبِهِ، وَإِشْكَالُ الْحُرِّيَّةِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ يُوجِبُ دُخُولَ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا في حريته وصارت القرعة ههنا فِي إِثْبَاتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي السَّرِقَةِ فِي ثُبُوتِ الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ ثُمَّ إِذَا عُتِقَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ بِالْقُرْعَةِ نُظِرَ حَالُ أُمِّهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ عُتِقَتْ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ ثُمَّ يَجْرِي عِتْقُهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ قَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ مَرْقُوقَةٌ لَا تُعْتَقُ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَرِثْ فَتُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ إِقْرَارَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ صَارَتْ له أم ولد فعتقت عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَمَةٌ لِوَرَثَتِهِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ الْآخَرُ وَأُمُّهُ فَعَلَى رِقِّهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: " وسمعت الشافعي رحمه الله يَقُولُ: لَوْ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ لِثَلَاثَةِ أولادٍ لِأَمَتِهِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي وَلَمْ يُبَيِّنْ وَلَهُ ابْنٌ معروفٌ يُقْرَعْ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ عُتِقَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ نسبٌ وَلَا ميراثٌ وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله يلزمه على أصله المعروف أن يجعل للابن الْمَجْهُولِ مُوَرَّثًا مَوْقُوفًا يُمْنَعُ مِنْهُ الِابْنَ الْمَعْرُوفُ وليس جهلنا بأيها الابن جهلاً بأن فيهم ابناً وإذا عقلنا أن فيهم ابنا فقد علمنا أن له مورث ابن ولو كان جهلنا بأيهم الابن جهلا بأن فيهم ابنا لجهلنا بذلك أن فيهم حراً وبيعوا جميعاً وأصل الشافعي رحمه الله لو طلق نساءه إلا واحدةٍ ثلاثاً ثلاثاً ولم يبين أنه يوقف مورث واحدة حتى يصطلحن ولم يجعل جهله بها جهلاً بمورثها وهذا وذاك عندي في القياس سواءٌ (قال المزني) رحمه الله وأقول أنا في الثلاثة الأولاد إن كان الأكبر هو الابن فهو حرٌّ والأصغر والأوسط حران بأنهما ابنا أم ولدٍ وإن كان الأوسط هو الابن فهو حرٌّ والأصغر حرٌّ بأنه ابن أم ولدٍ وإن كان الأصغر هو الابن فهو حر بالبنوة فالأصغر على كل حالٍ حرٌّ لا شك فيه فكيف يرق إذا وقعت عليه القرعة بالرق وتمكن حرية الأوسط في حالين ويرق في حالٍ وتمكن حرية الأكبر في حالٍ ويرق في حالين ويمكن أن يكونا رقيقين للابن المعروف والابن المجهول نصفين ويمكن أن يكون الابن هو الأكبر فيكون الثلاثة أحراراً فالقياس عندي على معنى قول الشافعي أن أعطي اليقين وأقف الشك فللابن المعروف نصف الميراث لأنه والذي أقر به ابنان فله النصف والنصف الآخر موقوف حتى يعرف أن يصطلحوا والقياس على معنى قول الشافعي الوقف إذا لم أدر أهما عبدان أو حران أم عبدٌ وحرٌّ أن يوقفا ومورث ابن حتى يصطلحوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي سَيِّدِ أَمَةٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ابْنِي فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْأُمِّ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أحدهما: أن يقول: وطئت أمه في ملكي. والثاني: أن يقول: وطئتها في غير ملكي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 والثالث: أَنْ يُطْلِقَ. فَإِنْ قَالَ وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْوَلَدِ فَإِنْ قَالَ: هُوَ الْأَكْبَرُ، لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَرَقَّ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ الْأَوْسَطُ لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَيَرِقُّ الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ الْأَصْغَرُ، لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ وَالْأَوْسَطُ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ قَالَ: وَطِئْتُهَا فِي مِلْكِي، صَارَتْ بِهَذَا الْقَوْلِ أُمَّ وَلَدٍ وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْوَلَدِ فَإِنْ قَالَ: هُوَ الْأَكْبَرُ لَحِقَهُ بِهِ وَصَارَ حُرًّا وَارِثًا، وَهَلْ يُلْحَقُ بِهِ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْحَقَانِ بِهِ أَيْضًا مَعَ الْأَكْبَرِ وَيَصِيرُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ أَوْلَادًا يَرِثُونَهُ لِأَنَّهَا بِالْأَوَّلِ صَارَتْ فِرَاشًا فَلَحِقَ بِهِ كُلُّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَخَالَفَ حُكْمَ قَوْلِهِ: وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ قَدِ ارْتَفَعَ بِحدوث مِلْكِهِ فَارْتَفَعَ الْفِرَاشُ بِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِإِصَابَتِهَا فِي الْمِلْكِ فَالْفِرَاشُ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْبَرَ لَاحِقٌ بِهِ دُونَ الْأَوْسَطِ وَالْأَصْغَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ وَضَعَتِ الْأَوَّلَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي رَهْنٍ فَوَلَدَتِ الْأَوْسَطَ وَالْأَصْغَرَ مِنْ زَوْجٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا وَالْوَلَدَيْنِ مَعَهَا تكون قد زوجها على ملكه بعد شرائها فَجَاءَتْ بِالْوَلَدَيْنِ مِنْ زَوْجِهَا فَصَارَ لُحُوقُهُمَا بِهِ شَكًّا عَلَى تَجْوِيزٍ مُتَرَجَّحٍ وَالْأَنْسَابُ لَا تُلْحَقُ بالشك والتجويز فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَكُونَانِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صَارَا فِي حُكْمِهَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُمَا وَلَدَا أُمِّ وَلَدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا عَلَى الرِّقِّ لَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مِنْ زَوْجٍ بَعْدَ بَيْعِهَا عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ ابْتَاعَهُمَا مَعَ الْأُمِّ فَصَارَتِ الْأُمُّ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَمْ يَصِرِ الْوَلَدَانِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا فِي حَالٍ لَمْ تَكُنْ فِيهَا أُمَّ وَلَدٍ وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ بِالشَّكِّ كَمَا لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ نَسَبٍ بِالشَّكِّ. فَهَذَا حُكْمُ بَيَانِهِ فِي الِابْنِ الأكبر. أما لَوْ قَالَ: وَلَدِي مِنَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَوْسَطُ، فَالْأَوْسَطُ لَاحِقٌ بِهِ وَالْأَكْبَرُ عَلَى الرِّقِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ. وَفِي لُحُوقِ الْأَصْغَرِ بِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: هُوَ لَاحِقٌ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُلْحَقُ بِهِ. وَفِي حُرِّيَّتِهِ بِمَوْتِ السيد وجهان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وَإِنْ قَالَ: وَلَدِي مِنَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَصْغَرُ لَحِقَ بِهِ وَحْدَهُ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ وَالْأَوْسَطُ. فَصْلٌ : وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْأُمِّ حِينَ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ حَتَّى فَاتَ بَيَانُهُ بِالْمَوْتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ بِالشَّكِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَّا الْوَلَدُ الَّذِي بَيَّنَهُ وَحْدَهُ سَوَاءٌ بَيَّنَ الْأَكْبَرَ أَوِ الْأَصْغَرَ مِنْهُمْ وَيَكُونُ الْآخَرَانِ عَلَى رِقِّهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْفِرَاشِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمِلْكِ دُونَ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ مِنْ نِكَاحٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي مِلْكِهِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا اسْتُدْرِكَ مِنْ جِهَتِهِ بَيَانُ الْوَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ فَاتَ مِنْ جِهَتِهِ بَيَانُ الْوَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِقَوْلِهِمْ مَا اشْتَبَهَ مِنَ الْأَنْسَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَافَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِمَّا بِحَذْفِ الْكَاتِبِ إِيَّاهُ وَإِمَّا لِاخْتِصَارِ الْمُزَنِيِّ لَهُ تَعْوِيلًا عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ مِنْ ذِكْرِ الْقَافَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِنْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ لَحِقَ بِهِ وَرَقَّ مَنْ سِوَاهُ وَكَانَتِ الْأُمُّ أَمَةً تُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ بِإِرْثِهِ لَهَا وَإِنْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ اثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْحَقَا بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَخَرَجَ مَنْ نَفَتْهُ الْقَافَةُ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِهِمْ وَصَارَ حُكْمُ النَّسَبِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ نَسَبُ أَحَدِهِمْ وَلَا يُسْتَفَادُ بِهَذِهِ الْقَافَةِ إِلَّا خُرُوجُ نَسَبِ الْمَنْفِيِّ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ بِرِقِّهِ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَإِنْ أَلْحَقُوا الثَّلَاثَةَ بِهِ فَلَا بَيَانَ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ فَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ أَحَدَهُمْ لَحِقَ بِهِ وَهَلْ يَتْبَعُهُ مَنْ دُونَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتْبَعُهُ وَيَرِقُّ. وَالثَّانِي: يَتْبَعُهُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ تَبِعَهُ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَارَ الثَّلَاثَةُ لَهُ أَوْلَادًا يَرِثُونَهُ. وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَوْسَطَ تَبِعَهُ الْأَصْغَرُ فَلَحِقَا بِهِ مَعًا، وَكَانَ الْأَكْبَرُ مَمْلُوكًا. وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَصْغَرَ لَحِقَ بِهِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَكْبَرِ وَالْأَوْسَطِ. وَلَوْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ ابْنَيْنِ مِنْهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لَكِنْ يَخْرُجُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمَا وَيَصِيرُ مَمْلُوكًا وَيَتَرَدَّدُ النَّسَبُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَلْحَقُ بِهِ الِاثْنَانِ مَعًا فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ وَالْأَوْسَطَ لَحِقَا بِهِ مَعَ الْأَصْغَرِ أَيْضًا وَكَانَ تَبَعًا لَهُمَا، وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ وَالْأَصْغَرَ لَحِقَا بِهِ مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 الْأَوْسَطِ وَكَانَ تَبَعًا لِلْأَكْبَرِ وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَوْسَطَ وَالْأَصْغَرَ لَحِقَا بِهِ مَعًا لَا غَيْرَ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ وَحْدَهُ. وَلَوْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ الثَّلَاثَةَ لَحِقُوا بِهِ. فَصْلٌ : وَإِنْ فَاتَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةِ الْقَافَةِ لَعَدَمِهِمْ أَوْ لِإِشْكَالِ الشَّبَهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْوَطْءِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ عَلَى الرِّقِّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِفَوَاتِ بَيَانِهِ لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ تَمْيِيزًا لِحُرِّيَّةِ أَحَدِهِمْ. فَإِذَا أُقْرِعَ أَحَدُهُمْ عُتِقَ وَحْدَهُ وَرَقَّ الْآخَرَانِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمُزَنِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ بِبَيَانِ الْمُقِرِّ أَوِ الْقَافَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ دُونِهِ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتُ النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْأَكْبَرُ هُوَ الِابْنُ تَبِعَهُ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ وَإِنْ كَانَ الْأَوْسَطُ هُوَ الِابْنُ تَبِعَهُ الْأَصْغَرُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَحْدَهُ وَصَارَ الْأَصْغَرُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ وَارِثًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَإِنَّمَا حَذَفَهُ الْكَاتِبُ مِنْ كَلَامِهِ. فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَيَرِقَّانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَسَبَ الْأَصْغَرِ لَا يَثْبُتُ إِذَا قِيلَ إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِهِمْ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِ مَنْ سِوَاهُ، فَعَلَى هَذَا: هَلْ يُعْتَقُ الْأَصْغَرُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يعتق إذا قيل: أن ثبوت نسب أحدهم يجعل من دونه ولد أم ولد، فعلى هَذَا تَسْقُطُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَيَرِقَّانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ ثُبُوتَ نسب أحدهم لا يجعل من دونه ولد أو وَلَدٍ فَعَلَى هَذَا يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ تَمْيِيزًا لِلْحُرِّيَّةِ فَإِذَا أُقْرِعَ أَحَدُهُمْ عُتِقَ وَحْدَهُ وَرَقَّ مَا سِوَاهُ وَالْأُمُّ حُرَّةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَلَا يَرِثُ مَنْ عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ. فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُقِرِّ فَال ْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ: أَنَّ الْمُقِرَّ تَرَكَ مَعَ الثَّلَاثَةِ ابْنًا مَعْرُوفًا فَهَلْ يُوقَفُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوقَفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمْ الِابْنُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا كَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا مِنْ نِسَائِهِ وُقِفَ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ وَلَا يَكُونُ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمِ الزَّوْجَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمْ زَوْجَةً وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَلَا مِيرَاثَ " يَعْنِي لِمَنْ عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَ وَقْفِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُوقَفُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءَ لِفَوَاتِ الْبَيَانِ بِمَا يَسْتَدْرِكُ بِهِ مِنَ الْمُقِرُّ فِي حَيَاتِهِ وَمِنَ الْقَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَا يَكُونُ عِلْمُنَا بِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا مُوجِبًا لِوَقْفِ مِيرَاثِهِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَيَانِ كَالْعَرَبِيِّ إِذَا مَاتَ مَجْهُولَ الْعُصْبَةِ لَا يُوقَفُ مِيرَاثُهُ إِذَا مَاتَ وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ فِي الْعَرَبِ عُصْبَةً وَكَانَ الْجَهْلُ بِأَقْرَبَ عُصْبَتِهِ مُسْقِطًا لِحُكْمِ عُصْبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُوقَفَ بَعْضُ التَّرِكَةِ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثَةِ ابْنًا لَجَازَ أَنْ يُوقَفَ مِنْ مِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ وَارِثًا كَانَ مَوْرُوثًا، فَأَمَّا وَقْفُ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ الْمَجْهُولَةِ مِنَ الْأَرْبَعِ فَوَاجِبٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّنَا فِي الزوجات على يقين من ثبوت الزوجة ووقف الْمِيرَاثِ لَهُنَّ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَمْ يَقِفِ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِ الْوَقْفِ وَتَعْجِيلِ الْقِسْمَةِ نُظِرَ فَإِنْ حُكِمَ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ المعروف وإن لم يحكم بثبوت نسبه كانت التركة كلها للابن لمعروف. وَإِنْ قُلْنَا يُوقَفُ الْمِيرَاثُ، وُقِفَ نِصْفُ التَّرِكَةِ وَكَانَ نِصْفُهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ إِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ. فَإِنْ حُكِمَ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ كَانَ بَيْنَهُمَا. وَهَكَذَا وَقْفُ الْمِيرَاثِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَلَدِ إِحْدَى الِاثْنَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَتَجُوزُ الشَهَادَةُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَ فلانٍ إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ وَإِنْ قَالُوا بَلَغَنَا أَنَّ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَمْ يُقَسَّمِ الْمِيرَاثُ حَتَّى يُعْلَمَ كَمْ هُوَ فَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ دُعِيَ الْوَارِثُ بِكَفِيلٍ لِلْمِيرَاثِ وَلَا نَجْبُرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِيرَاثَ مَيِّتٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِاسْتِحْقَاقِ ميراثه لم تسمع الشهادة منهما حتى يذكر أن مَا اسْتَحَقَّ بِهِ مِيرَاثَهُ مِنْ سَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَالْأَحَقِّ بِهَا مِنَ الْوَرَثَةِ فَإِذَا شَهِدَا بِمَا يَصِيرُ بِهِ وَارِثًا مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ يستحق به فرضاً أو تعصيباً لم يخلو حَالُ شَهَادَتِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِ الْمُدَّعِي وَنَفْيَ مِيرَاثِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَلَا يَتَضَمَّنَ ذِكْرَ غَيْرِهِ فِي إِثْبَاتِ وَلَا نَفْيٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَنَفْيَ مِيرَاثِ غَيْرِهِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدَانِ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانِ الْمَيِّتِ وأن الْمَيِّتِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَيَصِيرَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 شَاهِدَيْنِ بِإِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ. أَمَّا الْإِثْبَاتُ فَشَهَادَتُهُمَا بِهِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ أَمْ لَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يَصِلَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مِنْ خُلَطَائِهِ، وَأَمَّا النفي فشهادتهما عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ وَالْقَطْعِ لِأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَصِحُّ عَلَى نَفْيٍ مُجَرَّدٍ وهي ههنا تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ فَصَحَّتْ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ يَحْجِزُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ. فَصَحَّ نَفْيُهُ لَمَّا اقْتَرَنَ بِإِثْبَاتٍ وَإِذَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ اعْتُبِرَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ بِهِ. فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا ودفع المال للمشهود له. ألا ترى أن علياً كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَحَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ وَلَا مِمَّنْ خَبَرَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى النَّفْيِ لِوَارِثٍ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِمَا مِنْ حَالِهِ نَسَبٌ لَمْ يَعْلَمَا بِهِ ولا يكون ذلك قد خالف ما شهدا به من الإثبات فتعتبر الشَّهَادَة بِهَا بِإِثْبَاتٍ مُجَرَّدٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَهَذَا قِسْمٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَتَضَمَّنَ الشَّهَادَةُ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُثْبِتَا مِيرَاثَ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ شَهَادَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُثْبِتَا مِيرَاثَ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ خَبَرٍ. فَإِنْ كَانَ إِثْبَاتَ شَهَادَةٍ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ الْغَائِبِ يَرِثَانِهِ بِوَجْهِ كَذَا فَإِنْ وَصَلَا الشَّهَادَةَ بِأَنْ قَالَا: لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا تَمَّتْ إِذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ وَدُفِعَ إِلَى الْحَاضِرِ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُقِفَ لِلْغَائِبِ حَقُّهُ مِنْهَا. وَإِنْ لَمْ يَقُولَا: لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا صَارَتْ شَهَادَةً بِإِثْبَاتِ مِيرَاثِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ نَفْيِ الْمِيرَاثِ عَنْ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ الشَّاهِدَانِ مِنْ مِيرَاثِ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ خَبَرٍ لَا شَهَادَةً فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هذا وارث فلان ونعلم أنه له وارثاً غيره فيكون ذلك أو بلغنا أنه له وارث خيراً مِنْهُمَا يُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الِاحْتِيَاطَ وَالْكَشْفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ حُكْمُ الْإِثْبَاتِ وَالْقَطْعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَاضِرِ من ثلاثة أقسام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَهُ فرض مقدار. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضَيْهِ وَتُوقَفُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَبًا دُفِعَ إِلَيْهِ السُّدُسُ مَعُولًا وَكَذَا الْأُمُّ وَإِنْ كَانَ زَوْجًا دُفِعَ إِلَيْهِ الرُّبْعُ مَعُولًا، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً دُفِعَ إِلَيْهَا رُبْعُ الثُّمُنِ مَعُولًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُنَّ أَرْبَعًا. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ كَالِابْنِ وَبِمَثَابَتِهِ الْبِنْتُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا لِأَنَّ الْكُلَّ قَدْ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ بَعْضِهِ وَفِي دفع بعضه لا تقدر حكم بجهالة فوجب من مَنْعُهُ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لِيَقَعَ الْكَشْفُ فَإِذَا كَشَفَ الْحَاكِمُ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَمْ يَعْلَمْ وَارِثًا غَيْرَهُ وَطَلَبَ الْمِيرَاثَ وَجَبَ دَفْعُهُ إِلَيْهِ بها لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ قَدْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا قَبْلَ الْكَشْفِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَعَدَمِ ظُهُورِ غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُمْنَعُ مَا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ لِأَنَّنَا عَلَى شَكٍّ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ ومتأخروا أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ وَلَا يُمْنَعُ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا وَعَلَى شك بعد الكشف من أن يجد له مِمَّنْ نَرَاهُ مُسْقِطًا أَوْ مُشَارِكًا. فَهَذَا قِسْمٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَتَضَمَّنَ الشَّهَادَةُ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ. فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ بِوَجْهِ كَذَا فَإِنْ كَانَ ذَا فَرْضٍ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ دُفِعَ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضَيْهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْكَشْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا فَرْضٍ مُنِعَ مِنَ التَّرِكَةِ حَتَّى يَقَعَ الْكَشْفُ ثُمَّ يدفع إليه بعد الكشف وعدم ظهوره غيره سَوَاءُ كَانَ ممنْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا وَعَلَى إِيَاسٍ مِنْ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُشَارِكٌ وَلَمْ يَكُنْ وَهِيَ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ أَخْبَرَ الشَّاهِدَانِ بِغَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ الْمَحْجُوبُ بَعْدَ الْكَشْفِ لِأَجْلِ هَذَا الْخَبَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِ وَإِذَا أوجَبَ دَفْع التَّرِكَةِ إِلَيْهِ فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمِيرَاثِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ مُسْقِطٍ عَنْهُ أَوْ شريك فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَاهُنَا لَا أُجْبِرُهُ وَقَالَ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى كَفِيلٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَقَالَ: بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفِيلَ اسْتِحْبَابٌ وَلَا نُجْبِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْع كقول بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يُجْبِرْ أن يدفع إليه بسببه ليؤخذ كَفِيلًا بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفِيلَ وَاجِبٌ وَيُمْنَعُ حَتَّى يَدْفَعَ كَفِيلًا بِهِ لِأَنَّنَا لَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ وَإِنَّمَا دَفَعْنَا إِلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحَالِهِ مَعَ تَجْوِيزِ غَائِبٍ يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطُ له. وقال آخرون: بل لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ وَنَصُّهُ فِي الدَّعْوَى عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ إِذَا كَانَ ممن يسقط. وقال آخرون: عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَنَصُّهُ عَلَى الْإِجْبَارِ إِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَنَصُّهُ عَلَى عَدَمِ الْإِجْبَارِ إِذَا كَانَ ثِقَةً. والله أعلم بالصواب. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ قَالُوا لَا وَارِثَ غَيْرُهُ قُبِلَتْ عَلَى مَعْنَى لَا نَعْلَمُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ كَانَ خطاً ولم أردهم به لأنه يؤول بِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ إِثْبَاتِ الْوَارِثِ بِنَفْيِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تكون شهادتهم به على العلم فيقولوا: لا نعلم له وارث غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ فِيهِ بِظَاهِرٍ لَا يَصِلُونَ إِلَى يَقِينِهِ، فَإِنْ شَهِدُوا قَطْعًا فَقَالُوا: لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: شَهَادَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْقَطْعِ مُسْتَحِيلٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا هَكَذَا، وَلَا أَقْبَلُهَا عَلَى الْعِلْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ، وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْيَقِينِ فِيهِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ بِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى مَنْ قَطَعَ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا تَعْنِي فِي عِلْمِهَا، فَصَحَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ أبو حنيفة وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 كتاب العارية قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ عاريةٍ مضمونةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ تَلَفَتْ من غير فعله استعار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ صَفْوَانَ سِلَاحَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عاريةٌ مضمونةٌ مؤداةٌ " وقال من لا يضمن العارية فإن قلنا إذا اشترط المستعير الضمان ضمن قلت إذا تترك قولك قال وأين؟ قلت ما تقول في الوديعة إذا اشترط المستودع أو المضارب الضمان أهو ضامنٌ؟ قال لا يكون ضامناً قلت فإن اشترط على المستسلف أنه غير ضامنٍ أيبرأ؟ قال لا قلت ويرد ما ليس بمضمونٍ إلى أصله وما كان مضموناً إلى أصله ويبطل الشرط فيهما؟ قال نعم قلت وكذلك ينبغي أن تقول في العارية وكذلك شرط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يشترط أنها مضمونةٌ لما لا يضمن قال فلم شرط؟ قلت لجهالة صفوانٍ به لأنه كان مشركاً لا يعرف الحكم ولو عرفه ما ضره شرطه له قال فهل قال هذا أحدٌ قلت في هذا كفايةٌ وقد قال ابن عباسٍ وأبو هريرة إن العارية مضمونة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْعَارِيَةُ فَهِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) والعارية من البر. قال تَعَالَى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) . وَالْعَارِيَةُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} (الماعون: 7) . وَرَوَى ابْنُ أبي النجود عن شقيق عن عمر بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَعُدُ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَارِيَةُ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَاعُونِ عَلَى خَمْسِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ محمد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ الْمَالُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ومنه قول لبيد الرَّاعِي: (قومٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا) وَالْخَامِسُ أَنَّهُ الْمَنَافِعُ وَهُوَ قَوْلُ أبي جعفر الحميري استشهد عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَعْشَى بْنِ ثَعْلَبَةَ: (بَأجود مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِمْ) وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول العارية مؤادةٌ وَالْمِنْحَةُ مردودةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ مَضْمُونٌ وَالزَّعِيمُ غارمٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قرقرٍ فَتَطَأُهُ بِخِفَافِهَا كُلَّمَا مَضَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا قِيلَ فَمَا حَقُّهَا فَمَا حَقُّ الْإِبِلِ قال: يعطي الكريمة ويمنح العزيرة وَيَعْقِرُ الظَّهْرَ وَيُطْرِقُ الْفَحْلَ وَيَسْقِي اللَّبَنَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَقِّهَا إعارةٌ دَلْوِهَا وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنْحَةِ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْعَارِيَةِ وَاللَّهُ أعلم. فَصْلٌ : وَالْعَارِيَةُ هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ مَعَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَتَفْتَقِرُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مُعِيرٌ وَمُسْتَعِيرٌ وَمُعَارٌ. فَأَمَّا الْمُعِيرُ فَمَنْ كَانَ مَالِكًا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعِيرًا وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ وَلَا مِنْ مَمْنُوعِ التَّصَرُّفِ وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَنْ يُعِيرَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لَا يُبِيحُ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ صَحَّ مِنْهُ طَلَبُ الْعَارِيَةِ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ قَبُولُهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَلَبُهَا. وَأَمَّا الْمُعَارُ فَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمَأْكُولَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ الْحُلِيُّ لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَقِسْمٌ لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا إِجَارَتُهُ وَهِيَ الْأَوَانِي الْمَحْظُورَةُ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ: وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ فِي التَّجَمُّلِ بِهَا نَفْعًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَارِيَةِ والإجارة فإن اختصا بملك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 الْمَنْفَعَةِ أنَّ حُكْمَ الْعَارِيَةِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ مَا يَرْهَنُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَا يَرْهَنُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ فَحْلًا لِطَرْقِ مَاشِيَتِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَسْتَعِيرَ الدَّرَاهِمَ وإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَبَدًا كَالدَّوَابِّ الْمُنْتَفَعِ بِظُهُورِهَا وَالْجَوَارِحِ الْمُنْتَفَعِ بِصَيْدِهَا وَالرَّقِيقِ الْمُنْتَفَعِ بِاسْتِخْدَامِهِمْ فَيَجُوزُ إِعَارَتُهُمْ حَتَّى الْجَوَارِي وَتُكْرَهُ إِذَا كَانَتْ مَوْسُومَةً بِالْجَمَالِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ خَوْفًا مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوة فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ زَانِيًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَقَالَ دَاوُدُ لَا حَدَّ عليه، لأنه ملكَ مَنَافِعهَا بِالْعَارِيَةِ أَوِ الْإِجَارَةِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ إِصَابَتِهَا قَبْلَ الْعَارِيَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحَدِّ عَلَى سَوَاءٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا إِجَارَتُهُ فَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا وَالثَّانِي مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ الِانْتِفَاعُ فَالسِّبَاعُ وَالذِّئَابُ وَالْكِلَابُ غَيْرُ الْمُعَلَّمَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ وَلَا أَنْ تُؤَجَّرَ وَأَمَّا مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَذَاتُ الدَّرِّ مِنَ الْمَوَاشِي كَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ ولا أن تؤجر؛ لاختاص الْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ بِالْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تُمْنَحَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمِنْحَةُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ أَوْ شَاتَهُ لِرَجُلٍ لِيَحْلِبَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَيَكُونُ اللَّبَنُ مَمْنُوحًا وَلَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِغَيْرِ اللَّبَنِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المنحة أفضل من الصدقة تغدو باتاً وَتَرُوحُ بأجرٍ ". وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ وَهُوَ الْفُحُولُ الْمُعَدَّةُ لِلطَّرْقِ فَيَحْرُمُ إِجَارَتُهَا لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا ثَمَنٌ لِعَسْبِهَا. وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَتَجُوزُ إِعَارَتُهَا لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ فِي حَقِّ الْإِبِلِ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنَحَةُ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ وَهُوَ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْكِلَابِ وَالْفَحْلُ بِغَيْرِ الثَّمَنِ مِنْ رَبْطِ السَّفَرِ وَالْبَهَائِمِ لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ إِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا صَحَّتْ إِعَارَةُ الْبَهَائِمِ دُونَ إِجَارَتِهَا فَعَلَفُهَا وَمَؤُنَتُهَا عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ ذلك من حقوق الملك. وَتَمَامُ الْعَارِيَةِ يَكُونُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعِيرِ وإِجَابَةَ الْمُعِيرِ ثُمَّ بِإِقْبَاضٍ مِنْهُ أَوْ إِذَنٍ بِقَبْضِهِ فَتَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 مُوَافِقَةً لِلْهِبَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بقبض ومخالفة لها من صِفَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِقْبَاضٍ مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ لَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَلَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِإِقْبَاضِ الْوَاهِبِ. فَصْلٌ : ثُمَّ الْعَارِيَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ تَامَّةٌ وَغَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ ارْتِفَاقٍ وَمَعُونَةٍ وَسَوَاءٌ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ أَمْ لَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَدَّرَهَا الْمُعِيرُ بمدة لزمه لم يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا لَمْ يَلْزَمْ وَرَجَعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ لِيَكُونَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ تَأْثِيرٌ مُفِيدٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ لُزُومَهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الْعَارِيَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ لَاخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْتَعِيرِ وَفَائِدَةُ الْمُدَّةِ مَنْعُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَةِ وَتَمَامِهَا بِالْقَبْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا تَلَفَ مِنْ أَجْزَائِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَلَفِ عَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى هَلَاكُهُ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَظْهَرُ هَلَاكُهُ لَمْ يَضْمَنْ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ إِنْ تَلِفَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِهِ ضَمِنَ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَذْهَبُ جبارة وأبي قتادة وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيِّ وَدَاوُدَ إِنْ شَرَطَ ضَمَانَهَا لَزِمَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَلْزَمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضمانٌ وهذا نص برواية عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقُلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أعاريةٌ مضمونةٌ أَمْ عاريةٌ مؤداةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 قَالَ بَلْ عاريةٌ مؤداةٌ ". فَقَدْ نَفَى الضَّمَانَ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنُوا الْمُسْتَعِيرَ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ قَالُوا: ولأن ما لم تكن أجزاءه مَضْمُونَةً لَمْ تَكُنْ جُمْلَتُهُ مَضْمُونَةً كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّي فَفِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهَا مَا أَخَذَتْ وَهَذَا تَضْمِينٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبُ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الْحَالَيْنِ مِنْ قِيمَةٍ وَعَيْنٍ وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعَارَ مِنْهُ دِرْعًا يَوْمَ حنينٍ فَقَالَ أغصبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ بَلْ عاريةٌ مضمونةٌ فَوَصْفُهَا بِالضَّمَانِ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا عِنْدَ جَهْلِهِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الرَّدِّ كَالْوَدَائِعِ الَّتِي هِيَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ وَلَيْسَتْ مَضْمُونَةَ الْعَيْنِ قبل إِطْلَاقُ الْقَوْلِ يَتَنَاوَلُ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْأَمَانَاتِ الْمُؤَدَّاةِ حُكْمُ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَارِيَةٌ مضمونةٌ مؤداةٌ " فَكَانَ الْأَدَاءُ مَحْمُولًا عَلَى الرَّدِّ وَالضَّمَانُ عَلَى التَّلَفِ. وَرَوَى خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بقصعةٍ فِيهَا طعامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصْعَتَهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا وَدَفَعَهَا بَدَلًا مِنَ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ فَلَوْلَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهَا بَدَلًا. ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَفَرَّدَ بِاحْتِبَاسِهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَمْ يَزَلْ مِلْكَ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ تَعَجَّلَ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ النَّفْعِ الْمُودَعِ وَالْمُؤَجَّرِ لِمَا يَتَعَجَّلُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَفِي الْعَارِيَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعَارَ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْهُ ضَامِنًا وَلَوْ أَوْدَعَ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لَأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ لَوْ أُغْرِمَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرُ إِذَا غَرِمَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنَ الْمَالِكِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 أَحَدُهُمَا: أن كُلَّ قَبْضٍ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ مَضْمُونًا وَقَعَ مِنَ الْمَالِكِ مَضْمُونًا كَالْغَصْبِ طَرْدًا وَالْوَدِيعَةِ عَكْسًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ فَوَجَبَ أن يكون مضموناً على المستعير كالمغصوب قياساً على المستعير من الغاصب. فأما الجواب عن قوله لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التالفة بالاستعمال، وهذا إن كَانَ تَخْصِيصًا فَلِمَا عَارَضَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخَصِّصَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُغِلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولُ إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِغْلَالِ الْغَلَّةِ. يُقَالُ: قَدْ أَغَلَّ فَهُوَ مُغِلٌّ إِذَا أَخَذَ الْغَلَّةَ. قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: (فَتَغْلُلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا ... قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قفيزٍ وَدِرْهَمِ) فَيَكُونُ معنى الخبر لا ضمان على المستغير غَيْرِ الْمُغِلِّ أَيْ غَيْرِ الْقَابِضِ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ مُسْتَغِلًّا وَهَذَا صَحِيحٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً أَوْ عَارِيَةً مُؤَدَّاةً فَقَالَ بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً بِالْبَدَلِ أَوْ مُؤَدَّاةَ الْعَيْنِ اسْتِعْلَامًا لِحُكْمِهَا هَلْ تُوجَدُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَالْمُعَاوَضَةِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ وَالْأَدَاءِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مُؤَدَّاةُ الْعَيْنِ لَا يَمْلِكُهَا الْآخِذُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلضَّمَانِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ فَهُوَ أَنَّ تَلَفَ الْأَجْزَاءِ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ مَضْمُونٌ كَالْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا تَلفهَا بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ إِذَا بَلِيَ بِاللَّبْسِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ وَالْعَارِيَةُ تَلِفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْلَافِهَا لَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا كَالْأَجْزَاءِ وَلَوْ تَلِفَتِ الْأَجْزَاءُ بِغَيْرِ اللَّبْسِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ إِذَا نَقَلَ فِيهِ تُرَابًا أَوْ شَدَّ فِيهِ مَتَاعًا ضَمِنَ كَالْعَارِيَةِ فَصَارَتِ الْأَجْزَاءُ وَالْجُمْلَةُ عَلَى سَوَاءٍ فَفِيهِ جَوَابٌ عَنِ الْقِيَاسَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أعلم بالصواب. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ ضَمَانِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا تَلِفَتْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ أَوْ لَا يَكُونُ لَهَا مِثْلٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ التَّلَفِ لِسُقُوطِ ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ قِيمَتِهَا مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَالْغَصْبِ وَتَصِيرُ الْأَجْزَاءُ تَبَعًا لِلْجُمْلَةِ إِنْ سَقَطَ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ سَقَطَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ وَجَبَ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَجَبَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ تَبَعًا. وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَارِيَةِ مثل ففي ما يضمنها به وجهان: بناءاً على صفة ضمان مالا مِثْلَ لَهُ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا بِالْمِثْلِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ كَالْغَصْبِ، وَالثَّانِي يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا وَقْتَ التَّلَفِ. فَأَمَّا الْعَارِيَةُ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَفِي وجوب ضمانه عليه وجهان: أحدهما: عليه ضمانها لأنه وَلَدَ الْمَضْمُونَةِ مَضْمُونٌ كَالْمَغْصُوبَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى الضَّمَانِ فِي الْأُمِّ مَعْدُومٌ فِي الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ وَلَدَ الْعَارِيَةِ لَا يَكُونُ مُعَارًا وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ يَكُونُ مَغْصُوبًا. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إِنَّ الْعَارِيَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إِلَّا بِالتَّعَدِّي فَلَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ فِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا كَمَا وَهِمَ فِيهِ الرَّبِيعُ وهو محمول على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا عَلَى سُقُوطِ ضَمَانِ الْأُجْرَةِ أَوْ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ حكاية عن مذهب غيره وفرع عليه وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسْأَلَةٌ: فِي الْحُكْمِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ والراكب في كيفية الإعارة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَكْرَيْتُكَهَا إِلَى مَوْضِعِ كذا وكذا وقال الراكب بل عاريةٌ فالقول قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ أَعَرْتَنِيهَا وَقَالَ رَبُّهَا غَصَبْتَنِيهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ (قال المزني) رحمه الله هَذَا عِنْدِي خِلَافُ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ سَكَنَ دَارَ رجلٍ كَمَنْ تَعَدَّى عَلَى سِلْعَتِهِ فَأَتْلَفَهَا فَلَهُ قِيمَةُ السُّكْنَى وَقَوْلُهُ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئَا ضَمِنَ وَمَنِ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ لَمْ يَبْرَأْ فهذا مقر بأخذ سكنى وركوب دابةٍ ومدعٍ البراءة فعليه البينة وعلى المنكر رب الدابة والدار اليمين ويأخذ القيمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلَامَ يَشْتَمِلُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَوَّلُ مَسْطُورٍ مِنْهَا صُورَتُهُ فِي رَجُلٍ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَالِكُ أجرتُكهَا فَلِيَ الْأُجْرَةُ وَقَالَ الرَّاكِبُ أَعَرْتَنِيهَا فَلَيْسَ لَكَ أُجْرَةٌ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ دُونَ الْمَالِكِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا فَقَالَ رَبُّهَا أَجَّرْتُكَهَا وَقَالَ الزَّارِعُ أَعَرْتَنِيهَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا الْجَوَابِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُهُمْ يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَوجْهه مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَمْلُوكَةَ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا كَالْأَعْيَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فَقَالَ رَبُّهَا بِعْتُهَا لَكَ وَقَالَ الْمُسْتَهْلِكُ بَلْ وَهَبْتَنِيهَا إِلَيَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْبَدَلُ كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَنْفَعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَالزَّارِعِ فِي الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ مَعًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعَارِيَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ. وَوُجْهَتُهُ: هُوَ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إِمَّا بِعَارِيَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ وَمَنِ ادَّعَى ثُبُوتَ عِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي اسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَخَالَفَ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ الَّتِي قَدِ اتَّفَقَا على أنهما كَانَتْ مِلْكًا لِرَبِّهَا دُونَ مُسْتَهْلِكِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ تَوْجِيهًا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا وَفِي الْأَرْضِ قَوْلَ مَالِكِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الدَّوَابِّ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا دُونَ إِجَارَتِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْعَادَةِ تَشْهَدُ لِرَاكِبِهَا وَالْعَادَةُ فِي الْأَرْضِ جَارِيَةٌ بِإِجَارَتِهَا دُونَ إِعَارَتِهَا فَكَانَتِ الْعَادَةُ شَهَادَةً لِمَالِكِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لِأَبِي الْعَبَّاسِ تَعْتَبِرُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ مَنْ يُؤَجِّرُ قَدْ يُعِيرُ. وَمَنْ يُعِيرُ قَدْ يُؤَجِّرُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي سَمَّاهُ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْقَوْلَ قول فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ فِيهَا فَأَوْلَى أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهَا فَإِنْ نَكَلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ تُرَدَّ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ رَدَّهَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ بِنُكُولِ الْمَالِكِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْأُجْرَةِ وَرَدَّ الدَّابَّةَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَالِكِ لِيَسْتَحِقَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ يَمِينَهُ بَعْدَ النُّكُولِ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْمُسَمَّى. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الرُّكُوبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْمَالِكُ يَدَّعِي الْأُجْرَةَ دُونَ الْقِيمَةِ وَالرَّاكِبُ يُقِرُّ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ حُكِمَ لَهُ بالأجرة وحدها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 دُونَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِلْمَالِكِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأُجْرَةِ أَوِ الْقِيمَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لَهُ بِهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ. فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكُ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَعَرْتَنِيهَا فَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُؤَثِّرٌ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْغَصْبِ وَأُجْرَةُ الْعَارِيَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِخِلَافِ الْغَصْبِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الرُّكُوبِ سَقَطَ تأثر هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوبِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يخرجها على قولين كالمسألة الأولىلاستوائها في العلة ويجعل مانقله المزني ها هنا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْمَالِكِ قَوْلًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَجَازَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْأُجْرَةِ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَقُولُ أَتْلَفْتَ أَيُّهَا الرَّاكِبُ مَنْفَعَتِي بِغَيْرِ حَقٍّ وَالرَّاكِبُ يَقُولُ أَتْلَفْتُهَا مُسْتَعِيرًا بِحَقٍّ فَلَمْ يُصَدَّقْ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زَلَلٌ من المزني وسهواً وَالثَّانِي تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ إِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ فِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا فِي الْعَارِيَةِ دُونَ الْغَصْبِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَارِيَةِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَعَرْتُكَهَا وَيَقُولُ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْتُهَا فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي ضَمَانِ رَقَبَتِهَا لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بَاقِيَةً سَقَطَ هَذَا الِاخْتِلَافُ. وَالثَّانِي لُزُومُ رُكُوبِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً أَوِ الْمُدَّةُ مُنْقَضِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدًا فِي إِجَارَتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةَ أَخَذَهَا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا فالمالك لا يدعيها وإن كانت الدابة تَالِفَةً كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاكِبِ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّهَا تَالِفَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ يَدَّعِي بِالْإِجَارَةِ اسْتِيمَانًا فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَلَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لِلْمَالِكِ بِالْقِيمَةِ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَا أَجَّرَهَا وَلَقَدْ أَعَارَهَا إِلَّا أَنْ تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعَارَهَا وَلَا يَحْلِفُ مَا أَجَّرَهَا لِتَقْضِيَ زَمَانَ الإجارة وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 كَانَ لِمُدَّةِ الرُّكُوبِ أُجْرَةٌ فَهِيَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ يَمِينٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْقِيمَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُقِرٌّ بِهِ أُجْرَةً وَالْمَالِكَ يَدَّعِي قِيمَةً، فَصَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْأُجْرَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ إِقْرَارُ الرَّاكِبِ بِهَا وَهُوَ يَدَّعِي الْقِيمَةَ وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ لَهَا فَإِذَا حُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْيَمِينِ. فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكَ غَصَبْتَنِيهَا وَيَقُولَ الرَّاكِبُ أَجَّرْتَنِيهَا فَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ وَالْمُؤَاجَرَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَالثَّانِي: فِي لُزُومِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ أَوِ الدَّابَّةُ قَدْ هَلَكَتْ سَقَطَ تَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يمينه له مَا أَجَّرَهُ وَيَصِيرُ الرَّاكِبُ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ وَالْأُجْرَةِ فَيَأْخُذُهَا الْمَالِكُ بِغَيْرِ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الرَّاكِبُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ إِلَّا بِيَمِينٍ. وأما القيمة فلا يستحقها إلا بيمين والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ تَعَدَّى فِي وديعةٍ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى موضعها الذي كانت فيه ضمن لأنه خرج مِنَ الْأَمَانَةِ وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ استئماناً فَلَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ كَالدَّابَّةِ يَرْكَبُهَا أَوْ كَالثَّوْبِ يَلْبَسُهُ أَوْ كَالدَّرَاهِمِ يُخْرِجُهَا لِلنَّفَقَةِ ضَمِنَهَا فَإِنْ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي وَرَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى الْحِرْزِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَدَّهَا أَوْ مِثْلَهَا وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا كَالدَّرَاهِمِ الَّتِي أَنْفَقَهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَا يُجْعَلُ إِخْرَاجُهَا لِلنَّفَقَةِ تَعَدِّيًا قَبْلَ الْإِنْفَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّدَمُ توبةٌ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 ذَلِكَ رَافِعًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ قَالُوا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِزَوَالِهَا كَالْخَمْرِ يَحْرُمُ بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُهَا بِارْتِفَاعِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَلَمَّا كَانَ التَّعَدِّي مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُهَا بِالتَّعَدِّي مُوجِبًا لِسُقُوطِ الضَّمَانِ قَالُوا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالتَّعَدِّي كَمَا يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِالْإِرْسَالِ لِزَوَالِ مُوجِبِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ بِتَرْكِ التَّعَدِّي لِزَوَالِ مُوجِبِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ النِّزَاعِ أَحَدُهُمَا أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُودَعِ ثُمَّ أُغْرِمَ الْقِيمَةَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي إِلَى حِرْزِ الْمُودِعِ كَعَوْدِهَا إِلَى حِرْزِ الْمُودَعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّعَدِّيَ فِيهِ زَوَالُ الْأَمْرِ بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَوْ شَجَّ أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ لَمْ يَنْعَزِلْ عَنِ الْوَكَالَةِ وَجَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ التَّعَدِّي لِجَوَازِهِ مِنْ قَبْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِحْرَازُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ التَّعَدِّي كَإِحْرَازِهَا قَبْلُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الضَّمَانِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى عُمُومِهِ مُسْتَحِقًّا وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي تَارَةً وَبِالْجُحُودِ أُخْرَى، فَلَمَّا كَانَ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ ثُمَّ اعْتَرَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ وَجَبَ إِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِزَوَالِهِ كَالْجُحُودِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهَا بِالْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالْكَفِّ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَبِالتَّعَدِّي مُتَصَرِّفٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى. وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مَعَ الْإِيدَاعِ كَمَا تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ مِنْ أَخْذِ مَالِ رَجُلٍ مِنْ حِرْزِهِ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَضَمِنَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهِ إِلَى حِرْزِهِ فَوَجَبَ إِذَا ضَمِنَ الْوَدِيعَةَ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِهَتْكِ الْحِرْزِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ ضَمَانُهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الْحِرْزِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ يَدَ الْإِنْسَانِ تُبَرِّئُهُ مِنْ ضَمَانٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِه أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ فَأَمَرَهُ الْمَالِكُ بِأَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ. كَذَلِكَ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِكَفِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْرَاءِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " النَّدَمُ توبةٌ " فَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ تَخْتَصُّ بِرَفْعِ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ لَهُمْ فِي الْوَدِيعَةِ خُصُوصًا أَنْ يَنْتَقِصَ بِالْجُحُودِ وَالْمَنْعِ الزَّائِلَيْنِ مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهِمَا لَكَانَ مَرْدُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ مِنَ التَّعَدِّي لَمْ يَزُلْ وَإِنَّمَا كُفَّ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ إِرْسَالِ الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِلُزُومِ رده إليها صار إرساله جارياً مجرى ردع الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ غَيْرَ مُسَلَّمَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا يَدُ الْمُوَدَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ رُكُوبَ الْمُوَدِعِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَرُكُوبَ الْمُوَدَعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ تَسَاوَتْ أَيْدِيهِمَا لَسَقَطَ الضَّمَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فِي أَنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْمَأْمُورِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ إِذَا شَجَّ الْعَبْدَ أَوْ زَنَا بِالْجَارِيَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ زَالَتْ وَكَالَتُهُ وَبَطَلَ بَيْعُهُ كَالْوَدِيعَةِ فِي بُطْلَانِ استثمانه بِالتَّعَدِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وَكَالَتَهُ صَحِيحَةٌ وَبَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَعَدٍّ وَلَوْ تَعَدَّى فِيهِ كَانَ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ المودع لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَإِذَا تَعَدَّى لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّمَانِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ أو يحدث له استئماناً فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا بَرِئَ فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ ثَانِيَةً لَمْ يَضْمَنْ فَأَمَّا إِنْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ وَيَزُولُ عَنْهُ الضَّمَانُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ يُحْدِثُ لَهُ استثماناً لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْضُهُ إِبْرَاءً صَحَّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالذِّمَمِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِنْ بَدَلٍ لَمْ يَجِبْ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ يُحْدِثُ له استثماناً يعني استثمان وَكِيلٍ فِي الْقَبْضِ فَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي رَدِّهَا إِلَى الْحِرْزِ بَعْدَ التَّعَدِّي كان في سقوط الضمان وجهان كالإبراء والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً يَبْنِي فِيهَا بِنَاءً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَى يُعْطِيَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا يَوْمَ يُخْرِجُهُ وَلَوْ وقت لَهُ وَقْتًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي البناء مطلقاً ولكن لو قال فإن انْقَضَى الْوَقْتُ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَكَ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ إِنَمَا غر نفسه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اعْلَمْ أَنَّ إِعَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ جَائِزٌ. لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ يَصِحُّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِعَارَةِ كَالسَّكَنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْفَعَةَ أَوْ لَا يُعَيِّنَ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْعَارِيَةُ وَكَانَتْ مَحْمُولَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي مِثْلِهَا وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ خُصُوصًا وَعُمُومًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ عِوَضًا تَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَقْدِيرُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمُدَّةِ وَلَيْسَ فِي الْعَارِيَةِ عِوَضٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فِيهِ الْجَهَالَةُ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ الْمُدَّةِ وَإِنْ عَيَّنَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ فَإِنْ عَمَّ فَقَالَ قَدْ أَعَرْتُكَ لِتَصْنَعَ مَا شِئْتَ مِنْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ زَرْعٍ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سَائِرِهَا وَإِنْ خص فله ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ وَلَا أَنْ يَبْنِيَ لِأَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ أَضَرُّ لِلْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فَلَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِ غرسه وبنائه وبأجرة المثل كالغصب. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْغَرْسِ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ وَيَزْرَعَ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْغَرْسِ وَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ كَالْغَرْسِ فِي التَّرْكِ وَالضَّرَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَدْوَمُ مِنَ الْغَرْسِ وَأَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَيَزْرَعَ وَيَغْرِسَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ أَبْقَى فَكَانَ ضَرَرُهُ أَعَمَّ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْعَارِيَةِ وَصِفَةِ الْإِذْنِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ وَالْعَارِيَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَفِي جَوَازِ إِعَارَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِإِبَاحَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهَا لِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أُبِيحَ أَكْلٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلْمُعِيرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى المستعير الثاني فإن رجع بها المعير الأول بطلت العاريتان معاً وإن رجعا بها الْمُعِير الثَّانِي كَانَتِ الْعَارِيَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي كَانَ الْمُسْتَعِيرُ غَاصِبًا لِلْإِعَارَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمُعِيرُ الْمَالِكُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الثَّانِي بِهَا أَوِ الْأَوَّلُ. فَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْأَوَّلِ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَهَا مِنَ الثَّانِي فَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 قولين فِيمَنْ أَبَاحَ أَكْلَ طَعَامٍ غَصَبَهُ فَأُغْرِمَ الْآكِلُ قِيمَتَهُ هَلْ يَرْجِعُ الْآكِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. فَصْلٌ : فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ لِلْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ثُمَّ رَجَعَ لِلْمُعِيرِ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ غَرْسِهَا وَبِنَائِهَا فَإِنْ بَنَى بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ غَرَسَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فَيُؤاخَذُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ بَعْدَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْدَاثُ زِيَادَةٍ فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَحْدَثَ زِيَادَةً فِي غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فَإِنْ أَخَذَ بَقْلَهَا فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْغَرْسِ والبناء قبل الرجوع فللمعير حالتان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ حِينَ أعاره أن يقلع غرسه وبنائه عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ ذَلِكَ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وَلِأَنَّ رِضَاهُ بِهَذَا الشَّرْطِ الْتِزَامٌ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ فَكَانَ هُوَ الضَّارُّ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَضْرُورًا بِغَيْرِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَشْتَرِطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْقَلْعَ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ أَكْثَرَ فَيُؤاخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِالْقَلْعِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ لَا تَلْزَمُ وَالضَّرَرُ بِالْقَلْعِ مُرْتَفِعٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ، فَإِنْ بَدَّلَ المعير قيمته قائماً أو بدل نقص ما بَيْنَ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَقَائِمًا مُنِعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ وَخُيِّرَ بَيْنَ قَلْعِهِ أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ نَقْصِهِ لِأَنَّ مَا يَخَافُهُ مِنَ النَّقْصِ بِالْقَلْعِ قَدْ زَالَ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ الْأَرْشِ فَلَوْ بَذَلَ الْمُسْتَعِيرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ وَبَذَلَ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْغَرْسِ كَانَ الْمُعِيرُ أَحَقَّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْغَرْسَ تَبَعٌ فَكَانَ مِلْكُ الْأَصْلِ أَقْوَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَسْبَقُ مِلْكًا وَقِيلَ لِلْمُسْتَعِيرِ لَا يجوز مع زوال الضرر عند أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِالتَّرْكِ فَإِنْ أُخِذَتِ الْقِيمَةُ وَإِلَّا أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ فَإِذَا قَلَعَ فَهَلْ تَلْزَمُهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضَ بَعْدَ الْقَلْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَأَشْبَهَهُ بلي الثَّوْبِ بِاللُّبْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَلَعَ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْجَأَ إليه فصار مأخوذاً بنقصه. فصل : فأما إذا امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ بَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْقَلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقَلْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ العارية مقدرة أو مطلقة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العارية مؤداةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُطْلَقَةَ تُرِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ قُلِعَ بَعْدَهَا فَرْقًا بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي اشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُقِرٌّ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ إِذَا بَذَلَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْعَارِيَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ وَالْمُسْتَعِيرُ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْقَلْعِ كَالظَّالِمِ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ ارْتِفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَلَوْ أَوْجَبَتِ الْإِضْرَارَ بِالْقَلْعِ لَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْإِرْفَاقِ إِلَى حُكْمِ الْعُدْوَانِ وَالضَّرَرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ مُقَرٌّ فَإِقْرَارِهِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْأُجْرَةِ وَإِقَامَةِ الْمُعِيرِ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَإِنْ أَجَابَ الْمُعِيرُ مِنْ بَعْدُ إِلَى بَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ امْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ بَذْلِ الْأُجْرَةِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُعِيرِ بِتَفْوِيتِ الْأُجْرَةِ وَمَا اسْتَدَامَ الشَّرْطَانِ وَجَبَ الْإِقْرَارُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَعِيرِ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيلًا بِغَرْسِهِ وَبِنَائِهِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَأْخُوذَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَأَمَّا البياض الذي أَثْنَائه فَلَيْسَ بِمَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُ الْمُعِيرِ مِنْهُ وَإِنْ بُذِلَتْ لَهُ الْأُجْرَةُ عَنْهُ. إِلَّا أَنْ يُجِيبَ إِلَى إِجَارَتِهَا طَوْعًا بِمُسَمَّى رَضِيَاهُ فَيَكُونُ كَمَنْ أَجَّرَ أَرْضَهُ مُخْتَارًا فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ الدُّخُولَ إِلَّا بِرِضَا الْمُعِيرِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّرْكِ لَا يُوجِبُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْأَرْضِ لِيَصِلَ إِلَى غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ فِي مُرَاعَاتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَيُجْبَرُ الْمُعِيرُ عَلَى تَمْكِينِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ إِذَنٌ بِهِ وَبِمَنَافِعِهِ فَإِنْ مَاتَ الْغَرْسُ وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِعَادَةُ بَدَلِهِ إِلَّا بِاسْتِحْدَاثِ عَارِيَةٍ بَدَلَهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَرَادَ الْمُسْتَعِيرُ بَيْعَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُعِيرِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي بِالْقَلْعِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ. والوجه الثاني: أن يبيعه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُ مُسْتَعِيرٍ وَتَرْكُ مَا اشْتَرَاهُ غَيْرُ مُسْتَدِيمٍ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مَتَى بَذَلَ الْقِيمَةَ اسْتَحَقَّ بِهَا أَخْذَ الْغَرْسِ أَوْ قَلْعَهُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُسْتَعِيرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ. فَصْلٌ : وَإِذَا حَمَلَ السَّيْلُ بَذْرًا لِرَجُلٍ فَنَبَتَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَوْ نَوًى، فَصَارَ غَرْسًا فَهُوَ لِمَالِكِ الْبَذْرِ وَالنَّوَى لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَالِكَ بِقَلْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ قَلْعُهُ لِأَنَّ مَا نَبَتَ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ قَلْعُهُ إِذَا بُذِلَتِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 فصل : فإذا أعار الرجل جَارَهُ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ أَجْذَاعًا فَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَعِيرَ بِقَلْعِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَجْذَاعِ تُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْعَارِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ أَرْضِهِ بَعْدَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. فَعَلَى هَذَا إِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ مِنْ بَذْلِهَا أُخِذَ بِقَلْعِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَصَحُّ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَائِطِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ يَصِلُ مَالِكُهُ إِلَى مَنَافِعِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةً عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا يَصِلُ مَالِكُهَا إِلَى مَنَافِعِهَا مَعَ بَقَاءِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ بِإِجَارَةِ الْحَائِطِ وَهُوَ جَارٍ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَوْ بَذَلَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ثَمَنَ الْأَجْذَاعِ لِصَاحِبِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا وَلَا عَلَى قَلْعِهَا بِخِلَافِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَجْذَاعَ إِذَا حَصَلَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي حَائِطِ الْمُعِيرِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي حَائِطِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَمْ يُجْبَرْ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ كُلُّهُ فِي أَرْضِ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ مَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَجْذَاعُ مَوْضُوعَةٌ فَبَنَاهُ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ إِعَادَةَ وَضْعِهَا بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ إِعَارَتُهَا لِأَنَّ الْعَارِيَةَ أَوْجَبَتْ دَوَامَ وَضْعِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوِ امْتَنَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنْ بِنَائِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِعَادَتُهَا لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَمْ يَبْقَ وَهَذَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَعُدْ مَالِكَهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَجْذَاعِ أَنْ يَبْنِيَ الْحَائِطَ عِنْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ مِنْ بِنَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَعَارَهُ جِذْعًا لِيُمْسِكَ بِهِ حَائِطًا فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَسْكِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا كَانَ الْحَائِطُ قَائِمًا وَكَانَ الْجِذْعُ صَحِيحًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمَسْكِ مِنْ خَوْفِ السُّقُوطِ وَهَلَاكِهِ وَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ بِأُجْرَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنِ انْكَسَرَ الْجِذْعُ أَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِأَخْذِهِ ضَرَرٌ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّ دَفْنَ الْمَوْتَى لِلِاسْتِدَامَةِ وَالْبَقَاءِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلَوْ أَوْصَى أَوْلِيَاؤَهُ بِنَقْلِهِ مُنِعُوا مِنْهُ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ وَلِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِالنَّقْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الْقَبْرِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُرْفَ غَيْرُ جَارٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ زَائِلٌ وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَلْزَمُهُمْ فَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَدْفُونَ نَبَشَهُ الْوَحْشُ حَتَّى ظَهَرَ وَجَبَ أَنْ يُعَادَ إِلَى قَبْرِهِ جَبْرًا وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَارِيَتِهِ وَيَمْنَعَ مَنْ دَفَنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا لِلْمَيِّتِ مُؤَبَّدًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْفِنُوا موتاهم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 أَرْضِهِ فَإِنْ سَبَلَهَا لِلدَّفْنِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْبِلَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَلَا يَكُونُ الْإِذْنُ بِالدَّفْنِ فِيهَا تَسْبِيلًا لَهَا فَإِذَا رَجَعَ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْدَاثِ دَفْنٍ فِيهَا وَلَيْسَ لَهُ نَقْلُ مَنْ دُفِنَ وَتَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَبْرِ مِنْ أَرْضِهِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ فِيهِ مَيِّتًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَكَانَ لَحْدِهِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُقَارَنًا. فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ وَالْأُجْرَةِ وَعَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ سَوَاءٌ طَلَبَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي لَا يُلْزَمُ وَارِثُ الْمُوَدَعِ رَدَّهَا لِأَنَّ رَدَّ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ وَرَدَّ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا التَّمْكِينُ مِنْهَا وَاجِبٌ وَإِنْ أَمْسَكَ وَارِثُ الْمُسْتَعِيرِ عَنْ رَدِّهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَلَا أُجْرَةَ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهَا فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَمَعَ الْأُجْرَةِ فَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَعِيرُ وَلَمْ يَمُتْ بَطَلَتِ الْعَارِيَةُ بِجُنُونِهِ أَيْضًا لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهَا عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُعِيرُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّ الْعَارِيَةِ عَلَى وَارِثِهِ لِبُطْلَانِهَا بِمَوْتِهِ وَأَنْ يُمْسِكَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ وَالْأُجْرَةِ وَهَكَذَا لَوْ جُنَّ الْمُعِيرُ فَإِنْ مَرِضَ فَالْعَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا بَاع الْمُعِيرُ الْعَارِيَةَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا مُمْكِنًا كَالدَّارِ الَّتِي يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْهَا وَالدَّابَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهُ عَنْهَا وَالثَّوْبِ الَّذِي يُمْكِنُ نَزْعُهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ بِهِ الْعَارِيَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَدُّهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْأَرْضِ إِذَا غُرِسَتْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الْغَرْسِ فِيهَا مَجْهُولَةٌ وَاسْتِرْجَاعُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بِبَذْلِ قِيمَةِ الْغَرْسِ أَوْ أَرْشِ النَّقْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُعِيرِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَعِيرُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى مُوَرَّثِهِ التسليم. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً ثُمَّ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ إلى اصطبل المعير لم يبرأ من ضمانها حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُعِيرِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ فِيهَا. وَقَالَ أبو حنيفة يَبْرَأُ مِنْهَا بِرَدِّهَا إِلَى الِإصْطَبْلِ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِإصْطَبْلَ كَيَدِهِ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَارِقُهَا مِنَ الِإصْطَبْلِ إِذَا رَدَّهَا إِلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ عنه ضمانها كما يسقط بردها إلى بدء وَفِي بَقَاءِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَوْدُهَا إِلَى الِإصْطَبْلِ عَوْدٌ إِلَى يَدِهِ. فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَارِيَةِ رَهْنًا لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا ضَامِنٌ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْيَدِ فَإِنَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِيهَا رَهْنًا أَوْ ضَامِنًا بَطَلَت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 العارية بِأَحَدِ الشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ لَهَا ثُمَّ قَبَضَهَا المستعير وتصرف بها ضمن الرقبة، فَأَمَّا ضَمَانُهُ لِأُجْرَةِ الْمَنْفَعَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يكون ضامناً للأجرة لأن فسادها رافعاً لِحُكْمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ فَسَدَ فَحُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنْهُ أَلَا تَرَاهُ يَضْمَنُ فَاسِدَ الْقَرْضِ وَلَا يَضْمَنُ فَاسِدَ الشَّرِكَةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا طَالَبَ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ بِرَدِّ الْعَارِيَةِ كَانَتْ مَؤُنَةُ رَدِّهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمُهَا فِي الْعَارِيَةِ هِبَةٌ لِلْمُسْتَعِيرِ فَكَانَتْ مَؤُنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ جَازِ ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَالْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى عَارِيَتِهِ وَهُوَ الْمُعِيرُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّانِي وَضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِنْ شَاءَ وَإِنْ سَمَّاهُ لِلْمُعِيرِ خَرَجَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَوَّلُ مِنْهَا وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا وَلَمْ يُبْطِلْ عَلَى الثَّانِي بِرُجُوعِهِ فِيهَا فَلَوْ رَدَّهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَبْرَأْ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَبْرَأُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 كتاب الغصب مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا شَقَّ رجلٌ لرجلٍ ثَوْبًا شَقًّا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَأْخُذُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ طُولًا وَعَرْضَا أَوْ كَسَرَ لَهُ شَيْئَا كَسْرًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوْ رَضَّضَهُ أَوْ جَنَى لَهُ عَلَى مملوكٍ فَأَعْمَاهُ أَوْ شَجَّهُ مُوَضِّحَةً فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ وَيُقَوَّمُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ وَالْحَيَوَانُ غَيْرَ الرَّقِيقِ صَحِيحًا وَمَكْسُورًا أَوْ صَحِيحًا وَمَجْرُوحًا قَدْ بَرِئَ مِنْ جُرْحِهِ ثُمَّ يُعْطَى مَالِكُ ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الجناية لصاحبه نفعه أو لم ينفعه فأما ما جنى عليه من العبد فيقوم صحيحاً قبل الجناية ثم ينظر إلى الجناية فيعطى أرشها من قيمة العبد صحيحاً كما يعطى الحر من أرش الجناية ثم ينظر إلى الجناية فيعطي أرشها من قيمة العبد صحيحاً كما يعطي الحر من أرش الجناية من دينه بالغاً ذلك ما بلغ ولو كانت قيماً كما يأخذ الحر دياتٍ (قال الشافعي) وكيف غلط من زعم أنه إن جنى على عبدي فلم يفسده أخذته وقيمة ما نقصه وإن زاد الجاني معصية الله تعالى فأفسده سقط حقي إلا أن أسلمه يملكه الجاني فيسقط حقي بالفساد حين عظم ويثبت حين صغر ويملك على حين عصى فأفسد فلم يملك بعضاً ببعض ما أفسد وهذا القول خلافٌ لأصل حكم الله تعالى بين المسلمين في أن المالكين على ملكهم لا يملك عليهم إلا برضاهم وخلاف المعقول والقياس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الْغَصْبِ وَحَظْرِ الْأَمْوَالِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) {النحل 90) . وَالْبَغْيُ وَالْغَصْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) {النساء: 29) وَالْغَصْبُ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارَاً) {النساء: 10) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) {الشورى: 42) . وَالْغَصْبُ مِنْ جُمْلَةِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ أَرْضٌ مَظْلُومَةٌ، وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَجَاوَزَهَا الْمَطَرُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَهَا مِنْ غَيْرِ أَوَانِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَهُوَ تَمِيمُ بْنُ أَبِي مُقْبِلٍ: (عَادَ الْأَخِلَّةُ فِي دارٍ وَكَانَ بِهَا ... هُرْتُ الشَّقَاشِقِ ظَلَّامُونَ لِلْجُزُرِ) وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِرَ فِي غَيْرِ مَنْحَرٍ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ في قطع العراقيب. والثاني: أن ينحر لغيرما سَبَبٍ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا فِي مَوْقِفِي هَذَا. أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حرامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أمانةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا. أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوةٌ فَلَا يَحِلُّ لامرئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا عَنْ طِيبِ نفسٍ مِنْهُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا فَإِذَا أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَيْهِ أَوْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئٍ مسلمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ ظلمَ قَيْدَ شبرٍ مِنْ أرضٍ طوقه من سبع أرضين. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ أَرْضًا مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَصَبَهَا غَرْسَهَا نَخْلًا عُمًّا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الْغَرْسَ تُعْمَلُ فِي أُصُولِهَا. وَفِي قَوْلِهِ نَخْلًا عُمًّا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي طُولًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وَالثَّانِي: يَعْنِي أَنَّهَا قَدْ عَمَّتْ بِخَيْرِهَا وَمِنْهُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّتْكُمُ النَّخْلَةُ يَعْنِي عَمَّتْ بِخَيْرِهَا وَقِيلَ بَلْ عَنَى أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ فَصَارَتْ عَمَّةً فِي النَّسَبِ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْغَصْبِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا كَانَ كَافِرًا وَمَنْ فَعَلَهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ كَانَ فَاسِقًا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْغَصْبِ كَمَا ذَكَرْنَا فَالْغَصْبُ هُوَ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ مِلْكِهِ والتَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَيُكْمِلُ الْغَصْبَ بِالْمَنْعِ وَالتَّصَرُّفِ فَإِنْ مَنَعَ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ كَانَ تَعَدِّيًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَمَانٌ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمِلْكِ وَإِنَّ تَصَرَّفَ وَلَمْ يَمْنَعْ كَانَ تَعَدِّيًا وَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانٌ لِأَنَّهُ تعدٍ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْمَالِكِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَنْعِ والتصرف ثم الْغَصْبُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ سَوَاءٌ نَقَلَ الْمَغْصُوبَ عَنْ مَحَلِّهِ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَتِمُّ الْغَصْبُ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ لَمْ يَصِحَّ غَصْبُهُ وَلَمْ يَضْمَنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ غَيْرَ الْمَنْقُولِ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ دُونَ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَحَبْسِ الْإِنْسَانِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِغَصْبِ مَالِهِ وَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا يَكُونُ مَسْرُوقًا إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنِ الْحِرْزِ فَكَذَا الْمَغْصُوبُ لَا يَصِيرُ مَغْصُوبًا إِلَّا بِالنَّقْلِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَصِرِ الْمَالُ بِهِ مَسْرُوقًا لَمْ يَصِرْ بِهِ مَغْصُوبًا كَالْمَنْعِ وَالْإِحَالَةِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِنَّ أَعْظَمَ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلَ مِنْ أَرْضِ غَيْرِهِ إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ فَأَطْلَقَ عَلَى الْأَرْضِ حُكْمَ الْغُلُولِ وَالْغَصْبِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ سَارِقَ الْمَنَارِ قِيلَ وَمَا سَارِقُ الْمَنَارِ؟ قَالَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الْعَلَامَةَ مِنْ أَرْضِ نَفْسِهِ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ سَرِقَةً وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: ملعونٌ مَنْ لَعَنَ أَبَاهُ ملعونٌ مَنْ لَعَنَ أُمَّهُ ملعونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ، وَفِي تُخُومِ الْأَرْضِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عُلَمَاؤُهَا. وَالثَّانِي: حُدُودُهَا وَأَعْلَامُهَا وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ ضُمِنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ كَالْمُحَوَّلِ وَالْمَنْقُولِ. وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ الْمَنْقُولُ ضُمِنَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَالْعُقُودِ وَلِأَنَّهُ عُدْوَانٌ فَجَازَ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَالْجِنَايَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا لَمْ يُنْقَلْ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ وَالْإِحَالَةِ كَالْحَبْسِ فَهُوَ أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 مَالِهِ حَصَلَ التَّعَدِّي عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ فَلَمْ يَصِرِ الْمَالُ مَغْصُوبًا وَخَالَفَ حَالَ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَعَ اشْتِهَارِ الْقَوْلِ عُرْفًا أَنَّ فُلَانًا غَصَبَ دَارًا أَوْ أَرْضًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَسْرُوقِ فَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ الْمَالِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ نُقِلَ غَيْرَ محرزٍ لم يكن سارقاً بقطع وَخَالَفَ الْغَصْبُ الْمُعْتَبَرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَرَقَ دَارًا وَيُقَالُ غصب داراً. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا بَيَّنَّا مِنْ صِفَةِ الْغَصْبِ فَلِلْمَغْصُوبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَالِفًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا. فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ ارْتَجَعَهُ الْمَالِكُ مِنْهُ فَإِنَّ ضَعُفَ عَنِ ارْتِجَاعِهِ فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ اسْتِرْجَاعُهُ وَتَأْدِيبُ الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ كَالطَّعَامِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ بَرِئَ بَعْدَ رَدِّهِ مِنْ حُكْمِ الْغَصْبِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَدْ نَقَصَتْ فِي الْأَسْوَاقِ لِرُخْصِ الْأَسْعَارِ أَمْ لَا لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نَقْصُ السُّوقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ كَالدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ فَعَلَيْهِ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ لِمِثْلِ زَمَانِ الْغَصْبِ أُجْرَةٌ وَعَلَيْهِ مَؤُنَةُ الرَّدِّ إِنْ كَانَ لِرَدِّهِ مَؤُنَةٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ تَالِفًا فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِ فِعْلِهِ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ. ثُمَّ هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ كَالَّذِي تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ أَخَصُّ بِهِ بَدَلًا مِنَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْقِيمَةِ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ فَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمُ الْقِيمَةَ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ طَالِبَهَا الْغَاصِبُ أَوِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ فَأَمَّا إِنْ تَرَاضَيَا بِالْقِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّ الْمَعِيبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ كَالَّذِي تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَعَلَى صِفَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةٍ فُلَيْتٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ فَأَخَذَنِي أَفْكَلُ فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ قَالَ إناءٌ مِثْلُ إناءٍ وطعامٌ مِثْلُ طعامٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ رجلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَنِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 عَمِّكَ سَعَوْا عَلَى إِبِلِي فَاحْتَلَبُوا أَلْبَانَهَا وَأَكَلُوا فُصْلَانَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُعْطِيكَ إِبِلًا مِثْلَ إِبِلِكَ وَفُصْلَانًا مِثْلَ فُصْلَانِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقَدْ رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأَيًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْوَادِي الَّذِي جَنَى فِيهِ بَنُو عَمِّكَ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَعَمْ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عبدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَأُوجِبُ قِيمَةَ الْحِصَّةِ وَلَمْ يُوجِبْ مِثْلَ تِلْكَ الْحِصَّةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ حَتَّى مَنْ قَطَعَ يَدَ دَابَّةٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ دَابَّتِهِ وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبًا لَمْ يُخْرَقْ ثَوْبُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ بِمَثَابَتِهِ وَلِأَنَّ مَا تَخَلَّفَ أَجْزَاؤُهُ يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا يُظْلَمُ بِهِ الْغَاصِبُ أَوْ نَاقِصًا يُظْلَمُ بِهِ الْمَغْصُوبُ وَالْقِيمَةُ عَدْلٌ يُؤْمَنُ فِيهَا ظُلْمُ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَاءٌ مِثْلُ الْإِنَاءِ، وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ، فَهُوَ أَنَّ الْقِيمَةَ مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) {المائدة: 95) فَجَعَلَ قِيمَةَ الْجَزَاءِ مِنَ الطَّعَامِ مِثْلًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّفَضُّلِ مِنْهُ لِتَطَوُّعِهِ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَقِيمَتُهُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدَ فِيهِ أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ فِي سُوقِهِ وَبَلَدِهِ فإن قيل لما لَمْ يَضْمَنْ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَضَمِنَ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ. قِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ السُّوقِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ وَلَمْ يُفَوِّتْهَا عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْحُلِيِّ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُضْمَنُ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَرِقِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ ذَهَبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَهُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَبِأُجْرَةِ صِيَاغَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ مِائَةَ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ مَصُوغٌ فَيَضْمَنُهُ بِمِائَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ وَبِأُجْرَةِ صِيَاغَتِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ ذَهَبًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى تَكُونَ وَرِقًا لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى الربا والتفاصل فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصِّيَاغَةِ وَالْعَمَلُ الَّذِي لَا يُدَاخِلُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 الرِّبَا وَلَوْ دَخَلَهُ الرِّبَا إِذَا كَانَ ذَهَبًا لَدَخَلَهُ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ وَرِقًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ مِائَةُ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدِينَارٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْظُورَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْأَوَانِي فَفِي ضَمَانِ صِيَاغَتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي إِبَاحَةِ ادِّخَارِهِمَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ادِّخَارَهَا مَحْظُورٌ وَصِيَاغَتُهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا تُقَرُّ فَلَمْ تُضْمَنْ كَصَنْعَةِ الطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ لَا تُضَمَنُ بِالنَّقْصِ فِي الْإِبْطَالِ فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا مِنْ جِنْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ادِّخَارَهَا مُبَاحٌ وَصِنَاعَتَهَا مَضْمُونَةٌ فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وجهان عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ نَاقِصًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَيَوَانٍ. فَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَيَوَانٍ فَالنَّقْصُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن يكون متميزاً كالحنطة بتلف بَعْضُهَا أَوْ كَالثِّيَابِ يَتْلَفُ ثَوْبٌ مِنْهَا أَوْ ذِرَاعٌ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ وَبِالْقِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مِثْلٍ وَيُرَدُّ الْبَاقِي بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ أَكْثَرَ الْمَغْصُوبِ أَوْ أَقَلَّهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَثَوْبٍ شَقَّهُ أَوْ إِنَاءٍ كَسَرَهُ أَوْ رَضضهُ فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْهُ أَقَلَّ مَنَافِعِهِ أَخَذَهُ وَمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ إِجْمَاعًا فَيَقُومُ صَحِيحًا فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِرْهَمٍ قُوِّمَ مُمَزَّقًا أَوْ مَكْسُورًا فَإِذَا قِيلَ سِتُّونَ دِرْهَمًا فَنَقَصَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُهُ مُمَزَّقًا أَوْ مَكْسُورًا وَيَأْخُذُ مَعَهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَ بَعْدَ النَّقْصِ يُسَاوِي دِرْهَمًا أَخَذَهُ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا. وَهَكَذَا لَوْ تَمَزَّقَ الثَّوْبُ وَتَرَضَّضَ الْإِنَاءُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمَا قِيمَةٌ أَخَذَ قِيمَتَهَا كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمَرْضُوضَ وَالْمُمَزَّقَ وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْغَاصِبُ مَعَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ. وَقَالَ مالك يكون المالك مُخَيَّرًا بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْغَاصِبِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ بِهِ نَاقِصًا وَلَا أَرْشَ لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ الْمَالِكُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ وَيَرْجِعَ بِأَرْشِ نَقْصِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْغَاصِبِ وَيَرْجِعَ بجميع قيمته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وَإِذَا تَمَزَّقَ الثَّوْبُ وَتَرَضَّضَ الْإِنَاءُ حَتَّى بَلَغَ النَّقْصُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ غُرِّمَ الْقِيمَةَ وَمَلَكَ الْمَرْضُوضَ والممزق استدلالاً بأن لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الْعَيْنَ إِذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا صَارَ الْبَاقِي ذَاهِبُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَمَّا كَانَ غَارِمًا لِأَكْثَرِ الْمَنَافِعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا لِأَقَلِّهَا وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) {البقرة: 194) . فَإِذَا اعْتَدَى بِاسْتِهْلَاكِ الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْكُلِّ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ جَمِيعِهِ بِاسْتِهْلَاكِ أَقَلِّهِ لَمْ يَلْزَمْ غُرْمَ جَمِيعِهِ بِاسْتِهْلَاكِ أَكْثَرِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّقْصِ الْمُمَيَّزِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مُوجِبًا لِغُرْمٍ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ تَمْيِيزِهِ مُوجِبًا لِغُرْمِ جَمِيعِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّقْصِ الْأَقَلِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ أَطْرَافُ الْعَبْدِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلٌ مِنَ الْمُسْتَهْلَكِ دُونَ الْبَاقِي فَلَمْ يَكُنْ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْبَاقِي مِنَ الْمَنَافِعِ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهَا ذَاهِبٌ فَهُوَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَطْرُوحٌ وَعِيَانٌ مَدْفُوعٌ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي ذَاهِبًا لَكَانَ الذَّاهِبُ بَاقِيًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْأَقَلَّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَكْثَرِ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ ضَمَانِ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِسُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْأَكْثَرِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ أَقَلَّ الْمَنَافِعِ لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ أَخْذِهِ وَقَدْرَ نَقْصِهِ قَلِيلًا كَانَ النَّقْصُ أَوْ كَثِيرًا نَفَعَ الْبَاقِي مِنْهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ضَمِنَ نَقْصَ قَدْرِ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنَقْصِهِ. وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْغَاصِبِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ كُلِّهَا وَبَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَلَا أَرْشَ لَهُ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْأَرْشِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهَا وَهَذَا خطأ لأن كل نقس دَخَلَ عَلَى عِوَضٍ أَوْ مُعَوَّضٍ اسْتَحَقَّ أَرْشَهُ وَلَمْ يَجُزْ مَعَ إِمْكَانِ الْأَرْشِ أَنْ يَكُونَ هَدْرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا ضَامِنًا فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ أُجْرَةَ صَنْعَتِهِ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ النَّقْصِ مِنْ قِيمَتِهِ ذَهَبًا إِنْ كَانَ مِنْ وَرِقٍ وَوَرِقًا إِنْ كَانَ مَنْ ذَهَبٍ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا فَإِنْ كَانَ بَهِيمَةً فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا نَقْصُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا سَلِيمَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 وَنَاقِصَةً وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ بِجِنَايَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ ذَاتَ ظَهْرٍ أَوْ دَرٍّ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ حَيَوَانًا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَاتِ ظَهْرٍ لَا دَرَّ لَهَا مِثْلَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ أَوْ ذَاتَ دَرٍّ لَا ظَهْرَ لَهَا كَالْغَنَمِ ضَمِنَهَا بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَقَوْلِنَا: وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ كَظَهْرٍ وَدَرٍّ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كَانَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ مَا نَقَصَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْ بَقَرَةٍ بِرُبْعِ قِيمَتِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا لَمْ تُضْمَنْ أَعْضَاؤُهُ بِمُقَدَّرٍ لَمْ تُضْمَنْ عَيْنُهُ بِمُقَدَّرٍ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَافَقَتِ الْحُكُومَةُ فيها ربع القيمة. فصل : وقال مَالِكٌ: إِذَا قَطَعَ ذَنَبَ حِمَارِ الْقَاضِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ الْقَاضِي لَزِمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي قَطْعِ ذَنَبِ حِمَارِهِ غَضَاضَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَهَنٌ فِي الدِّينِ وَحَسْبُكَ بِقُبْحِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَجِبَ فِي ذَنَبِ حِمَارِهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لَوَجَبَ ذَلِكَ فِي تَحْرِيقِ ثِيَابِهِ وَالتَّعَدِّي فِي قُمَاشِهِ وَلَتَضَاعَفَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَكَانَ كُلُّ مَا اخْتَصَّ بِهِ زَائِدًا فِي الْحُكْمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُ فِي ضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكَهُ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَغَيْرُهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حِمَارِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْآدَمِيُّ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَالْيَدِ فَلِضَمَانِ نَقْصِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ وَحْدَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ وَحْدَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ مَعًا. فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأَوْلَى وَهُوَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْيَدِ دُونَ الْجِنَايَةِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَيَحْدُثُ بِهِ مَرَضٌ يُذْهِبُ مِنْهُ عَيْنَهُ أَوْ تَتَآكَلُ مِنْهُ يَدُهُ أَوْ يُنْهَكُ بَدَنُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى غَاصِبِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ فِي عُضْوٍ مُقَدَّرٍ بِالْأَرْشِ كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ أَوْ غَيْرِ مُقَدَّرٍ كَنُحُولِ الْجَسَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا فِي ضَمَانِ الْيَدِ بِالْبَهَائِمِ دُونَ الْأَحْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِقَدْرِ النَّقْصِ كَالْبَهَائِمِ دُونَ الْأَحْرَارِ وَسَوَاءٌ زَادَ عَلَى ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَوْ نَقَصَ حَتَّى لَوْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثُ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَلَوْ نَقَصَهُ الثُّلْثَانِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ ضَمَانِ الْيَدِ وَضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ خطأ لما ذكرنا. فصل : فأما الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْجِنَايَةِ دُونَ الْيَدِ فَصُورَتُهُ: أَنَّهُ يَرْمِي عَبْدًا فَيَقْلَعُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ يَجْرَحُ جَسَدَهُ فَكُلُّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ مِنَ الْحُرِّ وَكَانَ فِيهِ حكومة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 كَالَّذِي يَتَقَدَّرُ مِنَ الْمُوَضَّحَةِ وَشِجَاجِ الرَّأْسِ وَيَتَقَدَّرُ مِنَ الْجَائِفَةِ مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَصْلٌ فِيهَا لِلْحُرِّ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ نَقْصِ دِيَتِهِ. وَكُلُّ مَا كَانَ مُقَدَّرًا فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ كَانَ مُقَدَّرًا فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَى هَذَا فِي يَدَيِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ فِي يَدَيِ الْحُرِّ دِيَتُهُ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي إِحْدَى يَدَيِ الْحُرِّ نِصْفُ دِيَتِهِ وَفِي إِحْدَى أَصَابِعِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي إِحْدَى أَصَابِعِ الْحُرِّ عُشْرُ دِيَتِهِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الشِّجَاجِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُضْمَنُ الْعَبْدُ بِمُقَدَّرٍ إِلَّا فِي الشِّجَاجِ الْأَرْبَعَةِ الْمُوَضَّحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَهُوَ مَضْمُونٌ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ أَنَّ مَا تُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْحُرِّ تُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى الشِّجَاجِ الْأَرْبَعِ وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي شِجَاجِهِ تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي أَطْرَافِهِ كَالْحُرِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ مَضْمُونَةٌ بِمُقَدَّرٍ مِنْ قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى يَدَيْهِ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَكَالْجِنَايَةِ عَلَى ذَكَرِهِ تُوجِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بِالْجِنَايَةِ أَضْعَافًا وَهَكَذَا لَوْ أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا اسْتَحَقَّهَا عَلَى الْجَانِي وَالْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَطْعُ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ يُوجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ كَامِلَةً. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَمَا دُونُ أَخْذِهَا مِنَ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ مَلَكَ الْجَانِي بِهَا الْعَبْدَ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَلَا يُوجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضْمَنَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ كَالْأَمْوَالِ، قَالَ وَلِأَنَّ فِي غُرْمِ الْقِيمَةِ وَرَدِّ الْعَبْدِ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَدَلِيلُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِجِنَايَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَدْ تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِهِ غَيْرُ الْعَبْدِ لَمْ يُمْلَكْ بِهِ الْعَبْدُ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْلَكْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى نِصْفِهِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَكْثَرِهِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَكَاتَبِ. وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى عَبْدٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَزِدْ أَرْشُهُ عَلَى النِّصْفِ، وَلِأَنَّ جَمَاعَةً لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ قِيمَتِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ فَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ قِيَاسًا عَلَى نَقْصٍ مِنَ النِّصْفِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّرَتِ الْجِنَايَةُ فِي أَطْرَافِهِ جَازَ أَنْ تَزِيدَ عَلَى ضَمَانِ نَفْسِهِ كَالْحُرِّ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا ضُمِنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ ضُمِنَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ. وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ أَوْجَبَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ فِي الْحُرِّ أَوْجَبَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى ضَمَانِ النَّفْسِ فِي الْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى تَكْرَارِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي امْتُنِعَ أَنْ يُلْحَقَ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فَخَطَّأٌ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلٌ مِنَ الْأَطْرَافِ الْفَانِيَةِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ النَّفْسِ الْبَاقِيَةِ كَالْحُرِّ الَّذِي تُؤْخَذُ دِيَاتُ أَطْرَافِهِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ بدل ومبدل. وأما الحالة الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا. فَصُورَتُهَا أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَيَقْطَعُ يَدَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ قَاطِعِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْغَاصِبُ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَطَعَهَا الْغَاصِبُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْيَدِ أَوْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مَضْمُونَةٌ فِي الْجِنَايَةِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَفِي الْغَصْبِ بِمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالْغَصْبِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ لَضَمِنَ جَمِيعَ نِصْفِهِ، فَإِذَا صَارَ مَعَ الْغَصْبِ جَانِيًا فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا صَارَ مَعَ الْجِنَايَةِ غاصباً فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا صَارَ مَعَ الْجِنَايَةِ غَاصِبًا فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهُ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرُ الْغَاصِبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَكْثَرِ الأخرين مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَوْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْجَانِي ضَمَانَ الْجِنَايَةِ دُونَ الْغَصْبِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْجَانِي أَوِ الْغَاصِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَكُونُ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَطْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ النِّصْفَ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعِ الْجَانِي بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وإن رجع بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْجَانِي عَلَى الْغَاصِبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْغَصْبِ أَكْثَرَ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ مِثْلَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ الثُّلُثَانِ فَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ وَهُوَ ضَمَانُ الْغَصْبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 وَرَجَعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَهُوَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَإِنْ أراد الرُّجُوعُ عَلَى الْجَانِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ وَرَجَعَ بِالسُّدُسِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغَصْبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِاخْتِصَاصِهِ بِضَمَانِهِ دُونَ الْجَانِي فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ لِعَبْدِهِ لِكَوْنِ الْجَانِي عَبْدًا فَاقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ قَوَدًا بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لِاسْتِيفَاءِ السَّيِّدِ لَهُ بِالْقِصَاصِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ السدس الزائد بِضَمَانِ الْغَصْبِ فَيَرْجِعُ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةَ عَمْدٍ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ لِمَا يَسْتَوْفِي مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي يَدِهِ وَسَوَاءٌ اسْتَوْفَى ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ فِي يَدِ سَيِّدِهِ لأنه يصير بالجناية مستحقاً في يَدِ سَيِّدِهِ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى غَاصِبِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَعْفُو وَحَالَةٌ يَسْتَوْفِي فَإِنْ عَفَا خَلَصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ جِنَايَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَرْشِهَا لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لِغَيْرِهِ فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ وَإِنِ اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عليه حقه ولم يعفوا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ قَوَدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ غُرْمًا فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ قَوَدًا ضَمِنَ الْغَاصِبُ مَا أَخَذَ بِالْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِهِ ضَمِنَ قَدْرَ نَقْصِهِ سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ مِمَّا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الدِّيَةُ أَوْ لَا. لِأَنَّ الطَّرَفَ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ دُونَ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالنَّقْصِ دُونَ الْقَدْرِ وَإِنِ اسْتَوْفَاهُ غُرْمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَادَ إِلَى يَدِ السَّيِّدِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو أَرْشُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيمَتِهِ كَانَ الْغَاصِبُ مَأْخُوذًا بِغُرْمِهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِيَخْلُصَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَلَا مَعْنَى لِبَيْعِهِ فِي الْجِنَايَةِ ثُمَّ غُرْمِ قِيمَتِهِ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّ إِمْكَانَ رَدِّهِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ السَّيِّدِ لِقِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَفِي قَدْرِ مَا يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِغُرْمِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّيِّدِ إِذَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْجَانِي هَلْ يَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَتِهِ أَوْ جَمِيعُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِفِكَاكِ الْعَبْدِ فَصَارَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهِ ببدل الجناية فكان عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِغُرْمِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ وَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سِوَاهَا وَيَخْلُصُ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الغاصب مأخوذ بغرم جميع الأرش وإن كانت قيماً ليخلص العبد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 لِسَيِّدِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ عَادَ إِلَى يَدِ سَيِّدِهِ فَلَا مُطَالَبَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الغاصب بأرش الجناية لأنه حق لغير وَلَا مُطَالَبَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ أَرْشَ جِنَايَتِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِفِكَاكِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ سَبَقَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِلَى بَيْعِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ أقل من أرش جنايته وعل الْغَاصِبِ أَنْ يَغْرَمَ لِلسَّيِّدِ قِيمَتَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِبَيْعِ الْحَاكِمِ لَهُ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْهُ النُّزُولُ عَنْهُ. فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ لَمْ يُفْدَ مِنْهَا فَاسْتُوفِيَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُسْتَوْفَى غُرْمًا أَوْ قَوَدًا فَإِنِ اسْتُوفِيَتْ غُرْمًا بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ يَدِ السَّيِّدِ فَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَإِنِ اسْتُوفِيَتْ قَوَدًا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي طَرَفٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ وَكَانَ الْقَوَدُ مِنْهُ كَقَبْضِ السَّيِّدِ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفٍ سَقَطَ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِهِ الْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ فِي طَرَفِهِ لِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ شَرْعًا بِمُقَدَّرٍ فِيهِ فَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُقَدَّرِ ضَمِنَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مِثَالُهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ الْمُقَدَّرِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَتَنْقُصُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ فَيَلْزَمُ إِذَا رَدَّهُ أَنْ يَغْرَمَ سُدُسَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ نَقْصٍ حَدَثَتْ فِي يَدِهِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ قَدْ جَنَى فِي يَدِ سَيِّدِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ثُمَّ جَنَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَصَارَتِ الْجِنَايَتَانِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُمَا ضِعْفُ قِيمَتِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الرَّقَبَةِ وَيَصِيرُ حَقٌّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ حُكْمًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الثَّانِي فِي يَدِ الْغَاصِبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ وَخَلَاصُهُ بِهِ وَفِي قَدْرِ مَا يُخَلِّصُهُ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: جَمِيعُ الْأَرْشِ وَهُوَ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَالنِّصْفُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فِي يَدِ السَّيِّدِ لَيْسَ يُلْزَمُ خَلَاصَهُ فَإِنْ سَلِمَ العبد من جناية الثاني بإفتاك الْغَاصِبِ لَهُ سَلِمَ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ بِخَلَاصِهِ مِنْ جِنَايَةِ الثَّانِي مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَرْشِهِ مِنْ كُلِّ رقبته والغاصب برئ منها فيتوصل بالجنايتان بِالْغَصْبِ إِلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْأَرْشَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَوْلَاهُ لَوُكِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى نِصْفِ حَقِّهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا بِالْأَرْشَيْنِ فِي رَقَبَتِهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَكَانَتْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يَغْرَمَ لِلسَّيِّدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ الثَّانِي مِنْهَا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَخْذِهِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْجِنَايَةَ فِي رَقَبَتِهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِذَا اسْتَحَقَّ لِلْأَوَّلِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ لَا مِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيَتَوَصَّلُ الْأَوَّلُ لِمَوْتِهِ مَغْصُوبًا إِلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ أَرْشِهِ دُونَ الثَّانِي. فَصْلٌ : وَإِذَا قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ قَبْضًا وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ كَانَ اسْتِيفَاءً لِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مَنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَقَلِّهَا مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْقَطْعِ ثُلُثُهَا أَخَذَ الْغَاصِبُ بَعْدَ رَدِّهِ مَقْطُوعًا بِغُرْمِ السُّدُسِ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ زَائِدٌ فِي يَدِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ كَانَ عِتْقُهُ قَبْضًا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِهِ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَبْرَأْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَيَبْرَأُ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يُبَرِّئْهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فيبرأ بالعتق وكذلك أو الْوَلَدِ إِذَا غُصِبَتْ ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ بَرأَ الْغَاصِبُ. فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ فَمَثَّلَ بِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ هَدْرًا وَقَالَ مَالِكٌ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمثْلة اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من مثل بعبده عتق عليه "، قالوا وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ مُنِعَ مَا كَانَ لَهُ كَالْقَاتِلِ لِمُوَرِّثِهِ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُؤْلِمَةَ لَا تُوجِبُ الْعِتْقَ كَالضَّرْبِ. وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَا تَبِينُ بِهَا الزَّوْجَةُ لَا يُعْتَقُ بِهَا الْعَبْدُ كَالَّتِي لَا مُثْلَةَ فِيهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ لَا يَزُولُ بِجِنَايَةٍ لَا مُثْلَةَ فِيهَا لَمْ يَزُلْ بِجِنَايَةٍ فِيهَا مُثْلَةٌ كَالزَّوْجَيْنِ. وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ إِمَّا غُرْمًا وَإِمَّا قَوَدًا وَلَيْسَ الْعِتْقُ واحد مِنْهُمَا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَعَ ضَعْفِ طَرِيقِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّغْلِيظُ وَالزَّجْرُ كَمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِالْمُثْلَةِ فَيُعْتَقُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِعْلَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ مَنَعَ مَا كَانَ لَهُ فَفَاسِدٌ بِمَا لَا مُثْلَةَ فِيهِ مِنَ الْجِرَاحِ. فَصْلٌ : فَإِذَا غَصَبَ حُرًّا صَغِيرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ لَسَعَتْهُ حَيَّةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ لَسَعَتْهُ حَيَّةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دِيَتِهِ. وَهَذَا خطأ لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 الْحُرَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ كَالْكَبِيرِ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُضْمَنْ بِالْمَوْتِ كَبِيرًا لَمْ يُضْمَنْ بِهِ صغيراً كالميت حتف أنفه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ بتعليمٍ مِنْهُ أَوْ لسمنٍ واعتناءٍ مِنْ مَالِهِ حَتَى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَا ثُمَّ نَقَصَتْ حتى صارت تساوي مائةً فإنه يَأْخُذُهَا وتسعمائةٍ مَعَهَا كَمَا تَكُونُ لَهُ لَوْ غَصَبَهُ إِيَّاهَا وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَا فَنَقَصَتْ تسعمائةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْصِبَهَا زَائِدَةً فَتَنْقُصُ ثُمَّ تَزِيدُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَغْصِبَهَا نَاقِصَةً فَتَزِيدُ ثُمَّ تَنْقُصُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهَا فِيمَنْ غَصَبَ أَمَةً تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ بِبُرْءٍ أَوْ سِمَنٍ أَوْ تَعْلِيمِ قُرْآنٍ أَوْ خَطٍّ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ نَقَصَتْ وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا حِينَ غُصِبَتْ لِعَوْدِ الْمَرَضِ وَالْهُزَالِ وَنِسْيَانِ مَا عَلِمَتْ مِنَ الْخَطّ وَالْقُرْآنِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا تِسْعَمِائَةٍ لِنَقْصِ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَرُدُّهَا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِنَقْصِ مَا زَادَ فِي يَدِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَدَّ الْمَغْصُوبَ كَمَا أَخَذَهُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ غُرْمٌ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ لَمْ تَحْدُثِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِهِ. قَالَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ زِيَادَةُ السُّوقِ وَزِيَادَةُ الْعَيْنِ فَلَمَّا كَانَتْ زِيَادَةُ السُّوقِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا نَقَصَتْ كَانَتْ زِيَادَةُ الْعَيْنِ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا نَقَصَتْ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنَهَا مَعَ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ قِيَاسًا عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ طَرْدًا وَعَلَى تَلَفِ الْمَغْصُوبِ عَكْسًا وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِيمَا غُصِبَ بِالْيَدِ دُونَ مَا لَمْ يُغْصَبْ وَإِنْ صَارَتْ تَحْتَ الْيَدِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ شَاةً دَخَلَتْ دَارَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنْ صَارَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَهَكَذَا لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ثُوبَا إِلَى دَارِهِ لِحُصُولِ ذَلِكَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي يَدِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهُ نَقْصُ عَيْنٍ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى نَقْصِهَا عَنْ حَالِ غَصْبِهَا بِأَنْ يَغْصِبَهَا صَحِيحَةً فَتَمْرَضُ أَوْ سَمِينَةً فَتَهْزِلُ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ بِهَا ضَمِنَ نَقْصَهَا. كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا وَيُحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ ضُمِنَتْ بِالْغَصْبِ ضُمِنَ مَا تَلِفَ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي الْغَصْبِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ ضَمِنَهَا الْغَاصِبُ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ضَمِنَهَا وَإِنْ تَلِفَتْ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 يَدِ نَفْسِهِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِهَا بِجِنَايَتِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ بِجِنَايَتِهِ فَضَمَانُهُ لَازِمٌ، وَإِنْ تَلْفِتْ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ كَالْأَصْلِ. وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ أَصْلُهُ بِالتَّعَدِّي ضُمِنَتْ زِيَادَتُهُ فِي حَالِ التَّعَدِّي قِيَاسًا عَلَى الصَّيْدِ إِذَا زَادَ فِي يَدِ الْمُحْرِمِ ثُمَّ نَقَصَ فَإِنَّ أبا حنيفة يوافق على ضمان نقصه. فالجواب عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا لَمْ يُرَدَّ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ رَدَّهُ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُهُ بِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ التَّابِعَةِ لِلْأَصْلِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لم يضمنها إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَمَّا ضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ضَمِنَهَا إِذَا نَقَصَتْ فِي يَدِ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتِ الْغَصْبِ لَمْ يَضْمَنْهَا إِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ وَلَمَّا ضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْغَصْبِ ضَمِنَهَا إِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ زِيَادَةِ السُّوقِ وَالْعَيْنِ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ عَلَى زِيَادَةِ الْعَيْنِ يَدًا وَلَيْسَ لَهُ عَلَى زِيَادَةِ السُّوقِ يَدٌ فَضَمِنَ زِيَادَةَ الْعَيْنِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا وَلَمْ يَضْمَنْ زِيَادَةَ السُّوقِ لِارْتِفَاعِ يَدِهِ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ زِيَادَةَ الْعَيْنِ يَكُونُ فَوَاتُهَا نَقْصًا مَضْمُونًا لِمَنْعِ الْمُشْتَرِي بِهَا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَزِيَادَةُ السُّوقِ لَا يَكُونُ فَوَاتُهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ نَقْصًا مَضْمُونًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوِ ابْتَاعَ جارية تساوي ألفاً فنقصت فيمتها بِالسُّوقِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ رَدِّهَا بِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِدُخُولِ الشَّاةِ إِلَى دَارِهِ وَإِطَارَةِ الرِّيحِ ثَوْبًا إِلَيْهَا فَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِحُصُولِهَا فِي دَارِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ كَالْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِتَرْكِ إِعْلَامِهِ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ وَإِنْ أَعْلَمَهُ لَمْ يَضْمَنْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ فَضَمِنَهَا وَصَاحِبُ الدَّارِ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الشَّاةِ وَالثَّوْبِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْهَا بَعْدَ الطَّلَبِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَغْصِبَهَا زَائِدَةً فَتَنْقُصُ ثُمَّ تَزِيدُ فَصُورَتُهُ فِيمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا لِصِحَّتِهَا فَتَمْرَضُ حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأَ فَتَزِيدُ بِالْبُرْءِ حَتَّى تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ تُسْتَرَدُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 جِنْسَيْنِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَغْصِبَهَا مَرِيضَةً تُسَاوِي أَلْفًا فَيَذْهَبُ عَيْنُهَا حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ مِنْ مَرَضِهَا حَتَّى تُسَاوِي أَلِفًا فَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّهَا أَنْ يَرُدَّ مَعَهَا تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْصَ الْعَمَى وَلَا يَكُونُ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ بِبُرْءِ الْمَرَضِ مُسْقِطًا لِغُرْمِ النَّقْصِ بِالْعَمَى وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ لِأَنَّهَا كَاتِبَةٌ تُحْسِنُ الْخَطَّ فَنَسِيَتْهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَعَلَّمَتِ الْقُرْآنَ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ تَعَلُّمِهِ أَلْفًا رَدَّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ مَعَهَا وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِنِسْيَانِ الْكِتَابَةِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ تُسَاوِي عِنْدَ غَصْبِهَا أَلْفًا فَمَرِضَتْ حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ زَادَتِ السُّوقُ فَصَارَتْ تُسَاوِي مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ أَلْفًا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا نَقْصَ الْمَرَضِ تسعمائة. وإذا كَانَتِ الزِّيَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَمِثَالُهُ أَنْ يَغْصِبَهَا وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ لِسَلَامَتِهَا فَتَذْهَبُ عَيْنُهَا حَتَّى تُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ عَيْنُهَا فَتُسَاوِي بَعْدَ بُرْئِهَا أَلْفًا وَيَحْدُثُ بِهَا مَرَضٌ حَتَّى تُسَاوِي قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى تَعُودَ قِيمَتُهَا فَتَصِيرُ أَلْفًا أَوْ تَكُونُ قِيمَتُهَا أَلْفًا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَتَنْسَاهُ فَتَصِيرُ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ تَحْفَظُهُ فَتَصِيرُ قِيمَتُهَا أَلْفًا فَفِي ضَمَانِ النَّقْصِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ لأن ضمان الزيادة لَمْ يَفُتِ اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ جَنَى عَلَى عَيْنِ رَجُلٍ فَابْيَضَّتْ فَأَخَذَ دِيَتَهَا ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ أَنَّهُ يَرُدُّ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ لِارْتِفَاعِ النَّقْصِ بِحُدُوثِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ فَيَرُدُّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ مَعَهَا وَوجهُهُ أَنَّ حُدُوثَ النَّقْصِ قَدْ أَوْجَبَ ثُبُوتَ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ فَمَا طَرَأَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْبُرْءِ فَحَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ مَا قَدْ مَلَكَهُ مِنَ الْغُرْمِ وَلَيْسَ كَبَيَاضِ الْعَيْنِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْفِعْلِ، وَالْغَصْبُ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ فَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ بُرْئِهَا ضَمِنَ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَلْفًا هِيَ قِيمَتُهَا وَعَلَى مذهب أبي سعيد الإصخطري يَضْمَنُ أَلْفًا وَتِسْعَمِائَةٍ. أَمَّا التِّسْعُمِائَةِ فَينقصهَا وَأَمَّا الْأَلْفُ فَقِيمَتُهَا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا إِذَا غَصَبَهَا وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا فَمَرِضَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ثُمَّ بَرِئَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا ثُمَّ مَرِضَتْ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ يَرُدُّهَا وَتِسْعَمِائَةٍ نَقْصَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ يَرُدُّ مَعَهَا أَلْفًا وثمان مائة نَقْصَهَا مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ عَادَ نَقْصُهَا مِائَةَ مَرَّةٍ ضَمِنَ مِائَةَ نَقْصٍ فَلَوْ عَادَتْ بَعْدَ النَّقْصِ الثَّانِي إِلَى الْبُرْءِ ثُمَّ رَدَّهَا لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ شَيْءٌ وَلَزِمَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ غَرِمَ نَقْصَيْنِ. فَصْلٌ : وإذا غصب عبداً ثميناً يُسَاوِي أَلْفًا فَأَهْزَلَهُ حَتَّى ذَهَبَ سِمَنُهُ وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَلَوْ خَصَاهُ فَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ ضَمِنَ الْقِيمَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهُزَالَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 بِالْأَرْشِ وَلَا بِالنَّقْصِ فَإِذَا لَمْ يَنْقُصْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ وَالْخِصَاءُ مُقَدَّرٌ بِالْقِيمَةِ إِذَا نَقَصَ لَزِمَهُ مَا تَقَدَّرَ مِنَ الْقِيمَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتِ السُّوقُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ نِصْفِ الْأَلْفِ لِأَنَّ زِيَادَةَ السُّوقِ مَضْمُونَةٌ مَعَ فَوَاتِ الْعَيْنِ وَهُوَ مُفَوِّتٌ بِقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفَ الْعَيْنِ فَيَضْمَنُ النِّصْفَ بِزِيَادَةِ السُّوقِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْغَصْبِ أَلْفًا ثُمَّ نَقَصَتِ السُّوقُ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً ثُمَّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ ضَمِنَ خَمْسَمِائَةٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَعْلِيلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْحُكْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَصْبَ مَضْمُونٌ بِأَكْثَرِ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سُوقًا وَبَدَنًا مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً سَقَطَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي السُّوقِ وَلَزِمَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَزِمَ ضَمَانُ نَقْصِهَا فِي السُّوقِ وَالْبَدَنِ وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْبَدَنِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ وَبَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَلَفِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَمَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ. فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كضمان الغصب بأكثر ما كان قيمة لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ لِبَقَاءِ الْمَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً مَعَ الْأَصْلِ كَالْغَصْبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونَةً لِأَنَّ الْبَائِعَ أَبَاحَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ. إِمَّا حَمْلُهُ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ دُونَ صِفَتِهِ. وَإِمَّا حَمْلُهُ عَلَى ضَمَانِ الْأُجْرَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحَّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْوَجْهِ الثَّانِي بِإِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ يَفْسَدُ بِالْمَنَافِعِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْأُجْرَةَ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فِي وَلَدِهَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْغَصْبِ كَالْحُكْمِ في بدنها ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْغَصْبِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ سَوَاءٌ كَانَ الْغَصْبُ حَمْلًا أَوْ حَادِثًا إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَيَضْمَنُ بِالْمَنْعِ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذُكِرَ فِي زِيَادَةِ الْبَدَنِ، فِي أَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ كَالرِّيحِ إِذَا أَطَارَتْ ثَوْبًا وَالشَّاةِ إِذَا دَخَلَتْ لَهُ دَارًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَالْأُمِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَاهُ لَقُبِلَ قوله لمكان يده فوجب أن يكون ضامن لَهُ بِالْيَدِ كَأُمِّهِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِ الصَّيْدِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَلَدُ الْغَصْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا ضُمِنَتْ بِهِ الْأُمُّ مِنَ التَّعَدِّي ضُمِنَ بِهِ الْوَلَدُ كَالصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ وَلَدُ الصَّيْدِ ضُمِنَ بِهِ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ كَمَا لَوْ مُنِعَ، وَلِأَنَّ أبا حنيفة يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا وَقْتَ الْغَصْبِ مَضْمُونًا أَوْ مَغْصُوبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَصْلٍ مَضْمُونٍ بِالتَّعَدِّي فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَمَغْصُوبًا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ. وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمَغْصُوبِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كَالسِّمَنِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْجِنَايَةِ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ كَالْمُنْفَصِلِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ خَارِجَ وِعَائِهِ، صَحَّ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ فِي وِعَائِهِ كَالدِّرْهَمِ فِي كِيسٍ وَالْحُلِيِّ فِي حُقٍّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِدُخُولِ الشَّاةِ إِلَى دَارِهِ وَالثَّوْبِ إِذَا أَطَارَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهَا فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يَكُنْ ضَمَانًا وَيَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مُتَعَدِّيًا فَكَانَ ضَامِنًا. أَلَا تَرَى أَنَّ دُخُولَ الصَّيْدِ إِلَى دَارِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَوِلَادَةُ الصَّيْدِ فِي يَدِهِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِتَعَدِّيهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ فَسَوَاءٌ تَلِفَ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ أَوْ قَبْلَ إِمْكَانِهِ فَضَمَانُ قِيمَتِهِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ أُمِّهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا لِغَيْرِ الْحَمْلِ ضَمِنَهُ مَعَ قيمة الولد وإن كان نقصها لأجل الحمل لم يضمنها مَعًا لِأَنَّ ضَمَانَ وَلَدِهَا هو ضَمَانٌ لِحَمْلِهَا فَكَانَ ضَامِنًا لِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَقْصِ الْحَمْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ فللولد ثلاثة أحوال يُضْمَنُ فِيهَا، وَحَالٌ لَا يُضْمَنُ فِيهَا، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. فَأَمَّا حَالُ الضَّمَانِ فَفِي الْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ وَالْإِحْرَامِ فَإِنَّ ضَمَانَ الْوَلَدِ فِيهَا وَاجِبٌ كَالْأُمِّ. وَأَمَّا حَالُ سُقُوطِ الضَّمَانِ فَفِي الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ. وَالْوَدِيعَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمُسْتَأْجَرَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 وَالْمَرْهُونَةِ وَالْمُودَعَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْأُمِّ. فَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَفِي الْعَارِيَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَفِي ضمان الولد فيها وجها مبينان عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِ الْأُمِّ فِي الْعَارِيَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ هَلْ هُوَ مَضْمُونُ ضَمَانَ غَصْبٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَمَانُ غَصْبٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ مَضْمُونًا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ نَقْصِ الْحَمْلِ كَالْغَصْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونَ ضَمَان عَقْدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ غَيْرَ مَضْمُونٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَفِي رِبْحِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَيُذْكَرُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ الْقِرَاضِ فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ شَيْئًا فَصَادَ بِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ آلَةً كَالشَّبَكَةِ وَالْقَوْسِ فَالصَّيْدُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْآلَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَالصَّيْدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ لِسَيِّدِهِ وَهَلْ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَتُهُ فِي مُدَّةِ صَيْدِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ. وَالثَّانِي: لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ صَارَ إِلَى مَنَافِعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جَارِحًا كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَفِي الصَّيْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ الْمُرْسِلُ فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ. وَهَلْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْكَلْبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِلْمَالِكِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ أُجْرَةُ ذَلِكَ فِي زَمَانِ صَيْدِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ بَاعَهَا الْغَاصِبُ فَأَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا الْمَغْصُوبُ أُخِذَ مِنَ الْمُشْتَرِي مَهْرُهَا وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةَ وَأَخَذَهَا إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ أَوْلَادِهَا يَوْمَ سَقَطُوا أَحْيَاءً وَلَا يرجع عليه بِقِيمَةِ مَنْ سَقَطَ مَيِّتًا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الغاصب بجميع ما منه مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَلَا أَرُدُّهُ بِالْمَهْرِ لِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ يُتْلِفُهُ فَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 يُرْجَعُ بِغُرْمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ هُوَ الَّذِي أَوْلَدَهَا أَخَذَهَا وَمَا نَقَصَهَا وَمَهْرَ مِثْلِهَا وَجَمِيعَ وَلَدِهَا وَقِيمَةَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَأْتِ بشبهةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَقَدَّمَهَا الْمُزَنِيُّ: وَالثَّانِيَةُ: فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ فَأَخَّرَهَا الْمُزَنِيُّ وَتَقْدِيمُهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ لِوَطْءِ المشتري فإذا وطء الْغَاصِبُ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أحر أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ أَوْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شبهة ووطئها عالماً بتحريم الزنا وإن وطء الْمَغْصُوبَةِ زِنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِكَوْنِهِ زَانِيًا وَالْوَلَدُ إن جاءت به مملوك ولا يحلق به لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَضْمُونًا بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَمَا يَضْمَنُهُ بِالْجِنَايَةِ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيمَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّنَا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ حَيَاةً مُتَيَقِّنَةً حَتَّى يُضْمَنَ بِالتَّلَفِ وَيَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ مُبَاشَرَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْغَصْبِ مُبَاشَرَةً يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا، أَلَا تَرَى لَوْ غَصَبَ حُرًّا فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ ضَمِنَ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيمَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا إِذَا عَلِمَ مَوْتَهُ بَعْدَ حَيَاتِهِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَا تَخْلُو الْأَمَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطَاوِعَةً أَوْ مُسْتَكْرَهَةً فَإِنْ كانت مستكرهة وجب المهر عليها وسقط الحد عنها وإن كانت مطاوعة حد وَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إنَّ الْمَهْرَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَمَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْقَاطِعِ دِيَتُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُ جمهور أصحابه أنه لا مه لها عليه لأنها بالمطاوعة تكون بغي وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَخَالَفَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ مِنْهَا لِأَنَّ الْقَطْعَ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى بَدَنِهَا وَقِيمَتِهَا وَلَيْسَ الْوَطْءُ نَقْصٌ فِي بَدَنِهَا وَلَا قِيمَتِهَا، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا بِالِافْتِضَاضِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ جُزْءٍ مِنْهَا وَهَكَذَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ فَإِنْ تطاول زمان غصبها حتى يكون لمثله أُجْرَةٌ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا لِأَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبَةِ مَضْمُونَةٌ فَإِنْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُمَا قَدْ دَخَلَا فِي ضمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 أَكْثَرِ الْقِيَمِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ الْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ مَنْفَعَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقِيمَةِ وَلَوْ سَلَّمَهَا الْغَاصِبُ إِلَى رَبِّهَا حَامِلًا فَمَاتَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا بِالتَّسْلِيمِ وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ وِلَادَتِهَا فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الزَّانِي بِالْحُرَّةِ إِذَا مَاتَتْ فِي وِلَادَتِهَا مِنْ زِنًا فَهَلْ يَضْمَنُ دِيَتَهَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا وَدِيَةِ الْحُرَّةِ لِمَوْتِهَا بِسَبَبٍ مِنْهُ هُوَ مُتَعَدِّيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةٍ وَلَا دِيَةٍ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهُ بنفيه عنه قاقتضى أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهُ مِنْ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ فَأَمَّا إِنْ مَاتَ وَلَدُهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ دُونَهَا لَمْ يَضْمَنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ وَطْأَهُ إِيَّاهَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِ مَنْ تَلِدُهُ مِنْهُ وَلَكِنْ لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِوِلَادَتِهِ كَانَ فِي ضَمَانِهِ لِنَقْصِهِ قَوْلَانِ كَالْمَوْتِ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ الْحَدُّ، وَنَفْيُ النَّسَبِ، وَرِقُّ الْأَوْلَادِ، وَضَمَانُهُمْ بِالتَّلَفِ، وَالْمَهْرُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ، وَضَمَانُ قِيمَتِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَالشُّبْهَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْجَهْلُ بِتَحْرِيمِ الْمَغْصُوبَةِ لِحُدُوثِ إِسْلَامِهِ أَوْ مُقَامِهِ فِي بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنِ الْأَمْصَارِ وَالثَّانِي: الْجَهْلُ بِعَيْنِهَا وَظَنُّهُ أَنَّهَا أَمَةٌ يَمْلِكُهَا. وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَصُّ بِمَالِكِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ أَمَةً لِوَلَدِهِ أَوْ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَّا نِصْفَهَا فَإِذَا وَطَأَ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الشُّبَهِ الثَّلَاثِ سَقَطَ الْحَدُّ عنه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادرأوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَوَلَدُهَا لَاحِقٌ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ جَعَلَهَا فِرَاشًا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول الولد للفراش ويكونوا أَحْرَارًا لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ سَقَطُوا لِأَنَّهُ لَوْلَا شُبْهَتُهُ لَرَقُّوا فصار بالشبهة مستهلك لِرِقِّهِمْ فَضَمِنَ قِيمَتَهُمْ يَوْمَ الْوَضْعِ وَالْوِلَادَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ رِقٌّ بَعْدَ الرُّجُوعِ بَلْ عَلِقَتْ بِهِمْ أَحْرَارًا وَلَكِنْ لِتَعَذُّرِ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْعُلُوقِ اعْتَبَرْنَاهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَالْوَضْعِ فَأَمَّا مَنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا فَلَا قِيمَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ مَيِّتًا مِنْ زِنًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ مَعَ الشُّبْهَةِ حُرٌّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ حَتَّى يُعْلَمَ سَبَبُ ضَمَانِهِ بِغَيْرِ الْيَدِ وَهُوَ فِي الزِّنَا مَمْلُوكٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَوْ ضَرَبَ أَجْنَبِيٌّ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الضَّارِبِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ لِأَنَّهُ جَنِينٌ حُرٌّ وَالْغُرَّةُ لِلْوَاطِئِ لِأَنَّهُ أَبٌ وَعَلَى الْوَاطِئِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ الْمُسْتَحَقُّ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ فَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ مِثْلَ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَخَذَهَا السَّيِّدُ إِلَّا أَنْ يَفْتَدِيَهَا الْوَاطِئُ بِعُشْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ أَكْبَرَ مِنْ عُشْرِ الْقِيمَةِ أَخَذَ الْوَاطِئُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعُشْرِ أَرْشًا بالأبوة وإن كانت أقل غرم تكملة عُشْرِ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْمَهْرُ وَالْأُجْرَةُ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ فَعَلَى مَا مَضَى مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَةِ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ، وَالْأُجْرَةُ وَالنَّقْصُ مَضْمُونَانِ بِالْيَدِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فيها الشُّبْهَةُ. وَقَالَ أبو حنيفة: نَقْصُ الْوِلَادَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِيمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ نَقْصُ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ ضُمِنَتْ بِالتَّلَفِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا بِالْوَضْعِ والولادة ظمن قِيمَتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَوْتِهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ وَطْءٍ غَيْرِ الشُّبْهَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الشُّبْهَةِ لَاحِقٌ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ تَلَفِهَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْغَاصِبِ حَتَّى يَحْدُثَ بِهِ التَّلَفُ فَضَمِنَهُ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ فَانْقَطَعَ النَّسَبُ عَنْهُ قَبْلَ التَّلَفِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْغَاصِبِ فِي الْحَالَتَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ بِإِجَارَةٍ مِنْ بَعْدُ فَإِذَا وَطِئَهَا فَحُكْمُ وَطْئِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْحُكْمِ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شُبْهَةٌ فَهُوَ كالغاصب إذا وطأ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَاسْتِرْقَاقِ الْوَلَدِ وَضَمَانِ الْمَهْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَأُجْرَةِ الْمُدَّةِ وَقِيمَتِهَا وَقِيمَةِ أَوْلَادِهِ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ ثُمَّ السَّيِّدُ مُخَيَّرٌ فِي الرُّجُوعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ المشتري، لأن كل واحد منهما ضامناً بِالْيَدِ فَإِنْ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ شُبْهَةِ الْمُشْتَرِي تَكُونُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ وَهُوَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ غَاصِبٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِغُرْمِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ وَإِنْ رجع السيد بذلك على الغاصب بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ قَدْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَيَخْتَصُّ بِغُرْمِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْهَا قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا غَرِمَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ مَا قَبَضَ مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ جِنْسَيْنِ تَقَابَضَا وَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِمُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ فَذَاكَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَقَابَضَاهُ فإن كان فضل تراجعا. فصل : وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي شُبْهَةٌ وَهِيَ الشُّبَهُ الثَّلَاثُ فِي الْغَاصِبِ مَعَ شُبْهَةٍ رَابِعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ الْغَاصِبِ وَهِيَ جَهْلُهُ بِأَنَّ الْأَمَةَ غَصْبٌ ثُمَّ حُكْمُهُ فِيمَا يَجِبُ بِوَطْئِهِ فِي حَالِ الشُّبْهَةِ كَالْغَاصِبِ إِذَا وَطِئَ بِشُبْهَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ في ضمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 قِيمَتِهَا يَلْتَزِمُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْقَبْضِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ حَدَثَ بِهَا نَقْصٌ قَبْلَ قَبْضِهَا أَوْ حَدَثَ بِهَا زِيَادَةٌ بَعْدَ قَبْضِهِ اخْتَصَّ الْغَاصِبُ بِتَحَمُّلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ وَلَا يَضْمَنُ النَّقْصَ الْحَادِثَ قَبْلَ قَبْضِهِ وَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا غَيْرَ ضَامِنٍ لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرَ ضَامِنٍ وَقَدْ رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَضْمَنُهَا وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ، وَيَكُونُ مَا لَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ فَضْلِ الْقِيمَةِ مَرْجُوعًا بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْغَصْبِ انْقَسَمَ مَا غَرِمَهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَقِسْمٌ يَرْجِعُ بِهِ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي الرُّجُوعِ بِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَرْجِعُ بِهِ فَهُوَ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَرْشُ الْبَكَارَةِ وَنَقْصُ الْوِلَادَةِ وَقِيمَتُهَا إِنْ مَاتَتْ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْتِزَامِ تَحَمُّلِهَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ فَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ وَذَلِكَ قِيمَةُ الْأَوْلَادِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهُمْ وَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَتِهِمْ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ وَذَلِكَ شَيْئَانِ الْمَهْرُ وَالْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وهما مما تصح المعاوضة عليها ففي رجوعه بها عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بها عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ عَادَ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَرْجِعُ بِهِمَا عَلَيْهِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ غُرْمٌ اسْتَحَقَّ بِفِعْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْغَاصِبَ مُتَسَبِّبٌ وَالْمُشْتَرِي مُبَاشِرٌ وَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُشْتَرِي، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ غَرِمَهُ مَعَ عِلْمِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 بِالْغَصْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَكَمَا غَرِمَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا غَرِمَهُ الْغَاصِبُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَعَلَى هَذَا لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبَكَارَةِ وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ وَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِمْ. وَهَلْ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الجديد. فصل : فلو كان الغاصب قد وطأها قبل البيع ثم وطأها الْمُشْتَرِي بَعْدَ الشِّرَاءِ تَعَلَّقَ بِوَطْءِ الْغَاصِبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي انْفِرَادِهِ بِوَطْئِهَا وَتَعَلَّقَ بِوَطْءِ الْمُشْتَرِي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي انْفِرَادِهِ بِوَطْئِهَا وَكَانَ مَا لَزِمَ الْغَاصِبَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَقَدُّمِهِ عَلَى يَدَيْهِ وَيَرْجِعُ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ وحده، وكان ما لزم المشتري مضمون عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَ يَدِهِ وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ فِي الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ثُمَّ التَّرَاجُعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَصْلٌ : فَأَمَّا كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ مِنَ الْغَاصِبِ أَوِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الشُّبْهَةِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ وَلَا إِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ قبل أن يملكها. وقال المزني تصير أو وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْغَاصِبِ لِشُبْهَتِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ وَتَقُومُ عَلَيْهِ وَلَا تَرْتَجِعُ مِنْهُ لِلُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ فِي شِبْهِ مِلْكٍ فَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ في إحبال الأمة المشتركة يوجب تقديم حِصَّةِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَلَدَهَا قَدْ يَلْحَقُ بِالْغَاصِبِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَا يَلْحَقُ بِالْمُشْتَرِي مَعَ الشُّبْهَةِ ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَقْوِيمَهَا عَلَى الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَقْوِيمَهَا عَلَى الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ قَوْلًا مَعَ جَوَازِ أَمْرِهِ لَمْ يَنْفُذْ فِعْلًا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَكَذَلِكَ إِذَا أَحْبَلَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدِهِ فَلِهَذَيْنِ مَا قُلْنَا إِنَّهَا عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَا تُقَوَّمُ عَلَى مَنْ حَبِلَتْ مِنْهُ فَإِنْ مَلِكَهَا الْمُحَبِّلُ لَهَا فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِحْبَالِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إِحْبَالٌ فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ. وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا فأَبْلَاهُ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا يَوْمَ غَصْبِهِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ وَقَدْ أَبْلَاهُ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَ وَلَسْتُ أَنْظُرُ فِي الْقِيمَةِ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى تغير الأبدان ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي إِبْلَاءِ الْغَاصِبِ لَهُ. وَالثَّانِي: فِي إِبْلَاءِ الْمُشْتَرِي فَبَدَأَ بِالْغَاصِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي غَصَبَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَبْلَى فِي يَدِهِ وَلَا تَمْضِي عَلَيْهِ مُدَّةٌ يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَاهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ وَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّهُ وَيَرُدُّ مَعَهُ أَرْشَ الْبِلَى لَا غَيْرَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَبْلَى وَلَكِنْ قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةً يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَذَا يَرُدُّهُ وَيَرُدُّ مَعَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ لَا غَيْرَ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَبْلَى وَتَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةً يَكُونُ لَهَا أُجْرَةٌ فَهَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الأرش والأجرة أم لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَجِبَانِ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا لِأَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَجْزَاءِ وَالْأُجْرَةَ تَجِبُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَنْفَعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَرْشِ وَالْأُجْرَةِ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْأَجْزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُجْرَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَضْمَنُ أَرْشَ الْبِلَى لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ ضَمِنَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَمَضَتْ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مُدَّةٌ هُزِلَ فِيهَا بَدَنُهُ وَذَهَبَ فِيهَا سِمَنُهُ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ مَعَ أَرْشِ الْهُزَالِ وَجْهًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّوْبِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الثَّوْبِ مُوجِبٌ لَبَلَاهُ وَلَيْسَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ مُوجِبًا لِهُزَالِهِ والله أعلم. فأما الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ مِنَ الْأَرْشِ وَالْأُجْرَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَأَرْشُ الْبِلَى مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ لَا مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَاهُنَا أَخَذَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا يَوْمَ غَصْبِهِ وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ وَقَدْ أُبْلِي فَلَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالْبَيْعَ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ يَوْمَ الْغَصْبِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ تَأْوِيلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ أَيْ مِنْ يَوْمِ صَارَ الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ؛ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا لَزِمَ الْغَاصِبَ لَا يَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي وَمَا لَزِمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 الْمُشْتَرِي يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ وَلِلْمَالِكِ الْخِيَارُ وَالرُّجُوعُ بِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبِلَى. وَهَلْ يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْبِلَى وَهَلْ يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ فَأَبْلَاهُ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لِرَبِّهِ أَرْشَ بِلَاهُ وَأُجْرَةَ مِثْلِهِ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الرُّجُوعِ بِهِمَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنْ رَجَعَ بِهِمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَرْشِ الْبِلَى لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَضْمَنُهُ وَلَا يَرْجِعُ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ لَهَا وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَلَوْ رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ يَرْجِعِ الْغَاصِبُ بِأَرْشِ الْبِلَى وَرَجَعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ بَعْدَ رَدِّ الثَّمَنِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَعَارَهُ فَرَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالْأُجْرَةِ وَأَرْشِ الْبِلَى فَفِي رُجُوعِ الْمُسْتَعِيرِ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَانِ: وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ رَجَعَ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ كَانَ فِي رُجُوعِ الْغَاصِبِ بِهِمَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَوْلَانِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ فَرَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْمُوَدَعِ بِأَرْشِ الْبِلَى وَالْأُجْرَةِ رَجَعَ الْمُوَدَعُ بِهِمَا عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ لَوْ غَرِمَهَا أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُوَدَعِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ عِنْدَ مَالِكِهِ فَتَلِفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ غَصَبَ طَعَامًا وَوَهَبَهُ لِمَالِكِهِ فَأَتْلَفَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَلَوْ أَنَّ مَالِكَ الثَّوْبِ أَوْدَعَهُ عِنْدَ غَاصِبِهِ أَوْ أَجَّرَهُ فَتَلَفَ فَإِنْ كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الرَّهْنِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَسْتُ أَنْظُرُ فِي الْقِيمَةِ إِلَى تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ وإنما أنظر إلى تغير الأبدان وَهَذَا كَمَا قَالَ نَقْصُ الْمَغْصُوبُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ نَوْعَانِ نَقْصُ بَدَنٍ وَنَقْصُ ثَمَنٍ. فَأَمَّا نَقْصُ الْبَدَنِ فَضَرْبَانِ: ضَرَبٌ نَقَصَ عَنْ حَالِ الْغَصْبِ كَالْغَصْبِ سَمِينًا فَيَهْزُلُ أَوْ صَحِيحًا فَيَمْرَضُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِاتِّفَاقٍ وَضَرْبٌ نَقَصَ عَنْ زِيَادَةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَ الْغَصْبِ كَالْمَغْصُوبِ هَزِيلًا فَيَسْمَنُ ثُمَّ يَهْزُلُ أَوْ مَرِيضًا فَيَصِحُّ ثُمَّ يَمْرَضُ فَهُوَ مَضْمُونُ الزِّيَادَةِ بِالنَّقْصِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَضْمَنُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا نَقْصُ الثَّمَنِ فَكَأن الْمَغْصُوبُ يُسَاوِي أَلْفًا لِزِيَادَةِ السُّوقِ فَيَرُدُّهُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً لِنَقْصِ السُّوقِ فَهَذَا النَّقْصُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ استدلالاً بأمرين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَقْصٌ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهُ مَعَ بَقَائِهَا قِيَاسًا عَلَى نَقْصِ الْبَدَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُدْوَانٌ يَضْمَنُ بِهِ نَقْصَ الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ نَقْصَ الثَّمَنِ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ الْعَيْنِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَغْصُوبٌ لِمَنْ يَنْقُصُ فِي بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْرَأَ الْغَاصِبُ بِرَدِّ عَيْنِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ ثَمَنِهِ وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ بِعَيْنِهِ أَخَصُّ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي رَدِّ مِثْلِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ ذَا مثل فاستهلك ثم رد مثله فأرخ ص ثَمَنًا لِنَقْصِ سُوقِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مِثْلِهِ أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَ ثَمَنِهِ فَأَوْلَى إِذَا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ أَنْ لَا يَضْمَنَ نَقْصَ ثَمَنِهِ فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ نَقْصِهَا مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَقْصَ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ وَلَا فَائِتٍ لِجَوَازِ عُودِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ وَهُوَ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ مُسْتَهْلَكٌ فَائِتٌ فَضَمِنَهُ فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ نَقْصِ السُّوقِ وَالْبَدَنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مَعَ أبي حنيفة: أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى زِيَادَةِ الْبَدَنِ فَضَمِنَهَا بِالنَّقْصِ وَارْتِفَاعِ يَدِهِ عَنْ زِيَادَةِ السُّوقِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا بِالنَّقْصِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَقْصَ الْبَدَنِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقْصُ الْبَدَنِ مَضْمُونٌ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَلَفِهَا وَنَقْصُ الثَّمَنِ غَيْرُ مَضْمُونٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ مَضْمُونٌ مَعَ تَلَفِهَا فَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَلِيَ حَتَّى نَقَصَ عُشْرُ ثَمَنِهِ ثُمَّ زَادَ الثَّوْبُ لِزِيَادَةِ السُّوقِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً فَعَلَيْهِ عُشْرُ الْعَشْرَةَ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الثَّوْبِ مُسْتَهْلَكٌ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ لَوِ اسْتَهْلَكَ جَمِيعَ الثَّوْبِ حَتَّى كَانَ يُسَاوِي عَشْرَةً ثُمَّ صَارَ مِثْلُهُ يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عَشْرَةٌ فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَهْلَكَ عُشْرَ الثَّوْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عُشْرُ الْعَيْنِ، وَلَوْ غَصَبَهُ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ نَقَصَ ثَمَنُهُ بِنَقْصِ السُّوقِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي عَشْرَةً ثُمَّ بَلِيَ بَعْدَ نَقْصِ ثمنه بلا نَقْصَهُ عُشْرَ الثَّمَنِ ضَمِنَ عُشْرَ الْمِائَةِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ بِالتَّلَفِ أَكْثَرَ مَا كَانَ ثَمَنًا وَلَوْ أَتْلَفَ الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْمِائَةُ فَكَذَلِكَ إِذَا أَتْلَفَ عشره لزمه عشر المائة والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَابَّةً فَشَغَلَهَا الْغَاصِبُ أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 لَمْ يَشْغَلْهَا أَوْ دَارًا فَسَكَنَهَا أَوْ أَكْرَاهَا أَوْ لَمْ يَسْكُنْهَا وَلَمْ يُكْرِهَا فَعَلَيْهِ كراءٌ مثل كراء ذلك من حي أخذه ثم يَرُدَّهُ وَلَيْسَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ إِلَّا لِلْمَالِكِ الَّذِي قَضَى لَهُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأدخل الشافعي رحمه الله على من قال إن الغاصب إذا ضمن سقط عنه الكراء قوله إذا اكترى قميصاً فائتزر به أو بيتاً فنصب فيه رحىً أنه ضامنٌ وعليه الكراء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأُجْرَةِ. سَوَاءٌ انْتَفَعَ أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَضْمَنُهَا وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيهَا سَوَاءٌ انْتَفَعَ أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ. وَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُهَا بِالْأُجْرَةِ إِنِ انْتَفَعَ بِهَا وَلَا يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الْأُجْرَةِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَجَعَلَ الْخَرَاجَ وَالْغَلَّةَ لِمَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا ضَمِنَ الْغَاصِبُ الرَّقَبَةَ سقط عنه ضمان الغلة. قالوا ولأن مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ تَبَعٌ لَهَا فَإِذَا ضُمِنَتِ الرَّقَبَةُ دَخَلَ فِيهَا ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُشْتَرِي لَمَّا ضَمِنَ الرَّقَبَةَ بِالثَّمَنِ دَخَلَ فِيهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قَالَ إِنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ مَعَهُ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ. قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ قَدْ يَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِالْبَدَلِ وَلَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْمَمْلُوكِ وَإِنْ صَحَّتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِالْبَدَلِ لَمْ يَضْمَنْهَا بِالْغَصْبِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنَافِعُ أَعْيَانٍ فَلَمْ تُضْمَنْ بِالْغَصْبِ قِيَاسًا عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِهِ مَنَافِعُ الْحُرِّ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ كَالْعَارِيَةِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا. قَالُوا وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ اسْتِمْتَاعٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ وَمَنْفَعَةُ اسْتِخْدَامٍ تُوجِبُ الْأُجْرَةَ فَلَمَّا لَمْ يَضْمَنِ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَهْرِ لم يضمن منفعة الاستخدام بالأجرة يتحرر مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ فَوَجَبَ أَلَّا يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ كَالِاسْتِمْتَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ بِهِ الْمُهُورُ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ الْأُجُورُ كَالْجِنَايَةِ. قَالُوا وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرِّرَةٌ عَلَى أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْعَيْنِ أَسْقَطَ ضَمَانَ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ وَمَا أَوْجَبَ ضَمَانَ الْمَنْفَعَةِ أَسْقَطَ ضَمَانَ الْعَيْنِ كَالْإِجَارَةِ وَكَانَتِ الْأُصُولُ مَانِعَةً مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْغَصْبُ ضَمَانَ الْعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا أَوْجَبَ أَحَدَ الضَّمَانَيْنِ مَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الضَّمَانَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى مَالِكِهِ بِاسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ أَوْجَبَ الْعُمُومَ مَثَلًا مَشْرُوعًا وَهُوَ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْعُقُودِ ضُمِنَ بِالْغُصُوبِ كَالْأَعْيَانِ وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِهِ الْأَعْيَانُ ضُمِنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 بِهِ الْمَنَافِعُ كَالْعُقُودِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا جَازَتْ بِهِ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَالًا كَالْأَعْيَانِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهِ بَدَلُ تَمْلِيكٍ لَا تَمْلِيكٌ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الثُّلُثِ فَكَانَتْ مَالًا كَالرِّقَابِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ أَعَمُّ مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانُ الْمَنَافِعِ أَعَمُّ مِنْ ضَمَانِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ دُونَ الْعَقْدِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْهُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ فَلَمَّا ضُمِنَتِ الْمَنَافِعُ بِالْعُقُودِ فَأَوْلَى أَنَّ تُضْمَنَ بِالْغُصُوبِ وَلَوْ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ الْأَعْيَانُ فَأَوْلَى بِهِ الْمَنَافِعُ فَيَكُونُ هَذَا تَرْجِيحًا فِي الْأَصْلَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ الْقِيَاسَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ ولأن منافع الأعيان قد تتنوع توعين نَوْعٌ يَكُونُ نَفْعُهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَأْكُولِ وَنَوْعٌ يَكُونُ نَفْعُهُ بِاسْتِبْدَالِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ فَلَمَّا ضَمِنَ الْغَصْبُ نَفْعَ الِاسْتِهْلَاكِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ نَفْعَ الِاسْتِخْدَامِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَوْعُ نَفْعٍ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ كَالْأَكْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِنَ نَفْعُهُ اسْتِبْدَالًا كَالْمَبْذُولِ عِوَضًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ بِالْغَصْبِ مَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ التَّالِفَةِ فِي يَدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا قَدِ اسْتَهْلَكَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ بِيَدِهِ لَمَّا ضَمِنَ الْمَنَافِعَ بِالْمُرَاضَاةِ وَالِاخْتِيَارِ فَأَوْلَى أَنْ يَضْمَنَهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَهُوَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ خَرَاجَ الْغَلَّةِ لِمَنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الرَّقَبَةِ وَالْغَاصِبُ لَا يَمْلِكُ الْغَلَّةَ مَعَ ضَمَانِ الرَّقَبَةِ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا مع ضَمَان الرَّقَبَةِ؛ وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى مَالِكِ الْغَلَّةِ الَّذِي يَمْلِكُ بِضَمَانِهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ نَقْلًا، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَعْنَى فِيهِ حُدُوثُ الْمَنَافِعِ مَعَ مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا وَالْمَنَافِعُ فِي الْغَصْبِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْغَاصِبُ ضَامِنًا لَهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَكْرَهَ مُشْرِكًا أَوِ الذِّمِّيَّ حَمْلًا عَلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي عِبَارَتِهِ فِي الْأُمِّ عَلَى الْجِهَادِ مَعَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ يَوْمَ إِكْرَاهِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ هَلْ تُضْمَنُ بِالتَّفْوِيتِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ على من فوقها عَلَيْهِ بِحَبْسِهِ وَتَعْطِيلِهِ اسْتِشْهَادًا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتِشْهَادًا بِمَنَافِعِ الْعَبْدِ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ مَضْمُونَةً بِالتَّفْوِيتِ وَالْحَبْسِ وَإِنَّمَا هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى الْعَمَلِ وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ الْأُجْرَةَ لِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْجِهَادِ فَكَذَا حَالُ الْأَحْرَارِ إِذَا أُكْرِهُوا عَلَى الْأَعْمَالِ اسْتَحَقُّوا الْأُجْرَةَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ كَانَتْ مَنَافِعُهُ مَضْمُونَةً بِالتَّفْوِيتِ وَبَيْنَ الْحُرِّ حَيْثُ لَمْ تُضْمَنْ مَنَافِعُهُ بِالتَّفْوِيتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا بِالْيَدِ كَانَتْ مَنَافِعُهُ مَضْمُونَةً بِالْيَدِ وَالْحُرَّ لَمَّا لَمْ يُضْمَنْ بِالْيَدِ لَمْ تُضْمَنْ مَنَافِعُهُ بِالْيَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ فِي يَدِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُضْمَنْ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَيْسَتْ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ بَلْ فِي يَدَيْ مَالِكِهِ فَلِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّفْوِيتِ وَبِالِاسْتِهْلَاكِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَبَسَ حُرًّا ومعه مال فتلف لم يضمنه لِأَنَّهُ تَالِفٌ فِي يَدِ مَالِكِهِ وَلَوْ حَبَسَ عَبْدًا وَمَعَهُ مَالٌ فَتَلِفَ ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَاصِبِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى يَدِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَهْرِ فَنَحْنُ نُوجِبُهُ بِالْغَصْبِ عَلَى الْمُسْتَكْرِهِ وَفِي الْجَوَابِ بِهَذَا مَقْنَعٌ فَأَمَّا بِالْمَنْعِ فَلَا نُوجِبُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُجْرَةِ الْمَنَافِعِ حَيْثُ وَجَبَتْ بِالْمَنْعِ وَبَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ بِالْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَيِّدَ الْمَغْصُوبَةِ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَهْرِهَا بِتَزْوِيجِهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أُجْرَتِهَا بِإِجَارَتِهَا لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمَغْصُوبَةِ يَجُوزُ وَإِجَارَتُهَا لَا تَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَزِيدُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ رَدِّهَا فَلَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ. وَالْأُجْرَةُ تَزِيدُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مَا مَضَى بَعْدَ رَدِّهَا فَضَمِنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ وَالْعَيْنِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ شَاهِدَيِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَجْتَمِعَ ضَمَانُ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا فَاتَّزَرَ بِهِ أَوْ دَارًا فَأَسْكَنَ فِيهَا حَدَّادِينَ أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ وَلِلرَّقَبَةِ فَإِنْ سَلَّمُوا هَذَا كَانَ نَقْصًا وَإِنِ ارْتَكَبُوهُ فَقَدْ جَعَلُوا لِكُلِّ مُسْتَأْجِرٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ وَيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْأُجْرَةَ بِالتَّعَدِّي فَيَصِيرُ مُسْقِطًا لِحَقٍّ وَاجِبٍ بِظُلْمٍ وَتَعَدٍّ وَالتَّعَدِّي يُوجِبُ إِثْبَاتَ حَقٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ إِسْقَاطَ حَقٍّ وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مِنْ نَقْصِ الْأُصُولِ مَا لَا يُوَازِيهِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْتِزَامِ دَلِيلٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مُوجِبًا لِحَقَّيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ يُوجِبُ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ وَهُمَا حَقَّانِ وَقَتْلَ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَالْجَزَاءَ، وَالسَّرِقَةَ تُوجِبُ الْقَطْعَ وَالرَّدَّ فَكَذَلِكَ الْغَصْبُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْأُجْرَةِ وَضَمَانَ العين. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ فَضَمَانُهَا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يعاوض عليهما بِالْإِجَارَةِ وَمَا لَا تَصِحُّ إِجَارَتُهُ كَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَمْ يُلْزِمْ فِي الْغَصْبِ أُجْرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمَ مُدَّةُ الْغَصْبِ زَمَانًا يَكُونُ لِمِثْلِهِ أُجْرَةً فَإِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْغَصْبِ أُجْرَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ مُكَاتَبًا فَحَبَسَهُ زَمَانًا ضَمِنَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ لِأَنَّ الْمَكَاتَبَ عَبْدٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا حَبَسَ مَكَاتَبَهُ عَنْ نِصْفِهِ حَوْلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فِي الْحَوْلِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ إِنْظَارَهُ بِحَالِ الْكِتَابَةِ حَوْلًا مِثْلَ زَمَانِ حَبْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَخَّرَ زمان كنايته والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اسْتَكْرَهَ أَمَةً أَوْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ وَلَا مَعْنَى لِلْجِمَاعِ إِلَّا فِي مَنْزِلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونَ هِيَ زَانِيَةً مَحْدُودَةً فَلَا مهر لا ومنزلةٍ تَكُونُ مصابةٌ بنكاحٍ فَلَهَا مَهْرُهَا ومنزلةٍ تَكُونُ شُبْهَةً بَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالزِّنَا الصَرِيحِ فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا أُصِيبَتْ بنكاحٍ فاسدٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمَهْرُ عِوَضَا مِنَ الْجِمَاعِ انْبَغَى أَنْ يَحْكُمُوا لَهَا إِذَا اسْتُكْرِهَتْ بمهرٍ عِوَضَا مِنَ الْجِمَاعِ لِأَنَّهَا لَمْ تُبِحْ نَفْسَهَا فَإِنَّهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْعَاصِيَةِ بنكاحٍ فاسدٍ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا اسْتَكْرَهَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا كُرْهًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ لَهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً. وَقَالَ أبو حنيفة لَا مَهْرَ عَلَيْهِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمَهْرَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ بِالتَّخْفِيفِ يَعْنِي الزِّنَا وَهَذَا زِنًا فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْمَهْرُ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ كَسْبٍ الزِّمَارَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي الزَّانِيَةَ كَنَهْيِهِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ قَالُوا وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ أَوْجَبَ حَدًّا فَلَمْ يُوجِبْ مَهْرًا كَالْمُطَاوَعَةِ قَالُوا وَلِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمَهْرَ مُتَنَافِيَانِ فَلَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ إِجْمَاعًا سَقَطَ الْمَهْرُ حِجَاجًا قَالُوا وَلِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ مُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِ الْفَاعِلِ وَالزِّنَا فِعْلُ الْوَاطِئِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امرأةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَالْمُسْتَكْرِهُ مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 مَهْرُهَا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ خُصَّ النِّكَاحُ بِذَلِكَ ذِكْرًا فَاخْتَصَّ بِهِ حُكْمًا قِيلَ الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْخَبَرِ بِتَعْلِيلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَالتَّعْلِيلُ عَامٌّ وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ سَقَطَ الْحَدُّ فِيهِ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ فِيهِ عَلَى الْوَاطِئِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُغْتَصَبَةَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فاسداٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَ عِلْمِهَا عَاصِيَةٌ وَالْمُغْتَصَبَةَ غَيْرُ عَاصِيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مُمْكِنَةٌ، وَالْمُغْتَصَبَةَ مُسْتَكْرَهَةٌ فَلَمَّا وَجَبَ الْمَهْرُ لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ لِلْمُسْتَكْرَهَةِ؛ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ بِعِوَضٍ فِي النِّكَاحِ وَيُمْلَكُ بِهَا عِوَضٌ فِي الْخُلْعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْوَالَ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، ثُمَّ لَكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَمَانِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ وَالْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ فَرُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ يَعْنِي مَهْرَ الزَّانِيَةِ، وَالْمُسْتَكْرَهَةُ غَيْرُ زَانِيَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَّ سَاقِطٌ عَنْهَا وَلَوْ كَانَتْ بَغِيًّا لَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ كَسْبِ الزمارة ففيه تأويلان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْبِ الزِّمَارَةِ مِنَ الزَّمْرِ وَالسِّعَايَةِ فَعَلَى هَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بمسألتنا. والرواية الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْبِ الزِّمَارَةِ بِالتَّشْدِيدِ وَتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ فَيَكُونُ كَنَهْيِ الْبَغِيِّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بَغِيًّا وَلَا زَانِيَةً. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَنَافِي الْمَهْرِ وَالْحَدِّ فَصَحِيحٌ لَكِنْ يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ يُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةَ الْمَوْطُوءَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَرْأَةِ فَإِنْ عَلِمَتْ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمَهْرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِهِ شُبْهَةُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ إِنْ لَمْ تَعْلَمْ وَيسقط إِنْ عَلِمَتْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْوَطْءَ فِعْلُ الْوَاطِئِ، فَكَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِهِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهُ فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ مَنْ أُتْلِفَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ سَقَطَتِ الْقِيمَةُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ قَاتِلٌ عَاصٍ لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ لرضا المتلف عبد وإذنه ووجب عليه في الحال الثاني لِعَدَمِ رِضَاهُ وَإِذْنِهِ كَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ إِنْ طَاوَعَتْ فَهِيَ رَاضِيَةٌ بِإِتْلَافِ بُضْعِهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَإِنِ اسْتُكْرِهَتْ فَهِيَ غَيْرُ رَاضِيَةٍ بِإِتْلَافِهِ عَلَى غَيْرِ بدل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الْمُسْتَكْرِهِ واختلفا، فادعت الموطوءة الاستكراه وادعا الْوَاطِئُ الْمُطَاوَعَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَاطِئِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَوْطُوءَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَهَا الْمَهْرُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَاكِبُهَا وَرَبُّ الأرض وزارعها والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فِي السَّرِقَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْآخَرُ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِذَا قُطِعَ لِلَّهِ تَعَالَى أُخِذَ مِنْهُ مَا سَرَقَ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ فَقِيمَتُهُ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدَا ضَمِنَ مَالًا بِعَيْنِهِ بغصبٍ أَوْ عدوانٍ فَيَفُوتَ إِلَّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَلَا أَجِدُ في ذلك موسراً مخالفاً لمعسر وفي المغتصبة حكمان أحدهما لله والآخر للمغتصبة بالمسيس الذي العوض منه المهر فأثبت ذلك والحد على المغتصب كما أثبت الحد والغرم على السارق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا سَرَقَ سارق نصاباً محرزاً فإن كان السارق بَاقِيًا اسْتُرِدَّ وَقُطِعَ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَنْ يُغَرَّمَ وَيُقْطَعَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يُغَرَّمُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَنِ الْقَطْعِ فَيُغَرَّمُ ولا يجمع بين القطع والغرم. والثالث: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا قُطِعَ وَأُغْرِمَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُطِعَ وَلَمْ يُغَرَّمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الْغُرْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيْهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً) {المائدة: 31) . فَجَعَلَ جَزَاءَ كَسْبِهِمَا الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ. وَبِرِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ مِنَ السَّارِقِ يَجْعَلُهَا مِلْكًا لَهُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُقْطَعُ فِي مِلْكِهِ. وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ عُقُوبَتَانِ وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ حَدًا فِي ذَنَبٍ وَاحِدٍ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَى تُؤَدِّيَهُ، فَجُعِلَ الْأَدَاءُ غَايَةَ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الرَّدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْغُرْمُ كَالْغَاصِبِ وَقَوْلُنَا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الرَّدِّ احْتِرَازًا مِنَ الْحَرْبِيِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إِذَا سَرَقَ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَنَّ الْغُرْمَ وَجَبَ بِالتَّلَفِ ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 سَقَطَ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ بِحُكْمِ السَّرِقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ رَدَّ بَدَلِهِ عِنْدَ التَّلَفِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْعُدْوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْغُرْمِ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْغُرْمَ حَقٌّ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ ثَبَتَ فِي قَلِيلِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي كَثِيرِهِ قِيَاسًا عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ نُقْصَانُهُ ضُمِنَ بِالتَّلَفِ جَمِيعُهُ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْكَثِيرَ يُغَلَّظُ حُكْمُهُ بِإِيجَابِ الْقَطْعِ فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ تَغْلِيظِ الْحُكْمِ التَّخْفِيفَ بِإِسْقَاطِ الْغُرْمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ جَزَاءُ السَّرِقَةِ وَالْغُرْمَ جَزَاءُ التَّلَفِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَتْلَفَ الْمَسْرُوقَ فِي حِرْزِهِ لَزِمَهُ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزِهِ لَزِمَهُ الْقَطْعُ وَلَا غُرْمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَعَ ضَعْفِهِ وَوَهَاءِ إِرْسَالِهِ وَإِسْنَادِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ غُرْمِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْغَرَامَةِ. فَكَانَ يُغَرَّمُ السَّارِقُ مِثْلَيْ مَا سَرَقَ لِيَكُونَ أحدهما حداً والآخر غرماً فصار القطع حيث ثَبَتَ مُسْقِطًا لَغُرْمِ الْحَدِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَصِيرُ بِالْغُرْمِ مَالِكًا فَهُوَ أَنَّ مَا تَلِفَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَحْدَثَ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ اسْتِهْلَاكًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ عُقُوبَتَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فَهُوَ أَنَّهُمَا وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَالْحَدُّ، أَوْ فِي الْقَتْلِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ وَلَوْ كَانَ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا أَنْ يَسْقُطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لَكَانَ سُقُوطُ الْقَطْعِ بِإِيجَابِ الْغُرْمِ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِ الْغُرْمِ بِإِيجَابِ الْقَطْعِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ لله تَعَالَى يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَالْغُرْمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَدِّ وَالْمَهْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَحْرَزَ السَّارِقُ السَّرِقَةَ فَسَرَقَهَا آخَرُ لَمْ يُقْطَعِ الثَّانِي وَقُطِعَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا مِنْ حِرْزِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ وَيَرُدَّ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَرْضَ وَالْعَقَارَ يجري عليها حكم الغصب إبراءاً أَوْ ضَمَانًا وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ، وَخَالَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ. فَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجْرِي عَلَى الْأَرْضِ حُكْمُ الْغَصْبِ وَلَا حُكْمُ الضَّمَانِ بِالْيَدِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف الْأَوَّلُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وَقَالَ محمد بن الحسن يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الضَّمَانِ بِالْيَدِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف الْأَخِيرُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَلَامُ مَعَ محمد فَيُقَالُ لَهُ كُلُّ مَا ضُمِنَ بِالْيَدِ ضُمِنَ بِالْغَصْبِ كَالْمَنْقُولِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِفُرْقَةٍ بَيْنَ ضَمَانِ الْيَدِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ تَأْثِيرٌ، وَإِذَا صَحَّ غَصْبُ الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَغَلَهَا بِغِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ لَمْ يَشْغَلْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَغَلَهَا بِغَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ رَدَّهَا وَأُجْرَةَ مِثْلِهَا مُدَّةَ غَصْبِهِ؛ وَإِنْ شَغْلَهَا بِإِحْدَاثِ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ أُخِذَ بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهَا سَوَاءٌ أَضَرَّ قلعها بالأرض أو لَا. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْقَلْعُ بِالْأَرْضِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَلَهُ الْقَلْعُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ فِي قلعه إضراراً فِي الْأَرْضِ فَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا فَيُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهَا وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ والبناء فيجبر على قلعهما اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ. وَبِمَا رَوَى مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ قَوْمًا أَرْضًا بَرَاحًا فَغَرَسَ فِيهَا نَخْلًا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لهم عمر إن شئتم فارفعوا إِلَيْهِ قِيمَةَ النَّخْلِ. وَرَوَى رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ زَرَعَ أَرْضَ قومٍ بِلَا إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ " قال ولأن من دخل تمليك عَلَى مِلْكٍ اسْتَحَقَّ الْمَالِكُ إِزَالَةَ مِلْكِ الدَّاخِلِ كَالشَّفِيعِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا غَصَبَ أَرْضًا مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ فَغَرَسَهَا نَخْلًا عَمًّا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِرَبِّ الْأَرْضِ خِيَارًا ولو استحق خياراً لأعلمه وحكم ب وَلِأَنَّ يَسِيرَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ أَشْبَهُ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ مِنْ كَثِيرِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ يَسِيرَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ كَثِيرَهُ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا لَمْ يُمْلَكْ بِالْغَصْبِ يَسِيرُهُ لَمْ يُمْلَكْ بِهِ كَثِيرُهُ كَالْمَتَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عدوان لا تملك بالأعيان الْمُنْفَصِلَة فَوَجَبَ أَنْ لَا تُمْلَكَ بِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَّصِلَةُ كَالْيَسِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " فَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الضرر مستحق ولكن ليس يتملك الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ وَأَمَّا قَضِيَّةُ عمر رضي الله عنه فمرسلة لأن مجاهد لَمْ يَلْقَ عُمَرَ ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ إِنْ لَمْ تَنْقُلْ شَرْحًا لَمْ تُلْزِمْ حُكْمًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شِئْتُمْ فَادْفَعُوا قِيمَةَ النَّخْلِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَ صَاحِبُهَا ذَلِكَ وَهَذَا عندنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 جَائِزٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ مَنْ زَرَعَ أَرْضَ قومٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ شيءٌ ففي جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَنَّهُ زَرْعُ أَرْضِهِمْ بِبَذْرِهِمْ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ فِي الزَّرْعِ حَقُّ التَّرْكِ وَالِاسْتِبْقَاءُ بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ فَلَهُ نَفَقَتُهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ زَرْعَهُ فَعَبَّرَ عَنِ الزَّرْعِ بِالنَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ ولَهُ نَفَقَتَهُ فِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشُّفْعَةِ فَمُنْتَقِضٌ بِإِدْخَالِ الْمَتَاعِ وَيَسِيرِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الشُّفْعَةِ أَنَّ الْمِلْكَيْنِ لَا يَتَمَيَّزَانِ وَلِذَلِكَ خَصَصْنَا الشُّفْعَةَ بِالْخَلْطَةِ، وَفِي الْغَصْبِ يَتَمَيَّزُ فَصَارَ كَالْجَارِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَنَا شُفْعَةً. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَلِكًا لِلْغَاصِبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا مِنْ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَاصِبِ أربعة أحوال: أحدها: أن يتفقا على ترك الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِأَجْرٍ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ فَيَجُوزُ مَا أَقَامَ عَلَى إِنْفَاقِهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مخْتَصٌّ بِهِمَا ثم يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي مُطَالَبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْقَلْعِ قَبْلَ مَا يَقْضِي المدة سواء علم قدر أجرة المثل أم لَمْ يَعْلَمْهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمَا وأن يأخذه بالقطع متى شاء. والحال الثاني: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَوْ مَقْطُوعًا فَيَجُوزُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا يُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ فَإِنْ كَانَ عَلَى الشَّجَرِ ثَمَرٌ مَلِكَهُ الْغَاصِبُ إِنْ كَانَ مُؤَبَّرًا كَالْبَيْعِ وَلَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ أَرْشُ مَا كَانَ يَنْقُصُ مِنَ الْأَرْضِ لَوْ قُلِعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْلَعْ. فَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ بَاعَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِشَرْطِ الْقَلْعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، فَإِذَا قَلَعَهُ الْمُشْتَرِي فَأَحْدَثَ الْقَلْعُ نَقْصًا فَأَرْشُهُ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِحُدُوثِهِ عَنْ تَعْدِيَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُطْلَقًا فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْبِنَاءِ والغرس والترك وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي بِالْقَلْعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ علم أم لم يعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 والحال الثالث: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَخْذِ ثَمَنِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَاصِبِ فَيَجُوزُ، وَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ عَنِ الْغَاصِبِ إِلَّا بِثَمَنِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بَعْدَ الثَّمَنِ بِأَرْشِ النَّقْصِ لَوْ قَلَعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْلَعْ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ بَاعَهَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ الَّذِي ابْتَاعَهَا أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ فَإِذَا قَلَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِأَرْشِ الْقَلْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْقَلْعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قد دخل على رضى بِهِ وَيَكُونُ الْبَيْعُ سَبَبًا لِسُقُوطِ الْأَرْشِ عَنِ الغاصب. والحال الرابع: أَنْ لَا يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِالْقَلْعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. فَإِذَا قَلَعَ بَرِئَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ بَعْدَ قَلْعِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ حَالُ الْأَرْضِ فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ بِالْقَلْعِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ وَقَدْ بَرِئَ مِنْ رَدِّ الْأَرْضِ بَعْدَ الْقَلْعِ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَحُكْمِهِ، وَإِنْ نَقَصَ الْقَلْعُ فِيهَا فَصَارَتْ حُفَرًا تضر بها فالغاصب ضامناً لَهَا، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: هَاهُنَا يَرُدُّ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي قَلْعِ الْحِجَارَةِ الْمُسْتَوْدَعَةِ إِنَّ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَلَا يَتْرُكُهَا حُفَرًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِأَرْشِ النقص في الموضعين بأن نَقْصُ فِعْلٍ مَضْمُونٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَتَّى لَا تَكُونَ حُفَرًا لِأَنَّ زَوَالَ التَّعَدِّي بِالْمِثْلِ أَوْلَى مِنَ الْقِيمَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَلْزَمُهُ فِي الْغَصْبِ أَرْشُ النَّقْصِ وَفِي الْبَيْعِ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ فَنُغْلِظُ حُكْمَهُ بِالْأَرْشِ وَالْبَائِعُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَنُخَفِّفُ حُكْمَهُ بِتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِرَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِغَرْسِهَا وَبِنَائِهَا قَائِمًا أَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ مَؤُنَةِ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَنْقُضَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِقَلْعِهَا شَيْئًا فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ سَفَهًا وَإِنْ طَالَبَ رَبُّ الْأَرْضِ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لِيَنْفَصِلَا عَنِ الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى الْقَلْعِ وَلَزِمَهُ نَقْصُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَمَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ غَرَسَ وَبَنَى وَنَقَصَ الْأَرْضَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِهِ غَرَضٌ يَصِحُّ لِقَاصِدٍ فَهَلْ يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى قَلْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَسَفَهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ مُتَحَكِّمٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 قِيمَتُهُ تَنْقُصُ إِنْ قَلَعَ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَطَالَبَهُ بِأَرْشِ النَّقْصِ مَعَ تَرْكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا، فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَائِمًا نَقْصٌ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ اسْتَحَقَّ الْأَرْشَ إِنْ كَانَ قَائِمًا غَيْرَ نَاقِصٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ مَعَ الْتِزَامِ مَؤُنَةِ الْقَلْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقَلْعِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ مَغْصُوبَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الْأَرْضِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَرَبِّ الْغَرْسِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِالْقَلْعِ ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ بِأَرْشِ مَا نَقَصَ مِنْ مِلْكِهِ فَيَرْجِعُ رَبُّ الْأَرْضِ بِمَا نَقَصَ مِنْ أَرْضِهِ وَيَرْجِعُ رَبُّ الْغَرْسِ بِمَا نَقَصَ مِنْ غَرْسِهِ فَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ اشْتَرَى الْغَرْسَ مِنْ رَبِّهِ قَبْلَ الْقَلْعِ صَارَ مَالِكًا لَهُمَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ في قلعه عرض صَحِيحٌ وَيَأْخُذُ مِنْهُ نَقْصَ الْأَرْضِ دُونَ الشَّجَرِ لِأَنَّهُ اسْتُحْدِثَ مِلْكَ الشَّجَرِ بَعْدَ الْغَصْبِ وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الشَّجَرِ اشْتَرَى الْأَرْضَ مِنْ رَبِّهَا قَبْلَ الْقَلْعِ صَارَ مَالِكًا لَهَا وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْغَاصِبِ بِالْقَلْعِ إِنْ كَانَ فِي قَلْعِهِ غرض صحح ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ نَقْصَ الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ اسْتُحْدِثَ مِلْكَ الْأَرْضِ بَعْدَ الْغَصْبِ فَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ وَأَبَى الْغَاصِبُ أَنْ يَلْتَزِمَ لَهُمَا مَؤُنَةَ الْقَلْعِ وَاخْتَلَفَا في تحملهما فَفِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ على صاحب الأرض لأته يُرِيدُ خَلَاصَ أَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْغَرْسِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَخْذَ غَرْسِهِ ثُمَّ هِيَ لِمَنْ غَرِمَهَا دَيْنٌ عَلَى الْغَاصِبِ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ أَوْ حَمَلَ السَّيْلُ حِنْطَةَ رَجُلٍ إِلَى أَرْضِ آخَرَ فَنَبَتَتْ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقْرَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ: أَحَدُهُمَا: يُقْلَعُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: يُقَرُّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ وَأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الزَّرْعِ بَعْدَ قَلْعِهِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا كَقِيمَةِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَكْثَرَ أُجْبِرَ عَلَى قَلْعِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ حِينَ نَبَتَتْ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ لَوْ قَلَعَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ تُرِكَ وَلَمْ يُقْلَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فَيَلْتَزِمُ ضَرَرَ عُدْوَانِهِ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مِنَ الضَّرَرِ فَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالتَّنَازُعِ وَلَا أُجْرَةَ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ. وَقَالَ مَالِكٌ قَدْ زَالَ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَمَّا احْتَمَلَهُ السَّيْلُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَصَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ضَيَاعَ الْمَالِ لَا يُزِيلُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَأَرَادَ الْغَاصِبُ دَفْنَهَا فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لم ينفعه ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 قال الماوردي: وهذا كما قال. إذا غصب أَرْضًا وَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَفْرِهَا وَعَلَيْهِ سَدُّهَا وَضَمَانُ مَا تَلِفَ فِيهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَاصِبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى سَدِّهَا لِيَبْرَأَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَسْقُطُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ بَعْدَ سَدِّهَا أَرْشٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَرْشٌ كَانَ عليه غرمه مع الأجرة. والحال الثاني: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا فَذَاكَ لَهُمَا، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا لِتَعَدِّيهِ بِحَفْرِهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمُؤْنَةِ السَّدِّ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَتَى شَاءَ بِالسَّدِّ. والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى الْغَاصِبُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى سَدِّهَا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْعُرُوقُ أَرْبَعَةٌ عِرْقَانِ ظَاهِرَانِ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ، وَعِرْقَانِ بَاطِنَانِ الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قلنا في قلع الغرس والبناء. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى رَبُّهَا فَإِنْ لَمْ يُبَرِّئْهُ رَبُّهَا مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ فِيهَا فَلَهُ سَدُّهَا لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْهُ وَإِنْ أَبْرَأَهُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْغَاصِبَ أَنْ يَسُدَّهَا لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ يَجِبُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِبْرَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَاصِبَ يُمْنَعُ مِنْ سَدِّهَا لِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَرْتَفِعُ التَّعَدِّي وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا دَفَنَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَيِّتًا أخذ الغاصب ينبشه مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لأن دفته فِيهَا عُدْوَانٌ يَأْثَمُ بِهِ الدَّافِنُ ثُمَّ إِذَا نَبَشَ ضَمِنَ أَرْشَ نَقْصِهَا إِنْ نَقَصَتْ، فَلَوْ قَالَ مَالِكُ الْأَرْضِ أَنَا أُقِرُّ الْمَيِّتَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ إِنْ ضَمِنَ لِي نَقْصَ الْأَرْضِ بِالدَّفْنِ فِيهَا فَفِي إِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى بَذْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ الْمُتَعَدِّي هُوَ بِدَفْنِهِ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَدْفُونٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا كَانَ لَهُ نَزْعُ التَّزْوِيقِ حَتَّى يَرُدَّ ذَلِكَ بِحَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا. فَكَانَ بعض المتقدين مِنْهُمْ يَرْوِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَّقَ بِالرَّاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الرِّوَاقِ وَيُجْعَلُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ بِالزَّايِ مُعْجَمَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 مِنَ التَّزَاوِيقِ وَالزَّخْرَفَةِ لِأَنَّ الزِّوَاقَ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ فَعَلَى هَذَا إِذَا زَوَّقَ دَارًا مَغْصُوبَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ التَّزَاوِيقِ لِحَالِهَا فَذَلِكَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَحْظُورٌ مِنْ صُوَرٍ ذات أرواح فلا يجوز تركها. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَلْعِهَا وَإِزَالَتِهَا فَذَلِكَ لَهَا سَوَاءٌ انْتَفَعَ الْغَاصِبُ بِالْقَلْعِ أَمْ لَا ثُمَّ إِنْ أَثَّرَ الْقَلْعُ فِي الْحِيطَانِ نَقْصًا فعلى الغاصب غرامة أرشه. والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى قَلْعِهَا وَيَأْبَى رَبُّ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَرْجُوعٌ بَعْدَ الْقَلْعِ فَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهَا لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرْجُوعٌ فَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ قَلْعُهَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِقَلْعِهَا إِلَّا إِتْعَابَ نَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ وإذهاب نفقته. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الدَّارِ إِلَى قَلْعِهَا وَيَأْبَى الغاصب فإن كانت تَرْكُهَا مُوكِسًا لِلدَّارِ أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى الْقَلْعِ وَغَرَامَةِ الْأَرْشِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مُوكِسًا فَإِنْ تَرَكَهُ الْغَاصِبُ مُسْتَبْقِيًا لَهُ عَلَى مِلْكِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ وَإِنْ تَرَكَهُ مُزِيلًا لِمُلْكِهِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالْأَصْبَاغِ وَلَمْ تَكُنْ أَعْيَانًا لَمْ يُجْبَرِ الْغَاصِبُ عَلَى إِزَالَتِهَا لِأَنَّهَا آثَارٌ زَائِدَةٌ كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا إِبْرَاءً مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا كَالْجَصِّ وَالرُّخَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُتْرَكُ كَالْآثَارِ وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى قَلْعِهَا لِأَنَّهَا زِيَادَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقَلْعِهَا لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى تَمَلُّكِهَا وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزَّوْجِ إِذَا أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ ثَمَرَةً وَجَعَلَهَا فِي صُفْرٍ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ لِزَوْجَتِهِ هَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَلَ عَنْهَا تُرَابًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا نَقَلَ عَنْهَا حَتَّى يُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا بِالْحَالِ الَّتِي أخذها (قال المزني) غير هذا أشبه بقوله لأنه يقول لو غصب غزلاً فنسجه ثوباً أو نقرةً فطبعها دنانير أو طيناً فضربه لبناً فهذا أثر لا عينٌ ومنفعةٌ للمغصوب ولا حق في ذلك للغاصب فكذلك نقل التراب عن الأرض والبئر إذا لم تبن بطوبٍ أثرٌ لا عينٌ ومنفعةٌ للمغصوب ولا حق في ذلك للغاصب مع أن هذا فسادٌ لنفقته وإتعاب بدنه وأعوانه بما فيه مضرةٌ على أخيه ولا منفعة له فيه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا فَنَقَلَ مِنْهَا تُرَابًا فَلَا يَخْلُو حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتُهْلِكَ فَعَلَيْهِ رَدُّ مثله إن كان للتراب مثلاً فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ تُرَابٍ لَيْسَ فِي النَّاحِيَةِ مِثْلُهَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ وفيها وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 أَحَدُهُمَا: وَقَدْ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ وَعَلَيْهَا التُّرَابُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهَا ثُمَّ يقوم بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهَا وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ هَذَا وَمِنْ قِيمَةِ التُّرَابِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنِ الْأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ بَاقِيًا فَلِلْغَاصِبِ وَرَبِّ الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ رَدِّهِ غُرْمُ نَقْصٍ إِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا فِي أَكْثَرِ الْحَالَيْنِ أُجْرَةً مِنْ كَوْنِهَا ذَاتَ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِ ذات تراب إلى أن أخذ فِي رَدِّ التُّرَابِ فَأَمَّا أُجْرَتُهَا فِي زَمَانِ رَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَ رَدُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِكِ لَهَا وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَالِكِ لَهَا فعليه الأجرة. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ التُّرَابِ خَارِجًا عَنْهَا وَأَنْ لَا يَرُدَّهُ إِلَيْهَا فَذَلِكَ لَهُمَا مَا لَمْ يَطْرَحِ التُّرَابَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَهَبَ لَهُ التُّرَابَ فَلَيْسَ لَهُ أَبَدًا فِي اسْتِرْجَاعِهِ وَرَدِّهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَهَبْهُ لَهُ فَمَتَى طَالَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَرَدِّهِ كَانَ لَهُ وَأَخَذَ الْغَاصِبُ بِرَدِّهِ فَإِنْ طَالَبَهُ بِنَقْصِ الْأَرْضِ نَظَرَ. فَإِنْ كَانَ رَدُّ التُّرَابِ إِلَيْهَا يَمْنَعُ مِنَ النَّقْصِ فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْصِ وَإِنْ كَانَ رَدُّ التُّرَابِ إِلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النَّقْصِ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْصِ الْحَاصِلِ فِيهَا بعد رد التراب إليها. والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى رَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا وَيَمْتَنِعَ الْغَاصِبُ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ جَبْرًا بِرَدِّ التُّرَابِ إِلَيْهَا فَإِنْ عَظُمَتْ مَؤُنَةُ رَدِّهِ وَتَضَاعَفَتِ الْكُلْفَةُ فِي نَقْلِهِ لِأَنَّهُ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ بِعُدْوَانِهِ وَغَصْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَالِكِ فِي رَدِّ التُّرَابِ نَفْعٌ أَمْ لَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَلْعِ الشَّجَرِ وَالتَّزْوِيقِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ التُّرَابَ عَيْنٌ يَمْلِكُهَا فَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ كَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا زَمِنًا لَا يَنْفَعُ سَيِّدَهُ وَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ نَفَقَتَهُ وَلَا يَرْجُو نَفْعَهُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِرَدِّهِ عَلَى مَالِكِهِ وَإِنْ ثقلت عليه مؤنة رده. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى رَدِّهِ وَيَمْتَنِعَ مِنْهُ الْمَالِكُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِكِ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ضَمَانِ التُّرَابِ أَوْ لَا يُبْرِئُهُ فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ وَلَمْ يُبَرِّئْهُ مِنْ ضَمَانِهِ فَلِلْغَاصِبِ رَدُّ التُّرَابِ وَحْدَهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ بِالرَّدِّ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْعِهِ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ إِبْرَائِهِ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَاصِبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رَدِّهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ أَوْ لَا غَرَضَ لَهُ في رده صحيح وذلك من وجوه: أحدها: أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى مَغْصُوبَةٍ فَيَرُدُّهُ لِيَبْرَأَ مِنْ غَصْبِهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ إِلَى طَرِيقٍ سَابِلَةٍ تَضِيقُ عَنْهُ أَوْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْلَفَ بِهِ مَا يَضْمَنُهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 نَقْلَهُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَرُّ عَلَى تَرْكِهِ فِيهِ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الَّتِي نُقِلَ التُّرَابُ عَنْهَا قَدْ صَارَتْ حُفَرًا لَا يُأْمَنُ ضَمَانُ مَا يَسْقُطُ فِيهَا فَهَذِهِ كُلُّهَا أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَرُدَّ التُّرَابَ لِأَجْلِهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِي رَدِّهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِحُصُولِ التُّرَابِ فِي أَرْضٍ أُخْرَى لِمَالِكِ التُّرَابِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَرْكِهِ فِيهِ مُنِعَ الْغَاصِبُ مِنْ رَدِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ بَدَنِهِ وَأَعْوَانِهِ بِغَيْرِ نَفْعٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا سَفَهٌ. فَصْلٌ : فأما المزني فإنه يمنع الغاصب من سد الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ إِذَا مَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنَ السَّدِّ وَالرَّدِّ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ نَسْجِ الْغَزْلِ ثَوْبًا وَضَرْبِ الطِّينِ لَبِنًا وَطَبْعِ النُّقْرَةِ دَنَانِيرَ فَنَبْدَأُ بِشَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيمَا ذَكَرَهُ ثُمَّ بِالْكَلَامِ مَعَهُ، وَالْمَذْهَبُ فِي الْغَزَلِ إِذَا نَسَجَهُ الْغَاصِبُ ثَوْبًا وَالطِّينِ إِذَا ضَرَبَهُ لَبِنًا وَالنُّقْرَةِ إِذَا طَبَعَهَا دَنَانِيرَ أَنَّهُ مَتَى رَضِيَ الْمَالِكُ بِأَخْذِ الْغَزْلِ ثَوْبًا مَنْسُوجًا وَالطِّينِ لَبِنًا مَضْرُوبًا وَالنُّقْرَةِ دَنَانِيرَ مَطْبُوعَةً فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ نَقْضُ الْغَزْلِ وَتَكْسِيرُ اللَّبِنِ وَسَبْكِ الدَّنَانِيرِ وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أُجْرَةُ الْعَمَلِ. أَمَّا النَّقْضُ وَالتَّكْسِيرُ وَالسَّبْكُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ بَدَنِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعٍ لِضَرَرٍ. وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عملاً وتعدى به المعتدي لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَمِلَهُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى غَيْرِهِ أَجْرًا فَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ قَبْلَ تَسْلِيمِ ذلك إلى مالكه نقص الثَّوْبَ فَجَعَلَهُ غَزْلًا وَكَسَرَ اللَّبِنَ طِينًا وَسَبَكَ الدَّنَانِيرَ نُقْرَةً حَتَّى صَارَ عَلَى حَالِهِ الْأُولَى قَبْلَ الْغَصْبِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الثَّوْبِ مَنْسُوجًا وَغَزْلًا وَمَا بَيْنَ قِيمَةِ اللَّبِنِ مَضْرُوبًا وَطِينًا وَمَا بَيْنَ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ مَطْبُوعَةً وَنُقْرَةً لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا حِينَ زَادَتْ بِعَمَلِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ إِعَادَتِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ النَّقْصِ. فَأَمَّا رَبُّ الْغَزْلِ وَالطِّينِ وَالنُّقْرَةِ إِذَا طَالَبَ الْغَاصِبَ بِنَقْضِ الثَّوْبِ غَزْلًا وَتَكْسِيرِ اللَّبِنِ طِينًا وَسَبْكِ الدَّنَانِيرِ نُقْرَةً فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ أُخِذَ الْغَاصِبُ بِهِ لِيَعُودَ ذَلِكَ كَمَا غَصَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ صحيح عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الْمُزَنِيِّ فَيُقَالُ لَهُ إِنْ كُنْتَ تَمْنَعُ الغاصب من سد البئر ورد التراب مع ارْتِفَاعِ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ وَزَوَالِ الْمَقَاصِدِ الْوَاضِحَةِ فَنَحْنُ نُوَافِقُكَ عَلَيْهِ ولَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ خِلَافٌ فِيهِ وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَيْكَ الْخِلَافُ بِقَوْلِهِ فِي سَدِّ الْبِئْرِ نَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ فِي ثَانِي حَالٍ وَإِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ مَعَ الْغَاصِبِ مِنْ سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ مَعَ وُجُودِ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ فَنَحْنُ نُخَالِفُكَ فِيهَا وَنَمْنَعُ مَا ذَكَرْتَهُ أَنْ يَكُونَ دليلاً عليها لارتفاع الأغراض في نقص الْغَزْلِ وَتَكْسِيرِ اللَّبِنِ وَطَهُورِهِ فِي سَدِّ الْبِئْرِ وَرَدِّ التُّرَابِ وَلَيْسَ لَكَ إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْغَاصِبِ مَعَ زَوَالِهِ عَنِ الْمَغْصُوبِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ رَجُلٌ أَرْضًا وَقَلَعَ مِنْهَا شَجَرًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ بَاقِيًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الشَّجَرِ قَائِمًا وَمَقْلُوعًا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ عَلَى الشَّجَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الْأَرْضِ ذَاتِ شَجَرٍ قَائِمٍ وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا وَالشَّجَرُ مَقْلُوعٌ مِنْهَا لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ قَدْ سَرَى إِلَى الْأَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْعِلَّتَيْنِ فِي تَغْلِيظِ الْغَصْبِ فَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ قَدْ نَجَرَهُ أَبْوَابًا أَوْ عَمِلَهُ سُفُنًا فَزَادَ فِي قِيمَتِهِ بِعَمَلِهِ بِقَدْرِ مَا ضَمِنَهُ مِنْ نَقْصِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُ النَّقْصِ بِمَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ مَعَ رَدِّهِ زَائِدًا فَإِنْ خَلَعَ الْأَبْوَابَ وَهَدَمَ السُّفُنَ حَتَّى ذَهَبَتْ زِيَادَةُ عَمَلِهِ ضَمِنَ أَيْضًا نَقْصَهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْعَمَلِ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ مِنْ لُزُومِ رَدِّهَا مَعْمُولَةً. وَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ قَدِ اسْتُهْلِكَ حِينَ قَلَعَهُ فَضَمَانُهُ يَكُونُ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَضْمَنُ قِيمَةَ الشَّجَرِ قَائِمًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ بِقَلْعِ الشَّجَرِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ أَرْضًا فَطَرَحَ فِيهَا تُرَابًا لَمْ يَخْلُ حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ أخذه منها أم لَا فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُ مِنْهَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ إِنْ تَمَيَّزَ وَضَمِنَ مَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِأَخْذِهِ إِنْ نَقَصَتْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ مِنْهَا لِبَسْطِ ذَلِكَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى قِيمَتِهَا الْأُولَى لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا لَهُ لِأَنَّ تُرَابَهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ نَقَصَتْ عَنْ حَالِهَا قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَيَضْمَنُ قَدْرَ نَقْصِهَا، وَيَصِيرُ تُرَابُهُ مُسْتَهْلَكًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا قَدْ زَادَتْ عَنْ حَالِهَا قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ التُّرَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَالْأَرْوَاثِ وَالْكَسَايِحِ النَّجِسَةِ فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيهَا لِفَوَاتِ الرُّجُوعِ بِهَا وَتَحْرِيمِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ لَا شَيْءَ لَهُ في لِاسْتِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِ الْأَرْضِ بِقَدْرِ ثَمَنِ التُّرَابِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكًا لِتُرَابِهِ كَمَا لَا يَكُونُ صَبْغُ الثَّوْبِ بِمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ اسْتِهْلَاكًا لِلصَّبْغِ فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ قِيمَةَ الْأَرْضِ قَبْلَ بَسْطِ التُّرَابِ فِيهَا فَإِذَا قِيلَ أَلْفٌ نُظِرَ قِيمَةَ التُّرَابِ قَبْلَ بَسْطِهِ فَإِذَا قِيلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 مِائَةٌ نُظِرَ قِيمَةَ الْأَرْضِ بَعْدَ بَسْطِ التُّرَابِ فيها فإن كانت ألف وَمِائَةً وَلَيْسَ فِي الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ عَلَى مَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ فَيَصِيرُ الْغَاصِبُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْأَرْضِ بِمِائَةٍ هِيَ قِيمَةُ تُرَابِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَخَمْسِينَ فَقَدْ نَقَصَتْ عَنِ الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ خَمْسُونَ فَيَكُونُ الْغَاصِبُ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ بِالْخَمْسِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْأَلْفِ وَيَكُونُ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ لِضَمَانِهِ نَقْصَ الْأَرْضِ بِالتَّعَدِّي وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ فَقَدْ زَادَتْ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ مِائَةً فَتَكُونُ الْمِائَةُ الزَّائِدَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فِي أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِحُدُوثِهَا عَنِ الْمَالَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ ثَمَنُهَا عشرةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي السُّوقِ وَالْبَدَنِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. وَقَالَ أبو حنيفة: وَهُوَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ اعْتِبَارًا بِحَالِ التَّعَدِّي، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْفِعْلِ كَابْتِدَائِهِ شَرْعًا وَلِسَانًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) {النساء: 136) أَيِ اسْتَدِيمُوا الْإِيمَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ) {الفاتحة: 6) أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبِ: وَأَمَّا اللِّسَانُ فَهُوَ أَنَّ مُسْتَدِيمَ الْغَصْبِ يُسَمَّى فِي كُلِّ حَالٍ غَاصِبًا، وَيُقَالُ قَدْ غَصَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْغَصْبُ. وَالثَّانِي أَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْجِنَايَةِ فَلَمَّا كَانَتْ سَرَايَةُ الْجِرَاحِ فِي الْجِنَايَةِ إِلَى تَلَفِ النَّفْسِ تُوجِبُ ضَمَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ بَعْدَ الْغَصْبِ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي حَالِ الْغَصْبِ، ثُمَّ هُوَ فِي الْغَصْبِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْجِنَايَةِ لِبَقَاءِ يَدِهِ فِي الْغَصْبِ وَارْتِفَاعِهَا فِي الْجِنَايَةِ، وَفِي مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَاضِيَةِ مَعَهُ فِي زِيَادَةِ الْبَدَنِ دَلِيلٌ كَافٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاخْتَلَفَا فِي الْمَغْصُوبِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَلَفِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِثْلِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قِيمَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصِّفَةِ، فَيَقُولُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 قِيمَتُهُ عِنْدِي أَلْفٌ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ قِيمَتُهُ عِنْدِي مِائَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُهُ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَارِمٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ، فَإِنْ قِيلَ فَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَفْسُدُ بِالشَّفِيعِ إِذَا اخْتَلَفَ مَعَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِهِ دُونَ الشَّفِيعِ وَالشَّفِيعُ مُنْكِرٌ وَغَارِمٌ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَالِكٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ انْتِزَاعُ مِلْكِهِ إِلَّا بِقَوْلِهِ كَمَا أَنَّ الْغَارِمَ مَالِكٌ وَلَا يَغْرَمُ إِلَّا بِقَوْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَاعِلُ الشِّرَاءِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ كَمَا أَنَّ الْغَاصِبَ فَاعِلُ الْغَصْبِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ فَحَلَّ الْمُشْتَرِي بِهَذَيْنِ مَحَلَّ الْغَارِمِ وَسَلِمَ الْمَعْنَيَانِ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْقِيمَةِ سُمِعَتْ وَهِيَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ أَلْفٌ وَقْتَ الْغَصْبِ أَوْ وَقْتَ التَّلَفِ أَوْ فِيمَا بَيْنَ الْغَصْبِ وَالتَّلَفِ حُكِمَ بِهَا لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ أَلْفًا قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْغَاصِبِ لَكِنْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إِنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ هَذِهِ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَقْصُهَا. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْغَصْبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالْبَيِّنَةُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَوْلُ بِهَا قَوْلَ الْمَشْهُودِ لَهُ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِصِفَاتِ الْعَبْدِ دُونَ قِيمَتِهِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْوِيمَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ بِالصِّفَةِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْقِيمَةِ دُونَ الصِّفَةِ فَلَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْرِ مَا تَدَاعَيَاهُ وَاخْتَلَفَا فِيهِ. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ صِفَةَ زِيَادَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صِفَةَ نَقْصٍ فَأَمَّا صِفَةُ الزِّيَادَةِ فَهِيَ دَعْوَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَةُ عَبْدِي أَلْفٌ لِأَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ صَانِعٌ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَاتِبٍ وَلَا صَانِعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ وَهُمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الْغُرْمُ وَالْإِنْكَارُ. وَأَمَّا صِفَةُ النَّقْصِ فَهِيَ دَعْوَى الْغَاصِبِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْغَاصِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ الَّذِي غَصَبْتُهُ مِنْكَ مِائَةٌ لِأَنَّهُ سَارِقٌ أَوْ آبِقٌ وَيَقُولُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَتُهُ أَلْفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَارِقٍ وَلَا آبِقٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يمنيه تَعْلِيلًا بِعُرْفِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ تَعْلِيلًا بِإِنْكَارِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْآجَالِ. وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي تَلَفِهِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَبْدٌ بَاقٍ فِي يَدِكَ وَيَقُولُ الْغَاصِبُ قَدْ تَلِفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى تَلَفِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْقِيمَةَ. وَقَدْ حَلَفَ الْغَاصِبُ عَلَى تَلَفِ الْعَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلتَّلَفِ فَيَمِينُ الْغَاصِبِ مَانِعَةٌ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْآبِقِ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ قِيمَتُهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمَا فِي مِثْلِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَاتِ الْمِثْلِ. كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ غَصَبْتَنِي طَعَامًا حَدِيثًا فَيَقُولُ الْغَاصِبُ بَلْ غَصَبْتُكَ طَعَامًا عَتِيقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ تَعْلِيلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي الْإِنْكَارِ وَالْغُرْمِ ثُمَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي أَصْلِ الْمِثْلِ كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِمَا غَصَبْتَنِيهِ مِثْلٌ وَقَوْلِ الْغَاصِبِ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَلَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِهِمَا وَيَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحُكَّامِ فَإِنْ حَكَمُوا لَهُ بِمِثْلٍ طُولِبَ بِهِ وَإِنْ حَكَمُوا فِيهِ بِالْقِيمَةِ أُخِذَتْ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وُجُودِ الْمِثْلِ كَقَوْلِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمِثْلُ مَوْجُودٌ. وَبِقَوْلِ الْغَاصِبِ بَلِ الْمِثْلُ مَعْدُومٌ فَيَكْشِفُ الْحَاكِمُ عَنْ وُجُودِهِ وَيَقْطَعُ تَنَازُعَهُمَا فِيهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَ الْغَاصِبَ دَفَعُ الْمِثْلِ رَخِيصًا كَانَ أَوْ غَالِيًا، وَإِنْ عُدِمَهُ خُيِّرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَيْنَ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَخْذَ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ فَإِنْ تَعَجَّلَ أَخْذَ الْقِيمَةِ ثُمَّ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْآبِقِ إِذَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ ثُمَّ وُجِدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قِيمَةَ الْآبِقِ أُخِذَتْ عِنْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ فَلَزِمَ رَدُّهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَقِيمَةَ ذِي الْمِثْلِ أُخِذَتْ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ، فَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ خُيِّرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَ مُطَالِبًا بِالْقِيمَةِ قَبْلَ الْوُجُودِ فَذَلِكَ لَهُ لِتَعَجُّلِ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْمُسَلَّمِ فِي الشَّيْءِ إِلَى مُدَّةٍ يَنْقَطِعُ فِيهَا فَرَضِيَ الْمُسَلَّمُ بِالصَّبْرِ إِلَى وُجُودِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَعَذُّرَ وُجُودِ السِّلْمِ عَيْبٌ فَإِذَا ارْتَضَى بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، وَصَبْرَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلَى وُجُودِ الْمِثْلِ إِنْظَارٌ وَتَأْجِيلُ تَطَوُّعٍ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ ثِيَابٌ أَوْ حُلِيٌّ، بَعْدَ غَصْبِهِ، فَادَّعَاهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِأَنَّهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، وَقَالَ الْغَاصِبُ بَلْ هِيَ لِي فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يمنيه لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا عَلَيْهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لَهُ كيلٌ أَوْ وزنٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أن ماله مِثْلٌ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ بِالْمَثَلِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ. فَأَمَّا حَدُّ مَا لَهُ مِثْلٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَا كَانَ لَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُ كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ حَدًّا لِمَا لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّ كُلَّ ذِي مِثْلٍ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ لَهُ مِثْلٌ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْغُرْمِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لِمَا لَهُ مِثْلٌ، وَحَدُّ مَا لَهُ مِثْلٌ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ شَرْطَانِ: تَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ وَأَمْنُ التَّفَاضُلِ، فَكُلُّ مَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ وَأُمِنَ تَفَاضُلُهُ فَلَهُ مِثْلٌ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا كَانَ الْكَيْلُ شَرْطًا فِي مُمَاثَلَتِهِ دُونَ الْوَزْنِ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا كَانَ الْوَزْنُ شَرْطًا فِي مُمَاثَلَتِهِ دُونَ الْكَيْلِ، فَأَمَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ أَوْ خِيفَ تَفَاضُلُهُ كَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ فَلَا مِثْلَ لَهُ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ ذِي الْمِثْلِ بِمَا وَصَفْنَا فَعُدِمَ الْمَثْلُ وَلَمْ يُوجَدْ وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا مِثْلٌ فِي الشَّرْعِ لِمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَكَذَا يَكُونُ مِثْلًا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ، ثُمَّ فِي الْقِيمَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ الْمَغْصُوبِ فِي أَكْثَرِ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْغَصْبِ ثُمَّ قِيمَةُ الْمِثْلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الأمكنة، واختلاف الأزمة فإن للمثمن في كل بلد ثمن، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ ثَمَنا. فَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ الْغَصْبُ فِيهِ لِأَنَّ الْمِثَلَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَاسْتَحَقَّ تَسْلِيمُهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَكَذَا قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُثَمَّنُ مَغْصُوبًا بِالْبَصْرَةِ، اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِبَغْدَادَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِبَغْدَادَ وَعِنْدِي مِنْ وَقْتِ التَّلَفِ إِلَى وَقْتِ الْعَدَمِ وَأَمَّا زَمَانُ الْقِيمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ذكره أبو عي الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ الْعَدَمِ كَمَا تُعْتَبَرُ قيمته بدلاً مثل له أكثر ما كان قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَدَمِ لَا غَيْرَ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ زَائِدًا قَبْلَهَا، لِأَنَّ نَقْصَ ثَمَنِهِ مَعَ وُجُودِ الْمِثْلِ لَا يُوجِبُ غُرْمَ النَّقْصِ مَعَ دَفْعِ الْمِثْلِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَقْصِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ وَقَدِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ حِنْطَةً بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِبَغْدَادَ فَطَالَبَهُ بِحِنْطَتِهِ فَلَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ نَقْلُهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ غَصَبَهُ إِيَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمِثْلِهَا لِبَقَاءِ عَيْنِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِبَغْدَادَ مِثْلَ قِيمَتِهَا بِالْبَصْرَةِ أَوْ أَقَلَّ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِثْلَ حِنْطَتِهِ بِبَغْدَادَ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِبَغْدَادَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِالْبَصْرَةِ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مِثْلَ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غَصَبَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِبَغْدَادَ قِيمَةَ مِثْلِ طَعَامِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ بَذَلَ ذَلِكَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَعْدُ إِذْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ سَوَاءٌ بَذَلَ لَهُ قِيمَةَ أَوْ مِثْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْقَبْضِ فِي مَكَانِ الغصب. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ فَزَادَ فِي قِيمَتِهِ قِيلَ لِلْغَاصِبِ إِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجِ الصَّبْغَ عَلَى أَنَّكَ ضامنٌ لِمَا نَقَصَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ شريكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فَإِنْ مُحِقَ الصَّبْغُ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ قيمةٌ قيل ليس لك ههنا مالٌ يَزِيدُ فَإِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجْهُ وَأَنْتَ ضامنٌ لِنُقْصَانِ الثَّوْبِ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْهُ وَإِنْ كَانَ يَنْقُصُ الثَّوْبَ ضَمِنَ النُّقْصَانَ وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ الصَبْغَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا نَقَصَ الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا نَظِيرُ مَا مَضَى فِي نَقْلِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْغَاصِبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الثَّوْبِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ. فَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ لِلْغَاصِبِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدها: أن يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ. وَالثَّانِي: لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ. وَالثَّالِثُ: أن يمكن استخراج بعضه ولا يمكن استخراج بعضه فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 لَمْ يَخْلُ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ قَبْلَ الصبغ أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَيُبَاعُ الثَّوْبُ بَعْدَ صَبْغِهِ بعشرة دراهم فهي بأثرها لِرَبِّ الثَّوْبِ لِاسْتِهْلَاكِ الصَّبْغِ إِمَّا بِذَهَابِ قِيمَتِهِ وَإِمَّا لِجَرِّهِ النَّقْصَ لِلثَّوْبِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ أَقَلَّ مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ بَعْدَ الصَّبْغِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ فَيَأْخُذُهَا رَبُّ الثَّوْبِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِهِ وَهُوَ دِرْهَمَانِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهَا جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيَصِيرُ صَبْغُ الْغَاصِبِ وَنَقْصُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ مُسْتَهْلَكَيْنِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ أَكْثَرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّبْغِ، أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ أَوْ يَكُونُ أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا فَيَأْخُذُ رَبُّ الثَّوْبِ مِنْهَا عَشْرَةً الَّتِي هِيَ ثَمَنُ ثَوْبِهِ وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ عَشْرَةً هِيَ ثَمَنُ صَبْغِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا نَقْصٌ لَا فِي الثَّوْبِ وَلَا فِي الصَّبْغِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الصَّبْغِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَعْدَ الصَّبْغِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَأْخُذُ مِنْهَا رَبُّ الثَّوْبِ عَشْرَةً ثَمَنَ ثَوْبِهِ كَامِلًا وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ وَيَصِيرُ النَّقْصُ مُخْتَصًّا بِصَبْغِهِ لِضَمَانِهِ نَقْصَ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا فَيَأْخُذُ رَبُّ الثَّوْبِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِشْرَةٌ مِنْهَا هِيَ ثَمَنُ ثَوْبِهِ وَخَمْسَةٌ هِيَ قِسْطُ الصَّبْغِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ المالين ولم يختص الغاصب بهما وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً بِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَحَصَلَ لَهُ عوض في مال نفسه. فإن ادعى أَحَدُهُمَا إِلَى بَيْعِهِ وَأَبَى الْآخَرُ نُظِرَ فِي الدَّاعِي إِلَى الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِالصَّبْغِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ فَيَسْتَدِيمُ حُكْمُ الْغَصْبِ، وَإِنْ دعى الْغَاصِبُ إِلَى بَيْعِهِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى ثَمَنِ صَبْغِهِ وَأَبَى رَبُّ الثَّوْبِ فَإِنْ بَذَلَ لَهُ مَعَ إِبَائِهِ ثَمَنَ الصَّبْغِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لَوْ بِيعَ الثَّوْبُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ ثَمَنَ الصَّبْغِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي " إِفْصَاحِهِ ": أحدهما: أنه يجبر رب الثور عَلَى بَيْعِهِ لِيَتَوَصَّلَ الْغَاصِبُ إِلَى ثَمَنِ صَبْغِهِ كَمَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ لِيَتَوَصَّلَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى ثَمَنِ ثَوْبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُجْبَرَ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ بِصَبْغِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِتَعَدِّيهِ إِزَالَةَ مِلْكِ رَبِّ الثَّوْبِ عَنْ ثَوْبِهِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الصبغ إذا لم يكن اسْتِخْرَاجُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَوَادًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَلْوَانِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ وَكَانَ رَبُّ الثَّوْبِ مُخَيَّرًا بين أن يأخذه ولا في شَيْءَ عَلَيْهِ لِلصَّبْغِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْغَاصِبِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ. وَإِنْ كَانَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 الصَّبْغُ حُمْرَةً أَوْ صُفْرَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّبْغِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْغَاصِبِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ فَجُعِلَ لَهُ فِي الْأَصْبَاغِ كُلِّهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْغَاصِبِ قِيمَةَ ثَوْبِهِ إِنْ شَاءَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَصْبُوغًا إِنْ شَاءَ لَكِنْ إِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنًا غَيْرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ لما خَصَّ السَّوَادَ بِإِسْقَاطِ الْقِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ. وَقَالَ آخَرُونَ، بَلْ قَالَهُ فِي آخِرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ حِينَ كَانَ السَّوَادُ نَقْصًا وَلَوْنًا مَذْمُومًا فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ صَارَ شِعَارَ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَزِيَادَةً فِي الثَّوْبِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ فَلَا، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَتَعْلِيلٌ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّوَادِ لِأَنَّ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا قَدْ يَكُونُ نَقْصًا تَارَةً وَتَارَةً أُخْرَى زِيَادَةً، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ عَامًّا فِي اعْتِبَارِ النَّقْصِ وَزِيَادَتِهِ، وَلَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالسَّوَادِ دُونَ غَيْرِهِ. فَأَمَّا تَمْلِيكُ الْغَاصِبِ الثَّوْبَ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْهُ فَخَطَأٌ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ قِيمَتِهَا مِنَ الْغَاصِبِ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَصْبُوغٍ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الثَّوْبِ قَبْلَ صَبْغِهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بَعْدَ صَبْغِهِ كَالْآجُرِّ، وَلِأَنَّ الصَّبْغَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا أَوْ غَيْرَ نَقْصٍ فَإِنْ كَانَ نَقْصًا ضَمِنَهُ لَا غَيْرَ كَالْمُتَمَيِّزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْصًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ، فَلِلْغَاصِبِ وَرَبِّ الثَّوْبِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي الثَّوْبِ وَبَيْعِهِ مَصْبُوغًا فَيَجُوزُ وَيَكُونُ الْقَوْل فِيهِ بَعْدَ بَيْعِهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ صَبْغِهِ. والحال الثاني: أن يتفقا على استخراجه منه فلذلك جَائِزٌ لِيَصِلَ الْغَاصِبُ إِلَى صَبْغِهِ وَرَبُّ الثَّوْبِ إِلَى ثَوْبِهِ، فَإِنِ اسْتَخْرَجَهُ وَأَثَّرَ فِي الثَّوْبِ نقصاً ضمنه به. والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ وَيَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى تَرْكِهِ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ سَوَاءٌ نَفَعَهُ أَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ لِأَنَّهَا عَيْنٌ فَمَلِكَهَا وَالْأَعْيَانُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يُقْهَرُ مُلَّاكُهَا عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِنَقْصِ الثَّوْبِ وَنَقْصِ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ بِدُخُولِ الصَّبْغِ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ قَدْ مَلَكَهَا فَفَوَّتَهَا الْغَاصِبُ عَلَيْهِ بِاسْتِخْرَاجِ صَبْغِهِ، مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عشرة وقيمة الصبغ عشرة فيساوي الثوب مصبوغا ثَلَاثِينَ، وَبَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ مِنْهُ خَمْسَةً، فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ عَشَرَةً خَمْسَةً مِنْهَا هِيَ نَقْصُ الثَّوْبِ قَبْلَ صَبْغِهِ، وَخَمْسَةً أُخْرَى هِيَ نَقْصُ قِسْطِهِ من الزيادة الحادثة بعد صبغه. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ وَيَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى تَرْكِهِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهُ اسْتِبْقَاءً لِمِلْكِ الصَّبْغِ فِيهِ، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّبْغُ قَدْ أَحْدَثَ زِيَادَةً تَفُوتُ بِاسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إِذَا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ مَعَ قُدْرَةِ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِالْبَيْعِ قَالَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ، قِيلَ لِلْغَاصِبِ إِنْ شِئْتَ فَاسْتَخْرِجِ الصَّبْغَ عَلَى أَنَّكَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فَحَصَلَ الْخِيَارُ إِلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِذَا بِيعَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ لِأَنَّهُ عِرْقٌ ظَالِمٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي الِاسْتِبْقَاءِ فَصَارَ كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، وَيَكُونُ تخبر الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ فِي التَّرْكِ وَالِاسْتِخْرَاجِ عِنْدَ رِضَا رَبِّ الثَّوْبِ بِالتَّرْكِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَخْرَجَهُ ضَمِنَ نَقْصَ الثَّوْبِ قَبْلَ الصَّبْغِ وَلَمْ يَضْمَنْ نَقْصَهُ بِالزِّيَادَةِ فِي حَال الصَّبْغِ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِإِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهُ الْغَاصِبُ عَفْوًا عَنْهُ وَإِبْرَاءً مِنْهُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ نَقْصًا فِي الثَّوْبِ أَوْ كَانَ لَهُ مَؤُنَةٌ فِي الِاسْتِخْرَاجِ أَوْ كَانَ قَدْ جَبَرَ نَقْصًا دَخَلَ عَلَى الثَّوْبِ أُجْبِرَ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً مَحْضَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا هِبَةُ عَيْنٍ لَا يَلْزَمُ رَبَّ الثَّوْبِ قَبُولُهَا وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ تَجْرِي مَجْرَى غَيْرِ الْمُتَمَيِّزَةِ كَالطُّولِ وَالسِّمَنِ فِي خُرُوجِهَا عَنِ الْهِبَةِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ. فَهَذَا حُكْمُ الصَّبْغِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِخْرَاجُهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبْغُ مِمَّا يمكن استخراج بعضه ولا يمكن استخراج بعضه فَالْقَوْلُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ كَالْقَوْلِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْقَوْلُ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ كَالْقَوْلِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، فَيُجْمَعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ حُكْمُ الْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ تَقْسِيمًا وَشَرْحًا فَهَذَا حُكْمُ الصَّبْغِ إِذَا كَانَ لِلْغَاصِبِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْغُ لِرَبِّ الثَّوْبِ فَكَالرَّجُلِ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبْغًا يُسَاوِي عَشَرَةً وَصَبَغَ بِهِ الثَّوْبَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُ الصَّبْغِ، نُظِرَ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَخْذَهُ الْمَالِكُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ نَقَصَ مَصْبُوغًا عَنِ الْعِشْرِينَ أَخَذَهُ مَالِكُهُ وَرَجَعَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ قِيمَتِهِ مِنَ الْعِشْرِينَ لِيَسْتَكْمِلَ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ. فَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُ الصَّبْغِ مُمْكِنًا فَلَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنًا فِيهِ وَلِلْمَالِكِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْضَى بِتَرْكِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَأْخُذُ مَعَهُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ إِنْ حَدَثَ فِيهَا نَقْصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْعُوَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الثَّوْبِ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الصَّبْغِ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ اسْتِخْرَاجُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِخْرَاجِهِ مَؤُنَةٌ يَذْهَبُ بِهَا شَطْرُ قِيمَتِهِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِخْرَاجِهِ وَضَمَانِ نَقْصِ إِنْ حَدَثَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهِ غَرَضٌ نظر، فإن لم يستضر الغاصب بنقص بضمنه فِي الثَّوْبِ أُخِذَ بِاسْتِخْرَاجِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِنَقْصٍ يَحْدُثُ فِيهِ فَهَلْ يُؤْخَذُ جَبْرًا بِاسْتِخْرَاجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَالشَّجَرَةِ فِي الْأَرْضِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ بِاسْتِخْرَاجِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِكِ بِاسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ غَصْبِهِ فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةً إِنْ كَانَتْ قَدْ حَدَثَتْ بِالصَّبْغِ، وَلَوْ طَالَبَ بِغُرْمِ النَّقْصِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْرَاجٍ أُجِيبُ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى حَالَتِهِ وَلَا يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَبَثِ وَالْإِضْرَارِ، وَلَوْ سَأَلَ غُرْمَ نَقْصٍ لَوْ كَانَ يَحْدُثُ بِالِاسْتِخْرَاجِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا نَقْصٌ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ النَّقْصَ. فَصْلٌ: فِي صبغ الأجنبي وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْغُ لِأَجْنَبِيٍّ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُمْكِنَ اسْتِخْرَاجُهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ كَانَ رَبُّ الثَّوْبِ وَرَبُّ الصَّبْغِ شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِقِيمَةِ الثوب وقيمة الصبغ لاجتماع ماليهما فِيهِ، ثُمَّ لَا تَخْلُو قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ مِثْلَ أن تكون قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عَشَرَةً فَيُسَاوِي الثَّوْبً مَصْبُوغًا عِشْرِينَ، فَإِذَا تَسَلَّمَاهُ مَصْبُوغًا بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ حَقِّهِمَا وَكَانَا فِيهِ عَلَى الشَّرِكَةِ بِالْقِيمَتَيْنِ، فَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الثَّوْبِ لِرَبِّ الصَّبْغِ قِيمَةَ صَبْغِهِ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهَا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَيْنِ مَالِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَهْلَكًا فِي الثَّوْبِ فَلَوْ بَذَلَ رَبُّ الصَّبْغِ لِرَبِّ الثَّوْبِ قِيمَةَ ثَوْبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا وَقِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهَا، وَبَذْلِ قِيمَةِ الصَّبْغِ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلُ عَيْنِهِ قَائِمَةٌ، وَالصَّبْغَ تَبَعٌ قَدِ اسْتُهْلِكَ فِي الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَتَنْقَسِمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْقِسْطِ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْغَاصِبِ بِدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ هِيَ نَقْصُ مَا غَصَبَ مِنْهُ فَيَصِيرَانِ رَاجِعَيْنِ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ تَكْمِلَةَ الْعِشْرِينَ. وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا أَكْثَرَ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِقَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ لِحُدُوثِ الْعَشَرَةِ الزَّائِدَةِ فِي مَالَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ مُمْكِنًا فَلِرَبِّ الثَّوْبِ وَرَبِّ الصَّبْغِ الْأَحْوَالُ الْأَرْبَعَةُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ الصبغ في الثوب فلذلك لَهُمَا ثُمَّ إِنْ كَانَ فِيهِ نَقْصٌ رَجْعَا به على الغاصب ليستكملا القيمتين. والحال الثاني: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا سَوَاءٌ أَضَرَّ اسْتِخْرَاجُهُ بِالْغَاصِبِ فِي حُدُوثِ نَقْصٍ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْمَالِكَيْنِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى تَمْيِيزِ الْمَالَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ فِي مَالِهِ بِالِاسْتِخْرَاجِ لِتَعَدِّيهِ الْمُتَقَدِّمِ بِالصَّبْغِ. وَالْحَالُ الثالث: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الصَّبْغِ وَحْدَهُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَرْجِعُ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى الْغَاصِبِ بنقص ثوبه ورب الصبغ ينقص صَبْغِهِ فَإِنْ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ يُحْدِثُ فِي الثَّوْبِ نقصاً وليس للغاصب حَاضِرًا فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، قِيلَ لِرَبِّ الصَّبْغِ لَيْسَ لَكَ اسْتِخْرَاجُ صَبْغِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرَمَ لِرَبِّ الثَّوْبِ نَقْصَ ثَوْبِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا لَكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ القدرة. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الثَّوْبِ وَحْدَهُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِذَلِكَ نَقْصٌ فِي الصَّبْغِ أُخِذَ الْغَاصِبُ بِالْتِزَامِ مَؤُنَةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَغُرْمِ النَّقْصِ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الصَّبْغِ بَعْدَ أَنِ استخرج لم يُؤْخَذْ رَبُّ الصَّبْغِ بِاسْتِخْرَاجِ الصَّبْغِ إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُ رَبُّ الثَّوْبِ نَقْصُ الصَّبْغِ عَلَى الْغَاصِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي إِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ لَوْ كَانَ الصَّبْغُ لَهُ. فَصْلٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا نَظِيرُ مَا مَضَى فِي نَقْلِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْغَاصِبَ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِخْرَاجِ صَبْغِهِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ مِنْ رَدِّ التُّرَابِ فَأَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الصَّبْغُ فَهُوَ عَيْنُ مَالٍ لَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ وَإِنْ كَانَ غاصباً لغيره. مسألة قال الشافعي رحمه الله: " وولو كَانَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ خيرٍ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا مَكِيلَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ زَيْتِهِ وَإِنْ خَلَطَهُ بِشَرٍّ مِنْهُ أَوْ صَبَّهُ فِي بانٍ فَعَلَيْهِ مِثْلُ زَيْتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لِأَنَّ الزيت مِثْلًا فَإِذَا غَصَبَ زَيْتًا وَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَهُ بِزَيْتٍ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ زَيْتٍ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِزَيْتٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْربٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 أَحَدُهَا: أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْلِطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ كَانَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْهُ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَكِيَلَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ها هنا، أن له ذاك لأنه قد قَالَ فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْ هَذَا مَكِيَلَةً وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ زَيْتِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ زَيْتِهِ تَسَاوَتِ الْأَعْيَانُ الْمُمَاثِلَةُ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يتحجز عَلَيْهِ فِي عَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّيْتِ الْمُخْتَلَطِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا عن رضى مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ وَلَيْسَ يَدْخُلُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَرَرٌ بِهِ فَكَأَنَّ الْمَغْصُوبَ أَحَقُّ بِمَا لَيْسَ لَهُ عَيْنُ مَالٍ فِيهِ، وَيَكُونُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَاجِعًا إِلَى خَلْطِهِ وَالْأَجْوَدُ دُونَ الْمِثْلِ. فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ، فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الْغَاصِبُ مَكِيلَةَ زَيْتِهِ مِنْهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِيهِ مَعَ الزِّيَادَةِ، فِي الْجَوْدَةِ، وَإِنْ عَدَلَ بِهِ الْغَاصِبُ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَطَالَبَ بِحَقِّهِ مِنْ نَفْسِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْغَصْبِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي الْعُدُولِ إِلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً لَا تَتَمَيَّزُ فَلَمْ يَلْزَمِ الْغَاصِبَ بَذْلُهَا، وَكَانَ الْمِثْلُ أَحَقَّ لِيَزُولَ بِهِ الضَّرَرُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَضْرِبُ بِثَمَنِ زَيْتِهِ فِي الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْفَلَسِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَصَبَهُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهُ بِصَاعٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُبَاعُ الصَّاعَانِ، فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ فَيَأْخُذُ الْمَغْصُوبُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ هِيَ ثَمَنُ صَاعِهِ وَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ هِيَ ثَمَنُ صَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ ثَمَنِ الصَّاعَيْنِ لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ ثُلُثُ الْعِشْرِينَ وَلِلْغَاصِبِ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتَوْفَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثَمَنَ صَاعِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَدَخَلَ النَّقْصُ عَلَى الْغَاصِبِ لِضَمَانِهِ بِالتَّعَدِّي إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ لِرُخْصِ السُّوقِ فَلَا يَضْمَنُهُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ قَالَ: الْمَغْصُوبُ أَنَا آخُذُ مِنْ هَذَا الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ زَيْتًا بِقِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ وَهُوَ ثُلُثُ الصَّاعَيْنِ بِخَمْسَةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُجَابُ إِلَى هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ آخِذًا لِثُلُثَيْ صَاعٍ بَدَلًا مِنَ الصَّاعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجَابُ إِلَى هَذَا وَيُعْطَى مِنَ الصَّاعَيْنِ ثُلُثَيْ صَاعٍ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا رِبًا لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْبِيَاعَاتِ وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي هَذَا بَيْعٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَارِكٌ بَعْضَ الْمَكِيلَةِ فَيَكُونُ مُسَامِحًا. فَصْلٌ : وَإِذَا خَلَطَهُ بِأَرْدَأَ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مِنْهُ صَاعًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَيَخْلِطُهُ بِصَاعٍ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ هَذَا الْمُخْتَلِطِ فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُسَامِحًا بِجَوْدَةِ زَيْتِهِ. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِثْلِ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ وَقَدِ اسْتَوْفَى الْحَقَّ مِنْ غير محاباة. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الْغَاصِبُ مِثْلَ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْعُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ إِلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمُخْتَلِطِ بِزَيْتِهِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَ بِمِثْلِ زَيْتِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِاسْتِهْلَاكِ زَيْتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ وَلَهُ الْعُدُولُ بِهِ إِلَى الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِوُجُودِ عَيْنِ مَالِهِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ رَضِيَ أَنْ يأخذ منه مثل مكيلته جاز وكان مسامحاً بِالْجَوْدَةِ، وَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: يُجَابُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثَيْنِ قِسْطِ عَشَرَةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَةَ إِنْ قَاسَمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ ثلثي الصاعين وذلك صاع وثلثه على صفعته ها هنا وإن اقتضاه التعليل جاز. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَطْلُبَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مِثْلَ مَكِيلَةِ زَيْتِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمُخْتَلِطِ بِزَيْتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى دَفْعِ مِثْلِ الْمَكِيلَةِ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الزَّيْتِ الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ من قدر مكيلة لنقصه، ويكون له ثلثاه عَلَى مَا مَضَى فَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: فَصْلٌ : فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَخْلِطَ الزَّيْتَ بِغَيْرِ زَيْتٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ كَالْعَسَلِ فيؤخذ الغاصب باستخراجه وأرش ما نَقص مِنْ قِيمَتِهِ وَمِثْلِ مَا نَقَصَ مِنْ ملكيته. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ كَالشَّيْرَجِ وَالْبَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ ها هنا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ مِثْلَ مَكِيلَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ بِقِيمَةِ زَيْتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ صَاعًا مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي خَمْسَةً مُخَلَّطَةً بِصَاعٍ مِنْ بَانٍ يُسَاوِي عَشَرَةً فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ ثَمَنِهَا إِنْ كَانَ الثُّلُثُ خَمْسَةً فَصَاعِدًا وَإِنْ نَقَصَ بِالِاخْتِلَاطِ مِنَ الْخَمْسَةِ رَجَعَ بِقَدْرِ النَّقْصِ فَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ لِيَأْخُذَ ثُلُثَ الْجُمْلَةِ فَهُمَا جنسان فيخرج من اقْتِسَامِهِمَا بِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الزَّيْتِ بِغَيْرِهِ يُفْضِي إِلَى التَّفَاضُلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَغْلَاهُ عَلَى النَّارِ أَخَذَهُ وَمَا نَقَصَتْ مَكِيلَتُهُ أَوْ قِيمَتُهُ ". قال الماوردي: وصورتها في من غَصَبَ زَيْتًا فَأَغْلَاهُ بِالنَّارِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَتِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مَكِيلَتِهِ وَلَا مِنْ قِيمَتِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ الْمَغْصُوبُ وَيَبْرَأُ مِنْهُ الْغَاصِبُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مَكِيلَتِهِ دُونَ قِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مِنْهُ عَشَرَةَ آصُعٍ مِنْ زَيْتٍ يُسَاوِي كُلُّ صَاعٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ إِلَى سَبْعَةِ آصُعٍ يُسَاوِي كُلُّ صَاعٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَكِيلَةِ مَا نَقَصَ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ فَلَوْ كَانَ قَدْ زَادَ فِي قِيمَةِ الْمَغْلِيِّ الْبَاقِي بِمِثْلِ قِيمَةِ مَا نَقَصَ مِنَ الْآصُعِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْغَاصِبِ غُرْمُ الْمَكِيلَةِ النَّاقِصَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ فَيَكُونُ قِصَاصًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دُونَ مَكِيلَتِهِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْآصُعُ الْعَشَرَةُ عَلَى مَكِيلَتِهَا لَكِنْ تَعُودُ قِيمَةُ كُلِّ صَاعٍ بَعْدَ غَلْيِهِ بِالنَّارِ إِلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهُ مُنْتَهِيًا لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ نَقْصٌ آخر غيره فهذا يسترجع من الغاصب مغلي مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ فِي كُلِّ صَاعٍ وَهُوَ دِرْهَمٌ فَيَرْجِعُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ النَّقْصُ قَدِ انْتَهَى لِحُدُوثِ نَقْصٍ آخَرَ بَعْدُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ من النقص الثاني محدود، فَلَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ الزَّيْتِ بِغَيْرِهِ وَيَنْتَظِرُ حُدُوثَ نُقْصَانٍ فَيَرْجِعُ بِهِ، فَإِنْ تَلِفَ الزَّيْتُ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُقْصَانِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ نَقْصٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ خَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثْغَرْ فَانْتَظَرَ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ نَبَاتِهَا أَوْ ذَهَابِهَا فَمَاتَ قَبْلَ مَعْرِفَتِهَا ففي استحقاق ديتها قولان يخرج منهما ها هنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا أَرْشَ لَهُ لِعَدَمِ حُدُوثِهِ وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَطَالَبَ بِالْأَرْشِ مِثْلَ حُدُوثِ النَّقْصِ لَمْ يَكُنْ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْأَرْشُ لِلْعِلْمِ بِهِ لَوْ كَانَ بَاقِيًا فَطَالَبَ بِهِ قَبْلَ حُدُوثِ النَّقْصِ كَانَ لَهُ فَلَوْ لَمْ يَهْلِكِ الزَّيْتُ وَلَكِنْ بَاعَهُ قَبْلَ انْتِهَاءِ نُقْصَانِهِ فَإِنْ أَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَا رَدَّ له بحدوث نقصه لعلمه بعينه وللمغصوب أَنْ يرْجعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِنَقْصِهِ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَيْهِ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يُعْلِمِ الْمُشْتَرِيَ بِهِ فَلَهُ الرَّدُّ بِحُدُوثِ نَقْصِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَرَدَّهُ رَجَعَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِأَرْشِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ كَانَ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَرْشِ نَقْصِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ سَلِيمًا قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ بِهِ نَقْصٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لضمانه له بالغصب. ولا يكون حدوث رضى المشتري به برأة لِلْغَاصِبِ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ الثَّانِي غَيْرَ مَحْدُودٍ ففيه وجهان: أحدهما: أن للمغصوب إِنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمِثْلِهِ لِمَا فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى انْتِهَاءِ النَّقْصِ الْمَجْهُولِ مِنْ شِدَّةِ الْإِضْرَارِ. وَفَوَاتِ الِانْتِفَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ لِأَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَعْيَانِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْغُرْمِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ جَرَحَ عَبْدًا جَهِلْنَا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالَ جُرْحِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ الْجَارِحُ بِالْقِيمَةِ فِي بَدَلِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ غَلْيُهُ بِالنَّارِ قَدْ نَقَصَ مِنْ مَكِيلَتِهِ وَقِيمَتِهِ مِثْلَ أَنْ تَعُودَ الْآصُعُ الْعَشَرَةُ إِلَى سَبْعَةٍ وَيَرْجِعُ قِيمَةُ كُلِّ صَاعٍ مِنَ السَّبْعَةِ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَيَضْمَنُ النَّقْصَيْنِ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ بِالْمِثْلِ، وَنَقْصَ الْقِيمَةِ بِالْأَرْشِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ مِنْهُ عَصِيرًا فَأَغْلَاهُ بِالنَّارِ نَقَصَ قِيمَتَهُ إِنْ نَقَصَتْ وَهَلْ يَضْمَنُ نَقْصَ مَكِيلَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ بِخِلَافِ الزَّيْتِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ نَقْصَ مَكِيلَةِ الزَّيْتِ بِاسْتِهْلَاكِ أَجْزَائِهِ وَنَقْصَ مَكِيلَةِ الْعَصْرِ بِذَهَابِ مَائِيَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي (إِفْصَاحِهِ) أَنَّهُ يَضْمَنُ نَقْصَ الْمَكِيلَةِ كَمَا يَضْمَنُ نَقْصَهَا مِنَ الزَّيْتِ لِأَنَّ ما نقصت النار من مائتيه وَيُقَوَّمُ فِي الْعَصِيرِ بِقِيمَتِهِ فَصَارَ عَصِيرًا نَاقِصَ الْمَكِيلَةِ، وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ لَبَنًا فَعَمِلَهُ جبناً رجع به جبناً وينقص إِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ بِنَقْصِ مكيلته على الوجهين: والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَطَ دَقِيقًا بدقيقٍ فَكَالزَّيْتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ غَصَبَ دَقِيقًا فَخَلَطَهُ بِدَقِيقٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ إنَّهُ كَالزَّيْتِ فِي أَنَّ لَهُ مِثْلًا تَعَلُّقًا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِظَاهِرِهِ وَمِنَ الِاحْتِجَاجِ فِيهِ بِتَمَاثُلِ أَجْزَائِهِ وَإنَّ تَفَاوُتَ الطَّحْنِ فِي النُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ أَقْرَبُ مِنْ تَفَاوُتِ الْحِنْطَةِ فِي صِغَرِ الْحَبِّ وَكِبَرِهِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ حَالُ مَا خُلِطَ بِهِ مِنَ الدَّقِيقِ فِي كَوْنِهِ مِثْلًا أَوْ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ وَيُعْطِيهِ مِثْلَ مَكِيلِهِ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّيْتِ سَوَاءً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الدَّقِيقَ لَا مِثْلَ لَهُ لِاخْتِلَافِ طَحْنِهِ الْمُفْضِي بِالصَّنْعَةِ وَالْعَمَلِ إِلَى عَدَمِ تَمَاثُلِهِ وَلَيْسَ كَالْحِنْطَةِ الَّتِي لَيْسَ لِلْآدَمِيِّينَ صَنْعَةً فِي كِبَرِ حَجْمِهَا وَصِغَرِهِ وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَالزَّيْتِ فِي أَنَّهُ يصير مستهلكاً لا في أن مثلاً له فَعَلَى هَذَا إِذَا خَلَطَ الدَّقِيقَ بِدَقِيقٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَبَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الدَّقِيقِ الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ دَقِيقِهِ يُبَاعُ فَيَقْتَسِمَانِ ثَمَنَهُ فَإِنْ لَحِقَهُ نَقْصٌ رَجَعَ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِسَامَ بِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوْ تَمَيُّزُ نَصِيبٍ فَإِنْ غَصَبَ دَقِيقًا فَنَخَلَهُ وَاسْتَهْلَكَ نُخَالَتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَةَ النُّخَالَةِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ النُّخَالَةِ أَوْ مِنْ نَقْصِ الدَّقِيقِ بِنَخْلِ النُّخَالَةِ وَقَدْ مَضَى نَظِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِهْلَاكِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَخَلَطَهَا بِشَعِيرٍ فَلِلْحِنْطَةِ مِثْلٌ كَالزَّيْتِ فَإِنْ أمكن تمييزها مِنَ الشَّعِيرِ الْمُخْتَلِطِ بِهَا أَخَذَ الْغَاصِبُ بِتَمَيُّزِهَا وَإِنْ ثَقُلَتْ مَؤُنَةُ التَّمَيُّزِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمَيُّزُهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالزَّيْتِ إِذَا خُلِطَ ببان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِمِثْلِ حِنْطَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمُخْتَلِطِ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ فَإِنْ حَدَثَ بالاختلاط نقص رجع به. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ كَانَ قَمْحًا فَعَفُنَ عِنْدَهُ رَدَّهُ وَقِيمَةَ مَا نَقَصَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا عَفُنَتِ الْحِنْطَةُ فِي يَدِ غَاصِبِهَا أَوْ سَاسَتْ بِالسُّوسِ أَوْ دَادَتْ بِالدُّودِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا قَلَّ النَّقْصُ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ أبو حنيفة هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا نَاقِصَةً أَوْ يَرْجِعَ بِمِثْلِهَا وَقَدْ مَضَى فِي الْكَلَامِ مَعَهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا يُغْنِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ نَقْصِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا رَجَعَ بِهِ رَبُّ الْحِنْطَةِ عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ حِنْطَتِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ متناةٍ وَلَا مَحْدُودٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْصِ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَبَّ الْحِنْطَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ حِنْطَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَا وَيَرْجِعَ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ لِبَقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ وَيَرْجِعُ بِمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ من نقص. فصل : غصب الحنطة وطحنها ... فَإِنْ غَصَبَ مِنْهُ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ دَقِيقًا وَخُبْزًا وَبِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْعَمَلِ وَلَا بِزِيَادَةٍ إِنْ حَدَثَتْ وَقَالَ أبو حنيفة الْغَاصِبُ أَمْلَكُ بِهَا إِذَا زَادَتْ وَبِغُرْمِ مِثْلِهَا لِئَلَّا يَكُونَ عَمَلُهُ مُسْتَهْلَكًا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَهُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا. قَالَ أبو حنيفة: يَمْلِكُهَا وَيَغْرَمُ مِثْلَهَا وَمَا حَصَلَ مِنْ نَمَاءٍ عِنْدَ الْحَصَادِ كَانَ لَهُ وَيَأْمُرُهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ غَصَبَ غَرْسًا فَغَرَسَهُ حَتَّى صَارَ شَجَرًا مَلَكَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ حِينَ مَلَكَهُ وَهَذَا خَطَأٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مَالُ الْحِنْطَةِ الْمَزْرُوعَةِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْمَالِكِ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَذْرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَقْلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سُنْبُلًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 فَإِنْ كَانَتْ بَذْرًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَمْعُهُ مُمْكِنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُمْكِنٍ. فَإِنْ كَانَ جَمْعُهُ مُمْكِنًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن تقل مؤنة جمعه للمغصوب مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِجَمْعِهِ وَرَدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكْثُرَ مَؤُنَةُ جَمْعِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فِي بَلَدٍ فَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهِ. هَلْ يُكَلَّفُ الْغَاصِبُ نَقْلَهَا وَرَدَّ عَيْنِهَا أَوْ يَجُوزُ لَهُ رَدُّ مِثْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ الْمَنْقُولَةَ بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَلَدِ ويجمع الْمَبْذُورَةِ بِعَيْنِهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لا يكلف نقل النقولة، وَلَهُ رَدُّ مِثْلِهَا وَلَا يُكَلَّفُ جَمْعَ الْمَبْذُورَةِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مِنَ الْبَذْرِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مِنَ الْحَبِّ وَكَانَ بَذْرًا فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ عَلَيْهِ إِلَى نَبَاتِهِ وَإِمْكَانِ أَخْذِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْمِثْلِ مَلَكَ الْمِثْلَ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْبُذُورِ فَإِذَا نَبَتَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْمِثْلِ وَإن صيرَ عَلَيْهِ إِلَى نَبَاتِهِ وَإِمْكَانِ أَخْذِهِ فَذَلِكَ لَهُ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَبْذُورًا فِي أَرْضِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ فِي أَرْضِ الْغَاصِبِ أَوْ فِي أَرْضِ أَجْنَبِيٍّ فَإِذَا صَارَ بَقْلًا يُمْكِنُ جَزُّهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَا سَنَذْكُرُهُ فَلَوْ تَلِفَ الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَخْذِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ تَلُفُّهُ قَبْلَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَبًّا فَنَقَلَهُ النَّمْلُ أَوْ بَعْدَ أَنْ نَبَتَ عَلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فَأَكَلَهُ الدُّودُ فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا لِأَنَّ إِعْوَازَ أَخْذِهِ قَبْلَ التَّلَفِ بِتَعَدِّيهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ بَقَلًا ذَا قِيمَةٍ فَالْغَاصِبُ بَرِئَ مِنْ ضمانه لأنه بالترك بعد الممكنة مِنَ الْأَخْذِ قَاطِعٌ لِتَعَدِّي الْغَاصِبِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ قَدْ صَارَ بَقْلًا ذَا قِيمَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَالَتَانِ. حَالَةٌ يَرْضَى بِأَخْذِهِ بَقْلًا وَحَالَةٌ يُطَالِبُ بِمِثْلِهِ حَبًّا فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَقْلًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَقْلًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ حَبًّا رُدَّ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَدْرِ النَّاقِصِ مِنَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ بَقْلًا مِثْلَ قِيمَتِهِ حَبًّا أَوْ أَزْيَدَ مِنْ قِيمَةِ الْحَبِّ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ فَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَصَتْ مِنْ قِيمَةِ الْحَبِّ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ فَفِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ النَّقْصِ وَجْهَانِ. ذَكَرْنَاهَا فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا نَقَصَتْ بِمَرَضٍ ثُمَّ زَالَ النَّقْصُ بِزَوَالِ الْمَرَضِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يَسْتَقِرَّ فجرى مجرى نقص السوق. الوجه الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَ بِحُدُوثِ النَّقْصِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِحَادِثِ زِيَادَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَسْتُ أَرْضَى بِهِ بَقْلًا وَأُرِيدُ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ مِنِّي حَبًّا ففيه وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 أَحَدُهُمَا: يُجَابُ إِلَى طَلَبِهِ وَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِإِعْطَائِهِ مثل حنطته ليصل إلى مثل المغصوب الْمَغْصُوبَةُ لَا يَلْزَمُ غُرْمُ أَصْلِهَا لِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهَا أَوْ حَالٍ انْتَقَلَ عَنْهَا كَالثَّوْبِ إِذَا أَخْلَقَ وَالشَّاةِ إِذَا ذُبِحَتْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالرِّضَا أَوْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ عَدَمِ الرِّضَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْضِ الَّتِي زَرَعَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ لِمَالِكِ الزَّرْعِ فَلَهُ إِقْرَارُ الزَّرْعِ فِيهَا إِلَى الْحَصَادِ إِنْ شَاءَ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَخْذِهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَغَلَهَا بِالزَّرْعِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ لِتَعَدِّيهِ غَصْبًا وَزَرْعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِلْغَاصِبِ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الزَّرْعِ فِي أَرْضِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَخْذُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِقَلْعِهِ لِحُصُولِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ بِالتَّعَدِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى تَرْكِهِ إِنْ بَذْلَ لَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَجْرَ الْمِثْلِ مِنْ وَقْتِ التَّسْلِيمِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ لِحُصُولِ الْبَذْرِ فِي أَرْضِهِ بِاخْتِيَارِهِ. والْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَجْنَبِيٍّ فَلِمَالِكِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ مَالِكَ الزَّرْعِ بِقَلْعِهِ إِلَّا أَنْ يَجِبَ إِلَى تَرْكِهِ رَاضِيًا بِأُجْرَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ قَدْ صَارَ سُنْبُلًا فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَخْذُهُ فِي سُنَبُلِهِ وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْغَاصِبِ بِالْبَدَلِ لِأَنَّهُ فِي سُنْبُلِهِ قَدْ عَادَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ غَصْبِهِ ثُمَّ جَمِيعُ مَا لُزِمَ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ مَؤُنَةُ سَقْيٍ وَعَمَلٌ فَمُتَطَوِّعٌ بِهِ مِنْ مَالِهِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَأَمَّا الْعُشْرُ الْوَاجِبُ لِلْفُقَرَاءِ فهو حق لله تَعَالَى فِي الزَّرْعِ فَلَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ فَلَيْسَ الْغَاصِبُ مَالِكًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَجِبُ فِي عَيْنِ الزَّرْعِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْغَاصِبِ فَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نُظِرَ فَإِنْ أَخْذَهُ الْإِمَامُ أَجْزَأَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ فَرَّقَهُ الْغَاصِبُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَنِ الْوَاجِبِ فِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مِنَ الْمَالِكِ فِي إِخْرَاجِهِ وَيَكُونُ الغاصب ضامن لِمَا أُخْرِجَ فَلَوْ أُخِذَ الْعُشْرُ مِنَ الْغَاصِبِ قَالَ لَا يُجْزِئُ أَخْذُهُ لِوَضْعِهِ الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ مَا أَخَذَهُ الْوَالِي مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ جَبْرًا لِأَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِمَا غَصَبَهُ مِنْهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ رجل بيضاً فراخاً أو فروخاً كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ مِلْكِهِ ولو غصب منه شاة فأنزا عليه فَحْلُهُ فَوَضَعَتْ سَخْلًا كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لِلْأُمِّ فِي الْمِلْكِ وَلَوْ غَصَبَ مِنْهُ فَحْلًا فَأَنْزَاهُ عَلَى شَاةٍ لَهُ فَوَضَعَتْ سَخْلًا كَانَ لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 مَالِكٌ لِلْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي نزو فحله لأنه عصب فَحْلٍ مُحَرَّم الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّزْوُ قَدْ نَقَصَ مِنْ بَدَنِهِ وَقِيمَتِهِ فَيَرْجِعُ عَلَى الغاصب بقدر نقصه. فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَهُ شَاةً فَذَبَحَهَا وَطَبَخَهَا لَمْ يَمْلِكْهَا وَيَرْجِعْ بِهَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَطْبُوخَةً وَبِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهَا. وَقَالَ أبو حنيفة قَدْ صَارَتْ بِالطَّبْخِ لِلْغَاصِبِ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَارَ قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً فَلَمْ يَصِغْهَا فَقَالَ مالي لَا أَصِيغُهَا إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا أَوْ قَالَ خبراً قالوا يا رسول الله إن أَخَذْنَاهَا مِنْ بَنِي فلانٍ وَإِنَّهُمْ إِذَا وَافُوا راضيناهم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى فَجَعَلَ لَهُمْ تَمَلُّكَهَا بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِطْعَامِهَا لِلْأَسَارَى وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهَا لَمَنَعَهُمْ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ لأحدٍ مِنْكُمْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شيءٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ " فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيٍّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ غَنَمًا لِابْنِ عَمِّي أَخَذْتُ مِنْهَا شَاةً قَالَ إِنْ لَقِيتَهَا نَعْجَةً تَحْمِلُ شَفْرَةً وَزِنَادًا بِخَبْتِ الْجَمِيشِ فَلَا تَهِجْهَا. الْجَمِيشُ صَحْرَاءُ بَيْنَ مكة وَالْحِجَازِ قَلِيلَةُ السَّاكِنِ يُرِيدُ إِنْ لَقِيتَهَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ الْمُهْلِكِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ وهي السكين وزناد، وهي المقدحة تَعْرِضْ لَهَا. فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتُدِلَّ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ إِذْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ مُقَدَّرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَعَذُّرِ مُسْتَحِقِّيهِ عَنِ اسْتِبْقَاءِ الطَّعَامِ لَهُمْ فَأْمَرَهُمْ بِذَلِكَ حِفْظًا لِقِيمَتِهِ عَلَى أَرْبَابِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ مَجُوسِيٌّ شَاةً فَذَبَحَهَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَثَمَنُهَا وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَقُّ بِجِلْدِهَا وَإِنْ أَخَذَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ فَإِنْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ فَدَبَغَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِرَبِّهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِدَابِغِهِ فَلَوِ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي ذَبْحِ شَاةٍ مَغْصُوبَةٍ ضَمِنَ الْمَجُوسِيُّ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ أَحَدُ الذَّابِحَيْنِ وَضَمِنَ الْمُسْلِمُ نِصْفَ نَقْصِهَا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي الذَّبْحِ مَجُوسِيًّا. مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الشَّاةِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَوْ ذَبَحَهَا مُسْلِمٌ صَارَتْ قِيمَتُهَا عَشَرَةً فَيَضْمَنُ الْمُسْلِمُ خَمْسَةً وَالْمَجُوسِيُّ عَشَرَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ رَجُلًا عَصِيرًا فَصَارَ فِي يده خلاً رجع به المغصوب منه وبنقص إِنْ حَدَثَ فِي قِيمَتِهِ وَلَوْ صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ عَصِيرًا لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا قِيمَةَ لَهُ وهَلْ لَهُ أَخْذُ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لِوُجُوبِ إِرَاقَتِهِ وَإِتْلَافِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِإِرَاقَتِهِ فِي طِينٍ أَوْ سَقْيِ حَيَوَانٍ فَلَوْ صَارَ الْخَمْرُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ خَلًّا رَجَعَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَجْهَانِ: كَنَقْصِ الْمَرَضِ إِذَا زَالَ. أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ لِوُجُوبِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا تَخْرِيجًا مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ قَلَعَ سِنًّا مِنْ ثَغْرٍ فَغَرِمَ دِيَتَهَا ثُمَّ عَادَتْ. فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ مِنْهُ تَمْرًا فَعَمِلَهُ دِبْسًا أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ شَيْرَجًا أَوْ زَيْتُونًا فَاعْتَصَرَهُ زَيْتًا، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْجِعَ بِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِيهِ فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَطَالَبَهُ بِالْبَدَلِ عَنْ أَصْلِ مَا غَصَبَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ مما لَا مِثْلَ لَهُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالتَّمْرِ اللَّصِيقِ الْمَكْنُوزِ بِالْبَصْرَةِ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ دِبْسِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَةِ تَمْرِهِ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْمَغْصُوبِ أَخَصُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالسِّمْسِمِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْهُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْمَغْصُوبِ مِنْ أَجْزَائِهِ فَلَوِ اسْتَهْلَكَ مَا قَدِ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْمَغْصُوبِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ كَالتَّمْرِ الْمَكْنُوزِ إِذَا اسْتَخْرَجَ دِبْسَهُ بِالْمَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّمْرِ وَالدِّبْسِ غَيْرُ ذِي مِثْلٍ فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ الْأَصْلِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَلَا يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الدَّقِيقِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ تَمْرًا أَوْ دِبْسًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ كَالْحِنْطَةِ إِذَا طَحَنَهَا دَقِيقًا فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِ الْأَصْلِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَلَا يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الدَّقِيقِ لِأَنَّ ذِي الْمِثْلِ أَوْلَى مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْحِنْطَةُ بَعْدَ الطَّحْنِ قَدْ زادت قيمتها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 دَقِيقًا عَلَى قِيمَتِهَا حَبًّا اسْتَحَقَّ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ أَخْذِ الْمِثْلِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فِي الدَّقِيقِ كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ جَارِيَةً فَسَمِنَتْ ثُمَّ رَدَّهَا بَعْدَ ذَهَابِ السِّمَنِ ضَمِنَ نَقْصَ السِّمَنِ الْحَادِثِ فِي يَدِهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فَلَأَنْ يَضْمَنَ نَقْصَ الزِّيَادَةِ مَعَ اسْتِرْجَاعِ الْمِثْلِ أَوْلَى. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بِمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالزَّيْتُونِ إِذَا اعْتَصَرَهُ زَيْتًا لِأَنَّ لِلزَّيْتِ مِثْلٌ وَلَيْسَ لِلزَّيْتُونِ مِثْلٌ فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمِثْلِ الزَّيْتِ الْمُسْتَخْرَجِ وَبِنَقْصٍ إِنْ حَدَثَ فِي الزَّيْتُونِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَغْصُوبُ ذَا مِثْلٍ كَانَ الْمِثْلُ أَوْلَى مِنْ قِيمَةِ الْأَصْلِ لِتَقْدِيمِ الْمِثْلِ عَلَى الْقِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالسِّمْسِمِ إِذَا اعْتَصَرَهُ شَيْرَجًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السِّمْسِمِ وَالشَّيْرَجِ مِثْلٌ فَيَكُونُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِمِثْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ مِنَ السِّمْسِمِ أَوِ الشَّيْرَجِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَإِنْ رَجَعَ بِالسِّمْسِمِ وَكَانَ أَنْقَصَ ثَمَنًا مِنَ الشَّيْرَجِ فَأَرَادَ نَقْصَهُ لَمْ يَجُزْ وَقِيلَ إِنْ رَضِيتَ بِهِ وَإِلَّا فَاعْدِلْ عَنْهُ إلى الشيرج ولا أرش لك لأن عَيْنُ مالكٍ مُسْتَهْلكٍ وَلِكُلِّ حَقِّكَ مِثْلٌ فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الْأَصْلِ مَعَ الْأَرْشِ مَعَ اسْتِحْقَاقِكَ لمثل لا يدخله أرش. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ غَصَبَهُ ثَوْبًا وَزَعْفَرَانًا فَصَبَغَهُ بِهِ فَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهُ أبيض وزعفرانه صحيحاً وضمنه قِيمَةَ مَا نَقَصَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا مَضَى مِنْ أَقْسَامِ الْغَاصِبِ ثَوْبًا إِذَا صَبَغَهُ، وَسَنَذْكُرُ الْآنَ لِتَكْرَارِهَا مَا حَضَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهَا فَإِذَا غَصَبَ ثَوْبًا وَزَعْفَرَانًا وَصَبَغَهُ بِهِ نُظِرَ، فَإِنْ رَضِيَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِأَخْذِهِ مَصْبُوغًا مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ فَذَاكَ لَهُ وَإِنْ طَلَبَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ وَجَبَ تَقْوِيمُ الثَّوْبِ أَبْيَضَ وَتَقْوِيمُ الزَّعْفَرَانِ صَحِيحًا، فَأَمَّا الثَّوْبُ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الصَّبْغِ وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ الصَّبْغِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّعْفَرَانَ مُسْتَهْلَكٌ فِي الصَّبْغِ فَاعْتُبِرَ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي السُّوقِ لِأَنَّ زِيَادَةَ السُّوقِ مَعَ الِاسْتِهْلَاكِ مَضْمُونَةٌ، وَالثَّوْبُ غَيْرُ مُسْتَهْلَكٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً لِأَنَّ زِيَادَةَ السُّوقِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَإِذَا قِيلَ قِيمَةُ الثَّوْبِ عِنْدَ الصَّبْغِ عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ الزَّعْفَرَانِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ إِلَى وَقْتِ الصَّبْغِ عَشَرَةٌ فَصَارَ الْمَضْمُونُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنَ الْقِيمَتَيْنِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَتُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا عِنْدَ أَخْذِهِ مِنَ الغاصب إذا كان السُّوقُ فِيهَا عَلَى الْحَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَقْوِيمِهَا عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ فَإِنْ زَادَتِ السُّوقُ لَمْ تُعْتَبَرِ الزِّيَادَةُ لِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهَا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَإِنْ نَقَصَتِ السُّوقُ لَمْ يُعْتَبَرِ النُّقْصَانَ لِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا قُوِّمَ مَصْبُوغًا عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا أَخَذَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِزِيَادَتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 الَّتِي لَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا رَجَعَ عَلَى الغاصب بعد أخذه بقدر نقصه فَلَوْ قَالَ الْغَاصِبُ أَذِنْتَ لِي فِي صَبْغِهِ وَأَنْكَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَدْرِ النَّقْصِ فَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ ثُمَّ رَجَعْتُ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ صَبْغِكَ. وَقَالَ الْغَاصِبُ بَلْ كُنْتَ إِلَى حِينِ الصَّبْغِ عَلَى إِذْنِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الرَّهْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ. فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي الصَّبْغِ فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ هُوَ لِي وَقَالَ الْغَاصِبُ بَلْ هُوَ لِي. فَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَجْلِ يَدِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ قد صار مستهلك فِي الثَّوْبِ فَجَرَى مَجْرَى أَجْزَائِهِ. فَأَمَّا صِبَاغُ الثَّوْبِ بِالْأَجْرِ إِذَا اخْتَلَفَ هُوَ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي الصَّبْغِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ الصَّبْغُ لِي وَقَالَ الصَّبَّاغُ الصَّبْغَ لِي فَإِنْ كَانَ الصَّبَّاغُ أَجِيرًا مُنْفَرِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فِي الصَّبْغِ وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبَّاغِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَدَ فِي الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ لِرَبِّ الثَّوْبِ وَفِي الْمُشْتَرَكِ لِلْأَجِيرِ. فَصْلٌ: قصر الثوب بعد الغصب وغسله فَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَغَسْلَهُ أَوْ قَصَرَهُ رَدَّهُ مَغْسُولًا وَمَقْصُورًا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْغَسْلِ وَالْقِصَارَةِ وَلَوْ نَقْصَ بِهِمَا ضَمِنَ النُّقْصَانَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُفْلِسِ حِينَ يَكُونُ شَرِيكًا فِي زِيَادَةِ الْقِصَارَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَبَيْنَ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا غَلَطَ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا، هُوَ أَنَّ زِيَادَةَ الْقِصَارَةِ بِالْعَمَلِ وَالْغَاصِبُ مُتَعَدٍّ بِعَمَلِهِ فَلَمْ يَمْلِكِ الزِّيَادَةَ بِهِ، وَالْمُفْلِسُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِعَمَلِهِ فَمَلَكَ الزِّيَادَةَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فصل : تقطيع الثوب المغصوب قميصا ً وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا فَإِنْ لَمْ يَخُطْهُ فَرَبُّهُ أَحَقُّ بِهِ وَيَرْجِعْ بِأَرْشِ نَقْصِهِ وَقَالَ أبو يوسف رَبُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأَخْذِ قِيمَتِهِ. وَقَالَ محمد بن الحسن إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَمَا نَقَصَ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلَائِلِ فِي أَمْثَالِ هَذَا كَافٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ خُيُوطُ الْخِيَاطَةِ لِرَبِّ الثَّوْبِ أَوْ لِلْغَاصِبِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَتْ لِرَبِّ الثَّوْبِ أَخْذَهُ مَخِيطًا فَإِنْ طَالَبَ الْغَاصِبُ بِنَقْصِ الْخُيُوطِ مِنْهُ وَفَتْقِ الْخِيَاطَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ أَجْبِرَ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى دَفْعِ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْغَاصِبِ فَأَرَادَ اسْتِخْرَاجَهَا مِنَ الثَّوْبِ فَلَهُ ذَاكَ وَضَمِنَ مَا نَقَصَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 بِالِاسْتِخْرَاجِ وَإِنْ تَرْكَهُ فَرَضِيَ رَبُّ الثَّوْبِ بِتَرْكِهِ فَلَهُ ذَاكَ فَإِنْ طَلَبَ فَتْقَهُ وَاسْتِخْرَاجَ خُيُوطِهِ فإن كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ أُخِذَ الْغَاصِبُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِأَجْنَبِيِّ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَيَضْمَنَ لَهُ مَا نَقَصَهَا وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الثَّوْبِ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّوْبِ، وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَطَرَّزَهُ أَوْ رَفَاهُ كَانَ الْقَوْلُ في الطراز والرفو كَالْقَوْلِ فِي الْخِيَاطَةِ سَوَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ دَقِيقًا وَعَسَلًا وَدُهْنًا وَعَصَدَهُ عَصِيدًا أَخَذَهُ الْمَالِكُ مَعْقُودًا فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ بِقِيمَةِ الْمُقَدَّرَاتِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ فَصَاعِدًا مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الدَّقِيقِ دِرْهَمًا وَقِيمَةُ الدُّهْنِ دِرْهَمَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَسَلِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَتَكُونُ قِيمَةُ الْعَصِيدَةِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَخَذَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا شيء للغاصب في زيادة إن كانت بعمله وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مَعْصُودًا فَكَانَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ أَخَذَهَا وَرَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قَدْرَ نَقْصِهِ فَلَوْ تَرَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْعَصِيدَ عَلَى الغاصب وطالب الغاصب بالبدل من أَفْرَادِ مَا غَصَبَ مِنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ ذلك من ثلاثة أضرب: أحدهما: أَنْ تَكُونَ جَمِيعًا مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا مِمَّا لَهُ مِثْلٌ. والثالث: أن يكون بعضها مما لا مِثْلٌ وَبَعْضُهَا مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَغْصُوبِ منه لَا مِثْلَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا وَيَسْتَرْجِعُهَا وَنَقْصَهَا. وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهَا مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا، وَإِنْ كَانَ لبعضها مثل وبعضهما لَا مِثْلَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَمْعِ بَدَلٌ، وَيَأْخُذُ أَعْيَانَ مَالِهِ مَعَ النَّقْصِ لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ لَا يُسْتَحَقُّ بَدَلُهُ وَلَيْسَ يَمْتَازُ عَمَّا لَهُ مِثْلٌ فَأُجْبِرَ عَلَى أَخْذِ جَمِيعِهِ دُونَ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ لَوْحًا فَأَدْخَلَهُ فِي سفينةٍ أَوْ بَنَى عَلَيْهِ جِدَارًا أُخِذَ بِقَلْعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا غَصَبَ لَوْحًا فَبَنَى عَلَيْهِ سَفِينَةً أَوْ دَارًا أُخِذَ بِهَدْمِ بِنَائِهِ وَرَدِّ اللَّوْحِ بِعَيْنِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ أبو حنيفة وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى هَدْمِ الْبِنَاءِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فَمَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ. وفي أخذه بهدم بنائه أعظم إضرار به، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا إِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 وَفِي أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْهُ فِيهِ تَيْسِيرٌ قَدْ أُمِرَ بِهِ وَفِي هَدْمِ بِنَائِهِ تَعْسِيرٌ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ. قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ يُسْتَضَرُّ بِرَدِّهِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالْخَيْطِ إِذَا خَاطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ إِلَّا بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ مَالٌ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ ". فَلَزِمَهَا رَدُّ اللَّوْحِ لِأَخْذِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لامرئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ " وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مَالَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهَذَا خَبَرٌ ظَاهِرٌ كَالنَّصِّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا " وَلِأَنَّ كُلَّ مَغْصُوبٍ جَازَ رَدُّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رده كالذي لم يبن عليه فرداً وَالْخَيْطِ فِي جَرْحِ الْحَيَوَانِ عَكْسًا وَلِأَنَّهُ شَغَلَ الْمَغْصُوبَ بِمَا لَا حُرْمَةَ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْضُهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَزَرَعَهَا أَوْ غَرَسَهَا. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوِ احْتَاجَ ابْتَدَأَ إِلَيْهِ لَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَيْهِ وَجَبَ إِذَا غَصَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى رَدِّهِ إِلَيْهِ كَالْأَرْضِ طَرْدًا وَالْخَيْطِ لِجُرْحِ الْحَيَوَانِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ دخول الضرر على الغاصب لا يمنع عن رَدِّ الْمَغْصُوبِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَلَّا يَرُدَّ الْمَغْصُوبِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " فَهُوَ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الدَّلِيلِ لِأَنَّ فِي مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ إِضْرَارٌ بِهِ فَكَانَ دُخُولُ الضَّرَرِ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَرَفْعُهُ عَنِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْلَى مِنْ دُخُولِهِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي تَيْسِيرِ أَمْرِهِ وَرَفْعِهِ عَنِ الْغَاصِبِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي تَيْسِيرِ أَمْرِهِ بِرَدِّ مَالِهِ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْغَاصِبِ فِي تَمْلِيكِ غَيْرِ مَالِكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التيسير في غير العصاة. والغاصب عاصي لَا يَجُوزُ التَّيْسِيرُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى اسْتِدَامَةِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْخَيْطِ فِي جُرْحِ الْحَيَوَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْخَيْطِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَفِي اللَّوْحِ لَهُ رَدُّهُ. وَالثَّانِي: الْمُعَاوَضَةُ فِي الْأَصْلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْخَيْطِ أَنَّهُ لَوِ احْتَاجَ ابْتِدَاءً إِلَيْهِ أُجْبِرَ الْمَالِكُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى رَدِّهِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا إِنْ سَلِمُوا مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ عَلَيْهِمْ بِالْأَرْضِ إِذَا بَنَى فِيهَا بِأَنْ قَالُوا: لَيْسَتِ الْأَرْضُ عِنْدَنَا مَغْصُوبَةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا كَانَ فِيهَا مَالٌ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ فَهُوَ أَنَّ اسْتِرْجَاعَ اللَّوْحِ وَاجِبٌ وإنما يستحق لحفظ المال للغير وبالصبر حَتَّى تَصِلَ السَّفِينَةُ إِلَى الشَّطِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نَقْضَ الْبِنَاءِ لِرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ فَسَوَاءٌ كَانَ الْبِنَاءُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّوْحِ قَلِيلَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ حَتَّى لو كانت قيمة اللوح درهم وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ أَلْفَ دِرْهَمٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 أُخِذَ بِقَلْعِهِ حَتَّى يَخْلُصَ اللَّوْحُ لِرَبِّهِ إِلَّا أَنْ يُرَاضِيَهُ عَلَى أَخْذِ ثَمَنِهِ ثُمَّ إِذَا اسْتَرْجَعَ اللَّوْحَ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ إِنْ كَانَتْ له أجرة وأرض نَقْصِهِ إِنْ حَدَثَ فِيهِ نَقْصٌ فَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ حَجَرًا فَبَنَى عَلَيْهِ مَنَارَةَ مَسْجِدٍ أُخِذَ بِنَقْضِ الْمَنَارَةِ لِرَدِّ الْحَجَرِ ثُمَّ عَلَيْهِ غُرْمُ نَقْضِ الْمَنَارَةِ لِلْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَطَوِّعُ ببنائها لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ اللَّوْحُ قَدْ بَنَى عَلَيْهِ سَفِينَةً فَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الشَّطِّ أَوْ بِقُرْبِهِ هُدِمَتْ لِأَخْذِ اللَّوْحِ مِنْهَا حَتَّى يَصِلَ اللَّوْحُ إِلَى رَبِّهِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فِي الْبَحْرِ فَإِنْ كَانَ اللَّوْحُ فِي أَعْلَاهَا بِمَكَانٍ لَا يَهْلِكُ مَا فِي السَّفِينَةِ بِأَخْذِهِ أُخِذَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ فِي أَسْفَلِهَا فَإِنْ أُخِذَ مِنْهَا هَلَكَتْ وَمَا فِيهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْلَعَ حِرَاسَةً لِنُفُوسِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا آدَمِيِّينَ أَوْ بَهَائِمَ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهَائِمُ لِلْغَاصِبِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَتَيْنِ حُرْمَةُ نَفْسِهِ وَحُرْمَةُ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَيَوَانٌ وَكَانَ فِيهَا مَالٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ اللَّوْحِ مِنْهَا لِمَا فِي أَخْذِهِ مِنْ إِتْلَافِ مَالٍ لَهُ حُرْمَةٌ فِي الْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ اللَّوْحُ مِنْهَا وَإِنْ تَلِفَ مَالُ الْغَاصِبِ فِيهَا لِذَهَابِ حُرْمَتِهِ بِتَعَدِّي مَالِكِهِ كَمَا يَذْهَبُ مَالُهُ فِي هَدْمِ بِنَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَخْذُهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى الشَّطِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكِ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وَلَيْسَ كَالْبِنَاءِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى اللَّوْحِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِرَبِّ اللَّوْحِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَصْبِرَ بِاللَّوْحِ حَتَّى تَصِلَ السَّفِينَةُ إِلَى الشَّطِّ فَتَأْخُذَ لَوْحَكَ وَبَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ فِي الْمَوْضِعِ قِيمَةَ لَوْحِكَ، فَلَوِ اخْتَلَطَتِ السَّفِينَةُ الَّتِي دَخَلَ اللَّوْحُ فِي بِنَائِهَا بِعَشْرِ سُفُنٍ لِلْغَاصِبِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَدْمِ جَمِيعِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُهْدَمُ جَمِيعُهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ كَمَا يُهْدَمُ جَمِيعُ السَّفِينَةِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَدْمُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ اللَّوْحُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ عَلَيْهِ هَدْمَ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ اللَّوْحُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ مَالٌ لَا يَتَعَيَّنُ التَّعَدِّي فِيهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ عَمِلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ بَابًا أَوْ بَنَاهُ سَفِينَةً أو غَصَبَ حَدِيدًا فَعَمَلَهُ دِرْعًا لَمْ يَمْلِكْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَجَعَلَهُ أبو حنيفة مَالِكًا لِذَلِكَ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الذَّرَائِعِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَغْصُوبِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ بِبِنَائِهِ وَبِغَرْسِهِ فِيهَا وَالْأَرْضُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَغْصُوبَةٍ فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ غَيْرَهَا مِنَ الْمَغْصُوبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْهُ مَعْمُولًا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِي عَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْيَانٌ مُزَالَةٌ فَيَسْتَرْجِعُهَا وَيَضْمَنُ نَقْصَ الْمَغْصُوبِ. وَاللَّهُ أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ خَيْطًا خَاطَ بِهِ ثَوْبَهُ فَإِنْ خَاطَ بِهِ جُرْحَ إِنْسَانٍ أَوْ حيوانٍ ضَمِنَ الْخَيْطَ وَلَمْ يُنْزَعْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ غَصَبَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ بِهِ غَيْرَ حَيَوَانٍ كَالثِّيَابِ فَيُؤْخَذَ الْغَاصِبُ بِنَزْعِهِ وَرَدِّهِ عَلَى مَالِكِهِ وَأَرْشِ نَقْصِهِ إِنْ نَقَصَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ بِهِ حَيَوَانًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مَيْتًا عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالْخَيْطِ فَيُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا لَا حُرْمَةَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْبَهِيمَةِ نَزَعَ الْخَيْطَ مِنْهُ وَرَدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ حُرْمَةُ كَالْآدَمِيِّ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَفْحُشُ حَالُهُ بَعْدَ نَزْعِ الْخَيْطِ مِنْهُ نُزِعَ وَإِنْ فَحُشَ لَمْ ينزع لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حُرْمَةُ ابْنِ آدَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَيَاتِهِ ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ النَّفْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ كَالْمُرْتَدِّ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَيُؤْخَذَ بِنَزْعِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا حُرْمَةَ لِحِفَاظِ نَفْسِهِ ثُمَّ يُغَرَّمُ بَعْدَ نَزْعِهِ أَرْشَ نَقْصِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْظُورَ النَّفْسِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ آدَمِيًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَافَ مِنْ نَزْعِهِ التَّلَفُ فَيُقَرُّ الْخَيْطُ وَلَا يُنْزَعُ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبَ أَوْ غَيْرَهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ غَصْبِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى تَرْكِهِ فَعَلَى هَذَا يُغَرَّمُ قِيمَتَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمَنَ التَّلَفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمَنَ الضَّرَرَ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ فَهَذَا يُنْزَعُ مِنْهُ وَيُرَدُّ عَلَى مَالِكِهِ مَعَ أَرْشِ نَقْصِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَافَ ضَرَرٌ أَوْ شِدَّةُ أَلَمٍ وَتَطَاوُلُ مَرَضٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَيَمُّمِ الْمَرِيضِ إِذَا خَافَ تَطَاوُلَ الْمَرَضِ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ. أَحَدُهُمَا: يُنْزَعُ إِذَا قِيلَ لَا يَتَيَمَّمُ. وَالثَّانِي: يُقَرُّ إِذَا قِيلَ يَتَيَمَّمُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ. أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ آدَمِيٍّ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤْمَنَ تَلَفُهَا فَيُنْزَعُ الْخَيْطُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 وَالثَّانِي: أَنْ يُخَافَ تَلَفُهَا فَيُقَرُّ لِحُرْمَةِ نَفْسِهَا الَّتِي لَا يَجُوزُ انْتِهَاكُهَا بِتَعَدِّي مَالِكِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مَأْكُولًا كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ فَإِنْ أُمِنَ تَلَفُهَا بِنَزْعِهِ نُزِعَ وَإِنْ خِيفَ تَلَفُهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الرَّبِيعُ تُذْبَحُ لِيُنْزَعَ الْخَيْطُ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ يُوصَلُ إِلَى أَخْذِهِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَحَرْمَلَةُ أَنَّهُ يُقَرُّ الْخَيْطُ وَلَا يُنْزَعُ وَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقِيمَتِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذبح البهائم إلا لمالكةٍ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ ذَبَحَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهَا حُوسِبَ بِهَا قبل وَمَا حَقُّهَا قَالَ أَنْ يَذْبَحهَا لِغَيْرِ مأكلةٍ فَصْلٌ : وَإِذَا مَرَّتْ بَهِيمَةُ رَجُلٍ فِي سُوقٍ فَابْتَلَعَتْ جَوْهَرَةَ رَجُلٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَهِيمَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَالِكُهَا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَوْهَرَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا جَنَتْهُ فَلَوْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِيعَ الْبَهِيمَةِ لِيَتَوَصَّلَ مِنْهَا إِلَى أَخْذِ الْجَوْهَرَةِ أَوْ يَصِيرَا مَعًا في ملكه فلم يُجْبَرِ الْمَالِكُ عَلَى الْبَيْعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَوْهَرَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبَهِيمَةِ أُجْبِرَ صَاحِبُهَا عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَوْهَرَةِ أَقَلَّ لَمْ يُجْبَرْ وَهَذَا فاسداً اسْتِدْلَالًا بِقِيَاسَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ تَمَلُّكُهُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَقَلِّ لَمْ يُسْتَحَقَّ تَمَلُّكُهُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَكْثَرِ قِيَاسًا عَلَى كَسْرِهَا إِنَاءً أَوْ أَكْلِهَا طعام. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ تَمَلُّكُهُ مَعَ تَلَفِ الشَّيْءِ لَمْ يُسْتَحَقَّ تَمَلُّكُهُ مَعَ بَقَائِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قِيمَتُهُ أَقَلُّ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شَاةً أَوْ بَعِيرًا، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ بَعِيرًا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً لَمْ يَضْمَنْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَعِيرِ النُّفُورُ فَلَزِمَ مَنْعُهُ وَمُرَاعَاتُهُ وَالْعُرْفَ فِي الشَّاةِ السُّكُونُ فَلَمْ يَلْزَمْ مَنْعُهَا وَمُرَاعَاتُهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ سُقُوطَ مُرَاعَاةِ الشَّاةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْهَا الْسلَامَةُ فَإِنْ أَفَضَتْ إِلَى غَيْرِ السَّلَامَةِ لَزِمَ الضَّمَانُ كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ ضَرْبُ زَوْجَتِهِ وَلِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ السَّلَامَةُ فَإِنْ أَفْضَى الضَّرْبُ بِهَا إِلَى التَّلَفِ ضَمِنَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي الْبَهِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ لَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ لِتَحْرِيمِ ذَبْحِهَا وَتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تذبح علي وَتُؤْخَذُ الْجَوْهَرَةُ مِنْ جَوْفِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا وَتُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَةُ الْجَوْهَرَةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ أَوْ ذَبَحَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 لِمَأْكَلَةٍ فَوَصَلَ إِلَى الْجَوْهَرَةِ رَجَعَ بِهَا الْمَالِكُ وَرَدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ أَخَذَ قِيمَةَ آبِقٍ ثُمَّ وَجَدَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ مَالِهِ مِثْلُ عِنْدِ عَدَمِ الْمِثْلِ ثُمَّ يَجِدُ الْمِثْلَ فَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الْقِيمَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْمِثْلِ وَكَذَا لَوْ سَافَرَ عَنْ عَبْدٍ غُصِبَهُ بِالْبَصْرَةِ فَالْتَقَى بِمَالِكِهِ بِمَكَّةَ فَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ قَدِمَا إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَخْذِ الْقِيمَةِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْقِيمَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْعَبْدِ هُوَ أَنَّ جَوَازَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَبْحِ الْبَهِيمَةِ لِأَخْذِ مَا فِيهَا مِنَ الْجَوْهَرَةِ حَرَامٌ فَكَانَ أَخْذُ الْقِيمَةِ ضَرُورَةً فَإِذَا حُصِّلَتِ الْجَوْهَرَةُ زَالَتِ الضَّرُورَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْقُدُومِ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَغْصُوبُ وَالصَّبْرِ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ فَيَجُوزُ وَلَا يَحْرُمُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ يُعْتَبَرُ زَوَالُهَا فِي الرُّجُوعِ فَصَارَ أَخْذُ الْقِيمَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ يَرْجِعُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهَا بِالْأَصْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَهِيَ الْآبِقُ إِذَا ظَهَرَ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَغْصُوبِ بَعْدَ أَخْذِ الْقِيمَةِ. وَلَا يَرْجِعُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهَا بِالْأَصْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُمَا: الْمِثْلُ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَالْقَدُّومِ إِلَى بَلَدِ الْمَغْصُوبِ الْبَاقِي بَعْدَ أَخْذِ الْقِيمَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا تَبَايَعَا بَهِيمَةً وَابْتَلَعَتْ ثَمَنَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ أَبْرَأَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِالدَّفْعِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْبَهِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فالثَّمَن غَيْر مَضْمُونٍ لِأَنَّ ما جنته في يده مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَالثَّمَنُ مِلْكٌ لَهُ وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَهِيمَةِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الثَّمَنِ بِمَوْتٍ أَوْ بِذَبْحٍ اخْتَارَهُ الْمُشْتَرِي لِمَأْكَلِهِ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ غَرِمَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَهَلْ تُذْبَحُ لِأَخْذِ الثَّمَنِ مِنْهَا أَمْ لَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَبْتَلِعَ الثَّمَنَ قَبْلَ قَبْضِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ وَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَمَا ابْتَلَعَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْبَائِعُ فَلِزَوَالِ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ مَالُهُ وَجِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مِمَّا لَا تُؤْكَلُ لَزِمَهُ غُرْمُ مِثْلِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ الثَّمَنُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ يَتَقَاضَانه وَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً فَهَلْ تُذْبَحُ أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ لَا تُذْبَحُ لَزِمَ غُرْمَ مِثْلِ الثَّمَنِ وَتَقَصَّاهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِنْ قِيلَ تُذْبَحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَصَّاهُ لِأَنَّ وُجُودَ عَيْنِهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِهِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ وَالْعَيْنُ لَا تَكُونُ قِصَاصًا مِنَ الذِّمَّةِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّ ذَبْحَ الْبَهِيمَةِ قَدِ اسْتُحِقَّ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ عَيْبٌ حَادِثٌ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلِأَجْلِهِ مَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي خِيَارًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِمَا أَوْجَبَ الْعَيْبَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ تَلَفَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُتَعَذِّرُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَالتَّالِفِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِهِ وَالْبَائِعُ غَيْرُ ضَامِنٍ لَهُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الثَّمَنِ بِمَوْتِهَا رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالثَّمَنُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَيُغَرَّمُ مِثْلَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي ذَبْحِهَا فِيمَا ابْتَلَعَتْهُ فَإِنْ قِيلَ لَا تُذْبَحُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِتَلَفِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَإِنْ قِيلَ تُذْبَحُ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ذُبِحَتْ وَدُفِعَ الثَّمَنُ إِلَى الْبَائِعِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ ذُبِحَتْ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَفَّ الْبَائِعُ عن ذبحها لم يسقط خِيَارُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَ بِهِ مِنْ بَعْدُ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْأَعْيَانِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهَا هِبَةُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى حَالِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا مَرَّتْ بَهِيمَةُ رَجُلٍ بِقِدْرِ بَاقِلَّانِيٍّ فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِكَسْرِ الْقِدْرِ أَوْ ذَبْحِ الْبَهِيمَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْقِدْرِ مُتَعَدِّيًا فِي وَضْعِهَا فِي غَيْرِ حَقٍّ وَصَاحِبُ الْبَهِيمَةِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَالْوَاجِبُ كَسْرُ الْقِدْرِ لِتَخْلِيصِ الْبَهِيمَةِ وَيَكُونُ كَسْرُهَا هَدَرًا لِتَعَدِّيهِ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ مُتَعَدِّيًا لِإِدْخَالِهَا فِي غَيْرِ حَقِّ وَصَاحِبِ الْقِدْرِ غَيْرِ مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ تَخْلِيصُ الْبَهِيمَةِ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهَا لِتَعَدِّيهِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُؤْكَلُ كُسِرَتِ الْقِدْرُ لِأَنَّ لِنَفْسِ الْبَهِيمَةِ حُرْمَةً فِي حِرَاسَتِهَا ثُمَّ كَسْرُ الْقِدْرِ مَضْمُونٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَبْحِهَا فِي تَخْلِيصِ مَا جَنَتْهُ: أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ وَيُخْرَجُ رَأْسُهَا مِنَ الْقِدْرِ وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا وَتُكْسَرُ الْقِدْرُ لِتَخْلِيصِ رَأْسِهَا ثُمَّ يَضْمَنُ أَرْشَ كَسْرِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَالتَّخْلِيصُ مَضْمُونٌ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ لَا بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا وَلَكِنْ يُرِيدُ اسْتِصْلَاحَ مِلْكِهِ بِهِ فَضَمِنَ مُؤْنَةَ اسْتِصْلَاحِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً كُسِرَتِ الْقِدْرُ وَضَمِنَ كَسْرَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَلَا تُكْسَرُ الْقِدْرُ. وَالثَّانِي: تُكْسَرُ الْقِدْرُ وَيَضْمَنُ الْكَسْرَ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدِّيًا فَالتَّخْلِيصُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَدِّي كَالْمُتَصَادِمَيْنِ. فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كُسِرَتِ الْقِدْرُ وَضَمِنَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ نِصْفَ الْكَسْرِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هَدَرًا. وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهَا كُسِرَتِ الْقِدْرُ وَضَمِنَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ كَسْرَ الْقِدْرِ لَا ضَمَانَ نِصْفِ كَسْرِهَا. وَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فَتَنَازَعَا فَقَالَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ تُكْسَرُ الْقِدْرِ لِأَضْمَنَ نِصْفَ كَسْرِهَا وَقَالَ صَاحِبُ الْقِدْرِ بَلْ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ لِأَضْمَنَ نِصْفَ النَّقْصِ فِي ذَبْحِهَا نُظِرَ الْبَادِئُ مِنْهُمَا بِطَلَبِ التَّخْلِيصِ فَجُعِلَ ذَلِكَ فِي جَنَبَتِهِ فَإِنْ بَدَأَ بِهِ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ أُجْبِرَ عَلَى ذَبْحِهَا وَرَجَعَ نِصْفُ نَقْصِهَا، وَإِنْ بَدَأَ بِهِ صَاحِبُ الْقِدْرِ أُجْبِرَ عَلَى كَسْرِهَا وَرَجَعَ بِنِصْفِ نَقْصِهَا فَإِنْ كَانَا مُمْسِكَيْنِ عَنِ النِّزَاعِ حَتَّى تَطَاوَلَ بِهِمَا الزَّمَانُ أُجْبِرَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ خَلَاصَ بَهِيمَتِهِ لِأَنَّهَا نَفْسٌ يَحْرُمُ تَعْدِيَتُهَا وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْقِدْرِ خَلَاصُ قِدْرِهِ إِلَّا إِذَا شَاءَ. وَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لَا يُوصَلُ إِلَى مَنْحَرِهَا لِدُخُولِهِ فِي الْقِدْرِ فَلَا يَكُونُ عَقْرُهَا ذَكَاةً لَهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَنْحَرِهَا بِكَسْرِ الْقِدْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَسْرُ الْقِدْرِ لِأَنَّ عَقْرَ الْبَهِيمَةِ لِغَيْرِ الذَّكَاةِ حَرَامٌ. ثُمَّ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ نِصْفَ الْكَسْرِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ في فصيل دخول دَارًا فَكَبِرَ فِيهَا حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَابِهَا إِلَّا بِهَدْمِهِ أَوْ أُتْرُجَّةٍ مِنْ شَجَرَةٍ دَخَلَتْ فِي إِنَاءٍ كَبَرَتْ فِيهِ فلم تخرج إلا بكسره. مسألة: من غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ مَنْ أَكَلَهُ ثُمَّ اسْتُحِقَّ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ مَنْ أَكَلَهُ ثُمَّ اسْتُحِقَّ كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُ الْغَاصِبِ بِهِ فَإِنْ غَرِمَهُ فَلَا شَيْءَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنْ غَرِمَهُ فَقَدْ قِيلَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَاهِبِ وَقِيلَ لا يرجع به (قال المزني) رحمه الله أشبه بقوله إن هبة الغاصب لا معنى لها وقد أتلف الموهوب له ما ليس له ولا للواهب فعليه غرمه ولا يرجع به فإن غرمه الغاصب رجع به عليه هذا عندي أشبه بأصله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى قِسْمَيْنِ يَتَضَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَسْطُورُ مِنْهَا فمصور في من غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ غَيْرَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَهَبَهُ لِرَجُلٍ فَيَأْكُلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ مِنْ غَيْرِ هِبَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْعِمَهُ عَبْدَ غَيْرِهِ أو بهيمته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ أَنْ يَهَبَهُ لِرَجُلٍ فَيَأْكُلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَرَبُّ الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِاسْتِهْلَاكِهِ بِيَدِهِ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَأَغْرَمَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مغصوب أو لم يعلم بأنه مغصوب لم يَرْجِعْ بِغُرْمِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِعِلْمِهِ كَالْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا يُغَرِّمُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ غَارٌّ لَهُ فِي إِيجَابِ الْغُرْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ لِبُطْلَانِ هِبَتِهِ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ هِبَتِهِ وَإِذَا رَجَعَ الْمَالِكُ بِغُرْمِهِ عَلَى الْغَاصِبِ الْوَاهِبِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَيْهِ بِمَا غُرِّمَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَفِي رُجُوعِهِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّهُ غَارٌّ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ الْغَارِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْغُرْمِ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ فِي عِلْمِهِ بِكَوْنِ الطَّعَامِ مَغْصُوبًا فَادَّعَى الْغَاصِبُ عِلْمَهُ لِيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعِلْمَ نظر فإن قال له الغاصب أعلمنك عِنْدَ الْهِبَةِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ وإن قال أعلمت مِنْ غَيْرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى إِعْلَامَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَقْدَ الْبَهِيمَةِ عَلَى الصِّحَّةِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ وَلَيْسَ كَادِّعَائِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أن يأذن له في أكله فيأكل مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ وَإِقْبَاضٍ فَإِنْ عَلِمَ الْآكِلُ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْآكِلِ فَيُغَرِّمَهُ وَلَا يَرْجِعَ الْآكِلُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَيُغَرِّمَهُ وَيَرْجِعَ الْغَاصِبُ بِهِ عَلَى الْآكِلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَرَبُّهُ أَيْضًا بِالْخِيَارِ فِي إِغْرَامِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ غَرَّمَ الْآكِلَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ فِي رُجُوعِهِ بِالْغُرْمِ عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلَيْنِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ مِنْ غَيْرِ هِبَتِهِ، وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْآكِلِ بِإِذْنِ الْغَاصِبِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ وَاسْتِهْلَاكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْغَاصِبِ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ فَإِنْ غَرَّمَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ رُجُوعُهُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآكِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَهُ بَهِيمَةً لِرَجُلٍ أَوْ عبد. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِ الْبَهِيمَةِ وَالْعَبْدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ يَرْجِعُ بِهِ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى مَالِكِ الْبَهِيمَةِ وَالْعَبْدِ فَإِنْ أُعْسِرَ بِهِ الْغَاصِبُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي رَقَبَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْعَبْدِ وَلَا عَلَى مَالِكِهِمَا لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هُوَ الْغَاصِبُ دُونَهُمَا وَإِنْ كَانَ إِطْعَامُهُمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ مَالِكِيهِمَا نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ عِنْدَ أَمْرِهِ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَمَالِكُ الطَّعَامِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فَيُغَرِّمَهُ وَلَا يَرْجِعَ بِهِ الْآمِرُ عَلَى الْغَاصِبِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَيُغَرِّمَهُ وَيَرْجِعَ بِهِ الْغَاصِبُ عَلَى الْآمِرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْآمِرُ بِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ نُظِرَ فَإِنْ سَلَّمَهُ وَتَوَلَّى هُوَ إِطْعَامَ الْبَهِيمَةِ وَالْعَبْدِ ذَلِكَ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ فَهَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَمُصَوَّرٌ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَتْ فِي رَبِّ الطَّعَامِ. فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَهَبَ الْغَاصِبُ الطَّعَامَ لِمَالِكِهِ فَإِنْ عَلِمَ عِنْدَ الْأَكْلِ أَنَّهُ طَعَامُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِغُرْمِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ للْأَجْنَبِيّ الْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا غَرِمَهُ رَجَعَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَجْنَبِيَّ بَعْدَ الْغُرْمِ لَا يَرْجِعُ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ الْغَاصِبُ لِرَبِّ الطَّعَامِ فِي أَكْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهِ حِينَ أَكْلِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِغُرْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ يَرْجِعُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآكِلِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْعِمَهُ عَبْدَ رَبِّ الطَّعَامِ أَوْ بَهِيمَتَهُ. فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِغُرْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رَجَعَ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ كَانَ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ كَانَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا لَوْ أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ إِنْ أَغْرَمَهُ لَا يَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ إِذَا أَغْرَمَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَوْجِيهًا لَهُ وَهُوَ لَعَمْرِي أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ، وَلِمَنِ اخْتَارَ الْآخَرَ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَوْجِيهًا لَهُ مِنَ الْغُرُورِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ غَاصِبَ الطَّعَامِ بَاعَهُ عَلَى مَالِكِهِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِإِتْلَافِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِتْلَافِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَمَنِهِ وَالْغَاصِبُ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ حِينِ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَهُ الْمَالِكُ مِنَ الْغَاصِبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ بَرِئَ مِنْهُ الْغَاصِبُ لِمَا عَلَّلْنَاهُ فِي الِابْتِيَاعِ لِأَنَّ الْغَصْبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَوْدَعَهُ الْغَاصِبُ عِنْدَ مَالِكِهِ أَوْ رَهَنَهُ إِيَّاهُ أَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَأْجَرُ فَأَجَّرَهُ وَقَبَضَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 مِنْهُ بِالْوَدِيعَةِ أَوْ بِالرَّهْنِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ ثُمَّ تَلِفَ عِنْدَهُ، نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ قَبْضِهِ أَنَّهُ مَالُهُ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَفِي بَرَاءَةِ الْغَاصِبِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْرَأُ مِنْهُ لِعَوْدِهِ إِلَى يَدِ مَالِكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْرَأُ مِنْهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ يَدِهِ إِمَّا نِيَابَةً عَنْهُ أَوْ أَمَانَةً مِنْهُ فَلَمْ تَزَلْ يَدُهُ فَكَانَ عَلَى ضَمَانِهِ فَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ خَلَطَهُ بِمَالِ الْمَالِكِ فَتَلِفَ وَالْمَالِكُ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَالضَّمَانُ بَاقٍ عَلَى الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنْ تَلِفَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِكِ بَرِئَ مِنْهُ الْغَاصِبُ وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَانَ فِي بَرَاءَتِهِ وجهان. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَلَّ دَابَةً أَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طائرٍ فَوَقَفَا ثُمَّ ذَهَبَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُمَا أَحْدَثَا الذَّهَابَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلِ حَلَّ دَابَّةً مَرْبُوطَةً أَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ مَحْبُوسٍ فَشَرَدَتِ الدَّابَّةُ وَطَارَ الطَّائِرُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ شُرُودُ الدَّابَّةِ وَطَيَرَانُ الطَّائِرِ بِتَهْيِيجِهِ وَتَنْفِيرِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إِجْمَاعًا وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ الْحَلُّ سَبَبًا وَالطَّيَرَانُ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ قَدْ أَلْجَأَهُ بِالتَّهْيِيجِ وَالتَّنْفِيرِ إِلَى الطَّيَرَانِ وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى السَّبَبِ إِلْجَاءُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الْمُلْجِئِ وَسَقَطَ حُكْمُ الْفَاعِلِ كَالشَّاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا تَعَلُّقُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا دُونَ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُمَا أَلْجَآهُ بِالشَّهَادَةِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْمُبَاشِرَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ تَهْيِيجٌ وَلَا تَنْفِيرٌ للدابة والطائر ففيه حالتان: أحدهما: أَنْ يَلْبَثَا بَعْدَ حَلِّ الرِّبَاطِ وَفَتْحِ الْقَفَصِ زَمَانًا وَإِنْ قَلَّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِانْفِصَالِ السَّبَبِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَشْرُدَ الدَّابَّةُ وَيَطِيرَ الطَّائِرُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فَفِي الضَّمَانِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِاتِّصَالِ السَّبَبِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْإِلْجَاءِ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ مُتَّصِلًا وَمُن ْفَصِلً ا بِأَنَّ أَسْبَابَ التَّلَفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 الْمَضْمُونَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَفَتْحِ الْقَفَصِ سَبَبٌ لِلتَّلَفِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ مَعَ اتِّصَالِهِ بِسَبَبِهِ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ مَعَ انْفِصَالِهِ عَنْ سَبَبِهِ كَالْجَارِحِ يَضْمَنُ إِنْ تَعَجَّلَ التَّلَفُ أو تأجل. ودليلنا هو أن للحيوان اختيار يَتَصَرَّفُ بِهِ كَمَا يُشَاهَدُ عِيَانًا مِنْ قَصْدِهِ لِمَنَافِعِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِمَضَارِّهِ، ثُمَّ لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمًا مِنْ تَحْرِيمِ مَا قَدْ صَادَهُ بِاسْتِرْسَالِهِ وَتَحْلِيلِ مَا صَادَهُ بِاسْتِرْسَالِ مُرْسِلِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَ السبب والاعتبار تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالِاخْتِيَارِ دُونَ السَّبَبِ كَمُلْقِي نَفْسِهِ مُخْتَارًا فِي بِئْرٍ يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِاخْتِيَارِهِ عَنْ حَافِرِ الْبِئْرِ وَطَيَرَانِ الطَّائِرِ بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ بَعْدَ فَتْحِ الْقَفَصِ أَلَّا يَطِيرَ فَوَجَبَ إِذَا طَارَ بَعْدَ الْفَتْحِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْفَتْحِ ضَمَانٌ، وَلِأَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ بِفَتْحِ الْقَفَصِ كَهَرَبِ الْعَبْدِ الْمَحْبُوسِ إِذَا فُتِحَ عَنْهُ الْحَبْسُ فَلَمَّا كَانَ فَاتِحُ الْحَبْسِ عَنِ الْعَبْدِ الْمَحْبُوسِ لَا يَضْمَنُهُ إِنْ هَرَبَ فَكَذَلِكَ فَاتِحُ الْقَفَصِ عَنِ الطَّائِرِ لَا يَضْمَنُهُ إِنْ طَارَ، وَلِأَنَّ مَثَابَةَ مَنْ فَتَحَ الْقَفَصَ عَنِ الطَّائِرِ حَتَّى طَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ هَتَكَ حِرْزَ مَالٍ حَتَّى سُرِقَ، ثُمَّ كَانَ لَوْ فتح باب داراً فِيهَا مَالٌ فَسُرِقَ لَمْ يَضْمَنْهُ فَكَذَلِكَ الْقَفَصُ إِذَا فُتِحَ بَابُهُ حَتَّى طَارَ طَائِرُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ وَلِأَنَّ فَتْحَ الْقَفَصِ يَكُونُ تَعَدِّيًا عَلَى الْقَفَصِ دُونَ الطَّائِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الطَّائِرُ فِي الْقَفَصِ بَعْدَ فَتْحِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ قَطُّ وَمَا انْتُفِيَ عَنْهُ التَّعَدِّي لَمْ يَضْمَنْ بِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ أَسْبَابَ التَّلَفِ مَضْمُونَةٌ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَا سَقَطَ فِيهَا فَهُوَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَذَاكَ أَنَّ مِنْ طَابَعِ الْحَيَوَانِ تَوَقِّي التَّالِفِ فَإِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ سُقُوطَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَضَمِنَ الْحَافِرُ وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ سَقَطَ بِاخْتِيَارِهِ بِإِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَمْدًا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنِ الْحَافِرِ وَالطَّيْرُ مَطْبُوعٌ عَلَى الطَّيَرَانِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إِلَّا فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ فَإِذَا طَارَ دَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ فَاتِحِ الْقَفَصِ وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ طَارَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِالْإِلْجَاءِ وَالتَّنْفِيرِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى فَاتِحِ الْقَفَصِ فَكَانَ سَوَاءً. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِاسْتِوَاءِ الْأَسْبَابِ فِيمَا تَعَجَّلَ بِهَا التَّلَفُ أَوْ تَأَجَّلَ فَلِأَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِهِ إِذَا طَارَ عَقِبَ الْفَتْحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَطِيرَ فِي الْحَالِ فَيَضْمَنُ وَبَيْنَ أَنْ يَطِيرَ بَعْدَ زَمَانٍ فَلَا يَضْمَنُ هُوَ أَنَّ الطَّيْرَ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّفُورِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَإِذَا طَارَ فِي الْحَالِ عُلِمَ أَنَّهُ طَارَ لِنُفُورِهِ مِنْهُ فَصَارَ كَتَنْفِيرِهِ إِيَّاهُ وَإِذَا لَبِثَ زَمَانًا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ النُّفُورُ فَصَارَ طَائِرًا بِاخْتِيَارِهِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. فصل : فإذا أمر طفلاأوً مَجْنُونًا بِإِرْسَالِ طَائِرٍ فِي يَدِهِ فَطَارَ فَهُوَ كَفَتْحِهِ الْقَفَصَ عَنْهُ فِي أَنَّهُ نَفَّرَهُ أَوْ أَمَرَ الطِّفْلَ بِتَنْفِيرِهِ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّرْهُ وَلَبِثَ زَمَانًا لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ طَارَ فِي الْحَالِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الطَّائِرُ سَاقِطًا عَلَى جِدَارٍ أو برج فنفره بحجر رماهبه فَطَارَ مِنْ تَنْفِيرِهِ لم يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَائِرًا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّنْفِيرِ. فَصْلٌ : وَلَوْ رَمَى رَجُلٌ حَجَرًا فِي هَوَاءِ داره فأصاب طائراً فقتله ضمن سواه عَمَدَهُ أَوْ لَمْ يَعْمِدْهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِالرَّمْيِ فِي هَوَاءِ دَارِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الطَّائِرِ مِنَ الطَّيَرَانِ فِي هَوَائِهِ. فَصَارَ كَمَا لَوْ رَمَاهُ فِي غَيْرِ هَوَائِهِ وَخَالَفَ دخل الْبَهِيمَةِ إِلَى دَارِهِ إِذْ مَنَعَهَا بِضَرْبٍ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا لِأَنَّ لَهُ مَنْعَ الْبَهِيمَةِ مِنْ دَارِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا فَتَحَ رَجُلٌ مُرَاحَ غَنَمٍ فَخَرَجَتْ لَيْلًا فَرَعَتْ زَرْعًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَتَحَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ الزَّرْعَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فَإِذَا فَتَحَ عَنْهَا ضَمِنَ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فَإِذَا فَتَحَ عَنْهَا لَمْ يَضْمَنْهُ. فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَّ دَابَّةً مَرْبُوطَةً عَنْ عَلَفٍ أَوْ شَعِيرٍ فَأَكَلَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الدَّابَّةَ هِيَ الْمُتْلِفَةُ دُونَهُ، وَكَذَا لَوْ كَسَرَتْ إِنَاءً فِي الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْهُ لَمَا عَلَّلْنَا وَسَوَاءٌ اتَّصَلَ بذلك بالحل أو ان فصل عنه. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حَلَّ زِقًّا أَوْ رَاوِيَةً فَانْدَفَقَا ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّقُّ ثَبَتَ مُسْتَنِدًا فَكَانَ الْحَلُّ لَا يَدْفَعُ مَا فِيهِ ثُمَّ سَقَطَ بتحريكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْحَلَّ قَدْ كَانَ وَلَا جِنَايَةَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي زِقٍّ قَدْ أُوكِيَ عَلَى مَا فِيهِ فَحَلَّ الْوِكَاءَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِي الزِّقِّ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرَقِّ الْمَائِعَاتِ قِوَامًا وَأَسْرَعِهَا ذَهَابًا كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَمُ الزِّقِّ مُنَكَّسًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا فِيهِ لِأَنَّ الزَّيْتَ مَعَ التَّنْكِيسِ لَا يَبْقَى فَكَانَ هُوَ الْمُتْلِفَ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَمُ الزِّقِّ مُسْتَعْلِيًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمِيلَ فِي الْحَالِ فَيَذْهَبَ مَا فِيهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ مُتَمَاسِكٌ بِوِكَائِهِ فَإِذَا حَلَّهُ كَانَ بِالْحَلِّ تَالِفًا وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ إِذَا حَلَّهَا لِأَنَّ للدابة اخيتار. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْبَثَ بَعْدَ الْحَلِّ مُتَمَاسِكًا زَمَانًا ثُمَّ يَمِيلَ فَيَسْقُطَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الزِّقُّ مُسْتَنِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْحَلِّ فَعُلِمَ أَنَّ تَلَفَهُ بِغَيْرِ الْحَلِّ مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ أَوْ تَحْرِيكِ إِنْسَانٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا فِي الزِّقِّ ثَخِينَ الْقَوَامِ بَطِيءَ الذَّهَابِ كالدابس الثخين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 وَالْعَسَلِ الْقَوِيِّ فَإِذَا حَلَّ وِكَاءَهُ فَانْدَفَعَ يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَعْلِيَ الرَّأْسِ فَلَبِثَ زَمَانًا لَا يَنْدَفِعُ شَيْئًا مِنْهُ ثُمَّ انْدَفَعَ فَلَا ضَمَانَ وَإِنِ انْدَفَعَ فِي الْحَالِ أَوْ كَانَ مُنَكَّسًا، نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ مَالِكُهُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ سَدِّهِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ لِمَا فِيهِ فَإِنِ اسْتَدْرَكَهُ بِالسَّدِّ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا خَرَجَ قَبْلَ السَّدِّ وَإِنْ تَرَكَهُ الْمَالِكُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِدْرَاكِ سَدِّهِ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ خَرَقَ ثَوْبَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ أَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعٍ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَا تَكُونُ قُدْرَةُ الْمَالِكِ على الدفع اختياراً أو إبراءاً كذلك ها هنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّخْرِيقِ مُبَاشِرٌ وَفِي حَلِّ الْوِكَاءِ مُتَسَبِّبٌ وَالسَّبَبُ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَمَرَّ بِهَا إِنْسَانٌ وَهُوَ يَرَاهَا وَيَقْدِرُ عَلَى اجْتِنَابِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَقَطَ فِيهَا لَنْ يَضْمَنَ الْحَافِرُ، وَلَوْ كَانَ الزِّقُّ مُسْتَعْلِيَ الرَّأْسِ وَهُوَ يَنْدَفِعُ بَعْدَ الْحَلِّ يَسِيرًا بَعْدَ يَسِيرٍ فَجَاءَ آخَرُ فَنَكَّسَهُ حَتَّى تَعَجَّلَ خُرُوجَ مَا فِيهِ فَذَهَبَ. فَعَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ مَا خَرَجَ قَبْلَ التنكيث وَفِيمَا خَرَجَ بَعْدَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمَانَهُ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ ضَمَانِهِ كَالْجَارِحِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهُ عَلَى الثَّانِي وَحْدَهُ لِسُقُوطِ السَّبَبِ مَعَ الْمُبَاشَرَةِ فَصَارَ كَالذَّابِحِ بَعْدَ الْجَارِحِ يُسْقِطُ سِرَايَةَ الْجُرْحِ بِتَوْجِيهِ الذَّبْحِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي الزِّقِّ جَامِدًا كَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ إِذَا جَمُدَ فَيَنْكَشِفَ بِحَلِّ الْوِكَاءِ أَوْ يكشف الْإِنَاءِ حَتَّى تَطْلُعَ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَيَذُوبُ وَيَذْهَبُ فَإِنْ كَانَ الزِّقُّ أَوِ الْإِنَاءُ عَلَى حَالٍ لَوْ كَانَ مَا فِيهَا عِنْدَ الْحَلِّ وَالْكَشْفِ ذَائِبًا بَقِيَ فِي زِقِّهِ وَإِنَائِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى لَوْ كَانَ ذَائِبًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَوَبَانَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الشَّمْسِ لَا مِنْ تَأْثِيرِ حَلِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّ بِحَلِّهِ إِيَّاهُ وَكَشْفِهِ لَهُ أَثَّرَتْ فِيهِ الشَّمْسُ فَكَانَ الْحَلُّ أَقْوَى سَبَبٍ فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَدْنَى رَجُلٌ مِنَ الْجَامِدِ نَارًا بَعْدَ كَشْفِ إِنَائِهِ وَحَلِّ وِكَائِهِ فَحُمِيَ بِهَا فَذَابَ وَذَهَبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا صَاحِبُ النَّارِ فَلَمْ يُبَاشِرْ بِهَا مَا يَضْمَنُ بِهِ، وَأَمَّا كَاشِفُ الإناء وحل الْوِكَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ عِنْدَ فِعْلِهِ جِنَايَةٌ يَضْمَنُ بِهَا وَصَارَا كَسَارِقَيْنِ ثَقَبَ أَحَدُهُمَا الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ الْآخَرُ الْمَالَ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هَتَكَ الْحِرْزَ وَبَهَتْكِ الْحِرْزِ لَا يجب القطع. والثاني: أَخَذَ مَالًا غَيْرَ مُحَرَّزٍ وَأَخْذُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ فَإِنْ قِيلَ لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 يَضْمَنُ إِذَا ذَابَ بِالشَّمْسِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا ذَابَ بِالنَّارِ. قِيلَ لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مَعْلُومٌ فَصَارَ كَالْقَاصِدِ لَهُ، وَدُنُوَّ النَّارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِرْ قَاصِدًا لَهُ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ كَاشِفُ الْإِنَاءِ وَحَالُّ الْوِكَاءِ هُوَ الَّذِي أَدْنَى النَّارَ مِنْهُ فَذَابَ ضَمِنَ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الشَّمْسِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلِأَنَّ إِدْنَاءَ النَّارِ مِنْ فِعْلِهِ وَلَيْسَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ فِعْلِهِ وَخَالَفَ وُجُودَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسَيْنِ وَصَارَ كَتَفَرُّدِهِ بَهَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ مَا فِيهِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ لَوْ كَانَ مِنْ نَفْسَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَّ رَجُلٌ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَشَرَدَتْ بَعْدَ حَلِّ رِبَاطِهَا فَغَرِقَتْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَرَقُهَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِحُدُوثِ التَّلَفِ بِفِعْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَطَاوَلَ بِهَا اللُّبْثُ بَعْدَ الْحَلِّ ثُمَّ تَغْرِقَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظْهَرَ سَبَبُ غَرَقِهَا بِحَادِثٍ مِنْ رِيحٍ أَوْ مَوْجٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِتَلَفِهَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ حُدُوثُ سَبَبٍ لِتَلَفِهَا فَفِي ضَمَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا كَمَا لَا يَضْمَنُ الزِّقَّ إِذَا لَبِثَ بَعْدَ حَلِّهِ ثُمَّ مَالَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الزِّقِّ لِأَنَّ الْمَاءَ أحد المتلفات. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ غَصَبَهُ دَارًا فَقَالَ الْغَاصِبُ هِيَ بِالْكُوفَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةَ لَا تَصِحُّ حَتَّى تُفَسَّرَ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ يَصِحُّ وَيُؤْخَذُ الْمُقِرُّ بِالتَّفْسِيرِ فَإِذَا ابْتَدَأَ رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ غَصَبْتُ فُلَانًا هَذَا دَارًا جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُقَرَّ لَهُ عَنْ قَبُولِ الْإِقْرَارِ بِالدَّارِ قَبْلَ أَنْ يسأل المقرر عَنْ حُدُودِ الدَّارِ وَمَوْضِعِهَا حَتَّى إِنْ رَدَّ الْإِقْرَارَ كُفِيَ تَكَلُّفَ السُّؤَالِ وَإِنْ قَبِلَ الْإِقْرَارَ أَمْسَكَ عَنْ سُؤَالِ الْمُقِرِّ أَيْضًا عَنْ مَوْضِعِهَا وَحُدُودِهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُقَرُّ لَهُ سُؤَالَ الْمُقِرِّ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالسُّؤَالِ لَهُ عَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ فَإِذَا سَأَلَهُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ ذَلِكَ سَأَلَ الْمُقِرَّ حِينَئِذٍ أَيْنَ الدَّارُ فَإِنْ قَالَ هِيَ بِالْبَصْرَةِ فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ مَوْضِعِهَا مِنْ قَبَائِلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ عَنْ حُدُودِهَا مِنَ الْقَبِيلَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْأَلَ الْمُقَرَّ لَهُ عَنِ الدَّارِ الَّتِي غَصَبَهُ إِيَّاهَا هَلْ هِيَ بِالْبَصْرَةِ أَمْ لَا؟ حَتَّى إِنِ ادَّعَاهَا بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ كُفِيَ تَكَلُّفَ السُّؤَالِ عَنْ مَوْضِعِهَا وَحُدُودِهَا مِنَ الْبَصْرَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ ثَلَاثَةُ أحوال: أحدهما: أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِقْرَارَهُ بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ بِالْبَصْرَةِ وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهِ غَيْرَهَا فَيَحْكُمُ لَهُ بِهَا بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ فَتَجِبَ به يمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِقْرَارَهُ بِالدَّارِ الَّتِي بِالْبَصْرَةِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا بِالْكُوفَةِ فَيَسْتَحِقُّ الدَّارَ الَّتِي بِالْبَصْرَةِ بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ يَصِيرَ مُدَّعِيًا لِدَارٍ بِالْكُوفَةِ فَيَسْأَلُ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِيَ عَنْ مَوْضِعِ الدَّارِ مِنْ قَبَائِلِ الْكُوفَةِ وَعَنْ حُدُودِهَا مِنْ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا حَتَّى لَا تَكُونَ دَعْوَاهُ مَجْهُولَةً فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِهَا خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْهَا وَإِنْ أَنْكَرَه إِيَّاهَا حلف عليها. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرُدَّ إِقْرَارَهُ بِالدَّارِ الَّتِي بِالْبَصْرَةِ وَلَا يَقْبَلَهَا وَيَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا بِالْكُوفَةِ وَيَحُدَّهَا فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَقُولَ لَهُ أَتُصَدِّقُهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الَّتِي ابْتَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لَكَ بِهَا هِيَ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بِالْبَصْرَةِ فَإِنْ قَالَ أُصَدِّقُهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَهَا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَتْ هِيَ الَّتِي غَصَبَنِيهَا سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ عَمَّا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّارِ بِالْكُوفَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْهَا وَكَانَتِ الدَّارُ الَّتِي بِالْبَصْرَةِ مُقِرَّةً فِي يَدِهِ لِعَدَمِ مَنْ يَدَّعِيهَا وَإِنْ أَنْكَرَهُ حَلَفَ لَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً بِاللَّهِ مَا غَصَبَهُ دَارًا بِالْكُوفَةِ وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي عِنْدَ سُؤَالَ الْحَاكِمِ لَهُ قَدْ كَانَ الْمُقِرُّ أَرَادَ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ لِي بِالدَّارِ مَا ادَّعَيْتُهُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّارِ بِالْكُوفَةِ أَحْلَفَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ يَمِينَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا غَصَبَهُ دَارًا بِالْكوفةِ. وَالْيَمِينُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِالدَّارِ الَّتِي كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِهَا الدَّارَ الَّتِي ادَّعَاهَا عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا حَلَفَهَا بَرِئَ مِنْ دَعْوَى دَارٍ بِالْكُوفَةِ وَأُقِرَّتِ دَارُ الْبَصْرَةِ بِيَدِهِ. فَصْلٌ : وَلَوِ ابْتَدَأَ الْمُدَّعِي قَبْلَ تَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبَ دَارٍ بِالْكُوفَةِ فَذَكَرَ حُدُودَهَا وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَصَبَهُ دَارًا بِالْبَصْرَةِ. قِيلَ لَهُ أَنْتَ غَيْرُ مُجِيبٍ عَنِ الدَّعْوَى لِإِقْرَارِكَ بِدَارٍ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْكَ فَأَجِبْ عَمَّا ادَّعَاهُ عَلَيْكَ مِنْ غَصْبِ دَارٍ بِالْكُوفَةِ فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِهَا لَزِمَهُ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ مِنْهَا وَعُرِضَ عَلَيْهِ قَبُولُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مُبْتَدِئًا مِنْ غَصْبِ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ فإن قيل إِقْرَارَهُ بِهَا خَرَجَ إِلَيْهِ أَيْضًا مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أُقِرَّتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْكَرَ غَصْبَ دَارٍ بِالْكُوفَةِ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ مَا غَصَبَهُ دَارًا بِالْكُوفَةِ وَأَقَرَّ بِيَدِهِ دَارَ الْبَصْرَةِ إِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُقَرُّ لَهُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ دَارَهُ ثُمَّ قَالَ أَرَدْتُ دَارَةَ الشَّمْسِ أَوْ دَارَةَ الْقَمَرِ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُبْتَدِئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِدَارٍ قُبِلَ قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ دَعْوَى دَارٍ عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَوَابًا انْصَرَفَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ إِلَى مَا تَضَمَّنُهُ الدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبَ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ فَأَنْكَرَهُ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مَا غَصَبْتُهُ ثُمَّ أَقَامَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْغَصْبِ أَوْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهِ لَزِمَهُ الْغَصْبُ وَالطَّلَاقُ مَعًا لِحِنْثِهِ بِهِ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا لَزِمَهُ الْغَصْبُ وَلَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَالٌ يَلْزَمُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَالطَّلَاقُ لَا يلزم بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ لَا غَيْرَ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْغَصْبِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ غَيْرُ الْمُعَايَنَةِ بِالْغَصْبِ وَقِيلَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ مَعَ أَيِّهِمَا شِئْتَ حَتَّى تَكْمُلَ بَيِّنَتُكُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيَلْزَمُهُ بِهَا الْغَصْبُ دُونَ الطَّلَاقِ. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ غَيْرُ الْغَصْبِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا رَأَيْتُهَا مَغْصُوبَةً فِي يَدِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ الْآخَرُ رَأَيْتُهَا مَغْصُوبَةً فِي يَدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ كَمُلَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ غَصَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ الْآخَرُ أَقَرَّ عندي يوم الجمعة بغصبها كملت بِهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ غَصَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ الْآخَرُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ غَصَبَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا غَصْبَانِ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْ وَكِيلِهِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الْغَصْبَ مِنْهُ غَيْرُ الْغَصْبِ مِنْ وَكِيلِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا غَصَبْتَهُ مِنْ وَكِيلِهِ وَقَالَ الْآخَرُ غَصَبْتَهُ إِيَّاهَا وَلَمْ يَقُلْ غَصَبْتَهَا مِنْهُ كَمُلَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْ وَكِيلِهِ مَغْصُوبٌ مِنْهُ فلم تتنافى الشهادتان. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ غَصَبَهُ دَابَّةً فضاعت فأدى قيمتها ثم طهرت رُدَّتْ عَلَيْهِ وَرَدَّ مَا قُبِضَ مِنْ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ أَخَذَ قِيمَتَهَا عَلَى أَنَّهَا فائتةٌ فَكَانَ الْفَوتُ قَدْ بَطَلَ لَمَّا وُجِدَتْ وَلَوْ كَانَ هَذَا بَيْعًا مَا جَازَ أَنْ تُبَاعَ دابةٌ غائبةٌ كعينٍ جُنِيَ عَلَيْهَا فَابْيَضَّتْ أَوْ عَلَى سِنِّ صَبِيٍّ فَانْقَلَعَتْ فَأُخِذَ أَرْشُهَا بَعْدَ أَنْ أَيِسَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ وَنَبَتَتِ السِّنُّ فَلَمَا عَادَا رَجِعَ حَقُّهُمَا وَبَطَلَ الْأَرْشُ بِذَلِكَ فيهما (وقال في موضع آخر) ولو قال الغاصب أنا أشتريها منك وهي في يدي قد عرفتها فباعه أياها فالبيع جائزٌ (قال المزني) رحمه الله منع بيع الغائب في إحدى المسألتين وأجازه فِي الْأُخْرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا غصب عَبْدًا فَأَبَقَ أَوْ بَعِيرًا فَشَرَدَ أَوْ فَرَسًا فَفَرَّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ مُمْكِنًا لِمَعْرِفَةِ مَكَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ مُمْتَنِعًا لِلْجَهْلِ بِمَكَانِهِ فَإِنْ كَانَ رَدُّهُ مُمْكِنًا وَمَكَانُهُ مَعْرُوفًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ الْغَاصِبُ بِطَلَبِهِ وَالْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ فِي رَدِّهِ وَلَوْ كَانَتْ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِهَدْمِ بِنَائِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَضْعَافًا فَلَوْ أَمَرَ الْغَاصِبُ مَالِكَهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 رَجُلًا لِطَلَبِهَا فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا وَجَبَتْ أُجْرَتُهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَوْ طَالَبَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِاسْتِئْجَارِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِطَلَبِهِ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ مالكها لطلبها بأجرة مسماة ففيه وجهان: أحدها: أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ لِأَنَّهُ مالك لمنافع نفسه فيملك املعاونة عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ بِعِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُمَا عُدُولٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْصُوبِ إِلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَبْذُلَهَا الْغَاصِبُ وَيَمْتَنِعَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَيَمْتَنِعَ الْغَاصِبُ. القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْغَاصِبُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَيُطَالِبَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِعَبْدِهِ وَيَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ قِيمَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى طَلَبِهِ وَالْتِزَامِ مُؤْنَتِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَةَ عَبْدِهِ وَيَمْتَنِعَ الْغَاصِبُ مِنْ بَذْلِهَا لِيَرُدَّ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ فَيُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ بَعْدَ زَمَانٍ يَسِيرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيُجْبَرُ الْغَاصِبُ عَلَى بَذْلِ الْقِيمَةِ لَهُ لِيَتَعَجَّلَ مَا اسْتَحَقَّهُ عَاجِلًا فَإِذَا أخذ القيمة ملكها ملكاً مستقر وملك الغاصب العبد ملكاً مراعاً ليتملكه بعد القدرة عليه إن شاء أن يتوصل به إلى أخذ اأجبر عَلَى دَفْعِهِ مِنَ الْقِيمَةِ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْأَعْوَاضِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ فَهُوَ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَمَّا مَلَكَ الْخِيَارَ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالْغَاصِبَ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ فِي الِابْتِدَاءِ مَلَكَهُ فِي الِانْتِهَاءِ فَإِنِ اخْتَارَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ استقر حينئذ لكه عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ طَلَبَ الْقِيمَةَ وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ قِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِنْ رَدَدْتَ الْقِيمَةَ عَادَ الْعَبْدُ إِلَيْكَ وَلَا أُجْرَةَ لَكَ فِيمَا مَضَى لِأَنَّكَ تَمْلِكُهُ الْآنَ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَإِنِ امْتَنَعْتَ عَنْ رَدِّ الْقَيِّمَةِ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى رَدِّهَا لِأَنَّكَ قَدْ مَلَكْتَهَا وَبِيعَ الْعَبْدُ لِيَأْخُذَ الْغَاصِبُ مِنْ ثَمَنِهِ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْقِيمَةِ فَإِذَا بِيعَ لَمْ يَخْلُ الثَّمَنُ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أحدهما: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَيَأْخُذُهُ الْغَاصِبُ كُلَّهُ. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ فَيَأْخُذُ الْغَاصِبُ مِنْهُ قَدْرَ الْقِيمَةِ وَيَكُونُ الْفَاضِلُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ من الْقِيمَةِ فَيَأْخُذُهُ الْغَاصِبُ وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَائِدًا عَلَيْهِ لِضَمَانِهِ نَقْصَ الْغَصْبِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الْعَبْدِ فَهَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ كَعَبْدٍ رَأَيَاهُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَرَيَاهُ فِي حَالِ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ رُؤْيَتِهِمَا لَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً فَإِنْ كَانَتْ رؤيتهما له قَرِيبَةً جَازَ أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ بِمَا يَتَرَاضَيَا بِهِ فِي ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَتُهُمَا لَهُ بَعِيدَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا ذَاكِرَيْنِ لِأَوْصَافِهِ أَوْ نَاسِيَيْنِ فَإِنْ نَسِيَا أَوْصَافَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا ذَاكِرِينَ لِأَوْصَافِهِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَوْلَانِ، لِجَوَازِ تَغَيُّرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ بِطُولِ الْمُدَّةِ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا فَهَذَا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ رَدُّهُ مُمْكِنًا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ مُمْتَنِعًا لِلْجَهْلِ بِمَكَانِهِ فَيُؤْخَذُ الْغَاصِبُ جَبْرًا بِقِيمَتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى فَوَاتِ الرَّدِّ فَإِذَا أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فَفِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن يكون ملكه عليها مستقراً لفوات الرد. والوجه الثاني: مراعاً لِجَوَازِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ فَإِنْ وُجِدَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ بَاقٍ على ملك المغصوب منه بأخذه ويرد مَا أَخَذَ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ الْعَبْدُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ بِمَا دَفَعَهُ مِنْ قِيمَتِهِ مَا لَمْ يَكُونَا قَدْ تَكَاذَبَا فِي قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَا قَدْ تَكَاذَبَا فِيهَا وَأَقَرَّ الْغَاصِبُ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَحَلَفَ عَلَيْهَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَقَّ بِالْعَبْدِ حِينَئِذٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَدَلَ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مُبْدَلٍ كَانَ اسْتِحْقَاقُ البدل موجباً لتلك المبال كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ لَمَّا اسْتُحِقَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ تَمَلَّكَ الْمُثَمَّنَ وَلِمَا اسْتُحِقَّ عَلَى الزَّوْجِ الْمَهْرُ مَلَكَ الْبُضْعَ كَذَلِكَ الْغَصْبُ لَمَّا مَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْقِيمَةَ مَلَكَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مُرْتَفِعٌ فِي الْأُصُولِ وَفِي بَقَاءِ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْعَبْدَ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهِ جَمْعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَالْبَائِعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ مِلْكُ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالزَّوْجَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهَا الْمَهْرُ وَالْبُضْعُ وَلِأَنَّ مَا أُخِذَتْ قِيمَتُهُ لِلْمَغْصُوبِ امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ قِيَاسًا عَلَى مَا أَمْكَنَ رَدُّهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 (النساء: 29) فَمَا خَرَجَ عَنِ التَّرَاضِي خَرَجَ عَنِ الْإِبَاحَةِ فِي التَّمْلِيكِ وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". فَجَعَلَ الْأَدَاءَ غَايَةَ الْأَخْذِ فَاقْتَضَى عُمُومُ الظَّاهِرِ اسْتِحْقَاقَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّ قُدْرَةَ الْمُعَاوِضِ عَلَى مَا عَاوَضَ عَلَيْهِ أَوْلَى بِصِحَّةِ تُمَلُّكِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ فَكَتَمَهُ وَبَذَلَ قِيمَتَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَإِذَا بَذَلَهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَهُ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ بِالْقِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ كَانَتْ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَلَمْ تُقْبَضْ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ بِالْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يُمَلَّكْ بِالْقِيمَةِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ قِيَاسًا عَلَى الْمَكْتُومِ. ولأن تملك الشيء عن رضى مَالِكِهِ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ مِنْ تَمَلُّكِهِ بِكُرْهِ مَالِكِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا الْآبِقَ عَنْ تَرَاضٍ لَمْ يُمَلِّكْهُ فَأَوْلَى إِذَا صَارَ إِلَى قِيمَتِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَنْ لَا يُمَلَّكَ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ مِنْ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُمَلَّكَ كَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ بِثَمَنِ المرضاة فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمَلَّكَ بِقِيمَةِ الْإِكْرَاهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إِذَا وَجَدَهَا الْغَاصِبُ بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ أَبْلَغُ فِي صِحَّةِ التَّمْلِيكِ مَا لَمْ يُنَفَّذْ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَلَمَّا كَانَ أَخْذُ الْقِيمَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عِنْدَ تَكَاذُبِهِمَا فِيهَا وَإِحْلَافِ الْغَاصِبِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ تَمْلِيكَ الْمَغْصُوبِ فَأَوْلَى إِذَا تَجَرَّدَتْ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهَا مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ أَنْ لَا يُوجِبَ تَمَلُّكَ الْمَغْصُوبِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَرَامَةُ إِتْلَافٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْمِلْكِ قِيَاسًا عَلَى أَخْذِهَا بِحُكْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ بِالْغُرْمِ عَنْ حُكْمٍ لَمْ يُمَلَّكْ بِالْغُرْمِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ قِيَاسًا عَلَى التَّالِفِ قَبْلَ الْغُرْمِ وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ جَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِفَقْدِ مُبْدَلِهِ كَانَ وُجُودُ الْمُبْدَلِ مَانِعًا فِي التَّصَرُّفِ فِي بَدَلِهِ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَآكِلِ الْمَيْتَةِ إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ وَجَبَ بِفَوَاتٍ مُبْدَلٍ كَانَ عُودُ الْمُبْدَلِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْبَدَلِ قِيَاسًا عَلَى الْجَانِي عَلَى عَيْنٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ زَالَ بَيَاضُهَا أَوْ عَلَى يَدٍ فَشَلَّتْ ثُمَّ زَالَ شَلَلُهَا وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ مِلْكَ بَدَلِهِ تَمْلِيكُ مُبْدَلِهِ كَانَ امْتِنَاعُ مِلْكِ الْمُبْدَلِ مُبْطِلًا لِمِلْكِ الْبَدَلِ كَالْبَيْعِ لَا يُمَلَّكُ بِهِ ثَمَنُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ وَيُمَلَّكُ بِهِ ثَمَنُ غَيْرِهَا فما يُمَلَّكُ فَلَمَّا اسْتَوَى فِي الْغَصْبِ بَدَلُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ مِنَ الْأَوْقَافِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ دَلَّ على أن ملك البدل فيمن لَا يُوجِبُ تَمْلِيكَ مُبْدَلِهِ وَبِهَذَا يَكُونُ الِانْفِصَالُ عَنْ دَلَائِلِهِمْ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ مُقْنِعًا ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ الَّذِي جَعَلُوهُ أَصْلًا فِي الِاسْتِدْلَالَيْنِ أن اليمن فِيهِ مَوْضُوعٌ لِلتَّمْلِيكِ وَالْقِيمَةَ فِي الْغَصْبِ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّمْلِيكِ أَلَا تَرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 أَنَّ ثَمَنَ التَّالِفِ لَا يُمَلَّكُ وَقِيمَةَ التَّالِفِ تُمَلَّكُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا أَمْكَنَ رَدُّهُ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَتَمْلِيكُهُ وَالْقِيمَةُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْحَيْلُولَةِ دُونَ الْفَوَاتِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهِ مُوجِبٌ لِرَدِّهِ وَاسْتِرْجَاعِ قِيمَتِهِ فَإِذَا اسْتَرَدَّهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ رَجَعَ بِنَقْصٍ إِنْ كَانَ فِيهِ وَبِنَمَاءٍ إِنْ حَدَثَ مِنْهُ وَبِأُجْرَتِهِ إِلَى وَقْتِ أَخْذِهِ لِقِيمَتِهِ وَفِي رُجُوعِهِ بِأُجْرَتِهِ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا لِاعْتِيَاضِهِ عَلَيْهَا بِالْقِيمَةِ وَلَعَلَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي ملكه للقيمة هل يكون مستقراً أو مراعاً وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْغَاصِبِ تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ رَجَعَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْأُجْرَةِ وَجْهًا وَاحِدًا وَهَلْ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ بِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِلْأُجْرَةِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الراكب والمستخدم وحده، وإذا اسْتَحَقَّ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْمَغْصُوبِ إِلَيْهِ مُطَالَبَةَ الْغَاصِبِ بِمَا وَصَفْنَاهُ فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْقِيمَةِ مُسْتَهْلَكًا تَقَاضَاهُ وَرَدَّ مِثْلَ الْبَاقِي مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ فَإِنْ قِيلَ بِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّهُ وَعَلَيْهِ رَدُّ الباقي بعينه، وإن قيل إنه مراعاً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ إلا برضى الْغَاصِبِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَغْصُوبِ قَدْ رَفَعَ مِلْكَهُ عَنِ الْقِيمَةِ فَصَارَ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْغَاصِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَقَّهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَهِنَ الْقِيمَةَ عَلَى أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَلَهُ أَنْ يَرْتَهِنَهَا عَلَى أَخْذِ النَّقْصِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْ رجلٍ فَإِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي نَقَضْنَا الْبَيْعَ وَرَدَدْنَاهُ إِلَى رَبِّهِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إِبْطَالِ الْبَيْعِ وَيُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بعيبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى رَبِّهِ الْمُقَرِّ لَهُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا عَلَى رَجُلٍ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِلْكًا وَأَنَّ الْبَائِعَ أَخَذَهُ مِنْهُ غَصْبًا فَلِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَرْبَعَةُ أحوال: أحدهما: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَيْهِ فَيَلْتَزِمُ الْمُشْتَرِي تَسْلِيمَهُ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ الْغَاصِبِ بالثمن. والحال الثاني: أَنْ يُكَذِّبَاهُ عَلَيْهِ فَلِلْمُدَّعِي إِحْلَافُهُمَا عَلَيْهِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 فَيَحْكُمُ بِهَا وَيَنْتَزِعُ الْعَبْدَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِتَكْذِيبِ الْمُشْتَرِي مُقِرٌّ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِانْتِزَاعِ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ غير مستحق للرجوع بثمنه. والحال الثالث: أَنْ يُصَدِّقَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَيُكَذِّبَهُ الْبَائِعُ فَيُلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِتَصْدِيقِهِ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلِلْمُشْتَرِي إِحْلَافُ الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّ المغصوب منه يأخذ الْعَبْدِ قَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ وَإِنَّمَا لِلْمُشْتَرِي إِحْلَافُهُ لِأَجْلِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّمَنِ بِاعْتِرَافِهِ. والحال الرابع: وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَائِعُ وَيُكَذِّبَهُ الْمُشْتَرِي فَلَا يُقْبَلُ تَصْدِيقُ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِارْتِفَاعِ يَدِهِ وَحُصُولِهِ حُكْمًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي لِلْمُدَّعِي ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَدْ عَاوَضَ عليه فإن عاد العبد إلى البائع بهبة أم مِيرَاثٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُ فِيهِ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ لَزِمَهُ رده ويسترجع منه قيمته. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَهُ لِلْمَغْصُوبِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ واحدٍ مِنْهُمَا فِي رَدِّ الْعِتْقِ وَلِلْمَغْصُوبِ الْقِيمَةُ إِنْ شَاءَ أَخَذْنَاهَا لَهُ مِنَ الْمُشْتِرِي الْمُعْتِقِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَهُ بَاعَهُ مَا لَا يَمْلِكُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مُشْتَرِي الْعَبْدِ أَعْتَقَهُ ثُمَّ حَضَرَ مَنِ ادَّعَاهُ مِلْكًا وَأَنَّ الْبَائِعَ أَخَذَهُ غَصْبًا كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ سُؤَالِهِمَا بِخِلَافِ الْحَالِ قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تَشْهَدُ بِهِ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَطَلَ الْعِتْقُ وَاسْتَرْجَعَ الْعَبْدَ وَرَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنِ ادَّعَاهُ مِنْ غَيْرِ تَكْذِيبِ الْمُدَّعِي. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بينة سئل البائع والمشتري حينئذ من دعواه ولا يخل حالهما من الأحوال الأربعة: أحدهما: أَنْ يُكَذِّبَاهُ فَلَهُ إِحْلَافُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. والحال الثاني: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَقَوْلُ الْبَائِعِ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمِلْكِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي التَّصَرُّفِ وَحَقُّ الله تعالى فِي الْحُرْمَةِ وَقولُ الْبَائِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِتَصْدِيقِهِ لَهُ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِحْلَافُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقِيمَةِ وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمَا فَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ إِحْلَافَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ أَوْ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّ مَا غَرِمَهُ مِنَ الْقِيمَةِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ كان له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 إِحْلَافُهُ لِأَنَّ مَا غَرِمَهُ مِنَ الْقِيمَةِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْغَصْبِ لَلَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَ إليه باقي القيمة. والحال الثالث: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَالْعِتْقُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ وَإِنْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْمِلْكِ بِالتَّصْدِيقِ فَقَدْ بَقِيَ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْعَبْدِ. وَالثَّانِي: لِلَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُغَرَّمَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِحْلَافُ البائع لأن حقه في القيمة وقد وَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ بِهَا الْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ لَهُ إِحْلَافُ الْبَائِعِ فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي إِحْلَافَ الْبَائِعِ فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رد الثمن كله. والحال الرابع: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي إِبْطَالِ الْعِتْقِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْعَبْدُ أَيْضًا لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ لِبَقَاءِ حَقِّ اللَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ إِلَّا أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ رَجَعَ بِالْقِيمَةِ وَرُدَّ الثَّمَنُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ تقاضا وترادا الزيادة فإن رجع المغصوب بها ابتداءاً عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الذي قبضه دون القيمة. ( مسألة كسر صليب النصراني) مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَسَرَ لِنَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا فَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لشيءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ مُفَصَّلًا فَعَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا وَمَكْسُورًا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلِيبُ فَمَوْضُوعٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى مِثْلِهِ فَاعْتَقَدُوا إِعْظَامَهُ طَاعَةً وَالتَّمَسُّكَ بِهِ قُرْبَةً وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بتكذيبهم فيه ومعصيتهم به فقال: (سبحانه) {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) {النساء: 157، 158) وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى عِيسَى وَتَقْدِيرُهُ وَمَا قَتَلُوا عِيسَى يَقِينًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ. وَتَقْدِيرُهُ وَمَا قَتَلُوا لِلْعِلْمِ بِهِ يَقِينًا مِنْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتُ ذَلِكَ عِلْمًا إِذَا تَحَقَّقْتُ وَمِنْهُ مَا جَاءَ الْحَدِيثُ بِهِ قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا وَقَتَلت أَرْض عَالِمهَا فَإِنْ لَمْ يُجَاهِرُونَا بِالصَّلِيبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَهْجُمَ عَلَيْهِمْ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَأَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَعْظِيمِهِ كَمَا نُقِرُّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْ جَاهَرُونَا بِهِ وَجَبَ إِنْكَارُهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نُقِرَّهُمْ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 إِظْهَارَهُ ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ جِزْيَتِهِمْ تَرْكَ مُجَاهَرَتِنَا بِهِ جَازَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى تَفْصِيلِ الصَّلِيبِ وَكَسْرِهِ رَفْعًا لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ جِزْيَتِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُجَاهَرَةِ بِهِ وَلَا يَتَجَاوَزَ فِي الْإِنْكَارِ إِلَى كَسْرِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى إِظْهَارِهِ فَيُكْسَرَ عَلَيْهِمْ كَسْرًا لَا يُوجِبُ ضَمَانًا وَلَا غُرْمًا فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَكَسَرَ رَجُلٌ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا نظرا فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ شَكْلِهِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْ كَسْرِ خَشَبِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَزَالَ مَعْصِيَةً وَلَمْ يُتْلِفْ مَالًا وَإِنْ كَسَرَهُ حَتَّى صَارَ خَشَبُهُ فُتَاتًا فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلِيبِ وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ كَاسِرُهُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَكَذَا لَوْ كَانَ يَصْلُحُ مَكْسُورًا لِمَا يَصْلُحُ لَهُ صَحِيحًا مِنْ وَقُودِ النَّارِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمَعْصِيَةَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ مُفَصَّلًا وَيَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مُكَسَّرًا ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا وَمُكَسَّرًا لِأَنَّهُ أَزَالَ مَعَ الْمَعْصِيَةِ نَفْعًا مُبَاحًا فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْإِبَاحَةِ وَهَكَذَا حَالُ الطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ وَالْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَاتِ إِنْ فَصَلَ خَشَبَهَا فَلَا ضَمَانَ وَإِنْ كَسَرَهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا فَلَا ضَمَانَ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِهَا ضَمِنَ مَا بَيْنَ قيمته م فصل اً ومكسراً. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وِإِنْ أَرَاقَ لَهُ خَمْرًا أَوْ قَتَلَ لَهُ خِنْزِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا قِيمَةَ لِمُحَرَّمٍ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عليه ملك واحتج على من جعل له قيمة الخمر والخنزير لأنهما ماله فقال أرأيت مجوسياً اشترى بين يديك غنماً بألف درهمٍ ثم وقذها كلها ليبيعها فحرقها مسلمٌ أو مجوسيٌّ فقال لك هذا مالي وهذه ذكاته عندي وحلالٌ في ديني وفيه ربحٌ كثيرٌ وأنت تقرني على بيعه وأكله وتأخذ مني الجزية عليه فخذ لي قيمته فقال أقول ليس ذلك بالذي يوجب لك أن أكون شريكاً لك في الحرام ولا حق لك قال فكيف حكمت بقيمة الخنزير والخمر وهما عندك حرامٌ؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بِالتَّمَسُّكِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَمَعْصِيَةٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الصَّلِيبِ وَلَا شَيْءَ عَلَى مُتْلِفِهَا مُسَلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى مُسْلِمٍ أَتْلَفَهُ أَوْ عَلَى ذَمِّيٍّ وَيُعَزَّرُ إِنْ هَجَمَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ أَوْ بِيَعِهِمْ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ أَتْلَفَهَا عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنِ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَإِنْ أَتْلَفَهَا عَلَى ذَمِّيٍّ ضَمِنَهَا الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْخَمْرِ وَقِيمَةَ الْخِنْزِيرِ اسْتِدْلَالًا فِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا لِلذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقِيلَ إِلَى سَمُرَةَ بْنِ جندبٍ فِي خُمُورِ أهل الذمة أن ولهم بعيها وَخُذِ الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهِ من وجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 أَحَدُهُمَا: أَنْ جَعَلَ لَهَا أَثْمَانًا وَالْعَقْدَ عَلَيْهَا صَحِيحًا. وَالثَّانِي: أَخَذَ الْعُشْرَ مِنْهَا وَلَوْ حُرِّمَتْ أَثْمَانُهَا لَحُرِّمَ عُشْرُهَا قَالَ وَلِأَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ فِي عُرْفِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِمْ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَقَالُوا وَلِأَنَّهُ مِنْ أَشْرِبَتِهِمُ الْمُبَاحَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ قَالُوا وَلِأَنَّ مَا اسْتَبَاحُوهُ شرعاً ضمناه لهم وإن منعا مِنْهُ شَرْعًا قِيَاسًا عَلَى بُضْعِ الْمَجُوسِيَّةِ يَضْمَنُهُ الْمُسْلِمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الشَّبَهِ قَالُوا وَلِأَنَّ مَا كَانَ مُتَمَوَّلًا عِنْدَ مَالِكِهِ ضَمِنَ بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ لَمْ يُتَمَوَّلْ عِنْدَ مُتْلِفِهِ قِيَاسًا عَلَى المصحف إذا أتلفه دمي عَلَى مُسْلِمٍ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ لَا، هُوَ حرامٌ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ ذَلِكَ: " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ ثُمَّ أَكَلُوا ثَمَنَهُ ". فَدَلَّ تَحْرِيمُهُ لِبَيْعِهِ عَلَى تَحْرِيمِ ثَمَنِهِ وَقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ مَالًا إِلَى صَنْعَتِهِ لَا إِلَى صِفَةِ مَالِكِهِ لأن صفات السيء قَدْ تَخْتَلِفُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ مَالًا وَيَخْتَلِفُ مَالِكُوهُ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ مَالًا كَالْحَيَوَانِ هُوَ مَالٌ لِمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ ثُمَّ لَوْ مَاتَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ثُمَّ لَوْ دُبِغَ جِلْدُهُ صَارَ مَالًا لِمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مَالًا لِلْكَافِرِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَالُ الْحَرْبِيِّ لِأَنَّهُ مَالٌ وَالسَّبْيَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ ويتحرر من اعتلاله هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ كُلُّ عَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَشْغَلَ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ بِثَمَنِهَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَشْغَلَ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ بِقِيمَتِهَا أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يستحقه المسلم من عوض الخمر لم يستحق الْكَافِرُ كَالثَّمَنِ وَلِأَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ عَلَى مُتْلِفِهِ قَيِّمَةً كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَمْ يَضْمَنْهَا الْمُسْلِمُ بِإِتْلَافِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ لَمْ يَضْمَنْهَا بِإِتْلَافِهَا عَلَى الْكَافِرِ كَالْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّ مَا اسْتُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ إِذَا لَمْ يُمَلَّكْ الِاعْتِيَاضُ عَلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ فَمَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَوْلَى أَنْ لَا يملك الاعتياض عليه قِيَاسَانِ: أَنَّ مَا حُرِّمَ نَفْعًا فَأَوْلَى أَنْ يُحَرَّمَ عِوَضًا قِيَاسًا عَلَيْهِ مِنْ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ تَقْوِيمَ الْخَمْرِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ تَقْتَضِي فِي التَّقْوِيمِ تَفْضِيلَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَمَّا لَمْ تقتضي اختلافها في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 الدِّينِ اخْتِلَافًا فِيهِ كَذَلِكَ الْجِنْسُ لَا يَقْتَضِي اخْتِلَافُهَا فِي الدِّينِ اخْتِلَافًا فِيهِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا اسْتَوَيَا فِيهِ قَدْرًا اسْتَوَيَا فِيهِ جِنْسًا كَالْأَمْوَالِ إِثْبَاتًا وَالْمُسْتَقْذِرَاتِ إِسْقَاطًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِهِ: " وَلِّهِمْ بَيْعَهَا وَخُذِ الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ وَلِّهِمْ مَا تَوَلَّوْهُ مِنْ بَيْعِهَا وَلَا تَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَبَاحُوهُ مِنْهَا وَخُذِ الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا أَيْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ خَالَطَتْ أَثْمَانَهَا بِدَلِيلِ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ بُطْلَانِ ثَمَنِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَصِيرِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا لِإِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهَا خَمْرًا وَإِبَاحَتِهِ عَصِيرًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ فِي عُرْفِهِمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ وَبِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَوْقُوذَةِ الْمَجُوسِيِّ إِنْ سَلَّمُوهُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ وَفِي الْأَشْرِبَةِ الَّتِي جَعَلُوهَا أَصْلًا لِثَانِي قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَوْ نَقُولُ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تُشْغَلَ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِ بِثَمَنِهِ فَجَازَ أَنْ تُشْغَلَ ذِمَّتُهُ بِقِيمَتِهِ وَالْخَمْرُ مُفَارِقٌ لها في هذين المعنين. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بُضْعِ الْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَبْضَاعَ مَضْمُونَةٌ بِالشُّبْهَةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ عِنْدَ إِصَابَتِهَا بِالشُّبْهَةِ كَمَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَجْنَبِيَّةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْأَعْيَانِ اسْتِشْهَادًا فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ بِالْمُبَاحِ مِنْهَا وَالْمَحْظُورِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُصْحَفِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ عِنْدَ مَالِكِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ اسْتِشْهَادُنَا بِأَصْلِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاعْتِقَادِنَا دُونَ اعْتِقَادِهِمْ نَصًّا وَاسْتِدْلَالًا. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُصْحَفِ فَلَمَّا اعْتَقَدْنَاهُ مَالًا كَانَ مَضْمُونًا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوهُ مَالًا. أَوَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا ذَبَحَ عَلَى يَهُودِيٍّ شَاةً فَهُوَ يَعْتَقِدُهَا مَيْتَةً لَا يَمْلِكُ عَنْهَا عِوَضًا وَنَحْنُ نَعْتَقِدُهَا مَالًا تُوجِبُ بِإِتْلَافِهِ عِوَضًا. ثُمَّ قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهَا لَوِ اسْتُهْلِكَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْمُسْلِمِ لَهَا أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مُتْلِفِهَا لأننا نعتقدها مالاً فكذلك الحكم فيما ل نَعْتَقِدْهُ مَالًا وَإِنِ اعْتَقَدُوهُ مَالًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا غَيْرُ الْخَمْرِ مِنَ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَجِسًا فِي أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: مَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهُ بَعْدَ طَهَارَتِهِ. فَأَمَّا النَّجِسُ فِي أَصْلِهِ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ فَلَا يَجِبُ ثَمَنُهُ وَلَا قِيمَتُهُ عَلَى مُتْلِفٍ وَأَمَّا مَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهُ بَعْدَ طَهَارَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَنْتَقِلُ عَنْ نَجَاسَتِهِ كَلَبَنِ الْمَيْتَةِ وَالْأَدْهَانِ. وَإِذَا قِيلَ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فَلَا يَحِلُّ ثَمَنُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا قِيمَتُهُ عَلَى مُتْلِفٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَنْتَقِلُ عَنْ نَجَاسَتِهِ فَيَصِيرُ طَاهِرًا كَالْمَاءِ النَّجِسِ يُطَهَّرُ بِالْمُكَاثَرَةِ وَالْأَدْهَانُ وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ غَسْلِهَا فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِبَاحَةِ ثَمَنِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُتْلِفُهَا ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ خَمْرًا فَصَارَ فِي يَدِهِ خَلًّا صَارَ حِينَئِذٍ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ خَلًّا ذَا قِيمَةٍ فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ تَلَفِهِ فَقَالَ الْمَالِكُ صَارَ خَلًّا فَعَلَيْكَ ضَمَانُهُ وَقَالَ الْغَاصِبُ بَلْ تَلِفَ فِي يَدِي وَهُوَ خَمْرٌ عَلَى حَالِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فَلَوْ صَارَ الْخَمْرُ بَعْدَ غَصْبِهِ خَلًّا ثُمَّ عَادَ الْخَلُّ فَصَارَ خَمْرًا ضَمِنَهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ بِمَصِيرِهِ خَمْرًا قَدْ صَارَ تَالِفًا فَلَوْ عَادَ ثَانِيَةً فَصَارَ خَلًّا رَدَّهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَهَلْ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَعَ رَدِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِاسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَا لَمْ يَحْدُثْ فِي مِلْكِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنْ نَقْصِ الْمَرَضِ إِذَا عَادَ. فَصْلٌ : وَإِذَا غُصِبَ واحد من خفين قيمتها مَعًا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَهْلَكَهُ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ دِرْهَمَانِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ دِرْهَمَيْنِ وَهُوَ قِيمَةُ مَا تَفَرَّدَ بِاسْتِهْلَاكِهِ وَلِكَوْنِ نَقْصِ الِانْفِرَادِ دَاخِلًا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِرْهَمَانِ مِنْهَا قِيمَةُ الْمُسْتَهْلِكِ وَسِتَّةٌ هِيَ ضَمَانُ. النَّقْصِ بِالِانْفِرَادِ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ كَمَنْ قَطَعَ إِحْدَى كُمَّيْ قَمِيصٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دراهم فصارت قيمته بد قَطْعِ الْكُمِّ دِرْهَمَيْنِ وَكَانَتْ قِيمَةُ الْكُمِّ بَعْدَ قَطْعِهِ دِرْهَمَيْنِ ضَمِنَ اتِّفَاقًا جَمِيعَ النَّقْصِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ كَذَلِكَ فِي إِحْدَى الْخُفَّيْنِ وَلَا قطع عليه ما ضمان النقط الزَّائِد عَلَى قِيمَةِ الْخُفِّ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْخُفِّ الْمُنْفَرِدِ دِرْهَمَانِ وَهِيَ دُونَ النِّصَابِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ ذَلِكَ لِلنَّقْصِ الَّذِي يُكْمِلُ بِهِ النِّصَابَ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ لَهُ مِنَ الْحِرْزِ فَصَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ فِي الْحِرْزِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَ صَكًّا أَوْ سِجِلًّا أَوْ كِتَابَ عُهْدَةٍ فَاسْتَهْلَكَهُ عَلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ قَلَّتْ وَسَوَاءٌ بَطَلَ احْتِجَاجُ الْمَالِكِ بِهَا فِي تَثْبِيتِ أَمْلَاكِهِ أَمْ لَا فَلَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْ وَلَكِنْ مَحَا مَا كَانَ مُثْبَتًا فِيهِ مِنْ خَطِّ وَثِيقَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْكِتَابِ شَيْءٌ فَيَضْمَنُ مَا نَقُصَ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِضْرَارًا بِمَالِكِهِ وَإِبْطَالًا لِلْوَثِيقَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 فصل : وإذا أطارت الريح ثوباً فَأَلْقَتْهُ فِي دَارٍ آخَرَ فَلَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الدَّارِ بِهِ حَتَّى احْتَرَقَ بِنَارٍ كَانَ فِي دَارِهِ أَوْ بَهِيمَةٌ أَكْلَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ فَأَكَلَتْهُ الْبَهِيمَةُ بَعْدَ عِلْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهَا حَتَّى أَكَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَكِنْ لَوْ رَآهُ عِنْدَ حُصُولِ الثَّوْبِ فِي دَارِهِ فَتَرَكَهُ فَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إِعْلَامُهُ فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ عَالِمًا بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ فَإِنْ أَطَارَتْهُ الرِّيحُ بَعْدَ تَرْكِهِ فَهَلَكَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حِفْظِهِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَرَ على حفظ عِنْدَ هُبُوبِهَا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَا يَضْمَنُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ أَكَلَتْهُ بَهِيمَةٌ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا وَإِنْ أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ حِينَ أَطَارَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ وَقَعَ فِي صَبْغٍ لصاحب الدار فشربه وانصبغ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ التَّعَدِّي مِنْهُمَا ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِخْرَاجُ الصبغ من الثوب واستخرجه وَيَكُونُ نَقْصُ الثَّوْبِ وَالصَّبْغُ هَدَرًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِخْرَاجُهُ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ وَالصَّبْغِ عَلَى زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا سَقَطَ فِي دَارِ رَجُلٍ طَائِرٌ مَمْلُوكٌ فَأَلِفَهَا وَأَقَامَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ يَدٌ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِعْلَامُ صَاحِبِهِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الطَّيْرَ مُمْتَنِعٌ وُعَوْدُهُ بِنَفْسِهِ مُمْكِنٌ فَلَوْ دَخَلَ الطَّيْرُ إِلَى بُرْجِ صَاحِبِ الدَّارِ فَغَلَّقَ عَلَيْهِ بَابَ الْبُرْجِ فَإِنْ نَوَى بِفِعْلِهِ تَمَلُّكَ الطَّيْرِ ضَمِنَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَمَلُّكَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي داره كيف شاء. فَصْلٌ : وَإِذَا أَشْعَلَ الرَّجُلُ فِي دَارِهِ نَارًا فَانْتَشَرَتْ حَتَّى تَعَدَّتْ إِلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ النَّارُ إِذَا انْتَشَرَتْ فِيمَا هِيَ فِيهِ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ حُدُودِ دَارِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ انْتِشَارُهَا فِيمَا هِيَ فِيهِ يُخْرِجُهَا عَنْ حُدُودِ دَارِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ النَّارِ انْتِشَارَهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَ، وَهَكَذَا لَوْ أَجْرَى فِي أَرْضِهِ مَاءً فَتَعَدَّى إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَغَرَّقَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي أَرْضِهِ مَغِيضٌ وَلَا كَانَ فِي حُدُودِهَا مَا يَصُدُّهُ عَنِ الْخُرُوجِ ضَمِنَ لِمَا فِي طَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْجَرَيَانِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 مختصر الشفعة من الجامع من ثلاثة كتب متفرقةٍ من بين وضع وإملاءٍ على موطأٍ مالكٍ ومن اختلاف الأحاديث ومما أوجبت فيه على قياس قوله، والله الموفق للصواب قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ " وَوَصَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ مالكٍ أَيُّوبُ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جابرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ مالكٍ وَاحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الجار أحق بصقبه " وقال فأقول للشريك الذي لم يقاسم وللمقاسم شفعةٌ كان لصيقاً أو غير لصيقٍ إذا لم يكن بينه وبين الدار طريقٌ نافذةٌ قلت له فلم أعطيت بعضاً دون بعضٍ واسم الجوار يلزمهم فمنعت من بينك وبينه ذراعٌ إذا كان نافذاً وأعطيت من بينك وبينه رحبةٌ أكثر من ألف ذراعٍ إذا لم تكن نافذةً؟ فقلت له فالجار أحق بسقبه لا يحتمل إلا معنيين لكل جارٍ أو لبعض الجيران دون بعضٍ فلما ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا شفعةً فيما قسم دل على أن الشفعة للجار الذي لم يقاسم دون الجار الذي قاسم وحديثك لا يخالف حديثنا لأنه مجملٌ وحديثنا مفسرٌ والمفسر يبين المجمل قال وهل يقع اسم الجوار على الشريك؟ قلت نعم امرأتك أقرب إليك أم شريكك؟ قال بل امرأتي لأنها ضجيعتي قلت فالعرب تقول امرأة الرجل جارته قال وأين؟ قلت قال الأعشى: (أجارتنا بيني فإنك طالقه ... وموقوفةٌ ما كنت فِينَا وَوَامِقَهْ) (أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ تَغْدُو وَطَارِقَهْ) (وَبِينِي فَإِنَّ الْبَيْنَ خيرٌ مِنَ الْعَصَا ... وَأَنْ لا تزالي فوق رأسك بارقه) (حَبَسْتُكِ حَتَّى لَامَنِي النَّاسُ كُلُّهُمْ ... وَخِفْتُ بِأَنْ تَأْتِيَ لَدَيَّ بِبَائِقَةْ) (وَذُوقِي فَتَى حيٍّ فَإِنِّي ذائقٌ ... فَتَاةً لحيٍّ مِثْلَ مَا أَنْتِ ذَائِقَةْ) فقال عروة نزل الطلاق موافقاً لطلاق الأعشى (قال الشافعي) رحمه الله وحديثنا أثبت إسناداً مما روى عبد الملك عن عطاء عن جابرٍ وأشبههما لفظاً وأعرفهما في الفرق بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 المقاسم وبين من لم يقاسم لأنه إذا باع مشاعاً باع غير متجزئ فيكون شريكه أحق به لأن حقه شائعٌ فيه وعليه في الداخل سوء مشاركةٍ ومؤنة مقاسمةٍ وليس كذلك المقسوم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشُّفْعَةُ فَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ أَتَاهُ جَارُهُ أَوْ شَرِيكُهُ فَشَفَعَ إِلَيْهِ فِيمَا بَاعَ فَشَفَّعَهُ وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِمَّنْ بَعُدَ سَبَبُهُ. فَسُمِّيَتْ شُفْعَةً وَسُمِّيَ طَالِبُهَا شَفِيعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ طَالِبَهَا جَاءَ تَالِيًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ فَسُمِّيَ شَفِيعًا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ شَفْعٌ وَالْوَاحِدَ وِتْرٌ وَسُمِّيَ الطَّلَبُ شُفْعَةً. فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَنْ شَذَّ عَنِ الْكَافَّةِ مِنَ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ فَإِنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا رَدًّا لِلْإِجْمَاعِ، وَمَنْعًا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَتَمَسَّكَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ ". وَهَذَا خَطَأٌ لِفُحْشٍ مِنْ قَائِلِهِ لِأَنَّ مَا رُوِيَ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا فَالْعَمَلُ بِهِ مُسْتَفِيضٌ يَصِيرُ بِهِ الْخَبَرُ كَالْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مُنْعَقِدٌ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ شَرْعًا وَاقِعًا وَلَيْسَ فِي التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ " مَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُعَاوِضُ عَلَيْهِمَا بِمَا بَذَلَهُ فَيَصِلُ إِلَيْهِ ولا يستحل منه. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الشُّفْعَةِ فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي عِرَاصِ الْأَرَضِينَ وَيَكُونُ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ منها مشاعاً كانت الشفعة فيه على قولين مَنْ أَوْجَبَهَا إِجْمَاعًا، وَإِنِ الْمَبِيعُ مَحُوزًا فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَهْلُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَسُفْيَانُ والثوري: إِنَّ شُفْعَةَ الْمَحُوزَةِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْجَارِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا سَلَفٌ وَرُبَّمَا أَضَافُوهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنْ عَفَا الْجَارُ عَنْهَا كَانَتْ لِمَنْ يَلِيهِ إلى القريب ثم لمن يليه في آخِرِ الْجِوَارِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذَةً فَلَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْجَارِ الْمُلَاصِقِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ " وَرَوِي بِسَقَبِهِ يَعْنِي بقربه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 وَبِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ أَوِ الْأَرْضِ ". وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدَةً ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الخيط أَحَقُّ مِنَ الشَّفِيعِ وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ أَرَضًا بِيعَتْ لَيْسَ لِي فِيهَا قَسَمٌ وَلَا شربٌ " فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْتَ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِكَ يَا شَرِيدُ ". قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْعِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ كَالْخِلْطَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ تَخَوُّفًا مِنْ سُوءِ عِشْرَةِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ. هَذَا قَدْ يُوجَدُ فِي الدَّارِ كَوُجُودِهِ فِي الْخَلِيطِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ كَوُجُودٍ بِهَا لِلْخَلِيطِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابن شهاب عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ " وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَمُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَسَنٌ، ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ مُسْنَدًا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فَلَا شُفْعَةَ " فَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " فَكَانَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مُسْتَوْعِبًا لِجِنْسِ الشُّفْعَةِ فَلَمْ تَجِبْ فِي الْمَقْسُومِ شُفْعَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ " فَصَرَّحَ بِسُقُوطِ الشُّفْعَةِ مَعَ عَدَمِ الْخِلْطَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا نَفَى الشُّفْعَةَ عَنْهُ بِالْقِسْمَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ الْقِسْمَةِ حَادِثَةٍ وَمُتَقَدِّمَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى الشُّفْعَةَ عَنِ الْمَقْسُومِ بِمَا أَثْبَتَهَا فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ فَلَمَّا أَثْبَتَهَا فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ بِالْبَيْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفَاهَا عَنِ الْمَقْسُومِ بِالْبَيْعِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ ". وَهَذَا أَقْوَى اسْتِدْلَالًا بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا إِثْبَاتًا لِمَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيًا لِمَا انْفَصَلَ عَنْهَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ". فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا نَفَى الشُّفْعَةَ بِصَرْفِ الطُّرُقَاتِ وَهِيَ لِلْجَارِ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ؟ قِيلَ: الطُّرُقَاتُ الَّتِي تُصْرَفُ بِالْقِسْمَةِ مُخْتَصَّةٌ بِاسْتِطْرَاقِ المشاع الذي يستطرقه الشريك ليصل له إِلَى مِلْكِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ بِهِ الْقِسْمَةُ انْصَرَفَ اسْتِطْرَاقُهُ مِنْ مِلْكِ شَرِيكِهِ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الطُّرُقَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فَلَا تَنْصَرِفُ أَبَدًا. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها ". وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ هُوَ أَنَّ تَمْيِيزَ " الْمَبِيعِ يَمْنَعُ " مِنْ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِيهِ كَالَّذِي بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ نَافِذَةٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ يُتَرَقَّبُ فِيهَا الْمُقَاسَمَةُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ قِيَاسًا عَلَى مُشَاعِ الْغِرَاسِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَغَيْرِ الْمُشْتَرَكِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ حِصَّةً لَهُ مِنْ عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَلَا يُعْتَقُ غَيْرُهُ وَلَوْ بَدَأَ إِصْلَاحَ بَعْضِ حَائِطِهِ حُكِمَ بِإِصْلَاحِ جَمِيعِهِ وَلَا يُحْكَمُ بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ. فَكَانَتْ شَوَاهِدُ هَذِهِ الْأُصُولِ تُوجِبُ فِي الشُّفْعَةِ " إِذَا ثَبَتَتْ فِي الشَّرِكَةِ أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا لَا لِدُخُولِ الضَّرَرِ فِيهَا، وَفِي وُجُوبِهَا لِلْجَارِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 ضَرَرٌ دَاخِلٌ لِتَقَاعُدِهِ بِالْمَالِكِ فِي بَدَلِ النَّجْشِ مِنَ الثَّمَنِ لِتَثَبُّتِهِ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى ابْتِيَاعِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِشُفْعَتِهِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ بِمُقَاسِمَةِ شَرِيكِهِ وَمَا كان موضوعاً لرفع الضَّرَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الضَّرَرُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ فِي الْمُشْتَرَكِ إِنَّمَا هُوَ لضرر لا يقدر على دفعه وهو مؤونة الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَبْهَمَ الْحَقَّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ فِي مُضْمَرٍ لِأَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَنْطُوقِ دُونَ الْمُضْمَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْفِنَاءِ مِنَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ والجار ممن ليس بجار أو أن يكون مرتفعاً بِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ فِي الْبَادِيَةِ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا فَنَزَلُوهَا كَانَ جَارُ الْمَنْزِلِ الْمُقَارِبِ لَهُمْ أَحَقَّ بِالْمَكَانِ إِذَا رَحَلَ النَّازِلُ عَنْهُ لِصَقَبِهِ وَالصَّقَبِ عَمُودُ الْخَيْمَةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ الْقُرْبُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ: (كوفيةٌ نَازِحٌ مَحَلَّتُهَا ... لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ) وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِدَارِ الْجَارِ " فَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ وَاخْتَلَفُوا فِي لِقَاءِ الْحَسَنِ سَمُرَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَلْقَهُ وَقَالَ آخَرُونَ لَقِيَهُ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا وَلَيْسَ هُوَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَكَانَ عَنْهُ الْجَوَابَانِ الْمَذْكُورَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا " فَرِوَايَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَكَانَ ضَعِيفًا وَقَالَ شُعْبَةُ: لَوْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ حَدِيثًا آخَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الشُّفْعَةِ بَطَلَ حَدِيثُهُ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عَلَى عَرْضِ هَذَا الْمَبِيعِ عَلَى جَارِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الرَّابِعِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنَ الشَّفِيعِ وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ " هُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ وَإِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ عِنْدَ الطَّلَبِ وَقْتَ الشِّرَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلشَّرِيدِ: " أَنْتَ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِكَ يَا شَرِيدُ " فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 ثُمَّ لَوْ سَلِمَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَارِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ اسْمَ الجوار يختص بالقريب، وَالشَّرِيكُ أَقْرَبُ مِنَ اللَّصِيقِ فَكَانَ أَحَقَّ بَاسِمِ الْجِوَارِ وَقَدْ أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَةِ لِقُرْبِهَا فَسَمَّتْهَا جَارَةً. قَالَ الْأَعْشَى: (أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ ... وموموقةٌ مَا كُنْتِ فِينَا وَوَامِقَةْ) (وَبِينِي فَإِنَّ الْبَيْنَ خيرٌ مِنَ الْعَصَا ... وَأَنْ لَا تَزَالِي فَوْقَ رَأْسِي بَارِقَةْ) (أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ تَغْدُو وَطَارِقَةْ) (حَبَسْتُكِ حَتَّى لَامَنِي النَّاسُ كُلُّهُمْ ... وَخِفْتُ بِأَنْ تَأْتِيَ لَدَيَّ بِبَائِقَةْ) (وَذُوقِي فَتَى حيٍّ فَإِنِّي ذائقٌ ... فَتَاةً لحيٍّ مِثْلَ مَا أَنْتِ ذَائِقَةْ) وَكَانَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَرِهَهُ قَوْمُهَا وَأَخَذُوهُ بِالنُّزُولِ عَنْهَا فَلَمْ يَقْتَنِعُوا مِنْهُ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى وَلَا بِالثَّانِيَةِ فَلَمَّا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَفُّوا عَنْهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ نَزَلَ الطَّلَاقُ مُوَافِقًا لِطَلَاقِ الْأَعْشَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الخلطة فالمعنى فيها الخوف من مؤونة الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: بِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخِلْطَةِ تَخَوُّفًا مِنْ سُوءِ عِشْرَةِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ " فَهُوَ أَنَّ سُوءَ الْعِشْرَةِ مِمَّا يَجِبُ مَنْعُ السُّلْطَانِ مِنْهُ فَصَارَ مَقْدُورًا عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ الشُّفْعَةِ وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِأَجْلِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَّا بِالشُّفْعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلا مؤونة الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عِنْدَ طلبها إلا بالشفعة. فصل : فإذا ثبت أن الشفعة واجبة بالخلطة دون الجواز فَالْكَلَامُ فِي الشُّفْعَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: مَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 وَالثَّانِي: مَا يَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَالثَّالِثُ: مَنْ تَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَالرَّابِعُ: مَا تُؤْخَذُ بِهِ الشُّفْعَةُ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ، فَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَالْعُقُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْعِوَضُ، وَقِسْمٌ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعِوَضُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ فِيهِ. فَأَمَّا الْمُوجِبُ لِلْعِوَضِ فَخَمْسَةُ عُقُودٍ: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالصَّدَاقُ، وَالْخُلْعُ. فَالشُّفْعَةُ بِجَمِيعِهَا مُسْتَحَقَّةٌ كَالْبَيْعِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ بِهَا عِوَضًا أَوْ مُعَوَّضًا وَسَنَشْرَحُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَا لَا يُوجِبُ الْعِوَضَ إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَةِ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِوَضَ مَعَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ فَلَا شُفْعَةَ بِهِ لِأَنَّ مَا لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ نَقْلُ الْمِلْكِ وَمَا لَا عِوَضَ فِيهِ لَا مُعَوَّضَ فِيهِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأُمِّ وَلَدِهِ إِذَا خَدَمْتِ وَرَثَتِي سَنَةً بَعْدَ مَوْتِي فَلَكِ هَذَا الشِّقْصُ فَخَدَمَتْهُمْ سَنَةً بَعْدَ مَوْتِهِ فَاسْتَحَقَّتِ الشِّقْصَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُغَلَّبُ فِي مِلْكِهَا لِلشِّقْصِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَاتِ أَوْ حُكْمُ الْوَصَايَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْمُعَاوَضَاتِ عَلَيْهِ أَغْلَبُ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِخِدْمَتِهَا فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ بِأُجْرَةٍ مِثْلِ خِدْمَتِهَا تِلْكَ السَّنَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْوَصَايَا عَلَيْهِ أَغْلَبُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَالثَّانِي: مِلْكُهُ الشِّقْصُ عَمَّنْ لَمْ يَمْلِكِ الْخِدْمَةَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَصِيَّةً عَلَى صِفَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ فِيهِ فَعَقْدُ الْهِبَةِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِهَا بِالثَّوَابِ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْمُكَافَأَةُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ الثَّوَابَ فِيهَا قَدْرًا مَعْلُومًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ، إِنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ وَالشُّفْعَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِالثَّوَابِ الْمَشْرُوطِ لِأَنَّهَا إِذَا صَحَّتْ مَعَ الْجَهْلِ بِالثَّوَابِ كَانَتْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ أَصَحَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ بَاطِلَةٌ، وَالشُّفْعَةَ فِيهَا سَاقِطَةٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 فِيهَا يَجْعَلُهَا بَيْعًا وَالْبَيْعُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بَاطِلٌ، فَهَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَى الْهِبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ بِهَا وَيَكُونُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِهَا فِي سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِهِ كَانْتِقَالِهِ بِالْمِيرَاثِ فَهَذَا حُكْمُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَهِيَ عِرَاصُ الْأَرَضِينَ وَمَا يَتْبَعُهَا مُتَّصِلًا دُونَ غَيْرِهَا، وَجُمْلَةُ الْأَشْيَاءِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ مَقْصُودًا وَهِيَ عِرَاصُ الْأَرَضِينَ الْمُحْتَمِلَةُ لِقِسْمَةِ الْإِجْبَارِ، فَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ لِصِغَرِهَا كَالطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ وَبَيَاضِ الْبِيرِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَعْلِيلًا بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاسْتِدَامَةِ الضَّرَرِ بِهَا لِتَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فيها تعليلاً في وجوبها بالخوف من مؤونة الْقِسْمَةِ وَأَنَّ مَا لَا يَنْقَسِمُ جَبْرًا فَلَا شفعة فيه لارتفاع الضرر بمؤونة الْقِسْمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا شُفْعَةَ فِي فناءٍ وَلَا طريقٍ وَلَا منقبةٍ وَلَا ركحٍ وَلَا رهوةٍ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: " الْمَنْقَبَةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقَةُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَالرُّكْحُ: نَاحِيَةُ الْبَيْتِ مِنْ وَرَائِهِ وَمَا كَانَ فَضَاءً لَا بِنَاءَ فِيهِ، يَعْنِي إِذَا كَانَ لِلسَّابِلَةِ وَالْمَارَّةِ، وَالرَّهْوَةُ: الْجَوْبَةُ تَكُونُ فِي مَحَلَّةِ الْقَوْمِ يَسِيلُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ وَغَيْرُهُ ". وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا وهو البناء والغرس، إن كَانَ مَبِيعًا مَعَ الْأَرْضِ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ إِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْهَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَجَبَتْ فِيهِ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة. وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ مُنْفَرِدًا عَنِ الْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبي حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي البناء المفرد وفي الغراس وفي الثمار والمقاتي والمباطح لاتصال بِعِرَاصِ الْأَرْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فَلَا شُفْعَةَ " فَجَعَلَ حُدُودَ الْقِسْمَةِ شَرَطًا فِي إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا فِيمَا يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ فِي الْأَرْضِ شُفْعَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْعَقْدِ لَمْ يَجِبْ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ شُفْعَةٌ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا شُفْعَةَ فِيمَا أُفْرِدَ بِالْبَيْعِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، وَكَانَتْ دَارٌ ذَاتُ عُلُوٍّ مشترك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 وَسُفْلُهَا لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي عُلُوِّهَا فَبَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْعُلُوِّ حَقَّهُ نُظِرَ فِي السَّقْفِ فَإِنْ كَانَ لِأَرْبَابِ السُّفْلِ فَلَا شُفْعَةَ فِي الْحِصَّةِ الْمَبِيعَةِ مِنَ الْعُلُوِّ لِأَنَّهَا بِنَاءٌ مُنْفَرِدٌ وَإِنْ كَانَ السَّقْفُ لِأَرْبَابِ الْعُلُوِّ فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الْحِصَّةِ الْمَبِيعَةِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا شُفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَرْضًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِيهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ السَّقْفَ كَالْعَرْصَةِ. وَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: " إِنَّ السَّقْفَ أَرْضٌ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَازَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَالسَّقْفِ أَمْكَنَ سُكْنَاهُ كَالْأَرْضِ ". الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا وَهُوَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مُشْتَرَكٍ فِي مَتَاعٍ وَحَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ مِنْ صُنُوفِ الْأَمْوَالِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَنْ تَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ فَهُوَ الْخَلِيطُ فِي الْمِلْكِ الْمَبِيعِ دُونَ الْجَارِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيطُ وَافِرَ السَّهْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلَ السَّهْمِ حَتَّى لَوْ خَالَطَ بِسَهْمٍ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَإِنْ كَانَ الْخُلَطَاءُ عَدَدًا، كَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَلَا فَرْقَ فِي خَلِيطِ الْمَالِكِ إِذَا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ حِصَّتَهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ مِنْ بَائِعِ الشِّقْصِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مالك قد يستضر بسوء المشاركة ويتأذى بمؤونة الْمُقَاسَمَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حِصَّةُ الْخَلِيطِ وَقْفًا نُظِرَ فِي الْوَقْفِ. فَإِنْ كَانَ عَامًّا كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى خَاصٍّ لَا يُمَلَّكُ كَالْوَقْفِ عَلَى جَامِعٍ أَوْ مَسْجِدٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شُفْعَةً فِي الْمَبِيعِ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا عَلَى مَالِكٍ كَالْوَقْفِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْوَاقِفُ شُفْعَةً لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنِ الْمَوْقِفِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ مَالِكًا لِرَقَبَةِ الْوَقْفِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالِكًا لِغَلَّتِهِ فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ لَهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مَالِكًا لِرَقَبَةِ الْوَقْفِ فَعَلَى هَذَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلشُّفْعَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ، وَاسْتِضْرَارِهِ بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ وَلَا مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ. ثُمَّ الشُّفْعَةُ تَجِبُ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ وَلِلرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَلِلسَّيِّدِ على مكاتبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 وَلِلْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ وَلَا عَلَى مُدَبَّرِهِ وَلَا عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا أَحَدُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا تُؤْخَذُ بِهِ الشُّفْعَةُ فَهُوَ مَا جُعِلَ بَدَلًا عَنِ الشِّقْصِ الْمَنْقُولِ الْمِلْكِ مِنْ ثَمَنٍ إِنْ كَانَ فِي بَيْعٍ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ فِي إِجَارَةٍ أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ فِي صَدَاقٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا إِنْ كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فصالحه العبد المكاتب عن مال نجمه عن شِقْصٍ مِنْ دَارٍ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ وَاجِبَةٌ بِمِثْلِ مَالِ النَّجْمِ لِأَنَّ السَّيِّدَ مَلَكَهُ عِوَضًا عَنْهُ، فَإِنْ أَخْذَهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ ثُمَّ أَدَّى الْمُكَاتَبُ أَوْ عَجَزَ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ فِيمَا أَخَذَهُ بِشُفْعَتِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ أَخْذُهُ حَتَّى عَجَزَ أَوْ رَقَّ فَفِي الشُّفْعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطُلَتْ: لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ إِذَا عَجَزَ صَارَ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ بالملك لا بالمعاوضة، والوجه الثاني: أنه الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّ السَّيِّدَ ابْتَدَأَ مِلْكَ الشِّقْصِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِمَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ الْمُعَاوَضَةِ. وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة هِيَ بَيْعٌ وَيَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ وَقَالَ أبو يوسف ومحمد إِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهِيَ بَيْعٌ وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَهِيَ فَسْخٌ لَا تَجِبُ بِهَا الشُّفْعَةُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا شُفْعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ وَلَا أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي مشاعٍ وَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ لِرِوَايَةِ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصًّا، وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ مَدْخَلَ الْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِمَا أَخَذَ الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّ عُدُولَهُمَا عن الثمن لا يخلو من ثلاثة أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِمَا يَرْضَى بِهِ الْمُشْتَرِي، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَرْضَى إِلَّا بِأَضْعَافِ الثَّمَنِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِمَا يَرْضَى بِهِ الشَّفِيعُ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَرْضَى إِلَّا بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ تَكُونُ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَيَسْتَضِرُّ الْمُشْتَرِي وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَيَسْتَضِرُّ الشَّفِيعُ. وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ ثَبَتَ أَخْذُهَا بِالثَّمَنِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ جِنْسًا، وَصِفَةً، وَقَدْرًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَبْدِ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ فِي أَقَلِّ الْأَحْوَالِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إِذَا زَادَ فَالزِّيَادَةُ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ وَإِنْ نَقَصَ فَالنُّقْصَانُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَخَرَجَ مِنَ الْعَقْدِ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ فَوَجَدَهَا الْبَائِعُ زُيُوفًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَامِحَ وَبَيْنَ أَنْ يُبْدِلَهَا، فَإِنْ رَضِيَ بِهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جِيَادًا. وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَاعْوَرَّ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَرَدِّ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرِّضَا بِالْعَوَرِ وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَوَرِ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ أَعْوَرَ وَقَالَ أبو حنيفة: يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا كَمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الْأَلْفِ جِيَادًا لِأَنَّهُ لَيْسَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ خَطَأً فِي الثَّمَنِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِعَيْنِهِ رِضًا منه بأنه هو الثمن بعينيه، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَلْفِ: أَنَّ عَوَرَ الْعَبْدِ لما أحدث له خياراً، أَثَّرَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِذَا اسْتَخَفَّ بِهَا أَخَذَ بَدَلَهَا فَصَارَ الْجَيِّدُ ثَمَنًا لَهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا نَقَصَهُ عُشْرَ الثَّمَنِ فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ مِنَ الْعَيْبِ عَلَى جَارِيَةٍ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ بِتِسْعِينَ دِينَارًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْمِائَةِ عَشْرَ دَنَانِيرَ فَإِنْ دَفَعَ الْبَائِعُ إِلَى الْمُشْتَرِي الْعَشَرَةَ الَّتِي هِيَ أَرْشُ الْعَيْبِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْ تَمَامِ الثَّمَنِ وَلَا مُطَالَبَةَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ وَإِنِ امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِهَا وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا بِرَدِّ الْمَبِيعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَذْلِ الْأَرْشِ، وَقِيلَ لِلشَّفِيعِ: إِنْ دَفَعْتَ إلى المشتري عشرة دنانير يستكمل بِهَا الْمِائَةَ الَّتِي دَفَعَهَا ثَمَنًا حَقَّتْ لَكَ الشُّفْعَةُ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى دَفْعِهَا وَلَزِمَكَ رَدُّ الشِّقْصِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَاسْتِرْجَاعُ التِّسْعِينَ الَّتِي دَفَعْتَهَا، فَإِذَا عَادَ الشِّقْصُ إِلَى الْمُشْتَرِي كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعِيبًا بِالْمِائَةِ كُلِّهَا وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ. فَإِنْ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمِائَةِ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ إِنْ عَادَ مُطَالِبًا بِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ بِالْمِائَةِ فَرَدَّهَا، فَلَوْ أَنَّ الشَّفِيعَ أَنْكَرَ تَقَدُّمَ الْعَيْبِ وَتَصَادَقَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّفِيعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ، وَلَا يُصَدَّقَانِ فِي الِازْدِيَادِ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ الشَّفِيعُ حَلَفَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَدْرِكُ لِنَقْصِ الْعَيْبِ فَإِنْ حَلَفَ كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تَكْمِلَةِ الْمِائَةِ أَوِ الرَّدِّ. فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ شِقْصًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَّا أَنَّهُ حَابَاهُ فِي ثَمَنِهِ بِأَلْفَيْ درهم فللمشتري وللشفيع ثلاثة أحوال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 إحداهن: أَنْ يَكُونَا أَجْنَبِيَّيْنِ مِنَ الْبَائِعِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيًّا، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يكون المشتري أجنبياً والشفيع وارثاً. فأما الحالة الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا غَيْرَ الشِّقْصِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَالًا تَخْرُجُ الْمُحَابَاةُ مِنْ ثُلُثِهِ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشُّفْعَةَ بِالثَّمَنِ مُسْتَرْخَصًا كَانَ أَوْ غَالِيًا، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الشِّقْصِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَرُدَّ لِيَحْصُلَ لَهُ نِصْفُ الْمُحَابَاةِ وَبَيْنَ أَلْفٍ تَكُونُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ ثُلُثُ الشِّقْصِ وَقِيمَةُ أَلْفٍ مَعَ أَلْفٍ حَصَّلَتْ لَهُمْ ثَمَنًا فَيَصِيرُ مِثْلَيِ الْمُحَابَاةِ بِالْأَلْفِ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَلْفِ ثُلُثَيِ الشِّقْصِ الْعَائِدِ لِلْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ. وَأَمَّا الحالة الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيًّا. فَالْمُحَابَاةُ بَاطِلَةٌ وَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِأَلْفٍ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ فَإِنْ أَخَذَ ثُلُثَهُ بِالْأَلْفِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الثُّلُثِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عُرِضَ عَلَى الشَّفِيعِ قَبْلَ رَدِّهِ فَإِنْ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ كَانَ أَحَقَّ وَبَطَلَ رَدُّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ لِيَحْصُلَ لَهُ الثَّمَنُ الْخَارِجُ مِنْ يَدِهِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَوَصَلَ إِلَى حَقِّهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ بِرَدِّهِ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ رَدِّهِ بِعَيْبٍ لَوْ ظَهَرَ إِذَا رَضِيَ الشَّفِيعُ بِهِ وَتَكُونُ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَلَوْ أَنَّ بَاقِيَ الْوَرَثَةِ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ مُحَابَاتِهِ، وَأَعْطَوْهُ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالْأَلْفِ جَازَ، وَفِيمَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ هَلْ تَكُونُ عَطِيَّةً أَوْ إِمْضَاءً: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِمْضَاءٌ فَعَلَى هَذَا لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالْأَلْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ وَيَخْلُصُ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثَاهُ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَهُ خَالِصَةٌ. وَأَمَّا الحالة الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا وَالشَّفِيعُ وارثاً فللمحاباة وهي ألف درهم ثلاثة أَحْوَالٍ: حَالٌ يَحْتَمِلُ الثُّلُثُ جَمِيعَهَا، وَحَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الثُّلُثُ شَيْئًا مِنْهَا، وَحَالٌ يَحْتَمِلُ الثُّلُثُ بَعْضَهَا. فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الثُّلُثُ شَيْئًا مِنْهَا لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي أَخْذِ ثُلُثِ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ، أَوْ رَدِّهِ فَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ الشَّفِيعُ أَحَقَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا لِأَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ. وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ يَخْرُجُ الْأَلْفَانِ مِنْ ثُلُثِهِ فَالْمُحَابَاةُ بِثُلُثَيِ الشِّقْصِ، وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ بَعْضَهَا وَهُوَ أَنْ لَا يَمْلِكَ غَيْرَ الشِّقْصِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 الْمُقَوَّمِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ احْتَمَلَ الثُّلُثُ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ ثُلُثُ الشِّقْصِ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَقْصُودٌ بِهَا فَصَحَّتْ لَهُ، وَالشَّفِيعُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَتْ لَهُ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرَى ثُلُثَيِ الشِّقْصِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ هَذَيْنِ الثُّلُثَيْنِ بِالْأَلْفِ، وَيَرْجِعُ الثُّلُثُ عَلَى الْوَرَثَةِ مَعَ الْأَلْفِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِمْ ثَمَنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَابَاةَ جَائِزَةٌ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِمَّنْ يَصِحُّ مُحَابَاتُهُ وَهُوَ بِهَا مَقْصُودٌ، وَالشَّفِيعُ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ مُحَابَاتُهُ وَهُوَ بِهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي ثُلُثَيِ الشِّقْصِ بِأَلْفٍ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثُلُثَهُ بِأَلْفٍ وَيَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ الثُّلُثُ فَيَصِيرُ الشِّقْصُ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الثُّلُثَ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَثُلُثُهُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ لَهُ، وَثُلُثُهُ لِلشَّفِيعِ بَعْدَ رَدِّ الْمُحَابَاةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحَابَاةَ بَاطِلَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُفْضِي إِلَى الشَّفِيعِ الَّذِي لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهَا، وَهِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِالْمَبِيعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ عَنْهَا فَعَلَى هَذَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَيَرْجِعُ الثُّلُثَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُحَابَاةَ مَوْقُوفَةٌ مُرَاعَاةً فَإِنْ عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ شُفْعَتِهِ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لِلْمُشْتَرِي وَأَخَذَ ثُلُثَيِ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ وَرَجَعَ الثُّلُثُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ لِلْمُشْتَرِي وَأَخَذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِالْأَلْفِ وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَيَرْجِعُ الثُّلُثَانِ إِلَى الْوَرَثَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ وَارِثَ الْمُشْتَرِي وَهُمَا أَجْنَبِيَّانِ مِنَ الْبَائِعِ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لِلْمُشْتَرِي وَاسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ الْمُحَابَاةَ بِشُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَابَاةً مِنَ الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ يأخذها منه جبراً بلا اخيتار. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ عَلِمَ فَطَلَبَ مَكَانَهُ فَهِيَ لَهِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ تجب بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالأخذ، فإذا بِيعَ الشِّقْصُ، وَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّفِيعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ أَوْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ إِذَا عَلِمَ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ كَالْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَيْبِ مَا اشْتَرَى كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الرَّدِّ إِذَا عَلِمَ فَأَمَّا إذا علم بالبيع فله حالان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 أحدهما: أن يكون قادراً على الطلب، والحال الثاني: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطلب فله ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الطَّلَبِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فِي الْأَخْذِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فِيمَا ثَبَتَ بِاجْتِهَادِهِ. فَلَوْ قَالَ الشَّفِيعُ حِينَ بَادَرَ بِالطَّلَبِ: أَنْظِرُونِي بِالثَّمَنِ وَاحْكُمُوا لِي بِالْمِلْكِ لَمْ يَجُزْ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: احْكُمُوا لِي بِالْمِلْكِ حَتَّى أُحْضِرَ الثَّمَنَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِالْمِلْكِ حَتَّى يَكُونَ الثَّمَنُ حَاضِرًا، فَلَوْ أَحْضَرَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ، أَوْ عِوَضًا عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ وَيُدْخِلَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّأْخِيرِ. فَإِنْ سَأَلَ الْوَقْفَ حَتَّى يَحْضُرَ الثَّمَنُ جَازَ أَنْ يُنْظِرَهُ الْحَاكِمُ يَوْمًا، أَوْ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرُهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَاءَ بِالثَّمَنِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَنْظَرَهُ الْحَاكِمُ بِهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الشَّفِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الشُّفْعَةِ، وَالْعَفْوُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَرِيحٌ وَتَعْرِيضٌ، فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الشُّفْعَةِ، أَوْ تَرَكْتُهَا، وَنَزَلْتُ عَنْهَا فَهَذَا مُبْطِلٌ لِشُفْعَتِهِ. وَالتَّعْرِيضُ أَنْ يُسَاوِمَ الْمُشْتَرِيَ فِي الشِّقْصِ أَوْ يُطَالِبَهُ بِالْقِسْمَةِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ مِنْهُ أَوْ يُسَاقِيَهُ عَلَيْهِ. فَهَلْ يَكُونُ التَّعْرِيضُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَصَرِيحِ الْعَفْوِ فِي إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَفْوِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَفْوِ لِمَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْخِطْبَةِ بَيْنَ حُكْمِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ لِلْمُشْتَرِي: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَتِكَ، فَلَيْسَ بِعَفْوٍ صَرِيحٍ وَلَا تَعْرِيضٍ؛ لِأَنَّ وُصُولَهُ إِلَى الثَّمَنِ مِنَ الشَّفِيعِ بَرَكَةٌ فِي صَفْقَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ لِلْمُشْتَرِي فِي ابْتِيَاعِهِ لَمْ يَكُنْ عَفْوًا صَرِيحًا، وَلَا تَعْرِيضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ فِي الْبَيْعِ الَّذِي بِتَمَامِهِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ وَجَعَلَ أبو حنيفة هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَفْوًا صَرِيحًا. وَأَمَّا إِنْ قَالَ سَأَعْفُو، أَوْ قَالَ إِنْ شِئْتَ عفوت فليس ذلك عفواً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 فصل : والحالة الثَّالِثَةُ: مِنْ أَحْوَالِ الشَّفِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْأَخْذِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الطَّلَبِ ففيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ وَبِهِ تَقَعُ الْفُتْيَا أَنَّ الشُّفْعَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِانْقِضَاءِ زَمَانِ الْمَكِنَةِ وَأَنَّ حَقَّ طَلَبِهَا عَلَى الْفَوْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُؤَقَّتٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمَكِنَةِ فَإِنْ طَلَبَهَا إِلَى ثَلَاثٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ مَضَتِ الثَّلَاثُ قَبْلِ طَلَبِهِ بَطَلَتْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ قَالَ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ عقالٍ فَإِنْ أَخَذَهَا فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا رَجَعَ بِاللَّائِمَةِ عَلَى نَفْسِهِ "؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ فِي اسْتَدَامَتْهَا إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي مُسْتَدِيمًا إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ بَقَاءَ مِلْكِهِ فَيَتَصَرَّفَ، وَلَا زَوَالَ مِلْكِهِ فَيُطَالِبَ بِالثَّمَنِ، وَأَنَّ مَا وُضِعَ لِإِزَالَةِ الضرر لم يجز أن يدخ بِهِ أَعْظَمُ الضَّرَرِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ بِالْمَكِنَةِ الْمَعْهُودَةِ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ وَلَا عَجَلَةٍ. فَإِذَا عَلِمَ مُكِّنَ بَعْدَ الْعِلْمِ مِنْ لُبْسِ ثَوْبِهِ، وَجَمْعِ مَالِهِ، وَغَلْقِ بَابِهِ، وَصَلَاةِ وَقْتِهِ فَإِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُشْتَرِي مَشَى عَلَى مَهْلٍ كعادته، فإذا ألقى الْمُشْتَرِي جَازَ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ قَدَّمَ السَّلَامَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِطَلَ حَقُّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ الْمَأْثُورَةِ، وَخَرْقِ الْعَادَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ. وَلَكِنْ لَوْ حَادَثَهُ بَعْدَ السَّلَامِ وَقَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِطَلَ حَقُّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَبَ ثُمَّ أَمْسَكَ بعد الطلب من غير صريح بِالْعَفْوِ وَلَا تَعْرِيضٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَدِيمًا لِلطَّلَبِ بِحَسْبِ الْمَكِنَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: " شُفْعَتُهُ بَاقِيَةٌ أَبَدًا إِذَا قَدَّمَ الطَّلَبَ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْعَفْوِ ". وَقَالَ محمد بن الحسن: " شُفْعَتُهُ بَاقِيَةٌ فِي زَمَانِ إِمْسَاكِهِ إِلَى مُدَّةِ شَهْرٍ فَإِنْ طَلَبَ بَعْدَهُ وَإِلَّا سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّلَبِ الْأَخْذُ فَإِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَبِ تَأْثِيرٌ، وَبَطَلَ بِالْإِمْسَاكِ خِيَارُهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ المكنة، فوجهه أن الشفعة موضوعة لارتفاع الشَّفِيعِ بِهَا فِي الْتِمَاسِ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ فِي الْأَخْذِ أَوِ التَّرْكِ، وَلِإِجْبَارِ الْمُشْتَرِي فِي حُسْنِ المشاركة فيقرأ وفي سُوءِ الْمُشَارَكَةِ لِيُصْرَفَ، فَلَوْ رُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ ضاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 على الشفيع، ولو جعل على التأييد أَضَرَّ بِالْمُشْتَرِي فَاحْتِيجَ إِلَى مُدَّةٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا الشَّفِيعُ إِلَى الْتِمَاسِ حَظِّهِ وَلَا يُسْتَضَرُّ الْمُشْتَرِي بِتَأْخِيرِهِ فَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ فِي تَقْدِيرِهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ خِلَافَ مَا قَالَ مَالِكٌ فِي تَقْدِيرِهَا بِسَنَةٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّلَاثَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ لِمُدَّةِ الْخِيَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقْصَى حَدِّ الْقِلَّةِ وَأَدْنَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى بِهَلَاكِ قَوْمٍ أَنْظَرَهُمْ بَعْدَهُ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أيّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (هود: 65) . وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ فِي مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَ فِي خِلَالِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ زَمَانٌ تَتَعَذَّرُ فِيهِ الْمُطَالِبَةُ لَمْ تُحْسَبْ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ فِي جَمِيعِهَا بِالْمُطَالَبَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ: إِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى التَّرَاخِي فَوَجْهُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فإن باع فشريكه أحق به حتى يؤذنه " فَكَانَ عَلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَلِأَنَّ مَا مُلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الشُّفْعَةِ أَرْفَقُ بِالْمُشْتَرِي فِي حُصُولِ الشُّفْعَةِ وَيُمَلَّكُ الْغَلَّةَ وَالْأُجْرَةَ، فَعَلَى هَذَا فِي الَّذِي يسقط حقه من الشفعة ثلاثة أقاويل: أحدهما: الْعَفْوُ الصَّرِيحُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْطَعَ خِيَارَهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ الْحُقُوقِ كَالدُّيُونِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شُفْعَتَهُ تَسْقُطُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بالعفو الصريح، أما بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْرِيضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ إِنَّ شَفَاعَتَهُ تَسْقُطُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إِمَّا بِالْعَفْوِ الصَّرِيحِ أَوْ بِمَا يدل عليه من التعرض أَوْ بِأَنْ يُحَاكِمَهُ الْمُشْتَرِي إِلَى الْقَاضِي فَيَلْزَمُهُ الأخذ أو الترك، فإن أخذه لا حُكْمَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إِلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ: أَحَدُهُمَا: لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، لِأَنَّهُ يَخْلُفُ عَقْدَ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّقْصَ مِلْكَ إِجْبَارٍ لَا عن مراضاة. مسألة قال الشافعي رحمه الله: " فإن علم بأخر الطَّلَبَ فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ حبسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِلَّا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَلَا يَقْطَعُهَا طُولُ غَيْبَتِهِ وَإِنَّمَا يقطعها أن يعلم فيترك ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 إِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ وَكَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الطَّلَبِ إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ فله ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي الطَّلَبِ لَهُ، فَإِنْ وَكَّلَ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ بَلْ لَوْ وَكَّلَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الطَّلَبِ بِنَفْسِهِ جَازَ، وَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَهَلْ إِذَا قدر على التوكل مَعَ عَجْزِهِ عَنِ الطَّلَبِ بِنَفْسِهِ يَكُونُ التَّوْكِيلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَشَرْطًا فِي بَقَاءِ شُفْعَتِهِ أَمْ لَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِهِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ لِكَوْنِهِ قَادِرًا بِهِ عَلَى الطَّلَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِفْصَاحِهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ الْتِزَامَ غُرْمٍ وَفِي التَّطَوُّعِ بِهِ مِنَّةً لَاحِقَةً. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالْوِكَالَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْكِيلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَعْجِلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ التَّوْكِيلُ لِمَا فِيهِ الْتِزَامُ زِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ التَّوْكِيلِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ إِنْ لَمْ يُوكِّلْ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا غَيْرُ واجبة كان على شفعته. فصل : والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْجِزَ عَلَى التَّوْكِيلِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْإِشْهَادِ بِالطَّلَبِ فَعِنْدَ أبي حنيفة أَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَبِ وَالْعَجْزِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَشْهَدْ مَعَ مَكِنَتِهِ مِنَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَبِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إِنَّمَا يُرَادُ لِيَكُونَ بَيِّنَةً لَهُ عَلَى إِرَادَةِ الطَّلَبِ فَاسْتَغْنَى عَنْهُ بِظُهُورِ الطَّلَبِ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْإِشْهَادِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الطَّلَبِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: وهو ظاهر نصه ها هنا: إِنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِنْ تَرَكَهُ كَالْقَادِرِ عَلَى الطَّلَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ وَتَرْكَهُ مُبْطِلٌ لِلشُّفْعَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الطَّلَبِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ، أَنَّ ظهور الطلب من القادر عليه يعني عَنِ الْإِخْبَارِ بِمُرَادِهِ وَالْعَاجِزُ عَنْهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكُهُ تَرْكًا لِلشُّفْعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصْدًا لِلطَّلَبِ مَعَ الْمَكِنَةِ فَافْتَقَرَ إِلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِشْهَادِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُشْهِدَ وَيُكَوِّنَ بَيِّنَةً كاملة عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 الْحَاكِمِ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، فَإِنْ أَشْهَدَ شَاهِدًا وَاحِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْثِقًا لِنَفْسِهِ بِالْإِشْهَادِ. وَلَوْ أَشْهَدَ عَبِيدًا، أَوْ صِبْيَانًا، أَوْ فُسَّاقًا لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يجزيه إشهادهم، لأنه قد تعتق الْعَبْدُ، وَيَرْشُدُ الْفُسَّاقُ، وَيَبْلُغُ الصِّبْيَانُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ هُوَ الْأَدَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ إِشْهَادُ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ انْتِقَالِهِمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ بِأَغْلَبَ مِنْ جَوَازِ بَقَائِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ وَطَالَبَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ. فَصْلٌ : والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْجِزَ عَنِ التَّوْكِيلِ وَالْإِشْهَادِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُدُومِ لِلطَّلَبِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقُدُومِ فَأَخَذَ فِيهِ عَلَى الْمَعْهُودِ وَالْمَسِيرِ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ وَلَا اسْتِعْجَالٍ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ قُدُومَهُ عَنْ وَقْتِ الْمَكِنَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي أَخَّرْتَ الْقُدُومَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ أَخَّرْتُهُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مُمْكِنًا، وَيَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي إِبْطَالِهَا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي قَدِمْتَ لِغَيْرِ الْمُطَالَبَةِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ قَدِمْتُ لِلطَّلَبِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وهكذا لو قال المشتري تقدم علمك عل زَمَانِ الطَّلَبِ وَقَالَ الشَّفِيعُ لَمْ أَعْلَمْ إِلَّا وَقْتَ الطَّلَبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ مَعَ يَمِينِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَصِيرُ بِهِ عَالِمًا فَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ وَكُلُّ خَبَرٍ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ وَلَوْ مِنَ امْرَأَةٍ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ كَافِرٍ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ يَسْتَوِي فِيهِ خَبَرُ الحر والعبد والعمل وَالْفَاسِقِ إِذَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ أَنَّ الْمُخْبِرَ صَادِقٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِيرُ عَالِمًا إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِهَا. وَلَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَأَمْسَكَ عن الطلب لجهلة باستحقاق الشُّفْعَةَ فَفِي بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْأَمَةِ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَأَمْسَكَتْ عَنِ الْفَسْخِ لِجَهْلِهَا بِاسْتِحْقَاقِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا تَبَايَعَا بِالْبَصْرَةِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِمِصْرَ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا فَأَخَّرَ طَلَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِيَأْتِيَ مِصْرَ فَيُطَالِبَهُ بِهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى أَخْذِهَا بِالْبَصْرَةِ كَقُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا بِمِصْرَ وَلَكِنْ لَوْ أَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي بِالْبَصْرَةِ أَنَّهُ خَلِيطٌ فَأَخَّرَهَا لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمِصْرَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً بِالْبَصْرَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ إِلَّا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِالْمِلْكِ. وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتِزَعُ مِلْكًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ إِذَا شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ فِي الْمِلْكِ لَكِنْ يَحْلِفُ الشَّفِيعُ مَعَ بَيِّنَتِهِ بِالْيَدِ أَنَّهُ مَالِكٌ ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا عُرِضَ الشِّقْصُ قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّفِيعِ فَلَمْ يَشْتَرِهِ، ثُمَّ بِيعَ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهَا بِامْتِنَاعِهِ مِنَ الشِّرَاءِ، لِوُجُوبِهَا بِالْبَيْعِ الْحَادِثِ فَلَوْ عَفَا الشَّفِيعُ عَنْهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهَا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا فَصَارَ كَإِبْرَائِهِ مِنَ الدَّيْنِ قَبْلَ وُجُوبِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا صَالَحَ الشَّفِيعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ عِوَضًا عَلَى تَرْكِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صُلْحًا بَاطِلًا، وَعِوَضًا مَرْدُودًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَا قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ خِيَارِ مَجْلِسٍ، أَوْ شَرْطٍ وَفِي بُطْلَانِ شُفْعَتِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ التَّرْكَ مَشْرُوطٌ بِعَوَضٍ فَلَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ بَطَلَ التَّرْكُ. فَصْلٌ : وَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَتَبَعَّضِ الْعَفْوُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَفْوَ بَاطِلٌ وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا لَمْ يَكْمُلْ بَطَلَ، وَبِهِ قَالَ أبو يوسف، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْعَفْوَ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ تَغْلِيظًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ حُكْمِ التَّسْلِيمِ وَبِهِ قَالَ محمد بن الحسن. فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِخَلِيطٍ فَبَاعَ حِصَّتَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ أَوِ التَّرْكِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ بَيْعِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَإِنْ بَاعَ حِصَّتَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لَهَا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَالْخَوْفِ من مؤونة الْقِسْمَةِ، وَهَذَا ارْتَفَعَ بِالْبَيْعِ وَزَوَالِ الْمِلْكِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ بَعْضَ حِصَّتِهِ فَفِي بُطْلَانِ شُفْعَتِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ بَعْضِ شُفْعَتِهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْهَا لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِقَلِيلِ الْمِلْكِ كَمَا تُسْتَحَقُّ بِكَثِيرِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَيْعُهُ لِحِصَّتِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِشُفْعَتِهِ فَفِي بُطْلَانِ الشُّفْعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ شُفْعَتَهُ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمِلْكَ الْمَقْصُودَ بِالشُّفْعَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: إِنَّهُ على شفعته، لأنه قد ملكها وَلَيْسَ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ عَفْوٌ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 فَصْلٌ : فَلَوْ عَلِمَ بِالْمَبِيعِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِينَارٍ كَانَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَفْوِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْفُو عَنِ الدَّرَاهِمِ لِإِعْوَازِهَا مَعَهُ وَيَقْدِرُ عَلَى الدَّنَانِيرِ، وَهَكَذَا لَوْ قِيلَ له: إن الثمن مائة دينار ففعا عَنِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَقَالَ أبو يوسف: إِنْ كَانَ قِيمَةُ الْأَلْفِ مِائَةَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ. وَلَكِنْ لَوْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّ الثَّمَنَ أَقَلُّ مِنْ أَلْفٍ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا شُفْعَةَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهَا لِاعْتِقَادِ الْغَلَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عِنْدَ ظُهُورِ الرُّخْصِ وَلَكِنْ لَوْ بَانَ أَنَّ الثَّمَنَ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ كَرِهَهَا بِالْأَلْفِ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا أَكْرَهُ. فَصْلٌ : وَلَوْ قِيلَ لَهُ إِنَّ الْمَبِيعَ سَهْمٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ فَعَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْمَبِيعَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةٍ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقِلُّ انْتِفَاعُهُ بِالسَّهْمِ فَيَعْفُو وَيَكْثُرُ انْتِفَاعُهُ بِالْخَمْسَةِ فَيَأْخُذُ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ إِنَّ الْمَبِيعَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةٍ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا وَاحِدًا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ أَخْذَ خَمْسَةِ أَسْهُمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ لِأَخْذِ سَهْمٍ وَاحِدٍ بِالْمِائَةِ أَكْرَهَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا مُخْتَلِفًا عَلَى قَدْرِ السِّهَامِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْفُو عَنِ الْخَمْسَةِ الْأَسْهُمِ لِعَجْزِهِ عَنْ ثَمَنِهَا وَيُرِيدُ السَّهْمَ الْوَاحِدَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ثَمَنِهِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ إن المشتري زيداً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ عَمْرٌو فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّ معرفة المشتري شرطاً فِي الْمُطَالَبَةِ وَالْعَفْوِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ علة الشفعة الخوف من مؤونة الْقِسْمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى شُفْعَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ زِيدٌ أَحْسَنَ مُشَارَكَةً مِنْ عَمْرٍو وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ الشُّفْعَةِ الْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ مُشْتَرِي الشِّقْصِ وَكِيلًا فَعَفَا الشَّفِيعُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ عَفَا عَنِ الْمُوَكَّلِ دُونَ الْوَكِيلِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكَّلِ فَفِي بُطْلَانِ شُفْعَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّ الْوَكِيلَ خَصْمٌ فِيهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى غيره والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَقَالَ الشَّفِيعُ: خَمْسُمِائَةٍ وَلَا بَيِّنَةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ فَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَالِكٌ لِلشِّقْصِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ فَإِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ادَّعَى مِنَ الثَّمَنِ أَخْذَهُ الشَّفِيعُ بِهِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ نَكَلَ الْمُشْتَرِي رُدِّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَهُ بِمَا قَالَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا تَحَالَفَا عَلَيْهِ كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ؟ قِيلَ: لأن كل واحد من المتبايعين مدع مدعى عَلَيْهِ فَتَحَالَفَا لِاسْتِوَائِهِمَا، وَفِي الشُّفْعَةِ الشَّفِيعُ وَحْدَهُ مُنْفَرِدٌ بِالدَّعْوَى أَنَّهُ مَالِكٌ لِلشِّقْصِ بِمَا ادَّعَى فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّدِهِ بِالْإِنْكَارِ. فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الثَّمَنِ حُكِمَ بِهَا وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ فَإِنْ أَقَامَهَا الْمُشْتَرِي اسْتَفَادَ بِهَا سُقُوطَ الْيَمِينِ فَلَوْ شَهِدَ لَهُ الْبَائِعُ بِمَا ادَّعَى مِنَ الثَّمَنِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ بِالزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ وَلَوْ أَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ اسْتَفَادَ بِهَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الْبَائِعُ بِمَا ادَّعَى مِنَ الثَّمَنِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ بِنَقْصِ الثَّمَنِ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالدَّرَكِ مَعَ أَنَّهُ عَاقِدٌ فِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا تَوَلَّى عَقْدَهُ. فَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى مِنَ الثَّمَنِ: فَعِنْدَ أبي حنيفة ومحمد بن الحسن إِنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ أَوْلَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ أبي يوسف إِنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَيُخَرَّجُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِسْقَاطُهُمَا بِالتَّعَارُضِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ. وَالثَّانِي: الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ بَيِّنَتُهُ كَانَ أَوْلَى، وَهَلْ يَحْلِفُ مَعَهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقُرْعَةِ هَلْ جَاءَتْ مُرَجِّحَةً لِلدَّعْوَى أَوْ لِلْبَيِّنَةِ. فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفِ عِنْدِ يَمِينِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الثَّمَنَ خَمْسُمِائَةٍ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ كَانَ بِالْخَمْسِمِائَةِ أَرْضَى، وَلَوْ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِيَمِينِهِ مَعَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْأَلْفِ أَوْ يَرُدَّهُ ولو ادعى أن الثمن عهد قِيمَتِهِ أَلْفٌ فَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِهَا ثُمَّ بَانَ أَنَّ الثَّمَنَ ثَوْبٌ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا لَمْ يَتَرَاجَعَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَكْثَرَ لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَقَلَّ رَجَعَ الشَّفِيعُ بِنَقْصِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إِنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ فَقَالَ الشَّفِيعُ لَسْتُ أَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ مَعَ عِلْمِي بِنَقْصِهِ عَنِ الْأَلْفِ فَلَهُ إِحْلَافُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ حَتَّى يَعْلَمَ قَدْرَ الثَّمَنِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّفِيعُ هَلِ الثَّمَنُ أَلْفٌ أَوْ أَقَلُّ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَ الْمُشْتَرِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لا تجب بالشك. والوجه الثَّانِي: يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: لَا أَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ لِنِسْيَانٍ حَدَثَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ أَتَعْلَمُ قَدْرَهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ قَدْرَهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَلَهُ إِحْلَافُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِالثَّمَنِ فَكَانَ جَهْلُهَمَا بِهِ مَانِعًا مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِمَجْهُولٍ، وَإِنْ قَالَ الشَّفِيعُ: أَنَا أَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ نَسِيتُ قَدْرَ الثَّمَنِ. قِيلَ لِلْمُشْتَرِي: أَتُصَدِّقُ الشَّفِيعَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. وَإِنْ أَكْذَبَهُ الشَّفِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَلَفَ الْمُشْتَرِي بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ قَدْرَ الثَّمَنِ وَلَا شُفْعَةَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْإِسْفِرَايِينِيُّ يَجْعَلَانِ هَذَا الْقَوْلَ مَذْهَبًا لَهُ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ ويبطلان يمين المشتري الشُّفْعَةِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الثَّمَنَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَاقِدِهِ وَقَدْ جَهِلَ الثَّمَنَ لِنِسْيَانِهِ فَبَطَلَتِ الشُّفْعَةُ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلَانِ هَذَا الْجَوَابَ مَصْرُوفًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عِنْدَ نِسْيَانِ الْمُشْتَرِي وَجَهْلِ الشَّفِيعِ وَيَقُولَانِ: إِنَّ نِسْيَانَ الْمُشْتَرِي مَعَ عِلْمِ الشَّفِيعِ يُوجِبُ إِحْلَافَ الشَّفِيعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَيَحْكُمُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمُشْتَرِي كالنكول فوجب رد اليمين على الشفيع. قال الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَدِيمُ الشِّرَاءِ وَحَدِيثُهُ " وَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ إِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي نِسْيَانَ الثَّمَنِ وَالشِّرَاءُ حَدِيثٌ حَلَفَ الشَّفِيعُ وَحَكَمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ قَدِيمًا حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَتِ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلٌ مَرْذُولٌ، وَفَرْقٌ مَعْلُولٌ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَإِذَا حَلَفَ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِتَحَالُفِهِمَا وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الشِّقْصُ إِلَى الْبَائِعِ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِالْفَسْخِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا كَقَوْلِ الْبَائِعِ بِعْتُكَ شِقْصِي بِهَذَا الْعَبْدِ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ بِهَذَا الثَّوْبِ فَإِذَا تَحَالَفَا وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْعَبْدِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَمَنًا لَمْ يُعْرَضَ عَلَى الشَّفِيعِ لِأَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الْعَبْدِ لَا يَحْصُلُ لِلْبَائِعِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ وَفَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا وَأَبْطَلَ الشُّفْعَةَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِ الْبَائِعِ بِعْتُكَ الشِّقْصَ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ عُرِضَ الشِّقْصُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ بِالْأَلْفِ لِيَأْخُذَاهُ بِهَا أَوْ يَرُدَّاهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْبَائِعُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْقَدْرِ مِنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ عُرِضَ عَلَيْهِمَا وَإِذَا كَانَ كذلك فللمشتري والشفيع أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَرْضَيَا جَمِيعًا بِهِ فَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْأَلْفُ وللشفيع أن يأخذ منه الشقص بالألف. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرُدَّاهُ جَمِيعًا بِالْأَلْفِ فَيُفْسَخَ الْبَيْعُ وتبطل الشفعة. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْضَاهُ الْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ وَيَرُدَّهُ الشَّفِيعُ بِهَا فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي بِالْأَلْفِ وَتَبْطُلَ شُفْعَةُ الشفيع. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْضَى بِهِ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفِ وَيَرُدَّهُ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ رَدُّ الْمُشْتَرِي بَاطِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَيَصِيرَ الْبَيْعُ لَازِمًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَوَصَّلَ بِهِ الشَّفِيعُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَيَأْخُذَ الشِّقْصَ مِنْهُ بِالْأَلْفِ فَلَوْ رَدَّهُ الشَّفِيعُ بِعَيْبٍ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ عُهْدَتَهُ عَلَيْهِ وَلِلْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ أَنْ يفسخ البيع. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اشْتَرَاهَا بسلعةٍ فَهِيَ لَهُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأَثْمَانِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَالشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ جِنْسًا وَصِفَةً وَقَدْرًا فَإِنْ بَذَلَ الشَّفِيعُ قِيمَةَ الثَّمَنِ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي أَوْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الثَّمَنِ وَامْتَنَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْقِيمَةِ وَدَعَا إِلَى الْمِثْلِ إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا جَمِيعًا بِالْقِيمَةِ وَيَعْدِلَا عَنِ الثَّمَنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا مِثْلَ لَهُ كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مِثْلٌ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " وَلِأَنَّ وَضْعَ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ يُوجِبُ أَخْذَهَا بِكُلِّ ثَمَنٍ، وَفِي إِبْطَالِهَا بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَبَايِعَانِ إِبْطَالَهَا بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهَا وَهُنَاكَ بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَدَمَا الْبَيِّنَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا فَهِيَ لِلشَّفِيعِ بِقِيمَةِ الْمَهْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ أَصْدَقَهَا وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا شُفْعَةَ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ إِلَّا فِي عَقْدٍ أَوْ شِبْهِ عَقْدٍ وَلَيْسَ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَبَيْنَهَا مَا يُوجِبُ تَقْوِيمَ بُضْعِهَا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَوَجَبَ أَنْ تَثْبُتَ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ مَعْنًى وُضِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الصَّدَاقِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُوجِبُ زَوَالَ الْيَدِ الْمُسْتَحْدَثَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ زَوَالَ الْيَدِ عَنِ الصَّدَاقِ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ اسْتَحَقَّ فِيهِ إِقْبَاضَ الشِّقْصِ اسْتَحَقَّ بِهِ إِقْبَاضَهُ شُفْعَةً كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ كُلَّ قَبْضٍ وَجَبَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَجَبَ فِي عَقْدِ الصَّدَاقِ كَالْقَبْضِ الْأَوَّلِ وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْضَيْنِ: قَبْضُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ وَقَبْضُ الشَّفِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَبَ فِي الصَّدَاقِ قَبْضُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الزَّوْجِ فَوَجَبَ قَبْضُ الشَّفِيعِ مِنَ الزَّوْجَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ مَالٍ، فَهُوَ أَنَّ الْبُضْعَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعَاوَضُ عَلَيْهِ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَوَّمٌ فِي اغْتِصَابِهِ بِالْمَالِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَمْ يُقَوَّمْ فِي اسْتِهْلَاكِهِ بِالْمَالِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَالصَّدَاقُ مَمْلُوكٌ بِبَدَلٍ فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ إِلَّا فِي عَقْدٍ أَوْ شِبْهِ عَقْدٍ: فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْمُغْتَصَبَةَ مُقَوَّمَةُ الْبُضْعِ عِنْدَنَا عَلَى غَاصِبِهَا، وَالْمَشْهُودَ بِطَلَاقِهَا مُقَوَّمَةُ الْبُضْعِ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا لِلزَّوْجِ دُونَهَا فَصَارَ بُضْعُهَا مُقَوَّمًا فِي غَيْرِ عَقْدٍ وَشُبْهَةٍ فِي حَقِّهَا، وَحَقِّ غَيْرِهَا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَقْوِيمِهِ فِي شُفْعَةٍ صَدَاقُهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وجوب الشفعة في الصداق والخلف فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهِ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُهُورَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ فَخَالَفَتِ الْبُيُوعَ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَثْمَانِ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ثُمَّ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يُؤْخَذَ الشِّقْصُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يُؤْخَذَ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الْأَعْوَاضِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى قِيمَةِ الْعِوَضِ دُونَ الشِّقْصِ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ كَذَلِكَ الْبُضْعُ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى قِيمَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ دُونَ الشِّقْصِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَسَوَاءٌ كَانَ قِيمَةُ الشِّقْصِ بِإِزَاءِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ، أَوْ نَاقِصًا عَنْهُ حَتَّى لَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ دِينَارًا، وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الشِّقْصِ دِينَارًا. أُخِذَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي مَهْرِ الْمِثْلِ تَرَافَعَا فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَجْتَهِدَ فِي مَهْرِ مِثْلِهَا وَيُسْقِطَ تَنَازُعَهُمَا فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِمَوْتِهَا، أَوْ لِتَغَيُّرِ حَالِهَا، أَوْ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي أَهْلِهَا وَعَشَائِرِهَا، وَأَمْكَنَ مَا قَالَاهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الثَّمَنِ. فَصْلٌ : ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ، وَيَأْخُذَ مِنْهَا دِينَارًا فيصير الشقص في مقابلةبضع وَدِينَارٍ، فَيَكُونُ مَا قَابَلَ الدِّينَارَ بَيْعًا، وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ صَدَاقًا، فَيَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَقْدِ إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَصَدَاقًا. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فِيهِمَا وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ فِيهِمَا فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِدِينَارٍ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مِنَ الشِّقْصِ مَأْخُوذٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمَبِيعُ مِنْهُ مَأْخُوذٌ بِالدِّينَارِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، فَلَوْ قَالَ الشَّفِيعُ أَنَا آخُذُ الْمَبِيعَ مِنَ الشِّقْصِ دُونَ الصَّدَاقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَإِنْ جَمْعَهُمَا صَفْقَةٌ فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِذَا كَانَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ ضَمَّ إِلَيْهَا دِينَارَ الثَّمَنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 وَقَسَّمَ الشِّقْصَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِنْهُ بِالدِّينَارِ السُّدُسَ، فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ سُدُسَ الشِّقْصِ بِدِينَارٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمَبِيعُ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ آخُذُ الصَّدَاقَ مِنَ الشِّقْصِ دُونَ الْمَبِيعِ أَخْذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ. فَصْلٌ : وَالْفَرْعُ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ وَدِينَارٍ فَيَصِيرُ الصَّدَاقُ شِقْصًا وَدِينَارًا فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِحِصَّتِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ الشِّقْصُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ صَارَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَيَكُونُ الشِّقْصُ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الصَّدَاقِ فَيَأْخُذُهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَهْرِ الْمِثْلِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا. فَصْلٌ : وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْفَرْعَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ وَعَبْدٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا ثَوْبًا فَيَكُونُ مَا قَابَلَ الثَّوْبَ مِنَ الشِّقْصِ وَالْعَبْدِ بيعا، وما قابل البضع صداقا فيخرج على مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَا شُفْعَةَ وَيَتَرَادَّانِ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا جَمِيعًا فعلى هذا يسقط الشُّفْعَةُ فِي الْعَبْدِ وَيَسْتَحِقُّ فِي الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ الثَّوْبِ: وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ قِيمَةَ الشِّقْصِ فَإِذَا كَانَتْ عَشَرَةً نَظَرَ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَةً عَلِمَ أَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيِ الصَّدَاقِ وَثُلُثَيِ الثَّوْبِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِثُلُثَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَبِثُلُثِي قِيمَةِ الثَّوْبِ فَلَوْ قَالَ الشَّفِيعُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ دُونَ الصَّدَاقِ نُظِرَ قَدْرُ ثُلُثَيْ مهر المثل فإذا كانت عشر نُظِرَ قِيمَةُ ثُلُثَيِ الثَّوْبِ فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَةً عُلِمَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِنَ الشِّقْصِ الثُّلُثُ وَالصَّدَاقِ مِنْهُ ثُلُثَانِ فَيَأْخُذُ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِقِيمَةِ ثُلُثَيِ الثَّوْبِ. وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الصَّدَاقِ أَخَذَ ثُلُثَيِ الشقص بثلثي مهر المثل. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَقَدْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا مِنْ دَارٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حال الشفيع من ثلاثة أحوال: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ مِنَ الزَّوْجَةِ بِشُفْعَتِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهَا، وَلَا شُفْعَةَ عَلَى الزَّوْجِ فِي النِّصْفِ الَّذِي مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِغَيْرِ بدل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ قَدْ عَفَا عَنْ شُفْعَتِهِ فِيهِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ عَلَى حَقِّهِ لِعُذْرٍ اسْتَدَامَ بِهِ لَمْ يَعْفُ وَلَمْ يَأْخُذْ حَتَّى طَلَّقَ الزَّوْجَ فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالشِّقْصِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ مِنَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَصِّ كِتَابٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَحَقُّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الشِّقْصِ وَيَكُونُ الشَّفِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ النِّصْفِ الْبَاقِي بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الزَّوْجِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ عَنِ الشِّقْصِ إِلَى بَدَلٍ والشفيع لا يرجع عنه إلا بَدَلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُتَأَخِّرٌ وَحَقَّ الشَّفِيعِ أَسْبَقُ. فَعَلَى هَذَا يُعْرَضُ عَلَى الشَّفِيعِ، فَإِنْ أَخَذَهُ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَإِنْ تَرَكَهُ رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِهِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَخْرِيجَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ هَلْ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالتَّمَلُّكِ فَإِنْ قِيلَ بِالطَّلَاقِ، كَانَ أَحَقَّ مِنَ الشَّفِيعِ وَإِنْ قِيلَ بِالتَّمَلُّكِ كَانَ الشَّفِيعُ أَحَقَّ. فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِأَلْفٍ ثُمَّ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ، وَيَحْضُرَ الْبَائِعُ لِيَرْجِعَ بِعَيْنٍ حَالٍّ وَالشَّفِيعُ لِيَأْخُذَهُ بِشُفْعَتِهِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ مِنَ الشَّفِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الزَّوْجَ أَحَقَّ مِنَ الشَّفِيعِ فَعَلَى هَذَا إِذَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِشِقْصِهِ فَلَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِهِ لِأَنَّهُ اسْتِحْدَاثُ فَسْخٍ وَلَيْسَ بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ مِنَ الْبَائِعِ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الشَّفِيعَ أَحَقَّ مِنَ الزَّوْجِ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ، فَهَلْ يُقَدَّمُ بِهِ الْبَائِعُ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ بِهِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ الَّتِي كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَجَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ لِفَوَاتِ الْعَيْنِ الَّتِي هُوَ أَخَصُّ بِهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَمْتَعَهَا شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِمَا وَجَبَ لَهَا مِنْ مُتْعَةِ الطَّلَاقِ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِمُتْعَةِ الْمِثْلِ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ مُتْعَةً وَلَا يُوجِبُ مَهْرًا. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً بِشِقْصٍ مِنْ دَارٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَقِيمَتَهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 وَلَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ هَذَا الشِّقْصُ فَلَا شُفْعَةَ قَبْلَ الْمَجِيءِ بِالْعَبْدِ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا جِيءَ بِالْعَبْدِ مَلَكَ الشِّقْصَ عَلَيْهِ وَوَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فِيهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْعَبْدِ. فَصْلٌ : وَإِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ شِقْصًا فَعَفَا الشَّفِيعُ عَنْ شُفْعَتِهِ فَلَا شُفْعَةَ فيه بالإقالة لأنه رَفْعٌ لِلْعِقْدِ وَلَيْسَتْ بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ قَدْ عَفَا حَتَّى تَقَابَلَا كَانَ لِلشَّفِيعِ إِبْطَالُ الْإِقَالَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِشُفْعَةِ الْبَيْعِ. وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِي الشِّقْصِ قَدْ وَقَفَهُ قَبْلَ عَفْوِ الشَّفِيعِ فَلِلشَّفِيعِ إِبْطَالُ الْوَقْفِ، وَأَخْذُ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ رَهَنَهُ فَلِلشَّفِيعِ إِبْطَالُ الرَّهْنِ، وَأَخْذُ الشِّقْصِ، وَلَوْ كَانَ أَجَّرَهُ، فَلَهُ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ لَهُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْإِجَارَةِ أَوْ فَسْخِهَا وَلَا تَبْطُلُ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِذَا أَمْضَاهَا الشَّفِيعُ فالأجرة للمشتري دون الشفيع لأن عَقَدَهَا فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ الشِّقْصَ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَأَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنِ اشْتَرَاهَا بثمنٍ إِلَى أجلٍ قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنْ شِئْتَ فَعَجِّلِ الثَّمَنَ وَتَعَجَّلِ الشُّفْعَةَ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَعَجَّلَ أَخْذَهَا وَيَكُونَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ ثِقَةً، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَقَامَ ضَمِينًا ثِقَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِصَلَاحِ النَّاسِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّفِيعَ يَدْخُلُ مَدْخَلَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَجَلِ وَصِفَاتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ وَأَجَلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ زِيَادَةٌ فِي الْقَدْرِ بِتَفَاضُلِ الْأَثْمَانِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَزِيدَ وَتَأْخِيرَ الشَّفِيعِ دَخَلَ لَهُ عَنْ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي دَفْعُ الشَّفِيعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة: إِنَّ الشَّفِيعَ لَا يَتَعَجَّلُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ. وَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَعَجَّلَ الثَّمَنَ فَتَتَعَجَّلَ أَخْذَ الشِّقْصِ وَبَيْنَ أَنْ تَصْبِرَ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، فَتَدْفَعَ الثَّمَنَ وَتَأْخُذَ الشِّقْصَ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 أَخْذَ الشُّفْعَةِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَجَلِ يَدْخُلُ فِي عُقُودِ الْمُرَاضَاةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ مُرَاضَاةً. وَالثَّانِي: أَنَّ رِضَا الْبَائِعِ بِذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْضَى بِذِمَّةِ الشَّفِيعِ، وَلِذَلِكَ حَلَّ دَيْنُ الْمَيِّتِ لِأَنَّ رِضَا رَبِّهِ بِذِمَّتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الرِّضَا بِذِمَّةِ وَارِثِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فللمشتري وللشفيع أربعة أحوال: أحدهما: إِنْ تَعَجَّلَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ فَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الشِّقْصِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدْ تعجل مؤجلاً وأمن خطراً. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشِّقْصِ وَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ فَيَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَعْفُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَجَّلُ مَنَافِعَ الشِّقْصِ، وَلَا يَسْتَضِرُّ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَانْتَظَرَ بِأَخْذِهِ حُلُولَ الْأَجَلِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي بُطْلَانِهَا عَلَى الْجَدِيدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ: أنه على شفعته إلى حلول الأجل؛ لأن تَأْجِيلَ الثَّمَنِ قَدْ جَعَلَ حَقَّ الطَّلَبِ مُقَدَّرًا بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ شُفْعَتَهُ قَدْ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ قُدِّرَ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ رِفْقًا بِالْمُشْتَرِي فَصَارَ مِنْ حُقُوقِهِ لَا مِنْ حقوق الشفيع. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الْمُشْتَرِي إِلَى تَعْجِيلِ الثَّمَنِ وَتَسْلِيمِ الشِّقْصِ فَلَا يَلْزَمَ الشَّفِيعَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ اسْتِزَادَةٌ فِي الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِزَادَةِ فِيهِ. فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَنَا أَحُطُّهُ مِنَ الثَّمَنِ بِسَبَبِ التَّعْجِيلِ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الرِّبَا، وَالثَّانِي أَنَّ مَا اسْتَحَقَّ تَأْجِيلُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تعجيله. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُطَالِبَ الشَّفِيعَ بِالشِّقْصِ مُؤَجَّلًا وَيُؤَخِّرَ الثَّمَنَ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَوْلَيْنِ: فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ ثِقَةً أَوْ يَضْمَنُهُ غَيْرَ ثِقَةٍ. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ مَا على الشفيع منه وَكَانَ بَاقِيًا إِلَى أَجَلِهِ، وَلَوْ مَاتَ الشَّفِيعُ حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَعَجَّلَهُ وَمَا عَلَيْهِ بَاقٍ إِلَى أَجَلِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ دَفَعَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا لَمْ يَلْزَمِ الشَّفِيعَ أَنْ يَدْفَعَ بِهِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي الثَّمَنِ وَلَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يُمْنَعُ مِنَ الشِّقْصِ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، وَالْمُشْتَرِي يُمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ سُكْنَى وَاسْتِغْلَالٍ وَإِجَارَةٍ وَبَيْعٍ مَا لَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 يَسْتَهْلِكْهُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِهِ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إِلَّا بِمَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ الْبَيْعُ اسْتِهْلَاكًا لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبَيْعِ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ بِأَيِّ الْعَقْدَيْنِ شَاءَ. فَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي حَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَوْ مَاتَ الشَّفِيعُ كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَصْبِرُوا إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ مَا يَحِلُّ بِمَوْتِهِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُنَجَّمًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: الشَّفِيعُ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثَمَنِ مُنَجَّمٍ إِلَى آجَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَنْتَظِرُ حُلُولَ النُّجُومِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ، فَلَوْ حَلَّ نَجْمٌ فَقَالَ أَنَا أَدْفَعُ مَا حَلَّ فِيهِ وَآخُذُ مِنَ الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مُنِعَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَقِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَعَجَّلَ الْكُلَّ أَوْ تَنْتَظِرَ حُلُولَ الْأَجَلِ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الشُّفْعَةِ بِتَأْخِيرِ الْأَخْذِ إِلَى حُلُولِ النُّجُومِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَخْذِ حِصَّتِهِ بِأَجَلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ مَا حَلَّ فَصَارَ معذوراً بالتأخير. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ وَرِثَهُ رَجُلَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ ابْنَانِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَأَرَادَ أَخُوهُ الشُّفْعَةَ دُونَ عَمِّهِ فَكِلَاهُمَا سواءٌ لأنهما فيها شريكان (قال المزني) رحمه الله هذا أصح من أحد قوليه إن أخاه أحق بنصيبه (قال المزني) وفي تسويته بين الشفعتين على كثرة ما للعم على الأخ قضاءٌ لأحد قوليه على الآخر في أخذ الشفعاء بقدر الأنصباء ولم يختلف قوله في المعتقين نصيبين من عبدٍ أحدهما أكثر من الآخر في أن جعل عليهما قيمة الباقي منه بينهما سواءٌ إذا كانا موسرين قضى ذلك من قوله على ما وصفنا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِمَّا أَخَوَيْنِ، أَوْ أَجْنَبِيَّيْنِ مَلَكَاهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ بِسَبَبَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَصَارَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِلْبَاقِي مِنَ الأخوين المالكين سهمان ولكل واحد من الْمَيِّتِ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَبَاعَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ حَقَّهُ وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَالشُّفْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ وَهَلْ يَخْتَصُّ بِهَا أَخُوهُ أَوْ تَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَمِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْأَخَ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ أَخِيهِ مِنَ الْعَمِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا اشتركا في سبب ملكه وتميز العم عنها بسببه فكان الأخر لِمُشَارَكَتِهِ فِي السَّبَبِ أَحَقَّ بِشُفْعَةِ أَخِيهِ مِنَ الْعَمِّ الْمُنْفَرِدِ بِسَبَبِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مِلْكَ الْأَخَوَيْنِ كَانَ مُجْتَمِعًا فِي حَيَاةِ الْأَبِ وَقَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، أَلَا تَرَى لَوْ ظَهَرَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِالسَّهْمَيْنِ مَعًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَهْمِ الْعَمِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبَعْضِ الْقَدِيمِ أَنَّ الشُّفْعَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْأَخِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا تَسَاوَيَا فِي الِاشْتِرَاكِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْمُخْتَلِفَيِ الْأَسْبَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أُخِذَ بِالشُّفْعَةِ أُخِذَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَمَّ لَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ تَشَارَكَا فِي شُفْعَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يُشَارِكَهُمَا فِي شُفْعَتِهِمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ الْأَخُ أَحَقُّ بِهَا تَفَرَّدَ بِأَخْذِهَا دُونَ الْعَمِّ، فَإِنْ عَفَا الْأَخُ عَنْهُمَا احْتَمَلَ اسْتِحْقَاقُ الْعَمِّ لها وجهان: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْتِحْقَاقِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّهَا لِخَلْطَتِهِ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَخُ عَلَيْهِ لِامْتِزَاجِ سَبَبِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا بَيْنَهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمَا لَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: قاله في القديم: إنها بينهما نصفين بِالسَّوِيَّةِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِقَلِيلِ الْمِلْكَ كَمَا تُسْتَحَقُّ بِكَثِيرِهِ حتى لو ملكا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ سَهْمًا مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ أَخَذَ بِهِ شُفْعَةَ التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ، وَلَوْ بِيعَ السَّهْمُ أَخَذَهُ صَاحِبُ التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِيهَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْمَالِ اعْتِبَارًا بأعداد الرؤوس لَا بِقَدْرِ الْأَمْلَاكِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ نِصْفَهُ وَالْآخِرُ ثُلُثَهُ وَالْآخِرُ سُدُسَهُ إِذَا أَعْتَقَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَالسُّدْسِ حُقُوقَهُمَا مَعًا قُوِّمَ الثُّلُثُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَعَتَقَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كانت الشُّفْعَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا، وَقَدْ يَسْتَضِرُّ صَاحِبُ الْأَقَلِّ كَاسْتِضْرَارِ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ فَوَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَ صَاحِبُ الْأَقَلِّ فِيهَا صَاحِبَ الْأَكْثَرِ، فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا على ثمانية أسهم: خمسة منها للعم: منا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَسَهْمٌ لِشُفْعَتِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ مِنْهَا سَهْمَانِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَسَهْمٌ لِشُفْعَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ: إِنَّهَا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْأَمْلَاكِ لَا بِالْمُلَّاكِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنَافِعَ الْمِلْكِ تَتَوَزَّعُ عَلَى قَدْرِهِ كَالْأَرْبَاحِ فِي التِّجَارَةِ وَالنِّتَاجِ فِي الْحَيَوَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا عَنِ الْمِلْكِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لَا بِظُلْمٍ مثل مؤونة الْمُقَاسَمَةِ، وَالْمُهَايَأَةِ، وَنُقْصَانِ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا يَقِلُّ وَيَكْثُرُ بِقِلَّةِ الْمِلْكِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وَكَثْرَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَقَسَّطَ عَلَى الْأَمْلَاكِ دُونَ الْمُلَّاكِ، وَأَمَّا سُوءُ الْمُشَارَكَةِ فَظُلْمٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَتَصِيرُ جَمِيعُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ اخْتَارَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ: اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِتْقِ وَقَدْ تَنْفَصِلُ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِتْقَ اسْتِهْلَاكٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْحِصَّةِ الْمُقَوَّمَةِ مِنَ الْعَبْدِ لَوْ رَضِيَ بِاسْتِرْقَاقِ حِصَّتِهِ وَرَضِيَ الْعَبْدُ بِهَا لَمْ يَجُزْ وَأُعْتِقَتْ عَلَى الشَّرِيكِ، وَلَوْ رَضِيَ الشَّرِيكُ بِتَرْكِ شُفْعَتِهِ جاز فافترقا والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلِوَرَثَةِ الشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذُوا مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَبُوهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى الْعَدَدِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قُلْتُ أَيْضًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشُّفْعَةُ فَمَوْرُوثَةٌ تَنْتَقِلُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ قَبْلَ عَفْوِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الشُّفْعَةُ غَيْرُ مَوْرُوثَةٍ وَقَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ خِيَارٌ مَوْضُوعٌ لِاسْتِخْلَافِ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ بِشُفْعَتِهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ مَالِهِ كَالزَّوْجِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِاللِّعَانِ دَفْعَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اللِّعَانَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَصِيرُ مَوْرُوثًا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالْمَوْتِ وَلَا تَصِيرَ مَوْرُوثَةً. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَا وُضِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ مِنَ الْخِيَارِ إِذَا لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مَالٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ كَاللِّعَانِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ مُسْتَحْدَثٌ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَحُدُوثُ الْمِلْكِ بَعْدَهَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِهَا كَمَنِ اسْتَوْهَبَ مِلْكًا بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شُفْعَةً، قَالَ: وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَوْرُوثَةَ إِذَا عَفَا عَنْهَا الْمَرِيضُ كَانَ عَفْوُهُ مَرْدُودًا كَالدُّيُونِ فَلَمَّا كَانَ عَفْوُ الْمَرِيضِ عَنِ الشُّفْعَةِ صَحِيحًا وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ فيه اعتراض، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْرُوثٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا وُرِّثَ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَنْسَابِ انْتَقَلَ إِرْثُهُ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ غَيْرُ مَوْرُوثَةٍ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَوْرُوثَةً مَعَ الْمِلْكِ كَطُرُقِ الْأَمْلَاكِ وَمَرَافِقِهَا، وَالرَّهْنِ فِي الدُّيُونِ، وَضَمَانِهَا وَلِأَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، وَمَا سَقَطَ بِهِ التَّكْلِيفُ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّهُ قَبْضٌ اسْتُحِقَّ فِي عَقْدِ بَيْعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثُمَّ خِيَارِ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ لَوْلَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ فَكَانَ بُطْلَانُ مِيرَاثِهِ لِتَرَاخِي زَمَانِهِ لِاسْتِحَالَةِ إِرْثِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي خِيَارِ الْقَبُولِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ الْمَبْدُولُ لَهُ مَنْ يَقْبَلُ عَنْهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى وَارِثِهِ وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ الشَّفِيعُ مَنْ يُطَالِبُ عَنْهُ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّيَابَةَ فِي اللِّعَانِ لَا تَصِحُّ وَلَيْسَ الْمَنْعُ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يُورَثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُورَثَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ طَارِئٌ فَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسَ يَمْلِكُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ بِالطَّارِئِ مِنْ مِلْكِهِمْ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ مِيرَاثًا عَنْ مَيِّتِهِمْ فَقَامُوا فِيهِ مَقَامَهُ كَمَنْ وَصَّى لَهُ بِابْنِهِ الْمَمْلُوكِ فَمَاتَ قَبْلَ قَبُولِهِ وَتَرَكَ ابْنًا آخَرَ فَقَبِلَ بَعْدِ مَوْتِ أَبِيهِ الْوَصِيَّةَ بِأَخِيهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَخُ لا يعتق أخيه لِأَنَّهُ قَبِلَهُ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَوْرُوثَةَ تَرُدُّ عَفْوَ الْمُوصَى عَنْهَا كَالدُّيُونِ فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُ لِلْوَارِثِ إِبْطَالَ عَفْوِهِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّ عَفْوَهُ مَاضٍ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكُهُ مِنَ الْأَمْلَاكِ ولم يستقر له ها هنا مِلْكٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ يُفْضِي إِلَى الْمِلْكِ، فَصَارَ كَقَبْضِ الْهِبَةِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْهِبَةَ وَلَوْ رَدَّهُ الْمَرِيضُ لَمْ يَعْتَرِضِ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقُومُوا فِي الْقَبْضِ مَقَامَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا كَانَ مَوْرُوثًا صَارَ لِبَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ فهو أن لأصحابنا فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِبَيْتِ الْمَالِ وَيَسْتَحِقُّ الْإِمَامُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا شُفْعَةَ فِيهِ وَقَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا فَبَطَلَتِ الشُّفْعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَارِثُ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فَلَحِقَهُ الضَّرَرُ فَاسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَحَقَّ مِيرَاثَ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الشَّفِيعِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَالشُّفْعَةُ إِنَّمَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْرُوثِ فِيهَا حَقٌّ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ تَكُونُ بَيْنَ جَمِيعِ مَنْ مَلَكَ مِيرَاثَ الْحِصَّةِ وَفِيهَا قَوْلَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 أحدهما: أنها بينهم على عدد رؤوسهم، الزَّوْجَةُ وَالِابْنُ فِيهَا سَوَاءٌ عَلَى مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثاني: أنها مقسطة بينهم على قدر موارثيهم لِلزَّوْجَةِ ثُمُنُهَا وَلِلِابْنِ الْبَاقِي وَعَلَى هَذَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ، وَكَانَ لِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا يَأْخُذُ جَمِيعَ الشُّفْعَةِ كَالشُّرَكَاءِ إِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ عَادَ حَقُّهُ إِلَى مَنْ بَقِيَ وَإِنْ مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ مَلَكَ الشُّفْعَةَ بِالْبَيْعِ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ بِالْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَوِي فِيهَا الْوَارِثُ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ وَهِيَ بينهم على قدر موارثيهم لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُمْ لَيْسَ يَأْخُذُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا يَرِثُونَهَا عَنْ مَيِّتِهِمْ فكانت بينهم على قدر موارثيهم وَيَكُونُ تَأْوِيلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَابْنَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيُجْعَلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَفَا عَنْ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ فَهَلْ يَرْجِعُ ذَلِكَ عَلَى بَاقِي الْوَرَثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: يرجع على ما بَقِيَ كَالشُّرَكَاءِ إِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ حَضَرَ مُطَالِبًا قُضِيَ لَهُ بِجَمِيعِ الشُّفْعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ بَقِيَ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ شَفِيعٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَالشُّرَكَاءِ الَّذِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَفِيعٌ كَامِلٌ فَعَلَى هَذَا لَوْ حَضَرَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ مُطَالِبًا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَجْتَمِعُوا فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ فَهَلْ تَبْطُلُ بِعَفْوِهِ شُفْعَةُ مَنْ بَقِيَ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ وَسَقَطَ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ لِأَنَّهَا شُفْعَةٌ وَاحِدَةٌ عفى عنه بَعْضِهَا فَصَارَ كَالشَّفِيعِ إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ شُفْعَتِهِ سَقَطَ جَمِيعُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ إِنَّ مَنْ لَمْ يَعْفُ عَنْ شُفْعَتِهِ يَأْخُذُ مِنْهَا بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَلَا يَكُونُ عَفْوُ غَيْرِهِ مُبْطِلًا لِحَقِّهِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ شُفْعَتِهِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ كَانَ لَهُ أَخْذُ جَمِيعِهَا فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ عَنِ الْبَعْضِ جَمِيعُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْعَفْوِ عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْعَافِيَ عَنِ الْبَعْضِ مُخْتَارٌ لِلْعَفْوِ فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ عَفْوُهُ فِي جَمِيعِ حَقِّهِ، وَلَيْسَ الْبَاقِي مِنَ الْوَرَثَةِ مُخْتَارًا لِلْعَفْوِ فَلَمْ يَسْرِ عَفْوُ غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ رَجُلٌ شِقْصًا مِنْ دَارٍ فِيهَا شُفْعَةٌ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ ثُمَّ بِيعَ مِنَ الدَّارِ شِقْصٌ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَعَلَيْهِمُ الشُّفْعَةُ فِيمَا ابْتَاعَهُ مَيِّتُهُمْ وَلَهُمُ الشُّفْعَةُ فِيمَا بِيعَ في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 خِلْطَتِهِمْ وَلَا يَكُونُ إِفْلَاسُ مَيِّتِهِمْ مَانِعًا مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا لِأَنَّ لَهُمْ قَضَاءُ الدُّيُونِ وَاسْتِيفَاءُ الشِّقْصِ فَإِنْ تَعَجَّلَ شُفْعَتَهُمْ فَأَخَذَ حِصَّتَهُمْ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَا اسْتَحَقُّوهُ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا الشُّفْعَةَ بِهِ وَكَانَ لِشَفِيعِهِمْ أَنْ يَأْخُذَهُ بِشُفْعَتِهِ أَيْضًا، وَإِنْ تَعَجَّلُوا أخذ ما بيع في خلطهم وَقَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ حِصَّتُهُمْ بِالشُّفْعَةِ جَازَ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنَ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّتِهِمْ ثُمَّ لِشَفِيعِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُمْ بِشُفْعَتِهِ فَإِنْ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّتِهِمْ كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمِلْكِ. فَصْلٌ : وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ دَارًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِبَعْضِهَا فَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ دَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَبِيعَ مِنْهَا بِالشُّفْعَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لِمَيِّتِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ بقضاء الدين في أَمْوَالِهِمْ وَلَوْ كَانَ مَيِّتُهُمْ وَصَّى بِبَيْعِ بَعْضِهَا فِي وَصِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ شُفْعَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لِمَيِّتِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ حَضَرَ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ أَخَذَ الْكُلَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَإِنْ حَضَرَ ثانٍ أَخَذَ مِنْهُ النِّصْفَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَإِنْ حضر ثالثٌ أخذ منها الثُّلُثَ بِثُلُثِ الثَّمَنِ حَتَّى يَكُونُوا سَوَاءً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي دَارٍ بَيْنَ أَرْبَعَةِ شُرَكَاءَ بَاعَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ عَلَى غَيْرِ شُرَكَائِهِ فَالشُّفْعَةُ فيها واجبة لشركائه الثلاثة فلهم ثلاثة أحوال: حال يكونوا حاضرين، وحال يكونوا غائبين، وحال يحضر بعضهم ويغيب بعضهم فأما الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا حَاضِرِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُطَالِبُوا جَمِيعًا بِالشُّفْعَةِ فَيَكُونُ الشِّقْصُ الْمَبِيعَ بينهم أثلاثاً بالسوية. والقسم الثاني: أن يعفو جَمِيعًا عَنِ الشُّفْعَةِ فَتَبْطُلَ شُفْعَتُهُمْ وَيَبْقَى الشِّقْصُ على المشتري. والقسم الثالث: أن يعفوا بَعْضُهُمْ وَيُطَالِبَ بَعْضُهُمْ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْعَافِي، وَلِلْمُطَالِبِ أن يأخذ جميع القص بِشُفْعَتِهِ فَلَوْ عَفَا اثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ كَانَ لِلثَّالِثِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ بِشُفْعَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا فَيَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. فَلَوْ قَالَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ قَدْ عَفَوْتُ عَنْ جَمِيعِ حَقِّي، وَقَالَ آخَرُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْ نِصْفِ حَقِّي كَانَ عَفْوًا عَنْ جَمِيعِهِ وَلَمْ يَتَبَعَّضِ الْعَفْوُ وَكَانَ لِلثَّالِثِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ لِعَفْوِ شَرِيكَيْهِ. وَلَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 قَالَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ قَدْ سَلَّمْتُ حَقِّي لِأَحَدِكُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ تَسْلِيمًا لَهُمَا مَعًا لِأَنَّهُ عَفْوٌ لَا هِبَةٌ وَلَوْ كَانَ الشِّقْصُ قَدْ أَخَذَهُ اثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثِهِ لِغَيْبَةِ الثَّالِثِ عَنْهُمَا ثُمَّ قَدِمَ الثَّالِثُ فَعَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا وَأَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الْآخَرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بينهما أن يكون ها هنا عَافِيًا وَهُنَاكَ وَاهِبَا وَالْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ يَصِحُّ وَهِبَتُهَا لَا تَصِحُّ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا غَائِبِينَ فَهُمْ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنَ الشُّفْعَةِ حَتَّى يَقْدَمُوا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ عَفْوٌ، فَإِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدِهِمُ الْعَفْوَ عَنْ شُفْعَتِهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لأن للآخرين أن يأخذوا الجميع فلم يكن لدعواه معنى. ولكن ولو ادَّعَى شَرِيكَانِ عَلَى الثَّالِثِ مِنْهُمَا الْعَفْوَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَفُّرِ حَقِّهِ عَلَيْهِمَا، وَحَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْعِهِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَلَوِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الْعَفْوَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كُلِّهِمْ كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ نَكَلُوا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ حَقُّهُمْ مِنَ الشُّفْعَةِ فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، وَنَكَلَ اثْنَانِ مِنْهُمْ لم ترد أيمانهما على المشتري بنكلولهما لأن عفو بعض الشفعاء لا يوجب الترك عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَأْخُذُهُ مَنْ لَمْ يَعْفُ ثُمَّ لَا يُقْضَى لِلْحَالِفِ بِالشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ إِلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ شَرِيكَيْهِ قَدْ عَفَوَا، فَإِذَا حَلَفَ، أَخَذَ كُلَّ الشِّقْصِ، وَإِنْ نَكَلَ أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ وَأَخَذَ النَّاكِلَانِ مِنْهُ قَدْرَ حِصَصِهِمَا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ بَعْضُهُمْ وَيَغِيبَ بَعْضُهُمْ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ حَاضِرًا، وَقَدْ غَابَ الْآخَرَانِ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ تَفْرِيقِ صَفْقَتِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْحَاضِرُ مِنْ أَخْذِ الْكُلِّ، وَانْتَظَرَ بِالشُّفْعَةِ قُدُومَ شَرِيكَيْهِ لِيَأْخُذُوهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ فَفِي بُطْلَانِ شُفْعَتِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إن شُفْعَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ لِيَكْفِي غُرْمُ الثَّمَنِ فِيمَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قَدِمَ شَرِيكَاهُ فَطَلَبَا الشُّفْعَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَإِنْ عَفَوَا قِيلَ لِلْأَوَّلِ الْحَاضِرِ: لَيْسَ لَكَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْكُلِّ أَوْ تَرْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ شُفْعَتَهُ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَخْذِ بِهَا فَكُفَّ فَعَلَى هَذَا إِنْ قَدِمَ الْغَائِبَانِ اشْتَرَكَا فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ عَفَوَا سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ عَنِ الْمُشْتَرِي وَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْأَوَّلِ لِبُطْلَانِ شُفْعَتِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَخَذَ الْأَوَّلُ الْحَاضِرُ كُلَّ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ قَدِمَ ثَانٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الشِّقْصِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِيَكُونَا فِي الشِّقْصِ سَوَاءً فَإِنْ رَضِيَ الثَّانِي أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى ثُلُثِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الشِّقْصِ وَهُوَ قَدْرُ حِصَّتِهِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهِمْ، وَامْتَنَعَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنْ يُسَاوِيَهُ بِالنِّصْفِ أَوْ يَعْفُوَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَوَّلِ ويمنع الثاني فما سَأَلَ وَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ النِّصْفَ أَوْ تَعْفُوَ كَمَا يُمْنَعُ الْأَوَّلُ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الثَّانِي وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّلُثِ وَيُجْبَرَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ مَعَ الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي صَفْقَةٌ يَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِهَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ صَفْقَةٌ تُفَرَّقُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ عَنْ بَعْضِ مَا اسْتَحَقَّ لَهُ فَإِذَا وَضُحَ مَا ذَكَرْنَا وَأَخَذَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ نِصْفَ الشقص بنصف الثمن ثم قدر الثَّالِثُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ثُلُثَ مَا بِيَدِهِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ وَهُوَ سُدُسُ الْكُلِّ فَيَصِيرُ الشِّقْصُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَعُهْدَةُ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحِقَّةٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَلَيْسَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الثالث عفا عن شفعته استقرت لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ وَلَوْ عَفَا الثَّانِي وَطَالَبَ الثَّالِثُ جُعِلَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَخَذَ الشِّقْصَ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ أَحَدُ الْغَائِبَيْنِ فَصَالَحَ الْحَاضِرَ عَلَى ثُلُثِ الشِّقْصِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالثُّلُثَيْنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ الْآخَرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ الَّذِي بِيَدِهِ الثُّلُثَانِ فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَصِيرُ الشِّقْصُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِيَكُونُوا فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءً وَلَا يَكُونُ لِعَفْوِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقَادِمَيْنِ أَثَرٌ غَيْرُ تَأْخِيرِ حَقِّ الثَّانِي عَلَى الْحَاضِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ ومحمد بن الحسن إِنَّ الشِّقْصَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْعَافِي وَسَبْعَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرَيْنِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَافِيَ لَمَّا صَالَحَ عَلَى الثُّلُثِ صَارَ تَارِكًا لِثُلُثِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلنِّصْفِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ فَصَارَ الشِّقْصُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْعَافِي وَسَهْمَانِ لِلْحَاضِرِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا قَدِمَ الثَّالِثُ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ مَا بِيَدِ الْعَافِي وَهُوَ ثُلُثُ السَّهْمِ ضُمَّ إِلَى السَّهْمَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ الْأَوَّلِ تَصِيرُ سَهْمَيْنِ وَثُلُثًا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَسُدُسٌ فَتُضْرَبُ فِي مَخْرَجِ السُّدْسِ وَهُوَ سِتَّةٌ لِتَصِحَّ السِّهَامُ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا كَانَ لِلْعَافِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ تُضْرَبُ لَهُ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرَيْنِ سَهْمٌ وَسُدُسٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ تُضْرَبُ لَهُ فِي سِتَّةٍ فَيَكُونُ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي مَدْخُولٌ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ الشِّقْصُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِلْعَافِي وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْآخَرِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَافِيَ لَمَّا صَالَحَهُ عَلَى الثُّلُثِ صَارَ الشِّقْصُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلْعَافِي وَسَهْمَانِ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ الْآخَرُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَافِي بِثُلُثِ مَا بِيَدِهِ لِأَنَّ لَهُ ثُلُثَ الشُّفْعَةِ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثَ سَهْمٍ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَا بِيَدِهِ مِنَ السَّهْمَيْنِ فَيَكُونُ ثُلُثَيْ سَهْمٍ فَيَصِيرُ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمَا سَهْمًا وَاحِدًا، وَيَبْقَى عَلَى الْعَافِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ سَهْمٌ وَثُلُثٌ فَاضْرِبْ ذَلِكَ فِي مَخْرِجِ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ لِلْعَافِي سَهْمَانِ لِأَنَّهُ لَهُ ثُلُثَيْ سَهْمٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَلِلْآخَرِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُ له سهماً فِي ثَلَاثَةٍ وَلِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِأَنَّ لَهُ سَهْمًا وَثُلُثًا فِي ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَخِيرُ مُسَاوِيًا لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِالْمُحَابَاةِ وَالْعَفْوِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ كَانَ الِاثْنَانِ اقْتَسَمَا كَانَ لِلثَّالِثِ نَقْضُ قِسْمَتِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ الْمَبِيعِ ثَلَاثَةُ شُفَعَاءَ فَحَضَرَ اثْنَانِ فَأَخَذَا الشِّقْصَ بَيْنَهُمَا لِغَيْبَةِ الثَّالِثِ مُنِعَا مِنْ قِسْمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الشِّقْصِ حَقًّا لِشَرِيكِهِمَا الْغَائِبِ مَعَ السَّهْمِ الَّذِي لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَاطِلَةً لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَعَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، لِفَسَادِهَا، وَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعَانِ الْحَاضِرَانِ أَنْ يَبِيعَا مَا كَانَ لَهُمَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ وَمَا أَخَذَاهُ بِحَادِثِ الشُّفْعَةِ لَمْ يُمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ لِحَقِّ الْغَائِبِ. وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَا أَنْ يَبِيعَا مَا أَخَذَاهُ بِالشُّفْعَةِ دُونَ مَا كَانَ لَهُمَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ لَمْ يُمْنَعَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَائِبَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ بِأَيِّ الْعَقْدَيْنِ شَاءَ، فَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ وَقَدْ بَاعَ الْحَاضِرَانِ مَا أَخَذَاهُ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْأُولَى وَيَعْفُوَ عَنِ الثَّانِيَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّانِيَةِ، وَيَعْفُوَ عَنِ الْأُولَى. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَتَيْنِ أَخَذَ بِالْأُولَى ثُلُثَ الشِّقْصِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ بِشُفْعَتِهِ الثَّانِيَةِ صَحَّ، وَأَخَذَ بِالثَّانِيَةِ نِصْفَ الْبَاقِي وَهُوَ ثُلُثُ الشِّقْصِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ شُفْعَتَيْنِ فيحصل له ثلثا الشِّقْصِ بِالشُّفْعَتَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَعْفُوَ عَنِ الْأُولَى صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَأَخَذَ نِصْفَ الشِّقْصِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ شفعيتن، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى وَيَعْفُوَ عَنِ الثَّانِيَةِ أَخَذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ لِأَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَهُ بِشُفْعَتِهِ الثَّانِيَةِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَكَانَ لَهُ أَخْذُ الْجَمِيعِ بِهَا لِأَنَّهُ شَفِيعٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَتَيْنِ أَخَذَ ثُلُثَ الشِّقْصِ بِشُفْعَتِهِ الْأُولَى وَبَطَلَ فِيهِ الْبَيْعُ وَصَحَّ فِي ثُلُثَيْهِ فِيمَا كَانَ لَهُمَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ. فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَهُ بِشُفْعَتِهِ الثَّانِيَةِ صَحَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ سَلَّمَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَكُنْ لبعضٍ إِلَّا أَخْذُ الْكُلِّ أَوِ التَّرْكُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَجُوزُ لِلشُّفَعَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا صَفْقَةَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضَرَرًا بِإِدْخَالِ مِثْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الثَّلَاثَةِ كَانَ لِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَأْخُذَا جَمِيعَ الشِّقْصِ أَوْ يَعْفُوَا عَنْهُ. وَلَوْ عَفَا اثْنَانِ فَكَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَلَوْ أَخَذَهَا الْحَاضِرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ كَانَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَذَرَ لِأَنَّ رَدَّ الْحَاضِرِ بِالْعَيْبِ كَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَاحِدًا أَخَذَ جَمِيعَ الشِّقْصِ، أَوْ يَعْفُو عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَكُونُ عَفْوًا. فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ عَنِ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الشِّقْصِ لِلْبَائِعِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَزِمَ الضَّمَانُ، وَكَانَ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ، وَهَكَذَا لَوْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ عَنِ الْبَائِعِ دَرَكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِأَمْرِ الْبَائِعِ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَزِمَ الضَّمَانُ وَكَانَ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ. وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ خِيَارَ الشَّفِيعِ، فَاخْتَارَ الشَّفِيعُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهِ قَدْ تَمَّ فَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ شُفْعَةَ الشَّفِيعِ مُسْتَحَقَّةٌ بِتَمَامِ الْبَيْعِ فَإِنْ فَعَلَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ لَهُ الشُّفْعَةُ فَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الثَّمَنَ، فَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ، فَغَرِمَهُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ بَرِئَ الشَّفِيعُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ قَدَّمَ تَعْجِيلَهُ عَنْهُ إِلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ لِلثَّمَنِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْرَأْ بِمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِغُرْمِهِ لِلْبَائِعِ وَيُحْكُمُ بِدَفْعِهِ ثَانِيَةً إِلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي دَرَكَ الْمَبِيعِ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ الشِّقْصَ بِشُفْعَتِهِ ثُمَّ اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعُهْدَتِهِ، لِأَنَّ المشتري إِذَا اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّفِيعِ بِعُهْدَتِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا وَكَّلَ الشَّفِيعُ فِي الشِّرَاءِ فَاشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشتراه وبما قَالَ أبو حنيفة وَلَوْ وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ فَبَاعَ لِمُوَكِّلِهِ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَاعَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا شُفْعَةَ لَهُ فَأَوْجَبَهَا فِيمَا اشْتَرَاهُ وَلَمْ يُوجِبْهَا فِيمَا بَاعَهُ. وَهَذَا خَطَأٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ بِبَائِعٍ ومشترٍ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعُ كَوْنُهُ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَمْنَعَ كَوْنُهُ بَائِعًا لِغَيْرِهِ مِنْ ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إِبْرَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا تَقَدَّمَ كَالْعَفْوِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيْعَهُ حِرْصٌ مِنْهُ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَتِهِ فَإِذَا ثبت هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 وكانت دار بين شريكين فوكل أحدهما شريكه أن يبيع نِصْفَ حِصَّتِهِ مَعَ نِصْفِ حِصَّةِ نَفْسِهِ، فَبَاعَ الوكيل نصف الدار صفقة ربعها لنفسها، وَرُبُعَهَا لِمُوكِلِهِ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا بَاعَهُ لِمُوَكِّلِهِ وَهُوَ الرُّبْعُ، وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا بَاعَهُ وَكِيلُهُ، وَلَيْسَ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ إِنْ كَانَ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ بِشُفْعَتِهِ فَيَأْخُذَ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْكُلَّ بِشُفْعَتِكَ أَوْ تَذَرَ. فَصْلٌ : وَأَمَّا وَلِيُّ الْيَتِيمِ ووصي الميت إذا باعه الولاية مَا هُمَا شَفِيعَانِ فِيهِ فَفِي شُفْعَتِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشُّفْعَةَ لَهُمَا فِيهِ كَالْوَكِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا شُفْعَةَ لَهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَنُوبُ عَنْ حَيٍّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ لِلْعَامِلِ فِيهِ حِصَّةٌ بِقَدِيمِ مِلْكٍ وَلِرَبِّ الْمَالِ فِيهَا حِصَّةٌ بِقَدِيمِ مِلْكٍ، فَلِلْعَامِلِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَا الْحِصَّةَ الْمُشْتَرَاةَ فِي الْقِرَاضِ بِشُفْعَتِهِمَا لِأَنَّ مَالَ الْقِرَاضِ يَتَمَيَّزُ عَنْ أَمْوَالِهِمَا. فَإِنْ عَفَوَا عَنْهَا ثُمَّ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنَ الدَّارِ حِصَّةً ثَانِيَةً فَشُفْعَتُهُ الثَّانِيَةُ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثُهَا لِلْعَامِلِ، وَثُلُثُهَا فِي الْقِرَاضِ. فَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حِصَّةٌ رَابِعَةٌ لِأَجْنَبِيٍّ؛ كَانَ لَهُ ثُلُثُ الشُّفْعَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ يَكُونُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ثُلُثٍ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثٍ لِلْعَامِلِ، وَثُلُثٍ فِي الْقِرَاضِ. فَتَتَمَيَّزُ شُفْعَةُ الْحِصَّةِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا وَهِيَ الثُّلُثُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَالسِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ أَثْلَاثًا كُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا سَهْمَانِ لِمَا ذكرنا. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهَا هدمٌ مِنَ السَّمَاءِ إِمَّا أَخَذَ الْكُلَّ بِالثَّمَنِ وَإِمَّا تَرَكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَانْهَدَمَتْ بِجَائِحَةٍ أَوْ جناية، أو سقصاً مِنْ أَرْضٍ فَأَخَذَ السَّيْلُ بَعْضَهَا فَالَّذِي نَقَلَهُ المزني ها هنا وَقَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ: إِنَّ الشَّفِيعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يَدَعَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لِاخْتِلَافِ النَّقْلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا ذَهَبَتْ عَيْنُهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 بِجَائِحَةٍ، أَوْ جِنَايَةٍ كَانَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ حَالُ الشُّفْعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَتْهُ الصَّفْقَةُ بِالثَّمَنِ مُقَسَّطٌ عَلَى أَجْزَائِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعَ الشِّقْصِ سَيْفًا أَخَذَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَنَسَبَا إِلَى الْمُزَنِيِّ الْغَلَطَ فِيمَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَنْصُوصَاتِهِ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَا انْهَدَمَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ أُخِذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَمَا انْهَدَمَ بِفِعْلِهِ، أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ أُخِذَ بحصته من الثمن، فغلط المزني في نقول الشَّافِعِيِّ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. كَمَا غَلِطَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِيمَا حكاه في كتاب الأيمان والنذور: إِذَا حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحَقِّهِ عِوَضًا إِنْ كَانَ بِقِيمَةِ الْحَقِّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَنِثَ، فَغَلِطَ وإنما ذلك قول مالك، كذلك ها هنا وَفَرَّقَ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْفَلَسِ بِفَرْضٍ مَضَى فِي كِتَابِ الْفَلَسِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا ذَهَبَتِ الْآثَارُ وَكَانَتْ أَعْيَانُ الْآلَةِ وَالْبِنَاءِ بَاقِيَةً، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتْ أَعْيَانُ الْآلَةِ وَالْبِنَاءِ تَالِفَةً. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا هَدَمَهُ بِفِعْلٍ آدَمِيٍّ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا كَانَ هَدْمُهُ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي هَدْمِ الْآدَمِيِّ قَدْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْشِ النَّقْصِ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَفِي جَائِحَةِ السَّمَاءِ لَيْسَ يَرْجِعُ بِأَرْشِ النَّقْصِ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضِدُّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إِذَا كَانَتِ الْفُرْصَةُ بَاقِيَةً وَإِنْ تَلِفَتِ الْآلَةُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْفُرْصَةِ بِسَيْلٍ أَوْ غَرَقٍ لِأَنَّ العرصة مقصورة والآلة تتبع. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَاسَمَ وَبَنَى قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنْ شِئْتَ فَخُذْ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ الْيَوْمَ أَوْ دَعْ لِأَنَّهُ بَنَى غَيْرَ متعد فلا يهدم ما بنى، (قال المزني) رحمه الله هذا عندي غلطٌ وكيف لا يكون متعدياً وقد بنى فيما للشفيع فيه شركٌ مشاعٌ ولولا أن للشفيع فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 شركاً ما كان شفيعاً إذ كان الشريك إنما يستحق الشفعة لأنه شريكٌ في الدار والعرصة بحق مشاعٍ فكيف يقسم وصاحب النصيب وهو الشفيع غائبٌ والقسم في ذلك فاسدٌ وبنى فيما ليس له فكيف يبني غير متعد والمخطئ في المال والعامد سواءٌ عند الشافعي ألا ترى لو أن رجلاً اشترى عرصةً بأمر القاضي فبناها فاستحقها رجلٌ أنه يأخذ عرصته ويهدم الباني بناءه ويقلعه في قول الشافعي رحمه الله فالعامد والمخطئ في بناء ما لا يملك سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ اشتر شِقْصًا مِنْ دَارٍ وَقَاسَمَ عَلَيْهِ وَبَنَى فِي حِصَّتِهِ، وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا بِشُفْعَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنْ شِئْتَ فَخُذِ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ قَائِمًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِهِ لِأَنَّهُ بَنَاءٌ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. وَهَكَذَا عِمَارَةُ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ مِنَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ وُقِفَتْ مَعَ الشَّفِيعِ فَقَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَصَحَّتِ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ لَمْ يُقَاسِمْهُ الشَّفِيعُ فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ صِحَّةُ الْقِسْمَةِ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ. وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَنَافِي بَقَاءِ الشُّفْعَةِ وَصِحَّةِ الْقِسْمَةِ غَلَطٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ غَائِبًا وَقَدْ وَكَّلَ فِي مُقَاسَمَةِ شُرَكَائِهِ وَكِيلًا، فَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ بِمُقَاسَمَتِهِ عَلَى مَا اشْتَرَى فَيَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُقَاسِمَهُ لِتَوْكِيلِهِ فِي الْمُقَاسَمَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَكَّلٍ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَيَكُونُ الشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلشَّفِيعِ الْغَائِبِ وَكِيلٌ فِي الْقِسْمَةِ فَيَأْتِي الْمُشْتَرِي الْحَاكِمَ فَيَسْأَلُهُ أَنْ يقاسمه عن الغائب فيحوز لِلْحَاكِمِ مُقَاسِمَةُ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الشَّرِيكُ بَعِيدًا لِغَيْبَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِلْغَائِبِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ إِلَّا لِمُوَلًّى عليه، ولا تبطل شفعة الغائب بمقاسمته الْحَاكِمِ عَنْهُ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِبِنَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ ثَمَنًا مَوْفُورًا فيعفو على الشُّفْعَةِ لِوُفُورِ الثَّمَنِ وَيُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِبِنَائِهِ لِأَنَّهُ بِالْكَذِبِ مُتَعَدٍّ فِي قَوْلِهِ لَا فِي قِسْمَتِهِ وَبِنَائِهِ، فَصَارَ كَرَجُلٍ ابْتَاعَ دَارًا بِعَبْدٍ قَدْ دَلَّسَهُ بِعَيْبٍ ثُمَّ بَنَى وَوَجَدَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَعَلَيْهِ إِذَا رَدَّ الْعَبْدَ وَاسْتَرْجَعَ الدَّارَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْبِنَاءِ قَائِمًا لِأَنَّهُ بَنَى غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي فعله وَإِنْ دَلَّسَ كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُنْكِرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ، وَيَدَّعِيَ الْهِبَةَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَيُقَاسِمَهُ الشَّرِيكُ ثُمَّ يَبْنِيَ، وَتَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ بِنَائِهِ بِالشِّرَاءِ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ مَعَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ مَعَ جُحُودِهِ لِلشِّرَاءِ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي الْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ طِفْلًا أَوْ مَجْنُونًا، فَيُمْسِكُ الْوَلِيُّ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ، وَيُقَاسِمُ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَبْلُغُ الطِّفْلُ، وَيَفِيقُ الْمَجْنُونُ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ مَعَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ وَلَا يَكُونَ إِمْسَاكُ الْوَلِيِّ عَنِ الشفعة مبطلاً للقسمة ولا مقاسمته مبطلاً لِلشُّفْعَةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّتِ الْقِسْمَةُ مَعَ بَقَاءِ الشُّفْعَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَبَطَلَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِهَا لَمْ يُجْبَرِ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِ بِنَائِهِ، وَقِيلَ لِلشَّفِيعِ: إِنْ شِئْتَ فَخُذِ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ، وَقِيمَةَ الْبِنَاءِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قِلْعِ بِنَائِهِ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الشَّفِيعِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَسْبَقُ مِنْ بِنَائِهِ فَصَارَ كَالِاسْتِحْقَاقِ بِالْغَصْبِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَامُّ الْمِلْكِ قَبْلَ أَخْذِ الشِّقْصِ. أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ النَّمَاءَ وَمَنْ بَنَى فِي مِلْكِهِ لَمْ يَتَعَدَّ كَالَّذِي لَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ مَنْ بَنَى فِي مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ انْتِزَاعِهِ مِنْ يَدِهِ مُوجِبًا لِتَعَدِّيهِ، وَنَقْضِ بِنَائِهِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا بَنَى وَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ بِالضَّرَرِ وَفِي أَخْذِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمِ بِنَائِهِ ضَرَرٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْغَصْبِ فَهُوَ تَعَدِّي الْغَاصِبِ بِتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّيًا لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ الشَّفِيعُ أَنَا آخُذُ مِنَ الشِّقْصِ مَا لَا بِنَاءَ فِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ قَالَ أَنَا آخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهِبَةٍ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُلْزَمُ بِتَرْكِهِ بِمَا اسْتَضَرَّ بِهَا. فَلَوْ قَالَ أَنَا أُقِرُّ بِنَاءَهُ فِي الْأَرْضِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَارِيَةٌ يُسْتَحَقُّ الرُّجُوعُ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِقْرَارُ بِنَاءٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ قَدْ يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَرَرٌ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِشُفْعَتِهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ فَبَنَى فِيهِ وَغَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ مَأْخُوذٌ بِقَلْعِ بِنَائِهِ، وَغَرْسِهِ لأنه بنى في غير ملكه ثم نظر فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمَبِيعِ وَلِحَقِّ الشَّفِيعِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِ بِنَائِهِ في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمَبِيعِ وَحْدَهُ دُونَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا نَقَصَ مِنْ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْبَائِعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَحْدَهُ عَلَى قَابِضِهِ لِأَنَّهُ قَلَعَهُ بِحَقٍّ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَبْضِهِ مُتَعَدٍّ، دُونَ الشفيع، فوجب أن يكون الضَّرَرِ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ رَاجِعًا عَلَى الْبَائِعِ الْمُتَعَدِّي دُونَ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ وَيَزَالُ عَنِ الْمُتَعَدِّي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا مِنْ أَرْضٍ فَزَرَعَهَا الشَّفِيعُ ثُمَّ حَصَلَ الِاسْتِحَقَاقُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِجَمِيعِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَبِيعِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ أُخِذَ الشَّفِيعُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنَقْضِهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِمَا كَانَ بِيَدِهِ وَظَالِمٌ لِمَا أَخَذَهُ بِشُفْعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلشِّقْصِ الْمَبِيعِ وَحْدَهُ وَجَبَ إِقْرَارُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ لِأَنَّ بَقَاءَ الزَّرْعِ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ الْمُتَأَبِّدِ وَلَيْسَ مِنَ الشَّفِيعِ تعدٍ مَقْصُودٌ يُؤْخَذُ لِأَجْلِهِ بِقَلْعِ زَرْعِهِ لَكِنْ عَلَيْهِ لِمُسْتَحَقِّ الشِّقْصَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مِنْ وَقْتِ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ وَقْتِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا نَقَصَ بِقَلْعِ الْبَنَّاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا رُجُوعَ لِلشَّفِيعِ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَنَّاءَ اسْتُهْلِكَ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِغُرْمِهِ، وَفِي الزَّرْعِ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِمَنَافِعِ الْمُدَّةِ فلم يرجع بأجرتها. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ الشِّقْصُ فِي النَّخْلِ فَزَادَتْ كَانَ لَهُ أَخْذُ زَائِدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَبِيعِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُبَاعَ مُفْرَدَةً عَنِ الْأَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْجَارِ كَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي إِذَا أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّهَا مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ كَالزَّرْعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ الْأَرْضِ فَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأَرْضَ فِي الْبَيْعِ وَيَتْبَعُهَا النَّخْلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِفْرَادَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ، وَإِفْرَادَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ مُسْتَدَامٌ. وَأَوْجَبَ أبو حنيفة الشُّفْعَةَ فِي الزَّرْعِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ كَافٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ مَعَ قَرَارِهَا مِنَ الْأَرْضِ مُفْرَدَةً عَمَّا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ بياض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 الْأَرْضِ فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِيهَا وَجْهَانِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبِنَاءِ مَعَ قَرَارِهِ دُونَ الْأَرْضِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ قَرَارَ النَّخْلِ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ فِيهَا مُفْرَدَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا وَفِي تَبَعِهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وكان المبيع شِقْصًا مِنْ أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ فَزَادَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ لِغَيْبَتِهِ، أَوْ عُذْرٍ لَا تَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزِّيَادَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ كَالْفَسِيلِ إِذَا طَالَ وَامْتَلَى وَالْغَرْسِ إِذَا اسْتَغْلَظَ وَاسْتَوَى فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بِزِيَادَتِهِ لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً كَالثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً، أَوْ غَيْرَ مؤبرة فإن كانت مؤبرة فلا حق فليها لِلشَّفِيعِ. وَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ مَا كَانَ مُؤَبَّرًا مِنَ الثِّمَارِ لَا يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَعَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى نَخْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ لَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا لِاتِّصَالِهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهَا وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِتُمَيُّزِهَا عَنِ الْأَصْلِ كَالْمُؤَبَّرَةِ وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ نَقْلُ مِلْكٍ بَعِوَضٍ عَنْ مُرَاضَاةٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثِّمَارِ تَبَعًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِبْقَائِهَا بِالْعَقْدِ، وَالشُّفْعَةُ اسْتِحْقَاقُ مِلْكٍ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا إِلَّا مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ. وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا اسْتُحِقَّ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَالشُّفْعَةِ، وَالتَّفْلِيسِ، أَوْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَهَلْ يكون ما لم يؤبر من الثمار تبعا لِأَصْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّخْلُ عِنْدَ ابْتِيَاعِ الشِّقْصِ مِنْهَا مُثْمِرَةً نُظِرَ. فَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَإِذَا شُرِطَتْ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقٌّ وَأَخَذَ الشِّقْصَ مِنَ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَنِ اشْتَرَى شِقْصًا وَعَبْدًا. وَقَالَ أبو حنيفة يَأْخُذُهَا مَعًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، أَوْ قَدْ تأبرت. فإن كانت غير مؤبرة أخذها الشفيع مع الشقص بجميع الثمن قولاً واحداً لأن العقد يتناولها تبعاً وهي في الحال تبع فجرت مجرى النخيل، وإن تَأَبَّرَتْ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ فِيهَا لِلشَّفِيعِ لِتُمَيُّزِهَا عَمَّا يَكُونُ تَبَعًا فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِنَ النَّخْلِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا مَعَ الشِّقْصِ تَبَعًا وَقْتَ الْعَقْدِ لِاتِّصَالِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الشَّفِيعِ مِنْهُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ كَالْبِنَاءِ إِذَا انْهَدَمَ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ عَلَى نَخْلِهَا، أَوْ مَجْذُوذَةً، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ جُذَّتْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لِانْفِصَالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَخْلِهَا أَخَذَهَا بِشُفْعَتِهِ مُؤَبَّرَةً وَغَيْرَ مؤبرة وتوجيه القولين دليل عليه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا شُفْعَةَ فِي بئرٍ لَا بَيَاضَ لَهَا لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا سِوَى الْعَقَارِ وَالْأَرَضِينَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَإِنَّ الْعَقَارَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُقْسَمُ جَبْرًا فَفِيهِ الشُّفْعَةُ وِفَاقًا، وَضَرْبٌ لَا يُقْسَمُ جَبْرًا، فَفِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج وبه قال مالك أبو حنيفة خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاسْتِدَامَةِ الضَّرَرِ بِهِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا شفعة فيه للأمن من مؤونة الْقِسْمَةِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ: فَمِنْ ذَلِكَ الْبِئْرُ الْمُشْتَرَكَةُ إِذَا بِيعَ شِقْصٌ مِنْهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تكون واسعة يحتمل الْقِسْمَةَ كَالْأَرْضِ الَّتِي يُحْفَرُ فِيهَا بِئْرٌ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقَسْمِ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْبِئْرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَمَا تَجِبُ فِي النَّخْلِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِأَنَّ الْبِئْرَ إِذَا حَصَلَتْ فِي حِصَّةِ أَحَدِهِمَا أمكن للآخر مفر مِثْلِهَا فِي حِصَّتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ ضَيِّقًا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهُ حَرِيمٌ لِلْبِئْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَدَ عَنْهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي قَدْرِ الْحَرِيمِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبِئْرِ الَّتِي لَيْسَ حَوْلَهَا بَيَاضٌ لَهَا لِأَنَّهُ لِقِلَّتِهِ وَتَعَذُّرِ إِفْرَادِهِ عَنْهَا تَبَعٌ لَهَا، وَإِذَا اتَّسَعَ صَارَتِ الْبِئْرُ تَبَعًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبِئْرِ بَيَاضٌ أَوْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَسْمَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا تَحْتَمِلُ الْقَسْمَ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي بئرٍ وَلَا فحلٍ وَالْأُرُقُ تَقْطَعُ كُلَّ شفعةٍ " يَعْنِي بِالْفَحْلِ: فَحْلَ النَّخْلِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ، وَالْأُرُقُ الْمَعَالِمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وَإِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ وَاسِعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَآبَارِ الْبَادِيَةِ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ يَابِسَةً لَمْ يُوصَلْ إِلَى الْمَاءِ فَالشُّفْعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا قُسِمَتْ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أمكن أن يحجزها ويحفرها بئراً. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَاءٌ قَدْ وَصَلَ الْحَفْرُ إِلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ينبوع الماء من جميعها، وخارج مِنْ سَائِرِ قَرَارِهَا، فَالشُّفْعَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا إِذَا قُسِمَتْ وَجُعِلَ بَيْنَ الْحِصَّتَيْنِ حَاجِزًا كَانَتْ بِئْرًا مُفْرَدَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَنْبُوعُ الْمَاءِ فِي جَانِبٍ مِنْهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَتُهَا لِسِعَتِهَا فَقَدْ يَحْصُلُ يَنْبُوعُ الْمَاءِ فِي جَانِبِهَا لِإِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ فَتَصِيرُ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ بِئْرًا، وَالْأُخْرَى غَيْرَ بِئْرٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَسْمُ وَلَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الْحَمَّامُ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا ذَا بُيُوتٍ إِذَا قُسِمَ حَصَلَ فِي كُلِّ حِصَّةٍ بُيُوتٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ حَمَّامًا وَكَانَ أَتُّونُهُ وَاسِعًا إِذَا قُسِّمَ بَيْنَ الْحِصَّتَيْنِ اتَّسَعَتْ كُلُّ حِصَّةٍ بِمَا صَارَ لَهَا مِنَ الْأَتُّونُ وَاكْتَفَى بِهِ قُسِّمَ جَبْرًا وَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا تَقِلُّ بُيُوتُهُ إِذَا قُسِّمَتْ عَنْ كِفَايَةِ حمام ويصفر أَتُّونُهُ عَنِ الْقِسْمَةِ وَتَزُولُ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ كَالَّذِي نُشَاهِدُهُ فِي وَقْتِنَا مِنْ أَحْوَالِ الْحَمَّامَاتِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَا حَمَّامَيْنِ فَقَدْ يَصِيرُ أَحَدُ الْحَمَّامَيْنِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَهَلَّا وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْقِسْمَةُ بِحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْحَمَّامَيْنِ وَالْآخَرُ بِالْآخِرِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الرَّحَاءُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ إِنْ بِيعَ مُنْفَرِدًا عَنْ أَرْضِهِ، كَمَا لَا شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ مُنْفَرِدًا، وَإِنْ بِيعَ مَعَ أَرْضِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ ضَيِّقَةً كَبُيُوتِ الْأَرْحَاءِ الَّتِي لَا سِعَةَ فِيهَا لِغَيْرِ الرَّحَاءِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ جَبْرًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَاسِعَةً يَخْتَصُّ الرحا بِمَوْضِعٍ مِنْهَا كَأَرْحَاءِ الْبَصْرَةِ فِي أَنْهَارِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ بَيْعِ الْأَرْضِ هَلْ يُوجِبُ دُخُولَ الرَّحَاءِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ عُلُوًّا، وَسُفْلًا فَعَلَى هَذَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعُلُوُّ، وَلَا السُّفْلُ. فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِنْ شُرِطَ فِي الْبَيْعِ كَالزَّرْعِ، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا من الثمن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلُ دُونَ الْعُلُوِّ فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ. فَأَمَّا بَيْتُ الرَّحَاءِ فَدَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَالشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ كَسَائِرِ الْأَبْنِيَةِ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الدُّولَابُ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ أُفْرِدَ بِالْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ بِيعَ مَعَ الْأَرْضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَقْتَضِي إِطْلَاقُ الْبَيْعِ دُخُولَهُ فِيهِ تَبَعًا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالْبِنَاءِ لِاتِّصَالِهِ فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِتَمَيُّزِهِ فَعَلَى هَذَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَلَى حَالِهِ صَحِيحًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَلَى حَالِهِ صَحِيحًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ الْمَعْدِنُ: وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَارِيًا كَمَعَادِنَ الْقَارِّ، وَالنِّفْطِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ. إِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا يَصِيرُ مَا قُسِّمَ مَعْدِنًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَنْبُوعُهُ فِي أَحَدِ جَوَانِبِهِ فلا شفعة فيه، وإن كان ينبوع مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ مَا يَنْبُعُ مِنْهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَهَلْ يَكُونُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ وَقْتَ الْعَقْدِ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، وَمَأْخُوذًا بالشفعة على وجهين: أحدهما: يدخل في كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَيُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ كَالثَّمَرَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ، وَالثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ لِظُهُورِهِ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ. فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ دَخَلَ فِيهِ، وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَإِنْ كَانَ مَا يَنْبَعُ جَارِيًا لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ وَالْأَخْذِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَعْدِنِهِ لَمْ يُمْنَعِ النَّاسِ مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ مَمْلُوكٌ قُبِلَ إِجَارَتُهُ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، فَإِذَا خرج من مَعْدِنِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ؟ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْدِنُ جَامِدًا كَمَعَادِنِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهِ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تُرْبَةُ الْمَعْدِنِ فَصَارَ كَالْأَرْضِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ قِسْمَتُهُ مُمْكِنًا، وَتَصِيرُ كُلُّ حِصَّةٍ مِنْهُ إِذَا قُسِّمَتْ مَعْدِنًا وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كان بخلافه فلا شفعة. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا وَلَا بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَرَادَ بِهِ أبا حنيفة فِي الدَّارِ أَنْ تَكُونَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ فَلَا شُفْعَةَ فِي حَقِّهَا مِنَ الطَّرِيقِ مِنْ مَسْلَكٍ أَوْ فَنَاءٍ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ وَلَا شُفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا جَاوَرَ أَوْ قَابَلَ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: أَرَادَ بِهِ مَالِكًا فِي الدَّارِ يَكُونُ لَنَا طَرِيقٌ مُسْتَحَقٌّ فِي دَارٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فِي التُّرْبَةِ فَلَا شُفْعَةَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ وَلَيْسَتْ عَيْنًا مَمْلُوكَةً، وَلَا شُفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا لِهَذِهِ الْأَرْضِ شُفْعَةٌ فِيمَا يُسْتَحَقُّ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَاجِبَةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مالٍ لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ تُصْرَفْ فِيهِ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى بِسُوءِ الِاسْتِطْرَاقِ كَمَا يَتَأَذَّى بِسُوءِ الِاشْتِرَاكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بها كما يستحق بأحدهما وهذا خطأ، لرواة أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها " وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الْأَمْلَاكِ لَا تُوجِبُ الشفعة كالإجارة. ولأن تمييز الْأَمْلَاكِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ كَصَرْفِ الطُّرُقِ وَلِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الشُّفْعَةَ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُمْلَكَ بِهِ الشُّفْعَةُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ ارْتِفَاعُ الشُّفْعَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وصرف الطرق دليلاً على ثبوت الشفة بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَبَقَاءِ الطُّرُقِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ " فَنَسْتَعْمِلُ الْخَبَرَيْنِ فَنَقُولُ إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصْرَفِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ بِالْخَبَرِ الثَّانِي كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ تَوَضَّأَ ". وَرُوِيَ " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ تَوَضَّأَ " وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ صَرْفَ الطُّرُقِ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الطَّرِيقَ الْمَمْلُوكَةَ تُبْطِلُ الشُّفْعَةَ فيها لبطلانها في المحدود عنها، فأثبتت الشُّفْعَةَ فِي الطَّرِيقِ مَعَ بُطْلَانِهَا فِي الْأَصْلِ، وَأَمَّا التَّأَذِّي بِسُوءِ الِاسْتِطْرَاقِ فَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْأَذَى عِلَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إليه الخوف من مؤونة الْقِسْمَةِ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَّا عَرْصَةُ الدَّارِ تَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْقَسْمِ وَلِلْقَوْمِ طريقٌ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَإِذَا بِيعَ مِنْهَا شيءٌ ففيه الشفعة ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَرْصَةٍ تُحِيطُ بِهَا دُورٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّورِ مَرْفُوعَةٌ بين أهلها بخلاف الطريق النافذة لبيع كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِحِصَّتِهِ جَائِزٌ وَالْبِنَاءُ فِيهَا شَائِعٌ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمْ دَارَهُ مَعَ حِصَّتِهَا مِنَ الْعَرْصَةِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الدَّارِ المحوزة وفي حصتها من العرضة كَال ْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا شُفْعَةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَيَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْعَرْصَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدُخُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُؤَثِّرًا لِتَفْرِيقِ صِفَتِهِ وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْعَرْصَةِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالشُّفْعَةِ عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَرْصَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ طَرِيقٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرْصَةِ فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَغْنِي الدَّارُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ مَرَافِقِهَا الَّتِي لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ الضَّرَرُ عَنِ الشُّرَكَاءِ بِإِدْخَالِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَرْصَةِ وَيَبْطُلُ اسْتِطْرَاقُ الْمُشْتَرِي فِيهَا لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ فَصَارَ هُوَ الْمُضِرَّ بِنَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَرْصَةِ وَاجِبَةٌ وَحَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهَا ثبات بِغَيْرِ مِلْكٍ فِي التُّرْبَةِ لِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ الْبَيْعُ جَائِزًا فَعَلَى هَذَا لَوْ أُخِذَتْ حِصَّةُ الدَّارِ مِنَ الْعَرْصَةِ بِالشُّفْعَةِ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الِاسْتِطْرَاقَ إِلَى دَارِهِ فِي الْعَرْصَةِ نُظِرَ فِي أَخْذِ الْحِصَّةِ فَإِنْ أَخْذَهَا جَمِيعُ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَرْصَةِ فَلَهُ حَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ عَلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى لَوِ اقْتَسَمُوا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ حِصَّةَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَإِنْ أَخَذَ الْحِصَّةَ أَحَدُهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الِاسْتِطْرَاقَ فِي حِصَّةِ غَيْرِ الْآخِذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى لَوِ اقْتَسَمُوا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِطْرَاقُ حِصَّةِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ طَرِيقَ الدَّارِ صَارَ فِي حِصَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِطْرَاقَ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ حَقَّهُ مَنْفَعَةٌ شَائِعَةٌ فِي جَمِيعِ الْعَرْصَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إِجَارَتُهَا بِالْقِسْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اتَّسَعَتِ الْعَرْصَةُ عَنِ اسْتِطْرَاقِ الشُّرَكَاءِ لَوِ اقْتَسَمُوا فَكَانَ نِصْفُهَا لَوِ اقْتَسَمُوهُ كَافِيًا لَاسْتِطْرَاقِهِمْ فَالشُّفْعَةُ فِي الْفَاضِلَةِ مِنَ الْعَرْصَةِ مِنِ اسْتِطْرَاقِهِمْ وَاجِبَةً وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا يَتَمَلَّكُ الْمُشْتَرِي فِي اسْتِطْرَاقِهَا وَفِي وُجُوبِهَا فِي الْمُسْتَطْرَقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِي الصَّبِيِّ أَنْ يَأْخُذَا بِالشُّفْعَةِ لِمَنْ يَلِيَانِ إِذَا كَانَتْ غبطةٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا فَإِذَا وَلِيَا مَالَهُمَا أَخَذَاهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إِذَا وَجَبَتْ لَهُمَا بالشفعة لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَخْذِهَا لَهُمَا حَظٌّ وَغِبْطَةٌ فَعَلَى وَلِيِّهِمَا أَنْ يَأْخُذَهَا لَهُمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا لَهُمَا لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ إِلَى فِعْلِ مَا عَادَ بِصَلَاحِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَالدُّيُونِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ إِذَا كَانَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ مَا يُوجِبُ امْتِنَاعَ الْوَلِيِّ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لَهُ كَشِرَاءِ الْأَمْلَاكِ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهِ الصَّلَاحُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْوَلِيِّ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ وَحَالَةٌ يَرُدُّهَا، فَإِنْ أَخْذَهَا لَزِمَتِ الْأُولَى عَلَيْهِ وَصَارَتْ مَا كَانَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِذَا صَارَ رَشِيدًا أَنْ يَرُدَّ كَمَا لَا يَرُدُّ مَا اشْتَرَاهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ غِبْطَةٌ وَإِنْ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْهَا وَلَمْ يَأْخُذْهَا فَلِلْمُولَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ أبو حنيفة، قَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ بِرَدِّ الْوَلِيِّ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا إِذَا بَلَغَ لِأَنَّ عَفْوَ مَنْ لَهُ الْأَخْذُ يُبْطِلُهَا كَالشَّرِيكِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ عَنِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ مَرْدُودٌ كَالْإِبْرَاءِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِلْكِ قَاضِيًا. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَظٌّ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ إِمَّا لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَإِمَّا لِأَنَّ صَرْفَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِهِ أَهَمُّ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِي شِرَائِهِ وَلَا يَصِيرُ الشِّقْصُ لِلْوَلِيِّ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مَا اشْتَرَى لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ بُطْلَانِهِ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مَا يَأْخُذُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ لَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ بُطْلَانِهَا لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشُّفْعَةَ مَرْدُودَةٌ وَالْوَلِيَّ مِنْ أَخْذِهَا مَمْنُوعٌ فَبَلَغَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رَشِيدًا فَأَرَادَ أَخْذَ الشُّفْعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ شُفْعَتَهُ قَدْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ وَلَيِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا بَعْدَ رُشْدِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ أَخَذَ الْوَلِيُّ مَقَامَ أَخْذِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ قَامَ رَدُّ الْوَلِيِّ مَقَامَ رَدِّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ طَرْدًا وَكَالْقِصَاصِ عَكْسًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ رَدُّهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شُفْعَتَهُ بَاقِيَةٌ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ وَلِيِّهِ، وَلَهُ أَخْذُهَا بَعْدَ رُشْدِهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَظِّ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لمن أخذها كَالْوَلِيِّ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ جَازَ فَلِذَلِكَ مُنِعَ الْوَلِيُّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَظِّ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّهُ وَالٍ وَوُجُودُ الْحَظِّ مُعْتَبَرٌ فِي أَخْذِهِ وَجَازَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ عَدَمِ الْحَظِّ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ وَوُجُودُ الْحَظِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي أَخْذِهِ. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ حَظُّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ وَتَرْكِهَا فَفِي أَخْذِ الْوَلِيِّ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَا لَمْ يَظْهَرِ الْحَظُّ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّ وُجُودَ الْحَظِّ مُعْتَبَرٌ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ أَحَظُّ مَا لَمْ يَظْهَرْ ضَرَرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا لِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ أَخْذِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُجْبَرٌ فَتَرَكَهَا فَلِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِنْ قُلْنَا بِمَنْعِهِ مِنْ أَخْذِهَا فَهَلْ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ رُشْدِهِ عَلَى ما ذكرنا من الوجهين. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنِ اشْتَرَى شِقْصًا عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا بِالْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ حَتَّى يُسَلِّمَ الْبَائِعُ (قَالَ) وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَفِيهِ الشُّفْعَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يَثْبُتُ مِنَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: خِيَارِ عَقْدٍ، وَخِيَارِ شَرْطٍ، وَخِيَارِ رُؤْيَةٍ، وَخِيَارِ عَيْبٍ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ خِيَارُ الْعَقْدِ وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الشُّفْعَةَ إِلَّا بَعْدَ نَقْضِهِ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ تَمَامٍ وَإِمْضَاءٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ بِالِافْتِرَاقِ مَعَ تَقْدِيمِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ عَقْدُ الْمُشْتَرِي فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ، فَإِذَا افْتَرَقَا عَنْ تَمَامٍ وَإِمْضَاءٍ اسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ الشَّفِيعُ مَالِكًا لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ من اختلاف أقاويله في انتقال الملك. أحدهما: أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْأَخْذِ إِلَّا بِالِافْتِرَاقِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ إِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشُّفْعَةِ بِافْتِرَاقِهِمَا عَنْ تَرَاضٍ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ مِلْكَ الشُّفْعَةِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِبْرَامِ الْعَقْدِ وَإِمْضَائِهِ فَتَمَامُهُ يَدُلُّ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 تَقْدِيمِ مِلْكِهَا بِالْعَقْدِ وَفَسْخُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يقول فيه: إن الملك موقوف مراعاً. فَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ تَرَاضٍ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ الْأَخْذِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَهُ خيار المجلس لأن تَمَلَّكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ خِيَارٌ، وَلَيْسَ كَالْبَيْعِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُعَايَنَةِ وَطَلَبِ الْأَرْبَاحِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وله ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. والحال الثاني: أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَالْحَالُ الثالث: أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَوْ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي فَلَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ تَنْقُضْ مُدَّةُ الْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَإِذَا تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَقَضِّي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَاسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ حِينَئِذٍ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَقَدْ روى المزني ها هنا أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ. وَرَوَاهُ الرَّبِيعُ أَيْضًا قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي أَخْذِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الخيار أو أنه موقوف مراعاً فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عَنِ الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قِيلَ إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ فِيهِ الشفعة لأنه علقة البائع عند مُنْقَطِعَةٌ وَخِيَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَخِيَارِهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الشَّفِيعَ مِنَ الْأَخْذِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ: أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِدُخُولِهِ فِي عُهْدَةِ الْعَقْدِ فَخَالَفَ خِيَارَ الْعَيْبِ الْمَوْضُوعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَهُمَا فِي الْعَقْدِ وَيُكَذِّبَهُمَا الشَّفِيعُ وَيَدَّعِيَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارِ شَرْطٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْيَمِينُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا دُونَ الْبَائِعِ لِأَنَّ انْتِزَاعَ الْمِلْكِ مِنْ يَدِهِ فَيَحْلِفُ لَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَدِهِ وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُشْتَرِي إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ وَأَكْذَبَهُ الشَّفِيعُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شُفْعَةَ إِلَّا بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ وَيُنْكِرَهُ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة وأبي يوسف: الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَلَا شُفْعَةَ وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ الشُّفْعَةُ وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفَانِ فِي اخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَحَالَفَا فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِتَحَالُفِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ بِتَحَالُفِهِمَا وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِلْبَائِعِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَخِيَارِهِ، وَهَذَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ خِيَارُ حُكْمٍ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ إِجْبَارٌ عَلَى الْتِزَامِ عَقْدٍ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِلْبَائِعِ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الثَّلَاثِ فَإِنِ اخْتَارَ فِيهَا فَسْخَ الْبَيْعِ انْفَسَخَ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَإِنِ اخْتَارَ فِيهَا إِمْضَاءَ الْبَيْعِ فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُ الشِّقْصِ بِثَمَنِهِ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ مِنْ يَدِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ. وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ خِيَارِ الثَّلَاثِ وَيُنْكِرَهُ الْبَائِعُ وَالشَّفِيعُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَلَا تُحَالُفَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي تَحَالَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْخِيَارِ فَإِذَا تَحَالَفَا فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِفَسْخِ الْحَاكِمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ فَسْخِهِ فَإِنْ فَسَخَهُ فَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. وَإِنْ أَمْضَاهُ ثَبْتَ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ فِيهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَإِنْ أَمْضَاهُ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: أَنْ يَعْقِدَا بَيْعَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَلَا شُفْعَةَ فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ فِي رُؤْيَةِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ خِيَارَهُ جَارٍ مَجْرَى خِيَارِ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ أَوْ جَارٍ مَجْرَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ لَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ فِيهِ الشُّفْعَةَ إِلَّا بعد انقضائه على الصحة. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ لَمْ يَرَ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ يَحُلُّ فِي أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أم لَمْ يَرْضَ كَمَا يَبْطُلُ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَرْضَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ الْبَيْعَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الشِّقْصِ إِلَيْهِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ وَبَعْدَ أَنْ يَصِفَهُ لَهُ كَمَا يَصِفُهُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي وَبَيْنَ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يَرَاهُ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شِقْصٍ ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ: فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الشِّقْصِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الشِّقْصِ فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يأخذ منه يعيبه وَيَمْنَعَهُ مِنْ رَدِّهِ لِأَنَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي لَهُ بِالْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ وَهُوَ يَسْتَدْرِكُهُ مِنَ الشَّفِيعِ بِالْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا لَوْ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَقَدْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ كَانَ لِلشَّفِيعِ إِبْطَالُ رَدِّهِ وَاسْتِرْجَاعُ الشِّقْصِ مِنْ بَائِعِهِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ بِرَافِعٍ لِلْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إِبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَأَرَادَ الشَّفِيعُ إِبْطَالَ بَيْعِهِ كَانَ لَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى شُفْعَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ ظُهُورِهِ عَلَى عَيْبِ الشِّقْصِ صَالَحَ الْبَائِعَ عَلَى أَرْشِهِ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُطَالِبًا بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ أَخْذُهُ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْأَرْشِ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَرْشِ صُلْحًا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الثَّمَنِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْرِيعِ الْمُزَنِيِّ. فَصْلٌ : فَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ في السقص الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنْ كَانَ خِيَارَ عَيْبٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الشُّفْعَةَ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ مُشْتَرِيهِ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنْ كَانَ خِيَارَ رُؤْيَةٍ لَمْ يَمْلِكْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 بِهِ الْمُشْتَرِي الشُّفْعَةَ سَوَاءٌ قِيلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَوْ بِفَسَادِهِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَالِكٍ إِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ إِنْ صَحَّ فَأَمَّا الْبَائِعُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الشُّفْعَةَ إِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَفِي مِلْكِ الشُّفْعَةِ بِهِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا خِيَارُ المجلس فلا يملك البائع في شُفْعَةً بِالشِّقْصِ الَّذِي هُوَ فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِ وَخِيَارِهِ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْتَقَلَ بِالْعَقْدِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِمَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَإِنْ قِيلَ بِبَقَاءِ مِلْكِهِ فَبَيْعُهُ رِضًى مِنْهُ بِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ تَمَّ لَهُ الْبَيْعُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ. وَإِنْ قِيلَ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ أَوْ قِيلَ بِوُقُوفِهِ وَمُرَاعَاتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الشُّفْعَةُ بِهِ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا شُفْعَةَ لَهُ بِهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ. وَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ: فَإِنْ كَانَ لَهُمَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَكَذَا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا شُفْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَمَّا الْبَائِعُ فَلِمَا فِي بَيْعِهِ مِنَ الرِّضَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِعَدَمِ مِلْكِهِ أَوْ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلْبَائِعِ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ تَمَسُّكًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعَاةً فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَالشُّفْعَةُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِنِ انْفَسَخَ فَالشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ اعْتِبَارًا بما يفضي إليه أحوالهما. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ مَعَ الشُّفْعَةِ عرضٌ وَالثَّمَنُ واحدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الشُّفْعَةَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا بِيعَ الشِّقْصُ عرض بِثَمْنٍ وَاحِدٍ وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ دُونَ مَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَرَضِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَرَضُ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الشِّقْصِ أَمْ لَا، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ الْعَرَضُ الْمَضْمُومُ إِلَيْهِ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَكِ كَبَقَرَةِ الدُّولَابِ وَالْحَرْثِ وَالْعَبْدِ الْعَامِلِ فِي الْأَرْضِ وَكَالدَّلْوِ وَالْحَبْلِ أُخِذَ بِالشُّفْعَةِ مَعَ الشِّقْصِ تَبَعًا كَمَا ضُمَّ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا كالنخل والبناء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ "، فَاقْتَضَى نَفْيَ الشُّفْعَةِ عَمَّا قُسِمَ وَلِأَنَّ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِانْفِرَادِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِانْضِمَامِهِ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ انْفِصَالِهِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْعَوَامِلِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْعَبِيدِ وَلِأَنَّ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ مَعَ فَقْدِ الْعَمَلِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُفْرَدِ بِالْعَقْدِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النَّخْلِ وَالْبِنَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ النَّخْلُ وَالْبِنَاءُ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا وَلَمَّا لَمْ تَدْخُلِ الْبَقَرَةُ وَالْعَبْدُ فِي الْبَيْعِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ فِي الشِّقْصِ وَحْدَهُ دُونَ الْعَبْدِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوِ استحق أحدهما أو رد بعيب. واعتبار أخذه بالحصة أن يُقَوَّمَ الشِّقْصُ يَوْمَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا قُوِّمَ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيِ الْقِيمَةِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ زَائِدًا كَانَ الثَّمَنُ أَوْ نَاقِصًا ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْعَبْدِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ إِلَى مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ بِتَفْرِيقِهَا وَالرِّضَى بِهِ وَمَنْ دَخَلَ عَلَى عِلْمٍ بِعَيْبٍ لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ بِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِقْصَيْنِ مِنْ دَارَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَخْلُ مُسْتَحِقُّ الشُّفْعَةِ فِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا اثْنَيْنِ لِكُلِّ شِقْصٍ مِنْهُمَا شَفِيعٌ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ مَا فِي شُفْعَتِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ تَرْكِهِ فَإِنْ أَخَذَا أَوْ تَرَكَا أَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرُ فَكُلُّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقُّ الشُّفْعَةِ فِيهَا وَاحِدًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا أَوْ يَتْرُكَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بِأَخْذِ أَحَدِهِمَا لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ فِيهِمَا كَمَا لَيْسَ لَهُ تَفْرِيقُهَا بِأَخْذِ الْبَعْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ الشُّفْعَتَيْنِ شَاءَ لِتَمَيُّزِهِ وَأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِزَالَةِ ضَرَرِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ضَرَرُهُ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَيَلْحَقُهُ بِأَخْذِ الْآخَرِ ضَرَرٌ: مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعُهْدَةُ فَمُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَهْدِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِمُوجَبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) {النحل: 91) فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ ضَمَانُ الدَّرَكِ عُهْدَةً ثُمَّ يُسَمَّى كِتَابُ الشِّرَاءِ عُهْدَةً لِأَنَّهُ قَدْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ فُسِخَ عَقْدُ الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ. فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْبَائِعَ أَصْلٌ وَالْمُشْتَرِيَ فَرْعٌ فَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبَائِعِ أَوْلَى مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحُلُّ مَحَلَّ الْوَكِيلِ لِلشَّفِيعِ لِدُخُولِهِ عَلَى عِلْمٍ بِانْتِقَالِ الشِّرَاءِ عَلَى الشَّفِيعِ ثُمَّ ثَبَتَ فِي شِرَاءِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْوَكِيلِ كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشَّفِيعِ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ مِلْكِهِ عنه استحق فسخ فيهعقده فِيهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَقْدِ لِاسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ عَنِ الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَكَانَ مُقِرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ حَدَثَ مِنْهُ نَمَاءٌ لَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِالْعِوَضِ يُوجِبُ تَمْلِيكَ الْمُعَوَّضِ فَوَجَبَ أَخْذُهُ بِالْعُهْدَةِ كَالْبَائِعِ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا يُسْتَحَقُّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا كَانَ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَقَدْ يتحرر مِنَ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يُسْتُحَقَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَيْبِ قِيَاسًا عَلَى الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ بَائِعًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: بِأَنَّ الْبَائِعَ أَصْلٌ وَالْمُشْتَرِيَ فَرْعٌ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمُشْتَرِي لَوْ بَاعَ عَلَى الشَّفِيعِ ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِلْبَائِعِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلشَّفِيعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْوَكِيلِ فَهُوَ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ عَلَيْهِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْبَائِعِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ خِيَارٌ فِي أَخْذِهِ مِنَ الْوَكِيلِ وَتَرَكَهُ عَلَيْهِ صَارَ مَالِكًا عَنِ الْبَائِعِ دُونَ الوكيل. والثاني: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الشَّفِيعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْبَائِعِ وَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْمُوَكِّلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْوَكِيلِ صَارَ مَالِكًا عَنْهُ لَا عَنِ الْوَكِيلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة: بِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ إِزَالَةَ مِلْكِهِ دَفَعَ عَقْدَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ إِزَالَةَ مِلْكِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَا يَمْلِكُ دَفْعَ عَقْدِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْعَقْدِ مِلْكُ الشُّفْعَةِ وَفِي رَفْعِهِ إِبْطَالُ الشُّفْعَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَبْضُ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ مِنَ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي فِي الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شُفْعَةِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ الْحَاكِمُ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبْضِ فَإِذَا صَارَ بِيَدِهِ انْتَزَعَهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا وَكَّلَ الْحَاكِمُ عَنْهُ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ لِلشَّفِيعِ بِأَخْذِهِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَخْذَهُ مِنَ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ جَبْرًا بِحَقٍّ وَإِنْ كَرِهَ الْمُشْتَرِي فَجَازَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا يَجُوزُ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَبْرَأُ الْبَائِعُ مِنْ ضَمَانِهَا بِقَبْضِ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِحَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فُرُوعُ الْمُزَنِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا تَبَرَّأَ الْبَائِعُ مِنْ عُيُوبِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ إِذَا تَبَرَّأَ مِنْ عُيُوبِ الشُّفْعَةِ يَعْنِي مِنْ عُيُوبِ الشِّقْصِ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ فعبر عنه بما يؤول إِلَيْهِ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ وَأَرَادَ بِالْبَرَاءَةِ مَا يَصِحُّ على ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ فِي الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ فِي الشقص من أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ فَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ قَبْلَهُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَوِ الْبَرَاءَةِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ الشَّفِيعُ بِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ الْأَرْشِ وَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ واحد منهما بعلمه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِهِ فَالشَّفِيعُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ فَلَا يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَإِذَا صَارَ إِلَى الْمُشْتَرِي فهو بالخيار بين إمساكه ورده. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الشَّفِيعُ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَا رَدَّ لِلشَّفِيعِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ بِأَخْذِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ عَادَ الشِّقْصُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ هَلْ يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ذكرناهما في البيوع. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَالشَّفِيعُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْخِيَارِ فِيهِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ رَدَّهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي لِعِلْمِهِ بِعَيْبِهِ وَلَا رَدَّ لَهُ فَلَوِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي عِلْمَ الشَّفِيعِ بِعَيْبِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرَّدُّ فَإِنْ شَهِدَ الْبَائِعُ عَلَى الشَّفِيعِ بِعِلْمِهِ بِالْعَيْبِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِنْ كَانَ قَدْ بَرِئَ كَالْمُشْتَرِي مَعَ عَيْبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ تُقْبَلْ إِنْ لَمْ يَبْرَأْ إِلَيْهِ مِنْ عَيْبِهِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ظَهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَأَمْسَكَ عَنْ رَدِّهِ انْتِظَارًا لِلشَّفِيعِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ غَائِبًا لَمْ يَلْزَمْهُ انْتِظَارُهُ وَبَطَلَ بِالْإِمْسَاكِ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَزِمَهُ انْتِظَارُهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْإِمْسَاكِ خِيَارُهُ لِأَنَّ حُضُورَ الشَّفِيعِ مَعَ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالشِّقْصِ عُذْرٌ فِي الْإِمْسَاكِ وَلَا يَكُونُ عُذْرًا إِنْ كَانَ غَائِبًا. مَسْأَلَةٌ قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنِ اسْتُحِقَّتْ مِنَ الشَّفِيعِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. فَإِذَا اسْتُحِقَّ الشِّقْصُ من يد الشفيع فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي يَدِهِ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الشِّقْصِ بِتَصْدِيقِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدَرَكِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ يُكْذِبُهَا فينتزع عن يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَلَا يُرْجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ لِتَكْذِيبِهَا لِمَا يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبُهَا مِنْ براءة المشتري ويعلم المستحق والله أعلم. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ لَا يُكَذِّبُهَا فَإِذَا انْتَزَعَ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ بِدَرَكِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ غَابَ الْمُشْتَرِي وَحَضَرَ الْبَائِعُ فَصَالَحَهُ الْحَاكِمُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ دَيْنًا لَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَدَفَعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ. مَسْأَلَةٌ قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِوَزْنِهَا فَاسْتُحِقَّتِ الدَّنَانِيرُ الْأُولَى فَالشِّرَاءُ وَالشُّفْعَةُ باطلٌ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا تَقُومُ مَقَامَ الْعَرَضِ بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اسْتُحِقَّتِ الدَّنَانِيرُ الثَّانِيَةُ كَانَ عَلَى الشَّفِيعِ بَدَلُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشقص بمثل الثمن فإذا كان الثمن دنانيراً أَخَذَهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الدَّنَانِيرِ فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَإِنْ بَذَلَ عَنِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهَا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا جَازَ وَكَانَ بَيْعًا مُسْتَجَدًّا تَبْطُلُ مَعَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنِ امْتَنَعَ أَلَّا يَأْخُذَ إِلَّا مِثْلَ دَنَانِيرِهِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الشَّفِيعُ مِثْلَهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ دَنَانِيرُ الْمُشْتَرِي فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً بِالْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُعِينَةً لِتَبَايُعِهِمَا عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِاسْتِحْقَاقِهَا كَمَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ مِنْ عُرُوضٍ وَسِلَعٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عُيِّنَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ بِتَعَيُّنِهِمَا بِالْعَقْدِ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ وَاسْتُرْجِعَ الشِّقْصُ مِنْ يَدِ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا عَنِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا بَطَلَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ مِلْكُ الشَّفِيعِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّنَانِيرُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِاسْتِحْقَاقِهَا لَهَا لِمُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا، وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِهَا وَالشَّفِيعُ عَلَى شُفْعَتِهِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ الَّذِي اسْتَحَقَّهَا بِهِ. فَصْلٌ : وَلَوِ اسْتُحِقَّتْ دَنَانِيرُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهَا عِنْدَ أَخْذِ الشُّفْعَةِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَإِنْ أَحْضَرَ بَدَلَهَا كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ أعسر ببدلها بطلت شفته بِإِعْسَارِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا عِنْدَ شُفْعَتِهِ بِأَنْ قَالَ قَدْ أَخَذْتُ الشِّقْصَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ فَفِي تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبي علي بن أبي هريرة إِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا اسْتِحْقَاقًا فَعَلَى هَذَا هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إِنْ أَتَى بِبَدَلِهَا فَإِنْ أَعْسَرَ بِالْبَدَلِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَّاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ إِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِعَقْدِ الْبَيْعِ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا قَدْ صَارَ بِتَعْيِينِهَا مُبْطِلًا لِشُفْعَتِهِ بِغَيْرِهَا. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ لَلْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَهِيَ هبةٌ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَحُطَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شِقْصًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ حَطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الْحَطِّ لَهُ عَنِ الشَّفِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ الْحَطِيطَةَ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُشْتَرِي وَلَا تُوضَعُ عَنِ الشَّفِيعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِكُلِّ الْأَلْفِ، وَسَوَاءٌ حَطَّ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْحَطِيطَةَ مَوْضُوعَةٌ عَنِ الشَّفِيعِ كَوَضْعِهَا عَنِ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَوَاءٌ حَطَّ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْحَطِيطَةَ إِنْ كَانَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَنِ الشَّفِيعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِالْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ اخْتَصَّ بِهَا بِالْمُشْتَرِي وَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الْأَلْفِ. فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى: فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا حَدَثَ مِنْ بَعْدُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِالْعَقْدِ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَالْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة أَخَصُّ لِأَنَّ ابْنَ أبي ليلى نبه على أصله في إبطال خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ مَا سَقَطَ مِنَ الثَّمَنِ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْتِزَامِ الْمَبِيعِ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ قِيَاسًا عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الْجَمِيعِ وَلِأَنَّ مَا حَصَلَ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيِ الْمَبِيعِ مِنَ التَّبَرُّعِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّفِيعِ كَالتَّبَرُّعِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَلْحَقُهُ الزِّيَادَةُ لَمْ يَلْحَقْهُ النُّقْصَانُ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى بِالشِّقْصِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَعْطَاهُ بِهَا دِينَارًا، وَقِيمَةُ الْأَلْفِ مِائَةُ دِينَارٍ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا كَذَلِكَ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ بَعْضِهَا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمَا بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ وَانْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَبْلَ اللُّزُومِ وَبَعْدَهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَطِيطَةَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِمَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ خِيَارُ الثَّلَاثِ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِ وَمُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِ وَهَكَذَا حُكْمُ الْحَطِيطَةِ فِي الْإِقَالَةِ وَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إِنْ كَانَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارَيْنِ فَهِيَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 مَوْضُوعَةٌ مِنَ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارَيْنِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُشْتَرِي وحده والله أعلم. قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَى شِقْصًا لَهُ فِيهِ شفعةٌ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الشَّفِيعُ قَضَيْتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي شِقْصٍ مُشْتَرَكٍ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَالِكُهُ وَالشَّفِيعُ فَقَالَ الشَّفِيعُ ملكته بيع فَلِي شُفْعَتُهُ وَقَالَ الْمَالِكُ مَلَّكْتُهُ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَلَا شُفْعَةَ لَكَ فِيهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَالِكِهِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ أَنَّ مَنْ كَانَ الشِّقْصُ فِي مِلْكِهِ صَدَّقَ الشَّفِيعَ عَلَى الِابْتِيَاعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَمَقَرٌّ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ نُظِرَ فِي جَوَابِهِ لِلشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَابَهُ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ بِأَنْ لَا شُفْعَةَ لَكَ فِيهِ كَانَ جَوَابًا مُقْنِعًا وَأُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ شُفْعَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَابَهُ بِأَنْ قَالَ لَمِ اشْتَرِهِ فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ لِتَكُونَ الْيَمِينُ مُوَافِقَةً لِلْجَوَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا شُفْعَةً لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالدَّعْوَى فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ وَأُحْلِفَ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَنْكَرَهُ الشُّفْعَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ بِالشِّرَاءِ الَّذِي ادَّعَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَنْكَرَهُ الشِّرَاءَ أُحْلِفَ الشَّفِيعُ أَنَّهُ لَقَدِ اشْتَرَاهُ وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي يَمِينِهِ وأنه اسْتَحَقَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحاق المروزي أنه لَا يَلْزَمُهُ وَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَانَ اسْتِحْبَابًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمَالِكِ فَلَمَّا لَمْ يُطَالِبْهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَازِمٌ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْلَاكِ لَا تَجُوزُ بِالْأَمْرِ الْمُحْتَمِلِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى مَا وَصَفْنَا حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَفِي الثَّمَنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُدْفَعُ إِلَى الْمَالِكِ لِئَلَّا يُؤْخَذَ الشِّقْصُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. فَصْلٌ : وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَكِ قَالَ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ: أَنَا وَكِيلُ الْغَائِبِ فِيهِ وَلَمْ أَمْلِكْهُ عَنْهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَمْرَيْنِ مِنْ بُدٍّ وَإِنْكَارٍ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الشُّفْعَةِ فِيهِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الشَّفِيعِ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ بِنَقْلِ مِلْكِهِ إِلَى الشَّفِيعِ وإنما يكون رفعاً لبد الْحَاضِرِ، ثُمَّ فِي الثَّمَنِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 أَحَدُهُمَا: يُقْبَضُ مِنَ الشَّفِيعِ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِئَلَّا يَتَصَرَّفَ فِيهِ الشَّفِيعُ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَرُّ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ إِلَى قُدُومِ الْغَائِبِ وَيُمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشِّقْصِ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى اسْتِهْلَاكِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْغَائِبَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ بِكَفِيلٍ فِيمَا حَصَلَ لَهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ بِهِ حِفْظًا لِحَقِّ الْغَائِبِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّنَا عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَشْبَهُ بِصُورَةِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فلانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَامَ ذَلِكَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا قَضَيْتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَمْنَعُ الشَّرَاءُ الْوَدِيعَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الْيَدِ عَلَى الشِّقْصِ عِنْدَ ادِّعَاءِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ أَنَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ مُسْتَوْدَعٌ فِي حِفْظِهِ، فَيُقِيمَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، وَيُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ وَكَيْلُ الْمُسْتَوْدَعِ، وَلَا تَتَعَارَضُ الْبَيِّنَتَانِ، وَيُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا مُسْتَوْدَعًا ثُمَّ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا مَالِكًا، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى نَفْيٍ مُجَرَّدٍ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَاعَا مِنْ رجلٍ شِقْصًا فَقَالَ الشَّفِيعُ أَنَا آخُذُ مَا باع فلانٌ وأدع حصة فلانٍ فذلك لَهُ فِي الْقِيَاسِ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رجلٍ شِقْصًا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَيِّهِمَا شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مسألتان: إحداهما: مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ فِي شِقْصٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ بَاعَهُ صَفْقَةً عَلَى رَجُلَيْنِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ مِنْهُمَا وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا ويعفو عن الآخر؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهِيَ فِي شِقْصٍ لِرَجُلَيْنِ بَاعَاهُ صَفْقَةً عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّفِيعَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الشِّقْصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حِصَّةَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُفَرِّقَ صَفْقَةَ الْمُشْتَرِي، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَدَعَهُ كَمَا لَوْ كَانَ البائع وحداً، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَقْدَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ العقدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْبَائِعَيْنِ فِي عَقْدٍ كَافْتِرَاقِهِمَا فِي عَقْدَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ لِلْعِلْمِ بِثَمَنِهِمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الشِّقْصُ لِرَجُلَيْنِ فَبَاعَاهُ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَحُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ حُكْمُ أَرْبَعَةِ عُقُودٍ، فَيَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِثَلَاثَةِ عُقُودٍ، نِصْفُهُ من أحد المشترين بِعَقْدَيْنِ وَرُبُعُهُ مِنَ الْآخَرِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِعَقْدَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أو من المشتريين، وله أن يأخذ الربح بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مِنْ مشترٍ وَاحِدٍ، وَهَكَذَا لَوْ بَاعَ مَالِكُ الشِّقْصِ بَعْضَهُ عَلَى رَجُلٍ فِي عَقْدٍ ثُمَّ بَاعَ بَاقِيَهُ فِي عَقْدٍ كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ كُلِّ الشِّقْصِ بِالْعَقْدَيْنِ وَفِي أَخْذِ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي واحداً أو اثنين. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ زَعَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بألف درهمٍ فأخذها الشفع بألفٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهَا بِأَلْفَيْنِ قُضِيَ لَهُ بِأَلْفَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا وَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ بِأَلْفٍ ذَكَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا قَدْرَ ثَمَنِهِ ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ ادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ أربعة أحوال: الحالة الْأُولَى: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَلْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ بِتَصْدِيقِهِ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْبَائِعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ إِنْ أَكْذَبَهُ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ عَقَدَ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُ الشَّفِيعِ إِذَا أَكْذَبَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةَ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَنَابَ فِيهِ وَكِيلًا آخَرَ بِالثَّمَنِ عَنْ قَوْلِهِ فَفِي إِحْلَافِ الشَّفِيعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ لِإِمْكَانِ مَا قَالَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ إِحْلَافَهُ كما لو تولى عقده. فصل : والحالة الثانية أن يكذب المشتري للبائع فِي ادِّعَاءِ الْأَلْفَيْنِ وَلَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الشِّقْصَ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالشُّفْعَةِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْمَبِيعِ يَجْعَلُ الْقَوْلَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ تَحَالُفُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّفِيعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلْبَائِعِ أَوْ مُكَذِّبًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 إِذَا غَرِمَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ غُرْمُ الْمُشْتَرِي لَهَا بِغَيْبَةٍ أَوْ عُسْرٍ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ أَخْذَهَا مِنَ الشَّفِيعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا مِنْهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهَا؛ لِوُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارِ الشَّفِيعِ بِهَا لِغَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مُنْتَقِلٌ إِلَيْهِ وَثَمَنَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مُكَذِّبًا لِلْبَائِعِ تَحَالَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي وَلَمْ تَبْطُلِ الشُّفْعَةُ لِتَحَالُفِهِمَا، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِالتَّحَالُفِ أَوْ لَا يَبْطُلُ؛ لِاسْتِقْرَارِ الشِّقْصِ عَلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ بِالْأَخْذِ بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنْ تَحَالُفِهِمَا قَبْلَ الْأَخْذِ، ثُمَّ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ إِحْلَافَ الشَّفِيعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ غُرْمِهِ إن صدق. فصل : والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكْذِبَ الْمُشْتَرِي وَيُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ فَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ حُكِمَ بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي حُكِمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي عُهْدَةِ الْمَبِيعِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَصْلِهِ، فَإِذَا حُكِمَ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مظلوم بها وأن الشفيع برئ مِنْهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنَ الشَّفِيعِ إِنْ كَانَ مُكَذَّبًا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِهَا قَائِمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ كَانَ مُصَدَّقًا؟ عَلَى ما مضى من الوجهين. فصل : والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَصْدُقَ الْمُشْتَرِي وَيُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ فَتُؤْخَذَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجَعُ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ إِنْ كَانَ قَدْ عَاقَدَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة رَجَعَ بِهَا الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَبَيِّنَةٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ إقرار أَثْبَتُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَقَدْ أَقَرَّ مُبْتَدِئًا بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ مُكَذِّبًا لِبَيِّنَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَرْجِعِ الْمُشْتَرِي بِهَا عَلَى الشَّفِيعِ مَعَ إِنْكَارِهِ إِنْ كَانَ عَاقَدَ بِنَفْسِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِهَا إِنْ كَانَ مُسْتَنِيبًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْجِعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ تَكْذِيبٌ لِبَيِّنَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ. فَصْلٌ : وَلَوِ ادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ رَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَائِبٌ جَازَ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يُؤْخَذَ الثَّمَنُ مِنَ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ إِحْلَافِهِ لِلْمُشْتَرِي بِاللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ لَعَلَى حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَيُدْفَعَ عَنِ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ بَعْدَ إِحْلَافِهِ لِلْمُشْتَرِي بِاللَّهِ أَنَّ الثمن باق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدِمَ الْمُشْتَرِي فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ عَلَى الشَّفِيعِ بِالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ حُكِمَ لَهُ بِمَا تُوجِبُهُ بَيِّنَتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا لَمْ يَدَّعِهِ الْمَالِكُ ثَمَنًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أنه يفر فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَالِكُ مطالباً. قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ أَصَابَ الْبَائِعُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ فَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْبَائِعُ عَلَى عَيْبٍ فِي الْعَبْدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْعَيْبِ بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ الشِّقْصِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُمْكِنَ رَدُّ الْعَبْدِ فَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ رَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَدْ فَاتَ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ اسْتِرْجَاعَ الشِّقْصِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ اسْتِرْجَاعَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِذَا فَاتَ الرَّدُّ بِمَا ذَكَرْنَا رَجَعَ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي أَقَلِّ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتٍ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ قَبْضِ الْمُشْتَرِي، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْبَائِعُ حَقَّهُ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الشَّفِيعِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ ثَمَنًا وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا وَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِمَا اسْتَحْدَثَ غُرْمَهُ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدْخُلُ مَدْخَلَ الْمُشْتَرِي، وَيَأْخُذُهُ مِنْهُ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يتقاضان فِي قِيمَةِ الشِّقْصِ بِمَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَاضِلِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الشِّقْصِ أَكْثَرَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ بِالْفَاضِلِ مِنْ قِيمَةِ الشِّقْصِ وَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفُوتَ رَدُّ الْعَبْدِ إِمَّا لِمَوْتِهِ أَوْ لِحُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ بِفَوَاتِ رَدِّهِ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ فَإِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ نُظِرَ فِي الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ فَلَا رُجُوعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَعِيبًا رجع عليه المشتري بأرش العيب وجهاً وحداً لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الثَّمَنِ. فَصْلٌ 4: وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْبَائِعِ عَلَى الْعَيْبِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَفِي أَحَقِّهِمَا بِالشُّفْعَةِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشِّقْصِ إِذَا كَانَ صَدَاقًا وَتَنَازَعَهُ الشَّفِيعُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقِ قَبْلَ الدخول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ أَحَقُّ فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ بِالصَّدَاقِ أَحَقُّ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ ثَمَنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ الَّذِي صَارَ مَعْرُوفًا. قال المزني رحمه الله: " وإن استحق العبد بطلب الشُّفْعَةُ وَرَجَعَ الْبَائِعُ فَأَخَذَ شِقْصَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ يُوجِبُ إِبْطَالَ الْبَيْعِ، وَبُطْلَانُ الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الشُّفْعَةِ، وَبُطْلَانُ الشُّفْعَةِ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الشِّقْصِ فَصَارَ اسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ مُخَالِفًا لِظُهُورِ الْعَيْبِ بِهِ الْمُوجِبِ لِفَسْخِهِ دُونَ إبطاله. قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى شقصٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى فَيَجُوزُ وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بِمِثْلِ الْحَقِّ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الصُّلْحُ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالصُّلْحُ ضَرْبَانِ صُلْحٌ عَنْ إِنْكَارٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَصُلْحٌ عَنْ إِقْرَارٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَالشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ شِقْصًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَيُصَالِحَهُ مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَبْدٍ فَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُشْتَرِيًا لِلشِّقْصِ بِالْأَلْفِ أَوْ بِالْعَبْدِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ الْأَلْفِ أَوْ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا أَوْ عَبْدًا فَيُصَالِحَهُ مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ عَلَى شِقْصٍ فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُشْتَرِيًا لِلشِّقْصِ بِالْأَلْفِ أَوْ بِالْعَبْدِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْمُدَّعِي بِمِثْلِ الْأَلْفِ أَوْ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَقَامَ رَجُلَانِ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بينةٌ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ هَذِهِ الدَّارِ شِقْصًا وَأَرَادَ أَخْذَ شِقْصِ صَاحِبِهِ بِشُفْعَتِهِ فَإِنْ وُقِّتَتِ الْبَيِّنَةُ فَالَّذِي سَبَقَ بِالْوَقْتِ لَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لَمْ تُؤَقَّتْ وَقْتًا بَطُلَتِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا اشْتَرَيَا مَعًا وَحَلَفَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا دَارًا فِي عَقْدَيْنِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا سَبَقْتُكَ بِالْعَقْدِ فَلِي الشُّفْعَةُ عَلَيْكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عَلَى مَا تَدَاعَيَاهُ، وَالْمَسْبُوقُ بِالدَّعْوَى مُقَدَّمٌ فِي الْيَمِينِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ مَلَكَ قَبْلَهُ فَتَكُونُ يمينه على العلم لتفي مَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ مِنْ تَقَدُّمِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَيُسْتَحْلَفُ الثَّانِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا الْأَوَّلُ لِدَعْوَاهُ عَلَى الثَّانِي مِثْلَ ما ادعاه الثاني على عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الأول من هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَوْضُوعَةِ لِنَفْيِ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَ بِهَا أَوْ يَنْكُلَ عنها. فإن حلف بها فقد برئ ما ادُّعِيَ عَلَيْهِ وَسَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِيمَا مَلَكَهُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ إِحْلَافَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ وَتَسْقُطُ الشَّفْعَتَانِ، وَإِنْ نَكَلَ الْأَوَّلُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي السَّابِقِ بِالدَّعْوَى لِيَحْلِفَ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ قَطْعًا بِاللَّهِ لَقَدْ مَلَكَ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَتَسْقُطُ دَعْوَى النَّاكِلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ أُخِذَ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ حَقٌّ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ بِالْيَمِينِ حَلَفَ وَنَكَلَ بَعْدَهُ الثَّانِي رُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَوَّلِ لِيَحْلِفَ بِهَا إِثْبَاتًا لِمَا ادَّعَاهُ قَطْعًا بِاللَّهِ لَقَدْ مَلَكَ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَا يُكْتَفَى بِالْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى لِنَفْيِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةَ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأُولَى عَلَى الْعِلْمِ وَالثَّانِيَةُ على البت فهذا أحدكم أَيْمَانِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لإثبات ولا لإسقاط الشفعة، والرابع: أن يتعارض الإثبات والإسقاط. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي صفر فتكون الشفعة للأسبق منهما شراء لتقدم مِلْكِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ فَيُحْكَمَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَإِنِ انْفَرَدَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِثُبُوتِهَا بِتَقَدُّمِ مِلْكِهِ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى قَبْلَ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْهَدَ بِوَقْتِ الْعَقْدَيْنِ. فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُحْكَمُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَا لَمْ يُعَيَّنْ وَقْتُ الْعَقْدَيْنِ، لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ تَعَيُّنِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ بِأَنَّهُ أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنْ أُشْهِدَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ أَجْزَأَ وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الزمان وإنما يَلْزَمُ تَعْيِينُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ إِذَا كان الاجتهاد فِيهِ مَدْخَلٌ كَالَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَيَانٌ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُقِيمَ كُلُّ واحد منهما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 بَيِّنَةً أَنَّهُ عَقَدَ الشِّرَاءَ فِي وَقْتٍ مِثْلِ وَقْتِ صَاحِبِهِ مِثْلَ أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ فَتَدُلَّ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقْدَيْنِ لِوُقُوعِهِمَا مَعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ ثُبُوتُهَا مَعَ التَّسَاوِي لِأَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ فَسَقَطَتَا لِتَعَارُضِهِمَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا بَيَانُ الْإِثْبَاتِ وَالْإِسْقَاطِ فَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ تاريخ، والثاني أن تؤرخ أحدهما دُونَ الْأُخْرَى، وَالثَّالِثُ: أَنْ تُؤَرَّخَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ إِلَى وَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقَعَا مَعًا مِثْلَ أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ، فَغُرَّتُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ تَسَعُ لِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَاحْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ السَّابِقَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي حَالٍ مَعًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ بَيَانٌ لِإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ ولإسقاطهما فَوَجَبَ أَنْ تُلْغَى الْبَيِّنَتَانِ لِعَدَمِ الْبَيَانِ فِيهِمَا، وَيَرْجِعَانِ إِلَى التَّدَاعِي وَالتَّحَالُفِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَتَعَارَضَ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِسْقَاطِ فَهُوَ أَنْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي صَفَرٍ، أَوْ يُقِيمَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي ثَانِيهِ وَيُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ اشْتَرَى فِي رَابِعِهِ فَكُلُّ هَذَا تَعَارُضٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبَيِّنَتَيْنِ تَشْهَدُ بِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَكَانَ فِي تَعَارُضِهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَسْقُطَانِ، وَيَتَرَاجَعَانِ إِلَى الْيَمِينِ وَالتَّحَالُفِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُوقَفَانِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمَا بَيَانٌ، وَيُمْنَعَانِ مِنَ التَّحَالُفِ حَتَّى يَقَعَ بَيَانٌ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا قُرِعَتْ حُكِمَ بِهَا وَفِي إِحْلَافِ مَنْ قُرِعَتْ بَيِّنَتُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْعَةَ دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلدَّعْوَى، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْلِفُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرْعَةَ دَخَلَتْ تَرْجِيحًا لِلْبَيِّنَةِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله: " ولو أن البائع قال بعث مِنْ فلانٍ شِقْصِي بِأَلْفِ درهمٍ وَأَنَّهُ قَبَضَ الشِّقْصَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فلانٌ وَادَّعَاهُ الشَّفِيعُ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَدْفَعُ الْأَلْفَ إِلَى الْبَائِعِ وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى بَيْعَ شِقْصِهِ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ مُصَدِّقًا الْبَائِعَ، وَمُطَالِبًا لِلشُّفْعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا بَقَاءَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِقَبْضِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ادِّعَاءِ الْبَيْعِ مُدَّعِيًا بَقَاءَ الثَّمَنِ حُكِمَ عَلَيْهِ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمُقِرٌّ لِلشَّفِيعِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ رُدَّتْ دَعْوَاهُ فَفِي مَنْعِهِ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْمُشْتَرِي وَإِحْلَافِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّ قَصْدَهُ حُصُولُ الثَّمَنِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ. وَسَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ شَفِيعٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ إِنْ أُحْلِفَ أَنْ يُحْكَمَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الشَّفِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ إِحْلَافُهُ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْبُغْيَةِ بِوُصُولِ الْمِلْكِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلَا يَبْطُلُ بِيَمِينِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ. فَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ لَزِمَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، وَيَكُونُ عُهْدَةُ الشفيع ها هنا عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ مَعَ إِنْكَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ عُهْدَتُهُ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَعَ ادِّعَاءِ الْبَيْعِ مُقِرًّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَفِي الشُّفْعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِيَمِينٍ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُسْتَحِقًّا لِقَبْضِ الثَّمَنِ، أَمَّا الْبَائِعُ فَلِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِإِنْكَارِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا مُخَاصَمَةَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، وَلِلشَّفِيعِ مُخَاصَمَةُ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَةِ، وَإِحْلَافُهُ عَلَى إِنْكَارِ الشِّرَاءِ؛ لِمَا فِي إِنْكَارِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ بِاسْتِحْقَاقِهَا مِنْ يَدِهِ فَيُحْكَمُ بِهَا لِلشَّفِيعِ، وَفِي الثَّمَنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُوقَفُ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَضُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يملك الشفعة من غير بدل فعل هَذَا إِذَا قَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ وَيُسْتَرْجَعُ مِنَ الْبَائِعِ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ هُوَ الْمَوْقُوفَ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَصْلٌ : وَإِذَا بِيعَ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَجَاءَ الشَّرِيكُ فِيهَا مُدَّعِيًا مِلْكَ الْمَبِيعِ مِنْهَا وَلَمْ يكن له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الدَّعْوَى فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ بِغَيْرِ شُفْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ مقر بطلان البيع والله أعلم. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ ثَلَاثَةُ شُفَعَاءَ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّالِثِ فَإِنْ كَانَا سَلَّمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا سَلَّمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا مَا سَلَّمَهُ صَاحِبُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ لِثَلَاثَةِ شُفَعَاءَ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ نُظِرَ: فَإِنْ كانا حَضَرَ الشَّفِيعَانِ الْآخَرَانِ مُطَالِبَيْنِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ الْعَافِي، وَخَصْمَهُ فِي الْعَفْوِ، وَشَرِيكَاهُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُعَلَّقُ به بِعَفْوِهِ حَقٌّ لِرُجُوعِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ غَابَ الشَّفِيعَانِ الْآخَرَانِ، أَوْ عَفَوَا صَارَ الْمُشْتَرِي خَصْمًا لِلْعَافِي فَإِنْ عَدِمَ الْعَافِي بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِعَفْوِهِ جَازَ أَنْ يُحْلِفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ: شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَالٍ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْعَافِي شَرِيكَاهُ فِي الشُّفْعَةِ نُظِرَ فِيهَا. فَإِنْ كَانَا قَدْ عَفَوَا عَنْ شُفْعَتِهِمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِبَرَاءَتِهِمَا مِنْ تُهْمَةٍ وَسَلَامَتِهِمَا مِنْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ عَفَوَا رُدِّتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لما فيها من اتهامهما يجر الزِّيَادَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا، لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إِذَا عَفَا تَوَفَّرَ حَقُّهُ عَلَى مَنْ بَقِيَ فَلَوْ عَفَا الشَّرِيكَانِ فِي الشُّفْعَةِ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُسْمَعْ بَعْدَ عَفْوِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا رُدِّتْ لِتُهْمَةٍ لَمْ تُسْمَعْ بَعْدَ زَوَالِ التُّهْمَةِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ ادَّعَى الشَّفِيعُ عَلَى رجلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّقْصَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ مِنْ صَاحِبِهِ الْغَائِبِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ وَأَقَامَ عَدْلَيْنِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ أَخَذَ بِشُفْعَتِهِ وَنَفَذَ الْحُكْمُ بِالْبَيْعِ عَلَى صَاحِبِهِ الْغَائِبِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله هذا قول الكوفيين وهو عنيد تَرْكٌ لِأَصْلِهِمْ فِي أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَهَذَا غَائِبٌ قُضِيَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاعَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَأَبْرَأَ مِنْهُ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِيَ وَبِذَلِكَ أَوْجَبُوا الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الْمُزَنِيُّ لِيَتَكَلَّمَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَإِنْ غَابَ مِلْكُ الشِّقْصِ تَارِكًا حَقَّهُ فِي يَدِ نَائِبٍ عَنْهُ، فَادَّعَى الشفيع على الغائب الْحَاضِرِ أَنَّهُ اشْتَرَى حِصَّةَ الْغَائِبِ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْيَدِ الشِّرَاءَ حَلَفَ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، وَعَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيْعِ، وَلِلشَّرِيكِ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلٌ وَافَقَهُ أبو حنيفة وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَعَ إِنْكَارِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْمُزَنِيُّ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أُصُولَهُمْ وَنَاقَضُوا أَقْوَالَهُمْ عَلَى غَائِبٍ يُنْكِرُونَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مناقضة أصلهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ اعْتِرَاضَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَصْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى غَائِبٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَاضِرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَهَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْمُشْتَرِي الْحَاضِرِ، وَعَلَى الْبَائِعِ الْغَائِبِ، فَنَفَذَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَعَ غِيبَتِهِ لِنُفُوذِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُضُورِهِ مَعَ أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ فِي تَمَلُّكِ الشِّقْصِ لَهُ مِنَ الْبَائِعِ وَهُوَ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ إِنَّ هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي عَقْدَ الْبَيْعِ كَدَعْوَى الْمُشْتَرِي وَدَعْوَى الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى عَلَى غَائِبٍ فَإِذَا رَدُّوا دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَامْتَنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا دَعْوَى الشَّفِيعِ وَيَمْنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ أَجَازُوهَا لِلشَّفِيعِ لزم إجازتها للمشتري. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ اشْتَرَى شِقْصًا وَهُوَ شفيعٌ فَجَاءَ شفيعٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي خُذْهَا كلها بالثمن أو دع قال هُوَ بَلْ آخُذُ نِصْفَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ شُفْعَتَهُ لِغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ شَفِيعَانِ فَاشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا، وَحَضَرَ الْآخَرُ مُطَالِبًا بِالشُّفْعَةِ، فَلَهُ أَخْذُ نِصْفِ الشِّقْصِ مِنْ شَرِيكِهِ الْمُشْتَرِي فِي شُفْعَتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة شُفْعَةُ الْمُشْتَرِي بَاطِلَةٌ فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ شُفْعَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ أَخْذُ جَمِيعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِأَخْذِ النِّصْفِ مِنْهُ. وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَوَجَدْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ قَائِلًا بِخِلَافِهِ وَمُوَافِقًا لِأَصْحَابِهِ. وَدَلِيلُ أبي حنيفة أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يتم ببائع ومشتري، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ لِلْبَائِعِ شُفْعَةٌ فِيمَا بَاعَ، لم يجب المشتري شُفْعَةٌ فِيمَا اشْتَرَى، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَدْ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ فِيمَا مَلَكَ عَقْدَهُ بِالْبَيْعِ قَالَ: وَالْإِنْسَانُ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ جِنَايَةَ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ هَدْرٌ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي شُفْعَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ ربعةٍ أَوْ غَيْرِهِ لا ببيعه حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَى يُؤْذِنَهُ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 فَجَعَلَ أَخْذَ الشَّرِيكِ بِالشِّرَاءِ صَحِيحًا وَلَوْ أَبْطَلَ شُفْعَتَهُ بِالشِّرَاءِ لَكَانَ غُرُورًا، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَبِيعَ بِالْخِلْطَةِ دُونَ الشِّرَاءِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْخِلْطَةِ، وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى سَبَبًا وَأَثْبَتُ تَمْلِيكًا، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ قَدْ يَمْلِكُ بِالشِّرَاءِ تَارَةً، وَبِالشُّفْعَةِ أُخْرَى، فَلَمَّا كَانَ لَوْ مَلَكَ كُلَّ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ فِيهَا إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْهَا وَجَبَ إِذَا مَلَكَ بِالشِّرَاءِ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الشَّرِيكُ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْهَا. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ يُمْلَكْ عَلَيْهِ الشُّفْعَةُ كَمَا لَوْ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَائِعِ فَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ تَارِكٌ وَالتَّارِكُ لَا شُفْعَةَ لَهُ، وَالْمُشْتَرِيَ طَالِبٌ وَالطَّالِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِالشِّرَاءِ الشُّفْعَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بِالشِّرَاءِ الشُّفْعَةَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْوَلَاءَ الَّذِي عَلَيْهِ أَسْقَطَ الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَمْلِكْ بِهِ وِلَايَةَ نَفْسِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِيكَ الْمُشْتَرِي فِي الشُّفْعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ عَفْوٍ، وَحَالَةُ طَلَبٍ. فَإِنْ عَفَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الشِّقْصِ كُلِّهِ لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ دُونَ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ طَلَبَ نُظِرَ: فَإِنْ طَلَبَ الْكُلَّ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا النِّصْفَ وَإِنْ طَلَبَ النِّصْفَ، وَبَذَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَخَذُ النِّصْفِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ الكل بحضوره ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَبَذَلَ لَهُ الْحَاضِرُ الْكُلَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَخْذُ النِّصْفِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ شُفْعَتَهُ غَيْرَهُ، وَيُخَالِفَ عَفْوَ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ عَنْ حَقِّهِ فِي وُجُوبٍ أَخْذِ الْبَاقِي مِنْهُمَا لِلْكُلِّ وَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَ لَمْ يَمْلِكْ بِشُفْعَتِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ وَالْآخِذَ بِشُفْعَتِهِ قَدْ مَلَكَ مَا مَلَكَهُ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا تَفْرِيقٌ لِصَفْقَتِهِ؟ قِيلَ: إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقٌ لَهَا بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْبَيْعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ كَالشَّفِيعَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ ثَلَاثَةُ شُفَعَاءَ فَاشْتَرَى اثْنَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ غَابَ أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَحَضَرَ الشَّفِيعُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ فَطَالَبَ الْحَاضِرُ مِنَ المشترين بِالشُّفْعَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ نِصْفَهُ، وَهُوَ الرُّبْعُ لِأَنَّهُمَا شَفِيعَانِ حَضَرَا مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثَةِ غَابَ أَحَدُهُمْ، فَإِذَا حَضَرَ الغائب من المشترين، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ وَحَالُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الَّذِي كان حاضراً من أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْفُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن شفعة صاحبه فليستحق الشَّفِيعُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ بَعْدَ أَخْذِهِ مِنَ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ أَيْضًا وَهُوَ الرُّبْعُ، فَيَصِيرُ مَعَهُ نِصْفُ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَتَيْنِ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ الرُّبْعُ بالشراء وحده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطَالِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ الرُّبْعَ بِالشِّرَاءِ لِصَاحِبِهِ بِالشُّفْعَةِ فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ثُلُثَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرُّبْعِ الْبَاقِي، وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَهُ، وَيَأْخُذُ مِنَ الشَّفِيعِ أَيْضًا ثُلُثَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرُّبُعِ الْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ، وَهُوَ نِصْفُ السُّدْسِ لِأَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَهُ ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ثُلُثَ النِّصْفِ بِالشِّرَاءِ وَهُوَ السُّدْسُ، وَقَدْ أَخَذَ السُّدْسَ بِالشُّفْعَةِ فَيَصِيرُ مَعَهُ الثُّلُثُ وَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ السُّدْسُ بِالشِّرَاءِ وَقَدْ أَخَذَ السُّدْسَ بِالشُّفْعَةِ فَيَصِيرُ مَعَهُ الثُّلُثُ وَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِ السُّدْسَانِ وَهُوَ الثُّلُثُ بِالشُّفْعَتَيْنِ فَيَصِيرُ الشِّقْصُ بَيْنَهُمَا أثلاثاً. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْفُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَيَكُونُ لِلثَّانِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَوَّلِ ثُلُثَ الرُّبْعِ الْبَاقِي بِيَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ السُّدْسِ ثُمَّ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ مِنَ الثَّانِي نِصْفَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَهُوَ الرُّبْعُ فَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ سُدُسُ الرُّبْعِ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَتَيْنِ وَيَصِيرَ مَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي رُبُعٌ وَسُدُسٌ بِالشِّرَاءِ وَالشُّفْعَةِ، فَالرُّبْعُ مَمْلُوكٌ بِالشِّرَاءِ، وَالسُّدْسُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ السُّدْسُ بالشراء وحده. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْفُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الثَّانِي ثُلُثَ النِّصْفِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَهُوَ السُّدْسُ، وَيَأْخُذَ الشَّفِيعُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي السُّدْسُ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ، وَيَصِيرَ مَعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ بِالشِّرَاءِ وَالشُّفْعَةِ، فَالرُّبْعُ مَمْلُوكٌ بِالشِّرَاءِ، وَالسُّدْسُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ وَيَصِيرَ مَعَ الشَّفِيعِ رُبُعٌ، وَسُدُسٌ بِالشُّفْعَتَيْنِ. فَلَوْ عَفَا الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، وَعَفَا الشَّفِيعُ عَنِ الثَّانِي أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّانِي الرُّبْعَ بِالشِّرَاءِ وَحْدَهُ، وَيَصِيرُ مَعَ الْأَوَّلِ النِّصْفُ بِالشِّرَاءِ وَالشُّفْعَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَيَصِيرُ مَعَ الشَّفِيعِ الرُّبْعُ وحده بالشفعة الأولى. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شِقْصٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ كان للشفيع أخذه بالأرش مِنْ دَارٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لا يجب فيها قوداً إِمَّا لِأَنَّهَا خَطَأٌ مَحْضٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا خَطَأٌ مَحْضٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِمَّا لأنها عمد ممن لا يجري عليه قوداً كَالْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ وَالْحُرِّ عَلَى عَبْدِهِ فَالْوَاجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا الدِّيَةُ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَ الدِّيَةِ أَوْ يَجْهَلَاهُ فَإِنْ جَهِلَاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ، وَلَا شُفْعَةَ مَعَ بُطْلَانِ الصُّلْحِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 وَإِنْ عَلِمَاهُ نُظِرَ فَإِنْ قُدِّرَتْ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا نُظِرَ. فَإِنْ جَهِلَا تَخْفِيفَهَا فِي الْخَطَأِ أو تغليظهما فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بَطَلَ الصُّلْحُ وَالشُّفْعَةُ، وَإِنْ عَلِمَا تَخْفِيفَهَا فِي الْخَطَأِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى دِيَتِهَا وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَخَمْسُونَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، أَوْ عَلِمَا تَغْلِيظَهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِزِيَادَةِ الثُّلُثِ فِي الْوَرَقِ، وَالذَّهَبِ صَحَّ الصُّلْحُ، وَوَجَبَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ الْمَأْخُوذِ بِدِيَةِ الْمُوضِحَةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِنْ قُدِّرَتْ بِهَا تَخْفِيفًا أَوْ تَغْلِيظًا، أَوْ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِنْ قُدِّرَتْ بِهَا تَخْفِيفًا أَوْ تَغْلِيظًا. وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ إِبِلًا وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ فِي تَخْفِيفِ الْخَطَأِ أَوْ أَثْلَاثٌ فِي تَغْلِيظِ شِبْهِ الْعَمْدِ نُظِرَ: فَإِنْ جَهِلَا قَدْرَهَا أَوْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَجَهِلَا وَصْفَهَا، أَوْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَالصِّفَةَ وَجَهِلَا جِنْسَهَا لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ جِنْسِ إِبِلِ الْجَانِي وَعَاقِلَتِهِ، فَالصُّلْحُ وَالشُّفْعَةُ بَاطِلَانِ. وَإِنْ عَلِمَا الْقَدْرَ وَالصِّفَةَ وَالْجِنْسَ فَفِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةِ الْأَلْوَانِ وَلَا مَضْبُوطَةٍ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا فِي عَقْدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ وَالشُّفْعَةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى صِفَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهَا فِي أَقَلِّ أَوْصَافِهَا الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَهَا فَلَا يُقَوَّمُ سِمَانُهَا وَخِيَارُهَا، لِأَنَّ الْجَانِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا وَلَا يُقَوَّمُ مهازيلها ومعيبها، لأن المجني علي لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ: أَنْ تَكُونَ الْمُوضِحَةُ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَيُصَالِحَهُ مِنَ الْقَوَدِ عَلَى شِقْصٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ قَوَدٍ، أَوْ عَقْلٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ على ما مضى من علمها بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ جَهْلِهِمَا بِهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ تُوجِبُ الْقَوَدَ وَحْدَهُ صَحَّ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَى الشِّقْصِ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الدِّيَةِ، وَالْجَهْلِ بِهِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عن القود المصالح الَّذِي يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ ثُمَّ لِلشَّفِيعِ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِبَدَلِ الْقَوَدِ مِنَ الدِّيَةِ فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الدِّيَةِ عَيَّنَهُ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ فِي أَخْذِ أَجْنَاسِهَا مُغَلَّظَةً فِي الْعَمْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَغْنَمًا فَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ لِحُضُورِهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ، وَطَالَبَهُ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُ الْمَغْنَمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ بِرَضْخٍ أَوْ سَهْمٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ رَضْخًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّضْخَ بِحُضُورِهِ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَاتِ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِسَهْمٍ مُسْتَحَقٍّ فَفِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شُفْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْغَنَائِمَ مُسْتَفَادَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَأَشْبَهَتْ إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشُّفْعَةَ فِيهِ ثَابِتَةٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَاضَهُ عَنْ حُضُورٍ وَعَمَلٍ فَأَشْبَهَ الْعِوَضَ فِي الْإِجَارَاتِ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقَدْرِ سَهْمِهِ مِنَ المغنم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ اشْتَرَى ذميٌّ مِنْ ذميٍّ شِقْصًا بخمرٍ أَوْ خنزيرٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ قَامَ الشفيع وكان نَصْرَانِيًّا أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَ وَلَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا فسواءٌ لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا عِنْدَهُ بحالٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ شِقْصًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَتَقَابَضَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ وَقَالَ أبو حنيفة: الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ: وَالذِّمِّيُّ مِثْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لِلْخَمْرِ ثَمَنًا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، وَغُرْمًا فِي اسْتِهْلَاكِهِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ تَحْرِيمِ ثَمَنِهِ وَسُقُوطِ غُرْمِهِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْلِمِ عَلَى السَّوَاءِ. وَلِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ لَوْ عَقَدَهُ مُسْلِمٌ سَقَطَتْ فِيهِ الشفعة وجب إذا عقده ذمي أن يسقط فِيهِ الشُّفْعَةُ فَكَمَا لَوْ عَقَدَهُ بِمَيْتَةٍ، أَوْ دَمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِي عَقْدِهِ بِالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ فِي عَقْدِهِ بالخمر والخنزير كالمسلم. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الشُّفْعَةِ سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ كَوُجُوبِهَا لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتَجِبُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ كَوُجُوبِهَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَوُجُوبِهَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا شُفْعَةَ للذميِّ عَلَى الْمُسْلِمِ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْ إِحْيَاءِ الذي لِلْمَوَاتِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ شُفْعَةِ الذِّمِّيِّ فِي الْأَمْلَاكِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 الْمُعَاوَضَاتِ جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ بِهِ الذِّمِّيُّ كَالْبِيَاعَاتِ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بِالْبَيْعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَوْضُوعَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فِي الْعُقُودِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالشِّرْكِ مِنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ اسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِ الذِّمِّيِّ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) فَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَا عَلَى الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فِي أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ مَعَ وَهَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ بَعْدَ إِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّلَبِ لَمْ أَعْلَمْ بِهَا لَكُمْ شَرْعًا، وَلَيْسَتْ فِي دِينِنَا شَرْعًا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَشْفَعَ فِي الْأَمَانِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَمُنِعَ وَالشُّفْعَةُ مَأْخُوذَةٌ بِبَدَلٍ مُمْكِنٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : حُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا شُفْعَةَ لِبَدَوِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ، وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ عَلَى حَاضِرٍ وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ مُقْنِعٌ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا شُفْعَةَ فِي دُورِ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَتُسْتَحِقُّ شُفْعَتُهَا، وَدَلِيلُ بَيْعِهَا مَاضٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالشُّفْعَةِ بناء عليه والله أعلم. قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا شُفْعَةَ فِي عبدٍ وَلَا أمةٍ ولا دابةٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِيهِ الْقَسْمُ هَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شُفْعَةَ فِي مَنْقُولٍ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوْ عُرُوضٍ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الشَّرِيكُ شفيعٌ وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شيءٍ " وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي الْعَبْدِ الشُّفْعَةُ " وَلِأَنَّهَا شَرِكَةٌ يَدْخُلُ بِهَا مَضَرَّةٌ فَوَجَبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا كَالْأَرَضِينَ. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ ". فَأَثْبَتَهَا فِي الْمُشَاعِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الْحُدُودُ وَتُصْرَفُ عَنْهُ الطُّرُقُ بِالْقِسْمَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 إِلَّا فِي الْأَرْضِ، وَالْعَقَارِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهَا عَمَّا سِوَى الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي ربعةٍ أَوْ حائطٍ " فَأَثْبَتَ جِنْسَ الشُّفْعَةِ فِي الرَّبْعِ وَالْحَائِطِ، وَنَفَاهَا عَمَّا سِوَى الرَّبْعِ وَالْحَائِطِ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ إما أن يكون للخوف من مؤونة الْقَسْمِ، وَالْحَيَوَانُ مِمَّا لَا يُقْسَمُ، أَوْ يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُسْتَدَامِ لِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَسْتَدِيمُ وَفِيهِ انْفِصَالٌ، فَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَمَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ انْقِطَاعٍ فِي إِسْنَادِهِ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعَقَارِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فِي الْعَبْدِ شُفْعَةٌ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّفْعَةِ فِي الْعَبْدِ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي أَرْضٍ أَوْ عَقَارٍ وَلَا يَكُونُ ابْتِيَاعُ ذَلِكَ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 مختصر القراض إملاء وما دخل في ذلك من كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَيَّرَ رِبْحَ ابْنَيْهِ فِي الْمَالِ الَّذِي تَسَلَّفَاهُ بِالْعِرَاقِ فَرَبِحَا فِيهِ بِالْمَدِينَةِ فَجَعَلَهُ قِرَاضًا عِنْدَمَا قَالَ لَهُ رجلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا فَفَعَلَ وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا فِي النِّصْفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاضَ وَالْمُضَارَبَةَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، فَالْقِرَاضُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمُضَارَبَةُ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَفِي تَسْمِيَتِهِ قِرَاضًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ قَطَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَالْقَطْعُ يُسَمَّى قِرَاضًا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ سَلَفُ الْمَالِ قَرْضًا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمُقْرِضُ مِقْرَاضًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ، وقبل قرض الفار لأنه قطع الفار. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ تَأْوِيلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ سُمِّيَ قِرَاضًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صُنْعًا كَصُنْعِ صَاحِبِهِ فِي بَذْلِ الْمَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْعَمَلِ مِنَ الْآخَرِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ تَقَارَضَ الشَّاعِرَانِ إِذَا تَنَاشَدَا. وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ فِي الرِّبْحِ بِسَهْمٍ، وَالثَّانِي أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فلان يصرف الأمور ظهر البطن، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) {النساء: 101) أَيْ تَفَرَّقْتُمْ فِيهَا بِالسَّفَرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ، وَيُشَارِكُ فِي الْأَوَّلِ الْبَغْدَادِيُّونَ وَبَاقِي الْبَصْرِيِّينَ. فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي إِحْلَالِ الْقِرَاضِ وَإِبَاحَتِهِ عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) {البقرة: 198) وَفِي الْقِرَاضِ ابْتِغَاءُ فَضْلٍ وَطَلَبِ نَمَاءٍ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بعضٍ " وَفِي الْقِرَاضِ رِزْقُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ بِأَمْوَالِهَا إِلَى الشَّامِ وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ خَدِيجَةُ عَبْدًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ، وَرَوَى أَبُو الْجَارُودِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ إِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَلَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كبدٍ رطبةٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضامنٌ فَرَفَعَ شَرْطَهُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَجَازَهُ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عبد الله وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدِمَا فِي جَيْشِ الْعِرَاقِ وَقَدْ تَسَلَّفَا مِنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَالًا اشْتَرَيَا بِهِ مَتَاعًا فَرَبِحَا فِيهِ بِالْمَدِينَةِ رِبْحًا كَثِيرًا فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: أَكُلُّ الْجَيْشِ تَسَلَّفَ مِثْلَ هذا؟ فقال: لَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَأَنِّي بِكُمَا وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى إِنَّكُمَا ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ، رُدَّا الْمَالَ وَالرِّبْحَ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ تَلِفَ الْمَالُ أَكُنَّا نُضَّمَنُهُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَرِبْحُهُ لَنَا إِذَنْ، فَتَوَقَّفَ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي فِي مُشَاطَرَتِهِمَا عَلَى الرِّبْحِ كَمُشَاطَرَتِهِ فِي الْقِرَاضِ فَفَعَلَ. وَعَلَى هَذَا الْأَثَرِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ لِاشْتِهَارِهِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَهُ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ قَوْلُ الْجَلِيسِ لَوْ جَعَلْتَهُ قراضاً وإقرار عمر له صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَا مَعًا دَلِيلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاضِ، وَلَوْ عَلِمَ عُمَرُ فَسَادَهُ لَرَدَّ قَوْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ مَعَهُمَا قِرَاضًا لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا، وَلَكِنِ اسْتَطَابَا طَهَارَةَ أَنْفُسِهِمَا بِمَا أَخَذَهُ مِنْ رِبْحِهِمَا لِاسْتِرَابَتِهِ بِالْحَالِ واتهامه أنا مُوسَى بِالْمَيْلِ لِأَنَّهُمَا ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرُ الَّذِي يَنْفِرُ مِنْهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَتَأْبَاهُ طَبِيعَةُ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ أَجْرَى عَلَيْهِ فِي الرِّبْحِ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَالِ عَقْدٌ يَصِحُّ حَمْلُهُمَا عَلَيْهِ فَأَخَذَ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّبْحِ وَعَاوَضَهُمَا عَلَى الْعَمَلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَقَدَّرَهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمَا أُجْرَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْرَى عَلَيْهِمَا فِي الرِّبْحِ حُكْمَ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَعَهُمَا عَقْدٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَاتَّسَعَ حُكْمُهُ عَنِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمَالَ لِغَيْرِهِمَا، وَالْعَمَلَ مِنْهُمَا وَلَمْ يَرَهُمَا مُتَعَدِّيَيْنِ فِيهِ جَعَلَ ذَلِكَ عَقْدَ قراض صحيح، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ مَعًا دَلِيلًا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ، وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ. ثُمَّ دَلِيلُ جَوَازِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْمُسَاقَاةِ وَهِيَ عَمَلٌ فِي مَحَلٍّ يَسْتَوْجِبُ بِهِ شَطْرَ ثَمَرِهَا اقْتَضَى جواز القرض بِالْمَالِ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاضِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا رِفْقًا بَيْنَ عَجْزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَمَعُونَةٍ لِمَنْ عُدِمَ الْمَالَ مِنْ ذَوِي الْأَعْمَالِ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ رِبْحِهِمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ فَهُوَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا أَقَامَا عَلَيْهِ مُخْتَارَيْنِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُمَا وَيَجُوزُ فَسْخُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَصِحَّةُ عَقْدِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْمَالِ وَالثَّانِي انْفِرَادُ الْآخَرِ بِالْعَمَلِ وَالثَّالِثُ الْعِلْمُ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَنْ كُلِّ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فُرُوعٌ نَسْتَوْفِيهَا في موضعها. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ لِلْأَشْيَاءِ وَقِيَمِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى جَوَازُ الْقِرَاضِ بِالْعُرُوضِ لِأَنَّهَا مَالٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّ بِالْعُرُوضِ كَالْبَيْعِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْقِرَاضَ مَشْرُوطٌ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ وَاقْتِسَامِ الرِّبْحِ وَعَقْدَهُ بِالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، أَمَّا رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلِأَنَّ فِي الْعُرُوضِ مَا لَا مِثْلَ لَهَا فَلَمْ يُمْكِنْ رَدُّهَا، وَأَمَّا الرِّبْحُ فَقَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إِنْ زَادَ خَيَّرَهُ الْعَامِلُ بِالرِّبْحِ فَاخْتُصَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنْ نَقَصَ أَخَذَ الْعَامِلُ شَطْرَ فَاضِلِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ. وَهَذِهِ أُمُورٌ يَمْنَعُ الْقِرَاضُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يمنع ما أَدَّى إِلَيْهَا وَلِأَنَّ مَا نَافَى مُوجَبَ الْقِرَاضِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَيْهِ الْقِرَاضُ كَالْمَنَافِعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مُوجَبَ الْقِرَاضِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ رَدُّ مِثْلٍ، وَلَا قِسْمَةُ رِبْحٍ فَجَازَ بِكُلِّ مَالٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِمَا كَانَ مِنْهَا مَضْرُوبًا لَا غِشَّ فِيهِ، فَإِنْ قَارَضَ بِالنِّقَارِ وَالسَّبَائِكِ لَمْ يَجُزْ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَإِنْ قَارَضَ بِالْوَرِقِ الْمَغْشُوشِ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ إِذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِضَّةً اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ غِشَّ الْفِضَّةِ بِالنُّحَاسِ لَوْ تَمَيَّزَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ بِهِ الْقِرَاضُ، فَإِذَا خَالَطَهَا لَمْ يَجُزْ بِهِ الْقِرَاضُ كَالْحَرَامِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَخْلُصْ فِضَّتُهُ لَمْ تَجُزْ مُفَاوَضَتُهُ كَالْكَثِيرِ الْغِشِّ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِضُرُوبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْخَالِصَةِ مِنْ غِشٍّ فإن قيل فَمِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ عِنْدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ بِهَا، فَإِنْ تَقَارَضَا عَلَى مَالٍ لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَا قَدْرَهُ وَجَهِلَا صِفَتَهُ بَطَلَ الْقِرَاضُ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَةِ كَالْجَهْلِ بِالْقَدْرِ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ. فَلَوْ عُقِدَ الْقِرَاضُ عَلَى أَلْفٍ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى فَإِنْ عَلِمَا كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ جَهِلَاهُ بَطَلَ، فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يُقَارِضَ بِأَيِّ الْأَلْفَيْنِ شَاءَ وَيَسْتَوْدِعَ الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِالْقِرَاضِ هَلْ عُقِدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِينَارٍ؟ فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ كِيسَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ قِرَاضًا، وَالْأُخْرَى وَدِيعَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَيَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعْلُومَةٍ لِتَسَاوِي الْأَلْفَيْنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ، وَلَكِنْ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَأَلْفًا عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ رِبْحِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ النِّصْفَ، وَمِنْ رِبْحِ الْآخَرِ الثُّلُثَ، فَإِنْ عَيَّنَ الْأَلْفَ الَّتِي شَرَطَ لَهُ نِصْفَ رِبْحِهَا مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ رِبْحِهَا جَازَ وكانا عقدين، وإن لم يعين له يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ. فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ دَرَاهِمَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَنَانِيرَ، وَلَا إِذَا كَانَ دَنَانِيرَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَرَاهِمَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَيْرِ مَالِ الْقِرَاضِ خَارِجٌ عَنِ الْقِرَاضِ، وَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْعَامِلِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ وَكَانَ الشِّرَاءُ بِالدَّنَانِيرِ أَوْفَقَ أَنْ يَبِيعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ حِينَئِذٍ بِالدَّنَانِيرِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ دَنَانِيرَ وَكَانَ الشِّرَاءُ بِالدَّرَاهِمِ أَوْفَقَ بَاعَ الدَّنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَارَضَهُ عَلَيْهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ قَدْرَهَا وَصِفَتَهَا جَازَ، وَلَوْ كَانَا يَجْهَلَانِ الْقَدْرَ أَوِ الصِّفَةَ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ لَهُ قَدْ قَارَضْتُكَ عَلَى أَلْفٍ مِنْ دَيْنِيِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ فَاقْبِضْهَا مِنْهُ قِرَاضًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ غائب، فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 قَبَضَهَا وَاتَّجَرَ بِهَا صَحَّ الْقَبْضُ لِأَنَّهُ وَكَّلَ فِيهِ وَكَانَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى الْعَامِلِ دَيْنٌ فَقَالَ لَهُ قَدْ جَعَلْتُ أَلْفًا مِنْ دَيْنِي عَلَيْكَ قِرَاضًا فِي يَدِكَ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ غَائِبٍ، وَفِيمَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الرِّبْحِ أَوِ الْخُسْرَانِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ تَخْرِيجًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ كَالْحَادِثِ عَنْ مُقَارَضَتِهِ مِنْ دَيْنٍ عَلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا اتَّجَرَ بِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الرِّبْحَ وَالْخُسْرَانَ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا يَبْرَأُ بِالتِّجَارَةِ مِنْ دَيْنِ رَبِّ الْمَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّ قَبْضَهُ مِنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ فَعَادَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ، وَقَبْضَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَعَادَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ يَعُودُ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمَالُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غَصَبَهُ أَلْفًا ثُمَّ قَارَضَهُ عَلَيْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ استهلكهما بِالْغَصْبِ فَقَدْ صَارَتْ بِالِاسْتِهْلَاكِ دَيْنًا فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً على ضربين: أحدهما: أن مقارضه عليها بَعْدَ إِبْرَائِهِ مِنْ ضَمَانِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ وَدِيعَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِبْرَائِهِ مِنْهَا فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ، وَمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقِرَاضَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ قِرَاضٌ عَلَى مَالٍ حَاضِرٍ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَيْهِ أَوْ رَهَنَهَا مِنْهُ، وَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْ ضَمَانِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا كَمَا لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ مَا ارْتَهَنَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا بِعَقْدِ الْقِرَاضِ فَضَمَانُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا بِدَفْعِهَا فِي ثَمَنِ مَا ابْتَاعَهُ بِهَا بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا إِنْ عَاقَدَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَلَمْ يَبْرَأْ إِنْ عَاقَدَ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهَا فِي التَّعْيِينِ مَدْفُوعَةٌ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَصَارَتْ كَرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَفِيمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ يَكُونُ مُبَرِّئًا لِنَفْسِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ عوضاً وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ وَالْمُضَارَبَةِ بِثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 إِحْدَاهُمَا: جَهَالَةُ ثَمَنِهِ، وَالْقِرَاضُ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِيَةُ: عَقْدُهُ بِالصِّفَةِ وَالْقِرَاضُ بِالصِّفَاتِ بَاطِلٌ، فَإِنْ بَاعَهُ الْعَامِلُ كَانَ بَيْعُهُ جَائْزًا لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فِيهِ، وَإِنِ اتَّجَرَ بِهِ كَانَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِحُدُوثِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ دُونَ بَيْعِ الْعَرَضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِي بَيْعِ الْعَرَضِ جُعْلًا، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ رِبْحًا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِالْبَيْعِ مُعْتَاضًا عَلَى الْقِرَاضِ، وَلَوْ قَالَ خُذْ مِنْ وَكِيلِي أَلْفَ درهم فضارب بها لم يجز لعلة واحدة، وَهُوَ أَنَّهُ قِرَاضٌ بِصِفَةٍ، وَمَا حَصَلَ مِنْ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا دَفَعَ إِلَى صَيَّادٍ شَبَكَةً لِيَصِيدَ بِهَا وَيَكُونَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الصَّيْدُ لِلصَّيَّادِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الشَّبَكَةِ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَاشِيَةً لِيُعْلِفَهَا مُمْسِكًا لِرِقَابِهَا، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا يَدُرُّ مِنْ دُرِّهَا وَنَسْلِهَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ فَإِنْ كَانَتْ رَاعِيَةً لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً يَرْجِعُ بِثَمَنِهَا مَعَ أُجْرَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ صَيْدِ الشَّبَكَةِ وَنِتَاجِ الْمَاشِيَةِ، أَنَّ حُدُوثَ النِّتَاجِ مِنْ أَعْيَانِهَا فَكَانَ لِمَالِكِهَا دُونَ عَالِفِهَا، وَحُصُولَ الصَّيْدِ بِفِعْلِ الصَّيَّادِ فَكَانَ لَهُ دُونَ مَالِكِ الشَّبَكَةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ دَفَعَ سَفِينَةً إِلَى مَلَّاحٍ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِنِصْفِ كَسْبِهَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْكَسْبُ لِلْمَلَّاحِ لِأَنَّهُ بِعَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ لِمَالِكِ السَّفِينَةِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى نَسَّاجٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ وَيَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي فَضْلِ ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتْ مُعَامَلَةً فَاسِدَةً، وَالثَّوْبُ لِصَاحِبِ الْغَزْلِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ لِلْغَزْلِ لِتَكُونَ أَجْرَتُهُ نِصْفَ ثَمَنِهِ كَانَتْ إِجَارَةً فَاسِدَةً، وله أجرة مثله. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَارَضَهُ وَجَعَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ غُلَامَهُ وَشَرَطَ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ وَالْغُلَامِ أَثْلَاثًا فَهُوَ جائزٌ وَكَانَ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلُثَانِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَارَضَ رَجُلًا بِمَالٍ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَثُلُثَهُ لِغُلَامِهِ وَالثُّلُثَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَمَلَ الْغُلَامِ مَعَ الْعَامِلِ فَهَذَا قِرَاضٌ جَائِزٌ لِأَنَّ مَالَ غُلَامِهِ لَهُ إِذِ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَصَارَ كَأَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ وَالثُّلُثَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ ثُمَّ جَعَلَ نِصْفَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ رِبْحٍ مَصْرُوفًا إِلَى نَفَقَةِ غُلَامِهِ فَيَكُونُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَيْهِ أَوْ يَحْبِسَهَا عَنْهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُشْتَرَطَ عَمَلَ غُلَامِهِ مَعَ الْعَامِلِ فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ عَمَلَ غُلَامِهِ كَعَمَلِهِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ بَطَلَ الْقِرَاضُ كَذَلِكَ إِذَا شَرَطَ عَمَلَ غُلَامِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْغُلَامَ مَالٌ فَصَارَ اشْتِرَاطُ عَمَلِ الْغُلَامِ مَعَهُ كَاشْتِرَاطِهِ أَنْ يُعَاوِنَهُ بِمَالِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ حِمَارِهِ ثُمَّ يَحْصُلَ لَهُ ثُلُثَا الرِّبْحِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ وَثُلُثَهُ لِأَبِيهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَثُلُثَهُ لِلْعَامِلِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ شَرَطَ عَمَلَ أَبِيهِ أَوْ زَوْجَتِهِ مَعَهُ أَوْ لَا، لِأَنَّ أَبَاهُ وَزَوْجَتَهُ يَمْلِكَانِ وَلَا حَقَّ لَهُمَا فِي رِبْحِ مَالِ الْقِرَاضِ فَخَالَفَ حَالَ الْعَبْدِ الَّذِي يَرْجِعُ مَا شَرَطَهُ لَهُ إِلَى سَيِّدِهِ. فَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّ مَا شَرَطَ لِأَبِي رَبِّ الْمَالِ أَوْ زَوْجَتِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ الِاسْمِيَّةِ صَحَّ الْقِرَاضُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا اسْتِعَارَةً لِيَصِحَّ الْقِرَاضُ، وَادَّعَى الْآخَرُ التَّمْلِيكَ لِيَبْطُلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى التَّمْلِيكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَيَكُونُ الْقِرَاضُ بَاطِلًا إِنْ حَلَفَ. وَلَكِنْ لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ لِيَدْفَعَ مِنْهُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ زَوْجَتِهِ الثُّلُثَ وَالْبَاقِيَ لِلْعَامِلِ صَحَّ الْقِرَاضُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا شَرَطَهُ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ شَرَطَهُ لَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يُصْدِقَهَا أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَى أَبِيهَا أَلْفًا مِنْهَا كَانَ الصَّدَاقُ جَائِزًا، وَلَا يَلْزَمُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى أَبِيهَا. وَمِثَالُ الْأُولَى: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا أُخْرَى كَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الصَّدَاقِ مَا لَا يلزمه بدله. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَهُ إِلَى مدةٍ مِنَ الْمُدَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِرَاضَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَقْدُهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ يَلْزَمُ فِيهَا، فَلَوْ شَرَطَا مُدَّةً يَكُونُ الْقِرَاضُ فِيهَا لَازِمًا بَطَلَ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ كَالشَّرِكَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُطْلَقًا فَبَطَلَ مُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا لُزُومَ الْعَقْدِ فِيهَا فَيَكُونُ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا الْفَسْخَ فِي الْعَقْدِ بَعْدَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فَسْخَ الْقِرَاضِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فِي البيع والشراء، فيكون القراض باطلاً لمنافاته مُوجَبُ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ مَا حَصَلَ فِي الْقِرَاضِ مِنْ عِوَضٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا فَسْخَ الْقِرَاضِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ فَيَكُونُ الْقِرَاضُ جَائِزًا، لِأَنَّ لَهُ فَسْخُ الْقِرَاضِ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا مَا شِئْتُ أَنَا مِنَ الزَّمَانِ أَوْ مَا شِئْتَ أَنْتَ جَازَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ. وَلَوْ قَالَ خُذْهُ مَا رَضِيَ فُلَانٌ مَقَامَكَ أَوْ مَا شَاءَ فُلَانٌ أَنْ يُقَارِضَكَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ قِرَاضًا فَاسِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِرَاضًا مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمَا. وَلَوْ قَالَ خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا مَا أَقَامَ الْعَسْكَرُ أَوْ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ نُظِرَ: فَإِنْ شَرَطَ لُزُومَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ شَرَطَ فَسْخَهُ بَعْدَهَا فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِمَا لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ قِسْطًا مِنَ الْغَرَرِ وَتَأْثِيرًا فِي الْفَسْخِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنْ لَا تَبِيعَ وَلَا تَشْتَرِيَ إِلَّا عَنْ رَأْيِي أَوْ بِمُطَالَعَتِي لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ. وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ لَا تتجر إلا في البرد دُونَ غَيْرِهِ أَوِ الْحِنْطَةِ دُونَ غَيْرِهَا جَازَ لأن لَهُ أَنْ يَخُصَّ الْأَنْوَاعَ وَيَعُمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الْحَجْرَ فِيمَا قَدْ خَصَّ أَوْ عَمَّ. وَلَوْ قَالَ خُذِ الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بِيَدِي أَوْ مَعَ وَكِيلِي وَأَنْتِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِغَيْرِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ. فَأَمَّا إِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ مُشْرِفًا نُظِرَ: فَإِنْ رَدَّ إِلَى الْمُشْرِفِ تَدْبِيرًا أَوْ عَمَلًا فَسَدَ الْقِرَاضُ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ رَدَّ إِلَيْهِ مُشَارَفَةَ عُقُودِهِ وَمُطَالَعَةَ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ تَدْبِيرِ وَلَا عَمَلٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ كَمَا مَضَى لِأَنَّهُ حَافِظٌ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا دِرْهَمًا عَلَى صَاحِبِهِ وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا أَوْ يَشْتَرِطُ أَنْ يُوَلِّيَهُ سِلْعَةً أَوْ عَلَى أَنْ يَرْتَفِقَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ بشيءٍ دُونَ صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مُوجِبٌ لِاشْتِرَاكِ رَبِّ الْمَالِ، وَالْعَامِلِ فِي الرِّبْحِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْمَالَ وَالْعَمَلَ مُتَقَابِلَانِ، فَرَأْسُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الرِّبْحِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا مَعَ تَسَاوِيهِمَا. وَإِذَا مُنِعَا مِنَ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ مِنَ الرِّبْحِ دِرْهَمًا مَعْلُومًا وَالْبَاقِيَ لِصَاحِبِهِ أَوْ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُحَصِّلُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا الدِّرْهَمَ الْمَشْرُوطَ فَيَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ شَرَطَهُ فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ، وَانْصَرَفَ الْعَامِلُ بغير شيء من وُجُودِ الْعَمَلِ وَحُصُولِ الرِّبْحِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ قَدْ شَرَطَهُ فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ وَانْصَرَفَ رب المال بغير شيء من وُجُودِ الْمَالِ وَحُصُولِ الرِّبْحِ. وَمِثَالُهُ فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَبِيعَهُ الثَّمَرَةَ إِلَّا مُدًّا يَسْتَثْنِيهِ لِنَفْسِهِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَهْلَكَ الثَّمَرَةُ إِلَّا ذَلِكَ الْمُدَّ فَيَصِيرُ الْبَائِعُ آخِذًا لِلثَّمَنِ وَالثَّمَرَةِ مَعًا. وَلَوْ شَرَطَا تَفَاضُلًا فِي الرِّبْحِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عُشْرَ الرِّبْحِ وَتِسْعَةَ أَعْشَارِهِ لِلْآخَرِ، جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ رِبْحٍ. وَمِثَالُهُ فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ إِلَّا عُشْرَهَا فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَهُوَ مَبِيعٌ وَغَيْرُ مَبِيعٍ. فَصْلٌ : وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَا يَرْتَضِيهِ أَوْ مَا يَكْتَسِبُهُ بِرَأْسِ مَالِهِ فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ فِي الْمُشْتَرِي رِبْحٌ إِلَّا فِيمَا تَوَلَّاهُ فَيَصِيرُ مُخْتَصًّا بِجَمِيعِ الرِّبْحِ وَيَخْرُجُ الْآخَرُ بِغَيْرِ رِبْحٍ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا رَفْقًا دُونَ صَاحِبِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ رُكُوبَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الدَّوَابِّ أَوِ اسْتِخْدَامَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَوْ لُبْسَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الثِّيَابِ مُدَّةَ بَقَائِهَا فِي الْقِرَاضِ فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ فِي أَثْمَانِهَا فَضْلٌ إِلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الرَّفْقِ فَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِالرِّبْحِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُقَوَّمَةٌ كَالْأَعْيَانِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَوْ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إِلَّا مِنْ فلانٍ أَوْ لَا يَشْتَرِيَ إِلَّا سِلْعَةً بِعَيْنِهَا وَاحِدَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاضَ ضَرْبَانِ: عام وخاص: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 فَالْعَامُّ أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَى أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا أَرَادَ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا عَلِمَ فِيهِ صَلَاحًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْخَاصُّ أَنْ يُقَارِضَهُ عَلَى أَنْ يَتَّجِرَ فِي الثِّمَارِ أَوْ فِي الْأَقْوَاتِ أَوْ فِي الثِّيَابِ فَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى شِرَاءِ مَا عُيِّنَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِنْ عَقَدَهُ عَامًّا ثُمَّ خَصَّهُ فِي نَوْعٍ بِعَيْنِهِ صَارَ خَاصًّا، وَلَوْ عَقَدَهُ خَاصًّا فِي نَوْعٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عَامًّا في كل نوع صار عامداً، لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ جَائِزًا وَلَيْسَ يَنْعَقِدُ لَازِمًا. وَأَمَّا إِذَا قَارَضَهُ عَلَى شِرَاءِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ عَرْضٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ غَيْرِهِ، أَوْ قَدْ لَا يُبَاعُ إِلَّا بِمَا لَا فَضُلَ فِي ثَمَنِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ عَلَى أَلَّا يَشْتَرِيَ إِلَّا مِنْ فُلَانٍ أَوْ لَا يَبِيعَ إِلَّا عَلَى فُلَانٍ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا، لِأَنَّ فُلَانًا قَدْ يَمُوتُ قَبْلَ مُبَايَعَتِهِ، وَقَدْ لَا يَرْغَبُ فِي مُبَايَعَتِهِ، أَوْ لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا بِمَا لَا فضل في ثمنه. وهكذا لو قارضه على أَلَّا يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا فِي دُكَّانٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْهَدِمُ ذَلِكَ الدُّكَّانُ، أَوْ قَدْ يُغْلَبُ عَلَيْهِ أَوْ قَدْ لَا يُبَايِعُ مِنْهُ. فَأَمَّا إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَلَّا يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا فِي سُوقِ كَذَا جَازَ بِخِلَافِ الدُّكَّانِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ السُّوقَ الْعَامَّةَ كَالنَّوْعِ الْعَامِّ وَالدُّكَّانَ الْمُعَيَّنَ كَالْعَرَضِ الْمُعَيَّنِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَوْ نَخْلًا أَوْ دَوَابَّ يَطْلُبُ ثَمَرَ النَّخْلِ ونتاج الداب وَيَحْبِسُ رِقَابَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: عَقْدُ الْقِرَاضِ يَقْتَضِي تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَإِذَا قَارَضَهُ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ نَخْلًا يُمْسِكُ رِقَابَهَا وَيَطْلُبُ ثِمَارَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلِأَنَّ الْقِرَاضَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ النَّمَاءُ فِيهِ حَادِثًا عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهُوَ فِي النَّخْلِ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ قِرَاضًا، وَلَا يَكُونَ مُسَاقَاةً لِأَنَّهُ عَاقَدَهُ عَلَى جَهَالَةٍ بِهَا قَبْلَ وُجُودِ مِلْكِهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَارَضَهُ عَلَى شِرَاءِ دَوَابَّ أَوْ مَوَاشِي يَحْبِسُ رِقَابَهَا وَيَطْلُبُ نِتَاجَهَا لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنِ اشْتَرَى بِالْمَالِ النَّخْلَ وَالدَّوَابَّ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَمُنِعَ مِنَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَنْ إِذْنِهِ، وَالْبَيْعَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَانَ الْحَاصِلُ مِنَ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجُ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ حَدَثَ عَنْ مِلْكِهِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي الشَّرْطِ وَالْخِدْمَةِ، لِأَنَّهَا عَمَلٌ عَارَضَ عَلَيْهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى قَالَ: لَوْ أَطْلَقَ الْقِرَاضَ مَعَهُ جَازَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِيَزْرَعَهَا أَوْ يَغْرِسَهَا وَيَقْتَسِمَا فَضْلَ زَرْعِهَا وَغَرْسِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ لما بيناه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ فَعَلَ فَذَلِكَ كُلُّهُ فاسدٌ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَالرِّبْحُ وَالْمَالُ لِرَبِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا كَانَ الْقِرَاضُ فَاسِدًا فَعَمِلَ الْعَامِلُ فِيهِ قَبْلَ مَنْعِهِ مِنَ العامل وَاسْتِرْجَاعِ الْمَالِ مِنْهُ كَانَتْ عُقُودُ بُيُوعِهِ وَشِرَائِهِ صَحِيحَةً مَعَ فَسَادِ الْقِرَاضِ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ بِهَا وَاخْتِصَاصِ الْفَسَادِ بِنَصِيبِهِ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ حُمِلَ عَلَى حُكْمِهِ لَوْ صَحَّ، فَلَمَّا كَانَ الْقِرَاضُ الصَّحِيحُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِلُ شَيْئًا وَجَبَ إِذَا فَسَدَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ مَلَكَ الْعَامِلُ فِيهِ الْمُسَمَّى فِي العقد الصحيح ملك في أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا مَلَكَهُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مَلَكَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ قِيَاسًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ الْعَقْدَ إِذَا فَسَدَ حُمِلَ عَلَى حُكْمِهِ لَوْ صَحَّ فَهُوَ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الصَّحِيحِ فِيمَا سِوَى الضَّمَانِ. عَلَى أَنَّهُ في الصحيح لما ضرب بسهم فِي كَثِيرِ الرِّبْحِ جَازَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مَعَ عَدَمِ الرِّبْحِ، وَفِي الْفَاسِدِ لَمَّا ضَرَبَ بسهم فِي كَثِيرِ الرِّبْحِ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ عَمَلُهُ مَعَ عَدَمِ الرِّبْحِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي بِتَلَفِهِ أَلْفًا، وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ يَدِهِ بِمِائَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ بَيْعًا فَاسِدًا وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَضْمَنِ الْمُشْتَرِي بِتَلَفِهِ إِلَّا مِائَةً كَذَلِكَ، كَذَلِكَ فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَشْتَرِيَ صِنْفًا مَوْجُودًا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَجَائِزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ ضَرْبَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ. فَأَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ أَنْ يُطْلَقَ تَصَرُّفُ الْعَامِلِ فِي كُلِّ مَا يَرْجُو فِيهِ رِبْحًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى عُمُومِ التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَخْتَصَّ الْعَامِلُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يُوجَدُ فِي عُمُومِ الأحوال كالحنطة والبر فَيَجُوزُ، وَيَكُونُ مَقْصُورَ التَّصَرُّفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 عَلَى النَّوْعِ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ، فَلَوْ أُذِنَ له أن يتجر في البر جاز أن يتجر في صنوف البر كُلِّهَا مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَالْخَزِّ وَالصُّوفِ الْمَلْبُوسِ ثِيَابًا أَوْ جِبَابًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْبُسُطِ وَالْفُرُشِ،. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يتجر في الأكسية البركانية أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَلْبُوسَةً. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ البر. فَلَوْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الطَّعَامِ اقْتَصَرَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَحْدَهَا دُونَ الدَّقِيقِ. وَقَالَ محمد بن الحسن يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِخُرُوجِ الدَّقِيقِ عُرْفًا عَنِ اسْمِ الطَّعَامِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِنْطَةِ لَجَازَ بِالْخُبْزِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ خُذْ هَذَا الْمَالَ عَلَى أَنْ تَتَّجِرَ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ خُذْهُ وَاتَّجِرْ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ التِّجَارَةِ فِي الْحِنْطَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ قَالَ لَهُ خُذْهُ عَلَى أَنْ تَتَّجِرَ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فِي غَيْرِهَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَإِنْ قَالَ لَهُ خُذْهُ وَاتَّجِرْ بِهِ فِي الْحِنْطَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ فِي غَيْرِهَا جَازَ لِأَنَّهُ مَشُورَةٌ مِنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ آذِنٍ فِيمَا سِوَى الْحِنْطَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدُ كَإِذْنِهِ فِي أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْعُودِ الرَّطْبِ أَوْ فِي الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ أَوْ فِي الْخَيْلِ الْبُلْقِ أَوْ فِي الْعَبِيدِ الْخِصْيَانِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ وَجَدَهُ أَوْ لَمْ يَجِدْهُ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ مِنْ وُجُودِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَانٍ قَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ غَالِبًا فَيَجُوزُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يُوجَدُ فِي زَمَانٍ وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ فَيَنْظُرُ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِ تِلْكَ الثِّمَارِ فَالْقِرَاضُ بَاطِلٌ، فَإِنْ جَاءَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَصِحَّ الْقِرَاضُ بَعْدَ فَسَادِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَانِ الثِّمَارِ وَإِبَانَتِهَا فَالْقِرَاضُ جَائِزٌ مَا كَانَتْ تِلْكَ الثَّمَرَةُ بَاقِيَةً، فَإِنِ انْقَطَعَتْ فَفِي الْقِرَاضِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ الْقِرَاضُ بِانْقِطَاعِهَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَنْ يَتَّجِرَ بِهَا إِلَّا بِإِذْنٍ وَعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاضَ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِفَسْخِهِ فِي كُلِّ عَامٍ أَتَتْ فِيهِ تِلْكَ الثَّمَرَةُ فَيَتَّجِرُ بِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقِرَاضُ فِي نَوْعٍ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ الزَّمَانِ فَانْقَطَعَ فِي بَعْضِهِ لِقِلَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْقِرَاضُ عَلَى وَجْهِهِ وَحَالِهِ، وَهَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ لِجَائِحَةٍ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ كَانَ مُمْكِنًا لِلِاسْتِدَامَةِ فَخَالَفَ الثمار الرطبة في أحد الوجهين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَافَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنَ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضَ الْمُؤْنَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَعْمَلُهَا الْعَامِلُ وَلَهُ النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي جَوَازِ سَفَرِ الْعَامِلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ. وَالثَّانِي: فِي مُؤْنَةِ الْعَمَلِ. وَالثَّالِثُ: فِي نَفَقَةِ الْعَامِلِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ سَفَرُ الْعَامِلِ بِمَالِ الْقِرَاضِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ معه ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ السَّفَرِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ سَافَرَ بِهِ ضمنه والقراض في حاله صحيحاً. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي السَّفَرِ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِجْمَاعًا فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لم يخص له بلد أجاز أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَأْمُونَةِ الْمَمَالِكِ وَالْأَمْصَارِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ أَنْ يُسَافِرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ إِلَيْهَا، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهَا وَلَا فِي الْبُعْدِ إِلَى أَقْصَى الْبُلْدَانِ، فَإِنْ بَعُدَ إِلَى أَقْصَى الْبُلْدَانِ ضمن المال. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ فَلَا يَأْذَنُ لَهُ فِي السَّفَرِ وَلَا يَنْهَاهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ سَفَرِهِ بِالْمَالِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ قَرِيبًا وَلَا بَعِيدًا سَوَاءٌ رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى رَأْيِهِ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إِذَا أَرَادَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَنْهَهُ، وَقَالَ محمد بن الحسن وأبو يوسف يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ مِنْهُ قَبْلَ اللَّيْلِ. وَقَالَ محمد بن الحسن يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى حيث لا تلزمه مؤونة ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قلتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ " - يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ - وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِرَ بِالْمَالِ، وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سفر منع من الْوَكِيلُ مُنِعَ مِنْهُ الْعَامِلُ كَالسَّفَرِ الْبَعِيدِ. فَصْلٌ : وأما ال فصل الثاني وهو مؤونة الْعَمَلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قَسَمٌ يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَقِسْمٌ يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَلَا يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ، فَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَأُجْرَةُ الْمَحْمَلِ وَأُكْرِيَّةِ الْخَانِيَاتِ وَمَا صَارَ مَعْهُودًا مِنَ الضَّرَائِبِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَى مَنْعِهَا فَلَهُ دَفْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ وَضْعُهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ بَعْدَهُ مِنَ الرِّبْحِ هُوَ الْمَقْسُومُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ على شرطهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ فَهُوَ مَا جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مثل نشر البن وَطَيِّهِ وَعَرْضِ الْأَمْتِعَةِ وَمُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ وَقَبْضِ الْأَثْمَانِ وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّهُ بِهِ مَلَكَ الرِّبْحَ. وَأَمَّا النِّدَاءُ عَلَى الْأَمْتِعَةِ فَمَنْ يَزِيدُ فَلَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ عُرْفَ التُّجَّارِ فِي أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجْرِ بِهِ وَتَكُونُ أُجُورُ الْمُنَادِينَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ. وَأَمَّا الْوَزَّانُ فَإِنْ كان فيما يحفر ولم تجر عادة التجارة بِهِ فِي أَمْوَالِهِمْ كَانَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَقِلُّ وَيَخِفُّ كَالْعُودِ وَالْمِسْكِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ جَارِيَةٌ بِهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ لَهُ تُحْمَلُ الْأُجْرَةُ فِي مَالِهِ. وَلَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا يَسْتَحِقُّ فِي مَالِ الْقِرَاضِ كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَمَلِهِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ عِوَضَيْنِ أُجْرَةً وَرِبْحًا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ نَفَقَةُ الْعَامِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَخْتَصُّ الْعَامِلُ بِالْتِزَامِهِ وَهُوَ نَفَقَةُ حَضَرِهِ فِي مَأْكُولِهِ وَمَلْبُوسِهِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: اخْتِصَاصُ الْعَامِلِ بِالرِّبْحِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ نَفَقَةَ إِقَامَتِهِ لَا تَخْتَصُّ بِعَمَلِ الْقِرَاضِ فَلَمْ تَلْزَمْ فِي مَالِ الْقِرَاضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: نَفَقَةُ سَفَرِهِ، فَالَّذِي رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هُنَا أَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَالَّذِي أَحْفَظُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا عَلَى نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يَشْتَرِيهِ فَيَكْتَسِبُهُ وَرَوَى فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ وُجُوبَ النفقة، وجعلها في جامعه معلومة كنفقة الزوجات، وَفِي مُخْتَصَرِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، فَهَذَا مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ. وَرَوَى أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يَحْمِلَانِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرِهِ لِاخْتِصَاصِ سَفَرِهِ بِمَالِ الْقِرَاضِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الِاسْتِيطَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالرِّبْحِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا نَفَقَةَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 البويطي. حملا رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ عَلَى نَفَقَةِ الْمَتَاعِ دُونَ الْعَامِلِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَدْفُوعٌ بِمَا بَيَّنَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ نَفَقَةٌ مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَثَمَنُ مَا يَشْتَرِيهِ فَيَكْتَسِبُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. فَتَجِبُ نَفَقَةُ مَرْكُوبِهِ فِي سَفَرِهِ وَمَسِيرِهِ بِالْمَعْرُوفِ فِي مِثْلِ سَفَرِهِ، وَتَجِبُ نَفَقَةُ مَأْكُولِهِ وَمَلْبُوسِهِ الْمُخْتَصِّ بِلِبَاسِ سَفَرِهِ. وَفِي تَقْدِيرِ نَفَقَتِهِ وَجْهَانِ لِاخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ وَتَقْدِيرُهَا أَدْفَعُ لِلْجَهَالَةِ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا معتبرة بالمعروف من غير تقدير لأنها مؤونة فِي عَمَلِ الْقِرَاضِ فَاشْتَبَهَتْ بِسَائِرِ مُؤَنِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهَا يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ الْعَامِلِ بِفَضْلِهَا إِنْ رَخُصَ السِّعْرُ، أَوْ إِلَى تَحَمُّلِ بَعْضِهَا إِنْ عَلَا فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ فِيهَا أُجْرَةُ حَمَّامٍ وَلَا حَجَّامٍ وَلَا ثَمَنُ دَوَاءٍ وَلَا شَهْوَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ فِي نَفَقَتِهِ أُجْرَةُ حَمَّامِهِ وَحَجَّامِهِ وَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دَوَائِهِ وَمَا قَرُبَ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ أَوْكَدُ مِنْهَا وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِسَفَرِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، فَأَشْبَهَ صَدَاقَ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا وَنَفَقَةَ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا عَلَى أَنَّ مُزَاحَمَاتِهَا مَنْ جُعِلَ لَهُ نَفَقَةُ السَّفَرِ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْقِيَاسِ فَإِنْ دَخَلَ فِي سَفَرِهِ بَلَدًا فله النفقة ما أقام في مَقَامَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ أَرْبَعًا فَإِنْ زَادَ عَلَى إِقَامَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ مَرَضٍ طَرَأَ أَوْ عَارِضٍ يَخْتَصُّ بِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ دُونَ الْقِرَاضِ. وَإِنْ كَانَ مُقَامُهُ لِأَجْلِ مال القراض انتظار البيعة وَقَبْضِ ثَمَنِهِ أَوِ الْتِمَاسًا لِحِمْلِهِ أَوْ لِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَنَفَقَتُهُ فِيهِ كَنَفَقَتِهِ فِي سَفَرِهِ لاختصاصه بالقراض. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ خَرَجَ بمالٍ لِنَفْسِهِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ بِمَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ وَمَنَعَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَصَارَ كَالْأَجِيرِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي الْمَالِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عَلَيْهِ جَمِيعَ الْمَالِ، فَإِذَا أَدَّى مَا لَزِمَهُ مِنْ عَمَلِ الْقِرَاضِ فَسَوَاءٌ فِيمَا سِوَاهُ مُمْسِكًا أَوْ عَامِلًا. فَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَلَّا يُسَافِرَ بِمَالٍ لِنَفْسِهِ بَطَلَ الْقِرَاضُ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ وَعَلَيْهِ تَمْيِيزُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ خَلْطَهُمَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ شَرِيكًا وَمُضَارِبًا، وَمُؤْنَةُ الْمَالِ مُقَسَّطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَنَفَقَةُ نَفْسِهِ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَهِيَ مُقَسَّطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَ الْمَالَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْعَادِلِ بِهِ عَنْ حُكْمِهِ فَيَلْتَزِمُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ لَا تَخْتَلِفُ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْمَالَيْنِ بِقَدْرِ الْحِصَصِ، وَرِبْحُ مَالِ الْقِرَاضِ كُلِّهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِفَسَادِ الْقِرَاضِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيهِ وَلَا يُوجَبُ لَهُ أُجْرَةُ كُلِّ الْعَمَلِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ تَوَزَّعَ عَلَى مَالِهِ وَمَالِ الْقِرَاضِ. فَصْلٌ : فَلَوْ أَبْضَعَ رَبُّ الْمَالِ عَامِلَهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ بِضَاعَةً لِنَفْسِهِ يَخْتَصُّ بِرِبْحِهَا جَازَ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي الْقِرَاضِ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ عَنْ شَرْطٍ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِأَنَّهُ كَالْمَعْمُولِ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا تَجَرَّدَ عَنِ الشَّرْطِ كَانَ تَطَوُّعًا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ أَبْضَعَهُ شِرَاءَ ثَوْبٍ يَكْتَسِيهِ أَوْ طَعَامٍ يَقْتَاتُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِغَيْرِ رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُبْضِعَهُ مَتْجَرًا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُبْضِعَهُ مَتْجَرًا لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالْأَمْرَيْنِ. فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبْتَاعَ لِنَفْسِهِ من مال القراض، ولا أن يَبِيعَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّهُ وكيل، وكذلك لا يجوز أن يبتاع ذلك لمن يلي عليه من صغار ولده، وهكذا لَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْعَمَلِ فِي قَدْرِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفَقَةِ اللَّازِمَةِ فِي مَالِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الْقِرَاضِ فَالْقَوْلُ فِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى النَّفَقَةِ كَمَا كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَى الرِّبْحِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي ادِّعَاءِ الْعَامِلِ رد المال على ربه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا اشْتَرَى فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ سِلْعَةً فِي الْقِرَاضِ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَعَ الْعَيْبِ فَضْلٌ وَظُهُورُ رِبْحٍ فَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَضْلِ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ المال أن يرد لحق العامل في ال فصل الظَّاهِرِ. فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الرَّدِّ فَذَلِكَ لَهُمَا لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا، وَيَكُونُ حَالُ السِّلْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْعَيْبِ كَحَالِهِمَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ عَيْبٍ لِظُهُورِ الْفَاضِلِ فِي الْحَالَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِأَجْلِ الْعَيْبِ خُسْرَانٌ وَعَجْزٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَنْمِيَةِ الْمَالِ، وَفِي إِمْسَاكِ الْعَيْبِ تَلَفٌ لِلنَّسَاءِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مَحَلَّ مَالِكِهِ، وَلِلْمَالِكِ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ، فَإِنْ رَضِيَ الْعَامِلُ بِعَيْبِهِ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ رَدُّهُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ النَّقْصِ فِي مَالِهِ، فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّدِّ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ جَازَ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لَا يَتَجَاوَزُهُمَا. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْوَكِيلِ فِي رَدِّ مَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، وَأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى رَأْيِهِ لِجَوَازِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ بِعَيْبِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ الرَّدُّ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ بِالشِّرَاءِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمُشْتَرِي كَالْمُقَارِضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ من الْعَيْبِ فَضْلٌ أَوْ لَا بِخِلَافِ الْمُقَارِضِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْمُوَكِّلِ فِي الرَّدِّ، فَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنِ الرَّدِّ مُنِعَ مِنَ الرَّدِّ بِخِلَافِ الْعَامِلِ لِأَنَّ لِلْعَامِلِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ شِرْكٌ فِيهِ، فَصَارَ الْوَكِيلُ مُوَافِقًا لِلْعَامِلِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَمُخَالِفًا فِي الْوَجْهِ الذي ذكرناه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ اشْتَرَى وَبَاعَ بِالدَّيْنِ فَضَامِنٌ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ من ثلاثة أقسام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 أحدهما: أَنْ يَأْمُرَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ نَقْدًا، فَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ وَلَا أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّسَاءِ فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسَاءِ، أَمَّا النَّقْدُ فَلِأَنَّهُ أَحَظُّ، وَأَمَّا النَّسَاءُ فَلَمَّا كَانَ الْإِذْنُ فَلَوْ نَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِتَأْخِيرِ النَّسَاءِ، وَخَالَفَ الْوَكِيلَ وَصَارَ عَقْدُ الْقِرَاضِ بَاطِلًا. وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ إِذْنِ النَّسَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ سَلَمًا، لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ أَكْثَرُ غَرَرًا مِنَ النَّسَاءِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ سَلَمًا جَازَ، وَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ سَلَمًا لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الْحَظِّ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ وَعَدَمُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْإِذْنَ له بالبيع والشراء من غير أن يذكرله نَقْدًا أَوْ نَسَاءً فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسَاءِ، وَبِمِثْلِهِ قَالَ فِي الْوَكِيلِ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحَالَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ إِطْلَاقِ الْإِذْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ إِلَّا بِالنَّقْدِ لِأَنَّ الْآجَالَ لَا تَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ إِلَّا بِشَرْطٍ كَالْأَثْمَانِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النَّسَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَعَاقَدَ بِالنَّسَاءِ فَذَلِكَ نَوْعَانِ: بَيْعٌ وَشِرَاءٌ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَبَاطِلٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِنْ قَبَضَهُ ضَمِنَهُ حِينَئِذٍ بِالْإِقْبَاضِ وعليه واسترجاعه مَا كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ تَلِفَ فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ بِضَمَانِهِ وَغُرْمِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ العامل أو المشتري، فإذا أُغْرِمَ الْعَامِلُ رَجَعَ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أُغْرِمَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّ الْغُرْمَ ثَبَتَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ التَّلَفُ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ: اعْمَلْ فِي الْقِرَاضِ بِرَأْيِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقِدَ بِالنَّسَاءِ لَا بَيْعًا وَلَا شِرَاءً لِأَنَّ عَمَلَهُ بِرَأْيِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَدْبِيرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي وُفُورِ الْأَرْبَاحِ وَالْتِمَاسِ النَّمَاءِ دُونَ النساء. فصل : وإذا قارضه عل غَيْرِ مَالٍ لِيَشْتَرِيَ بِالنَّسَاءِ فَإِنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الذمم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 وَلَوْ قَارَضَهُ عَلَى مَالٍ فَأَذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسَاءِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ نَسَاءً بِأَكْثَرَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ قَدْرًا لِأَنَّ ما زاد عليه خارج منه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَهُوَ مصدقٌ فِي ذَهَابِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ بِطَلَبِ الرِّبْحِ، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّبْحِ فَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ الْمُسْتَعْجِلِ فَإِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنِ ادَّعَى رَدَّ الْمَالِ عَلَى رَبِّهِ فَالْأُمَنَاءُ ثَلَاثَةٌ: أَمِينٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ وَهُوَ الْمُودَعُ، وَأَمِينٌ لَا يُقْبَلُ قوله وهو المرتهن، وأمين مختلف في قَبُولُ قَوْلِهِ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ الْمُضَارِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُوَدَعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ وَإِنْ كان مقبولاً في التلف كالمرتهن. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِإِذْنِهِ عَتَقَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالْمُضَارِبُ ضامن والعبد له ولمالك إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْبَحَ فِي بَيْعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ أَبَا رَبِّ الْمَالِ أَوْ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ لَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَكَانَ لَازِمًا لِرَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ فِي شِرَائِهِ لَهُ كَالْوَكِيلِ، وَقَدْ بَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ مَا دَفَعَهُ فِي ثَمَنِهِ، وَكَانَ كَالْقَابِضِ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَهَلْ يَكُونُ عَقْدُ ابْتِيَاعِهِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ قِرَاضِهِ، أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حامد الإسفراييني أنه دخل فِي عَقْدِ قِرَاضِهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ لَوْ كَانَ عَلَى رِقِّهِ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ فَضْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِ قراضه لخروجه من حُكْمِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِي شِرَائِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي شِرَائِهِ عَلَى عِوَضٍ مِنْهُ، فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ. فَصْلٌ : وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لأن عقد القارض يُوجِبُ ابْتِيَاعَ مَا تُرْجَى الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ هَذَا مَعْدُومَةٌ، وَاسْتِهْلَاكُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 الْمَالِ بِهِ مَوْجُودٌ فَصَارَ شِرَاؤُهُ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ كَشِرَاءِ مَا لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ مِنْ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ بِمَا وَصَفْتُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يَخْلُ شِرَاءُ الْعَامِلِ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ. فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ بَطَلَ شِرَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ فَصَارَ كَبَيْعِهِ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فِي ثَمَنِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَبَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ قَدْرُ مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ صَارَ بِالدَّفْعِ مَضْمُونَ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْقِرَاضِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى الْعَامِلُ أَخَا رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَمَّهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَكَانَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِجَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهُمْ، وَطَلَبَ الْفَضْلَ فِي ثَمْنِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ امْرَأَةً فَاشْتَرَى الْعَامِلُ زَوْجَهَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهَا صَحَّ الشِّرَاءُ وَبَطَلَ النِّكَاحُ، وَكَانَ عَلَى حَالِهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مُبْطِلٌ لِلنِّكَاحِ وَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِتْقِ. وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَخَرَجَ عَنْ مُطْلَقِ الْإِذْنِ كَشِرَاءِ الْأَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَازِمٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِتَفَارُقِهِ، وَثُبُوتِ مِلْكِهِ، وَجَوَازِ أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ ثَمَنِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ الْمَعْدُومِ ذَلِكَ كُلِّهُ فيه والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَشْتَرِي أَبَا سَيِّدِهِ فَالشَّرَاءُ مفسوخٌ لِأَنَّهُ مخالفٌ وَلَا مال له (وقال) في كتاب الدعوى والبينات في شراء العبد من يعتق على مولاه قولان: أحدهما جائزٌ والآخر لا يجوز (قال المزني) قياس قوله الذي قطع به أن البيع مفسوخٌ لأنه لا ذمة لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى الْعَبْدَ أَبَا سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدهما: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ شِرَائِهِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى بَائِعِهِ وَيَرْتَجِعُ بِمَا دَفَعَهُ فِي ثَمَنِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي شِرَائِهِ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ وَفِي زَمَانِ عِتْقِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 أَحَدُهُمَا: يُعْتَقُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِأَدَاءِ الثَّمَنِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي غُرَمَاءِ الْعَبْدِ، هَلْ مَلَكُوا بِدُيُونِهِمْ حَجْرًا عَلَى مَا بِيَدِهِ أَوْ لَا؟ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ سَيِّدِهِ فِيهِ إِذْنٌ وَلَا نَهْيٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ كَالْمَضَارِبِ إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَبَا رَبِّهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ شِرَاءُ الْعَبْدِ بِعَيْنِ الْمَالِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ يُعَامَلُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُعَامَلُ عَلَى مَا بِيَدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ عَقْدَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَى سَيِّدِهِ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ فَصَارَ عَقْدُهُ كَعَقْدِهِ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ أَوْ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَجْهَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ أَبَا نَفْسِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَكَانَ عَلَى رِقِّهِ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لسيده لا لنفسه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنِ اشْتَرَى الْمُقَارِضُ أَبَا نَفْسِهِ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ وَفِي الْمَالِ فضلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ فسواءٌ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ وكيلٍ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ فَبَيْعُهُ جائزٌ وَلَا رِبْحَ لِلْعَامِلِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ رَبِّ الْمَالِ مَالَهُ وَلَا يَسْتَوْفِيهِ رَبُّهُ إِلَّا وَقَدْ بَاعَ أَبَاهُ وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ إِلَى رَبِّهِ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ وَلَوْ خَسِرَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَقَلُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ شَرِيكًا لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئَا زَائِدًا مَلَكَهُ نَاقِصًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ أَبَا نَفْسِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ عِنْدَ شِرَائِهِ رِبْحٌ يَسْتَحِقُّ فِيهِ سَهْمًا أَوْ لَا رِبْحَ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ كَانَ أَبُو الْعَامِلِ عَلَى رِقِّهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ أَبِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَسْتَحِقُّ فِيهِ بِعَمَلِهِ سَهْمًا فَفِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ - هَلْ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ وَمَالِكًا لِحَقِّهِ مِنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ أَوْ هُوَ وَكِيلٌ يَأْخُذُ مَا شَرَطَ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً يَمْلِكُهَا بِالْحِصَصِ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْعَامِلَ وَكِيلٌ مُسْتَعْجِلٌ وَلَيْسَ بِشَرِيكٍ وَمَا يَخُصُّهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةٌ لَا يَمْلِكُهَا بِالظُّهُورِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الرِّبْحَ بِظُهُورِهِ وَكَانَ شَرِيكًا لَوَجَبَ إِذَا تَلِفَ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ مُقَسَّطًا عَلَى الْأَصْلِ وَالرِّبْحِ، لِأَنَّ تَلَفَ بَعْضِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ التَّالِفُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ مَحْسُوبًا مِنْ رِبْحِهِ وَلَمْ يَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْلِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِيهِ وَلَا مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ زَائِدًا لَمَلَكَهُ نَاقِصًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ مُرْصَدٌ لِصَلَاحِ الْمَالِ وَتَثْمِيرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ خُسْرَانٌ لَكَانَ مَجْبُورًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِلْعَامِلِ وَشَرِيكًا فِيهِ لَمَا جَازَ أَنْ يُجْبَرَ بِهِ مَالُ غَيْرِهِ أَلَا تَرَاهُ إِذَا قَبَضَ الرِّبْحَ وَمَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ الْخُسْرَانُ بِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يُجْبَرُ بِهِ مَالُ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي رِبْحٍ إِنْ ظَهَرَ كَانَ شَرِيكًا فِي خُسْرَانٍ إِنْ حَدَثَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَامِلُ شَرِيكًا فِي الْخُسْرَانِ وَلَا مُلْتَزِمًا لِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ وَلَا مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ أَبُو الْعَامِلِ عَلَى رِقِّهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِشَيْءٍ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ وَمَالِكٌ لَهُ بِظُهُورِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَوُجْهَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْعَامِلِ إِجْبَارَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْقِسْمَةِ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِيهِ بِسَهْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِجْبَارُ عَلَى قِسْمَتِهِ - أَلَا تَرَاهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَا يَمْلِكُ إِجْبَارَهُ عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ، وَيَمْلِكُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَيُجْبِرُهُ إِذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، وَلَا شَيْءَ أَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْقِسْمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا بِالْقَبْضِ لَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَجْهُولَةَ الْقَدْرِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِرِبْحِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِ مِنْهَا لِشَرِكَتِهِ فِيهَا، وَلَيْسَتْ أُجْرَةً تَبْطُلُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَهْمُهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ فِي الْمَالِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ مَعَ الْخُسْرَانِ لِوُجُودِ الْعَمَلِ، وَإِنْ عُدِمَ الرِّبْحَ كَوُجُودِهِ مَعَ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأُجْرَةِ لَا تُسْقِطُ مُعَاوَضَةَ الْعَمَلِ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ فَتَلَفَ الْمَالُ بَعْدَ الْعَمَلِ لَمْ يُهْدَرْ عَمَلُهُ وَاسْتَحَقَّ بِهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْأُجْرَةِ وَصِحَّةِ الشَّرِكَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ لَا بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرحب هِيَ جَمِيعَ ثَمَنِهِ. وَيَبْطُلُ عَقْدُ الْقِرَاضِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ - بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَبَا رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا اشْتَرَى أَبَا رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ بَطَلَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ أَبَا نَفْسِهِ بَطَلَ جَمِيعُ الْقِرَاضِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَبَا رَبِّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ جَمِيعُ عَقْدِهِ، وَأَبُو الْعَامِلِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رِبْحِهِ، وَرِبْحُ الْقِرَاضِ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا قِسْمَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ أَوْ أَكْثَرَ فِي أَنَّ الْقِرَاضَ كُلَّهُ قَدْ بَطَلَ لِأَنَّ أَخْذَ بَعْضِ الرِّبْحِ كَأَخْذِ جَمِيعِهِ فِي الْفَسْخِ. فَإِنِ اسْتَأْنَفَ مِنَ الْمَالِ مَعَهُ قِرَاضًا بَعْدَ شِرَاءِ أَبِيهِ كَانَ عَقْدًا مُسْتَجَدًّا، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ أَبِيهِ كَأَنَّهَا كَانَتْ بِقَدْرِ نِصْفِهِ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَصَارَ بِعِتْقِهِ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ حَقِّهِ ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةٍ بَاقِيَةٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ وَعَتَقَ جَمِيعُهُ فَيَصِيرُ نِصْفُهُ مُعْتَقًا بِالثَّمَنِ وَنِصْفُهُ مُعْتَقًا بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ معسراً بقيمة باقية وعتق مِنْهُ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقَّ. فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ عِنْدَ شِرَاءِ أَبِيهِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ أَبِيهِ عَلَى الرِّقِّ، فَإِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ فِيمَا بَعْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَبَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ. فَصْلٌ : إِذَا ادَّعَى الْعَامِلُ ظُهُورَ الرِّبْحِ فِي الْمَالِ وَطَالَبَ بِالْقِسْمَةِ لَمْ يُجْبَرِ الْمَالِكُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِظُهُورِ الرِّبْحِ أَوْ يَتَحَاسَبَانِ فَيَظْهَرُ لَهُ الرِّبْحُ. وَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يُحَاسِبَهُ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِ الْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَصْدُقُ فيما يخير بِهِ مِنْ وُفُورِهِ أَوْ سَلَامَتِهِ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَالُ تَحَاسَبَا، فَإِنْ ظَهَرَ رِبْحٌ تَقَاسَمَا، فَلَوْ تَقَاسَمَا قَبْلَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَامِلُ مِنْ قَدْرِ الرِّبْحِ ثُمَّ تَحَاسَبَا فَوَجَدَا رَأْسَ الْمَالِ نَاقِصًا تَرَادَّا الرِّبْحَ لِيَسْتَكْمِلَ رَأْسَ الْمَالِ. وَلَوْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ، وَالْعَامِلُ بِالْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَالِ عَنْهُمَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يجوز لأنه احتياط لهما تركاه. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُمَا يَتَحَاسَبَانِ عَلَى جَهَالَةٍ. وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَتَى شَاءَ رَبُّهُ أَخْذَ مَالِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ وَمَتَى شَاءَ الْعَامِلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْقِرَاضِ خَرَجَ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبِعْدَهُ مَعَ وُجُودِ الرِّبْحِ أَوْ حُدُوثِ الْخُسْرَانِ، فَإِذَا فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا انْفَسَخَتْ وَصَارَ كَاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى فَسْخِهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَالُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ غَيْرَ نَاضٍّ. فَإِنْ كَانَ نَاضًّا مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ، أَوْ يَكُونَ دَنَانِيرَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ، فَالْعَامِلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْفَاسِخَ أَوْ رَبُّهُ، ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ تَقَاسَمَاهُ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ، أَوْ كَانَ فِيهِ خُسْرَانٌ أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْعَامِلِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرَ أَوْ يَكُونَ دَنَانِيرَ وَرَأْسُ المال دراهم فحكم هذا كمحكمه لَوْ كَانَ عَرْضًا. وَلَهُمَا فِي الْعَرْضِ بَعْدَ فَسْخِ الْقِرَاضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى بَيْعِهِ فَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ عَقْدِهِ فَإِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ وَتَقَاسَمَا فَضْلًا إِنْ كَانَ فيه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِ بَيْعِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ثَمَنِهِ لَوْ بِيعَ فَضْلٌ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهُ وَصَارَ الْعَرْضُ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، فَإِنْ زَادَ ثَمَنُهُ بَعْدَ تَرْكِ الْعَامِلِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي زِيَادَتِهِ لِخُرُوجِهِ بِالتَّرْكِ عَنْ قِرَاضِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ لَوْ بِيعَ عِنْدَ تَرْكِهِ فَيَنْظُرُ فِي تَرْكِ الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فَقَدْ صَارَ الْعَرْضُ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا شيء للعامل فيه. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَهُ تَأْخِيرًا لِبَيْعِهِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ فَضْلِ ثَمَنِهِ وَلَهُ بَيْعُهُ متى شاء. والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ الْعَامِلُ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْنَعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لا يرجو من ثَمَنِهِ فَضْلًا وَلَا يَأْمُلَ رِبْحًا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِبَيْعِهِ شيئاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجُوَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلًا وَيَأْمُلَ رِبْحًا فَلَهُ بَيْعُهُ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَهُ لِيَصِلَ بِالْبَيْعِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الرِّبْحِ. فَلَوْ بَذَلَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ بَيْعِهِ فَفِي بَيْعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي سَيِّدِ الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَنَعَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَذَلَ لَهُ قَدْرَ قِيمَتِهِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ لِوُصُولِهِ إِلَى قِيمَتِهِ، وَيُمْنَعَ الْعَامِلُ مِنْ بَيْعِ الْعَرْضِ لِوُصُولِهِ إِلَى رِبْحِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ إِلَّا بِبَذْلِ جَمِيعِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجُو الْوُصُولَ إِلَيْهَا بِالْبَيْعِ إِنْ حَدَثَ لَهُ رَاغِبٌ، وَلَا يُمْنَعُ الْعَامِلُ مِنْ بَيْعِ الْعَرْضِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجُو زِيَادَةً على القيمة لحدوث راغب. والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى بَيْعِهِ وَيَمْتَنِعَ الْعَامِلُ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِغَيْرِ تَرْكٍ لحقه منه أجبر على بيعه لتنقطع عليه فِيهِ وَيَتَصَرَّفَ رَبُّ الْمَالِ فِي ثَمَنِهِ. وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ تَرْكًا لَحَقِّهِ مِنْهُ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبِرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقَّيْهِمَا، وَبِبُطْلَانِ الْقِرَاضِ قَدْ سَقَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِأَنَّ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْعَرْضُ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عنه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ صَارَ لِوَارِثِهِ فَإِنْ رَضِيَ تُرِكَ الْمُقَارِضُ عَلَى قِرَاضِهِ وَإِلَّا فَقَدِ انْفَسَخَ قِرَاضُهُ وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَعْمَلَ مَكَانَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، عَقْدُ الْقِرَاضِ يَبْطُلُ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلِ، لِأَنَّ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ دُونَ اللَّازِمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ عَاقِدِهَا وَهُمَا فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ تَمَّ بِهِمَا، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ. فَإِنْ بَطَلَ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هُوَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ نَاضًّا أَوْ عَرْضًا: فَإِنْ كَانَ نَاضًّا مُنِعَ الْعَامِلُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، ثُمَّ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَرْجِعُوا رَأْسَ الْمَالِ، وَيُقَاسِمُوا الْعَامِلَ عَلَى رِبْحٍ إِنْ كَانَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي الْمُقَامِ عَلَى قِرَاضِ أَبِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ عَقْدًا مُبْتَدَأً، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عالمين بقدر المال، أو جاهلين له. فَإِنْ كَانُوا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ صَحَّ الْقِرَاضُ إِنْ كَانُوا أَهْلَ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرِكَةِ مَيِّتِهِمْ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا. وَإِنْ كَانُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُمْ. ثُمَّ إِذَا صَحَّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لِلْعَامِلِ فِيهِ رِبْحٌ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَكُلُّ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ قِرَاضُ لِوَرَثَةِ رَبِّهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ رِبْحٌ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّهِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِهِ، وَيَخْتَصُّ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ فَضْلِهِ، وَمُضَارِبٌ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ مَعَ رَأْسِ الْمَالِ بِمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِبْحِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَاهِلِينَ بِقَدْرِ الْمَالِ عِنْدَ إِذْنِهِمْ لَهُ بِالْقِرَاضِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَالٍ مَجْهُولٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاضَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ. وَإِنْ كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ عِنْدَ مَوْتِ رَبِّهِ عَرْضًا فَلِلْعَامِلِ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ الْمَاضِي وَلَيْسَ الشِّرَاءُ مِنْ حُقُوقِهِ إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ. فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَرَثَةُ فِي الْمُقَامِ عَلَى قِرَاضِ أَبِيهِمْ: فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِلْعَرْضِ فَقَدْ صَارَ الثَّمَنُ نَاضًّا فَيَكُونُ كَإِذْنِهِمْ لَهُ بِالْقِرَاضِ وَالْمَالُ نَاضٌّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بَيْعِ الْعَرْضِ فَفِي جَوَازِ الْقِرَاضِ وَجْهَانِ خَرَجَ مِنْهُمَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْقِرَاضَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَقْدَهُ بِالْعَرْضِ بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ اسْتِصْحَابٌ لِعَقْدٍ جَائِزٍ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هُوَ الْعَامِلُ فَلَيْسَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِيَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَالُ نَاضًّا أَوْ عَرْضًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الْمَالِ فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَارِثَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الْعَامِلُ فَلَا يَجُوزَ لِوَارِثِهِ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ: إِنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ قَدْ أَوْجَبَ ائْتِمَانَ الْعَامِلِ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ لِرَبِّهِ أَوْ لِوَارِثِهِ، وَمَا أَوْجَبَ ائْتِمَانَ وَارِثِ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ لَا مَعَ رَبِّهِ وَلَا مَعَ وَارِثِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا اسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَاقْتَسَمَا رِبْحًا إِنْ كَانَ فِيهِ، فَلَوْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِوَارِثِ الْعَامِلِ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْقِرَاضِ صَحَّ إِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ الْمَالِ وَيَبْطُلُ إِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِقَدْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ بَطَلَ بِجَهَالَةِ الْقَدْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الْمَالِ فَيَصِحُّ الْقِرَاضُ بِإِذْنِ وَارِثِهِ لِلْعَامِلِ وَلَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِرَاضِ الْمَالُ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ، وَالْعَمَلُ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بَاقِيًا فَجَازَ اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ لِبَقَاءِ مَقْصُودِهِ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِحُدُوثِ الْجَهَالَةِ فِيهِ، وَإِذَا مَاتَ الْعَامِلُ فَقَدْ فَاتَ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ، وَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَانَ اسْتِئْنَافُ عَقْدٍ مَعَ وَارِثِهِ فَبَطَلَ بِحُدُوثِ الْجَهَالَةِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ عِنْدَ مَوْتِ الْعَامِلِ عَرْضًا لَمْ يَجُزْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بيع الْعَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا أَذِنَ لَهُ بَاعَهُ، وَاقْتَسَمَا بَعْدَ رَدِّ رأس المال الفضل إذا كَانَ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ رَبُّ الْمَالِ لِوَارِثِ الْعَامِلِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَقْدِ الْقِرَاضِ كَالْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ بَيْعِ الْعَرْضِ، وَالْعِلْمِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ الْعَرْضُ بَاقِيًا أَوْ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا بَطَلَ وَجْهًا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا من الفرق والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَبِيعُ مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ ثيابٍ أَوْ أَدَاةِ السَّفَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فضلٌ كَانَ لِوَارِثِهِ وَإِنْ كَانَ خسرانٌ كَانَ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا بَطَلَ الْقِرَاضُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ بَيْعُ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ عَرْضٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ أَدَاةٍ لِلسَّفَرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مع ما كان في ثِيَابٍ فَتَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ ثِيَابَ سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فِي الْقِرَاضِ. وَهُوَ لَعَمْرِي يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى ثِيَابٍ اشتراها العامل للتجارة أو اشتراها لِنَفْسِهِ وَهِيَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِسَفَرِهِ. فَإِذَا بِيعَ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو مَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِ جَمِيعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِيهِ لِعَدَمِ رِبْحِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ رَأْسَ مَالِهِ ثُمَّ الْعَامِلُ شَرِيكُهُ فِي رِبْحِهِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِهِ فِي عَقْدِهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ. فَلَوْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ صَارَ نَاضًّا نُظِرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَا قَدْ عَيَّنَا حَقَّ الْعَامِلِ مِنْهُمَا فِيهِ كَانَ التَّالِفُ مِنْهُ تَالِفًا مِنْهُمَا بِالْحِصَصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ عَيَّنَا حَقَّ العامل فيه فالتلف مِنْهُ تَالِفٌ مِنَ الرِّبْحِ وَحْدَهُ لِأَنَّ الرِّبْحَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْعَامِلِ لَهُ مُرْصَدٌ لِجُبْرَانِ رَأْسِ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِمَّا بِخُسْرَانٍ قَدْ حَصَلَ فِي الْمَالِ أَوْ لِحَادِثٍ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَعُودُ عَلَيْهِمَا وَالْخُسْرَانُ مُخْتَصٌّ بِرَبِّ الْمَالِ مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِمَا كَمَا كَانَ الرِّبْحُ لَهُمَا؟ قِيلَ: هُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَإِنْ عَادَ الخسران على رب المال، لأنه الْخُسْرَانَ يَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى مَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ مِنْهُمَا، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا تَنَاوَلَ عَمَلًا مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ، وَمَالًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَعَادَ الْخُسْرَانُ عَلَى الْعَامِلِ بِذَهَابِ عَمَلِهِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ بِذَهَابِ مَالِهِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ تَحَمُّلَ الْعَامِلَ لِلْخُسْرَانِ كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِاشْتِرَاطِهِمَا خِلَافَ مُوجِبِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا شَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا فَهُمَا مسألتان: أحدها: أَنْ يَشْتَرِطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ: أن يشترطا جميع الربح للعامل. فأما إذا اشْتَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَقُلْ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ دَفْعِهِ أَنَّهُ قِرَاضٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ خُذْهُ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ وَلِي جَمِيعَ الرِّبْحِ فَهَذِهِ اسْتِعَانَةٌ بِعَمَلِهِ وَلَيْسَ بِقِرَاضٍ وَالْعَامِلُ مُتَطَوِّعٌ بِعَمَلِهِ فِيهِ وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ. وَإِنْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي فَهَذَا قِرَاضٌ فَاسِدٌ، وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ مَعَ الرِّضَا بِأَنْ لَا رِبْحَ لَهُ مُتَطَوِّعٌ بِعَمَلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِعَمَلِهِ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ، فَصَارَ كَالْمَنْكُوحَةِ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ تَسْتَحِقُّ مَعَ الرِّضَا بِذَلِكَ مهل المثل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وَأَمَّا إِنْ شَرَطَا جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لَكَ فَهَذَا قِرَاضٌ فَاسِدٌ، وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ. وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِدُخُولِهِ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ خُذْهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ رِبْحِهِ لَكَ، وَلَا يُصَرِّحُ فِي حَالِ الدَّفْعِ بِأَنَّهُ قِرَاضٌ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ قَرْضًا وَسَلَفًا وَلَا يَكُونُ 0 قِرَاضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا، وَلَا يَكُونُ قَرْضًا وَلَا سَلَفًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَيَكُونُ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِرَاضًا، فَتَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ فِي يَدِ الْعَامِلِ وَبَقِيَ أَلْفٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِ الْعَامِلِ بِهَا فَهَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ فِيهِ الْأَلْفَ الْبَاقِيَةَ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلُ أَنْ يُجْبِرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ لِأَنَّهَا بِالتَّلَفِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ قِرَاضًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى بِهَا وَبَاعَ ثُمَّ تَلِفَتْ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعَ فَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ كِلَا الْأَلْفَيْنِ، وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يُجْبَرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ لِأَنَّهَا بِالتَّصَرُّفِ الْكَامِلِ قَدْ صَارَتْ قِرَاضًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى بِهَا عَرْضًا وَتَلِفَ الْعَرْضُ قَبْلَ بَيْعِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِرَاضٌ لِتَلَفِهَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الِابْتِيَاعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ قِرَاضًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ لَا تَصِيرُ قِرَاضًا لِتَلَفِهَا قَبْلَ كَمَالِ التَّصَرُّفِ بِبَيْعِ مَا اشْتُرِيَ بِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَا يلزم العامل أن يجبر بالربح الألف التالفة لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ قِرَاضًا. فَصْلٌ : فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِرَاضًا، فَاشْتَرَى الْعَامِلُ بِهَا عُرُوضًا ثُمَّ تَلْفِتُ الْأَلْفُ قَبْلِ دَفْعِهَا ثَمَنًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الشِّرَاءِ مِنْ أَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْأَلْفِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ بَاطِلًا لِأَنَّ تَلَفَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْقِرَاضُ وَيَسْتَرْجِعُ الْبَائِعُ عَرْضَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْعَامِلِ، وَلَمْ يَعْقِدْهُ عَلَى عَيْنِ الْأَلْفِ فَفِي الشِّرَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ مَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ؛ وَهَذَا على الوجه الذي يقول منه إِنَّ مَا تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْبَيْعِ خَارِجٌ مِنَ الْقِرَاضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ فِي الْقِرَاضِ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ لَهُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ مَا تَلِفَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْبَيْعِ دَاخِلٌ فِي الْقِرَاضِ. فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ أَلْفًا ثَانِيَةً تُصْرَفُ فِي ثَمَنِ الْعَرْضِ يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ الْأَلْفَ التَّالِفَةَ، فَلَوْ تَلِفَتْ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ دَفْعِهَا فِي ثَمَنِ الْعَرْضِ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ أَلْفًا ثَالِثَةً وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَجْبُرَ بِالرِّبْحِ كِلَا الْأَلْفَيْنِ التَّالِفَتَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِرَاضًا، ثُمَّ دَفَعَ بَعْدَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أُخْرَى قِرَاضًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ خَلْطِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهَذَا جَائِزٌ، وَيَكُونَ كُلُّ أَلْفٍ مِنْهُمَا قِرَاضًا مُفْرَدًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا شَرَطَاهُ مِنْ رِبْحَيْهِمَا وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا وَيُمْنَعَ مِنْ خَلْطِهِمَا لِلشَّرْطِ وَلِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَقْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَهُ بِخَلْطِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الرِّبْحِ مِنْهُمَا مُخْتَلِفًا فَلَا يَجُوزَ لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَيُّزِ رِبْحِهِمَا، وَيَكُونَ الْقِرَاضُ فِي الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا. فَأَمَّا الْأَلْفُ الْأُولَى فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِهَا عَرْضًا لَمْ يَبْطُلِ الْقِرَاضُ فِيهَا لأن العقد بعد الشراء مستقر وَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا لِمَ يَشْتَرِيهَا عَرْضًا بَطَلَ الْقِرَاضُ فِيهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الرِّبْحِ مِنْهُمَا مُتَّفَقًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى صَحَّ الْقِرَاضُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَحَّ فِي الْأُولَى وَبَطَلَ فِي الثَّانِيَةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِ بِالْأُولَى عَرْضًا فَالْقِرَاضُ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَصَارَتِ الْأَلْفَانِ قِرَاضًا وَاحِدًا، وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 عَرْضًا فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْقِرَاضُ فِيهَا وَصَارَتِ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ قِرَاضًا ثَانِيًا، وَخَلْطُ أَحَدِ الْقِرَاضَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ بِالْآخَرِ وَهُوَ بِاخْتِلَاطِهِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِخَلْطِهِمَا وَلَا يَنْهَاهُ فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ شَرْطُ الرِّبْحِ مُخْتَلِفًا فَهُمَا قِرَاضَانِ لَا يَجُوزُ خَلْطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ شَرْطُ رِبْحِهِمَا مُتَّفَقًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى كَانَا قِرَاضَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلْطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ دَفْعُ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْأَلْفِ الْأُولَى فَهُمَا قِرَاضٌ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ خَلْطُ إِحْدَى الْأَلْفَيْنِ بِالْأُخْرَى وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ خُسْرَانَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ الْآخَرِ. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ أَلْفًا قِرَاضًا فَعَمِلَ بِهَا الْعَامِلُ وَخَسِرَ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَمِلَ الْعَامِلُ بِالْبَاقِي فصارت ألفاً وخمسمائة وأراد أَنْ يَعْلَمَا قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ لِيَقْتَسِمَا الرِّبْحَ فَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا خَسِرَ فِي الْأَلْفِ مِائَةً لَزِمَ تَقْسِيطُهَا عَلَى التِّسْعِمِائَةٍ فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ مِائَةِ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتِسْعًا، فَلَمَّا اسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ مِائَةً تَبِعَهَا قِسْطُهَا مِنَ الْخُسْرَانِ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَتِسْعًا وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَرْجَعُ مِنَ الْأَلْفِ وَيَبْقَى رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ دِرْهَمٍ. فَلَوْ كَانَ قَدْ خَسِرَ الْعَامِلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَاسْتَرْجَعَ رَبُّ الْمَالِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ مِائَةٍ مِنَ الْخُسْرَانِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ قَارَضَ الْعَامِلُ بِالْمَالِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ ضامنٌ فإن رجع فَلِصَاحِبِ الْمَالِ شَطْرُ الرِّبْحِ ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عمل شطره فيما يبقى قال المزني هذا قوله قديماً وأصل قوله الجديد المعروف أن كل عقدٍ فاسدٍ لا يجوز وإن جوز حتى يبتدأ بما يصلح فإن كان اشترى بعين المال فهو فاسدٌ وإن كان اشترى بغير العين فالشراء جائز والربح والخسران للمقارض الأول وعليه الضمان وللعامل الثاني أجرٌ مثله في قياس قوله ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْقِرَاضِ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ إِذْنًا صَحِيحًا صَرِيحًا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ دَفْعِهِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ قِرَاضًا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِ فَجَازَ أَنْ يُقَارِضَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِيهِ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِهِ، فَإِذَا قَارَضَ بِهِ كَانَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَارَضَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ لِعُدُولِهِ بِذَلِكَ عَنْ عَمَلِهِ إِلَى عَمَلِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا قَارَضَ بِبَعْضِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ بِالْمَالِ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَخْلُو رَبُّ الْمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يأذن له في العمل بنفس وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. فَإِنْ قَارَضَ غَيْرَهُ بِالْمَالِ فَقَدْ تَعَدَّى وَصَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ بِعُدْوَانِهِ، وَأَنَّهُ كَالْغَاصِبِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ مُعْتَبَرًا بِحُكْمِ الْغَاصِبِ فِيمَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْ رِبْحٍ. وَالْغَاصِبُ إِذَا اشْتَرَى بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ عَرْضًا وَأَفَادَ فِيهِ رِبْحًا لَمْ يَخْلُ عَقْدُ ابْتِيَاعِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَغْصُوبِ بَاطِلٌ، وَمَعَ بُطْلَانِ الشِّرَاءِ يَفُوتُ الرِّبْحُ فَلَا يَحْصُلُ لِلْغَاصِبِ وَلَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ وَالثَّمَنُ مَدْفُوعٌ مِنَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَالرِّبْحُ مَمْلُوكٌ بِهَذَا الِابْتِيَاعِ لِصِحَّتِهِ. وَفِي مُسْتَحَقِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّ الرِّبْحَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ دُونَ الْغَاصِبِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَ مَا حَدَثَ عَنِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْ ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ غَاصِبِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ الرِّبْحِ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ غَاصِبِهِ لِأَنَّهُمَا مَعًا نَمَاءٌ عَنْ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مَحْظُورٍ تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى مِلْكِ مَالٍ، كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْمَحْظُورُ مَانِعًا مِنْ مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمِيرَاثِ الْقَاتِلِ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مُنِعَ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْمِيرَاثُ ذَرِيعَةً إِلَى الْقَتْلِ. كَذَلِكَ الْغَاصِبُ لَمَّا كَانَ الْغَصْبُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ الرِّبْحَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الرِّبْحَ بِغَصْبِهِ لَصَارَ ذَرِيعَةً إِلَى الْغَصْبِ لِيَرُدَّ الْمَالَ بَعْدَ اسْتِفَادَةِ الرِّبْحِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهِ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة إِنَّ الرِّبْحَ لِلْغَاصِبِ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ شيئان: أحدها: أَنَّ كُلَّ نَمَاءٍ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ كَانَ مِلْكُ ذَلِكَ النَّمَاءِ لِمَالِكِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَرِبْحُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ حَادِثٌ عَنِ التَّقَلُّبِ وَالْعَمَلِ دُونَ المال فاقتضى أن يكون ملكاً لمن فه التَّقَلُّبُ وَالْعَمَلُ دُونَ مَنْ لَهُ الْمَالُ وَهُوَ الْغَاصِبُ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّمَارَ وَالنِّتَاجَ لَمَّا كَانَتْ حَادِثَةً عَنِ الْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ كَانَتْ لِمَنْ لَهُ الْمَالُ دُونَ مَنْ لَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ دُونَ الْغَاصِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَاصِبَ مَأْخُوذٌ بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَ بِغَصْبِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ دُونَ الرِّبْحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَالِ المغصوب دون الربح. فهذا توجيه قوليه فِي الْجَدِيدِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْغَاصِبِ فَحُكْمُ الْعَامِلِ إِذَا قَارَضَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ بِالْقِرَاضِ غَاصِبٌ فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمَالِ، وَفِي الرِّبْحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ إِنَّ رِبْحَ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ، فَعَلَى هذا قال المزني ها هنا إِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَالْعَامِلِ الثَّانِي. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ: فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَالٍ مَغْصُوبٍ فَأَشْبَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ غَيْرِ مُقَارَضَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ وَرِبْحَهُ كُلَّهُ رَجَعَ الْعَامِلُ الثَّانِي عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لِعَمَلِهِ وَالْعَامِلُ لَهُ بِقِرَاضِهِ. فَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ الْعَامِلِ الثَّانِي كَانَ رَبُّهُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَجَمِيعِ رِبْحِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أَوِ الْعَامِلِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ وَالثَّانِي ضَامِنٌ بِيَدِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 فَإِنْ أُغْرِمَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ فِيمَا غَرِمَهُ، وَإِنْ أُغْرِمَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا غَرِمَهُ مَعَ أُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَإِنْ أَخَذَ جَمِيعَ الرِّبْحِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلَيْنِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْغَصْبِ عَلَيْهِمَا بِالْمُخَالَفَةِ. وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا نَصِفُهُ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ غَصْبًا محضاً، لأن رب المال في هذا الوضع دَفَعَ الْمَالَ رَاضِيًا بِالنِّصْفِ مِنْ رِبْحِهِ وَجَاعِلًا نِصْفَهُ الْبَاقِيَ لِغَيْرِهِ، فَذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ إِلَّا النِّصْفَ. فَأَمَّا النِّصْفُ الْبَاقِي فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلثَّانِي لِفَسَادِ عَقْدِهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ، فَيُجْعَلُ الرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ المال وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَيُجْعَلُ لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الرِّبْحِ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى شَرْطِهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ حُكْمُ الْقِرَاضِ مَعَ رَبِّ الْمَالِ، جَرَى عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ حُكْمُ الْقِرَاضِ مَعَ الْعَامِلِ الثَّانِي فَصَارَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِيمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ بِاسْتِحْقَاقِ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ مِنْهُمَا، وَيَصِيرَا كَأَنَّهُ لَا رِبْحَ لَهُمَا إِلَّا النِّصْفُ الْبَاقِي، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ إِنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّ الْعَامِلَيْنِ شَاءَ بِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِعُدْوَانِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِيَدِهِ. فَأَمَّا الرِّبْحُ فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ: يَكُونُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ أَنَّ الْمُزَنِيَّ مُخْطِئٌ فِي نَقْلِهِ، وَالرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ الرِّبْحُ تَبَعًا لِلْعَمَلِ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلثَّانِي الَّذِي لَهُ الْعَمَلُ دُونَ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْمُزَنِيَّ مُصِيبٌ فِي نَقْلِهِ وَالرِّبْحُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَلِلثَّانِي عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ، وَالْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُ رِبْحَهُ وَإِنْ فَسَدَ قِرَاضُهُ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِفَسَادِ الْعَقْدِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَصِيدَ لَهُ وَيَحْتَشَّ إِجَارَةً فَاسِدَةً، فَصَادَ الْأَجِيرُ وَاحْتَشَّ كَانَ الصَّيْدُ وَالْحَشِيشُ لِلْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمُسْتَأْجِرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ. فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ. فَتَخَرَّجَ فِي الرِّبْحِ عَلَى مَا شَرَحْنَا مِنْ حُكْمِ الْقَوْلَيْنِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْعَامِلِينَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِي بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الثَّانِي وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَحْكِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِرَبِّ المال ولا للعامل الثاني، وهذا بَلْ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، فَهَذَا وَكَيْلٌ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَعَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَارِضَ نَفْسَهُ، كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَايِعَ نَفْسَهُ. ثُمَّ يُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُقَارِضُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِيمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِقِرَاضِهِ مِنْ ذَوِي الْأَمَانَةِ وَالْخِبْرَةِ. فَإِنْ قَارَضَ أَمِينًا غَيْرَ خَبِيرٍ بِالتِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ قَارَضَ خَبِيرًا بِالتِّجَارَةِ غَيْرَ أَمِينٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ فِيهِ: الْخِبْرَةُ وَالْأَمَانَةُ. فَإِنْ عَدَلَ عَمَّا وَصَفْنَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مقارضة نفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 وَالثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مُقَارَضَةِ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ. فَإِنْ عَدَلَ إِلَى مُقَارَضَةِ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّ ائْتِمَانَهُ عَلَى الْمَالِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى مُقَارَضَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى التِّجَارَةِ بِهِ، فَصَارَ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي رِبْحِ الْمَالِ، وَيَكُونُ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ رِبْحَ الْمَغْصُوبِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْغَاصِبِ، لِأَنَّهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ فَقَدْ صَارَ بِمُقَارَضَتِهِ نَفْسَهُ مُشْتَرِيًا لِرَبِّ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا حَقٌّ فِي الرِّبْحِ. وَلَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَطَوِّعًا بِعَمَلٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَإِنْ عَدَلَ إِلَى مُقَارَضَةِ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ بِعُدْوَانِهِ، وَكَانَ الْعَامِلُ فِيهِ ضَامِنًا لَهُ بِيَدِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ يَدَهُ عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ ضَمِنَهُ، كَمَنِ اسْتَوْدَعَ مَالًا مَغْصُوبًا. وَيَكُونُ جَمِيعُ رِبْحِهِ لِرَبِّ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْعَامِلَ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ، وَهَلْ يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ الْغَارِّ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ - هَلْ يَرْجِعُ مَنْ غَرَّهُ بِالَّذِي غَرِمَهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ لِمَكَانِ الْإِذْنِ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَفِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ. فَإِنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ صَحَّ وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَإِنْ قَارَضَ غَيْرَهُ كَانَ وَكِيلًا فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَعَهُ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِيهِ ثُمَّ نُظِرَ فِي عَقْدِهِ لِلْقِرَاضِ مَعَ غَيْرِهِ: فَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ فِيهِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ فِيهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ صَحَّ الْقِرَاضُ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَإِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ فِي الرِّبْحِ سَهْمًا وَجَعَلَ الرِّبْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ أَثْلَاثًا كَانَ الْقِرَاضُ فَاسِدًا، لِأَنَّ رِبْحَ الْقِرَاضِ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمَالِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ وَكِيلٌ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الرِّبْحِ حَقٌّ، وَصَارَ شَرْطُهُ مُنَافِيًا لِلْعَقْدِ فَبَطَلَ وَصَارَ الْعَامِلُ مُضَارِبًا فِي قِرَاضٍ فَاسِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِجَوَازِ مُقَارَضَتِهِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ التَّعَدِّي فِي الْعَقْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا تَعَدِّي الْعَامِلِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ فِيهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مِثْلَ إِذْنِهِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْأَقْوَاتِ فَيَتَّجِرُ فِي الْحَيَوَانِ، فَهَذَا تَعَدٍّ يُضْمَنُ بِهِ الْمَالُ، وَيَبْطُلُ مَعَهُ الْقِرَاضُ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي مُقَارَضَةِ غَيْرِهِ بِالْمَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ لِتَغْرِيرِهِ بِالْمَالِ، مِثْلَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالسَّفَرِ، أَوْ يَرْكَبَ بِهِ بَحْرًا وَلَمْ يُؤْمَرْ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِ الْمَالِ بِيَدِهِ ضَمِنَهُ، وَبَطَلَ الْقِرَاضُ بِتَعَدِّيهِ، لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ تَعَدِّيهِ فِي عَيْنِ الْمَالِ غَاصِبًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ انْتِقَالِ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى عَرُوضٍ مَأْذُونٍ فِيهَا ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْقِرَاضُ لِاسْتِقْرَارِهِ بِالتَّصَرُّفِ وَالشِّرَاءِ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ حَالَ عَلَى سلعةٍ فِي الْقِرَاضِ حولٌ وَفِيهَا ربحٌ فَفِيهَا قولان: أحدهما أن الزكاة على رأس المال والربح وحصة ربح صاحبه ولا زكاة على العامل لأن ربحه فائدةٌ فإن حال الحول منذ قوم صار للمقارض ربحٌ زكاه مع المال لأنه خليطٌ بربحه وإن رجعت السلعة إلى رأس المال كان لرب المال. والقول الثاني أنها تزكى بربحها لحولها لأنها لرب المال ولا شيء للعامل في الربح إلا بعد أن يسلم إلى رب المال ماله (قال المزني) هذا أشبه بقوله لأنه قال لو اشترى العامل أباه وفي المال ربحٌ كان له بيعه فلو ملك من أبيه شيئاً لعتق عليه وهذا دليلٌ من قوله على أحد قوليه وقد قال الشافعي رحمه الله لو كان له ربحٌ قبل دفع المال إلى ربه لكان به شريكاً ولو خسر حتى لا يبقى إلا قدر رَأْسِ الْمَالِ كَانَ فِيمَا بَقِيَ شَرِيكًا لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئَا زَائِدًا مَلَكَهُ نَاقِصًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ مَالُ الْقِرَاضِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَيَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا وَقَدْ صَارَتْ بِرِبْحِ التِّجَارَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَفِي زَكَاتِهَا قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ، هَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ؟ أَوْ وَكِيلٌ مُسْتَأْجِرٌ بِحِصَّةٍ مِنَ الرِّبْحِ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ وَكِيلٌ مُسْتَأْجَرٌ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ أُجْرَةٌ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ كُلُّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ لكونه مالكاً لجميعها. ويزكى الربح بحول الأصول لِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْحَوْلِ وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالِ إِنْ شَاءَ. وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُخْرِجُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ فِي أَصْلِ الْمَالِ وَالرِّبْحُ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَهُ فِي الزَّكَاةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْرِجُهَا مِنَ الرِّبْحِ دُونَ الأصل لأنها مؤونة فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْمُؤَنِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِإِخْرَاجِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقِرَاضِ لِبَقَاءِ الْأَصْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْأَصْلِ زَكَاتَهُ وَمِنَ الرِّبْحِ زَكَاتَهُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِيهِمَا فَلَمْ يَخْتَصَّ إِخْرَاجُهَا بِأَحَدِهِمَا. فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ مِنَ الْقِرَاضِ بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاةِ الْأَصْلِ دُونَ الرِّبْحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ يَضْرِبُ فِي الرِّبْحِ بِسَهْمِ الْمِلْكِ. فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَفِي مَحَلِّ إِخْرَاجِهَا الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ. وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ. وَفِي ابْتِدَاءِ حَوْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حِينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِحُدُوثِهِ عَنْ مِلْكِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حِينِ الْمُحَاسَبَةِ وَالْفَضْلِ لِأَنَّهُ مِنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ حَالَ الرِّبْحِ. وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا يُخَالِفُ رَبُّ الْمَالِ الَّذِي يُزَكِّي الرِّبْحَ بِحَوْلِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّمَاءِ مَعَ أَصْلِهِ يُوجِبُ ضَمَّهُ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ، وَانْفِرَادَهُ عَنْهُ يُوجِبُ إِفْرَادَهُ بِحَوْلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النحال إِذَا كَانَتْ مَعَ أُمِّهَا زُكِّيَتْ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَلَوِ انْفَرَدَتْ زُكِّيَتْ بِحَوْلِهَا. ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؟ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَالِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ إِخْرَاجَ رَبِّ الْمَالِ لَهَا مِنَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ أَصْلٍ فَجَازَ، وَإِخْرَاجَ الْعَامِلِ لَهَا مِنَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ رِبْحٍ فَلَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا ثِمَارُ الْمُسَاقَاةِ إِذَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَزَكَاةِ الْمَالِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَالثَّانِي فِي حِصَّتَيْهِمَا مَعًا، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْأَدَاءِ بِهَا لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي حَقَّيْهِمَا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ عَلَى سَوَاءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْعُشْرَ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا مَعًا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ فِي أَحَدِ القولين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْمَالِ الْمُزَكَّى وَهُوَ الْأَصْلُ اخْتَصَّ بِتَحَمُّلِ الزَّكَاةِ عَنِ الْكُلِّ. وَكَمَا لَمْ يَخْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ لَمْ يَتَحَمَّلْ زَكَاةَ كُلِّ الثَّمَرَةِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ نَصِيبَ الْعَامِلِ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَجْبُرَ بِهِ مَا حَدَثَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَصْلِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ، وَنَصِيبُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ مُسْتَقِرٌّ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُمَا، وَالتَّالِفَ مِنْهَا يَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَتَى شَاءَ رَبُّ الْمَالِ أَخَذَ مَالَهُ وَمَتَى أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ مِنَ الْقِرَاضِ فَذَلِكَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْقِرَاضِ أَوْ فَسْخِهِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ اللَّازِمَةِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الْمُسَاقَاةِ مُؤَقَّتَةٌ إِلَى مُدَّةٍ لَوْ لَمْ يَلْزَمِ الْعَقْدُ فِيهَا لَفَسَخَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ عَمَلِ الْعَامِلِ فَيَجْمَعُ لِنَفْسِهِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالثَّمَرَةِ، وَيَخْرُجُ الْعَامِلُ بِفَوْتِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ ثَمَرَةٍ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ. وَلَيْسَ الْقِرَاضُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِمُدَّةٍ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِأَقَلِّ عَمَلٍ وَبِأَقْرَبِ مُدَّةٍ، وَإِذَا فَسَخَ أَمْكَنَ الْعَامِلَ اسْتِدْرَاكُ عَمَلِهِ بِبَيْعِ مَا ابْتَاعَهُ فَلَا يَفُوتُهُ رِبْحُهُ فلذلك لم يلزم. مسائل المزني قال المازني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مِنْ ذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ خُذْهَا فَاشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا بِالنِّصْفِ كَانَ فَاسِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فَإِنِ اشْتَرَى فجائزٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَإِنْ بَاعَ فباطلٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَا قَالَ. إِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْعَامِلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ: اشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا بِالنِّصْفِ كَانَ فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ فساده على ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ عِلَّةَ فَسَادِهِ أَنَّهُ قَالَ فَاشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا فَلَمْ يُبَيِّنْ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 الْمَرْوِيِّ أَوِ الْهَرَوِيِّ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فَجَعْلَهُ مُشْكَلًا، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِأَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ أَوْ يُعَيَّنَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ فَسَادِهِ أَنَّهُ قَالَ بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُبَيِّنِ النِّصْفَ هَلْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ؟ قَالَ وَاشْتِرَاطُهُ نِصْفَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ مُبْطِلٌ لِلْقِرَاضِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ نِصْفَ الْعَامِلِ وَاشْتِرَاطُهُ نِصْفَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْقِرَاضِ، فَصَارَ الْقِرَاضُ بِهَذَا الْقَوْلِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَبَطَلَ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ بَطَلَ بِقَوْلِهِ فَاشْتَرِ وَلَمْ يَقُلْ وَبِعْ، وَالْقِرَاضُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عِلَّةِ فَسَادِهِ فَإِنِ اشْتَرَى كَانَ الشِّرَاءُ جَائِزًا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَإِنْ بَاعَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ قِرَاضًا فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا أَنَّ شِرَاءَ الْعَامِلِ وَبَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْقِرَاضِ وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْقِرَاضَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِرَاضِ فَحَمَلَ إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقِ الْقِرَاضِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا أَغْفَلَ فِيهِ الثَّمَنَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ الْقِيمَةُ وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَكُلِّ الْعُقُودِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا، وَيَصِحُّ شِرَاءُ الْعَامِلِ وَبَيْعُهُ. وَهَلْ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا أَوْ مَعُونَةً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ اسْتِعَانَةً بِعَمَلِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ وَبِعْ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي، فَعَلَى هَذَا لَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ أَمْرِهِ وَحَالِ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِي لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ قَالَ خُذْهَا قِرَاضًا أَوْ مُضَارَبَةً عَلَى مَا شَرَطَ فلانٌ مِنَ الرِّبْحِ لفلانٍ فَإِنْ عَلِمَا ذَلِكَ فجائزٌ وَإِنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَفَاسِدٌ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا دَفَعَ الْمَالَ قِرَاضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ فِي الرِّبْحِ قَدْرًا وَجَعَلَهُ مَحْمُولًا عَلَى مِثْلِ مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا فَإِنْ عَلِمَا مَا تَقَارَضَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَيْهِ صَحَّ قِرَاضُهُمَا لِأَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِمَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا وَقَدْ عَلِمَا أَنَّهُمَا تَقَارَضَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَلِذَلِكَ صَحَّ الْقِرَاضُ فِي الْحَالَيْنِ. وَإِنْ جَهِلَا مَا قَارَضَ بِهِ زَيْدٌ عَمْرًا كَانَ الْقِرَاضُ بَاطِلًا لِجَهْلِهِمَا بِقَدْرِهِ، وَالْجَهَالَةُ بِقَدْرِ الرِّبْحِ مُبْطِلَةٌ لِلْقِرَاضِ. فَإِنْ عَلِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَقَارَضَ عَلَيْهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَمْ يَصِحَّ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا. وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا حَالَ الْعَقْدِ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ لَمْ يَصِحَّ الْقِرَاضُ لِأَنَّ جَهْلَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْعِوَضِ كَجَهْلِهِمَا مَعًا بِهِ. فَلَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى مَا يُقَارِضُ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ يُقَارِضُ عَمْرًا وَقَدْ لَا يُقَارِضُهُ، وَقَدْ يُقَارِضُهُ عَلَى قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى مَا يُوَافِقُكَ عَلَيْهِ زَيْدٌ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِمَا يَكُونُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لَكَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَكْفِيكَ أَوْ يُقْنِعُكَ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِكِفَايَتِهِ وَقَنَاعَتِهِ. فَإِنِ اشْتَرَى وَبَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَكَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. مسألة قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ قَارَضَهُ بِأَلْفِ درهمٍ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ رِبْحِهَا لِلْعَامِلِ وَمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ فَثُلُثُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ فجائزٌ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ معلومةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ مَعْلُومًا صَحَّ بِهِ الْقِرَاضُ وَإِنْ بَعُدَ وَطَالَ، فَإِذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ، لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَمَا بَقِيَ فَلِي ثُلُثُهُ وَثُلُثَاهُ لَكَ صَحَّ الْقِرَاضُ وَكَانَ لِلْعَامِلِ سَبْعَةُ أَتْسَاعِ الرِّبْحِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ تُسْعَانِ لِأَنَّ مَخْرَجَ الثَّلَاثَةِ تِسْعَةٌ، وَهُوَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونُ لِلْعَامِلِ بِالثُّلُثِ مِنَ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ بِثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنَ التِّسْعَةِ أَرْبَعَةٌ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ سَبْعَةَ أَتْسَاعٍ، وَيَبْقَى لِرَبِّ الْمَالِ تُسْعَانِ. غَيْرَ أَنَّنَا نَسْتَحِبُّ لَهُمَا أَنْ يَعْدِلَا عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْغَامِضَةِ إِلَى مَا يُعْرَفُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ قَدْ تُوضَعُ لِلْإِخْفَاءِ وَالْإِغْمَاضِ كَمَا قَالَ الشاعر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 (لَكِ الثُّلُثَانِ مِنْ قَلْبِي ... وَثُلُثَا ثُلُثِهِ الْبَاقِي) (وَثُلُثَا ثُلُثِ مَا يَبْقَى ... وَثُلُثَ الثُّلُثِ لِلسَّاقِي) (وَتَبْقَى أسهمٍ ستٍّ ... تُفَرَّقُ بَيْنَ عُشَّاقِي) فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الشَّاعِرِ وَبَلَاغَتِهِ وَتَحْسِينِ عِبَارَتِهِ، كَيْفَ أَغْمَضَ كَلَامَهُ، وَقَسَّمَ قَلْبَهُ، وَجَعْلَهُ مُجَزَّءًا عَلَى أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ لِيَصِحَّ مِنْهَا مَخْرَجُ ثُلُثِ ثُلُثِ ثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي، فَجَعَلَ لِمَنْ خَاطَبَهُ أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ قَلْبِهِ، وَجَعَلَ لِلسَّاقِي جُزْءًا، وَبَقِيَ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ يُفَرِّقُهَا فِيمَنْ يُحِبُّ. وَلَيْسَ لِلْإِغْمَاضِ فِي مُعَاوَضَاتِ الْعُقُودِ وَجْهٌ يُرْتَضَى وَلَا حَالٌ تُسْتَحَبُّ غَيْرَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُخْرَجُ بِهِ عَنْ حُكْمِ الصِّحَّةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَلَا عَنْ حَالِ الْجَوَازِ إِلَى المنع لأنه قد يؤول بِهِمَا إِلَى الْعِلْمِ، وَلَا بِجَهْلٍ عِنْدَ الْحُكْمِ. وَهَكَذَا لَوْ قَلَبَ رَبُّ الْمَالِ شَرْطَهُ، فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الرِّبْحِ، وَثُلُثَيْ مَا يَبْقَى وَجَعْلَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ صَحَّ، وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَتْسَاعِهِ، وَلِلْعَامِلِ تُسْعَانِ. فَلَوْ قَالَ لِي رُبُعُ الرِّبْحِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ وَلَكَ الْبَاقِي صَحَّ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَضْرُوبَةُ أَرْبَعَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ، فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْعَامِلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ. وَلَوْ قَالَ لِي ثُلُثُ الرِّبْحِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا بَقِيَ وَلَكَ الْبَاقِي صَحَّ، وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِأَنْصَافِهَا إِلَى سِتَّةٍ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْعَامِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي حصة أحدهما من الربح إِذَا بَيَّنَ رَبُّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنَ الرِّبْحِ دُونَ الْآخَرِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ عِنْدَ الدَّفْعِ، وَالثَّانِي: أَلَّا يُصَرِّحَ بِذِكْرِهِ. فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ أَوْ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ كَانَ حَرَامًا فَاسِدًا لِأَنَّ لَهُ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ بَعْضِهِ بَيَانٌ. فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا كَمَا لَوْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ لِلْجَهْلِ بِحُكْمِ الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاضًا صَحِيحًا، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ بَيَّنَ بَاقِيَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 يَسْتَحِقُّ كُلَّ الرِّبْحِ بِالْمِلْكِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى مِنْهُ النِّصْفَ لِلْعَامِلِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ النِّصْفُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْقِرَاضِ فِي عَقْدِهِ: فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ أَوْ نَصِيبَ نَفْسِهِ. فَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ فَقَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ صَحَّ الْقِرَاضُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ بَاقِيَ الرِّبْحِ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ مِنْهُ إِنْ حُمِلَ عَلَى حُكْمِ الْمَالِ كَانَ لِرَبِّهِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ فَهُوَ بِمَثَابَتِهِ. وَإِنْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَقَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلًا عَلَى مُوجَبِ الْقِرَاضِ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّبْحِ، فَصَارَ الْبَيَانُ لِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى أَنَّ الْبَاقِي لِلْآخَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبي علي بن أبي هريرة أن الْقِرَاضَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا بَقِيَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ قَالَ خُذْهُ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَكَ ثُلُثٌ بَطَلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيٍّ لِلْجَهْلِ بِحُكْمِ السُّدْسِ الْبَاقِي، وَصَحَّ فِيهِ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ السُّدْسُ الْمُغْفَلُ ذِكْرُهُ لِرَبِّ الْمَالِ مَضْمُومًا إِلَى النِّصْفِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ قِرَاضًا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقِرَاضُ جَائِزٌ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا فَصَارَ ذَلِكَ جَهْلًا بِحِصَصِهِمَا. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْأَلْفَ قِرَاضًا وَلَكَ رِبْحُ نِصْفِهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ لَكَ نِصْفُ رِبْحِهَا جَازَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ رِبْحَ نِصْفِهَا صَارَ مُنْفَرِدًا بِرِبْحِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ حُقٌّ وَعَامِلًا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْقِرَاضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ الْكُلِّ. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَارَضَهُ عَلَى دَنَانِيرَ فَحَصَلَ فِي يَدَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ عَلَى دَرَاهِمَ فَحَصَلَ فِي يَدَيْهِ دَنَانِيرُ فَعَلَيْهِ بَيْعُ مَا حَصَلَ حَتَى يَصِيرَ مِثْلَ مَا لِرَبِّ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فِي مِثْلِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ، فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 دَرَاهِمَ فَحَصَلَ مَعَهُ دَنَانِيرُ فَعَلَيْهِ بَيْعُ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلَ مَعَهُ رَأْسُ الْمَالِ إِذْ لَا فَرْقَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ بَيْنَ أَنْ يكون المال عرضاً أو دنانيراً لِأَنَّهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ. فَلَوْ حَصَلَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَ بَاقِيهِ مِنَ الرِّبْحِ عَرْضًا لَمْ يَلْزَمِ الْعَامِلَ بَيْعُهُ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ وَصَلَ إِلَى رَأْسِ مَالِهِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ مِنَ الْعَرْضِ، وَلَا يَلْزَمُ واحد مِنْهُمَا بَيْعُهُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ حُكْمُهُمَا فِي قِسْمَتِهِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حَالُ ذَلِكَ الْعَرْضِ مِنْ قِسْمَتِهِ جَبْرًا أَوْ صُلْحًا أَوِ الْبَيْعِ مِنْهُمَا جَبْرًا أَوْ صُلْحًا. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " وَإِذَا دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ ديونٌ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ أَخَذَ الْعَامِلُ رِبْحَهُ وَاقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا قِرَاضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْمِيرِ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ قَارَضَ الْعَامِلُ عَلَى تَسَاوٍ فِي الرِّبْحِ أَوْ تَفَاضُلٍ، وَكَانَ أَقَلَّهُمَا سَهْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ مَا يَصِلُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ كَثِيرِ الرِّبْحِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ بِيَسِيرِ الرِّبْحِ وَاصِلٌ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا إِلَيْهِ لَوْ كَفَّ عَنِ الْقِرَاضِ. وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَجَّرَ دَارًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَإِذَا عَاوَضَ عَلَيْهَا فِي مَرَضِهِ بِبَعْضِ الْأُجْرَةِ فَقَدْ أَتْلَفَ مِلْكَهُ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ وَلَيْسَ رَبُّ الْمَالِ مَالِكًا لِرِبْحِ الْمَالِ الَّذِي صَارَ إِلَى بَعْضِهِ فَلِذَلِكَ كان من رأس المال والله أعلم. فَأَمَّا الْمَرِيضُ إِذَا سَاقَى عَلَى نَخْلَةٍ فِي مَرَضِهِ بِأَقَلِّ السَّهْمَيْنِ مِنَ الثَّمَرَةِ وَدُونَ مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ فِي الْعَادَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلثَّمَرَةِ حِينَ سَاقَى كَمَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلرِّبْحِ حِينَ قَارَضَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا نَقَصَ مِنْ سَهْمِهِ فِي مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ يُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِرَاضِ أَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ قَدْ تَحْصُلُ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَرِبْحُ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِعَمَلٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ الْقِرَاضِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَلِيلِ الرِّبْحِ وَكَثِيرِهِ، تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ إِنْ كَانَ حَيًّا مُحَاسَبَةَ الْعَامِلِ، وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَصْلَ وَحِصَّةَ الرِّبْحِ، وَإِنْ مَاتَ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي مُحَاسَبَةِ الْعَامِلِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحَقَّيْنِ مِنْ أَصْلٍ وَرِبْحٍ. فَإِنْ مَاتَ مُفْلِسًا وَكَثُرَتْ دُيُونُهُ عَنْ مَالِهِ قُدِّمَ الْعَامِلُ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ عَلَى سائر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ شَرِيكًا فَالشَّرِيكُ لَا يَدْفَعُهُ الْغُرَمَاءُ عَنْ شَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا فَحَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْمَالِ كَالْمُرْتَهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا يُزَاحِمُهُ الْغُرَمَاءُ فِي رَهْنِهِ. وَكَذَا لَوْ أَخَذَ الْمَرِيضُ مَالًا قِرَاضًا صَحَّ وَإِنْ كَانَ بِأَقَلِّ السَّهْمَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ، وَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّ قَلِيلَ الرِّبْحِ كَسْبٌ وَلَيْسَ بِإِتْلَافٍ. فَصْلٌ : يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِهِ قِرَاضًا إِذَا رَأَى ذَلِكَ حَظًّا وَصَلَاحًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْمِيرِ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْقِرَاضَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِدَ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَعَ نَفْسِهِ، وَيَجُوزَ لِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقَارِضَ بِالْمَالِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ العبد مقصورعلى إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا قِرَاضًا لِأَنَّ الْإِذْنَ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ بِمَالِ سَيِّدِهِ. فَأَمَّا السَّفِيهُ فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ لَا عَامِلًا وَلَا ذَا مَالٍ لِفَسَادِ عقوده. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي بِمَالِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ فِي الْقِرَاضِ بِمَالِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ مدعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَإِنْ قَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ لِنَفْسِكَ وَفِيهِ خسرانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مصدقٌ فِيمَا فِي يَدَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ بِيَدِ الْعَامِلِ عَبْدٌ قَدْ ظَهَرَ فِي مِثْلِهِ فَضْلٌ، فَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ مُشْتَرًى مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، وَقَالَ الْعَامِلُ بَلِ اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، أَوْ قَالَ الْعَامِلُ وَفِي الْعَبْدِ خُسْرَانٌ إِنَّنِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلِ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِكَ فَالْقَوْلُ فِي الْحَالَيْنِ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْقِرَاضِ، وَلَا يَتَمَيَّزَ مَا بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ بَيِّنَةً بِخِلَافِهِ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَنَحْكُمُ بِهَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ عَلَى عَقْدِهِ أَنَّهُ عَقَدَ بِعَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا مَسْمُوعَةٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَيْنِ مَالِ الْقِرَاضِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقِرَاضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ فَيَبْطُلُ وَلَا يَكُونُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ مَا شَرَطَاهُ مِنَ الرِّبْحِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَبَاقِيهِ لِي، وَقَالَ بَلْ شَرَطْتَ لِي ثُلُثَيِ الرِّبْحِ وَبَاقِيهِ لَكَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ. وَقَالَ أبو حنيفة الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا. فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْعَامِلُ هُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ هُوَ أَلْفَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ بِقَدْرِ مَا ادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَامِلُ وَقَدْ أَحْضَرَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ رَأْسُ مَالٍ وَلَيْسَ فِيهَا رِبْحٌ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ، وَعَنْ أبي حنيفة رِوَايَتَانِ مُخَرَّجَتَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ - هَلْ هُوَ وَكِيلٌ أَوْ شَرِيكٌ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْعَامِلَ وَكِيلٌ مُسْتَأْجَرٌ، وَهَذَا قَوْلُ زفر بن الهذيل. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ مُسَاهِمٌ، وَهَذَا قَوْلُ محمد بن الحسن، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي اخْتِلَافِهِمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِيمَا بِيَدِهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ أَحْضَرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَذَكَرَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ وَالرِّبْحَ أَلْفَانِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفَانِ وَالرِّبْحُ أَلْفٌ حُكِمَ بِقَوْلِ الْعَامِلِ وَاقْتَسَمَا الْأَلْفَيْنِ رِبْحًا، وَجُعِلَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا. فَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ وَقَدْ أَحْضَرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رَأْسُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ، وَالرِّبْحُ أَلْفٌ وَالْأَلْفُ الثَّالِثَةُ لِي أَوْ وَدِيعَةٌ فِي يَدِي، أَوْ دَيْنٌ عَلَيَّ فِي قِرَاضٍ، وَادَّعَاهَا رَبُّ الْمَالِ رِبْحًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يمينه لمكان يده. مسألة وَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ الْقِرَاضِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُ الْعَبْدَ الثَّانِيَ بِتِلْكَ الألف قبل أن أنقذ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الْقِرَاضِ وَالثَّانِي لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي الْقِرَاضِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَالِ القراض، فإن كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِالْعَبْدِ أَلْفًا مُنِعَ مِنْ شِرَاءِ غَيْرِهِ فِي الْقِرَاضِ لِأَنَّ مَا اشْتُرِيَ فِي الْقِرَاضِ مُقَدَّرٌ بِمَالِ الْقِرَاضِ. فَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَلْفٍ ثَانِيَةٍ قَبْلَ نَقْدِ الْأَلْفِ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْأَلْفَ الَّتِي بِيَدِهِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِهَا أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ تِلْكَ الْأَلْفِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ كَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ بِعَيْنِ تِلْكَ الْأَلْفِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَهُ لَا الْقِرَاضُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِ فِي شِرَاءِ الثَّانِي وَإِنْ فَقَدَ الْأَلْفَ الْأُولَى فِي ثَمَنِ الثَّانِي ضَمِنَهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِهِ أَلْفًا مِثْلَهَا فِي ثَمَنِ الْأَوَّلِ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ مِنْ ضَمَانِهَا لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ دَفْعَهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِعَقْدِ الْقِرَاضِ الَّذِيِ هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ دَافِعٌ لَهَا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ الْقِرَاضُ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ لِأَنَّ تَعَدِّيَ الْعَامِلِ فِي ثَمَنِهِ الْمُسْتَحِقِّ لِبَائِعِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً أُخِذَتِ الْقِيمَةُ مِنْ قَاتِلِهِ، وَكَانَتْ فِي مَالِ الْقِرَاضِ. وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِرَبِّ الْمَالِ والعامل أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمَا، وَالْقِرَاضُ بِحَالِهِ فِيمَا أَخَذَاهُ مِنْ قِيمَتِهِ. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ فَذَلِكَ لَهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْسُوبًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَبْطُلُ الْقِرَاضُ فِيهِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ أَمْ لَا، كَمَا لَوْ أَمَرَ رَبُّ الْمَالِ بِشِرَاءِ ابْنِهِ كَانَ ثَمَنُ ابْنِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ خَارِجًا مِنَ الْقِرَاضِ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ في حصته شيء من قيمته. والحالة الثَّالِثَةُ أَنْ يَدْعُوَ الْعَامِلُ إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَمْتَنِعَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رب المال أوليس لِلْعَامِلِ اسْتِهْلَاكُ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْعَامِلُ ثَمَنَهُ لِيَقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ لَمْ يَلْزَمْ رَبَّ الْمَالِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا من رب المال عن القصاص. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَمْتَنِعَ الْعَامِلُ. فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ عِنْدَ قَتْلِهِ فَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي مَنْعِ رَبِّ الْمَالِ مِنَ الْقِصَاصِ كَمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي قِيمَتِهِ مِنْ رِبْحٍ. فَإِذَا اقْتَصَّ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ كَانَ ثَمَنُهُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبَطَلَ فِيهِ الْقِرَاضُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِهِ فَضْلٌ فَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ قَاتِلِهِ بِعَفْوِ الْعَامِلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِلِ - هَلْ هُوَ شَرِيكٌ أَوْ وَكِيلٌ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ فِي فَضْلِ ثَمَنِهِ كَمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ وَكِيلٌ، لَكِنْ لَهُ مُطَالَبَةُ رَبِّ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنْ فَاضَلِ ثَمَنِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " وَإِنْ نَهَى رَبُّ الْمَالِ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ وَفِي يَدَيْهِ عرضٌ اشْتَرَاهُ فَلَهُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ عينٌ فَاشْتَرَى فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِالْمَالِ بِعَيْنِهِ فَالشِّرَاءُ باطلٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ وَيَتَرَادَّانِ حَتَّى تَرْجِعَ السِّلْعَةُ إِلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ هَلَكَتْ فَلِصَاحِبِهَا قِيمَتُهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي وَيَتَرَادَّانِ الثَّمَنَ الْمَدْفُوعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِ مَالِكِهِ، وَالْبَيْعَ حَقٌّ لِلْعَامِلِ فَإِذَا مَنَعَ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الشِّرَاءِ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ بطل، وصار ضامناً للثمن يدفعه، وَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَهُ بِقَبْضِهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ فِي مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. فَإِنْ أُغْرِمَ الْعَامِلُ رَجَعَ الْعَامِلُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَرَجَعَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِسِلْعَتِهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ بِقِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً. وَإِنْ أُغْرِمَ الْبَائِعُ لَمْ يَرْجِعِ الْبَائِعُ بِغَرَامَةِ الثَّمَنِ، وَرَجَعَ بِسِلْعَتِهِ إِنْ بَقِيَتْ وَبِقِيمَتِهَا إِنْ تَلِفَتْ. وَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ عِنْدَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ عَنِ الشِّرَاءِ فقد اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ لَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ، وَمُنِعَ مَنْ دَفْعِ ثَمَنِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، فَإِنْ دَفَعَهُ مِنْهُ ضَمِنَهُ كَمَا قُلْنَا لَوْ عَيَّنَهُ. فَأَمَّا بَيْعُ مَا بَدَّلَ الْعَامِلُ مِنْ عُرُوضِ الْقِرَاضِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ لَا يُمْتَنَعُ مِنْهُ بِمَنْعِ رَبِّ الْمَالِ لَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ فَضْلِ ثَمَنِهِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِبَيْعِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا سُرِقَ الْمَالُ مِنْ يَدِ الْعَامِلِ أَوْ جَحَدَهُ إياه من عامل فهو برئ مِنْ ضَمَانِهِ، وَهَلْ يَكُونُ خَصْمًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنْ مَالِكِهِ أَمْ لَا؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ وَوَكِيلًا فِي الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ قَدْ ضَمِنَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلْمُطَالَبَةِ بِهِ إِلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنْ رَبِّهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ عَنْ عَمَلِ الْقِرَاضِ وَإِنَّمَا عَمَلُ الْعَامِلِ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ مُوجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ اسْتِيفَاءَ مَالِهِ وَحِفْظَ أَصْلِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَرْجَعَ الْمَالَ مِنْ سَارِقِهِ، وَقَبَضَهُ مِنْ جَاحِدِهِ كَانَ قِرَاضًا بِمُتَقَدِّمِ عقده. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ الْعَامِلُ رَبِحْتُ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ غَلِطْتُ أَوْ خِفْتُ نَزْعَ الْمَالِ مِنِّي فَكَذَبْتُ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَلِمَ يَنْفَعْهُ رُجُوعُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا ذَكَرَ الْعَامِلُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْقِرَاضِ أَلْفٌ، فطالبه بنصفها فزعم أنه خطأ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا، أَوْ خَافَ انْتِزَاعَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ فَكَذَبَ فِيهَا، فَإِنْ عَلِمَ رَبُّ الْمَالِ بِصِدْقِهِ فِيمَا قَالَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مُطَالَبَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ، وَالْعَامِلُ رَاجِعٌ فِي إِقْرَارِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ. فَإِنْ سَأَلَ الْعَامِلُ إِحْلَافَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَقَرَّ بِهِ مِنَ الرِّبْحِ فَإِنْ ذَكَرَ شُبْهَةً مُحْتَمَلَةً اسْتَحَقَّ بِهَا إِحْلَافَ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شُبْهَةً فَفِي إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج وأبو عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ لَهُ إِحْلَافَهُ لِإِمْكَانِ قَوْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ. فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى الْعَامِلُ تَلَفَ الرِّبْحِ من يده كان قولاً مَقْبُولًا، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ كَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ جَبَرَ بالربح خسراناً من بع قُبِلَ قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِهِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ كَذَّبَهُ. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَى الْعَامِلُ أَوْ بَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَبَاطِلٌ وَهُوَ لِلْمَالِ ضَامِنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ مَوْضُوعٌ لِتَثْمِيرِهِ وَتَنْمِيَتِهِ، فَيَلْزَمُهُ فِي بَيُوعِهِ وأَشربَتِهِ شَرْطَانِ: أَحَدُ شَرْطَيْ شِرَائِهِ: أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَرْجُو مِنْهُ فَضْلًا وَرِبْحًا إِمَّا فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي حَالٍ، فَإِنِ اشْتَرَى مَا يَعْلَمُ أَنْ لَا فَضْلَ فِيهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي حَالٍ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الرِّبْحِ الْمَقْصُودِ بِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ إِمَّا مُسْتَرْخَصًا إِنْ كَانَ بَيْعُهُ فِي الْحَالِ أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ فِيهِ رِبْحًا فِي ثَانِي حَالٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ نُظِرَ: فإن كان العين فِيهِ يَسِيرًا قَدْ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْعَقْدِ: فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَانَ الشِّرَاءُ لَازِمًا لَا فِي مَالِ الْقِرَاضِ. وَأَمَّا بَيْعُهُ فَبِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَقَّعَ بِهِ تَنَاهِي أَسْعَارِهِ الْمَعْهُودَةِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ الرِّبْحَ الْمَقْصُودَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَوْفَرَ الْأَثْمَانِ الْمَوْجُودَةِ لِأَنَّ بِهَا مَحَلٌّ بِرِبْحٍ مَقْصُودٍ. فَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ نُظِرَ فِيمَا غُبِنَ بِهِ: فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا قَدْ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنْ قَبَضَ ضَمِنَ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ نقص القيمة. ولا يبطل عقد القراض (بضمانه) لاستقراره بتصرفه. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اشْتَرَى فِي الْقِرَاضِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ أُمَّ ولدٍ دَفَعَ الثَّمَنَ فَالشِّرَاءُ باطلٌ وَهُوَ لِلْمَالِ ضَامِنٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْقِرَاضِ مَا لَا يَصِحُّ شراؤه ولا يجوز تملكه من الوقوف والعضوب وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَكَذَلِكَ الْخُمُورُ وَالْخَنَازِيرُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْعَامِلُ نَصْرَانِيًّا صَحَّ شِرَاؤُهُ لِلْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَأُمِرَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحِصَّتِهِ مِنْ رِبْحِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُسْلِمُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ النَّصْرَانِيُّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْنَعُ مِنْ شِرَاءِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ فِيهِ مِنْ شِرَاءِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ كَالْمُسْلِمِ. وَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الشِّرَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ مَا لَمْ يَدْفَعْ مَالَ الْقِرَاضِ فِي ثَمَنِهِ، وَإِنْ دَفْعَهُ ضَمِنَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً، وَلَا أكره للمسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 أَنْ يَأْخُذَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَظْهَرُ أَمَانَةً مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَأَصَحُّ بُيُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِ رَجُلَيْنِ، وَلِلرَّجُلَيْنِ أَنْ يُقَارِضَا بِمَالِهِمَا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَصَحَّ مَعَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ، وإذا صح ذلك ففيه ثلاثة فصول: أحدهما: أَنْ يُقَارِضَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِمَالِهِ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ، وَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَاهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ جَازَ وَكَانَ الرِّبْحُ مَقْسُومًا عَلَى تِسْعَةٍ لِرَبِّ الْمَالِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِي الْبَاقِي سَهْمَانِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ. فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَارِضَ رَجُلَانِ بِمَالِهِمَا رَجُلًا وَاحِدًا وَهُمَا فِي الْمَالِ سَوَاءٌ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ مِنْ مَالِهِمَا شَرْطًا وَاحِدًا، وَيَكُونَا فِي بَاقِي الربح على سواء فهذا جَائِزٌ، مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَا: لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ أَثْلَاثًا. وَلَوْ جَعَلَا لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِلْعَامِلِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيِ الْمَالِ سَهْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا مُخْتَلِفًا وَيَكُونَا فِي الْبَاقِي عَلَى سَوَاءٍ فَهَذَا بَاطِلٌ، مثاله: أن يقولا لك ثلث الربح من حِصَّةِ أَحَدِنَا، وَرُبُعُهُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَبَاقِي الرِّبْحِ بَيْنَنَا بِالسَّوِيَّةِ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا الثُّلُثَ بَقِيَ لَهُ مِنْ رُبُعِهِ ثُلُثَاهُ، وَإِذَا أَخَذَ مِنَ الْآخَرِ الرُّبْعَ بَقِيَ لَهُ مِنْ رُبُعِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ التَّسَاوِيَ فِيمَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا وَاحِدًا وَيَكُونَا فِي الْبَاقِي مُتَفَاضِلَيْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَا لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ مِنَ الْمَالَيْنِ، وَالْبَاقِي بَيْنَنَا أَثْلَاثًا فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رُبُعِهِ ثُلُثَاهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَا التَّفَاضُلَ فِيمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِطَا لَهُ شَرْطًا مُخْتَلِفًا، وَيَكُونَ الْبَاقِي مُخْتَلِفًا عَلَى مُقْتَضَى شَرْطِهِمَا فِيمَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنْهُمَا فَهَذَا جَائِزٌ، مثاله: أن يقوله لَكَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِنَا بِعَيْنِهِ ثُلُثُ ثُلُثِ الرِّبْحِ وَبَاقِي رِبْحِهِ لَهُ، وَمِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ثُلُثَا ثُلُثِ الرِّبْحِ وَبَاقِي رِبْحِهِ لَهُ جَازَ وكان الربح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 مَقْسُومًا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْعَامِلِ بِالْحَقَّيْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ مِنْهَا بِثُلُثِ الثُّلُثِ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِثُلُثَيِ الثُّلُثِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْبَاذِلِ مِنْ حَقِّهِ ثُلُثَ الثُّلُثِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْآخَرِ الْبَاذِلِ مِنْ حَقِّهِ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ. فَصْلٌ : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَارِضَ رَجُلَانِ بِمَالِهِمَا رَجُلَيْنِ فَهَذَا يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ. وَإِذَا صَرَفْتَ فِكْرَكَ إِلَيْهَا وَصَحَّتْ لَكَ مُتَقَابِلَةً وَفِي أَجْزَاءِ أَقْسَامِهَا نُبَيِّنُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يكون صاحب المال زيد وعمرو والعاملان زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَيَجْعَلَ زَيْدٌ لِزَيْدٍ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَلِعَمْرٍو ثُلُثَ السُّدْسِ، وَالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَجْعَلَ عَمْرٌو لِعَمْرٍو مِنْ رِبْحِ الْمَالِ رُبُعَ الثُّلُثِ وَلِزَيْدٍ رُبُعَ السُّدْسِ، وَالْبَاقِي مِنْ رُبُعِ حِصَّتِهِ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، لِأَنَّ مُخْرِجَ ثُلُثِ السُّدْسِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عشر يدخل فيها مُخْرِجُ ثُلُثِ الثُّلُثِ، وَمُخْرِجُ رُبُعِ السُّدْسِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَدْخُلُ فِيهَا مُخْرِجُ رُبُعِ الثُّلُثِ وَالْعَدَدَانِ يَتَّفِقَانِ بِالْأَسْدَاسِ فَكَانَ سُدُسُ أَحَدِهِمَا فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِزَيْدٍ الْعَامِلِ مِنْ حِصَّةِ زَيْدٍ بِثُلُثِ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْ حِصَّةِ عَمْرٍو بِرُبُعِ السُّدْسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَصَارَ لَهُ مِنَ الْحِصَّتَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ثُمَّ لِعَمْرٍو وَالْعَامِلِ مِنْ عَمْرٍو بِرُبُعِ الثُّلُثِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ حِصَّةِ زَيْدٍ بِثُلُثِ السُّدْسِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَصَارَ لَهُ مِنَ الْحِصَّتَيْنِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، ثُمَّ لِزَيْدٍ صَاحِبِ الْمَالِ بِالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا ثُمَّ لعمرو وصاحب الْمَالِ بِالْبَاقِي مِنْ رِبْحِ حِصَّتِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَلَوْلَا أَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ أَقْسَامِ هَذَا الْفَصْلِ ال ْمَسْأَلَةَ تُذْهِبُ نَشَاطَ الْقَارِئِ وَتَسْتَكِدُّ فِكْرَ الْمُتَأَمِّلِ لَاسْتَوْفَيْتُهَا، وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كِفَايَةٌ لِمَنْ يَفْهَمُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 المساقاة مجموعةً من إملاءٍ ومسائل شتى جمعتها منه لفظاً مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ نَصَّفَ الثَّمَرِ لَهُمْ وَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرِصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وإن شئتم فلي (قال الشافعي) ومعنى قوله في الخرص إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي أن يخرص النخل كله كأنه خرصها مائة وسقٍ وعشرة أوسقٍ وعشرة أوسقٍ رطباً ثم قدر أنها إذا صارت تمراً نقصت عشرة أوسقٍ فصحت منها مائة وسقٍ تمراً فيقول إن شئتم دفعت إليكم النصف الذي ليس لكم الذي أنا فيه قيم لأهله على أن تضمنوا لي خمسين وسقاً تمراً من تمرٍ يسميه ويصفه ولكم أن تأكلوها وتبيعوها رطباً كيف شئتم وإن شئتم فلي أن أكون هكذا مثلكم وتسلمون إليّ نصفكم وأضمن لكم هذه المكيلة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَهِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى النَّخْلِ وَالشَّجَرِ بِبَعْضِ ثَمَرِهِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ عَلَى مَا يَشْرَبُ بِسَاقٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ سُمِّيَ سَقْيًا فَاشْتَقُّوا اسْمَ الْمُسَاقَاةِ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ غَالِبَ الْعَمَلِ الْمَقْصُودِ فِيهَا هُوَ السَّقْيُ فَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْهُ. وَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ بَيْنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أبا حنيفة وَحْدَهُ دُونَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِبْطَالِهَا وَحُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ كَرَاهَتُهَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أبي حنيفة عَلَى إِبْطَالِ الْمُسَاقَاةِ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ، وَغَرَرُ الْمُسَاقَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَدَمِهَا، وَبَيْنَ قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، فَكَانَ الْغَرَرُ فِيهِ أَعْظَمَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِإِبْطَالِهَا الْعَقْدَ أَحَقُّ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ أَعْيَانٍ بَاقِيَةٍ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِبَعْضِهَا كَالْمُخَابَرَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ تَنَاوَلَ ثَمَرَةً لَمْ تُخْلَقْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ بِمَا تُثْمِرُهُ هَذِهِ النَّخْلَةُ فِي الْقَابِلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ جُعِلَتِ الثَّمَرُ فِيهِ أُجْرَةً، وَالْأُجْرَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً، أَوْ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ، وَمَا تثمره نخل المساقاة غير معين، وَلَا ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً. وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا سِوَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ مِنَ الشَّجَرِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَرِ مُنِعَ مِنْهَا مِنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ لِجَهَالَةِ الثَّمَرِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مسلم بن خالد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ نَقُومُ لَكُمْ بِالْعَمَلِ فِي النَّخْلِ، قَالَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِمْ يَعْمَلُونَهَا وَيَقُومُونَ بِهَا عَلَى أَنَّ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَطْرَ الثَّمَرِ وَلَهُمُ الشَّطْرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْعَثُ مَنْ يَخْرِصُهَا عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيُؤَدُّونَ الشَّطْرَ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْيَهُودِ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبعث عبد الله بن رواحة، فيخرص بينه وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي " فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ. فَدَلَّتْ مُسَاقَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأهل خيبر - وإن كانت مستفيضة يستغني عَنْ نَقْلٍ - عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى نَخْلٍ. اعترضوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَدَهَا عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُسَاقَاةُ لَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تُعْقَدَ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا عَقَدَهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ النَّسْخَ فِي زَمَانِهِ مُمْكِنٌ، وَعِلْمَهُ بِمَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُثَابٌ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الشَّرْطُ، وَنَسْخُ بَعْضِ شَرَائِطِ الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ بَاقِيهِ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ لَا فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّةَ قِيلَ إِنَّمَا اقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى نَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَنْقُلْ شُرُوطَ الْعَقْدِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ عَبِيدٌ يُسْتَرَقُّونَ لَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ مُخَارَجَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ سَبْيِهِمْ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَهُمْ عَلَى إِقْرَارِ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ مَعَهُمْ وَضَمَّنَهُمْ شَطْرَ الثَّمَرَةِ، وَصُلْحُ الْعَبِيدِ وَتَضْمِينُهُمْ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ عَنِ الْحِجَازِ، وَإِجْلَاءُ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَتَعَيَّنَ مَالِكُوهُمْ، وَلَاقْتَسَمُوا رِقَابَهُمْ فَأَمَّا صَفِيَّةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الذرية دون المقاتلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 والقول الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَطْرَ ثِمَارِهِمْ جِزْيَةً. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَلَكَ أَرْضَهُمْ وَكُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَلَكْتُ مِائَةَ سهمٍ مِنْ خَيْبَرَ وَهُوَ مالٌ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حبس الأصل وسهل الثَّمَرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ عَنْهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُنْعَقِدِ عَنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُسَاقَاةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اتِّبَاعًا لَهُ إِلَى أَنْ حَدَثَ مِنْ إِجْلَائِهِمْ مَا حَدَثَ. ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهَا تُنَمَّى بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إِجَارَتُهَا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْقِرَاضِ. ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِرَاضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا عَنْ تَوْقِيفٍ أَوِ اجْتِهَادٍ يُرَدُّ إِلَى أَصْلٍ وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ توقيف نص عليه، فلم يبقى إِلَّا اجْتِهَادٌ أَدَّى إِلَى إِلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسَاقَاةَ. وَإِذَا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَصْلًا لِفَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ إِجْمَاعًا وَكَانَتْ عَمَلًا عَلَى عِوَضٍ مَظْنُونٍ مِنْ رِبْحٍ مَجُوزٍ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ عَلَى عِوَضٍ مُعْتَادٍ مِنْ ثَمَرَةٍ غَالِبَةٍ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَيْسَتْ غَرَرًا لِأَنَّ الْغَرَرَ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَائِزَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ أَوْ بِتَرَجَّحِ الْأَخْوَفِ مِنْهُمَا، وَالْأَغْلَبُ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ حُدُوثُهَا فِي وَقْتِهَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي فِي مِثْلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي إِبَاحَتِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَلَوْ جَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا لَجَازَ أَنْ نَقِيسَ الْمُخَابَرَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ فِي جَوَازِهَا وَلَكِنِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ إِجَازَةِ الْمُسَاقَاةِ وَإِبْطَالِ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُرَدَّ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُخَابَرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بِالْإِجَارَةِ لَمْ تَصِحَّ فِيهَا الْمُخَابَرَةُ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنِ التَّوَصُّلُ إِلَى مَنْفَعَةِ النَّخْلِ بِالْإِجَارَةِ صَحَّتْ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّمَاءَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ حَادِثٌ بِالْعَمَلِ مِنْ تَلْقِيحِ النَّخْلِ وَقَطْعِ الْكَرْمِ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ الْعَمَلُ فِيهَا ببعض نماءها كَالْقِرَاضِ، وَلَيْسَ النَّمَاءُ فِي الْأَرْضِ حَادِثًا عَنِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا هُوَ حَادِثٌ عَنِ الْبَذْرِ الْمُودَعِ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ فِيهَا بِبَعْضِ النَّمَاءِ كَالْمَوَاشِي. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ وَأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى النَّخْلِ الْمَخْلُوقَةِ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ تَبَعًا كَالْقِرَاضِ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى مَالٍ مَوْجُودٍ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الرِّبْحُ الْمَعْدُومُ تَبَعًا وَلَيْسَ كَالْبَيْعِ الَّذِي صَارَ الْعَقْدُ فِيهِ مُخْتَصًّا بِمَعْدُومٍ لَمْ يُخْلَقْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِجَارَةِ إِذَا جُعِلَتِ الْأُجْرَةُ فِيهَا ثَمَرَةً لَمْ تُخْلَقْ فَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمَّا صَحَّ عَقْدُهَا عَلَى مَعْلُومٍ مَوْجُودٍ لم يجر عَقْدُهَا عَلَى مَعْدُومٍ وَلَا مَجْهُولٍ وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَلَى مَوْجُودٍ مَعْلُومٍ جَازَ عقدها على معلوم وَمَجْهُولٍ، وَفَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْإِجَارَةِ يَمْلِكُهُ الْأَجِيرُ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَأْنَفَ مِلْكٌ مَجْهُولٌ بِعِوَضٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ تَحْدُثَ فِي مِلْكِهِ مَالٌ مَجْهُولٌ، وَلِهَذَا مَنَعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ أُجْرَةً فَلَمْ يَصِحَّ لِأَجْلِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ مِنَ الشَّجَرِ فَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مَا يَكُونُ فَرْقًا وَجَوَابًا والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا سَاقَى عَلَى النَّخْلِ أَوِ الْعِنَبِ بِجُزْءٍ معلومٍ فَهِيَ الْمُسَاقَاةُ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ فَلَهُ جزءٌ معلومٌ فَهَذِهِ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ تُرَدَّ إِحْدَى السُّنَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَمَاءَ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَمَلِ فَكَانَ فِي تَرْكِ لُزُومِهِ تَفْوِيتٌ لِلْعَمَلِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَنَمَاءُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ مُتَّصِلٌ بِالْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ لُزُومِهِ تَفْوِيتٌ لِلْعَمَلِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ لَازِمًا فِي الْمُسَاقَاةِ وَجَائِزًا فِي الْمُضَارَبَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصِحَّةُ الْعَقْدِ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ شَرَائِطَ: فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً بِأَنْ قَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ أَحَدَ حَوَائِطِي أَوْ عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ نَخْلِي كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ النَّخْلَ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ فَبَطَلَ بِالْجَهَالَةِ كَالْبَيْعِ. فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلٍ غَائِبٍ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقُوا بين المساقاة والبيع بأن البيع يعدي عَنِ الْغَرَرِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَرَرُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَوِيَ عَلَى احْتِمَالِهِ فَصَحَّ فِيهِ، وَعَقْدُ الْمُسَاقَاةِ غَرَرٌ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَرَرُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ ضَعُفَ عَلَى احْتِمَالِهِ فَبَطَلَ فِيهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ مُشَاهَدٍ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ لَا ثَمَرَةَ عَلَيْهَا، صَحَّ الْعَقْدُ وَلَوْ أَثْمَرَتْ مِنْ وَقْتِهِ إِنْ كَانَتْ عِنْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مُثْمِرَةً فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَطِيبَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنْ كَانَتْ تَزِيدُ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَزِدْ لَمْ يَجُزْ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي الْإِمْلَاءِ جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى ثَمَرَةٍ مَعْدُومَةٍ كَانَ جَوَازُهَا بِالْمَعْلُومَةِ أَوْلَى، وَلَعَلَّ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعَامِلِ إِنَّهُ أَجِيرٌ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْأَصَحُّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَصًّا لِأَنَّ عِلَّةَ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنَّ لِعَمَلِهِ تَأْثِيرًا فِي حُدُوثِ الثَّمَرَةِ كَمَا أَنَّ لِلْعَمَلِ الْمُضَارِبَ تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الرِّبْحِ وَلَوْ حَصَلَ رِبْحُ الْمَالِ قَبْلَ عَمَلِ الْعَامِلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ كَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ، فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ الْمُثْمِرَةِ عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ الْمُقْبِلِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَجَّلُ الْعَمَلَ فِيهَا اسْتِصْلَاحًا لِثَمَرَةٍ قَائِمَةٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ مَعْلُومًا بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِيهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ عُشْرٍ، قَلَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَوْ كَثُرَ كَالْمُضَارَبَةِ فَإِنْ جُهِلَ نَصِيبُهُ بِأَنْ جُعِلَ لَهُ مَا يُرْضِيهِ أَوْ مَا يَكْفِيهِ أَوْ مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ. وَهَكَذَا لَوْ جُعِلَ لَهُ مِنْهَا مِائَةُ صَاعٍ مُقَدَّرَةٌ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ جَمِيعَهَا أَوْ سَهْمًا يَسِيرًا مِنْهَا. فَلَوْ قَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخْلِ سَنَةً وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْ ثَمَرِهَا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ جَوَازُهَا وَجَعَلَ الثَّمَرَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ حَمْلًا لَهَا عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَتَسْوِيَةً بَيْنِهِمَا فِي الثَّمَرَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْعِوَضِ فِي الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَعْهُودِ النَّاسِ عُرْفًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ فَإِذَا قَالَ عَامَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ النَّخْلِ سَنَةً وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعَامَلَةِ عِنْدَهُ عُرْفٌ وَلَوْ قَالَ سَاقَيْتُكَ عَلَى مِثْلِ مَا سَاقَى زَيْدٌ عَمْرًا فَإِنْ عَلِمَا قَدْرَ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسَاقِيَهُ فِي السِّنِينَ كُلِّهَا عَلَى نَصِيبٍ وَاحِدٍ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ أَنَّ لَكَ فِي السِّنِينَ كُلِّهَا النِّصْفَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ لَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى النِّصْفُ وَفِي الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ وَفِي الثَّالِثَةِ الرُّبْعُ وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اخْتِلَافِ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى يُسَاوِيَ نَصِيبَهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي أَحْوَالِهِ مُتَّفِقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا كَالْبَيْعِ والإجارة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 فَإِذَا عُلِمَ نَصِيبُ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الثَّمَرَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخر أن أجير كالمضارب ويختص رب المال بتحمل الزكوة دون العامل، والأصح أنه شريك تجب الزكوة عَلَيْهِمَا إِنْ بَلَغَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ أَقَلَّ مِنْ نصاب وجملة الثمرة نصاباً ففي وجوب الزكوة قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْخِلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي هَلْ يَكُونُ كَالْخِلْطَةِ فِي الْمَوَاشِي. فأما سواقط النخل عن السَّعَفِ وَالسَّرْخِ وَاللِّيفِ فَهُوَ لِرَبِّ النَّخْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَأْلُوفِ النَّمَاءِ، وَلَا مَقْصُودِ النَّخْلِ فَإِنْ شَرْطَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِ، وَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كَالثَّمَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْهُودِ النَّمَاءِ وَلَا مَقْصُودِهِ. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَدَّرَ بِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا قَدَّرَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ مُدَّةً، وَقَالَ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ لَزِمَتْ إِلَى انْقِضَائِهَا وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ صَحَّتْ وَكَانَتْ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ تَقَدَّرَتْ مُدَّتُهُ كَالْإِجَارَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الْمَعْلُومَةُ شَرْطًا فِيهَا فَأَقَلُّهَا مُدَّةٌ تَطَّلِعُ فِيهَا الثَّمَرَةُ وَتَسْتَغْنِي عَنِ الْعَمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَهَا بِذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّرَهَا بِالشُّهُورِ الَّتِي قَدْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الثِّمَارَ تَطَّلِعُ فِيهَا اطِّلَاعًا مُتَنَاهِيًا. فَإِنْ تَأَخَّرَ اطِّلَاعُ الثَّمَرَةِ فِيهَا بِحَادِثٍ ثُمَّ اطَّلَعَتْ بَعْدَ تَقَضِّيهَا فَعَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ تَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ قَبْلَ اطِّلَاعِهَا لِأَنَّ ثَمَرَةَ هَذَا الْعَامِ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنِ اسْتَحَقَّ الثَّمَرَةَ إِلَّا فِيمَا اخْتَصَّ بِالثَّمَرَةِ مِنْ تَأْبِيرٍ وَتَلْقِيحٍ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ وَلَا يَسْتَهْلِكُ عَمَلَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَيُحْكَمَ لَهُ حِينَئِذٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَيَأْتِي. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، فَيَقُولُ سَاقَيْتُكَ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ سَبْعَةٌ مِنْ أَسْمَائِهَا لِيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ عَنْهَا. فَإِنْ عَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِلْعَمَلِ فِيهَا كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، فَإِذَا عَقَدَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ انْصَرَفَ إِلَيْهِمَا فَبَطَلَ. وَإِنْ لَمْ يَعْقِدَاهُ بِوَاحِدَةٍ مِنَ اللَّفْظَتَيْنِ، وَقَالَ قَدْ عَامَلْتُكَ عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ فِيهَا عَلَى الشَّرْطِ مِنْ ثَمَرِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ هَكَذَا يَكُونُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الْعَقْدُ، وَهَذَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ. فَصْلٌ : فَإِذَا اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى شُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَحَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْرَطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْإِجَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ. ثُمَّ يُؤْخَذُ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي النَّخْلِ حَتَّى أَثْمَرَتْ كَانَ لَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ، وَلِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَامِلَ جَبْرًا بِالْعَمَلِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ. فَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا مُدَّةَ مَسَاقَاتِهِ جَازَ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ فَمَا دُونُ كَالْإِجَارَةِ وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ حَيْثُ كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُضَارِبَ بِهَا. أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ليس بلازم فلم يملك إلا فتيات عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَتَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ فَمَلَكَ الاستنابة في تصرفه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ بِمَا وَصَفْتُ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ صَدَقَةَ ثَمَرَتِهِمَا بِالْخَرْصِ وَثَمَرُهُمَا مجتمعٌ بائنُ مِنْ شجرةٍ لَا حَائِلَ دُونَهُ يَمْنَعُ إِحَاطَةَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ وَثَمَرُ غَيْرِهِمَا مُتَفَرِّقٌ بَيْنَ أَضْعَافِ ورقٍ لَا يُحَاطُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا عَلَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الشَّجَرِ مِنَ النَّبَاتِ مُثْمِرًا عَلَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ. وَقَالَ دَاوُدُ الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِي النَّخْلِ دُونَ الْكَرْمِ. وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ بَعْلًا مِنَ النَّخْلِ، وَمَنَعَ مِنْهَا فِي الْبَعْلِ مِنَ النَّخْلِ وَفِي الْكَرْمِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْكَرْمِ هَلِ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ قَالَ بِهِ نَصًّا وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاقَى فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا، أَحَدُهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِي وُجُوبِ الزكوة فِيهِمَا، وَالثَّانِي بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا، وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بُطْلَانِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ وَهُوَ الْمَقَاثِي وَالْبَطَاطِخُ وَالْبَاذِنْجَانُ وَالْعَلَفُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِحُدُوثِ ثَمَرِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَجَرًا ثَابِتًا فَهُوَ بِالزَّرْعِ أَشْبَهُ، وَالْمُخَابَرَةُ عَلَى الزَّرْعِ باطلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 فَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ الزَّرْعَ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْمَوْزِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ. فَصْلٌ : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا كَانَ شَجَرًا فَفِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ إِنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الْأَشْجَارِ مَعْنَى النَّخْلِ مِنْ بَقَاءِ أَصْلِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا كَانَتْ كَالنَّخْلِ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ شَجَرٌ لَمْ يُرْوَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِفْرَادُهَا عَنْ حُكْمِ النَّخْلِ، وَلِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ مُشْتَقَّةُ الِاسْمِ مِمَّا يَشْرَبُ بِسَاقٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف إِنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الشَّجَرِ بَاطِلَةٌ، اخْتِصَاصًا بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ، أَحَدُهُمَا اخْتِصَاصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا دُونَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ جَمِيعِ الْأَشْجَارِ، وَالثَّانِي: بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الأشجار، فأما إذا كان بين النخل قَلِيلٌ فَسَاقَاهُ عَلَيْهِمَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ فِيهِمَا وَكَانَ الشَّجَرُ تَبَعًا كَمَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ فِي الْبَيَاضِ الذي بين النخل ويكون تبعاً. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَقَلِّ الْمُسَاقَاةِ فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّتِهَا فَكَالْإِجَارَةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّتِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً لِزِيَادَةِ الْغَرَرِ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجُوزُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ كَلَامِهِ، وَذَهَبَ سَائِرُهُمْ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَيْسَ بِحَدٍّ لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ، وَلَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَهُ مِثَالًا عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَعَلَى هَذَا فِي أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً، فَهَلْ ذِكْرُ أُجْرَةِ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا لَازِمٌ فِيهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ أَنْ يُبَيِّنَ أُجْرَةَ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ. فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ أَكْثَرَ مِنْ سِنَةٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجُوزُ سِنِينَ كَثِيرَةً يُعْلَمُ بَقَاءُ النَّخْلِ إِلَيْهَا، كَمَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ سِنِينَ كَثِيرَةً. وَهَلْ يَلْزَمُ ذِكْرُ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَفَرْقًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّ ثِمَارَ النَّخْلِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ السِّنِينَ وَمَنَافِعَ الْإِجَارَةِ لا تختلف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 فَصْلٌ : فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلَةٍ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ عَيَّنَ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَإِنْ عَيَّنَهَا فَقَدْ شَرَطَ جَمْعَ الثَّمَرَةِ فِيهَا. وَلَوْ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الثَّمَرَةِ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الْعَشَرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَإِنْ عَيَّنَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَعْدَ حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ عَمَلًا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ الْأَخِيرَةُ فَفِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي بَعْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهَا مُدَّةً تُثْمِرُ فِيهَا وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَرِهَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ. فَصْلٌ : وَإِذَا سَاقَاهُ عَشْرَ سِنِينَ فَاطَّلَعَتْ ثَمَرَةُ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ بَعْدَ تَقَضِّيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقٌّ لِتَقَضِّيَ مُدَّتِهِ وَزَوَالِ عَقْدِهِ، وَلَوِ اطَّلَعَتْ قَبْلَ تَقَضِّي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ تَقَضَّتْ وَالثَّمَرَةُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَهِيَ بَعْدُ طَلْعٌ أَوْ بَلَحٌ كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا فِي مُدَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْهَا طَلْعًا أَوْ بَلَحًا وَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَتَنَاهِي الثَّمَرَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ فَاطَّلَعَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْعَامِلِ لَهَا وَقَبْلَ عَمَلِهِ فِيهَا اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ لِحُدُوثِهَا فِي يَدِهِ، وَلَوِ اطَّلَعَتْ قَبْلَ قَبْضِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ أَجِيرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تِلْكَ الثَّمَرَةِ نَصِيبٌ لِارْتِفَاعِ يَدِهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ شَرِيكٌ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعَقْدِ حَادِثَةٌ عَنْ مِلْكِهِمَا وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةٌ مِثْلَ مَا اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فيها والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا سَاقَاهُ عَلَى نخلٍ وَكَانَ فِيهِ بياضٌ لَا يُوصَلُ إِلَى عَمَلِهِ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى النَّخْلِ وَكَانَ لَا يُوصَلُ إِلَى سَقْيِهِ إِلَّا بِشِرْكِ النَّخْلِ فِي الْمَاءِ فَكَانَ غَيْرَ متميزٍ جَازَ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهِ مَعَ النَّخْلِ لَا مُنْفَرِدًا وَحْدَهُ وَلَوْلَا الْخَبَرُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَفَعَ إِلَى أَهْلِ خيبرٍ النَّخْلَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ النِّصْفَ مِنَ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَلَهُ النِّصْفَ وَكَانَ الزَّرْعُ كَمَا وَصَفْتُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّخْلِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمُخَابَرَةُ هِيَ دَفْعُ الْأَرْضِ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ زَرْعِهَا، فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ فِيهَا بَيَاضٌ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ مُنْفَرِدًا عَنِ النَّخْلِ وَيُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ وَالتَّوَصُّلُ إِلَى صَلَاحِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْبَيَاضِ وَلَا تَصَرُّفَ فِيهِ فَلَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَلَّ الْبَيَاضُ أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 كَثُرَ، وَسَوَاءٌ أَفْرَدَهُ بِالْعَقْدِ أَوْ جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَمَيَّزَ بِحُكْمِهِ وَانْفَرَدَ عَنْ غَيْرِهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ بَيْنَ النَّخْلِ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إِلَى سَقْيِ النَّخْلِ إِلَّا بِسَقْيِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا جَازَ أَنْ يُخَابِرَهُ عَلَيْهِ مَعَ مَسَاقَاتِهِ عَلَى النَّخْلِ تَبَعًا لِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثمرٍ وزرعٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ كالثمرة التي لم يبد صَلَاحُهَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ تَبَعًا لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً بِغَيْرِ شرط، وكالحمل واللبن في الضرع يجوز بيعها تَبَعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مُفْرَدًا وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمُخَابَرَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِئَلَّا يَفُوتَ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَلَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ كَثِيرًا يَزِيدُ عَلَى النَّخْلِ فِفِيِ جَوَازِ الْمُخَابَرَةِ عَلَيْهِ تَبَعًا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْيَسِيرِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْيَسِيرَ يَكُونُ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ وَلَا يَكُونُ الْكَثِيرُ تَبَعًا لِلْيَسِيرِ. فَصْلٌ فَإِذَا صَحَّتِ الْمُخَابَرَةُ عَلَى بَيَاضِ الْأَرْضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُجْمَعَ بينهما في العقد أو يفردهما، فإن جميع بَيْنِهِمَا فِي الْعَقْدِ فَسَاقَاهُ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فَلَا يَخْلُو قَدْرُ الْعِوَضِ فِيهِمَا مِنْ أَنْ يَتَسَاوَى أَوْ يَتَفَاضَلَ، فَإِنْ تَسَاوَى فَقَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرْتُكَ عَلَى الْبَيَاضِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا، وَإِنْ تَفَاضَلَ العرض فِيهِمَا فَقَالَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى النَّخْلِ وَخَابَرْتُكَ عَلَى الْبَيَاضِ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرَةِ وَثُلُثِ الزَّرْعِ أَوْ عَلَى ثُلُثِ الثَّمَرَةِ وَنِصْفِ الزَّرْعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْعَرْضُ فِيهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا إِذَا تَفَاضَلَا تَمَيَّزَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ وَلَا مَتْبُوعًا. فَإِنْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِقْدٍ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ فِي عَقْدٍ وَخَابَرَهُ عَلَى الْبَيَاضِ فِي عَقْدٍ آخَرَ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُنْفَرِدَةَ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا تَبَعًا لِبَعْضٍ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنِ اشْتَرَى نَخْلًا ذَاتَ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا ثُمَّ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ فِي عَقْدٍ آخَرَ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَصْلٍ صَارَ إِلَى مشترٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَمَعَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَفَرُّدِ كُلِّ عَقْدٍ بِحُكْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَوَّزْتُمُ الْمُخَابَرَةَ عَلَى الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ إِجَارَةَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُخَابَرَةَ لَا تَتَجَانَسَانِ لِأَنَّهُمَا أَعْيَانٌ تُؤْخَذُ مِنْ أُصُولٍ بَاقِيَةٍ فَجَازِ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا تَبَعًا لِتَجَانُسِهِمَا، وَإِجَارَةُ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ مُخْتَلِفَتَانِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ وَمَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي النَّخْلِ أَعْيَانٌ فَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمَا. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ بَيْنَ نَخْلِ الْمُسَاقَاةَ زَرْعٌ لِرَبِّ النَّخْلِ كَالْمَوْزِ وَالْبِطِّيخِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُبُوبِ فَسَاقَاهُ عَلَى النَّخْلِ وَالزَّرْعِ مَعًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بِالنِّصْفِ مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الزَّرْعِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ كَمَا تَجُوزُ الْمُخَابَرَةُ تَبَعًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ فِي الزَّرْعِ لَا تَجُوزُ تَبَعًا، وَإِنْ جَازَتِ الْمُخَابَرَةُ تَبَعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الزَّرْعِ هِيَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْأَصْلِ وَالْمُخَابَرَةَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَصْلِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِلْمُسَاقِي فِي النَّخْلِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِ فَإِنْ فَعَلَ فَكَمَنْ زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ النَّخْلِ إِلَّا بِعَقْدٍ مِنْ مَالِكِهِ أَوْ إِذْنٍ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاُضَِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ما كان تبعاً للعقد ودخل فِيهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَالْحَمْلِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إلى الْمُسَمَّى بِهَا. وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَحَّ دُخُولُهُ فِيهَا تَبَعًا بِشَرْطٍ دَخَلَ فِيهَا تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا بِشَرْطٍ وَلَا يُدْخِلُهُ تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ الْمُؤَبَّرَةُ تَتْبَعُ النَّخْلَ بِشَرْطٍ وَلَا تَتْبَعُهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَفَارَقَ ذَلِكَ الْحَمْلُ وَاللَّبَنُ، لِأَنَّهُمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا مُفْرَدًا بِوَجْهٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَا تَبَعًا لِأَصْلِهِمَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ وَالثَّمَرَةُ، لِأَنَّ إِفْرَادَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا قَدْ يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَ أَصْلَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، كَذَلِكَ بَيَاضُ الْأَرْضِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفْرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِالْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَ لِلْعَامِلِ زَرْعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ فَزَرَعَهُ فَهُوَ كَمَنْ زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ غَصْبًا فَيَكُونُ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقَلْعِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 حَقٌّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الزَّارِعَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ زَرْعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلْعُ الزَّرْعِ مُضِرًّا بِأَرْضِهِ أَمْ لَا. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ قَلْعُهُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ أُجْبِرَ الزَّارِعُ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قومٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إِذَا رُوضِيَ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي اسْتِيفَائِهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ نَفَقَتُهُ أَيْ: زَرْعُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفَقَتَهُ هِيَ مِنْ مَالِهِ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَعَلْتُمْ وَلَدَ الْأَمَةِ مِنْ زِنًا لِسَيِّدِهَا دُونَ الزَّانِي بِهَا لِعُدْوَانِهِ لَزِمَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا زَرْعَ الْغَاصِبِ لِرَبِّ الْأَرْضِ دُونَ الْغَاصِبِ لِعُدْوَانِهِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَرْعَ الْغَاصِبِ مِنْ بَذْرِهِ يَقِينًا فَجُعِلَ لَهُ وَوَلَدَ الزَّانِي مِنْ مَائِهِ ظَنًّا لَا يَقِينًا فَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَذْرَ الزَّارِعِ مَالَ مَمْلُوكٍ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَيْسَ مَاءُ الزَّانِي مَوْصُوفًا بِالْمِلْكِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ فَلَمْ يَصِرْ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِلْكًا لِلزَّانِي. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا حَقَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي الزَّرْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالزَّارِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، فَيَجُوزُ وَيُؤْخَذُ الزَّارِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَلْعِ الزَّرْعِ بَقْلًا فَيَجُوزُ وَيُؤْخَذُ الزَّارِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إِلَى حِينِ قَلْعِهِ وَبِأَرْشِ نَقْصِهِ إِنْ حَدَثَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدْعُوَ الزَّارِعُ إِلَى اسْتِيفَائِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، وَيَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى قَلْعِهِ بَقْلًا فِي الْحَالِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَيُجْبَرُ الزَّارِعُ عَلَى الْقَلْعِ وَغَرِمَ الأجرة والأرش. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا عَلَى جزءٍ معلومٍ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى مَا يَكْفِيهِ أَوْ مَا يُرْضِيهِ بِطَلَبِ الْمُسَاقَاةِ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْهَا، إِذْ قَدْ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا جَمِيعُهَا، وَلَا يَكْفِيهِ إِلَّا أَكْثَرُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الثَّمَرَةِ فَهَلَّا صَحَّتْ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ؟ قِيلَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِقَدْرِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الثَّمَرَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَالْعِلْمَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْهَا مُمْكِنٌ فَاعْتُبِرَ. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَ نخلاتٍ بِعَيْنِهَا مِنَ الْحَائِطِ لَمْ يَجُزْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ يُوجِبُ اشْتِرَاكَ الْعَامِلِ وَرَبِّ النَّخْلِ فِي الثَّمَرَةِ فَإِذَا عَقَدَاهَا عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثَمَرَ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا مِنْهَا أَفْضَى إِلَى أَنْ يَسْتَبِدَّ أَحَدُهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ دُونَ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ تِلْكَ النَّخَلَاتُ فَيَنْصَرِفَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا تِلْكَ النَّخَلَاتُ وَحْدَهَا، فَيَنْصَرِفَ رَبُّ الْمَالِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى تِلْكَ النَّخَلَاتِ بِعَيْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّخْلِ كُلِّهِ - وَإِنْ جَازَ أَنْ تَحْمِلَ أَوْ لَا تَحْمِلَ - فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جَمِيعِهَا بِثَمَرِ تِلْكَ النَّخَلَاتِ بِعَيْنِهَا - وَإِنْ جَازَ أَنْ تَحْمِلَ أَوْ لَا تَحْمِلَ - قِيلَ لِأَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ بتلك النخلات بعينها تساويا فيها - وحملت أَوْ لَمْ تَحْمِلْ - وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِهَا بِثَمَرِ تِلْكَ النَّخَلَاتِ فَقَدْ يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا - إن حملت أو لم تحمل -. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وكذلك لو اشترط عن صَاحِبِهِ صَاعًا مِنْ تمرٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَحَدِهِمَا الصَّاعَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ بِقَدْرِ الْعِوَضِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الصَّاعِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَحْمِلَ النَّخْلُ إِلَّا ذَلِكَ الصَّاعَ، وَإِذَا بَطَلَتَا لِمُسَاقَاةٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَا وَصَلْنَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِرَبِّ النَّخْلِ وَكَانَ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا عمل. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ فِي النَّخْلِ عَلَى الْإِجَارَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ وَيَحْفَظَ بشيءٍ مِنَ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ فَالْإِجَارَةُ فاسدةٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْإِجَارَاتِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَاقَاةِ، وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ فِي نَخْلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ نَخْلِهِ عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهُ ثَمَرَةُ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ لَمْ تُخْلَقْ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُ وَأَنَّهَا رُبَّمَا لَمْ تَحْمِلْ وَالْأُجْرَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنًا مُشَاهَدَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ خُلِقَتْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَهَا أَوْ سَهْمًا شَائِعًا فِيهَا، لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُشْتَرَطَ لَهُ جَمِيعَهَا فَيُنْظَرُ، فَإِنْ شَرَطَهُ فِيهِ الْقَطْعَ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ جَائِزَةٌ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهَا الْقَطْعَ لَمْ يَجُزْ لِفَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْرُطَ لَهُ سَهْمًا شَائِعًا فِيهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ قَطْعِ الْمُشَاعِ لَا يُمْكِنُ وَالْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَا يَجُوزُ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَيُحْكَمُ لِلْعَامِلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وكل ما كان فيه مستزادٌ في التمر مِنْ إِصْلَاحِ الْمَاءِ وَطَرِيقِهِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَإِبَارِ النَّخْلِ وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ جَازَ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ فَأَمَا شَدُّ الْحِظَارِ فَلَيْسَ فِيهِ مستزادٌ وَلَا صَلَاحٌ فِي الثَّمَرَةِ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ. وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَالثَّالِثُ: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ. وَالرَّابِعُ: مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَلَا النَّخْلِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ فَمِثْلُ إِبَارِ النَّخْلِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ وَلِقَاطِهَا رُطَبًا وَجِدَادِهَا تَمْرًا. فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ. وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قَسَمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ شرط وهو كل ما لاتحصل الثمرة إلا به كالتلقيح والإبار، وقسماً يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ، وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ مُسْتَزَادٌ لِلثَّمَرَةِ وَقَدْ تَصْلُحُ بِعَدَمِهِ، كَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَدْلِيَةِ الثَّمَرَةِ، وَقَسَمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكَامَلَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَهُ كَاللِّقَاطِ وَالْجِدَادِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا بِشَرْطٍ لِتَكَامُلِ الثَّمَرَةِ بِعَدَمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَإِنْ تَكَامَلَتْ قَبْلَهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، فَمِثْلُ سَدِّ الْحَظَائِرِ وَحَفْرِ الْآبَارِ، وَشَقِّ السَّوَاقِي، وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ. فَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ وَكَذَا مَا شَاكَلَهُ مِنْ عَمَلِ الدَّوَالِيبِ وَإِصْلَاحِ الزَّرَانِيقِ. فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ حَمْلًا عَلَى الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي الرَّهْنِ تَبْطُلُ وَلَا يَبْطُلُ مَعَهَا الرَّهْنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ إِذَا تَضَمَّنَتْ شُرُوطًا فَاسِدَةً بَطَلَتْ كَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ فَكَالسَّقْيِ وَالْإِثَارَةِ وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ. . إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ النَّخْلِ وَمُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا تَصْلُحُ الثَّمَرَةُ إِلَّا بِهِ كَالسَّقْيِ فِيمَا لَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنَ النَّخْلِ حَتَّى يُسْقَى سَيْحًا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ كَنَخْلِ الْبَصْرَةِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ هَذَا الْفَصْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ تَأْكِيدٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النخل زيادة الثَّمَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ بِصَلَاحِ النَّخْلِ أَخَصُّ مِنْهُ بِصَلَاحِ الثَّمَرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ النَّخْلِ فَلَمْ يَتَنَافَ الشَّرْطَانِ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ شُرِطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ أُعْقِلَ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَمَّا الْعَامِلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَمَّا رَبُّ النَّخْلِ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَلَا عَلَى الثَّمَرَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا أَوْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ، وَتَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ، وَلَا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ فِي مَصْلَحَتِهِ. وَاللَّهُ أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم المعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 كِتَابُ الشَّرْطِ فِي الرَّقِيقِ يَشْتَرِطُهُمُ الْمُسَاقِي مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُسَاقِي عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَالْقِرَاضِ فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ رَبِّ الْمَالِ بِالنَّخْلِ وَاخْتِصَاصِ الْعَامِلِ بِالْعَمَلِ، فَإِذَا أُطْلِقَتِ الْمُسَاقَاةُ أَخَذَ الْعَامِلُ بِجَمِيعِ الْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الثَّمَرَةُ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَعْوَانِهِ وَلَا اعْتِرَاضَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي رَأْيٍ وَلَا عَمَلٍ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهَا وَالْفَرْقُ بين المضاربة حيث لم يجز أن يستغني فِيهَا بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ، وَبَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَمَّا لَزِمَتْ مَلَكَ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا، وَالْمُضَارَبَةُ لِمَا لَمْ تَلْزَمْ لَمْ يَمْلِكِ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمُضَارَبَةِ هُوَ الرَّأْيُ وَالتَّدْبِيرُ الْمُخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى فَسَادُهُ إِلَّا بَعْدَ نُفُوذِهِ وَفَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعِينَ فِيهِ بِمَنْ رُبَّمَا قَصَّرَ عَنْ رَأْيِهِ لِفَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَتِ الْمُسَاقَاةُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ إِنْ حَصَلَ، وَاسْتِدْرَاكُهُ مُمْكِنٌ إِنْ حَدَثَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِتَدْبِيرِهِ فَإِنْ قَصَّرَ تَقْصِيرًا اسْتُدْرِكَ. فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ جَازَ الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَصْحَابِهِ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ بينهما أنا فِي الْمُسَاقَاةِ عَمَلًا يَخْتَصُّ بِرَبِّ النَّخْلِ وَهُوَ حَفْرُ الْآبَارِ، وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ غِلْمَانِهِ وَلَيْسَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَلٌ يَخْتَصُّ بِرَبِّ الْمَالِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ غِلْمَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا، فَهَلَّا جَوَّزْتُمُ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ كَسْبِهِمْ مُنْفَرِدًا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 قِيلَ قَدْ يَجُوزُ فِي تَوَابِعِ الْعَقْدِ مَا لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ يَصِحُّ أَنْ تُفْرَدَ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ عُقِدَتْ عَلَى مَالٍ صَحَّ، وَكَانَ عَمَلُ الْبَدَنِ فِيهَا تَبَعًا لِلْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَوَّزْتُمْ للعامل أن يشرط على رب النخل غِلْمَانِهِ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَمَلَ نَفْسِهِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رب المال لا يكون تبعاً لما له، وقد يكون غلمانه تبعاً لما له كَالدُّولَابِ وَالثَّوْرِ فِي الْمُسَاقَاةِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَى غِلْمَانِ رَبِّ النَّخْلِ فَلِمَاذَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ سَهْمَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، قِيلَ بِالتَّدْبِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَبِيدِ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الْعَبِيدَ أَنْ يَعْمَلُوا بِتَدْبِيرِ الْعَامِلِ فَإِنْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلُوا بِتَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ فَسَدَ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَشْرُطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ غِلْمَانًا مُعَيَّنِينَ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَمَلَ عَبْدِهِ سَالِمٍ أَوْ غَانِمٍ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يُبْدِلَهُمْ بِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ عَمَلَ الْعَبِيدِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي غَيْرِ نَخْلِ سَيِّدِهِمْ لِأَنَّ الْأُجَرَاءَ عَلَى الْعُمَّالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلُوا إِلَى غَيْرِ عَمَلِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ غِلْمَانًا مَوْصُوفِينَ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعَيَّنُوا اعْتِبَارًا بِعُرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تَعْيِينِ الْعَبِيدِ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهِدَةِ وَالتَّعْيِينِ. أَلَا تَرَى أَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ قَدْ تَجُوزُ بِالصِّفَةِ كَمَا تَجُوزُ بِالتَّعْيِينِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (وَمَنْ يَصِفْكَ فَقَدْ سَمَّاكَ لِلْعَرَبِ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعِينَهُمْ وَلَا يَصِفَهُمْ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِهِمْ وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ لِمَا اقْتُرِنَ بِهَا مِنْ جَهَالَتِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَى الْعَامِلِ غِلْمَانًا يَعْمَلُونَ مَعَهُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ بِالْعَامِلِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَمَّا جَازَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَانَ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ أَجْوَزَ وَسَوَاءٌ عُيِّنُوا أَوْ وُصِفُوا أَوْ أُطْلِقُوا بِخِلَافِ اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ مُسْتَثْنَوْنَ مِنْ عَمَلٍ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ، فَوَقَعَتِ الْجَهَالَةُ بِإِطْلَاقِهِمْ، وَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ عَلَى الْعَامِلِ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَقَعِ الجهالة بإطلاقهم. والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ عَلَى مَا يَتَشَارَطَانِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِمْ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلْمُسَاقِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بِغَيْرِ نفقةٍ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ نَفَقَتِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَا مَحَلَّهَا فِي الْعَقْدِ، أَوْ يُغْفِلَاهُ، فَإِنْ شَرَطَا مَحَلَّهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُشْرَطَ عَلَى الْعَامِلِ، فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْغِلْمَانِ فِي النَّخْلِ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ أَجُورُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُمْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُشْرَطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بِالشَّرْطِ أَنْ يَعْمَلُوا مَعَ الْعَامِلِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ أَنْ يَعْمَلُوا مَعَهُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْرُطَ مِنْ وَسَطِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ قَبْلَ حُدُوثِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ مَحَلِّهَا، وَإِنَّ مَا لَمْ يُخْلَقْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بَعْدَ حُدُوثِ الثَّمَرَةِ فَهَذَا على ضربين: أحدهما: أن تكون نفقتهم منغير جنس الثمرة لتباع الثمرة فيصرف ثَمَنُهَا فِي نَفَقَتِهِمْ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ، وَالنَّفَقَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ يَأْكُلُونَهَا قُوتًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ لِوُجُودِ مَحَلِّهَا، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ لِمَا كَانَتْ لهما، جاز اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ اشْتِرَاطُهَا فِي الثَّمَرَةِ الَّتِي هِيَ لَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِذِمَّةٍ، وَلَا مَعْلُومٍ مُسْتَحَقٍّ مِنْ عَيْنٍ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ : فَإِنْ أَغْفَلَا اشْتِرَاطَ النَّفَقَةِ، فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِلْجَهْلِ بِمَحَلِّ النَّفَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزَةٌ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَبَعٌ لِلْعَقْدِ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْعَقْدُ فَعَلَى هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَلَى الْعَامِلِ، لِاسْتِحْقَاقِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِاشْتِرَاطِ عَمَلِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ أُجْرَتُهُمْ عَنِ الْعَامِلِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُمْ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مِنْ وَسَطِ الثَّمَرَةِ، لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِمْ بِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَأْتِ الثَّمَرَةُ أَخَذَ بِهَا السَّيِّدُ حَتَّى يَرْجِعَ بِهَا فِي الثمرة إذا أتت والله أعلم بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 مسائل المزني رحمه الله قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَهَذِهِ مَسَائِلُ أَجَبْتُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ وَبِاللَّهِ التوفيق ". مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " فَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَاقَاهُ عَلَى نخلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ يَعْمَلَانِ فِي الْمَالِ جَمِيعًا فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَعَانَهُ مَعُونَةً مَجْهُولَةَ الْغَايَةِ بأجرةٍ مجهولةٍ ". قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ إِذَا شَرَطَ الْعَامِلُ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ بُطْلَانِهِ، فَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْعَمَلِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ يُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ، وَالْعَمَلُ الْمَجْهُولُ لَا تَصِحُّ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى بَطَلَتْ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِاخْتِلَافِ عَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَدْخُولٌ بِاشْتِرَاطِ عَمَلِ غُلَامِ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ عَمَلَهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الْعَامِلِ كَمَا يُخَالِفُ عَمَلَ سَيِّدِهِ. وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ بُطْلَانِهِ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ النَّخْلِ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِوَضِ عَلَى عَمَلِهِ وَعَمَلِ غَيْرِهِ فَبَطَلَ. وَهَذَا مَدْخُولٌ بِمِثْلِ مَا دَخَلَ بِهِ تَعْلِيلُ الْمُزَنِيِّ وَيَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا إِذَا سَاقَى رَجُلَيْنِ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ مَا تَمَيَّزَ فِيهَا رَبُّ النَّخْلِ بِالْمَالِ وَالْعَامِلُ بِالْعَمَلِ، فَإِذَا شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَسَدَتْ، كَمَا لَوْ شُرِطَ الْمَالُ عَلَى الْعَامِلِ بَطَلَتْ، لِتَغْيِيرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا مَدْخُولٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَمَلِ غِلْمَانِ رَبِّ النَّخْلِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ تَعْلِيلَ بُطْلَانِهِ هُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ رَبِّ النَّخْلِ فِيهَا يَقْتَضِي لُزُومَ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي مَالِهِ فَصَارَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا، وَأُبْطِلُ مَا شَرَطَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ عَمَلُ غِلْمَانِهِ مُسْتَحِقًّا عَلَى بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ. فَصْلٌ : فَعَلَى اخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ جِنْسًا مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا مَعْلُومًا كَالسَّقْيِ أَوِ التَّلْقِيحِ جَازَ عَلَى تَعْلِيلِ الْمُزَنِيِّ لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى تَعْلِيلِ مَنْ سِوَاهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ فِي حائطٍ آخَرَ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بيعةٍ وَلَهُ فِي الْفَاسِدِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ النَّخْلِ حَائِطٌ شَرْقِيٌّ وَلِلْعَامِلِ حَائِطٌ غَرْبِيٌّ، فَيَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ تُسَاقِيَنِي أَيُّهَا الْعَامِلُ عَلَى حَائِطِكَ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، وَهُوَ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنْ تُسَاقِيَنِي كَقَوْلِهِ بِعْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي عَبْدَكَ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحَائِطَانِ مَعًا لِرَبِّ النَّخْلِ، أَحَدُهُمَا شَرْقِيٌّ وَالْآخَرُ غَرْبِيٌّ، فَيَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ: قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ عَلَى أَنْ أُسَاقِيَكَ عَلَى حَائِطَيِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ، فَهَذَا بَاطِلٌ. قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، فَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعٍ وَشَرْطٍ لَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ تَشْبِيهٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ كَالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فِي الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ فِيهِمَا وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا وَإِنَّمَا فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْبَيْعَتَيْنِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ يُوجِبُ اسْتِدْرَاكَ مَا حَصَلَ مِنْ زِيَادَةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَجْبُورًا بِنَقْصِ الْعَقْدِ الثَّانِي، أَوِ اسْتِدْرَاكَ نُقْصَانِ الْأَوَّلِ مَجْبُورًا بِزِيَادَةِ الثَّانِي، فَصَارَ الْعِوَضُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مُعْتَبَرًا بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ قَالَ رَبُّ النَّخْلِ وَالْحَائِطَانِ جَمِيعًا لَهُ: قَدْ سَاقَيْتُكَ فِي حَائِطَيِ الشَّرْقِيِّ عَلَى النِّصْفِ، وَأُسَاقِيكَ عَلَى حَائِطَيِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الثُّلُثِ وَلَمْ يَجْعَلْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ صَحَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ نَاجِزٌ وَلَمْ يَصِحَّ الثَّانِي لِأَنَّهُ مُوعَدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَقَدْ عَمِلَ الْعَامِلُ فِي النَّخْلِ عَمَلًا فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَرَةِ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ في العمل كالمضاربة. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " فَإِنْ سَاقَاهُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى النِّصْفِ وَالْآخَرُ نَصِيبَهُ عَلَى الثُّلُثِ جَازَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ النَّخْلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَازَ أَنْ يُسَاقِيَا عَلَيْهَا رَجُلًا مُسَاقَاةً مُتَّفِقَةً وَمُخْتَلِفَةً، فَالْمُتَّفِقَةُ: أَنْ يُسَاقِيَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمُخْتَلِفَةُ: أَنْ يُسَاقِيَاهُ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا وَالثُّلُثَ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِنْ أُلْحِقَتْ بِالْإِجَارَاتِ فَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ جَائِزٌ، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِالْبِيَاعَاتِ فَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبِيَاعَاتِ جَائِزٌ. وَخَالَفَتِ الْمُسَاقَاةُ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَأَرَادَا كِتَابَتَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِي الْعِوَضِ حَتَّى يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَسْبِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْمِلْكِ فَلَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْمِلْكِ وَالْكَسْبِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعِوَضِ، وَلَيْسَ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنَ الثَّمَرَةِ مُسْتَحَقًّا بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَرَةَ إِذَا اسْتَحَقَّهَا الشَّرِيكَانِ بِالْمِلْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهَا كَالْكِتَابَةِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ مَسَاقَاتِهَا عَلَى التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ فَإِنْ تَسَاوَيَا فِيهَا وَجَعَلَا لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ، سَوَاءٌ عَلِمَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النَّخْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بِثَمْنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَصَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهَا وَجَعَلَا لَهُ النِّصْفَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا، وَالثُّلُثَ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ، فَإِنْ عَلِمَ الْعَامِلُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النَّخْلِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ بَطَلَتْ لِجَهْلِهِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كانت النخل كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَسَاقَى عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ جَازَ، سَوَاءٌ تساوى بَيْنَهُمَا أَوْ فَاضَلَ كَمَا جَازَ لِلرَّجُلَيْنِ مُسَاقَاةُ الواحد على مساوا عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ جَازَ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلَيْنِ رُبُعُ الثَّمَرَةِ فَقَدْ سَاوَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا الرُّبْعَ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَ فَقَدْ فَاضَلَ، وَالْمُسَاقَاةِ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرَيْنِ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ بِأُجْرَةٍ مُتَفَاضِلَةٍ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى حائطٍ فِيهِ أصنافٌ مِنْ دَقَلٍ وعجوةٍ وَصَيْحَانِيٍّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنَ الدَّقَلِ النِّصْفَ وَمِنَ الْعَجْوَةِ الثُّلُثَ وَمِنَ الصَّيْحَانِيِّ الرُّبُعَ وَهُمَا يَعْرِفَانِ كُلَّ صنفٍ كَانَ كَثَلَاثَةِ حَوَائِطَ معروفةٍ وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا كُلَّ صنفٍ لَمْ يَجُزْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا جَمَعَ الْحَائِطُ أَصْنَافًا مِنَ النَّخْلِ فَسَاقَاهُ عَلَى جَمِيعِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِهَا جَازَ، وَلَوْ خَالَفَ بَيْنَ أَصْنَافِهَا فَسَاقَاهُ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْبَرْنِيِّ وَعَلَى الثُّلُثِ مِنَ الْمَعْقِلِيِّ وَعَلَى الرُّبْعِ مِنَ الْإِبْرَاهِيمِيِّ نُظِرَ فَإِنْ علما قدر كل صِنْفٍ مِنْهَا جَازَ، وَصَارَ كَثَلَاثَةِ حَوَائِطَ سَاقَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى النِّصْفِ وَمِنَ الْآخَرِ عَلَى الثُّلُثِ وَمِنَ الْآخَرِ عَلَى الرُّبْعِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَمَيَّزَ النَّخْلُ بِبِقَاعِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِأَصْنَافِهَا. وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا قد ركل صِنْفٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتِ الْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةً لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَمَرِهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ سَاقَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ حَوَائِطَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهَا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 وَعَلَى الثُّلُثِ مِنْ آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَعَلَى الرُّبْعِ مِنْ آخَرَ لَمْ يُمَيِّزْهُ كَانَ الْعَمَلُ بَاطِلًا وَلِلْعَامِلِ فِي ذَلِكَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ إِنْ عمل. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَاةُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَقُولَا غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا وَمَا بَعْدَ الثُّلُثِ فَهُوَ لِرَبِّ النَّخْلِ وَإِنِ اشْتَرَطَا أَنَّ لِرَبِّ النَّخْلِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَقُولَا غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَعْلَمْ نَصِيبَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ لِرَبِّهَا إِلَّا مَا شُرِطَ مِنْهَا لِلْعَامِلِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ نَصِيبِ الْعَامِلِ لِمَنِ الْبَاقِي وَإِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ النَّخْلِ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ وَلِمَ يُبَيِّنْ نَصِيبَ الْعَامِلِ مِنَ الْبَاقِي فنصيب العامل مجهولٌ وإن جُهِلَ النَّصِيبُ فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ بَيْنَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أربعة أقسام: أحدها: أن يبينا فِيهِ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ النَّخْلِ عَلَيَّ أَنَّ لِي نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَلَكَ نِصْفُهَا أَوْ لِي ثُلُثَاهَا وَلَكَ ثلثها، فهذا وضح أَحْوَالِهِمَا فِي إِبَانَةِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَوْكَدُ مَا يَتَعَاقَدَانِ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يبين نصيب العامل ودون رَبِّ النَّخْلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ أَيُّهَا الْعَامِلُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ، فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ثُلُثِ الْعَامِلِ لِرَبِّ النَّخْلِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ، وَصَارَ كَالْعُمُومِ إِذَا خُصَّ بَعْضُهُ كَانَ بَاقِيهِ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ عُمُومِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ رَبُّ النَّخْلِ نَصِيبَ نَفْسِهِ دُونَ الْعَامِلِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الثَّمَرَةِ، فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابن الْقَاصِّ: إِنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ سَاقَيْتُكَ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الثَّمَرَةِ فَكَانَ بَيَانُهُ لِنَصِيبِ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْعَامِلِ كَمَا كَانَ بَيَانُهُ لِنَصِيبِ الْعَامِلِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) {النساء: 110) فَعُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ ثُلُثِ الْأُمِّ لِلْأَبِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ خَطَأٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الثَّمَرَةَ لِرَبِّ النَّخْلِ، فَإِذَا بَيَّنَ سَهْمَ الْعَامِلِ مِنْهَا صار استثناء خالف حكم الأوصل فَصَارَ بَيَانًا، وَإِذَا بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً لِأَنَّهُ وَافَقَ حُكْمَ الْأَصْلِ، إِذْ جَمِيعُ الثَّمَرَةِ لَهُ، فَلَمْ يَصِرْ بَيَانًا. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمٍ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ أَوْ أَجِيرٌ، فَحَمَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ، وَحَمَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 فَلَوْ قَالَ رَبُّ النَّخْلِ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ وَلِي نِصْفَهَا وَأَغْفَلَ ذِكْرَ السُّدْسِ الْبَاقِي غُلِّبَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ الْعَامِلِ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى، وَصَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ نَصِيبَ الْعَامِلِ وَأَغْفَلَ ذِكْرَ الْبَاقِي كُلِّهِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، فَإِذَا أَغْفَلَ بَعْضَهُ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَكَانَ مَا سِوَى ثُلُثِ الْعَامِلِ مِنَ النِّصْفِ الْمُسَمَّى وَالسُّدْسِ الْبَاقِي لِرَبِّ النَّخْلِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُبَيِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ وَلَا نَصِيبَ الْعَامِلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ " قَدْ سَاقَيْتُكَ " فَالْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ قَدْ تَخْتَلِفُ، فَصَارَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا مُفْضِيًا إِلَى جَهَالَةٍ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهُ قَدْ سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا، فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ صَحِيحَةٌ، وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثَّمَرَةِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِيهَا. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بينهما على تساوي وَتَفَاضُلٍ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا عَلَى التَّسَاوِي فِي الْإِطْلَاقِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّفَاضُلِ فَبَطَلَتْ. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتِ النَّخْلُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَسَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ ثُلُثَيِ الثَّمَرَةِ مِنْ جَمِيَعِ النَّخْلِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَهُ سَاقَى شَرِيكَهُ فِي نِصْفِهِ عَلَى ثُلُثِ ثَمَرَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَتْ النَّخْلُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَسَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَلَهُ الثُّلُثَانِ مِنْ جَمِيعِ ثَمَرِهَا فَهَذِهِ مُسَاقَاةٌ جَائِزَةٌ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا وَعَمَلًا فَكَانَ لَهُ النِّصْفُ بِالْمِلْكِ وَالسُّدْسُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ. فَاخْتَصَّتِ الْمُسَاقَاةُ بِالثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الشَّرِيكِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ. وَمِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ أَلْفٌ بَيْنِ شَرِيكَيْنِ ضَارَبَهُ عَلَيْهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَحْدَهُ وَلَهُ الثُّلُثَانِ مِنَ الرِّبْحِ، فَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةً، وَهِيَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حِصَّةِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالْمِلْكِ وَالسُّدْسَ الزَّائِدَ بالعمل. سألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَى شَرِيكَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الثُّلُثَ وَلِصَاحِبِهِ الّثُلُثَيْنِ لَمْ يَجُزْ كَرَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلْفُ درهمٍ قَارَضَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي نِصْفِهِ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ فِي الْأَلْفِ مِنْ ربحٍ فَالثُّلُثَانِ لِلْعَامِلِ وَلِصَاحِبِهِ الثُّلُثُ فَإِنَّمَا قَارَضَهُ فِي نِصْفِهِ على ثلث ربحه في نصفه ولو قارضه على أن للعامل ثلث الربح والثلثين لصاحبه لم يجز لأن معنى ذلك أن عقد له العامل أن يخدمه في نصفه بغير بدلٍ وسلم له مع خدمته من ربحٍ نصفه تمام ثلثي الجميع بغير عوضٍ فإن عمل المساقي في هذا أو المقارض فالربح بينهما نصفين ولا أجرة للعامل لأنه عمل على غير بدلٍ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّخْلِ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً، لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، فَإِذَا شَرَطَ إِسْقَاطَ الْعِوَضِ فِيهَا نَافَى مُوجِبَهَا، فَبَطَلَتْ، وَالْعَامِلُ إِذَا شَرَطَ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ فَقَدْ أَسْقَطَ ثُلُثَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ، وَصَارَ بَاذِلًا لِعَمَلِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. فَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَا ذَكَرْتُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ الْعَمَلَ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ صَارَ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِأَنَّهَا مُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ يُحْمَلُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَى حُكْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِسْقَاطَ الْبَدَلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ قِيمَةٌ، لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ لَا ثَمَنَ عَلَيْكَ كَانَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ، وَإِنْ شَرَطَ سُقُوطَ الْعِوَضِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ أُجْرَةً عَلَيْكَ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ، كَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَاقَاةِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنَّ مُشْتَرِيَ الثَّوْبِ عَلَى أَنْ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ وَمُسْتَأْجِرَ الدَّارِ عَلَى أَنْ لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ، هُمَا الْمُسْتَهْلِكَانِ مِلْكَ غَيْرِهِمَا، فَضَمِنَا الْعِوَضَ مَعَ مَا شُرِطَ مِنْ شُرُوطِ الْعِوَضِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَفِي الْمُسَاقَاةِ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ عَمَلَ نَفْسِهِ، فَغُلِبَ فِيهِ حُكْمُ التَّطَوُّعِ بِالشَّرْطِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ. فَصْلٌ : ولو ساقا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَالنَّخْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الثَّمَرَةِ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً لِأَنَّ عَمَلَهُ فِيهَا هَدْرٌ لَا بَدَلٌ لَهُ وَتَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَقْدِ، وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَلَهُ الْأُجْرَةُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَكِنْ لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ نِصْفُ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ النَّخْلِ صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، لِأَنَّ مَا فَضُلَ عَنْ قُدْرَةِ مِلْكِهِ يَصِيرُ مُقَابَلَةَ عمل. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوُ سَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى نخلٍ بَيْنَهُمَا سَنَةً مَعْرُوفَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا على أن لأحدهما الثلث والآخر الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمُسَاقَاتِهِمَا مَعْنًى فَإِنْ عَمِلَا فَلِأَنْفُسِهِمَا عَمِلَا وَالثَّمَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي نَخْلٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ سَاقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا، عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَيْنِ فَهَذِهِ مُسَاقَاةٌ بَاطِلَةٌ لِعِلَّتَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ بِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْمِلْكِ، وَفِي عَمَلِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَدْرٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ أُجْرَةٌ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَالِ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، اعْتِبَارًا بِالْمَالِ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْعَمَلِ لِأَنَّ عَمَلَهُمَا تَبَعٌ لِلْمَالِ، فَلَمْ يراعى فِيهِ التَّفَاضُلُ وَلَمْ يُضْمَنْ بِالْأُجْرَةِ. وَهَذَا مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ، فَعَلَى هَذَا لَا أُجْرَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وإن زاد عليه في عمله. والوجه الثَّانِي: أَنَّ الْعَمَلَ مُعْتَبَرٌ يُرَاعَى فِيهِ التَّفَاضُلُ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْأَجْرُ. كَالشَّرِيكَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا، يَقْتَسِمَانِ الْكَسْبَ عَلَى أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا، وَبِحَسْبِ تَفَاضُلِهِمَا فِي أَعْمَالِهِمَا، وَهَذَا مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إِنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ " فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ من شرط لنفس ثُلُثَيِ الثَّمَرَةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى عَمَلِهِ بَدَلًا، وَلَمْ يَبْذُلْهُ تَطَوُّعًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْأُجْرَةِ، وَسَقَطَ نِصْفُهَا، لِأَنَّ نِصْفَ عَمَلِهِ فِي مِلْكِ نَفْسٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِبَدَلِهِ وَنِصْفِهِ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ. فَأَمَّا الْمُشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَتِهِ تَغْلِيبًا لِلشَّرْطِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَرْجِعُ بِنِصْفِ أُجْرَتِهِ تَغْلِيبًا لِلْعَقْدِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَى رجلٌ رَجُلًا نَخْلًا مُسَاقَاةً صَحِيحَةً فَأَثْمَرَتْ ثُمَّ هَرَبَ الْعَامِلُ اكْتَرَى عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ مَنْ يَقُومُ فِي النَّخْلِ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا هَرَبَ الْعَامِلُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا صَلَاحَ لِلنَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ إِلَّا بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَلْتَمِسَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ اسْتِعْدَاءِ رَبِّ النَّخْلِ إِلَيْهِ، وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ لِيَأْخُذَهُ بِالْبَاقِي مِنْ عَمَلِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَازِمٌ يُسْتَحَقُّ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ، وَعَلَى رَبِّ النَّخْلِ الثَّمَرُ. فَإِنْ بَعُدَ الْعَامِلُ عَنِ الْحَاكِمِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ اسْتَأْجَرَ فِيمَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ أَجِيرًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْبَاقِي مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ قَاسَمَ الْحَاكِمُ رَبَّ النَّخْلِ عَلَى الثَّمَرَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا حِصَّةَ الْعَامِلِ لِيَحْفَظَهَا عَلَيْهِ، فإن لم يجد للعامل مالاً يأخذه مِنْهُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ النَّائِبِ عَنْهُ، اسْتَدَانَ عَلَيْهِ قَرْضًا مِنْ رَبِّ النَّخْلِ، أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِيَقْضِيَ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَدِينُ مِنْهُ قَرْضًا نُظِرَ فِي الثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ بِيعَ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِ فِيهَا بِقَدْرِ أُجُورِ الْأُجَرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَادِيَةِ الصَّلَاحِ فَالْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا مَعَ الْإِشَاعَةِ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنَ الْعَامِلِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْحَاكِمَ يُسَاقِي عليها لأجل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 الباقي من العمل فيها رجلاً آخر يسهم مُشَاعٍ فِي الثَّمَرَةِ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ العامل عند حصول الثمرة، وتناهيها، ويعز الْبَاقِي مِنْ حِصَّتِهِ - إِنْ بَقِيَ - مَحْفُوظًا لَهُ إِنْ عَادَ، وَيَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ حِصَّتَهُ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي: أَنْ يُقَالَ لِرَبِّ النَّخْلِ: قَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ، وَهَذَا عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْمُسَاقَاةِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا صَارَ مُتَطَوِّعًا بِالْبَاقِي مِنَ الْعَمَلِ وَلِلْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ فَسَخَ صَارَ الْعَقْدُ مُنْفَسِخًا فِي الْبَاقِي مِنَ الْعَمَلِ. ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لُزُومُهُ فِي الْمَاضِي مِنَ الْعَمَلِ، وَتَكُونُ حِصَّةُ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ مُقَسَّطَةً عَلَى الْعَمَلَيْنِ الْمَاضِي مِنْهُ وَالْبَاقِي، فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا مَا قَابَلَ الْمَاضِي مِنْ عَمَلِهِ، وَيَسْتَحِقُّ رَبُّ النَّخْلِ مَا قَابَلَ الْبَاقِيَ مِنْ عَمَلِهِ مَضْمُومًا إِلَى حِصَّتِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبَّ النَّخْلِ عِنْدَ هَرَبِ الْعَامِلِ لَمْ يَأْتِ الْحَاكِمُ، وَاسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ عَمِلَ بَاقِيَ الْعَمَلِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَنْفَقَ وَالْعَامِلُ عَلَى حَقِّهِ فِي الثَّمَرَةِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْحَاكِمِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ وَلَمْ يَشْهَدْ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ لَا يَرْجِعُ بِهَا، وَالْعَامِلُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ وَأَشْهَدَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ وَإِنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ غَايَةُ مَا فِي وُسْعِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " إِنْ عَلِمَ مِنْهُ سَرِقَةً فِي النَّخْلِ وَفَسَادًا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَتُكُورِيَ عَلَيْهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: حِفْظُهَا، وَالثَّانِي: أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي الْحِفْظِ أُخِذَ بِهِ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مَنْ يَحْفَظُهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ فِي الثَّمَرَةِ وَسَرِقَةٌ لَهَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ، أَوْ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِهِ مُنِعَ مِنَ الثَّمَرَةِ وَرُفِعَتْ يَدُهُ عَنْهَا (قَالَ المزني ههنا) وَيُكَارَى عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَعْمَلُ فِي الثَّمَرَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَضُمُّهُ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِحِفْظِ الثَّمَرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلٍ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَرْدُودٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ. فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى رَبُّ النَّخْلِ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ، وَالْعَامِلُ مُنْكِرٌ لَهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ تَقُومُ بِهَا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الثَّمَرَةِ لَا تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 أَرَادَ رَبُّ النَّخْلِ بِدَعْوَى السَّرِقَةِ الْغُرْمَ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ إِلَّا مَعْلُومَةً، وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ يَدِ الْعَامِلِ بِهَا عَنِ الثَّمَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُسْمَعُ مَجْهُولَةً لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي رَفْعِ يَدِهِ بِقَلِيلِ السَّرِقَةِ وَكَثِيرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْمَعُ إِلَّا مَعْلُومَةً، لِأَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِهَا فَرْعٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْغُرْمِ فِيهَا، فَصَارَ حكم الغرم أغلب. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَنْفَقَ رَبُّ النَّخْلِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَيَسْتَوْفِي الْعَامِلُ شَرْطَهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ وَإِنْ مَاتَ قَامَتْ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، لأن عقد المساقاة لازم لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ مَاتَ رَبُّ النَّخْلِ كَانَ الْعَامِلُ عَلَى عَمَلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ قَدْرَ شَرْطِهِ، وَالْبَاقِي مَقْسُومٌ بَيْنَ وَرَثَةِ رَبِّ النَّخْلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ، وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ فَإِنْ قَامَ وارثته بِبَاقِي الْعَمَلِ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ وَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ مَا لَزِمَ الْمَيِّتَ مِنْ حَقٍّ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَرِكَةٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِوَارِثٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعَادِي عَلَى الْعَامِلِ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ يَقُومُ مقامه من الباقي من عمله وإن لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يستدان عليه بخلاف الهارب، لأن الميت لا ذمة له وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْهَارِبِ إِذَا تَقَرَّرَتِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ فَأَثْمَرَتْ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَبُّهَا أَخَذَهَا وَثَمَّرَهَا وَلَا حَقَّ عَلَيْهِ فِيمَا عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ لِأَنَّهَا آثارٌ لَا عينٌ وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الدَّافِعِ بِقِيمَةِ عملٍ فَإِنِ اقْتَسَمَا الثَّمَرَةَ فَأَكَلَاهَا ثُمَّ اسْتَحَقَهَا رَبُّهَا رَجَعَ عَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا بِمَكِيلَةِ الثَّمَرَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا الدَّافِعُ لَهَا وَرَجَعَ الدَّافِعُ عَلَى الْعَامِلِ بِالْمَكِيلَةِ الَّتِي غَرِمَهَا وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ سَاقَى رَجُلًا عَلَى نَخْلٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ النَّخْلُ مِنْ يَدِ الْعَامِلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَامِلِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ النَّخْلِ مِنْ يَدِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسَاقِي وَلَا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَثْمَرَتْ أَوْ لَمْ تُثْمِرْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَثْمَرَتِ اسْتَرْجَعَهَا رَبُّهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهَا، وَلِلْعَامِلِ عَلَى المساقي أجرة مثل علمه، لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَإِنْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقِيَةً بِيَدِهِ، فَيَرْجِعُ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَامِلِ وَالْمُسَاقِي بِمَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ، لِأَنَّ نَمَاءَ الْمَغْصُوبَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ رَبِّهِ، دُونَ غَاصِبِهِ. ثُمَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 قِيلَ: فَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَرَةِ جَارٍ مَجْرَى تَلَفِهَا، وَتَلُفُ الثَّمَرَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ رُجُوعَ الْعَامِلِ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ، قِيلَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ تَلَفِ الثَّمَرَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ النَّخْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدِ اسْتَهْلَكَهَا، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَا قَدِ اسْتَهْلَكَاهَا بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا مَكْنُوزًا رَجَعَ بِقِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَا قَدِ اسْتَهْلَكَاهَا تَمْرًا بَثًّا رَجَعَ بِمِثْلِهَا لِأَنَّ لِلتَّمْرِ الْبَثِّ مِثْلًا، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْبَثِّ مِثْلٌ، ثُمَّ رَبُّ النَّخْلِ بالخيار بين يَرْجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِمِثْلِ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ منهما بمثل ما استهلكه فلا تراجع؟ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ لِتَفْوِيتِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ رَجَعَ الْمُسَاقِي عَلَى الْعَامِلِ بِمِثْلِ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْهَا، وَرَجَعَ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْمُسَاقِي بَاقِيَةً بِيَدِهِ، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ مُسْتَهْلِكَةً فَيَرْتَجِعُ رَبُّ النَّخْلِ مَا بِيَدِ الْمُسَاقِي مِنَ الثَّمَرَةِ، ثُمَّ هُوَ فِيمَا اسْتَهْلَكَهُ الْعَامِلُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ الْعَامِلُ عَلَى الْمُسَاقِي، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسَاقِي وَيَرْجِعُ الْمُسَاقِي بِهِ عَلَى الْعَامِلِ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ عَلَى الْمُسَاقِي. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْمُسَاقِي مُسْتَهْلَكَةً، وَحِصَّةُ الْعَامِلِ بَاقِيَةً بِيَدِهِ فَيَرْجِعُ رَبُّ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ بِمَا بِيَدِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُسَاقِي بِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ يَضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا ضَمَانُ مَا حَصَلَ بِيَدِهِ، وَالْمُسَاقِي يَضْمَنُ بِالْعُدْوَانِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا حَصَلَ بَعْدَ عُدْوَانِهِ ثُمَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَاقِي بأجرة مثله. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى أَنَّهُ سَقَاهَا بِمَاءِ سماءٍ أَوْ نهرٍ فَلَهُ الثُّلُثُ وَإِنْ سَقَاهَا بِالنَّضْحِ فَلَهُ النِّصْفُ كَانَ هَذَا فَاسِدًا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ كَانَ وَالنَّصِيبُ مجهولٌ وَالْعَمَلُ غَيْرُ معلومٍ كَمَا لَوْ قَارَضَهُ بمالٍ عَلَى أَنَّ مَا رَبِحَ فِي الْبَرِّ فَلَهُ الثُّلُثُ وَمَا رَبِحَ فِي الْبَحْرِ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ عَمِلَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالتَّعْلِيلُ مُسْتَقِيمٌ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جهالة العمل لتردد بَيْنَ السَّقْيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّضْحِ. وَالثَّانِي: جَهَالَةُ الْعِوَضِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " فَإِنِ اشْتَرَطَ الدَّاخِلُ أَنَّ أُجْرَةَ الْأُجَرَاءِ مِنَ الثَّمَرَةِ فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَمَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ قَدْ تُحَلِّقُ وَلَا تُحَلِّقُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الأجرة غير ثابتة في ذمة وَلَا هِيَ اسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْعِبُ الثَّمَرَةَ فَلَا يَحْصُلُ لِرَبِّ النَّخْلِ وَلَا لِلْعَامِلِ شَيْءٌ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رحمه الله تعالى: " وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ لوقتٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يثمر إليه لم يجز ". أَمَّا الْوَدِيُّ فَهُوَ الْفَسِيلُ الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ بَعْدُ، فَإِذَا سَاقَى عَلَيْهِ رَجُلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَسِيلِ فِي الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي جَمِيعِ سِنِي الْمُسَاقَاةِ فَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلِ الْفَسِيلُ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ عَلَى رَبِّهِ كَمَا لَوْ حَالَ النَّخْلُ الطَّوِيلُ فَلَمْ يَحْمِلْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي آخِرِ سِنِي الْمُسَاقَاةِ مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى فَسَيْلٍ خَمْسَ سِنِينَ يَعْلَمُ بِغَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّهُ يَحْمِلُ فِي الْخَامِسَةِ وَلَا يَحْمِلُ فِيمَا قَبْلَهَا فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِتَفْوِيتِ عَمَلِهِ فِي الْأَعْوَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ، كَمَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ فِي آخِرِ السَّنَةِ عوضاً عن عمله في أولها. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ بِغَالِبِ الْعُرْفِ أَنَّ الْفَسِيلَ لَا يَحْمِلُ فِي مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ كُلِّهَا، فَالْمُسَاقَاةُ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْعَامِلِ، فَإِنْ عَمِلَ الْعَامِلُ فِيهَا عَمَلًا، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ: لَا أُجْرَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ عَلَى عَمَلِهِ بَدَلًا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُسَاقَاةٍ فَاسِدَةٍ، فَلَوْ أَثْمَرَ هَذَا الْفَسِيلُ الَّذِي كَانَ الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا عَلَى الْفَسَادِ، وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ، وَأُجْرَةُ الْعَامِلِ عَلَى ما مضى من الاختلاف. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجُوزَ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ أَنْ يَحْمِلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَحْمِلَ وَالْأَمْرَانِ عَلَى سَوَاءٍ فَفِي الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّهَا باطلة لترددها بين جائز وغير جائر. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ، كَمَا أَنَّ رِبْحَ الْمُضَارَبَةِ مَجُوزٌ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَكَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُ بِالْمَضَارَبَةِ فِي سَفَرٍ مَخُوفٍ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ جَازَ تَلَفُ الْمَالِ كَجَوَازِ سَلَامَتِهِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ أَوْ لَمْ تُثْمِرْ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الثَّمَرَةِ مَجُوزٌ، فَلَمْ يُفَوِّتْ عَمَلَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: إِنْ أَثْمَرَتْ كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ فَلَا شَيْءَ لَهُ. فَصْلٌ : فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا وَسَقَاهُ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا فَسَيْلًا لِيَكُونَ ثَمَرُ الْفَسِيلِ إِذَا أَثْمَرَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى عَيْنٍ قَائِمَةٍ. مَسْأَلَةٌ قَالَ المزني رحمه الله تعالى: " لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَنْ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ عَلَى مساقاةٍ صحيحةٍ فَقَالَ رَبُّ النَّخْلِ عَلَيَّ الثُّلُثِ وَقَالَ الْعَامِلُ بَلْ عَلَيَّ النِّصْفِ تَحَالَفَا وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ رَبُّ النَّخْلِ أَوْ أَقَلَّ وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى سَقَطَتَا وَتَحَالَفَا كَذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ النَّخْلِ وَالْعَامِلُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، كَالْعَرْضِ، فَيَقُولُ رَبُّ النَّخْلِ سَاقَيْتُكَ عَلَى الثُّلُثِ وَيَقُولُ الْعَامِلُ عَلَى النِّصْفِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُدَّةِ أَوْ فِي النَّخْلِ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ بِكَوْنِهِمَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ، مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ، فَإِذَا تَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ فُسِخَتِ الْمُسَاقَاةُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ عَمَلٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ له عمل، فله أجره مثله سواه كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى أَوْ أَكْثَرَ، سَوَاءٌ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ أَوْ لَمْ تُثْمِرْ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا ارْتَفَعَ بِالتَّحَالُفِ بَطَلَ الْمُسَمَّى، وَاسْتُحِقَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قُضِيَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَحَالُفٍ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ. فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَدْ تَعَارَضَتَا، وفيهما قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ، وَيَرْجِعَانِ إِلَى التَّحَالُفِ. وَالثَّانِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَتْ قُرْعَتُهُ حُكِمَ بِهَا، وَهَلْ يَحْلِفُ صَاحِبُهَا مَعَهَا، أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْ وُقُوفُهُمَا فَلَا يَجِيءُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، أَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْعَقْدِ لَا تَصِحُّ وَأَمَّا وُقُوفُهُمَا فلأن وُقُوفَ الْعُقَدِ لَا يَجُوزُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَفَعَا نَخْلًا إِلَى رجلٍ مُسَاقَاةً فَلَمَّا أثمرت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْعَامِلُ شَرَطْتُمَا لِيَ النِّصْفَ وَلَكُمَا النَّصْفُ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ لَهُ مُقَاسَمَةُ الْمُقِرِّ فِي نِصْفِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ وَتَحَالَفَ هُوَ وَالْمُنْكِرُ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ في نصفه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي نَخْلٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ سَاقَيَا عَلَيْهَا رَجُلًا وَاحِدًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَثْمَرَتِ النَّخْلُ، فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُمَا سَاقَيَاهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ صَدَّقَاهُ سَلِمَ إِلَيْهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ، وَقَالَا بَلْ سَاقَيْنَاكَ عَلَى الثُّلُثِ تَحَالَفَ الْعَامِلُ وَالشَّرِيكَانِ عَلَى مَا مَضَى ثُمَّ لَهُ عَلَيْهِمَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ عَقْدُهُ مَعَ الْمُصَدِّقِ سَلِيمًا وَأَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَكَانَ عَقْدُهُ مَعَ الْآخَرِ مُخْتَلِفًا فِيهِ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَتَمَيَّزُ حُكْمُهُمَا لِتَمَيُّزِ أَحْوَالِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الْمُصَدِّقُ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَرِيكِهِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّرِيكِ على شريكه مَقْبُولَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ الْعَامِلُ، فَيُحْكَمَ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّرِيكُ عَدْلًا تُحَالَفَ الْعَامِلُ وَالشَّرِيكُ الْمُكَذِّبُ، فَإِذَا حَلَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِالنِّصْفِ من أجرة مثله. مسألة قال المزني رحمه الله تعالى: " وَلَوْ شَرَطَ مِنْ نَصِيبِ أَحَدَهِمَا بِعَيْنِهِ النَّصْفَ وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِعَيْنِهِ الثُّلُثَ جَازَ وَإِنْ جَهِلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَفُسِخَ فَإِنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَالثَّمَرُ لِرَبِّهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَاقِيَا رَجُلًا عَلَى عِوَضٍ مُتَسَاوٍ وَمُتَفَاضِلٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَفَاضَلَ الْعِوَضَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا عَوَّضَ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرٍ، فَإِنْ جُهِلَ بَطَلَ لِلْجَهَالَةِ بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ حِصَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 مختصر من الجامع في الإجارة من ثلاثة كتبٍ في الإجارة وما دخل فيه سوى ذلك مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَدْ يَخْتَلِفُ الرَّضَاعُ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إلا هذا جازت فيه الإجازة وَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَمِلَ بِهَا بَعْضُ أَنْبِيَائِهِ فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِجَارَتَهُ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ حججٍ مَلَكَ بِهَا بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَقِيلَ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ غَنَمًا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَجْوِيزِ الْإِجَارَةِ وَمَضَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَعَمِلَ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وعوام أهل الأمصار " (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: " فالإجارات صنفٌ من البيوع لأنها تمليك لكل واحدٍ منهما من صاحبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ خِلَافَ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهَا وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْغَرَرِ وَالْغَرَرُ يَدْخُلُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى مِنْهَا أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ غَيْرُ مخلوقة والعقد على ما لم يخلق الباطل. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَيْنٍ حَاضِرَةٍ ترى أن غَائِبَةٍ تُوصَفُ وَلَيْسَتِ الْمَنَافِعُ أَعْيَانًا حَاضِرَةً وَلَا غَائِبَةً فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَمِنْهَا أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَنَشَاطِهِ وَكَسَلِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وهذا قول جهل من قَالَهُ وَالْإِجَارَاتُ أَصُولٌ فِي أَنْفُسِهَا بُيُوعٌ عَلَى وَجْهِهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {الطلاق: 6) . قَالَ الشَّافِعِيُّ (فَأَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الرِّضَاعِ) وَالرِّضَاعُ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ رِضَاعِ الْمَوْلُودِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقِلَّتِهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إِلَّا هَذَا جَازَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَتْ عَلَيْهِ جَازَتْ عَلَى مِثْلِهِ وَمَا هُوَ فِي مِثْلِهِ مَعْنَاهُ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ جَهَالَةَ الرِّضَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ اللَّبَنِ وَكَثْرَتُهُ. وَالثَّانِي: قِلَّةُ شُرْبِ الصَّبِيِّ وَكَثْرَتُهُ ثُمَّ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ فِيهِ فَكَانَتْ صِحَّتُهَا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ (بِقَوْلِهِ تَعَالَى) {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 اسْتَأْجَرْتَ القَوِيَّ الأَمِينَ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 26 - 27) فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ آجر نفسه حججاً مسماة ملك بها بعض امْرَأَةٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ اسْتِئْجَارُ مُوسَى لِحِجَجٍ تُؤَدَّى أَوْ لِعَمَلٍ يُسْتَوْفَى فَقَالَ قَوْمٌ بَلْ كَانَ عَلَى حِجَجٍ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ وَهُوَ رَعْيُ غَنَمٍ ثَمَانِي سِنِينَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّنَةَ حِجَّةً لِأَنَّهُ لَا يقع في السنة الواحدة إلى حِجَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: (كَأَنِّي وَقَدْ جَاوَزْتُ سَبْعِينَ حِجَّةً ... خَلَفْتُ بِهَا عَنْ مَنْكِبَيَّ دَائِيَا) وَاسْتَدَلَّ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ مِنَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً) {الكهف: 77) . فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِمْسَاكِ الْخَضِرِ. عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأُجْرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْطُوا الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ " وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رجلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يوفه أجره. ورجل أعطى بي صفقة يَمِينِهِ ثُمِ غَدَرَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الْفَرْقِ وَذَكَرَ قِصَةَ ثلاثةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَحَدَهُمُ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِفَرْقٍ مِنْ بُرٍّ فَعَمِلَ وَلَمْ يَأْخُذْ أُجْرَتَهُ فَزَرَعَهُ لَهُ حَتَّى نَمَا وَصَارَ قَدْرًا عَظِيمًا ثُمَّ عَادَ الْأَجِيرُ فَدَفَعَ إليه جميعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُكُمْ فِيمَنْ مَضَى كرجلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا بقيراطٍ الْحَدِيثَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ: يَا عَلِيُّ أَرْبَدْ لَنَا دَلِيلًا مِنَ الْأَزْدِ فَإِنَّهُمْ أَوْفَى لِلْعَهْدِ فَاسْتَأْجَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ مِنَ الْأَزْدِ دَلِيلًا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وُلِدَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ اسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا (يُقَالُ لَهَا) أُمُّ سَيْفٍ امْرَأَةُ قينٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو يُوسُفَ وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ بِأَنِّي رجلٌ أُكْرِيَ إِبِلِي أَفَتُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي فَقَالَ: أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي قُلْتُ: بَلَى. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلٌ عِمَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) {البقرة: 198) وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْقِي الْمَاءَ لامرأةٍ يهوديةٍ كُلَّ دلوٍ بتمرةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَشَأْتُ يَتِيمًا وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ بِعُقْبَةِ رِجْلِي وَطَعَامِ بَطْنِي فَكُنْتُ أَخْدِمُ إِذَا نَزَلُوا وَأَحْدُوا إِذَا رَكِبُوا فَزَوَّجَنِيهَا اللَّهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا وَجَعَلَ أَبَا هريرة إماماً وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْإِجَارَةِ دَاعِيَةٌ وَالضَّرُورَةَ إِلَيْهَا مَاسَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ عَمَلًا قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَسُنَ بِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ طَعَامًا لِمَأْكَلِهِ وَثِيَابًا لِمَلْبَسِهِ قَدَرَ عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَعَلَى إِحْدَاثِهِ وَإِنْشَائِهِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ كَمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ابْتِيَاعِ الْأَعْيَانِ ثُمَّ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَهْيِهِ عَنِ الْغَرَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَرٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْغَرَرِ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ وَالْأَغْلَبُ فِي الْإِجَارَةِ حَالُ السَّلَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَرَرٌ خُصَّ بِالشَّرْعِ لِقِلَّتِهِ وَضَرُورَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ كَالْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ إِنَّمَا بَطَلَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ وَالْمَنَافِعُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ لِفَوَاتِهَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا لَيْسَتْ أَعْيَانًا حَاضِرَةً وَلَا غَائِبَةً فَهُوَ أَنَّهَا مَنَافِعُ أَعْيَانٍ حَاضِرَةٍ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَنَافِعَ تَخْتَلِفُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُ فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ إِنْ كَانَ عَلَى مَنَافِعَ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُدَّةٍ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنَ الْعَبْدِ عَمَلُ مِثْلِهِ جَبْرًا إِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ طَوْعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ مدة إجازته. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ فَهِيَ كَالْبَيْعِ يُعْتَبَرُ انْعِقَادُهَا بِأَرْبَعَةٍ: بِمُؤَجَّرٍ ومستأجر ومؤاجر وأجرة فأما المؤجر فهو بَاذِلُ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَائِعِ وَهُوَ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّتْ إِجَارَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ مِنْ مُوَلًّى عَلَيْهِ وَغَاصِبٍ لَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ طَالِبُ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُشْتَرِي وَهُوَ مَنْ صَحَّ شِرَاؤُهُ صَحَّ اسْتِئْجَارُهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ مِنْ مُوَلًّى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِئْجَارُهُ وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ فَهُوَ كُلُّ عَيْنٍ صَحَّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا صَحَّتْ إِجَارَتُهَا كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ مَنَافِعِهَا أَعْيَانًا كَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَمَا لَمْ يَصِحَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالْمَأْكُولِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الدَّرَاهِمِ بِإِزَالَتِهَا عَنِ الْمِلْكِ وَمَنْفَعَةَ الْمَأْكُولِ بِالِاسْتِهْلَاكِ. فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُمَا لِمَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهِمَا كَاسْتِئْجَارِ الدَّرَاهِمِ لِلْجَمَالِ وَاسْتِئْجَارِ الطعام ليعتبر مكيال فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى مِنْ حُصُولِ الِانْتِفَاعِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ وَالْأَغْلَبُ سِوَاهُ فَصَارَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ هُوَ الْمُغَلَّبَ. وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَضْمُونَةَ بِالْإِجَارَةِ هِيَ الْمَضْمُونَةُ بِالْغَصْبِ وَمَنَافِعُ الدَّرَاهِمِ وَالطَّعَامِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُضْمَنَ بِالْإِجَارَةِ وَهَكَذَا مَا كَانَتْ مَنَافِعُهُ أَعْيَانًا مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا ثِمَارٌ هِيَ أَعْيَانٌ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا قَبْلَهُ وَهَكَذَا الْغَنَمُ فَإِنِ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَالِاسْتِظْلَالِ بِالشَّجَرِ أَوْ رَبْطِ مَوَاشٍ إِلَيْهَا أَوْ سُفُنٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا غَالِبًا فِيهَا وَمَقْصُودًا مِنْ مَنَافِعِهَا فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَادِرًا غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي الْعُرْفِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. ثُمَّ الْعَقْدُ وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعَيْنِ فَهُوَ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَنْفَعَةَ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَيْنِ لِتَعْيِينِ الْمَنْفَعَةِ بِهَا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْعَقْدُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنَ الْعَيْنِ مَقْصُودَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ حِينَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَقْدُ إِلَيْهَا وَهَذَا خَطَأٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُضَافَةٍ إِلَى عين كرجل استأجر من رجل عملاً مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً كَمَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَالْعِلْمُ بِهَا قَدْ يَكُونُ مِنْ وجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُ الْعَمَلِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ. وَالثَّانِي: تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ فَأَمَّا مَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ فَمِثَالُهُ أن يقول قد استأجرت عَلَى أَنْ تَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ تَنْسِجَ لِي هَذَا الْغَزْلَ أَوْ تَصُوغَ لِي هذا الخلخال فتصير الإجازة مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ فِيهَا فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا الْمُدَّةَ بَطَلَتْ. لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرَتُكَ لِتَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ فِي يَوْمٍ فَقَدْ يَفْرَغُ مِنْهُ فِي بَعْضِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي بَاقِيهِ فَقَدْ أَخَلَّ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ وَإِنْ عَمِلَ فَقَدْ زَادَ عَلَى عَقْدِهِ. وَأَمَّا مَا يُتَقَدَّرُ فِيهِ بِالْمُدَّةِ دُونَ الْعَمَلِ فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَبْنِيَ لِي شَهْرًا فَتَصِيرَ الْإِجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِالْمُدَّةِ فَتَصِحَّ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ فِيهَا إِذَا كَانَ جِنْسُهُ مَعْلُومًا فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا قَدْرَ الْعَمَلِ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَكْمِلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنْ تَرَكَ بَاقِيهِ فَقَدْ أَخَلَّ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ وَإِنْ عَمِلَ فَقَدْ زَادَهُ فِي عَقْدِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَهْوِ الْعِوَضُ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ كَالثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ فِي جَوَازِهِ مُعَيَّنًا وَفِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَإِنْ جُهِلَتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ الْجَهَالَةِ بِقَدْرِهِ إِذَا كَانَ مُشَاهَدًا أَمْ لَا؛ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَالسَّلَمِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ جزَافًا قَدْ جُهِلَ قَدْرُهُ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا كَالْبَيْعِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمَقْبُوضَةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا أَوْ مُعَوَّضًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً. فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِمَنَافِعِ دَارٍ أُخْرَى أَوْ بِرَقَبَةِ دَارٍ أُخْرَى جَازَ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الشَّرْعِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ. فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَأَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا وَوُجُوبِ بَدَلِهَا عَلَى مُتْلِفِهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْجِرَةً. فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِنَفَقَتِهِ أَوْ بعيراً بعلوفته فلم يَجُزْ لِجَهَالَتِهِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ تَعَلُّقًا بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِطَعَامِ بَطْنِهِ وَعُقْبَةِ رِجْلِهِ. وَهَذَا مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهَا بِمَا يَكْفِيهِ لِطَعَامِ بَطْنِهِ وَعُقْبَةِ رِجْلِهِ أَوْ يَكُونَ شَرَطَ ذلك مقدراً. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَالْإِجَارَاتُ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا يَجُوزُ فسخه إلا بعيب كالمبيع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مَوْجُودًا فِي الشَّيْءِ الْمُؤَاجِرِ كَالدَّارِ إِذَا خَرِبَتْ وَالدَّابَّةِ إِذَا مَرِضَتْ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْمُؤَجِّرِ كَمَا لَوْ وُجِدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْبَائِعِ. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مَوْجُودًا فِي الْأُجْرَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُبْدِلَ الْمَعِيبُ بِغَيْرِهِ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا يَفْسَخُ الْبَائِعُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِعُذْرٍ يَطْرَأُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبٌ. وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ الظَّاهِرَةِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَفْسَخَ بِالْأَعْذَارِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ جَمَلًا لِحَجٍّ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ الْعُدُولُ مِنَ الْحَجِّ إِمَّا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ. أَوْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُرِيدُ النُّقْلَةَ عَنِ الْبَلَدِ أَوْ يَسْتَأْجِرَ حِرْزًا لِمَتَاعِهِ ثُمَّ يُرِيدُ بَيْعَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَطْحَنُ لَهُ بُرًّا ثُمَّ يُرِيدَ بَذْرَهُ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَيُجْعَلَ لَهُ بِهَا فَسْخُ الْإِجَارَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ لَا تَلْزَمُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ لِلْأَعْذَارِ مَدْخَلًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ. أَلَا ترى أن من استؤجر لقلع ضرب فبرأ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ لِلْعُذْرِ الطَّارِئِ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِ ضِرْسِهِ وَكَذَا كُلُّ عُذْرٍ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ) {المائدة: 1) فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْأَمْرِ يُوجِبُ الْوَفَاءَ بِكُلِّ عَقْدٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ. وَلِأَنَّ كُلَّ عِقْدٍ لَزِمَ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ لَزِمَهُمَا مَا لَمْ يَحْدُثْ بِالْعِوَضَيْنِ نَقْصٌ كَالْبَيْعِ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَزِمَ الْعَاقِدَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْعُذْرِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ خِيَارٌ بِحُدُوثِ عُذْرٍ كَالزَّوْجِ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُؤَجِّرُ الْفَسْخَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ كَالْأُجْرَةِ لَا يَكُونُ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ فِيهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمُؤَجِّرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ النُّقْصَانِ فِيهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ نُقْصَانَهَا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ كَزِيَادَتِهَا فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُهُ بِعُذْرٍ كَالْمُؤَجِّرِ. وَلِأَنَّ الْعُقُودَ نَوْعَانِ: لَازِمَةٌ فَلَا يَجُوزُ فَسْخُهَا لِعُذْرٍ كَالْبَيْعِ وَغَيْرُ لَازِمَةٍ فَيَجُوزُ فَسْخُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْقِرَاضِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُلْحَقًا بِغَيْرِ اللَّازِمِ فِي جَوَازِ فَسْخِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِاللَّازِمِ فِي إِبْطَالِ فَسْخِهِ بِعُذْرٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ فَهُوَ أَنَّ الْوِكَالَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ يَجُوزُ فَسْخُهَا بِعُذْرٍ وَغَيْرِ عُذْرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ لِلْأَعْذَارِ تَأْثِيرًا فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ كَالضِّرْسِ المستأجر على قلعه إذا برأ فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةً بِعَقْدِ إِجَارَةٍ فَقَدِ اسْتَحَقَّهَا وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَلَا يُجْبَرَ عَلَى سُكْنَاهَا فَإِنْ مُكِّنَ مَنْ سُكْنَاهَا فَلَمْ يَسْكُنْ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ هَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الْإِجَارَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الضِّرْسُ عَلَى حَالِ مَرَضِهِ وَأَلَمِهِ فَقَلْعُهُ مُبَاحٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجِيرَ بِقَلْعِهِ إِنْ شَاءَ. فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَقْلَعَهُ مَعَ أَلَمِهِ لَمْ يُجْبِرْ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهُ قَدْ بَذَلَ لَكَ الْأَجِيرُ الْقَلْعَ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةً يُمْكِنُ فِيهَا قَلْعُهُ فَقَدِ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ كَمَا لَوْ مضت مدة السكنى وإن برأ الضِّرْسُ فِي الْحَالِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَلْعِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ قَلْعَهُ قَدْ حَرُمَ وَعَقْدُ الْإِجَارَةُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مُبَاحًا لَا مَحْظُورًا فَصَارَ مَحَلَّ الْعَمَلِ مَعْدُومًا فَلِذَلِكَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَتَلِفَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالتَّلَفِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِهِ بِالْحَظَرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وَأَنَّ فَسْخَهُ بِالْعُذْرِ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُثُلَاتِ فِيهِ. وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ في البيع لأنهما معاً من عقود المفاوضات. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالنِّكَاحِ ولأن اشتراط الثلاثة يَتَضَمَّنُ إِتْلَافَ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي ابْتِيَاعِ الْعَبْدَيْنِ أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَبْقَ جَمِيعُهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُهُ كَالْبَيْعِ لِكَوْنِهِمَا عَقْدَيْ مُعَاوَضَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجَّرَهَا الْمُؤَجِّرُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ وَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْإِجَارَةِ الْأُولَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ حَتَّى يَتَقَدَّمَهَا الْفَسْخُ لِئَلَّا يَصِيرَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَسْخًا وَعَقْدًا لِتَنَافِيهِمَا. وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْأَوَّلُ وَتَوْجِيهُ الْمَذْهَبِ هُوَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ الثَّانِي يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالتَّأَهُّبِ لِلثَّانِي وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ أَجَّرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَتْ إِجَارَتُهُ بَاطِلَةً سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُؤَجِّرِ يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 افْتَرَقَا عَنْ تَرَاضٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَدْخُلُهُ وَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ لَازِمًا لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمُدَّةِ فَأَشْبَهَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَجَّرَهُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ أَجَّرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ جَازَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِمُفَارَقَتِهِ الْبَيْعَ فِي الْخِيَارِ فَفَارَقَهُ فِي الْقَبْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ فَارَقَ الْبَيْعَ فِي حُكْمِ الْخِيَارِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي إِجَارَةِ مَا لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِثْلَ تَنَاوُلِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا أَوْ تَنَاوُلِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: عَقْدُ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الدَّارَ الْمُؤَجَّرَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ إِجَارَتِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا تَنَاوَلَ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهَا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَقْدُ إِلَى مَا لَمْ يُقَابِلْهُ الْعِوَضُ وَتَصِيرَ الْمَنَافِعُ بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ مَقْبُوضَةً حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ إِجَارَتُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا وَبِاللَّهِ التوفيق. مسألة وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي فِي الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا حَتَى يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ مَالِكِهَا وَيَمْلِكُ بِهَا صَاحِبُهَا الْعِوَضَ فَهِيَ منفعةٌ معقولةٌ مِنْ عينٍ معلومةٍِ فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتَرِيَ بدينٍ لِأَنَّهُ حينئذٍ يَكُونُ دَيْنًا بدينٍ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (قَالَ) وَإِذَا دَفَعَ مَا أَكْرَى وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ كَمَا إِذَا دَفَعَ جَمِيعَ مَا بَاعَ وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَمْلِكُ بِهَا صَاحِبُهَا الْعِوَضَ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَعْقُولَةٌ مِنْ عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ فَهِيَ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا خِلَافَ حُكْمِ الْعَيْنِ لَكَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتَرِيَ بِدَيْنٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا دَفَعَ مَا أَكْرَى وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ كَمَا إِذَا دَفَعَ مَا بَاعَ وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ مَنَافِعَ فِي مُقَابَلَةِ أُجْرَةٍ، فَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الأجرة فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترط حُلُولَهَا فَتَكُونُ حَالَّةً اتِّفَاقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا تَأْجِيلَهَا أَوْ تَنْجِيمَهَا فَتَكُونُ مُؤَجَّلَةً أَوْ مُنَجِّمَةً إِجْمَاعًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَاهَا فَلَا يَشْتَرِطَا فِيهَا حُلُولًا وَلَا تَأْجِيلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ حَالَةَ تَمَلُّكٍ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِالتَّمْكِينِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وَقَالَ أبو حنيفة لَا تُعَجَّلُ الْأُجْرَةُ بَلْ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَكُلَّمَا مَضَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ جُزْءٌ مَلَكَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لَكِنَّ لَمَّا شَقَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ عَلَى يَسِيرِ الْأَجْزَاءِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلَّا بِمُضِيِّ جَمِيعِ الْمُدَّةِ. وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَتَعَجَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6) فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِاسْتِكْمَالِ الرِّضَاعِ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ. وَبِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ " فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ. وَلِأَنَّ أُصُولَ الْعُقُودِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَسَاوِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ بِالْعَقْدِ وَيَكُونُ مِلْكُ الْعِوَضِ تَالِيًا لِمِلْكِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ إِذَا مَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ الْمَبِيعَ مَلَكَ بِهِ الثَّمَنَ وإذا سلم المبيع استحق قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَمَّا كَانَ قَبْضُ الْمَنَافِعِ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْأُجْرَةِ مُؤَجَّلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْأَعْوَاضِ عَلَى الْمَنَافِعِ يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ كَالْجَعَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُؤَجِّرِ لِلْأُجْرَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ الْمُؤَاجَرَةَ لَوِ انْهَدَمَتْ قَبِلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْأُجْرَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِيهِ حَالًّا كَالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ تُعَجِّلُ بِالشَّرْطِ فَإِطْلَاقُهُ يُوجِبُ حُلُولَهُ كَالثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُعَوَّضِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ مِنْ عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ حَظُّ أَحَدِهِمَا فِيهِ أَقْوَى مِنْ حَظِّ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ إِذَا سَلِمَ الْمَبِيعُ فِيهِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ. وَكَالنِّكَاحِ إِذَا حَصَلَ التَّمْكِينُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إِذَا حَصَلَ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ والمنافع ههنا بِالتَّمْكِينِ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا لِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً وَبِالتَّمْكِينِ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ لَمَا جَازَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً لَمَا جَازَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ بَاطِلٌ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ صَدَاقِهَا وَلَوْ كَانَ صَدَاقُهَا سُكْنَى دَارٍ تَسَلَّمَتْهَا لَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَلَوْلَا حُصُولُ قَبْضِهَا لِصَدَاقِهَا مَا أُلْزِمَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأُجْرَةَ لَوْ لَمْ تُمَلَّكْ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى لَمَا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ عليها وأن يأخذ من الذَّهَبِ وَرِقًا وَعَنِ الْوَرِقِ ذَهَبًا كَمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الدُّيُونِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 الْمُؤَجَّلَةِ وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضَةِ بِالتَّمْكِينِ لَزِمَ تَسْلِيمُ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَعَلْتُمُ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةً حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يكن القبض مُسْتَقِرًّا وَجَعَلْتُمُ الْأُجْرَةَ مَقْبُوضَةً قَبْضًا مُسْتَقِرًّا قِيلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَقْبُوضَةً حُكْمًا فَجَعَلْنَا الْقَبْضَ فِيهَا مُسْتَقِرًّا وَلَا يُمْكِنُ فِي الْمَنَافِعِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا مُسْتَقِرًّا فَجَعَلْنَاهُ حُكْمًا عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ فِي الدَّارِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ مَنَافِعِهَا بِالْهَدْمِ كَذَلِكَ الْأُجْرَةُ قَدْ يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمُؤَجِّرُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {الطلاق: 6) فَهُوَ أَنْ مَعْنَاهُ فَإِنْ بَذَلْنَ الرِّضَاعَ لَا أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِكْمَالَ الرِّضَاعِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) {التوبة: 29) أَيْ يَبْذُلُوا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) {الطلاق: 6) وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّضَاعِ مَا احْتَاجَ إِلَى إِرْضَاعِ أُخْرَى فَصَارَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطُوا الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ فَهُوَ أَنَّ اسْتِدْلَالَنَا مِنْهُ كَاسْتِدْلَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرَقُ حِينَ يَعْمَلُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أَخْذُهَا قَبْلَ إِتْمَامِ الْعَمَلِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِيمَنْ شَرَطَ تَأْخِيرَ أُجْرَتِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأُصُولِ وَاسْتِشْهَادُهُمْ بِالشَّرْعِ فَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فَكَانَ دَلِيلًا وَانْفِصَالًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَعَالَةِ وَالْقِرَاضِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا إِنْ سَلِمَ القياس من النقيض بِالنِّكَاحِ أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِمَا إِجْبَارٌ وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ فَوَقَعَ فِيهَا إِجْبَارٌ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا مَا اسْتُرْجِعَتْ بِالِانْهِدَامِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ وَبِالنِّكَاحِ وَبِالْبَيْعِ فِي اسْتِرْجَاعِ بَعْضِ الثَّمَنِ فِي أَرْشِ الْعَيْبِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأُجْرَةَ يَسْتَحِقُّهَا الْمُؤَجِّرُ حَالَّةً بِالْعَقْدِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْهَا فَهِيَ لَهُ دَيْنٌ كَالْأَثْمَانِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ مَا أَجَّرَهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ كَمَا لَا يُطَالَبُ بِثَمَنِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَإِذَا سَلَّمَ مَا أَجَّرَهُ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِأُجْرَتِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِثَمَنِ مَا أَقْبِضُهُ فَإِذَا قَبَضَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ مَلَكَهَا. وَهَلْ يَكُونُ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهَا أَوْ مُرَاعًى فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: أَحَدُهُمَا: مُرَاعًى لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ سَلَامَةِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ فَتَسْتَقِرُّ وَبَيْنَ انْهِدَامِهَا فَيَرْتَجِعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ بِالِانْهِدَامِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَةُ الْحَالِ كَمَا أَنَّ بَائِعَ السَّلَمِ مُسْتَقِرُّ الْمِلْكِ عَلَى ثَمَنِهِ. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ مِنْهُ لِعَدَمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَكَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَقِرَّةُ الْمِلْكِ عَلَى صَدَاقِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرْتَجِعَ جَمِيعَهُ بِالرِّدَّةِ وَنِصْفَهُ بالطلاق قبل الدخول. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا قَبَضَ الْعَبْدَ فَاسْتَخْدَمَهُ أَوِ الْمَسْكَنَ فَسَكَنَهُ ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ أَوِ انْهَدَمَ الْمَسْكَنُ حُسِبَ قَدْرُ مَا اسْتُخْدِمَ وَسُكِنَ فَكَانَ لَهُ وَرَدَّ بقدر ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 بَقِيَ عَلَى الْمُكْتَرِي كَمَا لَوِ اشْتَرَى سَفِينَةَ طعامٍ كُلَّ قفيزٍ بِكَذَا فَاسْتَوْفَى بَعْضًا فَاسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَاقِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ وَرَدَّ قَدْرَ مَا بَقِيَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا سَنَةً لِيَخْدِمَهُ أَوْ دَارًا سَنَةً لِيَسْكُنَهَا فَانْهَدَمَتِ الدَّارُ وَمَاتَ الْعَبْدُ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَإِقْبَاضِ الدَّارِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَالْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ فِيهَا قَدْ سَقَطَتْ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ قَبَضَهَا فَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَضْمُونٌ عَلَى عَاقِدِهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ كَالْمَبِيعِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْعَبْدِ وَانْهِدَامُ الدَّارِ بَعْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةَ وَاسْتِيفَاءِ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ فَالْإِجَارَةُ قَدْ مَضَتْ سَلِيمَةً وَالْأُجْرَةُ فِيهَا مُسْتَقِرَّةٌ وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنِهِمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالْفُقَهَاءُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَالْأُجْرَةُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لَازِمَةٌ وَالْمَنَافِعُ عَلَيْهِ مَضْمُونَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ كَتَسْلِيمِهَا لَوْ كَانَتْ مَبِيعَةً فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَانْهَدَمَتْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بِإِجَارَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا وَغَيْرُ مَقْبُوضَةٍ إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِهَا وَتَسْلِيمِهَا. وَلَيْسَ تَسْلِيمُ الدَّارِ تَسْلِيمًا لَهَا مُسْتَقِرًّا وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُقْبَضَ قَبْضَ انْبِرَامٍ وَلَا أَنْ يُمْلَكَ بِالْغَائِبِ مِنْهَا عِوَضٌ وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَقَرَّ قَبْضُ الْمَنَافِعِ فِي حَالِ التَّسْلِيمِ لَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ فِي الْحَالِ وَلَمَا انْتُظِرَ بِهَا تَقَضِّي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ مَا اسْتَقَرَّ بِهَا مِنْ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهَا قَبِلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَمَا بَطَلَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّارِ أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ وَلَمْ يَسْكُنْ لَلَزَمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتُرْجِعَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْكِينُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَخَالَفَ الْبَيْعَ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَجِعْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَنَافِعِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا تَنْفَسِخُ بِانْهِدَامِ الدَّارِ لِإِمْكَانِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَرْصَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ لَيْسَتْ دَارًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا مَنْفَعَتَهَا مَنْفَعَةُ دَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِ الْعَبْدِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْهَا فَالْإِجَارَةُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ بَاطِلَةٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَتَهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهَا وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْعَبْدِ وَانْهِدَامُ الدَّارِ بعض مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ كَأَنْ مَضَى مِنْ سَنَةِ الْإِجَارَةِ نَصِفُهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا فَالْإِجَارَةُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ السَّنَةِ بَاطِلَةٌ. فَأَمَّا النِّصْفُ الْمَاضِي مِنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفَسَادِ الطَّارِئِ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ هَلْ يَكُونُ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هُمَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصفقة. وقال آخرون وإن الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِلْفَسَادِ الْمُقَارَنِ لِلْعَقْدِ فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ غَيْرَ فَاسِدَةٍ قَوْلًا وَاحِدًا فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسَمَّى وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ لِفَوَاتِهِ عَلَى يَدِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ السَّنَةِ كُلِّهَا مُتَسَاوِيَةً لِتُسَاوِي الْعَمَلِ فِيهَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِاسْتِيفَاءِ نِصْفِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحِقِّ بِنِصْفِ السَّنَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهَا مُخْتَلِفًا وَالْأُجْرَةُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةُ النِّصْفِ الْمَاضِي مِنَ السَّنَةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأُجْرَةُ النِّصْفِ الْبَاقِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا تَقَسَّطَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُخْتَلِفِ دُونَ الْمُدَّةِ وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ثُلُثَا الْأُجْرَةِ بِمُضِيِّ نِصْفِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا تُقَابِلُ ثُلُثَيِ الْعَمَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ فِيمَا مَضَى وَبَيْنَ فَسْخِهَا فِيهِ. فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَاضِي لَزِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْقِسْطِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ يُقِيمُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَسَخَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الْفَسَادَ الطَّارِئَ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ. وَإِنْ فَسَخَ الْإِجَارَةَ فِي الْمَاضِي لَزِمَهُ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ رَفَعَ الْعِقْدَ فَسَقَطَ حُكْمُ المسمى فيه. فصل : فإن مرض العبد واسترمت الدَّارُ فَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ الْمُؤَثِّرِ فِي مَنْفَعَتِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. وَالْخِيَارُ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ بِمُرُورِ الْأَوْقَاتِ لِحُدُوثِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 النَّقْصِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ مَرَضُ الْعَبْدِ مَرَضًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ نُظِرَ فِيمَا اسْتُؤْجِرَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَعَافُ النَّفْسُ مَرَضَهُ فِيهِ كَالْبِنَاءِ وَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَحَرْثِ الْأَرْضِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعَافُ النَّفْسُ مَرَضَهُ كَخِدْمَتِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي دَارٍ خَرِبَ جِوَارُهَا أَوْ دُكَّانٍ بَطَلَتْ سُوقُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْهَدَمَ فِيهَا حَائِطٌ أَوْ سَقَطَ فِيهَا سَقْفٌ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سُكْنَى الدَّارِ بِانْهِدَامِ حَائِطِهَا وَسُقُوطِ سَقْفِهَا كَانَ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ جَمِيعُهَا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيهَا وَإِنْ أَمْكَنَ سُكْنَاهَا لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الْفَسْخِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ وَأَمَّا إِنِ انْهَدَمَ نِصْفُهَا وَبَقِيَ نِصْفُهَا الْبَاقِي مِنْهَا يُمْكِنُ سُكْنَاهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي النِّصْفِ الْمُنْهَدِمِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي النِّصْفِ السَّلِيمِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ وَمَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلصَّفْقَةِ خَرَّجَ الْإِجَارَةَ فِيمَا سَلِمَ مِنَ الدَّارِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَصْلٌ : فَإِذَا انْهَدَمَتِ الدَّارُ فَبَنَاهَا الْمُؤَجِّرُ لَمْ تَعُدِ الْإِجَارَةُ فِيهَا بَعْدَ فَسَادِهَا إِلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَحْدَثٍ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدِهِ إِلَّا بِاسْتِحْدَاثٍ عَقْدٍ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَرَمَّتْ وَتَشَعَّثَتْ وَلَمْ يَخْتَرِ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ حَتَّى عَمَرَهَا الْمُؤَجِّرُ فَفِي خِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ لِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ وَلَكِنْ لَوْ رَامَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ الْفَسْخِ حَتَّى يَعْمُرَهَا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْمُؤَجَّرِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى خِيَارِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَانْطَمَّتْ آبَارُهَا وَامْتَلَأَتْ حُشُوشُهَا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ تَنْقِيَةَ ذَلِكَ وَتَنْظِيفَهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ وَالَّذِي عندي وأراه مذهباً أن تنقية ما انظم مِنْ آبَارِهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَتَنْقِيَةَ مَا امْتَلَأَ مِنْ حُشُوشِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ امْتِلَاءَ الْحُشُوشِ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَتَحْوِيلِ الْقُمَاشِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ انْطِمَامُ الْآبَارِ فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ تَنْقِيَةِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُشُوشِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُؤَجِّرُ مِنْ تَنْقِيَةِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْآبَارِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا مَا كَانَتِ الدَّارُ قَائِمَةً وَلَيْسَ الْوَارِثُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُوثِ الَّذِي عَنْهُ وَرِثُوا فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِالثَّمَنِ قِيلَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي رطبٍ لوقتٍ فَانْقَطَعَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ البائع ولو باع متاعاً غائباً ببلدٍ ودفع الثمن فهلك المبتاع رجع بالثمن وقد انتفع به البائع (قال المزني) رحمه الله وهذا تجويز بيع الغائب ونفاه في مكانٍ آخر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَلَا الْمُسْتَأْجِرِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَالنِّكَاحِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مُؤَجِّرٍ وَمُؤَاجِرٍ فَلَمَّا بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ عَنْ رَقَبَةِ الْمُؤَاجَرَةِ يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ مَا أَجَّرَهُ بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِمَّا تُسْتَوْفَى بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ عَاقِدًا وَالْوَارِثُ لَا عَقْدَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَارَ مَالِكًا فَصَارَتْ مُنْتَقِلَةً عَنِ الْعَاقِدِ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِعَاقِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ يَنْتَقِضُ بِمَوْتِ مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ. لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِمَوْتِ الْعَاقِدِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فَمَرِضَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ حَيًّا، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يُعَاوِضُ عَلَى بِضْعِ أَمَتِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا يُعَاوِضُ عَلَى خِدْمَتِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ عَلَى بِضْعِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِالْعَقْدِ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَى مَنَافِعِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ كَالنِّكَاحِ عَلَى أَمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ مَنْفَعَتَيِ الْأَمَةِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كَالْمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَنْتَقِلُ بِالْمُعَاوَضَةِ كَالْأَعْيَانِ فَجَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْإِرْثِ كَالْأَعْيَانِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعِوَضٍ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِرْثًا كَالْأَعْيَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْأَعْيَانُ فِي الْبِيَاعَاتِ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَاتِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْحَيِّ الْمُخْتَارِ. وَلِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَعْجَزُ عَنْ إِقْبَاضِ مَا اسْتُحِقَّ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَقْدُ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهَا قَدْ تُسْتَحَقُّ بِالرَّهْنِ تَارَةً وَبِالْإِجَارَةِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ مَا تُسْتَحَقُّ مَنْفَعَةُ ارْتِهَانِهِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ رَهْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتُحِقَّتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ إِجَارَتِهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْأُمِّ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَوْرُوثُ وَالْمَوْرُوثُ إِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ الْوَارِثُ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ إِجَارَةَ الْوَقْفِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ كَالْوَقْفِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْمُضَارَبَةِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْوَقْفِ فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ رَدَّهُ إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ رَدَّهُ إِلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا عَدَمُ لُزُومِهِمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَجَوَازُ فَسْخِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَيْسَتِ الْإِجَارَةُ كَذَلِكَ لِلُزُومِهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى انْهِدَامِ الدَّارِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ فَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا إِذَا بَاعَ مَا أَجَّرَ بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ عَنْ رِضَاهُ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ عَنْ سُخْطِهِ وَإِنَّمَا الْبَيْعُ مُخْتَلَفٌ فِي إِبْطَالِهِ ثُمَّ يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِهِ بِعِتْقِ الْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ قَدْ زَالَ مِلْكُ سَيِّدِهِ عَنْ رَقَبَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إِذَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْمَوْتِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُسْتَوْفَى بِعَقْدٍ وَمِلْكٍ وَهَذَا مُفْتَرَقٌ بِالْمَوْتِ فَهُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَهَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ يَدِ الْوَارِثِ مَا لَمْ يُعَاقِدْ عَلَيْهِ كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ ثَمَنُ مَا اشْتَرَاهُ الْمَوْرُوثُ وَيَقْبِضُ مِنْهُ أَعْيَانَ مَا بَاعَهُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ قَدْ مَلَّكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِعَقْدِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَارِثُ بِمَوْتِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِالثَّمَنِ قِيلَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَتَاعٍ لِوَقْتٍ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ أَوِ ابْتَاعَ مَتَاعًا غَائِبًا بِبَلَدٍ فَدَفَعَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ رَجَعَ بِالثَّمَنِ وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ فَهَذَا سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ وَانْفَصَلَ عَنْهُ. اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَجَّلَ الْأُجْرَةَ وَمَنَعَ مِنْ حُلُولِهَا لِئَلَّا يَنْتَفِعَ الْمُكْرِي بِالْأُجْرَةِ قَبْلَ انْتِفَاعِ الْمُكْتَرِي بِالْمَنْفَعَةِ وَقَدْ تَنْهَدِمُ الدَّارُ فَتَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلُ هَذَا لَيْسَ يَمْتَنِعُ كَمَا أَنَّ بَائِعَ السَّلَمِ قَدْ يَتَعَجَّلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَقَدْ يَهْلَكُ الْمُسْلِمُ فِيهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ فَيَسْتَرْجِعُ ثَمَنَ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَكَمَا يَقْبِضُ ثَمَنَ غَائِبٍ عَنْهُ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيَرُدُّ ثَمَنَهُ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ الْمُؤَجِّرُ بِالْأُجْرَةِ وَيُلْزِمَ وَارِثَهُ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَوَابَيْنِ: وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ انْهِدَامَ الدَّارِ وَمَوْتَ الْعَبْدِ فِي تَضَاعِيفِ الْمُدَّةِ يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ وَيُوجِبُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِهَا وَإِنِ انْتَفَعَ الْمُكْرِي بِهَا وَلَمْ يَنْتَفِعِ الْمُكْتَرِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِمَا قَابَلَهَا فَأَجَابَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ انْتِفَاعِ الْبَائِعِ بِثَمَنِ الْمُسْلِمِ وَثَمَنِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ وَإِنْ رَدَّهُمَا بِتَلَفِ السلم فِيهِ وَتَلَفِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا تَجْوِيزُ بَيْعِ الْغَائِبِ وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ غَائِبٍ قَدْ رَآهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَارَةَ الْمِلْكِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 إِجَارَةِ الْوَقْفِ فَإِنْ أَجَرَّهُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي غَلَّتِهِ صَحَّتْ إِجَارَتُهُ وَلَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَجِّرْ مِلْكَهُ وَإِنَّمَا نَابَ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَرَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ غَلَّتَهُ وَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَتَهُ لِكَوْنِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هريرة إِنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ وَانْتِقَالِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ بِأَنَّ وَارِثَ الْمِلْكِ يَمْلِكُ عَنِ الْمُؤَجِّرِ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ لِأَنَّ مُؤَجِّرَهُ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُهُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ بِشَرْطِ الْوَقْفِ لَا بِالْإِرْثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ مُؤَجِّرَهُ والٍ قَدْ أَجَّرَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ مَنْ بَعْدَهُ بِوِلَايَتِهِ فَإِذَا انْقَضَى حَقُّهُ بِمَوْتِهِ صَحَّتْ إِجَارَتُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ بِوِلَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْأُجْرَةَ اسْتَرْجَعَ مِنْ تَرِكَتِهِ أُجْرَةَ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ مِنْ أَبِيهِ دَارًا سَنَةً وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ الْمُؤَجِّرُ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ هَذَا الِابْنِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلدَّارِ وَالْمَنْفَعَةِ إِرْثًا فَامْتَنَعَ بَقَاءُ عَقْدِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَرِثَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ فَقَدْ صَارَتِ الدَّارُ مَعَ التَّرِكَةِ إِرْثًا وَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ ضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِالْإِرْثِ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ فَسَاوَى الْغُرَمَاءَ فِيهَا. فَلَوْ كان للأب ابن آخر انفسخت الإجارة إلى نِصْفِ الدَّارِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَزِمَتْ فِي حِصَّةِ الِابْنِ الْآخَرِ وَرَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا بِيعَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُبَاعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِالْإِجَارَةِ وَالرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرِثَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَبْطُلَ الْإِجَارَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَهَا فَلَا تَبْطُلَ أَنَّهُ بِالْإِرْثِ صَارَ قَائِمًا مَقَامَ الْمُؤَجِّرِ فَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ بِالْبَيْعِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ إِلَّا فِيمَا سُمِّيَ بِالْعَقْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُبَاعَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعَةٌ بِحَقٍّ فَصَارَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمَغْصُوبِ الَّذِي يَمْنَعُ يَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِظُلْمٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ صَحِيحٌ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعَ الرَّقَبَةِ كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْإِجَارَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَالْأُجْرَةُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 فَصْلٌ : فَإِذَا أَجَّرَ الْأَبُ أَوِ الْوَصِيُّ صَبِيًّا ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ رَشِيدًا فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَا تَنْفَسِخُ بِبُلُوغِهِ. وَلَوْ أَجَّرَ السَّيِّدُ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزُلِ الْعَقْدُ بِزَوَالِ يَدِ عَاقِدِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَزَالَ الْعَقْدُ بِزَوَالِ مِلْكِ عَاقِدِهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ أَجَّرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا لَازِمَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَيْثُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَمْ تَبْطُلْ بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ لَهُ فَاخْتَصَّ التَّمْلِيكُ بِمَا كَانَ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ وَأُمُّ الْوَلَدِ تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكِهِ فَكَانَ الْمِلْكُ عَلَى عُمُومِهِ وَصَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَثَابَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا وَرِثَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِيهِ وَصَارَ الْعَبْدُ بِمَثَابَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا ابْتَاعَ مَا اسْتَأْجَرَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ فيه والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَطْنِ مُرٍّ فَتَعَدَّى بِهَا إِلَى عُسْفَانَ فَعَلَيْهِ كِرَاؤُهَا إِلَى مرٍ وَكِرَاءُ مِثْلِهَا إِلَى عُسْفَانَ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ فَاسْتَوْفَاهُ وَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مُرٍّ فَيَرْكَبَهَا إِلَى مُرٍّ ثُمَّ يَتَعَدَّى بِرُكُوبِهَا إِلَى عُسْفَانَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ بِرُكُوبِهَا إِلَى مُرٍّ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْعَقْدِ ثُمَّ صَارَ بِمُجَاوَزَةِ مُرٍّ مُتَعَدِّيًا وَلَزِمَهُ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: كِرَاءُ الْمِثْلِ مِنْ مُرٍّ إِلَى عُسْفَانَ. وَالثَّانِي: الضَّمَانُ. فَأَمَّا كِرَاءُ الْمِثْلِ فَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أبو حنيفة وَإِنْ كَانَ يُسْقِطُ الْكِرَاءَ عَنِ الْغَاصِبِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رُكُوبَ الْغَاصِبِ طَرَأَ عَلَى يَدٍ ضَامِنَةٍ فَسَقَطَ عَنْهُ الْكِرَاءُ وَرُكُوبَ هَذَا الْمُجَاوِزِ مَسَافَتَهُ طَرَأَ عَلَى يَدٍ غَيْرِ ضَامِنَةٍ فَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ. فَصْلٌ : أَمَّا الضَّمَانُ فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ فِيمَا حَدَثَ قَبْلَ مُجَاوَزَتِهِ وَتَعَدِّيهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي فَقَدْ صَارَ مَأْخُوذًا بِهِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّابَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتْلَفَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَنْقُصَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِهَا فَإِنْ تَلِفَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا بِالْيَدِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهَا كَالْغَاصِبِ. وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا فِي حَالِ الرُّكُوبِ أَوْ بَعْدَ النُّزُولِ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرُّكُوبِ ضَمِنَ ضَمَانَ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانَ غَصْبٍ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَمْ تَزُلْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُ الرُّكُوبِ مَحْظُورًا فلزمه بعضها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الْقِيمَةِ لِأَنَّ تَلَفَهَا كَانَ بِالْإِعْيَاءِ فِي مَسَافَتَيْنِ مُبَاحَةً غَيْرَ مَضْمُونَةٍ وَمَحْظُورَةً مَضْمُونَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن القيمة تسقط عَلَى قَدْرِ الْمَسَافَتَيْنِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْقِيمَةِ قَدْرُ مَا قَابَلَ مَسَافَةَ الْإِجَارَةِ وَيَلْزَمُهُ مِنْهَا مَا قَابَلَ مَسَافَةَ الْعُدْوَانِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ مُرٍّ إِلَى مَكَّةَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَيْلًا وَمِنْ مُرٍّ إِلَى عُسْفَانَ ثَلَاثِينَ مِيلًا لَزِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ ثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِهَا وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْجَلَّادُ إِذَا أُمِرَ أَنْ يجلد رجلاً ثمانين سوطاً فجلده أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَوْطًا فَمَاتَ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُشَاهِدًا لِلرُّكُوبِ غَيْرَ مُنْكِرٍ لَهُ كَانَ ذَلِكَ بِرَضًى مِنْهُ فَوَجَبَ سُقُوطُ الضَّمَانِ قِيلَ الرِّضَا الَّذِي يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ مَا كَانَ إِذْنًا بِالْقَوْلِ وَلَيْسَ السُّكُوتُ إِذْنًا فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا خَرَقَ ثَوْبًا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَرَاهُ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِسُكُوتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلِفَ الدَّابَّةَ بَعْدَ نُزُولِ الرَّاكِبِ عَنْهَا وَحُصُولِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ بِرَدِّهَا عَلَى الْمَالِكِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُكُوبُ التَّعَدِّي قَدْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا فَيَضْمَنَ قَدْرَ نَقْصِهَا. وَإِنْ لَمْ تَتْلَفِ الدَّابَّةُ وَلَكِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ نَقْصُ قِيمَتِهَا بِغَيْرِ الرُّكُوبِ لَمْ يَضْمَنْهُ الرَّاكِبُ وَإِنْ كَانَ بِالرُّكُوبِ فَمَا قَابَلَ الْمُبَاحَ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَمَا قَابَلَ الْمَحْظُورَ ضَمِنَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ عَلَى حَالِهَا لَمْ يَضْمَنِ الرَّاكِبُ غَيْرَ الأجرة والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَهُ وَعَبْدَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ". الْإِجَارَةُ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ لِأَنَّ الْغَرَرَ يَسِيرٌ فِيهَا وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَهَا إِلَى خَمْسِ سِنِينَ أَوْ سِتِّ سِنِينَ لَا غَيْرَ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ غَرَرٌ لِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ قَدْ تُسَلَّمُ وَقَدْ لَا تُسَلَّمُ فَإِذَا قَلَّ الزَّمَانُ قَلَّ غَرَرُهَا فَجَازَ وَإِذَا طَالَ الزَّمَانُ كَثُرَ غَرَرُهَا فَبَطَلَ كَالْخِيَارِ وَالسَّنَةُ الْوَاحِدَةُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي تَكْمُلُ فِيهَا مَنَافِعُ الزِّرَاعَةِ فِي الْأَرَضِينَ وَلَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا فِيهَا الْحَيَوَانَاتُ وَالدُّورُ فَلِذَلِكَ تَقَدَّرَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ بِهَا وَبَطَلَتْ فِيمَا جَاوَزَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ أَكْثَرَ من سنة قال الشافعي ههنا ثَلَاثِينَ سَنَةً وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ مَا شَاءَ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى {قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 إِنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) {القصص: 27) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ سِنِينَ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَكَارَى أَرْضًا وَلَمْ تَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى مَاتَ قَالَ ابْنُهُ: مَا كُنْتُ أَرَاهَا إِلَّا لَهُ مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ بِيَدِهِ حَتَّى ذَكَرَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا مِنْ ذهبٍ أَوْ ورقٍ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَدْعُو فِي الْإِجَارَةِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لَا سِيَّمَا فِي الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَصَحَّتْ فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا صَحَّتْ فِي السَّنَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ ثُمَّ لَمَّا لَمْ تَتَقَدَّرْ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَقَدَّرُ بُيُوعُ الْمَنَافِعِ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ أكثر من سنة فقد قال الشافعي ههنا تَجُوزُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الثَّلَاثِينَ حَدًّا عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ وَيَمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الثَّلَاثِينَ شَطْرُ الْعُمْرِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ لَيْسَ بِحَدٍّ وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى مَا يَشَاءُ الْمُتَعَاقِدَانِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَلَهُمْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّكْثِيرِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَهُ رَدًّا عَلَى قَوْمٍ جَعَلُوا مَا دُونَ الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِلْجَوَازِ وَجَعَلُوا الثَّلَاثِينَ حَدًّا لِلْمَنْعِ وَالْفَسَادِ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فَأَقَلُّ مُدَّتِهَا مَا أَمْكَنَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُؤَاجَرِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ دَارٌ لِلسُّكْنَى جَازَتْ إِجَارَتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا أو أقل من ذلك تافه لم يجربه عُرْفٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ عَقْدٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَأَقَلُّهَا مُدَّةُ زِرَاعَتِهَا. فَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ مَا عُلِمَ بَقَاءُ الشَّيْءِ الْمُؤَاجَرِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَرْضًا تَأَبَّدَ بَقَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ دَارًا رُوعِيَ فِيهَا مُدَّةً يَبْقَى فِيهَا بِنَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا رُوعِيَ فِيهِ الْأَغْلَبُ مِنْ مُدَّةِ حَيَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ عُقِدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى سَنَةٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَى شُهُورِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَلِأَنَّ شُهُورَ السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْغَالِبِ إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَالْمُؤَاجَرَةُ فِيهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ عُقِدَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى سِنِينَ كَثِيرَةٍ فَهَلْ يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ تَقْسِيطُهَا عَلَى الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَكَمَا لَا يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الثَّمَنِ عَلَى أَعْيَانِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَاخْتَلَفَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْسِيطَهَا عَلَى سِنِيِّ الْإِجَارَةِ واجب وإن لم يجب تقسيطها على الشهور فإن لم يذكر قسط كل سنة بطلت الإجارة. ووجه ذلك أن عقد الْإِجَارَةِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ بِخِلَافِ بُيُوعِ الْأَعْيَانِ الْمُنْبَرِمَةِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّلَامَةِ وَالْعَطَبِ مَا لَمْ يُذْكَرْ قِسْطُ كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا وَأُجُورُ السِّنِينَ قَدْ تَخْتَلِفُ فَيَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ عِنْدَ انْتِقَاضِ الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ غَالِبًا. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ كَاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّلَمِ إِذَا جَمَعَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً أَوْ إِلَى آجَالٍ مُخْتَلِفَةٍ هَلْ يَلْزَمُ تَقْسِيطُ الثَّمَنِ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ كَالْإِجَارَةِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ سَلَامَةٍ وَعَطَبٍ. فَإِنْ قِيلَ إِنْ تَقْسِيطَ الْأُجْرَةِ عَلَى السِّنِينَ وَاجِبٌ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ أُجُورِ السِّنِينَ وَيُفَاضِلَ فَإِنْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ رَجَعَ بِالْمُسَمَّى لَهَا مِنَ الْأُجْرَةِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَقْسِيطَهَا على السين لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ قُدِّرَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا بَقِيَ وَرُبَّمَا تَفَاضَلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ أَوْ بِتَغَيُّرِ الْمُؤَاجِرِ ثُمَّ يُقَسَّطُ الْمُسَمَّى عَلَى ذَلِكَ وَنَنْظُرُ حِصَّةَ بَاقِي الْمُدَّةِ مِنَ الْمُسَمَّى فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الْمَرْجُوعُ بِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ دَارَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِينَارٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الشُّهُورِ وَغَايَتَهَا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِيمَا عَدَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ لِلْجَهَالَةِ بِمَبْلَغِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَجَّرْتُهَا مُدَّةً. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهَا وَلُزُومِهَا فَيَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ صَحِيحَةٌ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ عَدَدٍ مَجْهُولٍ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ أبو حنيفة الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ دُخُولِهِ فَإِذَا دَخَلَ قَبْلَ فَسْخِهِ لَزِمَهُ وَجَعَلَ إِطْلَاقَ الشُّهُورِ مَعَ تَسْمِيَةِ الْأُجْرَةِ لِكُلِّ شَهْرٍ جَارِيًا مَجْرَى بَيْعِ الصُّبْرَةِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ إِذَا سمى ثمن كل قفيز وَهَذَا خَطَأٌ لِلْجَهَالَةِ بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ مِنَ الشُّهُورِ بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ الَّتِي قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا وَيَنْحَصِرُ كَيْلُهَا وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فَلَا يَكُونَ لَهُ فَسْخُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ تَبْطُلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا مَعَ الْعُذْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وَيَلْزَمُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ سَكَنَ دُونَ الْمُسَمَّى والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَيُّ الْمُتَكَارِيَيْنِ هَلَكَ فَوَرَثَتُهُ تَقُومُ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهَا وَعَلَى الْوَارِثِ تَمْكِينُهُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَجِّرُ قَدْ قَبَضَهَا فَلِلْوَارِثِ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً أَوْ مُنَجَّمَةً فَهِيَ إِلَى أَجَلِهَا وَعَلَى نُجُومِهَا لَا تُتَعَجَّلُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهَا. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينُ وَارِثِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ وَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ أَوْ مُنَجَّمَةٌ حَلَّتْ لِأَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ يُوجِبُ حُلُولَهُ وَلَا يُوجِبُهُ مَوْتُ مَنْ هُوَ لَهُ. فَصْلٌ : إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَارًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بَعْدَ قَبْضِهَا مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ نُظِرَ فَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَجِّرِهَا جَازَ سَوَاءٌ أَجَّرَهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَحَدَثَ فِيهَا عِمَارَةً أَوْ لَمْ يُحْدِثْ وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ مُؤَجِّرِهَا فَفِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجْهَانِ: فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَا أَجَّرَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ أَجَّرَهَا مِنَ الْمُؤَجِّرِ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ لَمْ يَجُزْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى بَائِعِهَا بِأَقَلَّ لَمْ يَجُزْ. قَالَ وَإِنْ أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَجِّرِهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِأَقَلَّ جَازَ فَإِنْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنٍ تُرَى. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ تَتَقَدَّرْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَالْمَالِكِ وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ صَحَّ أَنْ يُؤَجِّرَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ صَحَّ أَنْ يُؤَجِّرَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ كَالْمِثْلِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ فِيهَا بِقَدْرٍ جَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ عِمَارَةً وَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ فَصَحَّ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْعِوَضِ كَالزَّوْجِ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الصَّدَاقِ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ فِيمَا لَا تُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْعِوَضِ إِلَيْهِ كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ دَارَهُ أراد المؤجر قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا مِنَ الزَّمَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ وَإِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ حَائِلَةٌ تَمْنَعُ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي فَبَطَلَ عَقْدُهُ لِزَوَالِ يَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَكَانَ قَبْضُهُ مُتَأَخِّرًا بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ شرط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِي مُعَيَّنٍ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إِيَّاهَا سَنَةً ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ سَنَةً ثَانِيَةً قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّنَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ صَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ يَدٌ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَهُ وَلِأَنَّ سُكْنَاهُ فِي السَّنَتَيْنِ مُتَّصِلٌ فَصَارَ الْقَبْضُ مُعَجَّلَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى خِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَأَبْطَلَ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ عُقِدَتْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ فَسَادُ قَوْلِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَحَّ الْعِتْقُ وَالْإِجَارَةُ عَلَى لُزُومِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَالْأُجْرَةُ لِلسَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِعَقْدٍ، وَهَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ بِعَقْدِهِ مَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْ مَنَافِعِ نَفْسِهِ بِالْعِتْقِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِهِ. فَعَلَى هَذَا فِي نَفَقَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى سَيِّدِهِ اسْتِيفَاءٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمَيِ الْإِجَارَةِ وَالنَّفَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَ دَارًا ثُمَّ وَقَفَهَا صَحَّ الْوَقْفُ وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَاخْتَصَّ الْوَاقِفُ بِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْوَقْفَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ. وَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ فَالْكِتَابَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهَا مَنَافِعَ نَفْسِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجَارَتِهِ وَلَوْ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ بِكِتَابَتِهِ ثُمَّ أَجَّرَهُ صَحَّتِ الْكِتَابَةُ وَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَلَكِنْ لَوْ أَجَّرَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ أَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ أَجَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَالْإِجَارَةُ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُدَبِّرِهِ بِتَدْبِيرِهِ وَلَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتِبِهِ. وَلَوْ أَجَّرَ أَمَتَهُ ثُمَّ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَارًا فَوَجَدَ مَاءَ بِئْرِهَا مُتَغَيِّرًا قَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَمْكَنَ الْوُضُوءُ بِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ إِنْ خَالَفَ مَعْهُودَ آبَارِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ. فَإِنْ كَانَ مَعْهُودُهُمُ الشُّرْبَ مِنْ آبَارِهِمْ فَإِذَا كَانَ تَغَيُّرُهُ يَمْنَعُ مِنْ شُرْبِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ أَمْكَنَ الْوُضُوءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْهُودُهُمُ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْهَا فَلَا خِيَارَ إِلَّا أَنْ لَا يُسْتَطَاعَ الْوُضُوءُ مِنْهَا وَلَوْ نَقَصَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ مَعْهُودًا فِي وَقْتِهِ فَلَا خِيَارَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْهُودٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ كَانَ مَعَ نُقْصَانِهِ كَافِيًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ شُرْبٍ أَوْ طَهُورٍ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ. فَأَمَّا رَحَى الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ مَاؤُهُ فَلَا خِيَارَ لِمُسْتَأْجِرِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوهَنُ فِي عَمَلِهِ. وَلَوْ نَقَصَ مَاؤُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْهُودًا فِي وَقْتِهِ فَلَا خِيَارَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 باب كراء الإبل وغيرها مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكِرَاءُ الْإِبِلِ جائزٌ لِلْمَحَامِلِ وَالزَّوَامِلِ وَالرِّجَالِ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ لِلسُّرُوجِ وَالْأَكُفِّ وَالْحَمُولَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشافعي في الإجارات ثلاثة كتب: أحدهما: إِجَارَةُ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَقَدْ مَضَى. وَالثَّانِي: إِجَارَةُ الْإِبِلِ وَالْبَهَائِمِ وَهُوَ هَذَا. وَالثَّالِثُ: تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ ويأتي. ورووا وَإِجَارَةُ الْبَهَائِمِ جَائِزَةٌ لِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ إِنِّي رجلٌ أُكْرِي إِبِلِي أَفَتُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي فَقَالَ: أَلَسْتَ تُلَبِّي وَتَقِفُ وَتَرْمِي؟ قُلْتُ بَلَى. قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عما سألتني عنه فلم يجبه حتى أنزل اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) {البقرة: 198) وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) {النحل: 8) فكان عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ فِي رُكُوبِهَا بِالْمِلْكِ وَالْإِجَارَةِ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ شَاهَدَ النَّاسَ عَلَى هَذَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ فَصَارَ شَرْعَا. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَمِلَتِ بِهِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ وَالْحَاجَةَ بَاعِثَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ مُبَاحًا. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ: مُنْتَفَعٌ بِهِ وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَمَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَمْ تَجُزْ إِجَارَتُهُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ الْعَقْدُ إِلَيْهَا وَمَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: ما كانت منفعته أعياناً كالدور وَالنَّسْلِ فَإِجَارَتُهُ لَا تَجُوزُ كَمَا لَا تَجُوزُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآثَارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ آثَارًا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ظَهْرٌ وَعَمَلٌ. فَأَمَّا الظَّهْرُ فَكَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَبَعْضِ الْبَقَرِ فَإِجَارَةُ ظَهْرِهَا جَائِزَةٌ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمُولَةِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ. وَأَمَّا الْعَمَلُ فَكَالْحَرْثِ وَإِدَارَةِ الدَّوَالِيبِ وَالِاصْطِيَادِ فَإِجَارَةُ عَمَلِهَا جَائِزَةٌ وَسَوَاءٌ فِيهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ لِإِبَاحَةِ مَنَافِعِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا نَجِسًا فَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَالْكَلْبِ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي مَنْفَعَةِ الْكَلْبِ هَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ أَوْ مُسْتَبَاحَةٌ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا كَالتَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَلَا الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِهَا الَّتِي هِيَ تَبَعٌ لَهَا فعلى هذا لا تجوز إجارته. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مغيبٌ حَتَّى يَرَى الراكبين وظوف المحمل والوطاء والظل إن شرطه لأن ذلك يختلف فيتباين والحمولة بوزنٍ معلومٍ أو كيلٍ معلومٍ في ظروفٍ ترى أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر جبليةٍ وما أشبه هذا وإن ذكر محملاً أو مركباً أو زاملةً بغير رؤيةٍ ولا صفةٍ فهو مفسوخٌ للجهل بذلك وإن أكراه محملاً وأراه إياه وقال معه معاليق أو قال ما يصلحه فالقياس أنه فاسدٌ ومن الناس من يقول له بقدر ما يراه الناس وسطاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. كِرَاءُ الْبَهَائِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ. والثاني: ما يكتري للمحمولة. وَالثَّالِثُ: مَا يُكْتَرَى لِلْعَمَلِ. فَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلرُّكُوبِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: ذِكْرُ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ مِنْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْقُبْحِ وَلِأَنَّ وَطَاءَ ظَهْرِهَا مُتَبَايِنٌ وَسَيْرَهَا مُخْتَلِفٌ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جِنْسَ الْمَرْكُوبِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فَأَمَّا ذِكْرُ نَوْعِهِ وَصِفَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ ذَلِكَ في القيم. فإن أركبه خطماً أَوْ قَحْمًا أَوْ ضَرْعًا فَذَلِكَ مَعِيبٌ فَلَهُ الرَّدُّ فَأَمَّا صِفَةُ مَشْيِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ مَشْيُ جِنْسِهِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ مَشْيُهُ كَالْخَيْلِ وُصِفَ مَشْيُ الْمَرْكُوبِ مِنْ مُهَمْلَجٍ أَوْ قَطُوفٍ فَإِنْ أَخَلَّ بذلك احتمل وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الْإِجَارَةِ وَرَكِبَ الْأَغْلَبَ مِنْ خَيْلِ النَّاسِ. وَالثَّانِي: بُطْلَانُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التباين واختلاف الأغراض وهذا فِيمَا وُصِفَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُعَيَّنْ. فَأَمَّا مَا عُيِّنَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَرْكُوبُ مَعْلُومًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ وَإِمَّا بِالذِّكْرِ وَالصِّفَةِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا وهما فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي تَعْيِينُ الرَّاكِبِ بِالْمُشَاهَدَةِ دُونَ الصِّفَةِ فَإِنْ وُصِفَ الرَّاكِبُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّاكِبِ فِي بَدَنِهِ وَحَرَكَاتِهِ الَّتِي لَا تُضْبَطُ بِالصِّفَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ تَعْيِينِهِ بِالْعَقْدِ أَنْ يُبَدِّلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ لِيَرْكَبَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنِ اسْتُبْدِلَ بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الثِّقَلِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ أَخَفَّ جَازَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِمَنْ هُوَ أَثْقَلُ. وَلَوْ أَرَادَ الْجَمَّالُ الْمُكْرِي أَنْ يُبَدِّلَ الْبَعِيرَ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الرُّكُوبِ لِلرَّاكِبِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَصَارَ وَإِنْ تَعَيَّنَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا يُرَكَبُ فِيهِ مِنْ سَرْجٍ أَوْ قَتَبٍ أَوْ عَلَى زَامِلَةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَالرَّاكِبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَرْجٍ أَوْ قَتَبٍ أَوْ زَامِلَةٍ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا وَمَوْصُوفًا فَيَصِيرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَعْلُومًا فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَمْ يُوصَفْ صَحَّ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ وَبَطَلَ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ مَعَ الْبَعِيرِ فَصَحَّ أَنْ لَا يُوصَفَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ لَا يُوصَفَ الْبَعِيرُ وَإِذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ بِأُجْرَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ لَا يُوصَفَ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ لَا يُوصَفَ كُلُّ مَحْمُولٍ. وَأَمَّا الْمَحْمَلُ فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْجَمَّالِ صَحَّ وَإِنْ أَشَارَ إِلَى الْجِنْسِ الْمَعْهُودِ مِنْهَا صَحَّ أَنْ لَا يُشَاهَدَ وَلَا يُوصَفَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الرَّاكِبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالْمُشَاهَدَةِ. فَأَمَّا بِالصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِاخْتِلَافِهَا مَعَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِ النَّاسِ فِيهَا وَتَبَايُنِ مَقَاصِدِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ يُقْصَدُ وَلَا صِفَةٌ تُضْبَطُ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا يَصِحُّ فِي الْمُشَاهَدَةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ مَحَامِلِ بَلَدٍ لَا تَخْتَلِفُ كَالْبَغْدَادِيَّةِ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً كَالْخُرَاسَانِيَّةِ لَمْ يَجُزْ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ شَرَطَ عَلَى الْمَحْمَلِ ظِلًّا احْتَاجَ فِيهِ إِلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الظِّلُّ مَعْلُومًا وَالْعِلْمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً وَبِالصِّفَةِ أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحْمَلِ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعِيرِ وَالرَّاكِبِ. فَأَمَّا الْمَعَالِيقُ فَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى الْمَحْمَلِ مِنْ تَوَابِعِهِ وَأَدَوَاتِ رَاكِبِهِ كَالْقِرْبَةِ وَالسَّطْحِيَّةِ وَالزِّنْبِيلِ وَالْقِدْرِ وَكَذَا الْمِضْرَبَةِ وَالْمِخَدَّةِ فَإِنْ شُوهِدَ ذَلِكَ مَعَ الْمَحْمَلِ أَوْ وُصِفَ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمَحْمَلِ صَارَ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُومًا وَصَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ أُطْلِقَ ذِكْرُهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ وَلَا صِفَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِيقُ النَّاسِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ مُخْتَلِفَةً بَطَلَ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهَا لِضِيقِ الْأَمْرِ فِي مُشَاهَدَتِهَا أَوْ صِفَتِهَا وَأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِهَا جَائِزٌ وَعُرْفَ النَّاسِ فِيهَا مَقْصُودٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلْحَمُولَةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ مَعْلُومًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ وَصِفَتِهِ بِخِلَافِ الرُّكُوبِ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ فِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 رُكُوبِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ رُكُوبَ الْحَمِيرِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْعِرَابِ مِنَ الْإِبِلِ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِرُكُوبِ الْخَيْلِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَخَاتِيِّ مِنَ الْإِبِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ فَاحْتَاجَ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِ الْمَرْكُوبِ. وَأَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْقَصْدُ مِنْهَا إِيصَالُهَا إِلَى الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ يَصِحُّ فِي اخْتِلَافِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جِنْسِهِ. وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ بَعْدَ ذِكْرِ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ أَنْ تَكُونَ الْحَمُولَةُ مَعْلُومَةً فَقَدْ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ: هُمَا الْمُشَاهَدَةُ أَوِ الصِّفَةُ، فَإِنْ شَاهَدَ الْحَمُولَةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً وَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَدْرِ وَزْنِهَا كَمَا لَوْ شَاهَدَ الصُّبْرَةَ الْمَبِيعَةَ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ كَيْلِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ وَالْوَزْنِ عِنْدَهُمَا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ مَخْرَجَ مَنْ دَفَعَ الدَّرَاهِمَ جُزَافًا فِي السَّلَمِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ. كَذَلِكَ هَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ جَمِيعًا غَيْرُ مُنْبَرِمٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْحَمُولَةَ وَوُصِفَتْ صَحَّ وَاحْتَاجَتْ فِي الصِّفَةِ إِلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ الْجِنْسَ مَنْ قُطْنٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ ثِيَابٍ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ الْوَزْنِ وَأَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ قَدْرُهُ كَيْلًا كَالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ فِيهِ أَحْوَطَ وَالْعُرْفُ فِيهِ أَكْثَرَ فَلَوْ كَانَ الْمَحْمُولُ زَادًا فَذُكِرَ وَزَنُهُ وَلَمْ يُذْكَرْ أَجْنَاسُهُ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ كُلِّ جِنْسٍ فَإِنْ ذُكِرَ كُلُّ جِنْسٍ وَقَدْرُهُ مِنْ كَعْكٍ وَدَقِيقٍ وَتَمْرٍ وَسَوِيقٍ جَازَ ثُمَّ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظُرُوفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الظُّرُوفُ مَعْلُومَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي وَزْنِ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَيَجُوزَ أَنْ تُجْهَلَ. وَإِنْ تَمَيَّزَتْ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ تَارَةً وَبِالصِّفَةِ أُخْرَى فَإِنْ أَطْلَقَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِنْسَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ ذَكَرَ الْجِنْسَ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّفِقًا مُتَقَارِبًا كَالْغَرَائِزِ الْجَبَلِيَّةِ جَازَ فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ قُطْنٍ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ مَكَانَهُ حَدِيدًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَيَضْغَطُهُ وَالْقُطْنُ يَتَجَافَى عَنْهُ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لَحَمْلِ حَدِيدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ مَكَانَهُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ لَأَنَّ الْقُطْنَ لِتَجَافِيهِ تَسْتَقْبِلُهُ الرِّيَاحُ فَيَشُقُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَدِيدُ لِاجْتِمَاعِهِ وَصِغَرِهِ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ حِنْطَةٍ جَازَ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهَا مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تُقَارِبُ الْحِنْطَةَ كَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كَمَا جَازَ فِي الرُّكُوبِ أَنْ يُبَدِّلَ الرَّاكِبُ مِثْلَهُ وَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِيَرْكَبَ عَلَى سَرْجٍ فَرَكِبَ عَرِيًّا لَمْ يَجُزْ لَأَنَّ رُكُوبَ الْبَهِيمَةِ عَرِيًّا يَضُرُّ بِهَا وَلَوِ اسْتَأْجَرَ لِيَرْكَبَ عَرِيًّا فَرَكِبَ عَلَى سَرْجٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ حَمُولَةٍ لَمْ يَشْتَرِطْهَا. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا يُكْتَرَى لِلْعَمَلِ فَقَدْ يُكْرَى لِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَمَلِ فَإِنْ شَاءَ غَيْرَهَا كَانَ مُلْحَقًا بِأَحَدِهَا فَأَحَدُ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِحَرْثِ الْأَرْضِ فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْبَهِيمَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْحَرْثِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْ بِالذَّكَرِ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 ثَوْرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ جَامُوسٍ أَوْ بَغْلٍ لِأَنَّ عَمَلَ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مُخْتَلِفٌ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاحِيَةُ الْأَرْضِ الْمَحْرُوثَةِ مَعْلُومَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَرْضُ مَعْلُومَةً لِأَنَّ النواحي قد تختلف أرضها في الصلابة والرخاوة. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَالْعِلْمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِتَقْدِيرِ الْعَمَلِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ كَاشْتِرَاطِهِ حَرْثَ عَشْرَةِ أَجْرِبَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُدَّةِ وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ كَاشْتِرَاطِ حَرْثِ شَهْرٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ فَيَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَعْلُومًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ: أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِدِيَاسِ الزَّرْعِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَيَحْتَاجَ إِلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ جِنْسِ الزَّرْعِ مَنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ لِاخْتِلَافِهِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ بِقَدْرِ الْعَمَلِ وَقَدْ يَتَقَدَّرُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِمُشَاهَدَةِ الزَّرْعِ وَرُؤْيَتِهِ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ جِنْسُ مَا يُدْرَسُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ الْعَمَلُ بِالْبَاقَاتِ وَالْحُزَمِ فَلَا تَصِحُّ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَدَّرَ بِالزَّمَانِ كَاشْتِرَاطِهِ أَنْ يدوس ردعه شَهْرًا فَيَصِحَّ وَيَصِيرَ الْعَمَلُ بِالزَّمَانِ مَعْلُومًا وَتَحْتَاجُ صحة العقد مع الشرطين الماضين إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ وَهُوَ ذِكْرُ جِنْسِ مَا يَدُوسُ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لِأَنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْبَهَائِمِ فِي الدِّيَاسِ أَثَرًا يُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِإِدَارَةِ الدَّوَالِيبِ فَتُعْتَبَرُ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ فِيهِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ مَعْلُومَةً إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّعْيِينِ وَإِمَّا بِذِكْرِ الْجِنْسِ مِنْ بَقَرَةٍ أَوْ بَعِيرٍ لِأَنَّ عَمَلَ كُلِّ جِنْسٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي: يَعْتَبِرُ الدُّولَابَ الدَّارَ وَلَا تَقَعُ فِيهِ الصِّفَةُ لِأَنَّهَا لَا تَضْبُطُهُ وَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهِدَةِ لِاخْتِلَافِ الدَّوَالِيبِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي خِفَّةِ الْخَشَبِ وَثِقَلِهِ وَضِيقِ الْكُوزِ وَسَعَتِهِ وَكَثْرَتِهِ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الدُّولَابَ لَمْ يَجُزْ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا وَالْعِلْمُ بِهِ يَتَقَدَّرُ بِالْمُدَّةِ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِسَقْيِ عَشْرَةِ أَجْرِبَةٍ فَقَدْ يُرْوَى بِقَلِيلِ الْمَاءِ وَقَدْ لَا يُرْوَى إِلَّا بِكَثِيرِهِ فَلَا يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْمُدَّةِ فَيُسْتَأْجَرُ لِسَقْيِ شَهْرٍ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ بِالْمُدَّةِ مَعْلُومًا. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَخْرُجُ مِنَ الْمُدَّةِ أَوْقَاتُ الِاسْتِرَاحَةِ وَزَمَانُ الْعُلُوفَةِ فَيُصِيرُ الْعَمَلُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ مَجْهُولًا قِيلَ هَذِهِ أَوْقَاتٌ اسْتَثْنَاهَا الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ شَرْطًا تَقَدَّرَتْ عُرْفًا وَكَانَ تَفَاوُتُ الْعُرْفِ فِيهَا يَسِيرًا يُعْفَى عنه لعدم التحرر مِنْهُ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِاصْطِيَادِ صَيْدٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: ذِكْرُ جِنْسِ الْجَارِحِ مِنْ فَهْدٍ أَوْ نَمِرٍ أَوْ بَازٍ أَوْ صَقْرٍ وَأَمَّا الْكَلْبُ فعلى وجهين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 ذَكَرْنَاهُمَا. وَلَوْ عَيَّنَ الْجَارِحَ فِي الْعَقْدِ كَانَ أَوْلَى لِاخْتِلَافِهَا فِي الضَّرَاوَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يعنيه وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْجِنْسِ بَعْدَ وَصْفِهِ بِالتَّعْلِيمِ صَحَّ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: ذِكْرُ مَا يُرْسَلُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ مِنْ غَزَالٍ أَوْ ثَعْلَبٍ أَوْ حِمَارِ وَحْشٍ لِأَنَّ لِكُلِّ صَيْدٍ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا فِي إِتْعَابِ الْجَارِحِ فَإِنْ شَرَطَا جِنْسًا فَأَرْسَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ جَازَ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقْرَبَ وَإِنْ كَانَ أَصْعَبَ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَضَمِنَ الْجَارِحَ إِنْ هَلَكَ وَأُجْرَةُ تَعَدِّيهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَلَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ إِلَّا بِالزَّمَانِ كَاشْتِرَاطِهِ اصْطِيَادَ شَهْرٍ فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِأَعْدَادِ مَا يَصْطَادُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَعِنُّ لَهُ الصَّيْدُ وَلَا يَعِنُّ وَقَدْ يَصِيدُ إِذَا عَنَّ وَقَدْ لَا يَصِيدُ فَهَذَا تَفْصِيلُ مَا تُكْرَى لَهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَأْلُوفَةِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا آلَةُ الرُّكُوبِ وَالْحَمُولَةِ إِذَا أَطْلَقَ اشْتِرَاطَهَا عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِي فَيَنْظُرُ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا لِلتَّمْكِينِ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ كَالْحَوِيَّةِ وَالْقَتَبِ وَالْأُكَافِ وَالْخِطَامِ فَكُلُّهُ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي لِأَنَّ الرُّكُوبَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِهِ فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِتَوْطِيَةِ الْمَرْكُوبِ كَالْمَحْمَلِ وَالْوِطَاءِ وَالظِّلِّ وَمَا يُعَلَّقُ بِهِ الْمَحْمَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ مِنْ بَرْدَعَةٍ زَائِدَةٍ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي. فَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بَيْنَ الْمَحْمَلَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّمْكِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ الْمَحْمَلِ اللَّازِمِ لَهُ؛ فَأَمَّا الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ فَعَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّمْكِينِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَكْرَاهُ إِلَى مَكَّةَ فَشَرَطَ سَيْرًا مَعْلُومًا فَهُوَ أَصَحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَالَذِي أَحْفَظُهُ أَنَّ السَّيْرَ مَعْلُومٌ عَلَى الْمَرَاحِلِ لِأَنَّهَا الْأَغَلْبُ مِنْ سَيْرِ النَّاسِ كَمَا أَنَّ لَهُ مِنَ الْكِرَاءِ الْأَغْلَبَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمُجَاوَزَةَ أَوِ التَّقْصِيرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ السَّيْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِلَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وَقْتِ اسْتِرَاحَةِ وَوَقْتِ سَيْرٍ فَإِنْ شَرَطَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ قَدْرَ سَيْرِهَا فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ بِفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ وَفِي وَقْتٍ مِنَ الزَّمَانِ مَعْلُومٍ كَأَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ طَرَفَيِ النَّهَارِ صَحَّ الْعَقْدُ وَحُمِلَا عَلَى شَرْطِهِمَا سَوَاءٌ وَافَقَا فِيهِ عُرْفَ النَّاسِ أَوْ خَالَفَاهُ كَمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْأُجْرَةِ نَقْدًا سَمَّيَاهُ صَحَّ بِهِ العقد سواء وافقا في الْأَغْلَبُ مِنْ نُقُودِ النَّاسِ أَوْ خَالَفَاهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا سَيْرًا مَعْلُومًا فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ سَيْرُ النَّاسِ فِي طَرِيقِهِمْ مَعْلُومًا بِمَنَازِلَ قَدْ تَقَدَّرَتْ لَهُمْ عُرْفًا وَفِي زَمَانٍ قَدْ صَارَ لَهُمْ إِلْفًا كَمَنَازِلِ طَرِيقِ مَكَّةَ فِي وَقْتِنَا وَسَيْرُ الْحَاجِّ فِيهَا فِي أَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ مَعَ إِطْلَاقِ السَّيْرِ وَحُمِلَا عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ قَدْرًا وَوَقْتًا وَإِنْ كَانَ سَيْرُ النَّاسِ مُخْتَلِفًا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ النَّقْدِ فِي الْأُجْرَةِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ نَقْدُ النَّاسِ مُخْتَلِفًا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْمُتَكَارِيَيْنِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَسِيرِ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِهِ وَزَمَانِهِ إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ أَنْ يُخَالِفَ فِي زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ وَإِنْ تَخَالَفَتْ زَمَانُهُ فِي تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَحُمِلَ مِنْ فَارِقِ الشَّرْطِ أَوِ الْعُرْفِ عَلَى مَا الْتَزَمَاهُ شَرْطًا أَوْ عُرْفًا مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْحَلَةُ خَمْسَ فَرَاسِخَ فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي أَنْ يَسْتَزِيدَ لِيُعَجِّلَ الْمَسِيرَ أَوْ أَرَادَ الْمُكْرِي أَنْ يَنْقُصَ لِتَرْفِيهِ الْبَعِيرِ. أَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَأَرَادَ الْمُكْتَرِي أَنْ يَسِيرَ نَهَارًا أَوْ كَانَ فِي النَّهَارِ فأراد المكتري أن يسير ليلا البعير لِأَنَّ سَيْرَ اللَّيْلِ أَرْفَقُ بِالْبَعِيرِ وَأَشَقُّ عَلَى الرَّاكِبِ وَسَيْرَ النَّهَارِ أَرْفَقُ بِالرَّاكِبِ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ وَحَمَلَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمَا حَقَّهُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ وَالْعُرْفِ وَهَكَذَا لَوْ طَلَبَ الْجَمَّالُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْقَافِلَةِ فِي مَسِيرِهِ طَلَبًا لِلْكَلَأِ أَوِ السِّعَةِ أَوْ طَلَبَ ذَلِكَ الرَّاكِبُ لَمْ يَجُزْ. فَصْلٌ : فَأَمَّا نُزُولُ الرَّاكِبِ لِلرَّوَاحِ لِيَمْشِيَ تَخْفِيفًا عَلَى الْبَعِيرِ فَإِنْ شَرَطَهُ الْجَمَّالُ عَلَى الرَّاكِبِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ وَلَزِمَ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ الْجَمَّالُ عَلَى الرَّاكِبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِي سَفَرِهِمْ ذَلِكَ عُرْفٌ فِي الرَّوَاحِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّاكِبِ وَكَانَ لَهُ اسْتِدَامَةُ الرُّكُوبِ مَا كَانُوا عَلَى السَّيْرِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عُرْفٌ فِي الرَّوَاحِ كَعُرْفِهِمْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يَمْشِيَ لِلرَّوَاحِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا اكْتَرَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِعَبْدِهِ عَقَبَةً لِيَمْشِيَ وَقْتًا وَيَرْكَبَ وَقْتًا فَيَمْشِي بِقَدْرِ مَا رَكِبَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا اثْنَانِ فَيَسْتَأْجِرَا بَعِيرًا لِيَتَعَاقَبَاهُ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَعِيرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ يُحْمَلُ الشَّرِيكَانِ فِي تَعَاقُبِهِمَا عَلَى عُرْفِ النَّاسَ. وَهُوَ أَنْ يَرْكَبَ أَحَدُهُمَا سِتَّةَ أَمْيَالٍ ثُمَّ يَنْزِلَ فَيَمْشِيَ حَتَّى يَرْكَبَ شَرِيكُهُ مِثْلَهَا فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْأَسْبَقِ مِنْهُمَا بِالرُّكُوبِ جَازَ أَنْ يَقْتَرِعَا لِأَنَّهَا فِي الْقَسْمِ الَّذِي تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرُ العقبة واحد يَرْكَبُ فِي وَقْتٍ وَيَمْشِي فِي وَقْتٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَعِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَهُ عَقَبَةٌ عَلَى مَا يَعْرِفُ النَّاسُ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي بِقَدْرِ مَا رَكِبَ وَلَا يُتَابِعِ الْمَشْيَ فَيَقْدَحَ وَلَا الرُّكُوبَ فَيَضُرَّ بِبَعِيرِهِ يَعْنِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْوَقْتِ فِي رُكُوبِهِ وَمَشْيِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَمْيَالِ السِّتَّةِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مُعَيَّنًا فَفِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: صَحِيحَةٌ كَالرَّوَاحِ الَّذِي يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ مَعَ تَعَيُّنِ الْبَعِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهَا وَقَعَ عَلَى عَيْنِ شَرْطٍ فِيهَا تَأْخِيرُ الْقَبْضِ وَخَالَفَ اشْتِرَاطَ الرَّوَاحِ الَّذِي هُوَ يسير كالاستراحة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَكَارَى إِبِلًا بِأَعْيَانِهَا رَكِبَهَا وَإِنْ ذَكَرَ حَمُولَةً مَضْمُونَةً وَلَمْ تَكُنْ بِأَعْيَانِهَا رَكِبَ مَا يحمله غير مضربه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كِرَاءَ الْإِبِلِ مُعَيَّنٌ وَمَضْمُونٌ فَالْمُعَيَّنُ أَنْ يَكْتَرِيَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ قَدْ رَآهُ فَيُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ وَلَا لِلْجَمَّالِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ فَإِنْ ظَهَرَ بِالْبَعِيرِ عَيْبٌ مِنْ صُعُوبَةِ ظَهْرٍ أَوْ خُشُونَةِ سَيْرٍ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخُ كَمَا يَفْسَخُ بِظُهُورِ الْعَيْبِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. فَإِنْ هَلَكَ الْبَعِيرُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَصَارَ كَانْهِدَامِ الدَّارِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا الْمَضْمُونُ فَهُوَ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ رَكُوبَةَ بَعِيرٍ لَا يُعَيِّنُهُ أَوْ حَمُولَةً مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ وَيَخْتَارَ أَنْ يَقُولَ فِي الْعَقْدِ بَعِيرًا مِنَ الْإِبِلِ السِّمَانِ الْمَسَانِّ الْمُذَلَّلِ تَأْكِيدًا فَإِنْ أَغْفَلَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وعلى الجمال أن يحمله على بعير وطئ الظَّهْرِ سَهْلِ السَّيْرِ فَإِنْ أَرْكَبَهُ بَعِيرًا خَشِنَ الظَّهْرِ صَعْبَ السَّيْرِ فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْجَمَّالِ بِبَدَلِهِ مِمَّا لَا عَيْبَ فِي سَيْرِهِ كَمَا يَسْتَبْدِلُ بِالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ إِذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْبَعِيرُ طَالَبَ بِغَيْرِهِ وَلَوْ أَرَادَ الراكب والبعير وطئ الظَّهْرِ سَهْلُ السَّيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَوْطَأَ مِنْهُ وَأَسْهَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي السَّلَمِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ عَلَى صِفَتِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ فَلَوْ أَرَادَ الْجَمَّالُ أَنْ يُبَدِّلَ الْبَعِيرَ الَّذِي قَدِ اسْتَوْطَأَهُ الرَّاكِبُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْإِبِلِ الْوَطِيئَةِ فَإِنِ انْزَعَجَ بِهِ الرَّاكِبُ أَوِ اسْتَضَرَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْزَعِجْ بِهِ جَازَ وَلَمْ يكن للراكب عليه اعتراض. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْكِبَ الْمَرْأَةَ وَيُنْزِلَهَا عَنِ الْبَعِيرِ بَارِكًا لِأَنَّهُ رُكُوبُ النِّسَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْبَعِيرِ الْمَكْرِي فِي قَوْدِهِ وَتَسْيِيرِهِ وَنُزُولِهِ وَرَحِيلِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَمَّالِ الْمُكْرِي دُونَ الرَّاكِبِ الْمُكْتَرِي سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ مَضْمُونٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ. وإن كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا كَانَ الرَّاكِبُ امْرَأَةً أَنْ يُنِيخَ لَهَا الْبَعِيرَ إِذَا أَرَادَتِ الرُّكُوبَ أو النزول لتركب وتنزل والبعير بارك سَوَاءٌ قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ مَعَ قِيَامِ الْبَعِيرِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ مِنْ رُكُوبِ النِّسَاءِ فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِي رُكُوبِهَا وَالْبَعِيرُ قَائِمٌ هَتْكًا وَتَبَرُّجًا فَمُنِعَ مِنْهُ. فَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنْ كَانَ شَيْخًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ ثَقِيلَ الْبَدَنِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ رُكُوبَ الْبَعِيرِ الْقَائِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنِيخَ لَهُ الْبَعِيرَ فِي رُكُوبِهِ وَنُزُولِهِ كَالْمَرْأَةِ. وَإِنْ كَانَ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ يُحْسِنُ رُكُوبَ الْبَعِيرِ الْقَائِمِ وَقَفَ لَهُ الْبَعِيرُ حَتَّى يَرْكَبَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنِيخَهُ لَهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالشَّيْخِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَعِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِرُكُوبِهِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِهِ وَرَكِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَبَّكَ لَهُ الْجَمَّالُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِيَرْقَى عَلَيْهَا فَيَتَمَكَّنَ مِنْ رُكُوبِ الْبَعِيرِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ العرف والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُنْزِلَ الرَّجُلَ لِلصَّلَاةِ وَيَنْتَظِرَهُ حَتَّى يُصَلِّيَهَا غَيْرَ معجلٍ لَهُ وَلِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ من الوضوء ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَقْدِرُ الرَّاكِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ فَعَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يُنْزِلَهُ لِأَجْلِهِ وَمَا قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يُنْزِلْهُ؛ فَمِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ رَاكِبًا كَحَاجَتِهِ إِلَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ لِمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَحْمَلًا وَصَلَاةُ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا رَاكِبًا فَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا نَازَلَا فَإِذَا نَزَلَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَبَاطَّأَ وَلَا لِلْجَمَّالِ أَنْ يُعَجِّلَهُ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَطَهَارَتِهِ وَمِنْ أَدَاءِ صَلَاتِهِ بِفُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا فَإِنْ تَثَاقَلَ فِي الْحَاجَةِ وَتَبَاطَأَ عَنِ الْعَادَةِ مُنِعَ فَإِنْ كَانَ طَبْعًا فِيهِ وَعَادَةً لَهُ كَانَ عَيْبًا وَالْجَمَّالُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الصَّبْرِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ. هَكَذَا لَوْ كَانَ غَيْرَ الرُّكُوبِ خُيِّرَ الْجَمَّالُ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ إِلَّا أَنْ يَسْتَبْدِلَ الرَّاكِبُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَسُوفًا فَلَا خِيَارَ لِلْجَمَّالِ فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الرَّاكِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ رَاكِبًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْجَمَّالِ أَنْ يُنْزِلَهُ لِذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّافِلَةُ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ أَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمِيعِ عَلَى البعير جائز. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَارَى بَعِيرًا بِعَيْنِهِ إِلَى أجلٍ معلومٍ إِلَّا عِنْدَ خُرُوجِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِجَارَةَ الظَّهْرِ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمُولَةِ ضَرْبَانِ مُعَيَّنَةٌ وَمَضْمُونَةٌ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عَلَى بَعِيرٍ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ رُكُوبُهُ بِالْمُدَّةِ فَيَسْتَأْجِرَهُ لِيَرْكَبَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ فَيَصِيرُ الرُّكُوبُ مَعْلُومًا بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ فَإِنْ شَرَطَ فِي هَذَا الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ أَجَلًا جُعِلَ مَحَلًّا للقبض والتسليم كَقَوْلِهِ أَجَّرْتُكَ هَذَا الْبَعِيرَ لِتَرْكَبَهُ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَهُ إِلَيْكَ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا سَوَاءٌ قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كَثُرَ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ الْعَقْدُ سَوَاءٌ قَلَّ الْأَجَلُ أَوْ كَثُرَ وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ قَلَّ الْأَجَلُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَثُرَ فَسَدَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَبْضَ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَاتِ يَتَأَخَّرُ حُكْمًا فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُعَيَّنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِقْبَاضُ الرَّقَبَةِ مُتَأَخِّرًا شَرْطًا فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُعَيَّنِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ قَبْضِهِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ إِذَا تَعَيَّنَتْ رِقَابُهَا بَطَلَتْ بِتَأْجِيلِ إِقْبَاضِهَا كَالزَّوْجَةِ إِذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ تَسْلِيمِهَا وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ عَيْنٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيمِ مَنْفَعَةٌ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُ الْعَاقِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ كَالْعَقْدِ عَلَى امْرَأَةٍ ذَاتِ زَوْجٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا حُكْمًا فَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ شَرْطًا فَهُوَ أَنَّ قَبْضَ الْمَنَافِعِ مُتَعَجَّلٌ وَإِنَّمَا الِاسْتِيفَاءُ مُتَأَخَّرٌ لِتَعَذُّرِ التَّعْجِيلِ فِيهِ وَلَيْسَ كَالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يَتَعَذَّرُ تَعْجِيلُ قَبْضِهَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا ثُمَّ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ كَالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِذَا تَأَخَّرَ قَبْضُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَضْمُونُ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ تَقْدِيرُ الرُّكُوبِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ كَالْمُعَيَّنِ وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهُ وَتَأْجِيلُهُ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَمْتَنِعْ فِيهِ تأجيل القبض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 كَالسَّلَمِ فَإِنْ عُقِدَ حَالًا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ فِيهِ حَالَةً وَمُؤَجَّلَةً وَإِنْ عُقِدَ مُؤَجَّلًا كَاسْتِئْجَارِهِ رُكُوبَ بَعِيرٍ فِي ذِمَّتِهِ يَرْكَبُهُ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وهل يلزم تَعْجِيلُ قَبْضِهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ كَالسَّلَمِ الْمَضْمُونِ فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْعَقْدِ الْمُعَجَّلِ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ مَاتَ الْبَعِيرُ رَدَّ الْجَمَّالُ مِنَ الْكِرَاءِ مِمَّا أَخَذَ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَتِ الْحَمُولَةُ مَضْمُونَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بإبلٍ غَيْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَوْتَ الْبَعِيرِ الْمُكْتَرَى يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ إِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُعَيَّنًا وَلَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إِنْ كَانَ الْعَقْدُ مَضْمُونًا وَإِذَا انْفَسَخَ فِي الْمُعَيَّنِ كَانَ فِي حُكْمِ الدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَالْعَبْدِ إِذَا مَاتَ. وَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ فِي الْمَضْمُونِ طُولِبَ الْجَمَّالُ بِبَدَلِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَمُتِ الْبَعِيرُ وَلَكِنْ شَرَدَ الْبَعِيرُ مِنْ رَاكِبِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ نُسِبَ شُرُودُ الْبَعِيرِ إِلَى تَفْرِيطِ الرَّاكِبِ أَوْ تَعَدِّيهِ ضَمِنَهُ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطِهِ أَوْ تَعَدِّيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ وُجِدَ الْبَعِيرُ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْمَسِيرِ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى تَفْرِيطِ الرَّاكِبِ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّهَا بِالتَّفْرِيطِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ كَالرَّقَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ وَالْبَعِيرُ شَارِدٌ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ مُعَيَّنًا أَوْ مَضْمُونًا لِأَنَّ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَى الشَّهْرُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمَسَافَةِ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِعَمَلٍ فَأَخَّرَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ ثُمَّ الرَّاكِبُ بِالْخِيَارِ لِلضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ السَّيْرِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا غُصِبَ الْبَعِيرُ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ السَّيْرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْعِ الْمُكْرَى مِنْهُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ شَرَدَ وَإِنْ كَانَ غَصْبًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ حَالَ بَيْنَ الْبَعِيرِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَرَاكِبِهِ وَصَارَ ضَامِنًا لِرَقَبَتِهِ وَأُجْرَةِ مَنَافِعِهِ فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ؛ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ قَبْضِ مُشْتَرِيهِ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ. . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ وَالرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ إِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى فِي شُرُودِ الْبَعِيرِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ وَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمُدَّةِ كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 خِيَارُهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْمُكْرِي بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُقَدَّرًا بِالْمَسَافَةِ كَانَ خِيَارُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ بِالْمُسَمَّى. وَالثَّانِي: الْمُقَامُ وَأَخْذُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْغَاصِبِ وَقَدِ اسْتُوفِيَ. وَالثَّالِثُ: الْمُقَامُ وَرُكُوبُ الْبَعِيرِ وَيَرْجِعُ الْجَمَّالُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اختاره الراكب فهو له. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الرِّحْلَةِ رَحَلَ لَا مَكْبُوبًا وَلَا مُسْتَلْقِيًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَأْوِيلُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى تَقْدِيمِ الْمَحْمَلِ إِلَى مُقَدِّمَةِ الْبَعِيرِ لِيَكُونَ أَوْطَأَ لِرُكُوبِهِ وَيَدْعُوَ الْجَمَّالُ إِلَى تَأْخِيرِ الْمَحْمَلِ إِلَى مُؤَخِّرِ الْبَعِيرِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ وَإِنْ شَقَّ عَلَى الرَّاكِبِ فَلَا يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُرَاعَى عُرْفُ النَّاسِ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْمَحْمَلُ وَسَطًا لَا يُقَدَّمُ وَلَا يُؤَخَّرُ حَتَّى لَا يَنْكَبَّ وَلَا يَسْتَلْقِيَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى أَنْ يُوَسَّعَ قَيْدُ الْمَحْمَلِ الْمُقَدَّمِ حَتَّى يَنْزِلَ وَيُضَيَّقَ قَيْدُ الْمُؤَخَّرِ حَتَّى يَعْلُوَ لِيَسْتَلْقِيَ الرَّاكِبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَنْكَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفَاهِيَتِهِ وَيَدْعُو الْجَمَّالُ إِلَى تَوْسِيعِ الْمُؤَخَّرِ لِيَنْزِلَ وَيُضَيِّقُ الْمُقَدَّمَ لِيَعْلُوَ لِيَنْكَبَّ الرَّاكِبُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَكُونَ أَرْفَهَ عَلَى الْبَعِيرِ لِيَصِيرَ الْحِمْلُ عَلَى عَجُزِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُرَاعَى عُرْفُ النَّاسِ فِيهِ فَيُسَوَّى بَيْنَ قَيْدِ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ حَتَّى لَا يَنْكَبَّ وَلَا يَسْتَلْقِيَ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ تَأْوِيلُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّاكِبُ إِلَى تَضْيِيقِ قَيْدَيِ الْمَحْمَلِ لِيَعْلُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ وَيَدْعُوَ الْجَمَّالُ إِلَى تَوْسِيعِهِمَا لِيَسْتَلْقِيَ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَيُمْنَعَا وَيُشَدَّ وَسَطًا لَا عَالِيًا ولا مستلقياً. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْقِيَاسُ أَنْ يُبَدِّلَ مَا يَبْقَى مِنَ الزَّادِ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الزَّادِ يَنْقُصُ فَلَا يُبَدَّلُ كَانَ مَذْهَبًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) الْأُوَلُ أَقْيَسُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ اكْتَرَى مِنْ جَمَّالٍ جَمَلًا لِيَرْكَبَهُ وَيَحْمِلَ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ زَادٍ لِيَأْكُلَهُ فِي سَفَرِهِ فَفَنِيَ بِالْأَكْلِ أَوْ فَنِيَ بَعْضُهُ فَهَلْ لِلْمُكْتَرِي أَنْ يُبَدِّلَ ما فني من الزَّادِ بِمِثْلِهِ أَمْ لَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ مَا فَنِيَ مِنْهُ كَمَا يُبَدِّلُ مَا سُرِقَ مِنْهُ وَكَمَا يُبَدِّلُ الْمَتَاعَ لَوْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ وَكَمَا يَحْمِلُ بَدَلَ الْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ لِأَنَّهُ أَقْيَسُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُبَدِّلُ مَا فَنِيَ مِنْهُ بِالْأَكْلِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهِ أَنَّ الزَّادَ إذا فني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 بِالْأَكْلِ لَمْ يُبَدَّلْ فَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الزَّادِ فِي الْعُرْفِ أقل من أجرة المتاع لما أسفرت بِهِ الْعَادَةُ مِنْ إِبْدَالِ الْمَتَاعِ دُونَ الزَّادِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَتْ أَسْعَارُ الزَّادِ فِي الْمَنَازِلِ مُتَقَارِبَةً فِي الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَكَانَ انْقِطَاعُهُ مَأْمُونًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ فِي حَمْلِ زَادٍ إِلَى مَنْزِلٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى مِثْلِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنَازِلَ تَغْلُو فِيهَا أَثْمَانُ الزَّادِ فَيُبَدِّلُ مَا فَنِيَ مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ جارٍ بِهِ والقياس دال عليه والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْتَرِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى جَمَلًا مِنْ جَمَّالٍ لِيَرْكَبَهُ إِلَى مَكَّةَ أَوْ يَرْكَبَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوِ اكْتَرَاهُ لِحَمُولَةٍ فَهَرَبَ الْجَمَّالُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَمَلِ الْمُكْتَرَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَخْلُفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ أَوْ يَهْرُبَ بِهِ مَعَهُ فَإِنْ خَلَفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ فَلِلرَّاكِبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي رُكُوبِهِ إِلَى مَكَّةَ وَالْجَمَلُ لَا يَسْتَغْنِي فِي مُدَّةِ الرُّكُوبِ عَنْ خَادِمٍ وَعُلُوفَةٍ. وَذَلِكَ حَقٌّ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْجَمَّالِ فَإِنْ وُجِدَ الرَّاكِبُ حَاكِمًا رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْكُمَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا بِأُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنَ الرَّاكِبِ قَدْرَ مَا يَصْرِفُهُ فِي أُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُقْرِضُ عَلَيْهِ مَتَى وَجَدَهُ أَوْ فِي مَالِهِ أَيْنَ وُجِدَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِيُسْقِطَ التَّنَازُعَ فَإِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ فَهِيَ تَطَوُّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْجَمَّالِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَازِلِ جَازَ تَوَسُّطُ الرَّاكِبِ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ. فَإِنِ اخْتَلَفَ الرَّاكِبُ وَالْجَمَّالُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَحَدُهَا: أَنَّ القول فيه قول الراكب المتفق لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فِي عَلَفٍ مِثْلِهَا فَإِذَا وَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ قَوْلَ الْجَمَّالِ أَوِ الرَّاكِبِ أَوْ خَالَفَهُمَا وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ الْمُوجِبَةِ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ فَقَدْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ إِذَا تَفَاحَشَ إِلَى مَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ النَّاسِ. فَأَمَّا إِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَا اسْتِئْذَانِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْحَاكِمِ أَوْ عَدِمَهُ فَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أُشْهِدَ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَكَمَا لَا يَرْجِعُ مُسْتَوْدَعُ الدَّابَّةِ عَلَى رَبِّهَا بِثَمَنِ عُلُوفَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ فَجَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْمُكْنَةِ كَمَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ مَالِ من هو عليه جهراً وسراً بحكم غير حُكْمٍ وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ مُسْتَوْدَعِ الدَّابَّةِ لِتَطَوُّعِهِ بِاسْتِيدَاعِهَا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهَا فَهَذَا حُكْمُ الْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ وَخَلَفَ الْجَمَلَ مَعَ الرَّاكِبِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ بِالْجَمَلِ مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِجَارَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَأْجِرُ عَلَى الْجَمَّالِ جَمَلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الرَّاكِبُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ قَرْضًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَلَوْ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْمَالَ إِلَى الرَّاكِبِ لِيَكْتَرِيَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ السَّلَمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مُشْتَرِيهِ مَالًا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَاكِمُ لِلْجَمَّالِ مَالًا وَلَا مُقْرِضًا نَظَرَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ تَنْقَضِي بَطَلَتْ بِالْفَوَاتِ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَتْبَعُهُ بِهَا الرَّاكِبُ مَتَى وَجَدَهُ أَوْ وَجَدَ لَهُ مَالًا وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الرَّاكِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاتِّبَاعِ الْجَمَّالِ بِالْأُجْرَةِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَأَخْذِ الْجَمَّالِ بِهَا مَتَى وُجِدَ وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً عَلَى بَعِيرٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْجَمَّالِ بَعِيرًا غَيْرَهُ لِأَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْبَدَلُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ فَشَرَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ بَدَلَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ بَطَلَتْ بِانْقِضَائِهَا وَكَانَ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ إِنْ قَبَضَهُ وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ لِاسْتِضْرَارِهِ بِالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ بَعِيرًا لِيَرْكَبَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَتَاعًا بَدَلًا مِنْ رُكُوبِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْبَعِيرِ فِي مَسِيرِهِ مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الْمَتَاعِ. وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ بَدَلًا مِنَ الْمَتَاعِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَتَاعَ يَتَفَرَّقُ فِي جَنْبَيِ الْبَعِيرِ فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الرَّاكِبِ الَّذِي يَرْكَبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِهِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَلَمْ يُسَمِّ رُكُوبًا وَلَا حِمْلًا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً. وَهَكَذَا لَوْ ذَكَرَ رُكُوبًا وَلَمْ يُعَيِّنْ رَاكِبَهُ أَوْ ذَكَرَ حِمْلًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ أَوْ ذَكَرَ قَدْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ النَّاحِيَةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِيهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ تَخْتَلِفُ بِالْحُزُونَةِ وَالسُّهُولَةِ فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ النَّاحِيَةِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْمَكَانَ الَّذِي يُسَلِّمُهَا فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْكَبُهَا مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ تَكُونُ مُسَافَتُهُ شَهْرًا فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَدْ يَرْكَبُهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا مُدَّةَ شَهْرٍ فَيَكُونُ تسليمه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 فِي بَلَدِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفًا مَعَ إِطْلَاقِ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ أَغْفَلَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا مَسَافَةَ شَهْرٍ إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ الْعَمَلُ فِيهِ لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ الْمَدَّةِ فِيهِ وَمَا شُرِطَ فِيهِ الْمُدَّةُ لَمْ يُجْزِ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيلِ؛ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجِيزُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُمْكِنًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَصِحَّ وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي يُفْسِدُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لِاسْتِئْجَارِهِ إِيَّاهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَكَانَ طَرِيقُهُ مُسَاوِيًا لِطَرِيقِهِ فِي السُّهُولَةِ وَالْحَزُونَةِ أَوْ أَسْهَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ أَبْعَدَ أَوْ أَحْزَنَ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ حُرًّا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِامْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِدْمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ؛ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى مُسْلِمٍ وَإِلَّا فَسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا استأجر المسلم أخيراً فَوَجَدَهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا تَبْطُلُ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَهُوَ مَا كَانَ اخْتِلَافُ الدِّينِ مَانِعًا مِنْهُ وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَمْنَعُ مِنْهُ حُكْمًا كَالْحَجِّ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِ وَإِنْ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِعَمَلِ نَفْسِهِ بِمَا كَتَمَهُ مِنْ كُفْرِهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا مَنَعَ مِنْهُ حَظْرًا مِثْلُ كَتْبِ الْمَصَاحِفِ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى كَتَبَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ كَمُلَ لِمُسْتَأْجِرِهِ عَنْ عَقْدٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِ فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ وَهُوَ أَعْمَالُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَبِنَاءِ دَارٍ أَوْ عِمَارَةِ أَرْضٍ أَوْ رَعْيِ مَاشِيَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْمَالٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً مَقْصُودَةً كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْرِ الْأَضَاحِي فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُسْلِمِ بِهِ أَعْظَمُ ثَوَابًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ قِيلَ لِلْأَجِيرِ إِنِ اسْتَنَبْتَ فِيهَا مُسْلِمًا فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ تَوَلَّيْتَهَا بِنَفْسِكِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. فَصْلٌ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِرَضَاعِ طِفْلٍ جَازَ إِذَا عَرَفَتْ سِنَّهُ مُشَاهَدَةً أَوْ خَبَرًا وَكَانَ زَمَانُ رَضَاعِهِ مَعْلُومًا فَإِنْ لَمْ تُشَاهِدْهُ وَلَا أَخْبَرَتْ بِسِنِّهِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ شُرْبِهِ بِاخْتِلَافِ سِنِّهِ ثُمَّ عَلَيْهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 أَنْ تَسْقِيَهُ قَدْرَ رَيِّهِ وَفِي أَوْقَاتِ حَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فَهِيَ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَعُفِيَ عَنْهَا فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ الرَّضَاعِ حَضَانَةَ الطِّفْلِ وَخِدْمَتَهُ لَزِمَهَا وَإِنْ أَغْفَلَا ذَلِكَ فَفِي لُزُومِهِ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَضَانَةِ هَلْ مَقْصُودُهَا الرَّضَاعُ وَالْخِدْمَةُ أَمِ الْخِدْمَةُ وَالرِّضَاعُ تَبَعٌ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْخِدْمَةَ تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ فِي الْحَضَانَةِ فَعَلَى هَذَا لَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّضَاعَ تَبَعٌ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَى هَذَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى الطِّفْلِ فَتُرْضِعَهُ بَلْ عَلَى وَلِيِّ الطِّفْلِ إِذَا أَرَادَ إِرْضَاعَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَيْهَا لِيَرْتَضِعَ وَلِوَلِيِّ الطِّفْلِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَضُرُّ بِلَبَنِهَا؛ فَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ لَا يَسْتَمْرِئُ لَبَنَهَا لِعِلَّةٍ فِي اللَّبَنِ فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَمْنَعِ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ فَلَهُ الْفَسْخُ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا مُرْضِعًا فَإِنْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَإِذَا سَقَتِ الْمُرْضِعَةُ الطِّفْلَ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَهَا الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهَا. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَهَا الْأُجْرَةُ. وَلَوْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَلَوْ مَاتَ الطِّفْلُ فَفِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ وَيَأْتِي الْمُسْتَأْجِرُ بِبَدَلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْخُلْعِ وَإِذَا ضَاعَ حُلِيُّ الطِّفْلِ لَمْ تَضْمَنْهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِوَضَ لِلرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةَ تَبَعٌ؛ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِوَضَ أُجْرَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَالْحِفْظِ فَهِيَ كَالْأَجِيرِ لَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَيَضْمَنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 تضمين الأجراء من الإجارة من كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الْأُجَرَاءُ كُلُّهُمْ سواءٌ وَمَا تَلِفَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِمْ فَفِيهِ واحدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الضَّمَانُ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لا ضمان إلا بالعدوان (قال المزني) هذا أولاهما به لأنه قطع بأن لا ضمان على الحجام يأمره الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته وقد قال الشافعي إذا ألقوا عن هؤلاء الضمان لزمهم إلقاؤه عن الصناع وقال ما علمت أني سألت واحداً منهم ففرق بينهما منهم وروي عن عطاءٍ أنه قال لا ضمان على صانعٍ ولا أجيرٍ (قال المزني) رحمه الله ولا أعرف أحداً من العلماء ضمن الراعي المتفرد بالأجرة عندي في القياس مثله (قال الشافعي) رحمه الله وإذا استأجر من يخبز له خبزاً معلوماً في تنورٍ أو فرنٍ فاحترق فإن كان خبزه في حالٍ لا يخبز في مثلها لاستعار التنور أو شدة حموه أو تركه تركاً لا يجوز في مثله فهو ضامن وإن كان ما فعل صلاحاً لمثله لم يضمن عند من لا يضمن الأجير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ ضَرْبَانِ: مُنْفَرِدٌ وَمُشْتَرِكٌ وَحُكْمُهُمَا يَخْتَلِفُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ الْأُجَرَاءَ كُلَّهُمْ سَوَاءٌ يَعْنِي بِهِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ مَعَ اخْتِلَافِ صَنَائِعِهِمْ. فَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُنْفَرِدُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ كَرَجُلٍ دَعَا صَانِعًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَصُوغَ لَهُ حُلِيًّا أَوْ يَخِيطَ لَهُ ثُوبًا أَوْ يَخْبِزَ لَهُ خُبْزًا أَوْ يُبَيْطِرَ لَهُ فَرَسًا أَوْ يَخْتِنَ لَهُ عَبْدًا فَيَنْفَرِدُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَمَلَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ وَهَكَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُسْتَأْجِرُ ثَوْبَهُ إِلَى دُكَّانِ الْأَجِيرِ لِيَخِيطَهُ أَوْ حَمَلَ إلي حُلِيَّهُ لِيَصُوغَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيَدُهُ عَلَى مَالِهِ فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي دُكَّانِهِ عَمَلٌ لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَانِ النَّوْعَانِ عَلَى سَوَاءٍ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِمُسْتَأْجِرِهِ مَعَ عَمَلِهِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ كَالْقَصَّابِينَ وَالْخَيَّاطِينَ فِي حَوَانِيتِهِمْ فَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا لِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ لَا يُشْرِكُهُ بِغَيْرِهِ كَصَانِعٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ فِي دُكَّانِهِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَمُسْتَأْجِرُهُ غَائِبٌ عَنْ عَمَلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ أَوْ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 فصل : وإذ قد وضح ما ذكرنا من حَالِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمُنْفَرِدُ إِذَا تَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَخْلُو تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ أَوْ لَا فَإِنْ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ هُوَ راكبها أو على ثياب رجل فهو لَابِسُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَذَلِكَ هَذَا الْأَجِيرُ وَإِنْ تَلِفَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جِنَايَةِ الْأَجِيرِ وَلَا عُدْوَانِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا تَلِفَ فِي يَدِ أَرْبَابِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا عُدْوَانٍ فَإِنِ اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْأَجِيرُ فِي الْعُدْوَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ لِإِنْكَارِهِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا أُجْرَةُ الْأَجِيرِ فَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ بَطَلَتْ بِتَلَفِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَمْ تَبْطُلْ وَاسْتَعْمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ بَعْدَ عَمَلِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ حَصَلَ قَبْضُهُ فَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّلَفُ بِعُدْوَانِ الْأَجِيرِ أَمْ لَا إِلَّا أَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ مَعْمُولًا وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْعَمَلِ فَادَّعَاهُ الْأَجِيرُ وَأَنْكَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَمَلَ فَهَذَا حُكْمُ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّ الْأَمَانَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ وَلَا عُدْوَانِهِ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَامِنٌ وَقَبْضُهُ قَبْضُ ضَمَانٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يوسف ومحمد بن الحسن وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَوَجَّهَهُ مَا رَوَى خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وقال كان علي كرم الله وجهه يضن الْأَجِيرَ وَيَقُولُ هَذَا يُصْلِحُ النَّاسَ وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُرْجَعُ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَالْمُؤَجِّرِ الْمُسْتَحِقِّ لِأُجْرَتِهَا كَذَلِكَ الْأَجِيرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَقْتَ التَّلَفِ. وَالثَّانِي: أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَبْضُهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ: وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْأَجِيرِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ عُدْوَانًا أَمْ لَا فَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْأَجِيرُ وَإِنْ عَمِلَ سَوَاءٌ ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ عَمَلَهُ تَلِفَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 هُوَ أَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ كَالْمُقْتَرِضِ وَالْمُسْتَعِيرُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْمُودِعِ وَمَنْ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي كَذَلِكَ الْأَجِيرُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَمَّا جَعَلَ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدَ أَمَانَةٍ وَجَبَ أن يجعل يد الأجير يد أمانة ولأنه لما كان أحد الأجيرين وهو المنفرد مؤتمناً وجب أن يكون الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكُ مُؤْتَمَنًا. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الضَّمَانِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ وَسَنُوَضِّحُ مِنْ حُكْمِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ حُجَّتِهِ فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْحَجَّامُ يُحَجِّمُ أَوْ يَخْتِنُ فَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا حَدَثَ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ جِنَايَةٌ فَإِنْ حَجَّمَ أَوْ خَتَنَ حُرًّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ كَانَ الْحَجَّامُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا لِأَنَّ الْحُرَّ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ يَدٌ فَصَارَ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُشْتَرِكُ مَعَهُ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ حَجَّمَ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَجَّامِ لِأَنَّ يَدَ سَيِّدِهِ لَمْ تَزَلْ عَنْهُ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ سَيِّدِهِ وَلَا مَنْزِلِهِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ لِأَنَّ الْحَجَّامَ أَجِيرٌ مُشْتَرِكٌ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الرَّاعِي فَإِنْ نُسِبَ إِلَى التَّعَدِّي بِالرَّعْيِ فِي مَكَانٍ مُسَبَّعٍ أَوْ جَدْبٍ أَوْ مَخُوفٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى التَّعَدِّي نُظِرَ فَإِنْ رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ رَعَى فِي غَيْرِ مَالِهِ لَكِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْمَالِكُ وَلَا رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَعَ غَنَمِ جَمَاعَةٍ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ وَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَى غَنَمِهِ فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ فَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُنْفَرِدِ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْهُ وَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُشْتَرِكِ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبَيْطَارُ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأٌ ضَمِنَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ مَعَ صَاحِبِهَا أَوْ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْبَيْطَارِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مُفْرَدَةً وَحْدَهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَجِيرُ لِحِفْظِ الدُّكَّانِ فَيُؤْخَذُ مَا فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَالِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ عَنْهُ لَمْ تَزَلْ. فَأَمَّا الْحَمَّامِيُّ إِنْ تَلِفَتْ ثِيَابُ النَّاسِ عِنْدَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ هَلْ هُوَ ثَمَنُ الْمَاءِ أَوْ أُجْرَةُ الْحِفْظِ وَالدُّخُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ثَمَنُ الْمَاءِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِحِفْظِ الثِّيَابِ وَمُعِيرًا لِلسَّطْلِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الثِّيَابَ إِنْ تَلِفَتْ وَلَهُ غُرْمُ السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةُ الدُّخُولِ وَالسَّطْلِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ فَعَلَى هَذَا لَا غُرْمَ فِي السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الثِّيَابِ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَهَكَذَا حُكْمُ الثِّيَابِ فِيمَا يَأْخُذُهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْخَبَّازُ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِخُبْزٍ فِي تَنُّورٍ أَوْ فُرْنٍ فَاحْتَرَقَ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى الْعُدْوَانِ فِي عَمَلِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يَظْهَرُ عُدْوَانُهُ فِيهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 أَحَدُهَا: أَنْ يَخْبِزَ فِي شِدَّةِ حُمَّى التَّنُّورِ وَالْتِهَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْبِزَ فِي حَالِ سُكُونِهِ وَبَرْدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطَوِّلَ مَكْثَ الْخُبْزِ فِي التَّنُّورِ عَنْ حَدِّهِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ مَعَ الْمَالِكِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْخَبَّازِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْخَبَّازِ مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخَبَّازِ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ. فَأَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ حَمَّالًا أَوْ مَلَّاحًا لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَهَلَكَ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تعدٍ بِالْمَسِيرِ فِي مَسْلَكٍ مَخُوفٍ أَوْ زَمَانٍ مَخُوفٍ أَوْ تَقْصِيرٌ فِي آلَةٍ أَوْ أَعْوَانٌ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تعدٍ وَلَا تَقْصِيرٌ فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَإِنْ حَمَلَ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فَضَمَانُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ حَمَلَهُ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَلَّاحُ مَلَّاحًا لِمَدِّ السَّفِينَةِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى تعدٍ أَوْ تَفْرِيطٍ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ حَاضِرًا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ نَظَائِرِهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا أُجْرَةَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوَكَّلًا فِي اقْتِضَاءِ دُيُونٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي استؤجر عليه هو الاقضاء وَحْدَهُ وَالْقَبْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ إِذَا اقْتَضَى وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوَكَّلَ فِي بَيْعِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فَيِ الْبَيْعِ وَمَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فِي الشِّرَاءِ مَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الْمَتَاعِ فَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تلف الثمن فعلى قولين: مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ اكْتَرَى دَابَّةً فَضَرَبَهَا أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَمَاتَتْ فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَ مَا لَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا عِنْدَ تَقْصِيرِ الْمَسِيرِ ضَرْبَ استطلاح لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ كَبْحُهَا بِاللِّجَامِ وَرَكْضُهَا بِالرِّجْلِ فَإِنْ فَعَلَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ عُرْفَ النَّاسِ فَيَضْمَنَ وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ فِي ضَرْبِهَا فَإِنْ ضَرَبَهَا ضَمِنَ وَالدَّلِيلُ عَلَى إباحة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 ضَرْبِهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّفَارِ يَعْنِي أَنَّهَا فِي الْعِثَارِ سَاهِيَةٌ فَالضَّرْبُ يُوقِظُهَا وَفِي النِّفَارِ تَزْدَادُ بِالضَّرْبِ نُفُورًا فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَلَعَ بَعِيرِي فَاشْتَرَاهُ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَسُوقُهُ وَأَنَا رَاكِبُهُ وَإِنَّهُ لَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مَعْهُودًا فَإِذَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْمَسِيرِ إِلَّا بِالضَّرْبِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ. فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجِيرٍ وإنما هو مستأجر. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا الرُّوَّاضُ فَإِنَّ شَأْنَهُمُ اسْتِصْلَاحُ الدَّوَابِّ وَحَمْلُهَا على السير والحمل عليها بالضرب على أكثر مما يَفْعَلُ الرَّاكِبُ غِيرَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرَاهُ الرُّوَّاضُ صَلَاحًا بِلَا إعناتٍ بينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ متعدٍ وَضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يَسْتَبِيحُهُ الرَّائِضُ مِنْ ضَرْبِ الدَّابَّةِ فَهُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الرَّاكِبُ لِأَنَّ الرَّائِضَ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ ضَرْبٍ فِي تَذْلِيلِ الدَّابَّةِ وَاسْتِصْلَاحِهَا لَا يَحْتَاجُ الرَّاكِبُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ عِنْدَ التَّذْلِيلِ أَنْفَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْمَسِيرِ. فَلَوْ تَجَاوَزَ الرَّاكِبُ ضَرْبَ الرُّكَّابِ إِلَى ضَرْبِ الرَّائِضِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّائِضُ فِيهِ مُتَعَدِّيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ تَجَاوَزَ الرَّائِضُ عَادَةَ الرُّوَّاضِ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَادَةَ الرُّوَّاضِ صَارَ غَيْرَ متعدٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الضمان. فإذا رَاضَهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ رَاضَهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ وَلَا مَعَهُ ضَمِنَ فَإِنْ رَاضَهَا مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَصَارَ الرَّاكِبُ بِخِلَافِ الرَّائِضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ الضَّرْبِ الَّذِي يَسْتَبِيحُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: الضَّمَانُ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُسْتَأْجِرٌ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ وَالرَّائِضَ أَجِيرٌ وَفِي ضَمَانِهِ إِذَا كَانَ مُشْتَرِكًا قَوْلَانِ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالرَّاعِي إِذَا فَعَلَ مَا لِلرُّعَاةِ فَعْلُهُ مِمَّا فِيهِ صلاحٌ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ضَمِنَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا يُفْضِي لِأَحَدِ قَوْلَيْهِ بِطَرْحِ الضَّمَانِ كَمَا وَصَفْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الرَّاعِي فِي انْفِرَادِهِ وَاشْتِرَاكِهِ وَأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُجَرَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي وَسُقُوطِهِ عَنْهُ بِالِانْفِرَادِ وَاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاكِ وَلَيْسَ تَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ فَيَصِحُّ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ مَذْهَبِهِ بَلْ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْلَا خَوْفِي مِنْ خِيَانَةِ الْأُجَرَاءِ لَقَطَعْتُ الْقَوْلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عنهم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَكْرَى حَمْلَ مكيلةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَهُوَ الْمَكِيلَةُ جائزٌ وَفِي الزَّائِدِ فاسدٌ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ لِتَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مُقَدِّمَةً وَهِيَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ سَوَاءٌ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ صُبْرَةٍ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالصُّبْرَةُ مُشَاهَدَةٌ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا بِمِائَةٍ وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةٌ وَلَوْ قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ وَإِنْ جَهَلَا فِي الْحَالِ مَبْلَغَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ أُجْرَةَ الْأَجْزَاءِ مَعْلُومَةٌ تُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِ هَذِهِ الصُّبْرَةَ قَفِيزًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ جَازَ أَيْضًا (لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ) وَذِكْرُ أُجْرَةِ قَفِيزٍ مِنْهَا تَسْعِيرٌ لِجَمِيعِهَا وَتَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِيهِمَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ مِثْلَ ذلك في البيع صح وَسَوَاءٌ أَخْرَجَ الزِّيَادَةَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَيَّ أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ أَوْ لَمْ يَقِلْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهَا. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوِ اكْتَرَى حَمْلَ مَكِيلَةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَهُوَ فِي الْمَكِيلَةِ جَائِزٌ وَفِي الزِّيَادَةِ فَاسِدٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَتِهَا. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ صُورُتُهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَمْلِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ حَاضِرَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِحَمْلِ مَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَعَامٍ لَهُ غَائِبٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَقْفِزَةِ الْحَاضِرَةِ وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ الْغَائِبَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْضُرُ أَوْ لَا تَحْضُرُ وَقَدْ تَقِلُّ وَتَكْثُرُ وَهَكَذَا فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَلَوْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَى أَنْ تحمل ما زاد بحاسبه بطلت الإجارة في الحاضر والغائب. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ وَيَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَيَسْتَأْجِرُهُ لِحَمْلِ الْعَشَرَةِ الأقفزة المعلومة بعشرة دارهم وَالزِّيَادَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا بِحِسَابِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشْرِ لِلْعِلْمِ بِهَا وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ لِلشَّكِّ فِيهَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامٌ يَشُكُّ فِي بَقَائِهِ أَوْ أَكْلِ عِيَالِهِ لَهُ فَاسْتَأْجَرَ لِحَمْلِهِ كَانَ فَاسِدًا فَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ فِي الزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا شَرَطًا فِي الْعَشَرَةِ الْمَعْلُومَةِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ. فَيَسْتَأْجِرُ لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ صحت في العشر لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تُعْقَدْ عَلَى جَمِيعِ الصُّبْرَةِ وَإِنَّمَا عُقِدَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا وَأُضِيفَ إِلَى الْعَقْدِ زِيَادَةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهَا. وَلَوْ جَعَلَ الزِّيَادَةَ شَرَطًا فِي الْعَقْدِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ وَلَهُ إِنْ حَمَلَ شَيْئًا أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ الطُّرُقِ بِلَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو حمل له مَكِيلَةً فَوُجِدَتْ زَائِدَةً فَلَهُ أَجْرُ مَا حَمَلَ من الزيادة وإن كان الجمال هُوَ الْكَيَّالَ فَلَا كِرَاءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ يَضْمَنُ قَمْحَهُ بِبَلَدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى مِنْ جَمَّالٍ حِمْلَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ فَحَمَلَهَا وَوَجَدَ قَدْرَهَا بِخِلَافِ مَا شَرَطَ فَفِي الْمَسْأَلَة ِ فَصْلَ انِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ زَائِدًا. وَالثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ نَاقِصًا. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الطَّعَامُ زَائِدًا عَلَى الْعَشَرَةِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَيَأْخُذُهَا رَبُّ الطَّعَامِ وَلَا أُجْرَةَ لِلْجَمَّالِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً لَا تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ مِثْلَ أَنْ تُكَالَ الْعَشَرَةُ فَوُجِدَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَفِيزًا فَيُنْظَرُ فِي مِكْيَالِ مِثْلِهَا بِالْبَصْرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَبَّ الطَّعَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَمَّالَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ رَبَّ الطَّعَامِ أَخَذَ طَعَامَهُ وَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي الْعَشَرَةِ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ تَلِفَ الْبَعِيرُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَمَّالِ أَوْ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ أَوْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَحْدَهَا فَلَمْ يَلْزَمْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ التَّلَفِ مِنْ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قوليه في الجلاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 ناب عن الجمال فهو كان لو كما بِيَدِ الْجَمَّالِ وَإِنْ نَابَ عَنْ رَبِّ الطَّعَامِ فهو كما لَوْ كَانَ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ الْجَمَّالَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَيَأْخُذُ الْمُسَمَّى فِي الْعَشَرَةِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِقَدْرِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ الْجَانِي عَلَى مَالِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْخَمْسَةِ الزائدة فلربها والجمال فيها أربعة أَحْوَالٍ: حَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّهَا بالكوفة فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَضْمِينِ الْجَمَّالِ لَهَا لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى ردها بعينها إلى الْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَخْتَلِفَانِ فَيَدْعُو رَبُّهَا إِلَى رَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَيَدْعُو الْجَمَّالُ إِلَى تَضْمِينِهَا لَهُ لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الطَّعَامِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَّالُ بِرَدِّهَا إِلَى الْبَصْرَةِ بِعَيْنِهَا كَالْغَاصِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ وَيَأْخُذُ الزِّيَادَةَ مَضْمُونَةً لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا اتَّصَلَتْ فَارَقَتْ حُكْمَ الْغَصْبِ وَصَارَتْ كَالْغَرْسِ. فَإِنْ كَانَ الْمَحْمُولُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ لَزِمَ الْجَمَّالَ رَدُّ الزِّيَادَةِ بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا فَلَوْ هَلَكَ الطَّعَامُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ ضَمِنَ الْجَمَّالُ الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ الَّتِي لَا عُدْوَانَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ لِاخْتِلَاطِ مَا تَعَدَّى فِيهِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ تَعَدَّى فِي دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمَ عِنْدَهُ وَدَفَعَهُ ثُمَّ رَدَّ الدِّرْهَمَ منها واختلط بها صار ضامناً لجميعها قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمَّا تَعَيَّنَ بِالتَّعَدِّي جَازَ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا لِغَيْرِهِ لَا لِجَمِيعِهِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَعَدَّى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ مُشَاعَةٌ فِيمَا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا السَّهْمَ الشَّائِعَ بِالتَّعَدِّي. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الطَّعَامِ وَالْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ يَدُهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ رَبِّ الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الطَّعَامِ إِنْ هَلَكَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ. لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ الزِّيَادَةِ قَدْ صَارَ مُقِرًّا بِالتَّعَدِّي فِي خَلْطِهِمَا فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ وَمَالِكُهَا فِي قُمَاشِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأَبْوَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْقُمَاشِ وَيَدَ الْمَالِكِ عَلَى الْأَبْوَابِ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَسَارَ مَعَهُ فَيَضْمَنُ الْجَمَّالُ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ رَبُّ الطَّعَامِ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الزِّيَادَةِ وَقِيمَةَ الْبَعِيرِ إِنْ هَلَكَ. وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ الْجَمَّالُ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ مِنْ عِوَضِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ وَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ قَبْضِهَا مِنْهُ أَوْ تَضْمِينِهِ إِيَّاهَا أَخْذُ مِثْلِهَا مِنْهُ فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ عَيْنِهَا كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَمْ يَسِرْ مَعَهُ فَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ لَوْ سَارَ مَعَهُ وَيَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ أُجْرَةَ الزِّيَادَةِ وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكِيلَ الطَّعَامَ وَلَا يَحْمِلَهُ وَلَا يَسِيرَ مَعَهُ فَلَا يَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ شَيْئًا لَا مِنْ أُجْرَةِ الزِّيَادَةِ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْجَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ. وَأَمَّا ضَمَانُ الطَّعَامِ لِرَبِّهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ كَيْلِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَيْضًا لِأَنَّ يَدَ مَالِكِهِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ ضَمِنَهُ بِالْغُرْمِ إِنْ تَلِفَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالرَّدِّ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَمَلَ مِنْهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ فَهَذَا حُكْمُ الزِّيَادَةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا قَدْ يَكُونُ مِثْلَهُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَيَأْخُذُهُ رَبُّهُ نَاقِصًا وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِغُرْمِ النَّقْصِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ. وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ كَثِيرًا مِثْلَ أَنْ يُوجَدَ الْعَشَرَةُ الْأَقْفِزَةُ سَبْعَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّهِ وَالْجَمَّالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ. فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ لَهُ فَيُنْظَرُ فِي الْكَيَّالِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الجمال أو أجنبي فَأُجْرَةُ النُّقْصَانِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَمَّالِ وَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ فَتَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ فِي النقصان وبين أن يأخذه يحملها فَتَكُونَ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ رَبَّ الطَّعَامِ نُظِرَ فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مُسَامَحَةَ الْجَمَّالِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْجَمَّالِ بِحَمْلِ النُّقْصَانِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ. وَإِنْ قَالَ سَهَوْتُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا شَاءَ مِنْ حَمْلِ النُّقْصَانِ أَوْ أُجْرَتِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْجَمَّالُ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ قَصَدَ بِالنُّقْصَانِ الْمُسَامَحَةَ وَادَّعَى رَبُّ الطَّعَامِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قول رب الطعام مع يمينه لأنه قَصْدَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَسَمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَهْلَكَ ذَلِكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ أَوْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ فَإِنْ هَلَكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ. وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيمَا هَلَكَ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا وَإِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ نُظِرَ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّهِ أَوْ مَعَهُ وَمَعَ الْجَمَّالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ ولا الْأُجْرَةُ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ وَحْدَهُ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي النُّقْصَانِ وَهَلْ لَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَنْ يُكَلِّفَهُ حَمْلُ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ قَدْ حَمَلَهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْجَمَّالُ مِنَ الْحَمْلِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ النُّقْصَانِ أَوْ بِحَمْلِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْجَمَّالِ بِغُرْمِهِ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْجَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ رَبُّ الطَّعَامِ مِنَ الْغُرْمِ وَلَا رُجُوعَ لِرَبِّ الطَّعَامِ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ ولا حمل لأنه بادعاء التلف مقراً بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْحَمْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمُعَلِّمُ الْكِتَابِ وَالْآدَمِيِّينَ مخالفٌ لِرَاعِي الْبَهَائِمِ وَصُنَّاعِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ فَيَتَعَلَّمُونَ وَلَيْسَ هَكَذَا مُؤَدِّبُ الْبَهَائِمِ فَإِذَا ضَرَبَ أَحَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ لِاسْتِصْلَاحِ الْمَضْرُوبِ أَوْ غَيْرِ اسْتِصْلَاحِهِ فَتَلَفَ كَانَتْ فِيهِ ديةٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِمُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ أَنْ يُؤَدِّبَهُمْ بِالضَّرْبِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ وَهَكَذَا الْأَبُ فِي وَلَدِهِ وَالزَّوْجُ عِنْدَ نُشُوزِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ تَعَدَّى أَحَدُ هَؤُلَاءِ فِي الضَّرْبِ إِلَى أَنْ خَرَجَ فِيهِ إِلَى حَدِّ التَّلَفِ فَهُوَ قَاتِلٌ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوْدُ إِلَّا الْوَالِدَ فِي وَلَدِهِ فَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوْدِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ وَاحِدٌ الِاسْتِصْلَاحَ فَحَدَثَ مِنْهُ التَّلَفُ فَلَا قَوْدَ لِأَنَّهُ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ وَالضَّارِبُ ضَامِنٌ لِدِيَةِ الْمَضْرُوبِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ بِأَمْرِ أَبِيهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ ضَرَبَهُ الْأَبُ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ وَقَالَ أبو يوسف ومحمد الأب لا يضمن والمعلم يضمن وهذا أربى مِنْ قَوْلِ أبي حنيفة وَإِنْ كَانَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ مَا حَدَثَ مِنَ اسْتِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ بِالضَّرْبِ الْمُبَاحِ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْمُعَلِّمُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ ضَمِنَ مَنْ هُوَ مُبَاحُ الضَّرْبِ وَمَا حَدَثَ عَنِ الْمُبَاحِ صَارَ كَالرَّائِضِ لَا يَضْمَنُ الدَّابَّةَ إِذَا ضَرَبَهَا قِيلَ الْمُبَاحُ مِنْ ضَرْبِ الْآدَمِيِّينَ فِي اسْتِصْلَاحِهِمْ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَائِضِ الْبَهَائِمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ فَكَانَ لَهُ إِلَى اسْتِصْلَاحِهِمْ سَبِيلٌ بِغَيْرِ الضَّرْبِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ الضَّمَانُ إِنْ حَدَثَ مِنْ ضَرْبِهِمْ تَلَفٌ وَالْبَهَائِمُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِصْلَاحِهَا إِلَّا بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَجِدِ الرَّائِضُ إِلَى تَرْكِهِ سَبِيلًا فَلَمْ يَضْمَنْ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والتعزيز لَيْسَ بِحَدٍّ يَجِبُ بِكُلِّ حالٍ وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَا يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ قَدْ فَعَلَ غَيْرَ شيءٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ حَدٍّ فَلَمْ يَضْرِبْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْغُلُولُ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يُؤْتَ بِحَدٍّ قَطُّ فَعَفَاهُ وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى امرأةٍ فِي شيءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا فَأَسْقَطَتْ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ مُؤَدِّبٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّ عَلَيْكَ الدِّيَةَ فَقَالَ عُمَرُ عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَجْلِسَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ فَبِهَذَا قُلْنَا خَطَأُ الْإِمَامِ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ بَيْتِ المال ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْزِيرُ الْإِمَامِ لِمُسْتَحِقِّ التَّعْزِيرِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ تَلَفٌ كَانَ مَضْمُونًا. وَقَالَ أبو حنيفة التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ لَا يَضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَا حَظَرَ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. قَالَ وَلِأَنَّهُ انْتِهَاكُ عِرْضٍ مَحْظُورٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا الحدود وَدَلِيلُنَا عَفْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ كثيرٍ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ وَلَمْ يَعْفُ عَنْ وَاجِبٍ مِنَ الْحُدُودِ وَقَالَ حِينَ سُئِلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدٍّ لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوْتُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ مِنَ التَّعْزِيرِ أَنَّهُ أَتَى وَقَدْ حَظَرَ الْغُلُولَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (التوبة: 58) . وَتَنَازَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ شِرْبًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ فَنَسَبَهُ إِلَى الْمَيْلِ وَالتَّحَيُّفِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: 65) ، فَفَارَقَ بِعَفْوِهِ عَنِ التَّعْزِيرِ مَا حَظَرَهُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حِمَى جَنْبِهِ مِنْ وُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَاطِلٌ يضرب الزَّوْجِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَجَبَ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَحَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ فَالْإِمَامُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لَا ضَمَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَاجِرَ الْإِمَامِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ إِلَى امرأةٍ فِي شيءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا رَسُولًا فَأَسْقَطَتْ. فَقَالَ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا تَقُولَانِ؟ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا أَنْتَ مؤدبٌ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ يَعْنِي عَلَى قريشٍ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحَدٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَمُوِتُ فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا أَلْحَقَ قَتْلَهُ إلا شارب الخمر فإنه رَأْيٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ الَّذِي رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ اخْتِيَارًا وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرٌ. وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 التَّلَفِ كَضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَنْ دَفَعَ إِنْسَانًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ فَأَمَّا الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ اسْتِيفَائِهَا وَإِنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الضَّمَانِ مِنَ التَّعْزِيرِ فَأَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ عُمَرَ وَقَوْلِهِ لِعَلِيٍّ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثاني: إِنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ الضَّمَانِ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا. وَالثَّانِي: فِي مَالِهِ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ فِعْلِ عُمَرَ فِي تَحْصِيلِ الدِّيَةِ لِعَاقِلَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَعَادَ إِلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِذَا عَدِمُوا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو اختلفا في ثوبٍ فقال ربه امرأتك أَنْ تُقَطِّعَهُ قَمِيصًا وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ قُبَاءً بَعْدَ أَنْ وَصَفَ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِنَ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقَطْعِ وَقَوْلَ أبي حنيفة إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى رجلٍ فَقَالَ رهن وقال ربه وديعة. ولعل من حجته أن يقول وإن اجتمعا على أنه أمره بالقطع فلم يعمل له عمله كما لو استأجره على حملٍ بإجارةٍ فقال قد حملته لم يكن ذلك له إلا بإقرار صاحبه وهذا أشبه القولين وكلاهما مدخول (قال المزني) رحمه الله القول ما شبه الشافعي بالحق لأنه لا خلاف أعلمه بينهم أن من أحدث حدثاً فيما لا يملكه أنه مأخوذ بحدثه وأن الدعوى لا تنفعه فالخياط مقر بأن الثوب لربه وأنه أحدث فيه حدثاً وادعى إذنه وإجارةً عليه فإن أقام بينةً على دعواه وإلا حلف صاحبه وضمنه ما أحدث في ثوبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ الْخَيَّاطُ قَبَاءً ثُمَّ اخْتَلَفَ رَبُّهُ وَالْخَيَّاطُ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَمِيصًا فَتَعَدَّيْتَ بِقَطْعِهِ قَبَاءً فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ. وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْطَعَهُ قَبَاءً فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ وَلِيَ الْأُجْرَةُ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِمُوجِبِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَحَكَى مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة إن القول قول رب الثوب. قَالَ وَهَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا وَحَكَى فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَقَالَ الصَّبَّاغُ بَلْ أَخْضَرَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَهَذَا نَقْلُ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك على ثلاثة طرق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 أحدهما: وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة. وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ بِمَعْنًى مُحْتَمَلٍ لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا قَوْلُ مُجْتَهِدٍ ثُمَّ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا وَلَعَلَّهَا طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِنْهُمَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ قَوْلَ أبي حنيفة وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقَدْ رَغِبَ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَذْهَبِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي اخْتِلَافِ المتعاقدين ومن التخالف وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ. فَصْلٌ : فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ فَوَجْهُهُ فِي الْمَصَالِحِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْخَيَّاطَ يَعْمَلُ فِي الثَّوْبِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَقْصِدُ خِلَافَهُ وَإِنْ جَرَى غَيْرُ ذَلِكَ فَنَادِرٌ فَصَارَتِ الْعَادَةُ مُصَدِّقَةً لِقَوْلِ الْخَيَّاطِ دُونَ رَبِّ الثَّوْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَيَّاطَ لَمَّا صَدَّقَ عَلَى الْإِذْنِ الْمُبِيحِ لِتَصَرُّفِهِ صَارَ مُؤْتَمَنًا فَلَمْ يُقْبَلِ ادِّعَاءُ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَيْهِ فِيمَا يُوجِبُ غُرْمًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشَاءَ مُسْتَأْجِرٌ أَنْ يُثْبِتَ غُرْمًا وَيُسْقِطَ أَجْرًا إِلَّا ادِّعَاءً خِلَافًا وَهَذَا يُدْخِلُ عَلَى النَّاسِ ضَرَرًا فحسم، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْخَيَّاطُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ فِيهَا مُدَّعٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِرَبِّ الثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ للخياط نقص الْخِيَاطَةِ لِأَنَّهَا آثَارٌ مُسْتَهْلَكَةٌ وَيَصِيرُ الثَّوْبُ قَبَاءً مَخِيطًا لِرَبِّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِلْخَيَّاطِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّوْبِ بِأَخْذِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ قِيمَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ إِنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْإِذْنِ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ بِتَحْقِيقِ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وَالثَّانِي: أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْعَقْدِ. فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ أبي حنيفة إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فَوَجْهُهُ فِي الْقِيَاسِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَالِكِ كَمَا لَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ وَدِيعَةً وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ بَلْ دَفَعْتَهُ إِلَيَّ رَهْنًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَالِكِ كَذَلِكَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ دُونَ الْخَيَّاطِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْإِذْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ إِذَا ادَّعَى عَلَى مُوَكِّلِهِ الْإِذْنَ فِي بَيْعِ دَارٍ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ كَذَلِكَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ يَجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى رَبِّ الثَّوْبِ فِي صِفَةِ الْإِذْنِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ. وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَصَالِحَ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ رَبُّ الثَّوْبِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ بِقَطْعِهِ قَبَاءً نَفْيًا لِمَا ادَّعَاهُ الْخَيَّاطُ وَلَا يَحْلِفُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَمِيصِ بِخِلَافِ الْخَيَّاطِ الَّذِي يَكُونُ يَمِينُهُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ فَالْخَيَّاطُ يُطَالِبُ بِالْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ وَتَبِعَهُ سُقُوطُ الضَّمَانِ وَرَبُّ الثَّوْبِ يُطَالِبُ بِمَا جَنَاهُ الْخَيَّاطُ وَيُنْكِرُ الْأُجْرَةَ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ مِنْ جِنَايَةِ الْخَيَّاطِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَحْلِفُ الْخَيَّاطُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْجَامِعَةَ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّحَالُفِ الَّذِي يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ لِمَا أَنْكَرَهُ وَالْإِثْبَاتِ لِمَا ادَّعَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ههنا فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ يَمِينَ الْخَيَّاطِ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَيَمِينَ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى النَّفْيِ وَحَلَفَ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا أُجْرَةَ لِلْخَيَّاطِ لِتَعَدِّيهِ فِي الْخِيَاطَةِ وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الْخُيُوطِ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا إِنْ كَانَتْ لِرَبِّ الثَّوْبِ ثُمَّ عَلَى الْخَيَّاطِ الضَّمَانُ وَفِيمَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً وَقَمِيصًا لِأَنَّ قَطْعَ الْقَمِيصِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبَاءً مِثْلَ قِيمَتِهِ قَمِيصًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ ثَوْبًا صَحِيحًا وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً لِأَنَّهُ بِالْعُدُولِ عَنِ الْقَمِيصِ مُتَعَدٍّ فِي ثَوْبٍ صَحِيحٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَا صَلَحَ مِنَ الْقَبَاءِ لِلْقَمِيصِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْقَمِيصِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالتَّعَدِّي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 فَصْلٌ : وَإِذَا قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَحَالَفَا كَالْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَا لَوِ اخْتَلَفَا وَالثَّوْبُ صَحِيحٌ فَقَالَ رَبُّهُ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَهُ قَمِيصًا وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلِ اسْتَأْجَرْتَنِي لِأَخِيطَهُ قَبَاءً لَمْ يُعْمَلْ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَحَالَفَا عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ قَطْعِ الثَّوْبِ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهَلْ يَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ عَلَى يَمِينَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلنَّفْيِ وَالْأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ، عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِذَا تَحَالَفَا سَقَطَ الْغُرْمُ عَنِ الْخَيَّاطِ بِيَمِينِهِ وَسَقَطَتِ الْأُجْرَةُ عَنْ رَبِّ الثَّوْبِ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ منهما عَلَى النَّاكِلِ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْخَيَّاطَ قُضِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَسُقُوطِ الْغُرْمِ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ رَبَّ الثَّوْبِ قُضِيَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى مَا مَضَى وَسُقُوطِ الْأُجْرَةِ. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِخَيَّاطٍ إِنْ كَانَ يَكْفِينِي هَذَا الثوب قميصاً فاقطعه فَلَمْ يَكْفِهِ كَانَ ضَامِنًا وَلَوْ قَالَ أَيَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ شَرْطٌ وَالثَّانِيَ اسْتِفْهَامٌ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اكْتَرَى دَابَّةً فَحَبَسَهَا قَدْرَ الْمَسِيرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَمْسَكَهَا شَهْرًا أَوْ قَدْرَ مِسِيرِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ رُكُوبِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْإِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ وَضَمِنَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُمْسِكُهَا مُقِيمًا فَتَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ. وَهَذَا خَطَأٌ لِاتِّفَاقِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَتَسَلَّمَهَا وَلَمْ يَسْكُنْهَا مُدَّةَ إِجَارَتِهِ فِيهَا فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَكَذَا الدَّابَّةُ لِأَنَّ السُّكْنَى وَالرُّكُوبَ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ مَنَافِعَهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَسَوَاءٌ كَانَ بِرُكُوبٍ أَوْ غَيْرِ رُكُوبٍ فَلَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِيَدِهِ مَعَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ مَعَ الرُّكُوبِ الْمُضِرِّ لَمْ يَضْمَنْ فَلِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَعَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَوْلَى. وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ رُكُوبِهَا لِعُذْرٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الدَّابَّةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ فِي الطَّرِيقِ. فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِمَرَضٍ حَابِسٍ أَوْ أَمْرٍ عَائِقٍ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ عَجْزُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَانِعًا مِنِ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الدَّابَّةِ لِمَرَضِهَا فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ قَدِ انْقَضَتْ فَقَدْ بَطَلَتْ وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ بِحَالِهَا. وإن كان العذر في الطريق عن جَدْبٍ أَوْ خَوْفٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي الدَّابَّةِ لَكَوْنِ الْعُذْرِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ أَمْسَكَهَا مُدَّةَ شَهْرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكُهَا لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الرَّدِّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَمْنَعَهُ مِنْهَا فَهَذَا غَاصِبٌ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ حَبْسِهَا وَضَمَانُهَا إِنْ تَلِفَتْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَسْتَنْظِرَهُ فِيهَا فَيُنْظِرَهُ مُخْتَارًا فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَعِيرِ يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْذُلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَقْبَلَهَا الْمُؤَجِّرُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا فَيَصِيرَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ رَدٌّ وَلَا مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ نَقْضِ الْإِجَارَةِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَبَيْنَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهَا بِنَفْسِهِ كَالْوَدِيعَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ وَمِنَ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْعٌ وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْإِجَارَةِ مِنَ الرَّهْنِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَغَلَّبُ فِيهِ نَفْعُ الْمُرْتَهِنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِي الْإِجَارَةِ يَسْتَوِيَانِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ لِحَقِّ الْمِلْكِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُخَرَّجِ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّتِهِ غَاصِبًا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَالْأُجْرَةَ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُؤَجِّرُ حَبَسْتَهَا مَانِعًا لَهَا فَعَلَيْكَ الْأُجْرَةُ وَالضَّمَانُ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ بَذَلْتُهَا لَكَ فَتَرَكْتَهَا عَلَيَّ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيَّ وَلَا ضَمَانَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ أَنَّهُ مَا حَبَسَهَا مَانِعًا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَإِنْ قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤَجِّرِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا كَالضَّمَانِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُمَا وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ إِنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْدِيَةُ حَقِّهِ مِنَ الرَّدِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا رَاكِبًا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا تَتَقَارَبُ أَقْطَارُهُ جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ كَمَا لَوْ نَزَلَ فِي طَرِيقِهِ مَنْزِلًا جَازَ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَوَّلِ الْمَنْزِلِ وَآخِرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا متباعداً الْأَقْطَارِ فَلَيْسَ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ رُكُوبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَإِنْ نَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ ثُمَّ قَالَ أَخْطَأْتُ مَنْزِلِي مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَكَانَ حَقًّا وَإِنْ نَزَلَ فَلَوْ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ عَارِفًا بِمَكَانِ مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَا سَمَّى لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بعير إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا أَنْ يَحُجَّ عَلَيْهِ وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَرْكَبَهُ إِلَى مِنًى. ثُمَّ إِلَى عَرَفَةَ ثُمَّ يَرْكَبُهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ ثُمَّ إِلَى مِنًى ثُمَّ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ مِنْ مَكَّةَ عَائِدًا إِلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا وَيَرْمِيَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَجِّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِإِحْلَالِهِ مِنَ الْحَجِّ. فصل : وإذا تعادل رجلان على بعير استأجره فارتدف معهما ثالث ركب بعير أَمْرِهِمَا لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِمَالِكِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرَيْهِ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ وَفِي قَدْرِ ما يلزمه من قيمته ثلاث مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: النِّصْفُ اعْتِبَارًا بِجِنْسِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ. وَالثَّانِي: الثُّلُثُ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِمْ دُونَ وَزْنِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ. والثالث: يقدر ثِقَلِهِ مِنْ ثِقَلِ الْجَمَاعَةِ تَقْسِيطًا عَلَى وَزْنِهِمْ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ وَالْحِمْلُ مِمَّا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُوزَنُوا وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا. وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبَانِ أَذِنَا لِلرَّدِيفِ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمَا ضَمِنُوا جَمِيعًا أَعْنِي المستأجرين والرديف البعير إن تَلِفَ لِتَعَدِّي الرَّاكِبَيْنِ بِالْإِذْنِ وَتَعَدِّي الرَّدِيفِ بِالرُّكُوبِ وَرَبُّ الْبَعِيرِ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الرَّدِيفِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الرَّاكِبَيْنِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَ الْجَمَّالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ كَالرَّدِيفِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْغَارِمُ عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا وَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَهُمَا دُونَ الجمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 ضَمِنَهُمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ فِي الْبَعِيرِ وَلَمْ يَرْجِعِ الْغَارِمُ مِنْهُمَا عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا كَانَ يَلْزَمُ الرَّدِيفُ مِنْهَا عَلَى الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْهَا مَطْحُونًا لَمْ يجز لأنه جعل المعقودة عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ يَعْنِي بِهِ مَا اكْتَرَاهُ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِطَحْنِ تِسْعَةِ أَقْفِزَةٍ بِالْقَفِيزِ الْعَاشِرِ مِنْهَا جَازَ لِأَنَّهُ جَعَلَ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَعَشَرَةً مَعْقُودًا بِهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إِلَى غَسَّالٍ فَغَسَلَهُ أَوْ إِلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ أَوْ إِلَى خَيَّاطٍ فَخَاطَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً فَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً كَقَوْلِهِ اغْسِلْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَلِلْغَسَّالِ الدِّرْهَمُ الْمُسَمَّى وَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً كَقَوْلِهِ اغْسِلْهُ لِأُرْضِيَكَ أَوْ لِأُقَاطِعَكَ أَوْ لِأُعْطِيَكَ مَا شِئْتَ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ وَلِلْغَسَّالِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ عَمَلَهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً وَلَا مَجْهُولَةً. مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَسَّالٍ فَيَغْسِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أَجْرًا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ صَارَ بَاذِلًا لِعَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا كَمَا لَوْ بَذَلَ طَعَامَهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ثَمَنًا وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَسْكِنِّي دَارَكَ شَهْرًا فَأَسْكَنَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ اغْسِلْ ثَوْبِي فَغَسَلَهُ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِعَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ وَهَذَا يَفْسَدُ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافَعِ الدَّارِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَ رَبُّ الثَّوْبِ سَأَلَ الْغَسَّالَ مُبْتَدِئًا فَقَالَ اغْسِلْ ثَوْبِي هَذَا فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ طَلَبَهُ مُبْتَدِئًا مِنْ رَبِّهِ فَقَالَ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ لِأَغْسِلَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا أَنْ يَغْسِلَ بِأَجْرٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافِعِ الدَّارِ حَيْثُ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا أَوْ مَسْئُولًا وَمَعْرُوفًا بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا نَزَلَ رَجُلٌ فِي سَفِينَةِ مَلَّاحٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَحَمَلَهُ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَنْفَعَةِ مَوْضِعِهِ مِنَ السَّفِينَةِ عَلَى مَالِكِهَا فَضَمِنَ الْأُجْرَةَ وَهَكَذَا الْجَمَّالُ. وَإِنْ نَزَلَ فِيهَا عَنْ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِوَضٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا أُجْرَةَ لَهُ وعلى قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 الْمُزَنِيِّ لَهُ الْأُجْرَةُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَإِنِ ابْتَدَأَ الرَّاكِبُ فَسَأَلَهُ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنِ ابْتَدَأَ الْمَلَّاحُ فَطَلَبَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ مَعْرُوفًا أَنْ يَحْمِلَ بِأُجْرَةٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ دَخَلَهُ بِإِذْنٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَلَوْ أَخَذَ مِنْ سِقَاءٍ مَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ وَإِنْ أَخَذَهُ بِطَلَبٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَأْتَزَرَ بِهِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ لِأَنَّ لِبْسَهُ أَصْوَنُ وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى كَتِفِهِ مُرْتَدِيًا بِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِالتَّعَدِّي لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ وَهَلْ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ لِأَنَّ لِبْسَهُ أَحْرَزُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ. فَصْلٌ : وَلَوِ اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَنَامَ فِيهِ نُظِرَ فَإِنْ نَامَ فِيهِ لَيْلًا فَقَدْ تَعَدَّى وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ نَامَ فِيهِ نَهَارًا لِلْقَائِلَةِ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِنَوْمِ النَّاسِ لَيْلًا فِي لِبَاسِ نَهَارِهِمْ وَجَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي نَوْمِ نَهَارِهِمْ. فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَائِكًا لِيَنْسِجَ لَهُ ثُوبًا عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ قِيمَتِهِ فَإِنْ نَسَجَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ عَمَلِهِ بِنَسْجِهِ لِأَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِهَا فَلَوْ قَالَ إِنْ نَسَجْتَهُ فِي الْحَفِّ فَأُجْرَتُكَ دِينَارٌ وَإِنْ نَسَجْتَهُ فِي السَّاذَجِ فَأُجْرُتُكَ نِصْفُ دِينَارٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْقَدْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَهُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِسَاجَتِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ حَمَّامًا بِالنِّصْفِ مِنْ كَسْبِهِ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَلَوْ أَجَّرَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ صَحَّتْ وَكَانَتِ الْعِمَارَةُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعِمَارَةَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُؤَجِّرُ فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِيفَاءِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَقَدْ يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا هَذَا فِي إِجَارَةِ الْحَمَّامَاتِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ كُلٌّ مِنْهَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ. أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا احْتَاجَ الْحَمَّامُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ لِيَنْفَرِدَ الْمُؤَجِّرُ بِمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَدْمٍ وَبِنَاءٍ وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلَ سَلَفٍ لَا يَقَعُ بِهِ الْقَضَاءُ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِنْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ ثَانِيَةً وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُؤَجِّرُ دُخُولَ الْحَمَّامِ هُوَ وَعِيَالُهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِخِلُوِّهَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَقَلَّ دُخُولُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُؤَجِّرِ مِنْ خَرَابِ الْحَمَّامِ وَشَعَثِهِ فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ عِمَارَةُ مَا خَرَّبَ وَإِصْلَاحُ مَا تَشَعَّثَ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فَإِنْ بَادَرَ إِلَى عِمَارَتِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى عِمَارَتِهِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ قِلَّةِ الْحَطَبِ وَالْمَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْوَقُودِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى وَاحِدٍ منها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مِنْهُ لِفِتْنَةٍ حَادِثَةٍ أَوْ لِخَرَابِ النَّاحِيَةِ فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةٍ عَنْهُ لِحُدُوثِ مَا هُوَ أَعْمَرُ مِنْهُ فَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصْلٌ : إِجَارَةُ دُورِ مَكَّةَ جَائِزَةٌ وَمَنَعَ مَالِكٌ وأبو حنيفة مِنْ إِجَارَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَكَّةَ " إِنَّهَا سوائبٌ ". وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا أُجُورُ بُيُوتِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ هَلَّا نَزَلْتَ فِي دُورِكَ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ ربعٍ ". فَلَوْلَا جَوَازُ بَيْعِهَا مَا أَمْضَى بَيْعَ عَقِيلٍ وَجَعَلَ مُشْتَرِيَهَا مِنْهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ وَقَدِ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُنْكِرْ شِرَاءَهُ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ دُورَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) {الحشر: 28) فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بَقَاءَ مِلْكِهِمْ عليها وإذا بما ذَكَرْنَا مِلْكَهَا وَجَوَازَ بَيْعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا. لِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مِنَ الدور جازت أجارته كسائر البلاد. ولأنه لَوْ لَمْ تُمْلَكْ رِقَابُهَا وَيُسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْطِنَ بِهَا دَارًا وَلَاسْتَهَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِيهَا فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُمَا فِي الْبُيُوعِ. فَصْلٌ : تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى كَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَمَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ جَازَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَرْضُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ كَالْإِجَارَةِ عَلَى كَتْبِ الْفِقْهِ والحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 فَصْلٌ : إِجَارَةُ الْمُشَاعِ تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ أبو حنيفة تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى رَهْنِ الْمُشَاعِ دَلِيلٌ عَلَى إِجَارَتِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الشَّرِيكِ صَحَّ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ : فِي إِجَارَةِ الْحَفَائِرِ وَالْبِنَاءِ وهذا ال فصل مشتمل على مسألتين: أحدهما: فِي حَفَائِرِ الْآبَارِ وَالْأُخْرَى فِي الْبِنَاءِ. فَأَمَّا حَفَائِرُ الْآبَارِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَ الْإِجَارَةَ فِيهِ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِحَفْرِ بِئْرٍ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمٌ فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُمْقَ الْبِئْرِ وَدَوَرَهَا إِذَا أَشَارَ إِلَى الأرض التي يحفر فها وَتَكُونُ أُجْرَتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ عَمَلِهِ كَأُجْرَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ قِسْطُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ دِرْهَمًا يَسْتَوِي فِيهِ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي حَفْرِ أَعْلَى الْبِئْرِ وَالْيَوْمُ الْأَخِيرُ فِي حَفْرِ أَسْفَلِهَا وَهَذَا مِمَّا لَيْسَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي عُمْقٍ وَدَوَرٍ مَعْلُومَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَيَصِحُّ مَضْمُونًا وَمُعَيَّنًا وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَتَخْتَلِفُ أُجْرَتُهُ بِاخْتِلَافِ صَلَابَتِهِ وَرَخَاوَتِهِ. وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ تُرَابِ الْبِئْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَصَارَ الْعَمَلُ بِهَذَيْنِ مَجْهُولًا فَبَطَلَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ قَائِلُهُ عَنِ الْكَافَّةِ وَخَالَفَ فِيهِ الْجَمَاعَةُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى أَعْمَالٍ مَعْلُومَةٍ كَعَقْدِهَا عَلَى أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ فِي الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الصَّنَائِعِ يَصِحُّ فِيهَا الْأَمْرَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهَكَذَا حَفْرُ الْآبَارِ يَصِحُّ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَإِنْ قُدِّرَ بِالْأَيَّامِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مَعْلُومٍ وَإِنْ قُدِّرَ بِالْعَمَلِ كَانَ عُمْقًا وَدَوَرًا فَهُوَ عَلَى مَعْلُومٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى السَّوَاءِ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بَاطِنَ الْأَرْضِ كُلَّ تُرْبَةٍ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَصَارَ بَاطِنُهَا بِمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرِ مَعْلُومًا كَالْمُشَاهَدِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا يَصِيرُ بَاطِنُ الصبرة من الطعام معلوماً بمشاهدة الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا لِأَنَّهُ إِنْ وُجِدَ نَقْصًا وَتَغَيُّرًا فُسِخَ فَكَذَا الْإِجَارَةُ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ التُّرَابَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَخَطَأٌ لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ حَفْرُهُ بِالْعُمْقِ وَالدَّوَرِ تَقَدَّرَ تُرَابُهُ وَصَارَتِ الْبِئْرُ مِكْيَالًا لِتُرَابِهَا الْمَحْفُورِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ تُرَابَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِهِ فَانْهَارَ التُّرَابُ فِيهَا وَعَادَ إِلَيْهَا لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ ثَانِيَةً لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِ التُّرَابِ قَدْ وَفَّاهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ مَعْلُومَةِ الْعُمْقِ وَالدَّوَرِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحْفِرَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ مَا سُمِّيَ لَهُ فَإِنْ حَفَرَ بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 لَا يَقْدِرُ عَلَى حَفْرِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أُجْرَتِهَا بِمَاذَا يَكُونُ مُعْتَبِرًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُقَوَّمُ أُجْرَةُ مَا حَفَرَ وَأُجْرَةُ مَا تَرَكَ ثُمَّ تقسط الأجر الْمُسَمَّاةُ عَلَيْهَا فَمَا قَابَلَ الْمَحْفُورَ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَتَقَسَّطُ عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ. مِثَالُهُ أَنْ يستأجر على حفر عشرة أَذْرُعٍ فِي دَوَرٍ مَعْلُومٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَيَحْفِرَ خَمْسَ أَذْرُعٍ وَيَتْرُكَ خَمْسًا فَيُقَالُ كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ فَإِنْ قِيلَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ فَإِنْ قِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا جَمَعْتُهُمَا وَجَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ جَمِيعُ السِّهَامِ أَرْبَعَةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الَّتِي هِيَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ يَخْرُجُ لِلسَّهْمِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ. فَإِنْ قِيلَ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ عَشَرَةً وَتُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا جَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا خَمْسَةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الْمُسَمَّاةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يُخْرِجُ لِكُلِّ سَهْمٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ فَيَسْتَحِقُّ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ مَا حُفِرَ سَهْمَانِ فَإِنْ قِيلَ تُسَاوِي أُجْرَةُ الخمس المحفورة عشرة دارهم وَأُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتُ كُلَّ عَشَرَةٍ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا سِتَّةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ عَلَيْهَا يُخْرِجُ لِكُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ. لِأَنَّ قِسْطَ عَمَلِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْمَبَرَّةِ فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِهِ فيما لا يتساوى أَجْزَاؤُهُ. فَصْلٌ : وَقَالَ أبو حنيفة تَضَاعُفُ الْأَذْرُعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِعَدَدِ مَسَافَتِهَا ثَمَّ تُقَسَّمُ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا اجْتَمَعَ مِنْهَا فَمَا خَرَجَ لِكُلِّ ذِرَاعٍ فَهُوَ قَدْرُ أُجْرِتِهِ مِثَالُهُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَ على حفر خمسة أَذْرُعٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الْأُولَى ذِرَاعًا وَاحِدًا لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّانِيَةَ ذِرَاعَيْنِ لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعَيْنِ وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّالِثَةَ مِنْ ثلاثة أذرع لأن نقل ترابها من ثلاثة أذرع ويجعل الذراع الرابعة أربعة أذرع لأن نقل ترابها من أربعة أذرع ويجعل الذراع الخامسة خمسة أذرع لأن نقل ترابها من خمسة أَذْرُعٍ ثُمَّ يَجْعَلَ ذِرَاعًا وَذِرَاعَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَخَمْسًا فَتَكُونُ خَمْسَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مَسَافَةُ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ ثُمَّ يُقَسِّمُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ عَلَيْهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا فَإِنْ حَفَرَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا. ثُمَّ إِنْ حَفَرَ ذِرَاعَيْنِ اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الأولى ذراع والثانية ذراعان صارا أثلاثاً وَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ سِتَّةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ صَارَ الْجَمِيعُ سِتًّا فَإِنْ حَفَرَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ وَالرَّابِعَةَ أَرْبَعٌ صَارَ الْجَمِيعُ عَشْرًا فَهَذَا مَذْهَبُ أبي حنيفة لِأَنَّ مَسَافَةَ الْأَذْرُعِ إِذَا ضُوعِفَتْ مُتَسَاوِيَةً فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَبْلَغِ عَدَدِهَا مُقَسَّطَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 فَصْلٌ : وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا فِي الْفِقْهِ وَمُجَوِّدِيهِمْ فِي الْحِسَابِ بِمَذْهَبٍ تَوَسَّطَ فِيهِ بَيْنَ مَذْهَبِي الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُسْتَمِرًّا فَإِنَّ فِيهِ اطِّرَاحًا لِعَمَلٍ يَصِحُّ فِيهِ وَيَنْحَصِرُ مِنْهُ وَمَذْهَبَ أبي حنيفة وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمَلِ مُطَّرِدًا وَفِي الْحِسَابِ صَحِيحًا فَإِنَّ فِيهِ حُكْمًا يَفْسُدُ فِي الْقِيَاسِ وَيَبْطُلُ عَلَى الْأُصُولِ وَذَلِكَ أَنَّ حَفْرَ الْآبَارِ يَشْتَمِلُ عَلَى حَفْرٍ وَنَقْلِ تُرَابٍ فَالْحَفْرُ يَتَمَاثَلُ فِي الْأَذْرُعِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فِي حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأَخِيرِ عَمَلٌ يَزِيدُ عَلَى حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأُولَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ أُجُورِهَا لِتَسَاوِي الْعَمَلِ فِيهَا فَصَارَ مَذْهَبُ أبي حنيفة مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَاسِدًا فَأَمَّا نَقْلُ التُّرَابِ الْمَحْفُورِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ وَيَتَضَاعَفُ بِأَعْدَادِ الْأَذْرُعِ لِأَنَّ مَسَافَةَ الذِّرَاعِ الثَّانِيَةِ مِثْلَا مَسَافَةِ الذِّرَاعِ الْأُولَى وَمَسَافَةَ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ الرَّابِعَةِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ الْعَاشِرَةِ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ النَّقْلِ مَحْفُورَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَذْرُعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا وَتَحْقِيقِ الْمُسْتَحَقِّ بِهَا إِلَى تَقْوِيمٍ مَعْمُولٍ أَوْ مَتْرُوكٍ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمَا فَصَارَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اطِّرَاحٌ لِعَمَلٍ هُوَ أَصَحُّ تَحْقِيقًا وَأَخْصَرُ تَقْسِيطًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُقَسَّطَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ فَمَا قَابَلَ الْحَفْرَ قُسِّمَ عَلَى أَعْدَادِ الْأَذْرُعِ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي جَمِيعِهَا مُتَمَاثِلٌ وَمَا قَابَلَ النَّقْلَ قِسْمَةٌ عَلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَسَافَةُ الْأَذْرُعِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مُتَضَاعِفٌ مُتَفَاضِلٌ. فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَ أُجْرَةِ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَبَعٌ لِلْآخَرِ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ النَّقْلِ تَبَعًا لِلْحَفْرِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْحَفْرِ تَبَعًا لِلنَّقْلِ وَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَفْرِ أَجِيرًا لَا يَنْقُلُ وعلى النقل أجراً لَا يَحْفِرُ صَحَّ فَلَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بِمَانِعٍ مِنْ تَمَيُّزِهَا فِي أَحْكَامٍ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ الْعَمَلُ فَلِلْعَمَلِ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةٌ وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَبْلَغَ مَسَافَةِ نَقْلِ التُّرَابِ مِنْ عَشْرِ أَذْرُعٍ وَشَقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَجْمَعَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ عَلَى الْوَلَاءِ فَبَابُهُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدًا يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ تَكُونُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَأَنْ تَضْرِبَ نِصْفَ أَحَدَ عَشَرَ فِي عَشَرَةٍ تَكُنْ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَهُوَ مَبْلَغُ الْعَدَدِ الْمَجْمُوعِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ عَلَى الْوَلَاءِ. وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شُجَاعُ بْنُ نَصْرٍ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْعَشَرَةَ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَالِاثْنَانِ وَالتِّسْعَةُ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَالثَّلَاثَةُ وَالثَّمَانِيَةُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْأَرْبَعَةُ وَالسَّبْعَةُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ أَحَدَ عَشَرٍ فَتَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي مَعَكَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْدَادِ الْعَشْرِ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَحَدَ عَشَرَ فَلِذَلِكَ ضَرَبْتَ فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى الْوَلَاءِ فَزِدِ الْوَاحِدَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي نِصْفِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ نِصْفَ سِتَّةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ صِرْنَا إِلَى الْعَمَلِ فَإِذَا قِيلَ رَجُلٌ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ عُمْقُهَا خَمْسُ أَذْرُعٍ فِي دَوَرٍ مَعْلُومٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ يُقَالُ كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ فَإِذَا قِيلَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ فَإِذَا قِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةٌ فَاجْعَلْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةٌ مَقْسُومَةً عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ بِالسَّوِيَّةِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَفْرِ فَضْلٌ فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا ثُمَّ اجْعَلْ أُجْرَةَ النَّقْلِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مَقْسُومَةً عَلَى مَبْلَغِ مَسَافَةِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ وَهُوَ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا لِأَنَّهُ ذِرَاعٌ وَذِرَاعَانِ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ وَخَمْسٌ وَإِنْ شئت أن تعمله بالباب المختصر زدت على الْخَمْسَةَ وَاحِدًا يَكُنْ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْخَمْسَةِ يَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ ضَرَبْتَ نِصْفَ السِّتَّةِ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وهي مبلغ مسافة النقل مِنْ خَمْسِ أَذْرُعٍ فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَيْهَا قُسِّطَتْ مِنَ الْأُجْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَانَ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمَيْنِ لِأَنَّ لَهُ بِالْحَفْرِ درهماً وبالنقل درهماً ولو حفر ونقل ذارعين اسْتَحَقَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ ذِرَاعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَبِنَقْلِ ذِرَاعَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ الْأَذْرُعِ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَهُ بِالنَّقْلِ مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ مَسَافَةَ سِتِّ أَذْرُعٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ. وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ عشر درهماً لأن بحفر الأذرع الأربعة أربعة دراهم وله بالنقل من أربعة أذرع مسافة عشرة أَذْرُعٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَلَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ عُمْقُهَا (خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا) فَيَ دَوَرٍ معلوم بمائة وخمسين درهماً قبل كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ بِلَا نَقْلٍ فَإِنْ قِيلَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ بِلَا حَفْرٍ فَإِنْ قِيلَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا فَفِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ فَاجْمَعْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ تَكُنْ مِائَةَ دِرْهَمٍ. وَاجْعَلْ كُلَّ عِشْرِينَ سَهْمًا تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمٌ مِنْهَا لِلْحَفْرِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِلنَّقْلِ ثُمَّ اقْسِمِ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَجْعَلُ أُجْرَةَ الحفر وحده ثلاثون دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ الْحَفْرِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَتَحْصُلُ أجرة النقل وحده مائة وعشرون دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ النَّقْلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ اقْسِمْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا عَلَى أعداد الأذرع وهي خمسة عشر ذِرَاعًا تَكُنْ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ. وَاقْسِمْ أُجْرَةَ النَّقْلِ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا عَلَى مَسَافَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذراعاً لأنك إذا زدت على خمسة عشر واحد ثُمَّ ضَرَبْتَ نِصْفَهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ أُجْرَةُ نَقْلِ كُلِّ ذِرَاعٍ وَاحِدَةٍ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ خَمْسَ أذرع واستحق بالحفر وحده عشر دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَانِ وَاسْتَحَقَّ بالنقل وحده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّ مَسَافَةَ خَمْسِ أَذْرُعٍ خمسة عشر ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ فَيَصِيرُ جَمِيعَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ عَشْرَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ وَاسْتَحَقَّ بِالنَّقْلِ وَحْدَهُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ مَسَافَةَ عَشْرِ أَذْرُعٍ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ فَيَصِيرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ فَيَصِحُّ فَيُسَاوِي أُجُورَ الْأَيَّامِ مِمَّا سُمِّيَ لَهَا مِنْ سُفْلِ الْبِنَاءِ وَعُلُوِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى بِنَاءٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ فَتَصِحُّ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَقْدِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُلُوِّ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْبِنَاءِ مَوْصُوفَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبَنٍ بِجِصٍّ وَطِينٍ. فَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ بِاخْتِلَافِهِ وَلَوْ شَرَطَ الْآلَةَ عَلَى الْأَجِيرِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَصَفَهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدَيْنِ مِنْ إِجَارَةٍ وَبَيْعٍ فِي عَقْدٍ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِجَارَةَ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ صَحَّتْ بِوِفَاقِ مَنْ خَالَفَ فِي إِجَارَةِ الْآبَارِ وَيُؤْخَذُ الْأَجِيرُ بِإِتْمَامِ الْبِنَاءِ؛ فَإِنْ بَنَى بَعْضَهُ ثُمَّ قَطَعَهُ عَنْ إِتْمَامِهِ قَاطِعٌ وَأَرَادَ أُجْرَةَ مَا عَمِلَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْمِسَاحَةِ فِي عُلُوِّهِ وَسُفْلِهِ كَالْمَنَارِ وَالسَّوَارِي. فَيَكُونُ حُكْمُهَا كَحُكْمِ الْآبَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْمِسَاحَةِ كَالْمَخْرُوطَاتِ فَيَقُومُ الْمَعْمُولُ والمتروك ثم تسقط الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا فَمَا قَابَلَ الْمَعْمُولَ مِنْهَا فَهُوَ حَقُّ الْأَجِيرِ فِيمَا عَمِلَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ من كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ومسائل سمعتها منه لفظاً مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بِأَسًا حَتَى أَخْبَرَنَا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا لِقَوْلِ رَافِعٍ (قَالَ الشافعي) رحمه الله وَالْمُخَابَرَةُ اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَهْيِهِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ عَلَى أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا عَلَى الرُّبُعِ وَلَا عَلَى جزءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّهُ مجهولٌ وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا مَعْلُومًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُزَارِعَةُ وَهِيَ مَا وَصَفَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهَا اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمُخَابَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ قُتَيْبَةَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ حِينَ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ خَابِرُوهُمْ أَيْ عَامِلُوهُمْ عَلَى خَيْبَرَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخُبْرَةِ وَهِيَ النَّصِيبُ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ: (إِذَا مَا جَعَلْتِ الشَّاةَ لِلْقَوْمِ خُبْرَةً ... فَشَأْنُكِ أَنِّي ذَاهِبٌ لِشُؤُونِ) والخبرة: أن يشتري الشاة جماعة قيقتسمونها. وَإِذَا كَانَتِ الْمُخَابَرَةُ هِيَ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ لِزِرَاعَتِهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، ضَرْبٌ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهِ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادِهِ، فَهُوَ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ مُفْرِدَةً عَنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ زَارَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الأرض على أن ما زرعت من هرن كان لي وما زرعت من أفل كان لك، أو على مَا نَبَتَ مِنَ الْمَاذِيَانَاتِ كَانَ لِي، وَمَا نَبَتَ عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ كَانَ لَكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَهُوَ لِي وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَهُوَ لَكَ، فَهَذِهِ مُزَارِعَةٌ بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهَا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَى السَّوَاقِي وَمَا سُقِيَ بِالْمَاءِ مِنْهَا فَنَهَانَا رَسُولُ اللِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 ذَلِكَ وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بذهبٍ أَوْ ورقٍ، وَلِأَنَّ تَمَيُّزَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ من إلحاقه بالمساقاة المشاعة، ويخرج بالجهالة عَنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْجَائِزَةِ فَصَارَ بَاطِلًا. فَصْلٌ : وأما الضرب الذي اختلف الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يُزَارِعَهُ عَلَى أَرْضِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْأَرْضُ لِرَبِّهَا وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ شَرْطِهِمَا عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَرْعٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمٍ مَعْلُومٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ لِيَأْخُذَ الزَّارِعُ سَهْمَهُ بِعَمَلِهِ، وَيَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ سَهْمَهُ بِأَرْضِهِ فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارِعَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ أَوْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وأبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ أو على رب الأرض، وبه قال في الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الزَّارِعِ جَازَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ من أجاز ذلك بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثمرٍ وزرعٍ. وَرَوَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْتُ لِطَاوُسٍ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ تَرَكْتَ الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهَا فَقَالَ: يَا عَمْرُو أَخْبَرَنِي أَعْلَمُهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا وَلَكِنْ قَالَ: لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا. وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ " رَحِمَ اللَّهُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ أَنَا أَعْلَمُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُ " - يَعْنِي مَا رَوَاهُ عَنِ الْمُخَابَرَةِ - قَالَ زَيْدٌ: " آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَتَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمَا فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ ". قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى الْأُصُولِ بِبَعْضِ نَمَائِهَا يَجُوزُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُخَابَرَةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْمُسَاقَاةِ جَازَتْ بِانْفِرَادِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ. وَالْمُخَابَرَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَرَوَى يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ " كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّ بَعْضَ عُمُومَتِي أَتَانِي فَقَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أمرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ، قَالَ: فَقُلْنَا: " وَمَا ذَاكَ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ كَانَتْ لَهُ أرضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربعٍ ولا طعامٍ مُسَمًّى، وَرَوَى ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ " مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بحربٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي تَصِحُّ إِجَارَتُهَا وَلَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ كَسْبِهَا، وَكَذَا الْأَرَضُ لَمَّا جَازَتْ إِجَارَتُهَا لَمْ تَجُزِ الْمُخَابَرَةُ عَلَيْهَا. فَهَذِهِ دَلَائِلُ الْفَرِيقَيْنِ فِي صِحَّةِ الْمُخَابَرَةِ وَفَسَادِهَا، وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِدَلَائِلِ الصِّحَّةِ عَمَلَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ مَعَ الضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهَا، وَكَانَ مَا عَارَضَهَا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مَا فَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَانَ صِحَّةُ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ فَسَادِهَا مَعَ صِحَّةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ. فَصْلٌ : فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْمُخَابَرَةِ حَمْلًا فِيهَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مِنْ بَذْرٍ وَسَهْمٍ، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهَا فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ فَالزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَبَقَرِهِ، وَآلَتِهِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلزَّارِعِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِ أَرْضِهِ لِأَنَّهُ بَذَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لَهُمَا، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ نِصْفُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ، وَبَقَرِهِ، وَآلَتِهِ، وَعَلَى الْعَامِلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُ أُجْرَةِ أَرْضِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَوِ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ فَكَانَتِ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمْ، وَالْبَذْرُ لِلْآخَرِ، وَالْآلَةُ لِلْآخَرِ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِشُرَكَائِهِ. وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةُ رهطٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي زَرْعٍ فَقَالِ أَحَدُهُمْ قِبَلِيَ الْأَرْضُ، وَقَالَ الْآخَرُ، قِبَلِيَ الْبَذْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ، قِبَلِيَ الْعَمَلُ، وقال الآخر قبلي الفدان، فما اسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ صَارُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَعَلَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَأَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ شَيْئَا مَعْلُومًا، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا كُلَّ يومٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 فَصْلٌ : وَلِمَنْ قَالَ بِفَسَادِ الْمُخَابَرَةِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ يُتَوَصَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ إِمَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ بِإِجَارَتِهَا أَوِ اسْتِعَارَتِهَا أَوْ تَكُونُ لِأَحَدِهِمَا فَيُؤَجِّرُ صَاحِبُهُ أَوْ لِغَيْرِهِ نِصْفَهَا مَشَاعًا فَتَصِيرُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ لَهُمَا ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ: قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا سَنَةً بِدِينَارٍ، وَاسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمَلِكَ وَنِصْفَ عَمَلِ مَا قَدْ شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكَ وَآلَتِكَ سَنَةً بِدِينَارٍ ثُمَّ يَقَعُ الْقِصَاصُ وَالْإِبْرَاءُ، وَيُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ عَمَلِ مَا شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكِ وَآلَتِكِ سَنَةً، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَأْجِرًا لِنِصْفِ مَا لِصَاحِبِهِ سَنَةً، بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ سَنَةً، أَوْ يَعْقِدَانِ ذَلِكَ سِنِينَ مَعْلُومَةً، ثُمَّ يُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَالْعَمَلِ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَانِ، قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْ أَجَّرْتُكَ ثُلُثَيْ أَرْضِي بِثُلُثِ عَمَلِكَ، وَيُخْرِجُ صَاحِبُ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْبَذْرِ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ آجَرْتُكَ ثُلُثَ أَرْضِي بِثُلُثَيْ عَمَلِكَ وَيُخْرِجُ ثُلُثَيِ الْبَذْرِ فَيَصِيرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدِ اسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمَلِكَ بنصف هذا البذر، ونصف منفعة هذا الأرض فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ هَذَا الْبَذْرِ فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِذَا عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ الْبَذْرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ بَلْ هُوَ عَقْدُ إِجَارَةٍ مَحْضَةٍ، وَالْأُجْرَةُ فِيهَا نِصْفُ الْبَذْرِ وَنِصْفُ الْعَمَلِ فَيَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ والعرَض وَمَا نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى صفةٍ تُسَمِّيهِ كَمَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْمَنَازِلِ وَإِجَارَةُ الْعَبِيدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِجَارَةِ الْأَرضِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ إِلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرَضِينَ بَاطِلَةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مَا قَالَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِنَّ إِجَارَتَهَا جَائِزَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَلَا بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبو حنيفة وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ إِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ مَنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ مَنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ الله فقال يابن خَدِيجٍ مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ رَافِعٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ عَمَّيَّ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يَعْلَمْهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي شُجَاعٍ عَنْ عِيسَى بْنِ سَهْلٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ إِنِّي لَيَتِيمٌ فِي حِجْرِ رافعٍ، وَحَجَجْتُ مَعَهُ فَجَاءَهُ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلٍ فَقَالَ أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلَانَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ دَعْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ. قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزْ إِجَارَةُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِكَوْنِهِمَا أَصْلًا لِكُلِّ ثَمَرٍ فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ. فَصْلٌ : وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ إِجَارَتَهَا بِالطَّعَامِ وَبِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ، بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أرضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلثٍ ولا ربعٍ وَلَا بطعامٍ مُسَمًّى " وَرَوَى طَارِقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَقَالَ إِنَمَا يَزْرَعُ ثلاثةٌ، رجلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، ورجلٌ مَنَحَ أَرْضًا، فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، ورجلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بذهبٍ أَوْ فضةٍ. وَلِأَنَّ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا بَاطِلٌ كَالْمُخَابَرَةِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلَكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَضْمُونٌ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ مَعَ شَبِيهِهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، فَصَارَ هَذَا تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَهُ مِنَ النَّهْيِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الْأَرْضُونَ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَسَنُ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِرَائِهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَافِعٍ مُخْتَلِفَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّخْلِ أَعْيَانٌ، وَمِنَ الْأَرْضِ آثَارٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَنَهْيُهُ عَنْ إِجَارَتِهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُؤَاجَرَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُخَابَرَةِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا عَلَى سنةٍ معروفةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَأَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَأَنَّهَا تَجُوزُ سَنَةً، وَفِي جَوَازِهَا سِنِينَ قَوْلَانِ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ سَنَةً فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً هِلَالِيَّةً، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ يُحْتَسَبُ بِكُلِّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا وَيَكُونُ قَدْرُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَهَذَا أَخَصُّ الْآجَالِ بِالشَّرْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) {البقرة: 189) . وَالْقِسْمُ الثاني: أن يشترط سَنَةً عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وستين يوماً كاملة لأن عدد الشهر مستوفٍ بِكَمَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً شَمْسِيَّةً وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبُعُ يَوْمٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِهَذَا الْأَجَلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِلْعِلْمِ بِالْمُدَّةِ فِيهَا. وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحِسَابٍ تُنْسَأُ فِيهِ أَيَّامٌ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّسِيءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرَ) {التوبة: 37) . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ السَّنَةِ، فلا يشترطهما هِلَالِيَّةً، وَلَا عَدَدِيَّةً وَلَا شَمْسِيَّةً فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَمْلًا عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فِي الْآجَالِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ أَوْ عَثَرِيًّا أَوْ غَيْلًا أَوِ الْآبَارِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا غَلَّةَ شتاءٍ وصيفٍ فَزَرَعَهَا إِحْدَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 الْغَلَّتَيْنِ وَالْمَاءُ قائمٌ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ فَذَهَبَ قَبْلَ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ فَأَرَادَ رَدَّ الْأَرْضِ لِذَهَابِ الْمَاءِ عَنْهَا فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِرَاءِ بِحِصَّةِ مَا زَرَعَ إِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَةُ مَا لَمْ يَزْرَعْ لِأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلزَّرْعِ إِلَّا بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا قَدِ اسْتَأْجَرَهَا لَهُ، مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ مَا يَسْتَأْجِرُهَا لَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِاخْتِلَافِهِ، ثُمَّ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَلْ يَقُولُ " لِتَزْرَعْهَا " فَإِنْ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ، فَقَالَ " عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَزِمَهُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا هو إذا مكن منها مخير بين استيفاءها أَوْ تَرْكِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ سُكْنَاهَا وَتَرْكِهَا، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سُكْنَاهَا فِي الْعَقْدِ فَقِيلَ فِيهِ " عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً لِزَرْعِهَا غَلَّةَ شِتَاءٍ وَصَيْفٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ مَاءٌ قَائِمٌ يُسْقِي بِهِ الزَّرْعَ مِنْ عَيْنٍ أو نهر أو نيل أوعثريا، وَهُوَ: الْمَاءُ الْمُجْتَمِعُ فِي أُصُولِ الْجِبَالِ أَوْ عَلَى رُؤُوسِهَا، أَوْ غَيْلًا، وَهُوَ: السَّيْحُ الْجَارِي، سُمِّيَ سَيْحًا لِأَنَّهُ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ غَلَلًا وَهُوَ: الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ. وَإِنَّمَا افْتَقَرَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ لِزَرْعِهَا، لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْبُتُ فِي جَارِي الْعَادَةِ إِلَّا بِمَاءٍ يَسْقِيهِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا لِأَنَّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ سَقَى زَرْعَهَا بَعْلًا أَوْ عِذْيًا، وَالْبَعْلُ: مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ، وَالْعِذْيُ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، فَهِيَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ، فَلَا يَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ. فَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا وَلَهَا مَاءٌ قَائِمٌ فَزَرَعَهَا إِحْدَى الْغَلَّتَيْنِ، ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ أَوْ نَقَصَ أَوْ مَلَحَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ زَرْعُ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ نُظِرَ، فَإِنْ تَوَصَّلَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى إِعَادَةِ الْمَاءِ بِحَفْرِ نَهْرٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوِ اسْتِنْبَاضِ عَيْنٍ فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَاءِ أَوْ أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَلَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى مُدَاوَاةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ بِهِ مَرَضٌ. ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ أَوِ الْفَسْخِ، لِمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ بِتَعَذُّرِ التَّمْكِينِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا كَمَا لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَاقِيَةٌ مَعَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، وَالدَّارُ تَالِفَةٌ بِانْهِدَامِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ بَطَلَتْ بِانْهِدَامِ الدَّارِ، وَمَوْتِ الْعَبْدِ وَاسْتَحَقَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْخِيَارَ لِلنَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ، وَإِنْ فَسَخَ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، وَفِي جَوَازِ فَسْخِهَا فِيمَا مَضَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِاسْتِيفَائِهَا وَمَنِ اسْتَهْلَكَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ خِيَارًا فِي فَسْخِهِ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَيَرْجِعُ لِبَاقِي الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ مَا مَضَى كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ ما بقي لأنها صفقة فلم يفترق حكمها فِي الْخِيَارِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَسَخَ فِي الْجَمِيعِ رَجَعَ بِالْمُسَمَّى، وَكَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا مَضَى، وَفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ، لَزِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ما مضى، ويرجع مِنْهَا بِقِسْطِ مَا بَقِيَ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَسَخَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ لَمْ يُقَسِّطْ ذَلِكَ عَلَى الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَسِّطُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفَهَا لَمْ يَرْجِعْ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ، وَقِيلَ: " كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ؟ فَإِذَا قِيلَ عِشْرُونَ دِينَارًا، قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ؟ فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ رَجَعَ بِثُلُثِ الْأُجْرَةِ، وَلَوْ كَانَ أُجْرَةُ مَا مَضَى عشرة وأجرة ما بقي عشرون، رَجَعَ بِثُلُثَيِ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّتَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أَعْدَادِهَا وَلَزِمَ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أُجُورِ أَمْثَالِهَا والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ تَكَارَاهَا سَنَةً فَزَرَعَهَا فَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَالزَّرْعُ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يُحْصَدَ فَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرْعَا يُحْصَدُ قَبْلَهَا فَالْكِرَاءُ جائزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ الزَّرْعِ أَنْ يُثَبِّتَ زَرْعَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنِ الْأَرْضِ إلا أن يشاء رب الأرض تركه (قال الشافعي) وإذا شرط أن يزرعها صنفاً من الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقتٍ من السنة وانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضاً وإن تكاراها لمدةٍ أقل من سنةٍ وشرط أن يزرعها شيئاً بعينه ويتركه حتى يستحصد وكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل المدة التي تكاراها فالكراء فيه فاسدٌ من قبل أني إن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب الأرض أن يبقي زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى يستحصد وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الأرض فكان هذا كراء فاسداً ولرب الأرض كراء مثل أرضه إذا زرعه وعليه تركه حتى يستحصد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَزْرَعَهَا زَرْعًا مَوْصُوفًا فَزَرَعَهَا، ثُمَّ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، قَبْلَ اسْتِحْصَادِ زَرْعِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الزَّرْعَ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ اسْتِحْصَادِهِ لِعُدُولِهِ عَنِ الْجِنْسِ الَّذِي شَرَطَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبَاقِلَّا، فَيَزْرَعُهَا بُرًّا، فَتَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالزَّرْعُ غَيْرُ مُسْتَحْصَدٍ، فَهَذَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّهُ بِعُدُولِهِ عَنِ الْبَاقِلَّا إِلَى الْبُرِّ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 يَسْتَحِقَّ اسْتِيفَاءَ زَرْعٍ تَعَدَّى فِيهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ أَقَرَّ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ وَأَبَى الْمُؤَجِّرُ، أَوْ رَضِيَ الْمُؤَجِّرُ وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ قُلِعَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِتَأْخِيرِ بَذْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُدُولٍ عَنْ جِنْسِهِ، فَهَذَا مُفَرِّطٌ، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّ تَفْرِيطَهُ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُ، فَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ مِثْلِ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ وَرَضِيَ الْمُؤَجِّرُ بِقَبُولِهَا تُرِكَ وَإِلَّا قُلِعَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِأَمْرٍ سَمَائِيٍّ، مِنَ اسْتِدَامَةِ بَرْدٍ، أَوْ تَأْخِيرِ مَطَرٍ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُتْرَكُ إِلَى وَقْتِ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ عُدْوَانٌ، وَلَا تَفْرِيطٌ فَإِذَا تُرِكَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَةً مِثْلَ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى عَقْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَلَا يُتْرَكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ لِنَفْسِهِ فِي اسْتِزَادَةِ الْمُدَّةِ خَوْفًا مِنْ حَادِثِ سَمَاءٍ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَظْهِرْ صَارَ مُفْرِطًا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ قَلْعَهُ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ زَرْعَهُ قَصِيلًا، وَلَا يُرِيدُهُ حَبًّا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أُخِذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَقَطْعِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ تَرْكَهُ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُنَافِي مُوجِبَهَا، فبطلت ثم للزارع استيفاء زرعه إلى وقت حصاد، وإن بطلت الإجارة، فلا يؤخذ بقلع زرع، لِأَنَّهُ زَرَعَ عَنْ إِذْنٍ اشْتَرَطَ فِيهِ التَّرْكَ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ مَعَ فَسَادِ الْإِجَارَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ مَعَ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ: أَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا بَطَلَتْ رُوعِيَ الْإِذْنُ دُونَ الْمُدَّةِ، وَإِذَا صَحَّتْ رُوعِيَتِ الْمُدَّةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ: أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ فَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ قَلْعًا وَلَا تَرْكًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ أَوِ التَّرْكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّرْكَ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنَ الثِّمَارِ يَقْتَضِي إِطْلَاقَ بَيْعِهِ لِلتَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّرْكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ هَلْ يُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ فِيهَا كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ السِّنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُسْتَحْصَدَ، فَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحْصَدُ فِيهِ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَى الْأَرْضَ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا إِنَّمَا يُسْقَى بِنُطَفِ سماءٍ أَوْ بسيلٍ إِنْ جَاءَ فَلَا يَصِحُّ كِرَاؤُهَا إِلَّا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهُ إِيَّاهَا أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا يَصْنَعُ بِهَا الْمُسْتَكْرِي مَا شَاءَ فِي سَنَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَزِمَهُ زَرَعَ أَوْ لَمْ يَزْرَعْ فَإِنْ أَكْرَاهُ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا لَا تُزْرَعُ إِلَّا بمطرٍ أَوْ سيلٍ يَحْدُثُ فَالْكِرَاءُ فاسدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ لَا تَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ قَائِمٌ يَغْتَذِي بِهِ الزَّرْعُ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا، وَإِنَّمَا تُسْقَى بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نُطَفِ سَمَاءٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ طَلٍّ أَوْ بِحُدُوثِ سَيْلٍ مِنْ زِيَادَةِ وَادٍ أَو نَهْرٍ فَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ أَجَّرْتُكَهَا عَلَى أَنَّهَا أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا لِتَصْنَعَ بِهَا مَا شِئْتَ عَلَى أَنْ لَا تَبْنِيَ وَلَا تَغْرِسَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْرُطْ هَذَا - وَقَدِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ - تَوَهَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ مُلْتَزِمٌ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ شَرْطٍ يَنْفِي هَذَا التَّوَهُّمَ وَيُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَخْلُو حَالَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ لَا مَاءَ لَهَا فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَا يَغْرِسَهَا، وَيَحْفِرَ فِيهَا لِلزَّرْعِ بِئْرًا إِنْ شَاءَ، وَعَلَيْهِ طَمُّهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْتَرَطَ أَنَّ لَهَا مَاءً، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ مَطَرٍ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ السَّيْلَ وَالْمَطَرَ قَدْ يَحْدُثُ وَقَدْ لَا يَحْدُثُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ، فَلَا يَشْرُطُ أَنَّهَا بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا، وَلَا يَشْرُطُ أَنَّ لَهَا مَاءً يَحْدُثُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْضِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَخْوَةً يُمْكِنُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا أَوْ شقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ الْتِزَامِ الْمُؤَجِّرِ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أن تكون صلبة لا يمكن من حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا وَلَا شِقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا كَأَرَاضِي الْجِبَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ فِيهَا يُغْنِي عَنِ الشَّرْطِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ الْإِطْلَاقِ بَاطِلَةٌ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا شَرْطٌ لِأَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ حَفْرِهَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى زَرْعِهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ سَمَاءٍ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ ذَاتَ نَهْرٍ مِثْلِ النِّيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلُو الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا زَرْعًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِأَنْ يُرْوَى بِالنِّيلِ لَا بِئْرَ لَهَا وَلَا مَشْرَبَ غَيْرُهُ فَالْكِرَاءُ فاسدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ عَلَى نَهْرٍ يَعْلُو عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى سَقْيِهَا إِلَّا بِأَنْ يَزِيدَ مَاءُ ذَلِكَ النَّهْرِ حَتَّى يَعْلُوَ فَيَسْقيها كَأَرْضِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَمَا انْحَدَرَ مِنْ أَرْضِ دِجْلَةَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ زِيَادَةِ الْمَاءِ وَعُلُوِّهِ، وَإِمْكَانِ سَقْيِ الْأَرْضِ بِهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِوُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَ مَا يُخَافُ مِنْ صُدُورِ نُقْصَانِهِ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُظَنُّ مِنْ حُدُوثِ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ فِي الْحَالِ مِنْ صِحَّتِهِ، كَمَوْتِ الْعَبْدِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ النُّقْصَانِ إِنَّمَا يَكُونُ عُرْفًا بَعْدَ اكْتِفَاءِ الْأَرْضِ وَارْتِوَاءِ الزَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ نُقْصَانِ الْمَاءِ وَقَبْلَ زِيَادَتِهِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَرْعَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مُتَعَذِّرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ مَظْنُونٌ قَدْ يَحْدُثُ وَلَا يَحْدُثُ، وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْهَا مَا يَكْفِي، وَمَا لَا يَكْفِي، فَلِهَذَيْنِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا أَرْضُ الْبَصْرَةِ ذَاتُ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ فَإِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ جَائِزَةٌ فِي وَقْتِ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَدُّ عَنْ وَقْتِهِ وَلَا الْجَزْرُ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى حَسَبِ أَيَّامِ الشُّهُورِ وَأَحْوَالِ الْقَمَرِ لَا تَخْتَلِفُ عَادَتُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ وَقْتُهُ. فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَتْ أَرْضٌ مَنْ أَرَاضِي الْجِبَالِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهَا نَدَاوَةُ الْمَطَرِ حَتَّى يُمْكِنَ زَرْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ يَأْتِي، وَلَا سَيْلٍ يَحْدُثُ جَازَ أَنْ تُؤَاجَرَ لِلزَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَاءٌ مُشَاهَدٌ، لِأَنَّ زَرْعَهَا عَلَى حَالِهَا هَذِهِ مُمْكِنٌ فَصَارَتْ كَالْأَرْضِ ذَاتِ الْمَاءِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَاهَا وَالْمَاءُ قائمٌ عَلَيْهَا وَقَدْ يَنْحَسِرُ لا حالة فِي وقتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الزَّرْعُ فَالْكِرَاءُ جائزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْحَسِرُ وَلَا يَنْحَسِرُ كَرِهْتُ الْكِرَاءَ إِلَّا بَعْدَ انْحِسَارِهِ ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ دَخَلَهَا الْمَاءُ حَتَّى عَلَا عَلَيْهَا، وَأَقَامَ فِيهَا فَاسْتُؤْجِرَتْ لِلزَّرْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا لِكَدَرِهِ وَكَثْرَتِهِ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا قَبْلَ عُلُوِّهِ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِحَالِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ صَافِيًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا، أَوْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا، قَبْلَ عُلُوِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مُشَاهَدَتِهَا فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِمَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْأُرْزِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كَالْحِنْطَةِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْحَسِرُ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ مَا اسْتُؤْجِرَتْ لَهُ مُتَعَذَّرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ فِي انْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْحَسِرُ عَنْهَا يَقِينًا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهَا مَغِيضًا يُمْكِنُ إِذَا فُتِحَ الْمَاءُ أَنْ يَغِيضَ فِيهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِلْقُدْرَةِ عَلَى إِرْسَالِ ماءها، وَالْمُكْنَةِ مِنْ زِرَاعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ الجارية فيها فإنها تشرب مائها، وَتُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَالرِّيَاحُ عُرْفًا قَائِمًا فِيهَا، وَعَادَةً جَارِيَةً لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا فَفِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ والظاهر من مذهب الشافي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ لِمَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْعُرْفِ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ زَرْعَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَارْتِقَاءَ الْمَاءِ عَلَيْهَا يَقِينٌ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ غَرَّقَهَا بَعْدَ أَنْ صَحَّ كِرَاؤُهَا نِيلٌ أَوْ سيلٌ أَوْ شَيْءٌ يُذْهِبُ الْأَرْضَ أَوْ غُصِبَتِ انْتَقَضَ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا مِنْ يَوْمِ تَلِفَتِ الأرض ". قال الماوردي: وصورتها في أرض استؤجؤت لِلزَّرْعِ فَغَرِقَتْ أَوْ غُصِبَتْ فَلَا يَخْلُو حَالُ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانًا يَسِيرًا كَالثَّلَاثِ فَمَا دُونَ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ مِنْ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، لَكِنَّهُ عَيْبٌ قَدْ طَرَأَ وَالْمُسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ كَثِيرًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْإِجَارَةِ، فَقَدْ بَطَلَتْ لِلْحَائِلِ بَيْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 الْمُسْتَأْجِرِ وَمَا اسْتَأْجَرَهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأُجْرَةِ كُلِّهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفُهَا، وَبَقِيَ نِصْفُهَا، فَالْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَازُهَا فِيمَا مَضَى، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِيمَا مَضَى لِبُطْلَانِهَا فِيمَا بَقِيَ جَمْعًا لِلصَّفْقَةِ وَمَنْعًا مِنْ تَفْرِيقِهَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ فَاسِدٌ، لِمَا تَقَدَّمَ من تعليل فساده. فإذا قيل بهذه التَّخْرِيجِ فِي بُطْلَانِ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى وَرَجَعَ الْمُؤَجِّرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ مَا مَضَى، وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّتِهَا فِيمَا مَضَى، وَأَنْ تَبْطُلَ فِيمَا بَقِيَ فَالْمَذْهَبُ لُزُومُهُ وَسُقُوطُ خِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ لِمَا حَدَثَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ الْتَزَمَ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا مَضَى، وَرَجَعَ بِالْمُسَمَّى وَإِنْ أَقَامَ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُقِيمُ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَالثَّانِي - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - أَنَّهُ يُقِيمُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَسَخَ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ وَلَمْ يَزْرَعْ فَرَبُّ الزِّرْعِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ زَرَعَ بَطَلَ عَنْهُ مَا تَلِفَ وَلَزِمَهُ حِصَّةُ مَا زَرَعَ مِنَ الْكِرَاءِ وَكَذَا إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ مِائَةَ صاعٍ بثمنٍ معلومٍ فَتَلِفَ خَمْسُونَ صَاعًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْسِينَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كُلَّ مَا اشْتَرَى وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى دَارًا فَانْهَدَمَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهَا مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ عبدٍ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عيبُ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا هُوَ غَيْرُ معيبٍ وَالْمَسْكَنُ يَتَبَعَّضُ مِنَ الْمَسْكَنِ مِنَ الدَّارِ وَالْأَرْض كَذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَرَّقَ السَّيْلُ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَالْإِجَارَةُ فِي الَّذِي غَرِقَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا فِي الْبَاقِي مِنْهَا جَائِزَةٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ فِيهِ أَوْ أَخْذِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَتَقْسِيطِ ثَمَنِ الصُّبْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ، وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِي أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ فِيمَا بَقِيَ لِبُطْلَانِهَا فِيمَا غَرِقَ، وَيَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ زَرْعِ الْبَاقِي، فَإِنْ زَرَعَهُ ضَمِنَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ دُونَ المسمى وليس بصحيح. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ مَرَّ بِالْأَرْضِ ماءٌ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ أَوْ أَصَابَهُ حريقٌ أَوْ جرادٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ جائحةٌ عَلَى الزَّرْعِ لَا عَلَى الْأَرْضِ كَمَا لَوِ اكْتَرَى مِنْهُ دَارًا لِلْبَزِّ فاحترق البز ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَرْضًا، فَزَرَعَهَا، ثُمَّ هَلَكَ الزَّرْعُ بِزِيَادَةِ مَاءٍ أَوْ لِشِدَّةِ بَرْدٍّ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ، أَوْ أَكْلِ جَرَادٍ، فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا سَلِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْجَائِحَةُ فِي مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ دُكَّانًا لِلْبَزِّ، فَاحْتَرَقَ الْبَزُّ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ لِسَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَرَقَ الدُّكَّانُ بَطَلَتِ الإجارة لتلف المعقود عليه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اكْتَرَاهَا لِيَزْرَعَهَا قَمْحًا فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ إِلَّا إِضْرَارَ الْقَمْحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: " لَا يَجُوزُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ، قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِذَا اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدُولِ عَمَّا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، كَذَلِكَ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَا يحوز أَنْ يَعْدِلَ فِيهَا عَنْ زَرْعِ الْحِنْطَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ لَا لِتَعْيِينِ استيفاءه، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَسَلَّمَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَزْرَعْهَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ لَأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ الْمَنْفَعَةُ المستحقة قد كان ممكناً من استيفاءه، وَلَوْ تَعَيَّنَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْعَقْدِ مَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ فَهُوَ إِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِمَا تَقَدَّرَتْ بِهِ فِي الْعَقْدِ وَبِغَيْرِهِ جَازَ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ قَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ قَفِيزًا غَيْرَهُ وَكَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا فَزَرَعَ غَيْرَهَا، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَضَمَّنُ أُجْرَةً يَمْلِكُهَا الْمُؤَجِّرُ وَمَنْفَعَةً يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَمَّا جَازَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْأُجْرَةِ كَيْفَ شَاءَ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ وَبِمَنْ يُحِيلُهُ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ كَيْفَ شَاءَ بِزَرْعِ الحنطة وغير الحنطة وبإعارتها لمن يزرعها ويتركها وَتَعْطِيلِهَا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَمِثْلُ الْحِنْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ بِمَا دَلَّلْنَا: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ بِالْعَقْدِ فَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْيِينِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْعُدُولُ إِلَى جِنْسِهَا، وَالْحِنْطَةُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ جِنْسِهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا جَازَ لَهُ الْعُقُودُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحِنْطَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَجُوزُ لَهُ - بِوِفَاقِ دَاوُدَ - أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ يُجِيزُهُ بِالشَّرْطِ، وَنَحْنُ نُجِيزُهُ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ، وَيُغْفِلَ ذِكْرَ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ، فَمَنَعَهُ مِنْ زَرْعِ غَيْرِ الْحِنْطَةِ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا ضَرَرُهُ كَضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلُّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ عَلَى أَنْ لَا يَزْرَعَ مَا سِوَاهَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهَا مَا يُنَافِي مُوجِبَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ فَأُلْغِيَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطَ لَازِمٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا سُمِّيَ فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْغَرْسُ فَكَذَلِكَ إِذَا استأجرها لنوع من الزرع. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا مِثْلَ عروقٍ تَبْقَى فِيهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكِرَاءَ وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ عَمَّا يُنْقِصُهَا زَرْعُ الْقَمْحِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُ كِرَاءَ مِثْلِهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا اكْتَرَى وَزَادَ عَلَى الْمُكْرِي ضَرَرًا كَرَجُلٍ اكْتَرَى مَنْزِلًا يُدْخِلُ فِيهِ مَا يحمل سقفه فحمل فيه أكثر فأصر ذَلِكَ بِالْمَنْزِلِ فَقَدِ اسْتَوْفَى سُكْنَاهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ضَرَرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى مَنْزِلًا سُفْلًا فَجَعَلَ فِيهِ الْقَصَّارِينَ أَوِ الْحَدَّادِينَ فَتَقَلَّعَ الْبِنَاءُ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اكْتَرَاهُ وَعَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي مَا نَقَصَ بِالْمَنْزِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْرِسَهَا وَلَا أَنْ يَزْرَعَهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنَ الْحِنْطَةِ كَالدَّخَنِ وَالْكَتَّانِ وَالذُّرَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ تَعَدَّى، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فصار كَالْغَاصِبِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ قِيمَتَهَا إِنْ غُصِبَتْ أَوْ تَلِفَتْ بِسَيْلٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ - بِالْعُدُولِ عَمَّا اسْتَحَقَّهُ - غَاصِبًا وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ. فَإِنْ تَمَادَى الْأَمْرُ بِمُسْتَأْجِرِهَا حَتَّى حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ طُولِبَ بِالْأُجْرَةِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُخَرِّجُونَ تَخْيِيرَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ تَعَدِّيَ الزَّارِعِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْحِنْطَةِ إِلَى مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهَا كَتَعَدِّيهِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْأَرْضِ مُلْتَزِمًا لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى فَكَذَلِكَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَيَنْقُصُ الضَّرَرُ الزَّائِدُ عَلَى الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ وَزَادَ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَاوَزَ بِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَأَبُو العباس بن سريج وأبو حامد المروروزي: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ اخْتِلَافًا لِلْقَوْلِ فِيهَا فَيَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِالزِّيَادَةِ كَالْمُتَجَاوِزِ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَ بَيْتًا لِحَمُولَةٍ مُسَمَّاةٍ فَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا، فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ سُفْلَ بَيْتٍ لِيُحْرِزَ فِيهِ مِائَةَ رطل حديد فأحرز منه مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا أَوْ عَدَلَ عَنِ الْحَدِيدِ إِلَى الْقُطْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ سُفْلَ الْبَيْتِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَلَا الْعُدُولُ عَنِ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ عُلُوُّ بَيْتٍ تَكُونُ الْحَمُولَةُ عَلَى سَقْفِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِمِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَأُجْرَةُ مِثْلِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قد استأجره مائة رِطْلٍ قُطْنًا فَوَضَعَ فِيهِ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَتَمَيَّزُ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَتَفَرَّقُ عَلَى السَّقْفِ، وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَكَانَ أَضَرَّ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى اخْتِيَارِهِ: أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَيُسْكِنُ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّارِينَ، أَوْ يَنْصَبُّ فِيهَا رَحًى، فَهَذِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ مَذْهَبٍ وَلَا حِجَاجٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَالَ لَهُ ازْرَعْهَا مَا شِئْتَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِ مَا شَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْغِرَاسَ فَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا مَا شَاءَ صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا جَمِيعَ أَصْنَافِ الزَّرْعِ مِمَّا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ أَوْ يَقِلُّ، فَإِنْ زَرَعَهَا مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ، وَإِنْ زَرَعَ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَسَامَحَ بِبَعْضِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ فَتَهْلَكُ وَلَيْسَ يَشَاءُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَ مَا تَضْعُفُ الْأَرْضُ عَنِ احْتِمَالِهِ هَلَكَ الزَّرْعُ دُونَ الْأَرْضِ. فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ فَأَرَادَ الْغَرْسَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّ ضَرَرَ الْغَرْسِ أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ الزَّرْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنَ الزَّرْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَنْشَرُ عُرُوقًا فِي الْأَرْضِ مِنْ عُرُوقِ الزَّرْعِ. وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ فَأَرَادَ الزَّرْعَ كَانَ لَهُ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَقِّهِ. فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى ضرر الغرس من صَلَابَةِ الْأَرْضِ وَخُشُونَتِهَا، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَا يَغْرِسَ لِأَنَّ الزرع والغرس يفسدها ويرخيها. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ ازْرَعْهَا أَوِ اغْرِسْهَا مَا شِئْتَ فَالْكِرَاءُ جائزٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي يَغْرِسُ أَكْثَرَ الْأَرْضِ فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ لَا يَغْرِسُ فَتَسْلَمُ أَرْضُهُ مِنَ النُّقْصَانِ بِالْغَرْسِ فَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا الفصل يشتمل على ثلاث مسائل: إحداهن: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا إِنْ شِئْتَ أَوْ تَغْرِسَهَا إِنْ شِئْتَ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ زَرْعِهَا إِنْ شَاءَ، وَبَيْنَ غَرْسِهَا، فَإِنْ زَرَعَ بَعْضَهَا وَغَرَسَ بَعْضَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ غَرْسُ الْجَمِيعِ كَانَ غَرْسُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا أَوْ تَغْرِسَهَا فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَلَا أَحَدَهُمَا مُعَيَّنًا فَصَارَ مَا أَجَّرَهُ لَهُ مَجْهُولًا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا وَتَغْرِسَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ: إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا صَارَ مَا يَزْرَعُ مِنْهَا وَيَغْرِسُ مَجْهُولًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ النِّصْفَ، وَيَغْرِسَ النِّصْفَ لِأَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يَقْتَضِي التَّسْوِيةَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ زَرَعَ جَمِيعَهَا جَازَ، لِأَنَّ زَرْعَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي غَرْسِهِ أَقَلُّ ضَرَرًا، وَلَوْ غَرَسَ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ غَرْسَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي زَرْعِهِ أَكْثَرُ ضَرَرًا. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ انْقَضَتْ سِنُوهُ لَمْ يَكُنْ لِرَبّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ ثَمَرَتِهِ إِنْ كَانَتْ فِيهِ يَوْمَ يَقْلَعُهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِرَبِّ الْغِرَاسِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْأَرْضَ وَالْغِرَاس كَالْبِنَاءِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ مَالِكِ الأرض مطلقاً. (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِيَاسُ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التوفيق أنه إذا أجل له أَجَّلَ لَهُ أَجَلًا يَغْرِسُ فِيهِ فَانْقَضَى الْأَجَلُ أَوْ أَذِنَ لَهُ ببناءٍ فِي عرصةٍ لَهُ سِنِينَ وَانْقَضَى الْأَجَلُ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْعَرْصَةَ مَرْدُودَتَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعِرْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى غراسٍ وَلَا بناءٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَ يَقُولُ {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} وَهَذَا قَدْ مَنَعَ مَالَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَرْضَى شِرَاءَهُ فَأَيْنَ التَّرَاضِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَصُورَتُهَا فِيمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ فَانْقَضَى الْأَجَلُ وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَنْ يُحْدِثَ بِنَاءً وَلَا غَرْسًا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَأَخَذَ بِقَلْعِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَ الْأَجَلِ مِنْ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ فَأَمَّا الْقَائِمُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ عند العقد من ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَشْتَرِطَا قَلْعَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَيُؤْخَذُ المستأجر بقلع غرسه وبناءه لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُقِرُّ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشرط لأنه من موجباته فلو أَخَلَّ بِالشَّرْطِ وَيَصِيرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مُسْتَعِيرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مَا لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالْعَارِيَةِ، فَإِنْ قَلَعَ الْمُسْتَأْجِرُ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْمِلْكِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَلَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ فَلَا يُشْتَرَطَانِ فِيهِ قَلْعَهُ وَلَا تَرْكَهُ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا أَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَلَا نقص، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ قَائِمًا - وَهُوَ الْأَغْلَبُ - نُظِرَ فَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَوْ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ مَقْلُوعًا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُهُ، لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَلْعِهِ يَزُولُ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ وَقِيلَ لَا نَجْبُرُكَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ نُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَقْلَعَهُ أَوْ تَأْخُذَ قِيمَتَهُ وَلَيْسَ لَكَ إِقْرَارُهُ وَتَرْكُهُ. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَلَا قَدْرَ النَّقْصِ نُظِرَ فِي الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ بَعْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِقْرَارُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَأُخِذَ بِقَلْعِهِ، وَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ مَقَرٌّ لَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا، وَيُؤْخَذُ أُجْرَةُ مِثْلِهِمَا، وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا وَلَا يُجْبَرُ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى تَرْكِهِمَا اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) {النساء: 29) . وَلَيْسَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ رضي بِالتَّرْكِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَقَرَّ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ مَعَ أَنَّ زَمَانَ حَصَادِهِ مَحْدُودٌ فَلِأَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَعَ الْجَهْلِ بِزَمَانِهِمَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي إِحْدَاثِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. وهذا المذهب أظهر حجاجاً وأصح اجتهاداً واستدل أَصْحَابنا عَلَى تَرْكِهِ وَإِقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ ". فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمُحِقِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوي بَيْنَهُمَا فِي الْأَخْذِ بِالْقَلْعِ، قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي إِحْدَاثِ حَقٍّ فِي مِلْكِهِ كَانَ مَحْمُولًا فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهِ كَمَنْ أَذِنَ لِجَارِهِ فِي وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي جِدَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ عَلَى الْأَبَدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِقَلْعِهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِدَامَةِ تَرْكِهَا، كَذَلِكَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ الْعَادَةُ فِيهِمَا جَارِيَةٌ بِالتَّرْكِ وَالِاسْتِيفَاءِ، دُونَ الْقَلْعِ وَالتَّنَاوُلِ فَحُمِلَا عَلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَفْسُدُ بِالزَّرْعِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ حِينَ يُؤْخَذُ بِقَلْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، فَبَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِيهَا وَغَرَسَ فَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّرْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ كُلِّ عَقْدٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ. فَصْلٌ : وإذا أراد المستأجر بيع بناءه وَغَرْسِهِ قَائِمًا فِي الْأَرْضِ فَإِنْ بَاعَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَاز، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مَتَى بَذَلَ لَهُ قِيمَتَهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهَا أَوْ قَلْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ زَوَالِ مِلْكِهِ فِي الثَّانِي لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 وَهَكَذَا رَبُّ الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنْ بَاعَهَا عَلَى مَالِكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَلَكِنْ لَوِ اجْتَمَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْبَيْعِ جَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَتَيْنِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُزَارِعُ بيع الأكارة وَالْعِمَارَةِ فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ لَهُ إِثَارَةٌ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِدْخَالُ يَدٍ بَدَلًا مِنْ يَدِهِ بِثَمَنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَيُجْعَلُ الْأَكَّارُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ مَا لَمْ تَكُنْ أَعْيَانًا لِأَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ تَبَعٌ لَهَا. فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهَا، وَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهِ، وَلَهُ إِقْرَارُهُ مَا بَقِيَ. وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَغْرِسَهَا فسيلاً، فإذا صارت الفسيلة على ثلاث سعفان كَانَتِ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا مَذْهَبٌ يُغْنِي ظُهُورُ فَسَادِهِ عَنْ إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَقَفَ صَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ قَائِمًا صَحَّ لِلْوَقْفِ وَلَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِمًا لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَاقِفُ بِقَلْعِهِ إِنْ بَذَلَ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ، فَإِذَا قَلَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا فِيهَا جَارِيًا عَلَى سَبِيلِهِ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وما اكترى فاسدا وقبضها ولم يزرع ولم يَسْكُنْ حَتَى انْقَضَتِ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ ". قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَمَنَافِعُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ، فَأَمَّا مَا قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ فهو أيضاً ضامن لأجرة مِثْلِهَا سَوَاءٌ سَكَنَ وَتَصَرَّفَ أَوْ لَمْ يَسْكُنْ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَصَرَّفَ ضَمِنَ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ لَمْ يَضْمَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْعِوَضَ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ، كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ طَرْدًا، وَالصَّحِيح عَكَسًا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا مَنَافِعُ يَضْمَنُهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ، وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ بِالتَّصَرُّفِ ضَمِنَهَا بِالتَّلَفِ عَلَى يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالْإِبَاحَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ غَيْرِ تَصَرُّفِهِ كَالْعَقْدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 الصَّحِيحِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ إِذَا تَلِفَتْ مَضْمُونَةً فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَضَمَانِهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً فَالْحُرَّةُ لَمْ تَزَلْ يَدُهَا عَنْ نَفْسِهَا وَلَا عَنْ بُضْعِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ مَهْرَ بُضْعِهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَقَرَّ الْغَصْبُ عَلَى مَنَافِعِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى بُضْعِهَا بَلْ يَدُهَا عَلَيْهِ أَثْبَتُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، اسْتَخْدَمَ أَوْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا مَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ سَيِّدُ الأمة من بيعها. إذا غصبت لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ حَائِلَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَزْوِيجِهَا إِذَا غُصِبَتْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْبضْعِ يَدٌ حَائِلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا اكْتَرَى دَارًا سَنَةً فَغَصَبَهَا رجلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كِرَاءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ له مَا اكْتَرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا غُصِبَتِ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فله افسخ وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِالْغَصْبِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا: بَاطِلَةٌ، وَالْمُسْتَأْجِرُ بَرِيءٌ مِنْ أُجْرَةِ مُدَّةِ الْغَصْبِ، لا يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا لِأَنَّ خَصْمَ الْغَاصِبِ إِنَّمَا هُوَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكًا وَلَا وَكِيلًا، فَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ غَاصِبَهَا ضَامِنٌ لِمَنَافِعِهَا، لَكِنْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ بِحُدُوثِ الْغَصْبِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ، وَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَيَصِيرُ خَصْمًا لَهُ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا فِي الرَّقَبَةِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اكْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ فِيمَا أخْرِجَتِ الصَّدَقَةُ خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهَذَا مَالُ مسلمٍ وَحَصَادُ مسلمٍ فَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأَرَضِينَ ضَرْبَانِ: أَرْضُ عُشْرٍ، وَأَرْضُ خَرَاجٍ، فَأَمَّا أَرْضُ الْعُشْرِ فَهُوَ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ غَنِمُوهُ فَاقْتَسَمُوهُ، أَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَمَلَكُوهُ، فَالْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَاجِبٌ إِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ، وَلَا عُشْرَ فِيهِ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِمُشْرِكٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ وَلَا تَعُودُ إِلَى الْعُشْرِ أَبَدًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 وَقَالَ أبو يوسف وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَيَكُونُ فَيْئًا، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مُسْلِمٍ حُوِّلَتْ إِلَى الْعُشْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهَا، وَلَا تَقَرُّ فِي يَدِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَرْضَ الْعُشْرِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْخَرَاجِ أَبَدًا فَإِنْ مَلَكَهَا ذِمِّيٌّ أَقَرَّتْ فِي يَدِهِ وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ عَنْ زَرْعِهَا. فَلَوْ أَجَّرَهَا الْمَالِكُ وَزَرَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ عُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبًا عَلَى الزَّارِعِ الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْمُؤَجِّرِ الْمَالِكِ. وَقَالَ أبو حنيفة الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَاوَضَ عَلَى الْأَرْضِ فَانْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَيْهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فيما سقت السماء العشر ". لأن مَنْ مَلَكَ زَرعًا الْتَزَمَ عُشْرَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّ اعْتِيَاضَ الْمُؤَجِّرِ عَنْ مَنَافِعِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْتِزَامَ حُقُوقِ الزَّرْعِ كَالنَّفَقَةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا أَرْضُ الْخَرَاجِ فَضَرْبَانِ خَرَاجٌ يَكُونُ جِزْيَةً، وَخَرَاجٌ يَكُونُ أُجْرَةً، فَالْخَرَاجُ الَّذِي يَكُونُ جِزْيَةً هُوَ مَا ضَرَبَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْعَهْدِ مَعَ إِقْرَارِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ فَهَذِهِ الْأَرْضُ إِنْ زَرَعَهَا أَهْلُ الْعَهْدِ وَجَبَ عَلَيْهِمِ الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ، وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى مُسْلِمٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَسَقَطَت الْخَرَاجُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ وَجَبَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا، وَوَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِمِلْكِهِ لِلزَّرْعِ، وَأَمَّا الْخَرَاجُ الذي يكون أجرة كأرض السواء الَّتِي ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا خَرَاجًا جَعَلَهُ إِمَّا ثَمَنًا وَإِمَّا أُجْرَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ رِقَابِ الْأَرْضِ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، فَإِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ هِيَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ الْحَقَّانِ الْخَرَاجُ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْخَرَاجُ وحده دون العشر لأن لا يَجْتَمِعَ فِيهَا حَقَّانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي إِيجَابِ الْحَقَّيْنِ مَعًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ لَكَانَ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّصِّ أَثْبَتَ وُجُوبًا مِنَ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَنِ اجْتِهَادٍ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي اكْتِرَاءِ دابةٍ إِلَى موضعٍ أَوْ فِي كِرَائِهَا أَوْ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ تَحَالَفَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالزَّرْعِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَارِيَانِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ تَعَارَضَتَا وَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ البينتان ويتحالفان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 وَالثَّانِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قَرَعَتْ يَحْكُمُ بِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتُهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ الرَّاكِبُ إِلَى بَغْدَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوْ أَقَامَا على ذك بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاكِبِ لِأَنَّهَا أَزْيَدُ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتُهَا بِعِشْرِينَ وَقَالَ الرَّاكِبُ بِعَشَرَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا أَزْيَدُ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَعًا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحَالُفِ. فَإِذَا اخْتَلَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالتَّحَالُفِ أَوْ بِالْفَسْخِ الْوَاقِعِ بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَمْضِ مِنَ الْمُدَّةِ شَيْءٌ تَرَادَّا الْكِرَاءَ وَالْمكري، وإن مضت المدى الْتَزَمَ الْمُكْتَرِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَاسْتَرْجَعَ الْمُسَمَّى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُكْرِي أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهَا قِيمَةُ مُتْلِفٍ. فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِمُؤَجّرِ الْأَرْضِ أَنْ يَحْتَبِسَ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى دَفْعِ الْأُجْرَةِ، وَلَا لِلْحَمَّالِ أَنْ يَحْبِسَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَمْلِهِ مِنَ الْمَتَاعِ لِيَأْخُذَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ وَلَيْسَ بِرَهْنٍ، فَأَمَّا الصَّانِعُ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ صِيَاغَةٍ أَوْ صَبْغٍ هَلْ لَهُ احْتِبَاسُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى أُجْرَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: لَهُ ذَاكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِلْكٌ لَهُ كَالْبَائِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ بكراءٍ وَقَالَ الْمُزَارِعُ عاريةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْلَعُ الزَّارِعُ زَرْعَهُ وَعَلَى الزَّارِعِ كِرَاءُ مِثْلِهِ إِلَى يَوْمِ قَلْعِ زَرْعِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي إِبَانِ الزَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ فِي رَاكِبِ الدَّابَّةِ يَقُولُ أَعَرْتَنِيهَا وَيَقُولُ بَلْ أَكْرَيْتُكَهَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَخِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْغَسَّالِ يَقُولُ صَاحِبُ الثَّوْبِ يغر أجرةٍ وَيَقُولُ الْغسالُ بأجرةٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَأَوْلَى بِقَوْلِهِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ في كتاب المزارعة. وقد بينه فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ مُسْتَوْفَاةً وَلَكِنْ نُشِيرُ إِلَيْهَا لِمَكَانِ إِعَادَتِهَا، فَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا فَقَالَ رَبُّهَا بِأُجْرَةٍ وَقَالَ زَارِعُهَا عَارِيَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ دُونَ الزَّارِعِ وَقَالَ فِي الدَّابَّةِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّهَا وَالرَّاكِبُ فَقَالَ رَبُّهَا بِأُجْرَةٍ وَقَالَ رَاكِبُهَا عَارِيَةٌ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ، دُونَ رَبِّهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 كُلِّ مَسْأَلَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهها. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا دُونَ رَبِّهَا، وَفِي الْأَرْضِ الْقَوْلَ قَوْلَ رَبِّهَا دُونَ زَارِعِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي إِعَارَةِ الدَّوَابِّ وَإِجَارَةِ الْأَرَضِينَ. فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالدَّابَّةِ فَمَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى عَلَى أَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا، وَفِي الْآخَرِ الْمُسَمَّى، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّارِعِ وَالرَّاكِبِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَعَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَلَعَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ بَذَلَهَا أَقَرَّ زَرْعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 كتاب إحياء الموات من كتاب وضعه بخطه لا أعلمه سمع منه مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ عامرٌ ومواتٌ فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلَحَ بِهِ الْعَامِرُ مِنْ طريقٍ وفناءٍ وَمَسِيلِ ماءٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لَا يُمْلَكَ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ مَوَاتُ مَا قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلِهِ مَعْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا فَذَلِكَ كَالْعَامِرِ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدٌ فِي الْإِسْلَامِ يُعْرَفْ وَلَا عِمَارَةَ مِلْكٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ. وَرَوَى وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال من أحياء أَرْضًا مَيْتَةً فِيهَا أَجْرٌ وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَالْعَوَافِي: جَمْعُ عَافٍ وَهُوَ طَالِبُ الْفَضْلِ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ. وَرَوَى شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فهي " له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عِمَارَاتُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ فَيْءٌ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجر عَلَيْهِ مِلْكٌ نَوْعَانِ: أَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، فَلَمَّا مَلَكَ الْحَيَوَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالِاصْطِيَادِ مَلَكَ مَوَاتَ الْأَرْضِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِحْيَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شيئان عامر وموات ونما خَصَّ الشَّافِعِيُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمَيِ الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ وَإِنْ كَانَتْ بِلَادُ الشِّرْكِ قِسْمَيْنِ: عَامِرٌ، وَمُوَاتٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ عَامِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَعَامِرَ بِلَادِ الشِّرْكِ قَدْ يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَدَأْنَا بِذِكْرِ الْعَامِرِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بِمَوَاتِهِمْ أَمَّا الْعَامِرُ فَلِأَهْلِهِ الَّذِينَ قَدْ مَلَكُوا بِأَحَدِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: أَحَدُهَا: الْمِيرَاثُ. وَالثَّانِي: الْمُعَاوَضَاتُ. وَالثَّالِثُ: الْهِبَاتُ. وَالرَّابِعُ: الْوَصَايَا. وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ. وَالسَّادِسُ: الصَّدَقَاتُ. وَالسَّابِعُ: الْغَنِيمَةُ. وَالثَّامِنُ: الْإِحْيَاءُ. فَإِذَا مَلَكَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّمَانِيَةِ صَارَ مَالِكًا لَهُ وَلِحَرِيمِهِ وَمَرَافِقِهِ مِنْ فِنَاءٍ وَطَرِيقٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ الْعَامِرِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْعَامِرُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعَامِرِ بِإِحْيَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ فَمَنْ أَحْيَاهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: حَرِيمُ الْعَامِرِ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وَطُولِ الْفَرَسِ، وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 وَثُلَّةُ الْبِئْرِ: هُوَ مَلْقَى طِينِهَا وَطُولُ الْفَرَسِ وَهُوَ مَا انْتَهَى الْفَرَسُ إِلَيْهِ بِحَبْلِهِ الَّذِي قَدْ رُبِطَ بِهِ وَحَلْقَةُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ نَهَى مِنْهُ عَنِ الْجُلُوسِ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، وَلِأَنَّ حَرِيمَ الْعَامِرِ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مقراً على أهله لم يتعرض أحد لإحياءه مَعَ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْعَامِرِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِحْيَاءُ حريم العامر ومنع أهله منه بالإحياء ليبطل الْعَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَسَقَطَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ دَارًا يَسُدُّ بِهَا بَابَ جَارِهِ فَلَا يَصِلُ الْجَارُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا مِنَ الضَّرَرِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلَيْسَ الْحَرِيمُ مَوَاتًا فَيَصِحُّ استدلال داود عليه. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَزَلْ عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ مَوَاتًا لَمْ يُعْمَرْ قَطُّ فَهَذَا هُوَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " فَمَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ مَلَكَهُ وَإِنْ أَحْيَاهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يَمْلِكْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " وَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُبَاحَةٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهَا الْمُسْلِم وَالذِّمِّيُّ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالْبَيْعِ. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ " فَوَاجَهَ الْمُسْلِمِينَ بِخِطَابِهِ وَأَضَافَ مِلْكَ الْمَوَاتِ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " إِشَارَةً إِلَى إِجْلَائِهِمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحِجَازِ فَلَمَّا أَمَرَ بِإِزَالَةِ أَمْلَاكِهِمِ الثَّابِتَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَسْتَبِيحُوا أَمْلَاكًا مُحْدَثَةً؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْدَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ كَالْمُعَاهِدِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْكَافِرُ قَبْلَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ. أَصْلُهُ: نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ يُنَافِيهِ كُفْرُ الْحَرْبِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ كُفْرُ الذِّمِّيِّ كَالْإِرْثِ مِنْ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً مواتاً فهي له " فهل أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ. وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي " وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 مِنْهُمَا فِيمَا قَصَدَ لَهُ قَاضِيًا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَارَ الْخَبَرَانِ فِي التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ لَهُ ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْغَنِيمَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَوِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهَا مَعَ كَوْنِهَا أَعْيَانًا مُبَاحَةً ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنَ النَّقْصِ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ أَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيهِ إِذَا أَخَذَهُ الْكَافِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعِ الْمُعَاهِدُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ فَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي فرقوا به في المعاهد بين إحياءه وَاصْطِيَادِهِ هُوَ فَرْقَنَا فِي الذِّمِّيِّ بَيْنَ إِحْيَائِهِ وَاصْطِيَادِهِ وَهُوَ الْجَوَابَ عَنْ قِيَاسِهِم الثَّانِي، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ فَضِيلَتُهُ بِدِينِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مُبَايِنَةٍ لِصِغَارِ الذِّمَّةِ فَاسْتَعْلَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الْمِلَّةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الذِّمِّيُّ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْإِحْيَاءِ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الذِّمِّيُّ. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ: مَا كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ فَصَارَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاهِلِيًّا لَمْ يُعْمَرْ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خُرِّبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا مُنْدَرِسًا كَأَرْضِ عَادٍ وَتُبَّعٍ فَهَذَا كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ بَاقِيَ الْعِمَارَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ وَصَارَ مَوَاتًا قَبْلَ أن يصير من بلا الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَ أَرْبَابُهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ عَامِرِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجْهَانِ كَالَّذِي جُهِلَ حَالُهُ. فَصْلٌ : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ مَا كَانَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ حَتَّى ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ، وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُ فَصَارَ مَوَاتًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لم يعرفوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِيرُ كَالْمَوَاتِ الْجَاهِلِيِّ يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ؛ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، وَحَقِيقَةُ الْمَوَاتِ: مَا صَارَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَوَاتًا، وَمَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى مَجَازًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنَ الْعَامِرِ زَالَ عن حكم العامر كَالْجَاهِلِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ فَجَازَ إِحْيَاؤُهُ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ؛ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ. وَرَوَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فَجَعَلَ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنِ الْمَوَاتِ شَرْطًا فِي جَوَازِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ وَرَوَى أَسْمَرُ بْنُ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ مَالٌ " فَخَرَجَ النَّاسُ تَبَعًا يَتَخَاطُّونَ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي بَقِيَتْ آثَارُهَا مَعَ مَالِكٍ، وَكَالَّذِي تَعَيَّنَ أَرْبَابُهَا مَعَ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنْ عَامِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْأَوْقَافِ وَالْمَسَاجِدِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَهُوَ دليل عليهم، لأنه الْأَوَّلَ قَدْ أَحْيَاهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَسْبَقُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْجَاهِلِيِّ وَعَلَى الَّذِي لم ينزل مَوَاتًا فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجر عَلَيْهِمَا ملك مسلم. فصل : فإذا تقرر أن إحياؤه لَا يَجُوزُ فَإِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُمْ بَيْعُهُ إِنْ شَاءُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يُعْمِّرُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، لِقِيَامِهِ بِالنَّظَرِ الْعَامِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وعطيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَّةٌ لِمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَإِقْطَاعِهِ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 وَقَالَ أبو حنيفة: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَمْلِكْهُ وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ ثَمَنٌ وَيُشَاعُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مُهْمَلَةً جَازَ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ أُصُولُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لَمْ يُمْلَكْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ إِذَا كَانَ اجْتِهَادٌ لِلْإِمَامِ فِيهَا يَقْطَعُ الِاخْتِلَاف وَالتَّنَازُع فِيهَا كَانَ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ بِمِلْكِهِ لَا يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرْ تَمَلُّكُهُ إِلَى إِذْنِهِ كَالْمَاءِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَفْتَقِرِ الْمُسْلِمُ فِي تَمَلُّكِهِ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمْلِيكِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِهِ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الْمُتَمَلِّكِ وَالْمَوَاتُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَمْ يُفِدْهُ الْإِذْنُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمامه " فمن وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ إِمَامُنَا وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ لَنَا بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَأَنْوَاعِ الْغَنَائِمِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ فَخَصَّ الْمَوَاتَ مِنْهُ، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً موات فَهِيَ لَهُ "، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَعَادِنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْوَالٌ فِي الْحَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَمَلِ فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوَاتُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي كَوْنِهِمَا مَالًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ قَدْ يَصِيرُ مَالًا لَكَانَ الْمَعْنَى في أموال البيت الْمَالِ أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ فِيهَا مَحْصُورٌ، وَفِي الْمَوَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوَاتَ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَحْيَاهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَقَدْ مَلَكَهُ وَمَلَكَ حَرِيمَهُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإِنْ خُرِّبَ بَعْدَ إِحْيَائِهِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُ مَالِكِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِزَوَالِ الْعِمَارَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا وقد مضى الكلام معه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ كان إلى جنب قريةٍ عامرةٍ أو حَيْثُ كَانَ وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عبدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذَنْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 فِيهِمْ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ " وَفِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ وَإِنَّ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَامِرِ ودلالةٌ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الْعَامِرَ يَكُونُ مِنْهُ مَوَاتٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حَدِّ الْمَوَاتِ إِذَا اتَّصَلَ بِعَامِرٍ. وَالثَّانِي: هَلْ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعَامِرِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَوَاتَ كُلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا، وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ سَوَاءٌ قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَوَاتُ هُوَ كُلُّ أَرْضٍ لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ وَتَبْعُدُ مِنَ الْعَامِرِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَقَالَ أبو يوسف: أَرْضُ الْمَوَاتِ كُلُّ أَرْضٍ إِذَا وُقِفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنَ الْعَامِرِ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي الْعَامِرِ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا دَعْوَةً مِنَ الْمِصْرِ أَوْ قَالَ فِيهِ مِنَ الْمِصْرِ فَهِيَ لَهُ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ وَلِأَنَّ الْبِلَادَ الْمُحَيَّاةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مُتَّصِلَةُ الْعِمَارَةِ مُتَلَاصِقَةُ الْجُذُورِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ عِمَارَتَيْنِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّحْدِيدِ، وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَحْوَاهُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ جَازَ إِحْيَاؤُهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ إِذَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ فَإِنَّ النَّاسَ كلم يَتَسَاوُونَ فِي إِحْيَائِهِ وَلَا يَكُونُ أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْتَطَعَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا، وَأَقْطَعَ للزبير بالبقيع رقض فَرَسِهِ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَامَ بِفَنَاءِ دَارِهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لِي سَنَامُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا سَنَامًا زَعَمَ ابْنُ فَرْقَدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ حَقِّي مِنْ حَقِّهِ، لِي بَيَاضُ الْمَرْوَةِ وَلَهُ سَوَادُهَا، وَلِي مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا أَحَاطَتْ بِهِ جُدْرَانُهُ وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا مَا حَفَرَ أَوْ زَرَعَ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ أهل العامل لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَائِهِ قِيَاسًا على البعيد من عامره. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَوَاتُ الَّذِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُعْمِرُهُ خَاصَّةً وَأَنْ يَحْمِيَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ وَالَّذِي عَرَفْنَا نَصًّا ودلالةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 فِيمَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه حمى النقيع وهو بلد ليس بالواسع الذي إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله وأضر بهم وكانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعةً لأنفسهم ومواشيهم وأنه قليلٌ من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله تبارك وتعالى وما فضل من سهمان أهل الصدقات وما فضل من النعم التي تؤخذ من الجزية ترعى جميعها فيه فأما الخيل فقوةٌ لجميع المسلمين ومسلك سبيلها أنها لأهل الفيء والمجاهدين وأما النعم التي تفضل عن سهمان أهل الصدقات فيعاد بها على أهلها وأما نعم الجزية فقوةٌ لأهل الفيء من المسلمين فلا يبقى مسلمٌ إلا دخل عليه من هذا خصلة صلاحٍ في دينه أو نفسه أو من يلزمه أمره من قريبٍ أو عامةٍ من مستحقي المسلمين فكان ما حمى عن خاصتهم أعظم منفعةً لعامتهم من أهل دينهم وقوةً على من خالف دين الله عز وجل من عدوهم قد حمى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى هذا المعنى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وقال له يا هنى ضم جناحك للناس وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مجابةٌ وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخلٍ وزرعٍ وإن رب الغنيمة يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك والكلا أهون من الدرهم والدينار (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يحمي من الأرض إلا أقلها الذي لا يتبين ضرره على من حماه عليه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسول " (قال) وكان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلبٍ على جبلٍ إن كان به أو نشز إن لم يكن ثم استعوى كلباً وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحيةٍ لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفي ماشيته وما أراد معها فنرى أَنَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسوله " لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله فلله كل محميٍّ وغيره ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يملك مالاً إلا ما لا غنى به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى صير ما ملكه الله من خمس الخمس وماله إذا حبس قوت سنته مردوداً في مصلحتهم فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولأن نفسه وماله كان مفرغاً لطاعة الله تعالى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ، وَهِيَ الْإِحْيَاءُ، وَالْإِقْطَاعُ، وَالْحِمَى، فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ وَسَنَذْكُرُ صِفَتَهُ، وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَوَاتٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَقْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ الْبَقِيعِ فَأَجْرَاهُ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ فَقَالَ أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ وَأَقْطَعَ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ السُّلَمِيَّ غَلْوَةً بِسَهْمٍ، وَغَلْوَةَ حَجَرٍ بِرُهَاطٍ، وَأَقْطَعَ الْعَدَّاءَ بْنَ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مَا يُقَالُ لَهُ سَوَاحُ الْوَخِيخِ، وَأَقْطَعَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ مَنْزِلَهُ بِالرَّشَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فَإِنَّ تَمِيمًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ الَّذِي قَالَ فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيَفْتَحَنَّ عَلَيْكَ، فَكَتَبْتُ له كتاباً فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك إقطاعاً تَقَيُدٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ بِذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِتَصْدِيقِ إِخْبَارٍ وَتَحْقِيقِ إِعْجَازٍ، وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَقْطَعَا إِلَّا مَوَاتًا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَاصْطَفَى عُمَرُ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا فَكَانَ مَبْلَغُ تِسْعَةِ أَلْفِ أَلْفٍ فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْطَعَهَا، لِأَنَّهُ رَأَى اقْتِطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْطَاعَ إجازة لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَكَانَتْ مِنْهَا إِقْطَاعًا بِهِ وَصِلَاتِهِ ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ فَلَمَّا كان عاد الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِحَرْقِ الدِّيوَانِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَإِذَا كَانَ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ دُونَ الْعَامِرِ فَالَّذِي يُؤْثِرُهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْطِعُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِحْيَائِهِ مَنْ لَمْ يسبق إلى إحياءه لَمَّا كَانَ إِذْنُهُ وَفَضْلُ اجْتِهَادِهِ، فَلَوْ بَادَرَ بِإِحْيَائِهَا غَيْر الْمُقْتَطِعِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي دُونَ الْمُقْطِعِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَحْيَاهَا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَهِيَ لِلْمُحْيِي، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ خُيِّرَ الْمُقْطِعُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهَا قَبْلَ الْعِمَارَةِ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ أَقْوَاهَا أَرْضًا فَجَاءَ آخَرُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْيَوْهَا فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغُوا إِلَيْهِ تَرَكْتُمُوهُمْ يَعْمَلُونَ وَيَأْكُلُونَ ثُمَّ جِئْتُمْ تُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ؟ لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا ثُمَّ قَوَّمَهَا عَامِرَةً وَقَوَّمَهَا غَيْرَ عَامِرَةٍ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْأَصْلِ: إِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَخُذُوا أَرْضَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ رَدُّوا عَلَيْكُمْ ثَمَنَ أَرْضِكُمْ ثم هلي لَهُمْ، وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُ الْمُحْيِي بِكُلِّ حَالٍ دُونَ الْمُقْطِعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ "، وَلِأَنَّ الْإِقْطَاعَ لَا يُوجِبُ التَّمْلِيكَ وَالْإِحْيَاءَ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ أَقْوَى حُكْمًا مِمَّا لَا يُوجِبُهُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ فِي قَضِيَّتِهِ: لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهَا لِلْمُحْيِي وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مِنْ إِقْطَاعِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَرِهَ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَاسْتَنْزَلَ الْخَصْمَيْنِ إِلَى مَا قضى به مَرْضَاةً لَا جَبْرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ حَجَرَهَا وَجَمَعَ تُرَابَهَا حَتَّى تَمَيَّزَتْ عَنْ غيرها فجاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 غَيْرُهُ فَعَمَرَهَا وَحَرَثَهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ مُقِيمًا عَلَى عِمَارَتِهَا حَتَّى تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِي فَعَمَرَهَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَطَوِّعًا بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ تَرَكَ عِمَارَتَهَا فَعَمَرَهَا الثَّانِي فَهِيَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ بَدَأَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحِمَى فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ لِيَتَوَفَّرَ فِيهِ الْكَلَأُ فَتَرْعَاهُ الْمَوَاشِي، لِأَنَّ الْحِمَى فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: جَنْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حِمَى، وَالْحِمَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَضَرْبٌ حَمَاهُ الْإِمَامُ بَعْدَهُ، وَضَرْبٌ حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَبَلٍ بِالْبَقِيعِ يُقَالُ لَهُ يَعْمَلُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حِمَايَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْبِقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مَيْلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ مَا بَيْنَ يَعْمَلَ إِلَى ثُلُثَيْنِ فَحَمَاهُ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، ولأن اجتهاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أمته أمضى وقضائه فِيهِمْ أَنْفَذُ، وَكَانَ مَا حَمَاهُ لِمَصَالِحِهِمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقَرًّا مِنْ إِحْيَائِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ. فَصْلٌ : وَأَمَّا حِمَى الْإِمَامِ بَعْدَهُ فَإِنْ أَرَادَ الْحِمَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ خُصُوصًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا حَمَاهُ مُبَاحًا لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِيَ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَوَاشِي الْفُقَرَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْحِمَى يَضُرُّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ لِضِيقِ الْكَلَأِ عَلَيْهِمْ بِحِمَى أَكْثَرِ مَوَاتِهِمْ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ يَكْتَفِي الْمُسْلِمُونَ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاتِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يحْمى، لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ. رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الله بن عباس عن الصعب عن جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمَى الْبَقِيعَ وَقَالَ لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَى بِالرَّبَذَةِ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَبُو أُسَامَةَ وَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ قُرْطُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَفَ فَحَمَى مِنْهُ نَحْوَ مَا حَمَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرَّبَذَةِ وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وَقَالَ يَا هُنَيُّ اضم جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ وَإِيَّاكَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخل وزرع وإن سب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَكَ فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَايْمُ اللَّهِ نُودِيَ أَنِّي قَدْ طَلَحْتُهُمْ إِنَّمَا أَكْلَأُهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاثٍ " فَهُوَ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحِمَى عَلَى أَنَّ الْحِمَى يُشْرَكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ نَفْعَ الْحِمَى يَعُودُ عَلَى كَافَّتِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلِأَنَّهُ مَرْعَى صَدَقَاتِهِمْ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَلِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُمْ، وَأَمَّا قوله لا حمى إلا الله فَمَعْنَاهُ لَا حِمَى إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيسلم فيما حماه للفقراء المسلمون وفي مصالحهم وخالفاً فِيهِ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كان إذا استولى على بلد أوفى بكلب فَجَعَلَهُ عَلَى جَبَلٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْوَاهُ فَحَيْثُ انْتَهَى عُوَاهُ حَمَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ وَيُشَارِكُ النَّاسَ فِيمَا سِوَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا أعجبته روضة ألقى فيها كلباً وَحَمَى إِلَى مُنْتَهَى عُوَائِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ مَعْبَدُ بْنُ شُعْبَةَ الضَّبِّيُّ كَفِعْلِ كُلَيْبٍ كُنْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ مُخَطَّطٌ أَكَلَأَ الْمِيَاهَ وَيَمْنَعُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ كَمَا بَغِيَهَا كُلَيْبٌ لِظُلْمَةٍ مِنَ الْعِزِّ حَتَّى ضَاعَ وَهُوَ قَتْلُهَا عَلَى وَائِلٍ أن يترك الكلب هائجاً وإذ يمنع الأكلأ مِنْهَا حَوْلَهَا. فَصْلٌ : وَأَمَّا حِمَى الْوَاحِدِ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَمَحْظُورٌ وَحِمَاهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ إِنْ حَمَى لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَكَّمُ وَتَعَدَّى بِمَنْعِهِ، وَإِنْ حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا فِيمَنْ يُؤْثَرُ اجْتِهَادُهُ لَهُمْ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هَانِئٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُمَانِعُوا فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا فَضْلَ الكلأ فيعزل الْمَاء وَيَجُوعَ الْعِيَالُ " فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ حَمَى مَوَاتًا وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ زَمَانًا رَعَاهُ وَحْدَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَلَمْ يُغَرِّمْ مَا رَعَاهُ، لأنه ليس لمالك وَلَا يُعَزِّرُهُ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُسْتَحِقِّيهِ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِ تَعَدِّيهِ، فَأَمَّا أَمِيرُ الْبَلَدِ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ إِذَا رَأَى أَنْ يَحْمِيَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ أَعَمُّ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ وَالِيَ الصَّدَقَاتِ اجْتَمَعَتْ مَعَهُ مَوَاشِي الصَّدَقَةِ وَقَلَّ الْمَرْعَى لها وخاف عليها التلف إن لم يحمي الْمَوَاتَ لَهَا فَإِنْ مَنَعَ الْإِمَامُ مِنَ الْحِمَى كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ أَوْلَى، وَإِنْ جَوَّزَ الْإِمَامُ الْحِمَى فَفِي جَوَازِهِ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ عِنْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الضَّرُورَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورَةِ فَعَلَى هَذَا يَتَعَزَّرُ الْحِمَى بِزَمَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا يَسْتَدِيمُ بِخِلَافِ حِمَى الْإِمَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يحمى، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَكُونُ الضَّرَرُ إِنْ كَانَ بِالْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لأحدٍ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَعَمَّرَهُ نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّبَبِ الَّذِي حَمَاهُ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ مَوَاشِي الْفُقَرَاءِ ونعم بعلاقات مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ زَائِلًا فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةً فَإِحْيَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَعِمَارَتُهُ مَنْقُوضَةٌ وَهُوَ عَلَى مَا حَيَّاهُ بِمَنْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنْ إِحْيَائِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَقَّبَ بِنَقْضٍ، وَلَا أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالٍ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ زَائِلًا وَحَاجَةُ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ قَدِ ارْتَفَعَتْ وَنَعَمُ الصَّدَقَاتِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ وَإِقْرَارِ عِمَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يَجُوزُ، لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمُسَبِّبِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ سَبَبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ السَّبَبُ بَعْدَ زَوَالِهِ كَمَا أَنَّ مَا خَرِبَ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِخَرَابِ بِقَاعِهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِجَوَازٍ أَنْ تَعُودَ عِمَارَةُ الْبُقْعَةِ فَيُحْتَاجُ إلى مساجدها، ولأن في إحيائه نقض لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا حِمَى الْأَئِمَّةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِحْيَاؤُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ حِمَى الْإِمَامِ جَائِزٌ كَحِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَلْ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَتَمْلِيكُ مُحْيِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يَمْلِكُ حمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا حِمًى مُحَرَّمٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ حِمَى الْإِمَامِ اجْتِهَادٌ وَمِلْكَ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 باب ما يكون إحياء ٌ مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إحياءٌ لِمِثْلِ الْمُحَيَّا إِنْ كَانَ مَسْكَنًا فَبِأَنْ يَبْنِيَ بِمِثْلِ مَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِنَاءً وَإِنْ كَانَ لِلدَّوَابِّ فَبِأَنْ يَبْنِيَ مَحْظَرَةً وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الْأَرْضُ أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا تَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِهَا وَيَجْمَعَ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ ماءٍ أَوْ بئرٌ حَفَرَهَا أَوْ سَاقَهُ مِنْ نهرٍ إِلَيْهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذِكْرَ الْإِحْيَاءَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحِرْزِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ تَقْدِيرُهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْعُرْفِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَعُرْفُ النَّاسِ فِي الْإِحْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحَيَّا فَيُقَالُ لِلْمُحْيِي لِمَاذَا تريد إحياؤه؟ فإن قال أريد إحياؤه لِلسُّكْنَى قِيلَ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ مَالِكًا أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا تَحْظُرُ، وَسَقْفًا يُورِي، فَإِذَا بَنَيْتَ الْحِيطَانَ وَالسَّقْفَ فَقَدْ أَحْيَيْتَهُ وَمَلَكْتَهُ، وَلَوْ بَنَيْتَ وَلَمْ تَسْقُفْ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ، لِأَنَّ سُكْنَى مَا لَمْ يَسْقُفْ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْعُرْفِ. فَصْلٌ : فَإِنْ قال أريد إحياؤه لِلدَّوَابِّ أَوِ الْغَنَمِ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ لِذَلِكَ أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا مَالِكًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ وَالْغَنَمَ قَدْ لَا تَحْتَاجُ فِي الْعُرْفِ إلى سقف، فلو لم يبني حِيطَانَهَا وَلَكِنْ عَبَّأَ الْأَحْجَارَ حَوْلَهَا فَذَلِكَ تَحْجِيرٌ يَصِيرُ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا، وَهَكَذَا لَوْ حَظَرَ عَلَيْهَا بغصب إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكَانًا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَبْنُوا أَوْطَانَهُمْ بِالْقَصَبِ كَعَرِينٍ بَيْنَ آجَامِ الْبَطَائِحِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، وَهَكَذَا فِي بِلَادِ جَبَلَانِ عُرْفُهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ أَوْطَانِهِمْ بِالْخَشَبِ فَيَصِيرُ بِنَاؤُهَا بِذَلِكَ إِحْيَاءً يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِعُرْفِهِمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ إِحْيَاءً. فَصْلٌ : فإن قال أريد إحيائها لِلزَّرْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ لَهَا تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا وَيُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ سَنَاهْ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَسُوقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ يَبَسًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَطَائِحَ حُبِسَ الْمَاءُ عَنْهَا، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ يَحْبِسُ الْمَاءَ عَلَى شُرُوطِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَزِّنَهَا لِيُمْكِنَ زَرْعُهَا، وَالْحَرْثُ يجمع ويمسح ما استعلا مِنْ تَطْوِيلِ مَا انْخَفَضَ، فَإِنْ سَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ وَحَرِيمَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ مَا تَحَجَّرَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَرَثَ بَعْدَ التَّحْجِيرِ وَسَوَّقَ الْمَاءَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ كَمُلَ وَالْمِلْكَ قَدْ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَغْرِسْ، لِأَنَّ مَثَابَةَ الزَّرْعِ بَعْدَ الْعِمَارَةِ بِمَثَابَةِ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِحْيَاءِ كَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ بَعْدَ الْحَرْثِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْعِمَارَةِ، وَمَثَابَةُ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ بِمَثَابَةِ الْحَصَادِ بَعْدَ الزَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ ثُمَّ بِالسَّقْيِ، فَمَا لَمْ يُسْقَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ، لِأَنَّ الْعِمَارَةَ لَمْ تَكْمُلْ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ بِمَا وَصَفْنَا وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُحْيِي عَلَيْهَا بِمَا بَيَّنَّا فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَلَيْسَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، سَوَاءٌ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ. وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: إِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ وَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَإِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْعُشْرِ فَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ عَلَى أَنْهَارٍ احْتَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَالْبَحْرِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةِ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْهَارِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ فَهِيَ مُحَيَّاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة قد اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَذْهَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ وَهَذَا قَوْلُ طَلْحَةَ بْنَ آدَمَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يفبض إِلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ فِي حِرْزِهَا وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ يَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا، وَالْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِمَذْهَبِهِمْ حِينَ شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ وَمَنْ تَعَقَّبَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ أَوَّلُ مِصْرٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ مَوَاتٌ اسْتُحْدِثَ إِحْيَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوَاتٍ أُحْيِيَ؛ ولأنه لو كان حكم الأرض معتبراً بماءها حَتَّى تَصِيرَ أَرْضُ الْعُشْرِ خَرَاجًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ لَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أَرْضُ الْخَرَاجِ عُشْرًا بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي مَاءِ الْعُشْرِ إِبْطَالٌ لِمَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْمَاءَ فَرْعٌ، لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ قَدْ يُصَرَّفُ عَنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى وَيُسَاقُ إِلَيْهَا مَاءُ أَرْضٍ أُخْرَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَرَاجَ مَضْرُوبٌ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ، وَالْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ فَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَقَّيْنِ. فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الرجل حفر بئر بالبادية فأحيائها يَكُونُ بِحَفْرِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَائِهَا فَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَالْإِحْيَاءُ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى طَيٍّ فَقَدْ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَتَمَّ الْمِلْكُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَيٍّ صَارَ الطَّيُّ مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ فَمَا لَمْ يُطْوَ فَالْإِحْيَاءُ لَمْ يَكْمُلْ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ نُظِرَ فَإِنْ حَفَرَهَا للسابلة صارت سبيلاً على ذي كبد حرى مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَيَكُنْ حَافِرُهَا كَأَحَدِهِمْ، فَقَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَدْمِهِ فَكَانَ يَغْتَرِفُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهَا، فَلَوْ أَرَادَ سَدَّهَا مُنِعَ مِنْهُ، لِمَا تَعَلَّقَ بِفَضْلِ مَائِهَا مِنْ حُقُوقِ السَّابِلَةِ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ سَاقَ عَيْنًا كَانَ فِي حُكْمِ الْبِئْرِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَهُ مَرَافِقُهَا الَّتِي لَا يَكُونُ صَلَاحُهَا إِلَّا بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَكَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى دَاوُدَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْكَافَّةِ فِي إِبْطَالِ الْحَرِيمِ، فَإِذَا كَانَ حَرِيمُ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَيْسَ بِحُدُودٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ كَانَ حَرِيمُهَا طَرَفَهَا وَمَفِيضَ مَائِهَا وَيَبْدُرُ زَرْعُهَا وَمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: حَرِيمُهَا مَا لَمْ يبلغه مائها وَبَعُدَ مِنْهَا. وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهَا صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ تَرْكِيبٌ لِقَدْرٍ لَمْ يَرْكَبْهُ شَرْعٌ وَلَا اقْتَضَاهُ مَعْهُودٌ وَلَا أَوْجَبَهُ قِيَاسٌ وَلَيْسَ لِمَا لَمْ يُوجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ. فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُحَيَّا دَارًا فَحَرِيمُهَا طَرِيقُهَا وَفِنَاؤُهَا، وَلما مُصِّرَتِ الْبَصْرَةُ وَجُعِلَتْ خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا جُعِلَ عَرْضُ كُلِّ شَارِعٍ مِنْ شوارعها عشرون زراعاً إِلَّا الْأَعْظَمَ مِنْ شَوَارِعِهَا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ سِتِّينَ ذراعاً، وجعلوا عرض كل زقاق تسع أزرع، وَجَعَلُوا فِي وَسَطِ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَحَبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَمَقَابِرِ مَوْتَاهُمْ، وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيُجْعَلْ سبعة أزرع، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ اخْتِيَارًا لَا حَتْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا فِيمَا أَحْيَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ فَحَرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِيمَا حولها، وقال أبو حنيفة حريم العين خمس مائة ذراع، وحريم بئر الناضج خمسون ذراعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهُ أَبْعَدَ فَتَكُونَ لَهُ مُنْتَهَى رِشَائِهِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى طِينَةٍ عِنْدَ حَفْرِهِ، وَحَرِيمُ الْفَنَاءِ مَا لَمْ يَسْمَحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ شَرْعًا وَلَا قِيَاسًا، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَمَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ حَفَرَ آخَر من بعد الحريم بئراً أخرى فنصب مَاءُ الْأُولَى إِلَيْهَا وَغَارَ فِيهَا قَالَ مَالِكٌ: يُمْنَعُ الثَّانِي وَيَطِمُّ عَلَيْهِ بِئْرُهُ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا طَهُورًا فَتَغَيَّرَ مَاءُ الْأُولَى طَمَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ بِئْرَ الثَّانِي مُقَرَّةٌ وَإِنْ نَضَبَ بِهَا مَاءُ الْأُولَى أَوْ تَغَيَّرَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا جَاوَزَ حَرِيمَ مِلْكِهِ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ لِتَقْدِيرِ الْحَرِيمِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأَيْتُ أَنْ يَفْعَلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَجَّرَ أَرْضٌ مَوَاتٌ بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَقَدْ صَارَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلَهُ بعد ذلك أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْإِحْيَاءِ وَيَشْرَعَ فِي الْعِمَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعِمَارَةَ وَيُتِمَّ الْإِحْيَاءَ، فَلَوْ غلب عليها وأكمل المتغلب إحيائها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُحْيِي فِي عِمَارَتِهَا فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي دُونَ الْمُحْجِرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْمُحْجِرُ فِي عِمَارَتِهَا وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا فَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ الْإِحْيَاءَ وَتَمَّمَ الْعِمَارَةَ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُحْجِرِ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ وَتَقَدُّمِ عِمَارَتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُتَغَلِّبُ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ وَيَسْتَقِرُّ الملك. فصل : والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَلِّيَهَا الْمُحْجِرُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ هِبَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ وَإِيثَارٌ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحْجِرُ كَانَ وَارِثُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا وَأَحَقَّ النَّاسِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حُقُوقَهُ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ مُنْتَقِلَةً إِلَى وَرَثَتِهِ فَأَمَّا إِنْ جُنَّ الْمُحْجِرُ فَلَا حَقَّ فيه لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا لِلْمُحْجِرِ الْمَجْنُونِ لَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَحْيَاهَا الْوَلِيُّ لِنَفَسِهِ صَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ قَدْ حَجَرَهَا إِنْسَانٌ فَأَحْيَاهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا الْمُحْجِرُ قَبْلَ الْعِمَارَةِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ إِنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى بِهَا يَدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَوْلَى بَيْعًا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي جُمْهُورِ كُتُبِهِ: أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ يَمْلِكْ وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ كَالشَّفِيعِ الَّذِي يَمْلِكُ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ، فَإِذَا قُبِلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالثَّمَنُ لازم للمشتري أحيا أو لم يحيي، فَلَوْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، وَفِي سُقُوطِ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ أَتَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِلِ الْمَبِيعِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ؟ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُشْتَرِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بعد أن حكم يفسخ البيع فهي ملك للمشتري لمحيي، وإن كان قبل الحكم يفسخ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، لِأَنَّ بِإِحْيَائِهَا صَارَتْ مِلْكًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحْيِي مُتَغَلِّبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْبَائِعِ الْمُحْجِرِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِالثَّمَنِ دُونَ الْإِحْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّمَنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ. فَصْلٌ: وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَمْسِكَهَا الْمُحْجِرُ بِيَدِهِ مَوَاتًا لَا يَأْخُذُ فِي عِمَارَتِهَا فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ مَعْذُورًا تُرِكَ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَأَخَذْتَ فِي عِمَارَتِهَا وَإِلَّا رَفَعْتَ يَدَكَ عَنْهَا وخلينا بينها وبين من يحميها ويعمرها، لأن لا يَصِيرَ مُضِرًّا بِالْحِمَى وَتَعْطِيلِ الْعِمَارَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يؤجل ثلاثة سنين لا يخاطب فيها فإن لم يحمها حتى مضت السنين الثَّلَاث فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ ثلاثة سِنِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَجَلًا شَرْعِيًّا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا أَجَلًا، فَلَوْ أَنَّ الْمُحْجِرَ حِينَ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ رَفْعِ يَدِهِ سَأَلَ التَّأْجِيلَ وَالْإِنْظَارَ أَجَّلَهُ مُدَّةً قَرِيبَةً إِنْ ظَهَرَ لَهُ أَعْذَارٌ وَيُرْجَى قُرْبُ زَوَالِهَا مِنْ إِعْدَادِ آلَةٍ أَوْ جَمْعِ رِجَال أَوْ قدمِ مَالٍ قَرِيبِ الْغَيْبَةِ، وَلَا يُؤَجَّلُ مَا يَطُولُ زَمَانُهُ أَوْ مَا لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَعْذَارُهُ وبالله التوفيق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ وَمَا لَا يجوز مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدُ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا مَا مَضَى وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ فِيهِ وَالثَّانِي مَا لَا تُطْلَبُ المنفعة فيه إلا بشيءٍ يجعل فيه غيره وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَرْضِ ضَرْبَانِ مَعَادِنُ وَمَوَاتٌ، فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَقَدِ انْقَضَى حُكْمُهُ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَاهِرَ الْأَرْضِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِإِقَامَةِ الْجَوَاهِرِ فيها كما قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِهِ حِينَ نَقَلَ فَقَالَ مَا لَا يطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه غيره وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الَّتِي بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا بِشَيْءٍ يُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ فِي الْجِبَالِ تَنْتَابُهُ النَّاسُ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لأحدٍ أَنْ يَقْطَعَهُ بحالٍ وَالنَّاسُ فِيهِ شرعٌ وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ وَالنَّبَاتُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ لأحدٍ وَقَدْ سَأَلَ الْأَبْيَضُ بْنُ حمالٍ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مأربٍ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَرَادَهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ فَقَالَ " فَلَا إِذَنْ " قَالَ وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عينٍ ظاهرةً كنفطٍ أو قبرٍ أَوْ كبريتٍ أَوْ مُومِيَا أَوْ حجارةٍ ظاهرةٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ أحدٍ فَهُوَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّاسُ فِيهِ سواءُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْمَعَادِنُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَيَأْتِي حُكْمُهَا فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ ظَاهِرًا فِي مَعْدِنِهِ يُؤْخَذُ عَفْوًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَالْمِلْحِ وَالنِّفْطِ، وَالْقَارِ وَالْكِبْرِيتِ والموهبا وَالْحِجَارَةِ فَهَذِهِ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَلَا لأحدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوُونَ فِيهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، مُسَلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، رَوَى ثَابِتُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِلْحَ مَأْرِبٍ فَأَقْطَعَهُ ثُمَّ إِنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٍ، وَمَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِأَرْضٍ، فَاسْتَقَالَ الْأَبْيَض مِنْ قَطِيعَتِهِ الْمِلْحِ، فَقَالَ الْأَبْيَضُ قَدْ أَقَلْتُكَ مِنْهُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ من ورده أخذه وروت نهيسة عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمَاءُ، قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمِلْحُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرًا لَكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَانِعُ بِأَحَقَّ مِنَ الْمَمْنُوعِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً، وَإِذَا اسْتَوَى النَّاسُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ اشْتِرَاكُ له النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَإِلَّا تقدم الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ فَإِنْ تَسَاوَى مَجِيئُهُمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدِّمُ السُّلْطَانُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى فَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَى الْمَعْدِنِ زَمَانًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَبِمَا فِيهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ فَمِنْهُ تَعَدَّى وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُ لَيْلًا بِطُولِ مُكْثِهِ ويدوم تَصَرُّفه فَيَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ لِلسُّلْطَانِ اسْتِحْقَاقُ نَظَرٍ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَلَهُمْ فِيهَا وَجْهَانِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ بُقْعَةً مِنَ السَّاحِلِ يَرَى أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلَاهَا ثُمَّ دَخَّلَ عَلَيْهَا مَاءً ظَهَرَ لَهَا مِلْحٌ كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهَا وَلِلْرَجُلِ أَنْ يُعْمِرَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَمْلِكَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَعْدِنًا وَإِنَّمَا هِيَ مَوَاتٌ تَصِيرُ بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنًا فَجَازَ إِقْطَاعُهَا كَمَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 باب تفريق القطائع وغيرها مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا مَضَى. وَالثَّانِي إِقْطَاعُ إرفاقٍ لَا تمليكٍ مِثْلُ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِلْبَيْعِ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ مُقِيمًا فِيهِ فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَأَفْنِيَةِ الْعَرَبِ وَفَسَاطِيطِهِمْ فَإِذَا انْتَجَعُوا لَمْ يَمْلِكُوا بِهَا حَيْثُ تَرَكُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا كَانَ مُبَاحًا مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مُسْلِمٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَ إِنْسَانًا مَا لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَوَاتٍ لَا مَالِكَ لَهُ وَالسُّلْطَانُ لَا يُحِلُّ لَهُ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَوْ أَعْطَى السُّلْطَانُ أَحَدًا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ مَا قَدِ استقرت عليه أصول الشرع أن ما ستقر عَلَيْهِ مِلْكُ آدَمِيٍّ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا وَإِنْ أَقْطَعهُ جَازَ لِلْمُقطعِ أَنْ يَمْلِكَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَسْتَقِر عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ سِبَاخِ الْأَرْضِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ، فَأَمَّا مَا لا يجوز إقاطعه فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَسَائِرُ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ فَهِيَ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ وَقِسْمٌ لَا يُمْلَكُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ، فَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ فَهُوَ الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بِالْإِقْطَاعِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ الِارْتِفَاقُ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ الْبَاعَةُ وَأَنْ تُحَطَّ فِيهِ الرِّحَالُ فَهَذَا مُبَاحٌ، قَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الناس عليه بمكة والمدنيه وَمَكَّنَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا فُتُوحَهَا وَمُحَيَّاهَا، وَلِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ مَاسَّةٌ وَضَرُورَتَهُمْ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِطْرَاقِ وَالِارْتِفَاقِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ فهو المعادن الباطنة. فصل : فإذا تقرر جواز الِارْتِفَاق بِمَا وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ كَمَنَازِلِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا حَلُّوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِمَنْزِلٍ اسْتِرَاحَةً فَلَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، لِبُعْدِهِ عَنْهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 ويجوز لهم النزول حيث لا يضروا المجتاز ولا يمنعوا سَائِلًا ثُمَّ لَهُمُ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلَا حِمًى، وَهَكَذَا الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْمَاءِ وَالْكَلَأِ مَكَثُوا فِيهَا وَلَمْ يَزَالُوا عَنْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِن انْتِجَاعِهَا وَرَعْيِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ بِهِمْ فَيَكُونُ السَّابِقُونَ إِلَيْهَا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ رَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بِنَاءً يُظَلِّلُكَ مِنَ الشَّمْسِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا هو مناح مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَلَوْ ضَاقَ الْمَنْزِلُ عَنْ جميع ما وَرَدَ إِلَيْهِ نَزَلُوا فِيهِ بِحَسَبِ مَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ يَتَرَتَّبُونَ النُّزُولَ كَمَا كَانُوا مُتَرَتِّبِينَ فِي الْمَسِيرِ فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ عَنْ لُحُوقِ الْمَنْزِلِ نَزَلَ حَيْثُ بَلَغَ، وَلَوْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانُوا لَوْ تُوَاسَوْا بِهِ عَمَّهم لَزِمَهُمْ أَنْ يتواسوا فيه ومنعوا مِنْ أَنْ يَحُوزَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مُوَاسَاتِهِمْ فِيهِ كَانَ الْأَسْبَقُ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَسْبُوقُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ ملكه بالإجارة بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ جَاءُوا إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَتِهِمِ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِمَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ حَتَّى يَرْتَوِيَ الْآدَمِيُّونَ، وَلَيْسَ لِمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ بَهَائِمَهُ عَلَى ارْتِوَاءِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا ارْتَوَى الْآدَمِيُّونَ جَمِيعًا اسْتُؤْنِفَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَلَمْ يُحْمَلُوا عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا، وَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْقُرْعَةُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ أَوْ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْتَأْنَفَ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْمِلْكِ، فعلى هذا إذا أقرع أَحَدُ أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ يَسْقِي جَمِيعَ بَهَائِمِهِ ثُمَّ هَكَذَا مَنْ قُرِعَ بَعْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْعَةَ تُسْتَأْنَفُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَتِهَا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمِلْكِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَعَتِ الْقَرْعَةُ مَالَ رَجُلٍ مَرَّ تَقْدِيمًا لِمَنْ قُرِعَ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ كَمَقَاعِدِ الْبَاعَةِ وَالسُّوقَةِ فِي أَقْنِيَةِ الدُّورِ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الدُّورِ مُنِعُوا مِنَ الْجُلُوسِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الدَّارِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِذْنِ مِنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَحَرِيمِهَا الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالدَّارِ وَلَا بِمَالِكِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ مِرْفَقٌ عَامٌّ كَالطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ جَلَسَ وَلَا يُقَدِّمَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ مَالِكَ الدَّارِ أَحَقُّ بِحَرِيمِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِذْنِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ ثَمَنًا لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ، فَلَوْ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ، لأنه غير مستحق في الملك ولا معاوض عَلَيْهِ وَلَا مُنْتَفِعٍ بِهِ، وَسَوَاءٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلِمَالِكِ الدَّارِ إِذَا أَجْلَسَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهُ إِذَا شَاءَ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، فَأَمَّا فِنَاءُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فَهَلْ يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ فنَاءَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُ استئذان ربه فيه لم يلزم استئذان الإحمام فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَإِذْنُ الْإِمَامِ إِذن اجْتِهَادٍ فِي الْأَصْلَحِ، وَسَوَاءٌ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ جِيرَانُهُ وَالْأَبَاعِدُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالِارْتِفَاقِ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهَا السُّوقَةُ بِأَمْتِعَتِهِمْ لِيَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا فَهَذَا مُبَاحٌ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَالِسًا وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدره، كما يجتهد في أموال بيت المال، فَإِذَا أَخَذَ الْبَاعَةُ مَقَاعِدَهُمْ فِي أَقْنِيَةِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ رُوعِيَ فِي جُلُوسِهِمْ أَلَّا يَضُرُّوا بمارٍ وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى سائلٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَقَاعِدِهِمْ، فَلَوْ جَلَسَ رَجُلٌ بِمَتَاعِهِ فِي مَكَانٍ فَجَاءَ غَيْرُهُ لِيُقِيمَهُ مِنْهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ لَمْ يَجُزْ مَا كَانَ الْأَوَّلُ جَالِسًا بِمَتَاعِهِ، فَلَوْ قَامَ وَمَتَاعُهُ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَقَاعِدِهِمْ بِأَمْتِعَتِهِمْ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ثُمَّ غَدَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ كَانَ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ أَحَقَّ بِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَوْدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا عُرِفَ أَحَدُهُمْ بِمَكَانِهِ طَالَ جُلُوسُهُ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا عَنْهُ صَحِيحٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " منا مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ أَحَقَّ بِهِ لَصَارَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِحِمَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي مَقْعَدٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الْجُلُوسُ بِنَاءً عَلَى نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ. أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ وَقَطْعِ التَّنَازُعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي إِجْلَاسِ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ نَظَرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ رَجُلًا مَوْضِعًا مِنْ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِيَبِيعَ فِيهِ مَتَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَكَانِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَبَقَ إِلَيْهِ كَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ السَّابِقِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْأَصْلَحِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلِفَ مَقْعَدًا فِي فِنَاءِ طَرِيقٍ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 أَحَدُهُمَا: يَقَرُّ فِي مَكَانِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَامُ عَنْهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ زَرِيعَةً إِلَى تَمَلُّكِهِ وَادِّعَائِهِ، فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَقْعَدٍ مِنْ فَنَاءِ السُّوقِ بِنَاءً منعٍٍ، لِأَنَّ إِحْدَاثَ الْأَبْنِيَةِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَمْلَاكِ وَأَمَّا إِذَا حَلَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ حِلَقًا مُنِعَ النَّاسُ مِنَ اسْتِطْرَاقِهَا وَالِاجْتِيَازِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وطول الغرس، وحلقة القوم فلو عرف فقه بِالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجَامِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ وَكَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ قَدْ صَارَ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْفُقَهَاءِ والقراء أحق به، وله منع من سبق إِلَيْهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ الْعَاكِفِ فِيهِ وَالْبَادِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 باب إقطاع المعادن وغيرها مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَفِي إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخَالِفُ إِقْطَاعَ الْأَرْضِ لِأَنَّ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ أَوْ عَمِلَهَا وَلَيْسَتْ لأحدٍ سواءٌ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ مَا لَا يَخْلُصُ إِلَا بمؤنةٍ لِأَنَّهُ باطنٌ مستكنٌّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ ترابٍ أَوْ حجارةٍ كَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا ومخالفةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْمَوَاتَ إِذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إِحْيَاؤُهَا وَهَذِهِ فِي كُلِّ يومٍ يُبْتَدَأُ إِحْيَاؤُهَا لِبُطُونِ مَا فِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعَادِنَ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ وَذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا شَيْءَ فِي ظَاهِرِهَا حَتَّى تُحْفَرَ أَوْ تُقْطَعَ فَيَظْهَرَ مَا فِيهَا بِالْحَفْرِ وَالْقَطْعِ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، سَوَاءٌ احْتَاجَ مَا فِيهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَخْلِيصٍ كَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ كَالتِّبْرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوَى جَمِيعُهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، لِأَنَّ مَا فِيهَا جَمِيعًا مَخْلُوقٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ وَيُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حَالُ الْمُقْطِعِ وَغَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَمَا لَوْ أَقْطَعَ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَلَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَسْتَقْطِعْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْطَاعَهَا جَائِزٌ وَالْقَطْعُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطع بلال بن الحرث الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزرع من مدهن وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ إِنَّ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أبي عبيد وابن قتيبة أن الغور مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْجَلْسَ مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ نَجْدٍ. قَالَ الشَّمَّاخُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 (فَأضحت عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا ... كَوَقْبِ الصَّنْعَا جِلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا) وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَافَقَ بَيْنَهُمَا الْمَوَاتُ. أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَؤُونَةِ فِي الْبَاطِنَةِ حَتَّى رُبَّمَا سَاوَتْ مَؤُونَةَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَزَادَتْ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنَةِ مَظْنُونٌ مُتَوَهَّمٌ فَشَابَهَ مَا يَظُنُّ مِنْ مَنَافِعِ الْمَوَاتِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَمَا فِي الظَّاهِرَةِ مُشَاهِدٌ مُتَيَقِّنٌ فَصَارَتِ الْبَاطِنَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُفَارَقَةً لِلظَّاهِرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِهَا، وَمُلْحَقَةً بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا. فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِمَا بِالْعَمَلِ لَمْ يَمْلِكْهَا كَمَا لا يملك الموات بالإقطاع ما لم يحيه، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا صَارَ مَالِكَهَا، وَفِي مِلْكِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرَكَ كَمَا يَمَلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ اسْتَدَامَ عِمَارَتَهُ أَوْ عَطَّلَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي إِقْطَاعِهَا شَرْطًا فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا، لِكَوْنِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَهُ لَهَا مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ عَمَلِهِ فِيهَا فَمَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، فَإِذَا فَارَقَ الْعَمَلَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ آلَةٍ أَوْ هَرَبِ عَبْدٍ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا كَانَ نَاوِيًا لِلْعَمَلِ حَتَّى يَقْطَعَ قَطْعَ تَرْكٍ فَيَزُولَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ إِحْيَاءً لِلطَّبَقَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا فَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِإِحْيَائِهِ وَعَمَلِهِ، فَأَمَّا مَا تَحْتَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا عَمَلٌ وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِحْيَاءٌ فَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ عَمَلِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن إذنه شرطاً فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ مَنْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ بِتَأْيِيدِ مِلْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِذْنَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَخْتَصُّ بِمَا بَاشَرَ عَمَلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْعُذْرِ كَمَا لَا يَمْنَعُ بِشُرُوعِهِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْطَاعَ ضَرْبَانِ: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ، فَأَمَّا إِقْطَاعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 الْإِرْفَاقِ فَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِيَعْمَلَ فِيهِ وَلَا يَمْنَعَ غَيْرَهْ مِنْهُ فَهَذَا يَصِحُّ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ جَمِيعًا، وَأَمَّا إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَنْتَفِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدًا مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَقْطَعَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ الْوَاحِدُ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً أَقْطَعَهُمْ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ الْعَشَرَةَ، فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ منفعته على المقطع وغيره فصار أسوأ حال مِنَ الْحِمَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ حَمَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ الْإِرْفَاقِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مُدَّةَ عَمَلِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا عَطَّلَهُ، فَأَمَّا مَا ظَهَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ التَّعْطِيلِ فَقَدْ صَارَ فِي مِلْكِهِ وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ إِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةِ الْعَمَلِ وَشَرَطَ فِيهِ زَوَالَ الْمِلْكِ عِنْدَ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ فَلَا يَتَأَيَّدُ مِلْكُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَقْطَعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ مَلَّكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَحْيَا الرَّجُلُ أَرْضًا مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا مُؤَبَّدًا قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدِنُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بِالْإِحْيَاءِ فَصَارَ كَعَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا أَوْ بِئْرٍ احْتَفَرَهَا، وَلِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي مَلَكَهَا بِإِحْيَائِهِ فَخَالَفَ الْمَعَادِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ أَحْيَا أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهَلَّا صَارَ الْمَعْدِنُ مِثْلَهُ لَا يَمْلِكُهُ قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْدِنَ خلقة فِي الْأَرْضِ فَمَالِكُهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُمْلَكْ وَإِنّ مِلْكَ الْأَرْضِ لِمَا بَنَتْهُ لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَكَانَ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَوْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ خِلْقَةً فِيهَا مَلَكَهَا. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ معدنٍ عَمِلَ فِيهِ جَاهِلِيٌّ ثُمَّ اسْتَقْطَعَهُ رجلٌ فَفِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا أَنْهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ فَلَا يُمْنَعُ أحدٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر حَتَّى يَتَآسَوْا فِيهِ وَالثَّانِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أحدث فيها عمارة ". قال الماوردي: أحدها: أنه كالسر الجاهلي والماء العد فلا يمنع أحد يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ غلوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر فالآخر فالآخر حتى يتساوو فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 وَالثَّانِي: لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يعمل فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً. اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، وَضَرْبٌ عَمِلَ فِيهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَ مِنْهُ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ فِيهِ ظَهَرَ نَيْلُهُ وَأَجَابَ وَلَمْ يُخْلَفْ فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَمَنْ لَمْ يُقْطَعْ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ وَرَدَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ ظهور نبله يَقِينًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُخْلَفَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يتقين كَوْنَهُ مَعْدِنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ أَمْرِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنَهُ مَوَاتًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا عَمِلَ فِيهِ فَضَرْبَانِ: أحدهما: أن يكون العمل منه إِسْلَامِيًّا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ إِقْطَاعِ إِمَامٍ. وَالثَّانِي: عَنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ فَإِنْ تَرَكَ الْعَمَلَ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَجَازَ لِلنَّاسِ الْعَمَلُ فِيهِ، وَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ فَفِي جَوَازِ مُشَارِكَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ مِن اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَ الْعَمَلَ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِيهِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَلِمَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي قَدْ عَمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ رَأَى وَيَتَوَجَّهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِلَى مَا سِوَى مَوْضِعِ عَمَلِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ، فَإِذَا قَطَعَ الْعَمَلَ جَازَ إِقْطَاعُ جَمِيعِهِ. فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِإِقْطَاعِ إِمَامٍ لَمْ يَجُزْ فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَ فِيهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 فَأَمَّا بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ الْإِمَامُ إِقْطَاعًا لِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ وُرِّثَ عَنْهُ كَسَائِرِ أمواله، وإن قيل إن ملكه مقدراً بِمُدَّةِ الْعَمَلِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَهَبَهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ فَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ تَرْتَفِعُ يَدُهُ بِالْهِبَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ فِي الْبَيْعِ كَانَ مَشْرُوطًا بَعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَلَمْ تَرْتَفِعْ يَدُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَيَكُونُ لِوَارِثِهِ إِتْمَامُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ جَاهِلِيًّا كَمَعْدِنٍ عَمِلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فيه ثم وصل المسلمون إليه فلا يخلوا حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الجاهلي قد تملكه بعمله أو بإحياءه فَهَذَا مَغْنُومٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ، وَلَا أَنْ يَسْتَبِيحَهُ النَّاسُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُمْ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيُّ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِعَمَلِهِ وَلَا بِإِحْيَائِهِ وَإِنَّمَا اسْتَمْتَعَ بِمَا فِيهِ وَفَارَقَهُ عَفْوًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْمُبَاحَةِ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مُنِعَ مِنْ إِقْطَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ولا استباحته. والثاني: أنه في حكم الْمَعَادِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَفَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحِمَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ إِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ، يُرِيدُ بِالْعَفْوِ الْمَوَاتَ الَّذِي هُوَ عَفْوٌ مَتْرُوكٌ، وَيُرِيدُ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ هِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا بَدَأَ وَفِيهَا نَشَأَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ يَعْنِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، وَرَوَى الرَّبِيعُ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُونَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ حِينَ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ إِحْيَاؤُهُ وَإِنَّ الصحيح ما نقله الربيع وإن عفوه غير مَمْلُوك لِيُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وطائفة يقولون: كلي النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ يَعْنِي لِكَافَّةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِمُشْرِكٍ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَعْنِي لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْهُمْ مَلَكَهُ، فَإِنْ قِيلَ فلما خَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَكُونُ بِلَادُ الشِّرْكِ مِثْلَهَا وَعَلَى حُكْمِهَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أَحْكَامَنَا عَلَيْهَا جَارِيَةٌ بِخِلَافِ بِلَادِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ قَدْ يَكُونُ حُكْمُهَا كَبِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ فُتُوحِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يجمعها في الحكم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ إِذَا صَارَتْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَفْوًا بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَا بِتَهْدِيدٍ وَإِرْهَابٍ فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ فِي مِلْكِهِمْ لِرِقَابِ عَامِرِهَا وَاسْتِوَاءِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا، وَجَمِيعُهَا أَرْضُ عُشْرٍ فِيمَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ عَامِرٍ وَمَا استأنفوا إحياؤه مِنْ مَوَاتٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَدِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا مُلِكَ عَنْوَةً. وَالثَّانِي: مَا فُتِحَ صُلْحًا، فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ عَنْوَةً فَعَامِرٌ مَغْنُومٌ يُقَسَّمُ خَمْسَةً عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ الْخُمْسِ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ مقسومة بيه الغانمين، فأما مواته فلهم فيه حالان: أحدهما أَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ عَنْهُ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُ وَيَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُقَاتِلُوا دُونَهُ، فَقَدْ صَارَ الْغَانِمُونَ أَوْلَى بِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ صَارُوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا كَالْمُحْجِرِ عَلَى الموات وهو أَوْلَى بِهِ، لِمَحْجَرِهِ وَيَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لم يصير ملكاً له فإن أخروا أحياؤه قَالَ لَهُمُ الْإِمَامُ: إِمَّا أَنْ تُحْيُوهُ أَوْ تَرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُكُمْ كَمَا يَقُولُ لِمَنْ يَحْجُرُ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، لِأَنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ تَحْجِيرٌ ثُمَّ انْتَقَلَتْ أَيْدِيهُمْ إِلَى الْغَانِمِينَ فَصَارُوا بِالْغَنِيمَةِ مُتَحَجِّرِينَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَدَرَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ فَأَحْيَاهُ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ مَوَاتِ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبي الفياض أن الغانمين أولىبالموات ملكاً، لأن قَدْ صَارَ بِالْمَنْعِ تَبَعًا لِلْعَامِرِ فَلَمَّا مَلَكَ الْغَانِمُونَ الْعَامِرَ مَلَكُوا مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَوَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُمْ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْيَدِ بِتَأْخِيرِ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَعَادِنِ هَذَا الْمَوَاتِ شَيْئًا لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ فَهَذَا حُكْمُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَا فُتِحَ صُلْحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ معدنٍ ظاهرٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قِسْمَةِ الْعَامِرِ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قُسِمَ عَامِرُ بِلَادِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَحَصَلَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْعَامِرِ مَعْدِنٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا، فَهَذَا مِلْكٌ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ مِنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ حَالَهُ وَقْتَ الْقَسْمِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْغَانِمِ بِالْقَسْمِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ. وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَةِ الْإِمَامِ بِهِ، وَإِن قَسْمَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَعْدِنَ وَحْدَهُ وَيَمْلِكُ مَا سِوَاهُ مِمَّا قُسِمَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ عَنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا بَدَلَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا، لِأَنَّ قَسْمَ الْإِمَامِ لا يتعلق به المقسوم لَهُ خِيَارٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَدَلَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ أَوْ نَنْقُضُ الْقَسْمَ مَنْ يُعْطِيهِ غَيْرُهُ مما يفي بسهمه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِّرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ مِثْلُ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ وَعُمِّرَ بِغِيَرِ ذَلِكَ عَلَى نُطَفِ السَّمَاءِ أَوْ بِالرِّشَاءِ وَكُلُّ مَا كَانَ لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا انْدَرَسَتْ عِمَارَتُهُ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا خَرَابًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِحْيَائِهَا بَاقِيَةً فِيهِ كَأَرْضِ الزِّرَاعَاتِ إِذَا كانت مسنياتها باقية وماؤها قائماً، وصارت بنيات الحشيش فيها خَرَابًا وَبِتَأْخِيرِ عِمَارَتِهَا مَوَاتًا فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي الْعَنْوَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِيجَابِهَا ذَاهِبَةً كَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ إِذَا ذَهَبَ آلَتُهَا وَانْدَرَسَتْ آثَارُهَا، فَحُكْمُ هَذَا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ تَقْسِيمًا وَحُكْمًا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَذْهَبَ بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِهَا وَيَبْقَى بَعْضُهَا عَارِضَ الزَّرْعِ إِذَا ذَهَبَتْ مَسْنِيَّاتُهَا وَبَقِيَ مَاؤُهَا أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا وَبَقِيَتْ مَسْنِيَّاتُهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ في حكم الموات ما لم يندرس جَمِيعُ آثَارِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ ما لم يبقى جَمِيعُ آثَارِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِجَوَابِهَا صَارَتْ مَوَاتًا، وَإِنْ قَرُبَ الْعَهْدُ لِعِمَارَتِهَا فَهِيَ فِي حُكْمِ مَا كَانَ عَامِرًا. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ صُلْحًا فَمَا كَانَ لَهُمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ فَالْأَرْضُ كُلُّهَا صلحٌ وَخُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَمَا كان فيها من مواتٍ فهو كالموات غير فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَازَهُ رجلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا انْتَقَلَ إِلَيْنَا مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ: عَنْوَةً وَصُلْحًا، فَأَمَّا بِلَادُ الْعَنْوَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا، وَأَمَّا بِلَادُ الصُّلْحِ فَضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ فِيهَا عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا وَأَنْ يُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا فَهَذَا جِزْيَةٌ تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَهُوَ فِي الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ رِقَابَ أَرْضِهِمْ ملكاً للمسلمين وتقر في أيديهم بخراج بادوه عَنْهَا، فَهَذَا خَرَاجُ أُجْرَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا مَوَاتُهُمْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُضَمَّ إِلَى الْعَامِرِ فِي الصُّلْحِ أَوْ بِعَقْلٍ، فَإِنْ أُعْقِلَ وَلَمْ يُذْكَرْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْضُهُمْ إِلَى الْعَامِرِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ صَارَ فِي حُكْمِ مَا غُنِمَ مِنْ مَوَاتِهِمْ إِذَا مَنَعُوا مِنْهُ يكون أهل الفيء أولى به، وهل يكونوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِلْكًا فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلِكَ الْعَامِرَ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي مَوَاتٍ كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَقْسِيمِ حُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ مِنْ أهل الفيء، لأن في الفيء خمس لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ كَافَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ من بلاد المسلمين إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 أجازه رَجُلٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُجَوِّزُ بيع الموات بإحازة المسلم وإن لم يحييه، لأنه قد صار بالإجازة أَوْلَى بِهِ وَكَانَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمَوَاتِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ تُرْفَعُ إِنْ أَخَّرَ الْإِحْيَاءَ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَحَازَهُ رَجُلٌ فعبر عن الإحياء بالإحازة مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي الْأَرْضِ مَلَّكَهَا لِغَيْرِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِمَالِكِهَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ رجل معدناً ظاهراً أبو باطناً إما بإحياءه أَوْ بِمَغْنَمٍ حَصَلَ فِي سَهْمِهِ أَوْ بِإِقْطَاعٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ وَاسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَلَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَيَغْرَمُ إِنْ كَانَ تَالِفًا بمثل ماله مِثْلٌ وَبِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ لِتَعَدِّيهِ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى فِي عَمَلٍ لَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْمَعْدِنِ بِعَمَلِهِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَرَى أَنْ لَا تعزيز عَلَيْهِ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْدِنِ قَدْ كَانَ مباحاً فصارت شبهة، والذي أرى أن يعزر وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُبَاحًا قَبْلَ الْمِلْكِ كَمَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ عن أصول مباحة. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ لَهُ فسواءٌ وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لَا يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ وَلَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَقْبِضْ وللإذن الخيار في أن يتم ذلك أَوْ يُرَدَّ وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ يَأْذَنُ فِي رُكُوبِهَا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَعْطَاهُ وَقَبَّضَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ مَعْدِنًا فِي أَرْضٍ أَحْيَاهَا أَوِ اشْتَرَاهَا فَظَهَرَ فِيهَا ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ قِطَعًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ متعدٍ بِذَلِكَ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَمَا أَخْرَجَهُ فَلِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ لَهُ فَمَا يُخْرِجُهُ يَكُونُ له، وهل للعامل الأجرة أم لا يكون؟ يَحْكُمُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ فِي الْغَسَّالِ إِذَا أَعْطَاهُ الثَّوْبَ لِيَغْسِلَهُ فَغَسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ أُجْرَةً وَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْعَامِلُ فَلِنَفْسِهِ دُونَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ وَكُلُّ مَا يُخْرِجُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَعْدِنِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ هِبَةً بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ فَعَمِلَ وَرَبِحَ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلْمُقَارِضِ، وَهَا هُنَا قَدْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 لِغَيْرِهِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَقَعُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: تَحْفِرُ لِي كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا صَحَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ أُجْرَتَهُ جَزَاءً مِمَّا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: ثُلُثُهُ أَوْ رُبْعُهُ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَهَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ لَهُ مَجْهُول الْقَدْرِ وَإِنْ جَعَلَ مَعْلُومًا فَقَالَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ كَذَا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، صَحَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي، أَوْ قَالَ: إِنْ جِئْتَ بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ مِنْ فَضْلِ مَائِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ أَوِ الشَّجَرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْآبَارُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي مِلْكِهِ، وَضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي الْمَوَاتِ، لِتَمَلُّكِهِ، وَضَرْبٌ يُحْفَرُ فِي الْمَوَاتِ لَا لِلتَّمَلُّكِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَإِنَّمَا نَقَلَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْحَفْرِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى مَائِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ نَيْلُهَا، وَإِذَا بَلَغَ نَيْلَ مَا يُحْيِيهِ ملكه، وقيل: إن يبلغ الماء يكون ذَلِكَ تَحَجُّرًا وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ إِنَّ تَحْجِيرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّيْلَ، وَإِذَا بَلَغَ النَّيْلَ كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً وَيَمْلِكُهُ، وَيُفَارِقُ الْمَعْدِنَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يَنْتَهِي عِمَارَتُهُ وَالْبِئْرَ تَنْتَهِي عِمَارَتُهَا فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءَ تَكَرَّرَتْ مَنْفَعَتُهَا عَلَى صِنْفَيْهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ أَمْ لَا؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ لَوْ كان مملوكاً يستبح بِالْإِجَارَةِ، لأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمَا جَازَ بَيْعُ دارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ بدارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ، لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْمَاءِ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ فَهُوَ كَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَعْدِنٌ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَرْضِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَمْلِكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ عَيْنَ اللَّبَنِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكْرِي فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ فِي الْحَالِ، وَمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ منع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 الْغَيْرِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِحَائِطِهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ تَخَطَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاسْتَقَى مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَلَكَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا إِذَا تَوَغَّلَ فِي أَرْضِهِ صَيْدٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، لِأَنَّهُ يحتاج أن يتخطى ملك غير بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ خَالَفَ وتخطى فأخذوا مَلَكَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ خَالَفَ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِيَهُ وَيَحُوزَهُ فَيَمْلِكَهُ بِالْحِيَازَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا شَاهَدَ الْمُشْتَرِي كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ مَا فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِذَا كَانَ بِبَيْعٍ ويريد كلما استقى منه شيء فَلَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْآبَارِ وَهُوَ إِذَا نَزَلَ قومٌ مَوْضِعًا مِنَ الْمَوَاتِ فَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا لِيَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَيَسْقُوا مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّمَلُّكَ بِالْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، لِأَنَّ الْمُحْيِيَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ مُدَّةَ مَا قَصَدَ بِهِ بِمِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فَإِذَا رَحَلَ فَكُلُّ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إِنَّهُ يَمْلِكُ الْبِئْرَ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَائِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ فَإِذَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ مِنَ السَّائِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ وَالَّذِي يَقْرُبُ ذَلِكَ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِشُرْبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ فَأَمَّا لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِعِوَضٍ لِشُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ فَأَمَّا بِلَا عِوَضٍ فَلَا، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَأً مَمْلُوكًا وَبِجَنْبِهِ بِئْرٌ وَلَا يُمْكِنُ سَقْيُ الْمَوَاشِي مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ إِلَّا بِالرَّعْيِ فِي ذَلِكَ الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه، فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ لَهُ، وَكَانَ الْكَلَأُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ الْمُبَاحِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَكَذَلِكَ لِمَوَاشِيهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى الْمَنْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ فَأَمَّا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَةُ وَنَفْسُهُ وَزَرْعُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ وَهُوَ أَحَقُّ من غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ بِلَا عِوَضٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ". فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَامٌ وَخَبَرُنَا خَاصٌّ فَقَضَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَلَأِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أُخِذَ اسْتُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَنَبَعَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَشِيشُ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ لَا يُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَشِيشَ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ وَالْمَاءَ لَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَخِيرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطِشَ زَرْعُهُ فَلَمْ يَسْقِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَطِشَ حَيَوَانٌ أُجْبِرَ عَلَى سَقْيِهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَدل لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ آلَتَهُ الَّتِي هِيَ الْبَكَرَةُ وَالدَّلْوُ وَالْحَبْلُ، لِأَنَّهَا تَبْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا تُسْتَخْلَفُ، وَيُفَارِقُ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ بَدَلُهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الَّذِي قَدْ حَازَهُ وَجَمَعَهُ في جبة أو مركبه أو مصنعة فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْبِئْرِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ : فِي الْمِيَاهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مِنْ فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مِلْكِهَا. وَالْآخَرُ: فِي السَّقْيِ مِنْهَا. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مُبَاحٌ، وَمَمْلُوكٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا المباح كما الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ الْكَبِيرِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ، وَمِثْلُ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ فِي مَوَاتِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ فَكُلُّ هَذَا مُبَاحٌ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا أَرَادَ كَيْفَ شَاءَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ " وَلِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ وَإِنْ زَادَ هَذَا الْمَاءُ وَدَخَلَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَمْ يَمْلِكُوهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَطَرٌ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ فَمَكَثَ أَوْ فَرَّخَ طَائِرٌ فِي بُسْتَانِهِ أو توحل ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَانَ بِمَنْ حَازَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَكُلُّ مَا حَازَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ مِنْ قِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ سَاقَهُ إِلَى بِرْكَةٍ فَجَمَعَهُ فِيهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 فَهَذَا مَمْلُوكٌ لَهُ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَمَتَى غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَهُوَ كُلُّ مَا نَبَعَ فِي مِلْكِهِ مِنْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرٌ مَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي الْمَاءِ فِي الدَّارِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَدْخُلُ فِي الدَّارِ تَبَعًا، وَمَنْ قَالَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا قَالَ: إِذَا شَرَطَ صَحَّ الْبَيْعُ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبِئْرِ مِنَ الْمَاءِ وَأَجَزْتُمْ هَا هُنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْبِئْرَ مَعَ مَائِهَا فَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْمَاءَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ قَدْ بِيعَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَاخْتَلَطَ بِهِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُبَاحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ. وَالثَّانِي: مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ " قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: 65) الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ، ويرسل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ فَلَمَّا أَسَاءَ جَارُهُ الْأَدَبَ أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ: " احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجِدْرَ (وَهُوَ الْحَائِطُ) ". فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحَقَّ بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ. قُلْنَا: لَيْسَ فِيهِمَا خِلَافٌ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَوِيَةً رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْجِدَارِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفُرْهَةِ يَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ يَفْعَلُ كُلَّمَا حَبَسَ الْمَاءَ وَبَلَغَ فِي أَرْضِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ حَتَّى يَشْرَبَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ كَانَ زَرْعُ الْأَسْفَلِ يَهْلَكُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إِلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا أَحْيَا عَلَى هَذَا النَّهْرِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَرْضًا مَوَاتًا هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ منْ أَرَاضِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَائِهِ فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ سَقَى الْمُحْيِي مِنْهُ وَلَا يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْمَاءَ مِلْكٌ لَهُمْ كما إذا جازوه مَلَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِمْ فَكَانُوا أحق به من حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَمَا فَضَلَ مِنْهُمْ كَانَ لِمَنْ أَحْيَا عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مَوَاتًا وَأَمَّا الَّذِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ فَهُوَ أَنْ يَحْفِرُوا فِي الْمَوَاتِ نَهْرًا صَغِيرًا لِيُحْيُوا عَلَى مَائِهِ أَرْضًا، فإذا بدوا بِالْحَفْرِ فَقَدْ تَحَجَّرُوا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْحَفْرُ بِالنَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْهُ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مَلَكُوهُ كَمَا إِذَا حَفَرُوا بِئْرًا فَوَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ مَلَكُوهُ، وَإِذَا حَفَرُوا مَعْدِنًا مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّيلِ مَلَكُوهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنْ أَنْفَقُوا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقُوا. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ إِذَا جَرَى فِيهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ كَمَا إِذَا جَرَى الْفَيْضُ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ وَاجْتَمَعَ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَكِنْ يَكُونُ أَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ النَّهْرَ مِلْكٌ لَهُمْ وَلِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَبِيرًا يَسَعُهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ سَقَوْا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُمْ فَإِنْ تَهَابَوْا وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ مَا تَرَاضَوْا بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا نَصَبَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةَ الظَّهْرِ مُحْفَرَةً بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لقوم مائة جزيت ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشر حُفْرَةً مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ حُفْرَةً مِنْهَا لِسَاقِيَةِ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ وَالْبَوَاقِي لِأَصْحَابِ الْمِائَةِ جَرِيبٍ وَذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَاءِ الْعَادِلَةُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 كِتَابُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالْحَبْسِ وَمَا دَخَلَ فِي ذلك من كتاب السائبة مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: يُجْمَعُ مَا يُعْطِي النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلَاثَةُ وجوهٍ ثُمَّ يَتَشَعَّبُ كُلُّ وجهٍ مِنْهَا فَفِي الْحَيَاةِ مِنْهَا وَجْهَانِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ مِنْهَا وَجْهٌ فَمِمَّا فِي الْحَيَاةِ الصَّدَقَاتُ وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَلَكَ مَائَةَ سهمٍ مِنْ خيبرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُصِبْ مَالًا مِثْلَهُ قَطُّ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حبس الأصل وسبل الثمرة " قال الشافعي رحمه الله تعالى فلما أجاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يحبس أصل المال وتسبل الثمرة دل ذلك على إخراجه الأصل من ملكه إلى أن يكون محبوساً لا يملك من سبلٍ عليه ثمره بيع أصله فصار هذا المال مباينا لما سواه ومجامعاً لأن يخرج العبد من ملكه بالعتق لله عز وجل إلى غير مالك فملكه بذلك منفعة نفسه لا رقبته كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رقبته ومحرم على المحبس أن يملك المال كما محرم على المعتق أن يملك العبد ويتم الحبس وإن لم يقبض لأن عمر رضي الله عنه هو المصدق بأمر النبي ولم يزل يلبي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله ولم يزل علي رضي الله عنه يلي صدقته حتى لقي الله تعالى ولم تزل فاطمة رضي الله عنها تلي صدقتها حتى لقيت الله وروى الشافعي رحمه الله حديثاً ذكر فيه أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدقت بمالها على بني هاشمٍ وبني المطلب وأن عليًّا كرم الله وجهه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم ". فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَهُمَا الْهِبَةُ، وَالْوَقْفُ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَهَا بَابٌ يَجِيءُ فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَهَذَا مَوْضِعُهُ فَالْوَقْفُ يَحْبِسُ الْأَصْلَ وَيُسْبِلُ الْمَنْفَعَةَ، وَجَمْعُهُ وُقُوفٌ وَأَوْقَافٌ، فَإِذَا وَقَفَ شَيْئًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الْوَقْفِ وَلَزِمَ الْوَقْفُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ لُزُومُ الْقَبْضِ وَلَا حُكْم الْحَاكِمِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ ومحمد غَيْرَ أَنَّ محمدا يَقُولُ: مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ، وَرَوَى عِيسَى بْنُ أَبَان أَنَّ أبا يوسف لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ كَانَ عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فِي بَيْعِ الْأَوْقَافِ حَتَّى حَدَّثَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: هذا لا يسع أحد خلافه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ لَزِمَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ، وَكَانَ الْوَاقِفُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنْ أَوْصَى بِالْوَقْفِ يَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ قَالَ الْقَاضِي، قَدْ نَاقَضَ أبو حنيفة فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْفَ لَازِمًا فِي ثُلُثِهِ فِي حَالِ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ وَلَا لَازِمًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّةٍ لَزِمَ فِيهِ فِي مَرَضِهِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَفِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ مِثْلَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي مَرَضِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَزِمَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَ فِيهَا الْفَرَائِضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءَ ". وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ صَاحِبَ الْأَذَانِ جَعَلَ حَائِطًا لَهُ صَدَقَةً وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَتَى أَبَوَاهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لَنَا عيشٌ إِلَّا هَذَا الْحَائِطَ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ مَاتَا فَوَرِثَهُمَا " فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ وَقْفَهُ إِيَّاهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ عَلَى أَبَوَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: جاء محمدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ. وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ وَقْفًا فَأَبْطَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَوْ كَانَ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُهُ وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَصَدَ إِخْرَاجَ مَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ لِمُجَدِّد الْقَوْل. أَصْلُهُ: صَدَقَةُ التَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ عَنِ الرَّقَبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأَرْضُ مُحَرَّمَةٌ لَا تُوَرَّثُ وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا وَلَمْ يَزل مِلْكُهُ عَنْهَا وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ مَعْنَى الْوَقْفِ فَإِذَا قَالَ وَقَفْتُهَا أَوْ حَبَسْتُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه ملك مائة سهمٍ من خَيْبَرَ اشْتَرَاهَا فَلَمَّا اسْتَجْمَعَهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ مَالًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ مِثْلَهُ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا وَحَبَسْتَ أَصْلَهَا " فَجَعَلَهَا عُمَرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلَّاهَا إِنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمُ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَأَوْصَى بِهَا إِلَى حَفْصَةَ، ثُمَّ إِلَى الْأَكَابِرِ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ وَالتَّعَلُّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْبِسَ الْأُصُولَ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَقَعُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ بِحَالٍ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ يَصِحُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَقِفُ وَيَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ لَزِمَ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللُّزُومُ مِنْ جِهَتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ بِالْحُكْمِ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ عُمَرَ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَكَمَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّقْلِ مِنْ غَيْرِهِ. وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي: بِالْخَبَرِ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا صَدَقَةً ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامَهَا فَقَالَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا صَارَتْ صَدَقَةً وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأَنَسًا، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَفَاطِمَةَ وَغَيْرَهُمْ وَقَفُوا دُورًا وَبَسَاتِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ فِي وَقْفِهِ فَبَاعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ هَمِّهِمْ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَنُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ. أَصْلُهُ: إِذَا بَنَى مَسْجِدًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمَ، وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِذَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فَصَلّوا فِيهِ صَارَ مَحْبِسًا وَثَبَتَ وَقْفُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ مَقْبَرَةً وَأَرَادَ أَنْ يَقِفَهَا فَأَذِنَ لِقَوْمٍ فَدَفَنُوا فِيهَا ثَبَتَ الْوَقْفُ، وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ بِغَيْرِ حُكْمِهِ. أَصْلُهُ: سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ الَّتِي تُزِيلُ الْمِلْكَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ حَبْسَ الزَّانِيَةِ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعِلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) {النساء: 15) وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّبِيلَ فَقَالَ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مائةٍ وَتَغْرِيبُ عامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مائةٍ وَالرَّجْمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يُنَبِّهُ فِي آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللهَ أعْطَى كُلّ ذِي حِقٍ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ} فكأنه قَالَ: لَا يُحْبَسُ عَنْ وَارِثٍ شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَائِطَ مَا كَانَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَبَوَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْخَبَرِ " مَاتَا فَوَرِثَهُمَا ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَذَا مُرْسَلٌ، لِأَنَّ شُرَيْحًا تَابِعِيٌّ، وَلَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 نَقُولُ بِالْمَرَاسِيلِ أَوْ نَقُولُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَحْبَاسَ الَّتِي كَانَتْ تَفْعَلُهَا الْجَاهِلِيَّةُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) {المائدة: 13) . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْفُ مَا صَحَّ لِمَعْنًى عَرَضَ فِيهِ فَرَدَّهُ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ الرَّدُّ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ بَيْعًا فَرَدَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيْعِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَدَقَةِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّا نَقْلِبُهُ، فَنَقُولُ: فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً. أَصْلُهُ: مَا ذَكَرُوهُ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَإِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الْوَقْفِ لَزِمَ أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْعَبْدِ لَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَعِتْقَهُ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ إِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى الرَّقَبَةِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ مُزِيلُ الْمِلْكِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ كَالْعِتْقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الْأَخِيرُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ إِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الْمَعْنَى، وَيَلْزَمَ إِذَا أُتِيَ بِلَفْظَةٍ كَمَا إِذَا قَالَ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ أَحْلَلْتُ لَكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَأَبَحْتُهَا لَكَ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ جَازَ ذَلِكَ والله أعلم. فَصْلٌ : ذَكَرَ أَصْحَابنَا تَفْسِيرَ السَّائِبَةِ، وَالْبَحِيرَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ، فَأَمَّا السَّائِبَةُ فَهِيَ النَّاقَةُ تَلِدُ عَشرَةَ بُطُونٍ كُلُّهَا إِنَاثٌ فَتُسَيَّبُ تِلْكَ النَّاقَةُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا لِلضَّيْفِ وَلَا تُرْكَبُ، وَالْبَحِيرَةُ: وَلَدُهَا الَّذِي يَجِيءُ بِهِ فِي الْبَطْنِ الْحَادِي عَشَرَ فَإِذَا كَانَ أُنْثَى فَهِيَ الْبَحِيرَةُ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ أُذُنَهَا أَيْ يَشُقُّونَهَا، وَالنَّحْرُ الشَّقُّ، وَلِهَذَا سَمَّوُا الْبَحْرَ بَحْرًا لِأَنَّهُ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَهِيَ الشَّاةُ تلد خمسة بطن فِي كُلِّ بَطْنٍ عَنَاقَانِ فَإِذَا وَلَدَتْ بَطْنًا سَادِسًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حَلَالًا لِلذُّكُورِ وَحَرَامًا لِلْإِنَاثِ وَأَمَّا الْحَامُ فَهُوَ الْفَحْلُ يَنْتِجُ مِنْ ظَهْرِهِ عَشَرَةَ بُطُونٍ فَيُسَيَّبُ وَيُقَالُ: حَمَي ظَهْرُهُ فَكَانَ لَا يُرْكَبُ. فَصْلٌ : لَيْسَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِ الْوَقْفِ عِنْدَنَا الْقَبْضُ وَقَالَ محمد بن الحسن: مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْهِبَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِقْبَاضِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ إِلَيْهِ التَّحْبِيسَ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَمْلِكُ الْوَاقِفُ التَّحْبِيسَ، لِأَنَّهُ لَا تَصِيرُ بِوَقْفِهِ لَازِمًا حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَقَفَ تِلْكَ السِّهَامَ الَّتِي مَلَكَهَا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ فَكَانَ يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَلَمْ يَزَلْ يلي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ تزل فاطمة عليهما السَّلَامُ تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَطِيَّةٌ، لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ وَالْعَقْدُ لَا يُسَمَّى عَطِيَّةً، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ، ثم المعنى في الأصل إن ذل تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ. فَصْلٌ : إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ دَارًا فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ بالوقف كما يزول بالبيع وغيره وخرج أبو العباس فيه قولاً آخر أنه لا يزول ملكه، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَتَحْبِيسُ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْوَقْفَ سَبَبٌ بِقَطْعِ تَصَرُّفِ الْوَاقِفِ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمُنَفِّعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الْمِلْكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ وَغَيْرُهُمَا. وَإِنَّ الْجَوَابَ عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّحْبِيسُ ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ فَهَلْ يَزُولُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ال ْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رَقَبَتَهُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إذا أوعى وَقْفًا عَلَيْهِ فَأَقَامَ شَاهِدًا أَوْ أَحَدًا حَلِفَ مَعَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ الْعِتْقُ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْيَمِينُ وَالشَّاهِدُ، فَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قَالَ إِنَّهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُخْرِجُ الْمَوْقُوفَ عَنِ الْمَالِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْعَنُ بِالْغَصْبِ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ الْيَدَ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مَلَكَهُ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَبِيعُ أُمَّ الْوَلَدِ وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ كَالْعِتْقِ. وَالْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِحَصِيرِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ من الآدميين وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ قَبُولِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دَارًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّتَهُ وَإِنْ كَانَ بُسْتَانًا فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَرَتَهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مَالٌ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مَالًا قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ كَمَا لَا يَمْلِكُ العتق بيع رقبته. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كثيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَقَدْ حَكَى لِي عددٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهَا حَتَى مَاتُوا يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنِ الْعَامَّةِ لا يختلفون فيه (قال الشافعي) رحمه الله: وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لعلي ما وصفت لم يزل من تصدق بها من المسلمين من السلف يلونها على من ماتوا وإن نقل الحديث فيها كالتكلف (قال) واحتج محتج بحديث شريحٍ أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاء بإطلاق الحبس فقال الشافعي الحبس الذي جاء بإطلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو كان حديثاً ثابتاً كان على ما كانت العرب تحبس من البحيرة والوصيلة والحام لأنها كانت أحباسهم ولا نعلم جاهلياً حبس داراً على ولدٍ ولا في سبيل الله ولا على مساكين وأجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر الحبس على ما روينا والذي جاء بإطلاقه غير الحبس الذي أجازه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) واحتج محتج بقول شريح لا حبس عن فرائض الله (قال الشافعي) رحمه الله: لو جعل عرضةً له مسجداً لا تكون حبساً عن فرائض الله تعالى فكذلك ما أخرج من ماله فليس بحبسٍ عن فرائض الله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَسَائِرُ النَّاسِ. فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ "، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى ثَمَرَةً مُلْقَاةً فَقَالَ: " لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا " وَلِأَنَّ الصَّدَقَاتِ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَقْبَلُهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إليه تمراً في طبقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: صَدَقَةٌ فَرَدَّهُ، ثُمَّ حَمَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: هديةٌ فَقَبِلَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من لحمٍ تصدق به على بريرة وَقَالَ: " هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هديةٌ " وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ أَوْ لِأَجْلِ الِاسْتِحْبَابِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الصَّدَقَةَ عَلَى سَلْمَانَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لَمَا رَدَّهَا وَلَكَانَ يَطِيبُ قَلْبُهُ بِقَبُولِهَا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لَمَّا رَدَّ حِمَارَهُ الَّذِي أَهْدَاهُ إِلَيْهِ وَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَيْسَ بنا رد عليك وكلنا حُرُمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي اللَّحْمِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ " هُوَ لَهَا صدقةٌ وَلَنَا هديةُ " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " وَهَذَا عَامٌّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ لَا التَّحْرِيمِ فَوَجْهُهُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْ لَهُ الْهَدِيَّةُ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بها لغيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَتَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَأَمَّا أَهْلُ بَيْتِهِ: فَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " وَقَوْلِهِ لِلْفَضْلِ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ ثمرة مِنَ الصَّدَقَةِ فَأَكَلَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كخٍ كخٍ يَعْنِي ارْمِ بِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ السِّقَايَاتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ". فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَعْنِي بِأَهْلِ الْبَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِذَوِي الْقُرْبَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَهُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَهُمْ ذَوِي الْقُرْبَى فَأَمَّا آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ يُذْكَرُونَ فِي التَّشَهُّدِ فَقَدْ قِيلَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فَآلُ الرَّجُلِ: أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَدخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ) {غافر: 46) وَأَرَادَ بِهِ أَشْيَاعَ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَحِلُّ الصَّدَقَاتُ كُلُّهَا عَلَيْهِمِ الْمَفْرُوضَةُ وَغَيْرُ المفروضة والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الرَّقِيقِ وَالْمَاشِيَةِ إِذَا عُرِفَتْ بِعَيْنِهَا قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ وَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالدُّورِ وَالْأَرْضِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَاشِيَةِ وَالسِّلَاحِ وَكُلِّ عَيْنٍ تَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا. وَقَالَ أبو يوسف: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْغِلْمَانِ فَأَمَّا وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا تَصِحُّ وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ مَا عَدَا الْأَرْضَ وَالدُّورَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ كَالْأَطْعِمَةِ وَالسَّمُومَاتِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ مَعْقَلٍ جَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَأَرْكَبُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عُمَرَ سَاعِيًا فَلَمَّا رَجَعَ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا إِنَّهُ قَدْ حَبَسَ أَذرعه وَأَعْبدَهُ وَمِنْ وجهه الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَجُوزُ بَيْعُهَا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَجَازَ وَقْفُهَا كَالدُّورِ. وقولنا: " عين " احترازها يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ حَيَوَانٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ غيره موقفه لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُنَا: " يَجُوزُ بَيْعُهُ " احْتِرَازٌ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْحُرِّ. وَقَوْلُنَا: " يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا " احْتِرَازٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وقولنا: " مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ " احْتِرَازٌ مِنَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ بِالِانْتِفَاعِ. وَقَوْلُنَا " الْمُتَّصِلُ " احْتِرَازٌ مِنَ السَّمُومَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بَقَاؤُهَا وَإِنَّمَا تَبْقَى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَقَطْ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وَقْفُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ جَازَ وَقْفُهُ مُنْفَرِدًا كَالشَّجَرَةِ لِأَنَّهَا وَقْفٌ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَتُوقَفُ مُنْفَرِدَةً عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَدَا الْأَرْضَ وَالْعَقَارَ فَجَازَ وَقْفُهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَيَصِحُّ وَقْفُهُ، ثُمَّ إِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَثَبَّتَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الشَّرِيكَ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيمَا لَا يَنْفَكُّ وَمَا يَنْفَكُّ فَلَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا يَنْفَكُّ وَيُحَوَّلُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَجَازَ وَقْفُهُ إذا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُهَا إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مُطْلَقَةً وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وقفت فرساً أو عبد فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَالْإِخْبَارُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْكَلْبُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا قَالَ تَصَدَّقْتُ بِدَارِي عَلَى قومٍ أَوْ رجلٍ معروفٍ حيٍّ يَوْمَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَقَالَ صدقةٌ محرمةٌ أَوْ قَالَ موقوفةٌ أَوْ قَالَ صدقةٌ مسبلةٌ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ فَلَا تَعُودُ مِيرَاثًا أَبَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ: تَصَدَّقْتُ وَوَقَفْتُ وَحَبَسْتُ لأن التصدق يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ وَيَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّمْلِيكِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا وَيَحْتَمِلُ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ فَإِذَا قَرَنَهُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَقْفِ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ وَانْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ وَالْقَرِينَةُ أَنْ يَقُولَ: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً أَوْ مُحْبَسَةً أَوْ مُسْبلَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُؤَبَّدَةً، أَوْ يَقُولُ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الْوَقْفَ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِيرُ وَقْفًا مِنَ الْحُكْمِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا فِي الْحُكْمِ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ أَنْتِ حِلٌّ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَقَرَّتْ بِالنِّيَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ وَقَفْتُ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ، لِأَنَّ الشرع قد ورد بها حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ: " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَعُرْفُ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ عُرْفِ الْعَادَةِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ حُرِّمَتْ وَبَدَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي الْوَقْفِ وَلَا يَحْتَمِلَانِ شَيْئًا آخَرَ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِيهِ فَالْحَاكِمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا قُلْنَا كِنَايَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوِ النِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 فَصْلٌ : وَأَمَّا مَا اخْتُلِفَ فِيهِ فَلَفْظَانِ التَّحْرِيمُ وَالتَّأْبِيدُ، فَإِذَا قَالَ حَرَّمْتُهَا أَوْ أَبَدْتُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَكُونُ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ بِتَحْرِيمِ الْوَقْفِ أَوْ يُرِيدَ تَحْرِيمَ التَّصَرُّفِ. والوجه الثاني: يكون صريح، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَقْفُ مِنَ الصَّرِيحِ. فَصْلٌ : وَقْفُ الْمُشَاعِ يَجُوزُ وَقَالَ محمد بن الحسن لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ رَهْنَهُ وَإِحَازَتَهُ لَا تَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سهمٍ مِنْ خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " فَوَقَفَهَا بِأَمْرِهِ وَكَانَتْ مُشَاعًا، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَنَافِعِ الْبَاقِيَةِ صَحَّ وَقْفُهُ كَالْمَحُوزِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ صَحَّ آخِرُهُ وَالْمُشَاعُ كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ : وَقْفُ الدِّرْهَمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا فَكَانَتْ كَالطَّعَامِ وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَاز وَقْفِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى وَقْفِهَا عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بِأَعْيَانِهَا فَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَقْفَ الْمَنَافِعِ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَقَفَهَا لِلْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ الْبَاقِي فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ. وَأَمَّا وَقْفُ الْحُلِيِّ فَجَائِزٌ لَا يَخْتَلِفُ لِجَوَازِ إِجَارَتِهِ أَوْ مَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. فَصْلٌ : أَرْضُ الْخَرَاجِ ضَرْبَانِ: أحدهما: أن تكون مملوكة الدوار فَيَكُونُ خَرَاجُهَا جِزْيَةً تَسْقُطُ عَنْهَا بِالْإِسْلَامِ وَيَجُوزُ وَقْفُهَا لِكَوْنِهَا مِلْكًا تَامًّا لِوَقْفِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَمْلُوكَةِ الدوارِ كَأَرْضِ السَّوَادِ فَخَرَاجُهَا أُجْرَةٌ وَوَقْفُهَا لَا يَجُوزُ وَأَجَازَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَهُوَ أَصْلُنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ وَقْفِهَا، أَوْ لَا يجوز عندنا بيعها. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا إِلَى مَالِكِ منفعةٍ يَوْمَ يُخْرِجُهَا إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُسْبِلْهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا عَلَيْهِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا وَرَدَدْنَاهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا يَوْمَ تَرْجِعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ مُلْحَقٌ بِالْهِبَاتِ فِي أَصْلِهِ، وَبِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ، وَلَيْسَ كَالْهِبَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا كَالْوَصَايَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَصْلٍ مَوْجُودة، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ مَنْ يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ السَّبِيلِ، لِيُعْلَمَ مَصْرِفُهُ وَجِهَةُ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 ما شاء زيد، وهكذا لو قَالَ وَقَفْتُهُ عَلَى مَا شَاءَ زَيْدٌ، كَانَ بَاطِلًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ وَقَفْتُهُ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ، كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ شِئْتُ، أَوْ فِيمَا شِئْتُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ مَنْ شَاءَ، أَوْ مَا شَاءَ عِنْدَ وَقْفِهِ جَازَ، وَأَخَذَ بَيَانَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تَعَيَّنُوا لَهُ عِنْدَ مَشِيئَتِهِ فَالسَّبِيلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ وَاقِفِهِ يُؤْخَذُ بَيَانُهَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا فَهِيَ مَجْهُولَةٌ كَوُرُودِ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ، فَهِيَ مَجْهُولَةٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَفِي الْوَقْفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَهُوَ الْأَقْيَسُ لِلْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَصْرِفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَفِي مَصْرِفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمُ ابْنُ سريج. أحدهما: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصْرِفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَى، وَمَقْصُودَ الْقُرْبَى فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَصَّى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَيِّ الْجِهَاتِ صَرَفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيَكُونُ أَقْرَبُ النَّاسِ نَسَبًا وَدَارًا مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ أَحَقَّ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصْرِفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ وَقْفٌ وَالْمَنْفَعَةُ لَهُ، وَلِوَرَثَتِهِ، وَوَرَثَةِ وَرَثَتِهِ مَا بَقَوْا، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ وَقَفَ الْأَصْلَ وَاسْتَبْقَى الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ وَلِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ وَقَفْتُهَا على من يولد لي وليس له ولداً يَجُوزُ. قِيلَ لَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ مَعَ الْإِطْلَاقِ قَدْ يَحْمِلُ بِالْعُرْفِ عَلَى جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَمَعَ تَعْيِينِ الْحَمْلِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى جِهَةٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ. فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ لِعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ مَا كَانَ سَبِيل مَخْصُوص الْجِهَاتِ لِتُعْرَفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَقْفُهَا إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِمْ لَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاوَاتِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى قَبِيلَةٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِمْ كَوَقْفِهِ إِيَّاهَا عَلَى رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ أَوْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ تَعْلِيلًا بأن استيفاء جميعهم غير ممكن وليس في الشَّرْع لَهُمْ عُرْف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَدْفَعُ إِلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُسْبَلَةً مُؤَبَّدَةً لَا تَنْقَطِعُ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ بِأَنْ قَالَ: وَقَفُتُ دَارِي عَلَى زَيْدٍ سَنَةً لم يجز، وأجازه ما ملك، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِكُلِّ مَالِهِ وَبِبَعْضِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ عَارِيَةٌ وَلَيْسَتْ وَقْفًا. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَارِيَةَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذِهِ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، أَوْ هَذَا خطأ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَهَذَا أَصْلٌ غَيْرُ مُحْبَسٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ إِلَى مُدَّةٍ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَتَقَ إِلَى مُدَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ فَلَيْسَ فِي الْهِبَاتِ رُجُوعٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصَايَا والصدقات فليس فيها. لزوال الْمِلْكِ رُجُوعٌ، وَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ مَالِهِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْفِ بَعْضِ مَالِهِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَفِي وَقْفِهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوَقْفَ إِلَى مُدَّةٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ الْمُتَقَطِّعُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ بمدة لا يجوز. مسألة أَنْ يَقُولَ وَقَفْتُ بَعْدَهُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ فَيَصِيرُ الْوَقْفُ مُنْقَطِعًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يُعْلَمُ تَأْبِيدُهُ لِجَوَازِ انْقِرَاضِهِمْ فَصَارَ وَقْفًا مُنْقَطِعًا، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ نَفَرٍ لَأَنَّ الْمَسْجِدَ وَالرِّبَاطَ قَدْ يُخَرَّبَانِ وَيَبْطُلَانِ وَالثَّغْرَ قَدْ يُسَلَّمُ أَهْلَهُ فَصَارَ مُنْقَطِعًا حَتَّى يَقُولَ فَإِنْ بَطَلَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ وَقْفًا بَاقِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَغْرٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ مُقَدَّرًا وَلَا مُنْقَطِعًا فَفِيهِ قَوْلَانِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ: لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا، وَالْمُنْقَطِعُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَلَمْ يَصِرْ وَقْفًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَوْجُودًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ كَالْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ. فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ كَانَ مِلْكُ الْوَاقِفِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَصْلِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، وله التصرف فيه كسائر أملاكه. وإذا قِيلَ: بِجَوَازِ الْوَقْفِ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَوْجُودِ مَا كَانَ بَاقِيًا لَا حَقَّ لَوَاقِفِهِ فِيهِ فَإِذَا هَلَكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَقْفُ فينقطع سبله فلا يخلوا حال الواقف في شرطه الواقفة من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترط تحريمها وتأبيدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 والثاني: أن يشترط رجوعها إليه. والثالث: أن يطلق، وإن اشرط رُجُوعَهَا إِلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنَّهُمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا لَهُمَا مِنَ الْآثَارِ لِمُوجِبِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ تَغْلِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ تَأْبِيدَهَا أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَصْلِ فيه أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَفِي مَصْرَفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ لِأَنَّهَا أَعَمُّ. وَالثَّانِي: فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُمْ مَقْصُودُ الصَّدَقَاتِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ لَكِنْ أَطْلَقَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ ذِكْرَ الْأَقَارِبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَهُوَ نَصُّ مَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الرِّوَايَةُ مُخْتَلِفَةً وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْيِيدِ حَرْمَلَةَ وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، لِأَنَّهُ مَصْرِفُ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَقَارِبَ صِلَةً لِلرَّحِمِ كَالزَّكَاةِ، وَإِذَا تقرر ما وصفنا فلا يخلوا حَالُ الْوَقْفِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ فَإِذَا مَاتَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ زَيْدًا أَصْلًا وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ فَرْعًا وَهُمْ مَوْجُودُونَ، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَادُ زَيْدٍ مَوْجُودِينَ، لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْجُودٍ وَيَتَعَقَّبُهُمْ فَرْعٌ مَوْجُودٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ الْوَقْفُ مُلْحَقًا بِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَصْلٌ مَعْدُومٌ وَفَرْعٌ مَعْدُومٌ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، فَهَذَا وَقْفٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ لَهُ مَعْدُومٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُلْحَقًا بِالْهِبَاتِ ثُمَّ يَكُونُ مَا وقفه على ملكه قولاً واحد بِخِلَافِ مَا وَقَفَهُ وَقْفًا مُرْسَلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَدَّرِ وَالْمُنْقَطِعِ وَفِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهَا عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ. أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِعَدَمِ أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ لِوُجُودِ فَرْعِهِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَجْعَلُ الْوَقْفَ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا هو الصحيح، والفرق بين هذا ويبن أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ أَنَّ مَا عُدِمَ أَصْلُهُ فَلَيْسَ لَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ لَهُ مَصْرِفٌ فِي ثَانِي حَالٍ، فَبَطَلَ وَمَا وُجِدَ، فَلَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا مَا يُخَافُ عَدَمُ مَصْرِفِهِ فِي ثَانِي حَالٍ فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إِلَّا أَنْ يُولَدَ لِي وَلَدٌ فَيَكُونُ الْوَقْفُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، وَإِذَا انْقَرَضُوا فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَهَذَا وَقْفٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعْدُومًا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ، كَمَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدٍ لَهُ مَوْجُودٌ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّانِي وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةٍ تَصِحُّ مِلْكُهَا أَوِ التَّمَلُّكُ لَهَا، لِأَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَالِكًا. قِيلَ: هَذَا وَقَفٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا عَيَّنَ مَصْرِفَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَصَارَ مَمْلُوكًا مَصْرُوفًا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى دَابَّةِ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا يُصْرَفُ ذَلِكَ فِي نَفَقَتِهَا، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى دَارِ عَمْرٍو لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِمَارَةِ دَارِ زَيْدٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ وَقْفًا صَحَّ هَذَا الْوَقْفُ، لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ وَحِفْظَ عِمَارَتِهِ قُرْبَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا على مساجد أَوْ رِبَاطٍ أَوْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ مِلْكًا طَلْقًا. بَطَلَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ وَلَيْسَ اسْتِيفَاؤُهَا وَاجِبًا إِذْ لِزَيْدٍ بَيْعُهَا، وَلَيْسَ فِي حِفْظِ عِمَارَتِهَا طَاعَةٌ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِ زَيْدٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى نَفَقَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مَالِكًا لِغَلَّتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْمُكَاتِبِينَ أَوْ على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 مُكَاتِبٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا لِأَنَّ سِهَامَ الزَّكَوَاتِ أَغْلَظُ حُكْمًا، وَفِيهَا سَهْمُ الرِّقَابِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُدَبَّرٍ كَانَ كَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ مُدَبَّرِهِ أَوْ مَكَاتَبِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الجهات باطلاً، لأنها معاصي يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ الرَّجُلُ حِينَ وَقَفَهَا عَلَيْهِ مُرْتَدًّا فَعَلَى الْوَقْفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مُرْتَدٍّ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ فَلَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ، وَقْفٌ عَلَى الرِّدَّةِ، وَالرِّدَّةُ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ هُوَ مُرْتَدٌّ لَيْسَ بِوَقْفٍ عَلَى الرِّدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ وَقْفًا عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: فِي الْوَقْفِ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُرْتَدٍّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَوِ ارْتَدَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْوَقْفِ حَقٌّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي الرِّدَّةِ إِنْ لَوْ صَحَّ الْوَقْفُ. فَأَمَّا إِذَا وَقَفَهَا عَلَى مُسْلِمٍ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَأَبْطَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ أَمْلَاكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرْتَدِّ يَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: بَاطِلٌ: وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ. وَجَائِزٌ: وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ. وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ: وَهُوَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى رَجُلٍ مُرْتَدٍّ. فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَجَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ مُنِعُوا الْمَفْرُوضَ مِنْهَا، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ غَلَّتِهِ، فَلَوِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ الْوَقْفَ وَالْحَجَّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَجَّ عَنِ الْمُرْتَدِّ لَا يَصِحُّ وَصُرِفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ الْوَقْفُ إِلَى الْحَجِّ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي الْجِهَادِ عَنْهُ جَازَ، فَلَوِ ارْتَدَّ الْوَاقِفُ عَنِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ الْجِهَادُ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْبَيْعِ فَبَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا لِيُسْكِنَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 فَقُرَاءَ الْيَهُودِ وَمَسَاكِينَهُمْ، فَإِنْ جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ فِيهَا حَظًّا جَازَ الْوَقْفُ، وَإِنْ جَعَلَهَا مَخْصُوصَةً بِالْفُقَرَاءِ الْيَهُودِ فَفِي صِحَّةِ وَقْفِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْوَقْفِ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا صَارَتْ كَبَيْعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ والإنجيل فباطل، لأنها مبدلة، فصار وقف عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُعَلِّلُ بُطْلَانَ الوقف عليها بأنها كتب قد نخست وهذا تعليل فاسد لأن تلاوة النسوخ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ خَطَأٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يتلا وَيُكْتَبُ كَغَيْرِ الْمَنْسُوخِ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ : وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ وَقْفُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَرَطَ أَوَّلَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ جَمِيعَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ حِينَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِهِ مَنْ يَشْتَرِيَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ وَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ خيرٌ مِنْهَا فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَقَالَ فِي بِئْرِ رُومَةَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهِ، وَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَطَ فِيهَا رِشًا كَرِشَا الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصاحب البدنة " اركبها إذا ألجئت إليها حتى تَجِدَ ظَهْرًا " فَجَعَلَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتق صفية، وجعل عتقها صدقها معاد إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ جَعَلَ رِبَاعَهُ صَدَقَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّهُ لما استوى هو وغيره في الوقت الْعَامِّ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْوَقْفِ الْخَاصِّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَبِتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ، وَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ وَلَا الْهِبَةُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنَافِعِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ كَاسْتِثْنَائِهِ فِي العتق أَحْكَامِ الرِّقِّ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْوَقْفِ، ولأن الوقف يوجب إزالة ملك استحداث غَيْرِهِ وَهُوَ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يدل بِالْوَقْفِ مِلْكًا وَلَا اسْتَحْدَثَ بِهِ مِلْكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُثْمَانَ شَرَطَ فِي بِئْرِ رُومَةَ أَنْ يَكُونَ دَلْوُهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمَيْنِ فَهُوَ أَنَّ المال عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِجَازَةِ فَلَمْ يقف ما اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْبِئْرِ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا دُونَهُمْ وَأَنَّهُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ " ارْكَبْهَا إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَى تَجِدَ ظَهْرًا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَدَنَةِ مَنَافِعَهَا فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَقْفِ مَنَافِعُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْبَدَنَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مَنَافِعُهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ يُعْتَبَرُ شَرْطٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِهِ لِصَفِيَّةَ فَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى عِوَضٍ جَائِزٌ وَالْوَقْفَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا سُكْنَى عُمَرَ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وما وَقَفَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُمَا بَعْدَ اسْتِطَابَةِ نُفُوسِ أَرْبَابِهِ، لِأَنَّ نَفْسَ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ لَا يَأْتِي إِرْفَاقُ الْوَقْفِ بِهِ، وَلَوْ مَنَعَهُ لَامْتَنَعَ أَوْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ مِنْ وَاقِفِهِ. وَأَمَّا الْوَقْفُ الْعَامُّ فَسَنَذْكُرُ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْهُ. فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاقِفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَعَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهُ عَلَى نَفْسِي ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِنَفْسِهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؟ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ بَاطِلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَصْلًا عِنْدَ بُطْلَانِ الْأَصْلِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ شَرْطِهِ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِغَلَّتِهِ مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّوِنَ الْوَقْفَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا صَارَ وَقْفًا بَعْدَ مُدَّةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَارَتِ الْغَلَّةُ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَصَارَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَعْمُولًا فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا فَعَلَى ضربين: أحدهما: أن يكون مَنَافِعُهُ مُبَاحَةً كَمَرَافِقِ الْمَسْجِدِ وَمَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا يَكُونُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ اسْتِدْلَالًا بِوَقْفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ ثَلَاثٌ ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهُ لَيْسَتْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَثِمَارِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ كَرَجُلٍ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَصَارَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، دَخَلَ فِيهِ وَجَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا كَأَحَدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ بِوَصْفِهِ لَا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَوْصُوفَيْنِ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَيُسَاوِي مَنْ شَارَكَهُ فِي حَقِّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا كَانَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالزُّبَيْرِيِّ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ عَامًّا فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ بِعَيْنِهِ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ بِوَصْفِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِعَيْنِهِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَاصِّ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حق قائم على التأييد يَخْلُفُهُ فِيهِ وَرَثَتُهُ وَوَرَثَةُ وَرَثَتِهِ مَا بَقُوا فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَ حِينَئِذٍ عَلَى جَمَاعَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَإِذَا مَاتَ عَادَ إِلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ وَرَثَتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِمْ بِعَيْنِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَا جَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَمْ دَاخِلًا فِي عُمُومِ وَقْفِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ بَطَلَ فِيهِ وَصَحَّ فِيمَا سِوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ وَقْفِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَقِيَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنَّمَا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحُكْمِ. فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى وَرَثَةِ وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَمَاتَ الْوَلَدُ وَكَانَ الْأَبُ الْوَاقِفُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالزُّبَيْرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ وَلَا عَلَى الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ مَوَارِيثِهِمْ وَلَا يَأْخُذُونَ مِيرَاثَ غَيْرِهِمْ، وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيمَا جَعَلَهُ لِوَرَثَةِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَيَكُونُ كَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّسَاوِي فِي الْعَطَايَا فَلَمْ يَشْتَرَطِ التَّفَاضُلَ، فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَرَثَةِ زَيْدٍ، وَكَانَ زَيْدٌ حَيًّا فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ مَوْرُوثًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أَهْلُهُ وَرَثَةً عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ هَذَا وَقْفًا عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ مَيِّتًا كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا صَحِيحًا عَلَى وَرَثَتِهِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفْضِيلِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَهِيَ عَلَى مَا شَرَطَ مِنَ الْأَثَرَةِ وَالتَّقْدِمَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ عَمَلِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 أَوْلَادِهِ وَكَانُوا مَوْجُودِينَ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ الْوَقْفُ إِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَبَطَلَ عَلَى أَوْلَادِهِ إِنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ وَفِي بُطْلَانِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ قَوْلَانِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي الصِّحَّةِ فأمضياه دخل فيهم الذكور والإناث والخناثى؛ لأنه كُلَّهُمْ أَوْلَادُهُ؛ فَإِنْ فَضَّلَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ أَوْ فَضَّلَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ حُمِلُوا عَلَى تَفْضِيلِهِ وَهَكَذَا لَوْ فَضَّلَ الصِّغَارَ عَلَى الْكِبَارِ أَوِ الْكِبَارَ عَلَى الصِّغَارِ، وَإِنْ أَطْلَقَ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ وَلَا غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ ولا شيء لأولاده أَوْلَادِهِ إِذَا كَانَ وَقْفُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَوْلَادِ صُلْبِهِ وَلِلْبَطْنِ الثَّانِي وَهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ يَقُولَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلَا يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ أَخَذَ الْبَطْنُ الثَّانِي حِينَئِذٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الثَّانِي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْبَطْنِ الثَّالِثِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ، وَإِنْ سَفَلُوا فَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ مِنْ وَلَدِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ثُمَّ يُشَارِكُ كُلُّ بَطْنٍ لِمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يُرَتِّبَ فَيَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَبَدًا مَا بَقُوا وَتَنَاسَلُوا اسْتَحَقَّهُ كُلُّ بَطْنٍ يَحْدُثُ مِنْ وَلَدِهِ، فَإِنْ رَتَّبَ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ شَارَكَ الْبَطْنُ الْأَعْلَى الْبَطْنَ الْأَسْفَلَ وَلَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ فِيهِ مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ فَإِذَا انْقَرَضَ جَمِيعُهُمْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِمْ وَلَدُ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ وَلَدِهِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (بَنُونَا بنوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ هُمْ خَيْرُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، هُوَ أَنَّ الْبَنَاتَ لَمَّا كُنَّ مِنْ أَوْلَادِهِ كَانَ أَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ فَسَمَّاهُ ابْنًا. فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى نَسْلِي، أَوْ قَالَ عَلَى عَقِبِي، أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِي، دَخَلَ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَإِنْ بَعُدُوا، لِأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ وَذُرِّيَّتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 {وَمِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ يُجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) {الأنعام: 84) فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ إِنَّمَا نَسَبَ إِلَيْهِ بِأُمٍّ لَا بِأَبٍ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُنَاسَبَةٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ أَوْلَادُ بَنَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: عَلَى عَصَبَتِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ إِلَّا الذُّكُورُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ بَنِيهِ دُونَ الْإِنَاثِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى بَنِيَّ لَمْ يُشْرِكْهُمْ بَنَاتُهُ وَلَا الْخَنَاثَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنَاتِي لَمْ يُشَارِكْهُمْ بَنُوهُ وَلَا الْخَنَاثَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنِيَّ وَبَنَاتِي، دَخَلَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ وَفِي دُخُولِ الْخَنَاثَى فِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُونَ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ وَلَا فِي الْبَنَاتِ. والثاني: يدخلون فيهم، لأنهم لا يخلوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْبَنِينَ أَوْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَنَا مُشْكَلِينَ فَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُشْكَلِينَ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَإِنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ لَا إِلَى قَبِيلَةٍ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَوْ أَشَارَ إِلَى قَبِيلَةٍ كَقَوْلِهِ: عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِي دُخُولِ الْبَنَاتِ فِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَبِيلَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنَاتِ فُلَانٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمِ الذُّكُورُ سَوَاءٌ أَرَادَ رَجُلًا أَوْ قَبِيلَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ حَدٌّ يَجْمَعُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِاسْمِ الذُّكُورِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِاسْمِ الْإِنَاثِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَنْ نَاسَبَهُ إِلَى الْجَدِّ. وَالثَّانِي: مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي رَحِمٍ. وَالثَّالِثُ: كُلُّ مَنِ اتصل منه ينسب أَوْ سَبَبٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ " وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى آلِهِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَنْ دَانَ بِدِينِهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ فَهُمُ الْمَوْلُودُونَ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، يَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ وَأَوْلَادُ الْإِنَاثِ، ثُمَّ الْوَالِدُونَ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ ثُمَّ يَسْتَوِي بَعْدَهُمُ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُونَ. وَالثَّانِي: يَسْتَوُونَ ثُمَّ يُقَدَّمُ بَنُو الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَعْمَامِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْأَعْمَامِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 وَيُسَوِّي بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَهَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَى مَوَالِيهِ فَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَعْلَى فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ سَفَلَ، وَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ عَلَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ ثلاثة أوجه حكاهما أبو سعيد الاصطخري. أحدهما:: يَكُونُ لِمَنْ عَلَا وَهُوَ الْمُعْتِقُ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِمَنْ سَفَلَ وَعَلَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الْمَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لِامْتِيَازِ الْفَرِيقَيْنِ وَاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَهُمْ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ وَالِدٌ وَوَلَدٌ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَشَمِهِ فهم من في نفقة سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَاشِيَتِهِ فهم المتصلون بخدمته. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْغِنَى وَالْحَاجَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح للواقف أن يشترك فِي وَقْفِهِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ قَالَ وقف دَارِي عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ دَفَعَ مَنْ عَلَيْهَا إِلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْفَقْرَ منهم فإن جهلت حاله ما لم يعل غِنَاهُ وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَى مَنِ ادَّعَى الْغِنَى مِنْهُمْ عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالْغِنَى، لِأَنَّهُ يَدَّعِي حُدُوثَ مَا لَمْ يُعْلَمْ. فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ اسْتَغْنَى مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ فَقِيرًا، ثُمَّ اسْتَغْنَى فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ غَنِيًّا فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْغِنَى، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ افْتَقَرَ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ غَنِيًّا ثُمَّ افْتَقَرَ وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَقْرًا بَعْدَ غِنًى. فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى فَقْرِ أَهْلِهِ فَكَانَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ فَقِيرٌ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ أَوِ امْرَأَةٌ فَقِيرَةٌ لَهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ أَوْ رَجُلٌ فَقِيرٌ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ يَشْتَغِلُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الْوَقْفِ، وإن لم يكونوا من فقراء الزكوة، ألا ترى أنهم يكفرون بالصيام تكفيرهم الفقراء. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمِنْ إِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بصفةٍ وَرَدَّهُ إِلَيْهَا بِصِفَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخُلُهُ فِيهَا بِصِفَةٍ فَيَشْتَرِطُهَا وَإِذَا وُجِدَتْ دَخَلَتْ فِيهَا بِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَإِذَا عُدِمَتْ خَرَجَ مِنْهَا بِعَدَمِ الصِّفَةِ فَهَذَا جَائِزٌ وهو على شرطه فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 محمولة كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُهَا عَلَى أَغْنِيَاءِ بَنِي تَمِيمٍ، فَمَنِ اسْتَغْنَى مِنَ الْفُقَرَاءِ أُدْخِلَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهُ وَمَنِ افْتَقَرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخَلَ فِيهَا بِاخْتِيَارِهِ كَأَنَّهُ قَالَ قَدْ وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى مَنْ شِئْتُ عَلَى أَنْ أُدْخِلَ فِي الْوَقْفِ مَنْ أَشَاءُ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ مَنْ أَشَاءُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُ بِصِفَةٍ وَأَخْرَجَهُ بِصِفَةٍ. وَالثَّانِي: هُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ فَإِذَا قِيلَ: لَا يَجُوزُ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ صَحَّ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى فِيهِ عند عقد الوقف قوماً، ثم له يُدْخِلَ مَنْ شَاءَ وَيُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَهَلْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا شَاءَ، وَلَهُ شَرْطُهُ وَقَدِ اسْتَقَرَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا مَا عَاشَ وَبَقِيَ لِعُمُومِ الشَّرْطِ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ فِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ دُخُولُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ وَمَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ خُرُوجُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ وَقَفْتُهَا عَلَى الْأَرَامِلِ فَهُمُ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَا أَزْوَاجَ لَهُنَّ، وَفِي اعْتِبَارِ فَقْرِهِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَتَامَى إِنْ خَصَّ أَرَامِلَ قَبِيلَةٍ لَمْ يراعي فَقْرُهُنَّ، وَإِنْ عَمَّ وَأَطْلَقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الِاسْمِ. وَالثَّانِي: يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَصَرِيحِ اللِّسَانِ وَأَنَّ الْأَرْمَلَ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ: (كُلُّ الْأَرَامِلِ قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَقَفَهَا عَلَى الْغِلْمَانِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْجَوَارِي فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْإِنَاثِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفِتْيَانِ فَهُمْ مَنْ قَدْ بَلَغَ وَإِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى الشَّبَابِ فَهُمْ كَالْفِتْيَانِ مَا بَيْنَ الْبُلُوغِ وَالثَّلَاثِينَ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْكُهُولِ فَهُمْ مَنْ لَهُ مِنْ بَيْنِ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَهْلاً وِمِنَ الصَّالِحينَ) {آل عمران: 46) أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَوْ وَقَفَهَا فَهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى جِيرَانِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِيرَانِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ دَرْبٌ يُعَلَّقُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ صَلَّى مَعَكَ فِي مَسْجِدِكَ وَدَخَلَ مَعَكَ إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 حَمَّامِكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ مَنْ نَسَبُوا إِلَى سُكْنَى مَحَلَّتِكَ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا وَيُسَوِّي بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَجْهًا وَاحِدًا مَا لَمْ يُمَيِّزْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشُّيُوعِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَقْرِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وقفها على قراء القرآن أعطي من قراءه كُلَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا وَلَا يُعْطَى مَنْ قَرَأَ بَعْضَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَرَأَ قُرْآنًا فَيُعْطَى مِنْهُ مَنْ قَرَأَ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يُمْنَعُ مِنَ الْجُنُبِ وَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى حُفَّاظِ الْقُرْآنِ لَمْ يُعْطَ مَنْ نَسِيَهُ بَعْدَ حِفْظِهِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ فِي الْعُرْفِ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ الْقُرَّاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مَا تَصَرَّفَ فِي مَعَانِيهِ لَا مَا كَانَ مَحْفُوظَ التِّلَاوَةِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمُ الْغُزَاةُ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الثَّوَابِ فَهُمُ الْقَرَابَاتُ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَدَقَتُكَ عَلَى ذِي رَحِمِكَ صدقةٌ وصلةٌ " وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فَهُمْ سَهْمَانِ لِلصَّدَقَاتِ وَقِيلَ يَدْخُلُ فِيهِمُ الضَّيْفُ وَالسَّائِلُ وَالْمُعِيرُ وَفِي الْحَجِّ. فَصْلٌ : فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا بَاعَهَا أَوْ رَجَعَ فِيهَا أَوْ أَخَذَ غَلَّتَهَا فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ وَكَتَبَ هَذَا مَا وَقَفَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَفَ عَيْنَ إِبَى ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَلِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى احْتَاجَ الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ إِلَى بَيْعِهَا بِدَيْنٍ أَوْ نِيَابَةٍ فَلَهُمَا بَيْعُ مَا رَأَيَاهُ مِنْهَا، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ إِلَى بَيْعِهَا لِدَيْنٍ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ " لِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ " فَامْتَنَعَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الْوَقْفِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ للعقود مبطلة لها إذا اقتربت بِهَا كَالشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يؤيد الْوَقْفَ وَلَا حَرَّمَهُ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْقَدْرِ إِلَى وَقْتٍ بَلْ هَذَا أَفْسَدُ لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ أَجْهَلُ، فَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ صَحَّ ما ذكر فيه فمحول عَلَى بَيْعِ مَا رَأَيَاهُ مِنْ غَلَّتِهِ لَا مِنْ أَصْلِهِ وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ فِي هَذَا الْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ إِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْوَقْفَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ أَبَدًا. فَصْلٌ : فَإِذَا وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ مِنْهَا النِّصْفَ، وَلِعَمْرٍو مِنْهَا الثُّلُثَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْفَاضِلُ عَلَيْهِمَا بالرد فيكون لزيد ثلاثة أخماسها ولعمرو خمسيها وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا وَلَمْ يَقُلْ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إِنَّهَا عَلَيْهِمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ لَهُ وَكَانَ السُّدُسُ الْفَاضِلُ إِذَا صَحَّ الْوَقْفُ فِيهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِزَيْدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو ثُمَّ عَلَى بَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْطِهِ فَكَانَتْ لِزَيْدٍ فَإِذَا مَاتَ فَلِعَمْرٍو فَإِذَا مَاتَ فَلِبَكْرٍ فَإِذَا مَاتَ فَلِلْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِبَكْرٍ وَكَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّ بَكْرًا رُتِّبَ بَعْدَ عَمْرٍو، وَجُعِلَ لَهُ مَا كَانَ لِعَمْرٍو، وَعَمْرٌو بِمَوْتِهِ قَبْلَ زَيْدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ شَيْئًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بَكْرٌ عَنْهُ شَيْئًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 فَصْلٌ : الْوِلَايَةُ عَلَى الْوَقْفِ مُسْتَحَقَّةٌ فَإِنْ شَرَطَهَا الواقف في وقفها كَانَتْ لِمَنْ شَرَطَهَا لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَإِنْ أَعْقَلَ اشْتِرَاطَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِلْوَاقِفِ اسْتِصْحَابًا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ملكه واستشهاداً بولاء عقته. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِمِلْكِ الْمَنَافِعِ وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَخَصِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْحَاكِمِ وَلَهُ رَدُّهَا إِلَى مَنْ شَاءَ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُزُومِ نَظَرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ جعلها للأفضل والأفضل من بينه كَانَتْ لِأَفْضَلِهِمْ، فَلَوِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ فَحَدَثَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ لَمْ يَنْتَقِلْ وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَفْضَلُ فِيهِمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْفَاضِلِ فَيَصِيرَ مَفْضُولًا فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلَوْ جَعَلَهَا لِلْأَفْضَلِ مِنْ وَلَدِهِ فَهَلْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ أَمْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى أَفْضَلُ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّهُمْ وَلَدٌ. وَالثَّانِي: يُرَاعَى أَفْضَلُ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الذُّكُورَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنَاثِ فَلَوْ جَعَلَهَا لِابْنَيْنِ مِنْ أَفَاضِلِ وَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نَظَرِهِ وَحْدَهُ وَضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا مِنْ غَيْرِ وَلَدِهِ، لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْتَحِقٌّ لَهَا اخْتَارَ الحاكم أمينين يكونا وَالِيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْهُمْ فَاضِلَانِ فَلَمْ يَقْبَلَا الْوِلَايَةَ اخْتَارَ لِلْوِلَايَةِ غَيْرَهُمَا فَإِنْ طَلَبَا الْوِلَايَةَ بَعْدَ رَدِّهَا لَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا بِالرَّدِّ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِمَا بِالطَّلَبِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوِلَايَةِ شَرْطٌ هَلْ يَكُونُ الْمُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ أَحَقَّ. أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ بِغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: هُمَا أَحَقُّ بِهَا إِذَا قِيلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ أَنَّهَا لَهُمَا. فَصْلٌ : فَإِذَا اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فِي شَرْطِهِ وَتَنَازَعُوا فِي تَرْتِيبٍ أَوْ تَفَاضُلٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَفَاضُلٍ وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ أَيْمَانَ بَعْضٍ لَزِمَتْ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا كَانَ قَوْلُهُ فِيهِ مَقْبُولًا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ وَكَانَ وَارِثُهُ بَاقِيًا كَانَ قَوْلُ وَارِثِهِ فيه مقبولاً، فلو لم يكن واقف إلا وَارِثٌ، وَكَانَ والٍ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي وِلَايَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرَكَاءِ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرُوطِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْوَالِي عَلَيْهِ وَالْوَارِثُ فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوَارِثُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاقِفِ. وَالثَّانِي: الْوَالِي لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فَلَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلْوَالِي عَلَيْهِ جَعْلًا وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ صَحَّ، وَكَانَ لَهُ مَا سُمِّيَ مِنْ أَجْلِ الْعِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَمِنْهَا) فِي الْحَيَاةِ الْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنْ قَبَضَهَا أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ فَهِيَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَوْقَافِ وَسَنَذْكُرُ أَحْكَامَ الْهِبَاتِ وَهِيَ مِنَ الْعَطَايَا الْجَائِزَةِ بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) وَالْهِبَةُ بِرٌّ وَقَالَ {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ) {البقرة: 177) الْآيَةَ يَعْنِي بِهِ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كراعٍ لَأَجَبْتُ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَهَادُوا تَحَابُّوا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّنَا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا " وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَتِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْهَدِيَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّآلُفِ. فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ إِبَاحَةُ الْهِبَةِ بِمَا ذَكَرْنَا فَتَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ بِمَوْهُوبٍ وَوَاهِبٍ وَمَوْهُوبٍ لَهُ وَعَقْدٍ وَقَبْضٍ. وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ صَحَّ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ أَنْ يكون مملوكاً وإن كان غير مملوكاً مِنْ وَقْفٍ أَوْ طَلْقٍ لَمْ يَجُزْ وَأَنْ يكون معلوماً عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ وَقْفٍ أَوْ طَلْقٍ لَمْ يَجُزْ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَجُزْ، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَإِنْ كان غائباً لم يجز لا يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِهِ مَانِعٌ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ كَالْمَرْهُونِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ فَهَذَا حُكْمُ الْمَوْهُوبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحُوزِ والمشاع سواء كان مما ينقسم ولا يَنْقَسِمُ. وَقَالَ أبو حنيفة: هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ جَائِزَةٌ وَالْمُشَاعُ الَّذِي يَنْقَسِمُ بَاطِلَةٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) {النساء: 4) وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ كَالْمَحُوزِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَاهِبُ فَهُوَ كُلُّ مَالِكٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا عَنْهُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ كَالسَّفِيهِ وَالْمُولَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَهُوَ مَنْ صَحَّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَرَشِيدٍ فَأَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كالحمل والبهيمة ولا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ، فَأَمَّا الْعَبْدُ ففي صحة كونه موهوباً قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 فصل : فأما العقد فهو بدل مِنَ الْوَاهِبِ، وَقَبُولٌ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ مَنْ يَقُومُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَوَكِيلٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاهِبُ قَدْ وَهَبْتُ فَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: الموهوب عَلَى الْفَوْرِ: قَدْ قَبِلْتُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَبُولُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَخَالَفَ بِهِ الْكَافَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْهَدَايَا فَلِلْهَدِيَّةِ فِي الْقَبُولِ حُكْمٌ يُخَالِفُ قَبُولَ الْهِبَاتِ نَحْنُ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ مِسْكًا فَمَاتَ النَّجَاشِيُّ قَبْلَ وُصُولِ الْمِسْكِ إِلَيْهِ فَعَادَ الْمِسْكُ إِلَيْهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَلَوْ صَارَ الْمِسْكُ لِلنَّجَاشِيِّ لَمَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَأَوْصَلَهُ إِلَى وَارِثِهِ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ تَامٌّ يَنْتَقِلُ عَنْ حَيٍّ فَافْتَقَرَ إِلَى قَبُولٍ كَالْبَيْعِ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُعْتِقَ لو ورد العتق لم يبطل والموهوب له لو ورد الْهِبَةَ بَطَلَتْ فَلِذَلِكَ مَا افْتَقَرَتِ الْهِبَةُ إِلَى قَبُولٍ وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْعِتْقُ إِلَى قَبُولٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ، لَمْ يَكُنْ قَبُولًا حَتَّى يَقُولَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ هِبَةً لَهُ إِنْ شَاءَهَا، وَلَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: قَدْ قَبِلْتُهُ إِنْ شِئْتَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْقَابِلِ دُونَ الْبَاذِلِ فَلَوِ ابْتَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ: هَبْ لِي عَبْدَكَ إِنْ شِئْتَ فقال: قد شئت لم يكن ذلك بدلاً حَتَّى يَقُولَ قَدْ وَهَبْتُ فَلَوْ قَالَ قَدْ وَهَبْتُ إِنْ شِئْتَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ بَذْلَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْوَاهِبِ دُونَ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْهِبَةِ لَا تَمَلُّكَ إِلَّا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الْوَاهِبُ جَبْرًا بِالْقَبْضِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) وَبِمَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِلَى قَبْضٍ كَالْوَصِيَّةِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَسَيُرَدُّ عَلَيَّ فَأُعْطِيكِ فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ أَعْطَى كُلَّ واحدةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً وَدَفَعَ بَاقِيهِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَلَوْلَا أَنَّ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَاهَا نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ غِنًى بَعْدِي لَأَنْتِ وَإِنَ أَعَزَّ النَّاسِ فَقْرًا بَعْدِي لَأَنْتِ، وَإِنِّي قَدْ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَوَدِدْتُ لَوْ كنت جزيته وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، قَالَتْ: هَذَا أَخَوَايَ فَمَنْ أُخْتَايَ؟ قَالَ ذُو بَطْنٍ ابْنَةُ خَارِجَةَ فَإِنِّي أَظُنُّهَا جَارِيَةً قَالَتْ: لَوْ كُنَّ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لَرَدَدْتُهُ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَرُوِيَ أن عمر رضي الله عنه قال: مالي أَرَاكُمْ تُنْحِلُونَ لَا نَحْلِ إِلَّا مَا أَجَازَهُ الْمَنْحُولُ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْقَبْضِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 يَلْزَمُ الْوَارِثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمَوْرُوثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ كَالرَّهْنِ طَرْدًا وَالْبَيْعِ عَكْسًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَازِمُ الْعُقُودِ وَلُزُومُ الْهِبَةِ رُكُوبٌ بِالْقَبْضِ لَا بِالْعَقْدِ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ " مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّهَا لَمَّا لَزِمَتِ الْوَارِثَ لَزِمَتِ الْمَوْرُوثَ، وَالْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا لَمْ تَلْزَمِ الْوَارِثَ لَمْ تَلْزَمِ الْمَوْرُوثَ. فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ فَكُلُّ مَا كَانَ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ كَانَ قَبْضًا فِي الْهِبَةِ إِلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَبَضَ مَا دَفَعَ ثَمَنَهُ بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذنه الواهب لم تصح والفرق بينهما أن الرضى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَبْضِ الْبَيْعِ فَصَحَّ وَإِنْ كان بغير إذنه والرضى معتبر في قبض البيع فصح وإن كان بغير إذنه والرضى معتبر في قبض البيع فصح وإن كان بغير إذنه والرضى مُعْتَبَرٌ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشافعي: تمت الهبة بِالْعَقْدِ وَمَضَى زَمَانُ الْقَبْضِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَقَالَ فِي الرَّهْنِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِمَا إِذْنًا بِقَبْضِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَحْتَاجُ فِي الرَّهْنِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَ أَمْرُهَا فَلَمْ تحتج فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَالرَّهْنُ أَضْعَفُ منها لأنه لا يزيل الملك وافتقر إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ. فَصْلٌ : وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي وَلَوْ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ جَازَ، فَإِذَا قَبَضَ الْهِبَةَ فَفِيمَا اسْتَقَرَّ بِهِ مِلْكُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَبْضَ هُوَ الْمِلْكُ فَعَلَى هَذَا لَوْ حَدَثَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ نَمَاءٌ كَثَمَرَةِ نَخْلٍ وَنِتَاجِ وَمَاشِيَةٍ فَهُوَ لِلْوَاهِبِ دون الموهوب. والقول الثاني: أن القبض يدل على ما تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا حَدَثَ مِنَ النَّمَاءِ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الواهب فإن كان الْوَاهِبِ فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 تَسْلِيمِ الْأَصْلِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَيَكُونُ اسْتِهْلَاكُهُ رُجُوعًا فيه أن لَوْ كَانَ هِبَةً وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ ضَمِنَهُ. فَصْلٌ : فَأَمَّا الْهَدَايَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ فِي حُكْمِهَا لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ عَقْدًا بِالْقَوْلِ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ وَلَيْسَ فِي الْهِبَةِ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ بَلْ إِذَا دَفَعَهَا الْمُهْدِي إِلَى الْمُهْدَى إليه فقبلها منه بالرضى وَالْعَقْدِ فَقَدْ مَلَكَهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهَا الْمُهْدِي مَعَ رَسُولِهِ جَازَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ أَنْ يَقْبَلَهَا فَإِذَا أَخَذَهَا مِنَ الرَّسُولِ أَوْ أَذِنَ لِغُلَامِهِ فِي أَخْذِهَا مِنَ الرَّسُولِ أَوْ قَالَ لِلرَّسُولِ ضَعْهَا مَوْضِعَهَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ الْهِبَةَ فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ لَمْ أُنْفِذْهَا هَدِيَّةً وَكَذَبَ الرَّسُولُ بَلْ أَنْفَذْتُهَا وَدِيعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْهَدَايَا تَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالْهِبَاتُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَالْعُرْفُ في ذلك قوى شَاهَدٍ وَأَظْهَرُ دَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِي طرف فإن كان الطرف مما لم تجريه الْعَادَةُ بِاسْتِرْجَاعِهِ مِثْلَ قَوَاصِرِ التَّمْرِ وَالْفَوَاكِهِ وَقَوَارِيرِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالْأَزْهَارِ إِذَا كَانَتْ سَقْفًا فَهِيَ مملوكة مع الهدية لأن العرف لم يجز باسترجاعها، وإن كانت الطروف كالطيافير المدهونة والفضار وَالزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِاسْتِرْجَاعِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَعَ الْهَدِيَّةِ وَلِلْمُهْدِي بَعْدَ إِرْسَالِ الْهَدِيَّةِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَعَتْ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ قَبْلَ وُصُولِهَا إليه فملكها. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ، نَحَلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّكِ كُنْتِ قَبَضْتِيهِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ (وَمِنْهَا) بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يَمُتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح تجوز الهبة الكل مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ مِنْ طِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ إِلَّا أَنَّ السَّفِيهَ يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ، وَالطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ منهما قبول الهدية، لأن القول السَّفِيهِ حُكْمًا وَلَيْسَ لِقَوْلِ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ حُكْمٌ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْقَابِلُ لِلطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَمِينٍ حَاكِمٍ وَهُوَ الْقَابِضُ لَهُمَا بَعْدَ الْقَبُولِ وَأَمَّا السَّفِيهُ فَهُوَ الْعَائِلُ وَوَلِيُّهُ هُوَ الْقَابِضُ فَإِنْ قَبَضَهَا السَّفِيهُ تَمَّتِ الْهِبَةُ أَيْضًا، وَلَوْ قَبَضَهَا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فإن كان الواهب للطفل أبوه فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ إِلَى لَفْظٍ بِالْبَدَلِ وَالْقَبُولِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْتَاجُ إليه بل ينو به، لأنه يكون مخاطب نَفْسَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُرِيدُ مَنْ عَقَدَ بِالْقَبُولِ فَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ لِابْنِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي الْبَذْلِ وَالْإِقْبَاضِ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ نَائِبًا عَنِ ابْنِهِ فَأَمَّا أَمِينُ الْحَاكِمِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ قَابِلٌ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ قَابِضٌ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ وَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْأَبِ كَمَا خَالَفَاهُ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ. فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يُثْبِتْ وَهَذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 صَحِيحٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَسَّمَ الْعَطَايَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي الْحَيَاةِ مِنْهَا قِسْمَانِ: الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ قِسْمٌ وَهُوَ الْوَصَايَا قَدْ ذَكَرْنَا الْوَصَايَا وَإِنْ أَفْرَدَ لَهَا كِتَابًا لَاقْتَضَى التَّسْلِيمَ لَهَا وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَإِنْ جاز بيعها في سائر الأحكام. أحدهما: أَنَّ الْهِبَةَ عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ، وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ وَمَا لَمْ يَمْلِكْ وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ بِذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ فِي الْحَالِ مِنْ خَمْلٍ وَمُتَبَطِّرٍ وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ كَذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: تَمَامُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَبُولِ دُونَ الْقَبْضِ وَتَمَامُ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ. وَخَامِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الْوَصِيَّةِ وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا فِي الْهِبَةِ قَوْلَانِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله عز وجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 باب العمرى والرقبى من اختلاف مالك والشافعي رضي الله عنهما مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ حجرٍ الْمَدَرِيِّ عَنْ زيدٍ بْنِ ثابتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ وَمِنْ حَدِيثِ جابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يسارٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وبه أقول (قال المزني) رحمه الله: معنى قول الشافعي عندي في العمرى أن يقول الرجل قد جعلت داري هذه لك عمرك أو حياتك أو جعلتها لك عمري أو رقبي ويدفعها إليه فهي ملكٌ للمعمر تورث عنه إن مات ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى عَطِيَّتَانِ مِنْ عَطَايَا الْجَاهِلِيَّةِ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِمَا بِأَمْرٍ ونهي، اختلف الْفُقَهَاءُ لِأَجَلِهِمَا وَفِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِمَا، أَمَّا الْعُمْرَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرِي أَوْ يَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِكِ، فَيَكُونُ لَهُ مُدَّةُ حَيَاتِهِ وَعُمْرِهِ فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ إِلَى وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ وَحَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) {هود: 61) يَعْنِي أَسْكَنَكُمْ فِيهَا مُدَّةَ أَعْمَارِكُمْ فَصِرْتُمْ عُمَّارَهَا. وَأَمَّا الرُّقْبَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ رُقْبَى، يعني: إنك ترقبي وَأَرْقُبُكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَالدَّارُ لَكَ، فَسُمِّيَتْ رُقْبَى مِنْ مُرَاقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى إِلَى أَنْ جَاءَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقْبَى وَالْعُمْرَى، فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى بُطْلَانِهَا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: إِلَى جَوَازِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعُمْرَى جَائِزَةٌ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى لِمَنْ وَهَبَ " فَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا " فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِلَى مَاذَا يُوَجَّهُ النَّهْيُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوَجَّهُ إِلَى الْحُكْمِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سبيل الميراث ". والوجه الثاني: أن يُوَجَّهُ إِلَى اللَّفْظِ الْجَاهِلِيِّ وَالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ مِنْ بَعْدُ. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ جَوَازُ الْعُمْرَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُتَوَجَّهُ التَّمْلِيكُ فِيهَا إِلَى الرَّقَبَةِ أَمِ الْمَنْفَعَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي يوسف: التَّمْلِيكُ فِيهَا يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ كَالْهِبَاتِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: إَِنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ التَّمْلِيكَ فِي الْعُمْرَى يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ وَفِي الْعُمْرَى مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِهِمَا مَعًا الرَّقَبَةُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا رجلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهُ لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا " لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جعل العمرى للوراث " وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي قَوْلِهِمْ قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرَى أَوْ رُقْبَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرُّقْبَى لِوُقُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، وَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهَا. فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُمْرَى والرقبى يملك بهما الرقبى فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهَا وَنَبْدَأُ بِالْعُمْرَى مِنْهُمَا وَلِلْمُعْمِرِ فِي الْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرِي أَنَا. فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فَلَا يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ لِوَرَثَتِكَ بَعْدَكَ، فَهَذِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ قَدْ مَلَكَهَا الْمُعْمَرُ مِلْكًا تَامًّا ثُمَّ صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ هِبَةً نَاجِزَةً وَمِلْكًا صَحِيحًا وَتَمَامُهَا بَعْدَ عَقْدِ الْعُمْرَى بِالْقَبْضِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ الْهِبَاتُ، وَلَيْسَ لِلْمُعْطِي بَعْدَ الْإِقْبَاضِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ مُخَيَّرًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ إِنْ كُنْتُ حَيًّا أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مَيِّتًا، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ وَتَمْلِيكٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِمُدَّةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ثُمَّ هِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُعْطِي سَوَاءٌ أَقَبْضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطَى، أَوْ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَجْرِهَا مُدَّةَ تَصَرُّفِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ إِيَّاهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَلِأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَوَاهُ الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْهُ إِنَّهُ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ لِتَقْدِيرِهَا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ جابر رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيما رجل أعمر لَهُ وَلِعَقِبِهِ " فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ فَجَعَلَ صَحِيحَ الْعَطِيَّةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهَا لِعَقِبِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ عَيْنٍ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ عُمْرَكَ، وَلِأَنَّهَا عُمْرَى مُقَدَّرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً كَمَا لَوْ قَالَ: قَدْ أَعْمَرْتُكَهَا سَنَةً، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَبْطُلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ فَيَصِحُّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الصِّحَّةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْفَاسِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ الْقَدِيمِ إِنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ يَكُونُ لِلْمُعْطَى فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أو أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ " وَلِرِوَايَةِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْمَرَ أُمَّهُ عَبْدًا فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ نَازَعَهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ مِيرَاثًا فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا جَعَلْتُهُ لَهَا عُمْرَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ " وَلِأَنَّ الْأَمْلَاكَ الْمُسْتَقِرَّةَ إِنَّمَا يَتَقَدَّرُ زَمَانُهَا بِحَيَاةِ الْمَالِكِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْمِلْكِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ مُنَافِيًا لحكم الأملاك وإذا لم تنافيه اقْتَضَى أَنْ يَصِحَّ وَإِذَا صَحَّ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا قَالَ: بِعْتُكَهَا مُدَّةَ حَيَاتِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين: أحدهما: وهو فرق ابن سريج على هذا الشرط يقضي فَسْخًا مُنْتَظَرًا، وَالْبَيْعُ إِذَا كَانَ فِيهِ فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ بَطَلَ، وَالْهِبَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ لَمْ تَبْطُلْ كَهِبَةِ الْأَبِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْعُمْرَى بِهَذَا الشرط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن شروط البيع تقابل جزاء مِنَ الثَّمَنِ فَإِذَا بَطَلَتْ سَقَطَ مَا قَابَلَهَا منه فاقضى إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَى ثَمَنٌ يَقْضِي هَذَا الشَّرْطُ إِلَى جَهَالَتِهِ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ مَعَ الشُّرُوطِ. فَأَمَّا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّهُ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ مَعَ بَاقِي الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ لَيْسَ تَتَنَافَى فِي ذَلِكَ فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ التَّمْلِيكَ لِلرَّقَبَةِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْمِيرَاثَ فِيهَا لَا يُسْتَحَقُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَمْلِكُ الْمُعْمِرُ الْمُعْطِي الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطِي وَانْتَفَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ، لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهَا، لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: (قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ) وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَطِيَّةَ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الْعُمْرَى مَوْرُوثَةٌ فَلَا رَجْعَةَ لِلْمُعْمِرِ الْمُعْطِي فِيهَا بعد القبض. فصل : فأما الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَى إِشَارَةً إِلَى عَقْدِ الْعُمْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ أَحَدٍ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَلَا يَمْلِكُ بِهَا الْمُعْمِرِ الْمُعْطِي الْمَنْفَعَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ لِرَقَبَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّنَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْعُمْرَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ فَإِذَا بَطَلَ لم يملك بها المقصود بها غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنِ الْأُجْرَةَ إِنْ سَكَنَ أَوْ تَصَرَّفَ فَلَوْ كَانَتِ الْعُمْرَى نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ لَمْ يَمْلِكِ الثَّمَرَةَ، وَلَوْ كَانَتْ شَاةً فَنَتَجَتْ لم يملك الولد، فإذا تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ فِي يَدِهِ وَهَلَكَ الْوَلَدُ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلِهِ ضَمِنَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقَبِهِ ". فَصْلٌ : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِي أَوْ جَعَلْتُهَا عُمَرَ زَيْدٍ والحكم فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمَلِّكُهُ إِيَّاهَا عُمْرَهُ فَيُورَثُ عَنْهُ وَلَا جَعَلَهَا عُمْرَى فَيَسْتَعْمِلُ فِيهَا الْخَبَرَ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ نَفْسِهِ أَوْ عُمْرِ أَجْنَبِيٍّ فَاقْتَضَى لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ الْأَصْلِ خُرُوجُهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْيِ أَنْ تَبْطُلَ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ أَعْمَرْتُكَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 سَنَةً أَوْ شَهْرًا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُغَلِّبُ فِيهَا حُكْمَ الْعُمْرَى وَيُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَاهُ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الرُّقْبَى فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ارْتِقَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى تَرْقُبُنِي وَأَرْقُبُكَ فَإِنْ مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فَهِيَ لَكَ، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، لِمَا فِي هَذَا الشَّرْطِ مِنْ مُنَافَاةِ الْمِلْكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يشترط ذلك بل يَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ إِنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ يَمْلِكُهَا الْمُعْطِي أَبَدًا مَا كَانَ حَيًّا ويورث عنه إن مات سواء كان المطي حَيًّا أَوْ مَيِّتًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الميراث ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 باب عطية الرجل ولده قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ مُحَمَدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يُحَدِّثَانِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟ " قَالَ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أليس يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْبِرِّ إِلَيْكَ سَوَاءً؟ " فقال بلى قال " فارجعه " قال الشافعي رحمه الله تعالى وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِيهِ دلالةٌ عَلَى أمورٍ مِنْهَا حُسْنُ الْأَدَبِ فِي أَنْ لَا يُفَضِّلَ فَيَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمَفْضُولِ شيءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ بِرِّهِ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ يَنْفَسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا لَا يَنْفَسُ الْعِدَى وَمِنْهَا أَنَّ إِعْطَاءَهُ بَعْضَهُمْ جائزٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَارْجِعْهُ " وَمِنْهَا أَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَخْلٍ وَفَضَّلَ عُمَرُ عَاصِمًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ إِيَاهُ وَفَضَّلَ عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَفْضَلُ الْهِبَاتِ صِلَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الْأَرْحَامِ الْكَاشِحِ " فَإِذَا وَهَبَ لِوَلَدٍ فَيَخْتَارُ التَّسْوِيَةَ فِي الْهِبَةِ وَلَا يُفَضِّلُ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق إلى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقِسْمَتِهِ لِأَحَدِهِمْ سَهْمٌ فِي الْمَوَارِيثِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا لَفَضَّلْتُ الْبَنَاتَ " وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وكالأبوين مع الابن والله أعلم. مسألة فَإِنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمْ وَخَصَّ بِالْهِبَةِ بَعْضَهُمْ كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً وَإِنْ أَسَاءَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَقَالَ طَاوُسٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ الْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبشير " كل وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ " قَالَ: " فَأَرْجِعْهُ " وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ " فَأَشْهِدْ غَيْرِي عَلَى التَّبَرُّؤِ مِنْ فِعْلِهِ " ودل قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 هذا جورعلى ذمة فِعْلِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُؤَدِّي إِلَى عُقُوقِ بَاقِيهِمْ وَمَا نُصِبَ عَلَى الْعُقُوقِ فَهُوَ عُقُوقٌ، وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَرْجِعْهُ " فَلَوْلَا تَعُودُ الْهِبَةُ لَمَا أَمَرَهُ بِالِاسْتِرْجَاعِ ثُمَّ قَوْلُهُ: " أَشْهِدْ غَيْرِي " دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَمْرُهُ بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ اسْتِئْنَافًا، وَهَذَا جَوَابٌ وَدَلِيلُ قَوْلِهِ هَذَا جَوَابٌ أَيْ مَيْلٌ يُقَالُ فَجَازَ السَّهْمُ إِذَا مَالَ عَنِ الرَّمْيَةِ فَقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَصَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بنحل عِشْرِينَ وُسْقًا مِنْ تمرٍ وَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّكِ قَدْ قَبَضْتِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ وَفَضَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاصِمًا بِنَخْلٍ وَخَصَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَهُمْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَهُمْ جَازَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِهِمْ كَالْأَجَانِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ لِلْأَبِ جَازَتْ هِبَةُ الأب لبعض الأولاد. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اتَّصَلَ حَدِيثُ طَاوُسٍ " لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أن يرجع فيما وهب إلا والدٍ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ " لَقُلْتُ بِهِ وَلَمْ أُرِدْ واهباً غيره وهب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ، وَلَيْسَ لِوَاهِبٍ أَقْبَضَ مَا وَهَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ، فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لَهُ وَإِنْ وَهَبَ لِذِي غَيْرِ رَحِمٍ جَازَ الرُّجُوعُ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ وأبو حنيفة يَمْنَعُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: مَنْعُ الْأَجْنَبِيِّ من الرجوع في هبته، وأبو حنيفة فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ فَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى الْمَنْعِ مِنْ رُجُوعِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ " فَكَانَ عُمُومُ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ رُجُوعِهِ فِيمَا مَلَكَ الِابْنُ عَنْهُ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِيهِ " وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَهَبَ لِذِي رحمٍ لَمْ يَرْجِعْ وَمَنْ وَهَبَ لَغَيْرِ ذي رحمٍ رجع ما لم يبيت قَالَ: وَلِأَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ثَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 الْمُكَافَأَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الصَّدَقَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عُقُوقًا وَعُقُوقُ ذِي الرَّحِمِ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَأُثِيبَ لَمْ يَرْجِعْ وَهَذَا قَدْ أُثِيبَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هِبَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ. وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبشير في هبته للنعمان مِنْ بَيْنِ وَلَدِهِ " فَأَرْجِعْهُ " فَلَوْلَا أَنَّ رُجُوعَهُ جَائِزٌ لَمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَكَانَ الْأَوْلَى لَوْ فَعَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَجُوزُ لرجلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ وَيَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَ عَادَ فِي قَيْئِهِ "، وَهَذَا نَصٌّ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ وَبِهَذَا يَخُصُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَيُتَمِّمُ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ الثَّانِي، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ "، فَمَيَّزَ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ كَسْبًا لِوَالِدِهِ فَكَانَ مَا كَسَبَهُ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِهِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسٌ فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ وَهَبَ كَسْبَهُ لِكَسْبٍ غَيْرِ مُعْتَاضٍ عَنْهُ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَلِأَنَّ مَا لِلْوَلَدِ فِي يَدِ وَالِدِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا وَأَخَذَ النَّفَقَةَ مِنْهُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا فَصَارَتْ هِبَةً لَهُ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ فِي حُكْمِ مَا وَهَبَهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَقْبِضْهُ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ أَقْبَضَهُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهَا هِبَةٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ تُبَايِنُ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ غَيْرِهِ فَلَا يُعَادِيهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي يَدَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ وَفِي مَالِهِ بِالْعُقُودِ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَانْتِفَاءِ التُّهَمِ فَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ غَيْرَهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ فِيهَا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّنَا وأبا حنيفة قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَذِي الرَّحِمِ فَلِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِيهَا مَعَ ذِي الرَّحِمِ الْمُبَاعِضِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ دُونَ ذِي الرَّحِمِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: النَّصُّ الْمُعَاضِدُ. وَالثَّانِي: الْبَعْضِيَّةُ الْمُمَازَجَةُ. وَالثَّالِثُ: التَّمْيِيزُ بِالْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَعَانِي جَوَابٌ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّوَابِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ بِالْمَالِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَدَلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ فَخَالَفَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْبَدَلُ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْهِبَةِ غَيْرُ الرَّاجِعِ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يرجع فيها، استدلالاً بحديث عمرو. وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَصَاصُ عَلَى واهبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 لَمْ يَمْلِكْ وَاهِبُهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فِي هِبَتِهِ كَالْأَخِ طَرْدًا وَالْوَالِدِ عَكَسًا، وَلِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ كَالزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ كَالْهِبَةِ عَلَى الثَّوَابِ. فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِغَيْرِ الْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ الْأُمَّ وَالْجَدَّ أَنْ يَرْجِعَا فِي هِبَتِهِمَا تَعَلُّقًا بِحَقِيقَةِ الْأُمِّ فِي الولد فهذا ليس بصحيح، لأن كلهم والد فيه بعضية، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ وَفَضْلِ الْحُنُوِّ وَحَقِّ الْوِلَايَةِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ أَوْ جَدٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَهَبَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ سَوَاءٌ قَالَ الْأَبُ: قَصَدْتُ بِالْهِبَةِ بِرَّهُ فَعَقَّ وَلَمْ يَبِرَّ، أَوْ قَالَ لَمْ أَقْصِدْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَبُ فِي هِبَتِهِ إِذَا قَالَ قَصَدْتُ بِهَا بِرَّهُ وَظُهُورَ إِكْرَامِهِ وَلَمْ يَبِرَّ وَلَمْ يُكْرِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِنْ لَمْ يُقُلْ ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ الْخَبَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا جَازَ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ كَمَا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ. فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ الْأَبُ عَلَى وَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْهِبَاتِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، مُسْلِمًا أَوْ كافراً. فصل : ولو تداعا رَجُلَانِ طِفْلًا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَهَبَا لَهُ هِبَةً لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يحكم لواحد منهما بأبوته، فإن انتفا عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَحِقَ بِالْآخَرِ فَهَلْ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ الرُّجُوعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ، لِثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ، لِأَنَّهُ حِينَ وَهَبَ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرْجِعُ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لأولاده ثم أراد أن يرجع في نفسه لِبَعْضِهِمْ جَازَ وَفِي كَرَاهِيَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُكْرَهُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْهِبَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَسْتَرْجِعَهَا مِنْ جَمِيعِهِمْ كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الْهِبَةُ لِبَعْضِهِمْ حَتَّى يَهَبَ لِجَمِيعِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا يُكَرَهُ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ لَا فِي الْمَنْعِ. فَصْلٌ : وَإِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً فَبَاعَهَا الِابْنُ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا فَلَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 يَرْجِعُ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ، وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا مَا كَانَتْ رَهْنًا، فَإِنِ افْتَكَّهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا، وَلَوْ بَاعَهَا الِابْنُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ الِابْنِ. فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا. فَصْلٌ : وَلَوْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ وَهَبَهَا الِابْنُ لِابْنِهِ جَازَ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى ابْنِهِ وَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهِبَتِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاهِبِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَرْجَعَهَا الِابْنُ مِنَ ابْنِهِ فَفِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ. فَصْلٌ : وَلَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا الِابْنُ، أَوْ دَارًا فَوَقَفَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ الِابْنُ الْجَارِيَةَ فَأَحْبَلَهَا لَا يُمْكِنُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا، لَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُحَبِّلْهَا جَازَ للأب الرجوع بها ثم وطئها حَرَامٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ التَّحْرِيمِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ الْبَكَارَةِ، فَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا فِي يَدِ الِابْنِ جِنَايَةً أَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى ابْنِهِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا فَاتَ رُجُوعُ الْأَبِ بِهِ فَصَارَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا كَثَمَنِهَا لَوْ بَاعَهَا، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ كَاتَبَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً فَيَرْجِعُ بِهَا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا، لَأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَالْكِتَابَةَ تُوقِفُ الْمِلْكَ وَلَا تُزِيلُهُ فَلَوْ دَبَّرَهَا الِابْنُ أَوْ أَعْتَقَهَا بِصِفَةٍ لَوْ بَاتَ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ مِلْكَهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ زَوَّجَهَا رَجَعَ الْأَبُ بِهَا وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَرَهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ مَعًا لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ. فَصْلٌ : ولو كَانَتِ الْهِبَةُ شَاةً فَنَتَجَتْ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا كَانَ النِّتَاجُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ عِنْدَ الْهِبَةِ حَامِلًا ثُمَّ وَلَدَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالشَّاةِ فَفِي وَلَدِهَا قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الحمل، فلو كانت الشاة حائلاً ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا حَامِلًا فَفِي وَلَدِهَا إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 وَضَعَتْهُ أَيْضًا قَوْلَانِ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالنَّخْلِ فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً عِنْدَ رُجُوعِ الْأَبِ فَهِيَ لِلِابْنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلِابْنِ أَيْضًا، لِأَنَّهَا مِمَّا تَتَمَيَّزُ. وَالثَّانِي: لِلْأَبِ، لِأَنَّ مَا يُؤَبَّرُ مِنَ النخل تبع لأصل كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ هِبَتِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهَا بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعُ مِلْكٍ فَكَانَ أَغْلَظَ ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ حَتَّى لَوْ قَالَ إِذَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَقَدْ رَجَعْتُ فِي هِبَتِي لِابْنِي لَمْ يَجُزْ، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فِي الْوَصِيَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْهِبَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِالصِّفَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالصِّفَةِ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لِمَنْ يَسْتَثِيبُ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ لَا يَسْتَثِيبُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْهِبَةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ وَنَوْعٌ يَقْتَضِيهَا، فَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ فَمِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: هِبَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ دُونَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّفَضُّلُ. وَالثَّانِي: هِبَةُ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا النَّفْعُ. وَالثَّالِثُ: هِبَةُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ لِلصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ مِنْهَا. وَالرَّابِعُ: الْهِبَةُ لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ. وَالْخَامِسُ: الْهِبَةُ لِلْمُنَافِرِ الْمُعَادِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّآلُفُ. وَالسَّادِسُ: الْهِبَةُ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّرُ. وَالسَّابِعُ: الهبة للأصدقاء والإخوان، لأن المقصود بها تأكيد الْمَوَدَّةِ. وَالثَّامِنُ: الْهِبَةُ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهٍ أَوْ بِمَالٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْمُكَافَأَةُ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِبَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّمَانِيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْمُكَافَأَةَ، وَإِذَا أَقْبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ فَقَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا كَالَّذِي يملك بابتياع أو ميراث. فصل : وأما مَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ فَهُوَ مَا سِوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا طَلَبُ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَلْمَانَ إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَاقَةً فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَلَمْ يَزَلْ يُكَافِئُهُ حَتَى رَضِيَ ثُمَّ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَتَّهِبَ إِلَّا مِنْ قرشيٍّ أَوْ أنصاريٍّ أَوْ ثقفيٍّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا، لأنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 مَشْهُورُونَ بِسَمَاحَةِ النُّفُوسِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ فَلَوْلَا وُجُوبُ الْمُكَافَأَةِ لَمَا صَبَرَ عَلَى طَمَعِ الْأَعْرَابِيِّ وَآذَاهُ، لِأَنَّ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي النَّاسِ الْمُكَافَأَةُ بِهَا يَجْعَلُهُ كَالشَّرْطِ فِيهَا وَيَكُونُ قَبُولُ الْهِبَةِ رِضًى بِالْتِزَامِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حنيفة إِنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ "، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ تَمَلُّكُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ كَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ لَا يَخْتَلِفُ اسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْعَاقِدِينَ لَهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَةِ فِي إِسْقَاطِهِ. فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَجِبُ فَإِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تُسْتَحَقُّ فَأَثَابَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَكَافَأَ فَهِيَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهِبَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَلَوِ اسْتُحِقَّتْ إِحْدَاهُمَا أَوْ ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَالْأُخْرَى عَلَى حَالِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ فَإِنْ شَرَطَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ثَوَابًا وَمُكَافَأَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الَّذِي شَرَطَ مَجْهُولًا فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ، لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا فَالْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهَا كَالْمَقْبُوضِ مِنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِأَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ضَمَانِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ نَقَصَتْ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا ضَمِنَ قَدْرَ نَقْصِهَا، فَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ الْمَعْلُومِ فَهِيَ كَالْبَيْعِ الْمَحْضِ يَسْتَحِقُّ فيه خيار المجلس بالعقد وخيار الثلث بِالشَّرْطِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ وَجَبَ رَدُّ الثَّوَابِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَجَبَ رَدُّ الْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ مُعَيَّنًا أَوْ غُرِمَ مِثْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْهِبَةِ إِنْ كَانَ الثَّوَابُ مَوْصُوفًا، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْهِبَةِ عَيْبٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. فَصْلٌ : وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ وَالْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَ الثواب أولاً بشرطه، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ. أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثِيبَ وَيُكَافِئَ حَتَّى يَرْضَى الْوَاهِبُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يُكَافِئُ الْأَعْرَابِيَّ حَتَّى رَضِيَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِمَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ ثَوَابًا لِمِثْلِ تِلْكَ الْهِبَةِ، لِأَنَّ الرِّضَى لا ينحصر فكان العرف أولى أن يعتبره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْهِبَةِ لَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ النُّقْصَانُ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلُ إِذَا عُدِمَ الْمُسَمَّى رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَ فِي مِقْدَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ، وَلَا خِيَارَ لِلْوَاهِبِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ رَدَّ الْهِبَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّوَابِ، فَإِنْ رَدَّهَا نَاقِصَةً فَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ لِلْوَاهِبِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ رَدَّهَا وَقَدْ زَادَتْ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَتَمَيَّزُ كَالطُّولِ وَالسَّمِنُ أَخَذَهَا الْوَاهِبُ زَائِدَةً، لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَاتِ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً فَهِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ، لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَى الْوَاهِبِ وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْهِبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْهِبَةَ وَكَافَأَهُ عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْمُكَافَأَةَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْبَلَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ الْهِبَةِ، فَإِنْ قَبِلَ الْمُكَافَأَةَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَهُ ثَانِيَةً وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ، وَلَوِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُكَافَأَةِ، فَلَوْ قَالَ الْوَاهِبُ أَنَا أَهَبُ لَكَ مِثْلَ تِلْكَ الْهِبَةِ وَلَا أَرُدُّ الْمُكَافَأَةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَافَأَةِ، فَلَوْ لَمْ يُكَافَأْ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَكَافَأَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ جَازَ وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ، لِوُصُولِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُكَافِئِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا أَثَابَ عَنْهُ وَكَافَأَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ إِلَّا أَنْ يكافئ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يُكَافِئْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنِ الْهِبَةِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ وَيُثِيبَ فِي الْحَالِ الَّتِي إِنْ رَدَّ وَلَمْ يُثِبْ فَعَلَى هَذَا تتلف غير مضمونة عليه. والقول الثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ أَثَابَ وَإِلَّا ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ لِتَلَفِهَا عَنْ بَدَلٍ فَائِتٍ. فَصْلٌ : وَإِنِ اشْتَرَطَ الْوَاهِبُ الثَّوَابَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنِ اشْتَرَطَهُ مَجْهُولًا صَحَّتِ الْهِبَةُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَقْدَ، ثُمَّ حُكْمُ هَذِهِ الْهِبَةِ وَالثَّوَابُ عَلَى مَا مَضَى، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ غَيْرَ أَنَّ الْهِبَةَ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِثْلَ الثَّوَابِ لَزِمَهُ أَنْ يُثِيبَ أَوْ يَضْمَنَ الْقِيمَةَ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنِ اشْتَرَطَ الثَّوَابَ مَعْلُومًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا مُنِعَ عَنِ الْجَهَالَةِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَهُ مَا اشْتَرَطَ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي الْهِبَةِ: يَشْتَرِطُ الثَّوَابَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِ الثَّوَابِ وَبَيْنَ رَدِّ الْهِبَةِ وَفِي الْبَيْعِ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الرَّدِّ مَا لَمْ يَكُنْ خِيَارٌ أَوْ عَيْبٌ، ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَوَاءٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ إِنَّ الْهِبَةَ بَاطِلَةٌ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْهِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَالْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 فَصْلٌ : هِبَةُ الْمَرِيضِ فِي الثُّلُثِ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أُمْضِيَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ بَعْضَهَا أَمْضَى مِنْهَا قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَارِثُ فَيَصِحَّ فِي الْجَمِيعِ، فَلَوْ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ وَأُقْبِضَ فِي الْمَرَضِ فَهِيَ هِبَةٌ فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِيهِ تَمَّتْ فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ وَارِثُ الْوَاهِبِ هِيَ فِي الْمَرَضِ وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ مع يمينه، لأن الأصل فيها عدم الزوم، فَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَارِثَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِهَا بِالْعَقْدِ الْمَاضِي أَوِ الْمَنْعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ أَحَبَّ إِمْضَاءَ الْهِبَةِ استأنف عقداً وقبضاً. فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَوَهَبَ لَهُ أَهْلُهَا هِبَةً قَبِلَهَا وَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَغْنَمْهَا الْمُسْلِمُونَ إِنْ ظَفِرُوا بِهَا، وَفَرَّقَ أبو حنيفة بَيْنَ مَا يُنْقَلُ مِنْهَا وَمَا لَا يُنْقَلُ، فَجَعَلَ مَا يُنْقَلُ مَمْلُوكًا وَمَا لَا يُنْقَلُ مَغْنُومًا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَنَحَهُ الْمُشْرِكُونَ أَرْضًا فَلَا أَرْضَ لَهُ وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَارِيَةِ دُونَ الْهِبَةِ. فَصْلٌ : هِبَةُ دُورِ مَكَّةَ وَعَقَارِهَا يَجُوزُ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ، فَأَمَّا إِجَارَتُهَا لِلْحُجَّاجِ فَيَجُوزُ هِبَتُهَا إِنْ جَازَ بَيْعُهَا، وَأُبْطِلَ إن لم يجز بيعها. فَصْلٌ : هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ يَجُوزُ، لِأَنَّ هِبَتَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ إِبْرَاءٌ وَلِغَيْرِهِ تَمْلِيكٌ، وَهِبَةُ الْمَنَافِعِ عَارِيَةٌ لَا تَلْزَمُ، لِأَنَّ قَبْضَهَا قبل انقضائها لا يصح. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (قَالَ) وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أحدٍ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَا يَأْخُذُهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لأحدٍ عَلَيْهِ يدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَا يُرَادُ ثَوَابُهَا وَمَعْنَى الْهَدِيَّةِ يُرَادُ ثَوَابُهَا وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَرَأَى لَحْمًا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بُرَيْرَةَ فَقَالَ " هُوَ لَهَا صدقةٌ وَلَنَا هديةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ مَضَيَا. أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: إِبَاحَةٌ لِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِطَالَةِ بِتَكْرَارِهِمَا وَجْهٌ مَعَ مَا حَصَلَ مِنْ إِطَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ فَتَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ وَإِنْ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا مِنْ فقرٍ مدقعٍ أَوْ غرمٍ مفظعٍ أَوْ دمٍ مولعٍ " وبالله التوفيق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب اللقطة مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَبِهَذَا أَقُولُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِتَمَامِهِ وَأَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَشَأْنُكَ بِهَا عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ فَقَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا أَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ هِيَ لَكَ يَعْنِي إِنْ أَخَذْتَهَا أَوْ لِأَخِيكَ إِنْ أَخَذَهَا غَيْرُكَ أَوْ لِلذِّئْبِ يَعْنِي إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ أَكَلَهَا الذِّئْبُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ مَا لَكَ وَلَهَا أَيْ لَا تَأْخُذْهَا وَقَوْلُهُ مَعَهَا سِقَاؤُهَا يَعْنِي أَعْنَاقُهَا الَّتِي تَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَاءِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيبِ الرَّاعِي وَمَعُونَتِهِ وَقَوْلُهُ حِذَاؤُهَا يَعْنِي خِفَافَ أَرْجُلِهَا الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَطَلَبِ الْمَرْعَى وَتَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ فَخَالَفَتِ الْغَنَمَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَرَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ هَوَامِّي الْإِبِلِ فَقَالَ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ وَهَوَامِّي الْإِبِلِ: هِيَ الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ " وروى الشافعي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّهُ سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن سوط وجده فقال: إن وَجَدْتُ صُرَّةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَذَكَرْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِي: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَعْرِفُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَهُ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرُمَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا رَوَيْنَا فَاللُّقَطَةُ وَالضَّوَالُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ. فَالضَّوَالُّ الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ يَضِلُّ بِنَفْسِهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَاللُّقَطَةُ غَيْرُ الْحَيَوَانِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهَا لَهَا وَلَهَا حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا وَهِيَ فِي الظَّاهِرِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إِذَا ادَّعَاهَا. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ فَعَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ خَرَابٍ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ. وَقَوْلُهُ فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ يَعْنِي مَمْلُوكَةً قَدِيمَةً سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَرُوِيَ فِي طَرِيقٍ مَأْتَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ مَوَاتٍ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ظَاهِرٍ وَمَدْفُونٍ فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ فَلَهُ حُكْمٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْقُمَاشِ فَهَذِهِ هِيَ اللُّقَطَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لِشُرُوطِ تَعْرِيفِهَا ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَضَرْبَانِ جَاهِلِيٌّ وَإِسْلَامِيٌّ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَلُقَطَةٌ أَيْضًا وَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان جاهليا فهو ركاز يملكه واجده وعليه اخراج خمسه في مصارف الزكوات لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي الركاز الخمس وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَفِي السِّيُوبِ الْخُمُسُ " يَعْنِي الرِّكَازُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا أَرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بِمَكَّةَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَعَلَيْهِ إِنْ أَخَذَهَا أَنْ يُقِيمَ بِتَعْرِيفِهَا أَبَدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِلَادِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَكَّةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ فِي اللُّقَطَةِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الْخَبَرِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا يختلى خلاءها وَلَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " وَفِي الْمُنْشِدِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ صَاحِبُهَا الطَّالِبُ وَالنَّاشِدُ هُوَ الْمُعَرِّفُ الْوَاجِدُ لَهَا قَالَ الشاعر: (يصيح للنبأة أسماعه ... إصاحة النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ) فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِلَّا صَاحِبُهَا الَّتِي هِيَ لَهُ دُونَ الْوَاجِدِ، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُنْشِدَ الْوَاجِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدَ هُوَ الْمَالِكُ الطَّالِبُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ " مَعْنَاهُ لَا وَجَدْتَ كَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ أَيْ لِمُعَرِّفٍ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا فَكَانَ فِي كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَمَلُّكِهَا وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي تَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا تَغْلِيظًا لِحُرْمَتِهَا بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي مِلْكِ اللُّقَطَةِ وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَا يَعُودُ الْخَارِجُ مِنْهَا غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ حَوْلٍ إِنْ عَادَ فَلَمْ يَنْتَشِرْ إِنْشَادُهَا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ تَعْرِيفِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَرَمِ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْحُرْمَةِ فَأَمَّا عَرَفَةُ وَمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حِلٌّ تَحِلُّ لُقَطَتُهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْحِلِّ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ كَالْحَرَمِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إِلَّا لِمُنْشِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ الْحَاجِّ وَيَنْصَرِفُ النِّفَارُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ كَالْحَرَمِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِنْشَادِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ إِنْشَادِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَأَنَّهُ مَجْمَعُ الناس. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وبهذا أقول وَالْبَقَرُ كَالْإِبِلِ لِأَنَّهُمَا يَرِدَانِ الْمِيَاهَ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ ويعيشان أكثر عيشهما بلا راع فليس له أن يعرض لواحد منهما والمال والشاة لا يدفعان عن أنفسهما فإن وجدهما في مهلكة فله أكلهما وغرمهما إذا جاء صاحبهما (وقال) فيما وضعه بخطه لا أعلمه بسمع منه والخيل والبغال والحمير كالبعير لأن كلها قوي ممتنع من صغار السباع بعيد الأثر في الأرض ومثلها الظبي للرجل والأرنب والطائر لبعده في الأرض وامتناعه في السرعة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ ضَوَالَّ الْحَيَوَانِ إِذَا وُجِدَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن توجد في مصر أو في صحراء فإن وجدت في مصر فيأتي وَإِنْ وُجِدَتْ فِي صَحْرَاءَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصِلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 إِمَّا لِقُوَّةِ جِسْمِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ والحمير وأما لبعد أثره كالغزال والأرانب والطير فبهذا النَّوْعِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ضوال الإبل مالك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ذَرْهَا حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا، وَلِأَنَّهَا تَحْفَظُ أَنْفُسَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا حَظٌّ فِي أَخْذِهَا، فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لُقَطَةً لِيَمْتَلِكَهَا إِنْ لَمْ يأتي صَاحِبُهَا فَهَذَا مُتَعَدٍّ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فَإِنْ أَرْسَلَهَا لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ بِنَاءً عَلَى مَنْ تَعَدَّى فِي وَدِيعَةٍ ثُمَّ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي فَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ وَعِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهَا وَلَكِنْ دَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا بِأَدَائِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَالِكِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ لِأَنَّ الْحَاكِمَ نَائِبٌ عَمَّنْ غَابَ وَالثَّانِي لَا يَسْقُطُ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِحَاضِرٍ لَا يولى عليه. والحالة الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَأْخُذَهَا لُقَطَةً وَلَكِنْ يَأْخُذُهَا حِفْظًا عَلَى مَالِكِهَا فَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَالِكِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ لِلْمَالِكِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَائِبٍ فَإِنْ كَانَ وَالِيًا كَالْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ حَظِيرَةٌ يَحْظُرُ فِيهَا ضَوَالَّ الْإِبِلِ فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الضَّرْبَيْنِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ كَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ فَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لِمَالِكِهِ إِنْ وَجَدَهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَيَأْكُلُهُ أَكْلَ إِبَاحَةٍ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ الذِّئْبُ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ حُكْمِ الْأَخْذِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَلِأَنَّ مَا اسْتَبَاحَ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ كَالدَّرَاهِمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا مَعَ بقائها فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُهَا عِنْدَ اسْتِهْلَاكِهَا قِيَاسًا عَلَى اللُّقَطَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّهَا ضَالَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْإِبِلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " فَهُوَ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَجَوَازِ الْأَكْلِ دُونَ الْغُرْمِ وَأَمَّا الرِّكَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ رَدُّهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَ غُرْمُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّاةُ لِأَنَّ رَدَّهَا وَاجِبٌ فَصَارَ غُرْمُهَا وَاجِبًا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ الشَّاةِ وَمَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَوُجُوبِ غرمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 فَكَذَلِكَ صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا كَالْغَنَمِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِ الشَّاةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْكُلَهَا فَيَلْزَمَهُ غُرْمُ ثَمَنِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي اسْتِهْلَاكِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَا يَأْثَمُ بِهِ وَإِنْ غُرِمَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَسْتَبْقِيَهَا حَيَّةً لِدَرٍّ أَوْ نَسْلٍ فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِهْلَاكِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا ثُمَّ فِي صِحَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ كَالْعَارِيَةِ مَخْرَجًا وَفِي اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي ضَمَانِ الصَّدَاقِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُهَا فِيهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا أكثر ما كانت من حين وقت التملك إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ وَقَدْ أَخَذَ الْوَاجِدُ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا كَانَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لِلْوَاجِدِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلِلْمَالِكِ أن يرجع بها دون قيمتها فإن بذلك لَهُ الْوَاجِدُ قِيمَتَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَخْذِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ حِينَ رَجَعَ الْمَالِكُ بِهَا زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ لِلْمَالِكِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً رَجَعَ الْمَالِكُ بِنَقْصِهَا عَلَى الْوَاجِدِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالنَّقْصِ. فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا لِأَنَّ مَا جَازَ تَمَلُّكُهُ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ إِخْبَارُ الْحَاكِمِ بِهَا وَلَا الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بَلْ إِذَا وَجَدَ صَاحِبَهَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إِمْسَاكِهَا لِصَاحِبِهَا لَوْ تَلَفَتَ أَوْ نَقَصَتْ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ كَالْمُعَرِّفِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ إِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّ إِبَاحَةَ أَخْذِهَا مَقْصُورٌ عَلَى الْأَكْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ دُونَ الِائْتِمَانِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا حَدَثَ مَنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ لَا يَضْمَنُهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَضْمَنُهُ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُؤْنَةِ عُلُوفَتِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ حِمًى لِلْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الْحِمَى فَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أَشْهَدَ فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لِلضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِئَلَّا يَكُونَ حَاكِمَ نَفْسِهِ. فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ كَالِابْتِدَاءِ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَصْلَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فَلَوْ أَرْسَلَهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً لَزِمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى حَاكِمٍ فَلَا يَضْمَنُ وَلَوْ نَوَى تَمَلُّكَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ مِلْكَهُ عَنْهَا لِتَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا، وَفِي ارْتِفَاعِ مِلْكِهِ عَنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُتَمَلِّكِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَالِكًا لِمَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهَا وَذَلِكَ أَحْوَطُ لِمَالِكِهَا فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 يَتَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَالِكِهَا جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ قَبُولِ مُتَمَلِّكِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَادِثُ مَنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا مِلْكًا لِرَبِّهَا تَبَعًا لِأَصْلِهَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَالْأَصْلِ. فصل: والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَذَلِكَ لَهُ كَمَا لَوْ أَكَلَهَا وَيَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا دُونَ ثَمَنِهَا، لِأَنَّهُ بَاعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. فَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا حَقٌّ لِنُفُوذِ الْبَيْعِ وَرَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَاجِدِ. فَلَوْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ بَاقِيًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَفْسَخَ وَأَرَادَ الْبَائِعُ الْإِمْضَاءَ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْفَسْخِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْإِمْضَاءِ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّهُ الْعَاقِدُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا أَمْضَى غَرِمَ الْقِيمَةَ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا لِمَالِكِهَا جَازَ إِنْ كان البيع أحظ من الاستبقاء لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مَالِ غَرِيمٍ جَاحِدٍ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ دِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَمُنِعَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهَذَا يَبِيعُهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ فَجَازَ كَالْوَكِيلِ فَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ الْفَسْخَ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِبَيْعِهَا فِي حَقِّهِ. فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ بَيْعِهَا لِمَالِكِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا: بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الضَّوَالِّ وَلَمْ تَخْرُجْ هِيَ مَعَ بَقَائِهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ ضَالَّةً. فَلَوْ كَانَتِ الضَّالَّةُ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَكَالْبَعِيرِ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَخْذِهِ وَإِنْ كان صغيرا كالشاة يأخذه ويملكه إِنْ شَاءَ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً صَغِيرَةً فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ قَرْضُ الْإِمَاءِ وَإِنْ جَازَ قَرْضُ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَغْلَظُ فَعَلَى هَذَا تُبَاعُ عَلَى مَالِكِهَا إِنْ كَانَ الْبَيْعُ أَحَظَّ. ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْأَصْلِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَفْقُودٌ فِي الثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْوَاجِدُ لَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكٍ لَمْ يَزُلْ قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ كَبَيْعِهِ فِي اللُّزُومِ: فَعَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا وَيَلْزَمُ بَائِعُهُ الْوَاجِدُ أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ أَوْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْوَاجِدِ الْقَابِضِ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ بِثَمَنِ مَا قَدْ حَكَمَ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 فَيَكُونُ الْبَيْعُ نَافِذًا إِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَصْدُقِ المالك ولا يلزمه غرم القيمة لا دعاء الْمَالِكِ حُرِّيَّتَهُ الَّتِي يَسْقُطُ مَعَهَا اسْتِحْقَاقُ قِيمَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ كَانَ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا فِي يَدَيْهِ بَيْنَ المشتري والمالك فإن عَادَ الْمُشْتَرِي فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِالْعِتْقِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ، وَإِنَّ عَادَ الْمَالِكُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِبَقَاءِ الرِّقِّ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مِلْكِ الثَّمَنِ كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَى الثَّمَنِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْحُرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: من ينتفع باللقطة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَأْكُلُ اللُّقَطَةَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصدقة وتحرم عليه قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبي بن كعب رضي الله عنه وهو من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم وجد صرة فيها ثمانون دينارا أن يأكلها وأن عليا رضي الله عنه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه وجد دينارا فأمره أن يعرفه فلم يعرف فأمره النبي بأكله فلما جاء صاحبه أمره بدفعه إليه وعلي رضي الله عنه ممن تحرم عليه الصدقة لأنه من صلبية بني هاشم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَأْكُلَهَا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا أَبَدًا كَالْوَدِيعَةِ وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَأَمْضَى صَدَقَتَهُ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَلَا غُرْمَ عَلَى الْوَاجِدِ وَإِنْ لَمْ يُمْضِ الصَّدَقَةَ فَثَوَابُهَا لِلْوَاجِدِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا " وَهَذَا نَصٌّ قَالَ وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ حَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَحِلَّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ اللُّقَطَةِ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا وَرُوِيَ مِائَةُ دِينَارٍ فَأَخْبَرَ بِهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأُبَيٌّ مِنْ أَيْسَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ كَانَ أَيْسَرَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا لَصَارَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 مِنْهَا مُوسِرًا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا وَأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا وَرَوَى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وَجَدَ دِينَارًا فَأَتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَدْتُ هَذَا الدِّينَارَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِّفْهُ ثَلَاثًا فَعَرَّفَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: كُلْهُ أَوْ سَائِلْ بِهِ فَابْتَاعَ مِنْهُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ شَعِيرًا وَبِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ تَمْرًا وَقَضَى عَنْهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَابْتَاعَ بِدِرْهَمٍ لَحْمَا وَبَدِرْهَمٍ زَيْتًا وَكَانَ الصَّرْفُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ حَتَّى إِذَا أَكَلَهُ جَاءَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَتَعَرَّفُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَكْلِهِ فَانْطَلَقَ صَاحِبُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ أَدَّيْنَاهُ إِلَيْكَ " وَكَانَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَهُودِيًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَلِيٌّ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِأَنَّهُ مِنْ طِينَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَوْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ تُسْتَبَاحُ بِالْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى لَحَظَرَهَا عَلَيْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِقَاطِ جَازَ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْأَكْلِ وَالتَّمَلُّكِ كَالْفَقِيرِ وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْفَقِيرِ فِي اللُّقَطَةِ ثَبَتَ لِلْغَنِيِّ كَالنُّسُكِ وَالصَّدَقَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَبَاحَ الْفَقِيرُ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ اسْتَبَاحَ الْغَنِيُّ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَالْقَرْضِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ طَعَامُ الْمُضْطَرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ وَقَدْ جَعَلَ الْمُضْطَرَّ أَصْلًا فَيَقُولُ كُلُّ ارْتِفَاقٍ بِمَالِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَضْمُونًا اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ لِلْمُضْطَرِّ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ إِتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ لِمَعْنًى فِي الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالنَّحْلِ الصَّائِلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتُبِيحَ تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الْإِيَاسِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ مَالِكِهِ اسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالرِّكَازِ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ وَاجِدِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ فَيَجِبُ انْتِزَاعُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَدَائِعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَقِيرٌ وَلَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا غَنِيٌّ أَوْ حُكْمِ الْكَسْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَمَذْهَبُ أبي حنيفة فِيهَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ فَاسِدًا. ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة، الثَّوَابُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَقَاصِدِ بِالْأَعْمَالِ لَا عَلَى أَعْيَانِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ صُوَرَهَا فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمُرَائِي بِصَلَاتِهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ الْعَمَلِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعَامِلِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَإِحْبَاطِهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَصَدَّقْ بِهَا " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللُّقَطَةِ لِأَنَّ الزكاة تملك غير مضمون ببدل واللقطة تأخذ مَضْمُونَةً بِبَدَلٍ فَكَانَ الْغَنِيُّ أَحَقَّ بِتَمَلُّكِهَا لِأَنَّهُ أَوْفَى ذِمَّةً وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُضْطَرِّ فَقَدْ جَعَلْنَاهُ أَصْلًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ هَا هُنَا وَلَا أُحِبُّ تَرْكَ اللقطة يقتضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 اسْتِحْبَابَ أَخْذِهَا دُونَ إِيجَابِهِ وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكَ اللُّقَطَةِ إِذَا وَجَدَهَا فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى إيجاب أخذها فاختلف أصحابنا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَوْدِعٌ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَهَا وَاجِبٌ وَتَرْكَهَا مَأْثَمٌ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ نَفْسِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ مَالِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَأْخُذُهَا إِذَا كَانَتْ تُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَخْذَهَا إِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التعاون وعلى كلا الحالتين لَا يُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا أخذها وروي أن شريح مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِبْطَالُ التَّعَاوُنِ وَقَطْعُ الْمَعْرُوفِ وَقَدْ أَخَذَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الصُّرَّةَ الَّتِي وَجَدَهَا وَأَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الدِّينَارَ وَأَخْبَرَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَلَا كَرِهَهُ لَهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أَوْ ضَعِيفًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا وَنَحْنُ نَكْرَهُ لِغَيْرِ الْأَمِينِ عَلَيْهَا وَلِلضَّعِيفِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهَا وَإِنَّمَا نَأْمُرُ بِهِ مَنْ كَانَ أَمِينًا قَوِيًّا فَلَوْ تَرَكَهَا الْقَوِيُّ الْأَمِينُ حَتَّى هَلَكَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَاءَ فَإِنْ أَخَذَهَا لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الضَّوَالِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ الضَّوَالِّ فَضَمِنَهَا وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ أَخْذِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يضمنها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَعَرَّفَهَا سَنَةً عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الْعَامَّةِ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا فَيَعْرِفُ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوَزْنَهَا وَحِلْيَتَهَا وَيَكْتُبُهَا وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَاجِدُ اللُّقَطَةِ وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِهَا فَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ الْقِيَامُ بِهَا وَالْتِزَامُ الشُّرُوطِ فِي حِفْظِهَا عَلَى مَالِكِهَا وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا أَخْذُ اللُّقَطَةِ سَبْعَةُ أَشْيَاءٍ جَاءَ النَّصُّ بِبَعْضِهَا وَالتَّنْبِيهُ عَلَى بَاقِيهَا. أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ عِفَاصِهَا وَهُوَ ظَرْفُهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ عند التقاطها. والشرط التالي معرفة وكاءها وَهُوَ الْخَيْطُ الْمَشْدُودَةُ بِهِ وَبِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ جَاءَ النَّصُّ وَلِأَنَّهَا تَتَمَيَّزُ بِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ فَيَأْمَنُ اخْتِلَاطَهَا بِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ مَعْرِفَةُ عَدَدِهَا تَنْبِيهًا بِالنَّصِّ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ عَدَدِهَا أَحْوَطُ مِنْ تَمَيُّزِهَا عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يشتبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ مَعْرِفَةُ وَزْنِهَا لِيَصِيرَ بِهِ مَعْلُومًا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ أَنَّهُ وَجَبَ غُرْمُهَا. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَوْصَافِهَا كِتَابًا وَأَنَّهُ الْتَقَطَهَا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ مِمَّا يَذْكُرُهُ الطَّالِبُ مِنْ أَوْصَافِهَا. وَالشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ لِيَكُونَ وَثِيقَةً عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ طَمَعِهِ فِيهَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ وَارِثُهُ بِهَا أَوْ غُرَمَاؤُهُ وَلِئَلَّا يَحْدُثَ مِنَ الْوَرَثَةِ طَمَعٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ وَأَشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ. وَالشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ يُعَرِّفَهَا لِأَمْرِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - به لِوَاجِدِهَا وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى عِلْمِ مَالِكِهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيفِ لَهَا فَإِذَا أَكْمَلَ حَالَ هَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ صِفَةِ التَّعْرِيفِ فَقَدْ أَقَامَ بِحُقُوقِهَا. وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِ اللُّقَطَةِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَلَا يَكُونُ لَهُ عِفَاصٌ وَلَا وِكَاءٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا تَمْيِيزُهَا عَنْ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا بِأَيِّ وَجْهٍ تَمَيَّزَتْ بِهِ سَوَاءٌ احْتَاجَ مَعَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ عِفَاصٍ وَوِكَاءٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ وَالثَّانِي التَّعْرِيفُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ وَإِعْلَامِهِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا. وَلِأَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ وَالْمَلْقُوطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ وَفِي تَرْكِهِ مِنَ التَّغْرِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ الْوَاجِدَ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ كَالْوَصِيِّ وَالْمُودِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَاجِبٌ وَالْإِشْهَادُ عَلَى أَخْذِ اللُّقَطَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبُ مَالٍ فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ وَاللَّقِيطُ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَسَبٌ وَإِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ فَكَانَ أَمْرُهُ أَغْلَظَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ اكْتِسَابَ مَالٍ لَمْ يَجِبْ فيه الشهادة ولما كان النكاح مفضي إِلَى إِثْبَاتِ نَسَبٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِهَا فَسَنَشْرَحُ حَالَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّعْرِيفُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ. وَالثَّانِي: فِي مَكَانِ التَّعْرِيفِ. وَالثَّالِثُ: فِي صفة التَّعْرِيفِ. فَأَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا حَوْلًا كاملا ولا يلزمه الزيادة عليه ولا يجز به النُّقْصَانُ عَنْهُ وَقَالَ شَاذٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا شَهْرًا وَاحِدًا وَرَوَى فِي ذَلِكَ خَبَرًا. وَقَالَ آخَرُ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا ثَلَاثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا وَحَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وَلِأَنَّ الْحَوْلَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي اللُّقَطَةِ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ جَمِيعُ فُصُولِ الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَنْتَهِي إِلَى مِثْلِ زَمَانِ وُجُودِهَا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ تَقْصِيرًا وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أن يعرفها حولا ثم حولا ثمحولا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا فَكَانَ الْحَوْلُ وَاحِدًا وَالْأَمْرُ بِهِ ثَلَاثًا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ عَلَى الشَّهْرِ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهِ شَهْرٌ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ ثَلَاثًا بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا لِيَسْتَكْمِلَ غَيْرُهُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِ مَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَسْتَبِيحَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ حَيْثُ قَالَ: (إِذَا صَادَفَ الْمَلِكَ دِينَارٌ ... وَقَدْ حَلَّتْ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ اللُّقَطْ) (دِينَارُكَ اللَّهُ تَوَلَّى نَقْشَهُ ... كَذَلِكَ الْحِنْطَةُ مِنْ خَيْرِ الْحِنَطْ) فَإِذَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا بِمَا ذَكَرْنَا فَأَوَّلُ وَقْتِ الْحَوْلِ مِنِ ابْتِدَاءِ التَّعْرِيفِ لَا مِنْ وَقْتِ الْوُجُودِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ تَعْرِيفَهَا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ وَلَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَشِيعَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَأَوَّلِهِ ثُمَّ يَصِيرُ التَّعْرِيفُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يَصِيرَ فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً لَا يُقَصِّرُ عَنْهَا فَلَوْ عَرَّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ تَعْرِيفِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِمُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى لِيَسْتَكْمِلَ الْحَوْلَ فِي تَعْرِيفِهَا ثُمَّ يَنْظُرَ حَالَهُ عِنْدَ إِمْسَاكِهِ لَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَعْرِيفِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى تَمَلُّكَهَا فَقَدْ ضَمِنَهَا وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَمَلُّكَهَا فَهَلْ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ ضَمِنَهَا لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ عَنِ التَّعْرِيفِ تَقْصِيرٌ وَالثَّانِي: لَا يُضَمِّنُهَا لِأَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّعْرِيفِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ جَمِيعِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَفِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ وَإِنْ وَجَدَهَا وَاجِدُهَا فِي صَحْرَاءَ قفرا أو على حادتها مِنَ الْبِلَادِ الْمُقَارِبَةِ لَهَا، وَلْيَكُنْ تَعْرِيفُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ وَلْيُكْثِرْ مِنْ تَعْرِيفِهَا فِي مَحَاطِّ الرِّجَالِ وَمُنَاخِ الْأَسْفَارِ وَفِي الْأَسْوَاقِ فَأَمَّا الضَّوَاحِي الْخَالِيَةُ فَلَا يَكُونُ إِنْشَادُهَا فِيهِ تَعْرِيفًا. وَرَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهَا فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْسِبُ المزني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 إِلَى الْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَيَّامِ فِي التَّعْرِيفِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَعْرِيفِهَا فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ لِأَنَّ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ يُلَازِمُ طَلَبَهُ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ كلا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ وَلَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِكَثْرَةِ التَّعْرِيفِ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ لِاجْتِمَاعِ الْأَبَاعِدِ فِيهِ وإشهار مَا يَكُونُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ أَصَابَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا سَقَطَتْ مِمَّنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ إِلَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ بِقَاعِ طَالِبِهَا. فَصْلٌ: فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما أن يقول من ضاع من شَيْءٌ وَلَا يَذْكُرُ جِنْسَهُ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ فَيَقُولُ مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَرَاهِمُ أَوْ مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَنَانِيرُ وَلَا يَصِفُهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا فَيُنَازَعُ فِيهَا فَإِنْ وَصَفَهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا مِنَ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ وَذِكْرِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَى الطَّالِبِ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ فَإِذَا سَمِعَهَا بِالتَّعْرِيفِ مَنْ تَقِلُّ أَمَانَتَهُ أَسْرَعَ إِلَى ادِّعَائِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّفُ لَهَا مَأْمُونًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بالخلاعة والمزاح حَتَّى لَا يُنْسَبَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمُجُونِ فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالتَّعْرِيفِ فَهُوَ أَوْلَى وإن لم يجد إلا مستجعلا فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِبَدَلٍ جَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ كان محسنا وإن دفعه دينا عل صَاحِبِهَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ حَاكِمًا لِيَصِحَّ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ وَأَشْهَدَ بِالرُّجُوعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ. فَصْلٌ: فَلَوْ ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ مِنَ الْوَاجِدِ لَهَا فَالْتَقَطَهَا آخَرُ ثُمَّ عَلِمَ الواجد الأول بها فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَهَا الْأَوَّلُ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَالْمُلْتَقِطُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الثَّانِي لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَفِي أَحَقِّهِمَا بِهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ: أَحَدُهُمَا: الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ يَدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثاني أحق بها لثبوت يده. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ إِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَكْمَلَ تَعْرِيفَهَا حَوْلًا كَانَ بَعْدَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِأَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 الْمَالِ أَوْ عَلَى يَدِ أَمِينٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ بَعْدَ تَعْرِيفِ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ لِعَجْزِ الْفَقِيرِ عَنِ الْغُرْمِ وَقُدْرَةِ الْغَنِيِّ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَ الْغَنِيِّ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الدِّينَارَ وَهُوَ لَا يَجِدُ غُرْمَهُ حَتَّى غَرِمَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَذِنَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ الصُّرَّةَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ الْوَاجِدَ لَوْ مُنِعَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ تَمَلُّكِهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْوَاجِدُ فِي أَخْذِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ الْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ إِمْسَاكِهَا فَكَانَ إِبَاحَةُ التَّمْلِيكِ لَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَحَثُّ عَلَى أَخْذِهَا وَأَحْفَظُ عَلَى مَالِكِهَا لِثُبُوتِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ وَلِيَكُونَ ارْتِفَاقُ الْوَاجِدِ بِمَنْفَعَتِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَانَاهُ فِي حِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ اسْتَوَى فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي أَخْذِهَا لِلتَّعْرِيفِ وَتَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا كَسْبٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا حَقَّ لِلذِّمِّيِّ فِيهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مِمَّنْ يَمْلِكُ مَرَافِقَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ تَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ وَحْدَهُ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً فَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَأَشْبَهَ الرِّكَازَ وَالِاصْطِيَادَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنه يملكها بعض مُضِيِّ الْحَوْلِ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ لَمْ يَمْلِكْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " فَرَدَّ أَمْرَهَا إِلَى اخْتِيَارِهِ وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّمَلُّكُ بَعْدَ الْحَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا فَاقْتَضَى أَلَّا يَنْتَقِلَ عَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ مَا أُبِيحَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ غَيْرُ مَالِكٍ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْهُ كَالْقَبْضِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ. فَصْلٌ: فَإِذَا صَارَ مَالِكُهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فَمَنْ جَاءَ طَالِبًا لَهَا رَجَعَ بِهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَيْسَ لِلْمُتَمَلِّكِ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ مَعَ بَقَائِهَا إِلَى بَدَلِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً رَجَعَ بِبَدَلِهَا فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَثَلٍ رَجَعَ بِمِثْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذِي مَثَلٍ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا حِينَ تَمَلَّكَهَا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ صَارَ ضَامِنًا لَهَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُتَمَلِّكِهَا لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَلَوْ كَانَتْ عِنْدَ مَجِيءِ صَاحِبِهَا بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا لَكِنْ قَدْ حَدَثَ فِيهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ رَجَعَ بِالْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ لِحُدُوثِ النَّمَاءِ عَلَى مِلْكِ الْوَاجِدِ فَلَوْ عَرَفَ الْوَاجِدُ صَاحِبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ بِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا فَمُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا دُونَ الْوَاجِدِ كَالْوَدِيعَةِ فَإِنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ فمؤنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 رَدِّهَا عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ إِذَا تَمَلَّكَ الْوَاجِدُ اللُّقَطَةَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا وَلَكِنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وروي " إلا فَهِيَ لَكَ " فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ بَدَلًا وَلِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ كَالرِّكَازِ فَلَمَّا مَلَكَ الرِّكَازَ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَلَكَ اللُّقَطَةَ أَيْضًا بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَهَذَا قَوْلٌ خَالَفَ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْغُرْمِ فَلَمَّا أَعْسَرَ غَرَمَهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا وَفِي إِسْقَاطِ الْغُرْمِ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا. وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِلَّا بِبَدَلٍ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا الرِّكَازُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ حِفْظَهُ عَلَى مَالِكِهِ وَلِذَلِكَ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَصَارَ كَسْبًا مَحْضًا لِذَلِكَ وَجَبَ خمسه فافترقا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواء قليل اللقطة وكثيرها فيقول من ذهبت له دنانير إن كانت دنانير ومن ذهبت له دراهم إن كانت دراهم ومن ذهب له كذا ولا يصفها فينازع في صفتها أو يقول جملة إن في يدي لقطة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّقَطَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ وَإِذَا ضَاعَ مِنْ مَالِكِهِ طَلَبَهُ كَالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَهَذَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ عَلَى وَاجِدِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ تَافِهًا حَقِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتَّمْرَةِ وَالْجَوْزَةِ فَهَذَا لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يُعَرِّفُ فِي الطَّوَافِ زَبِيبَةً فَقَالَ إِنَّ مِنَ الْوَرَعِ مَا يَمْقُتُهُ اللَّهُ وَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْحَسَنِ تَمْرَةً وَجَدَهَا وَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَتَرَكْتُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا تَتْبَعُهُ نَفْسُ صَاحِبِهِ وَلَا يَطْلُبُهُ إِنْ ضَاعَ مِنْهُ كَالرَّغِيفِ وَالدَّانَقِ مِنَ الْفِضَّةِ فقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِكَوْنِهِ ذَا قِيمَةٍ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ ثُمَّ مَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرِهِ عَرَّفَهُ حولا كاملا لا يجز به أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْكَثِيرِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ تَعْرِيفُ الْحَوْلِ يَلْزَمُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا وَمَا دُونُ الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قال إسحاق بن راهويه ما دون الدنانير يُعَرِّفُهُ جُمُعَةً وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الدِّرْهَمِ يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِّفْهَا حَوْلًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا وَجَدَ سَوْطًا أَنْ يُعَرِّفَهُ حَوْلًا فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن كان موليا عليه أو لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ ضَمَّهَا الْقَاضِيَ إِلَى وَلِيِّهِ وَفَعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُ الْمُلْتَقِطُ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَدَ اللُّقَطَةَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ الْحَجْرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ. وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِهِ لِيَقُومَ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا الْوَلِيُّ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ تَمَلُّكِهَا لَهُ أَوْ تَرْكِهَا أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَإِنْ رَأَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَهُ جَازَ لِأَنَّهَا كَسْبٌ لَهُ بِوُجُودِهِ لَهَا وَلَيْسَتْ كَسْبًا لِوَلِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَمَلَّكُهَا لَهُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا قَبُولُ تَمَلُّكٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا قَبُولُ وَصِيَّةٍ وَلَا هِبَةٍ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا كَانَ هُوَ الْمُتَمَلِّكَ لَهَا عَنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي أَنَّ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ التَّمَلُّكُ لِأَنَّ السَّفِيهَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. ثُمَّ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَغُرْمُهَا فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ دُونَ الْوَلِيِّ وَإِنْ رَأَى الْوَلِيُّ أَنْ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُوَلّى عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا لَا يَكُونُ غُرْمُهَا مُسْتَحَقًّا فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا أَمَانَةً مُقَرَّةً فِي يَدِ الْوَلِيِّ فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنِ السَّفِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَنْزِعَهَا مِنْ وَلِيِّهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْأَمَانَةَ فِيهَا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ وَهُوَ الْآنَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهِ فَهَذَا حُكْمُهَا إِنْ أَخْذَهَا الْوَلِيُّ مِنَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَلِيُّ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَقَدْ ضَمِنَهَا لِمَالِكِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ وَجَبَ غُرْمُهَا فِي مَالِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ غُرْمُ سَائِرِ جِنَايَاتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ وَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهَا عُدْوَانَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الْغُرْمُ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ لَمَا وَجَبَ فِي مَالِهِ غُرْمُهَا فَلَوْ لَمْ تَتْلَفْ وَكَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ حَتَّى انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَصَارَ رَشِيدًا فَلَهُ تَعْرِيفُهَا وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي غُرْمِهَا قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ لَوْ تَلِفَتْ ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِنْ شاء. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أُمِرَ بِضَمِّهَا إِلَى سَيِّدِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَأَقَرَّهَا فِي يَدَيْهِ فهو ضامن لها في رقبعة عَبْدِهِ (قَالَ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ لَا غُرْمَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَى يعتق من قبل أن له أخذها " (قال المزني) " الأول أقيس إذا كانت في الذمة والعبد عندي ليس بذي ذمة " (قال الشافعي) رحمه الله فإن لم يعلم بها السيد فهي في رقبته إن استهلكها قبل السنة وبعدها دون مال السيد لأن أخذه اللقطة عدوان إنما يأخذ اللقطة من له ذمة " (قال المزني) " هذا أشبه بأصله ولا يخلو سيده من أن يكون علمه فإقراره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 إياها في يده يكون تعديا فكيف لا يضمنها في جميع ماله أو لا يكون تعديا فلا تعدو رقبة عبده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ أَخَذَ لُقَطَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي أَخْذِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لِسَيِّدِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَخْذِهِ لَهَا ضَمَانٌ لِأَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ يَدُ سَيِّدِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سَيِّدُهُ لِيَضْمَنَهَا إِلَيْهِ: فَإِذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِهِ وَعَرَّفَهَا حَوْلَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا. وَإِنْ أَقَرَّهَا السَّيِّدُ بَعْدَ عِلْمِهِ فِي يَدِ عَبْدِهِ لِيَقُومَ بِهَا وَبِتَعْرِيفِهَا نُظِرَ حَالُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا جَازَ وَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَالسَّيِّدُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا حَتَّى تَلِفَتْ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ كَسَائِرِ جِنَايَاتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْلَامِ سَيِّدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَغُرْمُهَا هَدَرٌ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِعْلَامِهِ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ بِتَرْكِ إِعْلَامِ سَيِّدِهِ بِهَا متعديا. فصل: فأما أَخْذُهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ لَا لِسَيِّدِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَدِّيًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " ذَلِكَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " فَجَعَلَهَا كَسْبًا فَلَمْ يُمْنَعِ الْعَبْدُ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالْإِحْشَاشِ وَعَلَى هَذَا يُعَرِّفُهَا الْعَبْدُ حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ وَجَبَ غُرْمُهَا فِي ذِمَّتِهِ كَالْقَرْضِ وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُ اللُّقَطَةِ فِيهِ لِأَنَّ دُيُونَ الْعَبْدِ مُسْتَحِقَّةٌ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ عتقه وإن تملكها السيد كان السيد لَهُ صَرْفُ اللُّقَطَةِ فِيهِ لِأَنَّ دُيُونَ الْعَبْدِ مُسْتَحِقَّةٌ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِنَّ تَمَلَّكَهَا السَّيِّدُ كَانَ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِغُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ دُونَ الْعَبْدِ وَإِنِ اتَّفَقَا أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِ عَبْدِهِ لِيَحْفَظَهَا فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَضْمَنْ أَمَانَةً وَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ نُظِرَ فِي اسْتِهْلَاكِهِ لَهَا. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عُدْوَانٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ بِأَخْذِهَا مُتَعَدِّيًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي أَخْذِ اللُّقَطَةِ وِلَايَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا بِالتَّعْرِيفِ فِي الْحَوْلِ وَبِالذِّمَّةِ الْمَرْضِيَّةِ إِنْ تَمَلَّكَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ هَذَيْنِ لأنه مقطوع لخدمة السيد عن ملازمته التَّعْرِيفَ وَلَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغُرْمِ لِتَأْخِيرِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَعَلَى هَذَا لِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ حَالَةٌ يَعْلَمُ بِهَا وَحَالَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَالْعَبْدُ ضامن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 لِلُّقَطَةِ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ وَسَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ وَكَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِ السَّيِّدِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عن العبد يدفعها إِلَى السَّيِّدِ وَلَيْسَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهَا وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِالْعُدْوَانِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِرَدِّهَا عَلَى الْمَالِكِ قِيلَ لِأَنَّ السَّيِّدَ مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ. فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى السَّيِّدِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ فَإِذَا صَحَّ أَنَّ ضَمَانَهَا قَدْ سَقَطَ عَنِ الْعَبْدِ بِأَخْذِ السَّيِّدِ لَهَا فَفِي يَدِ السَّيِّدِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُ مُؤْتَمَنٍ لَا يَدُ مُلْتَقِطٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِدِ لَهَا فَأَشْبَهَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يَدَهُ مُلْتَقِطٌ فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِأَنَّ يَدَ عَبْدِهِ كَيَدِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمَرَهُ السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِهِ فَيَسْتَبْقِيهَا عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَا نُظِرَ فِي الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ فِي التَّرْكِ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ وَصَارَ كَأَخْذِ السَّيِّدِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْمُونٍ ضَمِنَهَا السَّيِّدُ وَهَلْ يَسْقُطُ ضَمَانُهَا عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ أَمْ لا على وجهين: أحدهما: سَقَطَ لِتَصَرُّفِهِ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدِ وَصَارَ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنَ السَّيِّدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهَا بَاقٍ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْيَدِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّهَا السَّيِّدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُ فِيهَا بَلْ يُمْسِكُ عَنْهَا عِنْدَ عِلْمِهِ لَهَا فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّ السَّيِّدَ يكون ضامنا لها في رقبته عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَهْوِ الْمُزَنِيِّ وَغَلَطِهِ وَجَعَلَهَا مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ اخْتِلَافَ هَذَا النَّقْلِ بَعْضُ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَحْدَهُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ السَّيِّدِ لِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَتَرْكِهِ لِمَنْعِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ شَاهَدَ عَبْدَهُ يَقْتُلُ رَجُلًا أَوْ يَسْتَهْلِكُ مَالًا وَقَدِرَ عَلَى مَنْعِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ قَاتِلًا وَلَا مُسْتَهْلِكًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ غرم ولا ضمان كذلك في اللقطة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّيِّدِ في رقبة عبده وسائر أموال لِأَنَّ يَدَ السَّيِّدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 لَوْ عَادَتِ اللُّقَطَةُ إِلَيْهَا مُسْتَحِقَّةً لَهَا فَصَارَ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ عُدْوَانًا مِنْهُ وَلَيْسَ كَالَّذِي يَجْنِي عَلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ يَسْتَهْلِكُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ اللُّقَطَةَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا وَإِلَّا فَمَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي سَائِرِ مَالِهِ فَلِمَ خَصَصْتُمْ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِهَا وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ قُلْنَا لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مُعَيَّنٌ كَالْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ كَانَ مَالِكُ اللُّقَطَةِ أَحَقُّ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ جَنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَالِهِ. لِأَنَّ مِلْكَ اللُّقَطَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْغُرْمِ فِيهَا سَوَاءٌ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ اخْتِلَافُ هَذَا النَّقْلِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ حَالَيْهِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدُ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ ضَمَانُهَا إِلَّا بِرَقَبَتِهِ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا فَصَارَ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَهَذَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ واختار منه ما أخذه. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَخْذِ اللُّقَطَةِ فَأَخَذَهَا عَنْ أَمْرِ سَيِّدِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ضَمَانُهَا قَوْلًا وَاحِدًا ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَاتِ لَمْ يَضْمَنْهَا السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ضَمِنَهَا فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِهَا فَأَخَذَهَا بَعْدَ نَهْيِ السَّيِّدِ لَهُ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ نَهْيَ السَّيِّدِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي أَخْذِهَا وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَمْ يَنْهَهُ كَالْقَرْضِ الَّذِي لَوْ مَنَعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مِنْهُ لَمَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَوْ فَعَلَهُ إِلَّا فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ في الجنازة وَالْكَسْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ أَخْذُ اللُّقَطَةِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ إِذْنِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ دَاخَلَا فِيهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ إِنْ أَخَذَهَا قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي إِذْنِهِ فَعَلَى هَذَا فِي ضَمَانِهِ لَهَا إِنْ أَخَذَهَا قَوْلَانِ. فَصْلٌ: فَلَوِ الْتَقَطَ الْعَبْدُ لقطة ثم عتق قبل الحول أَنَّهَا تَكُونُ كَسْبًا لِسَيِّدِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَهُ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا كَانَ وَهُوَ عَبْدٌ وَهِيَ تُمَلَّكُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّمَا تَعْرِيفُ الْحَوْلِ شَرْطٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَكُونُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ أَمَانَةٌ وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ كَسْبٌ. وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ حُرًّا غَيْرَ مَأْمُونٍ فِي دِينِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَأْمُونٍ وَيَأْمُرَ الْمَأْمُونَ وَالْمُلْتَقِطَ بِالْإِنْشَادِ بِهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَنْزِعُهَا مِنْ يَدَيْهِ وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَهُ " (قال المزني) " فإذا امتنع من هذا القول لهذه العلة فلا قول له إلا الأول وهو أولى بالحق عندي وبالله التوفيق " (قال المزني) " رحمه الله وقد قطع في موضع آخر بأن على الإمام إخراجها من يده لا يجوز فيها غيره وهذا أولى به عندي ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَسْبٌ لِوَاجِدِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ كَالرِّكَازِ فَتُقَرُّ فِي يَدِهِ وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ يُرَاعِيهَا مَعَهُ حِفْظًا لَهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ وَيَكُونُ هُوَ الْمُقِيمُ بِحِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ نَظَرٌ فِيهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ إِنَّ الْحَاكِمَ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينًا يُرَاعِي حِفْظَهَا فِي يَدِ الْوَاجِدِ اسْتِظْهَارًا لِلْمَالِكِ وَإِنْ لَمْ تُنْتَزَعْ لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقِّ الْوَاجِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهَا مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى حِفْظِ أَمْوَالِ مَنْ غَابَ وَلِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ هذه حالة ولأن الْوَصِيَّ لَمَّا وَجَبَ انْتِزَاعُ الْوَصِيَّةِ مِنْ يَدِهِ لِفِسْقِهِ مَعَ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ لَهُ فَلِأَنْ يُخْرِجَ يَدَ الْوَاجِدِ الَّذِي لَمَّ يَخْتَرْهُ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ إِلَى أَمِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِهَا فَفِي الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا خَوْفًا مِنْ جِنَايَةِ الْوَاجِدِ فِي تَعْرِيفِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأُمِّ: إِنَّ الْوَاجِدَ هُوَ الْمُعَرِّفُ دُونَ الْأَمِينِ لِأَنَّ التعريف من حقوق التمليك وليس في تَقْرِيرٌ لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ بِالصِّفَةِ فَإِذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا فَإِنْ أَرَادَ الْوَاجِدُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ وَأَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِغُرْمِهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَمِينِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ لَهَا مَأْمُونًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ وَلَكِنْ يَضُمُّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا ليقوى به على الحفظ والتعريف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمُكَاتَبُ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ لِأَنَّ مَالَهُ يُسَلَّمُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ كَالْعَبْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ فَبَعْضُهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَصِحَّةِ تَمَلُّكِهَا لِنُفُوذِ عُقُودِهِ وَتَمَلُّكِ هِبَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْعَبْدِ لِأَنَّ مَالِكَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ لَهُ اسْتِرْقَاقٌ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ وَإِبْطَالِ ذِمَّتِهِ بِالْفَسْخِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ هُوَ كَالْحُرِّ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ صَحِيحَةً وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ هُوَ كَالْعَبْدِ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ فَاسِدَةً وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 لِأَنَّهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَالْحُرِّ فِي رَفْعِ يَدِ سَيِّدِهِ عَنْهُ وَفِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِيهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي اللُّقَطَةِ وَأَمَّا أم الوالد فَكَالْعَبْدِ فِي اللُّقَطَةِ إِنْ أَخَذْتَهَا لِلسَّيِّدِ جَازَ وَإِنْ أَخَذْتَهَا لِنَفْسِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ غُرْمُ اللُّقَطَةِ بِذِمَّتِهَا إِذَا أُعْتِقَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي. لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَتَعَلَّقُ غُرْمُهَا بِذِمَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ أَمْ بِرَقَبَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِذِمَّتِهَا وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ غُرْمُهَا. وَالثَّانِي: بِرَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَافْتِكَاكُ رَقَبَتِهَا كَمَا يَفْعَلُ فِي جَنَابَتِهَا وَإِنْ عَلِمَ السَّيِّدُ بِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. وَالثَّانِي: فِي رَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ فكاكها بأقل الأمرين من قيمتها اللقطة أو قميتها. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ يَغْرَمُهَا بِجَمِيعِ قيمتها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْعَبْدُ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَإِنِ الْتَقَطَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مُخَلَّى لِنَفْسِهِ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَكَانَتْ بَعْدَ السَّنَةِ لَهُ كَمَا لَوْ كَسَبَ فِيهِ مَالَا كَانَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَذِي لِسَيِّدِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ لِأَنَّ كَسْبَهُ فِيهِ لِسَيِّدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً أَوْ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ فَإِنْ كَانَ غير مهايأة فنصف أكسابه لَهُ بِحَقِّ حُرِّيَّتِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ أَكْسَابِهِ لِسَيِّدِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَنِصْفُ اللُّقَطَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهِ وَيَتَمَلَّكُهُ بَعْدَ حَوْلِهِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ فِيهِ كَالْعَبْدِ فَإِنْ أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الَّذِي أخذه بحريته ثم يصيران شريكين فيما يُقِيمَانِ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا بَعْدَ حَوْلِهَا وَإِنْ كَانَ مُهَايَأَةً وَالْمُهَايَأَةُ أَنْ يَكْتَسِبَ لِنَفْسِهِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلِسَيِّدِهِ يَوْمًا مِثْلَهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَيَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ الْأَكْسَابُ الْمَأْلُوفَةُ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَيْسَ بِمَأْلُوفٍ مِنَ الْأَكْسَابِ كَاللُّقَطَةِ والركاز أم عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِيهَا وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْكَسْبِ فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ نَفْسِهِ فَهُوَ فِيهِ كَالْحُرِّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا وَيَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِيهَا كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ جَمِيعِهِ فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا حُكْمُ دُخُولِهَا فِي الْمُهَايَأَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ وَلَا الْمَكَاسِبِ النَّادِرَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا مُخْتَصًّا فِي زَمَانِهِ بِمَا لَا يُسَاوِيهِ الْآخَرُ فِي زَمَانِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي اللُّقَطَةِ كَغَيْرِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى مَا مَضَى وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ أَقَلَّهُ الحر أو أكثر مَمْلُوكًا فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ اشْتَرَكَا فِي قِيمَةِ اللُّقَطَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ فَفِي دُخُولِ اللُّقَطَةِ فِي مُهَايَأَتِهِمَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مضى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُفْتِي الْمُلْتَقِطُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلُ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالْعَدَدَ وَالْوَزْنَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ بِأَنْ يَسْمَعَ الْمُلْتَقِطَ يصفها ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعرف عفاصها ووكاءها " والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها وليعلم إذا وضعها في ماله أنه لقطة وقد يكون ليستدل على صدق المعرف أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةٌ أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه فيمكن أن يكون صادقا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى لُقَطَةً فِي يَدِ وَاجِدِهَا فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ عَلَى مِلْكِهَا وَجَبَ تَسْلِيمُهَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَكِنْ وَصَفَهَا فَإِنْ أَخْطَأَ فِي وَصْفِهَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَالْجِنْسِ وَالنَّعْتِ وَالْعَدَدِ وَالْوَزْنِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَفْتَيْنَاهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ جَوَازًا لَا وَاجِبًا فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الدَّفْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَيْهِ بِالصِّفَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا أَوْ قَالَ بَاغِيهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَخْبَرَ بِمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَرَوَى سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَعَرَّفَكَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ". وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ أَمَارَةٍ غَلَبَ بِهَا فِي الشَّرْعِ صِدْقُ الْمُدَّعِي جَازَ أَنْ يُوجِبَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقَسَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَا تَعَذَّرَ مِنْهَا فِي الْغَائِبِ مُخَفَّفٌ كَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْوِلَادَةِ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي لَا تُضْبَطُ أَعْيَانُهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْأَحْوَالِ الْمُمْكِنَةِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً فِيهَا ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ "، فَلَمْ يَجْعَلِ الدَّعْوَى حُجَّةً وَلَا جَعَلَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ حُجَّةً بَيِّنَةً وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ لَا تَكُونُ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ مِنْ تَمَامِ الدَّعْوَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَبِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةٌ أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نعلم أن كلهم كذبة إلا واحد بِعَيْنِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ كَمَا لَوِ ادَّعَاهَا عَشَرَةٌ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهَا بَيِّنَةً نُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ صِدْقُ جَمِيعِهِمْ مُسْتَحِيلَا. كَذَلِكَ إِذَا وَصَفُوهَا كُلَّهُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَذِبَ الْمُدَّعِي أَسْقَطُ لِلدَّعْوَى مِنْ كَذِبِ الشُّهُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِكْذَابَ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ مُبْطِلًا لِلدَّعْوَى وَإِكْذَابَ الشُّهُودِ لِأَنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلدَّعْوَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ أَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي وَأَقْوَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ فَدَعَتْ ضَرُورَةُ الْحَاكِمِ فِي الْبَيِّنَةِ إِلَى مَا لَمْ تَدْعُهُ مِنَ الصِّفَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا لِدَفْعِهَا بِصِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَهُ وَلَكِنْ لَمَعَانٍ هِيَ أَخَصُّ بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ مِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِحِفْظِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ قِلَّتِهِ وَنَدَارَتِهِ عَلَى حِفْظِ مَا فِيهِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ عَنْ مَالِهِ وَمِنْهَا جَوَازُ دَفْعِهَا بِالصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ الذيَ جَعَلُوهُ نَصًّا وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ فَنَحْنُ مَا جَعَلْنَا الْأَمَارَةَ عَلَى الصِّدْقِ حُجَّةً فِي قَبُولِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا الْأَيْمَانُ بَعْدَهَا حُجَّةٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ بَعْدَ الصِّفَةِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ فَصَحِيحٌ وَلَيْسَ مِنْ جَمِيعِهَا بَيِّنَةٌ تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَلَا يَكُونُ تَعَذُّرُ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ بَيِّنَةً أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ تَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ صِفَةُ مَا بِيَدِهِ لِمُدَّعِي سَرِقَتِهِ حُجَّةً. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ لَا يَجِبُ فَدَفَعَهَا بِالصِّفَةِ وَسِعَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ كَذِبُهُ فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَانَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَاصِفِ لَهَا انْتُزِعَتْ مِنْهُ لِمُقِيمِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ فِي الدَّافِعِ لَهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ رَأَى ذَلِكَ مَذْهَبًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ وَرَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَلِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ أَوِ الْآخِذِ الْوَاصِفِ فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْيَدِ وَاسْتِحْقَاقِ غُرْمِهَا بِالْإِتْلَافِ وَقَدْ بَرِئَ الدَّافِعُ لَهَا مِنَ الضَّمَانِ لِوُصُولِ الْغُرْمِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَيْسَ لِلْغَارِمِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا بِهِ فَالْمَظْلُومُ بِالشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ وَإِنْ رَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ نُظِرَ فِي الدَّافِعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ لَهَا عَلَى مِلْكِهَا وَأَكْذَبَ الشُّهُودَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ وَلَا أَكْذَبَ الشُّهُودَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ مُوجِبَةً عَلَيْهِ وَلَهُ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ طَعَامًا رَطْبًا لَا يَبْقَى فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ وَيَغْرِمَهُ لِرَبِّهِ (وَقَالَ) فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفِهِ (قَالَ المزني) هذا أولى القولين بِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يقل للملتقط شأنك بها إلا بعد سنة إلا أن يكون في موضع مهلكة كالشاة فيكون له أكله ويغرمه إذا جاء صاحبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّعَامُ الرَّطْبُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ فَيَبْقَى كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَإِنِ احْتَاجَ تَجْفِيفُهُ إِلَى مُؤْنَةٍ كَانَتْ عَلَى مَالِكِهِ وَيَفْعَلُ الْحَاكِمُ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَالِكِ مِنْ بَيْعِهِ أَوِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الَّذِي يَفْسُدُ بِالْإِمْسَاكِ كَالْهَرِيسَةِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تبقى على الأيام فقد حكى عَنِ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ يَأْكُلُهُ الْوَاجِدُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ كَالشَّاةِ الَّتِي لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِبْقَاؤُهَا أُبِيحَ لِوَاجِدِهَا أَكْلُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا فَأُبِيحَ لَهُ أَكْلُهَا وَالطَّعَامُ وَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ فَلَمْ يَسْتَبِحْ وَاجِدُهُ أَكْلُهُ وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا جَازَ أَكْلُهُ وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اخْتِلَافُ حَالَيْهِ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ وَاجِدِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا اسْتَبَاحَ أَكْلَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَسْتَبِحْهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ صَارَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا وَهَلْ يَلْزَمُهُ عَزْلُ قِيمَتِهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَكْلِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ عَزْلُ الْقِيمَةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُتَمَلِّكًا لِلُقَطَةٍ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا قَبْلَ حَوْلِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَزْلُهَا لِأَنَّهُ لَوْ عَزَلَهَا فَهَلَكَتْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ فَكَانَتْ ذِمَّتُهُ أَحَظَّ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَزْلُهَا مُفِيدًا وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ فَائِدَةَ عَزْلِهَا لَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ عَزْلِ قِيمَتِهَا ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ كَانَ أَوْلَى بِالْمَعْزُولِ مِنْ قِيمَتِهَا مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَزَعَمَ أَنَّ تَلَفَهَا مِنْ يَدِهِ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمَهَا فَصَارَ فِي ضَمَانِهِ لِلثَّمَنِ إِنْ تَلَفَ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالثَّانِي وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعَ وُجُوبِ عَزْلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ مَعَ بَقَائِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ الشَّاةِ إِذَا وَجَدَهَا وَأَرَادَ بَيْعَهَا لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الشَّاةِ أَقْوَى لِمَا اسْتَحَقَّهُ عَاجِلًا مِنْ أَكْلِهَا وَيَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ أَضْعَفُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِهِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ إِذْنُ الْحَاكِمِ جَازَ بَيْعُهُ لَهُ فَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ دُونَ الْقِيمَةِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهُ فَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ التَّمَلُّكِ لَوْ كَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ رَبِّهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ وَهَكَذَا حُكْمُ الثَّمَنِ لَوْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ عِنْدَ إِعْوَازِ الْحَاكِمِ فَأَمَّا إِنْ بَاعَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَلِلْمَالِكِ الْقِيمَةُ دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِتَعَدِّيهِ بِقَبْضِهِ مَعَ فَسَادِ بَيْعِهِ فَإِنْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَالثَّمَنُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ أَخَذَهُ وَهُوَ مُبَلِّغٌ حَقَّهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِإِتْمَامِ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا اشْتَرَى شراءا فَاسِدًا فَكَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ دُونَ الْمُسَمَّى إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمَالِكُ أَنْ يُسَامِحَ بِفَاضِلِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذْ ليس يلزمه إلا القيمة. مسألة: (وَقَالَ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ " إِذَا وَجَدَ الشَّاةَ أَوِ الْبَعِيرَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ مَا كَانَتْ بِالْمِصْرِ أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُ ضَوَالِّ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ فَأَمَّا إِذَا وَجَدَهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَالَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فيما وجد بِخَطِّهِ أَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهُ أَخْذُهَا وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهَا فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ سَوَاءٌ يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِصْرَ كَالْبَادِيَةِ يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي " الْأُمِّ " لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لقطة يأخذ الغنم والإبل جميعها ويعرفها كَسَائِرِ اللُّقَطِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ وَفِيمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ لِأَنَّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ضَوَالِّ الْإِبِلِ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ يَخْتَصُّ بِالْبَادِيَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ دُونَ الْمِصْرِ وَهِيَ تَمْنَعُ صِغَارَ السِّبَاعِ عَنْ أَنْفُسِهَا فِي الْبَادِيَةِ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ النَّاسِ فِي الْمِصْرِ. وَالشَّاةُ تُؤْكَلُ فِي الْبَادِيَةِ لِأَنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُهَا وَهُوَ لَا يَأْكُلُهَا فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا فِي الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ جَوَازَ أَخْذِهَا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَحَمَلَ الْمَنْعَ مِنْ أَخْذِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ. فصل: فإذا قُلْنَا إِنَّ حُكْمَ الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فَلَهُ أَخْذُ الْغَنَمِ وَأَكْلُهَا وَلَيْسَ يَتَعَرَّضُ لِلْإِبِلِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ مَالِكَهَا وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ حُكْمَ الْمِصْرِ يُخَالِفُ الْبَادِيَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فَلَهُ أَخْذُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ جَمِيعًا وَيَكُونَانِ لُقَطَةً يَلْزَمُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُنْفِقُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا أَتَى الْحَاكِمَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِي الْأَحَظِّ لِصَاحِبِهَا فِي أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَرَى الِاقْتِرَاضَ عَلَى صَاحِبِهَا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ يَرَى بَيْعَهَا لِصَاحِبِهَا لِيَكْفِيَ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا أَوْ يُرْسِلَهَا فِي الْحِمَى إِنْ كَانَ لِضَوَالِّ الْمُسْلِمِينَ حِمًى ثُمَّ يَقُومُ الْوَاجِدُ عَلَى تَعْرِيفِهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ رَافِعًا لِيَدِهِ عَنْهَا فَيَسْقُطَ عَنْهُ حكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 تَعْرِيفِهَا وَإِلَّا فَمَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْتِقَاطِهَا فَتَعْرِيفُهَا حَوْلًا وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَإِنْ بِيعَتْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ثَمَنُهَا دُونَ الْقِيمَةِ إِنْ بَاعَهَا حَاكِمٌ أَوْ بِأَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ لَهَا فَلِصَاحِبِهَا قِيمَتُهَا دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ بَيْعِهِ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَهَلْ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ اللُّقَطَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ ". وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَأَرْفَقَ بِالْفَرِيقَيْنِ. فَصْلٌ: إِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ أَوِ الْبَعِيرَ حَسْرًا فِي الصَّحْرَاءِ لِعَجْزِهِ عَنِ السَّيْرِ وَعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ حَمْلِهِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأَحْيَاهُ بِمُقَامِهِ عَلَيْهِ وَمُرَاعَاتِهِ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ فِي السَّيْرِ وَالْعَمَلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ. فَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِآخِذِهِ وَمُحْيِيهِ دُونَ تَارِكِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَارِكُهُ تَرَكَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ فَيَكُونُ التَّارِكُ أَحَقَّ بِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِنَّ آخِذَهُ الْمُحْيِيَ لَهُ أَحَقُّ مِنْ تَارِكِهِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ تَرَكَهُ ليعود إليه أم لا. وقال مالك هُوَ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ دُونَ آخِذِهِ لَكِنْ لآخذه الرجوع بما أنفق ومذهب الشافعي رضي الله عنه أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ وَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ الرُّجُوعُ بنفقته لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّهُ لَوْ عَالَجَ عَبْدًا قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِالْمَرَضِ حَتَّى وَلَوِ اسْتَنْقَذَ مَالًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ يَمْلِكْهُ فَكَذَا الْبَهِيمَةُ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَتَاعًا قَدْ غَرِقَ مِنَ الْبَحْرِ فقد مَلَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَهَذَا شَاذٌّ مِنَ الْقَوْلِ مَدْفُوعٌ بِالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ لَوْ وُجِدَ فِي الْبَحْرِ قِطْعَةُ عَنْبَرٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ كَانَتْ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا فِي الْبَرِّ كَانَتْ لُقَطَةً لِعِلْمِنَا بِحُصُولِ الْيَدِ عَلَيْهَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّاحِلِ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا، فَتَكُونُ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَدْ أَلْقَاهَا حِينَ نَضَبَ وَهَكَذَا لَوْ صَادَ سَمَكَةً مِنَ الْبَحْرِ فَوُجِدَ فِي جَوْفِهَا قِطْعَةُ عَنْبَرٍ كَانَتْ لِلصَّيَّادِ إِذَا كَانَ بَحْرًا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَنْبَرُ فَأَمَّا الْأَنْهَارُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْبِحَارِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لُقَطَةً وَهَكَذَا الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْنُوعًا أَوْ مَثْقُوبًا فَيَكُونُ لُقَطَةً فَأَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَلَا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ إِلَّا مَعَ صَدَفِهِ فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ كَانَ مِلْكًا لِوَاجِدِهِ وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا عَنْ صَدَفِهِ كَانَ لقطة. مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَوَالَّ الْإِبِلِ فَمَنْ أَخَذَهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ ضَوَالَّ الْإِبِلِ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 أَخْذُهَا إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَدَبَهُ لِأَخْذِ الضَّوَالِّ حِفْظًا لَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ فِي الْمَصَالِحِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ عَارِفًا لِصَاحِبِهَا فَيَأْخُذُهَا لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَعْرِيفٍ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْوَاجِدِ في هاتين الحالتين أن يأخذها. أما الحالة الأولى فما عليه إلا العمل فيما ندب إليه وأما الحالة الثَّانِيَةُ فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ إِذَا خِيفَ هَلَاكُهَا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ وَاجِبًا فَإِنْ أَخَذَهَا الْوَاجِدُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَصَارَ لِذَلِكَ ضَامِنًا فَإِنْ تَلِفَتْ وَجَبَ غُرْمُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا فَلَهُ فِي رَفْعِ يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَالْحَالُ الثاني أَنْ يُرْسِلَهَا مِنْ يَدِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة إِنْ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ وَلَا أَدْرِي مَا يَقُولَانِهِ فِي إِرْسَالِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وُجُودِهَا وَبَنَيَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهَا فِي ضَامِنَ الْوَدِيعَةِ بِالتَّقْصِيرِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ ضَمَانُهَا. وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِإِرْسَالِهِ فَكَذَلِكَ ضَمَانُ الضَّوَالِّ بِالْأَخْذِ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وَهَذَا جمع مفترق واستدلالا فاسدا وَأَصْلٌ مُنَازِعٌ لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَرْسَلَهُ صَارَ كَعَوْدِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَيْسَ الضَّوَالُّ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَمْ يَكُنْ إِرْسَالُهَا عود إِلَى مُسْتَحِقِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ مِلْكًا لِآدَمِيٍّ فَضَمِنَهُ الْمُحْرِمُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي الْغُرْمِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ كَعَوْدِهَا إِلَى يَدِ النَّائِبِ عَنِ الْغَائِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ لِتَعَدِّي الواجد والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 باب الجعالة مسألة: قال وَلَا جُعْلَ لِمَنْ جَاءَ بِآبِقٍ وَلَا ضَالَّةٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسَوَاءٌ مَنْ عُرِفَ بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَلَيْسَ يَخْلُو مَنْ رَدَّ آبِقًا أَوْ ضَالَّةً مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ فَقَدْ كَانَ ضَامِنًا بِالْيَدِ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَهُ إن رد مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي رَدِّ الْبَهِيمَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ بِرَدِّ الضَّوَالِّ مَعْرُوفًا أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ اسْتِدْلَالًا مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَذْهَبَيْهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ رَدَّ آبِقَا مِنْ خَارِجِ الْحَرَّةِ دِينَارًا وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَارَةً هَكَذَا عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَدَّ آبِقَا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمَا " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَدَّ ضَالَّةً لِرَجُلٍ فَقَالَ النَّاسُ لَقَدْ حَازَ أَجْرًا عَظِيمًا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَكَانَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَنْ رَدَّ آبِقًا فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِجْمَاعًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ: قَالُوا وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَا أَدَّى إِلَى حِفْظِهَا وَرِفْقِ أَرْبَابِهَا فِيهَا فَلَوْ مُنِعَ الرَّادُّ لَهَا مِنْ جُعْلٍ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ رَدِّهَا وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهَا وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ فِي طَلَبِهَا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ بَلْ أَضْعَفُ فَلَمَّا كَانَ لَوِ اسْتَهْلَكَ أَعْيَانًا فِي رَدِّ ضَالَّةٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا فَإِذَا اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهَا عِوَضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَطَوَّعَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي الضَّوَالِّ لَمْ يَرْجِعْ بِعِوَضِهِ كَالْأَعْيَانِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا فَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَلَ الْمِلْكَ إِلَى مَالِكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا لِتَطَوُّعِهِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمِلْكِهِ تَطَوُّعًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً أَنَّ مِنْ تَطَوَّعَ بِاصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ جُعْلًا كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة خَاصَّةً أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ عَلَى رَدِّ الْعَبْدِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا أَوْ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا فَإِنْ كَانَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ بَهِيمَةً أَوْ لُقَطَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ صَبِيًّا قَدْ ضَاعَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَبَطَلَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي رَدِّ الْعَبْدِ شَيْئًا قَالَ: أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ ذَكَرُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ خَاصَّةً قَبْلَ الْمَجِيءِ لِيَصِيرَ مُسْتَحِقًّا لِلْجُعْلِ بِالشَّرْطِ وَإِمَّا لِتَقْرِيرٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْجَعَالَةِ الْفَاسِدَةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِرْفَاقِ وَالْمَصْلَحَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا رَدُّ الضَّالَّةِ عَنْ أَمْرِ مَالِكِهَا فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِرَدِّهَا عِوَضًا فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ فَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَعْلُومًا وَعَقْدًا صَحِيحًا اسْتَحَقَّهُ وَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَجْهُولًا وَعَقْدًا فَاسِدًا اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَكَانَ حِمْلُ الْبَعِيرِ عِنْدَهُمْ مَعْلُومًا كَالْوَسْقِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ لَا يُذْكَرَ مَعَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ عِوَضًا لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا بَلْ قَالَ لَهُ فُلَانٌ جِئْنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ أَمْ لَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذلك أولا لِتَرَدُّدِ الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ احْتِمَالِ تَطَوُّعٍ وَاسْتِعْجَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ لِاسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ بِأَخْذِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اعْتِبَارًا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ بِالْأَمْرِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنِ استئذنه الْجَانِي بِالضَّالَّةِ فَأَذِنَ لَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اقْتِصَارًا عَلَى حُكْمِ أَسْبَقِ الْحَالَيْنِ. فَصْلٌ: فَلَوِ اخْتَلَفَ مَالِكُ الضَّالَّةِ وَمَنْ رَدَّهَا فِي الْإِذْنِ فقال المالك ردها بِغَيْرِ إِذْنٍ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ مَنْ رَدَّهَا بَلْ رَدَدْتُهَا عَنْ أَمْرِكَ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 ذمته ولو اتفقنا عَلَى الْإِذْنِ بِالْأَجْرِ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِرَدِّهِ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عَبَدَهُ سَالِمًا وَادَّعَى الْآخَرُ نَفْيَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي عَبْدِي غَانِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِذْنَ فيه وإن اعترف به في غيره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ كَذَا وَلَآخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِثَالِثٍ مِثْلُ ذَلِكَ فَجَاءُوا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَهُ لَهُ اتَّفَقَتِ الْأَجْعَالُ أَوِ اخْتَلَفَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجَعَالَةُ فَمِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زعيم} وَهِيَ تُفَارِقُ الْإِجَارَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا جَوَازُ عَقْدِهَا عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولَ الْمَكَانِ وَفَسَادُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجَعَالَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الْجَائِي بِهِ فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ مَنْ يَتَعَيَّنُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فَارَقَتِ الْإِجَارَةَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالْإِرْفَاقِ فَكَانَتْ شُرُوطُهَا أَخَفَّ وَحُكْمُهَا أَضْعَفَ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ حر أو عبد مسلم أو كافر صغيرا أو كبيرا عاقلا أو مجنونا إِذَا كَانَ قَدْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ عَلِمَ بِهِ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ مَنْ جَاءَنِي فَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ سَيِّدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا لِأَنَّ الْجُعْلَ عَلَيْهِ لَا لَهُ فَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ وَلَا عَلِمَ بِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِحَمْلِهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَوْ عَلِمَ بِالنِّدَاءِ بَعْدَ الْمَجِيءِ بِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ لِأَنَّ السَّامِعَ لِلنِّدَاءِ لَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ أو أبعدها استحقه فكذلك فَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْجَائِي بِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الدِّينَارِ فَلَوْ جَاءَ بِالْعَبْدِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ فِي قَبْضَةِ حَيَاتِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ عَلَى حَمْلِهِ فَلَوِ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَحَامِلُهُ فَقَالَ الْعَبْدُ جِئْتُ بِنَفْسِي وَقَالَ حَامِلُهُ بَلْ أَنَا جِئْتُ بِهِ رَجَعَ إِلَى تَصْدِيقِ السَّيِّدِ فَإِنْ صَدَّقَ الْحَامِلَ لَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُ الْعَبْدِ وَاسْتَحَقَّ الدِّينَارَ وَإِنْ صَدَقَ الْعَبْدُ حَلَفَ السَّيِّدُ، دُونَ الْعَبْدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَحَامِلُ الْعَبْدِ فَقَالَ السَّيِّدُ فَلَمَّا لَمْ تَسْمَعِ النِّدَاءَ فَلَا شَيْءَ لَكَ وَقَالَ الْحَامِلُ بَلْ سَمِعْتُهُ وَعَلِمْتُ بِهِ فَلِي الدِّينَارُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الحامل وله الدينار لأن علمه بالشي يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي مِنْ سَامِعِي نِدَائِي هَذَا فَلَهُ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ مَنْ عَلِمَ بِنِدَائِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَوْ قَالَ الْجَائِي بِهِ سَمِعْتُ النِّدَاءَ وَقَالَ السَّيِّدُ لَمْ تَسْمَعْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَائِي بِهِ أَيْضًا. فَصْلٌ: فَلَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَنَادَى مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ نِدَاءُ الْمُنَادِي كَنِدَاءِ السَّيِّدِ فِي وُجُوبِ الدِّينَارِ عَلَيْهِ لِحَامِلِ عَبْدِهِ فَلَوْ أَنْكَرَ السَّيِّدُ أَمْرَ الْمُنَادِي بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمُنَادِي فَإِنْ قَالَ فِي نِدَائِهِ إِنَّ فُلَانًا قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ فَلَا شَيْءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 عَلَى الْمُنَادِي لِأَنَّهُ جَاهِلٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ فَعَلَى الْمُنَادِي دَفَعُ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَائِي بِالْعَبْدِ قَدْ صَدَّقَ الْمُنَادِي عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُنَادِي بِشَيْءٍ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ نَفْسَانِ كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ الْمَجِيءِ بِهِمَا وَلَوْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةً كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أُجُورُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمَجِيءِ بِهِ فَلَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّينَارَ وَلَوْ جَاءَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، نُظِرَ فِي عَمْرٍو فَإِنْ قَالَ جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لِزَيْدٍ فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الدِّينَارِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو لِأَنَّ لِزَيْدٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي حَمْلِهِ بمن شَاءَ وَإِنْ قَالَ عَمْرٌو جِئْتُ بِهِ لِنَفْسِي طَلَبًا لِأُجْرَتِهِ فَلِزَيْدٍ نِصْفُ الدِّينَارِ لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ شَيْءٌ فَلَوِ اخْتَلَفَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَقَالَ زَيْدٌ جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لي وقال عمرو بل جئت به مستجعلا لِنَفْسِي رَجَعَ إِلَى السَّيِّدِ فَإِنْ صَدَّقَ زَيْدًا اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ كُلَّهُ وَإِنْ صَدَّقَ عَمْرًا حَلَفَ السَّيِّدُ دُونَ عَمْرٍو لِأَنَّهُ الْغَارِمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الدِّينَارِ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ وَيَا عَمْرُو إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَيَا بَكْرُ إِنْ جِئْتَنِي بِهِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَإِنْ جَاءَ بِهِ غَيْرُهُمْ فَلَا شَيْءَ له وإن جاء به أحدهم فله ما جعل له فإن جاؤا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَ لَهُ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْعَمَلِ فَيَكُونُ لِزَيْدٌ ثُلُثُ الدِّينَارِ وَيَكُونُ لِعَمْرٍو ثُلُثُ الْخَمْسَةِ وَيَكُونُ لِبَكْرٍ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَعَانَنَا بَكْرٌ فِي حَمْلِهِ فَلَهُ كُلُّ الْعَشَرَةِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ لأن لهما أن يتركها الْعَمَلَ لِأَنْفُسِهِمَا وَيَتَطَوَّعَا بِهِ لِغَيْرِهِمَا. فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعْلَانُ الْإِذْنِ فَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ وَإِنْ أَعْلَنَهُ فَلَا شيء من جَاءَ بِهِ بَعْدَ إِعْلَانِ الْإِذْنِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِرُجُوعِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ لِأَنَّ إِعْلَامَ كُلِّ النَّاسِ بِرُجُوعِهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الرُّجُوعِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِعْلَانِ وَالْإِشَاعَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَائِي بِهِ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَلَهُ الدِّينَارُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ فَأَمَّا إِنْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ ثُمَّ رَجَعَ السَّيِّدُ فَعَلَيْهِ إِعْلَامُ زَيْدٍ بِرُجُوعِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي حَمْلِهِ فإن لم يعلم فهو على حَقُّهِ سَوَاءٌ أَعْلَنَ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْهُ لِأَنَّ إِعْلَامَ زَيْدٍ بِالرُّجُوعِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَلَوْ شَرَعَ زَيْدٌ فِي حَمْلِهِ ثُمَّ أَعْلَمَهُ السَّيِّدُ بِرُجُوعِهِ قِيلَ لِلسَّيِّدِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْمَجِيءِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ كُلَّ الدينار أو تبذل له أجرة مثل ما فَوَّتَهُ مِنْ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ لَازِمٍ لَكَ فَلَيْسَ لَكَ إِبْطَالُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا رَجَعَ فِيهَا رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ عَمَلِ الْعَامِلِ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْعَامِلِ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ. فَصْلٌ: وَلَوْ جَاءَ زَيْدٌ بِالْعَبْدِ وَقَدْ مَاتَ السَّيِّدُ كَانَ لَهُ الدِّينَارُ فِي تَرِكَتِهِ إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَلَوْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ فَإِنْ تَمَّمَ وَارِثُ زَيْدٍ حَمْلَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ مِنَ الدِّينَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِقِسْطِ عَمَلِ زَيْدٍ مِنْهُ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَمْ يَفُتْ وَلَا شَيْءَ لِلْوَارِثِ مِنْهُ لِقِسْطِ عمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْعُقُودِ يُبْطَلُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَقُمْ عَمَلُ الْوَارِثِ مَقَامَ عَمَلِ الْمَوْرُوثِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَارِثُ بِالْعَبْدِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِوَارِثِ زَيْدٍ فِيمَا عمله من حمل العبد لأن زيد لَوْ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يُتَمِّمْ حَمْلَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِ عَمَلِ زِيدٍ فِي حَمْلِهِ لِئَلَّا يُبْطِلَ عَمَلَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ الَّذِي بِاخْتِيَارِهِ فَاتَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لأن زيد لَوْ كَانَ عَلَى حَمْلِهِ فَهَرَبَ الْعَبْدُ مِنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَاضِي عَمَلِهِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ تَفْوِيتَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي حَمْلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَوْتِهِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ وَهَذَا يُوَضِّحُ فَسَادَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي مِنْ بَغْدَادَ فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ مِنْهَا اسْتَحَقَّ وَلَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَبْعَدِ مِنْهَا كَالْمَوْصِلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنَ الدِّينَارِ وَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ أَقَلُّ مِنْهَا نَحْوَ وَاسِطٍ اسْتَحَقَّ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَمَلِ الَّذِي جعل الدِّينَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ إِنَّ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ كَانَ الْآخِرُ مِنْ قَوْلَيْهِ هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَبِعَكْسِ مَنْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ ثُمَّ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ لِلْجَائِي بِهِ دِينَارٌ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 باب التقاط المنبوذ يوجد معه الشيء بما وضع بخطه لا أعلمه سمع منه، ومن مسائل شتى سمعتها منه لفظا مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى فيما وضع بخطه: " ما وُجِدَ تَحْتَ الْمَنْبُوذِ مِنْ شَيْءٍ مَدْفُونٍ مِنْ ضرب الإسلام أو كان قريبا منه فهو لُقَطَةٌ أَوْ كَانَتَ دَابَّةً فَهِيَ ضَالَّةٌ فَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ مَالٌ فَهُوَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا الْمَنْبُوذُ فَهُوَ الطِّفْلُ يُلْقَى لِأَنَّ النَّبْذَ فِي كَلَامِهِمُ الْإِلْقَاءُ وَسُمِّيَ لَقِيطًا لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهِ لَهُ وَقَدْ تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَتَخَافُ الْعَارَ فَتُلْقِيهِ أَوْ تَأْتِي بِهِ مِنْ زَوْجٍ فَتَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ فَتُلْقِيهِ رَجَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ. أَوْ تَمُوتُ الْأُمُّ فَيَبْقَى ضَائِعًا فَيَصِيرُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالْقِيَامُ بِتَرْبِيَتِهِ عَلَى كَافَّةِ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ حَتَّى يَقُومَ بِكَفَالَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجَمَاعَةِ إِذَا رَأَوْا غَرِيقًا يَهْلِكُ أَوْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ سَبْعٌ فَعَلَيْهِمْ خَلَاصُهُ وَاسْتِنْقَاذُهُ. لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ شُكْرَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أحياهم وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ نَابَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِحْيَائِهِ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّدْبِ عَلَى أَخْذِهِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى حِرَاسَةِ نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] طَلَبًا لِحِفْظِ نَفْسِهِ وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ مَنْبُوذًا وُجِدَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَأْجَرَ لَهُ امْرَأَةً تَكْفُلُهُ وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي النَّفَقَةِ فَأَشَارُوا أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبَى جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه فذكره عريفي عمر فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَدَعَانِي وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ قَالَ عَسَى الغوير أبو ساء فَقَالَ عَرِيفِي إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ فَقَالَ عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقُلْتُ وَجَدْتُ نَفْسًا مُضَيَّعَةً فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَأْجُرَنِي اللَّهُ عَزَ وَجَلَّ فِيهَا قَالَ هُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لَكَ وَعَلَيْنَا رَضَاعُهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَجِدَ مَعَهُ مَالًا أَوْ لَا يَجِدُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مَالًا تطوع بأخذه والنفقة عليه وَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا إِمَّا لِعَجْزٍ أَوِ شُحٍّ رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَإِنْ وَجَدَ مَعَهُ مَالًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى أخذه والقيام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 بِتَرْبِيَتِهِ فَذَلِكَ الْمَالُ مِلْكٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا بميراث أو وصية وإنما بحكم ملكه فيما كان بيده لأن له يد توجب الملك كالكبير الذي ينسب إليه وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مِلْكِهِ كُلَّمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ مِنْ فِرَاشٍ أَوْ حَصِيرٍ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ عِنَانِ فَرَسٍ أَوْ كَانَ رَاكِبًا لَهُ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إِلَى يَدِهِ كَالْكَبِيرِ وَمَحْكُومٌ له به في ملكه. فصل: فما وُجِدَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْعُدَ عنه كالفرس المربو عَلَى بُعْدٍ أَوْ كِيسٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبٍ فَذَلِكَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى يَدِهِ كَمَا لَا يُنْسَبُ إِلَى يَدِ الْكَبِيرِ وَيَكُونُ لُقَطَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ آهِلًا كَثِيرَ الْمَارَّةِ فَهَذَا يَكُونُ لُقَطَةً أَيْضًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مُنْقَطِعًا قَلِيلَ الْمَارَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً كَالْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ مَا يُقَارِبُهُ مِنَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلَّقِيطِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَبِيرِ بِأَنَّ الْكَبِيرَ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ مَالٍ أَوْ فَرَسٍ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ فَزَالَ الْمِلْكُ وَالصَّغِيرُ يَضْعُفُ عَنْ إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ فَجَازَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَا فِي يَدِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا تَحْتَهُ مِنْ مَالٍ فَضَرْبَانِ مَدْفُونٌ وَغَيْرُ مَدْفُونٍ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَلَيْسَ بِمِلْكٍ لِلَّقِيطِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ لَوْ كَانَ جَالِسًا عَلَى أَرْضٍ تَحْتَهَا دَفِينٌ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمِلْكِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لُقَطَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ رِكَازٌ يَمْلِكُهُ الْوَاجِدُ عليه خُمُسُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَدْفُونٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ بِسَاطِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ فَهَذَا مِلْكٌ لِلَّقِيطِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ فهذا ملك للقيط لكونه في يده. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَحْتَ بِسَاطِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ كَالْبِسَاطِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ يَكُونُ مِلْكَهُ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ مِلْكَهُ وَيَكُونُ لُقَطَةً بِخِلَافِ الْبِسَاطِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهَا وَجَرَتْ عَادَةُ الْبِسَاطِ أَنْ يُبْسَطَ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مَنْبُوذٌ فِيهِ فَإِنْ كان مواتا أو مسجدا أو طريقا مايلا فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالدُّورِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ فِيهَا كَالْكَبِيرِ يَمْلِكُ مَا هُوَ فِيهَا مِنْ دَارٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالْبَسَاتِينِ وَالضَّيَاعِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ يَدٌ كَالدُّورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْكُمُ لَهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ تَصَرُّفٌ وَلَيْسَ الْحُصُولُ فِي الْبَسَاتِينِ سُكْنَى وَلَا تَصَرُّفٌ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مُلْتَقِطُهُ غَيْرَ ثِقَةٍ نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً وَجَبَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا وُجِدَ لَهُ وَأَنَّهُ مَنْبُوذٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مُلْتَقِطُ الْمَنْبُوذِ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَلَا عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَأْمُونِ ليس من أهل الولايات والثاني أنه لَا حَظَّ لِلْمَنْبُوذِ فِي تَرْكِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ لَوْ كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ عَلَى أحد القولين فهلا كان اللقيط كذلك قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللُّقَطَةَ اكْتِسَابٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ وَالْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ وِلَايَةٌ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: مَا يُخَافُ عَلَى الْمَنْبُوذِ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَإِضَاعَتِهِ أَغْلَظُ مِمَّا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ مِنِ استهلاكه وتلفه لأن للمال بَدَلٌ وَلَيْسَ لِلْحُرِّيَّةِ بَدَلٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا عَلَيْهِ وَعَلَى ما له فَيُقَرَّانِ مَعًا فِي يَدِهِ وَهَلْ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ لَا نَظَرَ عليه لا اجتهاد له فيما إليه كَمَا أَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي اللُّقَطَةِ عَلَى وَاجِدِهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ فِي الْمَنْبُوذِ نَظَرٌ وَلَهُ فِي كَفَالَتِهِ اجْتِهَادٌ لِأَنَّهُ الْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ وَخَالَفَ حَالَ اللُّقَطَةِ لِأَنَّهَا كَسْبٌ وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْمُلْتَقِطُ خَصْمًا فِيمَا نُوزِعَ فِيهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَنْبُوذِ لِمَكَانِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ خَصْمًا إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ وَيَرْتَضِي لَهُ مَنْ يَقُومُ بِكَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَلَا يُخَافُ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ لَهُ لَكِنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لَهُ فَهَذَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ فِي يَدِهِ وَيُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ بِالْتِقَاطِهِ حَقٌّ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 كَفَالَتِهِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَانَ مُقَرًّا مَعَهُ وَلَيْسَ تُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَيَكُونُ جَرْحُهُ فِي شَيْءٍ جَرْحًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَمَانَةُ وَقَدْ يَكُونُ أَمِينًا فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْتَمَنٍ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْمَالُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي يَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَاللُّقَطَةِ لِأَنَّهَا جَمِيعًا مال بخلاف المنبوذ قلنا لأن مال اللقطة كَسْبُ الْمُلْتَقِطِ وَلَيْسَ مَالُ الْمَنْبُوذِ كَسْبًا لِلْمُلْتَقِطِ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَى مَالِهِ غير أمين على نفسه ما مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَإِمَّا لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ لَا يُؤْمَنُ غَيْرُهُ فَيُنْتَزَعُ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ وَفِي إِقْرَارِ الْمَالِ مَعَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَرُّ مَعَهُ وَإِنْ نُزِعَ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ. كَمَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ مَعَهُ وَإِنْ نُزِعَ الْمَالُ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ مَعَ الْمَنْبُوذِ لِأَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْبُوذِ وَبَيْنَ مَالِهِ أَنَّ لملتقط المنبوذ حق فِي كَفَالَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَلَهُ الْكَفَالَةُ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ: ثُمَّ الْحَاكِمُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِ مُلْتَقِطِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ الْقَيِّمُ بِكَفَالَةِ الْمَنْبُوذِ وَحِفْظِ مَالِهِ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ لَهُ لِتَسْلِيمِ الْحَاكِمِ لَهُ إِلَى مَنِ ارْتَضَاهُ لِأَمَانَتِهِ عِنْدَ حَيَاةِ مُلْتَقِطِهِ فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْحَاكِمِ إِلَيْهِ ذَلِكَ حُكْمٌ يُغْنِي عَنِ الْإِشْهَادِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ فَفِيهِ وَفِي اللُّقَطَةِ ثلاثة أوجه مضيا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمَنْبُوذِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْمَنْبُوذِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ فِي اللُّقَطَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا أَخَذَ ثَمَنَهُ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ فَهُوَ ضَامِنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا وَجَدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ كَمَا يَجِبُ نَفَقَةُ الطِّفْلِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ أَبِيهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ مُحْسِنًا كَالْأَبِ إِذَا تطوع بالإنفاق على ولده الغني وإن أرد الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ فِيهِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْحَاكِمِ عليه نظر فِي اللَّقِيطِ أَوْ لَيْسَ لَهُ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ نَظَرًا فِي مَالِهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ قَصْدًا أَوْ سَرَفًا لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الْوَالِي عَلَى الْمَالِ دُونَهُ وَصَارَ ذَلِكَ وَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَالِكِهِ كَمَنْ أَخَذَ عَلَفَ رَجُلٍ أَعَدَّهُ لِدَابَّتِهِ فَأَطْعَمَهَا إِيَّاهُ ضَمِنَهَا لَهُ وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. كَالْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهِ فاكترى لنفسه عند إعواز الحاكم لِيَسْتَأْذِنَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَأْجِرُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُلْتَقِطُ لِضَرُورَتِهَا وَالثَّانِي لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ ويضمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 الملتقط لأن لا يَكُونَا حَاكِمَيْ أَنْفُسِهِمَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَرَبِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ وَجَعَلَ الْمُلْتَقِطَ ضَامِنًا لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُضْطَرٌّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَلَيْسَ الْمُلْتَقِطُ مضطر إِلَى الْتِقَاطِهِ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَهُ ضَائِعًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَزِمَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ. فَصْلٌ: فَإِنِ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمُ فَهَلْ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا إِمَّا بِتَقْدِيرِ مِثَالِهِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ضَمِنَ وَإِمَّا بِأَنْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ فَمَا ادَّعَاهُ، فِيهَا عَنْ قَصْدٍ قُبِلَ مِنْهُ وَمَا تَجَاوَزَ الْقَصْدَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ مِنْ مَالِ الْمَنْبُوذِ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي نَفَقَتِهِ حتى يتولى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمِينَ يَتَوَلَّى شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يُطْعِمَهُ وَيَكْسُوَهُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ قَدْرَ النَّفَقَةِ إِلَى الْمُلْتَقِطِ لِيَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِمَا لَهُ حق الولاية عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ فَيَخْرُجُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَأْثَمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا الْتَقَطَ الْمَنْبُوذَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهَا نَفْسٌ يَجِبُ حِرَاسَتُهَا وَيَحْرُمُ إِضَاعَتُهَا وَمِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأصح: من بيت المال لأنه رصد لِلْمَصَالِحِ وَهَذَا مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: " لَئِنْ أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ لِأُنْفِقَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ حَتَى لَا أَجِدَ دِرْهَمًا فَإِذَا لَمْ أَجِدْ دِرْهَمًا أَلْزَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ رَجُلًا " وَقَدِ اسْتَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي النَّفَقَةِ عَلَى اللَّقِيطِ فَقَالُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا رُجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ لِوُجُوبِهَا فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَتَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ حُرًّا لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ فَتَجِبُ عَلَى أَبِيهِ وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا مَا لَا وَجْهَ لَهُ سِوَاهُ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ إِمَّا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَوِي الْمَكِنَةِ وَجَعَلَهَا مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِهِمْ جَبْرًا وَلَا يَخُصُّ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا وَاحِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ بَانَ عَبْدًا رَجَعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ أَخَذَهَا مِنْ أَبِيهِ فَإِنْ بَلَغَ وَلَا أَبَ لَهُ وَلَا سَيِّدَ فَإِنْ عَلِمَهُ مُكْتَسِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَقْضِي ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ يَرَاهُ فِيهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَمَا ادَّعَى قُبِلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ قَصْدًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) لَا يَجُوزُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ دَعْوَى وَلَيْسَ كَالْأَمِينِ يَقُولُ فَيَبْرَأُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ فَقِيرٍ أَمَرَ الْحَاكِمُ مُلْتَقِطَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْقَرْضَ جُمْلَةً وَلَكِنْ يَسْتَقْرِضُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ فِي إِنْفَاقِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ غِذَاءٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ الْأَيَّامُ عَلَى سَلَامَةٍ وَهُوَ فِيهَا نَامِي الْجَسَدِ مُسْتَقِيمُ الْأَحْوَالِ كَانَ الْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَصُولُ النَّفَقَةِ إِلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ نَفْسِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّهُ هَا هُنَا: يَجُوزُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ مِثْلُهُ قَصْدًا قُبِلَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ فَيُنْفِقَهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَدَّعِيهِ دَيْنًا عَلَى غَيْرِهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ وَجَدَهُ رَجُلَانِ فَتَشَاحَّاهُ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَ سَهْمَهُ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ خَيْرًا لَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَكَ نَفْسَانِ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ لَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَنَازَعَاهُ وَيَتَشَاحَنَا عَلَيْهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا كَانَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا لِيَتَمَيَّزَ بِهَا الْأَحَقُّ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] الْآيَةَ ثُمَّ يَتَعَيَّنُ حَقُّ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا فِي كَفَالَتِهِ فَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ يَدِهِ عَنْهُ كَانَ لَهُ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِهِ وَيَتَسَلَّمُهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ وَهَلْ يَصِيرُ شَرِيكُهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِقَاطِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ الْآخَرُ بِالْقُرْعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ كَفَالَتُهُ لَمَّا قَرَعَهُ صَاحِبُهُ وَصَارَ غَيْرُهُ سَوَاءً فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 فِيهِ رَأْيَهُ فَهَذَا حُكْمُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ خَرَجَ بِالْقُرْعَةِ أَنَفَعَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي خَرَجَ قُرْعَتُهُ مُقَصِّرًا أَوْ كَانَا سَوَاءً، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ لَا قُرْعَةَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ وَلَكِنْ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا رَأْيَهُ فَأَيُّهُمَا رَآهُ أَحَظَّ لَهُ كَانَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَإِنْ خَالَفَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ غَيْرَ أَنَّ تَسَاوِيَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَنَازَعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى تَسْلِيمِهِ لِأَحَدِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن يسلمه قبل استقراره يَدِهِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَهُ بِمَثَابَةٍ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَلْتَقِطْهُ وَيَصِيرُ الْمُسْتَلِمُ أَوْلَى وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَحْدَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَيْدِيَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَلْقُوطُ مَعَهُمَا ثُمَّ يَتَسَلَّمُهُ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَلَيْسَ يَتَجَاوَزُهُمَا كَالشَّقِيقَيْنِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ حَقَّ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّسْلِيمِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْوَاجِدُ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ. فَصْلٌ: وَلَوِ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ كَانَا فِي كَفَالَتِهِ سَوَاءً فَيَقْتَرِعَانِ وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ كَتَقْدِيمِ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ لِأَنَّ فِي الِالْتِقَاطِ وِلَايَةً إِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ أَحَقَّ لَهَا لَمْ يَكُنْ أَنَقَصَ حضانة الأبوين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا بِالْمِصْرِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ دُفِعَ إِلَى الْمُقِيمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ اللَّقِيطَ فِي الْمِصْرِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي هَذَا الْمِصْرِ فَالْوَاجِدُ لَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّ قِيَامَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ أَشْهَرُ لِحَالِهِ وَأَقْرَبُ إِلَى ظُهُورِ نَسَبِهِ وَلَكِنْ لَوِ انْفَرَدَ الْغَرِيبُ بِالْتِقَاطِهِ وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ إِلَى بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا وَالطَّرِيقُ مَأْمُونٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ قَرِيبًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ إِذَا تَسَاوَى الْبُلْدَانُ أو كان بلد الملتقط أصلح فأما إن كان بلد اللقيط مصر وَبَلَدُ الْمُلْتَقِطِ قَرْيَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّ الْمِصْرَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ وَوُفُورِ الصَّنَائِعِ وَالِاكْتِسَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ وَإِخْرَاجَهُ إِلَى قَرْيَتِهِ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ رُبَّمَا كَانَتْ أَعَفَّ وَكَانَ أَهْلُهَا أَسْلَمَ وَمَعَايِشُهُمْ أَطْيَبَ وَلِأَنَّ حَالَهُ فِي الْقَرْيَةِ أَيْسَرُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا وَكَثْرَةِ مَنْ فِي الْمِصْرِ وَقَلَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْعُرَ فِي الْقُرَى بِفَاحِشَةٍ تَخْفَى وَرِيبَةٍ تُكْتَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا وَأَخْبَارُهُ مُنْقَطِعَةً وَالطَّارِئُ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ نَادِرٌ. كَمَنْ بِالْعِرَاقِ إِذَا أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِإِضَاعَةِ نَسَبِهِ وَخَفَاءِ حَالِهِ فَلَوْ قَالَ الْغَرِيبُ أَنَا أَسْتَوْطِنُ بَلَدَ اللَّقِيطِ قُلْنَا أَنْتَ حِينَئِذٍ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ وَإِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا أَرَدْتَ الْعَوْدَ إِلَى بَلَدِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَكِنَّ أَخْبَارَهُ مُتَّصِلَةٌ وَالْوَارِدُ مِنْهُ كَثِيرٌ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّ حَظَّ اللَّقِيطِ فِي بَلَدِهِ أَكْثَرُ وَحَالَهُ فِيهِ أَشْهَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِتَسَاوِي الْبَلَدَيْنِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَنْفَعَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ لِحَاكِمِ بَلَدِ اللَّقِيطِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْمُلْتَقِطِ يَذْكُرُ حاله وإشهار أمره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ قَرَوِيًّا وَبَدَوِيًّا دُفِعَ إِلَى الْقَرَوِيِّ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْبَادِيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا الْتَقَطَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا قَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ بَدَوِيٌّ فَالْقَرَوِيُّ أَوْلَى لَهُ مِنَ الْبَدَوِيِّ، سَوَاءٌ وَجَدَاهُ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ أَمْكَنُ فِي التَّعْلِيمِ وَأَبْلَغُ فِي التَّأْدِيبِ وَأَحْسَنُ فِي الْمَنْشَأِ وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَدَا جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَمَنِ اقْتَرَبَ مِنْ أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ افْتَتَنَ ". مَعْنَى قَوْلِهِ مَنْ بَدَا جَفَا أَيْ مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ صَارَ فِيهِ جَفَاءُ الْأَعْرَابِ وَقَوْلُهُ من اتبع السيد غَفَلَ يُرِيدُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْقَطِعُ إِلَيْهِ تَصِيرُ فِيهِ غَفْلَةٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا انْفَرَدَ الْبَدَوِيُّ بِالْتِقَاطِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِدَهُ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي نُزُولِ الْبَادِيَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَهُ فِي الْبَادِيَةِ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُ حُلَّةً مُقِيمًا فِيهَا وَلَا يَنْتَجِعُ عَنْهَا فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ وَجُودَهُ فِي الْبَادِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْتَجِعُ وَلَا يَلْزَمُ حُلَّةً وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْبَادِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لِأَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّقْلَةِ وَمُلَازَمَةَ النُّجْعَةِ لَا يَشْتَهِرُ بِهَا حَالُهُ وَلَا يُعْرَفُ مَعَهَا مَكَانُهُ مما يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي بَدَنِهِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَةِ في نقلته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَحُرًّا دُفِعَ إِلَى الْحُرِّ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الْتِقَاطِهِ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَالْحُرُّ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنْ كَفَالَتِهِ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَلَوِ انْفَرَدَ الْعَبْدُ بِالْتِقَاطِهِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَفَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبٌ وَهَذِهِ وِلَايَةٌ فَلَوْ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَدِ الْتَقَطَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُقَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمٌ وَصَارَ كَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لَهُ وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ فِي الْتِقَاطِهِ كَالْعَبْدِ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ عَلَّلْنَا مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ فِيهِ وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِيهِ لِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنَ السَّيِّدِ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَلَوْ شَارَكَهُ فِي الْتِقَاطِهِ حُرٌّ كَانَ الْحُرُّ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ لِكَمَالِ الْحُرِّ وَنَقْصِ الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الَّذِي نَصِفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ فَهُوَ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ لِرِقِّهِ لِإِشْرَاكِ حُكْمِهِ وَأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ عَنْ كَفَالَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْتِقَاطِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ السَّيِّدِ فَيَكُونَ فِيهِ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ فِي زَمَانِهِ كَالْحُرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِنَقْصِهِ وَأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى الْمَنْعِ في غير زمانه وعلى كلى الْوَجْهَيْنِ لَوْ شَارَكَهُ الْحُرُّ فِي الْتِقَاطِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ لِكَمَالِهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ عن حريته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَنَصْرَانِيًّا فِي مِصْرٍ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْأَقَلَّ دُفِعَ إِلَى الْمُسْلِمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ نُزِعَ مِنْ يَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ وَفِي دِينِهِ أَنْ يَفْتِنَهُ وَفِي مَالِهِ أَنْ يُتْلِفَهُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الدِّينِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى الْمَنْبُوذِ حُكْمُ الْكُفْرِ فَإِنِ انْفَرَدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ أُقِرَّ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى الْكَافِرِ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِقْرَاعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْتِقَاطِهِ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَيَكُونُ فِي يَدِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ وعلى مذهب أبي علي بن خيران يُسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمُسْلِمِ أَصْلَحُ وَلِمَا يُرْجَى لَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَجَعَلْتُهُ مُسْلِمًا وَأَعْطَيْتُهُ مِنْ سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَعِلَّتُهُ أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ فِي إِسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا فَهِيَ ضَرْبَانِ: دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ. فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَفَرَّدَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا مُشْرِكٌ كَالْحَرَمِ فَالْمَنْبُوذُ إِذَا الْتُقِطَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ فِي أَبَوَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَخْلِطُهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَوْ مُعَاهَدُونَ كَأَمْصَارِ الثُّغُورِ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الدَّارِ وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " وَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَفَرَّدَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِسُكْنَاهَا حَتَّى لَا يُسَاكِنَهُمْ فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا يَدْخُلَهَا مِثْلَ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً فَأَقَرُّوا أَهْلَهُ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهِ كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ أَهْلَ الدَّارِ كُفَّارٌ وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ غَالِبَةً وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ جَارِيَةً. وَأَمَّا دَارُ الشِّرْكِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ بِلَادِهِمُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ مِنْهَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَلَوْ وَاحِدٌ كَبِلَادِ الرُّومِ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُشْرِكٌ فِي الظَّاهِرِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: كَانَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ حَتَّى صَارَتْ دَارَ شِرْكٍ كَطَرَسُوسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَمَا جرى مجرى ذلك من الثغور والمملوكة عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ وَاحِدًا جَرَى عَلَى الْمَلْقُوطِ فِيهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فِي الظَّاهِرِ لِبُعْدِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا وَامْتِنَاعِ حُكْمِهِمْ فِيهَا. فَصْلٌ: فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَهُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا لِأَنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ تَطَوَّعَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُحْسِنًا لِأَنَّهَا نَفْسٌ لَهَا حُرْمَةٌ وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ جَمَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الَّذِينَ كَانَ الْمَنْبُوذُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَجَعَلَ نَفَقَتَهُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ دَيْنًا لَهُمْ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَبٌ رَجَعُوا بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ سَيِّدٌ رَجَعُوا بِهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِهَا فِي كَسْبِهِ إذا بلغ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنْ أَقْتُلَهُ وَلَا أُجْبِرَهُ على الإسلام وإن وجد في مدينة أهل الذمة لا مسلم فيهم فهو ذمي في الظاهر حتى يصف الإسلام بعد البلوغ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَجْرِي حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ فَيَصِيرُ بِإِسْلَامِهِمَا مُسْلِمًا. وَرَوَى أَبُو الْيَزِيدِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تَنَاقَحُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ مِنْ جَدْعَاءَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " يُرِيدُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ ثُمَّ يُهَوِّدُ الْيَهُودُ أَبْنَاءَهُمْ وَيُنَصِّرُ النَّصَارَى أَبْنَاءَهُمْ أَيْ يعلمونهم ذلك وضرب لهم مثلا بالإبل إِذَا نَتَجَتْ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ وَالْجَمْعَاءُ هِيَ السَّلِيمَةُ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ السَّلَامَةِ لَهَا فِي أَعْضَائِهَا فَتَجْدَعُ أُنُوفَ نِتَاجِهَا وَتَفْقَأُ عُيُونَهَا فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْهُمَا هُوَ الْمُسْلِمُ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْأُمُّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة أَنَّ إِسْلَامَهَا إِسْلَامٌ لَهُ كَالْأَبِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ إِسْلَامُ الْأُمِّ إِسْلَامًا لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإسلام يعلو لا يعلا " ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " فَجَعَلَ اجْتِمَاعَهُمَا مُوجِبًا لِتَهَوُّدِهِ دُونَ انْفِرَادِهِمَا وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لِحَمْلِهَا إِذَا وَضَعَتْ كَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الْوَضْعِ وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ فَصَارَ الطِّفْلُ بِهَا مُسْلِمًا كَالْأَبِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ يُعْتَبَرُ بِالْأَبِ كَمَا يُعْتَبَرُ بِالْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَكُونُ إِسْلَامًا لِغَيْرِ الْبَالِغِ مِنْ أَوْلَادِهِمَا فَكَذَلِكَ يَكُونُ إِسْلَامًا لِمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ فَأَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ فلا يَكُونُ إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا إِسْلَامًا لَهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مِنْهُ وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الْكَافِرُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَهَلْ يَكُونُ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ إِسْلَامًا لَهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَاسْتَقَرَّ حكمه عليه. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ وَخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ قَدْ صَارَ تَبَعًا فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ وَصَارَ الطِّفْلُ أَوِ الْمَجْنُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَإِنْ أَقَامَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَدِ اسْتَدَامَ حُكْمُ إِسْلَامِهِمَا وَإِنْ رَضِيَا الْكُفْرَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمَا وَصَارَا بِذَلِكَ مُرْتَدَّيْنِ يُقْتَلَانِ إِذَا أَقَامَا عَلَى الرِّدَّةِ سَوَاءٌ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ أَوْ لَمْ يُقِرَّا بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ كَانَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ قَدْ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَا حُكْمَهُ بِفِعْلِ عِبَادَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ جَعَلْتُهُمَا مُرْتَدَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُمَا لَمْ أَحْكُمْ بِرِدَّتِهِمَا لِأَنَّ جَرَيَانَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا تَبَعًا أَضْعَفُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمَا إِقْرَارًا وَعَمَلًا وَهَذَا خطأ لقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم} [الطور: 21] فَأَخْبَرَ بِإِيمَانِ الذُّرِّيَّةِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِسْلَامَهُ أَوْجَبَ إِلْزَامَهُ كَالْإِقْرَارِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يجري عليه حكم الإسم بِإِسْلَامِ السَّابِي لَهُ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّبْيُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ بِإِسْلَامِ سَابِيهِ مُسْلِمًا وَيَكُونُ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ جَارِيًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَبْيُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسْبِيًّا مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَابِيهِ لِأَنَّ إِلْحَاقَ حُكْمِهِ بِأَبَوَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِلْحَاقِ حُكْمِهِ بِسَابِيهِ وَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ اسْتِصْحَابًا لِدِينِ أَبَوَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْبَى وَحْدَهُ دُونَ أَبَوَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَتْبَعُ سَابِيَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي الشِّرْكِ حُكْمَ أَبَوَيْهِ لِأَنَّ يَدَ السَّابِي يَدُ اسْتِرْقَاقٍ فَلَمْ تُوجِبْ إِسْلَامَهُ كَالسَّيِّدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْبَعُ السَّابِيَ فِي إِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَخْرَجَهُ بِسَبْيِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لَهُمَا فَصَارَ تَبَعًا لِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا فَعَلَى هَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَحْكَامُ السَّابِي فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَصْحَبَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَعَمَلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَارَ بِرُجُوعِهِ مُرْتَدًّا وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ عِنْدَ بُلُوغِهِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ إِقْرَارًا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِشُرُوطِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَهَذَا مُسْلِمٌ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي طُفُولَتِهِ وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقٍّ مِنْ بَاطِلٍ وَلَا صَحِيحٍ مِنْ فَاسِدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا يَصِلُ بِذِهْنِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُمَيِّزُ مَا بَيْنَ الشُّبْهَةِ وَالدَّلِيلِ فَفِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ إِذَا وَصَفَهُ عَلَى شُرُوطِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " فَرُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ في جميع أحواله وجميع بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ فِي سُقُوطِ تَكْلِيفِهِ وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَامَلَاتِ أَخَفُّ حَالًا مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا امْتَنَعَ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَصِحَّ مِنْهُ الْعُقُودُ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنْ يَصِيرَ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَالِغُ وَخَالَفَ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ وَلِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسْلَمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَحُكِمَ بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ بلغ فرجح عَنِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُرْتَدًّا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِسْلَامَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنِ اسْتَدَامَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ عُلِمَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ إِسْلَامُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلٍ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ بِهِ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالدَّارِ وَهَذَا هُوَ اللَّقِيطُ وَقَدْ قَسَّمْنَا أَحْوَالَهُ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ بِهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الشِّرْكِ فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشِّرْكِ فَبَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ بُلُوغِهِ اسْتَوْثَقَ بِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ أُقِرَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَخْوِيفٍ وَلَا إِرْهَابٍ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نُجْرِيَهُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ الْتِقَاطِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَيَكُونُ إِنْ رَجَعَ عَنْهُ مُرْتَدًّا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَمَا لَمْ يَبْلُغْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ وَفِي وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ حَالِهِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا وَصَفَ الْكُفْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاقَ دَمٌ بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَأَقَامَ عَلَيْهِ فِعْلًا اسْتَقَرَّ حُكْمُ إِسْلَامِهِ وَجَرَى الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ لِرُجُوعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَى إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا سُئِلَ عَنْ سَبَبِ شِرْكِهِ فإن قال لأن أبي مشركا وَصِرْتُ لِاتِّبَاعِ أَبِي مُشْرِكًا تُرِكَ لِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الشِّرْكِ لِاحْتِمَالِهِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ قَطْعًا وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِهِ تَغْلِيبًا. فَإِنْ قَالَ لَسْتُ أَعْرِفُ دِينَ أَبِي وَلَا أَعْلَمُهُ مُسْلِمًا وَلَا مُشْرِكًا وَلَكِنِّي أَخْتَارُ الشِّرْكَ مَيْلًا إِلَيْهِ وَرَغْبَةً فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِإِسْلَامِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ مُرْتَدًّا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شِرْكَ أَبِيهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي الشِّرْكِ تبعا ولا يكون متبوعا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَرَادَ الَّذِي الْتَقَطَهُ الطَّعْنَ بِهِ فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ فَذَلِكَ لَهُ وَإِلَّا مَنْعُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا الْتَقَطَهُ مُقِيمٌ ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي كفالته وإقراره في يده جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَدَّ بَدَنُهُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يَحْتَمِلُ السَّيْرَ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَأْمُونًا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَةِ مُسْتَرِقٍّ فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ مَأْمُونًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَرِقُّهُ وَلَا يُسِيءُ إِلَيْهِ فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ لَمْ يجز. والرابع: أن يكون بينة الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ وَسَافَرَ مُتَنَقِّلًا فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمَكَّنُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ كَالْأَبِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأُمِّ فِي سَفَرٍ نَقَلَتْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِي نَقْلِهِ مِنْ إِضَاعَةِ مَا كُنَّا نَرْجُوهُ مِنْ ظُهُورِ نَسَبِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلْنَا الْمُقِيمَ إِذَا شَارَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مسافرا أولى به. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وجنايته خَطَأً عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجِنَايَتُهُ ضَرْبَانِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ فَهِيَ فِي مَالِهِ صَغِيرًا كَانَ اللَّقِيطُ أَوْ كَبِيرًا مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَ مِنْهُ غُرْمَ جِنَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ آدَمِيٍّ فَضَرْبَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ عَاقِلَتُهُ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَوْ فِي طَرَفٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ وَفِي مَحَلِّ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ مَجْرَى الْعَمْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُجْرَى مَجْرَى الْخَطَأِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُؤَجَّلَةً كَدِيَةِ الْخَطَأِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِلْإِمَامِ الْقَوَدُ أَوِ الْعَقْلُ وَإِنْ كَانَ جُرْحًا حُبِسَ لَهُ الْجَارِحُ حَتَى يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الْأَرْشَ فَإِنْ كَانَ مَعْتُوهَا فَقِيرًا أَحْبَبْتُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فِي نَفْسٍ كَانَتْ أَوْ طَرَفٍ وَدِيَتُهُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَضَرْبَانِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ اسْتَحَقَّ فِيهَا دِيَةَ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا قَوَدَ لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُ اخْتِلَافَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَجِبُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ حَالِهِ وَهَذَا الْفَرْقُ مَسْلُوبُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الشُّبْهَةِ فَفِي الْحَالَيْنِ وَإِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الظَّاهِرِ فَفِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ أُخِذَتِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ كَانَ لِلْإِمَامِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرًا فِيمَا يَرَاهُ أَصْلَحُ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْقَوَدِ لِئَلَّا يُسْرِعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِي طَرَفٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَقْتَصَّ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا دِيَةُ الطَّرَفِ وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ لَهُ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهَا أَوْ يَضُمَّ إِلَى مَالِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلِلَّقِيطِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا غَنِيًّا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَبِ الطِّفْلِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا فَقِيرًا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْجَانِي لِيُنْفِقَ مِنْهَا عَلَيْهِ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ بَعْدَ حَاجَتِهِ بِالْفَقْرِ. وَالثَّانِي: بَقَاؤُهُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى عَتَهِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَقِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ تَعْلِيلًا بِظُهُورِ عَقْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ لَهُ الدِّيَةَ وَيَعْفُو عَنِ الْقَوَدِ تَعْلِيلًا بِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ وَلَوْ بَلَغَ فَاخْتَارَ الْقَوَدَ وَرَدَّ الدِّيَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ وَعَفْوُ الْإِمَامِ كَعَفْوِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ نَفَقَتِهِ هَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا غَنِيًّا فَعَلَى وجهين: يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ فَإِمَّا اعْتِبَارًا بِغِيَابِهِ عَنِ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ اعْتِبَارًا بِعَتَهِهِ وَعَدَمِ إِفَاقَتِهِ فِي الْأَغْلَبِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحُرِّ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُقِرَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا نَقْطَعُ بِحُرِّيَّةِ اللَّقِيطِ وَلَا نُغَلِّبُ فِيهِ أَحْكَامَ الْعَبْدِ أَمَّا عَدَمُ الْقَطْعِ بِحُرِّيَّتِهِ فَلِإِمْكَانِ مَا عَدَاهَا مِنَ الرِّقِّ. وَأَمَّا إِسْقَاطُهَا تَغْلِيبًا لِأَحْكَامِ الرِّقِّ فَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ كَمَا كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهَا الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا كَمَا أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَلِأَنَّ الرِّقَّ طَارِئٌ وَالْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ فَلِأَنْ يَجْرِيَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّ الرِّقَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَحْكُمَ بِتَغْلِيبِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ فَجَازَ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خُرِّجَ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ من الحر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ قَبِلْتُهُ وَرَجَعْتُ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ وَجَعَلْتُ جِنَايَتَهُ فِي عُنُقِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِقْرَارُ اللَّقِيطِ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَغَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ لَا فِي حُرِّيَّةٍ وَلَا فِي رِقٍّ فَإِذَا بَلَغَ صَارَ إِقْرَارُهُ حِينَئِذٍ مُعْتَدًّا فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا وَصَارَ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْحُرِيَّةِ كَمَا لَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَجْهُولَ الْأَصْلِ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مَقْبُولًا وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلا أن تقوم بينة لأنه خلاف مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ أبو حامد المروروذي في جامعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ إِقْرَارَهُ بِهِ مَقْبُولٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالْكُفْرِ وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَمْرِهِ إِنْ جَنَى أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي الْمَاضِي مِنْ أَمْرِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا سِوَى الْجِنَايَةِ فِيمَا بَعْدُ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ أَمَّا الْجِنَايَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا جُنِيَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي فِيمَا جَنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو مَا أَخَذَهُ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَا يُرَاجَعُ فَإِنْ كانت عمدا وعرفها الْجَانِي مِنْ مَالِهِ فَقَدْ غَرِمَ مَا لَزِمَهُ وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً تَحَمَّلَتْهَا عَاقِلَتُهُ فَفِي رُجُوعِ الْعَاقِلَةِ بِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَلْفٌ وَفِي الرِّقِّ مِائَةٌ فَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا زاد على أرش الرق وذلك بتسعمائة فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا فِي يَدِهِ أَوْ كَانَ بدلها موجودا من كسبه ليسترجعه الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي يَدِهِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَسْبِهِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَنْفَقَهَا عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ اسْتَحَقَّ الْجَانِي الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُنْفِقُ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي نَفَقَتِهِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فِي يَدَيْهِ وَلَا انْصَرَفَتْ فِي وَاجِبٍ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ وَلَمْ تَصِرْ إِلَى يَدِهِ لِتَلَفِهِ لَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ هَدَرًا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَابِضُ لَهَا فِي كِبَرِهِ أَوْ دَفَعَهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ بَعْدَ كِبَرِهِ تَعَلَّقَ غُرْمُهَا بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ لِغُرُورِهِ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كَانَتْ فِي الْحُرِّيَّةِ مِائَةٌ وَفِي الرِّقِّ أَلْفٌ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ بِالرِّقِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْجَانِي بِهَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا مَعَ الْإِنْكَارِ لَهَا لِمَكَانِ التُّهْمَةِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ. فصل: وأما الجناية عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مَا دَفَعَهُ فِي أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَخَذَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كانت جنايته فَقَدْ أَدَّى أَرْشَهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ المال وجب رَدُّهَا فِيهِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي عُنُقِهِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ وَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَغْرَمَهَا أَوْ يَبِيعَ رَقَبَتَهُ فِيهَا فَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عِنْدَ بَيْعِهَا عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهَا لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدُ مَا بَقِيَ وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ فَيَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ بِهَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السيد منها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَضِيقُ عَنِ الزِّيَادَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ هَدَرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ وَإِلَّا بِيعَ فِيهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي اسْتِرْجَاعِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَسْتَرْجِعُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا وَلَا يَسْتَرْجِعُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَسْتَرْجِعْ مِنَ السَّيِّدِ لِأَنَّهَا دُفِعَتْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ عَدَدٍ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: " وَلَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَمْ أَجِدْ لَهُ حَتَى أسأله فإن قال أنا حر حددت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ صَغِيرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ يَعْجَلْ إِلَى حَدِّ الْقَاذِفِ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّقِيطَ الْمَقْذُوفَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى " فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ وَلَمْ يَدَّعِ الْحُرِّيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ لِأَنَّ قَاذِفَ الْعَبْدِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهَا الْقَاذِفُ حُدَّ لَهُ حَدًّا كَامِلًا وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى رِقَّهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ فِيهِ اللَّقِيطَ مَجْهُولَ الْأَصْلِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ اللَّقِيطُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ كَمَا يَقْتُلُ هَذَا الْقَوْلُ قَاتِلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قُتِلَ قَاتِلُهُ وَفَرَّقَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ بِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا ضَعُفَ حَالُهُ وَالْمَقْتُولُ لَا يُقْدَرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَالدِّيَةِ؛ فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْقَوَدِ إِذَا كَانَ فِي طَرَفٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَذْفِ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ اللَّقِيطِ فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَتْلِ فِي النَّفْسِ وَقَبِلَ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْقَتْلِ الذي هو من جنسه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قاذفه وَإِنْ قَذَفَ حُرًّا حُدَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَ حُرًّا بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَمَا لَمْ يَدَّعِ الْمَقْذُوفُ حُرِّيَّتَهُ لَمْ يُكْمِلْ حَدَّهُ وَإِنِ ادَّعَى حُرِّيَّتَهُ فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ اللَّقِيطُ بِالْحُرِّيَّةِ حُدَّ لِقَذْفِهِ حَدًّا كَامِلًا ثَمَانِينَ وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ وَادَّعَى الرِّقَّ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَيُحَدُّ لَهُ اللَّقِيطُ حَدًّا كَامِلًا تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ حَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ الْقَاذِفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ ادِّعَاءِ الرِّقِّ أَقَرَّ لِسَيِّدٍ بِعَيْنِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ وَحُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ لِاسْتِقْرَارِ رِقِّهِ فَتَعَيَّنَ الْمَالِكُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَادَّعَى رِقًّا مُطْلَقًا لِغَيْرِ سَيِّدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَحُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ ثمانين. مسألة: قال المزني رحمه الله تعالى: " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّقِيطُ حُرٌّ لِأَنَّ أَصْلَ الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْعُبُودِيَّةُ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ كَمَا لَا أَبَ لَهُ فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا كله يوجب أنه حر (قال المزني) رحمه الله وقوله المعروف أنه لا يحد القاذف إلا أن تقوم بينة للمقذوف أنه حر لأن الحدود تدرأ بالشبهات ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا وَلَاءَ عَلَى اللَّقِيطِ لِمُلْتَقِطِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ. وَقَالَ أبو حنيفة الْوَلَاءُ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لِمُلْتَقِطِهِ دُونَ غَيْرِهِ. إِذَا حَكَمَ لَهُ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَلَاؤُهُ ثَابِتٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يجوز للمرأة ثلاثة مواريث عَتِيقِهَا وَمِيرَاثُ لَقِيطِهَا وَمِيرَاثُ وَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ الْتَقَطَ مَنْبُوذًا لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ قَالَ وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَلَاءَ كَالْمُعْتَقِ. وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَانْتَفَى الْوَلَاءُ بِذَلِكَ عَمَّنْ لَمْ يُعْتِقْ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ لَمْ يَسْتَأْنِفْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ بِالرِّقِّ انْتَفَى عَنْ غَيْرِ الرِّقِّ كَالْمِلْكِ وَلِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَصْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي فَرْعِهِ كَالْمَعْرُوفِ بِالْحُرِّيَّةِ طَرْدًا وَبِالْعُبُودِيَّةِ حُكْمًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبِرِ إِنْ صَحَّ فَحَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ وَلَدًا أَوْ عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ عَبْدًا وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَالْوِلَايَةِ دُونَ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ مُنْعِمٌ فَمُنْتَقِضٌ بِمَنِ اسْتَنْقَذَ غَرِيقًا أَوْ أَجَارَ مَظْلُومًا أَوْ مَنَحَ فَقِيرًا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُرِّ الذي ولا وارث له. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ ادَّعَاهُ الَذِي وَجَدَهُ أَلْحَقْتُهُ بِهِ فَإِنِ ادعاه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 آخَرُ أَرَيْتُهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْآخَرِ أَرَيْتُهُمُ الْأَوَّلَ فَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ ابْنُهُمَا لَمْ نَنْسِبْهُ إِلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِالْآخَرِ فَهُوَ ابْنُ الْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ وجد لقيطا فادعاه ولذا فَدَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ وَيُحْكَمُ لَهُ بِبُنُوَّتِهِ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مَعَ الْتِقَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ لِيُمْنَعَ مِنْهُ وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْحَاكِمُ اسْتِظْهَارًا مِنْ أَيْنَ صَارَ وَلَدَكَ أَمِنْ أَمَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَإِنْ أَغْفَلَ كُلَّ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ مَقْبُولٌ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ بَعْدَ إِلْحَاقِهِ بِالْوَاجِدِ فَادَّعَاهُ وَلَدًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِادِّعَائِهِ لَهُ قَدْ صَارَ دَافِعًا لِدَعْوَاهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِاحْتِمَالِهَا وَأَنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ تَغْلِيبًا لِصِدْقِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَرَى الثَّانِي مَعَ الْوَلَدِ الْقَافَةُ لِأَنَّ فيها بيان عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْأَنْسَابِ فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الثَّانِي اسْتَقَرَّ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ اسْتِصْحَابًا لِسَابِقِ الْحُكْمِ وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْوَلَدَ مَعَ الْأَوَّلِ فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الْأَوَّلِ لَحِقَ بِالثَّانِي وَانْتَفَى عَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَافَةَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَكَالْبَيِّنَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ فَإِنْ أَقَامَ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بَيِّنَةً عَلَى الْفِرَاشِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ يَشْهَدْنَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ بِبَيِّنَتِهِ وَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بِشَبَهِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّبَهِ يَسْقُطُ مَعَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ وَلَدًا عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ آخَرُ وَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ وَكَانَ وَلَدَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ لِتَقْدِيمِ الْفِرَاشِ عَلَى حُكْمِ الشَّبَهِ. فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَتِ الْقَافَةُ حِينَ رَأَوْهُ مَعَ الثَّانِي يُشْبِهُهُ كَشَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمَا وَلَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْقَافَةِ وَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ فَيُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَفِي زَمَانِ انْتِسَابِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِلَى أَنْ يميز باستكمال السَّبْعَ أَوِ الثَّمَانِ وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا فِي الْحَضَانَةِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا إِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ فِي الْقَافَةِ أُقِرَّ عَلَى بُنُوَّةِ الْأَوَّلِ بِمَا تَقَدَّمَ من إِلْحَاقُهُ بِهِ إِذَا لَمْ يُقَابِلْ بِمَا يُوجِبُ لحوقه بغيره كالمال إِذَا نُوزِعَ صَاحِبُ الْيَدِ فِيهِ ثُمَّ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَأَسْقَطْنَا حُكْمَ تَمَلُّكِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ: قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَجَازَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا وَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّسَبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا وَإِنَّمَا حُكْمُنَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّعْوَى دُونَ الْيَدِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ دَخَلٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فَهَلَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي النَّسَبِ كَالْيَدِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْحُجَجِ بِالتَّعَارُضِ كَالْيَدِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْوَالَ لَيْسَ لَهَا بَعْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ بَيَانٌ يُنْتَظَرُ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالْيَدِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَيَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ النَّسَبِ لِأَنَّ انْتِسَابَ الْوَلَدِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَالٌ مُنْتَظَرَةٌ يَقَعُ الْبَيَانُ بِهَا فَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّعْوَى لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَوْتُ الْبَيَانِ بِمَوْتِ الْوَلَدِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ مَوْقُوفٌ عَلَى بلوغ الولد لينسب إلى أحدهما أخذ به الولد بعد البلوغ فَإِذَا انْتَسَبَ صَارَ لَاحِقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مُنْتَفِيًا عَنِ الْآخَرِ فَلَوْ رَجَعَ فَانْتَسَبَ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِلُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ بِانْتِسَابِهِ الْأَوَّلِ فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَانْتَسَبَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَى غَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّ الْقَافَةَ قَدْ وَقَفَتْهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا كَمَا لَوْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إليه لأن وقفته بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى غَيْرِهِمَا. فَصْلٌ: وَإِذَا تداعيا بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ رَجُلَانِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدَهُمَا بِدَعْوَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ فَإِذَا أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ دُونَ الْآخَرِ. وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً غَامِضَةً فِي جَسَدِ الْمَوْلُودِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى ذَلِكَ غَيْرُ الْوَالِدِ وَلَا يَرَاهُ الْوَالِدُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُدْفَعَ اللُّقَطَةُ بِالصِّفَةِ فَالنَّسَبُ أولى أن لا يثبت بالصفة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ جَعَلْتُهُ لِلَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَلَيْسَ هَذَا كَمِثْلِ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا كَفَالَةَ اللَّقِيطِ دُونَ نَسَبِهِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْتَقَطَهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً وَالْبَيِّنَةُ هَا هُنَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ كَفَالَةٍ تَثْبُتُ بِهَا وِلَايَةٌ فَإِنْ شَهِدَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بتقديم يده كان المتقدم إِلَيْهِ أَوْلَاهُمَا بِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ كَالْمَالِ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا أَوْجَبَتْ بَيَّنَتَاهُمَا تقدم يد أحدهما كان فيه قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلَى كَالْمُتَنَازِعِينَ فِي الْكَفَالَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقَدَّمُ فِي الْكَفَالَةِ مَنْ تَقَدَّمَتْ يَدُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَصِحُّ انْتِقَالُهُ بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْيَدُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْيَدُ الْمُتَأَخِّرَةُ وَالْكَفَالَةُ لَا يَصِحُّ انْتِقَالُ اللَّقِيطِ فِيهَا بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا لِمُتَقَدِّمِ الْيَدِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ بَيَّنَتَاهُمَا أَوْ أَشْكَلَتَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قرع. والثاني: يسقطان ويتحالفا فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَّلَا فَقَدِ اسْتَوَيَا وَصَارَا كَالْمُلْتَقِطَيْنِ لَهُ مَعًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا وَالثَّانِي يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي أَحَظِّهِمَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 فَصْلٌ: وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَتَفَرَّدَ الْآخَرُ بِادِّعَاءِ الْكَفَالَةِ دُونَ الْوِلَادَةِ حُكِمَ بِهِ وَلَدًا لِمُدَّعِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَازَعٍ فِي نَسَبِهِ وَصَارَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ الْوَالِدَ أَحَقُّ بِالْكَفَالَةِ مِنَ الْمُلْتَقِطِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَقَرَّتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ فِي الْكَفَالَةِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ وَلَدًا لَحِقَ بِهِ وَنُزِعَ مِنْ يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَصَارَ مَنْ جَعَلْنَاهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا تَدَاعَى نَسَبُ اللَّقِيطِ حر وعبد ومسلم ذمي فَهُمَا فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ سَوَاءٌ تَدَاعَى كَالْحُرَّيْنِ وَكَالْمُسْلِمَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة يُقَدَّمُ الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَكَافَأَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الدَّعْوَى قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ صَارَ الْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّفَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " فَأَثْبَتَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَدُونَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُدْفَعْ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُنَازِعًا كَالْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْهَا مَعَ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَدْفَعِ الذِّمِّيُّ عَنْهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ كَالْمَالِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " فَمِنْ عُلُوِّهِ الِانْقِيَادُ لِحُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنَّ عُلُوَّهُ بِالْيَدِ وَنُفُوذِ الْحُكْمِ وَنَحْنُ نُجْرِي عَلَى الْوَلَدِ وَإِنْ لَحِقَ بِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِحَالِ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ دُونَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ بِتَفَرُّدِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ بِادِّعَائِهِ وَبِمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ تَنَازَعَا لَقِيطًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا يَغْلِبُ الْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِحُكْمِ الدَّارِ كَذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَغْلِبُ الْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ لِحُكْمِ الدَّارِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: " غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا ادَّعَاهُ وَوُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَلْحَقْتُهُ بِهِ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ مُسْلِمًا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَأَنْ آمُرَهُ إِذَا بَلَغَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إِنَّا نَجْعَلُهُ مُسْلِمًا لِأَنَّا لَا نعلمه كما قال قال المزني عندي هذا أولى بالحق لأن من ثبت له حق لم يزل حقه بالدعوى فقد ثبت للإسلام أنه من أهله وجرى حكمه عليه بالدار فلا يزول حق الإسلام بدعوى مشرك قال الشافعي رحمه الله تعالى فإن أقام بينة أنه ابنه بعد أن عقل ووصف الإسلام ألحقناه به ومنعناه أن ينصره فإذا بلغ فامتنع من الإسلام لم يكن مرتدا نقتله وأحبسه وأخيفه رجاء رجوعه قال المزني رحمه الله قياس من جعله مسلما أن لا يرده إلى النصرانية ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي ذِمِّيٍّ ادَّعَى لَقِيطًا وَلَدًا وَأَلْحَقْنَاهُ بِهِ نَسَبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بَعْدَ مَا صَارَ مُسْلِمًا وَصَلَّى وَصَامَ وَالْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَحِقَ نَسَبُهُ بِذِمِّيٍّ لِأَنَّ فِعْلَهُ لِلْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ فِي الْكُفْرِ فَهَلْ يَصِيرُ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَارَ مُرْتَدًّا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا وَسَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالذِّمِّيِّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَوْ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَطُفُولَتِهِ وَقَبْلَ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَهَذَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفْرِ تَبَعًا لِأَبِيهِ لِأَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ لِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ تَأَصُّلٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي ظَاهِرِ الدَّارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُنْقَلُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إِلَى حُكْمِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِكَافِرٍ فَصَارَ الظَّاهِرُ غَيْرَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ لِلُحُوقِهِ بِكَافِرٍ لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ أَقْوَى مِنْ دَعْوَى مُحْتَمَلَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنِ افْتِتَانِهِ بِدِينِ أَبِيهِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ فِيهِ وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ وَمَالَ إِلَى دِينِ أَبِيهِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ رَجَاءَ عَوْدِهِ فَإِنْ أَبَى إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى الْكُفْرِ فَبَعُدًا لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا وَيُقِرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ غَالِبِ الدَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا فَقَالَ وَقَدْ بَلَغَ لَسْتُ يَهُودِيًّا وَلَا مُسْلِمًا وَإِنَّمَا عَلَى غَيْرِ الْيَهُودِيَّةِ مِنَ الْمِلَلِ كَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُعَادُ إلى دين أبيه لإقراره بأنه ليس إلى عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَاهُ صَارَ مُرْتَدًّا. فَصْلٌ: وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِمُدَّعِيهِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَازِعٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَبَلَغَ وَأَنْكَرَ نَسَبَهُ وَادَّعَى نَسَبًا غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ لِأَنَّ لحوق نسبه لم يراعي فِيهِ قَبُولُ الْوَالِدِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارَهُ وَإِنَّمَا يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي ادِّعَاءِ نَسَبِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلِذَلِكَ أَثَّرَ فِيهِ إِنْكَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ لَقِيطًا وَلَدًا فَإِنْ صَدَقَهُ سَيِّدُهُ فِي ادِّعَائِهِ لَحِقَ بِهِ وَإِنْ كَذَبَهُ فِيهِ فَفِي قَبُولِ دَعَوَاهُ وَإِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ كَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بَأَبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَاحَتِهِ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِالْعَبْدِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ عَبْدًا لِأَنَّهُ فِي الفرق تَبَعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُ العبد أنه من أمه لأنه لاحق لَهُ فِي رِقِّهِ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِ أَمَةٍ تَدَّعِيهِ وَلَدًا لَهَا لِيَصِيرَ لَهُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى عَبْدًا فَإِنْ حَضَرَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّعْوَى كَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي ادِّعَاءِ رِقِّهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ فَادَّعَى بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَدًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بَعْدَ عِتْقِهِ لَحِقَ بِهِ صَدَقَ السَّيِّدُ أَوْ كَذَبَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وِلَادَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَفِي لُحُوقِهِ بِهِ مَعَ تكذيب السيد وجهان مضيا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا دعوى لِلْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَخِلَافُهُمْ فِيهَا قَدِيمٌ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ. فَأَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا ادِّعَاءُ اللَّقِيطِ وَلَدًا لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِوِلَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ بِخِلَافِ الرَّجُلِ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى نَسَبِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِبَيِّنَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِالْمَرْأَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ يَقِينًا بِمُشَاهَدَتِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهِ فَكَانَتْ دَعْوَاهَا أَضَعُفَ لِقُدْرَتِهَا عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى وَالرَّجُلُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ فَجَازَ لِضَعْفِ أَسْبَابِهِ أن يصير ولدا لها بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَصِرْ وَلَدًا لَهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى تُقِيمَ بَيِّنَةً بِوِلَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ قُبِلَ مِنْهَا وَأُلْحِقَ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْجَبَ لُحُوقُهُ بِهَا أَنْ يَصِيرَ لَاحِقًا بِزَوْجِهَا لِأَنَّهَا لَهُ فِرَاشٌ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْفِرَاشُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلُحُوقُهُ بِهَا لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا كَالرَّجُلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَعْوَةَ لَهَا فِي إِلْحَاقِهِ بِزَوْجِهَا وَلَا فِي ادِّعَائِهِ لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهَا لَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَةٍ زَعَمَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتْ وِلَادَةَ وَلَدٍ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ كَانَ قَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولًا وَصَارَ بِالزَّوْجِ لَاحِقًا فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَدْعُوَهُ لِنَفْسِهَا وَلَدًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى كَالرَّجُلِ. فَصْلٌ: فَإِذَا لَحِقَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْحَقْ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ لَاحِقًا بِهِ بِتَصْدِيقِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهِ. فَصْلٌ: فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ أُلْحِقَ بِهَا الْوَلَدُ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ: أَنَا أُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَكَ لِيُلْحِقُوهُ بِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَثْبُتُ بالقافة لإمكان البينة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَقَامَتِ امْرَأَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ أنه ابنها لم أجعله ابن واحدة مِنْهُمَا حَتَّى أُرِيَهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدِةٍ لَحِقَ بِزَوْجِهَا وَلَا يَنْفِيهِ إِلَّا بِاللِّعَانِ قَالَ المزني رحمه الله مخرج قول الشافعي في هذا أن الولد للفراش وهو الزوج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 فلما ألحقته القافة بالمرأة كان زوجها فراشا يلحقه ولدها ولا ينفيه إلا بلعان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي امْرَأَتَيْنِ تَنَازَعَتَا فِي لَقِيطٍ وَادَّعَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا مَعَ التَّنَازُعِ بَيِّنَةٌ فَفِي سَمَاعِ دَعْوَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ أَوْ مِنَ الْخَلَايَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا إِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُمَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَتَا مِنَ الْخَلَايَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ وَالْأُخْرَى خَلِيَّةً كَانَتْ دَعْوَى الْخَلِيَّةِ مَسْمُوعَةً وَدَعْوَى ذَاتِ الزَّوْجِ مَدْفُوعَةً إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَعْوَاهُمَا مَعًا مسموعة سواء كانتا من ذوات الأزواج أو الْخَلَايَا فَعَلَى هَذَا إِذَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا وَأَقَامَتَا عَلَى تَنَازُعِهِمَا أَوْ عُدِمَتْ بَيِّنَتَاهُمَا فَفِي الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا يَرَيَانِ الْقَافَةَ مَعَ الْوَلَدِ فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ أُلْحِقَ بِهَا وَفِي لُحُوقِهِ بِزَوْجِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّ الْقَافَةَ كَالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ كَانَ الْوَلَدُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَنْتَسِبَ عِنْدَ بُلُوغِهِ زَمَانَ الِانْتِسَابِ إِلَى إِحْدَاهُمَا وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا فِيهِ كَحُكْمِ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَنَازَعَاهُ عَلَى العمل على القافة إن وجدوا أو انْتِسَابَ الْوَلَدِ إِنْ عَدِمُوا. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا مَدْخَلَ للقافة في إلحاق الولد بأمه وإنما يَحْكُمُ بِهِمْ فِي إِلْحَاقِهِمْ بِالْأَبِ دُونَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ يَعْرِفُ أُمَّهُ يَقِينًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ ولا يعرف أَبَاهُ ظَنًّا فَاحْتِيجَ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ فَرْقُ اسْتِدْلَالٍ أَنَّ حُكْمَ الْقَافَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْأُصُولِ فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ وَيَكُونُ تَنَازُعُ الْمَرْأَتَيْنِ فِيهِ يُوجِبُ وُقُوفَهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَنْتَسِبَ عِنْدَ الْبُلُوغِ إِلَى إِحْدَاهُمَا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يَعْنِي أَخْلَاطًا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِلَاطِ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6، 7] يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ وَهِيَ الصُّدُورُ وَقِيلَ هِيَ الْأَضْلَاعُ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الشبه للخؤلة، وإذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْعُمُومَةِ " فَحَصَلَ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَدِ شَبَهًا كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ أَخَصُّ وَكَانَ بِالشَّبَهِ أَحَقُّ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى وِلَادَتِهِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى حُكِمَ بِهِ لِذَاتِ الْبَيِّنَةِ وَلَحِقَ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ وَإِنْ أَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهِ قَالَ أبو حنيفة أَلْحَقْتُهُ بِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ وَأَجْعَلُهُ ابْنًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلِزَوْجِهَا وَأَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَزَوْجَهَا أَمَّا لَهُ وَأَبًا قَالَ وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُمْتَنِعِينَ إِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمَا كَاللِّعَانِ قَدِ امْتَنَعَ بِهِ صِدْقُهُمَا ثُمَّ حُكِمَ بِهِ بَيْنَهُمَا وَكَاخْتِلَافِ المتبايعين إذا تحالفا عليه وقد أَوْجَبَ فَسْخَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنه لأحداهما فَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ خَطَئِهِ مُسْتَحِيلٌ وَمَعَ اسْتِحَالَتِهِ شَنِيعٌ وَاسْتِحَالَةُ لُحُوقِهِ بِالِاثْنَيْنِ أَعْظَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ لحوقه بالأبوين لأنه لا يمنع ماء الرجلين في رحم واحد ويمتنع خروق الْوَلَدِ الْوَاحِدِ فِي رَحِمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] فَأَخْبَرَ أَنَّ أُمَّهُ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ، فَإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ بِهِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ وِلَادَتَهَا وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ مَا تَدْفَعُهُ بِذَاتِهِ العقول ويمنع منه الحسن الفطن وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْمُلَاحَظَةِ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا مَعَ التَّصَوُّرِ إِلَى تَعْلِيلٍ وَحَسْبُ مَا هَذِهِ حالة اطرادا واستقباحا لا سيما مع ما يَقْضِي هَذَا الْقَوْلُ إِمَّا مَذْهَبًا وَإِمَّا إِلْزَامًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ مُلْحَقًا بِنِسَاءِ الْقَبِيلَةِ وَرِجَالِهَا ثُمَّ بِنِسَاءِ الْمَدِينَةِ وَرِجَالِهَا ثُمَّ بِنِسَاءِ الدُّنْيَا وَرِجَالِهَا وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَوْلٍ هَذِهِ نَتِيجَتُهُ وَمَذْهَبٍ هَذِهِ قَاعِدَتُهُ فَأَمَّا اللِّعَانُ فما حكمنا فيه بصدقها مُسْتَحِيلٌ وَإِنَّمَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ حُكْمًا قَدْ أَسْمَاهُ الصَّادِقُ مِنْهُمَا اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَمَّا التَّحَالُفُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ إِبْطَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ دُونَ إِثْبَاتِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْلَاكِ هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَسْقُطَانِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَعْمَلَانِ بِقِسْمَةِ الْمِلْكِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. وَالثَّانِي: يُسْتَعْمَلَانِ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الأملاك استعملناهما في الانتساب وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَسْتَعْمِلَهُمَا بِالْقِسْمَةِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ وَلَا بِالْقُرْعَةِ مَعَ وُجُودِ الْقَافَةِ لِأَنَّ الْقَافَةَ أَقْوَى وَأَوْكَدُ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ استعمالهما بِتَمْيِيزِ الْقَافَةِ بَيْنَهُمَا فَيُنْظَرُ إِلَى الْوَلَدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِإِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا بِالْبَيِّنَةِ، وَكَانَ تَمْيِيزُ الْقَافَةِ تَرْجِيحًا فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا وَبِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ وَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ فَهَلْ يَسْقُطَانِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 أَحَدِهِمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمَا يَسْقُطَانِ كَالْأَمْلَاكِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُمَا كَمَا لَوْ تَدَاعَتَاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ إِذَا تَعَارَضَتَا فِي الْأَنْسَابِ وَإِنْ سَقَطَتَا بِتَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَمَّا تَكَافَآ في الأملاك ولم يكن ما يترجح بِهِ إِحْدَاهُمَا جَازَ أَنْ يَسْقُطَا وَلَمَا أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ بِالْقَافَةِ لَمْ يَسْقُطَا وَحُكِمَ لِمَنِ انْضَمَّ إِلَى بَيِّنَتِهِ بَيَانُ الْقَافَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَوَجُدِتِ الْقَافَةُ فَأَلْحَقَتِ الْوَلَدَ بِإِحْدَاهُمَا صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالدَّعْوَى فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقُرْعَةِ وَهُوَ انْتِسَابُ الْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ زَمَانَ الِانْتِسَابِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى اسْتِكْمَالِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ. والثاني: إلى بلوغ فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى إِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا وَبِزَوْجِهَا لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالِانْتِسَابِ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَصَارَ كَالْقَافَةِ مَعَ الْبَيِّنَةِ. فَصْلٌ: فَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا قَبْلَ انْتِسَابِ الْوَلَدِ إِلَى إِحْدَاهُمَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهَا وَهُوَ مِيرَاثُ ابْنٍ وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الثَّانِيَةِ مِنْهَا رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ إِحْدَاهُمَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ ابْنٍ لِجَوَازِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى زَوْجَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ أُخِذَ مَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْأُخْرَى رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ عَلَى وَرَثَتِهِ فَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ وَزَوْجُ الْأُخْرَى وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ وَمِنْ تَرِكَةِ زَوْجِ الْأُخْرَى مِيرَاثُ ابْنٍ فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مِيرَاثُهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ زَوْجِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَرَثَتِهِ وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْبَاقِيَةِ أُخِذَ مِيرَاثُ زَوْجِهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ اللَّقِيطَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ أَقْبَلِ الْبَيِّنَةَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنَّهَا رَأَتْ أَمَةَ فلان ولدته وأقبل أربع نسوة وإنما منعني أن أقبل شهوده أنه عبده لأنه قد يرى في يده فيشهد أنه عبده " (وقال) في موضع آخر " إن أقام بينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط أرفقته له " (قال المزني) " هذا خلاف قوله الأول وأولى بالحق عندي من الأول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى رِقَّ إِنْسَانٍ مَجْهُولِ الْحَالِ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ يد لسيده مُسْتَرِقٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى بَالِغٍ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى الْمُدَّعِي بِالرِّقِّ فَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ وَإِنْ أَقَرَّ صَارَ عَبْدًا لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَقِيطٌ فَيَكُونُ قَوْلُ الْمُدَّعِي رِقَّهُ مَقْبُولًا وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 عَبْدُهُ مَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ تَدْفَعُهُ أَوْ مُدَّعٍ يُقَابِلُهُ لِأَنَّ مَا جُهِلَ حَالُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَازِعٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ اعْتِرَاضٌ كَمَنْ وَجَدَ مَالًا فَادَّعَاهُ مِلْكًا أُقِرَّ عَلَى دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ فَلَوْ بَلَغَ هَذَا الطِّفْلُ الَّذِي حُكِمَ بِرِقِّهِ لِمُدَّعِيهِ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِرِقِّهِ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَ النَّسَبَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْحُرِّيَّةِ حُكِمَ بِهَا وَرُفِعَ رِقُّ الْمُدَّعِي عَنْهُ فَإِنْ طَلَبَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِرِقِّهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا دَعْوَى حُرِّيَّةٍ قَدِ اسْتَأْنَفَهَا عَلَى سَيِّدِهِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِرِقِّ لَقِيطٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون قبل ذلك الْتِقَاطُهُ فَفِي قَبُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ ادِّعَاءُ نَسَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ فِي رِقِّهِ وَإِنْ قُبِلَ فِي نَسَبِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ وَدَعْوَى الرِّقِّ حَقٌّ لَهُ لَا عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّسَبَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ بَلْ يَقْتَضِيهِ وَالرِّقُّ يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ وَيُنَافِيهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِقِّهِ لِلْمُدَّعِي وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ حُكِمَ بِهِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ دَعْوَى رِقِّهِ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مُلْتَقِطُهُ أَوْ غَيْرُهُ وَفَرْقُ مَا قَبْلَ الْتِقَاطِهِ وَبَعْدَهُ أن قَبْلَ الِالْتِقَاطِ لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ يَدٌ وَبَعْدَ الِالْتِقَاطِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ يَدٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُدَّعِي رِقِّهِ هُوَ الْمُلْتَقِطُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُلْتَقِطُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَكُونُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَتْ دَعْوَاهُ مَرْدُودَةً وَاللَّقِيطُ عَلَى ظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ وَيُقَرُّ فِي يَدِهِ مَعَ مَالِهِ إِنْ كَانَ وَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لَهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِالِالْتِقَاطِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى أَنَّ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِدَعْوَى رِقِّهِ مِنَ الْأَمَانَةِ فِي كَفَالَتِهِ وَرُبَّمَا صَارَتْ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ يَدِهِ ذَرِيعَةً إِلَى تَحْقِيقِ رِقِّهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ فَلَا يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ الْيَدَ شَاهِدَةٌ وَلَيْسَ يُحْكَمُ بِهَا لِلْعِلْمِ بِسَبَبِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصِفَ سَبَبَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ إِمَّا ابْتِيَاعٌ مِنْ مَالِكٍ أَوْ هِبَةٌ قَبَضَهَا مِنْ مَالِكٍ أَوْ مِيرَاثٌ عَنْ مَالِكٍ أَوْ بِسَبْيٍ سَبَاهُ فَمَلَكَهُ أَوْ وَلَدَتْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 أَمَتُهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوِ الْمِيرَاثِ أَوِ السَّبْيِ حُكِمَ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ سَمِعَ فِيهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ عَلَى وِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ وَتَكُونُ شَهَادَتَيْنِ بِمِلْكِ الْأُمِّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ تَبَعًا لِلشَّهَادَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْأُمِّ نِزَاعٌ فَإِنْ نُوزِعَ فِي ملكه الأم لم تقبل شهادتين بِمِلْكِ الْأُمِّ حَتَّى يَشْهَدَ بِمِلْكِهَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ثُمَّ إِنْ شَهِدْنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ قُبِلْنَ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْمِلْكِ وَالْوِلَادَةِ فِيهِ قُبِلَ فَأَمَّا إِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِوِلَادَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِأَنَّ الْوِلَادَةَ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تكون أمه قَدْ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَشَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ حُكِمَ بِهَا وَصَارَ عَبْدًا لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَا تذكر سَبَبُ الْمِلْكِ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا وَيُجْعَلُ اللَّقِيطُ عَبْدًا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِمِلْكِ مَالٍ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ كَانَ جَائِزًا فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ اللَّقِيطِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي اللَّقِيطِ حَتَّى يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَيُحْكَمَ بِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ أَغْلَظُ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِهِ عَنْ ظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ إِلَى مَا تَشْهَدُ لَهُ الْبَيِّنَةُ مِنَ الرِّقِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَدَ فِي الْأَمْوَالِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَفِي اللَّقِيطِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ يَشْهَدُوا فِيهَا بِالْمِلْكِ بِالْيَدِ وَحْدَهَا قِيلَ أَمَّا يَدٌ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَصَرُّفٌ كَامِلٌ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي الْمِلْكِ وَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا تَصَرُّفٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ وَجْهَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَوَجْهًا ثَالِثًا عَنْ نَفْسِهِ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ وَالْحُكْمُ أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلشُّهُودِ وَإِنْ جَازَ لِلْحَاكِمِ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَجْتَهِدُوا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: الَّذِي حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِمُشَاهَدَةِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ سَمَاعٌ مِنَ النَّاسِ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النَّاسَ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ وَشَهِدُوا بِالْيَدِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِرِقِّ اللَّقِيطِ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ فإن لم تكن له بينته رُدَّتْ دَعْوَاهُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهَادَةِ لِلْمُلْتَقِطِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ قَبْلَ الْتِقَاطِهِ فَفِي الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْكَمُ بِهَا لِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُلْتَقِطِ وَلَا تَكُونُ الْيَدُ عَلَيْهِ مُوجِبَةً لِمِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغْلِيظِ حَالِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِهَا فِي مِلْكِهِ لِرِقِّهِ وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِهَا فِي تَقَدُّمِ يَدِهِ وَاسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ بِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ يَدِ مُلْتَقِطِهِ فَعَلَى مَا حَكَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 الْمُزَنِيُّ يُنْتَزَعُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ وَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ لِيَكْفُلَهُ وَعَلَى مَا أُرَاهُ أَوْلَى يُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى اسْتِرْقَاقِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ إِنَّا نَحْكُمُ لَهُ بِرِقِّهِ مَعَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ بِخِلَافِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِأَنَّ فِي إِقْرَارِ الْمُلْتَقِطِ بِأَنَّهُ لَقِيطٌ تَكْذِيبٌ لِشُهُودِهِ بِأَنَّ الْيَدَ مُوجِبَةٌ لِمِلْكِهِ وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ إِقْرَارٌ يُوجِبُ هَذَا إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ رَقِيقًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ أَرِقَّهُ لَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوِ اسْتِحْبَابٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِيَنْفِيَ بِهَا احْتِمَالَ الْيَدِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ مِلْكٍ فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِرِقِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ إِنْ أَوْجَبَتِ الْمِلْكَ أَغْنَتْهُ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَازِعٌ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ وَلِأَنَّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ اعْتِلَالًا لِلشَّهَادَةِ. فَصْلٌ: فَلَوِ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ أُلْحِقَ بِهِ وَلَمْ يُكَلَّفْ بِبَيِّنَةٍ فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِقَّ اللَّقِيطِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَإِذَا أَقَامَهَا صَارَ ابْنًا لِلْمُلْتَقِطِ وَعَبْدًا لِلْآخَرِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَيَكُونُ السَّيِّدُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْأَبِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَنَكَحَ وَأَصْدَقَ ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ أَلْزَمْتُهُ مَا يَلْزَمُهُ قبل إقراره وفي إلزامه الرق قولان أحدهما أَنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ من ماله عما لزمه ولا يصدق في حق غيره ومن قال أصدقه في الكل قال لأنه مجهول الأصل ومن قال القول الأول قاله في امرأة نكحت ثم أقرت بملك لرجل لا أصدقها على إفساد النكاح ولا ما يجب عليها للزوج وأجعل طلاقه إياها ثلاثا وعدتها ثلاث حيَض وفي الوفاة عدة أمة لأنه ليس عليها في الوفاة حق يلزمها له وأجعل ولده قبل الإقرار ولد حرة وله الخيار فإن أقام على النكاح كان ولده رقيقا وأجعل ملكها لمن أقرت له بأنها أمته " (قال المزني) رحمه الله " أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ ومن ادعاه لم يجب له بدعواه وقد لزمتها حقوق بإقرارها فليس لها إبطالها بدعواها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي لَقِيطٍ بَلَغَ فَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ فِي عُقُودِهِ وَأَفْعَالِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِالْإِشْكَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ أَوْ مَجْهُولُ الْأَصْلِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَرَتْ أَحْكَامُ الْحُرِّيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى رِقَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِرِقِّهِ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ أَقَامَ بِرِقِّهِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ الْبَيِّنَةِ حَكَمْنَا لَهُ بِرِقِّهِ وَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْعَبِيدِ فِي الْمَاضِي مِنْ حَالِهِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا بَطَلَ مِنْ عُقُودِهِ الْمَاضِيَةِ بِالرِّقِّ أَبْطَلْنَاهُ وَمَا وَجَبَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 اسْتِرْجَاعُهُ مَنْ غُرْمٍ أَوْ مَالٍ اسْتَرْجَعْنَاهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا ضَرَّ غَيْرَهُ أَوْ نَفَعَهُ أَوْ نَفَعَ غَيْرَهُ وَضَرَّهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ لَهُ بِالرِّقِّ أَوْ يُنْكِرَهُ فَإِنْ أَنْكَرَهُ حَلَفَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدِ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِأَنَّ اعْتِرَافَهُ بِالْحُرِّيَّةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ تَضَمَّنَهُ حَقٌّ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ سَوَاءٌ قِيلَ بِجَهَالَةِ أَصْلِهِ أَوْ بِظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ مِنَ الرِّقِّ ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ لَوْ بَلَغَ مَقْبُولًا فِي الْكُفْرِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي الرِّقِّ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ مَقْبُولٌ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إِجْرَائِهَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمَاضِي كَمَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّقَّ أَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ تَعَلُّقٌ فِي فَرْعِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُهُ فَأَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ فُرُوعُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مُوجِبًا لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيِّنَةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَالْبَيِّنَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي أَضَرُّ الْأَمْرَيْنِ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ أَوِ الرِّقِّ فَمَا نَفَعَهُ وَضَرَّ غَيْرَهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَمَا ضَرَّهُ وَنَفَعَ غَيْرَهُ قُبِلَ مِنْهُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيمَا ضر غيره متهوم فأمضى وإقراره فيما ينفعه متهوم فَرُدَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ مِنَ الْعُقُودِ بِغَيْرِ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ لُزُومَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِ فَسْخِهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا مَضَى فَمِنْ ذَلِكَ هِبَاتُهُ وَعَطَايَاهُ فَإِنْ قيل بنفوذ إقراره فيهما بطلت واستحق السيد استرجاعها وإن قيل برد إقراره فيهما بطلت واستحق السيد استرجاعها أُمْضِيَتْ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِحْلَافُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُعْطَى إِنْ أَنْكَرَ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ بَيُوعُهُ وَإِجَارَاتُهُ إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا بَطَلَتْ وَلَزِمَ التَّرَاجُعُ فِيهِمَا وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا أُمْضِيَتْ وَلَا يُرَاجَعُ فِيهِمَا وَمَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ بَائِعِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِ ثَمَنِهِ مِنْهُ فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَجَبَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَجِنَايَةٍ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ ذَلِكَ أضر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 بِهِ فَنَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهِ فَفِي تَعَلُّقِ الْبَاقِي بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ قَوْلَانِ إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ سَقَطَ وَلَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ عَنْ مُعَامَلَةٍ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ صَدَاقٍ فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَكَانَ السَّيِّدُ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيمَا بِيَدِهِ فَمَا كَانَ بِإِزَائِهِ دَفَعَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ فِي دُيُونِهِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْفَاضِلِ مِنْهُ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ مِنْ مَالِهِ عَمَّا لَزِمَهُ يَعْنِي مِنْ دُيُونِهِ. فَصْلٌ: وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُهُ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَيَنْكِحَ امْرَأَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً فَتَنْكِحَ رَجُلًا فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَنَكَحَ امْرَأَةً فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرُ فَلَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمُسَمَّى لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إقراره انفسخ النكاح من وقته لإقرارها بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ مِنْ أَصْلِهِ لِقَبُولِ إِقْرَارِهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ أَمَةً فَنَكَحَتْ رَجُلًا فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهَا بَطَلَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى وَكَانَ أَوْلَادُهَا مِنْهُ أَحْرَارًا لِأَنَّهُ أَصَابَهَا عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهَا فَصَارَتْ كَالْغَارَّةِ بَحُرِّيَّتِهَا لَكِنْ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ لِسَيِّدِهَا وَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ كَالْمَغْرُورِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ وَجَمِيعُ أَوْلَادِهَا مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَبَعْدَهُ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَحْرَارٌ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ غُرْمَ قِيمَتِهِمْ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ مَعَهَا لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ حُكْمِ رِقِّهَا فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا رُقَّ أَوْلَادُهُ مِنْهَا إِذَا وَضَعَتْهُمْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ ثُمَّ إِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يَرُدُّ إِقْرَارَهَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: طَلَاقٌ أَوْ وَفَاةٌ فَإِنْ كَانَتْ وَفَاةً فَعِدَّةُ أَمَةٍ شَهْرَانِ وَخَمْسِ لَيَالٍ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تعالى فقيل قَوْلُهَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةَ طَلَاقٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ مِنْهَا أَقْوَى لِثُبُوتِ رَجْعَتِهِ فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عِدَّةُ أَمَةٍ كَالْوَفَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِلزَّوْجِ حَقٌّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَمَا لَوْ فِيهَا الرَّجْعَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِبْرَاءُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لوجوبها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 عَلَى الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّعَبُّدُ، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَفِيمَا اسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَنْفُذَ إِقْرَارُهُ فِي الْمَاضِي وَإِنْ نَفَذَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ أَنْ قَالَ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَمَنِ ادَّعَاهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِدَعْوَاهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ أَمْرَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى فَكَانَ الْحُكْمُ بِهِ أَوْلَى. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُقِرُّ اللَّقِيطَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَقَالَ الفلان ما ملكته ثُمَّ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالرِّقِّ بَعْدُ لَمْ أَقْبَلْ إِقْرَارَهُ وَكَانَ حُرًّا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ بَالِغٍ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَأَقَرَّ بِرِقِّهِ لِزَيْدٍ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ أن يكون مالكه فَأَقَرَّ اللَّقِيطُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِقِّهِ لِعَمْرٍو فَإِقْرَارُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِرِقِّهِ لِمَالِكٍ فَيَحْكُمُ بِهَا دُونَ الْإِقْرَارِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ لِلثَّانِي وَإِنْ رَدَّهُ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ إِقْرَارُهُ مَقْبُولًا لِلْأَوَّلِ وَهَكَذَا لَوْ أَنْكَرَهُ الثَّانِي فَأَقَرَّ الثَّالِثُ قُبِلَ مِنْهُ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ جَازَ وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّ إِقْرَارَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الرِّقِّ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى النَّسَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ مَجْرَى الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ لِلْأَوَّلِ إِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا رِقَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ فَإِذَا رَدَّ الْأَوَّلُ الْإِقْرَارَ فَقَدْ رَفَعَ رِقَّهُ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِذَا رُدَّ كَالْعِتْقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ الرِّقِّ وَالثَّانِي أَنْ فِي الْحُرِّيَّةِ حقا لله تعالى وحق لِلْآدَمِيِّ فَصَارَ أَغْلَظَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَجَرَّدَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ إِذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ جَرَى حُكْمُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَيَجْعَلُ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءً وَيَقُولُ إِذَا رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ لَمْ أقبله إذا أقر به من بعد كَمَا لَوْ رَدَّ فِي الْعِتْقِ لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ بَعْدُ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي النَّسَبِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الرِّقِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِنْكَارَهُ الرِّقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا رِقَّ وَلَيْسَ إِنْكَارُهُ لِلنَّسَبِ مُوجِبًا لِرَفْعِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَنْكَرَ الرِّقَّ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالدَّارِ فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقِرُّ لَهُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ بِهَا لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهَا وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مِلْكٍ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللَّقِيطُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حُرًّا وَلَيْسَ لَهُ مالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا قِيلَ لِلثَّانِي إِنْ أَقَمْتَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رِقِّهِ حُكِمَ لَكَ بِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوجِبُ رِقَّهُ وَإِنْ كَانَ معترفا بالحرية فكانت إثبات رِقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى. فَصْلٌ: وَلَوْ أَنَّ لَقِيطًا أَقَرَّ بِالْبُنُوَّةِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ بَعْدَهُ لِآخَرَ قَبْلِنَا إِقْرَارَهُ لَهُمَا بِالْبُنُوَّةِ وَالرِّقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لزيد وعبدا لعمر وَلَوِ ابْتَدَأَ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْبُنُوَّةِ لِآخَرَ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ الْمُتَقَدِّمِ فلم يَنْفَذْ إِقْرَارُهُ بِالْبُنُوَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِأَبٍ إِلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قُدِّمَ الْإِقْرَارُ بِالْأَبِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالرِّقِّ. فَصْلٌ: وَإِذَا تَنَازَعَ الرَّجُلَانِ طِفْلًا وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنًا ثُمَّ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ فَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي نَسَبِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ لَمْ يُقْبَلْ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْتِقَاطِهِ قُبِلَ وَصَارَ ابْنًا لِمَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ دُونَ مَنْ سَلَّمَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ عَنِ الْفِرَاشِ مُلْحَقٌ بِغَيْرِ دَعْوَى وَاللَّقِيطُ لَا يُلْحَقُ إِلَّا بِالدَّعْوَى فَلَوْ رَجَعَ مَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ ابْنًا لَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ لَهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأُبُوَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ رَجُلٌ بِالْتِقَاطِهِ وَادَّعَى بُنُوَّتَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْبُنُوَّةِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَدًا لَمْ يَجُزْ وَصَارَ لَازِمًا لِلْأَوَّلِ لِإِلْحَاقِهِ بِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ نَسَبَهُ رَجُلَانِ ثُمَّ تَرَكَاهُ مَعًا رَاجِعَيْنِ عَنِ ادِّعَاءِ نَسَبِهِ لَمْ يَجُزْ وَأَرَيْنَا فِيمَا رَأَيَاهُ لِلْقَافَةِ وَأَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَلَوْ سَلَّمَهُ الْمُتَنَازِعَانِ إِلَى ثَالِثٍ اسْتُحْدِثَ دَعْوَى نَسَبِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا بِالتَّنَازُعِ الْأَوَّلِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ نَسَبَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الثَّالِثِ فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ صَارَ بِإِلْحَاقِ القافة لاحقا به لا بالتسليم وإن تفوه عَنْهُ وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ إِمَّا بِالْقَافَةِ أو بالتسليم والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 كتاب الفرائض حقيق بمن علم أن الدنيا منقرضة، وأن الرزايا قبل الغايات معترضة، وأن المال متروك لوارث، أو مصاب بحادث، أن يكون زهده فيه أقوى من رغبته، وتركه له أكثر من طلبته، فإن النجاة منها فوز، والاسترسال فيها عجز، أعاننا الله على العمل بما نقول، ووفقنا لحسن القبول إن شاء الله. وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ صَلَاحَ عِبَادِهِ فِيمَا اقْتَنَوْهُ مَعَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّنِّ بِهِ وَالْأَسَفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَصْرِفَهُ بَعْدَهُمْ مَعْرُوفًا، وَقَسْمَهُ مُقَدَّرًا مَفْرُوضًا؛ لِيَقْطَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ، وَيَدُومَ لَهُمُ التَّوَاصُلُ وَالِائْتِلَافُ، جَعْلَهُ لِمَنْ تَمَاسَّتْ أَنْسَابهُمْ وَتَوَاصَلَتْ أَسْبَابُهُمْ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَقِلَّ عَلَيْهِ الْأَسَفُ، وَيَسْتَقِلَّ بِهِ الْخَلَفُ، فَسُبْحَانَ مَنْ قدر وهدى، وَدَبَّرَ فَأَحْكَمَ، وَقَدْ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ تَجْرِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالتَّنَاصُرِ كَمَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْسَابِ؛ طَلَبًا لِلتَّوَاصُلِ بِهِ، فَإِذَا تَحَالَفَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي عَقْدِ حِلْفِهِ هَدْمِي هَدْمُكَ، وَدَمِي دَمُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وحربي حربك، وتنصرني وأنصرك. فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وِرِثَهُ الْآخَرُ، فَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا حلفا في الإسلام وإنما حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلا شدة "، فجعل الحلف فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِلْأُمِّ فَأعطى السدس، ونزل فيه مَا حَكَاهُ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إن الله بكل شيء عليم} [الأحزاب: 6] . فَصْلٌ: وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ والأطفال، ولا يعطون المال إلا لمن حما وَغَزَا فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أم كجة وبنت كجة وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسَ بْنَ سُوَيْدٍ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَمَاتَ زوجها فقالت أم كجة: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وبنيه فَلَمْ نُوَرَّثْ فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ الله إن ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْتَسِبُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] على قولين: أحدهما: يعني: للرجال نصيب مِمَّا اكْتَسَبُوا مِنْ مِيرَاثِ مَوْتَاهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ منه؛ لأن الجاهلية لم يكونوا يورثوا النِّسَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعِقَابِ على معصية اللَّهِ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِثْل ذَلِكَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَلَا تجْزي بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا كَالرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. فَصْلٌ: وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَأَحَبَّ، مِيرَاثًا وَوَصِيَّةً، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تعالى: {آت ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَرَابَةُ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَالْمِسْكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ من وصيته، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إنَّهُمْ قَرَابَةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، ثُمَّ تَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَكَانَ إِذَا تَرَكَ الْمُهَاجِرُ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُهَاجِرٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْمُهَاجِرِ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا مُهَاجِرًا وَأَخًا غَيْرَ مُهَاجِرٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْعَمِّ دُونَ الْأَخِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] يعني: أن لا تَتَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] يَعْنِي: الْوَصِيَّةَ لِمَنْ لَمْ يرث {كان ذلك في الكتاب مسطورا} [الأحزاب: 6] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ تَوَارُثُكُمْ بِالْهِجْرَةِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. وَالثَّانِي: كَانَ نَسْخُهُ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا. فَصْلٌ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ المواريث وقدرها بين الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، نَسَخَ بِهِنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ، فَرَوَى دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عن جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ سَعْدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 هَلَكَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَقَدْ أَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا إِلَّا أَخَذَهُ، فَمَا ترى يا رسول الله؟ فوالله لا يَنْكِحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ " فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةِ. فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادعوا إلي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِلْعَمِّ: " أعْطِهِمَا الثُّلْثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ ". وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَلَمْ أُكَلِّمْهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي وَلِي أَخَوَاتٌ قَالَ فَنَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إِلَى آخر السورة وقال ابْنُ سِيرِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَسِيرُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَبَلَغَهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُذَيْفَة، وَبَلَغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ مرسلا، وفسر فبين مَا كَانَ مُجْمَلًا، وَقَدَّرَتِ الْفُرُوضُ مَا كَانَ مُبْهَمًا، ثُمَّ بَيَّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذلك " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهِ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، رَوَاهُ شُرَحْبِيل بن مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ دَعَا إِلَى عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَحَثَّ عَلَيْهِ؛ لأنهم كانوا على قرب عهد بغيره، ولأن لا يقطعهم عنه التَّشَاغُلُ بِعِلْمِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ عِبَادَاتِهِمُ الْمُتَرَادِفَةِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمُتَّصِلَةِ فَيَؤولُ ذَلِكَ إِلَى انْقِرَاضِ الْفَرَائِضِ، فَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ وَإِنَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي، وَإِنَّهُ يُنْسَى ". وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ مَنْ يُخْبِرُهُمَا بِهِ " وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَافِعٍ التَّنُوخِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فضل آية محكمة أو سنة ماضية وفريضة عادلة ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ " فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَثًّا لِجَمَاعَتِهِمْ عَلَى مُنَاقَشَتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَتِهِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا كان منقطعا إلى الْفَرَائِضِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَإِنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَعْرَفُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ، وَأَصْدَقُكُمْ لَهْجَةً أَبُو ذَرٍّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ هُوَ أَعْرَفُهُمْ بِالْفَرَائِضِ وَبِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كان أفرضهم زيد، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِ جَمَاعَتِهِمْ لَمَا اسْتَجَازَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُخَالَفَتَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ بذلك أنه أشد منهم عِنَايَةً بِهِ، وَحِرْصًا عَلَيْهِ، وَسُؤَالًا عَنْهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصَحَّهُمْ حِسَابًا، وَأَسْرَعَهُمْ جَوَابًا، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ المعاني أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ بِقَوْلِ زَيْدٍ. فَصْلٌ: إذا وضح مَا ذَكَرْنَا فَالْمِيرَاثُ مُسْتَحَقٌّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ، فَالنَّسَبُ الأبوة والبنوة وما تفرع عليهما، ولسبب نِكَاح وَوَلَاء. وَالْوَارِثُونَ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ: الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ وَابْنُ الْأَخِ، وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ، وَالزَّوْجُ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ، وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُمْ بحال ثلاثة: الابن والأب والزوج. والوارثات مِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ: الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ، وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُنَّ بِحَالٍ ثلاث: الْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَالزَّوْجَةُ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ فَسَبْعَةٌ: الْعَبْدُ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَقَاتِلُ الْعَمْدِ، وَالْمُرْتَدُّ، وَأَهْلُ مِلَّتَيْنِ وَسَنَذْكُرُ فِي نظم الكتاب ما يتعلق من خلاف وحكم. فَصْلٌ: وَالْوَرَثَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَأْخُذُ بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ فَرْضٌ وَلَا يَتَقَدَّرُ لَهُمْ سَهْمٌ، وَهُمُ الْبَنُونَ وَبَنُوهُمْ، وَالْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ، وَالْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ، فَإِنِ انْفَرَدُوا بِالتَّرِكَةِ أخذوا جميعا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ ذُو فَرْضٍ أَخَذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَهُ، وَلَا تُعَوَّلُ فَرِيضَةٌ يَرِثُونَ فِيهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ وَهُمْ خَمْسَةٌ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً وَبِالتَّعْصِيبِ أُخْرَى وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: بَنَاتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 الصُّلْبِ، وَبَنَاتُ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتُ، يَأْخُذْنَ بِالْفَرْضِ إِذَا انْفَرَدْنَ وَبِالتَّعْصِيبِ إِذَا شَارَكَهُمُ الْإِخْوَةُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً، وَبِالتَّعْصِيبِ تَارَةً أُخْرَى، وَبِهِمَا فِي الثَّالِثَةِ وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ يَأْخُذُونَ مَعَ ذُكُورِ الْأَوْلَادِ بِالْفَرْضِ، وَبِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِهِمْ وَبِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ مَعَ إِنَاثِهِمْ. فَصْلٌ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَهُمُ الِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ، وَأَرْبَعَةٌ يُسْقِطُونَ أخواتهم: ابْنُ الْأَخِ، وَالْعَمُّ، وَابْنُ الْعَمِّ، وَابْنُ الْمَوْلَى، وأربعة ذكور يرثون نساء لا يرثنهم بفرض ولا تعصيب: ابْنُ الْأَخِ يَرِثُ عَمَّتَهُ وَلَا تَرِثُهُ، وَالْعَمُّ يَرِثُ ابْنَةَ أَخِيهِ وَلَا تَرِثُهُ، وَابْنُ الْعَمِّ يَرِثُ بِنْتَ عَمِّهِ وَلَا تَرِثُهُ، وَالْمَوْلَى يَرِثُ عتيقه ولا يرثه، وامرأتان ترثان ذكران ولا يرثانهما بفرض ولا تعصيب: أم الابن تَرِثُ ابْنَ ابْنَتِهَا وَلَا يَرِثُهَا، وَالْمَوْلَاةُ تَرِثُ عَتِيقَهَا وَلَا يَرِثُهَا، وَالرَّجُلُ يَرِثُ مِنَ النِّسَاءِ وَمِنَ الرِّجَالِ تِسْعَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرِثُهُ رَجُلٌ وَالْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ وَمِنَ النساء ست؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَرِثُهَا امْرَأَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 بَابُ مَنْ لَا يَرِثُ مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْمُزَنِيُّ رحمه الله تعالى وهو من قول الشافعي: " لَا تَرِثُ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ وَبِنْتُ الْأَخِ وَبِنْتُ العم والجدة أم الأب الأم والخال وَابْنُ الْأَخِ لِلأُمّ وَالْعَمُّ أَخُو الْأَبِ لِلْأُمِّ وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمَّ وَوَلَدُ الْبِنْتِ وَوَلَدُ الْأُخْتِ وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذَوِي الْأَرْحَامِ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ لَا يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَدَأَ بِهِمْ لِتَقْدِيمِهِ ذِكْرَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِينَ والمملوكين وذوو الأرحام هم: من ليس بعصبة ولا ذي فَرْضٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي توزيعهم إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلى أنه لَا مِيرَاثَ لَهُمْ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشَّامِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَقَالَ أبو حنيفة: ذَوُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ غَيْرَ أَنَّ أبا حنيفة قَدَّمَ الْمَوْلَى عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وخالفه تَقَدّمهُ فَقَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوْلَى، وَاسْتَدَلُّوا على توريث ذوي الأرحام بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعُوا عَنِ الْمِيرَاثِ وقد جعلهم الله تعالى أولى به، ولرواية طاوس عن عائشة رضي الله عنهما وَأَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُمَرَ جَمِيعًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ له ". وبرواية المقداد بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 معد يكرب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الخال وارث من ولا وارث له ". وَبِرِوَايَةِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ قَالَ: تُوُفِّيَ ثَابِتُ بن الدحداح وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا وَلَا عَصَبَةً فَرُفِعَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَ عَنْهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ هَلْ تَرَكَ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ مَا نَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ أَحَدًا فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالَهُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عبد المنذر، ورواية الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَمُّ وَالِدٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُ أَبٌ وَالْخَالَةُ وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ " قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ كَانَ وَارِثًا كَالْعَصَبَاتِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالرَّحِمِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ إِرْثِهِمْ كَالْجَدَّةِ، قالوا: ولأن ذوي الأرحام قد شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ كَالْمُعْتِقِ لَمَّا سَاوَى كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ وَصَارَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ وَكَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَمَّا سَاوَى الْأَخَ لِلْأَبِ وَفَضَّلَهُ بِالْأُمِّ كَانَ أَوْلَى بِالْإِرْثِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ شُرَحْبِيلَ بْنِ سلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهَ فَلَا وصية لوارث " فأشار إلى ما في القرآن من الْمَوَارِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْءٌ. وَرَوَى عطاء بن يسار أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَجُلًا هَلَكَ وَتَرَكَ عَمَّة وَخَالَة فَقَالَ اللَّهُمَّ رَجُلٌ تَرَكَ عَمَّة وَخَالَة ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ لَا أَرَى نزل علي شيء لا شَيْء لهما ". وَرَوَى زِيدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركب إلى قباء يستخير الله تعالى فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَا ميراث لهما. وروى عمران بن سليمان أَنَّ رَجُلًا مَاتَ فَأَتَتْ بِنْتُ أُخْتِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمِيرَاثِ فَقَالَ لَا شَيْءَ لَكِ اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ. ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مشاركة الأنثى لأخيها أثبتت في الميراث في انْفِرَادِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ بَنَاتَ الِابْنِ يَسْقُطْنَ مع البنين وإن شاركهن ذكورهن وصرن به عصبة فلما كان بنات الإخوة والأعمام يسقطون مَعَ إِخْوَتِهِنَّ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطْنَ بِانْفِرَادِهِنَّ وتحريره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ أُنْثَى أَسْقَطَهَا مَنْ فِي درجتها بالإدلاء سَقَطَتْ بِانْفِرَادِهَا كَابْنَةِ الْمَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَرِثْ بِانْفِرَادِهِ كَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ؛ ولأن كل ولادة لم يحجب بِهَا الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ لَمْ يُوَرثْ بِهَا كَالْوِلَادَةِ مِنْ زِنَا؛ وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ فَوَجَبَ أن يكون من مناسبه مَنْ لَا يَرِثُ كَالْمَوْلَى يَرِثُ ابْنَهُ وَلَا يرث بِنْتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ كَالْمَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عن قوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ نَسْخُ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْهِجْرَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِمَا أَعْيَانَ مَنْ يستحق الميراث من المناسبين لنزولهما قبل أي المواريث. والثاني: أن قولهم: {بعضهم أولى ببعض} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيعَابِ. والثالث: أنه قال: {في كتاب الله} وكان ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِيهِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ حَقٌّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْلَى} محمول على ما سوى الميراث من الحصانة وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا دُونَ الْمِيرَاثِ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَا هُمْ بِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ " فَمِنْ وجهين: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلسَّلْبِ وَالنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْخَالَ لَيْسَ بِوَارِثٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ الْجُوعُ طَعَامُ مَنْ لَا طَعَامَ لَهُ وَالدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لا حيلة له يعني أن ليس طعام وَلَا دَار وَلَا حِيلَة. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ جعل الميراث للحال الذي يعقل وإنما يَعْقِلُ إِذَا كَانَ عَصَبَةً وَنَحْنُ نُوَرِّثُ الْخَالَ إِذَا كَانَ عَصَبَةً وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي خَالٍ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ فَكَانَ دَلِيلُ اللَّفْظِ يُوجِبُ سُقُوطَ ميراثه. فأما الجواب عن دفعه ميراث أبي الدَّحْدَاحِ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا لَا مِيرَاثًا، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَا وَارِثَ لَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ عَلَى أنها قضية عين قد يجوز أَنْ يُخْفَى سَبَبُهَا فَلَا يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهَا وَكَانَ ذَلِكَ كَالَّذِي رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا له كان أعتق فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَلْ لَهُ أَحَدٌ " قَالُوا: لَا إِلَّا غُلَامًا له كَانَ أَعْتَقَهُ فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ميراثه له ومعلوم أنه لا يستحق مِيرَاثًا لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمِيرَاثِهِ فَقَالَ: " الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ " فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ وَارِثًا وَلَا ذَاتَ رَحِمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أعطوه الكبر من خزاعة " فميز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْوَارِثِ وَذِي الرَّحِمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غير وارث ثم دفع ميراثه إلى الكبر مِنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمِيرَاثٍ مُسْتَحِقٍّ وَهَكَذَا مَا دَفَعَهُ إِلَى ابْنِ الْأُخْتِ وَالْخَالِ لِأَنَّهُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِعْطَائِهِمْ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي إِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الخالة وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سِوَى الْمِيرَاثِ مِنَ الْحَضَانَةِ وَإِلَّا فَلَيْسَتِ الْخَالَةُ كَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ فَعُلِمَ أن مراده به غير الميراث فأما قياسهم بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ فَمُنْتَقِضٌ بِبِنْتِ الْمَوْلَى ثم المعنى في العصبة تقديم عَلَى الْمَوْلَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَدَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَمَّا شَارَكَتِ الْعَصَبَةَ كَانَتْ وَارِثَةً وليس ذووا الأرحام مثلها. وأما الجواب عن قولهم إنهم سَاوَوْا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَفْسُدُ بِبِنْتِ الْمَوْلَى، لِأَنَّهَا قَدْ فَضلتهُمْ مَعَ الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ لَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ عَلَى أن المسلمين فضلوهم بالتعصب لأنهم يعقلون وكانوا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وَرَثَتَهُ لِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ لَهُمْ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ بِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ بِإِجْمَاعٍ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ، لأنه معروف في مصالح جميعهم والله أعلم. فصل: القول في الرد وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ فَالرَّدُّ مُلْحَقٌ بِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وكل مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ بِالرَّدِّ وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَنَعَ مِنَ الرَّدِّ. وَالرَّدُّ: هُوَ أَنْ تَعْجِزَ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَصَبَةٌ كَالْبِنْتِ الَّتِي فَرْضُهَا النِّصْفُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا غَيْرُهَا وَقَدْ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ فَرْضِهَا فَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا أَمْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُ فَرْضِهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَدَاوُدَ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُرَدُّ مَا فَضَلَ مِنْ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِهِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء على خلاف بينهم في مستحقي الرد منهم، واستدلوا جميعا بوجوب الرَّدِّ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمَا تَقَدَّمَ من عموم قوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَبِمَا رُوِيَ أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فترك أُمَّهُ فَوَرَّثَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالَهُ كُلَّهُ قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مُنَاسِبٍ وَرِثَ بَعْضَ الْمَالِ مَعَ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَرِثَ جَمِيعَهُ إِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كَالْعَصَبَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جاز أن ينفقوا من فروضهم بالعدل عِنْدَ زِيَادَةِ الْفُرُوضِ عَلَى التَّرِكَةِ جَازَ أَنْ يُزَادُوا بِالرَّدِّ عِنْدَ عَجْزِ الْفُرُوضِ عَنِ التَّرِكَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَسمَ فُرُوضَ ذَوِي الْفُرُوضِ سَمَّاهُ فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ أَعْطَى اللَّهُ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّى لَهُ فَرْضًا فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ غَيْرِهِ إِلَّا بِالْفَرْضِ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهِ إِلَّا ذَلِكَ الْفَرْضَ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا بِوفاقٍ وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ حُجِبَ عَنْهُ الشَّخْصُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ حُجِبَ عَنْهُ وَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ كَالْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ولأن كل من تجردت رحمه عن تعصيب لما يَأْخُذْ بِهَا مِنْ تَرِكَةٍ حَقَّيْنِ كَالْأُخْتِ لِلْأَبِ والأم لا تأخذ النصف لأنها أخت الأب والسدس لأنها أخت الأم فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى ميراث سالم إلى أمه فلمصلحة يراها مَنْ يَتَوَلَّى مَصَالِحَ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا دَفَعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ميراث الخزاعي إلى الكبر مِنْ خُزَاعَةَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَصَبَةِ فَالْمَعْنَى فيهم إنما يستحقونه غير مقدر وليس كذلك ذووا الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا جاز أن ينفقوا بالعدل جاز أن يزادوا بالرد، فالجواب عنه للزيادة جهة يستحقها وَهِيَ بَيْتُ الْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّقْصِ جِهَةَ تَمَامٍ جَازَ عَوْلُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا إِذَا ضاق بِهِمْ دَخَلَ الْعَوْلُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ زَادَ عَنْهُمْ لَمْ يَجُزِ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وبالفاضل عن ذوي السهام وأنه يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لَا فَيْئًا وَهَكَذَا مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ صَارَ مَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا وَقَالَ بَعْضُ الناس يكون فيئا لا ميراثا لأمور. منهما: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَعْضِهِمْ وَلَوَجَبَ أَنْ يُفَضَّلَ فيه الذكر على الأنثى ولا يفرد بِهِ أَهْلُ عَصْرِ الْمَيِّتِ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَيْءٌ لَا مِيرَاثٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فَكَانَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمْ تَمْنَعُ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُ مَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ مِيرَاثًا كَالْعَصَبَةِ، وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهُ إلى بيت المال فيئا كالزكاوات. وأما الجواب عن استدلالهم فهو أن تعيين الْوَارِث يَقْتَضِي مَا ذَكَرُوهُ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لم يقتضيه. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ إذا كان موجودا يصرف الْإِمَامُ الْعَدْلُ أَمْوَالَهُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 حُقُوقِهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَعْدُومًا بِالْجَوْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَفَسَادِ الْوَقْتِ وَصَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حُقُوقِهَا وَالْعُدُولِ بِهَا عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا يوجب توارث ذَوِي الْأَرْحَامِ وَرَدّ الْفَاضِل عَلَى ذَوِي السِّهَامِ وَهَذَا قَوْلٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَفَرَّدَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَنْ جَذَبَهُ الْمَيْلُ إِلَى رَأْيِهِ فَأَقَامَ عَلَى مَنْعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْمَنْعُ مِنْ رَدِّ الْفَاضِلِ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ فِي جِهَاتٍ بَاقِيَةٍ إِذَا عُدِمَ بَيْتُ المال لم يبطل استحقاق تلك الجهات ووجب صرف ذلك المال فيها كالزكوات الَّتِي لَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَوَجَبَ صَرْفُهَا فِي جِهَاتِهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَاسِدٌ من ثلاثة أوجه. أحدها: مَا يَسْتَحِقُّ صَرْفُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِذَا بَطَلَ التَّعْيِينُ سَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ علمَ أَنَّ الْجِهَةَ لَا تُعْدَمُ كَالْعَرَبِيِّ إِذَا مَاتَ علمنا أن له عصبة ذكورا غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا سَقَطَ حَقهم وَانْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ جهتهم وَكَذَلِكَ جِهَاتُ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ سَقَطَ حَقُّهَا وانصرف ذلك إلى غيرها وليس كذلك الزكوات لتعيين جِهَاتِهَا وَقَطْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مَعَ التَّعْيِينِ وَإِنْ عُدِمَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِمَصْرِفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ مِنْ جِهَاتِهِ إِذَا عُدِمَ الْقَيِّمُ مِنَ الْوُلَاةِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَلَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مَا كَانَ لَازِمًا لِلْوُلَاةِ وَلَيْسَ لِمَالِ الْمَيِّتِ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ مَالٌ بِجِهَةٍ لَا تتعين بوصف ولا باجتهاد باطن لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ عَنْ جِهَتِهِ فَاعْلَمْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِنَّمَا كَانَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَصَارَ مِيرَاثُهُ لَهُ فَلَمَّا كان عدم بيت المال يسقط الْعَقْلَ عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ الْمِيرَاثَ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتًا وَكَانَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ عَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَاجِبًا فَهَكَذَا رَدُّ الْفَاضِلِ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ تَوْرِيثِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ فِي بَابِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ دِقَّةً وَاسْتِصْعَابًا وَلَعَلَّهَا هِيَ الصَّارِفَةُ لِمَنْ مَنَعَهُمُ الْمِيرَاثُ عِنْدَ عُدْمِ بَيْتِ الْمَالِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْكَافِرُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَا يرث الكافر المسلم وبه قال محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَمَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " الإسلام يزيد ولا ينقص " قال وكما يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الذِّمِّيَّةَ وَلَا يَجُوزَ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 وَلِأَنَّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ إِلَى المسلمين فَهَذَا أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ ". وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا المسلم الكافر فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ رحمه الله تعالى وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ حَتَّى قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَاجَعَ السُّنَّةَ الْأُولَى ثُمَّ أَخَذَ بِذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَامَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مِلَّتَيْنِ امْتَنَعَ الْعَقْلُ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا كَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِ التَّوَارُثَ وَلِأَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ فَلَمَّا لَمْ يَتَوَارَثِ الذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابٌ. أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُصُ بِالْمُرْتَدِّينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَا يُفْتَحُ مِنَ الْبِلَادِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْكِحُ الْحَرْبِيَّةَ وَلَا يَرِثُهَا، وَقَدْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ وَلَا يَرِثُهَا، وَأَمَّا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تصير إِلَيْنَا إِرْثًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ غَنِمَ مَالَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَرِثُ الذِّمِّيَّ وَلَا يَغْنَمُ مَالَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَبِرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مِلَّةً وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ مِلَلًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَنَوَّعَ أَهْلُهُ وَبِهِ قَالَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مذهب أبي حنيفة وصاحبه. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكُفْرُ مِلَلٌ فَالْيَهُودِيَّةُ مِلَّةٌ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مِلَّةٌ وَالْمَجُوسِيَّةُ مِلَّةٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّقَاطُعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 بَيْنَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] وَتَقَاطُعُهُمْ يَمْنَعُ مِنْ تَوَارُثِهِمْ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ شَرَائِعِهِمْ يُوجِبُ اخْتِلَافَ مِلَلِهِمْ، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ كَالَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِلَلُهُمْ مُخْتَلِفَةً. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وقال الله تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] فَجَمَعَهُمَا وَرَوَى عَمْرُو بن مرة عن أبي البختري الطائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الناس خير وأنا وأصحابي خير " وَلِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْكُفْرِ وَإِنْ تَنَوَّعُوا كَمَا أن المسلمون مُشْتَرِكُونَ فِي الْحَقِّ وَإِنْ تَنَوَّعُوا وَلَيْسَ التَّبَايُنُ بَيْنَهُمْ بِمَانِعٍ مِنْ تَوَارُثِهِمْ كَمَا يَتَبَايَن أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافَ تَوَارُثِهِمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِسْلَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَارُثِهِمْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يتوارثون منهم وَأَهْل الْعَهْدِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ دِيَارِهِمْ وَأَهْلَ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وإن اختلفت ديارهم وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعَهْدِ لَا تَوَارُثَ بَيْنِهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ ما لم يختلف بِهِمُ الدَّارُ، وَاخْتِلَافُ دَارِهِمْ يَكُونُ بِاخْتِلَافِ مُلُوكِهِمْ وَمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الدِّينِ كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ فَلَا يُوَرَّثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَصْلٌ: فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ إِذَا مَاتَ يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَرَكَ أُمًّا مِثْلَهُ يَهُودِيَّةً وَابْنًا مُسْلِمًا وَأَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ أَحَدُهُمْ يَهُودِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ مُعَاهَدٌ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ حَرْبِيٌّ فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنِهِ الْمُسْلِمِ وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْيَهُودِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي مِلَّتِهِ وَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ سِوَاهُ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ أَخِيهِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ، لِأَنَّهُ مُعَاهَدٌ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ إخوته الثلاثة اليهودي، والنصراني، والمجوسي المعاهد، لأنه أَهْلَ الْعَهْدِ يَرِثُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ. فَصْلٌ: وَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَثَنِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَأُمًّا يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَابْنًا مُسْلِمًا وَبِنْتَ ابْنِ وَثَنِيَّةٍ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَعَمًّا نَصْرَانِيًّا منْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ النَّصْرَانِيِّ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِبِنْتِ ابْنِهِ النِّصْفُ، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ ولا شيء لزوجته ولا أخيه الوثني، لنه لَا يُوَرّثُ أَهْل الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِزَوْجَتِهِ الرُّبُعُ، لِأَنَّهَا مُعَاهَدَةٌ وَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ وَأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ الْمُعَاهَدِ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ ابْنِهِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ عنده من عبدة الأوثان. فَصْلٌ: فَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَتَرَكَ ابْنًا مُسْلِمًا وَابْنًا نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا إِجْمَاعٌ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَرِثْهُ وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ أُعْتِقَ فَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَرثَهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَرِثْهُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُمْ وَرثوا مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أُعْتِقَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَحُكِيَ عَنْ إِيَاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُمْ وَرَّثُوا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يُوَرِّثُوا مَنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ " وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى ما قسم له وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنَهُ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ " وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ " وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ بالمورث إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ لَا بِالْقِسْمَةِ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقِسْمَةِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَنْ هُوَ وَارِثٌ، وَلِأَنَّهُ إِنْ وُلِدَ لِلْمَيِّتِ إِخْوَةٌ قبل قسمة تركته لا يرثوه فهذا كما لَوْ أَسْلَمُوا لَمْ يَرِثُوهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ أسلم قبل موت مورثه رَغْبَةً فِي الْمِيرَاثِ فَهُوَ لَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا وَرِثُوا مَيِّتَهُمْ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَانَ عَلَى جاهليتهم، وَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ قِسْمَتِهِ اقْتَسَمُوهُ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ ذِمِّيٌّ وَلَا وَارِثَ لَهُ كَانَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا وَيُصْرَفُ مَصْرَفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 الْفَيْءِ فَلَوْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ مُسْلِمُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيمَا صَارَ مِنْهُ إِلَى بَيْتِ المال حق وهكذا إذا كَانَ عَصَبَةُ الذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ مِنْهُ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا وَلَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ اسْتَحَقُّوا مِيرَاثَهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَيْنَا فِي مِيرَاثِ مَيِّتٍ مِنْهُمْ وَلَهُ وَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يُوَرَّثْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ كَمَا لَا نُوَرِّثُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَقَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مع اتفاق دارهم واختلافا وتباين أناسهم واتفاقها كالروم والترك والهند وَالزِّنْجِ. وَقَطَعَ أبو حنيفة التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَالْمُتَبَايِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَلَمْ يُوَرِّثِ التركي من الرومي ولا الزوجي مِنَ الْهِنْدِيِّ، وَهَذَا قَوْلٌ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يُجْعَلَ الْكُفْر مِلَلًا وَهُوَ لَا يَقُولُهُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَمْلُوكُونَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ الْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ كَانَ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ مِلْكًا وَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ وَهَذَا إِجْمَاعٌ فَأَمَّا إِذَا مَاتَ لِلْعَبْدِ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ لَمْ يَرِثْهُ الْعَبْدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَبُو الْعَبْدِ وأخوه اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَأَعْتَقَ وَجَعَلَ لَهُ ميراثه فاختلف أصحابنا هل قال ذلك استحبابا أو واجبا فقال بعضهم ذهبنا إلى استحبابه رأيا وقال آخرون: بل ذهبنا إِلَيْهِ وَاجِبًا وَقَالَاهُ مَذْهَبًا حَتْمًا، وَبِوُجُوبِ ذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُورثُ [فِي حَالِ رِقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ] لَا يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ بِالتَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا ابتياعه وعتقه، وهذا غير لازم مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ عَبْدِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بِيعَ مِنْ سَيِّدِهِ لَكَانَ يَرِثُ مُعْتَقًا بَعْدَ الْمَوْتِ وهذا دليل عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَكَالْعَبْدِ لَا يَرِثُ وَلَا يُورثُ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ وَلَا تُورثُ فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ لَا يَرْثِ وَلَا يُورثُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِذَا كُتِبَتْ صَحِيفَةُ الْمُكَاتِبِ عَتقَ وَصَارَ حُرًّا يرث ويورث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أدى وَيَرِثُ بِهِ ويرق منه بقدر ما بقي ولا يرث به. وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ عَتَقَ وَوَرِثَ وَإِلَّا فَهُوَ عَبْدٌ لَا يَرِثُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ لَمْ يَرِثْهُ. قَالَ: وَإِنْ مَاتَ أَدَّى مِنْ مَالِهِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَمَنْ كَانَ حُرًّا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ دُونَ مَنْ كَانَ حُرًّا. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ درهم؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ الرِّقُّ مِنْ أَنْ يَرِثَ منعه الرق أَنْ يُوَرَّثَ كَالْعَبْدِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ منه ويحجب به، قَالَ الْمُزَنِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ كَالْأَحْرَارِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رحمة الله عليهما أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تُكْمَلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ حُرٌّ وَتَرَكَ ابْنًا حُرًّا وَابْنًا نَصْفُهُ حُرٌّ فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ مَقْسُومٌ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ لِلْحُرِّ ثُلُثَاهُ وَلِلَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ ثُلُثُهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْحُرِّ وَحْدَهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا نِصْفُهُ حُرٌّ وَعَمًّا حُرًّا، على قَوْلِ الْمُزَنِيِّ لِلِابْنِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِلِابْنِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حرا وَعَمًّا حُرًّا فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ لِلِابْنَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْعَمِّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا نِصْفَ الحرية والنصف الآخر للعم. والوجه الثاني: أن يَجْمَعَ حُرِّيَّتَهُمَا فَيَكُونُ حُرِّيَّةُ ابْنٍ تَامٍّ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا وَبِنْتًا نَصِفُهَا حُرٌّ، فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْحُرِّ من الابنين، وفيه على قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلِابْنِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْمَالِ، وَلِلْبِنْتِ السُّدُسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبِنْتَ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَكَانَ لِلِابْنِ الثُّلُثَانِ، وَلَهَا الثلث، ولو كانت أمة لكان لِلِابْنِ جَمِيعُ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِنِصْفِ الْحُرِّيَّةِ النِّصْفُ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بِجَمِيعِ الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ السُّدُسُ وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْآخَرُ عَلَى الِابْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلِابْنِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ وَلِلْبِنْتِ الْخُمُسُ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ حُرِّيَّةَ الْبِنْتِ لَوْ كَمُلَتْ قَابَلَتْ نِصْفَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ فَصَارَ نِصْفَ حُرِّيَّتِهَا يُقَابِلُ رُبُعَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ، فَيُقَسِّمُ الْمَالَ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَرُبُعٍ فَيَصِيرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُعْتَقُ نِصْفُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِحُرِّيَّتِهِ لَمْ يرث بهما. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يكون مورثا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَكُونُ مَا كَانَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ مُنْتَقِلًا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ وَلَا يُوَرَّثُ عَنْهُ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ رِقِّهِ فَكَانَ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ بَيْتَ الْمَالِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ أراه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والقاتلون عمدا أو خطأ ومن عمي موته كل هؤلاء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الأمة أن قاتل العمد لا يرث عن مَقْتُولِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ وإن ورث غيره الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ توريث القاتل عمدا استصحابا لحاله قَبْلَ الْقَتْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ. وَرَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ والده أو ولده فليس لقاتل ميراث " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقَاتِلُ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْ أَخِيهِ وَلَا مِنْ ذِي قَرَابَتِهِ وَيَرِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ نسبا بعد القاتل "؛ لأن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ تَوَاصُلًا بَيْنَ الأحياء والأموات لاجتماعهم على المولاة والقاتل قاطع للموالاة عَادِلٌ عَنِ التَّوَاصُلِ فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَرَّثَ الْقَاتِلَ لَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى قَتْلِ كُلِّ مُوَرِّثٍ رَغِبَ وَارِثُهُ فِي اسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى مِثْلِ هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقَاتِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ قَاصِدًا لِلْإِرْثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَيَرِثُ وَكَذَلِكَ الْعَادِلُ إِذَا قَتَلَ بَاغِيًا وَرِثَهُ وَلَا يَرِثُ الْبَاغِي إِذَا قَتَلَ عادلا، ومال أبو يوسف ومحمد بن الحسن [إلى] إرث الْبَاغِي الْعَادِل كَمَا يَرِثُ الْعَادِلُ الْبَاغِي إِذَا كانا متأولين. وقال الشافعي: كل قاتل يطلق عَلَيْهِ اسْمُ الْقَتْلِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ عَامِدٍ أَوْ خَاطِئٍ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يرث الزوج زَوْجَته مَالَهَا وَدِيَتَهَا وَتَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا مَالَهُ وديته ". فإن قتله أحدهما عمدا لم يرثه وإن قتل خطأ ورث ماله دون ديته وَهَذَا نَصٌّ إِنْ صَحَّ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ وَالْخَاطِئُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ " وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ قَالَ: " قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهُ ". وقال: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا قَتَلْتُهُ خَطَأً " قَالَ: " لَوْ قَتَلْتَهُ عَمْدًا لَأَقَدْنَاكَ بِهِ " وَرَوَى خِلَاسٌ " أَنَّ رَجُلًا قَذَفَ بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيُّ بِنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ " وَقَالَ: " إِنَّمَا حَظُّكَ مِنْ مِيرَاثِهَا ذَاكَ الْحَجَرُ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إِرْثُهُ عَنْ دِيَةِ مَقْتُولِهِ سَقَطَ عَنْ سائر ماله كالعامد لأن كُلَّ مَالٍ حُرِمَ إِرْثُهُ لَوْ كَانَ عَامِدًا حُرِمَ إِرْثُهُ وَإِنْ كَانَ خَاطِئًا كَالدِّيَةِ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع عن أمتي الخطأ " فَمَعْنَاهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شعيب فمرسل وراوية مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْمَصْلُوب صُلِبَ فِي الزَّنْدَقَةِ عَلَى مَا قِيلَ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ لَحُمِلَ عَلَى إِرْثِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ صَدَاقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أنَّ الْخَاطِئَ لَا يُعَاقَبُ بِمَنْعِ الْمِيرَاثِ قُلْنَا هَلَّا أَنْكَرْتُمْ بِذَلِكَ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَرِثَ وَهَكَذَا مَنْ قَتَلَ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحتلم وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " فَاقْتَضَى عُمُومُ ذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عُقُوبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْقَتْلِ سَقَطَتْ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْقَوَدِ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ ". وَلِأَنَّ مَوَانِعَ الْإِرْثِ يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ، ولأنه قتل مضمون وجب أن يمنع الإرث كالبالغ العاقل ولأن كل فِعْل لَوْ صَدَرَ عَنِ الْكَبِيرِ قَطَعَ التَّوَارُثَ فَإِذَا صَدَرَ عَنِ الصَّغِيرِ وَجَبَ أَنْ يَقْطَعَ التَّوَارُثَ. أَصْلُهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ من الإرث لا يخلو أن يكون بمكان الإرث فَهُوَ مَا يَقُولُهُ مَنْ مَنَعَ الْإِرْثَ لِكُلِّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ يَكُونُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ مِنَ الْخَاطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِمْ وَتظَاهِرهمْ بِمَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا خَفِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَارَ التَّحْرِيمُ عاما كالخمر التي حرمت ولأنها تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَحَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَابَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وإن كان قليلا لا يصد لاشتباه الأمر بما يصد. فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع القلم عن ثلاث " فإنما أراد به رفع المأثم، وليس رفع الْإِرْثِ مُتَعَلِّقًا بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ كَالْخَاطِئِ وَالنَّائِمِ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمَا وَلَوِ انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَرِثْهُ بِوِفَاقٍ مِنْ أبي حنيفة، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَنْعَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ فَأَشْبَهَ الْقَوَدَ، لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَتْلِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوجِبَ الضَّمَانَ، كرجل حفرا بئرا في ملكه فسقط فيه أَخُوهُ أَوْ سَقَطَ حَائِطُ دَارِهِ عَلَى ذِي قرابته أو وضع في داره حجر فَعَثَرَ بِهِ فَإِذَا مَاتَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى الْقَتْلِ لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَوَضْعِهِ حَجَرًا فِي طَرِيقٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَوْ سُقُوطِ جَنَاحٍ مِنْ دَارِهِ فَإِذَا هَلَكَ بِذَلِكَ ذُو قَرَابَتِهِ لم يرثه عند الشافعي وورثه أبو حنيفة. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: مَا كَانَ فِيهِ مُتَّهَمًا لَمْ يَرِثْهُ بِهِ وَمَا كان منه غير متهم فيه ورثه هذا يَنْكَسِرُ بِالْخَاطِئِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي عَقْلٍ أَوْ جُنُونٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلًا هُوَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كالقود إذا أوجب لَهُ فَلَا يَرِثُ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون قتلا واجبا كالحاكم والإمام إِذَا قَتَلَ أَخَاهُ قَوَدًا لِغَيْرِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا مِيرَاثَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ قَتَلَهُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ متهومٌ فِي تَعْدِيلِهَا وإن قتله بإقراره ورثه لأنه غير متهوم. فَصْلٌ: فَمِنْ فُرُوعِ مَا مَهَّدْنَاهُ أَنَّ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ لَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُمْ عَمْدًا كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخَوَيْنِ سِوَى الْقَاتِلِ، وَلَهُمَا قَتْلُ الْقَاتِلِ فَإِنْ قَتَلَاهُ قَوَدًا لَمْ يَرِثَاهُ فَلَوْ لَمْ يَقْتُلَاهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ مِيرَاثُهُ بين القاتل والثاني مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مَقْتُولَهُ، وَيَرِثُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ لِلْأَخِ الْبَاقِي أَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرِثَ مِنْ أَخِيهِ نِصْفَ حق وَذَلِكَ رُبُعُ دَمِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ نَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ أبيه نصفه لميراثه عَنْ أَبِيهِ وَرُبُعُهُ بِمِيرَاثِهِ عَنْ أَخِيهِ. فَصْلٌ: وَمِنْ فُرُوعِهِ أَيْضًا لَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ قَتَلَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ أُمَّهُمْ عَمْدًا وَأَبُوهُمْ وَارِثُهَا كَانَ مِيرَاثُ الْأُمِّ بَيْنَ زَوْجِهَا وابنها وبنتها عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ فَلَوْ لَمْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ حَتَّى مَاتَتِ الْأُخْتُ كَانَ لِلْأَبِ وَالْأَخِ غَيْرِ الْقَاتِلِ أَنْ يَقْتُلَاهُ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُخْتِ صَارَ إِلَى الأب فلم يرث القاتل منه شَيْئًا فَلَوْ مَاتَ الْأَبُ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ صَارَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيهِ، وَصَارَ لِلْأَخِ عَلَى الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ الأم، لأن الأب قد كان ورث منهما بالزوجية الربع وورث عن بِنْتِهِ الرُّبُعَ فَصَارَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ النِّصْفُ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنِ النِّصْفِ فَصَارَ بين القاتل والأخ نصفين والله أعلم. مسألة: قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُهُ صنفان عرقى وَمَفْقُودُونَ. فَأَمَّا الْغَرْقَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ فِي حَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حالهم من أربعة أقسام: أحدهما: أن يعلم ويتيقن مَوْتهُمْ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَتَأَخَّرَ فَهَذَا يُوَرّثُ الْمُتَأَخِّر مِنَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يُوَرّثُ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ يَقِينُ مَوْتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضهم عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا يُقْطَعُ فِيهِ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ بِإِجْمَاعٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يقطع أَيُّهُمْ مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَطْرَأَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَهَذَا يُوقِفُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَيُقَسَّمُ مَا سِوَاهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَيَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَوْضُوعًا حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ أَوْ يَقَعَ فِيهِ الصُّلْحُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِمْ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتُوا مَعًا أَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَا يُعْلَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَيَدْفَعُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِ مَنْ هَلَكَ مَعَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالْحُسْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثابت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ وَالزُّهْرِيُّ. وقال إياس بن عبد الرحمن أُوَرِّثُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ تِلَادِ أَمْوَالِهِمْ ولا أورث ميتا من ميت مما وَرِثَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَيِّتِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِشْكَالَ التَّوَارُثِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْخُنَاثَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ التوارث بينهم أن من أشكل استحقاقه لَمْ يُحْكُمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ كَالْجَنِينِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَاتَ أَخُوهُ وَأَشْكَلَ هَلْ كَانَ عتقه قبل موته أو بعده لم يرثه بِالْإِشْكَالِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرِثْ بَعْضَ الْمَالِ لم يرث باقيه كالأجانب فأما الخناثى فَإِنَّمَا وَقَفَ أَمْرُهُ مَعَ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّ بَيَانَهُ مَرْجُوٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَرْقَى لِفَوَاتِ الْبَيَانِ. فَصْلٌ: وَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِقَ أَخَوَانِ أَحَدهُمَا مَوْلَى هَاشِمٍ وَالْآخَرُ مَوْلَى تَمِيمٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يُقْطَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَيُجْعَلُ ميراث الهاشمي لمولاه وميراث التميمي أولاه، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ، وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَالَ: مِيرَاثُ الْهَاشِمِيِّ لِأَخِيهِ التَّمِيمِيِّ، ثُمَّ مات التميمي يورثه مولاه، وَمِيرَاثُ التَّمِيمِيِّ لِأَخِيهِ الْهَاشِمِيِّ ثُمَّ مَاتَ الْهَاشِمِيُّ فورثه مولاه ثم مات التميمي وورثه مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى أَخِيهِ، فَلَوْ خَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةً وَبِنْتًا: فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ: يَجْعَلُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِزَوْجَتِهِ مِنْهُ الثُّمُنَ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ وَأَخِيهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ كل واحد منهما من زوجته وبنته وأخيه لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وللأخ ثلاثة أسهم ثم تقسم أَسْهُمُ الْأَخِ الثَّلَاثَة بَيْنَ الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَهُمْ زَوْجَةٌ، وَبِنْتٌ، وَمَوْلَى فَتَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وهي غير منقسمة عليهم وَلَا مُوَافِقَةٍ، فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي ثَمَانِيَةٍ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ سَهْمًا، فَاقْسِمْ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ منهما على أربعة وستين، لزوجته ثمن ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلِأَخِيهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ من ورثته معهم زوجته وَبِنْتٌ وَمَوْلَى، فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، وَلِمَوْلَاهُ مَا بَقِيَ وَهُوَ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَفْقُودُ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهَا، فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّرَ ذلك بزمان محصور وهذا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ. وَقَالَ أبو يوسف: يوقف تمام مائة وعشرون سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَبْلُغُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْعُمُرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 وقال عبد الملك بن الماحشون يُوقِفُ تَمَامَ تِسْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُوقِفُ تَمَامَ سَبْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّحْدِيدِ فَاسِدَةٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَإِمْكَانِ التَّجَاوُزِ لَهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ إِلَيْهَا قَسَمَ مَالَهُ حِينَئِذٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ مَاتَ لِلْمَفْقُودِ مَيِّتٌ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ وَجَبَ أَنْ يُوقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، فَإِنْ بَانَ حَيًّا كَانَ لَهُ وَارِثًا، وَإِنْ بَانَ مَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ رُدَّ عَلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْكَلَ حَالُ مَوْتِهِ. فَصْلٌ: مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَزَوْجًا مفقودا، وعصبة، فقال إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَالتَّرِكَةُ مِنْ سَبْعَةِ أَسْهُمٍ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَانِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثلاثة، فاضرب ثلاثة في سبعة تكن إحدى وَعِشْرِينَ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَلَهُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا وَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَيُعْطى الْأُخْتَانِ أَقَلَّ الْفَرْضَيْنِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ سهما، لأنه اليقين، ولا يدفع للعصبة شيئا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَيًّا فَإِنْ بَانَ الزوج حيا فالتعسة كُلُّهَا لَهُ، وَإِنْ بَانَ مَيِّتًا ردَّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ سَهْمَانِ تَمَامُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَدَفَعَ إِلَى الْعَصَبَةِ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ. فَلَوْ خلفت المرأة زوجا، وأما، وأختا لِأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا فَالْعَمَلُ أن نقول: إذا كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ ال ْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْت لِلْأَبِ النِّصْفُ وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَالثَّمَانِيَةُ تُوَافِقُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْإِنْصَافِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى تَكُن اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهُوَ تِسْعَةٌ، وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَلِلزَّوْجِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ تِسْعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَأَعْطِهِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ وَلِلْأُمِّ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ سَهْمٌ فِي تِسْعَةٍ فَأَعْطِهَا تِسْعَةَ أَسْهُمٍ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ النصيبين وللأخ من الأم أَيْضًا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُخْتِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فِي أَرْبَعَةٍ، وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَأَعْطِهَا أربعة، لأنها أقلها وَيُوقِفُ الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ السِّهَامِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا أخذ ثلاثة أَسْهُمٍ ضِعْفَ مَا أَخَذَتْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 أُخْتُهُ وَأُعْطِيَ الزَّوْجُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ النِّصْفِ، وَأُعْطِيَتِ الْأُمُّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ السُّدُسِ، وَأُعْطِيَ الْأَخُ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دَفَعْتَ مَا وَقَفْتَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا إِلَى الْأُخْتِ حَتَّى يَتِمَّ لها تسعة وعشرون سهما هو تَمَامُ نَصِيبِهَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَخَ إِنْ كَانَ حَيًّا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ الْمَوْقُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، فَلَوِ اصْطَلَحَ الْوَرَثَةُ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ المفقود على ما بقي مِنَ السِّهَامِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا جَازَ الصُّلْحُ، لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لهم وإن اصطلح عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْمَفْقُوِدِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا لِغَيْرِهِمْ وَلَوْ خَلَّفت زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَيُوقِفُ السُّبُعُ فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دُفِعَ إِلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا ردَّ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَيَجُوزُ لَهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِ الْمَفْقُودِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى السَّهْمِ الْمَوْقُوفِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ للمفقود. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يَرِثْ بِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يَحْجُبْ، فَلَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ، وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَحْجُبُونَ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ، كَالزَّوْجِ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَالزَّوْجَةِ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَالْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يُسْقِطُونَ الْعَصَبَةَ كَالِابْنِ الكافر لا يسقط ابن الابن، واختلف الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَنْ كُلِّ الْفُرُوضِ، كَإِسْقَاطِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ بِالْبِنْتِ الْكَافِرَةِ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَجْبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ، كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ وَالدَّلِيلُ على إسقاط حجبهم قوله تعالى: {فإن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الْعَطْفِ كَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إرثه يعارض سَقَطَ حَجْبُهُ بِذَلِكَ الْعَارِضِ كَالْإِسْقَاطِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ الْإِسْقَاطِ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ النُّقْصَانِ، كَ " ذَوِي الْأَرْحَامِ "، وَلِأَنَّ كُلَّ وَارِثٍ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَحْجُبُ إِذَا وَرِثَ لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا وَرِثَ مَعَ أَخِيهِ فَقَدْ حَجَبَهُ عَنِ الْكُلِّ إِلَى النِّصْفِ، فَلَمَّا ضَعُفَ الْكَافِرُ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُساويهِ فِي النَّسَبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي النَّسَبِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ فَلَمْ يَسْقُطُوا لِأَنَّهُمْ غَيْرُ وَرَثَةٍ، لَكِنَّ الْأَبَ حَجَبَهُمْ عَنْهُ، أَلَا تَرَى لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَبٌ لَوَرِثُوا فَبَانَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا ترث الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَلَا مَعَ الْوَلَدِ وَلَا مَعَ وَلَدِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال الإخوة والأخوات ثلاثة أصناف: صِنْفٌ يَكُونُونَ لِأَبٍ وَأُمٍّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 وَيُسَمُّونَ بَنِي الْأَعْيَانِ. سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ أَيْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات " وَالصِّنْفُ الثَّانِي الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يُسَمُّونَ بَنِي العلات، يسموا بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ تعِلَّ الْأُخْرَى، أَيْ لَمْ تسْقِهِ لَبَنَ رَضَاعِهَا، وَالْعَلَلُ الشُّرْبُ الثَّانِي وَالنَّهَلُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَالَ الشاعر (والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمجفو ومحقور) (وهم بنو أم من أمسى له نشب ... فذاك بالغيب محظوظ وَمَنْصُورُ) (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنِ ... وَالْخَيْرُ متبع والشر محظور) والصنف الثالث الإخوة والأخوات للأم يسمون بني الأخياف، والأخياف الأخلاط، لأنهم مِنْ أَخْلَاطِ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ هُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْفُ مِنْ منى لِاجْتِمَاعِ أخلاط الناس فيه، وقيل: اختلاط الألوان الخافية وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (النَّاسُ أَخْيَافٌ وَشَتَّى فِي الشِّيَمِ ... وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُهُمْ بَيْتُ الْأُدُمِ) يَعْنِي: أَنَّهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْهُمُ الْجَيِّدُ، وَمِنْهُمُ الرَّدِيءُ، كَبَيْتِ الْأَدَمِ الَّذِي يَجْمَعُ الْجِلْدَ كُلَّهُ، فَمِنْهُ الْكُرَاعُ وَمِنْهُ الظَّهْرُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ فَيَسْقُطُونَ مَعَ أَرْبَعَةٍ: مَعَ الْأَبِ، وَمَعَ الْجَدِّ، وَمَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَمَعَ وَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك فهم في شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ "، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ تَفْسِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تِلَاوَةً، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك منهم شركاء في الثلث} . فَصْلٌ: وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا فَقَالَ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ يَعْنِي: قَوْلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَلَمْ يَفْهَمْهَا عُمَرُ وَقَالَ لِحَفْصَةَ رضي الله عنهما إِذَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طيب نفسه فاسأليه، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فَقَالَ لَهَا: أَبُوكِ كَتَبَ لَكِ هَذَا مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا أرَانِي أَعْلَمُهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 أَبَدًا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا قَالَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثلاث لأن يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَّنَهُنَّ أَحَبّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا الْكَلَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَالرِّبَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَزِدْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيَانِ الْكَلَالَةِ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ مَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ قَصرَ عَنْ إِدْرَاكِهِ لِعَارِضٍ، وَقَدِ اخْتلفَ فِي الْكَلَالَةِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرُّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا دُونَ الْوَلَدِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَالَةُ وَلَدُ الْأُمِّ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امرأة وله أخ أو أخت} [النساء: 12] يعني في أُمٍّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَلَالَةَ. وَقَالَ الجمهور: إن الكلالة ما عَدَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وعلي ويزيد وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَمَالِكٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ولد الأم لما سقطوا مع الوالد لسقوطهم مَعَ الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عدا الوالد والولد وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ عن عمرو ابن شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَخُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنَ الْكَلَالَةِ " وَلِأَنَّ الْكَلَالَةَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلّلَ النَّسَب تَشبيهًا بِتَكَلُّلِ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ عَلَى عَمُودِهَا فَالْوَالِدُ أصلها والولد فرعها من سِوَاهُمَا مِنَ الْمُنَاسِبِينَ كَالْأَغْصَانِ الْمُتَكَلِّلَةِ عَلَيْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَالَةَ منْ تَكَلَّلَ طَرَفَاهُ فَخَلَا عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَقِيلَ إِنَّ الْكَلَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ فَسُمِّيَ هَؤُلَاءِ كَلَالَةً لِإِحَاطَتِهِمْ بِالطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وُصُولِ الْخِلَافَةِ إِلَيْهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ: (ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابن مَنَافٍ عَبْد شَمْس وَهَاشِمِ) وَقَالَ الْآخَرُ: (فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ ... وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ) يَعْنِي: مَوْلَى غَيْرِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَالَةُ اسْمُ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وبه قال أبو بكر وعلي وزيد ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12] فَجَعَلَ ذَلِكَ صِفَةً لِلْمَوْرُوثِ وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً لِلْوَارِثِ لَقَالَ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَرِثُهُ كَلَالَةً وَلِأَنَّهُ يُقَالُ عَقِيمٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَيَتِيمٌ لِمَنْ لَا وَالِدَ لَهُ، وَكَلَالَةٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 وَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قل: {يستفتونك قال اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَكَانَتِ الْفُتْيَا عَنِ الْكَلَالَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ فِي وَلَدِ الْأَبِ. وقال آخرون: الكلالة من الأسماء المشتركة تنطلق على الميت إذا لم يترك ولد ولا والد وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، لِاحْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ. قَالُوا: فَالْكَلَالَةُ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12] اسْمٌ لِلْمَيِّتِ وَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} اسم للورثة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا تَرِثُ الْإِخْوَةُ وَلَا الْأَخَوَاتُ مَنْ كَانُوا مَعَ الْأَبِ وَلَا مَعَ الِابْنِ وَلَا مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا صَحِيحٌ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَسْقُطُونَ مَعَ ثَلَاثَةٍ مَعَ الِابْنِ دُونَ الْبِنْتِ وَمَعَ ابْنِ الِابْنِ وَمَعَ الْأَبِ وَلَا يَسْقُطُونَ مَعَ الْجِدِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ تَشِذُّ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ إِخْوَةٌ حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ وَاسْتَحَقُّوا السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَبَ لا يستحقه مع عدم الإخوة، ووجب أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فكالباقي بَعْدَهُ لِلْأَبِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ أَيْضًا لِلْأَبِ. وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ وَحْدَهُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَرِثُوا مَعَهُ وَمَعَ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ لَمْ يَرِثْ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْعَصَبَةِ كَابْنِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ وَكَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ وَيَرِثُونَ مَعَهَا، فَهَلَّا كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ وَإِنْ أَدْلَوْا بِهِ يَرِثُونَ مَعَهُ. قِيلَ الفرق بينما مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ عَصَبَةٌ يُدْلُونَ بِعَصَبَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ حقه مع إدلائهم به، والإخوة للأم ذو فَرْضٍ لَا يَدْفَعُونَ الْأُمَّ عَنْ فَرْضِهَا فَجَازَ أَنْ يَرِثُوا مَعَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لَا تَأْخُذُ الْأُمُّ فَرْضَهُمْ إِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يدفعهم عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا وَالْإِخْوَةَ لِلْأَبِ يَأْخُذُ الْأَبُ حقهم إذا عدموا فدفعهم عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا. فَأَمَّا حَجْبُهُمُ الْأُمَّ عَنِ السُّدُسِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَجَبَ عَنْ فَرْضٍ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْحَجْبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتِ النِّصْفُ لَوْ لَمْ تَحْجُبْ أَحَدًا وَلَوْ حَجَبَتِ الزَّوْجَ إِلَى الرُّبُعِ وَالزَّوْجَةَ إِلَى الثُّمُنِ وَالْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مَا حَجَبَتْهُمْ عَنْهُ مِنَ الْفُرُوضِ وَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ فَيَسْقُطُونَ مَعَ مَنْ تَسْقُطُ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَالْأَبِ وَيَسْقُطُونَ أَيْضًا مِعِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَعْيَانُ بَنِي الْأُمَّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بني العلات ". مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ أَبَوَاهُ وَلَا مَعَ الأم جدة وهذا كله قول الشافعي ومعناه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّاتِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأُمِّ سَوَاءٌ مَنْ كُنَّ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ فَكَانَتِ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُبَاشِرَةٌ لِلْوِلَادَةِ بِخِلَافِهِنَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مَعْلُومَةٌ وفي غيرها مظنونة فلفوتها بهذين أحجبت جَمِيعَ الْجَدَّاتِ. وَأَمَّا الْأَبُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحْجُبُ أَبَاهُ وَهُوَ الْجَدُّ وَلَا يَحْجُبُ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِهِ لِأُمِّهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأَبِ تَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْجَدِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَدَّةُ أُمُّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ كَمَا تَرِثُ مَعَ أُمِّ الْأُمِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود وعمران بن الحسين وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَدَّةِ مَعَ ابْنِهَا إِنَّهَا أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُدُسًا وَابْنُهَا حَيٌّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ مَعَ ابْنِهَا وَروي أَنَّهُ ورث حسكة مَعَ ابْنِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ الْأَبُ عَنْ حَجْبِ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ بِإِزَائِهَا ضَعُفَ أَيْضًا عَنْ حَجْبِهَا، وَلِأَنَّ الْجَدَّةَ وَإِنْ أَدْلَتْ بِالْأَبِ فَهِيَ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِهِ لِأَنَّهَا تُشَارِكُ أُمَّ الْأُمِّ فِي فَرْضِهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ لَمَّا لَمْ يَضُرُّوا بِالْأُمِّ لَمْ يَسْقُطُوا مَعَ الْأُمِّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِأَبٍ وَارِثٍ سَقَطَ بِهِ كَالْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَلِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِلَى الْمَيِّتِ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي الْمِيرَاثِ كَوَلَدِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ وَوَلَدِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَلِأَنَّهَا جَدَّةٌ تُدْلِي بِوَلَدِهَا فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تُشَارِكَ وَلَدَهَا فِي الْمِيرَاثِ كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ وَابْنُهَا حَيٌّ فَضَعِيفٌ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم فيه، ثم لو سلم لكان عليه ثلاثة أجوبة. أحدهما: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ ابْنِهَا الَّذِي هُوَ الْخَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ أُمِّ الْأَبِ مَعَ ابْنِهَا وهو العم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَبِ إِذَا كَانَ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا وَيُسْتَفَادُ بِذَلِكَ أن لا يسقط ميراثا بِسُقُوطِ مَنْ أَدْلَتْ بِهِ. فَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَإِنَّمَا لَمْ يَحْجُبْهَا الْأَبُ لِإِدْلَائِهَا بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أُمُّهُ لِإِدْلَائِهَا بِهِ وَأَمَّا عَدَمُ إِضْرَارِهَا بالأب فقد تضر به، لأنها تأخذ فرضها من مال كان يستوعبه بالتعصب، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَضُرَّ لِجَازَ أَنْ يُسْقِطَهَا كَمَا يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَضُرُّوهُ والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 باب المواريث قال المزني رحمه الله: " وللزوج النصف فإن كان للميت ولد أو ولد ولد وَإِنْ سَفَلَ فَلَهُ الرُّبُعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ المواريث نوعان: أحدهما: ما جعله مُرْسَلًا وَهُوَ مَوَارِيثُ الْعَصَبَاتِ يَسْتَوْعِبُونَ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْض وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ قَبْلَ نُزُولِهَا بِالْوَصِيَّةِ وقال الله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . وَالنَّوْعُ الثَّانِي: جَعْلُهُ فَرْضًا مُقَدَّرًا وَالْفُرُوضُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى سنة نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي الْآيِ الثَّلَاثِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ: النِّصْفُ وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ والثلثان والثلث والسدس فكأنهما النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما. فَأَمَّا النِّصْفُ فَفَرْضُ خَمْسَةٍ فَرْضُ الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يُحْجَبْ، وَفَرْضُ الْبِنْتِ وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ. وَأَمَّا الرُّبُعُ فَفَرْضُ اثْنَيْنِ فَرْضُ الزَّوْجِ مَعَ الْحَجْبِ وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجَاتِ مَعَ عَدَمِ الحجبة. وأما الثمن فهو فرض واحد وَهُوَ فَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ مَعَ الْحَجْبِ. وَأَمَّا الثُّلُثَانِ فَفَرْضُ أَرْبَعَةٍ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا وَفَرْضُ بنتي الابن فصاعدا وفرض الأخت مع الْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ فَصَاعِدًا فالثلثان فرض كل اثنين كَانَ فَرْضُ إِحْدَاهُمَا النِّصْفُ، وَأَمَّا الثُّلُثُ فَفَرْضُ فَرِيقَيْنِ فَرْضُ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تُحْجَبْ وَفَرْضُ الابنين فصاعدا من ولد الأم. وأما السدس فرض سَبْعَةٍ فَرْضُ الْأَبِ وَفَرْضُ الْجَدِّ وَفَرْضُ الْأُمِّ مَعَ الْحَجْبِ وَفَرْضُ الْجَدَّةِ أَوِ الْجَدَّاتِ وَفَرْضُ الواحد مع وَلَدِ الْأُمِّ، وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُلُثَانِ وَثُلُثَانِ وَلَا ثُلُثٌ وَثُلُثٌ وَلَا نِصْفٌ ولا نصف إِلَّا فِي زَوْجٍ وَأُخْتٍ، فَأَمَّا فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَلَيْسَ نِصْفُ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ فَرْضًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ رُبُعَانِ وَلَا رُبُعٌ وثمن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفُرُوضِ فَقَدْ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِفَرْضِ الزَّوْجِ وَفَرْضُهُ النِّصْفُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتَةِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ فَفَرْضُهُ الرُّبُعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أو دين} [النساء: 12] فصار فَرْضُ الزَّوْجِ النِّصْفَ وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وتارة عائلا وأقل فرض الرُّبُعُ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا وَلَا فَرْقَ فِي حَجْبِ الزَّوْجِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا دُونَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وهكذا ولد الابن يحجب الزوج ما يَحْجُبُهُ الْوَلَدُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْجُبُ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْجُبُ بِالِاسْمِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى وَلَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَحْجُبُ بِالْمَعْنَى لَا بِالِاسْمِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصلب، فلذلك قُلْنَا إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فِيهِ حَقٌّ فَأَمَّا فِي الْحَجْبِ فَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْوَلَدِ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ حِكَايَةً شَاذَّةً أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُحْجَبَانِ بِوَلَدِ الْوَلَدِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْنَى إِنْ نَازَعَ فِي الِاسْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ في ولد الابن بين ذكورهم وإناثهم للواحد وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ سَوَاءٌ. فَأَمَّا وَلَدُ الْبِنْتِ فَلَا يَحْجُبُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فإن كان للميت ولد أو ولد ولد إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَلَدَ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ البنت، وليس كما جهل بعض الناس فعابه خطأه فيه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ فَإِنْ كَانَ لَلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ ولد ولد وإن سفل فلها الثمن والمرأتان والثلاث والأربع شركاء في الربع إذا لم يكن ولد وفي الثمن إذا كان ولد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِلزَّوْجَةِ فَرْضَانِ أَعْلَى وَأَدْنَى فَأَمَّا الْأَعْلَى فَهُوَ الرُّبُعُ يُفْرَضُ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا ولد ابن فأعلى فرضها هو أدنى فرض الزَّوْجِ، لِأَنَّ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ مِيرَاثِ الرَّجُلِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَبَوَانِ معهم الِابْن. وَالثَّانِي: الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِمَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيمَا سِوَاهُمَا. ثُمَّ هَذَا الرُّبُعُ قَدْ تَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابن وإن سفل منهما أو منه دونها فَلَهَا الثُّمُنُ ثُمَّ قَدْ تَأْخُذُ الثُّمُنَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا ثُمَّ هَذَانِ الْفَرْضَانِ أُخِذَا من نص الكتاب قال الله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] فَإِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكْنَ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فِي الرُّبُعِ، إِذَا لَمْ يُحْجَبْنَ. وَفِي الثُّمُنِ إذا حجبن وصرن والجدات سواء يشتركن فِي الْفَرْضِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَثُرْنَ وَلَا يَزِيدُ بزيادتهن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوِ الْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا فَلَهَا السُّدُسُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَالْأُخْرَى امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَاتَيْنِ الْفَرِيضَتَيْنِ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأُمِّ فِي مِيرَاثِهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يُفْرَضَ لَهَا الثُّلُثُ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ وَلَا اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ ثُلُثِ الْأُمِّ للابن وهذا الثلث قد تأخذه تارة كاملا وقد تأخذه تارة عائلا. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُفْرَضَ لَهَا السُّدُسُ وَذَلِكَ أَقَلُّ أَحْوَالِهَا إِذَا حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ وَحَجْبُهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَكُونُ بِصِنْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوَلَدُ أَوْ وَلَدُ الِابْنِ يَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى كَمَا قُلْنَا فِي حَجْبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَسَوَاءٌ فِي ذلك الولد أو ولد الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا خَالَفَ فِيهِ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ حَيْثُ لَمْ يَحْجُبْ بِوَلَدِ الِابْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَالصِّنْفُ الثَّانِي: حَجْبُهَا بالإخوة والأخوات فالواحد منهم لا يحجها إِجْمَاعًا وَالثَّلَاثَةُ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَحْجُبُونَهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أو أم وسواء كان الإخوة ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا أَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وَاسْمُ الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَخَوَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ وإنما يتأولهن الْعُمُومُ إِذَا دَخَلْنَ مِعِ الْإِخْوَةِ تَبَعًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ غَلَبَ فِي اللَّفْظِ حُكْمُ التَّذْكِيرِ، عَلَى أَنَّ الإجماع يدفع قول الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تَحْجُبُ بِهِمَا إِلَى السُّدُسِ وَهُوَ قَوْلُ عمرو وعلي وزيد بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبي حنيفة وجماعة الفقهاء وانفرد عبد الله ابن عَبَّاسٍ فَخَالَفَ الصَّحَابَةَ بِأَسْرِهِمْ فَلَمْ يَحْجُبْهَا إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا وَهِيَ إِحْدَى مسائله الأربعة الَّتِي خَالَفَ فِيهَا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قوله تعالى: {فإن كن لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فَذَكَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 الْإِخْوَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثَلَاثَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال ما بال الأخوات يحجبن الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا كُنْتُ لِأُغَيِّرَ شَيْئًا تَوَارَثَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي الْآفَاقِ فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ عُثْمَانَ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَنْقَرِضِ الْعَصْرُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِهَا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَدٌ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِلَّا دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إليه إِجْمَاعُ مَنْ حَجَبَهَا بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ هو أن كل عدد روعي في تغيير الْفَرْضِ فَالِاثْنَانِ مِنْهُمْ يَقُومَانِ مَقَامَ الْجَمْعِ كَالْأُخْتَيْنِ في الثلثين وكالأخوين من الأم في الثلث، فَكَذَلِكَ فِي الْحَجْبِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُمُ اثْنَانِ وَقَالَ تعالى: {وداود وسليمان إذا يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْإِخْوَةِ فِي الْحَجْبِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَجْبُهَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا سَوَاءٌ كَانَا أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ أَخٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أو لأم. فصل: من فُرُوضِ الْأُمِّ أَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فيكون للأم الثلث مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَتَفَرَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِمْ وَهِيَ ال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لِلْأُمِّ ثلث جميع المال من الزوج والأبوين وفي الزوجة والأبوين استدلالا بقوله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تَأْخُذَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَحُكِيَ عن محمد بن سيرين مذهب خالف به القولين فقال أعطيها ثلث ما بقي من زوج وأبوين كقول الجماعة لأنها لا تفضل على الأب وأعطيها من زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهَا لَا تُفَضَّلُ بِذَلِكَ عَلَى الْأَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ قَوْله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَجُعِلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ وَمِيرَاثُهُمَا هُوَ مَا سِوَى فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثُلُثِ مَا وَرِثَهُ الْأَبَوَانِ، وَلِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا انْفَرَدَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ فَوَجَبَ إِذَا زاحمها ذوو فَرْضٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَهُمَا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ وَلِأَنَّ الْأَبَ أَقْوَى مِنَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ يُسَاوِيهَا فِي الْفَرْضِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ سَهْمًا مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الرَّحِمِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْجَدُّ يُسَاوِي الْأَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ ثُمَّ لِلْأُمِّ مَعَ الزَّوْجِ وَالْجَدِّ ثُلُثُ جميع المال، وإن صارت فيه أقل من الجد كذلك مع الأب قبل الْأَبُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ لِإِدْلَاءِ الْجَدِّ بِالْأَبِ، وَلِإِسْقَاطِ الْأَبِ مَنْ لَا يَسْقُطُ بِالْجَدِّ، وَلِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْأُمِّ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ فَضْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 التَّعْصِيبِ، وَالْجَدُّ أَبْعَدُ مِنْهَا فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ زاد الأب فِي التَّعْصِيبِ فَلِقُوَّةِ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى الأم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وللبنت النصف وللابنتين فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، أَمَّا الْبِنْتُ الْوَاحِدَةُ إِذَا انْفَرَدَتْ فَفَرْضُهَا النِّصْفُ بنص الكتاب قال الله تعالى: {فإن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَإِنْ كُنَّ اثنتين فصاعدا ففرضها الثُّلُثَانِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ شَاذَّةٍ إِنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْوَاحِدَةِ وَفَرْضَ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فجعل الثلثين فرضا لمن زاد على الاثنين وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي الْأَخَوَاتِ بِأَنَّ فَرْضَ الِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ وَقَالَ فِي الْبَنَاتِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فاحتمل أن يكون هذا العمل محمولا على ذلك التصريح الْمُقَيَّدِ فِي الْأَخَوَاتِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ على ما قال ابن عباس لأمرين ترجيح واستدلال. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فَرْضُ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فِي النِّصْفِ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَنَاتَ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ مَعَ مَنْ يُسْقِطُ الْأَخَوَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْأُخْتَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِنَّ الثُّلُثَيْنِ وَيَكُونُ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ مَعَ قُوَّتِهِنَّ النِّصْفُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (فَوْقَ) صِلَةً زَائِدَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَعَ أُمِّهِمَا وَعَمِّهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَالَأُمَّ الثُّمُنَ وَالْبَاقِيَ لِلْعَمِّ وَهَذَا نص قد رَوَيْنَا الْخَبَرَ بِكَمَالِهِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْضُ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ بِنْتِ الابن الثلثين النصف والسدس، فلا يَكُونَ الثُّلُثَانِ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ أَوْلَى. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ ابْنُ ابْنٍ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الابن ما بقي لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَتَى اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ وَسَقَطْنَ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ كبنت ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ ابْنُ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهُنَّ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فَرْضَ الْبَنَاتِ بَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَتَفَرَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَجَعَلَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِابْنِ الِابْنِ دُونَ بَنَاتِ الِابْنِ وَهِيَ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ فإذا استكمله بَنَاتُ الصُّلْبِ سَقَطَ بِهِنَّ بَنَاتُ الِابْنِ لِاسْتِيعَابِ الْفَرْضِ وَصَارَ الْفَاضِلُ عَنْهُ إِلَى ابْنِ الِابْنِ بِالتَّعْصِيبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ الذَّكَرَ مِنَ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ فِي دَرَجَتِهِ أُنْثَى عَصَّبَهَا وَلَمْ يُسْقِطْهَا كَأَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ أُنْثَى تُشَارِكُ أَخَاهَا إذا لم يزاحمها ذو فرض تشاركه مَعَ مُزَاحَمَةِ ذِي الْفَرْضِ كَمُزَاحَمَةِ الزَّوْجِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَنَحْنُ لَمْ نُعْطِ بِنْتَ الِابْنِ فَرْضًا وَإِنَّمَا أعطيناها بالتعصيب والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن لم يكن للميت إلا ابنة واحدة وبنت ابن أو بنات ابن فللابنة النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تكملة الثلثين وتسقط بنات ابن الابن إذا كُنَّ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنُ ابْنٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الابن ممن لم يأخذ من الثلثين شيئا للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط من أسفل من الذكر فإن لم يكن إلا ابنة واحدة وكان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن ابن في درجتهن فلا سدس لهن ولكن ما بقي له ولهن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُذَيلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بن ربيعة يسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا لابنته النصف وللأخت من الأب وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَمْ يُوَرِّثَا بِنْتَ الِابْنِ شَيْئًا، وأما ابْن مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أنا من المهتدين ولكن سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لابنته النصف، ولابنة الابن سهم تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِعَشْرِ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَإِنْ كَثُرْنَ وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْ بِنْتِ الصُّلْبِ بِثَلَاثِ دُرَجٍ كَانَ لَهُنَّ السُّدُسُ، كَمَا لَوْ عَلَوْنَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُ السُّدُسِ لَهُنَّ، وَكَانَ الْبَاقِي بعد نصيب البنت بين بنات الابن وأختهن لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لِأَنَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 عَصَّبَهُنَّ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وهي ثان مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ إِنَّ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهُنَّ ذَكَرٌ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ الْبَاقِي مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مُقَاسَمَةُ الذكر الذي في درجتهن أنقص لسهمين من السدس قاسمهن ثم مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُقَاسَمَةُ أَزْيَدَ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُنَّ السُّدُسُ، وَجُعِلَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ مِنْ بَنِي الِابْنِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وجهين: أحدهما: أن اشتراك البنتين وَالْبَنَاتِ فِي الْمِيرَاثِ يُوجِبُ الْمُقَاسَمَةَ دُونَ الْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الذَّكَرَ إِذَا دَفَعَ أُخْتَهُ عَنِ الْمُقَاسَمَةِ أَسْقَطَهَا كَوَلَدِ الإخوة وإذا لم يسقطها شاركته كالولد، وفي قول أبي مَسْعُودٍ دَفْعٌ لِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَقَوْلُهُ إِنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ لَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ غَيْرَ أَنَّنَا نُسْقِطُ مَعَ مُشَارَكَةِ الذكر فرضهن فيما يأخذنه بالتعصيب دُونَ الْفَرْضِ. فَصْلٌ: فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِابْنِ ابن الابن لا يُعَصِّبُ عَمَّتَهُ إِذَا كَانَ لَهَا فَرْضٌ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَا يُعَصِّبُ الْبِنْتَ لِأَنَّهَا ذات فرض فلو كانت المسألة بحالها بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبنت الِابْنِ السُّدُسُ تكملة الثلثين والباقي بين السلفي وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَكَانَ ابْنَ ابْنَ ابْنِ ابْنِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ البنت وسدس بنت الابن مع بنت ابن الابن وبين ابن أَخِيهَا الَّذِي هُوَ ابْنُ ابْنِ ابْنٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَصَّبَهَا مَعَ نُزُولِهِ عَنْ درجتها لأنها ليست ذات فرض والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ لِلصُّلْبِ ابْنٌ فلا نصف ولا ثلثين ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط جميع ولد الابن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مع البنت أو البنات اللاتي للصلب ابن سقط به فرض البنات وأخذنا الْمَالَ مَعَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين} [النساء: 11] إلا شيئين فسَقَطَ بِالِابْنِ جَمِيعُ أَوْلَادِ الِابْنِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَقَطَ بِالْإِخْوَةِ بنو الإخوة وبالأعمام بنو الأعمام لرواية بن طاوس عن أبيه عن بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ الله فما تركت الفرائض فللأولى رجل ذكر ". مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَوَلَدُ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي كُلٍّ إذا لم يكن ولد صلب ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا مِمَّا قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يَقُومُونَ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ إِذَا عُدِمَ وَلَدُ الصُّلْبِ فِي فَرْضِ النِّصْفِ لِإِحْدَاهُنَّ وَالثُّلُثَيْنِ لِمَنْ زَادَ وَفِي مُقَاسَمَةِ إِخْوَتِهِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَفِي حَجْبِ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ إِلَّا مُجَاهِدًا فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي الْحَجْبِ بِهِمْ وَوَافَقَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ وَهُوَ مَعَ دَفْعِ قَوْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَحْجُوجٌ بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا سِوَى الْحَجْبِ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ فِي الْحَجْبِ ثُمَّ إِذَا كَانَتْ بِنْتُ الِابْنِ تَقُومُ مَقَامَ بنت الصلب عند عدمها كانت بنت الِابْنِ مَعَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ قَائِمَةً مَقَامَ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ابْنُ بَعْضِهِنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ فَتَنْزِيلُهُنَّ أَنَّ الْعُلْيَا مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنٍ وَالْوُسْطَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنٍ وَالسُّفْلَى مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ وَتَسْقُطُ السُّفْلَى فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ السُّفْلَى وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ عَمِّهَا كَانَ فِي دَرَجَتِهَا وَعَصَّبَهَا فَأَخَذَ الْبَاقِي مَعَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى ابْنُ أَخِيهَا فَهُوَ فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى فَيُعَصِّبُهَا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ أَخِيهَا وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَيُعَصِّبُهَا أَيْضًا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَمَنْ عَلَا عَمَّاتِهِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ مُسَمًّى وَيُعَصِّبُ مَنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهَا فَرْضٌ مُسَمًّى فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ السُّفْلَى مِنْهُنَّ أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالذَّكَرُ الَّذِي فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَيِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ لِبِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ وَبَيْنَ بِنْتِ ابْنِ ابْنِ الِابْنِ وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ بِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ يسقط فرض من بعدهما ويأخذ الْبَاقِي بِمُشَارَكَةِ الذَّكَرِ الَّذِي فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ صُّلْبٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ الْعُلْيَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَسَقَطَتِ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا عَصَّبَهَا وَعَصَّبَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهَا وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَأَخِيهَا أَوِ ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فلو ترك بنات ابن بعضهن أسفل من بعض مع كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَخُوهَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ مَنْ بَعْدَهُمَا فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثَّلَاثِ ابْنُ أَخِيهَا كَانَ لِلْعُلْيَا مِنْهُنَّ النِّصْفُ لِأَنَّ ابْنَ أَخِيهَا فِي دَرَجَةِ الْوُسْطَى وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِهَا لِلْوُسْطَى وَابْنِ أَخِي الْعُلْيَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثُّلَاثِ ابْنُ عَمِّهَا كَانَ كَالْأَخِ لِأَنَّهُ فِي دَرَجَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ المال كله بين العليا وبين ابن عَمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مع كل واحدة من بنات الابن الثلاث خَالُهَا فَخَالُ بَنَاتِ الِابْنِ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمُّ ابْنِ أَخِيهَا فَهُوَ أَخُوهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ العليا وعم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كان مع العليا ثلاث بنات أعمام مفترقين ومع السفلى ثلاثة بنات أعمام متفرقين. فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ لِلْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا الثُّلُثَانِ وتسقط بنت عمها لأنها بنت أم الْمَيِّتِ وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَسْقُطُ ابْنُ عَمِّ السُّفْلَى لِأُمِّهَا وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً كَانَ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأُمِّهَا وَتَسْقُطُ بِنْتُ عَمِّهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ فَلَوْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَمَعَ السُّفْلَى عَمٌّ وَعَمَّةُ ابن أخيها وخال وخالة ابن أخيها فإن كان الميت رجلا فلعمته الْعُلْيَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأَبِيِهَا الثُّلُثَانِ لِأَنَّهَا بنت الميت ولا شيء لعمتها لِأُمِّهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَلِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأُمِّهَا الثُّلُثَانِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ ثُمَّ يَكُونُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَعَمٍّ وَعَمَّةِ ابْنِ أَخِيهَا وَخَالٍ وَخَالَةِ ابْنِ أخيها لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ فِي دَرَجَتِهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا جَمِيعُ مسائل هذا الفصل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُلُثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ وَإِنْ حَجَبَهَا وَلَدُ الْوَلَدِ كَآبَائِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ بَنِي الِابْنِ فِي الْحَجْبِ من ثلاثة أوجه. أحدهما: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الِابْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الِابْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ ضَعُفُوا عَنْ حَجْبِ الْأُمِّ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ وَبَنُو الِابْنِ لَمَّا قَوُوا عَلَى تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ كَآبَائِهِمْ قَوُوا عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ كَآبَائِهِمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ أَقْوَى فِي الحجب من الإخوة لأنهم يحجبون مع الأم الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ فَكَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أقوى في الحجب من أولاد الإخوة والله تعالى أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وإن ورث معه آبائهم لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ أَقْرَبُ إِلَى أَبِ الْمَيِّتِ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مَنْ بَنِي الْإِخْوَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَدَّ كَالْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَعَهُ بَنُو الْإِخْوَةِ كَمَا يَسْقُطُونَ بالإخوة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِوَاحِدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ السُّدُسُ وللاثنين فصاعدا الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ". قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ: فَرْضُ الْوَاحِدِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَأُ وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَفَرْضُهُمُ الثُّلُثُ نَصًّا وَإِجْمَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ثم يستوي فيه ذكورهم وإناثهم وروى ابن عباس رواية شاذة أنهم يقسمون الثُّلُثَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ في الشيء يوجب التَّسَاوِي إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّفَاضُلِ وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ وَالْأَبَوَانِ إِذَا وَرِثَا فَرْضًا بِالرَّحِمِ تَسَاوَيَا فِيهِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا مِثْلَ سُدُسِ صَاحِبِهِ كَذَلِكَ ولد الأم لميراثهم بالرحم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثلُثَانِ فإذا استوفى الأخوات للأب والأم الثلثين فلا شيء للأخوات للأب إلا أن يكون معهن أخ فيكون له ولهن ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يكن إلا أخت واحدة لأب وأم وأخت أو أخوات لأب فللأخت للأب والأم النصف وللأخت أو الأخوات للأب السدس تكملة الثلثين وإن كان مع الأخت أو الأخوات للأب والأم أخ لأب فلا سدس لهن ولهن وله مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كان مع الأخوات للأب والأم أخ للأب والأم فلا نصف ولا ثلثين ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وتسقط الإخوة والأخوات للأب الإخوة وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ للأب والأم إلا في فريضة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم فيكون للزوم النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ ويشاركهم الإخوة للأب والأم في ثلثهم ذكرهم وأنثاهم سواء فإن كان معهم إخوة لأب لم يرثوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ حُكْمُ بَنَاتِ الصُّلْبِ وَحُكْمُ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ حُكْمُ بَنَاتِ الِابْنِ فَفَرْضُ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ إِجْمَاعًا وَوَافَقَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي الثلثين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مما ترك} [النساء: 176] فإن كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ لِأَبٍ وأم سقط به فرضهن وكان المال بينهن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ قَامَ الْأَخَوَاتُ مِنَ الأب مقامهن كما يقوم بنات الابن مقام بنات الصلب عند عدمهم فيكون للأخت الواحدة للأب النصف وللاثنين فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُهُنَّ وَعَصَّبَهُنَّ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين. فصل: فإن كانت أُخْت لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْت لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ كبنت الصلب وبنت ابن فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ ذَكَرٌ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ السُّدُسُ وَكَانَ مَا بَعْدَ النِّصْفِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُعْطِي الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الذَّكَرِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ لأن لا يَزِيدَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ كَمَا قَالَ فِي بِنْتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهَا أَخُوهَا مَعَ الْبِنْتِ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَبُو ثَوْرٍ وَخَالَفَهُ دَاوُدُ فِي الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بنات الابن وفيما قد بيناه عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ. فَصْلٌ: فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ إذا لم يكن معها ذكرا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ كَمَا يُفْرَضُ لَهَا إِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وهذا يقول في بنت الابن مع بنت الصُّلْبِ يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَإِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِالنِّصْفِ فُرِضَ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ لِبَقَائِهِ مِنْ فَرْضِهِنَّ. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأَخِ لِلْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَخِ لِلْأَبِ دُونَ الْأُخْتِ كما يجعل الباقي بعد بنتي الصلب لأن الابن دون أخته لأن لا يَزِيدَ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَقَدْ مضى الدليل. فَصْلٌ: فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لأب وابن أخ لأب كان لِلْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثَيْنِ بِالْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَا يُعَصِّبُ ابْنُ الْأَخِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَنَاتِ الِابْنِ لِأَنَّ ابْنَ الْأَخِ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ أُخْتِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ عَمَّتِهِ وليس كذلك أولاد البنين لأن الذكور مِنْهُمْ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ فَجَازَ أَنْ يُعَصِّبَ عَمَّتَهُ والله أعلم. فَصْلٌ: وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إِلَّا فِي مسألة المشتركة وهي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ للأب والأم إخوة لأب لَا يُشَارِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِعَدَمِ إِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ والله أعلم. فصل: ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَأَخُوهَا أَجْنَبِيٌّ، وَأَمَّا الْأُخْتُ مِنَ الأب فيحتمل أن يكون أخاها لِأَبِيهَا أَخَا الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ سُدُسِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَتِ الأخت من الأب وأخوا الأخت من الأب والأم النصف وكان الباقي بين الأخت وأخيها وأخي الأخت من الأب والأم وابنها للذكر مثل حظ الأنثيين لأن كلهم إخوة وأخوات لأب فصل: ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ أَخُوهَا لِأُمِّهَا أَجْنَبِيٌّ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ أخوها لأمها يحتمل أن يكون أخا الميتة لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ كَانَ لِلْأُخْتِ من الأم وأخت الأخت من الأب والأم الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِي الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَانَ الثُّلُثُ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا من أمها وأخي الأخت للأب والأم من الأمر أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأُمٍّ وَكَانَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ للأب السدس. فصل: ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَأَخُوهَا والله أعلم. فَصْلٌ: أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا ثَلَاثَةُ بَنِي إِخْوَةٍ متفرقين أَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأُمِّهَا فَأَجْنَبِيٌّ وَأَمَّا ابن أخيها لأبيها وأمها فابن أخ لابن وَأَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأَبِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رجلا احتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لَهُ وَسَقَطَ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بينه وبين ابن الأخ للأب لأن كلاهما وَلَدُ أَخٍ لِأَبٍ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ الْأُخْتِ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ أُخْتِ الْمَيِّتَةِ ابْنُ أَخٍ وَلَيْسَ ابن أخت والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ مَا بَقِيَ إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ وَيُسَمَّيْنَ بِذَلِكَ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ لَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَيَرِثْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْبَنَاتِ فَإِنْ كَانَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَإِنْ كَانَ بِنْتَانِ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْبِنْتَيْنِ عَشْرُ أَخَوَاتٍ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلَثَيْنِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ بِالسَّوِيَّةِ سَوَاءٌ كان لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَبِهَذَا قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِخِلَافِهِمْ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا فَأَسْقَطَ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 أَخْبَرَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيٌّ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ كَالْأَعْمَامِ وَبَنِي الْإِخْوَةِ سَقَطَ الْأَخَوَاتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ صِرْنَ إِذَا انْفَرَدْنَ مَعَهُنَّ عَصَبَةً يَأْخُذْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِنَّ وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الأخت مع البنت النصف فقال أأنتم أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رجل ذَكَرٍ " وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ لَكَانَتْ عَصَبَةً تَسْتَوْجِبُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الِانْفِرَادِ كَالْإِخْوَةِ وَفِي إِبْطَالِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْصِيبِهِنَّ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَوَرِثَ وَلَدُهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُ الْأَخِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَوْله تَعَالَى: {للرجل نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 32] فَكَانَ عَلَى عمومه. وروى الأعمش عن ابن قيس عن هذيل بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف والباقي للأخت فأت ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُوَافِقُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَه بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَنْ وَمَا أنا من المهتدين ولكن سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ " وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ لَمَّا أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الزَّوْجِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ وَلِأَنَّ لِلْأَخَوَاتِ مُدْخَلًا فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْإِخْوَةِ فَكَانَ لَهُمْ مُدْخَلٌ فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطِ الْأُخْتُ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْفَاضِلِ بَعْدَ فَرْضِ البنات فأولى أن لا يسقط مَعَ بَنِي الْإِخْوَةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ إِعْطَائِهَا فَرْضًا ونحن نعطيها تعصيبا وأما الخير فعموم خص مِنْهُ الْأَخَوَاتِ بِدَلِيلِ أَخْذِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَأَخَذَتْ جَمِيعَ الْمَالِ إِذَا انْفَرَدَتْ وَلَكَانَ وَلَدُهَا وَارِثًا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْإِخْوَةِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ وَوَرِثَتْ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ الْبَنَاتِ لَمَنَعَ مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ ثُمَّ قَدْ نجد الْعَصَبَاتِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَعْقِلُونَ وَيُزَوِّجُونَ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَالْإِخْوَةُ وَقِسْمٌ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْبَنُونَ وَقِسْمٌ يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْآبَاءُ ثُمَّ جَمِيعُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَقْلِ وَالتَّزْوِيجِ وَارْثٌ بالتعصيب وكذلك الأخوات. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ فَرِيضَةً وما بقي بعد أهل الْفَرِيضَةِ فَلَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنَّمَا هُوَ عَصَبَةٌ لَهُ الْمَالُ ". قال الماوردي: وهذا كما قال: للأب في ميراثه ثلاثة أَحْوَالٍ: حَالٌ يَرِثُ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ عدم الولد وولد الابن فإن لم يكن معه ذوو فَرْضٍ لَا يَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْأُمِّ أَخَذَتِ الْأُمُّ فَرْضَهَا كَامِلًا إِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا الْإِخْوَةُ وَهُوَ الثلث وكان الباقي للأب لقوله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَاقِي لِلْأَبِ وَإِنْ حَجَبَ الْأُمَّ إِخْوَةٌ كَانَ لَهَا السُّدُسُ وَكَانَ الْبَاقِي بعد سدس الأم للأب لقوله تعالى: {وإن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْهُ يَجْعَلُ السدس للذي حَجَبَهُ الْإِخْوَةُ عَنِ الْأُمِّ لَهُمْ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ فَهَذِهِ حَالٌ. فصل: والحال الثانية: أن يرث الفرض وَحْدَهُ وَذَلِكَ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ فيأخذ السُّدُس قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ لَمْ يَأْخُذِ السُّدُسَ إِلَّا كَامِلًا فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ والباقي للابن ولو كان معها زَوْجٌ كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ فَقَدْ يَأْخُذُ السُّدُسَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا فَالْكَامِلُ يَأْخُذُهُ فِي أَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْعَائِلُ جَدَّةٌ وَزَوْجٌ وَأَبٌ وَبِنْتَانِ أَوْ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ إلى سبعة وعشرين وهذه هي المسألة الْمِنْبَرِيَّةُ سُئِلَ عَنْهَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَدْأَهُ السَّائِلُ فَسَأَلَهُ عَنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَبِنْتٍ فَقَالَ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى مِنْبَرِهِ فَعَادَ السَّائِلُ فَقَالَ: كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أُخْرَى فَقَالَ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعُهَا لِأَنَّهَا لَمَّا عَالَتْ صَارَ الثُّمُنُ ثَلَاثَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ التُّسْعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثُّمُنُ وَهَذَا مِنْ أحسن جواب صدر عن سرعة وإنجاز فسميت لأجل ذلك المنبرية فهذه حال ثَانِيَةٌ. فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ كأبوين وبنت فللأبوين السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ بِالتَّعْصِيبِ أَوْ أَبٌ وَبِنْتَانِ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأَبٍ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَالْجَدُّ أبو الأب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا في ميراثه بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وَبِهِمَا مَعًا فِي أُخْرَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ اللذين يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَلِذَلِكَ بَابٌ يُسْتَوْفى فيه بعد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وللجدة والجدتين السدس ". قال الماوردي: الأصل فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ السُّنَّةُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا في كتاب الله عز وجل فَرْضٌ مُسَمًّى رَوَى عُثْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ الله عز وجل شَيْءٌ وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فِهُوَ لَهَا وَحُكِيَ أَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي وَرَّثَهَا أَبُو بَكْرٍ أُمُّ الْأُمِّ وَالْجَدَّةَ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَتَوَقَّفَ عَنْهَا أُمُّ الْأَبِ فَقَالَتْ أَوْ قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَّثْتُمُ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا وَلَا تُوَرِّثُونَ مَنْ لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا فَحِينَئِذٍ وَرَّثَهَا عُمَرُ وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أم وأجمعوا عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَأَنَّ فَرْضَ الْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ منهن السدس لا ينقصن منه ولا يزيدن عَلَيْهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ الثُّلُثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِثُ فِيهِ الْأُمُّ الثُّلُثَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا مَذْهَبًا لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَذْهَبًا وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ لَا فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ وَهُوَ لَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِعْطَائِهَا السُّدُسَ مَعَ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ فَرْضِهَا وَرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَبُولِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعَ الْعَمَلِ بِهِ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَتْ جَدَّتَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَى الَّتِي مِنْ قبل الأم السدس فقال عبد الله بن شرحبيل أَخُو بَنِي حَارِثَةَ: يَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ وَرَّثْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا فجعله أبو بكر بينهما والله أعلم. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ أَوِ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ فَالْجَدَّةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ أُمُّ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالِاسْمُ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ هَلْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ بِالتَّقْيِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا كَأُمِّ الْأُمِّ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هِيَ جَدَّةٌ بِالتَّقْيِيدِ وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَأَلَ عَنْ مِيرَاثِ جَدَّةٍ هَلْ يَسْأَلُ عَنْ أَيِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 الجدتين أراد أم لا فقال: من جعلهما جَدَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّهُ لَا يُجَابُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَيِّ الْجَدَّتَيْنِ أَرَادَ وَقَالَ مَنْ جَعَلَهَا جَدَّةً بِالتَّقْيِيدِ إِنَّهُ يُجَابُ عَنْ أُمِّ الْأُمِّ حَتَّى يَذْكُرَ أَنَّهُ أَرَادَ أُمَّ الْأَبِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا يَخْتَلِفُ فِي الْفَرِيضَةِ بِوُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُ أُمَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ سُؤَالِهِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أي الجدتين سأل وإن كان ميراثها لَا يَخْتَلِفُ أُجِيبَ وَلَمْ يَسْأَلْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدٍ مَنَ يَرِثُ مِنَ الْجَدَّاتِ فَقَالَ مَالِكٌ لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَلَا أُوَرِّثُ أُمَّ الْجَدِّ وَإِنِ انْفَرَدَتْ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَدَاوُدُ وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ اسْتِدْلَالًا بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ وَكَمَا لَا يَرِثُ أَكْثَرُ مِنْ أَبَوَيْنِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْعَمَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ قَالَ مَنْصُورٌ فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ مَنْ هُنَّ فَقَالَ جَدَّتَا الْأَبِ أُمُّ أَبِيهِ وَأُمُّ أُمِّهِ وَجَدَّةُ الْأُمِّ أُمُّ أُمِّهَا. وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ لِاشْتِرَاكِهِنَّ في الولادة ومحادتهن فِي الدَّرَجَةِ وَتَسَاوِيهِنَّ فِي الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثُ تُوجَدُ فِيهِنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ. فَأَمَّا تَوْرِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا الْجَدَّتَيْنِ فَإِنَّمَا وَرَّثَا مَنْ حَضَرَهُمَا مِنَ الْجَدَّاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُمَا مَنْعُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أطعم ثلاث جدات ولا يَمْنَعُ مِنْ إِطْعَامِ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ وَلَيْسَ بممتنع أَنْ يُوَرِّثَ أَكْثَرَ مِنْ أَعْدَادِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُنَّ يَكْثُرْنَ إِذَا عَلَوْنَ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُنَّ يَرِثْنَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَا مِيرَاثَ مِنْهُنَّ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين أم أبي الأم وراثة وإن أدلت بذكر لا يرث لِمَا فِيهَا مِنَ الْوِلَادَةِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أربع جدات ترافعن إِلَى مَسْرُوقٍ فَوَرَّثَ ثَلَاثًا وَأَطْرَحَ وَاحِدَةً هِيَ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ فَقَالَ أَخْطَأَ أَبُو عَائِشَةَ لها السُّدُسُ لِلْجَدَّاتِ طُعْمَةً وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ أُمَّ أَبِي الْأُمِّ لَا تَرِثُ وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين لإدلائهما بِمَنْ لَا يَرِثُ وَقَدْ تَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ حُكْمَ الْمُدْلَى بِهِ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنْ حُكْمِ الْمُدْلِي لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ يَرِثْنَ وَلَا يَرِثُ مَنْ أَدْلَى بِهِنَّ وَلَيْسَ يُوجَدُ وَارِثٌ يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ فَلَمَّا كَانَ أَبُو الْأُمِّ غَيْرَ وَارِثٍ كَانَتْ أُمُّهُ الَّتِي أَدْلَتْ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ وَارِثَةٍ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَرُبَ بَعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتِ الْأَقْرَبَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِهِيَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَتِ الأبعد شاركت في السدس وأقرب اللائي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تَحْجُبُ بُعْدَاهُنَّ وَكَذَلِكَ تَحْجُبُ أقرب اللائي من قبل الأم بعداهن ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَاذَى الجدات في الزوج ورث جميعهن إلا التي تدلى بأبي الْأُمِّ فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُنَّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَوْرِيثِهِنَّ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وأبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُدُ بن علي، وقد حكاه الكوفيون والشعبي وَالنَّخَعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى والبعدى إلا أن يكون إِحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَى الْحِجَازِيُّونَ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب وعطاء وخارجة بن زيد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ إِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قبل الأب أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ لها وَسَقَطَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى بِأَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ تُوجِبُ سُقُوطَ أَبْعَدِهِمْ عَنِ الْمِيرَاثِ كَالْعَصَبَاتِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى بِأَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ كَالْأَجْدَادِ فَلَمَّا كَانَ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ مُشَارِكًا للجد الْأَقْرَبِ فِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ كَانَتِ الْجَدَّةُ الْبُعْدَى مُشَارِكَةً لِلْجَدَّةِ الْقُرْبَى فِي الْفَرْضِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ الجدات يرثن بالولادة كالأب فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِقُرْبِهَا وَبُعْدِهِنَّ وَلَا يسقط الأب ومن بَعُدَ مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ مَعَ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِنَّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ كَالْأُمِّ وَلَا تَكُونُ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ كَالْأَبِ وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. فصل: وإذا قَدْ وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْجَدَّاتِ فسنصف دَرَجَتَهُنَّ لِيُعْرَفَ بِهِ الْوَارِثَاتُ مِنْهُنَّ فَأَوَّلُ دَرَجَتِهِنَّ جدتان متحاذيتان وارثتان أحدهما أم الأم والأخرى أم الأب ثم جَدَّاتٌ وَارِثَاتٌ فُضَّلْنَ مِنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاثِ دُرَجٍ. إِحْدَاهُنَّ: مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إحداهما أم أم الأب والأخرى أم أبي الْأَبِ وَتَسْقُطُ الرَّابِعَةَ وَهِيَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لأنها أم أبي الْأُمِّ ثُمَّ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِي جَدَّاتٍ بَعْدَ أَرْبَعِ دُرَجٍ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَثَلَاثٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أم أم الأب والأخرى أم أم أبي أب والأخرى أم أبي أبي الْأَبِ ثُمَّ خَمْسُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ سِتَّ عَشْرَةَ جَدَّةً بَعْدَ خَمْسِ دُرَجٍ واحدة من قبل الأم وهي أم أم أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأَرْبَعٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَالْأُخْرَى أم أم أب أبي الأب والأخرى أم أبي أبي أبي الْأَبِ ثُمَّ تَرِثُ سِتُّ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جملة اثنين وَثَلَاثِينَ جَدَّةً وَتَرِثُ سَبْعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ جَدَّةً وَتَرِثُ ثَمَانِي جَدَّاتٍ متحاذيات من جملة مائة وثمانية وَعِشْرِينَ جَدَّةً وَلَيْسَ فِي الْوَارِثَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِأَنَّ الْأُمَّ لَا يَخْلُصُ مِنْ جَدَّاتِهَا مَنْ لا يدلى بأبي أُمٍّ وَلَا يَكُونُ دُونَهَا أُمٌّ إِلَّا وَاحِدَةً فلذلك لم يرث مِنْ جَدَّاتِهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ وَتَكْثُرُ الْوَارِثَاتُ مِنْ قبل الأب لأنهن أمهات الأجداد اللائي لَيْسَ دُونَهُنَّ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزِيدَ فِي الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ وَاحِدَةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 صعدت إلى درجة هي أعلى ليحصل لَكَ أُمُّ جَدٍّ أَعْلَى وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلا بتضاعيف أعدادهن لتزيد لك وَارِثَةٌ مِنْهُنَّ تَسْلَمُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَانِعَةِ مِنْ ميراثهن فإذا كانت الْوَارِثَاتُ سِتَّةً مُتَحَاذِيَاتٍ فَوَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَى سِتِّ دُرَجٍ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَخَمْسٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَاحِدَةٍ هِيَ جَدَّةُ الْأَبِ إِلَى خَمْسِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ. وَالثَّانِيَةُ: هِيَ جَدَّةُ الْجَدِّ إِلَى أَرْبَعِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ. والثالثة: هي جدة أبي الْجَدِّ إِلَى ثَلَاثِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ. وَالرَّابِعَةُ: هِيَ جَدَّةُ جَدِّ الْجَدِّ إِلَى دَرَجَتَيْنِ مِنْ أمهاته. والخامسة: هي أم أبي جَدِّ الْجَدِّ بَعْدَ دَرَجَةٍ مِنْهُ فَتَصِيرُ الْخَمْسُ جَدَّاتٍ مُدْلِيَاتٍ بِخَمْسَةِ آبَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّ أبي أُمٍّ فَتَصَوَّرْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَحِيحًا وَاعْتَبِرْهُ فِيمَا زَادَ تَجِدْهُ مُسْتَمِرًّا. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُنَّ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَوْرِيثِهِنَّ فعلى هذا أم أم وأم أم الأب فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ لِأُمِّ الْأُمِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ لَهُمَا ولو ترك أم أم أم وأم أم الأب وأم أب أبي الْأَبِ فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَرِوَايَةِ الْكُوفِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ لِأُمِّ أُمِّ الْأَبِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُهُنَّ دَرَجَةً وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ بَيْنَ ثَلَاثِهِنَّ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ بَيْنَ أُمِّ أم الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَتَسْقُطُ أم أبي أبي الْأَبِ لِأَنَّهَا وَإِنْ سَاوَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِي الدَّرَجَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْهَا أُمُّ أُمِّ الْأَبِ فَسَقَطَتْ بِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ يَرِثْنَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا أَدْلَتْ بسببين وبولادة من جهتين كامرأة تزوج ابن ابنها بنت بِنْتِهَا فَإِذَا وُلِدَ لَهُمَا مَوْلُودٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ جدته من وجهين فكانت أم أبي أَبِيهِ وَأُمَّ أُمِّ أُمِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنَ الْجَدَّاتِ غَيْرُهَا فَالسُّدُسُ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى هِيَ أُمُّ أُمِّ أَبٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ. فَقَالَ محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ترث بأحد الجهتين وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مذهب الشافعي ومالك رضي الله عنهما لأنها يد واحدة فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا جَدَّةً وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَرِثُ فَرْضَيْنِ مِنْ تَرِكَةٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَرِثَ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ كَزَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَرُبَّمَا أَدْلَتِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ وَحَصَلَتْ لَهَا الْوِلَادَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ أُمِّ أُمِّ الْمَيِّتِ وأم أبي أبيه وأم أم أبي أَبِيهِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن تَرِثُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ السُّدُسِ كَأَنَّهَا ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرِثُ نِصْفَ السُّدُسِ لِأَنَّهَا إِحْدَى جَدَّتَيْنِ والله أعلم بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 باب أقرب العصبة قال المزني رحمه الله وأقرب الْعَصَبَةِ الْبَنُونَ ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ ثُمَّ الْأَبُ ثم الإخوة للأب والأم إن لم يكن جد فإن كان جد شاركهم في باب الجد ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ والأم ثم بنو الإخوة للأب فإن لم يكن أحد من الإخوة ولا من بينهم ولا بني بنيهم وإن سفلوا فالعم للأب والأم ثم العم للأب ثم بنو العم للأب والأم ثم بنو العم للأب فإن لم يكن أحد من العمومة ولا بنيهم ولا بني بنيهم وإن سفلوا فعم الأب للأب والأم فإن لم يكن فعم الأب للأب فإن لم يكن فبنوهم وبنو بنيهم على ما وصفت من العمومة وبنيهم وبني بنيهم فإن لم يكونوا فعم الجد للأب والأم فإن لم يكن فعم الجد للأب فإن لم يكن فبنوهم وبنو بنيهم على ما وصفت عمومة الأب فإن لم يكونوا فأرفعهم بطنا وكذلك نفعل في العصبة إذا وجد أحد من ولد الميت وإن سفل لم يورث أحد من ولد ابنه وإن قرب وإن وجد أحد من ولد ابنه وإن سفل لم يورث أحد من ولد جده وإن قرب وإن وجد أحد من ولد جده وإن سفل لم يورث أحد من ولد أبي جده وإن قرب وإن كان بعض العصبة أقرب بأب فهو أولى لأب كان أو أم وإن كانوا في درجة واحدة إلا أن يكون بعضهم لأب وأم فالذي لأب وأم أولى فإذا استوت قرابتهم فهم شركاء في الميراث ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَصَبَةِ لِمَ سُمُّوا عَصَبَةً؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُمُّوا عَصَبَةً لِالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ كَالْتِفَافِ الْعَصَائِبِ عَلَى يَدِهِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ سُمُّوا عَصَبَةً لِقُوَّةِ نفسه بهم ولقوة جِسْمِهِ بِعَصَبِهِ فَأَقْرُبُ عَصِبَاتِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ بَنَوْهُ لِأَنَّهُمْ بَعْضُهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ وَحَجَبَ بِهِمُ الْأَبَ عَنِ التَّعْصِيبِ حَتَّى صَارَ ذَا فَرْضٍ ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ بعض البنين لأن الْأَبَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ كَهُوَ مَعَ الْبَنِينَ وَلِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ كَالْبَنِينَ ثُمَّ بَنُو بَنِي الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الْأَبُ مُقَدَّمًا عَلَى الِابْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَالتَّزْوِيجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ أَقْوَى الْعَصَبَاتِ فَهَلَّا كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمِيرَاثِ قِيلَ إِنَّمَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّزْوِيجِ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ فِي الْآبَاءِ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَفِي الْمِيرَاثِ يُقَدَّمُ بِقُوَّةِ التَّعْصِيبِ وَذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْآبَاءِ فَإِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ فَالْأَبُ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ بَعْدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ بَعْضُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ كَانَ الْأَقْرَبَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِالْأَبِ يُدْلُونَ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْأَبِ إِخْوَةٌ فَالْجَدُّ وَإِنْ كَانَ إِخْوَةٌ فَعَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي بِابِ الْجَدِّ ثُمَّ بَعْدَ الْجَدِّ أَبُو الْجَدِّ ثُمَّ جَدُّ الْجَدِّ ثُمَّ أَبُو جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ جَدُّ جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ عَمُودِ الْآبَاءِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعْصِيبِ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ لِأَنَّهُمْ وَالْمَيِّتُ بَنُو أَبٍ قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الصُّلْبِ وَرَاكَضُوهُمْ فِي الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَبَهًا مِنَ الْبَنِينِ فِي تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ فَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ لقوته بالسببين على من تفرد بإحداهما وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " وأعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات " وأصل ميراثهما مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فَيَكُونُ حُكْمُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْأَخَوَاتِ كَحُكْمِ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ فِي اقْتِسَامِهِمُ الْمَالَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَعْدَ فَرْضٍ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ بَعْدَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِقُرْبِ دَرَجَتِهِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا، لِأَنَّهُمْ من بني أبي الْمَيِّتِ وَالْأَعْمَامُ بَنُو جَدِّهِ فَيُقَدَّمُ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ عَلَى مَنْ بَعُدَ وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ قُدِّمَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ الْأَعْمَامُ لِأَنَّهُمْ بَنُو الْجَدِّ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ عَمَّ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ زَوْجَتِهِ وَبِنْتَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْعَمِّ لِلْأَبِ لِإِدْلَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثم ابني الْعَمِّ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَإِنْ سَفَلُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَنِي الْأَعْمَامِ ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثم أعمام ابن الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّ الْجَدِّ ثم بنوهم ثم أعمام أبي جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يستنفذ جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ لَا يُقَدَّمُ بَنُو أَبٍ أَبْعَدَ على بنو أب هو أقرب وإن نزلت درجتهم وَإِذَا اسْتَوَوْا قُدِّمَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْعَصَبَةِ لِإِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعْصِيبِ وَلَا الْأَعْمَامُ لِلْأُمِّ من الورثة لأنهم ذوو أرحام والله أعلم. فَصْلٌ: وَلَيْسَ يَرِثُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَصِبَاتِ أُخْتٌ لَهُ إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَإِنَّهُمْ يُعَصِّبُونَ أخواتهم ويرثون معهم الِابْنُ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَتَرِثُ مَعَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَابْنُ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَإِنْ سَفَلَ وَيُعَصِّبُ مَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَيُقَاسِمُهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَخُ لِلْأَبِ كَذَلِكَ أَيْضًا يُعَصِّبُهَا وَيُقَاسِمُهَا وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ كُلِّهِمْ يُسْقِطُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَيَخْتَصُّونَ بِالْمِيرَاثِ كَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلَّذِي هُوَ أَخٌ لِلْأُمِّ السُّدُسُ فَرْضًا بِالْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَقَوْلِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 أَخٌ لِأُمٍّ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " وبنو الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ " وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ وَاخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْإِدْلَاءِ بالأم فصار كالأخوين أحدهما لأب وأم وآخر لِأَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ زَادَ إِدْلَاءُهُ بِالْأُمِّ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِالْأَبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فَأَوْجَبَ هَذَا الظَّاهِرُ أَن لا يزاد بِهَذِهِ الْأُخوَّةِ عَلَى السُّدُسِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ الْفَرْضَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقَوَّى بِهِ التَّعْصِيبُ بَعْدَ أَخْذِ الْفَرْضِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ، وَلِأَنَّ وِلَادَةَ الْأُمِّ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إما استحقاقا بالفرض أو تقديما بالجميع ولا توجب كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَرْضٍ وَتَقْدِيمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا اخْتَصَّ الْإِخْوَةُ للأم بالفرض واختص الإخوة للأب والأم بالتقديم فِي الْبَاقِي عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَلَمْ يَجُزْ أن يشاركوا باقيهم الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِدْلَاءِ بالأم وكذلك ابن العم إذا كان أخا لأم لما استحق بأمه فرضا لم يستحق بها تقديمه عَلَى ابْنِ الْعَمِّ وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرَّحِمِ وَالتَّعْصِيبِ إِذَا كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أوجَبَ التَّقْدِيمُ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ لَمْ يُوجِبَا التَّقْدِيمَ وَالْأَخُ لِلْأُمِّ إِذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَيُعَصِّبُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِدْلَاءِ بِالْجَدِّ وَرَحِمِهِ بِوِلَادَةِ الأم فلم يوجب التقدم، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ " أَعْيَانُ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ السدس سواء وإنما ذلك فِي الْمَالِ فَأَمَّا وَلَاءُ الْمَوَالِي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أن ابن الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ يُقَدَّمُ بِهِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِثْ بِأُمِّهِ مِنَ الْوَلَاءِ فَرْضًا اسْتَحَقَّ بِهِ تَقْدِيمًا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ إِذَا انْضَمَّ إِلَى التَّعْصِيبِ أوجَبَ قُوَّةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّعْصِيبِ إِمَّا فِي فَرْضٍ أَوْ تَقْدِيمٍ فَلَمَّا سَقَطَ الْفَرْضُ فِي الْوَلَاءِ ثَبَتَ التَّقْدِيمُ. فَصْلٌ: وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَالُ بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وبين أخ الأم الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي ليس بابن عم ولا ابن الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَلِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ بين الثلاثة بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْأَخُ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى قياس قول ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ لِأَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاعَةِ إِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ البنت بينهما لأن البنت تسقط بورثته بالأم ولا تسقط ميراثه بِالتَّعْصِيبِ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 لابن العم للأب الذي هو أخ لأم وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ لِابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ الَّذِي هو أخ للأم السُّدُسُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ للأب والأم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً بِرَحِمٍ يَرِثُ فَالْمَوْلَى المعتق فإن لم تكن فَأَقْرَبُ عَصَبَةٍ مَوْلَاهُ الذُّكُورُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَيْتُ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْوَلَاءُ يُورَثُ بِهِ كَالتَّعْصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ "، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من تولى إلى غير مواليه فقد خلع رقبة الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ". وَأَعْتَقَتْ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَبْدًا فَمَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِصْفَ مَالِهِ لِبِنْتِهِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ حَمْزَةَ مُعْتِقَتِهِ فإذا بت هَذَا فَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَلَهُ وَلَاؤُهُ مُسْلِمًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ كَافِرًا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا وَلَاءَ لِلْكَافِرِ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِقَطْعِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ الدِّينِ وهذا فاسد بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " فَلَمَّا كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا وَلَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَرِثَ فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ فَعَصَبَةُ النَّسَبِ تَتَقَدَّمُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى عَصَبَةِ الْوَلَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ عَصَبَةَ الْوَلَاءِ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أُلْحِقَ بِأَصْلٍ فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَمَّا كَانَ فِي الْمِيرَاثِ مُلْحَقًا بِالِابْنِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَالْجَدُّ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْأَبِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مُنَاسِبٌ كَانَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْمَوْلَى وَإِنْ لم يكن له عصبة وكان له ذو فرض تقدموا بفروضهم على الموالي لِأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى الْعَصَبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُمْ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةُ نَسَبٍ وَلَا ذُو فَرْضٍ يَسْتَوْعِبُ بِفَرْضِهِ جميع التركة كانت للتركة أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ فَرْضِ ذِي الْفَرْضِ لِلْمَوْلَى يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ في قول من ورث ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوَالِي وَفِيمَا مَضَى مِنْ إسقاط ميراث ذوي الأرحام دليل كاف والله أعلم. فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَقُومُونَ فِي الْمِيرَاثِ مَقَامَ الْمَوْلَى لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي مَالِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي وَلَائِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَبْنَاءُ أَحَقُّ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي مِنَ الْآبَاءِ فَإِذَا كَانَ أَبٌ مَوْلَى وَابْنٌ مَوْلَى فَابْنُ الْمَوْلَى أَوْلَى مِنْ أَبِ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 وقال أبو يوسف: لأب الْمَوْلَى سُدُسُ الْوَلَاءِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ كَالْمَالِ وَهَكَذَا الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ مَعَ الِابْنِ سُدُسَ الْوَلَاءِ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق وهذا خطأ لأن الولاء مستحق لمجرد التَّعْصِيبِ وَتَعْصِيبُ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْوَلَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَبْنَاءَ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ مِنَ الْآبَاءِ فَهُوَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ فَيَكُونُ لِابْنِ الْمَوْلَى دُونَ بِنْتِ الْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَالْمَالِ وَهَكَذَا قَالَ فِي الْأَخِ وَالْأُخْتِ يَرِثَانِ الْوَلَاءَ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النِّسَاءَ إِذَا تَرَاخَى نَسَبُهُنَّ لَمْ يَرِثْنَ بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَتَعْصِيبُ الْوَلَاءِ أَبْعَدُ مِنْ تَعْصِيبِ النَّسَبِ فكان بسقوط ميراث النساء أحق. فصل: فإذا لَمْ يَكُنِ ابْنَ مَوْلًى فَأَبُو الْمَوْلَى بَعْدَهُ أَحَقُّ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ لِإِدْلَائِهِمْ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ الْأَبِ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَلَاءِ فَقَالَ أبو حنيفة: الْجَدُّ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِخْوَةُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْجَدِّ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنَّهُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لِلْإِخْوَةِ دُونَ الْجَدِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَبِ مِنَ الْجَدِّ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ أَحَقُّ مِنَ الْأَبِ فَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَقَوْلِ أبي يوسف؛ لِأَنَّهُ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ فِي الْمَالِ فَقَاسَمَهُمْ فِي الْوَلَاءِ فعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَتْهُ مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ مِنْ ثُلُثِ الْوَلَاءِ لَمْ يُفْرَضْ لَهُ الثُّلُثُ بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْضِ. فَلَوْ كَانُوا خَمْسَةَ إِخْوَةٍ وَجَدًّا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا عَلَى عَدَدِهِمْ لِلْجَدِّ منه السدس ولا يقاسم الجد الإخوة لِلْأَبِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِخِلَافِ الْمَالِ ثم الإخوة مع أبي الجد وجد الجد وإن علا كلهم مع الجد الأخير فَأَمَّا بَنُو الْإِخْوَةِ وَالْجَدُّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ أَحَقُّ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْجَدِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنْ بَنِي الإخوة، لقرب درجته، ولا يحجب اشتراك بني الإخوة مع الجد، وَيُقَدَّمُ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ ولأم عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَيَتَقَدَّمُ الْجَدُّ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْأَعْمَامِ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ فَأَمَّا أَبُو الْجَدِّ وَالْعَمِّ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ أَبَا الْجَدِّ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ لِوِلَادَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وَالثَّانِي: إِنَّ الْعَمَّ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ لِقُرْبِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ أَبَا الْجَدِّ وَالْعَمِّ سَوَاءٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَلَاءِ يَتَرَتَّبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَصَبَةٌ فَمَوْلَى الْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَصَبَتُهُ ثُمَّ مَوْلَاهُ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا وُجِدُوا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا وَوُجِدَ مَوْلَى عَصَبَتِهِ: فَإِنْ كَانَ مَوْلَى آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَرَّثَ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وإن كان مولى أبنائه أو أخواته لَمْ يَرِثْ لِأَنَّ وَلَاءَ الِابْنِ لَا يَسْرِي إِلَى أَبِيهِ وَلَا إِلَى أَخِيهِ، فَإِنْ لَمْ يكن له إِلَّا مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَرِثْهُ فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَهُ الْمِيرَاثُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أعتقَه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ لَهُ أَحَدٌ " قَالُوا: لَا إِلَّا غُلَامًا له كَانَ أَعْتَقَهُ فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاثَهُ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أن لَا مِيرَاثَ لَهُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ". وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر كان يورث مَوَالِيَ عُمَرَ دُونَ بَنَاتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَرِثَ لِإِنْعَامِهِ فَصَارَ مِيرَاثُهُ كَالْجَزَاءِ، وَالْمَوْلَى الْأَسْفَلُ غَيْرُ مُنْعِمٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثًا وَلَا جَزَاءً، فأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طُعْمَةً مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ فِي النَّسَبِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ عَبْدًا ثُمَّ يَمُوتُ السَّيِّدُ وَيُخْلِفُ ابْنَيْنِ فَيَرِثَانِ مَالَهُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَمُوتُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ ويخلف ابنا فينتقل ميراث ابنه عَنِ الْجَدِّ إِلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَرِثَهُ ابْنُ الْمَوْلَى دُونَ ابْنِ ابْنِهِ وَقَالَ شُرَيْحٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ انْتِقَالَ الْمِيرَاثِ فَيَصِيرُ وَلَاءُ الْمُعْتَقِ بَيْنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ السَّيِّدِ الْمُعْتِقِ صَارَ إِلَيْهِمَا وَلَمْ يَجْعَلُوا الولاء للكبير اعْتِبَارًا بِمُسْتَحِقِّ الْوَلَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْأَعْلَى ومن جعل الولاء للكبير اعْتُبِرَ مُسْتَحِقُّ الْوَلَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ وبتوريث الكبير قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ " فَلَوْ جُعِلَ كَالْمَالِ صَارَ مَوْرُوثًا؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ إِلَى عَصَبَةِ مَوْلَاهُ الْأَعْلَى وَلَيْسَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ كَالْمَالِ فَلِذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِلْمَالِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ المولى الأعلى فترك أَخًا لِأَبٍ وِأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ فَأَخَذَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِيرَاثَهُ دُونَ الْأَخِ لِلْأَبِ ثُمَّ مات الأخ للأب والأم فترك ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشافعي ومن جعل الولاء للكبير فجعله لِلْأَخِ لِلْأَبِ دُونَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ أَقْرَبُهُمَا إِلَى الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَمَنْ جَعَلَهُ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ جَعَلَهُ لِابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِ الْمَوْلَى الْأَعْلَى، وَلِلْوَلَاءِ كِتَابٌ يَسْتَوْفِي فُرُوعَهُ فِيهِ مَعَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَصُورَتُهُ: فِي رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ وَلَا وَلَاءٌ فَيُوَالِي رجلا يعاقده وَيُحَالِفُهُ وَيُنَاصِرُهُ فَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَتَوَارَثَانِ بِهَذِهِ الْمُوَالَاةِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُهَا، وَقَالَ أبو حنيفة يَتَوَارَثَانِ بِهَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُهَا مَا لَمْ يعقل عنه صاحبه، فإن عقل له لم يكن له نقضها فاستدل عَلَى اسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَبِرِوَايَةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَجُلًا وَالَى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنت أحق الناس بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ ". وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَأَثْبَتَهُ لِلْمُعْتِقِ وَنَفَاهُ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ. وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لِمَالِهِ جِهَةٌ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهُ بِالْمُوَالَاةِ إِلَى غَيْرِهَا كَالَّذِي لَهُ نَسَبٌ أَوْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ لَا يَتَوَارَثُ بِهَا مَعَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ لَا يَتَوَارَثُ بِهَا مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَنْسُوخَةٌ حِينَ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْحِلْفِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنت أحق بمحياه ومماته " فمعناه أحق بنفسه دون ماله في نصرته فِي حَيَاتِهِ وَدَفْنِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ والله أعلم بالصواب. آخر كتاب العصبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 باب ميراث الجد مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْجَدُّ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ فَإِنْ لَمْ يكن أب فَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ تَرَكَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ أَبِيهِ الْأَدْنَيْنِ أَوْ أحدا من أمهات أبيه وَإِنْ عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ زَوْجٍ وأبوين أو امرأة وأبوين فإنه إذا كال فِيهِمَا مَكَانَ الْأَبِ جَدٌّ صَارَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا وَمَا بَقِيَ فَلِلْجَدِّ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأَبِ وَيَرِثْنَ مَعَ الْجَدِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الجد المطلق فهو أبو الأب لا غير، فأما أبي الْأُمِّ فَهُوَ جَدٌّ بِتَقْيِيدٍ، ثُمَّ الْجَدُّ يَجْمَعُ رَحِمًا وَتَعْصِيبًا كَالْأَبِ، فَيَرِثُ تَارَةً بِالرَّحِمِ فَرْضًا مُقَدَّرًا وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ تَارَةً مُرْسَلًا، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فِي مَوْضِعٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْأَبِ وَحْدَهُ، وَلَهُ في ميراثه ثلاثة أحوال أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهَا كَالْأَبِ، وَحَال أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَبِ، وَحَالٌ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ فِيهَا كَالْأَبِ أَمْ لَا؟ . فَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي أجمعوا على أنه فيها كَالْأَبِ فَمَعَ الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ وَمَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ إن بقي شيء كالأب ويسقط سَائِرُ الْعَصَبَاتِ سِوَى الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ وَبَنِي الْإِخْوَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ حَكَاهَا إسماعيل بن أبي خالد عن علي عليه السلام أنه قاسم الجد مع بني الإخوة وليست ثابتة، ويسقط الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ فَهَذِهِ حَالٌ هُوَ وَالْأَبُ فِيهَا سواء، وأما ما أجمعوا عليه على أنه فيه مخالف للأب ففي فَرِيضَتَيْنِ هُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، فَإِنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ مَكَانُ الْأَبِ جَدٌّ: فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْفَرِيضَتَيْنِ أَمَّا مَعَ الزَّوْجَةِ فَبِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا مَعَ الزَّوْجِ فَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْأُمِّ ثُلُثَ ما بقي والباقي للجد للأب، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَيْنِ، وَهِيَ إحدى مربعاته؛ لأنه جعل المال أَرْبَاعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْجَدُّ يَحْجُبُ أُمَّ نَفْسِهِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، فَهَذِهِ حَالٌ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ فِيهَا مُخَالِفٌ لِلْأَبِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْجَدُّ فِيهِ كَالْأَبِ أَمْ لَا؟ فَمَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ فِيهِ تَكْرَهُ الْقَوْلَ فِيهِ حَتَّى رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أجرأكم على قسم الجد أجرأكم على النار ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وقال علي عليه السلام: " من سره أن يقتحم جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ ". وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " سَلُونَا عَنْ عَضَلِكُمْ وَدَعُونَا مِنَ الْجَدِّ لَا حياه الله ". فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي سُقُوطِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ: فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ كَالْأَبِ، وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَدَاوُدُ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَلَا يُسْقِطُهُمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فَسَمَّاهُ أَبًا وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْأَبِ مُنْطَلِقًا عَلَى الْجَدِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحُكْمِ كَالْأَبِ وَلِأَنَّ لِلْمَيِّتِ طَرَفَيْنِ أَعْلَى وَأَدْنَى فَالْأَعْلَى الْأَبُ وَمَنْ عَلَا وَالْأَدْنَى الِابْنُ وَمَنْ سَفَلَ فَلَمَّا كَانَ ابْنُ الِابْنِ كَالِابْنِ في حجب الإخوة ووجب أَنْ يَكُونَ أَبُو الْأَبِ كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ فَاسْتَوَى حكم أوله وآخره كالطرف الآخر قالوا وَلِأَنَّ الْجَدَّ عَصَبَةٌ لَا يَعْقِلُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ الْعَصَبَةَ الَّتِي تَعْقِلُ كَالِابْنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَمَعَ الْوِلَادَةَ وَالتَّعْصِيبَ أَسْقَطَ مَنْ عَدَم الْوِلَادَةِ وتفرد بالتعصيب كالابن؛ وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ تَعْصِيبًا وَرَحِمًا يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي ليس يدلي إلا بالتعصيب وحده قالوا: ولأن الجد يدلي بابن والأخ يدلي بالأب، وَالِابْنُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ، فَكَانَ الْإِدْلَاءُ بِالِابْنِ أَقْوَى مِنَ الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا بِقُوَّتِهِ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَعَلَى مَالِهَا وَيَضْعُفُ الْأَخُ بِمَا قَصَّرَ فِيهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَخَ لَوْ قَاسَمَ الْجَدَّ كَالْأَخَوَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يقتسمها فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ وَرِثَ فِيهَا جَدٌّ كَمَا يُقَاسِمُ الْأَخُ الْأَخَ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ وَرِثَ فِيهَا أَخٌ، فَلَمَّا لَمْ يُقَاسِمْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يُقَاسِمْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجَدَّ فِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ كَالْأَخِ لِلْأَبِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُمَا، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِمَا، فَلَوْ كَانَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَرْثِ مَعَهُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَلَوْ كَانَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ لَمَا وَرِثَ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَإِذَا امْتَنَعَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَقْوَى منهما. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 فَصْلٌ: وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 7] وبقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [النساء: 6] وَالْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَتَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخُصَّ الْجَدَّ بِالْمَالِ دُونَ الْإِخْوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَخَ عَصَبَةٌ يُقَاسِمُ أُخْتَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بالجد كَالِابْنِ طَرْدًا وَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْعَمِّ عَكْسًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْأَخَ وَإِنْ عَصَّبَ أُخْتَهُ يَسْقُطُ بِالْأَبِ وَهُوَ لَا يُعَصِّبُ أخته فكذلك لا يمتنع أن تسقط بِالْجَدِّ الَّذِي لَا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ. قِيلَ: إِنَّمَا سَقَطُوا بِالْأَبِ لِمَعْنًى عُدِمَ فِي الْجَدِّ وَهُوَ إدلائهم بِالْأَبِ دُونَ الْجَدِّ، وَلِأَنَّ قُوَّةَ الْأَبْنَاءِ مُكْتَسَبَةٌ مِنْ قُوَّةِ الْآبَاءِ، فَلَمَّا كَانَ بَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَسْقُطُونَ مَعَ بَنِي الْجَدِّ فَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ لَا يَسْقُطُونَ مَعَ الْجَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الجمع يقضي أَنْ يَكُونَ الْإِخْوَةُ يُسْقِطُونَ الْجَدَّ كَمَا أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ يُسْقِطُونَ بَنِي الْجَدِّ وَهُمُ الْأَعْمَامُ. قِيلَ: إِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهَذَا عَلَى مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ لَا عَلَى مَنْ سَقَطَ بِالْإِخْوَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى مِيرَاثِهِمْ فَصَحَّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ إِلَى ثُلُثِ الْبَاقِي لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ كَالْعَمِّ طَرْدًا وَكَالْأَبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ سببين يدليان إلى الميت لشخص واحد لم يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَالْأَخَوَيْنِ وَكَابْنَيِ الِابْنِ، لِأَنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ كِلَاهُمَا يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ، وَلِأَنَّ تَعْصِيبَ الإخوة كتعصيب الأولاد، لأنهم يعصبون أخواتهم ويحجب الأم عن أعلى الوجهين، وَيَفْرِضُ النِّصْفَ لِلْأُنْثَى مِنْهُمْ وَالْجَدُّ فِي هَذِهِ الأحوال كُلِّهَا بِخِلَافِهِمْ فَكَانُوا بِمُقَاسَمَةِ الْجَدِّ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِهِمْ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ التعصيب والرحم والآخر يتفرد بالتعصيب دون الرحم: كان المتفرد بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ أَقْوَى كَالِابْنِ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَبِ فَلَمَّا كَانَ الْجَدُّ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ وَالْأَخُ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى، لِأَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ كِلَاهُمَا يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ يَقُولُ: أَنَا أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ، وَالْأَخُ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ فَصَارَ الْأَخُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّ الْأَخَ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ وَالْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، وَالْإِدْلَاءُ بِالْبُنُوَّةِ أَقْوَى، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ وَهُوَ الْأَبُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ لَكَانَ لِلْجَدِّ مِنْ تَرِكَتِهِ السُّدُسُ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا لِلِابْنِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخَ قَدْ شَارَكَ الْمَيِّتَ فِي الصُّلْبِ وَرَاكَضَهُ فِي الرَّحِمِ، وَإِذَا كَانَ الْأَخُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي مِيرَاثِهِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَرَى مِنْ نَظَرِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ فَرِيضَةً فِي الْجَدِّ حَتَّى صَارَ هُوَ جَدًّا وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ عَاصِمًا مَاتَ وَتَرَكَ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَ أحد الأولاد فترك جَدَّهُ عُمَرَ وَإِخْوَتَهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ فِي الْجَدِّ شَيْئًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسئل عَنْ فَرِيضَةِ الْجَدِّ فَأَعْطَاهُ السُّدُسَ فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي قَالَ لَا دَرَيْتَ ثُمَّ قَالَ آخَرُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن فريضة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 الْجَدِّ فَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي قَالَ: لَا دَرَيْتَ؟ ثُمَّ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ رَأْيِي وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ قبلي أن أجعل الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ يا أمير المؤمنين لا يجعل شَجَرَةٌ خَرَجَ مِنْهَا غُصْنٌ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الغصن غصنان فيم تَجْعَلُ الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ وَهُمَا خَرَجَا مِنَ الْغُصْنِ الَذِي خَرَجَ مِنْهُ الْجَدُّ؟ ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبَى طَالِبٍ وَقَالَ: لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ لِزَيْدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا أَمِيرَ المؤمنين لا تجعل واد سال فانشعبت منه شعبة ثم انشعبت مِنَ الشُّعْبَةِ شُعْبَتَانِ فَلَوْ رَجَعَ مَاءُ إِحْدَى الشعبتين دخل في الشعبتين جميعا فيم تَجْعَلُ الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لولا رأيكما أجمع مَا رَأَيْتُ أَنْ يَكُونَ ابْنِي وَلَا أَنْ أَكُونَ أَبَاهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَجَعَلَ الْجَدَّ أَخًا مع الأخوين ومع الأخ والأخت فإذا كَثُرُوا تَرَكَ مُقَاسَمَتَهُمْ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ جَدٍّ وَرِثَ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ طَالَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا تَجْمَعُ خَبَرًا، وَاحْتِجَاجًا، وَمَثَلًا، فَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْنَاهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْجَدَّ أَبًا فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْأَبِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ تَوَسُّعًا أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْجَدِّ أَخَصُّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْأَبِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا جَدٌّ وَلَيْسَ بِأَبٍ لَمْ يَكُنْ مُضِلًّا، وَالْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مجازها، ولا يتعلق عليه حكم الْأَبِ، وَكَمَا تُسَمَّى الْجَدَّةُ أُمًّا وَلَا يَنْطَلِقُ عليها أحكام الْأُمِّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ طَرَفَهُ الْأَدْنَى يَسْتَوِي حُكْمُ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَكَذَلِكَ طَرَفُهُ الْأَعْلَى فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَمَّا كَانَ كَالِابْنِ في الحجب الْأُمَّ كَانَ كَالِابْنِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ، وَلَمَّا كان الجد مخالفا للأب في حجب الأم إِلَى ثُلُثِ الْبَاقِي كَانَ مُخَالِفًا لِلْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِي حجب الأم هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِابْنِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ عَصَبَةٌ لَا يَعْقِلُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَقْلِ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ التَّعْصِيبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَقْرَبَ العصبات اختص بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ مِنَ الْأَبَاعِدِ، لِقُوَّةِ تَعْصِيبِهِمْ وَضَعْفِ الْأَبَاعِدِ، وَلَيْسَ خُرُوجُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ عَنِ الْعَقْلِ عَنْهُ لِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى التَّعْصِيبِ فَيُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى الْقُوَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى الضَّعْفِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ التَّعْصِيبِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الِابْنِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ الْمُدْلِينَ بِالْأَبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَدُّ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ لَمْ يُسْقِطِ الْإِخْوَةَ الْمُدْلِينَ بِالْأَبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْجَدَّ قَدْ جَمَعَ الْوِلَادَةَ وَالتَّعْصِيبَ كَالْأَبِ فَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إِنَّمَا أَسْقَطَهُمْ لِإِدْلَائِهِمْ بِهِ لَا لِرَحِمِهِ وَعَصَبَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنِ وَإِنِ انْفَرَدَ بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ يَجْمَعُ تَعْصِيبًا وَرَحِمًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِدْلَاءَ الْجَدِّ بِابْنٍ وَإِدْلَاءَ الْأَخِ بِأَبٍ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلًا مِنْ أَنَّ إِدْلَاءَ الْأَخِ بِالْبُنُوَّةِ وَإِدْلَاءَ الْجَدِّ بِالْأُبُوَّةِ لِإِدْلَائِهِمَا جَمِيعًا بِالْأَبِ فَكَانَ إِدْلَاءُ الْأَخِ أَقْوَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوِلَايَةِ الْجَدِّ فِي الْمَالِ وَالتَّزْوِيجِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْقُوَّةِ فِي الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَا يَلِي وَلَا يُزَوِّجُ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَإِنْ وَلِيَ وَزَوَّجَ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ شَارَكَهُ فِي مَوْضِعٍ لَشَارَكَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أن كل موضع ورث الجد فيه بالتعصيب الذي شارك فيه فإنه يشاركه في ميراثه لا لميراثهما فِي نَسَبِهِ، وَإِنَّمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَوْضِعِ الذي لا يَرِثُ الْجَدُّ فِيهِ بِالرَّحِمِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَخِ رَحِمٌ يُسَاوِيهِ فِيهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْجَدَّ لا يخلو من أحوال ثلاثة: فالجواب عنه أن الجد والإخوة مجتمعون على الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ فَلَمْ يَضْعُفْ عَنْهُ الْأَخُ لِلْأَبِ بعد الْأُمِّ لِمُسَاوَاتِهِ فِيمَا أَدْلَى بِهِ، كَمَا لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِأُمِّهِ، وَلَيْسَ كذلك حال الإخوة حالهم بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الأبوين فكان من جمعهما أقوى من انْفَرَدَ بِأَحَدِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وكل جد وإن علا فكالجد إِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ دُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَجْبِ أُمَّهَاتِ الْجَدِّ وَإِنْ بَعُدْنَ فَالْجَدُّ يَحْجُبُ أُمَّهَاتِهِ وَإِنْ بَعُدْنَ وَلَا يحجب أمهات من هو أقرب منه اللاتي لَمْ يَلِدْنَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِّ الْأَدْنَى وَالْجَدِّ الْأَبْعَدِ في مقاسمة الإخوة والأخوات، فأبعدهم فيه كأقربهم، كما كان الْأَبْعَدُ فِي الْإِدْلَاءِ كَأَقْرَبِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَعَلْتُمُ الْجَدَّ الْأَعْلَى كَالْجَدِّ الْأَدْنَى فِي مُقَاسَمَةِ الإخوة فهلا جعلتم بني الإخوة معهم كَالْإِخْوَةِ؟ قِيلَ الْمَعْنى فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْصِيبِ وَالْوِلَادَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْبَعِيدِ كَوُجُودِهِ فِي الْقَرِيبِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِابْنِ فِي التَّعْصِيبِ وَالْحَجْبِ مَوْجُودٌ فِي ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، لِأَنَّ مُقَاسَمَةَ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إِنَّمَا كَانَ بِقُوَّتِهِمْ عَلَى تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ وَحَجْبِ أُمِّهِمْ، وَبَنُو الْإِخْوَةِ قَدْ عَدِمُوا هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ وَلَا يُعَصِّبُونَ الْأَخَوَاتِ، فَلِذَلِكَ قَصَّرُوا عَنِ الإخوة في مقاسمة الجد ولم يقصروا في الْجَدِّ عَنْ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ كَالْجَدِّ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَحُكْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فِي الْمِيرَاثِ وَالْحَجْبِ وَمُقَاسِمَةِ الْإِخْوَةِ كَالْجَدِّ الْأَدْنَى إِلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْجَدَّ الْأَدْنَى يُسْقِطُ سَائِرَ أُمَّهَاتِ الْأَجْدَادِ، لِأَنَّهُنَّ وَلَدْنَهُ، وَالْجَدُّ الْأَعْلَى لَا يُسْقِطُ أُمَّهَاتِ الْجَدِّ الْأَدْنَى، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَلِدْنَهُ، وإنما يسقط أمهات نفسه اللاتي وَلَدْنَهُ، ثُمَّ هُوَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَفِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ كَالْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا كان مع الجد أحد من الإخوة أو الأخوات لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَيْسَ مَعَهُنَّ مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى قَاسَمَ أَخًا أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَخًا وَأُخْتًا فَإِنْ زَادُوا كَانَ لِلْجَدِّ ثُلُثُ الْمَالِ وَمَا بَقِيَ لَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 وَلَا يُسْقِطُهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِ مَعَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ، فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ فُرِضَ لَهُ الثُّلُثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ قَاسَمَ بِالْجَدِّ إِلَى السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ، فَيُقَاسِمُ بِهِ إِلَى خَمْسَةِ إِخْوَةٍ، وَيَفْرِضُ لَهُ مَعَ السِّتَّةِ السُّدُسَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ قَاسَمَ بِالْجَدِّ إِلَى نِصْفِ السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ مِنْهُ فَرَضَ لَهُ نِصْفَ السُّدُسِ، فَكَأَنَّهُ قَاسَمَ بِهِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ أَخًا، وَفَرَضَ لَهُ نِصْفَ السُّدُسِ مَعَ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ أَضْعَفَ مِنْهُ مَعَ الْبَنِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مَعَ الِابْنِ مِنَ السُّدُسِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مع الإخوة من السدس، وأما مُقَاسَمَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إِلَى السُّدُسِ: فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَبَ إِذَا فَرَضَ لَهُ لَمْ يَزِدْ فِي فَرْضِهِ عَلَى السُّدُسِ فكان الجد إذا فرض له أولى أن لا يُزَادَ عَلَى السُّدُسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ يُفْرَضُ لَهُ الثُّلُثُ مَعَ الْإِخْوَةِ إِنْ نَقَصَتْهُ المقاسمة هُوَ أَنَّ فِي الْجَدِّ رَحِمًا وَتَعْصِيبًا فَمِيرَاثُهُ مَعَ الِابْنِ بِرَحِمِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ السُّدُسَ، وَمِيرَاثُهُ مَعَ الْإِخْوَةِ بِتَعْصِيبِهِ كَمَا أَنَّهُمْ بِالتَّعْصِيبِ يَرِثُونَ، فلو فرض له السدس لا يسقط تَعْصِيبُهُ وَوَرِثَ بِرَحِمِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْوَةِ مَا يَدْفَعُونَ الْجَدَّ عَنْ تَعْصِيبِهِ فَلِذَلِكَ فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ لِيَكُونَ السُّدُسُ بِالرَّحِمِ. وَالسُّدُسُ بِالتَّعْصِيبِ الَّذِي أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالرَّحِمِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُهُ الْأَخَوَانِ إِلَى الثُّلُثِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي أصول الحجب أن الابنين إِذَا حَجَبَا إِلَى فَرْضٍ كَانَ مَنْ زَادَ عليهما في حكمها فِي اسْتِقْرَارٍ ذَلِكَ الْفَرْضِ بَعْدَ الْحَجْبِ، وَلَا يَحْجُبُ الثَّالِثُ زِيَادَةً عَلَى حَجْبِ الثَّانِي، كَالْأَخَوَيْنِ لَمَّا حَجَبَا الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ لَمْ يَزِدْهَا الثلث حجبا على الثاني حتى ينقص بِهِ مِنَ السُّدُسِ، كَذَلِكَ الْجَدُّ لَا يَنْقُصُهُ الثَّالِثُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَنْقُصَ الجد للإخوة فقال عمر لو كنت مستنقصا أحدا لأحد لأنقصت الإخوة للجد، أليس بنو عبد الله يرثون دون أخوتي فمالي لَا أَرِثُهُمْ دُونَ إِخْوَتِهِمْ، لَإِنْ أَصْبَحْتُ لَأَقُولَنَّ فِي الْجَدِّ قَوْلًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ ذُو فَرْضٍ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ شَارَكَ الْجَدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا إِخْوَةً مُنْفَرِدِينَ، فَإِنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ أَخَوَيْنِ وَلَا يُقَاسِمُ مَنْ زَادَ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأَخًا: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جَدًّا وَأَخَوَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ جَدًّا وَثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ فُرِضَ لِلْجَدِّ الثُّلُثُ وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَهَكَذَا يُفْرَضُ لَهُ الثُّلُثُ مَعَ مَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ أَخَوَاتٌ متفرقات فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنهما كانا يفرضان للأخوات المتفرقات مَعَ الْجِدِّ وَيَجْعَلَانِ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِنَّ لِلْجَدِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ السُّدُسِ فَيُفْرَضُ له السدس، ونحوه عنه عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ إلا في الأكدرية ونحوها، وترك الفرض لهن مع الجد أولى كَالْأَخِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْرِضْ لَهُنَّ مَعَ الْأَخِ لم يفرض لهن مع الجد، لأن كُلَّ مَنْ قَاسَمَ الذُّكُورَ قَاسَمَ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْإِنَاثِ كَالِابْنِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأُخْتًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا للذكر مثل حظ الأنثيين كالأخ والأخت، ولم كَانَتْ جَدًّا وَأُخْتَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، فَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، فَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سهم وتستوي المقاسمة والثلث ولو كانت جدا وَخَمْسَ أَخَوَاتٍ فَرَضَ لِلْجَدِّ الثُّلُثَ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ثُلُثِ الْجَدِّ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ فَيُقَاسِمُهُمْ إِلَى الثُّلُثِ ثُمَّ يَفْرِضُ لَهُ الثُّلُثَ إِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأَخًا وَأُخْتًا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ وَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَأَخًا وَأُخْتَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وللأختين سهمان، وَتَسْتَوِي الْمُقَاسَمَةُ وَالثُّلُثُ، وَلَوْ كَانَتْ جَدًّا، وَأَخَوَيْنِ، وَأُخْتًا فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ، وَكَانَ الْبَاقِي بين الأخوين والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، وَهَكَذَا يَفْرِضُ لَهُ الثُّلُثَ مَعَ أَخٍ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنْهُ ثُمَّ هَكَذَا من زاد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن كان معهن مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى زَوْجٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ الْمُسَمَّى النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ بَدَأْتُ بِأَهْلِ الْفَرَائِضِ ثُمَّ قَاسَمَ الجد ما يبقى أختا أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَخًا وَأُخْتًا وإن زادوا كان للجد ثلث ما يبقى وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين وإن كَثُرَ الْفَرْضُ الْمُسَمَّى بِأَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ وَلَمْ يجاوز الثلثين قاسم أختا أو أختين فإن زادوا فللجد السدس وإن زَادَتِ الْفَرَائِضُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لَمْ يُقَاسِمِ الْجَدُّ أَخًا وَلَا أُخْتًا وَكَانَ لَهُ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَفَرُّدِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ بِالْمِيرَاثِ، فَأَمَّا إِذَا شَارَكَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَلِلْجَدِّ مَعَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَيْهِمُ الْأَكْثَرُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةُ، أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُقَاسَمَةُ أَكْثَرَ قَاسَمَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ، فإن كان الثلث الْبَاقِي أَكْثَرَ فَرْضٍ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 لما ذكرناه من أنهم لا يحجبون إلى أقل من الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ السُّدُسُ أَكْثَرَ فَرَضَ لَهُ السُّدُسَ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ بِرَحِمِهِ عَنِ السُّدُسِ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا لَهُ الْأَكْثَرَ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي، أَوْ سُدُسَ الْجَمِيعِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ: فَيُعْطِي الْجَدَّ الْأَكْثَرَ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ سُدُسِ الْجَمِيعِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أَوْفَرُ لَهُ، وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَجَدًّا، وَأَخًا، وأختا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أوفر له، ولو ترك زوجة، وأخا، وجدا، وأختا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ والأخت على خمسة أسهم والْمُقَاسَمَةَ أَوْفَرُ وَلَوْ تَرَكَ أما، وَأَخًا، وأختين، وَجَدًّا، كَانَ للأم السدس، وَالْبَاقِي بَيْنِ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتين عَلَى ستةِ أَسْهُمٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي سَوَاءٌ، وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأَخَوَيْنِ، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ للأم السدس، وللجد ثلث ما بقي، لأنه أكثر الْمُقَاسَمَةِ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِلذّكرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأُمًّا، وَأَخًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى خمسة أسهم وَالْمُقَاسَمَةُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ النِّصْفَ لَا غَيْرَ: وَذَلِكَ فَرْضَانِ: فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْبِنْتِ، فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ فَكَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخَوَيْنِ، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخَوَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي وَسُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخْوِيَنِ، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى، وَهُوَ سُدُسُ الْجَمِيعِ أَيْضًا وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لا يقاسمهم الجد، لتساويه بِالْمُقَاسِمَةِ عَنْ ثُلُثِ مَا يَبْقَى وَسُدُسِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَرْضَ الْبِنْتِ: فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْجَدُّ عَلَى السُّدُسِ مَعَ الْبِنْتِ، أَوْ بِنْتِ الِابْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ إِنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ مَعَ الْبِنْتِ كَمَا يقاسم مَعَ غَيْرِ الْبِنْتِ، لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَضْعُفُ عَنِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، فَلَمَّا اقْتَسَمَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ الْبِنْتِ اقْتَسَمَهُ الْأَخُ وَالْجَدُّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة، ولو ترك بنتا وأخوين، وأختا، وجدا، كان للبنت النصف، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى وَهُوَ السُّدُسُ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ عَنْهُ وَالْبَاقِيَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ لِلْجَدِّ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، لِأَنَّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَقَلُّ مِنْهُ، فعلى هذا لو ترك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 زوجة، وأما، وأختا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ لَهُ مِنَ السُّدُسِ، وَتُفَضَّلُ الْأُمُّ بِسَهْمِهَا عَلَى الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ، وَفَضَّلَهَا زَيْدٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَقْوَى وِلَادَةً وَأَقْرَبَ دَرَجَةً فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَفْضِيلُهَا عَلَى الْجَدِّ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ، وَأَخًا، وَجَدًّا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَالسُّدُسُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ مَعَ الأخ أخت فرض للجد سدس، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أَقَلُّ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الفرض أكثر من الثلثين: لِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَرُبَّمَا اسْتَوَى السُّدُسُ وَالْمُقَاسَمَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأَخًا وَجَدًّا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي للأخ سهم من اثني عشر، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً، وَأَمًّا، وَبِنْتًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وعشرين سهما فلو كانت زوجا، وبنتا، وأخا، وجدا، فللزوج الربع، وللبنت النصف، وسدس للجد وَالْمُقَاسَمَةُ سَوَاءٌ، فَيُقَاسِمُ بِهِ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ عَنْ فَرْضِهِ أَوْلَى فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن عالت الفريضة فالسدس للجد والعول يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ ". قال الماوردي: وأما الْعَوْلُ فَهُوَ زِيَادَةُ الْفُرُوضِ فِي التَّرِكَةِ حَتَّى تَعْجِزَ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا فَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى الْفُرُوضِ بِالْحِصَصِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُ ذَوِي الفروض من دُون بَعْضٍ، فَهَذَا هُوَ الْعَوْلُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ عَنْ رَأْيِ جَمِيعِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليه، وأشار بِهِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَيْهِ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ خَالَفَهُمْ فِي الْعَوْلِ، وَأَظْهَرَ خِلَافَهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ أكمل فرض من نقله الله تَعَالَى مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ والأم، وأدخل النقص على من نقله الله مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فَرْضٍ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ لِانْتِقَالِهِنَّ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فرض. وروى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَتَرَوْنَ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عددا لم يحصي في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا، فبهذان النصفان قد ذهبنا بِالْمَالِ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ قَالَ عَطَاءٌ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنَّ هَذَا لَا يُغْنِي عَنْكَ وَلَا عَنِّي شَيْئًا لَوْ مِتُّ أَوْ مِتَّ قُسِّمَ مِيرَاثُنَا عَلَى مَا قاله اليوم من خلاف رأيك قال فقال إن شاؤا فلندع أبناءنا وأبنائهم، ونسائنا ونسائهم، وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَهُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي مَالٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 وَروي الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أنا وزفر بن أوس وما كنت ألقى رجلا من العرب يحيك فِي صَدْرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ زُفَرُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قدم الله مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ، قَالَ فَقَالَ لَهُ يا أبا العباس وَأَيُّهَا الَتِي قَدَّمَهَا اللَّهُ وَأَيُّهَا الَّتِي أَخَّرَ؟ فقال كل فريضة لم تزول عن فريضة إلا إلى فريضة هي التي قدمها الله، وكل فريضتين عالت عَنْ فَرِيضَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَا بَقِيَ فَهِيَ الَّتِي أَخَّرَ، فَأَمَّا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ فَالزَّوْجُ فَلَهُ النِّصْفُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُزِيلُهُ فَلَهُ الرُّبُعُ لَا يُزِيلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالْمَرْأَةُ لَهَا الرُّبُعُ فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ صَارَ لَهَا الثُّمُنُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ شَيْءٌ، والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صار لها السدس لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ شَيْءٌ، فَهَذِهِ الْفَرَائِضُ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ، وَالَّتِي أَخَّرَ فَرِيضَةُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ النصف والثلثان، فإذا أزالتهما الفرائض عن ذلك لم يكن لهم إلا ما يبقى، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَا قَدَّمَ اللَّهُ وَمَا أَخَّرَهُ بدئ بما قدمه الله ولم تعل فريضة، فقال له البصري فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسِيرَ بِهَذَا الرَّأْيِ عَلَى عمر قال هبته وكان امرءا وَرِعًا فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ ابْنَ عَبَّاسٍ إِمَامٌ عَدْلٌ فَأَمْضَى أَمْرًا فَمَضَى وكان امرءا وَرِعًا لَمَا اخْتَلَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ في إسقاط العول واحتجاجه فيه فلم يُتَابِعْهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ علي عليهم السلام. ومن الفقهاء داود بن علي دليل ذَلِكَ مَعَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ لَيْسَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ بِأَقْوَى مِنَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ فَلَمَّا أَخَذَ الْبَنُونَ وَالْإِخْوَةُ ما بقي بعد ذوي الفروض وإن قيل كَانَ أَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ. وَالدَّلِيلُ على استعمال العول وإدخال النقص على الْجَمَاعَةِ بِقَدْرِ فُرُوضِهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها " وكان الْأَمْرُ لِجَمِيعِهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْصِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قُصُورُ التَّرِكَةِ عَنِ الدَّيْنِ وَضِيقِ الثُّلُثِ عَنِ الوصية توجب توزيع ذلك بالحصص وإدخال النَّقْصِ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْقِسْطِ وَلَا يُخَصُّ بِهِ الْبَعْضُ مَعَ تَسَاوِي الْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فرض التركة بمثابة في إدخال النقص على جميعها بالحصص، ولأن لَوْ جَازَ نَقْصُ بَعْضِهِمْ تَوْفِيرًا عَلَى الْبَاقِينَ لكان نقص الزوج والزوجة ولإدلائهما بِسَبَبٍ أَوْلَى مِنْ نَقْصِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ إدلائهما بنسب ولأن الزوج والزوجة والأم وإن أُعْطَوْا مَعَ كَثْرَةِ الْفُرُوضِ وَضِيقِ التَّرِكَةِ أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ كَمَّلَا وَإِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى غَيْرِهِمْ ظُلْمٌ من شاركهم وجعلوا أعلى في الحالة الأدنى وَإِنْ أُعْطَوْا أَقَلَّ الْفَرْضَيْنِ فَقَدْ حُجِبُوا بِغَيْرِ مَنْ حَجَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فاسد، وإذا فسد الأمران وجب العول. فأما اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ ضَعْفَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَى الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أنَّ فِي إِعْطَائِهِنَّ الْبَاقِي تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِيمَا قَدَّرَهُ لِأَحَدِهِمَا وَأَرْسَلَهُ لِلْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُقَدَّرِ وَالْمُرْسَلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 وأما ضيق المال عن نِصْفَيْنِ وَثُلُثٍ: فَلَعَمْرِي إِنَّهُ يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ مع عدم العول، ويتبع لَهُ مَعَ وُجُودِ الْعَوْلِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ يُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ فَكُلُّهُمْ مقدم لأمرين: أحدهما: أنه لَيْسَ يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِيمَا قَالَهُ ابْنُ عباس حجب بعضهم ببعض. وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ جَمِيعِهِمْ مُقَدَّرٌ وَفِيمَا قَالَهُ ابن عباس إبطال التقدير فَرْضَهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ يُعَالُ لِأَحَدٍ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ إِلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَجَدٌّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَلَلْأُخْتِ النِّصْفُ يُعَالُ بِهِ ثُمَّ يُضَمُّ الْجَدُّ سُدُسُهُ إِلَى نِصْفِ الْأُخْتِ فَيُقْسَمَانِ ذَلِكَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ بِنِصْفِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا فَرَضَا لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِيمَا تقدم. والثاني: أنه يُفَضِّلَ أُمًّا عَلَى جَدٍّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عليه. والثالث: أنه لا يُعِيلَ مَسَائِلَ الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعِيلُونَ مَسَائِلَ الْجَدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَعُولُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ يَرِثُ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بِالتَّعْصِيبِ وَمَسَائِلُ الْعَصِبَاتِ لَا تَعُولُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَمْنَعُ من عول مسائل الجد فإن انفراد الأخوات مانعا من العول فهذه ثلاثة أصول لزيد عَمِلَ عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْنِ مِنْهَا، وَالْأَكْدَرِيَّةُ هِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ، إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ عَنْ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ، لِأَنَّهُمَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ وَعَالَتْ بِثُلُثِهَا إلى ثمانية. والقسم الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ للزوج النصف، وللأم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، وتعول بنصفها إلى تسعة وتقسيم بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ زيد بن ثابت والمشهور عنه للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، ويعول نصفها إِلَى تِسْعَةٍ ثُمَّ تَجْمَعُ سِهَامَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَتَجْعَلُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَلَا تقسم فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ في ثلاثة ستة، ويبقى اثْنَا عَشَرَ لِلْأُخْتِ ثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثَاهَا ثَمَانِيَةٌ، فَفَارَقَ زِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَرَضَ لِلْأُخْتِ مَعَ الْجَدِّ وَهُوَ لَا يَرَى الْفَرْضَ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعَالَ مُقَاسَمَة الْجَدِّ وَهُوَ لَا يُعِيلُهَا وَأَقَامَ عَلَى أَصْلِهِ الثَّالِثِ فِي جَوَازِ تَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ، وَإِنَّمَا فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْهِ فِي الْفَرْضِ وَالْعَوْلِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى الْجَدِّ أَسْقَطَ الْأُخْتَ وَهُوَ لَا يُسْقِطُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَصَّبَهَا وَالذَّكَرُ إِذَا عَصَّبَ أُنْثَى فَأَسْقَطَهَا سَقَطَ مَعَهَا كَالْأَخِ إِذَا عَصَّبَ أُخْتَهُ وَأَسْقَطَهَا سَقَطَ مَعَهَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأُخْتِ أَخٌ أَسْقَطَهُ الْجَدُّ، لِأَنَّهُ لم يتعصب بالجد كالأخت فجاز أن يسقطه الجد وَيَرِثَ دُونَهُ فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَفْرِضْ لِلْجَدِّ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْرِضَ لِلْأُخْتِ وَيَسْقُطُ الْجَدُّ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَسْقُطُ مَعَ الوالد الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْأُخْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِالْأُخْتِ فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ فَرَضَ لَهُمَا وَأَعَالَ ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا فَرَضَ لَهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْضِيلَ الْأُخْتِ عَلَى الْجَدِّ وَالْجَدُّ عِنْدَهُ كَالْأَخِ الَّذِي يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَكُلُّ ذَكَرٍ عَصَّبَ أُنْثَى قَاسَمَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فلذلك ما فَرَضَ زَيْدٌ وَأَعَالَ وَقَاسَمَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ واختلفوا في تسمية هذه المسألة بالأكدرية فَقَالَ الْأَعْمَشُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَأَلَ عَنْهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْأَكْدَرُ فَأَخْطَأَ فِيهَا فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَدَّ كَدَّرَ عَلَى الْأُخْتِ فَرْضَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَدَّرَتْ عَلَى زَيْدٍ مَذْهَبَهُ فِي أَنْ فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْنِ لَهُ وَقَدْ يُلْقِي الْفَرْضِيُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُعَايَاةِ الْفَرَائِضِ فَيَقُولُونَ: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا تَرِكَةً فَجَاءَ أَحَدُهُمْ فَأَخَذَ ثُلُثَهَا، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي فَأَخَذَ ثُلُثَ الْبَاقِي، ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثُ فَأَخَذَ ثُلُثَ الْبَاقِي، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعُ فَأَخَذَ الْبَاقِي، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ ثُلُثَهَا ثُمَّ الْأُمُّ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي ثُمَّ الْأُخْتُ تَأْخُذُ ثُلُثَ بَاقِيهَا. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ فِي الْأَكْدَرِيَّةِ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخًا سَقَطَ بِالْجَدِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ ما قدمناه من أن الأخت تعصيبها بِالْجَدِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَهَا وَلَا يَسْقُطَ مَعَهَا، وَالْأَخُ لَمْ يَتَعَصَّبْ بِالْجَدِّ بَلْ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُسْقِطَهُ الْجَدُّ وَيَأْخُذَ بِالرَّحِمِ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَأَخًا، وَجَدًّا، وَأُخْتًا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وللجد السدس، تعول إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ، لِأَنَّهَا تَعَصَّبَتْ بِالْبِنْتِ فَلَمْ يُوجِبْ سُقُوطَهَا سُقُوطَ الْجَدِّ مَعَهَا، ولم يمتنع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 عَوْلُهَا، لِأَنَّ الْجَدَّ لَمْ يَرِثْ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ، وَإِنَّمَا لَا تَعُولُ مَسَائِلُ الْجَدِّ الَّتِي يُقَاسِمُ فِيهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مَسَائِلِ الْجَدِّ، وَقَدْ تَعُولُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تَعُولُ مَعَ الْأَبِ. فَصْلٌ: فِي مُلَقَّبَاتِ الْجَدِّ مِنْهَا الْخَرْقَاءُ وَهِيَ أُمٌّ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم والفقهاء: أن للأم الثلث، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، لِأَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْأُخْتِ الثُّلُثَ، وَلِلْجَدِّ الثُّلُثَ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عليه السلام: أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، لأنه لا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ. وَالْخَامِسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْجَوَابَ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَرْقَاءَ، لِأَنَّ أقاويل الصحابة رضي الله عنهم تخرقها، وَسُمِّيَتْ مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَسُمِّيَتْ مُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " والإخوة والأخوات للأب والأم يعادون الجد والأخوات بالإخوة للأب ولا يصير في أيدي الذين للأب شَيْءٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيُصِيبُهَا بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ فيرد مَا زَادَ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ مَعَ الْجَدِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَنْ قَاسَمَ الْجَدَّ بالإخوة والأخوات في أَنَّهُ مَتَى انْفَرَدَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ قَاسَمُوهُ، وَإِذَا انْفَرَدَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ قَاسَمُوهُ كَمُقَاسَمَةِ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي اجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ مَعَهُ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ يَسْقُطُونَ بِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أُنْثَى وَاحِدَةً وَوَلَدُ الْأَبِ إِنَاثًا وَلَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ فَيُفْرَضُ لَهُنَّ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطْنَ به مع ولد الأب والأم استدلالا بأنه وَلَد الْأَبِ لَمَّا سَقَطُوا بِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 عَنِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْجَدِّ سَقَطُوا فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ سَبَبٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ يُقَاسِمُونَ الْجَدَّ مَعَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ يَرُدُّونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أُنْثَى وَاحِدَةً فَلَا تُزَادُ فِيمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا عَلَى النِّصْفِ، فَإِنْ وَصَلَ بَعْدَ النِّصْفِ شَيْءٌ تَقَاسَمَهُ وَلَدُ الْأَبِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين، وحكي نحوه عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ بِوَلَدِ الْأَبِ مَعَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ: هُوَ أَنَّ مُقَاسَمَةَ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إِنَّمَا كَانَ لِإِدْلَاءِ جَمِيعِهِمْ بِالْأَبِ فَلَمَّا ضَعُفَ الْجَدُّ عَنْ دَفْعِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ بِانْفِرَادِهِمْ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ دَفْعِهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ ما اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي مُقَاسَمَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ دَفَعُوهُمْ عَمَّا صَارَ إِلَيْهِمْ حِينَ ضَعُفَ الْجَدُّ عَنْ دَفْعِهِمْ فَلِذَلِكَ عَادَ مَا أَخَذَهُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْجُبَ الأخوة شخصا ثم يَعُودُ مَا حَجَبُوهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَلَا تَرَى أن الأخ للأب يحجب الأم مع الخ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ يَعُودُ السُّدُسُ الَّذِي حَجَبَهَا عَنْهُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، فَهَكَذَا فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، وَهَكَذَا الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مَعَ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ يَعُودُ الْحَجْبُ عَلَى الْأَبِ دُونَ الأخوين. فأما الجواب عن الاستدلال بأن المقاسمة إنما تحجب الاستحقاق بِهَا فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ صَحِيحٌ وَقَدِ اسْتَحَقَّهُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَارَتِ الْمُقَاسَمَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا لِغَيْرِهِ. فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ لِلْأَبِ سَهْمَهُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لِلْأَخِ للأب والأم سهمين، وَلِلْجَدِّ سَهْمٌ، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أربعة، ثم ترد الأخت للأب سهما عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ على الأخ للأب والأم سهما فيصير للأخ للأب وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة ثم ترد الأختان سهما عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ لِلْأَبِ مِنْ سَهْمِهِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تَمَامَ النِّصْفِ سَهْمًا وَنِصْفًا فَيَصِيرُ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، وَمَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ نِصْفُ سَهْمٍ، وَمَعَ الْجَدِّ سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ عَشَرَةٍ، فَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتَانِ مِنَ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ والأم تمام النصف لينتقل إِلَى عَشَرَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ عِشْرِينَ، فَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة هم تَرُدُّ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تمام النصف سهمين ويقتسمون السهم الباقي وتصح من ثمانية عشر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 فلو تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة ثم ترد الْأُخْتَانِ لِلْأَبِ سَهْمَيْهِمَا عَلَى الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ فَيَصِيرُ مَعَ الْأُخْتَيْنِ أربعة ومع الجد سهمان، ويرجع إلى ثلاثة وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ وَمِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سُدُسُهَا لِلْأُمِّ ثلاثة، والباقي لِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تَمَامُ النِّصْفِ تِسْعَةٌ، وَيَبْقَى سَهْمٌ وَاحِدٌ لِوَلَدِ الْأَبِ عَلَى خَمْسَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ تِسْعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ تِسْعِينِيَّةَ زيد، ولو ترك أما، وأختا لأب ولأم، وَأَخًا، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ وَثُلُثَ الباقي سواء فإن عملها عَلَى الْمُقَاسَمَةِ كَمَّلَتْ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفَ، وَجَعَلَتِ الْبَاقِيَ بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَيَصِحُّ عَمَلُهَا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ، وَإِنْ عَمِلْتَهَا على إعطاء الجد ثلث الباقي أخذنا عَدَدًا تَصِحُّ مِنْهُ مَخْرَجَ السُّدُسِ وَثُلُثَ الْبَاقِي وأصله ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ مِنْهَا السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ الْبَاقِي خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ تِسْعَةٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ فَتَصِحُّ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْمُخْتَصَرِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ مُخْتَصَرَةَ زَيْدٍ. وَالْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَذَفْنَا الجواب على قول من سِوَاهُ كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَكْثَرُ مَا تَعُولُ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُلُثَاهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَقْصُورٌ عَلَى فِقْهِ الْفَرَائِضِ دُونَ الْعَمَلِ، غَيْرَ أَنَّنَا لَا نُحِبُّ أَنْ نُخْلِهِ مِنْ فُصُولٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولِ الْحِسَابِ وَطَرِيقِ الْعَمَلِ لِيَكُونَ الْكِتَابُ كَافِيًا، وَلِمَا قَصَدْنَا حَاوِيًا. فَأَوَّلُ الْفُصُولِ أُصُولُ الْمَسَائِلِ: قد ذَكَرْنَا جَمْعًا وَتَفْصِيلًا أَنَّ الْفُرُوضَ سِتَّةٌ، النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ، وَمَخْرَجُ حِسَابِهَا مِنْ سَبْعَةِ أُصُولٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لَا تَعُولُ، وَثَلَاثَةٌ تَعُولُ، فَالْأَرْبَعَةُ الَّتِي لَا تَعُولُ مَا أَصْلُهُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ نِصْفَانِ فَأَصِلُهَا مِنِ اثْنَيْنِ وَلَا تَعُولُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فيها عصبة إلا في فريضة واحدة وهي زَوْجٌ وَأُخْتٌ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُلُثٌ أو ثلثان أقرهما فَأَصْلُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا تَعُولُ، لِأَنَّهُ لَا بد أن ترث فيها عصبة الأخ فَرِيضَة وَاحِدَة وَهِيَ أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وإذا كان في المسألة ربع أو نصف وربع فَأَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَلَا تَعُولُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا عَصَبَةٌ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمُنٌ أَوْ كَانَ مَعَ الثُّمُنِ نِصْفٌ فَأَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَلَا تَعُولُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا عَصَبَةٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُصُولٍ لَا تَعُولُ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَعُولُ فَمَا أَصْلُهُ مِنْ سِتَّةٍ وَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُدُسٌ أَوْ كَانَ مَعَ السُّدُسِ ثُلُثٌ أَوْ نِصْفٌ فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشَرَةٍ وَهُوَ أَكْثَرُ الْعَوْلِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَأَكْثَرُ مَا تَعُولُ بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 الْفَرِيضَةُ ثُلُثَاهَا لِأَنَّهَا عَالَتْ بِأَرْبَعَةٍ هِيَ ثُلُثَا السِّتَّةِ فَانْتَهَى عَوْلُهَا إِلَى عَشَرَةٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ عَالَتْ إِلَى عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ إِلَّا امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا زَوْجٌ وَلَا يَرِثَ فِيهَا أَبٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا أَخَوَاتٌ وَلَا يَرِثَ فِيهَا جَدٌّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا وَلَدُ الْأُمِّ وَهَذِهِ الْفَرِيضَةُ الَّتِي تَعُولُ إلى عشرة يسميها الفرضيون أم القروح وَمَا تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ فَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ إِلَّا امْرَأَةً وَلَا يَرِثُ فِيهَا أَبٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِثَ فِيهَا جَدٌّ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا تَعُولُ إِلَيْهِ مَسَائِلُ الْجَدِّ وَيُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ الْغَرَّاءَ وَمَا تَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ فَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ إلا امْرَأَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِثَ فِيهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَيُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ الْمُبَاهَلَةَ فَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَعُولُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رُبُعٌ مَعَ سُدُسٍ أَوْ ثُلُثٍ وثلثين فأصلها من اثني عشرة وَلَا تَعُولُ إِلَى الْأفْرَادِ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَإِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَإِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ وَلَا تَعُولُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا إِلَى الأزواج فيما ذَلِكَ وَمَا عَالَ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ فِيهِ إِلَّا رَجُلًا وَلَا يَرِثُ فِيهِ أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَمَا عَالَ إِلَى خمسة وَإِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَجَازَ أَنْ يَرِثَ فِيهِ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَهَذَا ثَانِي الْأُصُولِ الَّتِي تَعُولُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمُنٌ مع سدس أو ثلث أو ثلثين فأصلها مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ الْمِنْبَرِيَّةُ وَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ فِيهَا إِلَّا رَجُلًا وَلَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا الْأَبَوَانِ مَعَ الْبَنَاتِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ. وَوَجْهُ تَصْحِيحِهَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي سِهَامِ الْفَرِيضَةِ عَدَدَانِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا أو أجناسا فإن كان جِنْسًا وَاحِدًا لَمْ تَخْلُ سِهَامُ فَرِيضَتِهِمُ الْمَقْسُومَةُ عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أن تكون منقسمة على عدد رؤوسهم عَلَيْهِمْ أَوْ مُوَافِقَةً لِعَدَدِهِمْ أَوْ غَيْرَ مُنْقَسِمَةٍ وَلَا مُوَافِقَةٍ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ فَرِيضَتِهِمْ مُنْقَسِمَةً عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ فَالْمَسْأَلَةُ تَصِحُّ مِنْ أَصْلِهَا. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ. وَهَكَذَا زَوْجَةٌ وَابْنَانِ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سَبْعَةُ أسهم بين البنين وَالْبَنَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَيْهِمْ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن لا تنقسم سهامهم عليهم ولا يوافق عَدَدُ رُؤُوسِهِمْ لِعَدَدِ سِهَامِهِمْ إِمَّا لِزِيَادَةِ عَدَدِ الرُّؤُوسِ عَلَى عَدَدِ السِّهَامِ وَإِمَّا لِزِيَادَةِ السِّهَامِ عَلَى عَدَدِ الرؤوس فَتَضْرِبُ عَدَدَ الرؤوس فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا خَرَجَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 مِثَالُهُ: أُمٌّ وَثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ بين الإخوة الثلاثة لا ينقسم عَلَيْهِمْ وَلَا تُوَافِقُ عَدَدَهُمْ فَاضْرِبْ عَدَدَ رؤوسهِمْ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَصِحُّ مِنْهَا فَهَذَا قِسْمٌ ثَانٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن لا تَنْقَسِمَ سِهَامُهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ وَلَكِنْ يُوَافِقُ عَدَدَ سِهَامِهِمْ لِعَدَدِ رؤوسهم والموافقة أن يناسب أحد الفردين الْآخَرَ بِجُزْءٍ صَحِيحٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ خُمُسٍ أَوْ سُدُسٍ أَوْ سُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأجزاء الصحيحة على ما سنذكره من الطريق إِلَى مَعْرِفَتِكَ لِمَا يُوَافِقُ بِهِ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ الْآخَرَ فَرُدَّ عَدَدَ الرؤوس إِلَى مَا يُوَافِقُ بِهِ عَدَدَ سِهَامِهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ ثُمَّ تَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ فَتَصِحُّ مِنْهُ ويجعل مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ الْعَدَدِ الَّذِي ضَرَبْتَهُ فِي أصل المسألة. مثاله: زوج وستة بنين أصلها من أربعة للزوج منها الربع سهم والباقي ثلاثة على ستة لا ينقسم وَلَكِنَّ السِّتَّةَ تُوَافِقُ الثَّلَاثَةَ بِالْأَثْلَاثِ لِأَنَّ لِكُلِّ واحد منهما ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَتَرُدُّ السِّتَّةَ إِلَى وَفْقِهَا وَهُوَ اثْنَانِ ثُمَّ تَضْرِبُ الِاثْنَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَمِنْهُ تَصِحُّ فَهَذَا إِذَا كَانَتِ السِّهَامُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأَكْثَرَ مَا تَنْكِسِرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ فَإِنْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ عَلَى جِنْسَيْنِ فَلَا يَخْلُو عَدَدُ الْجِنْسَيْنِ الَّذِينَ قَدِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمَا سِهَامُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا؛ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ. وَالثَّانِي: أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ؛ أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ. وَالرَّابِعُ: أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ وَلَا يُوَافِقَهُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ العددين مساويا للآخر فتقتصر عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ وَتَضْرِبُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا فَتَصِحُّ مِنْهُ وَيَنُوبُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ عَنِ الْآخَرِ. مِثَالُهُ: أُمٌّ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْخَمْسِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عليهن ولأولاد الأم الثلث سهمان لا ينقسمان عَلَيْهِنَّ فَاضْرِبْ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ تَكُنْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ وَمِنْهُ تَصِحُّ لِلْأُمِّ سَهْمٌ مِنْ سَبْعَةٍ مَضْرُوبٌ لَهَا فِي خَمْسَةٍ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَرْبَعَةٌ من سبعة مضروب لهن في خمسة يكن عشرين وللأخوات من الأم سهمان مضروبان فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون أحد العددين لا يساوي الآخر ولكن يَدْخُلُ فِيهِ كَدُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالسِّتَّةِ وَكَدُخُولِ الثَّلَاثَةِ فِي السِّتَّةِ وَالتِّسْعَةِ وَكَدُخُولِ الْعَشَرَةِ في العشرين والثلاثين ومعرفتك بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَصِحُّ مِنْ أَحَدِ ثلاثة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 أحدها: إما أن تقسم الأكثر على الأقل فتصح القسمة. والثاني: إما أن تضاعف الأقل فيفنى به الأكثر. والثالث: إما أَنْ يَنْقُصَ الْأَقَلُّ مِنَ الْأَكْثَرِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْأَكْثَرِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ فِي الْآخَرِ كَانَ الْأَقَلُّ مُوَافِقًا لِلْأَكْثَرِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كَدُخُولِ الثَّمَانِيَةِ فِي السِّتَّةَ عَشَرَ تُوَافِقُهَا بِالْأَثْمَانِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَنْصَافِ وَكَدُخُولِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فِي الستة والثلاثين توافقها بأجزاء اثني عشر وبالأسداس والأثلاث والأنصاف فيجعل ذلك ويقاس عَدَدُ الرؤوس وَعَدَدُ السِّهَامِ بِأَقَلِّ الْأَجْزَاءِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسَيْنِ مِنْ رؤوس الْوَرَثَةِ لِأَنَّ دُخُولَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يُغْنِيكَ عَنِ الْوَفْقِ بَيْنَهُمَا فَاقْتَصِرْ عَلَى ضَرْبِ الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ. مِثَالُهُ: زوجتان وأربعة إخوة للزوجتين الربع سهم ولا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ وَالِاثْنَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْأَرْبَعَةِ فَاضْرِبِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي هِيَ عَدَدُ الْإِخْوَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَمِنْهَا تَصِحُّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ لَا يُسَاوِي الْآخَرَ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ بِجُزْءٍ صَحِيحٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ وَمَعْرِفَتُكَ لِمَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْمُوَافَقَةِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ دُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْعَدَدَانِ مُتَّفِقِينَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَقَلِّ منها غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي وَفْقِ مَا بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِغْنَائِكَ عَنْهُ بالاقتصار على ضرب الأكثر في الأقل. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن لا يَدْخُلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعُدَّ بِهِ الْأَكْثَرَ ثُمَّ تنظر به الْبَاقِي مِنَ الْأَكْثَرِ فَتَعُدُّ بِهِ الْأَقَلَّ فَإِنْ عَدَّهُ عَدًّا صَحِيحًا حَتَّى صَارَ دَاخِلًا فِيهِ والباقي مِنْ عَدَدِ الْأَكْثَرِ هُوَ الْوَفْقُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً كَانَ اتِّفَاقُهُمَا بِالْأَثْلَاثِ وَإِنْ كان أربعة فبالأرباع وإن كان خَمْسَةً فَبِالْأَخْمَاسِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ ثَمَانِيَةً وَالْآخَرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَإِذَا عَدَدْتَ الثَّمَانِيَةَ وَالْعِشْرِينَ بِالثَّمَانِيَةِ بَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَإِذَا عَدَدْتَ الثمانية بالأربعة استوفتها ودخلت فيها فيعلم أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ بِالْأَرْبَاعِ فَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْأَكْثَرِ لا تعد الأقل عددا صحيحا يستوفيه وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ عَدَدْتَ بِهَا بَقِيَّةَ الْأَكْثَرِ فَإِنْ عدتها عدا صحيحا واستوفتها ففيه أقاويل هو وفق العددين وإن تَجِدَ عَدَدًا يُعَدُّ مَا قَبْلَهُ وَيَسْتَوْفِيهِ عَدَدًا صَحِيحًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الْوَفْقُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي وَاحِدًا فَرْدًا فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْعَدَدَيْنِ لَا يَتَّفِقَانِ بِشَيْءٍ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ سِتَّةً وَخَمْسِينَ وَالْآخَرُ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ فَيَبْقَى بَعْدَ إِسْقَاطِ الأقل من الأكثر أحد وعشرين فنعد بها الأقل يبقى أربعة عشر فنعد الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ بِالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَبْقَى سَبْعَةٌ فَتَعُدُّ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالسَّبْعَةِ تَعُدُّ بِهَا وَتَسْتَوْفِيهَا فَيُعْلَمُ أن العددين يَتَّفِقَانِ بِالْأَسْبَاعِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَالْآخرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَإِذَا أَسْقَطْتَ الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ بَقِيَتْ أَرْبَعَةً فَتَعُدُّ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ يَبْقَى وَاحِدٌ فَتَعْلَمُ أَنَّ الْعَدَدَيْنِ لَا يَتَّفِقَانِ فَهَذَا أَصْلٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 فَافْهَمْهُ ثُمَّ عُدْنَا إِلَى جَوَابِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مُوَافِقًا لِلْآخَرِ ضَرَبْتَ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وفق الأقل في الأكثر وإن شئت ضرب وفق الأكثر في الأقل قل فَهُمَا سَوَاءٌ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا حَصَلَ بِيَدِكَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَسِتُّ جَدَّاتٍ وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ تَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمٌ على ستة لا ينقسم وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ عَلَى تِسْعَةٍ لَا تَنْقَسِمُ عليها ولا توافقها وعدد الجدات وهو ست يوافق عدد الأخوات وهو تسع بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وَفْقَ السِّتَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي التسعة يكن ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وَفْقَ التِّسْعَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي السِّتَّةِ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الرؤوس وَالسِّهَامِ مُوَافَقَةٌ وَبَيْنَ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ مُوَافَقَةٌ رَدَدْتُ عَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ إلى وفق سهامه بما وَافَقْتَ بَيْنَ وَفْقِ الْعَدَدَيْنِ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا حَصَلَ مِنْ وَفْقِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِثَالُهُ: أُمٌّ وستة عشر أختا لأب وأم واثنتا عَشْرَةَ أُخْتًا لِأُمٍّ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ لِلْأُمِّ مِنْهَا السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ عَلَى سِتَّة عَشَرَ لَا تَنْقَسِمُ وَلَكِنْ تَوَافِقُ بِالْأَرْبَاعِ ترد الأخوات إلى الأربعة وللأخوات من الأم الثُّلُثُ سَهْمَانِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لَا تَنْقَسِمُ ولكن توافق بالأنصاف إلى ستة ثم أربعة توافق الستة بالأنصاف فاضرب نصف أحدهما في الْآخَرِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ تَضْرِبُ كُلَّ مَنْ لَهُ شيء من سبعة فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ لِلْأُمِّ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَلَى ستة عشر ينقسم لكل واحدة منهن ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ يَنْقَسِمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ لَا يُسَاوِي الْآخَرَ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَا يُوَافِقُهُ فَتَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَخَمْسُ بَنَاتٍ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ لَا تَنْقَسِمُ وَلَا تُوَافِقُ وللأخوات ما بقي وَهُوَ سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَاضْرِبْ خَمْسَةً هِيَ عدد البنات في ثلاثة لأنهما لا يتفقان يكن خمسة عشرة ثُمَّ اضْرِبِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ هي أصل المسألة يكن مِائَةً وَثَمَانِينَ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لكل واحد من الجنس ضربت سِهَامَ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي عَدَدِ رؤوس الْجِنْسِ الآخر فما خرج فهو مال كل وَاحِدٍ. مِثَالُهُ: إِذَا أَرَدْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أن تعرف ما لكل بنت ضَرَبْتَ عَدَدَ سِهَامِ الْبَنَاتِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ فِي رؤوس الْأَخَوَاتِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ بِنْتٍ وَهُنَّ خَمْسٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أُخْتٍ ضربت عدد سهامهم وَهُوَ وَاحِدٌ فِي عَدَدِ رؤوس الْبَنَاتِ وَهُوَ خمسة تكن خمسة فيكون هذا الْقَدْرُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أُخْتٍ وَهُنَّ ثَلَاثٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذَا حُكْمُ الْجِنْسَيْنِ إذا كان الحيز من كل جنس لا ينقسم عليهم سهامهم فإذا كَانَ ثَلَاثَةَ أَجْنَاسٍ وَكَانَ كُلُّ جِنْسٍ لَا تنقسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ فَإِنْ كَانَ عَدَدُ كُلِّ جِنْسٍ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ الْجِنْسِ الْآخَرِ اقْتَصَرْتَ عَلَى ضَرْبِ أَحَدِ الْأَعْدَادِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا خَرَجَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. مِثَالُهُ: ثَلَاثُ جَدَّاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمِنْهَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَعْدَادِ يَدْخُلُ فِي بَعْضٍ اقْتَصَرْتَ عَلَى ضَرْبِ الْأَكْثَرِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ. مِثَالُهُ: زَوْجَتَانِ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ واثنتا عشر أختا لأب فيكون عدد الزوجتين داخلا فِي عَدَدِ الْإِخْوَةِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي السِّتَّةِ وَفِي الِاثْنَيْ عَشَرَ وَالسِّتَّةُ تَدْخُلُ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ فَاضْرِبْ عَدَدَ الْإِخْوَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ وَمِنْهُ تَصِحُّ، فَإِنْ كان بعض الرؤوس كل يوافق بعضا وقفت أحدهما ثم رددت إليه من رؤوس كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ ثُمَّ ضَرَبْتَ أحد الوقفين فِي الْآخَرِ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا اجْتَمَعَ فِي عَدَدِ الْجِنْسِ الْمَوْقُوفِ فَمَا اجْتَمَعَ ضَرَبْتَهُ فِي أصل المسألة. ومثاله: أحد وَعِشْرُونَ جَدَّةً وَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ بِنْتًا وَثَلَاثُونَ أُخْتًا لأب أصلها من ستة سهام الجميع لا ينقسم عليهن ولا يوافقهن لأن للجدات سهما على أحد وَعِشْرِينَ وَلِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ وَلِلْأَخَوَاتِ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثِينَ لَكِنَّ أعداد الرؤوس يوافق بعضها بعضا فإن وفقت عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَانَ عَدَدُ البنات وهو خمس وثلاثون موافقا له بالأسباع فيردها إِلَى خَمْسَةٍ وَعَدَدُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ مُوَافِقًا له بالأثلاث فيرده إِلَى عَشَرَةٍ وَالْخَمْسَةُ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ وَفْقِ الْبَنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي رَجَعَتْ مِنْ وَفْقِ الْأَخَوَاتِ فَاضْرِبِ الْعَشَرَةَ فِي الْوَاحِدِ وَالْعِشْرِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وهو ستة تكن ألفا ومائتين وستين فمن لَهُ شَيْءٌ مِنْ سِتَّةٍ أَخَذَهُ مَضْرُوبًا لَهُ في مائتين وعشرة وإن وفقت عدد البنات وهو خمسة وَثَلَاثُونَ وَافَقَهَا عَدَدُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى سِتَّةٍ وَوَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ بِالْأَسْبَاعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَالثَّلَاثَةُ الرَّاجِعَةُ مَنْ وَفْقِ الْجَدَّاتِ تَدْخُلُ فِي السِّتَّةِ فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ ثُمَّ فِي سِتَّةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ أَلْفًا ومائتين وستين فإن وفقت عدد الأخوات وهي ثَلَاثُونَ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ بِالْأَثْلَاثِ إِلَى سَبْعَةٍ وَوَافَقَهَا عَدَدُ الْبَنَاتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى سَبْعَةٍ وَإِحْدَى السَّبْعَتَيْنِ تنوب عن الأخرى فاضرب إحداهما فِي ثَلَاثِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي سِتَّةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ مَا لِكُلِّ جِنْسٍ ضَرَبْتَ عَدَدَ سِهَامِهِ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ وَإِذَا أردت أن تعرف ما لكل واحد من كُلِّ جِنْسٍ ضَرَبْتَ سَهْمَهُ فِيمَا عَادَ مِنْ وفق الجنس الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِ جِنْسِهِ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِكُلِّ جَدَّةٍ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ سَهْمَ الْجَدَّاتِ وَاحِدٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ عَشَرَةٌ فَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّ سِهَامَ الْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ سِتَّةٌ وَإِذَا ضُرِبَتِ الْأَرْبَعَةُ فِي السِّتَّةِ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فلكل أُخْتٍ سَبْعَةٌ لِأَنَّ سَهْمَ الْأَخَوَاتِ وَاحِدٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ سَبْعَةٌ فَصَارَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَبْعَةً وَلَوِ اتَّفَقَتِ الرؤوس مَعَ السهام رَدَدْتَ الرؤوس إِلَى وَفْقِ سِهَامِهَا ثُمَّ وَافَقْتَ بين وفق الرؤوس بعضا لِبَعْضٍ ثُمَّ ضَرَبْتَ وَفْقَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ فَمَا اجْتَمَعَ ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا. مثاله: اثنا عشر جدة واثنتان وثلاثون أختا لأب وعشرون أختا لِأُمٍّ تَعُولُ بِسُدُسِهَا إِلَى سَبْعَةٍ لِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مُنْكَسِرٌ وَلِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ أَرْبَعَةٌ على اثنتين وثلاثين يوافق بالأرباع إلى ثَمَانِيَةٍ وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ عَلَى عِشْرِينَ يُوَافِقُهُ بالأنصاف إلى عشرة فإن وفقت عدد الجدات وهو انثا عَشَرَ كَانَ وَفْقَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ مُوَافِقًا لَهَا بِالْأَرْبَاعِ إِلَى اثْنَيْنِ وَكَانَ وَفْقُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ يُوَافِقُهَا بِالْأَنْصَافِ إِلَى خمسة فاضرب اثنتين فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً ثُمَّ اضْرِبِ الْعَشَرَةَ في اثني عَشَرَ تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي أَصْلِ المسألة وعولها وهو سبعة تكن ثماني مائة وأربعين ومنه تصح وإن وافقت وَفْقَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بِالْأَرْبَاعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَوَافَقَهَا وَفْقَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ بِالْأَنْصَافِ إِلَى خَمْسَةٍ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ فِي ثَمَانِيَةٍ وَفْقَ الْأَخَوَاتِ تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي سَبْعَةٍ هي أصل المسألة وعولها تكن ثمان مائة وأربعين وإن وفقت وَفْقَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بِالْأَنْصَافِ إِلَى سِتَّةٍ وَوَافَقَهَا وَفْقَ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ بِالْأَنْصَافِ إلى أربعة والأربعة توافق لستة بِالْأَنْصَافِ فَاضْرِبْ نِصْفَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ تَكُنِ اثنا عشر ثم في عشرة وهي الموافقة من وفق الإخوة تكن مائة وعشرين فِي سَبْعَةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلُهَا تَكُنْ ثمان مائة وَأَرْبَعِينَ وَمَتَى وَقَفْتَ أَحَدَ الْأَعْدَادِ فَصَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عَدَدٍ ثُمَّ وَقَفْتَ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَصَحَّتْ مِنْ عَدَدٍ آخَرَ فَالْعَمَلُ خَطَأٌ حَتَّى يَصِحَّ الْعَمَلَانِ مَنْ عَدَدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أَرَدْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّاتِ فَاضْرِبْ سَهْمَ الْجَدَّاتِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِيمَا ضَرَبْتَهُ مِنْ وَفْقِ الْجِنْسَيْنِ لِوَفْقِ لعددهن حِينَ وَقَفْتَهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ عَشَرَةٌ وَهُوَ مَا تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أُخْتٍ ضَرَبْتَ وَفْقَ سِهَامِهِنَّ لِرؤوسهِنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا بِالْأَرْبَاعِ فِيمَا ضربته من وفق الجنسين بوفق عددهن حين وقفته وهو خمسة عشر يكن خَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ مَا تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أُخْتٍ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أَخٍ ضَرَبْتَ وَفْقَ سِهَامِهِمْ لِرؤوسهِمْ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا بِالْأَنْصَافِ فِيمَا ضَرَبْتَهُ مِنْ وَفْقِ الْجِنْسَيْنِ لوفق عددهم وهو اثنا عشر تكن اثنا عَشَرَ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أَخٍ، فَهَذَا أَصْلٌ قَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ فِيهِ مَا يَسْهُلُ العمل عليه إن شاء الله. فصل: في المناسخات وَإِنَّمَا قِيلَ مُنَاسَخَةً، لِأَنَّ الْمَيِّتَ الثَّانِي لَمَّا مَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ مَوْتُهُ نَاسِخًا لَمَّا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَإِذَا مَاتَ فلم يقسم وَرَثَتُهُ تَرِكَتَهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَّفَ وَرَثَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا شركاء فِي الْمِيرَاثِ أَوْ غَيْرَ شُرَكَائِهِ فِيهِ فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ شُرَكَائِهِ فِيهِ عَمِلْتَ مَسْأَلَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَنَظَرْتَ سِهَامَ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْهَا ثُمَّ عَمِلْتَ مَسْأَلَةَ الْمَيِّتِ الثَّانِي وَقَسَمْتَهَا عَلَى سِهَامِهِ فَسَتَجِدُهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 إما أن تقسم عليها أو توافقها أو لا تقسم عَلَيْهَا وَلَا تُوَافِقُهَا فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ بِمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى. مِثَالُهُ: زوج وثلاث أخوات متفرقات لَمْ تُقَسَّمِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ حَتَّى مَاتَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَخَلَّفَتِ ابْنًا وَبِنْتًا فَمَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الْأول مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِعَوْلِهَا بِثُلُثِهَا لِلْأُخْتِ للأب والأم منها ثلاثة أسهم بين ابنا وبنتها على ثلاثة فتقسم فصحت المسألتان من ثمانية فإن كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي لَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِهِ وَلَكِنْ تُوَافِقُهَا وَافَقَتْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْأَلَتِهِ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ فَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ضَرَبْتَهُ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ لِسِهَامِهَا وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ فِيمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ سِهَامِهَا مِثَالُهُ ابْنَانِ وَبِنْتَانِ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَخَلَّفَ زَوْجَةً وَبِنْتًا وَثَلَاثَةً بَنِي ابْنٍ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى من ستة لكل ابن سهمان ولكل ميت سَهْمٌ وَمَسْأَلَةُ الِابْنِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ تُوَافِقُ سَهْمَيْهِ بِالْأَنْصَافِ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الأولة وَهِيَ سِتَّةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ فَمَنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي أَرْبَعَةٍ هِيَ الرَّاجِعَةُ من دفعه الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ لِسِهَامِ مَيِّتِهَا وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ من المسألة الثانية ضربته فِي وَاحِدٍ هُوَ الرَّاجِعُ مِنْ وَفْقِ سَهْمِ الْمَيِّتِ الثَّانِي لِسِهَامِ مَسْأَلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي لَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِهِ وَلَا تُوَافِقُهَا ضَرَبْتَ سِهَامَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ فمن كان له شيء من المسألة الأولة ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ الأولة. مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ، وَبِنْتٌ، وَأُخْتٌ، مَاتَتِ الْأُخْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا، وَبِنْتَا، وَعَمًّا، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، ماتت الأخت عن ثلاثة أسهم منها ومثلها مِنْ أَرْبَعَةٍ لَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا وَلَا تُوَافِقُهَا، فَاضْرِبْهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَكُنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي أربعة هي سهام المسألة الثانية، ومن كان له شيء مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ هي سِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ ثَالِثٌ قَسَّمَتْ مَسْأَلَتَهُ عَلَى سِهَامِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ وَوَافَقَتْ ضَرَبْتَ وَفْقَهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ تُوَافِقْ ضَرَبْتَ سِهَامَهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ، ثُمَّ هَكَذَا لَوْ مَاتَ رَابِعٌ وَخَامِسٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَرَثَةُ الميت الثاني هم شركاءه فِي التَّرِكَةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً لَيْسَ فِيهِمْ ذُو فَرْضٍ فَتَجْعَلُ التَّرِكَةَ مَقْسُومَةً عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ وَلَا تَعْمَلُ مَسْأَلَةُ الثاني، وهكذا لو مات ثالث ورابع. ومثاله: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَرْبَعُ بَنَاتٍ، مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ وَخَلَّفَ إِخْوَتَهُ، وَأَخَوَاتِهِ، كَانَتْ مَسْأَلَةَ الْأُولَى بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ عَنْ سَهْمَيْنِ فَعَادَ سَهْمَاهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنْ مَاتَتْ بِنْتٌ عَنْ سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةٍ وَخَلَّفَتْ إِخْوَتَهَا الْبَاقِينَ صَارَ سَهْمُهَا بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنْ مَاتَ ابْنٌ آخَرُ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْ تِسْعَةٍ صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، وَإِنْ مَاتَتْ بِنْتٌ أُخْرَى عَنْ سَهْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، فإن مات بعد ذلك ابْنٌ آخَرُ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْ سِتَّةٍ صَارَ المال مقسوما بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى إِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا ابْنٌ وَبِنْتٌ صَارَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ إِلَيْهِمَا مِنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا لَمْ يَكُونُوا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ذُو فَرْضٍ: فَإِنْ كَانَ فرض ذي الفرض من الميت الأول لفرضه من الميت الثاني كالأم والجدة إذا ورث كل واحد مِنْهُمَا السُّدُسَ بِأَنَّهَا أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ: فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ مِنَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مُخَالِفًا لِلْفَرْضِ مِنَ الْمَيِّتِ الثَّانِي كَالزَّوْجَةِ تَرِثُ من الأول بأنها زوجة وترث من الثَّانِي إِذَا كَانَ ابْنًا بِأَنَّهَا أُمٌّ فَإِنَّكَ تُعْطِيهَا فَرْضَهَا مِنَ التَّرِكَتَيْنِ ثُمَّ تُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْعَصَبَةِ إِذَا كَانُوا لِلْأَوَّلِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَلِلثَّانِي إِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ مِيرَاثِهِمْ مِنَ التَّرِكَتَيْنِ وَاحِدٌ وَرُبَّمَا كَانَتْ مَسَائِلُ الْمُنَاسِخَاتِ بَعْدَ التَّصْحِيحِ تَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلى أقل من عددها الموافق بعض السهام لبعض فسقطت وَفْقَهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ فَتَرُدُّ سِهَامَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَفْقِ وَتَرُدُّ سِهَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَفْقُ نِصْفًا رَدَدْتَ الْجَمِيعَ إِلَى النِّصْفِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثًا رَدَدْتَ الْجَمِيعَ إِلَى الثُّلُثِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: فِي قِسْمَةِ التركات وإذا أردت قسمة التركة لم تخل حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالْعَقَارِ وَالضَّيَاعِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ مَا قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَظَرْتَ مَبْلَغَ التَّرِكَةِ وَسِهَامَ الْفَرِيضَةِ وَلَكَ في قسمتها عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تُقَسِّمَ عَدَدَ التركة على سهام الفريضة مما خَرَجَ لِكُلِّ سَهْمٍ ضَرَبْتَهُ فِي سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ فَيَكُونَ ذَلِكَ مَبْلَغَ حَقِّهِ مِنْهَا. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، وَبِنْتَانِ، وَالتَّرِكَةُ خَمْسُونَ دِينَارًا فَالْفَرِيضَةُ تصح مع عَوْلِهَا بِالرُّبُعِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَتُقَسِّمُ الخمسين عليها يخرج لكل منهم سَهْمٌ مِنْ سِهَامِهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، فَتَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ تَكُنْ عَشَرَةً، وَهُوَ حَقُّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ فِي عَدَدِ التَّرِكَةِ فَمَا اجْتَمَعَ قَسَمْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ بِالْقَسْمِ فَهُوَ نَصِيبُهُ، مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَتَضْرِبُهَا فِي عَدَدِ التَّرِكَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ تَكُنْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ تَكُنْ عشرة، وهي حَقُّ الزَّوْجِ، ثُمَّ تَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ وَاحِدٍ من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ سَهْمَانِ فِي الْخَمْسِينَ تَكُنْ مِائَةً، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ بِنْتٍ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَمْسِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا على الخمسة عشر يكن ثلاثة عشر وثلثا فهذا وجه ثاني. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْسُبَ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ عَدَدِ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ بِالنِّسْبَةِ جَعَلْتَهُ لَهُ مِنْ عَدَدِ التَّرِكَةِ. مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تَنْسُبَ سِهَامَ الزَّوْجِ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ تكن خمسها، فَأعْطِهِ بِهِ خُمُسَ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ هُمَا ثُلُثَا خُمُسِهَا فَتُعْطِيهِ ثُلْثَيْ خُمُسِ التَّرِكَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ هِيَ خُمُسٌ وَثُلُثُ خُمُسٍ فَتُعْطِيهَا خُمُسَ التَّرِكَةِ وَثُلُثَ خُمُسِهَا تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، فَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أن توافق بَيْنَ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَعَدَدِ التَّرِكَةِ ثُمَّ تَضْرِبَ سهام كل وارث في وفق التركة، ويقسم مَا اجْتَمَعَ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ حَقُّهُ. مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سِهَامَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِيهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ تُوَافِقُ عَدَدَ التَّرِكَةِ الَّتِي هِيَ خَمْسُونَ بِالْأَخْمَاسِ فَارْدُدْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى وَفْقه تَجِدُ الْخَمْسِينَ تَرْجِعُ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُقَسِّمَ لِلزَّوْجِ فَاضْرِبْ عَدَدَ سِهَامِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ اقْسِمِ الثَّلَاثِينَ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَكُنِ الْخَارِجُ بِالْقَسْمِ عَشَرَةً وَهُوَ حَقُّ الزَّوْجِ، وَلِكُلِّ واحد من الأبوين سهمان تَضْرِب فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهِيَ عَشَرَةٌ تَكُنْ عشرين، ثم يقسم عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ وَهُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ أَرْبَعِينَ ثُمَّ تُقَسَّمُ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا؛ وَهُوَ حَقُّ كُلِّ بِنْتٍ فَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ، وَقَدْ لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الْأَرْبَعَةُ فِي كُلِّ تَرِكَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تُوَافِقُ سهام الْفَرِيضَة لِعَدَدِ التَّرِكَةِ فَيَسْقُطُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَقَدْ لا تتناسب سهام كل وارث لسهام الفريضة فيسقط الْوَجْهُ الثَّالِثُ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي كُلِّ تَرِكَةٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَقَارًا أَوْ ضَيَاعًا فَلَكَ فِي قِسْمَةِ ذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَتَسْتَغْنِي عَنْ ضَرْبٍ وقسم وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا قَلَّتْ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْرِيَ السِّهَامُ عَلَى أَجْزَاءِ الدراهم وذلك أولى من أجزاء الدنانير لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى قَرَارِيطِهِ وَحَبَّاتِهِ، فَتُقَسَّمُ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ عَلَى دَوَانِيقِ الدِّرْهَمِ وَهِيَ سِتَّةٌ، ثُمَّ عَلَى قَرَارِيطِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ عَلَى حَبَّاتِهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ عَلَى أَجْزَاءِ حَبَّاتِهِ بِمَا تَجَزَّأَتْ وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا كَثُرَتْ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ فِيهِ عِنْدَ الْمُنَاسَخَاتِ فَإِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ سَهْمٍ كَانَ النِّصْفُ ست مائة سهم، والثلث أربع مائة سهم، والربع ثلثمائة سَهْمٍ وَالسُّدُسُ مِائَتَيْ سَهْمٍ، وَنِصْفُ السُّدُسِ مِائَةَ سَهْمٍ وَالْقِيرَاطُ خَمْسُونَ سَهْمًا، وَالْحَبَّةُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ قِيرَاطَ الدِّرْهَمِ حَبَّتَانِ ثُمَّ تَتَجَزَّأُ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَلَى الْحَبَّةِ فَالْوَاحِدُ خُمُسُ خُمُسِهَا ثم تتضاعف إلى أن تستكملها، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ نَظَرْتَ إِلَى سِهَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَقِسْطِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الدِّرْهَمِ فَأَوْجَبْتَهُ له وبالله التوفيق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 باب ميراث المرتد (قال) وميراث المرتد لبيت مال المسلمين ولا يرث المسلم الكافر واحتج الشافعي في المرتد بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " واحتج على من ورث ورثته المسلمين ماله ولم يورثه منهم فقال هل رأيت أحدا لا يرث ولده إلا أن يكون قاتلا ويرثه ولده وإنما أثبت الله الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ حَيْثُ أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ للأباء من الأبناء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُورَثُ أَمْ لَا عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ الزِّنْدِيقُ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي ليلى وأبي ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ فَيْئًا في بيت مال المسلمين إِلَّا الزِّنْدِيقَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يقصد بردته إزواء وَرَثَتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَيَكُونُ مَالُهُ مِيرَاثًا لَهُمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ الَّذِي كَسَبَهُ فِي إِسْلَامِهِ وَبَعْدَ رِدَّتِهِ يَكُونُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً فَيَكُونُ جَمِيعُهُ مَوْرُوثًا، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وزفر بن الهذيل. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ دُونَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَلْقَمَةَ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عروبة وأن مَالَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ مَالَهُ مَوْرُوثًا عَلَى اختلاف مذاهبهم بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتِيَ بِالْمُسْتَوْرِدِ الْعِجْلِيِّ وَقَدِ ارْتَدَّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنْ أُقَسِّمَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَ وَرَثَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُهُ وَارِثُهُ الْمُشْرِكُ وَرِثَهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَكَالْمُشْرِكِ عَكْسًا، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَسَبَهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون فيئا كمال المسلمين، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَسَبَهُ فِي حَالِ حَقْنِ دَمِهِ فَلَمْ يَصِرْ فَيْئًا بِإِبَاحَةِ دَمِهِ كَمَالِ الْقَاتِلِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ سَاوَوْا بِإِسْلَامِهِمْ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ وَالتَّعْصِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى مِنْهُمْ لقوة شبههم، وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ مَالَهُ لِأَهْلِ الدِّينِ الَّذِي ارتد إليه بقول تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا رِوَايَةُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " فإن منعوا من إطلاق اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يحل مال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ " وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ أَبَاهُ جَدَّ مُعَاوِيَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بامرأة أبيه فأمرني بضرب عنقه وخمس مَاله فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باستحلال ما نص الله تعالى عَلَى تَحْرِيمِهِ مُرْتَدًّا، وَجَعَلَ مَالَهُ بِتَخْمِيسِهِ إِيَّاهُ فَيْئًا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فإن خمسها لله وللرسول ثُمَّ هِيَ لَكُمْ " وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى مَنْ حَدَثَ عِصْيَانُهَا بِالْكُفْرِ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَاعَتِهَا بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا مُسْتَفَادٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَرِثْ بحال لم يورث كالكاتب؛ ولأنه كُلّ مَنْ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا مَلَكَهُ فِي إِبَاحَةِ دَمِهِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ كَالذِّمِّيِّ طَرْدًا وَالْقَاتِلِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ مَلَكَهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ بِقَتْلِهِ عَلَى الرِّدَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَا كَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرْتَدُّ أَوْلَى بِالْمُسْلِمِ يقطع الْمُوَالَاة بِالرِّدَّةِ لَمْ يَصِرِ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِالْمُرْتَدِّ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا دَفْعُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عليه مال المستورد إلى ورثته إنما كان لما رأى الْمَصْلَحَة بِاجْتِهَادِهِ وَهُوَ إِمَامٌ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِرَأْيِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلك تمليكا منه ابتداء عَطِيَّة لَا عَلَى جِهَةِ الْإِرْثِ. وَأَمَّا تَوْرِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَدَفْعِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّينَ إِلَى ورثتهم: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَهُ علي عليه السلام فِي مَالِ الْمُسْتَوْرِدِ عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ بحمل على المرتدين عن بدل الزكاة حين لم يحكم بكفرهم بالمتع لِتَأَوُّلِهِمْ وَمَقَامِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ الْمُشْرِكُ: فَمُنْتَقِضٌ بِالْمُكَاتَبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ بَقَاءُ الْوِلَايَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَاتِلِ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ لما كان ما ملك في إباحة دمه موروثا كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 ما ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ مَوْرُوثًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُرْتَدُّ عنه ما ملك فِي إِبَاحَةِ دَمِهِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَمَعُوا الْإِسْلَامَ وَالْقَرَابَةَ فَكَانُوا أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِسْلَامِ فَفَاسِدٌ بِالذِّمِّيِّ لَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَإِنْ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَوْلَى بِمَالِهِ ثُمَّ لَيْسَ يَصِيرُ مَالُ الْمُرْتَدِّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا فَيُجْعَلَ وَرَثَتُهُ أَوْلَى وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ فَيْئًا كَمَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا كَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَيْئًا وَلَا يَجْعَلُونَ وَرَثَتَهُ أَوْلَى بِهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أن ماله يصير فَيْئًا غَيْرَ مَوْرُوثٍ فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُقْتَلْ سَوَاءٌ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْتَقَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ وَقَضَى بِحُلُولِ دُيُونِهِ الْمُؤَجَّلَةِ فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا رَجَعَ بِمَا وَجَدَ من أعيان ماله على ورثته ولم يرجع بما استملكوه وَلَا يَرْجِعُ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي أَسِيرٍ تَنَصَّرَ في أرض الرُّومِ فَكَتَبَ إِنْ جَاءَ بِذَلِكَ الثَّبْتُ فَاقْسِمْ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ "؛ وَلِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ قَدْ صَارَ غيره أملك بالتصرف فِي مَالِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ أَوْجَبَ انْتِقَالَهُ كَالْمَوْتِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ قِيَاسًا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الْأَمْوَالِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ بِحَالِ الْمُشْرِكِ وَلَيْسَ يحكم بموت واحد منهما في حياته وكذلك الْمُرْتَدُّ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَيِّتَ مَوْرُوثًا وَالْحَيَّ وَارِثًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ الْحَيُّ مَوْرُوثًا لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْمَيِّتُ وَارِثًا وَلِأَنَّ كل ما أَوْجَبَ إِبَاحَةَ الدَّمِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ كَالْقَتْلِ وَلِأَنَّ حُدُوثَ الرِّدَّةِ لَا تُوجِبُ أَحْكَامَ الْمَوْتِ كَالْمُقِيمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَالْمُسَافِرِ إِلَيْهَا فَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُمَرَ بن عبد العزيز فليس فيه أنه كَانَ مُسْلِمًا فَتَنَصَّرَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ لِيَتَوَلَّوْا حِفْظَهُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ وليس يلزمنا قبوله. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فيه مع أن في انتقال ملكه اختلاف وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ ثُمَّ لَيْسَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِمُوجِبٍ لِحُكْمِ الْمَوْتِ لِأَنَّ مَالَ الْحَيِّ قد تنقل بأسباب غير الموت. فصل: قال المزني رحمه الله تعالى: " قد زعم الشافعي أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ حُرًّا يَرِثُهُ أَبُوهُ إِذَا مَاتَ وَلَا يَرِثُ هَذَا النِّصْفَ مِنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ فَلَمْ يُورِثْهُ مِنْ حَيْثُ وَرِثَ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ حَيْثُ يُورَثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَعْلِيلِهِ إِبْطَالَ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ حَيْثُ أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ لِلْآبَاءِ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَأَبْطَلَ الْمُزَنِيُّ هَذَا التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ بِالْعَبْدِ إِذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا أنه يورث عنده بِنِصْفِهِ الْحُرِّ وَلَا يَرِثُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 هُوَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ فَجَعَلَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِ وَاحْتِجَاجًا لِنَفْسِهِ فِي أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ كَمَا يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وجهين: أحدهما: رد لاعتراضه. وَالثَّانِي: فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِ، فَأَمَّا رَدُّ اعْتِرَاضِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ نِصْفَهُ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُورَثُ كَمَا لَا يَرِثُ فَعَلَى هَذَا يَسْلَمُ الِاسْتِدْلَالُ وَيَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ. وَالثَّانِي: أن تعليل الشافعي كلما تَوَجَّهَ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَارِثُ وَالْمَوْرُوثُ إِذَا مَنَعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا مَنَعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَطْعِ التَّوَارُثِ بِهِ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا مَعْنَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَارِثُ وَالْمَوْرُوثُ. فَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْمَوْرُوثُ وَحْدَهُ فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ وَهُوَ يُورَثُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَهُ من الميراث خص بِهِ وَغَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَارِثِهِ وَهَكَذَا الَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ قَدِ اخْتَصَّ بِالْمَعْنَى الْمَانِعِ دُونَ وَارِثِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا. وَأَمَّا فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرِثَ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ كَمَا يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْكَمَالَ يَجِبُ أن يكون مراعا فِي الْوَارِثِ دُونَ الْمَوْرُوثِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مَوْرُوثًا لِأَنَّ وَارِثَهُ كَامِلٌ وَلَمْ نَجْعَلْهُ وَارِثًا لِأَنَّهُ ليس بكامل والله أعلم بالصواب. مسألة: (وقال) في المرأة إذا طلقها زَوْجُهَا ثَلَاثًا مَرِيضًا فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا تَرِثُهُ وَالْآخَرُ لَا تَرِثُهُ وَالَّذِي يَلْزَمُهُ أن لَا يورثها لأنه لا يرثها بإجماع لانقطاع النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَتَوَارَثَانِ فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ كما لا يرثها لأن الناس عنده يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ يُورَثُونَ وَلَا يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يُورَثُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ فِي جُمْلَةِ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَقْتَضِي شَرْحَهَا وذكر ما تفرع عليها وَالِانْفِصَالَ عَنِ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ بِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ في اعتراض بمن نصفه حر ونصفه مملوك وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى ضَرْبَيْنِ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ وَطَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ فَضَرْبَانِ بَائِنٌ وَرَجْعِيٌّ فَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَا تَوَارُثَ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ دُونَ الثَّلَاثِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَأَمَّا الرَّجْعِيُّ فَهُوَ دُونَ الثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ واعتدت عدة الوفاة وإن ماتت ورثها فإن كَانَ الْمَوْتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَتَوَارَثَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه تَرِثُهُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهُمَا ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْغُسْلَ مِنْ بَقَايَا الْعِدَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُمَا فِي الْعِدَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ وَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ وَلَيْسَ الْغُسْلُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِمَّا أن يجعلاه انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضِ وَيُوجِبَا الْمِيرَاثَ مَعَ بقاء الغسل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 فَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْعِدَّةِ وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يوجب انقضاء علق النكاح والميراث منهما فارتفع بارتفاعها ولو جاز اعتبار ذلك لصار الميراث موقوفا على خيارها إن شاءت تَأْخِيرَ الْغُسْلِ فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْبَاقِي مِنْهُمَا وَوَارِثُ الميت فقال وارث الميت بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَوَارُثَ وَقَالَ الْبَاقِي مِنْهُمَا بَلْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلِيَ الْمِيرَاثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَاقِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُعْلَمَ سُقُوطُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى يعلم تقضيها. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُخَوِّفٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَقَّبَهُ صِحَّةٌ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ زُفَرُ بن الهذيل: هو طلاق في المرض يرث فيه وهذا خطأ لأن ما يتعقبه الصِّحَّةُ فَلَيْسَ بِمُخَوِّفٍ وَإِنَّمَا ظُنَّ بِهِ الْخَوْفُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لَا يَتَعَقَّبَهُ الصِّحَّةُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ حَادِثًا عن طريق غيره كمريض غرق أو أحرق أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَائِطٌ أَوِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فهذا حكم الطلاق فيه كحكم الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وقال مالك: هو طلاق في المرض يرث فِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِهِ يَرْفَعُ حُكْمَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْمَوْتِ مِنْهُ فَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَوَارَثَا فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهَا عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى حَكَى الشَّافِعِيُّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ جَعَلَهَا أَصْحَابُنَا أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ لَهُ قَوْلَانِ مِنْهَا نَصًّا، وَقَوْلَانِ مِنْهَا تَخْرِيجًا. أَحَدُهُمَا: لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَإِنِ انْقَضَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ قَالَهُ نَصًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَإِنِ انْقَضَتْ عَدَّتُهَا فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافَعِيِّ تَخْرِيجًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ أَبَدًا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ تَخْرِيجًا، فَإِذَا قِيلَ: لَا تَرِثُ فَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا البغداديون عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةٌ " وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ ثَابِتًا سَقَطَ بِهِ الْخِلَافُ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تمنع من الميراث في حال الصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي حال المرض كاللعان، ولأن كل طلاق يمنع مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَنَعَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ كَالطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِطَلَاقِ الْمَرِيضِ كَانَ سُقُوطُ الْمِيرَاثِ أَوْلَى وَإِذَا قِيلَ: تَرِثُ، فَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الكلابية فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فورثها عثمان بن عفان. وروى إبراهيم التميمي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُكْمِلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ بِهِ الْفَالِجُ فَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَرِثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَاتَانِ القضيتان مِنْ عُثْمَانَ عَنِ ارْتِيَاءِ وَاسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ لَا سيما زوجة عبد الرحمن مع إشهار أَمْرِهَا وَمُنَاظَرَةِ الصَّحَابَةِ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ تُورِثَ مَبْتُوتَةً قُلْنَا: مَا ادَّعَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعًا فَيَرْتَفِعُ بِخِلَافِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَرِيضُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارِ الْوَارِثِ فكان أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ إِسْقَاطِ الْوَارِثِ وَلِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْمِيرَاثِ تُهْمَتَانِ تُهْمَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَتُهْمَةٌ فِي إِسْقَاطِهِ فَلَمَّا كَانَتِ التُّهْمَةُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْقَاتِلِ رَافِعَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمِيرَاثَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ التُّهْمَةُ فِي إِسْقَاطِهِ بِالطَّلَاقِ رَافِعَةً لِإِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ لَمْ تَرِثْهُ وَكَانَ إِقْرَارًا فِي الْمَرَضِ لَا طَلَاقًا، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: هُوَ طَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ وَتَرِثُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ عَقْدًا، وَإِنْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ لَازِمًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَإِنْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ لَازِمًا وَلَوْ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُهَا فَأَقَرَّ بِتَقْدِيمِ طَلَاقِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي الْمَرَضِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فِي الْمَرَضِ فَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فِي مَرَضِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَ الطَّلَاقَ عِنْدَ لَفْظِهِ فَلَا تَرِثُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي الْمَرَضِ بِطَلَاقٍ وَقَعَ فِي الصِّحَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قد أتم الطَّلَاقَ عِنْدَ لَفْظِهِ ثُمَّ عَيَّنَهُ عِنْدَ بَيَانِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي المعينة بالطلاق عند البيان هل يقتضي وقوع الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَقْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 اللَّفْظِ أَوْ وَقْتَ الْبَيَانِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا عِنْدَ وَقْتِ لَفْظِهِ وَمِنْهُ تَبْتَدِئُ بِالْعِدَّةِ فَعَلَى هَذَا لَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ لَفْظِهِ كَانَ صَحِيحًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا وَقْتَ الْبَيَانِ فَعَلَى هَذَا تَرِثُ لِأَنَّهُ عِنْدَ بَيَانِهِ مَرِيضٌ. فصل: فإما إذا طلقها في الصحة لصفة وُجِدَتْ فِي الْمَرَضِ كَقَوْلِهِ فِي صِحَّتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدِمَ زَيْدٌ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ، أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ شَهْرٍ فَجَاءَ الشَّهْرُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ وَقَعَ فِي الْمَرَضِ وهذا غير صحيح؛ لأنه التُّهْمَةَ عَنْهُ فِي هَذَا الطَّلَاقِ مُرْتَفِعَةٌ، وَإِنَّمَا وجب لها الميراث للتهمة في إزوائها. فَأَمَّا إِذَا قَالَ فِي صِحَّتِهِ: إِنْ دَخَلْتُ أَنَا هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ دَخَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ فِي مَرَضِهِ فصار متهوما في إزوائها عَنِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنْ لَوْ وَكَّلَ فِي صِحَّتِهِ وَكِيلًا فِي طَلَاقِهَا فَلَمْ يُطَلِّقْهَا الْوَكِيلُ حَتَّى مَرِضَ الزَّوْجُ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الطَّلَاقِ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْوِكَالَةِ كَانَ فِي الصِّحَّةِ فَصَارَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ عِنْدَ عَقْدِهِ مُرْتَفِعَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فَسْخِ وَكَالَتِهِ فِي مَرَضِهِ فَصَارَ بِتَرْكِ الْفَسْخِ متهوما. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِ مَوْتِي وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ وكان لها الميراث؛ لأنه متهوم بعقد يمينه ولو كان قَالَ لَهَا: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ طَلَاقٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهُوَ فِي الصِّحَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلِ بِأَوَّلِ أَسْبَابِ مَوْتِي ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهِ كَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ فَصَارَ طَلَاقًا في الصحة ألا ترى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلِ بِأَوَّلِ أَسْبَابِ مَوْتِي كَانَ عِتْقُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثلث. فصل: وإذا طلقها في مرضه باختيارها مثل أن يخالعها، أو تسأله الطلاق فيطلقها، أو يعلق طلاقها بِمَشِيئَتِهَا، فَتَشَاءُ الطَّلَاقَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة وقال مالك لها الميراث إن اخْتَارَتِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهَا إِنَّمَا كَانَ لِاتِّهَامِهِ فِي حِرْمَانِهَا، وَقَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مُرْتَفِعٌ باختيارها وسؤالها، فلو علق طلاقها في مرضه بصفة من صفة أفعالها ففعلت ذلك وطلقت، نَظَرَتْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَقَوْلِهِ لَهَا: إِنْ أَكَلْتِ أو شربت فأنت طالق، فلا تَجِدُ بُدًّا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقُ فَيَكُونُ لَهَا الْمِيرَاثُ، وَهَكَذَا لَوْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 قال لها: أنت طالق إن صليت الفرائض أَوْ صُمْتِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَلَّتْ وَصَامَتْ، كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنَ الصلاة والصيام، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ أَكَلْتِ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ لَبِسْتِ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ كَلَّمْتِ هَذَا الرَّجُلَ، أَوْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ تَطَوَّعْتِ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ طُلِّقَتْ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بُدًّا فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِوُقُوعِ الطلاق إلا أن لا تعلم يمينه فَتَرِثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخْتَارَةٍ لِلطَّلَاقِ. فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ ذِمِّيَّةً فَأَسْلَمَتْ أَوْ أَمَةً فَأُعْتِقَتْ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَقْتَ طَلَاقِهَا لَمْ تَرِثْ فَصَارَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا وَعِتْقِهَا وَرِثَتْ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ إِلَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ بِإِسْلَامِهَا وَلَا بِعِتْقِهَا حِينَ طَلَّقَهَا فَلَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَلَوْ قَالَ لَهَا السَّيِّدُ: أَنْتِ حُرَّةٌ في غد وطلقها الزوج في يومه ورثت؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ حِينَ عَلِمَ بِعِتْقِهَا فَإِنْ لَمْ يعلم فلا ميراث، وَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَأَعْتَقَهَا السَّيِّدُ فِي يَوْمِهِ فَلَا مِيرَاثَ لها وَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ أَنْتِ طَالِقٌ؛ لأنه غير متهم حين طلقها فَلَوْ قَالَ لَهَا السَّيِّدُ أَنْتِ حُرَّةٌ فِي غَدٍ فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمِيرَاثُ لِاتِّهَامِهِ فِيهِ. وَالثَّانِي: لَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَقَعَانِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ بِطَلَاقٍ لَمْ يتقدم عَلَيْهِ الْحُرِّيَّةُ. فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ لَمْ تَرِثْهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ: تَرِثُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِلطَّلَاقِ مَانِعٌ مِنْ مِيرَاثِهَا وَهِيَ بِالرِّدَّةِ مُخْتَارَةٌ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالرِّدَّةِ قَدْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ لَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ. فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَهَا بَعْدَ طلاقه وفي مَرَضِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا تَرِثُهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ تَرِثُهُ، وَفَرَّقَ أبو حنيفة بَيْنَ رِدَّتِهَا وَرِدَّتِهِ، بِأَنَّ رِدَّتَهَا اخْتِيَارٌ مِنْهَا لِلْفُرْقَةِ وليس ردته اختيار فيها لِذَلِكَ، وَهَذَا الْفَرْقُ فَاسِدٌ؛ لِاسْتِوَاءِ الرِّدَّتَيْنِ فِي إفضائهما إِلَى حَال لَوْ مَاتَ فِيهَا لَمْ تَرِثْهُ فَاسْتَوَتْ رِدَّتُهَا فِي ذَلِكَ وَرِدَّتُهُ، وَلَوِ ارْتَدَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَرَضِهَا ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا الزَّوْجُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ بذلك في إزوائه عَنِ الْمِيرَاثِ كَمَا يُتَّهَمُ الزَّوْجُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْسُبُ الْعَاقِلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالرِّدَّةِ إزواء وَارِثٍ وَضَرَرُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْوَارِثِ ولَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ إِنْ لَمْ أَدْفَعْ إِلَيْكَ مَهْرَكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِالْحِنْثِ وَلَوْ ماتت قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَتْ فَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَوَارِثُهَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ كُنْتُ دَفَعْتُ إِلَيْهَا مَهْرَهَا فِي حَيَاتِهَا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَلِيَ الْمِيرَاثُ، وَقَالَ وَارِثُهَا: مَا دفعت إِلَيْهَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْكَ وَلَا مِيرَاثَ لَكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي أن لا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ فِي بَقَاءِ الْمَهْرِ، فَإِذَا حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَهْرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أن لا طَلَاقَ، وَإِذَا حَلَفَ الْوَارِثُ حُكِمَ لَهُ بِالْمَهْرِ؛ لأن الأصل بقاء المهر. فصل: وإذا لا عن الزَّوْجُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْهُ سَوَاءٌ كَانَ لِعَانُهُ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ أَوْ عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ، وَقَالَ أبو يوسف: تَرِثُهُ كَالْمُطَلَّقَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ، وَقَالَ الحسن بن زياد اللؤلؤي إِنْ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ تَبَعٌ لنفي النسب وسقوط الحد وذاك مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْفُرْقَةُ فِي الطَّلَاقِ مَقْصُودَةٌ فَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَ حُكْمُهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْمِيرَاثِ بِنَفْيِ النَّسَبِ أَغْلَظُ مِنْ سُقُوطِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فلما كان في نَفْي النَّسَبِ بِاللِّعَانِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً فِي سُقُوطِ الْمِيرَاثِ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً في سقوط الميراث. فإن قيل: فلم لا كَانَ نَفْيُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ مانعا من الميراث كالطلاق فِي الْمَرَضِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ اللِّعَانِ مَا يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الطَّلَاقِ مَا يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ لِأَجْلِ إِيلَائِهِ وَرِثَتْ كَمَا تَرِثُ بِالطَّلَاقِ فِي غير الإيلاء بِخِلَافِ اللِّعَانِ وَلَوْ كَانَ آلَى مِنْهَا فِي الصحة ثم طلقها في المرض لم يتقدم مِنْ إِيلَائِهِ فِي الصِّحَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمُطَالَبَتُهُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنْ فَيْئِهِ أَوْ طلاق فهذه لا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا مُخْتَارًا فَصَارَ مُتَّهَمًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الزَّوْجَةِ لَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَهَذِهِ تَرِثُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَصَارَ مُتَّهَمًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ مطالبته بالفيئة أو الطلاق ففيها إِذَا وَرِثَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْموْلي إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ هَلْ يُطَلَّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ جَبْرًا أَمْ لَا؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ جَبْرًا فَعَلَى هَذَا لا ميراث لها؛ لأنه طَلَاقَهَا كَانَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لأوجبه الحاكم جبرا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 وَالثَّانِي: لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ مُخْتَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. فصل: وإذا فسح الزوج نكاح امرأته في مرضه بإحدى العيوب التي توجب فسخ نكاح لم ترثه بخلاف الطلاق، ولأن الْفَسْخَ بِالْعُيُوبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي تَأْخِيرِهِ إِسْقَاطُهُ فَلَمْ يُتَّهَمْ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُسْقِطُهُ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ الصغيرة خمس رضعات في الحولين يفسخ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَرِثْهُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ تَبَعٌ لِتَحْرِيمِ الرضاع وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ وَطِئَ أُمَّ زَوْجَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَهُوَ مَرِيضٌ بَطَلَ نكاحها ولم يرث. فَصْلٌ: وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ ثُمَّ مات، فإن قيل: بمذهبه الْجَدِيدِ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ فَالْمِيرَاثُ لِلْأَرْبَعِ اللَّاتِي تَزَوَّجَهُنَّ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْأَرْبَعِ الْمَنْكُوحَاتِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَارِثٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ مِيرَاثِهِنَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَيْهِنَّ، وليس يمتنع بثبوت النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الْإِرْثِ كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ خَامِسَةً وَمَاتَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْمَنْكُوحَةِ رُبُعَ الْمِيرَاثِ وَيُوقِفُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ مَعَ الْمَنْكُوحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَرْبَعِ أَرْبَاعًا دُونَ الْمَنْكُوحَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَاتِ يَدْفَعْنَ الْمَنْكُوحَاتِ عَنِ الْمِيرَاثِ. فَصْلٌ: وَإِذَا وَرِثَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة تعتد بأكثر الأجلين من عدة الطلاق أو الأقراء أَوْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ شَيْئًا إِلَّا الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ عَلَى حُكْمِهِ فِي الصِّحَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 باب ميراث المشتركة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قلنا في المشتركة زوج وأم وأخوين لأم وأخوين لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ للأم الثلث ويشركهم بَنُو الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا سَقَطَ حكمه وصار كأن لم يكن وصاروا بني أم معا (قال) وقال محمد بن الحسن هل وجدت الرجل مستعملا في حال ثم تأتي حالة أخرى فلا يكون مستعملا؟ (قلت) نعم ما قلنا نحن وأنت وخالفنا فيه صاحبك من أن الزوج ينكح المرأة بعد ثلاث تطليقات ثم يطلقها فتحل للزوج قبله ويكون مبتدئا لنكاحها وتكون عنده على ثلاث ولو نكحها بعد طلقة لم تنهدم كما تنهدم الثلاث لأنه لما كان له معنى في إحلال المرأة هدم الطلاق الذي تقدمه إذا كانت لا تحل إلا به ولما لم يكن له معنى في الواحدة والثنتين وكانت تحل لزوجها بنكاح قبل زوج لم يكن له معنى فنستعمله (قال) إنا لنقول بهذا فهل تجد مثله في الفرائض؟ (قلت) نعم الأب يموت ابنه وللابن إخوة فلا يرثون مع الأب فإن كان الأب قاتلا ورثوا ولم يرث الأب من قبل أن حكم الأب قد زال ومن زال حكمه فكمن لم يكن ". قال الماوردي: وهذه المسألة تسمى المشتركة لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيكِ فِيهَا بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتُسَمَّى الْحِمَارِيَّةَ لِأَنَّ رجلا قال لعلي عليه السلام حِينَ مَنَعَ مِنَ التَّشْرِيكِ أَعْطِهِمْ بِأُمِّهِمْ وَهَبْ أن أباهم كان حمارا. وشروط المشتركة أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ زَوْجٍ وَأُمٍّ أو يكون مَكَانَ الْأُمِّ جَدَّةٌ وَوَلَدُ الْأُمِّ أَقَلُّهُمُ اثْنَانِ أَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ ذُو فَرْضٍ، وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ شُرُوطَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ أَوِ الْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُشَارِكُهُمْ فيه الأخوان من الْأَبِ وَالْأُمِّ أَمْ لَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ فِي ثُلُثِهِمْ وَيَقْتَسِمُونَهُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيٌّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة: وَلَدُ الْأُمِّ يَخْتَصُّونَ بِالثُّلُثِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وأبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 يوسف ومحمد وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَوْلَانِ مَعًا أَمَّا زَيْدٌ فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشَرِّكْ وَرَوَى النَّخَعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرَّكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَا أَجِدُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا وقد اختلف عنه في المشتركة إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشَرِّكْ وَأتي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُشَرِّكْ وَأتي فِي الثَّانِي فَشَرَّكَ وَقَالَ تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى ما تقضى، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنَ التَّشْرِيكِ فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النبِيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " اقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " فمنع من مشاركة العصبة لذوي الفروض وإعطائهم مَا فَضَلَ عَنْهَا إِنْ فَضَلَ وَلَيْسَ فِي الْمُشْتَرِكَةِ بَعْدَ الْفُرُوضِ فَضْلٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ مشاركة ذي فرض لأنهم عَصَبَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكُوا ذَوِي الْفُرُوضِ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عَصَبَةً سَقَطَ عِنْدَ اسْتِيعَابِ الْفُرُوضِ لِلتَّرِكَةِ قِيَاسًا عَلَى زَوْجٍ وأم وجد وأخ جاز لَمَّا اسْتَوْعَبَ الزَّوْجُ وَالْأُمُّ وَالْجَدُّ الْمَالَ فَرْضًا سَقَطَ الْأَخُ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَخٍ حَازَ جَمِيعَ المال إذا انفرد جاز أن يكون بعصبته موجبا لحرمانه قياسا على زوج وأخت للأب وَأُمٍّ لَوْ كَانَ مَعَهَا أَخٌ لِأَبٍ سَقَطَ ولو كان مكانه أخت للأب كَانَ لَهَا السُّدُسُ فَكَانَ تَعْصِيبُ الْأَخِ مُوجِبًا لِحِرْمَانِهِ سُدُسَ الْأُخْتِ كَذَلِكَ تَعْصِيبُ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ يَمْنَعُهُمْ مِنْ مُشَارَكَةِ وَلَدِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلَ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ إِدْلَاءِ جَمِيعِهِمْ بِالْأُمِّ جاز أن يختصوا بِالْفَرْضِ دُونَهُمْ وَإِنْ أَدْلَى جَمِيعُهُمْ بِالْأُمِّ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لأم وعشرة إخوة لأب وأم أن الأخ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسَ وَلِجَمِيعِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهُمْ عَشَرَةُ السُّدُسَ فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْإِرْثِ دُونَهُمْ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُوا وَلَدَ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِأَنْفُسِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ لَجَازَ إِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَيَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأخت لِلْأَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الإدلاء بالأم، ولا يفضل ذلك بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى إِسْقَاطِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أن يكون وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِأَنْفُسِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ لَجَازَ إِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَيَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الأخت للأب والأم والأخت للأب لاشتراكها في الإدلاء بالأب ولا يفضل تلك بِالْأُمِّ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى إِسْقَاطِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يرث وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ بالفرض إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِالتَّعْصِيبِ لَجَازَ أَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 يَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فَيُشَارِكُوا وَلَدَ الأم في فرضهم ويأخذون الباقي بعد الفرض بتعصيبهم وفي إبطال هذا إبطال لفرضهم. وَدَلِيلُنَا عَلَى التَّشْرِيكِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ اسْتِحْقَاقَ الْجَمِيعِ إِلَّا مِنْ حصة الدَّلِيل وَلِأَنَّهُمْ سَاوَوْا وَلَدَ الْأُمِّ فِي رَحِمِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِي مِيرَاثِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مُشَارَكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَلِأَنَّهُمْ بَنُو أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الثُّلُثِ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدُ أَبٍ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرِثَ بِالْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْصِيبِ وَالْفَرْضِ جَازَ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِالتَّعْصِيبِ أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْمَوَارِيثِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَأَدْنَى الْأَحْوَالِ مُشَارَكَةُ الْأَقْوَى لِلْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْمَوَارِيثِ سُقُوطٌ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَوَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ لِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْأُمِّ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْأَبِ، فَإِذَا لَمْ يَزِدْهُمُ الْأَبُ قُوَّةً لَمْ يَزِدْهُمْ ضَعْفًا وَأَسْوَأُ حَالِهِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ كَمَا قَالَ السَّائِلُ: هَبْ أَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبقت الفرائض فلأولى ذَكَرٍ فَهُوَ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يَأْخُذُونَ بِالْفَرْضِ لَا بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِمْ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِالْفَرْضِ لِعَدَمِ إِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ، وَخَالَفَهُمْ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ مَنْ كَانَ عَصَبَةً سَقَطَ عِنْدَ اسْتِيعَابِ الْفُرُوضِ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّ تَعْصِيبَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ قَدْ سَقَطَ وَلَيْسَ سُقُوطُ تَعْصِيبِهِمْ يُوجِبُ سُقُوطَ رَحِمِهِمْ كَالْأَبِ إِذَا سَقَطَ أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يُوجِبْ سُقُوطَ أَخْذِهِ بِالْفَرْضِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ زَوْجًا وأما وجدا وأخا سقط الأخ؛ لأنه الْجَدّ يَأْخُذُ فَرْضَهُ بِرَحِمِ الْوِلَادَةِ فَجَازَ أَنْ يسقط مع الْأَخِ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ وَخَالَفَ وَلَدُ الأم لمشاركته له من جهة الْأُمِّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ مَنْ حَازَ جَمِيعَ المال بالتعصيب جاز أن يكون بعصبته سَبَبًا لِحِرْمَانِهِ كَزَوْجٍ، وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتٍ لِأَبٍ لَوْ كَانَ مَكَانَهَا أَخٌ لِأَبٍ سَقَطَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَرِثُ بِهِ إِلَّا بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أن يدخل بمجرد التعصيب على ذوي الفرض. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ الْأَخُ لِلْأَبِ أَسْقَطَهَا؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهَا عَنِ الْفَرْضِ إِلَى التَّعْصِيبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا بالأم يجوز أن يشاركونها وَلَدَ الْأُمِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا مَعَهُمْ لَمْ يُسْقِطُوهُمْ فَكَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطُوا بِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلَ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَازَ أَنْ يَسْقُطُوا بِهِمْ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَرِثُوا بِتَعْصِيبِهِمْ دُونَ أُمِّهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ بِالتَّعْصِيبِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْخُذُونَ بِهِ الْأَكْثَرَ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ الْأَقَلَّ، فَإِذَا سَقَطَ تَعْصِيبُهُمْ لَمْ يَسْقُطُوا بِرَحِمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ حَالَتِهِمْ فَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَفْضُلُوهُمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطُوهُمْ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْبِنْتَ إِنَّمَا تُسْقِطُ مِنَ الْإِخْوَةِ والأخوات من تفرد إدلائه بِالْأُمِّ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي وَاحِدٍ لَمْ يُسْقِطْ، ثُمَّ رَأَيْنَا مَنْ جَمَعَ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبَوَيْنِ أَقْوَى فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِيهَا جَعَلَ الْأَضْعَفَ أَقْوَى وأحق فأين وجه الجمع بين الْمُضَادَّةِ وَكَيْفَ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ التَّبَايُنِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَوْ وَرِثُوا بِالْفَرْضِ لَجَمَعُوا بَيْنَ التَّعْصِيبِ وَالْفَرْضِ كَالْأَبِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْضَ منهم أضعف من التعصيب؛ لأن الميراث به اجتهاد عَنْ نَصٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّعْصِيبِ الْأَقْوَى وَالْفَرْضِ الْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَرَضُ الْأَبِ لِقُوَّتِهِ وَمُسَاوَاتِهِ التَّعْصِيبَ الَّذِي فِيهِ فجاز أن يجتمع له الميراثان. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَبَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ في المشتركة وَجَبَ أَنْ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى إناثهم. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ من الأم والأخوين للأب وَالْأُمِّ بِالسَّوِيَّةِ فَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأَخَوَيْنِ لِلْأَبِ والأم أختان لأب وأم لم تكن مشتركة لِأَنَّ لِلْأَخَوَاتِ فَرْضًا فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السدس وللأخوين مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثلثان وتعول إِلَى عَشَرَةٍ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ والأم أخ صارت مشتركة؛ لأن مشاركة الأخ لهما أسقط فرضهما ويأخذون جَمِيعًا بِالتَّشْرِيكِ فَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا سَقَطَ التَّشْرِيكُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنَ الْفُرُوضِ سُدُسٌ يَأْخُذُهُ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ بِالتَّعْصِيبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 باب ميراث ولد الملاعنة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقلنا إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدُ الزِّنَا وَرِثَتْ أُمُّهُ حَقَّهَا وَإِخْوَتُهُ لِأُمِّهِ حُقُوقَهُمْ وَنَظَرْنَا مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةَ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ كان ما بقي ميراثا لموالي أمه وإن كانت عَرَبِيَّةً أَوْ لَا وَلَاءَ لَهَا كَانَ مَا بقي لجماعة المسلمين وقال بعض الناس فيها بقولنا إلا في خصلة إذا كانت عربية أو لا ولاء لها فعصبته عصبة أمه واحتجوا برواية لا تثبت وقالوا كيف لم تجعلوا عصبته عصبة أمه كما جعلتم مواليه موالي أمه؟ (قلنا) بالأمر الذي لم نختلف فيه نحن ولا أنتم ثم تركتم فيه قولكم أليس المولاة المعتقة تلد من مملوك؟ أليس ولدها تبعا لولائها كأنهم أعتقوهم يعقل عنهم موالي أمهم ويكونون أولياء في التزويج لهم؟ قالوا نعم قلنا فإن كانت عربية أتكون عصبتها عصبة ولدها يعقلون عنهم أو يزوجون البنات منهم؟ قالوا لا قلنا فإذا كان موالي الأم يقومون مقام العصبة في ولد مواليهم وكان الأخوال لا يقومون ذلك المقام في بني أختهم فكيف أنكرت ما قلنا والأصل الذي ذهبنا إليه واحد؟ ". قال الماوردي: وهذا كَمَا قَالَ: وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ ينْتَفى عَنْ أَبِيهِ وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ لِرِوَايَةِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألحق ابن الْمُلَاعَنَةِ بِأُمِّهِ وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ بِمَاذَا يَكُونُ مِنَ اللِّعَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وحده يقع الفرق وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَدُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنْ بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَد. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ بلعانها وحكم الحاكم يقع الْفُرْقَةُ وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَدُ وَحِجَاجُ هَذَا الْخِلَافِ يَأْتِي فِي كتَابِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 فَإِذَا انْتَفَى الْوَلَدُ بِاللِّعَانِ عَنِ الزَّوْجِ وَلَحِقَ بالأم انتفى تَعْصِيبُ النَّسَبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ تَصِيرُ الْمُلَاعَنَةُ أَوْ عَصَبَتُهَا عَصَبَةً لَهُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشافعي أنها لَا تَكُونُ لَهُ عَصَبَةً وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ وَلَا عَصَبَتُهَا لَهُ عَصَبَةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِيرُ أُمُّهُ عَصَبَةً لَهُ ثُمَّ عَصَبَتُهَا مِنْ بَعْدِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: تَصِيرُ عَصَبَةُ الْأُمِّ عَصَبَةً لَهُ، وَلِلْأُمِّ فَرْضُهَا وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السلام. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ أُمَّهُ وَعَصَبَتَهَا عَصَبَةً لَهُ بِمَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بعدها. وما رواه عبد الواحد بن عبد الله البصري عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: المرأة تحوز ثلث مَوَارِيثِ عَتِيقِهَا وَلَقِيطِهَا وَوَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ. وروي عن دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عبيد بن عمر الأنصاري قَالَ كَتَبْتُ إِلَى صَدِيقٍ لِي مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَسْأَلُهُ عَنْ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ لِمَنْ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكتب إليه إِنِّي سَأَلْتُ فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَضَى بِهِ لِأُمِّهِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ بَعَثَ أَهْلُ الْكُوفَةِ رَجُلًا إِلَى الْحِجَازِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ما بعثوه إلا في ميراث الْمُلَاعَنَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ فَجَاءَهُمُ الرَّسُولُ أَنَّهُ لِأُمِّهِ وَعَصَبَتِهَا، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ فِي التَّعْصِيبِ وَالْعَقْلِ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مِنْ جِهَةِ الأب جاز أن يثبت له بالتعصيب مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بالتعصيب من جهة الأب ويتحرر من قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ جَازَ أَنْ يثبت عليها الولاء فيها جَازَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ التَّعْصِيبُ مِنْهَا كَالْأَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا حِيزَ بِهِ الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ جَازَ أَنْ يُحَازَ بِهِ مِنْ جهة الأم كالولادة. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتِ الفرائض فلأولى رجل ذَكَرٍ وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمِّ الثُّلُثُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عن شريك بن سحماء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلًا فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَكَانَ يُدْعَى إِلَيْهَا ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أدلى بِمَنْ لَا تَعْصِيبَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تعصيب كابن العم للأم؛ لأنها قرابة بعتق يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْمُعْتَقُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا الْإِرْثَ كَالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْرَزَ مَعَهُ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِرْثَ بِالْقَرَابَةِ كالعبد الكافر، وَلِأَنَّ التَّعْصِيبَ قَدْ يُعْدَمُ بِالْمَوْتِ مَعَ مَعْرِفَةِ النسب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 كَمَا يُعْدَمُ بِاللِّعَانِ لِلْجَهْلِ بِالنَّسَبِ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُهُ بِالْمَوْتِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى الْأُمِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ بِاللِّعَانِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى الْأُمِّ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ عَدَمَ التعصيب من جهة لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهِ كَالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّ لَوْ صَارَتْ عَصَبَةً كَالْأَبِ لَوَجَبَ أَنْ تَحْجُبَ الْإِخْوَةَ كَمَا يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْصِيبِهَا، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَصَبَةِ لِلْمِيرَاثِ فِي مُقَابَلَةٍ تَحْمِلُهُمْ لِلْعَقْلِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمَّا لَمْ تَعْقِلْ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَلَمْ يُزَوِّجُوا لَمْ يَرِثُوا. وتحريره قياسا أن ما تفرع من النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِثُبُوتِ النَّسَبِ قِيَاسًا عَلَى الْعَقْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ لَهُ جَدَّيْنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا تَابِعِيٌّ، وَالثَّانِي صَحَابِيٌّ، فَإِذَا لم يعين أحدهما لحق بالمرسل فَلَمْ يُلْزِمِ الِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ أَنَّهُ جَعَلَ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ إِذَا كَانَ لَهَا عليه ولاء ثم لورثته وَلَائهَا مِنْ بَعْدِهَا وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا تَحُوزُ مِيرَاثَهُ وَهُوَ قَدْرُ فَرْضِهَا، وَيُسْتَفَادُ بِهِ أَنَّ لِعَانَهَا عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ ميراثها منه. أما حَدِيثُ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ فَمُرْسَلٌ ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ وَلَدِ الملاعنة لمن قضى به قالوا: قَضَى بِهِ لِأُمِّهِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ في كفالته والقيام بحضانته؛ لأنه لم يجز لِلْمِيرَاثِ فِيهِ ذِكْرٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَقْوَى وَخَالَفَ النَّسَبَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَكَذَا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ التَّعْصِيبِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ ما وصفنا ومات ابن الملاعنة فترك أُمَّهُ وَخَالًا فَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة وَهُوَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَالُ كُلُّهُ لِأُمِّهِ وَعَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِمَوَالِيهَا إِنْ كَانَ عَلَى الْأُمِّ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي وَلَاءِ أُمِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأُمِّ وَلَاءٌ فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ تَرَكَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ أُمًّا وَأَخًا وَأُخْتًا فَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قول أحمد بن حنبل وهو قول علي عليه السلام لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِأَخِيهِ وَأُخْتِهِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ وَالْأُخْتِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ تَوْأَمَيْنِ ابْنَيْنِ فَمَاتَ أحدهما فترك أُمَّهُ وَأَخَاهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَخِيهِ هَلْ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ أَوْ مِيرَاثَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الأكثرين من أصحابنا أنه يرث ميراث أخ لأم، لأنهما لم عَدِمَا الْأَبَ عَدِمَا الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلِأَخِيهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى إِنْ كَانَ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 والوجه الثاني: حكي عن أبي إسحاق المروزي وأبو الحسن بْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، وَالْحَمْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَيَّهُمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُلَاعِنُ تَبِعَهُ الْآخَرُ فِي اللُّحُوقِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ المولى وَبَيْتِ الْمَالِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي نَفْيِهِ عَنِ الزَّانِي ولحوقه بالأم وعلى مَا مَضَى مِنَ الِاخْتِلَافِ هَلْ تَصِيرُ الْأُمُّ وَعَصَبَتُهَا عَصَبَةً لَهُ أَمْ لَا؟ غَيْرَ أَنَّ تَوْأَمَ الزَّانِيَةِ لَا يَرِثُ إِلَّا مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا وَوِفَاقِ مَالِكٍ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْوَلَدَ الَّذِي وَلَّدَتْهُ الزَّانِيَةُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّانِيَةُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ كَانَ الْوَلَدُ فِي الظَّاهِرِ لَاحِقًا بِمَنْ لَهُ الْفِرَاشُ، وَلَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي لِادِّعَائِهِ له لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ". فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الزانية خلية وليست فراشا لأحد يلحقها ولدها فمذهب الشافعي أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي، وَإِنِ ادَّعَاهُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إِذَا ادَّعَاهُ بعد قيام البنية وبه قال ابن سيرين وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إِذَا ادعاه بعد الحد ويلحقه إذا ملك الموطوة وَإِنْ لَمْ يَدِّعِهِ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا وَلَوْ بِيَوْمٍ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلِيطُ أَوْلَادَ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى يَلِيطُ أَيْ يلحق. قالوا: ولأن لَمَّا كَانَ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ عَنِ الْوَاطِئِ بِاللِّعَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ فكذلك وَلَدُ الزِّنَا، وَهَذَا خَطَأٌ فَاسِدٌ لِمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْكُرَ فأتاه رجل فقال يا رسول الله إني عَاهَرْتُ بأمه فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا اعْتِهَارَ فِي الْإِسْلَامِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا أَوِ امْرَأَةٍ لا يملكها فَادَّعَى الْوَلَدَ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَوْ لَحِقَ بِادِّعَاءِ الزاني إياه لَلَحِقَ بِهِ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يدعيه كولد الموطؤة يشبه في إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ ادِّعَائِهِ لَهُ ولأنه لو لحق بِالِاعْتِرَافِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلِيطُ أَوْلَادَ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَنَّ ذلك منه فِي عِهَارِ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دُونَ عِهَارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 الْإِسْلَامِ، وَالْعِهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْعِهَارِ فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَتِ الشُّبْهَةُ لَاحِقَةً بِهِ وَمَعَ الشُّبْهَةِ يَجُوزُ لُحُوقُ الْوَلَدِ، وَخَالَفَ حُكْمَهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا ولد الملاعنة مخالف لِوَلَدِ الزِّنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ لَمَّا كَانَ لَاحِقًا بِالْوَاطِئِ قَبْلَ اللِّعَانِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ لَاحِقًا بِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ؛ لِأَنَّ الأصل فيه اللحوق والبغاء طَارِئٌ وَوَلَدُ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ لَاحِقًا بِهِ فِي حَالٍ فَيَرْجِعُ حُكْمُهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ إِلَى تلك الحال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 باب ميراث المجوس مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إذا مات المجوسي وَبِنْتُهُ امْرَأَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ أُمُّهُ نَظَرْنَا إِلَى أعظم السببين فورثناها به وألقينا الْآخَرَ وَأَعْظَمُهُمَا أَثْبَتُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ فَإِذَا كَانَتْ أم أختا ورثناها بأنها أم وذلك لِأَنَّ الْأُمَّ تَثْبُتُ فِي كُلِّ حَالٍ وَالْأُخْتُ قد تزول وهكذا جميع فرائضهم على هذه المسألة (وقال) بعض الناس أورثها من الوجهين معا قلنا فإذا كان معها أخت وهي أم؟ (قال) أحجبها من الثلث بأن معها أختين وأورثها من وجه آخر بإنها أخت (قلنا) أوليس إنما حجبها الله تعالى بغيرها لا بنفسها؟ (قال) بلى قلنا وغيرها خلافها؟ قال: نعم قلنا فإذا نقصتها بنفسها فهذا خلاف ما نقصها الله تعالى به أورأيت ما إذا كانت أما على الكمال كيف يجوز أن تعطيها ببعضها دون الكمال؟ تعطيها أما كاملة وأختا كاملة وهما بدنان وهذا بدن واحد؟ قال: فقد عطلت أحد الحقين. قلنا لما لم يكن سبيل إلى استعمالهما معا إلا بخلاف الكتاب والمعقول، لم يجز إلا تعطيل أصغرهما لأكبرهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَ الْوَلَدُ مِنْهَا ابْنَهَا وَابْنَ ابْنِهَا وَكَانَتْ لَهُ أُمًّا وَجَدَّةَ أُمّ أَبٍ، وَكَانَ للأب ابنا أخا لأم كان الْأَبُ لَهُ أَبًا وَأَخًا لِأُمٍّ. وَلَوْ تَزَوَّجَ المجوسي بنته فأولدها ابنا فكان الْوَلَدُ مِنْهُ ابْنًا وَابْنَ بِنْتٍ وَكَانَ الْأَبُ أبا وجدا أب أُمٍّ وَكَانَ الِابْنُ لِلْبِنْتِ ابْنًا وَأَخًا لِأَبٍ وَكَانَتْ لَهُ أُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُخْتَهُ فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَ الْأَبُ أَبَاهُ وَخَالَهُ، وَكَانَ الِابْنُ لَهُ ابْنًا وَابْنَ أُخْتٍ، وَكَانَ لِلْأُخْتِ ابْنًا وَابْنَ أَخٍ، وَكَانَتْ لَهُ أما وعمة، وقد تتفق هاتان المسألتان في وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي المجوسي وَقَدْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي مَوَارِيثِهِمْ أَوْ كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَعَ الشُّبْهَةِ فَإِنِ اجْتَمَعَ فِيهِ عَقْدُ نِكَاحٍ وَقَرَابَةٌ سَقَطَ التَّوْرِيثُ بِالنِّكَاحِ لِفَسَادِهِ وَتَوَارَثُوا بِالْقَرَابَةِ الْمُفْرَدَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَرَابَتَانِ بِنَسَبٍ تُوجِبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى كَأُمٍّ هِيَ جَدَّةٌ أَوْ بنت هي أخت لأم، ورثت بابنتها وألغيت المحجوبة منهما إجماعا، وإن كان إِحْدَاهُمَا لَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى كَأُمٍّ هِيَ أُخْتٌ أَوْ أُخْتٌ هِيَ بِنْتٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تُورَثُ بِالْقَرَابَتَيْنِ مَعًا أَمْ لَا فَقَالَ أبو حنيفة أَوَرِّثُهَا بِالْقَرَابَتَيْنِ مَعًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَكْحُولٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أُوَرِّثُهَا بِأَثْبَتِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَأُسْقِطُ الْأُخْرَى، وَلَا أَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْمِيرَاثَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَحَمَّادٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ بها بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى التَّوْرِيثِ بِالْقَرَابَاتِ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا " فَلَمْ يَجُزْ مَعَ النَّصِّ إِسْقَاطُ بَعْضِهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ السَّبَبَيْنِ مِنْ أسباب الإرث عند انفصالها لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِرْثِ بِهِمَا كَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ. قَالُوا: لأن اجْتِمَاعَ الْقَرَابَتَيْنِ يُفِيدُ فِي الشَّرْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إما التقديم كأخ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَإِمَّا التَّفْضِيلُ كَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا لَغْوًا لَا يُفِيدُ تَقْدِيمًا وَلَا تَفْضِيلًا لِمَا فِيهِ مِنْ هَدْمِ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَلِذَلِكَ لَمَّ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى إِحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَلَمْ يَزِدِ اللَّهُ تَعَالَى الْبِنْتَ عَلَى النِّصْفِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ لِلْبِنْتِ إِذَا كَانَتْ بِنْتَ ابْنٍ النِّصْفَ وَالسُّدُسَ، وَالنَّصُّ يَدْفَعُ هَذَا، وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الواحد لا يجتمع لَهُ فَرْضَانِ مُقَدَّرَانِ مِنْ مَيِّتٍ وَاحِدٍ كَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ بِأَنَّهَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَالسُّدُسَ بِأَنَّهَا أُخْتٌ لِأُمٍّ وَلِأَنَّ كُلَّ نسب أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ التَّوَارُثَ جَعَلَ إِلَيْهِ طَرِيقًا كَالْبُنُوَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجْعَلْ إِلَى اجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الْقَرَابَتَيْنِ وَجْهًا مُبَاحًا دَلَّ عَلَى أنه لم يرد اجتماع التوارث منهما وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي بَدَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْتَمِعِ التَّوَارُثُ بِهِمَا كَالْخُنْثَى لَا يَرِثُ بأنه ذكر وأنثى. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ إِذَا حَدَثَ عَنْ مَحْظُورٍ لَمْ يَجُزِ التَّوَارُثُ بِهِ كَالْأُخْتِ إِذَا صَارَتْ زَوْجَةً وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَجُوسِيًّا لَوْ ترك أختا وأما هي أخته لم يخل أن تحجب الأم إلى السدس أو لا تحجب، فإن لم تحجب فقد كمل فرض الأم مع الميراث الْأُخْتَيْنِ وَإِنْ حَجَبَتْ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَجَبَهَا بِغَيْرِهَا وَهُمْ قَدْ حَجَبُوهَا بِنَفْسِهَا وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحَجْبِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِ الشَّرْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالظَّاهِرِ فَهُوَ حَمْلُ الْمَقْصُودِ بِهَا عَلَى انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ دُونَ النادر الشاذ وليس يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ الْعُرْفُ دُونَ مَا جَاءَ الشَّرْعُ بِهِ وَاسْتَقَرَّ الْعُرْفُ عَلَيْهِ وَقُرَابَاتُ الْمَجُوسِ الْحَادِثَةِ عَنْ مَنَاكِحِهِمْ لَمْ يَرِدْ بِهَا شَرْعٌ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا عُرْفٌ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى ابْنَيْ أَحَدِهِمَا أَخٌ لِأُمٍّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَهُ وَالْعُرْفَ اسْتَمَرَّ فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَرَابَتَيْنِ يُفِيدُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَفْضِيلٍ ففاسد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 بالأخت من الأب والأم مع الزوج يأخذ النِّصْفَ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ عَلَى أَنَّ جَمْعَهَا بَيْنَ الْقَرَابَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ الْأَمْرَيْنِ. فصل: فإذا ثبت توريث ذي القرابتين من المجوس أو من وطء الشبهة بِأَقْوَاهُمَا، نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى فَالْمُسْقِطَةُ هِيَ الْأَقْوَى وَالتَّوْرِيثُ بِهَا أَحَقُّ، وَإِنْ كانت إحداهما لا تسقط الأخرى فالتوارث يَكُونُ بِأَقْوَاهُمَا وَاجْتِمَاعِ الْقَرَابَتَيْنِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ التَّوَارُثُ بكل واحدة منها فِي مَنَاكَحِ الْمَجُوسِ يَكُونُ فِي سِتِّ مَسَائِلَ: أحدهما: أَبٌ هُوَ أَخٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا أخا لأم فهذا يرث لكونه أَبًا، لِأَنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ مَعَ الْأَبِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ابْنٌ هُوَ ابْنُ ابْنٍ فَهَذَا يَرِثُ بأنه ابن. والثالثة: بَنْتٌ هِيَ بِنْتُ ابْنٍ فَهَذِهِ تَرِثُ بِأَنَّهَا بِنْتٌ. وَالرَّابِعَةُ: أُمٌّ هِيَ أُخْتٌ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْتًا لِأَبٍ فَتَرِثُ بِأَنَّهَا أُمٌّ، لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُمِّ أَقْوَى مِنْ مِيرَاثِ الْأُخْتِ لِأَنَّهَا تَرِثُ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنِ وَالْأُخْتُ تَسْقُطُ مَعَهُمَا. وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: بِنْتٌ هِيَ أُخْتٌ فَإِنْ كان الميت رجلا فهي أخت لأب، [وإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ] فَتَرِثُ بِأَنَّهَا بِنْتٌ. وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جَدَّةٌ هِيَ أُخْتٌ فَإِنْ كَانَتِ الْجَدَّةُ أُمَّ الْأُمِّ فَإِنَّ الْأُخْتَ لا تكون إلا الأم وَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ وُجِدَ مِنْ وَرَثَةِ الميت في هذه المسألة أَنْ يُورَثَ مَعَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ القرابتين أم لا، فإن كانوا ممن يرث مَعَهُمُ الْأُخْتُ وَالْجَدَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَرِثُ هَذِهِ بِأَنَّهَا جَدَّةٌ أَمْ بِأَنَّهَا أُخْتٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرِثُ بِأَنَّهَا جَدَّةٌ؛ لِأَنَّ الْجَدَّةَ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأُخْتُ تَسْقُطُ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنها تَرِثُ بأنها أخت لِأَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّةِ طُعْمَةٌ وَمِيرَاثَ الْأُخْتِ نَصٌّ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْجَدَّاتِ وَفَرْضَ الْأُخْتِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَخَوَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ تَارَةً، وَبِالتَّعْصِيبِ أُخْرَى، وَالْجَدَّاتِ لَا يرثن إلا بالفرض فلهذه المعاني الثلاث صَارَتِ الْأُخْتُ أَقْوَى مِنَ الْجَدَّةِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُورَثُ مَعَهُمْ بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الْقَرَابَتَيْنِ فَهَذَا يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ التَّوَارُثُ مَعَهُمْ يَكُونُ بِالَّتِي جَعَلْنَاهَا أَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَغْلِبَ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا جَدَّةٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْجَدَّةُ دُونَ الْأُخْتِ أَوْ يَغْلِبُ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا أُخْتٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْأُخْتُ دُونَ الْجَدَّةِ فَهَذِهِ تَرِثُ مَعَهُمْ بِالْقَرَابَةِ الَّتِي غَلَبْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا أَقْوَى وَإِنْ كَانَ التَّوَارُثُ مَعَهُمْ بالقرابة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 الَّتِي جَعَلْنَاهَا أَضْعَفَ مِثْلَ أَنْ يَغْلِبَ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا جَدَّةٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْأُخْتُ دُونَ الْجَدَّةِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ أَوْ يَغْلِبُ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا أُخْتٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْجَدَّةُ دُونَ الْأُخْتِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُورَثُ مَعَهُمْ بِالْقَرَابَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ مَعَهُمْ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْأُخْرَى إِنْ لَمْ تَزِدْهَا خَيْرًا لَمْ تَزِدْهَا شَرًّا، وَلَا يُرَاعَى حُكْمُ الأقوى في هذا الموضع كالمشاركة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْقُطُ تَوْرِيثُهَا بِأَضْعَفِهِمَا إِذَا لَمْ تَرِثْ بِالْأَقْوَى؛ لِأَنَّ أَقْوَاهُمَا قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ أَضْعَفِهِمَا حَتَّى كَانَ الْإِدْلَاءُ بِالْأَضْعَفِ مَعْدُومًا والله أعلم بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 باب ميراث الخنثى مسألة: قال الشافعي: الْخُنْثَى هُوَ الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ كَالرِّجَالِ وَفَرْجٌ كَالنِّسَاءِ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَكَرٌ وَلَا فرج ويكون له ثُقْبٌ يَبُولُ مِنْهُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُشْكَلُ الْحَالِ فَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْهِ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ ذَكَرٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الذُّكُورِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا وَإِنْ كَانَ بَوْلُهُ مِنْ فرجه فهو أنثى يجري عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِنَاثِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَيَكُونُ الْذكر عُضْوًا زَائِدًا لِرِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلنِّسَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشام مات فترك أَوْلَادًا رِجَالًا وَنِسَاءً فِيهِمْ خُنْثَى فَسَأَلُوا مُعَاوِيَةَ فقال ما أدري اتئوا عَلِيًّا بِالْعِرَاقِ قَالَ: فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: مَنْ أَرْسَلَكُمْ، فَقَالُوا: مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: يَرْضَى بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُ عَلَيْنَا بَوِّلُوهُ فَمِنْ أَيِّهِمَا بَالَ فَوَرِّثُوهُ. فَإِنْ بال منهما فقد اختلف الناس منه فَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: أَعْتَبِرُ أَسْبَقَهُمَا وَأَجْعَلُ الحكم له قال أبو الحسن بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرْضِيُّ: وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُزَنِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُهُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَسْبَقِهِمَا، وَلَوِ اعْتَبَرَ السَّبْقَ كَمَا قَالُوا لَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ كَمَا قَالَ أبو يوسف وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة لأبي يوسف حِينَ قَالَ أُرَاعِي أَكْثَرَهُمَا أَفَتكيلُهُ؟ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَشْكَلَ حَالُهُ اعْتُبِرَتْ أَضْلَاعُهُ فَإِنَّ أضلاع الرجال ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَضْلَاعَ الْمَرْأَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ وَهَذَا لا أصل له لإجماعهم على تقديم المال على غيره فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يعطي الخنثى أقل نصيبه مِنْ مِيرَاثِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَتُعْطى الْوَرَثَةُ المشاركون له أقل ما يصيبهم من ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَيُوقِفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أبو حنيفة أُعْطِيهِ أَقَلَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ مِيرَاثِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَأُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الورثة، ولا أوقف شَيْئًا، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْخُنْثَى فَقَالَ لَا أعرفه إما ذكرا أَوْ أُنْثَى، وَرُوِيَ عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَخِيرُ مِنْ قَوْلِ أبي يوسف. فَإِنْ تَرَكَ خنثيين: قال أبو يوسف إن لهما حَالَيْنِ حَالًا يَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ وَحَالًا يَكُونَانِ أُنْثَيَيْنِ وأعطيه نِصْفَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الثَّلَاثَةِ وَمَا زَادُوا، وَقَالَ محمد بن الحسن: أُنَزِّلُ الْخُنْثَيَيْنِ أربعة أَحْوَالٍ: ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَيَيْنِ وَالْأَكْبَرُ ذَكَر وَالْأَصْغَرُ أُنْثَى، أو الأكبر أنثى والأصغر ذكرا، وأنزل الثلاثة ثمانية أحوال والأربعة ستة عشر حالا، والخمسة اثنين وَثَلَاثِينَ حَالًا. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ دَفْعِ الْأَقَلِّ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَقَلِّ إِلَى شُرَكَائِهِ، وَإِيقَافِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ لا يستحق إلا بالتعيين دون الشك وما قاله الشافعي يعين وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ شَكٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَائِرُ أَحْكَامِهِ سِوَى الْمِيرَاثِ لَا يُعْمَلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ، فَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَوَلَدًا خُنْثَى فعلى قول الشافعي للابن النصف إن كان خنثى رجلا، وللخنثى الثلث كأنه أنثى ويوقفوا السُّدُسَ فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا رُدَّ عَلَى الْخُنْثَى، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى رُدَّ عَلَى الِابْنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أبي حنيفة يَكُونُ لِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف ومحمد وَمَنْ قَالَ بِتَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَلَوْ كَانَ أُنْثَى كَانَ لَهُ الثُّلُثُ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ، فَكَانَ لَهُ فِي إحداهما أنثى سُدُسَانِ وَنِصْفٌ وَلِلِابْنِ لَوْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى الثلثان، ولو كان ذكرا النِّصْفُ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ سَبْعَةَ أَسْدَاسٍ فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ. وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَتَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَمًّا، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْبِنْتِ الثُّلُثِ وللخنثى الثلث، لأنه أقل وَالثُّلُثُ الْبَاقِي مَوْقُوفٌ لَا يُدْفَعُ إِلَى الْعَمِّ فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا رُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى دُفِعَ إِلَى الْعَمِّ. وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة يُدْفَعُ الثُّلُثُ الْبَاقِي إِلَى الْعَمِّ، وَلَا يُوقَفُ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ قَالَ لِلْبِنْتِ الثُّلُثُ فِي الْحَالَيْنِ فَيُدْفَعُ إِلَيْهَا، وللخنثى السدس إِنْ كَانَ ذَكَرًا الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى الثلث، فصار له في الحالتين الكل، وكان له في أحدهما النِّصْفُ، فَيَأْخُذُهُ وَلِلْعَمِّ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى الثُّلُثُ وَلَيْسَ لَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا شَيْءٌ، فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ الثُّلُثُ، فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا السُّدُسُ، وَيُقَسَّمُ مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَمِّ سَهْمٌ، وَلَوْ ترك ابنا وبنتا وخنثى فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هُوَ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا؛ لأن الخنثى إن كان ذكرا فهو مِنْ خَمْسَةٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَمِنْ أَرْبَعَةٍ، فصار مجموع الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ عِشْرِينَ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةٍ، لِلِابْنِ الْخُمُسَانِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وَلِلْبِنْتِ الْخَمُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْخُنْثَى الرُّبُعُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَيُوقَفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى رُدَّ عَلَيْهِ فَصَارَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ كَالِابْنِ، وإن كان أُنْثَى رُدَّ مِنْهَا عَلَى الِابْنِ سَهْمَانِ، وَعَلَى الْبِنْتِ سَهْمٌ. وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة هِيَ من أربعة أسهم لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ وَلِلْخُنْثَى سَهْمٌ وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ يَقُولُ هِيَ مِنْ عِشْرِينَ لِلِابْنِ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى عَشَرَةٌ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْبِنْتِ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا أَرْبَعَةٌ وَإِنْ كَانَ أنثى خمسة فصار له في الحالين تسعة فكان له فِي إِحْدَاهُمَا أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلْخُنْثَى إِنْ كَانَ ذَكَرًا ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى خَمْسَةٌ، فَصَارَ له في الحالين ثلاثة عشر فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا سِتَّةٌ وَنِصْفٌ وَتَصِحُّ من أربعين لنزول الكسر فلو ترك ولدا خنثى ولد ابن خنثى وعم فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَيُوقِفُ السُّدُسَ بين الابن وابن الابن والخنثيين لِأَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا وَيُوقِفُ الثُّلُثَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخُنْثَيَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَلِوَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ يَقُولُ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَالْمَالُ للولد، وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، فَيَأْخُذُ الْوَلَدُ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَيَأْخُذُ وَلَدُ الِابْنِ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ وَيَأْخُذُ الْعَمُّ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ. وَعَلَى قَوْلِ من ينزل بجميع الأحوال ينزلها أربعة أَحْوَالٍ فَيَقُولُ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَالْمَالُ لِلْوَلَدِ وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الابن السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا وولد الابن أنثى، فالمال للولد وإن كانا الْوَلَدُ أُنْثَى وَوَلَدُ الِابْنِ ذَكَرًا فَلِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لَوَلَدِ الِابْنِ، فَصَارَ لِلْوَلَدِ فِي الْأَرْبَعَةِ الأحوال ثلاثة أموال فكان له في كل حالة رُبُعُهَا وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ، وَلِوَلَدِ الِابْنِ في الأربعة الأحوال ثلث الْمَالِ فَكَانَ لَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ رُبُعُ ذَلِكَ وَهُوَ نصف السُّدُس ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ حَمْلًا يَرِثُهُ، نُظِرَ حَال وَرَثَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ يَحْجُبُهُمْ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْجُبُهُمْ وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُوقَفُ لِلْحَمْلِ فَحُكِيَ عَنْ أبي يوسف أنه يوقف للحمل نصيب غلام، ويؤخذ منه للورثة ضَمِينٌ وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أَنَّهُ يوقف له نصيب أنثى وحكي عن أبي حنيفة أنه يوقف له نَصِيبُ أَرْبَعَةٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مَنْ وَجَدَ مِنْ حمل واحد وروى يحيى بن آدم فقال سألت شريكا فقال يوقف نصيبا أربعة فإني قد رأيت بني ابن إِسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةً وُلِدُوا فِي بَطْنٍ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ قَالَ يَحْيَى وَأَظُنُّ الرَّابِعَ إِسْمَاعِيلَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُوقَفُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 سَهْمُ مَنْ يُشَارِكُ الْحَمْلَ فِي مِيرَاثِهِ حَتَّى يُوضَعَ فَيَتَبَيَّنَ حُكْمُهُ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إذا لم يتقدر أقل من فرضهم، لِأَنَّ عَدَدَ الْحَمْلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى الْيَقِينِ وَالْمِيرَاثُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ، وَلَا بِالْغَالِبِ الْمَعْهُودِ، وليس لما ذكروه من تقدير بِالْوَاحِدِ أَوْ بِالِاثْنَيْنِ أَوْ بِالْأَرْبَعَةِ وَجْهٌ لِجَوَازِ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ وَقَدْ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ وَرَدَ عَلَيَّ مِنَ الْيَمَنِ طَالِبًا لِلْعِلْمِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ أَنَّ امْرَأَةً بِالْيَمَنِ وضعت حملا كالكرشي وَظَنَّ أن لَا وَلَدَ فِيهِ فَأُلْقِيَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَلَمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَحَمَى بِهَا تَحَرَّكَ فَأَخَذَ وَشَقَّ فَخَرَجَ مِنْهُ سَبْعَةُ أولاد ذكورا عَاشُوا جَمِيعًا، وَكَانُوا خُلُقًا سَوِيًّا إِلَّا أَنَّهُ قال فِي أَعْضَائِهِمْ قَصْرٌ قَالَ: وَصَارَعَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَصَرَعَنِي فَكُنْتُ أُعَيَّرُ بِالْيَمَنِ، فَيُقَالُ لِي: صَرَعَكَ سُبُعُ رَجُلٍ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُجَوَّزًا، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَزَوْجَةً حَامِلًا فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ لَا يَنْقُصُهَا الْحَمْلُ مِنْهُ، وَلَا يَدْفَعُهَا عَنْهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِابْنِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف لَهُ النِّصْفُ، وَيُوقَفُ النِّصْفُ وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لَهُ الثُّلُثُ وَيُوقَفُ الثُّلُثَانِ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لَهُ الْخَمُسُ وَتُوقَفُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُوقَفُ الْجَمِيعُ حَتَّى يُوضَعَ الْحَمْلُ وَلَوْ تَرَكَتِ الأم زوجا وابن عم وأما حاملا، وطلبت الورثة أنصبائهم نُظِرَ فِي حَمْلِ الْأُمِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غير أب أعطى الزوج النصف والأم السدس؛ لأنها ما تَلِدُ اثْنَيْنِ فَيَحْجُبَانِهَا وَيُوقَفُ الثُّلُثُ فَإِنْ وَلَدَتِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ دُفِعَ الثُّلُثُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ وَلَدَتْ واحدا دفع إليه السدس ورد السدس الباقي على الأم لتستكمل الثلث فإن وضعت ميتا كمل للأب الثُّلُثَ وَدُفِعَ السُّدُسُ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ وَيَنْبَغِي لِزَوْجِ الْأُمِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يمسك عن وطئها ليعلم تَقَدُّمَ حَمْلِهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَوَطِئَهَا نُظِرَ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين الوفاة كان الولد وارثا لِتَقَدُّمِ الْعُلُوقِ بِهِ عَلَى الْوَفَاةِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لستة أشهر فأكثر لم ترث لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْوَرَثَةُ بِتَقَدُّمِهِ فَيَرِثُ هَذَا إِذَا كَانَ حَمْلُهَا مِنْ غَيْرِ الْأَبِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ حَامِلًا مِنْ أَبِي الْمَيِّتَةِ دُفِعَ إِلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ وَإِلَى الْأُمِّ الثُّمُنُ وَوُقِفَ أربعة أثمانه؛ لأنها قد تلد بنتين فيكونا أُخْتَيْنِ مِنْ أَبٍ فَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، فَإِنْ وضعت اثنين بنين أخذ الْمَوْقُوفَ وَإِنْ وَضَعَتْ بِنْتًا وَاحِدَةً دُفِعَ إِلَيْهَا من الموقوف بثلاثة أَثْمَانِ الْمَالِ وَرُدَّ الثُّمُنُ الْبَاقِي عَلَى الْأُمِّ، وَإِنْ وَضَعَتِ ابْنًا كُمِّلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَدُفِعَ الْبَاقِي إِلَى الِابْنِ. وَإِنْ وَضَعَتِ ابنتين كُمِّلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَدُفِعَ الْبَاقِي إلى الابنتين. وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَزَوْجَةَ أَبٍ حَامِلًا مِنْهُ أُعْطِيَ الزَّوْجُ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ الْمَالِ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ وَوُقِفَ السُّبُعُ الْبَاقِي فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا لَمْ يَرِثْ وَلَمْ تَرِثْ أُخْتُهُ وَرُدَّ السُّبُعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ فَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى أَوْ إِنَاثًا دُفِعَ السُّبُعُ الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْلُودَةِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. فصل: باب فِي الِاسْتِهْلَالِ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا رَكَضَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 ركضته إلا عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام ثُمَّ قَرَأَ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] فَمَتَى اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صَارِخًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَرِثُ ويورث. روى محمد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَالِاسْتِهْلَالُ هُوَ الصُّرَاخُ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِهْلَالُ الحج لرفع الصوت فيه بالتلبية، وسمي الْهِلَالُ هِلَالًا لِاسْتِهْلَالِ النَّاسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. فَأَمَّا مَا سِوَى الِاسْتِهْلَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَلَا يَقُومُ غَيْرُ الِاسْتِهْلَالِ مَقَامَ الِاسْتِهْلَالِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُطَاسُ اسْتِهْلَالٌ ويورث بِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَقَالَ القاسم بن محمد البكاء وَالْعُطَاسُ اسْتِهْلَالٌ وَيَرِثُ بِالثَّلَاثَةِ لَا غَيْرَ. وَقَالَ الشافعي وأبو حنيفة والصحابة بِأَيِّ وَجْهٍ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ صياح أو بكاء أو عطاس ورث وورث؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِلَّةُ الْمِيرَاثِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ عُلِمَتْ فَقَدْ وَجُدِتْ، وَوُجُودُهَا مُوجِبٌ لِتَعَلُّقِ الْإِرْثِ بِهَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَهَلَّ قَبْلَ انْفِصَالِهِ ثُمَّ خَرَجَ مَيِّتًا فَقَالَ أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ إِذَا اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ وَرِثَ وَوُرِثَ وَإِنْ خَرَجَ بَاقِيهِ مَيِّتًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ بَعْدَ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِهِ وزكاة الفطر لا تجب عليه إِلَّا بَعْدَ انْفِصَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَمَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَزَوْجَةً حَامِلًا فَوُلِدَت ابْنًا وَبِنْتًا فَاسْتَهَلَّ الِابْنُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ اسْتَهَلَّتِ الْبِنْتُ بَعْدَهُ ثُمَّ مَاتَتْ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا زَوْجَةً وثلاثة بنين وبنت ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ الْمُسْتَهِلُّ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْهَا. والمسألة مِنْ سِتَّةٍ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَأَخَوَيْنِ وَأُخْتًا فَعَادَتِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بِالِاخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ الباقي سِتَّةٌ ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ الْمُسْتَهِلَّةُ عَنْ سَهْمٍ مِنْهَا وَمَسْأَلَتُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَأَخَوَيْنِ فَاضْرِبْهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي رَجَعَتِ المسألة إليها يكن اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسَائِلُ فَمَنْ كَانَ له شيء من اثني عشر أخذه مَضْرُوبٌ لَهُ فِي وَاحِدٍ، وَمَنْ كَانَ لَهُ شيء من ستة فهو مَضْرُوبٌ لَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، فَلَوْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمُسْتَهِلَّةُ أَوَّلًا وَمَاتَتْ ثُمَّ اسْتَهَلَّ الِابْنُ بَعْدَهَا وَمَاتَ فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ سهم من ثمانية ومسئلتها مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَثَلَاثَةَ إخوة فاضرب الثمانية عشر في الثمانية يكن مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي وَاحِدٍ هُوَ تَرِكَةُ الْبِنْتُ الْمُسْتَهِلَّةُ. فَعَلَى هَذَا كَانَ لِلِابْنِ الْمُسْتَهِلِّ بَعْدَهَا سَهْمَانِ مِنْ ثمانية في ثمانية عشر يكن سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي وَاحِدٍ فَصَارَ مَالُهُ مِنْهَا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَمَسْأَلَتُهُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وأخوين وهي لا توقف تَرِكَتَهُ بِشَيْءٍ فَاضْرِبِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي مِائَةٍ وأربعة وأربعين تكن ألفا وسبع مائة وثمانية وعشرين سهما ومنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 يصح لَهُ شَيْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ، فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ أُمًّا وَأَخًا وَأُمَّ وَلَدٍ حَامِلًا مِنْهُ فَوَلَدَتِ ابْنًا وَبِنْتًا تَوْأَمَيْنِ فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا وَوُجِدَا مَيِّتَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ الْمُسْتَهِلُّ فَالْعَمَلُ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَمَلِ الْمُنَاسَخَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْمُسْتَهِلَّ قَدْ صَارَ مَوْرُوثًا وَبَيْنَ عَمَلِ مَسَائِلِ المعقود لِاسْتِخْرَاجِ أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَنَقُولُ إِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُسْتَهِلُّ فَلِلِأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَمَسْأَلَتُهُ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَعَمًّا فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ مِنْهَا سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةً ولأم الولد سهم من ثلاثة في خمس تكن خمسة وللعم سهمين مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً. وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمُسْتَهِلَّةُ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَمَسْأَلَتُهَا مِنْ ثلاثة لأن فيها أما وعما فينقسم سهامها عليهما الستة تَدْخُلُ فِي الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهِيَ تُوَافِقُهَا بِالْأَسْدَاسِ، مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي سُدُسِ الْأُخْرَى فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنَ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةً مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ السِّتَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ تَكُنْ ثَلَاثَةً وَلَهَا مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدٌ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ ثَلَاثَةً فَاسْتَوَى سَهْمُهَا فِي المسألتين فأخذته ولأم الولد الْأُولَى خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةٌ فِي سُدُسِ السِّتَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ يَكُنْ خَمْسَةً وَلَهَا من الستة سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ الثَّمَانِيَةَ عشر وهو ثلاثة يكن ثلاثة فتعطى ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُولَى عَشَرَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي وَاحِدٍ تَكُنْ عَشَرَةً وَلَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مَضْرُوبَةٌ فِي ثلاثة تكن اثني عشر فيعطى عشر أسهم؛ لأنه أقل النصيبين، ويوقف سهمان من الْعَمِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ لِلْأُمِّ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 باب ذوي الأرحام قال المزني رحمه الله تعالى: " احتجاج الشافعي فيمن يؤول الآية في ذوي الأرحام قال لهم الشافعي لو كان تأويلها كما زعمتم كُنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمُوهَا قَالُوا فَمَا مَعْنَاهَا؟ قُلْنَا تَوَارَثَ النَّاسُ بِالْحِلْفِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ تَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ والهجرة ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] عَلَى مَا فَرَضَ الله لَا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أن الزَّوْجَ يَأْخُذُ أكثر مما يأخذ ذوو الأرحام ولا رحم له؟ أو لا ترى أنكم تعطون ابن العم المال كله دون الخال وأعطيتم مواليه جميع المال دون الأخوال فتركتم الأرحام وأعطيتم من لا رحم لَهُ؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّ لَهُمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ عَدَمِهِ لِعُدُولِ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ حَقِّهِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً وَإِنْ بَعُدَتْ وَلَا ذُو فَرْضٍ بِرَحِمٍ وَلَا مَوْلًى معتق فيصير حينئذ ذوو الْأَرْحَامِ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّ لَهُمُ الميراث مع عدمه وورثته وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَدَدْنَا قَوْلَهُ وَأَوْضَحْنَا فَسَادَهُ وَإِذَا صَحَّ تَوْرِيثُهُمْ فَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَتَفَرَّعُونَ. وَهُمُ الْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ وَأُمُّ أَبِي الْأُمِّ وَالْخَالُ وَأَوْلَادُهُ وَالْخَالَةُ وَأَوْلَادُهَا وَالْعَمَّةُ وَأَوْلَادُهَا وَوَلَدُ الْبَنَاتِ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ وَوَلَدُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمُّ للأم وأولادهم فاختلف مُوَرِّثُوهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ فَذَهَبَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى تَوْرِيثِهِمْ بِالْقَرَابَةِ عَلَى ترتيب العصبات فأولاهم من كان ولد مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ وَلَدُ أَبَوَيِ الْأَبَوَيْنِ يَجْعَلُونَ وَلَدَ كُلِّ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَقْرَبَ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَبْعَدَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ فِي الْخَالَاتِ المفترقات والعمات المفترقات إذا أَحَقَّهُنَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَنْ كَانَ لِأُمٍّ وَذَهَبَ جُمْهُورُ مُوَرِّثِيهِمْ إِلَى التنزيل فيقولون كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَدْلَى بِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ عَصَبَةٍ أَوْ ذِي فَرْضٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مسعود رضي الله عنهم وعلقمة وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ واللؤلؤي وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعَنْ أبي يوسف نَحْوُهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَيَجْعَلُونَ وَلَدَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِمَنْزِلَةِ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ بِمَنْزِلَةِ آبَائِهِمْ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ وَآبَاءَ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَخَالَ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَخَالَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةٍ أُمِّ الْأَبِ وَالْعَمَّ للأم بمنزلة الأب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 فأما العمات فاختلف المنزلون فيهن فنزلهم عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأب وهي إحدى الروايتين عن علي عليه السلام وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالرِّوَايَةُ المشهورة عن علي عليه السلام أَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَيَحْيَى بن آدم وضرار بن صرد وكأنهم ذَكَّرُوهُنَّ وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا الْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَوَلَدَ الْأَخَوَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ وَنُزُولُهَا مَعَ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَاخْتَلَفَ الْمُنَزِّلُونَ فِي تَوْرِيثِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ الجمهور أن أقربهم أولى بِوَارِثٍ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ فَإِنِ اسْتَوَوْا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبَ مَنْ أَدْلَى بِهِ وَذَهَبَ قوم إلى أن كل ذي رحم بنزلة سَبَبِهِ، وَإِنْ بَعُدَ فَوَرَّثُوا الْبَعِيدَ مَعَ الْقَرِيبِ إذا كانا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بن صالح وأبي عبيد ومحمد بن مسلم، وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَّثُوا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّنْزِيلِ فِي تَنْزِيلِ وَارِثِ الْأُمِّ مِثْلَ ابْنِ أَخِيهَا وعمها وابن عمها وابن أَبِيهَا وَأُمِّ جَدِّهَا هَلْ يُنَزِّلُونَ فِي أَوَّلِ دَرَجَةٍ بِمَنْزِلَتِهَا وَإِنْ بَعُدُوا مِنْهَا أَوْ يُنَزِّلُونَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ يُنَزِّلُونَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الأم ثم أجعلها لِوَرَثَتِهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا وَلَدَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ مِنَ الأم فإنه يستوي فيه ذكورهم وإناثهم، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَبِالْجُمْهُورِ مِنْ قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ يفتي وعليه يعمل؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ أَهْل القرابة فلذلك ذهبنا إليه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ: فِي وَلَدِ الْبَنَاتِ إِذَا تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَثَلَاثَةَ بَنَاتِ بِنْتٍ ثَانِيَةٍ وَأَرْبَعَ بَنَاتِ بِنْتٍ ثَالِثَةٍ فَالْمَالُ فِي الأصل مقسوم بينهم عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ بِعَدَدٍ مَنْ أَدْلَيْنَ بِهِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ ثُمَّ يَجْعَلُ كُلَّ سَهْمٍ لِوَلَدِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا الثُّلُثُ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِبِنْتِ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ وَاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِثَلَاثِ بَنَاتٍ الْبِنْتُ الثَّانِيَةُ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِأَرْبَعِ بَنَاتٍ الْبِنْتُ الثَّالِثَةُ أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: يقسم بينهن على عدد رؤسهم أثمانا لكل واحدة سهم، كما يقسم بَيْنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى أَعْدَادِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ أَعْدَادُ آبَائِهِمْ كَمَا لَوْ تَرَكَ ابْنَ ابْنٍ وَخَمْسَةَ بَنِي ابْنٍ آخَرَ قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا على أعدادهم ولم يقسم نصفين على أعداد آبَائِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَاتِ يَرِثُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلِذَلِكَ قَسَّمَ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ مَنْ أَدْلَوْا بِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ بِنْتٍ مَعَ أُخْتِهِ وَبِنْتَ بِنْتٍ أُخْرَى كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنِ الْبِنْتِ مَعَ أُخْتِهِ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين، وتصح من ستة على قَوْلِ أَبِي عَبِيدٍ وَإِسْحَاقَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة الْمَالُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ سَهْمُ أُمِّهَا وَلِبِنْتِ الابن السدس سهم أبيها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 والباقي رد عليها فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة: الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ دَرَجَةِ بِنْتِ ابْنِ وَارِثَةٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْبُعْدِ وَهَذِهِ تُدْلِي بِوَارِثٍ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَعَ اسْتِوَاءِ الدُّرَجِ يُقَدَّمُ مَنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ، فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ ابْنِ بِنْتِ بِنْتٍ وَابْنَ ابْنِ بِنْتِ ابْنٍ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ ابْنِ بِنْتِ الِابْنِ فِي قَوْلِ الجميع؛ لأنه مع استواء الدرج أقرب إدلاء بوارث. فصل: في ولد الأخوات وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَ أُخْتٍ وَابْنَيْ أُخْتٍ أُخْرَى كَانَ النِّصْفُ لِبِنْتِ الْأُخْتِ وَالنِّصْفُ لِابْنَيِ الْأُخْتِ الْأُخْرَى، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ كَانَ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ والباقي رد عليهم وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة. وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة. فلو ترك بنت أخت لأب مع أخيها وابن أخت لأم مع أُخْتِهِ كَانَ لِوَلَدِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ ثَلَاثَةُ أرباع بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلِوَلَدِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ الرُّبُعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَصِحُّ مِنْ ثمانية. فلو ترك ثلاثة بنين وثلاثة بنات أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَصْلِ على خمسة أسهم سهم لابن وبنت الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَسَهْمٌ لِابْنِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين وثلاثة أسهم للابن وَبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا. فصل: في بنات الإخوة وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَيْ أَخٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ أَخٍ آخَرَ كَانَ النِّصْفُ بَيْنَ بِنْتَيِ الْأَخِ نِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ خَمْسِ بَنَاتِ الْأَخِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا وَعَلَى قول أبي حنيفة المال بينهم عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ فَلَوْ تَرَكَ ثلاث بنات إخوة متفرقين كَانَ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الأخ للأب لأن أباها مع أخويها غَيْرُ وَارِثٍ وَهُوَ قَوْلُ محمد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْأَخِيرِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة الْمَالُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أَخٍ لِأُمٍّ مَعَ أُخْتِهِ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كان السدس بين ابن الأخ وَبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 الْأُمِّ نِصْفَيْنِ وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ الْبَاقِي، وعلى قول محمد بن الحسن لابن الأخ وَبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ كَأَنَّهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأخ مِنَ الْأَبِ. وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ. وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ أَخٍ لأم وابن أخت لِأُمٍّ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِبِنْتِ الأخ للأم السدس ولابن الْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِوَلَدِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى عَدَدِهِمْ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: في ولد الأخوات مع بنات الإخوة وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَيْ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنِ أخت لأب وأم كان المال بينهما عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِابْنِ الْأخت لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمٌ نَصِيبُ أَبِيهِ وَلِابْنَتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ نَصِيبُ أَبِيهِمَا، وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن هِيَ مِنْ خَمْسَةٍ لِبِنْتِي الْأَخِ أَرْبَعَةٌ كَأَنَّهُمَا أَخَوَانِ، وَلِابْنِ الْأُخْتِ سَهْمٌ كَأَنَّهُ أُخْتٌ. وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف لِابْنِ الْأُخْتِ سَهْمَانِ وَلِبِنْتَيِ الْأَخِ سَهْمَانِ يُقَسَّمُ عَلَى رؤوسهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَهُ أُخْتُهُ وَبِنْتَيْ أَخٍ لِأَبٍ وَبِنْتَ أُخْتٍ لِأَبٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِبِنْتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ ثُلُثَا مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُلُثُ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِوَلَدِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ، وَلِابْنَتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْبَاقِي، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي لِبِنْتِ الْأُخْتِ. وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ وَفِي قَوْلِ محمد بن الحسن الْمَالُ بَيْنَ بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف هُوَ لِبِنْتِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. فَصْلٌ: فِي العمات والخالات خَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَعَمَّةٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٌّ لِلْخَالَةِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْعَمَّةِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وكذلك إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 كانت الخالة من أب عَمَّة لِأُمٍّ وَبِنْتُ خَالَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ الْمَالُ لِلْعَمَّةِ لِلْأُمِّ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ خَالَةٍ لِأُمٍّ وَبِنْتُ عَمَّةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ الْمَالُ لِلْخَالَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. ثَلَاثُ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ الثُّلُثُ بَيْنِ الْخَالَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمَّاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ مُفْتَرِقَاتٌ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ لِلْخَالَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. عَمَّةٌ لِأَبٍ وَخَالَتَانِ لِأَبٍ وأم وخال وخالة لأب للعمة الثلث وللخالتين للأب والأم ثلث الثلث وباقي الثلث للخال، والخال مِنَ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ عَمَّتَانِ مِنْ أَبٍ وَعَمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أُمٍّ وَخَالَةٍ مِنْ أُمٍّ وَخَالَةٍ مِنْ أَبٍ تصح من ستة وثلاثين سهما لِلْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ رُبُعُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْخَالَةِ مِنَ الْأَبِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وباقي الثلث للخال وَلِلْعَمَّتَيْنِ مِنَ الْأَبِ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ أسهم وَلِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ. خَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أَبٍ وَخَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أَبٍ تَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا للخال والخالة من الأم ثلث الثلث اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلِلْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَلِلْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ رُبُعُ الثُّلُثَيْنِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ. خَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُمَا أبعد وَأَقْرَبُ وَيُورِثُونَ كُلَّ ذَكَرٍ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إلا ولد الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ. فَصْلٌ: فِي وَلَدِ الأخوال والخالات ثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثِ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ الثُّلُثُ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ الْخَالَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ بَنَاتِ الْعَمَّاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ كَأُمَّهَاتِهِنَّ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ لِبِنْتِ الْخَالَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ لِبِنْتِ الْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. ثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ وَبِنْتُ عَمَّةٍ مِنْ أَبٍ وَبِنْتُ عمة من أم سدس الثلث لبنات الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ وَبَاقِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ لِبِنْتِ الْخَالِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَسْقُطُ مَعَهَا بِنْتُ الخال من الأب لسقوط أبيها مع أبويها وَيَكُونُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ بِنْتَيِ الْعَمَّتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ثَلَاثَة مِنْهَا لِبِنْتِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَسَهْمٍ لِبِنْتِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. ابْنٌ وَبِنْتُ خَالٍ مِنْ أُمٍّ وَخَمْسُ بَنَاتِ خَالَةٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ عَمٍّ وَابْنَا عَمَّةٍ مِنْ أُمٍّ نِصْفُ الثُّلُثِ بَيْنِ الابن وابنة الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ نِصْفَيْنِ وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بَيْنَ بَنَاتِ الْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ أَخْمَاسًا ولبنت العم من الأم نصف الثلثين ونصف الْآخَرُ بَيْنَ ابْنَيِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ نَصِيبَ منْ يُدْلِي بِهِ وَتَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ سَهْمًا ابْنُ خَالٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَبِنْتُ عَمَّةٍ لِأَبٍ وأم وابن عم لأب فَلِابْنِ الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ رُبُعُ الثُّلُثِ وَلِبِنْتِ الْخَالَةِ مِنَ الْأَبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 ثلاثة أرباع الثلث ولابن العم من الأب ربع الثلثين ولبنت العمة من الأب ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا. فَصْلٌ: فِي خَالَاتِ الْأُمِّ وَعَمَّاتِهَا وَخَالَاتِ الأب وعماته خَالَةُ أُمٍّ وَخَالَةُ أَبٍ فَخَالَةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأَبِ فَصَارَتَا جَدَّتَيْنِ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْل أَهْل الْقَرَابَةِ لِخَالَةِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِخَالَةِ الأب الثلثان. وعمة أُمٍّ وَعَمَّةُ أَبٍ فَعَمَّةُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأَبِ وَهُوَ وَارِثٌ وَعَمَّةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ فَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِعَمَّةِ الْأَبِ. وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ لِعَمَّةِ الأم الثلث ولعمة الأب الثلثان. وخالة أُمٍّ وَعَمَّةُ أَبٍ لِخَالَةِ الْأُمِّ السُّدُسُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةٍ أُمِّ الْأُمِّ وَالْبَاقِي لِعَمَّةِ الْأَبِ لِأَنَّهَا بمنزلة أب الْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. خَالَةُ أُمٍّ وَعَمَّةُ أُمٍّ وَخَالَةُ أَبٍ وَعَمَّةُ أَبٍ لِخَالَةِ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأَبِ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَدَّتَيْنِ، وَالْبَاقِي لِعَمَّةِ الْأَبِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَب الْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَبِ الْأُمِّ. ثَلَاثُ خَالَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتِ أَبٍ كُلِّهِنَّ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ وثلاثة أعمام وثلاث خالات أم كلهن مفترقين فَنِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ خَالَاتِ الْأُمِّ عَلَى خَمْسَةٍ وَنِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ خَالَاتِ الْأَبِ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جَدَّتَيْنِ وَالْبَاقِيَ بَعْدَ السُّدُسِ بين عمات الأب على ثمانية لأنهن بمنزلة أب الأب وتسقط أَعْمَامُ الْأُمِّ وَعَمَّاتُهَا لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ. ابن عم معه أخته وبنت خال وبنت خال أم مع أخيها وَابْنُ خَالِ أَبٍ مَعَهُ أُخْتُهُ فَالنِّصْفُ بَيْنَ بنت خال الأم وأختها أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ ابْنِ خَالِ الْأَبِ وَأُخْتِهِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ عَمِّ الْأُمِّ وَأُخْتِهِ لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. فصل: في الأجداد والجدات الذين يرثون برحم مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إذا ورث الجد مع الإخوة للأب والأم أو للأب قاسمهم ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث فإذا كان الثلث خيرا له منها أعطيه وهذا قول زيد وعنه قبلنا أكثر الفرائض وقد روي هذا القول عن عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فيه مثل قول زيد بن ثابت وهو قول الأكثر من فقهاء البلدان فإن قال قائل: فإنا نزعم أن الجد أب لخصال، منها أن الله تبارك وتعالى قال: {ملة أبيكم إبراهيم} فأسمى الجد في النسب أبا ولم ينقصه المسلمون من السدس وهذا حكمهم للأب وحجبوا بالجد بني الأم وهكذا حكمهم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 الأب فكيف جاز أن تفرقوا بين أحكامه وأحكام الأب فيما سواها؟ قلنا إنهم لم يجمعوا بين أحكامهما فيها قياسا منهم للجد على الأب لأنه لو كان إنما يرث باسم الأبوة لورث ودونه أب أو كان قاتلا أو مملوكا أو كافرا فالأبوة تلزمه وهو غير وارث وإنما ورثناه بالخبر في بعض المواضع دون بعض لا باسم الأبوة ونحن لا ننقص الجدة من السدس أفترى ذلك قياسا على الأب يحجبون بها الإخوة للأم وقد حجبتم الإخوة من الأم بابنة ابن متسفله أفتحكمون لها بحكم الأب؟ وهذا يبين أن الفرائض تجتمع في بعض الأمور دون بعض؟ وقلنا أليس إنما يدلي الجد بقرابة أب الميت بأن يقول الجد أنا أبو أب الميت والأخ أنا ابن أبي الميت فكلاهما يدلي بقرابة أبي الميت؟ قلنا أفرأيتم لو كان أبوه الميت في تلك الساعة أيهما كان أولى بميراثه؟ قالوا يكون لأخيه خمسة أسداس ولجده سدس قلنا فإذا كان الأخ أولى بكثرة الميراث ممن يدليان بقرابته فكيف جاز أن يحجب الذي هو أولى بالأب الذي يدليان بقرابته بالذي هو أبعد؟ ولولا الخبر كان القياس أن يعطى الأخ خمسة أسهم والجد سهما كما ورثناهما حين مات ابن الجد وأبو الأخ ". قال الماوردي: أَبُو أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِأَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ. أَبُو أُمِّ أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَأُمِّ أَبٍ. [جَدُّ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدُّ أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ بَيْنَ أَبِي أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ الْأَبِ نِصْفَيْنِ. أَبُو أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ الْأَبِ. أَبُو أَبِي أُمُّ أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أُمِّ أَبٍ] نِصْفُ الْمَالِ بَيْنَ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالنِّصْفُ بَيْنِ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّكَ إِذَا نزلت أبوي أبي أم الأم صار في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أُمٍّ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَهِيَ وَارِثَةٌ، وَإِذَا نَزَّلَتْ أَبَوَيْ أَبِي أم الأب صار في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أَبٍ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أَبٍ وَهِيَ وَارِثَةٌ، فَهَاتَانِ جَدَّتَانِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نصفان نَصِفٌ لِأُمِّ الْأُمِّ يَرِثُهُ عَنْهَا أَبُوهَا ثُمَّ يرث عن ابنها أَبَوَاهُ، وَكَذَلِكَ النِّصْفُ الَّذِي لِأُمِّ الْأَبِ يَرِثُهُ عنها أبوها ثم يرث عن أبيها أبواه، وَأَمَّا أَبُو أَبِي أَبِي الْأُمِّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ يَصِيرُ أَبَا أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثْهَا، فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ، والصحيح من مذاهبهم. أم أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أُمِّ أَبٍ، وَأَبُو أَبِي أُمٍّ أم، النِّصْفُ بَيْنَ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ على ثلاثة، والنصف بين أبوي أبي أَبِي أُمِّ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَوَيْ أبي أم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 الأم في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أُمٍّ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَهِيَ وَارِثَةٌ وَأَبُو أَبِي أُمِّ الْأَبِ في أول درجة بمنزلة أم أب وهي وارثة. فصار معك بعد درجتين جدتان: أُمُّ أُمٍّ، وَأُمُّ أَبٍ وَأَمَّا أَبُو أَبِي أَبِي أُمٍّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ أَبُو أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ، وَأَمَّا أَبُو أُمِّ أَبِي أُمٍّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ أَيْضًا أَبُو أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ فَجَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سِتَّةٍ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ: فِي توريث الزوج والزوجين مَعَ ذَوِي الْأَرْحَامِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذوي الأرحام فيهم إذا دخل مَعَهُمْ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ هَلْ يُعْتَبَرُ إِدْخَالُهُمَا مَعَ مَنْ يُدْلِي بِذَوِي الْفُرُوضِ مِنْهُمْ وَالْعَصَبَاتِ أَمْ لَا؟ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كَتَرِكَةٍ تَسْتَأْنِفُ قِسْمَتَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ما يدلون من ذي فَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ: أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ يُعْطَيَانِ فَرْضَهُمَا وَيَخْرُجَانِ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى قَدْرِ فُرُوضِهِمْ كَأَنْ لَا زَوْجَ مَعَهُمْ وَلَا زَوْجَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ يَدْخُلَانِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَخَالَةٌ، وبنت أخت، فعلى قول من قاله بِالْإِخْرَاجِ، يَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ، وَيُقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْخَالَةِ السُّدُسُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمَانِ لِبِنْتِ الْأُخْتِ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ أَنَّهم بَعْدَ التَّنْزِيلِ يَصِيرُونَ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا وَأُخْتًا فَتَكُونُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمٌ ثُمَّ اجْمَعْ سِهَامَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَهِيَ تِسْعَةٌ وَأَعْطِ الزَّوْجَ النِّصْفَ سَهْمًا مِنِ اثْنَيْنِ ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِيَ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لَا تَنْقَسِمُ فَاضْرِبْ تِسْعَةً فِي اثْنَيْنِ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْخَالَةِ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ سَهْمٌ وَالْفَرْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ فِيمَا يُورَثُ فِيهِ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِفَرْضٍ وَحْدَهُ أَوْ تَعْصِيبٍ وَحْدَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِدْخَالِ والإخراج. زَوْجَةٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، وَبِنْتُ عَمٍّ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ سُدُسُهُ سَهْمٌ وَلِبِنْتِ الْعَمِّ بَاقِيهِ وَهُوَ سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ جَعَلَهُمْ بَعْدَ التَّنْزِيلِ زَوْجَةً، وَبِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ، وَعَمًّا فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجَةِ الثمن ثلاثة، وللبنت النصف اثني عَشَرَ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَاجْمَعْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 سِهَامَ مَنْ سِوَى الزَّوْجَةِ تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ سَهْمًا ثُمَّ أَعْطِ الزَّوْجَةَ الرُّبُعَ وَاقْسِمِ الْبَاقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سهما لا تنقسم لَكِنْ تُوَافِقُ بِالْأَثْلَاثِ إِلَى سَبْعَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ: لِلزَّوْجَةِ منها الربع سبعة أسهم، والباقي وهو واحد وَعِشْرُونَ سَهْمًا لِبِنْتِ الْبِنْتِ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِبِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ. زوج وثلاث بنات ثلاثة إخوة متفرقين فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأُمِّ سُدُسُهُ سَهْمٌ، وَبَاقِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ. زَوْجٌ هُوَ ابْنُ خَالٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ عَمٍّ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ سَبْعَةٌ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلَهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ، وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَانِ. زَوْجَةٌ هِيَ بِنْتُ عَمٍّ، وَبِنْتُ أُخْتٍ. عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ مَا بَقِيَ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَمٍّ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجَةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نصفين. فصل: في توريث من يدلي بقرابتين ابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ بِنْتٍ أخرى، وبنت بنت بنت وَاحِدَة عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ: لِلِابْنِ النِّصْفُ بِقَرَابَةِ أَبِيهِ، وَلَهُ الثُّلُثُ بِقَرَابَةِ أُمِّهِ، وَلِلْبِنْتِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ أُمِّهِ السُّدُسُ، وَتَكُونُ مِنْ ستة للابن خمسة، وللبنت سهم، لأنها فِي التَّنْزِيلِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ ثم تركت إحداهما ابنا فصار الن صف لَهُ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَتَرَكَتْ بِنْتًا صَارَ النِّصْفُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَرَكَتِ الْبِنْتُ ابْنًا وَبِنْتًا فَصَارَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَصَارَ إِلَى الِابْنِ النِّصْفُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ وَالثُّلُثُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أُمِّهِ، وَصَارَ إِلَى جَدَّتِهِ السُّدُسُ عَنْ جَدَّتِهَا أُمِّ أُمِّهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أبي حنيفة ومحمد، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف: لِلذَّكَرِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَلِلْأُنْثَى خُمُسٌ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ كَشَخْصَيْنِ. بِنْتَا أُخْتٍ لِأُمٍّ إِحْدَاهُمَا بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ لأم وأب، هِيَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ أَرْبَعَةٌ بِقَرَابَةِ أَبِيهَا، وَسَهْمٌ بِقَرَابَةِ أُمِّهَا، فَصَارَ لَهَا خَمْسَةً، وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأُمٍّ وَأَخٍ لِأَبٍ. بنتا بنت أخت لأب، وإحداهما هِيَ بِنْتُ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبٍ، وَالْأُخْرَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، هِيَ مِنْ عَشَرَةِ أسهم للتي هي بنت ابن أخت ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وَسَهْمَانِ بِأَبِيهَا، وَلِأُخْتِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 كَذَلِكَ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ، وَأَخٍ لِأُمٍّ، فَكَانَ الْمَالُ عَلَى خَمْسَةٍ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا وَهِيَ سِهَامُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ صَارَتْ إِلَى بنتي بنتيها، وَسَهْمُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ صَارَ إِلَى بِنْتِ أَبِيهَا، وَسَهْمُ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ صَارَ إِلَى بنت ابن. خَالَتَانِ مِنْ أُمِّ إِحْدَاهُمَا هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ، وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ هُوَ خَالٌ مِنْ أَبٍ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْخَالَةِ الَّتِي هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهَا عَمَّةٌ وَسَهْمٌ بِأَنَّهَا خَالَةٌ، وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ، وَلِلْعَمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ عَمٌّ مِنْ أُمٍّ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ خَالٌ مِنْ أَبٍ؛ لِأَنَّهُمْ ينزلون بِمَنْزِلَةِ خَالَتَيْنِ مِنْ أُمٍّ، وَخَالٌ مِنْ أَبٍ، وَعَمَّةٌ مِنْ أَبٍ وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَالْخَالُ مِنَ الْأَبِ عَلَى سِتَّةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ وَالْعَمِّ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَصَحَّتْ من ثمانية عشر سهما لبنت ابن الخال من الْأب التي هي بنت عم من أم سِتَّةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وسهم لأبيها، وَلِأُخْتِهَا الَّتِي هِيَ بِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ سهم بأبيها وسهم بأمها؛ لأنها بِمَنْزِلَةِ خَالٍ وَخَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَعَمٍّ مِنْ أُمٍّ، فَكَانَ الثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَصَحَّتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: فِي الرَّدِّ وَهَذَا إنما يكون عند نقصان الْفُرُوضِ عَنِ اسْتِيعَابِ الْمَالِ وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ. فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَذَهَبَ أبو حنيفة وأهل الْعِرَاقِ إِلَى الرَّدِّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ الله عنهم - وقد قدمناه في الدَّلِيلِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بَقِيَّةَ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةً إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا، فَأَمَّا إِذَا عُدِمَ بَيْتُ الْمَالِ فالضرورة تدعوا إِلَى الرَّدِّ كَمَا دَعَتْ إِلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأرحام. واختلف القائلون بالرد في كيفية الرد فكان علي بن أبي طالب عليه السلام يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إلى عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَهُوَ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَيُفْتى بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لا يرد على الجد وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَكَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ أَرْبَعٍ: عَلَى بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَعَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَعَلَى ولد الأم مع الأم، وعلى الجد مَعَ ذِي سَهْمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ والزوجة والجد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 من مَسَائِلِ الرَّدِّ: إِذَا تَرَكَ أُمًّا، وَبِنْتًا، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأُخْتًا، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا وَبِنْتَيْنِ، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأُخْتًا لِأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَيَبْقَى نِصْفُ سُدُسٍ يُرَدُّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ دُونَ الزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وتصح من ستة عشر سهما. ولو تركت زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَبِنْتَ ابْنٍ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، والباقي رد عليهما على قول علي عليه السلام وَيُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرَدُّ عَلَى الْبِنْتِ فَيَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أُخْتٍ لأب وأم وأخت لأب أو لأم. ولو ترك جدا، وبنتا، وبنت ابن فعلى قول علي عليه السلام: المال بينهم عَلَى خَمْسَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الرَّدُّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. آخَرُ كِتَابِ الْفَرَائِضِ والحمد لله كثيرا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 كتاب الوصايا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِخَلْقِهِ آجَالًا وبسط لهم فيها آمالا ثم أخفى عليهم حلول آجَالِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ غُرُورَ آمَالِهِمْ، فَحَقِيقٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أن يكون مباهيا لِلْوَصِيَّةِ حَذِرًا مِنْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سمعه} [البقرة: 181] . إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] . أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عليكم} . فَيَعْنِي: فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت: يعني أسباب الموت ". إن ترك خيرا: يَعْنِي مَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كله المال: {وإنه لحب الخير الشديد} [العاديات: 8] . الْمَالُ فَقَالَ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] الْمَالُ. {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الْمَالُ. وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . يَعْنِي الْغِنَى. وَقَالَ الشافعي: الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] . فقلنا: إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة، لا بالمال. وقال تعالى: {أولئك هم خير} فقلنا إن الخير المنفعة بالأجر وَقَالَ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَتْرُوكُ. ثُمَّ قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الْأَقْرَبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي الْمِيرَاثِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْأَقَارِبِ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ. واختلفوا في ثبوت حكمها فقال بعضهم: كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ حَقًّا وَاجِبًا، وَفَرْضًا لَازِمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُلُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 وارث وبقي فرض الوصية لغير الورثة في الْأَقْرَبِينَ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ طَاوُسٌ يُرَدُّ الثُّلُثُ كُلُّهُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُرَدُّ ثُلُثُ الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثَا الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زيد رد ثُلُثَا الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أوصى بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ مِنْهُ عَلَى أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 183] . أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والثاني: خمس مائة، وهذا قول النخعي. والثالث: يجب في قليل المال وكثيره وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إلى إنها منسوخة بالمواريث. واختلفوا بأية آي نُسِخَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بآية الْوَصَايَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] . وَقَالَ آخَرُونَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَسَنَذْكُرُ دَلِيلَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَمَنْ نَسَخَهَا فيما بعد. ثم قال: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فأصلح بينهما فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . وَأَصْلُ الْجَنَفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَوْرُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ قول الشاعر: (هم المولى وقد جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ) وَفِي تأويل قوله تعالى: جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل. أحدهما: أَنَّ الْجَنَفَ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ، أَنْ يَأْثَمَ فِي أَثَرَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ابن دريد. والثاني: أن الجنف: الخطأ، والإثم: العمد. والثالث: أن الرجل يوصي لولد بنيه، وهو يرد بَنِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . على أربعة أوجه: أحدهما: أَنَّ تَأْوِيلَهَا: فَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا وَهُوَ يُوصِي عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْمَوْتِ، فَخَافَ أَنْ يُخْطِئَ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيَفْعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يعمد جورا فيها فيأمر بِمَا لَيْسَ لَهُ، فَلَا حَرَجَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 عَلَى مَنْ حَضَرَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ أَوْصِيَاءِ الْمَيِّتِ جَنَفًا فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فِيمَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ، فَيَرُدُّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عند حضور أجله، فأعطى بعضهم دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِمَنْ لَا يرثه لَمْ يَرْجِعْ نَفْعُهُ عَلَى مَنْ يَرِثُهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله} [النساء: 12] . فلا ضرار فِي الْوَصِيَّةِ: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْإِضْرَارُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَيَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ ". وَقَالَ تعالى: {وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] الْآيَةَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته عند رأسه مَكْتُوبَةٌ ". وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ سبعين سنة، ثم يوصي، فيجنف في وصيته فيختم له بشر عمله، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُوصِي فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ له بخير عمله ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أعجز الموصي أن يوصي كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ". وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ معرور، فقالوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 هَلَكَ وَأَوْصَى لَكَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَبِلَهُ، وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أوصى بِالثُّلُثِ، وَأَوَّلَ مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُدْفَنَ إِلَى القبلة ثم صارا جميعا سنة متبوعة. وَالْوَصِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي وجوبها. فأما الذي لا يجوز: فالوصية للوارث. وروى شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَأَمَّا التي تجوز ولا تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمع عليه، فقد أَوْصَى الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. وأما التي اختلف فيها: فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ. ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مَعَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى وُجُوبِهَا لِلْأَقَارِبِ، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ". وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيه يبيت ليلتين إلى وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة، وابن أبي ليلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُوصِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْرَفْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابني، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَبِالشَّطْرِ. قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ. وَالثُّلُثُ كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ". فَاقْتَصَرَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا جَعَلَهُ خَارِجًا مَخْرَجَ الْجَوَازِ، لَا مَخْرَجَ الْإِيجَابِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غنى الورثة بعده أولى من فقرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ". فَلَمَّا جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَاجِبَةً، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاجِبَةً. وَرَوَى ابْنُ أبي ذؤيب عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لأن يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ " وَلِأَنَّ الوصية لو وجبت، لا جبر عَلَيْهَا، وَلَأُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ وَلِأَنَّ الْوَصَايَا عَطَايَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ. فَأَمَّا الْآيَةُ: فَمَنْعُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَعَ تقديم ذكرها فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جاهلية " فمحمول على أحد أمرين. وأما على من كانت عليه ديون حقوق لَا يُوصَلُ إِلَى أَرْبَابِهَا إِلَّا بِالْوَصِيَّةِ. فَتَصِيرُ الوصية ذكرها وَأَدَائِهَا وَاجِبَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " فَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ مَخْرَجَ الِاحْتِيَاطِ، وَمَعْنَاهُ: مَا الْحَزْمُ لِامْرِئٍ. عَلَى أَنَّ نَافِعًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: هَلَّا أَوْصَيْتَ؟ قَالَ: أَمَّا مَالِي، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَفْعَلُ فِيهِ فِي حياتي، وأما رباعي وذوري، فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ. فلو علم وجوب الوصية لما رواه ولما تَرَكَهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط. وهي: موصي، وموصى له، وموصى به، وموصى إليه. فأما الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُوصِي فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا، حُرًّا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ فِي مَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. فَأَمَّا الْمَجْنُونُ: فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَوَصَّيْتُهُ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا: فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجوز. وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ كَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْعُقُودِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أن وصيته جائز لرواية عمرو بن سليم الزريقي قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 " سُئِلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ غلام يبلغ من غسان أوصى لِبِنْتِ عَمِّهِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَهُ وَارِثٌ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَأَجَازَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصِيَّتَهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَتْ عُقُودُهُ هو الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمْضِيَتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْعُقُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَجَّلُ بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إِذَا بَلَغَ. وَالْحَظُّ لَهُ فِي إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَذَلِكَ أَحَظُّ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ عَاشَ وبلغ، وقدر على استدراكها بالرجوع فِيهَا فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ، أَوْ حَابَى، أَوْ وَهَبَ، فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ مَمْضِيٌّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وصية تعتبر في الثُّلُثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهَا إِنْ صَحَّ، وَالْعِتْقُ وَالْهِبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِمَا إِنْ صَحَّ. فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ أجوز، وإن قبل بِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، كَانَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْلِيلِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ جَازَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ بِإِبْطَالِ عُقُودِهِ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ. وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلْسِ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغُرَمَاءُ بَطَلَتْ. وَإِنْ أَمْضَوْهَا جَازَتْ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ حَجْرَ الْفَلْسِ كَحَجْرِ الْمَرَضِ صَحَّتْ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَحَجْرِ السفيه كانت على وجهين: وأما الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ أَمْلَكُ مِنْهُمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ. فَأَمَّا الْكَافِرُ: فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أو حربيا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم. فأما الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْمُوصَى لَهُ. فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، وَلَا قَاتِلًا. فَأَمَّا الْوَارِثُ فَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " لا وصية لوارث " ولو وَصَّى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ، كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى إلا أن يستأنفه الْوَرَثَةُ الْبَاقُونَ هِبَتَهَا لَهُ بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِمْ بما يبذل منهم، وقبول منه، وقبض تلتزم بِهِ الْهِبَةُ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ، فَتَكُونُ هِبَةً مَحْضَةً لا تجري فيها حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ: صَحَّتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا، وكان الموصى له به كَأَحَدِهِمْ، يَأْخُذُ فَرْضَهُ مِنْهَا، وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ مَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 أجازه، وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْبَاقِي مِنْهَا وَارِثًا مع من رده. ثُمَّ هَلْ تَكُونُ إِجَازَتُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابتداء عطية منهم، أو إمضاء على قولين. وعلى كلا القولين لا تفتقر إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مذهب مالك أنها جائزة وَإِنْ لَمْ يَرْثِ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ القبول، فلم يمنع منه القتل كالبيع. وأما القول الثاني: وبه قال أبو حنيفة الوصية باطلة لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس للقاتل وصية " وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، فَاقْتَضَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْقَاتِلُ كَالْمِيرَاثِ، عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ أَقْوَى التَّمْلِيكَاتِ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ القولان، فلا فرق أن يوصي به بَعْدَ جَرْحِهِ إِيَّاهُ وَجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَجْنِي عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْمُوصِي، وَلَيْسَ بِمَجْرُوحٍ، قَدْ وَصَّيْتُ بثلث مالي لم يَقْتُلُنِي فَقَتَلَهُ رَجُلٌ: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا واحدا لأمرين: أحدهما: لأنها وصية عقد عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهَا إِغْرَاءً بِقَتْلِهِ. فإن وَصَّى بِثُلُثِهِ لِقَاتِلِ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ القتل، لم يجز لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ: جَازَ، وَكَانَ الْقَتْلُ تَعْرِيفًا. وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِقَاتِلِهِ هِبَةً أَوْ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنِ حَقٍّ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا فَقَتَلَ العبد سيده، كان له فِي عِتْقِهِ قَوْلَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ لَهُ. وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَ هِبَةً فِي صِحَّتِهِ أَوْ أَبْرَأَ مِنْ حَقٍّ، أَوْ حَابَى فِي بَيْعٍ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قتل الواهب، والمبرأ قتل المشتري، والمحابا قَتَلَ الْمُحَابِيَ، وَالْعَبْدَ الْمُعْتَقَ قَتَلَ سَيِّدَهُ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ نَافِذًا مَاضِيًا، لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الصحة يمنع مِنْ إِجْرَائِهِ مَجْرَى الْوَصِيَّةِ. وَلَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا ثُمَّ إِنِ الْمَجْرُوحُ وَصَّى لِلْجَارِحِ بِوَصِيَّةٍ ثم أجهز عَلَى الْمُوصِي آخَرُ فَذَبَحَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْجَارِحِ الأول، لأن الذابح الثاني صَارَ قَاتِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي قَدْ ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والأول قاتلين، فرد الوصية للأول على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، فَفِي بُطْلَانِ عِتْقِهِ قولان لأنه يعتق من الثلث. ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عِتْقُهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحِقٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِبْقَائِهَا عَلَى حَالِهَا إِضْرَارٌ بِالْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهَا وَخَالَفَ استيفاء رق المدبر للقدرة على البيعة. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا كَانَ قَتْلُهَا عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا بَاقِيًا، قُتِلَتْ قَوَدًا، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، لِأَنَّ وَلَدَهَا شَرِيكٌ لِلْوَرَثَةِ فِي الْقَوَدِ مِنْهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدُ مِنْ أُمِّهِ. فَسَقَطَ حَقُّهُ وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى لِابْنِ قَاتِلِهِ، أَوْ لِأَبِيهِ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرُ قَاتِلٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ الْقَاتِلِ لم تجز فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ. وَلَوْ أقر رجل لقاتله دين، كان إقراره نافذا قولا واحدا لأن الدين لازم وهو مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَخَالَفَ الْوَصَايَا. وَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ: حَلَّ بِمَوْتِ المقتول، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ، إِذَا مَنَعَ الْقَاتِلُ مِنْهُ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْوَصِيَّةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْنَعُ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فلو أجاز الورثة للقاتل، وقد منع منهما فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَانَ فِي إِمْضَائِهَا بِإِجَازَتِهِمْ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْضَائِهِمُ الْوَصِيَّةَ للوارث. فإن قلنا إن الوصية للوارث مردود وَلَا تَمْضِي بِإِجَازَتِهِمْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ تمض بإجازتهم. وإن قلنا: إنه يمضي الوصية للوارث بإجازتهم، أمضت الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ بِإِجَازَتِهِمْ. وَالْأَصَحُّ: إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ، وَرَدُّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَعَ الْإِجَازَةِ، لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَارِثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَجَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَحَقُّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَقْتُولِ، لِمَا فِيهِ من حسم الذرائع المقضية إلى قتل نفسه، فلم تصح الوصية بإجازتهم. فصل: وأما الوصية للعبد، فإن كان لعبد نفسه لم يجز. لأنها وصية لورثته. وَإِنْ كَانَتْ لَعَبْدِ غَيْرِهِ جَازَ وَكَانَتْ وَصِيَّةً لِسَيِّدِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ الْعَبْدِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، كَمَا يصح أن يملك والاحتشاش بالاصطياد مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سعيد الإصطرخي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُمَلَّكُ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَوْ قَبِلَهَا السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ، لم يجز. وعلى الوجه الثاني: يجوز. فأما إذا أوصى لمدبره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 فالوصية جائزة إذا خَرَجَ الْمُدَبَّرُ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا دُونَ الورثة، لعتقه بموت السيد ولو خَرَجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ جَمِيعِهِ، صَحَّ من الوصية بقدر ما عتق منه، وبطل منه بقدر ما رق منه. ولو وصى لِمُكَاتَبِهِ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَإِلَّا: أَخَذَهَا بَعْدَهُ. وَإِنَّ رَقَّ بِالْعَجْزِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَهَا فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّهُ صَارَ عَبْدًا مَوْرُوثًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فِي مَصِيرِهِ عَبْدًا مَوْرُوثًا. وَالثَّانِي: لَا تُرَدُّ، اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فِي كَوْنِهِ مُكَاتَبًا مَالِكًا. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ وَلَدِهِ: فَجَائِزَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ عِتْقَهَا بِالْمَوْتِ أَنْفَذُ مِنْ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِيرَاثَ ابْنِهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَبِي الوارث وابنه جَائِزَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ فَجَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، فلم يجز أن يبيع لِلْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الذِّمِّيِّ، لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الْحَرْبِيِّ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْهِبَةُ لِلْحَرْبِيِّ وَهُوَ أَمْضَى عَطِيَّةً مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا، أو كافرا. فأما وصية المرتد. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِعَقْدِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الوصية له. الوصية جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَادَفَتْ حَالَ الْإِسْلَامِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُرْتَدٍّ مُعَيَّنٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وجهان: أحدها: بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ: فإن ظنه الموصي حيا، فإذا هو ميت، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ عَلِمَهُ مَيِّتًا حِينَ الْوَصِيَّةِ: فَقَدْ أَجَازَهَا مَالِكٌ وَجَعَلَهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمَوْتِهِ يَصْرِفُ قَصْدَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِلْمَيِّتِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَوْتِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ بَاطِلَةً، فكذلك الوصية أولى. والله أعلم. فصل: وأما الْوَصِيَّةُ لِمَسْجِدٍ، أَوْ رِبَاطٍ، أَوْ قَنْطَرَةٍ، فَجَائِزَةٌ، وتصرف فِي عِمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى الْمِلْكُ عَنْ هذا كله توجهت الوصية إلى مصالحهم. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْمَعُ مَعَاصِيهِمْ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَأَجَازَهَا أبو حنيفة مِنَ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ، كما أَجَازَ وَصِيَّتَهُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ. فَهُوَ كُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَمَنْفَعَةٍ، جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا، مُشَاعًا، أَوْ مُفْرَزًا. وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ. وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ، وَلَيْسَ لِلْمُوصِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسعد: " الثلث، والثلث كثير ". وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، كَانَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ أولى مِنِ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عليه السلام - أنه قال: " لأن أوصي بالسدس أحب إلي من أن أوصي بالربع، والربع أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الثُّلُثِ ". وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، وَكَانَ فِي مَالِهِ سِعَةٌ، فَاسْتِيفَاءُ الثُّلُثِ أَوْلَى بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " الثُلُثُ وَسَطٌ، لَا بَخْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ". وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، مَعَ فقر الورثة، وغناهم، وصغرهم، وكبرهم، كانت وصية ممضاة به. وأما الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي قليل المال وكثيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ: " الثُلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ". فَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ: نُظِرَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ. وَإِنْ أَجَازَهَا صَحَّتْ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً: عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُقْبِضْ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ القبض بطلت كالهبة. والقول الثاني: إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ إِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمُوصِي، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبْضٍ، وَتَتِمُّ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَقَبُولِ الْمُوصَى له، ليس الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَا تُبْطَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ بعد إجازته، وقبل إقباضه. فصل: وإن لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ: ردت الوصية إلى الثلث والباقي لبيت الْمَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: وَصِيَّتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مَالِهِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ: " لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ". فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سَقَطَ الْمَنْعُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَضَعَ مَالَهُ حَيْثُ شاء ". ولأن من جازت له الصدقة بجميع ماله، جازت وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". وَلِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَلَمْ يكن له وارث ولأنه لو كان له وارث، لوقف عَلَى إِجَازَتِهِ، وَلِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِأَمْرَيْنِ: أحدهما: أنه تخلف الورثة في استحقاق ماله. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ كَوَرَثَتِهِ. فَلَمَّا رُدَّتْ وصيته مع الوارث إلى الثلث رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وارث. وقد تحرر مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ اسْتَحَقَّتِ التركة بالوفاة، منعت من الوصية بجميع المال كَالْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْوَصَايَا مَعَ الْوَرَثَةِ. مَنَعَ مِنْهَا مَعَ بَيْتِ الْمَالِ، كالديون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً ". فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلًا، لِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لَجَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ غِنَاهُمْ، إِذَا لَمْ يَصِيرُوا عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحَظِّ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَضَعُ مَالَهُ حيث يشاء. فَمَالُهُ الثُّلُثُ وَحْدَهُ. وَلَهُ وَضْعُهُ حَيْثُ شَاءَ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ، إِنْ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ أُمْضِيَتْ، مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ، وَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ وجود الوارث وعدمه. فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يعلم قدره. واختلف أصحابنا: هل يراعى ثلث مَالِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُدْخَلُ فيه مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ. لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا مَا بَعْدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ مِلْكِهَا. فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَصِيَّةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمَوْتِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَهَوَ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ عبدا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ: إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْقَوْلِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ، فَهَلَكَ مَالُهُ، وَأَفَادَ غَيْرَهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ، فَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِلْأَوْصِيَاءِ بَابًا اسْتَوْفَى فِيهِ أَحْكَامَهُمْ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فيما يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قوله: " ما حق امرئ مسلم " يحتمل ما الحزم لامرئ مسلم " يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من جهة الفرض (قال) فإذا أوصى الرجل بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ فَلَهُ الثلث ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَاحِدٌ، فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَصَاحِبَيْهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الِابْنُ، وَإِلَّا رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَهِيَ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ المال. وهو قول زفر من الهذليين وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ، أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أوصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كان وصية بجميع ماله إجماعا. وجب لو أوصى له بمثل نصيب ابنه أن يكون وصية بِجَمِيعِ الْمَالِ حِجَاجًا. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ أَصْلٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ فَرْعٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَعَلْنَا الوصية بجميع الْمَالِ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ، وَإِذَا لم يكن للابن بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي هِيَ بِمِثْلِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الوصية بمثل نصيب الابن فوجب التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ فَإِذَا وجب ذَلِكَ كَانَا فِيهِ نِصْفَيْنِ وَفِي إِعْطَائِهِ الْكُلَّ إبطال للتسوية بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ كُلُّ الْمَالِ. فَهُوَ أَنَّ لَهُ الْكُلَّ مَعَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ وأما مَعَ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَصَّيْتُ لَكَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْكُلِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مع الوصية نصيبا، فكذلك كانت وصيته بالنصف، نصيبا، وَإِذَا قَالَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فلم يجعل مع الوصية نصيبا، فكذلك كَانَتْ بِالْكُلِّ. فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا: لَوْ قَالَ قَدْ وَصَّيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي: فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مِلْكُهُ، لَا مِلْكَ أَبِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مالك ويجري بها مجرى قوله بمثل نصيب ابني ولا ابن له فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً بِالنِّصْفِ وَعِنْدَ مَالِكٍ بِالْكُلِّ وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَا ابْنَ لَهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ ابن قاتل أو كافر، لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِي فَلَهُ مع الاثنين الثُّلُثُ وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الرُّبُعُ حَتَى يَكُونَ كَأَحَدَهِمْ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 قال المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْصَى وَلَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَلِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الثُّلُثُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ ثَالِثٍ، وَمَعَ الثلاثة الربع: لأنه يصير كابن رابع، ومع الأربعة الخمس لأنه يصير كَابْنٍ خَامِسٍ، وَمَعَ الْخَمْسَةِ السُّدُسُ وَيَصِيرُ كَابْنٍ سَادِسٍ. ثُمَّ كَذَلِكَ مَا زَادَ لِيَصِيرَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَكُونُ لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ، وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الثُّلُثُ، وَمَعَ الْأَرْبَعَةِ الرُّبُعُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ فَسَادِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ على ابنه وهو إنما أوصى له بمثل نصيب أحدهم. فصل: فلو كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ، زِدْتَ عَلَى عَدَدِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِيَصِحَّ لَكَ ثُلُثُهَا، لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ خَرَجَ ثُلُثُهُ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، صَارَتْ أربعا ونصفا فليبسطها من جنس الكسر أيضا فليخرج كَسْرُهَا تَكُنْ تِسْعَةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا سِتَّةٌ بَيْنَ البنين الثلاثة لكل واحد منهم سهمان. والثلاث ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ سَهْمَانِ، وَيَبْقَى سَهْمٌ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ. وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ من ثلثه، ردت عَلَى الْأَرْبَعَةِ مِثْلُ نِصْفِهَا، تَكُنْ سِتَّةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَالثُّلُثُ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ أَحَدِهِمْ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ سَهْمٌ. فَصْلٌ: وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِهِ، زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ عَدَدُ فَرِيضَةِ الْبَنِينَ مِثْلَ رُبُعِهَا، لِيَصِحَّ خُمُسِهَا لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خُمْسَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ. فَعَلَى هَذَا: إِذَا زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ مِثْلَ رُبُعِهَا كانت ستة وربعا، فابسطها من جنس الكسر أرباعها تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا عِشْرُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَالْخُمُسُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الْخَمْسِ سَهْمٌ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ رُبُعِهِ، زِدْتَ عَلَى السِّتَّةِ مِثْلَ ثُلُثِهَا، وَهُوَ اثْنَانِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ أَخَذْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ فَجَعَلْتَهُ لِلْبَنِينَ السِّتَّةِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَرَبُعُهَا وَهُوَ سَهْمَانِ جَعَلْتَ مِنْهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ سَهْمًا وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الرُّبُعِ سَهْمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا. فَصْلٌ: وَلَوْ ترك ثلاث بنين، وأوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَالِهِ وَأَجَازَ الورثة ذلك فخذ مالا لَهُ رُبُعٌ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاعْزِلْ رُبُعَهُ وَهُوَ واحد، ثم أقسم الثلاثة الباقية عَلَى أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، فَابْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَرْبَاعًا تَكُنْ ستة عشر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 للموصى له بالربع تبقي اثني عَشَرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كَانَ وَلَدُهُ رِجَالًا وَنِسَاءً أَعْطَيْتُهُ نَصِيبَ امْرَأَةٍ ولو كانت له ابنة وابنة ابن أعطيته سدسا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ وَلَدُ الْمُوصِي عَدَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ. فَإِنْ كان ولده، رجالا ونساء كما لو تَرَكَ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ: كَانَ لَهُ الرُّبُعُ، وَكَأَنَّهُ ابْنٌ ثَالِثٌ مع بنين. فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ كَانَ له السبع وكأنه بِنْتٌ ثَالِثَةٌ مَعَ ابْنَيْنِ. وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنًا، وَلَا بِنْتًا، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ اليقين ولا يعطه مثل نصيب الزوجة وإن كانت أقل ورثته نصيبا. لأنه قال مثل نصيب إحدى وَلَدِي، وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ وَلَدِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَى وَرَثَتِي، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ وَرَثَتِهِ نَصِيبًا كما لو ترك زوجة، وابنين وَبِنْتًا. أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلُزُوجَةِ مِنْهَا الثُّمُنُ سهم واحد، وَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُهُ، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِلزَّوْجَةِ ثُمُنُ الْبَاقِي سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من تسعة وَعِشْرِينَ. وَلَوْ تَرَكَ: بِنْتًا، وَبِنْتَ ابْنٍ، وَأَخًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ: كَانَ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ بِنْتِ الِابْنِ، لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ السدس، فنصفه إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، تَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمًا، وَلِلْبِنْتِ ثلاثة أسهم، وبنت الابن سهما، وللأخ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمَانِ. فَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَفَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلزَّوْجَاتِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، فَيُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَاهُنَّ، وَهُوَ سهم واحد، فضمه إلى الفريضة، وهو أربعة وعشرين، تصير خمسة وعشرين فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ. فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَخَمْسَ بَنَاتِ ابْنٍ، وَعَمًّا، صَحَّتْ فَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِبَنَاتِ الِابْنِ مِنْهَا السُّدُسُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، فَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ، وَهُوَ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَضَمَمْتُهُ إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَصِيرُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، لِيَدْخُلَ نَقْصُ الْعَوْلِ بِسَهْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 فَصْلٌ: وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ، لَوْ كَانَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْخُمُسُ، وتكون الأربعة أخماس بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ. لِلْمُوصَى له بالخمس ثلاثة أسهم، ويبقى اثني عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، وَبِنْتٍ لَوْ كَانَتْ: كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ سَهْمُ ابْنٍ وبنت من جملة ستة بنين وبنتين، ويبقى أحد عشر سهما، تقسم بين البنين الثلاث، عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرِبْعَةَ عَشَرَ، تَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ تِسْعَةُ أسهم، ويبقى ثَلَاثَةً وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ سهما. فصل آخر: فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ. فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ البنين، وهو ثلاثة وتضم إليه نصيب أحدهم وَهُوَ وَاحِدٌ تَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ. تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهُ الْمِثْلَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَكُنْ تِسْعَةً، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهَا الْمِثْلَ، وَهُوَ واحد يبقى ثمانية، فهو نصيب، فَيَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، فَيُدْفَعُ ثُلُثُهَا، وَهُوَ وَاحِدٌ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ، الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، تَضُمُّهَا إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ تَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا. فَصْلٌ آخر: فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أحدهم إلا ثلث ما بقي من الثلاث. فوجه عملها بالباب، أن تأخذ عدد البنين، وهو ثلاثة، وتضم إِلَيْهِ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، تَكُنْ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٍ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، تزيد عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مِثْلِهِ تَكُنْ تِسْعَةً، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تكن عشرة، هو النصيب، فتنقص منه ثلث الثلاث، وهو واحد يبقى تسعة، وهي سهام الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَضُمُّ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وعشرون تكن ثلاثين، تقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ، وَتَصِحُّ من تسعة وثلاثين. فصل: في الضيم وَإِذَا تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 ثُلُثِهِ، وَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ، أنْ لََا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَا نُقْصَانٌ وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ، وَهُوَ الْخُمُسُ فَذَلِكَ موقوف على الإجازة من الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ تَفْضِيلَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَاقِينَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. وإذا كان كذلك وأجاز الوصية الورثة فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِالْبَابِ أَنْ تَجْعَلَ الِابْنَ الَّذِي وَصَّى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ، فَتَصِيرُ ال ْمَسْأَلَةُ كَأَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ ماله فتأخذ عددا تجمع مخرج الجميع من الْوَصَايَا وَهُوَ الْخُمُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، مَضْرُوبُ خَمْسَةٍ فِي تِسْعَةٍ، ثُمَّ اعْزِلْ نَصِيبَ الِابْنِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، فَاضْرِبْهَا فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، ثُمَّ انْظُرْ سَهْمَ الْمُوصَى لَهُ بمثل نصيب أحدهم وهو واحدا، فَاضْرِبْهُ فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا تَكُنْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَانْقُصْ مِنْهُ ثُلُثَهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ أوصى بثلث ما يبقى بعده ويبقى ثلاثون، فزدها على مائة وَالثَّمَانِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، وَهِيَ سِهَامُ جَمِيعِ الْمَالِ. فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ سِهَامِ النَّصِيبِ، فَانْقُصْ من مخرج الوصايا بثلث ثُلُثِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَانْقُصْ مِنْهُ خُمُسَ جَمْعَيْهِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ، يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ النُّقْصَانَيْنِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ. فَإِذَا أَرَدْتَ القسم فَخُذْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ سَبْعُونَ فَأَعْطِ مِنْهُ الموصى له بمثل نصيب أحدهم، إحدى وَثَلَاثِينَ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَعْطِ منها الموصى له بثلث الباقي له من الثلث ثلثها، وهو ثلاثة عشرة وَاضْمُمِ الْبَاقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى ثُلُثَيِ المال، وهو مائة وأربعون تصير مائة، وستة وستون، فَأَعْطِ مِنْهَا الِابْنَ الَّذِي وصّى لَهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ يَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وهو سهمين، ويبقى مائة وأربعة وعشرون وتقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ، يَكُنْ لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. فصل: في التكملة وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ زَوْجَةً، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ. فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ، وَتُسْقِطَ مِنْهَا سهم ذوي التكملة ثم تزد عَلَى الْبَاقِي مِثْلَ نِصْفِهِ، وَتُقَسِّمَ سِهَامَ الْفَرِيضَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ بَعْدَهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا صَحَّحْتَ فَرِيضَةَ الزَّوْجَةِ وَالِابْنِ وَالْبِنْتِ، كانت من أربعة وعشرين، فإذا ألغيت مِنْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ كَانَ الْبَاقِي أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا لم يسلم فأضعف الأحد والعشرين يكن اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَزِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا وَهُوَ أحد وعشرون تصير مائة وَسِتِّينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، صَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ أَسْقَطْتَهَا مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، يَكُنِ الْبَاقِي سَبْعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ سَلِيمٍ فَأَضْعِفْهُ، لِيَسْلَمَ يَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ، وَنِصْفُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ تَكُنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ. مِنْهَا لِلزَّوْجَةِ سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى له بتكملة الثلث بنصيب البنت ثلاث أَسْهُمٍ، لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَهَا إِلَى سِهَامِ الْبِنْتِ صَارَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الِابْنِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، لِأَنَّ سِهَامَ الِابْنِ أَكْثَرُ من الثلث. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو قَالَ) مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِي أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا الْيَقِينُ، وَالْأَقَلُّ يَقِينٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ شَكٌّ. فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الزوجة أقل، أعطيته مثل أسهام الزوجة، وإن كان نصيب غيرها أقل من البنات، أو بنات الابن، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَهُ. وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سِهَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْلِ فَرِيضَتِهِمْ، فَتَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ سِهَامِ أَقَلِّهِمْ، وَتَضُمُّهُ إِلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْمَالَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ، عَلَى مَا اجْتَمَعَ مَعَكَ مِنَ العددين، وقد بيناه. ولو وصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا، اعْتَبَرْتَهُ، وَزِدْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ قَسَّمْتَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ العددين على ما وصفنا. فَعَلَى هَذَا: لَوِ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، أَرَادَ مِثْلَ أَقَلِّنَا نَصِيبًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَرَادَ مِثْلَ أَكْثَرِنَا نَصِيبًا، أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حِصَّتَهُ مِمَّا اعْتَرَفَ به. ومثاله: أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَقُولُ الِابْنَانِ: وصى لك بمثل نصيب ذكر، وتقول الْبِنْتَانِ: وَصَّى لَكَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُنْثَى. فَوَجْهُ الْعَمَلِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَرَادَ ذَكَرًا لَكَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا، عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرِيضَةِ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الذَّكَرِ: سهمان. وإن أراد أنثى: كان المال مقسوما على سبعة أسهم، فريضة ذكرين وَثَلَاثِ بَنَاتٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بنت سهم، وللموصى له بمثل نصيب أنثى سَهْمٌ. فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً وخمسين. للبنتين سُبْعَاهَا: سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 وَلِلْمُوَصَى لَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أنثى: السبع ثمانية أسهم وعلى أن له مثل نصيب ذكر الربع، أربعة عشر سهما، فيكون له اثني عشر وللابنين لو لم يعترفا له بمثل نصيب ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْمَالِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلَهُمَا عِنْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَهُ بِنَصِيبِ ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ، ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا. فَيَرُدُّ الِابْنَانِ مَا بَيْنَ نَصِيبِهِمَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَأْخُذَهُ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ من الأسهم الثمانية، فيصير له اثني عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْبِنْتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَيَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى نِصْفِهَا ... ثم على هذا القياس. فصل: ولو ترك ابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ، ولآخر بمثل نصيب البنت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يوصي بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا. والثاني: أن يكون بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للموصى له بمثل نصيب الابن ربع المال، وللموصى له بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا خمس المال، فتصير الوصيتان بخمس المال وربعه، فتوقف على أجازتهما. والضرب الثاني: أن يريد بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ خُمُسُ الْمَالِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه، فتوقف على إجازتهما. ولو ابتدى فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ، فَإِنْ أَرَادَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عليه كَانَ لَهُ خُمُسَا الْمَالِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ دخول الوصية، كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ ... ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس. فصل: ولو ترك بنتا، وأختا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّبُعُ نِصْفُ حِصَّةِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ النِّصْفَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِ الِابْنِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ البنت الواحدة، (النصف من النصف) لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، كَبِنْتٍ ثَانِيَةٍ، كَمَا يَصِيرُ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ كابن ثان وللواحدة من البنتين الثلث. وكذلك الموصى له بمثل نصيب البنت الواحدة الثلث. وعلى هذا: لو أوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أُخْتٍ مَعَ عَمٍّ، كَانَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ. وَالثَّانِي: الثُّلُثُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 وَهَكَذَا: لَوْ لَمْ يَرِثْ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ غيرها لأن لكل واحدة منهما لو انْفَرَدَتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَخٍ لِأُمٍّ، فَلَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نِصْفُ السُّدُسِ، وَفِي الْآخَرِ السدس والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) ضِعْفُ مَا يُصِيبُ أَحَدُ وَلَدِي أعطيته مثله مرتين (وإن قَالَ) ضِعْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِائَةً أَعْطَيْتُهُ ثلثمائة فكنت قد أضعفت المائة التي تصيبه بمنزلة مرة بعد مَرَّةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ ضِعْفِ نَصِيبِ أَحَدِ أَوْلَادِهِ، كان الضعف مثل أحد النصيبين. فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الِابْنِ مِائَةً كَانَ لِلْمُوصَى له بالضعف مائتين، وبه قال جمهور الفقهاء وبه قال الْفَرَّاءِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الضِّعْفُ مثل واحد، فسوى بين المثل والضعف. وَبِهِ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يضاعف لها العذاب ضعفين} . فَلَمَّا أَرَادَ بِالضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الضِّعْفَ الواحد مثل واحد. واستدلوا على أن المراد بضعفي العذاب مثليه بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُجَازِي عَلَى الْحَسَنَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مِنْ ضِعْفِ الْعَذَابِ عَلَى السَّيِّئَةِ مَرَّتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ وَالْمِثْلَ وَاحِدٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ مثلان هو اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمُسَمَّى إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الضِّعْفَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمِثْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوى بَيْنَهُ وبين المثل. ولأن انشقاق الضعف من المضاعفة، والتنبيه من قولهم أضعف الثَّوْبَ إِذَا طَوَيْتَهُ بِطَاقَتَيْنِ وَنَرْجِسٌ مُضَاعَفٌ: إِذَا كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ طَاقَةٍ، طَاقَتَيْنِ وَمَكَانُ كُلِّ وَرَقَةٍ، وَرَقَتَيْنِ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الضِّعْفُ مِثْلَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَضْعَفَ الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، أَيْ أَخَذَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ صَدَقَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: (وَأَضْعَفَ عبد الله إذا كان حَظُّهُ ... عَلَى حَظِّ لَهْفَانٍ مِنَ الْخَرْصِ فَاغِرِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 أراد به إعطائه مِثْلَيْ جَائِزَةِ اللَّهْفَانِ. فَأَمَّا الْآيَةُ: فَعَنْهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ جَعَلَ عَذَابَهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ثَلَاثَةَ أماثل عَذَابِ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضِّعْفَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْمِثْلِ مجازا، إذا صرفه الدليل عن حَقِيقَتِهِ. وَلَيْسَتِ الْأَحْكَامُ مُعَلِّقَةً بِالْمَجَازِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَقَائِقِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مذاهب. أحدهما: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّ لَهُ مِثْلَيْ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الضِّعْفَ مِثْلًا فَجَعَلَ الضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفِ مِثْلَيْنِ، اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفَيْنِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ لَهُ بِالضِّعْفَيْنِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ. فَإِنْ كَانَ نصيب الابن مائة استحق بالضعفين، ثلاثة مائة، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِالضِّعْفِ سَهْمَ الِابْنِ وَمِثْلَهُ حتى استحق مثليه وجب أن يأخذ بالضعفين بسهم الِابْنِ وَمِثْلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ. فَعَلَى هذا: لو أوصى له ثلاثة أَضْعَافِ نَصِيبِ ابْنِهِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ. وَبِأَرْبَعَةِ أضعافه: خمسة أمثاله. وكذلك فيما زاد. والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) لِفُلَانٍ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ أَوْ قليل أو كثير من مالي ما عرفت لكثير حدا ووجدت ربع دينار قليلا تقطع فيه اليد ومائتي درهم كثيرا فيها زكاة وكل ما وقع عليه اسم قليل وقع عليه اسم كثير وقيل للورثة أعطوه ما شئتم ما يقع عليه اسم ما قال الميت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ حَظٍّ، أَوْ قسط، أو قليل، أو كثير ولم يجد ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهَا إلى الورثة فيما بَيَّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْلُهُمْ فِيهِ مَقْبُولًا، فَإِنِ ادَّعَى الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَحْلَفَهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لَا تَخْتَصُّ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي العرف بمقدار معلوم، ولا لاستعمالها في القليل وَالْكَثِيرِ حَدٌّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَيَكُونُ كَثِيرًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْوَصَايَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَدْ أَوْصَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَحُكِيَ عن ابن مسعود وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وأحمد بن حنبل أنه لَهُ سُدُسَ الْمَالِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يُدْفَعُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا، مَا لَمْ يُجَاوِزِ السُّدُسَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ أُعْطِيَ السُّدُسَ. وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: يُعْطَى نصيب أقلهم مثل نَصِيبًا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الثُّلُثَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ، أعطي الثلث. وقال أبو ثور. أعطيته سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّهْمُ اسْمٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، لانطلاقه على القليل والكثير، كالحظ والنصيب، فيرجع إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض لرجل أوصى له سهما سُدُسًا. قِيلَ: هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يُحْتَمَلُ أن تكون البينة قامت بالسدس واعترف به الورثة. وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ قبل منهم ما بينوه، من قليل أو كثير. فإن نوزعوا، أحلفوا. فإن لم يبينوا لم يخل حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بيان: رَجَعَ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ نُوزِعَ، أُحْلِفَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بيان وَقَفَ الثُّلُثُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيَانِ أَحَدِهِمَا، وَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَيِّنُوهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ من اختلاف قوليه فيمن أقر بمجمل وامتنع أَنْ يُبَيِّنَ. أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ الْوَارِثُ حَتَّى يُبَيِّنَ. وَالثَّانِي: يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ ولآخر بربعه فلم تجز الْوَرَثَةُ قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى الْحِصَصِ، وَإِنْ أَجَازُوا قُسِمَ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 عَشَرَ جُزْءًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَكُونُوا سَوَاءً فِي الْعَوْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بربعه. فقد عالت المسألة على كل ماله فلا يخلوا حاله وَرَثَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا أَنْ يُجِيزُوا جميعا، أو لا يجيزوا جميعا، أو يجيز بعضهم، ويرد بعضهم. فإن أجازوا جميعا: قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لِاجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَتَعُولُ بِسَهْمٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ. وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْلِ دَاخِلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ، كَالْمَوَارِيثِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لم يخالف أبو حنيفة ولا غيره فيه والله أعلم. فَصْلٌ: وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا بِكُلِّ الْمَالِ رَجَعَتْ إِلَى الثُّلُثِ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، كَمَا اقْتَسَمُوا كُلَّ الْمَالِ مَعَ الْإِجَازَةِ. فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة: أَرُدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على أحد عشر سهما. لصاحب النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزيادة على الثلث، لاستحقاق الورثة لها، فيبطل حُكْمُهَا وَصَارَ كَمَنْ وَصَّى بِمَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ، تمضي الوصية في ماله، وَتُرَدُّ فِي مَالِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ على الثلث تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَلَمَّا بَطَلَ التَّقْدِيرُ، بَطَلَ التفصيل. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الزِّيَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَالتَّقْدِيرِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كُلِّ الْمَالِ، قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كل جزء منه قِيَاسًا عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَلِأَنَّهُمْ تَفَاضَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الْعَطِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ عَلَى التَّفَاضُلِ عِنْدَ الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى التفاضل عند العجز قياسا على صاحب الثلث والربع، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُلِ، لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَالِ، أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُلِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كانت الوصية بالنصف والثلث مالا والرد مقدر كَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 هي ثلث ماله، ولعمرو بألف وخمس مائة، هِيَ نِصْفُ مَالِهِ، لَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ، فوجب إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ مُطْلَقًا أَنْ يَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مع التقدير يتفاضلان فِيهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ كَالْإِجَازَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الْإِجَازَةِ تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الرد كالمقدر. وأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ لا يملكها فصارت في حق غيره: فهو أن الرد وإن استحق فليس بمستحق فِي وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ عَلَى الْوَرَثَةِ انْصِرَافُ الثُّلُثِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى اسْتِوَاءٍ، أو تفاضل فيطل حقهم فيه، ويرجع إلى قصد الموصل فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَيُقَالُ: لَيْسَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ النصف يعد الثُّلُثِ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ لَزِمَ مَا قَالُوا، لَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ النِّصْفِ بِأَسْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ التَّفْضِيلِ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِبَعْضِهِمْ وَرَدُّوهَا لِبَعْضِهِمْ مِثْلَ أَنْ يُجِيزُوا صَاحِبَ الثُّلُثِ وَيَرُدُّوا صَاحِبَ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَتُقَسَّمُ الْوَصَايَا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَنْقَسِمُ ثلاثة عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ ثلاثة مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَيُعْطَى صَاحِبُ الرُّبُعِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَتَكُونُ ثَلَاثَةً مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَأَمَّا صَاحِبُ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ تُعْطِيهِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، مَعَ دُخُولِ الْعَوْلِ عَلَيْهِ، كَالَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ، لَوْ وَقَعَتِ الْإِجَازَةُ لِجَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ. لأنه إنما أخذ الثُّلُثَ عَائِلًا مَعَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِجَمِيعِهِمْ، لِضِيقِ المال عن سهامهم. وإذا أجازوا ذلك لبعضهم، اتسع المال لتكمل سَهْمِ مَنْ أُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ. فَعَلَى هَذَا يأخذ ثلاثة عشر من تسعة عشر من تسعة وثلاثين، ثم على هذا القياس. ولو أُجِيزَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، أَوْ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ وَحْدَهُ، أَوْ لَهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ صَاحِبِ الثلث. فصل: ولو أوصى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَهُمَا كَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على أربعة أسهم، لأنه مال وثلث، يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثٍ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ. وَقَالَ دَاوُدُ يَكُونُ لصاحب المال ثلثا المال، ولصاحب الثلث جميع ثلث المال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ الْكُلِّ، كَانَ رُجُوعًا عَنْ ثُلُثِ الْكُلِّ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِبْطَالِ الْعَوْلِ. وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. فَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ: كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ. وَقَالَ أبو حنيفة الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نصفين، إِبْطَالًا لِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ الرَّدِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَرَدُّوا صَاحِبَ الْكُلِّ، كَانَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سهما. وأما صَاحِبُ الثُّلُثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكْمُلُ لَهُ سَهْمُهُ مَعَ الْعَوْلِ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَيَبْقَى مِنْهَا بعد الوصيتين ستة أسهم ترجع على الوارث. والوجه الثاني: يكون له الثلث مع غَيْرِ عَوْلٍ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ خَمْسَةٌ تَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ. فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، وَرَدُّوا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ: أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَهْمًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنْ أُعِيلَ سَهْمُ صَاحِبِ الْكُلِّ مَعَ الإجازة له أخذ تسعة أسهم، ويبقى بعد الوصيتين سهمان للوارث. فإن أكمل سَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، أَخَذَ جَمِيعَ الْبَاقِي وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُوَ دُونُ الْكُلِّ بِسَهْمٍ زَاحَمَهُ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَبْقَ للوارث شيء وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِغُلَامِهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ لِآخَرَ والثلث ألف دَخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْلُ نِصْفٍ وكان للذي لَهُ الْغُلَامُ نِصْفُهُ وَلِلَّذِي لَهُ الدَّارُ نِصْفُهَا وللذي له خمسمائة نِصْفُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا، فَلِلْوَرَثَةِ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يُجِيزُونَ، وَحَالَةٌ يَرُدُّونَ. فَإِنْ رَدُّوا: قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، بِالْحِصَصِ، وَتَسْتَوِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُعَيَّنِ وَالْمُقَدَّرِ. وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُعَيَّنِ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمُقَدَّرِ، اسْتِدْلَالًا بأن القدر يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ فِيهَا زَالَ تَعَلُّقُهَا بِالذِّمَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ مَحَلَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 الْوَصَايَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَوِ اتَّسَعَ لَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُعَيَّنُ وَالْمُقَدَّرُ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ مَعَ اتِّسَاعِهِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُقَدَّرِ أَثَبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بالمعين، ولأن الْمُعَيَّنَ إِنْ تَلِفَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَالْمُقَدَّرُ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْمُعَيَّنِ، وَالْمُقَدَّرِ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الثُّلُثِ دَاخَلَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ. فَإِذَا أَوْصَى بعبده لرجل، وقيمته خمس مائة دِرْهَمٍ، وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ لآخر، فوصاياه الثَّلَاثَةِ كُلُّهَا تَكُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلَا عَجْزَ، وَهِيَ مُمْضَاةٌ. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَدْ عَجَزَ الثلث عن نصفها، فوجب أن يدخل القول عَلَى جَمِيعِهَا، وَيَأْخُذَ كُلُّ مُوصًى لَهُ بِشَيْءٍ نصفه، فيعطي الموصي الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نَصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ نِصْفَهَا وذلك خمسمائة. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالدَّارِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ لِدُخُولِ الْعَجْزِ بِالثُّلُثِ عَلَيْهِمَا. فَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ ربع الوصايا الثلاث. فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ رُبُعَ مَا جُعِلَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا كُلَّهَا مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهَا، وَدُخُولِ الْعَجْزِ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا فَفِي إِجَازَتِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِالْمَنْعِ مَالِكِينَ لِمَا مَنَعُوهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِجَازَةِ مُعْطِينَ لِمَا أَجَازُوهُ. فَعَلَى هَذَا: قَدْ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا نِصْفَهَا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر تمليكهم لَهَا إِلَى قَبْضٍ. وَنِصْفُهَا بِالْعَطِيَّةِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عنها ولا يتم ملكهم إلا بقبض. القول الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ بِالْوَصِيَّةِ دُونَ الْعَطِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْخِيَارِ فِي عُقُودِ الميت لا يكون الورثة بالإمضاء لها عاقدين كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً إِذَا وَجَدَ وَارِثُهُ بِهَا عَيْبًا فَأَمْضَى الشِّرَاءَ وَلَمْ يَفْسَخْهُ: كَانَ تَنْفِيذًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا، فَكَذَلِكَ خِيَارُهُ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُمْ رَدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَجَازُوهُ سَقَطَتْ حقوقهم منه، فصار الثلث وما زادوا عَلَيْهِ سَوَاءً فِي لُزُومِهِ لَهُمْ. فَإِذَا اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ مَعَ اللُّزُومِ: اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ وَصِيَّةً لَا عَطِيَّةً. فَعَلَى هَذَا: يَلْزَمُهُمْ نِصْفُ الْوَصَايَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةٍ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا. وَنِصْفُهَا بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يُعْتَبَرُ، وَلَا رُجُوعَ يَسُوغُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ: فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، لِأَنَّ تِلْكَ نَاجِزَةٌ، وَهَذِهِ مَوْقُوفَةٌ، فَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ عَطَايَا الْمَرَضِ قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ. وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا: لَمْ يُقَدَّمِ الْأَسْبَقُ، لِأَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ تُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ الْمُتَرَتِّبِ، فَثَبَتَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَصَايَا كُلُّهَا تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ إِلَّا أنْ رتبها الموصي فيمضي عَلَى تَرْتِيبِهِ مَا لَمْ يَتَخَلَّلِ الْوَصَايَا عِتْقٌ. فَإِنْ تَخَلَّلَهَا عِتْقٌ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي كفارة أو نذر قدم عَلَى وَصَايَا التَّطَوُّعِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا لِقُوَّتِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعِتْقَ وَالْوَصَايَا كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي مُزَاحَمَةِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا تَطَوُّعٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ ومن الفقهاء أبو ثور. فصل: ولو أَوْصَى رَجُلٌ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ زَيْدٍ بِأَلْفِ درهم وأن يعتق عليه فاشتراه الموصى بخمس مائة، وأعتقه عنه، والبائع غير عالم فقد اختلف الناس في الخمس مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ: فَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً لَهُ. فحكي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَجَعَلَهَا تَرِكَةً. وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْعِتْقِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً له، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُنْظَرُ قِيمَةَ عَبْدِ زَيْدٍ الْمُوصَى لَهُ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةً فَيَعُودُ الْبَاقِي مِنْ ثمنه إلى الورثة. وإن كان يساوي خمس مائة عَادَ الْبَاقِي إِلَى زَيْدٍ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ له. وإن كان يساوي سبع مائة. فالوصية منها بثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَتُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَتُرَدُّ الْمِائَتَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ، أُعْتِقَتْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، وَلَا النكاح. ووجب الرجوع عليها بقيمتها ولا يعود ميراثا. لأن عدم الشرط منع مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ. فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يُسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْوَصِيَّةِ قَدْ عُدِمَ بِتَزْوِيجِهَا. وَإِنْ طُلِّقَتْ: فَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بألف درهم على أن لا تتزوج وأعطيت الْأَلْفَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتِ اسْتُرْجِعَتِ الْأَلْفُ مِنْهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ. لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ الْمَالِ مُمْكِنٌ، وَاسْتِرْجَاعَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 فَرْعٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ أَبَا نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ عَنِ الْمُوصِي: أَجْزَأَ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا، أَوْ وَاجِبًا. وَلَوِ اشْتَرَى أَبَا الْمُوصِي فَأَعْتَقَهُ: فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَمْ يُجْزِئْ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: أَجْزَأَ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ درهم، وبسدس ماله لآخر، وماله خمس مائة دِرْهَمٍ. فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ عَلَى سَبْعَةِ أسهم. لأن السدس إذا انضم إلى الكل صار سَبْعَةً يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً ثُمَّ يَعُودُ صاحب السدس إلى الأربع مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمَالِ فَيَأْخُذُ سُدُسَهَا، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، صَارَ الْجَمِيعُ مائة درهم وستة وستون دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ. وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ من غير زيادة ولا نقصان. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ يَخْتَصُّ بها الموصى له بالعبد لأنه لم يوصى بِهِ لِغَيْرِهِ، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لَهُمَا، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ، ثُمَّ يعود صاحب السدس فيأخذ سدس الأربع مائة الباقية. وذلك تمام ثلث جميع المال. ولكل من القولين وجه. والأول أشبه. فصل: ولو أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِفَرَسٍ قِيمَتُهُ سِوَى الْفَرَسِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالْوَصِيَّتَانِ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ بِمِثْلِ ثُلُثَيْهِ، لِأَنَّ الْمَالَ ثَلَاثَةُ آلَافِ درهم والوصيتان بفرس قيمته ألف درهم، وبثلث الألفين وهو دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ، عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ، سقط خمسا الوصيتين، ورجعت إلى ثلاثة أخماسه، لِأَنَّ الْأَلْفَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا. ثُمَّ فِي قسمة ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالثُّلُثِ قَوْلَانِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَرَسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ صاحب الثلث، وصاحب الفرس عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مَقْسُومًا عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ: تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ عُشْرُهُ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ ثَلَاثَةِ أخماس الألفين، وذلك أربع مائة درهم فيصير مع صاحب الثلث خمس مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ وَالْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 ومع صاحب الفرس أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ أَلْفَ درهم هو ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الفرس مقسوم بين صاحب الفرس، وصاحب الثلث، عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، لِأَنَّ ثُلُثَيْ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَالثُّلُثَ مُوصًى بِهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبِ الْفَرَسِ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مقسوما على عشرة أسهم منها لصاحب الفرس أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ، أربع مائة، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ وَهُمَا عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ ذَلِكَ مائتا درهم. ثم يأخذ صاحب الفرس حقه من ألفين، وذلك أربع مائة درهم. فصار مع صاحب الفرس الثلث ست مائة درهم من الفرس. ومع صاحب الفرس أربع مائة من الفرس وَهُمَا جَمِيعًا أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حنيفة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَلَمْ يُجِيزُوا فَلِلْأَجْنَبِيِّ النصف ويسقط الْوَارِثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَيِّتُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَعْدٍ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " فَإِنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، لَزِمَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ. والثاني: في اعتراض الورثة الوصية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ ". فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَلِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِنَسْخِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. فعلى هذا: لو أوصى لوارث بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله، فقد استحق الورثة المنع في الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِوَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ، وَمِنَ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ. وإذا كان كذلك: فللورثة أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزُوا الْأَمْرَيْنِ، الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَمْضِي الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِالثُّلُثَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيَمْنَعُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ الثُّلُثَ كَامِلًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ، وَكَمُلَتْ وَصِيَّتُهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيُجِيزُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الأجنبي والوارث نصفين، ويأخذ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ على الثلث، ويمضوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، فَيَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ لِأَنَّ مَا زَادَ مَرْدُودٌ فِي حَقِّهِمَا مَعًا فَصَارَ الثُّلُثُ لهما، ثم منع الوارث منه فصار سَهْمُهُ مِيرَاثًا وَأَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ سَهْمَهُ مِنْهُ لَوْ كان الوارث له مشاركا. فلو كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثِينَ، وَلَمْ يُجِيزُوا: كَانَ للأجنبي ثلث الثلث لأنه أحد ثلاثة أشركوا فِي الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيَّيْنِ وَوَارِثٍ. كَانَ لهما ثلث الثُّلُثِ. وَالِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا، عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وقت الوصية. فعلى هذا: لو كان وَارِثًا ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ: صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا: رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ، عَاقِلٍ، جائز الأمر. وإن كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ: لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا مِنَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ وَلِيِّهِ لِمَا فِي الْإِجَازَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّهِ، وَلَا ضمان على الولي المجيز، ما لم يقبض. فإن أقبض؛ صار ضامنا لما أَجَازَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ قَالُوا كُنَّا نَظُنُّ أن الزِّيَادَةَ يَسِيرَةً، أَوْ كُنَّا نَظُنُّ مَالَهُ كَثِيرًا، أَوْ كُنَّا لَا نَرَى عَلَيْهِ دَيْنًا: كَانَ القول قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِجَازَةَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، بَطَلَتْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ جَهِلُوا بَعْضَهَا، فَبَطَلَتْ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، قِيلَ لَهُمْ قَدْ لزمكم من إمضاء الزيادة القدر كنتم تظنوه يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ، وَبَطَلَتِ الزيادة فيما جهلتموه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 فَإِنِ اخْتَلَفُوا مَعَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمُوهُ: كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ. فَصْلٌ: وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُمَا وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، حَلَفَ الْمُكَذِّبُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ. وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ثُلُثُ حِصَّتِهِ، وَهُوَ سدس جميع المال. والوجه الثاني: يلزمه سدس جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ حِصَّتِهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِدَيْنٍ. فَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ عَلَى السُّدُسِ. لَزِمَ الْمُصَدِّقَ عَلَى السدس نصف السدس، وفيما يلزم الْمُصَدِّقَ عَلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الثُّلُثِ، وَهُوَ السُّدُسُ. وَالثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، وَهُوَ الربع. والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجوز الْوَصِيَّةُ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبِمَا فِي الْبَطْنِ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فإن خرجوا عددا ذكرانا وَإِنَاثًا فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ وَهُمْ لِمَنْ أُوصى بِهِمْ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ على فصلين: أحدهما: الوصية بالحمل. والثاني: الوصية للحمل. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ بِالْإِرْثِ، وَهُوَ أَضْيَقُ، مَلَكَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ. وَلَوْ أَقَرَّ لِلْحَمْلِ إِقْرَارًا مُطْلَقًا بَطَلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ أحمل للجهالة له مِنَ الْإِقْرَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَحَّ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ لَمْ يَصِحَّ. فَإِذَا قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِأَلْفٍ نُظِرَ حَالُهَا إِذَا وَلَدَتْ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ بِالْوَصِيَّةِ لَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْحَمْلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وقت تكلمه بِهَا. وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فإن كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَهَا فيحدث ذلك منه: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يطأ، فالوصية صحيحة لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُهُ وَالْحَمْلُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي اللُّحُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَسَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ حُرًّا، أَوْ مَمْلُوكًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَمْلُوكِ جَائِزَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ، وَفِي الْحُرِّ لَهُ، دُونَ غَيْرِهِ. ثُمَّ إِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ. وَإِنْ وَضَعَتْ ذكرا وأثنى كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا مِيرَاثَ، إِلَّا أَنْ يُفَضِّلَ الْمُوصِي الذَّكَرَ عَلَى الأنثى. لو على هذه فيحمل على تفضيله. فلو قال: إن وَلَدَتْ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَلَهَا مِائَةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا: اسْتَحَقَّ أَلْفًا، وَإِنْ ولدت جارية اسْتَحَقَّ الْغُلَامُ أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ مِائَةً. وَإِنْ وَلَدَتْ خُنْثَى دُفِعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ لِأَنَّهَا يَقِينٌ، وَوَقَفَ تَمَامُ الْأَلْفِ حَتَّى يَسْتَبِينَ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، كَانَ لِلْغُلَامِ أَلْفٌ وَلِلْجَارِيَةِ مائة. فلو ولدت وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ، أَوْ جَارِيَتَيْنِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَفِيهَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا الْأَلْفَ إِلَى أَيِّ الْغُلَامَيْنِ شاءوا والمائة إلى الجاريتين شاءوا. لأنها لأحدهما فلم تدفع إلى أحدهما، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ أوصى له بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ الْغُلَامَانِ فِي الْأَلْفِ، وَالْجَارِيَتَانِ فِي الْمِائَةِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِغُلَامٍ وَجَارِيَةٍ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْغُلَامَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَشَرَّكَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى خِيَارِ الْوَارِثِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ يملكهما الوارث، فجائز أَنْ يُرْجَعَ إِلَى خِيَارِهِ فِيهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَلْفَ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ، وَالْمِائَةَ مَوْقُوفَةٌ بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لأن الوصية لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ فِيهَا خِيَارٌ، فَلَزِمَ فِيهَا الْوَقْفُ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً. فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إن كان في بطنك غلام فله الألف، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَ الْحَمْلِ غُلَامًا شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ كَامِلًا فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 وَإِذَا قَالَ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ، فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْوَصِيَّةِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بطنك فإن وَضَعَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا وَصِيَّةَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قال: إن كان حملك ذكرا فكان ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَا وَصِيَّةَ فَلَوْ قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، فلو ولدت غلامين ففي الوصية وجهان أحدهما: باطل كَمَا لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَمْلِهَا غُلَامًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَاشْتَرَكَا فِي الصِّفَةِ، وَلَمْ تَضُرَّ الزِّيَادَةُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سريج من قبل أنها تَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَالثَّانِي: يَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِيهَا. وَالثَّالِثُ: تُوقَفُ الْأَلِفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هذه المرأة من زجها، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ نَفَاهُ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مِنْهُ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِنَفْيِ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِهِ قَاذِفٌ حد. ولو عاد فاعترف بنسبه لَحِقَ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ذَلِكَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ ستة أشهر من حين الوصية، فلا وصية لها وهو لَيْسَ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ الْمُلَاعِنِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُوصَى بحملها وَلَدًا مَيِّتًا، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، فَمَاتَ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَتْ لِوَارِثِ الْحَمَلِ، كَالْمِيرَاثِ. وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، كَانَ فِيهِ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الوصية بالحمل فجائزة، كجوازها بِالْمَجْهُولِ. فَإِذَا أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، صحت الوصية به، سواء وضعته غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا وصية به، لِعَدَمِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا ظَنَّهُ حَمْلًا فَلَمْ يَكُنْ حَمْلًا. وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ: فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِمَنْ تَحْمِلُهُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، مِنَ اخْتِلَافِ الوجهين في الوصية هل يراعى بها وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لما تحمله هذه المرأة لم يجزها هنا قولا واحدا، لأن المالك هاهنا معدوم، وعدم الملك أعظم فِي التَّمْلِيكِ مِنْ عَدَمِ الْمَمْلُوكِ. فَإِذَا قِيلَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ فَلَا مَسْأَلَةَ. وَإِذَا قِيلَ جَائِزَةٌ، نظر: فإن وضعته وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْصَى بِوَلَدٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ صَحَّتْ فيه الوصية لحدوثه بعد الوصية. فإن وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يَطَأُ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ لم تكن ذات زوج يطأ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ تَلِدُهُ جَارِيَتِي فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى وُجُودُ الْحَمْلِ حال الوصية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه يراعى وجوده حال الوصية، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِحَمْلِ جَارِيَتِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ لا يراعى وجوده، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وَلَدَتْهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ذكرا فهي وَصِيَّةٌ لِزَيْدٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِعَمْرٍو. جَازَ وَكَانَ عَلَى مَا قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ذَكَرًا كَانَ لِزَيْدٍ. وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً أُنْثَى كَانَتْ لِعَمْرٍو. وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وأنثى. كان لكل واحد منهما ما جعل له. ولو وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكِلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكَرٍ فَيَسْتَحِقُّهُ زَيْدٌ. وَلَا بِأُنْثَى فَيَسْتَحِقُّهَا عَمْرٌو. وَيَكُونُ موروثا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَإِنْ أَشْكَلَ: فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ مُؤَثِّرٌ في مستحق الوصية لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِلْوَرَثَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بحمل أمته لرجل، ضرب بَطْنَهَا ضَارِبٌ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الدِّيَةُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحَمْلِ نَاقَتِهِ، فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَقَصَهَا الضَّرْبُ لِلْوَرَثَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بَدَلٌ مِنْهُ. وَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ لَا بَدَلَ لَهُ مِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الأدمية ديته، وفي جنين البهيمة ما نقص من ثمنها. فصل: ولو أوصى بحمل جارية لِحَمْلِ أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو حَمْلُهُمَا، مِنْ أَرْبَعَةِ أقسام: أحدها: أن يكون الحملان موجودين حال الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا، لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. فَمَنْ وَلَدَتْهُ الْمُوصَى بِحَمْلِهَا، مِنْ غُلَامٍ أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ هُمَا، فَهُوَ لِمَنْ وَلَدَتْهُ الموصى لحملها من ذكر أو أنثى أو هما بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلَانِ مَعْدُومَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سنين، فالوصية باطلة، لأنها وصية بِمَعْدُومٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالْحَمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ. فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أن يكون الحمل الموصى مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْحِمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لأنها وصية بمعدوم لموجود. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ أو بثمر بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك ". قال الماوردي: الوصية بمنافع الأعيان جائزة، كالوصية بِالْأَعْيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، فأولى أن تصح الوصية بها، وسواء قيدت الْوَصِيَّةُ بِمُدَّةٍ، أَوْ جُعِلَتْ مُؤَبَّدَةً. وَقَالَ ابْنُ أبي ليلى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ: صَحَّتْ. وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ بَطَلَتْ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِجَارَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ من ماله وماله مجهول، بخلاف الإجارة فإنها لَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ. فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهَا مقدرة ومؤبدة فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْوَصِيَّةَ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَبِغَلَّةِ الدَّارِ وَبِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ فله أن يستخدمه وله أن يؤجره. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لمن أوصى له بخدمة عبده أن يأمره اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ دُونَ الْإِجَارَةِ. وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ يجوز له المعارضة عَلَيْهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ كَانَ الْمُوصَى له بالخدمة أيضا يجوز له المعارضة عليها لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فالوصية بخدمته ضربان: إما مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَمُؤَبَّدَةٌ. فَإِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي سَنَةً، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لَهُ بِخِدْمَةِ سَنَةٍ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اعتبارها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَانِهِ كُلِّهِ، فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ، قُوِّمَ وَهُوَ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ سَنَةً، فَإِذَا قِيلَ ثَمَانُونَ دِينَارًا فَالْوَصِيَّةُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ مَذْهَبًا - أَنَّهُ يُقَوَّمُ خِدْمَةُ مِثْلِهِ سَنَةً، فَتُعْتَبَرُ مِنَ الثلث، ولا تقوم الرقبة لأن المنافع الممتلكة في العقود والغصوب هِيَ الْمُقَوَّمَةُ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا. فَإِذَا عُلِمَ الْقَدْرُ الَّذِي تَقَوَّمَتْ بِهِ خِدْمَةُ السَّنَةِ إِمَّا مِنَ الْعَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي نُظِرَ: فإنه خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِخِدْمَةِ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ خَرَجَ نِصْفَهُ مِنَ الثُّلُثِ، رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى نِصْفِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ نِصْفَ السَّنَةِ. وَإِنْ خَرَجَ ثُلُثُهُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى ثُلُثِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ ثُلُثَ السَّنَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ، اسْتَحَقَّ اسْتِخْدَامَهُ جَمِيعَ السَّنَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ، أَمْ لَا؟ . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 فَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ سَنَةً، أمكن الورثة في تلك السنة أن يتصرفوا في التركة بِمَا يُقَابِلُ مِثْلَ الْعَبْدِ. فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ سَنَةً مُتَوَالِيَةً حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جميع وصيته. والورثة يمنعون مِنَ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ، فَإِنْ بَاعُوهُ قَبْلَهَا كَانَ فِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ كَالْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا خَلَّفَ الْمُوصِي سِوَاهُ. فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، وَيُمْنَعُ الْوَرَثَةُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ حِينَئِذٍ يَخْلُصُ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا. والوجه الثاني: أن يَسْتَخْدِمَ ثُلُثَ الْعَبْدِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَخْدِمَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ من ثلث العبد في ثلاث سنين لأن لا يَخْتَصَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ مثلاه. والوجه الثالث: أنه يتهيأ عَلَيْهِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةُ، فَيَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ سِنَةَ وَصِيَّتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَابِلُوا الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلَيِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي اسْتِخْدَامِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَّصِلٌ وَمُعَجَّلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مؤجلا أو مفرقا. فصل: فإن كانت الوصية بخدمة العبد على التأبيد كأن قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي أَبَدًا، فالوصية جائزة إذا تحملها الثُّلُثُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الَّذِي يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الثُّلُثِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ تقوم جَمِيعُ الرَّقَبَةِ فِي الثُّلُثِ، وَإِنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بالمنفعة، كما تقوم رَقَبَةُ الْوَقْفِ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ. فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا الرَّقَبَةَ وَإِنْ مُنِعَ مِنْ بِيعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهَا لِاخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِهَا. وَالثَّانِي: يَمْلِكُهَا، كَمَا يَمْلِكُ أم ولده، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا لِتَقْوِيمِهَا عَلَيْهِ في الثلث. وهذا قول أبي حامد المروروذي. وهذا إِذَا قِيلَ إِنَّ الرَّقَبَةَ هِيَ الْمُقَوَّمَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ دُونِ رَقَبَتِهِ، لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالتَّقْوِيمِ إلى غيره، ولأنه لو أوصى بالمنفعة إلى رجل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 وَبِالرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ، لَمْ يُقَوَّمْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا الْمَنْفَعَةُ دُونَ الرَّقَبَةِ. كَذَلِكَ إِذَا اسْتَبْقَى الرَّقَبَةَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ. وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بِمَنَافِعِهِ فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ. قِيلَ وَكَمْ قِيمَتَهُ مَسْلُوبَ الْمَنَافِعِ فَإِذَا قِيلَ عِشْرُونَ دِينَارًا عُلِمَ أَنَّ قِيمَةَ مَنَافِعِهِ ثَمَانُونَ دِينَارًا. فَتَكُونُ هِيَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ. فَعَلَى هَذَا: هَلْ يُحْتَسَبُ الْبَاقِي مِنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ دِينَارًا على الورثة أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسُبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ زَالَ عَنْهُ التَّقْوِيمُ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَرَجَ الْقَدْرُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ استخدامه أبدا ما دام حَيًّا، وَأَخْذُ جَمِيعِ أَكْسَابِهِ الْمَأْلُوفَةِ. وَهَلْ يَمْلِكُ مَا كَانَ غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنْهَا كَاللُّقَطَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحَّهُمَا يَمْلِكُهُ. وَفِي نَفَقَتِهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي أنها على الموصى له بالمنفعة، لأن المنفعة تختص بالكسب. والثاني: وقول أبي علي بن أبي هريرة. أنها على الْوَرَثَةِ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لأن كل واحد من مالكي الرقبة والمنفعة. ولم يَكْمُلْ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَعَدَلَ بِهَا إلى بيت المال، فإذا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ الْمَنْفَعَةُ إِلَى وَارِثِهِ أَمْ لَا؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تنتقل إلى ورثته لتقومها عَلَى الْأَبَدِ فِي حَقِّهِ. فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ، مُقَدَّرَةً بِحَيَاةِ الْعَبْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدِ انْقَطَعَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ فِي عَيْنِهِ بِالْخِدْمَةِ، لَا لِغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةً، بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي. فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا قُوِّمَتْ بِهِ المنافع كلها من الثلث وخرج بعضها مِنْهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ على ما بيناه: ثمانون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 دِينَارًا، وَقَدِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِينَارًا، استحق من منافعه النصف، لاحتمال الثلث للنصف. وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، اسْتَحَقَّ من منافعه الربع لاحتمال الثلث للربع. فعلى هذا: إذا كان هذا الذي احتمله الثلث نِصْفَ الْخِدْمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى له نصف العبد بأخذ النِّصْفَ مِنْ كَسْبِهِ وَيَسْتَخْدِمُ الْوَرَثَةُ النِّصْفَ الْآخَرَ بأخذ النِّصْفَ الْآخَرِ مِنْ كَسْبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يتهانا عليه الورثة، والموصى له يوما ويوما، أو أسبوعا وَأُسْبُوعًا. فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ كَانَتْ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، كَانَتْ بَيْنَ الْمُوصَى له والورثة نصفين لاشتراكهما بالتسوية فِي مَنْفَعَتِهِ، وَلَوْ تَفَاضَلَا فِيهَا لَفُضِّلَ بَيْنَهُمَا بقدرها. فأما زَكَاةُ الْفِطْرِ: فَلَا تَجِبْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ. وَالثَّانِي: تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ لَمْ يَكْمُلْ، وَصَارَتْ كَزَكَاةِ الْمُكَاتَبِ والله أعلم. فصل: وأما بيع هذا العبد الموصى بخدمته. فإن أراد الموصى له بخدمته لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُهُ: لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بَعْضَهَا، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ مَالِكٌ، أَوْ غَيْرُ مَالِكٍ. وَإِنْ أَرَادَ وَرَثَةُ الْمُوصِي بَيْعَهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا عِتْقُهُ: فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ حَقِّهِ بِالْمَنْفَعَةِ، سَوَاءٌ قُوِّمَتِ الرَّقَبَةُ فِي حَقِّهِ أَمْ لَا. لِأَنَّ تَقْوِيمَهَا عَلَيْهِ فِي أحد الوجهين لاستحقاقه كل الْمَنْفَعَةِ لَا غَيْرَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ وَرَثَةُ الْمُوصِي فَفِي نُفُوذِ عِتْقِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَبُو الحسن بْنُ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ. وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّقَبَةَ دَاخِلَةً فِي ملك الموصى له. والوجه الثاني: وهو الأصح. أن عتقهم نافذ وإن لم يملكوا الانتفاع والبيع كالمكاتب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى حَالِهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا. وَلَيْسَ لِلْمُعْتَقِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمُعْتِقِينَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ إِذَا أَجَّرَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مُدَّةِ إِجَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ، بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ وَاحِدٌ، وَفِي الوصية اثنين. فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ جِنَايَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَكَانَتْ فِي النَّفْسِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي بَاقِيهِ. وَإِنْ كَانَتْ في طرف أو جرح بطن فِيهَا، فَإِنْ كَانَ بَاقِي الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْقِصَاصِ، كالأنثى وَالذَّكَرِ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَهَا، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِهِ لِفَوَاتِهَا بِالْقِصَاصِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: جِنَايَةُ خَطَأٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ، فَإِذَا وَجَبَ أَرْشُهَا، فَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ، كَانَ الْوَرَثَةُ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِالْأَرْشِ. وَإِنْ لَمْ يفده واحد منهما، لم يجبر أحدهما عليهما، وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّتِي يُؤْخَذُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، لِأَنَّ سَيِّدَهَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَلَا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا كَانَ هذا كذلك نُظِرَ فِي الْأَرْشِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، وَقَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ النِّصْفِ مِنْ قِيمَتِهِ، بيع نصفه، ومالك مُشْتَرِيهِ نِصْفَ رَقَبَتِهِ وَنِصْفَ مَنَافِعِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالِابْتِيَاعِ نِصْفًا تَامًّا. فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا لِكُلِّ مَنَافِعِهِ، صَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَالِكًا لِنِصْفِهَا وَصَارَ الْمُشْتَرِي وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَيْنِ فِي مَنَافِعِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ قَدْ مَلَكَ نِصْفَ الْمَنَافِعِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ جَمِيعِهَا صَارَتْ مَنَافِعُ النصف الباقي بين الموصى له وبين الورثة نصفين لخروج النصف المبيع من الحقين، فَتَنْقَسِمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ، فَلَهَا حَالَتَانِ: حَالَةٌ تُوجِبُ الْقَوَدَ، وَحَالَةٌ تُوجِبُ الْأَرْشَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 فإن وجب الْقَوَدَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ. وَإِنِ اقْتَصَّ: كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ، صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ وَجْهَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْأَرْشَ: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيَ الْمَنَافِعِ أَوْ تَالِفَهَا. فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَاقِيَةً لِاخْتِصَاصِ الْجِنَايَةِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهِ، كَجَدْعِ أَنِفِهِ، وَجَبِّ ذَكَرِهِ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ لأن المنفعة بكمالها لَمْ تُؤَثِّرِ الْجِنَايَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي رَقَبَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ تَالِفَةً كَحُدُوثِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِي مُسْتَحِقِّ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَنَافِعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الرَّقَبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُقَسَّطَةٌ بَيْنَ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَمَالِكِ الرَّقَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي تَقْوِيمِ الْمَنْفَعَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ مِثْلُهُ يَكُونُ مَكَانَهُ، وَعَلَى حُكْمِهِ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ أمة: جاز أن تزوج لاكتساب المهر ويملك الولد، وفي مستحق تزويجها ثلاثة أوجه: أحدهما: مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ. وَالثَّانِي: مَالِكُ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ. وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ مَعًا، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حَقًّا، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ مَهْرُهَا لمالك المنفعة، ولأنه مِنْ كَسْبِهَا الْمَأْلُوفِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ، لأنه بعد مَعْهُودٍ مِنْ كَسْبِهَا، وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِرَقَبَتِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأُمِّ، رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ. فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَطْءَ الْأَمَةِ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنْ وطأها حد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 الْمُسْتَأْجِرُ فِي وَطْئِهَا، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنَاوَلَتِ الْخِدْمَةَ وَلَيْسَ الْوَطْءُ خِدْمَةً، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْوَطْءُ مَنْفَعَةٌ، وَإِنَّمَا مُنِعَ لِأَجْلِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَهْرَهَا لَوْ وَجَبَ لَصَارَ إِلَيْهِ. فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ: كَانَ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ. وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الأول: ... . والثاني: قِيمَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لَهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَنْ يَكُونُ كَالْأُمِّ مِلْكًا، لِلْوَرَثَةِ رَقَبَتُهُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ منفعته، ولا تكون أم ولد الموصى لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا. فَإِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ، فَفِي كَوْنِهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْوَلَدِ قَوْلَانِ: فَأَمَّا إِنْ وَطِئَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ الْوَارِثُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِهِ لِلرَّقَبَةِ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا، يَلْحَقُ بِهِ. وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، إِذَا قيل إنها له. والثاني: عليه قيمتها لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَهُ. وَالثَّالِثُ: أن يشتري بالقيمة من يكون مكانه وَفِي حُكْمِ الْأُمِّ. وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ. صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ تَقْوِيمُ الرَّقَبَةِ فِي حقهما وَتَسْقُطُ الْقِيمَةُ فِي وَصِيَّتِهِمَا، بِأَنْ تُجْعَلَ قِيمَةُ الرَّقَبَةَ مَسْلُوبَةَ الْمَنَافِعِ، هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ قيمته بمنافعه، هو الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِيهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ دَارِهِ: فَكَالْوَصِيَّةِ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، إِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ، قُوِّمَتِ الْمَنْفَعَةُ فِي الثُّلُثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: فَإِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، اخْتَصَّ بِغَلَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ على ما ذكرنا من الأوجه الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ. وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً فَفِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الرَّقَبَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 وَالثَّانِي: الْمَنْفَعَةُ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَمَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ. فَإِنِ احْتَاجَتِ الدَّارُ إِلَى نَفَقَةٍ مِنْ مَرَمَّةٍ: لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ وَاحِدًا منها. إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ أَحَدُهُمَا. فَإِنِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ: فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ. فَإِنْ بَنَاهَا الْوَارِثُ. جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ ثُمَّ نظر: فَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ: فَلَا حَقَّ للموصى له بالمنفعة في تمليكها، لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ. وَإِنْ بَنَاهَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِغَلَّتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا الْمُوصَى لَهُ لِمَكَانِ الْآلَةِ. وَالثَّانِي: لَا حَقَّ له فيهما وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْوَارِثِ لِمَكَانِ الْعَمَلِ وَانْقِطَاعِ الْوَصِيَّةِ بِالْهَدْمِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ هَدْمِهَا أَنْ يَبْنِيَهَا، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ لم تكن له. وإن كانت بِتِلْكَ الْآلَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا: كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا. وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُهَا: فَلَيْسَ لَهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ. فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أن تكون الثمرة موجودة: فالوصية بها صحيحة وتعتبر قيمة الثمرة عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَا حِينَ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ: فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهَا: كَانَ لَهُ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث، وكان الورثة شركاء فِيهَا بِمَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثاني: أن يوصي بثمرة لم تخلق أبدا: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرَتِهِ على الأبد: فالوصية جائزة وفيما يقوم فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الْبُسْتَانِ. وَالثَّانِي: أن يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُ: نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ أَبَدًا مَا بَقِيَ الْبُسْتَانُ. وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ يُشَارِكُ فِيهِ الْوَرَثَةُ مِثْلَ أَنْ يَحْتَمِلَ النِّصْفَ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، وَلِلْوَرَثَةِ النِّصْفُ الْبَاقِي. وَإِذَا احْتَمَلَ الثلث جميع القيمة، وصارت الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَقْيٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ السَّقْيُ، بِخِلَافِ بَائِعِ الثَّمَرَةِ، حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ سَقْيُهَا لِلْمُشْتَرِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى السَّقْيِ. لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ كَامِلًا، وَالسَّقْيُ مِنْ كَمَالِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ على ملك الموصي، ولا يجب على الموصى له سقيها، لأنها بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ. وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَاجَتِ النخل إلى سقي: لم يلزم واحد منهما. وَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صاحبه. فإن مات النخل، أو استقطع، فَأَجْذَاعُهُ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهُ. وَلَا إِنْ غَرَسَ الورثة مكانه نخيلا، وكان للموصى فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّخْلِ الْمُوصَى له بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بثمر له مدة مقدرة: كأن أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ عَشْرِ سِنِينَ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ مَعَ التَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ. بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَدَّرَةِ مُمْكِنٌ وَتَقْوِيمَ الثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِهَا كَالْمَنْفَعَةِ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْبُسْتَانُ [كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ، وَيُقَوَّمُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فِي الثُّلُثِ، وَالْوَجْهُ الثاني: أن] ينظر أوسط ما يثمره النَّخْلُ غَالِبًا فِي كُلِّ عَامٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ قيمة الغالب مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ عَامٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ. فَإِنْ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ: فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَإِنْ خَرَجَ نَصْفُهُ: فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يستكمل هذه كُلِّ عَامٍ فِي نِصْفِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ ثَمَرَةُ كُلِّ عَامٍ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَثْمَانِ، فَخَالَفَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالدَّارِ. وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ: أَنْ تَكُونَ لَهُ مَاشِيَةٌ فَيُوصِي لِرَجُلٍ بِرَسْلِهَا وَنَسْلِهَا. وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْمَاشِيَةِ، كَوُجُوبِ نفقة العبد. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كان أكثر من الثلث فأجاز الورثة في حياته لم يجز ذلك إِلَّا أَنْ يُجِيزُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَسَأَلَ وَارِثَهُ إِجَازَةَ وَصِيَّتِهِ، فَأَجَازَهَا فِي حياته، لم يلزمه الْإِجَازَةُ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ: قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْإِجَازَةُ، سَوَاءً أَجَازُوا فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إن أجازوه في الصحة: لم يلزمهم. وَإِنْ أَجَازُوهُ فِي الْمَرَضِ: لَزِمَهُمْ. اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى عَطِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، كَالْمُفْلِسِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَالْمُرْتَهِنِ مَعَ رَاهِنِهِ. وَهَذَا فاسد من وجوه: أحدهما: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مَا أجاز. وَهُوَ قَبْلَ الْمَوْتِ، لَا يَمْلِكُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ منه إجازته. والثاني: أنه يملك الإجازة من يملك الرد. فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لَمْ يَمْلِكِ الْإِجَازَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ وَارِثٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْمُجِيزُ غَيْرَ وَارِثٍ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِجَازَتَهُ قَبْلَ الْإِرْثِ، كَعَفْوِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَعَنِ الْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حُكْمَ لَهُ. وَكَذَلِكَ الإجازة قبل الموت. وبذلك الْمَعْنَى فَارَقَ الْغُرَمَاءَ مَعَ الْمُفْلِسِ، وَالْمُرْتَهِنَ مَعَ الراهن لاستحقاقهم لذلك فِي الْحَالِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ إِمْضَاءُ مَا أَجَازُوهُ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صدقا في قول، ووفاء بوعد، وبعدا من عذر، وَطَاعَةً لِلْمَيِّتِ، وَبِرًّا لِلْحَيِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازُوا وصيته لبعض ورثته في حياته. وسواء شهد عَلَيْهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي أُعْطِيَ ما شاء الوارث معيبا كان أَوْ غَيْرَ مَعِيبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ مَالِهِ. فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ من رقيقه: فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ رَقِيقٌ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِ: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 فَإِنْ خَلَّفَ رَأْسًا وَاحِدًا: فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ خَلَّفَ جَمَاعَةً فَالْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فِي دَفْعِ أَيِّهِمْ شَاءُوا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وصحيح أو مريض، ذكر أو أنثى، مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ينطلق عليه اسْمُ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقٍ. فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ: ففيه وجهان: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَمَةً: لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطىَ عَبْدًا، وَلَا خُنْثَى. وَلَوْ قَالَ عَبْدًا: لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطى أَمَةً، وَلَا خُنْثَى. وَلَوْ كَانَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ: حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يدل عليه مراده، كقوله: " أعطوه رأسا يستمتع به " فلا يعطى إلا امرأة لأنها هي المقصودة بالمنفعة ". وَلَوْ قَالَ: رَأْسًا يَخْدِمُهُ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا صَحِيحًا. لِأَنَّ الزَّمِنَ لَا خِدْمَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصغير. ولو أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ رَأْسًا، لَا من رقيقه: لم يجز: لِأَنَّهُ عَيْنُ الْوَصِيَّةِ فِي رَقِيقِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رَقِيقٌ، وَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ رقيقا فالوصية باطلة: لأنها أحالها إِلَى رَقِيقٍ مَعْدُومٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رقيق، ويملك بعد الوصية وقبل الموت رَقِيقًا، فَفِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ، كَمَنْ أَوْصَى بثلث ماله ولا مال له: أحدهما: جائزة. والثاني: باطلة. فصل: وأما إن أوصى برأس من رَقِيقٍ مِنْ مَالِهِ: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، سَوَاءٌ خَلَّفَ رَقِيقًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِالرَّقِيقِ فِي الْمَالِ، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ له رقيق، كان الورثة بالخيار في شراء ما شاءوا من الرقيق. وإن كان له رقيق: فالورثة بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ رَأْسًا مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أن يشتروا له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 فصل: ولو أوصى بعبده النوبي، ولم يكن له إلا عبدا زنجي، لَمْ يُعْطَ إِلَّا النَّوْبِيَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جماعة من العبيد النوب: أعطوه أي النوبي شَاءُوا. وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَبْدِي سَالِمًا الْحَبَشِيَّ، فاجتمع الاسم والجنس في عبد، فَكَانَ لَهُ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ يُسَمَّى سَالِمًا: صَحَّتِ فيه، ولو كان له عبدا يسمى سالما، وليس بحبشي، وعبدا حبشي وليس بسالم: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا وصية مِنَ الِاسْمِ وَالْجِنْسِ لَمْ يَجْتَمِعَا. فَصْلٌ: فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدِهِ سَالِمٍ الْحَبَشِيِّ وَكَانَ لَهُ عَبْدَانِ حَبَشِيَّانِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَالِمٌ. فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوصَى بِهِ مِنْهُمَا: صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ عَيَّنَاهُ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاهِدَانِ أَحَدَهُمَا، فَفِي شَهَادَتِهِمَا قولان حكاهما ابن سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِلْجَهْلِ بِهَا وَالشَّهَادَةُ الْمَجْهُولَةُ مَرْدُودَةٌ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَارِثِ فِي إِنْكَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ، لأنها تضمنت وصية لا يؤثر فِيهَا الْجَهَالَةُ بِهَا، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن سريج. أحدهما: أن العبدين موقوفين بين الموصى له والوارث حتى يصطلحوا على الموصى له منهما، لأنها أشكلا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، لَا بِاعْتِرَافِهِمْ، فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى بَيَانِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الورثة في أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءُوا لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ، كَوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْحَالَيْنِ إلى بيانهم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو هلكت إِلَّا رَأْسًا كَانَ لَهُ إِذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ ماله: فالوصية جَائِزَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ رَقِيقِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا. فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا لَمْ يَمُتْ منهم أحد. وأما إِذَا حَدَثَ فِيهِمْ مَوْتٌ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ جَمِيعُهُمْ. وَالثَّانِي: بَعْضُهُمْ. فَإِنْ هَلَكُوا جميعهم فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَلَاكًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْمَوْتِ، فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِمْ عَلَى قَاتِلِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُمْ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا، كَمَا كَانَ لَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ أَنْ يعطوا أَيَّهُمْ شَاءُوا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ بَدَلٌ مِنْهُمْ، فَصَارَ كَوُجُودِهِمْ فَعَلَى هَذَا يُعْطُونَهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَهُمْ إِلَى الْقِيمَةِ فِي الْقَتْلِ كَانْتِقَالِهِمْ إِلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ قَتْلُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي موجبا لبطلان الوصية. ومن قال بالوجه الأول يُفَرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ. بِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْمُوصِي، فَكَانَ رُجُوعًا. وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. فَصْلٌ: وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُمْ وبقي بعضهم كأنهم هلكوا جميعا إلا واحدا مِنْهُمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ دُونَ الْقَتْلِ: فَالْوَصِيَّةُ قد بقيت في العبيد الْبَاقِي، وَلَا خِيَارَ لِلْوَرَثَةِ فِي الْعُدُولِ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ، لِتَعْيِينِهَا فِي رَقِيقِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ بِالْقَتْلِ الْمَضْمُونِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الموصي، فالوصية بقيت فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ بَقَاءَ الْجِنْسِ للموصى بِهِ، يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ، كَمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْطُوهُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ، أَوْ يَعْدِلُوا بِهِ إِلَى قيمة أحد المقتولين، كما لَهُمُ الْخِيَارُ لَوْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا. فَصْلٌ: فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِمْ، اسْتَحَقَّ من كل واحد الثلث، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدُهُمْ كَامِلًا، إِلَّا أَنْ تراضيه الورثة عليه سلما. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً بَعْدَ مَوْتِي، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ السَّنَةِ وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ جَازَ وَلَمْ تُقَوَّمْ خِدْمَةُ السَّنَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ السَّنَةِ اسْتَخْدَمُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 ملكهم، وليس كالموصى له بخدمة سَنَةٍ، حَيْثُ قُوِّمَتْ خِدْمَةُ السَّنَةِ فِي حَقِّهِ. لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرَ مِلْكِهِ. وَلَوْ قَالَ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً ثُمَّ أَعْتِقُوهُ عَنِّي: كَانَ لَهُمُ اسْتِخْدَامُهُ، ثُمَّ عِتْقُهُ، بَعْدَ الْخِدْمَةِ، وَيُقَوَّمُ العبد في سنة الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ، بَعْدَ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ موت الموصي، لأنه لا يجوز أن نعتبر قِيمَتَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يُمْلَكُ بِالْوَصِيَّةِ ولا يحرر بالعتق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: (ولو) أوصى له بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ أَوِ اشتروها له صغيرة كانت أو كبيرة ضائنة أو ماعزة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، تَرَكَ غَنَمًا، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ. وَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، سَمِينٍ أَوْ هَزِيلٍ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُنْثَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ من نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا أُنْثَى لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة. أن الورثة بالخيار فِي إِعْطَائِهِ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ من أصل الكلمة، فيه اسْمِ الْجِنْسِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، وَكَانَتْ غَنَمُهُ كُلُّهَا إِنَاثًا، لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ غَنَمًا كَانَتِ الوصية باطلة. وكذلك لَوْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا: حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا، وَنَسْلِهَا، لم يعط إلا كبير، أنثى، لتكون ذات در ونسل وسواء كانت من الضأن أو من المعز. فَإِنْ قَالَ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِصُوفِهَا، لَمْ يُعْطَ إلا من الضأن. وَلَا يَجُوزُ إِذَا أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أن يعطى غزالا أو ظَبْيًا، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الشَّاةِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ شِيَاهِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا ظَبْيٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ: لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْغَنَمَ، وَلَيْسَ فِي تَرِكَتِهِ، فَبَطَلَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ تَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى شِيَاهِهِ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ إِلَّا مَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَجَازُ الِاسْمِ، دُونَ الْحَقِيقَةِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَانْصَرَفَتْ وَصِيَّتُهُ إِلَى الظَّبْيِ الْمَوْجُودِ فِي تَرِكَتِهِ، حَتَّى لَا تَبْطُلَ وَصِيَّتُهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) بَعِيرًا أَوْ ثَوْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ نَاقَةً وَلَا بَقَرَةً وَلَوْ قَالَ عَشْرَ أَيْنُقٍ أَوْ عَشْرَ بَقَرَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ ذَكَرًا (وَلَوْ قَالَ) عَشَرَةَ أَجَمَالٍ أَوْ أَثْوَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أن يعطوه أنثى (فإن قَالَ) عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي أَعْطَوْهُ مَا شَاءُوا ". قال الماوردي: أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْرٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ الثَّوْرَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ، دُونَ الْإِنَاثِ. وَلَوْ قَالَ بَقَرَةً: لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، يُخْرِجُ فِي الْبَقَرَةِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى كَالشَّاةِ، لِأَنَّ الْهَاءَ مِنْ أَصْلِ اسْمِ الْجِنْسِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّوْرِ وَالْبَقَرَةِ إِلَى الْجَوَامِيسِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ بَقَرَةً من بقري، وليس له إلا الجواميس، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا. لِأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصِيَّةِ إِلَى التَّرِكَةِ، قَدْ صَرَفَ الِاسْمَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى بَقَرِ الْوَحْشِ، فَإِنْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إِلَى بَقَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلا بقر الوحش، فعلى ما ذكرناه من الوجهين في الظبي. فصل: فأما إِذَا أَوْصَى بِبَعِيرٍ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ اسْمَ الْبَعِيرِ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ، فيعطى ما شاء الوارث مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِجَمَلٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا لِاخْتِصَاصِ هذا الاسم بالذكور. ولو أوصى بعشرة مِنْ إِبِلِهِ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ مِنْ ذكور وإناث، وسواء أثبت التاء فِي الْعَدَدِ، أَوْ أَسْقَطَهَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قال: إن أثبت التاء فِي الْعَدَدِ فَقَالَ: عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي. لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الذُّكُورِ لِأَنَّ عَدَدَهَا بِإِثْبَاتِ التاء. وإن أسقط التاء في العدد: فقال عشر مِنْ إِبِلِي لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْإِنَاثِ لأن عددها بإسقاط التاء. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: عَشْرُ نِسْوَةٍ، وَعَشَرَةُ رجال. وهذا الأوجه لَهُ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، صَارَ الْعَدَدُ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْقَدْرِ، دُونَ النَّوْعِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ مَطِيَّةً، أَوْ رَاحِلَةً. فَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَيُعْطِيهِ الْوُرَّاثُ مِنْهُمَا ما شاء. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن قال أعطوه دابة من مالي فمن الخيل أو البغال أو الحمير ذكرا كان أو أنثى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَعْجَفَ أَوْ سَمِينًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا اسْمُ الدَّوَابِّ: فَيَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ اشْتِقَاقًا مِنْ دَبِيبِهِ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَعْطُوهُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطَى مِنَ الْخَيْلِ أو البغال، أو الحمير. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ بِمِصْرَ، حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَذِكْرُهُ لَهُمُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ فِي عُرْفِهِمْ مُنْطَلَقٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ. فَأَمَّا بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ، فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ ولا يتناول غيرها إلا مجازا بعرف بقرينته. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُوصِي بِمِصْرَ: خُيِّرَ وَرَثَتُهُ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ: لَمْ يُعْطُوهُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَلِ الْجَوَابُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ. فَإِنْ شَذَّ بَعْضُ الْبِلَادِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا بِالِاسْمِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ حُكْمُ الْعُرْفِ الْعَامِّ. فَلَوْ قَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، حُمِلَ عَلَى قَرِينَتِهِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ دَابَّةً يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَلَا يُعْطَى إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ عَتِيقًا، أَوْ هَجِينًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُعْطَى صَغِيرًا وَلَا قمحا لَا يُطِيقُ الرُّكُوبَ. وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يُحْمَلُ عَلَيْهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْبِغَالِ، أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْخَيْلِ. وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِنِتَاجِهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْبِغَالِ لِأَنَّهَا لَا نِتَاجَ لَهَا. وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَظَهْرِهَا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ، لأن لبنها من لَبَنَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ: مَحْظُورٌ. وَلَوْ قَالَ: دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا أَحَدُ الْأَجْنَاسِ لَمْ يُعْطَ غَيْرَهُ. وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ جِنْسَانِ: أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أحدهما، ولم يعط الثَّالِثَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَالِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 وَلَوْ قَالَ دَابَّةً مِنْ مَالِي وَكَانَ فِي مَالِهِ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ. كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ، فِي إِعْطَائِهِ ذَلِكَ الْجِنْسَ، أَوِ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَيْنِ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ مَالِهِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أَيُّهَا شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لما جاز إحرازه فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَحَرُمَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً وَمِيرَاثًا. فَإِذَا أوصى بِكَلْبٍ، وَلَا كِلَابَ لَهُ. فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَى، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَوْهَبَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ: فَضَرْبَانِ، مُنْتَفَعٌ بها، وغير منتفع بها. فإن كانت كلاب كُلُّهَا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهَا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِحَظْرِ اقْتِنَائِهِ وَتَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِ. وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُنْتَفَعًا بها، فكان له كلب حرث وماشية وَكَلْبُ صَيْدٍ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ صَاحِبَ حَرْثٍ، وَمَاشِيَةٍ، وَصَيْدٍ، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ أَيَّ كَلْبٍ شَاءَ، مِنْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ، لَيْسَ بِصَاحِبِ حَرْثٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ، وَلَا صَيْدٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ. وَالثَّانِي: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْكَلْبِ، وَأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وأن الموصى له ربما أعطاه ما يَنْتَفِعُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَحَدِهَا بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ لَا غَيْرَ، أَوْ صَاحِبَ صَيْدٍ لَا غَيْرَ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْوارثَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْكَلْبَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْوَارِثِ الخيار في إعطائه أي الكلاب شَاءَ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى بِهِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْجَرْوِ الصَّغِيرِ الْمُعَدِّ لِلتَّعْلِيمِ، فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ، مِنَ اختلاف الوجهين في اقتنائه. أحدهما: اقتنائه غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي الْحَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اقتنائه جائز، لأنه سينتفع به في ثاني حال، ولأن تعليمه منفعة في الحال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ كِلَابٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَاهَا، فَأَوْصَى بِجَمِيعِهَا لِرَجُلٍ. فَإِنْ أجازها الورثة فله، وإلا ردت إِلَى ثُلُثِهَا، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إِلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ كَلْبٍ ثُلُثَهُ، فَيَحْصُلُ لَهُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يستحق واحدا بكماله إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالْوَصِيَّةِ أَحَدَهَا، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مقومة لا تختلف أثمانها وليست كالكلاب التي تُقَوَّمُ، فَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهَا. فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدَهَا بِالْقُرْعَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهَا شَاءُوا. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غيره، أوصى بِهِ لِرَجُلٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ. فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ، وَإِلَّا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ، وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُهَايَاةِ. وَإِنْ مَلَكَ مَالًا فَأَوْصَى بِهَذَا الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَلْبٌ سِوَاهُ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الوصية جائزة، والكلب كُلِّهِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنَ الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْكَلْبِ، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَثُرَ مَالُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى، فَيُسَاوِيهِ الْوَرَثَةُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ، فَاخْتَصَّ الْكَلْبُ بِحُكْمِهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ. فَلَوْ تَرَكَ ثلاث كلاب. ومالا. أوصى بِجَمِيعِ كِلَابِهِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ الثَّلَاثَةِ مُمْضَاةٌ، وَإِنْ قَلَّ مَالُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي أَحَدِهَا، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهَا. فَصْلٌ: وَالْوَصِيَّةُ بالميتة جائزة. لأن قَدْ يَدْبَغُ جِلْدَهَا، وَيُطْعِمُ بُزَاتَهُ لَحْمًا. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالرَّوْثِ، وَالزِّبْلِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَخْلِهِ وَزَرْعِهِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِمَا مُحَرَّمٌ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَرَّةٍ فِيهَا خَمْرٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: (رَحِمَهُ اللَّهُ) أُرِيقَ الْخَمْرُ وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ الْجَرَّةُ. لِأَنَّ الْجَرَّةَ مُبَاحَةٌ. وَالْخَمْرَ حَرَامٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ، وَالسِّبَاعِ، وَالذُّبَابِ: فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي جَمِيعِهَا. فأما الْوَصِيَّةُ بِالْفِيلِ. فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ: فَجَائِزٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيُقَوَّمَ فِي التَّرِكَةِ، وَيُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. فَأَمَّا الْفَهْدُ، وَالنَّمِرُ وَالشَّاهِينُ، وَالصَّقْرُ. فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا جَوَارِحُ يُنْتَفَعُ بِصَيْدِهَا وَتُقَوَّمُ فِي التَّرِكَةِ لِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَتُعْتَبَرُ في الثلث. وأما الوصية بما تصيده كلابه: فَبَاطِلَةٌ: لِأَنَّ الصَّيْدَ، لِمَنْ صَادَهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " أَعْطُوهُ طَبْلًا مِنْ طُبُولِي وَلَهُ طَبْلَانِ لِلْحَرْبِ وَاللَّهْوِ أَعْطَاهُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ لَمْ يَصْلُحِ الَّذِي لِلَّهْوِ إِلَّا لِلضَّرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ إِلَّا الَّذِي لِلْحَرْبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَاطِلَةٌ. وَالْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مَحْظُورَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَحْظُورَةً: لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً: جَازَ بَيْعُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ. وَنُهِيَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظْرِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: وَأَوْصَى لَهُ بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا طُبُولُ الْحَرْبِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ طَبْلَ الْحَرْبِ مُبَاحٌ ثُمَّ يُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ اسْمُ الطَّبْلِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ جِلْدٍ، دفع إليه الطبل بغير الجلد. وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إِلَّا بِالْجِلْدِ: دُفِعَ إِلَيْهِ مَعَ جِلْدِهِ. وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُهُ كُلُّهَا طُبُولَ اللَّهْوِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ طُبُولَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ في غير الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ طبوله نوعين: طبول حرب، وطبول اللهو، فَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ، لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا طَبْلَ الْحَرْبِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ: تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ مَا شَاءَ مِنْ طَبْلِ لَهْوٍ، أَوْ حَرْبٍ، لِانْطِلَاقِ الاسم عليها. إِلَّا أَنْ يَدُلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ طَبْلًا لِلْجِهَادِ، أَوِ الْإِرْهَابِ، فلا يعطى إلا طبل حرب. وَإِنْ قَالَ طَبْلًا لِلْفَرَحِ، وَالسُّرُورِ: لَمْ يُعْطَ، إِلَّا طَبْلَ اللَّهْوِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالدُّفِّ الْعَرَبِيِّ. فَجَائِزَةٌ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ فِي المناكح. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال أعطوه عُودًا مِنْ عِيدَانِي وَلَهُ عِيدَانٌ يُضْرَبُ بِهَا وعيدان قسي وعصي فالود الذي يواجه به المتكلم هو الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ فَإِنْ صَلُحَ لِغَيْرِ الضَّرْبِ جَازَ بِلَا وَتَرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَالَ أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي، فَمُطْلَقُ هذا الاسم يتناول عيدان الضرب واللهو وعيدان الْقِسِيِّ، وَالْعِصِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُودُ الضَّرْبِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الضَّرْبِ وَاللَّهْوِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، وَيُعْطَى بِغَيْرِ وَتَرٍ، لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَتَرٌ يُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ إِلَّا بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيعِهِ، فُصِّلَ وَخُلِّعَ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: لَمْ يُفَصَّلْ: ودفع إليه غير مفصل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وهكذا المزامير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يصلح إلا للهو: فالوصية بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: فَالْوَصِيَّةُ به جائزة. ثم الكلام في التفضيل عَلَى مَا مَضَى. فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ الَّتِي يُنْفَخُ فِيهَا مَعَ طَبْلِ الْحَرْبِ، وَفِي الْأَسْفَارِ: فَالْوَصِيَّةُ بها جائزة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) عُودًا مِنَ الْقِسِيِّ لَمْ يُعْطَ قَوْسَ نَدَّافٍ وَلَا جُلَاهِقَ وَأُعْطِيَ مَعْمُولَةَ أَيِّ قوس نَبْلٍ أَوْ نُشَّابٍ أَوْ حُسْبَانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِقَوْسٍ مِنَ الْقِسِيِّ، فَمُطْلَقُ الْقَوْسِ يَتَنَاوَلُ قَوْسَ السِّهَامِ العربية دون قوس النداف. والجلاهق الذي يُرْمَى عَنْهَا الْبُنْدُقُ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا قَوْسَ السهام العربية، سواء أَعْطَاهُ قَوْسَ نُشَابٍ وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ نَبْلٍ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ حُسْبَانٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 والخيار فيها إِلَى الْوَارِثِ لِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَتَرَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَوْسًا بِغَيْرِ وَتَرٍ. وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بدابة: لم يعط سَرْجَهَا، أَوْ عَبْدٍ: لَمْ يُعْطَ كُسْوَتَهُ. فَأَمَّا إن قال: أعطوه قوسا من قسي، وَلَهُ قَوْسُ نَدَّافٍ، وَقَوْسُ جُلَاهِقٍ: أُعْطِيَ قَوْسَ الجلاهق التي يرمى عنها، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالِاسْمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قَوْسُ نَدَّافٍ: دُفِعَ إِلَيْهِ. وَلَوِ اقْتَرَنَ بكلامه ما يدل على مراده: عمل مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مِنَ الْقِسِيِّ الثَّلَاثِ. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجعل وصيته في الرقاب فِي الْمُكَاتَبِينَ وَلَا يُبْتَدَأُ مِنْهُ عِتْقٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الرِّقَابِ، صُرِفَ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ. وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ يَنْصَرِفُ فِي الْعِتْقِ أَوْ فِي الْمُكَاتَبِينَ. فَمَالِكٌ يَقُولُ: يَصْرِفُهُ فِي الْعِتْقِ. وَالشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة يَصْرِفَانِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . فأثبت ذلك لهم بلام الملك، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ، وَالْمَكَاتَبُ يَمْلِكُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَصْرُوفٌ لِغَيْرِ نَفْعٍ عاجل يَعُودُ إِلَى رَبِّهِ فَلَوْ صُرِفَ فِي الْعِتْقِ لَعَادَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سهم الرقاب في الزكاة يصرف إلى المكاتبين. وجب أن يكون سهام الرقاب في الوصية مَصْرُوفًا فِي الْمُكَاتَبِينَ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ محمولة على عرف الشرع المعتبر فيه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ رِقَابٍ فإن نقص ضمن حصة مَنْ تَرَكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يتصرف سهم الرقاب في أقل من ثلاث. وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَ حَسَنًا. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ وُجُودِ الزِّيَادَةِ أَجْزَأَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِنْسِ كِتَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ سَيِّدِهِ أَجْزَأَ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِهِ، وَقَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ، لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَاسْتُرْجِعَ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ. لِأَنَّ الْوَصَايَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً: دَفَعَ إِلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا. وَلَوْ وَجَدَ ثَلَاثَةً: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ. فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ: ضَمِنَ حِصَّتَهُ وَفِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الثُّلُثَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ جَائِزٌ مَعَ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الِاجْتِهَادِ، لَزِمَ التَّسْوِيَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ مَا كَانَ يؤديه اجتهاده إليه لو اجتهد لأن القدر الذي تعدى فيه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن لم يبلغ ثلاثة رقاب وبلغ أقل رقبتين يجدهما ثمنا وفضل فضل جَعَلَ الرَّقَبَتَيْنِ أَكْثَرُ ثَمَنًا حَتَّى يُعْتِقَ رَقَبَتَيْنِ وَلَا يَفْضُلُ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ رَقَبَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ صُورَتَهَا، وَنَقْلَ جَوَابِهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ. وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ أَعْتِقُوا بِثُلُثِي رِقَابًا. أَوْ قَالَ حَرِّرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا. فَهَذَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ عَنْهُ وَلَا يُصْرَفُ في المكاتبين لأن ذكر العتق والتحرر صَرَفَهُ عَنْهُمْ. وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَى بِهِ ثَلَاثُ رِقَابٍ إِذَا أَمْكَنُوا. اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ. فَإِنِ اتَّسَعَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ: اشْتُرِيَ بِهِ مَا بَلَغُوا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الثَّلَاثِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ صَرْفِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ حَيْثُ جَازَ الاختصار عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْوَاحِدُ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَلَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَمَنِهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْوَصِيَّةِ ثَمَنَ ثَلَاثِ رِقَابٍ، صَرَفَهُ فِي رَقَبَتَيْنِ: فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ فَضْلَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَضْلَةُ لَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ زَادَهَا فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، ليكون أكثرهما ثَمَنًا، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا. وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ بِالْفَضْلَةِ عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْفَضْلَةِ بَعْضَ ثَالِثَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ الْكَامِلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أنها تزد فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا. وَلِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ، إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَعَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ فِيهَا، فَكَانَ رَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى. وأما إن اتسع الثلث لأكثر من ثلاثة رِقَابٍ، فَاسْتِكْثَارُ الْعَدَدِ مِعِ اسْتِرْخَاصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ إِقْلَالِ الْعَدَدِ مَعَ اسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ وَجْهًا واحدا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق رقبة، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا، عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النار، حتى الذكر بالذكر، والفرج بالفرج ". مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ويجزئ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إذ أَوْصَى أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُ مَالِهِ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، جَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وفي إعتاق الْخَنَاثَى وَجْهَانِ. وَجَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَفِي جَوَازِ عتق من لا يجزئ في الكفارة من الكبار، والزمنى وجهان: تخرجا مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الْهَدْيِ، هَلْ يلزم فيه ما يجوز في الأضاحي؟ أحدهما: يلزم، فعلى هذا، لا يجزئه إلا عتق من هي سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ كُلَّ مَالٍ، فَعَلَى هَذَا يجزئه عِتْقُ الْكَافِرَةِ، وَالْمُؤْمِنَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يعتق بثلث ماله رقاب، أو اشترى بثلث ماله رِقَابًا، وَأُعْتِقُوا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ التَّرِكَةَ، نُظِرَ فِي الرِّقَابِ. فَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا بِعَيْنِ الثُّلُثِ: بَطَلَ الشِّرَاءُ، لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الدَّيْنِ، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. وَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا فِي ذِمَّةِ الْوَارِثِ، لَا بِعَيْنِ الْمَالِ مِنَ الثُّلُثِ: نَفَذَ عِتْقُهُمْ عَلَى الْوَارِثِ، لِثُبُوتِ الشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَزِمَهُ صَرْفُ الثلث في الدين. فصل: وإذا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ خمس مائة درهم، اشترى بها عبدا وَأُعْتِقَ عَنْهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ، وَيَكُونُ عَجْزُ الثُّلُثِ عَنْهَا مُبْطِلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 لِلْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ صِفَةً فِي الْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ مَعَ الْعَجْزِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ، وَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقُوا عَبْدِي الْأَسْوَدَ، فَإِذَا عُدِمَ الْأَسْوَدُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَ غَيْرُهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ -: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". وَلِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا احْتَمَلَهُ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ جَمِيعِهِ، رُدَّ إِلَى ما احتمله الثلث من أجزائه، كالوصية بعتيق عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْأَلْفِ صِفَةً، فَتَكُونُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا قَدْرًا وَجَعَلَهَا فِي الْعِتْقِ حدا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو أوصى) أن يحج عنه ولم يكن حج حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ بَلَغَ ثُلُثُهُ حَجَّةً مِنْ بَلَدِهِ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يبلغ عنه من حيث بلغ (قال المزني) رحمه الله وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ حَالَتَيْنِ. حَالَةٌ يُوصِي بِهِ، وَحَالَةٌ لا يوصي به. فإن لم يوصي بِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ، أَوْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، فَوَاجِبٌ أَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ ما وجب عليه من زكاة وَكَفَّارَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ، وَلَا الزَّكَاةُ، إلا بوصية منه. وهذا فاسد، لما ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بالمال، لزم أداؤه عنه، وإذا لزم أداؤه عنه، فمن رأس المال كَالدُّيُونِ. وَيُخْرِجُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَا مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتِطَاعَتُهُ مِنْ بلده شرطا في وجوب، لأنه إذا كان حيا، لزم أداؤه بنفسه فصارت بعض المسافة معتبرة في استطاعته، فإذا مَاتَ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يُؤْتَى بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ. فَصْلٌ: وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَلَا يخلو حاله من ثلاث أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِوَصِيَّتِهِ إِلَّا لِلْإِذْكَارِ وَالتَّأْكِيدِ وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ فَلَهُ ثلاثة أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ في الْمِيقَاتِ فَيُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ ميقات بلده ولا يستفاد بوصيته وإن وجد من يحج به وإلا تمم من أُجْرَةِ الْمِثْلَ وَكَانَ جَمِيعُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الثلث لا تجوز أن يدفع إلى وارث وإن تراجع عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ الْحَجُّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ مِنْ ثُلُثِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ، فهذا يحج عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا يجوز أن يدفع إلى وارث إِنْ زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَزِدْ. فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ: أُحِجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ عَجَزَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ أُحِجَّ بِهِ عنه من ميقات بلده. فإن عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَجَبَ إتمام أجرة المثل ميقات بلده من رأس المال، فصار فِيهَا دَوْرٌ لِأَنَّ مَا يُتَمَّمُ بِهِ أُجْرَةُ المثل من رأس ماله يقتضي نقصان ثلث المال. مثاله: أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الثلث وقدر ما يتم بِهِ الثُّلُثُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَسْقَطْتَ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَكُونُ الْبَاقِي سِتِّينَ دِرْهَمًا ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهِ مثل نصفه فصير تِسْعِينَ دِرْهَمًا، فَهُوَ الْمَالُ الْبَاقِي بَعْدَمَا أَخَذَ تَمَامَ الثُّلُثِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَهُ، كَانَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَضَمَمْتَ إِلَيْهِ الْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْمِائَةِ صارت أربعين درهما، هي قدر أجرة المثل، فمنها ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا هِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ من رأس المال وعرضه. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجِّ بَلْ يَقُولُ أَحِجُّوا عَنِّي مِنْ ثُلُثِي رَجُلًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَ، وَيُسْتَأْجَرُ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَمْكَنُ مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ مِيقَاتِهِ. وإن لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ مِيقَاتِهِ: وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لَا مِنْ ثلثه، لأنه الْقَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ: هُوَ الْمِائَةُ، لَا مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْقَدْرَ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الثُّلُثِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أُجْرَةُ مِثْلِ الْمِيقَاتِ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ مِنْ رأس المال، وما يزاد عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِالنَّصِّ. فَإِنْ عجز الثلث عن جميع الأجرة تمم جميعا مِثْلَ أُجْرَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَلَوْ كان في الثلث مع الحج عطايا ووصايا، فَفِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْوَصَايَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الْحَجُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي فَرْضٍ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا فَضَلَ بَعْدَ الْحَجِّ في أهل الوصايا. والوجه الثاني: أنه يسقط الثلث بين الْحَجِّ، وَالْوَصَايَا بِالْحِصَصِ، لِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ وَجَبَ فحمله فِي الثُّلُثِ، فَسَاوَى فِي الثُّلُثِ أَهْلَ الْوَصَايَا، ثُمَّ تَمَّمَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ واجبة، وأوصى بِقَضَائِهَا مِنْ ثُلُثِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا. وَالثَّانِي: يُحَاصُّونَهُمْ، ثُمَّ يَسْتَكْمِلُونَ الوصايا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، إِذَا جَعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يطلق الوصية بالحج، فلا يجعله في الثُّلُثِ، وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ فِي كِتَابِهِ الْجَدِيدِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَالَ في هذا الموضع من الوصايا بالحج عنه من ثلثه. فاختلف أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يُخَرِّجَانِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: يكون من رأس المال، كما لم يوصي بِهِ، لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، لِيُسْتَفَادَ بِالْوَصِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا بِغَيْرِهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 لَيْسَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، بَلِ الْحُكْمُ عَلَى حَالَيْنِ، فَالَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ هُوَ أُجْرَةُ مِثْلِ السَّيْرِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ. وَالَّذِي جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وقال أبو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الثُّلُثِ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ فِي الثُّلُثِ تَوْفِيرًا عَلَى وَرَثَتِهِ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ، تُمِّمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ: أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وإن قلنا: يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بلده، والثاني: من ميقات بلده. والذي قاله هاهنا إذا كان الحج واجبا، وسواء كان حج الإسلام، أو نذرا أو قضاءا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَجَّةِ النَّذْرِ وَغَيْرِهَا. فَجَعَلَ حَجَّةَ النَّذْرِ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ تَطَوّع بِإِيجَابِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَّى الْأَكْثَرُونَ بَيْنَهَا وبين الواجبات. فصل: ولو كان ما أوصى به عنه من الحج تَطَوُّعًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ. والثاني: جائزة. فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ: كَانَ الْحَجُّ عَنِ الأجير، لا عن المستأجر عنه، وفي استحقاقه للأجر قولان. فإذا قِيلَ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ، نُظِرَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ فِيهَا، فله فيه أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عني بما اتسع له الحج من الثلث. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِالثُّلُثِ. وَالرَّابِعُ: أن يقول أحجوا عني. فأما الحال الأول: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ، مَعَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، أَوْ لا يسميه. فإن لم يسميه: دفعت إلى من يحج بها واحدا من أفضل ما يوجد. ثُمَّ لَا تَخْلُو الْمِائَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ من الميقات، فتدفع إلى وارث، أو غير وَارِثٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ، فَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، فَلَمْ تَصِرْ لَهُ وصية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 وصارت كالموصي يشتري عبدا يُعْتَقُ عَنْهُ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ فِي مقابله بدل. والقسم الثاني: أن يكون بقدر أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَتُدْفَعُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ، لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً بالزيادة. والقسم الثالث: أن يكون أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يحج عنه أحججناه، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ، وعادت ميراثا، ولم يزد فِي الثُّلُثِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، كَمَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِرَجُلٍ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ، عَادَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، دُونَ أَهْلِ الْوَصَايَا. وَإِنْ سَمَّى مَنْ يَحُجُّ بها بمائة لَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، مَعَ إمكان دفعها إليه. ثم لا تخلو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتُدْفَعُ إِلَى الْمُسَمَّى لَهَا، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ. فَإِنْ لَمْ يقبلها المسمى بها، دُفِعَتْ حِينَئِذٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَلَا يَخْلُو الْمُسَمَّى لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ. فَإِنْ كَانَ وَارِثًا: فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ المثل وصية يمنع منها الوراث. فإن وصى بأجرة المثل منها: دفعت إليه دون غير وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالْمِائَةِ كُلِّهَا، مُنِعَ مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أن تدفع إليه لما فيها من الوصية لها، وَعُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمِائَةِ، لأن الزيادة على أجرة المثل وصية بمسمى، وَيَعُودُ الْبَاقِي مِيرَاثًا. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ وارث دفعت إليه المائة إن قبلها، وإن لَمْ يَقْبَلْهَا عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَعَادَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِيرَاثًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ قنع المسمى بها، دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ. وإن لم يقنع بها، ووجد غيره مما يَقْنَعُ بِهَا، دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وصية للمسمى فتبطل بالعدول. وإن لم يوجد من يحج عادت ميراثا، ولم يرجع إِلَى الثُّلُثِ. فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ الْمِائَةِ كُلِّهَا: أُخْرِجَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث فيصير هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول أحجوا عني بِثُلُثِي، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الثُّلُثُ، إِلَّا في حجة واحدة، وإن اتسع لغيرها، لأنه عين عليها فتصير كَالْوَصِيَّةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فِي أَنْ يُسَمَّى مَنْ يحج عنه، أو يسميه فتكون على ما مضى من التقسيم والجواب. فإما أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ ميقاته، وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 قصر عنه الثلث، فَمِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ. فَإِنْ قَصُرَ عَنِ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يحج به بطلت الوصية وعادت مِيرَاثًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول: أحجوا عني بثلثي حجا فيصرف الثلث فيما اتسع من الحج، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ اتِّسَاعِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ. فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِثَلَاثِ حِجَجٍ، فَاقْتَصَرَ في صرفه على حجتين ضمن الموصي الْحَجَّةَ الثَّالِثَةَ فِي مَالِهِ. فَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لحجتين، وفضلت فضلة، لم تتسع لحجة ثالثة مِنْ بَلَدِهِ، نُظِرَ فِيهَا. فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ بِهَا عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِهِ: صُرِفَتْ فِي حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يصرف من الميقات وإلا ردت على الورثة ميراثا، ولم يزد عَلَى الْحَجَّتَيْنِ بِخِلَافِ الْفَاضِلِ عَنْ ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ أَثْمَانَ الرِّقَابِ تَخْتَلِفُ، فَرُدَّتِ الْفَضْلَةُ فِي أثمانها لوفور الأجر بتوافر أثمانها وأجور الحج غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ. فَلَوْ أَمْكَنَ صَرْفُ الْفَضْلَةِ فِي عُمْرَةٍ: لَمْ تُصْرَفْ فِيهَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْحَجِّ، لَا فِي الْعُمْرَةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي، وَلَا يَذْكُرُ بِكُمْ، فَيُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، إِنِ احتمل الثلث ذلك. وإن لم يحتمل، فمن حيث احتمل الثلث ذلك من الميقات. وإن لم يحتمل حجة من الميقات: بطلت الوصية، وعادت ميراثا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَلِلْحَاجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، نِصْفُ الثُّلُثِ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَجُلٌ بمائة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثَالِثٍ. فَهَذَا رَجُلٌ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ. فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ دُفِعَ إلى الموصى له بالثلث ثلث المال كاملا ولا يشاركه فيه أحد، ودفع الثُّلُثِ الْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بالحج، بالثلث ولا يشاركه فيه أحد. فإن بقيت من الثلث بعد ذلك رقبة: دُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث، وسواء قلت النفقة، أو كثرت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمِائَةِ شيء، فلا شيء إلى الموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهَذَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ. فإما إذا لم يجزها: ردت الوصايا كلها إلى الثلث: ثم نظر: فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ: فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث. وانقسم الثلث الموصى له بالمائة بالحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَيْنِ، يَتَعَادَلَانِ فِيهِ، كَمَا يَتَعَادَلُ أَهْلُ الْوَصَايَا، إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، عَادَتْ مِيرَاثًا، وَلَمْ تَعُدْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَلَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، يُعَادِلَانِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَإِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ تُعَادِلُ الْأُخْرَى، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بينهما نصفين، أو أعطى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَهُ. وَهُوَ السُّدُسُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الْعَوْلِ: نِصْفُ وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ وصيته، رَجَعَتْ إِلَى نِصْفِهَا. وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُقَدَّمُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِائَتَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بما بقي بعد المائة، لا تستحق قبل كمال المائة لاستحالتها فَعَادَ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِهِ تَوْفِيرًا عَلَى صَاحِبِ المائة، بما يعاد الجد بالأخوة من الأب، توفيرا على الأخ من الأب وَالْأُمِّ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ، أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ الْفَاضِلَ عَلَى الْمِائَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أن الموصى له بالمائة والحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ يَتَعَادَلَانِ فيه. وإن كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لو كمل. وإذا عَادَ الثُّلُثُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمَا إِلَى نِصْفِهِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ جُعِلَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِيَكُونَا فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثَ، مِائَةً وخمسين درهما، فللموصى له بالمائة مثل مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ فَيَكُونُ نِصْفُ الثلث وخمسة وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بالمائة، نصف ما كان يأخذه من الثلث، وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ: نصف ما كان يأخذه من الثلث، وهو خمسة وعشرون درهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 وإن كان الثلث ثلاث مائة: كان للموصى له بما بقي ثلثي ما للموصى له بالمائة، فيكون نصف الثلث، وهو مائة وخمسون [درهما] وللموصى له بما بقي وهو مائة درهم. ولو كان الثلث أربع مائة درهم: كان للموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ فيكون نصف الثلث وهو مائتا [درهم] بينهما على أربعة أسهم. فللموصى له بالمائة ربع ما كان يأخذه وهو مائة وخمسون. وللموصى له بما بقي ثلاثة أرباع ما كان يأخذه. وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. هذا فيما زاد أو نقص. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ لصاحب المال مِنْ كُلِّ الثُّلُثِ، لَا مِنْ بَعْضِهِ، فَلَمْ يجز أن يأخذ نِصْفِ الثُّلُثِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جَمِيعِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ لرجل. ثم أوصى بأن يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِالْبَاقِي مِنْ ثُلُثِهِ لِآخَرَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الموصى له بالباقي [في] هذا ال ْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي: أنها باطلة، لأن تقدم الوصية بالثلث، يمنع أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ. فَعَلَى هَذَا: إن أجاز الوصية الورثة بالثلث وبالمائة: إمضاء. وإن لم يجيزوها: رُدَّا إِلَى الثُّلُثِ، وَتَعَادَلَ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ قَدْرَ الثُّلُثِ. فإن كان مائة درهم، فقد تساوت وصيتهما، فَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ، خمس مائة دِرْهَمٍ: كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمُوصَى له بالمائة سهم. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْجَوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، إِذَا أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ بَعْدَ الثُّلُثِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ الثُّلُثُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى قَدِ اسْتَوْعَبَتْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ، لَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمِائَةِ وَإِنَّمَا أراد ثلثا ثانيا. فإذا أوصى بعد الْمِائَةَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ الثَّانِي وصار موصا بِثُلُثَيْ مَالِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ إِجَازَتِهِ، رُدَّ الثُّلُثَانِ إِلَى الثُّلُثِ فَجُعِلَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِبَاقِي الثُّلُثِ لِآخَرَ قُوِّمَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، مِثْلَ أن يكون قيمة العبد ألف درهم والثلث ألف وخمس مائة، فالوصية بالباقي من الثلث جائزة وقدرها خمس مائة دِرْهَمٍ. فَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْأَلْفِ مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ أَعْوَرَ فَيُسَاوِي بعد عوره سبع مائة، فلا يزاد الموصى له بالباقي على الخمس مائة التي كانت قيمة الثُّلُثِ بَعْدَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا عِنْدَ الْمَوْتِ ولا يحتسب للعبد في الثلث إذا كان عوره بعض قبض الموصى له إلا سبع مائة، وَيَكُونُ نَقْصُهُ بِالْعَوَرِ، كَالشَّيْءِ التَّالِفِ مِنَ التَّرِكَةِ. وعلى هَذَا: لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَلْفِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، لَمْ ينقص الموصى له بالباقي عن الخمس مائة الَّتِي كَانَتْ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بعد موت الموصي. فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ بِبَاقِي الثُّلُثِ، وَقُوِّمَ الْعَبْدُ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. ولو مات الموصى له فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ. فَأَمَّا الوصية بالباقي من الثلث بعد موت العبد فينظر: فإن جوز أن ينتهي قيمة العبد إن كان حيا إلى استغراق الثلث: صار الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةً، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْإِسْقَاطِ. وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ قِيمَتَهُ لا تجوز أن تستغرق الثلث: كانت الوصية بالباقي من الثُّلُثِ جَائِزَةً، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْ تُوَزَّعَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا وَهُوَ حُرٌّ فَلَمْ يعلم حتى وضعت له بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْلَادًا فَإِنْ قَبِلَ عُتِقُوا وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ منه بعد قبوله بستة أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءُ نكاح ووطء الْقَبُولِ وَطْءُ مِلْكٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لهذه المسألة ثلاثة مقدمات لا يصح جَوَابُهَا إِلَّا بِتَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهَا. أَحَدُهَا: الْحَمْلُ هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ؟ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ لَهُ حُكْمًا مَخْصُوصًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنَّ الْحَامِلَ إِذَا بِيعَتْ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عليها، وعلى الحمل المستجد فِي بَطْنِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُعْتَقَ الحمل فلا يسري إلى أم وَيُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ، دَلَّ عَلَى اختصاصه بالحكم وتمييزه عَنِ الْأُمِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تبعا لا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَيْهِ صَارَ تَبَعًا لَهَا كأعصابها، ولما جاز أن يكون موجودا أو معدوما: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ ستة أشهر لا يجوز أن يحيى ولد وضع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 لأقل من ستة أشهر اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ثُمَّ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] . فَلَمَّا كَانَ الْفِصَالُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ الْبَاقِيَةَ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ. فَإِنْ وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر من عقد نكاحها، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وَطْءِ سَيِّدِهَا: كَانَ الْوَلَدُ مُنْتَفِيًا عَنْهُ، وَغَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: مِلْكُ الْوَصِيَّةِ مَتَى يحصل للموصى له، ويدخل فِي مِلْكِهِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هَلْ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، أَوْ دَاخِلَةً فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ مُنْتَقِلٌ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، ثُمَّ بالقبول يدخل فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوصِي بِالْمَوْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَقْبَلَهَا الْمُوصَى لَهُ فَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِقَبُولِهِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ عَنِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ عَنْهُ كَالْمِيرَاثِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ هُوَ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الملك على قبولها كالهبات. قال الشافعي: " وهذا قول ينكسر " اهـ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا، فإذا قبل حمل عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ. وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ. وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ الْإِرْثَ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ وَرَدِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْقَبُولِ بَاقٍ، مَا لَمْ يعلم. فإن عَلِمَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، وَقِسْمَةِ التركة فقبوله على الفور فاقبل، وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَقَبْلَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، إِنَّ الْقَبُولَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي، لَا عَلَى الْفَوْرِ. فَيَكُونُ مُمْتَدًّا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ، حَتَّى تُنَفَّذَ الْوَصَايَا، وَتُقَسَّمَ التَّرِكَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْقَبُولُ مَعَ الْوَصِيَّةِ، اعْتُبِرَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ عِلْمِهِ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَالْهِبَاتِ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِغَيْرِ قَبُولٍ وَلَا اختيار، الميراث. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافِعِيِّ. فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَالِثًا تَعْلِيلًا بِالْمِيرَاثِ. وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابن عبد الحكم بأحد تأولين: إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَإِمَّا عَلَى معنى أنه بِالْقَبُولِ يُعْلَمُ دُخُولُهَا بِالْمَوْتِ فِي مِلْكِهِ. وَفَرَّقُوا بين الوصية والميراث، بِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يراعى فيها الْقَبُولُ. وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ، فَرُوعِيَ فِيهَا الْقَبُولُ. فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْمَسْأَلَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَتِ الْمُقَدِّمَاتُ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى السَّيِّدُ بِهَا لِلزَّوْجِ. فَلَا يخلو حال الزوج من أَنْ يَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ يَرُدَّ. فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا: فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَالْأَمَةُ مِلْكٌ (لِوَرَثَةِ الْمُوصِي) وَأَوْلَادُهَا مَوْقُوفُونَ لَهُمْ. فَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ: فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ، أَوْ لَا تأت فإن لم تأتي بِوَلَدٍ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ تَتَنَافَى أَحْكَامُهُمَا، فَلَمْ يَجْتَمِعَا، [وَغَلَبَ] حُكْمُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكَ: انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ الْقَبُولِ، وَكَانَ الْوَطْءُ قَبْلَهُ وَطْئًا فِي نِكَاحٍ، وَبَعْدَهُ وَطْئًا فِي مِلْكٍ، وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهَا لم تزل فراشا له. فإن قيل القبول يبنى عن مِلْكٍ سَابِقٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حين الموت، وكان وطئه قَبْلَ الْمَوْتِ وَطْئا في نِكَاحٍ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَطْئًا فِي مِلْكٍ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشافعي على هذا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءَ نِكَاحٍ وَبَعْدَ الْقَبُولِ وَطْءَ مِلْكٍ وَهُوَ قَبْلَ الْقَبُولِ وبعده وطء ملك. وإذا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِالْقَبُولِ يملك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَبُولِ وَطْءُ نِكَاحٍ يَعْنِي قَبْلَ الْمَوْتِ. فَصْلٌ: وإن أَتَتْ بِوَلَدٍ. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَهَا. فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ . فإن قيل لا حكم لَهُ: فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ قِيلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَكَأَنَّ الْمُوصِيَ وَصَّى لَهُ بِالْأُمِّ وَالْوَلَدِ، ثم قد أعتق الْوَلَدُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَصَارَ لَهُ وَلَاؤُهُ. وَلَا تصير أمه به أم ولد، لأنها ولدته من نكاح. ويعتبر فِي الثُّلُثِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي قُولَا وَاحِدًا وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فإن كان موجودا عند الوصية: فهو أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ. فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ فإن قلنا: للحمل حكم: فَالْوَصِيَّةُ بِهِمَا مَعًا، وَفِيمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْأَمَةُ حَامِلًا، يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ خَرَجَتْ قِيمَتُهَا كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا. وَإِنْ خَرَجَ نِصْفُهَا مِنَ الثُّلُثِ. كَانَ لَهُ نِصْفُهَا، وَنِصْفُ وَلَدِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 والوجه الثاني: أنه تقوم الأم يوم موت الْمُوصِي، وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ، وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُمَا الثُّلُثُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا، أُمْضِيَ لَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا: قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثلث منهما من غير تفضيل. ثم إذا صحت الوصية لهما، لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهُمَا، فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ بالملك، وله ولاؤه لحدوث عتقه بعد رقه. فلم تَصِرِ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ به فِي نِكَاحٍ. فَهَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ لِلْحَمْلِ حكما. وإذا قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ. فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ، فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّمْلِيكُ؟ أَوْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ القبول هو الملك، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ للموصي ومضموم إلى تركته ثم منتقل عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي مِلْكٌ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وقبل الموت، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَبُولِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ، فَالْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُوصِي، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ للموصي وتنتقل عَنْهُ إِلَى الْوَرَثَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ ولم يثبت على مِلْكِ الْمُوصِي. وَلَا يُحْتَسَبْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُقَوَّمُ الْأُمُّ عِنْدَ الموت، ويقوم الولد عند الوضع وتعتبر قيمتها جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين موت الموصي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 فإن قيل: إن القبول هو المملك، فالولد مملوك لورثة الموصي لم يجز عليه للموصي مِلْكٌ وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَتِ الْأُمُّ بِهِ، أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَا يُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَإِنَّمَا تُقَوَّمُ الأم عند الموت، وقد كانت عنده حَائِلًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ. فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين الوصية بالولد لِلْمُوصَى لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إن للحمل حكم، أو قيل إنه يكون تبعا، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ لَهُ حُكْمًا، فَهُوَ مَعَ الْأُمِّ مُوصًى بِهِمَا. وَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ تَبَعًا فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ، فَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ كان حادثا بعد الوصية، وقبل الموت: فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ حُكْمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ. فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ، لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ من حين الْقَبُولِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ حُرٌّ من حين العلوق، لم يجر عليه [حكم] رق، وأن " أُمُّهُ " بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا. وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ رِقِّهِ. وَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَبِيهِ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا. والقول الثالث: أنه مملوك لورثة الموصي دون الموصى له. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ لِلْحَمْلِ حُكْمًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 وَهَكَذَا: لَوْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ كان بين بعضهم وبعضهم سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمْ لِاخْتِلَافِ حَمْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ قَبُولِهِ فَهَذَا حُرُّ الْأَصْلِ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عُلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ لَا في نكاح. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَإِنَمَا مِلْكُوا أَمَةً لأبيهم وأولاد أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرارا وَأُمُّهُمْ مَمْلُوكَةٌ وَإِنْ رَدُّوا كَانُوا مَمَالِيكَ وَكَرِهْتُ ما فعلوا (قال المزني) لو مات أبوهم قبل الملك لم يجز أن يملكوا عنه ما لم يملك ومن قوله أهل شوال ثم قبل كانت الزكاة عليه وفي ذلك دليل على أن الملك متقدم ولولا ذلك ما كانت عليه زكاة ما لا يملك ". قال الماوردي: هذا صحيح. وجملته: أن موت الموصي لا يخلو أن يكون في حياة الموصى له أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أن الوصية له قد بطلت، وليس لوارثه قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ قبولها. وهذا فاسد من وجهين: أن الوصية في غير حَيَاةِ الْمُوصِي غَيْرَ لَازِمَةٍ. وَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْعُقُودِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ، لَا لِوَرَثَتِهِ. وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُوصَى لَهُ قبل موته مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ بَطَلَتْ بِرَدِّهِ: وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ قبولها بعد موته إجماعا. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا، قَبْلَ مَوْتِهِ، وبعد موت الموصي، فقد ملكها، أو انتقلت بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ. وَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَمَلُّكِ الْوَصِيَّةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ. فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالْهِبَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ اسْتُحِقَّ بِهِ تَمَلُّكُ عين بغير اختيار مالكها، لم يبطل بِمَوْتِهِ، قَبْلَ تَمَلُّكِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَفَارَقَتِ الْوَصِيَّةُ الْهِبَةَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَازِمَةٌ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ. فَصْلٌ: فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ في القبول والرد، ولهم ثلاثة أَحْوَالٍ: حَالٌ يَقْبَلُ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَرُدُّ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَقْبَلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَرُدُّهَا بَعْضُهُمْ. فَإِنْ قَبِلُوهَا جَمِيعًا: فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ القبول دالا على تقدم الملك، فَالْمَالِكُ لِلْوَصِيَّةِ بِقَبُولِ الْوَرَثَةِ، هُوَ الْمُوصَى لَهُ، لَا الْوَرَثَةُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَمَةِ أَحْرَارًا، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ وَيَجْعَلُهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَصِيرُ بالولادة أم ولد. فأما الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْقَبُولَ مِلْكًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ تَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ بِقَبُولِهِمْ. فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ بِهِمْ، أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ أَخَاهُ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: لَمْ يُقْضَ مِنْهَا ديون الْمُوصَى لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمَ بْنُ كَجٍّ عَنْ شُيُوخِهِ. أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ مُمَلِّكًا. لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، لَبَطَلَتْ، لَأَنَّ الْوَرَثَةَ غَيْرُ مُوصًى لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الْوَصِيَّةَ مَنْ لم يوص له. فعلى هذا قد اعتق الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَصَارَتْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَصِيرَ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: قضى مِنْهَا دُيُون الْمُوصَى لَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. لَمْ يَخْلُ حَالُ الورثة القابلين للوصية أَنْ يَسْقُطُوا بِالْأَوْلَادِ، أَوْ لَا يَسْقُطُوا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 فإن لم يسقطوا بالأولاد، كالأخوة والأعمام، عتق هو والأولاد، وَلَمْ يَرِثُوا، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُمْ مُخْرِجٌ لِقَابِلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَخُرُوجُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ: يُبْطِلُ قَبُولَهُمْ للوصية، وبطلان الْوَصِيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّ الْأَوْلَادِ، وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ. فَلَمَّا أَفْضَى تَوْرِيثُهُمْ إِلَى رِقِّهِمْ وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ مُنِعُوا الْمِيرَاثَ، لِيَرْتَفِعَ رِقُّهُمْ، وَتَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُمْ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَخِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ، إِنَّ نَسَبَ الابن يثبت وَلَا يَرِثُ. فَصْلٌ: وَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ بِأَجْمَعِهِمْ بطلت الوصية بردهم لها، وكان الأولاد عبيدا للورثة، وَكَذَلِكَ أَمُّهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُمْ: لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِرْقَاقِ أولادهم، وَأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا. فَأَمَّا إِذَا قَبِلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ: كَانَتْ حِصَّةُ مَنْ رَدَّ مَوْقُوفَةً لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَحِصَّةُ مَنْ قَبِلَ أَحْرَارًا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ. وَيُقَوَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّ الْأَوْلَادِ فِي حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنْ تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِذَلِكَ، وَيَصِيرُ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ أَحْرَارًا يَرِثُونَ إن لم يحجبوا القابل الْمُوصَى لَهُ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا تَقْوِيمَ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا يَرِثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ: لَمْ تَكْمُلْ، وَلَا تَقْوِيمَ عَلَى الْقَابِلِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنَ الورثة إذا كان ممن يجوز أن يتملك أَوْلَادُ الْمُوصَى لَهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ مَرِيضًا فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوْلَادِهِ مِنْهَا: إذا أعتقوا بِقَبُولِهِ، هَلْ يَرِثُونَهُ إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّهُمْ لا يرثون، لِأَنَّ عِتْقَهُمْ فِي مَرَضِهِ بِقَبُولِهِ وَصِيَّةٌ لَهُمْ، ولو ورثوا، منعوا الوصية، وإذا منعوها عادوا رقيقا لَا يَرِثُونَ، فَلِذَلِكَ عَتَقُوا وَلَمْ يَرِثُوا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمْ فِي مَرَضِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَرِثُونَ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ، لأن من اشتراه قد خرج ثَمَنُهُ مِنْ مَالِهِ فَصَارَ إِخْرَاجُ الثَّمَنِ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ أَثْمَانَهُمْ مِنْ مَالِهِ فَيَصِيرُوا مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَبُولُهُمْ وَصِيَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذلك وصية، لم يمنعوا الميراث. ولو كان قاله عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَرِيضًا، فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ قَبِلَهَا وَرَثَتُهُ، بَعْدَ مَوْتِهِ: كَانَ مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ في حال لو قبلها: كان مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قبلها ورثته بعد موته. ولو كانت الوصية لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ: لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ نَصَّ مَا اخْتَارَهُ مِنْ إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت وهو أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بجارية ومات ثم وهب للجارية مائة دينار وهي تسوي مِائَةَ دِينَارٍ وَهِيَ ثُلُثُ مَالِ الْمَيِّتِ وَوَلَدَتْ ثُمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ فَالْجَارِيَةُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا وَهَبَ لَهَا وَوَلَدَهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لها من مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لَهَا لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَادِثًا بِقَبُولِ الوصية وهذا قول منكر لَا نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الْقَبُولَ إِنَّمَا هُوَ على ملك متقدم وليس بملك حادث. وقد قيل تكون لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لها. قال المزني رحمه الله: هذا قول بعض الكوفيين. قال أبو حنيفة: تكون له الجارية وثلث ولدها. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يكون له ثلثا الجارية وثلثا ولدها. (قال المزني) وأحب إلي قول الشافعي لأنها وولدها على قبول ملك متقدم (قال المزني) وقد قطع بالقول الثاني إذ الملك متقدم وإذا كان كذلك وقام الوارث في القبول مقام أبيه فالجارية له بملك متقدم وولدها وما وهب لها ملك حادث بسبب متقدم (قال المزني) وينبغي في المسألة الأولى أن تكون امرأته أم ولد وكيف تكون أولادها بقبول الوارث أحرارا على أبيهم ولا تكون أمهم أم ولد لأبيهم وهو يجيز أن يملك الأخ أخاه وفي ذلك دليل على أن لو كان ملكا حادثا لولد الميت لكانوا له مماليك وقد قطع بهذا المعنى الذي قلت في كتاب الزكاة فتفهمه كذلك نجده إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وُهِبَ لِلْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا مَالٌ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ رِقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَوْلَادِهَا، وَمَا وُهِبَ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ مِلْكُهُ وصَائِرٌ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَحْسُوبٌ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فَذَلِكَ ملك له، لحدوثه بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَذَلِكَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثُلُثَيِ التركة، على وجهين من اختلاف ما ذكرنا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ منتقلا إلى ورثته، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، كَانَ ما حدث من الهبة والأولاد محسوب على الورثة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَنَقِّلًا إِلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ على الورثة. فهذا حكم القول الَّذِي يَجْعَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ مُمَلَّكَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وهذا قول ينكسر. اهـ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَأَوْلَادُ الْجَارِيَةِ وَمَا وُهِبَ لَهَا ملكا للموصى له، لا يحتسب به من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَمْلِكْهُ. إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ ولدها وما وهب لها. واختلف أصحابنا، فكان بعضهم يجعل ذلك خَارِجًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بالموت كالميراث، فكذلك إِذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مَا حَدَثَ مِنْ كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِنْ رَدَّ فَكَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَإِذَا رَدَّهَا، فَقَدْ أَبْطَلَ مِلْكَهُ. وَقَوْلُهُ: " وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا ". يَعْنِي: لِوَارِثِ الْمُوصِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَبِلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بالهبة. هذا جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: " لِلْمُوصَى لَهُ الْجَارِيَةُ، وَثُلُثُ وَلَدِهَا، وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لَهَا " تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يجوز أن يملكها الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَا صَارَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْجَارِيَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلْمُوصَى لَهُ من ذلك ثلثه، ولورثة ثُلُثَاهُ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَهُ ثُلُثَا الجارية، وثلثا ولدها وكسبها. ولست أعرف تَعْلِيلًا مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرَاهُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فاسد: لأن الكسب والولد تبع لمالك الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَ حُدُوثِ النَّمَاءِ والمكسب بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ: فَلَهُمْ كُلُّ الْكَسْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الموصى له شيئا. وإن كانت مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ، فَلَهُ كُلُّ الْكَسْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا. فَأَمَّا تَبْعِيضُ الْمِلْكِ فِي النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ تبعيض ملك الأصل وجه له، وليس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 بلازم أَنْ يَمْلِكَ الْوَرَثَةُ مِثْلَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ فِيمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يلزم ذلك فيما ملك من تركة بينهم. فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ، كَالسِّمَنِ وَزِيَادَةِ الْبَدَنِ، إِذَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ مَا اتصل من الزيادة تبع لأصله يتنقل مَعَ الْأَصْلِ، إِلَى حَيْثُ انْتَقَلَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِذَا رَدَّهَا: فَلِلْمُوصَى لَهُ فِي رَدِّهَا أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَا يَكُونُ لِرَدِّهِ تَأْثِيرٌ كَمَا لَا يَكُونُ لِقَبُولِهِ لَهُ، لَوْ قَبِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تأثيرا، وخالف فيه خلافا يذكره بَعْدُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِهِ: فَالرَّدُّ صَحِيحٌ قَدْ أَبْطَلَ الوصية، ورد ذَلِكَ إِلَى التَّرِكَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ الورثة، ويكونوا فيه على فرائضهم. فإن قال: ردت ذَلِكَ لِفُلَانٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: احْتَمَلَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا، أَنْ يُرِيدَ لرضا فُلَانٍ، أَوْ لِكَرَامَةِ فُلَانٍ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، صَحَّ الرَّدُّ، وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَادَتْ إِلَى التَّرِكَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالرَّدِّ لِفُلَانٍ: هِبَتَهَا لَهُ فلا تصح هبته لها قَبْلَ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بَعْدُ. وَلَوْ قَبِلَهَا: صَحَّ، إِذَا وُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذِهِ الْهِبَةِ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ، وَمَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا، لِأَنَّ هِبَتَهُ لَهَا إِنَّمَا اقْتَضَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِيهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ قَبْضِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِيجَابًا وَقَبُولًا، لِدُخُولِ الْوَصِيَّةِ فِي مِلْكِهِ بِالْقَبُولِ. فَعَلَى هَذَا تَعُودُ الوصية للورثة خُصُوصًا دُونَ أَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَيَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءً، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَهُمْ مَحْضَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ رَدُّهَا بِلَفْظِ الرَّدِّ دُونَ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَهِيَ كَالْإِقَالَةِ. وَإِنْ كَانَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا ثَابِتًا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَبُولٍ، كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْقَبُولِ. فَعَلَى هَذَا: تَعُودُ بَعْدَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ تَرِكَةً، يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَفَرَائِضُ الْوَرَثَةِ. والوجه الثالث: أنها تصح بالرد مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا للموصى له بقبولها، فملكه لها قبل القبض، غير منبرم، فَجَرَتْ مَجْرَى الْوَقْفِ إِذَا رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبُولِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 صَحَّ رَدُّهُ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الرَّدُّ إِلَى الْقَبُولِ، وإن كان ملكا، ثُمَّ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الرَّدِّ تَرِكَةً. فَصْلٌ: وإذا رد الوصية بما يدل لَهُ عَلَى الرَّدِّ: لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ الْمَالَ، ولم يبطل حقه في الْوَصِيَّةِ بِالرَّدِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْلِكُ الْمَالَ، وَيَصِحُّ الرد، ومثله يقول في الشفعة، إذا عفى عَنْهَا عَلَى مَالٍ بُذِلَ لَهُ. وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ - وَاللَّهُ أعلم -. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بثلث شيء، بعينه استحق ثلثاه كان له الثلث الباقي إن احتمله ثلثه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ دَارٍ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، فَاسْتُحِقَّ ثُلُثَا الدَّارِ، وَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ثُلُثُهَا. فَالثُّلُثُ كان الموصى لَهُ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ: لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، تَنَاوَلَتِ الْوَصِيَّةُ ثُلُثَ مِلْكِهِ مِنْهَا، فَإِذَا بَانَ أَنَّ مِلْكَهُ مِنْهَا الثُّلُثُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ مِنْهَا، كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ ماله، وهو ثلاث مائة درهم، فاستحق منها مائتان كانت الوصية بثلث المائة الباقية. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا طَرَأَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ أن يكون عند الوصية غير ملكه لِلثُّلْثَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بثلث دار قدر ملكه: كَانَ لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، كَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، فَاسْتَحَقَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ منها ما بقي من ثلثها صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْبَيْعِ، فكذلك تصح الوصية بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُلُثِ الْمَالِ وَجْهٌ. لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي ثُلُثِ مِلْكِهِ، وَمِلْكُهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ فَقَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِ مِلْكِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ ثُلُثِهَا الْبَاقِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَصَايَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِحْقَاقِ: " وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ، فَأَذْهَبَ السَّيْلُ ثُلُثَيْهَا، وَبَقِيَ ثُلُثُهَا، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 للموصى له إذا خرج من الثلث وقيل إن الوصية موجودة، وخارجة من الثلث. أهـ. فَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ مَشَاعًا، وَبَيْنَ ذهاب ثلثها بالسيل تجوزا في أن الوصية تجوز بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ بِالسَّيْلِ. وَالَّذِي أَرَاهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقِ الثلثين لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الْبَاقِي كُلِّهِ. وَذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهَا بِالسَّيْلِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الْبَاقِي وَيُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي. وَالْفَرْقُ بينهما أن الوصية بالثلث منها هو ما تبع فِي جَمِيعِهَا فَإِذَا اسْتُحِقَّ ثُلُثَاهَا لَمْ يُمْنَعْ أن يكون الثلث الباقي سائغا فِي جَمِيعِهَا فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِهِ. وَإِذَا هلك ثلثاها بالسيل، يجوز إن لم يكن الثلث الباقي منها هو الثلث الْمُشَاعَ فِي جَمِيعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بثلث ما بقي وثلث ما هلك فيكون حُكْمُ الْإِشَاعَةِ فِي الْجَمِيعِ بَاقِيًا. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دَارِ جَمِيعُهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْدَ الشِّرَاءِ نِصْفَهَا: كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هُوَ الْمَبِيعُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ نِصْفَهَا وَلَكِنْ أَذْهَبَ السَّيْلُ نصفها، كان للمشتري نصف ما بقي بعدما أذهبه السيل منها. فإن قيل: فليس لَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ فَهَلَكَ جَمِيعُهَا إِلَّا رَأْسًا مِنْهَا بَقِيَ: فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَيَّنُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْهَالِكُ وَإِنْ كَانَ متميزا من الوصية وغيرها فهلا كان ما ذهب بالسيل مثل ذلك؟ . قِيلَ الْوَصِيَّةُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ يُوجِبُ الْإِشَاعَةَ فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّارِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ شائع في جميعها فافترقا. فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، وَمَا رَأَيْتُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَوَابَانِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يخلف رجل ثلاث مائة درهم، وثلاثين دينارا وقيمتها ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَيُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، فَيَكُونُ لَهُ ثلث الدنانير، وثلثا الدراهم. فإذا أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ ثُلُثَ الْجَمِيعِ مِنْ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ فِي الْجَمِيعِ مُشَارِكًا [لَهُمْ] . فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ: كَانَ له ثلث العشرة الباقية، وثلث الثلاث مائة درهم كلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ بِعَيْنِهَا، وأوصى لآخر بثلث الدراهم بِعَيْنِهَا، فَهَلَكَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَسَلِمَتِ الدَّرَاهِمُ كُلُّهَا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دينار. وللموصي بثلث الدراهم، ثلث الثلاث مائة وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ. وَعَلَى [الظَّاهِرِ] مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ مِنَ العشرة الباقية ستة دنانير وثلثي دِينَارٍ. وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ مِنْ جميع الثلاث مائة سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَيَبْقَى مَعَ الورثة ثلاثة دنانير وثلث، ومائتان وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، وَقِيمَةُ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ، وهو ضعف ما صار إلى الموصى له. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّتَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّتَانِ تُعَادِلُ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ سِتِّينَ دِينَارًا، فَإِذَا تَلِفَ مِنَ التَّرِكَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا فَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، ويرجع النقص على الوصيتين معا دون أحدهما، فَنُقِصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ. فَالْمُوَصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ التَّلَفِ ثُلُثَاهَا، وذلك ستة دنانير وثلثا دينار، وللموصى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ، كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ تَلَفِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ بِأَعْيَانِهَا، وَسُدُسِ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا، وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا: كَانَ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَعَ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِينَارًا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ: يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ سُدُسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ. وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثلاثة دنانير وثلث دينار، وثلاثة ثلاثون درهما وثلث درهم. لأن يجعل نقص أحد المالين راجعا إلى الْمَالَيْنِ، وَقَدْ نُقِصَ الثُّلُثُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ الثُّلُثَ. فَصَارَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهم وثلث درهم قيمة الْجَمِيعِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ التَّرِكَةِ عَيْنًا وَوَرِقًا. فَصْلٌ: فِي خَلْعِ الثُّلُثِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رحمة الله عليه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 " إذا أوصى الرجل بِمِائَةِ دِينَارٍ لَهُ حَاضِرَةٍ، وَتَرَكَ غَيْرَهَا أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا غَائِبَةً: فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الوصية بالمائة كلها عاجلا سواء أمضى الدَّيْنُ وَسَلِمَ الْغَائِبَ أَمْ لَا، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، وَيَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ شَرِيكًا بِالثُّلُثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَسُمِّيَ ذلك خلع الثلث، واستدلالا بأن للموصى له ثلث ماله، فإذا غير الْوَصِيَّةَ فِي بَعْضِهِ. فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَيْهِمْ بِتَعْيِينِهِ فَصَارَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ بِالتَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الموصي فهذا دليل مالك وما عليه فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَاسْتَدَلَّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ جُمْلَةِ التركة الغائبة، بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ. فَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، ودليلاه. ومذهب الشافعي: أن الموصى لَهُ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَاهَا الْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ، لَا يَتَصَرَّفُ فيه الوارث، ولا الموصى له، وإذا قبض الدين ووصل مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ الْمِائَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ. وَإِنْ وَصَلَ ما يخرج بَعْضَهَا: أُمْضِيَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا. فإن برئ الدين وقدم الْغَائِبُ: اسْتَقَرَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وتصرف الورثة في ثلثينها، لِأَنَّهَا صَارَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا انتظر بِالْوَصِيَّةِ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَوُصُولُ الْغَائِبِ، هَلْ يُمَكَّنُ الموصى له من التصرف في ثُلُثِ الْمِائَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُ مِنَ التصرف فيها لأنه ثلث محض. والوجه الثاني: يمنع من التصرف فيها لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَرَثَةُ فِي مِثْلَيْهِ، وَقَدْ منع الورثة من التصرف في ثلث الْمِائَةِ الْمَوْقُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ الْمُمْضَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى فساد ما ذهب إليه مالك: أنه يأول إلى أحد أمرين بمنع الوصية منها لأنه إِذَا خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْوَصِيَّةِ فِي ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل الْمِائَةِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَارِجٌ عَنْ حكم الوصية، لأنهم إذا اخْتَارُوا مَنْعَهُ مِنْ كُلِّ الْمِائَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ ثُلُثُ كُلِّ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوصًى لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 وإن اختاروا ألا يُعْطُوا ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ بكل المائة، فعلم فساد [دليل] مذهبه بما يأول إليه حال كل واحد من الخيارين. وأما جعلهم تعيين الوصية بالمائة الحاضرة، أدخل ضرر، فالضرر قد رفعناه بوقف الثلثين فعلى قَبْضِ الدَّيْنِ، وَوُصُولِ الْغَائِبِ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ مُرْتَفِعًا، وَإِذَا زَالَ الضَّرَرُ ارْتَفَعَتِ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فَبَطَلَ الْخِيَارُ فِيهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ: أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِ عَبْدٍ حَاضِرٍ وَبَاقِي تَرِكَتِهِ الَّتِي يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ من ثلثها دين غائب فيعتق في الْعَبْدِ ثُلُثُهُ وَيُوقَفُ ثُلُثَاهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ ووصول الغائب. فإذا قبض أوصل منهما، أو من أحدهما كما يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ جَمِيعُهُ، وهل يمكن الورثة في خلال وقف الثلثين الموقوفين من العبد أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُونَ مِنْ ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لا يَنْتَفِعُوا بِمِثْلَيْهِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ إِذَا وَقَفَ ثُلُثَيْهَا مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهَا اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ. فعلى هذا إن تلف الدَّيْنُ، وَتَلِفَ الْغَائِبُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا وقف من ثلثيه وجاز لهم بيعه. وإن قبض مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ جَمِيعَهُ مِنْ ثُلُثِهِ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِمْ بما أخذه مِنْ كَسْبِهِ وَأُجْرَةِ خِدْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَخْدَمُوهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ إِجَازَةُ عِتْقِهِ، فصاروا متطوعين بالنفقة عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ. وَإِنْ مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيْهَا. فعلى هذا إن برئ الدَّيْنُ وَتَلِفَ الْغَائِبُ: رَقَّ ثُلُثَاهُ، وَرَجَعَ الْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ كَسْبِهِ. فَصْلٌ: فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ: فَلِلْمُوصَى لَهُ الثلث، ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ. وَفِي اسْتِيفَاءِ الِابْنِ حَقَّهُ مِنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي العين والدين فلا يَسْتَوْفِي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَقَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، يأخذ الموصى له ثلثها، ثلاثة دراهم وثلث، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وثلث وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَيَبْقَى عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلِابْنِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الْخُمُسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ من عليه مِنَ الِابْنَيْنِ يُسْتَوْفَى حَقُّهُ مِنْهُ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ من التركة ما يلزم رده إلى التركة، ويجعل بدل أخذه بقدر حقه ورده قضاها مِنْ دَيْنِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَجْهُ الْعَمَلِ فيه: أن تكون التركة وهي عشرون دينارا عَيْنًا وَدَيْنًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، يُسْتَحَقُّ بكل سهم منها في التَّرِكَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدين من قدر حقه وهو ستة دراهم وثلثان، من الدين عليه، ويبقى عليه، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَثُلُثٌ. وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الموصى له والابن الآخر بالتسوية، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً، وَيَبْقَى لَهُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يُرْجَعُ بِهِ عَلَى من عليه الدين، ويأخذ الِابْنُ الْآخَرُ خَمْسَةً، وَيُرْجَعُ بِبَاقِي حَقِّهِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، عَلَى أَخِيهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَوْا جَمِيعًا حُقُوقَهُمْ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا. قِيلَ التَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى أربعة أسهم سهم وهو الرُّبُعُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لا تصح، فابسطها من ثمانية يخرج الكسر منها فتقسم العشرون الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَسْقُطُ مِنْ دَيْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ العشرين، سبعة دراهم ونصف، وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَالِابْنِ الْآخَرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بسهم منها أربعة درهم ويأخذ الابن بثلاثة أَسْهُمٍ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَهِيَ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أسهم، درهم ونصف، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ ستة، تصير سبعة دراهم ونصف وَهُوَ جَمِيعُ حَقِّهِ. وَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدين سهمين، دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ العين وهو أربعة، تصير خمسة دراهم وهم جميع الربع الذي أوصى لَهُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَهْمَانِ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَأْخُذُ صاحب الدين سهمين مِنْ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى له ثلاثة أسهم، سهمان لِلْأَخِ، سِتَّةُ دَرَاهِمٍ وَثُلُثَانِ، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَكُونُ الدِّرْهَمَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 صَاحِبِ الدَّيْنِ بَيْنَ أَخِيهِ، وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى ثلاثة، ثلثاه لأخيه وهو درهم وثلث ويصير مَعَ مَا أَخَذَهُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَثُلُثُهُ لِلْمُوصَى له وهو ثلثي دِرْهَمٍ، يَصِيرُ مَعَ مَا أَخَذَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. ثم يتفرع على هذا الوجه. والمسألة الثانية: أن يكون عَلَى الِابْنِ مَعَ دَيْنِ أَبِيهِ، عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دين لِأَجْنَبِيٍّ، وَقَدْ فَلَّسَ بِهَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ. فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ مِنَ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وجهان ذكرهما ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا أَخُوهُ الموصى لَهُ، دُونَ غَرِيمِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِإِزَائِهِ مِنْ دَيْنِهِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دَيْنُ الْغَرِيمِ بِكَمَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ مِنَ الْعَيْنِ مَالٌ مُكْتَسَبٌ، فلا يختص به بعض الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي فِيهِ شُرَكَاؤُهُ وَالْغَرِيمُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه فِي الشُّفْعَةِ، إِذَا وَرِثَ الْأَخَوَانِ دَارًا، ثُمَّ مات أحدهما وخلف ابنين، فباع أحد الابنين حقه في الدَّارِ فَفِي مُسْتَحِقِّ الشُّفْعَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لأخيه والموصى له دون عمه. والثاني: أن الشفعة بَيْنَ أَخِيهِ وَعَمِّهِ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حِصَّةُ صاحب الدين بين أخيه والموصى له وغريمه. فإذا قيل بهذا الوجه. فطريق العمل به أن يقال: يبرأ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دراهم وثلث قدر حقه منه، عَلَيْهِ ثُلُثَاهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ثُمَّ تُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ أَثْلَاثًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْأَخِ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ هِيَ حِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، فَتُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، والذي عليه لأخيه ثلاثة دراهم وثلث قدر مِيرَاثِهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَعَلَيْهِ لِغَرِيمِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَتُقَسَّمُ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ على خمسة أسهم، ويأخذ الأخ بسهمه مِنْهَا، ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، ويأخذ الموصى له بسهم منها وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، وَيَأْخُذُ الْغَرِيمُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا، دِرْهَمَيْنِ، وَيَبْقَى لَهُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ. ثم يتفرع على هذا أن يترك عَشَرَةً عَيْنًا، وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَيُوصِي لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ دَيْنِهِ، فَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ نِصْفَيْنِ، يَأْخُذُ الِابْنُ الذي لا دين عليه نصفها خمسة، ويبقى خَمْسَةٌ هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فتصرف فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَفِي مُسْتَحِقِّهَا وجهان حكاهما ابن سريج بنيا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِأَخِيهِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ لِلْأَخِ سَهْمٌ من الخمسة ويأخذ به من الخمسة درهما واحدا، ويبقى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 من حقه ثلث درهم، ويرجع بِهِ عَلَى أَخِيهِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَيَأْخُذُ بِهَا مِنَ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ وَصِيَّتِهِ دِرْهَمَانِ وثلثان، ويرجع بِهَا عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ. والوجه الثاني: أن الخمسة العين الَّتِي هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنَ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِهَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ دُونَ الْأَخِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الأخ منها أربعة، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثُلُثَيِ الدَّيْنِ دِرْهَمٌ وثلثان، ويرجع به على من عليه الدين، ويبقى للآخر دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ. وَفِي هَذَا ال ْفَصْلِ مِنْ دَقِيقِ الْمَسَائِلِ فِقْهٌ وَحِسَابٌ، وما أغفلناه كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَالضَّجَرِ (وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ) . مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ نُظِرَ إِلَى مَالِهِ فَقُسِّمَ ثُلُثُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ولو أوصى بثلثه لِلْمَسَاكِينِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْمَسَاكِينُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لِأَنَّ الفقير مسكين، والمسكين فقير، وإنما يتميز الطرفان، إذا جمع بينهما بالذكر " اهـ. فَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَا كَسْبَ. وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ لَا يُغْنِيهِ. فَالْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ المسكين على ما يستدل عَلَيْهِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ. قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. أَوْ مِنَ الفقراء دون المساكين. وهكذا إذا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ. قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّ كِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الِانْفِرَادِ وَاحِدٌ. ثُمَّ قُسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من يستغني بمائة ومنهم من يستغني بخمسين أعطى من غناه مائة سهمان وأعطى من غناه خمسين سهما واحدا. ولا يفضل ذو قرابة بقرابته، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ ذُو الْقَرَابَةِ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا كان فقيرا لقرابته لأن للعطية لَهُ صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ، وَمَا جَمَعَ ثَوَابَيْنِ كَانَ أفضل من التفرد بأحدهما. فإذا صُرِفَ الثُّلُثُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الفقراء والمساكين ضمن. فإن صرفه حصته فِي اثْنَيْنِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ أقل الأجزاء ثلاثة، والظاهر مساوتهم فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الثُّلُثِ قدر ما لو دفعه إلى ثالث أخر، فَلَا يَنْحَصِرُ بِالثُّلُثِ، لَأَنَّ لَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلَ. وَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِمَا. فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ: صرف الثلث في الصنفين بالتسوية ودفع السدس إلى الفقراء، وأقلهم ثلاثة، وإن صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للنصف الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا. ثُمَّ عَلَيْهِ صَرْفُ الثُّلُثِ فِي فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، دُونَ الْمَالِكِ، كَالزَّكَاةِ، فَإِنْ تَفَرَّقَ مَالُهُ: أَخْرَجَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِيهِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ. فَأَمَّا زَكَاةُ الفطر ففيه وجهان: أحدهما: أنها تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِ، دُونَ الْمَالِكِ كَزَكَاةِ الْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِكِ، دُونَ الْمَالِ، لِأَنَّهَا عَنْ فِطْرَةِ بَدَنِهِ، وطهور لِصَوْمِهِ. فَإِنْ نَقَلَ الزَّكَاةَ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ فِي الْإِجْزَاءِ قَوْلَانِ. فَأَمَّا نَقْلُ الْوَصِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ خرجه عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَسَاءَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَيْثُ شاء. فصل: فإذا فرق الثلث فيما وَصَفْنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لَمْ يَمْلِكُوهُ إِلَّا بالقبول وَالْقَبْضِ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَكَذَا كُلُّ وَصِيَّةٍ عُلِّقَتْ بِصِفَةٍ لَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ جِنْسِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ كَانَ مُسَمًّى فِي الْوَصِيَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ بِالْعَطِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا بِهَا، وَمَنْ تَعَيَّنَ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ بِهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وكذلك لو أوصى لغازين في سبيل الله فهم الذين من الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ مَالُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا جُعِلَ ثُلُثُ مَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْغَارِمِينَ. وَالْغَارِمُونَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ اسْتَدَانُوا فِي الْمَصَالِحِ العامة كتحمل للدية " العمد " أَوْ غُرْمِ مَالٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أو تيسير الحج، أو إصلاح سبيلهم. فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغَارِمِينَ، لَا يُرَاعَى فَقْرُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِينُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَيُرَاعَى فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مع الغنى والقدرة. ثم ينظر فيما استدانوا: فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مُبَاحٍ: أُعْطَوْا، وَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ: فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا لَمْ يُعْطَوْا، لِمَا فِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ إِعَانَتِهِمْ عَلَيْهَا وَإِغْرَائِهِمْ بِهَا. وَإِنْ تَابُوا فَفِي إِعْطَائِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: " لَا يُعْطَوْنَ " لِهَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْطَوْنَ لِارْتِفَاعِهَا بِالتَّوْبَةِ. وَأَقَلُّ ما يصرف الثلث في ثلاثة فصاعدا في الْغَارِمِينَ، وَأَيُّ الصِّنْفَيْنِ أَعْطَى مِنْهُمْ أَجْزَأَ، وَيَكُونُ مَا يُعْطِيهِمْ بِحَسْبِ غُرْمِهِمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَيُعْطِي مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمْ، أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ أَعْطَوْهُ فِي دَيْنِهِمْ، رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ ". فَإِنْ صرفه في اثنين: غرم للثالث، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أنه يضمن أقل ما يجزئه أن يعطيه ثالثا ويكون ذلك خاصا بغارمي بلد المال، ومن كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ، أَوْلَى لِمَا فِي صِلَتِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَجِيرَانُ الْمَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] . وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنه سيورثه ". قال الشافعي: " وأقصى الجوار بينهم أربعين دارا، من كل ناحية " اهـ. هكذا لو أوصى لجيرانه، كان جيرانه منتهى أربعين دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ: الدار والداران. وقال سعيد بن جبير: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْإِقَامَةَ. وَقَالَ أبو يوسف: هُمْ أَهْلُ الْمَسْجِدِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَازِلَا بَيْنَ قَوْمٍ فَأَتَى النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليشكوهم، فبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: اخْرُجُوا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقُولُوا: أَلَا إِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا ". فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَجَبَ صَرْفُهُ في الغزاة - كما قلنا فِي الزَّكَاةِ - وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا من غزاة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، عَلَى حَسَبِ مَغَازِيهِمْ، في القرب، والبعد، ومن كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ البلاد فيه. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي بَنِي السَّبِيلِ. صُرِفَ فِيمَنْ أَرَادَ سَفَرًا، إِذَا كَانَ فِي بَلَدِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَازًا، أَوْ مبتدئا بالسفر. فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ: صُرِفَ فِيهِمْ وَهُمْ أَهْلُ سُهْمَانِ الزَّكَاةِ وَقُسِّمَ بَيْنَ أصنافهم بالتسوية وَجَازَ تَفْضِيلُ أَهْلِ الصِّنْفِ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ، إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا عُدِمَ صِنْفٌ مِنْهَا، رد على باقي الأصناف. وإذا عدم في الوصية أهل صنف لم يرد عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَنُقِلَ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ بَلَدٍ يُوجَدُونَ فِيهِ. فَإِنْ عدموا، رجع سهمهم إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالزَّكَاةِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا تَعَيَّنَتْ لِلْأَشْخَاصُ، تَعَيَّنَتْ لِلْأَصْنَافِ، والزكاة لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَشْخَاصِ، لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَصْنَافِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: اصْرِفُوا ثُلُثِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ، أَوْ فِي سبيل الثواب. قال الشافعي: " جزأ أَجْزَاءً، فَأُعْطِيَ ذُو قَرَابَتِهِ فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أغنياء، والفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين، والغزاة، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالْحَاجِّ، وَيَدْخُلُ الضَّيْفُ، وَالسَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ ". فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمُوصِي: ضَمِنَ سَهْمَ مَنْ مَنَعَهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ يَضَعُهُ حَيْثُ رآه. لم يكن له أن يأخذ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا. لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِهِ لَا بِأَخْذِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يصرف إلى وارث للموصي، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، لِأَنَّ الْوَارِثَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ الرَّضَاعُ قَرَابَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ له قرابة من جهة الأب والأم، وكان رضيعا، أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَضِيعٌ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَ جِيرَانَهُ، الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبَ، وَأَقْصَى الْجِوَارِ مُنْتَهَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ أَفْقَرَ مَنْ يجده، وأشدهم تعففا، واستئثارا، وَلَا يُبْقِي فِي يَدِهِ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يخرجه من ساعته ". مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ فَقَبِلَ أَوْ رَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لَهُ قَبُولُهُ وَرَدُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَطِيَّةُ. وَالثَّانِي: الْوِلَايَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 فَأَمَّا الْعَطِيَّةُ: فَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الرَّجُلُ مِنْ أَمْوَالِهِ، لِمَنْ أَحَبَّ. فَالْوَقْتُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَإِنْ قَبِلَ أَوْ رَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ: صَحَّ وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. فَأَمَّا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَلَا يَصِحُّ قَبُولُهُ وَلَا رَدُّهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: " يَصِحُّ الرَّدُّ وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ، لِأَنَّ الرَّدَّ أَوْسَعُ حكما من القبول " اهـ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا. إِنَّ الرَّدَّ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ زَمَانًا لِلْقَبُولِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا لِلرَّدِّ، وَصَارَ كَزَمَانِ مَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبُولٌ، وَلَا رَدٌّ وَعَكْسُهُ مَا بعد الموت كما صَحَّ فِيهِ الْقَبُولُ، صَحَّ فِيهِ الرَّدُّ. وَمِنْهَا: إِنَّ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ عَفْوٌ قَبْلَ وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَجَرَى مَجْرَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَعَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَرْدُودٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يكن رده له مُخَالِفًا لِحُكْمِهَا. فَصْلٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَسَوَاءٌ أَوْصَى له بأبيه، أو غيره " اهـ. وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَتَيْنِ، زَعَمَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِهِ فَعَلَيْهِ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا. وَزَعَمَتِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: صَحَّ الْقَبُولُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عتق عليه ثم نظر. فإن كان قبوله صحيحا: ورثه أبوه لو مات. فلو كَانَ عِنْدَ قَبُولِهِ مَرِيضًا كَانَ فِي مِيرَاثِهِ لَوْ مَاتَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرِثُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالْقَبُولِ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِهِ فَيَكُونُ وصية منه. فعلى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ قَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَرِقُّ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لَهُ وَلَيْسَ الوصية مِنْهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بالولاية على مال طفل، وتفريق ثلثه، أَوْ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ، فَيَصِحُّ قَبُولُهَا وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ وَصَايَا الْعَطَايَا. لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي حَيَاةِ العاقد أصح وتلك عَطِيَّةٌ تُقْبَلُ فِي زَمَانِ التَّمْلِيكِ، وَقَبُولُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَنْفِيذُ الْوَصَايَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 ولو رد الوصية في حال حَيَاةِ الْمُوصِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِ. وَلَوْ قَبِلَهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، صَحَّتْ، وَكَانَ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا إن شاء، والخروج منها إن شَاءَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ غَابَ، لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا كَانَ لَازِمًا مِنَ الْعُقُودِ اسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْ خَرَجَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا صَارَتْ أَصْلًا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ. والثاني: أنه لو كان حضور صاحب الحق شَرْطًا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، لَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ وَإِنْ كان حاضرا غير معتبر دليل على أنه ليس بشرط. فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ موته، بمائة درهم، هي قدر ثلثه، لأنه لا يملك سوى ثلثمائة دِرْهَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ إِذَا كَانَ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالتَّوْرِيثِ. وَلَوْ وَرِثَ لَمُنِعَ الْوَصِيَّةَ، وَلَوْ مُنِعَهَا لَبَطَلَ الْعِتْقُ والشراء، وإذا بطل الْعِتْقُ وَالشِّرَاءُ، بَطَلَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ، يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، أَثْبَتْنَا الْوَصِيَّةَ، وَأَبْطَلْنَا الْمِيرَاثَ. فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ أَنْ عَتَقَ أبوه عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْتَقَهُ، كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لأنه قد اشترى ثُلُثَهُ بِعِتْقِ أَبِيهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ سِوَاهُ. وَلَوْ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ أَبِيهِ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ جَمِيعُ ثُلُثِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ يَحْتَمِلُهُ، وَلَا شَيْئا مِنْهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ، لأنه لو صح، لثبت الملك، لو ثَبَتَ الْمِلْكُ لَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَالْعِتْقُ لَا يَنْفُذُ جَبْرًا فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ، فَكَذَلِكَ كَانَ الشِّرَاءُ باطلا، وسواء أفاد بعد ذلك، ما خرج ثَمَنَ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، أَوْ لَمْ يُفِدْ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ صحيح، لأنه لم يقترف بِالْعَقْدِ مَا يُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا عِتْقُهُ بِالْمِلْكِ حَالٌ يَخْتَصُّ بِالْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا: يُسْتَبْقَى رِقُّ الْأَبِ، عَلَى مِلْكِ ولده، وإن أَفَادَ مَا يُخَرَّجُ بِهِ مِنْ ثَمَنُ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا، كَانَ عَلَى رِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ الْمُشْتَرِي، صَارَ الْأَبُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَةِ ابْنِهِ. فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، أَوْ بَنُونَ، عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمِلْكِهِمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ أَعْمَامٌ أَوْ بَنُو أَعْمَامٍ كَانَ مِلْكُهُمْ مَوْقُوفًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 والوجه الثالث: أن الشراء موقوف فَإِنْ أَفَادَ الِابْنُ مَا يُخْرِجُ بِهِ عَنِ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي مِيرَاثِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. وَإِنْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَلَا أُبْرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ، فُسِخَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَرُدَّ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لا يجوز أن يملك الابن أباه، فلا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ فُسِخَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ. فَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَثَمَنُهُ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يستوعب جميع تركته. فإن أمضى الغرماء ما أعتقه نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ فَهُوَ عَلَى الرِّقِّ، وَفِي بطلان الشراء وجهان: أحدهما: باطل، لئلا يستبقى ملك الابن لأبيه. والوجه الثاني: جَائِزٌ، وَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ ثَمَنِهِ. ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: لَوْ وُهِبَ أَبُوهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَقَبِلَهُ وَقَبَضَهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ، لَمْ تَبْطُلِ الهبة. وهل ينفذ عتقه، أو يباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عِتْقَهُ يُرَدُّ، كما يرد عتق المباشرة، وتباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ في المرض. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بدار كَانَتْ لَهُ وَمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنَ أَبْوَابِهَا وَغَيْرِهَا دُونَ مَا فِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا كَانَتْ بِالدَّارِ، دَخَلَ فِيهَا كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الدَّارِ وَلَهَا. وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَا كَانَ في الدار إلا لم يكن منها. الداخل في الوصية: حيطانها، وسقوفها، وأبوابها المنصوبة عليه، وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ زُخْرُفِهَا، وَدَرَجِهَا. وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا مَا انْفَصَلَ عَنْهَا مِنْ أبوابها، ورفوفها، وسلالمها الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ " مَعَهَا " دَخَلَ فِي الوصية [بها] وكل ما جعلناه خارجا عن البيع لم يدخل في الوصية. ولو كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا: دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ نَخْلُهَا، وَشَجَرُهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ زَرْعُهَا. وَلَوْ كَانَ نَخْلُهَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مُثْمِرًا: لَمْ يَدْخُلْ ثمرها في الوصية إن كان موزا. وفي دخوله فيها إن كان غير موز وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ كَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الِاسْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دُخُولِهِ فِي الرهن. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَتْ لَهُ إِلَّا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا فَصَارَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْهَدِمَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. وَالثَّانِي: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. وَالثَّالِثُ: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فَإِنِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضربين: أحدها: أَنْ يَزُولَ اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا بِالِانْهِدَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَزُولَ. فَإِنْ لَمْ يَزُلِ اسْمُ الدار عنها لبقاء بنيان فيها يسمى بِهِ دَارًا: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِيهَا مِنْ بُنْيَانِهَا. فَأَمَّا الْمُنْفَصَلُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ يَكُونُ خارجا عن الْوَصِيَّةِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ على ظاهره، وأنه خارج عن الوصية لأن ما انفصل عنها دَارًا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ فِيهِ حق. وحكي عن أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَجْهًا آخَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خُرُوجِ مَا انْهَدَمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَدَمَهُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِيهِ. وَلَوِ انهدم بِسَبَبٍ مِنَ السَّمَاءِ، لَا يُنْسَبُ إِلَى فِعْلِ الموصي وكان مَا انْفَصَلَ بِالْهَدْمِ لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الدَّارِ، لِأَنَّهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا بَانَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا، لَا تُسَمَّى دَارًا، لِأَنَّهَا صَارَتْ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا تبطل وهذا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآلَةَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا باطلة، وهو الأصح، لأنها صَارَتْ عَرْصَةً لَمْ تُسَمَّ دَارًا. أَلَا تَرَى لو حلف لا يدخلها، لم يحنث بدخول عَرْصَتَهَا، بَعْدَ ذَهَابِ بِنَائِهَا. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الوصية. فإن كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ قَبُولِ الموصى له، فالوصية بها ممضاة، وجميع ما انفصل مِنْ آلَتِهَا كَالْمُتَّصِلِ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ لاستقرار ملكه عليه بِالْقَبُولِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ: فَإِنْ لم يزل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِذَا قَبِلَهَا الموصى له فإن قيل إن القبول يبنى عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَكُلُّ ذَلِكَ ملك للموصى له، المنفصل منها، والمتصل. فإن قيل إن القبول هو الملك فله ردها وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وجهان: أحدهما: للموصى له. والثاني: للوارث. وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا، فإن قلنا إن القبول يبنى على تقدم الملك: فالوصية جائزة، وله العرصة، وجميع ما فيها من متصل، أو منفصل إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُتَّصِلًا. وَإِنْ قِيلَ إن القبول هو الملك، ففي البطلان بِانْهِدَامِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ فَعَمِيَ، أَوْ زَمِنَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا عَمَى الْعَبْدِ وَلَا زَمَانَتُهُ. وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا فِي الْعَبْدِ مَقْطُوعًا، وَدِيَةُ " يَدِهِ " لِلْمُوصِي، تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الدَّارِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْآلَةَ، عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَدَلٌ. فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ: فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا قُتِلَ فِي يَدِ بَائِعِهِ، هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَتْلِهِ أَمْ لَا؟ . عَلَى قَوْلَيْنِ: كَذَلِكَ يَجِيءُ هَاهُنَا فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ عَبْدًا، وَكَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَكُنْ أَرْشُهَا لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَقَبَتِهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَخَالَفَتْ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ، أَرْشَ يَدِهِ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ مُنْطَلَقٌ عَلَيْهِ، بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ يده، لأنه جعل له ما ينطلق اسم العبد عليه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ، فَطَحَنَهَا، وَبِاللَّهِ التوفيق. فصل: ولو أوصى بعتق عبده، فقتل العبد قبل عتقه، نظر: فإن قتل فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِ، لِخُرُوجِهِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا. وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بعتقه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ يُعْتَقُ مَكَانَهُ. لِأَنَّ قِيمَتَهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَةً فَأَتْلَفَهَا بتلف، صُرِفَتْ قِيمَتُهَا فِي أُضْحِيَةٍ غَيْرِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ، لِخُرُوجِ الْقِيمَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، وَخَالَفَ نَذْرُ الْأُضْحِيَةِ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْعِتْقِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرِيضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً: صَحَّ نِكَاحُهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَالصَّدَاقُ، إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا. فَإِنْ زَادَ: رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً، وَأُمْضِيَتْ فِي الثُّلُثِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ. وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صحيحا صَحَّ نِكَاحُهَا وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ، وَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا، إِنْ كان مهر المثل فيما زاد. فإن نكحته بأقل من صداق مثلها بالمحاباة فالنقصان وصية له فترد إن كان وارثا، وتمضي في الثلث إن كان الزوج غَيْرَ وَارِثٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَاسِدٌ، لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِيرَاثًا، وَلَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فَيَلْزَمُهُ مهر المثل من الثلث مقدما عَلَى الْوَصَايَا. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فَاسِدٌ، وَلَا ميراث للزوج. وقال الزهري: النِّكَاحُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ، وَلَا مِيرَاثَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الإضرار في تزويجه لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِضْرَارُ وَظَهَرَ مِنْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ. وَدَلِيلُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ شَيْئَانِ: أحدهما: وجود التهمة بإدخالهم الضَّرَرَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ لِمَالِهِ فِي مرضه. والثاني: مزاحمتهم لميراثها ودفعهم على ما ترثه ولدان صار لهما فَصَارَ كَالْمَانِعِ لِلْوَرَثَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مرضه: " زوجوني لئلا ألقى الله عزبا ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مَا أَحْبَبْتُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِي زَوْجَةٌ ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزبير رضي الله عنه دخل على قدامة يعوده، فبصر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 عنده بجارية فقال قدامة زوجني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة فقال: إن أنا عشت فثبت الزبير وإن مت فهم أحق من يرثني. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ التَّسَرِّي بالإماء لم يمنع من نكاح الحرائر كَالصَّحِيحِ. وَلِأَنَّهُ فِرَاشٌ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّحِيحُ، فوجب ألا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَرِيضُ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْإِمَاءِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْمَرَضُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَقْدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ أو لشهوة، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ كَمَا أُبِيحُ له أن يلتزم بما شاء من أكل أو لبس. فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فَهُوَ إِنَّ التُّهْمَةَ تَبْعُدُ عَمَّنْ هُوَ فِي مَرَضِ موته لأنه في الأغلب يقصد وجه الله عَزَّ وَجَلَّ وَالضَّرَرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ العقود كالبيع ولأنه إن كَانَ ضَرَرًا لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ أحق بمنفعة نفسه من منفعة ورثته. فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ مُزَاحَمَةً لِبَعْضِ الورثة " ودفع " لِبَعْضِهِمْ فَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعِ الصِّحَّةُ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْهُ كَالْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ وكالاستيلاء للأمة. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أَرْبَعٍ، كَهُوَ فِي الصِّحَّةِ، وَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ، إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أو غيره. وأما الصداق، فإن كان مهرهن، صَدَاقَ أَمْثَالِهِنَّ، فَلَهُنَّ الصَّدَاقُ مَعَ الْمِيرَاثِ. وَإِنْ كانت عَلَيْهِ دُيُونٌ، شَارَكَهُنَّ الْغُرَمَاءُ فِي التَّرِكَةِ، وَضَرَبْنَ مَعَهُمْ بِالْحِصَصِ. وَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ، أَوْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ. فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، دُفِعَتِ الزِّيَادَةُ إِلَيْهَا، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وما احتمله منها يتقدم منها عَلَى الْوَصَايَا كُلِّهَا، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فَمَاتَتْ قبله، صحة الزيادة لها، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، غَيْرُ وارثة. فلو كانت حين نكاحها فِي الْمَرَضِ أَمَةً، أَوْ ذِمِّيَّةً، فَأُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، وَأَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ، صَارَتْ وَارِثَةً، وَمُنِعَتْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَمُتْ، صَحَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِوَارِثَةٍ، وَغَيْرِ وَارِثَةٍ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ذِمِّيَّةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، وصداق مثلها خمس مائة، ومات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا: أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ درهما وثلث درهم. لأنها لها خمس مائة من المال، وتبقى خمس مائة هي جميع التركة، وهي الوصية لَهَا، فَأُعْطِيَتْ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، تَأْخُذُهَا مَعَ صَدَاقِ مثلها. ولو خلف الزوج مع الصداق خمس مائة دِرْهَمٍ: صَارَتِ التَّرِكَةُ بَعْدَ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَلْفَ درهم، فلها ثلثها، ثلاث مائة وثلاثة وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ. وَلَوْ خَلَّفَ مَعَ الصَّدَاقِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، خَرَجَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ من الثلث وأخذت الألف كلها. فصل: فإذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، ومهر مثلها خمس مائة، ثُمَّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ من مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا وَلَا لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الْمُحَابَاةِ، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ غَيْرَ وَارِثَةٍ، وَصَارَ وَارِثًا لَهَا، فَزَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا. وَإِذَا زَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا، زَادَ فِي قَدْرِ مَا يجوز من المحاباة لها، فإذا ردت منها النصف: صح لها من المحاباة، ثلثمائة درهم، فتضم إلى صداق مثلها، وهو خمس مائة، يَصِيرُ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَالْمُحَابَاةِ، وله النصف، وهو أربع مائة درهم يصير معه ست مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وهي ثلاث مائة درهم. ومخرجه بحساب الجبر سهل على المرياض، وَلَكِنْ نَذْكُرُ وَجْهَ عَمَلِهِ بِحِسَابِ الْبَابِ لِسُهُولَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِحَسْبِ الْجَبْرِ ارتياض. عمله بحساب الباب أن ننظر تركة الزوج، وهي خمسة مائة درهم التي هي المحاباة من الصداق، ويضم إليها ما ورثه زوجته من صداق مثلها، وهو نصف الخمس مائة، مائتان وخمسون، تصير جميع التركة سبع مائة وخمسين درهما، وتستحق الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَقَدْ عَادَ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ يَبْقَى سهمان ونصف فأضعفها ليخرج الكسر منها يكن خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ أَضْعِفِ التَّرِكَةَ لِأَجْلِ مَا أضعفته من السهام تكن ألف درهم وخمس مائة، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ، تَكُنْ حِصَّةُ كل منهم، منها، ثلاثة مائة، وهي قَدْرُ الْمُحَابَاةِ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَخَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهَا بِحِسَابِ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَنْ يُنْظَرَ تَرِكَةُ الزَّوْجِ وَهِيَ سبع مائة، لأن له مائتي درهم سوى الصداق وخمس مائة مُحَابَاةً مِنَ الصَّدَاقِ فَاضْمُمْ إِلَيْهَا مَا وَرِثَهُ عن زوجته من صداق مثلها وهو مئتان وخمسون، تصير جميع التركة تسع مائة وخمسين درهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 تقسم عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ، فَأَضْعِفِ السِّهَامَ وَالتَّرِكَةَ، تَكُنِ السهام خمسة والتركة ألف درهم وتسع مائة دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ تَكُنْ حصة كل سهم منها ثلاثمائة درهم، وثمانين درهما وهو القدر الذي احتمله الثلث من المحاباة. وإذا ضممته إلى صداق المثل وهو خمس مائة صار ثمان مائة وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَعَادَ إِلَيْهِ نِصْفُ تَرِكَةِ الزوجة بالميراث وذلك أربع مائة وأربعون درهما يصير الجميع تسع مائة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهُوَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لأن الذي خرج منها ثلاث مائة وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَخَلَّفَ الزوج مع الألف التي أصدق خمس مائة دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا لِأَنَّ بِيَدِ وَرَثَةِ الزوج عنده الخمس مائة ويعود إليه نصف ميراث الزوجة وهو خمس مائة يصير بِيَدِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ. فَلِذَلِكَ صَحَّ جَمِيعُهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفِ الزَّوْجُ شَيْئًا سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ خَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الصداق ألف أخرى صحت المحاباة كلها لأنها تصير تركة الزوجة ألفي درهما، يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَهَا وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ضعف المحاباة، فذلك صَحَّتْ. فَلَوْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ خمس مائة درهم كان الخارج لها بالمحاباة أربع مائة درهم، لأن تركة الزوجة هي الخمس مائة الْمُحَابَاةُ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ، نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهِيَ ألف درهم، لأن تركتها صداق مثلها، وهي خمس مائة درهم، وما خلفته سوى ذلك وهو خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهُوَ خمس مائة دِرْهَمٍ، وَضُمَّ إِلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التركة، صارت تَرِكَتُهُ " أَلْفَ " دِرْهَمٍ، تُقَسَّمُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فإذا أضعفت سهام التركة صارت السهام خمسة، والتركة ألفين. فإن قَسَّمْتَهَا عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ منها، أربع مائة درهم، وذلك قدر ما احتمله الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّدَاقِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَصَارَ إليه من تركة الزوج، بحق النصف سبع مائة درهم، فصار الجميع ثمان مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الخارج منها أربع مائة درهم. فصل آخر منه: فإذا تزوجها على صداق ألف لا يملك غيرها، ومهر مثلها خمس مائة درهم، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَهِيَ ذَاتُ وَلَدٍ يُحْجَبُ الزوج إلى الربع ولم يخلف سِوَى الْأَلْفِ فَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُضَمَّ " ربع " الخمس مائة التي هي صداق مثلها وهي مائة وخمسة وعشرون إلى الخمس مائة التي له، وهي المحاباة تكن ست مائة وخمسة وعشرون دِرْهَمًا لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا ثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثلاثة، وقد ورث الزوج أربعة وهو ربع سهم فأسقطه من الثلاثة، ويبقى سَهْمَانِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا تَكُنْ أَحَدَ عشرا، ثم اضرب الست مائة والخمسة والعشرين في أربعة تكن ألفان وخمس مائة فَاقْسِمْهَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سهم منها ما تبقى، درهم وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْخَارِجُ لَهَا بالمحاباة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 وإذا ضممته إلى الخمس مائة الَّتِي هِيَ صَدَاقُ الْمِثْلِ صَارَتْ تَرِكَتُهَا سَبْعمِائَةٍ وسبعة وعشرين درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا من درهم الْأَلْفِ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ رُبُعَ تَرِكَتِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. يَصِيرُ الْجَمِيعُ أَرْبَعَمِائَةٍ وأربع وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَانِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا مِنْ دِرْهَمٍ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَحِقَ رُبُعَ الزَّوْجِ عَوْلٌ " لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ ورثتها أبوان فقد صارت فريضتها من خمس عشر للزوج منها ثلاثة فصارت معه خمسة فإذا كان كذلك فاضمم إلى تركته وهي خمسة مائة الْمُحَابَاةُ مَا وَرِثَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مثلها وهو خمس الخمس مائة تكن مِائَةَ دِرْهَمٍ تَصِيرُ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ الثُّلُثُ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَدْ ورث الزوج خمسة فاسقطه من الثلاثة يبقى سهمان وأربعة أخماس فابسطه أخمسا تَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ تَرِكَةَ الزَّوْجِ وَهِيَ سِتُّمِائَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثم اقسمها على أربعة عشر تكن حصة كل سهم منها مائتان دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قدر ما احتمله الثلث في الْمُحَابَاةِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خمسمائة صارت تركتها سبع مائة درهم وخمسة وثمانين درهما وخمسة أسباع دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجَةِ خُمُسَهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ درهم فصار معه أربع مائة دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ بِالْعَوْلِ خُمُسًا وَأَوْصَتِ الزَّوْجَةُ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهَا فَوَجْهُ الْعَمَلِ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنْ تُضَمَّ إلى تركة الزوج وهي خمس مائة المحاباة قدر ما يرثه من زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ الْخُمُسُ مِنْ ثلث الخمسمائة وذلك ستة وستون درهما وثلث درهم تكن خمس مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا وَقَدْ أَوْصَتْ فِي هَذَا الثُّلُثِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فَبَقِيَ لَهَا مِنَ الثُّلُثِ ثُلُثَاهُ وَذَلِكَ تُسْعَا الْمَالِ ثُمَّ وَرِثَ الزَّوْجُ خُمُسَ هَذَيْنِ التُّسْعَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ مِنْ خمسة وأربعين سهما هي مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ لِأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ ثُلُثٍ وَخُمُسًا فَأَسْقِطْ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ من عول هَذِهِ السِّهَامِ. تَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ اضْرِبِ التَّرِكَةَ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ مَخْرَجُ الثلث والخمس لأنك ضربت الثلاثة فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ معك ثمانية آلاف وخمس مائة فاقسمها على ثلاثة وأربعين سهما يكن قسط السهم الواحد منها مائة درهم وتسعة وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وأربعين جزءا من درهم وهو مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ. فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إلى صداق مثلها وهو خمس مائة صار جميع ما تملكه مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 درهم وسبعة وتسعين دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَبَقِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَلْفِ ثلثمائة درهم وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من درهم، يَكُنْ بَاقِي تَرِكَتِهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الثلث أربع مائة درهم وخمسة وسبعين دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَرِثُ الزَّوْجُ خُمُسَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَجُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى مَا بَقِيَ له من الألف وهو ثلثمائة دِرْهَمٍ وَدِرْهَمَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا صَارَ الْجَمِيعُ ثلثمائة وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثلاثة وأربعين جزءا من درهم وهو مثلي ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائة دِرْهَمٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْصَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ ثُلُثَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مُحَابَاةِ مَرَضِهِ، وَالْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ: فإذا أَعْتَقَ الْمُوصِي جَارِيَةً فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ لَا يَعْجِزُ الْمَالُ عَنِ احْتِمَالِهِ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا في الثلث والنكاح جائز النفوذ والعتق ولها والصداق من رأس المال إن لم يكن فِيهِ مُحَابَاةٌ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِشَخْصٍ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلَوْ وَرِثَتْ مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كان توريثها مقضيا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهَا وَمِيرَاثِهَا أَمْضَيْتُ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَأُسْقِطَ الْمِيرَاثُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُعْتِقُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْأَمَةِ: عُتِقَ ثُلُثُهَا، وَرَقَّ ثُلُثَاهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا، لِأَجْلِ مَا بقي له من رقها فإن لم يجامعها فَلَا دَوْرَ فِيهَا وَقَدْ صَارَ الْعِتْقُ مُسْتَقِرًّا فِي ثُلُثِهَا، وَالرِّقُّ بَاقِيًا فِي ثُلُثَيْهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا دَخَلَهَا دَوْرٌ لِأَجْلِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مهر مثلها بالوطء. فلو كانت قيمتها مائة وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُجْزِئُ مِنْ عِتْقِهَا، وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهَا فَيُعْتَقُ سبعاها ويرق لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا، وَيُوقَفُ سُبُعُهَا، لِأَجْلِ مَا استحقته مِنْ سُبُعَيْ مَهْرِهَا. وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ: أَنْ تُجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ، لِيَكُونَ لَهُمْ مثلي ما أعتق، ولهم المثل نصف سهم لأن مهر المثل نصف قيمتها يكون ثلاثة أسهم ونصف فابسطها لمخرج النِّصْفِ يَكُنْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْهَا مَقْسُومَةً عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ السَّبْعَةِ سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْعِتْقِ فَيُعْتَقُ سبعاها وذلك بثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم، ورق أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا لِلْوَرَثَةِ. وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ، ويوقف سبعاها، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ، بِإِزَاءِ سبعي مهر مثلها الذي استحق بقدر حريتها، فإن بيع لها استرقه المشتري، وإن فداه الورثة استرقوه على أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِمْ، وَإِنْ أَخَذَتْهُ بِحَقِّهَا عُتِقَ عَلَيْهَا بِالْمِلْكِ، فَإِنْ أَبْرَأَتِ السَّيِّدَ مِنْهُ، عُتِقَ عَلَيْهَا مع سبعيها وصار ثلث أسباعها حرا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 فلو كانت قيمتها مائة درهم فأعتقها، فتزوجها على صداق مائة درهم، وخلف معها مائتا دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَصَحَّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ صَدَاقُهَا، وَسَقَطَ مِيرَاثُهَا، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَأَمَّا نُفُوذُ عِتْقِهَا فَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا قِيمَتِهَا، وَأَمَّا صِحَّةُ نِكَاحِهَا: فَلِأَنَّهُ قَدْ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَأَمَّا سُقُوطُ مَهْرِهَا: فَلِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْهُ لَعَجَزَتِ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا وَعَجْزُهَا عَنْ جَمِيعِهَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا وَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا يُوجِبُ سقوط مهرها، فصار إيجاب صداقها مقضيا إلى بطلان عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا وَصَدَاقِهَا. فَأُسْقِطَ الصَّدَاقُ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ والنكاح، وأما سقوط الميراث: فلئلا يُجْمَعَ لَهَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا عِدَّةُ الوفاة فلموته عنها وهي على زوجتيه، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرًا، فَإِنْ أُبْرِأَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَدْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ كَانَ لَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ بِالدُّخُولِ وصار دينا لها في التركة لعجز الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا. وَإِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا رَقَّ مِنْهَا قَدْرُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَإِذَا رَقَّ مِنْهَا شَيْءٌ بطل نكاحها ولم يلزمها عدة الوفاة، واستحقت حريتها من مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ قَدْ أَسْقَطَ الْمُسَمَّى وَدَخَلَهَا دَوْرٌ. فَإِذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وقد خلف معها مائتا درهم صارت تركته ثلثمائة دِرْهَمٍ فَقُسِّمَتْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا فَإِذَا بَسَطْتَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ عَنْهَا بِسُبُعَيِ التَّرِكَةِ سِتَّةُ أسباعها وذلك بخمس وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِ مِثْلِهَا سُبُعُ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثمانية وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وسبع درهم ورق لهم من المائة سبعها وذلك أربعة عشر درهما وسبعي درهم صار جميع ماله مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَحَدًا وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ درهم وهو مثلا ما أعتق مِنْهَا. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَتِ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ الَّتِي تَرَكَهَا السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهَا فَقَدْ صَارَ لَهَا فِي التَّرِكَةِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يستحقه مِنْ كَسْبِهَا بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهَا. وَالثَّانِي: مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُجْعَلُ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ سَهْمَيْنِ لِأَنَّهَا كَسَبَتْ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا وَيُجْعَلُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ نِصْفُ سَهْمٍ لِأَنَّ مَهْرَ مثلها مثل نصف قيمتها وبجعل لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلَا سَهْمِ عِتْقِهَا يَصِيرُ الجميع خمسة أسهم ونصفا فاضعف لِمَخْرَجِ النِّصْفِ مِنْهَا تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْعِتْقِ سَهْمَانِ وَلِلْكَسْبِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ اجْمَعْ بَيْنَ سهم الْعِتْقِ وَسِهَامِ الْكَسْبِ الْأَرْبَعَةِ تَكُنْ سِتَّةً وَهِيَ قَدْرُ مَا يُعْتَقُ مِنْهَا فَيُعْتَقُ مِنْهَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عشر جزءا من درهم ويملك بِذَلِكَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ كَسْبِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَتَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِنَ الْكَسْبِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَقَدْ رَقَّ لَهُمْ مِنْ رَقَبَتْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَصِيرُ جَمِيعُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مائة وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من درهم وذلك مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهَا، لِأَنَّ الَّذِي عُتِقَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. فصل: وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ: نَفَذَ عِتْقُ الْأَوَّلِ، وَرَقَّ الثَّانِي، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيُعْتَقُ مِنْ كل واحد منهما نصفه. اهـ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ كُلَّهُ. فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَهُمَا مَعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمَا ثُلُثَا مَالِهِ، أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ تَكْمِيلًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا. فَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ العتق في الثاني مِنْهُمَا، وَبَطَلَتِ الْقُرْعَةُ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَانَ لِمُسْتَحِقِّهِ قِيمَتُهُ، وَكَانَ كَشَرِيكٍ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُوسِرٌ. وَخَالَفَ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، بَطَلَ فِيهِ التَّدْبِيرُ، وَلَا تَقْوِيمَ بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ، لِأَنَّ مَنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ مِنْ عَبْدٍ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْسِرٌ. وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا، فَغَانِمٌ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ، فَإِنْ خَرَجَ سَالِمٌ وَغَانِمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَا جَمِيعًا، وَكَانَ عِتْقُ سَالِمٍ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَعِتْقُ غَانِمٍ بِالصِّفَةِ. وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الْآخَرِ: عُتِقَ سَالِمٌ الْمُنْجَزُ عِتْقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ غَانِمٍ المعلق عتقه بالصفة، لأن سالم يَعْتِقْ سَالِمٌ، لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا عِتْقُ غَانِمٍ. فَلِذَلِكَ قُدِّمَ عِتْقُ سَالِمٍ عَلَى غَانِمٍ. وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سالما فغانم في حال عتق سالم حر، ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمَا على سواء، كما لو أعتقهما معا، لأنه جَعَلَ عِتْقَ الصِّفَةِ، فِي حَالِ عِتْقِ الْمُبَاشَرَةِ، وبخلاف مَا تَقَدَّمَ، فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى عِتْقِ الصِّفَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - أن يُقَدَّمُ عِتْقُ سَالِمٍ، الْمُعْتَقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 بِالْمُبَاشَرَةِ، عَلَى عِتْقِ غَانِمٍ الْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ، أَصْلٌ وَعِتْقَ الصِّفَةِ فَرْعٌ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ، أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، فَسَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ، يَا سَالِمُ إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ عَلَى صَدَاقٍ أَلْفٍ، ومهر مثلها خمس مائة، وقيمة سالم خمس مائة، وثلث ماله خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً، بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ فِي صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ، وَعَتَقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ، فِي مُحَابَاةِ صَدَاقِهَا مِنَ الْعِتْقِ، وَرَقَّ سَالِمٌ، لِأَنَّ صِفَةَ عِتْقِهِ، تَقْدُمُ النِّكَاحَ، فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِ أَسْبَقَ من العتق. ولو قال: إذا تزوجت فلانة أنت حُرٌّ فِي حَالِ تَزَوُّجِي لَهَا: فَإِنْ وَرِثَتِ الزَّوْجَةُ: عُتِقَ سَالِمٌ، وَإِنْ لَمْ تَرِثْ فَعَلَى قولي ابن سريج وأبي حامد جميعا، يكون سَهْمًا لأنه مثل قيمة العبد وللورثة سهمين، ثم اجمع السهام تكن أربعة، وتقسم التركة عليها، وهي ثلثمائة درهم، يكن قسط كل سهم خمسة وسبعين درهما، وهو سهم العتق، فأعتق منه بخمسة وسبعين درهما، تكن ثلاثة أرباعه، فيصير ثلاثة أرباعه حرا، ويأخذ من التركة ثلاثة أرباع أرش جنايته، وذلك خمس وسبعون درهما، ويبقى مع الورثة مائة وخمسة وعشرين درهما وربع العبد بخمسة وعشرين درهما وهو مثلا ما خرج بالعتق. فلو كانت المسألة بحالها وكان أرش الجناية ثلاثمائة درهم، جعلت للعتق سهما، وللأرش ثلاثة أسهم، لأنه ثلاثة أمثال قيمة العبد، وللورثة سهمين يكن الجميع ستة أسهم، ثم قسمت التركة، وهي ثلاثمائة درهم، على ستة أسهم تكن حصة كل سهم خمسين درهما، وهو سهم العتق فاعتق منه بالخمسين درهما، تكن نصفه، فيصير نصفه حرا، ونصفه رقا، ونأخذ من التركة نصف أرش جنايته وذلك مائة درهم وخمسون درهما، ويبقى مع الورثة خمسون درهما ونصف العبد خمسين درهما، يصير الجميع مائة درهم، وذلك مثلي ما خرج بالعتق. والله أعلم. الثُّلُثُ فِي الْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعِتْقِ، وُجُودُ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ قَدْ كَمُلَ، وَإِنْ بَطَلَتْ بَعْضُ مُحَابَاتِهِ. وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوْرِ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ وَرَقَّ ثُلُثَاهُ. فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَ ثُلُثَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، لَمْ يَحْتَجِ الْوَارِثُ مَعَ الْإِجَازَةِ، أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ، وَكَانَ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمُعْتِقِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، لَمْ يُعْتَقْ بِالْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقَ. لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ. ثُمَّ قَدْ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا، وَوَلَاءُ ثُلُثِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، وَفِي وَلَاءِ بَاقِي ثُلُثَيْهِ. وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ: لِلْوَارِثِ، لِأَنَّهُ تَحَرَّرَ بعتقه. والثاني: وهو قول أبي الحسن الكرخي: أَنَّهُ لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، تَبَعًا لِلثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوارثَ نَابَ فِيهِ عَنِ الْمَوْرُوثِ، الْمُعْتِقِ، وَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يكون للمعتق عنه دون المالك. فَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَخَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ: عُتِقَ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَذَلِكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَثُلُثَهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ، وَذَلِكَ قِيمَةُ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ. فَلَوْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عُتِقَ جَمِيعُهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ. فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَدْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ: قِيلَ لِلْعَبْدِ إِنْ عَفَوْتَ عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُكَ لِخُرُوجِ قِيمَتِكَ مِنَ الثلث وإن لم تعف عجز جميع الثلث عن قِيمَتِكَ فَرق مِنْكَ قَدْرُ مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ وَسَقَطَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِقِسْطِهِ وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَرْشِ بِقَدْرِ مَا عتقَ مِنْكَ وصار فِيكَ دَوْرٌ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَبَابُ الْعَمَلِ فيه أن تجعل للعتق سهما وللأرش سهمين. فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ: وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فكسب لنفسه عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَمَا قَابَلَ حُرِّيَّتَهُ فَهُوَ لَهُ غَيْرُ مَضْمُومٍ إِلَى التَّرِكَةِ وَلَا مَحْسُوبٍ فِي الثُّلُثِ وَمَا قَابَلَ رِقَّهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ مضموم إلى تركته فوائد فِي ثُلُثِهِ فَيَصِيرُ بِالْكَسْبِ دَوْرٌ فِي الْعِتْقِ وقدر الدائر السدس لأنه لو لم يكتسب شَيْئًا لَعُتِقَ ثُلُثُهُ وَإِذَا كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ عُتِقَ نِصْفُهُ فَصَارَ الزَّائِدُ بِكَسْبِهِ فِي الْعِتْقِ بقدر سدسه وبابه أن نجعل للعتق سهما وللكسب سهما وللورثة سهمين تصير أربعة أسهم فاقسم العبد عليها فاعتق منه بسهمين منها وهو سهم المعتق وسهم الكسب فَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا يَصِيرُ مَعَهُمْ مِنْ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا مَا خرج بالعتق وإن قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ يقسم العبد عليها فيعتق منه ثلاثة أَسْهُمٍ هِيَ سَهْمُ الْعِتْقِ وَسَهْمَا الْكَسْبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ كسبه مائة وعشرون درهما ويزيد لِلْوَرَثَةِ خُمُسَاهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَيَبْقَى لَهُمْ خُمُسَا كَسْبِهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هي مثلا ما اعتق منه وإن شئت ضممت للكسب وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ مائة درهم تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا خَرَجَ بِهِ السَّهْمُ الْوَاحِدُ وَهُوَ ثلاثة أخماسه وتتبعه ثلاثة أخماس كسبه فيزيد خمساه وتتبعه خُمُسَا كَسْبِهِ وَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتَ لَهُ بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ نِصْفَ سَهْمٍ لِأَنَّهُ مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ فيصير ذلك ثلاثة أسهم ونصفا فأبسطهما لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ سَبْعَةً ثُمَّ اقْسِمِ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَأَعْتِقْ مِنْهُ ثَلَاثَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 أسهم منها وهي سهما العتق وسهما الكسب يعتق مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ مَعَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ كسبه أحدا وعشرون درهما وثلاثة أسباع درهم ويزيد للورثة أربعة أسباعه لسبعة وخمسين درهما وسبع درهم وتبقى لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ يَكُنِ الْجَمِيعُ خَمْسَةً وثمانين درهما وخمسة أسباع درهم وذلك مثل مَا عُتِقَ مِنْهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكَسَبَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاجْعَلْ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْكَسْبِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اجْمَعِ الكسب إلى التركة تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ قدر ما خرج بالعتق فاعتق في الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا يبقى مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ الْكَسْبِ وَرُبُعُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا يَكُنِ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَهَكَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ كَسْبِهِ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ مَا عُتِقَ منه مقوم ليوم الْعِتْقِ وَفِيمَا رَقَّ مِنْهُ مُقَوَّمٌ يَوْمَ الْمَوْتِ فَإِنْ زَادَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَ نِصْفَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْعِتْقِ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْمَوْتِ عُتِقَ مِنْهُ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَرَقَّ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَالْعَمَلُ فِيهِ كَالْعَمَلِ فِي الْكَسْبِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً حَامِلًا عتقَتْ مَعَ حَمْلِهَا سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْحُرَّةُ مَمْلُوكًا وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأَمَةُ حَامِلًا يَوْمَ الْعِتْقِ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ فَإِنْ خَرَجَتِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَ عِتْقُهَا وَعُتِقَ وَلَدُهَا، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْأَمَةُ مِنَ الثلث عتق منها بقدر ما احتمله الثلث من نصف مثله وَعُتِقَ مِنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ وَرَقَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ مَنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ. والوجه الثاني: أن ينظر بِالْأَمَةِ حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ تُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فيعتبر أنه في الثلث فإن احتملهما الثلث عتق وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا الثُّلُثُ عُتِقَ مِنْهُمَا مَعًا بِالسَّوِيَّةِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَلَمْ يُقْرَعْ بينهما بخلاف العبدين لأن الولد تبع الأمة إِذَا كَانَ حَمْلًا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا ولا يجوز أن يكون بينهما شَيْءٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ حَمْلِهَا مِثْلُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ وُلِدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ كان الثلث مائة وخمسين درهم عتق معا وإن كان الثلث مائة فهو يقدر ثلثي العبد فيعتق من الأم ثلثاها ستة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيُعْتَقُ مِنَ الْوَلَدِ ثلثاه ثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم ورق ثُلُثُ الْأُمِّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أعتق كل حَمْلِ أَمَتِهِ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى الْأُمِّ وَكَانَ الْحَمْلُ وَحْدَهُ حُرًّا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أنثى، واحدا أَوْ عَدَدًا، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ حُرًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ عِتْقُ الْحَمْلِ، إِلَى الْأُمِّ، وَالْحُرَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ عَبْدًا، فَلِذَلِكَ سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَى الْحَمْلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 فعلى هذا تعتبر قِيمَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَجْهًا وَاحِدًا. فَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ بَعْدَ عِتْقِ حَمْلِهَا نُظِرَ: فَإِنْ كان الثلث محتملا لقيمة الْأَوْلَادِ وَالْأُمِّ عُتِقُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ وَإِنِ احْتَمَلَ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ دُونَ الْأُمِّ عُتِقَ الْأَوْلَادُ وَرَقَّتِ الأم من غير قرعة لأن قَدَّمَ عِتْقَهُمْ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ، وَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِلْأَوْلَادِ وَبَعْضِ الْأُمِّ: عُتِقَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ وَعُتِقَ مِنَ الْأُمِّ قَدْرُ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ وَكَانَ بَاقِيهَا رِقًّا وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ كُلِّهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وجرى عتقه مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمْ وَرُقَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مَعَ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُجْعَلْ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ بَعْضُهُمْ وَيَرِقَّ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَق ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَهُمْ عُتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ. وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَعْتَقَ أَمَةً حَامِلًا وَأَعْتَقَ حَمْلَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَأْنَفَهُ مِنْ عِتْقِ الْحَمْلِ تَأْثِيرًا لأنهم قد أعتقوا مَعَ الْأُمِّ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشهر فأنت حر ثم صار رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّيِّدُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ عِتْقُهُمْ عِتْقَ صِحَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ تلفظ به فيهم في حصته فلم تنتقل عن حكمه لحدوث الْمَرَضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وما يتصل به في الدور وإذ وهب المريض في مرضه، هِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ لِوَارِثٍ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، وَالْوَارِثُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لِغَيْرِ وَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا، كَانَتْ بَاطِلَةً، لِأَنَّهَا صَارَتْ هِبَةً لِوَارِثٍ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، فَهِيَ هِبَةٌ لِغَيْرِ وارث اعتبارا بحاله عِنْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْوَاهِبِ، صَحَّتِ الْهِبَةُ إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ. وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ يمنع من أن يكون ما يقدمه وَصِيَّةً. فَأَمَّا إِذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ الذي مات منه، هبة فإن لم يقبضها حَتَّى مَاتَ: فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلا بالقبض. وإن أقبضه قبل الموت: صَحَّتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ، تَمْضِي إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَيُرَدُّ مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عنه. وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقْبَضَ فِي مَرَضِهِ، كَانَتْ فِي ثُلُثِهِ، لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِي الموصي، فَصَارَتْ هِبَةً فِي الْمَرَضِ. فَلَوْ وَهَبَ فِي مرضه وأقبض، وأعتق، فإن كان الثلث يحتملها، صحت الهبة والعتق، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 وإن كان الثلث لا يحتملها: لم يصح. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا صَحَّتِ الْهِبَةُ لِتَقَدُّمِهَا، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِتَأَخُّرِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ وَهَبَ صَحَّ وَرُدَّتِ الْهِبَةُ اعْتِبَارًا بالتقدم سوءا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ عِتْقًا أَوْ هِبَةً. وَلَوْ وَهَبَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ فإذا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَدَوْرُ هَذَا الْفَصْلِ يُتَصَوَّرُ فِي مَرِيضٍ وَهَبَ لِأَخِيهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ له قبل الواهب وخلف بنتا وَأَخَاهُ الْوَاهِبُ فَقَدْ زَادَتْ تَرِكَةُ الْوَاهِبِ بِمَا ورثه من الموهوب له فزادت الهبة بالزائد في الْمِيرَاثِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أن تقول الخارج بالهبة سهم من ثلاثة فإذا ورث الوارث نصفه وأسقط من سهميه يبقى له سهم ونصف والهبة سَهْمٌ فَابْسُطْ ذَلِكَ لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ خَمْسَةً منها للهبة سهمان فتصح الهبة في خمس الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ثُمَّ وَرِثَ مِنَ الْمَوْهُوبِ أَحَدَ الْخُمُسَيْنِ فَصَارَ مَعَهُ أربعة أخماس العبد وذلك مثلي مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ مِنَ الْخُمُسَيْنِ. فَلَوْ كان الواهب وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مَعَ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَارَ مَالُ الْوَاهِبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فاقسمها على خمسة يكن قسط كل واحد سَهْمٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَمْضِ مِنْ هِبَةِ الْعَبْدِ بسهمين منهما تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قَدْرُ مَا جَازَتْ فيه الوصية وَبَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخُمُسُ الْعَبْدِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الْمَوْهُوبَةِ، خمسين بأربعين درهما ومعه مِائَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ فيه الوصية. وَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ خَلَّفَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا جَازَتِ الْهِبَةُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ لِأَنَّ التركة تصير مائتي وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ سَهْمَيْنِ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَةُ كُلِّ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ وَرِثَ نِصْفَ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا قِيمَةِ الْعَبْدِ. فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا دَيْنًا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقًّا فِي الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْهِبَةِ مِنْهُ بِسَهْمَيْنِ الْخُمُسُ بعشرين وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْخُمُسِ الْمَوْهُوبِ نِصْفُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَارَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْهِبَةِ. فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَكِنْ خَلَّفَ الْمَوْهُوبَ لَهُ سِوَى مَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ: تَرَكَ الْوَاهِبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَرِثَ عَنْ أَخِيهِ نِصْفَ الْمَالِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ الجميع مائة وخمسين درهما. فإذا قسمت عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ درهما فامض من هبة العبد بسهمين قَدْرُهُمَا سِتُّونَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قدر ما كانت فِيهِ الْهِبَةُ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسَاهُ بأربعين درهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وورث نصف ثلاث أَخْمَاسِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنِصْفَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صار معه مائة وعشرون درهما وذلك مثلي ما جاز بالهبة. فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ: وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِمَرِيضٍ عَبْدًا ثُمَّ وَهَبَهُ الْمَرِيضُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْمَرِيضِ الْوَاهِبِ ثُمَّ مَاتَا وَلَمْ يُخَلِّفَا غَيْرَ الْعَبْدِ الذي يواهباه فالعبد بين ورثتيهما عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ستة أثمانه ولورثة الواهب الثاني ثمناه. فوجه الْعَمَلِ فِيهِ أَنَّ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ لَمَّا وَهَبَهُ نَفَذَتِ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ وَلَمَّا وَهَبَ الثَّانِي الثلث نفذت الهبة في ثلثه فصار الداير عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ تسعة فاسقطه ليتقطع دوره بقي من التسعة ثمانية أسهم للعبد مَقْسُومٌ عَلَيْهَا مِنْهَا هِبَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَهِبَةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَهْمٌ وَقَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَعَادَ إِلَيْهِ سَهْمٌ فَصَارَ مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّة أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جَازَ مِنْ هِبَتِهِ لِأَنَّ الْجَائِزَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمَعَ وَرَثَةِ الثَّانِي ثُمُنَا الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جاز من هبته لأن الجائز ثُمُنُهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ أَوِ الأول قبل الثاني لأنها هبة بتاتا. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ الثَّانِي مَا وَهَبَ هبة بنات وأوصى ولو أوصى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِثُلُثِ مَالِهِ نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ مَا وَهَبَ وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ الثَّانِي بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَصَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ في ثلث العبد لانقطاع الدور. فصل: في بيع المريض وشرائه وبيع المريض وشراؤه جائزا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ غَبْنٌ ولا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ وَسَوَاءٌ بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ أَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَرْدُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ وَلَا مُحَابَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ ورثته بمال يتساوى فِيهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ بَيْعُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ وَلَا غَبْنٌ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ أَجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ مِثْلِهِ صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ انْتِقَالِ الْعَيْنِ لِحُصُولِ الْمِقْدَارِ، وَلَوْ بَاعَهُمْ بِأَقَلَّ كَانَ لَهُمْ فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِنَقْصِ الْمِقْدَارِ. فَأَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ فِي بَيْعِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ. كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ إِنْ لَمْ يُنْقِصْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا رُدَّتِ الْمُحَابَاةُ لأنها لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ ثَمَنُهُ تُقَابِلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ فَيُقَالُ لِلْوَارِثِ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَ بِالْمِائَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ قدر مثلها مُحَابَاةَ فِيهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ الْمُحَابَاةُ مَرْدُودًا إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 التَّرِكَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ بالمائة على جميع العبد فوصل لَهُ نِصْفُهُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كان له الخيار في أحد ثُلُثَيِ الْعَبْدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرُدَّ ثُلُثُهُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَسْتَرْجِعُ المائة وله بدل الباقي للورثة قِيمَةَ مَا زَادَ بِالْمُحَابَاةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ قد بطل فلم يلزمهم أن يستأنفوا مع عَقْدًا فِيهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ مَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ. وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَحْمِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِيمَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَيَجْعَلُ الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ وَمَا لا محاباة فيه بيع لم تفترق صفته، فكذلك صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا كَانَ قدر الْمُحَابَاةَ فِي الثُّلُثِ فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أَمْضَى الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا أمضى منه قدر ما احتمله الثلث وعلى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمُحَابَاةُ هِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ نِصْفُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَصَلَ مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِائَةٌ منها ثمن، ومائة منها تركة، وهما مثلي الْمُحَابَاةِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَسْتَرْجِعُ الْمِائَةَ الَّتِي دَفَعَهَا ثمنا فلو قال: أرد نصف المائة وَآخُذُ نِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُخَلِّفِ الْبَائِعُ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ فَالْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ وَلَزِمَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالْمِائَةِ أَوْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الْمِائَةَ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا وَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَصِيَّةً وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ مِنَ الْعَبْدِ بِهَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الْبَائِعِ سُدُسُهُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ. فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا: كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفَ سُدُسِهِ بِالْمِائَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَصِيرُ مائتين وخمسين درهما، ثلثها ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم فإذا انضم إلى الثمن وهو مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فيأخذ من العبد ثمنا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَابِلًا لِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ نِصْفُ سُدُسِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا تَرِكَة، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنٌ صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمَرِيضُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَهُ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا هِيَ قَدْرُ ثُلُثِهِ فَصَحَّ جَمِيعُهَا، فهذا حكم المحاباة في البيع. فصل: فأما الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ عَبْدًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، يُسَاوِي مِائَةً. فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي ثَمَنِهِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ. فَإِنْ صَحَّ الْمُشْتَرِي مِنْ مَرَضِهِ، لَزِمَهُ دَفْعُ الْمِائَتَيْنِ ثَمَنًا. وَإِنْ مات من مَرِضِهِ، نُظِرَ فِي الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا، لَا تَجُوزُ لَهُ الْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَرُدَّتْ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ مِثْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْسَخَ وَيسترْجَعَ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ صَارَ لَهُ بَعْضُهُ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ. فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ نَقْصٌ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا: فَإِنْ خَلَّفَ الْمُشْتَرِي مَعَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لأن التركة ثلاثة مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرَ الْمُحَابَاةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ثُلُثُ التركة. فلو وجد وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ المشتري: كان لهم في الْخِيَار فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِبْطَالِ الْمُحَابَاةِ، وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ إِنَّمَا تَلْزَمُهُمْ عِنْدَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا إِذَا لَمْ يَحْدُثْ خِيَارٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ لو رآه، لا يستحق بِهِ الْفَسْخَ. فَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا سِوَى الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ: صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ معهم عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَ مَعَهُمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس. ويكون الفرق بين المحاباة في الشراء، والمحاباة في البيع مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الْمَبِيعِ، دُونَ الثَّمَنِ. وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّهُ إذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ البائع. وإذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ مَرِيضٍ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَعْلَى غَابِنٌ فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَتِهِ. وَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَدْنَى مَغْبُونٌ. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ ثَمَنًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 دِرْهَمٍ، فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُ الْعَبْدِ الْأَدْنَى، بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ العبد الأعلى، ولورثة صاحب الغبن الأدنى الخيار في إمضاء البيع أو في الْفَسْخِ. وَهَكَذَا الْغَبْنُ فِي الْمَرَضِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَابَاةِ فِي اعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ. فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ عَبْدًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ: فَإِنْ كَانَ الثلث يحتمل الْمُحَابَاةَ فِي الْعَبْدَيْنِ: لَزِمَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِمَا. وَإِنْ كان الثلث يحتمل المحاباة في أحدهما، ويعجز في الْآخَرِ، قُدِّمَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ جُعِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ جُعِلَ الثُّلُثُ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ العبد الأول وزادت الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَجَدَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَيْبًا، فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَرَدِّهِ. فَإِنْ أرضوه فَالْمُحَابَاةُ فِيهِ هِيَ اللَّازِمَةُ، دُونَ الْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ رَدُّوهُ: أُمْضِيَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، وصار الثلث مصروفا إليهما، لأن الميت قد جعل ثلث ماله لها. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْأَوَّلُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ. فَإِذَا امْتَنَعَ منه بالفسخ صار الثاني لِأَنَّ إِخْرَاجَ الثُّلُثِ لَازِمٌ لِلْوَرَثَةِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا. فَصْلٌ: فَلَوِ اخْتَلَفَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ وَرَثَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، حَابَاكَ فَبَاعَكَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الْمُحَابَاةَ، أَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: حَابَاكَ فَاشْتَرَى مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْمُحَابَاةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً. فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا: لَمْ تَزِدْ فِي بَدَنِهَا، وَلَا سُوقِهَا، وَلَمْ تنقص. وإن كَانَ كَذَلِكَ قُطِعَ اخْتِلَافُهُمَا بِتَقْوِيمِ مُقَوِّمَيْنِ، فَمَا قَالَاهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُحَابَاةِ، أَوْ عَدَمِهَا عُمِلَ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَائِهَا فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا، أَوْ سُوقِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَنَقَصَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ. وَقَالَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ، لَمْ تَزَلْ نَاقِصَةً فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ. فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُنْكِرِ الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمِ الزِّيَادَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ، أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا، وَيَذْكُرَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَزَادَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ فِي سُوقِهَا، أَوْ بَدَنِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِتَقَدُّمِ النُّقْصَانِ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا، إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْوِيمِهَا، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لأن اختلافهما في المحاباة مأول إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، أَوْ قَدْرِ المثمن. وإذا باع المريض كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، لا مال له غيره، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا كد الشعير بثلثي كد الطَّعَامِ. وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ قَدْرُ الثُّلُثِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِكُلِّ الشَّعِيرِ بَعْضَ الطَّعَامِ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِبَعْضِ الطَّعَامِ كُلَّ الشَّعِيرِ. وَلَوْ كان كد الشَّعِيرِ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، كَانَ لِوَرَثَةِ صاحب الطعام أن يأخذوا كد الشعير بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِذَا زِدْتَهُ عَلَى ثَمَنِ الشَّعِيرِ، صَارَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ ثَمَنِ الطَّعَامِ فَلِذَلِكَ أخذ خمسة أسداسه. فلو باع المريض كد طعام، يساوي مائتي درهم، بكد طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَيَحْتَاجُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْهَا دَاخِلًا فِي قَدْرٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَرَامٌ. وَإِذَا كان كذلك: صح البيع في ثلثي كد من الطعام الأجود، بثلثي كد من الطعام الأدنى، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُلُثُهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وقد حاباه في الكد الأجود بمائة درهم. فإذا أخذ ثلثي كده مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهما، وثلث درهم، بثلثي كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، كَانَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ بَيْنَهُمَا سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ الثُّلُثِ. وأحضر بابا تصل إلى الاستخراج للعمل فِيهِ، بِأَنِ اسْتَخْرَجْتُهُ، سَهْلَ الطَّرِيقَةِ وَاضِحَ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْرَ الثُّلُثِ ثُمَّ تَنْظُرُ قَدْرَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ فَإِذَا نَاسَبَهُ إلى جزء معلوم، فهو القدر الذي إن أنفذ الْبَيْعُ فِيهِ اسْتَوْعَبَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ المحاباة من غير تفاضل. مثاله: أن تقول: إذا باعه الكد المساوي مائتي درهم بالكد الْمُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ: إنَّ الْمُحَابَاةَ بَيْنَهُمَا مِائَةُ درهم، وقدر الثلث: ستة وستون درهما وثلث دِرْهَمٍ، فَإِذَا قَابَلْتَ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ، وَجَدْتَ الثُّلُثَ مُقَابِلًا لِثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ، فَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ بِمِثْلِهِ: اسْتَوْعَبَ (ثلث) التركة. فعلى هذا: إذا باع كدا يساوي ثلاثة مائة درهم، بكد يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ أن تقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، والمائة نصف المائتين فيعلم أَنَّ قَدْرَهَا: يَحْتَمِلُ الثُّلُثَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ. ولو باعه كد طعام يساوي أربع مائة درهم، بكد طعام يساوي مائة درهم، ويخلف البائع مع الكد مائتين درهم، فالتركة ست مائة، ثلثاها، مائتا درهم، وقدر المحاباة ثلاث مائة درهم، فكان الثلث، مقابل لثلثي المحاباة، فيصح البيع في ثلثي كد الطَّعَامِ الْجَيِّدِ قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وبينهما من الفضل مائتي درهم هي قدر الثلث. فلو باعه كدا من طعام يساوي خمس مائة درهم، بكد من طعام يساوي مائة درهم، وخلف مع الكد الذي باعه مائة درهم، فالتركة ست مائة درهم ثلثاها: مائتا درهم، وقد حاباه، بأربع مائة دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ في نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ: هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: في الدور وبيع المريض وإذا باع المريض على أخيه كد طعام يساوي مائتي درهم بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُمَا غير الكد، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ قَبْلَ أَخِيهِ، وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَخَلَّفَ ابنا: فالبيع في جميع الكد الطعام بجميع الكد الشَّعِيرِ، صَحِيحٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّعِيرِ، بِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ، قَدْ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ وَالْمُحَابَاةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ بَيْنَ الكدين مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ صَارَ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ كد شعير يساوي مائة درهم، ثم ورث نصف الكد الطَّعَامِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ. وَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ، أَنْ تَقُولَ: تَرِكَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ وَرِثَ نِصْفَ تَرِكَةِ أَخِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، الْخَارِجُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ سَهْمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، قَدْ فوت نِصْفَهُ، فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ، يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، فَاقْسِمِ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا، يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ فَعَلَى هَذَا: لو باع المريض على أخيه كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ، وخلف مع كد الشَّعِيرِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غيره، وترك ابنا، صح البيع في كد الشعير بخمسة أسداس كد الطعام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 وعمله بالباب المقدم أن تقول: تركة صاحب الطعام ثلاثة مائة درهم، وتركة صاحب الشعير، ثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا وَرِثَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ ثُلُثَ تَرِكَةِ أَخِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَتْ تَرِكَتُهُ أربع مائة دِرْهَمٍ، فَالْخَارِجُ بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَأَسْقِطْهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ اقْسِمِ التَّرِكَةَ عليها وهي أربع مائة يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلِلْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، تَكُنْ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى ثَمَنِ الشعير، وهو مائة درهم، فصار مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ مِنْ كد الطعام خمسة أسداسه، لأن قيمته ثلاث مائة درهم، فيصح البيع في كد الشعير، بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَ صَاحِبِ الطعام سدس كد قيمته خمسون درهما، وأخذ كد شَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَوَرِثَ مِنْ أَخِيهِ ثلث مائتي الدرهم ستة وستون درهما وثلث درهم، وثلث خمسة أسداس كد الطَّعَامِ، بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثِ دِرْهَمٍ، فَصَارَ معه ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. فَعَلَى هَذَا: لو كانت المسألة بحالها، وكان بدل كد الشعير الذي قيمته مائة درهم، كد طعام قيمته مائة درهم، يحرم التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، الَّذِي قِيمَتُهُ ثلاثة مائة درهم. وعمله بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُ لَكَ اسْتِخْرَاجَهُ، فَقُلْتُ الْمُحَابَاةُ في الكد الأجود مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، عَلَى مَا بَيَّناهُ وَبَقِيَ مِنَ الْمِائَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثَلَاثَةِ أرباع كد الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ، وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، بثلاثة أرباع كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَدْوَنِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، مِائَةٌ وَخَمْسُونَ درهما، وهو قدر ما احتمله الثلث. فَهَذَا آخِرُ مَا تَعَلَّقَ بِالدَّوْرِ الَّذِي نَعْمَلُ بِقِيَاسِهِ مَا أَغْفَلْنَاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ المزني: " (وَقَالَ) فِي الْإِمْلَاءِ يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ حَجٌّ يُؤَدَّى وَمَالٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ أو دين يقضى ودعاء أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدعاء وأمر به رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا أجاز له الحج حَيًّا جَازَ لَهُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ مَا تُطُوِّعَ به عنه من صدقة ". قال الماوردي: وذهب قوم من أهل الكوفة، إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَوَابٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْإِيمَانُ إذا مات كافرا، بإيمان غيره عنه، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ فِعْلِ غَيْرِهِ عنه. وذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَلْحَقُهُ الثَّوَابُ بفعل غَيْرِهِ عَلَى مَا سَنِصِفُهُ لِقَوْلِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] . فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . فَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ لَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاثة أشياء، صَدَقَة جَارِيَة، أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أمي اقتتلت نفسها، ولولا ذلك لتصدقت وأعطيت، أفيجز لي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم فتصدقي عنها. قولها: اقتتلت نفسها، أَيْ مَاتَتْ فَلْتَةً مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قال: نعم، قال فإن لي لمخرفا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا. وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا، وَهِيَ دُعَاءٌ لَهُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَاحِقًا بِهِ، مسموعا منه فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ الْمَيِّتَ قَضَاءُ الدُّيُونِ عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهَا وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجُزْ ذلك حين جَازَ فِي الصَّدَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَيًّا. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . أَيْ فَعَلَيْهَا، على أن ما مات عَنْ غَيْرِهِ فِيهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حكم ما يسعى في قصده. وَأَمَّا الْإِيمَانُ: فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنِ الْحَيِّ، فَكَذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ كَالصَّدَقَةِ، على أنه قد يتيسر حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يكون الأب متيسرا إلى صغار ولده. فصل: فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَوْدِ الثَّوَابِ إِلَى الميت، بفعل غيره، فما يفعل عنه عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 وذلك قضاء الديون، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَفِعْلُ مَا وَجَبَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ قَبْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَذَلِكَ: كُلُّ مَا لا تصح فيه النيابة من العبادات، كالصلاة والصيام وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ: يَرَى جَوَازَ النِّيَابَةِ فِي صوم الفرض، إذا أناب عَنْهُ وَارِثٌ. وَفِي نِيَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَجْهَانِ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يفعل عنه بغير أمره، وهو النذر بِالْعِتْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ لُحُوقِ الْوِلَايَةِ. وَالرَّابِعُ: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ بأمره، وفي فعله عنه فأمره قولان: وهو حج التطوع. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَقَالَ) فِي كِتَابٍ آخَرَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَلِمَنْ لَا يُحْصَى بِثُلُثِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ ". قال الماوردي: وصورتها: في رجل أوصى بثلث ماله لزيد والمساكين فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ مِسْكِينًا، فَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْطَى مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ يُعْطِيهِ الْوَصِيُّ مَا يراه من قليل أو كثير فيعطاه أحد المساكين ويستفاد بتعينه أنه لَا يُحْرم. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْطَى الرُّبُعَ من الثلث الموصى به ويصرف ثلاثة أرباعه للمساكين لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ مَعَ جَمْعٍ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ، فصار معهم رابعا، فاختص بالرابع اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ ثُمَّ تَجُوزُ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعُ فِي أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةٍ تَفْضِيلًا وَتَسْوِيَةً. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْطَى النِّصْفَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثلث مصروفا في خمسين. وإن كان غنيا ففيما يُعْطَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ وَالثَّانِي النِّصْفُ فَأَمَّا جَعْلُهُ كَأَحَدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي صفتهم تقتضي مخالفتهم فِي حُكْمِهِمْ. فَصْلٌ: فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسَمَّى مَعَ الْمَسَاكِينِ مِنْ قَبُولِ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ حِصَّتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لِغَيْرِهِمْ، وَصُرِفَ فِيهِمْ مَا سِوَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ مِنَ الثُّلُثِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لزيدٍ وَلِعَمْرٍو فَقَبِلَ زَيْدٌ وَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ويرجع ما كان لعمرو، ولو قبل كان مِيرَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ سَالِمٍ لِزَيْدٍ وَبِبَاقِي ثُلُثِهِ لِعَمْرٍو، فَمَاتَ عَبْدُهُ سَالِمٌ، قَبْلَ دَفْعِهِ في الوصية: قوم العبد كما لَوْ كَانَ حَيًّا يَوْمَ مَاتَ الْمُوصِي وَأُسْقِطَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ. ثُمَّ دُفِعَ إِلَى عَمْرٍو مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ العبد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَانَ زَيْدٌ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يعطي غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَدْ قطع اجتهاد الوصي وإعطائه زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِهِ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَوَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ وَلَدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا فَفِيمَا لَزِيدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ نِصْفَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى جِبْرِيلَ دُفِعَ إِلَى زَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي الَّذِي سَمَّاهُ لِجِبْرِيلَ رَاجِعًا إِلَى وَرَثَتِهِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا لِزَيْدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ. وَالثَّانِي: الرُّبُعُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالشَّيَاطِينِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ. وَالثَّالِثُ: رُبُعُ الثُّلُثِ ثُمَّ يُرَدُّ بَاقِي الثُّلُثِ عَلَى الورثة. ولو وقال اصْرِفُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالرِّيَاحِ كَانَ فِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذِكْرَ الرِّيَاحِ لَغْوٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَتَيْنِ وَيَرْجِعُ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ: فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا، صُرِفَ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلِ كَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْإِنَاثُ لِأَنَّهُمْ غير بنين. فإن كانوا عددا لا يحصر كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ: فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِهِمِ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ وَيُعْطَى الثُّلُث لِثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا عَلَى تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، كَالْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ الْإِنَاثُ فِيهِمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ. وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ: كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أن يزيد فَقُرَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَيَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِزَيْدٍ فَفِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ ويكون ذكر الله تعالى افتتاحا للسلام تبركا بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أحد الجهتين للثلث وفي النصف وجهان: أحدهما: أن يَكُون مَصْرُوفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمُ الْغُزَاةُ. والثاني: في الفقراء والمساكين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 باب الوصية للقرابة من ذوي الأرحام مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ ثُلُثِي لقرابتي أو لذوي وأرحمي لِأَرْحَامِي فَسَوَاءٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالَأُمِّ، وَأَقْرَبُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ وَأَفْقَرُهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ القرابة كما أعطي من شهد القتال باسم الحضور وإن كان من قبيلة من قريش أعطي بقرابته المعروفة عند العامة فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال من بني عبد مناف ثم يقال وقد تفترق بنو عبد مناف فمن أيهم؟ قيل من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم هم قبائل فإن قيل فمن أيهم؟ قيل من بني عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو شافع وبنو علي وبنو عباس أو عياش شك المزني وكل هؤلاء بنو السائب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه فإذا كان من آل شافع قيل لقرابته هم آل شافع دون آل علي والعباس لأن كل هؤلاء متميز ظاهر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَمُسْتَحَبَّةٌ وَغَيْرُ واجبة لقوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] . وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى بُطْلَانِهَا لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَرَابَةٌ لأن أبيهم يَجْمَعُهُمْ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَةِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقَارِبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا إِلَى أَقْوَامٍ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ ثُمَّ هِيَ وَاجِبَةٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْهُمْ عِنْدَ إِطْلَاقِ ذِكْرِهِمْ. فَقَالَ أبو حنيفة: هُمْ كُلُّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ هُمْ كُلُّ مَنْ جَازَ أَنْ يَرِثَ دون من لا يرث مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: هم كل من جمعه وإياهم أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُمُ الْمَنْسُوبُونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ إِلَى قَرَابَتِهِ المخصوصة إذا كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 اسْمُ الْقَرَابَةِ فِي الْعُرْفِ جَامِعًا لَهُمْ، لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة حيث جعل ذلك لذوي الأرحام الْمَحَارِمِ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي يوسف حَيْثُ جَعَلَهُ لِمَنْ جَمَعَهُ أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، فَبَطَلَ بِهِ قول مالك لأن مطلق كلام الموصي محمول على العرف شرعا أو عادة وعرفها جميعا بما قُلْنَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ عليه اسم القرابة عرفا وهو الْمُعْتَبَرُ. فَاعْتِبَارُهُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا خَرَجَ مِنْهُ الْعَجَمُ، وَلَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ مُضَرَ، قِيلَ مِنْ أَيِّهِمْ وَلِمَ يُدْفَعُ إِلَى جَمِيعِ مُضَرَ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي قريش فإذا قيل بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي بني هاشم. فإذا قيل عباس لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ عَبَّاسِيٍّ، وَإِنْ قِيلَ طَالِبِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ طَالِبِيٍّ. فَإِذَا قيل في العباس مَنْصُورِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ من بني المأمون، أو من بَنِي الْمُهْتَدِي، فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى آلِ الْمَأْمُونِ وَآلِ الْمُهْتَدِي. فَإِنْ قِيلَ فِي الْمُطَّلِبي إنَّهُ عَلَوِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ حُسَيْنِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ زَيْدِيٌّ أَوْ مُوسَوِيٌّ دُفِعَ ذَلِكَ إِلَى آلِ زَيْدٍ وَآلِ مُوسَى. وَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِنَسَبِهِ، وَسَوَاءٌ اجْتَمَعُوا إِلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، أَوْ أَبْعَدَ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ من اجتمع معه من الْأَبِ الرَّابِعِ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَمَنِ اجْتَمَعَ بَعْدَ الرَّابِعِ خَرَجَ مِنَ الْقَرَابَةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرابع جعل قرابة مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الْأَبِ الرَّابِعِ. وَهَذَا خطأ، لأن جَعْلَهُمْ قَرَابَةً اعْتِبَارًا بِالنَّسَبِ الْأَشْهَرِ لَا تَعْلِيلًا بِالْأَبِ الرَّابِعِ. فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَرَابَتُهُ من قبل أبيه أو قرابته من جهة أمه فتعتبر قرابة أمه كما اعتبرنا قَرَابَةَ أَبِيهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لِذَوِي أَرْحَامِي فهو كقوله لقرابته، فَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ: مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ. فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا أَوْ بعيدا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَحَقُّ مِنَ الْبَعِيدِ، فَجَعَلَ الْإِخْوَةَ أَوْلَى مِنْ بَنِيهِمْ، وَبَنِي الْإِخْوَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ، فَأَمَّا بَنُو الْأَعْمَامِ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ، انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ. فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُمْ أُعْطَوْا بِالِاسْمِ لَا بِالْحَاجَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ وَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى. فَصْلٌ: وَيُسَوّى بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ يُعْطى الذَّكَر مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كسهم ذي الْقُرْبَى. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِمُسَمَّى فَأَشْبَهَتِ الهبات والصدقات، وأما سهم ذي الْقُرْبَى: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَخْرَجَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَأَدْخَلَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَقَرَابَتَهُمْ وَاحِدَةً. لِأَنَّ بَنِي الْمَطَّلِبِ نَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَإِذَا اسْتَحَقُّوا بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، فُضِّلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ لاختصاصهم بالنصرة. فَصْلٌ: وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَرِثْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . كَانَتْ فَاطِمَةُ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَعَاهَا لِلْإِنْذَارِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا نُظِرَ فِي أَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا محصورا فرق الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ، وَصَغِيرِهِمْ، وَكَبِيرِهِمْ، وَغَنِيِّهِمْ، وَفَقِيرِهِمْ، ذُكُورِهِمْ، وَإِنَاثِهِمْ، وَلَوْ مُنِعَ أَحَدُهُمْ مِنْ سَهْمِهِ كَانَ الْوَصِيُّ الْمَانِعُ لَهُ ضَامِنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ. وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَهْمَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَقْبَلْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَاقِي الْقَرَابَةِ. وَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ عَدَدًا كَبِيرًا لَا يَنْحَصِرُونَ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلْزَمْ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ، لَمْ يَحْرُمِ التَّفْضِيلُ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ. لَمْ يَعُدْ مِيرَاثًا وَصُرِفَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فَلَا يَدْخُلَانِ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالرَّضِيعُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِهِ فَهُمُ الْقَرَابَةُ، وَفِي دُخُولِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعَهُمْ دُونَ الْمُعْتَقِ وَالرَّضِيعِ وَجْهَانِ، وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لِعصبَتِهِ دَخَلَ فِيهِمُ الْمُعْتَقُ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَدُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ كانوا قرابة. فصل: ولو أوصى لمناسبه فَهُوَ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي نَسَبِهِمْ دُونَ مَنْ علا من آبائه الذي يَرْجِعُ الْمُوصِي إِلَيْهِمْ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُ أَضَافَ نَسَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَنَسَبُ الْآبَاءِ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَلَدِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ فيهم على وجهين: أحدهما: يدخلون فيهم لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى آبَائِهِمْ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي لِمَنْ أُنَاسِبُهُ دَخَلَ فِيهِمُ الْآبَاءُ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَدَخَلَ فِيهِمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ الْأَجْدَادِ فِيهِمْ وَالْجَدَّاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَلَا الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ لأنهم غير مناسبة، بخلاف الأم المختصة بالولادة والبعضية. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ زَيْدٍ فَالْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ حتى يموت زيد، ثم تدفع الْوَصِيَّةُ إِلَى مَنْ وَرِثَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى وَرَثَتِهِ فِي حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَنْ حَازَ الْمِيرَاثَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن لا يَرِثَهُ هَؤُلَاءِ لِحُدُوثِ مَنْ يَحْجُبُهُمْ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال لأقربهم بي رحما أعطي أقربهم بأبيه وأمه سواء وأيهم جمع قرابة الأب والأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم فإن كان أخ وجد للأخ في قول من جعله أولى بولاء الموالي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِذَا كَانَ اسْمُ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِمْ مُنْطَلِقًا، أَوْ كَانَ فِي جُمْلَتِهُمْ دَاخِلًا. فَأَمَّا إِذَا قَالَ ثُلُثِي لِأَقْرَبِ الناس إلي أو قال لأقربهم رحما لي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هو أقرب. وإذا كان هكذا راعيت الدرجة، فأيهما كان أقرب كان أحق، وإن استوت الدرجة تشاركوا، وَيَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَدْلَى بِأُمٍّ، وَمَنْ أَدْلَى بِأَبٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَدْلَى بِالْأَبَوَيْنِ مَعًا كَانَ أَوْلَى مِمَّنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا. فَعَلَى هَذَا: الْأَوْلَادُ عَمُودٌ، وَهُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْآبَاءِ، لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُوصى، وَأَقْرَبُ الْأَوْلَادِ صُلْبُهُ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الثُّلُثَ كُلَّهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقَرَابَتِي فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ وَارِثٌ لِأَنَّهُ بِالْأَقْرَبِ قَدْ عَيَّنَ به ثُمَّ هُوَ بَعْدَ أَوْلَادِ صُلْبِهِ لِأَوْلَادِ وَلَدِهِ دُونَ مَنْ نَزَلَ عَنْهُمْ بِدَرَجَةٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَهُمْ، لأولادهم، وأهل الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ هَكَذَا أَبَدًا. فَإِذَا عُدِمَ عَمُودُ الْأَوْلَادِ، فَالْأَبَوَانِ، وَهُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ، يَشْتَرِكَانِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُهُمَا كَانَ الثُّلُثُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا. فَإِنْ عُدِمَ الْأَبَوَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ رَاكَضُوهُ فِي الرَّحِمِ، فَإِنْ كَانُوا لِأَبٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لأم فهو بين جميعهم ذكرهم وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وبعضهم لأم بالسوية، وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فهو أقرب وأحق لقوته بها عَلَى مَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا. ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْوَةِ والأخوات: بنوهم وبنو بنيهم وإن سفلوا يكونوا أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ وَإِنْ دَنَا، وَيَشْتَرِكُ فِي ذلك أولاد الأخوة وأولاد الأخوات كما اشتركوا فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ هَكَذَا بَطْنًا بعد بطن. وإذا عُدِمُوا: عَدَلْنَا حِينَئِذٍ إِلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَيَكُونُ بَعْدَهُمْ لِجَدَّيْنِ وَجَدَّتَيْنِ، جَدٍّ وَجَدَّةٍ لِأَبٍ وَجَدٍّ وجدة لأم فينقسم بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَامٌ وَلَا عمات فهم بَعْدَهُمْ لِأَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاث درجة فينقسم بينهم أثلاثا. ثُمَّ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أجداد وثمان جَدَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ أَعْمَامٌ وَعَمَّاتٌ وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ أَخْوَالٌ وَخَالَاتٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، كَمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِخْوَةُ أَوْلَى مِنَ الجدة، وَيُشْرَكُ بَيْنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَبَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لاستوائهما في الدرجة وتكافئهما فِي الْقُرْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ أَجْدَادَ الأبوين وجداتهما. فعلى هذا: يجمع مع الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمَعَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ أَرْبَعَةُ أَجْدَادٍ، وأربع جدات، فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ. فَصْلٌ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: في الأهل. أن الجدة والأخوة سواء لاجتماعهم في الإدلاء بالأدب. وَعَلَى هَذَا يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ الْأَخَوَاتِ وبين جدين وجدتين جد جدة لأب، وجد جدة لِأُمٍّ، وَيَكُونُ الْجَدَّانِ وَالْجَدَّتَانِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، لِجَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَلِجَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَلَا عَمَّةٌ، وَلَا مَعَ جد الأم وجدتها خال ولا خالة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ أَثْمَانًا وجدان وَجَدَّتَانِ لِلْأَبِ وَجَدَّانِ وَجَدَّتَانِ لِلْأُمِّ. وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَعَمَّةٌ، وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا خَالٌ وَخَالَةٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ والخال ولخالة يساوي جد الأبوين وجدتيهما فتقسم بَيْنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ كَمَا تُشَارِكُ الْإِخْوَةُ وَالْجَدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَدَّيِ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّتَيْهِمَا أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمِنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْبَعْضِيَّةِ. فَصْلٌ: فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِيَتَّضِحَ وَيَستبِينَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَدٌّ لِأَبٍ، وَأَخٌ لِأُمٍّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إنَّهُ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ. وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَأَخٌ لأب وأم كان على قولين: أحدهما: استويا. وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الْأَخُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَابْنُ أَخٍ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إِنَّ ابْنَ الْأَخِ أَوْلَى. وَلَا يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَعَمٌّ: كان الجد أولى. ولو اجتمع جدان وعم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الجد الْأَبِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ عَمَّةٌ أَوْ خَالٌ أَوْ خَالَةٌ، أَوْ كَانَ مَعَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، جَدَّة أنه عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَخَالٌ وَخَالَةٌ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: إنَّ جَدَّ الْأُمِّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إنَّ الْخَالَ وَالْخَالَةَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمْ سَوَاءٌ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأُمِّ، أَوْ مع جدة الأم عمة وعم، وكان عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَدِّ الأب وجد الأم. وهكذا لو اجتمع جدان وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأَبِ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ خَالٍ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ جَدٍّ وَابْنُ عَمٍّ فَفِيهِ وَجْهَانِ: مِثْلُ جَدٍّ وَابْنِ أَخٍ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ الجد أولى. والثاني: أن الْعَمّ أَوْلَى. وَلَا يَجِيءُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التسوية بينهما، كما لا يسوى بَيْنَ الْجَدِّ وَابْنِ الْأَخِ فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى الأصل الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا انفرد بالوصية، وإن كانوا عَدَدًا، اشْتَرَكُوا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنِّي وَكَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا ضُمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ منه ليصرف في ثلاثة هم أقل الجميع. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِي ابْنٍ بَعْضُهُمْ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ دُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّالِثِ ثُلُثٌ، ليكون الثلث مقسوما بينهما أَثْلَاثًا. فَلَوْ كَانَ الْبَطْنُ الثَّالِثُ مِنْ بَنِي الِابْنِ ثَلَاثَةً قُسِّمَ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَجُعِلَ الثُّلُثُ الثالث بين ثلاثتهم مِنَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتُ بِنْتٍ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ: كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِلْأَخَوَاتِ ثُلُثَاهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَبِنْتُ أَخٍ وَعَشَرَةُ أَعْمَامٍ: كَانَ لِلْأَخِ ثُلُثُ الثلث، ولبنت الأخ ثلث آخر، وكان الثلث الثَّالِث بَيْنَ الْأَعْمَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى عَشَرَةٍ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَيِّتًا: قَالَ أبو حنيفة: لِزَيْدٍ جَمِيعُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ لِمَيِّتٍ صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ، بِخِلَافِ مَوْتِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَكُونُ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِزَيْدٍ مَعَ الشَّرِيكِ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا نِصْفهَا كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 باب ما يكون رجوعا في الوصية مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ مُعْطِيهَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَطَايَا مَرَضِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ. ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لعمرو فقد اختلف الناس في حكم ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ أنه يكون وَصِيَّةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي: وهو مذهب الحسن وعطاء وطاوس أَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَشْبَهُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَاطِلَةٌ لَا تصح لواحد منها لِإِشْكَالِ حَالِهِمَا. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبى حنيفة. أَنَّهَا تَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمَا فَتُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِثَالِثٍ، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَابِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ثَلَاثَةُ معاني: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَدْ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِزَيْدٍ وَأَوْصَيْتُ به لعمر كان بينهما إجماعا فوجب أن يتراخى بين الوصيتين وأن يكون بينهما حجابا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ وَبَيْنَ اقترانهما. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ زَمَانٍ بِثُلُثِ ماله لعمرو وأن الثلث إذا لم تجز الْوَرَثَةُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنِسْيَانِ الأولى، ويحتمل أن يقصد بِهَا التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَعَ هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 الِاحْتِمَالِ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمَا، وَلَيْسَ يُلْزَمُ فِي الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعَطَايَا النَّاجِزَةِ. فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَأَوْصَى بِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا لِآخَرَ فَالْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِ والثاني. وإنما كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِلْأَوَّلِ كَانَ حَمْلُهَا دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا، فَلَمَّا أوصى بالحمل للثاني صار موصيا بِهِ لَهُمَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ فَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ كَانَ الْحَمْلُ بَيْنَهُمَا وَالْجَارِيَةُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا لِمَا ذكرناه. ولكن لو قال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ دُونَ حَمْلِهَا، وَأَوْصَيْتُ لعمرو بحملها دونها، صح وانفرد زَيْدٌ بِالْأُمِّ وَعَمْرٌو بِالْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ زَيْدًا الْمُوصَى لَهُ بِالْأُمِّ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، عتقَتْ وَلَمْ يَسْرِ عِتْقُهَا إِلَى الْحَمْلِ، وَكَانَ الْحَمْلُ إِذَا وُلِدَ رَقِيقًا لِعَمْرٍو وَسَوَاءٌ كَانَ مُعْتِقُ الْأُمِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْأُمَّ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْوَلَدِ وَقَدْ تَمَيَّزَا فِي الْمِلْكِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً وَدَفَعَ الْوَارِثُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ جَائِزَةٌ، كَالْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَتْ لِمُوصى لَهُ إِمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِإِطْلَاقِ اسْمٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ، وَلَيْسَ فِي الوصية لأحد الرجلين نَصٌّ وَلَا عُمُومُ اسْمٍ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي العموم إذا قال: ادفعوا عبدي أي هذين الرجلين شئتم فتصح الوصية كلها. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ: هُوَ الْجَهْلُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَالْعِلْمُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": وَلَوْ أَنَّ شَاهِدًا قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَتَلَ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُقْسِمُوا مع شهادتهم وَلَا يَكُونُ لَوْثًا، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ لوثا لمن ادعاه من أولياء المقتولين ويقسمون مع شهادتهم، وفصل بينهما بأنه إذا ثبت الْقَاتِلُ تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَقْتُولُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْقَاتِلُ، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مَعَ إِثْبَاتِ المقتول. ومثله أن يقول عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَلْفٌ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ وَلَوْ قَالَ لِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ توجها وأخذا بالبيان تعيينا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ لفلان أو قد أوصيت بالذي أوصيت به لفلان لفلان كان هذا رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَيَكُونُ الْعَبْدُ وَصِيَّةً لَهُمَا كَمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 لَوْ أَوْصَى بِهِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَوَّلِ وَسَاعَدَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ زَيْدًا بِبَيْعِ سِلْعَةٍ سَمَّاهَا، ثُمَّ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُ عَمْرًا بِمَا وَكَّلْتُ به زيدا أنهما يكونا معا وكيلين في بيعهما ولا يكون لوكيل الثَّانِي رُجُوعا عَنِ الْأَوَّلِ مَعَ ذِكْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلثَّانِي زَالَ احْتِمَالُ النِّسْيَانِ بِالذِّكْرِ، وَزَالَ احْتِمَالُ التَّشْرِيكِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِلثَّانِي فَصَارَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ. فَأَمَّا الْوَكَالَةُ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ضيق عَلَيْهِ الْفَرْقَ فَجَعَلَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي تَوْكِيلِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ نيابة فصح أن يوكل كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الْبَيْعِ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ كُلَّ الْوَصِيَّةِ. فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تقرر أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، فَسَأَلَ الْأَوَّلُ إِحْلَافَ الثَّانِي أَنَّ الْمُوصِيَ أَرَادَ بِهِ الرُّجُوعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذَا إِلَى لَفْظِ الْمُوصِي فِيمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَعْنَى دُونَ إِرَادَتِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ هَذَا رُجُوعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَتَى شَاءَ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ قَدْ يَكُونُ بِقَوْلٍ، أَوْ دلالة أو فِعْلٍ. فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَرِيحًا: رَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي أَوْ قَدْ أَبْطَلْتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُ وَتَبْطُلُ بِهِ وَصِيَّتُهُ. وَأَمَّا دلالة الفعل فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَلَاثَ مسائل: أحدها: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ. وَالثَّانِيةُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَهَبَهُ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي حَيَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ هَذَا رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إذا انتقلت عن مِلْكِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ وَالْبَيْعُ قَدْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَصِحَّ بَقَاءُ الْوَصِيَّةِ بِهِ. فَلَوِ اشْتَرَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ: لَمْ تَعُدِ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالْبَيْعِ. وَخَالَفَ الْمُفْلِسُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالِابْنُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي هِبَةِ أَبِيهِ فِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَرُجُوعَ الْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِعَيْنِ مَالِهِ، حَقٌّ لَهُمَا، لَيْسَ لِلِابْنِ وَلَا لِلْمُفْلِسِ إِبْطَالُ ذلك عليهما، فكذلك لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا وَعَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِمَا مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ لِلْمُوصِي إِبْطَالهَا فَإِذَا بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ لَمْ تَعُدْ بِالشِّرَاءِ. وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ عَرَضَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِهِ لِلرُّجُوعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ. فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يَذْكُرْ بِكمْ يُبَاعُ وَلَا عَلَى مَنْ يُبَاعُ فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ بَاطِلَةٌ، وَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَمَسَّكُوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ تصح وله الْوَصِيَّةُ فِيهِ لَكِنْ يُسْتَفَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وأن تكون مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ بِثَمَنٍ ذَكَرَهُ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مُحَابَاةً، فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ جَائِزَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشافعي أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو. قَالَ: وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاة بِنِصْفِ ثَمَنِهِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ لِزَيْدٍ، ثم أوصى بنصفه لعمرو، فيكون بنيهما أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَلَا يَذْكُرُ قَدْرَ ثَمَنِهِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُبْطِلٌ لِوَصِيَّتِهِ الأولى، وفي صحة وصية بيعه عَلَى زَيْدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ثَمَنٍ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَصِيَّةً، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فِي بَيْعِهِ وَإِمْسَاكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ قَصْدَ تَمليكِهِ إِيَّاهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنِ اشتراه. وأما المسألة الثانية: فهو تَدْبِيرُ مَا أَوْصَى بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، كَانَ تَدْبِيرُهُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْلِيكِ، كَانَ التَّدْبِيرُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ وَصِيَّةً وَنِصْفُهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بالثان بَعْدَ أَوَّلٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُهُ مُدَبَّرًا وَرُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لأن عتق التدبير ناجز بالموت، فيقدم عَلَى الْوَصَايَا، كَالنَّاجِزِ مِنَ الْعَطَايَا. وَإِنْ قُدِّمَ تَدْبِيرُهُ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، كَانَ عَلَى تَدْبِيرِهِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَالْوَصَايَا، نُظِرَ: فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي دَبَّرْتُهُ قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ: كَانَ رُجُوعًا فِي تَدْبِيرِهِ، وَمُوصى بِجَمِيعِهِ. وَإِنْ لَمْ يكفل ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ بَاقِيًا عَلَى تدبير ونصفه موصا بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أن تدبيره، أقوى من الوصية وَيَكُونُ عَلَى التَّدْبِيرِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الأولى، وموصا بِعِتْقِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يكون رجوعا عن الوصية بصفة، وموصا بِعِتْقِ نِصْفِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَوْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لزيد ففيه وجهان: أحدهما: يكون موصا بعتقه، والوصية به بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِصْفَهُ يكون موصا بعتقه، ونصفه موصا بِمِلْكِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا ال ْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَهَبَ مَا أَوْصَى بِهِ، فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ أَقْبَضَهُ فِي الْهِبَةِ: كَانَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِإِخْرَاجِهِ بِالْقَبْضِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ففي كونه رجوعا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ فِيهِ عقدا يقضي إلى زوال الملك مُخَالِفًا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي رُجُوعِهِ. وَلَوْ وَهَبَهُ هِبَةً فَاسِدَةً: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: يكون رجوعا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، لِبَقَائِهِ عَلَى مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أقْبضَ كَانَ رُجُوعًا، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ تَصَرُّفًا بَيَانِيًّا. وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهُ كَانَ فِي كَوْنِ الرَّهْنِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 أحدها: يكون الرجوع أقْبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا أقْبضَ أَوْ لَمْ يقْبِضْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إن أقبض كان رجوعا، وإن لم يقبض لم يكن رجوعا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَجَّرَهُ أَوْ عَلَّمَهُ أَوْ زَوَّجَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أُجِّرَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لَمْ تَكُنِ الْإِجَارَةُ رُجُوعًا فِي وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِهِ، وَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَاسْتِخْدَاما بِغَيْرِ بدل، فكذلك إِذَا اسْتَوْفَاهَا إِجَارَةً بِبَدَلٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَتْ لَازِمَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَإِذَا قَبِلَهُ الْمُوصَى لَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَائِهَا، وَالْأُجْرَةُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَلَكَهَا بعقد، ثُمَّ تَمَلَّكَ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الرَّقَبَةِ مِنْ بَعْدِ انقضاء مدة الإجارة، فكذلك قَدْ رَجَعَ فِي الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ. فأما إذا أوصى له بسكنى داره، ثم أجرها: ولم يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَاهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ السُّكْنَى، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْكُنُ مُدَّةَ وَصِيَّتِهِ كُلَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الإجارة، ولا يكون بقي شَيْء مِنَ الْمُدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الرُّجُوعِ فِي الوصية لاستيفاء مُدَّةِ الْوَصِيَّةِ مُمْكِنٌ. فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرًا وَالْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى سَنَة فَإِذَا أمضى شهر الإجارة بعد موت الوصي سَكَنَهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ كَان الْوَصِيَّة بِالسُّكْنَى سَنَةً وَالْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرٌ، فَيَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسَّنَةِ شَهْرٌ وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا سَنَةً بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى كُلِّهَا. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَعَلَّمَهُ عِلْمًا، أَوْ صِنَاعَةً، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ خَتَنَهُ أَوْ حَجَمَهُ أَوْ دَاوَاهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَهُ: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَمَهْرُهَا فِي كَسْبِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا، وَالْمهْرُ لِلْمُوصِي فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا، وَكَأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مُدَّةَ مَقَامِ الزَّوْجِ مَعَهَا كَالْإِجَارَةِ فَلَوْ وَطِئَهَا الموصي لم يكن وطئه رُجُوعًا كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهَا إِلَّا أَنْ يُحَبِّلَهَا فَتَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ عَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا كَانَ رُجُوعًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِيلَاءِ: " وَلَوْ حَلَفَ لا يتسرى فوطء جَارِيَةً لَهُ فَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُتَسَرٍ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا فَهُوَ مُتَسَرٍّ، وَقَدْ حَنِثَ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 قال: فلما جعل المتسري طَلَبَ الْوَلَدِ لَا الِاسْتِمْتَاعَ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ. فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا فَزَرَعَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ الزَّرْعَ لا يتبقى. ولو بنى فيها، أو غرسها: ففيها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي جَمِيعِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِيمَا غَرَسَهُ وَبَنَاهُ، دُونَ مَا لَمْ يَغْرِسْهُ وَلَمْ يَبْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَرْضِ بِحَالِهَا. فَأَمَّا أَسَاسُ الْبِنَاءِ، وَقَرَارُ الْغَرْسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يكون رجوعا، وإذا تَلِفَ الْغَرْسُ، وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ: عَادَ إِلَى الْمُوصَى له. والثاني: يكون رجوعا، لأنه قد صار تباعا لها عليه ومستهلكا به. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ قَمْحًا فَخَلَطَهُ بِقَمْحٍ أَوْ طَحَنَهُ دَقِيقًا فَصَيَّرَهُ عَجِينًا كَانَ أَيْضًا رجوعا ". قال الماوردي: وهذه ثلاث مسائل: أحدها: إذا أوصى له بحنطة فَخَلَطَهَا بِحِنْطَةٍ أُخْرَى كَانَ هَذَا رُجُوعًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ بِحِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَبِخَلْطِهَا قَدْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِهَا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا فِي الْجَوْدَةِ أَوْ بِأَجْوَدَ أَوْ بِأَرْدَأَ. وَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ لَا يَشُقُّ، فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ منها كحنطة أخلط بها شعيرا، أو أرزا أو عدسا: فهذا رجوع لأنه خلط بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ. وَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا كَمَا لَوْ أَحْرَزَهَا وَلَوْ نَقَلَ الْحِنْطَةَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَلَدِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأنه يدل على الحرص وتمامها. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ مِنْ خَوْفٍ طَرَأَ، أَوْ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ففي كونه رجوعا وجهان: أحدهما: يكون رجوعا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا اعْتِبَارًا بِبَقَائِهَا عَلَى صِفَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فالمسألة الثانية: أن لو أوصى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَيطحَنهَا: فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهَا بِالطَّحْنِ. وَالثَّانِيةُ: الْقَصْدُ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا بِالْأَكْلِ. وَهَكَذَا: لَوْ قَلَاهَا سَوِيقًا فَإِنْ طَحَنَهَا كَانَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْحَنْهَا بَعْدَ الْقَلْيِ كَانَ رُجُوعًا لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وهو قصد استهلاكها. وَهَكَذَا لَوْ بَذَرَهَا: كَانَ رُجُوعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عملها نشا أو بلها بالماء كَانَ رُجُوعًا. فَصْلٌ: وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِدَقِيقٍ فَيُصَيِّرُهُ عَجِينًا فَهَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ خُبْزًا، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخُبْزٍ فَدَقَّهُ فتوتا ففي كونه رجوعا وجهان: أحدهما: أن يَكُون رُجُوعًا لِزَوَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْخُبْزِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ دقه إبقاء له. ولكن لو جعل سريدا كان رجوعا. فصل: ولو أوصى بِقُطْنٍ فَغَزَلَهُ: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُ. وَلَوْ حَشَاهُ فِي مِخَدّة أَوْ مضربة فَفِي كونه رجوعا وجهان: أحدهما: هو قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا لَوْ غَزَلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ عَنْهُ الِاسْمَ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا كَانَ رُجُوعًا، لِزَوَالِ اسْمِ الْغَزَلِ عَنْهُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قميصا كان رجوعا لانتقال الِاسْم وَقَصد الِاسْتِعْمَال، وَلَوْ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ صَبَغَهُ كَانَ رُجُوعًا، وَلَوْ قَصَّرَهُ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَالْغَسْلِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا كَالصَّبْغِ. فَصْلٌ: فَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الاسم وقصد الِاسْتِهْلَاكِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَكُونُ رُجُوعًا. وَلَوْ أَوْصَى " لَهُ " بِلَحْمٍ فَقَدَّدَهُ لَمْ يَكُنْ رجوعا لأنه بالتقديد يستبقى ولو طحنه: كان رجوعا لأنه صار مستهلكا. وإذا شوي كَانَ أَبْقَى لَهُ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِنُقْرَةِ فِضَّةٍ، فَطَبَعَهَا دَرَاهِمَ، أَوْ صَاغَهَا حُلِيًّا: كَانَ رُجُوعًا، لِانْتِقَالِ الِاسْمِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحُلِيٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ فَسَبَكَهَا نُقْرَةً، كَانَ رُجُوعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 ولو أوصى له بتمر فكذه: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ يُسْتَبْقَى بِهِ. وَلَوْ جَعَلَهُ دِبْسًا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعِنَبٍ، فَجَعَلَهُ عَصِيرًا، أَوْ زيتون فجعله زيتا، أن بِسِمْسِمٍ فَجَعَلَهُ شَيْرَجًا، كَانَ رُجُوعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ فَجَفَّفَهُ تَمْرًا أَوْ بِعِنَبٍ فَجَفَّفَهُ زَبِيبًا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُدَّخَرُ وَهُوَ على صفته، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَدْيٍ، فَصَارَ تيسا، أو ببصل فصار خلا. فصل: وإذا أوصى له دار فَهَدَمَهَا: كَانَ رُجُوعًا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يكون هدم الدار رجوعا، وهذا خطأ. لأنه لما كان طحن الحنطة رُجُوعًا، كَانَ هَدْمُ الدَّارِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا. وَلَوْ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا: كَانَ رُجُوعًا بوفاق مع أبي حنيفة، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَدْمِهَا. وَلَكِنْ لَوْ عَمَّرَهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ جعل عليها سباطا، لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ. وَهَلْ يَكُونُ وضع السباط عليه من حيطانها على وجهين كما قلنا فِي قَرَارِ الْغَرْسِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بمكيلة حنطة مما في بيته ثم خلطها بمثلها لم يكن رجوعا وكانت له المكيلة بحالها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ أَوْصَى بصبرة مميزة وأنه مَتَى خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا كَانَ رُجُوعًا. فَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا هذه مصورة في رجل أوصى لزيد بقفيز من صبرة حنطة في بيته، ثُمَّ خَلَطَهَا، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ، وَخَالَفَ الْحِنْطَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ الَّتِي يَصِيرُ خَلْطُهَا رُجُوعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَجْوَدَ مِنْهَا: فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا بِالْخَلْطِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ فَصَارَ كَالذَّهَبِ إِذَا صَاغَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَرْدَأَ مِنْهَا: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ نَقْصٌ أَحْدَثَهُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِيمَا بَقِيَ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَتَغَيَّرُ بِالْأَرْدَأ، كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَجْوَدِ وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي أَنْ يَقْصِدَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا، أَوْ يُحْدِثَ فِيهَا بِفِعْلِهِ زِيَادَةً لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 فصل: ولو حجر الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ كَانَ رُجُوعًا. وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أن الحجور لا يكون رجوعا، وهذا فاسد لأن الحجور أغلظ من الرجوع. ولو قال هذا على حَرَامٌ كَانَ رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَرَامًا. وَقَالَ محمد بن الحسن لَا يكون ذلك رجوعا. ولو قال هي لورثتي كَانَ رُجُوعًا. وَلَوْ قَالَ هِيَ مِنْ تَرِكَتِي ففي كونه رجوعا وجهان: أحدهما: يكون رجوعا لِأَنَّ التَّرِكَةَ لِلْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأن الوصايا من حملة التَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 بَابُ الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تجوز والمخوف غير المرض مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَرَضٍ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْتَ مَخُوفٌ عَلَيْهِ فَعَطِيَّتُهُ إِنْ مَاتَ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا وَإِلَّا فَهُوَ كَالصَّحِيحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: وَصَايَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالثَّانِي: عَطَايَاهُ الْمُنْجَزَةُ فِي حَيَاتِهِ. فَأَمَّا الْوَصَايَا: فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ أَوَصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ. فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَمِيعِهَا أُمْضِيَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا: رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ الورثة ويحاص أهل الوصايا الورثة بِالثُّلُثِ. وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِتْقٌ، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَصَايَا قَوْلَانِ. وَأَمَّا الْعَطَايَا الْمُنْجَزَةُ فِي الْحَيَاةِ: فَكَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقِ، وَالْوَقْفِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي الْمَرَضِ. فَأَمَّا عَطَايَا الصِّحَّةِ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ، سَوَاءٌ قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بَعُدَ. وَأَمَّا عَطَايَا الْمَرَضِ فَالْمَرَضُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ غَيْرَ مَخُوفٍ: كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَنُفُورِ الطِّحَالِ، وَحُمَّى يَوْمٍ، فَالْعَطَايَا فِيهِ: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لأن الإنسان مطبوع على أحوال متغايرة ولا يَبْقَى مَعَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْلُو في تغييره واستحالته فإن أعطى في هذه الحالة كانت عطيته من رأس ماله، مثاله كَالصَّحِيحِ، وَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ عَطِيَّتِهِ، لِأَنَّ حُدُوثَ الموت بغيره فهذا هو قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: حَالُ الْمُعَايَنَةِ، وَحشرجَةُ النَّفْسِ، وَبُلُوغُ الرُّوحِ التَّرَاقِيَ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ قَلَمٍ، وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شُقَّ بَطُنُهُ وَأُخْرِجَتْ حَشْوَتُهُ لا يحكم بقوله ووصيته في هذه الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ أَوْ يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الباقي منه كحركة المذبوح بعد الذبح. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي الْحَيَاةُ فِيهِ بَاقِيَةٌ وَالْإِيَاسُ مِنْ صَاحِبِهِ وَاقِعٌ كَالطَّوَاعِينِ، وَالْجِرَاحِ النَّافِذَةِ، فَعَطَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ هِبَةً أَوْ مُحَابَاةً أَوْ عِتْقًا. وَقَالَ دَاوُدُ بن علي: العتق كله مِنَ الثُّلُثِ، لِلْخَبَرِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ رأس المال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 وَقَالَ طَاوُسٌ: الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. كَانَ ما يتقرب بِهِ مِنْ عِتْقِهِ وَهِبَاتِهِ وَمُحَابَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . يَعْنِي بِهِ خَوْفَ القتل وأسباب التلف وسماه بِاسْمِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِ حُكْمِهِ بِحُكْمِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] . يَعْنِي بِحُضُورِ الْمَوْتِ ظُهُورَ دَلَائِلِهِ وَوُجُودَ أَسْبَابِهِ. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِنَفَقَاتِ مَلَذَّاتِهِ، وَشَهَوَاتِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَرِيضُ مِنْ مَصَالِحِهِ، هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَمَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ هِبْتِهِ وَمُحَابَاتِهِ، فَوَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِهِ. فلذلك أمضت نَفَقَاتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَجُعِلَتْ هِبَاتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ لِتَعَلُّقِهَا بمصلحة غير ثُمَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مَا جعلت لَهُ الشَّرِيعَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن الْمَخُوفِ مِنْهُ إِذَا كَانَتْ حُمَّى بَدَأَتْ بِصَاحِبِهَا ثُمَّ إِذَا تَطَاوَلَتْ فَهُوَ مَخُوفٌ إِلَّا الرِّبْعَ فإنها إذا استمرت بصاحبها ربعا فغير مخوفة وإن كَانَ مَعَهَا وَجَعٌ كَانَ مَخُوفًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْبِرْسَامِ أَوِ الرّعَافِ الدَّائِمِ أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أو الخاصرة أو القولنج ونحوه فهو مَخُوفٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ الْمَخُوفِ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عليها فالمرض المخوف، هو الذي لا تتطاوله بِصَاحِبِهِ مَعَهُ الْحَيَاةُ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الْمَخُوفُ هو من الْمُضْنِي، الْمُضْعِفِ عَنِ الْحَرَكَةِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الإنسان صاحب فراش، وإن تطاول به أجله، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدِنَا لِأَنَّ مَا تَطَاوَلَ بِالْإِنْسَانِ فهو مُهْلَته، وَبَقِيَّة أَجَلِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ طَارِئٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَإِنْ صَحَّ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فيما تعجل به الموت وجاء. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] . وَالْحَاضِرُ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَا مَا بَعُدَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". فَصْلٌ: فَإِذَا تقرر أن المخوف ما جاء وَعجّلَ، فَالْأَمْرَاضُ كُلُّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 أَحَدُهَا: مَا كَانَ غَيْرَ مَخُوفٍ فِي الِابْتِدَاءِ والانتهاء كوجع الضرب ورمد العين، وجرب اليد، فعطاياه من رأس ماله، فَإِنْ مَاتَ فَبِحُدُوثِ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَخُوفًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَالْبِرْسَامِ، وَذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْخَاصِرَةِ، فَعَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنْ صح فيه أو قتل أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ، بَانَ أَنَّهُ كَانَ غير مخوف فيكون عَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: ما كان في ابتدائه غير مَخُوفٍ، وَفِي انْتِهَائِهِ مَخُوفًا، كَالْحُمَّى، وَالسُّلِّ، فَعَطِيَّتُهُ فِي ابْتِدَائِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي انْتِهَائِهِ مِنْ ثُلُثِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ مَخُوفًا وَفِي انْتِهَائِهِ غَيْرَ مَخُوفٍ كَالْفَالِجِ يَكُونُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْبَلْغَمِ عَلَيْهِ مخوفا فإذا انْتَهَى بِصَاحِبِهِ حَتَّى صَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مخوف، لأنه قد يدوم بصاحبه شهرا والله أعلم. فصل: وإذا تَقَرَّرَ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرَاضِ فَسَنَذْكُرُ مِنْ تَفْصِيلِهَا مَا يَكُونُ مِثَالًا لِنَظَائِرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ الْحُمَّى، فَهِيَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ من تعب الإغماء وَظُهُورِ الْحُمَّى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] . إِنَّهَا الْحُمَّى. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الفيح الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". فَإِنِ استمرت بصاحبها فهي مخوفة، لأنها تدفن الْقُوَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: الحمى دابر الموت، وهي هجرة الله تعالى في أرضه، يحبس عبده بها إذا شاء فيرسله إذا شاء ". وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ " وَقَدْ قيل إنه يضرب بها عروق البدن كلها وهي ثلثمائة وستون عرقا فجعل كل عرق لكل يوم من أيام السنة التي يَحْدُثُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَيَّامِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ خَلَفًا مِمَّا ذَهَبَ بِهَا فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ فصارت القوة محفوظة فزال الخوف. فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لَا يَكُونُ مَخُوفًا من حمى يوم أو يومين ببرسام أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقُولَنْجِ، فَقَدْ صَارَ مَخُوفًا. فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ بِانْفِرَادِهَا مَخُوفَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ مَعَ حمى يوم أو يومين مخوفة، فلأصحابنا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ هَذِهِ الأمراض ما كان منها لَا يَكُونُ بِانْفِرَادِهِ مَخُوفًا. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ صَارَ مَخُوفًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أن من حمى حُمَّى يَوْمٍ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَلَا يَكُونُ مَخُوفًا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَحْدُثَ بِهِ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ التي يصير حُدُوثُهَا بِالصَّحِيحِ مَخُوفًا. وَهَكَذَا حُمَّى الرِّبْعِ إِذَا اقترن بها هذه الأمراض صارت مَخُوفَةً فَأَمَّا الرُّعَافُ فَإِنْ قَلَّ وَلَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 يَسْتَمِرَّ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ من غلبة الدم زيادته فبطلت من منافذ الجسد ما يخرج منه وَإِنْ كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِفُ دَمَهُ، وَالدَّمُ هُوَ قِوَامُ الرُّوحِ وَمَادَّةُ الحياة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن سهل بطنه يوما أو اثنين وتأتى منهُ الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ حَتَى يعجلَهُ أو يمنعه النوم أو يكون البطن متحرقا فهو مخوف فإن لم يكن متحرقا وَمَعَهُ زَحِيرٌ أَوْ تَقْطِيعٌ فَهُوَ مَخُوفٌ ". قَالَ الماوردي: أما سهل البطن، يوم أو يومين، إذا لم يكن البطن متحرقا وَلَا وَجَدَ مَعَهُ وَجَعًا، لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةٍ فِي غِذَاءٍ أَوْ خَلْطٍ فِي بَدَنٍ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ، قَدْ يَقْصِدُ إِسْهَالَ بَطْنِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ وَالْمَطْبُوخِ، لِإِخْرَاجِ الْخَلْطِ الْفَاسِدِ، فَمَا أَجَابَ بِهِ الطَّبْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الصِّحَّةِ. فَأَمَّا إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ الْإِسْهَالُ صَارَ مَخُوفًا لِأَنَّهُ تَضْعُفُ مَعَهُ الْقُوَّةُ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْغِذَاءُ. وَلَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ وَكَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَكِنْ كان البطن متخرقا بعجلة فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَبْسِهِ كَانَ مَخُوفًا، وَهَكَذَا لو لم يكن متخرقا لكن كان معه زخير وَتَقْطِيعُ دَمٍ، أَوْ أَلَمٌ يَمْنَعْهُ مِنَ النَّوْمِ فَهُوَ مَخُوفٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ دَمٌ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ في مختصره هذا: " ويأتي معه الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا يَأْتِي فِيهِ دَمٌ لا شيء غير ما يخرج الْخَلَاء لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بعضهم ينسب إلى المزني الْخَطَأ فِي نَقْلِهِ وَجَعَلَ خُرُوجَ الدَّمِ مَعَ الْإِسْهَالِ مَخُوفًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ النَّقْلَ صَحِيِحٌ، وَأَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ على اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفًا إِذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ من بواسير أَوْ بَوَاصِير، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ من أن يكون مخوفا إذا كان خروج الدم من المخوف. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أَشْكَلَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْبَصَرِ. " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ جَلِيًّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ. وَضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ خفيا يختص به أهل العلم به فيسألوا أو يرجع إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ. كَمَا أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ ضربان: ضرب جَلِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَوُجُوبِهِ، فَلَا يحتاج فِيهِ إِلَى سُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِيمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَضَرْبٌ يَكُونُ خَفِيًّا فَيَلْزَمُهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ إِذَا ابْتُلُوا بِهِ. ثُمَّ إِذَا لزم سؤال أهل الطب فِيمَا أَشْكَلَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، لَمْ يَقْتَنِعْ فِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 طِبِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ. فَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ التلف جعلت العطايا مِنَ الثُّلُثِ لِكَوْنِهِ مَخُوفًا. وَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ السَّلَامَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالُوا غَالَبَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَلَوْ مَاتَ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الطِّبِّ أخطأنا قد كنا ظنناه أَنَّهُ غَيْرُ مُوحٍ فَبَانَ مُوحِيًا: قبل قَوْلهمْ لأن ما رجعوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَمَارَةٌ دَالَّةٌ وَهُوَ الموت، فلو اختلفوا في المرض فحكم بعض بأنه مَخُوفٌ مُوحٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَخُوفٍ: رجعَ إِلَى قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي العلم، وأشكل عَلَى الْأَعْلَمِ: رُجِعَ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَدَدًا. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعَدَدِ رُجِعَ إِلَى قول من حكم بالمخوف لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ غَامِضِ الْمَرَضِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُعْطَى وَالْوَارِثُ فِي الْمَرَضِ عِنْدَ اعْوِزَازِ الْبَيِّنَةِ، فَادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ مَخُوفًا، وَقَالَ الْمُعْطَى غَيْرُ مَخُوفٍ: فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُعْطَى مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْوارثِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَقَدُّمِ السَّلَامَةِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ حُدُوثِ الْخَوْفِ. والثاني: أنه مالك لما أعطى فلا ينزعه بعضه بالدعوى. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن ساوره الدم حتى تغير عَقْلُهُ أَوِ الْمُرَارِ أَوِ الْبَلْغَم كَانَ مَخُوفًا فإن استمر به فالج فَالْأَغْلَبُ إِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ ". قال الماوردي: أما مساورة الدم يعني بِهِ مُلَازَمَةَ الدَّمِ وَغَلَبَتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (ساورتني صيلة مِنَ الرَّقْشِ ... فِي أَنْيَابِهَا السُّمّ نَاقِعُ) وَمُسَاوَرَةُ الدَّمِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ الطِّبُّ: الْحُمْرَةَ وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ الدَّمُ بِزِيَادَتِهِ فَلَا يَسْكُنُ بِالْفَصْدِ، وربما حدث منه الخناق والذبحة فيوصي صَاحِبُهُ فَهُوَ مَخُوفٌ. وَأَمَّا الْمِرَارُ إِذَا غَلَبَ عليه فَهُوَ مَخُوفٌ، فَإِنِ انْقَلَبَ الْمِرَارُ إِلَى السَّوْدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا تَغَيُّرُ الْعَقْلِ، وَإِمَّا ظُهُورُ حَكَّةٍ وَبُثُور، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَأَمَّا الْبَلْغَمُ إِذَا غَلَبَ فَمَخُوفٌ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ فَصَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لأن المفلوج قد تسترخي بعض أعضائه فيعيش دهرا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسُّلُّ غَيْرُ مَخُوفٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ السُّلَّ قَدْ يَطُولُ بِصَاحِبِهِ فَيَعِيشُ الْمَسْلُولُ دهرا لا سيما إذا كَانَ شَيْخًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَخُوفَ مَا كَانَ مُوحِيًا، فَإِنِ اسْتَدَامَ بِصَاحِبِهِ حَتَّى اسْتَسْقَى وسقط فهو مخوف. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والطاعون مخوف حتى يذهب ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حدث في الإنسان وخاف لَمْ يَتَطَاوَلْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ وَخْزٌ مِنْ وَخْزِ الشَّيْطَانِ فَإِنْ ظَهَرَ الطَّاعُونُ فِي بَلَدٍ حَتَّى لَا يَتَدَارَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بعضا، وكفى الله حسن الكفاية فما لم يقع الإنسان فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ صَارَ مَخُوفًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَنْفَذَتْهُ الْجِرَاحُ فَمَخُوفٌ فَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَقْتَلٍ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَوْضِعِ لَحْمٍ وَلَمْ يَغْلِبْهُ لَهَا وَجَعٌ وَلَا ضَربَانِ وَلَمْ يأتكل ويرم فَغَيَرُ مَخُوفٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجِرَاحُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أن تصل إلى جوفه في صَدْرٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ خَصْرٍ أَوْ إِلَى الدماغ فَهَذَا مَخُوفٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ مِنْهَا إِلَى الْجَوْفِ رِيحٌ تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، أَوْ تَمَاسَّ الْكَبِدَ فَيُقْتَلُ، أَوْ رُبَّمَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الْجَوْفِ مَا يَقْتُلُ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عُمَرَ رضي الله عنه جُرِحَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا تَصِلَ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا إِلَى الدِّمَاغِ فَيُنْظَرُ. فَإِنْ وَرِمَتْ، أو اتكلت أَوِ اقْتَرَنَ بِهَا وَجَعٌ، أَوْ ضَرَبَانٌ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ أَلَمَ وَجَعِهَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ قتل وورمها، وأكلتها تسري إِلَى مَا يَلِيهَا، فَتَقْتُلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَهِيَ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْهَا أَغْلَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا التحمت الحرب فمخوف فإن كَانَ فِي أَيْدِي مُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى فَمَخُوفٌ (وقال) في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غَيْر مَخُوفٍ مَا لَمْ يَجْرَحُوا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَحْيَوْا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَمِنْ كُلِّ مَرَضٍ مَخُوفٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذكر الشافعي هاهنا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: فِيمَنِ الْتَحَمَ فِي الْحَرْبِ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ تَكَافَأَ الْفَرِيقَانِ فَمَخُوفٌ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كان أحدهما أكثر عددا مِنَ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ عَلَى الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَخُوفٌ عَلَى الْأَقَلِّينَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْتِحَامَ القتال مخوفا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حُمِلَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لِمَنٍّ رقّ أَوْ فِدَى فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ عُرِفُوا بِقَتْلِ الْأَسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مَخُوفٌ، فجعل الأسر خوفا كالتحام القتال. والمسألة الثانية: من قدم للقصاص وَجَبَ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مَا لَمْ يُجْرَحْ، فَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ لِلْقِصَاصِ مخوفا بخلاف التحام القتال والأسير. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 المروزي، وطائفة كبيرة يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، وَيُخرجونَهَا على قولين: أحدهما: أن يكون مخوفا، الحال فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . فَجَعَلَ خَوْفَ الْقَتْلِ كَخَوْفِ الْمَرَضِ فِي رُؤْيَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمَرِيضِ أسكن من هؤلاء لما يرجو مِنْ صَلَاحِ الدَّوَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ بِالْخَوْفِ أَحَقَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْمَرَضِ حَالٌّ فِي جِسْمِهِ، وَمُمَاسٌّ لِجَسَدِهِ، فَصَارَ حُكْمُهُ فيه مستقرا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده وَذَلِكَ غَيْرُ حَال وَلَا مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ الْهَرم الَّذِي هُوَ لِعُلُوِّ السِّنِّ منتظر الموت فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ وَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ الْأَسْرُ، وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ خَوْفًا، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ لِلْقِصَاصِ خَوْفًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الْأَسْرَى دِينًا وَنِحْلَةً فَالْعَفْوُ منهم غير موجود وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ هُوَ الْأَغْلَبُ من أحوالهم والأشبه بأحوالهم فَكَانَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي اعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَتَشْهَدُ بِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ: فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص قاسيا جنفا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَمُنُّ وَلَا يَعْفُو فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لَا يَعْفُو عَنْ أَسِيرٍ. وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص رحيما ومن الخنق والقوة بَعِيدًا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَمن عَنْ قُدْرَةٍ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ غَيْرَ مخوفة، كالأسير إذا كان في يد من يَعْفُو عَنِ الْأَسْرَى. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وصفنا فالأمور المخوفة ضربان: أحدهما: ما دخل في الحسن وَمَاسَّ الْبَدَنَ كَالْأَمْرَاضِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ إِذَا كَانَ عليها التَّوْحِيَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا فَارَقَ الْجِسْمَ وَاخْتَصَّ بحاله كالأسير والملتحم في القتال. فإن تردت حَالُهُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ كان الخوف أغلب عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَمِنْ ذَلِكَ أن يقترضه الْأَسَدَ فَلَا يَجِدُ مَحِيصًا، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ مَخُوفَةً لِأَنَّ الْأَسَدَ لَا يَفْتَرِسُ فِي الْحَالِ إِلَّا أَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ التَّلَفَ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ بَاشَرَهُ الْأَسَدُ بِالْأَخْذِ فَحَالُهُ مَخُوفَةٌ. فَأَمَّا قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ غَشِيَهُ سيل، أو غشيته نار، فإن وجد منهما نَجَاةً فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ منها نجاة فإن أدركه السيل ولحقته النار، فحاله مخوفة لأجل المحاسة. وفيما قبل إدراك السيل ولفح النَّار قَوْلَانِ: وَكَذَلِكَ مَنْ طَوَّقَتْهُ أَفْعَى فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَخُوفَةٌ وَقَبْلَ نَهْشَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، إِلَّا أن تكون مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ الَّتِي قَدْ يَقْتُلُ سُمُّهَا وقيل لا يَقْتُلُ فَلَا تَكُونُ مَخُوفَةً قَوْلًا وَاحِدًا. وَمِنْ ذلك: أن يقيه في مغارة لا يجد فيهما طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَجِدَ الماء إِلَى أَقْصَى مُدَّةٍ يَتَمَاسَكُ فيهَا رَمَقُهُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ مَا يَمْسِكُ رَمَقَهُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ مَيْتَةٍ إِمَّا بِالْوُصُولِ إِلَى عِمَارَةٍ أو بالحصول على جارة، أو بأن يدركه فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْتَدَّ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ فَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ سَاكِنَةً وَالْأَمْوَاجُ هَادِئَةً فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ وَهَكَذَا لَوِ اشْتَدَّتْ بِهِمْ رِيحٌ مَعْهُودَةٌ وَأَمْوَاجٌ مَأْلُوفَةٌ فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ عَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ وَتَلَاطَمَتْ بِهِمُ الْأَمْوَاجُ حَتَّى خَرَجُوا عَنْ مَعْهُودِ السلامة فإن كسر بهم المركب حَتَّى صَارُوا عَلَى الْمَاءِ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ منه سرعة الهلكة فأما قبل حمولهم عَلَى الْمَاءِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا أَوِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارِهِ فَحَالُهُ غير مَخُوفَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُرْجَمْ وَلَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِ وَصَارَ إِلَى خيارِ وَلِيِّ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ لَهُ فَمَخُوفٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى سلامته وإن كان بنية عَادِلَة قَامَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَجُوزُ فِي النَّادِرِ رُجُوعُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَمَامُ الشَّهَادَةِ ووجوب القتل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا ضَرَبَ الْحَامِلَ الطَّلْقُ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ كَالتَّلَفِ وأشد وجعا، والله تعالى أعلم ". قال الماوردي: حكي عن مالك: أن الحامل إذا أثقلت بمعنى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا فَهُوَ مَخُوفٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] . وعندنا أنه ما لم يضر بها الطَّلْقُ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا السَّلَامَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُهَا عِنْدَ ثَقْلِهَا مَخُوفَةً لِأَنَّهَا قَدْ تَؤولُ إِلَى الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخَوْفِ مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] . فَأَمَّا إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ عِنْدَ حُضُورِ الْوِلَادَةِ فَحَالُهَا مَخُوفَةٌ سَوَاءٌ كَانَتَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا. وقال بعض أصحابنا: إننا نخاف مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأَبْكَارِ وَالْأَحْدَاثِ، فَأَمَّا مَنْ تَوَالَتْ وِلَادَتُهَا مِنْ كِبَارِ النِّسَاءِ فَغَيْرُ مَخُوفٍ لسهولة ذلك عليهم لاعتيادهن وَأَنَّ الْأَغْلَبَ سَلَامَتُهُنَّ. فَأَمَّا بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تَنْفَصِلِ الْمَشِيمَةُ وَيَسْكُنْ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فمخوف فإذا أثقلت الْمَشِيمَةُ وَسَكَنَ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فَغَيْرُ مَخُوفٌ. فَأَمَّا إِلْقَاءُ السَّقْطِ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَخُوفٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر وقبل حركته فغير مخوف، وإذا كَانَ بَعْدَ حَرَكَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأظهر أنه مخوف. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ إِلْحَاقًا بِمَا قَبْلَ الْحَرَكَةِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِلْحَاقَ الْمُتَحَرِّكِ بِمَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 باب الأوصياء مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَى بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَدْلٍ أَوِ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي قَبُولِ الْوَصَايَا، وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا، قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وقَوْله تعالى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضًا " وَقَدْ أَوْصَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَمَأْمُورًا بِهِ، فَيُخْتَارُ لمن علم في نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ، وَالْأَمَانَةَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَلِمَنْ عَلِمَ في نَفْسِهِ الْعَجْزَ وَالْخِيَانَةَ أَنْ يَرُدَّهَا. ثُمَّ الْكَلَامُ فيها يشتمل على ثلاثة فصول: أحدهما: فِي الْوَصِيِّ. وَالثَّانِي: فِي الْمُوصِي. وَالثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ. فَأَمَّا الْوَصِيُّ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اسْتِكْمَالُ خمسة شروط ولا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ أَوْ بِتَفْرِيقِ مَالٍ. وَهِيَ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَدَالَةُ. وَهِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ غَيْرِ الْبَالِغِ مَرْفُوعٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَرْدُودٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَرْدُودًا. فَلَوْ جعلَ الصَّبِيّ وَصِيًّا بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهَا في الحال قابل لها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، بَلْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ، لِأَنَّهُ ليس في الحال بأهل لو مات الصبي قام بها، فلذلك بطلت. فإن كَانَ لَهَا فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَدِي، فَإِذَا بَلَغَ فَهُوَ وَصِيٌّ: جَازَ، وَلَا يَجُوزُ مِثْل ذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ مُعَجَّلٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ، وَعَقْدُ الْوَصِيَّةِ مُؤَجَّلٌ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعَقْلُ. فَلِأَنَّ الْجُنُونَ يَرْفَعُ الْقَلَمَ، وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ: فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ جُنُونِهِ أَوْ كَثُرَ. فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ حَتَّى إِذَا أَفَاقَ هَذَا الْمَجْنُونُ كَانَ وَصِيًّا لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ لَازِمٌ، وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ مُجَوَّزَةٌ. فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن يستديم به، فالوصية إليه باطلة. والثاني: أَنْ يَفِيقَ مِنْهُ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ بَطَلَتْ، كَالْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجُنُونِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ كَمَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التصرف في حياة الموصي فلم يجز أن يكون مَمْنُوعًا بِحُدُوثِ الْجُنُونِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحُرِيَّةُ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُوَلَّى عَلَيْهِ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ السَّيِّدِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ الوصية إلى عبد نفسه وعبد غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 وَقَالَ أبو حنيفة: تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إذا كَانَ وَلَدُهُ أَصَاغِرَ، وَلَا تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَلَا إِذَا كَانَ وَلَدُهُ أَكَابِرَ. تَعلِيلًا بِأَنَّ عَبْدَهُ مَعَ أَصَاغِرِ وَلَدِهِ مُحْتَبسُ الرَّقَبَةِ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ، فَصَحَّ نَظَرُهُ عَلَيْهِمْ، وَدَامَتْ وِلَايَتُهُ إِلَى بُلُوغِهِمْ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ احْتِبَاسَ رَقَبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنْعَ مِنْ بَيْعِهِ فِي حَقِّهِمْ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ لو احتاجوا إلى نفقه لا يجدونها إلى مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ لِلْحَاكِمِ بَيْعُهُ فِي نَفَقَاتِهِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ احْتِبَاسَ الرَّقَبَةِ لَا يُجِيزُ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، كَالْمَجْنُونِ وَلِمَا ذكرناه مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ: فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَجَوَّزَهَا أبو حنيفة. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ: فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ: أحدهما: تصح، لأنهما يعتقان بالموت الذي يكون تصرفها بعده. والثاني: لا يصح اعتبارا بحالها عِنْدَ الْوَصِيَّةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الإسلام لقوله تَعَالَى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا، وَدُّوا مَا عنتم} [آل عمران: 118] . وهذه الآية كتب بها عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ: كَانَ تصرفه نافذا. وهذا فاسد لأنه لا يخلو أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ جَائِزَة، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهَا عَلَيْهِ، أَوْ تَكُونُ بَاطِلَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفُهُ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ مَرْدُودًا فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ مِنْ دَيْنٍ قَضَاهُ، أَوْ وَصِيَّةٍ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ دَفَعَهَا فلا يضمنها، لوصول ذلك إلى مستحقه، ولأنه لَوْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ نَائِبٍ أَوْ وَسِيطٍ صَارَ إِلَى حَقِّهِ، وَلَيْسَ كَالَّذِي يَعْقِدُهُ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ ثُلُثٍ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ لِمَا دَفَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنٌ. فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْمُسْلِمِ فَجَائِزَةٌ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ فِيهَا. وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْكَافِرِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ تجوز كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِكَافِرٍ. والوجه الثاني: لا تجوز، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَصِيًّا لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 فصل: وأما الشرط الخامس: وهو العدالة: فلقوله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] . فَكَانَ مَنْعُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، موصيا لِمَنْعِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ الْفِسْق مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، يَمْضِي فِيهَا تَصَرُّفُهُ قَبْلَ فَسْخِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي الْكَافِرِ، وَفِيمَا مَضَى من الْكَافِرِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْفَاسِقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، كَمَا جَازَتِ الْوَكَالَةُ لَهُ؟ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْإِذْنِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ فَاسِقًا. فَفِي جَوَازِ وَكَالَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَالَةُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْوَصِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَتُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا عِنْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تُرَاعَى عَدَالَةُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَةُ الْوَصِيِّ فِي الطَّرَفَيْنِ، عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ غَيْرَ عَدْلٍ، لِأَنَّ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ هُوَ حَالُ التَّقْلِيدِ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ هُوَ حَالُ التَّصَرُّفِ، فاعتبر فيهما العدالة، ولم تعتبر فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. والوجه الثالث: وهو أصحها أنه تعتبر عَدَالَتُهُ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَعْدُ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهُ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِيهِ التصرف لو حدث فيه الموت. فإن طَرَأَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فِسْقٌ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي شَخْصٍ، كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي مَالٍ أَوْ عَلَى أَطْفَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْمَرْأَةِ لا تصح، لأن فيها ولاية يعجز النِّسَاءُ عَنْهَا. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةً، فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الْأَمَانَةُ وَجَوَازُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِهِنْدٍ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 فَجَعَلَهَا الْقَيِّمَةَ عَلَى أَوْلَادِهَا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَوْدَعَ أَمْوَالا كَانَتْ عِنْدَهُ عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ اسْتِنَابَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَالِ وَعَلَى الْأَطْفَالِ، وَكَانَ لَهَا الْحَضَانَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَن لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ المرض عن فضل النَّظَرِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَعْمَى عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْتَقَرُ فِي الْوَصَايَا إِلَى عُقُودٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَفَضْلِ نَظَرٍ لَا يدرك إلا بالمعاينة. فهذا حكم الوصي. فصل: فأما الموصي. فَلَا يَخْلُو مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا، أَوْ وِلَايَةً عَلَى أَطْفَالٍ. فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَالًا يُفَرَّقُ فِي أَهْلِ الْوَصَايَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُوصِي شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَشَرْطَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، فَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا: التَّمْيِيزُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ. وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ. وَأَمَّا الشَّرْطَانِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا: فَأَحَدُهُمَا الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: الرُّشْدُ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أحدهما: أنهما شرطان، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ بَالِغٍ وَلَا سَفِيهٍ. وَالثَّانِي: لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ وَالسَّفِيهِ، وَلَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ، اعْتُبِرُ فِي الْمُوصَى بِهَا سِتَّةُ شُرُوطٍ، لا تصح الوصية منه إلا بها. أحدهما: جَرَيَانُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ لَهُ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ. وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُنَافِي الرِّقَّ. وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَجْهَانِ. وَالرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ له ولاية، فكان أولى أن لا تَصِحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي عَلَى الطِّفْلِ في حياته بنفسه، لأنه يقيم الوصية مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا مِمَّنْ قَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ. وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ، كَمَا تَصِحُّ مِنَ الْآبَاءِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي الْوَالِدِ بَعْضِية باين بها غيره. والقول الثاني: إنَّ لِلْوَالِدِ فِي حَيَاتِهِ وِلَايَةً لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ. فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْآبَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَيُوصِي بِهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ. فَأَمَّا الْأُمُّ فَفِي وِلَايَتِهَا عَلَى صِغَارِ وَلَدِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَهَا عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ كَالْأَبِ، لِمَا فِيهَا مِنَ البعضية، وأنها برأفة الأنوثة، أحن عَلَيْهِمْ وَأَشْفَقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا وِلَايَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَصُرَتْ بِنَقْصِ الْأُنُوثَةِ عَنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ الَّتِي تَسْرِي فِي جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تقصرَ عَمَّا يَخْتَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ بِالْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ. فَعَلَى هَذَا: إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا: لَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهَا. وَإِذَا قِيلَ إِنَّ لَهَا الْوِلَايَةُ بِنَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّهَا أَبُو الْأُمِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا كَأُمِّ الْأُمِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأُمِّ مِنْ أُمِّهَا. وَالثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ قَدْ حَطَّهُ مِنْ مَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْآبَاءِ لِلْأُمِّ. فَإِذَا اجْتَمَعَ بَعْدَ الأم، أم أب وأم أم ففي أحقيتهما بِالْوِلَايَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أُمُّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ بالولاية أحق. والقول الثاني: أُمُّ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا بِالْحَضَانَةِ أَحَقُّ. فَإِذَا أَوْصَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ، بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ. وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَن لا يَكُونَ للطفل من يستحق الولاية بنفسه، لأنه مستحق الولاية بنفسه، أولى من مستحقها بِغَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَهُنَاكَ جَدٌّ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 وَقَالَ أبو حنيفة: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَهُنَاكَ جَدٌّ، كَمَا يَجُوزُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يَسْتَحِقُّهَا الْجَدُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لِأَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ مِنَ الْوَصِيِّ. فَلَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِهَا وَهُنَاكَ أُمٌّ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ قِيلَ لَهَا تَصِحّ. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مَعَ وُجُودِ الْآبَاءِ. فَهَذَا حُكْمُ الْمُوصِي. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُوصَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ. وَإِنْ كَانَ وِلَايَةً: فَلَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، أَوْ مَجْنُونٍ لَا يَفِيقُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ غَائِبًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا وَشَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ طِفْلٌ. وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْكَبِيرِ مَالَهُ إِذَا رَأَى بَيْعَ مَالِ الطِّفْلِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهِ، نُقِضَ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ عَلَى الْبَالِغِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْفَ يجوز لوصية بعد وفاته. وأما إذا كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا لَكِنْ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ على المجنون بنفسه، لأنها لا تقتصر إلى حكم حاكم، وولايته على صغير لَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حاكم. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ يَدِهِ وَضُمَّ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ضَعِيفًا أَمِين مَعَهُ فإن أوصى إلى غير ثقة فقد أخطأ على غيره فلا يجوز ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تغير حَالُ الْوَصِيِّ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الشُّرُوطِ فِيهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا عَجَزَ بِهِ عَنْهَا. فَأَمَّا الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ: فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ تَدْبِيرِهِ وَفَضْلِ نَظَرِهِ. فَهَذِهِ أُمُورٌ يُخْرَجُ به من الوصية. وقال أبو حنيفة: طرؤ الْفِسْقِ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ مَنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ لَا يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ بِهَا، وَلَكِنْ يُضَمُّ إِلَيْهِ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِن ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ كَانَ مَانِعًا مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 استدامتها، كالكفر، وإذا كان كذا صار طرؤ الْفِسْقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ، فَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ معها إِخْرَاجُهَا عَنْ يَدِهِ، وَاخْتِيَارِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، مِنْ أُمَنَائِهِ. فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَصِيُّ فِي الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ عَقْدًا، أَوْ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، رُدَّ وَكَانَ لَهُ ضَامِنًا إِنْ مَاتَ. وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ: أَمْضَى، وَلَمْ يَضْمَنْهُ. وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْهَا، فَالضَّعْفُ الَّذِي يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَهَذَا مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ أمنائه، من يعينه على إنفاذ الوصايا، وَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ. فَلَوْ تَفَرَّدَ هَذَا الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يَضُمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا، فَتَصَرَّفَ فِي الْوَصِيَّةِ: أَمْضَى، وَلَمْ يضمنْهُ، لِأَنَّهُ مَا انفرد بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا: لَوِ ابتدئ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِ أَمِينٍ: أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ. وَلَوْ أَوْصَى إِلَى ضَعِيفٍ: ضَمَّ إِلَيْهِ غيره من أبنائه، فَإِنْ قِيلَ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنِ الْأَوْصِيَاءِ، وَوُلَاةِ الْأَيْتَامِ أَمْ لَا؟ . قُلْنَا هَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِيمَنْ يَلِي بِنَفْسِهِ مِنْ أَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، وَعَلَيْهِ إِقْرَارُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَنَظَرِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ، مَا يُوجِبُ زَوَالَ نَظَرِهِ، مِنْ فِسْقٍ أَوْ خِيَانَةٍ، فَيَعْزِلُهُ حِينَئِذٍ وَيُوَلِّي غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَالِيَ بِنَفْسِهِ أَقْوَى نَظَرًا مِنَ الْحَاكِمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِغَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينَ حَاكِمٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيَّ أب. فإن كان أمين الحاكم، لم يجب أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عنده خيانته، أو فسقه، لأن ما وَلَّاهُ الْحَاكِمُ، قَدِ اعْتُبِرَ مِنْ حَالِهِ مَا صَحَّتِ بِهِ وِلَايَتُهُ. وَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لا يجوز اسْتِكْشَافُ حَالِهِ، إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ فِسْقِهِ، كَالْأَبِ وَأَمِينِ الْحَاكِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ اسْتِكْشَافَ حَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ بِوِلَايَتِهِ حُكْمٌ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ، كَالْأَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْكَشْفِ. فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِ للفقراء وصاياهم ليرجع به في التركة وكان مُتَطَوِّعًا بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ حَاكِمٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عَجَّلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، نَاوِيًا بِهِ الرُّجُوعَ: رجع به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 وَهَذَا قَوْلٌ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ، بِقَضَاءِ دَيْنِ الْحَيِّ إِذَا عَجَّلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَرْجِعْ به في مال موكله، فكذلك الوصي. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَغَيَّرَ أُبْدِلَ مَكَانَهُ آخَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ إِلَى وَاحِدٍ، أو إلى جَمَاعَةٍ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى زَيْدٍ وَيَجْعَلَ عَمْرًا عَلَيْهِ مُشْرِفًا، فَيَخْتَصُّ الْوَصِيُّ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ، وَيَخْتَصُّ عَمْرٌو بِالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ الْمُشْرِفِ: لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُشْرِفُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ وَالتَّنْفِيذَ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُشْرِفُ وَصِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نِيَابَةٌ عَنْ إِذْنٍ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ كَالْوَكَالَةِ، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَى الْمُشْرِفِ مُبَاشَرَةَ عَقْدٍ أَوْ تَنْفِيذَ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْرِفًا عَلَى الْوَصِيِّ فِي الْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا وَصِيَّيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ، دُونَ صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا إِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِنْفَاذَ وَصَايَاهُ، وَإِلَى الْآخَرِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَطْفَالِهِ، أَوْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِخْرَاجَ الثُّلُثِ، وَإِلَى الْآخَرِ قَضَاءَ الدُّيُونِ: فَوِلَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا جُعِلَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا جُعِلَ إِلَى الْآخَرِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا. وَقَالَ أبو حنيفة: النَّظَرُ فِي الْوَصِيَّةِ، لَا يَتَمَيَّزُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا جُعِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْآخَرِ. فَالْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ إِلَيْهِ إِنْفَاذُ الْوَصَايَا وَالْوَالِي عَلَى إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، إِلَيْهِ الولاية اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَوِلَايَةِ الْحَاكِمِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ عَنْ عَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكُلِّ لَمَا جاز أن ينفرد أحدهما بالنظر في الكل، فإذا خص أحدهما بالبعض، فأولى لا يَجُوزَ لَهُ النَّظَرُ فِي الْكُلِّ، وَلِأَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى بَعْضِ الْمَالِ، لَمْ يَمْلِكْ بِذَلِكَ ثُبُوتَ الْيَدِ عَلَى جَمِيعِهِ، كَالْمُودعِ وَالْمُضَارِبِ. فَصْلٌ: فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ صَاحِبِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَمُنْفَرِدَيْنَ، فَكُلُّ واحد منهما وصي كامل النظر، فأيهما انفرد بإنفاذ الوصايا، والنظر في أمور الْأَطْفَالِ جَازَ. وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، فَالْبَاقِي مِنْهُمَا هُوَ الْوَصِيُّ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ بدل الميت أو الفاسق أحدا إلا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ ضَعْفٌ فَيُقَوِّيهِ بِغَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى أَن لا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا: بِالنَّظَرِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالنَّظَرِ فِي أموال الأطفال. فإن انفرد أحدهما بشيء منهما، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنًا إِنْ تَعَلَّقَ بِعَقْدٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ إِنْفَاذِ وَصِيَّةٍ عُيِّنَتْ لِمُعَيَّنٍ: لَمْ يُضَمَّنْ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا مُنِعَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مِنَ النَّظَرِ حَتَّى يُقِيمَ الْحَاكِمُ مَقَامَ الْمَيِّتِ غَيْرَهُ. فَلَوْ أَذِنَ الْحَاكِمُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْوَصِيَّةِ: لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِهِ وَحْدَهُ. وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا رَدَّ الْحَاكِمُ الْوَصِيَّةَ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِنْ رَدَّهَا إِلَى وَاحِدٍ ارْتَضَاهُ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَظَرَ فِيهَا الْحَاكِمُ بِنَفْسِهِ، جَازَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَنَابَ فِيهَا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ فِي وَصَايَاهُ إِلَّا بِنَظَرِ اثْنَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ اسْتِظْهَارًا لِنَفْسِهِ فِي وَصِيَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَمْنَعَهُ فَضْلَ اسْتِظْهَارِهِ، وَلَيْسَ كَالْحَاكِمِ النَّاظِرِ بِنَفْسِهِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، فَلَا يَأْمُرُهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَا يَأْذَنُ لَهُمَا فِي الِانْفِرَادِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِمَا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْوَصِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّفَرُّدُ بِهَا، كما لو أمرهما بالاجتماع عليهما. وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أن ينفرد بها. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَخَافُ فَوَاتَهُ، أَوْ ضَرَرَهُ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: الْكَفَنُ، وَرَدُّ الْوَدَائِعِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ، وَإِنْفَاذُ الْوَصَايَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَكِسْوَتُهُمْ، وَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ السِّتَّةِ. فَإِنِ انْفَرَدَ بِهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصَايَا مَوْضُوعَةٌ لِفَضْلِ الِاحْتِيَاطِ، وَهِيَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْوَكَالَاتِ، فَلَمَّا كَانَ تَوْكِيلُ اثْنَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بالوكالة، كانت الوصية إلى اثنين إلى الإطلاق أولى أن يمنع مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ أبي حنيفة للستة من بيع الْجَمِيعِ خَوْفَ الضَّرَرِ، قَوْلٌ يَفْسُدُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ طَعَامًا رَطْبًا يُخَافُ تَلَفُهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ وَإِنْ خِيفَ ضَرَرُهُ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حُكْمُ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِمَا، كَالْحُكْمِ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، أَبْدَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 الْحَاكِمُ مَكَانَهُ غَيْرَهُ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا بالنظر: ضمن متعلق بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا قسم بينهما ما كان ينقسم وَجُعِلَ فِي أَيْدِيهِمَا نِصْفَيْنِ وَأُمِرَا بِالِاحْتِفَاظِ بِمَا لَا يَنْقَسِمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إلى اثنين مقصودها، فضل النظر، فإذا دعى الْوَصِيَّانِ إِلَى قَسْمِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِهِمَا مِنْهُ، مُنِعَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ لَهُمَا بِالْإِذْنِ فِيهِ، مُكِّنَا. وَإِنْ أَطْلَقَ نُظِرَ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ أَضَرَّتْ بِالْمَالِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا تَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، مُنِعَا مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِحِفْظِ الْمَالِ دُونَ صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا. وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمُهَايَاةُ، فَيَحْفَظُ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا. وَهَذَا فاسد، لأن المهايأة تقتضي انفراد أَحَدِهِمَا بِالْحِفْظِ فِي زَمَانِهِ وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ تَفَرُّدُهُ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي بَعْضِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ ضَرَرٌ، وَلَا كان بين الْمُوصِي فِيهَا نَهْيٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ، قَدْ جُعِلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا إِلَى الْآخَرِ: جَازَ أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَالَ إلا أنهما قِسْمَةُ حِفْظٍ، وَلَيْسَتْ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ، فَيَقْتَسِمَانِ عَلَى الْقِيَمِ، لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُنَاقَلَةِ تكون بين الورثة على الأجزاء، وقسمة الحفاظ تَخْتَصُّ بِالْأَوْصِيَاءِ، وَتَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا دَارًا، وَالْآخَرُ مَتَاعًا، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بعد القسمة أن ينصرف فِيمَا بِيَدِهِ، وَفِيمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِي الْجَمِيعِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعين وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا التفرد بالنظر، ففي جواز اقتسام الْمَال حِفَاظًا لَهُ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي، لَيْسَ لَهُمَا ذلك كَمَا لَيْسَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِالْإِنْفَاذِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول أبي سعيد الإصطرخي، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَهُمَا الْقِسْمَةُ، لأنه اقْتِسَامَهُمَا الْمَالَ أَعْوَنُ لَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّنْفِيذِ، فَإِذَا اقْتَسَمَا: لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا مَعَ اجْتِمَاعِ صَاحِبِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّةٍ أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَهَا بِوَصِيَّةٍ أُخْرَى، أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، فَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، عُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، فَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الْأُولَى مِنْ زِيَادَة تَفَرَّد بِهَا الْوَصِيُّ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ زِيَادَةٍ، تَفَرَّدَ بِهَا الوصي الثاني وما اتفقت فيه الوصيتان، اجتمعا عليه الوصيان، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا التَّفَرُّدُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَيْهِمَا مَعًا وَصِيَّةً مُطْلَقَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ صَحَّ بَعْدَهَا مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَعَاشَ دَهْرًا، ثُمَّ مات، أمضيت وصيته الْمُتَقَدِّمَةُ، مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: قَدْ أُوصيت إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا إِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هذا، فصح منه: بطلت وصيته، لأن جعلها مشروطة بموته من هذا الْمَرَضِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، مَا لَمْ يخرق الموصي كتاب وصيته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا أوصى بِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَرْضَ الْمُوصَى إِلَيْهِ الْآخَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، وَالْوِلَايَة عَلَى الْأَطْفَالِ، ثُمَّ حَضَرَتِ الْوَصِيَّ الْوَفَاةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: " إِنْ أَوْصَى بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ، وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ كَانَ لِوَصِيِّهِ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ قَدْ ملك من النظر بالوصية مثل ما ملك الْجَدُّ مِنَ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْجَدِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ، جَازَ للوصي أن يوصي إليه بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُوصِي، كَمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ فِي حُقُوقِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ: جَازَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يقوم مقامه. ودليلنا: شيئان: أحدهما: أَنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَابَتُهُ عَنْ عَقْدٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِنَابَتَهُ حَيًّا، أَقْوَى مِنَ اسْتِنَابَتِهِ مَيِّتًا، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إبدال نفسه بغيره في الحياة، فأولى أن لا يَصِحَّ مِنْهُ إِبْدَالُ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْوَفَاةِ. فَأَمَّا الْجَدُّ: فَوِلَايَتُهُ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوصِيَ، كَالْأَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيُّ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ كَالْحَاكِمِ، عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ أَقْوَى لِعُمُومِهِ. وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ إِمَامًا يَنْظُرُ فِيمَا كَانَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ في استخلاف عمر رضوان الله عليهما، لأنه عام الولاية، وليس لِغَيْرِهِ مَعَهُ مَا إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ لِفَضْلِ نَظَرِهِ بِالِاسْتِخْلَافِ كَمَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ ولاية خلفائه من القضاة والولاة. وَمَنْ كَانَ خَاصَّ النَّظَرِ بَطَلَ بِمَوْتِهِ وِلَايَةُ خلفائه كالقضاة والولاة. عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ صِحَّةَ استخلاف الإمام بعد لِإِمَامٍ، مُعْتَبَرًا بِرِضَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِضَاهُمْ أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 يَعْلَمُوا بِهِ فَلَا يُنْكِرُوهُ، كَمَا عَلِمَتِ الصَّحَابَةُ بِاسْتِخْلَافِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجُعِلَ إِمْسَاكُهُمْ عن الإنكار، رضا به انْعَقَدَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ لَهُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوِ اسْتَخْلَفَ إِمَامًا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ إِمَامَتُهُ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ عليه ويرض بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ مِمَّنْ يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: قَدِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْوِلَايَاتُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: وِلَايَةُ حُكْمٍ، وَوِلَايَةُ عَقْدٍ، وَوِلَايَةُ نَسَبٍ. فَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ: الإمامة، ولا تبطل بموت من يقلدها، ولاية مستخلف ولا نظر مستناب. وأما الخاصة: فالقضاء، ويبطل بموت من يقلده ولاية، لمستخلف ونظر كل مستناب. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعَقْدِ: فَضَرْبَانِ: عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ حَيٍّ، وَعَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ مَيِّتٍ. فالذي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْحَيِّ هُوَ: الْوَكَالَةُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ؛ بَطَلَتْ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ: لَمْ تَكُنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ. وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ: الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي، اسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ الْوَصِيِّ، وَإِنْ مَاتَ الْوَصِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ. وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ: فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ، وَتَصِحُّ مِنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ. وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْعَصَبَاتِ فِي الْأَبْضَاعِ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ لَمْ يخل ما تولاه مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْجِيلِ إِنْفَاذِهِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ إِمْكَانَ تَنْفِيذِهَا مَعَ ضِيقِ وَقْتِهَا، وَالْمُقَامِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا، يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِهَا. وَالثَّانِي: أَن لا يمكن تعجيل إنفاذه، لما تتضمنها مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى يَتِيمٍ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَالِهِ، أَوْ قَضَاءُ دَيْنٍ لِغَائِبٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْعَقَارِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يَرْفَعُ يَدَهُ عَنِ النَّظَرِ، لَا عَنِ الْحِفْظِ. وَالثَّانِي: أن يكون ممن لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، فَعَلَيْهِ حَقَّانِ: الحفظ، والنظر. فيلزمه عِنْدَ زَوَالِ نَظَرِهِ بِالْمَوْتِ أَنْ يَسْتَدِيمَ حِفْظُهُ، بِتَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَعُمَّ نَظَرُهُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ، فإن لم يفعل مع المكنة كان ضامنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ فَإِنْ حَدَثَ بِوَصِيٍّ حَدَثٌ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لأنه إنما أوصى بمال غَيْرِهِ، (وَقَالَ) فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ليلى إن ذلك جائز إذا قال قد أوصيت إليك بتركة فلان (قال المزني) رحمه الله وقوله هذا يوافق قول الكوفيين والمدنيين والذي قبله أشبه بقوله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للموصي أن يوصي، إذا لم يجعل له الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ. فَأَمَّا إِذَا جعَلَ إِلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يعين إليه من يوصي. والثاني: أن لا يعين. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ لَكَ أن توصي إلى عمرو. وسواء قال: فإذا أوصيت فَهُوَ وَصِيٌّ، أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَقَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، فَإِنْ مُتَّ: فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو. وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ مُتَّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَمْرٌو بِمَوْتِ الْوَصِيِّ وَصِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى وَصِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ. وَلَوْ قَالَ: وَقَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ يَصِرْ عَمْرٌو وَصِيًّا إِلَّا بِوَصِيَّةِ الْوَصِيِّ، فَإِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ صَارَ عَمْرٌو وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ لَا لِلْوَصِيِّ. فَلَوْ مَاتَ الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ تَثْبُتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو إِلَّا أَنْ يَرُدَّهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ. فَلَوْ أَرَادَ الْحَاكِمُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قد قطع الاجتهاد في تعينه، كما لا يجوز للوصي أن يوصي إلى غَيْره. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ إِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَصِيِّ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ، بَطَلَ حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَصَارَ نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا، نَظَرَ حُكْمٍ، لَا نَظَرَ وَصِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يختار من يراه للنظر أوفق. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُوصِي، قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى بَكْرٍ: جَازَ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَقَدْ جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ مُؤْتَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: " أَمِيرُكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 فَأُصِيبَ زَيْدٌ فَقَامَ بِهِمْ جَعْفَرٌ، ثُمَّ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَقَامَ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ فَارْتَضَى الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. فَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَ السَّنَةِ إِلَى عَمْرٍو: كَانَ هَذَا جَائِزًا، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا أَوْصَى. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَى وَصِّيهِ أَنْ يُوصِيَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ، أَوْ يَقُولَ: مَنْ أَوْصَيْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ وَصِيٌّ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ وَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَمَالِكٍ، يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَ الْوَصِيِّ، أَقْوَى مِنْ نَظَرِ الْوَكِيلِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْوَكِيلِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ مُعَيَّنًا، وَغَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَانَ أَوْلَى فِي الْوَصِيِّ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الوصية أن يوصي عنه إلى معين، وغير مُعَيَّن. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ بِالْإِذْنِ قَدْ صَارَ كالأب، فَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ جَازَ لِلْوَصِيِّ مَعَ الْإِذْنِ أَنْ يُوصِيَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ أَنْ يُوصِيَ وَإِنْ أُذِنَ لَهُ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الِاخْتِيَارَ بِالْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ، أَقْوَى مِنَ اخْتِيَارِ الموصي، لأن له الاختيار بإذن وغير إذن، فكذلك كَانَ اخْتِيَارُ الْحَاكِمِ أَوْلَى مِنَ اخْتِيَارِ الْوَصِيِّ، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي إِنْكَاحِ بَنَاتِ الْمَيِّتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أن يوصي. والثالث: أن للأب أن يزوجهم، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ. ثُمَّ الْوَصِيُّ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَالْأَبِ سَوَاءً. فَلَوْ جَعَلَ الْأَبُ إِلَى الْوَصِيِّ مَا كَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 مُخْتَصًّا بِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لِيَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهَا، نُظِرَ: فَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِذْنٌ بِعَقْدٍ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ، فَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ وَجَعَلَ الْوَصِيَّ أَحَقَّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ. وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مُسْتَقْصَاةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ فِي أموال اليتامى مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُخْرِجُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كُلَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَجِنَايَتِهِ وَمَا لَا غناء به عَنْهُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بمصالحه، قال تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . وَالَّذِي يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: حِفْظُ أُصُولِ أَمْوَالِهِ. والثاني: تمييز فُرُوعِهَا. وَالثَّالِثُ: الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَالرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ. فَأَمَّا حِفْظُ الْأُصُولِ: فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حِفْظُ الرِّقَابِ عَنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا يَدٌ، فَإِنْ فَرَّطَ، كَانَ لِمَا تَلِفَ مِنْهَا ضَامِنًا. وَالثَّانِي: استيفاء الْعِمَارَةِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهَا خَرَابٌ، فَإِنْ أَهْمَلَ عِمَارَتَهَا حَتَّى عَطِلَ ضِيَاعُهُ، وَتَهَدَّمَ عَقَارُهُ، نُظِرَ: فإن كان لإعوان مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ، فَقَدْ أَثِمَ وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَيَصِيرُ بِهَذَا الْعُدْوَانِ كَالْغَاصِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَرَابَهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَضْمَنُ بِهِ، وَلَا يَدُهُ غَاصِبَةٌ فَيَجِبُ بِهَا عَلَيْهِ ضَمَانٌ. فصل: وأما تمييز فُرُوعِهِ، فَلِأَنَّ النَّمَاءَ مَالٌ مَقْصُودٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ كَالْأُصُولِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ أَعْيَانًا مِنْ ذَاتِهِ، كَالثِّمَارِ، وَالنِّتَاجِ، فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا عَادَ يحفظه وَزِيَادَته، كَتَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ. فَإِنْ أَخَلَّ بِعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ: ضَمِنَهَا وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ أَخَلَّ بِتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 لأنها إن لم تتميز، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ، مَا لَمْ يُخْلَقْ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ لِلْيَتِيمِ مِلْكٌ. وَإِنْ خُلِقَتْ نَاقِصَةً: فَالنُّقْصَانُ أَيْضًا مِمَّا لَمْ يُخْلَقْ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ بِالْعَمَلِ. وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تِجَارَةٌ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ. فَأَمَّا التِّجَارَةُ بِالْمَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا، أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ، يُؤْخَذُ الولي بها في التجارة: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَالُهُ نَاضًّا. فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلتِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا، لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، لَمْ يَجُزْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْمَتَاجِرُ مُرْبِحَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخْسِرَةً: لَمْ يَجُزْ. فإن استكمل هَذِهِ الشُّرُوطَ: كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى التِّجَارَةِ لَهُ بِالْمَالِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّجِرْ بِهَا: لَمْ يَضْمَنْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحَّ ضَمَانُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ وَالْمَالِ، تَبَعٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رِبْحَ الْغَاصِبِ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَهُ، دُونَ المغصوب منه. فإن اتجر الولي بِالْمَالِ مَعَ إِخْلَالِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ: كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ. وَأَمَّا اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ: فَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِجَارَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَاطِلًا لَمْ يُؤَجِّرْهُ، فَقَدْ أَثِمَ، وَفِي ضَمَانِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي تَعْطِيلِهِ، وَجْهَانِ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُمْلَكُ كَالْأَعْيَانِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ. فَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ سَرَفًا، وَفِي التَّقْصِيرِ ضَرَرًا، فَلَزِمَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ مِنْ وَالِدَيْنِ، وَمَمْلُوكِينَ، ثُمَّ يكسوه وإياهم في فصل الصَّيْفِ، وَالشِّتَاءِ، كِسْوَةَ مِثْلِهِمْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ بِكِسْوَةِ أَبِيهِ، فيكسوه مثلها. وهذا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ رُبَّمَا كَانَ مُسْرِفًا، أَوْ مُقَصِّرًا، فَكَانَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عَادَةً وَعُرْفًا، أَوْلَى من اعتباره عَادَة أَبِيهِ. وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ عَادَةُ أَبِيهِ فِي صفة الملبوس إن كان تاجرا، كسى كسوة التجار، وإن كان جنديا، كسى كِسْوَةَ الْأَجْنَادِ، وَلَا يَعْدِلُ بِهِ عَنْ عَادَةِ أَبِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَلِيَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَيُغَيِّرُهَا إِنْ شَاءَ. فَإِنْ أَسْرَفَ الْوَلِيُّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ: ضَمِنَ زِيَادَةَ السَّرَفِ وَإِنْ قَصَّرَ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ: أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 فَإِنِ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْوَلِيُّ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ فِي كل سنة مائة دينار، فقال: أَنْفَقْتَ عَلَيَّ عَشْرَ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسِينَ دِينَارًا. فَالْقَوْلُ فِيهِ، قَوْلُ الْوَلِيِّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ سَرَفًا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ: فَلَهُ إِحْلَافُهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ. وَإِنْ كَانَ أَبًا، أَوْ جَدًّا، فَفِي إِحْلَافِهِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْلِفُ، لِأَنَّهُ يُفَارِقُ الْأَجْنَبِيَّ فِي نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ. وَكَثْرَةِ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِ النَّفَقَةِ، وَيَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ، فَقَالَ: بَلْ أَنْفَقْتَ عَلَيَّ خَمْسَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ. فَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي: أن القول قول الولي، كاختلافهم فِي الْقَدْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُدَّةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْيَتِيمِ مَعَ يَمِينِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ، وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُدَّةِ: أَنَّهُمَا فِي الْقَدْرِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَالِ، فَقُبِلَ مِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُدَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَوْتِ الذي يعقبه نظر الولي، فلم يقبل قولي الولي، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّنَا عَلَى يقين من حدوث الموت في شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِمَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالزَّكَوَاتُ، وَالْكَفَّارَاتُ. أَمَّا الزكوات: فزكاة الفطر، وأعشار الزروع والثمار، واجبة إِجْمَاعًا. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ: فَقَدْ أَسْقَطَهَا أبو حنيفة، ولم يوجبها إلى عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ. وَعِنْدَنَا: تَجِبُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ، عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، عَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَإِذَا وَجَبَتْ: لَزِمَ إِخْرَاجُهَا، وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا، عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَيَتْرُكُهَا فِي مَالِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، فَيُخْرِجُهَا عن نفسه ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 ودليلنا: ما روي أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ، سَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَالَ، فَنَقَصَ كَثِيرًا: فَقَالُوا لَهُ: نَقُصَ الْمَالُ، فَقَالَ: احْسِبُوا قَدْرَ الزَّكَاةِ وَالنُقْصَانِ، فَحَسبُوا فَوَافَقَ، فَقَالَ: أَتَرَانِي أَلِي مَالًا وَلَا أُخْرِجُ زَكَاتَهُ. فَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ، لَزِمَ الْيَتِيمَ إِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْرِجَهَا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: حَقٌّ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَالدُّيُونِ، فَعَلَى الْوَلِيِّ قَضَاؤُهَا إِذَا ثَبَتَتْ وَطَالَبَ بِهَا أربابها، فإن أبرئوا مِنْهَا: سَقَطَتْ وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ إِبْرَاءٍ، نُظِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا، أَلْزَمَهُمُ الْوَلِيُّ قَبْضَ دُيُونِهِمْ، أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهَا، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتْلَفَ الْمَالُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ. وَإِنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا، تَرَكَهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُيُونِهِمْ إِذَا شَاءُوا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَار، الجنايات وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَالٍ، فَيَكُونُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، كَالدُّيُونِ. وَالثَّانِي: عَلَى نَفْسٍ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ، عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فديَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لَا فِي مَالِهِ. وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ، أو مجرى الخطأ: أحدهما: أنه جاري مَجْرَى الْعَمْدِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَأ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَفِي مَالِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: " لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّبِيِّ ". فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَصِيَّةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُوصِي، فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شهد به، كأن شَهِدَ لَهُ بِمَالٍ، أَوْ مِلْكٍ هُوَ وَصِيٌّ في تفريق ثلثه، أو ولاية على أطفال، فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ. كَأَنَّهُ وَصِيٌّ فِي تَفْرِيقِ مَالٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَشَهِدَ لِلْمُوصِي بِمِلْكٍ لَا يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَلَيْسَ وارث، مثلا، فَيَكُونُ فِي وِلَايَتِهِ: فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يجر بها نفعا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا بلغ الحلم ولم يرشد زوجه وإن احتاج إلى خادم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يُزَوِّجُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ عَلَى حَالِ صِغَرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَقَالَ أَبُو ثور: يجوز له أن يزوجه فِي صِغَرِهِ، كَالْأَبِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا مُنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِير وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ، لِمَا فِيهِ من التزام المهر، ولأن الموصي مَمْنُوعٌ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ. فَإِذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ: زَالَ اسْمُ اليتيم عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتم بعد حلم. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ، فَإِنْ بلغ رشيدا: وجب فله حَجْرُهُ، وَإِمْضَاءُ تَصَرُّفِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وليه من ثلاثة أقسام: أحدها: أَنْ يَكُونَ أَبًا، فَيَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ به، فَارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَمِينَ الْحَاكِمِ، فَلَا يَنْفَكُّ حجره عَنْهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بفك حجره، لأن الولاية عليه، تثبت بِحُكْمِهِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ وَصِيًّا لِأَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَفِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِظُهُورِ رُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، كَالْأَمِينِ. فَصْلٌ: وَإِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ: كَانَ حَجْرُهُ بَاقِيًا، لِأَنَّ فَكَّهُ مقيد بِشَرْطَيْنِ: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَمْ يَنْفَكَّ بِالْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ، كَمَا لَا يَنْفَكُّ بِالرُّشْدِ دُونَ الْبُلُوغِ. وَإِذَا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَاقِيًا، كَانَتْ وِلَايَةُ الوالي عَلَيْهِ بِحَالِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ أَبًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينًا. وَإِنْ كَانَ حَجْرُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. حَجْرَ سَفَهٍ، لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا حاكم، (تقديم حجر) مستديم، فحجر مُتَقَدِّمٍ، فَدَامَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حَجْرٍ. فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً: لَمْ يجز لوصي تَزْوِيجُهَا. وَإِنْ كَانَ غُلَامًا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ به حاجة إلى النساء، لم يزوج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 وَإِنْ كَانَتْ بِهِ إِلَى النِّسَاءِ حَاجَةٌ لِمَا يرى من فورته عَلَيْهِنَّ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهِنَّ، زَوَّجَهُ الْوَصِيُّ، لِمَا فِيهِ من المصلحة له، وَتَحْصِينِ فَرْجِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَا يزوجه إلا بمن اختارها من أكفائه. فإذا أَذِنَ لَهُ الْوَصِيُّ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، جَازَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ وَإِنْ نَكَحَ بأكثر من مهر المثل، ردت الزيادة على وليه، ودفع الْمَهْرَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَعَلَيْهِ بالمعروف لمثلها مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ومثله يخدم اشترى له ولا يجمع له امرأتين ولا جاريتين للوطء وإن اتسع ماله لأنه لا ضيق في جارية للوطء ". قال الماوردي: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَمِثْلُهُ يُخْدَمُ اشْتَرَى له خادما. أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى خَادِمٍ: تَرَكَهُ وَخَدَمَ نَفْسَهُ. وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ فَإِنِ اكْتَفَى بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ: اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ نُظِرَ: فَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ اكْتَرَى لَهُ خَادِمًا وَإِنِ اتَّسَعَ اشْتَرَى لَهُ خادما. فإن كانت خدمته، تَقُومُ بِهَا الْجَوَارِي، وَأَمْكَنَ أَنْ تَقُومَ الْجَارِيَةُ بخدمته واستمتاعه: اقتصر على جارية الخدمة والاستمتاع بزوجه. وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجَارِيَةُ لِاسْتِمْتَاعِ مِثْلِهِ: اشْتَرَى لَهُ مَعَ التَّزْوِيجِ جَارِيَةً لِخِدْمَتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ خِدْمَتُهُ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهَا إِلَّا الْغِلْمَانُ: اشْتَرَى لَهُ غُلَامًا لِخِدْمَتِهِ. فَإِنِ احْتَاجَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى خِدْمَةِ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ مَنْزِلِهِ، وَغُلَامٍ لِخِدْمَتِهِ فِي تَصَرُّفِهِ، اشْتَرَاهُمَا لَهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُرَاعِي فِي ذَلِكَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَكْثَرَ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوَّجْ وَسرّى وَالْعِتْقُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: طَلَاقُ السَّفِيهِ وَاقِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أبو يوسف: طَلَاقُ السَّفِيهِ لَا يَقَعُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ اسْتِهْلَاكُ مَالٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْخُلْعِ فَمُنِعَ مِنْهُ السَّفِيهُ، كَالْعِتْقِ. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلِاسْتِدَامَةِ ومانع من الاستمتاع وليس بإتلاف مال، إنما يستفاد به إسقاط مال، لأنه إذا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ: أَسْقَطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَسْقَطَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، وَخَالَفَ الْعِتْقَ الذي هو استهلاك مال، ولذلك جاز للكاتب أَنْ يُطَلِّقَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَ، وَجَازَ طلاق العبد وإن لم يأذن له فِيهِ السَّيِّدُ، وَالْعِوَضُ الْمَأْخُوذُ فِي الْخُلْعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 إِنَّمَا هُوَ لِرَفْعِ الْيَدِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَصَارَ الْعِوَضُ مَأْخُوذًا عَلَى تَرْكِ الاستمتاع، لا على أنه في مقابلة ماله. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَاقَ السَّفِيهِ وَاقِعٌ: نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِطْلَاقًا يُكْثِرُ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوِّجْهُ لِمَا يَتَوَالَى فِي مَالِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَهْرٍ بَعْدَ مَهْرٍ، وَسَرَّاهُ بِجَارِيَةٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، فَإِنْ أَعْتَقَهَا، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ بِهِ عَنِ التَّزْوِيجِ إِذَا كَانَ مِطْلَاقًا إِلَى التَّسَرِّي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِمَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُحْبِلُ الْجَارِيَةَ فَيَبْطُلُ ثَمَنُهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ أَوْ أَسْوَأَ حَالًا؟ قِيلَ: إِحْبَالُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فكان مقصده فِيهَا بَاقِيًا، وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَرْفَعُ الِاسْتِبَاحَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ: فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَوْصِيَاءِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَصِيِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا، أَوْ مستعجلا. فإن تطوع فهي أمانة محضة، أو اسْتَعْجَلَ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بعقد. والثاني: بغير عقد. فإن كان بعقد فَهِيَ إِجَارَةٌ لَازِمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا يضمنها، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهَا، استأجر عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا ضعف عنه، ولو الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَهِيَ جَعَالَةٌ، ثُمَّ هِيَ ضَرْبَانِ: مُعَيَّنَةٌ، وَغَيْرُ مُعَيَّنَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً: كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ قَامَ زيد بوصيتي له مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ قَامَ بِهَا غَيْرُ زَيْدٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ قَامَ بِهَا زَيْدٌ وعمرو، فلا شيء لعمرو، وَإِنْ عَاوَنَ زَيْدًا فِيهَا فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الْمِائَةِ، وَإِنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الْمِائَةِ، لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ: كَقَوْلِهِ مَنْ قَامَ بِوَصِيَّتِي هَذِهِ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ: فَأَيُّ النَّاسِ قَامَ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَهُ الْمِائَةُ. فَإِنْ قَامَ بِهَا جَمَاعَةٌ: كَانَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ وَكَانَ كَافِيًا: مُنِعَ غَيْرُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا. فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ عَنْ إِتْمَامِهَا: لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّ عَقْدَ الْجَعَالَةِ لَا يَلْزَمُ وَجَازَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ رَفْعِ يَدِهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَا بَقِيَ، وَلِلْأَوَّلِ مِنَ الْجَعَالَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ: وَلِلثَّانِي: بِقَدْرِ عَمَلِهِ مُقَسَّطًا عَلَى أُجُورِ أمثالها. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَصِيِّ إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي كُلِّ الْمَالِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ. فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي جميع ما وصى بِهِ: لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَالثَّانِي: مِنْ ثُلُثِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ. فَإِنْ جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، كَانَتْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وإن كانت فِيهَا مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، فِي الثُّلُثِ، يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا. فَإِنْ جَعَلَ ذلك من ثلثه، كان في ثُلُثِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، وعجز الثلث عنها: تمت لَهُ الْأُجْرَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَلَوْ كَانَ فِي الثُّلُثِ مَعَ الْأُجْرَةِ وَصَايَا، فَفِي تَقْدِيمِ الْوَصِيِّ بِأُجْرَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يقدم بِأُجْرَتِهِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَنْ عَمَلٍ، لَا مُحَابَاةَ فيه، ثم يتمتم مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. والوجه الثاني: أن يَكُون مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهَا مَعَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ لِبَاقِي أُجْرَتِهِ مَحَلًّا يَسْتَوْفِيهِ منه، وهو رأس المال، وهذا الوجهان بنيا عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَعَلَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ من ثلثه، وجعل دَيْنه مِنْ ثُلُثِهِ، هَلْ يُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا أَمْ لَا؟ . فَلَوْ كَانَ فِي أكرة هذا الوصي محاباة، كانت أجرة المثل إذا عجز الثلث عنها متمة من رأس المال، وكانت محاباة وَصِيَّةً يُضَارَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَيسقط مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ أُجْرَةَ الْوَصِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَا مِنْ ثُلُثِهِ: فَهِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، إِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَاجِبٍ مِنْ قَضَاءِ دُيُونٍ، وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، وَكَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ تَبَعًا: فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ كَانَ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا. فَهَذَا حُكْمُ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ، إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي جَمِيعِ الْمَالِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي قَضَاءِ دُيُونٍ وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، تَكُون مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُحَابَاةٌ، كَانَتْ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا. فَإِنْ جَعَلَ كُلَّ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ وَلَا محاباة فيها: تممت وعند عَجْزِ الثُّلُثِ عَنْهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَدَخَلَهَا دَوْرٌ، كَالْحَجِّ إِذَا أَوْصَى بِهِ فِي الثُّلُثِ فعجز الثلث عنه، فيكون على مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ، فَأُجْرَتُهُ تَكُونُ فِي الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 فِيهَا مُحَابَاةٌ قَدَّمْتُهَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهًا واحدا لأنها مُقَابَلَة عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُمْ وَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا. وَإِنْ كان فيها محاباة: تقدمهم بأجرة المثل، وَشَارَكَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُحَابَاتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَصِيًا عَلَى أَيْتَامِ وَلَدِهِ: فَإِنَّ أُجْرَتَهُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْمُوصِي تَكُونُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ وَكِيلًا مُسْتَأْجَرًا بِعَقْدِ الْأَبِ الْمُوصِي. فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ وَصِيَّة ثُلُثِ الْمُوصِي يُضْرَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا. فَإِنْ جَعَلَ الْمُوصِي جَمِيعَ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ: كَانَتْ فِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَلَا شَيْءَ فِي مَالِ اليتيم، ولا خيار للموصي. وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فيها محاباة، ضُرِبَ مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَأُخِذَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، ثم قسط الباقي في الْمُسَمَّى لَهُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، فَمَا بَقِيَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الْمُحَابَاةِ، يَكُونُ باطلا. مثاله: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْمُسَمَّى مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، وَبَقِيَ النِّصْفُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، مِنْهَا نِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ يَرْجِعُ بِهَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَنِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ درهما نصيب المحاباة، فتكون بَاطِلَةً وَيَكُونُ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ لِنُقْصَانِ مَا عَاقَدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَ أَقَامَ الْحَاكِمُ من أمنائه من يقوم مقامه مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ نُصِبَ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَرِزْقُهُ، وَأُجُورُ أُمَنَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فإن لم يكن ببيت المال مال، يدفع أُجْرَةَ أَمِينٍ، وَلَا وَجَدَ مُتَطَوِّعًا: كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَدْخُلُهَا دور وطريق عمله مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ، فَصَارَ مَحْصُولُ هَذَا ال ْفَصْلِ فِي إِطْلَاقِ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ إِذَا لَمْ يكن فِيهَا مُحَابَاةٌ أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي الْبَعْضِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ ثُلُثٍ، فَأُجْرَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ، فأجرته في مال اليتيم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " هذا آخر ما وصفت من هذا الكتاب أنه وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَمِعَهُ مِنْهُ وسمعته يَقُولُ لَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي أُعْطِيَ دِينَارَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ دنانيري أعطوه ما شاءوا اثنين ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 وَهَذَا الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دنانيري الذي نقله المزني هاهنا أنها وصية بدينارين لأنها لما ذكر عددا مِنْ دَنَانِيرِهِ دَلَّ عَلَى دِينَارَيْنِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْإِقْرَارِ إنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الفردين أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ وَهُمَا مَعًا دِينَارٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِمَا ذَكَرْنَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَنَانِيرُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يكن له دَنَانِيرُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارَيْنِ. وَالثَّانِي: بِدِينَارٍ لَكِنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ سَوَاءٌ تَرَكَ دَنَانِيرَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا فهذه وصية بعد دين يرجع في بيانها إلى الوارث فإن ذكر شيئا بينه قبلنا منه مع يمينه إن حلف فِيهِ وَسَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: إِذَا قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْقَلِ النَّاسِ فَقَدْ حَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُعْطى أَزْهَد النَّاسِ وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْعَقْلَ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالزُّهَّادُ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مَنْعًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ. فَصْلٌ: ولو قال أعطوا ثلثي لأجمل النَّاسِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يُعْطَاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَهْلُ الكبار مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى فِعْلِ مَا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ قَصْدِ الْمُسْلِمِ بِوَصِيَّتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثلثي لأحمق الناس قال إبراهيم الجريري يُعْطَاهُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَسْفَهُ النَّاسِ لِأَنَّ الْحُمْقَ يَرْجِعُ إِلَى الْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْلَمِ النَّاسِ كَانَ مَصْرُوفًا فِي الْفُقَهَاءِ لِاضْطِلَاعِهِمْ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ بِأَكْثَرِ الْعُلُومِ مُتَعَلِّقَةً. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ - رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ ثُمَّ قُمْتُ أُمَاشِيهِ فَضَاقَ الطَّرِيقُ بِنَا فَوَقَفَ فَقُلْتُ تَقَدَّمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّكَ سَيِّدُ النَّاسِ قَالَ لَا تَقُلْ هَكَذَا قُلْتُ بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا أُفْتِيكَ بِهَذَا فَخُذْ حَظِّي به ولم أكن سمعت هذه المسألة قبل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 هَذَا الْمَنَامِ وَلَيْسَ الْجَوَابُ فِيهَا إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ سَيِّدَ النَّاسِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِمْ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَلِيفَةِ المتقَدّمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. آخِرُ كِتَابِ الْوَصَايَا بحمد الله ومنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 كتاب الوديعة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا فَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ يَجْعَلُهَا عِنْدَهُ فَسَافَرَ بِهَا بَرًّا أَوْ بَحْرًا ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِيدَاعُ الْوَدَائِعِ فَمِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِرْفَاقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ". وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَقَبَّلُوا إِلَيَّ بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ ". وَقَدِ اسْتَوْدَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَائِعَ الْقَوْمِ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِقِيَامِهِ بها محمد الْأَمِينَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَخَلَّفَ عليا - عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 السلام - لِرَدِّهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعَاوُنِ بِهَا حَاجَةً مَاسَّةً وَضَرُورَةً دَاعِيَةً لِعَوَارِضِ الزَّمَانِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَوْ تَمَانَعَ النَّاسُ فِيهَا لَاسْتَضَرُّوا وَتَقَاطَعُوا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً مِنْ ثَلَاثِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، وَلَا يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ نَفْسِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا فَهَذَا مِمَّنْ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِيدَاعُهَا، كَمَا تُعَيَّنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا سِوَاهُ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ خَلَاصُ نَفْسٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا، وَقَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا، وَقَدْ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا قَبِلَ الْوَدِيعَةَ كَانَ قَبُولُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا وَالرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَهَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ الَّتِي يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ فَرَّطَ كَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إِنِ اتُّهِمَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَسُرِقَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، فَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هَلْ أُخِذَ مَعَهَا مِنْ ثِيَابِكِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَيْكَ الْغَرَامَةُ، فَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِابْنِ سِيرِينَ وَقَدْ حَمَّلَ مَعَهُ رَجُلٌ مَتَاعًا إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا أَنَسُ، احْفَظْهُ كَيْلَا تَغْرَمَهُ كَمَا غَرَّمَنِي عُمَرُ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ، لِرِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوَدَعِ ضَمَانٌ " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ جَابِرٍ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ، فَتَحَاكَمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْتَمَنِ ضَمَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَ الْوَدِيعَةِ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعَاوُنِ وَعُقُودِ الْإِرْفَاقِ، فَأَمَّا أَنَسٌ فَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ عُمَرُ لِتَفْرِيطِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى خَادِمِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى صَحَابَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ تُهْمَةٌ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا، فَالْوَدِيعَةُ لَا تَحْبِسُهُ عَنِ السَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَرَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَتَى شَاءَ الْمُسْتَوْدَعُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَمَالِكُهَا حَاضِرٌ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 فَلَوْ قَالَ لِمَالِكِهَا: لَسْتُ أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَى نَفْسِكَ بِقَبْضِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا، وَهَذَا أصح الوجوه. والوجه الثاني: أن إشهاد المالك على نفسه واجب، لأن يتوجه على المستودع يمين أن نوزع فِي الرَّدِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَعَ حُضُورِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بِهَا مَعَهُ. والثاني: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخَلِّفَهَا فِي حِرْزِهِ. فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ حِفْظَهَا، فَإِذَا حَفِظَهَا فِي أَيِّ مَكَانٍ كان من حضر أو سفر كان مؤديا لحق الأمانة فيها، قال: ولأنه لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْفَظَهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شاء من البلد إذا كان مأمونا كان له [ذلك في غير الْبَلَدِ إِذَا كَانَ مَأْمُونًا] . وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَدِّيهِ إِذَا سَافَرَ بِهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قَلْتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ " يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَرُقَادَهُ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَخُوفٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَمْنُهُ نَادِرٌ لَا يُوثَقُ بِهِ، ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنَ السَّفَرِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ التَّغْرِيرِ بِهَا إِحَالَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَالِكِهَا بِإِبْعَادِهَا عَنْهُ، وَهَذَا عُدْوَانٌ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَإِحْرَازِهَا جَازَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْأَسْفَارِ، فَكَانَ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُرْفِ فِيهَا عُدْوَانًا، وَلَيْسَ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِفْظُ وَجْهٌ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَعَ الْحِفْظِ أَنْ لَا يُخَاطِرَ بِهَا وَلَا يُغَرِّرَ، وَهُوَ بِالسَّفَرِ مُغَرَّرٌ وَمُخَاطِرٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 وَقَوْلُهُ: " إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ حِفْظُهَا بِمَكَانٍ مِنَ الْمِصْرِ دُونَ مَكَانٍ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ " فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْمِصْرَ يَتَسَاوَى حُكْمُ أَمَاكِنِهِ الْمَأْمُونَةِ، وَالسَّفَرُ مُخَالِفٌ لِلْمِصْرِ. فَصْلٌ: وَإِنْ دَفْعَهَا مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي قَبْضِ وَدَائِعِهِ، فَلَهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي غَيْرِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ، فَهَذَا فِي حَقِّ الْوَدِيعَةِ كَالْأَجَانِبِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَامًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ العام: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ طَالَبَ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَكِيلَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ لَزِمَ الْوَكِيلَ الْإِشْهَادُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُسْتَوْدَعِ مَقْبُولٌ عَلَى المودع فجاز أن لا يلزم الإشهاد، وقول غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى وَكِيلِهِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُودِعِ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي لُزُومِ الْإِشْهَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فِي جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ شَاءَ مِنْ عَدْلٍ أَوْ فَاسِقٍ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ. فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ الْمَالِكِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مَالِكَهَا رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَدَ الْحَاكِمِ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ مَالِكٍ، فَعَلَى هَذَا إِنِ دَعَاهُ الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ قِيلَ لِلْحَاكِمِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ في إعلام مالكها بالاسترجاع، فإن أخذها وَاجِبٌ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ. فصل: وإن دفعها مع حضور مالكها إلى أجنبي ائتمنه عليها فَاسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا ضَمِنَهَا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ إِلَى دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ كَالسَّفَرِ بِالْمَالِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ دُونَ أَمَانَةِ غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يد غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهَا، فَصَارَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَلَزِمَ الضَّمَانُ، وكان مالكها مخير بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَوْدَعِ الْأَوَّلِ إِنْ تَلِفَتْ أَوْ مُطَالَبَةِ الثَّانِي. وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَوَافَقَ فِي الْغَاصِبِ إِذَا أَوْدَعَ أَنَّ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يُودِعَ، كَمَا لَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُودِعَ، فَصَارَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يَدُهُ غَيْرُ مُحِقَّةٍ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شاء بغرمها، فَإِنْ أُغْرِمَهَا الثَّانِي نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لم يعلم ففي رجوعه عليه بغرمها وَجْهَانِ. وَإِنْ أُغْرِمَهَا الْأَوَّلُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِالْحَالِ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْغَاصِبِ إِذَا وَهَبَ مَا غَصَبَهُ ثُمَّ غَرِمَهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَعَلَى مَالِكِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِخِلَافِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى أَحَدٍ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا وَخَلَّفَهَا وَسَافَرَ ضَمِنَهَا، وَقَالَ: إِنْ خَلَّفَهَا مَعَ أَمْوَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْحِرْزَ بِغَيْرِ حَافِظٍ لَا يَكُونُ حِرْزًا، وَتَغْرِيرُهُ بِمَالِهِ لَا يَكُونُ فِي الْوَدِيعَةِ عُذْرًا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ الْمُودِعُ حَاضِرًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُودِعُ غَائِبًا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُسْتَوْدَعِ السَّفَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهَا. والثاني: أن لا يَكُونَ لَهُ. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ فَوَكِيلُهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِهَا، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي عُدُولِ الْمُسْتَوْدَعِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْمُودِعِ مَعَ حُضُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهَا هُوَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْحَاكِمِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُونًا فَدَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْأَمِينَ عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاكِمَهُ الْمُودِعُ فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاكِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَضْمَنُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ وَاخْتِيَارَ الْأَمِينِ اجْتِهَادٌ، وَلِأَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ عَامٌّ وَنَظَرَ الأمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 خاص، فإن لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ جَازَ أَنْ يَخْتَارَ لَهَا أَمِينًا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي حِفْظِهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أودع ما خلفه من الودائع عند أم أيمن حين هاجر واستخلف عليا في الرد - رضي الله عنه -. وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ أم لا: أحدهما: يلزمه الإشهاد عليه خوفا من تغير حَالِهِ وَحُدُوثِ جُحُودِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يشهد عليه ضمنها. والوجه الثاني: لا يلزمه الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهِ إِيَّاهَا لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ حَالُ الْمِصْرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا بِغَارَةٍ، أَوْ حَرِيقٍ، وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ مَعَهُ، لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ هِيَ أَحْفَظُ وَأَحْرَزُ، فَإِنْ تَرَكَهَا وَسَافَرَ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَعَلَيْهِ تَرْكُهَا فِي المصر على ما سنذكره، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى الْخَوْفَانِ كَانَ خَوْفُ السَّفَرِ أَعَمَّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَفِي جَوَازِ السَّفَرِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، لِأَنَّ السَّفَرَ أَخْطَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِاسْتِوَاءِ الْأَمْنِ فِي الْحَالَيْنِ، وفضل حفظه لها بِنَفْسِهِ فِي السَّفَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَإِنْ دَفَنَهَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أحدا يأتمنه على ماله فهلكت ضمن وإذا أودعها غيره وصاحبها حاضر عند سفره ضمن فإن لم يكن حاضرا فأودعها أمينا يودعه ماله لم يضمن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَتَى مَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا وَلَا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهَا إِيَّاهُ فَدَفَنَهَا فِي الْأَرْضِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْمَدْفُونَةُ فِيهِ سَابِلًا لَا تَحْجِيرَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ، فَدَفْنُهَا فِي مِثْلِهِ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ أَعْلَمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، لِأَنَّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الموضع حصيا حَرِيزًا كَالْمَنَازِلِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي لَا تَصِلُ الْيَدُ إليها إِلَّا مَنْ أَرَادَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْلِمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَا يُعْلِمَ بِهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا ضَمِنَهَا، لأنه قد ربما أدركته منيته فلو يوصل إليها، فصار بذلك تَغْرِيرًا، وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً مُؤْتَمَنًا صَحَّ، وَهَلْ يُرَاعَى فِي الْإِعْلَامِ بِهَا حُكْمَ الشَّهَادَةِ أَوْ حُكْمَ الِائْتِمَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيَرَى الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ عِنْدَ دَفْنِهِ لِيَصِحَّ تَحَمُّلُهُمَا لِذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنِ التَّعَدِّي، وَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّاهِدَيْنَ فِي نَقْلِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الِائْتِمَانِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا وَاحِدًا ثِقَةً، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرَاهَا، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي نَقْلِهَا إِنْ حَدَثَ بِمَكَانِهَا خَوْفٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاسْتِظْهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ، لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْأَخْطَارِ، فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ حُدُوثِ الْخَوْفِ بِمَكَانِهَا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هَلْ يَكُونُ إِعْلَامُهُ بِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، أَوْ مَجْرَى الْأَمَانَةِ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، فَإِنْ نَقَلَهَا ضَمِنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْأَمَانَةِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَلَا أَنْ يَبْعُدَ عَنْهَا، وَتَكُونُ يَدُهُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا دَفَنَهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مَأْمُونٍ، أَوْ عَدْلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ يُودِعُهَا عِنْدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ إِنْ فَعَلَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَضْمَنُ " وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ صَاحِبِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا لَمْ يُعْلِمْ صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ دَفْعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ حُضُورِ صَاحِبِهَا. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فَهَلَكَتْ ضَمِنَ لِخُرُوجِهِ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْأَمَانَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ التَّعَدِّيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: التَّفْرِيطُ فِي الْحِرْزِ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَضَعَهَا فِي غير حرز أن يَكُونُ قَدْ وَضَعَهَا فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 حِرْزٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إِلَى مَا لَيْسَ بِحِرْزٍ، أَوْ يَكُونُ قَدْ أَعْلَمَ بِمَكَانِهَا مِنْ أَهْلِهِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ التَّفْرِيطِ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الِاسْتِعْمَالُ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثَوْبًا فَيَلْبَسُهُ أَوْ دَابَّةً فَيَرْكَبُهَا، أَوْ بُسَاطًا فَيَفْتَرِشُهُ فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ حَتَّى لَمْ تَتَمَيَّزْ، فَهَذَا عَدُوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَطَهَا بِدَرَاهِمِ غَيْرِ الْمُودِعِ أَيْضًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ الْمُودِعِ، كَأَنَّهُ أَوْدَعَ وَدِيعَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَخَلَطَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمَّا مَيَّزَهَا لَمْ يَرْضَ بِخَلْطِهَا، وَلَكِنْ لَوْ خَلَطَهَا بِمَا يتميز منها مِثْلَ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ قَدْ نَقَصَ قِيمَتَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْخِيَانَةُ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَهَا لِيَبِيعَهَا، أَوْ لِيُنْفِقَهَا، فَهَذَا عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَهَا. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّعَرُّفُ لَهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ دَرَاهِمُ فَيَزِنُهَا، أَوْ يَعُدُّهَا، أَوْ ثِيَابًا فَيَعْرِفُ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ من التصرف. والثاني: لا يضمن، لأنه قد رُبَّمَا أَرَادَ بِهِ فَضْلَ الِاحْتِيَاطِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ فِي بَعْضِ مَا اسْتَظْهَرَ بِهِ الْمُودِعُ فِي حِرْزِهَا وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ منيعا بالقفل الذي يفتحه، فهذا عدوان بجب بِهِ الضَّمَانُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنِيعٍ كَالْخَتْمِ يَكْسِرُهُ، وَالشِّدَادِ يُحِلُّهُ، فَفِي ضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُ، لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ: طِينَةٌ خَيْرٌ مِنْ طِينَةٍ يَعْنِي أَنَّ طِينَةَ الْخَتْمِ تَنْفِي التُّهْمَةَ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الْخِيَانَةَ وَالتَّعَدِّيَ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِضَمَانِهَا وَيَجْعَلُ النِّيَّةَ فِيهَا كَالْفِعْلِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّيَّةَ فِي تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصَرُّفِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَكَذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُرَاعَى فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَدِّيًا بِالنِّيَّةِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ خَائِنًا وَسَارِقًا بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مَا أَثَّرَتْ فِي حِرْزِهَا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي ضَمَانِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهَا، فَأَمَّا اللقطة فمع النية في تملكها علم ظاهره وَهُوَ انْقِضَاءُ حَقِّ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 بِالتَّصَرُّفِ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ: يَجْعَلُهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَإِنْ نَوَى حَبْسَهَا لِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى رَبِّهَا ضَمِنَهَا، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ حِرْزِهَا إِخْرَاجَ عُدْوَانٍ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَهَذَا أَصَحُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا نَوَى أَنْ لَا يَرُدَّهَا أَمْسَكَهَا لِنَفْسِهِ فَضَمِنَهَا، وَإِذَا نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا لِمَالِكِهَا فَلَمْ يَضْمَنْهَا. فَصْلٌ: فَإِذَا اسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ عَنْ تَعَدِّيهِ وَأَعَادَهَا إِلَى حِرْزِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا كَالشِّدَّةِ المطربة في الخمر، والردة الموجبة للقتل، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْإِخْرَاجِ كَمَا يضمن المحرم الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ، فَلَمَّا كَانَ إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بَعْدَ إِمْسَاكِهِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةُ الْمُسْتَوْدَعِ لَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ حرز المستودع سارق فضمنها سقط عنه الضمان بردها [كان أولى إذا أخرجها المستودع فضمنها أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا] . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا ضُمِنَتْ بِهِ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِارْتِفَاعِ سَبَبِهِ كَالْجُحُودِ، وَلِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَالْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا وَجَبَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ لَمْ يَخْرُجْ بِالرَّدِّ إِلَى الْحِرْزِ كَالسَّارِقِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي فِي الْأَمَانَةِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ أَمَانَةٍ وَإِلَّا كَانَ أَمِينَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سبيل إلا إبراء نفسه بنفسه، أما استدلالهم بأن الحكم إذا ثبت لعلة زوال بِزَوَالِهَا فَالْعِلَّةُ لَمْ تَزُلْ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْأَوَّلَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَرْتَفِعْ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ فَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَعَادَهُ إِلَى حَقِّهِ. وَمِثَالُهُ مِنَ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَأَمَّا السَّارِقُ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ إِذَا رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكِهِ. وَالْوَجْهُ الثاني: قط سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ عَلَى أَمَانَتِهِ فَصَارَ عَوْدُهَا إِلَى يَدِهِ كَعَوْدِهَا إِلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ هُوَ الضَّامِنُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ التَّعَدِّي بَاقٍ وَإِنْ كَفَّ عَنْهُ فَسُقُوطُهُ عَنْهُ يَكُونُ بِرَدِّهَا عَلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِ مَالِكِهَا فِي قَبْضِهَا، فَأَمَّا إِبْرَاءُ الْمُودِعِ لَهُ مِنْ ضَمَانِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا وَاسْتِقْرَارِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ إِذَا كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَائِهَا فَفِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 أحدهما: وهو قول المروروذي قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ اسْتِئْمَانٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْغَاصِبِ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ لَا إِلَى مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِبَاتُ الْأَعْيَانِ لَا تُسْقِطُ ضَمَانَهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَادَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى حِرْزِهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا كَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَنْهُ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا ثم رده فيها ولو ضمن الدرهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي وُجُوبِ الضمان بكسر الختم وحل الشداد وَجْهَانِ: فَأَمَّا إِذَا أَوْدَعَ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَخْتُومَةٍ وَلَا مَشْدُودَةٍ فَأَخْرَجَ مِنْهَا دِرْهَمًا لِيُنْفِقَهُ قَدْ ضَمِنَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُنْفِقْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ، نُظِرَ فَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهَا ضَمِنَهُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهَا فَفِي ضَمَانِ جَمِيعِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ مَضْمُونًا بِغَيْرِ مَضْمُونٍ فَصَارَ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَ الْجَمِيعَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَالْبَصْرِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَاحِدٌ قَدْ آثَرَ مَالِكُهُ خَلْطَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْطِهِ خِلَافُ غَرَضِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ، وَإِنْ أَنْفَقَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَرَدَّ بَدَلَهُ وَخَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ الَّذِي رَدَّهُ بَدَلًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَن لَا يَتَمَيَّزَ مِنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ، فَيَصِيرُ بِخَلْطِهِ مُتَعَدِّيًا فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَصَارَ ضَامِنًا بِجَمِيعِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ وَيَصِيرُ كَمَنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ بِدَنَانِيرِ نَفْسِهِ عَنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا ضَمَانُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ما يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الدَّرَاهِمِ بَيْضَاءَ وَبَعْضُهَا سَوْدَاءَ، وَالدَّرَاهِمُ الْمَرْدُودَةُ فِيهَا أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ، فَيَضْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الدِّرْهَمِ الْمَرْدُودِ بَدَلًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا تميز عنه. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً وَأَمَرَهُ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا فَأَمَرَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا فِي دَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِدَوَابِّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ بَعَثَهَا إِلَى غَيْرِ دَارِهِ وَهِيَ تُسْقَى فِي دَارِهِ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا وَلَا بِسَقْيِهَا وَلَمْ يَنْهَهُ فَحَبَسَهَا مُدَّةً إِذَا أَتَتْ عَلَى مِثْلِهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ هَلَكَتْ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ مِنْهُ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى رَبِّهَا أَوْ يَبِيعُهَا فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فهو متطوع ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِيدَاعِهَا عِنْدَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَأْمُرَهُ وَلَا يَنْهَاهُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، وَيَعْلِفَهَا وَيَسْقِيَهَا عِنْدَ حَاجَتِهَا، وَقَدْرَ كِفَايَتِهَا، فَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ حِرْزًا جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا ضَمِنَ، وَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ وَفِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّ الْقَيِّمَ بِهَا إِذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَصَّرَ فِي عَلْفِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ حِرْزًا وَالْقَيِّمُ بِهَا إِذَا أَفْرَدَهُ بِعَلْفِهَا مَعَ غَيْرِ دَوَابِّهِ لَمْ يُقَصِّرْ فِي عَلْفِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِطْلَاقِ الضَّمَانِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا. وقال أبو سعيد الإصطرخي: مَتَى عَزَلَهَا عَنْ دَوَابِّهِ وَعَلَفَهَا فِي غَيْرِ إصْطَبْلِهِ ضَمِنَهَا بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِ نَظِيرِهِ لِنَفْسِهِ أَنَّ إِصْطَبْلَهُ أَحْرَزُ، وَعَلْفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ أَحْوَطُ، فَإِنْ ثَبْتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ حِرْزِهَا وَعَلْفِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْإِذْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ: أَنْفِقْ عليها لترجع علي، أو أنفق علي ففي وجوب تقديره للنفقة وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَنْ ضَمَانِهَا، وَلِيَزُولَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الْمُودِعِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ، وَإِنْ قَدَّرَ لَهُ قَدْرًا رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِأَنَّ لِنَفَقَتِهَا حَدًّا يُرَاعَى فِيهِ كِفَايَتُهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّقْدِيرِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْآذِنُ فِي النَّفَقَةِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْمُسْتَوْدَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهَا إِذَا لَمْ يَدَّعِ سَرَفًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ حِينَ أَذِنَ فِيهَا فَفِي جَوَازِ رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِ الْإِذْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِاحْتِمَالِ الْإِذْنِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَعَ عَلْفَهَا، لِأَنَّهَا ذَاتُ نَفْسٍ يَحْرُمُ تَعْذِيبُهَا، وَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَقَالَ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجْبِرَ الْمَالِكَ عَلَى عَلْفِهَا إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عَلْفِهَا لِيَرْجِعَ بِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، فَإِنْ عَلَفَهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَالْمَحْكِيُّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنِ النَّفَقَةِ إِبْرَاءٌ مِنْ ضَمَانِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَضْمَنُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، لِأَنَّهُ شَرْطٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ فَكَانَ مُطْرَحًا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَأْثَمُ، وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْغُرْمِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ كَانَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْ قَاتِلِهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّهْنِ إِذَا أُذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ: هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ بِالْإِذْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فأما إِنْ أُمِرَ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ جَلْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَجْهًا وَاحِدًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِ حَدًّا فِي سَرِقَةٍ وَالْجَلَدُ حَدًّا فِي زِنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا وَلَا يَنْهَاهُ فَعَلَيْهِ عَلْفُهَا، لِمَا يَلْزَمُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فِي مُدَّةٍ إِنْ لَمْ تَأْكُلْ فِيهِ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ غُرْمُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا تَضَمَّنَ الْحِفْظَ دُونَ الْعَلْفِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فَلَمْ يَضْمَنْ، وَتَعَلُّقًا بِأَنَّهُ لَوْ رَأَى بَهِيمَةً تَتْلَفُ جُوعًا فَلَمْ يُطْعِمْهَا لَمَا ضَمِنَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لَأَنَّ مَا وجب بالشرع فَهُوَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْ تُتَّخَذَ الرُوحُ غَرَضًا " وَذَكَرَ فِي صَاحِبَةِ الْهِرَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا النَّارُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ بِلَا عَلْفٍ، وَلِأَنَّ عَلْفَهَا مِنْ شُرُوطِ حِفْظِهَا، فَلَمَّا كَانَ حِفْظُهَا وَاجِبًا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْقَى بغير حافظ أولى أَنْ يَكُونَ عَلْفُهَا وَاجِبًا إِذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى بِغَيْرِ عَلْفٍ، وَبِهَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ. فَأَمَّا مَنْ رَأَى بَهِيمَةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ جُوعًا فلم يطعمها فَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ حفظها، وليس كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ عَلْفِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ تُعْلَفْ فَالطَّرِيقُ إِلَى رُجُوعِهِ بِعَلْفِهَا أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَنْظُرَ حَالَ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَلْزَمَهُ عَلْفُهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا نُظِرَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَهُ مِنْ بَيْعِهَا إِنْ خَافَ أن يذهب في علفها أكثر منها أو النفقة عليها إن رأى ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُهَا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ لَوْ كَانَ هُوَ الْآذِنَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يُنَصِّبَ لَهُ أَمِينًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ؟ عَلَى وجهين ذكرناهما في " اللقطة "، فإن اتفق الْمُسْتَوْدَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بالنفقة ثلاثة أوجه: أحدهما: يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمِ مَنْ يَحْكُمُ بِهَا لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لم يشهد، لأن لا يَكُونَ حَاكَمَ نَفْسَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أشهد رَجَعَ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ، لِأَنَّ الإشهاد غاية إمكانه. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْصَى الْمُودِعُ إِلَى أَمِينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَضَرَ الْمُسْتَوْدَعَ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، أَوْ وَكِيلُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا أَنْ يُودِعَهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا وَلَيْسَ لَهُ وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَاكِمٍ جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا إِلَى أَمِينٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَاكِمِ فَفِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا غَيْرَهُ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْحَاكِمِ وَمَعَ وُجُودِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا، فَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا قَدِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِهَا وَجْهَانِ، وَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا غَيْرَ مَنِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ وَبَعْضِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي عَلْفِ الدَّابَّةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنِ اخْتَارَهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَظْهَرُ أَمَانَةً، قُلْنَا إِنْ أَوْصَى بِهَا إلى غير أمين لم يجز، سواء جَعَلَهُ وَصِيَّ نَفْسِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ فِسْقَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ فَإِنْ فَعَلَ، نُظِرَ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ضَمِنَهَا لِتَفْرِيطِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى هَلَكَتْ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِيهَا فِعْلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا فَصَارَ ذَلِكَ عُدْوَانًا فَوَجَبَ الضَّمَانُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا حَتَّى مَاتَ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمُفَاجَأَةِ الْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ضَمِنَ - وَبِاللَّهِ التوفيق -. مسألة: قال الشافعي: " فَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةٍ آهِلَةٍ إِلَى غَيْرِ آهِلَةٍ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ هَذَا اللَّفْظِ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: كَثِيرَةَ الْأَهْلِ " إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: قَلِيلَةَ الْأَهْلِ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: وَطَنَ أَهْلِهِ إِلَى غَيْرِ وَطَنِ أَهْلِهِ. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً أَوْ غَيْرَ آمِنَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ كَانَ ضَامِنًا بِنَقْلِ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً ضَمِنٍ لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنْ إِبْعَادِهَا عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّرِيقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا أَوْ مَخُوفًا فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ آمِنًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ عَنْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَخُوفَةً أَوْ آمِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَخُوفَةً لَا يُأْمَنُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فِيهَا مِنْ غَارَةٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إنه لا يَضْمَنُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ اللُّقَطَةِ، وَكَمَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأن في إخراج المال عن القرية تغرير لم تدع إليه ضرورة. مسألة: قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ فَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً وَأَخْرَجَهَا إِلَى حِرْزٍ لَمْ يَضْمَنْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ حَالِ الْمُودِعِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ عَلَى حِرْزٍ أَوْ لَا يُعَيِّنَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى حِرْزٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِزَهَا حِرْزَ مِثْلِهَا، وَيَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى حِرْزٍ مِثْلِهِ أَوْ آخَرَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُحْرِزَهَا حَيْثُ شَاءَ فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ شَاءَ وَسَوَاءٌ أَحْرَزَهَا مَعَ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مَتَى أَحْرَزَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ ضَمِنَ كَالدَّابَّةِ. فَصْلٌ: فإن عين على حرز يحرزها فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ إخراجها من ذلك الحرز [أو لا ينهاه، فإن لم ينهاه عن إخراجها من الْحِرْزِ] الَّذِي عَيَّنَهُ جَازَ إِحْرَازُهَا فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزًا لِمِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ مَالِكَهَا بِالتَّعْيِينِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أحدهما: لضرورة أمن غَشَيَانِ نَارٍ، أَوْ حُدُوثِ غَارَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِي إِخْرَاجِهَا مَأْمُونًا، وَلَوْ تَرَكَهَا مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ لَكَانَ لَهَا ضَامِنًا، لِأَنَّهُ فَرَّطَ بِتَرْكِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَالْحِرْزُ الَّذِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ عَنِ التَّعْيِينِ إِلَى غَيْرِهِ اخْتِيَارًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَيُنْظَرُ فِي الْحِرْزِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ جَازَ نَقْلُهَا وَلَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْإِحْرَازِ دُونَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ نَقْلُهَا وَلَا يَضْمَنُهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحِفْظِ الْمُعْتَبَرِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَيَضْمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ نَقَلُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ. فَصْلٌ: وَإِنْ نَهَاهُ مَعَ التَّعْيِينِ عَلَى الْحِرْزِ عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُودِعِ أَوِ الْمُسْتَوْدَعِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُودِعِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا شَرْطُهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ نَقْلُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، ضَمِنَ أَوْ نَقَلَهَا مَنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ ضَمِنَ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ ضَمِنَ وَإِنْ نَقْلَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ لَمْ يَضْمَنِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الدُّورَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَتَبَايَنُ فِي الْإِحْرَازِ، وَالْبُيُوتُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَبَايَنُ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبُيُوتَ مِنَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الْحِرْزِ كَاخْتِلَافِ الدُّورِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي نَقْلِهَا مَعَ التَّعْيِينِ تَصَرُّفًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَصَارَ بِهِ مُتَعَدِّيًا، وجملة ذلك أن له في نقلها مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالثَّانِي: مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَالثَّالِثُ: مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَالرَّابِعُ: مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، فَعِنْدَنَا يَضْمَنُ إِذَا نَقَلَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ التَّعْيِينِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَلَدِ وَالدَّارِ، وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ وَالصُّنْدُوقِ، وَإِنْ كَانَ الْحِرْزُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فَفِي لُزُومِ مَا شَرَطَهُ لِلْمُودِعِ عَلَيْهِ مِنْ أن لا يحرزها منه وجهان: أحدهما: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ، وَمَتَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ لِإِحْرَازِ مَالِهِ إِلَّا مَا عَيَّنَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجِبُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهُ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحِرْزَ وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ إِلَّا الْحِفْظَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فِيهِ مِنْ غَشَيَانِ نَارٍ أَوْ حُدُوثِ حَرِيقٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنُصَّ الْمُودِعُ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنُصَّ، فَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَهَى عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ جَازَ مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ إِخْرَاجِهَا إِنَّمَا هُوَ لِفَرْطِ الِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهَا فِي مَكَانٍ يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا وَلَمْ يَنْقُلْهَا حَتَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِتَفْرِيطِهِ بِالتَّرْكِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ، وَإِنْ غَشِيَتْ نَارٌ، أَوْ حَدَثَتْ غَارَةٌ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَشَيَانِ النَّارِ كَانَ هذا فيه شَرْطًا بَاطِلًا، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ عَلْفُهُ، وَإِنْ نَهَى عَنْهُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ كَالدَّابَّةِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلِفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا يُخَافُ تَلَفُ نَفْسِهِ فَفِي لُزُومِ شَرْطِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ يَعْنِيهِ بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ شِرَائِهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَإِنْ نَهَاهُ فَفِي لُزُومِ شَرْطِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ، وَالشِّرَاءَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ هَذَا الشَّرْطُ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ لِقَطْعِ الِاجْتِهَادِ بِالنَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ ضَمِنَ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضْمَنْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاحْتِيَاطِ فِي نَصِّهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّابَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ عَلْفِهَا إِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا، فَأَمَّا مُؤْنَةُ إِخْرَاجِهَا وَنَقْلِهَا فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْعَلْفِ عَلَى مَا مَضَى. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " ولو قال المودع أَخْرَجْتُهَا لَمَّا غَشِيَتْنِي النَّارُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ نَارٌ أَوْ أثر يدل فالقول قول مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مِنْ حِرْزٍ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ أَخْرَجْتُهَا لِنَارٍ غَشِيَتْ أَوْ لِغَارَةٍ حَدَثَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ أَخْرَجْتَهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي غَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ عِيَانًا أَوْ خَبَرًا أَوْ يَرَى لِذَلِكَ أَثَرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ وَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ الْعُذْرِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ لَهَا لِغَيْرِ هَذَا الْعُذْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ فِي دَارِهِ أَوْ فِي جِوَارِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ النَّارِ وَالْغَارَةِ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ، بِيَقِينِ كَذِبِهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُودِعِ، لِاسْتِحَالَةِ الدَّعْوَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَلَا عَلِمْتَ مِنَ الْحَالِ السَّلَامَةَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إِخْرَاجِكَ التَّعَدِّي، فَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 أَقَمْتَ بَيِّنَةً بِحُدُوثِ الْخَوْفِ يَنْتَقِلُ بِهَا عَنِ الظَّاهِرِ جَعَلْنَا حِينَئِذٍ الْقَوْلَ قَوْلَكَ مَعَ يَمِينِكَ بِأَنَّكَ أَخْرَجْتَهَا بِغَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ تَنْقُلُنَا عَنِ الظَّاهِرِ غَلَّبْنَا حُكْمَ الظَّاهِرِ وَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُودِعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي النَّاحِيَةِ نَارًا وَلَا غَارَةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا إِنْ نَقَلَهَا خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ غَارَةٍ أَوْ نَارٍ فَلَمْ تَحْدُثْ غَارَةٌ ولم تغشى نَارٌ فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتُ صِدْقِ دَعْوَاهُ ظَاهِرَةً وَدَوَاعِيهِ غَالِبَةً لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ ظَنًّا وتوهما ضمن. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَى فُلَانٍ بِأَمْرِكَ فَالْقَوْلُ قول المودع وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْتَوْدَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا. وَالثَّانِيةُ: أَنْ يَدَّعِيَ دَفْعَهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِإِذْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لِلْوَدِيعَةِ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ فِي الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ قبل قَوْلَهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلُ الْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَعِيرِ في الرد غير مقبول في الحالين، كان الْمُسْتَوْدَعُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ أَوْ مردودا في الحالين، فلما كان في أحد الْحَالَيْنِ مَقْبُولًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخَرِ مَقْبُولًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي الرَّدِّ فإنما يقبل مَا كَانَ عَلَى أَمَانَتِهِ، فَلَوْ ضَمِنَهَا بِتَفْرِيطٍ أَوْ عُدْوَانٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، وكان القول قول المودع مع يمينه، وله الغرم، وهكذا لو مات المودع فادعى المستودع رد الوديعة على وارثه لم يقبل قوله، لأنه وإن لم يصر بموت المودع ضَامِنًا فَقَدْ صَارَ بِمَوْتِهِ خَارِجًا مِنْ عَقْدِ الوديعة [وولاية النظر، ولأنه يصير مدعيا للرد على غير من ائتمنه فصار كالوصي الذي لا يقبل قوله في رد مال اليتيم عليه، وهكذا لو مات المستودع فادعى وارثه رد الوديعة] على المودع لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ: ارْتِفَاعُ الْعَقْدِ بِالْمَوْتِ، وَعَدَمُ الِائْتِمَانِ فِي الْوَارِثِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُودَعِ بِأَمْرِ الْمُودِعِ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَى الْمُودِعِ مِنَ الْأَمْرِ وَالدَّفْعِ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلَى أَمَانَتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَرِينَةٌ وَدَلِيلٌ أَنَّهُ قَدِ ادَّعَى عَلَى الْمَدْفُوعِ إِذْنًا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ، وَفِي ادِّعَاءِ الرَّدِّ يَكُونُ مُدَّعِيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَقِيلَ قَوْلُهُ فِيهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ وَالدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ أَوْ يُنْكِرَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِلْوَدِيعَةِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقيَةً فَعَلَى الْمُسْتَوْدَعِ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمَالِكِ، وَلِلْمُودِعِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالرَّدِّ، وَإِنْ لَزِمَ فِي الرَّدِّ مُؤْنَةٌ الْتَزَمَهَا الْمُسْتَوْدَعُ لِأَنَّ بِعُدْوَانِهِ لَزِمَتْ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ تَالِفَةً - فَلَا يَخْلُو - حَالُ الْمَدْفُوعَةِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا أَوْ مُنْكِرًا، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ، وَالدَّافِعُ مُقِرٌّ له بالإبراء إلا أن يدعي دفعها إِلَيْهِ قَرْضًا أَوْ عَارِيَةً وَلَا وَدِيعَةً فَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، ثُمَّ لِلْمُودِعِ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا مِنْهُ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالدَّفْعِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَرَادَ الْغَارِمُ لَهُمَا الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ نُظِرَ فِي سَبَبِ الدَّفْعِ فَسَتَجِدُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا. وَالثَّانِي: عَارِيَةً. وَالثَّالِثُ: قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ. وَالرَّابِعُ: هِبَةً. وَالْخَامِسُ: وَدِيعَةً، فَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا، أَوْ عَارِيَةً فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الدَّافِعِ، رَجَعَ الدَّافِعُ بِهِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ بِالْأَخْذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُعْتَرِفًا بِالدَّيْنِ وَحُلُولِهِ، وَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلدَّيْنِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ نُظِرَ فَإِنْ صَدَقَ الْآخِذُ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ الْآخِذُ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ عَلَى دَيْنِهِ أَوْ كذبه، وَإِنْ قَالَ الدَّافِعُ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا هِبَةً، نُظِرَ [فإن رجع المودع بالغرم على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ، وإن رجع بالغرم على الآخذ لم يرجع الآخذ على الدافع، وإن قال الدافع: أمرني بدفعها وديعة نظر فإن رجع المودع على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ] وإن رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ فَفِي رُجُوعِ الْآخِذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّ الدَّافِعَ أَلْجَأَهُ إِلَى الْغُرْمِ بِائْتِمَانِهِ لَهُ وَدَفْعِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُودِعِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ. فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمُودِعُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إليه مقرا بالقبض، فالدافع يتبرئ مِنَ الضَّمَانِ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُودِعُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ كَذَّبَهُ، لِأَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ الْإِذْنُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ الْقَبْضُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُنْكِرًا لِلْقَبْضِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْمُقِرِّ بِالْإِذْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلدَّافِعِ أَوْ مُكَذِّبًا، فَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَالدَّافِعُ ضَامِنٌ، وَادِّعَاؤُهُ لِلدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُودِعِ لِتَكْذِيبِهِ وَلَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُصَدِّقًا لَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ، لِأَنَّ التَّوَثُّقَ بِالْإِشْهَادِ مَعَ حُضُورِ الْإِذْنِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ دُونَ الدَّافِعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الدَّافِعِ تَفْرِيطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ الْمُصَدِّقُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْآذِنُ غَائِبًا عَنِ الدَّفْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّفْعِ المأذون فيه من ستة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَرْضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً وَالْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَوَاءٌ، وَالدَّافِعُ ضَامِنٌ لما دفع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 وَإِنْ صَدَّقَهُ الْآذِنُ عَلَى الدَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الدَّفْعِ لِيَتَمَكَّنَ الْآذِنُ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ وَقِيمَةِ الْعَارِيَةِ، فَصَارَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مُفْرِطًا فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لو كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَبْدَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فَاسِقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُمَا ظَاهِرًا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ كَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِرَدِّهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا الْحُكَّامُ لِفَضْلِ اجْتِهَادِهِمْ، فَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَاحِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِهَا فَصَارَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ قَضَاءً لِدَيْنٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِالدَّفْعِ فَيَبْرَأُ الْمُودِعُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَفِي ضمان الدافع فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الدَّيْنِ إِنْ طُولِبَ بِهِ فَيَبْرَأُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ضَامِنٌ، لِأَنَّ إِذْنَهُ يَضْمَنُ دَفْعًا لَا يَتَعَقَّبُهُ مُطَالَبَةٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ يَمِينٌ، فَصَارَ بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الشَّهَادَةِ مُفَرِّطًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ هِبَةً. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ فِيهَا لَا تَسْتَحِقُّ لَمْ يَضْمَنِ الدَّافِعُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ اسْتِيدَاعًا لَهَا عِنْدَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِيمَنْ أَوْدَعَ لِغَيْرِهِ مَالًا: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ، لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَمَرَهُ الْمُودِعُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْآمِرِ بِالرَّدِّ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى يَدِ هَذَا الْمُسْتَوْدَعِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ وَلَا عُذْرٍ، فَيَكُونُ الأمر متعديا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 ضَامِنًا، وَقَوْلُ الدَّافِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَلْ يَكُونُ لِلْآمِرِ الرُّجُوعُ إِذَا أَغْرَمَهَا عَلَى الدَّافِعِ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ لَكِنْ بِعُذْرٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ عُذْرِهِ بِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ الْمَأْمُورِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْآمِرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ قوله عليه، ولم يأتمن المأمور فلم يقبل قوله عليه. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا، لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يَرُدُّهَا مَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي الرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْمَأْمُورُ لَهُ يَعْمَلُ ضَامِنًا لَهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا فِي حَقِّ الْآمِرِ [عَلَى الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَقَوْلُ الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَالِكِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ] . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا وَتَعْيِينِهِ لَهُ عَلَى الْمَأْمُورِ أَنْ يَرُدَّهَا مَعَهُ، فَقَوْلُ الْمَأْمُورِ هَاهُنَا مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّعْيِينِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ مُصَدِّقًا لِلْآمِرِ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَالْآمِرُ ضَامِنٌ، وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَوَّلَهَا مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أَحْرَزَ أَوْ مِثْلِ حِرْزِهَا لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. والحكم فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، كَنَقْلِهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وإن خالفنا أبو حنيفة خلافا تقدم الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةً مَشْدُودَةً أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً مَخْتُومَةً فَكَسَرَ خَتْمَهَا وَحَلَّ شَدَّهَا وَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُلْهَا بَعْدَ كَسْرِ الْخَتْمِ وَحَلِّ الشِّدَادِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ غَيْرَ مَشْدُودَةٍ وَلَا مَخْتُومَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمُسْتَوْدَعِ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ مُرْسَلَةً فَأَحْرَزَهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِي خَرِيطَةٍ فَلَهُ نَقْلُهَا إِلَى مِثْلِهَا أَوْ أَحْرَزَ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا ضَمَانَ لِعُذْرٍ كَانَ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى أَدْوَنِ مِنْهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمَالِكِ، فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ تِلْكَ الْخَرِيطَةِ إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَ، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَى أَحْرَزَ مِنْهَا أَمْ لَا، وَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ عُذْرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ النَّقْلِ هَلْ هُوَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يمينه، لأن الظاهر إخراجها عدوان إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عُذْرٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 مسألة: قال الشافعي: " ولو أَكْرَهَهُ رَجُلٌ عَلَى أَخْذِهَا لَمْ يَضْمَنْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ. فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي مَالِكِ مَالٍ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ كَرْهًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فِي الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ عُدْوَانٌ أَوْ تَفْرِيطٌ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، فَقَدْ صَارَ حِفْظُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ واجب، فَإِذَا خَالَفَهُ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْتِزَامَ حِفْظِهَا سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَسَقَطَ الْحِفْظُ وَالضَّمَانُ عَنْهُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مُمْتَنِعًا مِنَ اسْتِرْجَاعِهَا. فَصْلٌ: وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ قَبِلَ وَدِيعَةً طَوْعًا ثم تغلب عليه متغلب فأكرهه عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا الْمُتَغَلِّبُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا، فَهَذَا غَيْرُ ضَامِنٍ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْأَيْدِي الْغَالِبَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِيَ مَالَ غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَحْلٌ فَغَلَبَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَلْقَى فِي الْبَحْرِ مَالَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّائِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَكَلَ بِنَفْسِهِ وَتَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِمَا وَحَلَفَ إِنْكَارًا لَهَا فَإِنْ جَعَلْنَاهُ ضَامِنًا لِلدَّفْعِ كَانَتْ يَمِينُهُ يَمِينَ مُكْرَهٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حِنْثٌ، وَإِنْ لم نجعله ضَامِنًا بِالدَّفْعِ حَنِثَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهَا فَتُؤْخَذُ بِدَلَالَتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ وَالْأَخْذَ مُبَاشَرَةٌ، فَصَارَ كَالْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَمْنُوعٌ مِنَ العدوان والتفريط وَالدَّلَالَةُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَضَمِنَ بِهَا وَإِنْ كَانَ معذورا. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَرْقُدَ عَلَى صُنْدُوقٍ هِيَ فِيهِ فَرَقَدَ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَوْمُهُ عَلَى الصُّنْدُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْهُ فَهُوَ زِيَادَةُ حِرْزٍ لَا يَضْمَنُ بِهِ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِنَهْيِهِ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَالتَّرْفِيهَ عَلَيْهِ، فَمَتَى نَامَ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِالنَّهْيِ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ الْكَرَاهَةَ خَوْفًا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ إِذَا نَامَ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا، فَصَارَ كَمَنْ أُودِعَ خَرِيطَةً فَجَعَلَهَا فِي خَرِيطَةٍ ثَانِيَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، يَضْمَنُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْفِلَهَا بِقُفْلٍ وَاحِدٍ فَقَفَلَهَا بِقُفْلَيْنِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفِنَهَا فِي أَرْضٍ لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَدَفَنَهَا فِيهَا وَبَنَى عليها حائط كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ فَأَقَامَ فِيهِ مَنْ يَحْفَظُهُ فَسُرِقَتْ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ لَهَا سَرَقَهَا ضَمِنَ، وَإِنْ سَرَقَهَا غَيْرُهُ فضمانه على وجهين. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتَ اسْتَوْدَعْتَنِيهِ فَهَلَكَ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا فَجَحَدَهَا وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ فَاعْتَرَفَ بِهَا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ اسْتُودِعْتُهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فَادَّعَى بِتَلَفِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْجَحْدِ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَهَا، وَمَنْ ضَمِنَ وَدِيعَةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْغُرْمُ بِتَلَفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ قَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِادِّعَاءِ التَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى تَلَفِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ، فَلَا تُسْمَعُ وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ الضمان ولو سأل إحلاف المودع أنه لا يَعْلَمُ بِتَلَفِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا قَبْلَ الْجُحُودِ، فَفِي اسْتِمَاعِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يسمح وَيَحْكُمُ بِهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْغُرْمُ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ ضَمَانِهَا بِالْجُحُودِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْغُرْمَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ لَهَا بِالْجَحُودِ الْمُتَقَدِّمِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ حِينَ طُولِبَ بِالْوَدِيعَةِ: لَيْسَ لَكَ مَعِي وَدِيعَةٌ، أَوْ لَا حَقَّ لَكَ فِي يَدِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا وَادَّعَى تَلَفَهَا قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ ليس في القولين تكاذب، وَمَنْ تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْهُ فَلَا وَدِيعَةَ مَعَهُ وَلَا فِي يَدِهِ، وَخَالَفَ حَالُ الْمُنْكِرِ لَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَاذُبِ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 مسألة: قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي كُمِّهِ فَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ أَحْرَزُ ". قَالَ الماوردي: هكذا روى الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَيَدُهُ أَحْرَزُ، وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَيَدُهُ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُسْرَقُ مِنْ كُمِّهِ وَلَا تُسْرَقُ مِنْ يَدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ ": أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَالْكُمُّ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ رَبَطَهَا فِي كُمِّهِ ثُمَّ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ يَدَهُ مَعَ كُمِّهِ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الرَّبِيعِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فِي كُمِّهِ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّ كُمَّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي يَدِهِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ فَمَنْ جَعَلَ يَدَهُ أَحْرَزَ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ جَعَلَ كُمَّهُ أَحْرَزَ خرج ضمانه عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصِّ الْمُودِعِ هَلْ يَقْطَعُ اجْتِهَادَ الْمُسْتَوْدَعِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِزَهَا فِي جَيْبِهِ فَأَحْرَزَهَا فِي كُمِّهِ ضَمِنَ لِأَنَّ جَيْبَهُ أَحْرَزُ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يحرزها في كمه فأحرزها فِي جَيْبِهِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ: وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيعَةً وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي كُمِّهِ وَلَا فِي جَيْبِهِ وَلَا فِي يَدِهِ فَإِنْ وَضْعَهَا فِي كمه وَرَبَطَهَا كَانَ حِرْزًا، سَوَاءٌ رَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِ كُمِّهِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ جَعَلَهَا فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ دَاخِلَةً فِي كُمِّهِ، وَإِنْ جَعَلَهَا دَاخِلَ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ خَارِجِهِ ضَمِنَ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ خَارِجَةً مِنْ كُمِّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْكُمَّ بِهِ يَصِيرُ حِرْزًا لَا بِانْفِرَادِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَهَا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذلك خفيفا قد ربما يسقط مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ضَمِنَ وَإِنْ كان ثقيلا، ولا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ سُقُوطِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ عَلَيْهَا ضَمِنَ، وَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْفَظُ لَهَا إِذَا أَمِنَ سُقُوطَهَا مِنْهُ لِبُعْدِهِ مِنَ السَّارِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَيْبُ مَثْقُوبًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَسَقَطَتْ أَوْ حَصَلَتْ بَيْنَ قَمِيصِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَسَقَطَتْ ضَمِنَهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا كَانَتْ يَدُهُ أَحْرَزَ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَأْمَنُ السَّهْوَ عَنْهَا ضَمِنَ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَأْمَنُ السَّهْوَ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا الْخَاتَمُ إِذَا لَبِسَهُ فِي أُصْبُعِهِ كَانَتْ حِرْزًا إِذَا كَانَ مُتَمَاسِكًا فِي خِنْصَرِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاسِعًا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الْمُسْتَقِرَّ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 خِنْصَرِهِ فِي الْبِنْصِرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لأنها أغلظ، ولو لبسه فِي الْإِبْهَامِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَإِنْ غَلُظَتْ، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى الْيَدِ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَمَلٍ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَهُ بِتِلْكَ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ ضَمِنَ. فَصْلٌ: وَإِذَا حَمَلَ مَا فِي كُمِّهِ أَوْ جَيْبِهِ أَوْ يَدِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ فَعَلَيْهِ إِحْرَازُهُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ كُمُّهُ وَلَا جَيْبُهُ وَلَا يَدُهُ حِرْزًا لَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنَّ مُنْزِلَهُ أَحْرَزُ لَهُ فَلَوْ خَرَجَ بِهَا فِي جَيْبِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ضَمِنَ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ الدُّكَّانُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَمْ يَضْمَنْ إِذَا حَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى دُكَّانِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْزِلُهُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمِثْلِهَا وَكَانَ الدُّكَّانُ أَحْرَزَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَسُرِقَتْ فَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لَهَا ارْتِيَادًا لِمَوْضِعٍ مِنْ دُكَّانِهِ يُحْرِزُهَا فيه لم يضمن لعدم تفريطه، وَإِنْ كَانَ اسْتِرْسَالًا وَإِمْهَالًا ضَمِنَ. فَصْلٌ: وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَأَحْرَزَهَا فِيهِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْ سَرَقَهَا مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِهِ ضَمِنَ إِذَا نَالَتْهَا يَدُهُ، وَلَوْ سَرَقَهَا بَعْضُ أَهْلِ مَنْزِلِهِ مِنْ زَوْجَةٍ، أَوْ خَادِمٍ، أَوْ وَلَدٍ نُظِرَ فِي سَارِقِهَا، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالسَّرِقَةِ ضَمِنَ، لِأَنَّ تَمْكِينَ مِثْلِهِ مِنْ مَنْزِلٍ فِيهِ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ تَرْكَ الْوَدِيعَةِ فِي منزل تركها في مثل تَفْرِيطٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا مِنْ وَرَاءِ حِرْزٍ فِي الْمَنْزِلِ كَبَابٍ وَقُفْلٍ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى التَّفْرِيطِ، وَإِنْ كَانَتْ بَارِزَةً تَمْتَدُّ إِلَيْهَا يَدُهُ فِي الْمَنْزِلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ ثِيَابًا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ حِرْزُهَا فِي الْمَنَازِلِ مُفْرَدًا عَنْ مَوَاضِعِ سَاكِنِيهِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ خَافِيًا لَا يُحْرَزُ مِثْلَهُ إِلَّا فِي ظَوَاهِرِ الْمَنَازِلِ لم يضمن والله أعلم (بالصواب) . مسألة: وَإِذَا هَلَكَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ بِعَيْنِهَا فَهِيَ لِرَبِّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرٍ عَنْهَا مِثْلَ دَنَانِيرَ أَوْ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا مَوْتُ الْمُسْتَوْدَعِ فَمُبْطِلٌ لِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَأْتَمِنْ وَارِثَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا لَزِمَ الْوَارِثَ إِعْلَامُ الحاكم بها حتى يأمره فيها بِمَا يَرَاهُ حَظًّا لِمَالِكِهَا مِنْ إِحْرَازِهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ، أَوْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَاكِمُ بِهَا وَيَسْتَأْذِنْهُ فِيهَا ضَمِنَ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُسْتَوْدَعَ رَدُّهَا عَلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْوَارِثُ إِيدَاعَهَا عِنْدَهُ فَتَصِيرُ وَدِيعَةً مُبْتَدَأَةً، وَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ الْمُودِعَ جُنَّ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بالسفه لبطل الْوَدِيعَةُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ رَدُّهَا عَلَى وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ أَنْ يَكُونَ ذَا نَظَرٍ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 الْمُسْتَوْدَعُ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ كَانَ عَلَى وَلِيِّهِ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَهَا الْوَلِيُّ، لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ بِطُرُوءِ الْجُنُونِ وَالسَّفَهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَمَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا أَوْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَعَيْنُهَا بَاقِيَةٌ لَزِمَ الْوَارِثَ تَسْلِيمُهَا إِلَى مَالِكِهَا وَذَلِكَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ الوارث، وإما ببينة يضمها الْمُودِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً وَلَا وَصِيَّةً وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ وَادَّعَاهَا مِلْكًا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا فَأَمَّا إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْوَدِيعَةُ بِعَيْنِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْمَالِكُ الْمَيِّتَ فِي وَصِيَّتِهِ بِتَلَفِهَا فَلَهُ إِحْلَافُ الْوَرَثَةِ ثُمَّ هُمْ بَرَاءٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ إِمَّا بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ وَيُحَاصُّ الْمَالِكُ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُحَاصُّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَلِفَتْ بِفِعْلِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي تَرِكَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَمَانَتِهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وهذا قول أبي حامد المروزي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُجُودِ جِنْسِهَا أَنَّهَا فِيهِ أَوْ مِنْهُ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً كَانَتْ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُوصِي بِالْوَدِيعَةِ إِلَّا وَهِيَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا صَارَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ شيء من جنسها فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ اعْتِبَارًا بالظاهر من الجنس أنه منها. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ أُسْوَتَهُمْ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمُ اعتبارا باليقين في الاشتراك. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ الْوَدِيعَةَ مِثْلَ عَبْدٍ أَوْ بَعِيرٍ فَقَالَ هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَلَا أَدْرِي أَيُّكُمَا هُوَ قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا لَا أُحْلِفَ الْمُودَعُ بالله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 مَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ وَوَقَفَ ذَلِكَ لَهُمَا جَمِيعًا حَتَى يَصْطَلِحَا فِيهِ أَوْ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً وَأَيُّهُمَا حَلَفَ مَعَ نُكُولِ صَاحِبِهِ كَانَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ عَبْدٌ أَوْ بِعِيرٌ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي جَوَابِهِ لَهُمَا مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لا يعرفه بعينه. والسادس: أن يقر بأنه وَدِيعَةٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مُودِعَهَا هَلْ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا؟ أَوْ غَيْرُهُمَا؟ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَهُ بريء مِنْ مُطَالَبَتِهَا وَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهِمَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنْ سَبْقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ بَرِئَ بِإِحْلَافِهِ. وَإِنِ ادَّعَيَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدِّمُ بِالْقُرْعَةِ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يُقَدِّمُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ دُونَهُ النَّاكِلُ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا فَلَا حَقَّ فِيهِمَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِلْكًا وَإِنْ حَلَفَا مَعًا نُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوَقَّفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن ينكرهما وَيُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا فَلِلْمُدَّعِينَ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا. وَالثَّانِيةُ: أَنْ لَا يَسْأَلَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لَهُمَا، وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُحَلِّفُهُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ بِهَا، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ هِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ سُلِّمَتْ إِلَى الْحَالِفِ مِنْهُمَا، ثُمَّ نَظَرَ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مما لا تنقل لم يطالب المدفوعة إلي بِكَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْقَلُ طَالَبَهُ بِكَفِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِغَائِبٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُنْزَعُ من يده ويقسم بَيْنَهُمَا، وَيُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلٍ لِمَالِكِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تنتزع من يده، فإن قالا الْمُدَّعِيَانِ لَا نَرْضَى بِأَمَانَتِهِ ضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَرْضَيَانِ بِهِ، وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِيَانِ صَاحِبَ اليد عن مالكها حين أقر بها لغيرهما وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يَذْكُرَهُ، وَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَاضِرِ يُفِيدُ، وَذِكْرَ الْغَائِبِ لَا يُفِيدُ، وإذا كان هذا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ أَحَاضِرٌ مَالِكُهَا أَمْ غَائِبٌ؟ (فَإِنْ قَالَ: غَائِبٌ) لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ قَالَ: حَاضِرٌ، سَأَلَهُ عَنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ صَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي الْوَدِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَذْكُرَهُ، لِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيَانِ مَا لَزِمَهُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا القسم الثالث: وهو أن يُقِرُّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وفي وجوب اليمين عليه قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ، لِإِنْكَارِهِ الْآخَرَ. وَالثَّانِي: أنه لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ فَهِيَ لِلْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْمُكَذَّبُ الدَّعْوَى عَلَى الْمُصَدَّقِ سُمِعَتْ مِنْهُ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْمُكَذَّبِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا اسْتَقَرَّتِ الْوَدِيعَةُ مَعَ الْمُصَدَّقِ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أحدهما: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُكَذَّبِ بَعْدَ النُّكُولِ تُسَاوِي الْإِقْرَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَاسْتَوَيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَتُوقَفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا لِلْأَوَّلِ وَيُغَرَّمُ لِلْمُكَذِّبِ الْحَالِفِ بَعْدَ نُكُولِهِ قِيمَتَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ كَالْمُتْلِفِ لَهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَقَدْ صَارَ مُصَدِّقًا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى النِّصْفِ مُكَذِّبًا لَهُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، فَهَلْ يَحْلِفُ فِي تَكْذِيبِهِ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ يمين أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ الْجَوَابُ إِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَأْنَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدَّعْوَى عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِهِ سُمِعَتْ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدَّعِيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَيَتَحَالَفُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَانِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ في يد صاحب اليد حتى يصطلحا، وإن ادَّعَيَا عِلْمَهُ أُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَتَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ قَالَ: أُقَسِّمُ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَأُغَرِّمُهُ الْقِيمَةَ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِنْ نَكَلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا: لَا، أُحْلِفَ، وَوُقِفَ ذَلِكَ لَهُمَا رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا مَا ادَّعَيَا إِلَّا وَدِيعَةً عَيْنُهَا بَاقِيَةٌ وَلَمْ يَسْتَهْلِكْهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِقْرَارِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَكَيْفَ يُغَرَّمُ قِيمَةً لَا يَدَّعِيَانِهَا وَمَا ادَّعَيَاهُ كَانَ لَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ فَإِحْلَافُ الْمُسْتَوْدَعِ لَا يُفِيدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا، لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ إِنْ نَكَلَ؟ قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ لِأَجْلِ هَذَا إلى أن اليمين غير واجبة، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا غُرِّمَ، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنْ يَنْزَجِرَ بِهَا فَيُبَيِّنُ عِلْمًا قَدْ كَتَمَهُ، فَعُلِمَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ [بَيَانٌ تَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتِ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ] ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بِأَثْمَانِهِمَا. وَالثَّانِي: يَكُونُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا وَأَيْنَ تُوقَفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ. وَالثَّانِي: ينتزع مِنْ يَدِهِ وَيُقِرُّهَا الْحَاكِمُ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ قَدْ صَارَ بِالنُّكُولِ وَالْإِنْكَارِ خَصْمًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَتَحَالَفُ الْمُتَدَاعِيَانِ فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلِ الْمَالِكِ لَهَا لَوْ حَضَرَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْوَارِثِ إِذَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بَعْدَ طُولِ الْكَشْفِ بِأَنْ لَا وارث سواه، وإن حلف مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وجهان. والثاني: أنهما تُوقَفُ، وَفِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى يَدِهِ وَجْهَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهَا جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا، ثُمَّ هُوَ قَبْلَ الرُّكُوبِ مُسْتَوْدَعٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا رَكِبَ صَارَ مُسْتَعِيرًا ضَامِنًا، فَإِنْ تَرَكَ الرُّكُوبَ لن يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالرَّدِّ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُودِعُ بَعْدَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي سُقُوطِهِ عَنْهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا وَجْهَانِ مِنْ عُدْوَانِ الْمُسْتَوْدَعِ إِذَا أُبْرِئَ مِنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ الْمُودِعُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي إِجَارَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ فَهُوَ عَلَى أَمَانَتِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا وَسَلَّمَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَوْ أَعَادَهَا بِإِذْنِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِي الْإِجَارَةِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ يَدِهِ بِعَقْدٍ وَاجِبٍ، وَفِي الْعَارِيَةِ بِعَقْدٍ جَائِزٍ. فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ وَدِيعَةً إِلَى صَبِيٍّ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا كَانَ مُغَرَّرًا بِمَالِهِ، لأن الصبي لا يباشر حفاظ مَالِهِ فَكَيْفَ مَالُ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتْلَفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ الْبَالِغَ لَا يَضْمَنُهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَتْلَفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَهَا الْبَالِغُ، لِأَنَّ حِفْظَهَا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ صَاحَبَهَا هُوَ الْمُفَرِّطُ دُونَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَتْلَفَ بِجِنَايَتِهِ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الِائْتِمَانَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِإِذْنٍ فِي اسْتِهْلَاكِهَا، فَصَارَ كَمَنْ أَبَاحَ صَبِيًّا شُرْبَ مَاءٍ فِي دَارِهِ وَأَكْلَ طَعَامِهِ فَدَخَلَ وَاسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْدَعَ صَبِيٌّ رَجُلًا وَدِيعَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا نَظَرَ لَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا الرَّجُلُ مِنْهُ ضَمِنَهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى وَلِيِّهِ، أَوِ الْحَاكِمِ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الصَّبِيِّ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ عَنْهُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَخْذِ الْوَدِيعَةِ مِنَ الصَّبِيِّ خَائِفًا عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا فَأَخَذَهَا لِيَدْفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهِ أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ خَلَاصَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا خَلَّصَ طَائِرًا فِي جَارِحٍ أَوْ حَيَّةٍ فَتَلِفَ، فَفِي ضمانه بالجزاء قولان - والله أعلم بالصواب -. آخر كتاب الوديعة والحمد لله كثيرا ولله العصمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَصْلُ مَا يَقُومُ به الولاة من جمل الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ من مال مشرك كلاهما مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله فأحدهما الغنيمة قال تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] . الآية. والوجه الثاني هو الفيء قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} [الحشر: 7] الآية. (قال الشافعي) رحمه الله: فالغنيمة والفيء يجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معا سواء ثم تفترق الأحكام في الأربعة الأخماس بما بين الله تبارك وتعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة على ما وصفت من قسم الغنيمة وهي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير والفيء هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قرى عربية أفاءها الله عليه أربعة أخماسها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين يضعه حيث أراه الله تعالى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث اختصم إليه العباس وعلي رضي الله عنهما فِي أَمْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين فكان يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوليها أبو بكر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليها عمر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر فوليتكماها على أن تعملا فيها بمثل ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها (قال الشافعي) وفي ذلك دلالة على أن عمر رضي الله عن حكى أن أبا بكر وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ما رأيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعمل به فيها وأنه لم يكن لهما مما لم يوجف عليه من الفيء ما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنهما فيه أسوة المسلمين وكذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما وقد مضى من كان ينفق عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم أعلم أحدا من أهل العلم قال إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 ذلك لورثتهم ولا خالف في أن تجعل تلك النفقات حيث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح للإسلام وأهله قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يقتسمن ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة " قال فما صار في أيدي المسلمين من فيء لم يوجف عليه فخمسه حيث قسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأربعة أخماسه على ما سأبينه وكذلك ما أخذ من مشرك من جزية وصلح عن أرضهم أو أخذ من أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين أو مات منهم ميت لا وارث له أو ما أشبه هذا مما أخذه الولاة من المشركين فالخمس فيه ثابت على من قسمه الله له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة وهذا هو المسمى في كتاب الله تبارك وتعالى الفيء وفتح فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتوح من قرى عربية وعدها الله رسوله قبل فتحها فأمضاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سماها الله له ولم يحبس منها ما حبس من القرى التي كانت له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعنى قول عمر لرسول الله خاصة يريد ما كان يكون للموجفين وذلك أربعة أخماس فاستدللنا بذلك أن خمس ذلك كخمس ما أوجف عليه لأهله وجملة الفيء ما رده الله على أهل دينه من مال من خالف دينه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ مِنَ الْغُنْمِ، وَالْغُنْمُ مُسْتَفَادٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ: (وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ) وَأَمَّا الْفَيْءُ: فَهُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنَ الظِّلِّ فَيْءٌ لِرُجُوعِهِ وَالْأَنْفَالُ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَيْءٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ: (تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي) [الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ] وَالْغَنِيمَةُ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا - بِقِتَالٍ - بِإِيجَافِ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ. سُمِّيَ غَنِيمَةً، لِاسْتِقَادَتِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالْفَيْءُ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. سُمِّيَ فَيْئًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِ طَاعَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْهُمْ إِلَى أَعْدَائِهِ وأهل معصيته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: الْغَنِيمَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَيْءُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عن الكافة فكان مطرحا معمل فِي الْفَيْءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقُرَى. وَالْأَصْلُ فِي الْغَنِيمَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . وَالْأَصْلُ فِي الفيبء قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى والمساكين} [الحشر: 7] الآية. فَصْلٌ: وَقَدْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتْ تُجْمَعُ فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا إِلَى أَنْ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي " إِلَى أَنْ قَالَ: " وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ " الْحَدِيثَ. فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِلْكًا لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا دون غيره بقوله تعالى: {ويسألونك عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1] . وَالْأَنْفَالُ: هِيَ الْغَنَائِمُ، لِأَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: (إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ} فَسُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ مُسْتَفَادٍ، وَفِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ شَكُّوا فِي غَنَائِمِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] . وَلَمْ يَعْلَمُوا حُكْمَ إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] . وَالثَّانِي: أَنَّ شُبَّانَ الْمُقَاتِلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ تَسَارَعُوا إِلَى الْقِتَالِ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الشُّبَّانُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْغَنَائِمِ لِقِتَالِنَا، وَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا ردءا لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ اخْتَلَفُوا وَكَانُوا أَثْلَاثًا فِي الْغَنَائِمِ أَيُّهُمْ أَحَقُّ بِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَجَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ دُونَهُمْ حَسْمًا لِتَنَازُعِهِمْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمْ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأَدْخَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، مِنْهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 عثمان بن عفان، وطلحة - رضي الله عنهما - أَمَّا عُثْمَانُ فَلِتَشَاغُلِهِ بِتَمْرِيضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ أَنْفَذَهُ لِيَتَعَرَّفَ خَبَرَ الْعِيرِ وَأَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، فَلَمَّا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى مَالَ الْغَنِيمَةِ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ خُمُسِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْ سَمَّى مَعَهُ أَهْلَ الْخُمُسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى والمساكين وابن السبيل} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . فَدَلَّ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَيْهِمَا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الثُّلُثِ مِنْهُ لِلْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لِلْأَبِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَتَارَةً مُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَصَارَ مَالُ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، خَمْسَةٌ مِنْهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذوي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يُذْكَرُ مِنْ بَعْدُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ عِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَلَا يُفَضَّلُ ذُو غِنًى عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَالِ الْغَنِيمَةِ. فَصْلٌ: [حكم مال الفيء] وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ، وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْوَاصِلَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَالَّذِي انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَوْفًا وَرُعْبًا، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي صَالَحُونَا بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وأموالهم استكفافا وتورعا، والمأخوذة من عشور أموالهم إذا دخلوا علينا فجارا وَالْجِزْيَةِ الَّتِي نُقِرُّهُمْ بِهَا فِي دَارِنَا، وَقَالَ: الخراج الْمَضْرُوبِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ، وَالْأَرْضِينَ الْمَأْخُوذَةِ عَفْوًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مَنْ مَاتَ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ فَيْءٌ، لِأَنَّهُ وَاصَلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الجديد، وله في التقديم قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْفَيْءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا وَرُعْبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَعُشُورِ تِجَارَتِهِمْ وَمِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَيَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ، وَالْقَوْلُ الأول من قوله أصح، لاستواء جميعها في الوصول إلينا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْفَيْءِ كَمَا مَلَكَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ وَصَارَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا إِلَى أَنْ أَنْزَلَ الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ حِينَئِذٍ، فِيمَا اسْتَقَرَّ حكم الفيء عليه عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا سَهْمٌ كَأَحَدِ أَهْلِ الْخُمُسِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مَرْدُودٌ فِيكُمْ ". وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ، مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمٌ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ خَاصَّةً، فَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِ الْفَيْءِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، منها أحد وعشرين سَهْمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ هِيَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَيْءَ إِلَى رَسُولِهِ كَمَا أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ اسْتَثْنَاهُ فِي سَهْمِ الْغَانِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْفَيْءِ مَحْمُولًا على المقدار المجعول لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ الْخُمُسُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِمَنْ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ أَضَافَهَا إِلَيْهِ وَهُمُ الْغَانِمُونَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ فِي أموال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ مِنْهَا جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليتها بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلْتُمَانِي أَنْ أُوَلِّيكُمَاهَا فَوَلَّيْتُكُمَاهَا عَلَى أَنْ لَا تَعْمَلَا فِيهَا إِلَّا بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ وَلِيتُمَاهَا ثُمَّ جِئْتُمَانِي تَخْتَصِمَانِ، أَتُرِيدَانِ أَنْ أَدْفَعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نِصْفًا أَتُرِيدَانِ مِنِّي قضاء غير ما قضيت بينكما، أو لا؟ فَلَا وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا قَضَاءً غَيْرَ هَذَا فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ أَكْفِيكُمَاهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي كُلَّ مَرَّةٍ بِأَنَّ جَمِيعَ الْفَيْءِ مِلْكٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَاهِرُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ فَاقْتَضَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ خَالِصٌ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ حتى يستعمل عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَنَافَيَا وَلَا يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّ مَا يَمْلِكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ خُمُسًا كَالْغَنِيمَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهَا أَنَّهُ لما كَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالرُّعْبِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أربعة أخماس الفيء ملكا للرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للوصل إِلَيْهِ بِالرُّعْبِ مِنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَالْعَدُوُّ يَرْهَبُنِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ ". فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ، فَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَهُ كَانَ يَصْرِفُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ لِقُرْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لِيَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ دُونَ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَالْغَنِيمَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إِلَيْنَا، فَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ لَا إِلَيْنَا. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ فَالَّذِي مَلَّكَ اللَّهُ تعالى رسوله منهما مما يبين: أَحَدُهُمَا: خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا الصَّفِيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ، فَيَصْطَفِي مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ مِنْ جَارِيَةٍ وَثَوْبٍ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ مِمَّا اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ بِخَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. وَقِيلَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَفِيَّةً لِأَنَّهُ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَانَتِ الصَّفَايَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا مُلُوكُ الْعَرَبِ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ) فَصَارَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالِكًا لِأَرْبَعَةِ أَمْوَالٍ، مَالَيْنِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَالصَّفِيُّ، وَمَالَيْنِ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ خُمُسُ خُمُسِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ. فَأَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ قَدْ مَلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَالنِّصْفِ مِنْ فَدَكٍ، وَالثُّلُثِ مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَثُلُثِهِ حُصُونٍ مِنْ خَيْبَرَ الْكَتِيبَةِ، وَالْوَطِيحِ، وَالسَّلَالِمِ فَهَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ، وَمَا مُلِكَ مِنْ ذَلِكَ بعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وَفَاتِهِ فَسَهْمُهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ بَعْدَهُ فِي الْمَصَالِحِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَأَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَعِمَارَاتِ الْمَسَاجِدِ وَقَنَاطِرِ السَّائِلَةِ، وَأَمَّا سَهْمُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَاتِلَةِ من الجيش الذي يَذُبُّونَ عَنِ الْبَيْضَةِ وَيُمْنَعُونَ عَنِ الْحِرْفَةِ وَيُجَاهِدُونَ الْعَدُوَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ لِرُعْبِ الْعَدُوِّ مِنْهُ وَرُعْبِ العدو بعده من الجيش المقاتلة، فملكوه بَعْدَهُ مَا مَلَكَهُ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِيهِمْ وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِمْ وَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ وَيَصْرِفُهُ فِيهَا، فَمِنَ الْمَصَالِحِ إعطاء الجيش، وأرزاق المقاتلة، وما قدمنا ذكر مِمَّا فِيهِ إِعْزَازُ الْإِسْلَامِ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا تَزْدَادُ جُيُوشُ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ، لِخُرُوجِ الزِّيَادَةِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الصَّفِيُّ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ وَبَطَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهُ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ فِيمَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ النَّاظِرُ فِيهِ كَأَحَدِ أَهْلِ الْجَيْشِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، يَأْخُذُهُ رِزْقًا كَأَرْزَاقِ الْجَيْشِ. وَقَالَ: يَمْلِكُ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَصِيرُ مَالِكًا لِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَّا جَعَلَهَا لِلَّذِي أَتَى بَعْدَهُ ". وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " فصار مردودا عليها بَعْدَ مَوْتِهِ لَا عَلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ، فَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى رَدِّ مَا خَالَفَهُ. فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ فَمَعْنَاهُ: مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إِلَّا جَعَلَ النَّظَرَ فِيهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ لَا مِلْكًا لَهُ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُورَثُ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ لَا يَمْلِكُهُ، ثَبَتَ مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَصْرِفَهُ فِيمَا وَصَفْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا وَجْهَا الِاجْتِمَاعِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ أبو حنيفة: مَالُ الْفَيْءِ لَا يُخَمَّسُ، وَفِي نص الآية ما يدفع قوله. وأما وجه الِافْتِرَاقِ: فَأَحَدُهُمَا: فِي الِاسْمِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِاسْمٍ وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا فَإِنَّ مَصْرِفَهَا مُخْتَلِفٌ. فَصْلٌ: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ " أَصْلُ مَا يَقُومُ بِهِ الْوُلَاةُ مِنْ جَعْلِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَاكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ، وَكِلَاهُمَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله، فجعل نظر الإمام في الأموال مختص بِثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ تَطْهِيرًا لَهُمْ وَهِيَ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَهُوَ الْغَنِيمَةُ. وَالثَّالِثُ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا وَهُوَ الْفَيْءُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى وُجُوبِهِ وَجِهَةِ مَصْرِفِهِ، وَلَيْسَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِهِ إِلَّا قِيَامَ نِيَابَةٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي الزكاة ينوب عن معطيها ومستحقها معا، وفي الفيء والغنيمة ينوب عن مستحقها دُونَ مُعْطِيهَا، لِأَنَّ نِيَابَتَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا: قَالُوا: قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى النَّظَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ، وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي الْمَوَاتِ وَفِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَدْ خُصَّ الْأَمْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَظَرِهِ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ وَتَعَيُّنِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَ غَيْرُهَا مُسَاوِيًا لَهَا فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَتَمَيَّزَتْ فِي نَظَرِهِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: قَدْ جُعِلَ الْإِمَامُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَلَوْ أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا أَجْزَاءً فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ وَإِنْ جَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا فَوِلَايَتُهُ فِيهَا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ جَبْرًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهَا لَمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِهَا جبرا منهم، وأما الأموال الظاهرة قولان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ أَرْبَابِهَا أَنْ ينفردوا بإخراجها، فعلى هذا تكون وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى الْمُعْطِي وَالْمُمْتَنِعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ دُونَ المعطي والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 باب الأنفال مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْخُمُسِ شيء غير السلب للقاتل قال أبو قتادة رضي الله عنه خرجنا مع رسول الله عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا من المسلمين قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر فقال ما بال الناس؟ قلت أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سلبه " فقمت فقلت من يشهد لي؟ ثم جلست يقول وأقول ثلاث مرات فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ منه. فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تعالى يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدق فأعطه إياه " فأعطانيه فبعت الدرع وابتعت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مال تأثلته في الإسلام وروي أن شبر بن علقمة قال بارزت رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألفا فنفلنيه سعد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكًا فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ فَلَهُ سَلَبُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَلَا يُخَمِّسْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. لَكِنْ يُخَمِّسُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْإِمَامُ لَهُ فَيُعْطِيهِ لِلشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ الْخُمُسِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . وَرِوَايَةُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ " وَبِرِوَايَةِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَرَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَتَلَ رُومِيًّا فَأَخَذَ سَلَبَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فأخذ منه السَّلَبِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ لَتَرُدَّنَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يرده، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْيَمَنِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا خَالِدُ ارْدُدْهُ عَلَيْهِ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ لا ترده عليه، هل أنتم تاركون لي أُمَرَائِي؟ لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ ". قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَوِ اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِلُ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ لِغَضَبٍ وَلَا غَيْرِهِ، قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَوْفٍ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو، فَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ مَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا. وَاسْتَدَلُّوا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ كَالنَّفْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوِ اسْتُحِقَّ بِالْقَتْلِ لوجب إذا قتل موليا أَوْ رَمَاهُ مِنْ صِفِّهِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَتْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوْ صَارَ بِالْقَتْلِ مِلْكًا لِلْقَاتِلِ لَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَتِيلًا عَلَيْهِ سَلَبٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ أَنْ لَا يَغْنَمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ لَا يُعْرَفُ، وفي إجماعهم على قسمة في الْغَنِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْقَتْلِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ كَافِرًا فَأَخَذَ أَسَلَابَهُمْ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ بَيِّنٍ فِيهِ فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّلَبُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي محمد مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ لَهُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ قَالَ: فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ وَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ القصة، فقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا هلم اللَّهِ إِذَنْ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ " قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فَأَعْطَانِيهِ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَإِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَعْدَ قَتْلِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْكَافِرِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ لَا بِالشَّرْطِ، فَإِنْ حَمَلُوا عَلَى شَرْطِ تَقَدُّمٍ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِثْبَاتُ مَا لَمْ يُنْقَلْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانُ شَرْعٍ وَإِنْ تَقَدَّمَ كَمَا يَكُونُ بَيَانُهُ، لِأَنَّهُ نَقْلُ سَبَبٍ عُلِّقَ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ شَرْطٌ لَأَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَلَمْ يَدَّعِيهِ أَوْ لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بَالْبَيِّنَةِ وَقَدْ أَعْطَاهُ أَبَا قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ نَفْلًا لَاحِقًا، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ كَانَ يَدُهُ عَلَى السَّلَبِ فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ. وَالثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ اثْنَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ، يُسْتَحَقُّ بِسَبَبٍ لَا يَفْتَقِرُ تَقْدِيرُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ شَرْطُ الْإِمَامِ كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ طَرْدًا أَوِ النَّفْلِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ ذُو سَهْمٍ تَحَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِ كَافِرٍ فَقَاتَلَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَبَ خَارِجٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وَلَيْسَ السَّلَبُ مَا غَنِمُوهُ وَإِنَّمَا غَنِمَهُ أَحَدُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفْسَ الْإِمَامِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ طَابَتْ بِهِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ أَنْ تَطِيبَ بِهِ نَفْسُ إِمَامٍ مِنْ بَعْدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ يُحْمَلُ عَلَى النَّفْلِ، وَيُخَصُّ مِنْهُ السَّلَبُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عوفا وخالد اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَلَكِنِ اسْتَكْثَرَهُ خَالِدٌ، وَاسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ لَا يَسْقُطُ بِالْكَثْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَوْفًا حِينَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْأَلْ عَنِ الشَّرْطِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ خَالِدًا بِرَدِّهِ عَلَى الْقَاتِلِ، فأما قوله لخالد حين غضب " لا ترده " فَتَأْدِيبٌ مِنْهُ لِعَوْفٍ حَتَّى لَا يَنْبَسِطَ الرَّعَايَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهُ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِعْطَائِهِ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِأَحَدِ قَاتِلِيهِ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَثْخَنَا أَبَا جَهْلٍ جِرَاحًا، وَخَرَّ صَرِيعًا فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَجُزَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ رُوَيْعِينَا بِالْأَمْسِ فَمَكِّنْ يَدَيْكَ وَجُزَّ الرَّقَبَةَ مَعَ الرَّأْسِ إِذَا لَقِيتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ أَبَا الْحَكَمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ مَعَ القبة وَكَانَ قَصْدُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبْهَى لِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أُمَّهُ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ، ودفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ وَبِإِثْخَانِ الْمَقْتُولِ يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ لَا بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ وَرُوحِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّفْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ افْتِقَارُ النَّفْلِ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّلَبُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْقَتْلِ لَاسْتَحَقَّهُ إِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ مِغْرَارًا بِنَفْسِهِ وَيَكُفَّ شَرَّ الْمَقْتُولِ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ إِذَا رَمَاهُ لَمْ يُغَرِّرْ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا فَقَدْ كَفَّ الْمُوَلِّي شَرَّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُغْنَمَ سَلَبُ مَقْتُولٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُغْنَمْ بِغَنِيمَةٍ فَيُمْنَعُ مِنْ قَسْمِهِ، فَلِذَلِكَ قُسِّمَ، أَلَا تَرَى لَوْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَكَانَ مَغْنُومًا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ مُسْتَحِقَّهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّلَبَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى تَخْمِيسِ السَّلَبِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّلَبَ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ. وَرُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَتَلَ رَجُلًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ ". وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَتَلْتُ رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثني عشر ألفا فنفلنيه سعد، ولأنه أَهْلَ الْغَنِيمَةِ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ سَهْمِهِمْ. وَالثَّانِي: حُضُورُهُمُ الْوَقْعَةَ مَعَ الْقَاتِلِ، ثُمَّ كَانُوا مَعَ قُوَّتِهِمْ لَا يُشَارِكُونَ الْقَاتِلَ فِي السَّلَبِ، فَلَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ أَهْلُ الْخُمُسِ الَّذِينَ هُمْ أَضْعَفُ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ مَدْفُوعٌ بهذا الاستدلال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَهُوَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هُوَ لَهُ مِنَ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُعَدِّ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ زَادَ السَّلَبُ عَلَيْهِ رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا بِالنَّفْلِ الْمُسْتَحَقِّ من الخمس، وهذا غير صحيح؛ لأنه قَتِيلَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ لَهُ أَجْمَعَ - وَكَانَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ - لِأَنَّهُ لَمْ يَغْنَمْ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا شَرْطٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ دُونَ الْخُمُسِ كَالسِّهَامِ، وَخَالَفَ النَّفْلَ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ شَرْطٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَا مِنَ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ: هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ، ولهذين الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنْ يُعْطَى السَّلَبُ مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا مُقْبِلًا مُقَاتِلًا مِنْ أَيِّ جهة قتله مبارزا أو غير مبارز وقد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلب مرحب من قتله مبارزا وأبو قتادة غير مبارز ولكن المقتولين مقبلان ولقتلهما مقبلين والحرب قائمة مؤنة ليست له إذا انهزموا أو انهزم المقتول وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه دل عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من قتل قتيلا له عليه بينة " يوم حنين بعد ما قتل أبو قتادة الرجل فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك حكم عندنا (قال الشافعي) ولو ضربه ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخر فإن سلبه للأول وإن ضربه ضربة وهو ممتنع فقتله آخر كان سلبه للآخر ولو قتله اثنان كان سلبه بينهما نصفين وهذا صحيح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَاسْتِحْقَاقُ الْقَاتِلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَائِمَةً وَالْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَانْجِلَاءِ الْوَاقِعَةِ فَلَا سَلَبَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ يُقَاتِلُ أَوْ لَا يُقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ رَدٌّ لِمَنْ تَقَاتَلَ، فأما إن قتله وهو مولي عن الحرب تاركا لَهَا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّ فَيَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ مِنْ أَمَامِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ الْمُشْرِكَ الَّذِي أَخَذَ سَلَبَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ إِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَهُ مُبَارَزَةً أَوْ غَيْرَ مُبَارَزَةٍ، وَإِذَا خَرَجَ الْقَاتِلُ عَنْ صَفِّهِ فَغَرَّرَ، فَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مِنَ الصَّفِّ بِسَهْمٍ رَمَاهُ فَلَا سَلَبَ لَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُمْتَنِعًا بِسَلَامَةِ جِسْمِهِ حَتَّى قُتِلَ لِيَكُونَ فِي الْقَتْلِ كَفٌّ لِشَرِّهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بِجِرَاحٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَسَلَبُهُ لِمَنْ كَفَّهُ وَمَنَعَهُ دُونَ مَنْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ ابْنَ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَعَاهُ فَجَرَحَاهُ وَكَفَّاهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَصِفَةُ الْكَفِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ أَنْ يَجْتَمِعَ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنَالَهُ مِنَ الْجِرَاحِ مَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنِ الْقِتَالِ فَيَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفَ الشَّرِّ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الْأَرْبَعَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كَانَ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَطْرَافِهِ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِلْأَوَّلِ ". وَرَوَى الرَّبِيعُ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفًا كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِأَنْ يَصِيرَ بِالْجِرَاحِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ صَرِيعًا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَطُولَ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَيُكْفَى شَرَّ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَيَصِيرُ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ سَلَبُهُ لِلْجَارِحِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي الْقَاتِلِ. وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَا تَطُولُ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا لَكِنَّهُ قَدْ يُقَابِلُ مَعَهُ فَلَا سَلَبَ لِجَارِحِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَفَى شَرَّ قِتَالِهِ وَالسَّلَبُ لِقَاتِلِهِ وَلَوْ نَالَهُ بِالْجِرَاحِ مَا كَفَّهُ عَنِ الْقِتَالِ وَأَعْجَزَهُ عَنْهُ أَبَدًا، لَكِنْ طَالَتْ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ فَفِي سَلَبِهِ قَوْلَانِ مِنْ قَتْلِ الشُّيُوخِ: أَحَدُهُمَا: السَّلَبُ لِجَارِحِهِ دُونَ قَاتِلِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ. وَالثَّانِي: لِقَاتِلِهِ دُونَ جَارِحِهِ إِذَا قِيلَ يُقْتَلُونَ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرْنَا يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ بِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِابْنِ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تقلد منه سيفه وحده. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسَّلَبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْقَاتِلِ كُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ عَلَيْهِ وَسِلَاحُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَفَرَسُهُ إِنْ كَانَ رَاكِبَهُ أَوْ مُمْسِكَهُ وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ يَدِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مِنَ الْقَاتِلِينَ. الثَّانِي: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ عَنِ الْمَقْتُولِينَ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ سَلَبًا مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: الْقَاتِلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فَهُوَ كُلُّ ذِي سَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فَلَهُ سَلَبُ قَتِيلِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ فَضَرْبَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِكُفْرِهِ. وَالثَّانِي: لِنَقْصِهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ بِكُفْرِهِ كَالْمُشْرِكِ إِذَا قَتَلَ مُشْرِكًا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِنْ قُتِلَ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ غَنِيمَةٌ نَقَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ إِذَا قَاتَلُوا أَجْرًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لَا سَهْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِنَقْصِهِ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، وَالنِّسَاءِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي السَّلَبِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّلَبِ، هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعْطِيَهُ الْقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ لَمْ يُعْطَ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانُوا قَاتِلِينَ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ؛ فَلَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَمَلُّكِهِ كَانُوا عَنْ تَمَلُّكِ السَّلَبِ أَضْعَفَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ مِنَ الْمَقْتُولِينَ فَهُمْ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُقَاتِلَةٌ ومن دونهم، من الذُّرِّيَّةِ، وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الشُّيُوخِ وَالرُّهْبَانِ. فَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَسَلَبُ مَنْ قُتِلَ سَهْمٌ لِقَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ مُبَاحٌ لَهُ، سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. وَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ وَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانَ قَتْلُهُمْ مُبَاحًا وَلِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا حَرُمَ قَتْلُهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَلَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ؛ لِحَظْرِ قَتْلِهِمْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ مَغْنُومًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُشْرِكٍ. وَأَمَّا الشُّيُوخُ وَالرُّهْبَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا جَازَ قَتْلُهُمْ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَلَبُهُمْ لِلْقَاتِلِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا لَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ وَيَكُونُ مَغْنُومًا. فَصْلٌ: [القول فيما يكون السلب] وَأَمَّا مَا يَكُونُ سَلَبًا فَمَا ظُهِرَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْعَةِ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ سَلَبًا، وَهُوَ ما كان راكبه من فرسه أَوْ بَعِيرٍ، وَمُسْتَجِنًّا بِهِ مِنْ دِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَمُتَّقٍ بِهِ مِنْ تُرْسٍ وَدَرَقَةٍ وَمُقَاتِلٍ بِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا عَلَى الْفَرَسِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ، وَمَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حُلِيٍّ وَلِبَاسٍ سَلَبٌ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ سَلَبًا وَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَهُوَ مَا فِي رَحْلِهِ مِنْ مَالٍ وَرَحْلٍ وَسِلَاحٍ وَخَيْلٍ، فَهَذَا كُلُّهُ غَنِيمَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْجَيْشِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْقَاتِلُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ كلما كانت يده عليه في المعركة قوة على القتال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَاتِلٍ بِهِ فِي الْحَالِ كالفرس الذي بجنبه عدة لقتاله أو هيمان النفقة الذي في وسطه قوة ليستعين بِهَا عَلَى قِتَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ سَلَبًا؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ لَهُ عَلَى قِتَالِنَا فَصَارَ كَالَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا يَكُونُ سَلَبَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَاتِلٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ قُوَّةً لَهُ كَالَّذِي فِي رَحْلِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَسَرَ الْمُسْلِمُ مُشْرِكًا غَرَّرَ بِنَفْسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي أَسْرِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَا كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَسْرِهِ فَإِنْ كَانَ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ. وَالثَّانِي: لَا سَلَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا بِانْقِضَائِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ أَسْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ؛ لِأَنَّ تَغْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ فِي الْأَسْرِ أَعْظَمُ، وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَسْرِ فَهُوَ عَلَى الْقَتْلِ أَقْدَرُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْإِمَامِ حَيًّا أَعْطَاهُ الْإِمَامُ سَلَبَهُ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَرِقَّهُ، أَوْ يُفَادِيَ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَوْ مَنَّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلَّذِي أَسَرَهُ غَيْرُ سَلَبِهِ، وَإِنِ اسْتَرَقَّهُ أَوْ فَادَى بِهِ عَلَى مَالٍ كَانَ حُكْمُ اسْتِرْقَاقِهِ وَمَالِ فِدَائِهِ كَحُكْمِ السَّلَبِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: غنيمة إذا قلنا إن السلب لمن أسره. وَالثَّانِي: لِمَنْ أَسَرَهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ السَّلَبَ لمن أسره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالنَّفْلُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَنِيمَةٍ قِبَلَ نَجْدٍ بَعِيرًا بَعِيرًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ كَانُوا يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الخمس (قال الشافعي) رحمه الله نفلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خُمُسِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بِسَائِرِ مَالِهِ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا سِوَى سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من جميع الخمس لمن سماه الله تعالى فينبغي للإمام أن يجتهد إذا كثر العدو واشتدت شوكته وقل من بإزائه من المسلمين فينفل منه اتباعا لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإلا لم يفعل وقد روي في النفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة والربع في الأخرى وروى ابن عمر أنه نفل نصف السدس وهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يجاوزه الإمام ولكن على الاجتهاد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ ها هنا الزِّيَادَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُخْتَصُّ بِهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: السَّلَبُ، يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: ما ادعى إلى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الظَّفَرِ، مِثْلَ: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَنْ يُقَدَّمْ فِي السَّرَايَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ فَتَحَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَنْ قَتَلَ فُلَانًا فَلَهُ كَذَا، أَوْ مَنْ أَقَامَ كَمِينًا فَلَهُ كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ، سَوَاءً جَعَلَ مَا بَذَلَهُ مُقَدَّرًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ جَعَلَهُ شَائِعًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ رُبْعُ الغنيمة أو ثلثها، أو جعله مقدار بِالسَّهْمِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: فَلَهُ نِصْفُ مِثْلِ سَهْمٍ، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا ثُمَّ نَفَلُوا بَعِيرًا. وَرَوَى زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بُدَائِهِ. وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرُّجْعَةِ الثُّلُثَ. وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِإِنْفَاذِ سَرِيَّةٍ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجَعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَالرُّجْعَةَ أَنْ يُنْفِذَ بَعْدَهَا سَرِيَّةً ثَانِيَةً فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ فَيَزِيدُ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ بَعْدَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْأُولَى. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّةً فِي ابْتِدَاءِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الرُّبُعَ، وَلِلْرُّجْعَةِ أَنْ يُنْفِذَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهَا بِرُجُوعِ الْجَيْشِ أَكْثَرُ تَغْرِيرًا مِنَ الْأُولَى. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقَوْلِ فَيَقُولُ مَنْ يَفْتَحُ هَذَا الْحِصْنَ وَلَهُ الرُّبُعُ إِمَّا مِنْ غَنَائِمِهِ وَإِمَّا مِثْلٌ مِنْ رُبْعِ سَهْمِهِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَرْجِعَ فَيَقُولُ ثَانِيَةً مَنْ يَفْتَحُهُ وَلَهُ الثُّلُثُ فَيُجَابُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُدَاءَةً وَالثَّانِي رُجْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَتَحَدَّدُ الْأَقَلُّ فِي الْبُدَاءَةِ بِالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ بَعِيرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يَتَحَدَّدُ الْأَكْثَرُ فِي الرُّجْعَةِ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ مُوكَلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ يَبْذُلَ فِي الْبُدَاءَةِ بِدُخُولِ الْحَرْبِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَبْذُلُهُ فِي الرُّجْعَةِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي الْبُدَاءَةِ مُتَوَفِّرُونَ وَفِي الرُّجْعَةِ مَهْزُومُونَ جَازَ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا النَّفْلُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ فِي الْبُدَاءَةِ وَالرُّجْعَةِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الْخُمُسِ يَعْنِي خُمُسَ الْخُمُسِ؛ وَلِأَنَّهُ مَبْذُولٌ فِي الْمَصَالِحِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ بِخِلَافِ السَّلَبِ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لأمن أَصْلِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ السَّلَبِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ كَالرَّضْخُ الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَخُمُسَ الْخُمُسِ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَأْوِيلَانِ، وَهُمَا لَهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ مِمَّا اخْتَصَّتْ تِلْكَ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خُمُسَ خُمُسِ جَمِيعِ الْغَنَائِمِ ثُمَّ الَّتِي أَجَازَهَا جَمِيعَ الْخُمُسِ وَأَقَلَّ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى خُمُسِ الْخُمُسِ تَمَّمَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ وَخُمُسُ خُمُسِهِ وَمَا يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ. فَصْلٌ: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّفْلِ وَهُوَ الرَّضْخُ وَالرَّضْخُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَرْضَخُ بِهِ الْإِمَامُ لِمَنْ لَا سَهْمَ له من العبيد والصبيان الذين يشهدون الوقيعة. وَالثَّانِي: مَا يَرْضَخُ بِهِ لِمَنِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ لِحُسْنِ أَثَرِهِ وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ الزَّائِدِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ وَنَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ وَنَفَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَاشِفَةِ وَفِي الرَّضْخِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. فَصْلٌ: وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّفْلِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ اللِّقَاءِ: مَنْ غَنِمَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يُخَافُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا أَخَذَهُ، وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَقِسْمَةُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَقَالَ أبو حنيفة: وَهَذَا الشَّرْطُ لَازِمٌ، وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَا يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَزَوْا وَبِهِ رَضَوْا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا حُكْمَ لَهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ؛ وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ لِشَرْطِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ شَرَطَهَا لِغَيْرِ الْقَائِمِينَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ "، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ حَتَّى جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَدْرٍ لِمَنْ شَهِدَهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 باب تفريق الغنيمة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَا حُصِّلَ مِمَّا غُنِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قُسِّمَ إِلَّا الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ فَالْإِمَامُ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ يُفَادِيَ أو يسبي وسيبل مَا سُبِيَ أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ وَفَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هِيَ أَمْوَالٌ مَنْقُولَةٌ، وَقِسْمٌ هِيَ أَرْضٌ ثَابِتَةٌ، وَقِسْمٌ هُمْ آدَمِيُّونَ مَقْهُورُونَ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ: كَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْآلَةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ يُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ إِلَّا ما استحقه الفارس بفرسه ولا يفضل ذا شَجَاعَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَاقِعَةَ. وَقَالَ أبو حنيفة لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَسْمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَاقِعَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاضَلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ، وَيُعْطِيَ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم من غنائم بدرا لثمانية لم يشهدوا بدار مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِمَنْ غَنِمَ كَمَا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ عَلَى أن الباقي للأب إذا اقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ التَّسْوِيَةَ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ غَيْرُهُمْ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنَ الْمَغْنَمِ جُبَّةَ غَزْلٍ مِنْ شَعْرٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال أخذت هذه لأصلح بها بردعة بَعِيرِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا مَا كَانَ لِيَ وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 فهو لك فقال الرجل: أما إذا بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي بِهَا، فَلَوْ جَازَ التَّفْضِيلُ لَفَضَّلَ بِهَذَا الْقَدْرِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ تَمَلُّكِهِ أَوْجَبَ تَسَاوِيَهُمْ فِي مِلْكِهِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي صَيْدٍ وَاحْتِشَاشٍ، فَأَمَّا تَفْضِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَأَلَّفَ عَدَدًا مِنْهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةِ بَعِيرٍ مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَاسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مرداس فقال: (أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ) (وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع) (وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ البوم لَا يُرْفَعِ) فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنِّي ". وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ بَعِيرًا، وكان مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إِمَّا مِنْ سَهْمِهِ مِنَ الْخُمُسِ، وَإِمَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبَتَ بِحُنَيْنٍ مَعَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَانْهَزَمَ جَمِيعُ النَّاسِ؛ فَصَارَتْ جَمِيعُ الْغَنَائِمِ لَهُ فَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ وَتَأَلَّفَ بِهَا مَنْ شَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ رَأَوْهُ قَدْ تَأَلَّفَ قُرَيْشًا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَزَمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَنْصَرِفُونَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: رَضِينَا فَكَانَ مَا فَعَلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ بِحُنَيْنٍ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا غَنَائِمُ بَدْرٍ فَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ فَوَضَعَهَا فِيمَنْ شَاءَ من حاضر وغائب على تساوي وتفضيل. فصل: وأما ما لا ينقل مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَحُكْمُهُ عِنْدَنَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ المنقولة، يَكُونُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْإِمَامُ فِي الْأَرَضِينَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْغَانِمِينَ، أَوْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُقِرَّهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا الْمُشْرِكِينَ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا، وَجِزْيَةٍ عَلَى رِقَابِ أَهْلِهَا، تَصِيرُ خَرَاجًا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْ رِقَابِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ صَارَتْ بِالْغَلَبَةِ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ أَرْضَ السَّوَادِ، أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَشَاوَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ اقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَقَالَ: لَا حَتَّى أَكْتُبَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ عُمَرُ دَعْهَا حَتَّى يَغْدُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 فِيهِمَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى خَرَاجِهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَالرِّقَابِ. وَأَمَّا مالك فاستدل بقوله تعالى: {وللذين جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فُتُوحِ بِلَادِهِمُ الَّتِي اسْتَبْقَوْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَقَسَّمَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ وَلَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ وَقْفًا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَسَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْغَنَائِمَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مَنْ سَلَفَ من الأنبياء تنزل نارا مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا فَأَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُمْ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأُمَّتِهِ وَالنَّارُ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِأَكْلِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَنْفُولِ بِالْغَنِيمَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ دُونَ الْأَرَضِينَ. وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وَرَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَانِمِينَ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، مِنْهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَى كُلَّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَكَانَ لَهُمْ سِتُّمِائَةِ سَهْمٍ وَلِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ؛ صَارَتْ جَمِيعُ السِّهَامِ ألفا وثمان مائه سهم فقسمها على ثمانية عشرة مِنْهُمْ، وَأَعْطَى كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ ابْتَاعَهَا، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ مَا لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ؛ فَدَلَّتْ قِسْمَتُهَا وَابْتِيَاعُ عُمَرَ لَهَا لِمِائَةِ سَهْمٍ مِنْهَا عَلَى أَنَّهَا طِلْقٌ مَمْلُوكٌ وَمَالٌ مَقْسُومٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَهَرَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَسَّمَ عَقَارَهُمْ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالنَّخِيلِ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: عصبة اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَخُمُسُهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي إِنَّمَا قُرْبَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ كَالْمَنْفُولِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ الْمَنْفُولِ اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ غَيْرِ الْمَنْفُولِ كَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَسْمِ السَّوَادِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ أَرْضَ السَّوَادِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَأَشْغَلُوهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَشَاغَلُوا بِهِ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَاسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهُ فَنَزَلُوا؛ وَتَرَكَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ وَأَكْثَرَ قَوْمِهِ وَكَانَتْ نَخِيلُهُ رُبُعَ النَّاسِ، فَأَبَتْ طَائِفَةٌ منهم أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 يَنْزِلُوا فَعَاوَضَهُمْ عَنْهُ وَجَاءَتْهُ أُمُّ كُرْزٍ، فَقَالَتْ: إني أَبِي شَهِدَ الْقَادِسِيَّةِ، وَإِنَّهُ مَاتَ وَلَا أَنْزِلُ عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا، عليها قطيفة حمراء، وتملاء كَفِّي ذَهَبًا، فَفَعَلَ حَتَّى نَزَلَتْ عَنْ حَقِّهَا، وَكَانَ قَدْرُ مَا مُلِئَ بِهِ كَفُّهَا ذَهَبًا نيفا وثمانين مثقالا، فولا أَنَّ قِسْمَةَ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ أَمْلَاكَ الْغَانِمِينَ عَلَيْهَا مُسْتَقِرَّةٌ، لَمَا اسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهَا بِطِيبِ نَفْسٍ وَمُعَاوَضَةٍ، فَلَمَّا صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ شَاوَرَ عَلِيًّا فِيهَا فَقَالَ: دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لَهُمْ، فَوَقَفَهَا عَلَيْهِمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ثَمَنٌ، وَأَمَّا أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلح، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ نِزَاعُ عَمْرٍو وَالزُّبَيْرِ فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَنِ الرِّقَابِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَنْفُولِ، فَإِنَّ عُمَرَ صَالَحَ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ خَرَاجًا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ كَذَلِكَ الْأَرَضُونَ؛ ثُمَّ لَو سَلِمَ مِنْ هَذَا النَّقْصُ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الرِّقَابِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وَقْتِ خِيَارِ الْإِمَامِ فِيهَا مَالًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِالِاسْتِرْقَاقِ مَالًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ خِيَارٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وللذين جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِتَمْهِيدِ الْأَرْضِ لَهُمْ، وَإِزَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ بِجِهَادِهِمْ ثُمَّ بِمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الْفَيْءِ وَمَوَارِيثِ الْعَنْوَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ أنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عِنْدَنَا صُلْحًا، فَالْكَلَامُ فِي فَتْحِهَا يَأْتِي، وَأَمَّا أَرْضُ هَوَازِنَ فَلَمْ تُغْنَمْ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَإِنَّمَا قُوتِلُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا إِلَى حُنَينٍ، وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ فِي أَوْطَاسٍ فَلَمَّا أَظْفَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَسُبِيَتْ ذَرَارِيهِمْ، آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُدْلُونَ إِلَيْهِ بِحُرْمَةِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ حَلِيمَةَ مُرْضِعَةَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا مَلَّحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَنَزَلْنَا مَعَهُ مَنْزِلَنَا مِنْكَ لَوَعَى ذَاكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ مَلَّحْنَا: أَيْ رَضَّعْنَا وَأَنْشَدَ شَاعِرُهُمْ: (امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ) (امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ) فَقَالَ: اخْتَارُوا أَمْوَالَكُمْ، أَوْ ذَرَارِيَكُمْ فَقَالُوا: خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا فَنَخْتَارُ أَحْسَابَنَا عَلَى أَمْوَالِنَا، فَقَالَ أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي هَاشِمٍ فَلِلَّهِ وَلَكُمْ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: وَأَمَّا مَا لَنَا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إِلَى دِيَارِهِمُ الَّتِي لَا تُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ آمِنِينَ، وَقَدْ أَسْلَمُوا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ الْمَنْفُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَكَانَ هُوَ الْمَغْنُومُ، فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 أنه استدل رَكِيكٌ وَضَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقَوْلِهِ أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ قَبْلِي أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً كَذَلِكَ الْأَرْضُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَظْفُورُ بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ: عَبِيدٌ وَأَحْرَارٌ. فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَمَالٌ مَغْنُومٌ. وَأَمَّا الْأَحْرَارُ فَضَرْبَانِ: ذُرِّيَّةٌ وَمُقَاتِلَةٌ. فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمِنْهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، مَرْقُوقِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ خِيَارٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِمْ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِكَوْنِهِمْ مَالًا مَغْنُومًا وَقَسَمَ سَبْيَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ وَقَسَمَ سبي هوازن بين الناس حتى استنزله هَوَازِنُ فَنَزَلَ وَاسْتَنْزَلَ. وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَلِلْإِمَامِ فِيهِمُ بالخيار اجْتِهَادًا وَنَظَرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَمِنْهَا مَا رَآهُ صَالِحًا: أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ. وَالثَّانِي: الِاسْتِرْقَاقُ. وَالثَّالِثُ: الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ رِجَالٍ. وَالرَّابِعُ: الْمَنُّ، فَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُخَافُ شَرُّهُ أَوْ ذَا رَأْيٍ يُخَافُ مَكْرُهُ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَهِينًا ذَا كَدٍّ وَعَمَلٍ اسْتَرَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَادَاهُ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ ذَا جَاهٍ فَادَاهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى، وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ وَرَغْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَّ عليه وأطلقه من غير فداء، فيكون خيار لِلْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ، فَمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ، أَوْ رِجَالٍ، أَوِ الْمَنِّ. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الْقَتْلُ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ، وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ أبو يوسف ومحمد: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِرِجَالٍ وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ بِمَالٍ وَلَا الْمَنُّ، وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ. أَمَّا الْقَتْلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5] وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْأَسْرَى أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ صَبْرًا، وَمِنْهُمْ: أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَابْنُ خَطَلٍ وَابْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَمَّا أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَإِنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ، فَمَنَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ، وَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللهم أوقع أبا عزة فما أسر غيره فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمُنُّ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَقُولُ فِي نَادِي قُرَيْشٍ: سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ. وَأَمَّا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَلَمَّا أُسِرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مَنِ الْمُصِيبَةُ فَقَالَ: النَّارُ، وَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَبَاحَ دَمَ سِتَّةٍ هُوَ مِنْهُمْ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ " وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى السِّتَّةَ وَقَالَ اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا أُقِرَّ بِذَلِكَ قَالَ اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ. وَأَمَّا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَتْلِهِ حِينَ أُسِرَ فَقُتِلَ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ اسْتَقْبَلَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَنْشَدَتْهُ: (أَمُحَمَّدٌ وَلَدَتْكَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ) (مَا كَانَ ضَرُّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ) (فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ) فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسْرَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فشدوا الوثاق} وفي الآية تأويلان: أحدها: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالظَّفَرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالْأَسْرِ. وَالثَّانِي: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالْأَسْرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَقَدِ اسْتَرَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَهَوَازِنَ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ قَدْ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ: لَوْ أَسْلَمْتَ قَبْلَ هَذَا لَكُنْتَ قَدْ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ فَاسْتِدْلَالُ أبي حنيفة عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن في الأرض} إِلَى قَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68] يَعْنِي من أموال الفداء في أسرى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 بدر وإذا مَنَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَالٍ كَانَتْ مِنَ الْفِدَاءِ بِالْمَنِّ لِمَنْ بَغَيرِ مَالٍ أَمْنَعُ، وَقَالَ تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنْ تَخْلِيَتِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ وَحَصْرِهِمْ إِلَّا بِإِسْلَامِهِمْ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَلَا مَنْعُ السِّلَاحِ وَالْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَبَعٌ يَقِلُّ ضَرَرُهُ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ فَكَانَ بِأَنْ لَا يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يُفَادَوْا بِمَالٍ عَنْ رِقَابِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ أَعْظَمُ، وَإِضْعَافَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ أَبْلَغُ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَظْرِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَصَوَّرُوا جَوَازَهَا عِنْدَنَا أَقْدَمُوا عَلَى الْحَرْبِ تَعْوِيلًا عَلَى الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ وَرَجَاءَ الْمَنِّ، وَإِذَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِذَا أَصَرُّوا كَانَ ذَلِكَ أَحْجَمَ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْقِتَالِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظاهرة كان ما دعى إليها لازما. والدليل عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لقيتم الذين كفروا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ دِينٌ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ صَرِيحًا فِي هَذَا الْآيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَاسْتِعْمَالُهُمَا مُمْكِنٌ فِي جَوَازِ الْكُلِّ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِبَاحَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ خَاصَّةً مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِأُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ، وهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِجَوَازِهِ عِنْدَهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَبَرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، وَكَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَتَوْهُ مُسْلِمِينَ وَقَدْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 أَنْ لَا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا فَعَادَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَسَرَهُ، وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ زَيْنَبَ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ رواية عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ [أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فادى رجل برجلين رواه الشافعي مفسرا أن عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ] قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سرية فأسروا رجلا من بني عقيل فاستوثق منه، وطرح في الحرة فمن به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: فيما أخذت وفيم أُخذت سالفة الحاج يعني العضباء قال أخذت بجريرة حلفائكم مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ أَسَرُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَعَطْشَانٌ فَاسْقِنِي، وَأَنَا مُسْلِمٌ فَخَلِّنِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ قُلْتَ هَذَا قَبْلَ هَذَا أَفْلَحْتَ كُلَّ الفلاح، يعني: قبل أن تسترق وفاده بِرَجُلَيْنِ، وَحَبَسَ الْعَضْبَاءَ وَهِيَ نَاقَتُهُ الَّتِي خَطَبَ عَلَيْهَا بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُفَادِي بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَرَقًّا فَصَارَتْ مُفَادَاتُهُ عِتْقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ [مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا بِالْجِزْيَةِ] مَعَ إِقْرَارِهِمْ فِي دَارِنَا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمْ بِالْفِدَاءِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا أَوْلَى. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اعْتِيَاضُ رَقَبَةٍ مُشْرِكَةٍ فَجَازَ كَالْحُرِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَآلُفُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعْطَائِهِمْ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَانَ تَآلُفُهُمْ بالْمَنِّ أَوْلَى، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَنُّ أَبْلَغَ فِي تَآلُفِهِمْ أَثَرًا أَوْ أعم صلاحاء. وَحُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ فَلَمَّا رَآهُ مَنَّ عَلَيْهِ فَعَادَ إِلَى قَطَرِيٍّ، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: عُدْ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: هَيْهَاتَ عَلَا يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعَتِقُهَا، وَأَنْشَدَ يَقُولُ: (أُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ) (إِنِّي إِذَنْ لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَالَّذِي ... شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غدراته) (ماذا أقول جار على أني إذن ... لَأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ) (وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أن ضائعا ... عَرَسَتْ لِذِي مُحْبَنْطِلٍ نَحَلَاتُهُ) وَإِذَا كَانَ الْمَنُّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ التَّآلُفِ وَالِاسْتِصْلَاحِ جَازَ إِذَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَقَالَ عُمَرُ: هُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وأخذ فداء الأسرى (ليتقوا بِهِ الْمُسْلِمُونَ) فَقِيلَ إِنَّهُ فَدَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِلْمُهَاجِرِينَ: أَنْتُمْ عَالَةٌ يَعْنِي فُقَرَاءَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنْكَارًا عَلَى نَبِيِّهِ فِي فِدَاءِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ ما نجا غيرك في إنكار هذا الفداء فكان دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَهُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ فَاقْتَضَى إِبَاحَةَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ أَثْخَنَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ لَمَسَّكُمْ فِي تَعَجُّلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عذاب عظيم (قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة) . وَالثَّانِي: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أنْ يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِيمَا أَخَذُوا من فداء أسرى بدر عذاب عظيم (قاله مجاهد وسعيد بن جبير) . وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] يَعْنِي بِهِ مَالَ الْغَنِيمَةِ وَالْفِدَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَهُوَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ بعد حظر، وإذا أَبَاحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَتْلَ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ جوز الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ الْمَنِّ عليهم لسلاحهم وعبدهم؛ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ وَالْمَالَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِتْلَافُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ المن به، وليس الرجال الأحرار مال لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْلَافُهُمْ فَجَازَ لَهُ الْمَنُّ بِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ قَدْ دَخَلَا فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ بِهِمَا اجْتِهَادٌ. وَلَمْ يَدْخُلِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمُ اجْتِهَادٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَهُوَ أَنَّنَا نُجَوِّزُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فيمن يرجئ إِسْلَامُهُ أَوْ تَآلُفُ قَوْمِهِ وَيُمْنَعُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ وَظُهُورِ الضَّرَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ خُمُسَ مَا حُصِّلَ بَعْدَ مَا وَصَفْنَا كَامِلًا وَيُقِرَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِهَا ثُمَّ يَحْسِبَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ مِنَ الرجال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ وَيَرْضَخَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءِ فَيَنْفُلُهُمْ شَيْئًا لِحُضُورِهِمْ وَيَرْضَخُ لِمَنْ قَاتَلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ قِيلَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْجَمِيعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لِصِنْفَيْنِ: لِحَاضِرٍ، وَغَائِبٍ. فَأَمَّا الْغَائِبُونَ فَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمْ لَا بِحُضُورِهِمْ وَلَا يُزَادُ مِنْهُمْ حَاضِرٌ لِحُضُورِهِ عَلَى غَائِبٍ لِغَيْبَتِهِ. وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ تَفَرَّدَ مِنْهُمَا بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ قَتِيلِهِ لَا يُشَارَكُ فِيهِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقُّهُ مُشْتَرِكًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ عُيِّنَ لَهُ رَضْخٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ فَهُمْ أَهْلُ الْقِتَالِ قَدْ تَعَذَّرَتْ سِهَامُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ لَا يُفَضَّلُ فِيهَا إِلَّا الْفَارِسُ بِفَرَسِهِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى الرَّاجِلِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّضْخِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ: الصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِحُضُورِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ غِيَابِهِمْ، وَيُفَضِّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضْخِ أَحَدِهِمْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، بِسَهْمٍ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الغنيمة لمن شهد الواقعة " وَتَعْلِيَلًا بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَاقِعَةَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال، 68، 69] فَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ فِيمَا أَخَذُوهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَهْلِ الْجِهَادِ كَانَ السَّهْمُ فِيمَا غَنِمُوهُ مُسْتَحَقًّا لِأَهْلِ الْجِهَادِ؛ وَلِأَنَّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ فَلَمَّا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرْضِ خَرَجُوا مِنَ السَّهْمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزَوَاتِهِ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ حَتَّى أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ عَلَى أَنَّنَا نَجْعَلُهَا لِجَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ وَالْجِهَادِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْضَخُ لِهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ وَلَا يُسْهَمُ، فَالرَّضْخُ يَتَقَدَّرُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ أَوْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ الْإِمَامُ مِنْ أَمِيرِ جَيْشٍ أَوْ قَاسِمِ يَغْنَمُ؛ فَيَقَعُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْقِتَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا سُوِّيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كالْغَانِمِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 قِيلَ: لِأَنَّ سِهَامَ الْغَانِمِينَ مُقَدَّرَةٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمُ التَّفَاضُلُ كَدِيَةِ الْحُرِّ، وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَغَنِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا يُبْلَغُ بِالرَّضْخِ سَهْمُ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنُقِصَ عَنْ قَدْرِهَا كَحُكُومَاتِ الْجِرَاحِ عَلَى الأعضاء لما كانت تبع لِلْأَعْضَاءِ لَمْ تَبْلُغْ بِأَرْشِهَا دِيَاتِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الرَّضْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا كَالسَّلَبِ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانٌ. فصاروا كحافظي الغنيمة (وحامليها الذين أعطون أجورهم من أصل الْغَنِيمَةِ) ؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِإِعْطَاءِ السَّلَبِ وَأُجُورِ الْحَفَظَةِ وَالْحَمَّالِينَ ثُمَّ الرَّضْخِ ثُمَّ يُخَمِّسُ الْبَاقِيَ، فَيَعْزِلُ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْغَانِمِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَرْضَخَ لَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنَ الْغَانِمِينَ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا أَقْوَى حَقًّا؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِالسَّلَبِ ثُمَّ بِالْأُجُورِ ثُمَّ بِالْخُمُسِ ثُمَّ بِالرَّضْخِ ثُمَّ يُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقَاوِيلِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في بعض منصوصاته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ثُمَّ يَعْرِفُ عَدَدَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فَيَضْرِبُ كَمَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلَلْفَارِسِ سَهْمًا وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَلَيْسَ يملك الفرس شيئا إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَفْرَدَ الإمام خمس الغنيمة على أربعة أخامسها يَبْدَأُ بالْغَانِمِينَ، فَقَسَّمَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وقدمهم على أهل الخمس لثلاثة معاني: أَحَدُهَا: لِحُضُورِهِمْ وَغَيْبَةِ أَهْلِ الْخُمُسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اجْتِهَادِهِمْ فَصَارَ مُعَاوَضَةً وَحَقُّ أَهْلِ الخمس مواساة. والثالث: أن يهم مِلْكَ أَهْلِ الْخُمُسِ خُمُسَهُمْ؛ فَكَانُوا أَقْوَى فِي الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا شَرَعَ فِي قِسْمَتِهَا فِيهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ، أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ أَوْ يَكُونُوا فُرْسَانًا وَرِجَالًا. فَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَقَسَمَهَا عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ وَلَمْ يُفَضِّلْ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ، وَلَا مُحَارِبًا عَلَى كَافٍّ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ حَاضِرٌ مُكَثِّرٌ، وَرَدٌّ مَهِيبٌ كَمَا يُسَوَّى فِي الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي النَّسَبِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 وَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً فَضَّلَ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُفَضِّلُ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَيُعْطِي الرَّاجِلَ سَهْمًا وَاحِدًا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، إِلَّا أبا حنيفة وَحْدَهُ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ عَنْهُمْ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ فَبِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ قَالَ أَعْطَانِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِفَرَسِي وَبِرِوَايَةِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَمِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سهمين، والراجل سهما؛ لأنه جعل لثلاث مائة فَارِسٍ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ حَتَّى صَارَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ خَيْبَرَ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى سَهْمٍ كَالرَّاجِلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَبَعٌ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ بِلَا صَاحِبِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ صَاحِبُهُ بِلَا فَرَسٍ أُسْهِمَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ التَّابِعِ أَفْضَلَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ؛ وَلِأَنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا وَتَأْثِيرُهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ دُونَ الْفَرَسِ، وَسَهْمُ الْغَنِيمَةِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَعَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَضَّلَ مَا قَلَّ تَأْثِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبِهِ سَهْمًا تَفْضِيلًا لِلْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَإِنِّي لِأَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ. قَالَ أَصْحَابُهُ: وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ كَالْبِغَالِ، وَلَكِنْ صِرْنَا إِلَى إِعْطَائِهِ سَهْمًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ وَمَنَعَ الْقِيَاسُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. ودليلنا ما رواه عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْهَمَ لِلرَّاجِلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَالُوا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسهم للفارس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ اسْتِدَامَةِ فِعْلِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا عَلَى بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ لِينٌ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهما لَهُ؛ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٍ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ، لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ تَمْنَعُ مِنَ الْخِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ السَّهْمُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفعه إلى الفارس نقلا كما نقل الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ فَعَنْ ذلك أربعة أجوبة: أحدهما: أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَنِ النَّفْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفْلَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْفَرَسِ شَرْطٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ لِلْفَرَسِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ السَّهْمِ الثَّالِثِ كَحُكْمِ السَّهْمَيْنَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونَا نَفْلًا لَمْ يَكُنِ الثَّالِثُ نَفْلًا. ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ يَزِيدُ عَلَى مُقَدَّرٍ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالضَّعْفِ قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا مَسَحَ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَرْفَقَ الْمُسَافِرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ولياليهن؛ ولأن مؤنة الفرس أقصر لِمَا يُتَكَلَّفُ مِنْ عُلُوفِهِ وَأُجْرَةِ خَادِمِهِ وَكَثْرَةِ آلَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْحَرْبِ أَهْيَبُ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْكَرِّ وَالْفَرِّ أَظْهَرُ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَوْفَرَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو العمري فيمن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ أَقْوَى عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَأَصَحُّ حَدِيثًا، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ أَزْيَدُ مِنْ خَبَرِهِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ سَهْمَ الْفَارِسِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا بِفَرَسِهِ عَلَى السَّهْمِ الرَّاتِبِ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ كَمَا رَوَيْنَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَتَيْنِ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَمَا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّكْبِيرِ الزَّائِدِ عَلَى التَّكْبِيرَةِ الرَّاتِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَقَدْ رَوَتْ عَنْهُ بِنْتُهُ كَرِيمَةُ أَنَّهُ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لِي، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِي فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ وَسَقَطَتَا وَاسْتُعْمِلَتَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ مَجْمَعًا وهم في حديثه. أنهم كانوا ثلاث مائة فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوَافِقُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَيْشَ هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّاجِلِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَهُوَ أَنَّ الْفَرَسَ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِصَاحِبِهِ لِأَجْلِهِ؛ فَكَانَ الْوَصْفُ غَيْرَ سَلِيمٍ ثُمَّ المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلائه أَظْهَرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ. فالجواب عنه أن كِلَا السَّهْمَيْنِ لِلْمَتْبُوعِ لَيْسَ لِلتَّابِعِ سَهْمٌ وَهُوَ أَكْثَرُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَتْبُوعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كِلَا الْعَنَائَيْنِ مُضَافٌ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ تَأْثِيرَهُ لِفَرَسِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَرَسِ يَلْحَقُ إِنْ طَلَبَ وَلَا يُلْحَقُ إِنْ هَرَبَ. وَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة: " إِنَّنِي أَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ " [فَيُقَالُ لَهُ لَئِنِ اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تفضل بينهما] فاستحي أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ قَدْ سَوَّيْتَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ فَضَّلْتَ قِيمَةَ الْبَهِيمَةِ إِذَا تَلَفَتْ عَلَى ذِمَّةِ الْحُرِّ إِذَا قُتِلَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءَ، فَكَذَلِكَ فِي السَّهْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ السَّهْمُ لِلْبَهِيمَةِ فَيَسْتَحِي مِنْ تَفْضِيلِهَا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِهَا وَالْبَهِيمَةُ لَا تَمْلِكُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ مِنَ السَّهْمِ لِلْبَهِيمَةِ فَهَذَا قِيَاسٌ قَدْ أَبْطَلَهُ النَّصُّ فبطل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَالْفُرْسَانُ هُمْ أَصْحَابُ الْخَيْلِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَطَايَا وَالْفِيَلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الخيل مقعود بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ " وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخَيْلُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَتِيقِهَا وبَرَاذِينِهَا ومقارفها وهجنها؛ والعتيق: ما كان أبواه عربين. وَالْبِرْذَوْنُ: مَا كَانَ أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّيْنِ. وَالْمُقْرِفُ: مَا كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَأَبُوهُ أَعْجَمِيُّ. وَالْهَجِينُ: مَا كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ الْفَرَسُ عَتِيقًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمَانِ وَإِنْ كَانَ بِرْذَوْنًا لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقْرِفًا أو هجينا أسهم له بسهم وَاحِدٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسْهَمُ لِلْعَتِيقِ سَهْمَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُخْتَصَّةَ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ هِيَ الْعُتْقُ فَاخْتَصَّتْ بِالسَّهْمِ الْأَوْفَى وَكَانَ مَا سِوَاهُمَا بِالنَّقْصِ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وَلِأَنَّ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَّ وَأَسْرَعَ فَالْبِرْذَوْنُ أَشَدُّ وَأَبْهَى وَأَصْبَرُ فَصَارَ اخْتِصَاصُ الْعَتِيقِ بِالْحِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اخْتِصَاصِ الْبِرْذَوْنِ بِالشِّدَّةِ فَتَقَابَلَا وَاسْتَوَيَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الْخَيْلِ لَمَّا اسْتَوَى عَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ فِي السُّهُمِ فَالْخَيْلُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَوِيَ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا فِي السُّهُمِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ وانفصال والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يُعْطَ إِلَّا لواحد لأنه لا يلقى إلا بواحد ولو أسهم لاثنين لأسهم لأكثر ولا يسهم لراكب دابة غير دابة الخيل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا حَضَرَ الْفَارِسُ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُعْطَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ حَضَرَهَا بِمِائَةِ فَرَسٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ؛ ولأن الثاني عدة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 مجيئها يرواح بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ إِنْ أَعْيَا أَوْ زَمِنَ فَكَانَ تَأْثِيرُهُمَا أَكْثَرَ مَعَ مَا قَدْ تَكَلَّفَهُ لَهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الْمُؤْنَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ أَفْرَاسٌ فَلَمْ يُسْهِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ: السَّكْبُ وَالظَّرِبُ وَالْمُرْتَجِزُ فَلَمْ يَأْخُذِ السَّهْمَ إِلَّا لِوَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّهُ لا يقاتل إلا على واحد منهما وَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ صَارَ تَارِكًا لَهُ وَيَكُونُ الثَّانِي إِنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالثَّالِثِ فِي أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَيَصِيرُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ زِينَةً وَاسْتِظْهَارًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ كَخَدَمِ الزَّوْجَةِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نَفَقَةَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ وَيَصِيرُ مَا عَدَاهُ زِينَةً وَزِيَادَةً وَاسْتِظْهَارًا. وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ خَبَرُهُ مُسْنَدٌ وَذَاكَ تَابِعِيٌّ خَبَرُهُ مُرْسَلٌ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الثَّانِيَ عُدَّةٌ وَقَدْ تُكُلِّفَ لَهُ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ فَهَذَا حَالُ الثَّالِثِ أَيْضًا وَلَا يُوجِبُ السَّهْمَ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي. فَصْلٌ: وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ هَيَّبَ بِهِ وَقَدْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ فِي الْمَاءِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا انتقل إلى البئر وَقَاتَلَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ عَلَى حِصَارِ حِصْنٍ أُسْهِمَ لِفَرَسِهِ، لِأَنَّهُ عُدَّةٌ يَلْحَقُ بِهِ أَهْلَ الْحِصْنِ إِنْ هَرَبُوا أَوْ يُرْهِبَهُمْ بِهِ إِنْ حُوصِرُوا. فَصْلٌ: وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ فَرَسًا، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ، أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ لِلْحُضُورِ مَعَ الْغَاصِبِ، لِظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِيهِ، وَحُصُولِ الْإِرْهَابِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقًّا، فَفِي مُسْتَحِقِّهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيهِ فِي رِبْحِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ لِقِتَالِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَقِّ مَالِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِمَالِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ صَاحِبٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَغَصَبَ فَرَسَهُ غَاصِبٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ دُونَ غَاصِبِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْحُضُورِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْغَصْبِ، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ السَّهْمُ لِغَيْرِهِ لِوُجُوبِهَا بِالْغَصْبِ. فَصْلٌ: وَلَوِ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوِ اسْتَأْجَرَهُ، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ مَلَكَ سَهْمَهُ، لِتَمَلُّكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ دُونَ الْقِتَالِ صَارَ كَالْغَاصِبِ فَيَكُونُ فِي سَهْمِهِ وَجْهَانِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 فَصْلٌ: وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِفَرَسٍ فَضَلَّ مِنْهُ الْفَرَسُ نُظِرَ، فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْوَقْعَةِ وَمَصَافِّ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا وَتَجَاوَزَ مَصَافَّ الْقِتَالِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْهَمُ لَهُ لِبَقَائِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ تُؤَثِّرُ فِي تَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَوْ ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى فَاتَتْهُ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وإِنْ كَانَ مَعْذُورًا. فَصْلٌ: وَإِنْ خَلَفَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ وَقْعَةَ الْقِتَالِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَوْ تَأَخَّرَ فِي الْمُعَسْكَرِ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، فَفَرَسُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَخْلَفَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِالْمُعَسْكَرِ عَلَى حِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ حَظْرًا مِنْ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْجَيْشِ مِنْ حُضُورِهِ مَعَهُمْ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ أَفْرَدَ مِنْهُمْ كَمِينًا لِيَظْفَرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِفَرِّهِ، أُسْهِمَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ؛ لِأَنَّهُمْ عَوْنٌ فِيهَا يَخَافُهُمُ الْعَدُوُّ وَيَقْوَى بِهِمُ الْجَيْشُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ فَلَا يُدْخِلُ إِلَّا شَدِيدًا وَلَا يُدْخِلُ حَطِمًا وَلَا قَمْحًا ضعيفا ولا ضرعا (قال المزني) رحمه الله القحم الكبير والضرع الصغير ولا أعجف رازحا وإن أغفل فدخل رجل على واحدة منها فقد قيل لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل التي يسهم لها ولا أعلمه أسهم فيما مضى على مثل هذه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ وَتَجْهِيزَهَا، وَلَا يُدْخِلُ فِيهَا حَطِمًا وَهُوَ الْكَبِيرُ وَلَا ضَرْعًا وَهُوَ الصَّغِيرُ، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا وَهُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي لَا حَرَاكَ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَفِي عَنَاءَ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ وَقَدْ تَضُرُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عجزهما عَنِ النَّهْضَةِ وَعَجْزُ رَاكِبِهَا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ. وَالثَّانِي: ضِيقُ الْغَنِيمَةِ بِالْإِسْهَامِ لَهَا عَلَى ذَوِي الْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ، فَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الضَّعِيفَةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ عَنَاءِ الْخَيْلِ السَّلِيمَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَدْ نَادَى فِيهِمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا سَهْمَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا لأن في الْبِغَالَ الَّتِي لَا سَهْمَ لَهَا مَا هُوَ عناء منها، وإن لم ينادي فِيهِمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وفي الأم قيل: لَا يُسْهَمُ، وَقِيلَ يُسْهَمُ لَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَيْرَانَ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسْهَمُ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ فَعَجْزُهَا عَنِ الْعَنَاءِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي السَّهْمِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 فَقَوْلُهُ يُسْهَمُ لَهَا إِذَا أَمْكَنَ الْقِتَالُ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَقَوْلُهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْقِتَالُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ إِذَا حَضَرَ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَارِسًا إِذَا دَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ ثُمَّ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ كَانَ فَارِسًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَرْبِ وَجَمْعِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يُضْرَبُ لَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ حِينَ دَخَلَ لَكَانَ صَاحِبُهُ إِذَا دَخَلَ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَارِسًا، ثُمَّ نَفِقَ فَرَسُهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى حَضَرَهَا رَاجِلًا، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُسْهَمُ لَهُ إِذَا زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ. وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَنِفَاقِهِ أَوْ سَرِقَتِهِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ زَالَ بِاخْتِيَارِهِ كَبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا، فَصَارَ عن أبي حنيفة ثلاثة رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهَا الْأُولَى. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَنْ دَخَلَ أرض العدو راجلا، ثم ملك قبل تقضي الْحَرْبُ فَرَسًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَحَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ اعْتِبَارًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْإِعْدَادُ، وَقَدْ أَعَدَّهُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ حَصَّلَ الْإِذْلَالَ وَالْقَهْرَ، فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّهْمُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ سَهْمَ فَرَسِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّفَهَا فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ بِهَا، وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاعْتِلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا مُجَاهِدًا، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَارِسِ كَالْحَاضِرِ لِلْوَاقِعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ استحقاق السهم في الفصين مَعًا بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ لَا بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاعْتُبِرَ بِمِلْكٍ حَالَ الْمَغْنَمِ إِجَازَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَابِعٌ وَالْمَالِكَ مَتْبُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَالِكِ الْمَتْبُوعِ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِهِ، فَالْفَرَسُ التَّابِعُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ ذُو سَهْمٍ مَاتَ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْمَالِكِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ وَأَقْوَى مِنْهَا عَلَى ما في دار الحرب (فلما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 استوى اعتبار سهم الفارس والفرس في دار الإسلام بحضور الإسلام، كان أولى أن يعتبر فِي دَارِ الْحَرْبِ) بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ حَالٍ مَنَعَ مَا قَبْلَهَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ مَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَغْنَمٍ مُنِعَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ الْفَارِسِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْقِتَالُ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ، أَلَا تَرَى أَنْ لَوِ اسْتَعَدَّ وَلَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ أُسْهِمَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّهْبَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفَرَسِ فِي دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الرَّهْبَةِ بِالْفَارِسِ لَا بِالْفَرَسِ ثُمَّ لَيْسَتِ الرَّهْبَةُ مِنَ الْفَارِسِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مُوجِبَةً لِسَهْمِهِ، فكذلك لفرسه. وأما قول عليه بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا "، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَزْوَ فِي الدَّارِ هُوَ الْإِذْلَالَ لَا دُخُولَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِذْلَالِ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْغَلَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَكَلُّفُ الْمُؤْنَةِ مُوجِبًا لِمِلْكِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَكَلَّفَهَا لِفَرَسِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ تَكَلَّفَهَا لِنَفْسِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُسْهَمْ لِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بذلك. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَمَرِضَ وَلَمْ يُقَاتِلْ أُسْهِمَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ فَلَهُ سَهْمُهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ حُنَينٍ إِلَى أَوَطَاسٍ فَغَنِمَتْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ بِحُنَينٍ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ، فَكَانَ الْحَاضِرُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوْلَى أَنْ يَشْرُكَهُمْ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَيَّبَ وَكَثَّرَ وَأَرْهَبَ وَخَوَّفَ، فَصَارَ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا كَالْمُقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ جَمِيعِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونُ الْبَاقُونَ رِدًّا لَهُمْ لِتَقْوَى نَفْسُ الْمُقَاتِلِ بِحُضُورِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ. وَأَمَّا إِذَا حَضَرَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ كَانَ صَحِيحًا فَمَرِضَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ كالصُّدَاعِ وَالسُّعَالِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَالْحُمَّى الْقَرَنِيَّةِ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ، وَقِلَّةِ خُلُوِّ الْأَبْدَانِ مِنْ مِثْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ "؛ وَلِأَنَّهُ مُهَيِّبٌ وَمُكَثِّرٌ كَالصَّحِيحِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَعُ بِرَأْيِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِقِتَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا؛ لِأَنَّهُ مَسْلُوبُ النُّهُوضِ بِالْمَرَضِ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرِيضًا يَخْرُجُ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالْعَمَى وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوِ الزَّمَانَةِ الْمُقْعِدَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الصِّحَّةِ كَالْحُمَّى الشَّدِيدَةِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَانْطِلَاقِ الْجَوْفِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَجِيرٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يسهم له وتطرح الإجارة وَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُرْضَخُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِجَارَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ أَوْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ كَالدُّيُونِ. وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالزَّمَانِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ كَرَجُلٍ استأجر لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ صِنَاعَةِ حُلِيٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِالْعَقْدِ مُسْتَحَقَّةٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ فَعَلَى هَذَا يُرْضَخُ لَهُ وَهُوَ عَلَى إِجَارَتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِأُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ عَنْ مَنْفَعَتِهِ فَانْصَرَفَتْ إِلَى إِجَارَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَنَافِعِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحْكَامِ قُرْبِهِ كَالْحَجِّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ أَحْكَامَ الْعَبْدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ لَا يمنع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ كَأَجِيرٍ يَخْدُمُ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ مَعَ السَّهْمِ كَمَا يَكُونُ لَهُ الْحَجُّ مَعَ الْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَيَأْبَى وَيَغْلِبَهُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ. فَهَذَا يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ مُدَّةَ حُضُورِهِ لِئَلَّا يَجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ بَدَلَيْنِ وَقَدِ امْتَلَكَهَا فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَا يَدْعُوهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهَا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ تُقَدَّرُ عَلَى قَسْمِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: لَا يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ. وَالثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا وَتَكُونَ لَهُ الْأُجْرَةُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيُسْهَمُ لَهُ وَتَسْقُطُ الْأُجْرَةُ. فَإِذَا قِيلَ: يُسْهَمُ لَهُ فَسَوَاءً قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَهُ سَهْمُهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْجَيْشِ. وَإِذَا قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ مَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي حُضُورِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَاتَلَ وَأَبْلَى فِإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّلَبَ إِنْ قَتَلَ قَتِيلًا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِبَلَائِهِ وَظُهُورِ عَنَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِالْحُضُورِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَإِنْ قَاتَلَ كَأَهْلِ الرَّضْخِ طردا وأهل الجهاد عكسا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أفلت إليهم أسير قبل تحرز الْغَنِيمَةَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فَيُقَاتِلُ فَأَرَى أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ أَسِيرٌ وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْقِتَالِ وَصَارَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْجَيْشِ أَوْ لَا يَخْتَلِطُ فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ وَتَوَجَّهَ إِلَى وَطَنِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنِ اخْتَلَطَ فِي الْجَيْشِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْضُرَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْجِهَادَ وَلَا تَكَلَّفَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَلِأَنَّ مَنْ أُسْهِمَ لَهُ إِذَا قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ كَسَائِرِ الْجَيْشِ؛ وَلِأَنَّ مَا عَانَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْأَسْرِ وَذُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سببا لحرمانه فأمانية الْقَصْدِ وَتَكَلُّفُ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي سَهْمِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْضُرَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ مَتَى يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَهُمْ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا، فَعَلَى هَذَا يُسْهَمُ مِنْهَا لِأَسِيرٍ لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي سَهْمِ التَّمَلُّكِ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَمَلَّكُونَهَا بِشَرْطَيْنِ: الْقِتَالُ عَلَيْهَا وَالْإِحَازَةُ لَهَا. فَعَلَى هَذَا لَا سَهْمَ لِأَسِيرٍ بِحُضُورِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْجَيْشُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا. فَإِذَا قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ، فَبِحَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فَلَا رَضْخَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا رُضِخَ لَهُ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا يُرْضَخَ لَهُ لِفَوَاتِ زَمَانِ التَّمَلُّكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ تُجَّارٌ فَقَاتَلُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا أن يسهم لهم وقيل لَا يُسْهَمُ لَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اتَّبَعَ الْجَيْشَ تُجَّارٌ وَصُنَّاعٌ قَصَدُوا كَسْبَ مَنَافِعِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا نُظِرَ فَإِنْ قَاتَلُوا أُسْهِمَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْقِتَالِ قَدْ عَدَلُوا عَنْ قَصْدِ الْكَسْبِ إِلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا أُسْهِمَ لَهُمُ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً. وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ، أُعْطَوْا رَضْخًا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِإِدْرَاكِهِمْ زَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جاءهم مرد قبل أن تنقضي الْحَرْبُ فَحَضَرُوا مِنْهَا شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَرَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فَإِنِ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَنِيمَةِ مَانِعٌ لَمْ يَشْرُكُوهُمْ ". وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَلْحَقَ بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الحرب مرد لم يخل حال المرد مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكُوا الْوَقْعَةَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبُ فَيَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءً قَاتَلُوا مَعَهُمْ أَمْ لَا وَسَوَاءً احْتَاجَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ لِوُرُودِهِمْ تَأْثِيرًا فِي الْقُوَّةِ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ، وَانْجِلَاءِ الْوَقْعَةِ، وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 وَالْإِحَازَةُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَيُوَلِّيَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ وَنَأْمَنُ رَجَعَتَهُمْ فِي الْحَالِ فَتَكْمُلُ الْإِحَازَةُ بهذه الشروط الثلاثة فإن انحزم شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلِ الْإِحَازَةُ، فَإِذَا كَانَ حضور المرد بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَقَبْلَ الْإِحَازَةِ فَهَلْ يُشْرِكُونَهُمْ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنَ الْمَاضِيَيْنِ نَصًّا، وَتَخْرِيجًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَبَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْإِحَازَةِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الغنيمة والجيش أحق بها من المرد. وقال أبو حنيفة: المرد شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا أَدْرَكُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ أُحْرِزَتِ الْغَنَائِمُ مَا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا أَوْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ بَاعَهَا وَلَوْ كان المرد أَسْرَى لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إجازة الغنائم لم يشركوهم. واستدل على مشاركة المرد لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَكُوا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِينَ قَبْلَ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنْ لَمَّا كان الرد مشاركا وجب أن يكون المرد مُشَارِكًا لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَوْنٌ وَلِلْجَيْشِ بِهِمَا قُوَّةٌ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِحَازَةِ إلى دار الإسلام فصار المرد مدركا لها قبل إحازتهما. ودليلنا قوله ^: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَالَّذِي شَهِدَهَا الْجَيْشُ دون المرد فوجب أن يكون أحق بها من المرد. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّرَ أَبَّانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَيْبَرَ، وَقَدْ فَتَحَهَا وَأَجَازَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا فَأَبَى؛ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الجيش بها دون المرد، وَلِأَنَّ لُحُوقَهُمْ بِالْجَيْشِ بَعْدَ إِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَسْرَى وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ لَا يُسْهَمُ لِلْأَسْرَى مِنْهَا لَمْ يُسْهَمْ لِلْمَرَدِّ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى مَا نُفِلَ أَوْ قُسِّمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ النَّفْلُ عِلَّةً فِي التَّمَلُّكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسْرَى لَوْ نَفَلُوا لَمْ يَتَمَلَّكُوا وَكَذَلِكَ الْأُجَرَاءُ عَلَى النَّفْلِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالرَّدِ، فَهُمْ وَالْمَرَدُّ سَوَاءٌ إِنْ أَدْرَكَ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُمْ كَالرِّدِّ وَإِنْ لَمْ يدرك الرد الْوَقْعَةَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ كَالْمَرَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْغَنِيمَةَ يُمْكِنُ إِحَازَتُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فليس للدار تأثيرا في تملكها وإنما تملك بمجرد الإجارة عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّ قَائِدًا فَرَّقَ جُنْدَهُ فِي وَجْهَيْنِ فَغَنِمَتْ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ أَوْ غَنِمَ الْعَسْكَرُ وَلَمْ تَغْنَمْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شَرَكُوهُمْ لِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وكلهم ردء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 لصاحبه وقد مضت خيل المسلمين فغنموا بأوطاس غنائم كثيرة وأكثر العساكر بحنين فشركوهم وهم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لو كان قوم مقيمين ببلادهم فخرجت منهم طائفة فغنموا لم يشركوهم وإن كانوا منهم قريبا لأن السرايا كانت تخرج من المدينة فتغنم فلا يشركهم أهل المدينة ولو أن إماما بعث جيشين على كل واحد منهما قائد وأمر كل واحد منهما أن يتوجه ناحية غير ناحية صاحبه من بلاد عدوهم فغنم أحد الجيشين لم يشركهم الآخرون فإذا اجتمعوا فغنموا مجتمعين فهم كجيش واحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلِلسَّرَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجُيُوشِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَسْرِيَ من جملة جيش مقيم. فأما الحالة الْأُولَى وَهُوَ أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِجَيْشِهِ أَوْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْجَيْشِ أَمِيرًا فَيُنْفِذَ السَّرَايَا مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ جُمْلَتِهِ سَرِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ؛ فَتَكُونُ السَّرِيَّةُ وَالْجَيْشُ شُرَكَاءَ بِجَمِيعِ مَا غَنِمُوهُ، فَإِنْ غَنِمَتِ السرية شاركهم الجيش، وإن غنم الجيش شركتهم السَّرِيَّةُ وسَوَاءً كَانَ تَفَرُّدُ السَّرِيَّةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْجَيْشُ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ السَّرِيَّةِ عَنِ الْجَيْشِ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا غَنِمَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ هَزَمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ أَسْرَى قِبَلَ أَوْطَاسٍ سَرِيَّةً غَنِمَتْ فَقَسَّمَ غَنَائِمَهُمْ فِي الْجَمِيعِ. وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ويجيد عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشَدُّهُمْ عَلَى مُضْعَفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّرَايَا تَرُدُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ردا لِصَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لَحِقَ بِهَا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ مِنَ الْجَيْشِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ الْجَيْشُ وَالسَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا إِنْ غَنِمَتِ السَّرِيَّتَانِ اشْتَرَكَتَا مَعَ الْجَيْشِ، وَإِنْ غَنِمَتْ إِحْدَاهُمَا شَرَكَتْهَا الْأُخْرَى وَالْجَيْشُ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ السَّرِيَّتَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ والتعليل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 والمسألة الثانية: أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَكُونُ السريتان مشاركتين للجيش والجيش مشارك لِلسَّرِيَّتَيْنِ، وَهَلْ تَكُونُ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ مُشَارِكَةً لِلْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مُشَارِكَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ وَاحِدٍ فَصَارَ الْكُلُّ جَيْشًا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ واحد مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تُشَارِكُ الْأُخْرَى ولا يشاركها؛ لأن الجيش أصل السريتين وليس إحدى السريتين أصل للأخرى. فصل: وأما الحالة الأخرى وهو أَنْ يَكُونَ الْجَيْشُ مُقِيمًا وَالسَّرَايَا مِنْهُ نَافِذَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ الْمُقِيمِ سَرِيَّةً فَتَغْنَمُ فَتَخْتَصُّ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَتِهَا وَلَا يَشْرُكُهَا الْجَيْشُ الْمُقِيمُ سَوَاءً أَسْرَتْ إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُنْفِذُ السَّرَايَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَا يُشْرِكُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ الْمُقِيمُ مُجَاهِدًا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جملة جيشه المقيم سريتين إلى وجهة واحدة في طريق واحد أو طريقتين فَتَكُونُ السَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا، أَيُّهُمَا غَنِمَتْ شَارَكَتْهَا الأخرى، ولا يشاركهما الجيش المقيم لكون غَيْرَ مُجَاهِدٍ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدْ أَفْرَدَ كُلَّ سَرِيَّةٍ مِنْهُمَا بِقَائِدٍ فَإِنِ اجْتَمَعَتِ السَّرِيَّتَانِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي غَنَائِمِهَا دُونَ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ، وَإِنِ انْفَرَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِالْجِهَةِ الَّتِي أُنْفِذَتْ إِلَيْهَا لَنْ تُشَارِكَهَا الْأُخْرَى فِي غَنَائِمِهَا، وَلَا يُشَارِكُ الْجَيْشُ وَاحِدَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِجِهَةٍ لَمْ تَكُنْ رِدًّا للأخرى فصارت جيشا منفردا فلو انضم نفرا مِنْ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَغَنِمُوا شَارَكُوهَا فِي غَنَائِمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا قَدْ صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا فَإِذَا حَازَ النَّفَرُ سَهْمَهُمْ مِنْهَا فَهَلْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ بَاقِي أَصْحَابِهِ مِنَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَاقِي السَّرِيَّةِ غَنِمَتْ شَارَكَهُمْ فِيهَا النَّفَرُ الْمُنْفَرِدُ عَنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ يَخْتَصُّونَ بِمَا أَخَذُوا مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي انْضَمُّوا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ سَرِيَّتِهِمْ بِالِانْفِرَادِ عَنْهَا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ سَرِيَّتِهِمْ غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ كَمَا لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 باب تفريق الخمس مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية وروي أن جبير بن مطعم قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ الله به مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وتركتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هكذا وشبك بين أصابعه " وروى جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل من ذلك شيئا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَأَمَّا خُمُسُهَا وَخُمُسُ الْفَيْءِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ حُكْمَ خُمُسِهِ، وَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ وَيُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بَاقٍ لَهُمْ مَا بَقَوْا، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أسهم: سهم منها لله تعالى مصروف في رياح الْكَعْبَةِ وَزِينَتِهَا، ثُمَّ الْخَمْسَةُ الْأَسْهُمِ بَعْدَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَوْتِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصْرَفُ الْخُمُسُ مَعَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ. فَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ " فَلَوْ كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةٍ لَقَالَ إِلَّا السُّدُسَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِلتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، وَلِإِبَاحَةِ الْمَالِ بَعْدَ حَظْرِهِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ لَهُ، وَلِتَغَلُّظِ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّاهُ. وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاقِطٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ مَلَكَ فِي حَيَاتِهِ حَقًّا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِمَّا مَوْرُوثًا، وَإِمَّا سَاقِطًا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَوْرُوثًا سَقَطَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ سَهْمَهُ مِنَ الْخُمُسِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْغَنِيمَةِ الصَّفِيَّ فَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ سَقَطَ سَهْمُهُ مِنَ الْخُمُسِ بِهِ. وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا على أن لا حق لذوي القرب فِيهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أهل القربى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَحَظَرُوا بِهَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَثُبُوتُ حَقِّهِمْ فِيهِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ؛ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ عَزَلَ لَنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فقلت إن بني هاشم عنه في غناء وإن بالمسلمين حلة وَفَاقَةً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَرَكَهُ لِلْغَنِيِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَجُزْ صرفه إلى أغنياء غير ذي القربة لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى أَغْنِيَاءِ ذِي الْقُرْبَى كَالصَّدَقَاتِ؛ وَلِأَنَّهُمْ صِنْفٌ مُسَمًّى فِي الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقُّوهُ مَعَ الْغِنَى كَالْيَتَامَى وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ: فَدَلَّ رَدُّهُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ، لَا عَلَى سُقُوطِهِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ. فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ وَلِيَهَا عُمَرُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ فَمَوْضِعُ الدِّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَلَكَا بِحَقِّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَسْلَكَهُ بِحَقِّهِ فِي حَيَاتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى بَقَائِهِ وَثُبُوتِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ لَمْ يَسْقُطْ كَسَائِرِ السهام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 فَصْلٌ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فَأَضَافَ الْخُمُسَ إِلَى خَمْسَةِ أَصْنَافٍ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ تَسَاوِيَهُمْ بِجَمِيعِهِمْ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَهُوَ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذِي الْقُرْبَى فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْفَقْرِ وَقَالَ تَعَالَى: {فأتى ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم: 38] قَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عثمان بن عفان وجبير كانا من أغنياء قريش، سألاه لما أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَحَرَمْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ؟ فَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ الْمَنْعِ الْغِنَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ فِيهِ كَالْفَقِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ أَعْطَاهُمْ. وَكَانَ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ حَرَمَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَرَابَةَ دُونَ الْفَقْرِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَبَرَ النُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وعبد شمس ونوفل كَانُوا أُخْوَةً وَكُلُّهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ خص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سهم ذي القربة بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ، لِمَا قَالَ فِي ضَمِّ بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ بِأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ النُّدْرَةِ الَّتِي مَيَّزَتْهُمْ بِهَا دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النصرة، ولأنهم لَيْسَ لِلنُّصْرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ عُثْمَانُ وَجُبَيْرٌ فِي طَلَبِهِمَا وَلَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنْعِهِمَا وَدَفَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نُصْرَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 فِيهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَمَنَعَ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ قَامَ بِالنُّصْرَةِ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي دُجَانَةَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُمْ وَأَعْطَى مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نُصْرَةً مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالنُّصْرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَالتَّقْدِيمَ بِالنُّصْرَةِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ ابْنُهُمَا فِي التَّعْصِيبِ بِالْأَبِ سَوَاءٌ، وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْأُمِّ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْصِيبِ، كَذَلِكَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَإِنْ شَارَكُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ فِي الْقَرَابَةِ قُدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنَ النُّصْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِالنُّصْرَةِ فَهَلَّا زَالَ حُكْمُهُمَا بِزَوَالِهَا، وَقَدْ زَالَتِ الْيَوْمَ. قِيلَ: النُّصْرَةُ فِي الْآبَاءِ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِي الْأَبْنَاءِ كَمَا نَقُولُ فِي تَمْيِيزِ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ إِنَّ حُرْمَةَ آبَائِهِمْ حِينَ كَانُوا عَلَى حَقٍّ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَهَا لِأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ زَالُوا عَنِ الْحَقِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَالْمَنْعَ مَعَ وُجُودِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا نَقُولُ فِي ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا قَاتِلٌ إِنَّهُمَا وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبُنُوَّةِ، فَالْقَاتِلُ مَمْنُوعٌ بِعِلَّةٍ، فَكَذَلِكَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَإِنْ سَاوَوْا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُمْ كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ الِابْنِ الْقَاتِلِ. فَإِنْ قِيلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَدِيثِهِ فِي أَحْكَامِ غَنَائِهِمَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْخَبَرَ فِي خُمُسِ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَهَا غَنَائِمُ يُحْمَلُ خَبَرُهُ عَلَى خُمُسِهَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَدْ كَانَ أَكْثَرُهَا فَيْئًا فَيُسْتَغَلُّ فِي كُلِّ عَامٍ فَكَانَ خُمُسُهُ بَاقِيًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ اسْتَشْفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعلي - رضوان الله عليهما فِي عِمَالَةِ الصَّدَقَاتِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ " فَجَعَلَ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ تَنْزِيهًا عَمَّا يُمْلَكُ بِالْفَقْرِ مِنَ الصَّدَقَاتِ؛ فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ يَكُونُ في أحدهما نصا مسندا، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ تَوَلَّيْنَا حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْسِمْهُ فِي حَيَاتِكَ كَيْ لَا يُنَازِعَنَا أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَفْعَلُ ذَلِكَ " فَوَلَّانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمْتُهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَتْ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: لَنَا عَنْهُ الْعَامَ غَنَاءٌ، وَبِالْمُسْلِمِينَ الْآنَ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ يَا عَلِيُّ: حَرَمْتَنَا لَا تُرَدُّ عَلَيْنَا أَبَدًا، وكان راجلا دَاهِيًا فَلَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ. فَدَلَّ قَوْلُ عَلِيٍّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنَا حَقَّنَا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عيينة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيتُ عليا عليه السلام عند أحجار الركب فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الْخُمُسِ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جاءه مال السوس والأهواز أو قال أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مَالُ فَارِسَ - الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ -، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لا تطعمهم فِي حَقِّنَا، فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا أَحَقَّ مَنْ أَجَابَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَفَعَ خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَالٌ فَيَقْضِينَاهُ. فَدَلَّ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لَهُمْ ثَمَنَهُ بِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الَّذِي قَدْ شَارَكُوا فِيهِ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَسْقُطُ بِمُطَالَبَتِهِمْ وَلَا يُؤَخَّرُ لِفَقْرِهِمْ، وَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ قَضَاءَ مَا أُخِّرُوهُ مِنْ حَقِّهِمْ. وَرَوَى زيد بْنُ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ حِينَ حَجَّ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُولُ لِمَنْ تَرَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِقُرْبَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمَهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَوَّضَ مِنْ ذَلِكَ عِوَضًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ، وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ. وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ فِي جميع الأحوال ثبت لهم سهم في خمس الخمس كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَلِأَنَّهُمْ عُوِّضُوا عَنِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخُمُسِ الْخُمُسِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو ليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ ثَابِتًا لَا يَزُولُ؛ كَانَ مَا عُوِّضُوهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ثَابِتًا لَهُمْ لَا يَزُولُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ ما تميز به ذوو الْقُرْبَى فِي الْأَمْوَالِ اسْتَلْزَمَ ثُبُوتَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا كَانَ سَاقِطًا، فَهُوَ أَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا انْتَفَى عَنْهُ رُدَّ إِلَى مَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِقَوْمِهِ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ غيره، فوجب أن يكون ذَلِكَ مَصْرِفُ مَالِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ مِنَ الصَّفِّيِّ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِلصَّفِيِّ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسَقَطَ بِخِلَافِ غيره. وأما الجواب عن استتدلال أبي حنيفة فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْخُمُسِ وَلَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل يستحق بالفقر. والثاني: أنه سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَمَا كَانَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلاله بحديث علي (عليه السلام) أَنَّهُ رَدَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِغِنَاهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتَارَ تَرْكَ حَقِّهِ وَمَنْ يَتْرُكُ حَقَّهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا بَاقِيًا، وَهُوَ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَغْنِيَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمِينَ فَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُوَاسَاةٌ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ أَحَقَّ بِهَا، وَالْخُمُسُ يُمْلَكُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا لَا بِالْمُوَاسَاةِ؛ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ كالْغَانِمِينَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قياسهم على الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ فِيهِ شَرْطًا، وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ شَرْطًا فِيهِ إِذَا وُجِدَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْفَقْرُ شَرْطًا وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ كالميراث والله أعلم. (قال الشافعي) : " فيعطى سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى فِي ذِي الْقُرْبَى حَيْثُ كَانُوا وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ الْعَامَّةِ وَلَا فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ وَيُعْطَى الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ وَالْمَرْأَةُ سَهْمًا لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا باسم القرابة فإن قيل فقد أعطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل قيل لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غيره والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وإن باسم القرابة أعطوا وإن حديث جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَقْتَضِي إِبَانَةَ أَحْكَامِهِمْ فِيهِ وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي ذِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَجَمِيعُهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ لِعَبْدِ مَنَافٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ خَامِسٌ اسْمُهُ عَمْرٌو وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ فَأَمَّا هَاشِمٌ فَهُوَ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ؛ فَهَاشِمٌ فِي عَمُودِ الشَّرَفِ الَّذِي تَعَدَّى شَرَفُهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أُخْوَتِهِ، وَالْمُطَّلِبُ أَخُوهُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَلَدِهُ ثُمَّ عَبْدُ شَمْسٍ أَخُوهُمَا وَعُثْمَانُ مِنْ وَلَدِهِ ثُمَّ نَوْفَلٌ أَخُوهُمْ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ ولده؛ فاختص بسهم ذي القربة بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ " يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ بِحِلْفٍ عَقَدُوهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ؛ وَلِهَذَا الْحَلِفِ دَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ الشِّعْبَ بِمَكَّةَ حِينَ دَخَلَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جبير بن مطعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. فَصْلٌ: وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَبَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا حَقَّ لِغَنِيِّهِمْ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى مِنْهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ لِيَسَارِهِ يَعُولُ عَامَّةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاقَقَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ لَمْ يُشَاقِقْهُ فِي أَنَّهُمْ سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي سَهْمِهِمْ إِلَّا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ خَارِجًا عَنْ حَقِّهِ فِي الْخُمُسِ. فَصْلٌ: وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَخَذَ مِنَ الْخُمُسِ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْمِيرَاثِ وَخَالَفَ الْعَقْلَ الَّذِي يَخْتَصُّ الرِّجَالُ بِتَحَمُّلِهِ دُونَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ ذَبَّ عَنِ الْقَاتِلِ مُنِعَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِأَجْلِ النَّسَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ فُضِّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ وَكَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْوَصَايَا لِلْقَرَابَةِ يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ سَهْمِهِمْ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْوَصَايَا من وجهين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى عَطِيَّتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَصَايَا عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي ذِي الْقُرْبَى نُصْرَةً هِيَ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ فَجَازَ أَنْ يَكُونُوا بِهَا أَفْضَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا ثم لاحظ لأولاد الإناث فيه إذا لم يكن أبائهم مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. فَصْلٌ: وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَيُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْإِنَاثِ وَيُفَضَّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْعَدْلِ وَالْبَاغِي كَمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَعْطَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْضَهُمْ مِائَةَ وَسْقٍ، وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُسِّمَ سَهْمُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَمَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْخُذُونَ سَهْمَهُمْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي قَدْ صَارُوا فِيهَا سَوَاءً فَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا. فَصْلٌ: وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ غَنَائِمِ جَمِيعِ الثُّغُورِ مَقْسُومٌ بَيْنَ جَمِيعِ ذوي القربى في جميع الأقليم. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُقَسِّمُ سِهَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ كُلِّ ثَغْرٍ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِينَ هُمْ بِالْجِهَادِ فِيهِ أَخَصُّ، وَلَا يَنْتَقِلُ سَهْمُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ ثَغْرِ الْمَشْرِقِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِيُحَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى غَنَائِمِ الثَّغْرِ الَّذِي فِي إِقْلِيمِهِمْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ كما يحال ثغر كل بلد على ذكواته وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِعْطَاءِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ يُخَالِفُ نَصَّ الْآيَةِ وَخَالَفَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِعْطَاءُ بَعْضِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى، جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا فُقَرَاءُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا نُقِلَ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى وَغَنِيمَةُ الثَّغْرِ إِلَى بِلَادِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَجَبَ نَقْلُهُ إِلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ فِي كُلِّ الْبِلَادِ زَكَوَاتٍ وَفُقَرَاءَ، فَجَازَ أَنْ يُحَالَ فُقَرَاءُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى زَكَوَاتِهِ وَلَيْسَ لِكُلِّ بَلَدٍ غَنِيمَةٌ وَلَا فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 كُلِّ بَلَدٍ ذَوِي الْقُرْبَى؛ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ جَمِيعُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى لَا يُخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُفَرَّقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ يُحْصَوْنَ ثُمَّ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سهمه لا يعطى أحد مِنْهُمْ سَهْمُ صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى مِنَ الْخُمُسِ؛ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَاقِي السِّهَامِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِبَنِي السبيل على ما تضمنه الآية من قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فَأَمَّا الْيَتَامَى فَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْ بَقِيَتْ أمهاتهم فيكون اليتيم بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ لِاخْتِصَاصِ الْآبَاءِ بِالنَّسَبِ فَاخْتُصُّوا بِالْيُتْمِ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لُغَةً لِتَفَرُّدِهِمْ بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ كَمَا يُقَالُ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ لِتَفَرُّدِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ مَعَ فَقْدِ الْآبَاءِ شَرْطَانِ آخَرَانِ: هُمَا الصِّغَرُ وَالْإِسْلَامُ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ شَرْعًا لَا لُغَةً؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ يَعُمُّ مُسْلِمَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ، إِنَّمَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهَذَا السَّهْمِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ طَاعَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَالٌ قَدْ مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِغَيْرِهِمْ لَا لَهُمْ، وَأَمَّا الصِّغَرُ فَكَانَ فِيهِمْ معتبرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتيم بَعْدَ الْحُلُمِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ هَلْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا أَمْ لُغَةً، فَقَالَ بعضهم: يثبت اعتباره شرعا للخير وإلا فهو اللغة يَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ لُغَةً وَشَرْعًا لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَنْ كَانَ مُتَضَعِّفًا مَحْرُومًا، وَهَذَا بِالصِّغَارِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْكِبَارِ فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَتَامَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطٍ رَابِعٍ فِيهِمْ وَهُوَ الْفَقْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَقْرَ شَرْطٌ رَابِعٌ يُعْتَبَرُ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا السَّهْمِ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، فَخَرَجَ مِنْهُمُ الِاعْتِبَارُ وَلِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِمَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمَعُونَةُ وَالرَّحْمَةُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْفَقْرُ وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِمُ الْفَقْرُ لَدَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ، وَلَمَّا كَانَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ فَائِدَةً: فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِمْ بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ أَوْ قُتِلَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْيَتَامَى دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ كَالْفُقَرَاءِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ تِلْكَ: فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ رِعَايَةً لِنُصْرَةِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ كَذَوِي الْقُرْبَى. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي أَيْتَامِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أنه يسوي بينهم من غير تفضيل كذي الْقُرْبَى وَأَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَالْمِيرَاثِ؛ ففضل فيه الذكر على الأنثى وسهم اليتامى عطية كالوقف والوصية يسوي فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ إِذَا أُطْلِقُوا وَكَذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا جُمِعُوا، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَكْفِيهِ فَصَارَ الْفَقِيرُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِذَا دَخَلَ الْفُقَرَاءُ مَعَ الْمَسَاكِينِ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّيهِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لِدُخُولِ الْمَسْكَنَةِ فِي جَمِيعِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِهِ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجِهَادِ الَّذِينَ قَدْ عَجَزُوا عَنْهُ بِالْمَسْكَنَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْغَنِيمَةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ أَخَصُّ وَلِيَصِيرَ ذَوُو الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ أَحْرَصَ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاةِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَحَقِّهِمْ فِي الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ: وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَخُصُّ بِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 الشَّافِعِيِّ فِي مَسَاكِينِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسَاكِينِ إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى، وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مَسْكَنَةٌ وَيُتْمٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ؛ لأن اليتيم صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمَسْكَنَةُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، لِتَمَيُّزِ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَتَمَيُّزِ مَسَاكِينِ الْخُمُسِ عَنِ مَسَاكِينِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إليهم من الكفارات فيصير إليهم مالان ويمنعوا مَالًا، وَلَا يَخْتَصُّ الْكَفَّارَاتِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا بَنُو السَّبِيلِ فَهُمُ الْمُسَافِرُونَ سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُلَازَمَةِ سَبِيلِ السَّفَرِ قَدْ صَارُوا كَأَبْنَائِهِ وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُنْشِئُ سَفَرٍ، وَمُجْتَازٌ فِيهِ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْحَاجَةُ فِي سفرهم ولا يدفع إِلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنَّ النَّاشِئَ لِسَفَرِهِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجْتَازُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى إِذَا كَانَ فِي سَفَرِهِ مُعْدِمًا ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمَسَاكِينِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ. والحكم الثالث: أنه يجوز أن يجمع لهم بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ بَنُو السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ؛ فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ تَقْسِيطًا عَلَى مَسَافَةِ أَسْفَارِهِمْ فَيَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَايَنُوا الْمَسَاكِينَ الذي يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الزَّكَاةِ، وَتَمَيَّزَ بَنُو السَّبِيلِ فِي الْخُمُسِ عَنْ بَنِي السَّبِيلِ فِي الزَّكَاةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ شَخْصًا جَمَعَ بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 الْمَسْكَنَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ أُعْطَى بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأبي هو وأمي - فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِي سَهْمِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ الَّذِينَ ذكرهم الله تعالى معه لأني رأيت المسلمين قالوا فيمن سمي له سهم من الصدقات فلم يوجد رد على من سمي معه وهذا مذهب يحسن ومنهم من قال يضعه الإمام حيث رأى على الاجتهاد للإسلام وأهله ومنهم من قال يضعه في الكراع والسلاح والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر أو إعداد كراع أو سلاح أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب إعدادا للزيادة في تعزيز الإسلام وأهله على ما صنع فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنه أعطى المؤلفة ونفل في الحرب وأعطى عام حنين نفرا من أصحابه من المهاجرين والأنصار أهل حاجة وفضل وأكثرهم أهل حاجة ونرى ذلك كله من سهمه والله أعلم ومما احتج به الشافعي في ذوي القربى أن روى حديثا عن ابن أبي ليلى قال لقيت عليا رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الخمس؟ فقال علي أما أبو بكر رحمه الله فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فقد أوفاناه وأما عمر فلم يزل يعطيناه حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مال فارس (الشافعي يشك) وقال عمر في حديث مطر أو حديث آخر إن في المسلمين خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ منه فقال العباس لا تطعمه فِي حَقِّنَا فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا من أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مال فيقضيناه وقال الحكم في حديث مطر أو الآخر إن عمر رضي الله عنه قال لكم حقا ولا يبلغ عملي إذ كثر أن يكون لكم كله فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم فأبينا عليه إلا كله فأبى أن يعطينا كله (قال الشافعي) رحمه الله للمنازع في سهم ذي القربى أليس مذهب العلماء في القديم والحديث أن الشيء إذا كان منصوصا في كتاب الله مبينا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخبر الثقة لا معارض له في إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غنيا لا دين عليه في إعطائه العباس بن عبد المطلب وهو في كثرة ماله يعول عامة بني المطلب دليل على أنهم استحقوا بالقرابة لا بالحاجة كما أعطى الغنيمة من حضرها لا بالحاجة وكذلك من استحق الميراث بالقرابة لا بالحاجة وكيف جاز لك أن تريد إبطال اليمين مع الشاهد بأن تقول هي بخلاف ظاهر القرآن وليست مخالفة له ثم تجد سهم ذي القربى منصوصا في آيتين من كتاب الله تعالى ومعهما سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فترده؟ أرأيت لو عارضك معارض فأثبت سهم ذي القربى وأسقط اليتامى والمساكين وابن السبيل ما حجتك عليه إلا كهي عليك ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَصْرِفِهِ فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فيه مذاهب فمنه مَنْ جَعَلَهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ من جعله مصروفا في القراع وَالسِّلَاحِ خَاصَّةً وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَهْمَهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ". وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ فَوْتِ سَنَةٍ يَصْرِفُهُ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي ثُبُوتِ سَهْمِ ذِي الْقَرَابَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ كُلِّ سَهْمٍ مِنَ السِّهَامِ الْخَمْسَةِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 بَابُ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الفيء غير الموجف عليه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مَنَ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ مَنْ قَدِ احْتَلَمَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الرِّجَالِ وَيُحْصِيَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمْ مَنْ دُونَ الْمُحْتَلِمِ وَدُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنِّسَاءَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَيَعْرِفَ قَدْرَ نَفَقَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَاتِهِمْ بِقَدْرِ مَعَاشِ مِثْلِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ، فَأَمَّا الْفَيْءُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَرَكُوهُ عَلَيْنَا خَوْفًا وَرُعْبًا كَالْأَمْوَالِ الَّتِي انْجَلَوْا عَنْهَا وَمَا بَذَلُوهُ صُلْحًا فِي كَفِّنَا وَرَدِّنَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهَذَا يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ كَخُمُسِ الغنيمة مقسوم عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا رُعْبٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ تِجَارَتِهِمْ وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي تَخْمِيسِهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ مَقْسُومًا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] وَلِأَنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ رُعْبًا فِي كَوْنِهِ فَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَمَّسًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَالًا يُخَمَّسُ وَهُوَ السَّلَبُ كَانَ في الفيء مالا يخمس وهو العقر وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ. فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ الْآنَ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَبِنَاءِ الحصون والمساجد والقناطر وإعداد القراع وَالسِّلَاحِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ فَيَصْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي أَرْزَاقِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلَةِ الْخَاصَّةِ الْمَنْدُوبُونَ لِجِهَادِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 الْعَدُوِّ وَالذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْحَرِيمِ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ بَعْدَ الرَّسُولِ فَمَلَكُوا بَعْدَهُ مَا كَانَ لَهُ، وَجُمْلَةُ الْمُجَاهِدِينَ ضَرْبَانِ: مُرْتَزِقَةٌ، وَمُتَطَوِّعَةٌ. فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةٌ فَهُمُ الَّذِينَ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ يُشَّاغَلُوا إِلَّا بِهِ، وَثَبَتُوا فِي الدِّيوَانِ فَصَارُوا جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ يُرْزَقُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ أَرْبَابُ الْمَعَائِشِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ يَتَطَوَّعُونَ بِالْجِهَادِ إِنْ شَاءُوا وَيَقْعُدُونَ عَنْهُ إِنْ أَحَبُّوا، وَلَمْ يَثْبُتُوا فِي الدِّيوَانِ، وَلَا جُعِلَ لَهُمْ رِزْقٌ فَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَلِهَذَا تَمَيَّزَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَقَدْ كَانَ الْمُتَطَوِّعَةُ يُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا، وَيُسَمَّى الْمُقَاتِلَةُ مُهَاجِرِينَ فَتَمَيَّزُوا بِهَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْمَالَيْنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ من الدادي) (مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ) فَصْلٌ: وَإِذْ قَدْ تَمَيَّزَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ بِمَا وَصَفْنَا فَسَنَذْكُرُ أَهْلَ الصَّدَقَةِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَنُبَيِّنُ حُكْمَ أَهْلِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ الْمُقَاتِلَةَ فِي جَمِيعِ الثُّغُورِ وَالْبُلْدَانِ فِي دِيوَانِهِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَمُؤْنَاتِهِمْ فيعطيهم مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَتَشَاغَلُوا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ عَنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَيَكُونُوا مُتَشَاغِلِينَ بِالْحَرْبِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ. وَإِذَا لَزِمَ الْإِمَامَ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمْ فَكِفَايَتُهُمْ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّتُهُمُ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ فَيُثْبِتُ ذُرِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِهِ فَثَبَتَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْفَقْرِ ثُمَّ فِي حَالِ النُّشُوءِ وَالْكِبَرِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَتُعْطِي المنقوس شَيْئًا، وَكُلَّمَا كَبُرَ يُزَادُ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي أَبَاهُ لِأَجْلِهِ وَيَزِيدُ لِكِبَرِهِ. وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَدْرَ مُؤْنَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ حَالَهُ هَلْ هُوَ مِنَ الرَّجَّالَةِ أَوِ الْفُرْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ عَرَفَ عَدَدَ خَيْلِهِ وَظَهْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ بَلَدِهِ فِي قُرْبِهِ مِنَ الْمَغْزَى وَبُعْدِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ بَعُدَ كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ وَإِنْ قَرُبَ قَلَّتْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يعرف خصب بلده وجدبه فإن المؤن في بلاد الخصب قليلة في بِلَادِ الْجَدْبِ كَثِيرَةٌ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَعْرِفَ غَلَاءَ السِّعْرِ وَرُخْصَهُ لِيَزِيدَهُ مَعَ الْغَلَاءِ، وَيَنْقُصَهُ مَعَ الرخص، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 فَإِذَا كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ عَرَفَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ فَأَثْبَتَهَا أَوْ جَعَلَهَا مَبْلَغَ أَرْزَاقِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ؛ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِيَامِ بِكِفَايَاتِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ بِالْعَطَاءِ خَمْسَةَ آلاف درهما فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ لِلْمُقَاتِلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ هَكَذَا لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعَ بُعْدِ الْمَغْزَى وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ لَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ كِفَايَةِ ذِي عِيَالٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ خَرَجَ مَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْهَا كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا كَانَ الْبَاقِي لَهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ المال، وإن قيل: إن لِلْجَيْشِ خَاصَّةً قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ رِزْقُ أَحَدِهِمُ الْكَافِي لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرِزْقُ الْآخَرِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الثَّالِثِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ رِزْقُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ عُشْرُهَا وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ خُمُسُهَا وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِهَا وَلَصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ خُمُسَاهَا، فَيَنْقَسِمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قُسِمَ جَمِيعُهُ عَلَى هَذَا أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُمْ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ لَهُمْ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا اتَّسَعَ المال لم يزادوا على أرزاقهم، وَعَلَى الثَّانِي يُزَادُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا ضَاقَ الْمَالُ يَقْضُونَ بَقِيَّةَ أَرْزَاقِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَقْضُونَ. فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِوَالِي الْجَيْشِ أَنْ يَسْتَعْرِضَ أَهْلَ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِ كُلِّ عَطَاءٍ فَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنْهُمْ زَادَهُ لِأَجْلِ وَلَدِهِ وَمَنْ مات له ولد نقصه قسط ولده وإذا ينفس الْمَوْلُودُ زَادَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَصَارَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَأَثْبَتَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ رِزْقًا، وَرَاعَى حَالَ مَنْ يَنْكِحُ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَوْ يُطَلِّقُ وَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ أَوْ يَبِيعُ لِيَزِيدَهُ مِمَّنْ نَكَحَ أَوْ مَلَكَ وَيَنْقُصَهُ لِأَجْلِ مَنْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ وَكَذَا يُرَاعِي حَالَ خَيْلِهِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي شراء العبيد والخيل فلا يزاد لأجلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 مسألة: قال الشافعي: " ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَالذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ فِي كُسْوَتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ طَعَامًا أَوْ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يُعْطِي الْمَنْفُوسَ شَيْئًا ثُمَّ يُزَادُ كُلَّمَا كَبُرَ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ وَهَذَا يَسْتَوِي لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الكفاية ويختلف في مبلغ العطاء باختلاف أسعار البلدان وحالات الناس فيها فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض ولا أعلم أصحابنا اختلفوا في أن العطاء للمقاتلة حيث كانت إنما يكون من الفيء وقالوا لا بأس أن يعطى الرجل لنفسه أكثر من كفايته وذلك أن عمر رضي الله عنه بلغ في العطاء خمسة آلاف وهي أكثر من كفاية الرجل لنفسه ومنهم من قال خمسة آلاف بالمدينة ويغزو إذا غزى وليست بأكثر من الكفاية إذا غزا عليها لبعد المغزى (قال الشافعي) وهذا كالكفاية على أنه يغزو وإن لم يغز في كل سنة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْعَطَاءِ وَزَمَانُهُ. وَالثَّانِي: جِنْسُهُ وَنَوْعُهُ. وَهَذَانِ الْفَصْلَانِ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَالِ الْفَيْءِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَوَقْتُ الْعَطَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ حُصُولُ الْمَالِ سَوَاءً تَعَجَّلَ أَوْ تَأَجَّلَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُمْ إِذَا حُصِّلَ وَلَا لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ جِبَايَتَهُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِاجْتِبَائِهِ وَاسْتِخْلَاصِهِ، ثُمَّ الْجِنْسُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ دَفْعُهُ إِلَيْهِمْ سَوَاءً كَانَ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ عُرُوضٍ فَتُبَاعُ وَتُضَمُّ أَثْمَانُهَا إِلَى الْمَالِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْفَيْءُ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ فَيُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْفَيْءِ حَتَّى يَتَسَاوَى جَمِيعُ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ مَالِ الْفَيْءِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُ كُلِّ إِقْلِيمٍ فِي أَهْلِهِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْهَا عَطَاءُ الْجَيْشِ وَجَبَ بَيَانُ الْفَصْلَيْنِ فِي وَقْتِ الْعَطَاءِ وَجِنْسِ الْمَالِ الْمُعْطَى. فَأَمَّا وَقْتُ الْعَطَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَالِ الْفَيْءِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ جُعِلَ وَقْتُ الْعَطَاءِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّنَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنَ السَّنَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الفيء ليقدر إليه نفقاتهم يتوقعوا فيهم أَرْزَاقَهُمْ وَيُنْظِرَهُمْ إِلَيْهِ تُجَّارُهُمْ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا حَلَّ وَفَّاهُمْ عَطَاءَ السَّنَةِ بِأَسْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ مُسْتَحَقًّا فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى مِنَ السَّنَةِ جَعَلَ لِلْعَطَاءِ وَقْتَيْنِ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ بعد كل سنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 أَشْهُرٍ نِصْفَهُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَطَاءِ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتَيْنِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُشَاهَرَةً، وَإِنْ قُبِضَ مَالُ الْفَيْءِ مُشَاهَرَةً لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَصِيرَ الْجَيْشُ مُتَشَاغِلًا فِي كُلِّ السَّنَةِ بِالْقَبْضِ وَالطَّلَبِ. وَالثَّانِي: كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ الْجِهَادِ تَوَقُّعًا لِحُلُولِ الشُّهُورِ أَوْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إِنْ خَرَجُوا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ الْعَطَاءُ لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ أَوْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْهَا. قِيلَ: لَيْسَ هُوَ لِمَا مَضَى وَلَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْجُعَالَةِ، وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ الْمَالِ وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِحُلُولِ الْوَقْتِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِحُصُولِ الْمَالِ وَاللَّهُ أعلم. فَصْلٌ: وَأَمَّا جِنْسُ الْمَالِ الْمُعْطَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ طَعَامٌ لِأَقْوَاتِهِمْ وَشَعِيرٌ لِدَوَابِّهِمْ وَثِيَابٌ لِكُسْوَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَيَجِبُ اخْتِلَافُهَا عَلَى قَدْرِ عَادَاتِهَا؛ فَيُقَوِّمُ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ قَدَّرَهُ لَهُمْ حَبًّا، وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مَعَ أَرْزَاقِهِمْ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَلَا شَعِيرٌ أَعْطَاهُمْ قِسْمَتَهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا بِسِعْرِ وَقْتِهِ وَالْوَرِقُ أَخَصُّ بِالْعَطَاءِ مِنَ الذَّهَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي قَلِيلِ النَّفَقَاتِ وَكَثِيرِهَا فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الذَّهَبِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ ذَهَبًا أَوْ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَوْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِالْفُلُوسِ لَمْ يَجْعَلْ مَالَ الْعَطَاءِ فُلُوسًا، لِأَنَّهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ نَادِرَةٌ وَلِذَلِكَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الرِّبَا، وَتَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا الْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمَمْلُوكُ لَا يُفْرَدُ لَهُ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً قَاتَلَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ تَشَاغَلَ بِخِدْمَتِهِ لَكِنْ يُزَادُ السَّيِّدُ فِي عَطَائِهِ لِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ نَفَقَةِ عَبْدِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبِيدَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَمَهُمْ. وَلَمْ يُعْطِهِمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا هُوَ عَوْنٌ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَهُ كَسْبُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُعْطَى عَطَاءَ الْمُجَاهِدِينَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقِتَالُ فِيهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ فَادَّعَى فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ خَالَفَ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَهُوَ لَمْ يُعَاصِرِ الصَّحَابَةَ. وَالثَّانِي: قَدْ يَعْقُبُ خِلَافَ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ فَصَارَ حُكْمُ الْخِلَافِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أصحابنا مرتفعا. والثالث: أنه أشار ذلك إِلَى عَبِيدِ الْخِدْمَةِ لَا عَبِيدِ الْمُقَاتِلَةِ وَلَمْ يعطهم أبو بكر ولا أحد بعدهم شَيْئًا. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي دِيوَانَ الْجَيْشِ، وَلَا الْتَزَمَ مُلَازَمَةَ الْجِهَادِ وَلَكِنْ يَغْزُو إِذَا أَرَادَ وَيَقْعُدُ إِذَا شَاءَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا سَوَاءً كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ إِذَا غزو مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى غَزْوِهِمْ وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ شَيْئًا، فَإِنْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَالْتَزَمُوا الْجِهَادَ مَعَهُمْ، إِذَا جَاهَدُوا صَارُوا فِي عَدَدِ الْجَيْشِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فَيُفْرَضُ لَهُمْ فِي عَطَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَيُخْرَجُوا مِنْ عِدَادِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَيُحْرَمُوا مَا كَانُوا يُعْطَوْهُ مِنْهَا كَيْ لَا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالِ الصَّدَقَةِ وَمَالِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَيَّزَ أَهْلَ الصَّدَقَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي أَيَّامِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَصَارَ الْغُزَاةُ ضَرْبَيْنِ. أَهْلَ صَدَقَةٍ وَهُمْ مَا ذَكَرْنَا. وَأَهْلَ فَيْءٍ وَهُمْ مَنْ وَصَفْنَا، وَحُكْمُهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الْأَعْرَابَ الْمُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ دُونَ الْفَيْءِ الَّذِينَ هُمْ أَشْذَاذٌ مُفْتَرِقُونَ لَا يَرْهَبُهُمُ الْعَدُوُّ وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْإِمَامُ، فَإِنْ قَوِيَ جَمْعُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ حَتَّى رَهِبَهُمُ الْعَدُوُّ وَاسْتَعَانَ بِهِمُ الْإِمَامُ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ المذهب والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ فَمِنْهُمْ من قال أسوي بين الناس فإن أبا بكر رضي الله عنه حين قال له عمر أتجعل للذين جاهدوا في سبيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدنيا بلاغ وسوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الناس ولم يفضل (قال الشافعي) رحمه الله: وهذا الذي أختاره وأسأل الله التوفيق وذلك أني رأيت الله تعالى قسم المواريث على العدد فسوى فقد تكون الإخوة متفاضلي الغناء عن الميت في الصلة في الحياة والحفظ بعد الموت وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم لمن حضر الوقعة من الأربعة الأخماس على العدد فسوى ومنهم من يغنى غاية الغناء ويكون الفتوح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضارا بالجبن والهزيمة فلما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 وجدت الكتاب والسنة على التسوية كما وصفت كانت التسوية أولى من التفضيل على النسب أو السابقة ولو وجدت الدلالة على التفضيل أرجح بكتاب أو سنة كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ (قال الشافعي) وإذا قرب القوم من الجهاد ورخصت أسعارهم أعطوا أقل ما يعطى من بعدت داره وغلا سعره وهذا وإن تفاضل عدد العطية تسوية على معنى ما يلزم كل واحد من الفريقين في الجهاد إذا أراده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالتَّفْضِيلِ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَفِي السَّابِقَةِ الَّتِي أُشِيرُ بِالتَّفْضِيلِ إِلَيْهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا السَّابِقَةُ فِي الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ فِي الْهِجْرَةِ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَأَعْطَى الْعَبِيدَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ يَعْنِي بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ فَضَّلَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُعْطِ الْعَبِيدَ. وَأَعْطَى عَائِشَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَأَعْطَى غَيْرَهَا مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَرَبِيَّاتِ عَشْرَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَّةَ سِتَّةَ آلَافٍ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مُعْتَقَتَيْنِ وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سِتَّةَ آلَافٍ، وأعطى كل واحد من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَأَعْطَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَلْفَيْنِ، وَأَعْطَى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَتُفَضِّلُ عَلَيَّ أُسَامَةَ وَتَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْكَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيكَ؛ فَلَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ رَجَعَ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَا يُفَضِّلُ أَحَدَهُمْ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَمَذْهَبُ عُمَرَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَا سَوَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفَضِّلْ ذَا غِنًى عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا فَضَّلَ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ بَعْدَ مَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ؛ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ لِإِرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ لِلْجِهَادِ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ كَاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فِي خُمُسِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى فِي الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَبَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمُشَاقِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَذَلِكَ أَهْلُ الْفَيْءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ وَجَدْتُ الدِّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ أَرْجَحُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ بِمَكَانَ الشَّافِعِيِّ مِنَ السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ الَّذِي لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ التَّفْضِيلَ لَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى هَوَاهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الدِّلَالَةِ أحق. مسألة: قال الشافعي " وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْزُوَا إِذَا غُزُوا وَيَرَى الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيَهُ فَإِنِ اسْتَغْنَى مُجَاهِدُهُ بِعَدَدٍ وَكَثْرَةٍ مِنْ قُرْبِهِ أَغْزَاهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ مُجَاهِدِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَعْرَابِ أَنْ يَغْزُوا إلا بأمر الإمام وإذنه لأمورا مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَغْزُو عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا بِأَمْرِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، ولأن الإمام أعرف بأحول الْعَدُوِّ وَفِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَخَصْبٍ وَجَدْبٍ وَاخْتِلَافٍ وَوِفَاقٍ وَيُنْفِذُ مِنَ الْجَيْشِ مَنْ يُكَافِئُ الْعَدُوَّ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اضْطُرُّوا لِتَكَاثُرِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِلَى مَدَدٍ فَيَمُدُّهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى مَيْزَةٍ فَيُمَيِّزُهُمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَرَفَ لِاتِّصَالِ الْأَخْبَارِ به من مكامن الْعَدُوِّ مَا سَدَّدَهُمْ. فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا مَا مُنِعُوا مِنَ الْغَزْوِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِالْغَزْوِ لَزِمَتْهُمْ طَاعَتُهُ وَإِجَابَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِيعُوهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا يُرْزَقُونَ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُونَ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا قَعَدُوا عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ سَقَطَ مَا يُعْطَوْنَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ كَالزَّوْجَاتِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا نَفَقَاتِهِمْ بِالطَّاعَةِ سَقَطَتْ بِالنُّشُوزِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ مِنَ الْجِهَادِ مَعَ الْمُكْنَةِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ تَعَالَى وَإِظْهَارًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ فِي كُلِّ عام إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ خُلَفَائِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا تَرَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مُنْذُ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَكَيْ لَا يَمْضِيَ عَطَاءُ الْعَامِ هَدَرًا، وَكَيْ لَا يَقْوَى الْعَدُوُّ بِالْمُشَارَكَةِ، وَكَيْ لَا يَأْلَفَ أَهْلُ الْجِهَادِ الرَّاحَةَ. فَصْلٌ: قَالَ الشافعي: الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيُهُ: يَعْنِي: فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْغَزْوِ إِلَيْهِ وَالْعَدَدِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الزَّمَانِ أُولَاهُ، وَمِنَ الْمَكَانِ أَدْنَاهُ، وَيَنْدُبُ عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَلِيهِمْ أَخْبَرُ، وَعَلَى قِتَالِهِمْ أَقْدَرُ وَمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَيْسَرُ، فَلَا يُنْفَذُ أَهْلُ ثَغْرٍ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يُسْلِمَ أَهْلُهُ فَيَنْقُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي لَمْ يُسَلِمْ أَهْلُهَا وَيَسْتَوْطِنُوا فِيمَا يُقَابِلُهَا وَيَلِيهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 وَإِمَّا لِظُهُورِ قُوَّةٍ مِنْ عَدُوٍّ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمْ، فَأَقْرَبُهَا عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْفَعُ بِهِمْ قُوَّةَ الْآخَرِينَ، ثُمَّ يَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ هَذَا بِهِمْ زَادَهُمْ نَفَقَةَ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ زِيَادَةِ سَفَرِهِمْ، فَإِنْ تَزَايَدَتْ قُوَّةُ الْعَدُوِّ فِي إِحْدَى الْجِهَاتِ وَضَعُفَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ عَنِ الْمُنَادَاةِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْقَوِيَّةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ فِي كَسْرِهَا كسر لِمَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ فِي كَسْرِ الْأَضْعَفِ كَسْرٌ إِلَيْهَا، وَيَفْعَلُ فِي إِعْطَاءِ الْمَنْقُولِ من زيادة النفقة ما ذكرنا. مسألة: قال الشافعي: " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الذُّرِّيَّةِ وَنِسَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُعْطَوْنَ وَأَحْسِبُ مِنْ حجتهم فإن لم تفعل فَمُؤنَتُهُمْ تَلْزَمُ رِجَالَهُمْ فَلَمْ يُعْطِهِمُ الْكِفَايَةَ فَيُعْطِيهِمْ كَمَالَ الْكِفَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا أُعْطُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا فَلَيْسُوا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَعْرَابِ وَنِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُرْتَزِقٌ وَخَلَفَ ذُرِّيَّةً لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ جَمِيعُ عَطَائِهِ، وَفِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَنْ أَصْحَابِهِ: أَحَدُهُمَا: يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِي تَرْغِيبِ أَهْلِ الفيء في الجهاد، ثقة لحفظ الذرية وإلا يتشاغلوا عنه بطلب الكسب لمن يخلفون، أو يجبنوا عن الْجِهَادِ فَلَا يُقْدِمُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ الْعَطَاءُ وَهُوَ إِرْصَادُ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ مَفْقُودٌ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ التَّابِعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الذُّرِّيَّةِ مِنْ أَصَاغِرِ الذُّكُورِ يُرْجَى أَنْ يكون أَهْلِ الْفَيْءِ إِذَا بَلَغَ أُعْطُوا قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَإِلَّا مُنِعُوا فَامْتَنَعَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَخَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَلَا فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَأُعْطُوا مِنْهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ فَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ ذَوِي كِفَايَةٍ أَوْ فُقَرَاءَ ذَوِي حَاجَةٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَيِّتِهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِ الْأَصَاغِرِ وَزَوْجَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ وَأَقَمْنَ عَلَى رِعَايَةِ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجْنَ قُطِعَ عَطَاؤُهُنَّ فَإِذَا بَلَغَ الْأَوْلَادُ خَرَجُوا بِالْبُلُوغِ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ أُثْبِتُوا فِي دِيوَانِهِ وَصَارُوا بِأَنْفُسِهِمْ مُرْتَزِقِينَ وَتَبِعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ لَا تَبَعًا وَلَا مَتْبُوعِينَ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ بِالْبُلُوغِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالْعُدُولِ عَنْهُ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 مسألة: قال الشافعي: " حَدَّثَنِي سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أيمانكم أعطيه أو منعه (قال الشافعي) وهذا الحديث يحتمل معاني منها أن نقول ليس أحد بمعنى حاجة من الصدقة أو بمعنى أنه من أهل الفيء الذين يغزون إلا وله في مال الفيء أو الصدقة حق وكان هذا أولى معانيه به فإن قيل ما دل على هذا؟ قيل قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصدقة " لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة مكتسب " والذي أحفظ عن أهل العلم أن الأعراب لا يعطون من الفيء (قال) وقد روينا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أهل الفيء كانوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمعزل عن أهل الصدقة وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ، لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْجَامِعِ لِمَالِ الْفَيْءِ وَمَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالنَّاسُ صِنْفَانِ: أَغْنِيَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَفُقَرَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ، أَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَفِيهِ خُمُسُهُ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَبَنِي السَّبِيلِ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَالْعَطَاءُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَمِنَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ إِنِ اخْتُصَّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ فَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لَذَبِّ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ الَّذِي بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، فَصَارَ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ إِلَى مَنْ قَامَ بِغَرَضِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ كَالْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي جعله ملكا للجيش خاصة. مسألة: قال الشافعي: " وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ فِي الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ (قَالَ) ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ شُرُوطَ الْجِهَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِهِ، فَحِينَئِذٍ يُثْبِتُ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُفْرَضُ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، وَشُرُوطُ الْجِهَادِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْجِهَادِ بِهَا وَيَجُوزُ الدخول في أهل الفيء معها ستة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا مُسْلِمًا قَادِرًا عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنِ اسْتَكْمَلَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ بِعَطَائِهِ إِذَا أَخَذَهُ على القتال إذا ندب. مسألة: قال الشافعي: " فَإِنْ كَمَّلَهَا أَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا أَوْ مَنْقُوصُ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضُ الْمُقَاتِلَةِ وَأُعْطِيَ عَلَى كِفَايَةِ الْمَقَامِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالذُّرِّيَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ أَوْ أَحْيَاءٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ جَعَلَ الْبُلُوغَ فَرْقًا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الذُّرِّيَّةِ يُسْقِطُ نَفَقَاتِهِمْ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ فَخَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، ثُمَّ هُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَكْتُبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا فَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَيْءِ، وَيَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ بَلَغُوا عَاجِزِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتُوا فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مُنْفَرِدِينَ وَهَلْ يُبْقَوْا عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي إِعْطَائِهِمْ مَالَ الْفَيْءِ تَبَعًا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَنْعِهِمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ وَإِعْطَائِهِمْ قَدْرَ الْكِفَايَةِ بَيْنَ مَالِ الْفَيْءِ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ، اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فِي حُكْمِ الذَّرَارِي لِتَمَيُّزِهِمْ بِالْبُلُوغِ، وَيُعْدَلُ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَسَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ مُنِعُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَحْيَاءٍ بَقَوْا فِي مَالِ الْفَيْءِ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي وَمُنِعُوا مَالَ الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ الْحَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِي مَالِ الْفَيْءِ لِبَقَاءِ عَطَائِهِ، وَالْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِيهِ لِسُقُوطِ عَطَائِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِنَفَقَاتِهِمْ عَلَى الْآبَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، كَوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِغَرِهِمْ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاكْتِسَابِ بَقُوا عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَلَمْ يُعْدَلْ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ؛ لِأَنَّ بقاء حكمهم في وجوب النفقة موجبا لبقائهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَإِنْ كَانَ مَا أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَا يُوجِبُ نَفَقَاتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاكْتِسَابِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ، لِأَنَّ سُقُوطَ نَفَقَتِهِمْ بِالْبُلُوغِ تُخْرِجُهُمْ عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي: " فَإِنْ فُرِضَ لِصَحِيحٍ ثُمَّ زَمِنَ خَرَجَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَإِنْ مَرِضَ طَوِيلًا يُرْجَى أُعْطِيَ كَالْمُقَاتِلَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَرِضَ أَحَدُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَرَضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يجرى مِنَ اللَّهِ زَوَالُهُ، أَوْ لَا يُرْجَى فَإِنْ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا كَانَ عَلَى حَقِّهِ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً أَكَانَ مَرَضًا مُخَوِّفًا أَمْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تَنَاوَبُ وَلَا تَنْفَكُّ الْأَبْدَانُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَمَى وَالْفَالَجِ سَقَطَ عَطَاؤُهُ فِي الْمُقَاتِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ، وَصَارَ كَالذُّرِّيَّةِ إِذَا انْفَرَدُوا، فَهَلْ يُعْطَى كِفَايَتُهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، أَوْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَالذُّرِّيَّةِ فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَيُمْنَعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ بِمَرَضٍ عُدِلَ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ عن جِرَاحٍ نَالَتْهُ فِي الْقِتَالِ، فَهَلْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَيُمَيَّزُ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيفَاءً لِحُكْمِ الْفَيْءِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، كَالذي زَمَانَتُه بِمَرَضٍ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَيُخْرَجُ الْعَطَاءُ لِلْمُقَاتِلَةِ كُلَّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ لَا يَجِيءُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ عَامٍ لَمْ يُجْعَلِ الْعَطَاءُ إِلَّا مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ، فِي وَقْتٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ يَتَقَدَّرُ بِاسْتِكْمَالِ الْمَالِ فِيهِ، وَأَوْلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ يُحَصَّلُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَوْ مرارا لم ينبغي أَنْ يُجْعَلَ الْعَطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَشَاغُلِ الْمُجَاهِدِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، وَتَشَاغُلِ الْإِمَامِ بِالْعَطَاءِ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَرْفَقِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ الأرفق أصلح أَنْ يَجْعَلَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً لِبُعْدِ الْمَغْزَى أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْفَقُ الْأَصْلَحُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ بِحِفْظِ الْمَالِ إِذَا اسْتَبْقَاهُ وَلَا يَسْتَبْطِئُ الْجَيْشُ مَعَ قُرْبِ الْمَغْزَى وَبُعْدِ مَدَاهُ فَعَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ كَالزَّكَاةِ لَا تَجِبُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً فَلَمَ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً، وَفِي الْفَيْءِ مَا قَدْ يُحَصَّلُ فِي السَّنَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي: " وَإِذَا صَارَ مَالُ الْفَيْءِ إِلَى الْوَالِي ثُمَّ مَاتَ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَطَاءَهُ أُعْطِيَهُ وَرَثَتُهُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ مَالُ ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يُعْطَهُ وَرَثَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَطَاءِ يَكُونُ بِحُصُولِ مَالِ الْفَيْءِ وَأَدَاؤُهُ يَجِبُ بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ. وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: اسْتِحْقَاقُهُ وَأَدَاؤُهُ يَكُونَانِ مَعًا بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُصُولِ الْمَالِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مُؤَدِّيهِ لَمْ يَجِبْ بِمُسْتَوْفِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُ الْعَطَاءِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى أَهْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَطَاءَ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَيْنٍ لَا بِذِمَّةٍ وَفِي اعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْوَقْتِ دُونَ الْمَالِ نَقْلٌ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ، فَبَطَلَ تَقْدِيرُ مَا اعْتَبَرَهُ. وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْمَالِ مُعْتَبَرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حُصُولَهُ هُوَ قَبْضُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: حُصُولُهُ هُوَ حُلُولُ وُجُوبِهِ عَلَى أَهْلِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ وُجُوبُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ ثَابِتًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَبَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَحَقُّهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لئلا يختلفوا. القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ حَقُّهُ فيه ثابتا يورث عنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وَصَفْتُ مِنْ إِعْطَاءِ الْعَطَايَا وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَكُلِّ ما قوي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَكَمُلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فُرِّقَ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي مَالِ الْفَيْءِ إِذَا حُصِّلَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ بِأَرْزَاقِ الْجَيْشِ، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا شَرِيكَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ فَمِنْ أَهَمِّهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ مَتَى أُعْطُوا جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَكَانَ يَفْضُلُ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ جَمِيعِهِمْ فَضْلٌ فَمَصْرِفُ الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً وَاسْتَوْفَوْا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ رَدَّ الْفَاضِلَ عَلَيْهِ بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ استحقاقهم لَهُ كَالْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ تَكَلَّفُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَبْدَأُ بَعْدَ أَرْزَاقِهِمْ بِشِرَاءِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، ثُمَّ رَدِّ مَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ قَدَّمَ الْجَيْشَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، وَصُرِفَ الْفَضْلُ فِي الْكُرَاعِ والسلاح وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا فَضْلٌ فَفِي رَدِّهِ عَلَى الْجَيْشِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَدًّا لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْجَيْشِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَصَالِحِ، بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ وَلَا يُسْتَبْقَى لِمَصْلَحَةٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا مَعَ ظُهُورِ المصلحة في اتساع الجيش بِهَا، وَلِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَفَ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ مِنْ فَارِسَ أَنَّهُ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى يُقَسِّمَهُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي أَهْلِ الرَّمَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْقَى لَهُمْ فِي بيت المال ما يسد بهم خَلَّتَهُمْ، حَتَّى انْتَظَرَ بِهِمْ مَا يَأْتِي مِنْ مَالٍ بَعْدَ مَالٍ إِلَى أَنِ اسْتَقَلُّوا فَرَحَلُوا، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَعُونَةً لَهُمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: يُرَدُّ عَلَيْهِمْ سَلَفًا مُعَجَّلًا، يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ الْعَامِ القابل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مَبْلَغِ الْعَطَاءِ فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ لَمْ يُحْبَسْ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ضَاقَ مَالُ الْفَيْءِ عَنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَجَبَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ ضَاقَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ على قدر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 دُيُونِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ بَعْضَ الْجَيْشِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ. فَإِنْ قيل إن مال الفيء لِلْجَيْشِ سَقَطَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا يُتَمِّمُونَ بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ، دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ يَقْضُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ عَوَّضُوهُمْ بِمَغْنَمٍ قبله كان أولى. مسألة: قال الشافعي: " وَيُعْطَى مِنَ الْفَيْءِ رِزْقُ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأَحْدَاثِ وَالصَّلَاةِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غَنَاءَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ رِزْقُ مِثْلِهِ فإن وجد من يغني غناءه وكان أمينا بأقل لم يزد أحدا على أقل ما يجد لأن منزلة الوالي من رعيته منزلة والي اليتيم من ماله لا يعطى منه عن الغناء لليتيم إلا أقل ما يقدر عليه ومن ولي على أهل الصدقات كان رزقه مما يؤخذ منها لا يعطى من الفيء عليها كما لا يعطى من الصدقات على الفيء (قال) واختلف أصحابنا وغيرهم في قسم الفيء وذهبوا مذاهب لا أحفظ عنهم تفسيرها ولا أحفظ أيهم قال ما أحكي من القول دون من خالفه وسأحكي ما حضرني من معاني كل من قال في الفيء شيئا فمنهم من قال هذا المال لله تعالى دل على من يعطاه فإذا اجتهد الوالي ففرقه في جميع من سمى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تسوية إذا كان ما يعطى كل واحد منهم سد خلته ولا يجوز أن يعطي صنفا منهم ويحرم صنفا ومنهم من قال إذا اجتمع المال نظر في مصلحة المسلمين فرأى أن يصرف المال إلى بعض الأصناف دون بعض فإن كان الصنف الذي يصرفه إليه لا يستغني عن شيء مما يصرفه إليه وكان أرفق بجماعة المسلمين صرفه وحرم غيره ويشبه قول الذي يقول هذا أنه إن طلب المال صنفان وكان إذا حرمه أحد الصنفين تماسك ولم يدخل عليه خلة مضرة وإن ساوى بينه وبين الآخر كانت على الصنف الآخر خلة مضرة أعطاه الذين فيهم الخلة المضرة كله (قال) ثم قال بعض من قال إذا صرف مال الفيء إلى ناحية فسدها وحرم الأخرى ثم جاءه مال آخر أعطاها إياه دون الناحية التي سدها فكأنه ذهب إلى أنه إنما عجل أهل الخلة وأخر غيرهم حتى أوفاهم بعد (قال) ولا أعلم أحدا منهم قال يعطى من يعطى من الصدقات ولا مجاهدا من الفيء وقال بعض من أحفظ عنه وإن أصابت أهل الصدقات سنة فهلكت أموالهم أنفق عليهم من الفيء فإذا استغنوا عنه منعوا الفيء ومنهم من قال في مال الصدقات هذا القول يرد بعض مال أهل الصدقات (قال الشافعي) رحمه الله: والذي أقول به وأحفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 عمن أرضى ممن سمعت أن لا يؤخر المال إذا اجتمع ولكن يقسم فإن كانت نازلة من عدو وجب على المسلمين القيام بها وإن غشيهم عدو في دارهم وجب النفير على جميع من غشيه أهل الفيء وغيرهم (قال الشافعي) رحمه الله أخبرنا غير واحد من أهل العلم أنه لما قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مال أصيب بالعراق فقال له صاحب بيت المال ألا ندخله بيت المال؟ قال لا ورب الكعبة لا يأوي تحت سقف بيت حتى أقسمه فأمر به فوضع في المسجد ووضعت عليه الأنطاع وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار فلما أصبح غدا معه العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف آخذا بيد أحدهما أو أحدهما أخذ بيده فلما رأوه كشفوا الأنطاع عن الأموال فرأى منظرا لم ير مثله الذهب فيه والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ فبكى فقال له أحدهما إنه والله ما هو بيوم بكاء لكنه والله يوم شكر وسرور فقال إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكن والله ما كثر هذا في قوم قط إلا وقد بأسهم بينهم ثم أقبل على القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني أسمعك تقول: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ثم قال أين سراقة بن جعشم؟ فأتي به أشعرالذراعين دقيقهما فأعطاه سواري كسرى وقال البسهما ففعل فقال قل الله أكبر فقال الله أكبر قال فقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز ونظر وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيا من بني مدلج، وإنما ألبسه إياهما لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لسراقة ونظر إلى ذراعه " كأني بك وقد لبست سوارى كسرى " ولم يجعل له إلا سواريه وجعل يقلب بعض ذلك بعضا ثم قال إن الذي أدى هذا لأمين فقال قائل أنا أخبرك أنك أمين الله وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا قال صدقت ثم فرقه (قال الشافعي) وأخبرنا الثقة من أهل المدينة قال أنفق عمر رضي الله عنه على أهل الرمادة في مقامهم حتى وقع مطر فترحلوا فخرج عمر رضي الله عنه راكبا إليهم فرسا ينظر إليهم كيف يترحلون فدمعت عيناه فقال رجل من محارب خصفة أشهد أنها انحسرت عنك ولست بابن أمية فقال عمر رضي الله عنه ويلك ذاك لو كنت أنفق عليهم من مالي أو مال الخطاب إنما أنفق عليهم من مال الله عز وجل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَكُتَّابُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَعُمَّالُهُمْ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ على قولين مَعًا، وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ بَيْنَ الْكَافَّةِ وَوُلَاةِ الأحدايث وَهُمْ أَصْحَابُ الشُّرْطِ وَأَئِمَّةُ الْجَوَامِعِ وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ أُعْطُوا مِنْهَا أَرْزَاقَهُمْ. وَإِنْ قِيلَ؛ إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهُ وَأُعْطُوا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَإِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا وَإِذَا وَجَدَ مُرْتَزِقًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُ جَمِيعَ أُجْرَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَوْفِيًا لِأُجْرَتِهِ وَفَّاهُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. فَأَمَّا عُمَّالُ الصَّدَقَاتِ فَأَرْزَاقُهُمْ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْزَقُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، فَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ وَمَالُ الصَّدَقَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَمَصْرِفُهُمَا مُتَمَيِّزَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا وَلَا أَنْ يُعْدَلَ بِأَحَدِهِمَا إِلَى مَصْرِفِ الْآخَرِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ قَهَرَهُ بِالدَّلِيلِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 بَابُ مَا لَمْ يُوجَفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرَضِينَ بخيل ولا ركاب مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ قِتَالِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فسبيله سبيل الفيء على قسمه وما كان من أَرَضِينَ وَدُورٍ فَهِيَ وَقْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُسْتَغَلُّ وَيُقَسَّمُ عليهم في كل عام كذلك أبدا (قال) وأحسب ما ترك عمر رضي الله عنه من بلاد أهل الشرك هكذا أو شيئا استطاب أنفس من ظهر عليه بخيل وركاب فتركوه كما استطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنفس أهل سبي هوازن فتركوا حقوقهم وفي حديث جرير بن عبد الله عن عمر رضي الله عنه أنه عوضه من حقه وعوض امرأته من حقها بميراثها كالدليل على ما قلت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَخْلُو مَالُ الْفَيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ قُسِمَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ بِوَضْعِ خُمُسِهِ فِي أَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ لِانْقِطَاعِ اجْتِهَادِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْأَرَضِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فَهِيَ وَقْفٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِي وَقْفِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتِدْرَارِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَأَنَّهُ يَسْتَغِلُّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ عَصْرِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَالَ الْفَيْءِ مِلْكًا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وَقْفُ دُورِهَا وَأَرَضِيهَا إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ أَمَدُّ وَأَنْفَعُ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ قَامُوا فِي تَمَلُّكِهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَقِّهِ وَمَا مَلَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَقُّهُ مِنَ الْفَيْءِ وَقْفٌ، فَكَذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الْجَيْشُ بَعْدَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً أَمْ لَا؟ على وجهين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ جَمِيعُهُ مِنَ الْخُمُسِ وَغَيْرِهِ وَقْفًا إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى وَحْدَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَصِيرُ سَهْمُهُمْ مِنْهُ وَقْفًا مَعَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِيرُ وقفا إلا عن رضى مِنْهُمْ وَاخْتِيَارٍ لِتَمَلُّكِهِمْ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ مَالٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْوَقْفِ فَلَمْ يُمَيَّزْ حُكْمُ سَهْمِهِمْ مِنْهُ عَنْ حُكْمِ جَمِيعِهِ وَصَارَ مَا مَلَكُوهُ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِغْلَالُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْفًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِمَصِيرِهَا فِيهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وَاقِفٍ يَقِفُهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَنْزَلَ أَهْلَ السَّوَادِ عَنْهُ وَعَارَضَ مَنْ أَبَى أَنْ يَنْزِلَ عَنْهُ ثُمَّ وَقَفَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَتِمُّ وَقْفُهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا رُدَّ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تَمَلُّكِهِ وَوَقْفِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تملكه وَوَقْفِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يَثْبُتُ لِأَرْضِ الْفَيْءِ عِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ بِالِانْتِقَالِ وَقْفًا، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِي فِعْلِهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ أَنْ حَكَمَ بِوَقْفِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنْ مِلْكٍ فَجَازَ أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَيْءُ، وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الْآيَةَ (قَالَ) وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا (قال) وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمهاجرين شعارا وللأوس شعارا وللخزرج شعارا (قال) وعقد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الألوية فعقد للقبائل قبيلة فقبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كل لواء لأهله وكل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها فتخف المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك لأن في تفرقهم إذا أريدوا مؤنة عليهم وعلى واليهم فهكذا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَمِيزَ الْجَيْشَ بِمَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ وَيَتَعَارَفُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا} [الحجرات: 13] وَفِي الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أن الشعوب للنسب الأبعد والقبائل للنسب الْأَقْرَبُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ وَالْقَبَائِلَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَسَائِرُ عَدْنَانَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ فَجَعَلَ ذَلِكَ سِمَةً لِلتَّعَارُفِ وَأَصْلُهُ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ. فَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْعُرَفَاءُ وَالنُّقَبَاءُ وَاخْتِلَافُ الشِّعَارِ. فَأَمَّا الْعُرَفَاءُ فَهُوَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ عَرِيفًا عَلَيْهِمْ وَقَيِّمًا بِهِمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي عَوَارِضِهِمْ، وَيَرْجِعُ الْإِمَامُ إِلَيْهِ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَغْزَاهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا، وَقَدْ سُمِّيَ الْعُرَفَاءُ فِي وَقْتِنَا هَذَا قُوَّادًا. وَأَمَّا النُّقَبَاءُ فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُرَفَاءِ نَقِيبًا؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مُرَاعِيًا وَلِأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَصْحَابِهِمْ مُنْهِيًا وَلَهُمْ إِذَا ارْتَدُّوا مُسْتَدْعِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَارَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ بَايَعَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا. وَأَمَّا الشِّعَارُ فَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي مَسِيرِهِمْ وَفِي حُرُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَخْتَلِطُوا بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تضافرهم لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِينَ شِعَارًا وَلِلْأَنْصَارِ شِعَارًا عَلَامَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الرَّايَةُ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا وَيَسِيرُونَ إِلَى الْحُرُوبِ تَحْتَهَا فَتَكُونُ رَايَةُ كُلِّ قَوْمٍ مُخَالِفَةً لِرَايَةِ غَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: مَا يُعَلَّمُونَ بِهِ فِي حُرُوبِهِمْ فَيُعَلَّمُ كُلُّ قَوْمٍ بِخِرْقَةٍ ذَاتِ لَوْنٍ مِنْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أو أخضر تكون إما عصابة على رؤوسهم، وَإِمَّا مَشْدُودَةً فِي أَوْسَاطِهِمْ. وَالثَّالِثُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَيَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَا آَلَ كَذَا أَوْ يَا آَلَ فُلَانٍ أَوْ كَلِمَةً إِذَا تَلَاقَوْا تَعَارَفُوا بِهَا لِيَجْتَمِعُوا إِذَا افْتَرَقُوا وَيَتَنَاصَرُوا إِذَا أُرْهِبُوا، فَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ سِيَاسَةً وَلَمْ يَكُنْ فِقْهًا، فَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ وَأَحْفَظِهَا لِلسِّيَرِ الشَّرْعِيَّةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ فَهُوَ الدِّيوَانُ الْمَوْضُوعُ لِإِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ وَمَبْلَغِ أَرْزَاقِهِمْ يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ. وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى إِذَا دُعُوا لِلْعَطَاءِ أَوِ الْغَزْوِ قُدِّمَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ فِي الدِّيوَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ الدِّيوَانَ عَلَى هَذَا حِفْظًا لِلْأَسْمَاءِ وَالْأَرْزَاقِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ اسْتَحْدَثَ عُمَرُ وَضْعَ الدِّيوَانِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل محدث بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 قِيلَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحَاجَةُ دَعَتْهُ إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَافِ الثُّغُورِ لِيَحْفَظَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لَا تَنْحَفِظُ بِغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: حِفْظُ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ. وَالثَّانِي: حِفْظُ أَرْزَاقِهِمْ وَأَوْقَاتِ عَطَائِهِمْ. وَالثَّالِثُ: تَرْتِيبُهُمْ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطٌ فِي الدِّينِ وَمُسْتَحْسَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ الله سيء " فَهَذَا وَجْهٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى وَضْعِ الدِّيوَانِ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ الْجَيْشِ وَقِلَّتِهِمْ كَالَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَعْرِيفِ الْعُرَفَاءِ وَاخْتِيَارِ النُّقَبَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الشِّعَارِ وَالنِّدَاءِ، فَتَمَّمَ عُمَرُ بِوَضْعِ الدِّيوَانِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنِ مُقَدِّمَاتِهِ حِينَ احْتَاجَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا ولا مبتدعا، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: " وَأُحِبُّ لِلْوَالِي أَنْ يَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَسْتَظْهِرَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ وَمَنْ جَهِلَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ قَبَائِلِهِمْ (قال الشافعي) رحمه الله وأخبرني غير واحد من أهل العلم والصدق من أهل المدينة ومكة من قبائل قريش وكان بعضهم أحسن اقتصاصا للحديث من بعض وقد زاد بعضهم على بعض أن عمر رضي الله عنه لما دون الديوان قال أبدأ ببني هاشم ثم قال حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعطيهم وبني المطلب فإذا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فوضع الديوان عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ استوت له بنو عبد شمس ونوفل في قدم النسب فقال عبد شمس إخوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم ثم دعا ببني نوفل يلونهم ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيهم أنهم من المطيبين وقال بعضهم هم حلف من الفضول وفيهم كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة فقدمهم على بني عبد الدار ثم دعا بني عبد الدار يلونهم ثم انفردت له زهرة فدعاها تتلوا عبد الدار ثم استوت له تيم ومخزوم فقال في تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة وقيل ذكر صهرا فقدمهم على مخزوم ثم دعا مخزوما يلونهم ثم استوت له سهم وجمح وعدي بن كعب فقيل ابدأ بعدي فَقَالَ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ ولكن انظروا بين جمح وسهم فقيل قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وكان ديوانه عدي وسهم مختلطا كالدعوة الواحدة فلما خلصت إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم دعا عامر بن لؤي (قال الشافعي) فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله الجراح الفهري رضي الله عنه لما رأى من تقدم عليه قال أكل هؤلاء يدعى أمامي؟ فقال يَا أَبَا عُبَيْدَةَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرْتُ أَوْ كلم قَوْمَكَ فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أمنعه فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا قال فقدم معوية بعد بني الحارث بن فهر ففصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى وشجر بين بني سهم وعدي شيء فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ (قال) فإذا فرغ من قريش بدئت الأنصار على العرب لمكانهم من الإسلام (قال الشافعي) الناس عباد الله فأولاهم أن يكون مقدما أقربهم بخيرة الله تعالى لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) ومن فرض له الوالي من قبائل العرب رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب منهم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا كَانَ وَضْعُ الدِّيوَانِ مَأْثُورًا قَدْ عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مِنْهُ بُدًّا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالدِّيوَانِ. فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ كِسْرَى اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى كِتَابِهِ وَهُمْ مُنْتَحُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: " دِيوَانُهُ " أَيْ مَجْنُونٌ فَسُمِّيَ وَضْعُ جُلُوسِهِمْ دِيوَانًا. وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيوَانَ اسْمٌ لِلسَّلَاطِينِ فَسُمِّي الْكِتَابُ بِاسْمِهِمْ لِوُصُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ وَضَبْطِهِمُ الشَّاذَّ وَجَمْعِهِمُ الْمُتَفَرِّقَ ثُمَّ سُمِّيَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِمْ بِاسْمِهِمْ فَقِيلَ دِيوَانٌ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَضَعَ دِيوَانَ الْجَيْشِ قَدَّمَ فِيهِ الْعَرَبَ عَلَى الْعَجَمِ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ من رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ عِبَادُ اللَّهِ وَأَوْلَاهُمْ أَنْ يكون مقدما أقربهم فخيره اللَّهِ لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَرَبِ قَدَّمَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِحَسَبِ قُرْبِ آبَائِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا بَنُو هَاشِمٍ وَضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ بِمَنْ أَبْدَأُ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا عَلَى عَادَةِ الْفُرْسِ فِي تَقْدِيمِ الْوُلَاةِ، وَإِمَّا لِتَخَيُّرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أذكرتني بأن أبدأ ببني هاشم فإن حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعْطِيهِمْ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَانَ إِذَا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فَوَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ فِي قِدَمِ النَّسَبِ لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا أَخَوَا هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ وَلِعَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ الْأَبْهَرَانِ. وَأَصْلُ عَبْدِ شَمْسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَبَاءُ الشَّمْسِ أَيْ يَسْتُرُ الشَّمْسَ ثُمَّ خَفَّفُوا فَقَالُوا عَبْدُ شَمْسٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأَصْغَرَهُمُ الْمُطَّلِبُ فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى بَنِي نَوْفَلٍ، لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَنَوْفَلٌ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِآدَمَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (يَا أَمِيرُ إِنِّي قَائِلٌ قَوْلَ ... ذِي دِينٍ وَبِرٍّ وحسب) (عبد شمس [ ... ، ... ] أَنَّهَا ... عَبْدُ شَمْسٍ عَمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) (عَبْدُ شمس كان يتلوها شما ... وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبْ) فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ دَعَا بَعْدَهُمْ بَنِي نَوْفَلٍ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَهُمَا أَخَوَا عَبْدِ مَنَافٍ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو قُصَيٍّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَدَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَخَوَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ ابْنَيْ قُصَيٍّ، فَقَدَّمَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ. مِنْهَا: إِنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ. وَمِنْهَا السَّابِقَةُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ. وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَمَّا حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ فَإِنَّهُ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَقَالُوا إِنَّ لَنَا حَرَمًا يُعَظَّمُ وَبَيْتًا يُزَارُ فَأَخْرَجُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَعَدُّوهُ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى حِلْفِهِمْ فَصَارَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى هَذَا الْحِلْفِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي النَّسَبِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّهُمْ طَيَّبُوا مَكَّةَ بِرَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا تَسَلَّطُوا حِينَ قَوُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَتْ لَهُمْ عِنْدَ عَقْدِ هَذَا الْحِلْفِ جِفْنَةً فِيهَا طِيبٌ فَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا عِنْدَ التَّحَالُفِ وَتَطَيَّبُوا بِهِ فَسُمِّيَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ مَنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وبنو تيم، وبنو الحرث بْنِ فِهْرٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ نَحَرُوا جَزُورًا ثُمَّ قَالُوا مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 فِي دَمِهَا ثُمَّ عَلَّقَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَّا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ فَأَدْخَلَتْ أَيْدِيَهَا بَنُو هَاشِمٍ فَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ بَنُو سَهْمٍ وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَبَنُو جُمَحَ وَبَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو مَخْزُومٍ فَسُمِّيَ هَذَا أَحْلَافَ اللَّعْقَةِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فِي ذَلِكَ. (وَسُمِّينَا الْأَطَايبَ مِنْ قُرَيْشٍ ... عَلَى كَرَمٍ فَلَا طِبْنَا وَلَا طَابَا) (وَأَيُّ الْخَيْرِ لَمْ نَسْبِقْ إِلَيْهِ ... وَلَمْ نَفْتَحْ بِهِ لِلنَّاسِ بَابَا) وَأَمَّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَهُوَ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ أَيْضًا قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنَّ قَيْسَ بْنَ شَيْبَةَ السلمي باع متاعا على أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَارَ عَلَيْهِ بَنِي جُمَحَ فَلَمْ يُجِيرُوهُ فَقَامَ قَيْسٌ مُنْشِدًا فَقَالَ: (يَا آَلَ قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمْ ... وَحُرْمَةُ الْبَيْتِ وَأَخْلَاقُ الْكَرَمْ) (أَظُلْمٌ لَا يُمْنَعُ مَنْ ظُلِمْ) فَجَدَّدُوا لِأَجْلِهِ حِلْفَ الْفُضُولِ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الظُّلْمِ بِمَكَّةَ، وَأَنْ لَا يُظْلَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنَعُوهُ وَدَخَلَ فِي الْحِلْفَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَقَضْتُهُ وَمَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْفُضُولِ فَقَالَ قَوْمٌ: لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لِأَنَّ قُرَيْشًا وَسَائِرَ الْأَحْلَافِ كَرِهُوهُ فَعَابُوا مَنْ دَخَلَ فِيهِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْفُضُولِ. فَسُمِّيَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ لِأَنَّهُمْ تَحَالَفُوا عَلَى مِثْلِ مَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ قَومٌ مِنْ جُرْهُمٍ فِيهِمُ الْفَضْلُ وَفُضَالٌ وَفُضَيْلٌ وَسُمِّيَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ حِلْفَ الْفُضُولِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ بَنِي قُصَيٍّ ثم انفرد، بعدهم بنو زهرة أخوا قُصَيٍّ وَهُمَا ابْنَا كِلَابٍ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ مِنْ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: صريح قريش ابنا كلاب يعني قصي وَزُهْرَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ قُصَيٍّ، وَأُمَّهُ مِنْ زُهْرَةَ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَعْدَ بَنِي كِلَابٍ بَنُو تَيْمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ لِأَنَّ تَيْمًا وَمَخْزُومًا أَخَوَا كِلَابٍ وَجَمِيعُهُمَا بَنُو مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ فَقَدَّمَ بَنِي تَيْمٍ عَلَى بَنِي مَخْزُومٍ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ. مِنْهَا السَّابِقَةُ لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ منهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن عَائِشَةَ مِنْهُمْ. وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ. وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ. ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو سَهْمٍ وَبَنُو جُمَحَ لِأَنَّهُمْ أُخْوَةُ مُرَّةَ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو كَعْبِ بْنِ عَامِرٍ فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِبَنِي عَدِيٍّ وَهُمْ قَوْمُهُ، فَقَالَ؛ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ وَلَكِنِ انْظُرُوا بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَنِي سَهْمٍ فَقِيلَ إِنَّهُ قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وَكَانَ دِيوَانُ عَدِيٍّ وَسَهْمٍ مُخْتَلِطًا كَالدَّعْوَةِ الْوَاحِدَةِ فَلَمَّا بَلَغَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ دَعَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَاضِرًا وَهُوَ مِنْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمَّا رَأَى مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَالَ: أَكُلُّ هَذَا يُدْعَى أَمَامِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَبَا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قَوْمَكَ، فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أَمْنَعْهُ، فَأَمَّا أَنَا وَبَنُو عَدِيٍّ فَنُقَدِّمُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِنْ أَحْبَبْتَ ثُمَّ دَعَا بَعْدَ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ. ثُمَّ دَعَا بِعْدَهُمْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ حَتَّى اسْتَكْمَلَ قُرَيْشًا وَاخْتَلَفَ النَّسَّابُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ فِي قُرَيْشٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَمَنْ تَفَرَّقَ نَسَبُهُ عن فهر فهو مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَطَائِفَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قُرَيْشًا هُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ جَدِّ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ النَّضْرَ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ اسْمُهُ قُرَيْشًا وَإِنَّمَا نبزته أمه فهرا لقيا، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّ قُرَيْشَ بْنَ بَدْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ كَانَ دَلِيلَ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ، وَأَبُوهُ بَدْرُ بْنُ مَخْلَدٍ هُوَ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُرَيْشًا وَهُوَ احْتَفَرَ بِئْرَهَا وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عُمَرَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا؛ لِأَنَّ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يُقَرِّشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا وَالتَّقَرُّشُ هُوَ التَّفْتِيشُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بن حلزة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 (أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو، فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ) وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا فِي رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِأَنَّ التُّجَّارَ يُقَرِّشُونَ وَيُفَتِّشُونَ عَنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَحَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِتَجَمُّعِهِمْ إِلَى الْحَرَمِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِأَنَّ قُصَيًّا جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ. (إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى. وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِقُوَّتِهِمْ تَشْبِيهًا بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ قَوِيَّةٍ تُسَمَّى قُرَيْشًا كما قال تبع بن عمرو الجبري: (وقريش هي التي تسكن البحر ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشُ قُرَيْشَا) (تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ ولا تترك ... يوما من جَنَاحَيْنِ رِيشَا) (هَكَذَا فِي الْعِبَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَشِيشَا) (وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا) (يَمْلَأُ الْأَرْضَ خيلة ورجالا ... يحشرون المطي حشرا كَمِيشَا) فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ مِنْ قُرَيْشٍ دَعَا بَعْدَهُمْ بِالْأَنْصَارِ وَقَدَّمَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وَلِنُصْرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْأَنْصَارُ كِرْشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَشَجَرَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَعَدِيٍّ فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قِبَلِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا يَنْبَغِي أن يكون منع الديوان على مثل ما وضعه عُمَرُ يَبْدَأُ بِقُرَيْشٍ فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بِنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بَعْدَهُمُ الْأَنْصَارَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى مُضَرَ ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 رَبِيعَةَ ثُمَّ جَمِيعِ وَلَدِ عَدْنَانَ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى قَحْطَانَ فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قُرَيْشٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَلَ بَعْدَهُمْ إِلَى الْعَجَمِ فَرَتَّبَهُمْ عَلَى سَابِقَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ. فَأَمَّا تَرْتِيبُ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مِنْهُمْ ذُو السَّابِقَةِ ثُمَّ ذُو السِّنِّ ثُمَّ ذُو الشَّجَاعَةِ، فَإِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ بَدَأَ بِالْقَبِيلَةِ الْمُقَدَّمَةِ فِي الدِّيوَانِ فَقَدَّمَهَا فِي الْعَطَاءِ وَقَدَّمَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي الدِّيوَانِ مُقَدَّمًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْطَاءُ جَمِيعِهِمْ إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيُقَدِّمُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ فِي الدِّيوَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَهْلِهِ، وبالله التوفيق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 مختصر كتاب الصدقات من كتابين قديم وجديد مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَا يَسَعُهُمْ حَبْسُهُ عَمَّنْ أُمِرُوا بِدَفْعِهِ إليه أو ولائه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: الْمَالُ الذي تجب فيه. والثاني: المال الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي تُصْرَفُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ " أَنَّهُ الْمَالُ الثَّانِي عَلَى شُرُوطِهِ الْمَاضِيَةِ وَأَمَّا الْمَالِكُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُشْرِكِينَ هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا؟ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لقوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 و 43 و 44] وَقَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الْكُفْرِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمُ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ الإيمان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دمائهم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَوْ وَجَبَتْ عليهم لطولبوا بها بعد إسلامهم. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْكِتَابُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أَيْ تُطَهِّرُ ذُنُوبَهُمْ وَتُزَكِّي أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبٌ لِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِمُسْتَحِقِّهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] فَأَمَّا السَّائِلُ: فَهُوَ الَّذِي يسائل الناس لفاقته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 وَفِي الْمَحْرُومِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْمُتَعَفِّفُ الذي لا يسأل [الناس شيئا ولا يعلم بحاجته] ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْمُصَابُ بِزَرْعِهِ وَثَمَرِهِ [يُعِينُهُ مَنْ لَمْ يُصَبْ] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَالْخَامِسُ: إِنَّهُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " يَا مُعَاذُ بَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ وَيَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ حِرْفَةٍ وَلَا تَعَيُّشٍ وَكَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلمنا أنه من اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ، فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّهَ نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا الْعُتْبِ، وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بَيْنَ أَهْلِهَا فَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] أَيْ عَلِيمٌ بِالْمَصْلَحَةِ حَكِيمٌ فِي الْقِسْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ " حَتَّى تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ مَالُ الزَّكَوَاتِ مَقْسُومًا فِي أَهْلِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَرَوَى زياد بن الحرث الصُّدَائِيُّ فَقَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعْتُهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ ". فَصْلٌ: فإذا ثبت أنها تصرف إِلَى مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَّا إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 وإسحاق وأبي ثور، وقال أبي شُبْرُمَةَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْلِمِ. وَدَلِيلُنَا، رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ هُوَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْخُوذَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودَةً، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَيْهِ كَالْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ نَقَصَ بِالْكُفْرِ حَرُمَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَنَا أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُمَلِّكَهُمْ أَمْوَالَنَا اسْتِذْلَالًا لَهُمْ. فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مَخْصُوصَانِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتُرِضَ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْفَرْضُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ فَمُنْتَقَضٌ بِذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَا الذِّمِّيُّ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي: " وَلَا يَسَعُ الْوُلَاةَ تَرْكُهُ لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَخْذِهِ لِأَهْلِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَهَا عَامًا لَا يَأْخُذُهَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ، وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَعَادِنُ، وَالْبَاطِنَةُ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَعُرُوضُ التِّجَارَاتِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَأَرْبَابُ التِّجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ فِي تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لِيَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عَلَى أَرْبَابِهَا دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا يُجْزِئُهُمْ تَفْرِيقُهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ أَرْبَابَهَا بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَاجِبٌ، وَهُوَ مذهب مالك وأبي حنيفة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الْأَخْذَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَرْبَابِ الدَّفْعَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ " فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَوَافَقَتْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَخْذَ وَعَلَيْهِمُ الدَّفْعَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الظَّاهِرِ يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ عَلَى أَوْصَافٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُ الْإِمَامِ بِهِ شَرْطًا فِي إِجْزَائِهِ كَالْخُمُسِ. وَدَلِيلُنَا، قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَفَرُّدَ أَرْبَابِهَا بِتَفْرِيقِهَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خير لكم} [البقرة: 271] فجعل كلا الأمرين مجزءا وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] فَدَلَّ عُمُومُ الْآيَتَيْنِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ فَرْضًا وَنَفْلًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ حَمَلَ صَدَقَتَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ، فَرَدَّهَا، فَلَوْ كَانَ تَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِهَا لَا يُجْزِئُهُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُخْرَجٌ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهُ بِإِخْرَاجِهِ كَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلِأَنَّ مَا أُخْرِجَ زَكَاةً لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ كَالْمَالِ الْبَاطِنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الظَّاهِرِ كَالْإِمَامِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّ تَفْرِيقَ رَبِّهَا لَا يَجُوزُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مِنْ عُمَّالِهِ وَسُعَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْعَامِلُ حَاضِرَيْنِ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا عَنِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ حَاضِرًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 الْعَامِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِذَا دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ، بَرِئَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا، وَكَانَتْ يَدُ الْإِمَامِ وَيَدُ عَامِلِهِ سَوَاءً لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ، فَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ كَانَ تَالِفًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ. وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِالْجَوْرِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَجَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَمْ يُجْزِ رَبَّ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ الْجَائِرُ نَائِبًا عَنْهُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً سَوَاءً أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ مِنْهُ جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ مُخْتَارًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَخْذُ الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهَا سَوَاءً أَخَذَهَا جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ جَبْرًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا لَمْ يُجْزِئْهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " السُّلْطَانُ يُفْسِدُ، وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُ، فَإِنْ عَدَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمْ، وَإِنْ جَارَ فَلَهُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ " فَلَمَّا جَعَلَ وِزْرَ جَوْرِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ عَلَى غيره، وفي تكليف رد المال الإعادة يَحْتَمِلُ لِوِزْرِهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ الْجَائِرَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ كَالْعَادِلِ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ سَقَطَتِ الْحُدُودُ بِاسْتِيفَائِهِ لَهَا سَقَطَتِ الزَّكَاةُ بِقَبْضِهِ لَهَا كَالْعَادِلِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَا سَقَطَ بِاسْتِيفَاءِ الْإِمَامِ العادل له سقط باستفياء الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهُ كَالْحُدُودِ وَلِأَنَّ خِيَانَةَ النَّائِبِ لَا تَقْتَضِي فَسَادَ الْقَبْضِ كَالْوَكِيلِ. وَدَلِيلُنَا، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ " فَجَعَلَ حُدُوثَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بَعِيدًا رَافِعًا لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ طَاعَةُ الْوَالِي لِجَوْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ بِأَخْذِهِمْ لَهَا، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ سَقَطَتْ نِيَابَتُهُ كَالْعَاصِي. وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ بَطُلَتْ نِيَابَتُهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْتَصُّ بِتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَخْتَصُّ بِاسْتِيفَاءِ الْأَمْوَالِ فَلَمَّا لَمْ تُنَفَّذْ أَحْكَامُهُ بِجَوْرِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِيفَاؤُهُ الْأَمْوَالَ بِجَوْرِهِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا وُقِفَتْ صِحَّتُهُ عَلَى عَدَالَةِ الْإِمَامِ كَانَ مَرْدُودًا بِجَوْرِهِ كَالْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 إِمَامَتَهُ تَبْطُلُ بِجَوْرِهِ كَمَا تَبْطُلُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا بَعْدَ خَلْعِ نَفْسِهِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ جَوْرِهِ. وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّ مَا أَبْطَلَ إِمَامَتَهُ مَنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ قَبْضِهِ كَالْخَلْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الْوِزْرِ بِالْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وِزْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَدَّ وَزِرُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَأْخُوذٌ بِوِزْرِ زَكَاتِهِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وِزْرُهَا لَهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا حَقَّ فِيهَا لِآدَمِيٍّ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الزَّجْرُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْإِمَامِ وَجَوْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ مِنْ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَحُدَّهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ بِجَوْرِ الْإِمَامِ مَعْدُومٌ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَكِيلِ أَنَّ وِكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ قَبْضُهُ، وَالْإِمَامُ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ بِجَوْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْجَدِيدِ: إِنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّ تَفْرِيقَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَهَا جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي زَكَاةِ مَالَيْهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَيْنَ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ وَإِنْ أَرَادَ تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ بِوَكِيلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ؟ أَنْ يَدْفَعَ زكاة ماله إلى الإمام أو تفريقها بِنَفْسِهِ. قِيلَ: إِنْ كَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا فَدَفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْجَمَاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَاطِنًا فَتَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ إِقْرَارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى إِخْرَاجِهَا، وَلِتَكُونَ مُبَاشَرَةُ التَّأْدِيَةِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حَقِّهَا وَلِيَخُصَّ أَقَارِبَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ؟ أَنْ تُخْفَى أَوْ تُبْدَى؟ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُفَرِّقُ لَهَا فَإِبْدَاؤُهَا أفضل من إخفائها سواء كان زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا فَكَانَ إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا أَفْضَلَ لَهُ مِنْ إِخْفَائِهَا وَكَتْمِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُفَرِّقُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِظْهَارُهَا بِالْعُدُولِ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَنِ الْإِمَامِ إِلَيْهِ، وَلِيَعْلَمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ بَاطِنٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاؤُهَا إِذَا أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فهو خير لكم} وَلِأَنَّ إِخْفَاءَهُ فِي حَقِّهِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 مسألة: قال الشافعي: " فَإِذَا أُخِذَتْ صَدَقَةُ مُسْلِمٍ دُعِيَ لَهُ بَالْأَجْرِ والبركة كما قال تعالى: {وصل عليهم} أَيِ: ادْعُ لَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَفِي قَوْلِهِ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: قُرْبَةٌ لَهُمْ رَوَاهُ الضَّحَّاكُ [عن ابن عباس] . وَالثَّانِي: رَحْمَةٌ لَهُمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي [طَلْحَةَ عن ابن عباس] . وَالثَّالِثُ: أَمْنٌ لَهُمْ. ثُمَّ الدُّعَاءُ نُدِبَ عَلَى الْآخْذِ لَهَا إِنْ لَمْ يُسْأَلِ الدُّعَاءَ وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ، وَإِنْ سُئِلَ الدُّعَاءَ، فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ علي فقال: اللهم صلي عَلَى آَلِ أَبِي أَوْفَى وَلِيَقَعَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ صَغَارًا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ تَطْهِيرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الدُّعَاءُ لِفَاعِلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْآخِذَ لَهَا لَزِمَهُ الدُّعَاءُ لِمَا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، وَإِنْ كان الفقير وهو الْآخِذَ لَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَقِيلَ: بِضِدِّهِ: إِنَّ الدُّعَاءَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ دُونَ الْإِمَامِ، لِأَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُتَعَيَّنٌ وَإِلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ الْآخِذُ فَقَدْ مَضَى في كتاب الزكاة. مسألة: قال الشافعي: " وَالصَّدَقَةُ هِيَ الزَّكَاةُ وَالْأَغْلَبُ عَلَى أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ أَنَّ لِلثَّمَرِ عُشْرًا وَلِلْمَاشِيَةِ صَدَقَةً وَلِلْوَرِقِ زَكَاةً وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا كُلَّهُ صَدَقَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 وَالثَّمَرِ يُسَمَّى عُشْرًا، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الْمَاشِيَةِ يُسَمَّى صَدَقَةً، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يُسَمَّى زَكَاةً، وَلَا يَجْعَلُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فَخَصَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ دُونَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِمَا صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ. وَالثَّانِي: جَوَازُ مَصْرَفِ الْعُشْرِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنْ لَمْ تُصْرَفْ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ. وقال الشافعي في الجديد: الأسماء المشتركة وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَدَقَةً وَزَكَاةً، أَمَّا تَسْمِيَتُهُ بالصدقة فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فما دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَرْمِ: " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ ثَمَرًا " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ مُشْتَرِكَةٌ ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ طُهْرَةً لِلْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ كَانَ زَكَاةً لِمَالِهِ كَالزَّكَاةِ. مسألة: قال الشافعي: " فَمَا أُخِذَ مِنْ مُسْلِمٍ مِنْ زَكَاةِ مَالٍ نَاضٍّ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ زَكَاةِ فِطْرٍ أَوْ خُمُسِ رِكَازٍ أَوْ صَدَقَةِ مَعْدِنٍ أو غيره مما وجب عليه في ماله بكتاب أو سنة أو إجماع عوام المسلمين فمعناه واحد وقسمه واحد وقسم الفيء خلاف هذا فالفيء ما أخذ من مشرك تقوية لأهل دين الله وله موضع غير هذا الموضع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلَّمَا وَجَبَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقٍّ، إِمَّا بِحُلُولِ الْحَوْلِ كَالْمَوَاشِي وَزَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ أَوْ بِالِاسْتِفَادَةِ كَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ أَوْ عَنْ رَقَبَةٍ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَمَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ فِي السُّهْمَانِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية إلى أَنَّهُ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ بِالْحَوْلِ إِذَا حَالَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ أَحْوَالُ زَكَاةٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَمَا يَجِبُ زَكَاتُهُ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، إِذَا بَقِيَ فِي يَدِهِ أَحْوَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ إِلَّا الزَّكَاةَ الْأُولَى وَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ رِكَازٍ زَكَّى فِي كُلِّ حَوْلٍ؛ لِأَنَّهُمَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ يُرَاعَى فِيهَا بَعْدَ الِاسْتِفَادَةِ حُلُولُ الْحَوْلِ، وَخُولِفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَجَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَ عُشْرِهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْفِطْرِ جَعَلَ مَالِكٌ مَصْرِفَهَا فِي المساكين خاصة، وقال أبو سعيد الاصطرخي: إِنْ فُرِّقَتْ فِي ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ أَجْزَأَتْ. وَالثَّالِثُ: الْمَعَادِنُ. وَالرَّابِعُ: الرِّكَازُ، جَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَهَا الْفَيْءَ اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مُبَايَنَةً لِمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، فَانْصَرَفَ مَصْرِفَ الْفَيْءِ لَا مَصْرِفَ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُعَجَّلٌ وَفِي الزَّكَاةِ مُؤَجَّلٌ فَلَوْ جَرَيَا مَجْرَى الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَتَأَجَّلَتْ وَلَمَا تَعَجَّلَتِ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّالِثُ: إِذَا اعْتُبِرَ بِالرِّكَازِ حَالُ الدَّافِنِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَدْ مُلِكَ عَنْهُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَدَلِيلُنَا، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وَلِأَنَّهُ حق يجب فِي مَالِ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لَمَّا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ خَرَجَ خُمُسُهُ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُسْتَبْقَى مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَمْوَالٍ دُونَ بَعْضٍ كَالزَّكَاةِ كَانَ زَكَاةً وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يَكُونُ رُبُعَ الْعُشْرِ وَتَارَةً نِصْفَ الْعُشْرِ وَتَارَةً الْعُشْرَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ زَكَاةً فَكَذَلِكَ تَكُونُ تَارَةً الْخُمُسَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَكَاةً وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْمَقَادِيرِ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمُؤَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِنَاضِحٍ أَوْ رِشَاءٍ لَمَّا كثرت مؤنته قَلَّتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمَا بِسَيْحٍ أو سماء لما قلت مؤونته كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتِ الْعُشْرَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرِّكَازِ مُؤْنَتُهُ أُضْعِفَتْ زَكَاتُهُ فَكَانَتِ الْخُمُسَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ فِيهِ فَهُوَ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ فَتَعَجَّلَ الْحَقُّ، وَمَا تَأَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ تَأَجَّلَ الْحَقُّ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَمْ تَكْمُلْ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْحَوْلِ رُوعِيَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي، وَمَا كَمُلَتْ فائدته قبل الحول لم يراعى فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِ بِحَالِ الدَّافِنِ دُونَ الْوَاجِدِ فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْوَاجِدِ دُونَ الدَّافِنِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اعْتُبِرَ بِحَالِ الدَّافِنِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ مُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ الدَّافِنُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ بِهِ الدَّافِنُ لَمَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَلَكَانَ إِمَّا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَيَثْبُتُ أن اعتباره بحال الواجد أولى من اعتبار بحال الدافن والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَقَسْمُ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السبيل} ثُمَّ أَكَّدَهَا وَشَدَّدَهَا فَقَالَ " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ " الْآيَةَ وَهِيَ سُهْمَانٌ ثَمَانِيَةٌ لَا يُصْرَفُ مِنْهَا سَهْمٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ أَهْلِهِ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدٌ يَستَحِقُّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَسْمُ الصَّدَقَاتِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ وُجُودِ جَمِيعِهَا وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ اقْتِصَارُ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَإِنْ دَفَعَ جَمِيعَ الزَّكَاةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجَزَأَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْفَعُهَا إِلَى أَمَسِّ الْأَصْنَافِ حَاجَةً. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَثُرَتِ الزَّكَاةُ دَفَعَهَا إِلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ قَلَّتْ دَفَعَهَا إِلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ كَمَا قَالَ أبو حنيفة. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فَجَعَلَ تَخْصِيصَ الْفُقَرَاءِ بِهَا خَيْرًا مَشْكُورًا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَصَرْفِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِمْ بِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ "، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَجْزَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ لَهُ انْطَلِقْ إِلَيَّ بصدقة بني زريق فتلدفع إليك فأطعم منه وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا، فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جواز دفعها إلى نفس واحدة عن صِنْفٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ كَمَا خَصَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الصِّنْفِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا صَدَقَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَرَاءِ فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْأَصْنَافِ كَالْكَفَّارَاتِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ، قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ الْفُقَرَاءِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا يَخُصُّهُ لَمَا جَازَ فِيمَنْ فُقِدَ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُهُ عَلَى مَنْ وُجِدَ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ بَعْضِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِهِمْ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا سَدُّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّ بِهَا الْجَمِيعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَمِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَعْضِ الصِّنْفِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ. وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أصناف الصدقة إلى الأصناف الثمانية بلا التَّمْلِيكِ وَعَطَفَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَكُلَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ اقْتَضَتِ الْإِضَافَةُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو. فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَشْخَاصِ تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِتَعْيِينِ الْمَالِكِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوْصَافِ لَا تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَالِكِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِإِنْسَانٍ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ. قِيلَ: قَدْ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَصْنَافِ كَمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ صَحَّ أَنْ يَمْلِكُوهُ كَمَا يَصِحُّ إِذَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ أَنْ يَمْلِكُوهُ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِضَافَةِ وَجْهَيْنِ: تَشْرِيكٌ وَتَخْيِيرٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِيغَةٌ، وَصِيغَةُ التَّشْرِيكِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ وَلَا يَقْتَضِي تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِهِ، وَصِيغَةُ التَّخْيِيرِ تَكُونُ بِ " أَوْ " كَقَوْلِهِ: أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِعْطَائِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صِيغَةِ التَّشْرِيكِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ مِلْكُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لَا لِكُلِّ صَدَقَةٍ مِنْهَا فَنَدْفَعُ صَدَقَةَ زَيْدٍ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَصَدَقَةَ عَمْرٍو إِلَى الْمَسَاكِينِ وَصَدَقَةَ بَكْرٍ إِلَى الْغَارِمِينَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أبا حنيفة لَا يَعْتَبِرُ هَذَا فِي الصَّدَقَاتِ. وَالثَّانِي: أنه قد يجوز أن ينفق جَمِيعُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صَرْفِهَا كُلِّهَا فِي أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُوجَدُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ لِمَنْ سُمِّيَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدُّورُ الثَّلَاثَةُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ كَانَتْ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَمْ يُجْعَلْ كُلُّ دَارٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 الصَّدَقَاتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّبٍ فَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ. فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَقْسُومَةٌ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ، وَهَذَا نَصٌّ لَا يُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ أُضِيفَ شَرْعًا إِلَى أَصْنَافٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ كَالْخُمُسِ وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ جُعِلَ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَعْدُهُ فَوَجَبَ إِذَا جَعَلَ الْأَصْنَافَ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ كَالْوَصَايَا وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ أَحَدُ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصُّوا بِهَا كَالْعَامِلِينَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ تَفْضِيلُ الْإِخْفَاءِ عَلَى الْإِبْدَاءِ لِإِتْيَانِ الْمَصْرِفِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ أَوْ تُحْمَلَ هَذِهِ عَلَى الْفَرْضِ وَتِلْكَ عَلَى التَّطَوُّعِ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فِي ذَلِكَ حَقًّا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ حَقٌّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ أبا حنيفة وَإِنْ جَوَّزَ دَفْعَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فَلَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَصْنَافِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " فُقَرَائِكُمْ " أَيْ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْكُمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْأَصْنَافِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ عَوْدُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْنَا وَأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَنَا فَحُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى مَقْصُودِهِ كَالَّذِي رَوَاهُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَائِمَةِ الْإِبِلِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ فَحُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَخْذِ الشَّطْرِ إِنْ مُنِعَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ. فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ كَانَتْ وَقْفًا لَا زَكَاةً فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: أن مَعْنَاهُ فَلْيَدْفَعْ إِلَيْكَ حَقَّكَ مِنْهَا، أَوْ يَكُونُ: لم يبق منها إلا حق فيعتبر واحد فدفعه إليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ فَهُوَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ تَخْصِيصُ عُمُومٍ فَجَوَّزْنَاهُ وَدَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ نَسْخُ نَصٍّ فَأَبْطَلْنَاهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِرَدِّ سَهْمِ مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ عَلَى مَنْ وُجِدَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِمِيرَاثِ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ الرُّبُعَ، وَلَوْ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ لَكَانَ لَهَا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِبَعْضِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَبَعْضُهُ مَعُونَةٌ لِفَكِّ رِقَابِ الْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّاتِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا لَا بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ مَصْرِفِهَا فِي الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ المال من أن يتول تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ لَا عَمَلَ لَهُمْ فِيهَا وَقَسَمَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ إِنْ وُجِدُوا فَإِنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهِمْ ضُمِنَ سَهْمُهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ كَانَتْ يَدُهُ يَدًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ بِنِيَابَتِهِ عَنْهُمْ وَوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ حُصُولُهَا فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهَا عَنْ رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَيَكُونُوا ثَمَانِيَةً يُدْخِلُ فِيهِمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ عَمِلُوا فِيهَا أَوْ يَدْفَعُ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ إِذَا جُعِلَتْ بِيَدِهِ صَارَتْ كالصدقة الواحدة. مسألة: قال الشافعي: " وَلَا يَخْرُجُ عَنْ بَلَدٍ وَفِيهِ أَهْلُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بعثه " فإن أجابوك فأعملهم أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ يَجِبُ صَرْفُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا عَنْهُ، فَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَيَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَمَسَّ حَاجَةً فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ نَقْلُهَا وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ. فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فَدَلِيلُهُ قَوْله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الْآيَةَ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ الْهِلَالِيَّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَعِنِّي، فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ إِذَا قَدَّمْتَ لَنَا نَعَمَ الصَّدَقَةِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْهِ صَدَقَاتُ الْبِلَادِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ حَمَلَ صَدَقَةَ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُنْقَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةُ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ لَمْ يُخْتَصَّ بِبَلَدِهِ كَالْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ جَازَ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ. إِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَصَحُّ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَجَعَلَ وُجُوبَ أَخْذِهَا مِنْ أَغْنِيَاءِ الْيَمَنِ مُوجِبًا لِرَدِّهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْيَمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِهَا عَنْ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِ الْيَمَنِ. قِيلَ لَمَّا جَعَلَ مَحَلَّ الْوُجُوبِ مَحَلَّ التَّفْرِقَةِ اقْتَضَى أَنْ يَتَمَيَّزَ فِيهَا بِلَادُ الْيَمَنِ كَمَا يَتَمَيَّزُ بِهَا جَمِيعُ الْيَمَنِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَوَّزَ نَقْلَهَا سَوَّى فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ نَقْلِهَا سَوَّى فِي الْمَنْعِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَجَعْلُهُ النُّقْلَةَ عَنِ الْمَكَانِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَمْتَنِعُ مِنْ نَقْلِهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ صَادِرٌ عَنْهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ عَنْهُ نَصًّا، وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَبْدَانِ. وَالثَّانِي: فِي الْأَمْوَالِ. فَلَمَّا كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الزَّكَاةِ بِالْمَكَانِ كَاخْتِصَاصِهَا بِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنِ الْمَكَانِ. وَأَمَّا الْأَجْوِبَةُ عَنْ دَلَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْآيَةُ قَصْدُهَا بَيَانُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ الْمَكَانِ فَلَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْ مَقْصُودِهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 وَأَمَّا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى مَا فِي سَوَادِ المدينة من الصدقات أو على ما لم يُوجَدُ فِي بَلَدِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ يُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا نَقْلُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَفِي سَوَادِهَا فَنَقَلَ زَكَاتَهُمْ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهَا وَمُسْتَحِقُّوهَا بِالْمَدِينَةِ لِيَتَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسْمَهَا فِيهِمْ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّاعَةَ بِنَقْلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ مَنَعَ النَّاسُ الزَّكَاةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدَّهَا إِلَيْهِ لِيُفَرِّقَهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الْجَوَازِ مَا جَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا نَقْلَ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَكْرَهُوا نَقْلَ الْكَفَّارَةِ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لا ينتفع أهل البلد بإقامتها فيهم، وينتفعوا أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَفْرِيقِ الزَّكَاةِ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يكون لهم في فريق الزَّكَاةِ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ حَقٌّ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ اخْتِصَاصُ الزَّكَاةِ بِمَكَانِهَا وَوُجُوبُ تَفْرِيقِهَا فِي نَاحِيَتِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ مَالٍ أَوْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ فَالْمُرَاعَى فِيهَا مَكَانُ الْمَالِ لَا مَكَانُ الْمَالِكِ فَلَوْ كَانَ فِي نَاحِيَةٍ وَمَالُهُ فِي أُخْرَى كَانَ نَاحِيَةُ الْمَالِ وَمَكَانُهُ أَحَقَّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَالِكِ ثُمَّ فِي نَاحِيَةِ الْمَالِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا مِنَ الْمَالِ لِمَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةُ الْإِقَامَةِ الَّتِي لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَكَانَتْ حَدًّا لِمُسْتَحَقِّ الزَّكَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَمَا أَحَاطَ بِهِ بِبِنَائِهِ دُونَ مَا خَرَجَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ زَرْعٍ وَثَمَرٍ فِي صَحْرَاءَ لَا بُنْيَانَ فِيهَا فَفِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَالْبُنْيَانِ إِلَيْهَا، وَسَوَاءً كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ نَاضٍّ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا فَجَمِيعُ أَهْلِهِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا كالبصرة وبغداد كان جبران الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَخَصَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَوْلَى بِهِمَا لِأَجْلِ الْجِوَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَحَقَّ فَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَجْزَأَ وَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْأَوْلَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يُجْزِهِ إذا قيل إن نقل الزكاة، ولا يُجْزِئُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} [النساء: 36] يعني الجار ذِي الْقُرْبَى الْجَارَ الْقَرِيبَ فِي نَسَبِهِ، وَبِالْجَارِ الْجُنُبِ الْبَعِيدَ فِي نَسَبِهِ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقَرِيبِ والبعيد الجوار ثم قال " والصاحب بالجنب " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الرَّفِيقُ فِي السفر [وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة] . وَالثَّانِي: إِنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُكَ وَيَصْحَبُكَ رَجَاءَ نَفْعِكَ [وهو قول ابن زيد] . وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الزَّوْجَةُ الَّتِي تَكُونُ إِلَى جَنْبِكَ [وهو قول ابن مسعود] . هَذَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُفَرِّقَ لِزَكَاتِهِ فَأَمَّا إِنْ فَرَّقَهَا الْإِمَامُ أَوْ عَامِلُهُ فَجَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ فِيهَا سَوَاءٌ، لِمَا فِي مُرَاعَاةِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ مَعَ اجْتِمَاعِ الزَّكَوَاتِ بِيَدِهِ فِي الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ أَخْرَجَهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمَالِ لَا بَلَدُ الْمُزَكِّي لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهَا بِالْمَالِ فَكَانَ بَلَدُ الْمَالِ أَحَقَّ أَنْ يُرَاعَى كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمُزَكِّي لِأَنَّهَا عَنْهُ لَا عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بَلَدُهُ أَنْ يُرَاعَى إِخْرَاجُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ بَلَدِ مَالِهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَتُرَدُّ حِصَّةُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانُوا هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى عَامِلِ الْإِمَامِ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ فِيهَا، وَوَجَبَ قَسْمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ لَا يُفَضِّلُ صِنْفًا عَلَى سَهْمِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَمَسَّ حَاجَةً وَلَا يَنْقُصُ صِنْفًا عَنْ سَهْمِهِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ حَاجَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَقَطَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهَا بِتَفْضِيلٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ فَضَّلَ صِنْفًا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ التَّفْضِيلُ مُتَطَوَّعًا وَضُمِنَ لِلْمَفْضُولِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنَ الْفَضْلِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ جَمِيعَ سَهْمِهِ صَارَ لِجَمِيعِهِ ضَامِنًا. فَأَمَّا سَهْمُ كُلِّ صِنْفٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَفْرِيقِهِ فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ فَرَّقَهُ فِي بَعْضِ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ إِذَا فَرَّقَهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْحَاجَةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَاضَلَ أَجَزَأَ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي العطية، وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 كَانَ لَوْ سَوَّى أَجْزَأَهُ فَلَوْ فَرَّقَ سَهْمَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَدَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ الثَّالِثِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ ذَلِكَ السَّهْمِ اعْتِبَارًا بِالتَّسَاوِي فِيهِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ الْإِجْزَاءِ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَوْ أَعْطَاهُ ثَالِثًا أَجْزَأَهُ. فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِقَبْضِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي فَرْضِهَا فَصَارَتْ يَدُهُ كَأَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا قَدْ سَقَطَ مِنْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهُ لِأَنَّ نَظَرَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّدَقَاتِ وَإِنْ تَوَلَّاهَا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا سَهْمًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَامُّ النَّظَرِ وَرِزْقُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيُفَرِّقَهَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ثُمَّ يُفَاضِلُ بَيْنَ كُلِّ صِنْفٍ أَوْ يُسَاوِي، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَيُرَاعِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِصِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ ضَمِنَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ لَا فِي مَالِ نَفْسِهِ قَدْرَ سَهْمِهِمْ من تلك الصدقات وخالف في ذلك رب المال الذي لا يضمنه في مال نفسه. فَصْلٌ: وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ سَهْمُ الْعَامِلِ فِيهَا ثَابِتًا فَإِنْ فَوَّضَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا أَخَذَ سَهْمَ الْجِبَايَةِ وَالتَّفْرِيقِ وَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّ خِيَارَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيَصْرِفَهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِكُلِّ صَدَقَةٍ صِنْفًا كَالْإِمَامِ لِأَنَّ نَظَرَ الْعَامِلِ خَاصٌّ لَا يَسْتَقِرُّ إل اعلى ما جباه وربما صرف فلم يقضي بَاقِيَ الْأَصْنَافِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ بِالْعَامِلِ عَلَى جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ دُونَ تَفْرِيقِهَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنَ الْجِبَايَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُفَرِّقَهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا ضَمِنَ مَا فَرَّقَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ فَيُسْقِطُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَلِّيَ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ مَنْ يُفَرِّقُهَا فَيَأْخُذُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةَ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدُمُوا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فَيُسْقِطُ سَهْمَهُمْ بِعَدَمِهِمْ وَيُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْبَاقُونَ مِنَ الْأَصْنَافِ خَمْسَةً قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَإِنْ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ قُسِّمَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ وَصَّى بثلثه لثلاثة فقد أحدهما لَمْ يَرُدَّ سَهْمَهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ فَهَلَّا كَانَتْ سِهَامُ الْأَصْنَافِ هَكَذَا، قِيلَ: لِأَنْ لَيْسَ للصدقات غَيْرَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُ الْمَفْقُودِ عَلَيْهِمْ وَالضَّرْبُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِمَالِ الْمَيِّتِ مَصْرِفٌ غَيْرُ أَهْلِ الْوَصَايَا فَلَمْ يُرَدَّ سَهْمُ المفقود عليهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدُمُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَيُوجَدُوا فِي غَيْرِ الْبِلَادِ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ مَنْ عُدِمَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا فَهُمُ الْغُزَاةُ يُنْقَلُ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ الْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ الَّذِي فُقِدُوا فِيهِ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا مِنَ الثُّغُورِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الثُّغُورِ وَيَقِلُّونَ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ يَكْتَفُوا بِسَهْمِهِمْ مِنْ صَدَقَاتِ بِلَادِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ فَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَعَدُوا قَامَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مَقَامَهُمْ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ سَهْمَهُمْ يَسْقُطُ مَعَ الْحُضُورِ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا قَعَدُوا، وَأَمَّا مَنِ اخْتَلَفَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ فَهُمْ بَاقِي الْأَصْنَافِ، وَفِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ عَلَى الصِّنْفِ وَيُقَسَّمُ عَلَى مَنْ وُجِدَ دُونَ مَنْ فُقِدَ كَمَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الْمَاءِ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِمَكَانِ عَدَمِهِ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ بِمَكَانِ حَاجَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الصِّنْفِ عَلَى الْمَكَانِ فَيُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَافِ لَهَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَاخْتِصَاصَ الْمَكَانِ بِهَا ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِذَا تَعَارَضَ كَانَ تَغْلِيبُ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَيُجْمِعُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ إِلَى مَالِهِمْ مِنْهَا وَأَسْبَابُ حَاجَتِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَالُ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ إِلَّا أَنَّهَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ والمكاتبون وأحد صنفي الغارمين الذي أُذِنُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ وَبَنُو السَّبِيلِ. وَالضَّرْبُ الثاني: من تدفع إليه لحاجتنا إليه وهو الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ أُذِنُوا فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْغُزَاةِ، فَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَلَمْ يُجْزِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى. وَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ، فَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَخَذُوا وَبِهِ اسْتَحَقُّوا هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَالْعَمَلُ، وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَخْذِ فَإِذَا قَبَضُوهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُمْ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ صِنْفَانِ: بَنُو السَّبِيلِ، وَالْغُزَاةُ، فَيَأْخُذُ ابْنُ السَّبِيلِ لِيَبْتَدِئَ سَفَرَهُ، وَيَأْخُذُ الْغَازِي لِيَبْتَدِئَ جِهَادَهُ، فَإِذَا أَخَذُوا سَهْمَهُمْ مِنْهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُسَافِرَ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُجَاهِدَ الْغَازِي فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا أَخَذُوا، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَمْ يُجَاهِدِ الْغَازِي اسْتَرْجَعَ مِنْهُمَا مَا أَخَذَاهُ لِفَقْدِ السَّبَبِ الَّذِي يُعْتَبَرُ بِهِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَاسْتِحْقَاقٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ لِتَغَيُّرِ نِيَّاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِجِنْسِ نِيَّاتِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ وَالْمُكَاتَبُونَ يَأْخُذُونَهَا لِلْبَاقِي عليهم من أموال كتابتهم ويستحقونها بما يَسْتَحْدِثُونَ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَزَوَالِ غُرْمِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَخْذِهَا مَا بِهِ يَسْتَقِرُّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ حُسْنِ نِيَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ وَعِتْقِ الْمُكَاتَبِينَ بِالْأَدَاءِ وَقَضَاءِ دُيُونِ الْغَارِمِينَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاسْتِقْرَارِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَادِثُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَمْ يَحْسُنْ بِهِ نِيَّاتُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمُكَاتَبُونَ ذَلِكَ فِي عِتْقِهِمْ وَلَا قَضَاهُ الْغَارِمُونَ فِي دُيُونِهِمْ فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ بَاقِيًا وَهُوَ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَارِمِينَ لَمْ يُسْتَرْجَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ دَفْعُهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرْجَعَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ لِأَنَّ ضَعْفَ نِيَّاتِهِمُ الَّتِي قصدوا له بتآلفهم باق ويقتضي اسْتِئْنَافَ الْعَطَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِالِاسْتِرْجَاعِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ قَدْ زَالَ مَعَ بَقَاءِ الصَّدَقَةِ بِأَيْدِيهِمْ كَعِتْقِ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ كَسَبَ وَزَالَ الْغُرْمُ بِإِبْرَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ مِنْ كَسْبٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ سبب الاستحقاق لم يوجد. مسألة: قال الشافعي: " فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَالْفُقَرَاءُ الزَّمْنَى الضِّعَافُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ وَأَهْلُ الْحِرْفَةِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ لَا تَقَعُ فِي حِرْفَتِهِمْ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِمْ وَلَا يسألون الناس (وقال) وفي الجديد زمنا كان أولى أو غير زمن سائلا أو متعففا (قال الشافعي) والمساكين السؤال ومن لا يسأل ممن له حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه ولا عياله وقال في الجديد سائلا كان أو غير سائل (قال المزني) أشبه بقوله ما قاله في الجديد لأنه قال لأن أهل هذين السهمين يستحقونهما بمعنى العدم وقد يكون السائل بين من يقل معطيهم وصالح متعفف بين من يبدونه بعطيتهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ اسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ شَارَكَهُمُ الْمَسَاكِينُ وَلَوْ وَصَّى بِهِ لِلْمَسَاكِينِ شَارَكَهُمُ الْفُقَرَاءُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَفْتَرِقَانِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَمَيَّزَا ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَمَيُّزِهِمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هَلْ يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ أَوْ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ فَذَهَبَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 طَائِفَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَمْيِيزَهُمَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الصِّفَةِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْآخَرِ، فَبِذَلِكَ تَمَيَّزَ عَنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَسْوَأُ حَالًا الْفَقِيرُ أَوِ الْمِسْكِينُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ أَسْوَأُهُمَا حَالًا وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ أَوْ لَهُ يَسِيرٌ تَافِهٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ حَاجَتِهِ. وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يُؤَثِّرُ فِي حَاجَتِهِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ كِفَايَةُ الْوَاحِدِ عَشَرَةً فَإِنْ وَجَدَهَا فَلَيْسَ بِمِسْكِينٍ وَلَا فَقِيرٍ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَوْ وَجَدَ أَقَلَّهَا كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ وَجَدَ أَكْثَرَهَا كَانَ مِسْكِينًا وَهَذَا فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَقَالَ أبو حنيفة الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ فَالْمِسْكِينُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْفَقِيرِ عِنْدَنَا، وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْمِسْكِينِ عِنْدَنَا، وَهُوَ فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي ملصق بِالتُّرَابِ لِضُرِّهِ وَعُرْيِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة: 177] وَالسَّائِلُ أَحْسَنُ حَالًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِمَصْرِفِ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنَ الْقُرَبِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بسوء الحال. قَالُوا: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يُونُسَ قَالَ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ أَمِسْكِينٌ أَنْتَ، فَقَالَ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ فَقِيرٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُ: (أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فلم يترك له سيد) فَسَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ هِيَ وَفْقَ عِيَالِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فَبَدَأَ بِذَوِي الْحَاجَاتِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْبِدَايَةُ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ أَسْوَأَ حَالًا، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 51] وَلَمْ يَقُلِ الْمَسَاكِينُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَمَسُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا من المسكين، وقال تعالى: {وأما السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المسكين أحسن حالا. وروى أبو زهرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين المتعفف أقراءوا إن شئتم " لا يسألون الناس إلحافا " فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا. وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا على أن الفقير أسوأ حالا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْفَقْرِ اللَّازِبِ يَعْنِي اللَّازِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ: الْمُحَارِفُ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ. أَمَّا الْفَقْرُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ انْكِسَارِ الْفَقَارِ، وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي لَا تبقى مَعَهُ قُدْرَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَاقَةِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 أحدها: أنها [الفاقرة] الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الشَّرُّ الْمُحَلَّى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعَلَى أَيِّ التَّأْوِيلَاتِ كَانَ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوءِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْتَمَسْكُنِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، لِأَنَّ الْمِسْكِينَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ أَشْعَارِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لِبَعْضِ الْعَرَبِ. (هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ ... تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ) (عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ ... قَدْ حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ) فَسَمَّاهُ مِسْكِينًا وَلَهُ عَشْرُ شِيَاهٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمِسْكِينِ مَالًا وَأَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِسْكِينِ هَا هُنَا الْفَقِيرُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ ذِكْرَهُ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِصِفَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمِسْكِينِ عَلَى الْفَقِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي قَدْ أُطْلِقَتْ صِفَتُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُتَعَفِّفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ فَيُحْرَمُ وَيَتَعَفَّفُ فَيُعْطَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَا فَقِيرٌ، فَهُوَ إِذًا أَبَانَ بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الشُّكْرِ مَعَ شِدَّةِ الضُّرِّ. وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَخْذِ الْحَلُوبَةِ سَمَّاهُ فَقِيرًا حِينَ لَمْ يترك له سيد، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ وَقَدْ يَكُونُ الْمِسْكِينُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فَظَنَّ الْمُزَنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَجَعَلَ الْجَدِيدَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ جَلْدٌ يَعْلَمُ الْوَالِي أَنَّهُ صَحِيحٌ مُكْتَسِبٌ يُغْنِي عِيَالَهُ أَوْ لَا عِيَالَ لَهُ يُغْنِي نَفْسَهُ بِكَسْبِهِ لَمْ يُعْطِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لَا يَكُونُ فَقِيرًا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا حَتَّى يَمْلِكَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَجَعَلَ الْفَقْرَ مُعْتَبَرًا بِعَدَمِ النِّصَابِ وَإِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 كَانَ قَادِرًا عَلَى كِفَايَتِهِ بِنَفْسِهِ وَجَوَّزَ لَهُ أَخْذَ الزَّكَاةَ، وَجَعَلَ الْغَنَاءَ مُعْتَبَرًا بِمِلْكِ النِّصَابِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَخْذَ الزَّكَاةَ اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَالْفَقِيرُ هُوَ الْعَادِمُ، وَهَذَا عَادِمٌ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمَيَّزَ الْأَغْنِيَاءَ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمَيَّزَ الْفُقَرَاءَ بِدَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَمَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " وَقَالَ: " أَعْطُوا السائل ولو جاء على فرس " وقد سئل الْمُكْتَسِبُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْطَى؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا قِيمَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنَ الْمُكْتَسِبُ غَنِيًّا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتِ الزَّكَاةُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ حَلَّتْ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصَّدَقَاتُ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا وَصَوَّبَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَجَعَلَ الْكَسْبَ كَالْغِنَى بِالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ. وَرَوَى سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُدْرَةٍ " فَحَرَّمَ الصَّدَقَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا حَرَّمَهَا بِالْغِنَى؛ وَلِأَنَّهُ مُسْتَدِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى كِفَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَالْقَادِرِ عَلَى نِصَابٍ أَوْ كَالْمُشْتَغِلِ لِوَقْفٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاكْتِسَابُ كَالْغِنَى فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ وَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ وَوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِوَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ كَانَ كَالْغِنَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ الْعَدَمَ وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ، وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ محتاج وأما الجواب عن قوله: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَهُوَ مَالِكُ مَا لَا يُزَكَّى فَكَذَلِكَ الْمُكْتَسِبُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَالِكُ مَا يُزَكَّى إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْفَقْرَ قَبِلْنَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ في الناس العدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 وأما قوله: " أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "، فَهُوَ دَلِيلُنَا لِأَنَّ أبا حنيفة يَمْنَعُهُ إِذَا كَانَ ثَمَنُ فَرَسِهِ نِصَابًا وَنَحْنُ نُعْطِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لما لم يكن الاكتساب كَالْمَالِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ كَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ " فَهُوَ فَاسِدٌ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ الَّتِي يُجْعَلُ الِاكْتِسَابُ فِيهَا كَالْمَالِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ يَتَعَلَّقَانِ بِوُجُودِ الْمَالِ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَتَحْرِيمُ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِالْكِفَايَةِ وَالْمُكْتَسِبُ مكتف وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ الْجَلْدُ لَسْتُ مُكْتَسِبًا لِمَا يُغْنِينِي وَلَا يُغْنِي عِيَالِي وَلَهُ عِيَالٌ وَلَيْسَ عِنْدَ الوالي يقين ما قال فالقول قوله: واحتج بأن رَجُلَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصدقة فقال " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لذي قوة مكتسب " (قال الشافعي) رأى عليه الصلاة والسلام صحة وجلدا يشبه الاكتساب فأعلمهما أنه لا يصلح لهما مع الاكتساب ولم يعلم أمكتسبان أم لا فقال " إن شئتما " بعد أن أعلمتكما أن لا حظ فيها لغني ولا لمكتسب فعلت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَقَرَّرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ بِمَا ذَكَرْنَا فَخُصَّ رَجُلٌ ادَّعَى فَقْرًا مَسْكَنَةً فَلِلْوَالِي عَلَى الصَّدَقَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ فَقِيرًا فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَلَا يُكَلِّفُهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَهُ غَنِيًّا فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ شَيْئًا فَإِنِ ادَّعَى تَلَفَ مَالِهِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَى تَلَفِ مَالِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ غَنِيًّا سَمِعَهَا مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَسَوَاءً كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ أَمْ لَا، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتُرُ الْغِنَى وَيَتَظَاهَرُ بِالْفَقْرِ فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِغِنَاهُ إِلَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ بَاطِنَ أَمْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ذَكَرَ فِيهَا أَوْ رجل أصابته جائحة " الخبر إِلَى أَنْ قَالَ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ إِنْ تَدَخَّلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الثَّلَاثَةِ هَلْ يَكُونُونَ شَرْطًا فِي بَيِّنَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ تَغْلِيظًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ مُجْزِئَةٌ. والثاني: أن الثلاثة هاهنا شَرْطٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ شَهَادَةً أَوْ خَبَرًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا شَهَادَةٌ غُلِّظَتْ يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي الْحُقُوقِ لِنَقْلِهَا خلاف المعلوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ خَبَرٌ لَزِمَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَمُيِّزَ بِعَدَدٍ وَرُوعِيَ فِيهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ لَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْهَلَ الْوَالِي أَمْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ غَنِيًّا وَلَا فَقِيرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّائِلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَدَلَائِلِ الضُّرِّ فِي ضَعْفِ بَدَنِهِ وَرَثَاثَةِ هَيْئَتِهِ فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ تَعْوِيلًا عَلَى شَاهِدِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ يُوعَظُ بِهِ وَلَا يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِمَسْأَلَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْبَدَنِ حَسَنَ الْهَيْئَةِ فَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَعْظِ وَالْإِخْبَارِ بِحَالِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذَيْنِ سَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا، وَصَوَّبَ ثُمَّ قَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَإِذَا قَالَ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَأَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ يستحق الصدقة أعطاه منها؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: " إِنْ شِئْتُمَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُمَا، وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى فَقْرِهِ قَبْلَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْفَقْرُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَرَضَ الْيَمِينَ عَلَى الرَّجُلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحَلِّفُهُ عَلَى فَقْرِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى عِيَالًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْعِيَالِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِمْ، لِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمْ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ وَإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ إِلَّا يَمِينٌ يَحْلِفُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَزِيدُ بِهَا عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مَنْ وَلَّاهُ الْوَالِي قَبْضَهَا وَمَنْ لَا غِنَى لِلْوَالِي عَنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَلِي قَبْضَ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَا مِنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ بأخذها فليسا عندنا ممن له فيها حق لأنهما لا يليان أخذها وشرب عمر رضي الله عنه لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فأدخل أصبعه فاستقاءه (وقال) ويعطى العامل بقدر غنائه من الصدقة وإن كان موسرا لأنه يأخذه على معنى الإجارة ". قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ ثَابِتٌ إِذَا تَوَلَّوْا قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا، وَسَاقِطٌ مِنْهَا إِذَا تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ قَالَ رَبُّ المال المتولي للتفريق زَكَاتِهِ أَنَا آَخُذُ سَهْمَ الْعَامِلِينَ لِنَفْسِي لِلْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فِي التَّفْرِقَةِ مَقَامَ الْعَامِلِينَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا نِيَابَةً عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَرَبُّ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ الْمَالِ إذا دفع زكاته مَالِهِ إِلَى الْوَالِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَمْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَالِي الْإِقْلِيمِ النَّاظِرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ الَّذِي وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَجَعَلَ نَظَرَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْإِمَامُ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ قَدْ أَخَذَ رِزْقَهُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ رِزْقَيْنِ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَلِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا فَقَالَ مَرَرْتُ بِلِقَاحِ الصَّدَقَةِ فَأَعْطَوْنِيهِ فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَاسْتَقَاءَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَالُ الصَّدَقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَبْقِهِ فِي جَوْفِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَأْثِيرُ اسْتِقَائِهِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ وَمَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَسْتَقِيئَهُ. قِيلَ فِي اسْتِقَائِهِ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. والثاني: أن من أخذ مالا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ فَتَغَيَّرَ فِي يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أبو حنيفة. وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ الِاغْتِذَاءُ وَالِانْتِفَاعُ بِحَرَامٍ، وَهَكَذَا لَوْ تَوَلَّى قَبْضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقَهَا وَالِي الْإِقْلِيمِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ الَّذِي قَدِ ارْتَزَقَ عَلَى عَمَلِهِ فِيهِ جَارٍ مَجْرَى الْإِمَامِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَصَّ لِعَامِلٍ بِقَبْضِ الزَّكَاةِ تَفْرِيقَهَا ثَبَتَ فِيهَا حِينَئِذٍ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْعَامِلِ وَأَعْوَانِهِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يكون عاملا فيها بها في القبض وَالتَّفْرِقَةِ وَهُوَ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ قَبْضٌ وَلَا تَقْبِيضٌ. وَالثَّانِيَةُ: الْعَقْلُ الَّذِي يَصِحُّ التَّمْيِيزُ بِهِ. وَالثَّالِثَةُ: الْحُرِّيَّةُ. وَالرَّابِعَةُ: الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: آية 1] وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى عُمَرَ بِحِسَابٍ اسْتَحْسَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ مَنْ عَمِلَ هذا فقال كاتبي فقال: أين هو؟ هُوَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ ذِمِّيٌّ فَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ وَقَالَ: لَا تَأْمَنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تقربوهم إذ بعدهم الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 وَالْخَامِسُ: الْأَمَانَةُ لِأَنَّهَا بَيَانُهُ لِيُقْصَدَ بِهَا حِفْظُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَنِيبِ فَأَشْبَهَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ الذي إن خفيت خِيَانَتُهُ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ. وَالسَّادِسَةُ: الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ الزَّكَوَاتِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا تَجِبُ وَفِي مَقَادِيرِهَا وَقَدْرِ الْحَقِّ فِيهَا وَأَوْصَافِ مُسْتَحِقِّيهَا وَمَبْلَغِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ جَاهِلًا بِمَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ كَالْحَاكِمِ إِذَا كَانَ جَاهِلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ جَامِعَةٌ فَاحْتَاجَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَوِلَايَةُ عَامِلِ الصَّدَقَاتِ مَخْصُوصَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ عالما يعني بأحكامها، فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ السِّتَّةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا وَسَوَاءً كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَإِنْ كَرِهْنَا تَقْلِيدَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ لُزُومِ الْخَفَرِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أَعْوَانُ الْعَامِلِ مِنْ كُتَّابِهِ وَحُسَّابِهِ وَجُبَاتِهِ وَمُسْتَوْفِيهِ فَأُجُورُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ لِعَمَلِهِمْ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَدَمٌ فِيهَا مَأْمُورُونَ وَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْبُلُوغِ وَالْفَضْلِ وَالْإِسْلَامِ وَالْأَمَانَةِ. وَأَمَّا الرُّعَاةُ وَالْحَفَظَةُ لَهَا بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِي أُجُورِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أُجْرَةُ الْحَمَّالِينَ والنَّقَّالِينَ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: كَالرُّعَاةِ، وَالْحَفَظَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِحَمْلِهَا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَأُجُورُهُمْ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَأَمَّا أُجُورُ الْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ وَالْعَدَّادِينَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ وَالتَّمْكِينِ فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فِي الْمَبِيعِ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَكِيلٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَهَذَا مَكِيلٌ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَصَارَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أُجُورِ الْعَمَلِ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ الْعَامِلُ وَأَعْوَانُهُ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ غَيْرِ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَهُوَ أُجُورُ الْحَمَّالِينَ وَالنَّقَّالِينَ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَمِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ أصحابنا فيه وهو أجرة الرعاة والحفظة فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ فِيمَنْ قَلَّدَهُ مِنْ عُمَّالِهِ الصَّدَقَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُ إِجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ بأجرة معلومة فيكون العقد لازما له وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهَا جُعَالَةً فَيَقُولُ: إِنْ عَمِلْتَ كَذَا فَلَكَ كَذَا، فَتَكُونُ هَذِهِ جُعَالَةً لَا تَلْزَمُ وَلَهُ إِنْ عَمِلَ مَا يُسَمَّى لَهُ فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ إِجَارَةٍ وَلَا جُعَالَةٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ثُمَّ لَا يَخْلُو سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَأَجْرُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فَتَكُونُ الْأُجْرَةُ بِقَدْرِ سَهْمِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقص فنقص عليها وَقَدِ اسْتَوْفَوْا أُجُورَهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ وَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْفَقْرُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلُ عليها وغاز في سبيل الله " الحديث. وَرَوَى ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَجَعْتُ بِهَا وَأَدَّيْتُهَا أَعْطَانِي عِمَالَتِي فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ فَقَدْ فَعَلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَا فَعَلْتَ فَأُعْطِيتُ مِثْلَ مَا أُعْطِيتَ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقَالَ: إِذَا أُعْطِيتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرَيْنِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَقَلَّ وَسَهْمُهُمْ أَكْثَرَ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيَرُدُّ الْفَاضِلَ مِنْهُ عَلَى السُّهْمَانِ كُلِّهَا بِالتَّسْوِيَةِ وَلَا يَسْتَبْقِي لِعَامِلِهِ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَكْثَرَ وَسَهْمُهُمْ أَقَلَّ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ وَيُتَمِّمُ لَهُ بَاقِيَ أُجُورِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ يُتَمِّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِمْ بِهَا. وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ تَطَوَّعُوا بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ جَازَ وَسَقَطَ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا وَيَسْقُطُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ مِنْهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ سَهْمَ عَمَلِهِ مِنْهَا، فَفِي جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا يُرَاعَى فِيهَا الفقراء فلم يراعى فِيهَا النَّسَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَى عَمَلِهِمْ فِيهَا مَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ مِنْ أُجْرَةِ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ، جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يجوز لتحريم الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَاهُ عِمَالَةَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ عِوَضًا عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ سَهْمَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُعْطَوْنَ جاز لأن لا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالَيْنِ إِنْ أُعْطُوا لَا يُحْرَمُوا المالين وإن منعوا، فأما مولى ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ كَذَوِي الْقُرْبَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ لِرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَقُلْتُ لَهُ أَثْبِتْ لِي سَهْمًا مِنْهَا، فَقَالَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ عَامِلًا عَلَيْهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِأَمْرَيْنِ تَفَرَّدُوا بِهِمَا عَنْ مَوَالِيهِمْ: أَحَدُهُمَا: شَرَفُ نَسَبِهِمُ الَّذِي فُضِّلُوا بِهِ. وَالثَّانِي: سَهْمُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي تَفَرَّدُوا بِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصُّوا بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ دُونَ مَوَالِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: إِذَا تَلَفَتِ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أُجْرَةَ الْقَبْضِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَلْزَمُهُ إِذَا تَلَفَتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ أُجْرَةَ التَّفْرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ تَلَفِهِ أُعْطِيَ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ، وَلَمْ يُفَوَّتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مسألة: قال الشافعي: " وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فِي مُتَقَدِّمِ الْأَخْبَارِ ضَرْبَانِ ضَرَبٌ مُسْلِمُونَ أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ يُجَاهِدُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِهِمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَأَرَى أَنْ يُعْطَوْا مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مَا يُتَأَلَّفُونَ بِهِ سِوَى سِهَامِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا السَّهْمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 خالصا لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرده في مصلحة المسلمين (وَاحْتَجَّ) بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطى المؤلفة يوم حنين من الخمس مثل عيينة والأقرع وأصحابهما ولم يعط عباس بن مرداس وكان شريفا عظيم الغناء حتى استعتب فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) رحمه الله لما أراد ما أراد القوم احتمل أن يكون دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منه شيء حين رغب عما صنع بالمهاجرين والأنصار فأعطاه على معنى ما أعطاهم واحتمل أن يكون رأى أن يعطيه من ماله حيث رأى أن يعطيه لأنه له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا للتقوية بالعطية ولا نرى أن قد وضع من شرفه فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أعطى من خمس الخمس النفل وغير النفل لأنه له وأعطى صفوان بن أمية ولم يسلم ولكنه أعاره أداة فقال فيه عند الهزيمة أحسن مما قال بعض من أسلم من أهل مكة عام الفتح وذلك أن الهزيمة كانت فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم حنين أول النهار فقال له رجل غلبت هوازن وقتل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال صفوان بن أمية بفيك الحجر فوالله لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ من هوازن ثم أسلم قومه من قريش وكان كأنه لا يشك في إسلامه والله تعالى أعلم (قال الشافعي) فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطى مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذا أحب إلي للاقتداء بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولو قال) قائل كان هذا السهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان له أن يضع سهمه حيث يرى فقد فعل هذا مرة وأعطى من سهمه بخيبر رجالا من المهاجرين والأنصار لأنه ماله يضعه حيث رأى ولا يعطى أحدا اليوم على هذا المعنى من الغنيمة ولم يبلغنا أن أحدا من خلفائه أعطى أحدا بعده ولو قيل ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان كان مذهبا والله أعلم (قال) وللمؤلفة في قسم الصدقات سهم والذي أحفظ فيه من متقدم الخبر أن عدي بن حاتم جاء إلى أبي بكر الصديق أحسبه بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد بمن أطاعه من قومه فجاءه بزهاء ألف رجل وأبلى بلاء حسنا والذي يكاد يعرف القلب بالاستدلال بالأخبار أنه أعطاه إياها من سهم المؤلفة فإما زاده ترغيبا فيما صنع وإما ليتألف به غيره من قومه ممن لم يثق منه بمثل ما يثق به من عدي بن حاتم (قال) فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة ولن تنزل إن شاء الله تعالى وذلك أن يكون العدو بموضع منتاط لا يناله الجيش إلا بمؤنة ويكون بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بلية فأرى أن يقووا بسهم سبيل الله من الصدقات وإما أن لا يقاتلوا إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة أو ما يكفيهم منه وكذا إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه ببعد ديارهم وثقل مؤناتهم ويضعفون عنه فإن لم يكن مثل ما وصفت مما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه من امتناع أكثر العرب بالصدقة على الردة وغيرها لم أر أن يعطى أحد من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 سهم المؤلفة ولم يبلغني أن عمر ولا عثمان ولا عليا رضي الله عنهم أعطوا أحدا تألفا على الإسلام وقد أغنى الله - فله الحمد - الإسلام عن أن يتألف عليه رجال (وقال في الجديد) لا يعطى مشرك يتألف على الإسلام لأن الله تعالى خول المسلمين أموال المشركين لا المشركين أموال المسلمين وجعل صدقات المسلمين مردودة فيهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا وأبا حنيفة أَسْقَطَا سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا أَسْقَطَ أبو حنيفة سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِلِاسْتِغْنَاءِ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِعْلَاءِ أَهْلِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَتَآلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرْبَانِ مُسْلِمُونَ، وَمُشْرِكُونَ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتٌ لَكِنَّهُمْ إِنْ أُعْطُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَذَاهُمْ مُجْتَازِينَ، أَوْ مُسَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا قَاتَلُوهُمْ وَتَتَبَّعُوهُمْ بِالْأَذَى فِي أَسْفَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ مِثْلَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَقَدْ كَانَ ذَا غِلْظَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ أَهْلَ بَنِي مَعُونَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَآلَفُهُ وَيَسْتَكِفُّهُ فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَارِكْنِي فِي أَمْرِكَ، وَكُنْتَ أَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ وَأَنَا عَلَى الْوَبَرِ، فَقَالَ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِي قَالَ وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَأَبْنَاءِ قَبِيلَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَعْنِي الْأَنْصَارَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِأَخْبَثِ نِيَّةٍ فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ مَاتَ بِهَا وَقَدْ نَزَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولٍ قَالَ: وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْكُفَّارِ أَشْرَافٌ وَمُطَاعُونَ لهم في الإسلام ونيات لَمْ تُخْلَصْ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا بَقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ مِثْلَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ ذَا نِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَعَارَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَدَاةً فَأَعَارَهُ مِائَةَ دِرْعٍ وَحَضَرَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَقَالَ قَدِ انْهَزَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْعَةِ أحسن مما قاله بعض المسلمون الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ غَلَبَتْ هَوَازِنُ، وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِفِيكَ الْحَجَرُ، وَاللَّهِ لَرَبُّ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبِّ هَوَازِنَ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَأُحِيزَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا مِائَةَ بَعِيرٍ، فَلَمَّا رَآهَا وَقَدِ امْتَلَأَ بِهَا الْوَادِي فَقَالَ هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. هَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَزَادَهُمْ مِنْ قُدْرَةٍ عَنْ أَنْ يتَآلَفُوا بِأَمْوَالِهِمْ مُشْرِكًا وَيَكُونُ تَآلُفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمْ إِمَّا عَنْ حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَهُ. فَإِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا بِمَالٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَوْلًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا مُنِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا. وَإِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ تَآلُفِهِمْ جَازَ إِذَا وُجِدَ فِيهِمْ نَفْعُ التَّآلُفِ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لَا مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُعَدَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَضَرْبَانِ. ضَرْبٌ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ وَحَمْلِهِمْ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَشْرَافُ الْمُطَاعُونَ وَقَدْ حَسُنَتْ فِي الْإِسْلَامِ نياتهم لكن في إعطائهم تآلف لقومهم وترغيب لِأَكْفَائِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ كَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهُمَا تَآلُفًا لِقَوْمِهِمَا وَتَرْغِيبًا لِنُظَرَائِهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ قَدْ أَسْلَمُوا بِنِيَّاتٍ ضَعِيفَةٍ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَإِنْ مُنِعُوا رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ ضَعْفُ النِّيَّةَ إِلَى الرِّدَّةِ فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ، فَإِنَّهُ تَآلَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةِ بَعِيرٍ وَتَرَكَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ فَلَمْ يُعْطِهِ ثِقَةً، بِحُسْنِ إِسْلَامِهِ كَمَا تَرَكَ الْأَنْصَارَ وَقَصَرَ بِهِ عَلَى مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ حَتَّى اسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِيمَا أَنْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ: (كَانَتْ ذِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... وكَرِّي عَلَى الْقَوْمِ بِالْأَجْرَعِ) (وَحَثِّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ... إِذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ) (أَتَجْعَلُ نهبي وذهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 الْأَبْيَاتِ إِلَى آخِرِهَا. فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأُعْطِيَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَاحْتَمَلَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ بِهِ حُسْنَ النِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ ثُمَّ بَانَ مِنْهُ ضَعْفُ النِّيَّةِ فَتَآلَفَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حُسْنِ نيته لكن خشي نقص الرتبة وحظ الْمَنْزِلَةِ فَأَحَبَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَكْفَائِهِ فَأَعْطَاهُ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِشِعْرِهِ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَآلَفَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أتاه عدي بن حاتم الطائي بثلثمائة بَعِيرٍ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا لِيَتَآلَفَ بِهَا قَوْمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِهِ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَنْ أَنْ يُتَآلَفَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا تَآلَفُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ أَحَدًا وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فَإِنْ قِيلَ: لَا يُعْطَى الْكُفَّارُ فَلَا مَقَالَ وَإِذَا قِيلَ: يُعْطَوْنَ تَآلُفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَعَنِ الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى سَهْمِهِمْ مِنْهَا، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مِالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جملتها، ويعطون ذلك من الْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَعْرَابٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرَفٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِإِزَاءِ مُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ، إِمَّا لِفَقْرِهِمْ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ وَفِي مَسِيرِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَالْتِزَامُ مَالٍ جَزِيلٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْ ذَكَرْنَا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَّا بِمَالٍ إِمَّا لِفَقْرٍ أَوْ لِضَعْفِ نِيَّةٍ، وَفِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ مُؤْنَةٌ ثَقِيلَةٌ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أن يكونوا قَوْمٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَهَذِهِ حَالُهُمْ مَعَهُمْ. وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى بَذْلِهَا إِلَّا بِمَالٍ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَجُوزُ تَآلُفُهُمْ بِالْمَالِ لِمَا فِي تَآلُفِهِمْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَفِي الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ وَرَابِعٌ مَعْلُولٌ: أَحَدُهَا: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ غُزَاةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمَعْلُولُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي دَفْعِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ سَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إِعْطَاءَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاحِدَةِ بِسَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ إِذَا كَانَا فِيهِ مَوْجُودَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَنَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْطَوْنَ إِلَّا مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ السَّهْمَيْنِ مَعًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ فِيهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ لِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِيمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ غَيْرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يُجْمَعُ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا بَيْنَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَبَيْنَ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يُصْبِحَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ السَّهْمَيْنِ لَكِنْ يُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ السهمين للجنس الْعَامِّ وَالْمَنْعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ هَذَا القول الرابع والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَالرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْ حَيِّزِ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا يُعْتَقُ عَبْدٌ يُبْتَدَأُ عِتْقُهُ فَيُشْتَرَى وَيُعْتَقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالرِّقَابُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 الرقاب} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ الْمُسَمَّى لَهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهِمْ وَلَا يَبْتَدِئُ عِتْقَ رِقَابٍ تُشْتَرَى، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الرِّقَابُ أَنْ يُبْتَدَأَ عتق رقاب تشترى وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ استدلالا بقوله تعالى: {وفي الرقاب} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي عِتْقَ الْعَبْدِ الْقِنِّ دُونَ الْمُكَاتَبِ. وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ سُهْمَانَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْأَصْنَافِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ: {إنما الصدقات للفقراء} وَخَالَفَ صِيغَةَ اللَّفْظِ فِي الرِّقَابِ بِأَنْ حَذَفَ لام التمليك، فقال: وفي الرقاب فَجَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُمْ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُكَاتَبُونَ وَيُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ فَلَوْ أُرِيدُوا بِالْآيَةِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغَارِمِينَ عَنْ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ نَوْعَانِ زَكَوَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْكَفَّارَاتِ عِتْقٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّكَوَاتِ عِتْقٌ. وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطُّهْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعِتْقٍ، وَيُفَرِّقَهُ كَالْكَفَّارَاتِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] ومنه سَبْعَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذلك في الرقاب لا في السادة، وملك يَجْعَلُهُ فِي السَّادَةِ لَا فِي الرِّقَابِ. وَالثَّانِي: إِنَّ سَائِرَ الْأَصْنَافِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِنْفُ الرِّقَابِ مُسْتَحِقًّا الْأَخْذَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ وَقَرَنَ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ صِنْفَيْنِ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا فَنُقَارِبُ فِي حَاجَتِنَا إِلَيْهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبًا فَلَمَّا أَخَذَ الْغَارِمُونَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَ الرِّقَابُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَصْرُوفَ إِلَى الْأَصْنَافِ صَدَقَةً وَفِي صَرْفِهِ فِي الْعِتْقِ يَصِيرُ ثَمَنًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ. وَالْخَامِسُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ يُمْكِنُ دَفْعُ سَهْمِهِ إِلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَلَا يُمْكِنُ إِذَا جَعَلَ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الْعِتْقِ أَنْ يُعْتِقَ سَهْمَهُمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَإِذَا جُعِلَ فِي الْمُكَاتَبِينَ أَمْكَنَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ. وَالسَّادِسُ: إِنَّهُ لَوْ صُرِفَ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخِرُ نَجْمِ مَا يُعْتَقُونَ بِهِ فَأَعْطَوْا مَا عُتِقُوا بِهِ أَجْزَأَ، وَلَوْ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ لَمْ يُجْزِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ. وَالسَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِالرِّقَابِ الْمُعْتَقَ لَقَرَنَهُ بِذِكْرِ التَّحْرِيرِ كَالْكَفَّارَةِ حَيْثُ قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ فِي الْمُطْلَقِ فِي الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَخَالَفَ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعٍ وَإِطْلَاقَهَا فِي آخَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يكونوا على صفة يستحقوا بِهَا الْأَخْذَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَلَوْ أَعْتَقَ سَهْمُ الرِّقَابِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْمُعْتِقِ وَلَاءٌ أَوْ لَا يَثْبُتُ فَإِنْ لَمْ يثبت عليه، ولا سُلِبَ حُكْمَ الْعِتْقِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقٍ بِمَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا اشْتُرِيَ لَهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِلْكًا كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ فَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْعِتْقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ جَازَ أَنْ يَسْتَعِيدَهُ مِنْ دَيْنِهِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ غَارِمٍ وَلَا الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَيْرُهُ أَجْزَأَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ أَنَّ ادِّعَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْقِنَّ وَغَيْرَهُ وَإِنْ قُيِّدَ بِقَرِينَةٍ كَالتَّحْرِيرِ تَخَصَّصَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ بِالْقِنِّ دُونَ غَيْرِهِ فَلَمَّا أُطْلِقَ ذِكْرُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَا خُصَّ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَرِينَةٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 السُهمان بِلَامِ التَّمْلِيكِ إِلَّا الرِّقَابَ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغُزَاةِ وَبَنِي السَّبِيلِ فَقَالَ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ تَمْلِيكًا كَذَلِكَ الرِّقَابُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ غَيْرُ الْغَارِمِينَ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ وَدُيُونُ الْغَارِمِينَ مُسْتَقِرَّةٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ وإن تقاربوا في المعنى فإن يُسْتَفَادُ بِذِكْرِهِمْ أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى الْغَارِمِينَ لَوْ لَمْ يُذْكَرُوا وَعَلَيْهِمْ دُونَ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِنْ كَانُوا مُتَقَارِبِينَ يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذكر الآخر؛ لأن لا يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْكَفَّارَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ هُوَ الْعِتْقُ لِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً يَمْلِكُهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمَالُ وَلِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رقبة يملكها لَمْ يُجْزِهِ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَالٍ فِي يَدِهِ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوْ بصناعة يكتسب به فذلك يكونا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا الْمُكَاتَبُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحُلَّ، فَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ دُفِعَ إِلَيْهِ وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ أَوْ يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً إِلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِ الْمُكَاتَبِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَحُلَّ وَمُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ بِهِ لَمْ تَجِبْ فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحُلُّ مَالُ النَّجْمِ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُ مَا أخذه من كتابته. والقسم الثاني: يُعْتَقَ بِغَيْرِ أَدَاءِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ إِمَّا بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ لَهُ أَوْ بِأَدَاءِ آخَرَ عَنْهُ أَوْ بِأَدَائِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءً، وَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتَرْجَعَ مِنْه مَا دَفَعَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْذِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ عِتْقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَقَدْ أَدَّاهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ الدَّفْعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ وَلَوِ اسْتَرْجَعَ لَمْ يُعْتَقْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 والقسم الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَرِقَّهُ السَّيِّدُ بِالْعَجْزِ فَلَا يَخْلُو حال المدفوع إليه مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتُرْجِعَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءً كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ أَوْ قَدْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ مِنَ النُّجُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَيُسْتَرْجَعُ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَا يَتَمَلَّكَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الرِّقِّ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِلْأَخْذِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْ مَالِ النَّجْمِ الَّذِي عَجَّزَهُ فِيهِ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ أَيْضًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ الْأَخْذِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ مِنْ مَالِ نَجْمٍ مُتَقَدِّمٍ قَبْلَ نَجْمِ التَّعْجِيزِ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعِتْقِ فَشَابَهَ مَالَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ حُكْمًا. فَصْلٌ: فَإِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَتَلَفَ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ سَوَاءً تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنِ الْعِتْقِ فَإِذَا فَاتَ الْعِتْقُ ضَمِنَهُ بِالرَّدِّ إِنْ بَقِيَ، وَبِالْغُرْمِ إِنْ تَلَفَ كَالْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ ضُمِنَ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ يُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ غُرْمِهِ ضَمِنَهُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِيَدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ عَجْزِهِ فَإِنْ تَلَفَ قَبْلَ عَجْزِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ كان مؤتمنا على أدائه. والثاني: يَتْلَفُ بَعْدَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَهَذَا على ضربين إما أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجَمُ الْكِتَابَةِ وَأَخَّرَ دَفْعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ إِذَا جُعِلَ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلِ فَهَذَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الرَّدِّ وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَا بِيَدِهِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِ مَا بِيَدِهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي جِنْسِهِ وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى سَيِّدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبَضَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ بعد العجز كيده. مسألة: قال الشافعي: (وَالْغَارِمُونَ) صِنْفَانِ صِنْفٌ دَانُوا فِي مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مَعْرُوفٍ وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ أَدَاءِ ذَلِكَ فِي الْعَرْضِ وَالنَّقْدِ فَيُعْطَوْنَ فِي غُرْمِهِمْ لعجزهم فإن كانت لهم عروض يقضون منها ديونهم فهم أغنياء لا يعطون حتى يبرءوا من الدين ثم لا يبقى لهم ما يكونون به أغنياء وصنف دانوا في صلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض تحمل حمّالاتهم أو عامتها وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا سهمهم (واحتج) بأن قبيصة بن المخارق قال تحملت بحمالة فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: " نؤديها عنك أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة يا قبيصة " الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يمسك ورجل أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذلك من المسألة فهو سحت " (قال الشافعي) رحمه الله: فبهذا قلت في الغارمين وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تحل له المسألة في الفاقة والحاجة " يعني والله أعلم من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين وقوله " حتى يصيب سدادا من عيش " يعني والله أعلم أقل اسم الغنا ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لغارم أو لرجل اشتراها بماله أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى المسكين فأهدى المسكين للغني " فبهذا قلت يعطى الغازي والعامل وإن كانا غنيين والغارم في الحمالة على ما أبان عليه السلام لا عاما ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْغَارِمُونَ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَصِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ. وَالثَّانِي: فِي تَبْذِيرٍ. وَالثَّالِثُ: فِي مَعْصِيَةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ فَكَرَجُلٍ أَدَانَ فِي جَوَائِحَ أَصَابَتْهُ أَوْ نَفَقَاتٍ لَزِمَتْهُ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَضَرَّتْ أَوْ زَكَوَاتٍ وَجَبَتْ وَحَجٍّ أُدِّيَ وَفَرْضٍ قُضِيَ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ وِاجِبَاتٍ أَوْ مُبَاحَاتٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى مَنْ صَارَ بِهَا غَارِمًا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ عَقَارًا فَإِنْ كَانَ مَالُهُ نَاضًّا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَعُونَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُوسِرٌ مِنْ دَيْنٍ فَيَجْعَلُ كُلَّ الْمُوسِرِ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَقَارًا مِنْ دُورٍ وَضِيَاعٍ كَفَى أَثْمَانُهَا بِدَيْنِهِ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُوسِرِ بِمَالٍ نَاضٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَحُكِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ قضاء الدين إلا من عقار مستقا هُوَ بِالْمُعْسِرِينَ أَشْبَهُ عَنْهُ بِالْمُوسِرِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي تَبْذِيرٍ كَرَجُلٍ بَذَّرَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَأَسْرَفَ فِي الصِلاة وَالْهِبَاتِ لَا فِي بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَهَذَا لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَلَهُ مَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ مِنْ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَلَأَنْ يَعُودَ تَبْذِيرُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ نَاضٍّ وَلَا عَقَارٍ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْغُرْمِ وَالْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِمَالٍ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ فِي غُرْمِ الْمَعَاصِي أَوْلَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْفَقْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْغُرْمِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غُرْمٌ سببه المعصية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي تَحَمُّلِ دِيَةٍ لِنَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ كَفَّ بِهَا فِتْنَةً بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ وَقَطَعَ بِهَا حَرْبًا بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ، فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْفَقْرِ والغنى الناض والعقار ولا يراعى فيه فقر، وَلَا اعْتِبَارٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ هَارُونَ بْنِ رَبَابٍ عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ نُؤَدِّيهَا عَنْكَ وَنُخْرِجُهَا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أصابته حاجة وَفَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى من قومه إن قد حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ غُرْمٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْغُرْمِ فِي الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِهِ إِلَيْنَا، فَأَوْلَى أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِنَا إِلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي غُرْمِ مَالٍ كَفَّ بِهِ فِتْنَةً وَمَنَعَ بِهِ حَرْبًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْغِنَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْغُرْمِ فِي الدَّمِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ قَطْعِ الْفِتْنَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلدَّمِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ فِتْنَةٍ وَلَا مَنْعِ حَرْبٍ كَرَجُلٍ أَدَانَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ أَوْ بِنَاءِ حِصْنٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ فَكِّ أَسْرَى أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذلك من المصالح العامة التي تتعلق لحسم فِتْنَةٍ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْغِنَى بِالنَّاضِّ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّفْعِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُتَرَدِّدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْغَارِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِ، وَيَكُونُ الْغَارِمُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَبْضِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى غُرَمَائِهِ، فَإِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ حَقَّهُ إِلَى غُرَمَائِهِ بِإِذْنِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُ حَقِّهِ إِلَى سَيِّدِهِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي دُيُونِ غُرَمَائِهِ، فَلَوْ كَانَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَدَفَعَ إِلَى غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَجْرِ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ، فَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْغَارِمِ مُؤَجَّلًا فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ كَالْمُكَاتَبِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: فَإِذَا أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ بالخيار في دفعه إلى غرمائه شَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا فِي حَمَالَةِ دِيَةٍ قَدْ أُعْطِيَ فِيهَا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مع غنائه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنَانِ دَيْنُ الْحَمَالَةِ وَدَيْنٌ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي دَيْنِ الْحَمَالَةِ وَلَا يَصْرِفُهُ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَوْ قَدْ أَخَذَ مَعَ الْفَقْرِ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِيمَا شَاءَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَوْ دَيْنِ الْحَمَالَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ وَدَيْنِ الْحَمَالَةِ، أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَجَازَ أَنْ يَصْرِفَ مَا غَلُظَ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا خَفَّ شَرْطُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ مَا خَفَّ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا غَلُظَ شَرْطُهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْغَارِمُ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي غَيْرِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَعْدَمَ قُوتَ يَوْمِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قُوتَ يَوْمِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي دَيْنِهِ كَالْمُفْلِسِ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ إِلَّا قُوتَ يَوْمِهِ. فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ الْغَرِيمُ سَهْمَهُ فَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي دَيْنِهِ حَتَّى أُبْرِئَ مِنْهُ أَوْ قُضِيَ عَنْهُ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ قَرْضٍ يقترضه فَلَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَا أَسْقَطَ عنه الدين، وإنما انتقل من يستحق إِلَى مُسْتَحِقٍّ فَصَارَ كَالْحِوَالَةِ فَلَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ قَرْضٍ فَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى لَزِمَهُ دَيْنٌ آخَرُ صَارَ بِهِ مِنَ الْغَارِمِينَ فَفِي اسْتِرْجَاعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُرْجِعَ لَجَازَ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَسْلِفِ لَهُ قَبْلَ غرمه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَيُقْبَلُ قَوْلُ ابْنِ السَّبِيلِ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَوِيٍّ حَتَّى تُعْلَمَ قُوَّتُهُ بالمال ومن طلب بأنه يغزو وأعطي ومن طلب بأنه غارم أو عبد مُكَاتَبٌ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ النَّاسِ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَارِمِينَ حَتَّى يُعْلَمَ غُرْمُهُمْ وَالْعَبِيدُ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ حَتَّى تُعْلَمَ كِتَابَتُهُمْ وَمَنْ طَلَبَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ وَمَا وَصَفْتُ أَنَّهُ يَستَحِقُّهُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالَّذِي قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ غَنَاءٌ مُتَقَدِّمٌ قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ عُلِمَ لَهُمْ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي تَلَفِهِ وَفَقْرِهِمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَحَالُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى بَيِّنَةٍ أَوْ تَحْلِيفِ يَمِينٍ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِمْ بِظُهُورِ الصَّلَاحِ وَتَآلُّفِهِمْ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى الْكِتَابَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا وَبِالْبَاقِي مِنْهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ فَإِذَا تَصَادَقَ الْمُكَاتَبُ وَالسَّيِّدُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْبَاقِي مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 أحدهما: أن تصادقهما بغنى عن البينة بعد إحلافهما؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّصَادُقِ مُكَاتَبًا فِي الظَّاهِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا مع التصادق إلا ببينة لأنهما قد يتواطآن عَلَى ذَلِكَ اجْتِلَابًا لِلنَّفْعِ. وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَمَنِ اسْتَدَانَ مِنْهُمْ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَحَالُهُ فيه أظهر من أن يكلف عليه بينة فَإِنْ شُكَّ فِي قَضَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ أُحْلِفَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ وَمَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَإِنْ تَصَادَقَ الْغَارِمُ وَرَبُّ الدَّيْنِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي فَقْرِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إِرَادَتِهِ لِلسَّفَرِ، وَفِي إِحْلَافِهِ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلسَّفَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ السَّفَرِ وَلَا يُعْطَى إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْلَفُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُسَافِرِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا الْغَازِي فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ مِنْ غَزْوِهِ وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ الْغَزْوِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: لَا يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ ابن أبي هريرة. مسألة: قال الشافعي: " وَسَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا وَصَفْتُ يُعْطَى مِنْهُ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَلَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ فَيُعْطَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ نَاقَةً لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْكَبِيهَا فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ". وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ محمول على الغزو ولقوله تعالى: {وجاهدوا في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [التوبة: 41] وقوله تعالى: {إن الله يحب الذي يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي الْجِهَاتِ الْمَالِكَةِ فَخَرَجَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ كَانَ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَجِبُ إِلَّا مَعَ عَجْزِهِ وَفِي غَيْرِ زَكَاتِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِ زَكَاةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُجَّاجِ أُعْطُوا إِمَّا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَالُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِقَرِينَةٍ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ الْجِهَادَ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ فَالْغُزَاةُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَهُمُ الْمُرْتَزَقَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانَ فَهُوَ لَا يَأْخُذُ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مال الفيء ولا يجوز أن يعطوا من مَالِ الصَّدَقَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا أَرْزَاقَ لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا غَزْوًا وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا قَعَدُوا وَقَدْ سَمَّاهُمُ الشَّافِعِيُّ أَعْرَابًا فَهُمْ غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أن يعطوا منها مع الغنى وَالْفَقْرِ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ لَمْ يُعْطَوُا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " وَلِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إِلَى الْغَنِيِّ "، وَلِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الصَّدَقَةَ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ كَالْعَامِلِ. فَإِنْ قيل: فالعامل يأخذه أَجْرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ. قِيلَ: هُوَ صَدَقَةٌ: وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لِتَحْرِيمِهِ على ذوي القربى على أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ وَهُوَ الْجِهَادُ وَلِذَلِكَ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَخْصُوصُ الْعُمُومِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَغَيْرُ مُسَلَّمِ الْأَصْلِ. فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا أُعْطِيَ الْغَازِيَ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مُتَّسِعًا وَكِفَايَتُهُ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْمَغْزَى وَبُعْدُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا فَإِذَا أُعْطِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَغْزُ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَإِنْ غَزَا فَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ لَمْ تُسْتَرْجَعْ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ قَدْ عَمِلَهُ فَلَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ وَلَا يُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ نَفَقَتِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُودَ مِنْ غَزْوِهِ قَدْ فَوَّتَهُ بِعَوْدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وقفة مع المشركين قابل فيها المجاهدون فتأخير هَذَا عَنْ حُضُورِهَا فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْغَزْوِ لِقَاءُ الْعَدُوِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ وَقْفَةٌ وَلَا حَارَبَ الْمُجَاهِدُونَ فِيهَا أَحَدًا لِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَهَذَا لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِغَزْوِهِمْ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى دِيَارِهِمْ وَقَدْ وُجِدَ لبعدهم. مسألة: قال الشافعي: " وَابْنُ السَّبِيلِ عِنْدِي ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ الَّذِي يُرِيدُ الْبَلَدَ غَيْرَ بَلَدِهِ لِأَمْرٍ يَلْزَمُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَبَنُو السَّبِيلِ هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وفي سبيل الله وابن السبيل} وَبَنُو السَّبِيلِ هُمُ الْمُسَافِرُونَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ الطَّرِيقُ سُمُّوا بِهَا لِسُلُوكِهِمْ لَهَا وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُجْتَازٌ، وَمُنْشِئٌ. فَأَمَّا الْمُجْتَازُ فَهُوَ الْمَارُّ فِي سَفَرِهِ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا الْمُنْشِئُ: فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ لِسَفَرِهِ عَنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ هُوَ الْمُجْتَازُ دُونَ الْمُنْشِئِ اسْتِدْلَالًا بقوله تعالى: {وابن السبيل} يعني ابن الطريق وهذا ينطبق إلى الْمُسَافِرِ الْمُجْتَازِ دُونَ الْمُنْشِئِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسَافِرٍ مُجْتَازٍ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِمَا يَبْتَدِئُهُ مِنَ السَّفَرِ لَا لِمَا مَضَى مِنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُجْتَازُ وَالْمُنْشِئُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدِئٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَصِيرُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخُرُوجِ كَالْمُنْشِئِ ثُمَّ يَجُوزُ بِوِفَاقٍ فَكَذَا كُلُّ مُقِيمٍ مُنْشِئٌ وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ مُسَافِرًا. قِيلَ: كَمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَاجًّا وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 فَصْلٌ: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُجْتَازَ وَالْمُنْشِئَ سَوَاءٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيمَا يُنْشِئُهُ مِنْ سَفَرٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ أَوْ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ مُبَاحًا، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مَعْصِيَةً كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِتْيَانِ الْفُجُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَلَا يُعَانُ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ رُخَصِ سَفَرِهِ، فَإِنْ تَابَ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ صَارَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَالْمُبْتَدِئِ لِلسَّفَرِ فَيُعْطَى نَفَقَةَ بَاقِي سَفَرِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مُبَاحًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَالسَّفَرِ إِلَى نُزْهَةٍ وَتَفَرُّجٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَإِنْ أُبِيحَتْ لَهُ الرُّخَصُ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ بِمَالِهِ ثُمَّ انْقَطَعَتْ بِهِ النَّفَقَةُ لِعَوْدِهِ جَازَ أَنْ يُعْطَى لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ هَرَبَ أَوْ عَبْدٍ أَبَقَ أَوْ جَمَلٍ شَرَدَ فَهَذَا يُعْطَى لِسَدِّ حَاجَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي تِجَارَةٍ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْطَى لِوُجُودِ الْحَاجَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُعْطَى لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِلِاسْتِزَادَةِ. فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ مَنْ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مَنْ بَنِي السَّبِيلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْشِئًا لِلسَّفَرِ أَوْ مُجْتَازًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْشِئًا لِسَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمِنِ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْعَدَمِ فِي سَفَرِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِمُرَاعَاةِ الْجِوَارِ فِي الْفَقْرِ، وَلَيْسَ الْمُجْتَازُ جَارًا ثُمَّ يُعْطَى عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ بِحَسَبِ مَسَافَةِ سَفَرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَنَفَقَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ مُقَامُ الْمُسَافِرِ فِي بِلَادِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَحْدَهُ ولم يعطي نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ بِالْقُدُومِ، فَإِنْ قَصَّرَ بُعْدَ الْمَسَافَةِ فِي نَفَقَتِهِ وَضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَازِي حَيْثُ لَمْ تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ بَقِيَّةُ نَفَقَتِهِ أَنَّ الْغَازِيَ كَالْمُعَاوَضِ عَلَى غَزْوِهِ عَنَاءً فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْبَاقِي لِاسْتِكْمَالِ الْعَمَلِ وَالْمُسَافِرُ مُعَانٌ عَلَى سَفَرِهِ فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا زَادَ عَلَى مَعُونَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَ ابْنُ السَّبِيلِ نَفَقَةَ سَفَرِهِ ثُمَّ أَفَادَ قَدْرَ نَفَقَتِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَلَوْ أَخَذَ الْفَقِيرُ ثُمَّ أَفَادَ مَا زَالَ بِهِ فَقْرُهُ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِأَمْرٍ مُنْتَظَرٍ فَاعْتُبِرَتْ حَالُهُ فِيمَا بَعُدَ وَالْفَقِيرُ يُعْطَى لِلْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ حَالُهُ مِنْ بُعْدِهِ، وَلَوْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَخَذَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِلَى غَايَةٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 قَدْرُهَا مِائَةُ فَرْسَخٍ فَسَافَرَ شَطْرَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ قطع نَظَرْنَا فِي نَفَقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ فِي شَطْرِ الْمَسَافَةِ جَمِيعَ نَفَقَتِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَلَاءِ سِعْرٍ أَوْ زِيَادَةِ مُؤْنَةٍ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لِسُرْفٍ فِي شَهْوَةٍ وَإِكْثَارٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ نَفَقَةُ الْبَاقِي مِنْ سَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ فِي مُقَامِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَسْتَقْبِلَ بِهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 باب كيف تفريق قسم الصدقات مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْصَاءِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي عَمَلِهِ حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُهُ مِنْ قَبْضِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَنَاهِي أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيُحْصِيَ مَا صَارَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَيَعْزِلُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فإن جاوز سهم العاملين رأيت أن يعطيهم سهم العاملين ويزيدهم قدر أجور أعمالهم مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الفيء والغنيمة ولو أعطاهم ذلك من السهمان ما رأيت ذلك ضيقا ألا ترى أن مال اليتيم يكون بالموضع فيستأجر عليه إذا خيف ضيعته من يحوطه وإن أتى ذلك على كثير منه (قال المزني) هذا أولى بقوله لما احتج به من مال اليتيم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَجَّهَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ إِلَى عَمَلِهِ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا فَيَنْبَغِي لَهُ مَعَ ابْتِدَاءِ تَشَاغُلِهِ بِجِبَايَتِهَا أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَتَعَرَّفُ لَهُ أَحْوَالَ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَتَّى يَعْرِفَ أَهْلَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ فَيُثْبِتُ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْأَنْسَابَ وَالْحُلِيَّ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْوَاحِدُ مِنْ صَدَقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَيُمَيِّزُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لِيَعْلَمَ أَعْدَادَ الْأَصْنَافِ وَعَدَدَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْرِقَةِ ذَلِكَ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ أَهْلِهَا وَجُودُهُمْ وَلَا يَلْزَمُ لَهَا مؤونة بِالْإِمْسَاكِ، وَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ بِالِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ بِهَا جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا فِيهَا سَوَاءً فَإِنْ وَجَدَ خَمْسَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ ثَلَاثَةً قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَإِنْ وَجَدَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ خَمْسَةً، قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَوَّلُ سَهْمٍ يَبْدَأُ بِقَسْمِهِ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى عَمَلٍ فَصَارَتْ كَالْمُعَاوَضَةِ وَغَيْرُهُ مُوَاسَاةٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِأُجُورِهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِمْ أَوْ يكونوا أكثر من أجورهم فيعطوا مِنْهُ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ أجورهم أن يتمم لَهُمْ أُجُورَهُمْ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ تَمَامُهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَا هُنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ مِنَ السُّهْمَانِ مَا رَأَيْتُ ذَلِكَ ضِيقًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يَخْرُجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَمِّمَهَا مِنْ سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْعَمَلِ فِيهَا. وَالثَّانِي: يُتَمِّمُهَا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا ولأن لا يُفَضَّلُوا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادُ رَأْيِهِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ كَانَ مَذْهَبَنَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ تَمَاسُكٌ يُقْنِعُهُمُ الْبَاقِي بَعْدَ أُجُورِ الْعَامِلِينَ تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا ذَوِي فَاقَةٍ لَا يَتَمَاسَكُونَ بِمَا يَبْقَى تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَتُفَضُّ جَمِيعُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا أَصِفُ إن شاء الله تعالى كان الفقراء عشرة والمساكين عشرين والغارمون خمسة وهؤلاء ثلاثة أصناف وكان سهمانهم الثلاثة من جميع المال ثلاثة آلاف فلكل صنف ألف فإن كان الفقراء يغترفون سهمهم كفافا يخرجون به من حد الفقر إلى أدنى الغنى أعطوه وإن كان يخرجهم من حد الفقر إلى أدنى الغنى أقل وقف الوالي ما بقي منه ثم يقسم على المساكين سهمهم هكذا وعلى الغارمين سهمهم هكذا وإذا خرجوا من اسم الفقر والمسكنة فصاروا إلى أدنى اسم الغنى ومن الغرم فبرئت ذممهم وصاروا غير غارمين فليسوا من أهله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَقْسُومٌ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ كَمَلُوا قُسِمَتْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنْ قَلُّوا قُسِمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَوْجُودُونَ بَعْدَ الْعَامِلِينَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ الْفُقَرَاءُ وَالْغَارِمُونَ وَالْمَسَاكِينُ، قُسِمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ سَوَاءً تَسَاوَى أَصْنَافٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْحَاجَةِ أَوْ تَفَاضَلُوا فَإِذَا كَانَ الْفُقَرَاءُ عَلَى الْمَثَلِ الَّذِي صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ عَشْرَةً وَالْمَسَاكِينُ عِشْرِينَ، وَالْغَارِمُونَ خَمْسَةً، وَقَدْ قُسِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَكَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ قُسِّمَ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَفَاضَلَتْ حَاجَاتُهُمْ، وَرُبَّمَا تَسَاوَتْ، فَيُقَسَّمُ عَلَى الْحَاجَةِ لَا عَلَى الْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْغَارِمِينَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، كَمَا يُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قدر ديونهم لا على أعداد رؤوسهم. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمْ يَبْدَأُ بِالْعَطَاءِ قَبْلَ أَنْ يُعَجِّلَ حُضُورُ أَحَدِهِمْ، وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ بَدَأَ بِمَنْ تَعَجَّلَ حُضُورُهُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا، فَقَدْ قِيلَ: يَبْدَأُ بِأَشَدِّهِمْ حَاجَةً وَأَمَسِّهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 ضَرُورَةً، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ إِذَا فِيضَ عَلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِتُقْضَى عَلَى الْبَاقِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ قِسْمَتِهَا مِنْهُ. وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِيهَا، فَأَمَّا الصِّنْفُ فَيَبْدَأُ بِأَسْبَقِ أَهْلِهِ، فَإِنْ جاؤوا مَعًا بَدَأَ بِأَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَضَرُورَةً، فَإِنْ تَسَاوَوْا بَدَأَ بِمَنْ يَرَى، هَذَا كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِأَيِّهِمْ بَدَأَ مِنَ الْأَصْنَافِ وَالْأَعْيَانِ جَازَ ثُمَّ يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَشَرَةٌ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عِشْرُونَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، ويقسم سهم الغارمين هو أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ ودين الآخر مائتي درهم، ودين الثالث ثلثمائة دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الرَّابِعِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الْخَامِسِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ دَيْنِهِمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةٍ، وَسَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ثُلُثَا دَيْنِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ دَيْنِهِ ثُلُثَهُ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَكَانَ كَافِيًا لِجَمِيعِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ دَيْنِهِ وَحُبِسَ الْبَاقِي عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. فَصْلٌ: فَإِذَا قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا وَخَرَجُوا بِهَا، إِنِ اسْتَحَقُّوا مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا قَسَّمَهَا فِيهِمْ كَانَ مِنَ الْبَاقِي مِنْ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فِيمَا يَأْتِي مِنْهَا حَتَّى يَسْتَوفُوا قَدْرَ الْكِفَايَاتِ إِنْ أَمْكَنَتْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا أَخَذُوا مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ نُقِلَ الْفَاضِلُ عَنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضٍ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ عَلَى أَهْلِهِ خَرَجُوا بِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَإِذَا قَسَّمَ الْمُقَصِّرُ عَلَى أَهْلِهِ كَانُوا فِي الْبَاقِي مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ نَاقِصَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا فَضَّ النَّاقِصَ عَلَى أَهْلِهِ، وَحَبَسَ مِنَ الزَّائِدِ مَا فَضَلَ عَنْ وَفْقِ الْكِفَايَةِ فَفِي مَصْرِفِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَرُدُّ الْفَضْلَ إِلَى أَهْلِ السِّهَامِ الْمُقَصِّرَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَكَانِ أَنْ لَا نَنْقُلَ صَدَقَةً إِلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُسْتَحِقُّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَنْقُلَ الْفَضْلَ عَنِ السِّهَامِ الزِّائِدَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَصْنَافِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ وَلَا تُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَعْيَانِ أَنْ لَا يُفَضَّلَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ وَحَبَسَ الْفَضْلَ الزَّائِدَ عَنْ أَهْلِهِ نُقِلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ إِذَا نَقَلَهَا فَهَلْ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ تَكُونُ كَالصَّدَقَةِ الْمُبْتَدَأَةِ تُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ عَلَى وجهين بناء على الوجهين الماضيين: أحدها: أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاضِلَ يُقَسَّمُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ فِيمَا يُعْطَى الْفَقِيرُ إِلَّا مَا يخرجه من حد الفقر إلى الغنا قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهُ يَوْمَ يُعْطَاهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا وَلَا مَالَ لَهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفَقِيرًا بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَلَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِقَدْرِ حَالِ الرِّجَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْفَقْرِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِأَدْنَى الْغِنَى وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَدْنَى الْغِنَى عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ أَدْنَى الْغِنَى خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة: إِنَّ أَدْنَى الْغِنَى نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُحِلُّ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا يُعْطَى مِنْهَا نِصَابًا، فَإِذَا مَلَكَ مَالًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ عَقَارٍ وَرَقِيقٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا أَوْ أَمَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ نِصَابٍ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغِنَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِمَّا بِضَاعَةً أَوْ تِجَارَةً أَوْ زِرَاعَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: صُنَّاعٌ، وتجار، وأصحاب عقار، وأصحاب مواشي. فَأَمَّا الصُّنَّاعُ فَكَالْفَلَّاحِينَ وَالْمَلَّاحِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْبَنَّائِينَ، فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 يَمْلِكْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ كِفَايَتِهِ. وأما التجار فهم الذي يَسْتَمِدُّونَ أَرْبَاحَ بَضَائِعِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ تُرْبِحُهُ غَالِبًا قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُرْبِحُهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى بِضَاعَتِهِ رَبِحَ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْبَقْلِيُّ يَكْتَفِي بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ والْبَاقِلَّانِيُّ بِعَشَرَةٍ وَالْفَاكِهَانِيُّ بِعِشْرِينَ وَالْخَبَّازُ بِخَمْسِينَ وَالْبَقَّالُ بِمِائَةٍ وَالْعَطَّارُ بِأَلْفٍ وَالْبَزَّازُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالصَّيْرَفِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَالْجَوْهَرِيُّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا بِضَاعَتَهُ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ بِضَاعَتِهِ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَتَّى إِنَّ الْبَقْلِيَّ إِذَا مَلَكَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ هِيَ كِفَايَتُهُ كَانَ غَنِيًّا وَالْجَوْهَرِيَّ إِذَا مَلَكَ تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ هِيَ دُونَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَصْحَابِ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي إِنْ كَانَ يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشْتَرِي بِهِ مِنَ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى مَالِهِ اكْتَفَى بِغَلَّتِهِ عَلَى الدَّوَامِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا أَوْ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا ". وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ قَالُوا؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنِصَابٍ مِنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ عَلَى الدَّوَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرُوا كِفَايَةَ زَمَانِ الْمُقَدَّرِ أَوْ كِفَايَةَ الْعُمُرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَمَّا الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فَلَسْتُمْ فِي اعْتِبَارِهِ بِسَنَتِهِ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْأَلُهُ فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ ال ْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حتى يؤدها ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ حَتَّى تَكَلَّمَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ بِهِ حَاجَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ. فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ بِالْحَاجَةِ وَتَحْرُمُ بِإِصَابَةِ الْقَوَامِ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّصَابُ، وَلِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْغِنَى كَالَّذِي لَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ وَالْحَاجَةَ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَجَازَ اجْتِمَاعُ حُكْمِهِمَا، وَهُمَا أَخَذُ الصَّدَقَةِ مِنْهُ بِالنِّصَابِ وَدَفْعُهَا إِلَيْهِ بِالْحَاجَةِ كَالْعُشْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ قِيمَةِ النِّصَابِ مِنَ الْمَتَاعِ وَالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ مِلْكُ النِّصَابِ مَانِعًا مِنْهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ ذُو حَاجَةٍ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى نِصَابٍ كَمَالِكِ الْمَتَاعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَحْدِيدَ الْغِنَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ كَانَتْ كِفَايَتُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ " يَعْنِي لِمَنْ كَانَ مُكْتَفِيًا بِهَا. وَرَوَى سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ النَّارِ " قِيلَ: وَمَا يُغْنِيهِ، قَالَ: قدر ما يغذيه ويعشيه وهذا فِيمَنْ يَكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ عَشَائِهِ وَغَذَائِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَيْسَ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ كَالْعَامِلِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَكَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْعُشْرُ عِنْدَنَا زَكَاةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْكِفَايَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْكِفَايَةِ لَا يَمْلِكُ النِّصَابَ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعُمُرِ أَوْ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في ذلك، فكان مذهب أبو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ سَنَةٌ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بعد سنة، فاعتبر في مستحقها لكافية السَّنَةِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ وَلَئِنْ كَانَ الْعُمُرُ مَجْهُولًا فَالْكِفَايَةُ فِيهِ لَا تُجْهَلُ؛ لِأَنَّ كِفَايَةَ الشهر من أجل معينا أَوْ صَنْعَةٍ تَدُلُّ عَلَى كِفَايَةِ الْعُمُرِ وَإِنْ جُهِلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَمْرَضُ فَيَعْجِزُ عَنِ الكسب أو يغلا السِّعْرُ فَلَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ. قِيلَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَارَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ النِّصَابَ فيصير من أهل الصدقة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَأْخُذُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا بِقَدْرِ أُجُورِهِمْ فِي مِثْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 كِفَايَتِهِمْ وَقِيَامِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِمْ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيُعْطِي الْعَرِيفَ وَمَنْ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكُلْفَتِهِ وَذَلِكَ خَفِيفٌ لِأَنَّهُ فِي بِلَادِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيُبَيِّنَ قَدْرَ مَا يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، فَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْهَا صَدَقَةً. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ أُجْرَةٌ وَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مَعَ الْغِنَى وَلَوْ كَانَتْ صَدَقَةً حَرُمَتْ عِنْدَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ عَنِ الصَّدَقَةِ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ الْمُتَمَلِّكِينَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْعَمَلِ عَلَيْهَا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْأُجْرَةِ مَا مَنَعَهُمْ مِنْهَا، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ صَدَقَةً إِذَا كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مُسْتَأْجَرِينَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِيهِ مِنَ الْأُجْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أُجُورِ أَمْثَالِهِمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ أَنْ يُسَمَّى لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَأْجَرِينَ، بِعَقْدٍ كَانَ لَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَمَلَهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا وَقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَمَانَاتُهُمْ " لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْأَمَانَةِ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْأَمَانَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا غَيْرُ أَمِينٍ، وَمِنَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الْعَرِيفُ وَالْحَاشِرُ وَالْحَاسِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْعَدَّادُ فَأَمَّا الْعَرِيفُ: فَعَرِيفَانِ: عَرِيفٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَعَرِيفٌ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ. فَأَمَّا الْعَرِيفُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ أَمْوَالَهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ الْمَالِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِجَمِيعِهَا وَبِأَرْبَابِهَا. وَأَمَّا عَرِيفُ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَبَاطِنِهَا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَأُجْرَتُهُمَا أَقَلُّ لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَطْعِ مَسَافَةٍ لِكَوْنِهِمَا مِنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ لَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَاشِرُ فَحَاشِرَانِ: حَاشِرٌ لَأَهِلِ السُّهْمَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّدَاءِ فِي النَّاحِيَةِ بِاجْتِمَاعِهِمْ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا أَقَلُّهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَقَلَّهُمْ تَحَمُّلًا. وَالثَّانِي: حَاشِرُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَوَاشِيَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا فَاحْتَاجَ إِلَى حَاشِرٍ يَحْشُرُهَا إِلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا، وَهَذَا أَكْثَرُهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَكْثَرَهُمَا عَمَلًا، وَكِلَاهُمَا أُجْرَتُهُمَا فِي سهم العاملين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 فَأَمَّا الْحَاسِبُ فَهُوَ الَّذِي يَحْسِبُ النُّصُبَ، وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهَا وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ، وَأُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، فَإِنْ كَانَ كَاتِبًا كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَاتِبًا وَكَانَ الْعَامِلُ يَكْتُبُ وَإِلَّا احْتَاجَ إِلَى كَاتِبٍ يَكْتُبُ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَنْ كُلِّ مَالِكٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَدْرُ مَالِهِ وَمَبْلَغُ صَدَقَتِهِ، وَمَا أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِإِثْبَاتِ أَسْهُمِ كُلِّ وَاحِدٍ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ وَقَدْرِ عَطِيَّتِهِ، وَكَتَبَ بَرَاءَةً لِرَبِّ الْمَالِ بِأَدَاءِ صَدَقَتِهِ، وَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. وَأَمَّا الْعَدَّادُ فَهُوَ الَّذِي يَعُدُّ مَوَاشِيَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. وَأَمَّا الْكَيَّالُ: فَكَيَّالُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَكَيَّالٌ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَأَمَّا كَيَّالُ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَأَمَّا الْكَيَّالُ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالثَّانِي: مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْعَامِلُ إِلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْوَانِ فَيَكُونُ أُجُورُ مَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عَمَلِهِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَقْسَامِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يُتَآلَفُ بِهِ قَلْبُهُ فَيُقْلِعُ عن سيء الِاعْتِقَادِ فَإِذَا صَحَّ اعْتِقَادُهُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا أُعْطِيَ مُنِعَ لِئَلَّا يَكُونَ سَهْمُهُمْ مَصْرُوفًا فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَإِنْ أَثَّرَ تَأْثِيرًا لَمْ يُسْتَكْمَلْ مَعَهُ حُسْنُ الِاعْتِقَادِ أُعْطِيَ مِنْ بَعْدُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حُسْنَ إِسْلَامِهِ وَصِحَّةَ اعْتِقَادِهِ. مسألة: قال الشافعي: " وَالْمُكَاتَبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْتَقَ وَإِنْ دَفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِسَهْمِ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَطِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ الَّذِي قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ أَنْ يُعْطَى مَا عَلَيْهِ مِنْ بَاقِي نُجُومِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عِتْقَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ: أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ. وَالثَّانِي: يُعْطَى الْجَمِيعَ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُعْطَى مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حلوله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 مسألة: قال الشافعي: " وَيُعْطَى الْغَازِي الْحَمُولَةَ وَالسِّلَاحَ وَالنَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَالُ زِيدُوا الْخَيْلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غزاة الصدقات فَلَهُمْ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْهَا وَمَا يُعْطَوْنَهُ مِنْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُؤْنَةِ غَزْوِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فِي بَلَدِهِمْ أُعْطُوا النَّفَقَةَ وَالسِّلَاحَ وَالْحَمُولَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُمِ وَرِحَالَهُمْ، إِمَّا فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ظَهْرٍ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا فُرْسَانًا أَوْ رَجَّالَةً فَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا أُعْطَوْا نَفَقَاتِ خَيْلِهِمْ ومُؤْنَتِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ وَعَوْدَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا خَيْلَ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا رَجَّالَةً عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُعْطَوُا الْخَيْلَ، وَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فُرْسَانًا أُعْطُوا الْخَيْلَ إِذَا عَدِمُوهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَلَيْسَ فِيهَا خَيْلٌ وَلَا سِلَاحٌ. قُلْنَا: لَا يَخْلُو دَافِعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْوَالِيَ فَإِنْ كَانَ دَافِعُهَا رَبَّ الْمَالِ أَعْطَاهُمْ أَثْمَانَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِيَتَوَلَّوْا شِرَاءَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهُ رَبُّ الْمَالِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهَا هُوَ الدَّافِعَ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَثْمَانُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهَا رب الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ لِلْوَالِي عَلَيْهِمْ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهُ لَهُمْ وَإِنْ لم يتوله رب المال. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُعْطَى ابْنُ السَّبِيلِ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ الْبَلَدَ الَّذِي يُرِيدُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَحَمُولَتِهِ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا وَكَانَ جَلْدًا الْأَغْلَبُ مِنْ مِثْلِهِ لَوْ كَانَ غَنِيًّا الْمَشْيُ إِلَيْهَا أُعْطِيَ مُؤْنَتَهُ وَنَفَقَتَهُ بِلَا حَمُولَةٍ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَرْجِعَ أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ مِنَ النَّفَقَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي يُعْطَاهُ ابْنُ السَّبِيلِ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِ وَذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ نَفَقَةٍ وَمَؤُونَةٍ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فِي سَفَرِهِ لَمِ يُزَدْ عَلَى مَؤُونَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي بَحْرٍ لَا يَجِدُ مِنَ الرُّكُوبِ بُدًّا أُعْطِيَ مَعَ النَّفَقَةِ كِرَاءَ مَرْكُوبِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَةَ أُعْطِيَ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَالْعَوْدَةِ وَنَفَقَةَ مُقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ مُدَّةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا أَقْنَعَ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَأْتِي عَلَى السَّهْمِ كُلِّهِ أُعْطِيَهُ كُلَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ سَبِيلٍ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى سَهْمٍ، سَهْمٌ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ لَمْ يُزَدْ عَلَيْهِ ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً وَهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُونَ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ سَوَاءً كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ هُوَ الْوَالِي أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ أُعْطَوْهُ فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْطِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ فَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ قَسَّمَهُ عَلَى خِيَارِهِ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلَ قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَوُكِلُوا فِي بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الْعَامِلَ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ثُلُثَ سَهْمِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ لَا تَلْزَمُ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ الزِّيَادَةِ، وَفِيمَا يُصْنَعُ بِالْفَاضِلِ مِنْ سَهْمِهِمْ وَجْهَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ. وَالثَّانِي: يُنْقَلُ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ وَفْقًا لِكِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا يَجُوزَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنِ اقْتَصَرَ الْمُعْطِي عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَرَمَ الْبَاقِينَ ضَمِنَ لِمَنْ حَرَمَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءً كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ يَقْضِي عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ ثُمُنُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: الثُّلُثُ. وَالثَّانِي: قَدْرُ الْأَجْزَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي الْوَالِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ هُوَ بَعْضُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَمَا يُعْطِيهِ الْوَالِي هُوَ جَمِيعُ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهَذَا قِسْمٌ ثَانٍ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُ وَجَدَ وَاحِدًا لَمْ يَرَ سِوَاهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَيُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَفِيمَنْ يُنْقَلُ إِلَيْهِ الْفَاضِلُ مِنْهُ الْوَجْهَانَ الْمَاضِيَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ. وَالثَّانِي: إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ كُلُّهُ بِقَدْرِ كِفَايَةِ هَذَا الْوَاحِدِ، فَفِي جَوَازِ دَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ السَّهْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الصِّنْفِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ السَّهْمِ إِلَّا ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ لِجَمْعٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَيُنْقَلُ بَاقِي السَّهْمِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يعاد على باقي الأصناف. مسألة: قال الشافعي: " ويقسم لِلْعَامِلِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ وَابْنِ السَّبِيلِ بِمَعْنَى الْبَلَاغِ لِأَنِّي لَوْ أَعْطَيْتُ الْعَامِلَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْغَازِيَ بالاسم لم يسقط عن العامل اسم العامل ما لم يعزل ولا عن ابن السبيل اسم ابن السبيل ما دام مجتازا أو يريد الاجتياز ولا عن الغازي ما كان على الشخوص للغزو ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ تَمْيِيزُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَأَنَّهُمْ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُعْطَى بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: مَنْ يُعْطَى لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ، لَا يُرَاعِي زَوَالَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُمْ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ. الْفُقَرَاءُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولُ عَنْهُمُ اسْمُ الْفَقْرِ وَالْمَسَاكِينُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يُعْتَقُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْكِتَابَةِ، وَالْغَارِمُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَقْضُوا دُيُونَهُمْ، فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْغُرْمِ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ وَلَا يُرَاعَى زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ. الْعَامِلُونَ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ عُمَّالًا. وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ مُؤَلَّفَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 وَالْغُزَاةُ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ غُزَاةً، وَبَنُو السَّبِيلِ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِمْ زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُمْ كَمَا يُرَاعَى فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَأَيُّ السُّهْمَانِ فَضَلَ عَنْ أَهْلِهِ رُدَّ عَلَى عدد من عدد من بقّى السُّهْمَانِ كَأَنْ بَقَّى فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ لَمْ يَسْتَغْنُوا وغارمون لم تقض كل دُيُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَإِنِ اسْتَغْنَى الْغَارِمُونَ رُدَّ بَاقِي سَهْمِهِمْ عَلَى هذين السهمين نصفين حتى تنفد السهمان وإنما رد ذلك لأن الله تعالى لما جعل هذا المال لا مالك له من الآدميين بعينه يرد إليه كما ترد عطايا الآدميين ووصاياهم لو أوصي بها لرجل فمات الموصى له قبل الموصي كانت وصيته راجعة إلى ورثة الموصي فلما كان هذا المال مخالفا المال يورث هَهنا لم يكن أحد أولى به عندنا في قسم الله تعالى وأقرب ممن سمى الله تعالى له هذا المال وهؤلاء من جملة من سمى الله تعالى له هذا المال ولم يبق مسلم محتاج إلا وله حق سواه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ فَكَانَتْ سِهَامُ بَعْضِ الْأَصْنَافِ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، وَسِهَامُ الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، لَمْ يُعْطَ الْمُكْتَفُونَ بِبَعْضِ سِهَامِهِمْ إِلَّا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْهُمُ الْفَاضِلُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ: أَنْ يُرَدَّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ قَصَرَتْ سِهَامُهُمْ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُ مِنَ الْمِثَالِ فِي الْقِسْمَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَلُ الْفَاضِلُ مِنْ تِلْكَ السِّهَامِ إِلَى أَهْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ، ولا يرد على باقي الأصناف لأن لا يفاضل بين الأصناف مع تسوية الله تعال بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ بِالصَّدَقَةِ عَنْ جِيرَانِ الْمَالِ مَا وُجِدُوا، وَفِي هَذَا عُدُولٌ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ وَجَبَ رَدُّ سَهْمِهِ عَلَى مَنْ وُجِدَ وَلَا يُنْقَلُ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ عَنْ كِفَايَةِ الْمَوْجُودِينَ يُرَدُّ عَلَى مَنِ احْتَاجَ وَلَا يُنْقَلُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَتْ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا رُدَّتْ عَلَى مَنْ بَقِيَ وَلَمْ تُرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ كَانَتِ الصدقة بمثابتها، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " أَمَّا أَهْلُ الْفَيْءِ فَلَا يَدْخُلُونَ عَلَى أَهْلِ الصدقة وأما أهل الصدقة الأخرى فَهُوَ مَقْسُومٌ لَهُمْ صَدَقَتُهُمْ فَلَوْ كَثُرَتْ لَمْ يدخل عليهم غيرهم وواحد مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّهَا فَكَمَا كَانُوا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْئًا ". قال الماوردي: وهذا كمال قَالَ وَهِيَ جُمْلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 أَحَدُهُمَا: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ. وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. فَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْنَا لِمَنْ قَالَ: الْفَيْءُ لِأَهْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ، وأما الصدقة لأهلها، لا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَهْلُ الْفَيْءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْكَلَامِ فِيهِ. وَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ مُعْطِيهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُعْطِيَ تَمَيَّزُوا بِالْجِوَارِ فَإِذَا أَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ لِأَهْلِهَا مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنِ اكْتَفَوْا بِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةِ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكْتَفُوا جَازَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدْ يَتَجَاوَرُونَ فَيَكُونُ فِي جِيرَانِ جَمِيعِهِمْ أَهْلًا لِصَدَقَاتِهِمْ كُلِّهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُعْطِيَ فَأَهْلُ عَمَلِهِ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ الَّتِي يَجْبِيهَا، فَإِذَا فَرَّقَهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا، مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً اكْتَفَوْا بِمَا قَدْ أَخَذُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لا حق لهم في صدقة ليس مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " فَكَمَا لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ "، وَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا فَضَلَتْ عَنْ كِفَايَةِ بَعْضِهِمْ فَاحْتَاجَ إِلَيْهَا الْبَاقُونَ أَنَّهَا لَا تُنْقَلُ عَنْهُمْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فِي صَدَقَةٍ أُخْرَى لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فِي الْفَاضِلِ مِنْ صَدَقَاتِ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْطِيهِ الْعَامِلُ وَبَيْنَ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُعْطِي بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَالْعَامِلُ يُعْطِي جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وإن اسْتَغْنَى أَهْلُ عَمَلٍ بِبَعْضِ مَا قُسِمَ لَهُمْ وَفَضَلَ عَنْهُمْ فَضْلٌ رَأَيْتُ أَنْ يُنْقَلَ الْفَضْلُ مِنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْجِوَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَغْنَى أَهْلُ نَاحِيَةٍ بِبَعْضِ صَدَقَاتِهِمْ وَجَبَ نَقْلُ فَاضِلِهَا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَضَلَ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِمْ أَحَقَّ بها مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَوْ قَرُبَ مِنْهُمْ بُلْدَانٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآخَرِ كَانَ أَقْرَبُ الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَبْعَدِهِمَا سَوَاءً كَانَ الْأَقْرَبُ مِصْرًا أَوْ قَرْيَةً، وَإِنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءً نُظِرَ فِي الْعَامِلِ فِي الصَّدَقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ رَبِّ الْمَالِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي إِخْرَاجِهَا فِي أَيِّ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْوَالِي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي الْبَلَدَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَعُمَّ وَلَيْسَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعُمَّ، وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِمْ قَرْيَةً وَبَادِيَةً اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَانَا كَالْبَلَدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُرْبِ وَسَوَاءً كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي جِهَتَيْنِ مِنْ عَمَلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ عَمَلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَلَدَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ هَذَا الْعَامِلِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَتِهِ فَيَكُونُ الْبَلَدُ الَّذِي هُوَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْلَى بِنَقْلِ هَذَا الْفَاضِلِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ليس فيه ولايته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ ضَاقَتِ السُّهْمَانُ قُسِّمَتْ عَلَى الْجِوَارِ دُونَ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ إِنْ خَالَطَهُمْ عَجَمٌ غَيْرُهُمْ فَهُمْ معهم في القسم على الجوار فإن كانوا أهل بادية عند النجعة يتفرقون مرة ويختلطون أخرى فأحب إلي لو قسمها على النسب إذا استوت الحالات وإذا اختلفت الحالات فالجوار أولى من النسب وإن قال من تصدق إن لنا فقراء على غير هذا الماء وهم كما وصفت يختلطون في النجعة قسم بين الغائب والحاضر ولو كانوا بالطرف من باديتهم فكانوا ألزم له قسم بينهم وكان كالدار لهم وهذا إذا كانوا معا أهل نجعة لا دار لهم يقرون بها فأما إن كانت لهم دار يكونون لها ألزم فإني أقسمها على الجوار بالدار (وقال في الجديد) إذا استوى في القرب أهل نسبهم وعدى قسمت على أهل نسبهم دون العدى وإن كان العدى أقرب منهم دارا وكان أهل نسبهم منهم على سفر تقصر فيه الصلاة قسمت على العدى إذا كانت دون ما تقصر فيه الصلاة لأنهم أولى باسم حضرتهم وإن كان أهل نسبهم دون ما تقصر فيه الصلاة والعدى أقرب منهم قسمت على أهل نسبهم لأنهم بالبادية غير خارجين من اسم الجوار وكذلك هم في المنعة حاضرو المسجد الحرام ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الصَّدَقَةَ إِنْ قَسَّمَهَا الْعَامِلُ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ حَتَّى يقسمها على جميعهم وإن قسهما رَبُّ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ إِلَّا أَنْ تَتَّسِعَ صَدَقَتُهُ لِجَمِيعِهِمْ فَيَلْزَمُهُ مَعَ الِاتِّسَاعِ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي الْجَمِيعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ. والمقدمة الثانية: أن ينقل الصَّدَقَةِ عَنْ مَكَانِهَا لَا يَجُوزُ إِذَا وُجِدَ فِيهِ أَهْلُهَا، وَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا، وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ. فَإِنْ عُدِمَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِي مَكَانِهِمَا نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانَ الْمُقَدِّمَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَسْمُ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْعَامِلُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ أَوْ بَوَادٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَ صَدَقَةَ كُلِّ مِصْرٍ فِي أَهْلِهِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ مَنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ بُنْيَانُهُ وَأَحَاطَ بِهِمْ سُورُهُ، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ سُورِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِبُنْيَانِهِ فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي زَكَاةِ ذَلِكَ الْمِصْرِ حَقٌّ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ عَلَى سَفَرٍ يُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 أحدهما: أنهم مستحقون لصدقات المصر وهم كسكانه فِي أَنَّ الْخَارِجَ إِلَيْهِمْ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا يستبيح المصر. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي صَدَقَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى بلد من ليس فيه والذي أراه مذهب وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْخَارِجِ عَنِ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُهُ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَانَ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا كَانَ مضافا إليهم في وجوب الجمعة عليهم فِي مِصْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ الْمِصْرِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ فِي مِصْرِهِمْ، وَهَذَا حُكْمُ صَدَقَاتِ الْأَمْصَارِ إِذَا قَسَّمَهَا الْعَامِلُ فِي أَهْلِهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ قَاطِنًا فِي الْمِصْرِ أَوْ طَارِئًا إِلَيْهِ، وَأَقَارِبُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَجَانِبُ؛ لِأَنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ فِي قِسْمَةِ الْعَامِلِ وَاجِبٌ. فَصْلٌ: [صَدَقَاتُ الْبَادِيَةِ] وَإِنْ كَانَ مَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ صَدَقَاتِ بَادِيَةٍ لَا تَضُمُّهُمْ أَمْصَارٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِمَكَانٍ قَدِ اسْتَوْطَنُوهُ مِنْ بَادِيَتِهِمْ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا ولا ينقلون عنه لمرعى ولا كلاء، فَهَؤُلَاءِ كَأَهْلِ الْمِصْرِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمُقَامِ، وَإِنِ اختلفوا في صفات المساكن فَتَكُونُ صَدَقَاتُهُمْ مَقْسُومَةً فِيمَنْ كَانَ نَازِلًا مَعَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَهَلْ يُشْرِكُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْ لَا عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكونوا ممن ينتجع الْكَلَأَ، وَيَنْتَقِلُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ لَا يَنْفَصِلُ حَالُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ جِيرَانٌ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ أَنْسَابُهُمْ فَتُقَسَّمُ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِمْ وَفِيمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّ الْبَادِيَةَ لَمَّا لَمْ تَضُمَّهُمُ الْأَمْصَارُ رُوعِيَ فِي تَجَاوُرِهِمُ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ جَارًا لِقُرْبِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَكُنْ جَارًا لِبُعْدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ حَالُهُمْ وَتَنْفَصِلَ كل حلة عن الأخرى، فتقسم زكاة كل حلة عن الأخرى فتقسم زكاة كل حلة عَلَى أَهْلِهَا، وَعَلَى مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، هَذَا حُكْمُ الْعَامِلِ إِذَا تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَسْمِ زَكَاتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِهِ فِي تَفْضِيلِ حُكْمِ الْمَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِنَ الْبَوَادِي فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَكُنْ مَنْ خَرَجَ عَنْ مِصْرِهِ مِنْ جِيرَانِهِ، وَلَا مِنْ مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا يقسمه العامل؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 لِأَنَّنَا نُرَاعِي فِيمَا يُقَسِّمُهُ رَبُّ الْمَالِ الْجِوَارَ وَفِيمَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ النَّاحِيَةَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مِصْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا كَانَ جَمِيعُ أَهْلِهِ جِيرَانَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ فِيهِ أَجَانِبَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُمْ أَقَارِبَ لَهُ فَجَمِيعُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقَارِبَ لِرَبِّ الْمَالِ وَبَعْضُهُمْ أَجَانِبَ مِنْهُ كَانَ أَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ " يَعْنِي المعادي، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " فَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنْ أَقَارِبِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقَارِبِ مِنِ طَرِيقِ الْأَوْلَى مَعَ اشْتِرَاكِ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا وَاسِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يراعى فيه الجوار الخاص والجوار الْعَامُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْخَاصُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جِيرَانُهُ مَنْ أُضِيفَ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ الْبَلَدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إلى أربعين دار من داره، ولا يكون جميع أَهْلُ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْعَامُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {والجار ذي القربى والجار الجنب} [النساء: آية 36] يَعْنِي الْبَعِيدَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنْ فَرَّقَهَا فِي غَيْرِ جِيرَانِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَانَ نَاقِلًا لِزَكَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ نَاقِلًا لَهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَدَوِيًّا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ قَاطِنًا بِمَكَانِهَا لَا يَظْعَنُ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَهِيَ كَالْبَلَدِ وَجَمِيعُهَا جِيرَانٌ سَوَاءً صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ وَإِنْ كَبُرَتْ مَبْلَغَ كِبَارِ الْأَمْصَارِ فَيَخُصُّ مِنْهُمْ أَقَارِبَهُ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمْ إلى الأجانب أجزأ، وَلَا يَكُونُ مَنْ فَارَقَ الْحَلَّةَ جَارًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَارٌ لِلْحَلَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنَ الْحَلَّةِ جِيرَانُهُ أَهْلُ الْحَلَّةِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ يَنْجَعُ الْكَلَأَ وَيَظْعَنُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْحَلَّةُ مُجْتَمِعَةً لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَجَمِيعُ أَهْلِهَا جِيرَانُهُ كَبُرَتْ أَمْ صَغُرَتْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَفَرِّقَةً كَتَمَيُّزِ كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَنْسَابِ وَإِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونُ جِيرَانُهُ مِنَ الْحَلَّةِ مَنْ يَرْحَلُ بِرَحِيلِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ وَلَا تَكُونُ الْفِرْقَةُ الَّتِي تُخَالِفُهُ فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ جِيرَانًا لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ جَمِيعَ الْحَلَّةِ مِنَ الْفِرَقِ كُلِّهَا جِيرَانٌ لَهُ اعْتِبَارًا بِاتِّفَاقِهِمْ فِي النُّجْعَةِ، وَإِنْ تَفَرَّقُوا فِي الْبُقْعَةِ كَمَا يَتَفَرَّقُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فِي مَحَالِّهِمْ، وَيَكُونُوا جِيرَةً إِذَا جَمَعَهُمُ الْمِصْرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ جِيرَانَهُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي بُقْعَتِهِ دُونَ مَنْ فَارَقَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَكَانِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنْ عَدَلَ بِزَكَاتِهِ إِلَى غَيْرِ طَائِفَتِهِ مِنْ فِرَقِ الْحَلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَاقِلًا لَهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يكون ناقلا لها. مسألة: قال الشافعي: " وإذا وَلِيَ الرَّجُلُ إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ قَسَّمَهَا عَلَى قَرَابَتِهِ وَجِيرَانِهِ مَعًا فَإِنْ ضَاقَتْ فَآثَرَ قَرَابَتَهُ فَحَسَنٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَقَارِبٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا جِيرَانًا أَوْ أَبَاعِدَ، فَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ جِيرَانًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَجَانِبُ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا زَكَاةَ ماله بالجوار وجاز الْفَضِيلَةَ بِالْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ، فَعَلَى ضربين: أحدهما: أن تسع زَكَاتُهُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فَيَفُضَّهَا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضِيقَ زَكَاتُهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَخْلِطَ بِأَقَارِبِهِ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَوْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَخْلِطَ بِهِمْ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14، 15، 16] فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ جِيرَانُهُ أَجَانِبَ وَأَقَارِبُهُ أَبَاعِدَ فَجِيرَانُهُ الْأَجَانِبُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَارِبُهُ الْأَبَاعِدُ أَوْلَى مِنْ جِيرَانِهِ الأجانب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امْرِئٍ وَذُو رَحِمِهِ مُحْتَاجٌ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّسَبِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ واجتماعهم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 الْجِوَارِ صِفَةٌ زَائِلَةٌ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا وَجَبَتْ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ كَانَ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْجِوَارِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قوله تعالى: {والجار ذي القربى} الْآيَةَ وَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ " أَيْ بِقُرْبِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ الْأَقَارِبُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ تَمَيَّزَ الْجِيرَانُ بِاسْتِحْقَاقِ الزَّكَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جِيرَانُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ زَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ جِيرَانُهُ فِي بَلَدِهِ أَوْلَى بها من أقاربه في غير بلده وتحريره قياسا أن قرب الدار أحق بالزكاة من قرب النسب قياسا على دار الْحَرْبِ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي: عَلَى ذِي الرَّحِمِ الَّذِي يَجِبُ نَفَقَتُهُ، فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ لِلُزُومِ الصِّفَةِ فِي النَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَفَاسِدٌ بِالشُّفْعَةِ حَيْثُ رُوعِيَ فِيهَا الْجِوَارُ دُونَ النَّسَبِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ لِتَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ الْمُحَاسَبُ عليها والمسؤول عَنْهَا وَأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنِ اسْتِنَابَةِ الْوَكِيلِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ الْإِمَامِ لَهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ لَهَا، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ وَالْإِمَامُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا فَدَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفَرُّدِ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا عَلَى قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَكِنَّهَا عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَلَى الْجَدِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ بَاطِنًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى وَتَفَرُّدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعُمُّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى غَيْرِهَا، وَرَبُّ الْمَالِ يَخُصُّ بِهَا بَعْضَهُمْ وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا دَفَعَهَا خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا عَنْهُ، وَلَوْ دَفَعَهَا الْإِمَامُ خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ رَبَّ الْمَالِ أَوْلَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مَعَ عِبَادَاتِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا عَوَّلَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْسَعُ اجْتِهَادًا فِي مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ مِنَ الْإِمَامِ؛ وَلِأَنَّهُ أعرف منه بأقاربه وذوي رحمه. مسألة: قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَنْ يُعْطَى مِنْ أَهْلِ السُّهُمِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 كُلَّ صِنْفِ جَمَاعَةٍ فَإِنْ أَعْطَى اثْنَيْنِ وَهُوَ يجد الثالث ضمن ثلث سهم وإن أخرجه إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه إعادة لأنه أعطى أهله بالاسم وإن ترك الجوار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَسْمَ الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ فِيهَا حَالُ الْعَامِلِ وَحَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يُقَسِّمُهُ أَنْ يَعُمَّ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي كُلِّ صِنْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يُقَسِّمَ سَهْمَ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَاجَةِ وَلَا أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ ذَلِكَ عَلَى خِيَارِهِ مَعَ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي قَدْرِ الْعَطَاءِ كَمَا كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَمَيُّزِ الْعَطَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَامِلُ؛ فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: آية 60] وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَرْقًا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخِلَّ بِصِنْفٍ مِنْهُمْ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ كَالْعَامِلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِيعَابُ كُلِّ صِنْفٍ بِخِلَافِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ زَكَاةٍ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِجَمِيعِ كُلِّ صِنْفٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ اعْتِبَارًا بِالْحَاجَةِ، فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ أَجَزَأَهُ، فَإِنْ قَسَّمَهَا عَلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ وَفِي قَدْرِ مَا ضَمِنَهُ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ ذَلِكَ السَّهْمِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ عِنْدَ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّفْضِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ اعْتِبَارًا بِمَا جُعِلَ مِنَ الْخِيَارِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة: قال الشافعي: وَإِنْ أَعْطَى قَرَابَتَهُ مِنَ السُّهْمَانِ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْبَعِيدِ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مما يعلم من غيرهم وكذلك خاصته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 ومن لا تلزمه نفقته من قرابته ما عدا ولده ووالده ولا يعطى ولد الولد صغيرا ولا كبيرا زمنا ولا أخا ولا جدا ولا جدة زمنين ويعطيهم غير زمنى لأنه لا تلزمه نفقتهم إلا زمنى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَقَارِبَ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْ مَنَاسِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَوْلَى بِزَكَاةِ مَالِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ. فَأَمَّا مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فَهُمُ الْوَالِدُونَ وَالْمَوْلُودُونَ، فَالْوَالِدُونَ الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ. وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَبَنُو الْبَنِينَ وَبَنُو الْبَنَاتِ. وَأَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ فَهُمْ مَنْ عَدَا مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَمَنِ اتَّصَلَ بِهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ. وَقَالَ أبو حنيفة: تَجِبُ نَفَقَةُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ فَإِذَا كَانَ الْأَقَارِبُ مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ كَانُوا أَوْلَى بِالزَّكَاةِ مِنَ الْأَجَانِبِ الْبُعَدَاءِ سَوَاءً كَانَ يَتَطَوَّعُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ تَطَوَّعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ صَارُوا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ كَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ لَهُ قَطْعَ مَا تَطَّوَّعَ بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الصدقة كتطوعه بنفقات الأجانب. فَصْلٌ: وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ مَسَاكِينَ لِأَنَّهُمْ بِوُجُوبِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ قَدْ صَارُوا بِهِ أَغْنِيَاءَ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَفِقًا بِهَا فِي سُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ سَهْمَ الْعَامِلِينَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ سَهْمَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ فَكَانَ عِوَضًا فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْهُ إِنْ كَانُوا فَقُرَاءَ، لِأَنَّهُ تَسْقُطُ نَفَقَاتُهُمْ عَنْهُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ فَصَارَ مُرْتَفِقًا بِهَا. وَإِنْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تَجِبُ عَلَى مُنَاسِبٍ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْغَارِمِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ سَوَاءً كَانُوا مِمَّنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَوْ مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ أدان في المصالح العامة فيعطى مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطَوْنَهُ يَلْزَمُهُمْ صَرْفُ دُيُونِهِمُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ يَرْتَفِقُ بِهَا فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِمْ. وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْغُزَاةِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْرَ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَؤُونَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 حُمُولَتِهِمْ، وَثَمَنِ سِلَاحِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَنَفَقَاتِ خَيْلِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَلَا يُعْطِيهِمْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُرْتَفِقًا بِسُقُوطِهَا عَنْهُ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ بَنِي السَّبِيلِ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ كِرَاءَ مَسِيرِهِمْ وَلَمْ يُعْطِهِمْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُرْتَفِقًا بِهَا فِي سُقُوطِهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِمْ وَلَا يُقِرُّهُمْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُمْ فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهَا مَا اخْتَصَّ بِالسَّفَرِ وَالْغَزْوِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة: قال الشافعي: " ولا يعطي زوجته لأن نفقتها تلزمه فإن ادّانوا أعطاهم من سهم الغارمين وكذلك من سهم ابن السبيل لأنه لا يلزمه قضاء الدين عنهم ولا حملهم إلى بلد أرادوه فلا يكونون أغنياء عن هذا به كما كانوا به أغنياء عن الفقر والمسكنة ". قال الماوردي: قد مضى الكلام في الْأَقَارِبِ الْمُنَاسِبِينَ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً أَوْ مُسَافِرَةً فَإِنْ كَانَتْ مُقِيمَةً لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطِيعَةً أَوْ نَاشِزَةً فَإِنْ كَانَتْ مُطِيعَةً تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهَا غَنِيَّةٌ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَاشِزَةً لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا وَسَقَطَتْ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَمَّا إِعْطَاءُ الزَّوْجَةِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ فَلَيْسَتْ مِمَّنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ فَيُعْطَاهُ. وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ هُمُ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ، وَلَوْ قِيلَ: يُعْطَى لَكَانَ مَذْهَبًا لِأَنَّ مَا يُقْصَدُ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الرَّجُلِ وَتَرْغِيبِ قَوْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ مَوْجُودٌ فِي الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً أَوْ غَارِمَةً جَازَ أَنْ تُعْطَى مِنْ سَهْمِ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ دَيْنِهَا وَأَدَاءُ كِتَابَتِهَا، وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَاهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَأَمَّا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ سَفَرِهَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ تُسَافِرَ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِهَا فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَا يُعْطِيهَا مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ حُمُولَتِهَا تَلْزَمُهُ لِأَجْلِ إِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِكَوْنِهَا مَعَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ حُمُولَتُهَا لِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ كَرَاءَ حُمُولَتِهَا؛ لِأَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِكَوْنِهَا نَاشِزَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِخِلَافِ الْمُقِيمَةِ النَّاشِزَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقِيمَةَ إِذَا نَشَزَتْ قَدَرَتْ عَلَى النَّفَقَةِ بِتَعْجِيلِ الْمُطَاوَعَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا بِإِذْنِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَخْتَصُّ بِزَوْجِهَا فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَحُمُولَتُهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُخْتَصُّ بِهَا فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِغِنَاهَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِأَنَّ حُمُولَتَهَا لَا تَلْزَمُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقِهِ فَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا لِكَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ حَامِلًا فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِحَظْرِ السَّفَرِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تجب نفقتها لكونها حائلا في طلاق بَائِنٌ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ وطئه بشبهة فإن كانت حائلا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ لِحَظْرِ السَّفَرِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يُعْطِيهَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ نَفَقَتُهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَيَجُوزُ لَهَا دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى زَوْجِهَا مِنَ السِّهَامِ كُلِّهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَمَنْعُ زَكَاةِ صَاحِبِهِ كَالزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ. وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ لَا يَسْقُطُ بِالْحَجْبِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ كَالْأَبِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ تَرْتَفِقُ بِدَفْعِ زَكَاتِهَا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِهَا فَتَلْزَمُهُ لَهَا نَفَقَةُ مُوسِرٍ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى الْوَلَدِ مِنَ الْفَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهُ التَّطَوُّعُ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يكون أولاده من غيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 والثاني: وَهُوَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّ أَوْلَادَهُ وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَالِغِينَ أَصِحَّاءَ فَسَقَطَتْ نَفَقَاتُهُمْ، وَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَسَبٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ فَلَمْ تَحْرُمْ بِهِ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَعَ الزَّوْجَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي اسْتِبَاحَةِ الصَّدَقَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى زَوْجَتِهِ فَهُوَ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَلْزَمُهُ فَمُنِعَتْ مِنْ صَدَقَتِهِ وَنَفَقَتُهُ لَا تَلْزَمُهَا فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ صَدَقَتِهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْأَبِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْحَجْبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَبَ تَمَيَّزَ بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فَيُمْنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا قَدْ تَرْتَفِقُ بِدَفْعِ زَكَاتِهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَرْتَفِقُ بِالدَّفْعِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِقُ بِمَا قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنَ الْيَسَارِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الزَّكَاةِ كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى غَرِيمٍ لَهُ فَأَخَذَهَا مِنْ بَعْدِ قَبْضِهَا مِنْ دَيْنِهِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِفْقًا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ جُعِلَ لَهُمُ الْخُمُسُ عِوَضًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفرُوضَاتِ وَإِنْ كَانُوا محتاجين وغارمين وهم أهل الشعب وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولا تحرم عليهم صدقة التطوع وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقلت له أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة، وقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الهدية من صدقة تصدق بها على بريرة وذلك أنها من بريرة تطوع لا صدقة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي صَدَقَتَيِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَتَانِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّطَوُّعِ. فَأَمَّا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ فَهُوَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَدْرِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ. رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ". وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَدَ تَمْرَةً وَقَالَ: " لَوْلَا أَخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لِأَكَلْتُهَا ". وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَبَقًا مِنْ رُطَبٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا "؟ قَالَ: صَدَقَةٌ، قَالَ: " إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " فَحَمَلَ إِلَيْهِ طَبَقًا آخَرَ فَقَالَ: " مَا هَذَا "؟ قَالَ: هَدِيَّةٌ، قَالَ: إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عليها ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ صَدَقَةِ الْفَرْضِ تَحْرِيمًا، وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا تَحْرِيمًا كَالْفَرْضِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من لحم تصدق به على بريرة وقال: هو لها صدقة لنا وهدية، وَصَدَقَاتُ اللُّحُومِ بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ مِنْ ضَحَايَا تَطَوُّعٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا تَنْزِيهًا لَا تَحْرِيمًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسَاجِدِ وَهِيَ صَدَقَاتٌ وَيَشْرَبُ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ بِالْمَدِينَةِ وَبِئْرِ زَمْزَمَ بِمَكَّةَ وَهُمَا صَدَقَتَانِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا كَانَ مِنْ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مَسْأَلَةً عَلَى الْكَافَّةِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مِثْلَ صَلَاتِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَشُرْبِهِ مِنَ الْآبَارِ. وَالَّذِي أَرَاهُ عِنْدِي أَصَحَّ، أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَمْوَالًا مُقَوَّمَةً كَانَتْ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةً وَمَا لَمْ تَكُنْ أَمْوَالًا مُقَوَّمَةً كَانَتْ لَهُ مُبَاحَةً، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَشُرْبُهُ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ وَزَمْزَمَ، وَلَوْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمُسَيَّلَةُ ثِمَارًا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هريرة تحل له. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ - الْفَرْضُ دُونَ التَّطَوُّعِ - فَهُمْ آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أخذ تمرة من تمرة الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ فِيهِ بِلِعَابِهَا وَقَالَ كِخْ كِخْ، وَقَالَ: " إِنَّا آَلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ". وَسَأَلَهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ عِمَالَةَ الصَّدَقَاتِ فَغَضِبَ وَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ ". فَدَلَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفَرْضِ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَحَلَالٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ شَرِبَ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْكُمِ الصَّدَقَاتُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُمْ مَالًا وَاحِدًا عَنْ مَالٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ دُونَ التَّطَوُّعِ فَهُمْ ذُو الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى آَلِ العباس وآل حمزة وآل الحارث بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلَى آلِ عَلِيٍّ وَآلِ جَعْفَرٍ وَالْفَضْلِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَى آلِ أَبِي لَهَبٍ وَلَا عَلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا عَلَى جَمِيعِ بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 مُنِعَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ جَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَكَذَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ حَرَامٌ عَلَى جَمِيعِ بَنِي هَاشِمٍ. وَأَمَّا مَنْ تَحِلُّ لَهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ فَهُمْ سَائِرُ النَّاسِ تَحِلُّ لَهُمْ صَدَقَاتُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْفَقْرِ وَصَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ قبل. مسألة: قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ غَارِمُونَ لَا أَمْوَالَ لَهُمْ فَقَالُوا أَعْطِنَا بِالْغُرْمِ وَالْفَقْرِ قِيلَ لَا إِنَّمَا نُعْطِيكُمْ بِأَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ شِئْتُمْ فَإِذَا أَعْطَيْنَاهُ بِاسْمِ الْفَقْرِ فَلِغُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا فِي يَدَيْهِ حُقُوقَهُمْ وَإِذَا أَعْطَيْنَاهُ بِمَعْنَى الْغُرْمِ أَحْبَبْتُ أَنْ يتولى دفعه عنه وإلا فجائز كما يعطى المكاتب فإن قيل ولم لا يعطى بمعنيين؟ قيل الفقير مسكين والمسكين فقير يجمعهما اسم ويتفرق بهما اسم فلا يجوز أن يعطى إلا بأحد المعنيين ولو جاز ذلك جاز أن يعطى رجل بفقر وغرم وبأنه ابن سبيل وغاز ومؤلف فيعطى بهذه المعاني كلها فالفقير هو المسكين ومعناه أن لا يكون غنيا بحرفة ولا مال فإذا جمعا معا فقسم لصنفين بهما لم يجز إلا أن يفرق بين حاليهما بأن يكون الفقير الذي بدئ به أشدهما فقرا وكذلك هو في اللسان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ جَمَعَ بَيْنَ سَبَبَيْنِ يَسْتَحِقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فِيهِمَا كَغَارِمٍ فَقِيرٍ، وَعَامِلٍ مِسْكِينٍ طَلَبَ أَنْ يُعْطَى بِالْفَقْرِ أَوْ بِالْغُرْمِ أَوْ بِالْعِمَالَةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَكْثَرِ كتبه أنه لا يجوز أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بِهِمَا وَلَا يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِهِمَا وَقَالَ فِي كِتَابِ فَرْضِ الزَّكَاةِ مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِ السَّبَبَيْنِ، وَهَذَا هو الأشهر في قَوْلِهِ، وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ كَمَا لَا يُورَثُ الْمَجُوسِيُّ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَرَابَتَانِ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِالسَّبَبَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ الزَّوْجُ إِذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ لَهَا بِالسَّبَبَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ لَا يُعْطَى إِلَّا بِأَحَدِهِمَا وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا وَمَا قَالَهُ فِي فَرْضِ الزَّكَاةِ مِنْ جَوَازِ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ زَكَاتَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِهِمَا إذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 اتَّفَقَا، فَاخْتِلَافُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْنَا، وَالْآخَرُ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ كَالْعَامِلِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَالْغَازِي إِذَا كَانَ مِسْكِينًا، وَاتِّفَاقُهُمَا أَنْ يَكُونَا مَعًا لِحَاجَتِهِ إِلَيْنَا كَالْفَقِيرِ إِذَا كَانَ غَارِمًا وَالْمِسْكِينِ إِذَا كَانَ مُكَاتَبًا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُورَثُ أَحَدٌ بِسَبَبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ كَفَرْضَيْنِ أَوْ نَصِيبَيْنِ، وَيُورَثُ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهِمَا وَكَانَ فَقِيرًا غَارِمًا خُيِّرَ فِي إِعْطَائِهِ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ مِنْ فَقْرٍ وَغُرْمٍ، فَإِنِ اخْتَارَ أَنْ يُعْطَى بِالْفَقْرِ سُلِّمَ إِلَيْهِ وَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنِ اخْتَارَ أَنْ يُعْطَى بِالْغُرْمِ جَازَ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِأَمْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمَا أَوْلَى، قُلْنَا: إِنْ كَانَ بِقَدْرِ دَيْنِهِ كُلِّهِ فَأَوْلَى دَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَالْأَوْلَى دَفْعُهُ إِلَى الْغَارِمِ لَعَلَّهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ فَيَنْمَى، وَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بِالسَّبَبَيْنِ أُعْطِيَ بِالْفَقْرِ وَالْغُرْمِ، فَإِنْ كَانَ فِي سَهْمِ الْغُرْمِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ اسْتُبْقِيَ سَهْمُ الْفَقْرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ دَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ سَهْمَ الْفَقْرِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ". مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ وَلَمْ يُعْطَ فَإِنْ قَالَ لَا أَغْزُو وَاحْتَاجَ أُعْطِيَ فَإِنْ هَاجَرَ بَدَوِيٌّ (وَاحتَاجَ) وَاقْتَرَضَ وَغَزَا صَارَ مِنْ أهل الفيء وأخذ فيه ولو احْتَاجَ وَهُوَ فِي الْفَيْءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْفَيْءِ وَيَعُودَ إِلَى الصَّدَقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الْفَيْءِ دُونَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ مَالُ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْفَيْءِ، وَضَرْبٌ هُمْ مِنْ أهل الصدقة، فَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الْفَيْءِ فَهُمُ الْمُقْتَرِضُونَ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَهُمْ لَا يُعْطَوْنَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُمُ الْمُتَطَوِّعَةُ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الصَّنَائِعِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ إِنْ شَاءُوا غَزَوْا وَإِنْ شَاءُوا أَقَامُوا، فَهَؤُلَاءِ إِذَا أَرَادُوا الْغَزْوَ أُعْطُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُعْتَرِضًا فِي دِيوَانِهِ ضُرِبَ عَلَيْهِ الْبَعْثُ فِي الْغَزْوِ أَوْ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالدُّخُولَ فِي أهل الصدقات ليغزوا إِنْ شَاءَ وَيَقْعُدَ عَنْهُ إِنِ اخْتَارَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَإِنَّمَا هُوَ جُعَالَةٌ فَيَسْقُطُ رِزْقُهُ مِنْ دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُعْطَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ هَاجَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ دِيوَانِ الْفَيْءِ جَازَ أَنْ يُقْرِضَهُ الْإِمَامُ فَإِذَا رَآهُ الْإِمَامُ أَهْلًا لِذَلِكَ، خرج من أهل الصدقات. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِقَابٌ وَلَا مُؤَلَّفَةٌ وَلَا غَارِمُونَ ابْتُدِئَ القسْم عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَخْمَاسًا على ما وصفت فإن ضاقت الصدقة قسمت على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 عدد السهمان ويقسم بين كل صنف على قدر استحقاقهم ولا يعطى أحد من أهل سهم وإن اشتدت حاجته وقل ما يصيبه من سهم غيره حتى يستغني ثم يرد فضل إن كان عنه ويقسم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ، فَذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ فَإِنْ كَمَلُوا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ أَثْمَانًا بَيْنَهُمْ مُتَسَاوِيَةً، وَإِنْ عَدِمُوا نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَسَقَطَ سَهْمُ مَنْ عَدِمَ إِلَّا الْغُزَاةُ فَإِنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الثُّغُورَ فَيُنْقَلُ إِلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَاسِمَ لَهَا. فَأَمَّا إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِقَسْمِهَا سَقَطَ سَهْمُهُمْ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ سَهْمِهِمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَافْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِ. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي: " فَإِنِ اجْتَمَعَ حَقُّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوِ اجْتَمَعَ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ السهمان أو أكثر أعطوه ويشرك بينهم فيه وَلَمْ يُبْدَلْ بِغَيْرِهِ كَمَا يُعْطَاهُ مَنْ أُوصِيَ لَهُمْ بِهِ وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ يَنْقَسِمُ قَلِيلُهُ وَيَتَجَزَّأُ كَالْحُبُوبِ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَقَّهُ مِنْهُ وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ، كَالْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ فَإِنِ اتَّسَعَتِ الصَّدَقَةُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَعِيرٍ لَهُ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَقِّهِ وَإِنْ ضَاقَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُشْرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ سَوَاءً كَانَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَصْنَافٍ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ شُرَكَاءَ بِالسَّوِيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ قَبْلَ أَنْ يُمَلِّكَهُ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ الْقِيَمَ في الزكاة لا تجزئ، وَسَوَاءً كَانَ الْقَاسِمُ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ، لِأَنَّهُمْ أَهَلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ بِعَجْزِ أَرْبَابِ السِّهَامِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْعَامِلَ الضَّرُورَةُ إِلَى بَيْعِهِ، وَإِمَّا لِعَطَبِ الْحَيَوَانِ وَخَوْفِهِ مِنْ تلفه وإما لبعد المسافة وإحاطة مؤونة نَقْلِهِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَاتَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بَيْعُهُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَسْمُ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَالٍ لِثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ الْعَامِلِ وَأَنَّ لِلْعَامِلِ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ يَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَتَجُوزُ لِلْعَامِلِ دُونَ رَبِّ المال. مسألة: قال الشافعي: " وَإِذَا أَعْطَى الْوَالِي مَنْ وَصَفْنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ نَزَعَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ فَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ لِمَنْ يُعْطِيهِ ويأخذه مِنْهُ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّهُ كُلِّفَ فِيهِ الظَّاهِرَ وَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ ففيها قولان أحدهما أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 يضمن والآخر كالوالي لا يضمن (قال المزني) ولم يختلف قوله في الزكاة أن رب المال يَضْمَنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي زَكَاةٍ دُفِعَتْ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الظَّاهِرِ فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فِي الْبَاطِنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الدَّافِعِ وَاجِبًا سَوَاءً كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. وَالثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الدَّافِعِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ عَلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُكَاتَبٌ أَوْ غَارِمٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَلَا غَارِمٍ فَعَلَى الدَّافِعِ الضَّمَانُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَالِكًا؛ لِأَنَّ إِخْلَالَهُ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ تَفْرِيطٌ مِنْهُ، فإن أمكنه استرجاعها من المدفوع إليه مكان مُسْتَرْجِعًا لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِوُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ فَلَوْ دَفَعَهَا بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ بِزُورٍ أَوْ خَطَأٍ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إِمَامًا ضَمِنَتِ الْبَيِّنَةُ ذَلِكَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ وَكَانَ الْإِمَامُ بَرِيئًا مِنَ الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ مَالِكًا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ ضَامِنَةً لِلْمَالِكِ الَّذِي هُوَ رَبُّ الْمَالِ وَكَانَ وُجُوبُهَا بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ يَسْتَحْدِثُهُ كَابْنِ السَّبِيلِ وَالْغَازِي فَلَا يُسَافِرُ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَا يَغْزُو الْغَازِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الدَّفْعِ سَوَاءً كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ قَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مراعا بِإِحْدَاثِ سَفَرٍ أَوْ جِهَادٍ لَكِنَّ عَلَى الدَّافِعِ مُطَالَبَةَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ بَاقِيًا خَيَّرَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ رَدِّ مَا أَخَذَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ سَفَرًا، وَغَزْوًا، وَإِنْ كَانَ عَامُ الزَّكَاةِ قَدِ انْقَضَى طَالَبَهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ عَامٍ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ حَتَّى سَافَرَ وَغَزَا فِي الْعَامِ الثَّانِي نَظَرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مَا اسْتَحَقَّهُ بِسَفَرِهِ وَغَزْوِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ زَكَاةٍ ثَانِيَةٍ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ بِمَثَابَةِ زَكَاةٍ أُخِّرَتْ مِنْ عَامٍ إِلَى عَامٍ، فَإِنَّهَا تَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَرِهَ التَّأْخِيرَ مَعَ إِمْكَانِ التَّعْجِيلِ فَلَوْ مَاتَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ السَّفَرِ وَالْغَزْوِ وَلَمْ يَكُنِ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ، كَانَ ذَلِكَ تَالِفًا فِي حَقِّ أهل السهمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ الضَّمَانُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الدَّافِعِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا فَهُو َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَبِينُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لا يستحقها لعدم الفقر. والثاني: وَالثَّانِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا مَعَ وُجُودِ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَنَّ بِهِ فَقْرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ ضَمِنَ إِمَامًا أَوْ مَالِكًا لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ تَفْرِيطٌ وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا إِمَامًا أَوْ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ أَمِيرٌ عَلَيْهَا لَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا وَلَكِنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِنْ كَانَ حَيًّا وَمِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا سَوَاءً شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ الْوَالِيَ لَا يَدْفَعُ مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا هُوَ رَبَّ الْمَالِ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَالْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ لِلْإِمَامِ عَلَيْهَا وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْإِمَامَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا إِلَّا بِتَفْرِيطٍ ظَاهِرٍ وَرَبُّ الْمَالِ مُرْتَهِنُ الذِّمَّةِ بِضَمَانِهَا قَبْلَ الدَّفْعِ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْيَقِينِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِذَا اجْتَهَدَ، وَرَبُّ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بِيَقِينٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ مَضْمُونَةٌ إِذَا دَفَعَهَا بِالِاجْتِهَادِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا نُظِرَ فِي رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ شَرَطَ عِنْدَ الدَّفْعِ أَنَّهَا زَكَاةٌ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ نَظَرَ فِي الْآخِذِ لَهَا فَإِنْ صَدَّقَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَزِمَهُ ردها، وإن لم يصدقه من يَلْزَمْهُ رَدُّهَا بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ يُعْطِي فَرْضًا وَتَطَوُّعًا فَلَمْ يَسْتَرْجِعْ إِلَّا بِشَرْطٍ وَالْإِمَامُ لَا يُعْطِي إِلَّا فَرْضًا وَاجِبًا فَجَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ بِغَيْرِ شَرْطٍ؛ وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ مَقْبُولًا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْإِمَامِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي جَوَازِ الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ إِحْلَافُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ؟ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ تَعْجِيلٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ إِحْلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَزِمَهُ الرَّدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَرِّطُ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ: لَمْ يَشْتَرِطْ، كَانَ لَهُ إِحْلَافُهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا مَعَ الْفَقْرِ لِسَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 جَوَازِ الْأَخْذِ كَفَقِيرٍ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ الْحُرِّيَّةُ فَبَانَ عَبْدًا أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، أَوْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ فَبَانَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْأَخْذِ لَهَا عِنْدَ الدَّفْعِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالِيًا كَانَ أَوْ مَالِكًا وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ كَالْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ فَلَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ وَالِيًا وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ يكون مَالِكًا قَوْلَانِ، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. والطريق الثاني: إِنَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا أَخَصُّ بِالضَّمَانِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ إِنْ كَانَ مَالِكًا، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَ وَالِيًا قَوْلَانِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ يَقِينُ الْفَقْرِ قَطْعًا فَجَازَ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَيُعْلَمُ يَقِينُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَطْعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ. مِثَالُهُ: إِنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ يَقِينَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ قَطْعًا، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يُعِدْ، وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ أَوْ كَافِرٍ، أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ يَقِينَ كَوْنِ إِمَامِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِذَا عَمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ أَعَادَ. وَسَوَّى أبو حنيفة بَيْنَ خَطَأِ الْوَالِي وَالْمَالِكِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْخَطَأِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ كَافٍ. مسألة: قال الشافعي: " وَيُعْطَى الْوُلَاةُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَاشِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوُلَاةُ لَمْ يسع أهلها إلا قسمها فإن جاء الولاة بعد ذلك لم يأخذوهم بها وإن ارتابوا بأحد فلا بأس أن يحلفوه بالله لقد قسمها في أهلها وإن أعطوهم زكاة التجارات والفطرة والركاز أجزأهم إن شاء الله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ كَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَوَاشِي، وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَالرَّكَازِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِنًا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ وَجَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا وَقَسْمَهَا فِي أَصْلِهَا وَإِنْ دَفَعُوهَا إِلَى الْوُلَاةِ جَازَ وَمَا كَانَ مِنْهَا ظَاهِرًا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا كَالْبَاطِنَةِ يَجُوزُ لِأَهْلِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا وَلَا يَلْزَمُهُمْ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَيْهِمْ دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهَا بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ عَامِلِهِ عَلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 فَإِنْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ وَعَامِلُهُ وَتَعَذَّرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إِلَيْهِ فَهَلْ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ إِخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا، لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ قَدْرَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى غَيْرِهِ لِتَأَخُّرِهِ كَالدُّيُونِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا تَعْجِيلُ إِخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا تَأَخَّرَ الْوَالِي عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِجِهَاتٍ يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَيْهَا وَالْوَالِي نَائِبٌ، وَتَأَخُّرُ الْوَالِي النَّائِبِ لَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ الْحَقِّ كَالْوَالِي وَالْوَكِيلِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا عِنْدَ تَأَخُّرِ الْوَالِي ثُمَّ حَضَرَ فَأَخْبَرُوهُ بِإِخْرَاجِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ وَلَهُ إِحْلَافُهُمْ إِنِ اسْتَرَابَ بِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي: " وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَهْلُ السُّهْمَانِ سِوَى الْعَامِلِينَ حَقَّهُمْ يَوْمَ يَكُونُ القسْم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِلزَّكَاةِ يَكُونُ يَوْمَ الْقَسْمِ وَنَصَّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ فِي قَرْيَةٍ فَمَاتَ أَحَدُ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَنَّ نَصِيبَهُ لِوَارِثِهِ فَجَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْوُجُوبِ إِذَا تَعَيَّنَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا. مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ ثَلَاثَةٌ فَمَا دون فيكونوا فِي اسْتِحْقَاقِهَا مُعَيَّنِينَ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُمْ لَهَا مُعْتَبَرًا بِيَوْمِ الْوُجُوبِ لَا بَعْدَ الْقَسْمِ، فَلَوْ مات أحدهم كان حقه لوارثه ولو غلب أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا وَلَوْ حَضَرَ الْقَرْيَةَ بَعْدَ الْوُجُوبِ غَرِيبٌ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَهَا مُسْتَحَقَّةً يَوْمَ الْقَسْمِ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِيهَا مِثْلَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ فِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَدَدٌ كَبِيرٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كل صنف ثلاثة ويمنع الباقين، فلا يكونوا فِيهَا مُعَيَّنِينَ فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ يَوْمَ الْقَسْمِ لَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَسْمِ لَمْ يُعْطَ وَارِثُهُ وَلَوْ غَابَ أَوْ أَيْسَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلَوْ حَضَرَ غَرِيبٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ الْقَسْمِ أُعْطِيَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 باب ميسم الصدقات مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَنْبَغِي لِوَالِي الصَّدَقَاتِ أن يسم كل ما أخذ منها مِنْ بَقَرٍ أَوْ إِبِلٍ فِي أَفْخَاذِهَا وَيَسِمَ الْغَنَمَ فِي أُصُولِ آذَانِهَا وَمِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفُ مِنْ مِيسَمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجْعَلُ الْمِيسَمَ مَكْتُوبًا للَّهِ لِأَنَّ مَالِكَهَا أَدَّاهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لِلَّهِ وَمِيسَمُ الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِمِيسَمِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا أديت صغارا لا أجر لصاحبها فيها وكذلك بلغنا عن عمال عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يسمون وقال أسلم لعمر إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه ندفعها إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ. قال قلت كيف تأكل من الأرض؟ قال عمر أمن نعم الجزية أو من نعم الصدقة؟ قلت لا بل مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ. فَقَالَ عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أكلها فقلت إن عليها ميسم الجزية قال فأمر بها عمر فنحرت قال فكانت عنده صحاف تسع فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا وجعل منها في تلك الصحاف فيبعث بها إلى أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويكون الذي يبعث به إلى حفصة رضي الله عنها من آخر ذلك فإن كان فيه نقصان كان في حظها قال فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار (قال) ولا أعلم في الميسم علة إلا أن يكون ما أخذ من الصدقة معلوما فلا يشتريه الذي أعطاه لأنه خرج منه لله كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر رضي الله عنه في فرس حمل عليه في سبيل الله فرآه يباع أن لا يشتريه وكما ترك المهاجرون نزول منازلهم بمكة لأنهم تركوها لله تعالى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمِيسَمُ عِنْدَنَا مُسْتَحَبٌّ فِي مَوَاشِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة كَرَاهِيَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى الْعَبَّاسَ وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَهُ فِي وُجُوهِهَا فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ لَا تَسِمْ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: الْعَبَّاسُ وَاللَّهِ لَا وَسَمْتُهَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا فِي الْجَاعِرَتَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُسْعَدِ بْنِ نُقَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نُقَادَةَ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ مُغَفَّلٌ فَأَيْنَ أَسِمُ قَالَ: فِي مَوْضِعِ الْجِرْمِ مِنَ السَّالِفَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اطْلُبْ لِي طِلْبَةً، قَالَ: ابْغِنِي حَلْبَانَةً رَكْبَانَةً غَيْرَ أَنْ لَا تُولَدَ ذَاتَ وَلَدٍ عَنْ وَلَدِهَا. الْمُغَفَّلُ صَاحِبُ الْإِبِلِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا سِمَةَ عَلَيْهَا وَالْجِرْمُ: الزِّمَامُ. وَالسَّالِفَةُ: مُقَدَّمُ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، وَالْحَلْبَانَةُ: ذَاتُ لَبَنٍ يُحْلَبُ وَالرَّكْبَانَةُ: ذَاتُ ظَهْرٍ يُرْكَبُ، وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا يَقْطُرُونَهَا بِالْإِبِلِ، قُلْتُ: فَكَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ عُمَرُ: مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَمْ مِنْ نَعَمِ 1 الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ الْإِبِلُ هِيَ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: عُمَرُ أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَنُحِرَتْ الْحَدِيثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِيسَمَ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ بِهِ تَمْتَازُ الْأَمْوَالُ مَعَ تَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّهَا وَلِيَكُونَ إِذَا ضَلَّتْ سَبَبًا لِرَدِّهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَسْمِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمِيسَمُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: فَالَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَكَانُهُ فَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُبَ مِنَ الْبَدَنِ وَقَلَّ شَعْرُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَعَلَى أَفْخَاذِهَا وَإِنْ كَانَ فِي الْغَنَمِ فَعَلَى أُصُولِ آذَانِهَا، وَيَكُونُ مِيسَمُ الْغَنَمِ أَلْطَفَ لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَصْبِرُ مِنَ الْأَلَمِ عَلَى مَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، فَأَمَّا مَا يُكْتَبُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهَا صَدَقَةً أَوْ طُهْرَةً أَوْ لِلَّهِ، وَهَذَا أَحَبُّهَا إِلَى الشَّافِعِيِّ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِزْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ جِزْيَةً أَوْ يَكْتُبَ صِغَارًا، وَهَذَا اجْتِهَادُ الشَّافِعِيِّ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَدْعِ الْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْآذَانِ فَمَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 باب الاختلاف في المؤلفة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لا مؤلفة فيجعل سهمهم وسهم سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَشْرُوحَةً بِدَلَائِلِهَا وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مَقْصُورًا عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهَا فَاقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى تَفْصِيلِ مَا أَوْرَدَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ قَدَّمَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ: إِحْدَاهُمَا: فِي سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَإِنَّ أبا حنيفة أَسْقَطَهُ وَزَعَمَ أَنْ لَا مُؤَلَّفَةَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ بِقُوَّةِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ عَلَى الشَّرْحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَقِيَ لِلْإِسْلَامِ أَعْدَاءٌ يَلْزَمُ جِهَادُهُمْ بَقِيَ مُؤَلَّفَةٌ يُتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ كَالْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أبا حنيفة زَعَمَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ مَعَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي ثَغْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفًا إِلَى مَالِكِينَ فَإِنْ تَعَيَّنَ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ وَاحْتَاجُوا إِلَى كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ فَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ بِسَهْمِهِمْ كُرَاعًا وَسِلَاحًا وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ عين ماله ليتولوا لأنفسهم شِرَاءَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مَنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ لِئَلَّا يَصِيرَ رَبُّ الْمَالِ دَافِعَهَا قِيمَةَ زَكَاةٍ إِذْ يَمْنَعُ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ قَاسِمُ الصَّدَقَةِ وَالِيًا فَفِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ لَهُمْ وجهان مضيا. فصل: قال الشافعي: " وقال بعضهم ابن السبيل من مر يُقَاسِمُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الصَّدقَاتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة حَيْثُ يَقُولُ إِنَّ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمُجْتَازُ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ مِنْهُ لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَنْ تَنَاوَلَهُ حَقِيقَةُ الِاسْمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُجْتَازِ وَالْمُنْشِئِ اعْتِبَارًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 بالعموم؛ ولأن المنشئ جاز لِلْمَالِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْمُجْتَازِ الْغَرِيبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعَانَ الْمُجْتَازُ عَلَى بَعْضِ سَفَرِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُعَانَ الْمُنْشِئُ عَلَى جَمِيعِ سفره. فصل: قال الشافعي: " وَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ كَانَتِ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ فَهِيَ واسعة كأنه يذهب إلى أنه فوضى بينهم يقسمونه على العدد والحاجة لأن لكل أهل صنف منهم سهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَلْزَمُ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَلَكِنْ يَصْرِفُ فِي أَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ يَصْرِفُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ حَقًّا، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْ جَمِيعِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الآدميين من الوصايا إذا سمى فيها أصناف لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا كَانَتْ عَطَايَا الله تعالى أولى؛ ولأنه لو كانت مُعْتَبَرَةً لَبَطَلَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال الشافعي: " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِذَا تَمَاسَكَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ وَأَجْدَبَ آخَرُونَ نُقِلَتْ إِلَى الْمُجدِبِينَ إِذَا كَانُوا يُخَافُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَهُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِمَعْنَى صَلَاحِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَامِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة، فَإِنَّهُ جَوَّزَ نَقْلَ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَومِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ قِيلَ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَا فَضَلَ مِنِ جِيرَانِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِمْ نَسَبًا وَدَارًا فَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَوْلَهُمُ ارْتَدُّوا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَسْتَحِقُّوهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُمِلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ إِظْهَارًا لِطَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ كَانُوا مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ بِنَقْلِ الزَّكَاةِ رَدَّهَا عليهم ليتولوا قسمها في جيرانهم. فصل: قال الشافعي وَأَحْسَبُهُ يَقُولُ وَتُنْقَلُ سُهْمَانُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَ الْفَيْءُ وَيُنْقَلُ الْفَيْءُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ إِنْ جَهِدُوا وَضَاقَتِ الصدقات على معنى إرادة صلاح عباد الله (قال الشافعي) وإنما قلت بخلاف هذا القول لأن الله جل وعز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 جعل المال قسمين أحدهما في قسم الصدقات التي هي طهرة فسماها الله لثمانية أصناف ووكدها وجاءت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأن يؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم لا فقراء غيرهم ولغيرهم فقراء فلا يجوز فيها عندي والله أعلم أن يكون فيها غير ما قلت من أن لا تنقل عن قوم وفيهم من يستحقها ولا يخرج سهم ذي سهم منهم إلى غيره وهو يستحقه وكيف يجوز أن يسمي الله تعالى أصنافا فيكونون موجودين معا فيعطي أحد سهمه وسهم غيره ولو جاز هذا هذا عندي جاز أن يجعل في سهم واحد جميع سهام سبعة ما فرض لهم ويعطى واحد ما لم يفرض له والذي يخالفنا يقول لو أوصى بثلثه لفقراء بني فلان وغارمي بني فلان رجل آخر وبني سبيل بني فلان رجلا آخر إن كل صنف من هؤلاء يعطون من ثلثه وأن ليس لوصي ولا وال أن يعطى الثلث صنفا دون صنف وإن كان أحوج وأفقر من صنف لأن كلا ذو حق بما سمي له وإذا كان هذا عندنا وعند قائل هذا القول فيما أعطي الآدميون أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطوا فعطاء الله أولى أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطى (قال) وإذا قسم الله الفيء وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن أربعة أخماسه لمن أوجف على الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ولم نعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فضّل ذا غناء على من دونه ولم يفضل المسلمون الفارس أعظم الناس غناء على جبان في القسم وكيف جاز لمخالفنا في قسم الصدقات وقد قسمها الله تعالى أمين القسْم بعضا دون بعض وينقلها عن أهلها المحتاجين إليها إلى غيرهم لأن كانوا أحوج منهم أو يشركهم معهم أو ينقلها عن صنف منهم إلى صنف غيره (أرأيت) لو قال قائل لقوم أهل غزو كثير أوجفوا على عدو أنتم أغنياء فآخذ ما أوجفتم عليه فأقسمه على أهل الصدقات المحتاجين إذا كان عام سنة لأنهم من عيال الله تعالى هل الحجة عليه إلا أن من قسم الله له بحق فهو أولى به وإن كان من لم يقسم له أحوج منه وهكذا ينبغي أن يقال في أهل الصدقات وهكذا لأهل المواريث لا يعطى أحد منهم سهم غيره ولا يمنع من سهمه لفقر ولا لغنى وقضى معاذ بن جبل رضي الله عنه أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إلى مخلاف عشيرته ففي هذا معنيان. أحدهما: أنه جعل صدقته وعشره لأهل مخلاف عشيرته لم يقل لقرابته دون أهل المخلاف والآخر: أنه رأى أن الصدقة إذا ثبتت لأهل مخلاف عشيرته لم تحول عنهم صدقته وعشره بتحوله عنهم وكانت كما يثبت بدأ فإن قيل فقد جاء عدي بن حاتم أبا بكر رضي الله عنه بصدقات والزبرقان بن بدر فهما وإن جاءا بها فقد تكون فضلا عن أهلها ويحتمل أن يكون بالمدينة أقرب الناس بهم نسبا ودارا ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيّء من اليمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 ويحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا فلم يكن لهم فيها حق ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر رضي الله عنه ثم يردها إلى غير أهل المدينة وليس في ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه فإن قيل فإنه بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يؤتى بنعم من الصدقة فبالمدينة صدقات النخل والزرع والناض والماشية وللمدينة ساكن من المهاجرين والأنصار وحلفاء لهم وأشجع وجهينة ومزينة بها وبأطرافها وغيرهم من قبائل العرب فعيال ساكني المدينة بالمدينة وعيال عشائرهم وجيرانهم وقد يكون عيال ساكني أطرافها بها وعيال جيرانهم وعشائرهم فيؤتون بها وتكون مجمعا لأهل السهمان كما تكون المياه والقرى مجمعا لأهل السهمان من العرب ولعلهم استغنوا فنقلها إلى أقرب الناس بهم وكانوا بالمدينة (فإن قيل) فإن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كثيرة إلى الشام والعراق فإنما هي والله أعلم من نعم الجزية لأنه إنما يحمل على ما يحتمل من الإبل وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحدا وقد كان يبعث إلى عمر بنعم الجزية فيبعث فيبتاع بها إبلا جلة فيحمل عليها (وقال) بعض الناس مثل قولنا في أن ما أخذ من مسلم فسبيله سبيل الصَّدَقَاتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَادِسَةٌ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَلَعَلَّ أبا حنيفة مَعَهُمْ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا نَقْلَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ، وَنَقْلَ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ اعْتِبَارًا بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ النَّقْلِ، هَلْ يُقْضَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ سَهْمُهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَإِنْ جَهِدُوا وَلَا نَقْلُ الْفَيْءِ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ جَهِدُوا، وَيُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لِكُلِّ مَالٍ مَالِكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْهُ لِمَا فيه من إبطال النص، ولأنه لما يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْغَنِيمَةِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا انْقِيَادًا لِحُكْمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ ضَرُورَةً وَأَمَسَّ حَاجَةً لَمْ يَجُزْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَطَايَا الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْوَصَايَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَمَّنْ سُمِّيَتْ لَهُ فَعَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَوَارِيثِ عَمَّنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ هُوَ آثَرُ وَأَحْوَجُ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ؛ وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَسِمُ إبل الصدقة ميسم وإبل الجزية ميسم فَلَوْلَا تَمَيُّزُ الْمُسْتَحَقِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِثَالَيْنِ لَمَا مَيَّزَ بِالْمِيسَمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلٍ كَثِيرَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِ الْفَيْءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ جَوَابًا عَنْ هَذَا: إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ يَحْمِلُ عَلَى إِبِلِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بِنَعَمِ الْجِزْيَةِ فَيَبْعَثُ بِهَا فَيَبْتَاعُ بِهَا إِبِلًا يَحْمِلُ عَلَيْهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 فصل : قال الشافعي: " وقالوا والركاز سبيل الصدقات ورووا ما روينا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ " وَقَالَ " الْمَعَادِنُ مِنَ الرِّكَازِ وَكُلُّ مَا أُصِيبَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رِكَازٌ " ثُمَّ عَادَ لَمَّا شَدَّدَ فِيهِ فَأَبْطَلَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ ركازا فواسع لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْتُمَهُ وَلِلْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا يأخذه منه أو يدعه له فقد أبطل بهذا القول السنة في أخذه وحق الله في قسمه لمن جعله الله له ولو جاز ذلك جاز في جميع ما أوجبه الله لمن جعله له (قال) فإنا روينا عن الشعبي أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ درهم فقال علي رضي الله عنه لأقضين فيها قضاء بيّنا أما أربعة أخماس فَلَكَ، وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عليك (قال الشافعي) رحمه الله فهذا الحديث ينقض بعضه بعضا إذ زعم أن عليا قال والخمس لِلْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مال رجل شيئا ثم يرده عليه أو يدعه له وهذا عن علي مستنكر وقد رووا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ في فقراء أهلك فهذا الحديث أشبه بحديث علي رضي الله عنه لعل عليا علمه أمينا وعلم في أهله فقراء من أهل السهمان فأمره أن يقسمه فيهم (قال الشافعي) رحمه الله وهم يخالفون ما رووا عن الشعبي من وجهين أحدهما أنهم يزعمون أن من كانت له مائتا درهم فليس للوالي أن يعطيه ولا له أن يأخذ شيئا من السهمان المقسومة بين من سمى الله تعالى ولا من الصدقات تطوعا والذي يزعمون أن عليا ترك له خمس ركازه رجل له أربعة آلاف درهم ولعله أن يكون له مال سواها ويزعمون أنه إذا أخذ الوالي منه واجبا في ماله لم يكن له أن يعود عليه ولا على أحد يعوله ويزعمون أن لو وليها هو لم يكن له حبسها ولا دفعها إلى أحد يعوله (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ أن يكتمها وللوالي أن يردها إليه فليست بواجبة عليه وتركها وأخذها سواء وقد أبطلوا بهذا القول السنة في أن في الركاز الخمس وأبطلوا حق من قسم الله له من أهل السهمان الثمانية فإن قال لا يصلح هذا إلا في الركاز قيل فإن قيل لك لا يصلح في الركاز ويصلح فيما سوى ذلك من صدقة وماشية وعشر زرع وورق فما الحجة عليه إلا كهي عليك؟ والله سبحانه تعالى أعلم ". قال الماوردي: وهذه مسألة سابقة أَرَادَ بِهَا أبا حنيفة، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ ثُمَّ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَجَعَلَ وَاجِدَ الرَّكَازِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِظْهَارِهِ لِلْإِمَامِ وَبَيْنَ كَتْمِهِ ثُمَّ جَعَلَ لِلْإِمَامِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الرِّكَازُ، مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ خُمُسِهِ مِنْهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ عَلَيْهِ وَعَوَّلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ مُنْقَطِعًا: أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَقْضِيَنَّ فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا، أَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلَكَ وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 قَالَ: وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ، وَهَذَا خَطَأٌ بَلِ الْخُمُسُ مُسْتَحَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الرَّكَائِزِ الْخُمُسُ " وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْخُمُسِ عَلَى نَفْسِهِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَالْعُشْرِ. فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَقَدْ قَالَ الشافعي بعضه ينقض بعضا إذا زَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ مُسْتَنْكَرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ وهل الحديث أشبه بعلي عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ، وَلِأَنَّ رَدَّ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَيْءِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَمَنْ وَجَدَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَهُ بِبَعْضِهَا وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَدَقَةً هُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا وَلَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الرِّكَازِ لَجَازَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَتَنَاقُضِ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ. تَمَّ كِتَابُ الصَّدَقَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، يَتْلُوهُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ كِتَابُ النِّكَاحِ وَحَسْبُنَا الله ونعم الوكيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 بسم الله الرحمن الرحيم مُخْتَصَرٌ فِي النِّكَاحِ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ نَصًّا فِي كِتَابِهِ وَصَرِيحًا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانعقد بها سالف إجماع الأمة وتأكد بها سَالِفُ الْعِتْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها النَّاسُ النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) {النساء: 1) قَوْلُهُ: " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " يعني آدم. " وخلق منها زوجها " يَعْنِي حَوَّاءَ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ ضِلْعٍ أَيْسَرَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ الْخَلْفِ وَهُوَ مِنْ أَسْفَلِ الْأَضْلَاعِ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: ضِلْعٌ أَعْوَجُ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ وَخُلِقَ الرَّجُلُ مِنَ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرَابِ ". {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) {الروم: 21) فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حَوَّاءُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَلَقَ سَائِرَ الْأَزْوَاجِ مِنْ أمثالهم من الرجال والنساء ليستأنسوا إليها؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأَنَسَةِ مَا لم يجعل من غيرهما. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) {الروم: 21) فيهما تأويلان: أحدهما: أنها المودة والمحبة والرحمة والشفقة قاله السدي. والثاني: أن المودة الجماع الرحمة الولد قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) {الفرقان: 54) يعني: الماء النطفة، والبشر الإنسان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 والنسب: من تناسب بِوَالِدٍ وَوَلَدٍ وَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْتَهُ إِلَى شَيْءٍ عَرَفْتَهُ بِهِ فَهُوَ مُنَاسَبُهُ، وَفِي الصِّهْرِ هَاهُنَا تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الرَّضَاعُ قَالَهُ طَاوُسٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَنَاكِحُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَصْلُ الصِّهْرِ الِاخْتِلَاطُ فَسُمِّيَتِ الْمَنَاكِحُ صِهْرًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ بِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) الْآيَةَ وَالْأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَيْمَةِ يَعْنِي الْعُزْبَةَ وَفِي هَذَا الْخِطَابِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُنْكِحُوا أَيَامَاهُنَّ مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إِذَا دَعَوْنَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الأيامى عند الحاجة، وفي قوله " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِهِ عَنِ السِّفَاحِ. وَالثَّانِي: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى الْمَالِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ إِمَّا بقناعة الصالحين، وإما باجتماع الرِّزْقَيْنِ إِلَيْهِ. رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُدَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اطْلُبُوا الْغِنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) {النور: 32) قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) {النساء: 3) وَفِي هَذَا الشَّرْطِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: يَعْنِي إِنْ خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى ولا تخافون أن لا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ فَقَالَ: كَمَا خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَهَكَذَا خَافُوا أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سعيد بن جبير. الثاني: يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي نِكَاحِ اليتامى فانكحوا ما حل لكم من غيرهن من النساء. وهو قول عائشة رضي الله عنها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقُّونَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَلَا يَتَوَقُّونَ الزِّنَا فَقَالَ: كَمَا خِفْتُمْ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَخَافُوا الزِّنَا وَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، فَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُكْثِرُ التَّزْوِيجَ بِغَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ فَإِذَا كَثُرَ على الواحد منهم مؤن زوجاته وقل ما بيده مد يَدَهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلْأَيْتَامِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّعَدِّي فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَفِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النِّكَاحِ، وتقديره: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً يعني حلالاً، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النساء، وتقديره: فانكحوا من النساء مَا حَلَّ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فَهَذَا مِنْ كتاب الله تعالى ودال عَلَى إِبَاحَةِ النِّكَاحِ. أَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وجاءٌ ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " تنكاحوا تكاثروا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَى بِالسَّقْطِ ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من أحب فطرتي فليستسن بسنتي ألا وهي النِّكَاحِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لعكاف بن وداعة الهلالي: أتزوجت، قال: لا، قال أمن إخوان الشياطين أنت إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح. ووري أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَزَمُوا عَلَى جَبِّ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّخَلِّي لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فبلغ ذلك رسول الله فَنَهَاهُمْ وَقَالَ: لَا زِمَامَ وَلَا خِزَامَ وَلَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا سِيَاحَةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 أَمَّا الزِّمَامُ وَالْخِزَامُ فَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بنو إسرائيل من زم الأنوف، وخزم الترابي وأما الرهبانية فهو اجتناب النساء وترك اللحم. وأما السياحة فهو تَرْكُ الْأَمْصَارِ وَلُزُومُ الصَّحَارِي. وَأَمَّا التَّبَتُّلُ فَهُوَ الْوَحْدَةُ وَالِانْقِطَاعُ عَنِ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَلَيْهِ مُجْمِعَةٌ وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ غَضِّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينِ الْفَرَجِ وَبَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ مَنَاكِحُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: نِكَاحُ الرَّايَاتِ، وَنِكَاحُ الرَّهْطِ وَنِكَاحُ الِاسْتِنْجَادِ وَنِكَاحُ الْوِلَادَةِ. فَأَمَّا نِكَاحُ الرَّايَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْعَاهِرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَنْصِبُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً لِيَعْلَمَ المار بها عهرها فيزني بها فقد قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وبَاطِنَهُ) {الأنعام: 120) تأويلين: أحدهما: أن ظاهر الإثم أولات الرايات من الزواني وباطنه ذوات الأخذان (لأنهن كن يستحللنه سراً) وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَهُ مَا حُظِرَ مِنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنَهُ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَمَّا نكاح الرهط فهو أن الْقَبِيلَةَ أَوِ الْقَبَائِلَ كَانُوا يَشْتَرِكُونَ فِي إِصَابَةِ الْمَرْأَةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ أُلْحِقَ بِأَشْبَهِهِمْ بِهِ. وأما النكاح الِاسْتِنْجَادِ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ ولداً نجداً تحسباً، بذلت نفسها لتجيب كل قبيلة وسيدها فلا تلد إلا تحسباً بِأَيِّهِمْ شَاءَتْ. وَأَمَّا نِكَاحُ الْوِلَادَةِ فَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْمَقْصُودُ لِلتَّنَاسُلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سفاحٍ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السلام من الأصلاب الذاكية إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَتَقَلُّبكَ فِي السَّاجِدِينَ) {الشعراء: 219) قَالَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى جَعَلَكَ نبياً وكان نور النبوة في أيامه ظَاهِرًا، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ كَاهِنَةً بِمَكَّةَ يُقَالُ لها فاطمة بنت الهرم قَرَأَتِ الْكُتُبَ فَمَرَّ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ أَنْ تَغْشَانِي وتأخذ مثل الإبل فقال عبد الله. (أما الحرامُ فلممات دُونَهُ ... وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَاسْتَبِينُهُ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 (فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ ... يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهُ؟ !) فَلَمَّا تَزَوَّجَ آمِنَةَ وَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ فِي عَوْدِهِ بِفَاطِمَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكِ فيما قلت: قد كان مرة فاليوم لا، فإذا سبعت فَقَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي بِآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةِ، فَقَالَتْ: قَدْ أَخَذَتِ النُّورَ الَّذِي قَدْ كَانَ فِي وَجْهِكَ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ: (إِنِّي رَأَيْتُ مَخِيلَةً نشأت ... فتلألأت بحناتم القطر) (فلمحتها نوراً يضيء به ... ما حوله كإضاءة الفجر) (ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر) (ورأيته شرفا أبوه به ... مَا كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي) (لِلَّهِ مَا زهرية سلبت ... منك الذي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي) فَصْلٌ فَأَمَّا اسْمُ النِّكَاحِ فهو حقيقة في العقد فجاز فِي الْوَطْءِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ حقيقة في الوطء فجاز فِي الْعَقْدِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ جعل اسم النكاح حقيقة الْوَطْءِ حَرَّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ، وَمَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَقْدِ لَمْ يُحَرِّمْ بِوَطْءِ الزِّنَا مَا حُرِّمَ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ وَدَلِيلُهُ، لَكِنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أنه حقيقة في الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ؛ وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَمَّا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اسْمًا لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ النِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ أَكْثَرُ، وَهُوَ بِهِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ وَهُوَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ قَالَ الشَّاعِرُ: (بَنُو دارمٍ أكفاؤهم آل مسمعٍ ... وتنكح في أكفائها الخطبات) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 بَابُ مَا جَاءَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأزواجه مسألة قال الشافعي رحمه الله: " إن الله تبارك وتعالى لما خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ الله قربةً وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً في كرامته وتبييناً لفضيلته ". قال الماوردي: وهذا فَصْلٌ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَقِيَّةِ الْبَابِ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لِلشَّافِعِيِّ فَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْهِ إِيرَادَ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِهِ لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنَّا فيما خص به الرسول من تخفيف وَلِوَفَاةِ زَوْجَاتِهِ الْمَخْصُوصَاتِ بِالْأَحْكَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّشَاغُلُ بِمَا لَا يَلْزَمُ عَمَّا يَجِبُ وَيَلْزَمُ، فَصَوَّبَ أَصْحَابُنَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ وَرَدُّوا على هذا المعترض بما ذكروه من فرض الْمُزَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ مَنَاكِحَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبركاً بها وَالتَّبَرُّكُ فِي الْمَنَاكَحِ مَقْصُودٌ كَالتَّبَرُّكِ فِيهَا بِالْخُطَبِ. والثاني: أن سبق العلم بأن الأمة لا تساوي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحته وَإِنْ سَاوَتْهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى مَا حُظِرَ عَلَيْهِ، ابتدأ به. فصل فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَا خَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لِمَا خَصَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالْأُخْرَى لَمَّا خَصَّ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، فَمَنْ رَوَى بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَاللَّامَ قَبْلَهَا لِلْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِأَجْلِ الَّذِي خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ وَمَنْ رَوَى بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَمَلَهَا عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ " مَا " بِمَعْنَى بَعْدَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وَحْيِهِ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ جَائِزَةٌ وَالْأُولَى أَظْهَرُ وَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) {النساء: 163) فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ عَصْرِهِ حَتَّى بُعِثَ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِهِمْ فَكَانَ مَخْصُوصًا بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُصَّ بِانْتِهَاءِ الْوَحْيِ وَخَتْمِ النُّبُوَّةَ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بَعْدَهُ وَحَيٌّ وَلَا يُبْعَثَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَصَارَ خَاتَمًا لِلنُّبُوَّةِ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً حَتَّى بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وفيه تأويلان: أحدهما: إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خُصَّ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ الَّذِي يَبْقَى إِعْجَازُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ويعجز عن معارضته أهل كل عصره، وَلَيْسَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى مَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِعْجَازٌ يَبْقَى فَصَارَ بِهَذَا الْوَحْيِ مَخْصُوصًا. فصل وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأَبَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بما فرض عليهم من طاعته " وطاعة أولي الأمر واجبة لوجوب طاعته قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُوا , الرَّسُولَ وَأُوُلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) {النساء: 59) وَفِي أُولِي الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ. وَالثَّالِثُ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، فَأَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ كَمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَيْنَ مَوْضِعُ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ؟ وَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَبَايُنِهِمْ عَنْهُ، وَقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ فَصَارَ هُوَ الْمَخْصُوصَ بِهَا دُونَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاجِبَةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِأُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ فَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ بَاقِيَةٌ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَطَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مُخْتَصَّةٌ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَبَقَاءِ نَظَرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شاء الله تعالى قربة وَأَبَاحَ لَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلْقِهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَتَبْيِينًا لِفَضِيلَتِهِ ". وَهَذَا صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرِّسَالَةِ وَفَرَضَ الطَّاعَةَ حَتَّى يُمَيَّزَ بِهِمَا عَلَى جميع المخلوقات وميزه عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظٌ. وَالْآخَرُ: تَخْفِيفٌ. فَأَمَّا التَّغْلِيظُ فَهُوَ أَنْ فَرْضُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ لأمرين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 أَحَدُهُمَا: لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَقْوَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَصْبِرُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: لِيَجْعَلَ أَجْرَهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ أُجُورِهِمْ وَقُرْبَهُ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ قُرْبِهِمْ. وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ أَشْيَاءَ حَظَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَظْهَرَ بِهَا كَرَامَتُهُ وتبين بِهَا اخْتِصَاصُهُ وَمَنْزِلَتُهُ. وَالثَّانِي: لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا خصه مِنَ الْإِبَاحَةِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَإِنْ أَلْهَاهُمْ وَلَا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْدَرُ وَبِحَقِّهِ أَقُومُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " لِيَزِيدَهُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قُرْبَةً إليه " كان على شك فيه حتى استثنى بمشيئة اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: لَيْسَتْ شَكًّا وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَحْقِيقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى إِذَا شَاءَ اللَّهُ، وَتَكُونُ بمعنى، إذ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ آمِنينَ) {الفتح: 27) . مسألة " فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَةً فليس عليه تخييرها وأمر عليه الصلاة والسلام أَنْ يُخَيِّرَ نَسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِتَابُ النِّكَاحِ فَأَوْرَدَ مَا اخْتُصَّ بِالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْهُ مِنْ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فَأَوْرَدَ مِنْهُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا خُصَّ بِهِ تَغْلِيظًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خلقه، فقال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً، وَإنْ كُنْتُنَّ تُرْدْنَّ اللهَ وَرَسُولََهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فإنَّ اللهَ أَعَدَّ للْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) {الأحزاب: 28، 29) ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، ولم يخيرهن الطَّلَاقَ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خيرهن بين الطلاق أو المقام، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْيِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 أَحَدُهَا: أَنَّ نِسَاءَهُ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُنَّ شَهْرًا فَأُمِرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا وَقُلْنَ: نُرِيدُ ما تريد النِّسَاءَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَطَالَبْنَهُ وَكَانَ غَيْرَ مستطيع فأمر بتخييرهن (حكاه النقاش) . وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ امْتِحَانَ قُلُوبِهِنَّ لِيَرْتَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْرَ نِسَاءِ خَلْقِهِ، فَخَيَّرَهُنَّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، فَخَيَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ فَلَمَّا أَجَبْنَ إِلَى ذَلِكَ أَمْسَكَهُنَّ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تعالى خير نبيه بين الغنى وبين الفقر، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ جعلت لك جبالاً ذَهَبًا فَقَالَ صِفْ لِي الدُّنْيَا فَقَالَ حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ: لِأَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فأحبروأشبع يَوْمًا فَأَشْكُرُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ فَحِينَئِذٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، لِمَا فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ بَدَأَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَائِشَةَ وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحْدَثَهُنَّ سِنًّا - فتلا عليها آية التخيير - حتى تستأمري أَبَوَيْكِ -، لِأَنَّهُ خَافَ مَعَ حُبِّهِ لَهَا أَنْ تُعَجِّلَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَتَخْتَارُ الدُّنْيَا، فَقَالَتْ: أَفَيَكَ يا رسول الله استأمر أبويّ، قَدِ اخْتَرْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ عَلَيْهَا اخْتِيَارَهَا عِنْدَ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما كان النبي أَنْ يَغُلَّ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ تَقُولُ: مَا اخْتَارَتْ عَائِشَةُ، فَيَقُولُ: اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الضَّحَّاكِ الْكِلَابِيَّةِ وَكَانَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ الحياة الدنيا وزينتها فَسَرَّحَهَا فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وُجِدَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ وَهِيَ تَقُولُ اخْتَرْتُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة فلا دنيا ولا أخرة. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَخْيِيرِهِنَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِ الِاخْتِيَارِ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ طَلَاقٌ حَتَّى يُطَلِّقَهُنَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إِنِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا كَمَا طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) . والسراح الجميل يحتمل ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّرِيحُ مِنَ الطَّلَاقِ دُونَ الْكِنَايَةِ لِئَلَّا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أقل من ثلاث لتمكن فيه الرجعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوَفِّيَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَيَدْفَعَ فِيهِ الْمُتْعَةَ فَإِنْ طَلَّقَ الْمُخْتَارَةَ مِنْهُنَّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقُهَا بَائِنًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ كَطَلَاقِ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ رَجْعِيًّا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونَ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ عَلَيْهِ فِي التَّخْيِيرِ فَيُغَلَّظُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التأبيد يكون سَرَاحًا جَمِيلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ، لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا حُكْمُهُنَّ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ خيرهن بين الطلاق أو المقام فَتَخْيِيرُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ يَكُونُ كِنَايَةً يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ فِي تَخْيِيرِهَا وَإِلَى نية الزوجة في اختيارها. وقال مالك: وهو صَرِيحٌ، فَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا في طلقه بائن. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ صَرِيحًا في طلقه بائن لا يرجع فيه إلى نية أحد منهما، وللكلام عليهما مَوْضِعٌ يَأْتِي. وَأَمَّا تَخْيِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ففيه وجهان: أحدهما: أنه كناية لتخيير غَيْرِهِ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنه صريح في الطلاق لا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الأبد أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، ثم تخيير غيره من أمته يراعى في اختيار الزوجة على الفور فمتى تَرَاخَى اخْتِيَارُهَا بَطُلَ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ فِي تَعْجِيلِ قَبُولِهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَأَمَّا تَخْيِيرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الِاخْتِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ تراخى بطل حكمه، لما ذكرنا من اعتبار بِقَبُولِ الْهِبَةِ الَّتِي هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ فِيهَا سَوَاءٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ عَلَى التراخي لما اختصصن به من النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ خَيَّرَهَا: " اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَكَانَ بالاستئمار يبطل الاختيار. فصل فأما أَنَّهُ التَّخْيِيرُ فَفِيهَا دَلَائِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أُعْسِرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُ تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ تَعْجِيلُ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ السَّرَاحَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 مسألة قال الشافعي: " فقال تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (الأحزاب: 52) ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَخْيِيرَ نِسَائِهِ فَاخْتَرْنَهُ حَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ اسْتِبْدَالًا بِهِنَّ فَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَتَحْرِيمِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى صَبْرِهِنَّ مَعَهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فقال سبحانه تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ولاَ أَنْ تَبَدّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} لا يحل لك النساء من بعد نساءك اللَّاتِي خَيَّرْتَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وِرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ بَعْدَ الْعَاشِرَةِ الَّتِي فَارَقَهَا فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِنَّ وَمَمْنُوعًا مِنْ غَيْرِهِنَّ وَإِنَّ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّتِي أَعْجَبَهُ حُسْنُهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بَعْدَ قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهَا فَجَازَاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِهِنَّ وَالتَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ، لأنه أحب الأشياء إلى النساء إذا اخترنا أزواجهن أن جازاهن بالجنة في الآخرة لقول الله تَعَالَى: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) {الأحزاب: 29) . وَالْمُحْسِنَاتُ هُنَّ الْمُخْتَارَاتُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والأجر العظيم هي الجنة، وأن اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُنِ فِي الدُّنْيَا وَفَضَّلَهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ بِتِسْعِ خصالٍ نَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا مِنْ بَعْدُ مَشْرُوحَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مسألة قال الشافعي: " قالت عائشة رضي الله عنها مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ قَالَ كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي حَظَرَهُنَّ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرَنَا في حظر اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في طَلَاقِ نِسَائِهِ بَعْدَ تَخْيِيرِهِنَّ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ فَقَدْ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وما كان من طلاقه لحفصة واسترجاعها وَإِزْمَاعِهِ طَلَاقُ سَوْدَةَ حَتَّى وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فإنما كان قبل التخيير، وإنما تَحْرِيمُ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ ونسخه، فكعم بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ كَانَ ثَابِتًا إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إليه بدلالة أشياء. أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النّسَاءَ مِنْ بَعْدُ) {الأحزاب: 52) ، وكان هَذَا عَلَى الْأَبَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُقَابَلَةً عَلَى اخْتِيَارِهِنَّ عَلَى طَرِيقِ الْجَزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ رُجُوعٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ طَلَاقِهِنَّ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ بَاقِيًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جَزَاءٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ عليهن نسخ حِينَ اتَّسَعَتِ الْفُتُوحُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا مَاتَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهَذَا قول عائشة وأبي بن كعب، والدليل قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزْوَاجِكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ} الآية (الأحزاب: 50) . والإحلال يقضي عدم الْحَظْرِ، وَلَمْ يُحْظَرْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النِّكَاحُ قَبْلَ التَّخْيِيرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ والإباحة بعد حظر التخيير. فإن قيل: فإن الإحلال إنما يوجه إلى نسائه اللاتي خيرهن واخترنه وهذا قول مجاهد قيل: لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ قَدْ كن حلاله قبل نزول هذه الآية بإحلالهن. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ) {الأحزاب: 50) ولم يكن في نسائه المتخيرات أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِ عماته. فإن قيل؛ فهذه الآية متقدمة على التلاوة على قوله تعالى: {لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِنْ بَعْدُ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ، قِيلَ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ فهي متأخرة في التنزيل، فجاز النسخ بِهَا كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) {البقرة: 234) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ) {البقرة: 240) وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ لَكِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ ما تأخر تنزيله؟ قيل: لأن جبريل عليه السلام كان إذا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي موضع كذا فإن قيل: فلما أمره بتقديم تلاوة ما تأخر تنزيله قيل: لسبق الْقَارِئُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يعرف حكم ما بعده من المنسوخ أجزأه، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَظْرِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ سَنَةَ ثمانٍ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ فقد قَالَتْ عَائِشَةُ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أبيح له النساء، وهما بذلك أعرف؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَظْرِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، فَإِذَا زَالَتْ زَالَ مُوجِبُهَا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ حَتَّى وَسَّعَ عَلَى نِسَائِهِ، وَأَجْرَى لِكُلِّ واحد مِنْهُنَّ ثَمَانِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَرْبَعِينَ صَاعًا من شعير سوى الهدايا والألطاف وأما الاستدلال بالآية فقد ذكرنا وجه نسخها، وأما الجزاء وهو مَشْرُوطٌ بِحَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ أَنَّ فِي طَلَاقِهِنَّ قَطْعًا لِعِصْمَتِهِنَّ وَيَخْرُجْنَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ قطع لعصمتهن فافترقا والله أعلم. فإذا ثبت نسخ الحظر مما ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِبَاحَةِ هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ أَوْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ فِي الْآيَةِ. إِذَا هَاجَرْنَ مَعَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى المسميات مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَبَنَاتِ عَمَّاتِهِ وَبَنَاتِ خَالِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 وَبَنَاتُ خَالَاتِهِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَرَادَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يتزوجني فنهي عَنِّي؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا صَفِيَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا، وَلِأَنَّ الْإِبَاحَةَ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْحَظْرِ وَلِأَنَّهُ فِي اسْتِبَاحَةِ النِّسَاءِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَصِّرَ عنهم. مسألة قال الشافعي: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خَالِصةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ) {الأحزاب: 50) ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النِّكَاحِ تَخْفِيفًا أَنْ يَنْكِحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ بَدَأَ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ في النكاح تغليظاً، وذلك في ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. وُجُوبُ التَّخْيِيرِ وَتَحْرِيمُ الطَّلَاقِ. وَتَحْرِيمُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ. ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا خُصَّ بِهِ تَخْفِيفًا فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تعالى أن يملكه نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُذْكَرُ مَعَ الْعَقْدِ، وَلَا يَجِبُ مِنْ بَعْدُ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِهِ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ. والثاني: أن يسقط منه الْمَهْرُ ابْتِدَاءً مَعَ الْعَقْدِ وَانْتِهَاءً فِيمَا بَعْدَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِيمَا بَعْدُ. وقال أبو حنيفة: إنما اختص بسقوط الْمَهْرِ وَحْدَهُ، وَهُوَ وَأُمَّتُهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تخصيصه بالأمرين، وإن كان للكلام مع أبو حنيفة موضع يأتي، وقوله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خَالِصةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 50) وَالْهِبَةُ تَتَمَيَّزُ بِلَفْظِهَا عقداً وَسُقُوطُ الْمَهْرِ فِيهَا بَدَلًا، وَقَدْ جَعَلَهَا خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الحكمين. وفي الآية قراءتان: أحدهما: " إن وهبت " بالفتح وهو خبر عما مضى، والقراءة الأخرى بالكسر، وهو شروط فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت له نَفْسَهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ: لم يكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ؛ وَمَنْ قرأ بالفتح جعله خَبَرًا عَنْ ماضٍ قَالَ: قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرِ بْنِ ضَبَابٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا ميمونةبنت الْحَارِثِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ وَهَبَتْ لَهُ نَفْسَهَا، أَوْ شُرِطَ لَهُ في المستقبل أن تقبل من وهبت له نفسها خالصة مَنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى من خالف. وروي عَنْ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي منك، فقال: " مالي فِي النِّسَاءِ مِنْ حاجةٍ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهَا هِبَتَهَا. فَصْلٌ: وَمِمَّا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحه تخفيفان: أَنْ يَنْكِحَ أَيَّ عددٍ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزْوَاجِكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} الآية (الأحزاب: 50) ، وأحل لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَنْ أَتَاهَا أَجْرَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِعَدَدٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماته وخاله وخالاته مَنْ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بالإباحة مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ، وَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لثمانٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحُرُّ لِفَضْلِهِ على العبد يستبح من نكاح النساء أكثر مما يستبحه الْعَبْدُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ يَسْتَبِيحُ مِنَ النِّسَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " حبب إليّ من دنياكم ثلاث النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ". فاختلف أهل العلم في معنى تحبيب النساء إليه عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الِابْتِلَاءِ وَالتَّكْلِيفِ حَتَّى لَا يَلْهُوَ بِمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ من النساء عما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 كلف به مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَلَا يَعْجَزَ عَنْ تَحَمُّلِ أثقال النبوة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره. والقول الثاني: ليكون خَلْوَاتُهُ مَعَهُنَّ يُشَاهِدُهَا مِنْ نِسَائِهِ؛ فَيَزُولُ عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ فَيَكُونُ تَحْبِيبُهُنَّ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ بِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الابتلاء له، وَعَلَى أَيِّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ فَهُوَ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ نَقْصًا، وَهَذَا مِمَّا هو به مخصوص أيضاً. مسألة قال الشافعي: وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيَّ لَسْتُنَّ كَأَحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ} (الأحزاب: 32) فأبانهن به مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ أَنْ فَضَّلَ نِسَاءَهُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ) {الأحزاب: 32) وَذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: لِمَا خَصَّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةِ رَسُولِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بَيْنَهُنَّ. وَالثَّانِي: لِاصْطِفَائِهِنَّ لِرَسُولِهِ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا وَأَزْوَاجًا فِي الْآخِرَةِ. وَالثَّالِثُ: لِمَا ضَاعَفَهُ لَهُنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَاتِ وَعِقَابِ السَّيِّئَاتِ. وَالرَّابِعُ: لِمَا جَعَلَهُنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمَّهَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ فَصِرْنَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ النِّسَاءِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ زَمَانِهِنَّ. والثاني: أفضل النساء كلهن وفي قوله " إن اتقيتن " تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَدَمْتُنَّ التَّقْوَى فَلَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ فَكُنَّ أَخَصَّهُنَّ بِالتَّقْوَى، فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَمْرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَخْضَعْنَّ بِالْقَولِ فَيَطْمَع الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) {الأحزاب: 32) وَفِي خُضُوعِهِنَّ بِالْقَوْلِ خَمْسَةُ تأويلات: أحدها: فلا ترفعن بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: فَلَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: فَلَا تكلمن بالرفث، وهو قول الحسن. والرابع: هو الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مَا يَهْوَى الْمُرِيبُ، وَهُوَ قول الكلبي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 والخامس: هُوَ مَا يَدْخُلُ مِنْ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَفِي قوله {فَيَطْمَع الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْفُجُورُ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَكَانَ أكثر ما يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المنافقون. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وخصه بأن جعله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا اختص اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِكَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خلقه أول بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6) وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ آبائهم وأمهاتهم. والثالث: أنه أولى بهم من دِفَاعِهِمْ عَنْهُ، وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ مِنْ دِفَاعِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَوْ عَطِشَ وَرَأَى مَعَ عَطْشَانَ ما كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ، وَلَوْ رَأَوْا سُوءًا يَصِلُ إِلَيْهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا وَقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أحد. والرابع: أنه أولى بهم من قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِنْ مؤمنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ) {الأحزاب: 6) فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ ديناً أو ضياعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ فَكَانَ هَذَا مِمَّا خَصَّ الله تعالى رَسُولَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَامَ بِهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ فيكون واجباً في سهم من الصدقات إن احتمله. مسألة قال الشافعي: " وأزواجه أمهاتهم قال أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى وَذَلِكَ أَنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 لا يحل نكاحهن بحالٍ ولم تحرم بناتٌ لو كن لهن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ ". قَالَ الماوردي: وهذا مما خص به الله تعالى به رسوله مِنَ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّ بِهِ أَزْوَاجَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إن جعلهن أمهات المؤمنين، فقال عز وجل: {وَأَزْوَاجه أُمَهَاتِهِمْ) {الأحزاب: 6) يَعْنِي اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ وهن تسع فيجري عليهم أَحْكَامُ الْأُمَّهَاتِ فِي شَيْئَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَثَالِثٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ، أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ: تَعْظِيمُ حَقِّهِنَّ وَالِاعْتِرَافُ بفضلهن كما يلزم تعظيم حقوق الأمهات ولقوله تَعَالَى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النّسَاءِ) {الأحزاب: 32) . وَالثَّانِي: تحريم نكاحهن حتى لا يحللن لأحد بعده مِنَ الْخَلْقِ كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) {الأحزاب: 53) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ أَيَحْجِبُنَا رَسُولُ اللَّهِ عن بنات عمنا ويتزوج نسائنا مِنْ بَعْدِنَا لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ لِنَتَزَوَّجُنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ نِكَاحِهِنَّ لَا يَنْقَضِي بِمَوْتِهِ لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَتَحْرِيمِهِنَّ فِي حَيَاتِهِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: اختلف فِيهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ هَلْ يَصِرْنَ كَالْأُمَّهَاتِ فِي المحرم حتى لا يحرم النظر إليهن على وجهين: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْأُمَّهَاتِ نَسَبًا وَرَضَاعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ حِفْظًا لِحُرْمَةِ رَسُولِهِ فِيهِنَّ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَرَادَتْ دُخُولَ رَجُلٍ عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتَهَا أَسْمَاءَ أَنْ تُرْضِعَهُ حَتَّى يَصِيرَ ابْنَ أُخْتِهَا؛ فَيَصِيرُ مَحْرَمًا لَهَا وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ الأمهات في النفقة بالميراث؛ فلهذا قال الشافعي: " أمهاتهم فِي مَعْنًى دُونَ مَعْنًى " وَإِذَا كُنَّ أُمَّهَاتِ المؤمنين ففي كونهن أمهات المؤمنين وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّهْ، فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ وإنما أنا أم رجالكم. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ بِوَفَاةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ لأنهن حُرِّمْنَ كَانَ كُلُّ زَمَانِهِنَّ عِدَّةً. وَالثَّانِي: يَجِبُ عليهن تعبداً أن يعتدون عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أشهرٍ وَعَشْرًا، لِمَا فِي الْعِدَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ وَلُزُومِ الْمَنْزِلِ ثُمَّ نَفَقَاتُهُنَّ تَجِبُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي سَهْمِهِ مِنْ خُمْسِ الخمس من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ لِبَقَاءِ تَحْرِيمِهِنَّ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجْرَى لَهُنَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَطَاءً فَائِضًا، فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من زوجاته. فَصْلٌ فَأَمَّا اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّعْظِيمِ مَا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَفِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لَا يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يِدْخُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) وَإِرَادَةُ الدُّنْيَا مِنْهُنَّ هي طلب الأزواج لهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ " وَلَيْسَ الْمُطَلَّقَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الرَّسُولِ فِيهِنَّ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ سَبَبٍ ونسبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سببي ونسبي " وليحفظ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ رَسُولِهِ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ يَبْغَضُ مِنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَزْوَاجِهَا وَالتَّعَرُّضِ لِبُغْضِ الرَّسُولِ كفرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ، وَإِنْ كَانَ دخل بهن حرمن صيانة لخلوة الرسول أن تبدوا، فإن من عادة المرأة إن تزوجت ثانياً بعد الأول أَنْ تَذُمَّ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ حَمِدَتْهُ، وَتَحْمَدُ عِنْدَهُ الْأَوَّلَ إِنْ ذَمَّتْهُ؛ وَلِأَنَّهُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ بن قيس الكندي، ولم يدخل بها فأوصى فِي مَرَضِهِ أَنْ تُخَيَّرَ إِنْ شَاءَتْ، وَأَنْ يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين ويحرم عَلَيْهَا مَا يَجْرَي عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ فَاخْتَارَتِ النِّكَاحَ فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِحَضْرَمَوْتَ، فبلغ ذلك أبا بكر فقال هممت أن أحرق عليكما فَقَالَ عُمَرُ مَا هِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا ضَرَبَ عَلَيْهَا حِجَابًا فَكَفَّ عَنْهَا أَبُو بَكْرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ تَزَوُّجَ امْرَأَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوجها وفارقها فهم عمر برجمه مما حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَفَّ عَنْهُمَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْخُمُسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ كَمَا تَجِبُ نَفَقَاتُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ قَبْلَ الْوَفَاةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَهَا، وَلِأَنَّهَا مَبْتُوتَةُ العصمة بالطلاق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 فصل فأما من وطئها من إمائه، فإن كانت بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ مِثْلُ مَارِيَةَ أُمِّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ كَالزَّوْجَاتِ أَمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ لنقصها بالرق، وإن كان قد باعها وملكها مشتريها بقي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَجْهَانِ كَالْمُطَلَّقَةِ. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد زوج بناته وهن أخوات المؤمنين وإنما أراد به الشافعي: أنهم وإن كن كالأمهات في تحريمهن فلسن كالأمهات في جميع أحكامهن إن لو كان كَذَلِكَ لَمَا زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعًا مِنْ بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ: زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَزَوَّجَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ رقية بعتبة بن أبي لهب، وطلقها بعد النبوة فزوجها بعده عثمان بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَبَلَغَ سِتَّ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَأُمُّهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَدْرٍ ثُمَّ زَوَّجَهُ بَعْدَهَا بِأُمِّ كُلْثُومَ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْنَاكَ وَزَوَّجَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاطِمَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فلما زوج رسول الله مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بَنَاتِهِ عُلِمَ اخْتِصَاصُ نِسَائِهِ مَنْ حُكْمِ الْأُمَّهَاتِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غلطٌ مِنْهُ فِي النَّقْلِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّ: قَدْ زوج بناته وهن غير أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَغَلِطَ فِي النَّقْلِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ قَدْ زَوَّجَ بناته أو يخرجهن وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ. فَصْلٌ وَمِمَّا خَصَّ اللَّهُ تعالى به نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تفضيلاً لَهُنَّ وَإِكْرَامًا لِرَسُولِهِ أَنْ ضَاعَفَ عَلَيْهِنَّ عِقَابَ السيئات، وضاعف عليهن ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيَّنَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) {الأحزاب: 30) وفي الفاحشة المبينة ها هنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: النشور وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي مضاعفة العذاب لهما ضِعْفَيْنِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابَانِ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ جُرْمِهِنَّ بِأَذِيَّةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ مُقَاتِلٌ: حَدَّانِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ السَّرِقَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجُعِلَ عَذَابَهُنَّ ضِعْفَيْنِ وَعَلَى مَنْ قَذَفَهُنَّ الْحَدَّ ضِعْفَيْنِ، وَلَمْ أَرَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرَ أَنَّ الأشبه بظاهر كلامه إنما حدان في الدنيا، فإن قيل: في أمر مُضَاعَفَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ تَفْضِيلِهِنَّ. قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْعَبْدِ نِصْفَ حَدِّ الْحَرِّ لِنَقْصِهِ عَنْ كَمَالِ الْحُرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مضاعفة الحد عليهن من تفضيلهن عَلَى غَيْرِهِنَّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ) {الأحزاب: 31) أي يطيع الله ورسوله والقنوت الطاعة ثم قال: {وَتَعْمَلُ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً) {الأحزاب: 31) فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ كَمَا ضُوعِفَ عَلَيْهِنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ فَصَارَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ تَفْضِيلًا لَهُنَّ وَزِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِنَّ، وَفِي " أجرها مرتين " قولان لأهل العلم: أحدها: أَنَّ كِلَا الْأَجْرَيْنِ فِي الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ قوله {وَاعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَلَالًا فَقَدْ كَانَ رِزْقُهُنَّ مِنْ أجل الأرزاق. والثاني: واسعاً؛ فقد صار رِزْقُهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَفِي أَيَّامِ عُمَرَ مِنْ أَوْسَعِ الْأَرْزَاقِ. فَصْلٌ وَصَارَ مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ، مِمَّا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ، وَاتَّصَلَ بِهِ نَقْلٌ عَشْرُ خِصَالٍ، تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ منها ثلاثة خِصَالٍ تَغْلِيظٌ، وَثَلَاثُ خِصَالٍ تَخْفِيفٌ، وَأَرْبَعُ خِصَالٍ كَرَامَةٌ. فَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّغْلِيظُ: فَإِحْدَاهُنَّ: مَا أَوْجَبَهُ عليه من تخيير نسائه. والثانية: ما حظر عَلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهِنَّ. وَالثَّالِثَةُ: مَا مَنَعَهُ مِنَ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ. وَأَمَّا الثَّلَاثُ التَّخْفِيفُ: فَإِحْدَاهُنَّ: مَا أباحه له من النكاح من غير تقدير مَحْصُورٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْلِكَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ أَمَةً عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَانَ عِتْقُهَا نِكَاحًا عَلَيْهَا وَصَدَاقًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَتْ بِالْعِتْقِ زَوْجَةً وَصَارَ الْعِتْقُ لَهَا صَدَاقًا. فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الْكَرَامَةُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 فإحداهن: أنه فضل نسائه على نساء العالمين. والثانية: أنه جعلن أمهات المؤمنين. والثالثة: حرمهن على جميع المسلمين. والرابعة: ما ضاعف من ثوابهن وعقابهن. فصل وإذ قد مَضَى مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا؛ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ فِي مَنَاكِحِهِ مِنْ طَرِيقِ الاجتهاد والنص، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ جواز الاجتهاد لنقصه وَكَذَلِكَ فِي الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي النَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِيمَا لَمْ يَحْدُثْ مِنَ النَّوَازِلِ، فَاجْتَهَدُوا فِي سَبْعِ مَسَائِلَ أَفْضَى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف فيها: فأحدها: أن اختلفوا هَلْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ وغيره سواء في أن يَنْكِحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح "، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى مَنَاكِحِهِ. والوجه الثاني: أن يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شاهدين؛ لقول الله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ) {الأحزاب: 6) ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ مَا يَكْرَهُنِي مِنْ أَوْلِيَائِكِ حَاضِرٌ وَلَا غَائِبٌ ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ وَكَانَ غَيْرَ بَالِغٍ قُمْ زَوِّجْ أُمَّكَ وَقَدْ أَنْكَرَ أحمد بن حنبل على من قال غَيْرَ بَالِغٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِالْتِمَاسِ الْأَكْفَاءِ وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ الْأَكْفَاءِ، وَالشُّهُودُ إِنَّمَا يُرَادُونَ حَذَرَ التَّنَاكُرِ، وهذا غير مرهوم في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَوْ لَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ نِكَاحُهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. فَصْلٌ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتُهُمْ) {الأحزاب: 6) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَةِ " وهذان الأمران منتفيان عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فيما أَبَاحَهُ لِرَسُولِهِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ، وَعَمَّاتِهِ الْهِجْرَةَ فَقَالَ {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) {الأحزاب: 50) فَلَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ فَكَيْفَ يَسْتَبِيحُ مَنْ لَمْ تُسْلِمْ وَلَمْ تُهَاجِرْ؟ وَالْوَجْهُ الثاني: تحل لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 حُكْمِ أُمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحِلُّ لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَمْتَعَ بِأَمَتِهِ رَيْحَانَةَ بِنْتِ عَمْرٍو بِمِلْكِ يَمِينِهِ، وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ مِنْ بَعْدُ، فَلَمَّا بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا سُرَّ بِهِ، وَالْكُفْرُ فِي الْأَمَةِ أَغْلَظُ مِنْهُ فِي الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ حَرَامٌ، وَنِكَاحَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مُبَاحٌ، فما لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ الْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا نَكَحَ الْكِتَابِيَّةَ فَهَلْ عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا أَنْ تُسْلِمَ فَيُمْسِكَهَا، أَوْ تُقِيمَ عَلَى دِينِهَا فَيُفَارِقَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَارَقَهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا خَيَّرَ رَيْحَانَةَ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ وَأَقَامَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يتزوجها، وإن جاز أن يستمتع بها لملك يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، وهذا غير مجوز عليه. فصل والمسألة الثالثة: أن اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ فِي إِحْرَامِهِ، فَذَهَبَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى جوازه له خُصُوصًا لِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ مُحْرِمًا، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ وَمَا نَكَحَ مَيْمُونَةَ إلا حلالاً. وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِي الَّتِي خَطَبَهَا هَلْ يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {استَجِيبُوا للهِ وَلِلْرَسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ) {الأنفال: 24) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا إِجَابَةُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا مَهْرًا هَلْ يَلْزَمُهُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يلزم كما يلزم غيره لقوله تعالى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّوَصُّلُ إلى ثواب الله تعالى. والمسألة السادسة: أن اخْتَلَفُوا فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ هَلْ هُوَ مَحْصُورٌ بِعَدَدٍ أَمْ مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ؟ عَلَى وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 أَحَدُهُمَا: مُرْسَلٌ بِغَيْرِ أَمَدٍ وَلَا مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ وَمَهْمَا طَلَّقَ كَانَ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يراجع؛ لأنه لما م يَنْحَصِرْ عَدَدُ نِسَائِهِ لَمْ يَنْحَصِرْ طَلَاقُهُنَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْصُورٌ بِالثَّلَاثِ وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَغْلَظُ؛ فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَكْمَلَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا هَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ نِسَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّغْلِيظِ فِي أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ. وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عليه بين أزواجه، على وجهين: أحدهما: كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَقُولُ " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تؤاخذني فيما لا أملك يعني: قلبه وطيفه عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا فِي مَرَضِهِ حَتَّى حَلَلْنَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَ عَائِشَةَ. وَهَمَّ بِطَلَاقِ سَوْدَةَ، فَقَالَتْ؛ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ نِسَائِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ فَكَفَّ عَنْ طَلَاقِهَا وَكَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ يَوْمًا يَوِمًا، ولعائشة يومين، يومها، ويوم سودة، وقيل: فِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ عَلَى بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) وهو قول السدي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَطَوَّعُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَطَائِفَةٍ لِمَا فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ مِنَ التَّشَاغُلِ عَنْ لَوَازِمَ الرِّسَالَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءَ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاء) {الأحزاب: 51) وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ تَعْزِلُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَأْتِيهَا وَتَأْتِي مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فَلَا تَعْزِلُهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ تُؤَخِّرُ مَنْ شِئْتَ مِنْ أَزْوَاجِكَ وَتَضُمَّ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ من أزواجك، وهذا قول قتادة {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ) {الأحزاب: 51) أي من ابتغيت فآويته إليك ممن عزلت أن تؤويه إليك، " فلا جناح عليك " فيه تأويلان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 أَحَدُهُمَا: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِيمَنِ ابْتَغَيْتَ وَفِيمَنْ عَزَلْتَ: وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَلَامٍ. وَالثَّانِي: فلا جناح عليك فيمن عزلت أن تؤيه إليك، وهو قول مجاهد. {وَذَلِكَ أدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) {الأحزاب: 51) أَحَدُهُمَا: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ لَهُ رَدَّهُنَّ إِلَى فراشه إذا اعتزلهن قرت أعينهن فلم يحزن وفيه تأويلان: وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ قَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ وَلَمْ يَحْزَنَّ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ أَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد نزول هذه الآية أحداً من نسائه أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرْجِ مِنْهُنَّ أَحَدًا وَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ فكان يَقْسِمُ مِنْهُنَّ لثمانٍ، لِأَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة، روى منصور عن ابن رُزَيْنٍ قَالَ: بَلَغَ بَعْضَ نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُنَّ فَأَتَيْنَهُ فَقُلْنَ: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَأَرْجَأَ مِنْهُنَّ نِسْوَةً وَآوَى نِسْوَةً، فَكَانَ مِمَّنْ أَرْجَأَ مَيْمُونَةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَكَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مَا شَاءَ، وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ فَكَانَ قَسْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِيهِنَّ سَوَاءً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وإذا قد مضى ما قد خص بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنَاكِحِهِ نَصًّا وَاجْتِهَادًا وَمَا خُصَّ بِهِ أزواجه تفضيلاً وَحُكْمًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَزْوَاجِهِ لِيَعْلَمَ ما يميز مِنْ نِسَاءِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ سِتٌّ مِتْنَ قَبْلَهُ وتسع مات قبلهن وثمانٍ فارقهن، فأما الست اللَّاتِي مِتْنَ قَبْلَهُ فَإِحْدَاهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الشَّامِ، وَهِيَ أُمُّ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ كَانَ الْمُقَوْقِسُ أَهْدَاهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى خَدِيجَةَ أحداً حتى ماتت. والثانية: زينبت بنت خزيمة الهلالية أم المساكين ودخل بِهَا وَأَقَامَتْ عِنْدَهُ شُهُورًا ثُمَّ مَاتَتْ وَكَانَتْ أخت ميمونة من أمها. والثالثة: سنا بِنْتُ الصَّلْتِ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ. والرابعة: شراق أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ. وَالْخَامِسَةُ: خَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ. وَالسَّادِسَةُ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ مَاتَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهؤلاء ست متن قبله دخلن مِنْهُنَّ بِاثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِأَرْبَعٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 وَأَمَّا التِّسْعُ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ فَإِحْدَاهُنَّ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، عَقَدَ عَلَيْهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ، وَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَالثَّانِيَةُ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عَائِشَةَ، وَكَانَتْ أُمَّ خَمْسِ صِبْيَةٍ فَلَمَّا عَرَفَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حثى التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: إِنِّي لِسَفِيهٌ لَمَّا حَثَوْتُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِي، حِينَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أختي. والثالثة: حفصة بِنْتُ عُمَرَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ سَوْدَةَ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ خَطَبَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْ عُثْمَانَ وَأَدُلُّ عُثْمَانَ عَلَى مَنْ هُوَ خير لها مِنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا، وَزَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُثْمَانَ. وَالرَّابِعَةُ: أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ فِي تَزْوِيجِهَا {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) {الممتحنة: 7) وَلَمَّا تَنَازَعَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَضَانَةِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ادْفَعُوهُ إِلَى أم حبيبة فإنها أقربهن منه رَحِمًا. وَالْخَامِسَةُ: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَّيَّةَ. وَالسَّادِسَةُ: زَيْنَبُ، بِنْتُ جَحْشٍ، نَزَلَ عَنْهَا زَيْدُ بن حارثة فتزوجها، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا) {الأحزاب: 37) وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبَ. وَالسَّابِعَةُ: مَيْمُونَةُ بنت الحارث، وكان بالمدينة فوكل أم رافع في تزويجه بها وبقي بِمَكَّةَ، وَدَخْلٍ بِهَا عَامَ الْفَتْحِ بِسَرِفَ، وَقَضَى الله تعالى أَنْ مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَرِفَ. وَالثَّامِنَةُ: جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزوة الْمُرَيْسِيعِ الَّتِي هَدَمَ فِيهَا مَنَاةَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وتزوجها. وقال الشَّعْبِيُّ: وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما بقي أحد من المسلمين عبداً مِنْ قَوْمِهَا إِلَّا أَعْتَقُهُ لِمَكَانَتِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَبْرَكَ امْرَأَةٍ عَلَى قَوْمِهَا. وَالتَّاسِعَةُ: صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ اصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سبي النَّضِيرِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَهِيَ الَّتِي أَهْدَتْ إِلَيْهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ شَاةً مَسْمُومَةً فَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَؤُلَاءِ تِسَعٌ مَاتَ عَنْهُنَّ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ منهن. وأما الثماني اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ. فَإِحْدَاهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ النعمان النكدية، دخل عليهان فَقَالَ لَهَا: تَعَالَيْ، فَقَالَتْ: إِنَّا مِنْ قَوْمٍ نُؤْتَى وَلَا نَأْتِي، فَقَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فقال: ملكة تحت سوقةٍ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لَوْ رَضِيَكِ اللَّهُ لِي لأمسكتك وطلقها. والثانية: ليلى بنت الحطيم أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غَافِلٌ فَضَرَبَتْ ظَهْرَهُ، فَقَالَ: مَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 هَذَا؟ أَكَلَهُ الْأُسُودُ فَقَالَتْ: أَنَا لَيْلَى قَدْ جِئْتُكَ أَعْرِضُ نَفْسِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُكِ ثم علمت كثرة ضرائرها فاستقالته فأقلها، قد خلت حَائِطًا بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلَهَا الذِّئْبُ. وَالثَّالِثَةُ: عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَآهَا تَتَطَلَّعُ فَطَلَّقَهَا. وَالرَّابِعَةُ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ، دَخَلَ بِهَا ومكثت عنده ماشاء اللَّهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا. وَالْخَامِسَةُ: فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ الكلابية، لما خير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِسَاءَهُ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فَفَارَقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا. وَالسَّادِسَةُ: قُتَيْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أُخْتُ الْأَشْعَثِ وَصَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَخْيِيرِهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فَفَارَقَهَا قَبْلَ الدخول. والسابعة: مليكة بنت كعب الليثية كانت مذكورة بالجمال فدخلت عليها عائشة، فقالت: ألا تستحين أن تَتَزَوَّجِينَ قَاتِلَ أَبِيكِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَعِيذِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعِيذُكِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ: قَدْ أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنِّي وَطَلَّقَهَا. وَالثَّامِنَةُ: امْرَأَةٌ من عفان تزوجها ورأى بكشحها لَطْخًا فَقَالَ: ضُمِّي إِلَيْكِ ثِيَابَكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ فَهَؤُلَاءِ ثمانٍ فَارَقَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ دَخْلَ مِنْهُنَّ بثلاث والله أعلم. فَصْلٌ وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مناكحه فالكلام فيما خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غير مناكحه وهو يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أقسامٍ: أَحَدُهَا: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ. وَالثَّانِي: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ. وَالثَّالِثُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ. وَالرَّابِعُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ. وَالْخَامِسُ: مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ. فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ فَرْضٍ فَثَمَانِي خِصَالٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ: " فُرِضَ عَلَيَّ الْوِتَرُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ: " فُرِضَ عَلَيَّ السِّوَاكُ وَلَمْ يُفْرَضْ عليكم ". ومنها قوله: " فُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَيْكُمْ ". وَمِنْهَا: أَنَّ فَرْضَهُ فِي الصَّلَاةِ كَامِلٌ لَا خَلَلَ فِيهِ. وَمِنْهَا: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، هَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ؟ عَلَى وجهين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ لِقَاءِ عَدُوِّهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ كان إذا بارز في الحرب رجلاً لم ينكف عنه حتى يقتله. ومنها: أنه لا يفر من الزحف ويقف بارزاً عدوه وإن كثروا. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ حَظْرٍ فخمسة خِصَالٍ: مِنْهَا: قَوْلُ الشِّعْرِ وَرِوَايَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) (يس: 69) . وَمِنْهَا الْكِتَابَةُ وَالْقِرَاءَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تُخُطُهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ المُبْطِلُونَ) {العنكبوت: 49) . ومنها: أن لَيْسَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ. لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ عَامَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ سِتَّةٍ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَتَاهُ عُثْمَانُ بِأَحَدِهِمْ وَكَانَ قَرِيبَهُ لِيَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا مِنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فأمنه، فلما ولي قال: لمن حضر من أصحابه هلا قتلتموه، قال: هلا أومأت إلينا بعينيك فَقَالَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ. وَمِنْهَا: مَنْعُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَمِنْهَا مَنْعُهُ مِنْ أَكْلِ مَا تُؤْذِي رَائِحَتُهُ مِنَ الْبُقُولِ لِهُبُوطِ الوحي عليه. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ فَأَرْبَعُ خِصَالٍ: مِنْهَا الْوِصَالُ بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْوِصَالِ وَوَاصَلَ قَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ ربي فيطعمني وَيَسْقِينِي ". وَمِنْهَا: الصَّفِيُّ يَصْطَفِي مِنَ الْمَغَانِمِ مَا شَاءَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُحْيِي نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ ضَرُورَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِحِمَى الْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا خُصَّ بِهِ مِنْ مَعُونَةٍ فَسَبْعُ خِصَالٍ: مِنْهَا: مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ. وَمِنْهَا: مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُقِرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَأٍ. وَمِنْهَا: مَا أَمَدَّهُ به من ملائكة. وَمِنْهَا: مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ عِصْمَتِهِ فِي قوله: " والله يعصمك من الناس ". ومنها: ما وعده به من نصرته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وَمِنْهَا: مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رهبته حتى قال " نصرت بالرعب ". فصل فأما مَا خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَةٍ فَعَشْرُ خِصَالٍ: مِنْهَا: أَنْ بَعَثَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ. وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْأُمَمِ. وَمِنْهَا أَنْ تَنَامَ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامَ قَلْبُهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَرَى مَنْ وَرَائَهُ كَمَا يَرَى مَنْ أَمَامَهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يبلغ السلام بعد الموت. ومنها: أنه مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَشْهَدُ لِجَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِالْأَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 الترغيب في النكاح وغيره من الجامع ومن كتاب النكاح جديدٌ وقديمٌ ومن الإملاء على مسائل مالكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أن يتزوجها إِذَا تَاقَتْ أَنْفُسُهُمَا إِلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أمر به ورضيه وندب إليه وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حتى بالسقط " وأنه قال: " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح " ويقال إن الرجل ليرفع فدعاء ولده من بعده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالَ دَاوُدُ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) وهذا أمر وبقوله عليه السلام: " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا " قَالَ: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِقَوْلِ صَحَابِيَّيْنِ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمَا: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي الزَّوَائِدِ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مُعَاذٍ فِي مَرَضِهِ: زوجوي لا ألقى الله عزباً؛ لأن فِي النِّكَاحِ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مِثْلَ مَا فِي الْغِذَاءِ، فَلَمَّا لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالْغِذَاءِ لَزِمَ تَحْصِينُهَا بِالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَانَ إِعْفَافُ نَفْسِهِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أحدهما: أنه علق بطيب النفس، ولو كان لازماً واجباً للزم بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا ملكت أيمانكم " فَخَيَّرَهُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَقْتَضِي تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ وَقَالَ تعالى: {ذَلِكَ مَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَكُمْ} فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الزِّنَا وَجَعَلَ الصبر خير لَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَكَانَ الصَّبْرُ شَرًّا لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " خياركم بعد المأتين كُلُّ خَفِيفٍ حَاذٍّ قِيلَ: وَمَنِ الْخَفِيفُ الْحَاذُّ، قَالَ: الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ النِّسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِنَّ خَيْرٌ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى النَّارِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مِسْكِينٌ مِسْكِينٌ رَجُلٌ لَا امْرَأَةَ لَهُ وَمِسْكِينَةٌ مِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ لَا رَجُلَ لَهَا فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الرَّحْمَةِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ لَا يحرم؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ مَقْصُودُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ كَانَ النِّكَاحُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ نَيْلِ شَهْوَةٍ، وَإِدْرَاكِ لَذَّةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ كَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ شَهْوَتِهِ بِالنِّكَاحِ لَوَجَبَ قَطْعُهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ دَوَاءٍ وَعِلَاجٍ، وَلِأَنَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الشَّهَوَاتُ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبَاتِ؛ لأن من صفات الواجبات تكلف المشاق فيها وَتَحَمَّلُ الْأَثْقَالِ لَهَا فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ أَمْرٌ بِالنِّكَاحِ لِلْمُكَاثَرَةِ بِالْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ " تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ حَتَّى بِالسَّقْطِ " وَلَيْسَتِ الْمُكَاثَرَةُ وَاجِبَةً، وكذلك ما جعل طريقاً إليها. أما قَوْلُهُ: أَنَّ فِيهِ تَحْصِينَ النَّفْسِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ مَا خِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ النِّكَاحِ خَوْفُ التَّلَفِ. وَأَمَّا قوله لما لزمه إِعْفَافُ أَبِيهِ لَزِمَهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ: إِنَّ إِعْفَافَ أمته لَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ ابْنِهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُهُ وَلَا يَجُبْ عليه في نفسه كما يلزمه فِي حَقِّ أَبِيهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِ مِنَ الْقُوتِ والكسوة ولا يلزمه ذلك في حق نفسه، فكذلك النكاح. فأما قول عمر لأبي الزوائد: ما منعك مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَلَوْ كَانَ واجباً لزمه وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ: زَوِّجُونِي لَا أَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ذَا أولادٍ ويجوز أن يكون اختار ذلك ندباً. مسألة قال الشافعي: " وَمَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَحَبُّ إلي أن يتخلى لعبادة الله تعالى (قال) وقد ذكر الله تعالى {وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء) {النور: 60) وذكر عبداً أكرمه فقال " سيداً وحصوراً " والحصور الذي لا يأتي النساء ولم يندبهن إلى النكاح فدل أن المندوب إليه من يحتاج إليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى النِّكَاحِ شَدِيدَ الشهوة له تنازعه نفسه إليه وإن لم يُحَدِّثْهَا بِهِ فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَى النِّكَاحِ وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَنِكَاحُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ؛ لِئَلَّا تَدْعُوَهُ شدة الشهوة إلى مُوَاقَعَةَ الْفُجُورِ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ النَّدْبِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفَ الشَّهْوَةِ عَنْهُ غَيْرَ تَائِقٍ إِلَيْهِ، وَمَتَى حَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ لَمْ تُرِدْهُ، فَالْأَفْضَلُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَتَرَكُهُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، لِئَلَّا يَدْعُوَهُ الدُّخُولُ فِيهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 إِلَى الْعَجْزِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَتْ أَخْبَارُ الْكَرَاهَةِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي تَرْكِ النِّسَاءِ فَقَالَ {وَسَيِّداً وَحَصُوراً) {آل عمران: 39) وَفِيهِ تأويلان: أحدهما: أن السيد الخليفة وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ الْفَقِيهُ، وَالْحَصُورَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سعيد بن المسيب وذكر الله تعالى: {وَالقَوَاعِدِ مِنَ النَّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} (النور: 60) وَالْقَوَاعِدُ: هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ بِالْكِبَرِ عَنِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فَلَا يُرِدْنَ الرِّجَالَ وَلَا يُرِيدُهُنَّ الرِّجَالُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الشَّهْوَةِ إِنْ صبرت نفسه عنه صبر، وإن حدثها به فسدت فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون مشتغلاً بالطاعة أو مشتغلاً بالدنيا، فَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ فَتَرْكُهُ لِلنِّكَاحِ تَشَاغُلًا بِالطَّاعَةِ أَفْضَلُ لَهُ وأولى به، وإن كان متشاغلاً بالدنيا فالنكاح أولى به من تركه لأمرين: أحدهما: للتشاغل بِهِ عَنِ الْحِرْصِ فِي الدُّنْيَا. وَالثَّانِي: لِطَلَبِ الْوَلَدِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: سبع يجري على الْعَبْدُ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ كَرَى نَهْرًا أو حفر بئراً أو وقف وقفاً أو ورق مُصْحَفًا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ خَلَّفَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي: " وإذا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً وَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وهي متغطيةٌ بإذنها وبغير إذنها قال الله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) {النور: 31) قال الوجه والكفان ". قال الماوردي: قد مضى الكلام أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظََهَرَ مِنْهَا) {النور: 31) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مخرمة: هو الكحل، والخاتم عبارة عَنِ الْوَجْهِ بِالْكُحْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 وَعَنِ الْيَدَيْنِ بِالْخَاتَمِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا لَا غَيْرُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْظُرُ مَعَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِلَى رُبُعِ السَّاقِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى مَا يَنْظُرُ من الأمة إذا أراد شرائها، ورواه الأشهب عن مالك. وروي عن الْأَشْهَبِ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَأَمَّا أبو حنيفة فإنه اعتبر القدمين بالكفين، لأنه أحد الطرفين، فلم يجعلها عَوْرَةً، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ قَدْ مَضَى، وَأَمَّا دَاوُدُ: فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فليولج بصره فيها فإنما هو مسر. وَأَمَّا الْمَغْرِبِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالثَّانِيَةَ عَلَيْكَ. وَدَلِيلُنَا عَلَى أبي حنيفة قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يَخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) {النور: 31) يَعْنِي السَّاقَيْنِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الوجه والكفين، ويدل عليها مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن أسماء دخلت على عائشة، وعليها ثوب رقيق، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ حَرُمَ كُلُّ شيءٍ مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ". وَدَلِيلُنَا عَلَى الْمَغْرِبِيِّ رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: سُوءًا. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خطبة امرأةٍ فليتأمل خلقتها ". وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا النِّسَاءُ لُعَبٌ فَإِذَا اتَّخَذَ أَحَدُكُمْ لُعْبَةً فَلْيَسْتَحْسِنْهَا ". وَرَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذْهَبْ فَانْظُرَ إِلَيْهَا فَإِنَهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بينكما ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 وَفِي يُؤْدَمُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الحديث: أنه يعني يَدُومُ فَقَدَّمَ الْوَاوَ عَلَى الدَّالِ كَمَا قَالَ في ثمر الأراكة: " كلوا منه الأسود فإنه أطيب " بِمَعْنَى أَطْيَبَ فَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنَ الدَّوَامِ. وَالْقَوْلُ الثاني: - وهو قول أهل اللغة - أنه المحابة وإن لا يتنافروا مأخوذاً من إدام الطعام، لأنه يطيب به فيكون مأخوذاً من إدام لا من الدوام، ثم من مر الدليل على جواز أن ينظر المعقود عليه أبلغ في صحة العقد من فَقْدِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى نَظَرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ حُكْمِ الْعَوْرَةِ وَإِنَّ فِي الْوَجْهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَمَالِ، وَفِي الْكَفَّيْنِ مَا يستدل به على خصب البدن ونعمته فَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ. فَصْلٌ [الْقَوْلُ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِلَا إِذْنٍ] فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ جَازَ نَظَرُهُ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إن خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ " قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِذْنِ. فَصْلٌ [الْقَوْلُ في حالات جواز النظر إلى الأجنبية] فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ نَظَرُ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ أَحَدِ أمرين: إما أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ مُنِعَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) {النور: 31) . وَمُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) {النور: 31) ، وَلِأَنَّ نَظَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صاحبه داعية إلى الافتتان به رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْخَثْعَمِيَّةِ، وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَقَالَ: شَابٌّ وَشَابَّةٌ، وَأَخَافُ أَنْ يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ نَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ نَظَرَ إلى عورة غيره كَانَ مَكْرُوهًا، فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِسَبَبٍ فَضَرْبَانِ: محظور ومباح، فالمحظور كالنظر بمعصية وَفُجُورٍ فَهُوَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا، وَأَشَدُّ مَأْثَمًا مِنَ النَّظَرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَالْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِضَرُورَةٍ كَالطَّبِيبِ يُعَالِجُ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ما دعت إليه الْحَاجَةُ إِلَى عِلَاجِهِ مِنْ عَوْرَةٍ وَغَيْرِهَا، إِذَا أَمِنَ الِافْتِتَانَ بِهَا وَلَا يَتَعَدَّى بِنَظَرِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةٍ أَوْ حُدُوثِ مُعَامَلَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهَا دُونَ كَفَّيْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ شَاهِدًا فَلْيَعْرِفْهَا فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَنْهَا، وَفِي أَدَائِهَا عليها، وإن كان مبايعاً فَلْيَعْرِفْ مَنْ يُعَاقِدُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ خطبتها فهو الذي جوزنا له تعمد النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُ النَّظَرَ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَسَدِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 بَابُ مَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَإِنْكَاحُ الْأَبِ الْبِكْرَ بغير إذنها ووجه النكاح والرجل يتزوج أمته ويجعل عتقها صداقها من جامع كتاب النكاح وأحكام القرآن وكتاب النكاح إملاءً على مسائل مالكٍ، واختلاف الحديث والرسالة قال الشافعي رحمه الله تعالى: فدل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على أن حقا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجُوا الْحَرَائِرَ الْبَوَالِغَ إِذَا أردن النكاح ودعون إلى رضا قال الله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {قال) وهذه أبين آيةٍ في كتاب الله تعالى دلالةً على أن ليس للمرأة أن تتزوج بغير ولي (قال) وقال بعض أهل العلم نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه وذلك أنه زوج أخته رجلاً فطلقها فانقضت عدتها ثم طلب نكاحها وطلبته فقال زوجتك أختي دون غيرك ثم طلقتها لا أنكحكها أبداً فنزلت هذه الآية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بَدَأَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا ال ْفَصْلِ بِمَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ مِنْ نِكَاحِ الْأَيَامَى إِذَا دعون إلى رضى ووجوبه على الأولياء معتبر بخمس شرائط، وهو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً بَالِغَةً عَاقِلَةً تَدْعُو إِلَى كُفْءٍ عَنْ تَرَاضٍ فَيَلْزَمُهُ إِنْكَاحُهَا وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ مَنْعُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) وَفِي الْعَضْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَنْعُ وَمِنْهُ قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يداوى وفلان عضلة أي داهية لأنه امْتَنَعَ بِدَهَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الضَّيِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ أَعْضَلَ بِالْجَيْشِ الْفَضَاءُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ وَقَوْلُ عُمَرَ قَدْ أُعْضِلَ بِي أَهْلُ الْعِرَاقِ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ والٍ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ والٍ، وفي قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} تأويلان: أحدهما: إذا تراضا الزَّوْجَانِ بِالْمَهْرِ. وَالثَّانِي: إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ بِالزَّوَاجِ المكافئ، وفيمن نزلت هذه الآية قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ الْأَشْهَرُ - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَرَاضَيَا بَعْدَ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَضَلَهَا وَحَلَفَ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَضَلِهَا، وَأَمْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَفَعَلَ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ بِنْتِ عَمٍّ لَهُ وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَعَضَلَهَا وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ. فصل [القول في اشتراط الولي في عقد النكاح] فإن أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ على ستة مذاهب. مذهب الشافعي منها: أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطٌ فِي نِكَاحِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إِلَّا بِهِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بالعقد على نفسها، وإن أذن لها وليها سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، شَرِيفَةً أَوْ دنية، بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ، وَشُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِبُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي نِكَاحِهَا وِلَايَةٌ، وَجَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى نفسها وترده إلى من شَاءَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ وَلَا اعْتِرَاضَ عليها من الوالي إِلَّا أَنْ تَضَعَ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا وِلَايَةٌ لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ لَمْ تَنْكِحْ نَفْسَهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ. قال مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ شَرَفٍ أَوْ جَمَالٍ أو مال صَحَّ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَقَالَ دَاوُدُ: إِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا صَحَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أبو يوسف: تَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَتْ مِنَ الرِّجَالِ فِي تَزْوِيجِهَا دُونَ النِّسَاءِ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا. فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 234) فَنَسَبَ النِّكَاحَ إِلَيْهِنَّ وَرَفْعَ الِاعْتِرَاضَ عَنْهُنَّ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " الأيم أحق بنفسها من وليه، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها ". وبرواية نافع بن جبير وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس لولي مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنْ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ فَرَدَّ نِكَاحَهَا. فَقَالَتْ قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ لِيَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي نِكَاحِهِ كَالرَّجُلِ طَرْدًا وَالصَّغِيرِ عَكْسًا، ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع، ولأنه عقد على منفعة فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة، ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد. وتحريره: أن من جاز تصرفه في البدل جاز تصرفه في المبدل كالبالغ في الأموال طرداً وكالصغير عَكْسًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضِلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عَضْلِهِنَّ، والعضل المنع في أحد التأويلين، والتضييق فِي التَّأْوِيلِ الْآخَرِ، فَلَوْ جَازَ لَهُنَّ التَّفَرُّدُ بِالْعَقْدِ لَمَا أَثَّرَ عَضْلُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَهْيٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 232) . وَالْمَعْرُوفُ مَا تناوله العرف بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ الْوَلِيُّ وَشَاهِدَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَنْعُ من العضل إنما توجه إلى الأزواج لتقديم ذِكْرِهِمْ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآية ذكر، فمن ذلك جوابان: أحدهما: أنه لا يجوز توجيه النَّهْيِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ إِنْ عَضَلَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ فَحَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ عَضَلَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي أَشْهَرِ القولين أو جابر في أضعفهما يوجب حمله عَلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَعُودَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِذًا دَلَّ الْخِطَابُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) {العاديات: 6، 7) يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) {العاديات: 8) . يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنْكِحُوهٌنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) {النساء: 25) أَيْ أَوْلِيَائِهِنَّ، فَجَعَلَ إِذَنَ الْأَوْلِيَاءِ شَرْطًا فِي نِكَاحِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِعَدَمِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَثْبَتُ الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ نكاح من صغيره وكبيره وشريفة ودنية وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ. فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا فَإِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا كان نكاحها بولي. فعن ذلك جوابان أَنَّهُ خِطَابٌ لَا يُفِيدُ، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِمَنْكُوحَةٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْعُقُودِ، وَقَدْ خُصَّ النِّكَاحُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ رَجُلًا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادُ لَقَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيَّةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدِ الزَّنْجِيِّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا - أَوْ قَالَ: اخْتَلَفُوا - فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. وَهَذَا نَصٌّ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَمْيِيزٍ، واعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنه قال لقيت الزهري فسألته عنه قال: لَا أَعْرِفُهُ وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزَّهْرِيِّ أَرْبَعَةٌ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ ثَلَاثَةٌ: الزُّهْرِيُّ وَهُشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَأَبُو الْغُصْنِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ يَصِحَّ إِضَافَةُ إِنْكَارِهِ إِلَى الزهري مع العدد الذي رووه عنه، ولو صح إنكاره له لما أثر فيه من رِوَايَةِ غَيْرِ الزُّهْرِيِّ لَهُ عَنْ عُرْوَةَ. وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى وَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكِرَهُ الزُّهْرِيُّ وَلَا يَعْرِفَهُ وَلَيْسَ جَهْلُ الْمُحَدِّثِ بِالرَّاوِي عَنْهُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَلَا مَعْرِفَتُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْمُحَدِّثِ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وليس استدامة ذكر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 المحدث شَرْطًا فِي صِحَّةِ حَدِيثِهِ فَإِنَّ رَبِيعَةَ رَوَى عَنْ سهيلٍ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " ثُمَّ نَسِيَ سهيلٌ الْحَدِيثَ فَحَدَّثَ بِهِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سُهَيْلٌ إِذَا حدث به قال: أخبرني علي عَنْ أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ". السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عَنْ عَائِشَةَ فقد رَوَيْتُمُوهُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: أمثلي يقتات عليه في بناته فأمضى النكاح. وقيل إن ما روته مِنَ الْحَدِيثِ أَثْبَتُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِمَّا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ نكاحٍ ابْنَةِ أَخِيهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ لِإِبْطَالِهِ وُجُوهًا عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ: قَدْ أَفْرَدَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ بَابًا فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ فِيهِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا مِنَ النِّسَاءِ وِلَايَةٌ بِصِغَرٍ أَوْ رقٍ وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِلَّا بولي، وقد روي في الخبر: أن امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فَاقْتَضَى صَرِيحُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمْلَهَا عَلَى الْأَمَةِ، ودليل تلك آكد وأن حمله عَلَى الصَّغِيرَةِ وَخَرَجَتِ الْحُرَّةُ الْكَبِيرَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وِلَايَةً، لِجَوَازِ اعْتِرَاضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِاسْتِوَاءِ الصغير والصغيرة فيه، ولانتفاء تخصيص النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ وَالثَّانِي: لِاسْتِوَاءِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِالذِّكْرِ تَأْثِيرٌ وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ وجهين. أحدهما: لاستواء العبد والأمة فيه لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأَمَةِ تَأْثِيرٌ. وَالثَّانِي: لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْخَبَرِ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلَيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " وَالسُّلْطَانُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا للأمة، وإن عضلها مواليها، وروايتهم أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ". وَالْمَوْلَى يَنْطْلِقُ عَلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) {مريم: 5) . يَعْنِي الْأَوْلِيَاءَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رِقٌّ فَيَكُونُ لَهُ مَوْلَى، عَلَى أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَكُونُ رِوَايَتُنَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْحُرَّةِ، وَرِوَايَتُهُمْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْأَمَةِ فَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 يَتَعَارَضَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ المرأةَ وَلَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " وَالَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا هِيَ الزَّانِيَةُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ: الزَّوْجُ، وَالْوَلِيُّ، وَشَاهِدَانِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَوْلُ مِنْ ذَكَرْنَا مِنَ الرُّوَاةِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَمَّا عَلَيٌّ فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَشَدُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَّا عُمَرُ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إِنْ كَانَ وَاحِدًا، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، أَوِ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يكن لها ولي. الثاني: بإذن وليها إن لم كان لها ولي، فإن كان لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ ذي الرأي من أهلها وذوي أَرْحَامِهَا، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعَيْنِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. ويدل على ذلك من القياس هو أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ زَوَائِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ شَرْطًا فِيهِ كَالشُّهُودِ، وَلِأَنَّ مَا اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بِزِيَادَةِ عَدَدٍ كَانَتِ الزِّيَادَةُ شَرْطًا فِيهِ كَالشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يملكه الْمُفْتَرَشَةَ كَالْأَمَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي فَسْخِهِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ عَقْدِهِ كَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ إِذَا زَوَّجَا أَنْفُسَهُمَا، ولأن من منع من الوفاء معقود العقد خرج من العقد كالمحجور عليه، ولأنه أَحَدُ طَرَفَيِ الِاسْتِبَاحَةِ فِلَمْ تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ كَالطَّلَاقِ، ولأن لولي المرأة قبل بلوغها حقين: حقاً في طلب الكفاءة، وحقاً في طلب الْعَقْدِ، فَلَمَّا كَانَ بُلُوغُهَا غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ: أحدها: أنه أحد حقي الولي فلم يسقط بلوغها كَطَلَبِ الْكَفَاءَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مِنْ ثَبَتَ عَلَيْهَا حَقُّ الْوَلِيِّ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ عليه حَقُّهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ كَالصَّغِيرَةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِ الْجَنَاحِ عَنْهُنَّ أَنْ لَا يُمْنَعْنَ من النكاح فإذا أَرَدْنَهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ وَلِيٍّ كما لم يَدُلَّ عَلَى تَفَرُّدِهِنَّ بِغَيْرِ شُهُودٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 234) . يقتضي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 فِعْلُهُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْحَسَنِ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا " فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْأَيِّمِ قولين: أحدهما: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ قَطُّ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ وَرَجُلٌ أَيِّمٌ إِذَا كَانَ خَلِيًّا مِنْ زَوْجَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا يُقَالُ لَهَا أَيِّمٌ إِلَّا إِذَا نَكَحَتْ ثُمَّ حَلَّتْ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... يدا الدهر ما لم تنكحي أَتَأَيَّمِ) فَأَمَّا الْأَيِّمُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهَا الثَّيِّبُ مِنَ الْخَالِيَاتِ الْأَيَامَى دُونَ الْأَبْكَارِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْأَيِّمَ بِالْبِكْرِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْبِكْرُ غَيْرَ الْأَيِّمِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْبِكْرِ إِلَّا الثَّيِّبُ فَلِهَذَا عَدَلَ بِالْأَيِّمِ عَنْ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ إِلَى مُوجِبِ الْخَبَرِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَعَنِ الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أحدها: أنها أحق بنفسها فِي أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ إِنْ أَبَتْ وَلَا تمنع إن طلبت تدل تَفَرُّدَهَا بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا وَلِيًّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهَا أحق بنفسها موجب أن لا يسقط وِلَايَتُهُ عَنْ عَقْدِهَا لِيَكُونَ حَقُّهَا فِي نَفْسِهَا وَحَقُّ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِهَا فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " فِي الْعَقْدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَةَ " أَحَقُّ " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمُسْتَحَقِّ إِذَا كَانَ حق أحدها فِيهِ أَغْلَبَ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو إِذَا كَانَا عَالِمَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ وَأَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا، وَعَمْرٌو جَاهِلًا لَكَانَ كلاماً مردوداً، لأنه لا يَصِيرُ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ الْعَالِمُ أَعْلَمُ مِنَ الْجَاهِلِ، وهذا الفرد إذا كان ذلك موجباً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَحَقُّ الثَّيِّبِ أَغْلَبُ، فَالْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهَا الْإِذْنُ وَالِاخْتِيَارُ من جهة قَبُولِ الْإِذْنِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 فَالْأَمْرُ هُوَ الْإِجْبَارُ وَالْإِلْزَامُ وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الثيب وإلزامها ولا يقتضي ذلك أن ينفرد بِالْعَقْدِ دُونَ وَلِيِّهَا كَمَا لَا تَنْفَرِدُ بِهِ دون الشهود. فأما حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا، فَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ فُلَانٍ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُرْسَلُ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَالْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ حَدِيثِهِ ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَوْ صَحَّ، لِأَنَّهُ رد [نكاحاً انفرد بِهِ الْوَلِيُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَوْ أَجَازَ نكاحاً] تفردت به المرأة. وأما قياسهم عَلَى الرَّجُلِ فَالْمَعْنَى فِي الرَّجُلِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَفَاءَةِ لم يكن له في العقد عليه ولاية، ولما كان للولي على المرأة اعتراض في الكفاءة لم تكن له في العقد عليها ولاية، وكذا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ اعْتِرَاضٌ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَقْدُ نِكَاحِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَهْرِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا فِيهِ وَيَمْنَعَهَا بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ من مهرها ثم هو منتقض بقطع الأطراف فِي إِبْدَالِهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِبَاحَةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَرَّقَ بَيْنَ الشريفة والدنية بِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَضَعَ نفسها في غير كفء والدنية مُكَافِئَةٌ لِكُلِّ الْأَدْنِيَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا نَظَرٌ وَاحْتِيَاطٌ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ فَجَازَ عَقْدُهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَمْ يَجُزْ عَقْدُ الشَّرِيفَةِ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَنِيَّةٍ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا فَاحْتِيجَ إِلَى احْتِيَاطِ الْوَلِيِّ فِيهَا، ثُمَّ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ فرقة فقبل الشَّرِيفَةُ يَمْنَعُهَا كَرَمُ أَصْلِهَا مِنْ وَضْعِ نَفْسِهَا في غير كفء فلم يحتج إلى احتياط الولي، والدنية يمنعها لُؤْمُ أَصْلِهَا عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْفَرْقِ بينهما، ثم يقال له لما لم يكن هذا الفرق مَانِعًا مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ فَهَلَّا كَانَ غير مانع من استوائهما فِي الْوَلِيِّ مَعَ كَوْنِ النُّصُوصِ فِي الْوَلِيِّ عَامَّةً لَا تُخَصُّ بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْقِ. فَصْلٌ وأما دَاوُدُ فَخَصَّ الثَّيِّبَ بِالْوِلَايَةِ دُونَ الْبِكْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " لِيُطَابِقَ بَيْنَ الإخبار في الاستعمال، وقد قدمنا وجه استعمالهما وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاقِعٌ فِي الْأَخْبَارِ فَكَانَ جَوَابًا، ثُمَّ فَرَّقَ دَاوُدُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ بِأَنَّ الثَّيِّبَ قَدْ خَبَرَتِ الرِّجَالَ فَاكْتَفَتْ بِخِبْرَتِهَا عن اختيار وليها والبكر لم تخبر فَافْتَقَرَتْ إِلَى اخْتِيَارِ وَلِيِّهَا وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ وَعَكْسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّ خِبْرَةَ الثَّيِّبِ بِالرِّجَالِ تَبْعَثُهَا عَلَى فَرْطِ الشَّهْوَةِ فِي وَضْعِ نَفْسِهَا، فمن قَوِيَتْ فِيهِ شَهْوَتُهَا وَالْبِكْرُ لِعَدَمِ الْخِبْرَةِ أَقَلُّ شَهْوَةً فَكَانَتْ لِنَفْسِهَا أَحْفَظَ عَلَى أَنَّ الشَّهْوَةَ مذكورة فِي طِبَاعِ النِّسَاءِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خلقت المرأة من الرجل فهما فِي الرَّجُلِ " فَغَلَبَ حُكْمُ الشَّهْوَةِ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 جميعهن ثيباً وأبكاراً حتى يمنعن مِنَ الْعَقْدِ إِلَّا بِوَلِيٍّ يُحْتَاطُ لِئَلَّا تَغْلِبَهَا فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ فَيَدْخُلُ بِهِ الْعَارُ عَلَى أَهْلِهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ: فَرَاعَى إِذْنَ الْوَلِيِّ دُونَ عقدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " فَكَمَا يُرَاعَى فِي نِكَاحِ السَّفِيهِ إِذْنُ الْوَلِيِّ دُونَ عَقْدِهِ كَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ النِّكَاحِ لِعَدَمِ إذنه ودليل خطأئه نقيض صِحَّةِ النِّكَاحِ بِوُجُودِ إِذْنِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنِ ابن جريج بإسناده المتقدم ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لهما: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَمْ يُنْكِحْهَا وَلِيُّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ". وَالثَّانِي: أَنَّ إِذْنَ الْوَلِيِّ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ النكاح هو إذن لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَهُوَ الْوَكِيلُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تصح أَنْ تَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهَا فلم تكن هي النائبة فيه لاختلاف القرضين فَجَرَى مَجْرَى الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَا يجوز أن يبيع على نفسه لاختلاف عرضه وعرض مُوَكِّلِهِ وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِهِ بِالْإِذْنِ لِلسَّفِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ فِي حُقِّ نَفْسِهِ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ وأما أبو يوسف فاعتبر أن يعقد رَجُلٌ عَنْ إِذْنِهَا لِقُصُورِهَا عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدَ بِنَفْسِهَا وَجَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الْأَكْفَاءِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ، وإن كانت غير مالكة لم يصح مِنْهَا الِاسْتِنَابَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِنَابَةُ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِجَازَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهَا فَصَارَ مَذْهَبُهُ فاسد من هذين الوجهين. مسألة قال الشافعي: " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امرأةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ ثَلَاثًا فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا أَوْ قَالَ اخْتَلَفُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ له (قال) وفي ذلك دلالات. منها أن للولي شركاً فِي بُضْعِهَا لَا يَتِمُّ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِ ما لم يعضلها ولا نجد لشركه في بضعها معنىً إلا فضل نظره لحياطة الموضع أن ينالها من لا يكافئها نسبه وفي ذلك عارٌ عليه وأن العقد بغير ولي باطلٌ لا يجوز بإجازته وأن الإصابة إذا كانت بشبهةٍ ففيها المهر ودرئ الحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا تَضَمَّنَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ والأحكام نصاً واستنباطاً منها في قوله: " أيما امرأة " فَذَكَرَ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثِينَ حُكْمًا سِوَاهَا فَصَارَتْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ حُكْمًا أَخَذَتْ دَلَائِلَهَا مِنَ الْخَبَرِ بِنَصٍّ وَاسْتِنْبَاطٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 منها في قوله: " أيما امرأة " أربعة دَلَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ " أَيُّ " لَفْظَةُ عُمُومٍ، لَهُ صِيغَةٌ لِتَنَاوُلِهِ جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فَخَالَفَ قَوْلَ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ. وَالثَّانِي: أَنْ " مَا " الْمُتَّصِلَةَ بِأَيِّ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، لِأَنَّهَا لو حذفت فقيل: أي امرأة صح، مثله قَوْله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) {آل عمران: 159) . أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصِّلَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْكَلَامِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامٌ. وَالثَّالِثُ: اشْتِمَالُهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ يُخَالِفُ قَوْلَ أبي حنيفة، وشريفة ودنية يُخَالِفُ قَوْلَ مَالِكٍ، وَبِكْرٍ وَثَيِّبٍ يُخَالِفُ قَوْلَ دَاوُدَ. وَالرَّابِعُ: خُرُوجُ الرِّجَالِ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ. وَمِنْهَا فِي قوله: " نكحت بغير إذن ولها " خمسة دَلَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ فَخَالَفَ قَوْلَ أبي حنيفة. وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ في نكاحهن قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا خِلَافَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُوكِّلَ، لِأَنَّ إِذْنَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لوكيل ينوب عنه. والرابع: أن لَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ وَلَا نَائِبٍ عَمَّنْ هُوَ فِي الْحَالِ وَلِيٌّ. وَالْخَامِسُ: أن العقد فاسد قَدْ يُضَافُ إِلَى عَاقِدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ: " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ "، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فنكاحها باطل ستة دَلَائِلَ: أَحَدُهَا: بُطْلَانُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بِخِلَافِ قول من أجازه بغير ولي. والثاني: لَا يَكُونُ إِذَا بَطَلَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النكاح الفاسد لا يفسخ بطلقه إن كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يُسَمَّى نِكَاحًا. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً، وَمَجَازًا. وَالسَّادِسُ: جَوَازُ تكرار اللفظ وزيادة في البيان وتوكيد للحكم، لِأَنَّهُ قَالَ: فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثًا. وَمِنْهَا فِي قوله: " وَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " خَمْسَةَ عَشَرَ دَلِيلًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَسِيسَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُوجِبٌ لِلْمَهْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ النكاح الفاسد إذا خلا من الإنابة لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْمَهْرُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْخَلْوَةَ لا تكمل بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة. وَالسَّابِعُ: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ يُوجِبُ الْمَهْرَ، لِأَنَّهُ فَرْجٌ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ إِذَا أُصِيبَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِلزَّوْجِ. وَالتَّاسِعُ: أن الموطوءة بشبهة يكون لها المهر لَا فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّ تَكْرَارَ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ بِهِ إِلَّا مهر واحدة ما لم تغرم المهر عما تقدم به. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِصَابَةَ دُونَ الْفَرْجِ لَا تُوجِبُ الْمَهْرَ. وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الْغَارَّةَ لِلزَّوْجِ يسقط عنه مهره بالغرور. والثالث عشر: أن الموطوءة في العدة بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وتحريم المصاهرة لاستوائهما في وجوب المهر ولحوق النسب والعدة وتحريم المصاهرة. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْمَهْرَ إِذَا اسْتُحِقَّ بِالْإِصَابَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة: أَنَّهُ يُوجِبُ أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى. وأما قَوْلِهِ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " خَمْسَةُ دَلَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَصَبَةَ أحق بالولاية عليها من السلطان. والثانية: أنهم إذا عدموا انتقلت الولاية عليها إِلَى السُّلْطَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْ عَصَبَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْأَبْعَدِ، كَمَا أَنَّ الْعَصَبَةَ لِقُرْبِهِمْ أَوْلَى مِنَ السُّلْطَانِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِذَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ إِذَا اشْتَجَرُوا أَحَقَّ مِنَ الْبَاقِينَ إِلَّا بِقُرْعَةٍ أو لتسليم. والخامس: أنهم إذا اشتركوا فِي نِكَاحِهَا عَضْلًا لَهَا لَا تَنَازُعًا فِيهَا زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ. وَالِاشْتِجَارُ عَضْلًا: أَنْ يَقُولَ كُلُّ واحد منهما زوجها أنت ليصيروا جميعاً عضلة فزوجها السلطان. والاشتجار إذا تَنَازَعًا أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا أزوجها فلا تنقل الولاية إلى السلطان، لأنهم غيرة عضلة بل يفرع بَيْنَهُمْ وَيُزَوِّجُهَا مِنْ قُرِعِ مِنْهُمْ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَجَمَعَتِ الطَّرِيقُ رُفْقَةً فِيهِمُ امْرَأَةٌ ثيبٌ فَوَلَّتْ أمرها رجلاً منهم فزوجها فجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناكح والمنكح ورد نكاحهما ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 قال الماوردي: وهذا الأمر المروي عن عمر وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ ولي فالمقصود به يَتَعَلَّقُ عَلَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حاكمٍ أَمْ لَا فَإِنْ تَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَاكِمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بغير ولي، أو يكون حنيفاً يَرَى جَوَازَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى إِبْطَالَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، حَكَمَ بإبطاله وفرق بينهما فإن اجتمعا حكم فيه بمذهبه، وقضى بينهما، عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا كَانَا زَانِيَيْنِ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ، لِأَنَّ شُبْهَةَ الْعَقْدِ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ، فَلَوْ تَرَافَعَا بعد إبطال الحاكم الشافعي إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يحكم بجوازه لنفوذ الحكم بإبطاله وإن كان فِي الِابْتِدَاءِ قَدْ تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بصحته، وأذن لهما بالاجتماع فيه فلم يَكُنْ عَلَيْهِمَا فِي الْإِصَابَةِ حَدٌّ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بالإباحة، فلو ترافعا بعد حكم الحنفي بصحة إِلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ وَيَنْقُضَ حَكَمَ الْحَنَفِيِّ بِصِحَّتِهِ وَإِمْضَائِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ وَنَقْضِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِإِمْضَائِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ: " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " ثَلَاثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا قَدْ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ، وَالنَّصُّ فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. فَصْلٌ وَإِذَا لَمْ يَتَرَافَعَا فِيهِ إِلَى حَاكِمٍ وَلَا حُكِمَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ إِبْطَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ حَتَّى افْتَرَقَا فَلَا عِدَّةَ عليهما، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يتوارثا وإن اجتمعا فيه على الْإِصَابَةِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدهما: أَنْ يَعْتَقِدَا الْإِبَاحَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَا تَحْرِيمَهُ. والثالث: أن يجهلا حكمه، فإن اعتقدا الإباحة لِاعْتِقَادِهِمَا مَذْهَبَ أبي حنيفة فِيهِ فَلَا حَدَّ عليهما، لاستباحتهما له من اجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ لَوْ شَرِبَ النَّبِيذَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أبي حنيفة فِي إِبَاحَتِهِ حَدَدْتُمُوهُ، فَهَلَّا حَدَدْتُمْ هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ إِبَاحَتَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشُّبْهَةُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَقْوَى لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَصْلَيْ حَظْرٍ مِنْ زِنَا وَإِبَاحَةٍ مِنْ نكاح، وإباحة الشبهة في النبيذ الذي لا يرجع إلا إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ الخمر. والثاني: أن النكاح الذي عقده وَلِيٍّ قَدْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ بِوَلِيٍّ فَاقْتُصِرَ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ، وَلَيْسَ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ عَلَى مجرد النهي حتى يضم إليه حكم هُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ، لِيَكُونَ أَمْنَعَ مِنَ الإقدام عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 فَصْلٌ وَإِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ ولي فلا حد عليهما، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ أَقْوَى شُبْهَةً، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرأوا الحدود بالشبهات "، ولأن من جهل تحريم الزنا لحدوث إسلامه لم يجد فكان هذا بدرء الحد أولى، ألا ترى أن قول عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَمَةٍ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا إِقْرَارَ جَاهِلٍ بِتَحْرِيمِهِ أَرَاهَا تَشْهَدُ بِهِ كَأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ، وَإِنَّمَا الْحَدُّ عَلَى مَنْ علم. ثم يتعلق عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِ فيوجب العدة، ويلحق بالنسب، وَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ وَلَكِنْ فِي ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَثْبُتُ بِهَا الْمَحْرَمُ كَمَا تَثْبُتُ بِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا تُحْجَبُ عن أبيه وابنه ولا تحجب عنه أمها وبنتها. والوجه الثاني: أن يثبت المحرم وإن ثبت به تحريم المصاهرة، لأننا أثبتنا تحريم المصاهرة تغليظاً فاقتضى أن ينتفي عَنْهُ ثُبُوتُ الْمَحْرَمِ تَغْلِيظًا. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَا مُعْتَقِدَيْنِ لِتَحْرِيمِهِ يَرَيَانِ فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ إبطال النكاح بغير ولي فمحظور عليهما الإصابة فإن اجتمعا عليها وَوَطِئَهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حد عليهما وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - وهو مذهب الزهري، وأبي ثور: الحد عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " البغي من نكحت بغير ولي ". والأثر المروي عن عمر في المرأة والرجل جَمَعَتْهُمَا رُفْقَةٌ فَوَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَزَوَّجَهَا فَجَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ الْمَاضِي: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " فَأَبْطَلَ النِّكَاحَ وَأَوْجَبَ المهر دون الْحَدَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ادرأوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " وَأَقْوَى الشُّبَهَاتِ عَقْدٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِبَاحَتِهِ فَكَانَ بِإِدْرَاءِ الْحَدِّ أَوْلَى. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْبَغِيُّ مَنْ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ " فَهِيَ لَا تَكُونُ بَغِيًّا بِالنِّكَاحِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَنْ يُوجِبُ الْحَدَّ، إِنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ بَغِيًّا فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّعَلُّقِ بِهِ دَلِيلٌ، ثُمَّ يحمل على أنه يتعلق عليها بعض الأحكام الْبَغِيِّ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ، وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُسَمَّى بَعْضُ أَحْكَامِ الْبَغْيِ بَغْيًا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ " فَسَمَّاهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَالْجَلْدُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعْزِيرِ أَلَّا تَرَاهُ جَلَدَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكَحَ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَزَّرَهُمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 فَصْلٌ وَإِذَا تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ثُمَّ طلقها ثلاثاً ففي حكم طلاقه وحكم تحريمها عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أحدهما: يجز عَلَيْهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَمَنْ عَاضَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ لَهُمْ فيه سَلَفٌ إنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ للحكم بإبطاله وإنما تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي نِكَاحٍ، وَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ إِنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَهَا، قَبْلَ زَوْجٍ، فَإِنَّهُ إِذَا أَصَابَهَا لَمْ تَحِلَّ بِإِصَابَتِهِ لَهَا للزوج إن كان طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِ لَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره فهل تحل بإصابته لها الزوج إِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ لَهُ لِإِجْرَائِنَا عَلَى طَلَاقِهِ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّنَا ألزمناه حكم طلاقه تغليظاً عليهما فَكَانَ مِنَ التَّغْلِيظِ أَنْ لَا تَحِلَّ لِغَيْرِهِ بإصابته. فصل وإذا عدمت المرأة ولياً مناسباً وكانت فِي بَلَدٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَأَرَادَتْ نِكَاحَ زَوْجٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تنكح حتى تجد ولياً بحكم أو بنسب كَمَا عَدِمَتِ الشُّهُودَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَزَوَّجَ حتى تجد الشهود. والوجه الثاني: أن يَجُوزَ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ بِتَزْوِيجِ غَيْرِ الْكُفْءِ فَإِذَا عدم زال معناه وخالف الشهود المعقود بِهِمُ الِاسْتِيثَاقَ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَوَّزَ لَهَا التَّزْوِيجَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْوَلِيِّ قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُوَلِّي أَمْرَهَا رَجُلًا يَكُونُ بَدَلًا مِنْ وَلِيِّهَا حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْعَقْدُ مَنْ عَدَدِهِ، وَيُحْتَمَلُ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْخَصْمَيْنِ إِذَا حَكَّمَا رَجُلًا هَلْ يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ كَلُزُومِ الْحَاكِمِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيٍّ لِأَنَّ عَارَهَا لَا يَلْحَقُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 إذا وصى الْأَبُ بِتَزْوِيجِ بِنْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَصِيِّهِ أَنْ يزوجها صغيرة كانت أم كَبِيرَةً عُيِّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ يعين وَلَا يُزَوِّجْهَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً إِلَّا أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِكُلِّ حَالٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَى مَالِهَا وَنِكَاحِهَا فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يستنيب في حياته وكيلاً جاز له أن يستنيب بعد مَوْتِهِ وَصِيًّا كَالْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " وَلَيْسَ الْوَصِيُّ وَلِيًّا، وَلِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: زَوَّجَنِي خَالِيَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِابْنَةِ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَمَضَى الْمُغِيرَةُ إِلَى أُمِّهَا وَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ فَمَالَتْ إِلَيْهِ، وَزَهِدَتْ فِيَّ فَأَتَى قدامة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا وَمَا نَقَمُوا مِنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا يَتِيمَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهَا " فَرَدَّ نِكَاحَهُ مَعَ كَوْنِهِ وَصِيًّا مِنْ غَيْرِ أن يستبرئ حال صغرها وكبرها ولا هل عين الأب على الزوج أم لا؟ فدل على أن النكاح إنما يجاز له؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ النكاح قد انتقلت بِمَوْتِ الْأَبِ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ فَصَارَ مُوصِيًا فِيمَا غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهِ فكان مردود الوصية كما وَصَّى بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ أَطْفَالِهِ وَلَهُمْ جَدٌّ إِلَى غَيْرِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، كَذَلِكَ هَذَا. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا وِلَايَةٌ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ فَلَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا بِالْوَصِيَّةِ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْعَصَبَةَ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِهَا لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ عَارِهَا بِنِكَاحِهَا غَيْرَ كُفْءٍ فَصَارَ حَقُّ الولاية بينهم مشتركاً لرفع الْعَارِ عَنْهُمْ وَعَنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الوصي الذي لا يلحقه عارها فلم نثبت وِلَايَتَهُ لِفَقْدِ مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي هُوَ نائب غير مُسْتَحِقٍّ لَهَا وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِ مُرَاعٍ لِنَفْيِ العار عنه وعنها. مسألة قال الشافعي: " وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا " دَلَّالَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بين الثيب والبكر فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إِذْنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ والتي تخالفها الْكَلَامُ وَالْآخَرُ أَنَّ أَمْرَهُمَا فِي وِلَايَةِ أَنْفُسِهِمَا مختلفٌ فَوِلَايَةُ الثَّيِّبِ أَنَّهَا أَحَقٌ مِنَ الْوَلِيِّ وَالْوَلِيُّ ههنا الْأَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بالأيم هاهنا الثيب لما قدمنا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي كلمتين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 إحداهما: الفرق بينهما في صفة الإذن. والثاني: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ، وَنَحْنُ نُقَدِّمُ الْكَلَامَ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْعَقْدِ لِأَنَّهُ أصل لم يعقبه بِصِفَةِ الْإِذْنِ فِي مَوْضِعِهِ، فَنَقُولُ: النِّسَاءُ ضَرْبَانِ: أَبْكَارٌ، وَثَيِّبٌ. فَأَمَّا الثَّيِّبُ فَيَأْتِي حُكْمُهُنَّ. وَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَلَهُنَّ حَالَتَانِ حَالَةٌ مَعَ الْآبَاءِ، وَحَالَةٌ مع غيرهم من الأولياء. فما حالهن مع الآباء فهن ضَرْبَانِ: صِغَارٌ، وَكِبَارٌ. فَأَمَّا صِغَارُ الْأَبْكَارِ فَلِلْآبَاءِ إِجْبَارُهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ فَيُزَوِّجُ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ اخْتِيَارَهَا وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا لَهَا فِي صِغَرِهَا وَبَعْدَ كِبَرِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا يَقُومُ فِي تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا فُقِدَ الْأَبُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ وِفَاقًا قَوْله تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ) {الطلاق: 4) يَعْنِي الصِّغَارَ، وَالصَّغِيرَةُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعٍ، وَدَخَلَ بِي وَأَنَا ابْنَةُ تسع، ومات عني، وأنا ابنة ثماني عشر. فصل وأما البكر الكبيرة فللأب أو للجد عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا جَبْرًا كَالصَّغِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهَا عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْأَبِ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغِ على العقد إِلَّا عَنْ إِذْنٍ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، فجعل الإجبار معتبراً بالصغيرة دون البكارة، وجعل الشافعي الإجبار معتبراً بالبكارة دون الصغر، واستدل من نص قَوْلَ أبي حنيفة بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر فمات فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا، وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ " فَكَانَ عَلَى عمومه، ولأنها متصرفة في مالها فلا يجوز إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالثَّيِّبِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ زال عنه الحجر فِي مَالِهِ زَالَ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي نِكَاحِهِ كالرجل. ودليلنا رواية الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ نَافِعِ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا " فَلَمَّا جَعَلَ الثيب أحق بنفسها من وليها علم أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا ويكون قوله: " والبكر تستأذن في نفسه " مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ اسْتِطَابَةً لِلنَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوبِ لَصَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا كَالثَّيِّبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ قبض صداقها بعد رضاعها جَازَ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا كَالْأَمَةِ وَكَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اسْتُحِقَّ بِالْوِلَايَةِ فِي نِكَاحِ الْكَبِيرَةِ قِيَاسًا عَلَى طَلَبِ الْكَفَاءَةِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا جَبْرًا فِي الْكِبَرِ لَمَا كَانَ لَهُ تَفْوِيتُ بُضْعِهَا فِي الصِّغَرِ كَالطِّفْلِ يُقْتَلُ أَبُوهُ لَمَّا لم يكن لولي تفويت خياره عليه في القود والدية بعد البلوغ لم يكن له تفويته عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ الْقَاتِلُ مَحْبُوسًا حَتَّى يَبْلُغَ فَيَخْتَارُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَبْطُلُ بِالصَّبِيِّ فَإِنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الِابْنِ تَفْوِيتٌ لِمَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَالثَّيِّبُ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلَاصِ نفسها من عقد الأب إن لم يشاء. وَأَمَّا خَبَرُ عَائِشَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ تَخْصِيصًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الثَّيِّبِ فَالْمَعْنَى فِيهَا؛ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ عَقْدُ نِكَاحِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ أبي حنيفة وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ جاز له أن يعقد نكاحا بغير رضاها، لأن التصرف في المبدل معتبر بالتصرف فِي الْبَدَلِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِي نِكَاحِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِكْرُ. فَصْلٌ فإذا ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ عَلَى النِّكَاحِ صغيرة أو كبيرة، وكذلك الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ لَيْسَ الْإِجْبَارُ إِلَّا لِلْأَبِ دُونَ الْجَدِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْجَدِّ إِجْبَارُ الصَّغِيرَةِ كَالْأَبِ وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الْكَبِيرَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَفَرَّقَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، بِأَنَّ الْجَدَّ يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ بِوَسِيطٍ كَالْإِخْوَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) {الحج: 78) فَسَمَّاهُ أَبًا إجراءً لحكم الْأَبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لما ثبت ولاية الجد على الأب فأولى أن يثبت عَلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِ الْأَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى الْجَدُّ الْأَبَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى مَالِهَا سَاوَاهُ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى نِكَاحِهَا وَبِهَذَا فَرَّقَ بينه وبين سائر الْعَصَبَاتِ. فَصْلٌ فَأَمَّا حَالُ الْبِكْرِ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَلَا تَخْلُو حَالُهَا مَعَهُمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِجْبَارُهَا إِجْمَاعًا، وَلَيْسَ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآبَاءِ، وَالْعَصَبَاتِ؛ أَنَّ فِي الْآبَاءِ بَعْضِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْعَصَبَاتِ فَقَوِيَتْ بِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 وِلَايَتُهُمْ حَتَّى تَجَاوَزَتْ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إِلَى وِلَايَةِ المال فصاروا بذلك أعجز، ولأنه مِنَ الْعَصَبَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِكْرُ صَغِيرَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا بِحَالٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: لِجَمِيعِ الْعَصَبَاتِ تَزْوِيجُهَا صَغِيرَةً كَالْأَبِ وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ. وَقَالَ أبو يوسف: لَهُمْ تَزْوِيجُهَا وَلَا خِيَارَ لَهَا كَهِيَ مَعَ الْأَبِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) {النساء: 127) . قَالَ: وَالْيَتِيمَةُ مَنْ لَا أَبَ لَهَا مِنَ الصِّغَارِ وَالَّذِي كُتِبَ لَهَا صَدَاقُهَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ لَهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا فِي الْكِبَرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا فِي الصِّغَرِ كَالْأَبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْآبَاءُ وَالْعَصَبَاتُ فِي إِنْكَاحِ الثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي إِنْكَاحِ الْبِكْرِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ زَوَّجَ ابنة أخيه بعبد الله بن عمر فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ فَقَالَ إِنَّنِي عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إنها يتيمة وإنها لا تتزوج إِلَّا بِإِذْنِهَا " فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ تَزْوِيجَهَا إِلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يَمْلِكْ قَبْضَ صَدَاقِهَا لَمْ يَمْلِكْ عَقْدَ نِكَاحِهَا كالعم مع الثيب طرداً، أو كالسيد مع أمته عكساً، ولأنها ثبتت لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْعَصَبَاتِ كَوِلَايَةِ المال، ولأن النكاح إذا لم ينعقد لأن ما كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِخِيَارِ التَّحَكُّمِ وَالِاقْتِرَاعِ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الثَّيِّبِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَتُحْمَلُ عَلَى إِنْكَاحِهَا قبل اليتم أو على إنكاح الجد، لِأَنَّ الْيُتْمَ يَكُونُ بِمَوْتِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ بَاقِيًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَبِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوِلَايَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْإِجْبَارِ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَمَرْدُودٌ بِافْتِرَاقِهِمَا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " ومثل هذا حديث خنساء زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثيبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَرَدَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ وَفِي تَرْكِهِ أَنْ يَقُولَ لِخَنْسَاءَ " إِلَّا أَنْ تَشَائِي أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ " دلالةٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أَجَازَتْهُ مَا جَازَ والبكر مخالفةٌ لها لاختلافهما في لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو كانا سواء كان لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنهما أحق بأنفسهما. وقالت عائشة رضي الله عنها تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأذا، ابنة سبع سنين ودخل بي وأنا ابنة تسع وهي لا أمر لها وكذلك إذا بلغت ولو كانت أحق بنفسها أشبه أن لا يجوز ذلك عليها قبل بلوغها كما قلنا في المولود يقتل أبوه ويحبس قاتله حتى يبلغ فيقتل أو يعفو ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ لَا يَصْحُ وَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْنِ مِنْ صِحَّةٍ أَوْ فَسَادٍ، سَوَاءً كَانَ موقوفاً على إجازة الزوجة، أو الزوج أَوِ الْوَلِيِّ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إجازة الزوجة، أو الزوج، أو الولي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وَيَصِحُّ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي وَإِنَّمَا أردت لتعلم النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَيَّرَهَا وَالْخِيَارُ لَا يَثْبُتُ فِي اللَّازِمِ وَلَا فِي الْفَاسِدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كان موقوفاً على خيارها وإجازتها قال: لأنه لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَاللُّقَطَةُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْوَاحِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ لِكَوْنِ الْمُجِيزِ لَهُمَا مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَكُونُ فِي حَالِ الْوَقْفِ مَوْجُودًا. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُجِيزُهُ مَوْجُودًا جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِجَازَتِهِ مَوْقُوفًا كَاللُّقَطَةِ، وَالْوَصِيَّةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الِاخْتِيَارِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَالْفَسْخِ قَالَ: وَلِأَنَّ حَالَ الْعَقْدِ بَعْدَ كَمَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَالِهِ قَبْلَ كَمَالِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ قبل كماله موقوفاً بعد البذل عَلَى إِجَازَةِ الْقَبُولِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ حالتي الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْحَالِ الْأُولَى. وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطل فَلَوْ صَحَّ بِالْإِجَازَةِ لَوَقَفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ، ولما حكم بإبطاله؛ حدث خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ أَنْ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكاحها ولم يقل إلا أن تشاء أَنْ تُجِيزِي مَا فَعَلَ أَبُوكِ مَعَ حَثِّهِ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ أجازته لَمْ يَجُزْ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْمَنْكُوحَةِ إِذَا لَمْ تَصِرِ الْمَرْأَةُ بِهِ فِرَاشًا كَانَ فَاسِدًا كَالْمَنْكُوحَةِ في ردة أو عدة. وقال أبو حنيفة: إِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمِ يَلْحَقْ بِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطلاق، والظهار، وَالتَّوَارُثِ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا كَالْمُتْعَةِ. وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا فِي زَمَانِ الْوَقْفِ طَلَاقٌ، وَلَا ظِهَارٌ، وَلَا تَوَارُثٌ؛ وَلِأَنَّ ما افتقر إليه عقد النكاح كان تأخره عن العقد مبطلاً للنكاح كالشهادة؛ ولأن اشترط لُزُومِ النِّكَاحِ إِلَى مُدَّةٍ أَقْوَى مِنِ اشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَنْعَقِدُ إِلَى مُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَلَمَّا بَطَلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ بعد مد كقوله: تزوجتها شَهْرًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِ لُزُومِهِ كقوله تزوجتها عَلَى إِجَازَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ بِمَا لَهُ فِي الصِّحَّةِ نَظِيرٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِمَا ليس له في الصحة نظير؛ لأن النِّكَاحَ إِذَا اعْتُبِرَ لُزُومُهُ بِشَرْطٍ مُتَيَقَّنٍ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ أَقْوَى وَأَوْكَدَ مِنِ اعْتِبَارِ لُزُومِهِ بشرط مجوز بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 تَزَوَّجْتُكِ الْآنَ إِذَا أَهَلَّ شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَأَوْلَى إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مُدَّةِ إجازتها أن يكون فاسداً إلا أن إِذَا بَطَلَ فِي أَقْوَى الْحَالَيْنِ كَانَ بُطْلَانُهُ فِي أَضْعَفِهِمَا أَوْلَى. فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا به فضعيف، والمشهور من الرواية أنه رد نِكَاحَهَا وَلَمْ يُخَيِّرْهَا، وَلَوْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهَا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى وَقْتِ الْفَسْخِ لَا وَقْتَ الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا قَدْ كَانَ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ، فَالْوَصِيَّةُ يَجُوزُ وَقْفُهَا لِجَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ وَلَيْسَ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِلَيْنِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ بَلْ إِنْ لَمْ يَتَمَلَّكِ اللُّقَطَةَ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ تَمَلَّكَهَا فتصدق بها كانت عن نفسه وإذا لم يعلم الأجل بَطَلَ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ وَقْفِ النِّكَاحِ على الفسخ فكذلك على الإجازة باطل؛ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْفَسْخِ قَدْ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أحكام النكاح فصح الموقوف على الإجازة وقد انْتَفَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَبَطَلَ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوَقْفِهِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّا نَمْنَعُ مِنْ وَقْفِ الْعَقْدِ، وَهُوَ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ لَيْسَ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَجُزْ أن يستدل بوقف ما ليس يَلْزَمُ عَلَى وَقْفِ عَقْدٍ يَلْزَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " والاستئمار للبكر على استطابة النفس قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لاستطابة أنفسهم وليقتدي بسنته فيهم وقد أمر نعيماً أن يؤامر أم بنته ". قال الماوردي: أما الثَّيِّبُ فَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وليها وإذنها يكون بالقول الصَّرِيحِ وَأَمَّا الْبِكْرُ فَيَلْزَمُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أن يستأذنها سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِجْبَارُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة، وداود: يلزمه اسْتِئْذَانُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ الْأَبِ لَهَا لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً؛ وَمَا رَوَاهُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ "، وَالْيَتِيمَةُ وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا فَلَمَّا خَصَّ الْيَتِيمَةَ بِالِاسْتِئْمَارِ وَهِيَ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْأَبِ لَا يَلْزَمُ اسْتِئْمَارَهَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " والبكر تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا " فَيُحْمَلُ مَعَ غَيْرِ الْأَبِ عَلَى الْإِيجَابِ وَمَعَ الْأَبِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمُشَاوَرَةِ أُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) {آل عمران: 159) لَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدٍ رَدَّ مَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَكِنْ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِيَقْتَدُوا بِسُنَّتِهِ فِيهِمْ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهِ فقال قوم: في الحرب ومكائد الْعَدُوِّ خَاصَّةً. وَقَالَ آخَرُونَ: فِي أُمُورِ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ. وَقَالَ آخَرُونَ: فِي أُمُورِ الدِّينِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَ نُعَيْمًا أَنْ يُؤَامِرَ أُمَّ ابْنَتِهِ، وَقَالَ: وأمروا الأمهات فِي بَنَاتِهِنَّ " وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِنَّ لا على وجوب استئمارهن، وكذلك استئمار الأب للبكر على استطابة النفس لَا عَلَى الْوُجُوبِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِئْمَارَ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ اسْتِحْبَابًا فَإِذْنُهَا يَكُونُ بِالصَّمْتِ دُونَ النُّطْقِ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وصمتها إِقْرَارُهَا ". وَرَوَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا خُطِبَ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا مِنَ الْخُدُورِ وَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا خَطَبَ فُلَانَةَ فَإِنْ هِيَ رَضِيَتْ سَكَتَتْ فَكَانَ سُكُوتُهَا رِضَاهَا، وَإِنْ هِيَ أَنْكَرَتْ طَعَنَتْ فِي الْخِدْرِ فَكَانَ ذلك منها إنكاراً فلا يزوجها، ولا البكر أكثر خفراً وَتَحَذُّرًا مِنَ الثَّيِّبِ فَهِيَ تَسْتَحِي مِمَّا لَا تَسْتَحِي مِنْهُ الثَّيِّبُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا إِذْنًا وَرِضًا وَلَمْ يُجْعَلْ إِذْنُ الثَّيِّبِ إِلَّا نُطْقًا، فَأَمَّا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الْبِكْرِ فَعَلَيْهِمُ اسْتِئْمَارُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِجْبَارُهَا وَإِذْنُهَا مَعَهُمُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذنها معهم بِالنُّطْقِ الصَّرِيحِ كَالثَّيِّبِ بِخِلَافِهَا مَعَ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ الِاسْتِئْمَارِ كَالثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِذْنُهَا نُطْقًا صَرِيحًا كَالثَّيِّبِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْأَخْبَارِ، ولما ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَلَعَلَّ حَيَاءَهَا مَعَ غير الأب أكثر لقلة مخالطته فكان إذنها معهم بأن يكون صمتها أَوْلَى، وَهَكَذَا السُّلْطَانُ مَعَ الْبِكْرِ كَالْعَصَبَاتِ إِذَا فقدوا لا يزوجوها إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا بِإِذْنِهَا وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ وَسَوَاءً كَانَتِ الْبِكْرُ مِمَّنْ قَدْ تَزَوَّجَتْ مَرَّةً وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ إذا كانت البكارة باقية في أن حكمها ما ذكرنا مع الأب والعصبات. الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ مَسْأَلَةٌ (قَالَ المزني) رحمه الله وروى الشافعي عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " ورواه غير الشافعي في عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ واجبة وقال داود غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وعبد الله بن الزبير، وعمر، وعبد الله بن عباس. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، والنخعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 ومن الفقهاء: أبو حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل ومالك وَأَبُو ثَوْرٍ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ الْإِشْهَادَ به وترك التراخي بِكَتْمِهِ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء) {النساء: 3) فكان على عمومه وكما رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ألا أنكحك آمنة بنت ربيعة بن الحارث قال: بلى، قد أنكحتها ولم يشهد، ولما رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ من عمر ولم يشهد. قالوا: وَلِأَنَّ الْعُقُودَ نَوْعَانِ: عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ كَالْبَيْعِ، وَعَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ كَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ خُصُوصًا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ "، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ " وروى ابن مسعود عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ". وروى هشام بن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: زَوْجٍ وَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ "، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَمَّا خَالَفَ سَائِرَ الْعُقُودِ فِي تَجَاوُزِهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِينَ إِلَى ثَالِثٍ هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي يَلْزَمُ حفظ نسبه خالفها فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ الغائب لئلا يبطل نسبه فيجاهد الزَّوْجَيْنِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فِي إِلْحَاقِهِ إِمَّا بِعُقُودِ الْأَعْيَانِ، أَوْ بعقود المنافع. فأما الجواب عن الأول: فهو أن المقصود بها من يستباح من المنكوحات ولم يرد فِي صِفَاتِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آمنة بنت ربيعة ولم يشهد وتزوج عَلِيٍّ بِنْتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ولم يشهد فهذا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ حَضَرَ الْعَقْدَ شُهُودٌ لَمْ يَقُلْ لَهُمُ اشْهَدُوا إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَالِ بُرُوزِهِ مِنْ حُضُورِ نَفْسَيْنِ فَصَاعِدًا وَكَذَلِكَ حَالُ عُمَرَ مَعَ عَلَيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَا يَخْلُو أَنْ يَحْضُرَهُ نَفْسَانِ، وَإِذَا حَضَرَ الْعَقْدَ شَاهِدَانِ بِقَصْدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُمَا اشْهَدَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: وَلَمْ يُشْهِدْ، أَيْ لَمْ يَقُلْ لِمَنْ حَضَرَ اشهدوا وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فقال هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ في لَرَجَمْتُ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 أَحَدُهُمَا: يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ فَخُولِفْتُ. وَالثَّانِي: يَعْنِي لَوْ تَقَدَّمْتُ بِالْوَاجِبِ وَتَعَدَّيْتُ إِلَى مَا لَيْسَ بِجَائِزٍ لَرُجِمْتُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ عليه السلام: " وأعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف " ففيه جوابان: أحدهما: أن إعلانه يكون بالشهادة وكيف يكون مكتوماً ما شهده الشُّهُودُ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلَا من بينة وشهود. والجواب الثاني: أن يُحْمَلَ إِعْلَانُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا حَصَلَ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِنَا غَيْرَ مَحْمُولٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَا عَلَى الْإِيجَابِ وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدُهُ الشُّهُودُ، أَلَّا تَرَى أَنَّ عُمَرَ رَدَّ نِكَاحًا حَضَرَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، وَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (وسرك ما كان عند أمري ... وسر الثلاثة غير الخفي) فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ فَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ) {البقرة: 282) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوِي عَدْلٍ مِنْكُمْ) {الطلاق: 2) فلما أمر بالرجعة بِشَاهِدِينَ وَهِيَ أَخَفُّ حَالًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ". فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ غلب في اللغة اللفظ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فَلَمْ يَمْنَعْ جَمْعُ الشَّاهِدَيْنَ من أن يكون شاهداً وامرأتين. قيل: وهذا وإن صح في الجمع؛ لأن المذكر والمؤنث بلفظ التَّثْنِيَةِ يُمْنَعُ مَنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجَمْعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ وَلَا فِي الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْمِلُ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ فَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَةٍ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، وَقَوْلَ الْأُمَّةِ، وَإِنْ حَمْلَهُ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ خَالَفَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ إِلَى الْجَمْعِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ في خبره فبطل ما تأولوه. من القياس: أن الفروج لا يسوغ فيها البذل وَالْإِبَاحَةُ فَلَمْ يُسْتَبَحْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 كَالْقَصَاصِ، وَلِأَنَّ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ بشاهدين لم يجز أن يكون وَلَا أَحَدُهُمَا امْرَأَةً كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِ النِّكَاحِ بِانْفِرَادِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ شُهُودِهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْعَبِيدِ والكفار. فأما الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا وَلِتَخْصِيصِ عمومها بما ذكرناه فأما القياس على سائر العقود فمردودة بِمَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ والله أعلم. فصل فإذا تقرر أن النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا عَدْلَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ بِفَاسِقَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حضورهما للعقد إنما هو حال فحمل الشَّهَادَةِ وَعَدَالَةُ الشُّهُودِ إِنَّمَا يُرَاعَى وَقْتَ الْأَدَاءِ لا وقت التحمل، ألا ترى لو تحمل شهادة صَبِيٌّ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَبَدٌ ثُمَّ أُعْتِقَ، أو كافراً ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَذَلِكَ شَهَادَةُ الْفَاسِقِينَ في النكاح. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ شَهَادَةً عَلَى عَقْدٍ فَجَازَ أن يصح من الفاسقين قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ شَرْطًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ العدالة كالزوجين، ولأنه لم يصح النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الزوجين صح أن تنعقد بِشَهَادَةِ فَاسِقِينَ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ) {الطلاق: 2) فَلَمَّا شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَهِيَ أَخَفُّ كَانَ اشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ المغلط أَوْلَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِهَا كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ كَالْأَدَاءِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ حُضُورَ الْعَقْدِ حَالُ تَحَمُّلٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَتْ تَحَمُّلًا فَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَجُوبُهَا في العقد كوجوبها في الأداء. والثاني: أن يُرَاعَى فِيهِ حُرِّيَّةُ الشُّهُودِ وَإِسْلَامُهُمْ وَبُلُوغُهُمْ كَمَا يراعى في الأداء وإن لم تراع فِي تَحَمُّلِ غَيْرِهِ مِنَ الشَّهَادَاتِ، فَكَذَلِكَ الْفِسْقُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى فِسْقِ الزَّوْجَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْعَدَالَةَ تُرَاعَى فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ فِي الْعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ حُرِّيَّةُ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُرَاعَ حُرِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ فِسْقُ الشَّاهِدِينَ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى شَهَادَةِ الْعَدُوَّيْنِ فَمَذْهَبُنَا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا مَا نذكره من اعتداد حالهما، فإن كانا عدوي لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا؛ لأن شهادتهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 فِي الْأَدَاءِ قَدْ تُقْبِلُ عَلَى مَنْ لَيْسَ له عدوين خالفاً الْفَاسِقَيْنَ إِذْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بحال، وإن كَانَا عَدُوَّيْنِ لِلزَّوْجَيْنِ مَعًا فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بهما وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا تنعقد كَالْفَاسِقَيْنِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَلَى أحد الزوجين بحال. والوجه الثاني: هو ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّ النكاح بهما منعقد وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا أَدَاؤُهُ بِخِلَافِ الْفَاسِقَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا أداء هذه الشهادة صح منهما أداء غيرها من الشهادات، وهذا لو كان الشاهدان ابْنَيِ الزَّوْجَيْنِ كَانَا كَالْعَدُوَّيْنِ، لَأَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ مَرْدُودَةٌ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ، فَإِنْ كَانَا ابْنِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا لِإِمْكَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَحَدِهِمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الزَّوْجِ وَالْآخَرُ ابْنَ الزَّوْجَةِ فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِمَا الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ، ومن أصحابنا مع منع من انعقاد النكاح بِكُلِّ حَالٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَدُوَّيْنِ بِأَنَّ فيما بغضية لَا تَزُولُ، وَلَيْسَتْ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي قَدْ تَزُولُ والله أعلم بالصواب. مسألة (وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ) بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ " لَا نكاح إلا بولي مرشدٍ وشاهدي عدلٍ " وأن عمر رد نكاحاً لم يشهد عليه إلا رجل وامرأةٌ فقال " هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فيه لرجمت " وقال عمر رضي الله عنه " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذي الرأي من أهلها أو السلطان " (قال الشافعي) والنساء محرمات الفروج فلا يحللن إلا بما بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فبين " وليا وشهوداً وإقرار المنكوحة الثيب وصمت البكر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ رُشْدُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَاسِقًا بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى الظَّاهِرِ من مذهب الشافعي، والمشهور من قوله سواء كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْعَصِبَاتِ لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُهُ بِالْفِسْقِ لأنه يكون مأموراً كالوكيل. وقال أَبُو حَنِيفَةَ: فِسْقُ الْوَالِي لَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ قَوْلًا عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) {النور: 32) وَلِأَنَّ من تعين في عقد النكاح لم يعتبر فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَلِيَ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرَهُ كَالْعَدْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْفَاسِقِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ جَازَ لَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ وَلِيًّا فِي نِكَاحِ ابْنَتِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل. ورواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: " مُرْشِدٍ " وَلَمْ يَقُلْ رَشِيدٍ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الرُّشْدِ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ إِذَا زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ كَانَ مُرْشِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا. قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه صفة مدح تتعدى عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَمَنْ لَيْسَ بِرَشِيدٍ لَا يتوجه إليه مذمة وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ رُشْدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الخبر الآخر في قوله: وأيما امرأة أنكحها وَلِيٌّ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلِأَنَّهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالرِّقِّ؛ وَلِأَنَّهَا ولاية تمنع مِنْهَا الرِّقَّ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الْفِسْقُ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مُنِعَ الْفِسْقُ مَنْ عقده كالحاكم. فأما الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّهَا خِطَابٌ إِمَّا لِلْأَزْوَاجِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ، أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَلِيٍّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الزَّوْجِ فالمعنى في الزوج: أنه يتولى فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ رُشْدُهُ كَمَا لم تعتبر حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ وَالْوَلِيُّ يَتَوَلَّاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ رُشْدُهُ كَمَا اعْتُبِرَتْ حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعَدْلِ فَالْمَعْنَى فِي الْعَدْلِ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الْمَالِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ على النكاح والفاسق لما بطلت ولايته على المال بطلت وِلَايَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعَقْدِ الْفَاسِقِ عَلَى أَمَتِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَعْقِدُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَالزَّوْجَيْنِ وَالْوَلِيُّ يَعْقِدُهُ في حق غيره فاعتبرت فيه العدالة كالحاكم. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ فَلِأَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ ملة أبطلنا ولايته وكذا كالفاسق في ديننا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ فِي النكاح باطلة، فالولاية تنقل عنه إلى ما هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ فَإِنْ زَالَ فِسْقُهُ عَادَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فلو زوجها الأبعد يعد عَدَالَةِ الْأَقْرَبِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَالَةِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِهَا أَوِ الزَّوْجُ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَدَالَةِ الْآخَرِ حَتَّى عُقِدَ الْعَقْدُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا عَقَدَ بَعْدَ عَزْلِ موكله قبل علمه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 فَصْلٌ فَلَوْ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ وَكَّلَ وكيلاً عدلاً كانت وكالته باطلة؛ لأن الفسق قد زالت عنه الولاية فلم يصح مِنْهُ الْوَكَالَةُ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَدْلًا فَوَكَّلَ وَكِيلًا فَاسِقًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ الْفِسْقُ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ مَعَ قُوَّتِهَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ وِلَايَةَ الْوَكِيلِ مَعَ ضَعْفِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَيَصِحُّ عَقْدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ وَالْوَلِيُّ مِنْ وَرَائِهِ لاستدراك ذلك. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَكِيلًا لِوَلِيِّ غيرها عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ بِفِسْقِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا فَصَارَتْ وِلَايَةَ تَفْوِيضٍ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِمَنْ لَا يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِدُ إِلَّا عَنِ اسْتِئْذَانِهَا. فَصْلٌ فَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَعْمَى فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَى يَمْنَعُهُ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لِوَلِيَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ، لأن شعيب زَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ، وَكَانَ ضَرِيرًا وَلِأَنَّهُ قَدْ يصل إلى معرفة الحظ بالبحث والسؤال لأن معرفة الحظ لا توصل إِلَيْهِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ. فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّ عَقْدُهُ وَتَوْكِيلُهُ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ فَهَلْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ توكيله؛ لأنه لما لم تصح مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ كَانَ بِأَنْ لَا تَصِحَّ عَنْهُ الاستنابة أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْمُبَاشَرَةُ لَهُ بِنَفْسِهِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بنفسه ويصح أن يوكل فيه. فصل ولو كَانَ الْوَلِيُّ أَخَرَسًا فَفِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وِلَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَعَقْدَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَظِّ وَقَدْ تَقُومُ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ كَمَا يَقُومُ مَقَامُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُوكِّلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ مُحْتَمَلَةٌ، وَإِذَا أُقِيمَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لضرورة مَقَامَ نُطْقِهِ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي احتمال الإشارة موجود في توكيله لوجوده فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَصِحَّا مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فصل فأما إن كان الولي عدواً للزوجة، أو الزوج، أَوْ لَهُمَا فَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَعَقْدُهُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الشُّهُودِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ وَمِنَ الشُّهُودِ الْأَدَاءُ، وَالْعَدَاوَةُ تَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ العقد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 فإن قيل: فإذا كان عدواً لهما وَضَعَهَا فِي غَيْرِ كفءٍ. قِيلَ: رُشْدُهُ وَمَا يخافه من لحوق العار به يمنع من هذا التوهم. فصل فإذا كَانَ الْوَلِيُّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ. فَإِنْ قِيلَ: إن حجره جاري مجرى الْمَرَضِ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ، فَفِي وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالسَّفِيهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ، لأن حجره وإن جرى مجرى حجر السفه في ماله لم يجز مجراة في عدالته والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " والشهود عَلَى الْعَدْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي شُهُودِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَقْدِهِ هِيَ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عند الحاكم خَصْمًا جَاحِدًا فَاسْتُكْشِفَ لِأَجْلِهِ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا عَدَالَةُ الظَّاهِرَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يقدر من استبرأ العدالة في الباطن مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْحَاكِمِ، وإذا كان ذلك فَعَدَالَةُ الظَّاهِرِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِقْلَالُ مِنَ الصَّغَائِرِ فإن عَقَدَ الزَّوْجَانِ نِكَاحًا بِشَاهِدِينَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا وَإِثْبَاتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ جَائِزٌ لِعَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَعَقْدُ النِّكَاحِ بِهِمَا صَحِيحٌ لعدالة ظاهرهما لكن إثباته عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاسْتِبْرَاءِ عَدَالَةِ بَاطِنِهِمَا فَيَكْشِفُ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ صَحَّتْ لِلْحَاكِمِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْأَدَاءِ، وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ من الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا تَقَدُّمُ الْفِسْقِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا فَاسِقَيْنِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، فَلَوْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَعَ تَقَدُّمِ الفسق وقت العقد كَانَ الْعَقْدُ عَلَى فَسَادِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا مَجْهُولَيِ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ فِيهِمَا عَدَالَةٌ وَلَا فِسْقٌ فَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَالنِّكَاحُ بِهِمَا جَائِزٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَالَةُ وَالْفِسْقُ طَارِئٌ، وهو معنى قول الشافعي: والشهود على العدل حتى يعلم الحرج يَوْمَ وَقْعِ النِّكَاحِ وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِهِمَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِحَالِهِمَا لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِهِمَا من إِثْبَاتِ الْعَقْدِ عِنْدَهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ حَالِهِمَا في الظاهر والباطن فإذا استبرأهما لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 أَحَدُهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا فيحكم بها فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفِي ثُبُوتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمَا دُونَ بَاطِنِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ بِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْعَقْدِ فَإِنْ شهد بعقد النكاح بهما شاهدا عدل حينئذٍ بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ فَيَكُونُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِهِمَا بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِمَا وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا فَلَا يَخْلُو حال الفسق من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وُجُودُ الْفِسْقِ وَقْتَ الْعَقْدِ فالنكاح باطل. والقسم الثاني: أن يتبن لَهُ حُدُوثُ الْفِسْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَا يَفْسُدُ بِحُدُوثِ فِسْقِهِمَا لَكِنْ لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عدلان أنه عقد بهما فيحكم حينئذ ثبوته. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَشْهَدُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا عدلان غيرهما؟ ولو حضره عدلان غيرهما لاستغى بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِمَا. قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِهَذَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِسْقُهُمَا فِي الْحَالِ وَلَا يَعْلَمُ تَقَدُّمَهُ وَلَا حُدُوثَهُ والنكاح عَلَى الصِّحَّةِ لَا يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لِجَوَازِ حُدُوثِ الْفِسْقِ مَعَ سَلَامَةِ الظَّاهِرِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ وَقْتَ الْعَقْدِ " وَإِذَا لَمْ يَحْكُمُ بِفَسَادِهِ لَمْ يَحْكُمْ بإثباته إِلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا. فَصْلٌ فَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُمَا عَقَدَا النِّكَاحَ بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهدي عدل حكم عليهما بصحة النكاح بناء على إقرارهما وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَةِ الشَّاهِدِينَ وَرُشْدِ الْوَلِيِّ فلو تناكر الزوجان من بعد أو ادَّعَى أَحَدُهُمَا سَفَهَ الْوَلِيِّ وَفِسْقَ الشَّاهِدِينَ أَلْزَمَهُ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ إِنْكَارِهِ فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بما ادعيت من سفه الولي وفسق الشاهدين لم يسمعهما منه؛ لأن إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةٍ أُكَذِّبُهَا بِهِ. فَصْلٌ وَإِذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدِي عَدْلٍ، وَقَالَ الشَّاهِدَانِ بَلْ كُنَّا وَقْتَ الْعَقْدِ فَاسْقِينَ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِإِقْرَارِ الزوجين ولم يلتفت إلى قول الشاهدين فلو اختلف الزوجان فقالت الزوجة: عقدناه بشاهدين فاسقين، وَقَالَ الزَّوْجُ: عَقَدْنَاهُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وهو قول الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُمَا عَدْلَانِ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ لِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنَّهُمَا فَاسِقَانِ وَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَصْحِبَةٌ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: كَانَ الشَّاهِدَانِ فَاسِقِينَ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: كَانَا عَدْلَيْنِ، فَالنِّكَاحُ قَدِ ارْتَفَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ وَلَكِنْ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وجهان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَسْقُطُ تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزوجة لاستصحابها ظاهر العدالة. والوجه الثاني: قد سقط الْمَهْرُ تَغْلِيبًا لِقَوْلِ الزَّوْجِ لِاسْتِصْحَابِهِ أَنْ لَا عقد بينهما والله أعلم. فصل فإذا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ أَنَّهُمَا تَنَاكَحَا بِوِلَايَةِ الْأَبِ وَأَنَّ الْأَبَ زَوَّجَهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ أَنَّهُ مَا عَقَدَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا لِلْأَبِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِنْكَارُ الْأَبِ، وَهَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا عَقَدَاهُ بِشَاهِدَيْنِ هُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَنْ يَكُونَا حَضَرَاهُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الشَّاهِدِينَ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجَيْنِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ. فَصْلٌ وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الشَّاهِدِينَ حَتَّى يَسْمَعَا لَفْظَ الْوَلِيِّ بِالْبَذْلِ وَلَفْظَ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فَإِنْ سَمِعَا مَعَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِهِ وَبِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا ذِكْرَ الصَّدَاقِ شَهِدَا بِالْعَقْدِ دُونَ الصَّدَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا بِالصَّدَاقِ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ. مسألة قال الشافعي: " ولو كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا أُصِيْبَتْ بنكاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالنِّسَّاءُ ضَرْبَانِ: أَبْكَارٌ، وَثَيِّبٌ. فَأَمَّا الْأَبْكَارُ فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُنَّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَضَرْبَانِ: عَاقِلَةٌ، وَمَجْنُونَةٌ. فَأَمَّا الْعَاقِلَةُ فَضَرْبَانِ: صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا وَلَا تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا وَعَنْ إِذْنِهَا سَوَاءً كَانَ وَلِيِّهُا أَبًا أَوْ عُصْبَةً، وَإِذْنُهَا النُّطْقُ الصَّرِيحُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَإِذْنِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا جَمِيعُ أَوْلِيَائِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا إِذَا بَلَغَتْ وَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ كانت بالخيار إذا بلغت بين المقام والفسخ. وَقَالَ أبو يوسف: لَا خِيَارَ لَهَا فِي تَزْوِيجِ الْعَصَبَاتِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ فِي مَالِهِ جَازَ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَكَالْغُلَامِ وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ اسْتِخْدَامٌ، واستمتاع، فلما كان لولي العقد على استخدام منفعتها بالإجازة جَازِ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بالنكاح. وتحريره: أنها إحدى منفعتيها فجاز العقد عليها قبل بلوغها كالإجازة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مَنْ وَلِيِّهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِجْبَارُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نفسها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ خرج بها الولي عن كمال الولاية قبل البلوغ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَانِعًا مِنْ إِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ كَانَ حُدُوثُهُ قبل البلوغ مانعاً من إجبارها وعليه، ولأنها حرة سليمة ذهبت عدتها بِجِمَاعٍ فَلَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالْكَبِيرَةِ. فَأَمَّا الْآيَةُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبِكْرِ وَالْغُلَامَ اعْتِبَارًا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الولاية بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمَالِ أَوْسَعُ لِثُبُوتِهَا لِلْوَصِيِّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبِكْرِ وَالْغُلَامِ أَنَّهُ لما لم يثبت لهما خيار جاز إجبارهم وَلَيْسَ كَالثَّيِّبِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا عندهم وَأَمَّا استدلالهم بمنفعة الاستخدام فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ أَنْ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ مقررة بِأَمَدٍ يَنْقَضِي يَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا وَمُدَّةُ الِاسْتِمْتَاعِ مُؤَيَّدَةٌ وَهِيَ لَا تَصِلُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهَا فافترقا. فَصْلٌ فَأَمَّا الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ فَلَهَا حَالَتَانِ: صَغِيرَةٌ، وَكَبِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً جَازَ لِأَبِيهَا إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ لِلْإِيَاسِ مِنْ صِحَّةِ إِذْنِهَا إِلَّا أن يكون مِمَّنْ تُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَتُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا لِإِمْكَانِ اسْتِئْذَانِهَا فِي زَمَانِ إفاقتها وإنما يجوز إجبارها إذا طبق الْجُنُونُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ أَبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهَا تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِوِلَايَةِ الْمَالِ الثَّابِتَةِ بَعْدَ الأب والجد وللحاكم دُونَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا مِنْ حَاكِمٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ إِجْبَارُهَا إذا كان ما يؤس الْبُرْءُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ إِجْبَارُهَا قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لها الزَّوْجِ عَفَافٌ وَشِفَاءٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ جَازَ لَهُ إِجْبَارُهَا بعد البلوغ لأن برئها قبل البلوغ إرجاء وَالْإِيَاسُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَقْوَى فَمُنِعَ مِنْ إِجْبَارِهَا لِيَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ بُرْئِهَا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الثَّيِّبِ وَأَنَّهَا مُفَارَقَةٌ لِلْبِكْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِكْرَ تجبر والثيب لا تجبر. والثاني: أَنَّ إِذَنَ الْبِكْرِ الصَّمْتُ، وَإِذْنَ الثَّيِّبِ النُّطْقُ وجب أن نصف الثَّيِّبَ بِمَا تَمْتَازُ بِهِ عَنِ الْبِكْرِ. وَالثَّيِّبُ: هِيَ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا، وَزَوَالُ الْعُذْرَةِ عَلَى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يزول بوطء. والثاني: أن تزول بظفرة أَوْ جِنَايَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَزُولَ خِلْقَةً وَهِيَ أَنَّ تُخْلَقَ لَا عُذْرَةَ لَهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَزُولَ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ، فَالْوَطْءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إِمَّا فِي عَقْدِ نِكَاحٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً. وَالثَّالِثُ: أن يكون زنى حراماً وجميع ذلك يزول به الْبِكَارَةِ سَوَاءً كَانَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ، أَوْ سِفَاحٍ وَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الثَّيِّبِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِزِنًا كَانَتْ فِي حُكْمِ البِكْر إِلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّانِيَةَ إِذَا تَذَكَّرَتْ مَا فَعَلَتْ مِنَ الزِّنَا خجلت واستحييت مِنَ التَّصْرِيحِ بِطَلَبِ الْأَزْوَاجِ فَكَانَ حَالُهَا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْبِكْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُبِيحُ الرَّجْعَةَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَزُلْ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ كَالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ. وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ بَكَارَتَهَا زَالَتْ بِوَطْءٍ فَوَجَبَ أَنْ تكون في حكم الثيب كالموطؤة فِي نِكَاحٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ إِذَا كَانَ حَلَالًا زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ إِذَا تَكَرَّرَ زَالَتْ بِهِ الْبَكَارَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ كَالْمَنْكُوحَةِ، وَقَدْ قال: إنه لو تكرر منها الزنا صارت ثيباً وكذلك إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرُ وَلِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا صار إذناً لاستحيائها بدوام الخفر وقلة اختيارها لِلرِّجَالِ فَتَمَيَّزَتْ عَنِ الثَّيِّبِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ خفرها وخبرت الرِّجَالَ فَصَارَتْ أَقَلَّ حَيَاءً مِنَ الْبِكْرِ وَالزَّانِيَةُ لَمْ تُقْدِمْ عَلَى الزِّنَا إِلَّا لِزَوَالِ الْحَيَاءِ وَارْتِفَاعِ الْخَفْرِ فَصَارَتْ أَجْرَأَ عَلَى الْقَوْلِ وَأَخْبَرَ بالرجال من ذات الزَّوْجِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا أَوْرَدَهُ فأما قِيَاسُهُ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِتَكْرَارِ الزِّنَا فَالْمَعْنَى فِي الوطء في غير القبل بقاء العذرة مفارق الزنا الذي زالت به العذرة في الوطء في غير القبل. فصل وأما زَوَالُ الْعُذْرَةِ بِإِصْبَعٍ أَوْ ظُفْرَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ غَيْرِ الْوَطْءِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خيران من أصحابنا إلى أنه رُفِعَ حُكْمُ الْبَكَارَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ. فَالْمَذْهَبُ أن الشافعي قال: أصيبت بنكاح أو غيره. وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ: أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ فَلِمَّا زَالَ بِذَلِكَ اسْمُ الْبَكَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ حُكْمُ الْبَكَارَةِ وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمِ الْبَكَارَةِ جَارٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ صَمْتَ الْبِكْرِ إِنَّمَا كَانَ نطقاً لما هي عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْخِبْرَةِ بِالرِّجَالِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ وَطْءٍ فَلَمَّا وُجِدَ مَعْنَى الْبِكْرِ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْبِكْرِ، وَتَعْلِيقُ أَحْكَامُ الْبِكْرِ بِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهَا بِمُجَرَّدِ الْأَسْمَاءِ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ المذهب فقد زال فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " أُصِيبَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ " يَعْنِي أَوْ غَيْرِ نِكَاحٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَوْ زِنًا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ " الأم ". وأما التي زالت عُذْرَتُهَا خِلْقَةً فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبِكْرِ وَهَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ خَيْرَانَ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْحُكْمَ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَأَرَادَ الْوَلِيُّ نكاح الْمَرْأَةِ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ قَبِلَ قَوْلَهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الْبِكْرِ، فَإِنْ قَالَتْ: أَنَا ثَيِّبٌ قَبِلَ قَوْلَهَا، وَإِنْ لم يعلم لها زوج تقدم ولم يسأل عَنِ الْوَطْءِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ ثَيِّبًا وَأَجْرَى عَلَيْهَا حُكْمَ الثَّيِّبِ، فَلَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا بِكْرٌ فَادَّعَتْ بَعْدَ عَقْدِهِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْبَكَارَةُ، فَإِنْ أَقَامَتْ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ شهدن لها أنهن شاهدنها قبل النكاح ثيباً لم يبطل العقد إمضاء لجواز أن تكون عذرتهازالت بظفرة، أو اصبع، أو حلقة. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا يزوج البكر بغير إذنها ولا يزوج الصَّغِيرَةُ إِلَّا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ نِكَاحَ الْبِكْرِ مُعْتَبَرٌ بِأَوْلِيَائِهَا وَنِكَاحَ الثَّيِّبِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الثيب لا تزوج مع الْأَوْلِيَاءِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَالْبِكْرَ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بَعْضُ أوليائها، وإن كانت كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَلِيُّ الْبِكْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَبًا أَوْ عَصَبَةً فَإِنْ كَانَ وَلَيُّهَا أباً وزوجها جبراً سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، وَهَكَذَا الْجَدُّ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ يَقُومُ فِي إِجْبَارِهَا مَقَامَ الْأَبِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَامَ مَقَامَ الْأَبِ لِأَنَّهُ مشارك له في اسم الأب، أو لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ أَبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِلَةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ) {الحج: 78) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الِاسْمِ لِمَا فِيهِ من صفتي الأب التي تميز بها عن سائر الأولياء، وهما الولادة، والتعصب، فبالولادة تميز عن الإخوة، وبالتعصب تَمَيَّزَ عَنِ الْجَدِّ لِلْأُمِّ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ عَصَبَةً رُوعِيَ حَالُهَا حينئذٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَابِتِهَا تَزْوِيجُهَا سواء كانت عاقلة أو مجنونة وإن كانت كبيرة زوجها أقرب عصبتها إِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بِاخْتِيَارِهَا وَعَنْ إِذْنِهَا وَإِنْ كانت مجنونة لم يزوجوها؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا فِي الْجُنُونِ مُعْتَبَرٌ بِالنَّظَرِ فِي مصالحها ولا نظر للعصبات في مصالحها، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي حَالِهَا وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْبِكْرِ الْحَاكِمَ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا عَاقِلَةً كَانَتْ أَوْ مَجْنُونَةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَنَاكِحِ فَتُزَوَّجُ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فَتُسْتَأْذَنُ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً زَوَّجَهَا إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ تَزْوِيجُهَا فِي حَالِ جنونها. والفرق بينها: أن للحاكم نظر في مصالحها شارك به الأب وفارق به العصبة ولذلك ولي على مالها، وإن لم يَلِيَ عَلَيْهِ الْعَصَبَةُ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ابن ابن وله بنت ابن آخر فأراد أن يزوج ابن ابنه بنت ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُمَا بَاقِيَيْنِ لَمْ يَكُنْ له تزويجهما لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وإن كان أبواها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 مَيِّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ بَالِغًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَتْ بِنْتُ ابْنِهِ ثَيِّبًا فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ، وإن كان ابن ابنه صغيراً أو بنت ابْنِهِ بِكْرًا فَلَهُ إِجْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَفِي جَوَازِهِ جَبْرًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ الِابْنُ فَيَكُونُ هُوَ الْقَابِلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل نكاح لم يحضره أربع فهو سفاح " ولأن لا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لابن العم أن يزوج موليته، لأن لا يَصِيرَ مُتَوَلِّيًا لِلْعَقْدِ مِنْ طَرَفَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ وَطَائِفَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَيَتَوَلَّى الْعَقْدَ من طرفيه كما يجوز له فيما ينفق من مال عَلَى ابْنِ ابْنِهِ إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ طَرَفَيْهِ وَخَالَفَ ابْنُ العم في تزويجه ابنة عمه إِذَا كَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن وِلَايَةُ الْجَدِّ تُوجِبُ الْإِجْبَارَ لِقُوَّتِهَا وَوِلَايَةُ ابْنِ الْعَمِّ تُمْنَعُ مِنَ الْإِجْبَارِ لِضَعْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَدَّ فِي الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِغَيْرِهِ وَابْنُ الْعَمِّ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ، فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ لِلْجَدِّ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ فِي عقد نكاحها بالإيجاب فيقول: قد زوجت ابن ابني ببنت ابْنِي وَهَلْ يَحْتَاجُ فِيهِ الْقَبُولَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ بتلفظ فيه القبول فَيَقُولُ: وَقَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بكر ابن الحداد، ولأنه يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِوِلَايَتَيْنِ فَقَامَ فِيهِ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ فلم يكن بد فيه من لفظتين: أَحَدُهُمَا: إِيجَابٌ، وَالْآخَرُ قَبُولٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يحتاج أن يتلفظ فيه بالقبول، وهذا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ وَلِيَّيْنِ فَقَامَ لَفْظُهُ مَقَامَ لَفْظَيْنِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى النِّكَاحِ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَجَاوَزَ مَهْرَ مثلها رد الفضل ". قال الماوردي: المولى عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّزْوِيجِ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ، إِمَّا بِأَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ الشَّهْوَةِ وَإِمَّا بِأَنْ يَحْتَاجَ إلى خادم وخدمة النساء له أرفق به فيجوز لوليه أَنْ يُزَوِّجَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ التي هذا منها وليصده بذلك عن مواقعة الزنا الموجب للحد وَالْمَأْثَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ فَإِنْ زَوَّجَهُ الْوَلِيُّ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ النِّكَاحَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهَا لَهُ من الأكفاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا تَقِفُ عَلَى إِذْنِهِ كما لا تقف على إذن مَا عَقَدَهُ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَلَا يَزِيدُ الْمَنْكُوحَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَا يَزِيدُ في عقود أمواله على أَعْوَاضِ أَمْثَالِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ المثل كانت الزيادة مردودة ولا تَجُبْ فِي مَالِ السَّفِيهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّزْوِيجِ لِيَتَوَلَّاهُ السفيه بنفسه جاز. فإن قبل فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يصح منه مع إذن وليه كما لم يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ وَلِيُّهُ؟ . قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ حَيْثُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَبَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَنْ يَعْقِدَهُ، وَإِنْ أذن فيه الولي من وجهين: أحدهما: إن الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ حِفْظُ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ فَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي الْمَالِ وَصَحَّ مِنْهُ الْعَقْدُ فِي النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ رَفَعُ النِّكَاحِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِإِذْنٍ وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إنزاله مِلْكَهُ عَنِ الْأَقْوَالِ بِالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عُقُودُ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا بِإِذْنٍ وَلَا غَيْرِ إِذْنٍ. فَصْلٌ فَإِذَا ثبت أن يَجُوزَ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ على وليه عند إذنه لَهُ فِي النِّكَاحِ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ لِيَقْطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الْعَقْدِ حَتَّى لَا ينكح من يعظم مهرها. والثاني: عليه أن يعين له على الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ مِنْ ذوي الأنساب الذي يَعَظُمُ مُهُورُ نِسَائِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيِّنَ له على المرأة من نساء القبيلة لأن يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ النُّفُوسِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمَنْكُوحَةَ وَلَا عَلَى قَبِيلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي يَجُوزُ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النكاح أن لا يعين له عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَلَا عَلَى قَوْمِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ مِثْلَهُ فِي الْإِذْنِ فَإِذَا نَكَحَ السفيه بمقتضى الْإِذْنِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ لَزَمَهُ الْمَهْرُ والنفقة في ماله أن ينكح بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مَرْدُودَةً لَا تَلْزَمُهُ فِي وَقْتِ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَ فَكِّهِ عَنْهُ وَخَالَفَ الْعَبْدَ الَّذِي إِذَا نَكَحَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَزَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ذِمَّتِهِ يؤديها بعد عتقه والرفق بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجَرِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ إنما حجر عَلَيْهِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ، وَحِفْظِ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ عِتْقِهِ سَلَّمَ حَقَّ السَّيِّدِ وَصَارَ مَالُهُ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ السَّفِيهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَعْلَمَهُ وَلِيُّهُ، وَلَا اسْتَأْذَنَهُ فَمَنَعَهُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الحجر يمنع من جواز التصرف في العقد، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فرق بينهما ثم ينظر فإن كَانَتْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ فِي حال الحجر ولا بعد فك الحجر وتصير كالمبرئة مِنْهُ لِعِلْمِهَا بِحَجْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِحَجْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَجْرِ دَفْعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنَعَ الْحَجْرُ مِنْهُ وَفِي لُزُومِهِ لَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجَرِهِ لِئَلَّا يصير ممتنعاً بِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يلزمه دفعه بعد فكاك الحجر عنه كما لم يلزمه قبل فكه عنه ليكون ماله بالحجر محفوظاً عليه كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ جَهْلُهَا بِحَالِهِ عُذْرًا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ فَتَعْلَمُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ قَدْ سَأَلَ وَلِيَّهُ النِّكَاحَ فَمَنَعَهُ وَاسْتَأْذَنَهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَفِي نِكَاحِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِتَأْثِيرِ الْحَجْرِ فِي عُقُودِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَلِيِّ فَإِذَا مَنَعَهُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ كَالدَّيْنِ إِذَا مُنِعَ صَاحِبُهُ مِنْهُ جَازَ أَنَّ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَيَدْفَعُ مهر المثل والنفقة من ماله. فَصْلٌ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَدَامَ الْجُنُونِ لَا يُفِيقُ فِي شَيْءٍ من زمانه، فهذا ينظر في حاله، وإن لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ حَاجَةٌ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلَا أَنْ يُوجِبَ في ماله غرم النفقة والمهر مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَى النكاح حاجة، وذلك في أحد الحالين: إِمَّا أَنْ يُرَى يَتَوَثَّبُ عَلَى النِّسَاءِ لِفَرْطِ شهوة، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةِ النِّسَاءِ، وَالزَّوْجَةُ أَرْفَقُ بِهِ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ السَّفِيهِ، لِأَنَّ السَّفِيهَ مُكَلَّفٌ يتعلق بقوله حكم، والمجنون غير مكلف لا يتعلق بكلامه حُكْمٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْنُونُ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ فَهَذَا عَلَى أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ إِذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ، وَلَا يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالَّذِي طبق بِهِ الْجُنُونُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ وَأَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ، لأن الحجر عليه قبل زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لَا يَرْتَفِعُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي زَمَانِ الْجُنُونِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالْجُنُونِ، وَفِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ حُكْمَ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ جُنُونِهِ، فَالْحَجْرُ يَرْتَفِعُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ في حال جنونه لما يرجى إفاقته ويجوز له أن يزوج بنفسه فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ فِي إِفَاقَتِهِ لِارْتِفَاعِ حَجْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَى زَمَانُ جنونه وزمان إفاقته، ففي أغلبها حُكْمًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْجُنُونِ أَغْلَبُ تغليباً لحكم ثبوت الْحَجْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَقَلَّ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِفَاقَةِ أَغْلَبُ تَغْلِيبًا لِأَصْلِ السَّلَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي فِيمَنْ كَثُرَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ وَقَلَّ زَمَانُ جنونه. مسألة قال الشافعي: " ولو أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَتَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْفَضْلُ مَتَى عَتَقَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا عَبْدٍ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فهو عاهر ". والعاهر: الزاني فشبه بِالزَّانِي لِتَحْرِيمِ عَقْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فِي الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ فلم يكن له تفويتها بِتَزْوِيجِهِ، فَإِنْ تَزَوُّجَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ قَدْ رَفَعَهُ بِإِذْنِهِ فَعَادَ إِلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ السَّيِّدِ وَقَالَ مَالِكٌ: نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلِلسَّيِّدِ فَسْخُهُ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عليها رواية نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ "، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ الْمَانِعَ مِنْ جواز المناكح يمنع من صحتها كالجنون. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بَاطِلٌ، وَبِإِذْنِهِ جَائِزٌ فَلِلسَّيِّدِ إِذَا إذن لعبده في النكاح حالتان: إحداهما: أن يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا فَإِنْ نَكَحَ غَيْرَهَا كَانَ نِكَاحًا بِغَيْرِ إِذْنٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُعَيِّنَ لَهُ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ وَيَكُونُ إِذْنُهُ مُطْلَقًا فَيَجُوزُ بِخِلَافِ السَّفِيهِ الذي يلزم الولي أن يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مَنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ وَلَيْسَ السَّفِيهُ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نَظَرَ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ فِي كَسْبِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَزِمَ قَدْرَ مَهْرِ المثل في كسبه ونالت الزِّيَادَةَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُعْتَقَ فَيُؤَدِّي وَفَارَقَ السَّفِيهَ فِي إِبْطَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَعَضَلَهُ وَمَنَعُهُ نُظِرَ فِي الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يُجْبِرِ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَهَلْ يُجْبِرُ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ إِنْ أَقَامَ عَلَى عَضْلِهِ وَمَنْعِهِ زَوَّجَهُ الْحَاكِمُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَشَارَ إِلَيْهِ في كتاب التعرض بالخطبة أن السيد بجبر على تزويج العبد لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ وَكَمَالِ مَصْلَحَتِهِ وَسُكُونِ نَفْسِهِ فَشَابَهَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ تَمَامِ قُوَّتِهِ وَكَمَالِ كِسْوَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ تَمْكِينُ عَبْدِهِ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ القولين لو كان السيد مولى عليه لصغره أَوْ سَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِ عَبْدِهِ لَزِمَ وَلِيَّ السَّيِّدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ إِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا كَانَ لِسَيِّدِهِ إجباره على النكاح، ولأنه لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُ وَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَإِجْبَارُ عَبْدِهِ فِي صِغَرِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ لأنه لما ملك العقد، على منافعه ورقيته جَبْرًا كَانَ النِّكَاحُ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا فِي عَقْدِهِ عَلَيْهِ جَبْرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَلَاذِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي ليس للسيد إجبار عبده عليها، ولأن معقود الْوَطْءَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ النِّكَاحُ بِمَثَابَتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لو كان السيد مولى عليه لصغر أو سَفَهٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِمَا فِي إِجْبَارِهِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 فَصْلٌ فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ فِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَفِي إِجْبَارِ السَّيِّدِ على تزويجه إذا ادعى إِلَى النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِهِ الْمَهْرَ والنفقة في كسبه، وأما إذا دعى سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَيْهِ إن قيل إِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اكْتِسَابَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَزْوِيجِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَاكْتِسَابِ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ فَأُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤُولُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا كَانَ بَيْنَ شريكين وليس لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَأْذَنَا لهما جَمِيعًا فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَزْوِيجِهِ فَهَلْ لَهُمَا إِجْبَارُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ دَعَاهُمَا إِلَى النِّكَاحِ فَهَلْ يُجْبَرَانِ عَلَى تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حُرِّيَّةً لا ولاية عليه فيها، وإن دَعَا سَيِّدَهُ إِلَى النِّكَاحِ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلَانِ. مسألة قال الشافعي: " وَفِي إِذْنِهِ لِعَبْدِهِ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إِذَا وجبت عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، وَالنَّفَقَةُ بالتمكين، ولوجوبها مَحَلٌّ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكْتَسِبًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا فَالْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ؛ لأن الإذن بالنكاح إذن به وبموجبه وأولى مَا تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ فإن قيل: أفليس لو أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَزِمَهُ فِيهَا دَيْنٌ زَادَ عَلَى مَا بِيَدِهِ كَانَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَهَلَّا اسْتَوَيَا؟ . قِيلَ: الفرق بينها: أن الإذن بالتجارة معقود بالاكتساب، وَالدَّيْنَ ضِدَّ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَالْإِذْنُ بِالنِّكَاحِ معقودة الِاسْتِمْتَاعُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَصَارَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِكَسْبِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ فَالْمَهْرُ يُسْتَحَقُّ فِي كَسْبِهِ بَعْدَ عتقه، والنفقة تستحق من كسبه بعد تمكنه من الاستمتاع؛ لأنهما يُسْتَحَقَّانِ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 وجوبها ولا يستحقان في كسب تقدمها؛ لأن الكسب لم يتعلق به إذن فصار خالصاً لسببه فَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لِلسَّيِّدِ: عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَ عَبْدِكَ وَتَرْفَعَ عَنْهُ يَدَكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، أما النهار فللاكتساب الكسب وَالنَّفَقَةِ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَلِلِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ تَمْكِينِهِ لَيْلًا مِنْ نَفْسِهِ وَلَكَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِهِ نَهَارًا مِنْ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِمْتَاعِهِ لَيْلًا لَا بَدَلَ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ وَلِحَقِّهِ مِنَ اكْتِسَابِ النَّهَارِ بَدَلٌ يلتزمه السيد فقط ثم لا يخلو حال كسبه إذا مكن مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلسَّيِّدِ وَلَا عَلَيْهِ وَقَدْ خَلَصَ جَمِيعُ كَسْبِهِ لَهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكِسْوَتِهَا وَمَهْرِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَلِلسَّيِّدِ الْفَاضِلِ مِنْهُمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ عليه جَمِيعَ كَسْبِهِ لِيَصْرِفَهُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَيَكُونُ حَالُهُ فِي الْبَاقِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَحَالَ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ وَلَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ. فَصْلٌ فَلَوْ أَنَّ سَيِّدَ هَذَا الْعَبْدِ المكتسب إذا استخدمه نهاراً لزمه جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ سَوَاءً كَانَ كسبه مساوياً لهما أو مقصوراً عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْدَامِ كَالضَّامِنِ لَهُمَا وَلَوْ أَنَّ سيده لم يستخدمه ولكن حبسه في زمان كسبه لَزِمَهُ غُرْمُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَوْ حَبَسَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ عَبْدِهِ فَلَزِمَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ مِنْ مَهْرِ زَوْجَتِهِ وَنَفَقَتِهَا، وَالْأَجْنَبِيُّ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَلَزِمَهُ قيمة ما استهلكه من منافعه. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَكُونُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَالِ الْكَسْبِ فِي حَقِّ الْمُكْتَسِبِ لِكَوْنِهِمَا مِلْكًا للسيد الآذن لكن اختلف أصحابنا في المال هاهنا يقول الشَّافِعِيُّ: أَعْطَى مِمَّا فِي يَدَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه: أحدها: أن يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَيُعْطِي الْمَهْرَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالنَّفَقَةَ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ التَّمْكِينِ كَمَا قلنا في المكتسب إنه يعطيهما مِنْ كَسْبِ الْمُسْتَفَادِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَبَعْدَهُ وَلَا يُعْطِيهِمَا مِنْ أصل المال؛ لأن جميعهما نماء المال، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَسْبِ، وَالرِّبْحِ أَنَّ كَسْبَ الْعَمَلِ حَادِثٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْسَ كَسْبُ التِّجَارَةِ حَادِثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْطِيهِمَا مِنْ جَمِيعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ مِنْ رِبْحٍ وَأَصْلٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ وَقَدْ صَارَ بالإذن كالمأمور يدفعهما فتعلق الإذن لجميع مَا بِيَدِهِ كَالدَّيْنِ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ خَلَصَ مَالُ التِّجَارَةِ وَرِبْحُهُ لِلسَّيِّدِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَحْوَالِ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِمَّا لِأَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَمَلٍ وَإِمَّا لأنه محارف محروم لا يقدر شيئاً، وَإِنْ عَمِلَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْتِزَامُ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَيُقَالُ لها زوجك معتبر بِنَفَقَتِكِ وَأَنْتِ بِالْخِيَارِ فِي الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحِهِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يؤخذ السَّيِّدُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ الَّذِي قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ وَمَنْ مَلَكَ ذَا بَدَلٍ مُلِّكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَدَلُ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْتِزَامِ الْمَهْرِ مُوجِبٌ لِالْتِزَامِ ذَلِكَ الْمَهْرِ كَالدُّيُونِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ وَلَا نَفَقَةَ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ قد أسقط ما تَضَمَّنَهُ مِنَ الْعِوَضِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِوَطْءِ الشبهة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَأَيْنَ يَكُونُ الْمَهْرُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّهُ حق وجب برضى مُسْتَحِقِّهِ فَأَشْبَهَ الدُّيُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَلَامٍ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلا أن يفديه به سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي هُوَ إِتْلَافٌ فَأَشْبَهَ الْجِنَايَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَإِذَا أَذِنَ السيد لعبده في نكاح فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، فَفِي دُخُولِهِ فِي إِذْنِ السيد: قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إذن لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى فَاسِدِهِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى صَحِيحِهِ وَلِوُجُوبِ الْمَهْرِ فِي فَاسِدِهِ كَوُجُوبِهِ فِي صَحِيحِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلَّ الْمَهْرِ كَمَحَلِّهِ فِي النكاح الصحيح إن كان مكتسباً ففي كسبه وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ فيها بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي جملة إذنه، لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 إطلاق الْأَمْرِ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَهْرَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ؛ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْوَطْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ إذن، فعلى هذا في محل هذا المهر الْقَوْلَانِ الْمَاضِيَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: فِي رَقَبَتِهِ. فَصْلٌ وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ مَهْرٌ وَلَا نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ وَجَبَا لَكَانَا لِلسَّيِّدِ وَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ مَالٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَهْرِ، هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ثُمَّ سَقَطَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ثُمَّ سَقَطَ لِئَلَّا يَكُونَ كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي جُعِلَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ اسْتِحْقَاقِهَ كَانَ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالَ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ لَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الِاسْتِدَامَةِ كَذَلِكَ الْمَهْرُ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ تجوز أَنْ تُمَلَّكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلَّكَ إِلَّا بِبَدَلٍ، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ تَزْوِيجِ عَبْدِهِ بِأَمَتِهِ أَعْتَقَهُمَا مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ عَبْدِهِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَلَا لِلْأَمَةِ بعد عتقها مطالبة الزوج ولا السيد بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ. فَصْلٌ وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ وَلَمْ تقبض مهرها مِنْهُ حَتَّى اشْتَرَاهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَبَعْدَ النِّكَاحِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي يَأْخُذُهُ مِنْ مَهْرِ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِيهِ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْعَبْدِ مَنْ كَسْبِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ لِمُشْتَرِيهِ بِمَهْرِ أَمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَبْدَهُ وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الشِّرَاءُ أَسْقَطَ الْمَهْرَ أَوْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَهْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ الْمَهْرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يسقطه؛ لأن الحقوق ثابتة في الذمم لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَتَأْثِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ أَوْ بَيْعِهِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الشِّرَاءَ قَدْ أَسْقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ عتقه أو بيعه. فإن قيل: إنه مَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَمْ يُسْقِطْهُ كَانَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ. فَصْلٌ وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا السَّيِّدُ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَهْرُهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 مُسْتَحَقٌّ لِبَائِعِهَا لِوُجُوبِهِ فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشِرَاءِ زَوْجَتِهِ، فَإِنْ أمره أن يشتريها لسيده فالنكاح بِحَالِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ لِتُكُونَ أمة لبعد لا للسيد ففيه قولان: أحدهما: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُمَلَّكُ إِذَا مَلَكَ فَالشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ وَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ بطل نكاحها وعلى القول الْجَدِيدِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلسَّيِّدِ وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. مسألة قال الشافعي: " وَلَوَ ضَمِنَ لَهَا السَّيَدُ مَهْرَهَا وَهَوَ ألفٌ عَنِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً فَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ ضَمِنَ لها ألف عَنْ عَبْدِهِ صَحَّ الضَّمَانُ لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ وَيَكُونُ الألف كَسْبَ عَبْدِهِ بِالْعَقْدِ، وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ بِالضَّمَانِ وَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُطَالِبَ الْعَبْدَ بِهَا من كسبه بحكم عقده أو تُطَالِبَ السَّيِّدَ بِهَا بِحُكْمِ ضَمَانِهِ، فَإِنْ دَفْعَهَا الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهَا، وَإِنْ دَفْعَهَا السَّيِّدُ مِنْ مَالِهِ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْهَا وَلَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَلَوْ طَلَّقَ هَذَا الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ نُظِرَ فِي طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزَّوْجَةُ قَبَضَتْ صَدَاقَهَا بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْ نصف وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ هَذَا النِّصْفِ، لِأَنَّ براءة المضمون عنه توجب المرأة الضَّامِنِ وَبَقِيَ لِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ المطلقة قبل الدخول قد قبضت صدقها رَجَعَ عَلَيْهَا نِصْفُهُ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلِّقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ عِنْدَ طَلَاقِهِ أَوْ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَالسَّيِّدُ هُوَ الرَّاجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِأَنَّه مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَاكْتِسَابِ العبد لسيده، وإن كَانَ مِلْكُ السَّيِّدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بعتقٍ أَوْ بَيْعٍ فَفِي مُسْتَحِقِّ هَذَا النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ إِنْ كَانَ قَدْ أُعْتِقَ أَوْ مُشْتَرِيهِ إِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ وَلَا حق فيه لسيده الدافع له، لأن نصف الصداق كسب ما مَلَكِ بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ السيد فلم يستحق ما ملك بِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْأَبِ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى صَدَاقٍ يَدْفَعُهُ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُ الِابْنُ عِنْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِزَوْجَتِهِ فَيَمْلِكُ الِابْنُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْأَبِ وَإِنْ دَفْعَهُ مِنْ مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بن الحداد في " فروعه " - أنه يَكُونُ لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالُهُ فَمَا رَجَعَ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ عَادَ إِلَيْهِ وَإِنْ زَالَ مُلْكُهُ عن العبد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 وَذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا، وَفُرِّقَ بَيْنَ الْأَبِ إِذَا دَفَعَ الصَّدَاقَ عَنِ ابْنِهِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ إِذَا دَفَعَهُ عَنْ عبده، بأن الابن يملك فكان دفع الأب تمليك له ثم قضاء لِلصَّدَاقِ عَنْهُ فَإِذَا طَلَّقَ الِابْنُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ نِصْفُ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ لِسَابِقِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَلَمْ يَكُنْ دَفْعُ الصَّدَاقِ عَنْهُ تَمْلِيكًا لَهُ فَإِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يُجْبَرْ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَسَوَاءً دَفَعَ السَّيِّدُ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ أَوْ دَفَعَهُ الْعَبْدُ مِنْ كَسْبِهِ، لِأَنَّ كَسْبَهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ بَاعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِتِلْكَ الْأَلْفِ بعينها فالبيع باطلٌ من قبل أن عُقْدَةَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ضَمِنَ السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ وَهُوَ أَلْفٌ ثُمَّ إِنَّهَا ابْتَاعَتْ زَوْجَهَا مِنْ سَيِّدِهِ بِأَلْفٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبْتَاعَهُ بألفٍ فِي ذِمَّتِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَبْتَاعَهُ بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا فإن ابتاعته بألف فِي ذِمَّتِهَا فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ بَعْدُ، وإن ابتاعه بِالْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ لِلسَّيِّدِ بِعْنِي زَوْجِي بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنْتَهَا مِنْ صَدَاقِي، فللجواب عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ نَذْكُرُهُمَا، ثُمَّ نَبْنِي الْجَوَابَ عَلَيْهِمَا. إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَإِنَّمَا بَطَلَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ مُتَضَادَّةٌ، لِأَنَّهُ كَانَ مالكاً لبعضها فصارت مالكة لرقبته، وصار مُسْتَحِقَّ الْحَجْرِ عَلَيْهَا بِالزَّوْجِيَّةِ فَصَارَتْ تَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالرِّقِّ وَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ فَصَارَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا وَإِذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ثبت أقواهما وانتفى أضعفها، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُخْتَصُّ بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَسْتَوْعِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ ثَبَتَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَبَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ أَسْقَطَ جَمِيعَ صَدَاقِهَا كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَمْ يسقط الصداق إلا نصفه كما لو ارتد، وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ بابتياعها له. فإن قيل الفسخ هَاهُنَا إِنَّمَا وَقَعَ بِالِابْتِيَاعِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمَا وَالْفَسْخُ إِذَا وَقَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ غَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ كَالْخُلْعِ. قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا، فَأَخْطَأَ فيه، مَذْهَبًا، وَحِجَاجًا. أَمَّا الْمَذْهَبُ فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَجَعَلَ الْفَسْخَ مُضَافًا إِلَى الزَّوْجَةِ فِي إِسْقَاطِ جَمِيعِ صَدَاقِهَا. وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ الْفَرْقُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الِابْتِيَاعِ وَالْخَلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِابْتِيَاعَ إِنَّمَا كَانَ بَيْنَ السَّيِّدِ والزوجة من غير أن يكون للزوج فيه صنع ولا اختبار فلم يجز أن يضاف إليه الخلع، وإنما كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَجَازَ لِاخْتِصَاصِ الزَّوْجِ بِالْفُرْقَةِ أَنْ يُضَافَ الْفَسْخُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ فِي الْخُلْعِ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَى غير مالك كالعتق الذي يزيل بِهِ الْمُعَتِقُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ وَالِابْتِيَاعُ قَدْ زَالَ بِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ وَانْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ وَابْتَاعَتْ زَوْجَهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّيِّدُ مِنْ صَدَاقِهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الِابْتِيَاعِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بعد دخوله بها كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا لِابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ مِنْ مَالِكِهِ بثمن قد استحقته ذِمَّتِهِ لِاسْتِكْمَالِهَا لِلصَّدَاقِ بِالدُّخُولِ فَصَارَ كَابْتِيَاعِهَا إِيَّاهُ بِدَيْنٍ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَبَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ الثَّمَنِ لِكَوْنِهِ صَدَاقًا، وَبَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِ الصَّدَاقِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا صَدَاقٌ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْهُ مِنْ ضَامِنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَبْدِهِ بما غرمه عنه من ضمانه، لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ عَنْهُ فِي حَالِ مِلْكِهِ. فَصْلٌ وَإِنِ ابْتَاعَتْهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا فَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَالْبَيْعُ يَكُونُ بَاطِلًا، وَتَعْلِيلُ بُطْلَانِهِ قَدْ أَجْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: " لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ وَقَعَا مَعًا ". وَبَيَانُهُ: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ البيع إبطال النكاح، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا صَحَّ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ صَدَاقُهَا وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُهُ، لِأَنَّ بَقَاءَ الضَّمَانِ يَكُونُ لِبَقَاءِ الْحَقِّ الْمَضْمُونِ، وَإِذَا بَطَلَ الضَّمَانُ بَطَلَ الثَّمَنُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الصَّدَاقُ الْمَضْمُونُ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنُ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ، فَلَمَّا أَدَّى إِثْبَاتُ الْبَيْعِ إِلَى إِبْطَالِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ حُكِمَ بِإِبْطَالِ الْبَيْعِ وَبَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى ثُبُوتِهِ، لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى إِسْقَاطِهِ وَإِسْقَاطِ غَيْرِهِ حُكِمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِإِسْقَاطِهِ وَثُبُوتِ غَيْرِهِ لِيُدْفَعَ بِأَقَلِّ الضَّرَرَيْنِ أَكْبَرُهُمَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ. فَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ أخاً وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُ الِابْنِ وَلَمْ يَرِثْ، لِأَنَّهُ لَوْ ورث لحجب الْأَخَ فَلَمْ يَرِثْ، وَإِذَا لَمْ يَرِثِ الْأَخُ بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقِرَّ بِالنَّسَبِ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، وَإِذَا بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُ هَذَا الِابْنِ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَبَطَلَ مِيرَاثُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ، لِأَنَّ عِتْقَهُ فِي الْمَرَضِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ، فَلَوْ وَرِثَ لمنع الوصية، لأنه لا وصية لوارث وإن مُنِعَ الْوَصِيَّةَ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ مُؤَدِّيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهِ وَمِيرَاثِهِ ثَبَتَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ مِيرَاثُهُ. ومنها: أن يوصي لرجل بابن له مملوكه فمات قبل الوصية، وخلف أَخًا هُوَ وَارِثُهُ فَيَقْبَلُ الْأَخُ الْوَصِيَّةَ لِأَخِيهِ بِابْنِهِ فَإِنَّ الِابْنَ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لو ورث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 لحجب الْأَخَ، وَإِذَا حَجَبَهُ بَطَلَ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَّةِ وَإِذَا بَطَلَ قَبُولُهُ بَطَلَ عِتْقُ الِابْنِ وَإِذَا بَطَلَ عِتْقُهُ سَقَطَ مِيرَاثُهُ فَلَمَّا أَدَّى ثُبُوتُ مِيرَاثِهِ إلى سقوط عتقه وبطلانه ثبت العتق وسقط الْمِيرَاثُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ عَبْدَانِ عَلَى سَيِّدِهِمَا العتق، وهو منكر فيشهد لَهُمَا شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا ثُمَّ يَشْهَدُ الْمُعَتَقَانِ بِجَرْحِ الشَّاهِدِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالْجَرْحِ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فِي الْجَرْحِ رَدَّتْ شَهَادَةَ الشَّاهِدِينَ بِالْعِتْقِ، وَصَارَ الْمُعَتَقَانِ عَبْدَيْنِ مَرْدُودِيِ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا أَدَّى قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا إِلَى رَدِّهَا وَإِبْطَالِ الْعِتْقِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَلِذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً يُؤَدِّي دَوْرُهَا إِذَا ثَبَتَ إِلَى سُقُوطِهَا فَلَمْ يثبت - وبالله التوفيق -. مسألة قال الشافعي: " وَلَوَ بَاعَهَا إِيِّاهُ بألفٍ لَا بِعَيْنِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَعَلَيْهَا الثَّمَنُ وَالنِّكَاحُ مفسوخٌ مِنْ قبلها وقبل السيد ". قال الماوردي: وهذه المسألة الثانيةمن ابتياعها لزوجها إن ابتاعته بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِانْعِقَادِهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِتَنَافِي أَحْكَامِهِمَا فَأُثْبِتُ أَقْوَاهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَصَدَاقُهَا قَدْ سَقَطَ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِذَا سَقَطَ الصَّدَاقُ بَطَلَ ضَمَانُ السَّيِّدِ لَهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ فَرْعٌ لِأَصْلٍ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ الْمَضْمُونُ فَبَرِئَ الضَّامِنُ مِنْهُ وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّذِي اشترت بها زوجها ولا مطالبة لها بصداقها. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا لَهُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا بالدخول على الزوج قد ملكته فصار عبداً لها، قبل تبرأ الزوج منه بحدوث ملكها أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَرِئَ مِنْهُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ السَّيِّدُ مِنْ ضَمَانِهِ لِبَرَاءَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي هُوَ ثَمَنٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَبْرَأُ مِنْ صَدَاقِهَا، وَإِنْ صَارَ عَبْدًا لَهَا لِاسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ مِلْكِهَا لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَإِنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ لَهَا ابْتِدَاءً فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ بَعْدَ أَنْ صَارَ لَهَا عَبْدًا، فَأَمَّا أَنَّ يكون الحق ثابتاً فلا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمِلْكِ بَاقِيًا فَعَلَى هَذَا لَهَا عَلَى السَّيِّدِ الْأَلْفُ الَّذِي هُوَ صداقها، وللسيد عليها الألف التي هي ثمن زوجها، فإن كانت الألفان من نقدين مختلفين لم يصر قصاصاً، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى السَّيِّدِ الْأَلْفَ التي هي ثَمَنُ زَوْجِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا الْأَلْفَ الَّذي هِوَ صَدَاقُهَا. فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَدْفَعُ مَا عَلَيَّ حَتَّى أقبض مالي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لأحد المالين بالآخر، فأيهما بَدَأَ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّفْعِ فإن تبارءا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 الْأَلْفَيْنِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، فَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قَدْ أَبْرَأْتُكَ إِنْ أَبْرَأْتَنِي لَمْ يَصِحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ فَأَبْرِئْنِي فَهُوَ مُبَرِّئٌ مِنْ حَقِّهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَصَحَّتْ بَرَاءَتُهُ وَطَلَبَ إِلَى الْآخَرِ أَنْ يُبَرِّئَهُ وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أن يبرئه أو لا يبرئه، وإن كانت الْأَلْفَانِ مَنْ نَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَتِ الْأَلْفُ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الصَّدَاقِ، وَعَلَى صِفَتِهَا فَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ قَصَاصًا أَمْ لَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَصِيرَ قَصَاصًا اخْتَارَا أَوْ لَمْ يَخْتَارَا فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْه يَصِيرَ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَا أو أحدهما ولا تصير قَصَاصًا إِنْ لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِيرُ قَصَاصًا إِنِ اخْتَارَاهُ مَعًا وَلَا يكون قصاصاً إن اختاره أحدهما. والرابع: - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - أَنَّهُ لَا يَصِيرَ قَصَاصًا بِحَالٍ وَإِنِ اخْتَارَاهُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُؤْدِيَ إِلَى صَاحِبِهِ مَالَهُ وَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ من كتاب المكاتب إن شاء الله. مسألة قال الشافعي: " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لعبده في النكاح فعلى حالتين: إحداها: أَنْ يَلْتَزِمَ لِزَوْجَتِهِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَلْتَزِمَ فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ عَبْدَهُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ نَهَارًا وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَيْلًا فَيَكُونُ تَخْلِيَتُهُ نَهَارًا لِلِاكْتِسَابِ وَلَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ تَخْلِيَتُهُ لَيْلًا لِوُصُولِهِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ سَيِّدِهِ فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنَّ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لما فيه من منعه من الِاكْتِسَابِ، فَإِنْ قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّ أُجْرَتَهُ إِنْ زَادَتْ كَانَ لَهُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ النَّفَقَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَضْمَنُ لَهَا النَّفَقَةَ وَلَا يَضْمَنُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَلَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَةُ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ إِجْبَارِهِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِ خِيَارِهِ فَلَمَّا لَزِمَهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ضَمَانُ النفقة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ فِي حَالِ الْإِجْبَارِ ضَمَانُ النفقة فما إِذَا قَهَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَيْلًا وَأَرْسَلَهُ نَهَارًا فقد تعدى كتعديه ولو قَهَرَهُ نَهَارًا غَيْرَ أَنَّهُ يَضْمَنُ زَمَانَ نَهَارِهِ وَلَا يَضْمَنُ زَمَانَ لَيْلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ زَمَانَ لَيْلِهِ مُسْتَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَمْ يُضْمَنْ، وَزَمَانُ نَهَارِهِ مُسْتَحَقٌّ لِلْكَسْبِ الذي يقابله عوض ضمن. فَصْلٌ فَإِنِ الْتَزَمَ السَّيِّدُ لَهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا التزم له المهر والنفقة سقط عنه ما لزمه بِالزَّوْجِيَّةِ فَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فَكَذَلِكَ الْآنَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْزِلَةَ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ كَمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ مَا جَازَ لِلْحُرِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي الْحَضَرِ وَتَقَلُّبٍ فِي السَّفَرِ جَازَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي مِصْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ نَهَارًا وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ لَيْلًا، لِأَنَّ زمان الاستخدام هو النهار فيعلق حَقُّ السَّيِّدِ بِهِ دُونَ اللَّيْلِ وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ هو الليل فيعلق حق العبد به دون النهار. والحال الثالثة: أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ وَيَقْطَعَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ اللَّيْلُ فِي الْحَضَرِ مُسْتَثْنَى مَنْ حَقِّ السَّيِّدِ فَهَلَّا كَانَ فِي السَّفَرِ كَذَلِكَ، قِيلَ: لِأَنَّ السَّيِّدَ فِي الْحَضَرِ قَدْ يَصِلُ إِلَى حقه من استخدام النهار وإذا أَرْسَلَهُ لَيْلًا لِلِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يَصِلُ فِي السَّفَرِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ اسْتِخْدَامِ النَّهَارِ إِذَا أَرْسَلَهُ ليلاً للاستمتاع فكذلك صار زمان الليل مستثنى في حال السيد في الحضر وغير مستثنى من السَّفَرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً مَعَ الْعَبْدِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ الْحَضَرِ وَالسِّفْرِ فِي اسْتِثْنَاءِ الليل منها، فأما إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مِمَّنْ عَمَلُهُ وَاسْتِخْدَامُهُ فِي الليل دون النهار كالبزارين والرياحين وَالْحَدَّادِينَ، صَارَ اللَّيْلُ زَمَانَ اسْتِخْدَامِهِ لِعَبْدِهِ، وَالنَّهَارُ زَمَانَ إِرْسَالِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّيِّدِ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَبِزَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مِصْرِهِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ " فَقَدْ ذكرنا جوازه وقوله: " وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَفِي مِصْرِهِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إذا كانت امرأته فيه، وإن كَانَتْ خَارِجَةً مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: - وَهُوَ أَشْبَهُ التَّأْوِيلَيْنِ عِنْدِي - أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ نهاراً، لأن زَمَانُ الِاسْتِخْدَامِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ أَلَّا تَرَى الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " إِلَّا فِي الْحِينِ الَّذِي لَا خِدْمَةَ لَهُ فِيهِ " يَعْنِي اللَّيْلَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 مسألة قال الشافعي رحمه الله: " ولو قالت له أَمَتُهُ اعْتِقْنِي عَلَى أَنْ أَنْكِحَكَ وَصَدَاقِي عِتْقِي فَأَعْتَقَهَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَنْكِحَ أَوْ تَدَعَ وَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا فَإِنْ نكحته ورضي بالقيمة التي عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَ هَذَا الْمَهْرَ حَتَى يَعْرِفَ قِيمَةَ الْأَمَةِ حِينَ أَعْتَقَهَا فَيَكُونُ الْمَهْرُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْمَهْرَ غَيْرَ معلومٍ (قال المزني) سألت الشافعي رحمه الله عن حديث صفية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتقها وجعل عتقها صداقها فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في النكاح أشياء ليست لغيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ وَيَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، إِمَّا أَنِ ابْتَدَأهَا بِذَلِكَ أَوْ سَأَلَتْهُ فَأَجَابَهَا إِلَى ذلك فقد عتقت، وهي بالخيار في الحالين بَيْنَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ أَوْ لَا تَتَزَوَّجَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: قَدْ صَارَتْ لَهُ بِهَذَا الْعِتْقِ زَوْجَةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ. وَقَالَ الأوزاعي: لا تصير زوجة بالعتق ولكن تخير عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ. وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَقَدَ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَ بها. وَاسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَعْلُومٍ من خدمته أَوْ عَمَلٍ أُخِذَتْ بِهِ جَبْرًا فَكَذَلِكَ عَلَى التَّزْوِيجِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ بَدَلَ الْعِوَضِ عَلَى نِكَاحٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْطَاهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ هَذَا، وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَالْأَعْمَالُ، فَالْأَمْوَالُ كَالْقَرْضِ، وَالسَّلَمِ، وَالْأَعْمَالُ كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ، فَأَمَّا الْعُقُودُ فَلَا يثبت فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا عَلَى أن تبيعه داراً، أو يؤجره عَبْدًا لَمْ يَصِحَّ كَذَلِكَ النِّكَاحُ لَا يَثْبُتُ في الذمة بما نفذ مِنَ الْعِتْقِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ عَمَّا استدل به الأوزاعي، لأن قطع الخيار قبل ما يملك به استحقاق الْخِيَارِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أُسْقِطَ الشَّفِيعُ خِيَارَهُ فِي أَخْذِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، لَمْ يَسْقُطِ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَذَلِكَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ فِي التَّزْوِيجِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خُصُوصًا أَنَّ الْعِتْقَ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْمُعَتِقِ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ شَيْءٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُوجِبَ إثباته وإثبات بعضه لكونهما ضدين متنافيين. فأما اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 قَالَ الْمُزَنِيُّ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الْمُزَنِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا خُصَّ بِهِ فِي أَمْرِ صَفِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَ عِتْقُهَا نِكَاحَهَا وَلَا يَصِيرُ عِتْقُ غَيْرِهِ مَنْ أُمَّتِهِ نِكَاحًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ وَلَا يجب على غيرها أن تتزوج بغيره. والثالث: أنه خُصَّ بِأَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا صَدَاقٌ وَغَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خُصَّ بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْهُ وَلَا تَكُونُ الْقِيمَةُ إِذَا جَهِلَتْ صَدَاقًا مِنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ إِذَا أَبَتْ فَكَذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا أَبَى لَأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهَا لَمْ يُوجِبْ إِجْبَارَهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِيَارِهِ، وإذا كانا كذلك فلها حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَنَاكَحَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَنَاكَحَا. فَإِنْ لَمْ يَتَنَاكَحَا إِمَّا لِامْتِنَاعِهِ أَوِ امْتِنَاعِهَا فَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَلَى شَرْطِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ لُزُومِهِ، فَإِذَا فَاتَهُ الرُّجُوعُ بِرَقَبَتِهَا لِنُفُوذِ الْعِتْقِ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا على حمى أو حرى تَجِبُ لَهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعِتْقِ لَا يَوْمَ الرُّجُوعِ بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّ بِالْعِتْقِ وَقَعَ الِاسْتِهْلَاكُ الْمُوجِبُ لِلْقِيْمَةِ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ مُدَبَّرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِهِ وَكَانَ لَهُ عَلَى كل واحدة منهن لأنهن سواء في تفارقهن فَتَسَاوَيْنَ فِي عِتْقِهِنَّ، وَهَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُنَّ صَدَاقَهُنَّ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا وَلَهُ عَلَيْهِنَّ قيمتهن، لأن الشرط الذي فِي مُقَابَلَةِ عِتْقِهِنَّ لَمْ يَلْزَمْهُنَّ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عنه إلى قيمتهن. فصل فإذا اتفقا على أن نكحها فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى صداق معلوم معيناً أو في الذمة فالنكاح بلا صداق جائز وَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقُهَا، فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا أَيْضًا، وإن كان في الذمة مَنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَالصَّدَاقُ بَاطِلٌ وَقَالَ أبو حنيفة: الصَّدَاقُ جَائِزٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا عَمَلٍ يُعْتَاضُ عَلَيْهِ بمال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَصَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَتَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ فَاسِدٍ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مجهول ويكون له عليهما قيمتها فإن كانت القيمة مهر الْمِثْلِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَكُونَا قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَا مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهَلْ يَكُونَا قِصَاصًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ تكون قيمتها صداقاً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ جَائِزَيْنِ، لِأَنَّهُ تزوجها على معلوم في ذمتها فعاد كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهَا من ثمن أو قرض وتبرأ من قيمتها بالصداق، ويبرأ مِنْ صَدَاقِهَا بِالْقِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جاهلين بقدر القيمة أو أحدها، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عقد غَيْرِ مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الصَّدَاقَ الْمُعَيَّنَ إِذَا بَطَلَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ لا بمهر المثل، فتصح هَاهُنَا، لِأَنَّ قِيمَةَ الصَّدَاقِ هِيَ الْقِيمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ. فَصْلٌ فَإِذَا أَرَادَ سَيِّدُ الْأَمَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: إِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فِي غدٍ فَأَنْتِ الْيَوْمَ حُرَّةٌ، فَهِيَ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فِي غَدٍ بَاقِيَةٌ عَلَى الرِّقِّ، لَا خِيَارَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْجَبَ التَّزْوِيجُ تَقَدُّمَ عِتْقِهَا، وَبَانَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ فَصَحَّ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: هَذَا خَطَأٌ، وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ الْعَقْدُ وَاقِعًا فِي حَالِ الرِّقِّ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ أَمَتَهُ فَبَطَلَ الْعَقْدُ وَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ، لأن الْعِتْقُ إِذَا عُلِّقَ بِعَقْدٍ تَعَلَّقَ بِصَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ. فَصْلٌ وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِعَبْدِهَا: قَدْ أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِي أَوِ ابْتَدَأَهَا الْعَبْدُ فَقَالَ اعْتِقِينِي عَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَ بِكِ فَأَعْتَقَتْهُ عَتَقَ فِي الْحَالَيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَلَا يَلْزَمْهَا إِنْ رَضِيَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا قِيمَةَ لَهَا عَلَى عَبْدِهَا بِخِلَافِ عِتْقِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ عَلَى هذا الشَّرْطِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مِنَ التَّمْلِيكِ يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا شَرَطَهُ السَّيِّدُ عَلَى أَمَتِهِ كَانَ شَرْطًا له، فإذا فاته رجع ببذل كما لو أعتقها على مال يأخذه استحقه عليها، وإذا شرطت الْمَرْأَةُ عَلَى عَبْدِهَا كَانَ شَرْطًا عَلَيْهَا فَلَمْ يكن سقوطه عنها موجباً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 لرجوعها بِبَدَلِهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهَا دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِسَيِّدِ عَبْدٍ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَأَعْتَقَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بعد العتق، لم يَلْزَمْهُ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ بِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَفُ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كان قال له: أعتق عبدي عَنِّي عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَلَى الْبَاذِلِ لِلنِّكَاحِ دُونَ السَّيِّدِ، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ أعتقه عنه على بذل لم يحصل، وإن قال له: أعتقه من نفسك عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَفِي وُجُوبِ قِيمَةِ العبد على وجهان من اختلاف قوليه فيمن قال لعبده: أعتق عبدك على نَفْسِكَ عَلَى أَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ فَفِي وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ نفع، فعلى هذا لا يجب عليه هاهنا قيمة. والقول الثاني: تجب عَلَيْهِ الْقِيمَةُ الْأَلْفُ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقْ زوجتك على ألف لك علي لزمه الْأَلْفُ كَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَاهُنَا الْقِيمَةُ. فَصْلٌ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ في أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فِي حَالِ عِتْقِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا في العتق هل وقع بإجزاء فِي الظَّاهِرِ أَوْ مَوْقُوفًا. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ وَقَعَ بإجزاء فِي الظَّاهِرِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ فِي حَالِ الْعِتْقِ فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ اسْتَقَرَّ الْعِتْقُ مِنْ وَقْتِ التَّلَفُّظِ بِهِ، فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ ثُمَّ مَاتَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ أُبْطِلَ الْعِتْقُ الواقع في الظاهر بما تجدد من السبب الْمَانِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ صِحَّتِهِ وَلَا يحكم في المال بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ، فَإِنْ صَحَّ أَوْ مَاتَ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا بِاللَّفْظِ، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ غَيْرُ خارجة من الثلث أو أتلف مَالُهُ أَوْ حُدُوثُ دَيْنٍ أَحَاطَ بِجَمِيعِهِ بَانَ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَمْ يُقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا وَوَجَبَ أَنْ يكون موقوفاً على ما يستقر منهما. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفَرَّعَ النِّكَاحُ وَغَيْرُهُ من الأحكام عليها فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ نَاجِزًا فِي الظَّاهِرِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ وَجَازَ لَوْ وَهَبَهَا وَلَمْ يُعْتِقْهَا أَنْ يَطَأَهَا الْمَوْهُوبَةُ لَهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَحُدَّ قَاذِفُهَا وَإِنْ قُذِفَتْ أُكْمِلَ حَدُّهَا وَتَرِثُ وَتُورَّثُ. وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: إِنَّ الْعِتْقَ مَوْقُوفٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَكَانَ النِّكَاحُ إِنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ زَوَّجَهَا بَاطِلًا، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَجُزْ إِنْ وُهِبَتْ وَلَمْ يُعْتِقْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 أن يطأها الموهوبة له ولا أن يَتَصَرَّفُ فِيهَا، لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْعِتْقُ مَوْقُوفًا فكذلك الهبة تكون موقوفة، ولا تقبل شهادتها، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُا، وَإِنْ قُذِفَتْ لَمْ يُكْمَلْ حدها ويقف ميراثها على ما يتبين مِنْ أَمْرِهَا. فَصْلٌ فَإِذَا وَضَحَ مَا وَصَفْنَا فسد حُكْمُ النِّكَاحِ إِنْ صَحَّ أَوْ فَسَدَ. فَإِذَا قِيلَ إِنِ النِّكَاحَ بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا السَّيِّدُ حَتَّى مَاتَ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْوَفَاةِ، فَإِنْ عَجْزَ الثُّلْثُ عَنْهَا عَتَقَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَرَقَّ بَاقِيهَا إِنْ لَمْ يُمْضِ الْوَرَثَةُ عِتْقَهَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَمَاتَ، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا اسْتَقَرَّ عتقها وعليها عدة الوفاة ودخل بِهَا السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ، لِأَنَّ عِتْقَهَا فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ لَهَا، وَإِذَا ورثت منعت الوصي، وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ لَمْ يَثْبُتْ. فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ أَخَذَتْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وإن كان أكثر من مهل الْمِثْلِ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ المال، وكانت الزيادة عليه وصية لها تعطاها مِنَ الثُّلُثِ إِنِ احْتَمَلَهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ وَارِثَةٍ فلو كانت قيمتها تخرج من الثلث وقت الْعِتْقِ وَلَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقْتَ الْمَوْتِ نظر في الورثة فإن يُجِيزُوا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أُعْتِقَ مِنْهَا قدر ما احتمله الثُّلُثُ وَيُرَقُّ الْبَاقِي وَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى الوجهين معا، فإن لم يدخل بها فلا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا كَانَ لَهَا مَهْرِ الْمِثْلِ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْعِتْقَ عَتَقَ جَمِيعُهَا. فَأَمَّا النِّكَاحُ فَعَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ هَلْ هِيَ تَنْفِيذٌ لِلْوَصِيَّةِ أَوِ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ إنما تنفيذ ما فعله كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلْثِ وَقْتَ الْعِتْقِ وَوَقْتَ الموت وكان المهر إن دفع نقص من الثُّلْثُ عَنْ قِيمَتِهَا نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَالْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا نَافِذٌ، وَالنِّكَاحُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ جَائِزٌ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا وَعَجْزِهِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ بَعْضِهَا وَرِقُّ بَعْضِهَا يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَسُقُوطِ مَهْرِهَا، وَمَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلى سقوط لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْهُ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِقِيمَتِهَا فَنَفَذَ عِتْقُهَا وَصَحَّ نِكَاحُهَا، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَحَرَّرَ مِنْ عِتْقِهَا وَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهَا وَدَخَلَهُ الدُّوْرُ وَسَنَذْكُرُ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَدْرُ مَا تَتَحَرَّرُ مِنَ الْعِتْقِ عَلَى حقيقة - والله أعلم. فَصْلٌ فَنَقُولُ: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً لَهُ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا وَتَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ معا، فإن لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 يَدْخُلُ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَعَتَقَ ثُلُثُهَا إِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ عِتْقَ جَمِيعِهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْمَهْرِ عَتَقَ مِنْهَا الثُّلْثُ وَرَقَّ الثُّلْثَانِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِمَا تستحقه من مهر مثلها داخلة الدور وبان العمل فيه من طريق الخبر أن يقول: لِلْأَمَةِ بِالْعِتْقِ شَيْءٌ وَلَهَا بِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ مثلاً مما يخرج بالعتق، ويصير الْجَمِيعُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفَ شَيْءٍ فَاضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ الَّذِي هُوَ النِّصْفُ، وَذَلِكَ اثْنَانِ تكن سبعة أشياء للعتق منها سهمان سبعاها وذلك ثمانية وعشرين دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ هُوَ سبعها وقيمة أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَسُبْعَانِ وَذَلِكَ سُبْعَا مَهْرِ مثلها وهو قدر مَهْرِ مَا عَتَقَ مِنْهَا وَيَرِقُّ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أسباعها وذلك بسبعة وخمسين دِرْهَمًا وَسُبْعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَثَلًا مَا عَتَقَ منها ما يُقَالُ لِلْوَرَثَةِ: إِنْ دَفَعْتُمْ قِيمَةَ السُّبْعِ الْمُسْتَحَقِّ في المهر صار لكن خمسة أسباعها، وإن لم تدفعوه بيع ودفع ثمنه إليها. فصل وإذا أعتق في مرضه أمته قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتَزَوُّجَهَا عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مَثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَمَاتَ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَمَنْ تَابَعَهُ -، أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَقَدْ عَتَقَ جَمِيعُهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، عَتَقَ جَمِيعَهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ وَطَلَبَتْهُ رَقَّ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا عَجَزَ بِهِ الثُّلُثُ عن قيمتها بالخارج من مهرها وبابه من طريق الخبر ما قدمناه. وهو أن يقول له: بِالْعِتْقِ شَيْءٌ وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ شَيْءٍ وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، ويصير الجميع ثلاثة أشياء ونصف شيء، أخبر بها في مخرج النصف، وهو اثنان تكن سبعة أشياء فيعتق منها سهمين بسهمين سُبْعَا التَّرِكَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْبَاعِ رَقَبَتِهَا، لِأَنَّ التركة ثلثمائة وقيمتها مائة فتكون قيمة ستة أسباعها خمسة وثمانين درهماً أو خمسة أسباع درهم ويكون لها مهر سِتَّةِ أَسْبَاعِهَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ مائة واحد وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ السبع الموقوف منها والباقي من التركة يعد مهرها، لأن قيمة سبعها أربعة عشر دِرْهَمًا وَسُبْعَانِ وَالْبَاقِي مِنَ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْخَارِجِ من مهرها مائة درهم وسبعة وخمسون درهماً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ لم يدخل بها فلا لها وعتق جميعها نافذ بخروج جَمِيعِ قِيمَتِهَا مِنَ الثُّلُثِ وَسَقَطَ الْمَهْرُ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِهِ لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ أَبْرَأَتْ مِنْ مَهْرِهَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنْ طَلَبَتْهُ بَطَلَ النِّكَاحُ لِنُقْصَانِ الثُّلُثِ عَنْ قِيمَتِهَا وَحُكِمَ لَهَا بِقَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ المثل دون المسمى، لأن بِفَسَادِ النِّكَاحِ يَبْطُلُ الْمُسَمَّى وَكَانَ وَجْهُ الْعَمَلِ فيه من طريق الخبر ما ذكرنا، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ عِتْقِهَا مَا وَصَفْنَا - وبالله التوفيق -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 بَابُ اجْتِمَاعِ الْوُلَاةِ وَأَوْلَاهُمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَتَزْوِيجِ الْمَغْلُوبِينَ على عقولهم والصبيان من الجامع من كتاب ما يحرم الجمع بينه من النكاح القديم وإنكاح أمة المأذون له، وغير ذلك مسألة قال الشافعي: " وَلَا وِلَايَةَ لأحدٍ مَعَ الْأَبِ فَإِنْ مَاتَ فَالْجَدُّ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ ثُمَّ أَبُو أَبِي الجد كذلك لأن كلهم أبٌ فِي الثِّيِّبِ وَالْبِكْرِ سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَقْرَبُ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهَا وَأَحَقُّهُمْ بنكاحها الأب، لأنها بعضه وَهِيَ مِنْهُ بِمَثَابَةِ نَفْسِهِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا يريبها ". وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنَ وَالأَقْرَبِينَ) {النساء: 135) . أَنَّ الْأَنْفُسَ هَاهُنَا الْأَوْلَادُ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَكْثَرُ العصبات شفقة وحباً وأعظمهم رفقة وحنواً وصار بها أمس ويطلب الْحَظَّ لَهَا أَخَصَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة " وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِهِ يَدُلُّونَ وَإِلَيْهِ يَنْتَسِبُونَ وَالَمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلِي، وَلِأَنَّهُ يَلِي عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَصَارَ الْأَبُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ. فَصْلٌ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ فِسْقٍ، فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْأَبِ. وَقَالَ مَالِكٌ الْأَخُ بَعْدَ الْأَبِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْجَدِّ، لِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ والجد أبو أب الْأَبِ وَالِابْنُ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنَ الْأَبِ، وَهَذَا خطأ، لأن في الجد بعضية ليست في الأخ فصار بها متشابهاً لِلْأَبِ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ وِلَايَةً عَلَى الْمَالِ وَالنِّكَاحِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي تَخْتَصُّ وِلَايَتُهُ بِالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْأَبِ فَكَانَ بَعْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي قَدْ كَانَ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ أبيه ففاسد من وجهين بابن المرأة وأبيها. فَصْلٌ فَإِنْ مَاتَ الْجَدُّ أَوْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِكُفْرٍ، أَوْ رِقٍّ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ فِسْقٍ قالوا: فالولاية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 بعده لأبيه ثم تنتقل عنه إلى من فوقه مِنَ الْآبَاءِ كُلَّمَا عُدِمَ الْأَقْرَبُ كَانَتِ الْوِلَايَةُ بَعْدَهُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ حَتَّى يَنْفَذَ جَمِيعُ الْآبَاءِ فَيَكُونُ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الولاية والبعضية أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ وَإِنْ قَرُبَ وَيَكُونُ حكم الْأَجْدَادُ وَإِنْ بَعُدُوا فِي إِجْبَارِ الْبِكْرِ وَاسْتِئْمَارِ الثيب كالأب. مسألة قال الشافعي: " ولا ولاية بعدهم لأحدٍ مَعَ الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَةِ (قال المزني) واختلف قوله في الإخوة (فَقَالَ) فِي الْجَدِيدِ مَنِ انْفَرَدَ فِي درجةٍ بَأُمٍّ كَانَ أَوْلَى (وَقَالَ) فِي الْقَدِيمِ هُمَا سواءٌ (قال المزني) قد جعل الأخ للأب والأم في الصلاة على الميت أولى من الأخ للأب وجعله في الميراث أولى من الأخ للأب وجعله في كتاب الوصايا الذي وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا أوصى لأقربهم به رحماً أنه أولى من الأخ للأب (قال المزني) وقياس قوله أنه أولى بإنكاح الأخت من الأخ للأب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ لِلْأَبِ ثُمَّ لِمَنْ نَاسَبَ الْأَبَ وَلَا يستحقها بالنسب من لم يرجع بالنسب إِلَى الْأَبِ فَيَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِالنَّسَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْآبَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ عَمُودٌ يَسْتَحِقُّ الولاية منهم الأقرب فالأقرب ومن هم من العصبات درج مرتبته تخرج مِنْ كُلِّ دَرَجَةٍ عَمُودٌ وَكُلُّ دَرَجَةٍ تَتَقَدَّمُ بِعَمُودِهَا عَلَى مَا بَعْدَهَا وَتَتَأَخَّرُ بِعَمُودِهَا قَبْلَهَا فَإِذَا انْقَرَضَ عَمُودُ الْآبَاءِ كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأُولَى بني الْأَبِ وَهُمُ الْإِخْوَةُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا، وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ بَنُو الْجَدِّ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ بَنُو أَبِي الْجَدِّ وَهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَعَمُودُهَا بَنُوهُمْ وَإِنْ سفلوا وكذلك بَنُو أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو جَمِيعِ الْآبَاءِ فَيَصِيرُ أَحَقَّ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْآبَاءِ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ الْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ وَبَنُوهُمْ وِإنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ أَعْمَامُ جد الجد وبنوهم وإن سفلوا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يَنْقَرِضَ بَنُو الْآبَاءِ كلهم فلا يبقى بعدهم ولي مناسب فينتقل حينئذ الولاية على الْمُنَاسِبِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ ثُمَّ إِلَى عَصَبَتِهِمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، ثُمَّ إِلَى السُّلْطَانِ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي تَرْتِيبِ العصبات لاستحقاق الولاية فأول درجة ينتقل إِلَيْهَا الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْآبَاءِ الْأُخْوَةُ، وَالْأُخْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إِخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَإِخْوَةٌ لِأَبٍ، وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ. فَأَمَّا الْأُخْوَةُ لِلْأُمِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ سَوَاءً اجْتَمَعُوا مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ أَوِ انْفَرَدُوا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُدْلُوْا بِالْأُمِّ وَلَمْ يَرْجِعُوا بنسبهم إِلَى الْأَبِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَبَاتِ الْمُنَاسِبِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ. وَأَمَّا الْأُخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُخْوَةُ لِلْأَبِ فَلَهُمُ الْوِلَايَةُ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ انْفَرَدَ كَانَ وَلِيًّا فَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ، وَإِنِ انْفَرَدَ الْأَخُ لِلْأَبِ كَانَتِ الْوِلَايَةُ لَهُ وَإِنِ اجْتَمَعَا فَفِيهِ قولان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك، وأبي ثور - أنهم سَوَاءٌ وَلَا يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ مَنْ أَدْلَى بِهَا، لِأَنَّ الْمُدَلَّى بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَلِّي وَلَيْسَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ للأب، لأن للأم في الميراث مدخل فَلِذَلِكَ يُرَجَّحُ مَنْ أُدْلَى بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ ولاية النكاح تختص بِهَا الذُّكُورُ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ فِيهَا مَنْ أَدْلَى بِالْإِنَاثِ كَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة -، إِنَّ الْأَخَ للأب والأم أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَخِ لِلْأَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بِدَرَجَةٍ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ كما يحجب ابن الأخ. والثاني: للأخت مع الأب من الأم وَالْأُمِّ السُّدُسُ كَمَا يَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ وَإِذَا كَانَ الْإِدْلَاءُ بِالْأُمِّ كَالتَّقَدُّمِ بدرجة بهذين البلدين وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْوِلَايَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ الْمُزَنِيُّ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمُدْلِيَ بِالْأَبَوَيْنِ أقرب من أدلى بأحدهما استشهاداً بِالْوَصَايَا فِيمَنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ أَنَّهُ يَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ اتِّفَاقًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُرْبِ، فَكَذَلِكَ وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَهَذَا وَجْهٌ. والثاني: أن الأخ للأب والأم ادلائه بالسببين واشتراكهما فِي الرَّحِمَيْنِ أَكْثَرُ إِشْفَاقًا وَحُبًّا مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا فَصَارَ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ أَخَصَّ وَبِطْلَبِ الْحَظِّ فِيهَا أَمَسَّ كَمَا كَانَ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ وَهَكَذَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي أَحَقِّهِمَا بِهَا قَوْلَانِ وَهَكَذَا فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِلدَّيَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخٌ لِأَبٍ قَوْلَانِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَأَمَّا في الميراث، وَالْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي هَذِهِ المسائل الثلاث أحق من الأخ للأب. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْأَخَوَيْنِ فَهَكَذَا بَنُوهُمَا فَيَكُونُ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنُ أَخٍ لِأَبٍ فِي أَحَقِّهِمَا بِالْوِلَايَةِ قَوْلَانِ وهكذا بنو أبي الأخوين وإن سفلوا وإن اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمْ قُدِّمَ الأقرب إن كان للأب فَيَكُونُ الْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ، وَهَكَذَا الْأَعْمَامُ وبنوهم الإخوة وبنيهم فالعم للأم لا ولاية له لخروجه من العصبات وإن تَفَرَّدَ بِهَا عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَتِ الْوِلَايَةُ له، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْقَدِيمُ - أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 والثاني: - وهو الجديد - أن العم للأب والأم أَوْلَى، وَهَكَذَا بَنُو هَذَيْنِ الْعَمَّيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَإِنِ اخْتَلَفَ الدَّرَجُ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ فَيَكُونُ الْعَمُّ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي أَعْمَامِ الآباء والأجداد وبنيهم. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَبْنَاءُ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَفِيهَا قَوْلَانِ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنَ الْأَبِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمَا سَوَاءٌ كَانَ أَبْنَاءُ الْعَمِّ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ أحدهما أخاً لأم. وإن قِيلَ: إِنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى كَانَ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بِالْأُمِّ، فَأَمَّا الْعَمَّانِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا خَالًا فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْخَالَ لَا يَرِثُ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ بِهِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ - والله أعلم -. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ ابْنُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا وِلَايَةَ لِلِابْنِ عَلَى أُمِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِالْبُنُوَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَصَاحِبُهُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أُمَّهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِهِ مَعَ الْأَبِ. فَقَالَ مَالِكٌ، وأبو يوسف، وَإِسْحَاقُ: الِابْنُ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ومحمد بن الحسن: الْأَبُ أَوْلَى ثُمَّ الِابْنُ وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ. وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِابْنِ عَلَيْهَا: بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ، فَقَالَ مَا لك ولي حاضر ولا غائب لا يرضاني. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: " قم يا غلام فزوج أمك " فهذا نص. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ زَوَّجَ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ مِنِ عَمِّهِ أَبِي طَلْحَةَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ عَصَبَةٌ لَهَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي نِكَاحِهَا كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ تَعْصِيبَ الابن أقوى من تعصيب الأب، لأنهما إن اجْتَمَعَا سَقَطَ بِالِابْنِ تَعْصِيبُ الْأَبِ، وَصَارَ مَعَهُ ذَا فَرْضٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنَ الْأَبِ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يُرَادُ لِحِفْظِ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ تَزْوِيجِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا فَيَدْخُلُ العار على أهلها والابن رافع لِلْعَارِ عَنْهَا وَعَنْ نَفْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ لِكَثْرَةِ أَنَفَتِهِ وَعِظَمِ حَمِيَّتِهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِنِكَاحِهَا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ نَسَبٍ لَا يَمْلِكُ به أو المنتسب الولاية لم يملك به المنتسب بالولاية كالأخ من الأم طرداً أو كالأخ مِنَ الْأَبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِي نَسَبٍ أَدْلَى بِمَنْ لَا يَمْلِكُ الْإِجْبَارَ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ كَابْنِ الْأُخْتِ طَرْدًا، وَكَابْنِ الْأَخِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا نَسَبٌ لَمْ يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا وِلَايَةُ النَّسَبَ كَالِابْنِ مِنَ الرَّضَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالِابْنُ مُنَاسِبٌ وَالْمُرْتَضِعُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ قِيلَ الِابْنُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لأمه، لأنه يرجع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 بنسبه إلى أبيه لا إليها أَلَّا تَرَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّبَطِيِّ نَبَطِيٌّ، وَابْنَ النَّبَطِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِيِّ عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْأُخْتَيْنِ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ وَاحِدٌ وَوِلَايَةُ الْأَخَوَيْنِ الْمُتَنَاسِبَيْنِ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الِابْنُ تَزْوِيجَ خَالَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُمِّهِ وَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْ أَخُوهُ لِأَبِيهِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ لَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَ أُمَّهُ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ: قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا الْمُنَاسِبَةِ لَهَا قِيَاسًا عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ طَرْدًا، وَعَلَى ابْنِ الْعَمِّ عَكْسًا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَمْلِكُ إخُوة الْمُنَاسِبُ لَهُ تَزْوِيجَهَا فَلَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَزْوِيجَهَا كالخالة طرداً وكالعمة عكساً، ولأن كل مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ بِالنَّسَبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَلَدِ فلم يجز أن يصير للولد قِيَاسًا عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نكاحها لا يخلو أن يكون لإدِلَائه بِهَا أَوْ بِأَبِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون لإدِلَائه بِأَبِيهِ، لِأَنَّ أَبَاهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ لإدِلَائه بِهَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لها وِلَايَةٌ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْإِدْلَاءُ بالسببين بطلت الولاية. فإن قيل: فغير مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ أَدْلَى بِهَا مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ مَا لَيْسَ لَهَا كَالْأَبِ يُزَوِّجُ أمة بنته إدلاء بها وَلَيْسَ لِلْبِنْتِ تَزْوِيجُهَا. قِيلَ: لَمْ يُزَوِّجْهَا الْأَبُ إِدْلَاءً بِالْبِنْتِ لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَسْفَلِ إِلَى الْأَعْلَى وَلَا يَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى بالأسفل وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَلِيًّا عَلَى بِنْتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَى أَمَةِ بنته، لأن الولاية إذا أثبتت عَلَى الْأَقْوَى فَأَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْأَضْعَفِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَهَا زَوَّجَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ الْبُنُوَّةِ مُنَاسِبًا لَهَا، لِأَنَّ عُمَرَ بن أبي سلمة بن عبد الأسد بْنِ هِلَالٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بن مخزوم فَكَانَ مِنْ بَنِي عَمِّهَا يَجْتَمِعَانِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَكَانَ أَقْرَبَ عَصَبَاتِهَا الْحَاضِرِينَ فَزَوَّجَهَا بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ لَا بِالْبُنُوَّةِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قم فَزَوِّجْ أُمَّكَ " أَيْ فَجِئْنِي بِمَنْ يُزَوِّجُ أُمَّكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي وَلِيٌّ حَاضِرٌ فَأَقَرَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَ لكن وَلِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ وَقِيلَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَدَلَّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّزْوِيجِ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا بِإِحْضَارِ مَنْ يَتَوَلَّى التَّزْوِيجَ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ فِي مَنَاكِحِهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فأمر ابنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 بِذَلِكَ اسْتِطَابَةً لِنَفْسِهِ لَا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ عَلَى أَنَّ رَاوِيَ هَذَا اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَثَابِتٌ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ فَكَانَ مُنْقَطِعًا. وَأَمَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَكَانَ مِنْ عَصَبَاتِ أُمِّهِ فَزَوَّجْهَا بِتَعْصِيبِ النسب لا بالبنوة. وأما الجواب عن قياسه بِأَنَّهُ عَصَبَةٌ كَالْأَبِ فَهُوَ أَنَّ الِابْنَ عَصَبَةٌ في الميراث ليس بِعَصَبَةٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَلَا مِنَ الْعَصَبَاتِ وَالْمِيرَاثُ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ عَلَا وَسَفَلَ مِنَ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَبِ لَمَّا كَانَ أَبُوهُ وَهُوَ الْجَدُّ وَلِيًّا لَهَا كَانَ الْأَبُ وَلِيًّا وَلَمَّا كَانَ أَبُو الِابْنِ وَهُوَ الزَّوْجُ غَيْرَ وَلِيٍّ لَهَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ وَلِيًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْصِيبَ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ فَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمِيرَاثِ باستحقاق الولاية في النكاح، لَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يعتبر قوة التعصيب في الميراث لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ مِنَ الْأَبْنَاءِ يُسْقِطُ فِي الْمِيرَاثِ تَعْصِيبَ الْآبَاءِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ النكاح عن حكم الأب. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ حَمِيَّةً وَأَكْثَرُ أَنَفَةً فِي مَنْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فهذا المعنى هو الذي أبطل ولايته به وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: " لِأَنَّهُ يَرَى نِكَاحَهَا عار " يَعْنِي أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَيَرَاهُ عَارًا فَهُوَ لَا يَطْلُبُ الْحَظَّ لَهَا فِي نِكَاحِ كُفْئِهَا وَالْوَلِيُّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا فَلِذَلِكَ خَرَجَ الِابْنُ عَنْ مَعْنَى الْأَوْلِيَاءِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَ لِلِابْنِ تَزْوِيجَ أُمِّهِ بِالْبُنُوَّةِ فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَصَبَةً لَهَا مِنَ النَّسَبِ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ ابْنِ عَمِّهَا وَلَيْسَ لَهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَيُزَوِّجُهَا، لِأَنَّ بُنُوَّتَهُ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ قُوَّةً لَمْ تَزِدْهُ ضَعْفًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهَا ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ هُمَا سَوَاءٌ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ، وعلى قياسه قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ ابْنُهَا أَوْلَى لِفَضْلِ إِدْلَائِهِ بها. والسبب الثاني: أن يكون موالٍ لها يزوجها بولاية الولاء، فلو كان لها ابنا مَوْلًى أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْآخِرُ لِأَبٍ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أنهما سواء. والثاني: وهو الجديد أن ابنها يفضل إِدْلَائه بِهَا أَوْلَى. وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا قَاضِيًا وَلَيْسَ لَهَا عَصَبَةٌ مُنَاسِبُ فَيَجُوزُ لابنه أَنْ يُزَوِّجَهَا بِوِلَايَةِ الْحُكْمِ. وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِوَلِيِّهَا الْمُنَاسِبِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا نِيَابَةً عَنْهُ كَمَا يُزَوِّجُهَا الْمُسْتَنَابُ مِنَ الأجانب. فصل فإذا أعتقت المرأة أمة لها وَأَرَادَتْ تَزْوِيجَهَا وَكَانَ لَهَا أَبٌ وَابْنٌ فَأَبَوْهَا أَوْلَى بِتَزْوِيجِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ ابْنِهَا فَلَوْ مَاتَتِ السَّيِّدَةُ الْمُعْتِقَةُ وَخَلَّفَتْ أَبَاهَا وَابْنَهَا فَوَلَاءُ أَمَتِهَا التي أعتقها لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ وَفَى أحَقِّهِمَا بِنِكَاحِهَا وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الِابْنِ كَمَا كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي حَيَاةِ سيدها. والوجه الثاني: أن الابن بعد موت السيد أَوْلَى بِنِكَاحِ الْمُعَتَقَةِ مِنَ الْأَبِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَمْلَكَ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْأَبِ فَصَارَ أَمْلَكَ بِوِلَايَةِ النِّكَاحِ مِنَ الْأَبِ - وَاللَّهُ أعلم -. مسألة قال الشافعي: " ولا ولاية بعد النسب إلا للمعتق ثُمَّ أَقْرَبِ النَّاسِ بِعَصَبَةِ مُعْتِقِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُنَاسِبُونَ لَهَا مِنَ الْعَصَبَاتِ يَتَرَتَّبُونَ بِالْقُرْبِ إِلَيْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَمَتَى وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ بَعُدَ فَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا وَإِنْ عَدِمُوا جَمِيعًا قَامَ الْمَوْلَى المعتق في نكاحها مقام الأولياء المناسبين من عصبتها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها بَاطِلٌ "، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى الْمُعْتِقَ قَدْ أَفَادَهَا بِالْعِتْقِ مَا أَفَادَهَا الْأَبُ الْحُرُّ مِنْ زَوَالِ الرِّقِّ حَتَّى صَارَتْ مَالِكَةً وَوَارِثَةً وَمَوْرُوثَةً وَمَعْقُولًا عَنْهَا فاقتضى أن تحل مَحَلَّ الْأَبِ وَالْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا، فَمَتَى وُجِدَ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ بَعْدَ فَقْدِ الْعَصَبَاتِ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِهَا فَإِنْ عُدِمَ فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَتَرَتَّبُونَ فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا عَلَى مِثْلِ مَا يَتَرَتَّبُونَ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ وَلَائِهَا وَمِيرَاثِهَا فَيَكُونُ ابْنُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَنَوْهُ أَحَقَّ بِوَلَائِهَا وَوِلَايَةِ نِكَاحِهَا مِنَ الْأَبِ، ثُمَّ الْأَبُ بَعْدَ الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ ثُمَّ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الْأَبِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: الْأُخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْجَدُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْجَدُّ، ثُمَّ الْأُخْوَةُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأُخْوَةُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ بنو الإخوة، ثم فيمن يستحقها من الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: الْأَعْمَامُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَبُو الْجَدِّ، ثُمَّ الْأَعْمَامِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأَعْمَامُ ثُمَّ أَبُو الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُو الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ يَتَرَتَّبُونَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا عَلَى ما ذكرنا حتى جَمِيعِ عَصَبَاتِ الْمَوْلَى، فَإِنْ عُدِمُوا فَمَوْلَى الْمَوْلَى ثُمَّ عَصَبَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقِينَ وَعَصِبَاتِهِمْ أَحَدٌ وَكَانَتِ المرأة العادمة للعصبات حرة ولا وَلَاءَ عَلَيْهَا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَهُوَ النَّاظِرُ فِي الْأَحْكَامِ فَتَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ للمعتقة ابنا مَوْلًى اسْتَوَيَا فِي وِلَايَةِ نِكَاحِهَا فَأَيُّهُمَا زَوَّجَهَا جاز ولو كان لها موليان معتقان ولم يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ أَوْ يَأْذَنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا. وَقَالَ أبو حنيفة: أَيُّهُمَا انْفَرَدَ بِنِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ صَحَّ وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى أخوي الحرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 وَابْنِيْ مَوْلَى الْمُعَتَقَةِ، وَهَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ لِظُهُورِ الفرق بينهما، وهو أن كلاً مِنَ الْأَخَوَيْنِ وَابْنَيِ الْمَوْلَى مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ لِانْتِقَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إِلَى الباقي ولي كل واحد من المعتقين ممن يسحق كُلَّ الْوِلَايَةِ وَالْوَلَاءِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى الْبَاقِي فَمَنَعَ هَذَا الْفَرْقُ من صحة الجميع. فلو مات أحد المعتقين وترك اثنين فَزَوَّجَهَا الْمُعْتِقُ الْبَاقِي بِأَحَدِ ابْنِيِ الْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ جاز، ولو زوجها ابنا الْمَيِّتِ دُونَ الْمُعَتِقِ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ التَّعْلِيلِ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلَانِ عَبْدًا أو أعتق الْعَبْدُ أَمَةً وَمَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ معتقيه تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى نِكَاحِهَا، لِأَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَلَاءِ فإن تفرد أحدهما بنكاحها بطل وإن عَضَلَ أَحَدُ الْمُعْتِقَيْنَ الْأَمَةَ، أَوْ غَابَ، أَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَالْمُعَتِقُ الْبَاقِي لِيَنُوبَ الْحَاكِمُ عَمَّنْ مَاتَ، أَوْ عَضَلَ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا دُونَ الْمُعَتِقِ أَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْمُعَتِقُ دُونَ الْحَاكِمِ كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا نِصْفُ الْوِلَايَةِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فَإِنِ اسْتَوَتِ الْوُلَاةُ فَزَوَّجَهَا بَإِذْنِهَا دُونَ أَسَنِّهِمْ وأفضلهم كفؤاً جَازَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أولياء يساوي الأخوال فِي التَّعْصِيبِ وَالْقُرْبِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا لَاسْتَحَقَّهَا، فَإِذَا شَارَكَ غَيْرَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له " فجعلهم عند الاشتجار سواء، ولم يعدم منهم مع التكافئ أحداً، وإذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَتَشَاجَرُوا أَوْ لَا يَتَشَاجَرُوا، فَإِنْ لَمْ يَتَشَاجَرُوا: فالأولى أن يتولى العقد منهم أفضلهم مشياً وديناً وعلماً، أما المشي فلأنه أخبر بِالْأُمُورِ لِكَثْرَةِ تَجْرِبَتِهِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ يُسَارِعُ إِلَى مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لوليته، وأما العلم فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ شُرُوطَ الْعَقْدِ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ، فَإِذَا تَوَلَّاهُ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كان أولى وأفضل وإن تولاه منهم من خالفهم فكان أصغرهم سناً وأقلهم علماً أو ديناً لكن كان بالغاً عدلاً بالنكاح جاز؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ لَصَحَّ عَقْدُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضْلِ تَأْثِيرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ. فصل فإن تشاجروا، أو طلب كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ لَمْ يَتَرَجَّحْ مِنْهُمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ بِالسِّنِّ وَالْعِلْمِ أَحَدٌ، وَكَانُوا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْوِلَايَةِ مَعَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَتَرَجَّحْ بِهَا أَحَدُهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْمُخَالَطَةِ وَالْجِوَارِ طَرْدًا وَكَالْعَدَالَةِ عكساً، وإذا كان كذلك وجب الإقراع بينهم ليتميز بالقرعة أحدهم، ولأن مَا اشْتَرَكَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مُوجِبِهِ وَلَمْ يَكُنِ اشتراكهم في حكمه تميزاً فِيهِ بِالْقُرْعَةِ، كَمَا يُقْرَعُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ يَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ الطِّفْلِ فِيمَنْ يكفله من بينهم، فإذا قرع بَيْنَهُمْ كَانَ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْعَقْدِ أو يتولاه أو أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَهَلْ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ اسْتِحْقَاقًا أَوِ اخْتِيَارًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ أَوْلَى بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لِتَرَجُّحِهِ بِالْقُرْعَةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أولى به من طريق الاختيار ليكافئ الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِيهِ كَانَ تَارِكًا لِحَقِّهِ وَالْمُتَوَلَّى لَهُ قَائِمٌ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ من الجماعة بغير إذنه كالنكاح كان جائزاً. مسألة قال الشافعي: " وإن كَانَ غَيْرَ كفؤٍ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ ". قَالَ الماوردي: وإذا رضيت المرأة لنفسها رجلاً ودعت أوليائها إلى تزويجها به لم يخل حال الرجل من أن يكون كفؤاً لها وغير كفءٍ، فإن كان كفء لَزِمَهُمْ تَزْوِيجُهَا بِهِ، فَإِنْ قَالُوا نُرِيدُ مَنْ هو أكفأ منه لم يكن لهم ذاك، لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكَفَاءَةِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَسَقَطَ، وكانوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَضْلَةً يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ دُونَهُمْ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمُ عَارٌ مقض فَلَوْ رَضُوا بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ كَانَ لِلْوَاحِدِ منعها منه لما يلحقه من عار وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ إِذَا أعفوا عن القاذف إلا واحد كان الواحد أن يجده لما يلحقه من معرة القذف، فلو بادر أَحَدُ أَوْلِيَائِهَا بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَاقِينَ وَرِضَاهُمْ فَزَوَّجَهَا بهذا الذي ليس كفءً لَهَا فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ إِنْكَاحِهِ فَيَكُونُ حقاً لهم، وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْإِمْلَاءِ ": فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كفءٍ كَانَ لَهُمُ الرَّدُّ، فَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ النِّكَاحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وهو ظاهر نص فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّ عَدَمَ الْكَفَاءَةِ نَقْصٌ يَجْرِي مَجْرَى العيوب في النكاح والبيع تُوجِبُ خِيَارَ الْفَسْخِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ ظَاهِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَقَعُ مَوْقُوفًا على الإجازة فإذا لم ينعقد لأن ما كان باطلاً، ولأن غير الكفؤ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ بَاطِلًا كَمَنْ عُقِدَ عَلَى غَيْرِهِ بَيْعًا أَوْ نِكَاحًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهَذَا أَحَدُ مَذْهَبَيْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابَيْنَ عَلَى اخْتِلَافُ حَالَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، والذي يقتضيه نصبه في هذا الموضع من إطلاق النِّكَاحِ، هُوَ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ عَالِمًا بِأَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ كفءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " مِنْ جَوَازِ النِّكَاحِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 وثبوت خيار الْفَسْخِ فِيهِ لِبَاقِي الْأَوْلِيَاءِ، هُوَ إِذَا لَمْ يعلم الولي ذلك إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ وَأَوْلَى الطرفين، لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ مُخَالِفٌ وَمَعَ التَّدْلِيسِ مَغْرُورٌ فجرى مجرى الوكيل وإذا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ مَا يَعْلَمُ بِعَيْبِهِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ، وَلَوِ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ بعيبه صح عقده وثبت فِيهِ الْخِيَارُ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ أوليائها واحد فَرِضِيَ وَرَضِيَتْ بِغَيْرِ كفءٍ فَزَوَّجَهَا بِهِ وَأَنْكَرَهُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُمْ وَالنِّكَاحُ مَاضٍ، لِأَنَّ الْأَقْرَبَ قَدْ حَجَبَ الْأَبَاعِدَ عَنِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِرَاضٌ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْمُمْتَنِعَ والأباعد الراضون فمنع الأقرب أولى من رضا الأبلعد، وإن كثروا، لأن حجبهم عن الولاية لا يعتبر فيهم منع ولا رضى. القول في الكفاءة بين الزوجين قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ نِكَاحُ غَيْرِ الكفؤ بمحرمٍ فأرده بكل حالٍ إنما هو تقصيرٌ عن المزوجة والولاة ". قال الماوردي: وأما الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ فَمُعْتَبِرَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي لحوق الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا تزوجهن إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَأنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ثلاثة لا تؤخرهم الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا "، وَلِأَنَّ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الكفء عار يدخل على الزوجة والأولياء وعضاضة تدخل على الأولاد يتعدى إليهم نقصاً فكان لها وللأولياء دفعة عنهم وعنها. فصل : الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْكَفَاءَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا وَشَرَائِطُهَا فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فهي المساواة مأخوذ مَنْ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ لِتَكَافُئِهِمَا وَهِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِشَرَائِطَ نذكرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 أصلها ما رواه سعيد بن أبي شعبة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا، وَدِينِهَا، وَجِمَالِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ". يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ وَأَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ترتب هَاهُنَا بِمَعْنَى اسْتَغْنَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى افْتَقَرَتْ فَتَصِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ لَمْ يخالف له أمراً مع أن دعاءه مَقْرُونٌ بِالْإِجَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ تَرِبَتْ يَدَاكَ إِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، لِأَنَّ مَنْ لم يظفر بذات الدين سلبت الْبَرَكَةُ فَافْتَقَرَتْ يَدَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تَخِفُّ على ألسنة العرب في خواتيم الكلام ولا يُرِيدُونَ بِهَا دُعَاءً وَلَا ذَمًّا، كَقَوْلِهِمْ مَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَمَا أَرْمَاهُ شُلَّتْ يَدَاهُ. فإذا ثبت هذا فالشروط الَّتِي تُعْتَبِرُ بِهَا الْكَفَاءَةُ سَبْعَةٌ وَهِيَ: الدِّينُ، والنسب، والحرية، والمكسب، والمال، والبشر، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ بالدين وحده. وقال ابن أبي ليلى: مُعْتَبِرَةٌ بِشَرْطَيْنِ: الدِّينِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ: الدِّينِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَالِ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة. وَقَالَ أبو يوسف: هِيَ مُعْتَبِرَةٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: الدِّينِ، وَالنَّسَبِ، والمال، والمكسب. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْ أبي حنيفة. وَنَحْنُ نَدُلُّ على كل شرط منها وَنُبَيِّنُ حُكْمَهُ. الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي الْكَفَاءَةِ وَهُوَ الدِّينُ أَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الدِّينُ فَإِنَّ اختلافهما فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ) {الحشر: 20) . وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ ". وإن كان اختلافهما في الصفات والفجور مع اتفاقهما في الإسلام فَعِنْدَ محمد بن الحسن أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ معتبر، وعند الجماعة عنه: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٍ) {النور: 3) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ) {السجدة: 18) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كره منها خلقاً رضي منها خلقاً ". فَأَمَّا الْمُسْلِمَانِ إِذَا كَانَ أَبَوَا أَحَدِهِمَا مُسْلِمَيْنِ وأبوا الأخير كافرين فإنهما يكونا كفئين. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَكَافُؤَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لما لم يتكافئ الآباء لم يتكافئ الْأَبْنَاءُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ فَضْلَ النَّسَبِ يَتَعَدَّى وَفَضْلَ الدِّينِ لَا يَتَعَدَّى، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ إِلَّا مِنَ الْآبَاءِ فَتَعَدَّى فَضْلُهُ إِلَى الْأَبْنَاءِ، وَالدِّينُ قَدْ يَحْصُلُ لِلْأَبْنَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ فَلَمْ يَتَعَدَّ فَضْلُهُ إِلَى الأبناء. فصل: الشرط الثاني وهو النسب فأما الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ " النَّسَبُ " فَمُعْتَبَرٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا " يَعْنِي بِالْحَسَبِ النَّسَبِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إياكم وخضراء الدمن " وما خضراء الدمن قال ذلك مثل المرأة الْحَسْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ يَتَرَتَّبُونَ فِي أَصْلِ الْأَنْسَابِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: قُرَيْش، ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْعَجَمَ. فَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهِيَ أَشْرَفُ الْأُمَمِ لِمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ بِهِ مِنْ نبوته ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَلِّمُوهَا " فَلَا يُكَافِئُ قُرَيْشِيًّا أَحَدٌ مِنَ العرب والعجم. واختلف أصحابنا هل تكون قريشاً كُلُّهُمْ أَكْفَاءً فِي النِّكَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة -: أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ أَكْفَاءٌ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ " فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ قُرَيْشٍ فِي الْإِمَامَةِ أَكْفَاءً، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا فِي النِّكَاحِ أَكْفَاءً ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - أَنَّ قُرَيْشًا يَتَفَاضَلُونَ بِقُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يتكافؤن، لرواية عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 لي: قلبت مشاق الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا شَرُفَتْ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ كَانَ أَقْرَبُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ، وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَتَّبُوا فِي الدِّيوَانِ بِالْقُرْبِ حَتَّى صَارُوا فِيهِ عَلَى عَشْرِ مَرَاتِبَ دَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْكَفَاءَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَمِيعُ بَنِي هَاشِمٍ، وبني الْمُطَّلِبِ أَكْفَاءٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بينهم في سهم ذوي القربى، وجمع عمر رضي الله تعالى عنه بَيْنَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، ثُمَّ يَلِيهِمْ سَائِرُ بَنِي عبد مناف، وبني زهرة، ولا يفضل بني عَبْدِ شَمْسٍ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ عَلَى بَنِي نوفل، ولا بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَلَا بني عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَإِنْ فَعَلْنَا ذلك في وضع الديوان لأمرين: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ ولا تشق اعْتِبَارُهُ فِي وَضْعِ الدِّيوَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَاءَةَ معتبرة في البطون الجامعة لا فِي الْأَفْخَاذِ الْمُتَفَرِّقَةِ، لِأَنَّنَا إِنْ لَمْ نَعُدْ إِلَى بَنِي أَبٍ أَبْعَدَ صَارَتِ الْمَنَاكِحُ مَقْصُورَةً عَلَى بَنِي الْأَبِ الْأَقْرَبِ فَضَاقَتْ، ثُمَّ جَمَعْنَا بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي زُهْرَةَ فِي كفاءة النكاح، وإن لم يكونا بطناً واحدة لِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " صريح قريش ابناً كالأب " يَعْنِي بَنِي قُصَيٍّ، وَبَنِي زُهْرَةَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرجع على قُصَيٍّ بِأَبِيهِ وَإِلَى زُهْرَةَ بِأُمِّهِ فَتَقَارَبَا فِي الكفاءة بأبويه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم يلي عبد مناف وبني زهرة سائر قريش فيكونوا جَمِيعًا أَكْفَاءً، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ بَنُو أَبٍ له سابقة في الإسلام فهل تكافئهم الْبَاقُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ كَبَنِي أَبِي بَكْرٍ هَلْ يُكَافِئُهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَبَنِي عُمَرَ هل يكافئهم قومهم من بني عدي يتحمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا أكفاءهم بجدتهم قَدْ كَانُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَاحِ بني أبينهم أَكْفَاءً لِعَشَائِرِهِمْ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْكَثْرَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَالْوَجْهُ الثاني: لا يكونوا أكفاءهم لما قد تميزوا مِنْ فَضْلِ الشَّرَفِ وَالسَّابِقَةِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ أَكْفَاءً غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ، وَبَعْدَ الْكَثْرَةِ مُتَمَيِّزِينَ كَمَا تَمَيَّزَتْ بَنُو هَاشِمٍ بَعْدَ الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا قَبْلَ الْكَثْرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوَالِي قُرَيْشٍ هَلْ يَكُونُوا أكفاء فِي النِّكَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ من مَوَالِي ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ؟ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي قُرَيْشٍ. فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ سِوَى قُرَيْشٍ فَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي قُرَيْشٍ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ مِنْ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ، لِأَنَّ فِي عَدْنَانَ سَابِقَةَ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي قَحْطَانَ سَابِقَةَ الْأَنْصَارِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ ولا يتكافؤون فَتُفَضَّلُ مُضَرُ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى رَبِيعَةَ، وَيُفَضَّلُ عَدْنَانُ عَلَى قَحْطَانَ اعْتِبَارًا بِالْقُرْبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا يَنْشُدُ. (إِنِّي امرؤ حميري حين تسبني ... لَا مِنْ رَبِيعَةَ آبَائِي وَلَا مُضَرَ) فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ذَاكَ أَهْوَنُ لِقَدْرِكَ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنَ اللَّهِ، فَلَوْ تَقَدَّمَتْ قَبِيلَةٌ مِنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 العرب على غيرها نظر، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لمأثرةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لِكَثْرَةِ عَدَدٍ كَانُوا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَكْفَاءً، وإن كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ المحتملين وأما سائر العجم، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ جَمِيعَهُمْ أَكْفَاءٌ للفرس مِنْهُمْ، وَالنَّبَط، وَالتُّرْكِ، وَالْقِبْطِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكَفَاءَةِ، فَالْفُرْسُ أَفْضَلُ مِنَ النَّبَطِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لو كان الدين معلق بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ ". وَبَنُو إسرائيل أفضل من القبض الَّذِينَ سَلَفَهُمْ وكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِقَوْمٍ مِنَ الْفُرْسِ شَرَفٌ عَلَى غَيْرِهِمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لِمُلْكٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ مَأْثَرَةٍ تَقَدَّمَتْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بِهِ فِي الْكَفَاءَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِسَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. فصل: الشرط الثالث وهو الحرية وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوِ الْحُرِّيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مٍِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بِلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) {النحل: 75) . فَمَنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " المؤمنون تتكافئ دماءهم وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " يَعْنِي عَبِيدَهُمْ، فَجَعَلَ الْعَبِيدَ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ الملك وكمال التصرف، ويرفع الحجر للسيد فكان النَّقْصُ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ نَقْصِ النَّسَبِ، وَإِذَا كان كذلك لم يكن العبد كفء الحرة ولا الأمة كفء الحر، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُدَبَّرُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ، وَلَا المعتق نصفه، ولا من جزء من الرق، وإن قل كفء الحرة ولا تكون المدبرة والمكاتبة وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا الْمُعْتَقَةُ نِصْفُهَا، وَلَا مَنْ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ كفء الحر واختلف أصحابنا هل يكون العبد كفء لمن عتق نصفها ورق بعضها، أو تكون الأمة كفؤاً لِمَنْ عَتَقَ بَعْضُهُ وَرَقَّ بَعْضُهُ أَمْ لَا؟ على وجهين: أحدهما: لا تكون كفؤاً لِأَنَّ لِبَعْضِ الْحُرِّيَّةِ فَضْلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَكُونُ كفؤاً، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْ عتق بعضه كفؤاً للحر تغليباً للرق صار كفء العبد، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ مَنْ ثُلُثِهِ حر لمن نصفه حر حتى تساوا مَا فِيهِمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثاني يكونان كفؤاً وإن تفاضل بَاقِيهُمَا مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ، فَأَمَّا الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ قَبْلَ الْعِتْقِ لم يكن كفء فالحرة الأصل، وإن لم يكن يجري عليه رق لكونه ابن عتق من رق فهل يكون كفء الحرة الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي موالي كل قبيلة هل يكونوا أكفائها في النكاح، فإن قيل يكونوا أكفائها صار المولي كفؤاً للحرة الأصل، وإن قيل لا يكونوا أكفاء لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 يصر المولي كفؤاً لِلْحُرَّةِ الْأَصْلِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْلَى لِعَرَبِيٍّ وَالْآخَرُ مَوْلَى لِنَبَطِيٍّ، فَإِنْ قيل مولى القبيلة كفءٌ لَهَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَى النَّبَطِيِّ كفؤاً لمولى العربي، وإن قيل لا يكون كفئاً لها كان مولى النبطي كفئاً لمولى العربي. فصل: الشرط الرابع وهو الكسب فأما الشرط الرابع: وهو الكسب فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) {النحل: 71) . فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي قَدْرِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ فَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ لعز وَدَعَةٍ وَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ بَذْلٌ وَمَشَقَّةٌ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإنْ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) {طه: 124) . ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الرِّزْقُ الضَّيِّقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الكسب الحرام. والثالث: أنه إنفاق من لَا يُوقِنُ بِالْخَلَفِ، وَالْمَكَاسِبُ تَكُونُ فِي الْعُرْفِ الْمَأْلُوفِ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالزِّرَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، وَالصِّنَاعَاتِ، والحمايات، ولكل واحد منها رتب متفاضلة وكل واحد منها يفضل بعضها على غيره بحسب اختلاف البلدان والأزمان، وإن في بعض البلدان التجارات، وَفِي بَعْضِها الزِّرَاعَاتِ أَفْضَلُ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حُمَاةُ الْأَجْنَادِ أَفْضَلُ، وَفِي بَعْضِهَا أَقَلُّ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُفَضَّلَ بَعْضُهَا فِي عُمُومِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَالْأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ مَا انْحَفَظَتْ به أربعة شروط، أن لا تكون مترذل الصناعة كَالْحَائِكِ، وَلَا مُسْتَخْبَثَ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ، وَلَا سَاقِطَ المروءة كالحمال ولا مبتذلاً كالأجير فَمَنِ انْحَفَظَتْ عَلَيْهِ فِي مَكَاسِبِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَمْ يُكَافِئْهُ فِي النِّكَاحِ مَنْ أَخَلَّ بها من حجام وكناس قيم وحائك فالعرق في اعتبار هذه الشروط الأربعة هو المحكم. فصل: الشرط الخامس: المال وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَالُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا ". وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا هَذَا الْمَالُ ". وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيد) {العاديات: 8) . يَعْنِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 الْمَالَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الأنساب فالمال فيهم معتبر في شرط الْكَفَاءَةِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْبَوَادِي وَعَشَائِرُ الْقُرَى يَتَفَاخَرُونَ وَيَتَكَاثَرُونَ بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَمْوَالِ فَفِي اعْتِبَارِ المال في شرط الْكَفَاءَةِ بَيْنَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ كَأَهْلِ الْأَمْصَارِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ يَزُولُ فَيَفْتَقِرُ الْغَنِيُّ وَيَسْتَغْنِي الْفَقِيرُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " خير الناس مؤمن فقير يعطي جهده " يَعْنِي مُقِلًّا لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا يَزْهَدُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ أُمَّتَيِ الَّذِينَ لَمْ يُوَسَّعْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْطَرُوا وَلَمْ يُقَتَّرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْأَلُوا "، ثُمَّ إِذَا جُعِلَ الْمَالُ شَرْطًا فِي الكفاءة ليس التماثل في قدره معتبراً حتى لا يتكافئ مَنْ مَلَكَ أَلْفَ دِينَارٍ إِلَّا مَنْ مَلَكَ مِثْلَهَا وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَا مَوْصُوفَيْنِ بِالْغِنَى فَيَصِيرَا كفئين، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَالًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَيْضًا التَّمَاثُلُ فِي أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إذا كان مال أحدهما دنانير، ومال الآخر عقاراً أو عروضاً كانا كفئين. فصل: الشرط السادس: السن وأما الشرط السادس: هو السن مما لَمْ يَخْتَلِفَا فِي طَرَفَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْكَفَاءَةِ فَيَكُونُ الْحَدَثُ كُفُؤًا لِلشَّابِّ وَالشَّابِّ كُفُؤًا لِلْكَاهِلِ، وَالْكَهْلُ كُفُؤًا لِلشَّيْخِ، وَلَكِنْ إِذَا اختلفا في طرفيه فكان أحدهما في أول سنه كالغلام والجارية، والأخرى فِي غَايَةِ سِنِّهِ كَالشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ فَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فَلَا يَكُونُ الشَّيْخُ كُفُؤًا لِلطِّفْلَةِ وَلَا الْعَجُوزُ كفؤاً للطفل لما بينهما من التنافي التباين، وإن مَعَ غَايَاتِ السِّنَّ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ وَيُعْدَمُ الْمَقْصُودُ بالزوجية. والوجه الثاني: غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ عُمُرُ الْكَبِيرِ وَيَقْصُرُ عُمُرُ الصَّغِيرِ، وَرُبَّمَا قَدَرَ الْكَبِيرُ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ عَلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الصَّغِيرُ، ولأن مع نقص الكبير فضلاً لا يوجد في الصغير. فصل: الشرط السابع: السلامة من العيوب فأما الشرط السابع: هو السلامة من العيوب، فهي العيوب التي رد بها عقد النكاح وهي خمسة تشترك الرجال والنساء منها فِي ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ. وَيَخْتَصُّ الرجال منها اثنتين هما: الجب والخصاء، وفي مقابلتهما من النساء القرن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 والرتق وإنما اعتبرت هَذِهِ الْعُيُوبُ الْخَمْسَةُ فِي الْكَفَاءَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أوجبت وجودها فسخ النكاح الذي لا يوجبه نَقْصُ النِّسَبِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فِي الكفاءة كالنسب. فأما العيوب التي لا توجب وَتَنْفِرُ مِنْهَا النَّفْسُ كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ، وَالزَّمَانَةِ وَتَشْوِيهِ الصُّورَةِ، فَفِي اعْتِبَارِهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يعتبر لعدم تأثيرها في عقود المناكح. والثاني: يعتبر لِنُفُورِ النَّفْسِ مِنْهَا وَلِحُصُولِ الْمَعَرَّةِ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: " أَتَزَوَّجْتَ يَا زَيْدُ "، قال: لا، قال " تزوج فتستعف مَعَ عِفَّتِكَ، وَلَا تَزَوَّجْ مِنَ النِّسَاءِ خَمْسًا "، قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " لَا تَزَوَّجْ شَهْبَرَةً وَلَا لَهْبَرَةً وَلَا نَهْبَرَةً ولا هدرة وَلَا لَفُوتًا "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا أَعْرِفُ مِمَّا قُلْتَ شَيْئًا. فَقَالَ: " أَمَّا الشَّهْبَرَةُ: فالزرقاء البذية، وَأَمَّا اللَّهْبَرَةُ: فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ: فَالْعَجُوزُ المدبرة، وأما الهبدرة: فالقصيرة الدميمة، وأما اللفوت: فذات الولد من غيرك، لو لم يكن لهذه الأحوال ونظائرنا أثراً في الكفاءة لما أمر بالتحرز منها ". فصل: الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كفء فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ وَنَكَحَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كفءٍ لَمْ يَخْلُ نِكَاحُهَا من ثلاثة أقسام: أحدهما: إن يكون قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَكَرِهَهُ الْأَوْلِيَاءُ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَهُ الْأَوْلِيَاءُ وَكَرِهَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ اعْتِبَارًا لِحَقِّهَا فِيهِ حَتَّى لَا يَعِرَّهَا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ فالنكاح جائز. وقال مالك، وعبد الله بْنُ الْمَاجِشُونَ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُفَرَّقُ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ ". فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ إنكاح غير الكفء كما منع من نكاح غَيْرِ الْوَلِيِّ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِغَيْرِ الْكُفْءِ كَمَا بَطَلَ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال: " لا يملك الإيضاح إلى الْأَكْفَاءُ ". وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء آية: 3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد زوج بناته ولا كفء لهن مِنْ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْلُ الشَّرَفِ، وقد زوج فاطمة بعلي، وزوج أم كثلوم وَرُقَيَّةَ بِعُثْمَانَ، وَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ انْكَحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ بنت عمته بأسامة بن زيد وهو مولاه وزوج أبا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَهِيَ بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب. ثم نزل عليها بَعْدَهُ، وَزَوَّجَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا زَوَّجْتُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جحش، والمقداد بن الأسود ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ لِتَعْلَمُوا أَنَّ أَشْرَفَ الشَّرَفِ الْإِسْلَامُ "، وقد زوج أبو بكر الصديق بنت الأشعث بْنِ قَيْسٍ فَصَارَ سِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ فَكَرِهَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ، وَلَقِيَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَشَكَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: سَأَكْفِيكَ، وَلَقِيَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ: إِنْ أمير المؤمنين قد عزم أن يزوجك كريمته ليتواضع بك فقال: إني متواضع والله لأتزوجها؛ وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَمَّا صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَا تُكَافِئُهُ صَحَّ النِّكَاحُ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ بِرَجُلٍ لَا يُكَافِئُهَا. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ فَمَحْمُولَانِ على أحد الوجهين: أَمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نِكَاحِ الْأَبِ لِلْبِكْرِ الَّتِي يُجْبِرُهَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ نَقْصُ الْمَهْرِ نَقْصًا فِي النَّسَبِ وَالْمَهْرُ لَهَا دُونَهُمْ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهَا فِيهِ، وَلَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنَ النِّكَاحِ لِنَقْصِهِ، فَإِنْ مَنَعُوهَا صار المانع لها فاصلاً وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا في نقص المهر ولا يصيروا عَضْلَةً بِمَنْعِهَا مِنْهُ، وَإِنْ نَكَحَتْ فَلَهُمْ فَسْخُ نِكَاحِهَا إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أدوا العلائق قيل: يا رسول، وما العلائق: قال ما ترضى بِهِ الْأَهْلُونَ " فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " خطاباً للأزواج كان قوله: " ما ترضى به الأهلون " إشارة على الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَدَلَيْنِ، هُمَا: الْبُضْعُ، وَالْمَهْرُ، فَلَمَّا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِي بُضْعِهَا أَنْ تَضَعَهُ فِي غَيْرِ كفءٍ كَانَ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ فِي مَهْرِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَيَتَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَجَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ فِيهِ كَالْبُضْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ اعْتَرَضُوا به في نكاح الكبيرة كالكفاءة، وَلِأَنَّ فِي بَعْضِ الْمَهْرِ عَارًا عَلَى الْأَهْلِ بجهرهم بِكَثِيرِهِ وَإِخْفَائِهِمْ لِقَلِيلِهِ فَصَارَ دُخُولُ الْعَارِ عَلَيْهِمْ فِي نُقْصَانِهِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِمْ فِي نكاحٍ غَيْرِ كفوءٍ، فكان لهم رفع هَذَا الْعَارِ عَنْهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ فِي نقصان مهرها ضرراً لاحقاً بنساء أهلها غير اعتبار مهر أَمْثَالِهِنَّ بِهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ". وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً تزوجت على نعلين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أرضيت من نفسك وما لك بهاتين النعلين " قالت نعم " فأجاز " وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اعْتَبَرَ رضاها به دون الأولياء. والثاني: أنه لَمْ يَسْأَلْ هَلْ ذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نُقْصَانَ الْمَهْرِ وَرِضَا الْأَوْلِيَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنِ وَلِأَنَّ مَا مَلَكَتِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ مَلَكَتِ تَقْدِيرَهُ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لَهَا فِي الأثمان ثبت لها في المهور كالإبراء؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بُضْعٍ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي بَدَلٍ. أَصْلُهُ: مهر أمثالها؛ وَلِأَنَّ لَهَا مَنْفَعَتَيْنِ: مَنْفَعَةَ اسْتِخْدَامٍ؛ وَمَنْفَعَةَ اسْتِمْتَاعٍ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْأَوْلِيَاءُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ إِذَا أَجَّرَّتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهَا لَمْ يَمْلِكُوا الِاعْتِرَاضَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ الْمَنْفَعَتَيْنِ فَلَمْ يَمْلِكْ أَوْلِيَاؤُهَا مَعَ جَوَازِ أَمْرِهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي بَدَلِهِ كَالْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عَنِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ، وَتَارَةً عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَمُرَاضَاةٍ وَذَلِكَ فِي إِصَابَةِ الشبهة وما شاكله فلما ملكت فحقيقة إِذَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَأَوْلَى أَنْ تَمْلِكَ بحقيقة إِذَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ أَخَفُّ وَمَعَ عَدَمِهِ أَغْلَظُ، وَلِأَنَّ يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْعَارِ إِذَا نَكَحَتْ بِأَخَسِّ الْأَمْوَالِ جِنْسًا كَالنَّوَى وقشور الرمان أكثر ما يَلْحَقُهُمْ إِذَا نَكَحَتْ بِأَقَلِّ الْمُهُورِ قَدْرًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي خِسَّةِ الْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ الْأَزْوَاجَ بِأَدَاءِ الْعَلَائِقِ وَقَوْلُهُ: " إِنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 العلائق ما تراضى به الأهلون " يعني أهلي الْعَلَائِقِ، وَأَهْلُوهَا هُمُ الزَّوْجَاتُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ الْخَبَرُ دَلِيلًا عَلَى أبي حنيفة لَا لَهُ. وأما قياسه على البشع فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا مَلَكُوا الِاعْتِرَاضَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ النِّسَبِ وَدُخُولِ الْعَارِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَلَيْسَ فِي تَخْفِيفِ الْمَهْرِ عَارٌ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي إِسْقَاطِهِ عَارٌ وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي جَوَابٍ عَنِ استدلال، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ فلو كان لهذا المعنى بمستحق الاعتراض فيه لا تستحقه النساء اللائي يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الضَّرَرُ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَاشْتَرَكَ فِيهِ القريب والبعيد ولا اعتراض عليهن في الجنس كالاعتراض في القدر، وكانت مَمْنُوعَةً مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ كَمَا مُنِعَتْ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ فَلَمَّا فَسَدَ الِاعْتِرَاضُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كان بالنقصان أفسد. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وِلَايَةَ لأحدٍ مِنْهُمْ وَثَمَّ أَوْلَى مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنَ الْأَبْعَدِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ. وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ سَيِّدَ الْعَشِيرَةِ كَانَ أَحَقَّ مِنَ الْأَقْرَبِ كَالَّتِي لَهَا عَمٌّ هُوَ سَيِّدُ عَشِيرَتِهِ وَلَهَا إِخْوَةٌ فَالْعَمُّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنَ الْإِخْوَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أو السلطان " فحمل ذي الرَّأْيِ مُقَدَّما. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِفَضْلِ رِئَاسَتِهِ أَقْدَرُ عَلَى تَخَيُّرِ الْأَكْفَاءِ وَلِلرَّغْبَةِ فِيهِ تَعْدِلُ إِلَيْهِ الزُّعَمَاءُ وَهَذَا خَطَأٌ، وَاسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِالرِّئَاسَةِ مَعَ الْبُعْدِ لِأُمُورٍ. مِنْهَا: أن الرئاسة الْأَبْعَدَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْوِلَايَةَ مَعَ الأب فكذلك مع كل عصبة هو الأقرب، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْوِلَايَةِ على النكاح، ولأن ما استحق بالتسليم يؤثر فيه الرياضة كالميراث. فأما الأثر عن عمر رضي الله تعالى عَنْهُ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْوَلِيَّ عَلَى ذِي الرَّأْيِ مِنَ الْأَهْلِ، وَأَمَّا قُدْرَتُهُ عَلَى تخير الأكفاء وما يتوجه إليه من تخير الأكفاء فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ إِذَا بَاشَرَ عَقْدَهَا من هو أقرب منه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهَا مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا بعيدهً كانت غيبته أم قَرِيبَةً زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بَعْدَ أَنْ يَرْضَى الْخَاطِبُ وَيَحْضُرَ أَقْرَبُ وُلَاتِهَا وَأَهْلُ الْحَزْمِ مِنْ أَهْلِهَا ويقول هَلْ تَنْقِمُونَ شَيْئًا؟ فَإِنْ ذَكَرُوهُ نُظِرَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ يَسْتَحِقُّهَا الْأَقْرَبُ دُونَ الأبعد فكان الأقرب مفقوداً أو غائباً لم ينتقل الولاية عنه إلى ما هُوَ أَبْعَدُ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مَفْقُودًا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أبعد وإن كان غائباً معروف المكان وإن كانت غيبته منقطعة انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ تَنْتَقِلْ. قَالَ محمد بن الحسن: وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " الرِّقَّةِ " وَغَيْرُ الْمُنْقَطِعَةِ مِنَ " الْكُوفَةِ " إِلَى " بَغْدَادَ ". وَاسْتَدَلَّ عَلَى انتقالها بالغيبة إلى الأبعد بأنه قد يتعذر منه تزويجها بالغيبة كما لا يتعذر منه بالجنون، والرق، فلما انتقلت بِجُنُونِهِ وَرِقِّهِ انْتَقَلَتْ عَنْهُ بِغَيْبَتِهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأنها ولاية لا تنتقل بغيبة منقطعة كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَلِأَنَّهَا غيبة لا ينقطع بها ولاء المال فوجب أن لا تنتقل بِهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ كَالْغَيْبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُنْقَطِعَةً، وَلِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تُزِيلُ وِلَايَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا فِي غَيْبَتِهِ صَحَّ، وَلَوْ وَكَّلَ فِي تزويجها جاز وإذا لم يزل عَنْهُ لَمْ تُنْتقَلْ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ كَالْحَاضِرِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَعَذُّرِ النِّكَاحِ مِنْهُ فَلَيْسَ تَعَذُّرُهُ مَعَ بَقَاءِ الْوِلَايَةِ يُوجِبُ انْتِقَالَهَا عنه كالعضل. فَصْلٌ فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِالْفَقْدِ وَالْغَيْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَفْقُودًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ النَّائِبُ عَنِ الْغَيْبِ فِي حُقُوقِهِمْ كَمَا زَوَّجَهَا عَنْهُ إِذَا عَضَلَ. وإن كان غائباً لم تخل المسافة غَيْبَتِهِ أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ فِيهِ، لِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ مَعَ بُعْدِ الْغَيْبَةِ شَاقٌّ؛ وَلِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ فِي بعد المسافة ففوت عَلَى الزَّوْجَةِ حَقَّهَا مِنَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ غيبته قريبة وهو أن يكون أقل من مسافة يوم وليلة وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْحَاكِمِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: بَعِيدَةً كَانَتْ غَيْبَتُهُ أَوْ قَرِيبَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِأَحْكَامِ السَّفَرِ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ " بعيدة كانت غيبته أم قريبة " على قرب الزمان كقرب الْمَكَانِ كَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَافَرَ مِنْ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ زَمَانٍ بَعِيدٍ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ أَوْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. فصل إذا أراد الحاكم تزويجها بفقد الْوَلِيِّ وَغَيْبَتِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ لَهُ إِحْضَارَ أَهْلِهَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ كَالْعَصَبَاتِ أَوْ لَا وِلَايَةَ لَهُ كَالْأَخْوَالِ لِيُشَاوِرَهُمْ في تزويجها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 وليسألهم عَنْ كَفَاءَةِ زَوْجِهَا اسْتِطَابَةً لِنُفُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نعيماً أن يشاور ابنته إن لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْوِلَايَةِ حَقٌّ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِهَا وَحَالِ الزَّوْجِ لِمَكَانِ اخْتِصَاصِهِمْ وَكَثْرَةِ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَاكِمِ فَإِذَا أَحْضَرَهُمُ الْحَاكِمُ لِلْمُشَاوَرَةِ فِي نِكَاحِهَا كَانَ مَعَهُمْ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَقُولَ لَهُمُ اخْتَارُوا زَوْجًا، فَإِذَا اخْتَارُوا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي كَفَاءَتِهِ فَإِنْ كَانَ كفء زوجها عَنْ إِذْنِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِهِ وَإِنْ أَذِنَتْ فِيهِ وَرَضِيَهُ أَهْلُهَا؛ لأن للغائب حقاً في طلب الأكفاء لها، وبين أن يختار الحاكم لها كفء ثُمَّ يَسْأَلُ الْأَوْلِيَاءَ عَنْهُ بَعْدَ إِذْنِ الزَّوْجَةِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي كَفَاءَتِهِ زَوَّجَهَا بِهِ سَوَاءً أَرَادُوهُ أَوْ لَمْ يُرِيدُوهُ، فَإِنْ قَدَحُوا فِيهِ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْقَدْحِ فَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الْكَفَاءَةِ لَمْ يزوجها به والتمس لها غيره، وإن كان غير مَانِعٍ مِنَ الْكَفَاءَةِ زَوَّجَهَا بِهِ وَإِنْ كَرِهُوهُ؛ لأن المعتبر رضى الْمَنْكُوحَةِ دُونَهُمْ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمُ اخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ إِذَا تَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ أَنْ يَرُدَّ الْعَقْدَ إِلَى الْحَاضِرِ دمن أَوْلِيَائِهَا لِيُكُونَ عَقْدُهُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَفَرَّدَ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَتِهِمْ جاز والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ عَضَلَهَا الْوَلِيُّ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا دَعَتِ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا إِلَى تَزْوِيجِهَا فَعَلَيْهِ إِجَابَتُهَا وَهُوَ حَرِجٌ إِنِ امْتَنَعَ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضِلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) {البقرة: 232) فَإِنْ عَضَلَهَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ غَيْرُهُ أَمْ لا فإن كان في درجة غيره كأنه وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِهَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي عَمِّهَا عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ من أخوتها، أو بني عمتها، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ مَعَهُمْ مَدْخَلٌ إِذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ العاضل من تساوا به فِي النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَرَجَتِهِ من الأولياء أحد وكانوا أبعد منه تساو عدلت عن الفاضل إِلَى الْحَاكِمِ وَلَمْ تَعْدِلْ إِلَى الْبَعِيدِ فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّ عَضْلَهُ لَا يُزِيلُ وِلَايَتَهُ، وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُحْضِرَهُ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ عَضْلِهِ؛ فإن كان الزَّوْجُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ غَيْرَ كُفْءٍ لَمْ يَكُنْ عَاضِلًا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ. وَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ زَوْجًا فَالْتَمِسِي غَيْرَهُ مِنَ الْأَكْفَاءِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الذي دعت إليه المرأة كفء وكان امتناع الولي لِكَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لَا لِعَدَمِ كَفَاءتِهِ صَارَ الْوَلِيُّ حِينَئِذٍ عَاضِلًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْعَضْلُ أَنْ تَدْعُوَ إِلَى مِثْلِهَا فَيَمْتَنِعُ " فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا ولا يتولاه الحاكم ما لم يتم الْوَلِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَإِذَا أَجَابَ وَزَوَّجَ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ زَالَتْ يَدُ الْحَاكِمِ عَنِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ حينئذٍ عَنْهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا أَوْ قَالَ: اخْتَلَفُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ "؛ وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حَقٌّ عَلَى وَلِيِّهَا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَامْتَنَعَ مِنْهُ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِهِ جَبْرًا فَقَامَ مَقَامَهُ في إدائه كقضاء الديون من ماله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَوَكِيلُ الْوَلِيِّ يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرَ كفؤٍ لَمْ يَجُزْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْوَكَالَةُ فِي التَّزْوِيجِ جَائِزَةٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لا يجوز اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أن يرضى بِالْوِلَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ نَائِبٌ فَلَمْ يَكُنْ أَنْ يُوَكِّلَ من ينوب عنه كالوكيل الذي يَجُوزُ أَنْ يُوكِّلَ غَيْرَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " وَإِذْنُ الْوَلِيِّ إِنَّمَا صَحَّ فِي الْوَكَالَةِ لَا لِلْمَنْكُوحَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَّلَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فأصدقها النجاشي عنه أَرْبَعَمِائَةَ دِينَارٍ: فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ مَرْوَانَ ذَلِكَ حَدَّ الصَّدَاقِ لِلشَّرِيفَاتِ مِنْ قَوْمِهُ، وَوَكَّلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ بِمَكَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ فَرَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَزَوَّجَهَا بِهِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ زَوْجَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَإِنْ قِيلَ: فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا رَدَّتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهَا فَعَنْ هَذَا أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ في عقود المناكح واشتراط الولي. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَزْوِيجُهُ لَهَا بِأَنْ كَانَ سَفِيرًا فِي الْعَقْدِ وَمُشِيرًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَيُّهَا رَدَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَزَوَّجَهَا. وَالرَّابِعُ: قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُقْصَدُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَكَالَةُ كَالْبُيُوعِ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ به فإنها لم تصح لانقطاع ولايته بموته فصار موجباً فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الْوَكَالَةِ مُوَكِّلٌ مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فَصَحَّتْ وَكَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وَصِيتُهُ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنَابٌ بِعَقْدٍ، وَالْوَلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يوكل؛ لأنه مالك بالشرع فافترقا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ الْوَلِيَّ وَالزَّوْجَ، وَلَمْ يَجُزْ أن يوكل الزَّوْجَةَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَإِذَا كان كذلك فحكم الوكالة فيه يتعلق بِفَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَوْكِيلِ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي: فِي تَوْكِيلِ الزَّوْجِ. فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِلَّا مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بالغاً حراً مسلماً رشيداً فإذا اجتمعت هَذِهِ الْأَوْصَافُ السِّتَّةُ صَحَّ تَوْكِيلُهُ كَمَا تَصِحُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 تَصِحُّ وِلَايَتُهُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَوَكَّلَ امْرَأَةً، أَوْ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً، فَإِنْ عَقَدَ بِهَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَكِيلِ هَذِهِ الشروط الست لم يحل حَالُ الْوَلِيِّ الْمُوَكِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ، أَوْ كَغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْأَبِ والجد مع البكر فإن لَهُ أَنْ يُوكِّلَ بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا كَمَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَغَيْرِ إِذْنِهَا لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى اخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ بِالتَّوْكِيلِ مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّعْيِينُ كَالتَّوْكِيلِ فِي الْأَمْوَالِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يختار لها كفء، والأولى به إذا أراد تزويجها بمن قد اخْتَارَهُ لَهَا أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا فِيهِ وَإِذْنُهَا مَعَهُ الصَّمْتُ كَإِذْنِهَا مَعَ الْأَبِ فَإِنْ زَوَّجَهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَالْأَبِ إِذَا زَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَيَّنَ لِوَكِيلِهِ عَلَى الزَّوْجِ سَقَطَ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ مَنْ عُيِّنَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ إذا عين عَلَى مَا يَشْتَرِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَيِّنَ لِوَكِيلِهِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ على الزوج الذي زوجها به ولا يرد ذلك إلى خياره؛ لأن معنى الولي في لحوق عارها معقود فِي وَكِيلِهِ فَلَمْ يَقُمِ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ مَقَامَ اخْتِيَارِهِ، وَفَارَقَ التَّوْكِيلَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِي اخْتِيَارِهَا لُحَوْقُ الْعَارِ. فَعَلَى هَذَا متى زوجها الوكيل بكفء وغير كفء كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ، فَلَوْ عُيِّنَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَحَدِ رَجُلَيْنِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَدِ اخْتَارَهُمَا وَرَدَّ الْعَقْدَ عَلَى أحدهما إلى خيار وكيله جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَلِيِّ اخْتِيَارٌ بَلْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ وَكِيلِهِ وَخِيَارِهِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلِيِّ خِيَارٌ. فصل وإذا كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ فهل يلزم اسْتِئْذَانُهَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إلا بإذنها؛ لأنه نائب عنها وأشبه الْوَكِيلَ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يُوَكِّلَ فيما هو وكل فِيهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي تَوْكِيلِهِ فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا أَوْ غَيْرِ إِذْنِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِفَسَادِ الْوَكَالَةِ، وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فِيهِ بَعْدَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ حَتَّى يستأذنها الْوَلِيُّ بَعْدَ إِذْنِهَا فِي تَوْكِيلِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بعد إذنها وكان وَكِيلًا لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ رَجَعَتْ فِي تَوْكِيلِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزُوج. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا الْوَلِيُّ فِي عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الَّذِي ثبت به بِالشَّرْعِ لَا بِالِاسْتِنَابَةِ فَأَشْبَهَ الْأَبَ وَخَالَفَ الْوَكِيلَ الْمُسْتَنَابَ، فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْمَرْأَةَ فِي عَقْدِهَا وَيَكُونُ هُوَ وَكِيلًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 لِلْوَلِيِّ وَحْدَهُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَنْعُهَا، لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِوَلِيِّهَا الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا سَوَاءً زَوَّجَهَا بِكُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا سواء أجازه الولي أو لم يجيزه. فصل وأما توكيل الزوج وإن كَانَ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا جَازَ أَنْ يوكل كل من صح منه قبول النكاح في نفسه وَهُوَ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ. أَنْ يكون ذكراً بالغاً عاقلاً، وسواء كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا لأن العبد السفيه يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ لِأَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ أَنْ يَقْبَلَاهُ لِغَيْرِهِمَا، فَأَمَّا تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ منهم قبوله لأنفسهم لم يصح منهم قبولهم لِغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَوْكِيلُ الزَّوْجِ فِي تزويج امرأة غير معينة ليختار الْوَكِيلُ فَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مُوْلًى عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه: أحدها: يلزم أن يكون رشيداً يقبل نكاح نفسه، فإن كان سفيهاً لم يجز لقصوره على التَّصَرُّفِ فِي نِكَاحِ نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا، لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ عَنْ إذن ويصح منه أن يقبل نكاح نفسه عَنْ إِذْنِ وَلِيِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ عَيَّنَ لوكيله على القبيلة وإن لم يعين عَلَى الْمَنْكُوحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكَيْلُهُ فِيهِ سفيهاً وإن لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى الْقَبِيلَةِ وَلَا عَلَى الْمَنْكُوحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ إِلَّا رَشِيدًا، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الأوجه في إذن وليه أَنْ يَعْقِدَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي: " وَوَلِيُّ الْكَافِرَةِ كافرٌ وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لكافرةٍ لقطع الله الولاية بينهما بالدين إلا على أمته وإنما صار ذلك له لأن النكاح له تزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أم حبيبة وولى عقدة نكاحها ابن سعيد بن العاص وهو مسلمٌ وأبو سفيان حي وكان وكيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمرو ابن أمية الضمري (قال المزني) ليس هذا حجةً في إنكاح الأمة ويشبه أن يكون أراد أن لا معنى لكافرٍ في مسليمةٍ فكان ابن سعيدٍ ووكيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسلمين ولم يكن لأبيها معنىً في ولاية مسلمةٍ إذا كان كافراً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اتِّفَاقَ الدِّينِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِمُسْلِمَةٍ وَلَا الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعِلِ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) {النساء: 141) وقوله أيضاً: {لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) {المائدة: 51) فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنْ له وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) {التوبة: 71) فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا وِلَايَةَ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرَةٍ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبي سفيان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 وَكَانَ أَبُوهَا وَإِخْوَتُهَا كُفَّارًا وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُهَاجِرَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَقْرَبِ عَصَبَاتِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَدَلَّ عَلَى انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ بِالْكُفْرِ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ سَاوَاهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كان أبعد فلأن اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ فلم يثبت الولاية معه كما لم تثبت الميراث، وإنما الْوِلَايَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَصُدُّ عَنْ هَذَا أو يمنع مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَرْقَبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلاَ ذِمَّةً) {التوبة: 10) . فصل فإذا تقرر هذا فلا يثبت للكافر ولاية على مسلمة لا نسب ولا حكم ولا ملك، وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ عَصَبَاتِهَا إِلَّا مُسْلِمٌ قَدْ جمع شرطين: النسب، والدين، فأما الْكَافِرَةُ فَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وِلَايَةٌ بنسب، وَوِلَايَةٌ بِحُكْمٍ، وَوِلَايَةٌ بِمِلْكٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالنَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا لِمَنْ إِذَا شَارَكَهَا فِي النِّسَبِ سَاوَاهَا فِي الدِّينِ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي دِينِهِ كَمَا يُرَاعَى رُشْدُ الْوَلِيِّ الْمُسْلِمِ فَلَوْ كَانَتِ الكافرة نصرانية وكان لها أخ نصراني، وأخ مسلم، وأخ يهودي وأخ مجوسي ولا ولاية عليها للمسلم ويكون النصراني واليهودي والمجوسي في الولاية عليها سواء كما يشاركون في ميراثها، ولا يختص بها النَّصْرَانِيُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ كَانَ فِي إِخْوَتِهَا مُرْتَدٌّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُوْلًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا، فَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُرْتَدَّةً، وَكَانَ لَهَا أَخٌ مُسْلِمٌ، وَأَخٌ مُرْتَدٌّ وَأَخٌ نَصْرَانِيٌّ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا لَا يَرِثُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أن يتزوج بِمُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا مُرْتَدٍّ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ مانعة من استباحة نكاحها. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْحُكْمِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالْمُوَالَاةِ بالنسب فيمتنع اخْتِلَافُ الدِّينِ مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ بِالْوِلَايَةِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَى الْكَافِرِ كَثُبُوتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِذَا عدمت الكافرة منها شيئاً من عصبتها الكفار زوجها حاكم المسلمين بكف مِنَ الْكُفَّارِ، أَوِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ دَعَتْ إِلَى زوج مسلم وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تقاضى إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بينهما، وإن دعت إلى زوج كافر فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ كَانَ حَاكِمُ المسلمين بالخيار بين أن يزوجها بِهِ أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا كَمَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا إِذَا تَقَاضَيَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ تزويجها أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ فإن زوجها لم يعقد نكاحها إلا شاهدين مسلمين ولا يجوز أن يعقده به أهل دِينِهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْوِلَايَةُ بِالْمِلْكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهَا لِلسَّيِّدِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يجوز للسيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 الْمُسْلِمِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشافعي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ إلا على أمته " ووجه شيئان: أحدهما: أنه ولاية لَمْ تُسْتَحَقَّ بِمُوَالَاةِ النِّسَبِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ كَالْوِلَايَةِ بِالْحُكْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يتوصل إِلَى الْكَسْبِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ الدِّينِ كَمَا لم يؤثر الفسق. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ، إنَّ إِسْلَامَ السَّيِّدِ يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ أَمَتِهِ الْكَافِرَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَزْوِيجِ ابنته وَحَمَلَ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " إِلَّا عَلَى أَمَتِهِ " عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَمَتِهِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِهَا دُونَ بُضْعِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فِي تَزْوِيجِهِ لَهَا تَغْلِيبًا لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ دُونَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ أَمَتَهَا وَإِنْ مَلَكَتْ عَقْدَ اكْتِسَابِهَا فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَهُ من استدلاله له بحديث أم حبيبة وتوهم أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِأَمَتِهِ الْكَافِرَةِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي التَّوَهُّمِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الْمُسَلِّمَةَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التوفيق. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا غَيْرَ عالم بموضع الحظ أو سفيماً مُؤْلِمًا أَوْ بِهِ علةٌ تُخْرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ فهو كمن مات فإذا صلح صار ولياً ". قال الماوردي: وهذا صحيح وذكر الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَقَالَ: " فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ سَفِيهًا " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَجْنُونُ، لِأَنَّهُ سَفِيهُ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُفْسِدُ لِمَالِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ سَفِيهُ الرَّأْيِ. فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْجُنُونُ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُزِيلَ وِلَايَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ، فَأَمَّا زَمَانُ إِفَاقَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فيه بليداً مغموراً فلا يَصِحُّ فِكْرُهُ وَلَا يَسْلَمُ تَمْيِيزُهُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَلِيمَ الْفِكْرِ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ فَلَهُ الْوِلَايَةُ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَقَلَّ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ فَفِي عَوْدِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يعود إِلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يَمْنَعُ مِنْهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 والوجه الثاني: لا يعود إليه اعتباراً بحكم الأغلب من زمانيه. فأما السفيه فله حالتان: أحدهما: أن يكون محجورً عليه بالسفه فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَظَّ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْرِفَ حَظَّ غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ حُجِرَ عليه لتبذيره لماله مع معرفته لحظ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَزُولَ وِلَايَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج هو عَلَى وِلَايَتِهِ وَلَهُ تَزْوِيجُ وَلِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِه الْحَجْرِ لِحِفْظِ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِهَا، فَإِنْ كَانَ السَّفِيهُ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَجْرِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ بَاقِيَ الولاية على غيره. فَصْلٌ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَوْ ضَعِيفًا " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الصَّغِيرُ الضعيف البدن. والثاني: الضعيف الرأي إِمَّا لعتهٍ وبلهٍ وَإِمَّا لِكِبَرٍ وَهَرَمٍ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ؛ لأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًّا؛ وأَمَّا الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تمييزه فلم يعرف حَظَّ نَفْسِهِ وَحَظَّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ الذي قد صار بهرمه خرقاً لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ الْحَظِّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ لفقده تمييزه. فَصْلٌ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أو سقيماً " وفيه روايتان: أحدهما: مؤطاً يَعْنِي ذَا الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مُوَلِّيًا يعني ذا المرض المولي عليه لِفَقْدِ تَمْيِيزِهِ كَالْبِرْسَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ مُؤْلِمًا نُظِرَ فِي أَلَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَلَمُهُ عَظِيمًا قَدْ قَطَعَهُ عَنِ الْفِكْرِ وَصَرَفَهُ عَنِ الْحَظِّ وَالصَّلَاحِ فَلَا وِلَايَةَ له لفقد المقصود بها منه، ون كان مرضه مولياً عليه كإفاء الْمُبَرْسَمِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ، وَفِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 أحدهما: قد بطلت لزوال عقله بالجنون، فَعَلَى هَذَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ إعفاء المريض استراحة بالنوم، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُؤْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِاسْتِرَاحَةٍ فِي إِبْطَالِ الْوِلَايَةِ، فَعَلَى هَذَا يَنُوبُ عَنْهُ الْحَاكِمُ فِي التَّزْوِيجِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ " أَوْ بِهِ عِلَّةٌ تُخَرِجُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ " وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَمْرَاضَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا مَا آلَمَ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهَا مَا أَثَرُهُ فِي التَّمْيِيزِ كَالْأَعْمَى، وَفِي إِضَافَةِ الْعَمَى والخرس إليهما وجهان: التأويل الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْأَسْبَابَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْوِلَايَةِ كَالْكُفْرِ، وَالرِّقِّ، وَالرِّدَّةِ. فَأَمَّا الْفِسْقُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِكُلِ حالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يمنع منه بِحَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه لم إِنْ كُانْ مِمَّنْ يُجْبِرُ كَالْأَبِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُجْبِرُ كَالْأَخِ لَمْ تَبْطُلْ وِلَايَتُهُ بِالْفِسْقِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ إنَّهُ إِنْ كَانَ الْفِسْقُ موجباً للحجر بَطَلَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ له لَمْ تَبْطُلْ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، فَأَمَّا الْخُنْثَى فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إشكاله فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَوَالُهُ بِقَوْلِهِ؛ كَإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ طَبْعَهُ يَمِيلُ إلى الرجال حتى زوج امرأة ولا وِلَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ قِيلَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون قد زال تعيناً لإمارة لَا يُرْتَابُ بِهَا فَلَهُ الْوِلَايَةُ لِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ بالرجال في جميع الأحوال. فأما الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَمَانَعٌ مِنَ الْوِلَايَةِ سواء كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِإِحْرَامِهِ كَالْعَاضِلِ فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عَنْهُ وَلَا تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ. فصل إذا ثبت ما وصفنا من الأسباب المشكلة لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ بِهَا إِلَى مَنْ هو أبعد بخلاف الغيبة التي لا تُوجِبُ انْتِقَالَ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّزْوِيجُ وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَوْ زَالَتِ الْأَسْبَابُ الْمُبَطِلَةُ لِلْوِلَايَةِ بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ وَأَفَّاقَ الْمَجْنُونُ وَرَشَدَ السَّفِيهُ عَادُوا إِلَى الْوِلَايَةِ وَانْتَقَلَتْ عَمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ فَلَوْ كان الأبعد قد زوج في جنون القريب وَسَفَهِهِ صَحَّ نِكَاحُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقْرَبِ بَعْدَ الإفاقة والرشد اعتراض عليه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 ولو كان الأبعد قد زوج فعد إِفَاقَةِ الْأَقْرَبِ وَرُشْدِهِ كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا سَوَاءً عَلِمَ بِإِفَاقَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ وَكِيلُ الْوَلِيِّ إِذَا زَوَّجَ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَلِيِّ فِي الْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرُجُوعِهِ كَانَ فِي نِكَاحِهِ قَوْلَانِ: فَهَلَّا كَانَ نِكَاحُ الْأَبْعَدِ مِثْلُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ مُسْتَنَابٌ يُضَافُ عَقْدُهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ فَكَانَ عَقْدُهُ أَمْضَى مِنْ عَقْدِ الْأَبْعَدِ الَّذِي لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنِ الْأَقْرَبِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْأَقْرَبُ فَقَالَ الْأَبْعَدُ زوجها قَبْلَ إِفَاقَتِكَ فَالنِّكَاحُ مَاضٍ، وَقَالَ الْأَقْرَبُ بَلْ زَوَّجْتَهَا بَعْدَ إِفَاقَتِي، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَلَا اعْتِبَارَ باختلافهما ولا رجوع فيسأل قَوْلُ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُمَا فَلَمْ ينفذ فيه قول غيرهما. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَتْ قَدْ أَذِنْتُ فِي فلانٍ فَأَيُّ وُلَاتِي زَوَّجَنِي فَهُوَ جائزٌ فَأَيُّهُمْ زَوَّجَهَا جَازَ وإن تَشَاحُّوا أَقْرَعَ بَيْنَهُمُ السُّلْطَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ جَمَاعَةُ أَوْلِيَاءَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَيَنْبَغِي لَهَا ولهم أن يردوا عقد نكاحها إلي أسنهم وأعلموا وَأَوْرَعِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَا السِّنِّ قَدْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَذَا الْعِلْمِ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِ الْعُقُودِ وَذَا الْوَرَعِ أَسْلَمُ اخْتِيَارًا وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اشْتَرَكُوا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أحدهم كما لو اشتركوا في رق جارية اشتركوا في تزوجيها لِتُسَاوِيهِمْ كَالشُّرَكَاءِ فِي مِلْكٍ إِذَا أَرَادُوا بَيْعَهُ أو إجارته اشتركوا في العقد عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَحَدُهُمْ لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ. قيل الفرق بينهما أن المعقود في الأملاك يتبعض وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ جَازَ فَلِذَلِكَ جَازَ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَيْسَ كذلك عقد النكاح؛ لأنه يَتَبَعَّضُ وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى بَعْضِ امْرَأَةٍ فَلِذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَوْلِيَاءُ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ ويفرد بالعقد أحدهم. فصل فإذا تقرر هذا فللمرأة المخطوبة حالتان: أحدهما: أَنْ تَأْذَنَ لِأَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا. والثاني: أن لا تعين فإن عينت، فَقَالَتْ: قَدْ أَذِنْتُ لِفُلَانٍ مِنْ إِخْوَتِي أَوْ من أعمامي أن يزوجني لفلان أَوْ بِمَنْ يَخْتَارُهُ لِي مِنَ الْأَكْفَاءِ فَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ مِنْهُمْ أَحَقَّ بِعَقْدِ نِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُهُ مِنْهُمْ كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا سَوَاءً كَانَتْ قَدْ عَيَّنَتْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تُعَيِّنْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَصَارَ عَاقِدًا بِغَيْرِ إِذَنٍ فَبَطَلَ عَقْدُهُ. فَصْلٌ وَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ عَلَى أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ قالت يزوجني أحدكم وأيكم يزوجني فَهُوَ بِإِذْنِي وَرِضَايَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ حينئذٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَنَازَعُوا فِي تزوجيها، أو لم يَتَنَازَعُوا، فَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي تَزْوِيجِهَا وَسَلَّمُوهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 لِأَحَدِهِمْ زَوَّجَهَا مَنْ سَلَّمُوا إِلَيْهِ الْعَقْدَ مِنْهُمْ وَسَوَاءً كَانَ أَفْضَلَهُمْ أَوْ أَنْقَصَهُمْ إِذَا لَمْ يكن به سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ لَوْ تَفَرَّدَ لَكَانَ وَلِيًّا فَكَذَلِكَ إِذَا شَارَكَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الزَّوْجِ كَأَنَّهُمُ اتفقوا على أن يزوجوها يزيد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَكِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا أُزَوِّجُهَا بِهِ فَهَؤُلَاءِ لَا حَقَّ لِلسُّلْطَانِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ عَاضِلٌ لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَوْلَى بِنِكَاحِهَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مَنْ لَمْ تَخْرُجْ لَهُ الْقَرْعَةُ مِنْهُمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ كَانَ نِكَاحُهُ جَائِزًا لِكَوْنِهِ وَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ فَفِي صِحَّةِ نِكَاحِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ قَدْ مَيَّزَتْ حَقَّ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ فِي غير الزَّوْجِ وَفِي تَوَلِّي الْعَقْدِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أُزَوِّجُهَا بِزَيْدٍ وَلَا أُزَوِّجُهَا بِعَمْرٍو، وَيَقُولُ الْآخَرُ: بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيُرْجَعُ إِلَى الزَّوْجَةِ فَإِنْ رَضِيَتْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَانَ مَنْ رَضِيَتْهُ الزَّوْجَةُ أَحَقَّ وَمَنْ دُعِيَ إِلَى تَزْوِيجِهَا بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قَالَتْ: هُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ فَزَوَّجُونِي بأحدهما فلا قرعة هاهنا؛ لأنه يصير قراعاً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْقُرْعَةُ لَا تُمَيِّزُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وإنما يتعين بالرضى وَالِاخْتِيَارِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْأَوْلِيَاءُ عَضْلَةً؛ لأن كل واحد منهم يمتنع من رَضِيَهُ الْآخَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي تَزْوِيجِهَا إِلَى السُّلْطَانِ كَمَا لَوْ صَرَّحُوا بِالْعَضْلِ حَتَّى زوجها بِمَنْ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أَذِنَتْ لِكُلِّ واحدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَا فِي رجلٍ بِعَيْنِهِ فَزَوَّجَهَا كُلُّ واحدٍ رَجُلًا فَقَدْ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أنكح الوليان فالأول أحق " فإن لم تثبت الشهود أيهما أول فالنكاح مفسوخٌ ولا شيء لها وإن دخل بها أحدهما على هذا كان لها مهر مثلها وهما يقران أنها لا تعلم مثل أن تكون غائبةً عن النكاح ولو ادعيا عليها أنها تعلم أحلفت ما تعلم وإن أقرت لأحدهما لزمها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ لَهَا وَلِيَّانِ أَذِنَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهَا برجلٍ لَا بِعَيْنِهِ يَخْتَارُهُ لَهَا مِنْ أَكْفَائِهَا، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ بِرَجُلٍ غَيْرَ الَّذِي زَوَّجَهَا بِهِ الْآخَرُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَعًا غير كفئين فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدٌ منهما فلا شيء عليهما فإن دَخْلَ بِهَا أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمُسَمَّى وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ كفءٍ؛ لِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُوقِفُ نِكَاحَهُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أحد الزوجين كفئاً، وَالْآخَرُ غَيْرَ كفءٍ فَنِكَاحُ غَيْرِ الْكُفْءِ بَاطِلٌ وَنِكَاحُ الْكُفْءِ جَائِزٌ سَوَاءً تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ أَوْ تأخر، فإن دخل بها غير كفء فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ نكاحه قد تقدم فلا أحد عَلَيْهِ سَوَاءً عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَيْهَا أن تفتدي من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 إِصَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهُ قَدْ تَأَخَّرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكُفْءِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يكون الزوجان معاً كفئين فلا يخلو حال نكاحهما من خمسة أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُعْلَمَ أَيُّهُمَا هُوَ السَّابِقُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَالثَّالِثُ: أن يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أحدهما الآخر. والرابع: أن يشك أيهما هو السابق. والخامس: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ويعلم أيهما هو السابق بالنكاح لأسبق الزوجين عقداً والنكاح الثَّانِيَ الْمَسْبُوقُ بَاطِلٌ سَوَاءً دَخَلَ هَذَا الثَّانِي بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: النِّكَاحُ لِلْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنِكَاحِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الزُّهْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بن عبيد الله زوج أخته بيزيد بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ وَزَوَّجَهَا أَخُوهَا يَعْقُوبُ بْنُ طَلْحَةَ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلَ بِهَا الْحَسَنُ، وَهُوَ الثَّانِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بما تقدم من نكاح بيزيد فَقَضَى مُعَاوِيَةُ بِنِكَاحِهَا لِلْحَسْنِ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعَ مَعَهُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْ سِوَاهُمْ مَحْجُوبًا بإجماعهم؛ ولأنه قد تساوا العقدان في أن يفرد كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِيَ مَأْذُونٌ لَهُ وِيَرْجِعُ الثاني أيما تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَصَارَ أَوْلَى وَأَثْبَتَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمِلْكِ إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَصَرُّفٍ وَيَدٍ كَانَ أَوْلَى كذلك الزوجات ودليلنا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ} (النساء: 24) يَعْنِي ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْأُمِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَحِلَّ بِالدُّخُولِ كَمَا لَا يَحِلُّ غَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 وروى الشافعي بإسناد رفعه لعقبة بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ ". وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: أَنَّ امْرَأَةً ذَاتَ وَلِيَّيْنِ زوجها أحدهما بعبد الله بن الحسن الحنفي وَزَوَّجَهَا الْآخَرُ بِعَبِيدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيِّ فدخل بها عبيد الله وَهُوَ الثَّانِي وَتَقَاضَيَا إِلَى عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبْطَلَ نِكَاحَ عَبِيدِ اللَّهِ مَعَ دُخُولِهِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يصح إذا عرى عن الوطء لم يصح إِذَا اتَّصَلَ بِالْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَلِإِجْمَاعِنَا إِنَّ رَجُلًا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امرأةٍ فَزَوَّجَاهُ بِأُخْتَيْنِ أو وكل كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَزَوَّجَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعًا أَنْ نِكَاحَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحُّ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنِ اقترن به دخول، فكذلك ولياً المرأة يحب أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَصَحَّ وَإِنِ اقترن الثاني دُخُولٌ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ بُطْلَانَ نِكَاحِ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ لَا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ كَوَكِيلَيِ الزَّوْجِ فِي أُخْتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ بَعْدَ أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ جَارٍ مَجْرَى القبض في البيع ثم ثبت أن الوكيلين فِي بَيْعِ عَبْدٍ لَوْ بَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَقْبَضَهُ الثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ قَبْضَ الثَّانِي كَذَلِكَ الْوَلِيَّانِ فِي النِّكَاحِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنِكَاحِ الْحَسَنِ وَيَزِيدَ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ اسْتَنْزَلَ يَزِيدَ عَنْ نِكَاحِهَا وَاسْتَأْنَفَ عَقْدَ الْحَسَنِ عَلَيْهَا. . وَأَمَّا استدلالهم بأن الثاني قد ترجع بِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالزَّوْجِ إِذَا زَوَّجَهُ وَكِيلَاهُ بِأُخْتَيْنِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لِلْأُولَى وَإِنْ دَخْلَ بِالثَّانِيَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ المتنازعين تُقَدَّمُ صَاحِبُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَلَيْسَ لِلْيَدِ فِي النِّكَاحِ تَأْثِيرٌ وَكَذَلِكَ فِي الأملاك إذا كانت معروفة، والأسباب، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ بِنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ. فَصْلٌ وَأَمَّا القسم الثاني وهو أن يقع النكاح معاولاً يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ وَإِنْ جاز أن يكون الرجل ذا زوجتين؛ لأن اشتراك الزوجين في نكاح امرأة يقضي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَلَيْسَ هَذَا المعنى موجود فِي الزَّوْجِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُ النِّكَاحَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُ أحدهما أولى من فساده وجب أن يكون باطلين، فإذا بَطَلَ النِّكَاحُ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزوجين من ثلاثة أحوال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 إحداها: أن لا يكون قد دخل وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهِيَ خَلِيَّةٌ وَلَا مَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفَسَادِ عَقْدِهِ وَعَدَمِ إِصَابَتِهِ وَلِأَيِّهِمَا شَاءَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أن يكون قد دخل بها أحدهما ودون الْآخَرِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ لِلدَّاخِلِ بها وما قد مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَافٍ فِي هَذِهِ وَيَكُونُ نِكَاحُ الدَّاخِلِ بِهَا بَاطِلًا كَغَيْرِ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ وَعَلَيْهَا مِنْهُ الْعِدَّةُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الدَّاخِلِ بِهَا مَهْرٌ وَلَا لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجَانِ مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ وعليها لكل واحد منهما العدة بدأ بَعْدَ أَسْبَقِهِمَا إِصَابَةً، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِئْنَافُ نِكَاحِهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَقَّبُ عِدَّتَهَا مِنْهُ عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّتَيْنِ مَعًا، فَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا إِصَابَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلَهُ أن يتزوجها في عدة الثَّانِي. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ حَالِيْ صحةٍ وَفَسَادٍ حُمِلَ عَلَى الْفَسَادِ دُونَ الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ أَنْ لَا عقد حتى يعلم يقين صحته، فإذا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَمَا لَوْ وَقَعَا مَعًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أن يسبق أحدهما الآخر ويشك أيهما هو السابق فهو على ضربين: أحدهما: أن يصير الشك بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ فَيَكُونُ النِّكَاحَانِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى ما يرجى من زوال الشك يعود الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ يَجُوزُ أَنَّ يَتَعَقَّبَهُ يَقِينٌ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ ذات زوج قد جهل عينه فتمتع مِنَ الْأَزْوَاجِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِصَابَتُهَا إِلَّا بَعْدَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ نِكَاحًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ يَقِينٌ فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَوَقَّعُ زَوَالُ الشَّكِّ بِعَوْدِ الْيَقِينِ، وَإِذَا امْتَنَعَ وَقَفُ النِّكَاحَيْنِ كَانَا بَاطِلَيْنِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُمَا إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ وَيَكُونُ الجهل على المتقدم فسخاً؛ لأن الجهل بعين الْأَسْبَقِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ تَعْيِينِ الْأَصَحِّ فَاقْتَضَى أن يقع به الفسخ. والوجه الثاني: إِنَّهُ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا الزَّوْجُ فَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهُ إِلَّا بِحُكْمِ الحاكم الذي له مدخل في الفسخ الْمَنَاكِحِ فَإِنْ قِيلَ: بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِالْجَهْلِ دُونَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ فَسْخًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَمَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْغَرْقَى فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَنْ إِشْكَالِ التَّقَدُّمِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الْفَسْخِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَهَلْ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الظَّاهِرِ وَالزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بَاقِيَةٌ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلُ لَهَا الْعِوَضُ عَادَ إِلَيْهَا الْمُعَوَّضُ كَالْبَائِعِ إذا أفلس المشتري بثمن سلعة عَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ مِلْكًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنَّهُ هُوَ السَّابِقُ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْعَاقِدُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْعَقْدِ الْآخَرِ شَاهِدًا فِي هَذَا الْعَقْدِ قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بينة فلا حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَا علمهما بأسبقهما عقداً، أو لا يدعياه لغيبتهما عن العقد وجهلهما بِالْأَسْبَقِ تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ دُونَ الْوَلِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا الْمُتَدَاعِيَانِ وَلَا يُرَاعَى تَصْدِيقُ الْوَلِيَّيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجَانِ انفسخ النكاحان وهل ينفسخ بنفس التحالف أو بفسخ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ، وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجَانِ عَنِ الْيَمِينِ فَسَخَ الْحَاكِمُ نكاحهما وَلَمْ يَنْفَسِخْ إِلَّا بِحُكْمِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا في دعواه فلم يمنع بِنُكُولِهِ فَسْخٌ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قَضَى بِالنِّكَاحِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا النَّاكِلُ نُظِرَ حَالُ دُخُولِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُكُولِهِ أو يمين صاحبه فهو زان بحد ولا يلحق به الولد ولا تجب عليها العدة. أما الْمَرْأَةُ فَإِنْ عَلِمَتْ بِحَالِ النَّاكِلِ عِنْدَ تَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ تُحَدُّ وَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَ النَّاكِلُ قَدْ دخل بها قبل نكوله ويمين صَاحِبِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا لِبَقَاءِ شُبْهَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَهِيَ محرمة على المحالف حتى تقضي عِدَّةَ النَّاكِلِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَا الْحَالِفُ فَلِأَنَّهَا محرمة عليه وإن كانت زَوْجَتُهُ لِاعْتِدَادِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا النَّاكِلُ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا أَمْ لا على قولين. فصل فإن ادعت عِلْمَهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَسْبَقَهُمَا نِكَاحًا، فلها حالتان: حالة نعترف بالعلم، وحالة لا تعترف به، فإن لم تعترف وقالت لست أعلم أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَإِنَّمَا لَزِمَهَا الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْإِنْكَارِ كَانَ قَوْلُهَا فِي نِكَاحِ مَنْ قَدَّمَتْهُ مَقْبُولًا فَإِنْ حَلَفَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ بِالْعَقْدِ، فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ يمينها أو فسخ الحاكم على وجهين إن قيل قد بطل يَمِينُهَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ مُعْتَرِفَةٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا زَوْجٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا، قِيلَ لِأَنَّ يمينها يسقط عَنْهَا تَمْكِينَ نَفْسِهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا مَنَعَهَا الشَّرْعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَطَلَ نكاحها، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزوجين، فإن حلفا بطل نكاحهما، وَإِنْ نَكَلَا فُسِخَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِنِكَاحِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دون الناكل وإن اعترفت، وقالت: أعلم السابق بالعقد منهما وهو زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ للمصدق؛ لأنها مَالِكَةٌ بُضْعَهَا فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِي تَصْدِيقِ مَنْ ملكه عنهما كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهَا، وَهَلْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَنْهُ لَمْ تُقْبَلْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيِّنَةٌ كَالشَّاهِدِينَ وَهَذَا قَوْلُهُ: فِي " الْأُمِّ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَذِّبَ مُدَّعٍ فَلَمْ يَدْفَعْ مُجَرَّدُ الْإِنْكَارِ إِلَّا مَعَ يَمِينٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِرُجُوعِهَا أَنْ لَوْ صَدَّقَتْهُ غُرِّمَ فَلَزِمَتِ الْيَمِينُ، وَهَذَا قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّاهِنِ إِذَا صَدَقَ أَحَدُ الْمُرْتَهِنَيْنِ هَلْ يَحْلِفُ للمكذب أم لا على قولين ويشبه أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الزَّوْجَةِ مبنيً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَصْدِيقِهَا لِلْمُكَذِّبِ هَلْ يُوجِبُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثَلِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ يُوجِبُ التَّصْدِيقُ عَلَيْهَا مَهْرَ الْمِثْلِ حَلَفَتْ على التكذيب، وإن قيل لم يَجِبْ لَمْ تَحْلِفْ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَبِنَاؤُهُمَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَحَلَفَتْ ثَبَتَ النِّكَاحُ لِلْمُصَدِّقِ، وَكَانَ نِكَاحُ الْمُكَذِّبِ مَرْدُودًا، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فَنَكَلَتْ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي النُّكُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ الاعتراف بالثاني أو بغير اعْتِرَافٍ بِهِ فَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا اعْتِرَافًا لِلثَّانِي يتقدم نِكَاحُهُ لَمْ يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدٍ وَقَدْ صَارَتْ مُقِرَّةً لِلْأَوَّلِ ثُمَّ عَدَلَتْ عَنْهُ إِلَى إِقْرَارِهَا لِلثَّانِي، فَثَبَتَ نِكَاحُهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهَا عَنْهُ إِلَى الثَّانِي، وَجَرَى مَجْرَى قولها في الابتداء بسبق هذا لأجل هذا فتكون زوجة للأول بإقرارها دُونَ الثَّانِي كَمَنْ بِيَدِهِ دَارٌ فَقَالَ هِيَ لزيد لا بل لعمرو وكانت لزيد المقر له أولاً دون عمرو وإذا كَانَتْ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِقْرَارِ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَهَلْ يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْرَمَ لِلثَّانِي مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَمَنْ قال: هذه الدار لزيد بل لعمرو وكانت لِزَيْدٍ، وَهَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُا غُرْمُ الْمَهْرِ لاعترافهما بما لزمهما. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُا غُرْمُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَوَّتَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهَا لِلْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ صَارَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ زَوْجَةً لِلثَّانِي بِإِقْرَارِهَا الْمُتَقَدِّمِ كَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو كَانَتْ لِزَيْدٍ الْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا فَلَوْ عَادَتِ الدَّارُ إلى المقر بابتياع أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، صَارَتْ لِعَمْرٍو بِالْإِقْرَارِ السابق الْمُتَقَدِّمِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ فِي مَصِيرِهَا زَوْجَةً لِلثَّانِي، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لم يصيبها بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بأكثر الأجلين من أربعة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 أشهر وعشر عدة الوفاة أو ثلاثة أقراء عدة الْوَطْءِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الثَّانِي فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ نُكُولُهَا لِغَيْرِ اعْتِرَافٍ بَلْ كَانَتْ عَلَى تَكْذِيبِ الثَّانِي، وَتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ رُدَّ الْيَمِينُ بَعْدَ نُكُولِهَا عَلَى الْمُكَذِّبِ فَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنْهَا اسْتَقَرَّ نِكَاحُ الْأَوَّلِ وَإِنْ حَلَفَ فَقَدْ قَابَلَ تصديق الأول يمين الكذب فيكون يمين الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هل يقول مقام البينة أم مَقَامَ الْإِقْرَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَقُومُ مقام البينة فعلى هذا تكون زوجة الثاني وَيَزُولُ عَنْهَا نِكَاحُ الْأَوَّلِ؛ كَمَا لَوْ أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَةً بَعْدَ تَصْدِيقِهَا لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مَعَ بُعْدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ إِقْرَارٌ مِنْهَا وَقَدْ صَارَ مَعَ الثَّانِي إِقْرَارٌ قَدْ لَزِمَ عَنْهَا فَصَارَ إِقْرَارَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ إِقْرَارَيْنِ وَقَعَا مَعًا، لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي أَوْجَبَهَا نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ حُكْمُ أَحَدِ الْإِقْرَارَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ النِّكَاحَانِ مَعًا؛ كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ إِقْرَارَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ وَقَعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، لِأَنَّ يَمِينَ الثَّانِي جَعَلَتْهُ فِي حُكْمِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ، فَصَارَ الإقرار له متأخر عَنِ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كما لو أقرت لثاني بعد أول، وَهَلْ يَرْجِعُ الثَّانِي عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ طَلَبَ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْحَالِ إِحْلَافَ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَةً لِلثَّانِي، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا مَنْزِلَةَ الْمُقِرَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ إحلافها ولو نزل عنها فحكم بها زوجة للثاني لأجرينا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْمُقِرَّةِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ فَهَذَا حكم المسألة وما انتهت إليها أَقْسَامُهَا وَأَحْكَامُهَا. فَصْلٌ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُوَكِّلَ الرَّجُلُ وَكِيلَيْنِ فِي أَنْ يُزَوِّجَاهُ فزوجاه بِامْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ لَزِمَهُ الْعِقْدَانِ وَصَحَّ نِكَاحُهُمَا لَهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إِذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَا زَوْجَتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجَيْنِ، فَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ زَوَّجْتُكَ مِنْ زَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صاحبي من هند، وقال الآخر أنا زَوَّجْتُكَ بِزَيْنَبَ وَزَوَّجَكَ صَاحِبِي مِنْ هِنْدٍ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ وَالنِّكَاحَانِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الْوَكِيلَانِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عَقْدَيْنِ صَحَّ نِكَاحُهُ عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَهُ الْحَكَمُ وَالْمَهْرُ دُونَ الثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَلِيَّيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ أَيْضًا، فَإِنِ اختلف المهران لم يحكم بواحد مِنْهُمَا وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ تَقَدُّمَ أَكْثَرِ الْعَقْدَيْنِ مَهْرًا وَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ أَقَلِّهِمَا مَهْرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تُقْبَلُ شهادة الوكيلين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 فَلَوْ عَقَدَ الْوَكِيلُ عَلَى امْرَأَةٍ غَيْرِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَبِلَتِ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ قَبِلْتُهُ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَنْتِ زَوْجَتِي فَصَدَّقَتْهُ ثَبَتَ حُكْمُ نكاحهما بِالتَّصَادُقِ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَثْبُتُ نِكَاحُهُمَا بِالتَّصَادُقِ حَتَّى يُرَى دَاخِلًا عَلَيْهَا وَخَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَا فِي سَفَرٍ. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ظُهُورُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِرَافِ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ بِهَذَا التَّصَادُقِ عَلَيْهِ فَأَيُّهُمَا مَاتَ وِرِثَهُ صَاحِبُهُ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ هَذِهِ زَوْجَتِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا نَصَّ عَلَيْه الشَّافِعِيُّ في " الأم " لا أنه اعترف لها بما لم يعترف له بمثله فورثه وَلَمْ يَرِثْهَا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا زَوْجِي وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ وَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ وَلَمْ تَرِثْهُ إِنْ مات للمعنى الذي ذكرنا نص عليه في الإملاء، قال فِيهِ وَلَوْ تَزَوَّجَّ رِجْلٌ امْرَأَةً مِنْ وَلِيِّهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا، فَقَالَ وَارِثُهُ زَوْجُكِ وَلِيُّكِ بِغَيْرِ إِذْنِكِ فَنِكَاحُكِ بَاطِلٌ وَلَا مِيرَاثَ لَكِ، وَقَالَتْ: بَلْ زَوَّجَنِي بِإِذْنِي فَلِي الْمِيرَاثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّ إِذْنَهَا لَا يُعْلَمُ إلا منها والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " ولو زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِأَمْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا كَابْنِ عَمٍّ أَوْ مَوْلَى مُعْتَقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَوِلَايَتِهِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: يجوز أن يتزوجها مِنْ نَفْسِهِ بَعْدَ إِذْنِهَا لَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَأْذَنُ لِأَجْنَبِيٍّ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونهُنَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ) {النساء: 127) قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ يَتِيمَةٍ فِي حجر وليها رغب في مالها وجمالها لمي سقط لها في صداقها مهراً أن تنكحوا أو تقسطوا لَهُنَّ فِي صَدَاقِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أن يتزوجها ولم يقسط في صداقها، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " وَهَذَا نِكَاحٌ قَدْ عَقَدَهُ وَلِيٌّ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ سِوَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ فَجَازَ ثُبُوتُهُ كَمَا لو زوجها من غيره، ولأن الولي إنما يراد لأن لا تَضَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ وَوَلِيُّهَا كفء لها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 ودليلنا مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سِفَاحٌ خَاطِبٌ، وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ " فَاعْتَبَرَ فِي صِحَّتِهِ حُضُورَ أَرْبَعَةٍ وَجَعَلَ الْخَاطِبَ مِنْهُمْ غَيْرَ الوالي فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَصِحَّ بِثَلَاثَةٍ يَكُونُ الْوَلِيُّ مِنْهُمْ خَاطِبًا كَمَا لَمْ يُجِزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ خَاطِبًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حَتَّى يكون الولي غيره ولا يشتري الوالي شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَا الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنَ الميراث "، وهذا نص مرسل سعيد عند الشافعي حجة؛ لأنه عقد لم يملك فيه البدل إلا بإذن فلمن يُمْلَكْ فِيهِ الْقَبُولُ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لَمَّا ملك فيه البدل بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ الْقَبُولَ فِي شِرَائِهِ لِنَفْسِهِ وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَدْخُلُ في هَذَا الْقِيَاسِ ابْتِيَاعُ الْأَبِ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بنفسه حيث صار فيه مالكاً للبدل والقبول؛ لأن الأب يملك البدل بِنَفْسِهِ لَا بِإِذْنِ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ فِيهِ الْقَبُولَ وَخَالَفَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ كَمَا خَالَفَ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ اعْتُبِرَ في النِّكَاحِ احْتِيَاطًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا كَالشَّاهِدِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ لَهَا فِي الْتِمَاسِ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ وَأَغْنَى فَإِذَا صَارَ زَوْجًا انْصَرَفَ نَظَرُهُ إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ دُونَهَا فَعُدِمَ فِي عَقْدِهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَصَارَ ممنوعاً منه. من غيره وليس الآية دليل على ما اختلفا فِيهِ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ " فَهُوَ أنَّ هَذَا فِي حَالِ تزويجه بِهَا قَدْ خَرَجَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهَا لما ذَكَرْنَا مِنَ انْصِرَافِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ الْوَلِيُّ مِنْ طَلَبِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لنفسه. فأما الجواب عن حديث سعيد فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حَالُ غَيْرِهِ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الولي في نكاحه فيقول لَمْ يَكُنْ لِصَفِيَّةَ وَلِيٌّ غَيْرُهُ فَصَارَ فِي عَقْدِهِ عَلَيْهَا كَالْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَجِدْ لِوَلِيَّتِهِ ولياً سواه يزوجها مِنْهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ فَلَا نُسَلِّمُ أنه يكون ولياً لها إذا تزوجها لما ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ عَنْهُ، ثُمَّ المعنى في الأصل أن الباذل غير العائل. وأما الجواب عن استدلالهم بأنه كفء لها لِمُنَاسَبَتِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَلِيٍّ يَلْتَمِسُ الْكَفَاءَةَ وهي لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُكَافِئَهَا فِيمَا سِوَى النَّسَبِ مِنْ مَالٍ وعفاف. فصل فإذا ثبت أن لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَحَدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لها وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ لَمْ تَنْتَقِلِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْبَعِيدِ، وَزَوَّجَهُ الْحَاكِمُ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أبعد فيزوجها مِنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بهذا القصد فلم ينتقل عَنْهُ إِلَى الْأَبْعَدِ وَصَارَ بِخِطْبَتِهَا كَالْعَاضِلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الحاكم لم يجز له أن يتزوجها بِوِلَايَةِ النَّسَبِ وَعَدَلَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ حَتَّى يُزَوِّجَهُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يتزوجها بنفسه لعموم ولايته وأن الْحُكَّامَ كُلَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَفِيَّةَ بِنَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يتزوجها من حكام الوقت لولايتهم، وإن كانت منه فهم بخلاف وكلائه، ولأنه نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَقْلِيدِ الْحُكَّامِ وَنَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ فِي تَقْلِيدِ الْوُكَلَاءِ، أَلَا تراه لو مات بطلت ولاية وكلائه ولن تَبْطُلَ وِلَايَةُ حُكَّامِهِ، وَلِذَلِكَ تَحَاكَمَ عُمَرُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَاكَمَ عَلِيٌّ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ. فَصْلٌ وَلَوْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ بِابْنِهِ كَوَلِيٍّ هُوَ عَمٌّ فَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ أَخِيهِ بِابْنِهِ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا أَوْ جَدِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَابْنُهُ صَغِيرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يزوجها بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَاذِلًا لِلنِّكَاحِ عَنْهَا وَقَابِلًا لَهُ عَنِ ابْنِهِ فَاجْتَمَعَ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يتزوجها لنفسه لحصول البذل والقبول منه مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنُهُ كَبِيرًا فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاذِلًا فَالْقَابِلُ غَيْرُهُ وَهُوَ الِابْنُ فَلَمْ يَجْتَمِعِ الْبَذْلُ وَالْقَبُولُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. والوجه الثاني: لا يجوز أن يزوجه بها؛ لِأَنَّهُ يَمِيلُ بِالطَّبْعِ إِلَى طَلَبِ الْحَظِّ لِابْنِهِ دونها كما لم يجز أن يتزوجها بنفسه لِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا الْجَدُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ جَازَ لِاعْتِدَالِ السَّبَبَيْنِ فِي ميله إليهما وطلب الحظ لهما وإن كان صَغِيرَيْنِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِهَذَا المعنى. والثاني: لا يجوز لاجتماع البذل والقبول من جهته. مسألة قال الشافعي: " ويزوج الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ الِابْنَةَ الَّتِي يُؤْيَسُ مِنْ عَقْلِهَا لِأَنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى وَرُبَّمَا كَانَ شِفَاءً وسواءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ فَإِذَا كَانَتْ مَجْنُونَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً لِأَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ الْبِكْرِ فِي حَالِ الْعَقْلِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْبِرَهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ يَكُنْ لأحد أوليائها ولا الحاكم أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ عَصَبَتِهَا الْمُنَاسِبِينَ لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضْلِ النَّظَرِ في الولاية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 على مالها فإن كَانَتْ ثَيِّبًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أب ولا جَدٌّ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ثَيِّبًا فَلَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ والْجَدِّ تَزْوِيجُهَا حَتَّى تَبْلُغَ، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى تَبْلُغَ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بها إلى الزوج قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. والوجه الثاني: أنه يجوز تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي يَرجْى صحة إذنها بالبلوغ ولا يجرى صِحَّةُ إِذْنِ الْمَجْنُونَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَافْتَرَقَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنًى وَرُبَّمَا كان شفاء، فهذا تعليل بجواز تَزْوِيجِ الْبَالِغِ الْمَجْنُونَةَ، فَأَمَّا الْعَفَافُ فَيُرِيدُ بِهِ من الزنا، وأما الغنى فتغنى بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَأَمَّا الشِّفَاءُ فَرُبَّمَا كَانَ من شدة المانخوليا وَقُوَّةِ الشَّبَقِ فَتَبْرَأُ إِنْ جُومِعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " وَيُزَوِّجُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ أَبُوهُ إِذَا كَانَتْ به إلى ذلك حاجةٌ وابنه الصغير فإن كان مجنوناً ولا مَخْبُولًا كَانَ النِّكَاحُ مَرْدُودًا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَخْلُو حَالُ الِابْنِ إِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ أَحَدِ حَالَيْنِ، إِمَّا أَنْ كون عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ فِي نِكَاحِهِ، فَإِنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلْعَقْدِ أَوِ الْإِذْنِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جَازَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ فِي صِغَرِهِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا بَلَغَ فَعَجَّلَ الْأَبُ لَهُ ذَلِكَ لِيَأْلَفَ صِيَانَةَ الْفَرْجِ، وَرُبَّمَا رَغِبَ النَّاسُ فِيهِ لِكَفَالَةِ الْأَبِ فَإِنْ زَوَّجَهُ وَاحِدَةً لَزِمَهُ نِكَاحُهَا وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ خِيَارٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْفِرَاقَ فَبِالطَّلَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ تَزْوِيجَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ لَهُ فِي الْوَاحِدَةِ غناء. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ تَمَامَ أَرْبَعٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْوَاحِدَةِ مَوْجُودٌ فِيهِنَّ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَجْنُونًا فَلَهُ حَالَتَانِ: صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ بِاجْتِمَاعِ جُنُونِهِ مَعَ صِغَرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ الْمَجْنُونَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبِنْتَ قَدْ تَكْتَسِبُ بِالتَّزْوِيجِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَالِابْنُ ملتزمهما، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى التَّزْوِيجِ حَاجَةٌ لَمْ يُزَوِّجْهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا وَحَاجَتُهُ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرَى مُتَوَثِّبًا عَلَى النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ وَخِدْمَةُ الزَّوْجَةِ أَرْفَقُ بِهِ لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَكَثْرَةِ شَفَقَتِهَا فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ تَزْوِيجُهُ بِوَاحِدَةٍ لا يزيده عليها؛ لأن له فيها غناء، فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى لزومه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 فأما المعنى عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ، لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُرْجَى سُرْعَةُ زَوَالِهِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَلَيْسَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى العقد في زمان الإفاقة. مسألة قال الشافعي: " وليس لأب الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الْمَجْنُونَ أَوْ تَزَوَّجَ الِابْنُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ، لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ الْأَزْوَاجِ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي زَوَّجْتُ عَبْدِيَ امرأة وأريد أَنْ أُطَلِّقَهَا مِنْهُ فَقَالَ: " لَيْسَ لَكَ طَلَاقُهَا، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أُخِذَ بِالسَّاقِ " وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَصْلَحُ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُ العفيفة والجميلة وَيُمْسِكُ الْفَاجِرَةَ الْقَبِيحَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاعَى فيه شهوة غير المالك، لأن تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ دُونَ الشَّهْوَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وإذا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أن يخالع عنه، لأنه معاونه عَلَى طَلَاقٍ لَا يَصِحَّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " وَلَا يَضْرِبُ لِامْرَأَتِهِ أَجَلَ الْعِنِّينِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَوْ بِكْرًا لَمْ يُعْقَلْ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ إنَّهَا تمتنع مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَتِ امرأة المجنون عليه العنة لم تسمع دَعْوَاهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ يُوجِبُ حَقًّا عَلَى غيره؛ ولأن صَدَّقَهَا الْوَلِيُّ عَلَى عِنَّتِهِ جَازَ أَنْ يَضْرِبَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا جاز أَنْ يُنْكِرَهَا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَاقِلًا فَيَضْرِبُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إِذَا انْقَضَّتِ الْمُدَّةُ وَهُوَ عَلَى جُنُونِهِ أَنْ يُخَيَّرَ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاقِلًا لَجَازَ أَنْ يدعي وطئها إن كان ثَيِّبًا وَمَنْعَهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قوله في الحالين. مسألة قال الشافعي: " وَلَا يُخَالِعُ عَنِ الْمَعْتُوهَةِ وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ درهمٍ مِنْ مَالِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ مَالِهَا لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِهَا وَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي كَسْبِهَا لَا إِلَى إِسْقَاطِهِ، وَهَذَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا وَمَهْرَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَمَّا إِنْ خَالَعَ الْأَبُ عَنْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ خُلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ عَنْ أَجْنَبِيَّةٍ عَاقِلَةٍ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهِيَ غَيْرُ عَالِمَةٍ وَلَا مُرِيدَةٍ صَحَّ خُلْعُهُ فَعَنْ بِنْتِهِ الْمَجْنُونَةِ أَوْلَى. فَصْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهَا " وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أن يبرئ منه. والثاني: صَدَاقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ دخل لها فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُطَلِّقْ فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أن يكون قَدْ طُلِّقَتْ فَفِي جَوَازِ إِبْرَاءِ الْأَبِ مِنْهُ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ مالك أن الْأَبُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ دُونَ غيرهما من الأولياء أن يبرأ مِنْ صَدَاقِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّهُ الزَّوْجُ، فَعَلَى هذا لا يجوز للأب والجد أن يبرئا مِنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أن يبرئا شيء من صداقها كما لم يجز لا أن يبرأ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهَا، فَأَمَّا الْخُلْعُ فَعَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِصَدَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ جَوَازُهُ عَلَى بَدَلٍ أولى وهذا جَمْعٌ فَاسِدٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإبراء مجوز بعد الطلاق وفي الخلع يكون مبرأ مِنْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أنَّ فِي الْإِبْرَاءِ تَرْغِيبًا لِلْأَزْوَاجِ فِيهَا وَفِي الْخُلْعِ تَزْهِيدًا فِيهَا فَاخْتَلَفَ الْمَعْنَى فِيهِمَا فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ هَرَبَتْ وَامْتَنَعَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا هَرَبَتْ بِالْجُنُونِ مِنْ زَوْجِهَا وَمَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ الَّتِي عوض كالسلعة إذا بلغت فِي يَدِ الْبَائِعِ بَطَلَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ فَإِنْ قِيلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 فَالْجُنُونُ عُذْرٌ، وَلَيْسَتْ فِيهِ عَاصِيَةٌ فَهَلَّا كَانَتْ نَفَقَتُهَا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بَاقِيَةً كَمَا لَوْ مرضت أو صلت أو صامت؟ قيل: حقوق الأموال بين الآدميين تستوي في وجوبها سقوطها حُكْمُ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَلَّا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ تَلَفَتِ السِّلْعَةُ فِي يده لجائحة سمائية فهو معذور مطيع وقد سقط فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوِ اسْتَهْلَكَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ عَاصِيًا غَيْرَ مَعْذُورٍ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ سَافَرَتْ فِي الْحَجِّ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطِيعَةً كَمَا لَوْ هَرَبَتْ نَاشِزًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمَجْنُونَةِ. فَأَمَّا الْمَرِيضَةُ فهي غير ممتنعة منه وَإِنَّمَا الْمَرَضُ مَنْعَهُ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْحَيْضُ، ولو منعته فِي الْمَرَضِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِ من المريضة من نظر وقبلة ولمس وسقطت نَفَقَتُهَا فَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ فَالشَّرْعُ قَدِ اسْتَثْنَى زَمَانَهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا أَنَّ زَمَانَ النَّوْمِ مُسْتَثْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا وَقِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فِيهَا فِءْ أَوْ طَلِّقْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ " فَلَمْ يُرِدْ أنه لا يصح منه الإيلاء فيهما؛ لأن الإيلاء يمين يصح مِنَ الزَّوْجِ فِي الْعَاقِلَةِ فَصَحَّتْ مِنْهُ فِي المجنونة، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَطْالُبَ بِحُكْمِ إيلائه فيهما وإن صح إيلاؤه منهما وإذا مضى عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ عَلَى جُنُونِهَا أَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ فانقضت مدة الإيلاء وقد جنت، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بفيئه ولا طلاق؛ لأن المطالبة حق لها يرجع فيها إلى شهرتها فِي الْعَفْوِ عَنْهُ أَوِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْجُنُونِ مطالبةٌ وَلَا لِلْوَلِيِّ فِيهِ مُدْخَلٌ فَيُطَالِبُ لَكِنْ يُقَالُ لِلزَّوْجِ يَنْبَغِي لَكَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَفِيءُ أَوْ تطلق ليكون خَارِجًا مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ أَنْ لَوْ كَانَتْ مطالبته حتى لا تكون مرتهناً بحق بقدر عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن قذفها أو انتفى من ولدها قيل له إن أردت أن تنفي وَلَدِهَا فَالْتَعِنْ فَإِذَا الْتَعَنَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَنُفِيَ عنه الولد فإن أكذب نفسه لحق به الولد ولم يعزر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةٍ) {النور: 4) وَالْمُحْصَنَةُ الْكَامِلَةُ بِالْعَقْلِ وَالْعَفَافِ؛ ولأن حد القذف يجب للحوق المعرة بالمقذوفة، وَالْمَجْنُونَةُ لَا يَلْحَقُهَا بِالزِّنَا عَارٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تفرق بين القبيح والحسن ولا بين المبارح والمحذور؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ فِي مُقَابَلَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَالْمَجْنُونَةُ لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا لَمْ تُحَدَّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 حد فإن لم يرد الزوج، أم يُلَاعِنَ فَلَا يُقَالُ وَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ لَمْ يَخْلُ حَالُ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ أَوْ خَلِيَّةً مَنْ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ كَانَ له أن يلاعن منها ليبقى بِاللِّعَانِ وَلَدَهَا فَإِذَا لَاعَنَ انْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ ووقعت الفرقة بينهما على التأييد، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفِي جَوَازِ اللعان فيما وجهان: أحدهما: يلاعن لتستفيد بِلِعَانِهِ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يلاعن؛ لأن معقود اللِّعَانِ دَرَأُ الْحَدِّ وَنَفِيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ وَقَدْ عَدَمَ الْوَلَدَ وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا حَدٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ فَلَوْ عَادَ هَذَا الزَّوْجُ بَعْدَ نَفْيِ الْوَلَدِ بِلِعَانِهِ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يَزَلِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَزَوَالَ التَّحْرِيمِ حَقٌّ لَهُ ومن أقر بما عليه لزمه ومه أقر بماله لم يقبل منه، فأما تعزيره بَعْدَ رُجُوعِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: لَمْ يُعَزَّرْ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُعَزَّرُ وَلَيْسَ هذا على اختلاف قولين، وَإِنَّمَا التَّعْزِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعْزِيرُ قَذْفٍ. وَالثَّانِي: تَعْزِيرُ أَذَى. فَأَمَّا تَعْزِيرُ الْقَذْفِ: فَهُوَ في قذف من لم تكمل حَالُهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَالْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ فِي قَذْفِهِمْ حَدٌّ لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ بَدَلًا مِنَ الْحَدِّ وَيَكُونُ حقاً للمقذوف يرجع إلى خياره في استيفائه أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ. وَأَمَّا تَعْزِيرُ الْأَذَى: فَهُوَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فَهَذَا التَّعْزِيرُ فِيهِ لِمَكَانِ الْأَذَى يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِنْ رَأَى، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ هَذَا وَإِبَاحَةُ ذَاكَ. وَالثَّانِي: رَدُّ هَذَا إِلَى خِيَارِ الْمَقْذُوفِ، ورد ذاك إِلَى الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا لَمْ يُعَزَّرْ مَحْمُولًا على تعزير الأذى والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّبِيَّةَ عَبْدًا ولا غير كفؤٍ وَلَا مَجْنُونًا وَلَا مَخْبُولًا وَلَا مَجْذُومًا وَلَا أبرص ولا مجبوناً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. عَلَى الْأَبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَظَّ لَهَا فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ عَبْدًا، وَلَا مُدَبَّرًا، وَلَا مُكَاتَبًا، وَلَا مَنْ فيه جزء من الرق وإن قل لنقصهم بالرق عن حال الأحرار، ولا يزوجها عبر كفء لما يحلقها مِنَ الْعَارِ وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْنُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَلَا يُزَوِّجَهَا مَخْبُولًا، وَالْمَخْبُولُ هُوَ الزَّائِلُ الْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ إِلَّا أن المجنون هو المجند الذي لا يؤمن عداؤه والمخبول هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 السَّاكِنُ الْمَأْمُونُ الْعَدْوَى، وَلَا يُزَوِّجَهَا مَجْذُومًا، وَلَا أَبْرَصَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُمَا وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُمَا عَدْوَى إِلَيْهَا وَإِلَى الْوَلَدِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ ". وَلَا يُزَوِّجَهَا خَصِيًّا وَلَا مَجْبُوبًا لِنَقْصِهِمَا بالخصا، وَالْجَبِّ عَنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ. فَصْلٌ فَأَمَّا تَزْوِيجُ بِنْتِهِ الْكَبِيرَةِ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَيَجِبُ اسْتِئْذَانُهَا فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ وَأَعْلَمَهَا بِهِمْ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ وَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِيهِمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عَنْ إِذْنٍ كَالثَّيِّبِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ استئذانها يجب وأشبهت الصَّغِيرَةَ. فَصْلٌ فَإِنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، وَكَانَتْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ هذه العيوب فعلى ضربين: أحدهما: أن يختلف عيبهما أن يكون الزوج مجذوماً وهي برصاء. أو مجنوناً وهي رتقاء فلم يجز. والضرب الثاني: أن يتماثل عيبهما فَيَكُونَا مَجْنُونَيْنِ أَوْ أَبْرَصِيْنِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لِتَكَافُئِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُؤَمَنُ الْمَجْنُونُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُؤَمَنُ عَلَى غَيْرِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَزَوَّجَ بِنْتَهُ بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُزَوِّجَهَا بِهِ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِمْ عَالِمًا بِعُيُوبِهِمْ فَالنِّكَاحُ باطل، لأنه أقدم على عقد هو مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِعُيُوبِهِمْ وَنَقْصِهِمْ فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: باطل لما ذكرنا. والثاني: جائز ويستحق فيه خِيَارُ الْفَسْخِ، لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ مَا يَرَاهُ مَعِيبًا بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ ولكن يوجب خيار الفسخ، فعلى هذا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهَا إِذَا بَلَغَتْ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ لِيَسْتَدْرِكَ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ موقوفاً على خيارها إذا بلغت فيه؛ لِأَنَّ لَهَا فِي الْعَقْدِ حَقًا فَلَمْ يَكُنْ للأب تفويته عليها بفسخه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى واحدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بنكاحٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ أَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ لِيَكْتَسِبَ بِذَلِكَ الْمَهْرَ، وَالنَّفَقَةَ، وَلَا يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى نِكَاحِهَا إِذَا طَلَبَتْ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ وَإِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى نِكَاحِ مَجْنُونٍ، وَلَا مَجْذُومٍ وَلَا أَبْرَصَ، وَلَا مَجْبُوبٍ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ حق الِاسْتِمْتَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِحَقِّ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ دُونَ السَّيِّدِ، وَاسْتِمْتَاعُهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ لَا يَكْمُلُ لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُمْ فَمُنِعَ السَّيِّدُ مِنْ تَزْوِيجِهَا بِهِمْ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِهِ وَكَذَلِكَ بِمَنْ لَا يُكَافِئُ الْحُرَّةَ فِي حَالٍ أَوْ نَسَبٍ لِكَمَالِ استمتاعها بهم مع كونهم أكفأها فَإِنْ خَالَفَ السَّيِّدُ وَزَوَّجَهَا بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَوِي النَّقْصِ وَالْعُيُوبِ فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْفَسْخُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى خِيَارِهَا فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ بَيْعَهَا عَلَى مَجْنُونٍ ومجذوم وأبرص ومجبوب فله ذاك وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ: أَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ فَأَثَّرَ فِيهِ مَا مَنَعَ مِنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ مَنْ لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَيْعِ إِلَّا الْمِلْكُ دُونَ الاستمتاع ولذلك جاز ملك من لا يحل مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى من لا يقدر على الاستمتاع بها كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى امْرَأَةٍ وَلِهَذَا المعنى قلنا في الأمة إن لهذا الْقَسْمَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهَا فِي الْمَالِ قَسَمٌ عَلَى السَّيِّدِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَلَا يُزَوِّجَ أحدٌ أَحَدًا مِمَّنْ بِهِ إِحْدَى هَذِهِ الْعِلَلِ وَلَا مَنْ لَا يُطَاقُ جِمَاعُهَا وَلَا أَمَةٌ لِأَنَّهُ مِمَنْ لَا يَخَافُ الْعَنَتَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ مِنْ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ وأمته بمن ذكرنا عيبه يمنع السيد أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَعَبْدَهُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَجْنُونَةٍ وَلَا من بِهِ الْعُيُوبُ الَّتِي ذَكَرْنَا لِتَعَذُّرِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ وَعَدَمِ الْحَظِّ لَهُ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهُ بِأَمَةٍ يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَهُوَ مَأْمُونٌ فِي الصَّغِيرِ فَإِنْ زَوَّجَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَفِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى الْأَبِ تَعْجِيلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ موقوف على اختيار الِابْنِ إِذَا بَلَغَ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَهَلْ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِجْبَاره؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَلَاذِهِ وَشَهَوَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ إِجْبَارُهُ كَمَا يُجْبِرُ أَمَتَهُ وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِأَنَّ لَهُ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَعَلَيْهِ فِي تَزْوِيجِ العبد الترام الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا، وَإِذَا جُوِّزَ لَهُ إِجْبَارُ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنَّ يُكْرِهَهُ عَلَى نِكَاحِ مَنْ بِهَا أَحَدُ هَذِهِ العيوب لنفور النفس عنهم وتعذر اسْتِمْتَاعِهِ بِهِنَّ وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِالْأَمَةِ لِأَنَّهَا تُكَافِئُهُ، وَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِهِ بِهَا عيب ليس منه، وَهَلْ لِلْأَبِ وَالسَّيِّدِ إِذَا كَانَ فِي ابْنِهِ وَعَبْدِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ فِي الْعُيُوبِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْكِحُ أَمَةَ الْمَرْأَةِ وَلَيُّهَا بِإِذْنِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَمَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا بِنَفْسِهَا حَتَّى يأذن لوَلِيُّهَا فِي تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لَهَا تَزْوِيجَ نَفْسِهَا فَجَازَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أحد أمرين: إما أن تكون بالغة، أَوْ صَغِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ أَعْنِي هَذِهِ السَّيِّدَةَ بالغة رَشِيدَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَسَوَاءً كَانَتِ السَّيِّدَةُ بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَسَوَاءً كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ عَصَبَةً مِمَّنْ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ لأن هذا تصرف فِي مَالِهَا وَهِيَ رَشِيدَةٌ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَإِذَا أَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِهَا فِي تَزْوِيجِ أَمَتِهَا جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ مُنَاسِبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهَا وَلَا يُرَاعَى إِذْنُ الْأَمَةِ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدَةِ، لِأَنَّ الأمة تخبر عَلَى النِّكَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهَا فِيهِ. فَصْلٌ فإن كَانَتِ السَّيِّدَةُ صَغِيرَةً غَيْرَ بَالِغَةٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ أَمَتِهَا، وَفِي جَوَازِهِ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وأبي سعيد الْإِصْطَخْرِيِّ - يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا كَمَا يُزَوِّجَانِ سَيِّدَتَهَا مع ما فيه من اكتساب المهر لها وَالنَّفَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا تَزْوِيجُهَا حَتَّى تُبَلَّغَ السَّيِّدَةُ فَتَأْذَنُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مُفْضٍ إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا أَدَّى الْحَبَلُ إِلَى تَلَفِهَا، وَذَلِكَ ضَرَرٌ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَهَلْ لِلْأَبِ إِذَا كَانَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَمَةٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اعتباراً بما ذكرنا من تعليلهما. فصل فأما إِذَا كَانَ لَهُمَا عَبْدٌ فَأَذِنَتْ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، وَفِي الْمُتَوَلِّي لِتَزْوِيجِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 أَحَدُهُمَا: وَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ كَالْأَمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ تَأْذَنُ لَهُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ يُرَاعَى فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ كان العبد بَالِغًا فَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَحْدَهَا كَالسَّيِّدِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ وَلَيُّهَا فَيَجُوزُ لَهُ بِاجْتِمَاعِ الْإِذْنَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَاسْتَوَى إِذْنُ المالك والمالكة كسائر الأموال. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ممنوعةٌ مِنَ السَّيِّدِ حَتَى يَقْضِيَ دَيْنًا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَيَحْدُثَ لَهُ حَجْرًا ثُمَّ هِيَ أَمَتُهُ ولو أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُزَوِّجَهَا دُونَ الْعَبْدِ أَوِ الْعَبْدُ دُونَ السَّيِّدِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لواحدٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ دُيُونِ مُعَامَلَاتِهِ لِضَعْفِ ذِمَّتِهِ بِالرِّقِّ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مستحقاً في ديونه، ولم اشْتَرَى أَمَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ للعبد وطئها بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهَا، فَأَمَّا السَّيِّدُ إذا أراد وطئها فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ مُعَامَلَاتِهِ فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا لِتَعَلُّقِ دَيْنِهِ بِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ لِمَا يُفْضِي إليها وطئها مِنَ الْإِحْبَالِ الَّذِي رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ وكذلك يمنع من تزويجها لإفضائه إِلَى نُقْصَانِ ثَمَنِهَا، وَسَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ الْبَاقِي مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِ غَيْرِهَا إِلَّا أن يكون من قيمة متلف فتعلق بِرَقَبَتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ جَمِيعَ دُيُونِهِ أَوْ قَضَاهَا السَّيِّدُ عنه فهذا على ضربين: أحدهما: أن العبد السيد أن يعبد الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ فَيَجُوزُ لِلسَّيِّدِ حينئذٍ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا إِنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ ففي تزويج وَطْءِ السَّيِّدِ لَهَا وَتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجُوزُ لَهُ لِزَوَالِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَؤمَنُ أَنْ يَغْتَرَّ النَّاسُ بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ فَيُعَامِلُونَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى يتعلق الحجر ويظهر الرجوع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ بحالًٍ وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تزويجها لم يجز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ ولاية النكاح على أحد من مناسبيه لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ. فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وِلَايَةَ نَفْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدْبِرُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عليهم جارية وتنتقل الولاية عنه إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ نَسَبًا مِنَ الْأَحْرَارِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَمَنْ ذكرنا وَكِيلًا نَائِبًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ وعلى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا نائباً على الولي في البذل ومن الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بن سلمة. والوجه الثاني: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ الْبَذْلِ وَلَا عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ، وَقَدْ مَضَى تَعْلِيلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنِ الْوَلِيِّ في البذل، ويجوز أن ينوب فيه عَنِ الزَّوْجِ فِي الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ وَمِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَكَالَةٌ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَوِ اجتمعا على تزوجها لَمْ يَجُزْ " فَيَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَبْدَ لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْعَبْدُ قَبْلَ قَضَاءِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَ لِاجْتِمَاعِ الْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ قُوَّةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّيِّدُ تزويج الأمة ما لا يستحقه بانفراده. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " في باب الخيار من قبل النسب لو انتسب العبد لها أنه حر فَنَكَحَتْهُ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ عَلِمَتْ أنه عبدٌ أو انتسب إِلَى نسبٍ وُجِدَ دُونَهُ وَهِيَ فَوْقَهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ لِأَنَّهُ منكوحٌ بِعَيْنِهِ وَغَرَّرَ بشيءٍ وُجِدَ دُونَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ مفسوخٌ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي رجلٍ بعينه فزوجت غيره (قال المزني) رحمه الله قد قطع أنه لو وجد دون ما انتسب إليه وهو كفؤٌ لم يكن لها ولا لوليها الخيار وفي ذلك إبطال أن يكون في معنى من أذنت له في رجلٍ بعينه فزوجت غيره فقد بطل الفسخ في قياس قوله وثبت لها الخيار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ رَجَلًا على أنه حر فكان عبداً فإن نكاح بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ نُظِرَ فِي الشَّرْطِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَقْدِ وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ: وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَلَى أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ شَرِيفٍ كَهَاشِمِيٍّ، أَوْ قُرَشِيٍّ فَكَانَ غير ذي نسب أعجمياً أَوْ نَبَطِيًّا وَكَانَ الشَّرْطُ مُتَقَارِبًا لِلْعَقْدِ فَفِي النكاح قولان وهكذا لو تزوجه عَلَى أَنَّهُ شَابٌّ فَكَانَ شَيْخًا أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 عَلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ فَكَانَ قَصِيرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمِيلٌ فَكَانَ قَبِيحًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَبْيَضُ فَكَانَ أَسْوَدَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فَكَانَ فَقِيرًا، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَهَا عَلَى شَرْطٍ أَدْنَى فَكَانَ أَعْلَى، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ عَبَدٌ فَكَانَ حُرًّا أو على قبطي فَكَانَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ شَيْخٌ فَكَانَ شَابًّا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَصِيرٌ فَكَانَ طَوِيلًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَبِيحٌ فَكَانَ جَمِيلًا، أَوْ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا؛ فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ زَائِدًا عَلَيْهِ كَحُكْمِهِ إِذَا وُجِدَ نَاقِصًا عَنْهُ، وَسَوَاءً كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَوْ فِي النَّسَبِ أَوْ فِي الصفة أو في عَقْدِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصِّفَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ تَجْرِي مَجْرَى الْعَيْنِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الْعَيْنَ، وَأنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِفَةِ الْعَيْنِ حتى تشاهد تِلْكَ الْعَيْنُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خِلَافُ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ، جارٍ فِي إِبْطَالِ النِّكَاحِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ فِي الْبَيْعِ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِذْنَ الْمَرْأَةَ فِي نِكَاحِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَتَكُونُ بِخِلَافِهَا فَجَرَى مَجْرَى إِذْنِهَا لوليها أن يزوجها من هو على هذه الصفة فيزوجها من هو على خلافها، ولو كان هكذا لكان النكاح باطلاً فكذلك في مسألتنا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صِفَاتٌ لَا يَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إِلَى ذِكْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ النِّكَاحُ بِخِلَافِهَا كَالصَّدَاقِ إِذَا وُصِفَ فَكَانَ بِخِلَافِ صِفَتِهِ. وَالثَّانِي: أنه منكوح بعينه وعزر بِشَيْءٍ وُجِدَ دُونَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ تَدْلِيسًا يُنْقِصُ، وَتَدْلِيسُ الْعُيُوبِ فِي الْعُقُودِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَا يُوجِبُ الْفَسْخَ كَالْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بالأول فإن النِّكَاحَ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كان قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ لا حق بِهِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنِ النِّكَاحَ جائز فكان قد شَرَطَتْهُ حُرًّا فَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِنَقْصِهِ فِي النِّكَاحِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرِّ، لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهَا بِهِ غَيْرُ تَامٍّ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَنَفَقَتَهُ نفقة معتبر لأجل رقه، فإن أقامت عَلَى نِكَاحِهِ فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ فَسَخَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَهَذَا حُكْمُ غُرُورِهِ لَهَا بِالْحُرِّيَّةِ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بِالنَّسَبِ فَشَرَطَ لَهَا أَنَّهُ شريف النسب هاشمي، وقرشي فَبَانَ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ أَوْ نَبَطِيٌّ نُظِرَ فِي نسبهما فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةً مِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ، ثُمَّ الْكَلَامُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 فِي الْمَهْرِ إِنْ أَقَامَتْ أَوْ فَسَخَتْ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ دُونَ النَّسَبِ الَّذِي شَرَطَتْهُ وَمِثْلَ النَّسَبِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ أَوْ دُونَهُ فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ لمكان الشرط وأن لها عوضاً في كون ولدها إذا نسب شريفاً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ خِيَارَهَا يَثْبُتُ بِدُخُولِ النَّقْصِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُفْءٌ فِي النَّسَبِ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا بِهِ نَقْصٌ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ. فَأَمَّا إِذَا غَرَّهَا بما سوى ذلك من الشروط نظر، فإذا بان أنه على مِمَّا شَرَطَ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ لِأَجْلِ الشَّرْطِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا خيار؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مَنْ شَرَطَ هَذَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ: " مَنْ أسقط خيارها " معناه أنها ظلمت نفسها باشراط مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِيهِ خِيَارٌ، وَقَدْ كانت تستغني بالمشاهدة على اشْتِرَاطِهِ وَقَالَ: " مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَهَا " إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ، وَإنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِمَا شَرَطَتْهُ مِنْ نُقْصَانِ أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا نَكَحَتْ نِكَاحًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَكِنِ اعْتَقَدَتْ فِيهِ كَمَالَ الْأَحْوَالِ فَبَانَ بِخِلَافِهَا مِنْ نُقْصَانِ الْأَحْوَالِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن يكون نقصان أحواله غير كفء لها كأنها حُرَّةٌ وَهُوَ عَبْدٌ، أَوْ هَاشِمِيَّةٌ وَهُوَ نَبَطِيٌّ، أَوْ غَنِيَّةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ نكاح غير الكفء لا يلزم إلا بالمعلم وَالرِّضَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ نُقْصَانِ أحواله كفؤاً لَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي غَيْرِ الرِّقِّ، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فِي رِقِّهِ إِذَا وَجَدَتْهُ عَبْدًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لها؛ لأن كونه كفؤاً لها يمنع مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ وَالْعَارِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لها؛ لأن نقص الرق مؤتمر في حقوق النكاح بما لِسَيِّدِهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْهَا بِخِدْمَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ فِي سفره وأنه لا يلزم لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ مُعْسِرٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ بنسبٍ فَوَجَدَهَا دونه ففيها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا إِنْ شَاءَ فَسَخَ بِلَا مَهْرٍ وَلَا متعةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً لِأَنَّ بِيَدِهِ طَلَاقَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعَارِ مَا يَلْزَمُهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله قد جعل له الخيار إذا غرته فوجدها أمةً كما جعل لها الخيار إذا غرها فوجدته عبداً فجعل معناهما في الخيار بالغرور واحداً ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 يلتفت إلى أن الطلاق إليه ولا إلى أن لا عار فيها عليه وكما جعل لها الخيار بالغرور في نقص النسب عنها وجعله لها في العبد فقياسه أن يجعل له الخيار بالغرور في نقص النسب عنه كما جعله له في الأمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى غَرُورُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ فَأَمَّا غَرُورُ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ فَيَنْقَسِمُ الشَّرْطُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْحُرِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي النَّسَبِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ ممن لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ وجداً لِلطَّوْلِ أَوْ غَيْرَ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لأنه نِكَاحُ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الزوج ممن لا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْهُ بِغَيْرِ إِذَنْ سيدها فالنكاح باطل. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْكِحَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، فَلِلشَّرْطِ حَالَتَانِ: إحداهما: أن يكون مقارناً للعقد. والثاني: غَيْرَ مُقَارَنٍ. فَإِنْ لَمْ يُقَارِنِ الْعَقْدَ بَلْ تقدمه أم تَأَخَّرَ عَنْهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو الْغَارُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كان الغار هو السيد فقال الزوج عند عقده: هي حرة قد عَتَقَتْ بِقَوْلِهِ هَذَا وَصَارَ الزَّوْجُ بِهَذَا الْغَرُورِ عَاقِدًا عَلَى حُرَّةٍ فَصَحَّ نِكَاحُهَا، وَهِيَ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا كَالْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ فَهِيَ حينئذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي الْغَرُورِ بِاسْتِكْمَالِ مَا فَصَّلْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قَدْ نَكَحَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغَارُّ غَيْرَ السَّيِّدِ فَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ حينئذٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جائز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 وَتَوْجِيهُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَرُورِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ. فَصْلٌ فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ فِي لُزُومِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ دخل الزوج بها فرق بينهما لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قد أحبلها. والثاني: أَنْ تَكُونَ حَائِلًا لَمْ تَحْبَلْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْبَلَهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ بِهَا حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ مُهْرَ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَا سُمِّيَ فِيهِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لِبُضْعِهَا لشبهة فَلَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا؛ لأنها إصابة توجب لُحُوقَ النَّسَبِ فَأَوْجَبَتِ الْعِدَّةَ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ به النفقة؛ فإذا غرم الزَّوْجُ بِالْإِصَابَةِ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ فَصَارَ كَالشَّاهِدِ إِذَا أوْجَبَ بِشَهَادَتِهِ غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَ عنها لزمه غرم أَغْرَمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ مِنْ غُرْمٍ إِمَّا الْمُسَمَّى إِنْ صَحَّ الْعَقْدُ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ فَسَدَ، فَإِذَا قُلْنَا لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غره تفرد بإلزامه لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ غُرْمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُبَرِّئَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ كَالضَّامِنِ إِذَا أُبْرِئُ مِنَ الضَّمَانِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ أَغْرَمَهُ السَّيِّدُ الْمَهْرَ رَجَعَ بِهِ الزَّوْجُ حينئذٍ على من غيره وَمَنْ يُؤَثِّرُ غُرُورُهُ اثْنَانِ الْأَمَةُ وَوَكِيلُ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ غَرَّهُ لَعَتَقَتْ وَإِنْ غَرَّهُ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ تأثيرٌ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ هِيَ الْغَارَّةَ كَانَ الْغُرْمُ في ذمتها إذا أعتقت وأسرت إذنه وِإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْغَارَّ أُغْرِمَ فِي الحال إن كان موسراً وأنظر به إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قيل: إن نفقة الحامل لحملها لَا لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ: إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَهَا لَا لحملها، فإذا وضعت تعلق بمولدها ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: لُحُوقُهُ بِالزَّوْجِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُ حُرًّا مِنْ حِينِ عُلُوقِهِ؛ لِأَنَّ اشتراط حريتها يتضمن حرية ولدها، لأن الْحُرَّةَ لَا تَلِدُ إِلَّا حُرًّا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تغرم للسيد قيمة ولدها يوم وضعته؛ لأن ولد الأمة مملوكاً لِسَيِّدِهَا وَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ مُسْتَهْلَكًا لِرِقِّهِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ عِتْقِهِ فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرْنَاهَا يَوْمَ وَضْعِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ وَقْتَ علوقه؛ لأنه لا يقوم إِلَّا بَعْدَ الْوَضْعِ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الولد رجع بها على من غيره قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهِ بِالْمَهْرِ قولان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُرْجَعُ بِهِ فِي الْغَرُورِ بِالْأَمَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا فِي وَلَدِ الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ فَصَارَ الْغَرُورُ هُوَ الْمُوجِبَ لِغُرْمِهِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلًا وَاحِدًا فصار وطئها وَإِحْبَالُهَا مُوجِبًا لِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: الْعِدَّةُ. وَالثَّالِثُ: لُحُوقُ الْوَلَدِ. وَالرَّابِعُ: حُرِّيَّتُهُ. والخامس: غرم قيمته. فهذا إذا قيل بطلان النِّكَاحِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَهَلْ لِلزَّوْجِ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ، ولم يحك القولين في أصل النكاح بل اكتفى بما حكاه في غرور النكاح: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ بِالْغَرُورِ وَإِنْ ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ بِالْغَرُورِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا ولا يلحق مِنَ الْعَارِ مَا يَلْحَقُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِإِحْدَى عِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارَ الْفَسْخِ أَوْجَبَهُ لِلزَّوْجِ كَعُيُوبِ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَرُورِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ من نقص استرقاق وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ، فَإِذَا قُلْنَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ كَانَ حُكْمُهُ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا قِيلَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يُحَبِّلْهَا تَعَلَّقَ بِدُخُولِهِ حُكْمَانِ: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالْعِدَّةُ، وَإِنْ أَحَبَلَهَا تَعَلَّقَ بِإِحْبَالِهِ لَهَا مَعَ حُكْمَيِ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: لُحُوقُ الْوَلَدِ، وَحُرِّيَّتُهُ، وَغُرْمُ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَتِهِ، وَفِي رجوعه بما غرمه مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَخْتَرِ الْفَسْخَ، وَقُلْنَا: لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَيَكُونُ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ عَلَقَتْ بِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا أَحْرَارًا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا مَمَالِيكُ لِلسَّيِّدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - يكونون أَحْرَارًا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ، وَمَنْ عَلَقَتْ بِهِمْ بَعْدَ علمه برقها مماليك للسيد؛ لأن لا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ، وَالرِّقُّ أَعْظَمُ صَغَارٍ. والقول الثاني: يكونون مماليكاً لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ واحد وتميز من علقت به قبل العلم برقها معتبر بمدة الوضع، فمن وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ علمه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 فالعلوق بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَيَكُونُ حُرًّا، وَمَنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالْعُلُوقُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ بَعْدَ الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالْحُرِّيَّةِ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ في غرور الزوج بالنسب وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالنَّسَبِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا هَاشِمِيَّةٌ فَتَكُونُ عَرَبِيَّةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَتَكُونُ نَبَطِيَّةً أَوْ أَعْجَمِيَّةً، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْعَقْدِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَهَلْ يَرْجِعُ به على من غره م لا؟ على قولين. أحدهما: يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَهُوَ أحد ثلاثة: إِمَّا الْوَلِيُّ، أَوْ وَكِيلُهُ، أَوِ الزَّوْجَةُ فَإِنْ كان الولي أو وكيله هو الغار رجع عليه بعد الغرم لجميع الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْغَارَّةَ فَفِيهِ وجهان: أحدهما: يرجع عليهما بِجَمِيعِهِ أَيْضًا كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهَا مِنْهُ يَسِيرًا، وأقله أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِبَاقِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ رجع المهر إليهما رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَتَرَكَ عليهما مِنْهُ قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا فَلَا مَعْنَى، لِأَنْ يَدْفَعَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا ثُمَّ يَسْتَرْجِعُهُ فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَدْرَ أَقَلِّ الْمُهُورِ، وَسَوَاءً فِي إِصَابَةِ هَذِهِ الْغَارَّةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْبَلَهَا أَوْ لَمْ يُحَبِلْهَا فِي أن ولدها إذا ألحق به لم يلزمه غرم، لأنه لم يجز عَلَيْهِ رِقٌّ. فَصْلٌ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ نُظِرَ فِي نَسَبِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ مِثْلَ نَسَبِهَا الَّذِي ظَهَرَ لَهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ، لِأَنَّهُ لَا عَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ وَإِنْ كَانَ كَالنَّسَبِ الَّذِي شرطه وأعلا مِنَ النَّسَبِ الَّذِي ظَهَرَ لَهَا فَخِيَارُهُ فِي فسخه معتبر بخياره في غروره بالرق به وبالحرية وَتَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ، وَإِنْ قِيلَ: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالنَّسَبِ، مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي خِيَارِهِ إذا غر بالحرية أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 يثبت له خِيَارُ الْفَسْخِ مِثْلَ مَا ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ فَلَهُ فِي غَرُورِ النَّسَبِ خِيَارُ الْفَسْخِ كَمَا كَانَ للزوجة وإن قيل: إن العلة في الغروي بِالْحُرِّيَّةِ دُخُولُ النَّقْصِ عَلَيْهِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ وَنُقْصَانِ اسْتِمْتَاعِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْغُرُورِ بِالنَّسَبِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَقْصٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ وَلَدَهُ يَرْجِعُ إليه في نسبه لا إليهما، لِأَنَّ وَلَدَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَجَمِيَّةِ عَرَبِيٌّ، وَوَلَدَ الْعَجَمِيِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ عَجَمِيٌّ، وَفِي كَشْفِ هَذَا التَّعْلِيلِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مُقْنِعٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ، فَأَمَّا إِذَا غَرَّتْهُ بنسب فوجده، أَعْلَى مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَكَانَتْ هَاشِمِيَّةً فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّةَ عَرَبِيَّةٌ وَإِنِ ازْدَادَتْ شَرَفًا فَلَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُخَالِفَةً، وَإِنْ شَرَطَتْ أَنَّهَا نَبَطِيَّةٌ أو عجمية فكانت هاشمية أو عربية فالصفة مخالفة للشرط فَيَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جائز فلا خِيَارَ لَهُ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي غَرُورِ الزَّوْجِ بالصفة وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ غَرُورُ الزَّوْجِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَتَكُونُ ثَيِّبًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا شَابَّةٌ فَتَكُونُ عَجُوزًا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا جَمِيلَةٌ فَتَكُونُ قَبِيحَةً إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصِّفَاتِ، فَفِي النكاح قولان: أحدهما: باطل، وإن لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَفِي رُجُوعِهِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مضى في غرور النسب من اعتبار حال مَنْ غَرَّهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، فعلى هذا يكون خياره في غرورهما معتبر بِخِيَارِهَا فِي غَرُورِهِ، وَفِي خِيَارِهَا لَوْ غَرَّهَا الزَّوْجُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا خيار لها، فعلى هذا أولى أن يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِخِيَارِهِ إِذَا كَانَ مَغْرُورًا بِالْحُرِّيَّةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ إِذَا غُرَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِعِلَّةِ الْخِيَارِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ خِيَارِ الزَّوْجَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي نُقْصَانِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَمَا كَانَ للزوجة على هذا الوجه، وإن قيل: إنها تدخل النَّقْصَ عَلَيْهِ فِي رِقِّ الْوَلَدِ وَنُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فلا خيار له هاهنا لعدم النقص فيهما، فأما إذا تزوجها على شرط فكان أَعْلَى مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَتَكُونُ بِكْرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَجُوزٌ فَتَكُونُ شَابَّةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَتَكُونُ طَوِيلَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَتَكُونُ جَمِيلَةً وما شاء كُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَفِي النِّكَاحِ أَيْضًا قَوْلَانِ: أحدها: باطل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَظَنَّهَا عَلَى صِفَةٍ فكانت بِخِلَافِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِيمَا سِوَى الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِلزَّوْجِ فِيمَا سِوَى عُيُوبِ الْفَسْخِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ، وأما الرق والكفر وهو أن يتزوجها ويظن أنها حرة فتكون أمة، ويظنها مسلمة فتكون كافرة، فإن كان مما لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلطَّوْلِ، أَوْ غَيْرُ خَائِفٍ لَلَعَنَتِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ كَالْوَثَنِيَّةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يحل ممن لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ ويحل له نكاح هذه الكافرة، ولأنها كِتَابِيَّةٌ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ وَصْفًا فَوَجَدَ خِلَافَهُ، فَأَمَّا الْخِيَارُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ: إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِهِ، وَقَالَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ إنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَقَلَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وتخريجهما عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ فِي فسخ نكاح الأمة والكتابية على ما نص عليه، لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْأَمَةِ الَّتِي يسترق ولدها. والقول الثاني: أنه لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ أَغْلَظُ حَالًا بِاسْتِرْقَاقِ وَلَدِهَا. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ فِي نكاح الأمة خياراً أو جعلوا لَهُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ خِيَارًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بأن لأهل الذمة غياراً يميزون به عن المسلمين فإذا خالوا صَارَ غَرُورًا فَثَبَتَ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِهِمْ وَلَيْسَ للمملوكين خيار يتميزون به فلزمهم غُرُورٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ فِي مَنَاكِحِهِمْ - وَاللَّهُ أعلم -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 باب المرأة لا تلي عقدة النكاح قال الشافعي رحمه الله: " قل بعض الناس زوجت عائشة ابنة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غَائِبٌ بالشام فقال عبد الرحمن ِأمثلي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ؟ (قَالَ) فَهَذَا يدل على أنها زوجتها بغير أمره قيل فكيف يكون أن عبد الرحمن وكل عائشة لفضل نظرها إن حدث حدثٌ أو رأت في مغيبه لابنته حظاً أن تزوجها احتياطاً ولم ير أنها تأمر بتزويجها إلا بعد مؤامرته ولكن تواطئ وتكتب إليه فلما فعلت قال هذا وإن كنت قد فوضت إليك فقد كان ينبغي أن لا تفتاتي علي وقد يجوز أن يقول زوجي أي وكلي من يزوج فوكلت قال فليس لها هذا لي الخبر قيل لا ولكن لا يشبه غيره لأنها روت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل النكاح بغير ولي باطلاً أو كان يجوز لها أن تزوج بكراً وأبوها غائبٌ دون أخوتها أو السلطان (قال المزني رحمه الله) معنى تأويله فيما روت عائشة عندي غلطٌ وذلك أنه لا يجوز عنده إنكاح المرأة ووكيلها مثلها فكيف يعقل بأن توكل وهي عنده لا يجوز إنكاحها ولو قال إنه أمر من ينفذ رأي عائشة فأمرته فنكح خرج كلامه صحيحاً لأن التوكيل للأب حينئذٍ والطاعة لعائشة فيصح وجه الخبر على تأويله الذي يجوز عندي لا أن الوكيل وكيلٌ لعائشة رضي الله عنها ولكنه وكيلٌ له فهذا تأويله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوَلِيٍّ ذَكَرٍ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْقِدَ نِكَاحَ نَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ نِكَاحَ غَيْرِهَا لَا بِوِلَايَةٍ وَلَا بِوَكَالَةٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا فِيهِ بذلٌ وَلَا قبولٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز أن يتولاه لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا نِيَابَةً وَوَكَالَةً تَكُونُ فِيهِ بَاذِلَةً أَوْ قَابِلَةً، فَأَمَّا نِكَاحُ نَفْسِهَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَأَمَّا نِكَاحُ غَيْرِهَا نِيَابَةً. وَوَكَالَةً فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ تَتَوَكَّلَ فِيهِ وتباشر غيره بما روي أن عائشة زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ بِمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ؟ وَأَمْضَى النِّكَاحَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فجاوز أَنْ تَتَوَلَّاهُ الْمَرْأَةُ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَصَحَّ أَنْ تُبَاشِرَهُ الْمَرْأَةُ قِيَاسًا عَلَى شِرَاءِ الْأَمَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَجَازَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِ كَالْإِجَارَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم عن أبيه أن عائشة كَانَ إِذَا هَوَى فَتًى مِنْ بَنِي أَخِيهَا فتاة من بنات أخيها أرسلت سراً وَقَعَدَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَتَشَهَّدَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا النِّكَاحُ قَالَتْ: يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فُلَانَةً فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ، وَهَذَا أمر مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وِلَايَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْقِدَهُ الْمَرْأَةُ لِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة. فأما الجواب عن حديث عائشة فهو أنه لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوِلَايَةِ النَّسَبِ لكان بالمنكوحة مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْهَا مِنْ إِخْوَةٍ، وَأَعْمَامٍ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ كَانَ لَهُ أخوة وأولاد هم أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنْ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ وعمة الْمَنْكُوحَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوَكَالَةِ أَبِيهَا عبد الرحمن لما افتاتت عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ. وَالثَّالِثُ: إنَّهَا هِيَ الرَّاوِيَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (أَيُّمَا امْرَأَةٍ) نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطل " وهي لا تخالف ما روته. الرابع: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا خَطَبَتْ فِي الْمَنَاكِحِ قَالَتْ: " يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا ينكحن " وإذا لم يمكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ فَيُحْمَلُ عَلَى أحد ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يقوم بتزويج بنته وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَأْيِ عَائِشَةَ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بتزويج منذر بن الزبير. فإن قيل: فلما أَنْكَرَ وَقَدْ وَكَّلَ. قِيلَ: لِأَنَّ مُنْذِرًا قَدْ كَانَ خَطَبَ إِلَيْهِ فَكَرِهَهُ لِعُجْبٍ ذَكَرَهُ فِيهِ، فَأَحَبَّتْ عَائِشَةُ مَعَ مَا عَرَفَتْهُ مِنْ فَضْلِ منذر أنه يصل الرحم، وتزوج بِنْتَ أَخِيهَا بِابْنِ أُخْتِهَا، لِأَنَّ مُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حِينَ اخْتَارَتْ مُنْذِرًا سَأَلَتِ السُّلْطَانَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِغَيْبَتِهِ لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَيَنُوبُ السُّلْطَانُ عنه عندنا، وعند أبي حنيفة، وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مَالِكٍ فَكَرِهَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنْ لَمْ يُسْتَأْذَنْ فِيهِ وَيُطَالِعْ بِهِ وَيَكُونُ إِضَافَةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 العقد إلى عائشة، وإن لم تكن العاقدة لِمَكَانِ اخْتِيَارِهَا وَسِفَارَتِهَا كَمَا يُضَافُ الْعَقْدُ إِلَى السَّفِيرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَيُقَالُ فُلَانَةُ الدَّلَّالَةُ قَدْ زَوَّجَتْ فُلَانًا بِفُلَانَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ بَاشَرَتِ الْعَقْدَ وَتَوَلَّتْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَّلَ عَائِشَةَ فِي أَنْ تُوَكِّلَ عَنْهُ مَنْ يُزَوِّجُ بِنْتَهُ فَوَكَّلَتْ عَائِشَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ اسْتَقَرَّ رَأْيُهَا عَلَى تَزْوِيجِ مُنْذِرٍ مِنْ زَوَجِهَا عَنْهُ فَكَانَ الْوَكِيلُ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ وَكِيلًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا لِعَائِشَةَ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ فَوَكِيلُهَا بِمَثَابَتِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ، وَهِيَ لَمْ تُوكِّلْ عَنْ نفسها وإنما وكلت عن أخيها، وإنما يجوز أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي تَوْكِيلِ مَنْ يزوج عَنِ الْمُوَكِّلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ في الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَشِرَاءِ الْأَمَةِ فَهُوَ أَنَّهَا عُقُودٌ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى وِلَايَةٍ فَجَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهَا الْمَرْأَةُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 بَابُ الْكَلَامِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَالْخِطْبَةُ قبل العقد من الجامع من كتاب التعريض بالخطبة، ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه قال الشافعي رحمه الله: " أسمى الله تبارك وتعالى النِّكَاحَ فِي كِتَابِهِ بِاسْمَيْنِ النِّكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ وَدَلَّتِ السنة على أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ وَلَمْ نجد في كتابٍ ولا سنةٍ إِحْلَالَ نكاحٍ إِلَّا بنكاحٍ أَوْ تزويجٍ وَالْهِبَةُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مجمعٌ أن ينعقد له بها النكاح بِأَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لَهُ بِلَا مهرٍ، وَفِي هذا دلالةٌ على أنه لا يجوز النكاح إلا باسم التزويج أو النكاح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ النِّكَاحُ لَا ينعقد إلا بصريح اللفظ دون كتابته، وَصَرِيحُهُ لَفْظَانِ: زَوَّجْتُكَ، وَأَنْكَحْتُكَ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إلا بهما سواء ذُكِرَ فِيهِ مَهْرًا أَوْ لَمْ يُذْكَرْ. وَقَالَ أبو حنيفة: ينعقد النكاح بالكتابة كَانْعِقَادِهِ بِالصَّرِيحِ، فَجَوَّزَ انْعِقَادَهُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، والتمليك ولم يجزه بالإحلال والإباحة، واختلف الرواة عَنْهُ فِي جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَسَوَاءً ذَكَرَ الْمَهْرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذكر مع هذه الكتابات الْمَهْرَ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَصِحَّ فاستدلوا على انعقاد النكاح بالكتابة بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ فَصَمَتَ ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عليه وَهُوَ صَامِتٌ فَقَامَ رَجُلٌ أَحْسَبُهُ قَالَ: مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لم يكن لك بها حاجة فزوجينها؟ فَقَالَ: لَكَ شَيْءٌ؟ قَالَ (لَا) وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: والله ما وجدت شيئاً إلى ثَوْبِي هَذَا، أَشُقُّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عليك، مَا فِي ثَوْبِكَ فضلٌ عَنْكَ، فَهَلْ تَقْرَأُ من القرآتن شيئاً فقال: نعم، قال: ماذا؟ قال: ماذا سورة كذا وكذا، قال: فقد أملكناكها بما معك من القرآن، قال: فلقد رَأَيْتُهُ يَمْضِي وَهِيَ تَتْبَعُهُ فَدَلَّ صَرِيحُ هَذَا الحديث على أن انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَصَارَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي انْعِقَادِهِ 0 كَالصَّرِيحِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ أَوْ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَجَازَ أن يستفاد بلفظ الهبة كتمليك الْإِمَاءِ وَلِأَنَّ مَا انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طرفي النكاح فجاز أن يستفاد بالصريح والكتابة كالطلاق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 وَلِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْعَقْدِ مَعْنَى اللفظ دُونَ اللَّفْظِ، وَالتَّمْلِيكُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ فَصَحَّ به العقد كالنكاح. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحُهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ) {الأحزاب: 50) . فَجَعَلَ الله تعالى النكاح بلفظ الهبة خالصاً لرسوله دُونَ أُمَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أراد أن يجعلها الله له خالصة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ من الله تعالى، وَلَا إِذْنٌ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الطلب دليل على الإباحة. قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت نفسها منه فذهب جمهورهم إِلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نفسها له واختلفوا فيه عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُّ شَرِيكٍ قَالَهُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ على الإباحة إلى ما شاء له مِنَ التَّخْصِيصِ لَكَانَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عباس ومجاهد [وتأويل من قرأ بالكسر " إن وهَبَتْ "] محمول على المستقبل وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بالفتح " أن وهبت " [على الماضي] ٍ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ) {الأحزاب: 50) . حِكَايَةٌ لِلْحَالِ وقوله: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحُهَا} إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} مواجهة من الله تعالى له بالحكمة من غير أن يكون من رسوله طَلَبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا إِلَّا عَلَى ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ التَّخْصِيصِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا خُصَّ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ لِيَكُونَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مُفِيدًا، وَلَمْ يُخَصَّ أَنْ يَعْقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ قِيلَ: بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْأَمْرَيْنِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الآية وليكون اخْتِصَاصُهُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ هُوَ الْمُفِيدُ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ نِكَاحُ غَيْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَيَبْطُلُ التَّخْصِيصُ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو شَيْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " إِنَّ النِّسَاءَ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أُمُورِهِنَّ شَيْئًا إِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 بالمعروف، ولكن عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا، وَأَنْ لَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ ". فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: " وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ " وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا لَفْظُ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْفُرُوجَ إِلَّا بِهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ عقدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ مَوْضُوعٌ لِعَقْدٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي عَقْدٍ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي غَيْرِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي النِّكَاحِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ، وَلِأَنَّ هِبَةَ الْمَنَافِعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِوَضٌ فَهِيَ كالعارية، وإن كان معها عوض جرت مَجْرَى الْإِجَارَةِ عِنْدَهُمْ وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَارِيَةِ، وَالْإِجَارَةِ، فَكَذَلِكَ بِمَا اقْتَضَاهُمَا مِنَ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي عَقْدٍ لَوْ صَارَتْ حَقِيقَةً فِي غيره لبطلت حقائق العقود، لأن لفظ الكتابة تقوم مقام التصريح بالنية وهي مما لا يعلمها الشهود والمشروطون في النكاح إلا بالاختيار فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِقْرَارِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ يُنَافِيَانِ النِّكَاحَ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوِ اسْتَوْهَبَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا وَمَا نَافَى النِّكَاحَ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُوضَعُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَمِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِبْرَاءِ، وَلِأَنَّهُ لو انعقد النكاح بلفظ البيع لانعقد البيع بلفظ النكاح، وفي امتناع هذا إجماعاً وامتناع ذَلِكَ حِجَاجا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " قَدْ ملكتها بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " فَهُوَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ قَالَ: وَهِمَ فِيهِ مَعْمَرٌ فَإِنَّهُ ما روى " قد ملكتها " إِلَّا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وعبد العزيز بن محمد الداراوردي، وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرَآنِ " وهذه الرواية أثبت لكثرة عدد الرواة، وإنهم خمسة علماء ثم تستعمل الروايتين فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى قَدْ " زَوَّجْتُكَهَا " عَلَى حال العقد ومن روى قد ملكتها على الإخبار بعقد عَمَّا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التمليك من أحكام البيع فلم به ينعقد الْبَيْعُ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ في انعقاد البيع بلفظ التمليك وجود التَّمْلِيكِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ وَقُصُورُهُ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ الْمَبِيعِ وَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 يَمْلِكُ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ إِلَّا الِاسْتِمْتَاعَ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُمْ بنكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْلِيلٌ يَدْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطَّرِحًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خص سقوط الْمَهْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ النِّكَاحِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ صَرِيحَانِ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فِي وقوعه بالصريح والكناية، هو أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ غَلُظَ بِشُرُوطٍ لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الطَّلَاقِ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي تخفيف شروطه على أن النِّكَاحَ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْكِنَايَةِ فلم ينعقد بِالْكِنَايَةِ وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ شَهَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَوَقَعَ بالكناية. وأما استدلالهم بعقده بالعجمية فشرح لمذهبنا فيه بيان للانفصال عنه وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدهما: - حكاه أبو حامد الإسفراييني، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ - أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لا يحسنها كما أن القراءة لا يجوز بِالْعَجَمِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَشْهُورٌ، قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءً كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، لِأَنَّ لَفْظَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ صَرِيحٌ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الكناية بالعربية، لأن في كناية العربية احتمال وَلَيْسَ فِي صَرِيحِ الْعَجَمِيَّةِ احْتِمَالٌ، وَخَالَفَ الْقُرْآنَ المعجز، لأن إعجازه ونظمه، وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُولُ عَنْهُ إِذَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَاقِدُهُ يُحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَنْعَقِدْ بِالْعَجَمِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ انْعَقَدَ بِالْعَجَمِيَّةِ كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ تُجْزِئُ بِالْعَجَمِيَّةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ العربية، ولا تجزئ لمن يحسنها، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ حال القدوة والعجز، والعادل عن صريح النكاح إلى كتابته قادر والعادل عنه إلى العجمية عاجز فاقد. فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوَكِّلَ عَرَبِيًّا فِي عَقْدِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فيعقده بِنَفْسِهِ. وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ كَانَ عَاقِدُهُ إِذَا لم يحسن العربية فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَحْسُنُ الْعَرَبِيَّةَ بَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لِسَانُ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ اللِّسَانَيْنِ عَقَدَهُ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ شَاهِدًا عَقْدُهُ بعرفانه، فَإِنْ عَقَدَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَجَمِيَّانِ، أَوْ عَقَدَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَشَاهِدَاهُ عَرَبِيَّانِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفَا لِسَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِخْبَارِ عَنْهُ فَجَرَى بَيْنَهُمَا مَجْرَى الْكِنَايَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 وإذا قيل بالقول الثَّالِثِ: إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلِيِّ الْبَاذِلِ وَالزَّوْجِ الْقَابِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إحداها: أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَا عَجَمِيَّيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِنْ بَاشَرَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا إِلَّا بِالْعَجَمِيَّةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَرَبِيًّا وَالْآخَرُ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بالعربية، لأن العجمية لا يحسنها ولا بالعجمية، لأن العربية لَا يُحْسِنُهَا فَكَانَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَا مَنْ يَعْرِفُ أَحَدَ اللِّسَانَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يتعلم العجمي منهما العربية فيجتمعا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ العربي العربية لِيَجْتَمِعَا عَلَى عَقْدِهِ بِهَا، لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَيَجُوزُ لمن يحسن العجمية أن يعقده بالعربية. فإن قيل فلها اخْتَصَّ الْعَرَبِيُّ فِيهِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَتَفَرَّدَ الْعَجَمِيُّ بِاللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَعْرِفُ لَفْظَ صَاحِبِهِ فَيُقَابِلُهُ عليه - والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَالْفَرْجُ مُحَرَّمٌ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا يَحِلُّ أَبَدًا إلا بأن يقول الولي قد زَوَّجْتُكَهَا أَوْ أَنْكَحْتُكَهَا وَيَقُولُ الْخَاطِبُ قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا أَوْ يَقُولُ الْخَاطِبُ زَوِّجْنِيهَا ويقول الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلى أن يقول الزوج قد قبلت ولو قال قد ملكتك نكاحها أو نحو ذلك فقبل لم يكن نكاحاً وإذا كانت الهبة أو الصدقة تملك بها الأبدان والحرة لا تملك فكيف تجوز الهبة في النكاح؟ فإن قيل: معناها زوجتك قيل: فقوله قد أحللتها لك أقرب إلى زوجتكها وهو لا يجيزه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بَعْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ لَا يتميز إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ. وَالثَّانِي: تعيين اللفظ. والثالث: صفة العقد. القول في تعيين المنكوحة فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَنْكُوحَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا بِالْإِشَارَةِ، وَإِمَّا بِالِاسْمِ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ. فَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا إلى حاضرة فنقول: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لم يذكر لها اسم ولها حالان: موافق، وتخالف فإن كان موافقاً فقد آكد بالإشارة بها قَرْنَهُ بِهَا مِنْ مُوَافَقَةِ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، وَالصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا بِأَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ بِنْتَ زيد وهي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 عَمْرَةُ بِنْتُ بَكْرٍ، أَوْ وَصَفَهَا بِالطَّوِيلَةِ وَهِيَ قَصِيرَةٌ صَحَّ الْعَقْدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُخَالَفَةُ الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، وَالصِّفَةِ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أبلغ في التعيين من كل اسم وصفة. وأما الاسم فقد يتعين بِهِ الْغَائِبَةُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا، وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ إِذَا انْفَرَدَ عَنْ نَسَبٍ لا يقع به التمني، فَإِنْ قُرِنَ بِهِ النَّسَبُ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ تَمَيَّزَتْ بِهِ وَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِمَا تَمَيَّزَتْ بِهِ مِنَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَنْكُوحَةِ وإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الِاسْمُ والنسب عن غيرهما مِنَ النِّسَاءِ لِمُشَارَكَتِهَا فِيهِ لِغَيْرِهَا نُظِرَ، فَإِنْ نوى الزوج والولي في نفوسهما فالإشارة للمنكوحة صَحَّ الْعَقْدُ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ، وإن لم ينو لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِاشْتِبَاهِ الْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِهَا وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً، وَأَمَّا الصِّفَةُ فلا تكون بانفرادها مميزة للمنكوحة عن غَيْرِهَا لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الصِّفَاتِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّمْيِيزُ مِنِ اسم، أو نسب، أو نية مثل سودة بنت زيد بن خالد وله بنات فيهن المنكوحة. لما الاسم إذا لم يشتركن فيه فنقول حَفْصَةُ، أَوْ عَمْرَةُ. وَإمَّا بِالصِّفَةِ، إِذَا لَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهَا فَيَقُولُ الطَّوِيلَةُ، أَوِ الْقَصِيرَةُ، أَوْ يَقُولُ: السَّوْدَاءُ أَوِ الْبَيْضَاءُ أَوْ يَقُولُ: الصَّغِيرَةُ أَوِ الْكَبِيرَةُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ مُمَيِّزَةً لِلْمَنْكُوحَةِ وَلَوْلَاهَا لاشتبهت وإذا كان كذلك فأراد أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلا بنت جَازَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَلَا يَذْكُرَ لها اسماً ولا صفة، لأنها قد تعنت فِي الْعَقْدِ فَصَحَّ فَإِنْ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْمًا أَوْ صِفَةً: فَقَالَ: بِنْتِي حَفْصَةَ أَوْ قَالَ: بِنْتِي الطَّوِيلَةَ فَقَدْ أَكَّدَ إِنْ وَافَقَ الاسم والصفة ولم يؤثر فِيهِ إِنْ خَالَفَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ قَوْلُهُ: عَمْرَةُ وَقَدْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ وَكَانَتْ قَصِيرَةً وَقَدْ وَصَفَهَا طَوِيلَةً، لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَنْتَقِلُ، وَالْقَصِيرَةُ قَدْ تَكُونُ طَوِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ هِيَ أَقصْرُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ الْمُزَوِّجِ عِدَّةُ بَنَاتٍ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِأَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي حَتَّى يُمَيِّزَهَا عَنْ سَائِرِهِنَّ إِمَّا بِنْيَةٍ يَتَّفِقُ الْأَبُ وَالزَّوْجُ بِهَا عَلَى إِرَادَةِ إِحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا. وإما باسم، أو صفة، فيقول: بنتي حفصة فيصفها بالاسم من غير أن يَقُولَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ فَتَصِيرُ بِالصِّفَةِ مُتَمَيِّزَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّفِقًا فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي حَفْصَةَ الصَّغِيرَةَ، وَالصَّغِيرَةُ هي حفصة، والكبيرة هي عمرة، فيسم الْمَنْكُوحَةَ بِاسْمِهَا وَيَصِفُهَا بِصِفَتِهَا فَقَدْ أَكَّدَ الِاسْمَ بِالصِّفَةِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي التَّمْيِيزِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَسَمَّى الْمَوْصُوفَةَ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَوَصَفَ الْمُسَمَّاةَ بِغَيْرِ صِفَتِهَا، لِأَنَّ حَفْصَةَ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَقَدْ وَصَفَهَا بِالصَّغِيرَةِ، وَعَمْرَةُ هِيَ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ وَصَفَهَا بِالْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَازِمَةٌ وَالِاسْمَ مُنْتَقِلٌ فيقع العقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي اسْمُهَا عَمْرَةُ، وَإِنْ سَمَّى في العقد حفصة، فلو ميز المنكوحة في بناته بصفتهن فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الصَّغِيرَةَ، الطَّوِيلَةَ، فَإِنْ وَافَقَتِ الصِّفَتَانِ فَقَدْ أَكَّدَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَكَانَ أبلغ في التمييز وإن خالفت الصفات فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ لَازِمَتَانِ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا فِي تَمْيِيزِ الْمَنْكُوحَةُ بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْأُخْرَى فَصَارَتِ الْمَنْكُوحَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولَةً، فَلِذَلِكَ بَطُلَ النِّكَاحُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَلَفْظَتَانِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلَّا بِهِمَا وَهُمَا النِّكَاحُ، وَالتَّزْوِيجُ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تعالى قد جاء بهما. أما النكاح فبقوله سُبْحَانَهُ: {فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمُ مِنَ النَِّسَاءِ) {النساء: 3) . وأما التزويج بقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَها) {الأحزاب: 37) . لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ مُتَشَابِهَانِ. أَمَّا التَّزْوِيجُ فَهُوَ ضَمُّ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَحَدُ زَوْجَيِ الْخُفِّ وَأَحَدُ زَوْجَيِ الْحَمَامِ إِذَا أريد واحد من اثنين متشاكلين، فإن أريد مَعًا قِيلَ زَوْجُ الْخُفِّ وَزَوْجُ الْحَمَامِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالتَّزْوِيجِ ضَمُّ شكل إلى شكل، ومنه كقولهم: أنكحنا الفراء فسوق ترى أي جمعنا بين الحمار الوحش وايتانه فسترى ما يولد منهما. قال عمر بن أبي ربيعة: (أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَكَ اللَّهَ، كَيْفَ يَلْتَقَيَانِ) (هِيَ شاميةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وسهيلُ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ) أَيْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَنْ يَجْتَمِعَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاكَحَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لُزُومُ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ اسْتَنْكَحَهُ الْمَدَنِيُّ أَيْ لَزِمَهُ فَسُمِّيَ النِّكَاحُ نِكَاحًا لِلُزُومِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ غَيْرُهُمَا فَصَارَ تَعْلِيلُهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ لِلنَّصِّ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَلِيُّ وَالزَّوْجُ مُخَيَّرَانِ فِي أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ أَنْكَحْتُكَ وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ يَعْقِدُهُ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالْآخَرُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ بِأَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَقْدًا صَحِيحًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ صِفَةُ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَقَدْ يَنْعَقِدُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَإِمَّا بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَلَهُمَا فِيهِ ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يعقد له بِلَفْظِ الْمَاضِي. وَالثَّانِي: بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّالِثُ: بِلَفْظِ الْأَمْرِ. فَإِنْ عَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. وَالثَّانِي: بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، فأما عقده بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصداق فيكون قد ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ بَذْلًا، وَمَا أَجَابَهُ الزَّوْجُ قَبُولًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلِلزَّوْجِ فِي قَبُولِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ الصَّدَاقَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ فَقَدِ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذَلِ الْوَلِيِّ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ بَذَلَهَا الْوَلِيُّ له بصداق ألف انعقد الصداق ولم تلزم فِيهِ أَحَدُ الصَّدَاقَيْنِ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ لَمْ يَقْبَلْهَا الزَّوْجُ وَالْخَمْسِمِائَةَ لَمْ يرض بها المولى. وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَلِيُّ بِالزِّيَادَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا وَلَا يَذْكُرَ قَبُولَ الصَّدَاقِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِقَبُولِهِ وَلَا يلزم المسمى، لأنه لم يذكره في القبول وليكون لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُ فيه الصداق المسمى بقبول النكاح والذي يتضمنه كَالْبَيْعِ إِذَا قَالَ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ كَذَلِكَ النكاح وهذا خطأ، لأن البيع لا ينعقد إِلَّا بِثَمَنٍ فَكَانَ قَبُولُهُ الْبَيْعَ قَبُولًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي قَبُولِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ قَدْ يصح بغير الصداق فلم يكن قبوله لنكاح قبولاً لما يتضمنه مِنَ الصَّدَاقِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَيُمْسِكُ فَلَا يَذْكُرُ النِّكَاحَ وَلَا الصَّدَاقَ فِي قبوله ففيه قولان، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَرَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَقَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ مِنْ كُتُبِ الْأَمَالِي ": إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِلْبَذْلِ الصَّرِيحِ وَجَوَابُ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) {الأعراف: 44) . أي نعم وجدناه، وَكَقَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى) {الأعراف: 172) . أَيْ: بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا، وَكَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَسَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا، وقال أله عليك ألف، فقال: نعم، كان إقرار منه بالألف وجرى مجرى قوله: نعم له عَلَيَّ أَلْفٌ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ قَدْ قَبِلْتُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْبَذْلِ الصَّرِيحِ قَبُولًا صَرِيحًا فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: قَبِلْتُ نكاحها. والثاني: إن البذل والقبول معتبر في عقد النكاح كاعتباره فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: قَبِلْتُ إِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْعَقَدَ وَجَرَى ذلك مجرى قوله قبلت هذا البيع، ويجب أن يكون النكاح بمثابته قد زوجكتها فقال الزوج قبلت أن ينعقد النكاح فجرى مَجْرَى قَوْلِهِ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذا جعلناه قبولاً صحيحاً يَكُونُ قَبُولًا لِلنِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْقَبُولَ مطلق فرجع إلى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ وَخَالَفَ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا حَيْثُ جَعَلْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى قَبُولِ النِّكَاحِ الَّذِي سَمَّاهُ دُونَ الصَّدَاقِ الَّذِي أغفله، لأن مع التسمية تصير تَخْصِيصًا وَمَعَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ عُمُومًا، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَصَحُّ القولين فدليله ما قدمناه أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: قَبِلْتُ فِيهِ مَعْنَى التصريح وليس بصريح فينعقد بِهِ النِّكَاحُ وَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالصَّرِيحِ وَبِمَعْنَى الصَّرِيحِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ جَوَابِ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طَلَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا، ولو قال: نعم أنت طالق لم تكن ثَلَاثًا، وَإِنْ سَأَلَتْهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ بالبيع لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا كَانَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ كَالصَّرِيحِ، لِمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إِذَا قرن النكاح بينهما بواسط مِنْ حَاكِمٍ أَوْ خَطِيبٍ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوَّجْتَهُ فلانة، فقال: نعم، فقال الزوج: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ قولاً واحداً، لأن صريح اللفظ لم يؤخذ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَاعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فِي أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ بِعْتَهُ عَبْدَكَ هَذَا بألف فقال: نعم، وقال المشتري: اشتريته بالألف، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، وهذا خطأ لما ذكرنا مِنْ أَنَّ مَعْنَى الصَّرِيحِ لَا يَقُومُ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ الصَّرِيحِ وَيَقُومُ فِي الْبَيْعِ مَقَامَ الصَّرِيحِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا خَالَفَ الْبَيْعَ فِي تَغْلِيظِهِ بِالْوَلِيِّ والشاهدين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 خَالَفَهُ فِي تَغْلِيظِهِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ إِقْرَارٌ، وَبُضْعَ الْمَنْكُوحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِقْرَارِ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. فَصْلٌ فَأَمَّا عَقْدُهُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ فَهُوَ أن يبدأ الزَّوْجُ فَيَقُولُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ فَيَقُولُ الْأَبُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصداق فيصح العقد ولا يحتاج الزوج إلى أن يعود فيقول: قد قبلت نكاحها ووافقه أبو حنيفة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إِذَا ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ: بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِهَا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ بعده قد قبلت، وخالفه أبو حنيفة فِي الْبَيْعِ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعُودَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ من شروط البيع، فكان ما يصح بِهِ النِّكَاحُ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ بِهِ الْبَيْعُ، فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ بالطلب والإيجاب كتمامه بالبذل والقبول كان الْبَذْلُ هُوَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ، وَالْقَبُولُ ما أجاب به الزوج فإن الطَّلَبَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ، وَالْإِيجَابَ مَا أَجَابَ بِهِ الْوَلِيُّ فَيَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ. إِمَّا بِالْبَذْلِ إن كان مبتدئاً أَوْ بِالْإِيجَابِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا، وَمِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِالطَّلَبِ إن كان مبتدأ، وبالقبول إِنْ كَانَ مُجِيبًا فَصَارَ طَلَبُ الزَّوْجِ فِي الِابْتِدَاءِ قَبُولًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَقَبُولُهُ فِي الِانْتِهَاءِ طَلَبًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَصَارَ بَذْلُ الْوَلِيِّ فِي الِابْتِدَاءِ إِيجَابًا فِي الِانْتِهَاءِ وَإِيجَابُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بَذْلًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ إِيجَابُ الْوَلِيِّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ بعد بذل الولي: إحداها: أَنْ يَقُولَ: الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ الَّذِي بَذَلْتَهُ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّدَاقِ والذي سَمَّاهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ أَلْفٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ يَقُولَ الْوَلِيُّ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا وَلَا يَقُولَ عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا صَرَّحَ بِالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الصَّدَاقِ الْمَبْذُولِ وَإِذَا بَطَلَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَوْ كَانَ الأب، قال: زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حنيفة، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى صَدَاقِ خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدٌ مِنَ الصَّدَاقَيْنِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يلزم أقلهما ويصير الأب مبرئاً لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ: قَدْ فَعَلْتُ، أَوْ يَقُولَ: قَدْ أَجَبْتُكَ وَلَا يَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي قَبُولِ الزَّوَجِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْمُمَلِّكُ لِبُضْعِ الْمَنْكُوحَةِ وَالزَّوْجَ هُوَ الْمُتَمَلِّكُ فَكَانَ اعْتِبَارُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 الصريح في لفظ المملك أَقْوَى مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي لَفْظِ الْمُتَمَلِّكِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِهِ. فصل فأما إذا ابتدأ الولي فقال: زوجت بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ تَزَوَّجْتُهَا عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، لِأَنَّ قوله في الابتداء زوجته بِنْتِي لَيْسَ بِبَذْلٍ مِنْهُ وَلَا إِجَابَةً، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْبَارٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ جِهَةِ الولي إلا بالبذل إن كان مبتدئاً أو بالإيجاب إِنْ كَانَ مُجِيبًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ غَيْرَ مؤثر في العقد، ويكون جواب الزوج طلباً فلذلك مَا افْتَقَرَ إِلَى إِيجَابِ الْوَلِيِّ، بِأَنْ يَعُودَ فيقول: قد زوجتك فيصير النكاح منعقد بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ، فَقَالَ للولي: زوجني بنتك فقال: قد زوجتكها لهم يَصِحُّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ اسْتِخْبَارٌ، وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إلا بالطلب إن كان مبتدئاً، أَوْ بِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ مُجِيبًا وَلَيْسَ اسْتِخْبَارُهُ طلباً ولا قبولاً، فإن عاد عَادَ الزَّوْجُ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا صَحَّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ الْمَاضِي فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ وَفِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ. فَصْلٌ وَأَمَّا عَقْدُهُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَمِثَالُهُ: أَنَّ بَذْلَ الْوَلِيِّ أَنْ يَقُولَ: أُزَوِّجُكَ بِنْتِي فَيَقُولُ الزَّوْجُ: أَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِقَوْلِ الْوَلِيِّ وَلَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا صَارَ قَوْلُهُ طَلَبًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيِّ وَعْدًا فَإِنْ عَادَ الْوَلِيُّ فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: أَتَزَوَّجُ بِنْتَكَ فَقَالَ الْوَلِيُّ: أُزَوِّجُكَهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدٌ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ وَلَوْ كان الولي قال: قد زوجتكها صار قوله بَذْلًا فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَهَكَذَا إِنْ دَخَلَ عَلَى اللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ الولي: أأزوجك بنتي؟ أو قال: أأتزوج بِنْتَكَ؟ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِوَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لِلْوَعْدِ فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ مُجَرَّدِ الْوَعْدِ فَإِنْ تَعَقَّبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ بَذْلًا أَوْ طَلَبًا رُوعِيَ فِي مُقَابَلَةِ الطَّلَبِ الْإِيجَابُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْبَذْلِ الْقَبُولُ. فَصْلٌ وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَمِثَالُهُ: إِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقُولَ لِلزَّوْجِ: تَزَوَّجْ بِنْتِي، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يَعُودَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَلَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا صح العقد ولم يحتج الزوج أن يعيده فيه قَبُولًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَلِيُّ مَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحٌّ بِهِ الْعَقْدُ، وَبَيْنَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ الْبَذْلُ إِنِ ابْتَدَأَ، وَالْإِيجَابُ إِنْ أَجَابَ، وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بَذْلٌ وَلَا إِيجَابٌ فَلَمْ يَصِحَّ بِهِ الْعَقْدُ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ الطَّلَبُ إِنِ ابْتَدَأَ، وَالْقَبُولُ إن أجاب، وأمره تضمن الطَّلَبَ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنِ الْقَبُولَ فَصَحَّ بِهِ العقد وتم بالطلب والإيجاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 فصل فإذا صح ما ذكرناه مِنْ صِفَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَلِتَمَامِهِ وَإِبْرَامِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الزَّوْجِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ بَذْلِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ تَرَاخَى مَا بينهما بسكوت وإن قل لم يصح العقد إلا أن يكون لبلع ريق أو انقطاع نفس فيصبح الْعَقْدُ وَإِنْ تَخَلَّلَتْهُ هَذِهِ السَّكْتَةُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ بَذْلِ الْوَلِيِّ وَقَبُولِ الزَّوْجِ كَلَامٌ ليس بذل وَلَا قَبُول فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ لَيْسَ منهما لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ من الكلام قطع لحكم مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي لَمْ يَكُنْ هَذَا قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ، لِأَنَّهُ حَثٌّ مِنْهُ على القبول، وهكذا لو قال: قد زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَقُلْ لِي قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا لِحُكْمِ بَذْلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ " فَاقْبَلِ النِّكَاحَ مِنِّي " فَأَمَّا إِذَا قَالَ: قد زوجتك بنتي فأحسن إليها أو قال فاستوصي بِهَا خَيْرًا كَانَ هَذَا قَطْعًا لِبَذْلِهِ؛ لِأَنَّهَا وصية لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَلَا بِالْقَبُولِ، وَلَكِنْ لَوْ قال: قد زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تضمن صفة الْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَبُولِ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَبِلَ الزَّوْجُ وَقَدْ مَاتَ الْوَلِيُّ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِبُطْلَانِ بَذْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْعَقْدِ عَلَى ما وصفنا فقد انعقد بإجزاء لَا يَثْبُتُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ المجلس بالعقد ولا خيار الثلاث الشرط بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمُعَايِنَةِ فِي الْأَعْوَاضِ وَلَيْسَ النِّكَاحُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْإِخْلَالِ بِذِكْرِ الْعِوَضِ مِنَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ أَبْطَلَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ لِلْعُقُودِ تُبْطِلُهَا كالشروط في سائر العقود - والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَأُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ خُطْبَتِهِ وَكُلِّ أمرٍ طلبه سوى الخطبة حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام والوصية بتقوى الله ثُمَّ يَخْطِبُ وَأُحِبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذلك وأن يقول ما قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْكَحْتُكَ عَلَى مَا أَمَرَ الله بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بمعروفٍ أَوْ تسريحٍ بإحسانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ خُطْبَةَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْخِطْبَةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةُ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: خُطْبَةُ النِّكَاحِ وَاجِبَةٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ " وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَ لِنَفْسِهِ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ، فكان الخاطب في تزويجه خديجة عمه أبا طالب، وكان الخاطب بتزويجه بِعَائِشَةَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَزَوَّجَ فَاطِمَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 بِعَلِيٍّ فَخَطَبَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْبُولٌ قَدِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَعْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فكان إجماعاً لا يسوغ خلافاً، وَلِأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يستبشر بِهِ مِنَ الزِّنَا وَيُعْلَنُ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ وَاجِبًا فِي النِّكَاحِ كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ) {النساء: 25) . فَجُعِلَ الْإِذْنُ شَرْطًا دُونَ الْخُطْبَةِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ لِنَفْسِهَا مِنْ خَاطِبِهَا قَالَ: قد زوجتكها بما معك من القرآن فلم يَخْطُبْ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ خَطَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمامة بنت عبد المطلب فأنكحه وَلَمْ يَخْطُبْ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنها زَوَّجَ بَعْضَ بَنَاتِ أَخِيهِ الْحَسَنِ وَهُوَ يَتَعَرَّقُ عَظْمًا أَيْ لَمْ يَخْطُبْ تَشَاغُلًا بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ زَوَّجَ بِنْتَهُ فَمَا زَادَ على أن قال: قد زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي النِّكَاحِ لَبَطَلَ بِتَرْكِهَا، وفي إجماعهم على صحة النكاح تَرَكُهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُقْدٌ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْخُطْبَةُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْتَرُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى أن للخبر سبب هو محمول عليه قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَ نِكَاحًا إِلَّا بَعْدَ خُطْبَةٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَكَحَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ وَقَدْ زَوَّجَ الْوَاهِبَةَ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ وَلَيْسَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ إِجْمَاعًا لِمَا روينا من خِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ وَلَا فِي كَوْنِهَا فَرْقًا بَيْنَ الزِّنَا وَالنِّكَاحِ دَلِيلٌ عَلَى وجوبها كالولائم. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: حَمْدُ اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالثَّالِثُ: الْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. وَالرَّابِعُ: قِرَاءَةُ آيَةٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذِكْرِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) {النور: 32) . وَكَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً) {الفرقان: 54) . الآية، فَإِنْ قَرَأَ آيَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّبَرُّكُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ونستغفره ونستعينه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 ونستهديه وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمُ) {الأحزاب: 70، 71) . الآية إلى آخرها. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ تعالى عليه - أنه خطب، فقال: المحمود لله وَالْمُصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَيْرُ مَا افْتُتِحَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ الله تعالى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم} الْآيَةَ. وَرُوِيَ مِنْ خُطَبِ بَعْضِ السَّلَفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ وَأَيَادِيهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تَبْلُغُهُ وَتُرْضِيهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةً تُزَلِّفُهُ وَتُحْظِيهِ، وَاجْتِمَاعُنَا هَذَا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ وَالنِّكَاحُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَضِيَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم) {النور: 32 الْآيَةَ) فَتَكُونُ الْخُطْبَةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عمر: قد أنكحتها عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُطْبَةِ نُظِرَ فِي الْخَاطِبِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ ما عليه الناس في زماننا كان خُطْبَتُهُ نِيَابَةً عَنْهُمَا، وَإِنْ خَطَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَخْطُبَا مَعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إِلَى مِثْلِ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا زَوَّجَ عَلِيًّا خَطَبَا جَمِيعًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْخُطْبَةِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ الْوَلِيُّ بِخُطْبَتِهِ لِيَكُونَ الزَّوْجُ طَالِبًا وَيَكُونَ الْوَلِيُّ مُجِيبًا، فَإِنْ بَدَأَ الْوَلِيُّ بِالْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ جاز، فإن تقدمت خطبتهما قَبْلَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ أَوْ قَبْلَ الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ثم عقد النكاح بعد الخطبتين بالبذل أو بالقبول أو بالطلب والإيجاب. فقد قال أبو حامد الإسفراييني: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَهُمَا مِنَ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ الظاهر مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَطَاوُلُ مَا بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. والثاني: أن أذكار الْخُطْبَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْبَذْلِ وَلَا مِنَ الْقَبُولِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَفْسَدْ بِهَا الْعَقْدُ فَصَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ فِي مَحِلِّهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا فِي خِلَالِ الْعَقْدِ فَلَمْ يُنْدَبْ إِلَيْهَا فَجَازَ أَنْ يَفْسَدَ بِهَا الْعَقْدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الْحَرَائِرِ وَيَحْرُمُ وَلَا يتسرى العبد وغير ذلك مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَكِتَابِ ابْنِ أبي ليلى، والرجل يقتل أمته ولها زوج قال الشافعي: " انتهى الله تعالى بِالْحَرَائِرِ إِلَى أربعٍ تَحْرِيمًا لِئَلَّا يَجْمَعَ أحدٌ غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَكْثَرُ مَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَرْبَعٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ إبراهيم ومن نسب إلى مقالته ما القاسمية وطائفة من الزائدية أنه يحل له نِكَاحُ تِسْعٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَالْمَثْنَى مُبْدَلٌ مِنِ اثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثُ مُبْدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ، وَالرُّبَاعُ مُبْدَلٌ مِنْ أَرْبَعٍ فَصَارَ مَجْمُوعُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ تِسْعًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ عَنْ تِسْعٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) {الأحزاب: 21) . ولأنه لما سَاوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سائر أمته فيما يستبحه مِنَ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِي حَرَائِرِ النِّسَاءِ ". وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) . وفيه دليلان: أحدهما: أنه مَا خَرَجَ هَذَا الْمَخْرَجَ مِنَ الْأَعْدَادِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَفْرَادَهَا دُونَ مَجْمُوعِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: {أُولِي أجْنحَةٍ مَثْنَى وَثَلاث وَرُباع) {فاطر: 1) . أفْرَادَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ، وَأن مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جناح، وإن منهم من له جناحان، ومنهم مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدِ النِّكَاحِ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ: قد جَاءَنِي النَّاسُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ أَنَّ مَفْهُومَ كلامه أنهم جاءوا على أفْرَادِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً وأربعة أربعة ولم يرد بمجموعها تسعة، فكذلك مَفْهُومُ الْآيَةِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: من الْآيَةِ أَنَّ " الْوَاوَ " الَّتِي فِيهَا لَيْسَتْ وَاوَ جَمْعٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاوُ تَخْيِيرٍ بِمَعْنَى أَوْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ وَإِنَّمَا كَانَ كذلك لأمرين: أحدهما: أن ذكر التسعة بلفظهما أَبْلَغُ فِي الِاخْتِصَارِ وَأَقْرَبُ إِلَى الإفهام مِنْ ذِكْرِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ الْمُشَكَلِ الَّذِي لَا يُفِيدُ تفريقه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 وَالثَّانِي: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم} (النساء: 3) . ولو كان المرد تسعاً ولم يرد اثنين عَلَى الِانْفِرَادِ لَقَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فثمان ليعدل عن التسع إلى أقرب الأعداد إليهما لا لبعده منهما، لأنه قد لا يقدر على العدل في تسع ويقدر على العدل في ثمان، ولو كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَكَانَ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَدْلِ فِي تِسْعٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ ينكح إلا واحدة ولما جاز لَهُ اثْنَانِ وَلَا ثَلَاثٌ وَلَا أَرْبَعٌ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الدَّلِيلِ مَعَ نَصِّ السُّنَّةِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ، ومَعَهُ عشر نسوة فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " وَأَسْلَمَ نَوْفَلُ بْنُ معاوية وأسلم معه خَمْسٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً " وَلِأَنَّهُ مَا جَمَعَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد تقييداً بِفِعْلِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مَعَ رَغْبَتِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْأَوْلَادِ، وَأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ الْإِمَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَظْرِ مَا عَدَاهُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ خُصَّ فِي النِّكَاحِ بِمَا حَرُمَ عَلَى سَائِرِ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَمَا أُبِيحَ لِلْأُمَّةِ إلا عدد محصور، وليس وإن مات من تسع يجب أن يكون هي العدد المحصور فقد جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ. وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمْ يُحْصَرْنَ بِعَدَدٍ ممكن عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فَنَكَحَ خَمْسًا نُظِرَ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنَ الخمس غير متعينة فبطل نكاح الجميع وإن عَقَدَ عَلَيْهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ الْأَخِيرَةِ، وَصَحَّ نِكَاحُ مَنْ تَقَدَّمَهَا فَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ صَحَّ نِكَاحُ الثلاث لتقدمهن، وبطل نكاح الاثنتين لتأخرها، فلو أشكل المتقدم من العقد بَطَلَ نِكَاحُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ فَلَوْ نَكَحَ ثَلَاثًا فِي عَقْدٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَوَاحِدَةً فِي عَقْدٍ وَأُشْكِلَ الْمُتَقَدِّمَاتُ مِنْهُنَّ صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ فِي أَحْوَالِهَا كُلِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وبطل نكاح الثلاث والاثنين لنزولهن بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ، وَبَيَانُ تَنْزِيلِهِنَّ فِي الْأَحْوَالِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الثلاث ثم الاثنين ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الْوَاحِدَةِ صَحَّ نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ وَالْوَاحِدَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَإِنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ الثَّلَاثِ ثُمَّ الِاثْنَتَيْنِ صَحَّ نكاح الواحدة والثلاث وبطل نكاح والاثنتين وَصَارَتِ الْوَاحِدَةُ ثَانِيَةً فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَصَحَّ نكاحها ولما رود كاح الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنَ حَالَتَيْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ بَطَلَ نكاحهن. مسألة قال الشافعي: " والآية تدل على أنها على الأحرار بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ الْمَالَ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنَ اسْتِبَاحَةِ الْحُرِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَرْبَعٍ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاع) {النساء: 3) . ولأنه لما كان لعان الحرائر أَرْبَعًا مُسَاوَاةً بِعَدَدِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ كَانَ لِعَانُ الْعَبْدِ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَبِيحَ أَرْبَعًا كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ العبد أوسع مِنْ نِكَاحِ الْحُرِّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ على الحرة ويجمع بين أمتين بخلاف الحر فلم يجز هو أَوْسَعُ حُكْمًا أَنْ يَضِيقَ فِي الْعَدَدِ عَنْ حُكْمِ الْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُسَاوِيًا لِلْحُرِّ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ في أعداد المنكوحات. ودليلنا قَوْله تَعَالِيَ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ شَرَكَاءَ فِي مَا رَزَقَنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) {الروم: 28) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مساوٍ لِلْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ قَالَ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَنْكِحُ اثْنَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ. وَالثَّانِي: ما رواه الليث من أبي سليم عن الحكم بن عيينة قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليه أَنْ لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ولأن ما نقص في عدله ومعناه شاطر العبد فيه كالحر كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ الْأَحْرَارُ فِيمَا اسْتَبَاحُوهُ مِنَ الْعَدَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبعضهم عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ الْعَبْدُ فِيهِ عَنِ الْحُرِّ لِنَقْصِهِ عَنْهُ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَسِيَاقُ الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الأحرار دون العبيد، لأن قوله أوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسَطُوا فِي اليَتَامَى) {النساء: 3) . متوجه إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ، وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النَّسَاءِ) {النساء: 3) . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَنْكِحَ مَا طَابَ لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) . مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لا يملك. وما اسْتِدْلَالُهُمْ بِاللِّعَانِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ عَلَى التَّفَاضُلِ وَلَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَإِنِ اتفقا، وإنما يجري مَجْرَى الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَالْبَيِّنَةِ عِنْدَ غَيْرِنَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي النِّكَاحِ أَوْسَعُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَوْسَعُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْصُ، وَأَضْيَقُ حُكْمًا فِيمَا طَرِيقُهُ الْكَمَالُ وَاسْتِبَاحَتُهُ لِلْأَمَةِ نَقْصٌ فَاتَّسَعَ حُكْمُهُ فِيهِ وَالْعَدَدُ كَمَالٌ فَضَاقَ حُكْمُهُ فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُ فِي أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ سَاوَاهُ فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَبَاطِلٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يساوي الأمة في أعيان المحرمات ولا يساويه فِي عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ متساو العدد متفاضلٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْكِحُ أكثر من اثنتين فحكمه إن نكح ثلاثاً كحم الْحُرِّ إِذَا نَكَحَ خَمْسًا عَلَى مَا بَيَّنَاهُ وكذلك المدبر والمكاتب، ومن رق بعضه - والله أعلم -. مسألة قال الشافعي: " فإذا فَارَقَ الْأَرْبَعَ ثَلَاثًا تَزَوَّجَ مَكَانَهُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ لِمَنْ لَا امْرَأَةَ له أربعاً وقال بعض الناس لا ينكح أربعاً حتى تنقضي عدة الأربع لأني لا أجيز أن يجتمع ماؤه في خمسٍ أو في أختين (قلت) فأنت تزعم لو خلا بهن ولم يصبهن أن عليهن العدة فلم يجتمع فيهن ماؤه فأبيح له النكاح وقد فرق الله تعالى بين حكم الرجل والمرأة فجعل إليه الطلاق وعليها العدة فجعلته يعتد معها ثم ناقضت في العدة (قال) وأين؟ قلت: إذ جعلت عليه العدة كما جعلتها عليها أفيجتنب ما تجتنب المعتدة من الطيب والخروج من المنزل؟ قال لا، قل فلا جعلته في العدة بمعناها ولا فرقت بما فرق الله تعالى به بينه وبينها وقد جعلهن الله منه أبعد من الأجنبيات لأنهن لا يحللن له إلا بعد نكاح زوج وطلاقه أو موته وعدةٍ تكون بعده والأجنبيات يحللن له مِنْ سَاعَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَطَلَّقَهُنَّ وَأَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ، أَوْ عَلَى أُخْتِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ جَازَ لَهُ عَقِيبَ طَلَاقِهِنَّ، سَوَاءً كَانَ طَلَاقُهُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا واحدة، أو اثنتين بغير عوض لمن يكن له العقد على أحد حتى ينقص عَدَدُهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ مَا كُنَّ فِي عَدَدِهِنَّ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ عَلَيْهِنَّ، وَحُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، فَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازِ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِهَا أَوْ عَلَى خامسةٍ غَيْرِهَا، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ اثْنَتَيْنِ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّةُ ثَلَاثٍ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوِ انْقَضَتْ عدة الأربع جاز له العقد على الأربع، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا بِعِوَضٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي عَدَدِهِنَّ بِأَرْبَعٍ سِوَاهُنَّ أَوْ بِأُخْتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يجوز إلا بعد انقضاء عدتهن. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. ومن التابعين: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا نص لما به يعقد في أختين، ولأنها معتدة في حقه في مِنْ طَلَاقِهِ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أختها كالرجعية، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " مِنْ حَقِّهِ " مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُطَلِّقُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا وَيُنْكِرَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُطَلِّقِ فِي اسْتِبَاحَةِ عَقْدِهِ عَلَى أُخْتِهَا، وَالْقَوْلُ قولها في بقاء عدتها، ويكون مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّهِ، وَاحْتَرَزَ بقوله: " من طلاقه " من ردتها فإنه يجوز لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ فِي عِدَّتِهَا وَمِنْ أَنْ يَطَأَ أَمَةً ثُمَّ يَبِيعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا مِنْ وَطْئِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كل جمع منح مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْعِدَّةُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهَا نِكَاحَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ نِكَاحَ أُخْتِهَا مِنَ النِّسَاءِ ثُمَّ كَانَ تَحْرِيمُ غَيْرِهِ بَاقِيًا عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَجَبَ أَنْ يكون تحريم أختها باقياً عليها في العدة. ودليلنا في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) {النساء: 3) . وَقَدْ يَطِيبُ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا وَلِأَنَّهُ جَمْعٌ حُرِّمَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ قِيلَ فَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَّا لَمْ يحرم عليها نكاح غيره لم يحرم عَلَيْهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ. قِيلَ: إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ نِكَاحُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ ولم يحرم عليه، لأنه غير معتد، ولأنها مبتوتة يحل لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ كَالْمُخْبَرَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ولأنها فرقة يمنع من وقوع طلاقه فوجب أن يبيح مَا حَرُمَ مِنَ الْجَمْعِ بِعُقْدَةٍ كَالْوَفَاةِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يحرم عليه نكاح أُخْتِهَا لِأَجْلِهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ مِنَ الْعِدَّةِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ تَحِلُّ بِالْعَقْدِ فِي الْحَالِ، وَهَذِهِ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِعَقْدٍ بَعْدَ عِدَّتَيْنِ وَزَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ وَهِيَ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَنْ يَحْرُمَ بِهَا مَا لَا يَحْرُمُ بِالْأَجَانِبِ وَلِأَنَّ الْعَدَّةَ تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمُطَلَّقَاتً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) {البقرة: 228) . فَلَوْ مَنَعَتْ مِنَ النِّسَاءِ مَا مَنَعَتْ مِنَ الرِّجَالِ للزم من العدة كَمَا أُلْزِمَتْ وَلَوْ لَزِمَ مِنْ أَحْكَامِ العدة كما لزمها لزمه سائر أحكامها من تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ كَمَا لزمها وفي المنع من إبراء أَحْكَامِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فِيمَا سِوَى النِّكَاحِ مَنْعٌ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِهَا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) {النساء: 23) . فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُفَرِّقٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ بِهِ جَامِعًا، وَالْجَمْعُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَالْفُرْقَةُ ضِدَّ الِاجْتِمَاعِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، فتلك زوجته يقع عليها طلاقه، وظهاره وتستحق بينهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 التَّوَارُثَ وَهَذِهِ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، لِأَنَّهَا لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَلَا ظِهَارُهُ وَلَا يَتَوَارَثَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ كَمَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ. وأما قياسهم عليها فالمعنى فيها أنها معتدة والمعتدة محرم عَلَيْهَا نِكَاحُ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّجُلُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ وليس في عقده على غيرها اختلاط مائين فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ ذَكَرْنَا مِنْهَا فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ما فيه مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ وَقَدْ أَوْجَبَهَا الله عَلَيْهَا دُونَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَكَيْفَ تَبْقَى عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فتحرر كَلَامُهُ فِيهِ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو تَحْرِيمُهُمْ لِنِكَاحِ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ. فَإِنْ كَانَ لعقد النكاح فقد ارتفع بطلان الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا من طَلَّقَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهَا فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَبَطَلَ التعليل بكلى الأمرين، واعترضوا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِالْفَسَادِ، فَقَالُوا: نحن حرمنا المدخول بها باجتماع المائين وتعلل غير المدخول بها من هَذَا الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَنَقْضُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ النَّقْضُ بِوُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَبِلَ تَعْلِيلًا بِالرِّدَّةِ كَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ مَعَ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ نَقْضُهَا بِأَنْ تُقْبَلَ مَعَ عدة الردة بقتل أو زنا، كذلك هاهنا يحرم المدخول بها لاجتماع المائين ولا ينقض هذا التَّعْلِيلُ لِتَحْرِيمِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعِلَلَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ عَامًّا لِجِنْسِ الْحُكْمِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ. فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ الربا بأنه مطعومٍ انتقضت هذه العلة بوجوب الحكم ولا علة، كما تنقض بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ حَتَّى إِنْ وُجِدَ الربا فيما ليس بمطعوم كان نقضاً كما لو وجد مطعوماً لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَعْيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ بِأَنَّ فِيهِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتُقِضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ وُجِدَ مَطْعُومٌ لَا رِبًا فِيهِ كَانَ نقضاً ولم ينتقض بِوُجُودِ الْحُكْمِ، وَلَا عِلَّةَ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ وَلَيْسَ بِمَطْعُومٍ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِلْزَامِ النقض في تعليلهم باجتماع المائين إنما هو تعليل لجنس الْحُكْمِ الْعَامِّ فَانْتُقِضَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ كما ينتقض بوجود العلة ولا حكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا جميع المهر، لأنها قد استهلكته بِالدُّخُولِ سَوَاءً مَاتَتْ أَوْ قُتِلَتْ وَسَوَاءً كَانَتْ حرة، أو أمة، فأما إذا هَلَكَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هلاكها بالموت. والثاني: أن يكون هلاكها بِالْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْمَوْتِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ سَوَاءً كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، لِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَدَثَ الْمَوْتُ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فَاسْتَحَقَّتْ بِهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُرَّةَ فِي قَبْضِ الزَّوْجِ، لأنها مخيرة عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ فَإِذَا مَاتَتِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ المهر، كالسلعة إذا تلفت بعض قبض المشتري لها استحق عليها ثَمَنُهَا، وَالْأَمَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي قَبْضِ السَّيِّدِ دون الزوج، لأنها لا تخير عَلَى الْمُقَامِ مَعَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ السَّيِّدِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرًا كَالسِّلْعَةِ إِذَا بلغت فِي يَدِ بَائِعِهَا سَقَطَ عَنِ الْمُشْتَرِي ثَمَنُهَا. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ هَلَاكُهَا بِالْقَتْلِ دُونَ الْمَوْتِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ الْقَاتِلَةَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهَا غَيْرُهَا، فَإِنْ قتلها غيرها فضربان: أحدهما: أَنْ يَقْتُلَهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ الْحُرَّةَ كَالْمَقْبُوضَةِ، وَالْأَمَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ فَقَدِ اسْتَهْلَكَهَا مُسْتَحِقُّ قَبْضِهَا فَلَزِمَهُ مَهْرُهَا كَمَا يَلْزَمُ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ إِذَا اسْتَهْلَكَهَا فِي يَدِ بَائِعِهَا جَمِيعُ ثَمَنِهَا وَيَصِيرُ الِاسْتِهْلَاكُ قَبْضًا كَذَلِكَ الْقَتْلُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرَ الزَّوْجِ فَحُكْمُ قَتْلِهِ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ حُكْمُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ لِنَفْسِهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمَةِ: أَنْه لَا مَهْرَ لَهَا إِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَتَلَهَا غَيْرُهَا. وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ: إِنَّ لَهَا المهر إن قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ اخْتِلَافَ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يوجب حملهما على اختلاق قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا حُرَّةً كانت أو أمة لأن الفسخ جائز مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَأُسْقِطَ مَهْرُهَا كَالرِّدَّةِ والرضاع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ وَقَعَتْ بالموت وَخَالَفَتِ الرَّضَاعَ وَالرِّدَّةَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ التُّهْمَةِ لِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَتْلِ تُهْمَةٌ بِاخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ المروزي - أن الجواب على ظاهره فتكون لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ أَمَةً وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَرْقِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ الْحُرَّةَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَتَى شَاءَ فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا مَوْجُودًا فَاسْتَحَقَّتِ الْمَهْرَ بِحُدُوثِ التَّلَفِ وَالْأَمَةُ بِخِلَافِهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِذَا شَاءَ حَتَّى يَرْضَى السَّيِّدُ فَصَارَ التَّسْلِيمُ مِنْ جِهَتِهَا غَيْرَ مَوْجُودٍ فَسَقَطَ الْمَهْرُ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نِكَاحِ الحرة الألفة والمواصلة دون الوطء لجواز عقده على من لا يمكن وطئها مِنْ صَغِيرَةٍ وَرَتْقَاءَ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فَثَبَتَ لَهَا الْمَهْرُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْوَطْءُ دُونَ الْمُوَاصَلَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَنَتِ وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ الْمَهْرُ. والفرق الثالث: أن الحرة قد تستنفد مِيرَاثَهَا فَجَازَ أَنْ يَغْرَمَ مَهْرَهَا وَالْأَمَةُ لَمْ تستنفد ميراثها فلم تغرم مهرها والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَاعَهَا حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَلَا مهر له حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ، وَهِيَ ذَاتُ زَوْجٍ فَأَثْبَتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشِّرَاءَ وَلَمْ يُبْطِلِ النِّكَاحَ وَخَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ بين المقام أو الفسخ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ تَنَاوَلَ الِاسْتِمْتَاعَ وَعَقْدَ الْبَيْعِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ فَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ غَيْرَ مَا تَنَاوَلَهُ الْآخَرُ فَصَحَّا مَعًا، كَمَا لَوْ آجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ لَوْ آجَّرَهَا ثُمَّ بَاعَهَا كَانَ بَيْعُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَهَلَّا كَانَ بِيعُهَا بَعْدَ تَزْوِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ قُلْنَا: إِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَائِلَةٌ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا له فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بَيْعُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيَدُ الزَّوْجِ غَيْرُ حَائِلَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ فَصَحَّ بَيْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَيْعِ وَصِحَّةُ النِّكَاحِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بها فقد استحق الزوج مَهْرَهَا سَوَاءً كَانَ مُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ مُسَمَّى لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ قَبْلَ دُخُولِ الزوج بها فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ كَانَ لِلزَّوْجِ اسْتِرْجَاعُهُ فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى دخل بها استقر الْمَهْرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ صَحِيحًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ، فَصَارَ كَالْكَسْبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَبِيعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ فَاسِدًا مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لِلْبَائِعِ أَيْضًا دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ مَعَ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَقْدِ. وَالْقِسْمُ الثالث: أن يكون عوضه لم يسم لها في العقد مهراً لَا صَحِيحَ وَلَا فَاسِدَ فَيَفْرِضُ الْحَاكِمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ كَالْمُسَمَّى، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يُعَرَّى عَنْ مَهْرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ دُونَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لو استق جَمِيعُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَاسْتُحِقَّ نِصْفُهُ قَبْلَ الدخول وهو لا يستحق قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا بِالدُّخُولِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِثْلُ هَذَا إذا أعتق السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرًا وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْعِتْقِ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ فَيَكُونُ مُسْتَحِقُّهُ عَلَى هذين القولين: أحدهما: السيد المعتق إذا قبل: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: الزَّوْجَةُ الْمُعْتَقَةُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -. قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن طَلَبَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي النَّفَقَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُمَكَّنٍ من الدخول بها فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لم يجز أن يمنع بعد التمكين من زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَزَمَانُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَقَلُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 من زمان الاستماع بِالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَلَيْهَا تَمْكِينُ نَفْسِهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنَ الزَّوْجِ لَيْلًا وَلَا يَلْزَمُ تَمْكِينُهَا مِنْهُ نَهَارًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَمَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ استخدامها والزوج الاستمتاع بها، ولذلك جاز للسيد بعد تزويجها أن يؤجرها، وليست الحرة مستحقة لخدمة نفسها، ولذلك لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي مَنْفَعَةِ الْأَمَةِ حَقَّانِ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ لِلسَّيِّدِ وَحَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى زَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَوْفِيهِ مُسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْنَا الليل بالاستمتاع أحق مِنَ النَّهَارِ فَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِاسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ وَوَجَدْنَا النَّهَارَ بِالِاسْتِخْدَامِ أَخَصَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَجَعَلَنَا النَّهَارَ لاستخدام السيد، ولو كان ما يستحقه مِنَ الِاسْتِخْدَامِ بِالنَّهَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهَا، وَهِيَ عِنْدُ الزَّوْجِ كَالْغَزْلِ وَالنِّسَاجَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا مِنْ صَنَائِعِ الْمَنَازِلِ، فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ إِذَا وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ الزَّوْجِ نَهَارًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أبى إسحاق - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ هَذَا الِاسْتِخْدَامِ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مَعَ الزَّوْجِ من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يمكنه السيد مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا كَامِلَةً لكمال الاستمتاع. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا لِفَوَاتِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ، فَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إنه لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَيَلْتَزِمُهَا السَّيِّدُ، لِأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ النَّفَقَةُ، وَهُوَ النَّهَارُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة - إن عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا بِقِسْطِ مَا يَسْتَحِقُّهُ من الاستخدام لها في النهار، لأن لكل واحد من الزمانين حظاً في الحاجة إلى النفقة فلم يلزم السيد قسط الليل كما لم يلزم الزوج قسط النهار. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ وَطِئَ رجلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَوْلَدَهَا كَانَ عليه مهرها وَقِيمَتُهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ لَا تكون ملكاً لأبيه ولم أم ولدٍ بِذَلِكَ وَقَدْ أَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ فَيُولِدَهَا فإذا لم يكن له بأن يولدها من خلال أم ولدٍ بقيمةٍ فكيف بوطءٍ حرامٍ وليس بشريكٍ فيها فيكون في معنى من أعتق شركاً له في أمةٍ وهو لا يجعلها أم ولدٍ للشريك إذا أحبلها وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 معسر وهذا من ذلك أبعد (قال) وإن لم يحبلها فعليه عقرها وحرمت على الابن ولا قيمة له بأن حرمت عليه وقد ترضع امرأة الرجل بلبنه جاريته الصغيرة فتحرم عليه ولا قيمة له ". قال الماوردي: وصورتها في رجلٍ وطء جارية ابنه فقد أثم بوطئه لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ) {المؤمنون: 5، 6) . وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطِئُهَا، فإن قيل: فلو كان هذا الأب من يستحق على ابنه أن يعفه فكان لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِعْفَافِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْإِعْفَافِ كَمَا إِذَا مُنِعَ مِنْ حق أن يتوصل إلى استعفافه. قِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِعْفَافِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ حَقُّ إِعْفَافِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ، وَإِنَّ لِلِابْنِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى إِعْفَافِهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْإِمَاءِ أو النساء فلذلك صارت مع استحقاقه مُحَرَّمَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَطْءُ الْأَبِ لَهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يحبلها، أو لا يحبلها فَالْكَلَامُ فِي وَطْئِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ. وَالثَّالِثُ: فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ. وَالرَّابِعُ: فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ. الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ذلك أو لم يطئها، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ فَيَ وَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ الابن بوطئه جارية الأب مع وجود الشبهة في ماله الذي يسقط بِهَا عَنْهُ قَطَعُ السَّرِقَةِ، وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ الْأَبُ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي مَالِهِ يَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ قَطْعُ السَّرِقَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ " فَلَمَّا تَمَيَّزَ الْأَبُ فِي مَالِ الِابْنِ بِهَذَا الْحُكْمِ قَوِيَتْ شُبْهَتُهُ فِيهِ عَنْ شُبْهَةِ الِابْنِ فِي مَالِ الْأَبِ فَوَجَبَ لِقُوَّةِ شُبْهَتِهِ عَلَى شُبْهَةِ الِابْنِ أَنْ يُدْرَأَ بِهَا عَنْهُ الْحَدُّ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ الِابْنُ من نفس أبيه قوداًَ منع من حَدًّا، لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَوْ قَذَفَهُ لَمْ يُحَدَّ بِهِ، ويقتل الابن بأبيه ويحد بقذفه فوجب أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الِابْنِ وَإنْ لَم يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الِابْنِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ الْأَبِ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنْ أُلْحِقَ بَحَدِّ الْقَذْفِ لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالْقَوْدِ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ، وَلِأَنَّ عَلَى الِابْنِ إِعْفَافَ أَبِيهِ لَوِ احْتَاجَ وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُ ابْنِهِ إِذَا احْتَاجَ فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ جِنْسًا يَجِبُ عَلَى الِابْنِ تَمْكِينُ أَبِيهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَبِ تَمْكِينُ ابْنِهِ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 الحد عن الأب، لأنه لَهُ حَقّا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الِابْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَإِنَّمَا سقط القطع عن كل واحد منهما في مال الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي شُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الِابْنِ قَدْ تَجِبُ فِي مَالِ الْأَبِ كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْأَبِ فِي مَالِ الِابْنِ فَاسْتَوَيَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَدُّ الْوَطْءِ لِاخْتِصَاصِ الْأَبِ فِيهِ بِالشُّبْهَةِ دُونَ الابن كما يَسْتَحِقُّهُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ مِنَ الْإِعْفَافِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ فَافْتَرَقَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَفِي تَعْزِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعَزَّرُ لِيَرْتَدِعَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُعَزَّرُ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ بَدَلٌ مِنَ الْحَدِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ فَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ، فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الْأَبِ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا الْأَبُ بَعْدَهُ فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أحدهما: عليه الحد، إذا علم بالتحريم إنها مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا الِابْنُ فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي وَطْءِ زَوْجَةِ ابْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وإن وطئها فهي من جملة أمواله التي يتعلق بها شبهة أبيه ويشبه أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه في وجوب الحد على من وطء أخته من نسبٍ أو رضاع أو بملك اليمين فصل : القول في وجوب المهر على من وطئ جارية ابنه وأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ فَهُوَ معتبر بوجود الْحَدِّ وَسُقُوطِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِكَوْنِهِ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي حَقِّهِ، يُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ فَاقْتَضَى لُزُومَ الْمَهْرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَيَكُونُ الْمَهْرُ حَقًّا لِابْنِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنَ اكْتِسَابِ أَمَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنِ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَتْ شُبْهَتُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُنْظَرُ فِي شُبْهَةِ الْأَمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً قَهْرَهَا الأب على نفسها ثبت شُبْهَتُهَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا، فَوَجَبَ الْمَهْرُ فِي وَطْئِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا، وَكَانَتْ مُطَاوِعَةً، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِذْ هِيَ أَمَةٌ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ لها، لأنها بالمطاوعة قد صَارَتْ بَغِيا وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ " وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي. والقول الثاني: لها المهر ويملكه الحد، لأنه من أكسابه فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُطَاوَعَتِهَا وَخَالَفَتِ الْحُرَّةُ الَّتِي تَمْلِكُ مَا أَبَاحَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا تَمْلِكُهُ الْأَمَةُ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ بَذَلَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 قُطِعَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهَا لَمْ يَضْمَنْهُ الْقَاطِعُ، لِأَنَّ الْبَاذِلَ لَهُ مَالِكٌ، وَلَوْ بَذَلَتْهُ الْأَمَةُ ضمنه القاطع، لأن الباذل له غير مالك، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي تحريم الجارية بعد وطء أبيه وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ فَالتَّحْرِيمُ من وجهين: أحدهما: تحريمها على الابن. والثاني: تحريمها على الأب. فأما تحريمها عَلَى الِابْنِ فَمُعْتَبَرٌ بِوَطْءِ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ موجباً للحد لم يحرم بِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ حَرُمَتْ بِهِ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ صَرَفَتْهُ إلى حكم الوطء الحلال، وأما تحريمها عَلَى الْأَبِ إِنَّ حُكْمَهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِابْنِ، وإن كَانَ قَدْ وَطِئَهَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ كَزَوْجَةِ الِابْنِ إِذَا وَطِئَهَا الْأَبُ بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا معاً، وإن كان بحال الابن فإن وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَبِ أَنْ يَطَأَهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ قَبَّلَهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَبِ قَوْلَانِ. فصل : القول في وجوب قيمة الجارية وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ فَلَا يَجِبُ سَوَاءً حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ أو لم يحرمها. وقال الْعِرَاقِيُّونَ: إِنْ حَرَّمَهَا عَلَى الِابْنِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عليه، هذا خَطَأٌ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى ثَمَنِهَا بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بالتحريم غُرْمٌ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ بِلَبَنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْزَمْهَا غُرْمُ قِيمَتِهَا لوصوله إلى ثمنها، لكن لَوْ كَانَتْ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْأَبُ لَزِمَهُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عُضْوًا مِنْ بَدَنِهَا فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ وَطْئِهِ إِذَا لَمْ تحبل. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا أَحْبَلَهَا الْأَبُ بِوَطْئِهِ فَالْأَحْكَامُ الأربعة لازمة له، ويختص بإحباله لها أربعة أحكام: أحدها: لحوق الولد به. وَالثَّانِي: كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ قِيمَتِهَا. وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ. فَأَمَّا لُحُوقُ الْوَلَدِ به فإن وجب الحد عليه لم يحلق بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ وَلُحُوقُ الْوَلَدِ يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فَتَنَافَيَا، وإذا كان كذلك ووجب الحد فصار زانياً، وولد الزنا لا يلحق الزَّانِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ويكون الولد مرفوقاً لِلِابْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْأَبِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي إِدْرَاءِ الحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 موجبة للحوق الولد، وإذا لحق به الولد صَارَ حُرًّا لِأَنَّهُ مِنْ شُبْهَةِ مِلْكٍ فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْوَلَدِ مِنْ مِلْكٍ كَمَا أَنَّ الولد من شبهة نكاح في نكاح الولدين نكاح. فصل وأما كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ، فَإِنْ لم يلحق به لم تصر له أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أنها تعتبر لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ - إنها لا تصير أُمَّ وَلَدٍ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ فَإِذَا قِيلَ: بِالْأَوَّلِ إِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، فَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لحق به ولدها بشبهة الملك كلحوقه به في الْمَالِكِ وَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ كَمَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْمِلْكِ. وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَصِيرُ أم ولد، وهو اختيار المزني فوجهه أَنَّهُ أَوْلَدَهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَلَمْ تَصِرْ به أم ولد وإن عتق الْوَلَدُ كَالْغَارَّةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بِشَرْطِ الْحُرِّيَّةِ فَتَكُونُ أمة، فإن ولده منه حر ولا تصير له أم ولدٍ، فأما المزني فإنه استدل بصحة هَذَا الْقَوْلِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إنْ قَالَ قَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ لِلِابْنِ أَنَّ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بأمته، ولو أولدها هذا الوطء الحلال لم تصر به أُمَّ وَلَدٍ فَكَيْفَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِوَطْءٍ حَرَامٍ؟ وَالثَّانِي: إنْ قَالَ: لَيْسَ الْأَبُ شَرِيكًا فِيهَا فَيَكُونُ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا فَتَصِيرُ بِهِ إِذَا أَوْلَدَهَا أُمَّ وَلَدٍ، لأن الشريك مَلِكا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مِلْكٌ. وَالثَّالِثُ: إنْ قَالَ لَمَّا لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَلَهُ مِلْكُ فُلَأن لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ أَوْلَى فَانْفَصَلَ أَصْحَابُنَا عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ ترجيحاً للقول الأول. فإن قَالُوا: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ بِأَمَتِهِ وَلَا تَصِيرُ بِالْإِحْبَالِ أُمَّ وَلَدٍ فَمَدْفُوعٌ عَنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ دَفْعِهِ عنه فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ينسبان المزني إلى السهو والغفل في نقله، وإنه غلط في تزويجه لجارية أبيه إلى تزويجه لجارية ابْنِهِ وَمَنَعُوا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ، وَإِنْ حَلَّ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ الْأَبِ، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ ذَلِكَ نَصًّا فِي " الدعوى والنيات " لِأَنَّ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَعِفَّ أَبَاهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَعِفَّ ابْنَهُ فَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَمَتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّزْوِيجِ بِأَمَةِ الِابْنِ، لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ يَعْدَمِ الطَّوْلَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا صَارَ بِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ، فَعَلَى هَذَا اسْتِدْلَالُهُ مَدْفُوعٌ بِغَلَطِهِ وَقَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 آخَرُونَ: بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي تَزْوِيجِ الْأَبِ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ للشافعي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِابْنَ إِعْفَافُ أَبِيهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِعْفَافُ ابْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَوَّزَ تَزْوِيجَهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ إِعْفَافُهُ عَلَى الِابْنِ وَاجِبًا، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَزْوِيجُهُ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَمْلُوكًا فَزَوَّجَهُ بِأَمَتِهِ، لِأَنَّ إِعْفَافَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأَمَةِ وهو إليها محتاج فزوجه بأمته، لأنه معسراً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْفَافُ أَبِيهِ، وَلَوْ كَانَ معسراًَ لَمْ يَجُزْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ أَوْ عَلَى مَا تقدم من الوجه العام فتزويج أَبِيهِ بِأَمَتِهِ لَمْ تَصِرْ بِإِحْبَالِ الْأَبِ أُمَّ ولد فإن صَارَتْ بِإِحْبَالِهِ لَهَا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ أُمَّ وَلَدٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فانتشرت حرمته وتعدت إلى أمه فصارت به أُمَّ وَلَدٍ، وَإِذَا وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ كَانَ الولد مملوكً ليس له حرمة حرية تقعد إلى الأمم فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثاني: في أنه ليس بمالك فخالف الشرك الْمَالِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ حصة غير الواطىء أم ولد للواطىء، وليست مِلْكًا لَهُ وَلَا لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ فَلَأَنْ تَصِيرُ جَارِيَةُ الِابْنِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ، لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ أَوْلَى. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّالِثُ: بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِرْ حِصَّةُ الشَّرِيكِ بِاعْتِبَارِ الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لِلشَّرِيكِ الْوَاطِئِ وَلَهُ مِلْكٌ فَلَأَنْ لَا تَصِيرَ لِلْأَبِ الَّذِي لَيْسَ له ملك أولى، فهو خطأ، لأن إعسار الْأَبِ مُخَالِفٌ لِإِعْسَارِ الشَّرِيكِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَقْوَي شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ لِوُجُوبِ إِعْفَافِهِ وَالشَّرِيكُ تَضْعُفُ شُبْهَتُهُ بِإِعْسَارِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عِتْقُهُ إِلَى حِصَّةِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ يَسَارُ الْأَبِ مُخَالِفٌ لِيَسَارِ الشريك، لأن الْأَبِ مُسَاوِيًا لِيَسَارِ الشَّرِيكِ لَا لِإِعْسَارِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ يَسَارَهُ مُوجَبٌ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فكذلك الأب. فَصْلٌ فَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَتِهَا عَلَى الْأَبِ فَعَلَى ضربين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 أحدهما: أن يلحق بها وَلَدُهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ، أَوْ لَا تَمُوتَ، فَإِنْ لَمْ تَمُتْ بِالْوِلَادَةِ فليس عليها قِيمَتُهَا، لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى رِقِّ الِابْنِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَيْعِهَا وَأَخْذِ ثَمَنِهَا وَإِنْ مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهَا عَلَيْهِ لِأَجْلِ اسْتِهْلَاكِهِ لها لا أجل كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ " الْغَصْبِ ". أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا، لِتَلَفِهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا، لِأَنَّ نُشُوءَ الْوَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ موتها ليس من فعله ولجواز أن يكون موتها بغيره، فعلى هذا إن قبل الأول إنَّهُ غَارِمٌ لِلْقِيمَةِ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كانت من وقت الوطئ المحبل، وإلى وَقْتِ التَّلَفِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَلَمْ تَمُتْ ضِمْنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَلَا ضَمَانُ نَقْصِهَا، فَهَذَا حُكْمُ ضَمَانِهَا إِذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ولدها. فأما إذا لحق بها وَلَدُهَا، فَإِنْ جَعَلْنَاهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعُلُوقِ، لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ أُمَّ ولد، وسوء مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ أَوْ لَمْ تَمُتْ، وَسَوَاءً كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا وَجْهَ لِمَا فَرَّقَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّنَا جَعَلْنَاهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَاسْتَوَتِ الْحَالُ في يساره وإعساره ولو جعلناها في اعتبار الْوَاطِئِ أُمَّ وَلَدٍ لَأَدْخَلْنَا على الشريك الضرر ولم ترفعه عنه، وإن لم يجعلها لِلْأَبِ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ فَيَلْزَمُهُ غُرْمُ قِيمَتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا بخلاف التي لم تلحق بِهِ وَلَدُهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ وَلَدَ هَذِهِ لَاحِقٌ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُتَّصِلًا بِهِ وَوَلَدُ تِلْكَ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ فَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لا تموت فلا يلزمها قيمتها مدة لَا فِي حَالِ الْحَمْلِ وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ وقال أبو حامد الإسفراييني: يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا مُدَّةَ الْحَمْلِ إِلَى أَنْ تَضَعَ، فإذا وضعت استرجع القيمة، لأن لابن مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهَا بِإِحْبَالِ الْأَبِ لَهَا لِكَوْنِ وَلَدِهَا حُرًّا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا مَعَ الْوَلَدِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ وَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ دُونَ وَلَدِهَا لَا يَصِحُّ، فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا أَبِقَتْ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِقِيمَتِهَا حَتَّى إِذَا عَادَتْ رُدَّتِ الْقِيمَةُ كَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ، وَتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ، وَالْعَيْنُ هَاهُنَا مَوْجُودَةٌ وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 الْبَيْعِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ بَقَائِهَا فِي يده وتصرفه فيها أن يجمع بينهما وبين قيمتها بخلاف المغصوبة إذا أبقت فلم يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا يَدٌ، وَلَا هُوَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِهَا قَادِرٌ وَلَيْسَ مَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ مِنْ تَأْخِيرِ بَيْعِهَا إِلَى وَقْتِ الْوَضْعِ مُوجِبًا لِأَخْذِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى التَّسْلِيمِ كَالْمَغْصُوبَةِ إِذَا هَرَبَتْ إِلَى مَكَانٍ مَعْرُوفٍ يُؤْخَذُ الْغَاصِبُ بِرَدِّهَا وَلَا يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهَا كذلك هذه في مدة حملها فهذه وجه لم يُفْسِدْ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ إِذَا مُلِكَتْ مِلْكًا مستقراً في الظاهر، لأن المقصود بِهِ إِذَا أَبِقَتْ يُحْكَمُ بِقِيمَتِهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَوَاتِ وَهَذِهِ الْقِيمَةُ لَا تُمْلَكُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَإِنَّمَا تَصِيرُ فِي يَدِهِ إِمَّا كَالْعَارِيَةِ، وِإِمَّا كَالرَّهْنِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِوَاجِبٍ فَلِمَاذَا يُحْكَمُ بِهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ وَلَا مُعَارَةٍ، وَلَا مَرْهُونَةٍ، يَفْسَدُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ جامعاً بين الرقبة والقيمة وأحدهما بدل من الآخر فلم يجز الجمع بينهما. فَصْلٌ وَأَمَّا وُجُوبُ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَا يَلْحَقُ بِالْأَبِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِبَقَاءِ رِقِّهِ وَلَا يُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ وَلَوْ نَاسَبَهُ لَنَاسَبَهُ بِالْأُخُوَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الولد حراً قد لحق بِالْأَبِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تُجْعَلَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَسْتَبْقِيهَا عَلَى رِقِّ الِابْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْأَبِ غُرْمُ قِيمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ رِقَّهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَاعْتَبَرَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ. وَقَالَ أبو يوسف: وَقْتَ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِتَقَدُّمِ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ وَقْتَ الْعُلُوقِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوُصُولَ إِلَى قِيمَتِهِ إلا عند الولادة فلذلك اعْتَبَرْنَاهَا فِيهِ وَلَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى قِيمَتِهِ وقت العلوق لاعتبرناه. والضرب الثاني: أن يجعل أُمَّهُ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن يضعه بَعْدَ دَفْعِ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ قِيمَةُ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَصَارَتْ وَاضِعَةً لَهُ فِي مِلْكِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ دَفْعِ قِيمَتِهَا، وفي وجوب قيمته قولان مبنيان على اختلاف قوليه مَتَى تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِنَفْسِ الْعُلُوقِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَضَعُهُ بَعْدَ كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ قِيمَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْوِلَادَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا حُكْمُ وَطْءِ الأب جارية ابنه، وذلك لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ بِنْتِهِ، أَوْ بِنْتِ ابْنِهِ، أَوِ ابْنِ بِنْتِهِ، أَوْ مَنْ سَفَلَ مِنْ أولاده والله أعلم. فصل فأما إذا وطء الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ فَهُوَ زَانٍ وَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يَجْهَلِ التَّحْرِيمَ بِخِلَافِ الْأَبِ لما قدمناه من الفرق بينهما في التسمية فِي الْإِعْفَافِ، وَفِي الْحُرْمَةِ فِي الْقِصَاصِ فَيَجْرِي عليهم حُكْمُ الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ إِنْ أَكْرَهَهَا وَفِيهِ إِنْ طَاوَعَتْهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 قَوْلَانِ: لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا وَلَا تَصِيرُ به أم ولد وفي وجوب قيمتها قَوْلَانِ: وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهَا لِإِسْلَامِهِ حَدِيثًا أو قدومه من بادية صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَلَحِقَ به الولد مملوكاً في حال العلوق؛ لأنه لَمْ يَكُنْ لَهُ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَبِ وَلَا أعتقد حرية الْمَوْطُوءَةِ كَالْغَارَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ فِي حَالِ الْعَلُوقِ مَمْلُوكًا لَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ، وَمَنْ مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ رِقَّهُ لَمْ يَمْلِكْ قِيمَتَهُ ولا تصير الأمة أم الولد للابن فِي الْحَالِ وَلَا إِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ لِأَنَّهَا مَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ وَإِنَّمَا صَارَ بَعْدَ الْوَضْعِ حُرًّا فَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهَا حَكَمُ حُرِّيَّتِهِ كَمَا لَوْ أَوْلَدَهَا مِنْ نِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عَلَقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ، هكذا حكم الابن إذا وطء جَارِيَةَ أَبِيهِ، أَوْ جَدِّهِ، أَوْ جَدَّتِهِ، أَوْ وطء الأخ جارية أخيه. فصل 4: وإذ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابنه ووطء الابن جارية أبيه قد ذكر مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِعْفَافِ صَاحِبِهِ. أَمَّا الِابْنُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ نفقة الابن بعد الكبر مستصحبة لحال الصِّغَرِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِيهَا الْإِعْفَافُ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْكِبَرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الصغر، فأما الْأَبُ فَوُجُوبُ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ مُعْتَبَرٌ بِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَا إِعْفَافُهُ، وَإِنْ كَانَ معسراً نظر فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ بِزَمَانَةٍ أَوْ هَرَمٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ اعْتِبَارًا بِفَقْرِهِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِقُدْرَتِهِ. فَإِنْ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْأَبِ لَمْ يَجِبْ إِعْفَافُهُ وإن وجبت نفقه، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَاجَةٌ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الِابْنِ تَزْوِيجُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى النِّكَاحِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَقَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْفَافُهُ وَإِنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اعْتِبَارًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالِابْنِ فِي أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ إِعْفَافِهِ لَوِ احْتَاجَ. وَالثَّانِي: بالأم في أن وجوب نفقتها لا تقتضي وجوب إعفافها لو احتاجت، وإن كَانَ إِعْفَافُهُ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَدْنَى سَقَطَ بِالِابْنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالطَّرَفِ الْأَعْلَى سَقَطَ بِالْأُمِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ " وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِعْفَافَهُ وَاجِبٌ كَنَفَقَتِهِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) {لقمان: 15) وإنكاحه مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وُقِيَتْ نَفْسُ الْأَبِ بِنَفْسِ الِابْنِ فَلَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْأَبِ بِالِابْنِ فأولى إن توفى نفسه بِمَالِ الِابْنِ فِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 الْإِعْفَافِ لِلِافْتِرَاقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَبِ، وَالْأُمِّ فِي الْإِعْفَافِ هُوَ أَنَّ إعفاف الأب إلزام فَوَجَبَ عَلَى الِابْنِ وَإِعْفَافَ الْأُمِّ اكْتِسَابٌ فَلَمْ يجب على الابن. فصل فإذا تقرر وجوب الْأَبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الْآبَاءِ. وَالثَّانِي: فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ القول فيمن يجب إعفافه من الآباء فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَنْ يَجِبُ إِعْفَافُهُ مِنَ الآباء فهو كل والد فيه بعضيه وإن علا وسواء كَانَ ذَا عَصَبَةٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأَبِي الْأَبِ أَوْ كَانَ ذَا رَحِمٍ كَأَبِي الْأُمِّ وَهُمَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ سَوَاءٌ، وَهَكَذَا أبو الأب وأبو الْأُمِّ، وَهَكَذَا أَبُو أُمِّ الْأَبِ وَأَبُو أُمِّ الأم هما سواء في الزوج وَسَوَاءٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ وَهَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَ دَرْجُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَبَا أَبٍ، وَالْآخَرُ أَبَا أُمٍّ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا وَإِعْفَافُهَا إِذَا أَمْكَنَ تَحَمُّلُ الْوَلَدِ لَهُمَا. فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ أَبَوَانِ وَضَاقَتْ حَالُ الِابْنِ عَنْ نَفَقَتِهِمَا وَإِعْفَافِهِمَا وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون أحدهما عصبة والآخر ذا رحم كأبي أب الأب وأبو أم الأم فالعصبة مِنْهُمَا أَحَقُّ بِتَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ وَإِعْفَافِهِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا ذَا رَحِمٍ كَأَبِي أُمِّ الْأَبِ وَأَبِي أب الْأُمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ أَبَوَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالتَّعْصِيبِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الدَّرَجَةِ وَالرَّحِمِ، وإذا كان كذلك وجب أن يسوي بينهما لاستوائهما في كَيْفِيَّةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا إِذَا أَعْجَزَهُ الْقِيَامُ بِهِمَا وجهان: أحدهما: يتفق عَلَى أَحَدِهِمَا يَوْمًا وَعَلَى الْآخَرِ يَوْمًا لِتَكْمُلَ نَفَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَوْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ واحد منهما في كل يوم نصف نفقته لِتَكُونَ النَّفَقَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ المهاياة بينهما عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ، وَالْقِسْمَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ وَإِذَا لم يمكنا وجب مع استواء سيدهما أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِعْفَافِ مِنَ الْآخَرِ، وَأَمَّا إِنْ تَفَاضَلَا فِي الدَّرَجِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ عَصَبَةً وَالْأَبْعَدُ ذَا رَحِمِ كَأَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ أَبُو الْأَبِ أَحَقَّ بِالنَّفَقَةِ وَالْإِعْفَافِ مِنْ أَبِي أم الأم لاختصاصه بسببي القربى والتعصيب. والضرب الثاني: أن يكونا لأقرب ذَا رَحِمٍ وَالْأَبْعَدُ عَصَبَةً كَأَبِي الْأُمِّ وَأَبِي أبي الأب فقد قال أبو حامد الإسفراييني: هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْهُمَا نَاقِصُ الرَّحِمِ وَالْأَبْعَدَ مِنْهُمَا زَائِدٌ بِالتَّعْصِيبِ فَتَقَابَلَ السَّبَبَانِ فَاسْتَوَيَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلِ الْأَقْرَبُ مِنْهُمَا أَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مِنَ الْأَبْعَدِ، وَإِنْ كَانَ ذَا تَعْصِيبٍ لِأَنَّ المعنى في استحقاق النفقة والإعفاف هو الولاية دون التعصيب فلما تَسَاوَتِ الدَّرَجُ وَقَوِيِ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْصِيبِ كَانَ أَحَقَّ كأخوين أحدهم لأب وأم والآخر لأب. وإذا اختلف الدَّرَجُ كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ وَإِنْ قَوِيَ الْآخَرُ لتعصيب كَأَخٍ لِأَبٍ وَابْنِ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ. فَصْلٌ: القول فيمن يجب عليه الإعفاف وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْفَافُ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَهُمُ الْبَنُونَ، ثُمَّ الْبَنَاتُ، ثُمَّ بَنَوْهُمَا وَإِنْ بَعُدُوا فَيَجِبُ عَلَى الِابْنِ إِذَا كَانَ حُرًّا مُوسِرًا دُونَ الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً كَمَا يَتَحَمَّلُ الْأَبُ نَفَقَةَ ابْنِهِ دُونَ الْأُمِّ فَإِنْ أُعْسِرَ بِهِ الِابْنُ تَحَمَّلَتْهُ الْبِنْتُ كَمَا لَوْ أُعْسِرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْها الْأُمُّ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ ابْنَانِ مُوسِرَانِ تَحَمَّلَا بَيْنَهُمَا نَفَقَتَهُ وَإِعْفَافَهُ فَيَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ نِصْفَ الْإِعْفَافِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ لِنِصْفِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا تَحَمَّلَ ذَلِكَ الْمُوسِرُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُعْسِرِ فَلَوْ أُيْسِرَ الْمُعْسِرُ وَأُعْسِرَ الْمُوسِرِ تَحَوَّلْتِ النَّفَقَةُ مِنَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمُوسِرِ فَأَمَّا الْإِعْفَافُ فَإِنْ كَانَ قد عجز مَنْ أُعْسِرَ سَقَطَ عَمَّنْ أُيْسِرَ إِلَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِعْفَافِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يحمله من أعسر وجب أن يَلْتَزِمَهُ مَنْ أُيْسِرَ، فَلَوْ كَانَ لِلْأَبِ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ وَهُمَا مُوسِرَانِ كَانَ ابْنُ الِابْنِ أحق بتحملها مِنَ الْبِنْتِ كَمَا يَكُونُ الْجَدُّ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِ النَّفَقَةِ مِنَ الْأُمِّ، فَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنُ بِنْتٍ وَبِنْتُ ابْنٍ، فَفِي أَحَقِّهِمَا بِتَحَمُّلِ الْإِعْفَافِ وَالنَّفَقَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ابْنُ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرٌ. وَالثَّانِي: بِنْتُ الِابْنِ لِإِدْلَائِهَا بِذَكَرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ يُدَلَى بِأُنْثَى وَالْأُنْثَى مُدْلِيَةٌ بِذَكَرٍ فَصَارَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَلَوْ أَعَفَّ الِابْنُ أَبَاهُ ثم أيسر الأب سقطت عن الابن نفته ونفقة مَنْ أَعَفَّهُ بِهَا مِنْ زَوْجَةٍ. أَوْ أَمَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَبِيهِ بِالْأَمَةِ إِنْ كَانَ قَدْ أَعَفَّهُ بِهَا وَلَا بِصَدَاقِ الْحُرَّةِ إِنْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّهُ بِسَبَبٍ لَا يُعْتَبَرُ اسْتَدَامَتُهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ عَدَمِ الطَّوْلِ، وَخَوْفِ العنت بعد نكاح الأمة. فصل: القول فيما يكون به الإعفاف وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِعْفَافُ فَهُوَ مَا خَصَّ الْفَرْجَ مِنَ اسْتِمْتَاعٍ بِحُرَّةٍ بزوجه بها أو تسري بأمة يملكها إياها والخيار سفيه بَيْنَ التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي إِلَى الِابْنِ دُونَ الْأَبِ، فإن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَتَزَوَّجُ الْأَبُ وَيَلْتَزِمُ الِابْنُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ ثُمَّ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُغَالِيَ فِي صَدَاقِ زَوْجَتِهِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ صَدَاقِ مَنْ تُكَافِئُهُ مِنَ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِحَاجَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى تَزْوِيجِ مَنْ لَا مُتْعَةَ فِيهَا مِنَ الْأَطْفَالِ، وَعَجَائِزِ النِّسَاءِ، وَذَوَاتِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ وَمَنْ تَشَوَّهَ خلقها لنفور النفس عنها، وَتَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا مَنْ عَدِمَ الطَّوْلَ وَهُوَ بِالِابْنِ وَاجِدٌّ لِلطَّوْلِ فهذا حكم إعفافه بالتزويج. فأما إعفافه بملك اليمين فَالِابْنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَهَبَ لَهُ أَمَةً مِنْ إِمَائِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِبَذْلٍ وَقَبُولٍ وَإِقْبَاضٍ؛ لِيَنْتَقِلَ بِصِحَّةِ الْهِبَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ واستقرارها بالقبض في مِلْكِ الِابْنِ إِلَى مِلْكِ الْأَبِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي ابْتِيَاعِ أَمَةٍ يَدْفَعُ عَنْهُ ثَمَنَهَا، فَإِنِ ابْتَاعَهَا الِابْنُ لَهُ نُظِرَ، فَإِنْ كان بإذنه صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لاستقرار حكمه فيها وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالشِّرَاءُ لِلِابْنِ دُونَ الأب؛ لأن الشراء للرشيد بغير إذنه لا يَصِحُّ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الِابْنُ هِبْتَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ بِالْهِبَةِ دُونَ الشِّرَاءِ وَجَازَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا ثُمَّ عَلَى الِابْنِ الْتِزَامُ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا كَالْحُرَّةِ فَلَوْ أَذِنَ الِابْنُ لِأَبِيهِ فِي وَطْءِ أَمَةٍ لَهُ لَمْ يَهَبْهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ وَطْئُهَا لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ وَطْئُهَا إِلَّا بِمِلْكِ يمين أو عقد نكاح، والأب لا يَمْلِكْهَا بِهَذَا الْإِذْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِوُجُودِ الطَّوْلِ، فَلَوْ زَوَّجَهُ الِابْنُ أَوْ سَرَّاهُ فَأَعْتَقَ الْأَبُ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمِ الِابْنَ أن يزوجه ويسر به ثانية بعد طلاقه؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدِ اسْتَهْلَكَ بِنَفْسِهِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ أُلْزِمَ الِابْنُ مَثَلَهُ لِفَعَلَ الْأَبُ مِثْلَهُ فَأَدَّى إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَكِنْ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْأَمَةُ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَفِي وُجُوبِ إِعْفَافِهِ عَلَى الِابْنِ ثانية وجهان: أحدهما: يجب عليه لِبَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُوضَعُ لِلتَّأْبِيدِ فِي الْأَغْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وقال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (المؤمنون: 5) الآية وفي ذلك دليلٌ على أن الله تبارك وتعالى أراد الأحرار لأن العبيد لا يملكون وقال عليه السلام " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلا أن يشترطه المبتاع " فدل الكتاب والسنة أن العبد لا يملك مالاً بحالٍ وإنما يضاف إليه ماله كما يضاف إلى الفرس سرجه وإلى الراعي غنمه (فَإِنْ قِيلَ) فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ العبد يتسرى (قيل) وقد روي خلافه قال ابن عمر رضي الله عنهما لا يطأ الرجل إلا وَلِيدَةً إِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا وإن شاء صنع بها ما شاء ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 قال الماوردي: إنما أراد الشافعي بهذا هل للعبد أن يسري وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّيِّدُ لَمْ يَمْلِكْ وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا يَكْتَسِبُهُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ إحشاش أو بصنعة أَوْ عَمَلٍ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، وَإِنْ مَلَكَهُ السيد فهل يملك أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مِلْكًا ضَعِيفًا لَا يَتَحَكَّمُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَلِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِلْكٌ قَوِيٌّ يَتَحَكَّمُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ لَكِنْ للسيد استرجاعه. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ ". فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ وَأَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَمَةٍ فَإِنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ السَّيِّدُ إِيَّاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أن يستبيح إلا وطء زوجة، وملك يَمِينٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لِلْعَبْدِ فِي وَطْئِهَا زَوْجَةً لَهُ، وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَلَمْ يحل له وطئها؟ ؟ لمجرد الْإِذْنِ كَمَا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَطَأَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ إياها فعلى قوله في القديم يصير مالكاً لها وليس له أن يطأها متسرباً لَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ فِي وطئها وإن صار مالكاً لها؛ لأنه ملك ضَعِيفٌ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا جَازَ له حينئذ التسري بها لَمْ يَرْجِعِ السَّيِّدُ فِي مِلْكِهِ أَوْ إِذْنِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أن يتسرى بها بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن العبد يتسرى وإن رجع السد في ملكه حرم على السيد أن يَتَسَرَّى بها لِزَوَالِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَبَاحَ بِهِ التَّسَرِّيَ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَوْلَدَهَا صَارَتْ أم ولد له وحرم عليه بيعها فإن رجع السيد عليها بِهَا جَازَ لِلسَّيِّدِ بِيعُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. فأما عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ وإن ملكه السيد ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَجَازَ لِعِكْرِمَةَ أَنْ يَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَالْمَرْوِيُّ خِلَافُهُ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ زَوَّجَهُ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا عِكْرِمَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَكَانَ ابن عباس رد طلاق لَا يَقَعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَأَمَرَهُ بِالْمُقَامِ عَلَيْهَا فَكِرَهَ عِكْرِمَةُ ذَاكَ فَأَبَاحَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بها تطيباً لنفسه ومعتقداً أن الإباحة لعقد النِّكَاحِ. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ مَا ذُكِرَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يطأ الرجل إلا وَلِيدَةً إِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَحْرَارَ دُونَ الْعَبِيدِ لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا الْعَبْدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لمكان الشبهة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 فَصْلٌ فَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ ثُمَّ باعها أو أحدهما أو وهبهما أَوْ أَحَدَهُمَا كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ وَلَوْ وَهَبَ الْعَبْدَ لِزَوْجَتِهِ وَأَقْبَضَهَا إِيَّاهُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي القديم يملكه بِالْهِبَةِ وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أن تملك زوجها فتكون بعد الملك زوجاً لها وهكذا لو وهبت الْأَمَةُ لِزَوْجِهَا مِلْكَهَا وَبَطَلَ نِكَاحُهَا وَعَلَى قَوْلِهِ في الجديد لا يصح الهبة ويكون النكاح بحاله. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يَحِلُّ أَنْ يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ بحالٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّسَرِّي فَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى إِذَا كانت من ذوات المتع سُرِّيَّةً وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ من الاستمتاع. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرُورِ، لِأَنَّهَا تُسِرُّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا. فَأَمَّا تَسَرِّي الْعَبْدِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُخَارِجِ وَالْمُعَتَقِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تُوجَدْ وَالْمُكَاتَبِ، فَأَمَّا مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا ونصفه مملوكاً فهو يملك بعضه الْحُرَّ مِنْ إِكْسَابِهِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ فَإِنْ هَايَأَهُ السَّيِّدُ عَلَى يَوْمٍ وَيَوْمٍ كَانَ مَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِهِ مِلْكًا لَهُ وَمَا كَسَبَهُ فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يُهَايِئْهُ كَانَ نِصْفُ مَا كَسَبَهُ الْعَبْدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَلِكًا لِنَفْسِهِ ونصفه ملكاً للسيد فإذا اشترى بما ملكه مِنْ كَسْبِهِ أَمَةً مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا؛ لِأَنَّهُ ملك بحريته بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَطْئُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ مَلَكَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فكذلك في تسريه. والثاني: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَتَمَيَّزُ فِي أَعْضَائِهِ مِنَ الرِّقِّ فَكُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ مُشْتَرَكُ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ بِعُضْوٍ بَعْضُهُ مَرْقُوقٌ لِلسَّيِّدِ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ موقوفاً، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّرْطُ فِي إِبَاحَةِ تَسَرِّيهِ إِذْنُ السَّيِّدِ دُونَ تَمْلِيكِهِ وَإِنِ افْتَقَرَ فِي العبد إلى تمليكه وإذنه، لأن هذا مالك فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَمْلِيكِهِ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ فافتقر إلى تمليكه فإذا أَذِنَ لَهُ جَازَ تَسَرِّيهِ، فَإِنْ أَوْلَدَهَا صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَحَرُمَ بَيْعُهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا مُلِّكَتْ بَحْرِيَّتِهِ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أُمَّهَاتِ الأولاد، وَكَانَ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُرِّيَّتِهِ دُونَ رقه. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُ حاملٍ مِنْ زِنًا وَأُحِبُّ أن تمسك حتى تضع وقال رجل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لامسٍ قَالَ " طلقها " قال إني أحبها قال " فأمسكها " وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً وامرأةً في زناً وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّنَا نَكْرَهُ لِلْعَفِيفِ أَنْ يتزوج بالزانية وَنَكْرَهُ لِلْعَفِيفَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 بِالزَّانِي لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا} الآية (النور: 3) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي الرَّجُلِ إِذَا زَنَا بِامْرَأَةٍ هَلْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟ وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زَنَتْ هَلْ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟ . فأما الفصل الأول في الرجل إذا زنا بِامْرَأَةٍ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ قَوْلُ جمهور الصحابة والفقهاء، وذكر عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ. وَقَالَ أبو عبيدة وَقَتَادَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا حَلَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا لَمْ يَحِلَّ. قَالُوا: وَالتَّوْبَةُ أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فَلَا يَهُمُّ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (النور: 3) فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَنْعِ وَتَعَقَّبَ مِنَ التَّحْرِيمِ نَصًّا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) {النساء: 24) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْعَفِيفَةِ وَالزَّانِيَةِ. وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَهَذَا نَصٌّ؛ ولأنه منتشر في الصحابة بالإجماع روي ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلاً تزوج امرأة وكان لها ابن عم مِنْ غَيْرِهَا وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ غَيْرِهِ فَفَجَرَ الْغُلَامُ بِالْجَارِيَةِ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ مَكَّةَ رَفَعَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا، فَجَلْدَهُمَا عمر الحد وعرض أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الْغُلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أمة وعبد فَظَهَرَ بِالْأَمَةِ حَمْلٌ فَاتَّهَمَ بِهَا الْغُلَامَ فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ وَكَانَ لِلْغُلَامِ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ، فَقَالَ: لَهُ إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَهُ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ جِلْدَتُكَ فقال: نعم، فَوَضَعَتْ وَلَدًا لَهُ أصْبَعٌ زَائِدَةٌ فَجَلَدَهُ ثُمَّ زَوَّجَهُ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سئل أيتزوج الزاني بالزانية، فقال: نعم، ولو سرق رجل من كرم عنباً لكان يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا ولَمْ يَصِحَّ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَصَارَ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في امرأة يقال لها أم مهزول مِنْ بَغَايَا الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّايَاتِ، وَشَرَطَتْ له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وهذا قول عبد الله بن عمرو وَمُجَاهِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ وَالزَّانِيَةَ لَا يزني بها إلا زان، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوِلَايَةَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ، وَنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ عَلَى الزَّانِي ثُمَّ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء} وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي زَوْجَةِ الرَّجُلِ إِذَا زنت هل ينفسخ نِكَاحُهَا أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أن النكاح صحيح لا ينفسخ بزناها وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ إِلَّا حِكَايَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ بَطَلَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لتحريم اجتماع المائين في فرج. وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ قَالَ: طَلِّقْهَا قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ اسْتَمْتِعَ بِهَا، فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامَسٍ " عَنِ الزِّنَا فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَوِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالزِّنَا لَمَا احْتَاجَ إِلَى طَلَاقٍ ثُمَّ لَمَّا أخبره أنه يُحِبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ لَنَهَاهُ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَأَعْلَمَهُ تَحْرِيمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ " أَنَّهَا لَا تَرُدُّ مُتَصَدِّقًا طَلَبَ مِنْهَا مَالَهُ. قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَقَالَ لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَكُونُ مُلْتَمِسًا وَاللَّامِسَ يَكُونُ مُبَاشِرًا فَلَمَّا عَدَلَ إِلَى يَدِ لَامِسٍ خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لَمَا خَرَجَ قَوْلُهُ فيها مخرج الذم ولما أمر بِطَلَاقِهَا وَلَأَمَرَهُ بِإِحْرَازِ مَالِهِ مِنْهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أسوداً فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَلَّ عِرْقًا نَزعَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ كِنَايَةً عن زناها بأسود فلم يحرمها عليه، وَلِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا بِالزِّنَا حَرَامًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَزْنُوا فَتَزْنِي نِسَاؤُكُمْ فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ زَنَوْا فَزَنَتْ نِسَاؤُهُمْ " الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَقَائِهِمْ مَعَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ الزنا، فأما تحريم اجتماع المائين في فرج فنحن على تحريمهما وإذا اجتمعا ثبت حكم الحلال منهما، وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَرَامِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ في الزنا هل يتعلق عليه شيء من أَحْكَامِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الزِّنَا: هَلْ ينتشر عنه حرمته في تحريم المصاهرة حتى تحرم عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَيَحْرُمَ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ أم لا؟ والكلام فِي هَذَا بَابٌ مُفْرَدٌ يَأْتِي نَحْنُ نَذْكُرُهُ فيه. ال فصل الثاني: هل لما ذكرناه حُرْمَةٌ تَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا مِنَ الزِّنَا أو حائلاً، وسواء كانت ذات زوج فيحل لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْحَالِ أَوْ كَانَتْ خَلِيَّةً فَيَجُوزُ لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا غير أننا نكره له وطئها فِي حَالِ حَمْلِهَا حَتَّى تَضَعَ. وَقَالَ مَالِكٌ وربيعة والثوري والأوزاعي وإسحاق: عليها العدة من وطء الزنا بالإقرار إن كانت حائلاً ووضع الحمل إن كان حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَرُمَ عَلَيْهِ وطئها حتى تنقضي العدة بالإقرار أَوِ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً حَرُمَ عَلَى الناس كلهم نكاحها حتى تنقضي عدتها بالإقرار أو بالحمل. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وأبو يوسف: إِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَرُمَ نِكَاحُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يَحْرُمْ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَعْتَدَّ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَحْرُمُ نِكَاحُهَا حَامِلًا وَلَا حَائِلًا لَكِنْ إِنْ نَكَحَهَا حَامِلًا حَرُمَ عَلَيْهِ وطئها حتى تضع. فأما مالك فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ ". وَأَمَّا أبو يوسف فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُوْلاَتِ الأحْمَالِ أَجَلَهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ "، وَأَنَّ عُمَرَ حِينَ جَلَدَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ حَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عِدَّةٍ فَأَبَى الْغُلَامُ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ لِحُرْمَتِهِ وَلُحُوْقِ النَّسَبِ بِهِ وَلَا حُرْمَةَ لِهَذَا الماء تقضي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 لحوق النسب، فلم تجب مِنْهُ الْعِدَّةُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْحَلَّالِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّسَبِ والإحسان وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُهُ فِي العدة. فأما استدلال مالك بقوله عليه السلام: ألا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، فَهَذَا وَارِدٌ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَكُنَّ منكوحاتٍ، وَلِلْإِمَاءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْحَرَائِرَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي يوسف بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتِ الأحْمَالِ أجَلَهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَالْمُرَادُ بِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ بِدَلِيلِ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَاتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجِدِكُمْ وَلاَ تُضَّارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فأَنْفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) {الطلاق: 6) . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ: " لَا تَسْقِ بمائك زرع غيرك " فإنما أراد فرعاً يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْحَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ بالواطء والحرام الذي يضاف إلى أحد فلم يتوجه النَّهْيُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي رجل يملك أمة وسأل هل يطأها فَقَالَ: لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ إِشَارَةً إِلَى مَاءِ الْبَائِعِ وَذَاكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الزِّنَا، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 نكاح العبد وطلاقه من الجامع من كتابٍ قديمٍ وكتابٍ جديدٍ، وكتاب التعريض قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنِ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ وَخَالَفَ مَالِكٌ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ كَالْحُرِّ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَكَذَلِكَ الْمُدْبِرُ وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ ما لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَسَوَاءً جَمَعَ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ أَوْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ تَقَدَّمَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ أَوْ تَأَخَّرَتْ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ كَالْحُرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَغْلَظُ حُكْمًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لكماله ونقصهما مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ سَاوَى الْأَمَةَ فِي نَقْصِهَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ مَشْرُوطٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ وعدم الطول، فنكاح الْعَبْدِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، فَلَمْ يَكُنْ مشروطاً بعدم الطول. مسألة قال الشافعي: " وقال عمر يطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين والتي لا تحيض شهرين أو شهراً ونصفاً وقال ابن عمر إذا طلق العبد امرأته اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره وعدة الحرة ثلاث حيضٍ والأمة حيضتان وسأل نفيعٌ عثمان وزيداً فقال طلقت امرأةً لي حرة تطليقتين فقالا حرمت عليك (قال الشافعي) وبهذا كله أقول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَيَمَلِكُ الْحُرُّ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَزْوَاجِ فيملك زوج الحرة ثلاث طلقات حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَزَوْجُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ حراً كان أو عبداً استدلالاً سنذكره من بعد مستوفاً لقول الله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) {الطلاق: 1) فَجُعِلَ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالْعِدَّةِ ثُمَّ كَانَتِ الْعِدَّةُ مُعْتَبَرَةً بِالنِّسَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ. وَلِمَا رَوَى عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طلاق الأمة اثنتان وحيضتها اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " فَجَعَلَ الطَّلَاقَ وَالْعِدَّةَ مُعْتَبَرًا بالمطلقة والمعتدة؛ ولأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 الحر لما ملك اثنا عشر طَلْقَةً فِي الْحَرَائِرِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فِي الْحُرَّتَيْنِ لِيَكُونَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الطَّلَقَاتِ كَمَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) {الروم: 28) إنكار لتساويهما فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ. وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ طَلَاقُ الْعَبْدِ، فَقَالَ: طَلْقَتَانِ، قَالَتْ: وَعِدَّةُ الْأَمَةِ، قَالَ: حَيْضَتَانِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ خَاطِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي نُفَيْعٌ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ، وَسَأَلَ عُثْمَانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَا: طَلَاقُكَ طَلَاقُ عَبْدٍ، وَعِدَّتُهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قال: قد حرمت عليك، وليس لمن ذكرنا فخالف مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْحُرُّ رَجْعَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ رَجْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَمْلِكُ بِالنِّكَاحِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا وقوع الطلاق في العدة، لأنه في العدة مُعْتَبَرٌ بِالْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كان زوجها عبداً؛ لأن الأغلب من الأزواج الْإِمَاءِ الْعَبِيدُ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الحر اثنتي عشر طَلْقَةً وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلْقَاتٍ فخطأ؛ لأن العبد يملك زوجتين والحر يملك في الزوجتين سِتَّ طَلْقَاتٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ الْعَبْدُ فِيهِنَّ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنِصْفِهِنَّ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَمْلِكَ ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ لَكِنِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضِ الطَّلَاقُ فَيَصِيرُ مَالِكًا لطلقة ونصف في كل واحدة كما الْكَسْر فَصَارَ مَالِكًا لِأَرْبَعِ طَلْقَاتٍ فِي الزَّوْجَتَيْنِ، فكان هذا استدلالاً بأن يكون لنا دليلٌ أشبه. مسألة قال الشافعي: " وإن تَزَوَّجَ عبدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالنِّكَاحُ فاسدٌ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا عَتَقَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ سَيِّدِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فقد عَاهِرٌ " فَإِنْ تَزَوُّجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ نِكَاحِهِ، وَأنَّ أبا حنيفة جَعَلَهُ مَوْقُوفًا على إجازة سيده وملك إمضائه وَجَعَلَ لِسَيِّدِهِ اسْتِئْنَافَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 فسخه، وذكرنا من حال المهر إن ينكح بِإِذْنِهِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ مَا أَقْنَعَ، فَأَمَّا إِذَا دَعَا الْعَبْدُ سَيِّدَهُ إِلَى تَزْوِيجِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا في إجبار السيد على إنكاحه قولين. فلو أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ عَلَى التَّزْوِيجِ فَقَدْ ذكرناه على قولين. فأما الأمة إِذَا أَرَادَ السَّيِّدُ إِجْبَارَهَا عَلَى التَّزْوِيجِ فَلَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ دَعَتِ الْأَمَةُ السَّيِّدَ إِلَى تَزْوِيجِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ لَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ لِكَوْنِهَا أُخْتَهُ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَهَلْ يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهَا إِذَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهِ على تزويج العبد، وهكذا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِلْكًا لِامْرَأَةٍ كَانَ فِي إجبارها على تزويجها وجهان. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا فَفِيهَا قولان. أحدهما أنه كإذنه له بالتجارة فيعطي من مالٍ إن كان له وإلا فمتى عتق والآخر كالضمان عنه فيلزمه أن يبيعه فيه إلا أن يفديه ". قال الماوردي: وهذا مما قد ذكرناه، وأن الفاسد من مناكح العبد هل تدخل فِي مُطْلَقِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين، وذكرنا من التفريع عليهما مَا أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 بَابُ مَا يَحْرُمُ وَمَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ الحرائر ومن الإماء والجمع بينهن وغير ذلك من الجامع من كتاب ما يحرم الجمع بينه ومن النكاح القديم ومن الإملاء ومن الرضاع مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَصْلُ مَا يَحْرُمُ بِهِ النِّسَاءُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بأنسابٍ، وَالْآخَرُ بأسبابٍ مِنْ حَادِثِ نكاحٍ أَوْ رضاعٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: المحرمات من النساء ضربان: أحدهما: ضرب حرمت أعيانهن على التأبيد، وضرب حرم تحريم جمع فأما الْمُحَرَّمَات الْأَعْيَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنْسَابٍ. والثاني: بأسباب. فأما المحرمات بالأنساب فالتحريم طارئ عليهن، وقد نص الله عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِهِ فَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ أَرْبَعَ عشرة امرأةً: سبع منهن حرمن بأنساب، وسبع منهن حرمن بأسباب. فأما السبع المحرمات بالأنساب فضربان: ضرب حرمن برضاع وضرب حرمن بنكاح وَهُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ} (النساء: 23) فَذَكَرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: {وَأُمَهَّاتِ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ الَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أبْنَاءكُمْ الَّذِينَ مِنْ أصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَف} (النساء: 22) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (النساء: 22) فذكر من المحرمات بالنكاح خمسا: أربع منهن تحريم تأبيد وخامسة تَحْرِيمَ جَمْعٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ لِتَغْلِيظِ حُرْمَتِهِنَّ وَأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ وُجُودِهِنَّ، فأول من بدأ بذكرها الأم؛ لأنها أغلظ حرمة فحرمها بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} واختلف أصحابنا في هذا التحريم المنصوص عليه إلى ماذا توجه عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ متوجه إلى العقد وَالْوَطْءِ مَعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْعَقْدِ. فَأَمَّا الْوَطْءُ فَمُحَرَّمٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 وطئها لما منع أن يكون الشرع وارد به ومؤكداً لَهُ، وَإِذَا حَرُمَتِ الْأُمُّ فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ علون من قبل الأم كأم الأم وجدتها، وَمِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ وَجَدَّاتِهِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَرُمْنَ بِالِاسْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ كُلًّا تُسَمَّى أُمًّا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمُ الْأُمِّ مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَرُمْنَ لِمَعْنَى الاسم وهو وجود الولادة والعصبة فِيهِنَّ فَحَرُمْنَ كَالْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْمِ، وَيَكُونُ انْطِلَاقُ اسْمِ الْأُمِّ عَلَيْهِنَّ مَجَازًا فِي اللُّغَةِ وَحُكْمًا فِي الشَّرْعِ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ أُمَّهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ حُدَّ حَدَّ الزِّنَا وَقَالَ أبو حنيفة: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَجَعْلَ الْعَقْدَ شُبْهَةً فِي إِدْرَائِهِ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّصَّ الْمَقْطُوعَ به يمنع من دخول الشبهة عليه لا خروجه مِنْ أَنْ يُكُونَ نَصًّا قَاطِعًا. وَالثَّانِي: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْبَنَاتُ فَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ عَلَى الْآبَاءِ وَهَلْ تناول النَّصُّ فِيهِنَّ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَعًا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ كَذَلِكَ بَنَاتُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَإِنْ سَفَلْنَ ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَرُمْنَ بِالِاسْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ كُلًّا يُسَمَّى بِنْتًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنْ وُجُودِ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ بِنْتَهُ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِ عَقْدٍ حُدَّ، وَأَدْرَأَ أبو حنيفة عَنْهُ الْحَدَّ بِالْعَقْدِ. وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْأَخَوَاتُ فنكاحهن حرام وسواء كَانَتْ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ أو أختاً لأم وهي بَاسِمِ الْأَخَوَاتِ مُحَرَّمَاتٌ فَلَوْ وَطِئَ رِجْلٌ أُخْتَهُ نظر فإن كان يعقد نِكَاحٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ كَالنِّكَاحِ. وَالثَّانِي: لا يحد لوطئه بالملك فإن حُدَّ لِوَطْئِهِ بِالنِّكَاحِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ والملك ثابت فيها فثبتت شبهته، والأم تحدّ فِي وَطْئِهَا بِنِكَاحٍ وَمِلْكٍ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَزُولُ بِشِرَائِهَا وَمِلْكُ الْأُخْتِ لَا يَزُولُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَيَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا وَإِنْ ضر وَتَصِيرُ الْأُخْتُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ يَلْحَقُ وَلَدٌ مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وهذا إِذَا وَطِئَ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فإن وطئ الذمي مُسْلِمَةً عَلَى مِلْكِهِ كَانَ فِي حَدِّهِ قَوْلَانِ، والولد لا حق به على القولين. والرابع من المحرمات: وهو أَخَوَاتُ الْأَبِ وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم ثم عَمَّاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَعَمَّاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كُلُّهُنَّ محرمات كالعمات، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 وهل حرمن بالاسم أو بمعناه، على وجهين فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُنَّ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالْخَامِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: الْخَالَاتُ وَهُنَّ أَخَوَاتُ الْأُمِّ وَسَوَاءً كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ محرمات بالاسم خَالَاتُ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ خَالَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كُلُّهُنَّ مُحرمَاتٌ كَالْخَالَاتِ وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بمعناه على الوجهين فإن وطئ إحداهن بعقد نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: وَالسَّادِسُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ ثُمَّ بَنَاتُ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَنَاتُ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلْنَ كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: وَالسَّابِعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ سواء كانت الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ وَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالِاسْمِ وَكَذَلِكَ بَنَاتُ بَنِي الْأَخَوَاتِ وَإِنْ سَفَلْنَ كُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ كَبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، إِذَا كَانَ الْوَاطئ بملك يمين. مسألة قال الشافعي: " وَمَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ حَرُمَ مِنَ الرِّضَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَيْنِ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ مِنَ الرِّضَاعَةِ} فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ دَاوُدُ وُقُوفًا عَلَى النَّصِّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا كَذَوَاتِ الأنساب، ولما رَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ " وَرُوِيَ غَيْرُهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " وَجَبَ إِجْرَاءُ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى حكم النسب فيحرم بالرضاع سَبْعٌ كَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ وَلَدًا بِلَبَنٍ مِنْ زَوْجٍ فَالْوَلَدُ الْمُرْضَعُ ابْنٌ لَهَا وَلِلزَّوْجِ لأن اللبن حادث عنها بسبب ينتسب إِلَى الزَّوْجِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لها كالمولود منهما، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ أُمًّا لَهُ وَكَانَ أُمَّهَاتُهَا جَدَّاتِهِ مِنْ أُمٍّ وَأَبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ من أم وبناتها أخواتها من أم وأخوتها أَخْوَالَهُ مِنْ أُمٍّ وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ مِنْ أُمٍّ وَكَانَ الزَّوْجُ أَبًا لَهُ وَآبَاؤُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 أَجْدَادَهُ مِنْ أَبٍ وَأُمَّهَاتُهِ جَدَّاتِهِ مِنْ أَبٍ وَبَنُوهُ إِخْوَتَهُ مِنْ أَبٍ وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامَهُ وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتِهِ كَذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَنْسَابِ فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَتَصِيرُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ سَبْعًا كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُتَفَرِّعَاتِ عَلَى الْمُنَاسِبَاتِ، فيكون أخت الأب من الرضاع عمته محرمة سواء كانت أختا من نسب أو رضاع وكذلك أخت الجد من الرضاع وآبائه مُحَرَّمَة كَالْعَمَّةِ سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَهَلْ يَحْرُمُ بِاسْمِ الْعَمَّةِ أَوْ بمعناها على ما ذكرنا من الوجهين ويكون أُخْتُ الْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعِ خَالَةً مُحَرَّمَةً سَوَاءً كانت أختاً بنسب أو رضاع وكذلك أخت الجدة وأمها كَالْخَالَةِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً كَانَتْ أُخْتًا مِنْ نسب أو رضاع وهل يحرم بِاسْمِ الْخَالَةِ أَوْ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا مَضَى، من الوجهين وعلى هذا يكون حكم سائر الْقَرَابَاتِ مِنَ الرَّضَاعِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَرَابَاتِ مِنَ النَّسَبِ، فَلَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُد وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي الْأُمِّ الْمُنَاسِبَةِ يُحَدُّ قولاً واحداً، وإن كان من مِلْكِهَا، لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَحُدَّ، وَالْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ لَا تَعْتِقُ بِالْمِلْكِ فَكَانَتْ شُبْهَتُهُ بَاقِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَمْ يُحَدَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوْ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ مِنَ الرِّضَاعِ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بملك يمين فعلى ضربين ما مضى من القولين، والولد يلحق إذا كان وطئه لواحدة من هؤلاء بملك يمين قَوْلًا وَاحِدًا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ من تحريم الرضاع بعد ما قَدَّمْنَا مِنَ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ فَقَدْ مَضَى مِنَ المنصوص على تحريمهن في الآية تسع: سبع من النسب، واثنتان مِنَ الرَّضَاعِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ فِي الْآيَةِ خمْسٌ حَرَّمَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ مصاهرة بعقد نكاح إحداهن أم الزوجة بقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} . وَالثَّانِيَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ: وَهِيَ الرَّبِيبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نَسَائَكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونوُا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . وَالثَّالِثَةُ: زَوْجَةُ الِابْنِ وَهِيَ حَلِيلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} والرابعة: زوجة الأب بقوله تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِن النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِلَّا مَا قد سلف بالزنا والسفاح فإن كَانَ نِكَاحُهُنَّ حَلَالًا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ حَلَائِلَ. وَالْخَامِسَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسُ حَرُمْنَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِ اثْنَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 وَالثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. وَسَنَذْكُرُ السنة الواردة فَصَارَ الْمُحَرَّمَاتُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَبْعًا كَمَا كَانَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ سَبْعًا، وَكَمَا صَارَ الْمُحَرَّمَات بِالرَّضَاعِ سَبْعًا، وَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بعقد النكاح ينقسم حكمهن في التحريم ثَلَاثَة أَقْسَامٍ: قِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ. وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ. وَقِسْمٌ حَرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ. فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ فَهُنَّ ثَلَاثٌ: إِحْدَاهُنَّ: أُمُّ الزَّوْجَةِ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ سَوَاءً دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَمْ لَا أَقَامَ مَعَهَا أَوْ فَارَقَهَا قَدْ صَارَتْ أُمُّهَا حَرَامًا عَلَيْهِ أَبَدًا وَكَذَلِكَ أَمُّ الْأُمِّ وَمَنْ عَلَا من جداتها حرمن عليه على التأبيد وهل يحرمن بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: زَوْجَةُ الْأَبِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الِابْنِ بِعَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ سَوَاءً دَخَلَ الْأَبُ بِهَا أَمْ لَا وَكَذَلِكَ زَوْجَةُ الْجَدِّ وَمَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَهَلْ حَرُمْنَ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عن يزيد بن البراء عن عازب عن أبيه قل مر بي خالي ومعه لواء فقلت: يا خالي أَيْنَ تَذْهَبُ فَقَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ آتِيهِ بِرَأْسِهِ. والثالثة: زوجة الابن محرمة على الأب لعقد الِابْنِ عَلَيْهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ سَوَاءً دَخَلَ بِهَا الابن أم لا، وهي الحليلة واختلف في تسميها الحليلة عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَلِيلَةً لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تَحُلُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ بِهِ الزَّوْجُ. وَالثَّالِثُ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحِلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ. وَإِذَا حَرُمَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ فَكَذَلِكَ حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ عَلَا وَهَلْ تَحْرُمُ بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَقْدٍ حُدَّ وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الِابْنُ قد وطئها بملك اليمين والأب قد وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ حُدَّ قَوْلًا وَاحِدًا وَأَمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 الْقَوْلَانِ إِذَا كَانَ الْأَبُ قَدْ وَطِئَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَالِابْنُ قَدْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيُصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ بِحَدِّهِ فَلَزِمَهُمَا فِي الْمَعْنَى. وأما المحرمات بالعقد تحريم جمع منهن ثلاث: إحداهن الجمع بين الأختين فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُخْتُهَا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ فَإِذَا فَارَقَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مِنْهُمَا حَلَّ لَهُ أُخْتُهَا. وَالثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّةِ أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَعَمَّةِ أُمِّهَا وَجَدَّتِهَا ثم على ما ذكرنا، ومن تحريمهما بالاسم أو بمعناهما. والثالث: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بينهما وَبَيْنَ خَالَةِ أُمِّهَا وَجَدَّاتِهَا وَخَالَةِ أَبِيهَا وَأَجْدَادِهَا ثم على ما ذكرنا من تحريمهما بِالِاسْمِ أَوْ بِمَعْنَاهُ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ عقد وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ فَجِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُنَّ الرَّبَائِبُ. وَالرَّبِيبَةُ بِنْتُ الزَّوْجَةِ فَإِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ وَكَذَلِكَ بِنْتُ بِنْتِهَا وَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ سَفُلَتْ تَحْرُمُ بالعقد تحريم جمع، وبالدخول تحريم تأبيد، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِهَا بِالِاسْمِ أو بمعناه. فإن قيل: لماذا حرمتم بنت الربيبة كالربيبة؟ فَهَلَّا حَرَّمْتُمْ بِنْتَ حَلِيلَةِ الِابْنِ كَالْحَلِيلَةِ. قُلْنَا: لَا تَحْرُمُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن بِنْتَ الرَّبِيبَةِ ينطْلقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كالربيبة وبنت الحليلة لا ينطلق عَلَيْهَا اسْمُ الْحَلِيلَةِ فَلَمْ تُحَرَّمْ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ المصاهرة إنما هو يَصِير الزَّوْجُ الْوَاحِدُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ذِي نَسَبَيْنِ كحليلة الابن مع الأب وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي بِنْتِ الرَّبِيبَةِ فَحُرِّمَتْ كَالرَّبِيبَةِ وَهُوَ غير موجود في بنت الحليلة، لأنه لم يَجْمَعِ الْوَاحِدُ ذَاتَ نَسَبَيْنِ وَلَا اجْتَمَعَ فِي الواحدة ذو نسبين فلم يحرم والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وحرم الله تعالى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجَمْعُ بين الأختين فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَمَّا الْجَمْعُ بينهما بملك اليمين وإن جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ جَازَ، إِذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بالملك التحول دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وطئها مِنْ أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَفَ عَقْدَ النِّكَاحِ الَّذِي مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ أُخْتٍ وَعَمَّةٍ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ في الاستمتاع فَيَطَأَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَيَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُبَّمَا أضيف إلى عثمان بن عفان واستدلالاً بعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فأطلق ملك اليمين وكان عَلَى عُمُومِهِ ثُمَّ قَالَ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ نَوْعَانِ: تَحْرِيمُ عَدَدٍ، وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ. فَأَمَّا الْعَدَدُ فَهُوَ تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ وَأَمَّا تَحْرِيمُ الجمع؛ فهو الجمع بين الأختين فلما لم يعتبر في ملك اليمين وتحريم العدد، جاز أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ مِنَ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أن يستمتع بأختين. قال داود: ولأن الجمع بينهما في الاستمتاع غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إِلَّا أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ مُمْكِنٌ فَلِذَلِكَ حَلَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمِلْكِ لِتَعَذُّرِهِ، وَحَرُمَ فِي النِّكَاحِ لِإِمْكَانِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ تَحْرِيمِهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُسْتَفِيضٌ في الصحابة كالإجماع. روى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى فَخَرَجَ السَّائِلُ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ فسأله عن ذلك، فقال: لو كان من الأمر إلي شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ رَجُلًا يَفْعَلُ هَذَا لَجَعَلْتُهُ نكالاً. قال مَالِكٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ أُرَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَعَمَّارٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ خِلَافٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ ضَرْبَانِ: تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ كَتَحْرِيمِ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا وَتَحْرِيمُ جَمْعٍ كَتَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَمَّاتِهَا، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ مُعْتَبَرًا فِي وَطْءِ الْإِمَاءِ كَالنِّكَاحِ وَجَبَ بِأَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ مُعْتَبَرًا في وطئهن كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْفِرَاشِ بِالْوَطْءِ أَقْوَى مِنْ ثبوته بالعقد؛ لأنه يثبت في فاسد الوطئ إِذَا كَانَ عَنْ شُبْهَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ وَلَا يَثْبُتُ فِي فَاسِدِ الْعَقْدِ وَإِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِهِ فَلَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي الْعَقْدِ كَانَ تَحْرِيمُهُ فِي الْوَطْءِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ إِنَّمَا كَانَ ليدفع به تواصل ذوي الأرحام فَلَا يَتَقَاطَعُونَ؛ لِأَنَّ الضَّرَائِرَ مِنَ النِّسَاءِ مُتَقَاطِعَاتٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَوُجُودِهِ فِيهِمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا في التحريم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَتَيْنِ فَقَدْ خَصَّهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (النساء: 23) وَأَمَّا قوله بأن تحريم العدد لما حرم بالنكاح كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَدَدِ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَاتِ خَوْفًا مِنَ الجور فيما يجب لهم مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْقَسْمِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الإماء، لأن نفقاتهن وكسوتهن في أكسابهن ولا قسم لهن فأمن الجور فَافْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ وَهُمَا فِي الْمَعْنَى الذي أوجبت تحريم الجمع سواء؛ لأن خوف التقاطع والتباغض والتحاسر، وهذا مَوْجُودٌ فِي الْإِمَاءِ كَوُجُودِهِ فِي الزَّوْجَاتِ فَاسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهُ وَإِنِ افْتَرَقَا فِي تَحْرِيمِ الْعَدَدِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُ دَاوُدَ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الوطئ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِأَنْ يُضَاجِعَهُمَا مَعًا وَيَلْمِسَهُمَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْأُخْتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، كَذَلِكَ بين الوطئين فَيَكُونُ الْجَمْعُ جَمْعَيْنِ جَمْعَ مُتَابِعَةٍ وَجَمْعَ مُقَارَنَةٍ. والثالث: أن الصحابة قد جعلته مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ مَا نَهَتْ عَنْهُ وَلَمْ تجعله مُسْتَحِيلًا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَتَحْرِيمِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَمَلَكَ أُخْتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِأَيّهِمَا شَاءَ فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى مَا كَانَ عَلَى اسْتِمْتَاعِهِ بِالْأُولَى حَتَّى يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَهَبَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُكَاتِبَهَا فَتَصِيرُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَشْيَاءِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَيَحِلُّ لَهُ حينئذ أن يستمتع بها بِالثَّانِيَةِ وَتَصِيرُ الْأُولَى إِنْ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حَتَّى تَحْرُمَ الثانية بأحد ما ذكرنا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ. وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ إذا عزم على أن يَطَأَ الَّتِي وَطِئَ حَلَّتْ لَهُ الْأُخْرَى، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ بِأَسْبَابِهِ لَا بِالْعَزْمِ عليه وقد يحرم عليه بسببين آخَرَيْنِ لَيْسَا مِنْ فِعْلِهِ وَهُمَا: الرَّضَاعُ وَالرِّدَّةُ، فأما التدبير: فلا يحرم ثم إذا أخرج الثَّانِيَةَ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا عَادَتِ الْأُولَى إِلَى إِبَاحَتِهَا وَحَلَّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَوْ أَنَّهُ حِينَ اسْتَمْتَعَ بِالْأُولَى اسْتَمْتَعَ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُولَى عَلَيْهِ كَانَ بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ عَاصِيًا وَلَمْ تحرم الأولى عليه بمعصية لوطء الثانية قال الشافعي: وأحب أن يمسك عن وطأ الأولى حتى يستبرأ الثانية؛ لأن لا يُجْمَعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ استبراء الثانية جاز وإن أساء. مسألة قال الشافعي: " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا ونهى عمر رضي الله عنه عن الأم وابنتها من ملك اليمين، وقال ابن عمر وددت أن عمر كان في ذلك أشد مما هو ونهت عن ذلك عائشة وقال عثمان في جمع الأختين: أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فقال رجلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ كَانَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شيءٌ ثُمَّ وجدت رجلاً يفعل ذلك لجعلته نكالاً قَالَ الزُّهْرِيُّ أُرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالبٍ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا حَرَامٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَهُوَ قول الجمهور، وحكي عن الخوارج وعثمان الْبَتِّيِّ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي نِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، وَحَرَّمَ دَاوُدُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَأَمَّا دَاوُدُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ، وَأَمَّا الْبَتِّيُّ وَالْخَوَارِجُ فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ تَحْرِيمَ المناكح مأخوذ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرِدِ الْكِتَابُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَحْرُمْ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا يُلْزَمُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحِيٌ يُوْحَى} (النجم: 3 و 4) وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا " وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا ولا تنكح الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى " وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ وَالثَّانِي أَكْمَلُ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْ وَاحِدٍ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ فلزم الخوارج العمل به، وإن لم يلتزموا أَخْبَار الْآحَادِ، وَلِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ أُخْتِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا وَعَمَّتُهَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا أَوْ بَيْنَهَا وبين بنت عمها فيجوز وكذلك الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بينهما وبين بنت خالها فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا لَجَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ وَبِنْتَ عَمَّتِهِ وَبِنْتَ خاله وبنت خالته، وهذا هو أصل في تحريم الجمع وإخلاله بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الجمع بين المرأة وعمة أبيهما وعمة أمها وبينهما وبين خالة أبيها وخالة أمها، لأن أحدهما لَوْ كَانَ رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَإِنْ بَعُدَتْ فَنِكَاحُهَا مفسوخُ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَنِكَاحُ الْأُولَى ثابتٌ وتحل كل واحدةٍ منهما على الانفراد وإن نَكَحَهُمَا مَعًا فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَنَاكِحِ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَقِسْمٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ فِي الْجَمْعِ لَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقِسْمُ إِبَاحَةٍ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ وَلَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ، فَفِي أَنْسَابِ الْبَعْضِيَّةِ وَالْوِلَادَةِ كَالْمَرْأَةِ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا عَلَيْهِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْأَبَدِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فِي حال العقد ممن غَيْرِ تَحْرِيمٍ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفِيمَا تَجَاوَزَ الْوِلَادَةَ، وَاتَّصَلَ بِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنْ دَرَجَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ فِي التَّعْصِيبِ لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَى التأبيد ولما شاركتهن في المحرم حُرِّمْنَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ لَا يَحْرُمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا عَلَى وجه الجمع فمن عدا الفرقين مِنْ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لَمَّا نَزَلْنَ عَنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ بَعْضِيَّةُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَلَا مُحَرَّمُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، لم يتعلق عليهن واحد من حكم التحريم لا التأبيد ولا الجمع وجاز للرجال أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ تَنَاسَبْنَ لِبُعْدِ النَّسَبِ وَخُلُوِّهِ مِنْ مَعْنَى أَحَدِ التَّحْرِيمَيْنِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الجمع يختص به ذوات الْمَحَارِمِ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ كَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَنَكَحَ الرَّجُلُ أُخْتَيْنِ أَوِ امْرَأَةً وَخَالَتَهَا وعمتها فهذا على ضربين: أحدهما: أنه يعقد عليهما معاً في عقد واحد فنكاحها بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يتعين الْمُخْتَصَّةُ بِالصِّحَّةِ مِنْهُمَا وَجَبَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا لتساويهما وسواء دخل بأحدها أَوْ لَمِ يَدْخُلْ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يستأنف العقد على أيهما شَاءَ فَإِنْ عَقَدَ عَلَى الَّتِي دَخَلَ بِهَا سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْ عِدَّةِ أصَابَته وَإِنْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَحَّ عَقْدُهُ، ويستبح أَنْ يُمْسِكَ عَنْ إِصَابَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا مِنْ إِصَابَتِهِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَنِكَاحُ الْأُولَى ثَابِتٌ وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُولَى قَبْلَ الْجَمْعِ فَلَوْ شَكَّ فِي أَيَّتِهِمَا نَكَحَ أَوَّلًا فَهَذَا على ضربين: أحدهما: أن يطرأ الشَّكُّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْيَقِينِ فَنِكَاحُهُمَا مَوْقُوفٌ وَإِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ مَجْهُولَةُ الْعَيْنِ وَالْأُخْرَى أَجْنَبِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهَا فَإِنْ صَرَّحَ بِطَلَاقِ إِحْدَاهُمَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ بِحَالَةٍ، وَالْأُخْرَى عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِنِ اسْتَأْنَفَ عَلَيْهَا عَقْدًا حَلَّتْ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مَعَ ابتداء العقد لم يتقدمه يقين فنكاحها بَاطِلٌ لَا يُوقَفُ عَلَى الْبَيَانِ لِعَدَمِهِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُ إِلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ أَمْ لَا؟ على وجهين: أحدهما: يفتقر ويكون الإشكال وَالِاشْتِبَاه بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ إِبَاحَتُهُ مِنَ الْحَظْرِ غَلَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِأَنَّ فِيهِمَا زَوْجَةً فَلَمْ يَكُنِ الْجَهْلُ بِهَا مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِهَا حَتَّى يَتَوَلَّاهُ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْحَاكِمُ. فَصْلٌ فَإِذَا عَقَدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ جَائِزًا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا أُخْتُ الْأُولَى وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يعلم بفساد النكاح في حتى يعقد على انتهاء فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ وقت عقده على الثانية أنها أخت الأولى فَيَكُونُ نِكَاحُهَا جَائِزًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَقْدِهِ مَنْعٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ وَقْتَ عَقْدِهِ على الثانية أيهما أُخْتُ الْأُولَى، وَلَا يَعْلَمُ بِفَسَادِ نِكَاحِ الْأُولَى حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى الثَّانِيَةِ فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى نِكَاحٍ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ في الظاهر فجرى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ فِي الْفَسَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لِأَنَّهَا مبهمةٌ وحلت له ابنتها لأنها من الربائب وإن دَخَلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّبَائِبُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُنَّ بَنَاتُ الزَّوْجَاتِ إِحْدَاهُنَّ رَبِيبَةٌ وَفِي تسميتها بذلك وجهان: إحداهما: لأنه تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ فِي تَرْبِيَتِهِ وَكَفَالَتِهِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تَرُبُّ الدَّارَ أَيْ تُدَبِّرُهَا وَتُعْنَى بِهَا فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عليها ثلاثة أصناف من مناسبها صِنْفٌ أَعْلَى وَهُنَّ الْأُمَّهَاتُ، وَصِنْفٌ أَدْنَى وَهُنَّ الْبَنَاتُ وَصِنْفٌ مُشَارِكَاتٌ وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَكُلُّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ مَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا باقياً فإذا ارتفع عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ انْقَسَمَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ يَحْلِلْنَ لَهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَا وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ تَحْرِيمُ جَمْعٍ لَا تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ. وَقِسْمٌ ثَانٍ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ وَإِنِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أم لا، وهن الأمهات لأنهن يحرمن بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: يَحْلِلْنَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ عَنْ زَوْجَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَهُنَّ الْبَنَاتُ، لِأَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ وَبِالدُّخُولِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ بِخِلَافِ الْأُمَّهَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْعَقْدِ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَهُوَ قَوْلُ جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء وحكي ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْأُمَّهَاتِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 كَالْبَنَاتِ الرَّبَائِبِ لَا يَحْرُمْنَ إِلَّا بِالدُّخُولِ، وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ لَمْ تَحْرُمِ الْأُمُّ إِلَّا بِالدُّخُولِ كَالرَّبِيبَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ حَرُمَتِ الْأُمُّ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي كَمَالِ المهر كالمدخول واستدلالاً في إلحاق ابنتها بالربائب في تحريمهن بالدخول بقوله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) {النساء: 23) فَذَكَرَ جِنْسَيْنِ هُمَا الْأُمَّهَاتُ وَالرَّبَائِبُ ثُمَّ عَطَفَ عليهما اشتراط الدُّخُولِ فِي التَّحْرِيمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمَذْكُورَيْنِ مَعًا وَلَا يَخْتَصُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ أَلْزَمُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشرط والكتابة والاستثناء إذا تعقب جملة رجع إلى جميعها ولم يختص بأقرب المذكورين منها كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، وَاللَّهِ لَا دَخَلَتِ الدَّارَ إِنْ شَاءَ الله كان الاستثناء بمشيئة الله رَاجِعًا إِلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ وَلَمْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْيَمِينِ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ رَاجِعًا إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ حَتَّى يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا مَعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَالْجَمَاعَةُ مِنِ اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ فِي الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ قوله تَعَالَى:: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) {النساء: 23) فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبَائِبِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى:: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) {النساء: 23) وليست أم الزوجة منها وإنما الربيبة منها فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ مَشْرُوطٌ فِي الرَّبِيبَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجَةِ دُونَ الْأُمِّ الَّتِي لَيْسَتْ من الزوجة. والثاني: هو مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِذَا حَسُنَ أَنْ يَعُودَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْأَقْرَبِ وَهُوَ لَوْ قَالَ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَمْ يُحْسِنْ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمْ يَعُدِ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا، وَعَادَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَامِلُ فِي إِعْرَابِهِمَا عَادَ إِلَيْهِمَا وَالْعَامِلُ هَاهُنَا فِي إِعْرَابِ الْجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ فَذِكْرُ النِّسَاءِ مَعَ الْأُمَّهَاتِ مجرور بالإضافة لقوله: {وَأُمَهّاتُ نِسَائِكُمْ} وذكر النساء من الربائب مجرور بِحَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ:: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} فِلَمَّا اخْتَلَفَ عَامِلُ الْجَرِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ الشَّرْطُ إِلَيْهِمَا وَعَادَ إِلَى أقربهما: الرابع: أن الأمر قَدْ تَقَدَّمَهَا مُطْلَقٌ وَتَعَقَّبَهَا مَشْرُوطٌ فَكَانَ إِلْحَاقُهَا بِالْمُطْلَقِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهَا بِالْمَشْرُوطِ الْمُتَأَخِّرِ: وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ وَالْمَشْرُوطَ أَخَصُّ فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُبْهَمِ بِالْمُطْلَقِ الْأَعَمِّ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمَشْرُوطِ الْأَخَصِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل أن يدخل بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بنتها " وروى الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا تزوج الرجل المرأة ثم ماتت قبل أن يدخل بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّهَاتِ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَنَاتِهِنَّ مَا لَيْسَ فِي الْبَنَاتِ لأمهاتهن. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه قال يا رسول الله ما لنا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا، قَالَ: لِأَنَّنَا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ أَكْثَرَ رِقَّةً وَحُبًّا لَمْ تَنْفِسْ عَلَى بِنْتِهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ بِالْأُمِّ مَشْرُوطًا فِي تَحْرِيمِ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا رضيت بالزوج بعد دخوله بها ما لم تضمن بِهِ قَبْلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبِنْتُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَقَلَّ رِقَّةً وَحُبًّا نَفِسَتْ عَلَى أُمِّهَا بِعُدُولِ الزَّوْجِ إِلَيْهَا فَأَفْضَى إِلَى الْقَطِيعَةِ وَالْعُقُوقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَإِفْضَائِهِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجْعَلِ الدُّخُولَ شَرْطًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَائِلِنَا مِنْهَا، وَإِنَّمَا الِاسْتِشْهَادُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَجَازَ مَعَ الْإِطْلَاقِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَاهُ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأُمِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَحْرِيمَ الرَّبِيبَةِ مَشْرُوطٌ بِالدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ. فَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الْأُمِّ بِشَهْوَةٍ فَتَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وحماد: هو التعيش والعقود بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الدُّخُولَ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الرَّبِيبَةُ يَكُونُ بِالْمُبَاشِرَةِ وَلَهُ فِيهِ قولان: أحدهما: أن الوطء في الفرج. والثاني: أنها الْقُبْلَةُ وَالْمُلَامَسَةُ بِشَهْوَةٍ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة: بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " قَالَ وَلِأَنَّهُ تفرع اسْتِمْتَاع فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كالوطء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَا ينطلقُ اسْمُ الدُّخُولِ إِلَّا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ دُونَ النَّظَرِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا، وَلِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ فَإِذَا كان لَا يَحْرُمُ فَمَا دُونَهُ أَوْلَى فَأَمَّا الْخَبَرُ فَرِوَايَةُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا، وَعَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ فَكَنَّى عَنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلَا فرق بين أن يكون فِي تَرْبِيَتِهِ وَحِجْرِهِ أَمْ لَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ: إنما تحرم عليه إذا كان في تربيته وحجره، وحكاه مالك عن أَوْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبِكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} فعلق تحريم الربائب بشرطين: أحدهما: أن يكون فِي حِجْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بأمها فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَحْرِيمِهَا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ هُوَ وُقُوعُ التَّنَافُسِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّبَاغُضِ وَلَيْسَ لِلْحِجْرِ فِي هَذَا المعنى تأثير فلم يكن له اعْتِبَارٌ، وَلِأَنَّ الْحِجْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ فِي إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ أَلَا تَرَاهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي تَحْرِيمِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَلَا فِي إِبَاحَةِ بَنَاتِ الْعَمِّ فَكَذَلِكَ فِي الرَّبَائِبِ وَلَيْسَ ذِكْرُ الْحَجْرِ فِي الرَّبَائِبِ شَرْطًا وَإِنَّمَا ذُكِرَ لأنه الأغلب في أَحْوَالِ الرَّبَائِبِ أنَّهُنَّ فِي حِجْرِ أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ فَصَارَ ذِكْرُهُ تَغْلِيبًا لِلصِّفَةِ لَا شَرْطًا فِي الحكم كما قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وَالصَّائِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْجِدَ عَلَى طَرِيقِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِ. فَصْلٌ فأما قول الشافعي: " لم تحل لها أُمُّهَا لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ " فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مُرْسَلَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ الْقُرْآنُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنِ الْمُبْهَمَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا إِلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ مُبْهَمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِيَةٌ تُخَالِفُ شِيَةً، وَكَانَ بَعْضُ أهل اللغة يذهب إلى تأويل ثالث: هو أَنَّ الْمُبْهَمَةَ الْمُشْكِلَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حكم الأم غير مشكل. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا أَبَدًا وَلَا يَطَأُ أُخْتَهَا وَلَا عمتها وَلَا خَالَتَهَا حَتَّى يُحَرِّمَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أن كل ما حرم عليه بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ حُرِّمَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ لَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 بِمِلْكِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا بِالْوَطْءِ دُونَ الْمِلْكِ فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمِلْكِهَا تَحْرِيمُ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهَا فلم يحرم عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِ سَيِّدِهَا فَإِذَا وَطِئَهَا تَعَلَّقَ بِوَطْئِهَا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَقْدِ عَلَى الزَّوْجَةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَأُمَّهَاتُ أمها من آبائها وإن علون ويحرم عليه بناتها وبنات أولادها وإن سفلن، ويحرم على ابنه وحده وَإِنْ عَلَا وَعَلَى ابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفُلَ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مؤبد ويحرم عليه أختها وخالتها وعمتها وَبِنْتُ أَخِيهَا وَبِنْتُ أُخْتِهَا وَهَذَا التَّحْرِيمُ فِي هَؤُلَاءِ الْخَمْسِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ لَا تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ ما كان على استمتاعه بأمته حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِأَحَدِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ حَلَّ له حينئذ من شاء من هؤلاء الْخَمْسِ اللَّاتِي حُرِّمْنَ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ جَمْعٍ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَإِنِ استباحها قبل تحريم الأولى فَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَانَ بَاطِلًا وَحُدَّ إِنْ وَطِئَهَا عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ بِمِلْكِ يَمِينٍ لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ عَلِمَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزوجة يستباح وطئها بِالْعَقْدِ وَقَدْ بَطَلَ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ وَالْأَمَةُ يستباح وطئها بِالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَبْطُلْ فَلَمْ يَجِبْ بِالْوَطْءِ فيه حد، وخالف وطئ أُخْتِهِ بِالْمِلْكِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى أَحَدِ القولين مع ثبوت الملك؛ لأن تحريم وطئ أخته مؤبد وتحريم وطئ أمته لعارض يزول ولا تأبد فافترق حكم تحريمها فلذلك افترق وجوب الحد فيهما هذا كله إذا كان قد وطئ أمته في الفرج فأما إن كان وَطْئِهَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبلهَا أَوْ لَمَسَهَا فَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ المصاهرة أم لا؟ على قولين كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَعَلَى هَذَا يَحِلُّ لَهُ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَتَحِلُّ لِآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. وَالْقَوْلُ الثاني: قد تعلق به تحريم المصاهرة كما لو وطء فِي الْفَرْجِ فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وبناتها ويحرم عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. فَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا غَيْرَ مُبَاشِرٍ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا مُرِيدًا لِوَطْئِهَا أَوْ غَيْرَ مُرِيدٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ مَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَى بِمُبَاشَرَةِ الجسدين، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ مَنْ جَرَّدَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَطَأْهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ وَالْعَزْمُ لَيْسَ بِفِعْلٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْفِعْلِ. فَصْلٌ وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَحَرُمَتْ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا وَعَمَّاتُهَا وَخَالَاتُهَا لأن تحريم أولئك تحريم تأبيد، وتحريم أولئك تَحْرِيمُ جَمْعٍ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَحْصُلِ الْجَمْعُ، ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا لأمهات هذه الموطوءة لبناتها وهل يصير آباؤه وأبناؤها محرَمًا لَهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ كَمَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُحَرَّمُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ تَغْلِيظًا فَاقْتَضَى أَنْ يَنْفِيَ عنه المحرم تغليظاً. مسألة قال الشافعي: " فإن وَطِئَ أُخْتَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اجْتَنَبَ الَّتِي وَطِئَ آخرا وأحببت أن يجتنب الولي حتى يستبرئ الآخرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ وَطِئَ أُخْتَهَا بِالْمِلْكِ قَبْلَ تَحْرِيمِ تِلْكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَتَكُونُ الْأُولَى عَلَى إِبَاحَتِهَا، وَالثَّانِيَةُ على تحريمها؛ لأنه وطئها حراماً فلم تحل به الثانية ولم تحرم به الْأُولَى وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الثَّانِيَةَ لِتَحْرِيمِهَا وَيُسْتَحَبُّ أن يجتنب الأولى حتى تستبرئ الثَّانِيَة نَفْسَهَا لِئَلَّا يَجْتَمِعَ مَاؤُهُ فِي أُخْتَيْنِ وبالله التوفيق. مسألة قال الشافعي: " فإذا اجْتَمَعَ النِّكَاحُ وَمِلْكُ الْيَمِينِ فِي أُخْتَيْنِ أَوْ أمةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فَالنِّكَاحُ ثابتٌ لَا يَفْسَخُهُ مِلْكُ الْيَمِينِ كَانَ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ وحرم بملك الْيَمِينِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ حُقُوقًا لَهُ وَعَلَيْهِ وَلَوْ نَكَحَهُمَا مَعًا انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا وَلَوِ اشْتَرَاهُمَا مَعًا ثَبَتَ مِلْكُهُمَا وَلَا يَنْكِحُ أُخْتَ امْرَأَتِهِ وَيَشْتَرِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَا يُمَلِّكُ امْرَأَتَهُ غَيْرَهُ وَيُمَلِّكُ أَمَتَهُ غَيْرَهُ فَهَذَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ". قال الماوردي: قد مضى الكلام في الجمع بين أختين بعد نكاح في الجمع بينهما بملك اليمين فَأَمَّا إِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَنْ عَقَدَ على أحدهما نكاحاً واستمتع بالأخرى بملك اليمين فَهُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ سَبَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ فإن عقد النكاح ثُمَّ اسْتَمْتَعَ بِهَا بَعْدَهُ فَالْحُكْمُ في الحالين سواء إذا كان الاستمتاع بعد عقد النِّكَاحِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَوَطْؤُهُ لِلْأُخْتِ مُحَرَّمٌ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ لِاسْتِقْرَارِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى النكاح كأن ملك أمة استمتع بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْتَهَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ وَإِنْ تَأَخَّرَ كثبوته لو تقدم ويحرم به الموطؤة بملك اليمين، وقال مالك النكاح باطل، والموطؤة بملك اليمين حلالاً اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ صَارَتْ بِالْوَطْءِ فراشاًَ كما تصير بعد النِّكَاحِ فِرَاشًا وَحَرُمَ دُخُولُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ بطل نكاح أختها عليها ووجب إذا جاءت فِرَاشًا بِالْمِلْكِ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُ أُخْتِهَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا فِي الْحَالَيْنِ فِرَاشًا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لأربعة معانٍ: أحدها: أن فراش المنكوحة ثبت بِثُبُوتِ الْعَقْدِ وَلَا يَثْبُتُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِثُبُوتِ الملك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 والملك قَدْ يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْأَمَةِ بِاسْتِبْرَائِهَا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَلَا يَرْتَفِعُ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ مَعَ بَقَاءِ العدة. والثالث: أن فراش المنكوحة ثبت حقاً لها، وعليها مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَلِعَانٍ، وَلَا يُثْبِتُهَا فِرَاشُ الْمِلْكِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ أَمَتَهُ غَيْرَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلِّكَ زَوْجَتَهُ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى من فراش الملك بما ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَقْوَى وَالْأَضْعَفُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَقْوَى أَثْبَتَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَقْدُ نِكَاحٍ وَعَقْدُ مِلْكٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ ثم اشتراها بطل عقد النكاح بعد الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقَوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمِلْكِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَلَمَّا غَلَبَ فِي الْعَقْدَيْنِ أَقْوَاهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ فِي الْفِرَاشَيْنَ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَسْبَقُ فِيمَا اسْتَوَتْ قُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ كَعَقْدَيْ نِكَاحٍ أَوْ فِرَاشَيْ مِلْكٍ فَبَطَلَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ النِّكَاحِ حَرُمَتِ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَجَازَ لَهُ وَطْءُ هَذِهِ الْمَنْكُوحَةِ وَقَالَ أبو حنيفة لا يحل له المنكوحة حتى تحرم الموطوءة بملك اليمين بِحُدُوثِ الْعَقْدِ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تجمع معها كما لو تزوجها وتزوج أُخْتَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ قِيَاسًا فِي الطَّرْدِ عَلَى مَنْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ نِكَاحِ أَمَةٍ وَفِي الْعَكْسِ عَلَى مَنْ نَكَحَ أَمَةً بَعْدَ نِكَاحِ حُرَّةٍ، وفي هذا الدليل انفصال. مسألة قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وزوجة أبيها وبين امرأة الرجل وابنة امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا نسب بينهن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا وَزَوْجَةِ ابْنِهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا امرأتان لَوْ كَانَ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا تَكُونُ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ حَلِيلَةَ ابْنِهِ فَحَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا حُرِّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَّيَّةَ جَمَعَ كَلُّ وَاحِدٍ منهما بين امرأة رجل وبنته من غيره فلم ينكر ذاك أحد من علماء عصره، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَيْنَ ذَوِي الْأَنْسَابِ حِفْظًا لِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَأَنْ لا يتقاطعن بالتباغض وَالْعُقُوقِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ النَّسَبِ فَلَمْ يَحْرُمِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَخَالَفَ ذَوِي الْأَنْسَابِ. فَصْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَبَنَتِ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا سَهْوٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّهُ كَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَأَعَادَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 بِعِبَارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَبِنْتَ امْرَأَتِهِ من غيرها هي المرأة وزوجة ابنها وقال آخرون: بل نقل المزني صحيح، وهذا الْمَسْأَلَةُ غَيْرُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بين بنت زَيْدٍ وَامْرَأَةِ زَيْدٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ زَيْدٍ وَبِنْتِ امْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى من غيره، وهذا لدينا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ لَا بَأْسَ أن يتزوج الرجل بالمرأة وَيَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِابْنَتِهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَ الْأَبُ امْرَأَةً وَيَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِأُمِّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ، وَمَنَعَ طَاوُسٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْأَبُ بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنُ بِابْنَتِهَا إِذَا وُلِدَتْ بَعْدَ وَطْءِ الْأَبِ لِأُمِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وُلِدَتْ قَبْلَ وَطْئِهِ لَمْ يَمْنَعْ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهَذَا خطأ، لأن تحريم الربيبة على الأب يساوى حكمه في وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْئِهِ وَبَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَسَاوَى حُكْمُ إِبَاحَتِهَا لِلِابْنِ فِي وِلَادَتِهَا قَبْلَ وَطْءِ الْأَبِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ حَرَصَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه في الغلام الذي زنا ببنت امرأة أبيه فجلده، وأن يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَأَبَى الْغُلَامُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُ الْوِلَادَةِ والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 بَابُ مَا جَاءَ فِي الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الحلال من الجامع ومن اليمين مع الشاهد مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الحلال وقاله ابْنُ عَبَّاسٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ فَلَا يُقَاسُ شيءٌ عَلَى ضِدِّهِ قَالَ لِي قائلٌ يَقُولُ لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَته ابْنَهُ بشهوةٍ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا لِمَ قُلْتَ لا يحرم الحرام الحلال؟ قلت مِنْ قِبَلِ أنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنما حَرَّمَ أمهات نسائكم ونحوها بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فقال أجد جماعاً وجماعاً قلت جماعاً حُمِدت بِهِ وَجِمَاعًا رُجِمت بِهِ وَأَحَدُهُمَا نعمةٌ وجعله الله نسباً وصهراً وأوجب حقوقاً وجعلك محرماً به لأم امرأتك ولابنتها تُسَافِرُ بِهِمَا وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بالحد وفي الآخرة بالنار إلا أن يعفو أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمةٌ؟ وقلت له فلو قَالَ لَكَ قائلٌ وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بجماع زوجٍ فأحلها بالزنا لأنه جماعٌ كجماع كَمَا حَرَّمْتُ بِهِ الْحَلَالَ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وجماعٌ قَالَ إِذًا تُخْطِئُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بإصابة زوجٍ قيل وكذلك ما حرم الله تعالى في كتابه بنكاح زوجٍ وإصابة زوجٍ قال أفيكون شيءٌ يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام فأقول به؟ قلت نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ من النساء خامسةً أفيحرم عَلَيْهِ إِذَا زَنَى بأربعٍ شيءٌ مِنَ النِّسَاءِ قال لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال (قال) وقد ترتد فتحرم على زوجها؟ قلت نعم وعلى جميع الخلق وأقتلها وأجعل مالها فيئاً (قال) فقد أوجدتك الحرام يحرم الحلال قلت أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا (قال المزني) رحمه الله تركت ذلك لكثرته وأنه ليس بشيءٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ المصاهرة بعقد النِّكَاحِ وَفِي تَحْرِيمِهَا بِوَطْءِ الْإِمَاءِ، كَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ يُوجِبُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلَ مَا يوجبه الوطء الحلال في عقد نكاح أو ملك يمين؛ لأنه لما ساماه فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ سَاوَاهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ. فَأَمَّا وَطْءُ الزِّنَا فَلَا يَتَعَلَّقُ به تحريم المصاهرة بحال، فإذا زنا الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَلَا بنتها ولم يحرم عَلَى أَبِيهِ وَلَا عَلَى ابْنِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: الزِّنَا كَالْحَلَالِ فِي تحريم المصاهرة، فإذا زنا بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَحَرُمَتْ عَلَى أبيه وابنه، ولو زنا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا، أَوْ لَمَسَهَا، أَوْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلى فرجها بشهوة بطل نكاحها على أبيه وابنه، وحرم عليها أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وحكي نحوه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَزَادَ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: إِذَا تَلَوَّطَ الرَّجُلُ بِغُلَامٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ، وَحَرُمَ عَلَى الْغُلَامِ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ، وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 22) وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، فَاقْتَضَى عُمُومُ الْوَطْءِ تَحْرِيمَ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قل: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَاقْتَضَى إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ فِي الزِّنَا أَنْ لَا يَنْظُرَ إلى فرج ابنتها فِي النِّكَاحِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَشْفِ الْخِمَارِ لِنِكَاحٍ أَوْ زِنًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ الْمَحْظُورِ قِيَاسًا عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ كَالرَّضَاعِ. ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} (الفرقان: 54) فجمع بين المائين الصِّهْر، وَالنَّسَب، فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الزِّنَا حُكْمُ النَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْمُصَاهَرَةِ وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الحرام لا يحرم الحلال ". وروي عن الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا أَوْ يَنْكِحُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ حَلَالٍ " وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خلافه. ومن طريق القياس أنه وطء تمحض تحريمه فلم يتعلق به تحرم الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَيِّتَةِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ نِكَاحٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الزِّنَا الصَّرِيحِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ وطء لا يتعلق به التحريم المؤقت فوجب أن يتعلق به التحريم المؤبد كاللواط، ولأنه مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ افْتَرَقَ حُكْمُ حَلَالِهِ وحرامه كالعقد، ولأن المواصلة التي ثبت فِي الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ تَنْتَفِي عَنِ الْوَطْءِ بِالزِّنَا قياساً على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 مُوَاصَلَةِ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْ وَطْءِ الزِّنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ النِّكَاحِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَالْإِحْلَالِ، وَالْعِدَّةِ، وَالنَّسَبِ انْتَفَى عَنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا حَرُمَ مِنَ الْوَطْءِ، وَالْقُبْلَةِ، والملامسة بشهوة لما شاءت المرأة أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا إِذَا كَرِهَتْهُ إِذَا قَدَرَتْ عَلَى فِرَاقِهِ بِتَقْبِيلِ ابْنِهِ فَيَصِيرُ الْفِرَاقُ بِيَدِهَا، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَهَا وَلَا يبطل هذا بالردة؛ لأنه مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا تستفيده من الفرقة فلم تخلص لها الفرقة بالردة وخلصت لها بالقبلة. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ) {النساء: 2) فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ حقيقة في العقد فجاز فِي الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَقْتُمُوهَنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُوهُنَّ) {الأحزاب: 49) وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) {النور: 32) يُرِيدُ بِهِ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ ثُمَّ لَوْ تَنَاوَلَ الْوَطْءَ مَجَازًا عِنْدَنَا وَحَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَلَالِهِ مَخْصُوصًا فِي حَرَامِهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أنه مكتوب في التوراة فلم يلزمنا لنسخها بِالْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعِيدِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ فِي الْحَرَامِ دُونَ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ حَرَامٌ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وبنتها " فلا دليل في ظاهره فعمل بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْخِمَارِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمَّهَا وَلَا بِنْتَهَا فَإِنْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْوَطْءِ، عَدَلْنَا بِهِ إِلَى حَلَالِ الْوَطْءِ أَوْ شُبْهَتِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ كَالنِّكَاحِ، فَلَيْسَ لِقَوْلِهِمْ وَطْءٌ مَقْصُودٌ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ وَطْءَ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهُوَ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ كَوَطْءِ الشَّابَّةِ الْحَسْنَاءِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ انْتُقِضَ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ أوجب لحوق النَّسَبِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّضَاعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَمُنْتَقِضٌ بِالْعَقْدِ يَفْتَرِقُ حكم محظوره الفاسد ومباحه الصحيح. وإن قِيلَ: فَالْعَقْدُ قَوْلٌ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ. قِيلَ؛ الْقَوْلُ فِعْلٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُ لَمَّا تعلق لمحظوره شابه أحكام المباح لم يتَعَلَّق بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 فصل فأما الشافعي: فإنه حكى مناظرة بينه وبين العراقيين في هذه المسألة، اختلف أصحابنا فيه. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ محمد بن الحسن. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ بشر المريسي فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لي قائل، يقول: لو قبلت امرأة ابنه لشهوة حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا لِمَ قُلْتَ هَذَا، فهذا سؤال أورده عليه، فالمخالف، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: قَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَ لَا، قُلْتُ هَذَا، فَحَذَفَ لَا وَقَالَ لِمَ قُلْتُ هَذَا سَهْوًا مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ مَذْهَبَهُ فِي أَنَّ الحرام لا يحرم الحلال وطأً كان أَوْ لَمْسًا، فَقَالَ لَهُ الْمُخَالِفُ أَنَا أَقُولُ: لو قبلت امرأة ابنه بشهوة حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا لِمَ قُلْتَ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْكَ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِنْ قبل: إن الله تعالى حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ، وَهَذَا بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّصُّ وَارِدًا فِي النِّكَاحِ كَانَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الْحَرَامُ مُلْحَقًا بِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَرَامِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ قال الشافعي وقوله تعالى حاكياً عن هذا القائل فقال لي أحدهما جِمَاعًا وَجِمَاعًا، يَعْنِي أَنَّ وَطْءَ الزِّنَا جِمَاعٌ ووطء النكاح جماع فاقتضى لتساويهما أن يستوي حُكْمُهُمَا فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ فَرَّقَ بين الجماعين في الحكم فقال: جماعاً حمدت به، وجماعاً رجعت به، وأحدهما نعمة وجعلته نَسَبًا وَصِهْرًا، وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا وَجَعَلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بِالْحُدُودِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إلا أن يعفو الله، أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة. فَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْجِمَاعَيْنِ لَمَّا افْتَرَقَا فِي هذه الْأَحْكَامِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا ثُمَّ أن الشافعي استأنف سؤالاً على هذه المناظرة له فَقَالَ: إِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ الزَّوْجِ فَأُحِلُّهَا بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ جماع كجماع كما حرمت به الحلال، ولأنه جِمَاعٌ وَجِمَاعٌ، فَأَجَابَهُ هَذَا الْمُنَاظِرُ بِأَنْ قَالَ: إِذًا تُخْطِئُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِإِصَابَةِ زَوْجٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ فَأَوْرَدَ أَوَّلَ السؤال نقصاً ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ فَرْقًا لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْجِمَاعَ الْحَرَامَ بِالْجِمَاعِ الْحَلَّالِ من حيث جمعهما بالاسم فَعَارَضَهُ بِتَحْلِيلِهَا لِلزَّوْجِ بِالْجِمَاعِ الْحَرَامٍ قِيَاسًا عَلَى الْجِمَاعِ الْحَلَالِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الِاسْمِ، فَأَقَرَّ بِتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ فَصَارَ نَقْضًا وَاعْتِرَافًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الِاسْمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ: سُؤَالًا اسْتَأْنَفَهُ مَنَاظِرُهُ. فَقَالَ: قَالَ لِي أفيكون شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ لَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ أَقُولُ بِهِ. فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ من النساء خامسة فيحرم عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 قال المناظر: لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مَا مَنَعَهُ الْحَلَالُ، فَكَانَ هذا منه زيادة اعتراف تفرق مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ حكي عَنْهُ اسْتِئْنَاف سُؤَالٍ يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهُوَ أَنْ تَرْتَدَّ الْمَرْأَةُ فَتَحْرُمُ بِالرِّدَّةِ عَلَى زَوْجِهَا، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْحَرَامُ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ. فَأَجَابَهُ الشافعي رضي الله عنه بِأَنْ قَالَ: نَعَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَاقْتُلهَا وَاجْعَل مَالَهَا فَيْئًا يُرِيدُ بِذَلِكَ أن تحرم الردة عام، ولا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ تَبَعًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فإذ تقرر ما وصفنا من الزِّنَا لَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ فَجَاءَتِ الزَّانِيَةُ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا كَانَ وَلَدُ الزَّانِيَةِ دُونَ الزَّانِي لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وإنما لحق بها دونه؛ لأنه مخلوق منهما عِيَانًا، وَمِنَ الْأَبِ ظَنًّا فَلَحِقَ بِهَا وَلَدُ الزنا والنكاح لمعاينة وضعهما لَهُمَا، وَلَحِقَ بِالْأَبِ وَلَدُ النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الزِّنَا، وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْ وَلَدُ الزِّنَا بِالزَّانِي وَكَانَتْ ثيباً جَازَ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كره له أن يتزوجها، واختلف أصحابنا في معنى الكراهية. فقال بعضهم: لاختلاف الفقهاء في إباحتها، وكره اسْتِبَاحَتِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَرِهَ نكاحها لجواز أن يكون مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ حَرُمَ عَلَى الزَّانِي نِكَاحُهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى تَحْرِيمِهَا فَقَالَ مُتَقَدِّمُوهُمْ: لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَى بِهَا فَتَعَدَّى تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ إِلَيْهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فَرْعًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَاضِي. وقال متأخروهم: بل حرمت؛ لأنها بنته مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِلَافًا مُسْتَأْنَفًا وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) {النساء: 23) وَهَذِهِ بِنْتُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهَا بِنْتًا، وَلَا يُعْتَبَرُ عَقْدُ النِّكَاحِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ فِي الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ كَالْمَوْلُودَةِ مِنْ زَوْجة أَوْ أمة؛ وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرجل الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، فَلَمَّا حَرُمَ وَلَدُ الزِّنَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ. وَلِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مِائِهِ فلم يكن نفيها عنه يمانع مِنْ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْوَلَدِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ مَاءِ الزاني كَالْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالزَّانِيَةِ يُوجِبُ أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ وَجَبَ إِذَا انْتَفَى النَّسَبُ عَنِ الزَّانِي أَنْ يَتْبَعَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا تَبِعَهُ الْمِيرَاثُ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَحْرِيمُ نَسَبٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ كَاتِّبَاعِهِ فِي حَقِّ الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّسَبِ فِي الثُّبُوتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ فِي النَّفْيِ كَالْمِيرَاثِ، وَلَا مدخل على هذا ولد الملاعنة لما سَنَذْكُرُهُ؛ وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَوْ حَرُمَتْ عَلَى الزَّانِي بِالْبُنُوَّةِ لَحَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ بِحُكْمِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ، وَفِي إِبَاحَتِهَا لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهَا لِلزَّانِي. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ بَنَاتِهِ فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَمَا لَمْ تَكُنْ مِنْ بَنَاتِهِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ للذَّكَرِ) {النساء: 11) الْآيَةَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَسْلَمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ نَسَبٌ وَلَا مِيرَاثٌ لَمْ يمنع أن يَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمٌ. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الشُّبْهَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَمِيرَاثُهُ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ وَوَلَدُ الزِّنَا بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَالْحُكْمُ فِي وَلَدِ الملاعنة أنه إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا بَنَتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَا دَخَلَ بِهَا فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ كَوَلَدِ الزِّنَا فَعَلَى هَذَا بطل الْقِيَاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لو اعترف بها بعد الزنا لَحِقَتْ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يلحق فصار وَلَد الزِّنَا مُؤَبَّدًا وَنَفْيُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَافْتَرَقَا فِي النَّفْيِ، فَكَذَلِكَ مَا افْتَرَقَا في الحكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 بَابُ نِكَاحِ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ وَإِمَاءِ المسلمين من الجامع ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه، وغير ذلك مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمُ الْيَهُودُ والنصارى دون المجوس والصابئون وَالسَّامِرَة مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أنهم يخلفونهم فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ فيحرمون كالمجوس وإن كانوا يخالفونهم عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ فَلَا يُحَرَّمُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقِسْمٌ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكِتَابُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةُ وَنَبِيُّهُمْ مُوسَى وَكِتَابُ النَّصَارَى الْإِنْجِيلُ وَنَبِيُّهُمْ عِيسَى، وَكِلَا الْكِتَابَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَمُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدَىً للنَّاسِ) {آل عمران: 3 - 4) قد نُسِخَ الْكِتَابَانِ وَالشَّرِيعَتَانِ أَمَّا الْإِنْجِيلُ فَمَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَدِينُ اليهودية فقد اختلف أصحابنا بماذا نسخ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِنْجِيلِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّصْرَانِيَّةِ ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ الْإِنْجِيلَ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ دَعَا الْيَهُودَ إِلَى دِينِهِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِنْجِيلِهِ فَلَوْ لَمْ يَنْسَخْ دينهم بدينه وكتابهم بكتابه لأقرهم ولدعى غَيْرَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّوْرَاةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ وَالْيَهُودِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُغَيَّرْ من التوراة قبل القرآن حق، وما تغير مِنَ الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَأَنَّ عِيسَى إنما دعى الْيَهُودَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ فَنَسَخَ بِالْإِنْجِيلِ مَا غَيَّرُوهُ مِنْ تَوْرَاتِهِمْ وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ مَا بَدَّلُوهُ مِنْ يَهُودِيَّتِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ الْقُرْآنُ حينئذٍ جَمِيعَ تَوْرَاتِهِمْ، وَنَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ يَهُودِيَّتِهِمْ لِأَنَّ الأنبياء قد كانوا يحفظون من الشرائع التبديل، وينسخون منها مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الْوَحْيِ خَاصًّا مِنْ أَوَّلِهِ فَأَمَّا نَسْخُ الشرائع المتقدمة على العموم فلم يكن إلا بالإسلام الذي هو خاتمة الشرائع، بالقرآن الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْكُتُبِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يكون الداخل في اليهودية بعد عيسى على بَاطِل، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى حَقٍّ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ، فَأَمَّا بَعْدَ الإسلام فالداخل في اليهودية والنصرانية على باطل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا عَلَى دِينٍ حَقٍّ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجُوزُ لِحُرْمَةِ كتابهم أن يقروا على دينهم بالجزية أي يزكوا وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ فَأَمَّا إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وأكل ذبائحهم فمجمع عليه بالنص الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، أَمَّا الْجِزْيَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) {التوبة: 29) فأما أكل الذبائح فقوله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) {المائدة: 5) أما نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غير الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ، أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: 10) وقوله تَعَالَى: {لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} (المائدة: 51) الآية قالوا: ولأن بغضهم يمنع من نكاح نسائهم كعبدة الْأَوْثَانِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ منزلٍ فكتابهم مغير مَنْسُوخٌ وَمَا نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى ارْتَفَعَ حُكْمُهُ فَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ، فَكَذَلِكَ صَارُوا بَعْدَ نَسْخِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {المائدة: 5) فَجَمَعَ بَيْنَ نِكَاحِهِنَّ وَنِكَاحِ الْمُؤْمِنَاتِ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) متقدمة، لأنها من سورة البقرة، وَقَوْلَهُ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} متأخرة؛ لأنها من سورة المائدة وهي مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمُتَأَخِّرُ هو الناسخ للتقدم وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ نَاسِخًا لِلْمُتَأَخِّرِ، فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. والجواب الثاني: أن قوله: {لاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) عَامٌ وَقَوْلَهُ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْعَامِ وَمُخَصَّصًا لَهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {ولاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) مخصوصا بِقَوْلِهِ: {وَالمُحْصِنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ ينطلقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنَ الفقهاء: إلى أن أهل الكتاب ينطلق على اسم الكفر ولا ينطلق عليه اسْمُ الشِّرْكِ، وَأَنَّ اسْمَ الشِّرْكِ ينطلقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُوَحِّدِ اللَّهَ تَعَالَى وَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {ولاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مخصُوصًا وَلَا مَنْسُوخًا ثُمَّ حُكْمُهُ ثَابِتٌ عَلَى عمومه. ثم يدل على جوازه نِكَاحهمْ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَلَكَ رَيْحَانَةَ وَكَانَتْ يَهُودِيَّةً وَاسْتَمْتَعَ بِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ " ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَبُشِّرْ بِإِسْلَامِهَا فَسُرَّ بِهِ، ولو منع الدين منها لما استمتع بها كَمَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِوَثَنِيَّةٍ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ جَوَازُهُ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نكح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 نَصْرَانِيَّةً وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " نَكَحْنَاهُنَّ بِالْكُوفَةِ عَامَ الْفَتْحِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " وَنَحْنُ لَا نَكَادُ نَجِدُ الْمُسْلِمَاتِ كَثِيرًا فَلَمَّا انْصَرَفْنَا من العراق طلقناهن، تحل لنا نساؤهم ولا تحل لَهُمْ نِسَاؤُنَا، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جَابِرٍ إخباراً عن أحوال جماعة المسلمين الذين مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَصَارَ إِجْمَاعًا مُنْتَشِرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ. قِيلَ: ابْنُ عُمَرَ كَرِهَ وَلَمْ يُحَرِّمْ، فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ كِتَابًا مِنْ كَلَامِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ كَانُوا فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى حَقٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوُوا فِي الشِّرْكِ مَنْ لَمْ يكن من عبدة الأوثان على حق معه، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِحُرْمَةِ كِتَابِهِمْ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صِحَّةِ دِينِهِمْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَأَكْلِ ذبائحهم جاز أن تفرق بَيْنَهُمْ فِي نِكَاحِ نِسَائِهِمْ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: آية: 10) فمخصوص بعبدة الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَمَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَأَكْلِ الذَّبَائِحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ كِتَابَهُمْ منسوخ فهو كما لو لَمْ يَكُنْ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا نُسِخَ حكمه لا يوجب أن لا يُنْسَخَ حُرْمَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا نُسِخَ من القرآن ثَابِتُ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ كَذَلِكَ نَسْخُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ فَهُمْ ضَرْبَانِ. بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَغَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَجَمِيعُ بَنِيهِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ مُوسَى حِينَ دَعَاهُمْ، دَخَلَ مِنْهُمْ فِي دِينِ عِيسَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا عَلَى دِينِ حَقٍّ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ. وَأَمَّا غَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ دخل في اليهودية من النصرانية من العرب والعجم والترك فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التبديل كالروم حين دخلوا النَّصْرَانِيَّة، فَهَؤُلَاءِ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إلى قيصر الروم كتاباً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 قَالَ فِيهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ) {آل عمران: 64) الْآيَةَ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ الحرمة للدين والكتاب لا للنسب؛ فلذلك مَا اسْتَوَى حُكْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فِيهِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ ولا تمسكوا بكتاب صحيح، فصاروا إن لم يكن لهم حرمة كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي، أَنْ لَا تُقْبَلَ لَهُمْ جزية، ولا يؤكل لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قبل التبديل أو بعده كنصارى العرب كوج وفهر وَتَغْلِبَ فَهَؤُلَاءِ شَكَّ فِيهِمْ عُمَرُ فَشَاوَرَ فِيهِمُ الصَّحَابَةَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ؛ وَأَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ مَحْقُونَةٌ فَلَا تُبَاحُ بِالشَّكِّ وَالْفُرُوجَ محظورة لا تُسْتَبَاحُ بِالشَّكِّ، فَهَذَا حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى. فصل وأما القسم الثاني: هم غير أهل الكتاب كعبدة الأوثان وعبدة الشمس والنيران وعبدة ما استحسن من حمار أو حيوان، أو قل بِتَدْبِيرِ الطَّبَائِعِ وَبَقَاءِ الْعَالَمِ، أَوْ قَالَ بِتَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْأَدْوَارِ، فَلَمْ يُصَدِّقْ نَبِيًّا وَلَا آمَنَ بِكِتَابٍ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ، وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالسَّيْفِ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يُؤَمَّنُوا مُدَّةً أَكْثَرُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُرَاعَى انْقِضَاؤُهَا فِيهِمْ ثُمَّ هُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَمَانِهِمْ حَرْبٌ، وَسَوَاءٌ أَقَرُّوا بأن لا إله إلا الله أو أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ، أَوْ جَحَدُوهُ وَلَمْ يُقِرُّوا به آله ولا خالق فِي أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ، لَا يُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وهم مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الصابئون، والسامرية، والمجوس. فأما السامرة: فهم صنف الْيَهُودِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ حِينَ غَابَ عَنْهُمْ مُوسَى مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ، وَاتَّبَعُوا السَّامِرِيَّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمِنْهُمْ من قتل. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى وَافَقُوهُمْ عَلَى بَعْضِ دِينِهِمْ وَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِهِ، وَقَدْ يسمى باسمهم ويضاف إِلَيْهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا صَانِعَةً مُدَبِّرَةً فَنَظَرَ الشَّافِعِيُّ فِي دِينِ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ: فَوَجَدَهُ مُشْتَبِهًا فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِهِمْ فقال هاهنا: أنه مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ يخالفوهم فِي أَصْلِ مَا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ فَيُحَرَّمُونَ وَقَطَعَ في موضع آخر أنه مِنْهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ من ثلاثة أقسام: فقال إن وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم ويخالفوهم في فروعه فيقر السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَيُقِرُّ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، فَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ، وَأَكْلِ ذبائحهم، ونكاح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا جَمَعَهُمْ أَصْلُ الْمُعْتَقَدِ لَمْ يكن خلافهم في فروعه مؤثر كما يختلف المسلمون مع اتفاقهم على أصل الدِّينِ فِي فُرُوعٍ لَا تُوجِبُ تَبَايُنَهُمْ وَلَا خروجهم عن الملة. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أصول معتقدهم، وأن يوافقوهم فِي فُرُوعِهِ وَيُكَذِّبَ السَّامِرَةُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَيُكَذِّبَ الصَّابِئُونَ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، فَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يقبل لهم جزية، ولا يؤكل لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَقٍّ فَيُرَاعَى فِيهِمْ، وَلَا تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ فَيُحْفَظَ عَلَيْهِمْ حُرْمَتُهُ فَيُؤْخَذُوا بِالْإِسْلَامِ أو بالسيف، وَحُكِيَ أَنَّ الْقَاهِرَ اسْتَفْتَى أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فِيهِمْ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْفَلَكَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلهة مُدَبِّرَةٌ فَهَمَّ بِقَتْلِهِمْ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالًا فَكَفَّ عَنْهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشَكَّ فِيهِمْ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، أَوْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ فَهَؤُلَاءِ كَمَنْ شُكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَيُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدِ اختلف الناس فيهم هل هم أهل الكتاب أَمْ لَا؟ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمْ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقَالَ فِي موضع لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِ الشافعي فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه لا كتاب لهم لقوله تعالى: {إنَّمَا أَنْزَلَ الكِتَابِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} (الأنعام: 156) يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِغَيْرِهِمَا؛ وَلِأَنَّ عُمْرَ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْهُمْ فَرَوَى لَهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " سنوا بهم سنة أهل الْكِتَابِ " فَلَمَّا أَمَرَ بِإِجْرَائِهِمْ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ " فَأَمَّا أَكْلُ ذَبَائِحِهمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْكِتَابِ فيهم. والقول الثاني فيهم: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) {التوبة: 29) وَقَدْ ثَبَتَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فدل على أنهم من أهل الكتاب وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: وكانوا أهل كتاب " وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَلَمَّا صحا جاؤا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعا آل مملكته فقال: " تعلمون ديناً خيراً من دين آدم فقد كان آدم ينكح بنيه من بناته فأنا على دين آدم ما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وذهب العلم الذي في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 صدورهم وهم أَهْلُ كِتَابٍ وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية ". فَنَكَحَ الْمِلْكُ أُخْتَهُ، وَأَمْسَكُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، إِمَّا مُتَابَعَةً لِرَأْيِهِ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ؛ وَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ طَرِيقُ كِتَابِهِمُ الِاجْتِهَادَ دُونَ النَّصِّ فَقَصَرَ حُكْمُهُ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ. وَقَالَ آخرون من أصحابنا: ليس ما اختلف نص الشافعي عليه اختلاف قوليه فيه إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَعْنِي فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ وَحْدَهَا حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالشَّكِّ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْنِي فِي أَنْ لَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو ثَوْرٍ فَجَوَّزَ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا؛ وَقَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ خِلَافًا فِيهِ حَتَّى جَاءَنَا خلافاً من الكرخ يَعْنِي خِلَافَ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ كَرْخَ بَغْدَادَ وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَكْلِ ذبائحهم، وجواز مناكحتهم بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " قَالَ: وَقَدْ تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَجُوسِيَّةً بِالْعِرَاقِ فاستنزله عنها عمر فطلقها، فلو لم يجز لأنكر عَلَيْهِ وَلفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صنفٍ جَازَ قَبُولُ جِزْيَتِهِمْ جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: وَلِأَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نُسِخَ وَكِتَابَ الْمَجُوسِ رُفِعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْمَرْفُوعِ؛ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ نَسْخُ كِتَابَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ رَفْعُ كِتَابِ الْمَجُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ. رَوَاهُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا لا يعرف لهم مخالفاً فصار إجماعاً؛ لأن مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِكِتَابٍ لَمْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ ونسائهم كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَيْسَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ كَمَا يَتَمَسَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَوَجَبَ أن يكون حكمهم مُخَالِفًا لِحُكْمِهِمْ وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ مَحْظُورٌ بِعُمُومِ النص فلم يجز أن يستباح باحتمال؛ وَلِأَنَّ عُمْرَ مَعَ الصَّحَابَةِ تَوَافَقُوا فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ لِلشَّكِّ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا الشك أن يستبيح أكل ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله كَيْفَ أَخَذَ النَّاسُ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى عِبَادَةِ النِّيرَانِ، وَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ، إِنَّمَا أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، لِأَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ أَخَذَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 مِنْهُمْ، وَأَقَرَّهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُفْرِدُوا مِنْ أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها فلذلك خصهما عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالسُّؤَالِ وَالْإِنْكَارِ، فَأَمَّا استدلاله بِقَوْلِهِ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فَيَعْنِي بِهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ. والثاني: أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قَبُول جِزْيَتِهِمْ وَلَمْ يُجَوِّزُوا بِهِ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ. وَأَمَّا تَزْوِيجُ حُذَيْفَةَ بِمَجُوسِيَّةٍ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ يَهُودِيَّةً، وَلَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فَقَدِ اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمرُ فَنَزَلَ، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ لَمَا اسْتَنْزَلَهُ عَنْهَا عُمرُ وَلَمَا نَزَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَالْمَعْنَى فِيهِمْ تَمَسُّكُهُمْ بِكِتَابِهِمْ فَثَبَتَ حُرْمَتُهُ فِيهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَجُوسُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ حُكْمَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْسُوخِ سَوَاءٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم، وليس كذلك المجوسي، وَأَمَا الْمَرْفُوعُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ فَارْتَفَعَتْ حُرْمَتُهُ هَذَا الكلام فيمن له شبهة بكتاب مِنَ الصَّابِئِينَ، وَالسَّامِرَةِ، وَالْمَجُوسِ. فَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِصُحُفِ شِيثٍ أَوْ زَبُورِ دَاوُدَ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى، أَوْ مِنْ زُبُرِ الْأَوَّلِينَ فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب، ويكونوا كَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَوَاعِظُ وَوَصَايَا، وَلَيْسَ فِيهَا أَحْكَامٌ وَفُرُوضٌ فَخَالَفَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَالثَّانِي: لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَحْيٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، أَوْ مَنْ تَبِعَنِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ "، فَكَانَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِهِ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كَذَلِكَ هَذِهِ الْكُتُبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالْمُسْلِمَةِ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ وَالْحَدُّ فِي قَذْفِهَا التَّعْزِيرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أنكح المسلم كتابية، فمالها وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْمُسْلِمَةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 238) ؛ وَلِأَنَّهُ عَقَدُ مُعَاوَضَةٍ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَالْإِجَارَاتِ، وَالْبُيُوعِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ، وَالسُّكْنَى، وَالْقَسْمُ، وَالَّذِي لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذِهِ هِيَ حُقُوقُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيَّةِ. فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعَقْدِ فَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَاللِّعَانُ، وَالتَّوَارُثُ، وَكُلُّ هَذِهِ الأحكام في العقد على الذمية كما فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ". والقول الثاني: أَنَّ الْحَدَّ فِي قَذْفِهَا التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شرط في حصانة القذف بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ لِيُسْقِطَ بِهِ هَذَا التَّعْزِيرَ جاز؛ لأن التعزير ضربان: الأول: تعزير أذى لا يجب. الثاني: وتعزير قذف يجب. فتعزير الأذى يكون فِي قَذْفِ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، فَلَا يَجِبُ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ، وَتَعْزِيرُ الْقَذْفِ يَكُونُ فِي قَذْفِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهَا الزِّنَا، وَلَمْ تَكْمُلْ حَصَانَتُهَا كَالْأَمَةِ والكافرة فيجب ويجوز فِيهِ اللِّعَانُ، فَأَمَّا مَا سِوَى هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّجْعَةِ فَهِيَ فِي جميعه كالمسلمة. مسألة قال الشافعي: " وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ ". قَالَ الماوردي: وأما إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ وطء الحائض حتى تغتسل بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهَرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثِ أَمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) وكان لِلزَّوْجِ إِذَا مَنَعَهُ الْحَيْضُ مِنْ وَطْئِهَا أَنْ يجبرها عليه ليصل إلى حقه منه. فإن قيل: الغسل عندكم لا يصح إلا منه، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكُمْ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَنْوِ ومن لم يغتسل، مع الكفر والإجبار لا تصح مِنْهَا نِيَّةٌ. قِيلَ: فِي غُسْلِهَا مِنَ الْحَيْضِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِلَّا بنية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 وَالْآخَرُ: لِلزَّوْجِ يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى فلذلك أجزى بِغَيْرِ نِيَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبِرُ زَوْجَتَهُ الْمَجْنُونَةَ عَلَى الْغُسْلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لم يكن عليها في ق اللَّهِ تَعَالَى غسلٌ، وَغَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ تَغْتَسِلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ للزوج عليها حق، وكذلك نجبر الذِّمِّيَّةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ من الوطء كالحائض، فَأَمَّا إِجْبَارُ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَبِيحُ وَطْءَ الْجُنُبِ، وَلَا يستبيح وطء الحائض فافترقا في الإجبار. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ جَازَ وطئها مَعَ بَقَائِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ قَدْ تَعَافُ وَطْءَ مَنْ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ، فَكَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا فَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ فَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِكَثْرَتِهِ وَأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَعَافُهُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ يَصِلُ إِلَى وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ الْحَدَثِ فَلَمْ يَكُنْ لإجبارها عليه تأثير. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والتنظف بِالِاسْتِحْدَادِ وَأَخْذِ الْأَظْفَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصَلُ مَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا منع من أصل الاستمتاع. والقول الثاني: مَا مَنَعَ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ فَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمْتَاعِ فَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَلِلزَّوْجِ إِجْبَارُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَانِعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ فَهُوَ مَا تَعَافُهُ النُّفُوسُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْأَصْلُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالتَّنْظِيفِ بِالِاسْتِحْدَادِ "؛ وَهُوَ أَخْذُ شعر العانة مؤخوذ من الحدية الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الْعَانَةِ قَدْ طَالَ وَفَحُشَ، وَخَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ أَجْبَرَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَخْذِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَفْحُشْ وَأَمْكَنَ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ، وَلَكِنْ تَعَافُهُ النَّفْسُ، فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ لم تعافه النَّفْسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهِ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَحِدَّ الْأَعْزَبُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْمُتَأَهِّلُ كُلَّ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنْ قَالَهُ نَقْلًا مَأْثُورًا عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ قَالَهُ اجْتِهَادًا، فَلَيْسَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فِي الاجتهاد أصل مع اختلاف الحلق فِي سُرْعَةِ نَبَاتِ الشَّعْرِ فِي قَوْمٍ وَإِبْطَائِهِ فِي آخَرِينَ وَاعْتِبَارِهِ بِالْعُرْفِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْأَظْفَارُ إِذَا لَمْ تَطُلْ إِلَى حَدِّ تَعَافُهَا النُّفُوسُ لَمْ يُجْبِرْهَا عَلَى أَخْذِهَا، وَإِنْ عَافَتِ النُّفُوسُ طُولَهَا فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى أَخْذِهَا قَوْلَانِ، وَهَكَذَا غَسْلُ رَأْسِهَا إِذَا سَهِكَ، أَوْ قَمِلَ، وَغَسْلُ جسدها إذا راح وأنتن، ففي إِجْبَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُهُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَمْنَعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ كَمَا يَمْنَعُ الْمُسْلِمَةَ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْيَهُودِيَّةَ مِنَ الْبَيْعَةِ وَالنَّصْرَانِيَّةَ مِنَ الْكَنِيسَةِ وَالْمُسْلِمَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وإن كانت بيوتاً تقصر للعبادة التي لا يجوز أن يمنع من واجباتها؛ لأنها قد توافي فِي مَنَازِلِ أَهْلِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بَيْتًا وَلَا تخرج من بيت زوجها كاره " ولأنها قَدْ تُفَوِّتُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعَ فِي زَمَانِ الْخُرُوجِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يمنعن إِمَاء اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ " فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مَنْعَ تَحْرِيمٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْعَهُنَّ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسْجِدَ اللَّهِ " يُرِيدُ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ هَكَذَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْأَعْيَادِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى هَذِهِ العبادات كان بأن يمنعها من الخروج بغير العبادات أولى. مسألة قال الشافعي: " وَيَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ إِذَا كَانَ يَتَقَذَّرُ بِهِ وَمِنْ أَكْلِ مَا يَحِلُّ إذا تأذى بريحه ". قال الماوردي: أما الذِّمِّيَّةُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ والنبيذ وما يسكرها لأمرين: أحدهما: ربما أنه خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُكْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قد رُبَّمَا مَنَعَتْهُ فِي السُّكْرِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَصَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ مُمَكَّنٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ قولاً واحداً، فأما إذا أَرَادَتْ أَنْ تَشْرَبَ مِنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ مَا لا يسكرها فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ يَسِيرِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ كَثِيرِهِ الَّذِي يُسْكِرُ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْمُسْكِرِ مِنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وربما أسكرها اليسير ولم يسكرها الكثير؛ لأن السكر يختلف باختلاف الأمزجة والأهوية فَالْمَحْرُورُ يُسْكِرُهُ الْقَلِيلُ، وَالْمَرْطُوبُ لَا يُسْكِرُهُ إِلَّا الْكَثِيرُ، وَإِذَا بَرَدَ الْهَوَاءُ وَاشْتَدَّ أَسْكَرَ الْقَلِيلُ وَإِذَا حَمِيَ الْهَوَاءُ لَمْ يُسْكِرْ إِلَّا الْكَثِيرُ، فلم يجز مع اختلافه أن يغترف حَال قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حامد الإسفراييني لما لم يذكر أَمَارَة تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا مُسْكِرَةٌ وَهَذَا الْقَدَرُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا عَافَتْهُ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا مَنْ قَوِيَ دِينُهُ، وَكَثُرَ تَحَرُّجُهُ فَيَصِيرُ مَانِعًا لَهُ من كمال الاستمتاع، فيحرم جَوَازُ مَنْعِهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُرْبِ الْقَلِيلِ الذي يرون شربه في أعيادهم عبادة وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أسكر أو لم سكر مراعاة فيه العبادة، ولم يراعي فِيهِ السُّكْرُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ. فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَلِلزَّوْجِ مَنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَأَمَّا النَّبِيذُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ شَافِعِيَّيْنَ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَالْخَمْرِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِنْ كَانَا حَنَفِيَّيْنِ يَعْتَقِدَانِ إِبَاحَةَ النَّبِيذِ كَانَ كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الذِّمِّيَّةِ فَلَهُ مَنْعُهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُسْكِرُهَا، وَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْ قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يُسْكِرُهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعُهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ أَكْلِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً تَرَى تَحْرِيمَ أَكْلِهِ ثُمَّ أَكَلَتْهُ مَنَعَهَا مِنْهُ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمَةَ، وَإِنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَرَى إِبَاحَةَ أَكْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ نُفُورَ نَفْسِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ نُفُورِهَا مِنَ الْخَمْرِ فَصَارَ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ نَجَاسَتِهِ أَغْلَظُ فَهِيَ لا تكاد تطهر منه، ويتعدى النَّجَاسَةُ مِنْهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ يَقُولُ: هَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إمكانه وتحريم مَنْعهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غَسْلِ فَمِهَا وَيَدِهَا منه لئلا يتعدى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ إِذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ، وَفِي قَدْرِ مَا يُجْبِرُهَا عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: سبع مرات إحداهن بالتراب مِثْلَ وُلُوغِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبِرُهَا عَلَى غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ تُرَابٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْبُرُهَا عَلَى غَسْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجْزَأَ فِيهِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ كَمَا يجزئ فِي غَسْلِ الْحَيْضِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. فَصْلٌ فَأَمَّا أَكْلُ مَا يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ مِنَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمَا أَنْتَنَ مِنَ الْبُقُولِ وَالْمَأْكَلِ فَالْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فيه سواء وينظر فإن كانت لِدَوَاءٍ اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ وَغِذَاءٍ فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَهَلْ يَمْنَعُهَا مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْبَخُورُ بِمَا تؤذي رائحته فَإِنْ كَانَ لدواءٍ لَمْ تُمْنَعْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ دَوَاءٍ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِيمَا مَنَعَهُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ أَوْ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ، لأن زمان الحيض وإن حرم فيه وطئها فإن يَحِلُّ فِيهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشِرَةِ فَصَارَ الْمَانِعُ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ من الوطء. فَصْلٌ فَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ لِبْسِ مَا كَانَ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَجِّسُهَا وَيَتَنَجَّسُ بِهَا وَهُوَ أَدْوَمُ مِنْ نَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ والتحرز مِنْهُ أَشَقُّ فَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وهل يمنع مَنْ لِبْسِ مَا كَانَ مُنْتَنَ الرَّائِحَةِ بِصَبْغٍ أَوْ بَخُورٍ أَوْ سَهُوكَةِ طَعَامٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَأَمَّا لبسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجُ وَاسْتِعْمَالُ الطيب والبخور لا يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْعَى إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 الشَّهْوَةِ، وَأَكْمَلُ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخِضَابِ وَالزِّينَةِ، وَلَا عَلَى أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى دَوَاءٍ فِي مَرَضٍ أَوْ سِمْنَةٍ في صحة. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ارتدت إلى مجوسية أو إلى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِنِ انْقَضَتْ قبل أن ترجع فقد انقطعت العصمة لأنه يصلح أن يبتدئ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسْلِمٍ تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فَانْتَقَلَتْ مِنْ دِينِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَادَتْهُ خَيْرًا، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَمَا زاده الإسلام إلا صحة وسواء كان قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن تنتقل عن دينها إلى دين يقرها أهله عليه كأنها كنت نَصْرَانِيَّةً فَتَزَنْدَقَتْ أَوْ تَوَثَّنَتْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تقر عليه؛ لأنه لما لم تقر عليه من كان متقدم الدُّخُولِ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَيْهِ من تأخر دخوله فيه، وإذا كان كذلك نُظِرَ فِي رِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بها بطل نكاحها كَمَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا عَنْ دِينِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَى الدِّينِ الذي تؤمن بِهِ، وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ النكاح، وفي الدين الذي تؤمن بالدخول إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً عَلَى دِينِهَا لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ بِانْتِقَالِهَا عَنْهُ مُقِرَّةً بِبُطْلَانِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا دِينُ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، فإن أقر أهلها عليه؛ لأنه الذي تناوله عقد ذمتها، فكان أحصن أَدْيَانِ الْكُفْرِ بِهَا، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهَا بِصِحَّتِهِ تَأْثِيرٌ في صحته فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهَا إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِرُجُوعِهَا إِلَى الإسلام، فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عَلَيْهِ أَوْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ دِينِهَا، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي تقر أَهْلُهَا عَلَيْهَا فِي رُجُوعِهَا إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ وَأَقَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَنِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَمَا الَّذِي يوجب حُكْمَ هَذِهِ الرِّدَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ كَالْمُسْلِمَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ مَأْمَنَهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ تَصِيرُ حَرْبًا، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ فَهِيَ عَلَى حَقْنِ دَمِهَا، وَفِي أَمَانِ ذِمَّتِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الدِّينِ الَّذِي رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دِينًا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْإِسْلَامِ أَوِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ فَالنِّكَاحُ معتبراً بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورَةِ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَجَعَتْ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَرَّةً عَلَى هَذَا الدِّينِ مَا لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى دِينٍ يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِهِ فَتَكُونُ مِمَّنْ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهَا حُكْمُ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهَا وُقُوفُ النِّكَاحِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عليه، ولا يجوز نكاحهم كأنها ارْتَدَّتْ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى مَجُوسِيَّةٍ فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كله ملة واحدة. والثاني: لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَإِلَى دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ أُقِرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تُقَرَّ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ لَمْ تَزَلْ مَجُوسِيَّةً لَمْ يَجُزِ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ مَنْ أُقِرَّتْ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى المجوسية وإذا كانت كَذَلِكَ رُوعِي حَالُهَا، فَإِنِ انْتَقَلَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عدتها إلى دين يحل نكاح أَهْلِهِ صَحَّ وَإِلَّا بَطَلَ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ تَرْتَدَّ عَنْ دِينِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ إلى دين يجوز نكاح أهله كأنها كَانَتْ يَهُودِيَّةً فَتَنَصَّرَتْ، أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَتَهَوَّدَتْ فَفِي إِقْرَارِهَا عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُقَرُّ عَلَيْهِ وَفِيمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: الإسلام فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْهُ إِلَى مَا أُمِرَتْ بِهِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَإِلَّا بَطَلَ والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المْؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) وَفَيِ ذَلِكَ دليلٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَحْرَارَ لِأَنَّ الملك لهم ولا يحل مِنَ الْإِمَاءِ إِلَّا مسلمةٌ وَلَا تَحِلُّ حَتَّى تجتمع شرطان أن لا يجد طول حرةٍ وَيَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكحهَا وَالْعَنَتُ الزِّنَا واحتج بأن جابر بن عبد الله قال من وجد صداق امرأةٍ فلا يتزوج أمة قال طاوس لا يحل نكاح الحر الأمة وهو يجد صداق الحرة وقال عمرو بن دينارٍ لا يحل نكاح الإماء اليوم لأنه يجد طولاً إلى الحرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الحرائر من المسلمات والكتابيات إذا نكحن الأحرار والعبيد فأما نكاح الأمة فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: مَعَ الحر. فأما العبد في نكاح الإماء فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهُنَّ كَمَا يَنْكِحُ الْحَرَائِرَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي مَعَ ذِكْرِ مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ. وَأَمَّا الْحُرُّ فَحُكْمُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ فِي نكاح الحرة فلا يجوز أَنْ يَنْكِحَهَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيهِ، وَشَرْطٍ رَابِعٍ يُعْتَبَرُ فِي الْأَمَةِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ المعتبر في الأمة الإسلام، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّلَاثُ شَرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةُ في الحر: أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لا يجد طولاً لحرة. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ إِنْ لَمْ يَنْكِحْ أَمَةً، وَالْعَنَتُ الزِّنَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ الثلاثة حل له نكاح أمة، وإن أخل شرط مِنْهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا. وَقَالَ أبو حنيفة: يُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَمُ الطَّوْلِ وَخَوْفُ الْعَنَتِ وَلَا يعتبر فيه ألا تكون تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ وَحْدَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هذه الشرائط، وَيَكُونُ نِكَاحُهَا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ. فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الطَّوْلِ وَخَوْفَ الْعَنَتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي نِكَاحِ مَا طاب من الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) يَعْنِي فَنِكَاحُ وَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ أَوْ نِكَاحُ وَاحِدَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَانَ هَذَا نَصًّا فَصَارَ أَوَّلُ الْآيَةِ دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ وَآخِرُهَا دَلِيلًا مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٌ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) {البقرة: 221) وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ مِنْ غير شرطٍ فالأمة المؤمنة هي التي خَيْرٌ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ نِكَاحُهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ تحتَهُ حُرَّةٌ فَجَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَالْعَادِمِ لِلطَّوْلِ وَالْخَائِفِ لِلْعَنَتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ كَالْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ لَهُ نكاحها إذا لم يجد طولاً حل نِكَاحُهَا، وَإِنْ وَجَدَ طَوْلًا كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ النِّكَاحِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى سَلِيمٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نِكَاحِ الْكَافِرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ ولا وُجُودَ نِكَاحِ الْأُخْتِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَوُجُودَ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ؛ كَذَلِكَ وُجُودُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَوُجُودُ مَهْرِهَا لَا يَمْنَعُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طُوْلاً أَنْ يَنْكَحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنَ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ وَأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) {النساء: 25) فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ. وَالثَّانِي: خَوْفُ الْعَنَتِ. فَأَمَّا الطَّوْلُ: فَهُوَ الْمَالُ وَالْقُدْرَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّولِ؛ لِأَنَّهُ يَنَالُ به معالي الأمور كما ينال الطول مَعَالِيَ الْأَشْيَاءِ. وَأَمَّا الْعَنَتُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الزِّنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْحَدُّ الَّذِي يُصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا. فَلَمَّا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الشرطين لم يصح نكاحهما إلا بهما. فإن قالوا هذا الاحتجاج بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ حُجَّةٍ، فَعَنْهُ جوابان: أحدهما: أنه دليل خطاب عندنا حجة فجاز أن هي دلائلنا على أصولها. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ؛ لأن لفظة " من " موضعه للشرط ويكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 تَقْدِيرُهُ مَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا وَخَافَ الْعَنَتَ نَكَحَ الْأَمَةَ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطَيْنِ انْتَفَى بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطَيْنِ، وَتَعَذُّرِ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ قَالُوا فَقَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ ينكح المحصنات المؤمنات} مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ هُوَ الوطء، ويكون تقديره: ومن لم يستطيع منكم طولاً وطء حرة لعدمها تحته حل له نكاح أمة وكذا يقول، فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةٌ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ عندنا حقيقة في العقد دون الوطء. وهكذا كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي كتابه فالمراد به العقد دون الوطء، وكذلك هَاهُنَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ فَكَانَ حَمْلُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الطَّوْلُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فيه الطول أولى. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْوَطْءِ يُسْقِطُ اشتراط العنت وحمله على العقد لا يسقطه فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ شَرْطَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَسْقُطُ أَحَدُ شَرْطَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {فَمِن مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) عَلَى وطئها بملك اليمين لا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) {النساء: 25) وَلَيْسَ عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. والثاني: قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ) {النساء: 25) وَلَيْسَ يُرَاعي فِي وطئه بملك يمينه إذن أحد. والثالث: وَلَيْسَ خَوْفُ الْعَنَتِ شَرْطًا فِي وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ الْبَرَاءُ وَطَاوُسٌ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِمَاءُ. وأما جابر فروى عنه ابن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ حُرَّةٍ فَلَا يَنْكِحْ أَمَةً " وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِقَوْلِ هَذَيْنِ الصحابين مَعَ انْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مستغن عن نكاح أمة فلم يجز لها نكاحها قياساً على من تحته حرة؛ وإن ثبت أن تقول منعن عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وتقول حرة من الْعَنَت قَادِرٌ عَلَى وَطْءِ حُرَّةٍ قِيَاسًا عَلَى هذا الأصل، أو تقول حراً من الْعَنَت قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَتُعَلِّلُهُ بِمَا شئت من أحد هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ وَالْوَصْفُ الْأَخِيرُ أَشَدُّهَا وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى قِيمَةِ الْمُبدَلِ الْكَامِلِ كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُبدَلِ النَّاقِصِ كَالِانْتِقَالِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ إلى التراب، وفي الكفارة من الرقية إِلَى الصِّيَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، بطل نِكَاحُ الْأَمَةِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَفْرَدَهَا بِالْعَقْدِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحُرَّةِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بَطَلَ نكاح إحداهما ووجب إذا أفردت بالعقد أن تبطل نكاحها كَالْأُخْتِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَالْمُعْتَدَّةِ مَعَ الْخَلِيَّةِ، وَلِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هُوَ مَمْنُوعٌ عنْ نِكَاحِ أمة، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ مَنْعِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إما أن يكون؛ لأن تحته امرأة حُرَّة وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى حُرَّةٍ وَأَمَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَبَطَلَ أَنْ يكون المنع، لأنه جامع بن حرة وأمة؛ لأنه لَوْ نَكَحَ أَمَةً جَازَ أَنْ يَنْكِحَ بَعْدَهَا حُرَّةً فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ، وَإِذَا بطل هذان القسمان صار عليه المنع هو القسمان الْآخَرَانِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَأَنَّهُ أَمِنَ مِنَ الْعَنَتِ فَصَارَ وُجُودُ هَذَيْنِ عِلَّةً فِي التَّحْرِيمِ وَعَدَمُهَا عِلَّةً فِي التَّحْلِيلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) فهو أن اسْتِدْلَالَهُمْ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَتْرُوكٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النص في التخصيص واستدلالهم منها بالنص باطل؛ لأنه تعالى قَالَ: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فكان هذا تَخْيِيرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ وَبَيْنَ وَطْءِ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا بَيْنَ العقد على حرة والعقد على أمة؛ لأن الله تعالى لم يشرط في ملك اليمين عدداً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَا شَرَطَ فِيهِ الْعَدَدَ مِنَ التَّسَرِّي بِهِنَّ دُونَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِنَّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَة) {البقرة: 221) فَالْمُرَادُ بِالْمُشْرِكَةِ هَاهُنَا الْوَثَنِيَّةُ دُونَ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَصَلَ بينهما؛ وإن جاز أن يعمهما اسم الشرك فَقَالَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ البَيِّنَةِ) {البينة: 1) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّم) {البينة: 6) وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوَثَنِيَّةُ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحِلُّ إِذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ بِحَالٍ. وأما قياسهم على العادم للطول والخائف للعنت بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَمُنْتَقَضٌ بِمَنْ تحته أربع: إما لَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْعَادِمَ لِلطَّوْلِ عَاجِزٌ عَنِ الحرة، والواجد قادر فلا يجوز أن يقاس الْقَادِرُ عَلَى الْبَذْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ كَالْوَاجِدِ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْعَادِمِ لِثَمَنِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى العبد فالمعنى فيه: أنه لَا عَارَ عَلَى الْعَبْدِ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَجَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ خَوْفُ الْعَنَتِ، وَعَلَى الْحُرِّ عَارٌ فِي اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَاعْتُبِرَتْ ضَرُورَتُهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِي الْحُرَّةِ. أَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُهَا عَلَى حُرَّةٍ جاز نكاحها على وُجُودِ الطَّوْلِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ على الحرة لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْكَافِرَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَهْرِ الْأُخْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا، فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْأُخْتَيْنِ هو الجمع بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ كَمَا لَا يَمْنَعِ الْقُدْرَةُ عَلَى مُهُورٍ أَرْبَعٍ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى خامسةٍ وَيُمْنَعُ وُجُودُ الْأَرْبَعِ تَحْتَهُ أَنْ يَعْقِدَ على خامسة، وليس كذلك الأمة؛ لأنهاحرمت للقدرة على حرة، ولأنه يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُرَّةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ أَمَةٍ جَازَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، وَإِذَا كَانَ تحرمها لِلْقُدْرَةِ عَلَى حُرَّةٍ كَانَ بِوُجُودِ مَهْرِ الْحُرَّةِ قَادِرًا عَلَى حُرَّةٍ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ وَأَمَّا مَالِكٌ فاستدل على أنه يجوز أن ينكح الأمة، وإن كانت تَحْتَهُ حُرَّةٌ بِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ تُقْنِعْهُ الْحُرَّةُ لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِ وَقُوَّةِ شَبَقِهِ، فَخَافَ الْعَنَتَ مَعَ وجودها، لا سيما وَقَدْ يَمْضِي لِلْحُرَّةِ زَمَانُ حَيْضٍ يَمْنَعُ فِيهِ من إصابتها فدعته الضرورة مع وجوده بحرة تَحْتَهُ إِذَا عَدَمَ طَوْلَ حُرَّةٍ أُخْرَى أَنْ ينكح أمة، وليأمن بها العنت كما يأمن إذا لم يكن تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فِمِنَ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) فَلَمَّا كَانَ طَوْلُ الْحُرَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَانَ وُجُودُ الْحُرَّةِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الشَّيْءِ أَقْوَى حُكْمًا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ " حَكَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ عَنِ الرَّازِّيِّ؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ عوض الْمُبَدَلِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَانَ وُجُودُ الْمُبَدَلِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ كَالْمُكَفِّرِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَفَاسِدٌ بِمَنْ لَمْ تقنعه أربع زوجات بقوة شَبَقِهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا اجْتَمَعَ حَيْضُهُنَّ مَعًا؛ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تُقْنِعُ ذَا الشَّبَقِ الشديد بأن يستمتع في أيام حيضتها بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ، فَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ لِلْمُدَبَّرَةِ، وَالْمُكَاتِبَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمِنْ رَقَّ بَعْضُهَا، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَى جَمِيعِهِنَّ جَارِيَةٌ فَجَرَتْ أَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي نِكَاحِ كُلِّ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حَكَمُ الرِّقِّ مِنْ أَمَةٍ، وَمُدَبَّرَةٍ، وَمُكَاتِبَةٍ، وَأُمِّ وَلَدٍ وَجَبَ أن يوضع حُكْمُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 أما الشرط الأول: هو أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَوُجُودُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا، لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهَا أن ينكح أمة. والقسم الثاني: أن يمكنه استمتاع بِهَا لِكِبَرِهَا لَكِنْ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ إِصَابَتِهَا كَالْإِحْرَامِ وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، والظهار، والعدة مع إصابة غيره لها لشبهة فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ كَوْنِهَا تَحْتَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْرُونٌ بِسَبَبٍ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ فَصَارَ كَتَحْرِيمِهَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يمكنه الِاسْتِمْتَاع بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ، وَذَلِكَ لأحد أمرين: إما لصغر، وإما لرتق وإما لضر من مرض ففي جواز نكاحه للأمة قولان مع وجود هذه الحرة فيه ووجهان: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تَحْتَهُ حُرَّةً. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْعَنَتَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ كَانَ يَمْلِكُ أَمَةً، وَلَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَفِي جَوَازِ نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْكِحُهَا تَعْلِيلًا بِأَنْ لَيْسَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا ينكحها تعليلاً؛ لأنه لَا يَخَافُ الْعَنَتَ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِصَدَاقِ حُرَّةٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَبَرَ أَقَلُّ صَدَاقٍ يَكُونُ لأقل حرة يؤخذ في مسلمة أو كتابية، فعلى هذا يتعذر أن يستبيح الحر نكاح الأمة، لِأَنَّ أَقَلَّ الصَّدَاقِ عِنْدَنَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَانِقًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ رَغِيفًا مِنْ خبز وقل مَا يَعُوزُ هَذَا أَحَدٌ فَإِذَا وَجَدَهُ وَوَجَدَ منكوحة به حرم عليه نكاح الأمة، وإن لم يجد أَوْ وَجَدَهُ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْكُوحَةً بِهِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِأَيِّ حُرَّةٍ كَانَتْ مِنْ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ وَلَا يُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَن يَكُونَ صَدَاقًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ حُرَّةً بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَهُوَ وَاجِدٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ وَجَدَ صَدَاقَ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّنَا نَعْتَبِرُ أَقَلَّ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِحُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، فَعَلَى هَذَا إن وَجَدَ صَدَاق الْمِثْلِ لِكِتَابِيَّةٍ وَلَمْ يَجِدْ صَدَاقُ الْمِثْلِ لِمُسْلِمَةٍ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِقَوْلِ الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَشَرَطَ إِيمَانَ الْحَرَائِرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ وَجَدَ حُرَّةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 يَتَزَوَّجُهَا بِأَقَلِّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَهُوَ وَاجِدُهُ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ وَجَدَ ثَمَنَ أَمَةٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ صَدَاقِ حُرَّةٍ فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لِلْأَمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمَِنْ مَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أن يخاف العنت، وهو الزنا فسواء خَافَهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ عَفَافِهِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ لِتَحَرُّجِهِ وَعَفَافِهِ فِي أَنَّ خَوْفَ الْعَنَتِ فِيهِمَا شَرْطٌ في إباحة نكاح الأمة لهما، فَأَمَّا إِذَا خَافَ الْعَنَتَ مِنْ أَمَةٍ بِعَيْنِهَا أَنْ يَزْنِيَ بِهَا إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لِقُوَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا وَحُبِّهِ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ لِأَنَّنَا نُرَاعِي عُمُومَ الْعَنَتِ لَا خُصُوصَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ لَهُ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أن ينكح منهن أربعاً كالحرائر اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَأَطْلَقَ مِلْكَ الْيَمِينِ إِطْلَاقَ جَمْعٍ فَحُمِلَ عَلَى عُمُومِهِ فِي اسْتِكْمَالِ أَرْبَعٍ كَالْحَرَائِرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ حَلَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ حَلَّ نِكَاحُ الأربع منه كَالْحَرَائِرِ طَرْدًا وَالْوَثَنِيَّاتِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جاز أن لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ حُرَّةٍ وَاحِدَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرِ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْعَبْدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ) {النساء: 25) وَهَذَا إِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَمِنَ الْعَنَتَ فَلَمْ يجز أن يتزوج بأمة قياساً على ما تحته من الحرائر أخرى، ولك تحري هَذَا قِيَاسًا فَتَقُولُ: إِنَّهُ حُرٌّ أَمِنَ الْعَنَتَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ قِيَاسًا عَلَى من تحته حرة، وإن شئت قلت حر قَادِرٌ عَلَى وَطْءٍ بِنِكَاحٍ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الأصل، ولأنه مَحْظُورٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَمْ يَسْتَبِحْ مِنْهُ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَلَا يَقْتَضِي إِلَّا أَمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِنَّ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً، وَعَلَى أَنَّ الْأَمَةَ بَدَلٌ مِنَ الْحُرَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَوْسَعَ حُكْمًا من المبدل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرَائِرِ فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ: جَوَازُ العقد عليهن بغير ضَرُورَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَلَدُهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِاسْتِرْقَاقِهِ ضَرَرٌ فَخَالَفَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ لِغَيْرِ ضرورة وليس عليه اسْتِرْقَاق وَلَدِهِ ضَرَرٌ، فَخَالَفَ الْحُرَّ مِنْ هَذَيْنِ الوجهين، فعلى هذا لو تزوج أَمَتَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بطَلَ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا إِنْ حَلَّتْ فَهِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فصار كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، إِنْ تزوجها في عقدين، وبطل نكاحهما إن تزوجها في عقد واحد. فصل وإذا قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الْأَحْرَارِ لِلْإِمَاءِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نِكَاحِ الْعَبِيدِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْإِمَاءَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَنْكِحُهَا، وَإِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ كَالْحُرِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَالْحُرِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطَعْ مِنُكُمْ طَوْلاً} فخص الأحرار بتوجيه الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: {ذَلَكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ} فَخَصَّهُمْ بِهِ أَيْضًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِهَذَا الْمَنْعِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عَلَيْهَا امْرَأَةً مِنْ جِنْسِهِ كَالْحُرِّ، إِذَا نَكَحَ أَمَةً يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ عليها حرة. فأما قياسه على الحر فمنع مِنْهُ النَّصُّ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحُرِّ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَارٌ لَا يَلْحَقُ الْعَبْدَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ، وَأَنْ يَجْمَعْ بَيْنَ أَمَتَيْنِ كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ حُرَّتَيْنِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ عَقَدَ نِكَاحَ حرةٍ وأمةٍ مَعًا قِيلَ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَقِيلَ يَنْفَسِخَانِ مَعًا، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ جائزٌ وكذلك لو تزوج معها أخته من الرضاع كأنها لم تكن (قال المزني) رحمه الله هَذَا أَقْيَسُ وَأَصَحُّ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ لِأَنَّ النكاح يقوم بنفسه ولا يفْسدُ بِغَيْرِهِ فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ تَزَوَّجَهَا وقسطاً مَعَهَا مَنْ خمرٍ بدينارٍ فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثابتٌ والقسط الْخَمْر وَالْمَهْر فَاسِدَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ المسألة فيمن يحل له نكاح الأمة يزوج بِحُرَّةٍ وَأَمَةٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ يَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا حُرَّةً فنكاحهما صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ نَكَحَ الْأَمَةَ عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ، ونكح الْحُرَّةِ بَعْدَ الْأَمَةِ صَحِيحٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَبْطُلُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ وتنكح الحرة على الأمة " وهذا نص؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ فَلَمْ يَبْطُلْ مَا تَقَدَّمَهُ من النكاح كما لو نكح حرة عَلَى حُرَّةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بَعْدَهَا بِالْأَمَةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحٌ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَهَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَ الْحُرَّةِ ثَانِيًا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ، خَائِفًا لَلَعَنَتِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قد صار بعقده عليهما مع الحرة قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، وَهَلْ يُبْطِلُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ أَمْ لَا؟ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ إِذَا جَمَعَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ حَلَالًا وَحَرَامًا كَبَيْعِ خَلٍّ وَخَمْرٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أو بيع حر وعبد في عقد واحد فيبطل البيع فِي الْحَرَامِ وَفِي بُطْلَانِهِ فِي الْحَلَالِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجَمْعِ بينهما حكم في انفرادها، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ جَائِزًا وَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَاطِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْحَلَالِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَرَامِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا انْتَقَضَتْ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ كَمَا بَطَلَ نِكَاحُ الأمة؛ لأن لفظ العقد عليهما واحد. والوجه الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا الْجَهَالَةُ بِثَمَنِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ مَا قَابَلَ الْحَرَامَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ فَصَارَ ثَمَنُ الْحَلَالِ بِهِ مَجْهُولًا، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ بِهِ مِنَ الْعَقْدِ مَا كَانَ مَوْقُوفَ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَعْوَاضِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الَّذِي لَا يَصحُّ إِلَّا بِذِكْرِ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ، فَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ فَيَصِحُّ الْحَلَالُ مِنْهَا وَإِنْ بَطَلَ الْحَرَامُ الْمُقْتَرِنُ بِهَا فَيَكُونُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ صَحِيحًا، وَإِنْ بَطَلَ نكاح الأمة، وفيما تستحقه مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِبْطَالُ الْمُسَمَّى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَكَحَ أَرْبَعًا فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ تصيح نِكَاحِ الْحُرَّةِ مَعَ فَسَادِ نِكَاحِ الْأَمَةِ إِلَّا أنه استدل لِصِحَّتِهِ بِمِثَالٍ صَحِيحٍ، وَحِجَاجٍ فَاسِدٍ. أَمَّا الْمِثَالُ الصَّحِيحُ فَهُوَ قَوْلُهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَعَهَا أُخْتَهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ "؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ فِي العقد الواحد بين أختها وأجنبية كان لجمعه بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَبْطُلُ نكاح أخته وفي نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّةِ قَوْلَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 وَأَمَّا الْحِجَاجُ الْفَاسِدُ فَهُوَ قَوْلُهُ: " فَهِيَ فِي معنى من تزوجها وقسطاً مَعَهَا مَنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ فَالنِّكَاحُ وَحْدَهُ ثَابِتٌ والقسط من الخمر فَاسِدٌ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ فَسَادِ هَذَا الِاعْتِلَالِ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّ وجه فَسَادِهِ أَنَّهُ إِذَا زَوَّجَهُ وَزِقًّا مِنْ خَمْرٍ بدينار فهما عقدان بيع ونكاح، كأن يَقُولُ: بِعْتُكَ هَذَا الْخَمْرَ وَزَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِدِينَارٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْعَقْدَيْنِ فِي صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَفَسَادِ الْآخَرِ عَلَى الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فِي أَنَّ فَسَادَ بَعْضِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ باقيه؛ لأن العقد الواحد حكم واحد، وللعقدين حكمان. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ وَجْهَ فَسَادِهِ أَنَّهُ فِي النِّكَاحِ وَالْخَمْرِ بِدِينَارٍ قَدْ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا، وَالشَّافِعِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي العقد الواحد إذا جمع شيئين مختلفي الحكم كبيع وإجارة، أو رهن وهبة فله قولان: أحدهما: أنهما باطلان بجمع الْعَقْد الْوَاحِد بَيْنَ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِمَا عَلَى صِحَّةِ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ في أحدهما والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُفْسِدْهُ مَا بَعْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُبِيحَةِ ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الشَّرَائِطُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَن أَمِنَ الْعَنَتَ بَعْدَ خَوْفِهِ أَوْ وَجَدَ الطَّوْلَ بَعْدَ عَدَمِهِ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ فَنِكَاحُ الأمة على صحة ثبوته. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ أَمِنَ الْعَنَتَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ وَجَدَ الطَّوْلَ أَوْ نَكَحَ حُرَّةً بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 25) فَجَعَلَ عَدَمَ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي إِبَاحَةِ الْأَمَةِ ابْتِدَاءً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهَا انْتِهَاءً، قَالَ: وَلِأَنَّ زَوَالَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مُوجِبٌ لِزَوَالِهِ، وَالْعِلَّةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمُ الطَّوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَانْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) {النور: 32) الْآيَةَ فَنَدَبَ إِلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى الغنى بعد الفقر، فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْغِنَى الْمَوْعُودُ بِهِ فِي النِّكَاحِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَلَا عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا أَنَّ خَوْف العنت شرطاً فِي نِكَاحِهَا فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِذَا زَالَ الْعَنَتُ لَمْ يَبْطُلْ إِذَا وَجَدَ الطَّوْلَ، وَلِأَنَّ الطَّوْلَ بِالْمَالِ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْبَقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِلْإِنْفَاقِ لَا لِلْبَقَاءِ وَمَا لَمْ يراد لِلْبَقَاءِ إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ بالعقد لم يبطل ولما كانت الردة والرضاع يردان للاستدامة لأن الردة دين يعتقد المرتد لِلدَّوَامِ وَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ كَذَلِكَ الْمَالُ لَمَّا لَمْ يُرَدْ لِلِاسْتِدَامَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ كالإحرام والعدة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ بِالْآيَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الشَّرْطِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ اسْتَدَامَتِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ زَوَالَ الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ حُكْمِهَا فَاسِدٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ. مسألة قال الشافعي: " وحاجتي من لا يفسخ نكاح إماءٍ غير المسلمات فقال لما أحل الله بينهما ولا نفقة لها لأنها مانعةٌ له نفسها بالردة وإن ارتدت من نصرانية إلى يهودية أو من يهودية إلى نصرانية لم تحرم [ ... ] تعالى نكاح الحرة المسلمة دل على نكاح الأمة قلت قد حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَيْتَةَ وَاسْتَثْنَى إِحْلَالَهَا لِلْمُضْطَرِّ فهل تحل لغير مضطر واستثنى من تحريم المشركات إحلال حرائر أهل الكتاب فهل يجوز حرائر غير أهل الكتاب فلا تحل إماؤهم وإماؤهم غير حرائرهم واشترط في إماء المسلمين فلا يجوز له إلا بالشرط وقلت له لم لا أحللت الأم كالربيبة وحرمتها بالدخول كالربيبة؟ (قال) لأن الأم مبهمةٌ والشرط في الربيبة (قلت) فهكذا قلنا في التحريم في المشركات والشرط في التحليل في الحرائر وإماء المؤمنات ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ جِهَتِهَا، وَهُوَ إِسْلَامُهَا فلا يجوز للمسلم نكاح أمة كافرة بمال. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 3) فَكَانَتْ على عمومها؛ ولأن كل من جاز له وطئها بملك اليمين جاز له وطئها بملك نكاح كالمسلمة، ولأن في الأمة الكافرة نقصان: نقص الرق، ونقص الكفر، وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا انْفَرَدَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ فِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ) {النساء: 25) فَجُعِلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ فَلَمْ يُسْتَبَحْ مَعَ عدمه قال تعالى: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتِ} إلى قوله: {وَالمُحْصِنَاتِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصِنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكَتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) {المائدة: 5) والمحصنات هَاهُنَا الْحَرَائِرُ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَحِلَّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ، فوجب أن يكون اجتماعهما موجب لتحريمهما على المسلم كالحرة المجوسية أحد نقصيها الْكُفْرُ وَالْآخَرُ عَدَمُ الْكِتَابِ، وَالْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ أَحَدُ نقصيها الرق والآخر الكفر؛ ولأن نكاح المسلم للأمة الْكَافِرَة يُفْضِي إِلَى أَمْرَيْنِ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَصِيرَ وَلَدُهَا الْمُسْلِمُ مَرْقُوقًا لكافر والشرع يمنع من استرقاق كافر لمسلم. وَالثَّانِي: أَنْ يسْبي الْمُسْلِم؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا الْمُسْلِمَ ملك لكافر، وأموال الكفار يَجِبُ أَنْ تُسْبَى وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ مَانِعًا مِمَّا يُفْضِي إِلَيْهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بقوله تعالى: {فَمَا مَلَكَتْ أيْمَانكُمُ} فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ المسلمة وَالْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ فلم يفضي إِلَى سَبْيِ وَلَدِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْصَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا، قلنا: لكل واحدة منهما تأثير في المنع، فصار اجتماعهما مؤثر فِي التَّحْرِيمِ. فَصْلٌ فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي نِكَاحِ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ فنَكَحَهَا وَأَوْلَدَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ عجمياً كان ولده منها مرقوقاً لِسَيِّدِهَا وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يكون مرقوقاً لسيدها. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ حُرًّا وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ " وَالِاسْتِرْقَاقُ مِنْ أَعْظَمِ الصَّغَارِ، فَوَجَبَ أَنْ ينتفي عَنِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مفضٍ إِلَى اسْتِرْقَاقِ مَنْ نَاسَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَقْرَبِ آبَائِهِ مَعَ وَصِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَوِي الْقُرْبَى، فَلَوْ نَكَحَ الْحُرُّ مُكَاتِبَةً كَانَ في وجه إِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا. وَالثَّانِي: تَبَعٌ لَهَا، وإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حر يُعْتَقُ عَلَى أَبِيهِ بِقِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: تَبَعٌ لِأُمِّهِ، يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا، وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِلْكٌ لسيدها والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَالَعَبْدُ كَالْحُرِّ فِي أَنْ لَا يَحَلَّ لَهُ نِكَاحُ أمةٍ كتابيةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ وَجَوَّزَهُ أبو حنيفة، كَمَا جَوَّزَهُ لِلْحُرِّ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ بَيْنَ الْحُرِّ والعبد، فجوز للعبد أن ينكح الأمة الكتابيةن وَلَمْ يُجَوِّزْهُ لِلْحُرِّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ سَاوَاهَا فِي نَقْصِ الرِّقِّ وَاخْتُصَّتْ مَعَهُ بِنَقْصِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدُ النَّقْصَيْنِ كَمَا لَمْ يَمْنَعِ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِأَحَدِ النَّقْصَيْنِ، وَخَالَفَ نِكَاحَ الْحُرِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 الْمُسْلِمِ لِلْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا مَعَهُ بِنَقْصَيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّقْصَيْنِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهَا كَالْوَثَنِيَّةِ الْحُرَّةِ لَا يَنْكِحُهَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ لِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ، فَاسْتَوَى فِي تَحْرِيمِهَا بهما من ساواهما في أحدهما أو خالفها فِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ كِتَابِيٌّ أَنْ يَنْكِحَ هَذِهِ الأمة الكتابية، ودعى حاكمها إلى إنكاحها ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز أن يزوجه بها؛ لأنه قَدْ صَارَتْ بِاجْتِمَاعِ النَّقْصَيْنِ مُحَرَّمَةً عِنْدَنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ كَمَا يَجُوزُ أن يزوج وثنياً بوثنية. مسألة قال الشافعي: " وَأَيُّ صنفٍ حَلَّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ حَلَّ وَطْءُ إمائهم بالملك وما حرمَ نِكَاح حَرَائِرِهِمْ حرمَ وَطْء إِمَائِهِمْ بِالْمِلْكِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ كَمَا تَصِيرُ الْحُرَّةُ فِرَاشًا بالعقد، فأي صنف حل نكاح حرائرهم فهم الْمُسْلِمُونَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَلَّ وَطْءُ إِمَائِهِمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ الْمُسْلِمَاتُ، واليهوديات، والنصرانيات، وقد اسْتَمْتَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَمَتَيْنِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ: إِحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ، وَهِيَ مَارِيَةُ، وَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأُخْرَى يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ رَيْحَانَةُ ثُمَّ بُشِّرَ بِإِسْلَامِهَا فَسُّرَ بِهِ، وَأَعْتَقَ أَمَتَيْنِ وَتَزَوَّجَهُمَا وَجَعَلَ عِتْقَهُمَا صَدَاقَهُمَا: إِحْدَاهُمَا: جُوَيْرِيَّةُ. وَالْأُخْرَى: صَفِيَّةُ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يَحِلُّ وَطْءُ إمائهم بملك اليمين. وقال أبو ثور: كل وطء جمع الْإِمَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَتْ مِنْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ أَوْ دَهْرِيَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ وَهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرَ ذات حمل حتى تحيض " فأباح وطئهن بِالْمِلْكِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِنَّ؛ وِلِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أوسع حكماً منه بعقد النكاح؛ لأنه لا يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ عددٍ محصورٍ وَلَا يَحِلُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ من أربع فجاز لا تساع حكم الإماء أن يستمتع منهن بمن لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا مِنَ الْوَثَنِيَّاتِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُحَرَّمَاتٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَذَوَاتِ الْأَنْسَابِ؛ وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ حُرِّمَ بِهِ وَطْءُ الْوَثَنِيَّاتِ كَالنِّكَاحِ. فَأَمَّا سَبْيُ هوازن، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُنَّ قَدْ أَسْلَمْنَ؛ لِأَنَّ فِي النِّسَاءِ رِقَّةً لَا يَثْبُتْنَ مَعَهَا بَعْدَ السَّبْيِ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 دِينٍ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِاتِّسَاعِ حُكْمِهِنَّ فِي الْعَدَدِ فليس لعدد تَأْثِيرٌ فِي أَوْصَافِ التَّحْرِيمِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَوَاتِ الْأَنْسَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا أكره نكاح نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ إِلَّا لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنُ دِيْنِهِ أَوْ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كما قال: لا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْحَرْبِيَّةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ وَأَبْطَلَ الْعِرَاقِيُّونَ نِكَاحَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِنَاءً عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ عُقُودَ دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ وَهِيَ عِنْدَنَا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَفَسَادَهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعَاقِدِ والمعقود عليه دون الولد؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (المائدة:) وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ ولأن الحرية في إباحتهن الكتاب دون الدار، ولأنه لما جاز وطئهن بالسبي، فأولى أن يجوز وطئهن بِالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَلَّ نِكَاحُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمَةِ، فَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ الْحَرْبِيَّةِ فَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ بِهَا، أَوْ بِقَوْمِهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَصْبُو إِلَى زَوْجَتِهِ بِشِدَّةِ مَيْلِهِ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ بِنُزُولِهِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ". وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ وَتُسْبَى زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ دَارَ الحرب ثغر وَتُغْنَمُ، فَإِنْ سُبِيَ وَلَدُهُ لَمْ يُسْتَرَقَّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ وَإِنْ سُبِيَتْ زَوْجَتُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا، لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عقد النكاح هو حق له عليها بالدين وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ لَمْ يُمْنَعْ مِنِ اسْتِرْقَاقِهَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ملك بعضها بالنكاح فلم يجز أن يستهلك عَلَيْهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا لَوْ مَلَكَ مَنَافِعَهَا بِالْإِجَارَةِ ورقبتها بالشراء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 باب التعريض بالخطبة من الجامع من كتاب التعريض بالخطبة، وغير ذلك مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْعِدَّةِ جائزٌ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التعويض وقد ذكر القسم بَعْضَهُ وَالتَّعْرِيضُ كثيرُ وَهُوَ خِلَافُ التَّصْرِيحِ وَهُوَ تعريض الرجل للمرأة بما يدلها به على إرادة خطبتها بغير تصريح وتجيبه بمثل ذلك والقرآن كالدليل إذا أباح التعريض والتعريض عند أهل العلم جائزٌ سراً وعلانيةً على أن السر الذي نهي عنه هو الجماع قال امرؤ القيس. (ألا زعمت بسباسة القوم أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي) (كذبت لقد أصبي عن الْمَرْءِ عِرْسَهُ ... وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الخالي) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّسَاءَ ثَلَاثٌ: خَلِيَّةٌ، وَذَاتُ زَوْجٍ، وَمُعْتَدَّةٌ. فَأَمَّا الْخَلِيَّةُ الَّتِي لَا زوج لها وهي فِي عِدَّةٍ فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا بِالتَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ وَأَمَّا ذَاتُ الزَّوْجِ فَلَا يحِلُّ خِطْبَتَهَا بِتَعْرِيضٍ وَلَا تَصْرِيحٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ رَجْعِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ. فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الزوج أن يخطبها تصريحاً ولا تعريضاً؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ مِنْ وُجُوبِ النفقة ووقوع الطلاق، والظهار منها، وإنما يتوارثان إن مات أحدهما، ويعتد عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ، وَمَتَى أَرَادَ الزوج رجعتها في العدة كانت زوجته. فَصْلٌ وَأَمَّا الْبَائِنُ لا تحل للزوج فالمطلقة ثلاثاً، أو المتوفى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، فَإِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجٍ فَحَرَامٌ أَنْ يُصَرِّحَ أَحَدٌ بِخِطْبَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابَ أَجَلَهُ} (البقرة: 235) يُرِيدُ بِالْعَزْمِ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ وبقوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} يُرِيدُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْأَزْوَاجِ مَا ربما يبعثها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَوَانِهَا، وِقَوْلُهَا فِي انْقِضَائِهَا مَقْبُولٌ فَتَصِيرُ مَنْكُوحَةً فِي الْعِدَّةِ فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّصْرِيحَ بِخِطْبَتِهَا حَسْمًا لِهَذَا التَّوَهُّمِ فَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا يُخَالِفُ التَّصْرِيحَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُحْتَمَلِ فَجَائِزٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ) {البقرة: 235) يَعْنِي بِمَا عَرَّضْتُمْ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ. وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاءها بعد موت أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي، وَقَدْ وَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى التُّرَابِ حُزْنًا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولِي إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ اغفر له واعقبني منه وَعَوِّضْنِي خَيْرًا مِنْهُ " قَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ في نفسي من خير مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلِ الْمُهَاجِرِينَ هِجْرَةً، وَابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَابْنِ عَمِّي، فَلَمَّا تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِمْتُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الوفاة، وأما المعتدة من الطلاق فثلاث فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِصَرِيحٍ، وَلَا تَعْرِيضٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْخِطْبَةُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُطَلِّقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفَصٍ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي في العدة إذا أحللت فَآذِنِينِي وَرَوَتْ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِذَا حَلَلْتِ فلا تسبقيني بِنَفْسِكِ فَكَانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لَهَا. وَفِي مَعْنَى المطلقة ثلاثاً: الْمُلَاعِنَةُ، وَالْمُحَرَّمَةُ، بِمُصَاهَرَةٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فَإِذَا حَلَّ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فَفِي كَرَاهِيَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ " وَالْإِمْلَاءِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَمْرُهَا فِي ذَلِكَ أَخَفُّ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا جَازَ ذلك، لأن هناك مطلق بِهِ يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْبَائِنُ الَّتِي تَحِلُّ لِلزَّوْجِ فَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ بخِطْبَتِهَا وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ لَهَا بِالْخِطْبَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِإِبَاحَتِهَا لِلْمُطَلِّقِ كَالرَّجْعِيَّةِ، قاله في كتاب البويطي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 والقول الثاني: لا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ رَجَعَتْهَا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا قَالَهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَفِي مَعْنَى المختلعة الموطوءة بشبهة يجوز للواطء أَنْ يُصَرِّحَ بَخِطْبَتِهَا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا وَفِي جَوَازِ تَعْرِيضِهِ قَوْلَانِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ فَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ فَالتَّصْرِيحُ مَا زَالَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ وتحقق مِنْهُ الْمَقْصُودُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَنَا رَاغِبٌ فِي نكاحك، وأريد أن أتزوجك أو يقول إذا قضيت عِدَّتكِ فَزَوِّجِينِي بِنَفْسِكِ. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: رُبَّ رَجُلٍ يَرْغَبُ فِيكِ، أَوْ أنني راغب، أو ما عليك إثم أو لعل اللَّهَ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْكِ خَيْرًا، أَوْ لَعَلَّ الله أن يحدث لك أمراً، فإذا أحللت فَآذِنِينِي إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ إِذَا لم يصرح باسم النكاح، وكان محتمل أن يريده بكلامه أو يريد غيره، وإذ حَلَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَهَا بِالتَّصْرِيحِ حَلَّ لَهَا أَنْ تُجِيبَهُ عَلَى الْخِطْبَةِ بِالتَّصْرِيحِ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ حَرُمَ عَلَيْهَا أَنْ تُجِيبَهُ إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ لِيَكُونَ جَوَابُهَا مِثْلَ خِطْبَتِهِ. فَصْلٌ وَإِذَا حل التعريض لها بالخطبة جاز سراً أو جهراً. وَقَالَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ سِرًّا حَتَّى يَجْهَرَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سَراً) {البقرة: 235) وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا حَلَّ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ، فأما قوله: " لا تواعدوهن سراً " فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الزِّنَا، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَالثَّانِي: ألا تَنْكِحُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ سِرًّا، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن يزيد. والثالث: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن فِي عِدَدِهِنَّ أَنْ لَا يَنْكِحْنَ غَيْرَكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ. وَالرَّابِعُ: أنه الجماع قال الشَّافِعِيُّ وَسُمِّيَ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ يُسِرُّ وَلَا يُظْهِرُ، وَاسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ. (أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبُرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي) (كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى الْمَرْءِ عِرْسَهُ ... وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنِّ بِهَا الْخَالِي} وَقَالَ آخَرُ: (وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جارهم أنف القصاع) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 مواعدته لها بالسر الذي هو الجماع أن يَقُولَ لَهَا أَنَا كَثِيرُ الْجِمَاعِ قَوِيُّ الْإِنْعَاظِ فحرم الله تعالى ذَلِكَ لِفُحْشِهِ، وَإنَّهُ رُبَّمَا أَثَارَ الشَّهْوَةَ فَلَمْ يُؤْمَنْ مَعَهُ مُوَاقَعَةُ الْحَرَامِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن الشياع يعني المفاخرة بالجماع. فَصْلٌ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَرَّحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وإن لم يصرح بالخطبة. وقال مَالِكٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ، ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ عليها وهذا خطأ؛ لأن ما قدمناه قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ قَوْلٍ مَحْظُورٍ كَالْقَذْفِ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ كَإِظْهَارِ سَوْأَتِهِ أَوْ تَجَرُّدِهِ عَنْ ثِيَابِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَثِمَ بِهِ كَذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 بَابُ النَّهْيِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أخيه قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالك بن أنسٍ عَنْ نافعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت قيس " إذا حللت فآذنيني " قالت فلما حللت أخبرته أن معاوية وأبا جهمٍ خطباني فقال " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فصعلوكُ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جهمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ انكحي أسامة " فدلت خطبته على خطبتهما أنها خلاف الذي نهى عنه أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد أذنت فيه فكان هذا فساداً عليه وفي الفساد ما يشبه الإضرار والله أعلم، وفاطمة لم تكن أخبرته أنها أذنت في أحدهما ". قال الماوردي: وهذا صحيح. وقد رَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ " وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ وَلَيْسَ النَّهْيُ فِيهِمَا مَحْمُولًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ تغيير حال المخطوبة، فإذا خطب الرجل نكاح امْرَأَة لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. القسم الأول: إما أن يأذن له في نكاحها فتحرم بَعْدَ إِذْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يخطبها لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه حفظاً للألفة، ومنعاً من الفساد وحسماً للتقاطع، وسواء كان الأول كفءً أو غير كفٍ. وقال ابن الْمَاجِشُونَ: إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ كفءٍ لَمْ تحرم عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَكْفَاءِ خِطْبَتُهَا بِنَاءً عَلَى أصله في أن نكاح غير الكفؤ بَاطِلٌ، وَإِنْ تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْأَوَّلُ عن خطبته أو رجع الْمَرْأَةُ عَنْ إِجَابَتِه ارْتَفَعَ حَكَمُ الْإِذْنِ، وَعَادَتْ إِلَى الْحَالِ الْأُولَى فِي إِبَاحَةِ خِطْبَتِهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ ". وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَرُدَّ خَاطِبَهَا، وَتَمْنَعَ مِنْ نِكَاحِهِ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَخْطُبَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخِطْبَةِ رَفْعُ الضَّرَرِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّقَاطُعِ، فَلَوْ حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُ حَلَّ الضَّرَرُ عليها. والقسم الثالث: أن تمسك عَنْ خِطْبَتِهَا فَلَا يَكُونُ مِنْهَا إِذْنٌ وَلَا رضا ولا يكون منها رد ولا كراهية فَيَجُوزُ خِطْبَتُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَوَّلُ بِهَا لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عمرو بن حفص بَتَّ طَلَاقَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي "، فَلَمَّا حَلَّتْ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَأَخَافُ عَلَيْكِ فسفاسته، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ أَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ " أَمَّا الفسفاسة: فَهِيَ الْعَصَا، وَأَمَّا الْأَخْلَقُ مِنَ الْمَالِ، فَهُوَ الْخُلُوُّ مِنْهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ أَطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَكَحْتُهُ فَرُزِقْتُ مِنْهُ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ، فَكَانَ الدليل من هذا الحديث من وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ قَدْ خَطَبَهَا بَعْدَ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحريمه. والوجه الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ بَعْدَ خِطْبَتِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْإِجَابَةِ لَا يَقْتَضِي الْخِطْبَةَ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا الرِّضَا بِالْخَاطِبِ، ولا تأذن في العقد، وذلك بأن تقرر صداقها أو بشرط ما تريد مِنَ الشُّرُوطِ لِنَفْسِهَا فَفِي تَحْرِيمِ خِطْبَتِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا بِالرِّضَا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لا تحرم خطبتها بالرضا حتى يصرح بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِبَاحَةُ الْخِطْبَةِ مَا لَمْ تتحقق شروط الحظر، فعلى هذا وإن اقْتَرَنَ بِرِضَاهَا إِذْنُ الْوَلِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَا تزَوَّجُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْإِذْنِ لم تحرم خطبتها وإن كانت بكراً فيكون الرِّضَا وَالسُّكُوتُ مِنْهَا إِذْنًا حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِرِضَاهَا، وَإِذْنِ وَلَيِّهَا وَهَاهُنَا قِسْمٌ خَامِسٌ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ وَلَيُّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا إذن أو رضي فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ مِمَّنْ يُزَوِّجُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ مَعَ الْبِكْرِ حَرُمَتْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُزَوِّجُ إِلَّا بِإِذْنٍ لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ حَتَّى تَكُونَ هِيَ الْآذِنَةَ فِيهِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ خِطْبَتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَأَقْدَمَ رَجُلٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 على خطبتها مع تحريمه عليها وتزويجه فكان آثِمًا بِالْخِطْبَةِ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ بِطَلْقَةٍ اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ عَمِلَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد " والدليل على صحة النكاح هو أن مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ فلم يؤثر في فساده؛ ولأن النهي إذا كان لمعنى في غير المعقود عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الصِّحَّةِ كَالنَّهْيِ عَنْ أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبْرَيْنِ فَيَقْتَضِي رد ما توجه النهي إليه، وَهُوَ الْخِطْبَةُ دُونَ الْعَقْدِ. فَصْلٌ فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَفِيهِ دَلَائِلُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يقتضي تحريم الحظر. وَمِنْهَا جَوَازُ ذِكْرُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مُعَاوِيَةَ: " إِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ له " والتصعلك التمحل والاضطرار فِي الْفَقْرِ قَالَ الشَّاعِرُ: (عَنِينَا زَمَانًا بَالتَّصَعْلُكِ والغنى ... وكلا سفاناه بَكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ) (فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قرابةٍ ... عنانا وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ) وَقَالَ فِي أَبِي جَهْمٍ: " لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " وَفِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ ضَرْبِهِ لِأَهْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كَثْرَةَ أَسْفَارِهِ يُقَالُ لِمَنْ سَافَرَ: قَدْ أَخَذَ عَصَاهُ، ولمن أقام قد ألقى عصاه قال الشَّاعِرُ. (فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قر عيناً بالإياب المسافر) والثالث: أنه أراد به كثرة تزويجه لِتَنَقُّلِه مِنْ زَوْجَةٍ إِلَى أُخْرَى، كَتَنَقُّلِ الْمُسَافِرِ بالعصى مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَبَرِ أَيْضًا جَوَازُ الِابْتِدَاءِ بِالْمَشُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ بِأُسَامَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْهُ. ومنها أن طلاق الثلاث مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أَنْكَرَهُ فِي فَاطِمَةَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ وَمِنْهَا جَوَازُ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِطَلَاقِهَا فَقَالَ لَهَا: " إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 وَمِنْهَا جَوَازُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَإِنِ اعْتَدَّتْ، وَأنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَمِنْهَا جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّهَا فِي صَمِيمِ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أُسَامَةَ وَهُوَ مَوْلًى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ، ووجوب نفقة الرجعية على ما سنذكره والله ولي التوفيق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ وَمَنْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ من أربع من هذا ومن كتاب التعريض بالخطبة قال الشافعي: " أخبرنا الثقة أحسبه إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ معمرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبيه قال أسلم غيلان بن سلمة وَعِنْدَهُ عَشْرُ نسوةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أربعاً وفارق سائرهن " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لرجل يقال له الديلمي أو ابن الديلمي أسلم وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى " وقال لنوفل بن معاوية وعنده خمس " فارق واحدةً وأمسك أربعاً " قال فعمدت إلى أقدامهن ففارقتها (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وبهذا أقول ولا أبالي أكن في عقدةٍ واحدةً أو في عقدٍ متفرقةٍ إذا كان من يمسك منهن يجوز أن يبتدئ نكاحها في الإسلام ما لم تنقض العدة قبل اجتماع إسلامهما لأن أبا سفيان وحكيم بن حزامٍ أسلما قبل ثم أسلمت امرأتاهما فاستقرت كل واحدةٍ منهما عند زوجها بالنكاح الأول وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة ثم أسلما فاستقرتا بالنكاح الأول وذلك قبل انقضاء العدة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْأَصْلُ تَحْرِيمُ التناكح بين المسلمين والمشركين قول اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمةٌ مٌؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوَ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْركينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (البقرة: 221) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ) {الممتحنة: 10) وَقَالَ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُسْلِمَةُ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ كِتَابِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَحِلُّ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الْكِتَابِيَّاتُ من اليهود والنصارى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا عَدَاهُنَّ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ. فَأَمَّا إِذَا تَنَاكَحَ الْمُشْرِكُونَ فِي الشرك فلا اعتراض عليهم فِيهَا، فَإِنْ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقَرَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنْتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 وقال الشافعي في بعض كتبه: إن مَنَاكِحهُمْ بَاطِلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَجَ اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ، الذي عليه جمهورهم أنه ليس ذلك لاختلاف أقاويله فيها، وَلَكِنَّهُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنَاكِحِهِمْ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَحِيحَةٌ، وَبَاطِلَةٌ، وَمَعْفُوٌّ عَنْهَا. فَأَمَّا الصَّحِيحُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَافِرُ الْكَافِرَةَ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، فَهَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ أقروا وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِالصِّحَّةِ. فَأَمَّا الْبَاطِلُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ، فَإِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ لَمْ يُقَرُّوا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَهَا بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ وَهَذَا الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحْرُمُ عليه بنسب، وَلَا رَضَاعٍ، وَلَا مُصَاهَرَةٍ بِمَا يَرَوْنَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا بِلَفْظِ نِكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَإِذَا أسلموا قروا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكْشِفْ عَنْ مَنَاكِحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ مَنَاكِحِهِمْ فَلَهُمْ إِذَا حَدَثَ بَيْنَهُمْ إِسْلَامٌ حَالَتَانِ: أحدهما: أن يسلم الزوجان معاً. والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَكْثَرُ مِنْ أربع زوجات بأن كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ فَمَا دُونَ، وَأَسْلَمْنَ كُلُّهُنَّ مَعَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ كُلِّهِنَّ سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُ زَوْجَاتٍ فَمَا زاد وقد أسلم جميعهم بِإِسْلَامِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ أربعاً سواء نكحهن جميعهن فِي الشِّرْكِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عُقُودٍ وَسَوَاءٌ أَمْسَكَ الْأَوَائِلَ أَوِ الْأَوَاخِرَ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ، ومحمد بن الحسن، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْبَوَاقِي بَعْدَ الْأَرْبَعِ إِلَّا بِطَلَاقٍ وَهَكَذَا لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا مَعًا أَمْسَكَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى بِغَيْرِ طَلَاقٍ عِنْدَنَا وَبِطَلَاقٍ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف: لَا اعْتِبَارَ بِخِيَارِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِعَقْدِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ عَشْرًا فِي عَقْدٍ واحدٍ ثُمَّ أَسْلَمْنَ مَعَهُ بَطَلَ نِكَاحُ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الأواخر اعتباراً بنكاح المسلم، وهكذا لو أنكح أختين أسلمتا مَعَهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَكَحَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ وَإِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُنَّ وَاخْتَارَ مِنْهُنَّ أربعاً واستدل أبي حنيفة بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 معاذاً إلى اليمن فقال له: " ادعهم إلى الشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ أعلمهم أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ " ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ نَكَحَ خَمْسًا فِي عَقْدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ نَكَحَهُنَّ فِي عُقُودٍ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأَوَائِلِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ مَنْ بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَوَاخِرِ كَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ. قَالَ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارٌ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجَيْنِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ تحريم يستوي فيه الابتداء والاستدامة منه فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اشتمل على أكثر من أربع فوجب أن يكون باطلاً قياساً على عقد المسلم. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ غَيْلَانَ بن سلمة أسلم وأسلم معه عشر نسوة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " فَأَطْلَقَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ عُقُودِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِنَّ، بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: فَكُنْتُ مَنْ أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا أَقْبِلِي، وَمَنْ لَا أُرِيدُهَا أَقُولُ لَهَا: أَدْبِرِي، وَهِيَ تَقُولُ: بِالرَّحِمِ بِالرَّحِمِ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِمَنِ اخْتَارَ لَا بِمَنْ تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قال: أسلمت وعندي خمسة نِسْوَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً، قَالَ: فَعَمَدْتُ إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الْأَوَاخِرِ دُونَ الْأَوَائِلِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمَيُّ عَنْ أبيه أنه قَالَ: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمسك أيتها شئت، وفارق الأخرى " وهذا نص في التخيير. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمَ وتحته ثماني نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا " قَالَ: فَاخْتَرْتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ فِي التَّخْيِيرِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ حَلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ بِالْعَقْدِ النَّاجِزِ فِي الشرك قياساً على النكاح بعد شهود. وقولنا بعقد ناجز: احتراز من نكاحها فِي الشِّرْكِ بِخِيَارٍ مُؤَبَّدٍ؛ وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُهُنَّ كالأوائل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُخْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ مَاتَتِ الْأُولَى وأسلمت معه الثانية جاز له استبدالها فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُولَى بَاقِيَةً؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْمُقَامَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ فِي الشِّرْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ أن يَكُون قَدْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ جَازَ مِثْلُهُ فِي جَمْعِ الْعَدَدِ وَفِي الْأَوَاخِرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم بالخبر فمن يقول بموجبه أننا نُحَرِّمُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ عَلَى أَرْبَعٍ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ مَعَ زَوْجَيْنِ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ تَحْرِيمُ جَمْعٍ فالتعليل غير مسلم، لأنه لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الزَّوْجَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ملك بعضها فَصَارَتْ عَاقِدَةً مَعَ الثَّانِي عَلَى مَا قَدْ مَلَكَهُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا، فَجَرَى مَجْرَى مَنْ بَاعَ مِلْكًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ بَطَلَ الْبَيْعُ الثاني لأجل الجمع ولكن يعقده عَلَى مَا قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ كَذَلِكَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي. وَخَالَفَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةِ الْبُضْعِ كَالرَّابِعَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِنَّ: أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ حَرُمَ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِهِنَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِ أَضْيَقُ حُكْمًا وَأَغْلَظُ شَرْطًا مِنْ عُقُودِ الْمُشْرِكِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي عِدَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودِ بَطَلَ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ عَلَيْهِ أُقِرَّ كَذَلِكَ الْأَوَاخِرُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَيَنْظُرَ، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَزَوْجَتُهُ كِتَابِيَّةٌ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا فِي الْإِسْلَامِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ وَثَنِيَّةً أَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ، وَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا، أَوْ وَثَنِيًّا، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إسلام أحدهما محرم، وإذا كان كذلك نُظِرَ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ كَانَ موقوفاً على انقضاء العدة، فإن أسلمتا الْمُتَأَخِّرُ فِي الشِّرْكِ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَقَدَّمَتِ الزوجة بالإسلام كان الحكم على ما ذكرناه إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الزَّوْجُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ الزَّوْجَةُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ يَسِيرٍ كَيَوْمٍ أو يومين. وقال أبو حنيفة: إن أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَحَالٌ يَكُونَانِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَالٌ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فالنكاح موقوف على انقضاء العدة سواء كانت قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَبَدِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الشِّرْكِ فَيَمْتَنِعَ، فَيُوقِعُ الْحَاكِمُ الفرقة بِطَلْقَةٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإسلام من حصل في ذلك الْإِسْلَامَ يُوجِب لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ قَبْلَ الدخول وبعده من غير وقف، وسواء كان الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ. وَقَالَ دَاوُدُ: وَأَبُو ثَوْرٍ: إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ إِسْلَامُهُ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعَصِمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّمَسُّكُ بِعِصْمَةِ كافر، وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْفُرْقَةِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَزَوْجَتَاهُمَا فِي الشِّرْكِ بِمَكَّةَ فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى هِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ ثم أسلمت، وزوجة حكيم عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ مَعَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ حَظْرَ الْمُسْلَمَةِ عَلَى الْكَافِرِ أَغْلَظُ مِنْ حَظْرِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ، وَالْمُسْلِمَ تَحِلُّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَسْخُ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ الْكَافِرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ فَسْخُ نِكَاحِ الْكَافِرِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا فِي الكفر، وإنما تَمَسَّكَ بِعِصْمَتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِلَى الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ فَذَاكَ فِي فرقة الاختيار التي يوقعها المالك والطلاق، فأما فرقة الفسوخ فيستوي فهيا الزَّوْجَانِ. فَصْلٌ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ بقول الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءكُمْ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِأيْمَانِهِنَّ فَإنَّ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10) فَاقْتَضَى أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمْ؛ وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَاجَرَتْ إِلَيْهِ، وَتَخَلَّفَ زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ ربيع كافراً بمكة ثم أسلم فردها عليه بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدارين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 قَالَ: وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ بِهِمَا حُكْمًا وَفِعْلًا يوجب الْفُرْقَة بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى سَبْيِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِرْقَاقِهِ. قَالَ: وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ غَلَبَةٍ، وَقَهْرٍ، لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ فِيهَا عَلَى شَيْءِ مَلَكَهُ أَلَا تَرَى لَوْ غَلَبَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا وَصَارَ السَّيِّدُ لَهُ عَبْدًا وَلَوْ غَلَبَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَصَارَ الزَّوْجُ لَهَا عَبْدًا فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا إِذَا هَاجَرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُتَغَلِّبَةً عَلَى نَفْسِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ما روي أن أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَهِيَ بِحُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيها واستيلائه عليها دار الإسلام وَزَوْجَتَاهُمَا عَلَى الشِّرْكِ بِمَكَّةَ وَهِيَ إِذ ذَاكَ دار الحرب ثُمَّ أَسْلَمَتَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على النكاح. فَإِنْ قِيلَ: مَرُّ الظَّهْرَانِ مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ، وتابعة لها في الحكم فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة، ففيه جوابان: أحدهما: أن مر الظهران دار الخزاعة مُحَازَةٌ عَنْ حُكْمِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ خُزَاعَةَ كَانَتْ فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَلِنُصْرَةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِخُزَاعَةَ صَارَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَرَّ الظَّهْرَانِ لَوْ كَانَ مِنْ سَوَادِ مكة لجاز أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ حُكْمِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ سَوَادَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ صَارَ ذَلِكَ السَّوَادُ دَارَ إِسْلَامٍ، وإن كان البلد دار الحرب وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، هَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى الطَّائِفِ، وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مُشْرِكَيْنِ فَأَسْلَمَتْ زوجاتهما بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ صَفْوَانَ بَرْزَةَ بِنْتَ مَسْعُودِ بن عمرو الثقفي، وزوجة عكرمة أم عكيم بنت الحارث به هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَخَذَتَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَانًا لَهُمَا فَدَخَلَ صَفْوَانُ مِنَ الطَّائِفِ بِالْأَمَانِ وَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُنَيْنًا وَأَعَارَهُ سِلَاحًا ثُمَّ أَسْلَمَ، وَعَادَ عِكْرِمَةُ من ساحل البحر وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رُكُوبِهِ هَرَبًا فَأَسْلَمَ فَأَقَرَّهُمَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ زَوْجَتَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بِهِمَا لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ بِالْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ، وكانت الطائف والساحل دار حرب. فَإِنْ قِيلَ: هُمَا مِنْ سَوَادِ مَكَّةَ وَفِي حكمهما. فالجواب عنه بما مضى. ومن القياس: أنه إسلام بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي العدة أن لا تقع بِهِ الْفُرْقَةُ قِيَاسًا عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ مُنْتَظَرَةً لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَمَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ مُعَجَّلَةً، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اتِّفَاقُ الدَّارَيْنِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ مُلْحَقَةً بِأَحَدِهِمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبها لأنها لا ترد المسلمة إلى كافر ولا تحلها له ولا تمسك بعصمة كافرة، وإنما يردها إلى مسلم، ويسمك بِعِصْمَةِ مُسْلِمَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ فمن وجهين: أحدهما: ما رواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْنَفَ لَهَا نِكَاحًا، لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِينَ أَسَرَهُ أَبُو بَصِيرٍ الثقفي بسيف البحر من نحو الْجَارِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّبْيِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَيْسَ المعنى فيه افتراق الدارين إنما حُدُوثُ الِاسْتِرْقَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُرِقَّ أحدهما وهما فِي دَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَ النِّكَاحُ وَلَوِ اسْتُرِقَّا معاً بطل النكاح فصار السبي مخالفاً للإسلام، وعلى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالِاسْتِرْقَاقِ غَيْرُ مُنْتَظِرَةٍ بِحَالٍ، وَالْفُرْقَةَ بِالْإِسْلَامِ مُنْتَظِرَةٌ فِي حَالٍ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهَا مُتَغَلِّبَةٌ عَلَى بُضْعِهَا فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تُمْلَكُ بِالتَّغَلُّبِ دُونَ الْأَبْضَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مسلما لَوْ غَلَبَ عَلَى بُضْعِ مُشْرِكَةٍ لم تصر زوجة، ولم يضر زَوْجًا وَلَوْ تَغَلَّبَ عَلَى رَقَبَتِهَا صَارَتْ مِلْكًا. فَصْلٌ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ بأنه إسلام طرأ عَلَى نِكَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ قِيَاسًا على إسلامهما معاً وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُسْلِمَةَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَمَا كَانَ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي حَظْرِ الْمُبَاحِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ هو اخْتِلَاف الدَّارَيْنِ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَأْبِيدِ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ تَعَجَّلَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ أنْ تعَجَّلَ بِهِ الْفُرْقَة كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا مَعًا، فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِإِسْلَامِهِمَا تَأْبِيدُ الْمُقَامِ عَلَى النِّكَاحِ فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ تَأْبِيدَ الْمُقَامِ فَتَعَجَّلَ بِهِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مُنْتَقِضٌ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَوِ ارْتَدَّا مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ النِّكَاحُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْإِبَاحَةِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الْحَظْرِ فَفَاسِدٌ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ وَإِبَاحَةِ أُخْتِهَا وَسَبَبٌ لِإِبَاحَتِهَا لغير مطلقها، وإن كان سبب لِتَحْرِيمِهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ سبب الْإِبَاحَةِ سبباً للتحريم بعد انقضاء العدة، وكذلك قَبْلَهَا. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ أحدهما في دار الإسلام فوجب بَقَاء النِّكَاحِ عَلَى الْأَبَدِ مَا لَمْ يُعْرَضِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ أَوْقَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ بِطَلْقَةٍ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَادِثِ، وَلَيْسَ يَخْلُو الْحَادِثُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ، أَوْ لِكُفْرِ مَنْ تَأَخَّرَ، أَوْ لِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْكُفْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ، وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَتَعَلَّقَ الْفُرْقَةُ بِهِ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ أَوْ تَأَخَّرَ، قَالَ: وَلِأَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ إِذَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ أَوْجَبَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، ثُمَّ كَانَتْ دَارُ الشِّرْكِ لَا تُرَاعِي فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْحَاكِمِ فَدَارُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ أَوْلَى. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ الْمَانِعِ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ الْكِتَابِيِّ، وليس كذلك في ملتنا لأنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ وَثَنِيَّةً، وَلَا الْوَثَنِيُّ مُسْلِمَةً فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْوَثَنِيَّيْنِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّهُ لا فرق بين اختلاف الدارين أو اتفاقهما بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أبو حنيفة، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْمَدْخُولَ بِهَا قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا جَارِيَةٌ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فِي الشِّرْكِ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ، وَحَلَّتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ العدة للأزواج. وقال أبو حنيفة: ليست تلك الْعِدَّةُ عِدَّةَ فُرْقَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ يُعْتَبَرُ بها صحة النكاح باجتماع الإسلامين فيهما فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعْ إِسْلَامُهُمَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِانْقِضَائِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يوجب عليها بعد الفرقة عدة أخرى ولا توفيها فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى فَقَدْ أَلْزَمَهَا عِدَّتَيْنِ، وَلَيْسَتْ تَجِبُ عَلَى الْمُفَارَقَةِ إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةً أُخْرَى بَطَلَ قَوْلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِدَّةَ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَأَسْقَطَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ إِمَّا لِاسْتِبْرَاءٍ أَوْ فُرْقَةٍ وَقَدْ أَوْجَبَهَا لِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَلَا فُرْقَةٍ، وَإِذَا صح ما ذكرنا من وقوع الفرقة تقدم الْإِسْلَام فَطَلَّقَهَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَكُونُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْإِيلَاءُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 وَالظِّهَارُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَوُقُوعِهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يجتمعا على إسلام فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ وَلَا الْإِيلَاءُ وَلَا الظِّهَارُ؛ لِتَقَدُّمِ الْفُرْقَةِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " فإن أَسْلَمَ وَقَدْ نَكَحَ أُمًّا وَابْنَتَهَا مَعًا فَدَخَلَ بهما لم تحل له واحدةٌ منهما أبداً ولم لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِمَا قُلْنَا أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ يمسك الابنة ويفارق الأم (قال المزني) هذا أولى بقوله عندي وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَقَالَ أَوَّلًا كَانَتِ الْأُمُّ أَوْ آخِرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مَعَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أحدها: أن يكون قد دخل بهما. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَقَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، لِأَنَّ دُخُولَهُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ لَوْ كان بشبهة فيكف نكاح؟ وَدُخُولُهُ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ لَوْ كَانَ بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ نِكَاحُ الشرك معفو عنه فهلا كان الوطء في الشرك معفو عَنْهُ. قِيلَ: لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْدُثُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِمَا عَلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ النَّسَبِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْ تَحْرِيمِ المصاهرة، وخالف العقد الذي تتخلف أحواله وينقطع زمانه. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِمَا وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِإِحْدَاهمَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي عَقْدَيْنِ وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْأُمُّ بِالْعَقْدِ أَوْ تَأَخَّرَتْ كَمَنْ نَكَحَ خَمْسًا في الشرك بخلاف ما قال أبو حنيفة فِي تَقْدِيمِ الْأَوَائِلِ عَلَى الْأَوَاخِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ وَيُقِيمُ عليها ويحرم الْأُمُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وفيما نقله المزني عنه؛ لأنه العفو عن مناكح الشرك تمنع من التزام أحكامها وتصير بالإسلام بِمَثَابَةِ الْمُبْتَدِئِ لِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَارَ الْبِنْتَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ حِينَئِذٍ تَحْرِيمَ تَأْبِيدٍ، وَإِنِ اخْتَارَ الْأُمَّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ بِاخْتِيَارِ الْأُمِّ تَحْرِيمَ جَمْعٍ فَإِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ تحريم تأبيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ فَالْبِنْتُ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَفِي تَحْرِيمِ الْأُمِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ مِنْ قَوْلَيْهِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ فَيَبْطُلُ هَاهُنَا نِكَاحُ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُمِّ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ. والقول الثاني: أن الأم لا تَحْرُمُ وَيَكُونُ نِكَاحُهَا ثَابِتًا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَكَانَ مخيراً في التمسك بمن شاء فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ هَاهُنَا لِتَحْرِيمِ الْبِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِ الْأُمِّ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَنِكَاحُ الْبِنْتِ ثَابِتٌ وَنِكَاحُ الْأُمِّ باطل وبماذا بَطَلَ يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْعَقْدِ عَلَى البنت على القول الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالثَّانِي: بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ عَلَى القول الآخر. فصل فإذا شَكَّ بِالدُّخُولِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشُكَّ هَلْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَالْوَرَعُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا احْتِيَاطًا فَأَمَّا فِي الحكم فالشك مطرح؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَقِينِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ أَغْلَبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ الْبِنْتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُون مُخَيَّرًا فِي إِمْسَاكِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ الدُّخُولَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَيَشُكَّ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا مِنْهُمَا فَلَا يَعْلَمُ أهي الْأُمُّ أَمِ الْبِنْتُ فَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ تحريم أحدهما مُتَيَقَّنٌ وَإِذَا تَيَقَّنَ تَحْرِيمَ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْنِ حرمت عليه اثنتان كما لو تيقن أن إحدى امرأتين أخت حرمتا عليه. فصل فأما إذا كانت المسلمة بِحَالِهَا فِي أَنْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وبنتاً، واختلف إسلامهم فَحُكْمُ النِّكَاحِ مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي الدُّخُولِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَلَا يُوقَفُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْإِسْلَامِ لِتَحْرِيمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِدُخُولِهِ بِالْأُخْرَى، وَيَكُونُ نِكَاحُهُمَا بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَا يخلو حال من تقدم بالإسلام من أربعة أَحْوَالٍ: إحداهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الشِّرْكِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى الزَّوْجِ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَالْبِنْتِ، ويتأخر إسلام الأم فيثبت نكاح البنت ويبطل نِكَاحُ الْأُمِّ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزوج وَيَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الْبِنْتِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْبِنْتِ لِتَأَخُّرِهَا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْأُمِّ قَوْلَانِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ دُونَ الْبِنْتِ فَنِكَاحُ الْبِنْتِ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهَلْ يُوقَفُ نِكَاحُ الْأُمِّ عَلَى اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ لِدُخُولِهِ بِالْبِنْتِ، وَنِكَاحُ الْبِنْتِ مَوْقُوفٌ على اجتماع إسلامهما. فصل وإذا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ أُمًّا وَبِنْتَهَا وَبِنْتَ بِنْتِهَا ثم أسلم وأسلمن مَعَهُ فَلَهُ مَعَهُنَّ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِجَمِيعِهِنَّ فَيَكُونُ نِكَاحُهُنَّ بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَى السُّفْلَى وَهِيَ بِنْتُ الْبِنْتِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ الْجَدَّةُ وَنِكَاحُ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ الأم. والقول الثاني: أنه بالخيار بالتمسك بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى، فَيَكُونُ نِكَاحُ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى بَاطِلًا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْعُلْيَا قَوْلَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالْوُسْطَى دُونَ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا وَفِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْوُسْطَى لِأَجَلِ السُّفْلَى قَوْلَانِ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَدْخُلَ بِالسُّفْلَى دُونَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى، فَيَثْبُتُ نِكَاحُ السُّفْلَى وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى فَإِذَا اعْتَبَرَتْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ وَجَدْتَ الْجَوَابَ فِيهِ صَحِيحًا والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ زوجاتٍ إماءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ فِيهِنَّ حُرَّةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ مَا يَتَزَوَجُ بِهِ حُرَّةً وَيَخَافُ الْعَنَتَ وَلَا حُرَّةَ فِيهِنَّ اخْتَارَ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُشْرِكٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِإِمَاءٍ مُشْرِكَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ حُرَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ معهن حُرَّةٌ وَكُنَّ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الإماء لعقد الْحُرَّةِ وَعَدَمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَنْ سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فيها نكاح الأمة، فجاز أن يستديم فيهما نكاح الأمة. والحال الثانية: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِوُجُودِ الطَّوْلِ أَوْ أَمْنِ الْعَنَتِ فَنِكَاحُ الْإِمَاءِ قَدْ بَطَلَ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِسْلَامِهِ مَعَهُنَّ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ فَلَمْ يكن له أن يستديم بالاختيار نِكَاحَ أَمَةٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَ أَمَةٍ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي اسْتِدَامَةِ نِكَاحِهَا أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لِخَوْفِ الْعَنَتِ ثُمَّ أَمِنَ الْعَنَتَ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يبتدئه كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ إِذَا أَسْلَمَ مُسْتَدِيم لِنِكَاحِهَا، وَلَيْسَ بِمُبْتَدِئٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا مَعَ عدم الشرك، وإن لم يجز أن يبتدئه. قال؛ ولأنه لو وجب أن يعتبر شروط الابتداء في وقت استدامته عِنْدَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ مَا سِوَاهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لَا يَحِلُّ إلا باعتبار شروطه فلما لم تعتبر وقت عقده في الشرك، وجب أن تعتبر وَقْتَ اخْتِيَارِهِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا خَالِيًا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّنَا قد اعتبرنا شروط الْإِبَاحَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ نَعْتَبِرْهَا فِي الِاسْتِدَامَةِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ الثَّانِي، بأن الولي والشاهدين، وإن كان شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ وعقد الشرك معفو عنه فعفى عَنْ شُرُوطِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ شُرُوطُ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ وَشُرُوطُ الْإِبَاحَةِ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ فِي الشِّرْكِ مُعْتَدَّةً ثُمَّ أَسْلَمَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ غَيْرُ مباحة كذلك الأمة. ويتفرع على هذا التفريغ ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُسْلِمَ الْمُشْرِكَةُ مَعَ زوجها وهي في عدة من وطء شبهة فقد اختلف أصحابنا في إباحتها عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أن نكاحها باطل اعتباراً بما قررناه، بأنه لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَقْتَ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ بعد صحة عقدها لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثم يسلم الثاني في العدة فالأول على إحرامه وفي النكاح وجهان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 أحدهما: وهو قول أبي بشار الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ اعْتِبَارًا بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا عِنْدَ اجتماع الإسلامين فصار كما لو ابتدأ نكاحهما فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لأن حدوث الإحرام في النكاح بعد صحة عقده لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِهِ. وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى الشَّرْطِ الْمُبِيحِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَدِ ارْتَفَعَ الشَّرْطُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ؛ وَلِذَلِكَ ورثت ووارثت وإنما يزال بالرجعية تحريم الطلاق فلم يعتبر في هذه الحال شروط الإباحة في ابتداء ألا تراه لو رجع وَهُوَ مُحْرِمٌ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَهَا مُحْرِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَاءِ حُرَّةٌ؛ فَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْمُشْرِكُ مَعَ الْإِمَاءِ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْلَمَ الْحُرَّةُ دُونَ الْإِمَاءِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ مع الحرة وبآخرهن. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ دُونَ الْحُرَّةِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ قَدْ بَطَلَ بِتَأَخُّرِهَا وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ معتبر باجتماع إسلامهن مع الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ أَمَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ نكاح أمة، وإن كان معسراً يخاف الْعَنَت كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ منهن؛ لأنه يجوز أن يبتديه، فجاز أن يختاره لأنه مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الشِّرْكِ اخْتَارَ حِينَئِذٍ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ سِوَاهَا مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ، فَلَوْ صَارَ وَقْتَ اخْتِيَارِهِ مُوسِرًا وَقَدْ كَانَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ مُعْسِرًا صَحَّ اخْتِيَارُهُ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي اسْتَحَقَّ فِيهِ الِاخْتِيَارَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ وَالْإِمَاءُ جَمِيعًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ أَمَةٍ مَعَ وُجُودِ حُرَّةٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تُسْلِمَ الْحُرَّةُ قَبْلَ الْإِمَاءِ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحُ الْإِمَاءِ بَاطِلٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي إِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ بعد انقضاء عددهم وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخُّرِهِنَّ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ وَقَعَ الْفَسْخُ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ حِينَ أَسْلَمَتْ مَاتَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ في عددهن. قال أبو حامد الإسفراييني: نِكَاحُهُنَّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ قَدِ انْفَسَخَ بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الصِّحَّةِ بِمَوْتِهَا، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ موقوفاً يختار واحدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ الْحُرَّةِ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ يَجْرِي مَجْرَى يَسَارِهِ فِي تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ يَسَارَهُ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ وُجُودَ الْحُرَّةِ إِلَّا عِنْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الْحُرَّةِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بَطَلَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مَعَ إِسْلَامِهِنَّ وَاسْتَأْنَفْنَ عَدَدَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَخَافُ الْعَنَتَ كَانَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ وَهُوَ فِيهِنَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُنَّ عَلَى حَالِهِنَّ تَرَقُّبًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا اخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ فِي عِدَّتِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا فَهَذَا أَحَدُ خِيَارَيْهِ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَ الزَّوْجُ مِنَ الْإِمَاءِ وَاحِدَةً يَتَرَقَّبُ بِهَا إِسْلَامَ الْحُرَّةِ وَيَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ سِوَاهَا مِنَ الْإِمَاءِ؛ ليتعجلن الْفَسْخَ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ عَدَا الْوَاحِدَةِ مِنْ وَقْتِ فسخهِ، وكان نكاح الواحدة معتبر بِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِاخْتِيَارٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَ الْحُرَّةَ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ إِسْلَامِهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهَا وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ، وَانْفَسَخَ بِإِسْلَامِهَا نِكَاحُ الْأَمَةِ فَيَصِيرُ إِسْلَامُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً مُوجِبًا لِفَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ، وَالْأَمَةُ لَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ نِكَاحِهَا مَعَ حُرَّةٍ هَذَا جَوَابُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ معتبر بِزَمَانِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْحُرَّةَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي عِدَّتِهَا فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ فَصِرْنَ عِنْدَ إِسْلَامِهِنَّ لَا حُرَّةَ مَعَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْحُرَّةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْإِمَاءِ فَعَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنِ اعْتِبَارِ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ بعدة فسواءٌ وَيَنْتَظِرُ إِسْلَامَ البواقي فمن اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءً لَا حُرَّةَ فِيهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ، وَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهِنَّ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسْلِمْنَ مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمْنَ بعده. والرابع: أن يسلم بعضهن قبله وبعضهم بعده وقد يجيء فيه قسمان آخران: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 أحدهما: أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ مَعَهُ وَبَعْضُهُنَّ بعده وَلَكِنْ يَدْخُلُ جَوَابُهُمَا فِي جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمْ نذكرها اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ، وَيُسْلِمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ الْأَرْبَعُ فَيَعْتَبِرَ حاله وقت الإسلام فإن كان موسراً بوجود الطَّوْل انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ الطَّوْلَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحُرَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ لَا مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَهُ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ فَيُرَاعِيَ حَالَهُ وَقْت إِسْلَامِهِ لَا وَقْت إِسْلَامِهِنَّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ باجتماع الإسلامين وذلك إسلامه بَعْدَهُنَّ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ بِإِسْلَامِهِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلطَّوْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُوسِرًا وَاجِدًا لِلطَّوْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ مُعْسِرًا عَادِمًا لِلطَّوْلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ بطل نكاحهن كلهن، وانفسخ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهَا؛ لأنه وقت اجتماع الإسلامين فتستأنف منه عدة الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ جَمِيعِهِنَّ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً سَوَاءٌ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهَا عَلَيْهِنَّ أَوْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهَا عَنْهُنَّ، فَإِذَا اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً انْفَسَخَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي مِنْ وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلْوَاحِدَةِ فَاسْتَأْنَفْنَ مِنْهُ عِدَدَ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُوسِرًا وَعِنْدَ إِسْلَامِ بَعْضِهِنَّ مُعْسِرًا بَطَلَ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يَسَارِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ؛ لِأَنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي يساره لا يجوز أن يستأنف نِكَاحَهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا فَبَطَلَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِهَا، وَالَّتِي أَسْلَمَتْ فِي إِعْسَارِهِ يَجُوزُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا فَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الأول وَالثَّانِيَةِ وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نكاح الأخرى باختياره، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَأَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ والرابعة بإسلامها، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ، فإذا اختار إحداهما انفسخ حينئذ نِكَاحُ الْأُخْرَى فَلَوْ أَسْلَمَتِ الْأُولَى وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَتِ الثَّالِثَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الرَّابِعَةُ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَطَلَ نِكَاحُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بِإِسْلَامِهِمَا، وَكَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ إِحْدَاهُمَا، فَإِذَا اخْتَارَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَهُ وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 مثاله: أن يسلم قبله اثنتان وبعده اثنتان فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ فَنِكَاحُ الْجَمِيعِ بَاطِلٌ لَكِنْ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَائِلِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ لَا بِإِسْلَامِهِنَّ قَبْلَهُ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ لَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ قَبْلَهُنَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الناكحين يَنْفَسِخُ بِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَائِلِ، فَيَكُونُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَوَاخِرِ يَكُونُ بِإِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ إِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَإِنْ شَاءَ مِنَ الْأَوَاخِرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَجَازَ أَنْ يَخْتَارَهَا فَإِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ انْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ وَاسْتَأْنَفْنَ عِدَدَ الْفَسْخِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا، وَعِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ مُوسِرًا فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَوَاخِرِ بِإِسْلَامِهِنَّ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَائِلِ وَاحِدَةً وَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَائِلِ مُعْسِرًا عِنْدَ إِسْلَامِ الْأَوَاخِرِ فَنِكَاحُ الْأَوَائِلِ بَاطِلٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَوَاخِرِ وَاحِدَةً فَإِنْ أَسْلَمَتَا مَعًا اخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، وَانْفَسَخَ بِاخْتِيَارِهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَعْجِيلِ اخْتِيَارِ الْأُولَى وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ إِلَى إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ، فإذا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الِاخْتِيَارِ إِلَى أَنْ تُسْلِمَ الثَّانِيَةُ فَلَهُ إِذَا أَسْلَمَتْ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ فإذا اختار إحداهما ثبت نكاحهما، وانفسخ به نكاح الأخرى. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعَجِّلَ اخْتِيَارَ الْأُولَى، فَإِذَا اخْتَارَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَبَطَلَ بِهِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ نِكَاحُهَا بِاخْتِيَارِ تِلْكَ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ قَدْ أَسْلَمَتْ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِهِ نِكَاحُهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَإِذَا أَسْلَمَتْ ثَبَتَ عَلَى مَا مضى من عدتها من وقت الِاخْتِيَارِ فِي الشِّرْكِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطَلِّقَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ فَيَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُوجِبًا لِلِاخْتِيَارِ وَمُوقِعًا لِلْفُرْقَةِ، وَيَبْطُلُ بِهِ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِغَيْرِهَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِيَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لِفَسْخِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ يَفْسَخُ نِكَاحَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا، وَقَدْ يجوز أن لا تسلم الثانية فيلزمه إِمْسَاكُ الْأُولَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ فَسْخُهُ فِي إنكاحها فَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى وبان فَسْخَ نِكَاحِهَا كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ فَإِنِ اخْتَارَهَا وَفَسَخَ نِكَاحَ الْأُولَى جَازَ وَثَبَتَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْأُولَى وَإِنِ اخْتَارَ الْأُولَى وَفَسَخَ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا فِي الْأَوَّلِ لَمَّا لم يؤثر في الحالة فَبَطَلَ أَنْ يَقَعَ حُكْمُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ لَزِمَهُ فَسْخُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ اخْتِيَارُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ غَيْرِهَا فَلَمَّا وَجَدَ غَيْرَهَا صَارَ مُؤَثِّرًا والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ مَعَهُ وَعُتِقْنَ وَتَخَلَفَتْ حرةٌ وَقَفَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ انْفَسَخَ نكاح الإماء ولو اختار منهن واحدةٌ ولم تسلم الحرة ثبتت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي حُرٍّ تَزَوَّجَ فِي الشرك أربع زوجات إماء وحرة خَامِسَة ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْإِمَاءُ، وَحَالُهُ حال من ينكح الإماء ويقف نِكَاحُ الْإِمَاءِ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ عَتَقَ الْإِمَاءُ قَبْلَ إِسْلَامِ الْحُرَّةِ فَحُكْمُ نِكَاحِهِنَّ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ، وَإِنْ عَتَقْنَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَإِنْ صِرْنَ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِحَالِهِنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ ولا اعتبار بما حدث بعدها ممن عتقهنَّ، كَمَا يُعْتَبَرُ حَالُ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، قِيلَ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تَخْتَارَ مِنَ الْإِمَاءِ وَإِنْ عَتَقْنَ أَحَدًا مَا كَانَتِ الْحُرَّةُ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنِ اخْتَارَ مِنْهُنَّ واحدة لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا فِي الْحَالِ وَرُوعِيَ إِسْلَامُ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مُضِيِّ عِدَّتِهَا، وَمَلَكَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُعْتَقَاتِ كُلِّهِنَّ الْمُخْتَارَةُ مِنْهُنَّ وَغَيْرُهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يختار واحدة من المعتقان وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَهَلْ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْمُخْتَارَةِ مِنْهُنَّ بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنِ اخْتَارَ منهن واحدة ولم تسلم الحرة ثبت " فاختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: ثبت إن استأنف اختيارها، فأما بالاختيار الْأَوَّل فَلَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتِ الِاخْتِيَارُ فِي الْحَالِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ثَانِي حَالٍ فَبَطَلَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ اخْتِيَارِ تِلْكَ الْأُولَى وَاخْتِيَارِ غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَيَكُونُ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ مَوْقُوفًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْخِيَارِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْخِيَارِ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ. فَإِنْ أَسْلَمَتْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ عُلِمَ أنه يثبت، فلو قال في الاختيار الأول إن تُسْلِمِ الْحُرَّةُ فَقَدِ اخْتَرْتُكُنَّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الِاخْتِيَارُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ هَذَا خِيَارٌ مَوْقُوفُ الأصل لا موقوف الحكم، ونحن إما نُجَوِّزُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَقْفَ حُكْمِهِ لَا وقف أصله فتصور فرق بينهما. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمْنَ كُنَّ كَمَنِ ابتدئ نِكَاحُهُ وَهُنَّ حَرَائِرُ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْحُرُّ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ إِمَاءٍ وَحُرَّةٍ خَامِسَةٍ ثُمَّ يُسْلِمِ الزَّوْجُ، وَيَعْتَقُ الْإِمَاءُ فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ يُسْلِمْنَ في عددهن فتكون نكاحهن نكاح حرائر، وله أن يقيم على الأربع كلهن؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِنَّ عِنْدَ إِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِهِنَّ وَمَا اجْتَمَعَا إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ فَلِذَلِكَ صَارَ نِكَاحُهُنَّ نِكَاحَ حَرَائِرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بِالْخِيَارِ عند إسلام المعتقات بين ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ الْأَرْبَعَ فَيَصِحَّ اخْتِيَارُهُنَّ، وَيَنْفَسِخَ بِهِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ إِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْحُرَّةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ اخْتَارَ مِنَ الْخَمْسِ أَرْبَعًا، وَفَسَخَ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْحُرَّةُ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُعْتَقَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ ثَلَاثًا وَيُوقِفَ الرَّابِعَةَ عَلَى إِسْلَامِ الْحُرَّةِ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ ثَبَتَ نِكَاحُ الرَّابِعَةِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اختيار أيتهما شاء وفارق الْأُخْرَى. فَصْلٌ وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ وَأُعْتِقْنَ ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ عِتْقِهِنَّ، كان نكاحهن نكاح حرائر، ولأن لَمَا جُمِعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ إِلَّا وَهُنَّ حَرَائِرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْحُرَّةُ مُتَأَخِّرَةٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَمَتَانِ وَأُعْتِقَتَا ثُمَّ أَسْلَمَ الزوج، وأعتق الأمتين المشركتين فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَتَا فَنِكَاحُ هَاتَيْنِ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الإسفراييني يحل لرقهما عند معتق المسلمين فبطل نكاحهما بالرق لعتق المسلمين، فعلى هذا المذهب يكون نكاح المسلمين بائناً، فَإِنْ أَسْلَمَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ نكاحها، وصرن ثلاثاً وإن لم يسلم بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَثَبَتَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ صَحِيحًا، فَنِكَاحُ الْمُعْتَقَتَيْنِ فِي الشِّرْكِ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِ الْمُسْلِمَتَيْنِ، مِنْ قَبْلُ فَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَتَانِ بَعْدَ عِتْقِهِمَا فِي عِدَّتِهِمَا صِرْنَ أَرْبَعًا وَفِي الشِّرْكِ حُرَّةٌ خَامِسَةٌ فَيَكُونُ حينئذ مخيراً بين الأمور الثلاثة مسألة قال الشافعي: " ولو كَانَ عبدٌ عِنْدَهُ إماءٌ وَحَرَائِرُ مسلماتٌ أَوْ كتابياتٌ وَلَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ سِتَّ زَوْجَاتٍ مِنْهُنَّ: أَمَتَانِ وَثَنِيَّتَانِ وَحُرَّتَانِ وَثَنِيَّتَانِ وَحُرَّتَانِ كِتَابِيَّتَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ الْأَمَتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ وَالْحُرَّتَانِ الْوَثَنِيَّتَانِ، وَبَقِيَ الْكِتَابِيَّتَانِ عَلَى دِينِهِمَا، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِيحُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا كَالْحُرِّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ إِلَّا أن الشافعي قال: ولم يختزن فراقه أمسك اثنتين، أما الأمتان فإن أعتقهما فلهما الخيار؛ لأن الأمة إذا أعتقت تحت عبد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 فَلَهَا الْخِيَارُ مُسْلِمًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقَا فَلَا خِيَارَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قد ساوياه فِي نَقْصِهِ بِالرِّقِّ، وَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَفِي ثُبُوتِ الخيار لهن بِإِسْلَامِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُنَّ لِعِلْمِهِنَّ بِرِقِّهِ وَرِضَاهُنَّ مَعَ كَمَالِهِنَّ بِنَقْصِهِ، فَلَمْ يَحْدُثْ لَهُنَّ بِالْإِسْلَامِ خِيَارٌ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَكِّدُ النكاح ولا يضعفه، وهذا اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصٌ، وَفِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِنَقْصٍ لِإِطْلَاقِ تَصَرُّفِهِ فِي الْكُفْرِ وَثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْصِ أَحْكَامِهِ فِي طَلَاقِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَحُدُودِهِ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ، وَقَهْرِ السَّيِّدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ الرِّقُّ فِي الْإِسْلَامِ نَقْصًا يَثْبُتُ لِلْحَرَائِرِ مِنْ زَوْجَاتِهِ الْخِيَارُ فِي إِسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُنَّ فِي شِرْكِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: لِلْحَرَائِرِ الأربعة الْخِيَارُ فَاخْتَرْنَ فَسْخَ نِكَاحِهِ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ، وإن قيل: لا خيار لهن وقيل لَهُنَّ الْخِيَارُ، فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ، وَهُنَّ سِتٌّ، اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّهِنَّ شَاءَ إِمَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحُرَّتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ أَوِ الْحُرَّتَيْنِ الْكِتَابِيَّتَيْنِ أَوِ الْأَمَتَيْنِ الْمُسْلِمَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً مِنَ الْأَمَتَيْنِ، وَوَاحِدَةً مِنَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَمَتَيْنِ وبين أمة وحرة. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ عَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ كَانَ ذلك لهن لأنه لهن بعد إسلامه وعددهن عدد الحرائر فيحصين من حين اخترن فراقه فإن اجتمع إسلامه وإسلامهن في العدة فعددهن عدد حرائر من يوم اخترن فراقه وإلا فعددهن عدد حرائر من يوم أسلم متقدم الإسلام منهما لأن الفسخ من يومئذٍ وإن لم يخترن فراقه ولا المقام معه خيرن إذا اجتمع إسلامه وإسلامهن مَعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمْنَ وَعَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَلَهُنَّ أَنْ يخترن فسخ نكاحه بالعتق، وإن كان جَارِيَاتٍ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْتَحِقَ مَعَهُ حُدُوثَ فَسْخٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ لِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِنَّمَا يُنَافِي الْمُقَامَ لِتَضَادِّهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قُصُورَ أَحَدِ العدتين، لأنهن لو انتظرن إسلام الزوج لاستأنف الْعِدَّة بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَإِذَا قَدَّمْنَ الْفَسْخَ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَغْنَى جَرَيَانُهُنَّ فِي الْفَسْخِ بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَنْ يحدثن فَسْخًا بِحُدُوثِ الْعِتْقِ. قِيلَ: لَا يُغْنِي؛ لِأَنَّ الفسخ بالإسلام متردد بين إفضائه إِلَى الْفُرْقَةِ إِنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ وَبَيْنَ إفضائه إِلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ إِنْ تَعَجَّلَ وَالْفَسْخُ بِالْعِتْقِ مُفْضٍ إِلَى الْفُرْقَةِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَهُنَّ ثَلَاثة أَحْوَالٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبَانَ أَنَّهُنَّ غير زوجاته مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْنَ فَلَمْ يَقَعْ فَسْخُهُنَّ بِالْعِتْقِ، لأنهن قدمن قبله فأول عددهن من وقت إسلامهن، وقد بدأت بالعدة، وَهُنَّ إِمَاءٌ وَأَنْهَيْنَهَا وَهُنَّ حَرَائِرُ، فَهَلْ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ أَوْ عِدَدَ حَرَائِرَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَعْتَدِدْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ وَإِنْ أسلم الزوج في عددهن وبان أن اختلاف الدين لم يؤثر في فسخ نِكَاحِهِنَّ وَإِنَّهُنَّ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ بِالْعِتْقِ وَهُنَّ زَوْجَاتٌ فينفسخ نكاحهن باختيار الفسخ ويتعددن مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ قَوْلًا وَاحِدًا، لأنهن بدأن وَهُنَّ حَرَائِرَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أن يختزن الْمُقَامَ عَلَى نِكَاحِهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِيَارِهِنَّ الْمُقَامَ تَأْثِيرٌ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: عدد حرائر اعتبارا بالانتهاء. وإن أسلم الزوج فِي عِدَدِهِنَّ بَانَ أَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ وَأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَقَدِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ فِي وَقْتٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ فَهَلْ يُؤَثِّرُ حُكْمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الزَّوْجِ إِذَا اخْتَارَ وَاحِدَةً مِنَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَعَهُ وفي الشِّرْكِ حُرَّةٌ مُنْتَظَرَةٌ فَلَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ اخْتِيَارِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا هل يثبت حكم اختيارهن المقام أم لا على وجهين: أحدهما: قد يثبت ويبطل بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي وَقْتِهِ فَبَطَلَ، وَلَهُنَّ خِيَارُ الْفَسْخِ بَعْدَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، فإن اخترن الفسخ استأنف عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يختزنه كُنَّ زَوْجَاتٍ، وَهُنَّ أَرْبَعٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا اثنتين فيصير له بالخيار في إمساك اثنتين وفسخ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يمسكه عَنِ اخْتِيَارِ فَسْخٍ أَوْ مُقَامٍ فَهُنَّ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ عَلَى حَقِّهِنَّ مِنْ خِيَارِ الْفَسْخِ، لَا يَبْطُلُ بِإِمْسَاكِهِنَّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كُنَّ يَتَوَقَّعْنَ الْفَسْخَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَلَمْ يُنَافِ وُقُوعَ الْفَسْخِ بِاخْتِيَارٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ خِيَارَهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ مَظْنُونٌ، وَبَعْدَ إِسْلَامِهِ مُتَحَقِّقٌ فَجَازَ أَنْ يؤخر به مِنْ وَقْتِ الظَّنِّ إِلَى وَقْتِ الْيَقِينِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ، فإن لم يسلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 حتى انقضت عددهن بان اختلاف الدِّينِ، وَبَطَلَ خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ، وَفِي عِدَدِهِنَّ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِهِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي عِدَدِهِنَّ فَهُنَّ زَوْجَاتٌ وَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَلَهُنَّ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفْنَ فِي وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَدَ حَرَائِرَ، وَإِنِ اخْتَرْنَ الْمُقَامَ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ، وَيَفْسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ يَسْتَأْنِفَانِ مِنْ وقت الفسخ عدد حرائر. مسألة قال الشافعي: " وإن لَمْ يَتَقَدَّمْ إِسْلَامُهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ وَلَا خَيَارَ لَهُنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَدَخَلَ بِهِنَّ ثُمَّ أَسْلَمَ قبلهن وأعتقهن فِي شِرْكِهِنَّ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ عَلَى النِّكَاحِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُمْسَكْنَ فَلَا يَخْتَرْنَ فَسْخًا وَلَا مُقَامًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلْنَ فِي الشِّرْكِ فَسْخَ النِّكَاحِ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ " فَجَمَعَ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفُرْقَةِ، وَاخْتِيَارِ الْمُقَامِ فِي إِبْطَالِ حُكْمِهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَخْتَرْنَ فَسْخَ النِّكَاحِ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على وجهين، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّ الجواب على ظاهره، وأنهن إذا أعتقن فِي الشِّرْكِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ حتى يَجْتَمِعَ إِسْلَامُهُنَّ مَعَ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ لَمْ يَقْدِرْنَ عَلَى تَعْجِيلِ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فَكَانَ لَهُمْ تَعْجِيلُ الْفَسْخِ لِيَسْتَفِدْنَ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ قَدَرْنَ بِتَعْجِيلِ إِسْلَامِهِنَّ عَلَى اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَفِدْنَ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرْنَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَعَلَى هَذَا يكون اختيارهن الفسخ قبل إسلامهن بالطلاق ولهن إذا أسلمن في عددهن يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُنَّ يملكن في الشرك اختيار الفسخ كما ملكته فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُنَّ قَدْ مَلَكْنَ بِالْعِتْقِ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ وَهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي الْفَسْخِ أَوْلَى، وَتَأْخِيرُهُ إِلَى خُرُوجِهِنَّ مِنَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يُنَافِي الْفَسْخَ وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ مِنَ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَقَالَ: وَلَوِ أعْتِقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ، وَلَمْ يَذْكُرْ إِذَا اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ الْمُزَنِيُّ أَوِ الْكَاتِبُ فِي النَّقْلِ فَقَالَ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ، أَوِ الْمُقَامَ مَعَهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ وَاخْتِيَارَ الْمُقَامِ ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُقَامِ دُونَ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْفُرْقَةِ وَأَفْرَدَ هَاهُنَا حُكْمَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلْمُقَامِ وَمِنْ عَادَةِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَيَعْطِفَ بِالْجَوَابِ المرسل على أحدهما وَيَجْعَلَ جَوَابَ الْأُخْرَى مَحْمُولًا عَلَى مَا عُرِفَ من مذهبه أو تقدم من جوابه، وهذا تَأْوِيلٌ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ " فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ اخْتِيَارُهُنَّ الْفَسْخَ مُعْتَبَرًا بِإِسْلَامِهِنَّ، فَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِفَسْخِهِنَّ وَيَسْتَأْنِفْنَ عِدَدَ حَرَائِرَ مِنْ وَقْتِ فَسْخِهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْفَسْخِ بِالْعِتْقِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ، وَفِي عِدَدِهِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عِدَدُ إِمَاءٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: عِدَدُ حَرَائِرَ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْمُقَامَ مَعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ، فَفِي هَذَا الِاخْتِيَارِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَغْوٌ لَا حُكْمَ لَهُ، لِأَنَّهُنَّ جَارِيَاتٌ فِي فَسْخٍ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْمُقَامِ فَبَطَلَ حُكْمُهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْفَسْخِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هاهنا، فعلى هذا إن أسلمن بَعْدَ عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُقَامِ قَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُنَّ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى إِمْضَائِهِ فِي زَمَانِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انقضت عددهن بان بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ سَقَطَ حَقُّهُنَّ مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِيَارِ الْمُقَامِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يُمْسَكْنَ فِي الشِّرْكِ، فَلَا يَخْتَرْنَ بَعْدَ الْعِتْقِ مُقَامًا وَلَا فَسْخًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ، وَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفٌ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ نَافِذٌ، فَجَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانِ الْوَقْفِ إِلَى زَمَانِ النفوذ ووهم بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَجَعَلَ إِمْسَاكَهُنَّ عَنْهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِنَّ منه قال؛ لأن ما تقدم من الشرك هدر والإسلام يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أوجب أن يكون الخيار هدر لأوجب أن يكون النكاح والطلاق هدر، وَلَمَا لَزِمَ فِي الْإِسْلَامِ حُكْمُ عَقْدٍ تَقَدَّمَ فِي الشِّرْكِ وَفِي فَسَادِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لهن الخيار بعد الإسلام فالجواب فيه إِنِ اخْتَرْنَ الْفَسْخَ أَوِ الْمُقَامَ عَلَى مَا مضى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 مسألة قال الشافعي: " ولو اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ وَهُنَّ إماءٌ ثُمَّ أُعْتِقْنَ مِنْ سَاعَتِهِنَّ ثُمَّ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ مجتمعٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ثُمَّ أُعْتِقَ الْإِمَاءَ فلهن الخيار بالعتق بين المقام أو الفسخ، وَفِي مُدَّةِ خِيَارِهِنَّ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أصح أنه على الفور معتبر بالإمكان فمتى أمكنهن تعجيل الفسخ، فأخرته بعد المكنة زماناً، وإن قبل بطل خيارهن، لأنه خيار استحقته لِنَقْصِ الزَّوْجِ بِالرِّقِّ عَمَّا حَدَثَ مِنْ كَمَالِهِنَّ بالحرية، فجرى مجرى خيار الرد بالعيوب واستحقاقه على الفور. والقول الثاني: أنه ممتد الزمان إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَاقٍ لَهُنَّ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِنَّ الزمان ما لم تمكن من أنفسهن أو يصرحن بالرضى اعتباراً بأن ما لا يخالف حالهن في الفسخ فهم بَاقِيَاتٌ عَلَى حُكْمِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ بِثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ حُكِيَ عنه بخلاف فقال: قَطَعَ فِي كِتَابَيْنِ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ مُخْتَلِفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَصَحَّ أَقَاوِيلِهِ عِنْدَهُ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: احْتَجَّ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ، بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَإِنْ أَصَابَهَا فَادَّعَتْ أنها كانت على حقها وهذا على ضربين: أحدهما: أن يدعى الجهالة بالعتق. والثاني: أن يدعي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ. فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ أو قَالَتْ: مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَمْ أَعْلَمْ، بِعِتْقِي فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهَا قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهَا رُدَّ قَوْلُهَا، وَإِنْ جُوِّزَ الْأَمْرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ كَذَبَتْ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْخِيَارِ، وَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ بِأَنْ قَالَتْ مَكَّنْتُهُ مِنْ نَفْسِي مَعَ الْعِلْمِ بِعِتْقِي، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِيَ الخيار إذا أعتقت وَأَمْكَنَ مَا قَالَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَعْلِمَ كَمَا لَا خيار في رد العيب إِذَا أَمْسَكَتْ عَنْهُ جَهْلًا بِاسْتِحْقَاقِ رَدِّهِ. وَالْقَوْلُ الثاني: لها الخيار: ولأنه قد يخفى إلا على خواص النَّاسِ وَلَيْسَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ جَوَابٌ عَلَى احْتِجَاجِ المزني به. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ عَارَضَ الشَّافِعِيَّ فِي عِبَارَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أثنى عَلَيْهِنَّ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا " فَأَفْسَدَ هَذِهِ الْعَبَّارَةَ وأحالها من وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ إِنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يؤجلها أكثر من مقامها، فكم يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدْ يَبْعُدُ ذَلِكَ وَيَقْرُبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفَسْخِ إِلَّا بِكَلَامٍ يَجْمَعُ حُرُوفًا كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الآخر، وفي هذا إبطال الخيار، وهذا اعتراض مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ للكلام عرفاً إذا تقدر اسْتِعْمَالُ حَقِيقَتِهِ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَصَارَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أبي جهم: " لا يضع عصاه على عَاتِقِهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَحَدٌ يُمْكِنُهُ إِلَّا أَنْ يَضَعَ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ فِي أَوْقَاتِ نومه واستراحته لكنه قال ذلك على طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ زمان المكنة، وَشُرُوطِ الطَّلَبِ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ بِأَقَلِّهَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُمْكِنُهَا فِيهِ الِاخْتِيَارُ فَيُمْسِكُ فِيهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ. فَأَمَّا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ عَلَى التَّرَاخِي، فَعَلَى هذا يكون منه اختيار الآخر من قول الشافعي. والوجه الثاني: أنه أراد به اخْتِيَارَ الْفَسْخِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حُكْمٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ مَذْهَبًا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ يكون فيما ثبت باجتهاد، وهذا ثابت النص. والثاني: أنه خيار نقص فجرى خيار الرد بالعيب. مسألة قال الشَّافِعِيِّ: " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بشيء قد قطع في كتابين بأن لها الخيار لو أصابها فادعت الجهالة وقال في موضع آخر: إن على السلطان أن يؤجلها أكثر مقامها فكم يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَقَدْ يبعد ذلك ويقرب إلى أن يفهم عنها ما تقول ثم إلى انقضاء أجل مقامها ذلك على قدر ما يرى فكيف يبطل خيار إماءٍ يعتقن إِذَا أَتَى عَلَيْهِنَّ أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وإسلام الزوج مجتمعٌ (قال المزني) ولو كان كذلك لما قدرن إذا أعتقن تحت عبدٍ أن يخترن بحالًٍ لأنهن لا يقدرن يخترن إلا بحروفٍ وكل حرفٍ مِنْهَا فِي وقتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْآخَرِ وفي ذلك إبطال الخيار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ وَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ ثُمَّ أُعْتِقْنَ وَالزَّوْجُ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ فَيُعْتِقُهُمْ جَمِيعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِجَمَاعَةٍ فَيُوَكِّلُوا جَمِيعًا وَاحِدًا فَيُعْتِقُهُمُ الْوَكِيلُ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ , وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِهِمْ عِتْقَ مَنْ يَمْلِكُهُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: إِذَا أَهَلَّ الْمُحَرَّمُ فَأَنْتَ حُرٌّ فَيَكُونُ إِهْلَالُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَا وَأُعْتِقَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مَعًا، فَلَا خِيَارَ لَهُنَّ لِاسْتِوَائِهِنَّ مَعَ الزَّوْجِ فِي حَالِ الرِّقِّ بِالنَّقْصِ وَفِي حَالِ الْكَمَالِ بِالْعِتْقِ، فَلَمْ يُفَضَّلْنَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ يَثْبُتُ لَهُنَّ فِيهَا خِيَارٌ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا " يَعْنِي في سقوط الخيار على ما علمك في ال مسألة الأولى فيمن أَمْسَكَتْ عَنِ الْخِيَارِ حَتَّى مَضَى أَقَلُّ أَوْقَاتِ الدنيا إلا أن في ذلك سَقَطَ بَعْدَ أَنْ وَجَبَ وَفِي هَذَا لَمْ يجب. فصل فأما إذا أعتق الْإِمَاءُ قَبْلَ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَخْتَرْنَ الْفَسْخَ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ، إِمَّا لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَعْلَمْنَ بِعِتْقِهِنَّ حَتَّى أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ عَلِمْنَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُنَّ عَلِمْنَ. وَقِيلَ: إِنَّ خِيَارَهُنَّ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الفور فلم يعجلن الخيار حتى أعتق الزوج وفي خيارهن قولان: أحدهما: قد سقط السقوط مُوجِبه مِنَ النَّقْصِ وَحُصُولِ التَّكَافُؤِ بِالْعِتْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ وَلَهُنَّ الْخِيَارُ بَعْدَ عِتْقِهِ، لِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ اسْتُحِقَّ اسْتِيفَاؤُهُ. مسألة قال الشافعي: " ولو اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ حُرَّتَيْنِ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَتِ اثْنَتَانِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ إِلَّا اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّ الْأَرْبَعِ شَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا اثْنَتَانِ وَيَنْكِحُ تَمَامَ أَرْبَعٍ إِنْ شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ فِي الشِّرْكِ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ حَرَائِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأُعْتِقْنَ فَلَهُنَّ إِذَا أَسْلَمْنَ بَعْدَهُ فِي عِدَدِهِنَّ ثلاثة أحوال: إحداهما: أَنْ يُسْلِمْنَ قَبْلَ عِتْقِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسْلِمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ، وَبَعْضُهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ. فَإِنْ أَسْلَمْنَ قَبْلَ عتقه وهو عبد ثم أعتق له أن يسمك مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ وَهُوَ عَبْدٌ لَا يَسْتَبِيحُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ باجتماع الإسلامين فلم يغيره ما حدث بعده كمن اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ أَمَةٍ، وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْسَرَ أَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ، فَإِنَّ حكمه معتبراً باجتماع الإسلامين في يساره وإعساره، ولا تغيره ما حدث بعده من يسار بعد إعسار أَوْ إِعْسَارٍ بَعْدَ يَسَارٍ، كَذَلِكَ هَذَا وَإِنْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ بَعْدَ عِتْقِهِ فَلَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ حُرٌّ تَحِلُّ لَهُ أَرْبَعٌ فَجَازَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ وَأَسْلَمَ بِعَضُّهُنَّ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 أحدهما: أن لا يُسْتَكْمَلَ إِسْلَامُ مَنْ يَحِلُّ لَهُ فِي الرِّقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ فَإِنِ اسْتُكْمِلَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْلِمَ قَبْلَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ وَبَعْدَ عِتْقِهِ اثْنَتَانِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ جَمِيعُهُنَّ قَبْلَ عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ اثْنَتَيْنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ عِدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ في العبودية، وصار حراً مِنَ الزِّيَادَةِ مَمْنُوعًا فَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمَنْعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدَدَ قَبْلَ عِتْقِهِ بَلْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَثَلَاثٌ بَعْدَهُ فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، حَتَّى بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَسْلَمْنَ بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ مِنْهُنَّ إِلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا بَاقِيه وَهوَ وَاحِدَةٌ فَلَا يُمْسِكُ مِنْهُنَّ إِلَّا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ هَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ اعْتُبِرَ حَالُ عتقه، فإن أعتق قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْسَكَ الْأَرْبَعَ وَإِنْ أُعْتِقَ بَعْدَ إسلامه أمسك اثنتين. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ جَوَّزْنَا له إمساك الربع فَلَا خِيَارَ لَهُ كَمَا لَا خِيَارَ لِلْحُرِّ إذا أسلم مع أربع. وإن منعناه إلا مِنِ اثْنَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهُمَا مِنَ الْأَرْبَعِ وَسَوَاءٌ اخْتَارَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِتْقِهِ أو بعده وينفسخ باختيارها نِكَاحُ الْبَاقِينَ وَهَكَذَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ثبت نكاحهما اختيار الباقين، فإن اخْتَارَ اثْنَتَيْنِ، وَفَسَخَ نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ حُرٌّ يَسْتَبِيحُ نِكَاحَ أَرْبَعٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا فِي العدة، لأنهما منه. مسألة قال الشافعي: " ولو أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ فَقَالَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ مَا أَرَادَ وَإِنْ أَرَادَ حِلَّهُ بِلَا طلاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَأُحْلِفَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ مَعَهُ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ: فَإِنْ أَرَادَ بِالْفَسْخِ لا حسماً له، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ قُبِلَ مِنْهُ؛ لأن الفسخ كتابة فِيهِ، وَهُنَّ زَوْجَاتٌ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ الطَّلَاقُ، وَيَكُونُ إِيقَاعُهُ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِ نِكَاحِهِنَّ، فَإِنْ أَكْذَبْنَهُ فِي إِرَادَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ حَلَّ النِّكَاحِ وَرَفْعَ الْعِقْدِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، كَمَا يُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَهُنَّ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا، وَيَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْأَرْبَعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُنَّ، فإن أكذبنه وقلن: أراد بالفسخ الطلاق أحلف بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَكَلَ حُلِّفْنَ وَطُلِّقْنَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفَسْخِ طَلَاقَ اثْنَتَيْنِ وَحَلَّ نِكَاحِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ الطَّلَاقُ على من أرادهما بالفسخ ولهما إحلافه وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِيهِنَّ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ كُنَّ خَمْسًا فَأَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْعِدَّةِ فَقَالَ قَدِ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا حَتَّى قَالَ ذَلِكَ لِأَرْبَعٍ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ المشرك بأكثر من أربع كأنه تَزَوَّجَ ثَمَانِيَ زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ذكرناها: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 أَحَدُهَا: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ فَيَنْفَسِخُ بِاخْتِيَارِهِ لَهُنَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ سَوَاءٌ أَسْلَمْنَ فِي عددهن أم لا؟ وهذا لَوْ فَسَخَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ كَانَ اخْتِيَارَ النكاح الأربع المسلمات؛ لأن الاختيار والفسخ يتقابلا فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ اخْتِيَارِ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِ الْأَرْبَعِ الْمُشْرِكَاتِ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى مَضَتْ عِدَدُهُنَّ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ كَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ إِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَاتِ وَإِمَّا الْأَرْبَعِ الْمُتَأَخِّرَاتِ، وَإِمَّا عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَيَسْتَكْمِلُ أَرْبَعًا مِنَ الْمُتَأَخِّرَاتِ، فَلَوْ مَاتَ الْأَرْبَعُ الْمُتَقَدِّمَاتُ ثم أسلم الأربع المتأخرات كان خياره باق فِي الْمَوْتَى كَبَقَائِهِ فِي الْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ لَهُنَّ إِبَانَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ نِكَاحِهِنَّ فَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْمَوْتَى انْفَسَخَ نِكَاحُ الْأَحْيَاءِ، وَكَانَ لَهُ الميراث من الموتى ومتن في زوجيته، وَإِنِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ الْأَحْيَاءَ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ وَبَانَ به فسخ نكاح الأربع الموتى، وإنهن مُتْنَ أَجْنَبِيَّاتٍ فَلَمْ يَرِثْهُنَّ، وَإِنِ اخْتَارَ بَعْضَ الأحياء وبعض الموتى فعلى مَضَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَارَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِسْلَامِ الأربع معه بعضهن وينتظر إسلام الباقيات كأنه اخْتَارَ مِنَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ وَتَوَقَّفَ عَنِ الِاثْنَتَيْنِ الباقيتين انتظارا لإسلام الأربع المختارات فثبت نِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ الْمُخْتَارَتَيْنِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْأَرْبَعُ الْمُتَأَخِّرَاتُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْجَمِيعِ وَهُنَّ ست اثْنَتَيْنِ تَمَامَ أَرْبَعٍ مِنْ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَسْلَمَ مَعَهُ من الثماني وَاحِدَةٌ قَدِ اخْتَرْتُهَا، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَانِيَةٌ فَيَقُولُ: قَدِ اخْتَرْتُهَا، ثُمَّ تُسْلِمُ ثَالِثَةٌ فَيَخْتَارُهَا ثُمَّ تُسْلِمُ رَابِعَةٌ فَيَخْتَارُهَا فَقَدْ ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْمُسْلِمَاتِ لِاخْتِيَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ إِسْلَامِهَا وَانْفَسَخَ به نكاح الأربع المتأخرات ثم تراعي أحوالهن، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْنَ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مِنْ وَقْتِ إِسْلَامِ الزَّوْجِ، وَإِنْ أَسْلَمْنَ فِي عِدَدِهِنَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالِاخْتِيَارِ واستأنفن العدة من وقت اختياره الرابعة لأن باختيارها ممن سِوَاهَا، فَلَا يَكُونُ الْفَسْخُ طَلَاقًا سَوَاءٌ وَقَعَ باختلاف الدينين أو بالاختيار. وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجَةِ، وَتَأَخَّرَ الزَّوْجُ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ أَرْبَعٍ فَقَدِ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ (قال المزني) رحمه الله القياس عندي على قوله أنه إذا أسلم وعنده أكثر من أربع وأسلمن معه فقذف واحدةً منهن أو ظاهر أو آلى كان ذلك موقوفاً فإن اختارها كان عليه فيها ما عليه في الزوجات وإن فسخ نكاحها سقط عنه الظهار والأيلاء وجلد بقذفها ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 قال الماوردي: وصورتها في مشرك تزوج بثماني زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَهُنَّ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ إِمْسَاكَهَا فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتِيَارٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَالِاخْتِيَارُ لِلنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِصِفَةٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ اخْتِيَارٌ لِمُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَالِاخْتِيَارُ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمُعَيَّنَةٍ كَالنِّكَاحِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ، فَقَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا، فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فسخ معلق بصفة لا يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْفَسْخِ بِالصِّفَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ وَقْتِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ فَسْخُ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسْلِمَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ فَسْخُ نِكَاحِهِنَّ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ لَهُنَّ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ طَلَّقْتُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بصفة، فَإِذَا أَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ وَكَانَ ذَلِكَ اختياراً لهن؛ لأن الطلاق لا يقع عَلَى زَوْجَةٍ، وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّ الطلاق في المتقدمات قد يتضمن اخْتِيَارَهُنَّ فَصَارَ فَسْخًا لِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَالَ: " وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أن يريد به طلاقها فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدْ طَلَّقْتُهَا صَحَّ طَلَاقُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ، وبين الطلاق في أن جَوَازَ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ أَنَّ الْفَسْخَ مَوْضُوعٌ لِتَمْيِيزِ الزَّوْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ الْمَقْصُودِ فِيهِ وَالطَّلَاقُ حَلَّ لِنِكَاحِ الزوجة فجاز تعلقه بِالصِّفَةِ لِوُجُودِ حِلِّ النِّكَاحِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وطائفة معه: أن قوله للثماني الْمُشْرِكَاتِ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ طَالِقٌ، لَا يصح؛ لأن الطلاق وإن جاز تعلقه بالصفة فهذا الطلاق هاهنا لا يجوز تعليق بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا أَوْ فِرَاقًا، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الِاخْتِيَارِ بِالصِّفَةِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ تَضَمَّنَ اخْتِيَارَ الصِّفَةِ ويتأول قائل هذا الوجه كلام الشافعي هاهنا بِتَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقَهَا " فَيَصِحُّ ويقع الطلاق إذا كان زَوْجَاتُهُ فِي الشِّرْكِ أَرْبَعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهَا فَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِذَا أَسْلَمَتْ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مَحْضٌ لَا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا فَجَازَ تعليقه بالصفة. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةٌ عَنْ حَالِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الزَّوْجِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: " كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ " أَنَّ الزَّوْجَ قَالَ عِنْدَ إِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَارَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ صَحَّ فَصَحَّ أَنْ يطلقها فعلى هذا لو أسلم معه الثماني كُلُّهُنَّ فَقَالَ لَهُنَّ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَقَدْ فسخت نكاحها؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ بِصِفَةٍ، وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ، كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارًا بِصِفَةٍ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا دَخَلَهَا أَرْبَعٌ طُلِّقْنَ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ، فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: اخْتِيَارُ الْمُطَلَّقَاتِ. وَالثَّانِي: فِرَاقُهُنَّ. وَالثَّالِثُ: فَسْخُ نِكَاحِ من عداهن، فعلى هذا لو دخل الثماني الدَّارَ كُلُّهُنَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بعضهن بعضاً، ووقع الطَّلَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَتَضَمَّنُ الِاخْتِيَارَ. وَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ فَإِذَا اخْتَارَهُنَّ تَعَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَاقِيَاتِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ لَا أَخْتَارُ حُبِسَ حَتَّى يَخْتَارَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ مانعٌ لَهُنَّ بعقدٍ متقدمٍ وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ كَمَا يُطَلِّقُ عَلَى الْمُولِي فَإِنِ امْتَنَعَ مَعَ الْحَبْسِ عُزِّرَ وحبس حتى يحتار وإن مات أمرناهن أن يعتددن الآخر مِنْ أَرْبَعَةِ أشهرٍ وعشرٍ أَوْ مِنْ ثَلَاثِ حيضٍ وَيُوقَفُ لَهُنَّ الْمِيرَاثُ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُشْرِكٍ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ثَمَانِي زَوْجَاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ ثَمَانٍ، فَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الِاخْتِيَارِ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ تَوَقُّفِهِ وأمره بتعجيل اختياره؛ لأن لا يستديم ما حظره الشرع في الْجَمْعِ، فَإِنْ سَأَلَ إِنْظَارَهُ لِيُفَكِّرَ فِي اخْتِيَارِهِ وَيَرْتَئِيَ فِي أَحَظِّهِنَّ لَهُ أَنْظَرَهُ مَا قَلَّ مَنِ الزَّمَانِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ فِكْرُهُ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِإِنْظَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْإِنْظَارِ لِلْمُولِي وَالْمُرْتَدِّ فَإِذَا اخْتَارَ بَعْدَ الْإِنْظَارِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يختار أربعاً فيكون اختياره لهن فسخاً لمن عَدَاهُنَّ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ أَرْبَعٍ فَيَكُونُ فَسْخُهُ اخْتِيَارًا لِنِكَاحِ مَنْ عَدَاهُنَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِيَاتُ بَعْدَ فَسْخِ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ كَأَنَّهُنَّ عَشْرٌ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ فَسْخِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السِّتِّ أَرْبَعًا، أَوْ يفسخ منهن نكاح اثنين فَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، وَاخْتِيَارُهُ وَفَسْخُهُ بِالْقَوْلِ، فَاخْتِيَارُهُ قَوْلًا أَنْ يَقُولَ: قَدِ اخْتَرْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ قد اخترت إمساكها، أو قد اخترت جنسها فإن قال: قد أخرتها صَحَّ، فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ أَمْسَكْتُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِغَيْلَانَ: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا " وَإِنْ قَالَ: قَدْ حَبَسْتُهَا لم يصح اختياره لِاحْتِمَالِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَإِنْ قال: قد ردتها لَمْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 رَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا أَوْ رَدَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ أَرَادَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَا يصح إلا بالتصريح دون الكناية. وفسخه قولان: أَنْ يَقُولَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهَا أَوْ قَدْ رَفَعْتُ نِكَاحَهَا أَوْ قَدْ أَنْزَلْتُ نِكَاحَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ فَسْخٌ صَرِيحٌ، لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْتَرَكَةُ الْمَعَانِي، وَلَوْ قَالَ قَدْ صَرَفْتُهَا أَوْ أَبْعَدْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ صَحَّ، لِأَنَّ الْفَسْخَ يَجْرِي مَجْرَى الطلاق الذي صح بالتصريح وَبِالْكِنَايَةِ، فَلَوْ قَالَ قَدْ حَرَّمْتُهَا كَانَ كِنَايَةً يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ اخْتِيَارًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْفَسْخَ كَانَ فَسْخًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَهَلْ يَكُونُ فَسْخًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فَسْخًا، لِأَنَّ الْمَفْسُوخَ نِكَاحُهَا مُحَرَّمَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ فَسْخًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ نِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بَعْدَ الْفَسْخِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَقَدَّمَهُ مَا يَقَعُ بِهِ الْفَسْخُ، فَلَوْ قَالَ: قَدْ فَارَقْتُهَا كَانَ فَسْخًا وَلَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا كَانَ اخْتِيَارًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا صَرِيحَيْنِ فِي طَلَاقِ الزَّوْجَاتِ، أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يقع إلا على زوجةٍ فلذلك جعلنه اختياراً، والفراق قد يقع على زوجته فيكون طلاقاً، وعلى غير زوجته: فَيَكُونُ إِبْعَادًا فَلِذَلِكَ جُعِلَ فَسْخًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقَ قُبِلَ مِنْهُ وَصَارَ اخْتِيَارًا وَطَلَاقًا وَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالطَّلَاقِ الْفَسْخَ لَمْ يقبل منه، لأن الطلاق لا يصح إلا على زوجته، والفسخ لا يكون هاهنا إلا بغير زوجته، فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ سَرَّحْتُهَا كَانَ كَالْفِرَاقِ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَعْنَاهُ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطلاق صار اختيار كَالْفِرَاقِ، فَأَمَّا إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى لم تكن اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ قَدْ تُخَاطَبُ بِهِ الزَّوْجَةُ وَغَيْرُ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يستقر حكمها إلا في زوجته، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظِّهَارُ فِي الْحَالِ اخْتِيَارًا وَلَا فَسْخًا نَظَرَ فِي الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا وَآلَى فَإِنِ اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا سَقَطَ حُكْمُ ظهاره وإيلائه، وَإِنِ اخْتَارَ جِنْسَ نِكَاحِهَا ثَبَتَ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ منها؛ لأنها كانت زوجته وَقْتَ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ من الثماني الْمَوْقُوفَاتِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ أَرْبَعًا، فَهَلْ يَكُونُ وطؤه اخْتِيَارًا لَهُنَّ كَمَا يَكُونُ وَطْءُ الْبَائِعِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ؟ فَعَلَى هَذَا قَدْ ثَبَتَ بِوَطْئِهِنَّ اخْتِيَارُ نِكَاحِهِنَّ وَانْفَسَخَ بِهِ نِكَاحُ مَنْ عَدَاهُنَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ اخْتِيَارًا، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يُعْقَدُ إِلَّا بالقول دون الفعل، كذلك الِاخْتِيَارُ وَخَالَفَ الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ اسْتِفَادَةُ ملك والأملاك قد تستفاد بالملك كَالسَّبْيِ، وَبِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَفَادَ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ فِي اخْتِيَارِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْطُوءَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةً فِي زَوْجِيَّةٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا لَهُنَّ مَهْرٌ، وَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 يَجِبُ بِهَا عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ، وَإِنِ اخْتَارَ إِمْسَاكَ غَيْرِ الْمَوْطُوءَاتِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِالِاخْتِيَارِ، وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الْمَوْطُوءَاتِ، وَكَانَتْ إِصَابَتُهُ لَهُنَّ إِصَابَةَ شُبْهَةٍ لِأَجْنَبِيَّاتٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ لَهُنَّ مُهُورُ أَمْثَالِهِنَّ، وَعَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْفَسْخِ وَالْإِصَابَةِ مَعًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوَطْءِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ ما وصنفاه مِنْ حُكْمِ اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ فَأَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ منهما، فلم يختر ولو يَفْسَخْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ تَأْدِيبًا لِمُقَامِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَلِإِضْرَارِهِ بِمَوْقُوفَاتٍ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الِامْتِنَاعِ بَعْدَ حَبْسِهِ عَزَّرَهُ ضَرْبًا بَعْدَ أَنْ عَزَّرَهُ حَبْسًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْ يَفْسَخَ، وَإِنْ جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الْمُولِي إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَالْعَقْدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ جَبْرًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَالطَّلَاقُ كَالْفَسْخِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُفْسَخَ عَلَيْهِ جَبْرًا فَجَازَ أَنْ يُطَلَّقَ عَلَيْهِ جَبْرًا. وَالثَّانِي: أن الطلاق في الإيلاء معين لا يقف على الشهود فَجَازَ إِيقَاعُهُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا أُطِيلُ حَبْسُهُ وَتَعْزِيرُهُ حَتَّى يُجِيبَ إِلَى الِاخْتِيَارِ وَالْفَسْخِ بِنَفْسِهِ. فَصْلٌ ثُمَّ لَهُنَّ فِي زَمَانِ حَبْسِهِ وَوَقْفِهِنَّ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَفَسْخِهِ النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى، لِأَنَّهُنَّ مَوْقُوفَاتٌ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ سَابِقٍ فَكَانَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِنَّ أَنْ يُجْرِينَ مَجْرَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَهَا، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ سَقَطَتْ نَفَقَاتُهُنَّ لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ مِنْ وَقْتِ نِكَاحِهِنَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لا يصح فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَهُ الْحَاكِمُ جبراً، وتعلق بِمَوْتِهِ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: فِي الميراث. فأما العدة ففيها أربع زوجات يلزمهن الْوَفَاةِ وَفِيهِنَّ أَرْبَعٌ مُفَارَقَاتٌ يَلْزَمُهُنَّ عِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ من وطء ليس يتميز الزوجات عن غَيْرِهِنَّ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُنَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. إِمَّا أَنْ يَكُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَإِنْ كُنَّ حَوَامِلَ اعْتَدَدْنَ بِوَضْعِهِ، وَقَدِ اسْتَوَتْ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَطْوَلِ الْعِدَّتَيْنِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَإِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهِنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَعِدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِتَكُونَ مُسْتَبْرِئَةً لِنَفْسِهَا بِيَقِينٍ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا اسْتَكْمَلَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر وعشراً، قبل أقراء استكملت ثلاثة أقراء لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبْرَأَةً مِنْ غَيْرِ زَوْجِيَّةٍ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَيُوقَفُ لَهُنَّ إِنْ لَمْ يحجبن الربع، وإن حجبن الثمن؛ لأن فيهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ وَارِثَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَّ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى صُلْحِهِنَّ، فَإِنِ اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مُتَسَاوِيَاتٍ، أَوْ مُتَفَاضِلَاتٍ، أَوْ عَلَى تَعْيِينِ، أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ يقتسمنه، وتحرم الباقيات جاز أن لا يَكُونَ فِيهِنَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ "؛ فَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيرَاثِ زوجته وهو ثمن الْمَوْقُوفِ لَهُنَّ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ ثَمَانِيًا مُتَسَاوِيَاتِ الْأَحْوَالِ كَانَ الظَّاهِرُ من وقف ذلك عليهن يساويهن فِيهِ وَأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثمن الوقف، فلم يجوز أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَلَوْ كَانَ وَقْفُ مِيرَاثِهِنَّ عَلَى حَالِهِ فَجَاءَتْ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ مِنَ الْمَوْقُوفِ شَيْئًا لَمْ تُعْطَ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، أَوْ أَرْبَعٌ؛ لجواز أن يكن الأربع كلهن أجانب والباقيات زَوْجَاتٍ، فَإِنْ جَاءَ مِنْهُنَّ خَمْسٌ تَحَقَّقْنَا حِينَئِذٍ أن منهن زوجته فدفعنا إليهن إذا طلبن بعين مالهن، وَهُوَ رُبُعُ الْمَوْقُوفِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ، يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ بِشَرْطِ الرِّضَى بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ إلا على شرط الرضى بِهِ عَنْ حَقِّهِنَّ، وَإِلَّا مُنِعْنَ مِنْهُ حَتَّى يَتَرَاضَى جَمِيعُهُنَّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا دُفِعَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَجَبَ دَفْعُ الْبَاقِي من الميراث الموقوف، وهو ثلاثة أَرْبَاعِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْبَاقِيَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ فِي الدَّفْعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مِيرَاثِهِنَّ مَوْقُوفًا عَلَى جَمِيعِهِنَّ، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْضُهُنَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى جَمِيعِهِنَّ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ وَاصْطِلَاحٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُطَالَبَاتُ مِنْهُنَّ سِتًّا دَفَعَ إِلَيْهِنَّ نصف الموقوف من ميراثهن، ولأن فِيهِنَّ زَوْجَتَيْنِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِنَّ سَبْعٌ دَفَعَ إِلَيْهِنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ، وَكَانَ الرُّبُعُ الْبَاقِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَانُ كُلُّهُنَّ يَطْلُبْنَ دَفَعَ إِلَيْهِنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِنَّ لِأَنَّهُ موقوف عليهن، وليس فيه حق لهن. فصل وإذا أسلم المشرك عن ثمان زَوْجَاتٍ مُشْرِكَاتٍ: أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ وَثَنِيَّاتٌ أَسْلَمْنَ مَعَهُ وَأَرْبَعٌ كِتَابِيَّاتٍ بَقِينَ عَلَى دِينِهِنَّ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ مات عنهن لم ترثنه وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ بَعْضَ الْمُسْلِمَاتِ، وَبَعْضَ الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ الْمُسْلِمَاتُ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ اخْتِيَارِ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُوقَفُ مِيرَاثُهُنَّ مِنْ تَرِكَتِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي القاسم الداركي لا توقف لَهُنَّ شَيْئًا، لِأَنَّنَا نُوقِفُ مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُ، وَجَهِلْنَا مُسْتَحَقَّهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَاتُ منهن الذميات، فلا يرثن فلذلك لم نوقف مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُوقَفُ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ، لأن لباقي الورثة لا يجوز أن ندفع إليهم إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 مَا تَحَقَّقْنَا اسْتِحْقَاقَهُمْ لَهُ، فَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مشكوكاً فيه، وقد يجوز أن يكون زَوْجَاتُهُ مِنْهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ فَلَا يَكُونُ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ من مِيرَاثِهِنَّ حُقٌّ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " ولو أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ وثنيةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّ النِّكَاحَ موقوفٌ كَمَا جعل نكاح من لم تسلم مَوْقُوفًا فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلِ امْرَأَتَهُ وَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا امْرَأَةَ لَهُ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ عَقَدَهُنَّ وَلَا امْرَأَةَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَسْلَمَ المشرك عن زوجة وثنية هي جَارِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فِي الشِّرْكِ فَنَكَحَ أُخْتَهَا، أَوْ خَالَتَهَا، أَوْ عَمَّتَهَا، أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا كَانَ نِكَاحُهُ بَاطِلًا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِ الْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَطَلَ عَقْدُهُ عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا لِعِلْمِنَا أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَّتْ عدتها صح عقد عَلَى أُخْتِهَا وَعَلَى أَرْبَعٍ سِوَاهَا لِعِلْمِنَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً. قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ مَوْقُوفًا جَازَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ أُخْتِهَا مَوْقُوفًا وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَقَعْ نَاجِزًا لَمْ يَقَعْ مَوْقُوفًا، وكان باطلاً والعقد على أخت زوجته الوثنية لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَبَطَلَ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا أَلَّا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُرْتَدَّةً لِيَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ نَاجِزًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَى إِسْلَامِهَا كَذَلِكَ إِذَا نَكَحَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ نَكَحَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَكَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا كَنِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوَقْفِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ حِلَّ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَعَقْدَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا لوقوع الفرق بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَاسْتَدَامَتِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَ مُحَرَّمَةً أَوْ مُعْتَدَّةً بَطَلَ نِكَاحُهَا لِوُجُودِ المنع في ابْتِدَائِهِ، وَلَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ أَوِ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ يَمْنَعْ مَنِ اسْتَدَامَتِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الزَّوْجِ فَنَكَحَ الزَّوْجُ فِي الشِّرْكِ أُخْتَهَا أَوْ خَالَتَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ الْمُسْلِمَةُ فِي الْعِدَّةِ، لأن مناكح الشريك مَعْفُوٌّ عَنْهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتْ مَعَهُ الْمَنْكُوحَةُ فِي الشِّرْكِ، وَأُخْتُهَا بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ صَارَ كَالْمُشْرِكِ، إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أُخْتَيْنِ فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي إِمْسَاكِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ يُمْسِكُ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِأَنَّ نِكَاحَهَا ثَبَتَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ نِكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ نِكَاحَ الزَّوْجِ لَهُمَا مَعًا فِي الشِّرْكِ فَصَارَ حُكْمُ نِكَاحِهِ لِلثَّانِيَةِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْأُولَى كَحُكْمِ نِكَاحِهِ لَهَا مَعَ شِرْكِ الْأُولَى اعْتِبَارًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ غيرها - والله أعلم -. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ أو لم يسلم حتى انقضت فلها نفقة العدة في الوجهين جميعاً لِأَنَّهَا محبوسةٌ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي زَوْجَيْنِ مُشْرِكَيْنِ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ تَأَخَّرَ لِمَعْنَيَيْنِ: أحدهما: أن الإسلام فرض مضيق الوقت فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنَّ مُنِعَ مِنَ الاستمتاع كالصلاة والصيام المفروضين. والثاني: أن إسلامها الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ فِي عِدَّتِهَا، فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا مَنَعَتْهُ نَفْسَهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَسْقُطَ بِهِ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ طَائِعَةً كَالْحَجِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ حَكَاهُ نَقْلًا فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجًا فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحَجَّ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَالْإِسْلَامُ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَصَارَتْ بِالْإِسْلَامِ فَاعِلَةً مَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَبِالْحَجِّ فَاعِلَةً مَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْحَجِّ لَا يُمْكِنُهُ تَلَافِيهِ وتحريمها بالإسلام يمكنه تلافيه. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نفقةٌ في أيام كفرها لأنها المانعة لنفسها مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ قبلها، فإن تأخر إسلامهما حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا بالتأخر عَنِ الْإِسْلَامِ كَالْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْمَنْعُ من جهته لا من جهتها، فهلا كانت لها النفقة كما لو رجع. قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ أن يَلْتَزِمُ لِهَذَا التَّعْلِيلِ قَوْلًا آخَرَ إِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِمَّا نَقْلًا وَإِمَّا تَخْرِيجًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرْضٌ مُضَيَّقُ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ثُمَّ هُوَ مَنْعٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ فلم يمنع كونه من جهته أن يسقط بِهِ النَّفَقَةَ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا لِاسْتِقْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَوْدِ الْإِبَاحَةِ وَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ المدة الباقية فِي شِرْكِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - لَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كانت زوجة فيما لم يزل، وبناء على قوله، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِالتَّمْكِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّ مُدَّةَ التَّأَخُّرِ كَالنُّشُوزِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةٌ وَبِنَاءً عَلَى قوله الجديد، أن النفقة تجب العقد والتمكين منه. مسألة قال الشافعي: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، وهو اختلاف في وجوب النفقة، ولا إطلاقه تَفْصِيلٌ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي أَيِّهِمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: أَسْلَمْتُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 قَبْلَكِ وَأَسْلَمْتِ بَعْدِي، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَلَا نَفَقَةَ لَكِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبِلَكَ وَأَسْلَمْتَ بَعْدِي، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَلِيَ النَّفَقَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نفقة لها لأمران: أحدهما: أنه مُدَّعِيَةٌ، وَهُوَ مُنْكِرٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِارْتِفَاعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ففي المراد باختلافهما في هذا الموضع ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ: أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ، وَأَسْلَمَتَ بَعْدِي فِي الْعِدَّةِ فَلِيَ النَّفَقَةُ وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتُ أَنَا قَبْلَكِ وَأَنْتِ بَعْدِي فَلَا نَفَقَةَ لَكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الأمرين. والتأويل الثاني: أن يختلفا فتقول أَسْلَمْتُ قَبْلَكَ بِشَهْرٍ فَلِيَ عَلَيْكَ نَفَقَةُ شَهْرٍ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتِ قَبْلِي بِيَوْمٍ فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَتَقُولُ الزوجة لي مذ أَسْلَمْتُ بَعْدَكَ شَهْرٌ فَلِي نَفَقَةُ شَهْرٍ، وَيَقُولُ الزوج: لك مذ أَسْلَمْتِ بَعْدِي يَوْمٌ فَلَكِ نَفَقَةُ يَوْمٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نَفَقَةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ حَلَالًا وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كان حراماً ومتعةٌ إن لم يكن فرض لها لأن فسخ النكاح من قبله وإن كانت هي أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ صداقٍ ولا غيره لأن الفسخ من قبلها (قال) ولو أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قبل الدخول ثم ذكر هاهنا حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْلِمَا مَعًا فَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ فَقَدْ بَطَلَ النكاح، لأن ما أفضى إلى الفرقة، أو كان قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ بِهِ الْبَيْنُونَةُ كَالرِّدَّةِ، وَالطَّلَاقِ الرجعي، ولا عدة عليه لِعَدَمِ الدُّخُولِ بِهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِسُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنْهَا، فَأَمَّا الصَّدَاقُ فَلَهَا نِصْفُهُ، لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ بِسَبَبٍ لَا تَقْدِرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَلَافِيهِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهَا تَلَافِيهِ بِأَنْ تُسْلِمَ مَعَهُ، قِيلَ: هَذَا يَشُقُّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَإِذَا كَانَ لَهَا الصَّدَاقُ لم تخل حَالُهُ فِي الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حَلَالٍ بها نصفه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى فِيهِ مَهْرَ حرام فلها نصف مهر المثل. والثالث: أن لَا يُسَمَّى فِيهِ مَهْرٌ فَلَهَا مَنْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجَةِ فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَلَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ فَسَقَطَ مَهْرُهَا. فَإِنْ قِيلَ يَقْدِرُ عَلَى تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ مَعَهَا كَانَ الجواب ما مضى وخالف وجوب النفقة لها إذا تقدم إسلامها بعد دخول لِأَنَّهُ مَنْعٌ يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ، وَإِنْ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ دِينَاهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعًا، لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي الشرك على دين واحد فصار فِي الْإِسْلَامِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ النكاح بينهما ثابتاً. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَالنِّكَاحُ مفسوخٌ وَلَا نِصْفَ مهرٍ حَتَّى يُعْلَمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُسْلِمَ الْآخَرُ بَعْدَهُ وَيُشْكَلُ عَلَيْهِمَا أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ لِاسْتِوَاءِ بُطْلَانِهِ إِنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ الزَّوْجِ أَوْ تَقَدَّمَ إسلام الزوجة ولم يكن للإشكال تأثير، فأما المهر فله حالتان: إحداهما: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْهُ فِي الشِّرْكِ. وَالثَّانِي: لَمْ تَقْبِضْهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْهُ، وَمَنْ شَكَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَشَكَّ فِي قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ قَبَضَتْ مِنْهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، لِأَنَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ يستحقه بيقين فما الْآخَرُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ، لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ قبلها فلا يستحقه أو أسلمت قبله فيستحقه - والله أعلم -. مسألة قال الشافعي: " فإن تَدَاعَيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ ثابت فلا يَبْطُلُ نِصْفُ الْمَهْرِ إِلَّا بأَنْ تُسْلِمَ قَبْلَه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَلَا دُخُولَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ أيهما تقدم إسلامه فيقول الزوج أنت قد تَقَدَّمْتِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا مَهْرَ لَكِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ بَلْ أَنْتَ تَقَدَّمْتَ بِالْإِسْلَامِ فَلِيَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا أَنَّ الزَّوْجَ تَقَدَّمَ بِالْإِسْلَامِ عَلَيْهَا وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَهْرِ اسْتِحْقَاقُهُ بالعقد فلم يقبل دَعْوَى الزَّوْجِ فِي إِسْقَاطِهِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَادَّعَى دَفْعَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِهِ وَعُدُولًا عَنْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وإن قالت أسلم أحدنا قبل الآخر وَقَالَ هُوَ مَعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 يَمِينِهِ وَلَا تُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ إِنَّ النِّكَاحَ مفسوخٌ حَتَى يَتَصَادَقَا (قال المزني) أشبه بقوله أن لا ينفسخ النكاح بقولها كما لم ينفسخ نصف المهر بقوله (قال المزني) وقد قال لو كان دخل بها فقالت انقضت عدتي قبل إسلامك وقال بل بعد فلا تصدق على فسخٍ ما ثبت له من النكاح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي زَوْجَيْنِ أَسْلَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: لَا بَلْ أحدنا قبل صاحبه فلا نكاح بيننا ففيه قَوْلَانِ: أَحَدُهَما: - وَهُوَ اخْتِيَارُ (الْمُزَنِيِّ) - أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى إِسْقَاطِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَالَ الزَّوْجُ: اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا فِي الْعِدَّةِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: اجْتَمَعَ إِسْلَامُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ أَصْلِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الدَّعْوَى إِذَا تَعَارَضَتْ، وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ أَحَدِهِمَا غُلِّبَ دَعْوَى مَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ كالمتداعيين داراً وهي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ مُسَاعِدًا لصاحب اليد منهما غلبت دعواه كذلك هاهنا تساوي دعواهما، والظاهر مساعد للزوجة منهما، ولأن اجتماع إسلامها حَتَّى لَا يَسْبِقَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ بِحَرْفٍ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ وَاخْتِلَافَهُمَا فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ الْأَغْلَبُ فَوَجَبَ أَنَّ يُغَلَّبَ فِيهِ قَوْلُ مَنْ سَاعَدَهُ هَذَا الظَّاهِرُ وَهِيَ الزَّوْجَةُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عُدُولًا عَنِ الْأَصْلِ بِظَاهِرٍ هُوَ أَخَصُّ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَنَازُعِهِمَا فِي الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ ظَاهِرٌ يُعْدَلُ بِهِ عَنِ الْأَصْلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَسْلَمْتُ أَيُّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنِنَا، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ أَسْلَمْتِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ، وَنَصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ على إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ هَذَا: إِحْدَاهُمَا: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَا رَجْعَةَ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْتِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ إِسْلَامِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا فَجَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَجَعَلَ فِي إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: أَنْ نَقَلُوا جَوَابَهُ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ، وَجَوَابَهُ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ، وَخَرَّجُوا الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ القول قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ وَالرِّدَّةِ، وَلَعَلَّ هذه طَرِيقَةُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ، وَأَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الذي يحصل فِيهِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَتْ فَأَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ تَقَدُّمَ رَجْعَتِهِ وَإِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ إِذَا بَدَأَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ راجع وَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالرَّجْعَةِ، لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: بَلْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتَّفَقَا عَلَى صِدْقِهِ فِي زَمَانِ مَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي رَمَضَانَ، وَأَسْلَمْتَ أَنْتَ أَوْ رَاجَعْتَ فِي شَوَّالٍ، فَقَالَ: بَلْ أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَعْبَانَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَاخْتِلَافِهِمَا فِي رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: لَعَمْرِي إِنَّنِي أَسْلَمْتُ وَرَاجَعْتُ فِي شَوَّالٍ لَكِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى زَمَانِ إِسْلَامِهِ وَرَجْعَتِهِ فِي زَمَانِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لها احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي نُصْرَةِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ اخْتِيَارِهِ وَجْهٌ وَإِنْ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ تَوَجَّهَ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِنَّ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُنَّ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا فِي أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَإِنَّ الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مُتَقَابِلَةٌ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا مَعَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الظَّاهِرِ دُونَ الْأَصْلِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ أَسْلَمْنَا مَعًا فَنَحْنُ على النكاح، وقال الزوج: بَلْ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ بِلَا يَمِينٍ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْفُرْقَةِ وَإِقْرَارُهُ بِهَا يَلْزَمُهُ وَلَوْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ، لأنه الأصل ثبوته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 فَصْلٌ وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ فِي عِدَّتِهَا، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ اجْتِمَاعِ الْإِسْلَامَيْنِ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِالرِّدَّةِ من أحكام المسلمين فيكون نِكَاحُ الشِّرْكِ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا بِإِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ وَيَسْتَأْنِفُ حُكْمَ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ، فإن عاد منها إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الرِّدَّةِ زَمَانُ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّتِهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ الْمُشْرِكُ وَأَسْلَمَ بَعْدَهُ خَمْسٌ، وَقَدِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَحَدًا، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ - وَاللَّهُ أعلم -. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ امرأةٌ نَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ بمتعةٍ أَوْ عَلَى خيارٍ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْكِحْهَا عَلَى الْأَبَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَكَحَ فِي الشِّرْكِ نِكَاحَ مُتْعَةٍ، وَهُوَ أن يقول: أمتعيني نفسك سَنَةً، فَهُوَ نِكَاحٌ إِلَى سَنَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِهِمَا، لِأَنَّهُمَا إِنْ أَسْلَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا نِكَاحَ، وَإِنْ أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَمْ يَعْتَقِدَا تَأْبِيدَهُ وَالنِّكَاحُ مَا تَأَبَّدَ. وَأَمَّا إِذَا نَكَحَهَا بِخِيَارٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ مُؤَبَّدًا فَالنِّكَاحُ إِذَا أَسْلَمَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْتَقِدَا لُزُومَهُ وَالنِّكَاحُ مَا لَزِمَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الخيار مؤقتاً فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْلِمَا وَمُدَّةُ بالخيار بَاقِيَةٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا انْقَضَى مُدَّةَ خِيَارِهِ صَارَ معتقد اللُّزُومِ، وَأَمَّا إِنْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا بَاقِيَةً فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ وَقْتَ إِسْلَامِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَصَارَتْ مُسْلِمَةً مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَإِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدِ اسْتَهْلَكَتْهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي الشِّرْكِ فَسَقَطَ حُكْمُهَا، وَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً لَمْ تَسْتَهْلِكْ مَا بَقِيَ مِنْهَا فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا إِذَا قَهَرَ الْمُشْرِكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُشْرِكَةً عَلَى نَفْسِهَا فَزَنَى بِهَا ثُمَّ أسْلَمَا فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْقَهْرَ عَلَى النَّفْسِ نِكَاحٌ مُسْتَدَامٌ صَارَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ مَنَاكِحِهِمُ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي دِينِهِمْ نكاحاً فلا نكاح بينهما إذا أسلما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 باب الخلاف في إمساك الأواخر قال الشافعي رحمه الله: " واحتججت على من يبطل الْأَوَاخِرَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ الدَّيْلَمِيِّ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى " وَبِمَا قَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وتخييره غيلان فلو كان الأواخر حراماً ما خيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقلت له أحسن حالةٍ أن يعقدوه بشهادة أهل الأوثان قلت ويروى أنهم كانوا ينكحون في العدة وبغير شهودٍ قال أجل قلت وهذا كله فاسدٌ في الإسلام قال أجل قلت فلما لم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن العقد كان عفواً لفوته كما حكم الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ بعفو الربا إذا فات بقبضه ورد ما بقي لأن الإسلام أدركه كما رد ما جاوز أربعاً لأن الإسلام أدركهن معه والعقد كلها لو ابتدأت في الإسلام فاسدةً فكيف نظرت إلى فسادها مرةً ولم تنظر أخرى فرجع بعض أصحابهم وقال محمد بن الحسن: ما علمت أحداً احتج بأحسن مما احتججت به ولقد خالفت أصحابي فيه منذ زمانٍ وما ينبغي أن يدخل على حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - القياس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْسَاكِ الأوائل والأواخر بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أبو حنيفة مِنْ إِمْسَاكِ الْأَوَائِلِ دُونَ الْأَوَاخِرِ احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى، فَحَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَتَهُ لمحمد بن الحسن عَلَى ذَلِكَ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِ صَاحِبَيْهِ أبي حنيفة، وأبي يوسف، وَاحْتِجَاجُهُ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ - وبالله التوفيق -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 باب ارتداد أحد الزوجين أو هما ومن شركٍ إلى شركٍ من كتاب جامع الخطبة ومن كتاب المرتد ومن كتاب ما يحرم الجمع بينه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا ارْتَدَّا أَوْ أَحَدُهُمَا مُنِعَا الْوَطْءَ فَإِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسَلَامِهِمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَإِنِ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أن يرتد أحد الزوجين المسلمين. والثانية: أن يرتدا معاً. فإذا ارتدا أَحَدُهُمَا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكَوْنَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لِأَنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدخول أيتها كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا نِكَاحَ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ نَظَرَ فِي الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هِيَ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا لِأَنَّ الْفَسْخَ مَنْ قِبَلِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون رِدَّةُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا قبل انقضائهما كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ بَطَلَ النِّكَاحُ. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ وَقْفٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي الْحَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ يَسْتَوِي فيه ما قبل الدخول وبعده كالرضاع، واستبراء الزَّوْجَةِ، وَوَطْءِ أُمِّهَا بِشُبْهَةٍ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَلِأَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحِ مَدْخُولٍ بِهَا فوجب أن لا تبيين قِيَاسًا عَلَى ارْتِدَادِهِمَا مَعًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ تَعَجَّلَ فِرَاقُهَا وَالْمَدْخُولُ بِهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِانْقِضَائِهَا وُقُوعُ فِرَاقِهَا كالطلاق الرجعي يتعجل به في غير المدخول بها ويتأجل بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ فَسَادِهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ فَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ والمصاهرة يتأبد، وتحريم الردة قد يرتفع فلذلك ما افترقا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا فَهُوَ كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ قبل الدخول بطل، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وقال أبو حنيفة: إذا ارتدا معاً كان عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ حِينَ أَسْلَمُوا أَقَرَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - على مناكحهم، ولم يَعْتَبِرْ فِيهِمُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَلَا حَالَ الدُّخُولِ لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُوقِعَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ارْتِدَادِهِمَا أن لا يقرأ على دينها وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا كَالْوَثَنِيَّيْنِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا رِدَّةٌ طَارِئَةٌ عَلَى نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ قِيَاسًا عَلَى رِدَّةِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بردة أحدهما لم يزل بردتها قِيَاسًا عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْمَالِ وَالدَّمِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ، ولأن كُلَّ مَعْنَى وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وُجِدَ مِنْهُمَا كَالْمَوْتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقْرَارِ أَبِي بكر - رضي الله تعالى عَنْهُ - لِأَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ فَلِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قبل انقضاء العدة. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وغير الْمَدْخُولِ بِهَا. قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْنَ فَأَجْرَى عَلَيْهِنَّ حُكْمَ الْأَغْلَبِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنِ اجْتَمَعَا فِي الرِّدَّةِ أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا وَإِنْ كَانَ أبو حنيفة يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا بِعِلَّةِ انْتِقَالِهِمَا إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِالْمُسْلِمِ إِذَا تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً ثُمَّ تنصر قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ أبا حنيفة قَدْ وَافَقَنَا أنه إذا اجتمعا على الردة مِنَ الْإِصَابَةِ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاجْتِمَاعِ الْوَثَنِيَّيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَثَنِيَّيْنِ لَا يمنعان من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 الإصابة فجاز إقرارهما على النكاح، والمرتدتان يمنعان من الإصابة فلم يجز إِقْرَارُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الرِّدَّةِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا كَارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا إِذَا ارْتَدَّا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ، وَفِي الْمَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى الْمُتَنَاكِحَيْنِ حَالًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ كما لو تفرد بِالرِّدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُغَلَّبُ فِيهِ رِدَّةُ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقٌّ لَهَا فَكَانَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ رَدَّتُهَا، فَعَلَى هَذَا لا مهر لها كما لو تفردت بِالرِّدَّةِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا: إِنَّ لَهَا رُبُعَ الْمَهْرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفَسْخِ فَسَقَطَ مِنَ النِّصْفِ نِصْفُهُ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ رِدَّةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ ارْتِدَادُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فالمهر قد استقر بالإصابة ولها أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعُودَا جَمِيعًا إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونَا عَلَى النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَعُودَا مَعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعُودَ الزَّوْجُ إِلَى الْإِسْلَامِ دُونَهَا فَلَا نِكَاحَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ تَعُودَ الزَّوْجَةُ دُونَهُ فَلَا نِكَاحَ. فَصْلٌ وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الْإِصَابَةُ فِي الرِّدَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ الْمُرْتَدَّ أَوِ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَقَاءَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ، وَعَلَيْهِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ حتى انقضت عدتها فاستقر المهر عليها أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَتِهِ لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ مَحْسُوبًا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ قُرْءٍ مِنْ رِدَّتِهَا، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَنْ وَقْتِ الْإِصَابَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءَانِ مِنْ عِدَّتِيِ الرِّدَّةِ والإصابة، وقرء مختص بعد الْإِصَابَةِ وَإِسْلَامُهَا الَّذِي يَجْتَمِعَانِ بِهِ عَلَى النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةِ الرِّدَّةِ دُونَ عِدَّةِ الْإِصَابَةِ، فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الرِّدَّةِ كَانَا عَلَى النكاح، فأما المهر فالذي وجب بالإصابة فقد قال الشافعي ما يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إِذَا أَصَابَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ثُمَّ رَاجَعَهَا بَعْدَ الإصابة. أن المهر لا يسقط بالرجعة وَرَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ كَإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ جوابه على طريقين: أحدهما: نقل جواب كل واحد مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: سقوط مهرها بعود الْمُرْتَدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُرْتَدَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ مهرها ثَابِتٌ لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ وَلَا بِرَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيَسْقُطُ مَهْرُ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَلْمَ الرِّدَّةِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ للردة تأثير بعودها إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحٍ، وَإِبَاحَةٍ وثلم المطلقة لم يرتفع جميعه بِالرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ دُونَ الطَّلَاقِ فَكَانَ تَأْثِيرُهُ بَاقِيًا فَبَقِيَ مَا وَجَبَ فِيهِ من المهر - والله أعلم -. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ هَرَبَ مُرْتَدًّا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ العدة مسلماً وادعى أنه اسلم قبلها فأنكرت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهِا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِي الِانْفِصَالِ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ فِي إِسْلَامِهِمَا، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ وقالت: بعدها وفي الرجعة إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ وقالت: بعدها على ثلاث طرق: أحدها: أنهما على قولين. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ قوله فيما نقله من إسلام ورجعة مقبول. والطريقة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ اتُّفِقَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي بيناه. والطريقة الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا بالدعوى. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَارْتَدَّتْ فَلَا مَهْرَ لها لأن الفسخ من قبلها وإن ارتد فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مُوجِبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ، وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ لها نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا فَرْقًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا، وَإِنَّهُمَا إِنِ ارْتَدَّا مَعًا كَانَ فِي الْمَهْرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَهَا نَصِفُهُ تَغْلِيبًا لِرِدَّةِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ لَهَا تَغْلِيبًا لِرِدَّتِهَا. وَالثَّالِثُ: لَهَا رُبُعُهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فيها. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ نصرانية فتمجست أو تزندقت فكالمسلمة تريد (وقال) في كتاب المرتد حتى ترجع إلى الذي حلت به من يهودية أو نصرانية " ز قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِنَّ الزَّوْجَةَ النَّصْرَانِيَّةَ إِذَا تَزَنْدَقَتْ لَمْ تُقَرَّ وَفِيمَا تُؤْخَذُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 أَحَدُهَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَتْ فَدِينٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَتْ نصرانية فتهودت كان على قولين: أحدهما: تقر. والثاني: لا تقر. وفيما تؤخذ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ. فَإِنْ أَبَتْ فَدِينُهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا مَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النكاح قبل الدخول وبعده. مسألة قال الشافعي: " ومن دان دين اليهود والنصارى مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُ أَوْ يحل كأهل الأوثان (وقال) في كتاب ما يحرم الجمع بينه من ارتد من يهودية إلى نصرانية أو نصرانية إلى يهودية حل نكاحها لأنها لو كانت من أهل الدين الذي خرجت إليه حل نكاحها (وقال) في كتاب الجزية لا ينكح من ارتد عن أصل دين آبائه لأنهم بدلوا بغيره الإسلام فخالفوا حالهم عما أذن بأخذ الجزية منهم عليه وأبيح من طعامهم ونسائهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ، وَيَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ على ضربين: قبل التبديل، وبعده ممن دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَالرُّومِ كَانَ على حكمين فِيهِ، تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَتُؤَكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ تَبْدِيلِ أَهْلِهِ كَانَ فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ فَإِنْ بَدَّلَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي دين من بدل لم تقر، وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ أُقِرَّ، وَحَلَّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَإِنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَوْمٌ أَشْكَلَتْ عَلَيْنَا أَحْوَالُهُمْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ هَلْ دَخَلُوا فِيهِ مَعَ مَنْ بَدَّلَ أَوْ مَعَ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْمَجُوسِ يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُؤَكِّلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. فَصْلٌ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَقْدَ نِكَاحٍ فِي الرِّدَّةِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلَا مُرْتَدَّةٍ، فَإِنْ عَقَدَ فِيهِ نِكَاحًا كَانَ فَاسِدًا سَوَاءً تَعَجَّلَ إِسْلَامَهُ فِيهِ أَوْ تأخرن لِأَنَّ رِدَّتَهُ تُبْطِلُ نِكَاحًا ثَابِتًا فَلَمْ يَجُزْ أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 يثبت نكاحاً مستأنفاً إلا أن الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ تُطَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيهِ وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ يَعْنِي واجباً، وقوله تطلق اسْتِحْبَابًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُطَلَّقُ إِنْ أنكح مُسْلِمَةً، وَتُطَلَّقُ إِذَا نَكَحَ مُرْتَدَّةً - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 باب طلاق الشرك قال الشافعي رحمه الله: " وإذ أَثْبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ الشِّرْكِ وَأَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ طَلَاقُ الشِّرْكِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ فَإِنْ أَسْلَمَا وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي الشرك ثلاثاً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ولو تزوجها غيره في الشرك حلت له ولمسلمٍ لو طلقها ثلاثاً ". قال الماورد: وَهَذَا كَمَا قَالَ: نِكَاحُ الشِّرْكِ صَحِيحٌ، وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ جَائِزٌ، وَطَلَاقُ الشِّرْكِ وَاقِعٌ، وَحُكْمُ الْفُرْقَةِ ثَابِتٌ. وَقَالَ مَالِكٌ، مَنَاكِحُهُمْ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَطَلَاقُهُمْ غَيْرُ وَاقِعٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَنَاكِحِهِمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقَوْا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّمَا مَلَكْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله تعالى يَعْنِي بِكِتَابِ اللَّهِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَجُزْ أن يملكها بغير ذلك، ولأنهم قد كَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِلْقَاءَ الثَّوْبِ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا وَقَهْرَهَا عَلَى نَفْسِهَا نِكَاحًا، وَالْمُبَادَلَةَ بِالنِّسَاءِ نِكَاحًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالشَّرْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِحَّ فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَاقَهُمْ لا يقع ولا يلزم يقول اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . فَاقْتَضَى أن يكون الطلاق مغفوراً، قَالَ: وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا مُؤَبَّدًا، وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيَّرَ حُكْمَهُ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنَاكِحَ نِسَائِهِمْ فَقَالَ فِي امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ) {المسد: 4) . وفي امرأة فرعون: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعُوْنَ قُرَّةَ عِيْنٍ لِي وَلَكَ) {القصص: 9) . وَالْإِضَافَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّمْلِيكِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ " وَكَانَتْ مناكح آبائه في الشرك تدل على صحتها، ووقوع الفرق بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّفَّاحِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا بِنِكَاحٍ، وَلِأَنَّهَا مَنَاكِحُ يُقَرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى مَنَاكِحِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ " أَيْ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَاكِحَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنَ الْمَنَاكِحِ بَيْنَهُمْ مَا لَا نَرَاهُ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَعْرِفُ اخْتِلَافَ آبَائِهِمْ فِيهِ فَلَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . فَيَعْنِي مِنَ الْآثَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا الظِّهَارُ فَبِالْفَسْخِ أَبْطَلَ حُكْمَهُ، وَحُكْمُهُ بِالطَّلَاقِ مُقَرٌّ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ عُقُودِهِمْ، وَمَنَاكِحِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَمَّا اخْتَلَّ من شروطها، وأنهم مأخوذون بِمَا أَوْقَعُوهُ فِيهَا مِنْ طَلَاقٍ، وَظِهَارٍ، وَإِيلَاءٍ اعْتُبِرَ حَالُ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ صَرِيحًا عِنْدَهُمْ أَجْرَيْتُ عَلَيْهِ حُكْمَ الصَّرِيحِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَنَا صريحاً، أو كناية لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ عُقُودَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ بِمُعْتَقَدِهِمْ كَذَلِكَ حُكْمُ طَلَاقِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَرَاجِعٌ فِي الْعِدَّةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ كَمَا صَحَّ نِكَاحُهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى أَسْلَمَا، فَإِنْ كَانَتْ عدة الطلاق قد انعقدت فِي الشِّرْكِ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ بانت منه، وجاز أن يستأنف العقد عليها فَيَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ لَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَكَحَتْ فِي الشِّرْكِ زَوْجًا غَيْرَهُ حَلَّتْ لَهُ إِذَا أَسْلَمَ، فَلَوْ عَادَ فَنَكَحَهَا فِي الشِّرْكِ قَبْلَ زَوْجٍ وَقَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، كَانَ نِكَاحُهَا إِذَا أَسْلَمَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَا بعدها أقر؟ فَهَلَّا إِذَا نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ أقر؟ قِيلَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُعْتَدَّةِ قَدْ زَالَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَجَازَ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمْ يَزُلْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَتَحْرِيمِ المطلقة ثلاثاً، وكذلك الكلام فيما يؤخذ بِهِ مِنْ حُكْمِ ظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 باب عقد نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورِهِمْ مِنَ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ قال الشافعي رحمه الله: " وعقدة نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورُهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي دار الإسلام وهي عقود إِذَا أَسْلَمُوا لِمَا فِي تَتَبُّعِ مَنَاكِحِهِمْ بَعْدَ الإسلام من التنفير عنه، فلو نكح أحدهم فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَمْسًا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أختين، أو نكح مجوسي أمه وبنته ولم يُعَارَضُوا وَهُمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا فَمَا جاز إن لم يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أُقِرُّوا عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وإن كانوا لهم ذمة وأحكامنا عَلَيْهِ جَارِيَةٌ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا قَهَرَ حَرْبِيَّةً عَلَى نفسها ورآه نكاحاً أقر عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمَا، وَلَا يُقَرُّ ذِمِّيٌّ عَلَى قهر ذمية إذا أسلما، لأن دار الإسلام تمنع مِنَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَدَارَ الْحَرْبِ تُبِيحُهُ فَافْتَرَقَا لِافْتِرَاقِ حُكْمِ الدَّارَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَا نِكَاحًا لَا يَجُوزُ فِي دِينِهِمْ كَيَهُودِيٍّ نَكَحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ، فَلَا يُقَرُّوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِهِمْ وَلَوْ فَعَلَهُ الْمَجُوسِيُّ أُقِرَّ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَمْنُوعِينَ مِنْهُ فِي دينهم، فأما مهورهم فلا اعتراض عليهم فِيهَا حَلَالًا كَانَتْ أَمْ حَرَامًا فَإِنْ تَقَابَضُوهَا وَهِيَ حَرَامٌ بَرِئَ مِنْهَا الْأَزْوَاجُ، وَإِنْ بَقِيَتْ في ذمتهم حتى أسلموا ألزمهم بدلاً منها مهر المثل، وإن تقابضوا بعضها قبل الإسلام وبقي بعضها بعده لزم من مَهْرُ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْهَا. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فَإِنْ نَكَحَ نَصْرَانِيٌّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ نكح وثني نصرانية أو مجوسية لم أفسح مِنْهُ شَيْئًا إِذَا أَسْلَمُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَكَحَ كِتَابِيٌّ كِتَابِيَّةً وَتَحَاكَمَا إِلَيْنَا أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، لَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ فَجَازَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ دُونَهُ لَمْ يُقَرَّ عَلَى نِكَاحِهَا، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى تقضي الْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْوَثَنِيُّ إِذَا نَكَحَ وَثَنِيَّةً فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ لَمْ يُقَرَّ عَلَى النِّكَاحِ، وَكَانَ مَوْقُوفًا على تقضي الْعِدَّةُ. وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي الْأَحْكَامِ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا نَكَحَ وَثَنِيٌّ كِتَابِيَّةً فَإِنْ أسلما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 أقر عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا على انقضاء العدة. ولو نَكَحَ كِتَابِيٌّ وَثَنِيَّةً فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّنَا نُمْضِي نِكَاحَهُمَا وَلَا يُفْسَخُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَنْ يُحْكَمَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) . وَالْوَثَنِيَّةُ لَا تَحِلُّ لِمُسْلِمٍ فَكَذَلِكَ لَا تَحِلُّ لِكِتَابِيٍّ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَ وَاخْتَلَفَ، أَلَّا ترى أننا نحكم بالتوارث بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَى هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَأَوْلَى أَنْ يُقَرَّا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ. مسألة قال الشافعي: " ولا تَحِلُّ ذبيحةٌ مَنْ وُلِدَ مِنْ وَثَنِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ ولا من نصراني ووثنيةٍ ولا يحل نكاح ابنتهما لأنها ليست كتابيةً خَالِصَةٍ (وَقَالَ) فِي كتابٍ آخَرَ إِنْ كَانَ أَبُوهَا نَصْرَانِيًا حَلَّتْ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا لَمْ تَحِلَّ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى النَّسَبِ وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِمُ أَحَدُ أَبَوَيْهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَأَمَّا الْمَوْلُودُ مِنْ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَثَنِيًّا، وَالْأُمُّ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبِيحَةِ هَذَا الْوَلَدِ وَلَا يُنْكَحُ إِنْ كَانَ امْرَأَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ أَبِيهِ. وَقَالَ أبو حنيفة: يحل نكاحه، وأكل ذبيحته تغليباً لحق أَبَوَيْهِ حُكْمًا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تجس فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ " فَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنِ الْفِطْرَةِ وَتَخْفِيفِ الْحُكْمِ إِلَى أَغْلَظِهِمَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ أَبَوَيْهِ عَلَى تَغْلِيظِ الْحُكْمِ وَلِأَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مُسْتَبَاحُ الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ. وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) {البقرة: 221) . وَهَذَا الْوَلَدُ يَنْطِلَقُ عَلَيْهِ اسم المشرك، ولأنها كافرة فتنسب إلى كافرة لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَلَا نِكَاحُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحِلَّ ذَبِيحَتُهَا وَلَا نِكَاحُهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 أَصْلُهَا: إِذَا كَانَ أَبَوَاهَا وَثَنِيَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْوَلَدِ مُوجِبُ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْوَلَدِ حُكْمُ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ". فَثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَسَقَطَ حُكْمُ الشِّرْكِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكَ يَشْرِكُهُ الشِّرْكُ " يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ شِرْكَانِ، وَلَا يَجْتَمِعُ شِرْكٌ وَإِسْلَامٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ، هَلْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أبا حنيفة من هذه ال مسألة ، وأراد بِهِ مَالِكًا فِي أَنَّ إِسْلَامَ الْأُمِّ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا لِلْوَلَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِمَاعُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الْوَلَدِ، وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِيهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي هَذَا الْوَضْعِ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى الْكُفْرِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ اجتماع الشرك والإسلام يوجب فيه حكم تغليب الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَقْوَاهُمَا، وَالشِّرْكَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ فَغُلِّبَ أَغْلَظُهُمَا. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَبُ هَذَا الْوَلَدِ كِتَابِيًّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً فَفِي إِبَاحَةِ نِكَاحِهِ، وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَصَحُّ. أَنَّهُ يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَذَبِيحَتُهُ لِاجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِ، لِأَنَّ الدِّينَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا جَازَ اجْتِمَاعُهُمَا فَأَغْلَبُهُمَا مَا كَانَ تَابِعًا لِلنَّسَبِ الْمُضَافَ إِلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ كَالْحُرِّيَّةِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَحُكْمُ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: النَّسَبُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ. وَالثَّانِي: فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْحُرِّ مَنْ أمه كَأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ. وَالثَّالِثُ: فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَلَاءٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، كَانَ الْوَلَدُ دَاخِلًا فِي وَلَاءِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ. وَالرَّابِعُ: فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ مَنْ قَوْمٍ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ وَالْأُمُّ مِنْ آخَرِينَ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ أُخْرَى فَإِنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ حُرِّيَّةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِحُكْمِ أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَذَلِكَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَدُ الْمَنْكُوحَةِ تَابِعٌ لِأُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَمْلُوكَةً كَانَ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ حُرًّا. وَالثَّانِي: فِي الْمِلْكِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَمْلُوكَيْنِ تَبَعٌ لأمه ومملوك لسيدهما. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِأَفْضَلِ أَبَوَيْهِ حَالًا وَأَغْلَظِهِمَا حُكْمًا، وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فِي الْإِسْلَامِ يَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ قوله فيه، وهو في إباحته الذَّبِيحَةِ وَالنِّكَاحِ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْأَبِ. والثاني: ملحق بأغلظهما حكماً. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ كَانَ الزَّوْجُ الْجَائِي أَوِ الزَّوْجَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ فضربان: أهل الذمة وَأَهْلُ عَهْدٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ: فَهُمْ بَاذِلُو الحرية لهم ذِمَّةٌ مُؤَبَّدَةٌ يَلْزَمُنَا فِي حَقِّ الذِّمَّةِ أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ: فَهُمُ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ يلزمنا أن نمنع مَنْ أَرَادَهُمْ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنَ المسلمين، فلا يلزمنا أن نمنع من أرادهم من لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُعَاهَدِينَ، لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ عَهْدٌ، وَإِنْ كَانُوا باسم الذمة أخص، فأما إذا لم يترافع الفريقان في أحكامهم إلينا لم ندعهم إلينا، وَلَمْ نَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَإِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا نُظِرَ فِيهِمْ فَإِنْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَهُمْ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمُ الْتِزَامُ حُكْمِنَا، وَكَانَ حَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحْكُمَ، وَهُمْ إِذَا حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْتَزِمُوهُ، وإن جاء أحدهم مستعدياً لم يلزم المتعدي عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَإنْ جَاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطًِ) {المائدة: 42) . الْآيَةَ فَخَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ أَنْفُسَنَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا، سَوَاءٌ كَانَ التَّحَاكُمُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ حَقَّ الله تعالى في شركهم أعظم، وقد أقروا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ. فَصْلٌ وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَلَيْسَتِ الذِّمَّةُ الْمُؤَبَّدَةُ إِلَّا لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِي أَحْكَامِهِمْ تُرِكُوا وَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهَا إِلَيْنَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - إنَّهُ لَا يَجِبُ وَالْحَاكِمُ مخير في الحكم بينهم، وهو إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِ الْعَهْدِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإنْ جَاؤًكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَاجِبٌ فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ إذا حكم أن يلتزموا حكمه وَإِذَا اسْتَعْدَى أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يعديه الحاكم، وأن يخص الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ أَجْبَرَهُ وعزره، وإنما كان كذلك بقول اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} (المائدة: 49) . وَهَذَا أَمْرٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يْدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) {التوبة: 29) . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالصَّغَارُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رحم يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ لَامْتَنَعُوا من إقامة الحد عليهم، ولأننا نجريهم بالدفع عَنْهُمْ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين، وبهذا تفرق بينهم وبين المعادين، لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَدْفَعَ عَنْهُمْ غَيْرَنَا فَلَمْ يَلْزَمْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَلَا أَنْ نَدْفَعَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَأَمَّا أبو حنيفة فَلَمْ يَعْمَلْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَقَالَ: لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الرضى بِحُكْمِ الْإِمَامِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْمُتَرَافِعِينَ إِلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا فَقَدِ اختلف أصحابنا فيهم، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، لَأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وقال غيره من أصحابنا: أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أن يكون مِنْ دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ دِينَيْنِ أَنَّهُمَا إِذَا كانا من دين واحد فلم يحكم كَانَ لَهُمْ حَاكِمٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَأَمْكَنَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَا عَلَى دِينَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْحَكَمِ إِنْ لَمْ يحكم بينهما حاكمنا فدعى النصراني على حاكم النصارى، ودعى الْيَهُودِيُّ إِلَى حَاكِمِ الْيَهُودِ فَتَعَذَّرَ وُصُولُ الْحَقِّ إِلَّا بِحَاكِمِنَا فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فقد اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة مذاهب. أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لا مطالب بها غَيْرُ الْحَاكِمِ، وَلَيْسَتْ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَهَا خصم يطلب. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا لَا تَجُبْ قَوْلًا وَاحِدًا، لأن حق الله تعالى في شركهم أعظم، وَقَدْ أَقَرُّوا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنْ حُقُوقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ فِيهَا متشاجرون متظالمون ودار الإسلام تمنع مِنَ التَّظَالُمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا، لِأَنَّهُمَا يَتَجَاذَبَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَغَلَبَ لِرِوَايَةِ عَائِذِ بْنِ عُمَرَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ تَغْلِيبًا لِأَوْكَدِهِمَا حُرْمَةً كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ حَكَمَ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ. فَصْلٌ ثُمَّ إِذَا حَكَمَ حَاكِمُنَا بَيْنَ ذِمِّيَيْنِ أَوْ مُعَاهَدَيْنِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ وَلَا بِالْإِنْجِيلِ إِنْ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَلَمْ يَحْكُمْ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهَ وَلاَ تَتَبِعْ أهْوَائهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنِ بَعْضِ مَا أنْزَلَ اللهَ إِلَيْكَ) {المائدة: 49) . أي يفتنونك بتوارتهم وَإِنْجِيلِهِمْ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) . فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاَة فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) {المائدة: 44) . وَقَدْ أَحْضَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التوراة حين رجم اليهوديين حتى رجمهما لما فِيهَا مِنَ الرَّجْمِ. قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ فَتَضَمَّنَتْ صِفَةَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، وَإِنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ وَكَذَا كان حالها ثم غيرت حِينَ بَدَّلَ أَهْلُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً) {الأنعام: 91) . ومع تغيرهم لَهَا وَتَبْدِيلِهِمْ فِيهَا لَا يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَأَمَّا إِحْضَارُهُ التَّوْرَاةَ عند رجم اليهوديين، فلأنه حين حكم عليها بالرجم أخبر اليهود أن في التوراة فَأَنْكَرُوهُ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا لِتَكْذِيبِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ تَرَكَ ابْنُ صُورِيَا وَهُوَ أَحَدُ أَحْبَارِهِمْ يَدَهُ عَلَى ذكر الرجم، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَفْعِ يَدِهِ فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ فَكَانَ إِحْضَارُهَا رَدًّا لِإِنْكَارِهِمْ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ، لَا لِأَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ قبل حضورها - والله أعلم -. مسألة قال الشافعي: " فإن لم يكن حكمٌ مضى لم يزوجهم إلا بولي وشهودٍ مسلمين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 فلو لَمْ يَكُنْ لَهَا قريبٌ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِأَنَّ تزويجه حكمٌ عليها فإذا تحاكموا إلينا بعد النكاح فإن كان مما يجوز ابتداؤه في الإسلام أجزناه لأن عقده قد مضى في الشرك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ جَوَازِهِ، فَإِذَا تَرَافَعَ زَوْجَانِ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ كَتَرَافُعِهِمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ تَرَافُعَهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ فُرُوعَهُ أَكْثَرُ فَإِذَا تَرَافَعَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَرَافَعَا فِي اسْتِدَامَةِ عَقْدٍ قَدْ مَضَى فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ الْعَقْدِ وَلَا يَعْتَبِرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِسْلَامِ، وَيَنْظُرَ فَإِنْ كَانَتِ الزوجة ممن تجوز لَهُ عِنْدَ التَّحَاكُمِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بَوْلِيٍّ، أَوْ شُهُودٍ أَمْ لَا، إِذَا رَأَوْا مَا عَقَدُوهُ نِكَاحًا فِي دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تستأنف العقد عليها عند الترافع إلينا لكونها في ذوات المحارم والمحرمات أو بَقِيَّةِ عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ حُكِمَ بِإِبْطَالِ النكاح، ويكون حالها عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ كَحَالِهِمَا لَوْ أَسْلَمَا فَمَا جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ إسلامها جَازَ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ عِنْدَ تَرَافُعِهِمَا إِلَى حَاكِمِنَا، وَمَا لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَى حَاكِمِنَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدٍ يَسْتَأْنِفُهُ بَيْنَهُمَا، فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْقِدَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ بَوْلِيٍّ وَشُهُودٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) {المائدة: 49) . وإنما جاز أن يمضي في مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ لَمْ تُكْنَ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِين كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) . وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ مَنَاكِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ عَلَى شُرُوطِ الْإِسْلَامِ وَرَدِّهَا إِذَا خَالَفَتْهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وليس فيما استأنفوه لرضاهم به تنفيراً لهم منه. فإذا تقرر ما وصفناه فَوَلِيُّهَا فِي النِّكَاحِ أَقْرَبُ عَصَبَتِهَا مِنَ الْكُفَّارِ، ولأن وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ، وَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِيهِ كَانَ كفسق الولي المسلم بعدل إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعُدُولِ، فَإِنْ عُدِمَ أوليائها من العصبة والمعتقين زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَلَا يَمْنَعُهُ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وإن منع منها إِسْلَامُ عَصَبَتِهَا، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا حُكْمٌ فِيهِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا الشُّهُودُ فِي نِكَاحِهَا فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ؛ وَجَوَّزَ أبو حنيفة عَقْدَ نِكَاحِهَا بِشُهُودٍ كُفَّارٍ كَمَا جَازَ بِوَلِيٍّ كَافِرٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ". وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ أَنَّ الْوَلِيَّ يُرَادُ لِطَلَبِ الحظ لها للموالاة التي بينها، وَالْكَافِرُ الْمُشَارِكُ لَهَا فِي الْكُفْرِ أَقْوَى مُوَالَاةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْكَافِرُ أَحَقَّ بِوِلَايَةِ نِكَاحِهَا من المسلم، وليس كذلك الشهود، لأنهم يُرَادُونَ لِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ، وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ وَلَا يَثْبُتُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا أَخَصَّ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ من غيرهم، وهذا حكم إذنها إذا كَانَتْ ثَيِّبًا بِالنُّطْقِ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بِالصَّمْتِ، ولا يعقده إِلَّا بِصَدَاقٍ حَلَالٍ، وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي دِينِهِمْ عَقْدَهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْخُمُورِ، وَالْخَنَازِيرِ، وَهَلْ يجوز أن يعقده كِتَابِيٌّ عَلَى وَثَنِيَّةٍ، أَوْ وَثَنِيٌّ عَلَى كِتَابِيَّةٍ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سعيد الإصطخري - لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ وَلَا لِوَثَنِيٍّ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مُسْلِمَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كله ملة واحدة. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك ما قبضت مِنْ مهرٍ حرامٌ وَلَوْ قَبَضَتْ نِصْفَهُ فِي الشِّرْكِ حَرَامًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِي صَدَاقِ نِكَاحٍ عُقِدَ لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون حلالاً معلوماً فيحكم على الزوج له، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا عَلَيْهِ وَلَا يُلْزَمُ الزَّوْجُ غَيْرَهُ فَإِنْ أَقْبَضَهَا فِي الشِّرْكِ بَرِئَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا أَخَذَتْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ عند الترافع إلى الحاكم بعد بقائها عَلَى الشِّرْكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي الْإِسْلَامِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَاضَاهُ فِي الشِّرْكِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ فَقَدْ بَرِئَ الزَّوْجُ مِنْهُ، لِأَنَّ مَا فَعَلَاهُ فِي الشِّرْكِ عَفْوٌ لَا يَتَعَقَّبُ بِنَقْضٍ كَمَا قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بِقِيَ مِنَ الرِّبَا) {البقرة: 278) . فَجَعَلَ مَا مَضَى عَفْوًا وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ". وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ بَاقِيًا لَمْ يَتَقَابَضَاهُ، فَلَا يجوز أن يحكم بإقباضه سواء ترفعا وَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ أَوْ قَدْ أَسْلَمَا، وَيَحْكُمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. وقال أبو حنيفة: كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا حُكِمَ لَهَا بِهِ سَوَاءٌ أَسْلَمَا، أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَا عَلَى الشِّرْكِ حُكِمَ لَهَا بِمِثْلِ الخمر وإن كان قد أسلما حكم لها بقيمة الخمر بناء على أصله في غاصب الدار وفيها خمر إذا استهلكها وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَابَضَا بَعْضَهُ فِي الشِّرْكِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْحَاكِمِ فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ قَدْرِ مَا أَقْبَضَ فِي الشِّرْكِ وَيَحْكُمُ لَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقِسْطِ مَا بقي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 مِنْهُ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَحْكُمُ لَهَا بِقِيمَةِ ما بقي منه بناء عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ الْحَرَامِ الْمَقْبُوضِ بَعْضُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا، أَوْ أجناساً فإن كان جنساً واحداً كأنه أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ أَزْقَاقٍ مِنْ خَمْرٍ ثُمَّ تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا، وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ وَبَقِيَتْ خمسة ففيها وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنه يُرَاعَى عَدَدُ الْأَزْقَاقِ دُونَ كَيْلِهَا فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ نِصْفَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَيْلُهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَهْرِ نِصْفُهُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهُ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَاعَى كَيْلُهَا دُونَ عَدَدِهَا فَيَنْظُرُ كَيْلَ الْخَمْسَةِ الْمَقْبُوضَةِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْلِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ ثُلُثُهَا فِي الْكَيْلِ وَنِصْفُهَا فِي الْعَدَدِ بَرِئَ مِنْ ثُلُثِ الْمَهْرِ وَلَزِمَ ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَصْدَقَهَا عَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَأَقْبَضَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ سِتَّةَ خَنَازِيرَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - إِنَّكَ تُرَاعِي الْعَدَدَ فَتَكُونُ السِّتَّةُ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهَا سواء اختلف في الصغر أو الكبر أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ فَيَبْرَأُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الصَّدَاقِ وَيُطَالَبُ بِخُمْسَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّكَ تُرَاعِيهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَكَانَ الْكَبِيرُ مِنْهَا يعدل صغيرين وقد قبض في السنة كبيرين وأربعة صغاراً فكانت الْأَرْبَعَةُ تُعَادِلُ كَبِيرَيْنِ فَصَارَتِ السِّتَّةُ أَرْبَعَةً كِبَارًا، وَالْأَرْبَعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ خُمْسَاهَا فَيَبْرَأُ مِنْ خُمْسَيِ الصداق وترجع عليه بثلاثة أخماس مهر المثل، وإن كان الصداق أجناسً مختلفة كأنه أَصْدَقَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خَمْرًا وَعَشَرَةَ خَنَازِيرَ وَخَمْسَةَ عشر كلباً تَرَافَعَا أَوْ أَسْلَمَا، وَقَدْ أَقْبَضَهَا خَمْسَةَ أَزْقَاقٍ خمراً وبقيت الخنازير كلها والكلاب بأسرها، فعنه ثلاثة أوجه: أحدهما: إِنَّكَ تَعْتَبِرُ عَدَدَ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ خَمْسَةً من ثلاثين وهو سدسها فيسقط عند سُدُسُ الصَّدَاقِ وَيُؤْخَذُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ. والوجه الثاني: أنك تعتبر عدد أجناس، وهي ثلاثة، والمقبوض أحدها فتسقط عَنْهُ ثُلُثَ الصَّدَاقِ، وَيُؤْخَذُ بِثُلْثَيْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - إِنَّكَ تَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ وَتَنْظُرُ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ فَتُسْقِطُهُ مِنْهُ فَيَبْرَأُ بِقِسْطِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَيُؤْخَذُ بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أن يعتبر قِيمَةُ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي حُكُومَةِ مَا لَا يقدر مِنْ جِرَاحِ الْحُرِّ قِيمَتُهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحُرِّ ثَمَنًا وَلَا قِيمَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 كَذَلِكَ الْخُمُورُ وَالْخَنَازِيرُ وَالْكِلَابُ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنَ الثَّلَاثَةِ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ الْخَمْرِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَاعْتَبِرْ به - وبالله التوفيق. مسألة قال الشافعي: " والنصراني في إنكاح ابْنَتِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ كَالْمُسْلِمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَلِيَّ الْكَافِرَةِ كَافِرٌ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا وَلَا يُزَوِّجُهَا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا كالمسلم ويزوج أن يزوج بنته الكبرى بِكْرًا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَثَيِّبًا بِإِذْنٍ، وَلَهُ أَنْ يزوج ابنته الصغيرة، وليس له تزويج الكبيرة كَمَا نَقُولُهُ فِي الْأَبِ الْمُسْلِمِ فِي بِنْتِهِ وَابْنَهِ الْمُسْلِمَيْنِ، فَأَمَّا وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَلَى أَمْوَالِ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَمَا لَمْ يُرْفَعْ إِلَيْنَا أقروا عليها، فَإِذَا رُفِعَ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَتُرَدُّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِوِلَايَةِ الْأَمْوَالِ الْأَمَانَةُ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَقْوَى والمقصود بولاية النكاح الموالاة، وهي في الكافر لِلْكَافِرِ أَقْوَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 باب إتيان الحائض ووطء اثنتين قبل الغسل من هذا ومن كتاب عشرة النساء قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى بِاعْتِزَالِ الْحُيَّضِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا أَرَادَ فقلنا تَشُدُّ إِزَارَهَا عَلَى أَسْفَلِهَا وَيُبَاشِرُهَا فَوْقَ إِزَارِهَا حتى يطهرن حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ وَتَرَى الطُّهْرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أما وطء الحائط فِي الْفَرْجِ فَحَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أذَى فَاعْتَزِلَوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) {البقرة: 222) . وَفِي هَذَا الْمَحِيضِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ دَمَ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: زَمَانَ الْحَيْضِ. وَالثَّالِثُ: مَكَانَ الْحَيْضِ. ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {البقرة: 222) . أي ينقطع دمهن، فإذا تطهرن فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهُنَّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أبي حنيفة. وَالثَّانِي: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْقُبُلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ فِي حال الحيض، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، وَهَذَا تَأْوِيلُ عِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ فَصَارَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْقُبُلِ نَصًّا وَإِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ، فَلَوِ اسْتَحَلَّ رَجُلٌ وَطْءَ حَائِضٍ مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ كَافِرًا، وَلَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَانَ فَاسِقًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 فَصْلٌ فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ ". وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْفَرْجَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْهَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ هُوَ مِمَّا تَحْتَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ مِمَّا فَوْقَهُ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو إِسْحَاقَ المروزي، لأن تَحْرِيمَ وَطْءِ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْأَذَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَكَانِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ دُونَ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ أَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِذَا تَوَقَّى الْجُحْرَيْنِ فَلَا بَأْسَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ " مَحْمُولًا عَلَى مَا دُونُ الْفَرْجِ، وَيَكُونُ الْإِزَارُ كِنَايَةً عَنِ الْفَرْجِ لِأَنَّهُ مَحَلَّ الْإِزَارِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ) أَيْ شَدُّوا فُرُوجَهُمْ وَخَرَّجَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ يَأْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ فَيَطَأُ فِي الْفَرْجِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَهُ إِلَّا مِنْ وراء الإزار. مسألة قال الشافعي: " فإذا تطهرن يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ الطَّهَارَةَ الَّتِي تَحِلُّ بِهَا الصلاة الغسل أو التيمم (قال) وفي تحريمها لأذى المحيض كالدلالة على تحريم الدبر لأن أذاه لا ينقطع ". قال الماوردي: أما ما دام الحي باقياً فوطئها فِي الْفَرْجِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ وَطْأَهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ تَتَيَمَّمَ إِنْ كَانَتْ عَادِمَةً لِلْمَاءِ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ: وَطْؤُهَا حَرَامٌ حَتَّى تَتَوَضَّأَ فَتَحِلُّ. وَقَالَ أبو حنيفة: قد حل وطئها إن لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِمَا أَغْنَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 مسألة قال الشافعي: " وإن وطئ في الدم استغفر الله تعالى ولا يعود ". قال الماوري: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَطِئَ الْحَائِضُ فِي قُبُلِهَا فَقَدْ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ أَنْ يتصدق بدينار إن وطئ في الدم، ونصف دِينَارٍ إِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إن وطئ في الدم فَعَلَيْهِ دِينَارٌ، وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْغُسْلِ فَنِصْفُ دينار ". وروى هذا الحديث للشافعي وكان إسناده ضعيفاً. قال: إن صح قلت به، فإن لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ مَعَ الصِّحَّةِ هَلْ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - أن يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ على وجهين: أحدهما: اعْتِبَارًا بِظَاهِرِهِ، وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: مَا وَرَدَ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ بِخِلَافِ مَذْهَبِي فَاتْرُكُوا لَهُ مَذْهَبِي، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبِي وَقَدْ فَعَلَ أَصْحَابُنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي التصويب فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ - أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الزِّنَا وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ فلأن لا يكون فيه وَطْءِ الْحَائِضِ كَفَّارَةٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ إنما تجب بما تعلق به من إفساده عبادة كالحج والصيام، وليس في كَفَّارَةٌ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إِفْسَادُ عِبَادَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ - رضي الله تعالى عَنْهُ - رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّنِي أَبُولُ الدَّمَ فَقَالَ لَعَلَّكَ تَطَأُ امْرَأَتَكَ حَائِضًا قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ كفارة فأما المستحاضة فلا يحرم وطئها، لِأَنَّهَا كَالطَّاهِرَةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، وَلِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ رَقِيقٌ وَهُوَ دَمُ عِرْقٍ قَلِيلِ الْأَذَى، وليس كدم الحيض في ثخنه ونتنه وأذاه، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وإن كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتِيَهُنَّ مَعًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَوْ تَوَضَّأَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأُحِبُّ لَوْ غَسَلَ فَرْجَهُ قَبْلَ إِتْيَانِ الَّتِي بَعْدَهَا وَلَوْ كُنَّ حَرَائِرَ فَحَلَلْنَهُ فكذلك ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا قَسْمَ لَهُنَّ على السيد، فإذا أراد وطئهن فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ جَازَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِمَا فِيهِ من تعجيل فرض ونكرار وطاعة، وَنَشَاطِ نَفْسٍ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ تَوَضَّأَ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَأَنْكَرَ أَبُو دَاوُدَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْجَنَابَةِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الطِّهَارَةِ، وَمَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَانَ فِعْلُهُ عَبَثًا، وَهَذَا إِنْكَارٌ مُسْتَقْبَحٌ وَقَوْلٌ مُسْتَرْذَلٌ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " وإذا جَامَعْتَ ثُمَّ أَرَدْتَ الْمُعَاوَدَةَ فَتَوَضَّأْ ". وَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا فَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ عِنْدَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ بَعْدَ وَطْئِهَا، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ وَمَسْنُونٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَشَاطَ النَّفْسِ وَنُهُوضًا لِلشَّهْوَةِ، فَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ ولا توضأ ولا غسل ذكره ووطء جميعهن واحدة بعد أخرى حتى أتى جميعهن جاز، اغتسل لَهُنَّ غُسْلًا وَاحِدًا. وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وروى: وكن يومئذ تسعاً، ولأن الغسل تداخل كَالْحَدَثِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ إِلَى وَطْءِ أُخْرَى وَيَصْبِرُ حَتَّى تَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَتَقْوَى شَهْوَتُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَهَرِ، وَالْفَهَرُ هُوَ إِذَا وطء الْمَرْأَةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى أُخْرَى، وَيُكْرَهُ أَنْ يطأ بحيث يرى أو يجس بِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن الوجس، وهو: أن يطأ بِحَيْثُ يُسْمَعُ حِسُّهُ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْحَرَائِرُ فَالْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ إِذَا طَلَبْنَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لِإِحْدَاهُنَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَطَأَ غَيْرَهَا فِي يومها إلا أن يحللنه فإذا أحللنه سَقَطَ قَسْمُهُنَّ، وَجَازَ أَنْ يَطَأَهُنَّ فِي يَوْمٍ واحد بغسل وَاحِدٍ كَالْإِمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 باب إتيان النساء في أدبارهن من أحكام القرآن ومن كتاب عشرة النساء قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ إِلَى إِحْلَالِهِ وآخرون إلى تحريمه وروي عن جابر بن عبد الله من حديث ثابتٍ أن اليهود كانت تقول من أتى امرأته فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن رجلاً سأله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قبلها فنعم أم من دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " (قال الشافعي) فلست أرخص فيه بل أنهى عنه ". قال الماوردي: اعلم أن مذهب الشَّافِعِيُّ وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ. وَحُكِيَ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ فَرَوَى عَنْهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ أَبَاحَهُ فِي كِتَابِ السيرة. وَقَالَ: أَبُو مُصْعَبٍ: سَأَلَتْهُ عَنْهُ فَأَبَاحَهُ. وَقَالَ ابن القاسم قال مالك: أدركت أحداً افتدى بِهِ فِي دِينِي يَشُكُّ فِي أَنَّهُ حَلَالٌ وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَرَوَوْا عَنْهُ تحريمه لما انْتَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَدِيثٌ ثَابِتٌ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازُهُ، يُرِيدُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ بِذَلِكَ نُصْرَةَ مَالِكٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّبِيعُ فَقَالَ كَذَبَ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَوَجَدَ فِي ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا فَأَنْزَلَ الله تعالى: تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) {البقرة: 223) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ) {الشعراء: 165 - 166) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مثل ما حظر مِنَ الذُّكْرَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) {البقرة: 187) . فَدَلَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُنَّ لِبَاسٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَسَدَ، وَلَوْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ سَرَى إِلَى الْبَاقِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَلِأَنَّهُ أحد الفرجين فجاز إتيانه كالقبل، ولأنه ما سَاوَى الْقُبُلَ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ سَاوَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) {البقرة: 222) . فحرم الوطء في الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْأَذَى فَكَانَ الدُّبُرُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَذًى، ثُمَّ قَالَ: {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمْ اللهَ} (البقرة: 222) . يَعْنِي فِي الْقُبُلِ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ. وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ أَنْ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّا نَكُونُ بِالْفَلَاةِ فَنَجِدُ الرُّوَيْحَةً، وَالْمَاءُ قليل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق. وروى سهل بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في حشوشهن ". وروى حجاج بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عبد الله بن هرمي عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ لا تأتوا النساء في أدبارهن ". قَالَ: مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل: عن إتياه النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فَقَالَ: إِنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى. وروى يوسف بن ماهك عن أم حبيبة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنْ زَوَّجَهَا يَأْتِيهَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فأنزل الله تعالى: تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) . وَأَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أي الخربتين أو في الخرزتين أَوْ فِي أَيِّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قبلها فنعم أم من دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا؟ فَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بن أبي طالب، عبد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، أما علي سئل عَنْهُ فَقَالَ: {أتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ} (الأعراف: 80) . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا يَسْأَلُنِي عَنِ الْكُفْرِ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فغلطا فِيهِ وَحَرَّمَاهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وخالف فَصَارَ إِجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمُ ابْنُ عُمَرَ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمٌ خِلَافَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى نَافِعٍ مَا رَوَاهُ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ لِنَافِعٍ أَنْتَ رَجُلٌ أعجمي، إنما قال ابن عمر بن دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَصَحَّفْتَ وَقُلْتَ فِي دُبُرِهَا فَأَهْلَكْتَ النِّسَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ إِنَّهُ إِتْيَانٌ فوجب أن يكن مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَذًى مُعْتَادٌ فَوَجَبَ أَنْ يحرم الْإِصَابَةُ فِيهِ كَالْحَيْضِ، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ، لِأَنَّهُ نَادِرٌ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْهُ الْيَهُودُ: أَنَّ مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَطَءَ فِي الْفَرْجِ مِنْ خلفها، وحكي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيٍّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسُوا يَوْمًا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنِّي لَآتِي امْرَأَتِي وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ عَلَى جَنْبِهَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ مَا أَنْتُمْ إِلَّا أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {حَرْثٌ لَكُمْ} والحرث هو من مزرع الأولاد في القبل، دليل على أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ دُونَ الدُّبُرِ الَّذِي ليس بموضع حرث، ولا من مُزْدَرِعٍ لِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ منَ العَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) {الشعراء: 165 - 166) فَمَعْنَاهُ أَتَأْتُونَ الْمَحْظُورَ مِنَ الذُّكْرَانِ، وَتَذَرُوَنَ الْمُبَاحَ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ وقَوْله تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) {البقرة: 187) . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّبَاسَ السَّكَنُ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً} (الفرقان: 47) . أَيْ سَكَنًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 وَالثَّانِي: أَنْ بَعْضَهُمْ يَسْتُرُ بَعْضًا كَاللِّبَاسِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ لَهُمْ. وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِاسْتِثْنَائِهِ وَسَرَائِهِ الطَّلَاقُ بِهِ فَقَدْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ عُضْوٍ لَا يَصِحُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ مِنْ فُؤَادِهَا، وَكَبِدِهَا، وَيَسْرِي مِنْهُ الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، فَكَذَلِكَ الدُّبُرُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقُبُلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَا أَذَى فِيهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمُبَاحِ الْوَطْءِ دُونَ مَحْظُورِهِ أَلَا تَرَاهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ، وإن كان محظوراً فكذلك في هذا. مسألة قال الشافعي: " فَأَمَّا التَّلَذُّذُ بِغَيْرِ إيلاجٍ بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) {المؤمنون: 5 - 6) الْآيَةَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ " فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّلَذُّذِ بِمَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا عَزْلُ المني عن الْفَرْجِ عِنْدَ الْوَطْءِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الإماء جاز من غير استئذانهن فيه لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ السَّبَايَا، وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى خَلْقَ نَسْمَةٍ خَلَقَهَا فَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا " وَلِأَنَّ فِي الْعَزْلِ عنها استبقاء لرقها، وامتناع مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى عِتْقِهَا فَجَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَدْبِيرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا وَفِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَخْتَصُّ السيد دونها. فصل : القول في حكم الإستمناء باليد فأما الإستمناء باليد وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْمَنِيِّ بِالْيَدِ فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَقَدْ حكى الشافعي عن بعض الفقهاء إباحته، وأباح قوم في السفر دون الحظر، وَهُوَ خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) {المؤمنون: 5 - 6) الْآيَةَ فَحَظَرَ مَا سوء الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَجَعَلَ مُبْتَغِي مَا عَدَاهُ عَادِيًا مُتَعَدِّيًا، لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولِئَكَ هُمُ العَادُونَ) {المؤمنون: 7) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ النَّاكِحَ يَدَهُ "، وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ النِّكَاحِ، وَانْقِطَاعِ النَّسْلِ فَاقْتَضَى أن يكون محرماً كاللواط. مسألة قال الشافعي: " وإن أَصَابَهَا فِي الدُّبُرِ لَمْ يُحْصِنْهَا ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْإِحْصَانَ كَمَالٌ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِوَطْءٍ كَامِلٍ وَهُوَ الْقُبُلُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْءِ الْإِمَاءِ، وَإِنْ كان مباحاً اعتباراً بأكمله فِي الْحَرَائِرِ كَانَ بِأَنْ لَا يَتَحَصَّنَ بِالْوَطْءِ المحرم في الدبر أولى، وجملة أحكام الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يختص بالوطء في القبل (لا يثبت بالوطء في الدبر) . والثاني: (إحلالها) دون الدُّبُرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكََامٍ: أَحَدُهَا: الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ. وَالثَّانِي: إِحْلَالُهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا " وَالْعُسَيْلَةُ فِي الْقُبُلِ. وَالثَّالِثُ: سُقُوطُ حُكْمِ الْعُنَّةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمَوْطُوءَةِ فَاخْتَصَّ بِالْفَرْجِ الْمُبَاحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَسْتَوِي فِيهِ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ، وَهِيَ سَبْعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ عَلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْحَدِّ بِالزِّنَا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا. وَالثَّالِثُ: كَمَالُ الْمَهْرِ وَوُجُوبُهُ بِالشُّبْهَةِ كَوُجُوبِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ. وَالرَّابِعُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ. وَالْخَامِسُ: تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ وَيَثْبُتُ بِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ. وَالسَّادِسُ: فَسَادُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ، وَالصِّيَامِ، وَالِاعْتِكَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ. وَالسَّابِعُ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: الْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ فيها وجهان: أحدهما: أن لَا تَكُونَ إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَتَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ الْمُسْتَبَاحِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْقُبُلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَكُونُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ به حانثاً ولزمته الكفارة فصار به فائياً. والثاني: العدة في الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ كَوُجُوبِهَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ بِغَيْرِ وَطْءٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ بِالْوَطْءِ في الدبر، وإن كان بسببه فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 أحدهما: تجب كوجوبها في النكاح. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - لَا تَجِبُ، لِأَنَّهَا فِي الشُّبْهَةِ تَكُونُ اسْتِبْرَاءً مَحْضًا حِفْظًا لِلنَّسَبِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلرَّحِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ. وَالثَّالِثُ: لُحُوقُ النَّسَبِ مِنَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَحِقَ وِإِنْ كَانَ فِي شُبْهَةٍ ففي لحوق النسب به وجهان وإن قيل بوجوب العدة منه كان النسب لَاحِقًا، وَإِنْ قِيلَ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وينهاه الإمام فإن عاد عزره فإن كان في زناً حده وإن كان غاصباً أغرمه المهر وأفسد حجه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا فَاعِلُ ذَلِكَ فِي زَوْجَتِهِ أو أمته فإن ينهى ويكف لإقدامه على حرام وارتكابه لمحظور ولا يعاجل فِي أَوَّلِ فَعْلَةٍ بِأَكْثَرَ مِنَ النَّهْيِ فَيُنْهَى الزَّوْجُ مِنَ الْفِعْلِ وَتُنْهَى الزَّوْجَةُ مِنَ التَّمْكِينِ، فإن عاودا ذلك بعد النهي عذراً تَأْدِيبًا وَزَجْرًا، وَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ، فأما فاعله زنى فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ حَدُّ اللِّوَاطِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: كحد الزنا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إِنْ كَانَ بِكْرًا أَوِ الرَّجْمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْقَتْلُ بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا، وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَعَلَيْهَا حَدُّ اللِّوَاطِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ فِي اللِّوَاطِ مَهْرٌ فَكَيْفَ وَجَبَ لِهَذِهِ مَهْرٌ، والفعل معها كاللواط. قيل: لأن النماء جِنْسٌ يَجِبُ فِي التَّلَذُّذِ بِهِنَّ مَهْرٌ، فَوَجَبَ لَهُنَّ الْمَهْرُ وَالذُّكْرَانُ جِنْسٌ يُخَالِفُونَ النِّسَاءَ فِيهِ فلم يجب لهم مهر - وبالله التوفيق -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 باب الشغار وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ الشافعي رحمه الله: " وإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة تلي أمرها الرجل على أن ينكحه ابنته أو المرأة تلي أَمْرَهَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَلَمْ يُسَمِّ لِكِلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا فَهَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو مفسوخٌ ". قال الماوردي: وأما الشِّغَارُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْخُلُوُّ، يُقَالُ: بَلَدٌ شَاغِرٌ إِذَا خَلَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَأَمْرٌ شَاغِرٌ إذا خلا من مدبر. أصله: مَأْخُوذٌ مِنْ شُغُورِ الْكَلْبِ، يُقَالُ قَدْ شَغَرَ الْكَلْبُ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لِلْبَوْلِ لِخُلُوِّ الأرض منها. وحكى الحاجظ أَنَّ شُغُورَ الْكَلْبِ عَلَامَةُ بُلُوغِهِ، وَأَنَّهُ يَبْلُغُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عُمُرِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشاعر: (حتى توفا الستة الشهورا ... مِنْ عُمُرِهِ وَبَلَغَ الشُّغُورَا) هَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سُمِّيَ الشِّغَارُ شِغَارًا لِقُبْحِهِ وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ إِذَا بَالَ مَعَ رَفْعِ رِجْلِهِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الشِّغَارُ الرَّفْعُ، وَمِنْهُ شُغُورُ الْكَلْبِ. وَالْأَصْلُ فِي الشِّغَارِ مَا رَوَاهُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الشِّغَارِ. وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شغار في الإسلام " والشغار ما وصفه الشافعي بقول الرَّجُلُ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ وَلِيَّتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ أَوْ وَلِيَّتَكَ عَلَى أَنْ تضع كل واحد منهما صداق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 الْأُخْرَى، أَوْ يَقُولُ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى، فَهَذَا هُوَ الشَّغَارُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الرَّجُلُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ بِأُخْتِهِ " وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنَ الرَّاوِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ نَصٌّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ نَفْسِهِ فهو لعلمه بمخرج الخطاب ومشاهدة الْحَالِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ مَا وَصَفْنَا فَعَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ بَاطِلٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الصَّدَاقِ وَعِنْدَهُ أَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النِّكَاحِ دُونَ الصَّدَاقِ، وَإِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ. وَقَالَ أبو حنيفة: نكاح الشغار جائز والنهي فيه مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، وَفَسَادُ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِمَالِكٍ فِي الْحُكْمِ مُوَافِقًا لَهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَإِنَّمَا أُبْطِلُهُ إِذَا قَالَ: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ وَفَسَادُهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مِنْ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنَّ صَدَاقَهَا طَلَاقُ امْرَأَتِكَ صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ جَعَلَ الصَّدَاقَ بُضْعَ زَوْجَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا قَالُوا: وَلِأَنَّكُمْ جَوَّزْتُمُ النِّكَاحَ إذا سمى لهما أو لأحدهما صداقاً فكذلك وإن لم يسميه، لأنه تَرْكَ الصَّدَاقِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَهُ فَيَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ صِحَّتَهُ. وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دَلِيلٌ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ فَسَدَ بِالنَّهْيِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّدَاقُ دُونَ النِّكَاحِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى النِّكَاحِ لِمَا رَوَاهُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نهى عن نكاح الشغار ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 والثاني: أنه يجمل عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا سُمِّيَ شِغَارًا لِخُلُوِّهِ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْنُ لَا نُخَلِّيهِ لِأَنَّنَا نُوجِبُ فِيهِ صَدَاقَ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يكون شغار. قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ مَا أَوْجَبْتُمُوهُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ يكون نكاح الشغار وقت العقد قد تَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ فَاقْتَضَى فَسَادَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ عقد فيه مثنوية، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَلَّكَ الزَّوْجَ بُضْعَ بِنْتِهِ بِالنِّكَاحِ أو ارْتَجَعَهُ مِنْهُ بِأَنْ جَعْلَهُ مَلِكًا لِبِنْتِ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ، وَهَذَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُهَا مِلْكًا لِفُلَانٍ، كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَلِكَ هذا بالحجاج وتحريره: أنه جعل المقصود لِغَيْرِ الْمَعْقُودِ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي على أن يكون بضعها لفلان، ولأن جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ زَوَّجَ بِنْتَهُ بِعَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ صَدَاقَهَا، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا جُعِلَتْ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعَوَّضًا كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بألفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعِ دَارِكَ عَلَيَّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، فَهُوَ أَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا كَانَ فِي الشِّغَارِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ فِي الْبُضْعِ اشْتِرَاكٌ فَصَحَّ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقٌ لِبِنْتِكَ، بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ، لأنه حصل في بضعها اشتراكاً، وَلَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ في بعضها اشتراكاً. وأما استلاله بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ صَدَاقَ بِنْتِهِ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ صح فكذلك هاهنا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَادٌ اخْتَصَّ بِالْمَهْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْبُضْعِ تَشْرِيكٌ، فَلِذَلِكَ صَحَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الْآخَرُ فَسَنَذْكُرُ من اختلاف أصحابنا في حكمه مَا يَكُونُ جَوَابًا - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَلَوْ سَمَّى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا صَدَاقًا فَلَيْسَ بِالشِّغَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالنِّكَاحُ ثابتٌ وَالْمَهْرُ فاسدٌ وَلِكُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مهرٍ إن طلقت قبل الدخول فإن قيل فقد ثبت النكاح بلا مهرٍ قيل لأن الله تعالى أجازه في كتابه فأجزناه والنساء محرمات الفروج إلا بما أحلهن الله به فلما نهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح الشغار لم أحل محرماً بمحرمٍ وبهذا قلنا في نكاح المتعة والمحرم (قال) وقلت لبعض الناس أجزت نكاح الشغار ولم يختلف فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورددت نكاح المتعة وقد اختلف فيها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 وهذا تحكم أرأيت إن عورضت فقيل لك نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تنكح المرأة على خالتها أو على عمتها وهذا اختيارٌ فأجزه فقال لا يجوز لأن عقده منهي عنه قيل وكذلك عقد الشغار منهي عنه (قال المزني) رحمه الله معنى قول الشافعي نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الشغار إنما نهى عن النكاح نفسه لا عن الصداق ولو كان عن الصداق لكان النكاح ثابتاً وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وجهين: أحدهما: صورتها أن تقول: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الْأُخْرَى وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَصِحُّ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ، وأنه لا يسمى مع المهر مذكوراً شِغَارًا خَالِيًا، وَيَكُونُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِفَسَادِ الصَّدَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ شِغَارٌ يَفْسُدُ فِيهِ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وهو التشريك في البضع وهو أن صورة مسألة الشافعي - رضي الله تعالى عَنْهُ - الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا شِغَارًا أَنْ يَقُولَ: قد زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتُكَ عَلَى صَدَاقِ مِائَةٍ، فَالنِّكَاحَانِ جَائِزَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْبُضْعِ، وَلَا جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ، وَيَبْطُلُ الصَّدَاقَانِ، لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ فَأَسْقَطَ فِيهِ مَا قَابَلَهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَ بَاقِيهِ مَجْهُولًا، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ يُبْطَلُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ، فَلَوْ قَالَ: قد زَوَّجَتُكَ بِنْتِي بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِصَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُلِّ واحدة منها بضع الْأُخْرَى صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شِغَارًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، وَبَطَلَ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَكَانَ شِغَارًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ صَحَّ النِّكَاحَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ يَعُودُ فَسَادُهُ إِلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنَّ بُضْعَ بِنْتِي صَدَاقُ بِنْتِكَ بَطَلَ نِكَاحُ بِنْتِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا، وَصَحَّ نِكَاحُهُ عَلَى بِنْتِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بُضْعَهَا مُشْتَرَكًا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ بِنْتِي بُضْعُ بِنْتِكَ صَحَّ نِكَاحُ بِنْتِهِ، وَبَطَلَ نِكَاحُهُ لِبِنْتِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي بُضْعِهَا، لَا فِي بُضْعِ بِنْتِهِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ مُسْتَمِرَّ التَّعْلِيلِ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -. فَصْلٌ وَإِذَا قَالَ الرجل لرجل إن جئتني بكذا أو كذا إِلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، فَجَاءَهُ بِهِ فِي أَجَلِهِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَأَجَازَهُ مالك مع الكراهة إذا أشهد عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا العُقُودِ) {المائدة: 1) . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 " مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُسَلَّمٌ عُلِّقَ بِمَجِيءِ صفة فوجب أن لا يصح كقوله: قد زوجتكما إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تتعلق بمجيء الصفات كالبيوع. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَلَيْسَ هَذَا عَقْدٌ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 باب نكاح المتعة والمحلل من الجامع من كتاب النكاح والطلاق ومن الإملاء على مسائل مالكٍ ومن اختلاف الحديث قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى يوم خيبرٍ عن نكاح المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية (قال) وإن كان حديث عبد العزيز بن عمر عن الربيع بن سبرة ثابتاً فهو مبينٌ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحل نكاح المتعة ثم قال " هي حرامٌ إلى يوم القيامة " (قال) وفي القرآن والسنة دليلٌ على تحريم المتعة قال الله تعالى: ^ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِذَا نَكَحْتُمْ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَقْتُمُوهُنَ} فلم يحرمهن الله على الأزواج إلا بالطلاق وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} فجعل إلى الأزواج فرقة من عقدوا عليه النكاح مع أحكام ما بين الأزواج فكان بيناً - والله أعلم - أن نكاح المتعة منسوخٌ بالقرآن والسنة لأنه إلى مدةٍ ثم نجده ينفسخ بلا إحداث طلاقٍ فيه ولا فيه أحكام الأزواج ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حرام وهو أن يقول للمرأة: أمتعيني نفسك شَهْرًا، أَوْ مَوْسِمَ الْحَاجِّ، أَوْ مَا أَقَمْتُ فِي الْبَلَدِ، أَوْ يَذْكُرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ لَهَا، أَوْ لِوَلِيِّهَا بَعْدَ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمُدَّةٍ، إِمَّا مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً، فَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الْحَرَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وِالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وابن أبي مليكة، وابن جريج - والإمامية - رأيهم فيه جوازاً استدلالاً بقول الله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُتْعَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) {النساء: 24) . وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّصِّ. وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ فَاسْتَمْتِعُوا. وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج. فأخبر بِإِبَاحَتِهِمَا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تحريمه بالاجتهاد قالوا: ولأنه عقد مَنْفَعَةٍ فَصَحَّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى التحريم إلا بالإجماع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين) {المؤمنون: 5 - 6) وليست هذه زوجته وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَلُومًا ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولِئَكَ هُمُ العَادُونَ} (المؤمنون: 7) . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِيًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ، مَا رَوَاهُ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: " اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ " وَالِاسْتِمْتَاعُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَنَا النِّكَاحُ فَكَلَّمَ النِّسَاءَ من كلمهن فقلن لا ينكح الأنبياء، ونبيكم أَجَلٌ. فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: اضْرِبُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا فَخَرَجْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي عَلَيْهِ بُرْدٌ، وَعَلَيَّ بُرْدٌ، وَبُرْدُهُ أَجْوَدُ مِنْ بُرْدِي، وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي، فقالت: برد كبرد فكان الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرًا، فَبِتُّ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ غَدَوْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: " يَا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ". وروى ابن أبي لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُتْعَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يجد فلما أنزل النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَنَزَلْنَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَصَابِيحَ وَنِسَاءً يَبْكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَرَّمَ الْمُتْعَةَ، النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 وَحُكِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْلَلْتَ الْمُتْعَةَ وَقَدْ حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فقال المأمون: يا يحيى إن تحريم المتعة حديث رَوَاهُ الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ أَعْرَابِيٌّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَا أَقُولُ بِهِ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ أكثم: يا أمير المؤمنين هاهنا حَدِيثٌ آخَرُ فَقَالَ: هَاتِهِ يَا يَحْيَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ مَنْ؟ قَالَ يَحْيَى: عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ المأمون: كان أبي يبجله هيا فَقَالَ يَحْيَى: عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: كَانَ ثِقَةً فِي حَدِيثِهِ، وَلَكِنْ كَانَ يَعْمَلُ لِبَنِي أمية هيا، فَقَالَ يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنِيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فَفَكَّرَ المأمون ساعة ثم قال: كان أحدهما يقول بالوعيد والآخر بالإرجاء (هيا) قَالَ يَحْيَى: عَنْ أَبِيهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قال: هيا. قَالَ يَحْيَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: هيا قَالَ يَحْيَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا غُلَامُ ارْكَبْ فَنَادِ إِنَّ الْمُتْعَةَ حَرَامٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ خَيْبَرَ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَامَ الْفَتْحِ بمكة، وروي في بعضها عنه حَرَّمَهَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبَيْنَ كُلِّ وقت ووقت زمان ممتد ففيه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَحْرِيمٌ كَرَّرَهُ فِي مَوَاضِعَ ليكون أظهر وأنشر حَتَّى يَعْلَمَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَهُ، ولأنه قَدْ يَحْضُرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَنْ لَمْ يحضر معه في غَيْرَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدَ. والجواب الثاني: أنا كَانَتْ حَلَالًا فَحُرِّمَتْ عَامَ خَيْبَرَ ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، ثُمَّ حَرَّمَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهَا: " وَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كان من التحريم المتقدم موقت تعقبته إباحة وهذا تحريم مؤبد لا تتعقبه إِبَاحَةٌ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة. قال ابْنُ عُمَرَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا السِّفَاحَ نَفْسَهُ. وقال ابن الزبير: المتعة هي الزنا الصريح. فإن قيل: فقد خالفهم ابن عباس ومع خلافه لا يكون الْإِجْمَاعُ، قِيلَ: قَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ إِبَاحَتِهَا وَأَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا وَنَاظَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَيْهَا مُنَاظَرَةً مَشْهُورَةً، وَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: وَمَا هُوَ يا عروة قال: تُفْتِي بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ ينهيان عنها، فقال: عجبت منك، أخبرك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتُخْبِرُنِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: إِنَّهُمَا أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْكَ فَسَكَتَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتى صارت به الركاب، وقال الشَّاعِرُ: (أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسْ) (يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي بَيْضَاءَ بَهْكَنَةٍ ... تكون مثواك حتى يصدر النَّاسْ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا إِلَى هَذَا ذهبت، وقام يوم عرفة فقال: يأيها النَّاسُ إِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا ما تَحِلُّ لَكُمُ الْمَيَّتَةُ وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ مُنْعَقِدًا وَالْخِلَافُ بِهِ مُرْتَفِعًا وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ أَوْكَدُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلٍ قَاهِرٍ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أنه حل عقد جاز مطلقاً مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِصِحَّتِهَا وَيَنْتَفِي عَنْ فَاسِدِهَا، وَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْعِدَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) فَهُوَ إِنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا اخْتَصَّ بالدوام لذلك قيل: قد استنكحه المدى لمن دام به، فلم يدخل فِيهِ الْمُتْعَةُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لَخُصَّ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَوَيَا أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي النِّكَاحِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ الْمَهْرَ دُونَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَالْإِبَاحَةُ فِيهِ مَنْسُوخَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. وَأَمَّا تَفَرُّدُ عُمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَمَا تَفَرَّدَ بِهِ، وقد وافقه عليه الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فَاخْتَصَّ بِالْإِعْلَانِ وَالتَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمٍ بِغَيْرِ دليل، ولكانوا قد أقدموا عليه بمسكون عَنْهُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت تكرمة لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَاكُمْ بِهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَعْطَانَا اللَّهُ وَيَمْنَعُنَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمْرُ: وَأَيْنَ أَعْطَاكُنَّ فَقَالَتْ: بقوله: {وَءاتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: 20) فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى امرأة. . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 ووري أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا فَقَالَ سَلْمَانُ: لَا نَسْمَعُ، فَقَالَ عُمْرُ: وَلِمَ ذَاكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: لِأَنَّ الثِّيَابَ لَمَّا قَدِمَتْ مِنَ الْعِرَاقِ، وَفَرَّقْتَهَا عَلَيْنَا ثَوْبًا وأخذت ثوبين لنفسك فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا هَذَا فَثَوْبِي وَأَمَّا الْآخَرُ فاستعرته من ابني ثم دعى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَوْبُكَ، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: قُلِ الْآنَ مَا شِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ فِي تَحْرِيمِ مَا قَدْ أَحَلَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يُنْكِرُونَهُ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِصِحَّتِهِ وَوِفَاقُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُمَا قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحِلُّ الْمُتْعَةَ وَسَمِعْنَا عُمَرَ يَنْهَى عَنْهَا فَتَبِعْنَا عُمَرَ قِيلِ مَعْنَاهُ: تَبِعْنَا عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ في التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَوَى لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُضَافَ إِلَى جَابِرٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا خَالَفَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبِعَا عُمَرَ، وَلَوْ تَبِعَاهُ لَمَا تَبِعَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فيهما: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُؤَبَّدَةً فَصَحَّتْ مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ لما صح مؤبداً لم يصح مؤقتاً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا بالإجماع فمن وجهين: أحدهما: أنه مَا ثَبَتَ بِهِ إِبَاحَتُهَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا فِي الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِجْمَاعِ هِيَ إِبَاحَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تعقبها نسخ، وهم يدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نَسْخٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا قَالُوهُ إِجْمَاعٌ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَلَا حَدَّ فِيهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ. وَيُعَزَّرَانِ أَدَبًا إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لحق بالوطء، ولأنها صَارَتْ بِإِصَابَةِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ يُلْزِمُ، وَيَثْبُتُ بهذا الإصابة تحريم المصاهرة - وبالله التوفيق -. مسألة ونكاح المحلل باطل. قال الماوردي: وصورتها فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ بِهِنَّ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ زَوْجًا ليحلها للأول فيرجع إلى نكاحها فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: النِّكَاحُ صَحِيحٌ والشرط باطل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ورواه أبو هريرة كلهم بروايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ". وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بلى يا رسول الله، قال: هو الحلل وَالْمُحَلَّلُ لَهُ "، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَلَى شَرْطٍ إِلَى مدة فكان أغلظ فساد مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. أَصْلُهُ: إِذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَطَأَ أو يباشر. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، " وَالْإِمْلَاءِ " - أن النكاح صحيح، ولأنه لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ مِنَ " الْأُمِّ " وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ مؤقت والنكاح ما تأبد، ولم يتوقف، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَإِذَا شرط أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ. وَالْقِسْمُ الثالث: أنه يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَيَتَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا من غير شرط لكنه ينوي، وَيَعْتَقِدُهُ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِخُلُوِّ عَقْدِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ نَوَى فِيهِ مَا لَوْ أَظْهَرُهُ أَفْسَدَهُ وَلَا يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ مَا لَا يَنْوِي، وَأَبْطَلَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: هُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أبي حنيفة أنه استحبه، لأنه قد تصير الأول بإحلالها له، وكلام المذهبي خَطَأٌ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَمَكْرُوهٌ بِخِلَافِ اسْتِحْبَابِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أعربي مِسْكِينٌ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ في امرأة تنكحها فتبيت معها الليلة، فإذا أصبحت فارقتها قال نعم ومضى فتزوجها، وبات معها لَيْلَةً، فَقَالَتْ لَهُ: سَيَقُولُونَ لَكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 إذا أصبحت فارقها لا تَفْعَلْ فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى وَاذْهَبْ إلى عمر فلما أصبح أتوه وأتوها، فَقَالَتْ لَهُمْ: كَلِّمُوهُ فَأَنْتُمْ أَتَيْتُمْ بِهِ، فَقَالُوا له: فارقها، فقال: لا أفعل امض إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ زَوْجَتَكَ، فإن رابوك بريبة فائتني وبعث عمر إلى المرأة التي شئت لذلك فَنَكَّلَ بِهَا، وَكَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى عُمَرَ فِي حُلَّةٍ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ، فَقَدْ أَمْضَى عُمْرُ النِّكَاحَ: فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَسَادِهِ، وَنَكَّلَ عُمَرُ بالمرأة التي مشت فِيهِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَفَسَادِ مَا حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنِ اسْتِحْبَابِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا تقرر ما ذكرنا من أقسام نِكَاحِ الْمَحَلِّلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ تَعَلَّقَ بِهِ أحكام النكاح الصحيح من ثبوت الحصانة، ووجوب النفقة، وأن يكون مخيراً فيه بَيْنَ الْمُقَامِ، أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ التَّامَّةِ فَقَدْ أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا المهر فإن لم يتضمن العقد شرط يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالْمُسَمَّى هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ تَضَمَّنَ شَرْطًا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يثبت بالإصابة فيه حصانة، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةٌ، وَيَجِبُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَلْ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَتَهُ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بعضهم: ذوق العسيلة في شبهة النكاح تجري عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنَ النِّكَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: اختصاصه باسم المحلل موجب لاختصاصه بحكم التعليل، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَحِلُّ بِالْإِصَابَةِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ مِنْ شِغَارٍ، وَمُتْعَةٍ، وَبِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ بِغَيْرِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. والقول الثاني: - وهو الجديد الصَّحِيحُ - إِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الأنكحة الفاسدة حتى يكون نكاحاً صحيحاً، لقول اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) {البقرة: 230) وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِصَابَةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بها إحصان لم يتعلق فيها إحلال الزوج كالإصابة بملك اليمين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 باب نكاح المحرم قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالكٌ عن نافعٍ عن نبيه بين وهب عن أبان بن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح " وقال بعض الناس رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح ميمونة رضي الله عنها وهو محرمٌ قلت رواية عثمان ثابتةٌ ويزيد بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا وَسُلَيْمَانَ بْنَ يسارٍ عتيقها أو ابن عتيقها يقولان نكحها وهو حلالٌ وثالثٌ وهو سعيد بن المسيب وينفرد عليك حديث عثمان الثابت وقلت أليس أعطيتني أنه إذا اختلفت الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نظرت فيما فعل أصحابه من بعده فأخذت به وتركت الذي يخالفه؟ قال بلى قلت فعمر بن الخطاب ويزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم وقال ابن عمر لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا أعلم لهما مخالفاً فلم لا قلت به؟ (قال الشافعي) فإن كان المحرم حاجّاً فحتى يرمي ويحلق ويطوف بالبيت يوم النحر أو بعده وإن كان معتمراً فحتى يطوف بالبيت ويسعى ويحلق فإن نكح قبل ذلك فمفسوخٌ والرجعة والشهادة على النكاح ليسا بنكاحٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَجُوزُ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ وذكرنا ما خَالَفَنَا فِيهِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إِلَيْهِ، مَتَى عُقِدَ النِّكَاحُ وَالزَّوْجُ، أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْوَلِيُّ مُحْرِمٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: صَحِيحٌ وَيُفْسَخُ بِطَلْقِةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُ فَسْخَهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَبِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالرَّجْعَةِ وَشِرَاءِ الْإِمَاءِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكح " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يخطب الْمُحْرِمُ وَلَا يَتَزَوَّجُ ". وَرَوَى مَطَرٌ عَنِ الْحَسَنِ أن علياً - رضي الله تعالى عَنْهُ - قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا منه امرأته، ولم يجز نكاحه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 وَرَوَى أَبُو غَطْفَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنْ عُمَرَ - رضي الله تعالى عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا. وَرَوَى قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِيهِ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ثابت بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، فَقَدْ رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بن الأصم عَنْ مَيْمُونَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ. وَرَوَى رَبِيعَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَكُنْتُ أنا الرسول بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ عَلَى أَنَّ أَبَا الطِّيِّبِ ابْنَ سَلَمَةَ جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ، لِجَوَازِ شِرَاءِ الْمُعْتَدَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ، وَالْمَقْصُودُ، مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مُعْتَدَّةً وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ. فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَتَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ، لِأَنَّهَا سَدُّ ثَلْمٍ فِي الْعَقْدِ وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَجَازَتْ فِي الْإِحْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُرَاجِعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اعتباراً بهذا المعنى. فصل فإذا تقرر ما وصفنا أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ بَاطِلٌ، فَمَتَى كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا فِي الْعَقْدِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لِمُحْرِمٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حلالاً فوكل محرماً كان النكاح باطلاً، لأنه نكاح عقده محرم، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا أَوْ كَانَ حَلَالًا فَوَكَّلَ مُحْرِمًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا. فَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يجز له أن يزوج مسلمة وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ كَافِرَةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ. والثاني: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهَا بِوِلَايَةٍ وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا لحكم فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَحْكَامِهِ فِي إِحْرَامِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُحْرِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا يُزَوِّجَ، وَهَلْ يَجُوزُ لخلفائه من القضاة المحليين أَنْ يُزَوِّجُوا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا كَوُكَلَاءِ الْمُحْرِمِ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا لِعُمُومِ وَلَايَاتِهِمْ، وَنُفُوذِ أحكامه فَخَالَفُوا الْوُكَلَاءَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطِيبِ فِي عقد فَالنِّكَاحِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ بِغَيْرِ خِطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ مُحْرِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ كَالْوَلِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ فِي النِّكَاحِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمْ شُرُوطُ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْكَافِرَةِ إِذَا عَقَدْنَاهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِوَلِيٍّ كافر وشهود مسلمين - والله أعلم -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 العيب في المنكوحة من كتاب نكاح الجديد ومن النكاح القديم ومن النكاح والطلاق إملاءً على مسائل مالكٍ، وغير ذلك قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أنه قال قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّمَا رجلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جذامٌ أَوْ برصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا وَذَلِكَ لزوجها غرمٌ على وليها وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ فِي النكاح إلا أن تسمى: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ بِالْعُيُوبِ، وَالْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ تُسْتَحَقُّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ إذا وجدت بِالزَّوْجَةِ، وَهِيَ خَمْسَةُ عُيُوبٍ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، وَالرَّتْقُ، وَتَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ إِذَا وَجَدَتْهَا بِالزَّوْجِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجَبُّ، وَالْعُنَّةُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَتَخْتَصُّ الزَّوْجَةُ بِالْقَرَنِ، وَالرَّتْقِ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُمَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْعُيُوبِ، مِنْ عَمَى أو زمانة، أو قبح أو غيره. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَفْسَخَ إِلَّا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ دُونَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَبِأَنْ لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وقال أبو الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تَفْسَخَ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ وَلَيْسَ فِي الِاسْتِبَاحَةِ عَيْبٌ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِي الْمُسْتَبِيحَةِ فلم يشتبه خيار إسلامه الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَنْكُوحَةِ فلم يفسخ نكاحها قِيَاسًا عَلَى مَا سِوَى الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يُفْسَخْ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ لَمْ يُفْسَخْ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْبُيُوعِ عَكْسًا. قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِنْ جَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ وَجَبَ أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى غَيْرِهَا مِنْ عُقُودِ الْهِبَاتِ وَالصِّلَاتِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفْسَخَ بعيب، وفي إجماعهم على أن لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ الْعُيُوبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا، وَقَالَ: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ منه هو أنه لما نقل الْعَيْبَ وَالرَّدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ، لِأَجْلِ الْعَيْبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا لأجل العيب كالتي قالت له حِينَ تَزَوَّجَهَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: " لَقَدِ استعذتي بمعاذ فالحقي بِأَهْلِكِ " فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهُ لِأَجْلِ اسْتِعَاذَتِهَا مِنْهُ قِيلَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِهِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حَالُ طَلَاقِهِ لِلْمُسْتَعِيذَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَعَدَلَ بِهِ إِلَى الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَكِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ على ما هو صريح فيه. وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْتَنِبُوا مِنَ النِّكَاحِ أَرْبَعَةً: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَسْخِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ غَالِبَ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ كَالْجَبِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الصِّغَرُ، وَالْمَرَضُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الْفَسْخَ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ رَدَّ عِوَضٍ مَلَكَ عَلَيْهِ رَدَّ الْمُعَوَّضَ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح، وَهَذِهِ عُيُوبٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ زَمَانَةَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي مَنَافِعِهِ فَاسْتَحَقَّ بِهَا الْفَسْخَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْخَمْسَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَلَا تُنَفِّرُ النُّفُوسَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، لِأَنَّهَا إِمَّا مَانِعَةً من المقصود أو منفرة لِلنُّفُوسِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْهِبَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجَبِّ، وَهُوَ نُقْصَانُ جُزْءٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ، أَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 بالعيب، والنكاح بخلافه وعلى أن فسخه بالعنت وَهُوَ يُعْتَبَرُ صِفَةً تَمْنَعُ مِنِ اطِّرَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ الْعُيُوبِ كَالْبُيُوعِ أَوْ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَالْهِبَاتِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّهُ بِالْبُيُوعِ أَخَصُّ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَاسْتُحِقَّ بِجَمِيعِهَا الْفَسْخُ وَلَيْسَ كُلُّ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فلم يستحق بجميعها الفسخ. مسألة قال الشافعي: " القرن المانع للجماع لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَعْنَى النِّسَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَأَجْنَاسُهَا سَبْعَةٌ: اثْنَانِ يَخْتَصُّ بهما الرجل وهما الجب والعنة. واثنان تختص بِهِمَا النِّسَاءُ، وَهُمَا: الرَّتْقُ، وَالْقَرَنُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ مِنَ الْعُنَّةِ فَلَهُ بَابٌ يَأْتِي. وَأَمَّا الْجَبُّ: فَهُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْطُوعًا فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ أَدْوَمُ ضَرَرًا مِنَ الْعُنَّةِ الَّتِي يُرْجَى زوالها، وإن كان بعض الذكر مَقْطُوعًا نُظِرَ فِي بَاقِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ إِمَّا لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى صِغَرِ الذَّكَرِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا تَكْمُلُ بِهِ الإصابة. وأما الخصاء وهي قَطْعُ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الذَّكَرِ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِعَيْبٍ ولا خيار لها فِيهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيلَاجِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَمْتَعَ إِصَابَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعْدَمُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَلَوْ كَانَ خُنْثَى لَهُ فَرْجٌ زَائِدٌ أَوْ كَانَتْ خُنْثَى لَهَا ذَكَرٌ زَائِدٌ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يوجب الخيار قولان: أحدهما: ليس بعيب، لأنها زيادة عضو فأشبه الأصبع الزائد. وَالثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعَافُّ. فَأَمَّا ما تختص به المرأة من القرن، والرنق. فَالْقَرَنُ: هُوَ عَظَمٌ يَعْتَرِضُ الرَّحِمِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَالرَّتْقُ لَحْمٌ يَسُدُّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فَلَا تمكن مَعَهُ الْإِصَابَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهَا شَقُّ الْقَرَنِ، وَيُمْكِنُهَا شَقُّ الرَّتْقِ إِلَّا أَنَّهَا لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 تخبر بِشِقِّهِ، لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا فَإِنْ شَقَّتْهُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوْجِ لَمْ يُؤَثِّرْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَسْخِ، وَإِنْ شَقَّتْهُ قَبْلَ فَسْخِهِ فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، فَأَمَّا الْإِفْضَاءُ وَهُوَ أَنْ يَنْخَرِقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذكر ومخرج البول فتصير مغطاة فلا خيار فيه لإمكان الإصابة التامة معه فَلَوْ كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ وَرُبَّمَا زَالَ بتنقل الأمنان. فأما العفلاء ففي العفلة ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَحْمٌ مُسْتَدِيرٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُذْرَةِ، وَلَا يَنْبُتُ مَعَ الْبَكَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ. وَالتَّأْوِيلُ الثاني: أنه ورم يكون في اللحمة التي في قبل الْمَرْأَةِ يَضِيقُ بِهِ. فَرْجُهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ فِيهِ الذَّكَرُ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مَبَادِئُ الرَّتْقِ، وَهُوَ لَحْمٌ يَزِيدُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ رتقاً فيسد بِهِ الْفَرْجُ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الذَّكَرُ، فَإِنْ كان العقل يُكْمِلُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ التَّامَّ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ لِضِيقِ الْفَرْجِ أَوِ انْسِدَادِهِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ إِيلَاجُ الذَّكَرِ فَفِيهِ الْخِيَارُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فيها الرجل والمرأة وهي ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْجُنُونُ، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ الَّذِي يكون معه تأدية حق سواء خِيفَ مِنْهُ أَمْ لَا وَهُوَ ضَرْبَانِ: مُطْبِقٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، وَغَيْرُ مُطْبِقٍ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ فَيُجَنُّ تَارَةً، وَيَفِيقُ أُخْرَى وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ، وَفِيهِمَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ الْجُنُونِ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأْدِيَةِ الْحَقِّ فِي زمانه، ولأن قليله كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ أَوْ بِالزَّوْجَةِ. فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِمَرَضٍ فَلَا خِيَارَ فِيهِ كَالْمَرَضِ، وَإِنَّهُ عَارِضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ، وأنه قد يجوز حدوث مثله بالأنبياء الذي لَا يَحْدُثُ بِهِمْ جُنُونٌ، فَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ الْإِغْمَاءُ صَارَ حِينَئِذٍ جُنُونًا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ. وَأَمَّا الْبَلَهُ فَهُوَ غَلَبَةُ السلامة فَيَكُونُ الْأَبْلَهُ سَلِيمَ الصَّدْرِ ضَعِيفَ الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا بُلْهًا " يَعْنِي الَّذِينَ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ عَلَى صُدُورِهِمْ وَمِنْهُ قول الشاعر: (ولقد لهوت بطفلةٍ ميالةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 فَلَا خِيَارَ فِي الْبَلَهِ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَامِلٌ، وَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ فِي الْحُمْقِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ لِكَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَهُمَا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسترضعوا الحمقى فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضَيَاعٌ ". فَصْلٌ وَالثَّانِي مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْجُذَامُ وَهُوَ: عَفَنٌ يَكُونُ فِي الأطراف والأنف يسري فيهما حتى يسقط فتبطل، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّسْلِ وَتَعَدَّى إِلَى الْخَلِيطِ، وَالنَّفْسُ تَعَافُّهُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ فَلَا يَسْمَحُ بِالْمُخَالَطَةِ ولا تحبب إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ " وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيُبَايِعَهُ فَمَدَّ يَدًا جَذْمَاءَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَضَ يَدَهُ وَلَمْ يُصَافِحْهُ وَقَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ بايعناك، فَفِي الْجُذَامِ الْخِيَارُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّ قَلِيلُهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ. فَأَمَّا الزَّعَرُ فَهُوَ مِنْ مَبَادِئَ الْجُذَامِ، وَرُبَّمَا بَرِئَ وَلَمْ يَصِرْ جُذَامًا ويقع في الحاجبين فيناثر به الشعر، وفي الأنف فيتغير يه الْجِلْدُ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُذَامٍ عَادِيٍّ وَلَا النُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةً، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ بِهَا جُذَامًا، وَقَالَتْ: بَلْ هُوَ زَعَرٌ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالَا: هُوَ جُذَامٌ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ، وَإِنْ قَالَا: زَعَرٌ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ أُشْكِلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ زَعَرٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مَا يُوجِبُهُ. فَصْلٌ وَالثَّالِثُ مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْبَرَصُ: وَهُوَ حُدُوثُ بَيَاضٍ فِي الْجِلْدِ يَذْهَبُ مَعَهُ دَمُ الْجِلْدِ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَفِيهِ عَدْوَى إِلَى النَّسْلِ وَالْمُخَالِطِينَ، وَتَعَافَّهُ النُّفُوسُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ فَلَا يكمل معه الاستمتاع فلذلك رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، وَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخِيَارُ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كان بالزوج أو الزوجة. فأما البهق فتغير لَوْنَ الْجِلْدِ وَلَا يَذْهَبُ بِدَمِهِ وَيَزُولُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هَذَا الْبَيَاضُ بَرَصٌ وَلِي الخيار، وقالت الزوجة: بَلْ هُوَ بَهَقٌ فَلَا خِيَارَ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ، وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمَا فيه فَإِنْ أُشَكِلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ بَهَقٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ عَدْوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا عدوى ولا طيرة " فقيل له: أما ترى النكتة من الجرب في شفر البعير فتعدوا إِلَى سَائِرِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ بغير عدوى كان ما بعده، وفي غَيْرِهِ بِغَيْرِ عَدْوَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 قِيلَ: إِنَّمَا مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعَدْوَى كَمَا يَزْعُمُ الطِّبُّ، ولا يمنع أن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ فِيهَا الْعَدْوَى كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِحْرَاقَ، وَفِي الطَّعَامِ الشِّبَعَ، وَفِي الْمَاءِ الرِّيَّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يوردن ممرض ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ " وَامْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَةِ الأجذام. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب توجه إلى الشام فلما انتهى إلى سرغ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَأَخْبَرُوهُ بِحُدُوثِ الطَّاعُونِ بِالشَّامِ، فتوقف عن المسير وَشَاوَرَ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَسِيرِ أَوِ الرُّجُوعِ فَاخْتَلَفُوا، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف غائباً عنهم فحضر فشاوره عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا قَالَ عُمْرُ: مَا هُوَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي وَادٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ " فَحَمِدَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَجَعَ وَرَجَعَ النَّاسُ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لبن الحمقى يُعْدِي ". فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ رَدُّ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ عَدْوَى الْأَوَّلِ، وَلَوْلَاهُ مَا جَرِبَتْ، وَقَالَ: " مِنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يعني عَدْوَى كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَضَافَ الشَّافِعِيُّ الْعَدْوَى إِلَى الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا يُقَالُ: طَالَتِ النَّخْلَةُ، وَقَصُرَ اللَّيْلُ وَأَثْمَرَتِ الشَّجَرَةُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُيُوبِ فَوَجَدَ الزَّوْجُ بِالزَّوْجَةِ قَلِيلًا مِنْ بَرَصٍ أَوْ جذام عرض بِهِ فَانْتَشَرَ وَزَادَ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، لِأَنَّ الرَّاضِي بِقَلِيلِهِ رَاضٍ بِكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ فِي الْغَالِبِ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا بَرَصٌ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أقبح منظراً من الأول كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي فَخْذِهَا وَحَدَثَ الثَّانِي فِي وَجْهِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِأَنَّ النَّفْسَ مِنَ الثَّانِي أَشَدُّ نُفُورًا مِنَ الأول. والضرب الثاني: أن يكن مثل الأول في القبح، كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي يَدِهَا الْيُمْنَى وَالثَّانِي فِي يَدِهَا الْيُسْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَوَّلِ كَانَ عَيْبًا غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الأول كالمتصل فَلَوْ رَضِيَ بِبَرَصِهَا فَظَهَرَ بِهَا جُذَامٌ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْجُذَامِ دُونَ الْبَرَصِ، لِأَنَّهُ قَدْ تأنف نَفْسُهُ الْجُذَامَ، وَلَا تَعَافُ الْبَرَصَ وَلَوْ كَانَ بِهَا جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَمْ يَخْتَرْ فَسْخَ نِكَاحِهَا حَتَّى زَالَ وَبَرِئَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزُولَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ فَلَا خيار بعدم مَا يُوجِبُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَزُولَ بَعْدَ علمه وقبل فسخه بعذر آخر عَنْهُ فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بالانتهاء. فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهَا عَيْبًا وَوَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ عَيْبُ أَحَدِهِمَا جُذَامًا وَعَيْبُ الْآخَرِ بَرَصًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْخِيَارُ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْمَجْذُومَ قَدْ يَعَافُ الْأَبْرَصَ وَالْأَبْرَصُ قَدْ يَعَافُ الْمَجْذُومَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَى الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا خِيَارَ لتكافئهما وأنه ليس بنقص أَحَدُهُمَا عَنْ حَالَةِ صَاحِبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ بُصَاقٍ وَمُخَاطٍ وَأَذًى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فإن اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا نِصْفَ مهرٍ وَلَا مُتْعَةَ وَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ فَصَدَّقَتْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْمَسِيسِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا ولا على وليها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في التي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ولم يرده به عليها وهي التي غرته فهو في النكاح الصحيح الذي للزوج فيه الخيار أولى أن يكون للمرأة وإذا كان لها لم يجز أن يغرمه وليها وقضى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي التي نكحت في عدتها أن لها الْمَهْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ سَوَاءٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 كَانَ الْفَسْخُ مَنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْهَا سَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ فَهُوَ لِعَيْبٍ فِيهَا فَصَارَ مُضَافًا إِلَيْهَا، وَيَكُونُ هذا فائدة الفسخ التي تخالف حُكْمَ الطَّلَاقِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ لَا يُعْلِمُ بِعَيْبِهَا ثُمَّ عَلِمَ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ولم تسقط عَنْهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الْعَيْبِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بالطلاق، ولم يرفع بِالْفَسْخِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " ثُمَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ بِعَيْبِهَا حَتَّى يُصِيبَهَا فَيَكُونُ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ كَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ عَلِمَهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا وَأَمْكَنَ الْأَمْرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ عِلْمِهِ وَثُبُوتُ خِيَارِهِ، فَإِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مهر مثلها بالإصابة وسواء كَانَ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلها المهر بما استحل من فرجها " فإن قيل: أفليس لو وطء أَمَةً قَدِ اشْتَرَاهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يلزمه بالوطء مهر فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِوَطْئِهَا مَهْرٌ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمَهْرِ وَفِي النِّكَاحِ مَضْمُونٌ بِالْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ الرَّقَبَةُ، وَفِي النِّكَاحِ الْمَنْفَعَةُ ثُمَّ أَوْجَبْنَا بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى النِّكَاحِ فَصَارَتْ أَفْعَالُهُ مِنْ أَصِلِهِ فَسَقَطَ مَا تضمنه من صداق مسمى. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، فَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَ غُرْمِهِ عَلَى من غره أو لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - يَرْجِعُ بِهِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تعال عَنْهُ - وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا، وَلِأَنَّ الْغَارَّ قَدْ أَلْجَأَهُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ بِهَذِهِ الإصابة ولولاه لما لزمه المهر إلا بإصابة مُسْتَدَامَةً فِي نِكَاحٍ ثَابِتٍ فَجَرَى مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ إِذَا أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ مَا اسْتُهْلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيٍّ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَلَمْ يَجْعَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ عَلَى مَنِ ادَّعَى فِي نِكَاحِهَا أَنَّهُ وَلِيٌّ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا رُجُوعَ بِالْغَرُورِ، وَلِأَنَّ غُرْمَ الْمَهْرِ بَدَلٌ مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لِلْبُضْعِ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِغُرْمِ مَا أَوْجَبَهُ اسْتِهْلَاكُهُ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا كَالْمَغْرُورِ فِي مبيع قد استهلكه، ولأن لا يُجْمَعَ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ الاستمتاع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ مُبْدَلٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ بَدَلٌ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَلَا مَسْأَلَةَ وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ فَلَا يخول من غره من أن يكون الزوجة أو وليها أو أجنبي فَإِنْ غَرَّهُ الْوَلِيُّ أَوْ أَجْنَبِيٌّ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرْمِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ لم يرجع به على الزَّوْجُ عَلَى الْغَارِّ، وَلَوْ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ كالابن. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ، لِأَنَّ رَدَّهَا لَهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ لَمْ يَغْرَمْ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عليها، لأنه غير مقيد وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا بِالْغَرُورِ كَمَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى غَيْرِهَا لَوْ غَرَّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِلَّا أَقَلَّ ما يجوز أن يكون مهراً فيلتزمه لَهَا لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ. فصل فأما العدة فواجبة عليها بالإصابة، لأنه فِرَاشٌ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لَهَا وَلَا سُكْنَى لَهَا وَإِنْ وَجَبَتْ لِلْمَبْتُوتَةِ، وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لِهَذِهِ لِارْتِفَاعِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لِحَمْلِهَا فَعَلَى هَذَا لَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ الزَّوْجَةِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَمَا جَعَلْتُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ذلك المعنى قائمٌ فيها لحقه في ذلك وحق الولد (قال المزني) رحمه الله وكذلك ما فسخ عقد نكاح الأمة من الطول إذا حدث بعد النكاح فسخه لأنه المعنى الذي يفسخ به النكاح (قال الشافعي) وكذلك هي فيه فإن اختارت فراقه قبل المسيس فلا مهر ولا متعة فإن لم تعلم حتى أصابها فاختارت فراقه فلها المهر مع الفراق والذي يكون به مثل الرتق بها أن يكون مجبوباً فأخيرها مكانها وأيهما تركه أو وطئ بعد العلم فلا خيار له (وقال) في القديم إن حدث به فلها الفسخ وليس له (قال المزني) أولى بقوله إنهما سواءٌ في الحديث كما كانا فيه سواءٌ قبل الحديث (قال) والجذام والبرص فيما زعم أهل العلم بالطب يعدي ولا تكاد نفس أحدٍ تطيب أن يجامع من هو به ولا نفس امرأةٍ بذلك منه وأما الولد فقلما يسلم فإن سلم أدرك ذلك نسله نسأل الله تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 العافية والجنون والخبل لا يكون معهما تأدية لحق زوجٍ ولا زوجةٍ بعقلٍ ولا امتناعٌ من محرمٍ وقد يكون من مثله القتل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِالزَّوْجِ فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِيمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ كَمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ وَكَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِرِقِّ الزَّوْجِ إِذَا حَدَثَ عِتْقُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ إِذَا تَقَدَّمَتْ حُرِّيَّتُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - لَا خِيَارَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا بِهِ لحدوثه فإنه يقدر على دفع الغرور عَنْ نَفْسِهِ بِطَلَاقِهِ فَخَالَفَ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَغْرُورًا، وَخَالَفَ الزَّوْجَةَ فِيمَا حَدَثَ، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعِتْقِهِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْحَادِثِ وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِعِتْقِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَالْحَادِثِ كَذَلِكَ الْعُيُوبُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا دُونَ الْحَادِثِ، وَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْحَادِثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - لَهُ الْخِيَارُ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَالْمُتَقَدِّمَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن ما تستحقه من الخيار في مقابلة ما تستحق عَلَيْهِ مِنَ الْخِيَارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) . فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْخِيَارَ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ عَلَيْهَا بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى مَنَافِعِهِ اسْتَوَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَا حَدَثَ كَالْإِجَارَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بِمَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِمَا حَدَثَ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ فِيهِ لارتفاع العقد، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَحُدُوثِ مَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ بَعْدَ استقراره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الدخول فلها مهر المثل دون المسمى، لأنه لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى الدُّخُولِ صَارَ الدُّخُولُ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَسَقَطَ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاسْتُحِقَّ بِمَا بَعْدَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَحَدَثَ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، لِأَنَّهَا عُيُوبٌ قد عرف الحظر فِي الْفَسْخِ بِهَا مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ فَجَرَى مَجْرَى الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الَّتِي يثبت فيها الخيار عَلَى الْفَوْرِ، وَخَالَفَ خِيَارَ الْأَمَةِ إِذَا أُعْتِقَتْ تحت عبد في أن خيارها فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى زَمَانِ فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَاكِمُ فَيَحْكُمَ لَهُ بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمٍ، وَخَالَفَ عِتْقَ الْأَمَةِ تَحْتَ عَبْدٍ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهَا بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَنَاكَرَا فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ كلف المدعي ببينة، فإن أقامها وإلا أحلف الْمُنْكِرُ وَلَا فَسْخَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ فَلَوْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ وَاتَّفَقَا على الفسخ عن تراضي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ التَّنَازُعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ما اشتبه حكمه لم يتعين إلا بالحكم - والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ كَمَا يَمْنَعُهَا من غير كفءٍ فإن قيل فهل في حكم بينهما فيه الخيار أو الفرقة؟ قيل نعم المولى يمتنع من الجماع بيمين لو كانت على غير مأثمٍ كانت طاعة الله أن لا يحنث فأرخص له في الحنث بكفارة اليمين فإن لم يفعل وجب عليه الطلاق والعلم محيطٌ بأن الضرر بمباشرة الأجذم والأبرص والمجنون والمخبول أكثر منها بترك مباشرة المولى ما لم يحنث ". قال الماوردي: أما إذا أوصى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَامْتَنَعَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَتْ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ فَالْعُيُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ هِيَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْجُنُونُ وَالْخَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ عار على الأولياء فكان لهم دفعه عنه بِالِامْتِنَاعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا من نكاح من هي فيه، وذلك العنت، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 والجب، والخصاء لأنه عَارَ فِيهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعَدَمِ الاستمتاع الذي هو حق لا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهُوَ الْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا مِنْ مَجْذُومٍ وَلَا أبرص لاختصاصها بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُمَا لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُمَا، وَلِتَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَسْلِهَا فَأَمَّا إِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْخِيَارُ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ رَضِيَتْ وَكَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ كَانَ رِضَاهَا أَوْلَى وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دون استدامته. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مسلمةٌ فَإِذَا هِيَ كتابيةٌ كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بِلَا نِصْفِ مهرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا كتابيةٌ فَإِذَا هِيِ مسلمةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا خيرٌ من كتابية (قال المزني) رحمه الله هذا يدل عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا نصرانية فأصابها مسلمةً فليس للمشتري أن يردها وإذا اشتراها على أنها مسلمةً فوجدها نصرانية فله أن يردها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ خِلَافَ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوَجَدَهَا نَصْرَانِيَّةً فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جائز نص عليه هاهنا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَمْ لا؟ على قولين، أحدها: لَا خِيَارَ لَهُ. وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عليه هاهنا، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مسلمة كان عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، فَكَانَتْ مُسْلِمَةً فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ كَالنِّكَاحِ فَرَدَّ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ عليه، وقالوا له: في البيع الْخِيَارِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ وُفُوْرُ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ يَتَوَفَّرُ بِكَثْرَةِ الطَّالِبِ وَطَالِبُ النَّصْرَانِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 طَالِبِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ يَشْتَرِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمَةُ لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّصَارَى فَإِذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ طَلَبًا فَصَارَتْ أَقَلَّ ثَمَنًا، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَلَهُ الْخِيَارُ لِنَقْصِهَا بِالدِّينِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا عِشْرَةً، وَأَكْثَرُ نَظَافَةً وَطَهَارَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعِشْرَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُسْلِمَةِ أَوْجَدُ مِنْهُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ البيع والنكاح بما ذكرناه. فَصْلٌ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمَةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تزوجت بِغَيْرِ شَرْطٍ، لَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهَا الْخِيَارُ قَوْلًا وَاحِدًا لِنُقْصَانِ دِينِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ فِرَاقَهُ إِلَّا بِالْفَسْخِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَكَانَ مُسْلِمًا، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَفْضَلَ دِينًا، لِأَنَّهَا إِلَى مَنْ وَافَقَهَا فِي الدِّينِ أَرْغَبُ وَهِيَ مِمَّنْ خَالَفَهَا فِيهِ أنفر. فصل وإذا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فكانت نصرانية، فالنكاح جائز لا خِيَارَ لَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَكَانَتْ أَمَةً فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَا خِيَارَ لَهُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لَهُ الْخِيَارُ. وَالْفَرْقُ بينهما: أن ولي النصرانية متميز الهبة عَنْ وَلِيِّ الْمُسْلِمَةِ وَوَلِيَّ الْأَمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ وَلِيِّ الْحُرَّةِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ مِنَ الْأَمَةِ مَرْقُوقٌ وَمِنَ النَّصْرَانِيَّةِ مُسْلِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 باب الأمة تغر من نفسها من الجامع من كتاب النكاح الجديد ومن التعريض بالخطبة ومن نكاح القديم ومن النكاح والطلاق، إملاءً على مسائل مالكٍ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا وكل بتزويج أَمَتِهِ فَذَكَرَتْ وَالْوَكِيلُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا حرةٌ فتزوجها ثم علم فله الخيار فإن اختار فراقها قبل الدخول فلا نصف مهر ولا منعه وإن أصابها فلها مهر مثلها كان أكثر مما سمى أو أقل لأن فراقها فسخ ولا يرجع به فإن كانت ولدت فهم أحرارٌ وعليه قيمتهم يوم سقطوا وذلك أول ما كان حكمهم حكم أنفسهم لسيد الأمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا فَقَدْ عَتَقَتْ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا إِمَّا هِيَ أَوْ وَكِيلُهُ أَوْ هُمَا فَهِيَ حِينَئِذ ٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حراً، لأنه على شرط الحرية، أو ولده سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا غَرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين، وإن كان الزوج عبداً ففي ما قَدْ لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ على ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: فِي كَسْبِهِ. وَالثَّانِي: فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدُهُ، هَلْ يَكُونُ الْمَهْرُ إِنْ وَطِئَهَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي رَقَبَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، هَلْ يَدْخُلُ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 جُمْلَةِ إِذْنِهِ، وَيَكُونُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْعَبْدِ قَبْلَ غُرْمِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْغَارِّ لَهُ، فَإِذَا غَرِمَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَفِي رُجُوعِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَانِ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ إِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ خِيَارُهُ عَلَى قولين كالحر لمكان شروطه وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ لِمُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي الرِّقِّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَا الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ أَوْ قِيلَ إِنَّ لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فالحكم في الحالين واحد، وهو أن يختلف عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا قَبْلَ علمه أحراراً، وَبَعْدَ عِلْمِهِ مَمَالِيكَ فَمَنْ وَضَعَتْهُ مِنْهُمْ لِأَقَلَّ من ستة أشهر بعد علمه فهم أحراراً، لِأَنَّهُمْ عَلَقُوا قَبْلَ عِلْمِهِ وَمَنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ علمه بستة أشهر فصاعداً فهم مَمَالِيكُ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْغَرُورِ دُونَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا كَانَ الْمَهْرُ فِي كَسْبِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ صَحَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَا يَكُونُ قِيمَةُ الْوَلَدِ فِي كَسْبِهِ؟ لِأَنَّ إِذْنَ سَيِّدِهِ بِالنِّكَاحِ لَا يقتضيها وأين تكون؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي رَقَبَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي ذمته إذا أعتق، وَيَكُونُ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ أمته، ويكون من رق من الأولاد مِلْكًا لِلسَّيِّدِ وَقِيمَةُ مَنْ عَتَقَ مِنْهُمْ لِلسَّيِّدِ. مسألة قال الشافعي: " وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إِلَّا بعد أن يغرمها فإن كان الزوج عبداً فولده أحرارٌ لأنه تزوج على أنهم أحرارٌ ولا مهر له عليه حتى بعتق (قال المزني) وقيمة الولد في معناه وهذا يدل على أن لا غرم على من شهد على رجلٍ بقتل خطأ أو بعتقٍ حتى يغرم للمشهود له (قال الشافعي) رحمه الله وإن كانت هي الغارة رجع عليها به إذا أعتقت ". قال الماوردي: فذكرنا أن الزوج يرجع بما غرمه من قيمته الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى قَوْلَانِ، وَرُجُوعُهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بَعْدَ غُرْمِهِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ مَا يَرْجِعُ بِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 قَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمُ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ أن يغرمها الْعَاقِلَةُ فَيَرْجِعُ بِهَا حينئذٍ عَلَى الشُّهُودِ وَهَذَا صحيح، لأنه قبل الغرم قد يجوز أن يبرأ الْعَاقِلَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعُ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الْغَرُورُ إِلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ هِيَ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ غَارًّا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْغَرُورُ إِمَّا مِنْهَا، أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي نِكَاحِهَا، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَكِيلُ بِغَرُورِ الزَّوْجِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَأُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ تَفَرَّدَتِ الأمة بالغرور يرجع الزوج عليها بقيمة الولد، وبجميع مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَتْرُكُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ جَمِيعَهُ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَصِرْ بُضْعُهَا مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا لِأَنَّهَا أَمَةٌ تُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ ذَلِكَ فِي رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِيهِ كَالْعَبْدِ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ بِإِصَابَتِهِ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّقَبَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا جِنَايَةٌ، وَوَطْءُ الْعَبْدِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْغُرْمَ فَجَازَ أَنْ يتعلق بِرَقَبَتِهِ، وَلَيْسَ غَرُورُ الْأَمَةِ جِنَايَةً وَلَا الْغُرْمُ بِهَا يَتَعَلَّقُ وَإِنَّمَا تَعَلَقَّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ فَلَمْ يجز أن يتعلق برقبتها، وإن اشتراك الْوَكِيلُ، وَالْأَمَةُ فِي الْغَرُورِ كَانَ غُرْمُ الْمَهْرِ وقيمة الأولاد بينهما نصفين لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَرُورِ، لَكِنْ مَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ يُؤْخَذُ بِهِ مُعَجَّلًا، لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ تُؤْخَذُ بِهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ العتق. مسألة قال الشافعي: " إلا أن تكون مكاتبةً فيرجع عَلَيْهَا فِي كِتَابَتِهَا، لِأَنَّهَا كَالْجِنَايَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ فحتى تعتق فإن ضربها أحدٌ فألقت جنيناً ففيه ما في جنين الحرة (قال المزني) رحمه الله قد جعل الشافعي جنين المكاتبة كجنين الحرة إذا تزوجها على أنها حرة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَكَانَتْ مُكَاتِبَةً كَانَ فِي نِكَاحِهَا قَوْلَانِ كَالْأَمَةِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ: وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَمَةِ. فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَأَنْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَوْ فِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عَلَيْهِ فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَاجِبٌ وَهُوَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا وَاكْتِسَابُ الْمُكَاتِبَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ، فَأَمَّا أَوْلَادُهَا الَّذِينَ عُلِّقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِكِتَابَتِهَا فَفِيهِمْ قَوْلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 أَحَدُهُمَا: مَمَالِيكُ لِسَيِّدِهَا. وَالثَّانِي: تَبَعٌ لَهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا إِنْ أَدَّتْ، وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا إِنْ عَجَزَتْ. وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ، وَفِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ وَيَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا وَفِيمَنْ تَكُونُ لَهُ قِيمَتُهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبِيدُهُ لَوْ رَقُّوا. وَالثَّانِي: لِلْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ تَبَعٌ لَهَا ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ قِيمَتِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تستعين بِهِ فِي كِتَابَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - إنَّهُ يَكُونَ مَوْقُوفًا كَمَا يُوقَفُ الْأَوْلَادُ لَوْ رَقُّوا، فَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ مَلَكَتْ قِيمَتَهُمْ، وَإِنْ رَقَّتْ بِالْعَجْزِ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ لِلسَّيِّدِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ غُرْمِهَا سَوَاءٌ غَرِمَهَا لِلْمُكَاتِبَةِ أَوْ لِسَيِّدِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَاتِبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ لِلسَّيِّدِ غُرْمَهَا لِلسَّيِّدِ ثُمَّ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكَاتِبَةِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا فَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ فَبَعْدَ عتقها. وإن قيل: تجب قِيمَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ سَقَطَتْ عَنْهُ ولم يغرمها، لأنه لو غرمها لرجح بِهَا، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ قِيلَ: لَا يرجع به دفع جمعيه إِلَيْهَا. وَإِنْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِهِ نَظَرَ فِي الْغَارِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلَ غَرِمَ لَهَا مَهْرَهَا وَرَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةُ سَقَطَ عَنْهُ الْمُهْرُ، لِأَنَّهُ لَهَا وهل يسقط جميعه أم لا؟ فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ جَمِيعُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ على غيرها بجميعه. والوجه الثاني: لَا يَسْقُطُ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ، أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَرْجِعُ به عليها، لأن لا يصير مُسْتَمْتَعًا بِبُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ. فَصْلٌ فَلَوْ كانت والمسألة بحالها حَامِلًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَى الضَّارِبِ فِي جَنِينِهَا غِرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، لِأَنَّهُ حُرٌّ فِي حَقِّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ أَبُوهُ وَوَارِثُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الضَّارِبَ فَلَا يَرِثْهُ، لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا وَلَا تَرِثْهُ الْأُمُّ، لِأَنَّهَا مُكَاتِبَةٌ وَيَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ كَالَّذِي يَكُونُ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْغُرْمِ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الْمَمْلُوكِ وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 الْأَبُ عَلَى الضَّارِبِ مِنَ الدِّيَةِ فِي حُكْمِ الجنين الحر وفيمن يَسْتَحِقُّ مَا غَرِمَهُ الْأَبُ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَلَدَ مِلْكٌ لَهُ لَوْ رَقَّ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْأُمِّ الْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا لَوْ رَقَّ، وَهَلْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا بِيَدِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ يَكُونُ رُجُوعُ الزَّوْجِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَا مَضَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 باب الأمة تعتق وزوجها عبدٌ من كتابٍ قديمٍ ومن إملاءٍ وكتاب نكاحٍ وطلاقٍ إملاءٍ على مسائل مالكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) وفي ذلك دليلٌ على أن ليس بيعها طلاقها إِذْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ بَيْعِهَا فِي زَوْجِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ فبيعت أو أعتقت كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لَهَا. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مالك إلى أن بيعها طلاق لها، وَكَذَلِكَ عِتْقُهَا، وَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا بِهِ مِنَ التابعين إلا مجاهد استدلالاً بقول اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) {النساء: 23) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 24) . فَحَرَّمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا أَنْ يُمْلَكْنَ فَيَحْلِلْنَ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ قَدْ مُلِكَتْ بِالِابْتِيَاعِ فوجب أن تحل لمالكها، لأنه لَمَّا حَلَّتْ ذَاتُ الزَّوْجِ بِالسَّبْيِ لِحُدُوثِ مِلْكِ السَّابِي وَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالشِّرَاءِ لِحُدُوثِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نِكَاحِهِ، فَلَوْ كَانَ نِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ بِعِتْقِهَا لِأَخْبَرَهَا بِهِ وَلَمْ يُخَيِّرْهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَوَامِهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْعُ الزَّوْجِ وَعِتْقُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهِ كَذَلِكَ بَيْعُ الزَّوْجَةِ، وَعِتْقُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ عَنِ الْبَائِعِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ الْبَائِعُ مَالِكَهَا فَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي السَّبَايَا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّبَايَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْيَ لَمَّا أَبْطَلَ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى، كَانَ بِأَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ والعتق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبْيَ قَدْ أَحْدَثَ حَجْرًا فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي إِقْرَارُ الزَّوْجِ عَلَى نِكَاحِهِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنِكَاحِهِ لِتَفْوِيتِ بُضْعِهَا عليه. مسألة قال الشافعي: " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كان عبداً وعن ابن عباس أنه كان عبداً يقال له مغيثٌ كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للعباس رضي الله عنه يا عباس ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هو أبو ولدك " فقالت يا رسول الله بأمرك؟ قال " إنما أنا شفيعٌ " قالت فلا حاجة لي فيه وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ كان عبداً (قال الشافعي) رحمه الله ولا يشبه العبد الحر لأن العبد لا يملك نفسه ولأن للسيد إخراجه عنها ومنعه منها ولا نفقة عليه لولدها ولا ولاية ولا ميراث بينهما ". قال الماوردي: أما إذا أعتقت الْأَمَةُ تَحْتَ زَوْجٍ، وَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ لِكَمَالِهَا وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي ". فَأَمَّا إِذَا أعتقت الأمة وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أبو حنيفة: وَصَاحِبَاهُ: لَهَا الْخِيَارُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَطَاوُسٌ اسْتِدْلَالًا برواية إبراهيم بن الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَجَعَلَ عِلَّةَ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ موجودة إذا أعتقت تحت حر لوجودها إذا أعتقت تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ قَالَ: وَلِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ ملك عليها بعضها بعد العتق بمهر ملكه غَيْرُهَا فِي الرِّقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا فسخه فيصح أَنْ تَمْلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَلَيْهَا فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيَّرَ بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا. فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فيه أن الحكم إذا انتقل مَعَ السَّبَبِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا إذا نقل الحكم مع علة تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ نُقِلُ التَّخْيِيرُ بِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عائشة أنه كان حراً فتعارضت الروايتان في النقل، وَكَانَتْ رِوَايَةُ الْحُرِّيَّةِ أَثْبَتَ فِي الْحُكْمِ، إِلَّا ترى لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُرِّيَّةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِعُبُودِيَّتِهِ كَانَ شَهَادَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ العبودية كذلك في النقلين المتعارضين. قيل: روايتنا إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِمْ إِنَّهُ كَانَ حُرًّا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ عُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَعَمْرَةُ، وَرَاوِي الْحُرِّيَّةِ عَنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَرِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنَ السَّهْوِ أَبْعَدُ وَإِلَى التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَقْرَبُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) {البقرة: 282) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ". وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا أَخَصُّ بِعَائِشَةَ مِنَ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هِيَ بِنْتُ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهَا مُشَاهَدَةً من غير حجاب، والأسود أجنبي لا يسمع كَلَامَهَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَقْلَ الْعُبُودِيَّةِ يُفِيدُ عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَنَقْلَ الْحُرِّيَّةِ لَا يُفِيدُهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ حُرِّيَّةَ الزَّوْجِ عِلَّةً في ثبوت الخيار، والعبودية يجعله عِلَّةً فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَحَابِيَّانِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وما وافقهما فِي رِوَايَةِ الْحُرِّيَّةِ أَحَدٌ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَرَاهُ يَطُوفُ خَلْفَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّ مغيث بريرة ومن شدة بغض بريرة مغيث، قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هُوَ أَبُو وَلَدِكِ " فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ، قَالَتْ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّ شُهُودَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ كَذَلِكَ رَاوِي الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمَ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمْ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا مِمَّنْ عَلِمَ الْعُبُودِيَّةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُجَدَّدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا فَسَقَطَتَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شَهَادَةَ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ فَكَانَتْ أَزْيَدَ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّقِيطَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ حُكْمِ الدار، ولأن أَهْلَهَا أَحْرَارٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ ترجيح. فإن قالوا: تستعمل الرِّوَايَتَيْنِ فَتَحْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَرِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْحُرِّيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَطْرَأُ عَلَى الرِّقِّ، وَلَا يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ يَبْطُلُ بِخَبَرَيْنِ: أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّ أُسَامَةَ رَوَى عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " إِنْ شِئْتِ أَنْ تَسْتَقِرِّي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتِيهِ " فَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ عَبْدًا. وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا نُقَابِلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ بِمِثْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ السبي وعبداً بعد السبي عند العقد والتخيير. وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعِتْقِ وَحُرًّا وقت التخيير فتكون لَهَا الْخِيَارُ فِي أَحَدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 الْمَذْهَبَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَوْهَبٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فأرادت عتقها فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابدأي بِالْغُلَامِ فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَقْدِيمِ عِتْقِ الزَّوْجِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ إلا سقوط خيار الزوجة عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: ابدأي بالغلام، لأن لا يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارٌ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا صَرِيحًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا بِذَلِكَ خِيَارٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ تَحْتَ مسلم أو أفاقت من جنون تَحْتَ عَاقِلٍ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الخيار في أثناء النكاح كالعمى طَرْدًا، وَكَالْجَبِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ خِيَارٌ كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُهُمْ وَلَا وُجِدَ إِلَّا فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ يَكُونُ مَعْنَاهُ قَدْ مَلَكْتِ نَفْسَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَارِي فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا تَحْتَ الْحُرِّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَالْمَعْنَى فيه نقصه بالرق عن كمالها بالحرية فذلك كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِتْقُهَا مَعَ الْحُرِّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بِمَهْرٍ مَلَكَهُ غَيْرُهَا فَلَا تَأْثِيرَ لهذا المعنى، واستحقاق الْخِيَارِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتِبَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَمَلَكَتْ مَهْرَهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فبطل أن يكون استحقاقه لهذه العلة، وبطل أن يكون الْعِلَّةَ، لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ بِالْعِتْقِ مَا مُلِكَ عليها في الرق، لأنها لو أوجرت ثم عتقت لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ خِيَارٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَبَطَلَ الاستدلال - والله أعلم -. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " فَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أعتقت ما لم يصبها زوجها بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا أَعْلَمُ فِي تَأَقْيِتِ الْخِيَارِ شَيْئًا يُتَّبَعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَمَسَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَغَيْرِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ بالعيوب، لأن خيارها بالعتق غير مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَاكِمٍ، وَخِيَارَهَا بِالْعَيْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَافْتَقَرَ إِلَى حَاكِمٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ على الفور معتبراً بالمكنة، لأنه خيار عيب ثبت لرفع ضرر فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالْخِيَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْبُيُوعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ آخِرُ حَدِّ القليل، وأول حد الكثير، واعتباراً بالخيار في المصراة ثلاثاً، بأنه جَعَلَ الْخِيَارَ خِيَارَ ثَلَاثٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تصرح بالرضى أو التمكين مِنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: لَمَّا رَأَى مُغِيثًا بَاكِيًا: " لَوْ راجعتيه فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ " وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ عِتْقِهَا، فَلَوْلَا امْتِدَادُ خِيَارِهَا عَلَى التَّرَاخِي لَأَبْطَلَهُ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " لَكِ الْخِيَارُ مَا لَمْ يُصِبْكِ " وهذا نص إِنْ صَحَّ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وليس يعرف لهما فيه خلاف، ولأن طلب الأحظ في هذا الخيار مثبته يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ فَتَرَاخَى زَمَانُهُ لِيُعْرَفَ بِامْتِدَادِهِ أَحَظُّ الْأَمْرَيْنِ لَهَا، وَخَالَفَ خِيَارَ الْعُيُوبِ التي لا يشتبه الأحظ منها. مسألة قال الشافعي: " فإن أصابها فادعت الجهالة ففيها قولان أحدهما أن لَا خِيَارَ لَهَا وَالْآخَرُ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أحب إلينا (قلت أنا) وقد قَطَعَ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي كِتَابَيْنِ وَلَا مَعْنَى فِيهَا لِقَوْلَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ، وَأَرَادَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ فَدَعْوَى الْجَهَالَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ وَإِنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقَهَا لِبُعْدِهَا عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ سَيِّدُهَا، وَقُرْبِ الزَّمَانِ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا خَبَرُ عِتْقَهَا فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ لَا يُبْطَلُ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا جهلت. والقسم الثاني: أن تعلم كذلك بها، لِأَنَّهَا وُجِّهَتْ بِالْعِتْقِ أَوْ بُشِّرَتْ بِهِ فَعَلِمَتْ أَحْكَامَهَا فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلْمِهَا وثبوت الخيار لها فَلَمْ يُصَدَّقِ الزَّوْجُ فِي إِبْطَالِهِ عَلَيْهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي فَسْخِهِ مع احتمال تخريجها مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَهَالَةِ بِالْحُكْمِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ مَعَ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ فَتَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ بِأَنَّ لِي الْخِيَارَ إِذَا أُعْتِقْتُ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِي، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يعلم، لأنها جلبية أَعْجَمِيَّةٌ فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ. وَالثَّانِي: أَنْ يعلم أن مثلها يعلم، لأنها مخالطة للفقهاء مسائلة العلماء فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التمكين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 والثالث: أن يحتمل الأمران أن يعلم، وأن لا يعلم، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى أَنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنَّ أَكْذَبَهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ الخيار لها وأنه حكم قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَاصَّةُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خِيَارَ لَهَا اعْتِبَارًا بِلُزُومِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَصَحُّ لَكِنَّهُ جَعَلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ إِبْطَالًا لِلثَّانِي، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلُ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْطُلْ بِإِعَادَةِ الْأَوَّلِ - وَاللَّهُ أعلم -. مسألة قال الشافعي: " فَإِنِ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَا صَدَاقَ لها فإن أَقَامَتْ مَعَهُ فَالصَّدَاقُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خُيِّرَتِ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تختار الْفَسْخُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَسْقُطُ مَهْرُهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَ مَهْرَهَا كَالرِّدَّةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا، وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ طلقتين لا مَهْرَ لَهَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُفْسَخَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْمَهْرُ مُسْتَقِرٌّ بِالدُّخُولِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ كَانَ بحادث بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْلَمَ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ فُسِخَ بِسَبَبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا بَعْدَهُ فَصَارَ الْعَقْدُ مَرْفُوعًا بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ بِالْعِدَّةِ فِي الْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا قُلْنَا فِي الْعَيْبِ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِصَابَةُ قَبْلَ الْعِتْقِ أو بعده. فصل: والحالة الثانية : أن يختار المقام والنكاح ثابت والصداق عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي العقد فهو للسيد دونهما. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ الصَّدَاقُ لَهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَقِرًّا بِالدُّخُولِ، وَالْعَقْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ لَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَتْهُ فِي حُرِّيَّتِهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعِهَا بِالْإِجَارَةِ تَارَةً وَبِالنِّكَاحِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ لَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 أَجَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ لَهُ دُونَهَا كَذَلِكَ إِذَا زَوَّجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ دُونَهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُفَوَّضَةً لم يسم لها في العقد صداقاً حتى أعتقت فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فَرَضَ مِنْ صَدَاقِ الْمُفَوَّضَةِ هَلْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْفَرْضِ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ فَرَضَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ استحقاقه فِي مِلْكِهِ كَالْمُسَمَّى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْفَرْضِ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للمعتقة لاستحقاقه بعد عتقها. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طلقةٍ فَلَهَا الْفَسْخُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الأمة واحدة بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ وَقَدْ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَصَارَتْ كَزَوْجَةِ الْحُرِّ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثَلَاثًا وَالْعَبْدَ طَلْقَتَيْنِ فَإِنْ أُعْتِقَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ في حكم الزوجات لوقوع طلاقه عليها، وصحة ظهاره وَإِيلَائِهِ مِنْهَا فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَتْ جارية في فسخ، لأن الفسخ لا ينافي الفسخ وليستعيد بِالْفَسْخِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يختار الفسخ. والثاني: أن يختار الْمُقَامُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُمْسِكَ فَلَا تَخْتَارُ الْفَسْخَ وَلَا الْمُقَامَ فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ، كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّجْعَةَ بِطَلَاقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رَجْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلِاسْتِبَاحَةِ، وَالْفَسْخُ قَدْ مَنَعَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَسْخِ إِسْقَاطَ الرَّجْعَةِ لَا وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دون الفسخ، وأول عِدَّتِهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فِي الرِّقِّ، وَقَدْ صارت في تضاعيفها حُرَّةٍ، فَتَكُونُ عِدَّتُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِدَّةُ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: عِدَّةُ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ. وَإِنْ قِيلَ: لَهُ الرَّجْعَةُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 إما أن يراجع أو لَا يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ، وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ رَاجَعَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ دون الطلاق، وأول عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَهِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ، لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ جَرَيَانَهَا فِي الْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الرِّضَى. وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا بِالرِّضَى، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَفْسَخَ، لِأَنَّ أحكام الزوجية جَارِيَةً عَلَيْهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا إِنْ رَضِيَتْ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ لا يلزمها حكم الرضى إذا أعتقت كَمَا لَوِ ارْتَدَّ، وَقَالَ أَنْتِ بَائِنٌ فَإِنَّ أبا حنيفة يُوَافِقُ فِيهِمَا أَنَّ الرِّضَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ لَا يَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ: وَإِنْ رَاجَعَ عَادَتْ بِالرَّجْعَةِ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الفسخ، والمقام، لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّضَى لَمَّا كَانَ فِي غَيْرِ محله سقط حكمه، فإن اختارت المقام كان عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حرة من وفت الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتَ الْعِتْقِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ وَلَا الْفَسْخُ فَهُوَ عَلَى مَا ذكرنا من أن الزوج أَنْ يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ، وَإِنْ رَاجَعَ كَانَتْ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا مَبْتُوتَةٌ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ بَائِنًا، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ إِذَا أُعْتِقَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ مَبْتُوتَةٌ وَإِنْ بَقِيَ لَهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةٌ. فَصْلٌ وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَبَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَسْخِ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - رَوَاهُ الرَّبِيعُ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الزَّوْجِ فِيهَا بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ - إِنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْفَسْخِ زَوْجَةٌ، وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْفَسْخَ وَالطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفٍ يُضَادُّهُ كَالِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: الطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ فَسَخَتْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يكن واقعاً، وإن لم يفسخ بان أنه كان واقعاً كطلاق المرتدة، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وإن تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَى واحدةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَإِنْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 يُطَلِّقَهَا جَازَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَتْ مِنْهُ مُنِعَتْ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ، ولم يمنع مِنْ نِكَاحِهِ فَإِذَا نَكَحَهَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ الْكَامِلِ وَهُوَ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْفَسْخُ طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ فَسْخِهَا طَلْقَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ كَمَا تَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ بِمَا بَعَدَ ثَلَاثٍ لِاسْتِيفَائِهِ مَا مَلَكَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، سَوَاءٌ فَسَخَتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ لَمْ تَفْسَخْ وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَاقِيَةُ لَهُ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَفِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا عتقت فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى طلقة واحدة اعتباراً بما هي من نكاحه الأولى الذي كان فيه عبداً. والقول الثَّانِي: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَمْلِكُهُ فِي نِكَاحِهِ الثَّانِي الَّذِي قَدْ صَارَ به حراً. مسألة قال الشافعي: " وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ تحت عبد أن تختار الفسخ في نِكَاحِهِ مِنْ غَيْرِ حَكَمٍ فَإِنْ تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فعلى بالسلطان أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي فَلَا يُؤَجِّلُهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ مَكِنَةِ الْفَوْرِ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا إِلَى ثَلَاثٍ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ خِيَارِهَا وَلَا إِبْطَالُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مُدَّتِهِ أَوْ مِنْ تَرَاخِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَإِذَا قَاضَاهَا الزوج إليه، وقال الزوج: إما أن تمكنيني أَوْ تَفْسَخِي لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِلَهَا وَيَذْرَهَا مَعَهُ مُعَلِّقَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارِقَةٍ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ وَإِنْ كَانَ خِيَارُكِ مُمْتَدًّا على التراخي بالتحاكم ثلاث والقضاء ي فصل فاختاري تعجيل الفسخ أو الرضى فَإِنْ فَسَخَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهَا منه والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " فإن كانت صبية فحتى تَبْلُغَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ صَغِيرَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 الْخِيَارُ مَعَ الصِّغَرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْحُقُوقِ اسْتَوَى اسْتِحْقَاقُهُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ كَالشُّفْعَةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَخْيِيرٌ يُسْتَحَقُّ فِي الصِّغَرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفُوتَ بانتظار البلوغ فخالف خيار الْعِتْقِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَخْيِيرٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لِقَوْلِهِ حكم، وإذا كان هكذا فليس لِوَلِيِّهَا مِنْ أَبٍ وَلَا مُعْتِقٍ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ الَّتِي يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي هَذَا الْخِيَارِ اسْتِهْلَاكًا لَيْسَ فِي الشُّفْعَةِ فَجَرَى مَجْرَى اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ الَّذِي لَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ خِيَارٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بلغت كان البلوغ أَوَّلِ زَمَانِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تَرْضَ أَوْ تُمَكِّنْ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا مَا بين عتقها وبلوغها فالصحيح أنه تمكن منه، ولا يُمْنَعُ مِنْ إِصَابَتِهَا، لأن اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ إِنَّ طَلَاقَ الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يقع. مسألة قال الشافعي: " ولا خيار لأمةٍ حَتَّى تَكْمُلَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا قَبْلَ استكمال الحرية، فإذا أعتق بَعْضُهَا وَرَقَّ بَاقِيهَا، فَإِنْ قَلَّ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دُبِّرَتْ أَوْ كُوتِبَتْ وَفِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَقَ جَمِيعُهَا، وَقَدْ أُعْتِقَ مِنَ الزَّوْجِ بَعْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَرَقَّ بَاقِيهِ، وَإِنْ قَلَّ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ. فَصْلٌ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدَهَا بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا الْفَسْخُ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ صَدَاقُهَا فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَا درهم قيمتها نِصْفُهَا فَيُعْتَقُ ثُلْثَاهَا وَيَرِقُّ ثُلُثُهَا، وَإِذَا رَقَّ ثُلْثُهَا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 إبطاله وإبطال غيره أبطل ثبوت غيره فكذلك بَطَلَ الْخِيَارُ وَمَضَى الْعِتْقُ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ قَدْ ذكرناها. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْخِيَارِ فَلَا خِيَارَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عبد فلم تختر فسخ نكاح حَتَّى أُعْتِقَ إِمَّا بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ بِعِتْقِهَا فَيَكُونُ خِيَارُهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِمَّا بِأَنْ عَلِمَتْ، وَقِيلَ خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ فَفِي بَقَاءِ خِيَارِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خِيَارَهَا ثَابِتٌ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يسقط مع زوال سببه إلا بالاستبقاء. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ خِيَارِهَا إزالة النقص الداخل عليها بِرِقِّهِ وَقَدْ زَالَ النَّقْصُ بِعِتْقِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مَعْنًى يَقْتَضِيهِ، فَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجَانِ في حالة واحدة فلا خيار لهما لاستوائهما في التكافئ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ، وَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِفَسْخِ نِكَاحِهَا بِعِتْقِهِ وَرِقِّهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لِيَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا مِنَ الْخِيَارِ مِثْلَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَسْخِ فَافْتَرَقَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 باب أجل العنين والخصي غير المجبوب والخنثى من الجامع من كتابٍ قديمٍ ومن كتاب التعريض بالخطبة مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عن عمر رضي الله عنه أنه أجل العنين سنةً (قال) ولا أحفظ عمن لقيته خلافاً في ذلك فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا كما قال: أما العنة في الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ لِلِينِ الذَّكَرِ وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَسُمِّيَ مَنْ بِهِ الْعُنَّةَ عِنِّينًا، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أنه سمي عنيناً للين ذكره يعني عند إرادة الوطء وَانْعِطَافِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِلِينِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ عِنِّينًا، لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَطْءِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَنْ يَمِينِ الفرج ويساره فلا يلج مأخوذ من العنن، وهو الاعتراض، يقال عزلك الرجل إذا اعترضتك عن يمينك أو يسارك. وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ لِلزَّوْجَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا شاذاً عن الحكم عن عيينة وَدَاوُدَ، إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ لَمَّا تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: أن زوجي أبت طلاقي، وقد تزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وإنما له مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ " فَلَمْ يَجْعَلِ الْعُنَّةَ فِيهِ عَيْبًا، وَلَا جَعَلَ لَهَا خِيَارًا. وَرَوَى هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَنْتَشِرُ فَقَالَ: وَلَا عِنْدَ الحر قَالَتْ لَا، قَالَ مَا عِنْدَ اسْتِ هَذَا خَيْرٌ ثُمَّ قَالَ اذْهَبِي فَجِيئِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ رَآهُ شَيْخًا ضَعِيفًا فَقَالَ: لَهَا اصْبِرِي فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَكِ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فعل، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا خِيَارًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهنِ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 229) فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٌ) {البقرة: 229) وَهِيَ الْفُرْقَةُ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةِ، وَابْنِ عمر وجابر، أنه يؤجل فإن أصاب وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ بِخِلَافِ هَذَا. قِيلَ: تِلْكَ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا عِنِّينًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَنَّسَتْ عِنْدَهُ وَالْعِنِّينُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُصِبْهَا قَطُّ وَقَدْ قال الشافعي في إثبات الإجماع: لا أحفظ عمن لَقِيتُهُ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهَا بِالْجَبِّ خيار الفسخ لفقد الإصابة المقصورة فكذلك العنة؛ ولأن الْعِنِّينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُولِي لِأَنَّ الْمُولِيَ تَارِكٌ لِلْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْعِنِّينَ تَارِكٌ لَهَا مَعَ الْعَجْزِ، فَلَمَّا كَانَ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْإِيلَاءِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْعُنَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِالرَّتْقِ لِتَعَذُّرِ الْجِمَاعِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِرَاقِهَا بِالطَّلَاقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا بِعُنَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ بِالطَّلَاقِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَكَتْ ضَعْفَ جِمَاعِهِ، وَلَمْ تَشْكُ عَجْزَهُ عَنْهُ أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمَا ذَاقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عسيلتك " فقالت يا رسول الله قد جاءني هبة وفيه معنيان: أحدهما: أن الهبة مرة واحدة قاله ابن وهب. والثاني: أنها حِقْبَةٌ مِنَ الدَّهْرِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَهَذَا نص في الجواب. والثالث: إِنَّهَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّوْجِ اعْتِرَافٌ بِدَعْوَاهَا بَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا قَوْلَهَا فَقَالَ: كَذَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي: " أَعْرُكُهَا عَرْكَ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ". فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا قَطُّ فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِيلَاجِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ وَإِنِ اسْتَعَانَ بِيَدِهِ زال عنه حكم العنة، فإن تَكَامَلَ الشَّرْطَانِ وَتَصَادَقَ عَلَيْهِمَا الزَّوْجَانِ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْفَسْخَ بِهَا، وَأُجِّلَ الزَّوْجُ لَهَا سَنَةً كَامِلَةً بالأهلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُؤَجَّلُ نِصْفَ سَنَةٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِنَّهُ يُؤَجَّلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَاسِدَةٌ لَا يَرْجِعُ التَّقْدِيرُ فِيهَا إِلَى أصل من جهة وتقدير أصله بِالسَّنَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ عمر؛ لأنه أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً، وَعُمْرُ لَا يَفْعَلُ هَذَا غإا عَنْ تَوْقِيفٍ يَكُونُ نَصًّا أَوْ عَنِ اجْتِهَادٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْمَشُورَةِ في الأحكام فيكون مع عدم الخلاف فيه إجماعاً، وإذا تردد بين حالين نص أو إجماع لم يجز بخلافه. والثاني: إن التأجيل إِنَّمَا وَضِعَ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، هَلْ هُوَ مِنْ مَرَضٍ طَارِئٍ فَيُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ مِنْ نقصٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَتِ السَّنَةُ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَجَلًا مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ بَارِدٌ رَطْبٌ وَفَصْلَ الصَّيْفِ حَارٌّ يَابِسٌ، وَفَصْلَ الرَّبِيعِ حَارٌّ رَطْبٌ، وَفَصْلَ الْخَرِيفِ بَارِدٌ يَابِسٌ فَإِذَا مَرَّ بِالْمَرَضِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ ظَهَرَ وَكَانَ سَبَبًا لِبُرْئِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَرْدٍ ف فصل الحد يقابله فإن كَانَ مِنْ حَرٍّ فَفَصْلُ الْبَرْدِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ فَفَصَلُ الْيُبُوسَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يُبُوسَةٍ فَفَصْلُ الرُّطُوبَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ نَوْعَيْنِ فَمَا خَالَفَهُ فِي النَّوْعَيْنِ، هُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا لِمَا قِيلَ عَنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ أَنَّهُ لَا يسحر الدَّاءُ فِي الْجِسْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ نَقْصٌ لَازِمٌ لِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْعُنَّةِ وَأَجَلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا بماذا يثبت الْعُنَّةُ إِنِ ادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا لَا تَثْبُتْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ مُعْتَبِرًا فِي ثُبُوتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أنها تثبت بإقراره أو بنكوله لعدم إِنْكَارِهِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ يَمِينُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ بَاطِنَ حَالِهِ فَتَحْلِفَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأكثر أصحابنا، وحكاه أبو حامد الإسفراييني ولم يحك ما سواه أنها ثبتت بإقراره على الزوجة بعد نكوله، وإنكاره لا يثبت إن لم يحلف بعد النكول ولا يمتنع أن يحلف على مغيب بالإمارات الدالة على حاله كما يحلف على كنايات القذف والطلاق، وأنه أراد به الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 مسألة قال الشافعي: " وإن قطع من ذكره فبقي مِنْهُ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجِمَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ بِأَسْرِهِ فَهُوَ المجبوب، ولها الخيار في فرقتها من غير تأجيل؛ لأن جماعه ما يؤس مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ مَعْنًى يَنْتَظِرُهُ فَإِنْ رضيت لجبه ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لِلْعُنَّةِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحَالَةِ الْوَطْءِ مَعَ الْجَبِّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الرضى وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَكَرِهِ مَقْطُوعًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَهَذَا كَالْمَجْبُوبِ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تأجيل. والضرب الثاني: أن يبقى منه قر الحشفة ويقدر على إيلاجه فعنه قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَجَرَى مَجْرَى الذَّكَرِ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عنةٌ فَيُؤَجَّلُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الحال وإن يَكُنْ مَعَهُ عُنَّةٌ لِنَقْصِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنْ حَالِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِقَطْعِهِ وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَ العنة أجل. والضرب الثالث: ألا يُعْلَمَ قَدْرُ بَاقِيهِ هَلْ يَكُونُ قَدْرَ الْحَشَفَةِ إِنِ انْتَشَرَ فَيَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أكثر الأمرين، فالباقي منه قدر الحشفة، استصحاباً، بالحالة الْأُولَى، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عَاجِلًا إِلَّا أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ، أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْعُنَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي قطعت أنثياه مع الوعاء، وأما المسلول: فهو الذي أسلت أنثتاه من الوعاء. وأما الموجور: فهو الذي رضت أُنْثَيَاهُ فِي الْوِعَاءِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ وَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يَتَعَجَّلُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِيهِ قولان مضيا، فإن جعل عيباً يعجل بِهِ الْفَسْخُ مِنْ وَقْتِهِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ، وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَهُ لِلَّعُنَّةِ أُجِّلَ لَهَا بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ لِإِمْكَانِ الْوَطْءِ مِنْهُ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْمَجْبُوبِ. مسألة قال الشافعي: " أَوْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرجال ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْخُنْثَى حَالَتَانِ: مُشْكِلٌ وَغَيْرُ مُشْكِلٍ فَأَمَّا الْمُشْكِلُ فَيَأْتِي وَأَمَّا غَيْرُ الْمُشَكِلِ، فَهُوَ أَنْ يَبُولَ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ، فَيَكُونُ رَجُلًا، يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 يَكُونُ زِيَادَةُ فَرْجِهِ عَيْبًا فِيهِ، يُوجِبُ الْفَسْخَ وفي الخيار فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ عَيْبًا أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ إِنْ ظَهَرَتْ بِهِ. وَإِنْ جُعِلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ بِهِ الْفَسْخَ فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ، وَظَهَرَتْ عُنَّتُهُ، أُجِّلَ لَهَا؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ بِالْعُنَّةِ غَيْرُ نَقْصِهِ بِالْخُنُوثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " أَوْ كَانَ يُصِيبُ غَيْرَهَا وَلَا يُصِيبُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أن تعدمن جَمِيعِهِنَّ، وَكَانَ يَطَأَهُنَّ كُلَّهُنَّ، انْتَفَتْ عَنْهُ الْعُنَّةُ عموماً. وما لم تعدمن جميعهن وكان يطأهن كلهن، ولا خيار، وإن عدمن جميعهن فلا يطأ واحدة منهن فإذا سألوا تأجيله أجل لهم حَوْلًا؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُهُ فَاسْتَوَى حُكْمُهَا فِي حُقُوقِهِنَّ كُلِّهِنَّ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الْفَسْخِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ، وَإِنِ افْتَرَقْنَ أَجْرَى عَلَى كل واحدة حكم اختيارها، وإن عزم بعضهن دون بعض فوطأ اثنتين، ولم يطأ اثنتين ثبتت عنته، فن امتنع من وطئها، وإن سقطت عنته فِي جَمِيعِهِنَّ، وَلَا خِيَارَ لِمَنْ لَا يَطَأْهَا مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا وَغَيْرَ عِنِّينٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أن يلحقه العنة من بعضهن لما في طبعه في الميل إليهن، وقوة الشهوة لهن مختص كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحُكْمِهَا مَعَهُ. فَصْلٌ وَإِذَا أخبرها الزوج قبل النكاح أَنَّهُ عِنِّينٌ فَنَكَحَتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ تَأْجِيلَهُ لِلْعُنَّةِ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: ليس لها ذلك، ولا خيار لها، كَمَا لَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِعَيْنِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ لَهَا الْخِيَارُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ، لِأَنَّ الْعُنَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمِنِ امْرَأَةٍ دون امرأة، وغيرها من العيوب تكون فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَمِنَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فسألت فرقته أجلته سنةً من يوم ترافعا إلينا (قال) فإن أصابها مرةً واحدةً فهي امرأته ". اعْلَمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ، وَتَأْجِيلَ الزَّوْجِ فيه لا يسار إلا بحكم حاكم لِأَنَّ الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِاجْتِهَادٍ، وَتَأْجِيلُ السَّنَةِ عَنِ اجتهاد وما أخر ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ، كَانَ حَقُّهَا فِي مُرَافَعَتِهِ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّأْجِيلِ عَيْبٌ مَظْنُونٌ، وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ، فَإِنْ أجزت محاكمته سنة، رافعته إلى الحاكم، استأنف بها الحول، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 مِنْ وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا مَضَى مِنْهُ، وَخَالَفَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ نَصٌّ، وَهَذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلَوْ أَقَرَّ لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْعُنَّةِ أَجَّلَهُ لَهَا، وَلَمْ يُعَجِّلِ الْفَسْخَ بِإِقْرَارِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَجَّلَ قَبْلَهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ رُبَّمَا زَالَتِ الْعُنَّةُ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُ النكاح بها والله أعلم. مسألة قال الشافعي: رضي الله عنه: " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَلَمْ يُصِبْهَا فِي نِكَاحِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ عُنَّةٍ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ عُنَّةٍ، فإن كان لعنة كان على مضى من تأجيله لها سنة إذا حاكمته، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَ الْفَسْخِ مَرَّةً وَاحِدَةً سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ لِارْتِفَاعِ عُنَّتِهِ بِالْإِصَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ تلك الإصابة سنين كثيرة لا يَمَسُّهَا، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثور أنه يؤجل لها ثانية إذا عادت العنة ثَانِيَةً وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ بِإِصَابَةِ المرأة الْوَاحِدَةِ إِلَى مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وثبوت الحصانة، ولا يَبْقَ إِلَّا تَلَذُّذُ الزَّوْجِ بِهَا، وَتِلْكَ شَهْوَةٌ لا يجبر عليها، والله أعلم. وإذا ترك الزوج إصابتها لغير عنةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا مَرَّةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الوطء، والقرناء التي لا يمكن وطئها، وَلَوْ وَجَبَ الْوَطْءُ لَمَا جَازَ إِلَّا نِكَاحَ من تمكنه الوطء لم يكن وطأها. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فِي الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوَطْءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: أنه مقصود النكاح في تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَالْحَصَانَةِ، وَطَلَبِ الْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْوَطْءُ. فإذا قيل بالوجه الأول أنه يَجِبُ، فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَأْجِيلَ. وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّهُ يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ معذوراً بمرض أو سفرٍ أنذر بِالْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ مَكِنَتِهِ كَمَا يَنْظُرُ بِالدَّيْنِ مِنْ إِعْسَارِهِ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ معذورٍ أَخَذَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 الْحَاكِمُ إِذَا رَافَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَيْهِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطلاق كما يأخذه الْمُولِي بِهِمَا، وَلَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، بِخِلَافِ الْمُولِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا وَطِئَهَا مَرَّةً سَقَطَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفُرْقَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) ودليلنا قول الله تعالى: {لِلْرِجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) {البقرة: 228) فَمِنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يَلْزَمَهَا إِجَابَتُهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَتَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ إِلَيْهِ دُونَهَا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَقًّا لَهُ دُونَهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الوطء في ملك اليمين حقاً للمالك دون المملوكة، كَانَ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ حَقًّا لِلنَّاكِحِ دُونَ المنكوحة والله أعلم. مسألة قال الشافعي: رضي الله عنه: " ولا تكون إصابتها إلا بأن يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ في الفرج ". قال الماوردي: الإصابة التي تسقط بها حكم العنة هي تغييب الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ فَيَجِبُ الغسل سواء أنزل أم لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّهَا الْإِصَابَةُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ المثل في الشبهة والحد في الزنا، هذا إذا كان سليم الذكر باقي الحشفة، ولا اعتبار بمغيب مَا بَعْدَ الْحَشَفَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ الحشفة ففيما يعتبر بغيبه مِنْ بَقِيَّةِ الذَّكَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ أَنْ تغييب باقيه قدر الحشفة ليكون بدلاً منها فسقط بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ كَمَا سَقَطَ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثاني: أنه يعتبر تغييب باقيه كله، وهو ظاهر قوله هاهنا؛ لِأَنَّ الْحَشَفَةَ حَدٌّ لَيْسَ فِي الْبَاقِي، فَصَارَ جَمِيعُ الْبَاقِي حَدًّا. فَصْلٌ فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ محل محظور لا يستباح العقد، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حُكْمُ الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ سَقَطَ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ فِي المحل المستباح بالعقد. مسألة قال الشافعي: رضي الله عنه: " فإن لَمْ يُصِبْهَا خَيَّرَهَا السُّلْطَانُ فَإِنْ شَاءَتْ فِرَاقَهُ فَسَخَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ طلاقٍ لِأَنَّهُ إِلَيْهَا دُونَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَضَتْ لِلْعِنِّينِ سَنَةً مِنْ حِينِ أُجِّلَ فَهِيَ عَلَى حقها، ما لم ترافعه إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَعْجِيلُ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ السَّنَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي الْعُيُوبِ لأن تمكنها لِلزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي الْعُيُوبِ يَمْنَعُ مِنَ الفسخ، فكان الإمساك كذلك فإن حاكمها الزوج في عنته إلى الحاكم، لم يكن له ذلك، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ هُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ فَإِذَا رَافَعَتْهُ إِلَى الحاكم بعد السنة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 تغير حينئذٍ زَمَانُ خِيَارِهَا فَيَعْرِضُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ فسخ بحكم ويحكم إِلَيْهِ دُونَهَا، لَكِنْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أن يتولاه بنفسه وبين أن يترك ذَلِكَ إِلَيْهَا لِتَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ، وَهِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لَهُ فَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، كَانَتْ فُرْقَةً تَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ ولم تكن طلاقاً، فإن عاد فزوجها كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا، وَلَا تَكُونُ فَسْخًا. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَتِهَا وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَأَشْبَهَتِ الفرقة بالإسلام، والفسخ بالجنون. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ فَسْخٌ، وَلَيْسَ بطلاقٍ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَا يَكْمُلُ الْمَهْرُ، ويوجب الْعِدَّةَ بِالْإِصَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِنِّينِ الْإِصَابَةُ، لا تستحق نصف المسمى، ولأنه المتعة لم تكن مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ فسخٌ مِنْ جِهَتِهَا فَأَسْقَطَ مَهْرَهَا ومتعتها والله أعلم. مسألة قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِذَا أَقَامَتْ مَعَهُ فَهُوَ تركٌ لِحَقِّهَا ". قَالَ الماوردي: قد مضى الكلام في الفسخ؛ لأنه لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْقِضَاءُ السَّنَةِ. والثاني: حكم الحاكم. فأما الرضى فَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ؛ لأنه يقيم بعقد سابق، ولا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ فَلَمْ يَكُنِ الْمُقَامُ عَلَيْهِ مفتقراً إلى حكم، وهل يفتقر الرضى فِي لُزُومِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَمْ لَا؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر الرضى إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَإِنْ رَضِيَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ لم يلزم؛ لأن الرضى إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ وَهِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الرضى كَالْأَمَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يلزمها الرضى بِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَيَصِحُّ الرِّضَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ الْعُنَّةِ، فكان الرضى بها مُبْطِلًا لِلْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْأَجَلُ لزم العقد. والرضى إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، وَكَانَ أَيْضًا، بأن يعرض الحاكم عليها الفسخ ولا تختار فيكون تركها للاختيار للفسخ رِضًا مِنْهَا بِالْمُقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 مسألة قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهَا عدةٌ ولم تكن إصابةٌ وَأَصْلُ قَوْلِهِ لَوِ اسْتَمْتَعَ رجلُ بامرأةٍ وقالت لم يصبني وطلق فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عِنِّينٍ أُجِلَّ لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ رَضِيَتْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِعُنَّتِهِ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَسَأَلَتْ بَعْدَ رَجَعَتِهِ أَنْ يُؤَجَّلَ لها ثانية لم يجز؛ لأن المرتجعة زوجة بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ أُجِّلَ فِيهِ مُدَّةً فَرَضِيَتْ فلم يجز أن يؤجل ثانية؛ لأنه عنت إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ لَزِمَ كَمَا يَلْزَمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِجَبَّهِ وَجُنُونِهِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ ثُمَّ عَادَتْ فِيهِ تَطْلُبُ الْفَسْخَ كَانَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلى يسار كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ يَسَارٍ إِلَى إِعْسَارٍ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي ظَاهِرُ حَالِهَا الدَّوَامُ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هذه المسألة اعتراضاً موجهاً، فَقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ فِي نِكَاحٍ واحد وهو إن وطئها يثبت الرجعة فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَسَقَطَتِ الْعُنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يطأ ثَبَتَتْ الْعُنَّةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الجواب فيه عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَطَأٌ مِنَ النَّاقِلِ لها عن الشافعي رحمه الله فنقل مَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ سَهَا عَنْ شرط زيادة جل مِنْ نَقْلِهِ فَأَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ كَمَا وَجَدَهَا فِي النقل لها عن الشافعي؛ واعترض عليها هو بِمَا هُوَ صَحِيحٌ مُتَوَجِّهٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ فرع هذه الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أن الخلوة يكمل بها المهر، ويجب بِهَا الْعِدَّةُ. فَصَحَّتْ مَعَهَا الرَّجْعَةُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ من وجهين: أحدهما: أن تفرعه فِي كُلِّ زَمَانٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجَبِ مَذْهَبِهِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَرِّعَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْجَدِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا حامد المروزي قال: وحدث الشافعي فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ، فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِ الشافعي رضي الله عنه في الجديد، أن تجب العدة، ونصح الرَّجْعَةُ، وَلَا يَسْقُطُ حَكَمُ الْعُنَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَطَأَ فِي الدُّبُرِ، فَيَكْمُلُ به المهر، ويجب بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ العنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 وَالثَّانِي: أَنْ يَطَأَ فِي الْقُبُلِ فَيُغَيِّبَ بَعْضَ الحشفة ويترك ماءه فِيهِ، فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَقَطَ بتغييب جميع الحشفة. والثالث: إن استدخل ماءه من غير وطء فيجب به العدة، ويستحق معه الرجعة، ولا يسقط بِهِ الْعُنَّةَ، وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ لَكِنْ قَدْ قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: لَوْ أَنْزَلَ قَبْلَ نِكَاحِهَا، وَاسْتَدْخَلَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تعتد منه، لِأَنَّهَا فِي حَالِ الْإِنْزَالِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وإن صارت وَقْتَ الْإِدْخَالِ زَوْجَةً، وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ زَوْجَةً، فَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ الْعِدَّةَ، وَأَلْحَقُوا مِنْهُ الْوَلَدَ إِذَا كَانَتْ فِي حَالَتَيْ إِنْزَالِهِ وَاسْتِدْخَالِهِ زَوْجَةً. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الْأَجَلِ والرضا طلاقاً أبانت مِنْهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَتْ: أن تؤجل فِيهِ الْعُنَّةُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا ثَانِيَةً. وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ ثانٍ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ واحدٍ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَهُ الْأَوَّلَ بِالْعُنَّةِ مِنْ غَيْرِ طلاقٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ لَمْ يُؤَجَّلْ لَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِعُنَّتِهِ كَعِلْمِهَا بِجُذَامِهِ وَبَرَصِهِ، وهي لا تجوز إِذَا نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَفْسَخَ فكذلك في العنة. والقول الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهُ يُؤَجَّلُ لَهَا في النكاح الثاني؛ لأن لكل عقد حكم بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْعُنَّةُ مِنَ الْعُيُوبِ اللَّازِمَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ زَوَالُهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُرْجَى زَوَالُهَا، وَيَعُودُ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَصَابَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِإِصَابَتِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ الْعُنَّةُ فِي النِّكَاحِ أُجِّلَ لَهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ حُكْمَ عُنَّتِهِ الْأُولَى قَدِ ارْتَفَعَ بإصابته فصارت مستأنفة لنكاح مَنْ لَيْسَ بِعِنِّينٍ فَإِذَا ظَهَرَتْ بِهِ الْعُنَّةُ أجل والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " ولو قالت لم يصبني وقال قد أَصَبْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا تُرِيدُ فَسْخَ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وإن كانت بكراً أريها أَرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ عُدُولًا وَذَلِكَ دليلٌ عَلَى صدقها فإن شاء أخلفها ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ نَكَلَتْ وَحَلَفَ أَقَامَ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْعُذْرَةَ قَدْ تَعُودُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا إِذَا لَمْ يُبَالَغْ فِي الْإِصَابَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ أَجَلِ الْعُنَّةِ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَمْ يُصِبْنِي فَلِيَ الْفَسْخُ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ أَصَبْتُهَا فَلَا فَسْخَ لَهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خيار لها؛ لأنه ثُبُوتَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ تَصْدِيقِ قَوْلِهَا فِي فَسْخِهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 خِيَارُهَا، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بمعاودة خلوتها ويقربهما وَقْتَ الْجِمَاعِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: امْرَأَتَانِ فإذا خرج من خلوتهما نظر فرجها، وإن كان ماء الرجل كان القول قوله، وإن لم يكن مَاؤُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اخْتِلَافَهَمَا فِي إصابةٍ تَقَدَّمَتْ فَلَمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَعَدَمَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِصَابَةِ وَعَدَمِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُنْزِلُ وَلَا يُولِجُ، وَقَدْ يُولِجُ وَلَا يُنْزِلُ، وَحَقُّهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيلَاجِ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ عُنَّةَ رَجُلٍ عِنْدَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَاخْتَلَفَ في الإصابة، فكتب بها على معاوية يسأله عَنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، زَوِّجْهُ امْرَأَةً ذَاتَ جمال وحسنٍ توصف بدين وستر وسبق إليها مهرها من بيت المال لتختبر حَالَهُ، فَفَعَلَ سَمُرَةُ ذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَا خير عنده، فقال سمرة: ما دنى فقالت: بلى، ولكن إذا دنى شره أي أنزل قبل الإيلاج، وهذا مذهبه لِمُعَاوِيَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلَا لَهُ فِي الْأُصُولِ نَظِيرٌ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عِنِّينًا فِي وَقْتٍ وَغَيْرَ عِنِّينٍ فِي وَقْتٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ كَانَ مذهبهم أَبْطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ قَبِلْتُمْ بِهِ قول المدعي دون المنكر، والشرع وارد بقبول قَوْلِ الْمُنْكِرِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ ادَّعَى إِصَابَةَ الْمُطَلَّقَةِ لِيُرَاجِعَهَا وَأَنْكَرَتْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا دُونَهُ فَهَلَّا كَانَ فِي الْعُنَّةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الإصابة. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلَّةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النِّكَاحِ، وَهِيَ تَدَّعِي بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ اسْتِحْقَاقَ فَسْخِهِ، فَصَارَتْ هِيَ مدعية، وهو منكر فَكَانَ مَصِيرُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ دونها على أن ما تعذر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ ظَاهِرٌ يَقْتَضِيهِ كَاللَّوْثِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ، فَأَمَّا دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ دَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الْعُنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الإصابة في الرجعة تنفي مَا أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَدَعْوَى الْإِصَابَةِ في العنة تثبت مَا أَوْجَبَهُ النِّكَاحُ فِي اللُّزُومِ فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ ادَّعَى الْإِصَابَةَ فِي الْعُنَّةِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِ، فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِهِ وَدَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَوَالِ نِكَاحِهِ فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 فصل وإن كانت بكراً إما أن يعترف لها بالبكارة وإما أن ينكرها، ويشهد بِهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا في إنكار الإصابة لأن البكارة ظاهرة تدل على صداقها فزالت عن حكم الثيب الَّتِي لَا ظَاهِرَ مَعَهَا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَهُ إِحْلَافُهَا، قِيلَ: إِنْ لَمْ يَدَّعِ عَوْدَ بِكَارَتِهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَإِنِ ادَّعَى عَوْدَ الْبَكَارَةِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ فَإِذَا لَمْ يُبَالِغْ بِالْإِصَابَةِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةً، وَإِنْ خَالَفَتِ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فَإِنْ حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفُرْقَةِ بالفرقة، وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْبَلُ قولها إن نكل وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَيَحْكُمْ لَهَا بِالْفُرْقَةِ كَمَا لو ادعى وطئها وَهِيَ ثَيِّبٌ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَنَكَلَتْ حُكِمَ بِقَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي الْفُرْقَةِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مَعَ نُكُولِ الزَّوْجَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الزوج يستصحب لزوم متقدم جاز أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ وَالزَّوْجَةُ تَسْتَحِلُّ حُدُوثَ فَسْخٍ طَارِئٍ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ وَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهَا لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يُجَامِعُ أَبَدًا وَالْخَصِيُّ ناقصٌ عَنِ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذكرٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا ". قَالَ الماوردي: قد ذكرنا أنه إذا كان الزوج مجبوب فلها الخيار وإن كان خصياً فعلى قولين، فإذا كان كذلك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يُؤَجِّلُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ جِمَاعِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ تأثيرٌ، وَخَالَفَ الْمَرْجُوَّ جِمَاعُهُ وَالْمُؤَثِّرَ تَأْجِيلُهُ، فَلَوْ رَضِيَتْ بِجَبِّهِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يؤجل للعنة لم يجز لتقدم الرضى بعنته. وأما الخصي، فإن قيل بأن الْخِصَاءَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَهَا أن تتعجله مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ كَالْمَجْبُوبِ. وَإِنْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، أَوْ قِيلَ: لَهَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ ثُمَّ سَأَلَتْ تَأْجِيلَهُ للعنة أحل بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِنَ الْخَصِيِّ مُمْكِنَةٌ وَمِنَ الْمَجْبُوبِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَافْتَرَقَا فِي تَأْجِيلِ العنة. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الصَّبِيُّ أُجِّلَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) مَعْنَاهُ عِنْدِي صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مثله ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 قال الماوردي: وهذه مسألة وهم المزني في نقله فقال ولو لم يجامعها أُجِّلَ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا الْخَصِيُّ أُجِّلَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَعَدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْخَصِيِّ إِلَى الصَّبِيِّ إِمَّا لتصحيف أو لسهو الكاتب، وأما زلة فِي التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي: " صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثْلُهُ " وَالصَّبِيُّ لَا يصح عُنَّتُهُ سَوَاءٌ رَاهَقَ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجَامِعَ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُرَاهِقٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ عَاجِزٌ بِالصِّغَرِ دُونَ الْعُنَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَجْزُهُ عَلَى عُنَّتِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عُنَّتُهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حكم العنة، وإذا كان كذلك بان المراد هو الخصي وقد ذكرناه. مسألة قال الشافعي: " فإن كان خنثى يبول من حيث يبول الرجل فهو رجلٌ يتزوج امْرَأَةً وَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امرأةٌ تَتَزَوَّجُ رَجُلًا وَإِنْ كان مُشْكِلًا لَمْ يُزَوَّجْ وَقِيلَ لَهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بنفسك فأيهما شِئْتَ أَنْكَحْنَاكَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ غَيْرُهُ أَبَدًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) فَبِأَيِّهِمَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مشكلٌ كان لصاحبه الخيار لنقصه قياساً على قوله في الخصي له الذكر إن لها فيه الخيار لنقصه ". قال الماوردي: أما الخنثى فهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأ " فالذكر مختص بالرجل، والفرج مختص بالمرأة وليس يخلو مُشْتَبَهُ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) {النبأ: 8) يَعْنِي ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَإِذَا جَمَعَ الْخُنْثَى بَيْنَ آلة الذكر والأنثى وجب أن يعتبر مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُضْوَيْنِ وَهُوَ الْبَوْلُ، لِأَنَّ الذكر مخرج بول الرجل وَالْفَرْجَ مَخْرَجُ بَوْلِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَالْفَرْجُ عُضْوٌ زَائِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مَنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ وَالذَّكَرُ عُضْوٌ زَائِدٌ. رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في الذي له ماء الرجال وماء النساء إِنَّهُ يُورَّثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ. وَقَضَى عَلِيُّ بن أبي طالب فِي الْعِرَاقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي خُنْثَى رُفِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَنْقَطِعَا مَعًا فَالْحُكْمُ لِلسَّابِقِ لِقُوَّتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ للمتأخر لقوته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ خُرُوجُ أَحَدِهِمَا، وَيَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا وَانْقِطَاعًا، لِأَنَّ الْبَوْلَ يَسْبِقُ إِلَى أَقْوَى مَخْرَجَيْهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَا مَعًا، وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَيَسْتَوِيَا فِي الصِّفَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ وَيَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدَرِ وَالصِّفَةِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَكْثَرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة تَغْلِيبًا لِقُوَّتِهِ بِالْكَثْرَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَثْرَتِهِ شَاقٌّ وَقَدْ قَالَ أبو يوسف رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ اعْتَبَرَ كَثْرَتَهُ: أَفَيُكَالُ إِذَنْ؟ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ فِي التَّزْرِيقِ وَالشَّرْشَرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في اعتباره على وجهين: أحدهما: أنه يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ تَزْرِيقَ الْبَوْلِ لِلرِّجَالِ وَالشَّرْشَرَةَ لِلنِّسَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ خنثى فقال: أدنوه من الحائط فإن رزق فَذَكَرٌ وَإِن شَرْشَرَ فَأُنْثَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الْمَثَانَةِ وَضَعْفِهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَيَنْظُرُ فِيهِمَا فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ فَكَانَ التَّزْرِيقُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الذَّكَرِ أَوْ كَانَتِ الشَّرْشَرَةُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الْفَرْجِ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَكَانَتِ الشَّرْشَرَةُ فِي الْفَرْجِ، وَالْكَثْرَةُ فِي الذَّكَرِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمَارَتَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَبَالِ بَيَانٌ إِمَّا عِنْدَ تَسَاوِي أَحْوَالِهِمَا، وَإِمَّا عِنْدَ إِسْقَاطٍ فاختلف فِيهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَعْدِلُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَضْلَاعِ أَمْ لا؟ على وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 أحدهما: يعتبر عدة الأضلاع فإن أضلاع المرأة يتساوى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَأَضْلَاعُ الرَّجُلِ ينقص مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ضِلَعٌ لِمَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ فَلِذَلِكَ نَقُصَ مِنْ أَضْلَاعِ الرَّجُلِ الْيُسْرَى ضِلَعٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ضِلَعٌ أَعْوَجُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها) (أيجمعهن ضعفاً واقتداراً على الهوى ... أليس عجيبٌ ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا) وَتَوْجِيهُ هَذَا الْوَجْهِ فِي اعْتِبَارِ الْأَضْلَاعِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن أمر قنبرا برقاء وَهُمَا مَوْلَيَاهُ أَنْ يَعُدَّا أَضْلَاعَ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَإِنِ اسْتَوَتْ أَضْلَاعُهُ مِنْ جَانِبَيْهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْيُسْرَى ضلعٌ فَهُوَ رَجُلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَضْلَاعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عدل عنها إلى الاعتبار بالمبال وهو أَلْزَمُ حَالًا مِنَ الْمَبَالِ وَأَقْوَى لَوْ كَانَ بها اعتبار لما جَازَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ثَابِتًا. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّشْرِيحِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ: إِنَّ أَضْلَاعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُتَسَاوِيَةٌ من الجانبين، أنها أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى هَذَا الأثر مع مَا يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ خُرَافَةٌ مَصْنُوعَةٌ تَمْنَعُ مِنْهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ خنثى على صداق أمة، وأنه وطأ الخنثى فأولدها ووطأ الْخُنْثَى الْأَمَةَ فَأَوْلَدَهَا فَصَارَ الْخُنْثَى أُمًّا وَأَبًا فَرُفِعَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَأَمَرَ بِعَدِّ أَضْلَاعِهِ فَوُجِدَتْ مُخْتَلِفَةً فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مدفوع ببداهة الْعُقُولُ. فَصْلٌ فَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الرِّجَالِ فِي طِبَاعِهِمْ وكلامهم ومماثلة النساء في طباعهن وكلامهم فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مُؤَنَّثٌ وَفِي النِّسَاءِ مُذَكَّرٌ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ لَا اعْتِبَارَ بِهَا لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ وَفِي النِّسَاءِ مَنْ رُبَّمَا خَرَجَ لَهَا لحية على أنه قد قَلَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إِشْكَالٌ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْمَنِيُّ وَالْحَيْضُ فَإِنِ اجْتَمَعَ لَهُ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَدَمُ الْحَيْضِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أحدها: أن يخرجها من فرجه فتكون امْرَأَةً، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ إِشْكَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا عن ذَكَرِهِ فَيَزُولُ إِشْكَالُهُ بِالْإِنْزَالِ وَحْدَهُ، وَيَكُونُ رَجُلًا وَلَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مِنْ ذَكَرِهِ وخروج المني من فرجه فتكون امْرَأَةً؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ مِنَ الْفَرْجِ دَلِيلٌ، وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الذَّكَرِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ وَخُرُوجُ الْحَيْضِ مِنْ فَرجِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُغَلِّبُ حُكْمُ الْحَيْضِ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ، وَالْمَنِيِّ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُغَلِّبُ حُكْمَ الْمَنِيِّ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ رُبَّمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ، وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى إِشْكَالِهِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ لِتُقَابُلِهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُنْثَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَزُولَ إِشْكَالُهُ أَوْ لَا يَزُولَ فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا بَانَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ فَرْجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَذْهَبًا ثَالِثًا إِنَّهُ إن زال إشكال؛ لِأَنَّهُ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِنْ زَالَ إشكاله لسبق بوله من ذكره ولكثرته مِنْهُ فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا نَقَضَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَأَعَادَهُ إِلَى حَالِ الْإِشْكَالِ. وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَتْ رَجُلًا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ ذَكَرِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ. وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ مَذْهَبًا ثَالِثًا، أَنَّهُ إِنْ زَالَ إِشْكَالُهَا لِبَوْلِهَا مِنْ فَرْجِهَا وَحْدَهُ فلا خيار له، وإن زال لسبوقه منه أو كثرته فله الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّجُلِ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ قبل سؤاله واختياره فَإِنْ تَزَوَّجَ رَجُلًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً لَمْ يصح لتقدم فساده، وإن زوج امرأة بان النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، فَإِنْ كان رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ فَسَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ غَيْرُ سُؤَالِهِ عَنْ طِبَاعِهِ الْجَاذِبَةِ لَهُ إِلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 أحد الجنسين سئل عنها للضرورة الداعية إليه كَمَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ حَيْضِهَا فَيَرْجِعُ فِيهِ إلى قولها فإن قال: أرى طبعي يحدثني إِلَى طَبْعِ النِّسَاءِ وَيَنْفِرُ مَنْ طَبْعِ الرِّجَالِ عُمِلَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ طَبْعِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا عَلَى مَا يَظْهَرُ من تأنيث كلامه أو تذكيره؛ لأن في الرجال قَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَكُونُ مُذَكَّرَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرِّجَالِ. قَالَ: وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَشْتَهِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَهِي الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ قَدْ تَشْتَهِي الْمَرْأَةَ، وَإِنَّمَا الطِّبَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالْقَائِمَةُ فِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ النَّافِرَةِ مِمَّا اعْتَادَتْهَا بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا هُوَ الْمَقْبُولُ إِذْ قَدْ عُدِمَ الِاسْتِدْلَالُ بِغَيْرِ قَوْلِهِ كالمرأة التي تقبل قَوْلُهَا فِي حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ أَخْبِرْنَا عَنْ طَبْعِكَ، فَإِذَا قَالَ: يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَيَحْلِفُ عليه؛ ولأنه لو رجع لم تقبل مِنْهُ وَحُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ وَزُوِّجَ رَجُلًا، فَإِنْ عاد بعد ذلك فقال: قد استمال طَبْعِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَعَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِذَا عَلِمَ الزوج بأنه خنثى فله الخيار هاهنا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بقوله الذي يجوز أن تكون فيه كما ذكرنا، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ كَاذِبَةٍ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْخُنْثَى حِينَ سُئِلَ عَمَّا يَجْذِبُهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ أَرَى طَبْعِي يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي نِكَاحِهِ، وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا اتُّهِمَ فِيهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَمِيرَاثِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِتُهْمَتِهِ فِيهِ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَتَبَعَّضُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ الرِّجَالِ وَفِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي شَيْءٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي شَيْءٍ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلُ زُوِّجَ امرأة ولم يقبل منه الرجوع إذا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِحَالِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَوْلًا وَاحِدًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 باب الإحصان الذي به يرجم من زنى من كتاب التعريض بالخطبة وغير ذلك قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإذا أَصَابَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ فهو إحصانٌ في الشرك وغيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم يهوديين زنيا فلو كَانَ الْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا كَمَا قَالَ بعض الناس لما رجم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ محصنٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمَنْعُ، يُقَالُ قَدْ أَحْصَنَتِ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) {الأنبياء: 91) أَيْ مَنَعَتْهُ وَيُقَالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ أَيْ مَنِيعَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي قُرَىً مُحَصَّنَةٍ} (الحشر: 14) أَيْ مَمْنُوعَةٍ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ وَفَرَسٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَ بِهِ رَاكِبُهُ، وَدِرْعٌ حصن إِذَا امْتَنَعَ بِهَا لَابِسُهَا فَسُمِّيَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ مُحْصَنَةً؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا قَدْ حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْحَصَانَةُ فِي النِّكَاحِ اسْمٌ جَامِعٌ لِشُرُوطٍ مَانِعَةٍ إِذَا تَكَامَلَتْ كَانَ حَدَّ الزِّنَا فِيهَا الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ". وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَصَانَةِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَمْنُوعًا مُكَلَّفًا. وَالثَّانِي: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ مُوجِبٌ لِتَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ البغاء والاسترقاق وأن كمال الحد فعل يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ. وَالرَّابِعُ: الْوَطْءُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين) {النساء: 24) أي متناكحين غير مسافحين. فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَصَانَةِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُسْلِمٍ أَوْ كافر رجم إذا زنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 وقال مالك وأبو حنيفة: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْحَصَانَةِ وَلَا يُرْجَمُ الكافر إذا زنا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا حصان فِي الشِّرْكِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ ". وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَا تُحَصِنُكَ " وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَنْزِلَةُ كَمَالٍ وَتَشْرِيفٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا نَقْصُ الرِّقِّ، فَكَانَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ حَتَّى لَمْ يُحَدَّ مِنْ قَذَفَ كَافِرًا، وَجَبَ أَنْ يعتبر في حصانة الحد حتى لا يرجم الكافر إذا زنا ودليلنا ما رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَالرَّجْمُ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مُحْصَنٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحْصَنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ؛ لأنه أحضر التوراة عند رجمهما فلما ظهرت فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ رَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله تعالى عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) وَإِنَّمَا أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ فَأَنْكَرُوا فَأَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ أَنْ صَارَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ وُجُوبُ الرَّجْمِ قَبْلَ اعْتِبَارِ الْحَصَانَةِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. والثاني: أنه قد رَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ أَحْصَنَا فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدٌّ كَامِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مُحَصَنًا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ كَالْقَوَدِ. وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذلك السبب احترازاً مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ، وَلَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ حدي الزنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالْجِلْدِ؛ ولأنه لما استوى في حد الزنا حكم العبد المسلم والكافر وجب أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَدُّ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. فأما الجواب عن الخبرين الأوليين فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ دُونَ الرَّجْمِ. وَالثَّانِي: لَا حَصَانَةَ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا - لَا إله إلا الله - فإذا قالوها عصموا من دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حديث حذيفة فهو أن لا يجوز حمله على حصانة الزنا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَثِقَ بِدِينِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُذَيْفَةُ قَدْ كَانَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ، إِنَّكَ مَتَى زَنَيْتَ تَحْتَ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ لَمْ تُرْجَمْ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا تُحْصِنُكَ " أَيْ لَا تَتَعَفَّفُ بك عما تَتَعَفَّفُ الْمُسْلِمَةُ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَصَانَةِ الْقَذْفِ. فالفرق بينهما: أن حد الزنا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فجاز أن يفرق فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالدِّيةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرَ فِي سُقُوطِ الرَّجْمِ نَقْصَ الرِّقَّ اعتبر فيه نقص الكفر، فالجواب عَنْهُ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَصْغَرِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ وَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ في الحد الأصغر كان معتبر في الحد الأكبر وافترقا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي شُرُوطِ الْحَصَانَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا مشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُها: فِي نِكَاحِ الْحَصَانَةِ. وَالثَّانِي: فِي وَطْءِ الْحَصَانَةِ. وَالثَّالِثُ: فِي زمان الحصانة. فأما نكاح الحصانة النِّكَاحُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَمَّا الْمُتْعَةُ، وَالْمَنَاكِحُ الْفَاسِدَةُ، فَلَا تُوجِبُ الْحَصَانَةَ؛ لِأَنَّ الْحَصَانَةَ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فيها أغلظ شروطاً من إحلال المطلق للأول؛ لأن الحرية لا يعتبر فِيهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَنَاكِحَ الْفَاسِدَةَ لَا تَحِلُّ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُحْصِنَ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ: مِنْ أَنَّهَا تُحْصِنُ، وَكَذَلِكَ التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، لَا يُحْصِنُ كما لا تحل المطلقة للمطلق، وَأَمَّا وَطْءُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ تَغَيُّبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَلَذَّذَ بِمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 دون الفرج أو وطء في السبل الْمَكْرُوهِ لَمْ يَتَحَصَّنَا كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْفَرْجِ كَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ. فَصْلٌ وَأَمَّا زَمَانُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَطْءُ مُثْبِتًا لِلْحَصَانَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا وَقْتَ الْوَطْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ، فَكَمَالُهُمَا يَكُونُ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَإِذَا كَانَا وَقْتَ الْوَطْءِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ حُرَّيْنِ صَارَا جَمِيعًا بِهِ مُحْصِنَيْنِ سَوَاءٌ عُقِدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ الْكَمَالِ أَوْ قَبْلَهُ وَسَوَاءٌ بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أو ارتفع قد ثبت الحصانة بوطء المرأة الواحدة فأيهما زنا رُجِمَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ وَنُقْصَانُهُمَا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ أو مملوكين فلا يكونا بِالْوَطْءِ مُحْصِنَيْنِ مَا كَانَا عَلَى الصِّغَرِ، وَالْجُنُونِ، وَالرِّقِّ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرَانِ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونَانِ، وَعَتَقَ المملوكان فهل يصير بالوطء المتقدم أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا قَدْ صَارَا مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ فَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ، فإذا زنيا رجما لتقدم الشرائط على الزنا. والوجه الثاني: - وهو مذهب الشافعي - أنهما لا يصيرا به مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا الْوَطْءَ بَعْدَ كَمَالِ الْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ يُوجِبُ الْكَمَالَ فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ؛ ولأنه لما لم يثبت الْحَصَانَةُ فِي وَقْتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا بَعْدَ وَقْتِهِ، وبهذا خالف ما سواها مِنَ الْإِحْلَالِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ لِثُبُوتِهَا بِهِ فِي وَقْتِهِ وَبَعْدَ وَقْتِهِ، ثم هكذا لو كان نقص الزوجين أَوْ مَجْنُونًا فَوَطِئَا لَمْ يَصِيرَا بِهِ فِي الْحَالِ مُحْصَنَيْنِ، وَهَلْ يَصِيرَانِ بِهِ بَعْدَ الْكَمَالِ مُحْصَنَيْنِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً فَكَمَالُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، حُرًّا، وَنُقْصَانُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ مجنونة، أو مملوكة، أو تجمع نقص الصغر، والجنون، وَالرِّقِّ فَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ مُحْصَنًا إِذَا كانت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 الصغيرة التي وطئها ممن يجوز أن توطأ مِثْلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ توطأ مثلها لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهَا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا تَكُونُ مُحَصَّنَةً بِهَذَا الْوَطْءِ فِي النُّقْصَانِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ، فَإِذَا كَمُلَتْ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ مُحَصَّنَةً أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا: نَاقِصًا لَمْ يُحَصَّنَا مَعًا فِي الْحَالِ وَلَا فِي أَيِّ حَالٍ حَتَّى يَكُونَ الْكَمَالُ مَوْجُودًا فِيهِمَا حَالَ الْوَطْءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَصَانَةِ أَنْ يَخْتَلِفَ بِهَا حَدُّ الزنا فَيَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالْجَلَدُ عَلَى غَيْرِ المحصن، ولو اختلف حالهما وقت الزنا فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُحْصَنٍ رُجِمَ الْمُحْصَنُ وَجُلِدَ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي حَصَانَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وَقْتِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ بِهِ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يكون نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً، وَنُقْصَانُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ يَجْمَعُ نَقْصَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ فَيَطَأُ زَوْجَةً كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ صَارَتْ بِوَطْئِهِ مُحْصَنَةً إذا كان الصغر ممن يوطء مثله، فإن كان مثله لا يوطأ لَمْ تَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهِ، فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُحْصَنًا فِي حَالِ نَقْصِهِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مُحْصَنًا بَعْدَ كَمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة: لَا يَتَحَصَّنُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -. فأما الخنثى إذا جعلناه رجلاً يتحصن بوطء امرأة ولا يتحصن لو وطئه رجل، ولو جعلنا امْرَأَةً تُحْصَنَ بِوَطْءِ رَجُلٍ، وَلَا يَتَحَصَّنُ لَوْ وطأ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَ عَلَى حَالِ إِشْكَالِهِ لَمْ يتحصن بوطء رجل ولا يوطء امْرَأَةٍ وَلَا بِوَطْءِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ في حال إشكال بَاطِلٌ وَالْحَصَانَةُ لَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ باطل والله أعلم بالصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 بسم الله الرحمن الرحيم: يا رب عونك: كتاب الصداق قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ذَكَرَ اللَّهُ الصَّدَاقَ وَالْأَجْرَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة) {البقرة: 236) فَدَلَّ أَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِالْكَلَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الصَّدَاقِ لَا يُفْسِدُهَا ". الدليل على وجوب الصداق قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآَتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) وَفِيمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَلَّكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدَفْعِ صَدَاقِهِنَّ إِلَيْهِنَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ وَفِي نِحْلَةً؛ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: يَعْنِي تَدَيُّنًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا، أَيْ يَتَدَيَّنُ به. والثاني: يطيب نَفْسٍ كَمَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِالنَّحْلِ الْمَوْهُوبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَحْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِلْكًا لِأَوْلِيَائِهِنَّ، وَالنَّحْلُ الْهِبَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَّاهُ عَنْ شُعَيْبٍ فِي تَزْوِيجِ مُوسَى بِابْنَتِهِ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أَنْكِحُكَ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 27) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تَأْجُرَهَا فَجَعَلَ الصَّدَاقَ مِلْكًا لِنَفْسِهِ دُونَهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نََفْساً} يَعْنِي الزَّوْجَاتِ إِنْ طِبْنَ نَفْسًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، وَلِأَوْلِيَائِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خطاباً للأولياء، {فَكُلُوا هَنِيئاً مَرِيئاً} يَعْنِي لَذِيذًا نَافِعًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَإنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخٌذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: 20) أَيْ قَدْ مَلَكْنَ الصَّدَاقَ، وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِهِنَّ غيرهن {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء] أَيْ قَدْ ةملكن الصَّدَاقَ، وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِهِنَّ غَيْرَهُنَّ {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ قِنْطَارًا وَفِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةُ أَقَاوِيلَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: أنه ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةُ رِطْلٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ. والسادس: أنه ملئ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبَى نَضْرَةَ. وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ. فَذَكَرَ الْقِنْطَارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَرْجَعُ إِذَا كَانَ صَدَاقًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِذَا اسْتَبْدَلَ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَهُ إِذَا لَمْ يَسْتَبْدِلْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَعِيدًا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً} (النساء: 20) ثُمَّ قَالَ تَعْلِيلًا لِتَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} . وَفِي الْإِفْضَاءِ هَهُنَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجِمَاعُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْخَلْوَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِهِ الْفَرْجَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: مَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيها الناس إن النساء عندكم عوانٌ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ، وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي معروفٍ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ". وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) {النساء: 24) يُرِيدُ الصَّدَاقَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ. وَفِي قَوْلِهِ فَرِيضَةً تَأْوِيلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 أَحَدُهُمَا: يَعْنِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةً وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِي: أَيْ مُقَدَّرَةً مَعْلُومَةً وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ ". وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ مَا تَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا زَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيِّةً وَنَشًّا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ؟ النَّشُّ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، يَعْنِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَرَوَى الْمُنْذِرُ بْنُ فَرْقَدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ كَانَ صَدَاقُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اثنتي عشرة أوقية وشن فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مَعِينٍ: صَحَّفْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ نَشٌّ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: (تِلْكَ الَّتِي جَاوَرَهَا الْمحتشُّ ... مِنْ نِسْوَةٍ صَدَاقُهُنَّ النَّشُّ) فَأَمَّا أَمُّ حَبِيبَةَ فَقَدْ كَانَتْ أَكْثَرَ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَاقًا؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ أَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَوَلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ صَدَاقُ زَوْجَتِهِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ ظَلَمَ زَوْجَتَهُ صَدَاقَهَا لَقِيَ الله هو زانٍ " قَالَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ. وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ الزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 فصل: القول في تعريف الصداق وأسماؤه وَالصَّدَاقُ: هُوَ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ. وَلَهُ فِي الشَّرْعِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ: وَهِيَ الصَّدَاقُ وَالْأَجْرُ، وَالْفَرِيضَةُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْهَا بِاسْمَيْنِ: الْمَهْرُ وَالْعَلَائِقُ وَجَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاسْمٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْعَقُورُ وَقَدْ مَضَتْ شَوَاهِدُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إذا لم يسم فيه الصداق فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ، صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَرِهْنَا تَرَكَ التَّسْمِيَةِ فِيهِ. وَإِنَّمَا صَحَّ الْعَقْدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} (البقرة: 236) . وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهَا لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، فَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى لَمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً. وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا الصَّدَاقُ، وَسَمَّاهُ فَرِيضَةً، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ لَهَا وَأَصْلُ الْفَرْضِ الْوُجُوبُ كَمَا يُقَالُ: فَرَضَ السُّلْطَانُ لِفُلَانٍ الْفَيْءَ أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (كَانَتْ فَرِيضَةً مَا أَتَيْتَ ... كَمَا كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ) فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ تَرْكِ الصَّدَاقِ، وَجَوَّزَ فِيهِ الطَّلَاقَ، وَحَكَمَ لَهَا بِالْمُتْعَةِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى لِمَنْ كَرِهَ امْرَأَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لِقَوْلِهِ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُوهُنَّ) {البقرة: 236) فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى طَلَاقَيِ الْكَارِهِ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقَاتِ يَعْنِي الْفِرَاقَ بَعْدَ الذَّوْقِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ بِرْوَعَ بِنْتَ وَاشِقٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَحَكَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمهر نسائها والميراث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 وروي أنا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ تَزَوَّجَ أَمَّ سُلَيْمٍ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ التَّوَاصُلُ وَالْأُلْفَةُ، وَالصَّدَاقُ فِيهِ تَبَعٌ لِمَقْصُودِهِ، فَخَالَفَ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنْكُوحَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَرْكَ الْعِوَضِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ. فَأَمَّا كَرَاهَتُنَا لِتَرْكِ الصَّدَاقِ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَلِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ. وَالثَّانِي: لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ وَالتَّنَازُعِ إِلَى الْحُكَّامِ. وَالثَّالِثُ: لِيَكُونَ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ فِيهَا الْمُعَاوَضَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ إِذَا كان بمهر مجهول حرام مسألة قال الشافعي: " فَلَوْ عَقَدَ بمجهولٍ أَوْ بحرامٍ ثَبَتَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ بِمَهْرٍ مَجْهُولٍ أَوْ حَرَامٍ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ صَحَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى. اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ؛ لِفَسَادِ الْمَهْرِ فِيهِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ بِمَهْرٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالشِّغَارِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِبَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْبَيْعِ. قَالَ: ولئن صح النكاح بغير مهر، لا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْطُلَ بِفَسَادِ الْمَهْرِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِغَيْرِ أَجَلٍ وَغَيْرِ خِيَارٍ، وَيَبْطُلُ بِفَسَادِ الْأَجَلِ وَفَسَادِ الْخِيَارِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مرشدٍ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " فَتَضَمَّنَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْيَ النِّكَاحِ بِعِدَمِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنَ، وَإِثْبَاتَ النِّكَاحِ بِوُجُودِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ. وَهَذَا نِكَاحٌ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. وَلِأَنَّ فَسَادَ الْمَهْرِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَالْمَهْرِ الْمَغْصُوبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ صَحَّ بِالْمَهْرِ الصَّحِيحِ صَحَّ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَبَانَ حُرًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ، وَلَيْسَ فِي سُقُوطِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ ذِكْرِهِ، وَلَوْ فَقَدَ ذِكْرَهُ لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ، فَكَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ فَاسِدًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَهْرِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى تَرْكِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالتَّشْرِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَرْكِ الثَّمَنِ فَبَطَلَ بِفَسَادِهِ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ الْمَهْرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، وَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِهِمَا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ قَدْ قَابَلَا جُزْءًا مِنَ الثَّمَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِدُخُولِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، فَإِذَا بَطَلَا أَوْجَبَ بُطْلَانَ مَا قَابَلَهُمَا مِنَ الثَّمَنِ فَصَارَ الْبَاقِي مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَلَيْسَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ، وَسُقُوطُهُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ لِجَهَالَتِهِ فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِجَهَالَةِ الْمَهْرِ وَتَحْرِيمِهِ، فَالْمَهْرُ بَاطِلٌ بِالْجَهَالَةِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْمَهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ؟ جَازَ، وَكَانَ لَهَا عَبْدٌ سِنْدِيٌ؛ لِأَنَّ الرُّومِيَّ أَعْلَى وَالزِّنْجِيَّ أَدْنَى وَالسِّنْدِيَّ وَسَطٌ، فَيُحْكَمُ لَهَا بِهِ؟ لِأَنَّهُ أَوْسَطُ الْعَبِيدِ. احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَهْرَ أَحَدُ عِوَضِ النِّكَاحِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا كَالْبُضْعِ قَالَ: وَلِأَنَّ جَهَالَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولُ الْجِنْسِ، مَجْهُولُ الْقَدْرِ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ، وَالْعَبْدَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ عِنْدَكُمْ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَأَنْ يَجِبُ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الصَّدَاقِ، أَصْلُهُ: إِذَا أَصْدَقَهَا ثَوْبًا وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى فَسَادِ الصَّدَاقِ بِإِطْلَاقِهِ وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِجَهَالَةِ الْعَبْدِ كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى جَهَالَةِ الْبُضْعِ فَهُوَ أَنَّ جَهَالَةَ الْبُضْعِ تَمْنَعُ مِنَ الصِّحَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ: كُبْرَى، وَصُغْرَى، وَوُسْطَى وَقَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَأَطْلَقَ، كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُسْطَى كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى. كَذَلِكَ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا وَأَطْلَقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَعْلَى وَأَدْنَى. وَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ إِنَّمَا أَوْجَبْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ وَإِنْ جُهِلَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَإِنْ سَقَطَ الْمَهْرُ بِالْفَسَادِ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُفَوَّتٌ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى قِيمَتِهِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا بِثَوْبٍ فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَرَدَّ بَائِعُهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ حِينَ فَاتَ الرُّجُوعُ بِعَيْنِهِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَفِيِ قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) {النساء: 20) دليلٌ عَلَى أَنْ لَا وَقْتَ لِلصَدَاقِ يَحْرُمُ بِهِ لِتَرْكِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّكْثِيرِ وَتَرْكِهِ حَدَّ القليل وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا العلائق؟ قال: " ما تراضى به الأهلون " قال ولا يقع اسم علق إلا على ماله قيمةٌ وإن قلت مثل الفلس وما أشبهه وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجلٍ " التمس وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ " فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شيئاً فقال " هل معك شيءٌ من القرآن؟ " قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا فَقَالَ " قد زوجتكها بما معك من القرآن " وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال؛ " من استحل بدرهم فقد استحل " وأن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ في ثلاث قبضات زبيبٍ مهرٌ وقال ابن المسيب لو أصدقها سوطاً جاز وقال ربيعة قال درهمٌ قلت وأقل؟ قال ونصف درهم قال قلت له فأقل؟ قال نعم وحبة حنطةٍ أو قبضه حنطةٍ (قال الشافعي) فما جاز أن يكون ثمناً لشيءٍ أو مبيعاً بشيءٍ أو أجرةً لشيءٍ جاز إذا كانت المرأة مالكةً لأمرها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَكْثَرِ الْمَهْرِ. وَالثَّانِي: في أقله. القول في أكثر الصداق فَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) {النساء: 20) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ. وَحَكَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدًا سَاقَ أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا جَعَلْتُ الْفَضْلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَمْنَعُنَا كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فَرَجَعَ عُمَرُ وَقَالَ: كُلُّ أَحَدٍ يَصْنَعُ بِمَالِهِ مَا شَاءَ، فَكُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 وَقَدْ تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَتَزَوَّجَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفٍ وَتَزَوَّجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ، وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ معمر التميمي وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَ بِالْبَصْرَةِ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً مِنْ نَاصِحٍ لَكَ لا يريد وداعاً: (بُضْعُ الْفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كَامِلٍ ... وَتَبِيتُ سَادَاتُ الْجُنُودِ جِيَاعَا) (لَوْلَا أَبُو حَفْصٍ أَقُولُ مَقَالَتِي ... وَأَبُثُّ مَا حَدَّثْتُهُ لَارْتَاعَا) فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ فَأَمَّا أَقَلُّ الصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، أَوْ مَبِيعًا، أَوْ أُجْرَةً، أَوْ مُسْتَأْجَرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَتَّى قَالَ عمر في ثلاث قبضات زبيب مهراً. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ سَعِيدًا زَوَّجَ بِنْتَهُ عَلَى صَدَاقِ دِرْهَمَيْنِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ مالك: أقل الصداق ما نقطع فِيهِ الْيَدُ؛ رُبُعُ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ أَقَلُّهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؛ أَقَلُّهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنْ عَقْدَهُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ وَكُمِّلَتْ عَشَرَةً، وَمُنِعَتْ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا زُفَرَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَبْطَلَ التَّسْمِيَةَ وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقَلُّهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ) {النساء: 24) وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا قَلَّ مِنَ الدَّانِقِ وَالْقِيرَاطِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِغَاءً بِمَالٍ. وَرَوَى مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ " وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالنِّصَابِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْبُضْعِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُقَدَّرُ أَقَلُّهُ كَالشُّهُودِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌ: وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَالثَّانِي خَاصٌّ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فَرَضَ لَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ لَهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ لَهَا الْخَمْسَةُ كُلُّهَا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وما العلائق قال: ما تراضى به الأهلون " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ " يعني فقد استحل بالدرهمين. وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُنَاحَ عَلَى امرئٍ أَنْ يُصْدِقَ امرأةً قليلاً أو كثيراً إذا أشهد وتراضو ". وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أن امرأة تزوجت على نعلين فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ. وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِرَجُلٍ خَطَبَ مِنْهُ الْمَرْأَةَ الَّتِي بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ ". وَالْخَاتَمُ مِنَ الْحَدِيدِ أَقَلُّ الْجَوَاهِرِ قِيمَةً، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَهْرِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَدِيدٍ صِينِيٍّ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَكُونُ ثَمَنُ النَّعْلَيْنِ عَشَرَةَ دراهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ الْمَعْهُودِ لَنُقِلَ وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنْ يُسَاوِيَ نَعْلَانِ فِي الْمَدِينَةِ وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ: عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيلِ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّرَةِ لَكَانَ عُدُولُهُ إِلَى الْعَشَرَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَسَهْلَ وَأَفْهَمَ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. وورى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ رُومَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدَيْهِ طَعَامًا كَانَتْ بِهِ حَلَالًا ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّا كُنَّا لِنَنْكِحُ الْمَرْأَةَ عَلَى الْحَفْنَةِ أَوِ الْحَفْنَتَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنْ كُلَّ مَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالْعَشَرَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ثَبَتَ فِيهِ الْعَشَرَةُ عِوَضًا فَصَحَّ أَنْ يَثْبُتَ دُونَهَا عِوَضًا كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى إِحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا فَلَمْ يَتَقَدَّرْ قِيَاسًا عَلَى أُجْرَةِ مَنَافِعِهَا وَلِأَنَّ مَا يقابل البضع من البدل لا يقتدر فِي الشَّرْعِ كَالْخُلْعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ لَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْأَعْوَاضِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ حَلَّتْ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ مَالٌ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ دَانِقًا قُبِلَ مِنْهُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَهْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ قَوْلًا مُسْنَدًا، وَفِعْلًا مُنْتَشِرًا مَا يُنَافِيهِ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إِنْ صَحَّ، فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةً فَحُكِمَ لَهَا فِيهِ بِالْعَشَرَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَقَوْلُهُمْ: مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَاسِدٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَبَاحُ بِإِخْرَاجِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اسْتُبِيحَ بِالْمَالِ لَمَا لَزِمَ رَدُّ الْمَالِ، وَرَدُّ الْمَالِ لَازِمٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ يُسْتَبَاحُ به العضو وإنما بقطع بِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَصُّ بِاسْتِبَاحَةِ عُضْوٍ بَلْ يُسْتَبَاحُ بِهِ جَمِيعُ الْبَدَنِ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا قَالُوهُ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ عَنْ فِعْلٍ كَالْجِنَايَاتِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُرَاضَاةٍ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْبُضْعِ الْمُقَدَّرِ: فَفَاسِدٌ بِالْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبُضْعِ أَنَّهُ صَارَ مُقَدَّرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَصَارَ مُقَدَّرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَالْمَهْرُ يَتَجَزَّأُ فَصَحَّ أَنْ يَزِيدَ وَصَحَّ أَنْ يَنْقُصَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ فَتَقَدَّرَتْ كَمَا تَقَدَّرَتْ بِالزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَلَيْسَ كَالْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْوَاضِ الْمُرَاضَاةِ، وَلَوْ تَقَدَّرَ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُرَاضَاةٍ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ وَأَكْثَرَهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَقَلَّ، إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ جَائِزَةَ الْأَمْرِ. فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ مُعَاوِضٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَرُوعِيَ فِيهِ عوض المثل كما يراعى في بيعه لما لها ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهَا لِنَفْسِهَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْدِلَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّنَاهِي فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي يَقْصُرُ الْعُمُرُ عَنْهَا، وَعَنِ التَّنَاهِي فِي النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعٌ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا. وَأَنْ يُقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُهُورِ نِسَائِهِ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ فِي مُوَافَقَتِهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا رَوَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مُهُورَ الشَّرِيفَاتِ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ اقْتِدَاءً بِصَدَاقِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خَيْرُهُنَّ أَيَسَرُهُنَّ صَدَاقًا ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا وأقلهن مهراً ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَيَاسَرُوا فِي الصَّدَاقِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطِي الْمَرْأَةَ يَبْقَى ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهَا حسكةٌ " وَفِي الْحَسِيكَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدَاوَةُ. وَالثَّانِي: الْحِقْدُ. فَصْلٌ وَيَجُوزُ الصَّدَاقُ عَيْنًا حَاضِرَةً، وَدَيْنًا فِي الذِّمَّةِ: حَالًّا، وَمُؤَجَّلًا، وَمُنَجَّمًا وَأَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ رهن، وضامن، كالأثمان، والأجور. والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 باب الجعل والإجارة من الجامع من كتاب الصداق وكتاب النكاح من أحكام القرآن ومن كتاب النكاح القديم مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أنكح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقُرْآنِ فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا قُرْآنًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. فَيَكُونُ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَهْرًا لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحِين) {النساء: 24) وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَالًا فَلَمْ يَصِحَّ ابْتِغَاءُ النِّكَاحِ بِهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لَقَّنْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قُرْآنًا فَأَعْطَانِي قَوْسًا فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَقَالَ: " أَتُحِبُ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ؟ قُلْتُ لَا قَالَ: فَارْدُدْهُ " فَلَوْ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ لَمَا تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ فَدَلَّ تَحْرِيمُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَلَى تحريم أن يكون من نَفْسِهِ عِوَضًا. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا فِي مُقَابَلَتِهِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، قِيَاسًا عَلَى طَلَاقِ ضَرَّتِهَا، وَعِتْقِ أَمَتِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، وَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا؟ " فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنْ أَخَذَتْهُ مِنْكَ عَرِيتَ، وَإِنْ تَشُقَّهُ عَرِيتَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ "، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شيءٌ؟ " قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: اجْلِسِي بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكَهَا إِنْ رَضِيتَ "، فَقَالَ: مَا رَضِيتَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ رَضِيتُ فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ " فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ فَقَالَ: " مَا تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ؟ " فَقَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا فَقَالَ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ ". فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ "، أَيْ لِأَجْلِ فَضِيلَتِكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ " لِيَكُونَ صَدَاقًا فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ بَدَلًا مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَدْفَعُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ قَالَ: قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ. فإن قالوا: هو تَأْوِيلُ مَكْحُولٍ إِنَّ هَذَا خَاصٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمُتَزَوِّجَ بِهَا، فَيَصِيرُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُزَوِّجًا لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ مُشَارِكًا لِأُمَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً " هِيَ مَجْهُولَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَاقًا مَجْهُولًا قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجُلَ عَمَّا مَعَهُ من القرآن فذكر سوراً سماها فقال: زوجكتها بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَعْنِي السُّوَرَ الْمُسَمَّاةَ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " عِشْرِينَ آيَةً " يَعْنِي مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا فَصَارَ الصَّدَاقُ مَعْلُومًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا النَّقْلِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ صَدَاقًا فَاقْتَصَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأَمْسَكَ عَنْ نَقْلِ مَا عُرِفَ دَلِيلُهُ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةٍ صَحَّ أَنْ يَبْذُلَهَا الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ تبرعاً جاز أن يبذلها مهرهاً، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ عَسِيبُ الْفَحْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ: فَنَحْنُ نَقُولُ بِنُطْقِهَا وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِدَلِيلِهَا. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَقَدْ نَقَلْنَا عَنْهُ نُطْقَ دَلِيلٍ آخَرَ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَارَةً وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أُخْرَى. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ أَثْبَتُ، وَأَيُّهُمَا صَحَّ فَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ لِلْقُرْآنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَعِتْقِ أَمَتِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَيَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ، أَوْ عِتْقِ أَمَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهَا. قِيلَ: مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مَعَ الضَّرَّةِ وَالْأَمَةِ مِثْلُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مُنْفَرِدَةً، فَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مِنْهُ نَفْعٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، فَمُنْتَقَضٌ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِيهِمَا لَا تَصِحُّ، وَأَنَّ نَفْعَهُمَا لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِيهِمَا، وَلَيْسَ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ فَرْضٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ: فَهُوَ إِنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْأُجْرَةُ فِيمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَغَسْلِ الْمَوْتَى، وَحَمْلِ الْجَنَائِزِ، وَحَفْرِ الْقُبُورِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَصْدَقَهَا منه معلوماً تنتفي ع نه الْجَهَالَةُ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ الْمَجْهُولَ لَا يَصِحُّ. أَحْوَالُ الصَّدَاقِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنْهُ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَجَمِيعُهُ مَعْلُومٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ يُلَقِّنُهَا فَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرَّاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَالسُّهُولَةِ، وَالصُّعُوبَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 فَإِنْ ذَكَرَ قِرَاءَةً مُعَيَّنَةً لَمْ يَعْدِلْ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ فَفِي الصداق وجهان: أحدها: أَنَّهُ صَدَاقٌ بَاطِلٌ؛ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَصَارَ مَجْهُولًا كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا ثَوْبًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ "، وَكَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانَهُ مِنَ الصُّبْرَةِ لِتَمَاثُلِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يُلَقِّنُهَا بِهِ مِنَ الْحُرُوفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِالْأَغْلَبِ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَلَدِ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا دَرَاهِمَ كَانَتْ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِمَا شَاءَ من القراءات المفردة أو بالجائز؛ وأن كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً، لِاخْتِلَافِ السُّوَرِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَأَنَّ فِيهَا الْمُشْتَبِهَ وَغَيْرَ الْمُشْتَبِهِ، فَإِذَا عَيَّنَ السُّورَةَ كَانَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَضَى. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَصِحَّةُ ذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كان مَجْهُولَةً لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مِنَ السُّورَةِ مَعْلُومَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَائِدَةِ، أَوْ عَشْرٌ الطَّلَاقِ. فَإِنْ أَطْلَقَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا، اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ لِلرَّجُلِ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً " وَلَمْ يُعَيِّنْ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا أَقْصَرَ سورة في القرآن وهي الكوثر ثلاث فَصَاعِدًا لِيَكُونَ قَدْرًا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ، وَتَعْيِينُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْإِعْجَازِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ حَرْفُ الْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْآيَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فَإِنْ كَانَتْ حُرُوفُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ كَانَ اخْتِلَافُهَا يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنُقْصَانِهَا لَمْ يُلْزَمْ شَرْطَهُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا إِنْ أَصْدَقَهَا أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ شَهْرًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ السُّوَرَ وَالْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 التَّعْلِيمَ قَدْ صَارَ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ عَيْنُهُ مَجْهُولًا، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ أَنْ أَخْدِمَكَ شَهْرًا فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْخِدْمَةَ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا أَطْلَقَ الْمُدَّةَ وَعَيَّنَ الْخِدْمَةَ، ثُمَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِتَعْلِيمِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَا بِمَا شَاءَ الزَّوْجُ، كمن استؤجر لخدمة شهر، كان للمستأجر أن يستخدمه فِيمَا شَاءَ دُونَ الْمُؤَجَّرِ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْلِيمِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا السُّورَةَ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، حَتَّى إِذَا حَفِظَتِ الْآيَةَ عَدَلَ بِهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى تَخْتِمَ السُّورَةَ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا حَفِظَتِ السُّورَةَ أَنْ يُدَرِّسَهَا إِيَّاهَا؛ لِأَنَّ التَّدْرِيسَ مِنْ شُرُوطِ الْحِفْظِ لَا مِنْ شُرُوطِ التَّعْلِيمِ. فَلَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَحْفَظَ مَا عَلَّمَهَا بِأَيْسَرِ تَعْلِيمٍ وَأَسْهَلِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ وَفَّى مَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَتَعَلَّمَ فِي الْحَالِ ثُمَّ تَنْسَى مَا تَعَلَّمَتْهُ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَعَلَّمَ جَمِيعَ السُّورَةِ ثُمَّ تَنْسَاهَا، فَقَدِ اسْتَقَرَّ التَّسْلِيمُ وَوَفَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ التَّعْلِيمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا ثَانِيَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلَقِّنَهَا مِنْهُ يَسِيرًا لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ كَبَعْضِ آيَةٍ، فَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّمَهَا قَدْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْجَازُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَسْلِيمٌ مُسْتَقِرٌّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ بِانْفِرَادِهِ مَهْرًا فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُهَا ثَانِيَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَسْلِيمٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ جُمْلَةٍ غَيْرِ مُتَمَيِّزَةٍ، فَعَلَى هَذَا يلزمه تعليمها ثانية. والحال الثالث: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَكُونَ بَلِيدَةً، قَلِيلَةَ الذِّهْنِ، لَا تَتَعَلَّمُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَعَنَاءٍ، فَهَذَا عَيْبٌ، يَكُونُ الزَّوْجُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيَعْدِلَ إِلَى بَدَلِهِ، وَفِي بَدَلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ بَعْدُ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِحَالٍ فَفِي الصَّدَاقِ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِهِ وَإِعْوَازِهِ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَتَأْتِي بِغَيْرِهَا حَتَّى يُعَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ اسْتَوْفَاهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْعَيْبَ مِنْ جِهَتِهَا. وَهَلْ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ قَدِ اسْتَحَقَّتْهُ لِنَفْسِهَا فَجَازَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِغَيْرِهَا، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أو الفسخ، لأنه يستلذ من تعليمها مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَلِذَّ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهَا فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ. وَالثَّانِي: مَهْرُ الْمِثْلِ. فَلَوْ أَرَادَتْ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَنْ تأتيه بغيرها ليعلمه بَدَلًا مِنْهَا فَإِنْ رَاضَاهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ وَتَعْلِيلُهُمَا مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ لَمْ يُعَلِّمْهَا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعَلَّمَتْهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ فَاتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهَا فَيَكُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تأتيه بغيرها حتى يعلمه الْقُرْآنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الصَّدَاقُ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ. وَالثَّانِي: مَهْرُ الْمِثْلِ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ وَإِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أُحَصِّلَ لَكِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا مَنْ يُعَلِّمُهَا الْقُرْآنَ إِمَّا مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعَلِّمَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يُعَلِّمُهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَكِ الْقُرْآنَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ جَازَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا كَذَلِكَ الْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يحفظه فيعلمها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ الصَّدَاقُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مِنْ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خِدْمَةَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ. وَخَالَفَ أَنْ يُصْدِقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا، لِأَنَّ الْأَلْفَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ وَالْمَنْفَعَةُ هَهُنَا مُعَيَّنَةٌ، ألا تره لَوْ بَاعَ سِلْمًا ثَوْبًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ جَازَ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا مَعِيبًا لَا يَمْلِكُهُ لَمْ يَجُزْ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَيُعَلِّمَهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلَ الْفَسْخَ وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَبِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا أَسْتَأْجِرُ لَكِ مَنْ يُعَلِّمُكِ لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْهُ فِي عَيْنِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهُ عَبْدًا فَزَمِنَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَبْدًا غَيْرَهُ، وَخَالَفَ أَنْ تُرِيدَ إِبْدَالَ نَفْسِهَا بِغَيْرِهَا، فَيَكُونُ لَهَا ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لا حق له، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرَةً فِي اسْتِيفَائِهِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِي أَدَائِهِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ، فَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ أَنْ يتعلم القرآن من بعد أولا يَتَعَلَّمَهُ، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مَهْرُ المثل. فصل: القول في تزويج الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَإِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاهْتِدَاءَ بِهِ وَاعْتِبَارَ إِعْجَازِهِ وَدَلَائِلِهِ جَازَ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا إِيَّاهُ كَالْمُسْلِمَةِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ وَالْقَدْحَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا بَاطِلًا؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْقُرْآنِ عَنِ الْقَدْحِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ قَصْدَهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ وَإِرْشَادٌ، ثُمَّ يَسِيرُ بَحْثَ حَالِهَا فِي وَقْتِ التَّعْلِيمِ، فَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الْهِدَايَةِ: أَقَامَ عَلَى تَعْلِيمِهَا، وَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ فَسَخَ الصَّدَاقَ، وَعَدَلَ إِلَى بَدَلِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مهر المثل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تعليم التوراة والإنجيل إذا تزوج الذمي عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، كَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا، لِأَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا وَبَدَّلَا فَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ التَّعْلِيمِ أَبْطَلْنَاهُ، وَإِنْ تَحَاكَمَا بَعْدَ التَّعْلِيمِ أَمْضَيْنَاهُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا أَوْ خنزيراً فتقابضاه. القول في تزويج المسلم الذمية على تعليم التوراة أو الإنجيل وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَبْطَلْنَاهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ وَبَعْدَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ: أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَرَوْنَهُ جَائِزًا فَأَمْضَى مِنْهُ مَا تَقَابَضَاهُ، وَنَحْنُ نَرَاهُ بَاطِلًا فَأَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ تَقَابَضَاهُ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ: فَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ هِجَاءً وَفُحْشًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ زُهْدًا وَحِكَمًا وَأَمْثَالًا وَأَدَبًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. حُكِيَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ سُئِلَ عَنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. فَقَالَ إِنْ كَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (يَوَدُّ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَ) (يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا) وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانَ لَسِحْرًا " جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " أَوْ يَأْتِيهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ فَعَلَّمَهَا أَوْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ ". الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدِمَهَا شَهْرًا، أَوْ يَبْنِيَ لَهَا دَارًا، أَوْ يَخِيطَ لَهَا ثَوْبًا، أَوْ يَرْعَى لَهَا غَنَمًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَدَاقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ صَدَاقًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) {النساء: 24) وليس هذا مال فَيَصِحُّ ابْتِذَالُ النِّكَاحِ بِهِ، وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَتْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا، فَلَمْ يَجِبْ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَرَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالٌ مُوجِبٌ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ حِينَ تَزَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكُحكَ إحْدَى ابْنَتَي هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 27) يَعْنِي عَمَلَ ثَمَانِي حِجَجٍ فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْعَمَلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ رَعْيُ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَعْيَ مُوسَى ثَمَانِي سِنِينَ صَدَاقًا لِبِنْتِهِ. وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: فهذا في غير شريعتنا فلم يلزمنا. قِيلَ شَرَائِعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَازِمَةٌ لَنَا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَرِدْ نَسْخٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَدَاقِهَا لِنَفْسِهِ وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِقِيَامِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا دُونَهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَلِيَلًا عَلَى نَسْخِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَشُعَيْبٌ جَعَلَ الْمَنْفَعَةَ مُقَدَّرَةً بِمُدَّتَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا. قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَمَانُ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِي حِجَجٍ وَاجِبَةٍ وَكَانَتْ سَنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تَثْبُتَ صَدَاقًا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ فَصَحَّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالدَّرَاهِمِ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ، فَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ مَالًا، أَوْ غَيْرَ مَالٍ، فَالْإِجَارَةُ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا وَكَانَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالًا. فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا مَنَافِعَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مَنَافِعَ وَقْفِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّقَبَةُ مَالًا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَعَلَ صَدَاقَهَا أَنْ يَأْتِيَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ، تصح الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا جَازَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفِ الْمَكَانِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْجُعَالَةُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجْهُولُ الْمَكَانِ فَيَصِيرُ الصَّدَاقُ بِهِ مَجْهُولًا، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ جُعَالَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالصَّدَاقُ لَازِمٌ، فَتَنَافَيَا، فَبَطَلَ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَكَانِ الْآبِقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ وَلِسَائِرِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الثَّانِيَ إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ جُعَالَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَمُخَالِفًا لِسَائِرِ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِهِ، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أجر التعليم (قال المزني) وبنصف أجر المجيء بالآبق فإن لم يعلمها أو لم يأتها بالآبق رجعت عليه بنصف مهر مثلها لأنه ليس له أن يخلو بها يعلمها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ثُمَّ طَلَّقَ. وَالثَّانِي: إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ طَلَّقَ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وهو أن يصدقها تعليم القرآن ثم طلق فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا: أَحَدُهَا: أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا بِالدُّخُولِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَقَدْ وَفَّاهَا إِيَّاهُ بِتَعْلِيمِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَلَا تراجع بينهما بشيء. وإن كان طلاقها قَبْلَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . فَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَاضِرَةً رَجَعَ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ كانت تالفة ولها مثله رَجَعَ بِنِصْفِ مِثْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ: رَجَعَ بِقِيمَةِ نِصْفِهَا، وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عَيْنًا حَاضِرَةً فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 وَلَا هُوَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ نِصْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ نصفه وذلك نصف أجرة مثل التعليم. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ تَعْلِيمِهَا وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مَشْرُوطًا فِي ذِمَّتِهِ اسْتَأْجَرَ لَهَا مِنَ النِّسَاءِ وَمِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُعَلِّمُهَا عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعْلِيمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا يَجُوزُ سَمَاعُ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ. وَقَدْ كَانَتْ نِسَاءُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحَدِّثْنَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي مُطَاوَلَةِ كَلَامِهَا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا ربما خلوا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامرأةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا ". فإذا قلنا: إن تعليمها لا يجوز نظر حَالُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ: رَجَعَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تُعَلَّمُ الْقُرْآنَ: لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا يُعَلِّمُهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ. فَلَوِ اخْتَلَفَ فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ عَلَّمْتُكِ الْقُرْآنَ وَقَالَتْ: لَمْ تُعَلِّمْنِي فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَافِظَةً لِلْقُرْآنِ فِي الْحَالِ، أَوْ غَيْرَ حَافِظَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَافِظَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا وَإِنْ كَانَتْ حَافِظَةً وَقَالَتْ حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ حِفْظَهَا شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ وإن طلاقها قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقُرْآنِ هَلْ يَتَجَزَّأُ أَمْ لا؟ على وجهين: أحدهما: أن يَتَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ الَّتِي جَزَّأَهَا السَّلَفُ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا نِصْفَ الْقُرْآنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ فَلَيْسَ يَتَمَاثَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُ أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، وَسُوَرَهُ أَصْعَبُ مِنْ سُوَرِهِ، وَعَشْرٌ أَصْعَبُ مِنْ عَشْرٍ، وقد روي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هودٌ وَأَخَوَاتُهَا " فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَحَقَّتِ النِّصْفَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنْهُ؛ لِتَعَذُّرِ تَمَاثُلِهِ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَبِمِثْلِ نصف مهل المثل على قوله في الجديد. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا الْبَعْضَ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ. فَإِنْ قُلْنَا يُعَلِّمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَجْزِئَةِ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ مَا عَلَّمَ، كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا النِّصْفَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ وَتَرْجِعُ بِبَدَلِ نِصْفِهِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ: بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ. تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ صَدَاقِهَا، فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ سَقَطَ هَهُنَا عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مَا عَلَّمَ، وَبَنَى لَهَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَقْسِيطِ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ مهر مثلها سقط عنه من النصف نصفه وَهُوَ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا قَدْ لَا تُمَاثِلُ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ، لِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِحَقِّهَا، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ نِصْفِ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ وَرَجَعَتْ هِيَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَا يَخْلُو مَا عَلَّمَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ. وَالثَّانِي: أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ. وَالثَّالِثُ: أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 فَإِنْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ: تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ حَقَّهَا، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّدَاقِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ تَقَسَّطَ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ كَمْ تساوي أجرة مثل تعليم القرآن؟ فإن قِيلَ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. قِيلَ: فَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: سِتَّةُ دَنَانِيرَ، لِأَنَّهُ أَصْعَبُ النِّصْفَيْنِ، صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْفَاضِلِ وَهُوَ دِينَارٌ، وَإِنْ قِيلَ أُجْرَةُ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ النِّصْفَيْنِ صَارَتْ آخِذَةً أَقَلَّ مِنْ حَقِّهَا فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي وَهُوَ دِينَارٌ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ تَعْلِيمِ الرُّبُعِ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِرُبُعِ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ: فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ مِنْهُ حَقَّهَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ، فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ: نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ الثلثين الذي علمها. فَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعَةً رَجَعَ عَلَيْهَا بِدِينَارَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةً رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ الثُّلُثُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا عَلَّمَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِتَمَامِ النِّصْفِ مِنْ صَدَاقِهَا وَهُوَ سُدُسُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فعليه أن يعلمها تمام النصف، وما اسْتَوْفَتْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقِسْطِ مَا عَلَّمَ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَبَقِيَ لَهَا تَمَامُ النِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِالسُّدُسِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِالسُّدُسِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، قُوِّمَتْ أُجْرَةُ الْجَمِيعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 قِيلَ: عَشْرَةٌ نُظِرَتْ أُجْرَةُ الثُّلُثِ، فَإِنْ قِيلَ: خَمْسَةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَإِنْ قِيلَ: ثَلَاثَةٌ رَدَّ عَلَيْهَا دِينَارَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: سِتَّةٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ دِينَارًا. وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ السُّدُسِ الباقي، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ ثُلُثُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ فصل ي المسألة، وأرجو أن أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ إِلَى الْإِغْمَاضِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ: أَنْ يُصْدِقَهَا الْمَجِيءَ بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّرْبَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ وَفَسَادِهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الصَّدَاقُ صَحِيحًا بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَعْلُومًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ جاءها بالعبد الآبق أو لم يجيئها بِهِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِعَبْدِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نصفه وقد استوفت جميعه له أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِالْآبِقِ لِيُوَفِّيَهَا الصَّدَاقَ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجِيئَهَا بِالْآبِقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الصَّدَاقِ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَيُؤْخَذُ بِنِصْفِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الْقَدِيمُ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ الصَّدَاقُ فِيهِ فَاسِدًا، بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَجْهُولًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ أَوْ لَمْ يجيئها بِهِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِهِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا واحداً لفساد الصداق، ويرجع عليها بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَقَاضَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَتَرَادَّا الْفَضْلَ إِنْ كَانَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَرَجَعَ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ الْآبِقِ حَتَّى طَلَّقَهَا، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالْمَجِيءِ بِالْعَبْدِ، لِفَسَادِ الصَّدَاقِ فِيهِ، أَوْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ هَهُنَا: أَوْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ. وَمِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ قِيلَ بِتَجْوِيزِهِ هَذَا الصَّدَاقَ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَكَذَا لَوْ قَالَ نَكَحْتُ عَلَى خِيَاطَةِ ثوبٍٍ بعينه فهلك الثوب فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ مَاتَ رَجَعَتْ فِي مَالِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِي تَعْلِيمِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَهَذَا يَجُوزُ إِذَا وُصِفَتِ الْخِيَاطَةُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ إِجَارَةً فَإِنْ تَجَدَّدَ مَا يَمْنَعُ عَنْ خِيَاطَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِعُطْلَةِ الزَّوْجِ بِزَمَانَةٍ أَوْ عَمَى. فَإِنْ تَلَفَ الثَّوْبُ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْمُزَنِيُّ هَهُنَا: أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فِي تَالِفٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا حَصَادَ زَرْعٍ فَهَلَكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مُسْتَوْفًى بِهِ الصَّدَاقُ وَلَيْسَ هُوَ الصَّدَاقَ فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَهَلَكَ قَبْلَ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ؛ لِهَلَاكِ مَنْ تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ، كَذَلِكَ تَلَفُ الثَّوْبِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ فَمَاتَ، هَلْ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُسْتَوْفَى بِهِ الرَّضَاعُ الْمُسْتَحَقُّ. وَإِنْ تَعَطَّلَ الزَّوْجُ عَنِ الْخِيَاطَةِ بِعَمَى أَوْ بِزَمَانَةٍ مَعَ بَقَاءِ الثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّتِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَقُومُ بِخِيَاطَتِهِ وَلَا يَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِزَمَانَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ بَطَلَ بِزَمَانَتِهِ وَعُطْلَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مُسْتَوْفًى مِنْهُ، فَبَطَلَ بِتَلَفِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ. فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الصَّدَاقِ مُتَعَلِّقًا بِثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: مُسْتَوْفًى لَهُ، وَمُسْتَوْفًى بِهِ، وَمُسْتَوْفًى مِنْهُ. فَالْمُسْتَوْفَى لَهُ: هِيَ الزَّوْجَةُ، وَمَوْتُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 وَالْمُسْتَوْفَى مِنْهُ: هُوَ الزَّوْجُ، وَمَوْتُهُ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِهِ. وَالْمُسْتَوْفَى بِهِ: هُوَ الثَّوْبُ وَفِي فَسَادِ الصَّدَاقِ بِتَلَفِهِ وَجْهَانِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّوْبِ فَلَهَا أَنْ تَأْتِيَهُ بِثَوْبٍ مِثْلِهِ حَتَّى يَخِيطَهُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ قَدْ بَطَلَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى سَلَامَتِهِ وَالثَّوْبُ بَاقِيًا فَطَلَّقَهَا كَانَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ لَهَا جَمِيعَ الثَّوْبِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْ جَمِيعَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْخِيَاطَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَاطَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَتْ خِيَاطَةُ الثَّوْبِ تَتَجَزَّأُ أَوْ تَتَبَعَّضُ أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ نِصْفِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَجَزَّأُ لَمْ يُؤْخَذْ بِخِيَاطَتِهِ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ. فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخَذَ بِإِتْمَامِ خِيَاطَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُهُ، فَيُرَاعَى قَدْرُ مَا خَاطَهُ، وَحَالُ تَجْزِئَتِهِ وَتَبْعِيضِهِ، وَيُرَاعَى فِيهِ مَا رُوعِيَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ مِنِ اعْتِبَارِ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ فِي أَنَّ خِيَاطَةَ الْبَعْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ النِّصْفَ، أَوْ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 صداق ما يزيد ببدنه وينقص من الجامع وغير ذلك من كتاب الصداق ونكاح القديم ومن اختلاف الحديث ومن مسائل شتى مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعُقْدَةِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الزَّوْجَةُ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ مَلَكَتْ بِالْعَقْدِ نِصْفَهُ وَبِالدُّخُولِ بَاقِيَهُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِجَمِيعِهِ مَا زَالَ مِلْكُهَا عَنْ نِصْفِهِ إِلَّا بِعَقْدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لم تملك منه إلا النصف. أو لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكُ الصَّدَاقِ مُقَابِلًا لَمِلْكِ الْبُضْعِ لَتَسَاوَيَا فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ حَتَّى يَجُوزَ تَأْجِيلُ الْبُضْعِ وَتَنْجِيمُهُ كَمَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ. أَوْ لَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُضْعِ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصَّدَاقُ بِجَوَازِ التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ دُونَ الْبُضْعِ اخْتَصَّ بِتَمْلِيكِ الْبَعْضِ وَإِنْ مَلَكَ جَمِيعَ الْبُضْعِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِضَافَةُ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إِلَيْهِنَّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ جَمِيعِهِ لَهُنَّ. وَالثَّانِي: أَمْرُهُ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِنَّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ حَقًّا لَهُنَّ. وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْبُضْعِ فَوَجَبَ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ بالعقد جميع المهر، كما أن المشتري لها مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَبِيعِ مَلَكَ عَلَيْهِ جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ بَدَلًا وَمُبْدَلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْبَدَلِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ كَالْبَيْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ كَالْبُضْعِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِجَمِيعِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَحَبْسُ نَفْسِهَا بِهِ إِنِ امْتَنَعَ وَأَنْ تَضْرِبَ بِجَمِيعِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حُقُوقُ الْمِلْكِ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 فَأَمَّا اسْتِرْجَاعُ الزَّوْجِ نِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ بِعَيْبٍ اسْتَرْجَعَ جَمِيعَهُ وَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ، وَكَمَا يَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِذَا رَدَّ بِعَيْبٍ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مَالِكًا لَهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الصَّدَاقِ وَالْبُضْعِ فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ فَلَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَهُمَا فِي التَّمْلِيكِ كَمَا أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ يَجُوزُ التَّأْجِيلُ وَالتَّنْجِيمُ فِي أَثْمَانِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهُمَا قَدْ ملكا بنفس العقد. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ وَقْتُ الضَّمَانِ وَنَوْعُهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ حَتَّى تَقْبِضَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ عَلَيْهِ بِعَقْدِ معاوضة، فوجب أن يكون مضموناً عليه كالمبيع. وَإِذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ فَهُوَ مَضْمُونُ الْأَصْلِ، وَمَضْمُونُ النَّقْصِ. فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَصْلِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ: هَلْ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ أَوْ بِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ، وَلَيْسَ لِلْبُضْعِ مِثْلٌ فَضُمِنَ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَلَفَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي نَفْسِهِ لَا بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ فِي جِنْسِهِ، وَنَوْعِهِ، وَصِفَتِهِ، وَقَدْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ عَقْدٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ. وَالثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ أَصْدَقَ إِلَى أَنْ تَلِفَ. وَأَمَّا ضَمَانُ النَّقْصِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ فِي تَمْيِيزِهِ وَاتِّصَالِهِ. فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَتَلَفِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، وَمَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ: كَمَرَضِ الْعَبْدِ، وَإِخْلَاقِ الثَّوْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِأَرْشِ النَّقْصِ، وَهَذَا عَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي جَعَلَ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِضَمَانِ قِيمَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهُ لَهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِ الزَّوْجَةِ، بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ بنقض أو تفسخ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 وَتَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ الَّذِي يَجْعَلُ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تُعَاوِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَا تُعَاوِضُ عَلَى مَا ابْتَاعَتْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ. الْقَوْلُ فِي النَّمَاءِ الحادث من الصداق من يَدِ الزَّوْجِ وَإِنْ حَدَثَ مِنَ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ نَمَاءٌ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ، كَانَ جَمِيعُهُ مِلْكًا لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الْأَصْلِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِنِصْفِهِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مَالِكَةٌ لِنِصْفِ الْأَصْلِ. الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ النَّمَاءِ وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً لِجَمِيعِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْأَصْلَ دُونَ النَّمَاءِ، فَأَوْجَبَ ضَمَانَ الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ. الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الزَّوْجَةِ لِصَدَاقِهَا وَإِذَا قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ صَارَ جَمِيعُهُ مِنْ ضَمَانِهَا، وَكَانَ لَهَا جَمِيعُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ نَمَاءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَضْمَنُ نِصْفَ الَّذِي مَلَكَتْهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَكُونُ فِي يَدِهَا أَمَانَةً لِلزَّوْجِ، وَلَا يَلْزَمُهَا ضَمَانُهُ، وَلَهُ نِصْفُ النَّمَاءِ. وَبِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جِئْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ ". وَهَذِهِ جُمْلَةٌ اخْتَصَرَهَا الْمُزَنِيُّ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الأم، فإن الشافعي بسطه فأحسن المزني اختصاره. فقوله وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ أَبَانَ عَنْ مذهبه أن الزَّوْجَةَ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ مَالِكٍ إِنَّهَا تَمْلِكُ نِصْفَهُ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا. فَإِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا سَقَطَ ضَمَانُهُ عَنِ الزَّوْجِ، وَصَارَ مَضْمُونًا عليها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ: فَنُقْصَانُهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا. وَأَمَّا زِيَادَتُهُ فَهِيَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَبَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَنْ جَعَلَ ضَمَانَهَا بِالدَّفْعِ مُوجِبًا لَهَا، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ فِي النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَهَا قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا وَبَعْدَهُ. فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَعْلَ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الدَّفْعِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ، فَإِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْخِطَابِ، أَوْ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى نَسَقِهِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ فِي حُكْمِهِ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَبْلَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَيَزُولُ مِلْكُهَا عَنِ الزِّيَادَةِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَصَارَ الدَّفْعُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ فَصَحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ أَصْدَقَهَا أَمَةً أَوْ عَبْدًا صَغِيرَيْنِ فَكَبِرَا أَوْ أَعْمَيَيْنِ فَأَبْصَرَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فعليها نصف قيمتها يَوْمَ قَبَضَهُمَا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ دَفْعَهُمَا زَائِدَيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيَّرَتْهُمَا بِأَنْ يَكُونَا كَبِرَا كِبَرًا بَعِيدًا فَالصَّغِيرُ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْكَبِيرُ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا نَاقِصَيْنِ فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا يَصْلُحَانِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الصَّغِيرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَمَّى لِزَوْجَتِهِ صَدَاقًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سلم الصداق إليها. والثاني: أن لا يَكُونَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهُوَ عَلَى ضربين: أحدهما: بيان الضرب الأول. أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ كَمُسَمًّى مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. أَوْ مَوْصُوفًا مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍْ} (النساء: 21) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أُبْرِئَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَكُمْ يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لِلزَّوْجَاتِ لَا يُمَلَّكْنَ أَكْثَرَ مِنْهُ، هَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا، أَوْ مُنَجَّمًا. فَإِنْ كَانَ حَالًّا سَاقَ إِلَيْهَا نِصْفَهُ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِهِ. وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا: فَعَلَيْهِ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا النِّصْفَ، وَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَحُلُّ قَبْلَ أَجَلِهِ إِلَّا بِمَوْتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُنَجَّمًا: بَرِئَ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى التَّنْجِيمِ، وَكَانَ النِّصْفُ بَاقِيًا لَهَا إِلَى نُجُومِهِ. فَلَوْ كَانَ إِلَى نَجْمَيْنِ فَحَلَّ أَحَدُهُمَا وَقْتَ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ النِّصْفَ فِي الْحَالِ فَيُسْتَضَرَّ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَ بِهِ إِلَى النِّصْفِ الْمُؤَجَّلِ فَتُسْتَضَرَّ الزَّوْجَةُ، وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ نِصْفِ الْحَالِّ، وَنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ، وَتَأْخُذُ الزَّوْجَةُ نِصْفَ الْحَالِّ وَتَصْبِرُ بِنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ حَتَّى يَحُلَّ. فَصْلٌ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ عَيْنًا مَعْلُومَةً كَالْإِمَاءِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْمَوَاشِي، وَالشَّجَرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَصَ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ من وجه ونقص من وجه. الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدخول فقد استقر لها جميعه، وعليه تسلميه إِلَيْهَا كَامِلًا. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ. وَبِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ اخْتَارَ تَمَلُّكَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِي إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَلَكَ بِالرَّدِّ جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَالشَّفِيعِ الَّذِي مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ. فَإِذَا اخْتَارَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ صَارَ بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالطَّلَاقِ. فَإِذَا صَارَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِلنِّصْفِ إِمَّا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي صَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ كَانَا فِيهِ عَلَى الْخُلْطَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا فَأَيُّهُمَا طَلَبَهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ إِلَّا صُلْحًا فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْهَا أُقِرَّ عَلَيْهَا. فَصْلٌ: الْقِسْمِ الثَّانِي وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ تَلِفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: إيضاح الضرب الأول أَنْ يُتْلَفَ قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُ نَمَاءٌ كَعَبْدٍ مَاتَ، أَوْ دَابَّةٍ نَفَقَتْ، فَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ: مَهْرُ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ، وَيُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، لَا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَلَا وَقْتَ تَلَفِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ دُونَ الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِهَا. وَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ سماء أو بجناية مِنْهُ، أَوْ بِجِنَايَةٍ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. فَإِنْ كَانَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ: فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ. وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ ضَمَانَهُ غَصْبٌ ضَمِنَهُ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كلها. وإن قيل إن ضمانه عَقْدٍ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ قَوْلًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 وَاحِدًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ التَّلَفِ أَكْثَرَ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَتَهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْجِنَايَةِ. وإن كان تلفه بجناية أجبي. فَلَا تَخْلُو قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا سَوَاءً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ. فَإِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُ فِي الْحَالَيْنِ كَعَبْدٍ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ، فَالزَّوْجُ ضَامِنٌ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ، وَالْجَانِي ضَامِنٌ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِالْجِنَايَةِ وَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِهَا أَوِ الْجَانِي. فَإِنْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ دَفَعَ إِلَيْهَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ عَلَى الْجَانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ تُطَالِبَ بِهَا الْجَانِي دُونَ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدخول رجعت عليها بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَبَرِئَا مِنْ حَقِّهَا وَبَرِئَ الْجَانِي مِنْ حَقِّهِمَا. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَبَرِئَ الزَّوْجُ وَالْجَانِي مِنْ حَقِّهَا، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي مَلَكَهُ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصَّدَاقِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَلْفٌ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ خَمْسُمِائَةٍ. فَالْجَانِي ضَامِنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا قِيمَتُهُ وَقْتَ جِنَايَتِهِ، وَالزَّوْجُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا قِيمَتُهُ وَقْتَ عَقْدِهِ. فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَقَدِ اسْتَحَقَّتْهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَعَلَى الزَّوْجِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْجَانِي بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَتَكُونُ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي هل فَاضِلُ الْقِيمَةِ الْمَضْمُونَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِالْخَمْسِمِائَةِ كُلِّهَا وَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِهَا نِصْفَ قِيمَةِ صَدَاقِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَيَكُونُ مَا ضَمِنَهُ مِنْ فَاضَلِ الْقِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِطَلَاقِهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصَّدَاقِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ أَلْفٌ فَالْجَانِي ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ وَفِيمَا يَضْمَنُهُ الزَّوْجُ قَوْلَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 أَحَدُهُمَا: خَمْسُمِائَةٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ. وَالثَّانِي: أَلْفٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَلْفِ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَانَتْ مُخَيَّرَةً إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي رُجُوعِهَا بِالْأَلْفِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الْجَانِي، ثُمَّ (الْكَلَامُ فِي التَّرَاجُعِ) عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَلْفِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِالْأَلْفِ كُلِّهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْجَانِي، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ خَمْسَمِائَةٍ ضَمَانَ الْعَقْدِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَقَدْ بَرِئَ، وَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَرَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِالْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ. وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ، وَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا بِنِصْفِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَرَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بَقِيَّةِ نِصْفِ الْأَلْفِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ. إِيضَاحُ الضَّرْبِ الثَّانِي وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ مِنَ الصَّدَاقِ قَبْلَ تَلَفِهِ نَمَاءٌ، كَوَلَدِ أَمَةٍ، وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ بَدَلِ الصَّدَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَتِهِ فَالنَّمَاءُ لَهَا لِحُدُوثِهِ عَنْ مِلْكِهَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَفِي النَّمَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ تَلَفِهِ إِلَى بَدَلِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مُوجِبٌ لِرَفْعِهِ مِنْ أصله كأنها لَمْ تَمْلِكْهُ فَلَمْ تَمْلِكْ نَمَاءَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ أَصْلٍ كَانَ في ملكها إلى وَقْتَ التَّلَفِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَحْدِثَ الزَّوْجُ مِلْكَهُ بَعْدَ التَّلَفِ. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِيضَاحُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً كَوَلَدِ الْأَمَةِ، وَنِتَاجِ الْمَاشِيَةِ، فَلَهَا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 تَأْخُذَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَجَمِيعَ النَّمَاءِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَجَمِيعَ النَّمَاءِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ أَصْلٍ كَانَتْ مَالِكَةً لِجَمِيعِهِ. وعنه مالك تأخذ نصف الأصل ونصف النماء. إيضاح الضرب الثاني وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، كَسِمَنِ الْمَهْزُولِ، وَبُرْءِ الْمَرِيضِ، وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ جَمِيعَ الصداق زائداً. وإن كان قبل الدخول؛ فهي بالخيار بين أن تعطي الزوج نصفه زائداً أو تأخذ نصفه وبين أن تعدل بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ يَوْمَ أَصْدَقَ لِيَكُونَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ لَهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً تَخْتَصُّ بِمِلْكِهَا دُونَ الزَّوْجِ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأَصْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ بِزِيَادَتِهِ، لأنه الزِّيَادَةَ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ تَكُونُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ: كَالْمُفْلِسِ إِذَا زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ غَيْرَ متميزة، كان للبائع أن يرجع مع زِيَادَتَهُ. قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِنَّمَا رَجَعَ الْبَائِعُ مَعَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ لِأَجْلِ الْفَلَسِ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً. وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لَمَا رَجَعَ بِالْعَيْنِ، وَفِي الصَّدَاقِ لَيْسَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِالْبَدَلِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً، وَلَوْ تَعَذَّرَ عليه الرجوع بِالْبَدَلِ لِفَلَسِ الزَّوْجَةِ لَرَجَعَ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا، وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا سَوَاءً كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُفْلِسَةً أَوْ مُوسِرَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِعَ فِي الْفَلَسِ يَرْجِعُ بِفَسْخٍ قَدْ رَفَعَ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ لِحُدُوثِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الْمَرْفُوعِ. وَالزَّوْجُ إِنَّمَا يَرْجِعُ بِطَلَاقٍ حَدَثَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَرْفَعِ الصَّدَاقَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ لِتَقَدُّمِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الْحَادِثِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ مَتْهُومٌ لَوْ جُعِلَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا رَغْبَةً فِيمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ صَدَاقِهَا فَمُنِعَ مِنْهَا وَلَيْسَ الْبَائِعُ مَتْهُومًا فِي فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ نَقَصَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِيضَاحُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ صُبْرَةِ طَعَامٍ تَلِفَ بَعْضُهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بعد الدخول أو قبله. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْ بِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَيَنْبَنِي جَوَابُهُ عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي الرُّجُوعِ بِبَدَلِ التَّالِفِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الصداق في التالف ولا في الباقين وَتَرْجِعُ بِعَيْنِ مَا بَقِيَ وَبِقِيمَةِ التَّالِفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَبِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي مُقَامٍ وَلَا فَسْخٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: إِنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ التَّلَفِ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الصَّدَاقُ فِيمَا تَلِفَ، وَصَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا سَلِمَ. فَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي السَّالِمِ لِبُطْلَانِهِ فِي التَّالِفِ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَتَفَرَّقْ فِي حَالِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ مَا تَلِفَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ عَلَى الْبَاقِي أَوْ تَفْسَخَ، فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَادَ الْبَاقِي مِنَ الصَّدَاقِ إِلَى مِلْكِ الزَّوْجِ. وَإِنْ أَقَامَتْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقِسْطِهِ، وَتَرْجِعُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ النِّصْفَ رَجَعَتْ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ رَجَعَتْ بِثُلُثَيْهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهَا تُقِيمُ عَلَى الْبَاقِي بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ اعْتِبَارًا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي حَالِ الْعَقْدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ مَا حَدَثَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْحِنْطَةِ، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْبَاقِي نِصْفَ الْجَمِيعِ وَلَا خِيَارَ لَهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ جَمِيعِ الْعَبْدِ الْبَاقِي إِذَا تَسَاوَتْ قِيمَتُهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ الْبَاقِي، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِبَدَلِهِ مِنْ نِصْفِ التَّالِفِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِعُ بِقِيمَةِ نِصْفِ التَّالِفِ وَهُوَ الْقَدِيمُ فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَتَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلنِّصْفِ مِنْ صَدَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ تَفَسَخَ وَتَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَهَذَا حُكْمُ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ مُتَمَيِّزًا. إيضاح بيان الضرب الثاني وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْعَبْدِ إِذَا كَانَ سَمِينًا فَهَزَلَ، أَوْ صَحِيحًا فَمَرِضَ، أَوْ بَصِيرًا فَعَمِيَ، فَلَهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ قَلَّ الْعَيْبُ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ الْعَيْبُ. احْتِجَاجًا: بِأَنَّهَا إِذَا رَدَّتِ الصَّدَاقَ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ رَجَعَتْ بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا، وَقَدْ يُخْطِئُ الْمُقَوِّمَانِ فَيُقَوِّمَانِهِ صَحِيحًا بِقِيمَتِهِ مَعَ يَسِيرِ الْعَيْبِ، لِأَنَّ يَسِيرَ الْعَيْبِ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْقِيمَةِ إِلَّا يَسِيرًا، فَعَفَى عَنْ يَسِيرِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْ كَثِيرِهِ، لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَلَمْ يَعْفُ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَسِيرِهِ ولا كثيره؛ ولأنه قَدْ تَحَقَّقَ اسْتِدْرَاكُهُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا جَازَ رَدُّهُ بِكَثِيرِ الْعَيْبِ، جَازَ رَدُّهُ بِيَسِيرِهِ، كَالثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَجُوزُ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ فَجَازَ بِهِ الرَّدُّ فِي الصَّدَاقِ كَالْكَثِيرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ فَهُوَ أَنَّنَا نُوجِبُ مَعَ الرَّدِّ مَهْرَ الْمِثْلِ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، دُونَ الْقِيمَةِ. ثُمَّ لَوْ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ لَاقْتَضَى أَنْ يُحْمَلَ التَّقْوِيمُ عَلَى الصَّوَابِ دُونَ الْخَطَأِ، وَعَلَى فَرْقِ الْمُقَوِّمِ بَيْنَ السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ الزَّوْجِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ. فَإِنْ كَانَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ كَهُزَالِ السَّمِينِ، وَمَرَضِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ سَمَحَتْ بِنَقْصِهِ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفَهُ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِصْفِهِ النَّاقِصِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ بِنَقْصِهِ كَانَ خِيَارُهَا فِي الْفَسْخِ مُعْتَبَرًا بِمَا تَرْجِعُ بِهِ لَوْ فَسَخَتْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْفَسْخِ، وَتَأْخُذُهُ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ نَقْصِهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفَهُ وَنِصْفَ أَرْشِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ. وَإِنَّمَا سَقَطَ خِيَارُهَا فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ نَاقِصًا مَعَ الْأَرْشِ أَخَصُّ بِحَقِّهَا مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى قِيمَتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: لَوْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمُقَامِ. فإن فسخت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَبِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ وَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا أَرْشَ لَهَا، كَالْبَائِعِ إِذَا رَضِيَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَعِيبِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِهِ نَاقِصًا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَيَكُونُ نِصْفُهُ مَعِيبًا لِلزَّوْجِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِجِنَايَةِ الزَّوْجِ: كَأَنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَلَعَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَهُوَ عُضْوٌ يَضْمَنُهُ الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَيَضْمَنُهُ غَيْرُ الْجَانِي بِمَا نَقَصَ فَيَكُونُ الزَّوْجُ هَاهُنَا ضَامِنًا لَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَقْصِهِ أَوْ نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْتَزِمُهُ بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ يَدٍ ضَامِنَةٍ فَلَأَنْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْيَدِ الضَّامِنَةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ نَقْصُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْتَزِمُهُ بِالْيَدِ الضَّامِنَةِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ فَلَأَنْ يَلْتَزِمَهُ مَعَ الْجِنَايَةِ أَوْلَى وَإِذَا لَزِمَهُ ضَمَانُ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ تَرَتَّبَ جَوَابُهُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ فِي الرُّجُوعِ مَعَ التَّلَفِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ نَاقِصًا، وَمَا أَوْجَبْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ نَقْصِهِ، أَوْ مَا يُقَدَّرُ بِجِنَايَتِهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ نِصْفَ ذَلِكَ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ، وَلَا خِيَارَ بِهَا. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهِيَ هَاهُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ بِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ. وَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتِ الْعَبْدَ نَاقِصًا، وَمَا أَوْجَبَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ النَّقْصِ بِالْيَدِ الضَّامِنَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ لَمْ يَضْمَنْهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أَقَامَتْ وَلَمْ يُفْسَخْ هَذَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ أَخَذَتْ نِصْفَهُ وَرُبْعَ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ. وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ. كَأَنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ فَقَأَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَعَلَى الْجَانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ضَمَانَ الْيَدِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ حَقُّهَا فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِالْقِيمَةِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالْعَبْدِ النَّاقِصِ، وَرَجَعَتْ مَعَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، أَوْ ضَمَانِ الْيَدِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ. وَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا. فَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْثَرُ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَلَمْ يُرْجَعْ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ رَجَعَتْ بِالْبَاقِي مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْثَرَ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِالْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ مِنْ نقصان القيمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِ ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَبِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أَقَامَتْ كَانَ لَهَا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخْذُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَتْ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ رَجَعَ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ رَجَعَتْ بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْجَانِي عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ هُوَ الْأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ إِلَّا بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَتَرْجِعُ بِالْبَاقِي مِنَ النِّصْفِ عَلَى الْجَانِي، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِمَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِالنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قد زاد من وجه ونقص منه وَجْهٌ فَلَا تَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَمَيِّزَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مُتَمَيِّزَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تكون الزيادة غير متميزة والنقصان متميزاً. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا: فَمِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْدَقَهَا أَمَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ، وَوَلَدَتِ الْأُخْرَى، فَمَوْتُ إِحْدَاهُمَا نُقْصَانٌ مُتَمَيِّزٌ، وَوِلَادَةُ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي مَوْتِ إِحْدَاهُمَا كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الْمُتَمَيِّزِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الزِّيَادَةِ. فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ قِيلَ: تَرْجِعُ فِي التَّالِفِ بِقِيمَتِهِ فَالْوَلَدُ لَهَا، وَإِنْ قِيلَ تَرْجِعُ فِي التَّالِفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ وَلَمْ تَرْجِعْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَالْوَلَدُ لها، سواء كَانَ الْوَلَدُ مِنَ الْبَاقِيَةِ أَوْ مِنَ الْمَيِّتَةِ، وَإِنْ فَسَخَتْ وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نُظِرَ فِي الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَاقِيَةِ دُونَ الْمَيِّتَةِ فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَةَ خَرَجَتْ مِنَ الصَّدَاقِ بِالْفَسْخِ الَّذِي هُوَ قَطْعٌ لَا بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ رَفْعٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنَ الْمَيِّتَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ أَيْضًا؛ لِحُدُوثِهِ على ملكها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ مَوْتَ أُمِّهِ قَدْ رَفَعَ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ. بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَرِيضَةٌ، وَالْأُخْرَى صَحِيحَةٌ فَتَبْرَأُ الْمَرِيضَةُ وَتَمْرَضُ الصَّحِيحَةُ. فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِالْقِيمَةِ أَخَذَتِ الْأَمَتَيْنِ وَرَجَعَتْ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي مَرِضَتْ، وَلَا يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي بُرْءِ الْمَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تَمْلِكُهَا. وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَهِيَ هَاهُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ الْأَمَتَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ وَتَرْجِعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا تَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى هَلْ لَهَا إِذَا تَسَاوَتْ قِيمَتُهَا أَنْ تَأْخُذَ الْبَاقِيَةَ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهَا تَأْخُذُ الْبَاقِيَةَ بِالنِّصْفِ فَلَا خِيَارَ لَهَا هَاهُنَا، وَتَأْخُذُ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهَا الْأَمَةَ الَّتِي زَادَتْ وَتَرُدُّ لِلزَّوْجِ الْأَمَةَ الَّتِي نَقَصَتْ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهَا تَأْخُذُ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَمَتَيْنِ: تَرَتَّبَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ مَعَ التَّلَفِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ، رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ وَبِنِصْفِ الْأَرْشِ مِنْ نُقْصَانِ الَّتِي نَقَصَتْ، ولا يجبر ذلك بزيادة التي زادت. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ، رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ وَبِنِصْفِ الْأَرْشِ مِنْ نُقْصَانِ التي نقصت، ولا يجبر ذلك بزيادة الَّتِي زَادَتْ. وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ الرُّجُوعَ مَعَ التَّلَفِ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ وَتَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ. فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ فَتَلِدُ إِحْدَاهُمَا، وَتَمْرَضُ الْأُخْرَى، فَالْكَلَامُ فِي مَرَضِ إِحْدَاهُمَا كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى مَا مَضَى. فَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءً أَقَامَتْ عَلَى الصَّدَاقِ أَوْ فَسَخَتْ وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَوَاءً كَانَ الْوَلَدُ مِنَ النَّاقِصَةِ أَوْ مِنَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ أُمِّهِ إِنْ فُسِخَ الصَّدَاقُ فِيهَا مُوجِبٌ لِقَطْعِهِ لَا لِرَفْعِهِ. إِيضَاحُ القسم الرابع وأما القسم الرابع وهو أن تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ مَرِيضَتَيْنِ، فَتَمُوتُ إِحْدَاهُمَا، وَتَبْرَأُ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 الْمُتَمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زِيَادَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَيْسَ لِلزِّيَادَةِ هَاهُنَا تَأْثِيرٌ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ سَاقَ الصَّدَاقَ بِكَمَالِهِ إِلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الصَّدَاقِ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْهُ. وإن كان قبل الدخول فله نصفه. وإن كَانَ كَذَلِكَ: لَمْ يَخْلُ الصَّدَاقُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ يَكُونُ عَيْنًا مَعْلُومَةً. فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ؛ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِهَا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا. فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا رَجَعَ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الصَّدَاقِ. وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَقْبَضَهَا؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى مِثْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى نِصْفِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ، بَلْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ حُكْمُ الْخِيَارِ فِي مِثْلِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَالْمُتَعَيَّنِ بِالْعَقْدِ. فَلَوْ كَانَتْ قَدِ اشْتَرَتْ بِالصَّدَاقِ جَهَازًا أَوْ غَيْرَهُ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَهَازِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا تَجَهَّزَتْ بِالصَّدَاقِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَهَازِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُجَهَّزَ لِزَوْجِهَا. وَعِنْدَنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَجَهَّزَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ دُونَ الْجَهَازِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا إِلَّا تَسْلِيمُ الْبُضْعِ وَحْدَهُ. وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَتْهُ مِنَ الْجَهَازِ كَالَّذِي اشْتَرَتْهُ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ. وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَتْهُ بِالصَّدَاقِ مِنَ الْجَهَازِ كَالَّذِي اشْتَرَتْهُ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي الْأَصْلِ مُعَيَّنًا بِالْعَقْدِ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأقسام الخمسة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ فَيَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ. وَهَلْ يَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، أَوْ بِاخْتِيَارِهِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّانِي وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِهَا قَبْلَ طَلَاقِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ طَلَاقِهِ. فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ طَلَاقِ الزَّوْجِ فللزوج أن يرجع علينا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا أَقَلَّ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إِنْ نَقَصَتْ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا، وَإِنْ زَادَتْ فَالزِّيَادَةُ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الصَّدَاقَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى تلف فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتلف فِي يَدِهَا قَبْلَ بَذْلِهِ لَهُ، وَتَمْكِينِهِ مِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِهَا بَعْدَ بَذْلِهِ لَهُ، وَتَمْكِينِهِ مِنْهُ، فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى تَلِفَ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على اختلاف أصحابنا فيما يستحقه الزَّوْجُ عَلَيْهَا مِنَ الصَّدَاقِ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ مِنَ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، لِوُجُودِ التَّمْكِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهَا ضَمَانُهُ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ. ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهَا بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّمْكِينُ، يَرْجِعُ الزَّوْجُ إِلَى الْجَانِي. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْلِيمُ، يَكُونُ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجَةِ أَوْ عَلَى الْجَانِي. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا إِذَا حَدَثَ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ نُقْصَانٌ لَا يَتَمَيَّزُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الصَّدَاقِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَى قِيمَتِهِ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 وَهَلْ يَكُونُ نَقْصُهُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا فِي التَّسْلِيمِ والتمكين، ولها فيه ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ لَا تُسَلِّمَ، وَلَا تُمَكِّنَ الزَّوْجَ مِنْهُ، فَالنُّقْصَانُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي يَدِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ فَلَزِمَهَا ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ سَوْمًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، فَيَرُدَّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ لَا يَلْزَمُهَا ضَمَانُهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى نَقَصَ فَفِي ضَمَانِهَا لِنُقْصَانِهِ وَجْهَانِ. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، كَالْوَلَدِ فَالزِّيَادَةُ لَهَا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ، وَنِصْفِ الزِّيَادَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ، وَلَا بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ، ويرجع بنصف القيمة وبناء ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْبُرْءِ، وَالسِّمَنِ، فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، أَوْ نِصْفَ الْعَيْنِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: تُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ نِصْفِ الْعَيْنِ زَائِدَةً. وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكٌ لَهَا وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ، فَلَمْ تُجْبَرْ عَلَى بَذْلِهَا، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهَا، وَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ زَائِدًا فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَضْعَفُهُمَا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ، وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ قَدْ يُقِلُّ حَقَّهُ إِلَى الْقِيمَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الزِّيَادَةِ إِذَا انْفَصَلَتْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا إِذَا اتَّصَلَتْ فَلَوْ حدثت زيادة الصداق بعد الطلاق، وقبل الرجوع الزَّوْجِ بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَيَكُونُ الزَّوْجُ شَرِيكًا فِي الزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً كَالْوَلَدِ رَجَعَ بِنِصْفِهِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ. وَإِنْ كانت متصلة كالسمن بملك نِصْفَهُ زَائِدًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَنَّ تَمْنَعَهُ مِنْ نِصْفِ الْأَصْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَاقَ إِلَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً فَجَمِيعُهَا لِلزَّوْجَةِ، وَلَهُ نِصْفُ الْأَصْلِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً كَانَ لَهَا بِالزِّيَادَةِ أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ نِصْفِ الْأَصْلِ، وَتَعْدِلُ بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً كَالْوَلَدِ فَلَهُ نِصْفُهُ وَنِصْفُ الْأَصْلِ، وَهَلْ تَكُونُ حِصَّتُهُ مِنَ الْوَلَدِ مَضْمُونَةً عَلَى الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قوليه في الولد إذا حدث في يد الزوج هل يكون مضموناً أم عَلَيْهِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ فَهَلْ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ ضَمِنَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِزِيَادَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزِّيَادَةُ بِأَنْ ذَهَبَ السِّمَنُ ضَمِنَتْ قَدْرَ نَقْصِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ ضَمِنَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَإِنْ زَالَ السِمَنُ لَمْ تَضْمَنْ قَدْرَ نَقْصِهِ. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ نَقَصَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْحِنْطَةِ، أَوْ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَالْحَيَوَانِ. - فَإِنْ كَانَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبَاقِي جَمِيعَ النِّصْفِ. - وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَأَمَتَيْنِ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا، وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَةَ إِذَا كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيِ الْقِيمَةِ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَوَى بِهَا جَمِيعُ حَقِّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ التَّالِفَةِ. وَلَوْ كَانَتَا مُتَفَاضِلَتَيِ الْقِيمَةِ: لَمْ يَتَمَلَّكْ مِنَ الْبَاقِيَةِ إِلَّا نِصْفَهَا، وَكَانَ لَهُ نِصْفُ قِيمَةِ التَّالِفَةِ. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ فِي نِصْفِ الْبَاقِيَةِ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِالتَّقْوِيمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ تَسَاوَى أَخَذَ الْجَمِيعَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ وَهُوَ مِلْكُهَا وَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ قِيمَةَ نِصْفِ التَّالِفَةِ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهَا شَاءَتْ، إِذَا قِيلَ لَوْ تَسَاوَى لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْبَاقِيَةِ إِلَّا النِّصْفَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْعَمَى، وَالْهُزَالِ، فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ، أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ نَاقِصًا كَمَا لَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تُعْطِيَهُ نِصْفَهُ زَائِدًا. فَإِنْ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا مَضَى فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ إِذَا بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَسْقَطْتُمْ خِيَارَ الزَّوْجِ إذا وجد الطلاق نَاقِصًا، وَجَعَلْتُمْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَاقَ بِنَقْصِهِ وَيَأْخُذَ مَعَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ كَمَا جَعَلْتُمْ لِلزَّوْجَةِ إِذَا وَجَدَتْهُ نَاقِصًا فِي يَدِهِ أَنْ تَأْخُذَهُ نَاقِصًا وَأَرْشَ نَقْصِهِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِ الزَّوْجِ مِلْكٌ لِلزَّوْجَةِ فَضَمِنَ نُقْصَانَهُ لَهَا فَلِذَلِكَ غَرِمَ أَرْشَ نَقْصِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِهَا مِلْكٌ لِنَفْسِهَا فَلَمْ تَضْمَنْ نُقْصَانَهُ لِلزَّوْجِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَغْرَمْ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ مُجَرَّدَ الْخِيَارِ بَيْنَ الرِّضَا بِالنَّقْصِ أَوِ الْفَسْخِ. إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْخَامِسِ وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ مِنْ وَجْهٍ وَنَقَصَ مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا، كَأَمَتَيْنِ مَاتَتْ أحدهما وَوَلَدَتِ الْأُخْرَى فَالْوَلَدُ لَهَا لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ نَقَصَ نُقْصَانًا مُتَمَيِّزًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ، كَأَمَةٍ بَصِيرَةٍ مَرِيضَةٍ فَبَرَأَتْ وَعَمِيَتْ، فَبُرْؤُهَا زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ، وَعَمَاهَا نُقْصَانٌ لَا يَتَمَيَّزُ. فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَبْذُلَ نِصْفَهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ. وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَجْهًا وَاحِدًا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ جَازَ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ: كَأَمَةٍ وَلَدَتْ وَمَرِضَتْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ، وَيَكُونُ كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الْمُنْفَرِدِ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ. فَيَكُونُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ رَضِيَ بِنِصْفِهَا نَاقِصَةً فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَأَمَتَيْنِ مَرِيضَتَيْنِ بَرِأَتْ إِحْدَاهُمَا وَمَاتَتِ الْأُخْرَى. فَحَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ الْبَاقِيَةَ بِزِيَادَتِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ نِصْفِهَا، لِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ قِيمَةِ التَّالِفَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمُعَاوَضَةُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي حَقِّهِ مِنْهُ أَمْ لَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ. فَهَذَا جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَقْسَامُ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 فَصْلٌ: شَرْحُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَمَةً وَعَبْدًا أَعْمَيَيْنِ فَأَبْصَرَا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ فَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ فَكَبِرَا، فَإِنَّ الْكِبَرَ مُعْتَبَرٌ فإن كان مقارناً بحال الصغر، وَمَنَافِعُ الصِّغَرِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ كِبَرًا بَعِيدًا يَزُولُ عَنْهُ مَنَافِعُ الصَّغِيرِ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّرْعَةِ وَقِلَّةِ الْحِسِّ، فَفِيهِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزَانِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَجَمِيعُ الْمَسَائِلِ الْوَارِدَةِ فَلَيْسَ يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأقسام. والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقْضِ لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهِ فَتَكُونُ هِيَ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِمَا أَصَابَهُ في يديها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِهِ " عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَمَاءِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ بِأَسْرِهِ، مَا لَمْ يَتَرَافَعَا إِلَى قَاضٍ مَالِكِيٍّ، فَيَقْضِي لِلزَّوْجِ بِنِصْفِ النَّمَاءِ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ مَالِكًا لِنِصْفِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَتَكُونُ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِنِصْفِهِ " يَعْنِي لِنِصْفِ النَّمَاءِ إِذَا طَلَبَهُ مِنْهَا فَمَنَعَتْهُ، فَتَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنَةً، فَأَمَّا أَصْلُ الصَّدَاقِ فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ، لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ أَوْ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الصَّدَاقِ، إِذَا حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ، أَوْ نُقْصَانٌ. فَاخْتَلَفَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِيهِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِ الْعَيْنِ فَيَنْقَطِعُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِهِ، وَيَصِيرُ لَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ إِذَا كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ مُؤَثِّرٌ وَلَا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ فِي تَمَلُّكِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ تَأْثِيرٌ. فَإِذَا حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، صَارَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، أَوْ نِصْفِ الْقِيمَةِ مُؤَثِّرًا، وَصَارَ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ تَأْثِيرٌ فِي تَمَلُّكِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَتَكُونُ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِمَا أَصَابَهُ فِي يَدِهَا " يَعْنِي: لِنُقْصَانِ الصَّدَاقِ بَعْدَ أَنْ قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهِ. لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ الزَّوْجُ فَلَمْ تَضْمَنِ الزَّوْجَةُ نَقْصَهُ وَبَعْدَ الْقَضَاءِ قَدْ مَلَكَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 فَضَمِنَتْ نَقْصَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا تَسْلِيمٌ وَلَا تَمْكِينٌ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ كالمقبوض سوماً، فَإِنْ سَلَّمَتْهُ وَعَادَ إِلَيْهَا أَمَانَةً لَمْ تَضْمَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْهُ وَلَكِنْ مَكَّنَتْهُ مِنْهُ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا لِنَقْصِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ حَادِثٌ فِي يَدِكِ فَعَلَيْكِ ضَمَانُهُ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ فَلَيْسَ عَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهَا مَعَ احتمال الأمرين. فأما الزيادة فيما تَقَدَّمَتْ مِلْكَ الزَّوْجِ لِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَجَمِيعُهَا لِلزَّوْجَةِ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَهَلْ تَكُونُ الزَّوْجَةُ ضَامِنَةً لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هِيَ حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ مَلَكَتْ نِصْفَ الصَّدَاقِ فَنِصْفُهَا لِي، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ بَلْ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَمِيعُهَا لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي يَدِهَا، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ طَلَّقَهَا وَالنَّخْلُ مطلعةٌ فَأَرَادَ أَخْذَ نِصْفِهَا بالطلع لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ كَالْجَارِيَةِ الْحُبْلَى وَالشَاةِ الْمَاخِضِ وَمُخَالِفَةً لَهُمَا فِي أَنَّ الْإِطْلَاعَ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلنَّخْلِ عَنْ حَالِهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً نَخْلًا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ أَثْمَرَتْ، فَالثَّمَرَةُ زِيَادَةٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا، هَلْ تَجْرِي فِي الصَّدَاقِ مَجْرَى الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ لِإِمْكَانِ قَطْعِهَا عَنِ الْأَصْلِ، وَجَوَازِ إِفْرَادِهَا بِالْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، لِاتِّصَالِهَا بِالْأَصْلِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْحَمْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ، لِأَنَّهَا لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ فِي طَلْعِهَا غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَهِيَ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْحَمْلِ، لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ، فَالثَّمَرَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، لِحُدُوثِهَا فِي مِلْكِهَا، وَلَهَا اسْتِيفَاءُ النَّخْلِ عَلَى مِلْكِهَا، لِاسْتِصْلَاحِ ثَمَرَتِهَا وَتَكَامُلِهَا، وَيَصِيرُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي قِيمَةِ النَّخْلِ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا أَقَلَّ مَا كَانَتِ النَّخْلُ قِيمَةً مِنْ حِينِ أَصْدَقَ إِلَى أَنْ سُلِّمَ. أَحْوَالُ بَذْلِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ النَّخْلِ المثمر لزوجها فإن كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: فَالْحَالَةُ الْأُولَى. إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْأُولَى أَنْ تَبْذُلَ لَهُ نِصْفَ النَّخْلِ مَعَ نِصْفِ الثَّمَرَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ جَعَلْنَا الثَّمَرَةَ زَائِدَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَانَ بَذْلُ الزَّوْجَةِ لَهَا عَفْوًا عَنْهَا، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ لَفْظُ الْهِبَةِ، وَلَا الْقَبْضِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا زِيَادَةً مُتَمَيِّزَةً فَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَفْوِ أَوْ حُكْمُ الْهِبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْهِبَةِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهَا بِالتَّمْيِيزِ كَالْوَلَدِ الَّذِي لَوْ بَذَلَتْ نِصْفَهُ لِلزَّوْجِ مَعَ نِصْفِ أَمَةً كَانَتْ هِبَةً لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَفْوِ، وَتَتِمُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ بِخِلَافِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَذْلِهَا إِيصَالُ الزَّوْجِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ النَّخْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِهَا، وَخَالَفَ الْوَلَدَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ بِالْأُمِّ دُونَهُ. وَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبُولِ الثَّمَرَةِ فَفِي إِجْبَارِهِ على القبول ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الثَّمَرَةَ مُتَمَيِّزَةٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ النَّخْلِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فِي الثَّمَرَةِ، فَإِذَا صَارَتْ إِلَيْهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الثَّمَرَةَ زَائِدَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ أَوْ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى الْعَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ إِجْبَارَهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الثَّمَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ كَالْوَلَدِ، وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ قِيمَةِ النَّخْلِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِمَنِ، أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَبْذُلَ لَهُ نِصْفَ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ. فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا جَازَ، وَعَلَيْهِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ عَلَى النَّخْلِ إِلَى تَكَامُلِ صَلَاحِهَا. وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْقَبُولِ: لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: حَقُّهُ فِي نِصْفِ النَّخْلِ يَرْجِعُ بِهَا، وَعَلَيْهِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ جَذَاذِهَا كَالْمُشْتَرِي. وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ فَلِذَلِكَ أُقِرَّ عَلَى مَا تَرَاضَيَا بِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي لِرِضَاهُ بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَمِلْكُ الصَّدَاقِ عَنْ طَلَاقٍ لَا مُرَاضَاةَ فِيهِ، فَاقْتَضَى الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، فَلَوْ طَلَبَ الزَّوْجُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ النَّخْلِ فِي الْحَالِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الثَّمَرَةَ عَلَيْهَا إِلَى تَكَامُلِ الصَّلَاحِ فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهَا وَلُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ الرَّاضِي بِهِ. فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْذُلَ لَهُ قَطْعَ الثَّمَرَةِ، وَتَسْلِيمَ نِصْفِ النَّخْلِ: فَإِنْ كَانَ تَعْجِيلُ قَطْعِهَا مُضِرًّا بِالنَّخْلِ: لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ: فَمَا لَمْ تُبَادِرْ إِلَى الْقَطْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ وَإِنْ بَادَرَتْ إِلَى الْقَطْعِ فَفِي إِجْبَارِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبَرُ تَعْلِيلًا بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ طَلَبَ الزَّوْجُ مِنْهَا أَنْ تَقْطَعَ الثَّمَرَةَ وَتُعْطِيَهُ نِصْفَ النَّخْلِ لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا. فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَدْعُوَهُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَكَامَلَ صَلَاحَ الثَّمَرَةِ ثُمَّ تُعْطِيَهُ بَعْدَ جَذَاذِهَا نِصْفَ النَّخْلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقِيمَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعُدُولُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ مَا اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَهُ. وَلَوْ كَانَ هُوَ الدَّاعِي لَهَا إِلَى الْإِنْظَارِ بِالنَّخْلِ إِلَى أَوَانِ الْجَذَاذِ ثُمَّ الرُّجُوعِ بِهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْعُدُولُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِبَقَاءِ الْحَقِّ فِي ذِمَّتِهَا، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ إِلَيْهَا. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مثالاً للنخل إِذَا أَثْمَرَتْ مِنَ الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ وَالشَّاةِ الْمَاخِضِ، وَجَمْعُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَتَفْرِيقٌ بَيْنَهُمَا مِنْ آخَرَ، فَنُوَضِّحُ مِنْ حُكْمِهِمَا مَا بَيَّنَ بِهِ مَوْضِعَ الْجَمْعِ، وَمَوْضِعَ الْفَرْقِ. أَمَّا الْجَارِيَةُ إِذَا كَانَتْ صَدَاقًا فَحَمَلَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا زِيَادَتُهَا فَبِالْوَلَدِ، وَأَمَّا نُقْصَانُهَا فَبِالْخَوْفِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ لَمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 يَلْزَمِ الزَّوْجَ قَبُولُهَا لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَإِنْ طَلَبَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَةَ بَذْلُهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ. فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَمُخَالِفَةً لَهَا فِي النُّقْصَانِ. وأما الشاة إذا كان صَدَاقًا فَحَمَلَتْ بِالْحَمْلِ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نَقْصًا فِيهَا، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ نَقْصًا فِي الْبَهَائِمِ، وَيَكُونُ زِيَادَةً مَحْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآدَمِيَّاتِ نَقْصًا وَزِيَادَةً، لِأَنَّ حَالَ الْوِلَادَةِ مَخُوفٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ وَغَيْرُ مَخُوفٍ فِي الْبَهَائِمِ. فَذَلِكَ كَانَ نَقْصًا فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْصًا فِي الْبَهَائِمِ. فَعَلَى هَذَا: إِذَا بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَغَيْرَ مُخَالِفَةٍ لَهَا فِي النُّقْصَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ نَقْصٌ أَيْضًا، وَإِنْ أَمِنَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ أَحْدَثَ نَقْصًا فِي اللَّحْمِ، فَصَارَ نَقْصُ اللَّحْمِ نَقْصًا فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا. فَعَلَى هَذَا: إِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا لِأَجْلِ النقص. فإن طلبها الزوج لم تجبر الزوجة عَلَى قَبُولِهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ. فَتَكُونُ عَلَى هَذَا مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ، وَمُخَالِفَةً لَهَا فِي النُّقْصَانِ. الْقَوْلُ فِي ثَمَرِ الشَّجَرِ فِي الصَّدَاقِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَكَذَلِكَ كُلُّ شجرٍ إِلَّا أَنْ يَرْقُلَ الشَجَرُ فيصير قحاماً فلا يلزمه وليس لها ترك الثمرة على أن تستجنيها ثم تدفع إليه نصف الشجر لا يكون حقه معجلاً فتؤخره إلا أن يشاء ولو أراد أن يؤخرها إلى أن تجد الثمرة لم يكن ذلك عليها وذلك أن النخل والشجر يزيدان إلى الجداد وأنه لما طلقها وفيها الزيادة كان محولاً دونها وكانت هي المالكة دونه وحقه في قيمته (قال المزني) ليس هذا عندي بشيءٍ لأنه يجيز بيع النخل قد أبرت فيكون ثمرها للبائع حتى يستجنيها والنخل للمشتري معجلةً ولو كانت مؤخرةً ما جاز بيع عينٍ مؤخرةٍ فلما جازت معجلةً والثمر فيها جاز رد نصفها للزوج معجلاً والثمر فيها وكان رد النصف في ذلك أحق بالجواز من الشراء؛ فإذا جاز ذلك في الشراء جاز في الرد ". قال الماوردي: إذا أصدقها شجراً غير مثمر فطلقها وقد أثمر فَالْكَلَامُ فِي ثَمَرِ الشَّجَرِ كَالْكَلَامِ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ، فِي كَوْنِهِ مُؤَبَّرًا أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ، عَلَى مَا مَضَى. أَمَّا الشَّجَرُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ غِرَاسًا غَيْرَ مُثْمِرٍ فَيَصِيرُ شَجَرًا مُثْمِرًا، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ، فَلَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى بَذْلِهَا، وَإِنْ بَذَلَتْهَا فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَجَرًا مُثْمِرًا مُتَكَامِلًا فَيُرْقَلُ حَتَّى يَصِيرَ قَحَامًا. والإرقال: التَّنَاهِي فِي الطُّولِ، وَالْقَحَامُ: التَّنَاهِي فِي الْعُمُرِ حتى قد ييئس سَعَفُهُ، وَيَخِرُّ جِذْعُهُ، فَهَذَا نُقْصَانٌ مَحْضٌ لَا يَتَمَيَّزُ، وَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَفِي إِجْبَارِهِ الزَّوْجَةَ عَلَى بَذْلِهِ وَجْهَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غِرَاسًا غَيْرَ مثمر فيصير قحاماً غير مثمر، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أُجِيبَ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ تَزْرَعُهَا أَوْ تَغْرِسُهَا أَوْ تَحْرُثُهَا (قال المزني) الزرع مضر بالأرض منقصٌ لها وإن كان لحصاده غاية فله الخيار في قبول نصف الأرض منتقصةً أو القيمة والزرع لها وليس ثمر النخل مضراً بها فله نصف النخل والثمر لها وأما الغراس فليس بشبيهٍ لهما لأن لهما غايةً يفارقان فيهما مكانهما من جدادٍ وحصادٍ وليس كذلك الغراس لأنه ثابتٌ في الأرض فله نصف قيمتها وأما الحرث فزيادةً لها فليس عليها أن تعطيه نصف ما زاد في ملكها إلا أن تشاء وهذا عندي أشبه بقوله وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَطَفَ الشَّافِعِيُّ بِزَرْعِ الْأَرْضِ وَغَرْسِهَا وَحَرْثِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ عَقْدِ الْبَابِ، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَتَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ عَطَفَ بِهِ عَلَى أَطْلَاعِ النَّخْلِ. فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ، وَبَيْنَ أَطْلَاعِ النَّخْلِ فَأَخْطَأَ فِي تَوَهُّمِهِ، وَقَارَبَ الصِّحَّةَ فِي فَرْقِهِ. وَحُكْمُ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فِي زَرْعِهَا، وَغَرْسِهَا، وَحَرْثِهَا. أَمَّا حَرْثُهَا: فَهُوَ فِيهَا زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ بَذْلُهَا، فَإِنْ بَذَلَتْهَا أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ عَيْنَ الْغَرْسِ زِيَادَةٌ، وَضَرَرَهُ في الأرض، نقصان. فأما النقصان: مغير مُتَمَيِّزٍ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ: فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِي الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالْمُتَّصِلَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا، فَإِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ بِغَرْسِهَا لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِهَا لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَى بَذْلِهَا، لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أُجِيبَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 وَأَمَّا الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نَقْصًا فِي الْأَرْضِ أم لا؟ على وجهين: أحدها: أنه يكون نقصاً فيها كالغرس، وَمُخَالِفٌ لِأَطْلَاعِ النَّخْلِ، لِأَنَّ أَطْلَاعَ النَّخْلِ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالنَّخْلِ قَبْلَ وَقْتِ أَطْلَاعِهِ. وَزَرْعَ الْأَرْضِ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فِي غَيْرِ الزَّرْعِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الزَّرْعِ فَافْتَرَقَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ وَقْتَ الزَّرْعِ إِذَا انْقَضَى فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ زَرْعَهَا، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَرْضِ الزَّرْعِ أَنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا إِلَّا بِزَرْعِهَا فَصَارَتْ بِأَطْلَاعِ النَّخْلِ أَشْبَهَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ: - فَإِنْ جَعَلْنَا الزَّرْعَ زِيَادَةً، وَلَمْ نَجْعَلْهُ نَقْصًا فَحُكْمُ الْأَرْضِ إِذَا زُرِعَتْ مِثْلُ حُكْمِ النَّخْلِ إِذَا أَطْلَعَتْ، وَقُلْنَا: إِنَّ الثَّمَرَةَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، لِأَنَّ الزَّرْعَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ. - وَإِنْ جَعَلْنَا الزَّرْعَ زِيَادَةً وَنَقْصًا كَانَ فِي حُكْمِ الْغَرْسِ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ. فَإِنْ بَادَرَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى قَلْعِ الزَّرْعِ فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجِ عَلَى قَبُولِ الْأَرْضِ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا قَلْعُ الزَّرْعِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ بَادَرَتْ إِلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ عَنِ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَأُجْبِرَتْ عَلَى الدَّفْعِ وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْأَرْضِ أُجِيبَ لِتَعَيُّنِ الْحَقِّ فِيهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّرْعُ وَقْتَ الطَّلَاقِ وَقَدِ اسْتَحْصَدَ وَلَمْ يَحْصُدْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا نِصْفُ الْأَرْضِ مَا لَمْ تَنْقُصِ الْأَرْضُ بِالزَّرْعِ، وَتُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْحَصَادِ، وَهَكَذَا الثَّمَرَةُ إِذَا اسْتَجَدَّتْ عَلَى رُؤُوسِ نَخْلِهَا أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِجَذَاذِهَا وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَلَوْ وَلَدَتِ الْأَمَةُ فِي يَدَيْهِ أَوْ نَتَجَتِ الْمَاشِيَةُ فَنَقَصَتْ عَنْ حَالِهَا كَانَ الْوَلَدُ لَهَا دُونَهُ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ أَنْصَافَهَا نَاقِصَةً وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ أَنْصَافَ قيمتها يوم أصدقها (قال المزني) هذا قياس قوله في أول باب ما جاء في الصداق في كتاب الأم وهو قوله وهذا خطأٌ على أصله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ جَارِيَةً أَوْ مَاشِيَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ بِحَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ دَخَلَ حُكْمُهُ فِي أَقْسَامِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهِ وَنَذْكُرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ زِيَادَةٍ، وَنَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا بَيَانَ الْمَاشِيَةِ. وَأَحْوَالُ الْجَارِيَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الصَّدَاقِ حَابِلًا فَتَحْمِلُ في يده بمملوك وتلد ثم تطلق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 والقسم الثاني: أن تكون حاملاً فَتَحْبَلُ ثُمَّ تُطَلَّقُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ. وَالْقِسْمُ الثالث: أن تكون حاملاً ثم تلد ثُمَّ تُطَلَّقُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تكون حاملاً فتحبل وَتَلِدُ ثُمَّ تُطَلَّقُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا وَحَالُ وَلَدِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ. وَالثَّانِي: تَالِفَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَالْوَلَدُ تَالِفًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ تَالِفَةً وَالْوَلَدُ بَاقِيًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا بَاقِيَيْنِ فَالْوَلَدُ لِلزَّوْجَةِ، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهَا، وَتَكُونُ وِلَادَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَوِلَادَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فِي أَنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَكَذَلِكَ الْكَسْبُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ لِلزَّوْجِ نِصْفُ الْوَلَدِ وَنِصْفُ الْكَسْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ القبض من ولد كسب وَلَهُ فِيمَا حَدَثَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ نِصْفُ الْوَلَدِ دُونَ الْكَسْبِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مُسْتَحِقٌّ التَّسْلِيمَ بِالْعَقْدِ كَالْأُمِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ كَرُجُوعِهِ بِنِصْفِ الْأُمِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَلَمْ يُوجِبِ الرُّجُوعَ إِلَّا بِنِصْفِ الْمَفْرُوضِ، وَلَيْسَ الْوَلَدُ مَفْرُوضًا. وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهِ شَيْئًا مِنْهُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالطَّلَاقِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالطَّلَاقِ إِذَا حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْكَسْبِ. وَبِالْكَسْبِ يَنْتَقِصُ قِيَاسُهُمْ مَعَ أَنَّنَا لَا نَقُولُ إِنَّهُ تَسْلِيمٌ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ بِالْمِلْكِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ فَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أحوال: أحدهما: أَنْ تَكُونَ بِحَالِهَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ نِصْفُهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَهَا النِّصْفُ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ زَادَتْ فَلَهَا مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْهَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ عَلَى مِلْكِهَا وَتَعْدِلُ بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَهَا زَائِدَةً أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. فَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتِ النِّصْفَ نَاقِصًا وَأَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَهَا نَاقِصًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ لِحُدُوثِ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ وَدُخُولِهِ في ضمانه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 وَإِنْ فَسَخَتْ فَالْوَلَدُ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْأَصْلِ مَعَ بَقَائِهِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ فِيهِ وَلَيْسَ بِرَفْعٍ لَهُ مِنْ أَصْلِهِ. وَبِمَاذَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْجَارِيَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، فَيَكُونُ الْفَسْخُ مُفِيدًا اسْتِحْقَاقَ الْأَرْشِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ قِيمَةَ الصَّدَاقِ عِنْدَ تَلَفِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، عِنْدَ تَلَفِ الصَّدَاقِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَتْلَفَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ مَعًا فِي يَدِ الزَّوْجِ. فَالْأُمُّ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ، وَبِمَاذَا يَضْمَنُهَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُهُ عَلَيْهِ إِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهُ إِنْ طَلَّقَ قَبْلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا، وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَوْمَ أَصْدَقَ تَغْلِيبًا لِضَمَانِ الْعَقْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الصَّدَاقِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، اعْتِبَارًا بِضَمَانِ الْغَصْبِ. فَأَمَّا الْوَلَدُ: فَحُكْمُهُ بَعْدَ التَّلَفِ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ لَهَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ لَهُ غُرْمٌ بِتَلَفِهِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لَهَا لَوْ كَانَ حَيًّا فَفِي ضَمَانِهِ عَلَى الزَّوْجِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمٍّ مَضْمُونَةٍ، فَصَارَ مَضْمُونًا كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ، وَخَالَفَ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَالْوَلَدُ تَالِفًا، فَلَهَا جَمِيعُ الْأُمِّ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهَا إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ. وَالْكَلَامُ فِيمَا حَدَثَ فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ عَلَى مَا مَضَى. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَجَمِيعُهُ لَهَا: وَهَلْ يَضْمَنُهُ الزَّوْجُ بِالتَّلَفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ إِلَى وَقْتِ تَلَفِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَالْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ تَطْلُبَهُ مِنْهُ فَيَمْنَعُهَا فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدَائِعِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ تَالِفَةً وَالْوَلَدُ بَاقِيًا، فَفِيمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْأُمِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قِيمَتُهَا، وَفِي اعْتِبَارِ قيمتها قولان. أحدهما: قيمنه وَقْتَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ لَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا. فَعَلَى هَذَا فِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ أَيْضًا لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ رفع للعقد مِنْ أَصْلِهِ، فَصَارَتْ غَيْرَ مَالِكَةٍ لِأُمِّهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ وَهُوَ أن تكون الجارية حاملاً وقت الطلاق، فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ. فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تَسْمَحَ فَتَأْخُذَهَا بزيادتها ونقصها. وإما أن تفسح وَبِمَاذَا تَرْجِعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْجَارِيَةِ حَامِلًا وَأَرْشِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَلَا تَجْبُرُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ بِزِيَادَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ: كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْكُلَّ وَتُعْطِيَهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ لِأَنَّ لَهَا زِيَادَةً تُسْتَحَقُّ بِمِلْكِهَا. وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَهَا وَتُعْطِيَهُ نصفها زائدة ناقصة، فيلزمه قبولها، وإن النقصان مضمون عليه، والزيادة مبذولة له. وما أن تفسح فِي الْكُلِّ وَبِمَاذَا تَرْجِعُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ تَرْجِعُ بِنِصْفِهَا وَنِصْفِ أَرْشِ النُّقْصَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الصَّدَاقِ وَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ. فَحُكْمُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا؟ فِيهِ قولان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَتَمَيَّزُ بِحُكْمٍ فَعَلَى هَذَا إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا جَمِيعُ الْوَلَدِ وَهَلْ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ زَائِدَةً بِهِ وَقْتَ حَمْلِهِ وَيَكُونُ كَالسِمَنِ إِذَا زَالَ بِالْهُزَالِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ كَالنَّمَاءِ الْحَادِثِ عَلَى مِلْكِهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَهْلَكُ عَلَى الزَّوْجِ حَقُّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِحَمْلِهَا بِخِلَافِ ذَهَابِ السِمَنِ بِالْهُزَالِ، لِأَنَّ السِمَنَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَصَارَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَلَدُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ زِيَادَتَهُ حَمْلًا قَدْ تَمَّتْ وَتَكَامَلَتْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَهْلَكَ عَلَى الزَّوْجِ وَقَدْ صَارَتْ مُتَكَامِلَةً لِلزَّوْجَةِ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ حَامِلًا وَحَابِلًا فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ فَصْلٍ رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ، وَصَارَ جَمِيعُ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ لِلزَّوْجَةِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ عَمَّا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَرْضِيَ جَازَ، وَصَارَتِ الْأُمُّ بَيْنَهُمَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ حَقِّهِ إِلَى مُعَاوَضَةٍ لَا يَلْزَمُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ: فَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ أُقِرَّ عَلَى مِلْكِهِ لإجماع ملك الولد مع ملك الأم. وإذا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْأُمِّ وَلَمْ يَأْخُذْ نِصْفَ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى مِلْكِ نِصْفِ الْأُمِّ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْمِلْكِ. وَهَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى إِعْطَائِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْقِيَامِ بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهَا: إِنْ دَفَعْتِ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أُقِرَّ الْوَلَدُ وَالْأُمُّ عَلَى مِلْكِكِ. وَإِنِ امْتَنَعْتِ: لَمْ تُجْبَرِي وَبِيعَا جَمِيعًا عَلَيْكِ، وَدُفِعَ إِلَى الزَّوْجِ مِنَ الثَّمَنِ النِّصْفُ فَمَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ، وَكَانَ الْبَاقِي لَكِ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ لَا يَتَمَيَّزُ بِحُكْمٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْحَمْلِ أَنَّ لَهُ حُكْمًا يَتَمَيَّزُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأُمُّ وَالْحَمْلُ صَدَاقًا، لَكِنَّ الْحَمْلَ قَدْ زَادَ بِالْوِلَادَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا بَدَلُ الْوَلَدِ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِيهِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ بَذْلِ نِصْفِهِ، رَجَعَ بِنِصْفِ الْأُمِّ، وَفِي كَيْفِيَّةِ مَا يَرْجِعُ بِهِ مِنْ قِيمَةِ نِصْفِ الْحَمْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِنِصْفِ مَا بَيْنَ قِيمَةِ أُمِّهِ حَامِلًا وَحَابِلًا، وَلَا يُقَوَّمُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى اعْتِبَارِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْوَلَدُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ كَوْنِهِ حَمْلًا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ. فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ حَدَثَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ لَا يُمَلَّكْهَا. كَمَا يُقَوَّمُ عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَارَ بِالْعُلُوقِ حُرًّا فَيُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بِالْعُلُوقِ حُرًّا، وَعِنْدَ الْوِلَادَةِ زَائِدًا، لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِهِ حَالَ الْعُلُوقِ. كَذَلِكَ هَاهُنَا. فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَجْلِ زِيَادَتِهِ، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ وَيُقَرُّ الزَّوْجُ عَلَى مِلْكِهِ لِاجْتِمَاعِهِ مَعَ الْأُمِّ فِي الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِتَنْصِيفِ الْقِيمَةِ. فَإِذَا أَخَذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْأُمِّ مَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَلَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ أُمِّهِ فِي الْمِلْكِ. وَهَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى دَفْعِ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، أَوْ يُبَاعَانِ مَعًا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ أَصْدَقَهَا عَرَضًا بِعَيْنِهِ أَوْ عَبْدًا فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ فَلَهَا قِيمَتُهُ يَوْمَ وَقَعَ النِّكَاحُ فَإِنْ طَلَبَتْهُ فَمَنَعَهَا فَهُوَ غاصبٌ وَعَلَيْهِ أكثر ما كان قيمة (قال المزني) قد قال في كتاب الخلع لو أصدقها داراً فاحترقت قبل أن تقبضها كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ تَكُونَ لَهَا الْعَرْصَةُ بِحِصَّتِهَا مِنَ المهر وقال فيه أيضاً لو خلعها على عبدٍ بعينه فمات قبل أن تقبضه رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا يَرْجِعُ لَوِ اشتراه منها فمات رجع بالثمن الذي قبضت (قال المزني) هذا أشبه بأصله لأنه يجعل بدل النكاح وبدل الخلع في معنى بدل البيع المستهلك فإذا بطل البيع قبل أن يقبض وقد قبض البدل واستهلك رجع بقيمة المستهلك وكذلك النكاح والخلع إذا بطل بدلهما رجع بقيمتهما وهو مهر المثل كالبيع المستهلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حُبُوبٍ، كَعَبْدٍ، أَوْ بَعِيرٍ، أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ، فَتَلِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ بِتَلَفِهِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَبْطُلُ مِنَ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَأَنَّ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ. وَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَائِهِ إِذَا هَلَكَ مَضْمُونًا مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ كالمغصوب والعوادي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّدَاقُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَكَانَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى الْبُضْعِ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يَفْسَدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لَوْ تَلِفَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الزَّوْجَةِ لِلصَّدَاقِ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يَفْسَدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ بَطَلَ مِنَ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ. وَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ تَعَيَّنَ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِالْمُعَوِّضِ دون العوض كالبيع، وهو أن يبيع الرَّجُلِ عَبْدًا بِثَوْبٍ يُسَلِّمُهُ وَيَتْلَفُ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَبْدِهِ لَا بِقِيمَةِ الثَّوْبِ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ. كَذَلِكَ تَلَفُ الصَّدَاقِ كَانَ يَقْتَضِي تَلَفُهُ الرُّجُوعَ بِالْبُضْعِ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ بِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ مِنْهُ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بُطْلَانُ الصَّدَاقِ بِجَهَالَتِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ودون الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُهُ بِالتَّلَفِ بِمَثَابَتِهِ فِي الرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ: انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التفريع عليهما. فإن قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الرُّجُوعَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمَهْرِ: فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَتْلَفَ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ قيمته أكثر ما كان قيمة من وقت الْمَنْعِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قِيمَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ قَدْ صَارَ غَاصِبًا فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ مَنْعٌ وَلَا مِنْهَا طَلَبٌ. فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ. فَإِذَا قِيلَ ضَمَانُ عَقْدٍ: فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَلِفَ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ نُقْصَانَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَإِذَا قِيلَ: يَضْمَنُهُ ضَمَانَ الْعَيْبِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فِي يَدَيْهِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي سُوقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا كَالْمَغْصُوبِ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْبَدَنِ، وزيادة السوق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بالإمساك فكانت حالة أخف من الغاصب المعتدي، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْبَدَنِ وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ السُّوقِ. وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَلِتَلَفِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، فَيَبْطُلُ فيه الصداق، ويستحق فِيهِ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَسْتَهْلِكَهُ الزَّوْجَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا مِنْهَا. وَلَا مَهْرَ لَهَا. كَمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً وَاسْتَهْلَكَهَا فِي يَدِ بَائِعِهَا كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ قَبْضًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ وَمُشْتَرِيهِ بِالْخِيَارِ: كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى مُتْلِفِهِ، فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى مُتْلِفِهِ بِالْقِيمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ بِحُدُوثِ النَّقْصِ بِتَلَفِهِ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْمُقَامِ والفسخ. فإذا أَقَامَتْ كَانَتْ لَهَا قِيمَةُ الصَّدَاقِ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الْمُسْتَهْلِكِ. وَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ بِالْقِيمَةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ الزَّوْجُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِهْلَاكِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثِ سَمَاءٍ، أَوْ مَجْرَى اسْتِهْلَاكِ أَجْنَبِيٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى تَلَفِهِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ فِيهِ الصَّدَاقُ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِهْلَاكِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَى هذا، يَبْطُلُ فِيهِ الصَّدَاقُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ يوجب الرجوع بمهر المثل وهو اختيار أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي بما لا دليل فيه. وهو أنه حكى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا دَارًا فَاحْتَرَقَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ تَكُونَ لَهَا الْعَرْصَةُ بِحِصَّتِهَا مِنَ الْمَهْرِ. وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي تَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَالَ فِيهِ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا يَرْجِعُ لَوِ اشْتَرَاهُ مِنْهَا فَمَاتَ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَتْ. وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْهِ، وَيَرْجِعُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِقِيمَتِهِ وَلَيْسَ تَفْرِيعُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِلْآخَرِ. وَالشَّافِعِيُّ غَيَّرَ جَمِيعَ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجَدِيدِ، وَصَنَّفَهَا ثَانِيَةً إِلَّا الصَّدَاقَ فَإِنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ فِي الْجَدِيدِ وَلَا أَعَادَ تَصْنِيفَهُ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهُ وَزَادَ في مواضع والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ جَعَلَ ثَمَرَ النَّخْلِ فِي قَوَارِيرَ وَجَعَلَ عَلَيْهَا صَقْرًا مِنْ صَقْرِ نَخْلِهَا كَانَ لَهَا أَخْذُهُ وَنَزْعُهُ مِنَ الْقَوَارِيرِ فَإِذَا كَانَ إِذَا نَزَعَ فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شيءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَهُ أو تأخذ منه مثله وَمِثْلَ صَقْرِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مثلٌ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لم يكن له مثلٌ ولوْ ربه برب من عنده كان لها الخيار في أن تأخذه وتنزع ما عليه من الرب أو تأخذ مثل التمر إذا كان إذا خرج من الرب لا يبقى يابساً بقاء التمر الذي لم يصبه الرب أو تغير طعمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً نَخْلًا فَأَخَذَ ثَمَرَةَ النَّخْلِ فَجَذَّهَا وَجَعَلَهَا فِي قَوَارِيرَ وَطَرَحَ عَلَيْهَا صَقْرًا. وَالصَّقْرُ: وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ دِبْسِ الرُّطَبِ مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ. وَالرُّطَبُ هُوَ: الدِّبْسُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً مِنَ النَّخْلِ بَعْدَ الصَّدَاقِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً. فَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً بَعْدَ الصَّدَاقِ. فَقَدْ مَلَكَتْهَا، لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهَا لِأَنَّ عَقْدَ الصَّدَاقِ تَضَمَّنَهَا فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الزَّوْجِ فِيهَا تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ الصَّدَاقِ مِنْ أَمْوَالِهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّقْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ. فَإِنْ كَانَ الصَّقْرُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّقْرِ وَالثَّمَرَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّقْرُ وَلَا الثَّمَرَةُ بالاختلاط. والحال الثانية: أن ينقصا معاً بالاختلاط. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْقُصَ الصَّقْرُ دُونَ الثَّمَرَةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَنْقُصَ الثَّمَرَةُ دُونَ الصَّقْرِ. فَإِنْ لَمْ يَنْقُصِ الصَّقْرُ بِطَرْحِهِ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَلَا نَقَصَتِ الثَّمَرَةُ بِطَرْحِهَا فِي الصَّقْرِ فَلَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى فَلَيْسَ لِعُدْوَانِهِ أَرْشٌ يُضْمَنُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَاصِبًا وَلَيْسَ بِزَوْجٍ. فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا بِالْعَمَلِ فَالزِّيَادَةُ لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ وَلَا أُجْرَةَ لِلزَّوْجِ فِي عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ وَتَعَدَّى فِيهِ. وَإِنَّ نَقَصَ الصَّقْرُ بِطَرْحِهِ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَنَقَصَتِ الثَّمَرَةُ بِطَرْحِهَا فِي الصَّقْرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَنَاهَى نَقْصُهُمَا وَاسْتَقَرَّ، فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَهُمَا وَتَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِأَرْشِ نُقْصَانِهِمَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الصَّقْرِ وَالثَّمَرَةِ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي مَغْصُوبٍ قَدْ جُبِرَ بِالْأَرْشِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُمَا لَمْ يَتَنَاهَ ولم يستقر، وكلما ملا عَلَيْهِمَا وَقْتٌ بَعْدَ وَقْتٍ حَدَثَ فِيهِمَا نَقْصٌ بَعْدَ نَقْصٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْغَاصِبِ لِلطَّعَامِ إِذَا بَلَّهُ وَكَانَ نَقْصُهُ لَا يَتَنَاهَى فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ هَذَا. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَهُ بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ إِنْ كَانَتْ ثمراً له مثل، وبمثل الصَّقْرِ، إِنْ كَانَ سَيَلَانًا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَلَا خَالَطَهُ الْمَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِثْلٌ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ كَانَتْ رُطَبًا وَالصَّقْرَ قَدْ مسه النَّارُ، أَوْ خَالَطَهُ الْمَاءُ، فَلَهَا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الصَّقْرِ وَقِيمَةِ الثَّمَرِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِثْلٌ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مِثْلٌ رَجَعَتْ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ فَلَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِنُقْصَانِ ثَمَرَتِهَا وَصَقْرِهَا أُقِرَّتْ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَرْجِعْ بِبَدَلِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُمَا لَا يَصِيرَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسْتَهْلَكَيْنِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنَ النُّقْصَانِ فِيمَا بَعْدُ فَمَظْنُونٌ مُجَوَّزٌ. وَرُبَّمَا أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَكْلَ ذَلِكَ وَاسْتِهْلَاكَهُ قَبْلَ نُقْصَانِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رَجَعَتْ بِأَرْشِ نَقْصِهِمَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ كُلَّمَا حَدَثَ فِيهِمَا نَقْصٌ رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ وَقْتًا بعد وقت. فإذا أَخَذَتْ مِنْهُ أَرْشَ نَقْصِهِمَا فِي الْحَالِ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ أَرْشِ نَقْصِهِمَا فِي ثَانِي حَالٍ فَفِي صِحَّةِ بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لأنه أبرأ مِمَّا لَمْ يَجِبْ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ كالإذن. وهذا الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا فَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَقَعُ فِيهَا. فَهَذَا حُكْمُ نَقْصِ الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ. فَأَمَّا إِنْ نَقَصَ الصَّقْرُ دُونَ الثَّمَرَةِ: فَلَهَا أَخْذُ الثَّمَرَةِ، وَيُضْمَنُ نَقْصُ الصَّقْرِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 وَأَمَّا إِنْ نَقَصَتِ الثَّمَرَةُ دُونَ الصَّقْرِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الصَّقْرِ، وَيَضْمَنُ نَقْصَ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ لِلزَّوْجِ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ثَمَرَةِ الزَّوْجَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْصِ الصَّقْرِ، لِأَنَّهُ مَالُهُ، وَبِفِعْلِهِ نَقَصَ. فَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِي الصَّقْرِ غَيْرَ مُضِرٍّ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ غَيْرَ مُضِرٍّ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الثَّمَرَةِ، وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ صَقْرِهِ مِنْهَا، وَمَؤُونَةُ إِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ دُونَهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ مُضِرًّا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ مُضِرًّا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ النُّقْصَانِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى وَاسْتَقَرَّ، رَدَّ الثَّمَرَةَ وَضَمِنَ أَرْشَ النَّقْصِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَضْمَنُهَا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ لَهَا مِثْلٌ، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ أَرْشَ كُلِّ نَقْصٍ يَحْدُثُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ مُضِرًّا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ غَيْرَ مُضِرٍّ، فَيُؤْخَذُ جَبْرًا بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ غَيْرَ مُضِرٍّ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ مُضِرًّا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنَ الصَّقْرِ صَلُحَتْ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّمَرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي الصَّقْرِ. فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنْهُ أُجِيبَ، فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَخْذَ صَقْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ نَقْصُ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِ النُّقْصَانِ فِي التَّنَاهِي، وَإِنْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ إِخْرَاجَ ثَمَرَتِهَا مِنَ الصَّقْرِ أُخِذَ الزَّوْجُ بِإِخْرَاجِهَا وَضَمِنَ نُقْصَانَهَا عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي الصَّقْرِ تَصْلُحُ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّمَرَةُ إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً مِنَ الصَّقْرِ. فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ صَقْرَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَرْكِهِ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ وَعَلَيْهِ نَقْصُ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ تَرَكَ صَقْرَهُ عَلَيْهَا فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ عَلَى قَبُولِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الزَّوْجَ بِإِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ وَضَمَانِ نَقْصِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ جُبْرَانُ نَقْصٍ وَدَفْعُ ضَرَرٍ، وَلَيْسَ بِهِبَةٍ مَحْضَةٍ فَهَذَا أَحَدُ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً عَلَى رؤوس نخلها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 وَقْتَ الصَّدَاقِ، وَيَجْعَلُهُمَا جَمِيعًا صَدَاقًا ثُمَّ يَجِذُّ الثَّمَرَةَ وَيَجْعَلُهَا فِي الصَّقْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ مِنَ الثَّمَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُصِ الصَّقْرُ وَلَا الثَّمَرَةُ، فَلَا غُرْمَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ، وَإِنْ نَقَصَا أَوْ أَحَدُهُمَا: تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَلَفِ الصَّدَاقِ هَلْ يُوجِبُ غُرْمَ الْقِيمَةِ أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ؟ . فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ مَضْمُونٌ بِجِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْخِيَارُ لَهَا فِيمَا لَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا بِالْفَسْخِ فَتَأْخُذُ الصَّقْرَ وَالثَّمَرَةَ وَتَرْجِعُ بِأَرْشِ نَقْصِهَا إِنْ تَنَاهَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَنَاهَى فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهِيَ بِالنَّقْصِ الْحَادِثِ فِي الثَّمَرَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. وَهَلْ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالنَّقْصِ الْحَادِثِ فِي الصَّقْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا فِيهِ الْخِيَارُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ وَقْتَ الصَّدَاقِ لَمْ يَكُنْ صَقْرًا فَيَنْفَسِخُ بِنُقْصَانِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ثَمَرَةً صَارَتْ صَقْرًا زَائِدًا، فإن نَقَصَتِ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الصَّدَاقُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا خِيَارٌ فِي الصَّدَاقِ اعْتِبَارًا بِنُقْصَانِ الولد الحادث، فإذا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ بِمَا ذَكَرْنَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُقِيمَ عَلَى الْكُلِّ، وَإِمَّا أَنْ تَفْسَخَ فِي الْكُلِّ. - فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْكُلِّ أَخَذَتِ النَّخْلَ وَالثَّمَرَةَ وَالصَّقْرَ وَلَا أَرْشَ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ مُتَنَاهِيًا أَمْ لا. - وإن فسخت في الْكُلِّ رَدَّتِ النَّخْلَ وَالثَّمَرَةَ وَالصَّقْرَ، وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا. - فَأَمَّا إِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِي الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ لِنَقْصِهِمَا وَالْمُقَامَ عَلَى النَّخِيلِ. فَإِنْ رَاضَاهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ أَبَى فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ، وَيُقَالُ لَهَا: إِمَّا أَنْ تُقِيمِي عَلَى الْكُلِّ أَوْ تَفْسَخِي فِي الْكُلِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ فَتُقِيمُ عَلَى النَّخِيلِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَقِسْطِهِ، وَتَرْجِعُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَرَةِ مِنْ مهر المثل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ لِلزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ تَنْقُصِ الثَّمَرَةُ بِتَرْكِهَا فِيهِ وَلَا بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ. فَإِنْ نَقَصَتْ كَانَ عَلَى الْقَدِيمِ ضَامِنًا لِأَرْشِ نَقْصِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا. وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا أَرْشَ لَهَا، وَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي جَمِيعِ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ. فَإِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِي الثَّمَرَةِ لِنَقْصِهَا وَالْمُقَامَ عَلَى النَّخْلِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ طَالَبَتْ بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ النَّاقِصَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِقِيمَتِهِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَا وَجْهَ لِلْمِثْلِ وَلَا لِلْقِيمَةِ وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ أَوْ مِثْلِ ذِي الْمِثْلِ فَذَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّلَفِ كَالْمُسْتَهْلَكِ بِالْغَصْبِ. فَأَمَّا فِي نُقْصَانِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا حَقَّ فِي الرُّجُوعِ بِمِثْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ إِذَا نَقَصَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سَوَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَهُ أَوْ تَأْخُذَ مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ صَقْرِهِ. قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ فِي نَقْلِهِ. وَأَنَّهُ خَطَأٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ تَدْفَعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالَّذِي أَرَاهُ: أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ سَهْوٌ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّقْصِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ إِذَا كَانَ فِي الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ، إِذَا قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ تَلَفَهُ مُوجَبٌ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ فَيَكُونُ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي نُقْصَانِهِ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ بِمِثْلِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بَعْدَ تَنَاهِي نقصانه كالمستهلك. والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَكُلُّ مَا أُصِيبَ فِي يَدَيْهِ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِيهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَطَأَهَا فَتَلِدُ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَقُولُ كُنْتُ أَرَاهَا لَا تُمْلَكُ إِلَّا نِصْفَهَا حَتَّى أَدْخُلَ فَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ سَقَطَ وَيُلْحَقُ بِهِ وَلَهَا مَهْرُهَا وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَسْتَرِقَّهَا فَهِيَ لَهَا وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهَا مِنْهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قيمةٌ وَلَا تَكُونُ أُمَّ ولد له وإنما جعلت لها الخيار لأن الولادة تغيرها عن حالها يوم أصدقها (قال المزني) وقد قال ولو أصدقها عبداً فأصابت به عيباً فردته أن لها مهر مثلها وهذا بقوله أولى (قال المزني) وإذا لم يختلف قوله أن لها الرد في البيع فلا يجوز أخذ قيمة ما ردت في البيع وإنما ترجع إلى ما دفعت فإن كان فائناً فقيمته وكذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 البضع عنده كالمبيع الفائت ومما يؤكد ذلك أيضاً قوله في الخلع لو خلعها بعبدٍ أصاب به عيباً أنه يرده ويرجع بمهر مثلها فسوى في ذلك بينه وبينها وهذا بقوله أولى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّدَاقُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ. فَإِنْ طَلَبَتْهُ فَمَنَعَهَا فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ ضَمَانَ غَصْبٍ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً. وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ عَقْدٍ. وَالثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ. وَأَمَّا النَّمَاءُ فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتْلِفَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. فَأَمَّا إِذَا أَصْدَقَهَا أَمَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى وَطِئَ الْأَمَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ بَغِيا، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ملك لسيدها فلا يسقط ببذلهما لَهَا وَمُطَاوَعَتِهَا كَمَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا لَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ دِيَتِهَا. فَإِنْ أَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ مملوك لا يلحق به، لأنه ولد زنى. فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَالْأَمَةُ فِي يَدِهِ فَنَقْصُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِأَرْشِهِ وَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِقِيمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِخِيَارِهَا فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ. فَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتْهَا نَاقِصَةً وَلَا أَرْشَ لَهَا. وَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَلَفَهُ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِنْ مَلَكَ الْوَلَدَ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ، وَإِنْ مَلَكَ الْأُمَّ لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ لِإِسْلَامِهِ حَدِيثًا، أَوْ قُدُومِهِ مِنْ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ، أَوْ يَدَّعِي شُبْهَةَ أَنَّهُ مَالِكِيٌّ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ بِالْعَقْدِ إِلَّا نِصْفَهَا. وَإِنَّ نِصْفَهَا بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فهذا والجهل بالتحريم سواء في كونهما شبه يدرأ بها الحد وتجب بِهَا الْمَهْرُ فِي الْمُطَاوَعَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 وَالْإِكْرَاهِ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَيَكُونُ حُرًّا، لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وَضَعَتْهُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَحْوَالِ تَقْوِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعُلُوقِ قَدْ صَارَ حُرًّا. فَأَمَّا الْأُمُّ: فَهِيَ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ، وَالْكَلَامُ فِي خِيَارِهَا إِنْ حَدَثَ بِهَا نَقَصٌ عَلَى مَا مَضَى وَلَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا، فَإِنْ مَلَكَهَا فَفِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْإِيلَادِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا مِنْ دارٍ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ بمهر مثلها لأن التزويج في عامة حكمه كَالْبَيْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَصْدَقَهَا شِقْصًا مَنْ دَارٍ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شُفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ، وَلَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَا فِي الصُّلْحِ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مُسْتَوْفَاةً. فَأَغْنَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِعَادَةِ. وَإِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةً فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلشَّرِيكِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ: أَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَإِذَا كَانَ الشِّقْصُ مَمْلُوكًا بِبَدَلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ كَانَ مَأْخُوذًا بِقِيمَةِ الْبَدَلِ لَا بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شقصاً بعبد كان مأخوذاً بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لَا بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ زَائِدًا كَانَ أَوْ ناقصاً. فلو أصدقها شقصاً من دار وديناراً أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا دِينَارًا، لِأَنَّ بُضْعَهَا فِي مُقَابَلَةِ شِقْصٍ وَدِينَارٍ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا وَأَخَذَ مِنْهَا دِينَارًا، أَخَذَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِدِينَارٍ، لِأَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ وَدِينَارٍ. فَصْلٌ فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَاسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشقص من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ كَمَا لو بَاعَتْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدِ اشْتَرَتْهُ مِنَ الشَّفِيعِ، أَوْ وَرِثَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ دَارًا فَبَاعَهَا الِابْنُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الزَّوْجُ هَكَذَا؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْهِبَةِ عَنْ مِلْكِ الِابْنِ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ، وَلَا بِبَدَلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ الرُّجُوعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّدَاقُ، لِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّ الزَّوْجِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ رَجَعَ بِبَدَلِهِ فَلِذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى مِلْكِهَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ قَدْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا أَصْدَقَ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ، قَدْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا بِعَيْبٍ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ غَائِبًا لَمْ يَعْلَمْ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا عَفَا عنها حتى طلق الزوج، ففي أحقهما بالتقديم وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ لِحُضُورِهِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، فَعَلَى هَذَا تَرْجِعُ فِي نِصْفِهِ، وَيَكُونُ لِلشَّفِيعِ إِذَا قَدِمَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّوْجِ نِصْفَهُ الَّذِي مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: إن الشَّفِيعَ أَحَقُّ، لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الشَّفِيعُ، فَإِنْ عَفَا أَخَذْتُ نِصْفَ الشِّقْصِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ في القيمة. والثاني: لأن لا تَبْقَى ذِمَّةُ الزَّوْجَةِ مُرْتَهَنَةً بِهِ. فَلَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ حَتَّى حُضُورِ الشَّفِيعِ، فَعَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَخْذُ نِصْفِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ ذِمَّتَهَا تَبْرَأُ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ الْقِيمَةَ ثُمَّ عَفَا الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ، لِاسْتِيفَائِهِ لِحَقِّهِ. وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال المزني: " وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُهَا بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا عَلَى أَنْ زَادَتْهُ أَلْفًا وَمَهْرُ مِثْلِهَا يَبْلُغُ أَلْفًا فَأَبْطَلَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَجَازَهُ فِي الْآخَرِ وَجَعَلَ مَا أَصَابَ قَدْرَ الْمَهْرِ مِنَ الْعَبْدِ مَهْرًا وَمَا أَصَابَ قَدْرَ الْأَلْفِ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَشْبَهُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهِ كراءٌ وَلَا الْكِتَابَةَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهَا بيعٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ عَقْدَيْنِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، كَعَقْدٍ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً، أَوْ بَيْعًا وَصَرْفًا، أَوْ بَيْعًا وَكِتَابَةً، أَوْ بَيْعًا وَنِكَاحًا. فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ فِيهِمَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُمَا، صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْبَيْعَتَيْنِ وَالْإِجَارَتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوِ ابْتَاعَ فِي عَقْدٍ شِقْصًا يَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَعَرَضًا لَا تجب فيه الشفة وكما لو اتباع عبدين أحدهما أبوه يعتق عليه الشراء وَالْآخَرُ أَجْنَبِيٌّ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ. وَالْقَوْلُ الثاني: أن العقد باطل فيهما لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا جَمَعَ مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ تَنَافَى، فيبطل كما لو قال: بعتك عبدي واشترته مِنْكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُقَابَلَةَ الْعِوَضِ لَهُمَا مُفْضٍ إِلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ فِيمَا يُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا كَانَ عِوَضُ الْعَقْدِ مَجْهُولًا بَطَلَ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ جِئْنَا إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَمَعَهُ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ مِنَ الْعَقْدَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَنَقُولُ: أَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا، أَوْ أَجَّرْتُكَ دَارِي هَذِهِ سَنَةً بِأَلْفٍ، فَالْبَيْعُ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، وَالْإِجَارَةُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَقْدِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَعَلَى هَذَا يَتَرَادَّانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، فَإِذَا قِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ، نَظَرَ أُجْرَةَ مِثْلِ الدَّارِ سَنَةً، فَإِذَا قِيلَ مِائَةٌ عُلِمَ أَنَّ أُجْرَةَ الدَّارِ مِنَ الْأَلْفِ سُدُسُهَا، وَثَمَنَ الْعَبْدِ مِنَ الْأَلْفِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا. - وَأَمَّا إذا جمع العقد بَيْعًا وَصَرْفًا فَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بمائة درهم. فما قابل الثوب بَيْعٌ، وَمَا قَابَلَ الدِّينَارَ مِنْهَا صَرْفٌ وَالْبَيْعُ لا يلزم إلا بالتفريق، وَالصَّرْفُ يَبْطُلُ إِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَتَرَاجَعَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا وَيُقْسِطُ الْمِائَةَ عَلَى قِيمَتِهَا. - وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَكِتَابَةً فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا وَكَاتَبْتُكَ عَلَى نَجْمَيْنِ بِأَلْفٍ. فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَالْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ بَاطِلٌ. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَالْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ على عبده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 وَهَلْ تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَنِكَاحًا فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ تَزَوَّجْتُكِ وَاشْتَرَيْتُ عَبْدَكِ بِأَلْفٍ، فَمَا قَابَلَ الْعَبْدَ بَيْعٌ، وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ صَدَاقٌ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ مِنَ الْعَقْدِ، وَيَبْطُلُ الصَّدَاقُ فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ الْعَبْدُ. فَإِذَا قِيلَ أَلْفٌ: نُظِرَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَإِذَا قِيلَ خَمْسُمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ ثَمَنٌ لِلْعَبْدِ، وَثُلُثَهَا صَدَاقٌ لِلزَّوْجَةِ، فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ اسْتَرْجَعَ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتَرْجَعَ سُدُسَ الْأَلْفِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَأَصْدَقَهَا عَبْدًا عَلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا فَمَا قَابَلَ الْأَلْفَ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعٌ وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ مِنْهَا صَدَاقٌ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَتَرُدُّ الْعَبْدَ وَتَسْتَرْجِعُ الْأَلْفَ، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ أَلْفًا صَارَ الْعَبْدُ فِي مُقَابَلَةِ أَلْفَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: صَدَاقٌ، وَالْأُخْرَى: ثَمَنٌ. فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ صَدَاقًا وَنِصْفُهُ مَبِيعًا. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، اسْتَرْجَعَ رُبْعَهُ، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ صَارَ الْعَبْدُ في مقابلة ثلاثة ألف دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ ثُلُثَاهُ صَدَاقًا، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتَرْجَعَ ثُلُثَهُ، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْعَبْدِ مَبِيعًا، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ صَارَ ثُلُثُ الْعَبْدِ صَدَاقًا، وَثُلُثَاهُ مَبِيعًا. فَلَوْ وَجَدَتْ بِالْعَبْدِ عيباً، فإن رضت بعينه فِي الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ أَمْسَكَتْهُ، وَإِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِيهِمَا كَانَ لَهَا، وَرَجَعَتْ بِالثَّمَنِ وَهُوَ أَلْفٌ، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ مِنْ بَدَلِ الصَّدَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قِيمَةُ صَدَاقِهَا مِنْهُ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثَيْنِ، أَوْ ثُلُثٍ وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَأْخُذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَأَرْشَهُ فِي الصَّدَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ صَفْقَةٍ فِي مَعِيبٍ. وَلَوْ أَرَادَتْ حِينَ ظَهَرَتْ عَلَى عَيْبِ الْعَبْدِ أَنْ تَرُدَّ مِنْهُ الْمَبِيعَ دُونَ الصَّدَاقِ أَوْ تَرُدَّ مِنْهُ الصَّدَاقَ دُونَ الْمَبِيعِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصفة الأول: يجوز. والثاني: لا يجوز، إذ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ. فَلَوْ تَلِفَ الْعَبْدُ في يدها قبل علمها بعينه رَجَعَتْ بِأَرْشِ الْمَبِيعِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمِنْ مَاذَا تَرْجِعُ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْأَوْلَى بِقَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا فِيهِمَا، وَاسْتَشْهَدَ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَبِالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا شَاهِدَ فِيهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الْعَقْدِ فِيهِمَا. وَأَنَّ جَعَلَ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا فِيهِمَا، وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ قَدْ مَضَى. والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَدَبَّرَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْرَاجِهَا إِيَّاهُ مِنْ مِلْكِهَا (قال المزني) قد أجاز الرجوع في كتاب التدبير بغير إخراجٍ له من ملكه وهو بقوله أولى (قال المزني) إذا كان التدبير وصيةً له برقبته فهو كما لو أوصى لغيره برقبته مع أن رد نصفه إليه إخراج من الملك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُصْدِقَهَا عَبْدًا فَتُدَبِّرَهُ بِأَنْ تَقُولَ لَهُ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَتَقُولُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ، تُرِيدُ بِهِ أَنَّهَا إِذَا ماتت فهو حر، فقد صار مدبراً. وللرجوع فيه قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ كَالْوَصَايَا. وَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهَا بِأَنْ تَقُولَ: قَدْ رَجَعْتُ فِي تَدْبِيرِكَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ فَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا تَبْطُلُ الْوَصَايَا بِالرُّجُوعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ، وَلَهَا إِبْطَالُهُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ تُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَيَبْطُلُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ تَدْبِيرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قَدْ أَبْطَلَتْ تَدْبِيرَهُ، إِمَّا بِالْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وبالفعل عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، وَهَلْ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِبْطَالِ التَّدْبِيرِ عَبْدًا قِنًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ رُبَّمَا حَاكَمَ مَوْلَاتَهُ بَعْدَ إِبْطَالِهَا لِتَدْبِيرِهِ إِلَى حَنَفِيٍّ لَا يَرَى إِبْطَالَ التَّدْبِيرِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهَا بِالْتِزَامِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَدْبِيرِهِ عِنْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ، لَمْ تُبْطِلْهُ الزَّوْجَةُ بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْفِعْلِ، فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ. أَحَدُهَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ كَالْوَصَايَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ كَالْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ لِبَقَاءِ الْمُدَبَّرِ على ملكها، وأن لها إزالة ملكها عند مُخْتَارَةً بِالْبَيْعِ، فَلَأَنْ يَجُوزُ إِزَالَةُ مِلْكِهَا عَنْهُ جَبْرًا بِرُجُوعِ الزَّوْجِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى بَدَلِهِ، سواء قيل إن التدبير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 كالوصايا بجوز الرُّجُوعُ فِيهَا بِالْقَوْلِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ كَالْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي التَّدْبِيرِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ الْمُدَبِّرِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَرُجُوعُ الزَّوْجِ فِيهِ يَكُونُ إِبْطَالًا لِلتَّدْبِيرِ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ فَلَمْ يَجُزْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ دُونَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ بَقَاءَ نِصْفِهِ عَلَى التَّدْبِيرِ نَقْصٌ فِي قِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا حَاكَمَ مَوْلَاتَهُ إِلَى حَنَفِيٍّ يَرَى لُزُومَ تَدْبِيرِهِ. فَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَقُّهُ، وَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا كَاتَبَتْهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَازِمَةٌ لِلسَّيِّدِ لَا يَجُوزُ لَهُ إِبْطَالُهَا إِلَّا بِالْعَجْزِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ حَتَّى عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَعَادَ عَبْدًا فَهَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ لِوُجُودِهِ فِي مِلْكِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حَقَّهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ قَدْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ. وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا إِلَّا بَعْدَ عَجْزِهِ وَعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ وَهَبَتْهُ أَوْ رَهَنَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَقْبَضَتْهُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فَالْعَقْدُ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ فِي الرَّهْنِ وَلَا فِي الْهِبَةِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، وَلَهَا إِقْبَاضُ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَقْبَضَتْهُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فَقَدْ خَرَجَ بِالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ مِنْ مِلْكِهَا، فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَقَدْ صَارَ وَثِيقَةً فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُ وَثِيقَتِهِ فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا حَتَّى أَفَكَّتْهُ مِنْ رَهْنِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ: وَهَكَذَا لَوْ بَاعَتْهُ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ، أَوْ وَهَبَتْهُ ثُمَّ اسْتَوْهَبَتْهُ كَانَ فِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَتْهُ لَمْ تَمْنَعْ إِجَارَتُهُ مِنْ رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، وَرَقَبَتُهُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهَا، فَيَكُونُ الزَّوْجُ لِنَقْضِ الْإِجَارَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ وَالْتِزَامِ الْإِجَارَةِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَبَيْنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الرُّجُوعِ بنصف قيمته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 وَلَوْ بَاعَتْهُ بِخِيَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَهُمَا أَوْ لَهَا دُونَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَفِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّ بَيْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَ كَالْهِبَةِ إِذَا لَمْ تُقْبَضْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ لِأَنَّ فَسْخَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ المالك المختار. والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عبدٍ فَوُجِدَ حُرًّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا غلطٌ وَهُوَ يَقُولُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بشيءٍ فَاسْتَحَقَّ رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْهُ فَهِيَ مِنْ مِلْكِ قِيمَةِ الْحُرِّ أَبْعَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُصْدِقَهَا عَبْدًا فَيَبِينُ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَهُوَ صَدَاقٌ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ لَهَا بِرَقَبَةِ الْحُرِّ وَلَا بِذِمَّتِهِ حَقٌّ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّ الْحُرَّ رَهْنٌ فِي يَدِهَا عَلَى صَدَاقِهَا حَتَّى يَفُكَّ نَفْسَهُ أَوْ يَفُكَّهُ الزَّوْجُ. وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجَةُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا مَمْلُوكًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِالْمُسْتَحِقِّ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، قَدْ أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْحُرَّ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِحُرِّيَّتِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا. وَلَوْ أَصْدَقَهَا خَلًّا فَبَانَ خَمْرًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ لَهُ فِي الْخَلِّ مِثْلٌ فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهِ لأن لَوْ كَانَ خَلًّا وَلَيْسَ كَالْحُرِّ، لَأَنَّ لَهُ فِي الْعَبِيدِ مِثْلٌ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا. وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ جَازَ، كَالسَّلَمِ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ، كَانَ صَدَاقًا بَاطِلًا، لِجَهَالَتِهِ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا عَبْدٌ تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ. وَحُكِيَ فِي الْقَدِيمِ جَوَازُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَنَّ لَهَا عَبْدًا وَسَطًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ سَائِرُهُمْ، وَقَالُوا: قَدْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبْطَالِهِ بِالْجَهَالَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ صَحَّ إِنْ ذَكَرَ مُدَّةَ الْأَجَلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا كَانَ بَاطِلًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَصِحُّ وَيَكُونُ حَالًّا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَصِحُّ وَيَكُونُ أَجَلُهُ إِلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ وَيَكُونُ أَجَلُهُ إِلَى سَنَةٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ جَهَالَةَ الْأَجَلِ كَجَهَالَةِ الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، كَمَا يَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي جَهَالَةِ الْمِقْدَارِ. الْقَوْلُ فِي صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَإِذَا شَاهَدَ الزَّوْجُ الْوَلِيَّ وَالْمَرْأَةَ أَنَّ الْمَهْرَ كذا ويعلن أكثر منه فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ السِّرُّ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ الْعَلَانِيَةُ وَهَذَا أَوْلَى عندي لأنه إنما ينظر إِلَى الْعُقُودِ وَمَا قَبْلَهَا وَعْدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ عَلَى صَدَاقٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ يَنْكِحَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَاقٍ كَثِيرٍ. فَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ السِّرِّ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ، فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ السِّرِّ لِتَقَدُّمِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، أَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ، لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِهِ. وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَلُوهُ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ الصَّدَاقَ في صَدَاقَ السِّرِّ دُونَ الْعَلَانِيَةِ، إِذَا عَقَدَاهُ سِرًّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ثُمَّ أَعْلَنَاهُ تَجَمُّلًا بِالزِّيَادَةِ وَإِشَاعَةً لِلْعَقْدِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الْأَوَّلُ الْمَعْقُودُ سراًُ وَالثَّانِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ الصداق الْعَلَانِيَةِ إِذَا تَوَاعَدَا سِرًّا وَأَتَمَّاهُ سِرًّا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ثُمَّ عَقَدَاهُ عَلَانِيَةً بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَوْعِدٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَقْدُ فَلَزِمَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ دُونَ الْوَعْدِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وإن عُقِدَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ بِعِشْرِينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ عُقِدَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِثَلَاثِينَ وَطَلَبَهُمَا مَعًا فهما لها لأنهما نكاحان (قال المزني) رحمه الله للزوج أن يقول كان الفراق في النكاح الثاني قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مهرٌ ونصفٌ في قياس قوله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ نَكَحَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى صَدَاقِ عِشْرِينَ، وَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ. وَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا يوم الجمعة على صداق ثلاثين، وشهد له شَاهِدَانِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَا الْأَوَّلِ هُمَا شَاهِدَا الثَّانِي، أَوْ يَكُونَ غَيْرُهُمَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّدَاقَانِ أَوْ يتساويا، فإننا نحكم بالشهادتين ويثبت بهما النكاحين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 ويلزم بهما الصداقين، لِأَنَّ لَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَجْهًا مُمْكِنًا، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثُمَّ يُخَالِعَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَلَوْ طَالَبَتْهُ بِالصَّدَاقَيْنِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُمَا نِكَاحٌ وَاحِدٌ أَسَرَّاهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَأَعْلَنَاهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ شَهِدَا بِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ ذَلِكَ نِكَاحًا وَاحِدًا. وَحُكِمَ فِيهِ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الشُّهُودِ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا وَدَفَعْنَا مَا احْتَمَلَهُ قول الزوج بيمنها. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَقُولَ طَلَّقْتُهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَهْرٌ وَنِصْفٌ. وَهَذَا صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ. فإن ابتدأ به وقال قَبْلَ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي إِنْكَارِ الدُّخُولِ مَقْبُولٌ. وَسَوَاءٌ ادَّعَى عَدَمَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بها في النكاحين معاً كان قوله مَقْبُولًا مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ. وَلَوِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا وَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَلَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا عَلَى دِينِهَا لَمْ تَرْتَدَّ عَنْهُ. وَعَلَى قِيَاسِ ما ذكرنا في النكاح من الْبُيُوعِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: بِعْتُكَ عَبْدِي فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بِمِائَةٍ وَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ، ثُمَّ يَقُولُ وَبِعْتُكَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِمِائَتَيْنِ، وَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالثَّمَنَيْنِ ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُمَا بَيْعٌ وَاحِدٌ أَحْلَفْنَا له البائع. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَ أَرْبَعَ نسوةٍ أَلْفًا قُسِّمَتْ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أعبدٍ فِي صفقةٍ فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قدرٍ قيمتهم (قال المزني) رحمه الله نظيرهن أن يشتري من أربع نسوةٍ من كل واحدةٍ عبداً بثمنٍ واحدٍ فتجهل كل واحدةٍ منهن ثمن عبدها كما جهلت كل واحدةٍ منهن مهر نفسها وفساد المهر بقوله أولى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي عَقْدٍ وَأَصْدَقَهُنَّ أَلْفًا، فَإِنْ بَيَّنَ مِنْهَا مَهْرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ صَحَّ النِّكَاحُ وَالْمَهْرُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ. وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ صَحَّ الْخُلْعُ، وَفِي صِحَّةِ الْبَدَلِ قَوْلَانِ. وَلَوْ كَاتَبَ أَرْبَعَةَ عَبِيدٍ لَهُ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ إِلَى نَجْمَيْنِ فَفِي أَصْلِ الكتابة قولان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 فَيَكُونُ الْقَوْلَانِ فِي بَدَلِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْكِتَابَةِ فِي أَصْلِهَا، لِأَنَّ فَسَادَ الْبَدَلِ فِي الْكِتَابَةِ مُبْطِلٌ لَهَا، وَلَيْسَ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ مبطلاً لهما: - أحد القولين في هذا صَحِيحٌ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَزْوِيجَهُ بِأَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ كَابْتِيَاعِهِ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ وَذَلِكَ يَجُوزُ إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هَذَا حِجَاجًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي ثَانِي حَالٍ بِأَنْ يُقَسِّطَ الْأَلْفَ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الصِّحَّةِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ جَهِلَ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا فِي ثَانِي حَالٍ. - وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَهُوَ أَنَّ مَهْرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ فِي حَالِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى انْفِرَادِهَا بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ مَعَ الِاجْتِمَاعِ. وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ تَزَوُّجَهُ لَهُنَّ بِالْأَلْفِ كَابْتِيَاعِهِ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْهُنَّ بِأَلْفٍ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَا بَطَلَ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْجَهَالَةِ بَطَلَ بِهِ الْآخَرُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخَرِّجُ هَذَا الْبَيْعَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالْكِتَابَةِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ لَمْ يَبْطُلِ الصَّدَاقُ بِالْجَهَالَةِ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الصَّدَاقُ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ مِنْ بَعْدُ. فَأَمَّا تَوْجِيهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ كَابْتِيَاعِ أَرْبَعَةِ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِهَتَيْهِ عَاقِدٌ وَاحِدٌ كَانَ عَقْدًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ جِهَتَيْهِ عَاقِدَانِ كَانَ عَقْدَيْنِ. أَلَا تَرَى لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا كَانَ لَهُ رَدُّ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ من واحد لم يكن له لأن شراؤه مِنَ اثْنَيْنِ يَكُونُ عَقْدَيْنِ، وَمِنَ الْوَاحِدِ يَكُونُ عَقْدًا وَاحِدًا. كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 بِأَلْفٍ كَانَتْ أَرْبَعَةَ عُقُودٍ، فَبَطَلَ الْبَدَلُ لِلْجَهَالَةِ بِبَدَلِ كُلِّ عَقْدٍ، وَلَوِ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ كَانَ عَقْدًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَبْطُلْ، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَنَ أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ مَعْلُومٌ، فَصَارَ جَمِيعُ الثَّمَنِ بِهِ مَعْلُومًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مُهُورُ الْأَرْبَعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ بِثَمَنِ الصُّبْرَةِ تَحَقَّقَ فَصَارَ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا، وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ بِمَهْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَقْرِيبٌ، لِأَنَّهُ عَنِ اجتهاد يختلف فيه المجتهدون فَصَارَ الْمَهْرُ مَجْهُولًا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ: - فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرُ مِثْلِهَا. - وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّتِهِ قُسِّمَتِ الْأَلْفُ عَلَى مُهُورِ أمثالهن، وكان لك وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قِسْطًا مِنَ الْأَلْفِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِ وَاحِدَةٍ أَلْفًا، وَمَهْرُ الثَّانِيَةِ أَلْفَيْنِ، وَمَهْرُ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَمَهْرُ الرَّابِعَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ: فَنَجْعَلُ الْأَلْفَ الْمُسَمَّاةَ مُقَسَّطَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَتِهَا فَتَكُونُ الَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ عُشْرَ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ، خُمُسُ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا ثَلَاثَةُ آلاف، ثلاثة أعشار الألف وذلك ثلثمائة دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ خُمُسَا الألف وذلك أربعمائة درهم. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَصْدَقَ عَنِ ابْنِهِ وَدَفَعَ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ طَلَّقَ فَلِلِابْنِ النِّصْفُ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَقَبَضَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ لَمْ يَخْلُ مَا أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا كَعَبْدٍ جَعَلَهُ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ فَهُوَ صَدَاقٌ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ لِلِابْنِ، أَوْ لِلْأَبِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْأَبِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ هِبَةً لِلِابْنِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ: فَلَا يَخْلُو الِابْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا: وَجَبَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْأَبِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا، فَفِي الصَّدَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ لازم للأب، ولأن قَبُولَهُ لِنِكَاحِ وَلَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِإِعْسَارِهِ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمُوجِبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَازِمٌ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ، لِأَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمَالِكُ لِلْبُضْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُلْتَزِمَ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الصَّدَاقِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 فَعَلَى هَذَا، إِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الصَّدَاقَ لَازِمٌ لِلِابْنِ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ دُونَ الْأَبِ. وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْتَزِمُهُ الْأَبُ الْتِزَامَ تَحَمُّلٍ، أَوِ الْتِزَامَ ضَمَانٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْتِزَامُ تَحَمُّلٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِابْنُ بريئاًَ مِنْهُ، وَلَوْ أُبْرِئَ الِابْنُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأِ الْأَبُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْتِزَامُ ضَمَانٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الِابْنِ وَإِنْ أُبْرِئَ مِنْهُ بَرِئَ الْأَبُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، وَطَلَّقَ الِابْنُ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يخلو الصداق مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مال الابن، أو من مَالِ الْأَبِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ مَالِ الِابْنِ فحكمه فيه كحكمه لَوْ تَزَوَّجَ بَالِغًا ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْأَبِ: فَلَا يَخْلُو مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَى الزَّوْجَةِ قَبْلَ طَلَاقِهَا، أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا: فَقَدْ مَلَكَ الِابْنُ نِصْفَهُ دُونَ الْأَبِ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِالطَّلَاقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الْمُطَلَّقِ دُونَ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا: إِذَا اسْتَرْجَعَ الِابْنُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ بِعَيْنِهِ، أَوْ يَسْتَرْجِعَ بَدَلَهُ. فَإِنِ اسْتَرْجَعَ بَدَلَهُ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهَا، فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ الْعَيْنِ الَّتِي وَهَبَهَا. وَإِنِ اسْتَرْجَعَ الِابْنُ مَا دَفَعَهُ الْأَبُ بِعَيْنِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَعَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ، جَعَلَهُ صَدَاقًا عَنِ الِابْنِ، فَفِي رُجُوعِ الأب به عَلَى الِابْنِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْأَبِ إِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ مَالًا فَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لِلْأَبِ صَارَتْ إِلَى الزَّوْجَةِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الِابْنِ. وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون الصداق فِي الذِّمَّةِ فَدَفَعَهُ الْأَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ فَرُجُوعُ الْأَبِ بِهِ عَلَى الِابْنِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ بِطَلَاقِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ كَانَ لَازِمًا لِلْأَبِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: كَانَ لَازِمًا لِلْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحَمُّلًا أَوْ ضَامِنًا، لِأَنَّهُ دَفَعَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الهبات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ لَازِمًا لِلِابْنِ صَارَ كالصداق الْمُعَيَّنَ فَيَكُونُ لِلْأَبِ بِهِ وَجْهَانِ: وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَا سَلَّمَ الصَّدَاقَ إِلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى طلقت فعلى ضربين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا، فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُهُ، والنصف الآخر يعود إلى الأب دُونَ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ مِنَ الْأَبِ لَمْ يَقْبِضْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهَا الِابْنُ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ لُزُومَ ضَمَانٍ فَقَدْ بَرِئَ الْأَبُ مِنْ نِصْفٍ، لِأَنَّ الِابْنَ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ بِطَلَاقِهِ، وَبَرَاءَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الضَّامِنِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ لُزُومَ تَحَمُّلٍ فَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُعَيَّنِ هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا رَجَعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ بَرِئَ الْأَبُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إِذَا كَانَ في الذمة وكان للأب مطالبته به. فَصْلٌ وَإِذَا تَزَوَّجَ الِابْنُ بَعْدَ كِبَرِهِ، وَقَضَى الْأَبُ عَنْهُ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ، وَطَلَّقَ الِابْنُ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي قَضَاهُ الْأَبُ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي قَضَاءِ الْأَبِ لِلصَّدَاقِ. فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ ابْنِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ، وَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ كان الأب دفع ذلك بِغَيْرِ إِذَنِ الِابْنِ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْهِبَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِبْرَاءِ، وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ بَالِغٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَنُوبَ الْأَبُ عَنْهُ فِي قَبُولِ هِبَةٍ، وَلَا قَبْضِهَا. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا إِذَا وَجَدَهَا بعينها وجهاً واحداً. مسألة قال الشافعي: " وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَوْلِيُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ وَلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ وَإِنْ أَصَابَهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا وَلَا شَيْءَ تَسْتَحِلُّ بِهِ إِذَا كُنْتُ لَا أَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي سلعةٍ يَشْتَرِيهَا فَيُتْلِفُهَا شَيْئًا لَمْ أَجْعَلْ عَلَيْهِ بِالْإِصَابَةِ شَيْئًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْلِيَّ بِالسَّفَهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذن وليه، لأن وقوع الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ. فَأَمَّا الْمَهْرُ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَكْرَهَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ لَهَا كَالْجِنَايَةِ مِنْهُ يَضْمَنُ بِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُطَاوِعَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ أَبْطَلَ ذِمَّتَهُ فِي الْحُقُوقِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً وَاسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُنْتَهَكُ إِلَّا بِمَهْرٍ فِي الشُّبْهَةِ أَوْ حَدٍّ فِي الزِّنَا، فَلَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ وَخَالَفَ السِّلَعَ فِي الْبُيُوعِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِبَاحَةِ، وَلَا يُمْلَكُ الْبُضْعُ بِالْإِبَاحَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ. فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا مَعَ جَهْلِهِمَا بِسَفَهِهِ، وَثُبُوتِ حَجْرِهِ، فَإِنَّ وُجُوبَ مَهْرِهَا عَلَيْهِ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِسَفَهِهِ وَحَجْرِهِ فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ فِي تَمْكِينِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ إِبْرَاءً لَهُ. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ بَلِ الْقَوْلَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا فِي أَنَّ مَهْرَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ غُرْمٌ يعتبر بفعله، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْمَهْرَ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ. وَلَمْ يُنْظَرْ بِهِ فِكَاكُ الْحَجْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَيُنْظَرُ به على وَقْتِ يَسَارِهِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَا عَلَيْهِ الْمَهْرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ فِي الْحُكْمِ. وَهَلْ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا مَا يَصِيرُ الْبُضْعُ مُسْتَبَاحًا بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْبَاطِنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى ما يستحل به البضع، لأن لا يَكُونَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُسْتَهْلَكٍ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَطِيبَ نَفْسَهَا بِمَا يَصِيرُ الْبُضْعُ مُسْتَبَاحًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلها المهر بما استحل من فرجها ". ولأن لا يُشَارِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فِيمَا خُصَّ بِهِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مهر. والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 باب التفويض من الجامع من كتاب الصداق ومن النكاح القديم، ومن الإملاء على مسائل مالك ٍ قال الشافعي رحمه الله تعالى: " التَّفْوِيضُ الَّذِي مَنْ تَزَوَّجَ بِهِ عُرِفَ أَنَّهُ تفويضٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الثَّيِّبَ الْمَالِكَةَ لِأَمْرِهَا بِرِضَاهَا وَيَقُولَ لَهَا أَتَزَوَّجُكِ بِغَيْرِ مهرٍ فَالنِّكَاحُ فِي هَذَا ثابتٌ ". الْقَوْلُ فِي حَدِّ التَّفْوِيضِ فِي النِّكَاحِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّفْوِيضُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ التَّسْلِيمُ، يُقَالُ: فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ، أَيْ سَلَّمْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ، وَوَكَلْتُهُ على تَدْبِيرِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُفَوِضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ} أَيْ أَسْتَسْلِمُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: (لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا) أَيْ: لَا يَصْلُحُونَ إِذَا كان أمرهم مفوضاً، لَا مُدَبِّرَ لَهُمْ. وَالتَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ: أَنْ تُنْكِحَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ. فَمَنْ مَنَعَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَالَ: امْرَأَةٌ مفوضةٌ، بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَمَنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، قَالَ: مفوضةٌ بكسر الواو. الْقَوْلُ فِي أَقْسَامِ التَّفْوِيضِ وَالتَّفْوِيضُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ. وَالثَّانِي: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ: فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الثَّيِّبَ مِنْ وَلِيِّهَا بِإِذْنِهَا، وَرِضَاهَا، عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، فَهَذَا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ، لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَهُوَ نِكَاحٌ صحيح ثابت، لما دللنا عليه من قوله الله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} . وَمَعْنَاهُ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَأَقَامَ " أَوْ " مَقَامَ " لَمْ " عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مَجَازًا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فِي هَذَا الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً. وَالْفَرِيضَةُ: الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، سُمِّيَ فَرِيضَةً، لِأَنَّ فَرَضَهُ لَهَا، بِمَعْنَى أَوْجَبَهُ لَهَا، كَمَا يُقَالُ: فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ إِذَا أَوْجَبَهَا، فَلَمَّا رَفَعَ عَنْهُ الْجُنَاحَ وَأَثْبَتَ فِيهِ الطَّلَاقَ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ التَّوَاصُلُ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَهْرُ تَبِعٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي مَقْصُودُهُ مِلْكُ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَبَطَلَ النِّكَاحُ بِالْجَهْلِ بِالْمُتَنَاكِحَيْنِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْجَهْلِ بِالْمَهْرِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالْجَهْلِ بِالثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْجَهْلِ بالمتابعين، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ. وَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجِبْ لِلْمُفَوَّضَةِ بِالْعَقْدِ مَهْرٌ لاشتراط سُقُوطِهِ، وَلَا لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَهْرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ، وَلَكِنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا إِمَّا بِمُرَاضَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَيَصِيرُ الْمَهْرُ بَعْدَ الْفَرْضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، أَوْ أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا، فَيَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ. فَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَيَصِيرُ الْمَهْرُ مُسْتَحَقًّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: إِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَاهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِالدُّخُولِ بِهَا، وَإِمَّا بِالْمَوْتِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ فَرَضْتُمْ لَهَا مَهْرًا، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ؟ . قِيلَ: لِتَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيَكُونُ الشَّرْطُ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا بِحَالٍ؟ . قِيلَ: فِي النِّكَاحِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا الشَّرْطِ يَجْعَلُهَا كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا مَخْصُوصًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، لأنه شُرُوطَ الْمَهْرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِ الْمَنَاكِحِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا فَوَّضَ مَهْرَهَا، فَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَهْرًا، وَلَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نِكَاحَ تَفْوِيضٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ تَفْوِيضٍ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ، وَيَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ نِكَاحُ تَفْوِيضٍ لِأَنَّ إِسْقَاطَ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا، لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ، إِلَّا أَنْ تَتَعَقَّبَهُ أَحَدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. فَهَذَا حُكْمُ التَّفْوِيضِ إِذَا كَانَ عَنْ إِذْنِهَا. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا فَوَّضَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يُنْكِحُ إِلَّا بِإِذْنٍ، كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ، وَغَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي التَّفْوِيضِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي التَّفْوِيضِ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ، وَكَانَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يُنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَالْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. فَأَمَّا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ، بَطَلَ تَفْوِيضُ الْأَبِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ فَفِي صِحَّةِ تَفْوِيضِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعُقُودِ وَلَيْسَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ. فَصْلٌ فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا فَوَّضَ نِكَاحَ أَمَتِهِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي التَّفْوِيضِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ دُونَهَا، فَلَوْ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ أَنْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَفِي مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ إِنْ أُعْتِقَتْ، وَمُشْتَرِيهَا إِنْ بِيعَتْ، لِأَنَّ مَهْرَهَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ الْمُنْكِحِ، لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ فِي مِلْكِهِ. فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْمَهْرِ فَسَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْقَوْلُ فِي مَهْرِ الْمُفَوَّضَةِ بَعْدَ الدخول مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْمُفَوَّضَةُ لِنِكَاحِهَا إِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ فلها مهر المثل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَلِتَخْرُجَ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ مِمَّا خُصَّ بِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 نبي الله مِنْ نِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمِنْ حُكْمِ الزِّنَا الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ التَّفْوِيضُ إِبْرَاءً مِنَ الْمَهْرِ، فَلَا يَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ؟ . قِيلَ: الْإِبْرَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِمَّا وَجَبَ، وَهَذَا مَهْرٌ وَجَبَ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِالْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ يَدَهَا فَقَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ دِيَتُهَا، وَهُوَ إِبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَهَلَّا إِذَا بَذَلَتْ لَهُ بُضْعَهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِذْنَهَا بِقَطْعِ الْيَدِ نِيَابَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهَا أَنْ تَتَوَلَّى قَطْعَ يَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَصَارَتْ كَالْقَاطِعَةِ لِيَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الغزم، وَلَيْسَ الْبُضْعُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعُ بِبُضْعِ نَفْسِهَا فَصَارَ الزَّوْجُ مُسْتَمْتِعًا بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ بِالْإِذْنِ مِنْ مَهْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مَهْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزاني؟ . قيل: لأن الزنا مغلط بِالْحَدِّ لِيَكُونَ زَاجِرًا عَنْهُ فَغُلِّظَ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ بِالزِّنَا لَدَعَاهَا ذَلِكَ لِفِعْلِ الزِّنَا، فَحُسِمَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، كما حسمت بوجوب الحد. مسألة قال الشافعي: " وإن لم يصبها حتى طلقها فلها المتعة وقال في القديم بدلاً من العقدة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمُفَوَّضَةُ لِبُضْعِهَا إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِسُقُوطِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَنَا. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 241) . فَلَمَّا جَعَلَهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) . دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ دُونَ وُجُوبِهِ. وَلِأَنَّ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْمُتْعَةُ كَالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الْمَالِ دُونَ إِلْزَامِهِ، كَالْمُسَمَّى لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) . إِحْدَاهُنَّ: قَوْلُهُ: " وَمَتِّعُوهُنَّ " وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 وَالثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ " حَقًّا " وَالْحُقُوقُ مَا وَجَبَتْ. وَالرَّابِعَةُ: قوله " على المحسنين "، وعلى مِنْ حُرُوفِ الْإِلْزَامِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} : فَجَعَلَ ذَلِكَ لَهُنَّ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ عَلَى استحقاقهن له. ثم قال: " بالمعروف " فَقَدَّرَهُ. وَمَا لَا يَجِبُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، ثُمَّ جعله " حقاً على المتقين " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ وَهُوَ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ. قِيلَ: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَإِنْ كَانَ عَامَّ الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) {البقرة: 2) . وَالثَّانِي: مَا حَكَاهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَنَّ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ " حقاً على المحسنين " قَالَ رَجُلٌ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ أَنْ أُحْسِنَ لَمْ أَفْعَلْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} وَلِأَنَّ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ خُلُوِّ النِّكَاحِ مِنْ بَدَلٍ كَذَاتِ الْمَهْرِ. فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَوْتِ: فَالْمَعْنَى فِي الْمَيِّتَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ نِكَاحُهَا مِنْ بَدَلٍ، فَلِذَلِكَ خَلَا مِنْ مُتْعَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُطْلَقَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ تَأْثِيرَ الطَّلَاقِ سُقُوطُ الْمَالِ فَذَاكَ فِي ذَاتِ الْمَهْرِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَتَأْثِيرُهُ ثُبُوتُ المال. مسألة قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ فِيهَا وَاسْتَحْسَنَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا أَوْ مَا رَأَى الْوَالِي بِقَدْرِ الزَوْجَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ لِلْمُفَوَّضَةِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مُفَوَّضَةٍ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ. وَالثَّانِي: فِي مُفَوَّضَةٍ قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ. فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، فَهِيَ مُسْتَحِقَّةُ الْمُتْعَةِ، وَالْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا تَجِبُ بِهِ الْمُتْعَةُ. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَنْ تُعْتَبَرُ به المتعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا تَجِبُ بِهِ الْمُتْعَةُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ مُتْعَةَ الْمُفَوَّضَةِ بَدَلٌ مِنْ مَهْرِ غَيْرِ الْمُفَوَّضَةِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْمُتْعَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ وُجُوبِ الْمَهْرِ أَوِ الْمُتْعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِالطَّلَاقِ وَجَبَتِ الْمُتْعَةُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالطَّلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) . وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعَالَيْنَ أُسَرِّحْكُنَّ وَأُمَتِّعْكُنَّ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ، لَيْسَ فيه تقديم ولا تأخير. فصل وما قَدْرُ الْمُتْعَةِ، فَهِيَ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَحْسَنَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ خَادِمٍ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاسْتَحْسَنَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ تَقْدِيرٌ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي أَجْنَاسِ النَّاسِ وَبُلْدَانِهِمْ، كَالْمَهْرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ بِقَدْرٍ، وَمَا وَجَبَ وَلَمْ يَنْحَصِرْ بِمِقْدَارٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَقْدِيرُهُ مُعْتَبَرًا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ مَهْرًا عِنْدَهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ التَّحْدِيدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْعًا، فَلَيْسَ فِي الِاجْتِهَادِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَلَا نَجْعَلُهُ بِالنِّصْفِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الصَّدَاقِ. قُلْنَا: فَقَدْ أَوْجَبَتِ الصَّدَاقَ وَأَسْقَطَتِ الْمُتْعَةَ. وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى إِيجَابِ الْمُتْعَةِ وَإِسْقَاطِ الصَّدَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّدَاقِ. وَلَيْسَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا قَوْلًا بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْسَانٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ تُعْتَبَرُ بِهِ الْمُتْعَةُ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ، كَالنَّفَقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ) {البقرة: 236) . كَمَا قَالَ فِي النَّفَقَةِ: {لِيُنْفِق ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا أَتَاهُ اللهُ) {الطلاق: 7) . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، " وَمَا رَأَى الْوَلِيُّ بِقَدْرِ الزَّوْجَيْنِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 يَعْنِي: الزَّوْجُ الْمُوسِرُ، وَالزَّوْجُ الْمُعْسِرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَتُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَتُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَعْتَبِرُهُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ سِنُّهَا، وَنَسَبُهَا، وَجَمَالُهَا، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَبِرُهَا حَالَ قُمَاشِهَا، وَجَهَازِهَا، فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَمُؤْنَةِ نَقْلِهِ. وَهَذَا وَجْهٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَهَازُ مَقْصُودًا فَيُعْتَبَرُ، وَلَوِ اعْتُبِرَ فِي الْمُتْعَةِ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الْمَهْرِ أَحَقَّ، وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتْعَةً لِمَنْ لَا جَهَازَ لَهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُفَوَّضَةُ الَّتِي فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَتَرَاضَى الزَّوْجَانِ بِفَرْضِهِ وَتَقْدِيرِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ، فَيَصِيرُ بِالْفَرْضِ بَعْدَ التَّفْوِيضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ دُونَ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ الْمَفْرُوضُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ كَالَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمُفَوَّضَةَ وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ وَسَقَطَ بِالطَّلَاقِ، وَاسْتِدْلَالًا: بِأَنَّهُ نِكَاحٌ خَلَا عَنْ ذِكْرِ مَهْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمُتْعَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ لَهَا مَهْرٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُوهُن وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . فكان قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} عَلَى عُمُومِ الْحَالَيْنِ فِيمَا فَرَضَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَفْرُوضِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَشْبَهَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ اسْتِرْجَاعَ نِصْفِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ جَمِيعِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَدْفُوعًا بِالنَّصِّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ "، قِيلَ: وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: " مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِ التَّرَاضِي فِي حَالِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ فَرْضٌ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَمَّى فِي اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَأَمَّا بِنَاءُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فَمُخَالِفٌ فِيهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ: فَالْمَعْنَى فِي الْمُفَوَّضَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْمَوْتِ مَفْرُوضٌ، وَتَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 بِفَرْضِ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ يَجِبُ لَهَا الْمَفْرُوضُ بِالْمَوْتِ، وَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَرْضِ، فَصَارَ كَالْمُسَمَّى، وَاللَّهُ أعلم. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُسَمِّيَ مَهْرًا أَوْ مَاتَتْ فسواءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بأبي هو وأمي " أَنَّهُ قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ واشقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْرِ مهرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَبِالْمِيرَاثِ فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أحدٍ دُونَ النَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقال مرة عن معقل بن يسارٍ ومرةً عن معقل بن سنان ومرةً عن بعض بني أشجع وإن لم يثبت فلا مهر ولها الميراث وهو قول علي وزيدٍ وابن عمر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُفَوَّضَةُ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ مَاتَتْ، فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) {النساء: 12) . وَهُمَا زَوْجَانِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي التَّابِعِينَ: قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا مَهْرَ لَهَا. وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي التَّابِعِينَ: قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زيد، والزهري، وَعَطَاءٍ. وَفِي الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: حَدِيثُ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ، وَأَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَأَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ قَاضِيًا فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ مِرَارًا، وَقَالَ: شَهْرًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَإِنِّي أَفْرِضُ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا، لَا وكسٌ، وَلَا شططٌ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، إِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ: فِيهِمُ الْجَرَّاحُ أَبُو سِنَانٍ، نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَضَاهَا فِينَا، فِي بَرْوَعَ بِنْتٍ واشقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا هِلَالَ بْنَ مرةٍ الْأَشْجَعِيَّ بِمَا قَضَيْتَ. وَهَذَا حَدِيثٌ إِنْ صَحَّ فِي بَرْوَعَ، لَمْ يجز خلافه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ كَمَالُ الْمُسَمَّى اسْتُحِقَّ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوَّضَةِ كَالدُّخُولِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ أَوْجَبَهُ بِالْوَفَاةِ كَالْمُسَمَّى، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِالْوَفَاةِ كَالْعِدَّةِ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ. إِنْ لَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ بَرْوَعَ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ ". قِيلَ: وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: " مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ دُونَ غَيْرِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ فِرَاقُ مُفَوَّضَةٍ قَبْلَ فَرْضٍ وَإِصَابَةٍ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ مَهْرٌ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَهْرُ، كَالرَّضَاعِ وَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُنْتَصَفْ صَدَاقُهَا بِالطَّلَاقِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِالْمَوْتِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ كَالْمُبَرِّئَةِ لِزَوْجِهَا مِنْ صَدَاقِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُنْتَصَفْ بِالطَّلَاقِ لَمْ يُتَكَمَّلْ بِالْمَوْتِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. فَأَمَّا حَدِيثُ بَرْوَعَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِهِ. فذهب قول إِلَى ضَعْفِهِ، وَأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُا: اضْطِرَابُ طُرُقِهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ تَارَةً عَنْ نَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ، وَهُمْ مَجَاهِيلُ، وَتَارَةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَتَارَةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ، وَتَارَةً عَنِ الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانٍ. فَدَلَّ اضْطِرَابُ طُرُقِهِ عَلَى وَهَائِهِ. وَالثَّانِي: أن علياً بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: حَدِيثُ أَعْرَابِيٍّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاقِدِيَّ، طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِاشْتِهَارِهِ، وَقَبُولِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُ، وَوُرُودِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ. أَحَدُهَا: مَنْصُورُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ. وَالثَّالِثُ: عَنْ خِلَاسٍ، وَأَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ. وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَسْمَاءِ الرَّاوِي قَدْحًا، لِأَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارِ بْنِ سِنَانٍ مَشْهُورٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ نَهْرُ مَعْقِلٍ بِالْبَصْرَةِ تَبَرُّكًا باسمه حين اختفره زِيَادٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقَايَا الصَّحَابَةِ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي بَقَايَا الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لَمْ يُدْفَعْ حَدِيثُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 وَأَمَّا الْجَرَّاحُ أَبُو سِنَانٍ، فَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ مَعَ قَوْمِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ في قصة مشهورة. فما ورد وَلَا رُدُّوا. وَأَمَّا إِنْكَارُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ لَهُ فِي قَبُولِ الْحَدِيثِ رَأْيٌ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُحَدِّثَ، وَلَا يَقْبَلَ حَدِيثَهُ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ وَقَالَ: مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا اسْتَحْلَفْتُهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْفُقَهَاءُ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ إِلَّا بِأَنَّهُ وَرَدَ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَدْحٍ، لِأَنَّهَا مِنْ قَضَايَا رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي انْتَشَرَ أَهْلُهَا فَصَارُوا إِلَى الْكُوفَةِ فَرَوَوْهُ بِهَا ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَالْمَهْرُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَإِنْ صَحَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أن يكون وليها فوض نكاحها فَلَمْ يَصِحَّ التَّفْوِيضُ، أَوْ تَكُونَ مُفَوَّضَةَ الْمَهْرِ دُونَ الْبُضْعِ، فَإِنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ مَجْهُولٌ فَلِاحْتِمَالِهِ مَعَ الصِّحَّةِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَوْتِ بِالدُّخُولِ: فَفِي الدُّخُولِ إِتْلَافٌ يَجِبُ بِهِ الْغُرْمُ بِخِلَافِ الْمَوْتِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّفْوِيضِ بِالْمُسَمَّى: فَالْمُسَمَّى يَجِبُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ فَكَمَلَ بِالْمَوْتِ. وَالْمُفَوَّضَةُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ، فَلَمْ يَكْمُلْ لَهَا بِالْمَوْتِ جَمِيعُهُ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَهْرِ بِالْعِدَّةِ: فَقَدْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِإِصَابَةِ السَّفِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَكَذَلِكَ الْمَوْتُ فِي الْمُفَوَّضَةِ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً، أَوْ ذِمِّيَّةً، فِي أَنَّ الْمَهْرَ إِنْ وَجَبَ لِلْمُسْلِمَةِ، وَجَبَ لِلذِّمِّيَّةِ. وَإِنْ سَقَطَ لِلْمُسْلِمَةِ سَقَطَ لِلذِّمِّيَّةِ. وقال أبو حنيفة: أوجب المهر للمسلمة، وأسقط لِلذِّمِّيَّةِ. وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُؤَاخَذُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَلِذَلِكَ سَقَطَ مَهْرُ الذِّمِّيَّةِ، لِسُقُوطِهِ مِنَ الْعَقْدِ، وَوَجَبَ مَهْرُ الْمُسْلِمَةِ لِوُجُوبِهِ فِي الْعَقْدِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، بَلِ الْمَهْرُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالطَّلَبِ، وَسُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِدَامَةُ ثُبُوتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ ثُبُوتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ طَرْدًا، وَكَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ عَكْسًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النِّكَاحِ كَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ لَبَطَلَ النِّكَاحُ بِتَرْكِ الْمَهْرِ، كَمَا بَطَلَ بترك الولي، والشاهدين، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَمَتَى طَلَبَتِ الْمَهْرَ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يفوضه السَّلْطَانُ لَهَا أَوْ يَفْرِضَهُ هُوَ لَهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِصَدَاقِ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قال المفوضة لبعضها لَا تَمْلِكُ الْمَهْرَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَمْلِكُهُ بِالْعَقْدِ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ بُضْعَهَا بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ بَدَلَهُ مِنَ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ، كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مُبْدَلًا لَمْ تَمْلِكْ فِي مُقَابَلَتِهِ بَدَلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْمُفَوَّضَةِ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَهْرِ وَالِامْتِنَاعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَ بِمَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا وَجَبَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا لَمْ يَجِبْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، أَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ تَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ كَالْمُسَمَّى، وَمَا لَمْ ينتصف بِالطَّلَاقِ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَالْمَهْرِ الْفَاسِدِ. فَأَمَّا مِلْكُ الْبُضْعِ بِالْعَقْدِ، فلأنه مقصود لا يحوز الْإِخْلَالُ بِذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ فَلِذَلِكَ مُلِكَ بِالْعَقْدِ، وَالْمَهْرُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يُمْلَكْ بِالْعَقْدِ مَعَ تَرْكِ ذِكْرِهِ فِيهِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْبُضْعِ وَالْمَهْرِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ افْتِرَاضَ حُكْمِ الْمُسَمَّى وَالتَّفْوِيضِ. وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةَ عِنْدَنَا بِالْمَهْرِ، وَإِنَّمَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا الْمَهْرَ فَتَكُونُ قَدْ مَلَكَتْ بِالتَّفْوِيضِ أَنْ تَمْلِكَ بِالْفَرْضِ مَهْرًا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالشُّفْعَةِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثبت ما وصفنا، فَفِي قَدْرِ مَا مَلَكَتْ أَنْ تَتَمَلَّكَ مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، إِنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مُسْتَهْلَكٍ بِالْعَقْدِ، فَتُقُدِّرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَالْمُسْتَهْلَكِ بِالْوَطْءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّهُ مَهْرٌ مُطْلَقٌ، لَا يُتَقَدَّرُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَكَذَلِكَ مَا اسْتُحِقَّ بِالْفَرْضِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُفَوَّضَةُ تَمْلِكُ الْمَهْرَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، ذَكَرْنَاهَا مُجْمَلَةً، وَنَحْنُ نَشْرَحُهَا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ لَهَا الْحَاكِمُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَدْرِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ بِقِيمَةِ مُتْلَفٍ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَظْلِمَ الزَّوْجَ، إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ الزَّوْجُ الزِّيَادَةَ، وَلَا أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَظْلِمَ الزَّوْجَةَ، إِلَّا أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَةُ بِالنُّقْصَانِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ وَقْتَ الْفَرْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج، أنه يُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: وهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْفَرْضِ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْهُ بِالْفَرْضِ دُونَ الْعَقْدِ. فَإِذَا فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، صَارَ كَالْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ، إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُهُ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُفِّذَ بِجَائِزٍ لَمْ يُنْقَضْ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّانِي : يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمُفَوَّضَةِ، فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ الزَّوْجَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى فَرْضِ مَهْرٍ عَنْ تَرَاضٍ، فَيَصِيرُ مَا فَرَضَاهُ لَازِمًا كَالْمُسَمَّى، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ الْمَهْرُ إِلَّا بِعَقْدٍ، أَوْ حُكْمٍ، وَلَا يَصِيرُ لَازِمًا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى فَرْضِهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ احْتِجَاجًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ) {البقرة: 231) . وَلِأَنَّهُمَا مَلَكَا التَّسْمِيَةَ فَيَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِوُجُوبِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَمْلِكَاهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ لَهَا مُوجِبًا إِلَّا الْحَاكِمُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا فَرَضَ لَهَا فِي الْعَقْدِ، وَبَعْدَهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَشْبَهَ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ أَعْوَاضِ الْعُقُودِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِالْمُرَاضَاةِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهِ بِالْحُكْمِ، كَالْأَثْمَانِ، وَالْأُجُورِ، ولأن كل مهر كمل بالمدخول يُنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لها مهر، بدليل قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتَّعُوهُنَّ) {البقرة: 236) . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْحُكْمِ فَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْفَرْضِ أَبْلَغُ فِي الِالْتِزَامِ مِنَ الْحُكْمِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى قِيمَةِ مُتْلَفٍ أَوْ أَرْشِ مَعِيبٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَهْرَ يَلْزَمُ بِفَرْضِهِمَا كَمَا يَلْزَمُ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ فَرَضَاهُ مَعَ عِلْمِهِمَا بقدر المثل صح، وجاز أن يفرضا مهل الْمِثْلِ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَقَلَّ، وَأَنْ يَعْدِلَا إِلَى عِوَضٍ مِنْ ثَوْبٍ، أَوْ عَبْدٍ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جِنْسِ الْمَهْرِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ فَرَضَاهُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ، وَيَكُونُ بَاطِلًا كَالَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا، كَمَا لَوْ فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ، وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِبْرَاءِ مِنْ مَجْهُولٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّهُ يَجُوزُ، وَيَصِحُّ الْفَرْضُ، لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ جَهِلَا مَهْرَ الْمِثْلِ، كَذَلِكَ مَا فَرَضَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي يَجِبُ لَهَا، هَلْ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ هو مُطْلَقٌ؟ . فَإِنْ قِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ، لَمْ يَصِحَّ فَرْضُهُمَا، إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَهْرٌ مُطْلَقٌ صَحَّ فَرْضُهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّالِثُ : مِمَّا يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمُفَوَّضَةِ، فَهُوَ الدُّخُولُ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَمَّا وَجَبَ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ بِالْوَطْءِ، فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَالْوَاجِبُ بِهَذَا الدُّخُولِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ تَعَقَّبَهُ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ. وَإِذَا وَجَبَ بِالدُّخُولِ، فَتَقْدِيرُهُ يَكُونُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ عَلَى حُكْمِهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى تَقْدِيرِهِ دُونَ إِيجَابِهِ، وَحُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّقْدِيرِ وَالْإِيجَابِ. فَإِنْ قَدَّرَهُ الزَّوْجَانِ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيرُهُمَا إِلَّا مَعَ عِلْمِهِمَا بِهِ، قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمَهْرَ هَاهُنَا قِيمَةُ مُسْتَهْلَكٍ، فَإِنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَى إِرْسَالِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَسْتَحِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا، إِلَّا بَعْدَ فَرْضِ الْمَهْرِ، لِيَكُونَ مُسْتَمْتِعًا بِمَهْرٍ مَعْلُومٍ، وَلِيُخَالِفَ حَالَ الْمَوْهُوبَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَصْلٌ: وَأَمَّا الرَّابِعُ : فَهُوَ الْمَوْتُ، وَفِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمُفَوَّضَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا، ثُمَّ إِنْ أوجبناه فهو مهر المثل، ولا يقدره إلى الْحَاكِمُ وَحْدَهُ، فَإِنْ قَدَّرَهُ مَعَ الْبَاقِي مِنَ الزوجين أجبني عُلِمَ قَدْرُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِهِ جَازَ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنًا عَنْ مَيِّتٍ، أَوْ قَضَاهُ عَنْ حَيٍّ، لِوَرَثَةِ مَيِّتٍ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُؤْخَذَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فَفِي جَوَازِهِ إِذَا تَرَاضَى بِهِ الْبَاقِي وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حُكْمِ غير الحاكم، هو يَلْزَمُ بِالتَّرَاضِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " فَإِنْ فَرَضَهُ فَلَمْ تَرْضَهُ حَتَّى فَارَقَهَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْعُقْدَةِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا شَرَعَ الزَّوْجَانِ فِي فَرْضِ الْمَهْرِ، فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، فَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِهِ، حَتَّى يُطَلِّقَهَا، كَأَنَّهُ بَذَلَ لَهَا أَلْفًا، فَلَمْ تَرْضَ إِلَّا بِأَلْفَيْنِ، فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ بَاقٍ وَبَذْلُ الْأَلْفِ مِنَ الزَّوْجِ كَعَدَمِهَا، وَلَهَا الْمُتْعَةُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتِمُّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا بِالرِّضَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ هَذَا كَالصَّدَاقِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَسْمِيَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ، وَيَجِبُ لَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. قُلْنَا: مَا اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا لَمْ يُزَلْ عَنْهُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ لَهَا الْمُتْعَةُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ مَفْرُوضٌ إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَى فَرْضِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْأَلْفَ الَّذِي بَذَلَهُ الزَّوْجُ، لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ، حَتَّى طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ زِيَادَةً عَلَيْهَا، لأن هذا افتراق، وليس باجتماع. مسألة قال الشافعي: " وقد يدخل في التَّفْوِيضِ وَلَيْسَ بِالتَّفْوِيضِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مخالفٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَتَزَوَّجُكَ عَلَى أَنْ تَفْرِضَ لِي مَا شِئْتَ أَنْتَ أَوْ شِئْتُ أَنَا فَهَذَا كَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بِالتَفْوِيضِ أَشْبَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْوِيضَ في النكاح ضربان: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، وَتَفْوِيضُ الْمَهْرِ. فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْمَهْرِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ لَا يَصِحُّ، إِمَّا لِجَهَالَتِهِ، وَإِمَّا لِتَحْرِيمِهِ. فَالْمَجْهُولُ كَقَوْلِهِ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى مَا شِئْنَا، أَوْ شَاءَ أَحَدُنَا، أَوْ شَاءَ فُلَانٌ. وَالْحَرَامُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، فَيَكُونُ هَذَا تَفْوِيضًا لِلْمَهْرِ، لِبُطْلَانِهِ، وَلَيْسَ بِتَفْوِيضٍ لِلْبُضْعِ، لِذِكْرِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ كَانَ مُشَابِهًا لَهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ، فَيَجِبُ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ نِصْفُهُ دُونَ الْمُتْعَةِ. وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِنِكَاحِ التَّفْوِيضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَهْرَ هَذِهِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَمَهْرَ الْمُفَوَّضَةِ وَجَبَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ. والثاني: أنه موجب المهر الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِيمَا وَجَبَ لِلْمُفَوَّضَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 وَالثَّانِي: مَهْرٌ مُطْلَقٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلِلْمُفَوَّضَةِ مُتْعَةٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِالْمَوْتِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفِي الْمُفَوَّضَةِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ، كَتَفْوِيضِ الْبُضْعِ، وَلَيْسَ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَّا الْمُتْعَةُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْعَقْدَ، خَلَا عَنْ مَهْرٍ لَازِمٍ، فَكَانَ تَفْوِيضًا، كَمَا لَوْ خَلَا مِنْ ذِكْرِ مَهْرٍ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ عَقَدٌ تَضَمَّنَ مَهْرًا فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّفْوِيضِ، كَالْمَهْرِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَسْلِيمُ بُضْعٍ بِغَيْرٍ بَدَلٍ، وَهَذَا تَسْلِيمُهُ بِبَدَلٍ، وَإِنْ فَسَدَ. وَفَرْقٌ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَبَيْنَ التَّسْلِيمِ بِبَدَلٍ فَاسِدٍ فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَلَّكْتُكِ عَبْدِي هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ بَدَلَا، جَعَلْنَا ذَلِكَ هِبَةً لَا تُوجِبُ الْبَدَلَ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ مَلَّكْتُكِ عَبْدِي بِثَمَنٍ فَاسِدٍ، صَارَ بيعاً فاسداً، يوجب البدل، فدل على افتراض الْأَمْرَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا: فَأَحْوَالُ مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَهْرٌ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ تَكُونُ مُفَوَّضَةً: وَقِسْمٌ لَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَوْنِهَا مُفَوَّضَةً. فَأَمَّا الَّتِي تَكُونُ مُفَوَّضَةً فَهِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا، مَعَ إِذْنِهَا، وَجَوَازِ أَمْرِهَا، أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا. وَأَمَّا الَّتِي لَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً: فَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى مَهْرٍ مَجْهُولٍ، أَوْ حَرَامٍ، أَوْ فَوَّضَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وَأَمَّا الَّتِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَوْنِهَا مُفَوَّضَةً: فَهِيَ الَّتِي تُرِكَ ذِكْرُ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَيْسَتْ مُفَوَّضَةً. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهَا مُفَوَّضَةٌ. وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 تفسير مهر مثلها من الجامع من كتاب الصداق وكتاب الإملاء على مسائل مالك قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَتَى قُلْتُ لَهَا مهر نسائها فإنما أغني نِسَاءَ عَصَبَتِهَا وَلَيْسَ أُمَّهَا مِنْ نِسَائِهَا وَأَعْنِي نساء بلدها ". قال الماوردي: وهذا صحيح. إِذَا اسْتَحَقَّتِ الْمَرْأَةُ مَهْرَ مِثْلِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ مَضَى فِي مَوَاضِعِهِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي مَنْصِبِهَا. وَالثَّانِيَةُ: فِي صِفَاتِ ذَاتِهَا. فَأَمَّا الْمَنْصِبُ فَمُعْتَبَرٌ بِنَظِيرِهَا فِي النَّسَبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مُعْتَبَرٌ بِنَظِيرِهَا فِي الْبَلَدِ، فَغَلَبَ اعْتِبَارُ الْبَلَدِ عَلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ، وَهَذَا فَسَادٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمَهْرِ نِسَائِهَا، والميراث. ولأن الأنساب معقود فِي الْمَنَاكِحِ دُونَ الْبُلْدَانِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ اللَّازِمَةِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ قَدْ يَخْتَلِفُ مُهُورُهُمْ بِاخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ، وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ النَّظِيرِ فِي النَّسَبِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ نَظِيرِهَا مِنْ نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنِسَاءِ الْأُمِّ وَلَا بِنِسَاءِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، هُمَا سَوَاءٌ، فَيُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ أَهْلِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ كَانَ وَلَدُ الْعَرَبِيِّ مِنَ النَّبَطِيَّةِ عَرَبِيًّا، وَوَلَدُ النَّبَطِيِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ نَبَطِيًّا، فَاقْتَضَى إِذَا كَانَ مَنْصِبُ النَّسَبِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ دُونَ الْأُمِّ الَّتِي لَا يَلْحَقُ بِهَا نَسَبٌ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا، فَأَقْرَبُهُنَّ الْأَخَوَاتُ، فَيُعْتَبَرُ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ، لِأَنَّهُنَّ مُشَارِكَاتٌ فِي الرَّحِمِ دُونَ النَّسَبِ. فَلَوِ اجْتَمَعَ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ فَفِيهِنَّ وَجْهَانِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ، فَهُنَّ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ. وَلَا اعْتِبَارَ بِبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَنَاتِ الْأُخُوَّةِ، وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ الْعَمَّاتِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، ثُمَّ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ، وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ عَمَّاتِ الْأَبِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، ثُمَّ بَنَاتِ أَعْمَامِ الْأَبِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا فِي نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ. فَإِذَا عَدِمَ الْعَصَبَاتِ فَفِي اعْتِبَارِ نِسَاءِ الْمَوْلَى الْمُعْتِقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُونَ، لِأَنَّ الْمَوْلَى عَصَبَةٌ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِالْمَوْلَى نَسَبٌ، وَإِنْ جَرَى فِي التَّعْصِيبِ مَجْرَى النَّسَبِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْعَصَبَاتِ، دُونَ الْأُمَّهَاتِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَعْنِي نِسَاءَ بَلَدِهَا، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ كَانَ مِنْ عَصَبَاتِهَا فِي بَلَدِهَا دُونَ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِلْبُلْدَانِ فِي الْمُهُورِ عَادَاتٍ مُخْتَلِفَةً، فَتَكُونُ عَادَاتُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَخْفِيفَ الْمُهُورِ وَعَادَاتُ بَعْضِهَا تَثْقِيلَ الْمُهُورِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا، كَمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ فِي مَوْضِعِ إِتْلَافِهِ، لِأَنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْبَلَدِ، مَعَ نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ. فَهَذَا حُكْمُ الْمَنْصِبِ. الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُهُورِ مسألة قال الشافعي: " وَمَهْرُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ سِنِّهَا وَعَقْلِهَا وَحُمْقِهَا وَجَمَالِهَا وَقُبْحِهَا وَيُسْرِهَا وَعُسْرِهَا وَأَدَبِهَا وَصَرَاحَتِهَا وَبِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا لِأَنَّ الْمُهُورَ بِذَلِكَ تَخْتَلِفُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَصِفَاتُ الذَّاتِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُهُورِ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ مَا يُقَوَّمُ، وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ عَشْرَةٌ: أَحَدُهَا: السِّنُّ، لِاخْتِلَافِ الْمَهْرِ بِاخْتِلَافِهِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ أَرْجَى لِلْوَلَدِ، وَأَلَذُّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْكَبِيرَةِ. وَالثَّانِي: عَقْلُهَا، وَحُمْقُهَا، فَإِنَّ لِلْعَاقِلَةِ مَهْرًا، وَلِلرَّعْنَاءِ، وَالْحَمْقَاءِ دُونَهُ، لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْعَاقِلَةِ، وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْحَمْقَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 {لِيَبْلَُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أَيْ أَيُّكُمْ أَتَمُّ عَقْلًا. وَرَوَى كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلا: " أيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاُ " ثُمَّ قَالَ: " أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عقلاُ. وَأَرْدَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَالثَّالِثُ: جَمَالُهَا، وَقُبْحُهَا. فَإِنَّ مَهْرَ الْجَمِيلَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الْقَبِيحَةِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُنكح النِّسَاءُ لأربعٍ، لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ". وَالرَّابِعُ: يسارها، وإعسارها، لأن ذا المالك مَطْلُوبٌ وَمَخْطُوبٌ، فَيَكْثُرُ مَهْرُ الْمُوسِرَةِ بِكَثْرَةِ طَالِبِهَا، وَيَقِلُّ مَهْرُ الْمُعْسِرَةِ، لِقِلَّةِ خَاطِبِهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8) . يَعْنِي الْمَالَ. وَرَوَى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَزَوَّجَ ذَاتَ جمالٍ ومالٍ فَقَدْ أَصَابَ سِدَادًا مِنْ عوزٍ ". وَالْخَامِسُ: إِسْلَامُهَا، وَكُفْرُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) {البقرة: 221) . وَالسَّادِسُ: عِفَّتُهَا، وَفُجُورُهَا، لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْعَفِيفَةِ أَكْثَرُ، وَمَهْرُهَا لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِ فِيهَا أَكْثَرُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكَحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أَْوْ مُشْرِكٌ) {النور: 3) . وَالسَّابِعُ: حُرِّيَّتُهَا، وَرِقُّهَا، لِنُقْصَانِ الْأَمَةِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرَّةِ. وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهَا لَا يَحِلُّ لِكُلِّ حُرٍّ. وَالثَّامِنُ: بَكَارَتُهَا، وَثُيُوبَتُهَا، لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْبِكْرِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الثَّيِّبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَغَرُّ غُرَّةً، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ ". وَمَعْنَى قوله: " أنتق أرحاماً " أي: أكثر أولاداً، وفي قَوْلِهِ: " وَأَغَرُّ غُرَّةً " رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: غِرَّةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّهُنَّ أَبْعَدُ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَقَلُّ فِطْنَةً لَهُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَغَرُّ غُرَّةً. بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ غرة البياض، لأن الأغير وطول التعبيس يجيلان اللَّوْنَ، وَيُبْلِيَانِ الْجَسَدَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ حُسْنَ الْخُلُقِ وَحُسْنَ الْعِشْرَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَكْثَرُ حُبًّا وَأَقَلُّ خِبًّا ". وَالتَّاسِعُ: أَدَبُهَا، وَبَذَاؤُهَا: لِأَنَّ الْأَدِيبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَالْبَذِيئَةَ مَهْرُوبٌ مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أنه قال: " البذاء لؤمٌ وصحبة الأحق شؤمٌ ". وَالْعَاشِرُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَصَرَاحَتُهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ فَصَاحَتَهَا، لِأَنَّ لِفَصَاحَةِ الْمَنْطِقِ حَظًّا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ صَرَاحَةَ النَّسَبِ الْمَقْصُودِ فِي الْمَنَاكِحِ. وَالصَّرِيحُ النَّسَبُ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ. وَالْهَجِينُ: الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ. وَالْمُذَرَّعُ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي أُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي أُمُّهُ أَشْرَفُ نَسَبًا مِنْ أَبِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: (إِنَّ الْمُذَرَّعَ لَا تُغْنِي خُؤُولَتُهُ ... كَالْبَغْلِ يَعْجِزُ عَنْ شَوْطِ الْمَحَاضِيرِ) وَالْفَلَنْقَسُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الَّذِي أَبُوهُ مَوْلًى، وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ، وَجَدَّتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبَوَيْهِ أَمَتَانِ. فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ مِثْلِهَا، لِاخْتِلَافِ الْمَهْرِ بها، وقد ذكر الشافعي منها سبعة وأعقل ثَلَاثَةً وَهِيَ: الدِّينُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ مِنْهَا فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ. وَقَدْ نَصَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى بَعْضِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى بَاقِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجَمَالِهَا، وَمَالِهَا، وَمَيْسَمِهَا ". وَرُوِيَ وَوَسَامَتِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ. وفيها ثلاث تأويلات: أحدها: معناه، افترقت يَدَاكَ: إِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ، وَأَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتَغْنَتْ يَدَاكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِذَاتِ الدِّينِ وَيَكُونُ تَرِبَتْ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ بمعنى الغنى والفقر رأيه في قدر تلك الصفة، وقسطا مِنْ تِلْكَ الْمُهُورِ، فَزَادَهَا إِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ زَائِدَةً، أَوْ نَقَصَهَا إِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ نَاقِصَةً، لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَتَسَاوَى صِفَاتُهَا، وَصِفَاتُ جَمِيعِ نِسَاءِ عَصَبَتِهَا فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ اعْتِبَارِ مَا اخْتَلَفْنَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُقَالُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ لَا يُرَادُ بِهَا حَمْدٌ وَلَا ذَمٌّ كَمَا يُقَالُ مَا أَشْجَعَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ وَكَالَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَارَةَ زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ بُشِّرَتْ بِالْوَلَدِ {قَالَتْ يَا وَيْلَتِي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) {هود: 72) وَهِيَ لَا تَدْعُو بِالْوَيْلِ عِنْدَ الْبُشْرَى وَلَكِنْ كَلِمَةٌ مَأْلُوفَةٌ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يُعَجَّلُ مِنْ فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ أَوْصَافُهَا الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَهْرُ مِنْ يَسَارِ عَصَبَتِهَا وَكَانَتْ مُهُورُهُنَّ مُقَدَّرَةً صَارَ مَهْرُ مِثْلِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَإِنْ خَالَفَتْهُنَّ فِي إِحْدَى الصِّفَاتِ أَشْهَدَ الْحَاكِمُ. الْقَوْلُ فِي شَرَائِطِ اعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَأَجْعَلُهُ نَقْدًا كُلَّهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقِيمَةِ لَا يَكُونُ بدينٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. فِي الْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ اعْتِبَارِ تِلْكَ الأوصاف شرطان: أحدهما: أن يكون عن نُقُودِ الْأَثْمَانِ، وَالْقِيَمِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، لِأَنَّ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهَا، وَمَهْرُ الْمِثْلِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَهْرُ نِسَاءِ عَصَبَتِهَا إِبِلًا أَوْ عَبِيدًا، أَوْ ثِيَابًا قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ، وَحَكَمَ لَهَا بِقِيمَةِ الْإِبِلِ، أَوِ الْعَبِيدِ، أَوِ الثِّيَابِ مِنْ أَغْلَبِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ فِي أَثْمَانِ الْإِبِلِ، وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمُهُورِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إِلَّا حَالًّا، وَإِنْ كَانَ نِسَاءُ عَصَبَتِهَا يُنْكَحْنَ بِمُهُورٍ مُؤَجَّلَةٍ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ لَا يَتَأَجَّلُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةً، وَهِيَ قِيمَةُ مُتْلَفٍ؟ . قِيلَ: لَيْسَتِ الدِّيَةُ قِيمَةً لِكَوْنِهَا مُقَدَّرَةً. وَالْقِيمَةُ لَا تَتَقَدَّرُ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةً لَجَازَ أَنْ تُخَالِفَ أَحْكَامَ الْقِيَمِ فِي التَّأْجِيلِ، كَمَا خَالَفَتْهَا فِي وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُتْلِفِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُتْلِفِ. وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا نَقْدًا حَالًّا وَكَانَتْ مُهُورُهُنَّ مُؤَجَّلَةً نُظِرَ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 فَإِنْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ هُوَ وَقْتَ الْمُؤَجَّلِ سَاوَى بَيْنَ الْقَدْرَيْنِ، وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ بِالتَّعْجِيلِ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِ تِلْكَ الْمُهُورِ نَقَصَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالتَّعْجِيلِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نسبٌ فَمَهْرُ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهَا شَبَهًا فِيمَا وَصَفْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا مُعْتَبَرٌ بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا، فَإِذَا وُجِدْنَ وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُنَّ إِلَى نِسَاءِ الْأُمِّ. فَإِنْ عَدِمَ نِسَاءَ الْعَصَبَاتِ اعْتَبَرَ بَعْدَهُنَّ لِلضَّرُورَةِ نِسَاءَ الْأُمِّ، لِأَنَّهُنَّ أَقْرَبُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْأَجَانِبِ. فَنَبْدَأُ بِاعْتِبَارِ الأم، ث بَنَاتِهَا، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ، ثُمَّ بِأُمِّهَا، وَهِيَ الْجَدَّةُ مِنَ الْأُمِّ. فَإِنِ اجْتَمَعَ جَدَّتَانِ أُمُّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمٍّ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اعْتِبَارَهَا بِأُمِّ الْأَبِ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ التَّعْصِيبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّ الْأُمِّ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّعْصِبَةَ فِيهَا مُحَقَّقَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. ثُمَّ بَعْدَ الْجَدَّاتِ الْخَالَاتُ، ثُمَّ بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَنَاتُ الْأَخْوَالِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَإِذَا عَدِمَ جَمِيعَ الْقَرَابَاتِ، فَنِسَاءُ بَلَدِهَا، لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا عُدِمْنَ فَأَقْرَبُ الْبِلَادِ ببلدها. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ نِسَاؤُهَا إِذَا نُكِحْنَ فِي عَشَائِرِهِنِّ خُفِّفْنَ خُفِّفَتْ فِي عَشِيرَتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أن العادات في مهر المثل معتبرة فربما جَرَتْ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا إِذَا نُكِحْنَ فِي عَشَائِرِهِنَّ خَفَّفْنَ الْمُهُورَ، وَإِذَا نُكِحْنَ فِي غَيْرِ عَشَائِرِهِنَّ ثَقَّلْنَ الْمُهُورَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ عَادَاتِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي تُشَرِّفُ عَلَى غَيْرِهَا. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَانَ الزَّوْجُ مِنْ عَشِيرَتِهَا خُفِّفَ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِهَا ثُقِّلَ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَرُبَّمَا كَانَتْ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا، إِذَا نكحن في عشائرهن، ثقلن المهور وإذا أنحكن فِي غَيْرِ عَشَائِرِهِنَّ خَفَّفْنَ الْمُهُورَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ عَادَاتِ الْقَبِيلَةِ الدَّنِيئَةِ، الَّتِي غَيْرُهَا أَشْرَفُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ الزَّوْجُ مِنْ عَشِيرَتِهَا، ثُقِّلَ مَهْرُهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِهَا خُفِّفَ مَهْرُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كُنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ مَهْرَ الْمِثْلِ بِقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيَمِ حَالُ التَّالِفِ، لَا حَالُ الْمُتْلِفِ، فَكَيْفَ اعْتَبَرْتُمْ هَاهُنَا حَالَ الْمُتْلِفِ وَحَالَ التَّالِفِ؟ . قِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالتَّالِفِ وَالْمُتْلِفِ، وَلَيْسَ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إِلَّا أَثْمَانُهَا بِالْعُقُودِ وَقِيَمُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ. وَعَلَى هَذَا: إِذَا كَانَ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا أَنْ يُخَفِّفْنَ الْمُهُورَ فِي نِكَاحِ الشَّبَابِ وَيُثَقِّلْنَ الْمُهُورَ فِي نِكَاحِ الشُّيُوخِ، رُوعِيَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 باب الاختلاف في المهر من كتاب الصداق اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ، أَوْ جِنْسِ، أَوْ صفة المهر المسمى. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ تَحَالَفَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَبَدَأْتُ بِالرَّجُلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي صِفَتِهِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، أَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى دَرَاهِمَ، وَقَالَتْ: بَلْ عَلَى دَنَانِيرَ، أَوْ قَالَ: عَلَى صَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ، فَقَالَتْ: بَلْ حَالٍّ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَيَتَحَالَفُ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ، إِلَّا أَنْ تَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَ الزَّوْجِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَحَالَفَا. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافَ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا، قَوْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ: تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفٍ، وَمَا تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفَيْنِ. وَالزَّوْجَةَ تَقُولُ: تَزَوَّجْتَنِي بِأَلْفَيْنِ، وَمَا تَزَوَّجْتَنِي بألف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَسَاوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَتَحَالَفَا، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ تَدَاعَيَا دَارًا هِيَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِيهَا وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ تَحَالَفَا، كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا. فَصْلٌ فَإِذَا ثبت تحالف الزوجين فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْحُقُوقِ لَا يَسْتَوْفِيهَا إِلَّا الْحَاكِمُ، فَإِذَا حَضَرَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: بَدَأَ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ. وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ: إِنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ، وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالزَّوْجُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ " فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّهِمَا شَاءَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ وَالْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ، وَالزَّوْجَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي الْبُيُوعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي الصَّدَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّ الزَّوْجَيْنِ شَاءَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّ الزَّوْجَيْنِ شَاءَ، وَأَيِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ شَاءَ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ وَأَنَّهُ يَبْدَأُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ وَفِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ جَنْبَةَ الْبَائِعِ أَقْوَى، لِعَوْدِ السِّلْعَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ التَّحَالُفِ، فَبَدَأَ بِإِحْلَافِهِ، وَجَنْبَةَ الزَّوْجِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْبُضْعَ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فَبَدَأَ بِأَحْلَافِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ تَحَالُفُهُمَا، وَمَنْ بَدَأَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِهِ مِنْهُمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً، أَوْ يَمِينَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً تَجْمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُصَرَّحُ فِيهَا بِالِابْتِدَاءِ بِالنَّفْيِ. ثُمَّ بِالْإِثْبَاتِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، وقد تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. ثُمَّ تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ فَتَقُولُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَلَقَدْ تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُصَرِّحُ بِالنَّفْيِ وَيُصَرِّحُ بِالْإِثْبَاتِ الدَّالِّ عَلَى النَّفْيِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ إِلَّا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي إِلَّا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْجَزُ وَاللَّفْظُ فِيهِ أَخَصُّ. فَهَذَا إِذَا قِيلَ يُحَلِّفُهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحَلِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ، يَمِينًا لِلنَّفْيِ، ثُمَّ يَمِينًا لِلْإِثْبَاتِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، فَيَبْدَأُ بِيَمِينِ النَّفْيِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ. وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. ثُمَّ يُحَلِّفُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَمِينَ الْإِثْبَاتِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ. فَصْلٌ: الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ فَإِذَا تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا بَطَلَ الصَّدَاقُ، لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَلْفًا بِيَمِينِ الزَّوْجِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَلْفَيْنِ بِيَمِينِ الزَّوْجَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، لِلْجَهْلِ بِهِ، كَذَلِكَ إِذَا تَحَالَفَا. وَهَلْ يَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ، ثُمَّ إِذَا بَطَلَ الصَّدَاقُ لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ النِّكَاحُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. فَإِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ إِذَا سَقَطَ مِنَ النِّكَاحِ صَارَ نِكَاحًا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ صَحَّ النِّكَاحُ. فَكَذَلِكَ إِذَا نَكَحَهَا عَلَى صَدَاقٍ فَاسِدٍ، وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ تَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بَعْدَ التَّحَالُفِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ، وَالنِّكَاحَ يَصِحُّ بِغَيْرِ صداق فلم يبطل ببطلان الصداق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 فَصْلٌ: أَثَرُ بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِتَحَالُفِهِمَا حُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعَقْدِ مُسْتَهْلِكًا لِبُضْعِهَا فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ بَعْدَ التَّحَالُفِ إِذَا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ غُرْمُ قِيمَتِهَا، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَالَ أبو علي بن خيران: بحكم لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُحْكَمُ لَهَا إِذَا كان أكثر مما ادعت إِلَّا بِقَدْرِ مَا ادَّعَتْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُدَّعِيَةٍ لِلزِّيَادَةِ فَلَمْ يُحْكَمْ لَهَا بِمَا لَا تَدَّعِيهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَاهَا كَانَتْ لِمُسَمًّى فِي عَقْدٍ وَقَدْ بَطَلَ بِالتَّحَالُفِ، وَهَذَا قِيمَةُ مُتْلَفٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ حُكْمُ الدَّعْوَى فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ نَقَصَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالزِّيَادَةِ، وَجَبَ إِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ أَنْ يَحْكُمَ لَهَا به وإن كانت غير مدعية للزيادة. والله أعلم مسألة قال الشافعي: " وَهَكَذَا الزَّوْجُ وَأَبُو الصَبِيَّةِ الْبِكْرِ وَوَرَثَةُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. وَالثَّانِيَةُ: فِي اخْتِلَافِ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ. فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ اخْتِلَافُ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ جَائِزَةَ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْوَلِيِّ فِي تَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ عَصَبَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بِكْرًا أَوْ ثيباُ. فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُصَدِّقَةً لِزَوْجِهَا عَلَى قَدْرِ الصَّدَاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُخَالِفَةً لِزَوْجِهَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ، وَكَانَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ صَغِيرَةً، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا. فَإِذَا اخْتَلَفَ الْأَبُ وَالزَّوْجُ فِي قَدْرِ صَدَاقِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ الْأَبُ هُوَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَا يُقِرُّ بِهِ الزَّوْجُ أَقَلَّ، فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَبِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ الْأَبُ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَهَاهُنَا يَكُونُ التَّحَالُفُ، وَإِذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَةِ وَقْتَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّحَالُفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِ الصِّغَرِ، أَوْ قَدْ بَلَغَتْ. فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً حَلَفَ الزَّوْجُ، وَهَلْ يُحَالِفُهُ الْأَبُ أَوْ تَكُونُ الْيَمِينُ مَوْقُوفَةً عَلَى بلوغ الزوج عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا حَلَفَ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، وَوَقَفَتِ الْيَمِينُ عَلَى بُلُوغِ الزَّوْجَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِإِثْبَاتِ حَقِّ الْحَالِفِ، أَوْ دَفْعِ مُطَالَبَةٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَأَبُو الصَّبِيَّةِ " يَعْنِي فِي أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا قَدَّمَ الْحَاكِمُ الزَّوْجَ فِي إِحْلَافِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الزَّوْجِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ جَازَ إِحْلَافُهُ فِيهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَالَفَ الْأَبُ الزَّوْجَ حُكِمَ لِلزَّوْجَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ نَكَلَ الْأَبُ عَنِ الْيَمِينِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِنُكُولِهِ وَيُقْضَى بِالْمَهْرِ الذي اعترف به الزوج إذا كان ي قدر مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ مَنْ حُكِمَ بِيَمِينِهِ إِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِنُكُولِهِ إِذَا نَكَلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِنُكُولِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَتَوَقُّفِ الْيَمِينِ عَلَى بُلُوغِهَا لِجَوَازِ أَنْ يُثْبِتَ بِيَمِينِهَا مَا لَا يُثْبِتُهُ الْوَلِيُّ فَيُحْكَمُ لَهَا بِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَقْتَ التَّحَالُفِ بَالِغَةً؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَالِفَ الزَّوْجَ فِي حَالِ صِغَرِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يُحَالِفَهَا فِي حَالِ كِبَرِهَا. وَإِذَا قِيلَ: لَهُ مُحَالَفَةُ الزَّوْجِ فِي حَالِ صِغَرِهَا فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِمُحَالَفَةِ الزَّوْجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: مِنِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْوَجْهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَبَ الْمُبَاشِرَ لِلْعَقْدِ هُوَ الْمُحَالِفُ لِلزَّوْجِ لِفَضْلِ مُبَاشَرَتِهِ وَتَعْلِيلًا بِقَبُولِ اعْتِرَافِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمَالِكَةَ هِيَ الْمُحَالِفَةُ لِلزَّوْجِ دُونَ الْأَبِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمِلْكِ وَتَعْلِيلًا بِأَنَّ الْأَبَ نَائِبٌ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا: لَوِ امْتَنَعَ الْأَبُ مِنَ الْيَمِينِ جَازَ لَهَا مُحَالَفَةُ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ: هَلْ يَجُوزُ مَعَ بُلُوغِهَا أَنْ يَحْلِفَ الْأَبُ؟ . فَصْلٌ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتِلَافُ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ اخْتِلَافُ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا طَالَتْ صُحْبَةُ الزَّوْجَيْنِ وَحَسُنَتْ عِشْرَتُهُمَا وَذَهَبَتْ عَشِيرَتُهُمَا ثُمَّ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِصَدَاقِهَا، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِنْ أصحابه. وعلى مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء لوراثها مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِصَدَاقِهَا وَإِنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُمَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُطَالَبَتُهُ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ، جَازَتْ مَعَ بُعْدِهَا كَالدَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ، جَازَ لِوَارِثِهَا مُطَالَبَتُهُ، كَالْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ. فَلِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّدَاقَ بَاقٍ، وَأَنَّ لِلْوَارِثِ مُطَالَبَةَ الزَّوْجِ بِهِ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَقَامَ مَقَامَهُ فِي التَّحَالُفِ فَعَلَى هَذَا إِنْ تَحَالَفَ وَارِثَا الزَّوْجَيْنِ حَلِفَا كَتَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ يَمِينَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا، وَيَمِينَ الْوَارِثِينَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فِي النَّفْيِ، وَعَلَى الْقَطْعِ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْقَطْعِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ وَعَلَى الْقَطْعِ فِي إِثْبَاتِهِ. فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ وَارِثُ الزَّوْجِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 وَيَقُولُ وَارِثُ الزَّوْجَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَمَاعَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَمْ يَنُبْ أَحَدُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ فِيهَا، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ أَجْرَى عَلَى الْحَالِفِ حُكْمَهُ وَعَلَى النَّاكِلِ حُكْمَهُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ الْآخَرُ بَاقِيًا تَحَالَفَ الْبَاقِي مِنْهُمَا وَوَارِثُ الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ يَمِينُ الْبَاقِي عَلَى الْقَطْعِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَيَمِينُ الْوَارِثِ عَلَى الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ، وَعَلَى الْقَطْعِ فِي إِثْبَاتِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَهْرِ بَيْنَ أَبَوَيِ الزَّوْجَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ فَإِنْ حُكِمَ بِالصَّدَاقِ فِي مَالِ الزَّوْجِ إِمَّا لِيَسَارِهِ وَإِمَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي إِعْسَارِهِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَبِ الزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَبَطَلَ التَّحَالُفُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ أَبَا الزَّوْجِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، وَأَبَا الزَّوْجَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ. وَإِنْ حُكِمَ بِالصَّدَاقِ عَلَى أَبِي الزَّوْجِ جَازَ التَّحَالُفُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ على ابْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا لِأَبِي الزَّوْجِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ صِغَرِ ابْنِهِ وَمَعَ كِبَرِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِأَبِي الزَّوْجَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ صِغَرِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَصْلٌ وَإِذَا اخْتَلَفَ زَوْجُ الْأَمَةِ وَسَيِّدُهَا فِي قَدْرِ صَدَاقِهَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً كَانَتْ هِيَ الْمُحَالِفَةَ دُونَ السَّيِّدِ، لِأَنَّ مَهْرَ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا، وَمَهْرَ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِسَيِّدِهَا. الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ الْمَهْرِ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَا قَبَضَتْ مَهْرَهَا لِأَنَّهُ حقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِإِقْرَارِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ وَمَنْ إِلَيْهِ الْحَقُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قبض الْمَهْرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَدْرِهِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَقْبَضْتُكِ مَهْرَكِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ أَقْبِضْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ الزِّفَافِ أَوْ بَعْدَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الزِّفَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزِّفَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِدْلَالًا بِالْعُرْفِ أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ نَفْسَهَا غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَهْرِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالزِّفَافِ مَعَ الزَّوْجِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَالزِّفَافِ مَعَ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ فَكُلِّفَ الْبَيِّنَةَ، وَالزَّوْجَةُ مُنْكِرَةٌ فَكُلِّفَتِ الْيَمِينَ، وَلِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ كَالدُّيُونِ. فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالْعَادَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، ثُمَّ لَوِ اتَّفَقَتْ لَمَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ إِذَا ادَّعَى دَفْعَ ثَمَنِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ السِّلْعَةَ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ. وَلَوِ ادَّعَى الرَّاهِنُ قَضَاءَ الدَّيْنِ بَعْدَ رَدِّ الرَّهْنِ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُرَدُّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ، كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ. إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نَوْعِ الْمَدْفُوعِ مَهْرٍ أَوْ هدية؟ مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّذِي قَبَضْتُ هديةٌ وَقَالَ بَلْ هُوَ مهرٌ فَقَدْ أَقَرَّتْ بمالٍ وَادَّعَتْ مِلْكَهَ فَالْقَوْلُ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا دَفَعَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا مَالًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَخَذْتُهُ هِبَةً وَصَدَاقِي بَاقٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ دَفَعْتُهُ صَدَاقًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَاقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُهَادَاةِ الزَّوْجِ بِمِثْلِهِ أَمْ لَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَهْدِيَهُ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالْمَقْنَعَةِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمَهْرِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُتَمَلَّكُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِالدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهَا لَوِ ادَّعَتْ هِبَةَ ذَلِكَ وَقَدْ قَبَضَتْ مَهْرَهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنَ الْعُرْفِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهُ صَرَّحَ لَهَا بِالْهِبَةِ كَانَ لَهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 إِحْلَافُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهَا، وَحُكِمَ لَهَا إِنْ حَلَفَتْ. وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ أَنَّهُ صَرَّحَ لَهَا بِالْهِبَةِ، بَلْ قَالَتْ: نَوَاهَا وَأَرَادَهَا وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ بِالنِّيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ يَمِينٌ فِي دَعْوَى هِبَةٍ فَاسِدَةٍ. فَإِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ: لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا أَقْبَضَهَا مِنْ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهَا دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِضَامِنِ صَدَاقِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهَا دَنَانِيرَ فَتَكُونُ الدَّنَانِيرُ لَهُ وَالصَّدَاقُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهَا أَخَذَتِ الدَّنَانِيرَ بَدَلًا مِنْ صَدَاقِهَا، فَإِنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهَا أَحْلَفَهَا. القول مَنْ أَبْرَأُ لِلزَّوْجِ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا دَفَعَهُ لولي الزوجة؟ مسألة قال الشافعي: " وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ الْمَهْرِ إِلَى أَبِي الْبِكْرِ صَغِيرَةً كانت أو كبيرةً التي يلي أبوها بعضها وَمَالَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَبَ إِذَا قَبَضَ مَهْرَ ابْنَتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْلًى عَلَيْهَا أَوْ رَشِيدَةً. فَإِنْ كَانَ مَوْلًى عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ: جَازَ لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا، لِاسْتِحْقَاقِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى مَالِهَا، وَلَوْ قَبَضَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ الْأَبُ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهَا، فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً عَاقِلَةً رَشِيدَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا لَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لِلْأَبِ قَبْضُ مَهْرِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، فَإِنْ قَبَضَهُ بغير إذنها لم يبر الزوج منه، كما لو قبض لا دَيْنًا أَوْ ثَمَنًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بكراً بجبرها أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قبض مهرها إلا بإذنها، فإن قبضه بغير إذن لم يبر الزَّوْجُ مِنْهُ، وَجَعَلَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَبْضَ مَهْرِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِجْبَارَهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالصَّغِيرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا مَا لَمْ تَنْهَهُ عَنْهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ صَدَاقَهَا دَيْنٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ الْأَبُ بِقَبْضِهِ مَعَ رُشْدِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَ دَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا كَغَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْقَبْضَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمَا أَثَّرَ فِيهِ النَّهْيُ كَحَالِهِ مَعَ الصَّغِيرَةِ، وَإِذَا أَثَّرَ فِيهِ النَّهْيُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْوَكِيلِ، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 الشرط في المهر من كتاب الصداق ومن كتاب الطلاق، ومن الإملاء على مسائل مالكٍ إذا أصدقها ألفاُ على أن لأبيها ألفاً قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بألفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا فَالْمَهْرُ فاسدٌ لأن الألف ليس بمهرٍ لها ولا يحق لَهُ بِاشْتِرَاطِهِ إِيَّاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا تزوجا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى الْأَبِ، وَيَبْطُلُ بِهِ الصَّدَاقُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّدَاقُ صَحِيحٌ عَلَى أَلْفٍ، وَالشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْأَبِ، وَعَلَى الزَّوْجِ لَهُ أَلْفٌ بِالشَّرْطِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَبِ، وَيَصِيرُ الْأَلْفَانِ مَعًا صَدَاقًا لِلزَّوْجَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَالِكٍ فِي بُطْلَانِ الشَّرْطِ أَنَّ شُرُوطَ الْعُقُودِ مَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ أَوِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لَهُ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ أَجْنَبِيٌّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتَادَةَ فِي أَنَّ مَا شَرَطَهُ الْأَبُ لَا يَصِيرُ صَدَاقًا لِلزَّوْجَةِ: هُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُجْعَلْ صَدَاقًا مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ صَدَاقًا مُسَمًّى كَالْمَشْرُوطِ لِغَيْرِ الْأَبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا شَرَطَهُ لِلْأَبِ، زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ لَكَانَ مَا شَرَطَ عَلَى الْأَبِ نُقْصَانًا مِنَ الصَّدَاقِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرْطِ عَلَيْهِ، فبطل في الشرط له. فصل: هل يبطل النكاح ببطلان الصداق؟ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَبِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ " قَتَادَةُ "، وَبَاطِلٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ " مَالِكٌ "، كَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا، لِأَنَّ لِلشَّرْطِ تَأْثِيرًا فِي النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَقَدْرُهُ مَجْهُولٌ، فَأَفْضَى إِلَى جَهَالَةِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا صَارَ الصَّدَاقُ مَجْهُولًا بَطَلَ، وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَاسِدًا. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً عَلَى ألفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا كَانَ جَائِزًا وَلَهَا مَنْعُهُ وأخذها منه لأنها هبةٌ ل تقبض أو وكالةٌ ". وقال الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى صُورَةِ التي قبلها خالف بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا كَانَ جائزاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 وقال في الأولى: ولو عقد نكاحا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا فَالْمَهْرُ فَاسِدٌ. وَهُمَا فِي الصُّورَةِ سَوَاءٌ، وَفِي الْجَوَابِ مُخْتَلِفَانِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَسْطُورٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا مِنْهَا، أَوْ تُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُعْطِيَةَ لِلْأَلْفِ فَهِيَ هِبَةٌ لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُعْطِيَ لِلْأَلْفِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ هِبَةً لِلْأَبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ وَكَالَةً يَتَوَلَّى قَبْضَهَا الْأَبُ فَيَكُونُ الصَّدَاقُ جَائِزًا، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَلْفَيْنِ صَدَاقٌ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ عَلَيْهَا، وَلَا اشْتَرَطَ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي زِيَادَةِ الصَّدَاقِ وَلَا نُقْصَانِهِ، فَسَلِمَ مِنَ الْجَهَالَةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ. فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فَخَطَأٌ، وَجَوَابُهُ كَجَوَابِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الصُّورَةِ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، وَمَحْمُولُ الْجَوَابِ عَلَى مَا صَوَّرُوهُ، لأن في لفظ ال مسألة دليل عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَهُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا، وَقَالَ فِي الْأُولَى: وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحَهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا. فَجَعَلَ لِأَبِيهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْضَ الْأَلْفِ، وَجَعَلَ لِأَبِيهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِلْكَ الْأَلْفِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَدَاقٌ لِلزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ، وَفِي الْأُولَى إِحْدَاهُمَا صَدَاقٌ لَهَا وَالْأُخْرَى لِلْأَبِ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ. ثُمَّ يُوَضِّحُ أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، مَا ذَكَرَهُ فِي الْحُكْمِ وَبَيَّنَهُ مِنَ التعليل، لأنه قال: ولما مَنْعُهُ وَأَخْذُهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ، وَلَا لَهَا أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَ صَدَاقِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَيْنِ كَانَتْ صَدَاقًا لَهَا، ثُمَّ بَيَّنَ فِي التَّعْلِيلِ فَقَالَ: لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ، أَوْ وَكَالَةٌ لَمْ تَتِمَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنْ تَهَبَ هِيَ مِنَ الْأَلْفَيْنِ أَلْفًا لِأَبِيهَا، أَوْ تُوَكِّلَهُ فِي قَبْضِهَا فَكَانَتْ عَلَى خِيَارِهَا فِي أَنْ تُتَمِّمَ الْهِبَةَ بِالْقَبْضِ أَوْ تَرْجِعَ فِيهَا، أَوْ تُتَمِّمَ الْوَكَالَةَ أَوْ تُبْطِلَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ يُرِيدُ بِهَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ: وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا وَأُمَّهَا أَلْفًا كَانَ الْكُلُّ لِلزَّوْجَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكُلُّ لَهَا إِذَا كَانَ الْكُلُّ صَدَاقًا تَكُونُ لَهَا بِالتَّسْمِيَةِ لَا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ. فَصْلٌ: فِي الشروط التي تدخل النكاح مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفًا عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تخرج أو على أن لا يخرجها من بلدها أو على أن لا يَنْكِحَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ مَنْعَ مَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَهَا مَهْرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 مثلها في ذلك كله فإن كان قد زادها على مهر مثلها وزادها الشرط أبطلت الشرط ولم أجعل لها الزيادة لفساد عقد المهر بالشرط ألا ترى لو اشترى عبداً بمائة دينار وزق خمرٍ فمات العبد في يد المشتري ورضي البائع أن يأخذ المائة ويبطل الزق الخمر لم يكن له ذلك لأن الثمن انعقد بما لا يجوز فبطل وكانت له قيمة العبد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي النِّكَاحِ ضَرْبَانِ: جَائِزٌ، وَمَحْظُورٌ. فَأَمَّا الْجَائِزُ: فَمَا وَافَقَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِذَا شَاءَ، أَوْ أَنْ تَشْتَرِطَ هي عليه، أو يُوَفِّيَهَا صَدَاقَهَا، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ مِثْلِهَا، أَوْ يَقْسِمَ لَهَا مَعَ نِسَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ. فَكُلُّ هَذِهِ الشُّرُوطِ جَائِزَةٌ، وَالنِّكَاحُ مَعَهَا صَحِيحٌ، والمسمى فيه من الصداق لازم، لأن من شَرَطَهُ الزَّوْجُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ بغر شَرْطٍ فَكَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَجُوزَ مَعَ الشَّرْطِ. وَمَا شَرَطَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الشَّرْطُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَقَّ مَا وَفَّيْتُمْ بِهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ". وَأَمَّا الْمَحْظُورُ مِنْهَا: فَمَرْدُودٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ شرطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شرطٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَقْدُهُ أَوْثَقُ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ". وَالشُّرُوطُ الْمَحْظُورَةُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَبْطُلُ بِهِ النكاح. الثاني: مَا يَبْطُلُ بِهِ الصَّدَاقُ. وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ مُشْتَرِطِهِ. وَالرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تُبْطِلُ النِّكَاحَ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ فَهُوَ كُلُّ شَرْطِ رَفَعَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ. فَالنِّكَاحُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا، لِأَنَّهَا رَافِعَةٌ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ فَصَارَ النِّكَاحُ بِهَا مُقَدَّرَ الْمُدَّةِ، فَجَرَى مَجْرَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَكَانَ بَاطِلًا فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تبطل الصداق دون النكاح وأما القسم الثاني: وهو أن يُبْطِلُ الصَّدَاقَ دُونَ النِّكَاحِ: فَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ الْعَقْدِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ: فَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أن لا يَقْسِمَ لَهَا مَعَ نِسَائِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ تُخَفِّفَ عَنْهُ نَفَقَتَهَا وَكُسْوَتَهَا، أَوْ تُنْظِرَهُ بِهِمَا. وفي حكم ذلك: أن يشترط عليها أن لا تُكَلِّمَ أَبَاهَا وَلَا أَخَاهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُحَلِّلُ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمُ حَلَالًا، وَاخْتَصَّتْ بِالصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ مَوْجُودٌ مَعَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الصَّدَاقُ بِهَا، لِأَنَّهَا قَابَلَتْ مِنْهُ جُزْءًا إِذْ كَأَنَّهُ زَادَهَا فِيهِ لِأَجْلِهَا. وَإِذَا أَوْجَبَ بُطْلَانَهَا بَطَلَ مَا قَابَلَهَا مِنْهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ، صَارَ الْبَاقِي بِهَا مَجْهُولًا، فَبَطَلَ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى أَوْ أَقَلَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى لَمْ أُوجِبْ لَهَا إِلَّا الْمُسَمَّى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِهِ مَعَ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهَا فَلِأَنْ تَرْضَى بِهِ مَعَ عَدَمِ الشُّرُوطِ أَوْلَى. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْمُسَمَّى بِالْفَسَادِ إِذَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ إِلَى الْقِيمَةِ اسْتُحِقَّتْ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى كَمَنْ قَبَضَ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ عَلَى شُرُوطٍ فَاسِدَةٍ شَرَطَهَا عَلَى بَائِعِهِ ثُمَّ تَلِفَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ. فَمِثْلُ أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَسَرَّى بِالْإِمَاءِ وَأَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا مَنَعَتْهُ مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ وُجُودِ مَقْصُودِ النِّكَاحِ مَعَهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلصَّدَاقِ الْمُسَمَّى حالان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَبْطُلُ الْمُسَمَّى لِبُطْلَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي قَابَلَهَا جُزْءٌ مِنْهُ فَصَارَ بِهِ مَجْهُولًا، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ الْمُسَمَّى بِمَا قَابَلَهُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي صَارَ بِهَا مَجْهُولًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ المسمى لأن لا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا بَخْسَانِ: بَخْسٌ بِإِسْقَاطِ الشُّرُوطِ، وَبَخْسٌ بِنُقْصَانِ الْمَهْرِ. وَلِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ مَعَ مَا شَرَطَتْ إِلَّا بِزِيَادَةِ مَا سَمَّتْ فَإِذَا مُنِعَتِ الشُّرُوطَ لَمْ تُمْنَعِ الْمُسَمَّى. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُشْتَرِطِهِ، فَهُوَ مَا مَنَعَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَمِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا، فَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا قَدْ مَنَعَتْهُ مَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهَا، مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهِ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَالنِّكَاحُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ لَهُ الِامْتِنَاعَ عن وَطْئِهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْطِ مَنْعٌ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا فِي النِّكَاحِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى قَوْلِهِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطَأَهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْعِنِّينِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ أَنْ يَطَأَهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ، فَقَدْ حَكَى أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ذَلِكَ صَحَّ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ شَرَطَتِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا: فَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ لَهَا الْعَفْوَ عَنِ الْقَسْمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ بَطَلَ النِّكَاحُ إِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَصَحَّ إِنِ انْفَرَدَ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ مَعَ غَيْرِهَا وَلَا تَسْتَحِقُّهُ بِانْفِرَادِهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا سَنَةً: فَقَدْ قَالَ الرَّبِيعُ: إِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهِ صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَصَارَ الشَّرْطُ مَانِعًا مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ صَحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُخَالِعَهَا بَعْدَ شَهْرٍ. فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَفِي بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا بِالْخُلْعِ بَذْلَ مَا لَا يَلْزَمُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ، فَصَارَ عَائِدًا إِلَى الصَّدَاقِ، فَبَطَلَ بِهِ الصَّدَاقُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَهُوَ مَا رَفَعَ بدل الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ شَأْنُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ. فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا أَبَدًا. فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا إِنْ تَرَكَتْهُ جَازَ، فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِي النَّفَقَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةُ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَهَلْ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَادِحٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ فَصَارَ كَالْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، لِجَوَازِ خُلُوِّ النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ هَذَا الشَّرْطُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَاللَّهُ أعلم. الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا دَارًا وَاشْتَرَطَ لَهُ أَوْ لَهُمَا الْخِيَارَ فِيهَا كَانَ الْمَهْرُ فَاسِدًا ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 قال الماوردي: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نَاجِزًا لَا تُقْصَدُ فِيهِ الْمُغَابَنَةُ وَالْخِيَارُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمُغَابَنَةِ. فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَحَدَ الْخِيَارَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ لِمُنَافَاتِهِ لَهُ فِي اللُّزُومِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الصَّدَاقِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَبْطَلَ النِّكَاحَ لِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْخِيَارِ فِي الْبَدَلِ كَدُخُولِهِ فِي الْمُبْدَلِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ النِّكَاحَ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا فِي النِّكَاحِ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَأَجَازَ النِّكَاحَ، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا فِي الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَقْدٌ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنِ النِّكَاحِ كَمَا يَصِحُّ إِفْرَادُ النِّكَاحِ عَنْهُ فَلَمْ يُوجِبْ بُطْلَانُ الصَّدَاقِ بُطْلَانَ النِّكَاحِ. فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، فَلَا مَهْرَ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ: فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي الصَّدَاقِ والخيار لأصحابنا ثلاثة أوجه: ولم أو غَيْرَهُ يَحْكِيهِ، لِأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْتَضِيهِ. أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ بَاطِلٌ وَالصَّدَاقَ بَاطِلٌ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ دُخُولُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ امْتَنَعَ دُخُولُهُ فِي بَدَلِهِ، وَالْخِيَارُ إِذَا دَخَلَ فِيمَا يُنَافِيهِ أَبْطَلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ خِلَافُ نَصِّهِ: أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ، وَالْخِيَارَ ثَابِتٌ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ فَجَرَى حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِيَارِ فِيهِ مَجْرَاهُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِيَارَ بَاطِلٌ وَالصَّدَاقَ جَائِزٌ، لأن الصداق تبع للنكاح فيثبت ثبوته، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ بُطْلَانُ الشَّرْطِ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَهَا بِالْأَلْفِ فِي يَوْمِ كَذَا وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ، وَصَدَاقٌ بَاطِلٌ، وَشَرْطٌ بَاطِلٌ. وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ ثَابِتٌ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ في كتاب البيوع. ضَمَانُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ مِنَ الزَّوْجِ الْمِلْطِ مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " ولو ضمن نفقتها أبو الزوج عَشْرَ سِنِينَ فِي كُلِّ سنةٍ كَذَا لَمْ يَجُزْ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَأَنَّهُ مَرَّةٌ أَقَلُّ وَمَرَّةٌ أَكْثَرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا كان الزوج ملطاً بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَضَمِنَهَا عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ غَيْرُ أَبِيهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَسَوَاءٌ. وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ نَفَقَةَ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَهَذَا ضَمَانُ مَالٍ قَدْ وَجَبَ وَاسْتَقَرَّ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَمِنْ جِنْسٍ يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْمُدَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَتَهَا أَبَدًا، فَهَذَا ضَمَانٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْمُدَّةِ مِثْلَ أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَتَهَا عَشْرَ سِنِينَ فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ، بَنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَاذَا وَجَبَتْ. فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ كَالصَّدَاقِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَالْمُسْتَحَقِّ بِالتَّمْكِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِخِلَافِ الصداق، لأن الصداق ف مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالنَّفَقَةُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَصَارَتْ وَاجِبَةً بِالِاسْتِمْتَاعِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَانَ ضَمَانُهَا مبنياً عليهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالتَّمْكِينِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَضَمَانُهَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَقَدْ يَجِبُ بِالتَّمْكِينِ، وَقَدْ لَا يَجِبُ بَعْدَهُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا وَقَدْ وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، صَحَّ ضَمَانُهَا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ لِلْقُوتِ الَّذِي هُوَ الْحَبُّ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ بِحَسْبِ قُوتِ بَلَدِهِمْ دُونَ الْأُدْمِ وَالْكُسْوَةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُضْبَطَانِ بِصِفَةٍ وَلَا يُتَقَدَّرَانِ بِقِيمَةٍ فَإِنْ قَدَّرَهُمَا الْحَاكِمُ بِقِيمَةٍ جَعَلَهُمَا دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا أَيْضًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ قَوَّمَهَا فَهِيَ مُقَوَّمَةٌ لِوَقْتِهَا دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ تَزِيدُ الْقِيمَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ يَنْقُصُ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنَ الْقِيمَةِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ لِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ عَنِ الزَّوْجِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَهِيَ مُدٌّ وَاحِدٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ مُوسِرٍ وَهِيَ مُدَّانِ، أَوْ نَفَقَةَ مُتَوَسِّطٍ وَهِيَ مُدٌّ وَنِصْفٌ فَالزِّيَادَةُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ قَدْ تَجِبُ إِنْ أَيْسَرَ، وَقَدْ لَا تَجِبُ إِنْ أَعْسَرَ، فَصَارَ ضَمَانُهَا ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمَانُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدِّ فِي نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْمُدِّ الَّذِي هُوَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ضَمِنْتُ لَكِ مَا دَايَنْتِ بِهِ فُلَانًا أَوْ مَا وَجَبَ لَكِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا لَمْ يَكُنْ وَمَا يَجْهَلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الضَّمَانِ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ أَصْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ ضَمَانُ النَّفَقَةِ. وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ مَا وَجَبَ. وَالثَّانِي: ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ. فَأَمَّا ضَمَانُ مَا وَجَبَ فَضَرْبَانِ: مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ. فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا صَحَّ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ. وَأَمَّا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ كَقَوْلِهِ: مَنْ عَامَلَ فُلَانًا وَدَايَنَهُ فَعَلَيَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ ضَمَانٌ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ عَيَّنَ الْمُدَايِنَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ لِلدَّيْنِ قَدْرًا أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ إِنْ صَحَّ، وَمَا لَمْ يَجِبْ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ ضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ وَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ؟ . قِيلَ: الدَّرَكُ إِذَا اسْتُحِقَّ فَوُجُوبُهُ قَبْلَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَعْلُومُ الْقَدْرِ، فَصَارَ ضَمَانُهُ ضَمَانًا وَاجِبًا مَعْلُومًا. فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَصِحُّ ضَمَانٌ مَا لَمْ يَجِبْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مُقَدَّرٍ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارًا بِضَمَانِ الدَّرَكِ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْجَمْعِ وَجْهٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّرَكِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ قَبْلَ الضَّمَانِ فَصَحَّ، وَمَا تَعَامَلَ بِهِ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ الضَّمَانِ فَلَمْ يصح، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 باب عفو المهر وغير ذلك من الجامع ومن كتاب الصداق، ومن الإملاء على مسائل مالك ٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) {قَالَ) وَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الزَّوْجُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْفُو مِنْ مِلْكٍ فَجَعَلَ لَهَا مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ أَنْ تَعْفُوَ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بِأَنْ يُتِمَّ لها الصداق وبلغنا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج وهو قول شريح وسعيد بن جبيرٍ وروي عن ابن المسيب وهو قول مجاهدٍ (قال الشافعي) رحمه الله فأما أبو بكر وأبو المحجور عليه فلا يجوز عفوهما كما لا تجوز لهما هبة أموالهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 237) . وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فِي طَلَاقِ النِّسَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ أُولَى الطَّلَاقَيْنِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَارِهًا. ثُمَّ قال: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يَعْنِي: سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ صَدَاقًا: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَكُمْ تَسْتَرْجِعُونَهُ مِنْهُنَّ. وَالثَّانِي: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ غَيْرُهُ لَهُنَّ. ثُمَّ قَالَ: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا} وَهَذَا خِطَابٌ لِلزَّوْجَاتِ عَدَلَ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَزْوَاجِ إِلَيْهِنَّ وَنَدَبَهُنَّ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ عَنْ حَقِّهِنَّ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِيَكُونَ عَفْوُ الزَّوْجَةِ أَدْعَى إِلَى خِطْبَتِهَا، وَتَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فِيهَا. ثُمَّ قال: {أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ أَبُو الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ أَوْ جَدُّهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا نَدَبَ الْكَبِيرَةَ إِلَى الْعَفْوِ نَدَبَ وَلِيَّ الصَّغِيرَةِ إِلَى مِثْلِهِ، لِيَتَسَاوَيَا فِي تَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فيهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَطَاوَسٍ. وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، نَدَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ كَمَا نَدَبَهَا، لِيَكُونَ عَفْوُهُ تَرْغِيبًا لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا كَانَ عَفْوُهَا تَرْغِيبًا لِلرِّجَالِ فِيهَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى) {البقرة: 237) . وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْخِطَابِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَيَكُونُ الْعَفْوُ الْأَوَّلُ خِطَابًا لِلزَّوْجَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّانِي خِطَابًا لِلزَّوْجِ، وَالْعَفْوُ الثَّالِثُ خِطَابًا لَهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فَيَكُونُ الْعَفْوُ الْأَوَّلُ خِطَابًا لِلْكَبِيرَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّانِي خِطَابًا لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّالِثُ خِطَابًا لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: {أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمَ صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: أَقْرَبُ إِلَى اتِّقَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَدْبِهِ. ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَنْسَوْا الفَضْلَ بَيْنكُمْ} أَيْ تَفَضُّلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا نَدَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَنَبَّهَ عَلَى اسْتِعْمَالِ مِثْلِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ. فَهَذَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ. فَصْلٌ فَأَمَّا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: فَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ مِنَ الْآيَةِ بِأَرْبَعَةِ دَلَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ افْتَتَحَهَا بِخِطَابِ الْأَزْوَاجِ مُوَاجَهَةً، ثم عدل بقول: {إِلاَّ أَنْ يُعْفُونَ} إِلَى خِطَابِ الزَّوْجَاتِ كِنَايَةً، ثُمَّ أرسلَ قَوْلَهُ: {أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} خطاباً لمكني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 عَنْهُ غَيْرِ مُوَاجَهٍ، وَالْخِطَابُ إِذَا عَدَلَ بِهِ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ إِلَى الْكِنَايَةِ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ الْمُوَاجَهِ، وَالزَّوْجُ مُوَاجَهٌ فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ الْكِنَايَةُ، وَالزَّوْجَةُ قَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، وَلَفْظُ الْكِنَايَةِ مُذَكَّرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ غَيْرُ الْوَلِيِّ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، إِلَّا الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهَ إِلَى الزَّوْجِ الَّذِي لَيْسَ الْعَقْدُ إِلَيْهِ، لِيَكُونَ الْخِطَابُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَجَازٍ وَإِضْمَارٍ. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنَ النِّكَاحِ أَنْ يَمْلِكَ عَقْدَهُ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ أَنْ يَمْلِكَ الِاسْتِمْتَاعَ بَعْدَهُ، فَكَانَ حَمْلُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَلِيِّ الَّذِي يَمْلِكُ عَقْدَهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بَعْدَهُ. وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ غَارِمٌ لِلْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ تَقْبِضُهُ الْكَبِيرَةُ وَوَلِيُّ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ تَوَجُّهُ الْعَفْوِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْغُرْمِ أَوْلَى مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى مُلْتَزِمِ الْغُرْمِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَدَبَ الزَّوْجَةَ إِلَى الْعَفْوِ لِمَا تَحْظَى بِهِ مِنْ رَغْبَةِ الْأَزْوَاجِ فِيهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ مَنْدُوبًا إِلَى مِثْلِ مَا نُدِبَتْ إِلَيْهِ الْكَبِيرَةُ لِيَتَسَاوَيَا فِي عَوْدِ الْحَظِّ إِلَيْهِمَا بِتَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فِيهِمَا. فَصْلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ الْآيَةُ وَمِنْهَا خَمْسَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: قَوْله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِِِهِ عُقْدَةٌ النِّكَاحِ} وَالْعُقْدَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُنْعَقِدِ، وَمِنْهُ حَبْلٌ مَعْقُودٌ، وَعَهْدٌ مَعْقُودٌ، لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَقْدُهُ وَنَجُزَ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُمِرَ بِالْعَفْوِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يَعْفُو مَنْ مَلَكَ وَالزَّوْجُ هُوَ الْمَالِكُ دُونَ الْوَلِيِّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِالْعَفْوِ إِلَيْهِ لَا إِلَى الْوَلِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ هُوَ التَّرْكُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِذَا تَرَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَ لَمْ يَمْلِكْ، فَأَمَّا الْوَلِيُّ فَعَفْوُهُ إِمَّا أَنْ يكون هبة إن كان عيناً، أو إبراءاً إِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ حَقِيقَةُ الْعَفْوِ أَخَصَّ بِالزَّوْجِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْوَلِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ بِالْعَفْوِ إِلَى الزَّوْجِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ زَوْجٍ مُطَلِّقٍ، وَإِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْوَلِيِّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فِي بَعْضِ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا دون سائر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 515 الزَّوْجَاتِ، فَكَانَ حَمْلُ الْخِطَابِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْخُصُوصَ. وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلْتَّقْوَى} وَهَذَا الْخِطَابُ غَيْرُ مُتَوَجَّهٍ إِلَى الْوَلِيِّ، لِأَنَّ قُرْبَهُ مِنَ التَّقْوَى أَنْ يَحْفَظَ مَالَ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ: مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلِيُّ عَقْدِ النِّكَاحِ الزَّوْجُ " وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى شُرَيْحٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الزَّوْجُ. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فِهْرٍ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: خَالَفَهُمَا ابْنُ عباس. قيل: قد اختلف عَنْهُ الرِّوَايَةُ فَتَعَارَضَتَا وَثَبَتَ خِلَافُهُ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِهِ مُنْعَقِدًا. وَمِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ مُتَكَافِئَانِ فِيمَا أُمِرَا بِهِ وَنُدِبَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا نُدِبَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى الْعَفْوِ تَرْغِيبًا لِلرِّجَالِ فِيهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَنْدُوبًا إِلَى مِثْلِهِ تَرْغِيبًا لِلنِّسَاءِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْأَبُ الْعَفْوَ لَمَلَكَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَوْ مَلَكَهُ فِي الْبِكْرِ لَمَلَكَهُ فِي الثَّيِّبِ، وَلَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَلَكَهُ بَعْدَهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمَلَكَهُ قَبْلَهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ فِي الْمَهْرِ لَمَلَكَهُ فِي الدَّيْنِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْعَفْوَ عَنْ مَهْرِهَا إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَمْلِكْهُ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ طَرْدًا، وَكَالسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ عَكْسًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِهِ الْأَبُ فِي الْبِكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِإِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ. قِيلَ: قَدْ يَمْلِكُ إِجْبَارَ الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْ صَدَاقِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْعَفْوَ عَنِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَمْلِكْهُ قَبْلَهُ، كَالصَّغِيرَةِ طَرْدًا وَالْكَبِيرَةِ عَكْسًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ لِاسْتِهْلَاكِ بُضْعِهَا بِالدُّخُولِ. قِيلَ: لَا فَرْقَ فِي رَدِّ عَفْوِهِ بَيْنَ مَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ رَدِّ بَدَلٍ كَالثَّمَنِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْمِيرَاثِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 وَلِأَنَّهُ مَالٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَنْهُ كَالثَّمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا عَفَا عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ أَفَادَهَا إِيَّاهُ. قِيلَ: لَوِ اتَّجَرَ لَهَا بِمَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ رِبْحِهِ وَإِنْ أَفَادَهَا إِيَّاهُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ صَحَّ عَفْوُهُ، بِاجْتِمَاعِ خَمْسَةِ شَرَائِطَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا مِمَّنْ يَلِي عَلَى بُضْعِهَا وَمَالِهَا، فَإِنْ عَفَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعَصَبَاتِ لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِكْرًا يَصِحُّ إِجْبَارُ الْأَبِ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تكون صغيرة تبتت الْوَلَايَةُ عَلَى مَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَمْلِكُ النَّظَرَ فِي مَالِهَا لَمْ يَصِحَّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَفْوُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الَّذِي تَمْلِكُ بِهِ نَفْسَهَا، فَإِنْ عَفَا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ. وَالْخَامِسُ: أن يكون الطلاق قبل الدخول، لأن لا يُسْتَهْلَكَ عَلَيْهَا بُضْعُهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَصِحَّ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ صَحَّ حِينَئِذٍ عَفْوُهُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ الزَّوْجُ صَحَّ عَفْوُهُ، لِجَوَازِ أَمْرِهِ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالرُّشْدِ. فَأَمَّا الصَّغِيرُ: فَلَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَتَبِينُ مِنْهُ بِالرِّدَّةِ أَوْ بِالرَّضَاعِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ جَمِيعُ صَدَاقِهَا إِلَيْهِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا لَا غَيْرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ، فَيَكُونُ فِي وُقُوعِهِ كَالْحُرِّ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا. وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ وَبِرِدَّتِهَا فَلَا يَصِحُّ عَفْوُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَيَصِحُّ عَفْوُ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَأَمَّا عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَفْوُ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَلِيَّ الزَّوْجَةِ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَهَا الصَّدَاقَ بِعَقْدِهِ، فَصَحَّ مِنْهُ إِسْقَاطُهُ بِعَقْدِهِ، وَوَلِيَّ الزَّوْجِ مَا أَكْسَبَهُ مَا عَادَ مِنَ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا عَادَ مِنَ الزَّوْجِ قَدْ كَانَ مَالَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَصَدَاقُ الزَّوْجَةِ مِلْكٌ مُسْتَفَادٌ فَصَحَّ عَفْوُهُ بَعْدَ استحقاقه، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَأَيُّ الزَّوْجَيْنِ عَفَا عَمَّا فِي يَدَيْهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الدَفْعِ أَوِ الرَّدُّ وَالتَّمَامُ أَفْضَلُ ". قال الماوردي: وهذا كما قال. إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ الرَّشِيدُ زَوْجَتَهُ الرَّشِيدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ تُنُصِّفَ الصَّدَاقُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لَهَا نِصْفُهُ بِالْعَقْدِ، وَصَارَ لِلزَّوْجِ نِصْفُهُ، وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا لِنِصْفِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِنِصْفِهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ. فَإِنْ لَمْ يَعْفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ حَقِّهِ تَقَاسَمَاهُ عَيْنًا كَانَ أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ عَفَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ. - إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْدَقَهَا مَالًا فِي الذِّمَّةِ. - أَوْ أَصْدَقَهَا عَيْنًا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَصَارَ غُرْمُهَا فِي الذِّمَّةِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ. - فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزوجة، فعفوها يكون إبراءاً مَحْضًا، وَيَصِحُّ بِأَحَدِ سِتَّةِ أَلْفَاظٍ: إِمَّا أَنْ تَقُولَ: قَدْ عَفَوْتُ، أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُ، أَوْ قَدْ تَرَكْتُ، أَوْ قَدْ أَسْقَطْتُ، أَوْ قَدْ مَلَّكْتُ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ. فَبِأَيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ أَبْرَأَتْهُ صَحَّ وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى قَبُولِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ رَجَاءٍ الْبَصْرِيُّ: الْإِبْرَاءُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ كَالْهِبَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِسْقَاطُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَفْوٌ فَأَشْبَهَ الْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ: فَعَفْوُهُ هِبَةٌ مَحْضَةٌ لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ إِلَّا بِإِحْدَى لَفْظَيْنِ: إِمَّا الْهِبَةِ وَإِمَّا التَّمْلِيكِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِبَذْلِ الزَّوْجِ، وَقَبُولِ الزَّوْجَةِ، وَقَبْضٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ إِلَى الزَّوْجَةِ أَوْ وَكِيلِهَا فِيهِ. فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الدَّفْعِ. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَسْتَهْلِكَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَصِيرُ نِصْفُهُ الْمُسْتَحَقُّ: بِالطَّلَاقِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، مِلْكًا لِلزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْعَافِي مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ: - فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ، تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ إِبْرَاءً مَحْضًا يَصِحُّ بِأَحَدِ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ: إِمَّا بِالْعَفْوِ، أَوْ بِالْإِبْرَاءِ، أَوْ بِالتَّرْكِ، أَوِ الْإِسْقَاطِ، أَوِ التَّمْلِيكِ، أَوِ الْهِبَةِ، وَفِي اعْتِبَارِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ إِبْطَالًا لِتَمَلُّكِ الصَّدَاقِ، فَيَصِحُّ بِالْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْإِبْرَاءُ، أَوْ يَصِحُّ بِزِيَادَةِ لَفْظَتَيْنِ وَهُمَا: الْإِحْلَالُ، وَالْإِبَاحَةُ، فَيَصِيرُ عَفْوُهُ بِأَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَلْفَاظٍ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، كَمَا لَا يَفْتَقِرُ الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ إِلَى قَبُولٍ. - وَإِنْ كَانَ الْعَافِي مِنْهُمَا هِيَ الزَّوْجَةَ، فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ تَصِحُّ بِإِحْدَى لَفْظَيْنِ: إِمَّا الْهِبَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ. فَإِنْ عَفَا الزَّوْجَانِ جَمِيعًا نُظِرَ. - فَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ غُلِّبَ عَفْوُ الزَّوْجَةِ عَلَى عَفْوِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ عَفْوَ الزَّوْجَةِ إِبْرَاءٌ وَعَفْوَ الزَّوْجِ هِبَةٌ. - وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ غُلِّبَ عَفْوُ الزَّوْجِ عَلَى عَفْوِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ عَفْوَ الزَّوْجِ إِبْرَاءٌ، وَعَفْوَ الزَّوْجَةِ هِبَةٌ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا قَائِمَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 - فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزَّوْجَةَ فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ لِنِصْفِ عَيْنٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ: الْهِبَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ الْبَذْلُ، وَالْقَبُولُ، وَالْقَبْضُ، وَأَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِمَا بَعْدَهُ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجَةِ لَهُ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ فِي قَبْضِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ مِلْكًا لَهَا فَلَمْ يَزُلْ حُكْمُ يَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهَا. - وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ: تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ هِبَةً مَحْضَةً لِمُشَاعٍ فِي يَدِهِ، فَيَصِحُّ بِإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ إِمَّا بِالْهِبَةِ، أَوْ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِيهِ، فَيَصِحُّ بِإِحْدَى ثَمَانِيَةِ أَلْفَاظٍ مَضَتْ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا. فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ. فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزَّوْجَةَ: فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ لِمُشَاعٍ فِي يَدِهَا فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ، وَلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ الرُّجُوعُ. وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ هِبَةً مَحْضَةً لِمُشَاعٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَأَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْقَبْضِ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْإِذْنِ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ إِسْقَاطًا يَصِحُّ بِأَحَدِ الْأَلْفَاظِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا. - فَإِنْ عَفَا الزَّوْجَانِ مَعًا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الزَّوْجَةِ بِحَالٍ، لِأَنَّ عَفْوَهَا هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ الزَّوْجِ إِنْ جَعَلْنَاهُ وَاهِبًا لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَبُولِ، وَيَصِحُّ عَفْوُهُ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُسْقِطًا، لِأَنَّ عفوه لا يفتقر إلى قبول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 لو وهبت الزوجة صداقها لزوجها ثم طلقا قبل الدخول - تقسيم مسألة قال الشافعي: " (قَالَ) وَلَوْ وَهَبَتْ لَهُ صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَالْآخَرُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ملكه (قال المزني) رحمه الله: وقال في كتاب القديم لا يرجع إذا قبضته فوهبته له أو لم تقبضه لأن هبتها له إبراءٌ ليس كاستهلاكها إياه لو وهبته لغيره فبأي شيءٍ يرجع عليها فيما صار إليه؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَاقًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، لَمْ يَخْلُ الصَّدَاقُ الْمَوْهُوبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا. فَإِنْ كَانَ عَيْنًا: فَسَوَاءٌ وَهَبَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ هَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ بَدَلِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ وَهَبَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَهَبَتْهُ بَعْدَهُ رَجَعَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا قَبْضٌ. - فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ الصَّدَاقَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، كَمَا لَوْ تَعَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ هِبَتَهَا لِلصَّدَاقِ يَجْعَلُهَا كَالْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا رُجُوعًا بِالطَّلَاقِ. - وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَادَ الصَّدَاقُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ كَمَا لَوِ ابْتَاعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ وَهَبَتْ لَهُ غَيْرَ الصَّدَاقِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ كَذَلِكَ إِذَا وَهَبَتْ لَهُ الصَّدَاقَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَالٌ لَهَا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَهُ الرُّجُوعُ فَسَوَاءٌ كَافَأَهَا عَلَى الْهِبَةِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَبِنِصْفِ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مثل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 وَإِنْ قِيلَ: لَا رُجُوعَ، وَكَانَ قَدْ كَافَأَهَا عَلَى هِبَتِهِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تَجِبُ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ تَجِبُ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أنه تَهَبَهُ لِلزَّوْجِ بَعْدَ قَبْضِهِ مِنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَوَهَبَتْهَا لَهُ فِي أَنَّ رُجُوعَهُ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثاني: أن تبرئه مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِذَا قِيلَ: لَا يَرْجِعُ مَعَ الْهِبَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ مَعَ الْإِبْرَاءِ، وَإِذَا قِيلَ: يَرْجِعُ مَعَ الْهِبَةِ فَفِي رُجُوعِهِ مَعَ الْإِبْرَاءِ قَوْلَانِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا مَعَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَرْجِعُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ وَهَبَتْ أَوْ أَبْرَأَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ وَهَبَتْ أَوْ أَبْرَأَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا، إِنْ وَهَبَتْ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِنْ أَبْرَأَتْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ: أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ وَالْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَعْضُ صَدَاقِهَا عَيْنًا وَبَعْضُهُ دَيْنًا فَوَهَبَتْ لَهُ الْعَيْنَ وَأَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّيْنِ، أَجْرَى عَلَى الْعَيْنِ حُكْمَ الْهِبَةِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ، وَعَلَى الدَّيْنِ حُكْمَ الْإِبْرَاءِ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ وَهَبَتْ لَهُ الصَّدَاقَ إِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ دَيْنًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَمَلَكَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ صَدَاقِهَا. كَانَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ، كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الطَّلَاقِ بِنِصْفِهِ: أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ. وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ فِي الْهِبَةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي الْإِبْرَاءِ. فَصْلٌ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلَانِ سِلْعَةً وَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا ثُمَّ تُسْتَحَقُّ السِّلْعَةُ مِنْ مُشْتَرِيهَا فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي رجوع الزوج. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 وَهَكَذَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَفِي رُجُوعِهِ بِأَرْشِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ. وَالثَّانِي: لَهُ الرَّدُّ وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ رَجَعَ بِالْأَرْشِ. وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ وَهَبَهَا لِبَائِعِهَا ثُمَّ فَلَّسَ هَذَا الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ غَيْرَ مَا وُهِبَ لَهُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنْ يُكَاتِبَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ يُبَرِّئَهُ فَقَدْ عَتَقَ بِالْإِبْرَاءِ كَمَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، فَهَلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنْ يُؤْتِيَهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ؟ . فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْدَى مِنْهُ شَيْئًا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَوْ وَهَبَتِ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ ثم طلقها قبل الدخول مسألة قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَاهَا نِصْفَهُ ثُمَّ وَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ ولا أعلم قولاً غير هذا إلا أن يقول قائلٌ هبتها له كهبتها لغيره والأول عندنا أحسن والله أعلم ولكل وجهٌ (قال المزني) والأحسن أولى به من الذي ليس بأحسن والقياس عندي على قوله ما قال في كتاب الإملاء إذا وهبت له النصف أن يرجع عليها بنصف ما بقي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ تَهَبَ لَهُ نِصْفَ صَدَاقِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَيَكُونُ مَا وَهَبَتْهُ مِنْ نِصْفِهِ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِطَلَاقِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ النِّصْفِ الْبَاقِي وَيَكُونُ النِّصْفُ الْمَمْلُوكُ بِالْهِبَةِ كَالْمَمْلُوكِ بِالِابْتِيَاعِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ وَهُوَ الرُّبُعُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ، وَكَأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَكُنْ صَدَاقًا بِعَوْدِهِ إليه. مسألة قال الشافعي: " وإن خَالَعَتْهُ بشيءٍ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ فَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ النِّصْفَ مشاعٌ فِيمَا قَبَضَتْ وَبَقِيَ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْخُلْعِ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الصَّدَاقِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُلْعٌ عَلَى الصَّدَاقِ فَأَوْرَدَهَا فِيهِ. وَالثَّانِي: لِيُفَرِّقَ بِهَا بَيْنَ مَا عَادَ مِنَ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ بِالْهِبَةِ وَبَيْنَ مَا عَادَ إِلَيْهِ بِالْخُلْعِ. وَالْخُلْعُ: عَقْدٌ تَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا، وَيَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجُ مَالَ خُلْعِهَا، كَالنِّكَاحِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجُ بُضْعَهَا، وَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ صَدَاقَهَا، إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْخُلْعِ تَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالْخُلْعِ بُضْعَ نَفْسِهَا كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا، وَالزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْخُلْعِ الْبَدَلَ كَمَا مَلَكَتِ الزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْمَهْرَ. فَإِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى صَدَاقِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْخُلْعُ بِهِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ خَالَعَهَا بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ أَوْ بِبَعْضِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ بِالدُّخُولِ فَخَالَعَتْهُ عَلَى مَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ مِنَ الصَّدَاقِ بِطَلَاقِهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ نِصْفَهُ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهُ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ. وَالْفُرْقَةُ فِي الْخُلْعِ وَإِنْ تَمَّتْ بِهِمَا فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الزَّوْجُ دُونَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا مَعَ غَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخَالِعَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّدَاقِ، وَهَذَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْخُلْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ الْمَسْطُورُ هَاهُنَا، فَإِذَا أَصْدَقَهَا أَلْفًا وَخَالَعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ، فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْخَمْسَمِائَةَ الَّتِي خَالَعَهَا عَلَيْهَا يَكُونُ الْخُلْعُ مِنْهَا عَلَى نِصْفِهَا وهو مئتان وَخَمْسُونَ، وَنِصْفُهَا يَمْلِكُهُ بِطَلَاقِهِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَمْلِكُ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ وَهُوَ مئتان وخمسون ويبقى عليه نصفه وهو مئتان وَخَمْسُونَ يَسُوقُهُ إِلَيْهَا. وَقَدْ كَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ جَمِيعَ النِّصْفِ بِالْخُلْعِ، وَيَمْلِكَ النِّصْفَ الْآخَرَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الصَّدَاقِ شَيْءٌ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ أَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهَا وَيَبْقَى فِي الْخُلْعِ نِصْفُهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ خَالَعَهَا مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ منها بعد الطلاق وهو مئتان وَخَمْسُونَ، فَمَلَكَ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةَ بِخُلْعِهِ وَطَلَاقِهِ وَيَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهَا بِطَلَاقِهِ وذلك مئتان وَخَمْسُونَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ، فَصَارَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الصَّدَاقِ وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَاقِطًا عَنِ الزَّوْجِ. النِّصْفُ: بِالطَّلَاقِ، وَالرُّبُعُ: بِالْخُلْعِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ: الرُّبُعُ لِلزَّوْجَةِ وَهُوَ مئتان وَخَمْسُونَ. فَقِيلَ لِابْنِ خَيْرَانَ: فَعَلَى هَذَا مَا تَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِأَلْفٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ مَغْصُوبٌ؟ قَالَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَغْصُوبِ فِي الْعَقْدِ لَغْوًا كَمَا قَالَ فِي الْخُلْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، وَصَرَّحَتْ بِهِ لَفْظًا فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا بِهِ مُقْنِعٌ فَيَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الْخَمْسِمِائَةِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى بِالطَّلَاقِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَهُوَ مئتان وَخَمْسُونَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِجَوَابِ ابْنِ خَيْرَانَ، إِذَا صَرَّحَا بِمَا عَلِمَاهُ وَمُخَالِفًا لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ وَإِنْ عَلِمَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى إِطْلَاقِهِمَا لِذَلِكَ فِي أَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ هِيَ نِصْفُ الْأَلْفِ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْتَ الْعَقْدِ مَالِكَةً لِجَمِيعِ الْأَلْفِ، فَصَحَّ الْخُلْعُ فِي نِصْفِهَا ثُمَّ سَقَطَ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي خَالَعَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ، فَصَارَ كَمَنْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ تَلِفَ نِصْفُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَأْخُذُ النِّصْفَ الْبَاقِي. وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَدَلُ النِّصْفِ التَّالِفِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بِمِثْلِ التَّالِفِ إِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ. وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ قَدْ صَحَّ عَلَى نصف الخمسمائة وهو مئتان وخمسون وبطل في نصفها وهو مئتان وَخَمْسُونَ، وَاسْتَحَقَّ بَدَلَهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مثله وهو مئتان وَخَمْسُونَ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ نِصْفُ مَهْرِ المثل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ قد سقط عنه نصفه بالطلاق وهو مئتان وخمسون وبقي عليه نصفه مئتان وَخَمْسُونَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فعليه نصفه، فيصير الباقي عليه مئتان وَخَمْسُونَ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ مئتان وَخَمْسُونَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. فَيَكُونُ الشَّافِعِيُّ قَدْ ذَكَرَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَاقِي لَهُ. وَهَلْ يَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ قِصَاصًا مِنَ الْبَاقِي لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِيمَنْ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، فَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا: بَرِئَا، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قِصَاصًا؛ تَقَابَضَا. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قُلْتُمْ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ النِّصْفَ كَمَا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى نِصْفِ أَلْفٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَرِيكٍ لَهَا أَنَّهُ يَصِحُّ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِي الصَّدَاقِ قَدْ خَالَعَتْ عَلَى نِصْفِهِ وَهِيَ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِهِ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْدَ الْخُلْعِ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهَا مِنَ النِّصْفِ فِي الَّذِي خَالَعَتْ بِهِ دُونَ الْبَاقِي، فَلِذَلِكَ صَارَ مُشْتَرِكًا فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهَا فِي الألف المشتركة؛ لأنها لا تَمْلِكْ مِنْهَا وَقْتَ الْخُلْعِ إِلَّا النِّصْفَ، فَانْصَرَفَ الْعَقْدُ إِلَى النِّصْفِ الَّذِي لَهَا، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إلى النصف الذي يشركها فافترقا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ عَلَى نِصْفِ الصَّدَاقِ وَسُقُوطِ بَاقِيهِ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ يَصِحُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا: أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهَا بِمِثْلِ نِصْفِهِ فِي ذِمَّتِهَا فَإِذَا كَانَ صَدَاقُهَا أَلْفًا فِي ذِمَّتِهِ خَالَعَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي خُلْعِهِ بَرِئَ مِنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا بِطَلَاقِهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَا خَالَعَهَا بِهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ لَهُ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ لَهَا فَيَتَقَاصَّانِ أَوْ يَتَقَابَضَانِ أَوْ يَتَبَارَيَانِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَالَّذِي يُسَلَّمُ لَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْخُلْعُ فَيَبْرَأُ مِنْ جَمِيعِ نِصْفِهِ بِمَا مَلَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ، وَنِصْفِهِ بِمَا مَلَكَهُ مِنَ الْخُلْعِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ لَهَا عَلَيْهِ فِي مَهْرِهَا فَيَبْرَأُ مِنْ جَمِيعِهِ بِمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ وَبِخُلْعِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَدْ خَالَعَهَا عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 مسألة قال الشافعي: " فَأَمَّا فِي الصَّدَاقِ غَيْرِ الْمُسَمَّى أَوِ الْفَاسِدِ فَالْبَرَاءَةُ فِي ذَلِكَ باطلةٌ لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِمَّا لا تعلم (قال) وَلَوْ قَبَضَتِ الْفَاسِدَ ثَمَّ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ كَانَتِ الْبَرَاءَةُ باطلةٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَهْرِ أَوْ يُعْطِيَهَا مَا تَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ أَقَلُّ وَتُحَلِّلُهُ مِمَّا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا أَوْ يُعْطِيَهَا أَكْثَرَ وَيُحَلِّلُهَا مِمَّا بين كذا إلى كذا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مِنَ الصَّدَاقِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيِّ الْإِبْرَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُوبَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وجوبه لم يصح، كمن عفى عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومِ الْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ مَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ. وَكَذَلِكَ الضَّمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ. وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ اعْتِبَارَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي الضَّمَانِ، وَجَوَّزَ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَجْهُولِ. وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنِّكَاحُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نِكَاحُ تَفْوِيضٍ. وَالثَّانِي: نِكَاحُ غَيْرِ تَفْوِيضٍ. فَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِيهِ مَهْرًا إِذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ صَدَاقِهَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ لَهَا فِيهِ مَهْرٌ، فَالْإِبْرَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ وَاجِبٍ مَعْلُومٍ. والضرب الثاني: أن يكون قبل أن فرض لَهَا فِيهِ مَهْرٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُبْرِئَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَالْإِبْرَاءُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِمَّا لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمُفَوَّضَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ أَوْ بِالدُّخُولِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَدْ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ عَلِمَتْ قَدْرَهُ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَبُولِ الزَّوْجِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ قدره بالإبراء بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ. فَصْلٌ وَأَمَّا نِكَاحُ غَيْرِ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يُسَمَّى فِيهِ مَهْرٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 - فَأَمَّا الصَّحِيحُ: فَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِنْ وَاجِبٍ مَعْلُومٍ. - وَأَمَّا الْفَاسِدُ: فَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ فاسد؛ لأنه الْفَاسِدَ لَا يَجِبُ، فَصَارَ إِبْرَاءً مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالْوَاجِبُ لَهَا فِي الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَوْ سَلَّمَ الصَّدَاقَ الْفَاسِدَ إِلَيْهَا فَرَدَّتْهُ عَلَيْهِ هِبَةً لَهُ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ رُوعِيَ عِلْمُهَا بِقَدْرِهِ، فَإِنْ جَهِلَتْ قَدْرَهُ فَالْإِبْرَاءُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ قَدْرَهُ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ عِلْمُهُ بِقَدْرِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَبُولَ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ فَعِلْمُهُ بِقَدْرِهِ مُعْتَبَرٌ، فَصْلٌ فَلَوْ عَلِمَتْ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَجَهِلَتِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْ جَمِيعِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرَةِ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَفِي بَرَاءَتِهِ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمَعْلُومَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْرَأُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ جُمْلَةٍ مَجْهُولَةٍ فَجَرَى عَلَى جَمِيعِهَا حُكْمُ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ مَا يَعْلَمُ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُ جَمِيعَهُ كَانَ ضَمَانُ الْجَمِيعِ بَاطِلًا. فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مَجْهُولَ الْقَدْرِ مَعْلُومَ الطَّرَفَيْنِ، مِثْلَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَلِلْبَرَاءَةِ مِنْهُ حَالَانِ. حَالٌ بِالْإِبْرَاءِ، وَحَالٌ بِالْأَدَاءِ. فَأَمَّا الْإِبْرَاءُ: فَالطَّرِيقُ إِلَى صِحَّتِهِ أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ دِينَارٍ إِلَى عِشْرِينَ دِينَارًا، فَيَبْرَأُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالطَّرَفَيْنِ يَجْعَلُ الْوَسَطَ مُلْحَقًا بِهِمَا فَلَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ صَحَّ وَصَارَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ. فَلَوْ قَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى عِشْرِينَ بَرِئَ مِنَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْحَدَّيْنِ يَدْخُلَانِ فِي الْمَحْدُودِ إِذَا جَانَسَاهُ، فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ، وَالْحَدُّ الثَّانِي: هُوَ الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْحَدُّ الْأَوَّلُ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَدُّ الثَّانِي الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَيَبْرَأُ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَدَّيْنِ، لَا الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ وَلَا الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ فَيَبْرَأُ مِنْ تِسْعَةِ دَنَانِيرَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 وَالدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِ الْحَدَّيْنِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ " مِنْ " حَرْفٌ لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَ " إِلَى " حَرْفٌ لِانْتِهَاءِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَابْتِدَاءُ الشَّيْءِ وَانْتِهَاؤُهُ طَرَفَاهُ، وَطَرَفَا الشَّيْءِ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ دُخُولُ الْحَدِّ فِي الْمَحْدُودِ. وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ بِالْأَدَاءِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَقَدْ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا فَبَرِئَ مِنْهُ، عَشْرَةٌ مِنْهَا مُتَحَقَّقَةٌ وَالْعَشْرَةُ الْأُخْرَى مَشْكُوكَةٌ، فَتَحْتَاجُ أَنْ يُبَرِّئَهَا مِنْ دِينَارٍ إِلَى عَشْرَةٍ فَيُبَرِّئَانِ جَمِيعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا عَشْرَةً فَيَحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُبَرِّئَةَ لَهُ مِنْ دِينَارٍ إِلَى عَشْرَةٍ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ مِنْ جَمِيعِ مَهْرِهَا بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ. وَإِذَا كَانَ مَهْرُهَا معلوماُ فِي الذِّمَّةِ فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ، لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ. وَلَوْ كَانَتْ عَيْنًا قَائِمَةً فَقَالَتْ: قَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ وَشِئْتُ، صَحَّتِ الْهِبَةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْمَشِيئَةُ كَمَا لَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَبُولُ، وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ الْمَشِيئَةُ كَمَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَبُولُ فَافْتَرَقَا. فَصْلٌ وَإِذَا اعْتَقَدَتْ قَبَضَ مَهْرِهَا مِنْهُ فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ مَهْرِي، ثُمَّ بَانَ أَنَّ مَهْرَهَا كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ فَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَبْرَأُ مِنْهُ لِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ صَادَفَتْ حَقًّا مَعْلُومًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ تَصْحِيحَ الْإِبْرَاءِ بَلْ أَوْرَدَتْهُ لَغْوًا. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: مَنْ بَاعَ عَبْدَ أَبِيهِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ بَيْعِهِ فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وجهان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 بَابُ الْحُكْمِ فِي الدُّخُولِ وَإِغْلَاقِ الْبَابِ وَإِرْخَاءِ الستر من الجامع ومن كتاب عشرة النساء ومن كتاب الطلاق القديم قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ ديناً فله الدخول بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ صَدَاقِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يكون جمعيه حَالًّا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ حَالًّا، إِمَّا بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ أَوْ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالًّا بِالْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ، فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ صَدَاقِهَا، كَمَا كَانَ لِبَائِعِ السِّلْعَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا عَلَى قبض ثمنها. فإذا تَطَوَّعَتْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ لِقَبْضِ الصَّدَاقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا، فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَطِئَهَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ بِالْوَطْءِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ كَمَالُ الْمَهْرِ دُونَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَنَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الْوَطْءِ، كَمَا كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَهُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ فِي النِّكَاحِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَوَّلِ لَوَجَبَ لِلثَّانِي مَهْرٌ آخَرُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ في مقابلة الأول لجاز لا أَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 وإذا ثبت بهدين أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهَا لِبَعْضِ الْحَقِّ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ مَا بَقِيَ، كَمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فَسَلَّمَ أَحَدَهَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ حَبْسُ بَاقِيهَا كَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ: وَلِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَوْفِ مَهْرَهَا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْوَطْءِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَسْلِيمُ رِضًا اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حَقُّ الْإِمْسَاكِ قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ اخْتَصَّتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ تَبَعًا، وَقَدْ رَفَعَ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَهُ فِي حَقٍّ تَبِعَهُ كَالْإِحْلَالِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ: فَنَقُولُ: قَدِ اسْتُبِيحَ بِهِ كُلُّ وَطْءٍ لَكِنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ فَقَامَ فِيهِ مَقَامَ كُلِّ وَطْءٍ، أَلَا تَرَاهَا لَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ كُلَّ وَطْءٍ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالْمَهْرِ الْمُتَقَدَّمِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَمْ تُسَلِّمْ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَهْرُ فَجَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَلَّمَتْ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَهْرُ فَجَرَى مَجْرَى الْمَبِيعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُهَا مُؤَجَّلًا، فَيَجُوزُ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ بِعَيْنٍ وَبِدَيْنٍ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ، وَإِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مؤجلاُ فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ لِقَبْضِ الصَّدَاقِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا وَتَعْجِيلِ حَقِّهِ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُهَا لِنَفْسِهَا حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَأَرَادَتِ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ الصَّدَاقَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا وَإِنْ حَلَّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ الِامْتِنَاعَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ صَدَاقِهَا حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ قَدَرُ الْحَالِّ مِنْهُ مَعْلُومًا وَأَجَلُ الْمُؤَجَّلِ مَعْلُومًا، وَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْحَالِّ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْمُؤَجَّلِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْحَالِّ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَالًّا، وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَوْ تَرَاخَى التَّسْلِيمُ حَتَّى حَلَّ الْمُؤَجَّلُ كَانَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ الْمُعَجَّلِ دُونَ مَا حَلَّ مِنَ الْمُؤَجَّلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 هَلْ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إِذَا طَلَبَهَا بعد دفعه للصداق؟ تقسيم مسألة قال الشافعي: " وَتُؤَخَّرُ يَوْمًا وَنَحْوَهُ لِتُصْلِحَ أَمْرَهَا وَلَا يَجَاوِزُ بِهَا ثَلَاثًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ فَيَمْنَعُهُ أَهْلُهَا حَتَّى تَحْتَمِلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا دَفَعَ الزَّوْجُ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ وَسَأَلَهَا تَسْلِيمَ نَفْسِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً. فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا كَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، وَالْمُؤَجِّرَ تَسْلِيمُ مَا أَجَّرَ بَعْدَ قَبْضِ أُجْرَتِهِ. فَإِنِ اسْتَنْظَرَتْهُ لِبِنَاءِ دَارٍ أَوِ اسْتِكْمَالِ جِهَازٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِنْظَارُهَا وَإِنِ اسْتَنْظَرَتْهُ لِمُرَاعَاةِ نَفْسِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لَزِمَهُ انْتِظَارُهَا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَغْنِي مَعَ بُعْدِ عَهْدِهَا بِالزَّوْجِ عَنِ التَّأَهُّبِ لها بِمُرَاعَاةِ جَسَدِهَا وَتَفَقُّدِ بَدَنِهَا لَوْ أَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى صِفَةٍ تُنَفِّرُ نَفْسَ الزَّوْجِ مِنْهَا. وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَطْرُقَ أهله ليلاً. فما نَهَى الزَّوْجَ الَّذِي قَدْ أَلِفَهَا، وَأَلِفَتْهُ عَنْ أن يطرقها ليلاً ولم تتأهب له لأن لا يُصَادِفَهَا عَلَى حَالٍ تَنْفُرُ مِنْهَا نَفْسُهُ فَالزَّوْجُ الَّذِي لَمْ يَأْلَفْهَا وَلَمْ تَأْلَفْهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا وَلَمْ تَعْرِفْهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ. وَأَكْثَرُ مُدَّةِ إِنْظَارِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَصْلًا وَأَنَّهَا أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ ". لَا تُمْهَلُ، وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ هَاهُنَا وَفِي الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَا تُمْهَلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ إِمْهَالِهَا السَّنَةَ. فَصْلٌ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ الِاسْتِمْتَاعُ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ قَدْ قَارَبَتِ الْبُلُوغَ وَأَمْكَنَ اسْتِمْتَاعُ الْأَزْوَاجِ بِهَا، فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ، لَهَا أَنْ يُطَالِبَهُ وَلِيُّهَا بِمَهْرِهَا وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ الِاسْتِمْتَاعُ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّهَا ابْنَةُ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ بِحَسْبِ حَالِهَا، فَرُبَّ صَغِيرَةِ السِّنِّ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَرُبَّ كَبِيرَةِ السِّنِّ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 فَلِذَلِكَ لَمْ يَحُدَّهُ سِنٌّ مُقَدَّرَةٌ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ إِلَيْهَا. فَإِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِحَضَانَتِهَا وَتَرْبِيَتِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الذي يُخْلَقْ فِيهَا، فَيَسْتَحِقَّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا، فَرُبَّمَا أَفْضَى إِلَى تَلَفِهَا وَنِكَايَتِهَا. فَلَوْ سَأَلَهُ وَلِيُّهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةٍ وَحَضَانَةٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ لَهَا نَفَقَةً لا يقابلها الاستمتاع، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: " وَالصَّدَاقُ كَالدَّيْنِ سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدٍ فَكَانَ دَيْنًا كَالْأَثْمَانِ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ كَالدَّيْنِ فِي لُزُومِهِ فِي الذِّمَّةِ كَلُزُومِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَالًّا تَارَةً، وَمُؤَجَّلًا تَارَةً، وَمُنَجَّمًا أُخْرَى، وَأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْحَوَالَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْهُ سَائِغٌ، وَأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَاعَ فِيهِ الْعَقَارُ، وَأَنَّ الزَّوْجَ يُحْبَسُ بِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ تَضْرِبُ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ فَلَسِهِ، وَتَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى غَيْرِ ذلك من أحكام الديون المستحقة. مسألة قال الشافعي: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ صَدَاقِهَا وَلَا نَفَقَتِهَا حَتَّى تَكُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَيُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ النَّفَقَاتِ ذَكَرَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالصَّدَاقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَبِيرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةً. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالزَّوْجَةُ كَبِيرَةً. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَا كَبِيرَيْنِ: فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ الصَّدَاقِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ لِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ مَا فِي ذِمَّتِهِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنْ أَقَامَا عَلَى التَّمَانُعِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 وَالثَّانِي: أَنْ يَدْعُوَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَتَمْتَنِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهَا تَسْلِيمٌ وَلَا مِنْهُ طَلَبٌ، فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ، وَالثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا. بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَ تَجِبُ؟ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بالتمكين، فعل هَذَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا نُشُوزٌ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ مَعًا، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لَهَا لِعَدَمِ التَّمْكِينِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ: فَالتَّسْلِيمُ لَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهَا وَلَوْ سَلَّمَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَلِيِّ الزَّوْجِ أَنْ يَقْبَلَهَا. وَإِذَا كَانَ التَّسْلِيمُ لَا يَجِبُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ دَفْعَ الصَّدَاقِ لَا يَجِبُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى النَّفَقَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ: تَجِبُ لِوُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا تَجِبُ لِوُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ يَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّدَاقِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ، وَوُجُوبَ النَّفَقَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنٍ بَاقِيَةٍ، وَالنَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ زَمَانٍ مَاضٍ، فَكَانَ لَهُ حَبْسُ الصَّدَاقِ لِبَقَاءِ مُوجِبِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ النَّفَقَةِ لِذَهَابِ مُوجِبِهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ صَدَاقِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَسْلِيمَهَا لَا يَجِبُ وَلَوْ طَلَبَهَا، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْجَدِيدِ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِوُجُوبِهَا عَلَى الْقَدِيمِ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُتَعَذِّرٌ مِنْهَا بِصِغَرِهَا فَجَرَى مَجْرَى نُشُوزِهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَهِيَ كَبِيرَةً، فَهَاهُنَا إِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّ الزَّوْجِ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَهُ لِتَكُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ كَبِيرًا لِأُمُورٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فِي الْكَبِيرَةِ مَفْقُودٌ فِي الصَّغِيرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا، وَالْكَبِيرَةُ تؤمن على الزَّوْجُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الصَّغِيرِ أَقَامَتْ بِتَرْبِيَتِهِ فَكَانَ عَوْنًا، وَالصَّغِيرَةَ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الْكَبِيرِ احْتَاجَ إلى تربيتها فكانت كلا، فَصَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. وَإِذَا لَزِمَ بِهَا تَسْلِيمُ الْكَبِيرَةِ إِلَى الصَّغِيرِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُ الصَّغِيرَةِ إِلَى الْكَبِيرِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِصَدَاقِهَا كَالْكَبِيرَةِ مَعَ الْكَبِيرِ. فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ، فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ وَارْتِفَاعِ النُّشُوزِ. وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا لِعَدَمِ التَّمْكِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مَوْجُودٌ وَمِنَ الزَّوْجِ مَفْقُودٌ فَصَارَ الْمَنْعُ مِنْ جهته لا من جهتها. إذا اختلف الزوج من الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا أَيُّهُمَا يُسَلِّمُ أَوَّلًا مَا عليه مسألة قال الشافعي: " وإن كَانَتْ بَالِغَةً فَقَالَ لَا أَدْفَعُ حَتَّى تُدْخِلُوهَا وَقَالُوا لَا نُدْخِلُهَا حَتَّى تَدْفَعَ فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ أَجْبَرْتُ الْآخَرَ فَإِنِ امْتَنَعُوا مَعًا أَجْبَرْتُ أَهْلَهَا عَلَى وقتٍ يُدْخِلُونَهَا فِيهِ وَأَخَذْتُ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا فَإِذَا دَخَلَتْ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا وَجَعَلْتُ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا قَالُوا نَدْفَعُهَا إِلَيْهِ إِذَا دَفَعَ الصَّدَاقَ إِلَيْنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجَيْنِ ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ تَبْدَأَ الْمَرْأَةُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا وتمكين الزوج منها، فيجوز للزوج إصابتها قَبْلَ قَبْضِ شَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ صَدَاقِهَا إِلَيْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِصَابَتُهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقتادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 قَالَ مَالِكٌ: وَأَقَلُّ مَا يَدْفَعُهُ إِلَيْهَا لِيَسْتَبِيحَ بِهِ إِصَابَتَهَا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ صَدَاقًا مُؤَجَّلًا ". وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَيْهَا فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ صَارَتْ نَاشِزًا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَمَانَعَا فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي حَتَّى أَقْبِضَ صَدَاقِي، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: لَا أَدْفَعُ الصَّدَاقَ حَتَّى تُسَلِّمِي نَفْسَكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى التَّسْلِيمِ، بَلْ تُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَيُتْرَكَانِ، فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْدَأْ بِإِجْبَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَعَلَيْهِ حَقٌّ، فَلَمْ يَكُنِ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْبِدَايَةِ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ بِأَوْلَى مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ فِي الْبِدَايَةِ بِاسْتِيفَائِهِ لَهُ فَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ، فَوَجَبَ تَرْكُهُمَا وَقَطْعُ التَّخَاصُمِ بَيْنَهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا، وَيَأْمُرُ الزَّوْجَ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَسَلَّمَهُ أَمَرَ الزَّوْجَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا سَلَّمَ الْأَمِينُ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَفِعْلِ الْأَحْوَطِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا أَحْوَطُ الْأُمُورِ فِيهَا وَأَقْطَعُ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي تَنَازُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي التَّسْلِيمِ، وَفِي الْبَيْعِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ. وَلَا يَجِيءُ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي تَنَازُعِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي يُمْكِنُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي السِّلْعَةِ حَتَّى يُسْتَرْجَعَ مِنْهُ إِنَّ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَلَا يُمْكِنُ إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا اسْتَهْلَكَ بُضْعَهَا بِالدُّخُولِ قَبْلَ تَسْلِيمِ صَدَاقِهَا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ فِي تَنَازُعِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ فِي مُدَّةِ امْتِنَاعِهَا مِنْ تَمْكِينِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ، فَصَارَتْ مُمْتَنِعَةً بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَهُ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ النُّشُوزِ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ. وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الزَّوْجَ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَى أَمِينٍ يُنَصِّبُهُ لَهُمَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ امْتِنَاعِهَا مِنْ تَمْكِينِهِ إِلَى أَنْ يَدْفَعَ الصَّدَاقَ إِلَى الْأَمِينِ؛ لِأَنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 بِحَقٍّ يَجِبُ لَهَا تَعْجِيلُهُ، فَإِذَا صَارَ الصَّدَاقُ مَعَ الْأَمِينِ كَانَ امْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لنفقتها؛ لأنها ممتنعة بغير حق. الْقَوْلُ فِي إِجْبَارِ الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ عَلَى الدُّخُولِ مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَتْ نِضْوًا أُجْبِرَتْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مرضٍ لَا يُجَامَعُ فِيهِ مِثْلُهَا فَتُمْهَلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّضْوَةُ الْخَلْقِ فَهِيَ الدَّقِيقَةُ الْعَظْمِ، الْقَلِيلَةُ اللَّحْمِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ نِضْوَةَ الْخَلْقِ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِلْقَةً لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا بِحَسْبِ طَاقَتِهَا وَلَا يَنْكَأَهَا فِي نَفْسِهَا وَيُؤْذِيَهَا فِي بَدَنِهَا. وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، خفيفة اللحم، ولخفة لَحْمِهَا رُفِعَ هَوْدَجُهَا فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ فَلَمْ يُعْلَمْ خُرُوجُهَا مِنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَحَمَلَهَا. وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَنْزَلَ فَلَمْ تَمْنَعْ ضُؤُولَتُهَا، وَخِفَّةُ لَحْمِهَا مِنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا، فَلَوْ كَانَتِ النِّضْوَةُ عَلَى حَدٍّ إِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ أَتْلَفَهَا مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا، بِخِلَافِ الرَّتْقَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ فِيهَا خِيَارَ الْفَسْخِ لِتَعَذُّرِ وَطْئِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا يَقْدِرُ كُلُّ زَوْجٍ عَلَى وَطْئِهَا فَصَارَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِهَا، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَالنِّضْوَةُ الْخَلْقِ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا الزَّوْجِ إِذَا كَانَ مِثْلَهَا نِضْوًا أَنْ يَطَأَهَا فَصَارَ الْمَنْعُ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثٍ مِنْ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، فَلَا يَلْزَمُهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، وَتُمْهَلُ حَتَّى تَصِحَّ مِنْ مَرَضِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ مَرَضٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَالِاسْتِمْتَاعُ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا قَبْلَ الصِّحَّةِ، وَمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَالِاسْتِمْتَاعُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ الصِّحَّةِ، فَلَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَأْخِيرِ زِفَافِ الْمَرِيضَةِ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ فَلَمْ يَلْزَمْهَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ الصِّحَّةِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَسْلِيمِ النِّضْوَةِ الْخِلْقَةِ عَاجِلًا فَلَزِمَهَا التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فيهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا بِالْمَرَضِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَكَانَ لَهَا النَّفَقَةُ؛ لَأَنَّ الْمَرَضَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ وَإِنْ منع من الوطء كالحيض. القول في إفضاء الزوجة مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ أَفْضَاهَا فَلَمْ تَلْتَئِمْ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا وَلَهَا مَنْعُهُ أَنْ يُصِيبَهَا حَتَّى تَبْرَأَ الْبُرْءَ الَّذِي إِنْ عَادَ لَمْ يَنْكَأْهَا وَلَمْ يَزِدْ فِي جُرْحِهَا وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قولها ". قال الماوردي: وصورتها: في رجل وطأ زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا بِشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيلَاجِ وَالْإِفْضَاءُ: هُوَ أَنْ يَتَخَرَّقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فِي مَخْرَجِ الْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ، فَأَمَّا الْبَوْلُ فَمَخْرَجُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَإِذَا بَالَغَ الْوَاطِئُ فِي إِيلَاجِهِ خَرَقَ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْإِفْضَاءُ. وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَ الْإِفْضَاءَ خَرْقَ الْحَاجِزِ بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ حَتَّى يَصِيرَ السَّبِيلَانِ وَاحِدًا، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ. فَإِذَا أَفْضَى زَوْجَتَهُ بِوَطْئِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ وَالدِّيَةُ بِالْإِفْضَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَمْسِكًا أَوْ مُسْتَرْسِلًا، وكذلك لو وطأ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ أَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَفْضَاهَا كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَمَهْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ دُونَ الْمَهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَفْضَى زَوْجَتَهُ فلا شيء عليه في الإفضاء، عليه الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ أَفْضَى أَجْنَبِيَّةً بِوَطْءِ شُبْهَةٍ فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَرْسِلًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْإِفْضَاءِ وَلَا مَهْرَ فِي الْوَطْءِ، وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَمْسِكًا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ وَثُلُثُ الدِّيَةِ بِالْإِفْضَاءِ كَالْجَائِفَةِ وَإِنْ أَفْضَى أَجْنَبِيَّةً بِوَطْءِ إِكْرَاهٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْمَهْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةٌ. وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا فِي إِفْضَاءِ الزَّوْجَةِ، وَإِفْضَاءُ مَنْ سِوَاهَا لَهُ مَوْضُوعٌ مِنْ كِتَابِ الدِّيَاتِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ إِفْضَاءَ الزَّوْجَةِ هَدْرٌ لَا يُضْمَنُ بِأَنَّ السِّرَايَةَ عَنْ مُسْتَحَقٍّ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ إِذَا سَرَى إِلَى النَّفْسِ لَمْ يُضْمَنْ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ مُسْتَحَقٍّ، كَذَلِكَ الْإِفْضَاءُ سَرَى عَنْ وَطْءٍ مُسْتَحَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضْمَنَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ تَنْفَكُّ عَنِ الْوَطْءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَرْشُهَا بِاسْتِحْقَاقِ الْوَطْءِ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَقَطَعَ يَدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِغَيْرِ مَا تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْمَهْرَ عِنْدَهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 بِالْخَلْوَةِ، وَعِنْدَنَا بِتَغَيُّبِ الْحَشَفَةِ، وَالْإِفْضَاءُ يَكُونُ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيلَاجِ، فَصَارَ الْوَطْءُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ زَائِدًا عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ: بِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنْ وَطْءٍ مُسْتَحَقٍّ فَوَطْءُ الْإِفْضَاءِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، لِأَنَّ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْإِفْضَاءِ كَضَرْبِ الزَّوْجَةِ أبيح به ما لا يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ فَضُمِنَ، كَذَلِكَ وَطْءُ الْإِفْضَاءِ غَيْرُ مُبَاحٍ فَضُمِنَ فَصْلٌ وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةً بِأَنَّ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ كَالْحَاجِزِ فِي الْأَنْفِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ إِذَا قُطِعَ حُكُومَةٌ، كَذَلِكَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ بَيْنَ المخرجين حكومة. ودليلنا: هو أن الحاجة بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنَ الشَّفْرَيْنِ؛ لِأَنَّ خَرْقَ الْحَاجِزِ يُفْضِي إِلَى اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ، وَقَطْعَ الشَّفْرَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ فِي الشَّفْرَيْنِ الدِّيَةَ فَكَانَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ. فَأَمَّا الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ فَمُخَالِفٌ لِلْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا عضو بكامله فَجَازَ أَنْ تُكْمَلَ فِيهِ الدِّيَةُ وَذَاكَ بَعْضُ عُضْوٍ فَلَمْ تُكْمَلْ فِيهِ الدِّيَةُ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ الدِّيَةَ مَعَ الْمَهْرِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ يَلْتَحِمِ الْحَاجِزُ عَلَى حَالِهِ مُنْخَرِقًا، فَأَمَّا إِنِ الْتَحَمَ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ حَاجِزًا بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَهْلَكٍ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَفْضَاهَا فَلَمْ تَلْتَئِمْ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْتِئَامَهُ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ دِيَتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدِّيَةُ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ فَهِيَ إِنْ عَمَدَ فَفِي مَالِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، ثُمَّ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَنْدَمِلَ جُرْحُهَا وَيَبْرَأَ الْفَرْجُ الَّذِي لَا يَضُرُّهَا جِمَاعُهُ فَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ مِنْ جِمَاعِهَا. فَلَوِ ادَّعَى بُرْأَهَا وَانْدِمَالَهَا لِيَطَأَهَا وَقَالَتْ: بَلْ أَنَا عَلَى مَرَضِي لَمْ أَبْرَأْ مِنْهُ وَلَمْ يَنْدَمِلْ وَأَنْكَرَ مَا قَالَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَرَضَهَا مُتَيَقَّنٌ وبرءها مَظْنُونٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَغِيبٌ يُمْكِنُ صِدْقُهَا فِيهِ فَجَرَى مَجْرَى الْحَيْضِ، ثُمَّ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كان ممنوعاً منها كالمريضة، والله أعلم. الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ فِي إِيجَابِهَا الْمَهْرَ مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمَسَّهَا حتى طلقها فلها نصف المهر لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 فَرَضْتُمْ} فإن احتج محتجٌ بالأثر عن عمر رضي الله عنه في إغلاق الباب وإرخاء الستر أنه يوجب المهر فمن قول عمر ما ذنبهن لو جاء بالعجز من قبلكم؟ فأخبر أنه يجب إذا خلت بينه وبين نفسها كوجوب الثمن بالقبض وإن لم يغلق باباً ولم يرخ ستراً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا؛ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُسَمَّى لَهَا صَدَاقًا مَعْلُومًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ، وَمَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِوَطْءٍ تَامٍّ تَغِيبُ بِهِ الْحَشَفَةُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَتْ مَالِكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) {النساء: 21) . وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ بِهَا وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ لَهَا، فَقَدِ اختلف الفقهاء فيه على ثلاث مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْخَلْوَةِ فِي كَمَالِ مَهْرٍ وَلَا إِيجَابِ عِدَّةٍ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو ثَوْرٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْوَةَ كَالدُّخُولِ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ؛ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الْخَلْوَةَ التامة في كمال المهر ووجوب العدة بأن لا يَكُونَا مُحْرِمِينَ وَلَا صَائِمِينَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا فِي كَمَالِ الْمَهْرِ أَوْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَاهَا لَمْ يُكْمَلْ بِالْخَلْوَةِ مَهْرٌ وَلَا يَجِبُ بِهَا عِدَّةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ في الإملاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْخَلْوَةَ تَقْتَضِي كَمَالَ الْمَهْرِ وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بَهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} وَلَهُمْ مِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْلِهِ {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْفَضَاءَ هُوَ الْمَوْضِعُ الْوَاسِعُ الْخَالِي، وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِاللُّغَةِ حُجَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَشَفَ قِنَاعَ امرأةٍ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا ". وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: " مَا ذَنْبُهُنَّ إِنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ ". وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ". وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهَا فِي اسْتِقْرَارِ بَدَلِهَا كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْعِوَضُ لَهَا، أَصْلُهُ: إِذَا وَطِئَهَا. وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِصَابَةِ كَمَا أَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي اسْتِقْرَارِ النَّفَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّمْكِينُ مِنَ الْإِصَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِصَابَةِ فِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فِي كَمَالِ مَهْرٍ، وَلَا وُجُوبِ عِدَّةٍ وَلَا بَدْءٍ فِي دَعْوَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَالْمَسِيسُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَسِيسَ كِنَايَةٌ لِمَا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ، وَلَيْسَتِ الْخَلْوَةُ مُسْتَقْبَحَةَ التَّصْرِيحِ فَيُكَنِّي عَنْهَا، وَالْوَطْءُ مُسْتَقْبَحٌ فَكُنِّيَ بِالْمَسِيسِ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَسِيسَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ كَمَالُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ كَمَلَ عِنْدَهُمُ الْمَهْرُ، وَلَوْ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ كَمَلَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَلَوْ مَسَّهَا مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ، وَلَا وَطْءٍ لَمْ يَكْمُلِ الْمَهْرُ، فَكَانَ حَمْلُ الْمَسِيسِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 الْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ الْمَهْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ طَلَاقٌ قَبْلَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْمُلَ بِهِ الْمَهْرُ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، وَلِأَنَّهَا خَلْوَةٌ خَلَتْ عَنِ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْمُلَ بِهَا الْمَهْرُ كَالْخَلْوَةِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا فَرْضًا؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الْمَهْرِ كَالْقُبْلَةِ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ لَمَّا لَمْ يَقُمْ فِي حَقِّهَا مَقَامُ الْإِصَابَةِ لَمْ يَقُمْ فِي حَقِّهِ مَقَامُ الْإِصَابَةِ كَالنَّظَرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَا حَقُّ الْإِيلَاءِ، وَالْعُنَّةِ، وَلِأَنَّ ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حَقُّ التَّسْلِيمِ فِي الْجَنَبَةِ الْأُخْرَى قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالْمُؤَاجَرِ إِذَا كَانَ دُونَ قَبْضِهِمَا حَائِلٌ، وَلِأَنَّ لِلْوَطْءِ أَحْكَامًا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْغُسْلِ، وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَسُقُوطِ الْعُنَّةِ وَحُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَكَمَالِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِمَا. فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الْخَلْوَةِ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ سِوَى تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ انْتَفَى عَنْهَا هَذَانِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْخَلْوَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرَّاءَ قَدْ خُولِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِفْضَاءِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي " مَعَانِيهِ ": إِنَّهُ الْغَشَيَانُ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْقُرْآنِ " هُوَ الْجِمَاعُ. فَكَانَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ مَحْجُوجًا بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي اسْتَدْلَلْنَا بِهَا مُفَسِّرَةٌ تَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُجْمَلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ أَنَّ كَشْفَ الْقِنَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَهُمْ، فَإِنْ جَعَلُوهُ كِنَايَةً فِي الْخَلْوَةِ كَانَ جَعْلُهُ كِنَايَةً فِي الْوَطْءِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: " مَا ذَنْبُهُنَّ إِنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْمَهْرُ مَعَ الْعَجْزِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَلْوَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ اسْتِحْقَاقُ دَفْعِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَمُنْتَقَضٌ مِمَّنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي صَوْمٍ، أَوْ إِحْرَامٍ، أَوْ حيض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 فَإِنْ قِيلَ: الصَّوْمُ وَالْإِحْرَامُ مَانِعٌ فَلَمْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ. قِيلَ: الْجُبُّ وَالْعُنَّةُ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِكَمَالِ الْمَهْرِ عِنْدَهُمْ بِالْخَلْوَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ لَكَمَلَ الْمَهْرُ وَاسْتَقَرَّ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْخَلْوَةُ لَوْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ مُوجِبَةً لِكَمَالِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَالْوَطْءِ. عَلَى أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَصِيرُ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ الْخَلْوَةَ فِيهِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ عِنْدَهُمْ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ صَوْمِ الْفَرْضِ. عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ مُقَدَّرَةٌ بِالزَّمَانِ، فَجَازَ أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ بِالتَّمْكِينِ فِيهِ لِتَقْضِيَهُ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ مُقَدَّرًا بِالزَّمَانِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَهْرُ فِيهِ بِالتَّمْكِينِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ زَمَانِهِ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْوَطْءِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْوَطْءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَلْوَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنَّفَقَةِ: فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّفَقَةَ مُقَابَلَةٌ بِالتَّمْكِينِ دُونَ الْوَطْءِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ مَعَ التَّمْكِينِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ لِأَنَّهُمْ لَا يُكْمِلُونَ الْمَهْرَ بِالْخَلْوَةِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ. فَصْلٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ تَجْرِي مَجْرَى اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي فَكَذَلِكَ الْخَلْوَةُ، وَلِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِمَّا يَسْتَسِرُّهُ النَّاسُ وَلَا يُعْلِنُونَهُ فَتَعَذَّرَتْ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا عَلَى ظَاهِرِ الْخَلْوَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فِي قَبُولِ قَوْلِ مُدَّعِيهَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ مَنْ يَدَّعِيهَا بِالْخَلْوَةِ، كَمَا لَوْ خَلَا بِهَا لَيْلَةً فِي بَيْتِهَا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فِي ذَلِكَ بِاللَّوْثِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى فِي الدِّمَاءِ. وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْمَوْلَى فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ؛ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَمْ تُصَدَّقِ الزَّوْجَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ فَسْخِهِ، وَالْأَصْلُ هَاهُنَا بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَعَدَمُ الْعِدَّةِ فَلَمْ يُصَدَّقْ مُدَّعِي اسْتِحْقَاقِهِمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 مسألة قال الشافعي: " وسواءٌ طَالَ مُقَامُهُ مَعَهَا أَوْ قَصُرَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ إِلَّا بِالْمِسِيسِ نَفْسِهِ (قَالَ المزني) رحمه الله قد جاء عن ابن مسعود وابن عباسٍ معنى ما قال الشافعي وهو ظاهر القرآن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْخَلْوَةَ إِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فَالْقَوْلُ مَعَهَا قَوْلُ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجَةِ فَإِنْ طَالَتْ حَتَّى زَالَتِ الْحِشْمَةُ بَيْنَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا. وَإِنْ قَصُرَتْ وَلَمْ تَزَلِ الْحِشْمَةُ بَيْنَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عُرْفُ الْحُكَّامِ بِالْمَدِينَةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إِنْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ اسْتَوَى حُكْمُ طَوِيلِهَا وَقَصِيرِهَا، وَأَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِهِ أَوْ بَيْتِهَا كَالْإِصَابَةِ. وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ كَمَالَ الْمَهْرِ كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِصَابَةُ فِي قَلِيلِ الْخَلْوَةِ وَلَا تَكُونُ فِي كَبِيرِهَا، وَقَدْ تَكُونُ الْإِصَابَةُ فِي خَلْوَةِ بَيْتِهَا، وَلَا تَكُونُ فِي خَلْوَةِ بَيْتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّفْصِيلِ مَعْنًى يُوجِبُهُ، وَلَا تَعْلِيلٌ يَقْتَضِيهِ، وَلَا أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَفِعْلُ حُكَّامِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَلِيلٍ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزوجين إذا خلوا من أربعة أَحْوَالٍ. إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْإِصَابَةِ فَيَكْمُلُ الْمَهْرُ وَتَجِبُ الْعِدَّةُ وَتُسْتَحَقُّ الرَّجْعَةُ إِجْمَاعًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ. فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ لَا يَكْمُلُ الْمَهْرُ، وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَلَا تُسْتَحَقُّ الرَّجْعَةُ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بَيْنَهُمَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ. وَفِي اسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَكْمَلُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِصَابَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَكْمَلُ الْمَهْرُ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ فَعَلِقَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إصابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ كَامِلٌ، وَالْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ، وَالرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْخَلْوَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قو أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَا يكمل المهر ولا تجب العدة ولا تستحق الرَّجْعَةُ اعْتِبَارًا بِعَدَمِ الْإِصَابَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ الْإِصَابَةَ وَيُنْكِرَهَا الزَّوْجُ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. فَأَمَّا اسْتِكْمَالُ الْمَهْرِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ قَدِ استكملته بلا يمين. وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ. فَإِنْ أَقَامَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْإِصَابَةِ سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِإِثْبَاتِ مَالٍ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْإِصَابَةَ وَتُنْكِرَهَا الزَّوْجَةُ فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ. فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ. وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَبِاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ لَهُ. وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا رَجْعَةَ لَهُ. فَأَمَّا الْمَهْرُ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. فَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَهْرُ فِي يَدِهَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ اسْتِرْجَاعُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ إِلَّا بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِهِ. فَلَوْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالْإِصَابَةِ لتثبت له الرجعة والعدة سمعت بشاهدي عَدْلَيْنِ، وَلَمْ تُسْمَعْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ. فَصْلٌ وَإِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِوَضٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا فِيهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا فِيهِ الْعِدَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْمَلَ لَهَا فِيهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ كَالْمَدْخُولِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْوَطْءِ مَوْجُودٌ فِيهِ لِلُحُوقِ وَلَدِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) وَهَذَا نِكَاحٌ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ مِنَ الْمَفْرُوضِ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ صَدَاقَهَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنَ الأول دون الثاني؛ لأنها تَأْتِي بِبَاقِي الْعِدَّةِ دُونَ جَمِيعِهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ حُكْمَ الْوَطْءِ يُلْحِقُ وَلَدَهَا بِهِ مَوْجُودٌ فيه ففاسد؛ لأن لحوقه بالنكاح الأول دون الثاني لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ النِّكَاحِ الثَّانِي لَحِقَ بِهِ. الثاني: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَحِقَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 باب المتعة من كتاب الطلاق قديمٍ وجديدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " جَعَلَ اللَّهُ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِكُلِّ مطلقةٍ متعةٌ إِلَّا الَتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فحسبها نصف المهر ". قال الماوردي: أما النفقة فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَتَاعِ، وَهُوَ كُلُّ مَا اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (وَكُلُّ عمارةٍ مِنْ حبيبٍ ... لَهَا بِكَ لَوْ لَهَوْتَ بِهِ مَتَاعُ) وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يشتمل على الطلاق الذي يستحق به المتعة، والطلاق ينقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ. وَقِسْمٌ لَا يوجبها. وقسم مختلف فيه. القسم الذي يوجب المتعة فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُوجِبُ الْمُتْعَةَ فَهُوَ طَلَاقُ الْمُفَوَّضَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ وَلَا فُرِضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ صَدَاقٌ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يُنَصَّفُ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا مُتْعَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا بَيَانَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 236) فَجَعَلَ لَهَا الْمُتْعَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ، وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) وَقَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ مَا أَقْنَعَ مَعَ ظَاهِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بُضْعَهَا، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهَا الْمُتْعَةُ لَخَلَا بُضْعُهَا مِنْ بَدَلٍ فَصَارَتْ كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا قَدِ ابْتُذِلَتْ بِالْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تَمْلِكْ لَهُ بَدَلًا، فَاقْتَضَى أن تكون المتعة فيه بدلاً؛ لأن لا تصير مبتذلة بغير بدل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 547 فصل: القسم الذي لا يوجب المتعة وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْمُتْعَةَ فَهُوَ الطلاق قبل الدخول لمن سمي لها مهر بالعقد أو فرض لها مهر قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى أَوِ الْمَفْرُوضِ وَلَا مُتْعَةَ لَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَلِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِمَا ابتذلت مِنَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا غَيْرَهُ؛ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ بَدَلَيْنِ؛ وَلِأَنَّ طَلَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ قَدْ أَسْقَطَ شَطْرَ مَهْرِهَا، فَلَا مَعْنَى لِأَنْ تستحق به متعة فوق مهرها. فصل: القسم المختلف فيه وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ لِمَنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ، فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، وَفِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِشَرْطَيْنِ هُمَا: عَدَمُ الْمَهْرِ، وَعَدَمُ الدُّخُولِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ بِفَقْدِهِمَا وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ عِوَضٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مُتْعَةٌ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا كَانَ لَهَا مَهْرٌ مُسَمًّى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهَا مُتْعَةٌ إِذَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الْمَهْرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ لَهَا مُتْعَةٌ، إِذَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ المتعة؛ لأن لا تَصِيرَ مُبْتَذَلَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى عِوَضٍ فَلَمْ يُجْمَعْ لَهَا بَيْنَ عِوَضَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَهَا الْمُتْعَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 231) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ مُسَمًّى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قوله تعالى: {وَلاَ جُناَحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 236) . قِيلَ: حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مُجْمَلٍ وَمُفَسِّرٍ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ وَالْمُجْمَلَ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) وفي تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعَالَيْنَ أُسَرِّحْكُنَّ وَأُمَتِّعْكُنَّ، وَقَدْ كن كلهم مَدْخُولَاتٍ بِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتْعَةَ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا الَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 548 وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ لَهَا الْمُتْعَةُ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ. وَلِأَنَّ اسْتِكْمَالَ الْمَهْرِ فِي مُقَابَلَةِ الدخول بدليل استحقاقه بوطئ الشُّبْهَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي ابْتُذِلَتْ بِهِ بَدَلٌ وَهُوَ الْمُتْعَةُ. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَغْلَظُ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنَ الْعِوَضِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ بِالطَّلَاقِ فِيهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنَ الْمُتْعَةِ مَعَ مَهْرٍ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَلَوْ سَقَطَتِ الْمُتْعَةُ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَغَلَّظْ فِي الْعِوَضِ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَعَلَى الْقَدِيمِ مِنْهُمَا لَا مُتْعَةَ إِلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدخول لها مهر مسمى. مسألة قال الشافعي: " فَالْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ زوجٍ طَلَّقَ وَلِكُلِّ زوجةٍ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ يَتِمُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُخَالِعَ أَوْ يَمْلِكَ أَوْ يُفَارِقَ وَإِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قبله فَلَا مُتْعَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ أَيْضًا لِأَنَّهَا ليست بمطلقةٍ وكذلك إن كانت أمةً فباعها سيدها من زوجها فهو أفسد النكاح ببيعه إياها منه فأما الملاعنة فإن ذلك منه ومنها ولأنه إن شاء أمسكها فهي كالمطلقة وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ ولها عندي متعةٌ والله أعلم (قال المزني) رحمه الله عِنْدِي غلطٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ لَا حَقَّ لها لأن الفراق من قبلها دونه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا يَخْتَلِفُ وُجُوبُهَا بِاخْتِلَافِ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهِيَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَلِكُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كَافِرَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا مُتْعَةَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) {البقرة: 241) وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ لِتَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ مُفَارِقَةً لِلْمَوْهُوبَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ كَمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 يَسْتَوِي فِي حَظْرِ الْمَوْهُوبَةِ حَالُ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهَا كُلُّ زَوْجٍ من كُلِّ زَوْجَةٍ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى تَفْصِيلِ الْفُرْقَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُتْعَةَ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الزوجين تنقسم خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الزَّوْجَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مِنْهُمَا. وَالْخَامِسُ: أن تكون من أجنبي غيرهما. فصل: الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْمَوْتِ فَلَا مُتْعَةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ تَوَارَثَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ عِصْمَتَهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْوَفَاةِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمِيرَاثٍ عَنْ وَفَاةٍ بِأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ أَوْ يَكُونُ الزَّوْجُ عَبْدًا فَتَرِثُهُ الزَّوْجَةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ صَاحِبَهُ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّوَارُثِ فَلَا مُتْعَةَ؛ لِأَنَّهَا عَنِ الْمَوْتِ حَدَثَتْ؛ وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْوَارِثَ لَهَا فَهِيَ أَمَتُهُ وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهَا مَالًا فَلَمْ يَجِبْ لَهَا عَلَيْهِ مُتْعَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْوَارِثَةَ لَهُ فَقَدْ صَارَ عَبْدًا لَهَا، وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَلَمْ يجب لها عليه متعة. فصل: الْقِسْمِ الثَّانِي وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنَ الزَّوْجِ دُونَهَا، فَخَمْسُ فِرَقٍ: أَحَدُهَا: الطَّلَاقُ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمُتْعَةِ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّانِي: بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَمَّ بِهِمَا فَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ فَهُوَ كَالطَّلَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِهِ أَغْلَظُ مِنَ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ لِتَأْبِيدِهَا فَكَانَتْ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ أَحَقَّ. وَالثَّالِثُ: الرِّدَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَتَقَعَ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهِ فَتَكُونُ كَالْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ بِالطَّلَاقِ الْمُبَاحِ كَانَ وُجُوبُهَا بِالرِّدَّةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْلَى. وَالرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَتَبِينُ بِإِسْلَامِهِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ كَالطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِفُرْقَةِ كُفْرِهِ كَانَ وُجُوبُهَا بِفُرْقَةِ إسلامه أولى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 وَالْخَامِسُ: الْفَسْخُ بِالْعُيُوبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْعَقْدِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فَلَا مُتْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ الْمَهْرَ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ الْمُتْعَةَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْعَقْدِ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهُ فَهُوَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْمَهْرُ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْمُتْعَةُ. فصل: القسم الثالث وأما القسم الثالث: أن تكون الفرقة من جهتها دون فَلَا مُتْعَةَ فِيهَا، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَسْخُهَا مُسْقِطًا لِصَدَاقِهَا فَأَوْلَى أَنْ يُسْقِطَ مُتْعَتَهَا، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِرِدَّتِهَا. وَالثَّانِي: بِإِسْلَامِهَا. وَالثَّالِثُ: بِأَنْ تجد فيها عَيْبًا فَتَفْسَخُ نِكَاحَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْتِقَ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فَتَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ. وَالْخَامِسُ: بِأَنْ يَعْسُرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهَا فَتَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ. وَالسَّادِسُ: بِأَنْ تَظْهَرَ فِيهِ عُنَّةٌ فَيُؤَجَّلَ لَهَا ثُمَّ تَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ بِهَا إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَلَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي غَلَطٌ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُ قَوْلِهِ لَا حَقَّ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا دُونَهُ. وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ وَاسْتِدْرَاكٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ فَسَهَا الْكَاتِبُ فِي نَقْلِهِ فَأَسْقَطَ قَوْلَهُ: " فَلَيْسَ " وَنَقَلَ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ: فَلَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى السَّهْوِ فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا، وَالْفُرْقَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْهَا أسقطت متعتها. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أن تكون الفرقة من جهتها فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ جِهَةُ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ جِهَةُ الزوجة. فأما ما يغلب فيه جهة الزوجة فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخُلْعُ، لِأَنَّهُ تَمَّ بِهِمَا إِلَّا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَقَعَتْ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْخُلْعِ عَنْهَا مَعَ غَيْرِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 وَالثَّانِي: أَنْ يُمَلِّكَهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهَا فَتُطَلِّقُ نَفْسَهَا وَتَشَاءُ طَلَاقَ نَفْسِهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِهِمَا إِلَّا أَنَّ جِهَةَ الزَّوْجِ أَغْلَبُ لِلْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَقَعَتْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ طَلَاقَهَا إِلَى غَيْرِهَا أَوْ أَنْ تُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ إِذَا انْفَرَدَ الزَّوْجُ بِإِيقَاعِهِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِهِ عَلَى مَا فَصَّلْنَا. وَأَمَّا مَا يُغَلَّبُ فِيهِ جِهَةُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَبْتَاعَهَا الزَّوْجُ مِنْ سَيِّدِهَا فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِبَيْعِ السَّيِّدِ، وَابْتِيَاعِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ مِنْ جِهَتِهَا فَظَاهِرُ نَصِّ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَهَا الْمُتْعَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يُغَلَّبَ جِهَةُ السَّيِّدِ هَاهُنَا فِي سُقُوطِ الْمُتْعَةِ كَمَا يُغَلَّبُ فِي الْخُلْعِ جِهَةُ الزَّوْجِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ كَانَ يَصِلُ إِلَى بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَ اخْتِيَارُهُ لِلزَّوْجِ اخْتِيَارًا لِلْفُرْقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِي يَتَسَاوَيَانِ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ بِهِمَا وَقَدِ اخْتَصَّ الزَّوْجُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ دُونَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَتَرَجَّحَ حَالُهُ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنْ لَا مُتْعَةَ لَهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدْعِي لِلْبَيْعِ هُوَ السَّيِّدُ فَغَلَبَتْ جِهَتُهُ فِي سُقُوطِ الْمُتْعَةِ، وَنَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدْعِي لِلْبَيْعِ هُوَ الزَّوْجُ فغلبت جهته في وجوب المتعة. فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ صَغِيرَةً فَتُرْضِعَهَا أُمُّهُ أَوْ بِنْتُهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ الْمُتْعَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسَمَّى، وَتَرْجِعَ بِالْمُتْعَةِ عَلَى الَّتِي حَرَّمَتْهَا كَمَا تَرْجِعُ عَلَيْهَا بِصَدَاقِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا أَنْ تُعْتِقَ عَبْدَهُ سَالِمًا عَنْهَا صَحَّ الصَّدَاقُ وَعَلَيْهِ عِتْقُهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ عَلَى هَذَا الْعِتْقِ جَائِزَةٌ فَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ عَنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 552 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتِقُ عَنْهَا نِصْفَهُ، وَيُقَوِّمُ عَلَيْهَا نِصْفَهُ الْبَاقِي إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً؛ لِأَنَّ عِتْقَ نِصْفِهِ كَانَ بِاخْتِيَارِهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُ بَاقِيهِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا فِي التَّقْوِيمِ وَإِدْخَالِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي التَّبْعِيضِ وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قِيمَةُ نِصْفِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِيَرْفَعَ ذَلِكَ الضَّرَرَ عَنِ الْجَمِيعِ. فَرْعٌ: وَإِذَا أَصْدَقَ الذِّمِّيُّ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ خَمْرًا فَصَارَ الْخَمْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ خَلًّا بِغَيْرِ عِلَاجٍ، وَأَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِيرَ الْخَمْرُ خَلًّا قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهَا بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ خَلًّا بَعْدَ إِسْلَامِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ خَلًّا إِلَيْهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ دَفْعُهُ خَمْرًا، فَلِذَلِكَ وَجَبَ دَفْعُهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا لِبَقَاءِ حُكْمِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ خَمْرًا فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا لِانْتِفَاءِ حُكْمِ الصَّدَاقِ عَنْهُ، فَلَوْ دَفَعَ الْخَمْرَ إِلَيْهَا فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ مُسْلِمٌ وَلَا بِقِيمَتِهِ لِأَنَّنَا لَا نَحْكُمُ لَهُ بِقِيمَتِهِ وَلَا بِبَدَلِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا بَدَلَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ قَدْ صَارَ خَلًّا قَبْلَ طَلَاقِهِ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْخَلِّ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الصَّدَاقِ مَوْجُودَةٌ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَعَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ لِزِيَادَتِهِ عَنْ حَالِ مَا أَصْدَقَ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الطَّلَاقِ، وَلَا فَرْقَ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا قَبْلَ إِسْلَامِهَا أَوْ بَعْدَهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَلَكِنْ لَوْ صَارَ خَلًّا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا لِكَوْنِهِ وَقْتَ طَلَاقِهَا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، وَلَوْ صَارَ قَبْلَ طَلَاقِهَا فَاسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَلِّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ قِيمَةِ الصَّدَاقِ مُعْتَبَرٌ بِأَقَلِّ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 553 فَرْعٌ: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِامْرَأَةٍ وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ النِّكَاحِ يَجْعَلُهَا مَالِكَةً لِزَوْجِهَا، وَإِذَا مَلَكَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا صَحَّ النِّكَاحُ، وَبَطَلَ الصَّدَاقُ. قِيلَ: لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ قَدْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِبُضْعِهَا بِالنِّكَاحِ، وَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً لِرَقَبَتِهِ بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ النِّكَاحِ الْآخَرِ فَبَطَلَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً صَحَّ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ، جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكًا لِسَيِّدِ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ فِي مِلْكِ سَيِّدٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ سَيِّدُهُ الْمُزَوِّجُ لَهُ بِنِصْفِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَصْدَقَ عَنْ عَبْدِهِ مَالًا ثُمَّ طَلَّقَ الْعَبْدَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ فَهَلْ يَكُونُ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَذَلَهُ عَنْهُ أَوْ لِسَيِّدِهِ الثَّانِي الَّذِي طَلَّقَ، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 554 باب الوليمة والنثر من كتاب الطلاق إملاءً على مسائل مالكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الْوَلِيمَةُ الَّتِي تُعْرَفُ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ وَكُلُّ دعوةٍ عَلَى إملاكٍ أَوْ نفاسٍ أَوْ ختانٍ أَوْ حَادِثِ سرورٍ فَدُعِيَ إِلَيْهَا رجلٌ فَاسْمُ الْوَلِيمَةِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَلَا أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَرَكَ الْوَلِيمَةَ عَلَى عرسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ أَوْلَمَ على غير وأول على صفية رضي الله عنها في سفرٍ بسويقٍ وتمرٍ وقال لعبد الرحمن " أولم ولو بشاةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْوَلِيمَةُ فَهِيَ إِصْلَاحُ الطَّعَامِ وَاسْتِدْعَاءُ النَّاسِ لِأَجْلِهِ، وَالْوَلَائِمُ سِتٌّ. وَلِيمَةُ الْعُرْسِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ. وَوَلِيمَةُ الْخُرْسِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى وِلَادَةِ الْوَلَدِ. وَوَلِيمَةُ الْإِعْذَارِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى الْخِتَانِ. وَوَلِيمَةُ الْوَكِيرَةِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ قَالَ الشَّاعِرُ: (كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَةُ ... الْخُرْسُ وَالْإِعْذَارُ وَالْوَكِيرَهْ) وَوَلِيمَةُ النَّقِيعَةِ: وَهِيَ وَلِيمَةُ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرِهِ، وَرُبَّمَا سَمُّوا النَّاقَةَ الَّتِي تُنْحَرُ لِلْقَادِمِ نَقِيعَةً قَالَ الشاعر: (إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضَرْبَ الْقُدَارِ نَقِيعَةَ الْقُدَّامِ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 555 وَوَلِيمَةُ الْمَأْدُبَةِ: هِيَ الْوَلِيمَةُ لِغَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنَّ خُصَّ بِالْوَلِيمَةِ جَمِيعُ النَّاسِ سُمِّيَتْ جَفَلَى، وَإِنْ خُصَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ سُمِّيَتْ نَقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ: (نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لَا ترى الآدب فينا ينتقر) فهذه الستة ينطق اسْمُ الْوَلَائِمِ عَلَيْهَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْوَلِيمَةِ يَخْتَصُّ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا مِنَ الْوَلَائِمِ بِقَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلِيمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلْمِ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَيْدُ الْوَلْمُ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّجْلَيْنِ، فَتَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْوَلَائِمِ تَشْبِيهًا بِهَا، فَإِذَا أُطْلِقَتِ الْوَلِيمَةُ تَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، فَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهَا قِيلَ: وَلِيمَةُ الْخُرْسِ، أَوْ وَلِيمَةُ الْإِعْذَارِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا، ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَلِيمَةَ غَيْرِ الْعُرْسِ لَا تَجِبُ. فَأَمَّا وَلِيمَةُ الْعُرْسِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عَاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ ". فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ الْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ مَهْيَمْ - أَيْ مَا الْخَبَرُ - قَالَ: أَعْرَسْتُ فَقَالَ لَهُ: أَوْلَمْتَ قَالَ: لَا قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَنْكَحَ قَطُّ إِلَّا أَوْلَمَ فِي ضِيقٍ أَوْ سَعَةٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ فِي سَفَرِهِ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ وَلِأَنَّ فِي الْوَلِيمَةِ إِعْلَانٌ لِلنِّكَاحِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِجَابَةُ الدَّاعِي إِلَيْهَا وَاجِبَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُسَبَّبِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ قَبُولِ الْإِنْذَارِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْذَارِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ "؛ وَلِأَنَّهُ طَعَامٌ لِحَادِثِ سُرُورٍ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْوَلَائِمِ. وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْوَلِيمَةِ عَقْدُ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَفَرْعُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَتَقَدَّرَتْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلَكَانَ لها بدل عند الإعساء كَمَا يَعْدِلُ الْمُكَفِّرُ فِي إِعْسَارِهِ إِلَى الصِّيَامِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهَا وَبَدَلِهَا عَلَى سُقُوطِ وجوبها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 556 وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِفِعْلِهَا حَيًّا، وَمَأْخُوذَةً مِنْ تَرِكَتِهِ مَيِّتًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَتَوَسَّطُ فِي وُجُوبِهَا مَذْهَبًا مَعْلُولًا، ويقول هي في فروض الكفايات إذا أظهرها الواحد فِي عَشِيرَتِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ ظُهُورًا مُنْتَشِرًا سَقَطَ فَرْضُهَا عَمَّنْ سِوَاهُ وَإِلَّا خَرَجُوا بِتَرْكِهَا أَجْمَعِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ تَعَيَّنَ كَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ عَمَّ وَجُوبُهُ كَالزَّكَوَاتِ أَوْ عَمَّ اسْتِحْبَابُهُ كَالصَّدَقَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ مُخْتَصٌّ بِمَا عَمَّ سُنَّتُهُ كَالْجِهَادِ أَوْ مَا تَسَاوَى فِيهِ النَّاسُ كَغُسْلِ الْمَوْتَى وَهَذَا خَاصٌّ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مَدْخَلٌ. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِهَا أَوِ اسْتِحْبَابِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهَا مِنَ الْإِجَابَةِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَتَمَلُّكَ مَالٍ وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ لَا يُلْزِمُ الْمَدْفُوعَةَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَ غَيْرُهَا أَوْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلَمْ يُجِبْ فَلَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ جَاءَهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أجيبوا الداع فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " شر الطعام الولائم يدعى إليها الأغنياء ويحرمه الفقراء والمساكين ". وَلِأَنَّ فِي الْإِجَابَةِ تَآلُفًا وَفِي تَرْكِهَا ضَرَرًا وَتَقَاطُعًا. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهَلْ يَكُونُ وُجُوبُهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 557 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَيْهَا أَنْ يُجِيبَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالتَّأْخِيرِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِذَا أَجَابَ مَنْ دُعِيَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا خَرَجُوا أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيمَةِ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا لِيَقَعَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ مَقْصُودُهَا بِمَنْ خُصَّ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَمَّنْ تَأَخَّرَ. فَصْلٌ: شُرُوطُ الداعي وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلِوُجُوبِهَا شُرُوطٌ تُعْتَبَرُ فِي الدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي فَسِتَّةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِذْنُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بالغٍ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِبُطْلَانِ إِذْنِهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لِفَقْدِ تَمْيِيزِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الصَّغِيرِ فِي فَسَادِ إِذْنِهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ أَيْضًا، لِأَنَّ وَلِيَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ مَالِهِ لَا لِإِتْلَافِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فَلَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ لِفَسَادِ إِذْنِهِ فَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ صَارَ كَالْحُرِّ فِي لُزُومِ إِجَابَتِهِ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا تَلْزَمُ مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي ذِمِّيًّا لِمُسْلِمٍ فَفِي لُزُومِ إِجَابَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُسْتَخْبَثَ الطَّعَامِ مُحَرَّمًا. وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ تَعَافُ كُلَّ طَعَامِهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الطَّعَامِ التَّوَاصُلُ بِهِ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَمْنَعُ مِنْ تَوَاصُلِهِمَا، فَإِنْ دَعَا مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ شَرْعِنَا إِلَّا عَنْ تراضٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 558 وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يُصَرِّحَ بِالدُّعَاءِ، إِمَّا بِقَوْلٍ أَوْ مُكَاتَبَةٍ أَوْ مُرَاسَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ جارٍ وَصَرِيحُ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: أَسْأَلُكَ الْحُضُورَ، أَوْ يَقُولَ: أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ، أَوْ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُجَمِّلَنِي بِالْحُضُورِ فَتَلْزَمُهُ إِجَابَتُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ كُلِّهِ. فَأَمَّا إِنْ قَالَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْضُرَ فَافْعَلْ لَمْ تَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَا أُحِبُّ أَنْ يُجِيبَ ". فَإِنْ كاتبه رفعة يَسْأَلُهُ الْحُضُورَ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَزِمَهُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ نَقَصَهُ فِي الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَوْ كَانَ فِي الْوَلِيمَةِ عَدُوٌّ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ رَاسَلَهُ بِرَسُولٍ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ وَصَدَّقَهُ، لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ بِوُرُودِهِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَا يَقُولُ وَلَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ رَسُولًا، فَإِنْ قَالَ الدَّاعِي لِرَسُولِهِ: ادْعُ مَنْ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعِيِّنَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ أَنْ يُجِيبَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ. فصل : شروط المدعو وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي فِي الْمَدْعُوِّ فَخَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: الْعَقْلُ لِيَكُونَ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ مِمَّنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ حُكْمُ الِالْتِزَامِ. وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ بِحَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُضِرًّا بِكَسْبِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ، وَفِي لُزُومِهَا بِإِذْنِهِ وَجْهَانِ فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ كَالرَّشِيدِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا وَالدَّاعِي مُسْلِمٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَابَةَ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ وَرَضِيَا بِحُكْمِنَا أَخْبَرْنَاهُمَا بِلُزُومِ الْإِجَابَةِ فِي دِينِنَا، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمَدْعُوُّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بِمَرَضٍ أَوْ إِقَامَةٍ عَلَى حِفْظِ مَالٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا أَعْذَارٌ تُسْقِطُ لُزُومَ الْإِجَابَةِ فَإِنِ اعْتَذَرَ بِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مَنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأَخُّرِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ لَمْ يكن عذراً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 559 وَإِنِ اعْتَذَرَ بِمَطَرٍ يَبُلُّ الثَّوْبَ كَانَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ فِي التَّأَخُّرِ عَنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ، وَإِنِ اعْتَذَرَ بِزِحَامِ النَّاسِ فِي الْوَلِيمَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَقِيلَ احْضُرْ، فَإِنْ وَجَدْتَ سَعَةً وَإِلَّا عُذِرْتَ فِي الرُّجُوعِ. فَصْلٌ فَإِنْ كَانَتِ الْوَلِيمَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَدُعِيَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَزِمَتِ الْإِجَابَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاسْتُحِبَّتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَمْ تَجِبْ، وَكُرِهَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوَلِيمَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَقٌّ وَفِي الثَّانِي مَعْرُوفٌ وَفِي الثَّالِثِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ ". فَصْلٌ وَإِذَا دَعَاهُ اثْنَانِ فِي يَوْمٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحُضُورِ إِلَيْهِمَا لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَزِمَتْهُ إِجَابَةُ أَسْبَقِهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْجِوَارِ أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا رَحِمًا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَأَجَابَ مَنْ قرعٍ مِنْهُمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا دَعَاكَ اثْنَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا جِوَارًا، فَإِنْ جَاءَا مَعًا فَأَجِبْ أَسْبَقَهُمَا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا أَجَابَ الدَّعْوَةَ وَبَرَّكَ وَانْصَرَفَ وَلَيْسَ بحتمٍ أَنْ يَأْكُلَ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَقَدْ دُعِيَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَلَسَ وَوُضِعَ الطَّعَامُ فَمَدَّ يَدَهُ وَقَالَ خذوا بسم اللَّهِ ثَمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ إِنِّي صَائِمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُهُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ، وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ". وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِحُضُورِهِ التَّجَمُّلُ أَوِ التَّكَثُّرُ أَوِ التَّوَاصُلُ وَالصَّوْمُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا حَضَرَ الصَّائِمُ لَمْ يَخْلُ صَوْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا لَمْ يُفْطِرْ وَدَعَا لِلْقَوْمِ بِالْبَرَكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الِانْصِرَافِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَيُفْطِرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلْيُفْطِرْ وَإِلَّا فَلْيُصِلِّ " أَيْ فَلْيَدْعُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ فَلَمْ تَلْزَمْهُ مُفَارَقَتُهَا؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْظُرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجَ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 560 فصل : حكم وجوب الأكل على المفطر فَأَمَّا الْمُفْطِرُ إِذَا حَضَرَ فَفِي وُجُوبِ الْأَكْلِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْحُضُورِ وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ وَهُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ "، وَلِأَنَّ فِي الْأَكْلِ تَمَلُّكٌ، قَالَ: فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْهِبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْلَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْأَكْلِ وَإِلَّا خَرَجَ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ لِمَا فِي امتناع جميعهم من عدم مقصود، وَانْكِسَارِ نَفْسِهِ وَإِفْسَادِ طَعَامِهِ. فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ الطَّعَامَ أَنْ يَأْكُلَ إِلَى حَدِّ شِبَعِهِ وَلَهُ أَنْ يُقْصِرَ عَنِ الشِّبَعِ وَيَحْرُمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، فَإِنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ شِبَعِهِ لَمْ يَضْمَنِ الزِّيَادَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَأْكُلُهُ لِيَحْمِلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ جَازَ لَهُ الْبَيْعُ كَالْمُضَحِّي وَلَا يَجُوزُ إِذَا جَلَسَ عَلَى الطَّعَامِ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ وَكَانَ الَّذِي أَطْعَمَهُ مِنَ الْمَدْعُوِّينَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَدْعُوٍّ ضَمِنَ. وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ إِلَى الطَّعَامِ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ صَاحِبُ الْوَلِيمَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَ مَعَهُ أَحَدًا فَقَدْ أَسَاءَ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ دُونَ الْمُحْضِرِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَدْعُوَّ ضَيْفًا وَالتَّابِعَ ضَيْفَنَ قَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا جَاءَ ضيفٌ جَاءَ لِلضَّيْفِ ضَيْفَنُ ... فَأَوْدَى بِمَا نُقْرِي الضُّيُوفَ الضَّيَافِنُ) فَصْلٌ وَيُخْتَارُ لَهُ إِذَا أَكَلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ آدَابَ أَكْلِهِ الْمَسْنُونَةَ. فَمِنْهَا غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَلَوْ تَوَضَّأَ فِي الْحَالَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ. رَوَى أَبُو هَاشِمٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ بَرَكَةُ الطَّعَامِ فذكرته للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَ الطَّعَامِ بَرَكَةُ الطعام ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 561 وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ قَبْلَ مَدِّ يَدِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَعْدَ رَفْعِهَا فَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ وَأَمَرَ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَلِيهِ وَلَا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ ذِرْوَةِ الطَّعَامِ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبِرْكَةُ فِي ذِرْوَةِ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حواليها " وإذا وضع اسْتَبَاحَ الْحَاضِرُونَ أَكْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ قولاً اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ إذن فِيمَا تَأَخَّرَ مِنَ الطَّعَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى يَسْتَحِقُّ الْحَاضِرُ مَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِذَا أَخَذَ اللُّقْمَةَ مِنَ الطَّعَامِ بِيَدِهِ صَارَ بِهَا أَحَقَّ وَأَمْلَكَ لَهَا؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا فِي الْيَدِ قَبْضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا وأملك لها إِذَا وَضَعَهَا فِي فَمِهِ، فَأَمَّا وَهِيَ بِيَدِهِ فَمَالِكُ الطَّعَامِ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْأَكْلِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْحُصُولِ فِي الْفَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَصِيرَ أحق بها وأملك إِلَّا بَعْدَ مَضْغِهَا، وَبَلْعِهَا، لِأَنَّ الْإِذْنَ يَضْمَنُ اسْتِهْلَاكَهُ بِالْأَكْلِ وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طِعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) {الأحزاب: 53) . وَرَوَى وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي سَوْرَةَ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ أُمَّتِي "، قَالُوا: وَمَا الْمُتَخَلِّلُونَ، قَالَ: " الْمُتَخَلِّلُونَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْمُتَخَلِّلُونَ بِالْمَاءِ في الوضوء ". مسألة قال الشافعي: " فإذا كَانَ فِيهَا الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمُسْكِرْ أَوِ الْخَمْرِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ نَهَاهُمْ فَإِنْ نَحَّوْا ذَلِكَ عَنْهُ وَإِلَّا لَمْ أُحِبَّ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لم أجب لَهُ أَنْ يُجِيبَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَفِيهَا خُمُورٌ أو ملاهي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ حُضُورِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ حضوره فله حالتان: أحدها: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَإِزَالَتِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِإِجَابَةِ الدَّاعِي. وَالثَّانِي: لإزالة المنكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 562 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِزَالَتِهِ فَفَرْضُ الْإِجَابَةِ قَدْ سَقَطَ، وَأَوْلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ وَفِي جَوَازِ حُضُورِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا فِي حُضُورِهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرِ وَالرِّيبَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ لَهُ الْحُضُورُ وَإِنْ كَرِهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحْشَمَهُمْ حُضُورُهُ فَكَفُّوا وَأَقْصَرُوا وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ كعب القرطي دُعِيَا إِلَى وَلِيمَةٍ فَسَمِعَا مُنْكَرًا فَقَامَ مُحَمَّدٌ لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَهُ الْحَسَنُ، وَقَالَ: اجْلِسْ وَلَا يَمْنَعْكَ مَعْصِيَتُهُمْ مِنْ طَاعَتِكَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِي الْوَلِيمَةِ مِنَ الْمَعَاصِي فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَلَا يَكُونُ خَوْفُهُ مِنْهَا عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ حَضَرَ وَكَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُهَا وَلَا يَسْمَعُهَا أَقَامَ عَلَى حُضُورِهِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ وَإِنْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشَاهِدْهَا لَمْ يَتَعَمَّدِ السَّمَاعَ وَأَقَامَ عَلَى الْحُضُورِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ سُمِعَ فِي مَنْزِلِهِ معاصٍ مِنْ دَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ عَنْ مَنْزِلِهِ كَذَلِكَ هَذَا، وَإِنْ شَاهَدَهَا جَازَ لَهُ الِانْصِرَافُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ إِنْ لَمْ تُرْفَعْ وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِ مَعَ حُضُورِهَا إِذَا صَرَفَ طَرَفَهُ عنها مما ذكرنا من الوجهين. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ رَأَى صُوَرًا ذَاتَ أرواحٍ لَمْ يَدْخُلْ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً وَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ فَإِنْ كَانَ صُوَرُ الشَجَرِ فَلَا بَأْسَ وأحب أن يجيب أخاه وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كراعٍ لأجبت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا كَانَ فِي الْوَلِيمَةِ صُوَرٌ فَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صُوَرُ شَجَرٍ وَنَبَاتٍ، وَمَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ فَلَا تَحْرُمُ، لِأَنَّهَا كَالنُّقُوشِ الَّتِي تُرَادُ لِلزِّينَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى مُسْدَلٍ مِنْ بُسُطٍ وَوَسَائِدَ أَوْ كَانَتْ عَلَى مُصَانٍ مِنْ سَتْرٍ أَوْ جِدَارٍ وَلَا يَعْتَذِرُ بِهَا الْمَدْعُوُّ فِي التَّأَخُّرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صُوَرَ ذَاتِ أَرْوَاحٍ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَصَانِعُهَا عاصٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعن المصور، وقال: " يؤتي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ انْفُخْ فِيهِ الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهِ أَبَدًا ". وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) {الأحزاب: 57) أَنَّهُمْ أَصْحَابُ التَّصَاوِيرِ وَإِذًا عَمَلُهَا مُحَرَّمٌ عَلَى صَانِعِهَا فَالْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا وَإِبَاحَتِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ كانت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 563 مُسْتَعْمَلَةً فِي مَنْصُوبٍ مُصَانٍ عَنِ الِاسْتِبْدَالِ كَالْحِيطَانِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ يَسْقُطُ مَعَهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: صَنَعْتُ طَعَامًا، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ رَجَعَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَجَعَكَ " قَالَ: " رَأَيْتُ صُورَةً وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ ". وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَمَرَ عُمَرَ أَنْ يَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِي الْكَعْبَةِ فَلَمَّا مُحِيَتْ دَخَلَهَا، وَلِأَنَّ الصُّوَرَ كَانَتِ السَّبَبَ فِي عِبَادَاتِ الْأَصْنَامِ، حُكِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا مَاتَ افْتَرَقَ أَوْلَادُهُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ تَمَسَّكُوا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَفَرِيقٌ مَالُوا إِلَى الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ ثُمَّ اعْتَزَلَ أَهْلُ الصَّلَاحِ فَصَعِدُوا جَبَلًا وَأَخَذُوا مَعَهُمْ تَابُوتَ آدَمَ وَمَكَثَ أَهْلُ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَكَانُوا يَسْتَغْوُونَ مَنْ نَزَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى تَابُوتِ آدَمَ فَصَوَّرَ لَهُمْ إبليس صورة آدم ليتخذوا بَدَلًا مِنَ التَّابُوتِ فَعَظَّمُوهَا ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ رَأَى تَعْظِيمَهَا فَعَبَدَهَا فَصَارَتْ أَصْنَامًا مَعْبُودَةً، فَلِذَلِكَ حُرِّمَ اسْتِعْمَالُ الصُّوَرِ فِيمَا كَانَ مُصَانًا مُعَظَّمًا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْأَصْنَامِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ بِعِبَادَتِهَا لِيَسْتَقِرَّ فِي نُفُوسِهِمْ بُطْلَانُ عِبَادَتِهَا وَزَوَالُ تَعْظِيمِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ زَالَ فِي وَقْتِنَا لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ تَعْظِيمِهَا فَزَالَ حُكْمُ تَحْرِيمِهَا، وَحَظْرُ اسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ يَعْبُدُ كُلَّ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ حجر تَحْرِيمِهَا، وَحَظْرُ اسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ يَعْبُدُ كُلَّ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ بَاقِيًا لَكَانَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ مَا اسْتُحْسِنَ حَرَامًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَدْفَعُهُ، وَإِنَّ مَا جَانَسَ الْمُحَرَّمَاتِ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهَا وَلَوْ سَاغَ هَذَا فِي صُوَرٍ غَيْرِ مُجَسَّمَةٍ لَسَاغَ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ، وَمَا أَحَدٌ يَقُولُ هَذَا فَفَسَدَ بِهِ التَّعْلِيلُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إِنِ اسْتُعْمِلَتِ الصُّوَرُ فِي مَكَانٍ مُهَانٍ مُسْتَبْذَلٍ كَالْبُسُطِ وَالْمُخَالِّ جَازَ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ. رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ عَلَّقَتْ سِتْرًا عَلَيْهِ صُورَةٌ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَآهُ رَجَعَ وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اقْطَعِيهِ وِسَادَتَيْنِ فَقَطَعَتْهُ مِخَدَّتَيْنِ. وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي مُسْتَبْذَلٍ مُهَانٍ زَالَ تَعْظِيمُهَا مِنَ النُّفُوسِ فَلَمْ تَحْرُمْ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِلْقَاءِ صَنَمَيْنِ كَانَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَانَتْ تُدَاسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُقِرُّهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِبْقَائِهَا؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِتَعْظِيمِهَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِهَا وَالْإِذْلَالِ بِهَا. فَصْلٌ فَأَمَّا السُّتُورُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْجُدْرَانِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ صُوَرَ ذَاتِ أَرْوَاحٍ فَاسْتِعْمَالُهَا مُحَرَّمٌ سَوَاءَ اسْتُعْمِلَتْ لِزِينَةٍ أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 564 مَنْفَعَةٍ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلزِّينَةِ حَرُمَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلْمَنْفَعَةِ لِتَسْتُرَ بَابًا أَوْ تَقِيَ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ جَازَ، وَلَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ بِهَا عَنِ الزِّينَةِ إِلَى الْمَنْفَعَةِ يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الصِّيَانَةِ إِلَى الْبِذْلَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَانًا عَظِيمًا فَحَرُمَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَسَقَطَ بِهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السُّتُورُ بِغَيْرِ صُوَرِ ذَاتِ أَرْوَاحٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِحَاجَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ بَابًا أَوْ تَقِي مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ زِينَةً لِلْجُدْرَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهَا وَلَا مَنْفَعَةٍ بِهَا فَهِيَ سَرَفٌ مَكْرُوهٌ. رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا فِيمَا رَزَقَنَا أن نكسوا الْجُدْرَانَ وَاللَّبِنَ " لَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهَذِهِ السُّتُورِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ لِلْوَلِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَظْرَهَا لِلْمُسْرِفِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا لِلْمَعْصِيَةِ فِي الْمُشَاهَدَةِ. فَصْلٌ وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ صُوَرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِنْ صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا مِنْهَا أَوْ مُسْتَقْبَحًا أَوْ مَا كان عَظِيمًا أَوْ مُسْتَصْغَرًا، إِذَا كَانَتْ صُوَرَ حَيَوَانٍ مشاهد. فأما صورة حَيَوَانٍ لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ مِثْلُ صُورَةِ طَائِرٍ لَهُ وَجْهُ إِنْسَانٍ أَوْ صُورَةِ إِنْسَانٍ لَهُ جَنَاحُ طَيْرٍ فَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ بَلْ يَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْدَعَ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فِيهِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهِ أَبَدًا ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ لَا تَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالتَّزَاوِيقِ الْكَاذِبَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالصُّوَرِ الْحَيَوَانِيَّةِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَوِّرَ وَجْهَ إِنْسَانٍ بِلَا بَدَنٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَحْرُمُ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي: " فِي نَثْرِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالسُّكَرِ فِي الْعُرْسِ لَوْ تُرِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بخلسةٍ ونهبةٍ وَلَا يَبِينُ أَنَّهُ حرامٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَثْرُ السُّكَّرِ وَاللَّوْزِ فِي الْعُرْسِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طِيبٍ أَوْ دَرَاهِمَ فَمُبَاحٌ إِجْمَاعًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ زَوَّجَ عَلِيًّا بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَثَرَ عَلَيْهِمَا لَكِنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْبَابِهِ وكراهيته فمذهب أبو حنيفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 565 إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ النَّثْرِ فَقَالَ: هِبَةٌ مُبَارَكَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، هُوَ مُبَاحٌ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ بَيْنَ النَّاسِ تَنَاهُبًا وَتَنَافُرًا وَمَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهِ وَرُبَّمَا حَازَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى آخَرِينَ شَيْءٌ مِنْهُ فَتَنَافَسُوا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَلْجَأُ النَّاسُ فيه إلى إسقاط المروآت إن أخذوا أو يتسلط عليهم السفاء إذا أَمْسَكُوا، وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحفظ للمروآت وَأَبْعَدَ لِلتَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ النِّثَارُ بَعْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ فِي زَمَانِهِمْ وَعَادَةُ أَهْلِ المروآت فِي وَقْتِنَا أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ أَرَادُوا أَوْ يَحْمِلُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ النَّثْرِ إِلَى الْهَدَايَا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فِي النَّثْرِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ مَلَكَهُ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَكْلِهِ أَوْ حَمْلِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ أَوْ بَيْعِهِ بِخِلَافِ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَكْلَهُ فِي مَوْضِعِهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْقَصْدِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ النَّثْرِ فِي حِجْرِ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ الْآخِذُ، وَإِنْ أَسَاءَ كَمَا يَقُولُ فِي الصَّيْدِ، إِذَا دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ آخِذُهُ، فَأَمَّا زَوَالُ مُلْكِ رَبِّهِ عنه ففيه وجهان: أحدهما: أن يَكُونُ نَثْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِلْكًا لِجَمَاعَتِهِمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مِلْكُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْأَخْذِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَلْتَقِطَهُ النَّاسُ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا الْتَقَطَهُ فَيَزُولُ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ. فَصْلٌ فَأَمَّا الْتِقَاطُ النَّثْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهِيَتِهِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمُ الْتِقَاطٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ لَا يَلْزَمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَدْعُوًّا كَمَا لَا يُكْرَهُ أَكْلُ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ لِلْمَدْعُوِّ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْكُلَهُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 566 الِالْتِقَاطُ عَلَى أَعْيَانِ الْحَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ مَحْضٌ فَجَرَى مَجْرَى الْهِبَةِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْكَافَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ تَعْلِيلًا بِالْهِبَةِ، فَإِنْ تَرَكُوهُ جَمِيعًا جَازَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِمَا فِي تَرْكِ جَمِيعِهِمْ لَهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُقَاطَعَةِ وَانْكِسَارِ نَفْسِ الْمَالِكِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا الْتَقَطَهُ بَعْضُهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَكَذَلِكَ، وَلَوِ الْتَقَطَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بَعْضَ الْمَنْثُورِ، وَبَقِيَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ وَبَعْضُ الْمَنْثُورِ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْتِقَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ بَاقِيًا خَرَجُوا بِتَرْكِهِ أَجْمَعِينَ ثُمَّ النَّثْرُ مُخْتَصٌّ فِي الْعُرْفِ بِالنِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِهِ كَالْوَلِيمَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِعُرْسِ النِّكَاحِ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهِ نَثْرُ اللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ وَإِنْ نَثَرَ قَوْمٌ غَيْرَ ذَلِكَ. حُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَزَوَّجَ فَنَثَرَ عَلَى نَفْسِهِ الزَّبِيبَ لِإِعْوَازِ السُّكَّرِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (وَلَمَّا رَأَيْتُ السُّكَّرَ الْعَامَ قَدْ غَلَا ... وَأَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ نَاكِحُ) (صَبَبْتُ عَلَى رَأْسِي الزَّبِيبَ لِصُحْبَتِي ... وَقُلْتُ كُلُوا أَكْلَ الْحَلَاوَةِ صَالِحُ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 567 مختصر القسم ونشوز الرجل على المرأة من الجامع ومن كتاب عشرة النساء ومن كتاب نشوز المرأة على الرجل ومن كتاب الطلاق من أحكام القرآن ومن الإملاء قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الِّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَفُّ الْمَكْرُوهِ وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَأْدِيَتِهِ فَأَيُّهُمَا مَطَلَ بِتَأْخِيرِهِ فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظلمٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا حَظَرَ عَلَيْهِ النُّشُوزَ عَنْهُ كَمَا أَوْجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ حَقًّا حَظَرَ عَلَيْهَا النُّشُوزَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) {الأحزاب: 50) . إِشَارَةً إِلَى مَا أَوْجَبَهُ لَهَا مِنْ كُسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، وَقَسْمٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {النساء: 19) . فَكَانَ مِنْ عِشْرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ تَأْدِيَةُ حَقِّهَا وَالتَّعْدِيلُ بينهما، وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي قَسْمِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطيِعُواْ أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَقَةِ} (النساء: 129) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) . فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُنَّ حَقًّا، وَأَنَّ عَلَيْهِنَّ حَقًّا، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) {البقرة: 228) فِي تَجَانُسِ الْحَقَّيْنِ وَتَمَاثُلِهِمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي وُجُوبِهِمَا وَلُزُومِهِمَا فَكَانَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ وُجُوبُ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ: فَقَالَ: " وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَفُّ الْمَكْرُوهِ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ ". وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَا إِلْزَامُ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ قَالَ: " لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَأْدِيَتِهِ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 568 وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ تَأْدِيَةَ الْحَقِّ بِالْكَرَاهِيَةِ وَعُبُوسَ الْوَجْهِ وَغَلِيظَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ. ثُمَّ قَالَ: " فَأَيُّهُمَا مَطَلَ فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ". وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ ظَالِمٌ بِتَأْخِيرِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ " ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله استحللتم فروجن بِكَلِمَةِ اللَّهِ فَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ الْقَسْمُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَهُنَّ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " فالرجل راع لأهله وهو مسؤول عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ " يَعْنِي قَلْبَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَرِضَ طِيفَ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا فَلَمَّا ثَقُلَ أَشْفَقْنَ عَلَيْهِ فَحَلَلْنَهُ مِنَ الْقَسْمِ ليقم عند عائشة رضي الله تعالى عنه لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا فَتُوُفِّيَ عِنْدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَفِي يَوْمِي وَلَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ وتغليظ حكمه. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَسْمِ فَلِوُجُوبِهِ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ لِيَصِحَّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِالْقَسْمِ فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحْصَنُ لَهَا، وَأَغَضُّ لِطَرْفِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يعتزلا فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الْمُقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا فَيَلْزَمُهُ بِذَلِكَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلَ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ الْقَسْمُ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهُمَا سَقَطَ الْقَسْمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِزَالِ لَهُمَا كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ لَهُمَا فَلَمْ يَجُزِ الْمَيْلُ إِلَى إحداهما، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 569 مسألة قال الشافعي: " وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لثمانٍ وَوَهَبَتْ سَوْدَةُ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَبِهَذَا نَقُولُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يَجِبُ بِالْمُطَالَبَةِ، وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَا يَجُوزُ الْمُعَارَضَةُ عَلَى تَرْكِهِ كَالشُّفْعَةِ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ عَنْ تِسْعِ زَوْجَاتٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ مِنْهُنَّ، لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ أَرَادَ طَلَاقَهَا لِعُلُوِّ سِنِّهَا، وَاسْتِثْقَالِ الْقَسْمِ لَهَا فَلَمَّا عَلِمَتْ ذَلِكَ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ نِسَائِكَ، فَأَمْسِكْنِي فَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ لِعِلْمِهَا بِشِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنها - فصار يقسم لعائشة - رضي الله عَنْهَا - يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ، وَيَقْسِمُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ يَوْمًا يَوْمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ هِبَتِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَى أُمَّتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِمَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَقُولُ " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ وَطِيفَ بِهِ فِي مَرَضِهِ عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا حَتَّى حَلَلْنَهُ مِنَ الْقَسْمِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مِنَ تَشَاءُ} (الأحزاب: 51) . وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ عَلَيْهِ يَقْطَعُهُ عَلَى التَّشَاغُلِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَتَوَقُّعِ الْوَحْيِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ جَمِيعَ أُمَّتِهِ. فَصْلٌ فَإِذَا اسْتَقَرَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هِبَةَ الْقَسْمِ جَائِزَةٌ فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِرِضَا الزَّوْجِ، لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْهَا إِلَّا بِرِضَاهُ فَإِذَا رَضِيَ بِهِبَتِهَا صَارَ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَتُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ حَالُ هِبَتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِنَّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 570 وَالثَّالِثُ: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ فَإِنْ وَهَبَتْ قَسْمَهَا لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا وَهَبَتْ سَوْدَةُ يَوْمَهَا لعائشة - رضي الله تعالى عنها - جاز ولم يعتبر فيه رضى الْمَوْهُوبِ لَهَا فِي تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا كَمَا لَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ نَفْسِهَا فَيَصِيرُ لَهَا يَوْمُ نَفْسِهَا، وَيَوْمُ الْوَاهِبَةِ وَهَلْ يَجْمَعُ الزَّوْجُ لَهَا بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ أَوْ تَكُونُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِافْتِرَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يُفَرِّقُهُمَا كَمَا لَا يُفَرِّقُ عَلَيْهَا يَوْمَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ عَلَى تَفْرِيقِهِمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ نَفْسِهَا فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَاهِبَةِ عَلَى تَرْتِيبِهِ جَعَلَهُ لَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَا فِي التَّرْتِيبِ مُفْتَرِقَيْنِ، لِأَنَّهَا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ عَنْ زَمَانِهِ كَمَا لَا يَعْدِلُ بِهِ عَنْ مِقْدَارِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ وَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِجَمِيعِ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَخُصَّ بِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا فَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِهِ قَسْمُ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ حَالُ الْقَسْمِ بَعْدَ هِبَتِهَا كَحَالِهِ لَوْ عَدِمَتْ فَيَصِيرُ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ حَقِّهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ حَقِّ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ تَأْثِيرُهُ إِذَا كُنَّ مَعَ الْوَاهِبَةِ أَرْبَعًا إِنْ كَانَ يَعُودُ يَوْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَارَ يَعُودُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِزَوْجِهَا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ يَوْمَهَا لِمَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِهِ، فَإِذَا جَعَلَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا اخْتَصَّتْ بِالْيَوْمَيْنِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي جَمْعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَنْقُلَ يَوْمَ الْهِبَةِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ إِلَى أُخْرَى جَازَ فَيَجْعَلُ يَوْمَ الْهِبَةِ فِي هَذِهِ النَّوْبَةِ لِعَمْرَةَ وَفِي النَّوْبَةِ الْأُخْرَى لِحَفْصَةَ وَفِي النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ لِهِنْدٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى خِيَارِهِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَاءَ. فَصْلٌ فَإِذَا رَجَعَتِ الْوَاهِبَةُ فِي هبتها، وطالبت الزوج بالقسم لها سقط حقا فِيمَا مَضَى، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ وَقَسَمَ لَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهَا رَجَعَتْ فِي هِبَةٍ لَمْ تُقْضَ فَلَوْ رَجَعَتْ فِي تَضَاعِيفِ يَوْمِهَا، وَقَدْ مَضَى بَعْضُهُ كَانَتْ أَحَقَّ بِبَاقِيهِ مِنَ الَّتِي صَارَ لَهَا وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ فِيهِ إِلَيْهَا، فَلَوْ رَجَعَتِ الْوَاهِبَةُ فِي يَوْمِهَا، وَلَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ بِرُجُوعِهَا حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ ثُمَّ علم قال الشافعي: " لم يقضيها مَا فَاتَ قَبْلَ عِلْمِهِ، وَاسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ الْقَسْمَ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِ ". وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يقصد الممايلة لغيرها. مسألة قال الشافعي: " وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَسْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَصَاعِدًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 571 وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الْمُقَامَ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ فَإِذَا وَجَبَ الْقَسْمُ لَهُنَّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ، وَلَهُ زَوْجَتَانِ أَقَرَعَ بَيْنَهُمَا فِي الَّتِي يَبْدَأُ بِالْقَسْمِ لَهَا فَيَزُولُ عَنْهُ الْمَيْلُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا سَافَرَ بِهَا فَلِذَلِكَ أَمَرْنَاهُ بِالْقُرْعَةِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ بالممايلة. فإذا خرجت قرعت إحداها بدأ بالقسم لها ثم قسم بعدها للثانية مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا أَقْرَعَ بَعْدَ الْأُولَى بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَإِذَا خَرَجَتْ قُرْعَةُ الثَّانِيَةِ قَسَمَ بَعْدَهَا لِلثَّالِثَةِ مِنْ غَيْرِ قرعة، ولو كن أربعاً أقرع بع الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فَإِذَا خَرَجَتْ قُرْعَةُ الثَّالِثَةِ قَسَمَ بَعْدَهَا لِلرَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْقَسْمُ لَهُنَّ بِالْقُرْعَةِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى سَقَطَتِ الْقُرْعَةُ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ النُّوَبِ، وَتَرَتَّبْنَ فِي الْقَسْمِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ تَأْتِي عَلَى مَرَّتَيْنِ بِالْقُرْعَةِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى. فَلَوْ رَتَّبَهُنَّ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى عَلَى خِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ النُّوَبِ إِلَّا بِقُرْعَةٍ يَسْتَأْنِفُهَا تَزُولُ التُّهْمَةُ بِهَا فِي الْمُمَايَلَةِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَهُنَّ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِمَا فِيهِ مِنِ انتفاء التهمة. مسألة قال الشافعي: " فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَمَوْضِعُ تَلَذُّذٍ وَلَا يُجْبَرُ أحدٌ عليه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَقَةِ) {قال) بعض أهل التفسير لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب لأن الله تعالى يجاوزه {فَلاَ تَمِيلُوا} لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فإذا كان الفعل والقول مع الهواء فذلك كل الميل وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقسم فيقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك " يعني والله أعلم فيما لا أملك قلبه (قال) وبلغنا أنه كان يطاف به محمولاً في مرضه على نسائه حتى حللنه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ لَهُنَّ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ وَلَا يَلْزَمُهُ جِمَاعُهُنَّ إِذَا اسْتَقَرَّ دُخُولُهُ بِهِنَّ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَا يَلْزَمُهُ جِمَاعُ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْجِمَاعَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَخُلُوصِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكَفُّلِهَا بِالتَّصَنُّعِ لَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَقَةِ) {النساء: 129) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ بِمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 572 فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الميل في أن تتبعوا أهواءكم وأفعالكم {فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَقَةِ} ، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارَقَةٍ. فَدَلَّتْ هذه الآية على أنه عَلَيْهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْقَسْمِ وَالْإِيوَاءِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ فَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ فِي كُلِّ مُدَّةٍ لِيُحَصِّنَهَا وَيَقْطَعَ شَهْوَتَهَا، فَإِنْ أَطَالَ تَرْكَ جِمَاعِهَا، وَحَاكَمَتْهُ إِلَى الْقَاضِي فَسَخَ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُجَامِعْ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ مَرَّةً، لِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ فَصَارَتْ تَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أيام يوماً وبهذا حكم كعب بن سور بِحَضْرَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فَكَانَ أَوَّلَ قاضٍ قَضَى بِهَا. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَعْبٌ تَوَسَّطَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صُلْحٍ وَمُرَاضَاةٍ وَكَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى جِمَاعِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى مُضَاجَعَتِهَا وَلَا عَلَى تَقْبِيلِهَا وَمُحَادَثَتِهَا وَلَا عَلَى النَّوْمِ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ زَمَانُ الْقَسْمِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَعِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ لِأَنَّهُ سَكَنٌ فَقَالَ: {أَزْوَاجاً لِتَسْكُنْوا إِلَيْهَا} . قال الماوردي: وهذا كماقال، عَلَى الزَّوْجِ فِي زَمَانِ الْقَسْمِ أَنْ يَأْوِيَ إِلَيْهَا لَيْلًا، وَيَنْصَرِفَ لِنَفْسِهِ نَهَارًا، لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الدَّعَةِ وَالْإِيوَاءِ وَالنَّهَارَ زَمَانُ الْمَعَاشِ وَالتَّصَرُّفِ، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) {النبأ: 10 - 11) . وَفِي اللِّبَاسِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِيوَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ وَإِلَى سَكَنِهِ فَصَارَ كَاللَّابِسِ لِمَسْكَنِهِ وَلِزَوْجَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَغَطَّى بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ كَمَا يَتَغَطَّى بِاللِّبَاسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) . وَالسَّكَنُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الدَّعَةِ وَالْإِيوَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُمْدَةَ الْقَسْمِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنْهَا لَيْلًا، وَكَانَ لَهُ اسْتِخْدَامُهَا نَهَارًا فَعُلِمَ أَنَّ اللَّيْلَ عِمَادُ الْقَسْمِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مِنْ عِنْدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 573 الَّتِي قَسَمَ لَهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا شَاءَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِيهِ لِوَطْئِهَا. رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة مِنْهُنَّ فَيُقَبِّلُ وَيَلْمَسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا. فَإِنْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَنْصَرِفُ فِي مَعَاشِهِ لَيْلًا وَيَأْوِي إِلَى مَسْكَنِهِ نَهَارًا كَالْحُرَّاسِ، وَصُنَّاعِ الْبِزْرِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فَعِمَادُ هَؤُلَاءِ فِي قَسْمِهِمُ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ سكنهم والليل زمان معاشهم. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ حَرَائِرُ مسلماتٌ وذمياتٌ فَهُنَّ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ تَسْتَوِي الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فِي الْقَسْمِ لَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {النساء: 19) . وَلِأَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ تَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ كَالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمُسْلِمَةُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا كَمَا يَعْدِلُ في قدر الزمان. مسألة قال الشافعي: " وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً إِذَا خَلَّى الْمَوْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ زَوْجَتَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَنَكَحَ أَمَةً وَحُرَّةً وَيَكُونَ حُرًّا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ ثُمَّ نَكَحَ بَعْدَهَا حُرَّةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمَا، وَيَكُونُ قَسْمُ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ ليلتين وللأمة ليلة واحدة أَوْ لِلْحُرَّةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إحداهما جاء يوم القيوم وَشِقُّهُ مَائِلٌ ". وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ إِذَا نَكَحَهَا خَصَّهَا بِسَبْعٍ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَبِثَلَاثٍ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ أَمَةٌ عَلَى حُرَّةٍ، وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 574 فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتِ الْمَرَاسِيلُ عِنْدَكُمْ حُجَّةً. قِيلَ: قَدْ عَضَّدَ هَذَا الْمُرْسَلَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ مَا رَوَى الْمِنْهَالُ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تُزُوِّجَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ قَسَمَ لَهَا يَوْمَيْنِ، وللأمة يوماً وإذا عضد المرسل قول الصحابي صَارَ الْمُرْسَلُ حُجَّةً. وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ لعلي - رضي الله تعالى عنه - فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا كَانَ ذَا عَدَدٍ تَبَعَّضَتِ الْأَمَةُ فِيهِ مِنَ الْحُرَّةِ كَالْحُدُودِ وَالْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ وُجُوبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَمَّا تَبَعَّضَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مِنَ الْحُرَّةِ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَوُجُوبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُرَّةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَجَبَ أَنْ يَتَبَعَّضَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْقَسْمِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دليل فيه، لأن العمل بما أوجبه لشرع لا يكون ميلاً محظوراً وأما اسْتِدْلَالَهُمْ بِقَسْمِ الِابْتِدَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمَا لَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ كَقَسْمِ الِانْتِهَاءِ فَسَقَطَ الدَّلِيلُ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا يَتَسَاوَيَانِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَسْمَ الِابْتِدَاءِ مَوْضُوعٌ لِلْأُنْسِيَّةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَقَسْمُ الِانْتِهَاءِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمَةِ نَاقِصٌ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُرَّةِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَسْمَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمِنْ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فِي وَقْتِ قَسْمِهَا كَمَّلَ لَهَا قَسْمَ حُرَّةٍ وَلَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ زَمَانِ قَسْمِهَا اسْتَأْنَفَ لَهَا فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ النُّوَبِ قَسْمَ حُرَّةٍ لَكِنَّهُ يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ مِثْلَ مَا كَانَ لِلْأَمَةِ مِنَ الْقَسْمِ، كَأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، فَاسْتَكْمَلَتِ الْأَمَةُ لَيْلَتَهَا وَهِيَ عَلَى الرِّقِّ، وَأَقَامَ مَعَ الْحُرَّةِ لَيْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ الْحُرَّةَ عَلَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ صَارَتْ مِثْلَهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْقَدِيمِ. وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ يُوجِبُ تَكْمِيلَ حَقِّهَا وَلَا يُوجِبُ نُقْصَانَ حَقِّ غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحُرَّةُ عَلَى حَقِّهَا، وَيَسْتَقْبِلَ زِيَادَةَ الْأَمَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا، فَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهَا حَتَّى مَضَى لَهَا نَوْبٌ فِي الْقَسْمِ ثُمَّ عَلِمَ، لَمْ يَقْضِ مَا مَضَى وَكَمَّلَ قِسْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 575 مسألة قال الشافعي: " وَلِلْأَمَةِ أَنْ تُحَلِّلَهُ مِنْ قَسْمِهَا دُونَ الْمَوْلَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهُ إِلْفٌ لَهَا وَسَكَنٌ فَإِنْ حَلَّلَتْ زَوْجَهَا مِنَ الْقَسْمِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ السَّيِّدُ وَلَوْ حَلَّلَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَهْرَ الَّذِي إِنْ عَفَا عَنْهُ السَّيِّدُ صَحَّ، وَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا فَصَحَّ عَفْوُهُ دُونَهَا، وَالْقَسْمُ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ فصح عفوها عنه دون السيد. مسألة قال الشافعي: " ولا يجامع المرأة لا فِي غَيْرِ يَوْمِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّيْلِ عَلَى الَّتِي لَمْ يَقْسِمْ لَهَا (قَالَ) وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ فِي حاجةٍ وَيَعُودَهَا فِي مَرَضِهَا فِي لَيْلَةِ غَيْرِهَا فَإِذَا ثَقُلَتْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تَخِفَّ أَوْ تَمُوتَ ثُمَّ يُوَفِّي مَنْ بَقِيَ مِنْ نِسَائِهِ مِثْلَ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عِمَادَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ دُونَ النَّهَارِ لَكِنَّ النَّهَارَ دَاخِلٌ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ زَمَانِ الْقَسْمِ اللَّيْلَ لِسَعَةِ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْيَوْمَ تَبَعٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ اللَّيْلِ دُونَ مَا تَأَخَّرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ دُخُولَ اللَّيْلِ، فَإِنْ جَعَلَ أَوَّلَ زَمَانِ الْقَسْمِ النَّهَارَ مَعَ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، جَازَ وَيَصِيرُ مُقَدِّمًا لِلتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ، فَإِذَا قَسَمَ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ عِنْدَهَا لَيْلًا لَا يَخْرُجُ فِيهِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ نَهَارًا لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ دُخُولَ غَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ عِنْدَهَا وَلَا مُقِيمٍ بَلْ لِيَسْأَلَ عَنْهَا وَيَتَعَرَّفَ خَبَرَهَا وَيَنْظُرَ فِي مَصَالِحِهَا أَوْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ عِنْدَهَا وَيَجُوزُ لَهُ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهَا أَنْ يقبلها ويمسها من غير وطئ لما روينا من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: " قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة مِنْهُنَّ فَيُقَبِّلُ وَيَلْمَسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا "، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ دُونَ النَّهَارِ فَإِذَا دَخَلَ النَّهَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى صَاحِبَةِ الْقَسْمِ حَقَّهَا مِنْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ كَدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِ نِسَائِهِ، فَأَمَّا وَطْؤُهُ لِغَيْرِهَا فِي النَّهَارِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ مَقْصُودُ الْقَسْمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي زَمَانِ غَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ فِي يَوْمِهَا فَوَجَدَهَا قَدْ خَرَجَتْ لِزِيَارَةِ أَبِيهَا فَاسْتَدْعَى مَارِيَةَ فَخَلَا بِهَا فَلَمَّا عَلِمَتْ حَفْصَةُ عَتَبَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالت فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَرْضَاهَا بِتَحْرِيمِ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهَا أَنْ لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 576 تُخْبِرَ بِذَلِكَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ فَأَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا فَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) {التحريم: 1) . فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ عِنْدَ غَيْرِهَا فِي نَهَارِ قَسْمِهَا أَوْ وَطِئَ فِيهِ غَيْرَهَا لَمْ يَقْضِ مُدَّةَ مُقَامِهِ، وَإِنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّهَارِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْإِيوَاءِ فَلَمْ يَقْضِهِ. فَأَمَّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا فِيهِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، سَوَاءٌ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْقَسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أن يفوته عليها، فإن دعته الضرورة إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا فَخَرَجَ لَمْ يَأْثَمْ وَنُظِرَ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَقْضِي مِثْلَهُ كَانَ عَفْوًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَقْضِي مِثْلَهُ، كَأَنْ خَرَجَ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَهُ قَضَاهَا زَمَانَ خُرُوجِهِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ الَّذِي يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ عَرَضَتْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِ زَوْجَةٍ قَضَاهَا ذَلِكَ الزَّمَانَ لَا مِنْ زَمَانِ واحدةٍ مِنْ نِسَائِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ لِمَرَضٍ خَافَ عَلَيْهَا مِنْهُ فَإِنْ مَاتَتْ سَقَطَ قَسْمُهَا، وَقَضَى صَاحِبَةَ الْقَسْمِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهَا مِنْ لَيْلَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَمُتْ قَضَى صَاحِبَةَ الْقَسْمِ مِنْ لَيْلَةِ الْمَرِيضَةِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهَا مِنْ لَيْلَتِهَا، فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَيَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا لَيْلَةَ غَيْرِهَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسِبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي هَذَا النَّقْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا قَالَ: وَيَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا فِي نَهَارِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ، وَنَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَهَا فِي لَيْلَةِ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مَرَضُهَا مَخُوفًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَجَّلَ مَوْتُهَا قَبْلَ النَّهَارِ فَفَاتَهُ حُضُورُهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَرَضُهَا مَأْمُونًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَادَتُهَا فِي اللَّيْلِ حَتَّى يُصْبِحَ فَيَعُودُهَا نَهَارًا وَإِنَّمَا قَضَاءُ زَمَانِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْذُورًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ فَلَوْ خَرَجَ فِي لَيْلَتِهَا إِلَى غَيْرِهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فِي الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لِقُصُورِهِ عَنْ زَمَانِ الْقَضَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزُمُهُ قَضَاءُ لَيْلَةٍ بِكَمَالِهَا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقَسْمِ فِي اللَّيْلِ هُوَ الْوَطْءُ فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ غَيْرَهَا، فَكَأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهَا جَمِيعَ اللَّيْلَةِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِهَا مِنْ لَيْلَةِ الْمَوْطُوءَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ الْمَوْطُوءَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا إِلَى هَذِهِ فَيَطَأَهَا ثُمَّ يَعُودَ إِلَى تِلْكَ لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ صَحِيحٌ وَفِي الْوَطْءِ فَاسِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ الزَّمَانِ دُونَ الْوَطْءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 577 مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَأَكْرَهُ مُجَاوَزَةَ الثَّلَاثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْأَوْلَى بِالزَّوْجِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةً لَيْلَةً اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى استيفاء حقوقهن، فإنه جَعَلَ الْقَسْمَ لَيْلَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَكَذَلِكَ لو جعله ثلاث ليال، لأن آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَلَا اعْتِرَاضَ لَهُنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ إِلَى خِيَارِهِ دُونَهُنَّ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثٍ، بِأَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ يقسم مياومة ومشاهرة ومسانهة. وَهَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ رِضَاهُنَّ بِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَرْضَيْنَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ بِهِنَّ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ دَخَلَ فِي الْكَثْرَةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَفْوِيتُ حُقُوقِهِنَّ فِيهَا بِالْمَوْتِ فَإِنْ قَسَمَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِلْبَاقِيَاتِ شَهْرًا شَهْرًا، فَإِذَا اسْتَوْفَيْنَ الشَّهْرَ فَلَهُنَّ أَنْ يُلْزِمْنَهُ تَقْلِيلَ الْقَسْمِ إِلَى ثَلَاثٍ. فَصْلٌ فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ فِي مُدَّةِ قَسْمِهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا سَقَطَ بَاقِيهِ سَوَاءٌ نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَقْضِهَا بَقِيَّةَ قَسْمِهَا وَلَا مَا مَضَى مِنْ نَوْبِ الْقَسْمِ بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَقَبْلَ نِكَاحِهَا وَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مَا تَجَدَّدَ مِنْ نَوْبِ الْقَسْمِ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ النَّوْبَةِ الَّتِي كَانَ الطَّلَاقُ فِيهَا فَإِنَّكَ تَنْظُرُ فَإِنْ كَانَتْ آخِرَ النِّسَاءِ قَسْمًا فِي النَّوْبَةِ قَضَاهَا بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا فِي تِلْكَ النَّوْبَةِ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْهَا بِالْقَسْمِ لِمَنْ تَقَدَّمَهَا وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلَ النِّسَاءِ قَسْمًا فِي النَّوْبَةِ لَمْ يَقْضِهَا بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ قَسْمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْتِكْمَالَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ سِوَاهَا مِثْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أراد أن يتقصر بِهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِيَقْسِمَ لِلْبَاقِيَاتِ مِثْلَهُ جَازَ إِذَا كَانَتْ أَوَّلَهُ وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كانت آخره. مسألة قال الشافعي: " وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَلِلَّتِي آلَى أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَلَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ فِي مَبِيتِهِ سُكْنَى وَإِلْفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَالْقَسْمُ لِلْإِلْفِ وَالسَّكَنِ لَا لِلْجِمَاعِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالَّتِي آلَى مِنْهَا أَوْ ظاهر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 578 قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَيَقْسِمُ لِلْمُحرمَةِ، فَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَإِنْ أَمِنَهَا عَلَى نَفْسِهِ قَسَمَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْهَا لَمْ يَقْسِمْ، وَيَقْسِمُ لِذَوَاتِ الْعُيُوبِ مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإِنْ عَافَتْهُ نَفْسُهُ فَسَخَ. وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَسْمُ لِمَنْ ذَكَرْنَاهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالْمَرِيضَةِ فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ إِذَا كَانَ يَضُرُّهَا. وَأَمَّا الرَّتْقَاءُ فَيَسْتَمْتِعُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَيَسْتَمْتِعُ بِهَا دُونَ الْفَرْجِ. وَأَمَّا الَّتِي آلَى مِنْهَا فَلَهُ وطئها وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَأَمَّا الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فليس له وطئها. وَفِي إِبَاحَةِ التَّلَذُّذِ فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا الْمُحْرِمَةُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَعَلَى الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ أَنْ يَقْسِمَ لِنِسَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهِنَّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَقْصُودِ الْقَسْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُنَّ كَالصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ عبداً لزمه القسم كالحر. مسألة قال الشافعي: " وإن أحب أن يلزم منزلاً يأتيه فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِنَّ فَأَيَّتُهُنَ امْتَنَعَتْ سَقَطَ حَقُّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجِ الْخِيَارَ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ أَنْ يَطُوفَ عَلَيْهِنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ فَيُقِيمُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي زَمَانِ قَسْمِهَا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ نِسَائِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ فِي مَنْزِلٍ وَيَأْمُرُهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَتُقِيمُ عِنْدَهُ مُدَّةَ قَسْمِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَاهُمَا بِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَسْمِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُنَّ وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَتِهِنَّ فَلَوْ أَمَرَهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فَامْتَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَإِنْ كَانَ لِمَرَضٍ عُذِرَتْ وكانت على حقها من القسم النفقة، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عُذْرٍ صَارَتْ بِامْتِنَاعِهَا نَاشِزًا وَسَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّ عَلَيْهَا قَصْدَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْدُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا لَزِمَهَا اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُسَافِرَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اتِّبَاعُهَا، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَالْخَفَرِ اللَّاتِي لَمْ تَجُزْ عَادَتُهُنَّ بِالْبُرُوزِ صِينَتْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اتِّبَاعُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا فِي مَنْزِلِهَا. فَصْلٌ وَإِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ، أَمْكَنَ نسائه أَنْ يَأْوِينَ مَعَهُ فِي حَبْسِهِ، فَهُنَّ عَلَى حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ لِأَنَّ حَالَهُ فِي الْحَبْسِ كَحَالِهِ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ فِي الْحَبْسِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النَّاسِ سَقَطَ الْقَسْمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 579 مسألة قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعَةُ بِالْجُنُونِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا سَقَطَ قَسْمُهَا، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جُنُونِهَا فَالْقَسْمُ لَهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّ فِيهِ إِلْفًا لَهَا وَسَكَنًا، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ النُّشُوزِ وَإِنْ لَمْ تَأْثَمْ، وَسَقَطَ بِذَلِكَ قَسْمُهَا وَنَفَقَتُهَا، لِأَنَّهَا فِي مقابلة استمتاع قد فات عليها بِامْتِنَاعِهَا وَإِنْ عُذِرَتْ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَسْتَوِي فِي الْوُجُوبِ مَعَ الْعُذْرِ وَالِاخْتِيَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَجِّرَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا أَجَّرَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ إِذَا سَقَطَ قَسْمُهَا بِالِامْتِنَاعِ قَسَمَ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ مِنْ نِسَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَشَزَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ عَاقِلَةٌ سَقَطَ حَقُّهَا، وَكَانَ الْقَسْمُ لِمَنْ سِوَاهَا، فَلَوْ أَقْلَعَتْ عَنِ النُّشُوزِ عاد قسمها معهن كالذي كان. مسألة قال الشافعي: " وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَلَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَشْخَصَهَا فَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُ، فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ سَافَرَ بِهَا بِالْقُرْعَةِ لَمْ يَقْضِ بَاقِي نِسَائِهِ مَا أَقَامَ مَعَهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ قَضَاهُنَّ مُدَّةَ سَفَرِهَا مَعَهُ وَإِنْ سَافَرَتْ مُنْفَرِدَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِإِذْنِهِ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَهِيَ فِي سَفَرِهَا آثِمَةٌ وَصَارَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُقِيمَةِ النَّاشِزَةِ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَهَا الْقَسْمُ وَالنَّفَقَةُ وَقَالَ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا قَسْمَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَهَا الْقَسْمُ وَالنَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ مِنَ الْمَأْثَمِ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ النُّشُوزِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ لَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، لِأَنَّهُمَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعٍ قَدْ فَاتَ عَلَيْهِ وَإِنْ عُذِرَتْ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ لَهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 580 سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنْ أَشْغَالِهِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرِهِ وَالَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ أَنَّهُ لَا قَسْمَ لَهَا إِذَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَخُصُّهَا مِنْ أَشْغَالِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَدِ انْصَرَفَ إِلَيْهَا دُونَهُ، وَإِنْ عُذِرَتْ وَيَكُونُ تَأْثِيرُ إِذْنِهِ فِي رَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَعَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِنَّ وَإِنْ عَمَدَ أَنْ يَجُورَ بِهِ أَثِمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لِلْمَجْنُونِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ فِي حَالِ صِحَّتِهِ ثُمَّ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا فَالْقَسْمُ لِنِسَائِهِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حُقُوقَ نِسَائِهِ مِنَ الْقَسْمِ، لِأَنَّ فِيهِ سَكَنًا لَهُ وَلَهُنَّ وَيَفْعَلُ الْوَلِيُّ أَصَحَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِمَسْكَنٍ يَأْمُرُهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فِيهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُطِيفَ بِهِ عَلَيْهِنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ رَتَّبَهُنَّ فِي الْقَسْمِ وَقَدَّرَ زَمَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَجْرَاهُ الْوَلِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَنْ قَسْمِهِ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمِ الزَّوْجُ لَهُنَّ اسْتَأْنَفَ الْوَلِيُّ بِالْقُرْعَةِ مَنْ يُقَدِّمُهَا مِنْهُنَّ وَقَدَّرَ لَهَا مِنْ مُدَّةِ الْقَسْمِ مَا يَرَاهُ أَصْلَحَ لَهُ وَلَهُنَّ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ فَإِنْ عَمَدَ الْوَلِيُّ أَنْ يَجُورَ بِهِ فِي الْقَسْمِ أَثِمَ فِي حَقِّهِ وَحُقُوقِهِنَّ وَلَا عِوَضَ لَهُنَّ عَلَى مَا فَوَّتَ مِنْ قَسْمِهِنَّ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ فَإِنْ أَفَاقَ الزَّوْجُ وَقَدْ جَارَ بِهِ الْوَلِيُّ نُظِرَ فِي جَوْرِهِ، فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ فَلَا قَضَاءَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ لِتَسَاوِيهِنَّ فِي سُقُوطِ الْقَسْمِ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّوْجُ لَهُنَّ الْقَسْمَ، وَإِنْ كَانَ جَوْرُ الْوَلِيِّ بِهِ أَنْ أَقَامَهُ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ وَمَنَعَهُ مِنْ بَاقِيهِنَّ، فَعَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ قَضَاءُ الْبَاقِيَاتِ بِمَا فَوَّتَهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ. فَصْلٌ وَإِذَا خِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ مِنْ جُنُونِ الزَّوْجِ سَقَطَ بِذَلِكَ حَقُّهُ مِنَ الْقَسْمِ، وَلَمْ تَسْقُطْ حُقُوقُهُنَّ فَإِنْ طَلَبْنَ الْقَسْمَ مَعَ الْخَوْفِ وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَقْسِمَ لَهُنَّ مِنَ الزَّوْجِ إِلَّا أَنْ يَرَى مِنَ الْأَصْلَحِ لَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ منهن فسقط قسمهن. مسألة قال الشافعي: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ واحدةٍ فِي اللَّيْلِ أَوْ أَخْرَجَهُ سلطانٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهَا مَا بَقِيَ مِنْ لَيْلَتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ فِي زَمَانِ قَسْمِهَا فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 581 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَهَارًا فَلَا قَضَاءَ لَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّهَارَ زَمَانُ التَّصَرُّفِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا حق فيه لغيرها من نسائه. والضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَثِمَ وَقَضَى، وَإِنْ خَرَجَ لِضَرُورَةٍ لَمْ يَأْثَمْ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ لَمْ يَظْلِمْ بِالْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا بِإِخْرَاجِهِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْخُرُوجِ ظُلْمًا فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ إِكْرَاهَ السُّلْطَانِ عُذْرٌ وَالْأَعْذَارُ لَا تُسْقِطُ قَضَاءَ الْقَسْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِمَا حَقَّهُمَا فِي زَمَانِ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ دُونَهَا. فَصْلٌ فَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ مَا وَجَبَ مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ فِي اللَّيْلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ النِّصْفَ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَقَضَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّصْفَيْنِ فِي مِثْلِهِ، فَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَقَامَ عِنْدَهَا النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَقَامَ لَا عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهُنَّ لَيَالٍ كَوَامِلَ، وَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ النِّصْفِ الثَّانِي أَقَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَإِذَا دَخَلَ النِّصْفُ الثَّانِي أَقَامَ فِيهِ عِنْدَ صَاحِبَةِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَأْوِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَ زَوْجَةٍ إِلَّا فِي نِصْفِ الْقَضَاءِ وَحْدَهُ حَتَّى يَتَبَعَّضَ اللَّيْلُ فِي قَسْمِهِنَّ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ بِهِ إِلْفٌ وَلَا سُكْنَى. وَأَقَلُّ زَمَانِ الْقَسْمِ لَيْلَةٌ بِكَمَالِهَا، وَيَكُونُ الْيَوْمُ تَبَعًا لَهَا فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ لِإِحْدَى نِسَائِهِ لَيْلَةً بِلَا يَوْمٍ وَالْأُخْرَى يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ لَيْلَ الْقَسْمِ مَقْصُودٌ وَنَهَارَهُ تَبَعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مسألة قال الشافعي: " وَلَيْسَ لِلْإِمَاءِ قسمٌ وَلَا يُعَطَّلْنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا قَسْمَ لِلْإِمَاءِ فِي بَعْضِهِنَّ مَعَ بَعْضٍ وَلَا مَعَ الْحَرَائِرِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا كَانَ يَقْسِمُ لِمَارِيَةَ وَلَا لِرَيْحَانَةَ مَعَ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَاخْتَصَّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْإِمَاءِ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْقَسْمِ الِاسْتِمْتَاعُ وَلَا حَقَّ لِلْإِمَاءِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّيِّدُ مَجْنُونًا أَوْ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ خِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ قَسْمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يُعَطَّلْنَ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعَطَّلْنَ مِنَ الْقَسْمِ يَعْنِي فِي السَّرَارِي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 582 وَالثَّانِي: لَا يُعَطَّلْنَ مِنَ الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ أَحْصَنُ لَهُنَّ وَأَغَضُّ لِطَرْفِهِنَّ، وَأَبْعَدُ لِلرِّيبَةِ مِنْهُنَّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ سَرَارِي وَزَوْجَاتٌ فَأَقَامَ عِنْدَ الْإِمَاءِ وَاعْتَزَلَ الْحَرَائِرَ أَوْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ إِمَائِهِ وَاعْتَزَلَ بَاقِيهُنَّ وَجَمِيعَ الْحَرَائِرِ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْحَرَائِرِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ مُقَامُهُ عِنْدَ الْأَمَةِ قَسْمًا مُسْتَحَقًّا فَلَمْ يَقْضِهِ وَجَرَى مَجْرَى مُقَامِهِ مُعْتَزِلًا عَنْ إِمَائِهِ وَنِسَائِهِ. مسألة قال الشافعي: " وَإِذَا ظَهَرَ الْإِضْرَارُ مِنْهُ بِامْرَأَتِهِ أَسْكَنَّاهَا إِلَى جَنْبِ مَنْ نَثِقُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ إِضْرَارٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ حَالُهُ كُفَّ عَنْهُ وَأُمِرَ بِإِزَالَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَأَمَّا إِذَا أَشْبَهَتْ حَالُهُ فِيهِ فَإِنِ ادَّعَتْ إِسْقَاطَ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ تَعَدِّيهِ عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ذَاكَ وَغَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إِذَا شَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا إِلَى جَنْبِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِيُرَاعِيَ حَالَهَا، وَيَأْخُذَهُ بِحَقِّهَا وَيُكِفَّ أَذَاهُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ لِتَشَاغُلِهِ بِعُمُومِ الْخُصُومِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا بِنَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَ زَوْجَتَهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ لَا تَشَاءُ. قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ زَوَالِ الِاشْتِبَاهِ وَارْتِفَاعِ الضَّرَرِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ خَوْفِ الضَّرَرِ، وهكذا لو شكى الزوج منها الإضرار وأنها لا تودي حَقَّهُ وَلَا تَلْزَمُ مَنْزِلَهُ وَلَا تُطِيعُهُ إِلَى الْفِرَاشِ وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَسْكَنَهَا الْحَاكِمُ إِلَى جَنْبِ مَنْ يُرَاعِيهَا مِنْ أُمَنَائِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا حَقَّ الزَّوْجِ كَمَا اسْتَوْفَى لَهَا حَقَّهَا مِنَ الزَّوْجِ. مسألة قال الشافعي: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ امَرْأَتَيْنِ فِي بَيْتٍ إِلَّا أَنْ تَشَاءَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قَالَ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَسْكَنًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل مثل ذلك مع نِسَائِهِ، وَكَمَا لَا يَشْتَرِكْنَ فِي النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِكْنَ فِي الْمَسْكَنِ، وَلِأَنَّ بَيْنَ الضَّرَائِرِ تَنَافُسًا وَتَبَاغُضًا إِنِ اجْتَمَعْنَ خَرَجْنَ إِلَى الِافْتِرَاءِ وَالْقُبْحِ، وَلِأَنَّهُنَّ إِذَا اجْتَمَعْنَ شَاهَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَلْوَةَ الزَّوْجِ بِضَرَّتِهَا، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى على الوجس، وهو أن يطأ بحيث يسمع حسه، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَسْكَنًا فَإِنْ أَسْكَنَهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَأَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْتًا مِنْهَا، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ تَوَارَتْ عَنْ ضَرَائِرِهَا جَازَ إِذَا كَانَ مثلهن بسكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 583 مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تُطَالِبَهُ بِإِفْرَادِ مَسْكَنٍ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُنَّ لَا يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَسْكَنَهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِحُجْرَةٍ مِنْهَا تُوَارِيهَا جَازَ إِذَا كَانَ مِثْلُهُنَّ يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُنَّ لَا يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِنَّ وَيَسَارِ زَوْجِهِنَّ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِدَارٍ فَسِيحَةٍ ذَاتِ بُيُوتٍ وَمَنَازِلَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ كَمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي كُسْوَتِهِنَّ وَنَفَقَاتِهِنَّ فَلَوْ تَرَاضَى جَمِيعُ نِسَائِهِ بِسُكْنَى مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يَجْتَمِعْنَ فِيهِ جَازَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيْنَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي النَّفَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حِذَاءَ ضَرَائِرِهَا، فَإِنْ غَابَ عَنْ أَبْصَارِهِنَّ جَازَ، وَإِنْ عَلِمْنَ بِخَلْوَتِهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَبَيْنَ أَمَةٍ لَهُ سُرِّيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنْكَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَلْوَتَهُ بِمَارِيَةَ فِي بَيْتِهَا فَاعْتَذَرَ إِلَيْهَا. فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ إِمَائِهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ جَازَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مسكناً، لأن لَا قَسْمَ لَهُنَّ وَلَا يَلْزَمُهُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى مُوَاسَاةٌ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ الْمُسْتَحِقَّاتِ لِذَلِكَ مُعَاوَضَةً أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ فَاضِلَ نَفَقَاتِ إِمَائِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَاضِلَ نَفَقَاتِ نِسَائِهِ. فَصْلٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ فَأَقَامَ فِي بَلَدِ إحداهن فَإِنِ اعْتَزَلَهَا فِي بَلَدِهَا وَلَمْ يَقُمْ مَعَهَا فِي مَنْزِلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُقَامُ فِي بَلَدِ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَامُهُ فِي بَلَدِ الزَّوْجَةِ قَسْمًا يُقْضَى، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقَامَ مَعَهَا فِي مَنْزِلِهَا لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْأُخْرَى فَيُقِيمَ مَعَهَا بِبَلَدِهَا فِي مَنْزِلِهَا مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ الْقَسْمَ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ كَمَا لا يسقط باختلاف المحال. مسألة قال الشافعي: " وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُهُودِ جَنَازَةِ أُمِّهَا وَأَبِيهَا وَوَلَدِهَا وَمَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ دَوَامَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَمْنَعُهَا مِنْ تَفْوِيتِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا، وَلِأَنَّ لَهُ تَحْصِينَ مَائِهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ فَلَوْ مَرِضَ أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَتِهِمَا وَلَوْ مَاتَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ حُضُورِ جَنَازَتِهِمَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ مِقْدَارًا بِمُدَّةٍ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ لِذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ عَنْ زَوْجَتِهِ وَنَهَاهَا عَنِ الْخُرُوجِ فَمَرِضَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عِيَادَتِهِ فَقَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَكِ "، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي حُضُورِ جَنَازَتِهِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَكِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 584 فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِيهَا بِطَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ هُتْكَةً يُنْهَيْنَ عَنْهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ إِلَى الْبَقِيعِ فَرَأَى فَاطِمَةَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ؟ قَالَتْ: عُدْتُ مَرِيضًا لِبَنِي فُلَانٍ، قَالَ: إِنِّي ظَنَنْتُكِ مَعَ الْجَنَازَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا كَلَّمْتُكِ أَبَدًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنَّنِي لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ عِيَادَةِ أَبِيهَا إِذَا ثَقُلَ، وَمِنْ حُضُورِ مُوَارَاتِهِ إِذَا مَاتَ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفُورِهَا عَنْهُ وَإِغْرَائِهَا بِالْعُقُوقِ. فَصْلٌ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِصَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ. فَإِنْ قيل: فَلِمَ يَمْنَعُهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَافِلَاتٍ " فَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْخَلِيَّاتِ مِنَ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي يَمْلِكْنَ تَصَرُّفَ أَنْفُسِهِنَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسَاجِدِ الْحَجُّ الَّذِي لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ فَرْضِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي زَمَانِهِ لِمَا وَجَبَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِنَّ ثُمَّ زَالَ الْمَعْنَى فَزَالَ التَّمْكِينُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا وَكَّدَ مِنْ لُزُومِ الْحِجَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِنِسَائِهِ حِينَ حَجَّ بِهِنَّ: " هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحَصْرِ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ أَشَدَّ الْمَنْعِ، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 585 بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا حَالُ النِّسَاءِ من الجامع من كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة قال الشافعي رحمه الله تعالى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ " دليلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَالثَّيِّبَ ثَلَاثًا وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِهَا نِسَاؤُهُ اللَّاتِي عِنْدَهُ قَبْلَهَا وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ لِلْبِكْرِ سبعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثلاثٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اسْتَجَدَّ الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْتَجَدَّةَ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا بِسَبْعِ لَيَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا بِثَلَاثِ لَيَالٍ يُقِيمُ فِيهِنَّ عِنْدَهَا لَا يَقْضِي بَاقِي نِسَائِهِ وَلَا تُحْسَبُ بِهِ مِنْ قَسْمِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ شَارَكَتْهُنَّ حِينَئِذٍ فِي الْقَسْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقِيمُ مَعَ الْبِكْرِ سَبْعًا، وَمَعَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا، وَيَقْضِي نِسَاءَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ ". قَالَ: وَهَذَا مِنْهُ مَيْلٌ إِنْ لَمْ يَقْضِ. وَقَالَ: لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَ الْمُسْتَجَدَّةُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهَا كَالنَّفَقَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ مِثْلِهَا لِلْبَوَاقِي قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَامَ مَعَهَا بَعْدَ مُدَّةِ الزِّفَافِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، وَدَخَلَ بِهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عِنْدِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 586 سَبْعًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا بِكِ مِنْ هَوَانٍ عَلَى أَهْلِكِ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ ". رَوَى أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لِلْبِكْرِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثَةٌ " ثُمَّ يَعُودُ إِلَى نِسَائِهِ. فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قضاءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَرْقُهُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ. وَالثَّانِي: حَصْرُهُ بِعَدَدٍ وَمَا يَقْضِي لَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَلَا يَنْحَصِرُ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْتَجَدَّةُ عُرْفًا وَشَرْعًا تَجْعَلُهُ حُكْمًا مُسْتَحَقًّا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا خُصَّتِ الْمُسْتَجَدَّةُ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ إِكْرَامًا وَإِينَاسًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَيْلًا خُصَّتْ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ لِلْمُسْتَجَدَّةِ حِشْمَةً لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِمُكَاثَرَةِ الِاجْتِمَاعِ وَمُطَاوَلَةِ الْإِينَاسِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي أَنْ خُصَّتِ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ، لِأَنَّ الثَّيِّبَ لِاخْتِبَارِ الرِّجَالِ أَسْرَعُ أَنَسَةً مِنَ الْبِكْرِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ انْقِبَاضًا وَأَقَلُّ اخْتِبَارًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَيْلٍ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ مَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَنِ النَّفَقَةِ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النِّصْفَ فَكَانَ مُطَّرَحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي النَّفَقَةِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الْقَسْمِ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ يَسْتَوِيَانِ فِي النَّفَقَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْقَسْمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْقَسْمُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ اخْتَلَفَ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى قَسْمِ الِانْتِهَاءِ فَمُنْتَقَضٌ بِالَّتِي سَافَرَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَطْعُ النَّوْبَةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ دَلَّ عَلَى الْفَصْلِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. فَصْلٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِكْرَ مَخْصُوصَةٌ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبَ بِثَلَاثٍ فَلَيْسَ لَهُ النقصان منها إلا برضى المستجدة، ولا له الزيادة عليها إلا برضى الْمُتَقَدِّمَاتِ، فَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ سَبْعًا كَالْبِكْرِ ففيه وجهان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 587 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْضِي مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ وَلَا يَقْضِي الثَّلَاثَ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ تُقْضَى السَّبْعُ كُلُّهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَعِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ. فَصْلٌ وَإِذَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ كَمَا لَا يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي قسم ويبدأ بأسبقهما زفافاً إليه، فإن زفا إليه في وقت واحد بدأ بأسبقهما نكاحاً، فإن نكحها فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَرَعَ بَيْنَهُمَا وَبَدَأَ بِالْقَارِعَةِ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَأَجْزَأَهُ، ثُمَّ يَدْخُلُ بِالثَّانِيَةِ وَيُوَالِي بَيْنَ الزِّفَافَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمَاتِ مِنْ نِسَائِهِ أَنَّ تَمْنَعَهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا، وَعِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا حَتَّى وَفَّاهُمَا، وَهُمَا بِكْرَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ وَإِنْ سَقَطَتْ بِالتَّفْرِقَةِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ وَقَسَمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَيْلَتَيْنِ فَأَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهِمَا بَعْضَ زَمَانِهَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ ثَالِثَةٍ زُفَّتْ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نقضت اللَّيْلَةُ بِكَمَالِهَا كَأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمَةِ إِحْدَى اللَّيْلَتَيْنِ بِكَمَالِهَا، وَبَقِيَتْ لَهَا اللَّيْلَةُ الْأُخْرَى فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ الثَّالِثَةِ قَدَّمَ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ وَقَطَعَ قَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ أَوْكَدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ لَا يُقْضَى، وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ يُقْضَى، وَمَا لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ أَوْكَدُ، فَإِذَا وَفَّى الْمُسْتَجَدَّةَ قَسْمَهَا وَفَّى الْمُتَقَدِّمَةَ بَاقِي قَسْمِهَا، وَهُوَ لَيْلَةٌ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَجَدَّهَا فِي تَضَاعِيفِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَسْمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْطَعُ اللَّيْلَةَ عَلَيْهَا وَيَقْسِمُ لِلْمُسْتَجَدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي لِلْمُتَقَدِّمَةِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهَا الْأُولَى وَجَمِيعَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُكْمِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُ الْمُتَقَدِّمَةِ بِهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا وَإِنَّ فِي تَبْعِيضِ اللَّيْلَةِ عَلَيْهَا مُبَايَنَةً لَهَا وَانْكِسَارًا لِنَفْسِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي النَّهَارِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا جَازَ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنِ اسْتَجَدَّ نِكَاحَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْسِمَ فِيهِ لِغَيْرِهَا. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صلاةٍ مكتوبةٍ وَلَا شُهُودِ جنازةٍ وَلَا بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا إِجَابَةِ دعوةٍ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 588 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُسْتَجَدَّةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا لِئَلَّا يَقْسِمَ فِي الْمُتَقَدِّمَاتِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا نَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَمُتَصَرَّفَاتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسْمَيْنِ سَوَاءٌ لَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُلَازَمَتُهُ للمستجدة فِي نَهَارِ قَسْمَتِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُتَقَدِّمَاتِ لِيَتَعَجَّلَ بذلك أنسها ويقوى بها مَيْلُهَا، لَكِنَّنَا لَا نُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِهَا عَنْ حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَلَا عَنْ بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ أَجَابَ، وَيُخْتَارُ لَهُ فِي هَذَا الْقَسْمِ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا الصِّيَامَ وَالتَّطَوُّعَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ، لِأَنَّهَا أَيَّامُ بِعَالٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ " أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وشربٍ وَبِعَالٍ، فَلَا تَصُومُوا " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 589 باب القسم للنساء إذ حضر سفرٌ من الجامع من كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شافعٍ أَحْسَبُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ " شَكَّ الْمُزَنِيُّ " عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَأَرَادَ سَفَرًا، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ فَلَهُ ذَاكَ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ بِجَمِيعِ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ فِي السَّفَرِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَضَرِ، فَإِذَا سَافَرَ بِهِنَّ كُنَّ عَلَى قسمهن في السفر كماكن عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَ قَسْمُهَا وَنَفَقَتُهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْذُورَةً بِمَرَضٍ لِعَجْزِهَا عَنِ السَّفَرِ فَلَا تَعْصِي، وَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ قَسْمِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ ذَلِكَ لَهَا فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنْ عُذِرَتْ فِيهِ بِأَنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَامْتَنَعْنَ مِنَ السَّفَرِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُنَّ عَنِ التَّأَخُّرِ إِذَا أَمِنَّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْعُوهُنَّ إِلَى مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا يَدْعُوهُنَّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنْ أَقَمْنَ بِذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِهِنَّ نَشَزْنَ وَسَقَطَ قَسْمُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ. فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتْرُكَهُنَّ فِي أَوْطَانِهِنَّ وَلَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ وَهُوَ مُقِيمٌ جَازَ فَإِذَا اعْتَزَلَهُنَّ بِالسَّفَرِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ إِذَا قَامَ بِمَا يَجِبُ لَهُنَّ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَإِذَا خِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ إِذَا سَافَرَ عَنْهُنَّ لَزِمَهُ أَنْ يُسْكِنَهُنَّ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنَّ فِيهِ، فإن وجد ذلك في وطئه وَإِلَّا نَقَلَهُنَّ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاطِنِ الْمَأْمُونَةِ فَإِنْ أَمَرَهُنَّ بَعْدَ سَفَرِهِ عَنْهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَيْهِ لَزِمَهُنَّ الْخُرُوجُ إِذَا كَانَ السَّفَرُ مَأْمُونًا وَوَجَدْنَ ذَا مَحْرَمٍ فَإِنِ امْتَنَعْنَ نَشَزْنَ وَسَقَطَتْ نفقاتهن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 590 فصل : والحال الثالثة : أن يريد السفر ببعضهم دُونَ بَعْضٍ فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ ذَاكَ فِي أَكْثَرِ أَسْفَارِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ فَأَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِهِنَّ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَهُنَّ فَأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ بِعَضَّهُنَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَهُنَّ لِلسَّفَرِ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ الَّتِي تَزُولُ بِهَا عَنْهُ التُّهْمَةُ لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ تَسَاوَيْنَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَيِّزَهُنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَابْتِدَاءِ الْقَسْمِ فَإِذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِيُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَ فَأَيَّتُهُنَّ قَرَعَتْ سَافَرَ بِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ صِفَةِ الْقُرْعَةِ فِي بَابِهَا، وَلَوْ رَاضَاهُنَّ عَلَى السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ فَإِنِ امْتَنَعْنَ بَعْدَ الرِّضَا مِنْ تَسْلِيمِ الْخُرُوجِ لِتِلْكَ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُرُوجِ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ وَسَافَرَ حَتَّى جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ حَتَّى الْمُتَرَاضَى سَفَرُهَا وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ لَهَا، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ بَعْدَ خُرُوجِهَا عَلَى الْمُرَاضَاةِ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّفَرِ جَازَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فِي السَّفَرِ فَجَازَ لَهُ رَدُّهَا مِنَ السَّفَرِ وَكَذَلِكَ الْخَارِجَةُ معه بِالْقُرْعَةِ وَلَوْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَقَرَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَقَالَ الزَّوْجُ لَسْتُ أُرِيدُهَا فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازَ، وَإِنْ قَالَهُ مُرِيدًا لِلسَّفَرِ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَسْمٌ قَدْ تَعَيَّنَ حَقُّهَا بِالْقُرْعَةِ. فَصْلٌ وَإِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَنْ قُرْعَةٍ أَوْ تراضٍ لَمْ يَقْضِ لِلْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَ الْخَارِجَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ مُخَالِطًا لَهَا أَوْ مُعْتَزِلًا عَنْهَا، لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا حَكَتْ قُرْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَنْ يُسَافِرُ بِهَا لَمْ تَحْكِ بِأَنَّهُ قَضَى بَاقِي نِسَائِهِ مِثْلَ مُدَّتِهَا وَلَوْ فَعَلَهُ لَحَكَتْهُ. ووري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ لِبَعْضِ أَسْفَارِهِ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَسَافَرَ بِهِمَا، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَاقِيَاتِ. وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ مَعَهُ وَإِنْ حَظِيَتْ بِهِ فَقَدْ عَانَتْ مِنْ لَأْوَاءِ السَّفَرِ وَمَشَاقِّهِ مَا صَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَاتِ وَإِنْ أَوْحَشَهُنَّ فِرَاقُهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ رَفَاهَةِ الْمُقَامِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَجْمَعُ لَهُنَ بَيْنَ الْقَسْمِ وَالرَّفَاهَةِ الَّتِي حرمتها المسافرة. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أن يخرج باثنتين أَوْ أَكْثَرَ أَقْرَعَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَبِاثْنَيْنِ مِنْهُنَّ وَبِثَلَاثٍ، وَيَخْلُفُ وَاحِدَةً كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ، وَيَخْلُفَ ثَلَاثًا لَكِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ فِي إِخْرَاجِ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا قَرَعَ اثْنَانِ مِنْهُنَّ، وَسَافَرَ بِهِمَا قَسَمَ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرِهِ كَمَا كَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 591 يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا فِي حَضَرِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهُمَا فَيَسْقُطُ الْقَسْمُ لَهُمَا، وَلَا يَقْضِي الْمُقِيمِينَ مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْخَارِجَتَيْنِ، وَإِنْ قَسَمَ لَهُمَا كَمَا لَا يَقْضِي مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْوَاحِدَةِ فَلَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ أَرَادَ فِي سَفَرِهِ إِخْرَاجَ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُقِيمَاتِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ أَنْ يَنْفَرِدْنَ بِالْقُرْعَةِ، لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الْقُرْعَةِ بِانْفِرَادِهِنَّ بِهَا، وَأَقْرَعَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُنَّ وَأَخْرَجَ مَنْ قُرِعَتْ مِنْهُنَّ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِهَا مُدَّةَ سَفَرِهَا إِلَيْهِ. فَلَوْ تَرَاضَى الْمُقِيمَاتُ بِإِخْرَاجِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ يَجُزْ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي الْقُرْعَةِ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ اثْنَتَانِ بِالْقُرْعَةِ فَأَرَادَ رَدَّ إِحْدَاهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ زَوْجَتَيْنِ فَصِرْنَ أَرْبَعًا، وَأَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَأَيَّتُهُنَّ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَصَّ بِإِخْرَاجِ إِحْدَى الْجَدِيدَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَسْمُ الْعَقْدِ لَهَا مُعَجَّلًا فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَافَرَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ قَسْمَ الْعَقْدِ يُقَدِّمُ إِحْدَاهُمَا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ الثَّانِيَةَ بَعْدَهَا فَإِذَا أَوْفَاهَا حَقَّ الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ وَلَوْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ فَسَافَرَ بِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّفَرُّدِ بِهَا لِلْأُلْفَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ بِالسَّفَرِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَدَمَ قَبْلَ سَبْعٍ وَهِيَ بِكْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا تَمَامُ السَّبْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ سَبْعٍ إِذَا عَادَ قَبْلَهَا لَمُنِعَتِ الزِّيَادَةَ إِذَا طَالَ سَفَرُهَا ثُمَّ إِذَا قَدِمَ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسْتَجَدَّةِ الْمُقِيمَةِ مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْسِمُ لَهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ، لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَهَا قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ بِالسَّفَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخُصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْضِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَهَا عَلَيْهِ قَسْمُ الْعَقْدِ فَتَقَدُّمُهَا بِهِ قَبْلَ قَسْمِ الْمُمَاثِلَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَوَفَّاهُ وَقَدْ صَارَ إِلَى الْمُسَافِرَةِ مِنْ قَسْمِ السَّفَرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ قَسْمِ الْعَقْدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَإِنْ خَرَجَ بواحدةٍ بِغَيْرِ قرعةٍ كَانَ عَلَيْهِ أن يقسم لمن بقي بقدر واحدةٍ إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها مَغِيبِهِ مَعَ الَّتِي خَرَجَ بِهَا وَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ لنقلةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 592 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَقْضِ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَهَا، فَأَمَّا إِنْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْضِي اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَسْمَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يَقْرَعْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَقْرَعَ كَالْحَضَرِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَوْ سَقَطَ الْقَضَاءُ فِي الحالية لَمْ يَكُنْ لِلْقُرْعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ وُجُودُ الْقُرْعَةِ وَعَدَمُهَا فِي الْإِبَاحَةِ افْتَرَقَا فِي الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ خَصَّ إِحْدَى نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ يَلْحَقُهُ فِيهَا التُّهْمَةُ فَوَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ كَالْمُقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنِ الْمُسَافِرِ لِمَا لَهُ مِنْ تَرْكِهِنَّ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَازَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنْهُ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بِاثْنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُمَا وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ فَوُجُوبُهُ يَكُونُ بِمُخَالَطَتِهِ لِلْمُسَافِرَةِ وَحُلُولِهَا مَعَهُ فِي سَفَرِهِ حَيْثُ يَحُلُّ. فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهَا فِي سَفَرِهِ وَأَفْرَدَهَا بِخَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَتِهِ، وَفِي مسكن إذا دخل بلداً غير مسكنه فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهَا فِي السَّفَرِ قَسْمًا يُقْضَى كَمَا لَا يَكُونُ قُرْبُهَا فِي الْحَضَرِ قَسْمًا مُؤَدًّى، فَلَوْ خَالَطَهَا شَهْرًا وَاعْتَزَلَهَا شَهْرًا قَضَى شَهْرَ مُخَالَطَتِهَا وَلَمْ يَقْضِ شَهْرَ اعْتِزَالِهَا فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَامِ وَالِاعْتِزَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ. فَصْلٌ وَلَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ بِالْقُرْعَةِ إِلَى بَلَدٍ قَرِيبٍ ثُمَّ سَافَرَ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ سَفَرِهِ شَهْرٌ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ السَّفَرُ بِمُدَّةٍ وَمَسَافَةٍ لِأَنَّهُ عَوَارِضُ السَّفَرِ. فَصْلٌ وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا زَوْجَةً أُخْرَى فِي سَفَرِهِ خَصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَعَهَا غَيْرَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهَا قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسَافِرَةِ وَلَا يَقْضِي الْبَاقِيَاتِ، إِنْ كَانَ سَفَرُهُ بِالْوَاحِدَةِ بِقُرْعَةٍ وَيَقْضِيهِنَّ إن سافر بها بغير قرعة. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بقرعةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ الْمُقَامَ لنقلةٍ احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الْإِزْمَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ سَفَرَ حَاجَةٍ ثُمَّ صَارَ إِلَى بَلَدٍ فَنَوَى الْمُقَامَ فِيهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فِيهِ مُسْتَوْطِنًا لَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهَا، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيطَانِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 593 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ مُدَّةً مُقَدَّرَةً يَلْزَمُهُ لَهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ، كَأَنَّهُ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَمَا زَادَ إِلَى مُدَّةٍ قَدَّرَهَا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَوْطِنَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَمْ لَا؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ، لِأَنَّهُ بِالْمُسَافِرِ أَخَصُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُمُعَةَ تَنْعَقِدُ بِهِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ لِأَنَّهُ بِالْمُقِيمِ أَخَصُّ، فَإِذَا قِيلَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، فَلَا مَقَالَ. وَإِذَا قِيلَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مُدَّةَ الْمُقَامِ، وَفِي قَضَاءِ مُدَّةِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْضِيهِ إِلْحَاقًا بِمَا تَقَدَّمَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقْضِيهِ لُمَعَانَاةِ السَّفَرِ فِيهِ كَالسَّفَرِ فِي التَّوَجُّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 594 باب نشوز المرأة على الرجل من الجامع من كتاب نشوز الرجل على المرأة ومن كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن قال الشافعي رحمه الله تبارك وتعالى {وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الْآيَةَ (قَالَ) وَفِي ذَلِكَ دلالةٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُعَاتَبُ فِيهِ وَتُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى الْخَوْفِ مِنْ فعلٍ أَوْ قولٍ وَعَظَهَا فَإِنْ أَبْدَتْ نُشُوزًا هجرها فإن أقامت عليه ضربها وقد يحتمل {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إذا نشزن فخفتم لجاجتهن في النشوز يكون لكم جمع العظة والهجر والضرب وقال عليه السلام " لا تضربوا إماء الله " قال فأتاه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فأذن في ضربهن فأطاف بآل محمدٍ نساءٌ كثيرٌ كلهن يشتكين أزواجهن فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لقد أطاف بآل محمدٍ سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن فلا تجدون أولئك خياركم " ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام قبل نزول الآية بضربهن ثم أذن فجعل لهم الضرب فأخبر أن الاختيار ترك الضرب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نُشُوزُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَهُوَ امْتِنَاعُهَا عَلَيْهِ إِذَا دَعَاهَا إِلَى فِرَاشِهِ مَأْخُوذٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ نشز فسميت الممتنعة عن زوجها ناشراً لِارْتِفَاعِهَا عَنْهُ وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو حَالُ النُّشُوزِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمْا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِنُشُوزِهِ عَنْهُ وَمَا لَا يَلْزَمُهُ فَإِنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي نُشُوزِهِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ وَالسُّكْنَى، وَالْقَسْمُ الَّذِي يُنْدَبُ إِلَيْهِ اسْتِحْبَابًا أَنْ لَا يَهْجُرَ مُبَاشَرَتَهَا وَلَا يُظْهِرَ كَرَاهِيَتَهَا وَلَا يُسِيءَ عِشْرَتَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْأَصْلُ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 595 مِنْ أَمْوَالِهِمْ) {النساء: 34) . يَعْنِي أَنَّ الرِّجَالَ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ وَقَوْلُهُ: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) {النساء: 34) . يَعْنِي بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالرَّأْيِ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمِ مِنَ الْمُهُورِ وَالْقِيَامِ بِالْكِفَايَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ) {النساء: 34) . يَعْنِي فَالصَّالِحَاتُ الْمُسْتَقِيمَاتُ الدِّينِ الْعَامِلَاتُ بِالْخِيَرِ، وَيَعْنِي بِالْقَانِتَاتِ الْمُطِيعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَزْوَاجِهِنَّ وَحَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ لِأَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ وَلِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ حُقُوقِهِمْ عَلَيْهِنَّ، وَفِي قوله: {بِمَا حَفِظَ اللهُ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ حَتَّى صِرْنَ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَالثَّانِي: بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَنَفَقَاتِهِنَّ حَتَّى صِرْنَ بِهَا مَحْفُوظَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِهَا وَنَفْسِهَا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) ". إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فِعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) {النساء: 34) . فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَاقَبَتَهَا عَلَى النُّشُوزِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْعِظَةِ، والضرب والهجر. ثم قال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} يَعْنِي فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ {فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلَا تُقَابِلُوهُنَّ بِالنُّشُوزِ عَنْهُنَّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُكَلِّفَهَا مَعَ الطَّاعَةِ أَنْ تُحِبَّكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ النُّشُوزِ فَهُوَ أَنْ يُشْكِلَ حَالُ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا هُوَ النَّاشِزُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُسْكِنُهُمَا في جواز أَمِينِهِ لِيُرَاعِيَهُمَا وَيَعْلَمَ النَّاشِزَ مِنْهُمَا فَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ يُنْهِيَهُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَهُوَ الذي أنزل الله تعالى فيه: {فَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) {النساء: 35) الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الباب الآتي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 596 فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى نُشُوزِ الزَّوْجَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ نُشُوزَهَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ لَهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تُلَبِّيَ دَعْوَتَهُ وَتُسْرِعَ إِجَابَتَهُ وَتُظْهِرَ كَرَامَتَهُ فَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا تُلَبِّي لَهُ دَعْوَةً وَلَا تُسْرِعُ لَهُ إِجَابَةً وَلَا تُظْهِرُ لَهُ كَرَامَةً وَلَا تَلْقَاهُ إِلَّا مُعَبِّسَةً وَلَا تُجِيبُهُ إِلَّا مُتَبَرِّمَةً لَكِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَهُ فِي الْفِرَاشِ، فَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُشُوزًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ النُّشُوزِ الصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ عَلَيْهِ وَلَا مُدَاوَمَةٍ لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُصِرَّ عَلَى النُّشُوزِ الصَّرِيحِ وَتُدَاوِمُهُ وَإِذَا كان لها النُّشُوزِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَتَهَا عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثِ، هَلْ تُرَتَّبُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ مُتَرَتِّبَاتٌ عَلَى أَحْوَالِهَا الثَّلَاثِ وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ مُضَمَّنًا فِي الْآيَةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهَا إِنْ خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِنْ أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى النُّشُوزِ ضَرَبَهَا، وَيَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي تَرْتِيبِهَا كَالْمُضْمَرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقْطَعَ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ) {المائدة: 33) وَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُضْمَرَ فِيهَا: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ قَتَلُوا، وَأَخَذُوا الْمَالَ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، كَذَلِكَ آيَةُ النُّشُوزِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي ذُنُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا تَكُونُ كَبَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا صَغَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِكَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَأَوْجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ احْتِمَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَالَيْنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا وَهَجَرَهَا فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ ضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا وَضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الضَّرْبُ وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ إِنْذَارٌ وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 597 بِمُدَاوَمَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ تَجِبُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا بِمُدَاوَمَتِهَا فَكَذَلِكَ ضَرْبُ النُّشُوزِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى إِبْدَائِهِ دُونَ مُلَازَمَتِهِ، فَصَارَ تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَهُ عِنْدَ إِبْدَاءِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَلَهُ عِنْدَ مُقَامِهَا عَلَى النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا وَيَضْرِبَهَا. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ. أَمَّا الْعِظَةُ فَهُوَ أَنْ يُخَوِّفَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِنَفْسِهِ فَتَخْوِيفُهَا بِاللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ، وَخَافِيهِ، وَاخْشَيْ سُخْطَهُ وَاحْذَرِي عِقَابَهُ فَإِنَّ التَّخْوِيفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ فِي ذَوِي الدِّينِ وَتَخْوِيفُهَا مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِي عَلَيْكِ حَقًّا إِنْ مَنَعْتِيهِ أَبَاحَنِي ضَرْبَكِ، وَأَسْقَطَ عَنِّي حَقَّكِ فَلَا تَضُرِّي نَفْسَكِ بِمَا أُقَابِلُكِ عَلَى نُشُوزِكِ إِنْ نَشَزْتِ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ وَقَطْعِ النَّفَقَةِ الدَّارَّةِ، فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْوَعِيدِ أَزْجَرُ لِمَنْ قَلَّتْ مُرَاقَبَتُهُ. وَهَذِهِ الْعِظَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خَوْفِ نُشُوزٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ فَلَيْسَ يُضَارُّهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأَمَارَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْهَا لِنُشُوزٍ تُبْدِيهِ كَفَّهَا عَنْهُ وَمَنَعَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مِنْ هَمٍّ طَرَأَ عَلَيْهَا أَوْ لِفَتْرَةٍ حَدَثَتْ مِنْهَا أَوْ لسهوٍ لَحِقَهَا لَمْ يَضُرَّهَا أَنْ تَعْلَمَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي النشوز، وأما الهجر نوعان: أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: فِي الْكَلَامِ. فَأَمَّا الْهَجْرُ فِي الْفِعْلِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَأَنْ لَا يُضَاجِعَهَا فِي فِرَاشٍ أَوْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ فِيهِ أَوْ يَعْتَزِلَهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ. أَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْآيَةَ، وَإِنْ لَمْ تضمنه فهو مِنْ إِحْدَى الزَّوَاجِرِ إِلَّا أَنَّ هَجْرَ الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ الزَّوْجُ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا. فَأَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يحل لمسلم يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ ". وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ ضَرْبُ التَّأْدِيبِ وَالِاسْتِصْلَاحِ، وهو كضرب التعزيز لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَيَتَوَقَّى بِالضَّرْبِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُزْمِنَ أَوْ يُدْمِيَ أَوْ يَشِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَضْرِبْهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَلَا مُدْمِيًا وَلَا مُزْمِنًا، وَيَقِي الْوَجْهَ فَالْمُبَرِّحُ الْقَاتِلُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 598 وَالْمُدْمِي إِنْهَارُ الدَّمِ، وَالْمُزْمِنُ تَعْطِيلُ إِحْدَى أَعْضَائِهَا، ضَرْبُ الْوَجْهِ يَشِينُهَا وَيُقَبِّحُ صُورَتَهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله نساؤها مَا نَأْتِي مِنْهُنَّ وَمَا نَذَرُ، قَالَ: حَرْثُكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيْرَ أَنْ تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَأَطْعِمْ إِذَا أَطْعَمْتَ وَاكْسُ إِذَا اكْتَسَيْتَ كَيْفَ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَقَّى شِدَّةَ الضَّرْبِ، وَتَوَقَّى ضَرْبَ الْوَجْهِ وَتَوَقَّى الْمَوَاضِعَ الْقَاتِلَةَ مِنَ الْبَدَنِ كَالْفُؤَادِ وَالْخَاصِرَةِ، وَتَوَقَّى أَنْ تُوَالِيَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا فَيَنْهَرَ الدَّمُ فَإِنْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الضَّرْبِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ قَاتِلًا فَهُوَ قَاتِلُ عُمَدٍ، وَعَلَيْهِ الْقَوْدُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَقْتُلُ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ يَتَحَمَّلُهَا عِنْدَ الْعَاقِلَةِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَبَانَ بِإِفْضَاءِ الضَّرْبِ إِلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ كَمَا تَقُولُهُ فِي التَّعْزِيرِ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ. فَصْلٌ فَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ السُّنَّةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ وَحَظْرِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ " فَنَهَى عَنْ ضَرْبِهِنَّ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ يغلب رجالنا نسائنا، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا بِمَكَّةَ مَعَهُ هِرَاوَةٌ إِذَا تَرَمْرَمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ هَرَاهَا بِهَا فَقَدِمْنَا هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسَ، وَالْخَزْرَجَ فَوَجَدْنَا رِجَالًا مَغَانِمَ لِنِسَائِهِمْ يغلب نساؤهم رجالهم فاختلط نساؤها بِنِسَائِهِمْ فَذَئِرْنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَأْذَنْ فِي ضَرْبِهِنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاضربوهن قال: فضرب الناس نسائهم تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَالَ: فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ "، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ تأويلات: أحدها: أَنَّهُ الْبَطَرُ وَالْأَشَرَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبِذَاءُ وَالِاسْتِطَابَةُ. قال الشاعر: (ولما أتاني عن تميم أنهن ذَئِرُوا ... لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَغَضَّبُوا) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 599 وَهَذَا الْخَبَرُ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ هَذَانِ الْخَبَرَانِ مَعَ الْآيَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنَ السُّنَةُ فَلِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَالْخَبَرُ مِنْ إِبَاحَةِ الضَّرْبِ فَوَارِدٌ فِي النُّشُوزِ وَمَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ الْآخَرُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ فَفِي غَيْرِ النُّشُوزِ، فَأَبَاحَ الضَّرْبَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَنَهَى عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِهِ، وَهَذَا مُتَّفِقٌ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ الضَّرْبَ جَوَازًا وَنَهَى عَنْهُ اخْتِيَارًا فَيَكُونُ الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْإِذْنِ فِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَنَافِيًا وَلَا نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ عُمَرَ الْوَارِدِ بِإِبَاحَتِهِ ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِسَبَبِ الْإِبَاحَةِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلسُّنَّةِ، والكتاب مبيناً لم ينسخ الكتاب السنة، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 600 باب الحكم في الشقاق بين الزوجين من الجامع من كتاب الطلاق ومنن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فإذا اشتبه حالاهما فَلَمْ يَفْعَلِ الرَّجُلُ الصُّلْحَ وَلَا الْفُرْقَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ تَأْدِيَةَ الْحَقِّ وَلَا الْفِدْيَةَ وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَا يَحْسُنُ وَتَمَادَيَا بَعَثَ الْإِمَامُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا إِيَّاهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إِذَا رأيا ذلك واحتج بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ثم قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما أن تجمعا إن رأيتما أن تجمعا وأن تفرقا إن رأيتما أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به فدل أن ذلك ليس للحاكم إلا برضا الزوجين ولو كان ذلك لبعث بغير رضاهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي نُشُوزِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ الشِّقَاقُ وَفِي تَسْمِيَتِهِ شِقَاقًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَعَلَ مَا شَقَّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ فِي شِقٍّ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُبَايَنَةِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَإِذَا شَاقَّ الزَّوْجَانِ وَشِقَاقُهُمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بِنُشُوزِهَا عَنْهُ، وَتَرْكِ لُزُومِهَا لِحَقِّهِ، وَيَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِعُدُولِهِ عَنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قد خرجا من الْمُشَاقَّةِ إِلَى قُبْحٍ مِنْ فِعْلٍ كَالضَّرْبِ وَلَا إِلَى قَبِيحٍ مِنْ قَوْلٍ كَالسَّبِّ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا يَأْمُرُهُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ يَسْتَطِيبَ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ عفوٍ أَوْ هبةٍ فَإِنَّ سَوْدَةَ لَمَّا هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بطلاقها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 601 اسْتَعْطَفَتْهُ بِأَنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا مِنْهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعِلْمِهَا بِشِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا فَعَطَفَ لَهَا، وَأَمْسَكَهَا فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشِّقَاقُ قَدْ أَخْرَجَهُمَا إِلَى قَبِيحِ الْفِعْلِ فَتَضَارَبَا، وَإِلَى قَبِيحِ الْقَوْلِ فَتَشَاتَمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا، وَلَا يَحْسُنُ فَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أهْلَهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِ فِيهَا أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ حَكَمًا مَرْضِيًّا وَمِنْ أَهْلِهَا حَكَمًا مَرْضِيًّا فَإِنْ جَعَلَ الْحَاكِمُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْفُرْقَةِ جَازَ بَلْ لَوْ فَعَلَهُ الْحَاكِمُ مُبْتَدِئًا قَبْلَ تَرَافُعِ الزَّوْجَيْنِ إِلَيْهِ أَوْ فَعَلَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا جَازَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاِّ مَنْ أَمَرَ بَصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) {النساء: 114) وَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَرُدَّ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ إِنْ رَأَيَاهُ أَوْلَى، وَالَفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا أَصْلَحَ أَوِ الْخُلْعَ إِنْ رَأَيَاهُ أَنْجَحَ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ أَمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَوْكِيلِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ تُوِجَّهَ إِلَى الْحَاكِمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ إِنْفَاذِ الْحَكَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ دُونَ الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {إِنْ يُرِيدَا إصْلاَحاً} رَاجِعٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ لَهُمَا دُونَ الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْحَكَمَيْنِ عَلَيْهِمَا لِنُفُوذِ الْحُكْمِ جَبْرًا مِنْهُمَا كَالْحَاكِمِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ شَجَرَ بَيْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ خُصُومَةٌ تَنَافَرَا فِيهَا، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ تَدِلُّ بِمَالِهَا عَلَى عَقِيلٍ وَتُكْثِرُ إِذْكَارَهُ بِمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَهْلِهَا فَتَقُولُ لَهُ: مَا فَعَلَ عُتْبَةُ مَا فَعَلَ الْوَلِيدُ، مَا فَعَلَ شَيْبَةُ، وَعَقِيلٌ يُعْرِضُ عَنْهَا إِلَى أَنْ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ ضَجِرًا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا فَعَلَ عُتْبَةُ وَالْوَلِيدُ وَشَيْبَةُ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 602 فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ النَّارَ فَعَلَى يَسَارِكِ، فَجَمَعَتْ رَحْلَهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا) {النساء: 35) فَاخْتَارَ مِنْ أَهْلِ عَقِيلٍ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَمِنْ أَهْلِ فَاطِمَةَ، مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَالَ: عَلَيْكُمَا أَنْ تَجْمَعَا إِنْ رَأَيْتُمَا، أَوْ تُفَرِّقَا إِنْ رَأَيْتُمَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس والله لأحرصن على الفرقة بينهما. فقال مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَمَضَيَا إِلَيْهِمَا وَقَدِ اصْطَلَحَا. فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا، وَذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ حَضَرَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ؛ وَلِأَنَّ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلًا فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعُيُوبِ وَالْعُنَّةِ وَفِي الْإِيلَاءِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهَا تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَالْخُلْعِ إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْحَاكِمُ الْإِذْنَ لَهُمَا فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ والإملاء وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْدُودَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ دُونَ الْفُرْقَةِ. وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيَامٌ مِنَ الناس يعني جمعاً فتلى الْآيَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ وَقَالَ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أُعْلِمَكُمَا مَاذَا عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جمعتكما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتكما ثم أقبل على المرأة، وقال: أقد رَضِيتِ بِمَا حَكَمَا، قَالَتْ: نَعَمْ، رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: قَدْ رَضِيتَ بِمَا حَكَمَا فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَرْضَى أَنْ تَجْمَعَا وَلَا أَرْضَى أَنْ تُفَرِّقَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيَتْ. فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْحَكَمَانِ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِ علي رضي الله عنه إلى رضى الزَّوْجِ وَجْهٌ، وَلَكَانَ بِإِذْنِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ، وَإِنِ امْتَنَعَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَذَبْتَ وَاللَّهِ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيتَ، وَكَيْفَ يكون امتناعه. من الرضى كَذِبًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تقدم منه الرضى ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَصَارَ كَذِبًا وَزَالَ بِالْإِنْكَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّوْكِيلِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 603 وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ كَذَبْتَ بِمَعْنَى أَخْطَأَتْ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْخَطَأِ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْحَقِّ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بواسطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا) يَعْنِي أَخْطَأَتْكَ عَيْنُكَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الطَّلَاقَ إِلَّا إِلَى الْأَزْوَاجِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ غَيْرُهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا عَنْ رِضَاهُمَا فَلِأَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَلِهِ أَوْلَى. فَصْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْحَكَمَانِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَاكِمَيْنِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَكِيلَيْنِ، وَلَا بُدَّ من اعتبار شروط في صحته تَحْكِيمِهِمَا وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. قِسْمٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا. وَقِسْمٌ يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا. وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا فَأَمَّا مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا مِنَ الشُّرُوطِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ عَدْلٍ لَمْ يَجُزْ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا حَاكِمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِوَكَالَتِهِمَا وِلَايَةُ اخْتِيَارِ الْحَاكِمِ لَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ فِيمَنْ رُدَّ الْحُكْمُ إِلَيْهِ نَظَرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ فِي مَالِ يَتِيمٍ إِلَى عَبْدٍ أَوْ فَاسْقٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا. وَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ بِطَلَبِ الْحَظِّ مِنَ الْأَجَانِبِ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 604 وَلِأَنَّ الْأُنْسَ بِالْأَهْلِ وَالِاسْتِجَابَةَ لَهُمْ، وَشَرْحَ الْحَالِ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ جَازَ، لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى التَّحْكِيمُ مَجْرَى الْحَاكِمِ فَحُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ نَافِذٌ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَكَالَةِ فَوَكَالَةُ الْأَجْنَبِيِّ جَائِزَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَهْلٌ وَلَا إنه كَانُوا حَضَرُوا وَلَا إِنْ حَضَرُوا كَانُوا عُدُولًا فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْكِيمِ غَيْرِ الْأَهْلِ. وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْحَاكِمَيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَنْفُذْ إِلَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَكِيلَيْنِ جَازَ أن يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الْعَامَّةِ جَائِزَةٌ، فَإِنْ عَدَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَهْلِهَا إِلَى أَجْنَبِيَّيْنِ اخْتَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَكَمًا يَثِقُ بِهِ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَ عليهما عدويين للتهمة اللاحقة بهما. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ فَوَّضَا مَعَ الْخُلْعِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْأَخْذَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَرَيَانِهِ أَنَّهُ صلاحٌ لَهُمَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اخْتِلَافِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ. وَالثَّانِي: مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكَمَانِ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُمَا فِعْلُهُ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَكَمَانِ تَمَّتْ وِلَايَتُهُمَا بِتَقْلِيدِ الْحَاكِمِ لَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا إِذَنُ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا، لَكَانَ لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَيِّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْآخَرِ، وَالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِ ثُمَّ يَرُدُّ إِلَيْهِمَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا مِنْ إِصْلَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ تَحْكِيمِهِمَا أن يستدل بِهِمَا غَيْرَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ حَالِهِمَا أَوْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتَغَيُّرِ حَالٍ وَلَا لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى لَمْ يَجُزْ وَلَوِ اعْتَزَلَ الْحَكَمَانِ جَازَ وَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ مِنْهُمَا أَوْ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْلَحِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُمَا بَعْدَ أَنْ عُزِلَا أَوِ اعْتَزَلَا أَنْ يَحْكُمَا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 605 حَكَمَا لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُمَا وَإِنْ قُلْتُ إِنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لَمْ يَتِمَّ وِلَايَتُهُمَا إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذَنِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا افْتَقَرَا مَعَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْوَكَالَةِ وِلَايَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْحَاكِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَوْكِيلِ الْحَكَمِ الَّذِي يَنُوبُ عَنْهُ، فَيَأْذَنُ الزَّوْجُ لِحَكَمِهِ فِي الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَفِي الْخُلْعِ وَمِقْدَارِهِ وَلَا يَكْتَفِي فِي الْإِذْنِ بِالطَّلَاقِ عَنِ الْإِذْنِ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ الْخُلْعَ يُسْقِطُ الرَّجْعَةَ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْتَحِقِّيهَا، وَتَأْذَنُ الزَّوْجَةُ لِحَكَمِهَا أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مِنْ مَالِهَا بِمَا تُقَدِّرُهُ لَهُ أَوْ تُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَأْذَنُ الْحَاكِمُ لِلْحَكَمَيْنِ بَعْدَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ فِي فِعْلِ مَا وُكِّلَا فِيهِ وَإِمْضَائِهِ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْوِلَايَةُ مِنَ الْحَاكِمِ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِعْلُهُ فَهُوَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى فِعْلِ الْأَصْلَحِ لِلزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَعْدِلَا عَنِ الْإِصْلَاحِ إِلَى طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ فَإِنْ طَلَّقَا أَوْ خَالَعَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ خُلِعٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ تَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجِ بِإِيقَاعِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالِعَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْخُلْعَ اجْتَمَعَا عَلَى عَقْدِ الْخُلْعِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَقَدْرِ الْعِوَضِ وَتَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجَةِ بِالْبَذْلِ وَحَكَمُ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ. فَلَوْ أَرَادَ الْحَكَمَانِ فَسْخَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْحَاكِمُ فِي الْفَسْخِ جَازَ إِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِالْفَسْخِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُرِدِ الْفَسْخَ إِلَيْهِمَا فَلَوْ رَدَّ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ؛ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ إِلَّا بِالْعَيْبِ. فَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مَالٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ الدَّافِعُ فَإِنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى حَكَمِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ، وَجَازَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَوْ جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْحَكَمَ حَاكِمٌ أَوْ وَكِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ أَهْلِ الرُّشْدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ الْإِبْرَاءُ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ أَوْ بإذن مالك. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَفْسَخِ الْوَكَالَةَ أَمْضَى الْحَكَمَانِ رَأْيَهُمَا ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 606 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَقَرَّتْ ولاية الحكمين في شقاق الزوجين فعاف الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَأَرَادَ الْحَكَمَانِ تَنْفِيذَ مَا إِلَيْهِمَا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ جَازَ لَهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَفْعَلَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا؛ لِأَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ مُوَكِّلِهِ، وَيُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ غائباً هذا إذا كان مفترقين في الغيبة، فأما إذا كان فِي غَيْبَتِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ طَلَاقٍ وَلَا خُلْعٍ لِجَوَازِ أَنْ يَصْطَلِحَا فِي الْغَيْبَةِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْكُمَا مَعَ غَيْبَتِهِمَا سَوَاءٌ كَانَا فِيهِمَا مُجْتَمِعَيْنَ أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ الْحُكْمُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَحْضُرَ فَإِنْ رَجَعَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَإِنْ كَانَ مَعَ اصْطِلَاحِهِمَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ أَوْ وَكَالَةٌ؛ لِأَنَّ الشِّقَاقَ قَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ مُقَامِهَا عَلَى الشِّقَاقِ بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ وَلَمْ يَبْطُلْ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ. وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَانَ كَرُجُوعِهِمَا مَعًا يَبْطُلُ بِهِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ لا يصح إلا بحكمين. مسألة قال الشافعي: " وَأَيُّهُمَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَمْضِ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَفِيقَ ثُمَّ يُحْدِثُ الْوَكَالَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا جُنَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُنَفِّذَا حُكْمَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ فَقَدْ بَطَلَتْ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ فَالْجُنُونُ قَدْ قَطَعَ الشِّقَاقَ فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ حَتَّى يَسْتَأْنِفَهَا الْمُفِيقُ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ مِنَ الْحَاكِمِ، وَلَمْ يَبْطُلِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ، وَجَازَ لِلْحَكَمَيْنِ بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْجُنُونُ فِي إِبْطَالِ تَحْكِيمِهِمَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَ التَّوَقُّفَ إِلَى إِفَاقَتِهِمَا لِيَعْلَمَ حَالَهُمَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فِي مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ أَوْ إِقْلَاعِهِمَا عَنْهُ. مَسْأَلَةٌ قال الشافعي: " وَعَلَى السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَرْضَيَا حَكَمَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّبَ أَيَّهُمَا رَأَى أَدَبَهُ إِنِ امْتَنَعَ بقدر ما يجب عليه (وقال) في كتاب الطلاق من أحكام القرآن ولو قال قائلٌ نجبرهما على الحكمين كان مذهباً (قال المزني) رحمه الله هذا ظاهر الآية والقياس ما قال علي رضي الله عنه لأن الله تعالى جعل الطلاق للأزواج فلا يكون إلا لهم ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 607 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَمْتَنِعَ الزَّوْجَانِ مِنَ الرضى بِالْحَكَمَيْنِ مَعَ مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حَكَمٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ وَأَمْضَى الْحَاكِمُ رَأْيَهُ عَنِ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ، لَمْ يَصِحَّ مَعَ امْتِنَاعِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ، وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا كَانَ كَامْتِنَاعِهِمَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التحكيم على هذا القول إلا عن رضى الزَّوْجَيْنِ فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ لِمَنْ وَجَبَ لَهُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُ بَيْنَهُمَا طَلَاقًا وَلَا خُلْعًا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ فَإِنْ عَلِمَ مِنْ أَحَدِهِمَا عُدْوَانًا عَلَى صَاحِبِهِ مَنَعَهُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يمتنع أدبه عليه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى شيءٍ أَخَذَهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَلَزِمَهُ مَا طَلَّقَ وَكَانَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْخُلْعِ، وَكَثِيرًا مَا يَخْتِمُ الْمُزَنِيُّ بِمَسْأَلَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ عَلَى الْخُلْعِ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَحَدِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى طَلَاقِهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَارَضَاتِ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ عَلَيْهَا وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْبَذْلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنِ ادَعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا فَذَكَرَ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُخْتَارَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الْبَذْلِ وَهُوَ يَدَّعِيهِ وَطَلَاقُهُ قَدْ وَقَعَ بَائِنًا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ مُقِرٌّ بِطَلَاقٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هذه المسألة والتي تقدمها فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقِرٌّ بِفَسَادِ الْخُلْعِ فَثَبَتَ لَهُ الرَّجْعَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّجْعَةُ فَلَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا لَهَا فَأَنْكَرَهَا الْخُلْعَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْكِرٌ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ، وَفِي الَّتِي تقدمها مقر بالطلاق فلزمه، وبالله التوفيق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 608 (بسم الله الرحمن الرحيم) (كِتَابُ الْخُلْعِ) (بَابُ الْوَجْهِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الفدية من الجامع من الكتاب والسنة، وغير ذلك) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا} الآية وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى صلاة الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه فقال من هذه؟ فقالت أنا حبيبة بنت سهل لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَ ثابت قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذه حبيبة تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عندي فقال عليه الصلاة والسلام (خُذْ مِنْهَا) فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا. الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْخُلْعِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الِانْتِزَاعُ عَلَى مُهْلَةٍ وَمِنْهُ خَلَعَ الثَّوْبَ نَزَعَهُ وَالْخُلْعُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ افْتِرَاقُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عِوَضٍ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ خُلْعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ بِالزَّوْجِيَّةِ لِبَاسًا لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] فَإِذَا افْتَرَقَا بَعِوَضٍ، فَقَدْ خَلَعَ لِبَاسَهَا، وَخَلَعَتْ لِبَاسَهُ فَسُمِّيَ خُلْعًا. وَقِيلَ: فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ فَدَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالِهَا، كَفِدْيَةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ. الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الْخُلْعِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ مَا آتَوْهُمْ مِنَ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. والخوف ها هنا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَتَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ يَظُنَّا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (أَتَانِي عَنْ نُصَيْبٍ كَلَامٌ يَقُولُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلَامُ أَنَّكَ عَاتِبُ) وَفِيمَا يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَاهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهَذَا قَوْلُ ابن المسيب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ أَنْ لَا تُطِيعَ لَهُ أَمْرًا، وَمِنَ الزَّوْجِ أَلَّا يُؤَدِّيَ لَهَا حقاً. ثم قال: فإن خفتم أن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به، فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا لَا غَيْرَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نفساً} يعني من الصداق {فكلوه هنيئاً مريئاً} فَإِذَا أَبَاحَ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عن مالك عنه يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهَا عِنْدَ بَابِهِ بِالْغَلَسِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ. قَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ . قُلْتُ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لِزَوْجِهَا، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خذ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا. يَعْنِي خُذْ مِنْهَا وَطَلِّقْهَا. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا: جَوَازُ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى غَائِبٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا عَرَّفَ الدَّعْوَى لَمْ يَحْتَجِ الْحَاكِمُ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ ضَرَبَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَالِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ لِأَمْرِهِ لها بالجلوس في أهلها. فدل على مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَحُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثما مبيناً} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُلْعِ وَنَسْخِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ أَخْذِ مَا لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا وَلَمْ تَمْنَعْ مِمَّا بَذَلَتْهُ بِطِيبِ نَفْسٍ وَاخْتِيَارٍ كَمَا قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مريئاً} وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: كَانَ لِي زَوْجٌ يُقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَ، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا، فَقُلْتُ: أَخْلَعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَخَاصَمَ عَنِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ الْخُلْعَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتٍ كَثِيرِ الزَّبَلِ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثًا ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَالَ كَيْفَ وَجَدْتِ مَكَانكِ؟ قَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُذْ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي حَبَسْتَنِي، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْتَلِعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا. وَهَذِهِ قَضِيَّةُ إِمَامَيْنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخُلْعِ لَمْ يُخَالِفْها فِيه مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ الْبُضْعَ بِعِوَضٍ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَيَكُونُ عَقْدُ النِّكَاحِ كَالشِّرَاءِ وَالْخُلْعُ كالبيع. (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَانِعَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ الْمُفْتَدِيَةُ تَخْرُجُ مِنْ أَن لا تُؤَدِّيَ حَقَّهُ أَوْ كَرَاهِيَةً لَهُ فَتَحِلُّ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْحَالِ الَّتِي تَشْتَبِهُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجَيْنِ خَوْفَ الشِّقَاقِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْخُلْعِ أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ وَفَاسِدٍ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ: إِمَّا لِكَرَاهَةٍ وَإِمَّا لِعَجْزٍ. فَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ مِنْهُ إِمَّا سُوءَ خُلُقِهِ، وَإِمَّا سُوءَ فِعْلِهِ وَإِمَّا قِلَّةَ دِينِهِ وَإِمَّا قُبْحَ مَنْظَرِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَقِّهَا، فَتَرَى لِكَرَاهَتِهَا لَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَتُخَالِعُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا. وَأَمَّا الْعَجْزُ فَيَكُونُ تَارَةً لِعَجْزِهِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ أَوِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ كَثْرَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَتُخَالِعُهُ لِأَجْلِ الْعَجْزِ فَيَكُونُ الْخُلْعُ مُبَاحًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَكْرُوهُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: تَارَةً مِنْ جِهَتِهَا وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ، فَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا فَهُوَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى غَيْرِهِ وَتَرْغَبَ فِي نِكَاحِهِ فَتُخَالِعَ هَذَا لِتَنْكِحَ مَنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَغِبَتْ فِيهِ فَهَذَا خُلْعٌ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْمُخْتَلِعَاتُ الْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ) يَعْنِي الَّتِي تُخَالِعُ الزَّوْجَ لِمَيْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ، فَيَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا وَهُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَتِهِ. وَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَالٍ فَيُضَيِّقُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ لَهَا طَمَعًا فِي مَالِهَا أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَاسِدُ فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنَالَهَا بِالضَّرْبِ وَالْأَذَى حَتَّى تُخَالِعَهُ فَيَكُونُ الْخُلْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَنْ إِكْرَاهٍ فَكَانَ كَسَائِرِ عُقُودِ الْمَكْرُوهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ لِتُخَالِعَهُ فَيَكُونُ الْخُلْعُ مع ذلك باطلاً لأنه يمنع الْحَقِّ قَدْ صَارَ مُكْرهًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وهو المختلف فيه فهو أن تزني يالزوجة فَيَعْضُلَهَا، لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَالْعَضْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَمْنَعَهَا النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ الْوَاجِبَةَ لَهَا فَهَذَا الْعَضْلُ مَحْظُورٌ وَالْخُلْعُ مَعَهُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُومَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَيَعْضُلَهَا بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا حِذَارًا مِنَ الزِّنَا فَهَذَا مُبَاحٌ، وَالْخُلْعُ مَعَهُ جَائِزٌ. والثالث: أن يقم بنفقتها ويعضلها فِي الْقَسْمِ لَهَا فَلَا يَقْسِمُ لَهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَفِي جَوَازِ الْخُلْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] يَعْنِي الزِّنَا فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَضْلِ لِأَجْلِ الْفِدْيَةِ إِلَّا مَعَ الزِّنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْعَضْلِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ الْقَسْمِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا لِيَحْفَظَ فِرَاشَهُ عَنْ مَاءِ غَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْعَضْلَ حَرَامٌ، وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْقَسْمِ لَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ، لوجوده على فراشه، وأنه قد يَقْدِرُ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ حَتَّى تُخَالِعَهُ لَجَازَ لِأَجْلِهِ إِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِتُخَالِعَهُ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ حِينَ نُسِخَ حَبْسُ الزَّانِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا أَشْبَهَ مَا قِيلَ بِمَا قِيلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هِيَ النُّشُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَجُوزُ لَهُ مَعَ النُّشُوزِ أَنْ يَعْضُلَهَا وَيُخَالِعَهَا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْخُلْعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَهُوَ أَن لا يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ خُلْعُهُمَا وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ فَاسِدٌ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْخُلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْخُلْعِ إِلَّا مَعَ الْخَوْفِ، وَالثَّانِي لُحُوقُ الْجُنَاحِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْخَوْفِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَمْتَلِكَ مَا طَابَ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَلِّكَهَا بِهِ بُضْعَهَا فَأَوْلَى أَنْ يَحِلَّ لَهُ إِذَا مَلكَهَا بِهِ بُضْعَهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مع الرضى، وَكَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَقَدْ قَرَأَ حَمْزَةُ: (إِلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) . بِضَمِّ الْيَاءِ، وَيَكُونُ معناه إلا أن يخاف الحاكم إن لا يُقِيمَا الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُسْقِطُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُ الزَّوْجَيْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ وَقَرَأَ جَمَاعَةُ الْقُرَّاءِ إِلَّا أَنْ يَخَافَا بِفَتْحِ الْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى الزَّوْجَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الشَّرْطِ الظَّاهِرِ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِوُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، وَإِمَّا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ خَوْفٍ، وَإِنْ جَازَ فِي حَالٍ نَادِرَةٍ لَيْسَ مَعَهَا خَوْفٌ، وَإِنْ كَانَتْ هذه النادرة لا بد أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا خَوْفٌ، وَإِنْ قَلَّ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْذُلُ مَالَهَا لِافْتِدَاءِ نَفْسِهَا وَهِيَ راغبة، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ خَرَجَ فِي بَعْضِ مَا تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى أَدَبِهَا بِالضَّرْبِ أَجَزْتُ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَذِنَ لِثَابِتٍ بِأَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ حَبِيبَةَ وَقَدْ نَالَهَا بِضَرْبٍ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِذَا ضَرَبَهَا عَلَى نُشُوزٍ أَوْ تَأْدِيبٍ فَخَالَعَتْهُ بَعْدَ الضَّرْبِ إِمَّا لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الضَّرْبِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ رِضًا وَخَلَا مِنْ إِكْرَاهٍ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى إِكْرَاهٍ فَافْتَرَقَا وَلِذَلِكَ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُلْعَ 7 ثَابِتٍ لِزَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ مَعَ ضَرْبِهِ لَهَا لِأَنَّ الضَّرْبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْخُلْعِ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَمْ يَقُلْ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا فِي قبل عِدَّتِهَا كَمَا أَمَرَ الْمُطَلِّق غَيْرَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْمُخْتَلِعَةُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِ خُلْعٍ، حَيْثُ كَانَ فِي طَلَاقِهَا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا فِي الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي وُقُوعِ الْخُلْعِ فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَلِعَةٍ لَكَانَ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ سُنَّةً وفي الحيض بدعة، وإنما كان كذلك ظاهر وَمَعْنًى، أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين خالع حبيبة وزوجها ثابت، لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ حَالِ طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ، وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فِيهِ مُنْكَرًا لَأَبَانَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ خُلْعِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَوْ مُنِعَا مِنْهُ إِلَى وَقْتِ الطُّهْرِ لَوَقَعَا فِيهِ، وَأَثِمَا بِهِ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ الْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ خَوْفٍ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَّقَةَ مُنِعَ زَوْجُهَا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْمُخْتَلِعَةَ وَقَعَ طَلَاقُهَا بِاخْتِيَارِهَا، فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِطُولِ الْعِدَّةِ، فَلَمْ يُمْنَعِ الزَّوْجُ مِنْ خَلْعِهَا فَافْتَرَقَا. (مسألة:) قال الشافعي: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِلَّا أن تكون سميت شيئاً (قال المزني) رحمه الله وقطع في باب الكلام الذي يقع به الطلاق أن الخلع سميت فلا يقع إلا بما يقع به الطلاق أو ما يشبهه من إرادة الطلاق فإن سمي عددا أو نوى عدداً فهو ما نوى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ لَمْ يَخْلُ عَقْدُ الْخُلْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ، أَوْ فَارَقْتُكِ بِأَلْفٍ أَوْ سَرَّحْتُكِ بِأَلْفٍ، فَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْعِوَضِ وَلَا يَكُونُ فَسْخًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ بِأَلْفٍ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ بِأَلْفٍ فَهَذَا كِنَايَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكِنَايَةٌ مَعَ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْعِوَضَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ كَقَوْلِهِ قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ، أَوْ فَادَيْتُكِ بِأَلْفٍ، فَهَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ عِوَضٍ فَتَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا مَعَ الْعِوَضِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كِنَايَةً فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ كِنَايَةً فِيهِ مَعَ الْعِوَضِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ إنَّهُ صَرِيحٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِهِ كَمَا جَاءَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّصِّ صَرِيحًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْكِنَايَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِ قَدْ نَفَى عَنْهُ احْتِمَالَ الْكِنَايَاتِ، فَصَارَ بِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ صَرِيحًا، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ صَرِيحًا فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي (الْأُمِّ) و (الإملاء) (وأحكام الْقُرْآنِ) أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تنكح زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فَلَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْعُيُوبِ وَالْخُلْعُ يَكُونُ مُبْتَدَأً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَكَانَ طَلَاقًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسْخًا لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الْبَدَلِ كَالْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا لَمَا جَازَ إِلَّا بِالصَّدَاقِ، وَفِي جَوَازِهِ بِالصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ دَلِيلُ خُرُوجِهِ عَنِ الْفَسْخِ وَدُخُولِهِ فِي الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مرتان} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة 229] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَصَارَ مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ثَلَاثًا، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ، وَصَارَ التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعٍ لَا بِثَلَاثٍ. وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ بِطَلَاقٍ وَفَسْخٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَإِذَا لَحِقَهُ الْفَسْخُ إِجْبَارًا جَازَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ اخْتِيَارًا كَالْبَيْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثة وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كانت معه على اثنين، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ فَسَخَ حَلَّتْ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَلَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ حَلَّتْ بِهِ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَهَذَا أَصَحُّ مَا عِنْدَنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمَذْهَبِ فِي حُكْمِ الْخُلْعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهُ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَجَعَلَ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَسْخٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ طَلَاقٌ، وَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فَسْخٌ وَالثَّانِي طَلَاقٌ صَرِيحٌ وَالثَّالِثُ كِنَايَةٌ في الطلاق. (مسألة:) (قال المزني) رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِذَا كَانَ الْفِرَاقُ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالزَّوْجِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي أَصْلِهِ عِلَّةٌ فَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ طَلَاقٌ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ مُرِيدًا بِهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ عِنْدَ سُلْطَانٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ إِذَا تَرَاضَيَا بِهِ الزَّوْجَانِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَلَيْسَ حُضُورُ السُّلْطَانِ وَلَا إِذْنُهُ شَرْطًا فِيه وَهُوَ قَوْلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِسُلْطَانٍ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَأَوَّلُ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ الله} وَآخِرُهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلا جُنَاحَ عليهما فيما افتدت به} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُضُورَ الْحَاكِمِ شَرْطٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ حُضُورَ الْأَزْوَاجِ شَرْطٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَلَّى الْخُلْعَ بَيْنَ حَبِيبَةَ وَثَابِتٍ وَلَوْ جَازَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِذَلِكَ لَوَكَلَهُ إِلَيْهِمَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نفسا فكلوه هنيئاً مريئاً} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ امْرَأَةً خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فأجازه، وخالعت الربيع بنت معوذا بْنِ عَفْرَاءَ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَجَازَهُ عُثْمَانُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الْبُضْعَ بِالنِّكَاحِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَكَذَلِكَ تَمْلِيكُهُ بالخلع أولى أن لا يَفْتَقِرَ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْخُلْعِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ {فَإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله} فَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا خُلْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ حَبِيبَةَ وَزَوْجِهَا فَلِأَنَّهُمَا تَخَاصَمَا إِلَيْهِ قَبْلَ الْخُلْعِ، فَصَارَ الْخُلْعُ تَبَعًا لِلتَّخَاصُمِ، وَلِأَنَّ بَيَانَ حُكْمِ الْخُلْعِ شَرْعًا مَأْخُوذٌ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ حُكَّامِ أُمَّتِهِ. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ طَلَاقًا فَاجْعَلْ لَهُ الرَّجْعَةَ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَخَذَ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ عِوَضًا وَكَانَ مَنْ مَلَكَ عِوَضَ شَيْءٍ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَجْعَةٌ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ فُرْقَةُ الْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ وَإِنْ كَانَتِ الْمُخْتَلِعَةُ فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَالِ فَتَسْقُطَ الرَّجْعَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ فَتَثْبُتَ لَهُ الرَّجْعَةُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُ فَسْخٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعِتْقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ، كَمَا أَنَّ الطلاق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 يُوجِبُ الرَّجْعَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَذَلِكَ ثُبُوتُ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جناح عليهما فيما افتدت به} وَالِافْتِدَاءُ هُوَ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِدَاءِ الأسير وهو خلاصه واستنقاذه، فلو ثبت الرَّجْعَةُ فِيهِ لَمَا حَصَلَ بِهِ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِدَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَهَا بِالنِّكَاحِ، فَلَمَّا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجَةِ وَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عِوَضَ الْخُلْعِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ لِلْبُضْعِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلْعِوَضِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الزَّوْجَةِ للبضع وأن لا يَبْقَى لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِتْقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حَالُهُ مَعَ وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ. فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعِتْقِ فِي زَوَالِ الرِّقِّ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَثَبَتَ الْوَلَاءُ مَعَ الْعِوَضِ، كَمَا يَثْبُتُ مَعَ عَدَمِهِ، وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ تَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْخُلْعِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَإِزَالَةِ ضَرَرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ فِيهِ. وَجَوَابٌ ثالث وهو أن ثبوت الولاء لا تقتضي عَوْدَ الْعَبْدِ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَالرَّجْعَةَ تَقْتَضِي عَوْدَ الزَّوْجَةِ إِلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ فَافْتَرَقَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَيَأْخُذَ مَا الْفِرَاقُ بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُلْعُ يَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِوَضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الْمَهْرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا أعطي مِنَ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ خلقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنِّي لَا أَسْتَطِيقُهُ وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لِثَابِتٍ: خُذْهَا وَلَا تَزْدَدْ فَمَنَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَظْرِهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَاقْتَضَى رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ جَمِيعِ مَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ لَهُ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُعِيدَ مِنَ الْإِبْدَالِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ تَتَقَدَّرْ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا هِبَةً فَأَوْلَى أَن لا يَتَقَدَّرَ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا خُلْعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَأَوَّلهَا تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ مَا أَعْطَى، وَآخِرُهَا يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الْفِدَاءِ، فَلَمْ يُخَصَّ خُصُوصُ أَوَّلِهَا فِي النَّهْيِ بِعُمُومِ آخِرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ ضِدُّ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَحَدهُمَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خُلْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ خَوْلَةَ وَزَوْجِهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً كَمَا لم تطلب الزوجة نقصاناً. (مسألة:) قال الشافعي فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَلَوْ خَلَعَهَا تَطْلِيقَةً بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ وَلَا يَمْلِكُهُ وَالرَّجْعَةُ مَعًا وَلَا أُجِيزُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَوْقَعَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله ليس هذا قياس أصله لأنه يجعل النكاح والخلع بالبدل المجهول والشرط الفاسد سواء ويجعل لها في النكاح مهر مثلها وله عليها في الخلع مهر مثلها ومن قوله لو خلعها بمائة على أنها متى طلبتها فهي لها وله الرجعة عليها أن الخلع ثابت والشرط والمال باطل وعليها مهر مثلها (قال المزني) رحمه الله ومن قوله لو خلع محجوراً عليها بمال إن المال يبطل وله الرجعة وإن أراد يكون بائناً كما لو طلقها تطليقة بائنا لم تكن بائنا وكان له الرجعة (قال المزني) رحمه الله تعالى وكذلك إذا طلقها بدينار على أن له الرجعة لا يبطله الشرط) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخُلْعَ مَا اسْتُحِقَّ فِيهِ الْعِوَضُ، وَسَقَطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَأَنَّ الْخُلْعَ يَتِمُّ بِالْعِوَضِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ لَكِنْ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ صَحِيحًا كَانَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ هُوَ الْمُسْتَحَقَّ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْفُرْقَةِ بِالْخُلْعِ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ الْعِوَضُ سَقَطَتِ الرَّجْعَةُ وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الرَّجْعَةُ سَقَطَ الْعِوَضُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَشَرَطَ لِنَفْسِهِ الدِّينَارَ وَالرَّجْعَةَ وَاجْتِمَاعُهُمَا متنافيات وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْأُخْرَى فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الدِّينَارِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَقَلَ جَوَابَهَا، كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَائِنًا وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَحَكَى قَوْلًا ثَانِيًا كَالَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرَّبِيعَ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ احتمالاً، ولم يحكيه نَقْلًا، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ إِلَّا الْقَوْلُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ، وَوَافَقَهُ الرَّبِيعُ عَلَيْهِ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ عَلَى الزَّوْجَةِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَائِنًا وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخُلْعَ فِي مُقَابَلَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ وَالْخُلْعَ حَلٌّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي النِّكَاحِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ وَسُقُوطَ الشَّرْطِ وَوُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْخُلْعِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ الْخُلْعِ وَسُقُوطِ الشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ مِنَ الطَّلَاقِ لَوْ شُرِطَ سُقُوطُهَا فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ الرَّجْعَةُ مِنَ الطَّلَاقِ إِذَا شُرِطَ ثُبُوتُهَا فِيهَا لَمْ تَثْبُتْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ نَصًّا فِي الْإِمْلَاءِ، لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَخَذَتِ الْمِائَةَ وَرَاجَعَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، وَكَانَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الشَّرْطِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 وَالرَّابِعُ: أنْ قَالَ الِاعْتِبَارُ فِي الْخُلْعِ بِالرُّشْدِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهَا لَا يَصِحُّ خُلْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خُلْعُ مَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا صَحِيحًا فِي الْأَحْوَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطِ الْعِوَضِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَنَافَى ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْآخَرِ كَانَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِ الْعِوَضِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَالْعِوَضَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ وَمَا ثَبَتَ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَقْوَى مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ وَإِسْقَاطِ الْعِوَضِ تَصْحِيحًا لِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وإبطالاً للآخر وفيما قال المزني إبطالاً لِلشَّرْطَيْنِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالْعِوَضِ الْمُسَمَّى وَإِثْبَاتٌ لِثَالِثٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الشَّرْطُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَانَ ما أثبت أحد الشرطين أولى ما تفاهما وَأَثْبَتَ غَيْرَهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الشَّرْطَانِ وتنافا اجْتِمَاعُهُمَا وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَجَبَ إِسْقَاطُهُمَا وَاعْتِبَارُ طَلَاقٍ لَا شَرْطَ فِيهِ وَذَلِكَ مُوجِبُ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى مَا قَصَدَ زَوَالَهُ مِنَ الْمِلْكِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِمَا إِلَّا الْمُسَمَّى وَالزَّوْجُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَّا مَعَ اسْتِيفَاءِ الرَّجْعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنِ الرَّجْعَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ الْأَوَّلُ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ دَلِيلُنَا، لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ النِّكَاحُ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ الْخُلْعُ، وَفَسَادُ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْبُضْعِ كالشعار وَالْخِيَارِ أَوْجَبَ فَسَادَ النِّكَاحِ، كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ فِيهِ إِلَى الْبُضْعِ أَوْجَبَ فَسَادَ الْخُلْعِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ، فَأُسْقِطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ تَثْبُتْ بِالشَّرْطِ فَهُوَ إِلْزَامُ الْعَكْسِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَقَاءُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ بِمَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَفَرَّقَ سَائِرُهُمْ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُمَلِّكْهَا نَفْسَهَا لِاشْتِرَاطِ الرَّجْعَةِ فِي الْحَالِ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُهَا، وَبَطَلَ الْعِوَضُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ قَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ حُدُوثَ خِيَارٍ لَهَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِوَضِ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الرَّابِعُ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَهُوَ أو هي اسْتِدْلَالٍ ذَكَرَهُ وَلَيْسَ إِذَا فَسَدَ عَقْدُ الْمَحْجُورِ عليه في الأحوال ما أوجب أن لا يَصِحَّ عَقْدُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ طَلَاقٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عباس وابن الزبير وقال بعض الناس يلحقها الطلاق في العدة واحتج ببعض التابعين واحتج الشافعي عليه من القرآن والإجماع بما يدل على أن الطلاق لا يلحقها بما ذكر الله بين الزوجين من اللعان والظهار والإيلاء والميراث والعدة بوفاة الزوج فدلت خمس آيات من كتاب الله تعالى على أنها ليست بزوجة وإنما جعل الله الطلاق يقع على الزوجة فخالف القرآن والأثر والقياس ثم قوله في ذلك متناقض فزعم إن قال لها أنت خلية أو برية أو بتة ينوي الطلاق أنه لا يلحقها طلاق فإن قال كل امرأة لي طالق لا ينويها ولا غيرها طلق نساؤه دونها ولو قال لها أنت طالق طلقت فكيف يطلق غير امرأته) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَبَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً طَلَّقَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكِنَايَتِهِ وَسَوَاءً عَجَّلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ. وَمِنَ التَّابِعَيْنِ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ عَلَى صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا، أَوْ قَالَ: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِق، لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ خُلْعِهِ حَتَّى اتَّصَلَ طَلَاقُهُ بِخُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنِ ان ْفَصَلَ عَنْ خُلْعِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ} إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 قوله: {فإن طلقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به} يُرِيدُ الْخُلْعَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ} [البقرة: 229] إلى قوله: {فإن طلقها فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يُرِيدُ الْخُلْعَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهَا مَا بَقِيَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ كالرجعية، ولأن الطلاق كالعتق لسراينهما، وَجَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا، وَالْخُلْعَ كَالْكِتَابَةِ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهِمَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُعْتِقَ صَحَّ عِتْقُهُ لِبَقَايَا أَحْكَامِ الْمِلْكِ، وَجَبَ إِذَا طُلِّقَتِ الْمُخْتَلِعَةُ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُهَا لِبَقَايَا أَحْكَامِ النِّكَاحِ. وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ كَالْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا لِتَحْرِيمِهَا، وَبَقَايَا أَحْكَامِ نِكَاحِهَا، فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْمُخْتَلِعَةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَجَعَلَ التَّسْرِيحَ لِمَنْ لَهُ الْإِمْسَاكُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُخْتَلِعَةِ إِمْسَاكُهَا، لَمْ يَكُنْ بِهِ تَسْرِيحُهَا وَطَلَاقُهَا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ نِكَاحًا وَلَمْ يُسْقِطْ رَجْعَةً كَانَ مُطَّرِحًا كَالْمُطَلَّقَةِ بعدة الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَجْنَبِيَّةُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقُ السُّكْنَى وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَلُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ دُونَ النِّكَاحِ. أَلَا تَرَى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَعْتَدَّ، وَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِبَ نِكَاحِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا هِيَ طَالِقٌ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ العدة ولحوق النسب من أحكام الوطء دون النِّكَاحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ النكاح دون الوطء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وأما السكنى فسكنى الْمُعْتَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالطَّلَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ سُكْنَى النكاح مخالف لسكنى الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَرْكِهِ، وَسُكْنَى الطَّلَاقِ لَا يسقط وإن اتفق عَلَى تَرْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ الزَّوْجُ، وَسَكَنَ الطَّلَاقِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَافْتَرَقَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ مُوجِبًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، لَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِذَا اعْتَدَّتْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَلَكَ أَنْ تُحَرِّرَ هَذَا الِانْفِصَالَ قِيَاسًا ثَانِيًا فَتَقُولُ: كُلُّ تَصَرُّفٍ اسْتَفَادَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ النِّكَاحِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِيلَاءُ يَصِحُّ مِنْهَا وَتَضْرِبُ لَهُ الْمُدَّةَ إِذَا تَزَوَّجَهَا، قِيلَ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ عِنْدَكُمْ، وَيَكُونُ يَمِينًا يَصِيرُ بِالنِّكَاحِ الْمُسْتَجَدِّ إِيلَاءً وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِيلَاءَ زَوْجَتِهِ لَضَرَبَتْ لَهُ الْمُدَّةَ وَطُولِبَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الطَّلَاقِ كَمَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنْ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْأَجْنَبِيَّاتِ طَرْدًا وَالزَّوْجَاتِ عَكْسًا. فَإِنْ نُوقِضَ بِالْمَجْنُونَةِ يَصِحُّ طَلَاقُهَا بِغَيْرِ بدل، ولا يصح ببدل لم يصح النقص، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْخُلْعِ مَعَهَا، وَيَصِحُّ مَعَ وَلِيِّهَا، وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ مِنْهَا فَصَارَ طَلَاقُهَا بِالْبَدَلِ صَحِيحًا، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَلْحَقُهَا مَكْنِيُّ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْحَقْهَا صَرِيحُهُ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ طَرْدًا، وَالزَّوْجَةِ عَكْسًا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْكِنَايَةُ أَضْعَفُ مِنَ الصَّرِيحِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا كِنَايَةُ طَلَاقٍ لِضَعْفِهِ وَلَحِقَهَا صَرِيحُهُ لِقُوَّتِهِ. قِيلَ: الْكِنَايَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. فَاسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ، وَلِأَنَّ مَا أَفَادَ الْفُرْقَةَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يُفْسِدْهُ فِي الْمُخْتَلِعَةِ كَالْكِنَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: نِكَاحُ الْمُخْتَلِعَةِ أَضْعَفُ من نكاح الزوجة، فإذا دخل عليها ضعف الْكِنَايَة لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا، وَإِنْ عَمِلَ فِي الزَّوْجَةِ، قِيلَ: عَكْسُ هَذَا أَلْزَمُ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ أَضْعَفَ، وَأَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فِي أَقْوَى النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي أَضْعَفِهِمَا. فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ فَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ قال: (الطلاق مرتان) فَجَوَّزَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ الْخُلْعَ أَوِ الطَّلَاقَ، وَلَمْ يُجَوِّزْ بَعْدَ الْخُلْعِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ رَفَعَهُ فِيهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ لَا يَعْرِفُهُ قَالَ: ثَبِّتْهُ لِي حَتَّى أَصِيرَ إِلَيْهِ. عَلَى أَنَّنَا نَتَنَاوَلُ قَوْلَهُ الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَلَيْسَ بِفَسْخٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ النِّيَّةُ كَانَ طَلَاقًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ فَتِلْكَ زَوْجَةٌ لِأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَتَحِلُّ لَهُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، وَيَلْحَقُهَا ظِهَارُهُ وإيلاءه وَلِعَانُهُ وَيَصِحُّ طَلَاقُهَا بِالْكِنَايَةِ وَعَلَى بَدَلٍ، فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي إِنْفَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْهَا كَذَلِكَ فِي إِنْفَاءِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُكَاتَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِبْرَاءٌ وَتَحْرِيرُ الْعِتْقِ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ عَلَى الْمُكَاتَبِ كبقاء الرجعة على المطلقة. لأن يُعْتَقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبِيدِي أَحْرَارٌ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ الْعِتْقُ كَمَا يَلْحَقُ الرَّجْعِيَّةَ الطَّلَاقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ نِسَائِهِ إِنْ طَلَّقَهُنَّ. وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا وَلَا يَلْحَقُهَا كِنَايَةُ الطَّلَاقِ وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ قَالَ كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُكَاتَبِ بِالرَّجْعِيَّةِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمُخْتَلِعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَطَالِقٌ ثَانِيَةً وَطَالِقٌ ثَالِثَةً. فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الطَّلْقَةَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بِالْأُولَى فَبَانَتْ بِهَا، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّانِيَةَ طُلِّقَتِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةَ وَلَمْ تَقَعِ الثَّالِثَةُ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّالِثَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْخُلْعَ كَانَ بِالثَّالِثَةِ فَوَقَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 (بَابُ مَا يَقَعُ وَمَا لَا يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِمَّا سمعت منه لفظاً) قال الشافعي رحمه الله: (ولو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيَقَةٌ ثَمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ لِأَنَّهَا قَدْ خَلَتْ مِنْهُ وَصَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ أَوْقَعَ عَلَيَهَا الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَإِنَمَا صَارَتْ عِنْدَهُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُ نِكَاحٍ غَيْرِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تُطَلَّقُ كُلَّمَا جَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ طُلِّقَتْ حتى ينقضي طلاق ذلك الملك (قال المزني) رحمه الله ولا يخلو قوله أنت طالق في كل سنة من أحد ثلاثة معان إما أن يريد في هذا النكاح الذي عقدت فيه الطلاق فقد بطل وحدث غيره فكيف يلزمه وإما أن يريد في غير ملكي فهذا لا يذهب إليه أحد يعقل وليس بشيء وإما أن يريد في نكاح يحدث فقوله لا طلاق قبل النكاح فهذا طلاق قبل النكاح. فتفهم يرحمك الله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا وَعَلَى صِفَةٍ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً، فَقَدْ قَرَنَ مَا مَلَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ جَعَلَهَا أَجَلًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ، لأن الآجال إذا أطلقت تعيين ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ إِطْلَاقِهَا كَآجَالِ الْأَثْمَانِ وَالْأَيْمَانِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ لِلطَّلَاقِ فَإِذَا مَضَى مِنْهَا بَعْدَ عَقْدِهِ جُزْءٌ وَإِنْ قَلَّ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدُخُولِ السَّنَةِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ أَوَّلَ جُزْءِ الدَّارِ طُلِّقَتْ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا فِي وَقْتِهِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي وَقْتِهِ مُعَجَّلًا وَلَا يَتَأَجَّلُ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. وَعِنْدَنَا أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ فِي الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَبَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّانِي الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّالِثِ الَّذِي قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى عِنْه دُخُول السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالسَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ جَدِيدٍ. فَإِنْ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَرْفَعُ حَالَ الْعَقْدِ وَتَرْفَعُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الطَّلَاقِ وَوُجُودُ الصِّفَةِ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ فلذلك وقع فهذا وجه. والوجه الثاني: أن لا يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ تَطُولُ بِهَا الْعِدَّةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ، لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لأنهما يتوارثان فيهما بالزوجية وإن حرم استمتاعه بِهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ وَبِالظِّهَارِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ فَاسْتَكْمَلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا. وَإِمَّا بِأَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَتَدْخُلُ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَجْنَبِيَّةً وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا مِنْهُ، لِأَنَّ عَقْدَ طَلَاقِهَا كَانَ وَهِيَ زَوْجَةٌ وَيَكُونُ تَأْثِيرُهُ أَن لا تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بِزَوْجٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهَا فِي حَالٍ لَوْ بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا، فَإِذَا صَادَفَهَا طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَأَوْلَى أَن لا يَقَعَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَدْ تَأْتِي وَهِيَ زَوْجَةٌ لِغَيْرِهِ فَتُطَلَّقُ تَحْتَ زَوْجٍ مِنْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَصِيرُ طَالِقًا مِنْ زَوْجَيْنِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ. وَلِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ عَقَدَهَا فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ. وَفِيهِ رَدٌّ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يطلق بِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا مِنَ السِّنِينَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ لَمْ يُجْعَلْ أَجَلًا لِطَلَاقِهَا وَلَا صِفَةً فِيهِ وَلِذَلِكَ تَوَصَّلْنَا بِالْخُلْعِ إِلَى رَفْعِ مَا عَلَّقَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ دُخُولِ الدَّارِ، ومن كلام زيد، فيخالفها عَلَى طَلْقَةٍ ثُمَّ تَدْخُلُ الدَّارَ وَتُكَلِّمُ زَيْدًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بَائِنٌ، وَالْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِهِ إِنْ شَاءَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا دَخَلَتْ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا الدَّارَ وَكَلَّمَتْ زَيْدًا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِهَا سَقَطَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَهَذَا مِمَّا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَا يُسْقِطُهَا، وَأنَّ الْخُلْعَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ الصِّفَاتِ وإِذَا وُجِدَتْ فِي النِّكَاحِ. قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوُجُودُ الزَّوْجَةِ مُضْمَرٌ فِي الصِّفَةِ وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مُفِيدَةً بِشَرْطٍ فَإِذَا وُجِدَتْ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ صَائِمَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا مُفْطِرَةً لَمْ تَسْقُطِ الصِّفَةُ، وَطُلِّقَتْ إِذَا دَخَلَتْهَا مِنْ بَعْدُ وَهِيَ صَائِمَةٌ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الصِّفَاتِ لَا يُعْتَمَدُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَا أَنْ يُعْتَدَّ الْمَشْرُوط بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا زَحْفًا أَوْ حَبْوًا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ دُخُولًا يُخَالِفُ الْعَادَةَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَادَةَ بِدُخُولِهَا مَشْيًا شَرْطًا فِي الصِّفَةِ الَّتِي يَقَعُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 بِهَا الطَّلَاقُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ إِمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ. وَإِمَّا بِأَنْ يُكْمِلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا وَتَسْتَحِلَّ بِزَوْجٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَزَوَّجُهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ زَالَ بِطَلَاقٍ دُونَ الثَّلَاثِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ إن الطَّلَاقَ يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً بِأَوَّلِ جُزْءٍ وَمِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي لِأَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وإن زال النكاح الأول بالطلاق الثلاث فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْقَدِيمِ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَوُقُوعُهُ مَعَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الثَّلَاثِ أَقْوَى مِنْ وُقُوعِهِ إِنْ زَالَ بِالثَّلَاثِ. وَقَدْ يَخْرُجُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقَعُ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا يَقَعُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا. فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يَقَعُ فَوَجْهُهُ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا طلاق قبل النكاح) وَهَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ. وَلِأَنَّ مَقْصُودَ عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَقَدَهُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ، وَلِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ ارْتِفَاعُ أَحْكَامِهِ وَعَقْدُ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَوَجْهُهُ أَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ وَوُجُودَ صِفَتِهِ كَانَا مَعًا فِي مِلْكِهِ وَنِكَاحِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ كَمَا لَوْ كَانَا فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِحَالَيْنِ عَقْدِهِ وَوُقُوعِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمَنْعِ كَالْعَاقِدِ لِلطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ إِذَا وُجِدَتْ صِفَتُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعُهُ كَذَلِكَ هَذَا. وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ إنَّهُ يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِدُونِ الثَّلَاثِ وَلَا يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ فَوَجْهُهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 أَنَّ ارْتِفَاعَهُ بِدُونِ الثَّلَاثِ مُوجِبٌ لِبَقَايَا أَحْكَامِهِ مِنْ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَأَوْجَبَ بَقَاءَ عَقْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَإِذَا ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الطَّلَاقِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ إِذَا عَقَدَهُ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَوُجِدَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ ثَبَتَ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَصَائِصِ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْمُعْتِقُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَشْتَرِيهِ وَيَدْخُلُ الدَّارَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَمْ مَجْرَى الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الرَّجْعِيِّ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الرَّجْعِيَّةِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمِلْكِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 (باب الطلاق قبل النكاح من الإملاء على مسائل ابن القاسم ومن مسائل شتى سمعتها لفظاً) قال الشافعي رحمه الله: (ولو قال كل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِعَيْنِهَا أَوْ لِعَبْدٍ إِنْ مَلَكْتُكَ حُرٌّ فَتَزَوَّجَ أَوْ مَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ الحكم كان وهو غير مالك فبطل (قال المزني) رحمه الله ولو قال لامرأة لا يملكها أنت طالق الساعة لم تطلق فهي بعد مدة أبعد فإذا لم يعمل القوي فالضعيف أولى أن لا يعمل (قال المزني) رحمه الله وأجمعوا أنه لا سبيل إلى طلاق من لم يملك للسنة المجمع عليها فهي من أن تطلق ببدعة أو على صفة أبعد) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا فِي الْعُمُومِ وَلَا فِي الْخُصُوصِ وَلَا فِي الْأَعْيَانِ. فَالْعُمُومُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ. وَالْخُصُوصُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أتزوجها من بني تميم مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهِيَ طَالِقٌ. وَالْأَعْيَانُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهَكَذَا الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَقَعُ بِحَالٍ، وَبِهَذَا قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، وَفِي الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ والثوري. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَرِّمًا لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّكَاحِ، وَلَا يَصِيرُ الْخُصُوصُ وَالْأَعْيَانُ مُحَرِّمًا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّهُ قَدْ يستبح نِكَاحَ مَنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا وَيَعْنِيهَا وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَالِي وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فَقُلْتُ فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا فَقَالَ أَنَا مُتَوَقِّفٌ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَقْدِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَوُقُوعِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يَصِحُّ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمِلْكِ كَالْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْغَرَرَ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدُمُ وَقَدْ لَا يَقْدُمُ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ إِحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّلَاقِ مجهولة. والغررفي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ بِحَمْلٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَالْجَهَالَةُ فِيهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَحَدِ عَبِيدِهِ ثُمَّ يَثْبُتُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَيَصِيرُ ذَا مَالٍ أَوْ يُوصِيَ بِعَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ عَبْدٌ، ثُمَّ يَمْلِكُ عَبْدًا وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ عَلَيْهَا وَلَدَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ بِمَا عَقَدَهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثم طلقتموهن} فَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النِّكَاحِ. مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) . وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ النَّزَّالِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (لَا رضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ وَلَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ وَلَا صمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) . وَرَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ طَلَاقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا بَيْعٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عمر بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (مَنْ طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا طَلَاقَ لَهُ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلَا عِتْقَ لَهُ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا نَذْرَ لَهُ) . وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَكَانَ فِيمَا عَهِدَ إليه أن لا يطلق الرجل ما لم يتزوج ولا يعيق مَا لَا يَمْلِكُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) مَحْمُولٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدٍ، لِأَنَّ اسْمَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ، حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ الطَّلَاقَ طَلَاقًا لَعَتَقَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) أَيْ لَا طَلَاقَ يَقَعُ قَبْلَ نِكَاحٍ. قَالُوا: وَنَحْنُ نُوقِعُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ عَقَدَهُ قَبْلَ النِّكَاحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا كَانَ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا نِكَاحَ عَلَيْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِيمَا هُوَ مَعْقُولٌ إِلَى بَيَانٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الرَّسُولِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا طَلَاقَ وَاقِعٌ وَلَا مَعْقُودٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) وَاقِعًا وَلَا مَعْقُودًا، لَصَحَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ مَحْمُولًا عَلَى مُحْتَمَلَيْهِ مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ فقَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ هِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ ابْنِي خَطَبَ امْرَأَةً، وَإِنَّ ابْنِي قَالَ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرِيهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ. فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْحَالِفِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْوُقُوعَ دُونَ الْعَقْدِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْعُرْفِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ فِي النِّكَاحِ. أَصْلُهُ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ مُوَافِقَةً لَنَا فَكَذَلِكَ فِيمَا خَالَفَنَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِي الْفَرْعِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدار طلقت، لأنه أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى مِلْكِهِ يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الطَّلَاقِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ فَيَقَعُ وَبَيْنَ أَن لا يُضَافَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا يَقَعُ اتِّفَاقًا عَلَى مِثْلِهِ فِي النَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ، وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ فَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَزِمَهُ عِتْقُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَا أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ وَفِي الثَّانِي أَضَافَهُ إِلَى مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ عِتْقُهُ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدُ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ صَحِيحًا كَعَقْدِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ قَبْلَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ وَبَيْنَ إِطْلَاقِهِ كَمَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَعْدَ النِّكَاحِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ وَإِطْلَاقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ بَعْدَ النِّكَاحِ مَالِكٌ فأغنى وجود الملك عن إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَافْتَقَرَ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بَيْنَ اشْتِرَاطِهِ وَعَدَمِهِ وهو أن يقول لزوجته: إذا دخلت الدارفأنت طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ سَقَطَتِ الْيَمِينُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ تُطَلَّقْ وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا إِذَا دَخَلْتِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا، فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ لَمْ تَسْقُطِ الْيَمِينُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهَا فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِوُجُودِ الْمِلْكِ عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ، لِأَنَّ نَذْرَهُ لِعِتْقِ عَبْدِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَزِمَ إِذَا قَالَ إن شفى الله مريضي وملكت عبد زيد فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ عِتْقَ مِلْكِهِ وَقَدْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِذِمَّتِهِ فَلَزِمَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَمْلِكُهُ وَمِثَالُهُ مِنَ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 قِيلَ افْتِرَاقُهُمَا لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وُضِعَ لِرَدِّ الْمِلْكِ لَمْ يَصِحَّ وقوعها تَقَدُّمُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَالْإِقَالَةِ. وَقِيَاسٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أن الفرقة في النكاح لا يصح بِلَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْفَسْخِ. وَقِيَاسٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُ طَلَاقٌ يُنَافِيهِ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ عَدَمُ الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْوَصِيَّةِ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ وَعَقْدُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ كَالسَّلَمِ، وَعَقْدُ الطَّلَاقِ تَنْفِيرٌ وَعَقْدُ التَّنْفِيرِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ كَبَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ وَلَدِ أَمَتِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ عِتْقٌ قَبْلَ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَقُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا عُتِقَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ وَالْأُمُّ فِي مِلْكِهِ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ وَلَا تَبَعًا لِمِلْكِهِ فَاخْتَلَفَا. (فَصْلٌ:) وَهَكَذَا الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْهَا، لِأَنَّ الظِّهَارَ تَبَعٌ فِي الطَّلَاقِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَبَدًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ كَالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ يَكُونُ حَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَمَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ وَكَفَّرَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَجِّلْ لَهَا أَجَلَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَصِحُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 (بَابُ مُخَاطَبَةِ الْمَرْأَةِ بِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْخُلْعِ وما لا يلزمها من النكاح والطلاق إملاء على مسائل مالك وابن القاسم) قال الشافعي رحمه الله: (ولو قالت له امْرَأَتُهُ إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ بِعْنِي ثَوْبَكَ هَذَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْمِائَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْمَبِيعِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ بِهِ الْبَدَلَ وَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ الْبُضْعَ، فَيَحُلُّ الزَّوْجُ فِيهِ مَحَلَّ الْبَائِعِ، وَتَحُلُّ الزَّوْجَةُ فِيهِ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي، فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الْخُلْعُ وَالْبَيْعُ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَا كَمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَلَا يَدْخُلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ فِي الْخُلْعِ. فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَلَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ تَمْلِكَ بُضْعَهَا بِالْأَلْفِ فَأَجَابَهَا إِلَى أَنْ مَلَّكَهَا بُضْعَ نَفْسِهَا بِالْأَلْفِ فَتَمَّ ذَاكَ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِ الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَقِيبَ الطَّلَبِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْبَيْعِ وَعَلَى صِفَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الْمَالِكُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ، فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ قَدْ قَبِلْتُ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من المشتري طلب ومال حَازَ بِهِ الْمَالِكُ إِيجَابٌ فَتَمَّ الْبَيْعُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ كَمَا يَتِمُّ الْبَدَلُ وَالْقَبُولُ. وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حِينَ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ إِيجَابٌ مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبِهَا فَتَنَاوَلَ الْإِيجَابُ مَا تَضَمَّنَهُ الطَّلَبُ. وَمِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ فَيَقُولُ قَدْ بِعْتُكَ وَلَا يَقُولُ بِأَلْفٍ فَيَكُونُ بَائِعًا لَهُ بِالْأَلْفِ، لِأَنَّهُ إِيجَابٌ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبٍ تَضَمَّنَ الْأَلْفَ، فَاسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يُصَرِّحَ فِي إِيجَابِهِ بِالْأَلْفِ. وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِالْأَلْفِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْأَلْفُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِيجَابَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الثَّمَنَ عَادَ إِلَى البيع والثمن لأنهما لا يفترقا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِذَا صَرَّحَ بِقَبُولِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَبُولِ الصَّدَاقِ، لَزِمَهُ النِّكَاحُ دُونَ الصَّدَاقِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَفْتَرِقَانِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي الْفَرْقِ يَقْتَضِي أَن لا يَجِبَ لَهُ فِي الْخُلْعِ الْأَلْفُ حَتَّى يَقُولَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ. قِيلَ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْفَرْقِ لَا يَقْتَضِي هَذَا فِي الْخُلْعِ وَإِنِ اقْتَضَاهُ فِي النِّكَاحِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَبُولَ فِي النِّكَاحِ فِي مُقَابَلَةِ الْتِزَامِهِ الْعَقْدَ وَالصَّدَاقَ فَإِنْ صَرَّحَ بِهِمَا، وَإِلَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَهُوَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ فِي الْخُلْعِ إِلَّا الْتِزَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِوَضُ فَتَوَجَّهَ إِطْلَاقُ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ قَالَتْ فَلَكَ أَلْفٌ. فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَهُ الْأَلْفُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ بِعْتَنِي عَبْدَكَ هَذَا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَيَقُولُ الْمَالِكُ: قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ فَيَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ ابْتِيَاعَهُ بِالْأَلْفِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهَا: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ طَلَبًا بِأَجْرٍ تَضَمَّنَ الْتِزَامًا فَصَحَّ الطَّلَاقُ بِالزَّوْجِ وَحْدَهُ وَقَدْ وُجِدَ الِالْتِزَامُ مِنْهَا لَهُ فَصَحَّ الْخُلْعُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِمُجَرَّدِ الِالْتِزَامِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الطَّلَبُ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الشَّرْطِ طَلَبٌ فَصَارَ الْتِزَامُ الْمُشْتَرِي سَوْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ المسألة بالبيع قبل موضع التشبيه بينهما في استحقال الْعِوَضِ لَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكَ أَلْفًا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا أَلْفًا لِالْتِزَامِهَا عَلَى الطَّلَاقِ أَلْفًا فَصَارَ الطَّلَاقُ شَرْطًا، وَالْأَلْفُ جَزَاءً وَمِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ لما ذكرنا والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ اخْلَعْنِي أَوْ بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُرِيدُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا فَلَهُ مَا سَمَّتْ لَهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَخَالَعُ بِهِ الزَّوْجَانِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهَا بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي أَوْ خَلِّينِي أَوْ أَبْعِدْنِي أَوْ حَرِّمْنِي فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ لَفْظَانِ الْخُلْعُ وَالْمُفَادَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا عِوَضٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ فَهُمَا كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِمَا عِوَضٌ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ صَرِيحٌ كَالطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا، إنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا صَرِيحًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ فَارَقْتُكِ. أَوْ تَقُولُ لَهُ: سَرِّحْنِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ سَرَّحْتُكِ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِهِ، وَلَا يُسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ مُرَادِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ لَهَا: قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ قَالَتْ لَهُ سَرِّحْنِي، فَقَالَ لَهَا: قَدْ طَلَّقْتُكِ، لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحَةٌ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهما مَقَامَ الْآخَرِ فَكَانَ مُمَاثِلًا فِي حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي لَفْظِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَبِنِّي بِأَلْفٍ أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ حَرِّمْنِي أَوْ أَبْعِدْنِي فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ بِنْتُكِ أَوْ بَارَأْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ أَوْ أبعدتك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 وَبِأَيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَجَابَهَا عَنْ أَيِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا سَأَلَتْ بِهَا كَانَ مُجِيبًا بِمِثْلِهَا فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ خَالَفَهَا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ مُمَاثِلَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بها طلاق ولم يكن لها حكم، فسئل الزَّوْجَانِ عَنْ نِيَّتِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا فيه من أربعة أحوال: أحدها: أن تريد الزَّوْجَةُ بِسُؤَالِهَا وَيُرِيدَ الزَّوْجُ بِإِجَابَتِهِ الطَّلَاقَ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَتِمُّ الْخُلْعُ، وَتَقُومُ الْكِنَايَةُ مَعَ البينةِ مَقَامَ الصَّرِيحِ فِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَن لا يُرِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَلَا طلاق ولا خلع لا حُكْمَ لِلَّفْظِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا فِي فُرْقَةٍ وَلَا عِوَضٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُرِيدَ الزَّوْجَةُ الطَّلَاقَ وَلَا يُرِيدَهُ الزَّوْجُ فَلَا طَلَاقَ وَقَدْ سَأَلَتْهُ مَا لَمْ يُجِبْهَا إِلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهَا مَا بَذَلَتْ مِنَ الْعِوَضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا سَأَلَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتْ إِرَادَةَ الطَّلَاقِ أَحْلَفَتْهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَلَا تُرِيدَهُ الزَّوْجَةُ فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: هَلْ علمت حين أرادت الطَّلَاقَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ وَقَعَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَلَا عِوَضَ لَهُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ. قِيلَ لَهُ: أَفَتُصَدِّقُهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ فَإِنْ صَدَّقَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ عَلَى شَرْطِ عِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذِ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ طَلَاقُهُ بَائِنًا لِاعْتِرَافِهِ بِوُقُوعِهِ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَإِذَا حَلَفَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّتِي صَرَّحَتْ بِذِكْرِهَا، وَحَلِفَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ خَالَعْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ: فَادِنِي بِأَلْفٍ فَيَقُولَ لَهَا: قَدْ فَادَيْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ: اخلعني فيقول: قد خالعتك فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ صَرِيحَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، أَمَّا الْمُفَادَاةُ فَلِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهَا وَأَمَّا الْخُلْعُ فَلِمَعْهُودِ اللُّغَةِ فِيهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِذَا قِيلَ إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ فَسْخٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ طَلَاقٌ أَوْ كِنَايَةٌ لَدَخَلَ فِيهِمَا وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ، وَوَقَعَ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ من غير أن تنقض بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَهَا فَلَوْ كَانَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ أَجَابَهَا بِالْفَسْخِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا إِلَّا بِعَيْبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ فَسْخًا يَقُومُ مَقَامَ الْخُلْعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الْخُلْعُ وَكَانَ فَسْخًا أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ، وَيَكُونَ خُلْعًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ: افْسَخْ نِكَاحِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ فَسَخْتُهُ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ لَفْظُهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِكِنَايَةٍ، مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولَ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَا خُلْعَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كِنَايَتِهِ فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ مَعَ النِّيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِالْخُلْعِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ فَقَالَ: قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَاسْتَحَقَّ الْبَدَلَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَهَا بِصَرِيحٍ عَنْ صَرِيحٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِجَابَتِهِ عَنِ الصَّرِيحِ بِالْكِنَايَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُمَيَّزًا بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ فَعَلَى هَذَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ، لِأَنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ صَرِيحٌ فِي الْفُرْقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَلَا يَكُونُ جَوَابًا إِلَى مَا سَأَلَتْ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ طَلَاقًا يَنْقَضِي بِهِ مَا مَلَكَهُ عَلَيْهَا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا إِلَى فَسْخٍ لَا يَنْقَضِي بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَصَارَ مُجِيبًا إِلَى غَيْرِ مَا سَأَلَتْ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ به البدل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِهِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: أَبِنِّي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا دُونَهُ فَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنَ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الزَّوْجَةُ بِالْكِنَايَةِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَدَلَ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: تَسْأَلُهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ كَأَنَّهَا قالت: أبني بألف، فقال لها: قد خالعتك بِهَا فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا بِالْكِنَايَةِ فَإِنْ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَلَا خُلْعَ، وَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ فَفِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَجْهَانِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِالْخُلْعِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ، فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ مُسْتَحَقَّةٌ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ بِالْخُلْعِ فُرْقَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَيَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ فَصَارَ مَا أَجَابَهَا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَتْهُ مِنْهُ، وَخَالَفَ سُؤَالَهَا لِلطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ، لِأَنَّ الْخُلْعَ انْقَضَى فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ بِهَا، فَيُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أن لا يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَيَصِيرَ بِالنِّيَّةِ طَلَاقًا، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَتُسْتَحَقُّ الْأَلْفُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَسْخَ الْخُلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي فَسْخِ الْخُلْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لا يتعلق بالصفة، فيم يَصِحَّ بِالْكِنَايَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا فُرْقَةَ وَلَا بَذْلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الْفَسْخِ، كَمَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَن لا يُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا وَلَا فَسْخًا فَلَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ قَالَتِ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مَا لَمْ يَتَنَاكَرَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ يَنْزِلُ الزَّوْجُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، وَالزَّوْجَةُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْعِوَضُ فِيهِ كَالثَّمَنِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهَا الْجَهَالَةُ كَالْأَثْمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا: فِي امْرَأَةٍ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى أَلْفٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: له الألف، ما لم يتناكرا. فتقول: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ قَدِ اسْتُفِيدَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ، وَبَقِيَ الْجِنْسُ وَالصِّفَةُ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ والصفة فَيَقُولَا أَلْفُ دِرْهَمٍ رَاضِيَّةٍ فَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الدَّرَاهِمِ الْجِنْسُ وَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الرَّضِيَّةِ الصِّفَةُ فَيَصِيرُ هَذَا الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ تَنَاكَرَا الصِّفَةَ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: هِيَ رَاضِيَّةٌ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: هِيَ سَلَامِيَّةٌ. وَإِنِ اخْتَلَفَا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّاضِيَّةِ كَقِيمَةِ السَّلَامِيَّةِ تَحَالَفَا، وَلَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي قِيمَتِهَا مِنْ تَحَالُفِهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ غَرَضٌ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِزِيَادَةِ قِيمَةٍ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ فَقَالَ الزَّوْجُ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، تَحَالَفَا أَيْضًا، وَحُكِمَ لِلزَّوْجِ مَعَ تحالفهما بهر الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِالطَّلَاقِ الْمَطْلُوبِ، فَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَجَرَى مَجْرَى تَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي لِلسِّلْعَةِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةٍ، تَحَالَفَا وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ وَيُغْفِلَا ذِكْرَ الصِّفَةِ فَيَقُولَا عَلَي أَلْف دِرْهَمٍ، فينتظر فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ فِي الدَّرَاهِمِ انْصَرَفَ إِطْلَاقُ الْجِنْسِ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَصِفْهَا أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، فَلَوْ كَانَ لِلْبَلَدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَلَيْسَ أَحَدُهما بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَفَسَدَ الْخُلْعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْأَغْلَبِ من دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ تَحَالَفَا. كَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْأَغْلَبَ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ أَوِ الْقَدْرِ تَحَالَفَا وَادَّعَى غَيْرُهُ تَعْيِينَهُ بِصِفَةٍ مِنْ دَرَاهِمَ غَيْرِهَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نُقُودِ الْمَهْرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 والقسم الثالث: أن لا يَذْكُرَ بَعْدَ الْقَدْرِ جِنْسًا وَلَا صِفَةً فَيَقُولَانِ عَلَي أَلْف وَلَا يَقُولَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا قَدْ أَشَارَا إِلَى جِنْسٍ وَصِفَةٍ قَدْ تَقَرَّرَا بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ، فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ تَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُشِيرَا بِذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ فَهَذَا خلع فاسد يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْقَدْرِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَثِيَابٍ وَعَبِيدٍ فَصَارَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا فَبَطَلَ وَلَمْ يَبْطُلِ الْخُلْعُ، لِاسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا حَمَلْتُمْ إطلاق الألف على الأغلب مما يتعامل به أهل البلد وهو الدراهم كما حملتم إطلاق الدراهم عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ. قِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْجِنْسُ كَثُرَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَبَطَلَ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجِنْسُ قَلَّتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَصَحَّ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَلَفَا فِي هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا إِطْلَاقَ الْأَلْفِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ تَعْيِينَهَا بِذِكْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لِأَنَّ مُدَّعِي إِطْلَاقِ الْأَلْفِ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ، وَمُدَّعِي ذِكْرِ الْجِنْسِ يَدَّعِيهَا من ذلك الجنس فيتخالفان وَمُدَّعِي مِثْلِ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ التخالف، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَوْ قَالَ: تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ لَمْ نُسَمِّهَا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ بِأَلْفٍ سَمَّيْنَاهَا وَذَكَرَ جِنْسَهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ ذِكْرَ الْجِنْسِ لأنه يذكر فساد العقد والآخر يدعي صحته، وإذا اختلفا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى فَسَادَهُ دُونَ صِحَّتِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي صحيحه وفاسده فتخالفا عَلَى صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ذِكْرَ الْجِنْسِ وَلَكِنْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَرَدْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَيَقُولُ الَآخَرُ: لَمْ نُرِدْهُ، أَوْ يقول أحدهما: أردنا الدراهم، ويقول الآخر: أدرنا الدَّنَانِيرَ فَفِي جَوَازِ تَحَالُفِهِمَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَوْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَالَفَا لأنه قد يكون بينهما من أمارات الأحوال مَا تَدُلُّ عَلَى ضَمَائِرِ الْقُلُوبِ كَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ قَالَتْ عَلَيَّ أَلْفٌ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي أَوْ عَلَى أَلْف فَلْسٍ وَأَنْكَرَ تَحَالَفَا وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَمَعَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ خَالَعْتُكَ عَلَى أَلْفِ فَلْسٍ، وَيَقُولَ الزَّوْجُ: بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ، فَيَتَحَالَفَانِ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، عَلَى مَا مَضَى. وَمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحَالُفِهِمَا فِيهَا صَحِيحٌ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ، فَتَقُولُ: خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي فَهَذَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ قَدْ خَالَعْتُكَ عَلَيْهَا لَكِنْ ضَمِنَهَا لَكِ فُلَانٌ عَنِّي فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الضَّمَانَ زِيَادَةُ وَثِيقَةٍ لَا تَبْرَأُ بِهِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ الضَّمَانُ مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَتِهِ فهذا القسم مما لا تخالف فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَقُولَ: خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لِي فِي ذِمَّةِ غَيْرِي، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى الْخُلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَلْفِ، فَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَنَّهَا ألف في ذمتها والزوجة تتدعي أَنَّهَا أَلْفٌ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا، وَمَا فِي ذِمَّتِهَا غَيْرُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ جَمِيعًا فِي مِلْكِهَا فَصَارَ ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِوَضِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: بَلْ خَالَعْتَنِي عَلَى هَذَا العبد الآخر فيتحالفان كذلك ها هنا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الذِّمَّتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْعَبْدَيْنِ وَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقُولَ الزَّوْجَةُ بَلْ خَالَعَكَ فُلَانٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ دُونِي، فَهَذِهِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ خَالَعَتْهُ بِشَيْءٍ وَمُقِرَّةً بِغَيْرِهَا بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلْعَقْدِ، وَالتَّحَالُفُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَقْدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي صِفَةٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الْغَيْرِ بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا، ويقع طلاق الزوج بائنا لأنه مقراً بِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِأَلْفٍ قَدِ اسْتَحَقَّهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْأَلْفُ بِالْجُحُودِ فينبغي أن لا يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ بِالْإِقْرَارِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَهُ زَيْدٌ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْعَبْدِ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ بِجُحُودِ زِيدٍ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الثَّمَنِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الثَّمَنُ لَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ، وَالطَّلَاقُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الْعِوَضِ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ يَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا فِي التَّحَالُفِ وَالْعِوَضِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا تَحَالُفَ فِيهِ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذكره الشافعي من التحالف. والقسم الثاني: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ من التحالف والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ وَقْتَ الْخِيَارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى سُؤَالَيْنِ وَجَوَابَيْنِ فَالسُّؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْمَرْأَةِ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الرَّجُلِ إِنْ شِئْتِ. وَأَمَّا الْجَوَابَانِ فَأَحَدُهُمَا قَوْلُ الرَّجُلِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمَرْأَةِ: إِنْ شِئْتُ، فَإِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِالطَّلَبِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ عَجَّلَ جَوَابَهَا فِي الْحَالِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، تَمَّ الْخُلْعُ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ وَجَوَابٍ وَاحِدٍ،. وَصَارَ سُؤَالُهَا طَلَبًا وَجَوَابُهُ إِيجَابًا، فَتَمَّ الْخُلْعُ، وَلَمْ تَحْتَجِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ طَلَاقُ الرَّجُلِ لَهَا حَتَّى تَرَاخَى خَرَجَ طَلَاقُهُ عَنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ وَصَارَ بَدَلًا وَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَلَا يَتِمُّ الْخُلْعُ بَعْدَ بَذْلِهِ حَتَّى تَقُولَ الزَّوْجَةُ فِي الْحَالِ: قَدْ قَبِلْتُ، فَيَتِمُّ الْخُلْعُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، لِأَنَّ تَرَاخِيَ جَوَابِ الزَّوْجِ عَنْ طَلَبِ الزَّوْجَةِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَيَجْعَلُهُ حُكْمَ الْبَذْلِ الْمُسْتَبْدَأِ. فَأَمَّا إِنْ قَيَّدَ الزَّوْجُ جَوَابَهُ بِشَرْطٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَالَ عَقِيبَ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، فَتَمَامُ الْخُلْعِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا شَرْطُ الطَّلَاقِ، فَتَقُولُ: قَدْ شِئْتُ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْخُلْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَاتِ وَبِالشُّرُوطِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَشِيئَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْقَلْبِ فَلَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِهَا: قَدْ شِئْتُ، فَإِذَا قَالَتْ: قَدْ شِئْتُ، صَارَ الْقَوْلُ مَشِيئَةً مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارًا عَنْهَا، وَمِنْ شُرُوطِ الْمَشِيئَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ قبولاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 لِبَذْلٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ (فَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَقْتَ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ، فَعَلَى هَذَا مِنْ صِحَّةِ مَشِيئَتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، كَمَا يَكُونُ قَبُولُ الْبَذْلِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْجَوَابِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَهُوَ أَنْ تَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَ أَخْذِهَا فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ، كَمَا يَكُونُ فِي الْعَرب جَوَابًا لِلسُّؤَالِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنْ تَرَاخَى زَمَانُ مَشِيئَتِهَا لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خِيَارُهَا فِي الْمَشِيئَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّرَاخِي. وَأَصْلُهُ اخْتِلَافُنَا وَإِيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَعِنْدَهُ إنَّ خِيَارَهَا مُمْتَدٌّ، وَعِنْدَنَا إنَّ خِيَارَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ كُنْتِ حَائِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْأَلْفِ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمُسَمَّى فِيهِ لِبُطْلَانِهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا لِيُعْلَمَ بِهِ يَقِينُ حَمْلِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَلَطًا، وَفِي تَحْرِيمِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَمْلِ وَقَبْلَ الوضع وجهان. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَسَوَاءٌ هَرَبَ الزَّوْجُ أَوْ غَابَ حَتَّى مَضَى وَقْتُ الْخِيَارِ أَوْ أَبْطَأَتْ هِيَ بِالْأَلْفِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ها هنا عَنِ الشَّافِعِيِّ مَبْتُورٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ لَزِمَهُ، سَوَاءً أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا لِهَرَبِ الزَّوْجِ، أَوْ لِإِبْطَائِهَا لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ تَصِيرُ شَرْطًا فِي الْقَبُولِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْفَوْرُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ ذِكْرَهَا، وَنَقْلَ جَوَابِهَا، وَقَدْ نَقَلَهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ فِيهَا هَذَا الْجَوَابَ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فأنت طالق، فإذا أَعْطَتْهُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَاجِلًا وَقَعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَخَّرَتْ دَفْعَ الْأَلْفِ إِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ غَابَ أَوْ هَرَبَ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا بِأَنْ أَبْطَأَتْ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ صَارَ شَرْطًا فِي الْخُلْعِ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ كَالْقَبُولِ لَكِنَّ الْفَوْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجَوَابِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَالْمَشِيئَةَ قَوْلٌ وزمان الفعل أوسع ومن زَمَانِ الْقَوْلِ. ثُمَّ نَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ مَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَسْأَلَةً ثَالِثَةً أغفلها المزني ها هنا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ ضَمِنَتْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ طُلِّقَتْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا، وَإِنْ لَمْ تَضْمَنْهَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى تَرَاخَى الْوَقْتُ لَمْ تُطَلَّقْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا، لِأَنَّ شَرْطَ الْخُلْعِ هُوَ الضَّمَانُ دُونَ الدَّفْعِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ تعجيل الضمان، ولم يراعى تعجيل الدفع والفور ها هنا مُعْتَبَرٌ بِفَوْرِ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا مَعًا بِالْقَوْلِ فَالضَّمَانُ قَبُولٌ مَحْضٌ فَسَاوَاهُ، وَالْمَشِيئَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَاهُ فَصَارَ تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الْخُلْعُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ فَجَازَ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ، وَإِنْ عُلِّقَ بِضَمَانِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ وَإِنْ عُلِّقَ بِالْمَشِيئَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ كَالدَّفْعِ. وَالثَّانِي: يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ كَالضَّمَانِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ حرف الشرط بأن وإذا، فَهُمَا مَعًا حَرْفَا شَرْطٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خُلْعٍ يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، أَوْ يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِذَا شِئْتِ، فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْفَوْرِ: وَ (إِذَا) ، لِأَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِيهِ يَجْعَلُهُ تَمْلِيكًا يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَبُولِ فَاسْتَوَى حُكْمُ إذا وإن فِي اعْتِبَارِ الْفَوْرِ فِيهِمَا فَإِنْ تَرَاخَى الْوَقْتُ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ خُلْعٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، رُوعِيَ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تَرَاخَتْ بَطَلَتْ، وَلَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَتْ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُمَا وإن كانا حرفي شرط (فإن) شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ، وَ (إِذَا) شَرْطٌ فِي الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَأْتِنِي آتِكَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَأْتِينِي آتِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ إِنْ شَرْطًا فِي الْفِعْلِ، وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 مَقْصُودٌ رَوْعِيَ تَقْدِيمُهُ فَصَارَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمَّا كَانَ (إِذَا) شَرْطًا فِي الْوَقْتِ، وَكَانَ جَمِيعُهُ مُتَسَاوِيًا صَارَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمَا حَرْفُ النَّفْيِ فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَتْ لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ لم تشاء حتى تراخي الزمان طلقت، كمن لم تشاء لأنهما وإن كان حرفي شرط فإن مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ فَصَارَتْ بِالنَّفْيِ عَلَى التَّرَاخِي لتفيد بفوات الفعل يقيناً فذلك جُعِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْ وَقْتِ إِمْكَانِهِ فَقَدْ خَالَفَ مَوْضُوعَهُ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى الفور. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهَا زَائِدَةً فَعَلَيْهِ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزِيَادَةً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، وَهُوَ خِيَارُ الْجَوَابِ، لَا خِيَار الْقَبُولِ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُعْطِيَهُ أَلْفًا كَامِلَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَقَدْ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُرِدِ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَفَعَاتٍ إِذَا كَانَ دَفْعُ جَمِيعِهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ وُجِدَ مَعَ الِافْتِرَاقِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مُفْرَدَةً طُلِّقَتْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مَعَ الْأَلْفِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةً بِصِفَةِ الشَّرْطِ كَالنُّقْصَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ فَقَالَ قَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفَيْنِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ دَاخِلَةً فِيهَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، كَمَا لَوْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا وَعَبْدًا طُلِّقَتْ، وَلَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْعَبْدِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الْأَلْفِ، كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، لِوُجُودِ الْأَلْفِ فَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، لِعَدَمِ الْأَلْفِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْبَيْعِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ فَلَمْ تَمْنَعِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا، وَالْبَيْعُ مُعَاوَضَةٌ تَتمّ بِالْقَبُولِ الْمُوَافِقِ لِلْبَدَلِ فَافْتَرَقَا فَإِذَا تَقَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ، فَلَهَا اسْتِرْجَاعُ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ بِالْأَخْذِ وَإِنْ مَلَكَ الْأَلْفَ إِلَّا أَنْ يَقْبِضَهَا بِالْهِبَةِ فَيَمْلِكَهَا بِالْهِبَةِ وَيَمْلِكَ الْأَلْفَ بالخلع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهَا فِي الْعَدَدِ دُونَ الْوَزْنِ كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَازِنَةً عَدَدُهَا أَقَلُّ مِنْ أَلْفٍ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِإِطْلَاقِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْوَازِنَةَ دُونَ الْمَعْدُودَةِ شَرْعًا كَالزَّكَاةِ، وَعُرْفًا كَالْبَيْعِ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً بِكَمَالِ الْوَزْنِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْوَزْنِ كَامِلَةَ الْعَدَدِ، فَلَا طَلَاقَ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكْمُلْ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَتَعَامَلُوا فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا لَا وَزْنًا، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِكَمَالِ العدد مع نقصان الوزن تغلبياً لِلْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلَا تُطَلَّقُ مَعَ هَذَا الْعُرْفِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الْوَزْنِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا رَدِيئَةً فَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ طُلِّقَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا بَدَلُهَا فَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ لَمْ تُطَلَّقْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ تِلْكَ الْأَلْفَ فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذِهِ الْأَلْفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِدَفْعِهَا، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي دفع غيرها. والضرب الثاني: أن لا يُعَيِّنَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يصف الألف. والثاني: أن لا يَصِفَهَا. فَإِنْ وَصَفَهَا كَانَ دَفْعُهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا، وَإِنْ دَفَعَتْهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَا دَفَعَتْهُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا إِذَا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهَا ثُمَّ إِذَا دَفَعَتْهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَلَكَهَا. والضرب الثاني: أن لا يَصِفَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ فَهَلْ يَصِيرُ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 الْعُقُودِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَمَلَكَهَا، وَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَلَمْ يَمْلِكْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: دُونَ الْعُرْفِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، طُلِّقَتْ، وَمَلَكَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعُرْفُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَاعْتُبِرَ فِي الطَّلَاقِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّلَاقِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنْ مُعَاوَضَةٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا غَالِبُ الدَّرَاهِمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَيُّ دَرَاهِمَ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ مِمَّا يَنْطَبِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا طُلِّقَتْ بِهَا، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الزَّوْجُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا وَلَا مَوْصُوفًا وَلَا فِيهِ نَقْدٌ مُسْتَحَقٌّ مِثْلُهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَطَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ فَطُلِّقَتْ بِهَا، وَمَلَكَهَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ رَدِيئَةٌ مَعِيبَةٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ مَعِيبًا فَلَا يَخْلُو عَيْبُهَا مِنْ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ نُحَاسًا أَوْ رَصَاصًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ دَرَاهِمِ الْفِضَّةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِيهَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الرَّدِّ، فَإِنْ أَقَامَ لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِهَا وَإِنْ رَدَّ فَمَاذَا يَرْجِعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمِثْلِهَا غَيْرِ مَعِيبَةٍ. وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ غَيْرَ مَعِيبَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ رَدِيءِ الْفِضَّةِ وَخَشَنِهَا لِرَدَاءَةِ مَعْدِنِهَا، فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا قَدْ وَقَعَ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْمَحَ بِعَيْبِهَا كَمَا يَسْمَحُ بِعَيْبِ الْمَعِيبِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرْجِعَ بِمِثْلِهَا مِنْ جَيِّدِ الْفِضَّةِ غَيْرِ مَعِيبٍ وَلَا يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ غَيْرِ مَعِينةٍ. وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون عيبها وردائتها قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رصَاصٍ أَوْ مَاسٍ فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهَا مَشْرُوطًا بِدَفْعِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهَذِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ أَقَلُّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تُطَلَّقْ لِنُقْصَانِ الفضة، ولكن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 لَوْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ وَزِيَادَةِ الْغِشِّ، وَلَهُ بَدَلُهَا إِنْ شَاءَ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَقْرَةً فِضَّةً يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ تُطَلَّقَ. قِيلَ: لَا تُطَلَّقُ بِالْفِضَّةِ النَّقْرَةِ وَإِنْ طُلِّقَتْ بِالْفِضَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، لِأَنَّ النَّقْرَةَ لَا يَنْطَلِقُ اسَمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً، وَالدَّرَاهِمَ الْمَغْشُوشَةَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ فَافْتَرَقَا في الحكم لافتراقهما في الاسم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِهَا وَلَا لَهَا إِذَا أَعْطَتْهُ أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ لَهَا مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ مَا حَر ْفُ صِلَ ةٍ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] . أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ الله، وإذا كان كذلك فأي وقت أعطيته الْأَلْفَ طُلِّقَتْ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ مَتَى حَرْفٌ وُضِعَ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَوْقَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَيُّ وَقْتٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ طُلِّقَتْ، لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا بِالْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَعَمَّتْ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَوْ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ إِنْ وإذا فِي الشَّرْطِ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِمَا سَوَّى بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي الْفَوْرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ فَهَلَّا كَانَ قَوْلُهُ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلتَّرَاخِي تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ. قيل: الفرق بينهما أن إذا وإن مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَ (مَتَى) مِنْ حُرُوفِ الزَّمَانِ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَهَا حَقِيقَةً وَالْعِوَضُ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ حُمِلَ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ مَا يُنَافِيهِ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الزَّمَانِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَاخِي حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّرَاخِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، وَمَا أَوْجَبَ الْفَوْرَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مُحْتَمَلٌ، كَمَا تَقُولُ فِي الْقِيَاسِ إِنَّهُ يُخَصُّ بِالْعُمُومِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَخُصُّ النَّصَّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى (مَتَى) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 حَرْفُ النَّفْيِ فَقَالَ لَهَا: مَتَى لَمْ تُعْطِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَلَمْ تَدْفَعْهَا طُلِّقَتْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ مَتَى يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْإِثْبَاتُ صَارَ تَقْدِيرُهُ مَتَى جَاءَ زَمَانٌ أَعْطَيْتِنِي فيه ألفاً فأنت طالق، فإذا أعطته بعد تراخي الزمان فقد جَاءَ زَمَانٌ دَفَعَتْ فِيهِ الْأَلْفَ فَطُلِّقَتْ. فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ حَرْفُ النَّفْيِ صَارَ تَقْدِيرُهُ مَتَى جَاءَ زَمَانٌ لَمْ تَدْفَعِي فِيهِ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا مَضَى زَمَانُ الْمُكْنَةِ فَقَدْ جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَطُلِّقَتْ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ بَعْدَ انْعِقَادِ الطَّلَاقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُبْطِلَهَا وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ لَمْ يُقْبَلْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ مَا عَلَّقَهُ مِنَ الطَّلَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ عَلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ أَغْلَبَ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ بَذْلُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبُولِ. فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا دَفَعُ الْأَلْفِ وَهِيَ فِي دَفْعِهَا بِالْخِيَارِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوقِعٌ لِطَلَاقِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا أَوْقَعَ طَلَاقَهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَلْزَمْهَا دُخُولُ الدَّارِ لِتُطَلَّقَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَبُولُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا كَقَبُولِ الْبَيْعِ. وَإِذَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فَأَخَذَهَا طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ فَلَمْ يَأْخُذْهَا فَإِنْ كَانَ لِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا عَلَيْهِ إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَمْ يَكْمُلْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهَا طُلِّقَتْ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْأَخْذِ بِفِعْلِ الْمُعْطِي، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْأَخْذُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَعْطَانِي فَلَمْ آخُذْ مِنْهُ، ثُمَّ إِذَا طُلِّقَتْ بِإِعْطَاءِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَخْذِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الطَّلَاقِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ لِتِلْكَ الْأَلْفِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ لِتَعَيُّنِ الطَّلَاقِ بِهَا، فَإِنْ أَرَادَتْ دَفْعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنِ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا وَإِنْ طُلِّقَتْ بِهَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعَيُّنِهَا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَلْفِ فَكَانَتْ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ أَلْفٍ مثلها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 (فصل:) ولو قال: أنت طالق إذا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أنها أعطته ألفاً على طلاقها، لأن (إذا) تَخْتَصُّ بِمَاضِي الزَّمَانِ دُونَ مُسْتَقْبَلِهِ، وَ (إِذَا) تَخْتَصُّ بِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ ذَلِكَ وَطَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ لَزِمَهُ رَدُّهَا، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِهَا وَمُدَّعٍ اسْتِحْقَاقَهَا فَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَإِن رَدَّ الْأَلْفِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَلِأَنَّ أن المفتوحة لماضي الزمان دون مستقبله (وإن) بِالْكَسْرِ لِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كالفرق بين إذ، وإذا، فَإِنْ طَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ عِنْدَ إِنْكَارِهَا لِلْخُلْعِ لَزِمَهُ رَدُّهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَخْذِهَا، وَلَهُ إِحْلَافُهَا عَلَى إِنْكَارِهَا وبالله التوفيق. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا وَلَكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْأَلْفُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَلَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ جُعِلَتْ عِوَضًا عَلَى مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَقُسِّطَتْ عَلَيْهَا، وَكَانَ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْأَلْفِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِكُلِّ طَلْقَةٍ مِنْهَا، ثُلُثَ الْأَلْفِ، كَمَا لَوْ أَبَقَ منه ثلاثة أعبد فقال من جائني بِهِمْ فَلَهُ دِينَارٌ فَجِيءَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّينَارِ، لِأَنَّ الدِّينَارَ قَابَلَ ثَلَاثَةَ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةً فَتُقسطَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا مُتَسَاوِيَةً. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَأَعْطَتْهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ لَمْ تُطَلَّقْ بِهَا وَاحِدَةً، وَإِنْ قَابَلَتْ ثُلُثَ الْأَلْفِ فَهَلَّا كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لم تستحق ثُلُثَ الْأَلْفِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، فَجَازَ أَنْ يُقَسَّطَ الْعِوَضُ عَلَى أَعْدَادِ الْمُعَوَّضِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ إِذَا تَبَعَّضَتْ لَمْ يَتَبَعَّضْ مَا عُلِّقَ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا بِكَمَالِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ ثَلَاثًا فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَدَخَلَتْهَا مَرَّةً لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ دُخُولَهَا ثَلَاثًا، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا، فَصَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاسْتَحَقَّ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَ مَا سَأَلَتْ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَ مَا بَذَلَتْ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ بِهِمَا ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَيْ مَا سَأَلَتْ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَيْ مَا بَذَلَتْ، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ونصف طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْأَلْفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ثلثي الْأَلْفِ، لِأَنَّهَا قَدْ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثِ طلقات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا نِصْفَ اَلثَّلَاثِ وَأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِالشَّرْعِ لَا يَفْعَلُهُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، وَقَالَ: نَوَيْتُ أَنْ تَكُونَ اَلْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ اَلثَّلَاثِ، طُلِّقَتِ اَلْأُولَى وَحْدَهَا، وَكَانَ لَهُ ثُلُثُ اَلْأَلْفِ، وَلَمْ تَقَعِ اَلثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ لِلْأُولَى فَظَاهِرُ الْأَلْفِ صَارَتْ مُخْتَلِعَةً لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَتْ لَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره (قال المزني) رحمه الله وقياس قوله ما حرمها إلا الأوليان مع الثلاثة كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الآخر وأنه ليس على الفاقئ الأخير عنده إلا نصف الدية فكذلك يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فليس عليها إلا ثلث الألف بالطلقة الثالثة في معنى قوله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الثَّالِثَةَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا تُطَلَّقُ مِنْهُ إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كانت له هذه الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ جَمِيعُ الْأَلْفِ ثُمَّ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تَحْرُمُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَصَارَ لَهَا بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ مَقْصُودُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ التحريم التي لَا تَحِلُّ مَعَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَاسْتَحَقَّ بِهَا مَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّلَاثِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأَلْفِ. فاعترض المزني على الشافعي فقال: (ينبغي أن لا يَسْتَحِقَّ إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ، لِأَنَّ قِيَاسَ قَوْلِهِ (مَا حَرَّمَهَا إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الْآخِرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَاقِئِ الْأَخِيرِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهَا إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ من أنه لا يستحق بالثالثة إلى ثُلُثَ الْأَلْفِ سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، تَعْلِيلًا بِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَالِ السُّكْرِ بِالْقَدَحِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَكُونُ بِهِ وبالأوليين وَيُفْقِئُ عَيْنَ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ يَكُونُ ذَهَابُ الْبَصَرِ بِالْفَقْءِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ بِهَا كَحُصُولِهِ بِالثَّلَاثِ، سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، وَانْفَصَلُوا عَنِ اسْتِشْهَادِ الْمُزَنِيِّ بِالسُّكْرِ وَالْفَقْءِ بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْدَاحِ الثَّلَاثَةِ تَأْثِيرٌ فِي مَبَادِئِ السُّكْرِ بِالْأَوَّلِ وَبِوَسَطِهِ وبِالثَّانِي وَكَمَالِهِ بِالثَّالِثِ، وَكَذَلِكَ الْفَقْءُ الْأَوَّلُ قَدْ أَثَّرَ فِي ضَعْفِ النَّظَرِ، وَقِلَّةِ الْبَصَرِ ثُمَّ ذَهَبَ بِالثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الطلقتين الأولتين، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ وَكَانَتْ تَحِلُّ بِالرَّجْعَةِ بَعْدَهُمَا، كَمَا تَحِلُّ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَتَعَلَّقَ بِهَا جَمِيعُ التَّحْرِيمِ فَصَارَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مُفَارِقًا لِلطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَصَارَ قَوْلُهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ثَلَاثًا مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتِ الثَّالِثَةَ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يَمْلِكُ مَعَهَا ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلِ الْأَلْفَ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ عَلِمْتِ أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ أَنَّ الْبَاقِيَ لِي عَلَيْكِ طَلْقَةٌ فَلِي جَمِيعُ الْأَلْفِ. وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَمْلِكُ الثَّلَاثَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَكَ تَطْلِيقَةٌ فَلَيْسَ لَكَ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ فَهِيَ تَقُولُ: خَالَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ التَّحَالُفُ وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ جَمِيعَ الْأَلْفِ، وَإِنْ جَهِلَتْ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ نصف الألف، وإن جهلت ثلث الألف. قال الشافعي رحمه الله: (ولو قالت له طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ لَهُ الْأَلْفُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالِاثْنَتَيْنِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الَّتِي سَأَلَتْهَا دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثِ الَّتِي أَوْقَعَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَتْهَا، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ دِينَارٌ، فَجَاءَ بِعَبْدَيْنِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِمَجِيئِهِ بِالْعَبْدِ الْآخَرِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ عُشْرُ الْأَلْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ عَشْرًا، لِأَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عَلَى كُلِّ طَلْقَةٍ عُشْرَ الْأَلْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ كَانَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَلْفِ عُشْرَاهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ثُلُثَاهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، كَانَ لَهُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْأَلْفِ، وَعَلَى الوجه الثاني جميع الألف. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ بَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ فَقَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ وَاثْنَتَيْنِ إِنْ نَكَحْتَنِي بَعْدَ زَوْجٍ فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا طَلَّقَهَا كَمَا قَالَتْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَبَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَاثْنَتَانِ أحرم بها عليك إذا أنكحتني نِكَاحًا ثَانِيًا، فَالْخُلْعُ فِي الطَّلَاقِ الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ النِّكَاحِ. فَأَمَّا الْخُلْعُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي هَذَا النِّكَاحِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الصَّحِيحِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْفَاسِدِ مَنْعًا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا الطَّلْقَةُ قَدْ وَقَعَتْ، وَإِنْ فَسَدَ الْخُلْعُ فِيهَا، لِأَنَّ الطلاق استهلاك لا يمكن استداركه بَعْدَ وُقُوعِهِ وَقَدْ وَقَعَ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَجَرَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَجْرَى مَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ مَغْصُوبًا وَمَمْلُوكًا بِأَلْفٍ فَبَطَلَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَمْلُوكَ مِنْهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّلْقَةِ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ جَائِزٌ وَإِنَّ من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 بَاعَ عَبْدَيْنِ مَمْلُوكًا وَمَغْصُوبًا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فِي الْمَمْلُوكِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَغْصُوبِ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ: يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَهَلْ لِلزَّوْجَةِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَفْعِ الْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّلْقَةِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْأَلْفِ وَدَفْعِ مَهْرِ المثل. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ فَجَائِزاِنِ اشْتَرَاطا إِذَا مَضَى الْحَوْلَانِ نَفَقَتهُ بَعْدَهُمَا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا قَمْحًا وَكَذَا زَيْتًا فَإِنْ كَفَى وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا يَكْفِيهِ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا بَقِيَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ تُرْضِعُهُ مِنْهَا حَوْلَيْنِ وَتُنْفِقُ عَلَيْهِ بَعْدَهُمَا تَمَامَ الْعَشْرِ، فلا بد بَعْدَ ذِكْرِ الرَّضَاعِ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا وَأَجَلِهَا، فَيَقُولُ: عَلَى أَنْ تُطْعِمِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْحِنْطَةِ الْعِرَاقِيَّةِ الصَّافِيَةِ كَذَا، وَمِنَ الزَّيْتِ الشَّامِيِّ كَذَا، وَمِنَ السُّكَّرِ الْفَارِدِ كَذَا، وَمِنَ الْعَسَلِ الْأَبْيَضِ كَذَا، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ النَّفَقَةِ كِسْوَتَهُ قَالَ: عَلَى أَنْ تَكْسُوَهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ كُسْوَةَ الصَّيْفِ مِنَ الْكَتَّانِ التَّوْزِيِّ الْمُرْتَفِعِ ثَوْبًا طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ قَمِيصَيْنِ وَخَمْسَ أَذْرُعٍ مِنْ مُنِيرِ الْبَغْدَادِيِّ الْمُرْتَفِعِ فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ سَرَاوِيلَ وَمِنْدِيلَ مِنْ قَصَبِ مِصْرَ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا، فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا صِفَتُهُ كَذَا، وَفِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ كُسْوَةُ الشِّتَاءِ مِنَ الْخَزِّ ثَوْبًا مُرْتَفِعًا مِنْ خَزِّ الْكُوفَةِ أَوِ السُّنْدُسِ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُهُ جُبَّةً، وَمِنَ الْحَرِيرِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا، يَقْطَعُهُ قَمِيصًا، فَإِذَا اسْتَوْفَى صِفَةَ كُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهَا وَنَفَقَتَهُ وَكُسْوَتَهُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا وَصَارَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَمَعْلُومَ الْأَجَلِ غَيْرَ مَجْهُولِ الْمُدَّةِ كَالْمَوْصُوفِ فِي السَّلَمِ لِيَصِحَّ بِهِ الْخُلْعُ فَهَذِهِ المسألة مبينة على ثلاث أُصُولٍ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُ الْأُصُولِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ جَمَعَ إِجَارَةً وَرَضَاعًا وَسَلَمًا فِي طَعَامٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قولين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ فِي جِنْسَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا سَلَمٌ فِي أَجْنَاسٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ إِلَى أَجَلَيْنِ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا أَسْلَم إِلَى آجَالٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا الْخُلْعَ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ هِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِصَاصِ الْخُلْعِ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ يُفَارِقُ بِهَا أُصُولَهُ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّفَقَةَ هَا هُنَا تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ، وَقَدْ يُخَفَّفُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ حُكْمِ الِانْفِرَادِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ تَبَعًا لِنَخْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ تَبَعًا لِلْأَمَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ إِذَا أُفْرِدَ بِأَحَدِهِمَا لَمْ تَصِحَّ بَعْدَهُ عَقْدُ خُلْعٍ آخَرَ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَمْعِهِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُقُودِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ مفاداة قصد بهما اسْتِنْقَاذُهُمَا مِنْ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ حُكْمُهُ أَوْسَعَ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ كَمَا وَسَّعَ فِي جَوَازِهِ عَقْدُهُ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهَا فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْخُلْعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِرَضَاعِهِ وَبِنَفَقَتِهِ، وَكَانَ الزَّوْجُ فِي النَّفَقَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يستنبيها فِيهَا لِتَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَالزَّوْجُ أَيْضًا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تِلْكَ النَّفَقَةَ وَيُطْعِمَهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْلُو الْمُقَدَّرُ عَلَيْهَا مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ لِوَلَدِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفَاضِلَ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ كفايته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى كِفَايَتِهِ فِي الصِّغَرِ، وَتَنْقُصَ عَنْ كِفَايَتِهِ فِي الْكِبَرِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ فِي صِغَرِهِ، وَيُتِمَّ النُّقْصَانَ فِي كِبَرِهِ، وَتُجْرِي أَمْرَ الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَوْتٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَتَّى تُوَفِّيَ مَا عَلَيْهَا. (فَصْلٌ:) فَإِنْ حَدَثَ مَوْتٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ. فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الرَّضَاعِ، وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الطَّعَامِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرَّضَاعِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَالطَّعَامِ فَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَلَدٍ تُرْضِعُهُ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا مِنْ بَعْدُ: أَحَدُهُمَا: يَأْتِي بِبَدَلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ بِحَالِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ قَامَ مَقَامَهُ فِي الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي الرَّضَاعِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ العقد هل يكون لتفريقها حَالَ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنهما في تفريق الصفة سَوَاءٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ الْخُلْعُ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الرَّضَاعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ إِذَا لَمْ يُجَوَّزْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى خُلْعٍ فَاسِدٍ، فَوَقَعَ بَائِنًا، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا قُلْنَا فِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ أَنَّ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ الزوجة قولين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّعَامِ لَا يَبْطُلُ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ إِذَا جَوَّزْنَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّعَامِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ. وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِيمَ عَلَى الطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ وَإِلَّا فَسَخَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الرَّضَاعِ وَقِسْطِهِ، وَبِمَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِقِسْطِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَنْظُرَ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَةً، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ مِائَتَيْنِ كَانَ الرَّضَاعُ ثُلُثَ الْخُلْعِ فَيَرْجِعُ بِثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَفِي بِخِلَافِهِمَا حَالَ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا فِي الطَّعَامِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ إِلَى آجَالِهِ أَوْ يَتَعَجَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: قَدْ حَلَّ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِ الرَّضَاعِ، فَإِذَا بَطَلَ الرَّضَاعُ ارْتَفَعَ الْأَجَلُ فَحَلَّ الطَّعَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الطَّعَامَ إِلَى أَجَلِهِ لَا يَتَعَجَّلُ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَعَجَّلُ إِلَّا بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ دُونَ مُسْتَوْفِيهِ، وَالطَّعَامَ أَحَدُ الْمَقْصُودِينَ، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ مَحْضٍ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ فَسَخَ الْجَوَابُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ بِقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَرَجَعَ بِبَاقِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ، وَقَبْلَ الطَّعَامِ، فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ عَلَى صِحَّتِهِ، لِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ مِنَ الرَّضَاعِ قَدِ اسْتُوفِيَ وَالطَّعَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ، فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ لَكِنْ هَلْ يَحِلُّ أَوْ يَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرضاع وبقي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 بَعْضُهُ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ كَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى أَحَدُ الْحَوْلَيْنِ وَبَقِيَ الثَّانِي فَهَلْ يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ تُرْضِعُهُ مَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا الْخُلْعُ بِحَالِهِ، وَيَسْتَوْفِي رَضَاعَ الْحَوْلِ الثَّانِي بِوَلَدٍ آخَرَ وَيَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فِي نُجُومِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَأْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الثاني، وهو يَبْطُلُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ تَتَخَرَّجُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَاضِي مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَكُونُ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ثُمَّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ فَيَبْطُلُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَفِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَبِقِيمَةِ الطَّعَامِ إلا أن يكون فيه ذو مثل فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَفِي الطَّعَامِ الْبَاقِي، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَوُجُودِهِ مع العقد، فعلى هذا هل يكون للزوجة بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا خِيَارَ لَهُ بِحَالٍ فَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ عَلَى رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَجَمِيعِ الطَّعَامِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الْحَوْلِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ وَمِنْ مَاذَا يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ أُجْرَةَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ فَإِذَا قِيلَ؛ أُجْرَةُ رضاع الحولين مائتا درهم، وقيمة الطعام ثلاث مائة دِرْهَمٍ فَقَدْ بَقِيَ لَهُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ الْخُمُسُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخُمُسِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا فَإِنْ فَسَخَ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الحولين وبقيمة ما ليس له من الطعام مثل وبمثل ماله منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 مِثْلٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ قَدْ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ نُجُومِهِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَعَلَى الطَّعَامِ، فَهَلْ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ حِسَابِهِ وَقِسْطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ عَلَى نُجُومِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُلْعَ لَازِمٌ لَهُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِاسْتِيفَائِهِ وَلَهُ الْفَسْخُ فِي الطَّعَامِ أَوِ الْمُقَامُ فَيَصِيرُ الْخُلْعُ إِذَا كَانَ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ بَاطِلًا فِي خُمُسِهِ، وَهُوَ الْحَوْلُ الْبَاقِي، ولازماً في خمسة وهو الحول الماضي، وجائز فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ الطَّعَامُ فَإِنْ فَسَخَ أَوْ أَقَامَ فَعَلَى مَا مَضَى، فَهَذَا حُكْمُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَذَاهِبِ: أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي لِاسْتِيفَائِهِ، وَبَاطِلٌ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّ خِيَارَ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ له، فعل هَذَا يُقِيمُ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَهُوَ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطِهِ، وَمِنْ مَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِنْ أُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي، وَمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا لِفَسْخِ الْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامِ، فَإِنْ فَسَخَ رَدَّ أُجْرَةَ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القولين. وإن أقام فهل يقم عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي وَالطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ فَالْحُكْمُ فِي مَوْتِهَا كَالْحُكْمِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ يَبْطُلُ فِي الرَّضَاعِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَهُ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فِي الرَّضَاعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْوَلَدِ غَيْرُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّضَاعَ مُسْتَوْف مِنَ الْأُمِّ فَتَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ، وَالْوَلَدَ مُسْتَوْفٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ كَالْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لَمَّا كَانَ الْأَجِيرُ مُسْتَوْفًا مِنْهُ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ، فَبَطَلَ بِمَوْتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ الْمُنَجَّمَ يَحِلُّ بِمَوْتِهَا وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَحَلَّ بِمَوْتِهَا، وَأَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا تَحِلُّ بِمَوْتِ مُسْتَوْفِيهَا، أَوْ مَنْ هِيَ لَهُ. ثُمَّ الْجَوَابُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ فَلَا يُؤَثِّرُ مَوْتُهُ فِي فَسَادِ الْخُلْعِ، لَا فِي رَضَاعِهِ وَلَا فِي طَعَامِهِ، لَكِنْ يَكُونُ الطَّعَامُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ تَسْقُطُ عَنِ الْأَبِ بِمَوْتِهِ. فَأَمَّا الرَّضَاعُ فَهَلْ يَكُونُ مَوْرُوثًا أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ هَلْ يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا وَيَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّعَامُ إِلَى نُجُومِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ، وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ إِلَى نُجُومِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَأُجْرَةِ سُكْنَاهَا لِيَبْرَأَ مِنْهُ بِالْخُلْعِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْخُلْعُ فَاسِدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بَائِنًا، وَيَرْجِعُ عليهما بمر المثل، ولا يبرئ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى ذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُجُودُ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُجُوبِهَا كَوُجُوبِهَا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكُهَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قِيمَةِ عَبْدِهَا إِنْ قَتَلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُبْرِئَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا وَهِيَ لَوْ أَبْرَأَتْهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ النِّكَاحَ سبب لنفقة الزوجية، وليس سبب لِنَفَقَةِ الْحَمْلِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ الطَّلَاقُ وَالْحَمْلُ فَلَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْمُسَبَّبِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَتْهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِيَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ نُبَيِّنُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، أَوْ قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ أَوِ اخْتَارِي طَلَاقَ نَفْسِكِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَدْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فَإِنْ عَجَّلَتْ طَلَاقَ نَفْسِهَا فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْجَوَابِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَخَّرَتْهُ حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ لَمْ تُطَلَّقْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي طُلِّقَتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَدَّ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا كَمَا يَرُدُّ إِلَى وَكِيلِهِ طَلَاقَهَا، وَلَوْ رَدَّهُ إِلَى الْوَكِيلِ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى التَّرَاخِي كَذَلِكَ إِذَا رَدَّهُ إِلَيْهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ رَدَّ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا تَمْلِيكٌ وَرَدُّهُ إِلَى الْوَكِيلِ اسْتِنَابَةٌ فَلَزِمَ فِي التَّمْلِيكِ تَعْجِيلُ الْقَبُولِ كَالْهِبَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي الِاسْتِنَابَةِ تَعْجِيلُ النِّيَابَةِ كَالْبَيْعِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ عَبْدِي هَذَا، جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَقَوْلِهِ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَشَرْطُ وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ تَعْجِيلُ الضَّمَانِ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ، وَهُوَ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجَوَابِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ إِنْ ضَمِنْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَيُعَلِّقُ طَلَاقَهَا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ أَلْفٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَكِلَا الشَّرْطَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ مِنْ صِحَّتِهَا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ عَلَى الطَّلَاقِ، فَإِنْ عَجَّلَتِ الطَّلَاقَ قَبْلَ الضَّمَانِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تُقَدِّمَ الضَّمَانَ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الضَّمَانَ شَرْطًا فِي الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِيهِ، وَإِذَا لَزِمَ تَقْدِيمُ الضَّمَانِ وَتَعْقِيبُهُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَصِحَّانِ، وَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا ضَمَانُ الْأَلْفِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي فَيَبْطُلَانِ وَلَا طَلَاقَ وَلَا ضَمَانَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وَالثَّالِثُ: أَنْ تَضْمَنَ عَلَى الْفَوْرِ، وَتُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا طَلَاقَ لِتَرَاخِي إِيقَاعِهِ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ بَعْدَ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ طَلَاقٍ لَمْ يَقَعْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَتَضْمَنَ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِفَسَادِ الضَّمَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرَاخِي زَمَانِهِ. وَالثَّانِي: تَأْخِيرُهُ عَنِ الطَّلَاقِ، وَفَسَادُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ. (فَصْلٌ:) فأما الشافعي فإنه ذكر ها هُنَا أَنَّهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي وُقُوعِهِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَقَطَ عَنِ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ حُكْمِ الضَّمَانِ أَنْ يُتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَغْفَلَ ذِكْرَ الطَّلَاقِ إِمَّا اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ شَرْطِهِ، وَإِمَّا اسْتِغْنَاءً بما قدمه من بيانه. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَيَّ عَبْدٍ مَا كَانَ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله ليس هذا قياس قوله لأن هذا في معنى العوض وقد قال في هذا الباب متى أو متى أعطيتني ألف درهم فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يمتنع من أخذها ولا لها أن ترجع إن أعطته فيها والعبد والدرهم عندي سواء غير أن العبد مجهول فيكون له عليها مثلها) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ فَيَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدَكِ هَذَا، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِهِ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومًا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَرْتَفِعِ الطَّلَاقُ لِوُقُوعِهِ بِوُجُودِ صِفَتِهِ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِقِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ سَلِيمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ فَتَكُونَ صِفَاتُهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ فَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهَالَةَ أولا يَنْفِيهَا عَنْهُ، فَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَهُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهُ وَسِنَّهُ وَقَدهُ وَحِلْيَتَهُ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ وَإِنِ الْجَهَالَةَ قَدِ انْتَفَتْ عَنْهُ فَصَارَ مَعْلُومًا بِهَا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، فَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ مُتَعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ، كَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّفْعِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلُهُ فَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا فَسَلَّمَتْ إِلَيْهِ الْعَبْدَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ بِسَلِيمٍ لَا عَيْبَ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ وَلَا صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا أَبْدَلَهُ بِسَلِيمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ فَصَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ، وَلَا يَجْرِي فِي السَّلَمِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِجَهَالَتِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ وَلَا يَصِفَهُ، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ عَبْدٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالشُّرُوطِ الْمَجْهُولَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ لِجَهَالَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْعُقُودِ أَعْوَاضًا مَجْهُولَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ عَبْدًا صَغِيرًا، أَوْ كَبِيرًا صَحِيحًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ، وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ أَعْطَتْهُ أَمَةً، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا، وَلَا لَوْ أَعْطَتْهُ خُنْثَى لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَمَةً،، وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا بِصِفَةٍ، طُلِّقَتْ بِهِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَعْطَتْهُ مُكَاتَبًا لَمْ تُطَلَّقْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَزَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَبْدِ. وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا لَهَا مَغْصُوبًا قَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: لَا تُطَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ بِالْعَقْدِ فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُكَاتَبِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسم العبد، وَقَدْ يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَاصِبِهِ وَعَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ يَخْرُجُ بِالدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَبْدِ بِأَيِّ عَبْدٍ دَفَعَتْهُ وَلَا تَمْلِكُهُ فَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمْ يَكُنْ إِغْفَالُ الشَّافِعِيِّ لِذِكْرِهِ إِسْقَاطًا مِنْهُ لِإِيجَابِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ فَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ وَإِنَّمَا أَغْفَلَهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي خُلْعِهِ تَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الأبيض والأسود، فجعل ذلك شرط في وقوع الطَّلَاقِ. وَتَمَلَّكَ الْعَبْدَ بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الصَّدَاقِ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا مُطْلَقًا صَحَّ، وَتَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي الْأَصْلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ معه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثَمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ طَلَاقَهَا بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهُ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ. فَإِنْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا الْعَبْدِ، فَقَدْ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ عِوَضًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا، فَإِنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهَا وَجَارِيًا فِي تَصَرُّفِهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ، فَإِنْ وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ فسخ بِهِ فَلَا رَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا مُلِكَ بِالْأَعْوَاضِ رُدَّ بِالْعُيُوبِ كَالْبَيْعِ ثُمَّ بِمَاذَا يَرْجِعُ بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا. وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْلِكُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ كَانَتْ تَمْلِكُهُ وَلَكِنْ لَا ينفذ تصرفها فيه، وإما لِكَوْنِهِ مَوْهُوبًا أَوْ لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، كَمَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ جَعَلَ طَلَاقَهَا مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا وَتَصَرُّفِهَا فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى) . أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ. وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَعِيبًا وَيَرْجِعَ بِأَرْشِهِ فَإِنْ قِيلَ؛ لَوْ رَدَّهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ، وَإِنْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ له ذاك؛ لأن القدرة على الردة بِالْعَيْبِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ ذَاكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ مَعَ أَرْشِ عَيْنِهِ أَقْرَبُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ جَمِيعِهِ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يُوجِبُ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ اسْتِرْجَاعَ قِيمَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، لِأَنَّهُ عَبْدٌ لِغَيْرِهَا فَلَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي مُعَاوَضَةٍ صَارَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي تَمْلِكِينَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا دَفَعَتِ الْعَبْدَ، وَلَمْ تَكُنْ مَالِكَةً لَهُ فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا لَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِحَقِّ الرَّهْنِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الْخُلْعُ، وَلَا يَقَعُ بِدَفْعِهِ الطَّلَاقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَأَنَّ الْمَرْهُونَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ فِكَاكِهِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمَمْلُوكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالْإِبَاقِ فَفِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَيْعَهُ لَا يَصِحُّ فَجَرَى مَجْرَى الْمَرْهُونِ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ بِالْعَطِيَّةِ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْيَدَ الْغَاصِبَةَ يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا، فَقَصُرَتْ عَنْ حُكْمِ الْيَدِ الْمُرْتَهِنَةِ الَّتِي لَا يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِهِ يَدُ الْغَصْبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتُطَلَّقُ بِالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَبَيْنَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ مَغْصُوبًا فَلَا تُطَلَّقُ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يُمْلَكْ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُلِكَ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا خَالَعَهَا عَلَى حَمْلِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهَا، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَسَوَاءٌ وَضَعَتْ وَلَدًا أَوْ لَمْ تَضَعْ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بَائِنًا، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخُلْعُ صَحِيحٌ فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا كَانَ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَضَعْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى حَمْلٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فاسداً كالنكاح والبيع. (مسألة:) قال المزني: (وَقَدْ قَالَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً مَيِّتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ زِقَّ خَمْرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ طُلِّقَتْ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ شَاةً مَيِّتَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدَفْعِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ مَغْصُوبٌ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ عَنْهَا فَهَلَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَنْهَا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ فَصَارَ التَّمْلِيكُ فِيهِ مَقْصُودًا، فَجَازَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْحُكْمِ مَشْرُوطًا، وَإِنْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ بِالْجَهَالَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَصِرِ التَّمَلُّكُ فِيهِ مَقْصُودًا، فَقَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ وَقَعَ بَائِنًا، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِعِوَضٍ فَصَارَ مُطَلِّقًا لَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا، فَكَذَلِكَ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا. وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُقَوَّمٍ وَلَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لِمَالٍ يَسْتَحِقُّ قِيمَتَهُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: جَوَازُ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ، وَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبُضْعِ مُعْتَبَرَةً مِنْ ثَلَاثَةٍ كَالْعَطَايَا، وَالْهِبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسًا فَاسْتَهْلَكَتْ عَلَى الزَّوْجِ بُضْعَهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قِيمَتَهُ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَبِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَالِهَا، وَلَوْ كَانَ الْبُضْعُ مَالًا لَجَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لَهَا بِمَالِهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَقَارًا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ خُلْعٌ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ فَاقْتَضَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ أَنْ يُوجِبَ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ الْبُضْعِ. أَصْلُهُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَصِيرٍ فَوَجَدَهُ خَمْرًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا فِي النِّكَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، لِأَنَّهُ ظَنَّهُ عَصِيرًا، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ وَفِي الْفَرْعِ قَدْ عَلِمَهُ خَمْرًا فَرْضِيَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ عَلَى خَمْرٍ كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ خَمْرٌ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى عَصِيرٍ فَكَانَ خَمْرًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ بُضْعٌ مُلِكَ بِخَمْرٍ لَا يُمْلَكُ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ. فَإِنْ قِيلَ الْبُضْعُ مُقَوَّمٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُ مُقَوَّمٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لَكَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ. قِيلَ لِأَنَّ هَذَا الوطئ مَا حَرَّمَهَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِرِ الْبُضْعُ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّهِ وَلَوْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ وَطَئِهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ وَلَكَ تَحْرِيرُ هَذَا قِيَاسًا ثَالِثًا فَتَقُولُ: مَا تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِبَدَلٍ تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ عَنْهُ بِذَلِكَ الْبَدَلِ كَالْمُثَمَّنَاتِ يَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمُسَمَّى فِي الْجِهَتَيْنِ إِذَا صَحَّ وَفِي الْقِيمَةِ إِذَا فَسَدَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ خُلْعَهَا بِالْخَمْرِ الَّذِي لَا يَكُونُ عِوَضًا رَضِيَ مِنْهُ بِخُلْعِهَا عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ الْعِوَضَ الْفَاسِدَ كَمَا لا يَمْلِكُ الْخَمْرَ فَلَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْعِوَضِ الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وَجَهْلِهِ وَجَبَ لَهُ فِي الْخَمْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وجهله. وأما استدلاله بأنها الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِمْضَاءِ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ فَفَاسِدٌ بِتَقْوِيمِهِ فِي حَقِّهِ إِذَا خَالَعَ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ، وَإِنَّ مَا لَمْ يُقَوَّمْ فِي حُقُوقِ الْوَرَثَةِ إِذَا طَلَّقَ فِي الْمَرَضِ وَإِنْ قُوِّمَ عِتْقُهُ وَهِبَاتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ الزَّوْجَةَ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَيَرِثُونَ الأعيان التي وهبها وأعتقها. وأما استدلاله بأنها لو قتلت نفسها لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَدْخُلُ فِي حُكْمِ النَّفْسِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ دَخَلَتْ دِيَةُ يَدِهِ فِي دِيَةِ نَفْسِهِ، وَالْبُضْعُ كَالطَّرَفِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَلَفُ النَّفْسِ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُقَوَّمَةٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَقُتِلَ ضَمِنَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَنْفَعَتَهُ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ مُقَوَّمَةً فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَبَ لَا يُخَالِعُ عَنْ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ فَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَلَّكَ لَهَا بِالْمَالِ مِنَ الْعَقَارِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا، وَلِأَنَّهُ بِالْخُلْعِ وَإِنْ مَلَّكَهَا بَعْضَهَا فَقَدْ أَسْقَطَ بِهِ نَفَقَتَهَا فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُلْعِ بِالْخَمْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مَا مَضَى، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فإذا أعطته الخمر طلقت ووجب لها عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ عَيْنًا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي هَذَا الْخَمْرَ فَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْخَمْرَ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ كَمَا كَانَ الْخَمْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:؟ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ تَعْيِينِ الْخَمْرِ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عين تملك ذلك الخمر فقد عين أن لا يَتَمَلَّكَ مَا سِوَى الْخَمْرِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ بَدَلِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَعَ تَرْكِ التَّعْيِينِ حَقُّهُ مِنَ الْبَدَلِ، فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بَدَلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْخَمْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا أَعْطَتْهُ ذَلِكَ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ بِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَذَلِكَ ها هنا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَتَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، والفرق بين أن لا يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَتُطَلَّقَ وَبَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَلَا تُطَلَّقَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّعْيِينِ التَّمْلِيكُ وَبِالْإِطْلَاقِ الصفة والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ حِجَّةٌ وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ فَهَذَا على ضربين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ طَلَبٍ مِنْهَا كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، فَقَدْ طُلِّقَتْ، وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ طَلَبٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَهِيَ طَالِقٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الطَّلَاقَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَرْطٍ فَوَقَعَ نَاجِزًا ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَقَالَ (وَعَلَيْكِ أَلْفٌ) فَلَمْ تَلْزَمْهَا الْأَلْفُ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكِ حَجٌّ، فَلَا يَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا أَلْفَ عَلَيْهَا، فَلَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَسْقُطُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ، وَتَثْبُتُ مَعَ سُقُوطِ الْبَدَلِ، فَلَوْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ تَسْقُطِ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا، يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَاتِ مِنَ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ عَنْ طَلَبٍ، فَلِي عَلَيْكِ الْأَلْفُ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، فَلَا شَيْءَ لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ وَقَدْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِإِقْرَارِهِ بِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طالق على أن عليك ألف، لم تطلق إلا أن يضمن لَهُ أَلْفًا عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ، لأن على حُرُوفِ الشَّرْطِ، فَصَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا بِهِ، وَلَا يُرَاعَى فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ دَفْعُ الْأَلْفِ، كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ ضَمَانُ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ صَارَ عَلَيْهَا أَلْفٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا مُعَلَّقًا بِضَمَانِ الْأَلْفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ) . يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبَدَلِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌ فَرَدَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ، فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْرُطَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ أَوْ لَا يَشْتَرِطُ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ وَلَكِنْ ظَنَّهُ مَرَوِيًّا، فَكَانَ هَرَوِيًّا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَاهُ بِظَنِّهِ مَرَوِيًّا فَكَانَ هَرَوِيًّا، لأن هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 جَهَالَةٌ مِنْهُ بِصِفَتِهِ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ يَخْتَصُّ بِذَاتِهِ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا غَيْرَ ذَلِكَ رَدَّهُ بِهِ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْه فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بمهر المثل. والثاني: بقيمته مرويا سليما من هَذَا الْعَيْبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا وَإِنْ شَرَطَ فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ مَرَوِيٌّ، فقال: (قد خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ) فَإِذَا بِهِ هَرَوِيٌّ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَلَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى عَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ صِفَتِهِ، فَصَارَ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَغْلَبَ مِنِ اعْتِبَارِ الصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ هَرَوِيًّا كَقِيمَتِهِ مَرَوِيًّا فَلَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَرَوِيًّا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ هَرَوِيًّا فَهُوَ عَيْبٌ وَلَهُ الْخِيَارُ فَيَرُدُّهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ رَدِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ. وَالثَّانِي: أَن لا يَصِفَهُ. فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِلَا صِفَةٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ بالجهالة تغليباً لحكم المعاوضة ويرجع عليا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ وَصَفَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَلِّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا فَكَانَ هَرَوِيًّا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ صِفَتَهُ بِأَنَّهُ مَرَوِيٌّ صَارَتْ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا عُدِمَتْ لَمْ يَكْمُلْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ، وَلَيْسَ كَالْمُعَيَّنِ الَّذِي يُغَلِّبُ حُكْمَ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حُكْمِ الصِّفَةِ، فَإِذَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ثَوْبًا مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ بِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَرَوِيًّا فَجَمِيعُ صِفَاتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ مِلْكُهُ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ صَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا رَدَّهُ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بمهر المثل. والثاني: بقيمته مرويا سليما من الْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي السَّلَمِ بَلْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ إِنْ كَانَ مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 بِدَفْعِهِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَتِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْعَقْدِ وَلَا مَعْلُومٍ بِالصِّفَةِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعَجِّلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ، فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ سَوَاءً اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ أَمْ لَا؟ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ، وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِتَرْكِ صِفَاتِهِ مَجْهُولًا، وَإِنِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ صَحَّ فِيهِ الْخُلْعُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مَرَوِيٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ ثَوْبًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَكَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ وَإِبْدَالُهُ بِثَوْبٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعِيبًا رَجَعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ وَقَعَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ، وَلَا يَكُونُ بخِلَاف الْجِنْسِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ كَتَّانًا كَقِيمَتِهِ قُطْنًا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ قُطْنًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ، لِأَنَّ خِلَافَ الْجِنْسِ يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَةِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوِ ابتاعه على أن قُطْنٌ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ، فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ، ولو ابتاعه على أن مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا فَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ كَانَ كَتَّانًا لَمْ يَقَعْ. قَالَ صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَقُولُ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ قَوْلِي فِي الْخُلْعِ إنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ كَمَا أَقُولُ إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الْجِنْسِ كَمَا غَلَّبْنَا حُكْمَ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ، وَلِقَوْلِهِ إِذَا سَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجْهٌ وَإِنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَاتَ الْمَوْلُودُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ وَلَا تُدِرُّ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْبَلُ ثَدْيَهَا وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَيَتَرَأَّمُهَا فَتَسْتَمْرِيهِ وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرَهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَا تَطِيبُ نَفْسًا لَهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْكَفَالَةِ، لِأَنَّ مَا جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ وَالرَّضَاعُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهَا وَيُخَالِعَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَثَلُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِ أجراً كمثل أم موسى ترضع ولدها تأخذ عَلَيْهِ أَجْرًا) ، فَضَرَبَ لَكَ مَثَلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَجْرٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ. قِيلَ: رَضَاعُ الْوَلَدِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَبِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا دُونَ الْأُمِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . فَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنْ عُدِمَ الْأَبُ وَجَبَ الرَّضَاعُ عَلَى الْأُمِّ كَمَا يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا إِذَا مَاتَ الْأَبُ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى رَضَاعِهِ أَجْرًا لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَوُجُوبِ رَضَاعِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا لِلرَّضَاعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ. فَأَمَّا إِذَا ارْتَفَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ فَقَدْ زَالَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ مَنْعِهَا، وَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا بِأَجْرٍ، فَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ، لِأَنَّ رَضَاعَ وَلَدِهَا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ عَلَى الرَّضَاعِ، لِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ بَعْدَ الْفِرَاقِ، وَإِذَا صَحَّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِالْمُدَّةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا فِي الْخُلْعِ رَضَاعَ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ حَضَانَةِ الْوَلَدِ وَكَفَالَتِهِ وَالْقِيَامِ بِتَرْبِيَتِهِ وَغَسْلِ خِرَقِهِ وَحَمْلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَهَا فِي الْخُلْعِ، أَوْ فِي الْإِجَارَةِ فَيَدْخُلَ فِيهِ وَتُؤْخَذَ الْأُمُّ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا خُرُوجَهَا مِنَ الْخُلْعِ، أَوْ مِنَ الْإِجَارَةِ فَتَخْرُجَ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ أَنْ تُؤْخَذَ بِهِ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَيَقُومُ بِحَمْلِهِ وَتَنْظِيفِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَقْدُ الْخُلْعِ، أَوِ الْإِجَارَةِ فِي الرَّضَاعِ فَلَا يُشْتَرَطُ دُخُولُ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ فِيهِ، وَلَا خُرُوجُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. فأحذ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّضَاعُ وَالْقِيَامُ بِالْخِدْمَةِ تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ تَبَعًا، لِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا مِنْ رَضَاعِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ الْخِدْمَةُ، لِأَنَّ لَبَنَ الرَّضَاعِ غَيْرُ مَجْهُولَةٍ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَصَارَ الرَّضَاعُ تَبَعًا لِمَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَعْلُولٌ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى الرَّضَاعُ تَبَعًا لِلْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ لَمَا جَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ إِذَا شَرَطَ فِيهِ إِسْقَاطَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ وَمَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَمْنَعُ مِنْهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فَمَاتَ الْوَلَدُ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ بِمَوْتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ لِتُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي الرَّضَاعِ مُسْتَوْفٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ وَمَوْتُ الْمُسْتَوْفِي لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ وَقَامَ غَيْرُهُ فِي الرُّكُوبِ مَقَامَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا أَنَّ الْخُلْعَ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا لَا تَدُرُّ عَلَى غَيْرِ وَلَدِهَا وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرُ وَلَدِهَا لَبَنَهَا كَمَا يَسْتَمْرِيهِ وَلَدُهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ غَيْرُ وَلَدِهَا كَمَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَدُهَا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَعْنَى: يَتَرَأَّمُهَا أَيْ: يستلذه. والعلة الثانية: أن ما يرتوي كُلَّ طِفْلٍ مِنَ اللَّبَنِ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِالْقَلِيلِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَرْتَوِي إِلَّا بِالْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِسُهُولَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِعُنْفٍ فَذَلِكَ لَمْ يَقُمْ فِيهِ وَاحِدٌ مَقَامَ وَاحِدٍ وَكَانَ الْمُعَيَّنُ فِيهِ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ فَعَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ خالعها وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَمَاتَ كَانَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا، وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ آخَرُ فَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْخُلْعِ وَأَنْ لَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهما قَوْلَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ فَإِنْ أَتَاهَا بِغَيْرِهِ أَرْضَعَتْهُ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهَا بِغَيْرِهِ حَتَّى مَضَى الْحَوْلَانِ ففيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا بَذَلَتْ لَهُ الرَّضَاعَ فَكَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَمُكِّنَ مِنْهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ لَا يَسْقُطُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَيْنٌ وَالْأَعْيَانُ إِذَا قُلْتَ تَسْلِيمُهَا بِتَرْكِ مُسْتَحِقِّهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا كَمَنِ ابْتَاعَ عَيْنًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى هَلَكَتْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى بَائِعِهَا، كَذَلِكَ فَوَاتُ اللَّبَنِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا وَلَدًا وَيَصِيرُ كَالْخُلْعِ عَلَى فَائِتٍ فَفِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ فَقَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ بِمَوْتِهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَيَّنٌ فِي لَبَنِهَا، وَهَكَذَا لَوْ لَمْ تَمُتْ، وَلَكِنْ جَفَّ لَبَنُهَا وَانْقَطَعَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِا وَقَدْ فَاتَ بِذَهَابِهِ، كَمَا فَاتَ بِمَوْتِهَا فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. فَأَمَّا إِنْ قَلَّ لَبَنُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ قِلَّتِهِ يَرْوِي الْوَلَدَ، فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِيهِ لَمْ يَبْطُلْ فِيهِ الْخُلْعُ، لَكِنَّ الزَّوْجَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ نَقْصَهُ عَيْبٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ، وَيُكْمِلَ إِرْضَاعَ وَلَدِهِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ فسخه قولان والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهُ أَبُو امْرَأَتِهِ طَلِّقْهَا وَأَنْتَ برئ من صداقها فطلقها ومهرها عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ الزَّوْجِ مَعَ أَبِي الزَّوْجَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهُ عَنْهَا بِمَالِهِ فَيَقُولُ لَهُ: طَلِّقْ بِنْتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لِي، فَهَذَا خُلْعٌ جَائِزٌ لَوْ فَعَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَجَانِبِ جَازِ فَكَانَ الْأَبُ أَجْوَزَ، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَبِ مَا بَذَلَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى مَالِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ لِلزَّوْجِ: طَلِّقْهَا بِأَلْفٍ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهَا وَهِيَ جَائِزَةُ الْأَمْرِ، كَانَ الْأَبُ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ، صَحَّ خُلْعُهُ، كَمَا يَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِزَةَ الْأَمْرِ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَعَ رُشْدِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا، وَمَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِي حِفْظِهِ دُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 إِتْلَافِهِ فِي الْخُلْعِ بِمَالِهَا فَرُدَّ كَمَا تُرَدُّ هِبَاتُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَالِعْهُ وَلَا عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا فَطَلَاقُهُ لَا يَقَعُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَهُ مُقَابِلًا لِتَمَلُّكِ الْعَبْدِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدَ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى صَدَاقِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ صَدَاقَهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ، كَمَا لَا يُبَرِّئُ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الْأَبَ وَإِنْ جَعَلَ بِيَدِهِ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالْكَلَامُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِهِ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِبْرَاءَ الزَّوْجِ مِنْ صَدَاقِ بِنْتِهِ الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي جَوَازِ مُخَالَفتِهِ لِلزَّوْجِ عَلَى صَدَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُبْرِئَهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ وَلَا مُعَاوَضَةٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْرِئَهُ بِخُلْعٍ وَمُعَاوَضَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُ وَإِنْ جَازَ إِبْرَاؤُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالْخُلْعَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهَا مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسُكْنَاهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِبْرَاءَ نُدِبَ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْخُطَّابِ فِيهَا، وَالْخُلْعَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا فَافْتَرَقَ الْإِبْرَاءُ وَالْخُلْعُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِبْرَاؤُهُ وَلَمْ يَجُزْ خُلْعُهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي إِبْرَاءِ الأب له في الخلع، فإن فيه ثلاثة مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لَهُ: طَلِّقْهَا وَأَنْتَ برئ مِنْ صَدَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَقَعَ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَاجِزًا وَلَا يَبْرَأُ مِنَ الصَّدَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ عِوَضًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ الْأَبُ: طَلِّقْهَا عَلَى أَنَّكَ برئ مِنْ صَدَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ مُقَيَّدًا فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ لَمْ يَقَعْ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْأَبُ: طَلِّقْهَا عَلَى صَدَاقِهَا عَلَى أَنَّنِي ضَامِنُهُ لَكَ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو صَدَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ، وَهِيَ لَا تُمَلَّكُ بِضَمَانِ الْأَبِ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَالْأَبُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى إِبْرَائِهِ مِنْهُ بِالْغُرْمِ عَنْهُ، لَكِنْ يَكُونُ بِالْخُلْعِ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَبْرَأُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ ضَمَانُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهَا، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الضَّمَانَ يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ فَيَقُومُ الضَّامِنُ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ مَقَامَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمِ الْأَبَ ذَلِكَ الضَّمَانُ فَقَدْ خَالَعَ الزَّوْجَ عَلَى مَا قَدْ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ فَلَزِمَهُ الْبَدَلُ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ خُولِعَ عَلَى فَائِتٍ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ تَخْتَلِفُ أَجْوِبَتُهَا لِاخْتِلَافِ معانيها. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَى شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا فَالطَّلَاقُ ثَابِتٌ وَلَهَا الْأَلْفُ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ وَيَتَضَمَّنُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ تَسْتَوْفِي جَمِيعَ تَأْوِيلَاتِهِ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَهَذَا خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلَمٌ فِي طَلَاقٍ وَالسَّلَمُ فِيهِ لَا يَصِحُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ فِيهِ التَّأْخِيرُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ رَدِّ الْأَلْفِ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّنَازُعِ وَفَسَادِ الْخُلْعِ، وَالْحُكْمُ يَرُدُّ الْأَلْفَ فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِرَدِّ الْأَلْفِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ عقد. والضرب الثاني: أن لا يسترجعَ مِنْهُ الْأَلْفُ، وَلَا يقضي عَلَيْهِ بِرَدِّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا فَيُنَظَرُ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ كَانَ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِيهِ بَعْدَ شَهْرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ عِوَضٌ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رجعة فيه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى فَسَادِهِ، وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الْبَدَلَ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْفَسَادِ مَجْهُولًا أَمْ لَا؟ . فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: قَدْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى جَهَالَتِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ يَأْخُذُ مِنْهُ حَظًّا مَجْهُولًا فَصَارَ الْبَاقِي مِنْهُ مَجْهُولًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ الْعِوَضُ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فِي أَجَلِهِ الْمَشْرُوطِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُقُوطِه مَا قَابَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فَكَانَ مَعْلُومًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِثْلُ الْأَلْفِ. (فَصْلٌ:) وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا يَسْتَدِيمُ تَحْرِيمَهُ إِلَى شَهْرٍ، فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لَا يَتَقَدَّرُ وَزَمَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ مَا مَلَكَتْ بِهِ نَفْسَهَا، وَهَذِهِ لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ مُؤَبَّدًا، لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ. فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَجْهُولٌ، فَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ. (فَصْلٌ:) وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ وَقْتِهِ إِلَى شَهْرٍ، فَأَيُّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ الشَّهْرِ وَقَعَ طَلَاقُهُ فِي الْخُلْعِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا فَجَعَلَ الشَّهْرَ أَجَلًا لِصِحَّةِ الْخُلْعِ فِيهِ وَرَفْعًا لَهُ بَعْدَ تَقَضِّيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي رَفْعِهِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَكُونُ خُلْعًا جَائِزًا، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشَّهْرِ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ صَحِيحٍ يَقَعُ بَائِنًا، وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ كَدُخُولِهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فِي أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ غَيْرُ مُطْلَقٍ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ، يَقَعُ بَائِنًا وَيَصِيرُ الْبَدَلُ فِيهِ مَجْهُولًا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ لَهَا الْمِثْلُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 (فَصْلٌ:) وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا تَعَلَّقَ وُقُوعُهُ بِرَأْسِ الشَّهْرِ، فَيَقُولُ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى هَذَا الْأَلْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخُلْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُلْعٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ مُعَجَّلٌ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُؤَجَّلًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ قَبْلَ الشَّهْرِ زَوْجَةً يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالطَّلَاقِ حَالُ وُقُوعِهِ دُونَ عَقْدِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَحْنَثْ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ حَنِثَ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ مُؤَجَّلًا فَصَارَ طَلَاقًا إِلَى أَجَلٍ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا، سَوَاءً قُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّ الْأَلْفِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ قَدِ انْعَقَدَتْ صِفَتُهُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى رَدِّهِ فَوَقَعَ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مَعْلُومٌ عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ المثل. والثاني: مثل الألف. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتَا طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّتَا فَطَلَّقَهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ وَقَفَ الطَّلَاقُ فَإِنْ رَجَعَتَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهُمَا وَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتَا لَهُ طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ، فَمِنْ تَمَامِ هَذَا الطَّلَبِ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ عَلَى الْفَوْرِ جَوَابًا لَهُمَا، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ يُرَاعَى فِيهَا على الْفَوْر، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهُمَا حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ، بَطَلَ حُكْمُ الطَّلَبِ، وَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ تَقَدَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهِ الْعِوَضَ بَلْ قَالَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَوَاءً قَبِلَتَاهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءً بَذَلَتَا عَلَيْهِ عِوَضًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ فِيهِ، أَوْ طَلَبٍ تَقَدَّمَهُ، وَيَكُونُ مَا بَذَلَتَاهُ مِنَ الْعِوَضِ بَعْدَهُ هِبَةً مِنْهُمَا يُرَاعَى فِيهما حُكْمُ الْهِبَاتِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْعِوَضَ فَقَالَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنْ قَبِلَتَا ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْحَالِ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلَاهُ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَسَأَلَتَاهُ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا عَلَى الْأَلْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 أَحَدُهَا: أَنْ يُطَلِّقَهُمَا مَعًا فِي الْحَالِ فَقَدْ أَجَابَهُمَا إِلَى مَا سَأَلَتَاهُ وَوَقَعَ طَلَاقُهُمَا بَائِنًا ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْأَلْفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَاهُ، فَإِنْ بَيَّنَتَاهُ مِنْ تساوٍ أَوْ تَفَاضُلٍ فَجَعَلَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوِ الْتَزَمَتْ مِنَ الْأَلْفِ بِمِائَةٍ وَالْأُخْرَى تِسْعِمِائَةٍ صَحَّ الْعِوَضُ، وَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّتْهُ مِنَ الْأَلْفِ، وَإِنْ أَطْلَقَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَصِّلَا مَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ كَمَنْ أَصْدَقَ زَوْجَتَيْنِ أَلْفًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يفصل مهر كل احدة مِنَ الْأَلْفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ بَاطِلٌ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْخُلْعِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ صَحِيحٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَسْقُطُ الْبَدَلُ فِيهِ عَلَى الْقِيَمِ كمن اشترى عبدين بألف فعلى هذا يسقط الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا فِي الْخُلْعِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قِسْطُهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا قُسِّطَتِ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ بِقِسْطِهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِ إحداهما ألف، وَمَهْرُ الْأُخْرَى خَمْسَمِائَةٍ، فَتَكُونُ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يخص التي مهر مثلها ألف ثلثا الألف، وَالَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا طَلَّقَهُمَا فِي الْحَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا فِي الْحَالِ، دُونَ الْأُخْرَى فَقَدْ طُلِّقَتْ بَائِنًا، وَعَلَيْهَا مِنَ الْأَلْفِ إِنْ سَمَّتْ شَيْئًا مَا سَمَّتْهُ وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ شَيْئًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي: بِقِسْطِهِ مِنَ الْأَلْفِ. فَأَمَّا الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ. والقسم الثالث: أن لا يطلقهما فِي الْحَالِ فَلَا طَلَاقَ وَلَا عِوَضَ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ طَلَاقًا كَانَ كَالْمُبْتَدِئِ فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ف َمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا بِالْأَلْفِ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمَا، وَيَكُونَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا بِالْبَدَلِ الْمُسَمَّى عَلَى مَا مَضَى وَمَا حَدَثَ مِنْ رِدَّتِهِمَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ، وَعِدَّتُهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْتَدَّا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ سُؤَالِهِمَا فِي الْحَالِ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ فَيُطَلِّقَهُمَا الزَّوْجُ فِي الْحَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ لِسُؤَالِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَتَانِ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا، فَقَدْ بَانَتَا بِالرِّدَّةِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَهَا غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ أَقَامَتَا عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ عَادَتَا إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِالرِّدَّةِ فِي الْحَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَدْخُولًا بِهِمَا بوُقُوع الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ إِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُرْتَدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِسْلَامِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِذَا كان كذلك فهما ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يُسْلِمَا مَعًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِمَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْعِدَّةِ قَدْ رَفَعَ سَابِقَ الرِّدَّةِ، وَصَادَفَ الطَّلَاقُ نِكَاحًا ثَابِتًا فَوَقَعَ بَائِنًا، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا الْأَلْفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمَا مِنَ الرِّدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ، فَصَادَفَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَلَمْ يَقَعْ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ فَالْأَلْفُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُسْلِمَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْعِدَّةِ، وَتُقِيمَ الْأُخْرَى عَلَى رِدَّتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَيْهَا وَيَلْزَمُهَا مِنَ الْأَلْفِ مَا بَيَّنَّاهُ إِنْ سَمَّتْ مِنْهَا قَدْرًا لَزِمَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ مِنْهَا شَيْئًا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ. وَالثَّانِي: مَهْرُ مِثْلِهَا، وَتَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ. فَأَمَّا الْمُقِيمَةُ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الردة، فلو اختلفا مَعَ الزَّوْجِ فِي إِسْلَامِهِمَا مِنَ الرِّدَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ، وَيَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ، وَادَّعَتَاهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ إِنْكَارًا لِطَلَاقِهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعِدَّةَ مِنْهُمَا، فَكَانَ الْمَرْجُوعُ فِيهِمَا إِلَى قولهما والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ إِنْ شِئْتُمَا بِأَلْفٍ لَمْ يُطَلَّقَا وَلَا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَشَاءَا مَعًا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتَيْهِ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى إِنْ شِئْتُمَا، كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا، وَمَشِيئَتُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 أَحَدُهُمَا: خِيَارُ الْقَبُولِ. وَالثَّانِي: خِيَارُ الْجَوَابِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ يَسِيرِ الْمُهْلَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بالعرف، وإذا كان كذلك فلها ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَشَاءَا مَعًا فِي الْحَالِ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ الْخُلْعُ لَازِمًا لَهُمَا، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَهِيَ قَبُولٌ لِلْخُلْعِ فَلَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى تَصْرِيحٍ بِالْقَبُولِ، وَإِذَا صَحَّ الْخُلْعُ بِالْمَشِيئَةِ وَلَزِمَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنَ الْعِوَضِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَلْفُ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَسْقُطُ الْأَلْفُ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مثلها. والحال الثانية: أن لا يَشَاءَا أَوْ لَا وَاحِدَةَ مِنْهُمَا فَلَا طَلَاقَ وَلَا خُلْعَ، لِأَنَّ صِفَةَ الطَّلَاقِ لَمْ تُوجَدْ فَلَوْ تَمَادَى بِهِمَا زَمَانُ الْمَشِيئَةِ ثُمَّ شَاءَتَا من بعد لم يؤثر مَشِيئَتُهُمَا لِاسْتِحْقَاقِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ فَصَارَتِ الْمَشِيئَةُ وَاقِعَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا شَرْعًا فَجَرَتْ مَجْرَى وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِهَا شَرْطًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَشَاءَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا، فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَة فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَشَاءَ أَحَدُهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى طُلِّقَتِ الْقَابِلَةُ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى فَهَلَّا طُلِّقَتِ الَّتِي شَاءَتْ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى قِيلَ: لِأَنَّهُ جَعَلَ مَشِيئَتَهُمَا شَرْطًا فَلَمْ يُوجَدْ بِمَشِيئَةِ إِحْدَاهُمَا فَلَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهُمَا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا اجْتِمَاعُ قَبُولِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، بَلْ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: قَدْ بِعْتُكُمَا عَبْدِي بِأَلْفٍ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَزِمَ الْقَابِلَ ابْتِيَاعُ نِصْفِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ ابْتِيَاعُ نِصْفِهِ الْآخَرَ. فَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَتَانِ فِي الْحَالِ: قَدْ شِئْنَا فَكَذَّبَهُمَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ تَكْذِيبِهِ لَهُمَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا: إِذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ. فَقَالَتَا: قَدْ حِضْنَا، فَكَذَّبَهُمَا لَمْ يَقطعِ الطَّلَاقُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَشِيئَتَهُمَا إِنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْقَوْلِ مِنْهُمَا، وَقَدْ وُجِدَ مَعَ التَّكْذِيبِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَا يَكُونُ حَيْضُهَا وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْهُمَا فإذا أكذبهما فيه لم يَعْلَمْ وَجُودَهُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَحْجُورًا عَلَيْهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا وَطَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنٌ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُخْرَى وَيَمْلِكُ رجعتها (قال المزني) رحمه الله تعالى هذا عندي يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ وَخُلْعِ أَرْبَعٍ فِي عقدة بألف فإذا أفسده في إحداهما للجهل بما يصيب كل واحدة منهن فسد في الأخرى ولكل واحدة منهن وعليها مَهْرِ مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ يقول لزوجته، وَإِحْدَاهُمَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتَا مَعًا، طُلِّقَتَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِوُجُودِ مَشِيئَتَيْنِ، وَقَدْ وُجِدَتَا، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُقُوعَ طَلَاقِهِمَا، وَيَكُونُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنًا، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ. فَأَمَّا طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الْحَجْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فإذا لم يصح خلعها فينبغي أن لا تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا. قِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَشِيئَةِ التَّمْيِيزُ وَفِي الْخُلْعِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ، وَلِلْمَحْجُورِ عَلَيْهَا تَمْيِيزٌ فَصَحَّتْ مَشِيئَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا فَلَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا، فَلَوْ كَانَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إِحْدَاهُمَا مَجْنُونَة فَشَاءَتَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُمَا، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، فَلَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا، وَكَانَتْ كَمَنْ لم تشاء، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا صَغِيرَةً فَشَاءَتَا، تُطْرَحُ الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ لَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا، كَالْمَجْنُونَةِ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا، وَوَقَعَ طَلَاقُهَا، وَكَانَ طَلَاقُ الْكَبِيرَةِ بَائِنًا، وَطَلَاقُ الصَّغِيرَةِ رَجْعِيًّا. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْجَائِزَةِ الْأَمْرَ مَهْرَ مِثْلِهَا فَقَالَ: (هَذَا يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ، وَخُلْعِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بألف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 والأمر على ما قاله المزني، وإنما ذكره الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلَانِ فَهُمَا سواء والله أعلم. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ قَالَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ طَلِّقْ فُلَانَة عَلَى أَنَّ لَكَ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ لَهُ لَازِمَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهُ أَجْنَبِيٌّ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهَا صَحَّ، وَكَانَ وَكِيلًا لَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَدْ خَالَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ فَقَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ فُلَانَة بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكَ عَلَيَّ، صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَ الْأَجْنَبِيَّ الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْعِوَضِ، إِلَّا زَوْجٌ بِنِكَاحٍ أَوْ زَوْجَةٌ بِخُلْعٍ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ الْأَجْنَبِيُّ كَالْخُلْعِ وَلَا الزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلِأَنَّ الْأَعْوَاضَ إِنَّمَا تُبْذَلُ فِي الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ، وَإِلَّا كَانَتْ سَفَهًا، وَمِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلَا غَرَضَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا الْخُلْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ بِغَيْرِ بَذْلٍ، وَجَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ مَالَهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي بَذَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ، فيقول: كل من صح منه بذلك الْمَالِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ صَحَّ بَذْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ كَالزَّوْجَةِ طَرْدًا، وَالصَّغِيرَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ كَالطَّلَاقِ، يَتَنَوَّعُ تَارَةً بِعِوَضٍ، وَتَارَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ مَالًا فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ مَالًا فِي الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْبَيْعِ فِي أَحْكَامٍ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي أَحْكَامٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ، وَالْمَقْصُودَ بِالْخُلْعِ إِزَالَةُ مِلْكِ الزَّوْجِ، فَجَازَ أَنْ يَزُولَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعَدَمِ الْغَرَضِ فِيهِ، فَخَطَأٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ مَوْجُودٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرَاهُمَا الْأَجْنَبِيُّ مُقِيمَيْنِ عَلَى نِكَاحِ شُبْهَةٍ يَؤُولُ إلى مأثم فأحب أن يستنقذهما منهما. وَالثَّانِي: أَنْ يَرَاهُمَا قَدْ خَرَجَا فِي الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُؤَدٍّ لِلْحَقِّ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي نِكَاحِهَا فَيَسْتَنْزِلَ بِالْخُلْعِ الزَّوْجَ عَنْهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ امْرَأَتَانِ فَخَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَنْهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ صَحَّ الْخُلْعُ بِالْأَلْفِ، وَإِنْ لَمْ يُفَصِّلْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْأَلْفَ لَازِمَةٌ لِلْأَجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَمُسْتَحَقَّةٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَجَازَ أَن لا يَنْفَصِلَ، وَلَيْسَ كَبَذْلِ الزَّوْجَتَيْنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَنْفَصِلَ مَا تَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ خَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا تَسْمِيَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ خُلْعًا فَاسِدًا، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتْ لَهُ إِحْدَاهُمَا: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ، فَإِنْ طَلَّقَهُمَا صَحَّ الْخُلْعُ، وَكَانَ لَهُ عليها ألف عنها، وعن ضرته قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا دُونَ ضَرَّتِهَا كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ قَدْ تَفَصَّلَتْ: إحداهما: مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ. وَلَوْ طَلَّقَ ضَرَّتَهَا دُونَهَا طُلِّقَتْ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُ الْبَاذِلَةَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِ الضَّرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ. وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَتْ لَهُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَ ضَرَّتِي، أَوْ قَالَتْ: طَلِّقْ ضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ علي أن لا تُطَلِّقَنِي. فَأَجَابَهَا إِلَى مَا سَأَلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخُلْعِ شَرْطٌ فَاسِدٌ بِسُقُوطِهِ مِنَ الْعِوَضِ مَا صَارَ بِهِ مَجْهُولًا فَلَزِمَ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِ الْمُطَلَّقَةِ قولاً واحداً. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَا يَجُوزُ مَا اخْتَلَعَتْ بِهِ الْأَمَةُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَعَتِ الْأَمَةُ زَوْجَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَا بِيَدِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ بِيَدِهَا لِلسَّيِّدِ لَمْ يَجُزْ وَنُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا بَذْلُ الْخُلْعِ فِي ذِمَّتِهَا يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 وَالثَّانِي: مِثْلُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لم يكن لَهُ مِثْلٌ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَاسْتَفَادَتْ بِالْإِذْنِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي بِيَدِهَا، فَإِنْ كَانَ مَا خَالَعَتْ بِهِ قَدْرَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَدَّتْ جَمِيعَهُ مِنْ كَسْبِهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَدَّتْ مِنْ كَسْبِهَا قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَانَ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ تُؤَدِّي مِنْهُ قَدْرَ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا فِي رَقَبَةِ أَمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبٍ إِنْ حَدَثَ لَهَا فِي الرِّقِّ، أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَتَلَهَا السَّيِّدُ أَوْ بَاعَهَا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى مُطَالَبَتِهَا، لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ ذَلِكَ عَنْهَا، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: خَالِعِيهِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْخَاتَمِ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ جَازَ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ، وَكَانَ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذْنًا مُطْلَقًا، وَلَا يَذْكُرَ عَيْنًا وَلَا ذِمَّةً فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهَا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ صَحَّ خُلْعُهَا عَلَيْهَا، إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا بِهَا، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ إِنْ كَانَ لَهَا مِثْلٌ، وَقِيمَتُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ، وَلَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهَا لِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهَا. (فَصْلٌ:) وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، سَوَاءً مَلَّكَهَا السَّيِّدُ تِلْكَ الْعَيْنَ أَوْ لَمْ يُمَلِّكْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا فَمَلَكَتْ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ لَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِيهَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ، وَفِيمَا يَرْجِعُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ قِيمَتُهَا، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ أَنْ خَالَعَتْ عَلَى تِلْكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 الْعَيْنِ أَجَازَ خُلْعَهَا لَمْ يَصِحَّ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهَا دَفْعُ الْمَالِ مِنْ كَسْبِهَا، لِعَدَمِ إِذْنِ السَّيِّدِ فِيهِ، وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ. قِيلَ: إِنَّمَا تَكُونُ جَهَالَةُ الْأَجَلِ مُوجِبَةً لِفَسَادِ الْعَقْدِ، إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلَا يَبْطُلُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ إِلَّا أَنْ تَرَى إِعْسَارَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُوجِبُ إِنْظَارَهُ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ، وَلَوْ شَرَطْتَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ. كَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا خَالَعَتْهُ بِمَالٍ أَوْجَبَ الشَّرْعُ إِنْظَارَهَا بِهِ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ جَازَ، وَلَوْ شَرَطَتْهُ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ فَاسِدًا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَكَذَا خُلْعُ الْمُدَبَّرَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ لَمْ تَأْتِ. فَأَمَّا الَّتِي نِصْفُهَا حُرٌّ، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِنِصْفِهَا الْحُرِّ جَازَ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ صَارَتِ الصِّفَةُ فِيهِ جَامِعَةً لِأَمْرَيْنِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ تَفْرِيقُ الصفقة بعد جمعها. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَا الْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ لِلسَّيِّدِ فَيَجُوزُ إِذْنُهُ فِيهِ وَلَا لَهَا فَيَجُوزُ مَا صَنَعَتْ فِي مَالِهَا وَطَلَاقُهُمَا بِذَلِكَ بَائِنٌ فَإِذَا أُعْتِقَتَا اتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَا أَحْكُمُ عَلَى الْمُفْلِسِ حَتَّى يُوسِرَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَعَتِ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا لَمْ يَخْلُ خُلْعُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهِيَ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهَا وَإِنْ خَالَفَتِ الْأَمَةَ فِي التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ فَهُوَ مَقْصُودٌ عَلَى أَدَائِهِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهِيَ كَالْأَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ فِي غَيْرِ الْأَدَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لِمُكَاتَبِهِ فِي الْهِبَةِ هَلْ يَصِحُّ إِذْنُهُ فِيهِ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ لَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَقْوَى تَصَرُّفًا مِنَ الْعَبْدِ، فَلَمَّا صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هِبَتُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، فَصَحَّ إِذْنُهُ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُ فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلَانِ فِي هِبَةِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي خُلْعِ الْمُكَاتَبَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 بِإِذْنِ السَّيِّدِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قولين كالهبة، لأنه ليس الاستهلاك بالخلع أغلط مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ بِالْهِبَةِ، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا، لِأَنَّهَا قَدْ تَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، وَلَا تَمْلِكُ بِالْهِبَةِ شَيْئًا عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْمُكَافَأَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ خُلْعَهَا بَاطِلٌ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهَا بِإِذْنِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا يَعُودُ مِنْ مُكَافَأَةِ الْهِبَةِ وَامْتِنَانِهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّيِّدِ، وَمَا يَعُودُ بِالْخُلْعِ مِنْ مِلْكِ الْبُضْعِ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبَةِ فَافْتَرَقَ إِذْنُ السَّيِّدِ فِيهِمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عَوْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ، وَلَوْ قُلِبَ كَانَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْخُلْعِ بِإِذْنِهِ صَحَّ إِذَا كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَال فِي ذِمَّتِهَا فَتَعْدِلَ إِلَى الْخُلْعِ بِمَالٍ فِي يَدِهَا أَوْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بمال في ذمتها فَتَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَيْنٍ، فَتَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا سَوَاءً، بِخِلَافِ الْأَمَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِي أَعْيَانِهِ، لِأَنَّ لَهَا نَقْلَ الْأَعْيَانِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ، فَلِذَلِكَ جَازَ خُلْعُهَا بَعْدَ الْإِذْنِ بِكُلِّ عَيْنِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْأَمَةِ وَاقِعٌ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَفِي أَعْيَانِهِ، وَلَيْسَ لَهَا نَقْلُ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْدِلَ فِي الْخُلْعِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُكَاتَبَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا أَدَّتْهُ بَعْدَ عِتْقِهَا، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ بِيَدِهَا، نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ لَهَا فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا طُلِّقَتْ، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: مِثْلُ مَا خَالَعَتْ بِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إِنْ لَمْ يكن له مثل. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِذَا أَجَزْتُ طَلَاقَ السَّفِيهِ بِلَا شَيْءٍ كَانَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِ جُعْلًا أَوْلَى وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَلِيَ عَلَى مَا أَخَذَ بِالْخُلْعِ لِأَنَّهُ مَالُهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، طَلَاقُ السَّفِيهِ وَاقِعٌ، وَخُلْعُهُ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحُّ خُلْعُهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ وَإِذَا صَحَّ وُقُوعُ طَلَاقِهِ صَحَّ جَوَازُ خُلْعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ، وَإِذَا كَانَ خُلْعُهُ جَائِزًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ نَاجِزٍ بِعِوَضِ الذِّمَّةِ، كَأَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَقَدْ صَارَتِ الْأَلْفُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَعَلَيْها فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْأَلْفَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ، وَيَدْفَعُهَا إِلَى وَلِيِّهِ لِقَبْضِ مَالِهِ، فَإِنْ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ الْوَلِيُّ إِلَى قَبْضِهَا سُنَّةً فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ مِنْهَا، بِأَخْذِ الْوَلِيِّ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا الْوَلِيُّ مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ كَانَتْ تَالِفَةً مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إِلَى الْوَلِيِّ أَلْفًا ثَانِيَةً، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى السَّفِيهِ بِالْأَلْفِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا مَا كَانَ الْحَجْرُ بَاقِيًا عَلَيْهَا، فَإِنْ فُكَّ حَجْرُهُ بِحُدُوثِ رُشْدِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غُرْمُهَا حُكْمًا، وَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ خُلْعِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ مُقَيَّدٍ بِالدَّفْعِ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تَدْفَعَهُ لِوَلِيِّهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الدَّفْعِ لَا يَمْلِكُ هَذَا إِلَّا بِالدَّفْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ دَفَعَتْ هَذَا إِلَى الْوَلِيِّ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ لَمْ تَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهَا، وَلَا مَلَكَهُ إِلَّا بِأَخْذِهِ مِنْهَا، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَخْذِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى تَلِفَ فَلَا غُرْمَ فِيهِ وَلَا رُجُوعَ ببدله. (مسألة:) قال الشافعي: (وَمَا أَخَذَ الْعَبْدُ بِالْخُلْعِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ فَإِنِ اسْتَهْلَكَا مَا أَخَذَا رَجَعَ الْوَلِيُّ وَالسَّيِّدُ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، وَخُلْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ خُلْعُهُ أَجْوَزَ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا لِيُطَلِّقَ بِهَا، وَيَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا، لِأَنْ يَمْلِكَهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهَا وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ عَبْدِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِبَدَلِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ خُلْعِهِ نَاجِزًا بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ مع سيده مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا فَيَجُوزَ لَهُ قَبْضُهَا، وَتَبْرَأَ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا، وَلَا تَبْرَأُ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ السَّيِّدُ بِأَخْذِهَا مِنْهُ فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ الزَّوْجَةُ مِنْهَا، فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا السَّيِّدُ مِنَ الْعَبْدِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ بِهَا، وَإِغْرَامُهَا إِيَّاهَا، فَإِذَا غَرِمَتْهَا رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ، وَلَيْسَ رُجُوعُ حُكْمٍ بُتَّ بِخِلَافِ السَّفِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ ذِمَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَجْزَ الْعَبْدِ بِحَقِّ سَيِّدِهِ يَزُولُ بِعِتْقِهِ، وَحَجْرَ السَّفِيهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَلَا يَنْحَفِظُ بِغُرْمِهِ بعد رشده. والحال الثانية: أن لا يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْقَبْضِ، وَلَا يَنْهَاهُ عَنْهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهَا مِنَ الزَّوْجَةِ وَكَانَ حُكْمُهُ لَوْ قَبَضَهَا كَحُكْمِهِ لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَفِي جَوَازِ قَبْضِهِ لَهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا بِمُطْلَقِ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ جاز أن يقبض من مال سيده من مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَانَ قَبْضُهُ لِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ قَبْضُهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالتِّجَارَةِ، وَمَالَ الْخُلْعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا أقبَضَهَا بَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تَبْرَأُ مِنْهَا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَخُلْعُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ طَلَاقَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَائِزٌ، فَكَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ، وَلَهُ قَبْضُ مَالِ الْخُلْعِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخُلْعُ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْكِتَابَةِ أَكْسَابَهُ، وَجَازَ تَصَرُّفُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَا في الأكساب. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوِ اخْتَلَفَا فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنْ قَالَتْ خَلَعْتَنِي بِأَلْفٍ وَقَالَ بِأَلْفَيْنِ أَوْ قَالَتْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً تَحَالَفَا وَلَهُ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَا يُرَدُّ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إذا اختلفا. وقال أبو حنيفة: لا يتحالفا، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى انْتِقَالِ الْبُضْعِ إِلَيْهَا، وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِقْدَارِ عِوَضِ مِلْكٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُوجِبًا لِتَحَالُفِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ صَارَ بِالِاخْتِلَافِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْهَا فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْيَمِينِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِنْكَارِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِاخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ مَعَ اخْتِلَافٍ لم يخل اختلافهما من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْعِوَضِ وَيَتَّفِقَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْعِوَضِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً فِي الْجِنْسِ كَقَوْلِ الزَّوْجِ: خَالَعْتُكِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْمِقْدَارِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَيَكُونُ تَارَةً فِي الصِّفَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِيضٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ سُودٍ. وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْأَجَلِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْف حَالَّةٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ، أَوْ يَقُولُ الزَّوْجُ عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرَيْنِ. فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ كُلِّهِ إِذَا عَدِمَا الْبَيِّنَةَ فِيهِمْ وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ مَالٍ مَحْضٍ، فَإِذَا تَحَالَفَا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَتَحَالُفِهِمَا فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَبِيعِ، وَكَاخْتِلَافِهِمَا فِي الصَّدَاقِ، فَيَكُونُ صِفَةُ التَّحَالُفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، فَإِذَا تَحَالَفَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهُوَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِ التَّحَالُفِ، فَيَصِيرُ كَتَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ الْمُوجِبِ لِلرُّجُوعِ بِقِيمَةِ المبيع، كذلك هاهنا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ أَكَثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ، لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ قَدْ سَقَطَ مَعَهُ الْمُسَمَّى، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقِلَّةُ وَلَا الْكَثْرَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَيَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارِ الْعِوَضِ. فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتُكَ على ثلاث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ، فَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَحَالَفَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ فِيهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ سُمِعَ فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وشَاهِد يَمِين لِأَنَّهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ مَا ادَّعَتْ وَزِيَادَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، وَعَدَدِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتَنِي عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتَنِي عَلَى وَاحِدَةٍ بِأَلْفٍ، فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهَا عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، وَنَقَصَهَا فِيمَا اعْتَرَفَتْ بِهِ مِنَ الْعِوَضِ. فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ بِالِاخْتِلَافِ وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِقَوْلِ الْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى الناكل. قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ قَالَ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ وَقَالَتْ بَلْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ مُقِرٌ بِطَلَاقٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهُ وَهُوَ مُدَّعِي مَا لَا يَمْلِكُهُ بِدَعْوَاهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، فَلَا تَحَالُفَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْبَيْعِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَتَحَالَفَا، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ المنكر مع يمينه، كذلك هاهنا، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ الزَّوْجُ، وَتُنْكِرَهُ الزَّوْجَةُ أَوْ تَدَّعِيَهُ الزَّوْجَةُ، وَيُنْكِرَهُ الزَّوْجُ. فَإِنِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ، أَوْ عَلَى عَبْدِكِ هَذَا، فَتَقُولُ: بَلْ طَلَّقْتَنِي مُتَبَرِّعًا بِغَيْرِ بَذْلٍ، فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ مَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، إِذَا حَلَفَتْ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ لِاعْتِرَافِهِ بِسُقُوطِ رَجْعَتِهِ، وَلَا شَيْءَ له عليها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ إِنْكَارُ الزَّوْجَةِ لِلْخُلْعِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُشْتَرِي لِلشِّرَاءِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَالْبَائِعُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ الزوج مقر له بِالطَّلَاقِ. قِيلَ: لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَمْلِيكِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّمْلِيكُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَوْ عَادَتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْيَمِينِ فَاعْتَرَفَتْ لِلزَّوْجِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِوَضِ لَزِمَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَادَ الزَّوْجُ فَصَدَّقَهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَالَعَهَا وَلَا طَلَّقَهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ، وَلَا فِي سُقُوطِ الرَّجْعَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. (فَصْلٌ:) وَإِنِ ادَّعَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ: قَدْ خَالَعْتَنِي عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: مَا خَالَعْتُكِ وَلَا طَلَّقْتُكِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَلَا أَلْفَ لَهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِهَا فَإِنْ أَقَامَتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قُبِلَ يَمِينُهُ أَوْ بَعْدَهَا سُمِعَتْ، وَبَيِّنَتُهَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ طَلَاقٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَاعْتَرَفَ بِالْخُلْعِ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا قُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ، والزوجة معترفة له بالألف. (مسألة:) قال الشافعي: (وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ ذِمِّيًّا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُخَالِعَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْخُلْعِ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ جَامِعٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَالتَّوْكِيلَ جَائِزٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَازَ فِيمَا جَمَعَهُمَا. وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِهِ بِالْخُلْعِ وَالتَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْخُلْعِ، وإذا كان ذلك جائز جَازَ أَنْ تُوَكِّلَ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ، وَأَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ، وَالزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَيُوَكِّلَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ تَوْكِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ فَصِفَةُ الْوَكِيلَيْنِ تَخْتَلِفُ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، وَوَكَالَةَ الزَّوْجِ فِي مُعَاوَضَةٍ وَطَلَاقٍ وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكَالَتِهِمَا تَنْقَسِمُ في حق الوكيلين أربعة أقسام: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 أحدهما: مَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَقْدٌ، لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِمَا حُكْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ وَكَافِرَيْنِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ وَمُسْلِمَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، فَصَحَّ فِيمَا جَمَعَهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمَا خُلْعُ أَنْفُسِهِمَا، فَصَحَّ فِيهِ تَوْكِيلُهُمَا لِغَيْرِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ الرشيدُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ لِنَفْسِهِ جَازَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي خُلْعِ غَيْرِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِهَا، وَإِنْ وَكَّلَتْ سَفِيهًا جَازَ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ كَمَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجَةِ فِي الْخُلْعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجِ، فَلِذَلِكَ إِنْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجُ سَفِيهًا جَازَ. فَإِنْ قِيلَ: فَوَكَالَةُ الزَّوْجَةِ مُخْتَصَّةٌ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ تمَّ الرُّشْدُ فِيهما عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَبَرٌ فَوَكَالَةُ الزَّوْجِ الْمُشْتَرِكَةُ فِي طَلَاقٍ وَمُعَاوَضَةٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِيهَا مُعْتَبَرًا. قِيلَ: لَمَّا تَفَرَّدَتْ وَكَالَةُ الزَّوْجَةِ بِالْمُعَاوَضَةِ تَفَرَّدَتْ بِحُكْمِهَا وَالرُّشْدُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مُعْتَبَرٌ فَاعْتُبِرَ فِي وَكَالَتِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجِ تَبَعًا لِلطَّلَاقِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ، وَكَانَ التَّبَعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ لَمْ يَكُنِ الرُّشْدُ فِي وَكَالَتِهِ مُعْتَبَرًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ لَا تُعْتَبَرُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ وَكَّلَتِ امْرَأَةً جَازَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا مَعَ أُنُوثَتِهَا جَازَ أَنْ تُوَكَّلَ فِيهِ مِنْ مِثْلِهَا، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَنْ يكون رجلاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهَا الزَّوْجُ طَلَاقَ نَفْسِهَا مَلَكَتْ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ امْرَأَةً فَصَارَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ دُونَ الذُّكُورِيَّةِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ دُونَ الرُّشْدِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الذُّكُورِيَّةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وجهين. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ خَلَعَ عَنْهَا بِمَا لَا يَجُوزُ فَالطَّلَاقُ لَا يُرَدُّ وَهُوَ كَشَيْءٍ اشْتَرَاهُ لَهَا فَقَبَضَتْهُ وَاسْتَهْلَكَتْهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ إلا أن يكون ضمن ذلك له (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بشيء والخلع عنده كالبيع في أكثر معانيه وإذا باع الوكيل ما وكله به صاحبه بما لا يجوز من الثمن بطل البيع فكذلك لما طلقها عليه بما لا يجوز من البدل بطل الطلاق عنه كما بطل البيع عنه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا وَكَّلَتْ فِي الْخُلْعِ عَنْهَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً. فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً فَقَالَتْ لَهُ: خَالِعْ عَنِّي، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ مِنَ الْمَالِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ وَقِيَمٌ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، فَيُعْتَبَرُ فِي إِطْلَاقِهَا جِنْسًا، وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَقَدْرًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا يُعْتَبَرُ إِطْلَاقُ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالْحُلُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ معتبراً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ، فَخُلْعُهُ لَازِمٌ لِلزَّوْجَةِ، وَمَضْمُونٌ عليها وللوكيل في العقد ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَعْقِدَهُ عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ فَلَا يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مَأْخُوذًا بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - إِنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا، لِأَنَّ وَكَالَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَحَدَتْ وَكَالَتَهُ لَمْ يُؤْخَذِ الْوَكِيلُ بِالْغُرْمِ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا دُونَ الْوَكِيلِ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، إِنْ أَكْذَبَهَا فِي الْجُحُودِ، وَرَجْعِيًّا إِنْ صَدَّقَهَا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ عَقْدِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ جَحَدَتْهُ الْوَكَالَةَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ لِجُحُودِهَا لَهُ، وَكَانَ لَهُ إِحْلَافُ الزَّوْجَةِ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا سَوَاءً أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ عَلَى الْجُحُودِ أَوْ صَدَّقَهَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ شَرَطَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ ضَامِنًا بِالْعَقْدِ، وَهَلْ تَضْمَنُهُ الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِأَجْلِ إِذْنِهَا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَيْهَا بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ دُونَ قِيمَةِ الْعِوَضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِانْقِضَاءِ حَدِّهِ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ عَلَيْهَا الْوَكِيلُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعِوَضِ أَوِ الْمُسَمَّى. فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذِمَّتِهَا وَلَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِطْلَاقِهِ بِعَقْدٍ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجَةِ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، لِتَقَدُّمِ إِذْنِهَا لَهُ بما أوجب ضَمَانَهُ، وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ لِلزَّوْجِ لِنِيَابَةِ الْوَكِيلِ عَنْهَا فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ مُطَالَبَتِهَا، وَمُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا، بِذَلِكَ قَبْلَ غُرْمِهِ لِارْتِهَانِ ذِمَّتِهَا بِهِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ ضَامِنَةٍ لَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَلَّ الْعَقْدَ، وَلَا سُمِّيَتْ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا قَبْلَ الْغُرْمِ، فَهَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عَنْهَا مُعَجَّلًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهَذَا الْحُكْمُ لَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا الْخُلْعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ بِمَا دُونَهُ أَلْزَمَ، وَهَكَذَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مُؤَجَّلًا جَازَ، وَلَزِمَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَلْزَمَهَا بِالْمُعَجَّلِ كَانَ بِالْمُؤَجَّلِ أَلْزَم، وَلِأَنَّ لَهَا تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ فَالْأَلْفُ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمَةٌ لِلزَّوْجَةِ، وَفِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ سَاقِطَةٌ عَنْهَا لِتَعَدِّي الْوَكِيلِ بِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَكِيلِ فَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْعِوَضَ إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ غَرِمَ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ لِدُخُولِهَا فِي ضَمَانِهَا وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ الْعِوَضَ لِاشْتِرَاطِهِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ فِي غُرْمِهِ لِلْأَلْفِ الزَّائِدَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لَا يَغْرَمُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَغْرَمُهَا عَلَى قَوْلَيْهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي الِابْتِدَاءِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ الْتَزَمَتِ الزَّوْجَةُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةً مِنْهَا لَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِبَذْلِهَا وَقَبُولِهِ وَقَبْضِهِ وَلَا يَبْرَأُ الْوَكِيلُ مِنْ غُرْمِهَا لِلزَّوْجِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ فِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا لَا يَبْطُلُ إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ الزَّوْجَةُ إِبْطَالَهَا، لِأَنَّهَا كَالْعَيْبِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا فَأَوْجَبَ خِيَارَهَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنِ اخْتَارَتْ فَسْخَ الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ سَقَطَتْ عَنْهَا، وَالْكَلَامُ فِي غُرْمِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْتِزَامَهَا لَزِمَتْهَا الْأَلْفَانِ بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ غُرْمُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عليها فيهما إلا بالألف الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَنَّهَا إِذَا الْتَزَمَتِ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةَ تَبَرُّعٍ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْوَكِيلِ غُرْمُهَا، وَإِذَا الْتَزَمَهَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَانَتْ عِوَضًا فِي خُلْعٍ يُسْقِطُ غُرْمَهَا عَنِ الْوَكِيلِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَنْ جِنْسِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ دَرَاهِمَ فَخَالَعَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَرَاهِمَ فَهَذَا عَلَى ضربين: أحدهما: أن يعدل على الدَّرَاهِمِ إِلَى مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَيُخَالِعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا نَاجِزًا عَلَى خَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْخُلْعُ فَاسِدٌ، وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ سِوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا عَلَى خَمْرٍ بِعَيْنِهِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ الْمَفْقُودِ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ الْخَمْرَ، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ، وَلَا قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْخَمْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَعَلَى الزَّوْجَةِ غُرْمُ الْمَهْرِ وَضَمَانُ الْوَكِيلِ لَهُ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يعدل الوكيل عن الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مِنْ نُقُودِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُسْتَبَاحَةِ كَالدَّنَانِيرِ أَوْ كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَخْلُو مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا خِيَارَ لَهَا، وَالْكَلَامُ فِي ضَمَانِ الْوَكِيلِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومًا كَأَنْ خَالَعَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهَا بَاطِلٌ فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بِقِيمَةِ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا الْأَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ رَدُّهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي خَالَعَهُ بِهَا فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ، وَرَجَعَ الْوَكِيلُ بِالدَّرَاهِمِ عَلَى الزَّوْجَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الدَّنَانِيرِ لَا يَبْطُلُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا، فَإِنْ أَجَازَتِ الْخُلْعَ بِهَا دَفَعَتْهَا إِلَى الزَّوْجِ بَرِئَ مِنْهَا الْوَكِيلُ وَإِنْ فَسَخَتِ الْخُلْعَ وَرَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ غَرِمَتِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي رُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا لَهَا عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ لمال كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ عَلَى عِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهَا، هَلْ يَكُونُ الْخُلْعُ بِهِ بَاطِلًا فِي حَقِّهَا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا؟ . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ باطل لم يقع الطلاق هاهنا، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ عَيْنٍ لَمْ تُمَلَّكْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَكَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ وَفَسْخِهِ، فَإِنْ أَمْضَتِ الْخُلْعَ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ سَلَّمَتْهُ إِلَى الزَّوْجِ وَبَرِئَ الْوَكِيلُ مِنْ ضَمَانِهِ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ فَسَخَتْهُ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا أَخَذَهُ الزَّوْجُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَتُهُ، وَقَدْ أَخَذَهَا مِنَ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا بِالْفَاضِلِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُقَيَّدَةً كَأَنَّهَا ذَكَرَتْ لَهُ جِنْسًا مِنَ الْمَالِ مُقَدَّرًا تَخَالَعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَا عَيَّنَتْ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ إِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا مِنْ وَقْفٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مَعَ هَذَا النَّصِّ إِلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَتْ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ، لِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِهِ كَأَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْوَكِيلِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُخَالِعَ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ، وَلَا يَعْدِلَ عَنْهُ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْوَكِيلُ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ، وَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَكِيلِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ إِذْنٍ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْمُعَيَّنِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا مَعًا بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِهَا بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْعُدُولِ عَنْهُ فَجَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى أَخْذِهِ، وَلَهَا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَتَسَلَّطِ الْوَكِيلُ عَلَى أَخْذِهِ وَقُطِعَ خِيَارُهَا فِيهِ، فَلَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِخَمْسِينَ أَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِعَبْدٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِبَعْضِهِ لَزِمَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا بِالْأَكْثَرِ كَانَ الْأَقَلُّ أَلْزَمَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَمَّا أَذِنَتْ فِيهِ وَنَصَّتْ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَهُوَ مُوجِبٌ مُخَالَفَتَهُ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقٍ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحَقِّ فِي مُوَافَقَتِهِ فَتَصِيرُ الْمُخَالَفَةُ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا فِي مَوَاضِعَ نَادِرَةٍ، فَلَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ أَجْوَزَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَمَّا سَمَّتْ إِلَى غَيْرِهِمَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ فَفِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بَاطِلٌ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا بَذَلَتْ أَوْ أَقَلَّ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يُوجِبُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِمَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ بِهِ نَفْسًا. مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ، لَزِمَهَا الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَتْ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِمْضَاءَ لَزِمَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ لَا غَيْرَ. وَالثَّانِي: أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ مُوجِبَةٌ لفسادة الْعَقْدِ وَرَفْعِ الطَّلَاقِ، وَاعْتِبَارًا بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ. قُلْنَا: أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِالْمُخَالَفَةِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا رَفْعُ الطَّلَاقِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَعَ فَسَادِ الْخُلْعِ كَمَا يَقَعُ مَعَ صِحَّتِهِ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ فِيهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَخَالَفَ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِوَكِيلِ الْبَائِعِ إِذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ فَوَهْمٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 وَكِيلَ الْبَائِعِ يَقُومُ فِي الْخُلْعِ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ كَمَا أَنَّ وَكِيلَ الْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ دون الزوج والله أعلم. (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يُخَالِعُهَا بِمِائَةٍ فَخَالَعَهَا بِخَمْسِينَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِمِائَةٍ فَأَعْطَتْهُ خَمْسِينَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا قلت في الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا بَيَانٌ لِمَا قُلْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فِيهِ بِالْوَكَالَةِ لِوَكِيلِهِ عَلَى مَا يُخَالِعُهَا بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَيَقُولُ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدِهَا الْفُلَانِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَا سَمَّى مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ عَنْهُ، وَلَا تَقْصِيرٍ فِيهِ فَيُخَالِعُ عَنْهُ بِالْأَلْفِ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسَمَّاةَ أَوْ بِالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسَمَّى، فَالْخُلْعُ لَازِمٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَلَهُ قَبْضُ مَا خَالَعَ بِهِ، وَإِنْ لم يذكره الزوج ما لم ينهه عنه قَبْضِهِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ بِالْمُسَمَّى وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَلْفٍ، فَخَالَعَهَا بِأَلْفَيْنِ، فَالْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْأَلْفِ كَانَ بِهَا وَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا أَرْضَى، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ طُلِّقَتْ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مَانِعَةً مِنْ حُصُولِ الصِّفَةِ بِهَا لِدُخُولِ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى أَلْفٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ أَوْ يَقُولَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ وَأَلِفٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِوُجُودِ الْمُسَمَّى مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِوُجُودِهِ مَعَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجِنْسِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفًا وَعَبْدًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْجِنْسِ تَكُونُ تَبَعًا، فَدَخَلَتْ فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ، وَزِيَادَةَ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَكُونُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَمُخَالَفَةُ الْجِنْسِ تُفْسِدُ الْخُلْعَ كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْمُسَمَّى عَلَى بَعْضِهِ كَأَنَّهُ سمى له ألفاً فخالعها تسعمائة أو على ألف إلا درهم أَوْ سَمَّى لَهُ عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَيْهِ إِلَّا جُزْءًا مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ. والقسم الرابع: أن يعدل على جِنْسِ الْمُسَمَّى إِلَى غَيْرِهِ، كَأَنَّهُ سَمَّى لَهُ أَلْفا دِرْهَمٍ فَخَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ سَمَّى لها عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ. وهذين القسمين سَوَاءٌ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي جُعِلَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهَا لَمْ تُؤْخَذْ فِي الْحَالَيْنِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ أَقَلَّ مِنْهَا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَكَقَوْلِهِ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَعْطَتْهُ بِقِيمَةِ مَا قَالَهُ، أَوْ أَكَثَرَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالْقِيمَةِ، كَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَفَارَقَ وَكِيلَ الزَّوْجَةِ حَيْثُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُخَالَفَتِهِ وَلَمْ يَقَعْ بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ وَسَمَّاهُ لِوَكِيلِهِ مَجْهُولًا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ قَالَ عَلَى ثَوْبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ نَوْعَ الْعَبْدِ فَيَقُولَ: عَلَى عَبْدٍ هِنْدِيٍّ أَوْ سِنْدِيٍّ، فَيَجُوزُ وَيَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ تُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لَا يَذْكُرَ نَوْعَهُ فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعَبِيدِ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي التَّوْكِيلِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ خُلْعُ الوكيل. والوجه الثاني: تصح الوكالة؛ لأن لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ فِي الْوَكَالَةِ ذِكْرُ صِفَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ نَوْعِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ، فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ تَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا بِصِفَاتِ السَّلَمِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ مُسَلَّمٌ، وَفِي السَّلَمِ عُذْرٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً خَالَعَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَقَلَّ وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَاعِدًا فَخُلْعُهُ جَائِزٌ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ المثل فيكون لحكم فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الزَّوْجُ الْوَكَالَةَ، فَخَالَعَ الْوَكِيلُ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْآتِي. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيِ الْوَكَالَةِ أَنْ تَكُونَ وَكَالَةُ الزَّوْجِ مُطْلَقَةً فَيَقُولُ لِوَكِيلِهِ: خَالِعْ زَوْجَتِي، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا، فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ إِذَا قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ فَأَوْلَى إِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ أن لا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جَهَالَةً. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَخْصُوصٍ لَا يُعْلَمُ مَعَ الْجَهَالَةِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْإِطْلَاقِ مِلْكُ الْبَدَلِ عَنِ الْبُضْعِ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ جَهَالَةُ الْعَقْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهَا عَنْهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ نَقْدِ غَالِبِ النَّقْدِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَهَذَا الْخُلْعُ مَاضٍ وَالطَّلَاقُ فِيهِ وَاقِعٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَهْرِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي التَّعْيِينِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَمَعَ الْإِطْلَاقِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ أَبَلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أقاويل. أحدها: أن الطَّلَاق لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَوْجَبَهُ الْإِطْلَاقُ كَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ التَّقْيِيدُ نَصًّا، وَقَدْ مَنَعَ مُخَالَفَةُ النَّصِّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ مُخَالَفَةُ الْحُكْمِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَائِنًا، وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ مَا تَقَدَّرَ بِالْحُكْمِ اجْتِهَادًا يَقْصُرُ عَنْ حُكْمِ النَّصِّ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَمْضَى حُكْمًا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا بَطَلَ حُكْمُهُ، وَلَوْ خَالَفَ فِيهِ اجْتِهَادًا لَمْ يَبْطُلْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ مَا خَالَعَ بِهِ الْوَكِيلُ، وَأَخْذِ الْعِوَضِ الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَبَيْنَ فَسْخِهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَمْ تَبْذُلْهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، لَكِنْ يَرْفَعُ الْبَيْنُونَةَ بِرَدِّ الْعِوَضِ وَبِمِلْكِ الرَّجْعَةِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 (باب الخلع في المرض من كتاب نشوز الرجل على المرأة) (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَيَجُوزُ الْخُلْعُ فِي الْمَرَضِ كَمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَرِيضَ فَخَالَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا ثُمَّ مَاتَ فَجَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْخُلْعُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ، كَالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ فِي الْمَرَضِ كَالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ يصح طلاقه بغير بدل، فصح بالبدل كَالصَّحِيحِ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فِي الْمَرَضِ، كَجَوَازِهِ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا صَحَّ خُلْعُهُ سَوَاءٌ خَالَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ صَحَّ، فَإِذَا خَالَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا الْخُلْعُ كَالْبَيْعِ إِذَا خَالَعَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ مُحَابَاةً فِي الثُّلُثِ كَالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ. قِيلَ: لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنِ الْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ صَحَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ، فَإِذَا أَزَالَهُ بِقَلِيلِ الْبَدَلِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ، وَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كان معتبراً من فيه الثلث، فكذلك إذا حابا فِيهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَلِيلِ الْبَدَلِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ كَانَ إِزَالَةُ الملك عن المال في المرض معتباراً مِنَ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَكُنْ إِزَالَةُ الْمِلْكِ عَنِ الْبُضْعِ مُعْتَبَرًا مِنَ الثُّلُثِ. قِيلَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ ومنتقلاً إليهم إرثاً بالموت، والمال منتقلاً إِلَيْهِمْ بِالْإِرْثِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الثُّلُثِ، وَبُضْعُ الزَّوْجَةِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ، وَلَا مُنْتَقِلٍ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الثُّلُثِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ، كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُنْتَقِلًا إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ لَا مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهَا مُنْتَقِلَة إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَرِيضَةَ فَخَالَعَتْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا جَازَ لَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَكَانَ الْفَضْلُ وَصِيَّةً يُحَاصُّ أَهْلُ الْوَصَايَا بِهَا فِي ثُلُثِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا خَالَعَتِ الْمَرِيضَةُ زَوْجَهَا صَحَّ خُلْعُهَا فَإِنْ خَالَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ كَانَ مِنْ رَأْسِ مَالِهَا، وَأَصْلِ تَرِكَتِهَا وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةً تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ جَمِيعُ مَا تُخَالِعُ بِهِ الْمَرِيضَةُ مُعْتَبَرٌ فِي الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِذَا بَذَلَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ مَالًا فِي مَرَضِهَا عَلَى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهَا كَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ خَالَعَ عَنْهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ جَمِيعُ مَا بَذَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ لَكَانَ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْبَاذِلَةَ وَلِأَنَّ فِي الْخُلْعِ ضَرَرًا يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا بَذَلَتْهُ مِنْ مَالِهَا. وَالثَّانِي: مَا أَسْقَطَتْهُ مِنْ نَفَقَتِهَا فَكَانَ أَضَرَّ مِنَ الْعَطَايَا وَأَحَقَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَالٌ بَذَلَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِوَضُ الْمِثْلِ مِنْ أصل المال كالبيع. وقولنا يَصِحُّ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا احْتِرَازًا مِنَ الْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ تَوْفِيرًا عَلَى الْوَرَثَةِ فِي سُقُوطِ مِيرَاثِهِ، وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِمَّا بَذَلَتْ فَكَانَ مَا أَفَادَهُمْ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْبُضْعَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ، وَلَمَّا جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْبُضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِالْخُلْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ قِيمَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةٌ لَهُ كَبِيرَةٌ حَتَّى حرمَتْ عَلَيْهِ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبُضْعُ مَالًا لِلزَّوْجِ لَمَا لَزِمَهَا لَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْبُضْعَ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 مِنَ الْمَالِ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتِ الْبُضْعَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَتْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا قَدِ اسْتَضَرَّتْ مِنْ وَجْهَيْنِ بِمَا بَذَلَتْ مِنْ مَالِهَا وَأَسْقَطَتْهُ مِنْ نَفَقَتِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَدْ تَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ نِكَاحَ غَيْرِهِ، وَنَفَقَةً أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ إِنْ عَاشَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُوَفِّرُ عَلَى وَرَثَتِهَا قَدْرَ مِيرَاثِهِ إِنْ مَاتَتْ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا خَالَعَتْ بِهِ فِي مَرَضِهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، فَخَالَعَتْهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، صَحَّ الْخُلْعُ بِهَا سَوَاءٌ تَرَكَتْ غَيْرَ الْأَلْفِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْأَلْفِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ أَرْبَعَمِائَةٍ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْأَلْفِ وَهُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ مُحَابَاةً تَكُونُ وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ، فإن احتملها الثلث أمضت، وَهُوَ أَنْ تُخَلِّفَ سِوَى أَلْفِ الْخُلْعِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْأَلْفَ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْهَا فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَسِتُّمِائَةٍ وَصِيَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَذَلِكَ السِّتُّمِائَة الْخَارِجَةُ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تُخَلِّفِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الَّتِي خَالَعَتْ بِهَا كَانَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَثُلُثُ السِّتِّمِائَةٍ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَصِيَّةً لَهُ فَيَصِيرُ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِالْوَصِيَّةِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ فَلَوْ كان على الزوجة ثلثمائة دِرْهَمٍ دَيْنًا أَخَذَ الزَّوْجُ مِنَ الْأَلْفِ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدَفَعَ مِنَ الْبَاقِي قَدْرَ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الزَّوْجُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْوَرَثَةُ الْبَاقِيَ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَهُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُهَا سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَصَاعِدًا صُرِفَ بَاقِي الْأَلْفِ بَعْدَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ وَصَّتْ بِثُلُثِ مَالِهَا لِغَيْرِهِ، كَانَ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَلْفِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَصَايَا، لِأَنَّ وَصِيَّتَهَا عَطِيَّةٌ فِي الْمَرَضِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ سَوَاءٌ قَبَضَهَا الزَّوْجُ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بعد الموت. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ كَانَ خُلْعُهَا بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةً وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ يَرُدَّ وَيَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيْءٍ وَلَكِنْ لَهُ مِنَ الْعَبْدِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَمَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَصِيَةٌ لَهُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَبْدِ من الثلث ولم يكن لها غيره فهر بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِلَ وَصِيَّتَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مِثْلَهَا لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ فِي الْعَبْدِ شِرْكٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ عَيْبٌ يَكُونُ فِيهِ الْخِيَارُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهَا عَلَى عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ درهم، فَإِنْ صَحَّتِ الزَّوْجَةُ مَنْ مَرَضِهَا كَانَ لِلزَّوْجِ جَمِيعُ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ لِلزَّوْجَةِ غَيْرُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ مُحَابَاةَ الْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ مَاضِيَةٌ، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا فَنِصْفُ الْعَبْدِ، وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مُحَابَاةٌ فِي الثُّلُثِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْرُجَ مِنْ ثُلُثِهَا. وَالثَّانِي: أَن لا يَخْرُجَ مِنْ ثُلُثِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَا يَخْرُجَ بَاقِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ جَمِيعُ النِّصْفِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ أَنْ تُخَلِّفَ الزَّوْجَةُ مَعَ الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ أُخْرَى فَيَأْخُذَ الزَّوْجُ جَمِيعَ الْعَبْدِ، نِصْفَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَنِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الْعَبْدِ، فَلَمْ تَتَفَرَّقْ صَفْقَتُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ، لِأَنَّهُ عَاقَدَهَا لِيَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الْعَبْدِ عِوَضًا، وَقَدْ صَارَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ عِوَضًا وَنِصْفُهُ وَصِيَّةً فَقَدْ تَفَرَّقَتْ صَفْقَتُهُ فِي الْعَبْدِ حُكْمًا وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّفْرِيقِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ سُوءُ الْمُشَارَكَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ الْبَاقِي شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا دَيْنٌ قَدْ أَحَاطَ بِمَالِهَا، فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِحَاطَةُ الدَّيْنِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ تَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ خَالَعَ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ فَحَصَلَ لَهُ نَصِفُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ النِّصْفِ مِنْهُ، وَإِنْ فَسَخَ كَانَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَإِنْ قِيلَ: مَا اسْتَفَادَ بِالْفَسْخِ زِيَادَةً قِيلَ: قَدِ اسْتَفَادَ أَنْ أَخَذَ نَقْدًا وَأَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ سُوءَ الْمُشَارَكَةِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النِّصْفِ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ، وَبَاقِيهِ غَيْرُ خَارِجٍ منه، وذلك في إحدى حالتين. إما أن لا يُخَلِّفَ غَيْرَ نِصْفِهِ الْبَاقِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 وَإِمَّا أَنْ يُخَلِّفَ غَيْرَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ كَانَ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهُ وَهُوَ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِهِ يُضَافُ إِلَى النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَيَصِيرُ لَهُ ثُلُثَا الْعَبْدِ نِصْفُهُ عِوَضًا وَسُدُسُهُ وَصِيَّةً، وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِيهِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ قَالَ آخُذُ السُّدُسَ وَصِيَّةً وَأَفْسَخُ فِي النِّصْفِ لَا رَجْعَ فِي بَدَلِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. قِيلَ: ليس لك ذلك لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي مُعَارَضَةٍ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا مَعَهَا كَالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ مَعَ نِصْفِ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ضُمَّ إِلَى نِصْفِ الْعَبْدِ، وَأُمْضِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْعَبْدِ مَا احْتَمَلَهُ ثُلُثُ الْجَمِيعِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ خَلَّفَتْ مَعَ الْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ النِّصْفِ صَارَتْ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ بِهَا ثُلُثَيِ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ لِلزَّوْجِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ الزَّوْجُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِالسُّدُسِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ، أَوِ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَتْ خَلَّفَتْ غَيْرَ النِّصْفِ مِنَ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا ضُمَّتْ إِلَى النِّصْفِ فَصَارَتْ تَرِكَتُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، يَأْخُذُ بِهَا نِصْفَ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ رُبُعُ جَمِيعِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِالْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِرُبُعِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ اعْتِرَاضًا تَعْلِيلُهُ فِيهِ صَحِيحٌ وَوَهْمُهُ فِي تَأْوِيلِهِ فَسْخٌ، وَهُوَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهَا غَيْرُهُ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ أَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا وهُوَ رُبُعُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ فَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ لِلزَّوْجِ ثُلُثَا الْعَبْدِ: وَهَذَا صَحِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ تَأْوِيلٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنَصِفُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا تَعْلِيلًا لِلنِّصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نِصْفِهِ الْبَاقِي بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَحَذَفَ الْكَاتِبُ الْهَاءَ مِنْ نِصْفُهُ، وَنَقَلَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلِحَذْفِ الْهَاءِ مَا تَوَجَّهَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مُصَوَّرَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَلَّفَتْ مَعَ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَارَتْ تَرِكَتُهَا مَعَ نِصْفِ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ لِلزَّوْجِ ثُلُثُهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، يَدْخُلُ بِهَا نِصْفُ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَقَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 نَقَلَهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى دَارٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَتْ مَعَهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَكَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَلَهُ نِصْفُ الدَّارِ، وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَجُعِلَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ خُلْعَ الدَّارِ إِلَى الْعَبْدِ، وَغَفَلَ عَنْ نَقْلِ مَا خَلَّفَتْهُ مَعَهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَنَقَلَ الْجَوَابَ عَلَى حَالِهِ فَتَوَجَّهَ لَهُ الِاعْتِرَاضُ الَّذِي ذَكَرَهُ لِسِعَتِهِ فِي النَّقْلِ وَوَهْمِهِ فِي التَّأْوِيلِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَهْرٍ فَاسِدٍ، فَوَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، ثُمَّ خَالَعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهَا عَلَى عَبْدٍ قِيمَتُهُ مائة درهم لا مال لها غيره، ومهر مِثْلِهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ بِالْخُلْعِ عِوَضًا، وَنِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَذَكَرَ مَا مَلَكَهُ بِالْخُلْعِ وَمَا مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَعْرِضْ لِمَا مَلَكَهُ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ مِنَ الثُّلُثِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 (باب خلع المشركين من كتاب نشوز الرجل على المرأة) (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (إِنِ اخْتَلَعَتِ الذِّمِّيَّةُ بِخَمْرٍ أَوْ بِخَنْزِيرٍ فَدَفَعَتْهُ ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَيْنَا أَجَزْنَا الْخُلْعَ وَالْقَبْضَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ دَفَعَتْهُ جَعَلْنَا لَهُ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ خُلْعُ الْمُشْرِكِينَ جَائِزٌ كَالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ حِلُّ نِكَاحٍ كَالطَّلَاقِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْعِوَضِ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَ بِهِ الزَّوْجَانِ الْمُسْلِمَانِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَمَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ صَحَّ خُلْعُهُمَا بِهِ، فَإِنْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا أَمْضَيْنَاهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا فِيهِ أُقِر عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمَا لِاسْتِهْلَاكِهِمَا ذَلِكَ فِي شِرْكِهِمَا، فَكَانَ عفواً قال الله تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ من الربا} [البقرة: 278] فعفى عَمَّا مَضَى، وَحَرَّمَ مَا بَقِيَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَبَرِئَتْ مِنَ الْعِوَضِ بِالْقَبْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا قَبْلَ قَبْضِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِحَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ فِي خُلْعِهِمَا بِإِقْبَاضِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تتبع أهواءهم} [الشورى: 15] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُوقِعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَأُبْطِلَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، وَحُكِمَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّ فَسَادَ الْخُلْعِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يُوجِبُ الطَّلَاقَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا بَعْدَ أَنْ تَقَابَضَا بَعْضَهُ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بَائِنًا، وَيَمْضِي مِنَ الْخُلْعِ مَا تَقَابَضَاهُ، وَيَبْطُلُ مِنْهُ مَا بَقِيَ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِقِسْطِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، كَأَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى عَشَرَةِ خَنَازِيرَ، فَأَقْبَضَتْهُ مِنْهَا خَمْسَةً، وَبَقِيَ مِنْهَا خَمْسَةٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْ نِصْفِ الْبَدَلِ، وَبَقِيَ عَلَيْهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ خَالَعَهَا عَلَى عَشَرَةِ خَنَازِيرَ وَعِشْرِينَ زِقًّا مِنْ خَمْرٍ، وَتَقَابَضَا الْخَنَازِيرَ وَبَقِيَ الْخَمْرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَمْيِيزِ الْجِنْسَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنهما يتميزان في الحكم لتميزها فِي الْجِنْسِ، فَعَلَى هَذَا يَغْلِبُ اعْتِبَارُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 الْجِنْسَيْنِ، وَيَتَقَسَّطُ الْمَهْرُ عَلَيْهِمَا فَتَكُونُ الْخَنَازِيرُ فِي مُقَابَلَةِ النِّصْفِ، فَتَبْرَأُ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَكُونُ الْخَمْرُ فِي مُقَابَلَةِ النِّصْفِ فَيَلْزَمُهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجِنْسَيْنِ لَا يَتَمَيَّزَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ، وَيَتَقَسَّطُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى أَعْدَادِهِمَا وَهُمَا ثَلَاثُونَ فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ خَنَازِيرَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَبْرَأُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَتَبْقَى الْعِشْرُونَ زِقًّا فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيِ الْمَهْرِ، فَيَلْزَمُهَا ثُلُثَانِ. فَلَوْ تَقَابَضَا قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْنَا خَمْسَةَ خَنَازِيرَ، وَخَمْسَةَ أَزْقَاقِ خَمْرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: بِاعْتِبَارِ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَرِئَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَبَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ خَنَازِيرَ مِنَ الْعَشْرَةِ فِي مُقَابَلَةِ الرُّبُعِ، وَالْخَمْسَةَ الْأَزْقَاقِ مِنَ الْعِشْرِينَ فِي مُقَابَلَةِ الثُّمُنِ، فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدَيْنِ دُونَ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَرِئَتْ مِنْ ثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا أَقَبَضَتْهُ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ وَيَبْقَى عَلَيْهَا ثُلُثَا مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كتاب الصداق سواء. (مسألة:) قال الشافعي: (وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى الرِّضَا وَنَحْكُمُ عَلَى الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا جَاءَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ خُلْعِ الذِّمِّيَّيْنِ وَخُلْعِ الْمُعَاهَدَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِنَا فَإِنْ كَانَا مُعَاهَدَيْنِ لَمْ يُؤْخذَا بِالْتِزَامِ أَحْكَامِنَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِمْ {فَإِنْ جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فَخَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَلْزَمُهُمْ، وَإِنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ كَيَهُودِيَّيْن أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ: أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حكمه لقوله اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَالصَّغَارُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُمْ فِي دَارٍ تَنْفُذُ فِيهَا أَحْكَامُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حَاكِمَنَا بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِالْخِيَارِ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ كَأَهْلِ الْعَهْدِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكُفْرِ، وَإِقْرَارِنَا لَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي حَقٍّ لِآدَمِيٍّ لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَأُخِذُوا جَبْرًا بِالْتِزَامِهِ، لِأَنَّ دَارَنَا تَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ حَاكِمُنَا مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي كُفْرِهِمْ أَعْظَمُ، وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَيْهِ فَكَانَ مَا سِوَاهُ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَحَقُّ الْخُلْعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، وَبَيْنَ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ، فَيَكُونُ فِي وجوب الحكم بينهما والتزمهما قَوْلَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا عَلَى دِينَيْنِ أَحَدُهُمَا يَهُودِيٌّ، وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ يَكُونَ كَالدِّينِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ لُزُومُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثلاثة. والوجه الثاني: أنهما يتميزا بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ عَنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي التَّسَاوِي مُتَّفِقَانِ عَلَى حُكْمِ دِينِهِمَا، فَأُقِرَّا عَلَيْهِ، وَفَى الِاخْتِلَافِ غَيْرُ مُتَّفِقَيْنِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ بِهِمَا إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، قَطْعًا لِلتَّنَازُعِ في الباطل، فعلى هذا يجب على الحاكم أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَيُؤْخَذ جَبْرًا بِالْتِزَامِ حُكْمِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ ذِمِّيَّةٍ أَوْ مُعَاهَدٍ فَوَاجِبٌ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَيَأْخُذَهَا جَبْرًا بِالْتِزَامِ حُكْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ (تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ) . (فَصْلٌ:) لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مِنْ أَبٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ، وَلَا يُخَالِعَ فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ خُلْعُهُ. وقال الحسن وعطاء: يجوز أن يطلق بعوض وبغير عِوَضٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُمَلِّكَهُ لِلْبُضْعِ بِالنِّكَاحِ جَازَ لَهُ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِالطَّلَاقِ كَالْمَالِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ بِعِوَضٍ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُطَلِّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ طَلَاقَهُ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ، وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ) مَعْنَاهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مَنْ مَلَكَ الْأَخْذَ بِالسَّاقِ، يَعْنِي الْبُضْعَ، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْبُضْعَ، فَلَمْ يَمْلِكِ الطَّلَاقَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْبُضْعَ لَمْ يَمْلِكْ بِنَفْسِهِ الطَّلَاقَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْوَكِيل فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إِيقَاعَهُ مُوَكِّلُهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ تَمْلِيكٌ فَصَحَّ مِنَ الْوَلِيِّ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالطَّلَاقُ إِزَالَةُ مِلْكٍ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الْوَلِيِّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بَذْلُ الْهِبَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ حُكْمُ الطَّلَاقِ دُونَ الْعِوَضِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ مُنْفَرِدًا كَالْأَجْنَبِيِّ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. (فَصْلٌ:) إِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَعْطَاهَا عَبْدًا فَقَدْ صَارَ بَائِعًا لِلْعَبْدِ وَمُخَالِعًا عَنِ الْبُضْعِ بِأَلْفٍ فَصَارَ عَقْدُهُ قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَخُلْعًا فَكَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيَرُدُّ الْأَلْفَ عَلَيْهَا، وَتَرُدُّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا، وَيَكُونُ مَا قَابَلَ الْعَبْدَ مِنَ الْأَلْفِ ثَمَنًا، وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ مِنَ الْأَلْفِ خُلْعًا، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ؟ ، فَإِذَا قِيلَ: أَلْفٌ. قِيلَ: وَكَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ فَإِذَا قِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ كَانَ ثُلُثَا الْأَلْفِ ثَمَنًا وَثُلُثُهَا خُلْعًا، فَإِذَا رَدَّتِ الْعَبْدَ بِعَيْبٍ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ سِتِّمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ وَأَعْطَاهَا أَلْفًا صَارَ مُتَمَلِّكًا لِلْعَبْدِ بِبُضْعِهَا وَبِأَلْفٍ فَيَكُونُ مَا قَابَلَ الْأَلْفَ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعًا، وَمَا قَابَلَ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنَ الْعَبْدِ خُلْعًا، فَيُقَالُ: كَمْ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا قِيلَ: أَلْفٌ ضُمَّتْ إِلَى الْأَلْفِ الَّتِي بَذَلَهَا الزَّوْجُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ مَبِيعًا بِأَلْفٍ، وَنِصْفُهُ عِوَضًا عَنِ الْبُضْعِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ جَمِيعِهِ فِي الْبَيْعِ وَالْخُلْعِ جَازَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ أَلْفٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ الْمَبِيعَ دُونَ الْخُلْعِ أَوِ الْخُلْعَ دُونَ الْمَبِيعِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِمَّا أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ، أَوْ يُمْسِكَ جَمِيعَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَدَّ الْمَبِيعَ مِنْهُ رَجَعَ بِالْأَلْفِ وَإِنْ رَدَّ الْخُلْعَ مِنْهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 (كِتَابُ الطَّلَاقِ) (بَابُ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَوَجْهِهِ وَتَفْرِيَعِهِ (مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِنْ جِمَاعِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذلك) (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} وَقَدْ قُرِئَتْ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ (قَالَ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ عَامُّ الْحُكْمِ فِيهِ وَفِي جَمِيعِ أُمَّتِهِ. فَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ. فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ طَلَّقَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فطلقوهن} فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي الْجَنَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي طُهْرِهِنَّ إِذَا لَمْ يُجَامَعْنَ فِيهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فَطَلِّقُوهُنَ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَقَالَ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَفِي قَوْلِهِ {الطلاق مرتان} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ وَتَقْدِيرِهِ بِالثَّلَاثِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ وَقَتَادَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ مَا شَاءَ، ثُمَّ إِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ لَهَا: لَا أَقْرَبُكِ وَلَا تَخْلُصِينَ مِنِّي، قَالَتْ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ. ثُمَّ أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ. قَالَ: فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فأنزل الله تعالى {الطلاق مرتان} الْآيَةَ. فَقَدَّرَهُ بِالثَّلَاثِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ نَزَلَ الطَّلَاقُ مُوَافِقًا لِطَلَاقِ الْأَعْشَى فِي تَقْدِيرِهِ بِالثَّلَاثِ حين يقول. (أجارتنا بيني فإنك طالقه ... وموقومة مَا أَنْتِ فِينَا وَوَامِقَهْ) (أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ تَغْدُو وَطَارِقَهْ) (وَبِينِي فَإِنَّ الْبَيْنَ خَيْرٌ مِنَ الْعَصَا ... وإَلَّا تَزَالي فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَهْ) وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ الطَّلَاقِ أَنْ يُوقِعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ واحدة وأن لا يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي قُرْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ الرَّجْعَةُ بعد الثانية والتسريح بالإحسان الطلقة الثالثة. وروى سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَهُوَ قَوْلُ عطاء ومجاهد. والتأويل الثاني: فإمساك بمعروف الرجعة بعد الثانية أو تسريح بإحسان هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ رَجْعَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تنكح زوجاً غيره} وَقَالَ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] الْآيَةَ. فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَرَوَى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ أَحَدُكُمْ لِامْرَأَتِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ رَاجَعْتُكِ لَيْسَ هَذَا طَلَاقُ الْمُسْلِمِينَ. تُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ فِي قبل عدتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 وَرَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَلَّقَ حَفْصَةَ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْعَالِيَةَ بِنْتَ ظِبْيَانَ فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا. فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا تَعَقَّبَهُمَا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَالطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّخْلِيَةُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَعْجَةٌ طَالِقٌ إِذَا خُلِّيَتْ مهملة بغير راع. ومنه قول النابعة. (تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمِّهَا ... تُطَلَّقُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُرَاجَعُ) (فَصْلٌ:) وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ وَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى زَوْجَةٍ. فيختص الزوج بالطلاق وإن اشتركا الزَّوْجَانِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] أَنَّ الرَّجُلَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَلَا تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ اشْتَرَكَ الزَّوْجَانِ فِي النِّكَاحِ وَتَفَرَّدَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ. قِيلَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَ الزَّوْجَانِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَمَّا اخْتُصَّ الزَّوْجُ بِالْتِزَامِ الْمَؤُونَةِ جَازَ أَنْ يُخْتَصَّ الزَّوْجُ بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ يُجْعَلِ الطَّلَاقُ إِلَيْهَا، لِأَنَّ شَهْوَتَهَا تَغْلِبُهَا فَلَمْ تُؤْمَنْ مِنْهَا مُعَاجَلَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّنَافُرِ وَالرَّجُلُ أَغْلَبُ لِشَهْوَتِهِ مِنْهَا. وَأَنَّهُ يُؤْمَنُ منه معاجلة الطلاق عند التنافر. (مسألة) قال الشافعي: (وَطَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَتَهُ وهي حائض في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال عمر فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فقال (مرة فليراجعها ثم ليمسكها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النساء) (قال) وقد روى هذا الحديث سالم بن عبد الله ويونس بن جبير عن ابن عمر يخالفون نافعاً في شيء منه قالوا كلهم عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال (مره فليراجعها ثم ليمسكها حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أمسك وإن شاء طلق) ولم يقولوا ثم تحيض ثم تطهر (قال) وفي ذلك دليل على أن الطلاق يقع على الحائض لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يأمر بالمراجعة إلا من لزمه الطلاق) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الطَّلَاقُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: طَلَاقُ سُنَّةٍ، وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ، وَطَلَاقٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ ولا بدعة. [القسم الأول في طلاق السنة] فَأَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَهُوَ: طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهَا في طهر لم تجامع فيه. [القسم الثاني وهو طلاق البدعة] وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَطَلَاقُ اثْنَتَيْنِ الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ الَّتِي قَدْ جُومِعَتْ فِي طُهْرِهَا أَمَّا الْحَائِضُ فَكَانَ طَلَاقُهَا بِدْعَةً؛ لِأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي زَمَانٍ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ عِدَّتِهَا وَأَمَّا الْمُجَامَعَةُ فِي طُهْرِهَا. فَلِإِشْكَالِ أَمْرِهَا هَلْ عَلَقَتْ مِنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ بِالطُّهْرِ وَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. أَوْ لم تعلق منه فتعتد بالطهر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 [القسم الثالث في الطلاق الذي ليس فيه سنة ولا بدعة] وَأَمَّا الَّتِي لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ فَخَمْسٌ: الصَّغِيرَةُ وَالْمُويِسَةُ وَالْحَامِلُ وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ. أَمَّا الصَّغِيرَةُ وَالْمُويِسَةُ فَلِاعْتِدَادِهِمَا بِالشُّهُورِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِحَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَيُؤَثِّرُ فِيهَا حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ. وَأَمَّا الْمُخْتَلِعَةُ فَلِأَنَّ خَوْفَهُمَا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ. وَإِذَا انْقَسَمَ الطَّلَاقُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَقِسْمَانِ مِنْهُمَا يُجْمَعُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ السُّنَّةِ، مُجْمَعٌ عَلَى وُقُوعِهِ. وَالثَّانِي: مَا لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ مُجْمَعٌ عَلَى وُقُوعِهِ. وَالثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ فِي طُهْرٍ مُجَامَعٍ فِيهِ. فَهُوَ مَحْظُورٌ مُحَرَّمٌ بِوِفَاقٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ مَعَ تَحْرِيمِهِ. فَمَذْهَبُنَا إِنَّهُ وَاقِعٌ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا. وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَالسَّبْعَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق 1] فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُقُوعِ كَمَا اقْتَضَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ. وَبِمَا روى أن ابن جريج عَنْ أَبَى الزُّبَيْرِ: قَالَ: سَأَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَيْمَنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ طَلَّقْتُ زَوْجَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَلَوْ وَقَعَ لَرَآهُ شَيْئًا. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يَحْرُمُ فِي وَقْتٍ وَهُوَ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ كَمَا يَحْرُمُ الطَّلَاقُ فِي وَقْتٍ وَهُوَ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ. ثُمَّ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ بَاطِلًا. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بِمَثَابَةِ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وَلِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فِي الطُّهْرِ وَطَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ مخالفة الله تَعَالَى فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ أَوْلَى أَنْ لَا تَقَعَ بِهَا طَلَاقٌ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ. فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. فَمَوْضِعُ الدليل منه انه أَمْرَهُ بِالرَّجْعَةِ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ أَمْرُهُ بِالرَّجْعَةِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِرَدِّهَا إِلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أِنَّ الرَّجْعَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى رَجْعَةِ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أِنَّهُ مَا ذَكَرَ إِخْرَاجَهَا فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّلَاقَ وَكَانَ مُنْصَرِفًا إِلَى رَجْعَتِهَا. وَالثَّالِثُ: أِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلُوا طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَصْلًا فِي طَلَاقِ الرَّجْعَةِ وَحُكْمِ الْعِدَّةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ فَبَطَلَ بِالْإِجْمَاعِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ طَلْقَةً وَأَرَدْتُ أَنْ أُتْبِعَهَا طَلْقَتَيْنِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَاجِعْهَا. قُلْتُ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا قَالَ كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ زَوْجَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الْمَعْلُولُ وَمِنَ الْقِيَاسِ أِنَّهُ طَلَاقُ مُكَلَّفٍ صَادَفَ مِلْكًا فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ كَالطَّاهِرِ. وَلِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَوُقُوعَهُ تَغْلِيظٌ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْمَجْنُونِ لَا يَقَعُ تَخْفِيفًا وَطَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ تَغْلِيظًا؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِعَاصٍ وَالسَّكْرَانَ عَاصٍ. فَكَانَ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ أَوْلَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ تَغْلِيظًا مِنْ رَفْعِهِ عَنْهُ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ إِذَا كَانَ لِمَعْنًى وَلَا يَعُودُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُوجِبًا لِفَسَادِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ لَا لِأَجْلِ الْحَيْضِ، فَلَمْ يَمْنَعِ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَنَصُّهَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ، وَدَلِيلُهَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ فِي الْعِدَّةِ، لَكِنْ إِذَا عَارَضَ دَلِيلٌ دَلِيلٌ الْخِطَابَ بَعْدَ صَرْفِهِ عَنْ مُوجِبِهِ، وَقَدْ عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُوجِبُ صَرَفَهُ عَنْ مُوجِبِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا فَضَعِيفٌ لِتَفَرُّدِ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ فِيهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ إِثْمًا، وَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ بِالرَّجْعَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنِّكَاحِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ حَيْثُ بَطَلَ بِعَقْدِهِ فِي حَالِ التَّحْرِيمِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِهِ فِي حَالِ التَّحْرِيمِ، أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْسَعُ حُكْمًا وَأَقْوَى نُفُوذًا مِنَ النِّكَاحِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مُبَاشَرَةً وَسَرَايَةً، وَمُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا. وَعَلَى غَرَرٍ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَى مِثْلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوَكِيلِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا خَالَفَ الْإِذْنَ زَالَتْ وَكَالَتُهُ وَلَيْسَ يَرْجِعُ بَعْدَ زَوَالِهَا إِلَى مِلْكٍ فَرُدَّ تَصَرُّفُهُ. وَالزَّوْجُ إِذَا خَالَفَ رَجَعَ بَعْدَ الْمُخَالَفَةِ إِلَى مِلْكٍ فَجَازَ تَصَرُّفُهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَأُحِبُّ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً لِتَكُونَ لَهُ الرَّجْعَةُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا وَخَاطِبًا لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثا لأن الله تعالى أباح الطلاق فليس بمحظور وعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابن عمر موضع الطلاق فلو كان في عدده محظور ومباح لعلمه إياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن شاء الله. وطلق العجلاني بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثلاثا فلم ينكره عليه وسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركانة لما طلق امرأته ألبتة ما أردت؟ ولم ينهه أن يزيد اكثر من واحدة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَمْلِكُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تسريح بإحسان} . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا فَالْأَوْلَى وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَيُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً. وَلَا يَجْمَعُهُنَّ فِي طُهْرٍ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ وَلِيَأْمَنَ بِهِ مَا يخافه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 مِنْ نَدَمِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَعَتِ الثَّلَاثُ وَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً وَلَا بِدْعَةً وَالسُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ لَا فِي عَدَدِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَحُكِيَ عَنِ السَّبْعَةِ وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ طَلَاقَ الثلث لَا يَقَعُ. فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا هَلْ يَكُونُ وَاحِدَةً أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: تَكُونُ وَاحِدَةً، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَقَعُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاقِعٌ لَكِنَّهُ حَرَامٌ مُبْتَدَعٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْعِرَاقِيُّونَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ مَا أُمِرَ بِتَفْرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَمَا حَرُمَ مِنَ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ كَالْمُرَاجَعَةِ. وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ. وَصَدْرٍ مِنْ أَيَّامِ عُمَرَ وَاحِدَةً. فَقَالَ عُمَرُ: قَدِ اسْتَعْجَلْتُمْ فِي أَمْرٍ كَانَ لَكُمْ فِيهِ أَنَاةٌ. وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا. فَلَا يَجُوزُ لِعُمَرَ أَنْ يُخَالِفَ شَرْعًا ثَبَتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَقَدِ ارْتَفَعَ النَّسْخُ بِمَوْتِهِ. وَبِمَا رَوَوْهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي الْحَيْضِ فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا. فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيَسْتَقْبِلْ بِهَا الْعِدَّةَ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ. وَهَذَا نَصٌّ. (فَصْلٌ:) وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ فِي الْأَطْهَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قوله تعالى: {وأحصوا العدة} وَإِحْصَاؤُهَا إِنَّمَا يَكُونُ انْتِظَارًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى فِيهَا {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً} يُرِيدُ بِهِ الرَّجْعَةَ وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ فِي الثَّلَاثِ. وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا أَمَرَكَ رَبُّكَ إِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ بِهَا الطُّهْرَ ثُمَّ تُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً. وَبِمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ طَلْقَةً وَأَرَدْتُ أَنْ أُتْبِعَهَا طَلْقَتَيْنِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَاجِعْهَا فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فَقَالَ: كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ زَوْجَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ. فَلَوْلَا أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ مَا كَانَ بِهِ عَاصِيًا. وَبِمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ طَلَّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ أَلْفًا. فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا إِنَّ أَبَانَا طَلَّقَ أُمَّنَا أَلْفًا فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ لَمْ يتق الله فيما فَعَلَ؛ فَيَجْعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ كَانَ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْجَعَ ظَهْرَهُ. وَإِنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ عَمَّكَ عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ. وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَإِنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَاهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا، لِعَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ. وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ كَاللِّعَانِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تفرضوا لهن فريضة} [236] . فَكَانَ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لِعَدَدٍ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَعْدَادِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ قَالَ: كَذَبْتَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتَهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالثَّلَاثِ مُحَرَّمًا لأبانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنْكَرَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ. فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَرَدْتَ بِالْبَتَّةِ قَالَ وَاحِدَةً فَأَحْلَفَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ لَوْ أَرَادَهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ. وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْإِصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ، وَتُمَاضِرُ هِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ امْرَأَتَهُ عَائِشَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ: لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لها: أو يقتل أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَشْمَتِينَ اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَاكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ فَقَالَ: ثَلَاثَةٌ لَهَا وَأَقْسَمَ الْبَاقِي عَلَى نِسَائِهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ أنَّهُ طَلَاقٌ وَقَعَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالطَّلْقَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَازَ تَفْرِيقُهُ جَازَ جَمْعُهُ. أَصْلُهُ طَلَاقُ الزَّوْجَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُنَّ فِي الطَّلَاقِ وَأَنْ يُفَرِّقَهُنَّ. وَلِأَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَازَ تَفْرِيقُهُ فِي الْأَطْهَارِ جَازَ إِيقَاعُهُ فِي طُهْرٍ. أَصْلُهُ إِذَا طَلَّقَ فِي طُهْرٍ ثُمَّ رَاجَعَ فِيهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فيه ثم راجع وثم طَلَّقَهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ لَفْظٌ يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ فَجَازَ إِيقَاعُهُ في طهر لاجماع فِيهِ كَالْوَاحِدَةِ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ أَوْ كَالْخُلْعِ. فَأَمَّا الجواب عن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، وَإِنَّهُ ثَلَاثٌ وَإِنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ وَلَا يَمْلِكُهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ أَوْ جَمْعَهُ. وَالثَّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يَقْتَضِي فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا فِي وَقْتَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] يَعْنِي أَجْرَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. لَا فِي وَقْتَيْنِ. وَهُمْ يُحَرِّمُونَ وُقُوعَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي وَقْتٍ كَمَا يُحَرِّمُونَ وُقُوعَ الثَّلَاثِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. فَهُوَ أنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ امْرَأَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ. يَعْنِي بِإِيقَاعِهِنَّ فِي الْحَيْضِ لَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ. وَأَمَّا أَمْرُهُ لَهُ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ رَوَاهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ مَجْهُولُ الرَّاوِي. وَالثَّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: طَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْفًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا ثَلَاثًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِمَنْ ذَكَرْنَا خِلَافَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ: أَمَّا ثَلَاثٌ فَتَحْرُمُ عَلَيْكَ امْرَأَتُكَ، وَبَقِيَّتُهُنَّ وِزْرًا اتَّخَذْتَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِاللِّعَانِ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ. وَالثَّانِي: أنَّ عَدَدَ اللِّعَانِ لَا يَصِحُّ مَجْمُوعُهُ فَوَجَبَ تَفْرِيقُهُ. وَالطَّلَاقُ يَصِحُّ مَجْمُوعُهُ فَلَمْ يَجِبْ تَفْرِيقُهُ. وَالثَّالِثُ: أِنَّهُ لَمَّا جَازَ عَدَدُ اللِّعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ اقْتَضَى أَنْ يَجُوزَ عَدَدُ الطَّلَاقِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ: فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ لَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ. كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ: قَدِ اسْتَعْجَلْتُمْ فِي أَمْرٍ كَانَ لَكُمْ فِيهِ أَنَاةٌ. وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا. فَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً. وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً. وَالثَّانِي: قَالَهُ فِي (الْأُمِّ) تُطَلَّقُ ثَلَاثًا. فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَتَكُونُ وَاحِدَةً، ثُمَّ صَارُوا يُرِيدُونَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا. وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ مَعَ بُعْدِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَيْءٍ عَمِلَهُ مِنْ دِينِهِ. وَلَوْ خَالَفَهُ لَمَا أَقَرَّتْهُ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافِهِ. أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ؛ لَا تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَمْنَعُنَا يابن الْخَطَّابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ لِيَفْعَلِ الرَّجُلُ بِمَالِهِ مَا شَاءَ. وَهَمَّ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: في اليدين الدية وفي أحدهما نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَرَجَعَ عَمَّا هَمَّ بِهِ وَسَوَّى بَيْنِ دِيَاتِهَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمُرَاجَعَتِهَا فَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا الْخَبَرُ أَنَّهُ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فَقَالَ كُنْتَ قَدْ أَبَنْتَ امْرَأَتَكَ وَعَصَيْتَ رَبَّكَ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ. فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ فِي إِحْدَاهُنَّ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَالِثَةً فِي زَمَنِ عُمَرَ. فَضَبَطَ الرُّوَاةُ طَلَاقَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا البيان والله أعلم بالصواب. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله: (ولو طلقها ظاهرا بَعْدَ جِمَاعٍ أَحْبَبْتُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُمْهَلَ لِيُطَلِّقَ كَمَا أُمِرَ وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ بَعْدَ جِمَاعٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فقد ذَكَرْنَا أَنَّ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ طَلَاقَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّلَاقُ في الحيض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 وَالثَّانِي: الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ. أَمَّا طَلَاقُ الْحَيْضِ فَلِتَحْرِيمِهِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا غَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ مِنْ عِدَّتِهَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ، وَعِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ، فَصَارَتْ بِالطَّلَاقِ فِيهِ غَيْرَ زَوْجَةٍ وَلَا مُعْتَدَّةٍ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فِي الطُّهْرِ المجامع فيه فلتحريمه علتان. أحدهما: أِنَّهَا رُبَّمَا عَلَقَتْ مِنْ وَطْئِهِ فَصَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَلَحِقَهُ نَدَمٌ مِنْ طَلَاقِ أُمِّ وَلَدِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أِنَّهَا تَصِيرُ مُرْتَابَةً فِي عِدَّتِهَا هَلْ عَلَقَتْ مِنْ وَطْئِهِ فَتَكُونَ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؟ أَوْ لَمْ تَعْلَقْ فَتَكُونَ بِالْأَقْرَاءِ؟ لَكِنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ طُهْرِهَا قُرْءًا فَإِذَا طَلَّقَ إِحْدَى هَاتَيْنِ إِمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَقَدْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بِدْعِيًّا مُحَرَّمًا. وَاسْتَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا؛ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْنَ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ أَنْ يُرَاجِعَ، وَاسْتِدْرَاكًا لِمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ. وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَإِنِ اسْتُحِبَّتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالتَّرْكِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ جَعَلَهَا حَقًّا لِلْأَزْوَاجِ لَا عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أِنَّهُ قَرَنَهَا بِإِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ. وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِمَّا أَنْ تُرَادَ لِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ أَوْ إِعَادَتِهِ. فَإِنْ أُرِيدَتْ لِإِعَادَتِهِ لَمْ تَجِبْ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ، فَإِنْ أُرِيدَتْ لِاسْتِدَامَتِهِ لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّ لَهُ رَفْعَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَتَحْرِيمِهِ فِي طُهْرٍ مُجَامَعٍ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجِبِ الرَّجْعَةُ فِي طُهْرِ الْجِمَاعِ كَذَلِكَ فِي الْحَيْضِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ. فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ عُمَرَ هُوَ الْآمِرَ لَهُ بِقَوْلِهِ: مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَمَّنْ تَجِبُ أَوَامِرُهُ إِلَى مَنْ لَا تَجِبُ أَوَامِرُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 وَالثَّانِي إِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ ترجع المشيئة إلى جمع الْمَذْكُورِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ. وَمَا رُدَّ إِلَى مَشِيئَةِ فَاعِلِهِ لَمْ يَجِبْ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فِيهِ اسْتِدْرَاكًا لِمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ. فَالْمَحْظُورُ هُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ. وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّجْعَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ تَحْرِيمَهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَهِيَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا رَجْعَةَ لَهَا وَالثَّلَاثُ لَا رَجْعَةَ مَعَهَا فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. ثُمَّ الزَّمَانُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ الرَّجْعَةُ مُقَدَّرٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أَطْلَقَهُ. فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ كَانَ الْأَمْرُ بِارْتِجَاعِهَا مَا كَانَ حَيْضُهَا بَاقِيًا، فَإِنْ طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ فِيهَا سَقَطَ اسْتِحْبَابُ الرَّجْعَةِ وَكَانَتْ إِلَى خِيَارِهِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِي طُهْرٍ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا فِيهِ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِارْتِجَاعِهَا فِيهِ. وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ كَانَ مَأْمُورًا بِارْتِجَاعِهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا وَفِي الْحَيْضَةِ الَّتِي بَعْدَ طُهْرِهَا، فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي هَذَا الْحَالِ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَنُدِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا فِيهِ سَقَطَ مَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَكَانَتْ إِلَى خِيَارِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلَّقَ لها الله النِّسَاءُ. وَرَوَاهُ سَالِمٌ وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يطلق لها الله النِّسَاءُ. فَخَالَفَ نَافِعٌ لِسَالِمٍ وَلِيُونُسَ فِي زِيَادَةِ طُهْرٍ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ سَالِمٍ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا وَهَذَا صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ. حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ. فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ كَالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الرِّوَايَتَيْنِ أَثْبَتُ وَأَصَحُّ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصَحُّ رِوَايَةُ سَالِمٍ وَيُونُسَ. فَأَمَّا نَافِعٌ فَوَهِمَ فِي زِيَادَةِ الطُّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ كَحُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الثاني. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ رِوَايَةَ نَافِعٍ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، وَإِنَّمَا حَذَفَ سَالِمٌ وَيُونُسُ ذِكْرَ الطُّهْرِ الثَّانِي اخْتِصَارًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ نَافِعٍ أَصَحَّ فَلِمَ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. قِيلَ: قَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هذا بأربعة أجوبة: الأول: أِنَّهُ لَمَّا كَانَ طَلَاقُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَيْضِ مُوجِبًا لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا قَابَلَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى طَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَهُ بِتَطْوِيلِ الرَّجْعَةِ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي وَإِنْ جَازَتْ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أِنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ ابْنُ عُمَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ قَابَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِاسْتِدَامَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَمَانِهَا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَبَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ رَجْعَتُهُ وَيَقْوَى حُكْمُهَا بِالْوَطْءِ فِيهَا. وَزَمَانُ الْوَطْءِ بَعْدَهَا هُوَ الطُّهْرُ الْأَوَّلُ. فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ خَرَجَ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِيهِ. وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي. وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَبَّ أَنْ يَكْمُلَ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَكَمَالُهُ يكون بطهر بعد حيضة كاملة. وَالطُّهْرُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي بُضَاعَتِهَا وَإِنَّمَا الطُّهْرُ الثَّانِي بَعْدَ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ فَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَتْ حَامِلًا أَوْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ مَكَانَهَا لِأَنَّهَا لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّسَاءَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِطَلَاقِهِنَّ حُكْمُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ. فَأَمَّا اللَّاتِي لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ فَأَرْبَعٌ. إِحْدَاهُنَّ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ. وَالثَّانِيَةُ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْحَيْضِ. وَالثَّالِثَةُ الْحَامِلُ. وَالرَّابِعَةُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَعْنَى فِي أَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ مَعَ الْمُخْتَلِعَةِ الَّتِي وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَقَدْ صَرَفَ الْخُلْعُ طَلَاقَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ لِسُنَّةٍ أَوْ بدعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وأما التي يتعلق بحكمها بطلاقها حُكْمُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَهِيَ الْمَدْخُولُ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَتَصِيرُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فِي الطَّلَاقِ بِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ. أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا. وَأَنْ تَكُونَ حَائِلًا. وَأَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ عَلَى طَلَاقِ مَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ. الصَّغِيرَةِ، وَالْمُؤَيَّسَةِ، وَالْحَامِلِ، وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِذَا قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ سُنَّةٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُرَاعَى ذَلِكَ فِيهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ حَتَّى يُرَاعَى ذَلِكَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا انْتُظِرَ بِهَا حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَتُطَلَّقَ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ. كَمَا انْتُظِرَ بِالْحَائِضِ إِذَا قِيلَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَنْ تَطْهُرَ فَتَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ: لِأَنَّ ذَاتَ الْحَيْضِ فِي الطُّهْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَانْتُظِرَ بِطَلَاقِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَمْ يُنْتَظَرْ بِطَلَاقِهِنَّ مَا لَا يَتَّصِفْنَ بِهِ مِنْ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ كَمَا أن الأجنبية لما لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) فَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِذَا صِرْتِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ رُوعِيَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَمْكَنَ مُرَاعَاتُهُ فِيهَا، وَانْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَصِيرَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَقَعْ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ فَانْتُظِرَ. وَذَلِكَ صِفَةٌ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يُنْتَظَرْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً انْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْتُظِرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَيَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا وَتَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا انْتُظِرَ بِهَا أَنْ يُجَامِعَهَا. وَيَنْقَضِيَ طُهْرُ الْمُجَامَعَةِ وَالْحَيْضُ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ. فَأَمَّا الْمُؤَيَّسَةُ فَلَا يُنْتَظَرُ بِهَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهَا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، إِذَا صِرْتِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ رُوعِيَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً انْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَحِيضَ فَتُطَلَّقَ وَإِنْ كانت غير مدخول بها انتظر بها أن يُجَامِعَهَا فَتُطَلَّقَ سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ جِمَاعِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فِي الْحَالَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ثُمَّ تُطَلَّقُ فِي أول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 نِفَاسِهَا. فَإِنْ لَمْ تَرَ بَعْدَ وِلَادَتِهَا دَمَ نِفَاسٍ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يُجَامِعَهَا فِي طُهْرِهَا، سواء قبل بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ بِسُقُوطِهِ عَنْهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنْ وَجَبَ فَلِوَضْعِ الْحَمْلِ الْجَارِي مَجْرَى الْإِنْزَالِ لَا إِنَّهُ لِأَجْلِ النِّفَاسِ. (فَصْلٌ:) فَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِنِيَّتِي أَنَّهَا تُطَلَّقُ إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا لِغَيْرِ السُّنَّةِ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا نَوَى. فَلَمْ يُلْزِمْهُ الطَّلَاقُ أَنْ تَصِيرَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَرَى ذَلِكَ فِي مَجْرَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ، فَلَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَقَالَ: أَرَدْتُ بِنِيَّتِي أَنَّهَا تُطَلَّقُ إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَأُلْزِمَ تَعْجِيلَ الطَّلَاقِ. وَدِينَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ تَصِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إِنْ كَانَ يَقَعُ طَلَاقُ السُّنَّةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَعَ الشَّكِّ فِي حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي الصَّغِيرَةِ هَلْ حَاضَتْ أَوْ لَمْ تَحِضْ؟ أَوْ شَكٌّ فِي الْحَمْلِ هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَوْ غَلَطٌ أَوْ شَكٌّ فِي الْمُؤَيَّسَةِ هَلِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ شَكٌّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا هَلْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؟ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا إِذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْحَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ شَرْطٌ مَلْغِيٌّ لِاسْتِحَالَتِهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أِنَّهُ مُعْتَبَرٌ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ وَلَا إِنْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ عُلِّقَ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ إِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَيْكِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الشَّكِّ فِيهِنَّ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْيَقِينِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ صِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي النِّسَاءِ عُمُومًا وَانْفِرَادُهُمَا فِي هَؤُلَاءِ خُصُوصًا فَأُلْغِيَتِ الصِّفَتَانِ وَعُجِّلَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَاهُنَّ: أَنْتِ طالق لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَهِيَ مُنْصَفَةٌ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا رَأَتِ الْحَامِلُ دَمًا يُضَارِعُ الْحَيْضَ صِفَةً وَقَدْرًا. فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ قَالَ: لِلْبِدْعَةِ. فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الدَّمِ عَلَى الْحَمْلِ. هَلْ يَكُونُ حَيْضًا أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، لَا يَكُونُ حَيْضًا وَيَكُونُ دَمَ فَسَاٍدٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَطَلَاقِ الْحَامِلِ ذَاتِ النَّقَاءِ، إِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الدَّمِ أَوْ فِي وَقْتِ انْقِطَاعِهِ، وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ سُنَّةٍ. وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقَ بدعة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ دَمَ الْحَامِلِ إِذَا ضَارَعَ الْحَيْضَ فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كَانَ حَيْضًا. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ حَيْضِهَا فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أنها لا تُطَلَّقُ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَيْضًا فَصَارَ كَحَيْضِ الْحَائِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: أِنَّهَا تُطَلَّقُ فِيهِ بِخِلَافِ حَيْضِ الْحَائِلِ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ تَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ دُونَ الْحَيْضِ فَلِذَلِكَ صَارَ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةً. وَالْحَامِلُ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ دُونَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةً، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ طُهْرِهَا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهَا تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ طَلَاقَهَا في الحيض ليس ببدعة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي الْحَيْضِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ طَلَاقَهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ تَرَ بَعْدَ طَلَاقِهِ حَيْضًا حَتَّى وَلَدَتْ. طُلِّقَتْ فِي نِفَاسِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ. لِأَنَّنَا قَدْ أَثْبَتْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حُكْمَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ انْتِظَارُهَا، وَلَكِنْ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا إِنْ وَطِئَهَا فِي طُهْرِهَا عَلَى الْحَمْلِ لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ لَا يَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ زِنًا صَحَّ نِكَاحُهَا عِنْدَنَا، وَجَازَ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَمْلِهَا وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ مَالِكٌ فَإِنَّ طَلَاقَهَا لِلسُّنَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَعَجَّلَ طَلَاقَهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَتَعَجَّلْ طَلَاقَهَا وَانْتَظَرَ بِهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَيَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا، فَتُطَلَّقَ فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا بَعْدَ النِّفَاسِ، بِخِلَافِ الْحَامِلِ مِنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَامِلِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ وَكَانَ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْحَامِلَ مِنْهُ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ فَارْتَفَعَتِ السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي طَلَاقِهَا. وَإِذَا طَلَّقَ الْحَامِلَ مِنْ زِنًا لم تعتد من بوضعه واعتد بالأقراء فتثبت السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي طَلَاقِهَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ حَيْضًا لَمْ نَعْتَبِرْهُ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ اعْتَبَرْنَاهُ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ عَلَى الْحَمْلِ طُلِّقَتْ لِلسُّنَّةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، وَقَدْ جَامَعَهَا عَلَى حَمْلِهَا، وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَمْلِ مُلْغًى. وَهُوَ طُهْرٌ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ، فَكَانَ الطَّلَاقُ فِيهِ طَلَاقَ بِدْعَةٍ. وَلَوْ حَاضَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ جِمَاعِهِ، وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا، وَطَهُرَتْ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ تَحِيضَ عَلَى الْحَمْلِ فَتُطَلَّقَ أَوْ يَطَأَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ فَتُطَلَّقُ، أَوْ تَضَعُ حَمْلَهَا وَتَصِيرُ فِي نِفَاسِهَا فَتُطَلَّقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ، وَفِي طُهْرِ الْجِمَاعِ بِدْعَةٌ، وَفِي النِّفَاسِ بِدْعَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِذَا وَلَدَتْ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَنْقَضِيَ نِفَاسُهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ بِالْوِلَادَةِ وَاقِعًا لِلسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ انْقِضَاءُ نِفَاسِهَا، فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بحالها فولدت ولدين طلقت بعد لأول وَقَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي، لِأَنَّهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ قَدْ وُجِدَ شَرْطُ طَلَاقِهَا، وَصَارَتْ مَعَ بَقَاءِ الثَّانِي حَامِلًا، وَالْحَامِلُ إِذَا طُلِّقَتْ لِلسُّنَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا ولا بدعة. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا مَعًا وَإِنْ كَانَتْ مُجَامَعَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ حِينَ تَطْهُرُ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ وَحِينَ تَطْهُرُ الْمُجَامَعَةُ مِنْ أَوَّلِ حَيْضٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وقبل الغسل وإن قال نويت أن تقع في كل طهر طلقة وقعن معاً في الحكم وعلى ما نوى فيما بينه وبين الله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا قَدْ مَضَى طَلَاقُ مَنْ لا سنة في طلاقها، لا بِدْعَةَ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى طَلَاقِ ذَاتِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ النِّسَاءِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ. أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ حَائِلًا، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 فَإِذَا قَالَ لِهَذِهِ الَّتِي قَدْ تَكَامَلَ فِيهَا شُرُوطُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ لَمْ يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ تُجَامَعْ فِيهِ، فَيَقَعُ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِلسُّنَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ فَإِذَا انْقَضَى بَقِيَّةُ حَيْضِهَا طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ قَبْلَ الغسل، سوء انْقَطَعَ الْحَيْضُ لِأَقَلِّهِ أَوْ لِأَكْثَرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لِأَكْثَرِهِ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لِأَقَلِّهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَقَعَ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ قَبْلَ الْغُسْلِ قِيَاسًا عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ لَمْ تُطَلَّقْ فِي نِفَاسِهَا، لِأَنَّ النِّفَاسَ فِي حُكْمِ الْحَيْضِ. فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ مِثْلَ الْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا انْقَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ وَحَاضَتْ بَعْدَهُ حَيْضَةً كَامِلَةً وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ طَلَاقُ السُّنَّةِ إِلَّا أَنْ يُجَامِعَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ وَأَوَّلِ الطُّهْرِ فَلَا تُطَلَّقُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَهَا وَهِيَ مُجَامَعَةٌ وَصَارَ طُهْرًا جَامَعَهَا فِيهِ لَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَهَكَذَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ لَمْ تُطَلَّقْ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَتُطَلَّقَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ زَمَانُ الْبِدْعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَتُطَلَّقَ، لِأَنَّ طُهْرَ الْمُجَامَعَةِ زَمَانُ الْبِدْعَةِ وَسَوَاءٌ أَنْزَلَ مِنْ جِمَاعِهِ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ إِذَا الْتَقَى خِتَانَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَسْتَقِرُّ بِهِ الدُّخُولُ وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَلَا طَلَاقَ حَتَّى تَحِيضَ فَتُطَلَّقَ، لِأَنَّ الْحَيْضَ زَمَانُ الْبِدْعَةِ، أَوْ يُجَامِعُهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَتُطَلَّقُ؛ لِأَنَّ طُهْرَ الْمُجَامَعَةِ زَمَانٌ لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حَالُ جِمَاعِهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ نَزَعَ وَأَقْلَعَ فَقَدْ طُلِّقَتْ بِالْإِيلَاجِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَهْرًا بِالْإِخْرَاجِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَ بَعْدَ إِيلَاجِهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِيلَاجَ بَعْدَهُ، فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِيلَاجِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا طُلِّقَتْ بِالْإِيلَاجِ الْأَوَّلِ فَصَارَ مُسْتَأْنِفًا لِلْإِيلَاجِ الثَّانِي بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَلَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ اسْتَدَامَ الْإِيلَاجَ وَلَمْ يَنْزَعْ حَتَّى أَنْهَى جِمَاعَهُ فَفِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ وَهِيَ زَوْجَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ اعْتِبَارًا بِآخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يقع به الطلاق السُّنَّةُ فِي زَمَانِهِ. وَمَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِهِ. فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَكَ زَمَانُ الطَّلَاقَيْنِ فَاعْتَبِرْهُمَا فِيمَا تَفَرَّعَ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ كَانَتْ طَالِقًا لِلْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْلُ هَذَا الطَّلَاقُ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَانَ نَفْيُ إِحْدَاهُمَا إِثْبَاتًا لِلْأُخْرَى. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلْبِدْعَةِ، كانت طالقاً للسنة؛ لأن نَفْيِ الْبِدْعَةِ إِثْبَاتًا لِضِدِّهَا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ. رَجَعَ إِلَى خِيَارِهِ لِيُوقِعَ مَا شَاءَ مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَوْ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ لِتَعَارُضِ الصِّفَتَيْنِ وَتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا فَأُلْغِيَتَا: ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْحَالِ: فَإِنْ كَانَ زَمَانَ الْبِدْعَةِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ فِي النَّفْيِ بَيْنَ صِفَتَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ إِحْدَاهَا فَسَقَطَ حُكْمُ نَفْيِهِ وَتَعَجَّلَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَإِنْ كَانَ زَمَانَ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ الْبِدْعَةِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي السُّنَّةِ وَأَنْتِ طَالِقٌ بِالسُّنَّةِ كَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقَ السُّنَّةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِالْبِدْعَةِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْبِدْعَةِ كَانَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ. وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، لَكِنْ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ. فَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّاعَةِ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلسُّنَّةِ وَالْأُخْرَى لِلْبِدْعَةِ، وَقَعَتْ إِحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حَالَ سُنَّةٍ أَوْ بِدْعَةٍ. فإن كانت حال سنية كَانَتِ الْأُولَى سُنِّيَّةً فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فِي زَمَانِ الْبِدْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَ بِدْعَةٍ كَانَتِ الْأُولَى بِدْعِيَّةً فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فِي زَمَانِ السُّنَّةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 وَلَوْ قَالَ؛ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَانِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَاهُمَا لِلسُّنَّةِ وَالْأُخْرَى لِلْبِدْعَةِ إِثْبَاتًا لِحُكْمِ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا لَمْ يَسْقُطَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُلْغَى الصِّفَتَانِ وَيُعَجَّلَ إِيقَاعُ الطَّلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصِّفَتَيْنِ عَوْدُهُمَا إِلَى جَمِيعِ الطَّلْقَتَيْنِ، فَلَمْ يجز أن يفيد الْمُطْلَقُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطْلَقَ الْمُقَيَّدُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فَهِيَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ مَعًا فِي زَمَانِ السُّنَّةِ وَلَا يَتَفَرَّقْنَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَالْبِدْعَةَ عِنْدَنَا فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ لَا فِي عَدَدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَتَفَرُّقُ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَلَا يَقَعْنَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَالْبِدْعَةَ عِنْدَهُمَا فِي الطَّلَاقِ وَفِي عَدَدِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا) . فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَتَفَرَّقْنَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيَقَعُ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَيُقْبَلُ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَدِينُ فِيهِ فَلَا يَقَعُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ إِلَّا عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ وَقَعَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مُعَجَّلًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ وَقْتًا لِطَلَاقِ السُّنَّةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ. فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَبَاطِنِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ وَقْتًا لِطَلَاقِ الْبِدْعَةِ. فَقَدْ ذَكَرَ مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْإِطْلَاقِ، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الطَّلَاقِ، وَلَا يَقَعُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى مَا نَوَى مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ إِذَا جَاءَ زَمَانُ السُّنَّةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ سَبَقَ لِسَانِي بِقَوْلِ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا أَرَدْتُ طَلَاقَ الثَّلَاثِ عَلَى الإطلاق قبل منه وقع الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ سَوَاءٌ كَانَ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ خَالَفَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ فَهُوَ أَغْلَظُ عليه وأضربه. وَمَنْ يُبَيِّنُ الْأَخَفَّ بِالْأَغْلَظِ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمَنْ بَيَّنَ الْأَغْلَظَ بِالْأَخَفِّ لَمْ يُقْبَلْ منه الظَّاهِرِ. وَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ إِذَا كان محتملاً. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ كَانَ قَالَ فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا حُبْلَى وَقَعَتِ الْأُولَى وَلَمْ تَقَعِ الثِّنْتَانِ إِنْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَبَلِ أو لا تحيض حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهَا رَجْعَةٌ حَتَّى تَلِدَ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا غَيْرُ الْأُولَى) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ فَقَدْ صَرَّحَ بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَلَا يَقَعْنَ إِلَّا هَكَذَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، أَوْ لَا تَكُونُ مِنْهُنَّ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ طَاهِرًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي حَالِ حَيْضِهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَانِ السُّنَّةِ. فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّانِيَةَ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثَانِيَةً، سَوَاءٌ رَاجَعَ بَعْدَ الْأُولَى أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ. فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّالِثِ، طُلِّقَتْ طَلْقَةً ثَالِثَةً، سَوَاءٌ رَاجَعَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ. فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَاجَعَهَا بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، فَإِذَا انْقَضَى الطُّهْرُ الثَّالِثُ بِدُخُولِ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ رَاجَعَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بعد الرجعة من أن يطأها فَإِنْ وَطِئَهَا اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي بَعْدَ رَجْعَتِهِ وَوَطْئِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ قُرْءًا وَاحِدًا فتأتي بعده بقرأين، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ، فَهَلْ تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ تَسْتَأْنِفُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الرجعة قد بطلت بما تعقبهما مِنَ الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ أَبْطَلَتْ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الطَّلَاقِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّلَاقِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، لِأَنَّ بَقِيَّةَ هَذَا الطُّهْرِ قُرْءٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ أَمْ لَا، لِأَنَّ طُهْرَ الْجِمَاعِ قُرْءٌ يَقَعُ بِهِ الِاعْتِدَادُ كَمَا تَعْتَدُّ بِطُهْرٍ لَيْسَ فِيهِ جِمَاعٌ. إِلَّا أَنَّ الطَّلْقَةَ فِي طُهْرِ الْجِمَاعِ تَكُونُ بِدْعِيَّةً. وَفِي طُهْرِ غَيْرِ الْجِمَاعِ تَكُونُ سُنِّيَّةً، وَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْقُرْءِ لَا بِالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ مَا يَكُونُ قُرْءًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ فِيهِ لِلسُّنَّةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الطَّلْقَةُ الْأُولَى فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ جِمَاعُهَا إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا وَإِنْ رَاجَعَهَا فِيهِ حَلَّ له جماعها فهي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا فَإِذَا حَاضَتْ حَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِي الْحَيْضِ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ وَحَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِيهِ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا، وَإِنْ رَاجَعَهَا فِيهِ حَلَّ لَهُ جِمَاعُهَا فِي بَقِيَّتِهِ فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّانِيَةَ، حَرُمَ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا فِي حَيْضِهَا، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ثَالِثَةً وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ لَمْ تُرَاجَعْ بَنَتْ عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِانْقِضَاءِ الطُّهْرِ الثَّالِثِ. وَإِنْ رَاجَعَهَا فَإِنْ جَامَعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ اسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. فَلَوْ قَالَ لَهَا فِي آخِرِ طُهْرِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ وَاحِدَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ كَلَامِهِ أَوْ مَعَ تَمَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِيهِمَا طُهْرٌ مُنْفَصِلٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: تُطَلَّقُ فِيهِ وَتَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا لِوُجُودِ الطَّلَاقِ فِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، بَلْ لَا يَقَعُ فِيهِ طلاق ولاي يَقَعُ بِهِ اعْتِدَادٌ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ لَا بِأَوَّلِهِ ألا تراه لو قيده بقيمة كَلَامِهِ بِشَرْطٍ كَانَ الطَّلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَوْ وَقَعَ بِأَوَّلِهِ مَا حُمِلَ عَلَى شَرْطِ آخِرِهِ، وَلَمْ يَجِدْ بَعْدَ تَمَامِ كَلَامِهِ طُهْرًا يَكُونُ قُرْءًا، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْ أَرْبَعٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَتُطَلَّقَ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ طَاهِرًا كَانَتْ أَوْ حَائِضًا. وَقَدْ بَانَتْ بِهَا لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَمَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَلَا قُرْءَ لَهَا فَتَجْرِي مَجْرَى طَلَاقِهَا لِلسُّنَّةِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا في الحال. وإن لم تكون لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا حَتَّى مَضَى لَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى طُهْرَانِ انْحَلَّ طَلَاقُهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مُضِيِ الطهرين فعود طَلَاقُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ طَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ وُجِدَ شَرْطُهُ فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قُرْءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ وَتَكُونُ طَلْقَةً لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا بِدْعَةَ، فَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى حَمْلِهَا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْأَطْهَارِ الَّتِي بَيْنَ حَيْضِهَا سِوَى الطَّلْقَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِحَمْلِهَا، سَوَاءٌ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَيْضِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَيْضًا فَلَيْسَتْ أَطْهَارُهُ أَقْرَاءً يُعْتَدُّ بِهَا، وَإِذَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِالْحَمْلِ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى وَضَعَتْ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بَعْدَ مُضِيِ طُهْرَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ، وَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ قَبْلَ مُضِيِ الطُّهْرَيْنِ فَفِي عَوْدِ طَلَاقِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ رَاجَعَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا فَإِذَا طَهُرَتْ بَعْدَ نِفَاسِهَا طُلِّقَتْ ثَانِيَةً، فَإِذَا حَاضَتْ وَدَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ ثَالِثَةً، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ اعْتَدَّتْ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ رَاجَعَ وَوَطِئَ اعْتَدَّتْ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّ رَاجَعَ وَلَمْ يَطَأْ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً قَدْ دَخَلَ بِهَا فَتُطَلَّقُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ بَانَتْ بِهَا، وَإِنْ رَاجَعَ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَلَّتْ وَلَمْ تُطَلَّقْ بَعْدَ رَجْعَتِهِ مَا لَمْ تَحِضْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ، فَإِذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ طُلِّقَتْ ثَانِيَةً، فَإِذَا حَاضَتْ وَدَخَلَتْ في الطهر الثاني طَلْقَةً ثَالِثَةً وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مَضَى. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ مُؤَيَّسَةً فَتُطَلَّقَ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً كَالصَّغِيرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَعُدِ الطَّلَاقُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا فِي طُهْرٍ قَدْ وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ، وَإِنْ رَاجَعَهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَلَا تُطَلَّقُ بِالطُّهْرِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ الْإِيَاسِ أَنْ تَحِيضَ، فَإِنْ حَاضَتْ فَهِيَ غَيْرُ مُؤَيَّسَةٍ فَتُطَلَّقُ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً، ثُمَّ تُطَلَّقُ ثَالِثَةً فِي طُهْرٍ إِنْ كَانَ لَهَا بَعْدُ حَيْضَةٌ أُخْرَى. (فَصْلٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ) وَإِذَا قَالَ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ: إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ، سَوَاءٌ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ أَوْ لِأَكْثَرِهِ، وَسَوَاءٌ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَيَكُونُ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذَا الطُّهْرِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي طُهْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَحِيضَ بَعْدَ الطُّهْرِ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتُطَلَّقَ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ إِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِذَا جِئْتَنِي فَلَكَ دِينَارٌ وَهُوَ عِنْدَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّينَارَ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، ولكن لو قال لها إن كانت طَاهِرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْحَالِ إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ طُهْرِهَا فِي الْحَالِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَتْ فِي غَيْرِ الدَّارِ لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا طَهُرْتِ طُهْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ حَائِضًا، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْحَيْضِ طُهْرٌ كَامِلٌ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ لِوُقُوعِهِ فِي الْحَيْضِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ طَاهِرًا فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا وَحَيْضَةٌ بَعْدَهَا ثُمَّ طُهْرٌ كَامِلٌ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ وَكَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا طَهُرْتِ طُهْرًا يَقْتَضِي كَمَالَ طُهْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي طُهْرِكِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا طُلِّقَتْ إِذَا طَهُرَتْ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا بِالطُّهْرِ فِي الْحَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 وَبِالطُّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالطُّهْرِ فِي الْحَالِ لَمْ يَقَعْ بِالطُّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ قَدِ اسْتَوْفَى حُكْمَهُ. (فَصْلٌ: فِي تَعْلِيقِ الطلاق بالحيض) وإذا قال لها وإذ هي طَاهِرٌ إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَيَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْحَيْضِ فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنِ اسْتَدَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ وَقْتِ الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، وَإِنِ اسْتَدَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ كَانَ حَيْضًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِأَوَّلِ الدَّمِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ: إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ فِي بَقِيَّةِ حَيْضِهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْهَا ثُمَّ تَحِيضَ بَعْدَ طُهْرِهَا فَتُطَلَّقُ كَمَا ذَكَرْنَا في الطهر، ويكون طلاق بدعة، لو قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا: فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ طُهْرِهَا ثُمَّ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ بَعْدَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ فِي أول الطهر الثاني طلقة وَكَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ. وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ حَيْضِهَا ثُمَّ طُهْرٌ كَامِلٌ ثُمَّ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ الثَّانِي طُلِّقَتْ، وَكَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ حَائِضًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَانَتْ طَاهِرًا لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْحَالِ وَلَا إِذَا حَاضَتْ فِي ثَانِي حَالٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِكِ طُلِّقَتْ بِالْحَيْضِ فِي الحال. فإن لم تكن فبالحيض المستقبل كما قُلْنَا فِي الطُّهْرِ، فَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الْأُولَى طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَبِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً، وَبِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً، لِأَنَّ لَفْظَ كُلَّمَا مَوْضُوعٌ لِلتَّكْرَارِ، وَيَكُونُ الثَّلَاثُ كُلُّهُنَّ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّ لَهَا فِي الثَّلَاثِ حِيَضٍ طُهْرَيْنِ فَتَأْتِي بِالطُّهْرِ الثَّالِثِ وَانْقِضَاؤُهُ يَكُونُ بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا كُلَّمَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِدُخُولِهَا فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَيَكُونُ هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ. (فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ فَإِنْ صَدَّقَهَا فِيهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَهُ إِحْلَافُهَا، وَقَدْ طُلِّقَتْ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: قَدْ حِضْتِ؟ فَقَالَتْ: لَمْ أَحِضْ طُلِّقَتْ بِإِقْرَارِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَضَرَّتُكِ عَمْرَةُ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ. فَإِنْ صَدَّقَهَا طُلِّقَتْ ضَرَّتُهَا، وَإِنْ أَكْذَبَهَا لَمْ تُطَلَّقْ ضَرَّتُهَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي حَيْضِهَا وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهَا، مَعَ تَكْذِيبِ الزَّوْجِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى غَيْرِهَا إِلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ. كَالْمُودِعِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْوَدِيعَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّهَا عَلَى غَيْرِهِ. فَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَتَانِ فَقَالَتْ قَدْ حِضْتُ فَإِنْ صَدَّقَهَا طُلِّقَتْ هِيَ وَضَرَّتُهَا، وَإِنْ أَكْذَبَهَا طُلِّقَتْ هِيَ، وَلَمْ تُطَلَّقْ ضَرَّتُهَا لِأَنَّ قَوْلَهَا على نفسها مقبولاً وَعَلَى ضَرَّتِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنْ صَدَّقَتْهَا الضَّرَّةُ عَلَى الْحَيْضِ لَمْ يُؤَثِّرْ تَصْدِيقُهَا، لَكِنْ لَهَا إِحْلَافُ الزَّوْجِ عَلَى تَكْذِيبِهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ تِلْكَ لَمْ تَحِضْ أَوْ يَحْلِفَ أَنَّ الضَّرَّةَ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَيْضِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَيْهِ. (فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:) وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ: إِذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، فَإِنْ حَاضَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَاضَتَا طُلِّقَتَا. فَلَوْ قَالَتَا قَدْ حِضْنَا، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا طُلِّقَتَا، وَإِنْ أَكْذَبَهُمَا لَمْ يُطَلَّقَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحَيْضِهَا فَحَيْضِ ضَرَّتِهَا، وَقَوْلُهَا وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عَلَى نَفْسِهَا فَقَوْلُ ضَرَّتِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهَا، فَلَوْ صَدَّقَ إِحْدَاهُمَا وَكَذَّبَ الْأُخْرَى، طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ دُونَ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ الْمُكَذَّبَةَ قَوْلُهَا مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَهَا فَطُلِّقَتْ، فَضَرَّةُ الْمُصَدَّقَةِ مُكَذَّبَةٌ عَلَيْهَا فَلَمْ تُطَلَّقْ. فَلَوْ قَالَ وَهُنَّ ثَلَاثٌ إِذَا حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ، فَإِذَا حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَوِ اثْنَتَانِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. فَإِذَا حِضْنَ مَعًا طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ، فَلَوْ قُلْنَ: قَدْ حِضْنَ فَإِنْ صَدَّقَهُنَّ طُلِّقْنَ وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ يُطَلَّقْنَ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ فِي طَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ 7 مُكَذَّبَةً عَلَيْهَا. وَلَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ ضَرَّتَيْهَا عَلَيْهَا، وَلَا تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي إِحْدَى ضَرَّتَيْهَا مُكَذَّبَةً. وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فَقَالَ: إِذَا حِضْتُنَّ فَأَنْتُنَّ طَوَالِقُ فَقُلْنَ: قَدْ حِضْنَا فَإِنْ صَدَّقَهُنَّ طُلِّقْنَ وَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ يُطَلَّقْنَ، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً وَكَذَّبَ ثَلَاثًا لَمْ يُطَلَّقْنَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَكُونُ بِحَيْضِهَا وَحَيْضِ ضَرَائِرِهَا الثَّلَاثِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَتَيْنِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا ضَرَّةً، فَلَوْ صَدَّقَ ثَلَاثًا وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ وَحْدَهَا دُونَ الْمُصَدَّقَاتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُكَذَّبَةِ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهَا وَقَدْ صَدَّقَ ضَرَائِرَهَا عَلَيْهَا فَطُلِّقَتْ. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَاتِ قَدْ كَذَّبَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً مِنْ ضَرَائِرِهَا فَلَمْ تُطَلَّقْ. (فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:) وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ: أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ فَضَرَائِرُهَا طَوَالِقُ فَإِنْ حَاضَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ تُطَلَّقْ، وَطَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ حَيْضَ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَرْطٌ فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا. فَإِنْ حَاضَتْ ثَانِيَةً لَمْ تُطَلَّقْ هِيَ، وَطُلِّقَتِ الْحَائِضُ الْأُولَى وَاحِدَةً، وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ثَانِيَةً ثَانِيَةً، فَإِنْ حاضت ثالثة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَانِيَةً وَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ طلقة ثانية وطلقت بها والرابعة طَلْقَةً ثَالِثَةً، فَإِنْ حَاضَتِ الرَّابِعَةُ طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّانِيَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّالِثَةُ طَلْقَةً ثَالِثَةً، فَيُطَلَّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، فَلَوْ قُلْنَ: قَدْ حِضْنَا فَإِنْ كَذَّبَهُنَّ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، لِأَنَّ طَلَاقَهَا بِحَيْضِ ضَرَائِرِهَا لَا بِحَيْضِهَا، وَإِنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً منهن وكذبت الْبَاقِيَاتِ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَاتِ الثَّلَاثِ واحدة واحدة؛ لأن قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً، وَلَا تُطَلَّقُ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ ضَرَائِرِهَا مُكَذَّبَةٌ. وَلَوْ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ وَكَذَّبَ اثْنَتَيْنِ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُكَذَّبَتَيْنِ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَتَيْنِ طَلْقَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ صَدَّقَ ثَلَاثًا وَكَذَّبَ وَاحِدَةً طُلِّقَتِ الْمُكَذَّبَةُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ ضَرَائِرَ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُصَدَّقَاتِ طَلْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ضَرَّتَيْنِ، وَلَوْ صَدَّقَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ طُلِّقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ ضَرَائِرَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، فَإِذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ. فَحَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، بِالْأُولَى مِنْهُمَا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ حَيْضَةً، وَبِالثَّانِيَةِ مِنْهُمَا طَلْقَتَيْنِ: لِأَنَّهَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَلَّمْتِ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَلَّمْتِ شَيْخًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَكَلَّمَتْ زَيْدًا وَكَانَ شَيْخًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ شَيْخٌ وَثَالِثَةً بِأَنَّهُ زَيْدٌ، وَلَوْ كَلَّمَتْ عَمْرًا وَإِنْ كَانَ شَابًّا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رجل. ولو كان شيخاً لم تطلق الاثنتين وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ شَيْخٌ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، ثُمَّ إِذَا حِضْتِ حَيْضَتَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ ثَلَاثًا إِلَّا بِثَلَاثِ حِيَضٍ لِأَجْلِ قَوْلِهِ. فَيَقَعُ مِنْهُمَا بِالْحَيْضَةِ الْأُولَى طَلْقَةٌ وَلَا تُطَلَّقُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا، فَإِذَا حَاضَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ صَارَتْ مَعَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلْقَتَيْنِ فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ ثُمَّ تُوجِبُ التَّرَاخِيَ وَالْفَصْلَ، وَالْوَاوَ تودب الاشتراك والجمع، فلذلك فافترقا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ. (فَصْلٌ آخَرُ:) إِذَا قَالَ وَلَهُ امْرَأَتَانِ: إِذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِحَيْضَةٍ مِنْهُمَا وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا بِحَيْضِ إِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ الْحَيْضَةُ مِنْهُمَا فَصَارَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهَا لَغْوًا فلم تقع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أِنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ وَتَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِهِ جَائِزٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً أَيْ إِذَا حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، وَالْكَلَامُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى وأمكن حمله على الصحة. وإن كان وَجْهِ الْمَجَازِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ وَالْفَسَادِ، فَإِذَا حَاضَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ حَيْضَةً كَامِلَةً طُلِّقَتْ طَلَاقَ السُّنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ وَإِنْ حَاضَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إِذَا وَلَدْتُمَا وَلَدًا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، فَذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمَا لَا يَلْحَقُهُمَا بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَدًا، فَلِذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِوِلَادَتِهَا وَلَا بِوِلَادَتِهِمَا. وَذَهَبَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِهِمَا صَحِيحٌ وَالْمُرَادُ بِهِ وِلَادَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا طُلِّقَتَا. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ وَقَعَتِ اثْنَتَانِ فِي أَيِّ الْحَالَيْنِ كَانَتْ وَالْأُخْرَى إِذَا صَارَتْ فِي الْحَالِ الأخرى قلت أنا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ بَعْضُهُنَّ يَحْتَمِلُ وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا أَوِ اثْنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهُمَا أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيَقَعُ بِذَلِكَ ثَلَاثٌ فَلَمَّا كَانَ الشَكُّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا أَرَادَ بِبَعْضِهِنَّ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةً وَبَعْضُهُنَّ الْبَاقِي فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ فَالْأَقَلُّ يَقِينٌ وَمَا زَادَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَسْتَعْمِلُ الْحُكْمَ بِالشَكِّ فِي الطَّلَاقِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ؛ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَعْضُهُنَّ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلْبِدْعَةِ، فَالْبَعْضُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَقَلِّ الثَّلَاثِ وَعَلَى أَكْثَرِهَا، وَعَلَى الْعَدَدِ الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْمَكْسُورِ. فَإِذَا جَعَلَ بَعْضَ الثَّلَاثِ لِلسُّنَّةِ وَبَعْضَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يقدر بلفظه. والثالث: أن يقدر بِنِيَّتِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَدِّرْ بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيَّتِهِ اقْتَضَى إِطْلَاقَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَعْضِ وَأَنْ لَا يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِرَجُلَيْنِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا بِالزِّيَادَةِ بِأَوْلَى مِنْ تَفْضِيلِ الْآخَرِ. فَلِذَلِكَ وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ طَلْقَةً وَنِصْفًا، فَيُجْعَلُ الْبَعْضُ الْوَاقِعُ فِي الْحَالِ طَلْقَةً وَنِصْفًا. وَالطَّلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ بَلْ يَكْمُلُ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ الْأُولَى حَالَ السُّنَّةِ، كَانَتِ الطَّلْقَتَانِ لِلسُّنَّةِ، ووقعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 الثَّالِثَةُ لِلْبِدْعَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ الْأُولَى حَالَ الْبِدْعَةِ كَانَتِ الطَّلْقَتَانِ لِلْبِدْعَةِ، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِطْلَاقُ التَّبْعِيضِ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ أَقَلِّهِمَا، فَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِينٌ وَالزِّيَادَةُ شَكٌّ. وَإِذَا اقْتَرَنَ بِيَقِينِ الطَّلَاقِ شَكٌّ لَمْ يَعْمَلْ إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ قَدَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ بِلَفْظٍ، حُمِلَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِلَفْظِهِ، سَوَاءٌ عَجَّلَ الْأَكْثَرَ فَأَوْقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ، وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَةً أَوْ عَجَّلَ الْأَقَلَّ فَأَوْقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَةً وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَتَيْنِ أَوْ سَوَّى بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَأَوْقَعَ فِي الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى طَلْقَةً؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَلْفُوظٌ بِهِ كَالطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَعْضَيْنِ بِنِيَّتِهِ نُظِرَ فَإِنْ نَوَى بِأَعْجَلِ الْبَعْضَيْنِ أَكْثَرَهُمَا أَوِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا عُمِلَ عَلَى نِيَّتِهِ فَوَقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى طَلْقَتَانِ، وَفِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ. وَإِنْ نَوَى بِأَعْجَلِ الْبَعْضَيْنِ أَقَلَّهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَالِ الْأُولَى وَاحِدَةٌ وَفِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ طَلْقَتَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أن يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُولَى إِلَّا وَاحِدَةٌ وَيَقَعُ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى طَلْقَتَانِ كَمَا لَوْ قَدَّرَهُ بِلَفْظِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَيَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ طَلْقَتَانِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ بِوَقْتٍ إِلَى شَهْرٍ وَهَذَا خَطَأٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَعْضَ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِطْلَاقُ الطَّلَاقِ، إِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ إِلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ فَجَازَ أَنْ لَا يُحْمَلَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى نيته، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَعْدَلَ أَوْ أَحْسَنَ أَوْ أَكْمَلَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ سَأَلْتُهُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلسُّنَّةِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْضَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَهْنَأَهُ أَوْ أَسْرَاهُ أَوْ أَسْوَأَهُ أَوْ أَنْهَاهُ أَوْ قَالَ: شِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمْدِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى طَلَاقِ السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ الْأَعْدَلُ الْأَفْضَلُ الْأَجْمَلُ الْأَكْمَلُ سَوَاءٌ تَغَلَّظَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ تَخَفَّفَ بِالتَّأْجِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ طَلَاقَ السُّنَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ حِينَئِذٍ لِلسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى ضربين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُوَافِقَةً لِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَ السُّنَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا نَوَى مِنْ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَتَكُونُ النِّيَّةُ تَأْكِيدًا لِلظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ السُّنَّةِ فِي غَيْرِ نِيَّةٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَعَ النِّيَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْدَلَ مَعَ قُبْحِ طَرِيقِهَا، وَالْأَجْمَلَ بِسُوءِ خُلُقِهَا، أَنْ يُطَلِّقَ لِلْبِدْعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَغْلَظَ حَالَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُجَامَعَةً فَيُحْمَلُ عَلَى طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَخَفَّ حَالَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ فِي الْحَالِ طَاهِرًا غَيْرَ مُجَامَعَةٍ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقَ إِلَّا إِذَا صارت إلى حال البدعة، لأن ما ذكر مِنَ التَّأْوِيلِ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْدَلَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ الطَّلَاقِ قِيلَ: الثَّلَاثُ هِيَ أَكْمَلُ الطَّلَاقِ عَدَدًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَكْمَلَ الطَّلَاقِ صِفَةً وَحُكْمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَمَالِ العدد دون الصفة إلى بِنِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ زِيَادَةٌ فَلَمْ تَقَعْ إِلَّا بِالْيَمِينِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ وَقَعَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْعَدَدِ، دُونَ الصِّفَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ كَانَ وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ قَدْ يَعُودُ إِلَى الصِّفَةِ كَمَا يَعُودُ إِلَى الْعَدَدِ، والله أعلم بالصواب. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَقْبَحَ أَوْ أَسْمَجَ أَوْ أَفْحَشَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ سَأَلْتُهُ عَنْ نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَ لِلْبِدْعَةِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا نَصُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِفَةِ الطَّلَاقِ بِصِفَاتِ الْحَمْدِ فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ أَوْ أَسْمَجَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَرْدَأَهُ أَوْ أَنْدَاهُ أَوْ أَضَرَّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ أَوْ أَمَرَّهُ. أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حُمِلَ عَلَى طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُ الْأَسْمَجُ، الْأَقْبَحُ الْأَضَرُّ الْأَمَرُّ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَ لَفْظِهِ، أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ حُمِلَ عَلَيْهَا، وَكَانَ عِشْرَتُهَا هُوَ الْأَسْمَجَ الْأَقْبَحَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أغلظ حاليه وأعجلهما عمل عليه وقل قَوْلُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ حَالَيْهِ وَأَبْعَدَهُمَا دِينَ فِيهِ، وَفِي قَبُولِهِ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ، لِأَنَّ أَشَدَّ الطَّلَاقِ تَعْجِيلُهُ وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَ الطَّلَاقِ أَوْ أَقْصَرَ الطَّلَاقِ كَانَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا طُولَ لَهُ وَلَا عَرْضَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ أَوْ أَطْوَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَعْرَضَ الطَّلَاقِ أَوْ أَشَدَّ الطَّلَاقِ طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً. وَوَافَقَ فِي الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً. وَعِنْدَنَا لَا تَكُونُ الْوَاحِدَةُ بَائِنَةً بِحَالٍ إِلَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَالْكَلَامُ معه يأتي. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً أَوْ جَمِيلَةً فَاحِشَةً طُلِّقَتْ حِينَ تَكَلَّمَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا قَصَدَ الطَّلَاقَ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً حَسَنَةً قَبِيحَةً، أَوْ جَمِيلَةً فَاحِشَةً، أَوْ ضَارَّةً نَافِعَةً، أَوْ سُنِّيَّةً بِدْعِيَّةً وَقَعَ طَلَاقُهَا فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ السُّنَّةِ أَوْ فِي حَالِ الْبِدْعَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ أنه وصفها بصفتين أحدهما صِفَةُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَالْأُخْرَى صِفَةُ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، وهي في أحد الحالتين، فوقع الطلاق عليهما بِوُجُودِ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ تَقَابُلَ الصِّفَتَيْنِ أَوْجَبَ سُقُوطَهُمَا، لِأَجْلِ الْمُضَادَّةِ فِيهِمَا فَصَارَتِ الطَّلْقَةُ بِسُقُوطِ الصِّفَتَيْنِ مُطْلَقَةً، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَا فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْحَرَجِ وَالسِّرِّ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْحَرَجِ هُوَ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَصَارَ وَاصِفًا لَهَا بِصِفَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْحَرَجِ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَبِالسُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا. وَهُوَ أَغْلَظُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاحِدَةِ الْمُعَجَّلَةِ فَتَقَعُ ظاهراً وباطناً على ما نوى. ولو قال: أنت طالق ملئ مكة أو ملئ الحجاز أو ملئ الدُّنْيَا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا. لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَشْمَلُ مَحَلًّا، فَيَقَعُ فِي مكان دون مكان. ويكون معنى قوله: ملئ الدُّنْيَا أَيْ يَظْهَرُ ذِكْرُهَا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَاحِدَةِ كَظُهُورِ الثَّلَاثِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ لِلسُنَّةِ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَهِيَ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ) . قَالَ الماوردي: لأنه علق بطلاقها بشرط وصفة، فَالشَّرْطُ قُدُومُ زَيْدٍ وَالصِّفَةُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقَ السُّنَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الصِّفَةُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا طَلَاقَ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ، فَإِذَا قَدِمَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ قُدُومِ زَيْدٍ فِي طُهْرٍ لَمْ تُجَامَعْ فِيهِ، طُلِّقَتْ حَالَ قُدُومِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جُومِعَتْ فِيهِ، لَمْ تُطَلَّقْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ حَتَّى إِذَا صَارَتْ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، طُلِّقَتْ بِحُدُوثِ الصِّفَةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الصِّفَةِ وَالشَّرْطِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَأَنْتِ مِنْ ذَوَاتِ السُّنَّةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِقُدُومِ فُلَانٍ وَهِيَ فِي ظهر لَا جِمَاعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الصِّفَةَ شَرْطًا، وَجَعَلَ طَلَاقَهَا مُعَلَّقًا بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ، فَلَمْ تُطَلَّقْ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِانْفِرَادِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِسُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ، طُلِّقَتْ بِقُدُومِهِ طَاهِرًا كَانَتْ أَوْ حَائِضًا. لَكِنْ إِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ، لِأَنَّهُ لم يقصده. ألا ترى أن متعمد وطئ الشُّبْهَةِ آثِمٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِذَا لَمْ يَأْثَمْ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى الرَّجْعَةِ كَالْإِثْمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْعَةِ قَطْعُ الْإِثْمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ، إِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِقُدُومِ زَيْدٍ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا حَرْفَا شَرْطٍ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ أَنْ قَدِمَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ طُلِّقَتْ مَكَانَهَا، لِأَنَّهُمَا حَرْفَا جَزَاءٍ عَنْ مَاضٍ سَوَاءٌ كَانَ زَيْدٌ قَدْ قَدِمَ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدُمْ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طالق للسنة إذ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ شَرْطٌ وَطَلَاقُ السُّنَّةِ صِفَةٌ فَإِنْ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهِيَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَائِضًا فَإِذَا طَهُرَتْ طُلِّقَتْ، وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ طَاهِرًا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا طَهُرَتْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ طَلَاقِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ شَرْطًا، فَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهِ. وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرْطًا فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لِصَغِيرَةٍ أَوْ حَامِلٍ أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. فَإِنْ قَدِمَ زيد قبل بلوغ لصغيرة وَوَضْعِ الْحَامِلِ، وَوَطْءِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهِنَّ وَلَا بِدْعَةَ. وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ حيض الصغيرة، ووضع الحامل، ووطئ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، رُوعِيَ فِيهِنَّ طَلَاقُ السُّنَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الشَّرْطِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كُنَّ فِي طُهْرٍ طُلِّقْنَ، وَإِنْ كُنَّ فِي حَيْضٍ لَمْ يُطَلَّقْنَ فِيهِ حَتَّى إِذَا طَهُرْنَ طلقن والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (ولو قال أنت طالق لفلان طُلِّقَتْ مَكَانَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِفُلَانٍ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أنت طالق لرضى فلان، فقد ذهب قوم إلى أن رضى فُلَانٍ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا خَطَأٌ بَلِ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أنك طالق لرضى فلان كقوله لعبده: أنت حر لرضى اللَّهِ، أَوْ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَلَا يكون شرطاً، لأن معناه لرضى الله، فإن قال: أردت بقولي لرضى فُلَانٍ الشَّرْطَ وَأَنَّ مَعْنَاهُ أن رَضِيَ فُلَانٌ فَلَا تُطَلَّقُ إِنْ لَمْ يَرْضَ فُلَانٌ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا أَنْ يَرْضَى فُلَانٌ. فَأَمَّا الظَّاهِرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ مُعَجَّلًا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الظَّاهِرِ فِي الْجَزَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عَلَى مَا نَوَى، إِذَا رَضِيَ فُلَانٌ اعْتِبَارًا بِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَإِذَا رَضِيَ زَيْدٌ، صار الرضى شرطاً في وقوع الطلاق، لأن إذا وإن مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَإِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يَقَعْ، لكن الرضى فِي قَوْلِهِ: إِنْ رَضِيَ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تراخى الرضى لَمْ يَصِحَّ، وَفِي قَوْلِهِ إِذَا رَضِيَ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَوْ رَضِيَ وَلَوْ بَعْدَ طُولِ زَمَانٍ صَحَّ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ إن وإذا. وأما رضى زَيْدٍ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِقَوْلِهِ قَدْ رَضِيتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ أَمَارَاتُ فِعْلِهِ كَالْمَشِيئَةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ زَيْدٌ صَادِقًا فِي رِضَاهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَهَلْ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: يدين اعتباراً بحقيقة الرضى بِهِ بِالْقَلْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدِينُ اعْتِبَارًا بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ مَا سِوَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ شِئْتُ كَاذِبًا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا فِي الْحُكْمِ. وَهَلْ يَدِينُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طالق إذا رضي زيداً وَأَنْ رَضِيَ زَيْدٌ بِفَتْحِ الْأَلِفِ طُلِّقَتْ مِنْ غير اعتبار الرضى لِأَنَّهُمَا حَرْفَا جَزَاءٍ عَنْ مَاضٍ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ رَضِيَ زَيْدٌ وَكَانَ زَيْدٌ صَغِيرًا فَرَضِيَ فِي صِغَرِهِ فَفِيهِ وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ لَا حُكْمَ لِرِضَاهُ، لِأَنَّهُ بِالصِّغَرِ خَارِجٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا، فَعَلَى هَذَا لَا تُطَلَّقُ بِرِضَاهُ فِي صِغَرِهِ، من غير أهل الرضى، ولا تطلق برضاه في كبره لتراخي الرضى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ أِنَّهَا تُطَلَّقُ بِقَوْلِهِ فِي صِغَرِهِ: قَدْ رَضِيتُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَكَانَ زَيْدٌ صَغِيرًا فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ. كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِلْبَالِغِ وَهِيَ سَكْرَى مِنْ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ، أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ فِي سُكْرِهَا طُلِّقَتْ لِأَنَّ السَّكْرَانَ فِي حُكْمِ الصَّاحِي، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَطُلِّقَتْ وَجْهًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ عَلَّقَ ذَلِكَ بِدُخُولِ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَهِيمَةٍ طُلِّقَتْ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ إِنْ شِئْتَ. فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ شِئْتُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِحُصُولِ مَشِيئَتِهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَوْلَاهُمَا - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَشِيئَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهَى عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ مِنْهُ غَيْرَ مُطْلَقَةٍ. وَالثَّانِي: أِنَّ تَعْلِيقَ الْمَشِيئَةِ بِالصِّفَةِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ إِنْ قَامَ زيد لم تصح، كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ تَشَائِي ثَلَاثًا، فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ ثَلَاثًا لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةً وَلَا ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ الْوَاحِدَةِ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا تَشَاءَ ثَلَاثًا، فَإِذَا شَاءَتْ ثَلَاثًا عُدِمَ الشَّرْطُ فِي الْوَاحِدَةِ فَلَمْ تَقَعْ. فَأَمَّا الثَّلَاثُ فَالْمَشِيئَةُ فِيهَا شَرْطٌ فِي رَفْعِ الْوَاحِدَةِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وُقِفَ عَنْهَا حَتَّى تَمُرَّ لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْلِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَعْنَاهُ إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَلَّقَ بِالْآخَرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حَالِهَا أَنَّهَا حائل، فيحرم عليه وطئها، لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِعِدَّةِ حُرَّةٍ، ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ هِيَ أَطْهَارٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 وَسَوَاءٌ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عَقْدِ طَلَاقِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْرَاءُ طَلَاقٍ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ قَبْلَ زَمَانِ وُقُوعِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَبْرِئَةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَبْرِئَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبْرِئَةٍ بَانَتْ بِالظَّاهِرِ، وَهَلْ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهَا قَدْ حَلَّتْ فِي الظَّاهِرِ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ جَازَ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ، كَمَا تَحِلُّ الَّتِي نَجُزَ طَلَاقُهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَتَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِيَقِينِ، كَوْنِهَا حَائِلًا وَقْتَ عَقْدِ طَلَاقِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الَّتِي نَجُزَ طَلَاقُهَا فَأَمْكَنَ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِهَذَا التَّوَهُّمِ الْمُمْكِنِ، وَتَحْرُمُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِهَذَا التَّوَهُّمِ الْمُمْكِنِ، أَنَّ التَّوَهُّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوقِعُ شَكًّا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَجَازَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَالتَّوَهُّمُ فِي الطَّلَاقِ النَّاجِزِ لَا يُوقِعُ شَكًّا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يُوقِعُهُ فِي الْعِدَّةِ مَعَ انْقِضَائِهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرِ، فَجَازَ أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَى الْأَزْوَاجِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مُسْتَبْرِئَةً بِأَنْ ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ وَشَوَاهِدُهُ، فَفِي اسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَجْهَانِ يَخْرُجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ، فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمُعْتَدَّةِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَبِيحُ وطئها بِأَمَارَاتِ الْحَمْلِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثاني: أنه لا يستبيح وطئها وَهُوَ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا وَرِيحًا وَلَا يَكُونُ حَمْلًا صَحِيحًا. وَالْوَطْءُ الْمَحْظُورُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالشَّكِّ، فَعَلَى هَذَا لَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا تَضَعَ حَمْلًا، فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَالْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، تَعْتَدُّ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لَا يَمْلِكُ فِيهَا رَجْعَةً. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَضَعَ وَلَدًا فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَما: أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الطَّلَاقِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِعِلْمِنَا بِكَوْنِهَا حَامِلًا عِنْدَ عَقْدِهِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ أقل من سنة. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةٌ بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 كَانَتْ عِنْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ حَامِلًا فَإِنْ كَانَ وَطَئَهَا قَبْلَ الْحَمْلِ، اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعِ سِنِينَ، فَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَيُحْكَمُ لِحَمْلِهَا بِالتَّقَدُّمِ، وَوُجُودِهِ عِنْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ وَطِئَهَا، فَيُنْظَرُ فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَهُوَ حَمْلٌ مُتَقَدِّمٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أِنَّهَا تُطَلَّقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ حُدُوثِهِ لَا بِنَاءً عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ، وَفِي شَكٍّ فِي تَقَدُّمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ، وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ نِكَاحِهِ وَإِسْقَاطًا لِلشَّكِّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا عَكَس َ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتُطَلَّقَ، وَفِي هَذَا الْمَنْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ مَنْعُ تَحْرِيمٍ كَالْمَنْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتِ حَائِلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أِنَّهُ كَرَاهَةٌ لَا تَحْرِيمٌ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْإِمْلَاءِ) ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِوُجُودِ الْحَمْلِ فَيَكُونَ الْمَنْعُ لِكَرَاهَةٍ لَا لِتَحْرِيمٍ وَبَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِعَدَمِ الْحَمْلِ فَيَكُونَ الْمَنْعُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لا حمل فحرم وطئها، إِذَا عَلَّقَهُ بِعَدَمِهِ، وَلَمْ يَحْرُمْ إِذَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِهِ. وَإِذَا لَزِمَ اسْتِبْرَاؤُهَا لِوَطْئِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عقد طلاقها، أو لم يستبرأها، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَبْرِئُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ هِيَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْهَا كَالْعِدَّةِ. والوجه الثاني: أن يَسْتَبْرِئُهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ مِنْ فُرْقَةٍ، فَجَرَى مَجْرَى اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ وَالْمَسْبِيَّةِ وَخَالَفَ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءُ الْفُرْقَةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ الْقُرْءُ طُهْرًا أَوْ حَيْضًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ: أَحَدُهُمَا: أنه الطهر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 وَالثَّانِي: أِنَّهُ الْحَيْضُ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ عَقْدِ طَلَاقِهِ، فَفِي إِجْزَائِهِ عَنِ اسْتِبْرَائِهِ بَعْدَ عَقْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ بِهِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أِنَّهُ لَا يُجْزِئُ، لِتَقَدُّمِهِ عَلَى سَبَبِهِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ اسْتِبْرَاءُ أَمَةٍ قَبْلَ الشِّرَاءِ عَنْ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ أَوْ لَا تَظْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ وَلَا اسْتَرَابَتْ بِنَفْسِهَا بَعْدَ زَمَانِ الِاسْتِبْرَاءِ فَهِيَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وله وطئها، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا أَمَارَاتُ الْحَمْلِ انْتَظَرَ بِهِ حَالَ الْوَضْعِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا وَضَعَتْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَالطَّلَاقُ بِهِ وَاقِعٌ لِعِلْمِنَا بِوُجُودِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِانْفِصَالِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا مَا بَيْنَ عَقْدِ طَلَاقِهِ وَوَضْعِهِ أَمْ لَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا عِنْدَ عَقْدِهِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يَطَأُ أَمْ لَا، لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ يَطَأْ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ طُلِّقَتْ، لِعِلْمِنَا بِوُجُودِهِ حُكْمًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَإِنْ وَطِئَ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وطئه، أو بعدهها، فَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ فَهُوَ حَمْلٌ مُتَقَدِّمٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِوَضْعِهِ مُنْقَضِيَةً، وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي سَأَلَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَزَلَهَا بِنِيَّتِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَالَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ طَلِّقْنِي إِمَّا لِخُصُومَةٍ وَتَغَايُرٍ بَيْنَ الضَّرَائِرِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرْسِلَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ فِي عَزْلِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَيُطَلَّقْنَ جَمِيعًا، السَّائِلَةُ وَغَيْرُهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُطَلَّقُ السَّائِلَةُ وَتُطَلَّقُ مَنْ سِوَاهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا توجهه بِالْخِطَابِ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَقَابَلَهَا بِالْمُوَاجَهَةِ فَلَمَّا عَدَلَ إِلَى خِطَابِ غَائِبٍ خَرَجَتْ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 أَحَدُهُمَا: أِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ مُبْتَدِئًا: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ، طُلِّقَتْ هَذِهِ الْحَاضِرَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَائِلَةً فِي الطَّلَاقِ لِعُمُومِهَا، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ سَبَبِهِ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهُنَّ يُطَلَّقْنَ جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَارِكًا لِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِنَا. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ، بِأَنَّ عُدُولَهُ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ يُخْرِجُهَا مِنَ الْخِطَابِ، فَتَفْسَدُ بِهِ إِذَا قَالَ مُبْتَدِئًا؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْخِطَابُ لَمْ تُطَلَّقْ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي عَزْلِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلَا تُطَلَّقُ الْمَعْزُولَةُ مِنْهُنَّ سَوَاءٌ كَانَتِ السَّائِلَةَ أَوْ غَيْرَهَا، ويطلق من سوها. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُطَلَّقُ الْمَعْزُولَةُ مِنْهُنَّ سَوَاءٌ فِي الْعُمُومِ كَدُخُولِهَا فِي التَّعْيِينِ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِجَمَاعَتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِذَا صَلُحَ لِكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ كَالْعُمُومِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ التَّعْيِينَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَاقَ الْمَعْزُولَةِ لَا يَقَعُ فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، فَإِنِ اتَّهَمَتْهُ الْمَعْزُولَةُ أَحْلَفْتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا تُطَلَّقُ فِي الْبَاطِنِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، ويطلق فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ يُخَالِفُ تَقْيِيدَ النِّيَّةِ، فَدِينَ فِيهِ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 (بَابُ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنَ الْكَلَامِ وما لا يقع إلا بالنية والطلاق من الجامع من كتاب الرجعة ومن كتاب النكاح ومن إملاء مسائل مالك وغير ذلك) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: (ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فِي كِتَابِهِ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءَ الطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يَقَعُ إِلَّا بِالْكَلَامِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْكَلَامِ. وَلَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ، فَلَوْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ تُطَلَّقُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ طُلِّقَتْ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِنِيَّةِ الرِّدَّةِ، جَازَ أَنْ تقع الطَّلَاقُ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ بِنِيَّةِ أَنْفُسِهَا) . وَالنِّيَّةُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ. فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً عَنْهُ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ أَحَدُ طَرَفَيِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالْعَقْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) فَالْمُرَادُ بِهِ ثَوَابُ قُرَبِهِ إِلَى فِعْلِهَا، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ، لَمْ يَفْعَلْ. فَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّدَّةِ توقع الْفُرْقَةَ وَالرِّدَّةَ فَتَكُونُ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ كَالْإِيمَانِ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ. فَالْأَلْفَاظُ فِيهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِ، وَالصَّرِيحُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَقِسْمٌ يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ. وَالْكِنَايَةُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ مَعَ النِّيَّةِ وَلَمْ تَقَعْ بِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِ وَلَا كِنَايَةً: وَهُوَ مَا لَا يَقَعُ بِهِ الفرقة سواء كانت معه نية أم لَمْ تَكُنْ. فَأَمَّا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ والسَّرَاحُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَرِيحُ الطَّلَاقِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الطَّلَاقُ دُونَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَهُ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِ الطَّلَاقِ، لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 فِي الطَّلَاقِ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَصَدَ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ كَانَ صَرِيحًا فِيهَا كَالطَّلَاقِ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الطَّلَاقُ فَبِقَولِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . وَبِقَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السَّرَاحُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وَقَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] . وَأَمَّا الْفِرَاقُ فَبِقَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسَةِ أَسْئِلَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: هَذَا مُنْتَقِضٌ بِالْفِدْيَةِ، قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الْفِدْيَةِ اسْتِبَاحَةُ مَالِهَا بِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] . فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: الْكِنَايَةُ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْعِتْقِ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . وَالْفَكُّ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي العتق بقوله: {وما أدراك ما العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12، 13] . وَلَيْسَ الْكِنَايَةُ وَالْفَكُّ مِنْ صَرِيحِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ السَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ جَازَ وَإِنْ وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ يَلْزَمُ إِذَا كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا، أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا وَلَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِيهِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ الْمُرَادُ بِهَا الْعَقْدُ الْمَكْتُوبُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ دُونَ الْعِتْقِ وَهِيَ صَرِيحٌ فِيهِ، وَأَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ، فَلِنُزُولِ ذلك سبب، وهو أن أبا الأشد ابن المحيي كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُدِلُّ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] . أَيْ أنه وإن ذل بِقُوَّتِهِ فَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، إِلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 بِفَكِّ رَقَبَةٍ، فَخَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ صِفَةِ مُقْتَحِمِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُعْتِقًا لَهَا. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّرَاحَ لَوْ كَانَ صَرِيحًا كَالطَّلَاقِ، لَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عند نزول قوله تعالى: {الطلاق مرتان} عَنِ الثَّالِثَةِ حَتَّى بَيَّنَ فَقَالَ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} وَلَكَانَ السَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فَيَسْتَغْنِي عَنِ السُّؤَالِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَسَأَلَهُ لِيَعْلَمَ صَرِيحَ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ. وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا كَانَ صَرِيحًا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ، لِذَلِكَ صَارَ صَرِيحًا، وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ فَكَانَا كِنَايَةً. قِيلَ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الطَّلَاقُ فِي غَيْرِ الْفُرْقَةِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ قَدْ طَلَّقَ الدُّنْيَا، إِذَا زَهِدَ فِيهَا وَطَلَّقْتُ فُلَانًا مِنْ وَثَاقِهِ، وَقَدْ دَاعَبَ الشَّافِعِيُّ بَعْضَ إِخْوَانِهِ فَقَالَ. (اذْهَبْ حَصِينُ فَإِنَّ وِدَّكَ طَالِقٌ ... مِنِّي وَلَيْسَ طَلَاقَ ذَاتِ البين) فما أنكر ذلك حد مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ، كَذَلِكَ الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ. وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ صَرِيحًا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ، وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُهُمَا فَكَانَا كِنَايَةً، قِيلَ: الصَّرِيحُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَاقْتَضَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الشَّرْعِ لَا عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُمَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَالطَّلَاقِ، وَإِنْ خَالَفَاهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ إِذَا سَرَى لَمْ يَقِفْ صَرِيحُهُ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ كَالْعِتْقِ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَحَدُ طَرَفَيِ النكاح، فوجب أن يزيد صريحه على لفظه واحدة كَالْعَقْدِ، وَقِيَاسٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَفْتَقِرُ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالطَّلَبِ إِلَى نِيَّةِ الطَّلَاقِ كَانَ صَرِيحًا فِيهِ كَالطَّلَاقِ، وَقِيَاسٌ خَامِسٌ: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالْكِنَايَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَقَدْ مَضَى فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ أو فارقتك أو سرحتك لزمه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ، أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ، الطَّلَاقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، أَوْ يَا مُطَلَّقَةُ، كَانَ كُلُّ هَذَا صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ، وَإِذَا قَالَ لَهَا يَا مُطَلَّقَةُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ إخبارها وندائها إِنَّمَا يَكُونُ بِحُكْمٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً وَلَا خَبَرًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ) ، فَإِذَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ صَرِيحًا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ مُفَارَقَةٌ أَوْ قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ يَا مُفَارَقَةُ، كَانَ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ أَوْ قَدْ سَرَّحْتُكِ، أَوْ يَا مُسَرَّحَةُ، كَانَ كُلُّ هَذَا صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ:) لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَا مُطَلَّقَةُ صَارَ هَذَا النِّدَاءُ بَعْدَ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ مُحْتَمَلًا فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، لِزِيَادَةِ طَلَاقٍ، أَوْ لِنِدَاءِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ هَذَا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ الطَّلَاقُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ كِنَايَةً، لِأَنَّهَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا. (فصل:) وإذا قال لها رَجُلٌ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ هَذِهِ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ كَمَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ عِنْدَ سُؤَالِ الْحَاكِمِ صَرِيحًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِخْبَارٌ عن سؤال. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَمْ يَنْوِ فِي الْحُكْمِ وَيَنْوِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ طَلَاقًا من وثاق كما لو قال لعبده أنت حر يريد حر النفس ولا يسع امرأته وعبده أن يقبلا منه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ تَلَفَّظَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَيَنْوِيَ الْفُرْقَةَ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِجْمَاعًا، إِذَا كَانَ الْمُتَلَفِّظُ مِنْ أهل الطلاق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا يَنْوِيَ الْفُرْقَةَ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) وَهَذَا خَطَأٌ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ. النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ) . وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِالْفَسْخِ تَارَةً وَبِالطَّلَاقِ أُخْرَى. فَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرِ الْفَسْخُ إِلَى النِّيَّةِ، لَمْ يَفْتَقِرِ الطَّلَاقُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ صَرِيحُ الْعِتْقِ إِلَى النِّيَّةِ، لَمْ يَفْتَقِرْ صَرِيحُ الطَّلَاقِ إِلَى النِّيَّةِ وَلِأَنَّهُ قَدِ افْتَرَقَ فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، فَلَوِ افْتَقَرَ الصَّرِيحُ إِلَى النِّيَّةِ، لَصَارَ جَمِيعُهُ كِنَايَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبْعِدَ اللَّفْظَ وَيُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا مِنْ وِثَاقٍ، أَوْ فِرَاقًا إِلَى سَفَرٍ، أَوْ تَسْرِيحًا إِلَى أَهْلٍ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا يَدِينُ كَمَا لَا يَدِينُ إِذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ، وَيُرِيدُ بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا تُحَاسِبُوا الْعَبْدَ حِسَابَ الرَّبِّ) أَيْ لَا تُحَاسِبُوهُ إِلَّا عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إِنَمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ) ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ مَا نَوَى، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فَاقْتَضَى إِذَا نَوَاهُ أَنْ يَكُونَ مَدِينًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ احْتِمَالَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ مُرِيدًا بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ يَسْلُبُ اللَّفْظَ حُكْمَهُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا يُرِيدَ بِهِ الْفُرْقَةَ وَإِنَّمَا يسبق لِسَانُهُ غَلَطًا أَوْ دَهَشًا أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا [لَا يَعْرِفُ لَفْظَ الطَّلَاقِ وَلَا حُكْمَهُ] فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمَدِينِ فِي طَلَاقِهِ، إِذَا أُلْزِمَ الطَّلَاقَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ فَيَسَعُهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ وَتُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا النُّشُوزُ عَنْهُ، فَإِنْ نَشَزَتْ لَمْ يُجْبِرْهَا الْحَاكِمُ، وَإِنْ أَثِمَتْ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 الظَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَاكِمِ إِذَا رَآهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، هَلْ يَلْزَمُهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ الْفُرْقَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ فِي الشَّرْعِ، فَلَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكْمِهِ بِالْفُرْقَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَعْلَمَ الزَّوْجَةُ كَذِبَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ، فَعَلَيْهَا الْهَرَبُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهَا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، وَإِنْ سَأَلَتِ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِهَا، وَيَجُوزُ لَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ لِمَنْ خَطَبَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ لَمْ يُصَدِّقِ الزَّوْجَ فِيمَا دِينَ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ. وَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَعْلَمَ الزَّوْجَةُ صِدْقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ وَلَا كَذِبَهُ فَيُكْرَهُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا لِجَوَازِ كَذِبِهِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ تَغْلِيبًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ تَغْلِيبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الظَّاهِرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الثَّانِي. فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا دِينَ فِيهِ وَأَنْكَرَتْهُ، فَفِي وُجُوبِ إحلافها عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غَضَبٍ أَوْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ أَوْ رِضًا وَقَدْ يَكُونُ السَبَبُ وَيَحْدُثُ كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ السَبَبِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صريح الطلاق، فيستوي حكمه في الغضب والرضى، وَعِنْدَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَفِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ فَحُكْمُهَا عِنْدَنَا فِي الغضب والرضى سَوَاءٌ. وَعِنْدَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ وَفِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِنِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْكِنَايَاتِ سَبَبٌ، من غضب أو طلب علم يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَإِنْ قَارَنَهَا سَبَبٌ مِنْ طَلَبٍ أَوْ غَضَبٍ فَعِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِسِتَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 وهي قوله: أنت خلية أبو برية أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَلَا يَقَعُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْكِنَايَاتِ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَخُصُّهُ بِحُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ، اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ الْخُلْعَ لَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعِوَضُ كَانَ صَحِيحًا، وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِوَضِ كَانَ كِنَايَةً، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالْقَرِينَةِ، كَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَنْ سَبَبٍ مَحْمُولًا عَلَيْهِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَرَدَ عَلَى طَلَبِ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَالْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ (أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، وَجَاءَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ لَهُ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ بِهَا، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ألله إِنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً) . فَرَجَعَ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالسَّبَبِ، أَوْ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالطَّلَبِ، لَسَأَلَهُ عَنْهُ وَلَبَيَّنَهُ لَهُ. وَلِأَنَّ الأحكام لا تختلف بالغضب والرضى كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّلَاقِ فلم تختلف بالرضى وَالْغَضَبِ كَالصَّرِيحِ، وَلِأَنَّهَا كِنَايَةٌ لَمْ تَقْتَرِنْ بِنِيَّةِ الطلاق، فلم يكن طلاقاً كالرضى وَعَدَمِ الطَّلَبِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ: بِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ، تَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْأَسْبَابَ مُتَقَدِّمَةٌ وَالْأَيْمَانَ بَعْدَهَا مُحْدَثَةٌ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى مِثَالِهَا وَعَلَى خِلَافِهَا، فَأَخَذَتْهُ لِمَخْرَجِ يَمِينِهِ، فَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا، لَمْ أَعْتَبِرْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ خَاصًّا لَمْ أَعْتَبِرْ بِعُمُومِ السَّبَبِ وَيَرْجِعُ عَنْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي اسْتِشْهَادِهِ كَلَامٌ مَضَى، فِي مَوْضِعِهِ يَمْنَعُ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الاستشهاد. وأما قياسهم على الفراق والسرح فلأنهما صريحان في الرضى والغضب ك (الطلاق) . وَأَمَّا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ وَالسَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ: أحدهما: اتصال الشرط وانفصال السبب. والثاني: أَنَّ الشَّرْطَ مَنْطُوقٌ بِهِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ احْتِمَالٌ، وَالسَّبَبُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ، فَدَخَلَهُ الِاحْتِمَالُ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 (مسألة:) قال الشافعي: فَإِنْ قَالَ قَدْ فَارَقْتُكِ سَائِرًا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ سَرَّحْتُكِ إِلَى أَهْلِكِ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ مِنْ وَثَاقِكِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يكن طلاقا فإن قيل قد يكون هذا طلاقاً تقدم فأتبعه كلاما يخرج به منه قيل قد يقول: لا إله إلا الله فيكون مؤمنا يبين آخر الكلام عن أوله ولو أفرد (لا إله كان كافراً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قُيِّدَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ بِمَا يُغَلِّبُ حُكْمَ الصَّرِيحِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ مِنْ وَثَاقِكِ وَفَارَقْتُكِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَسَرَّحْتُكِ إِلَى أَهْلِكِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَاصِلًا بَيْنَ قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الْوُقُوعِ بِإِمْسَاكِهِ عَلَى قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُكِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، مَا اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ وَلَظَهَرَ أَوَّلُ الْكَلَامِ مَرْبُوطًا بِآخِرِهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَيُبَيِّنُ الْعَدَدَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا، لَا يَفْصِلُ بَيْنَ قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مِنْ وَثَاقِكِ فَيَصِيرُ أَوَّلُ الْكَلَامِ مَرْبُوطًا بِآخِرِهِ، فَيَخْرُجُ أَوَّلُهُ مِنَ الصَّرِيحِ، بِمَا اتَّصَلَ فِيهِ وفي آخر. كَمَا لَوِ اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ اسْتِثْنَاءٌ، صَارَ حُكْمُ أَوَّلِهِ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِآخِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فقد قدح صَرِيحَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ نَدَمٌ، فَيَصِلُهُ بِقَوْلِهِ مِنْ وَثَاقِكِ، قِيلَ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّوَهُّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهِ لَا بِبَعْضِهِ، أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ مُوَحِّدًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ نَفْيًا وَآخِرُهُ إِثْبَاتًا، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ كَفَرَ بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ ثُمَّ خَافَ فَاسْتَدْرَكَ بقوله لا إله، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ، وَلَا يُحْكَمَ بِإِيمَانِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، صَارَ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ، وَلَا يَقَعُ بِهِ إِنْ لَمْ يَنْوِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ، كَانَ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ، وَلَا يَقَعُ إِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: أَنْتَ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ كِنَايَةً، يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، إِنْ نَوَتْهُ، وَلَا يَقَعُ إِنْ لَمْ تَنْوِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إِلَّا إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ، وَلَا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْتَ طَالِقٌ مِنِّي، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ، أَوْ أَنَا حَرَامٌ عَلَيْكِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِنْ نَوَاهُ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا خَالَفَنَا فِيهِ بِأَنَّ رَجُلًا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، فَطَلَّقَتْ زَوْجَهَا، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: خَطَّأَ اللَّهُ نُؤْهَا، هَلَّا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لَكَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْكَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ اسْمُ الطَّلَاقِ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 الزَّوْجِ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهَا طَالِقٌ، وَلَمْ يُقَلْ لِلزَّوْجِ: إِنَّهُ طَالِقٌ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَلَا تَقَعُ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الحكم يقتضي ثبوت الاسم، وانتقاء الِاسْمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ انْتِفَاءَ اسْمِ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ حُكْمِهَا وَثُبُوتَ اسْمِهَا يُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ كَانَ مَحَلًّا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ، لَكَانَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فِيهِ صَرِيحًا، وَلَكَانَ حُكْمُهُ بِهِ مُتَعَلِّقًا فَلَمَّا انْتَفَى عَنْهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلَاقِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ: أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ، كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: أَنَا حُرٌّ مِنْكَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا عِتْقًا، لَمْ يكن هذا طلاقاً، قال: ولأن الطلاق هو الإطلاق مِنَ الْحَبْسِ، وَالزَّوْجَةُ مَحْبُوسَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ. فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَالزَّوْجُ غَيْرُ مَحْبُوسٍ بِهَا عَنِ الزَّوْجَاتِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، سَأَلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تَرَى أَنْتَ، فَقَالَ: أَرَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَزَوْجُهَا أَحَقُّ بِهَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ مَا رَأَيْتَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِجْمَاعِهِمَا عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ كِنَايَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ، بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ كَالزَّوْجَةِ، وَلِأَنَّ مَا صَلَحَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ، جَازَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إِذَا وَقَعَ عَلَى الزَّوْجِ، كَالتَّحْرِيمِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِضَافَةُ كِنَايَةِ الطَّلَاقِ إِلَيْهِ صَحَّ إِضَافَةُ صَرِيحِهِ إِلَيْهِ، كَالزَّوْجَةِ طَرْدًا وَكَالْأَجْنَبِيَّةِ عَكْسًا. وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ هُوَ: أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَقْوَى مِنْ كِنَايَتِهِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فِي الزوج كان وقوعها بصريحة بها أولى. فأما استدلاله بحيث ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ خَالَفَ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُ الِاثْنَيْنِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِانْتِفَاءِ الِاسْمِ عَنِ الزَّوْجِ أَوْجَبَ انْتِفَاءَ حُكْمِهِ فَبَاطِلٌ بِقَوْلِهِ: أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ، وَحَرَامٌ عَلَيْكِ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَإِنِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالِاسْمِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فِيهِ صَرِيحًا وَلَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ لم يكن محالاً لَهُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حَقِيقَتِهِ صَرِيحًا. لِأَنَّ الصَّرِيحَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالَ عِنْدَهُمْ وَعُرْفُ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وَلَمْ يَتَنَاوَلْ جِهَةَ الزَّوْجِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ وَعُرْفُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ صَرِيحًا، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ فِي جِهَةِ الزَّوْجَةِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ وَعُرْفُ الْقُرْآنِ فَكَانَ صَرِيحًا. وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَهِيَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 فَمُنِعَتْ مِنْهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ وَالزَّوْجُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: أَنَا حُرٌّ مِنْكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ عِتْقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ كِنَايَةً فِي عِتْقِهِ، يُعْتَقُ بِهِ إِذَا نَوَاهُ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ لَا يَكُونُ كِنَايَةً، وَلَا يُعْتَقُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْعِتْقَ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ الرِّقِّ، وَالرِّقُّ يَخْتَصُّ بِالْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ اللَّفْظُ إِلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ رَفْعُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا الزَّوْجَانِ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بِوُقُوعِهَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ إِطْلَاقٌ مِنَ الْحَبْسِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْإِطْلَاقُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْعَقْدُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقًا مِنْ حَبْسٍ، فَهُوَ مَحْبُوسٌ بِهَا عَنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا، وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا وَعَنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ سِوَاهَا، كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ، لِيَنْطَلِقَ مِنْ حَبْسِ هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ مِنْ حَبْسِ التَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَرِيئَةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَا أشبهه فإن قال قلته ولو أنو طلاقا وأنوي بِهِ السَّاعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا حَتَّى يبتدئه ونيته الطلاق وما أراد من عدد) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِي الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَمَا لَيْسَ بصريح ولا كناية، فأما صريح فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: الطَّلَاقُ، وَالْفِرَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَمَعْنَى الصَّرِيحِ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي وُقُوعِهِ إِلَى نِيَّةٍ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (الرَّجْعَةِ) : كُلُّ مَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَاتُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ سِتَّةُ أَلْفَاظٍ، بَتَّةٌ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَبَايِنٌ وبتلة وحرام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 والباطنة اعتدي واذهبي وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا حَاجَةَ لِي فِيكِ وَانْكَحِي مَنْ شِئْتِ وَاسْتَبْرِئِي وَتَقَنَّعِي وَقُومِي وَاخْرُجِي وَتَجَرَّعِي، وَذُوقِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَاخْتَارِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ الضَّرْبَيْنِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، وَحُكْمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عِنْدَنَا وَاحِدٌ. فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَإِنْ نَوَى بِهَا وَاحِدَةً كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا نَوَى، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: جميع الكنايات الظاهرة يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، إِذَا قَارَنَهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النِّيَّةُ أَوِ الْغَضَبُ أَوْ طَلَبُ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَقَعَ بَائِنًا، وَمَا كَانَ مِنْهَا بَاطِنًا وَقَعَ رَجْعِيًّا، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِمَا ثَلَاثًا فَتَكُونَ ثَلَاثًا، وَلَوْ أَرَادَ اثْنَتَيْنِ، لَمْ تَكُنْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ أَرَادَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ، لَمْ تَكُنْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَهُ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ مَذْهَبٌ يَطُولُ شَرْحُهُ، لَكِنَّ تَقْرِيبَ جُمْلَتِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فصار الخلاف معه في أربعة فصول: أحدهما: أَنَّ الْغَضَبَ وَالطَّلَبَ هَلْ يَقُومَانِ فِي الْكِنَايَةِ مَقَامَ النِّيَّةِ أَمْ لَا؟ . وَالثَّانِي: أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ هَلْ يَكُونُ بَائِنًا أَمْ لَا؟ . وَالثَّالِثُ: إِذَا أَرَادَ بِالْكِنَايَاتِ اثْنَتَيْنِ هَلْ تَكُونُ اثْنَتَيْنِ أَمْ لَا؟ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ هَلْ تَكُونُ ثَلَاثًا أَمْ لَا؟ . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الطَّلَبِ وَالْغَضَبِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، هَلْ يَكُونُ رَجْعِيًّا إِذَا لَمْ يرد به ثلاثاً، فعندنا يَكُونُ رَجْعِيًّا إِنْ أَرَادَ بِهِ وَاحِدَةً أَوِ اثنتين، أو لم تكن له نية في عدده. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بَائِنًا، لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ بَائِنٌ لفظ يقتضي البينونة فوجب أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ بَائِنًا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ تَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عَنْ لَفْظٍ عَامِلٍ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا أَرَادَ بِالْبَتَّةَ فَقَالَ: وَاحِدَةً فَأَحْلَفَهُ عَلَيْهَا، وَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ ثَلَاثًا. فَخَالَفَ قَوْلَ مَالِكٍ وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ حنطب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَبُتُّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ تَبُتُّ، يَعْنِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِنْ لَمْ يُمْسِكْ. وروي أن التؤمة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتَ قَالَ: وَاحِدَةً فَاسْتَحْلَفَهُ، فَقَالَ: أَتُرَانِي أُقِيمُ عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ، فَأَحْلَفَهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِعُمَرَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَدَدٍ وَعِوَضٍ، كَانَ رَجْعِيًّا في المدخول به، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اعْتَدِّي أَوِ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، أَوْ أَنْتِ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ أبا حنفية وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ رَجْعَتَهَا كَالْمُطَلَّقَةِ بِالصَّرِيحِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِنَايَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكِنَايَتِهِ، لِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ صَرِيحُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لَمْ تَمْنَعْ كِنَايَتُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لِقَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ، هُوَ كِنَايَةُ أَنْتِ طَالِقٌ. وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ مِنْ كِنَايَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الصَّرِيحُ الرَّجْعَةَ، فَأَوْلَى أن لَا تَرْفَعَهَا الْكِنَايَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ صَرِيحَ أَنَّهُ بَائِنٌ لَمْ يَرْفَعِ الرَّجْعَةَ، فَإِذَا تَجَرَّدَ لَفْظُ الْبَائِنِ عَنِ الصَّرِيحِ، فَأَوْلَى أَن لا يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، فَمُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكِ، تَكُونُ طَالِقًا وَلَهُ الرَّجْعَةُ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْبَيْنُونَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ، اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ مُقْتَضَاهُ، فَمُنْتَقَضٌ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي طَلَاقًا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا نَوَى بِالْكِنَايَاتِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ اثْنَتَانِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً، اسْتِدْلَالًا بأن قوله: أنت بائن يتضمن البيونة وَهِيَ نَوْعَانِ: صُغْرَى وَهِيَ الَّتِي تُثْبِتُ الرَّجْعَةَ وَتَحِلُّ قَبْلَ زَوْجٍ، وَكُبْرَى وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ عِصْمَةَ الرَّجْعَةِ وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْكُبْرَى وَكَانَتِ الثَّلَاثُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْكُبْرَى وَقَعَتِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا وَهِيَ وَاحِدَةٌ، فَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَخَارِجٌ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا، لِأَنَّ الْبَائِنَ مِثْلُ الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: أَنْتِ بَائِنَتَانِ كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: أَنْتِ حَائِضَتَانِ وَطَاهِرَتَانِ، فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ الْعَدَدُ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالصَّرِيحِ، مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالْكِنَايَةِ كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ أَغْلَظُ مِنْ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الثِّنْتَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ الثِّنْتَانِ دُونَ الثَّالِثَةِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 بِالصَّرِيحِ لَا تَكُونُ بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ وُقُوعُهَا بِالْوَاحِدَةِ، وَأَنْ يَصِحَّ ضَمُّ ثَانِيَةٍ إِلَيْهَا، كالمختلفة، وإن كانت تبين بالواحدة يجوز أن يخالفها عَلَى اثْنَتَيْنِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَائِنِ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يقال أنت بائنتان ففاسد بالثلاث، لأنه لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تَقَعَ ثَلَاثًا، جَازَ أَنْ تَقَعَ ثنتين ولا يمتنع أن يقال: أنت بائن ثنتين، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ ثَلَاثٌ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ إِذَا نَوَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى الثَّلَاثَ كَانَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ، كَانَتِ اثْنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَوَى مِنْ عَدَدِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ تَقَعْ إِلَّا وَاحِدَةً، إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعَدَدِ نُطْقًا، أَوْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ نَاوِيًا الثَّلَاثَ فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَنْوِي ثَلَاثًا فَيُطَلِّقُ وَاحِدَةً، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ الطلاق وَيَنْوِي الثَّلَاثَ، فَيُطَلِّقُ ثَلَاثًا، بِأَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مرتان} . وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ، لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ دُخُولَ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِمْ أَنْتَ قَائِمٌ وَقَاعِدٌ وَرَاكِعٌ وَسَاجِدٌ وَجَعَلَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا دَلِيلًا. قَالَ: وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ فِي الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً فِي الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا فَاسِدٌ وَدَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ، عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ اسْمُ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ طُلِّقَتْ فَهِيَ طَالِقٌ كَمَا قَالُوا حَاضَتْ فَهِيَ حَائِضٌ، وَضَرَبَتْ فَهِيَ ضَارِبٌ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ بِأَعْدَادِ الْمَصَادِرِ، فَيُقَالُ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَمِائَةَ طَلْقَةٍ وَضَارِبٌ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ لَا يَتَضَمَّنُ أَعْدَادَ مَصَادِرِهِ، فَأَحْسَنُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ ضَارِبٌ طَلْقَةً، وَقَائِمٌ قَعْدَةً. وَلِذَا تَضَمَّنَ الْعَدَدَ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، جَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ، كَمَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُظْهَرًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُضْمَرًا، كَالْمَصْدَرِ إِذَا قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. وَدَلِيلٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَتِ الثَّلَاثُ، بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وكان قوله ثلاثاً تفسير للعدد المضمر فيه، ألا تراه لو وقال لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، أَنْتِ طَالِقٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 ثَلَاثًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، لَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا تطلق بفلظ بَعْدَ لَفْظٍ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتِ الْأُولَى وَلَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُضْمَرًا فِيهِ، إِذَا أَظْهَرَهُ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا فِيهِ إِذَا نَوَاهُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا، أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ مَصْدَرُ الطَّلَاقِ، جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ اسْمُ الطَّلَاقِ كَالْمُظْهَرِ. وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ أَقْوَى مِنْ إِشَارَتِهِ بِالثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَعْمَلُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَلَا تَعْمَلُ فِيهَا الْإِشَارَةُ فَلَمَّا وَقَعَتِ الثَّلَاثُ بِالْإِشَارَةِ، فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِخْبَارٌ عَنْ صِفَةٍ، لَا تَتَضَمَّنُ عَدَدًا فَهُوَ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ حَائِضٌ وَطَاهِرٌ وَقَائِمٌ وَقَاعِدٌ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهُ عَدَدٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهُ الْعَدَدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْعَدَدَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ عَالِمٌ عِلْمَيْنِ، وَجَائِرٌ جَوْرَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ الْعَدَدُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْوَاحِدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الثَّلَاثِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الثَّلَاثَ، كَانَ صَرِيحًا فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي وَاحِدَةٍ، كِنَايَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَمَهَّدَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ يَحْتَمِلُ خَلِيَّةً مِنْ خَيْرٍ، وَخَلِيَّةً مِنْ شَرٍّ وَخَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِحْدَى احْتِمَالَاتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ يَحْتَمِلُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالزَّوْجِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ، يَتَقَابَلُ فِيهَا الِاحْتِمَالُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْكِنَايَةُ وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ النِّيَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى جَمِيعِ اللَّفْظِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ، وَاللَّفْظَ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ جَمِيعِ اللَّفْظِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَيْضًا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا تَجَرَّدَ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ، وَالنِّيَّةَ لَمَّا تَجَرَّدَتْ عَنِ اللَّفْظِ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ. مِثَالُ هَذَيْنِ: نِيَّةُ الصَّلَاةِ، إِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْإِحْرَامِ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَمْ تَصِحَّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِجَمِيعِ اللَّفْظِ، فَتُوجَدُ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ إِلَى آخِرِهِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ مَعًا، وَلَا يَكُونُ وُقُوعُهُ بِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ هُوَ الْمُغَلَّبُ لِظُهُورِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تُوجَدَ النِّيَّةُ فِي بَعْضِ اللَّفْظِ وَتُعْدَمَ فِي بَعْضِهِ، إِمَّا أَنْ تُوجَدَ فِي أَوَّلِهِ وَتُعْدَمَ فِي آخِرِهِ، أَوْ تُوجَدَ فِي آخِرِهِ، وَتُعْدَمَ فِي أَوَّلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، فَيَنْوِي عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَا، بِتَرْكِ النِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ ئِنٌ، أَوْ يَتْرُكُ النِّيَّةَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَا وَيَنْوِي عِنْدَ قَوْلِهِ ئِنٌ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ اللَّفْظُ إِذَا اعْتُبِرَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، كَانَ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهَا، كَعَدَمِهَا فِي جَمِيعِهِ كَالنِّيَّةِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ لَيْسَ بِلَازِمٍ كَالصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِهَا. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فِي النِّيَّةِ فَإِنْ وُجِدَتْ فِي أَوَّلِ اللَّفْظِ، وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ عُدِمَتْ فِي آخِرِهِ كَالصَّلَاةِ، إِذَا وُجِدَتِ النِّيَّةُ فِي أَوَّلِهَا، جَازَ أَنْ تُعْدَمَ فِي آخِرِهَا، وَإِنْ وُجِدَتِ النِّيَّةُ فِي آخِرِ اللَّفْظِ وَعُدِمَتْ فِي أَوَّلِهِ، لَمْ يَقَعْ لَهُ الطَّلَاقُ، كَالنِّيَّةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إِذَا انْعَقَدَتْ مَعَ أَوَّلِ اللَّفْظِ، كَانَ بَاقِيهِ رَاجِعًا إِلَيْهَا، وَإِذَا خَلَتْ مِنْ أَوَّلِهِ صَارَ لَغْوًا وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَعَ النِّيَّةِ نَاقِصًا، فَخَرَجَ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قال: لم يكن طلاقاً حتى يبتدأ وَنِيَّتُهُ الطَّلَاقُ، فَاعْتَبَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ اللَّفْظِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (قال) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ يُرِيدُ بِهَا الطَّلَاقَ وَلِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ الْعِتْقَ لَزِمَهُ ذَلِكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَمَّا صَرِيحُ الْعِتْقِ فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ، أَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ أَنْتِ مُعْتَقَةٌ، يُرِيدُ طَلَاقَهَا، طُلِّقَتْ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ إِطْلَاقٌ مِنْ حَبْسِ الرِّقِّ، كَمَا أَنَّ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ إِطْلَاقٌ مِنْ حَبْسِ النِّكَاحِ، فَتَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا، وَأَمَّا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عِنْدَنَا فِي الْعِتْقِ، فَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مُسَرَّحَةٌ أَوْ مُفَارَقَةٌ، يُرِيدُ عِتْقَهَا عُتِقَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعْتَقُ وَلَا يَكُونُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحُ الْعِتْقِ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَتَحْرِيمُ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ عِتْقَهَا، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَلَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ، أَنْتِ حُرَّةٌ فَتُطَلَّقُ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 تَحْرِيمٌ، وَتَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا لَهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ كَانَ صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِ الْحَرَائِرِ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً فِي عِتْقِ الْإِمَاءِ كَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ أَضْعَفُ حُكْمًا مِنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالْحُرِّيَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنِ الرِّقِّ وَالِاسْتِمْتَاعِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْحُرِّيَّةُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِقُوَّتِهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ لِضَعْفِهِ، كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِجَارَةِ، جَازَ أَنْ تَنْعَقِدَ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ صَرِيحَ مَا يَجْرِي فِيهِ النِّيَّةُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، فِي مِثْلِهِ كَالْعِتْقِ فِي الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ، صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِتْقِ، كَقَوْلِهِ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ، صَحَّ وُقُوعُ الْحُرِّيَّةِ بِهِ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ، وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أوقى مِنْ كِنَايَتِهِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْحُرِّيَّةُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ، فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ بِصَرِيحِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحُرِّيَّةُ كِنَايَةً فِي طَلَاقِ الْحُرَّةِ، وَهِيَ صِفَتُهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ كِنَايَةً فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَلَيْسَ مِنْ صِفَتِهَا فِي حَالِ الرِّقِّ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الرِّقِّ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ إِنَّمَا كَانَ كِنَايَةً فِي الْعِتْقِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِطْلَاقَ مِنْ حَبْسِ الْعِتْقِ، لَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ، فَالظِّهَارُ عِنْدَنَا كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ كَالطَّلَاقِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَهُمْ هَذَا الْأَصْلُ - وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ - لَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ مَعَ التَّحْرِيمِ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ، وَالظِّهَارُ مُخْتَصٌّ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الْعِتَاقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِإِزَالَةِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ فِي الْإِمَاءِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْحَرَائِرِ، ثُمَّ لَا يُنْكَرُ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْقُوَّةِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ النِّيَّةُ كَمَا تُسَاوِيهِ كِنَايَةُ الطَّلَاقِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ / إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ النِّيَّةُ، وَاسْتِشْهَادُهُمْ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ، الْبَيْعِ كَمَا لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ جَازَ عِنْدَنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَجَازَ أَنْ يُعْقَدَ الْأَخَصُّ بِاللَّفْظِ الْأَعَمِّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْقَدَ الْأَعَمُّ باللفظ الأخص والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنًا كَانَتْ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الَّرَجْعَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حكم في الواحدة والثنتين بالرجعة كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَلَا وَلَاءَ لِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 عليك كان حراً والولاء له جعل عليه الصلاة والسلام الولاء لمن أعتق كما جعل الله الرجعة لمن طلق واحدة أو اثنتين وطلق ركانة امرأته أَلْبَتَّةَ فَأَحْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما أراد إلا واحدة وردها عليه وطلق المطلب بن حنطب امرأته ألبتة فقال عمر رضي الله عنه أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة تبت وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه لرجل قال لأمرأته حبلك على غاربك ما أردت؟ وقال شريح أما الطلاق فسنة فأمضوه وأما ألبتة فبدعة فدينوه (قال) ويحتمل طلاق ألبتة يقينا ويحتمل الإبتات الذي ليس بعده شيء ويحتمل واحدة مبينة منه حتى يرتجعها فلما احتملت معاني جعلت إلى قائلها) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَلَا تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ جَعَلَهَا بَائِنَةً، كَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَاءُ الْعِتْقِ، وَإِذَا شَرَطَ سُقُوطَهُ فِي الْعِتْقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ الْوَاحِدَةُ بَائِنَةً إِذَا جَعَلَهَا بَائِنَةً، وَتَسْقُطُ الرَّجْعَةُ فِيهَا بِإِسْقَاطِهِ لَهَا، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ، إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فيه، ثم تفسد مَذْهَبُهُ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً، كَانَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً غَيْرَ بَائِنَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، لَا رجعة لي فِيهَا، كَانَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً لَهُ الرَّجْعَةُ، كَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثَّانِيَةِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْكِنَايَةِ يشتمل عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَإِنْ وَقَعَ بِالصَّرِيحِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِالْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَعَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ دَاوُدَ: إِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ، دُونَ الصَّرِيحِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى واحد، فَحُمِلَ عَلَى مُوجِبِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَالْكِنَايَةُ تَحْمِلُ مَعَانِيَ، فَلَمْ تَنْصَرِفْ إِلَى أَحَدِهِما إِلَّا بِنْيَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ العبادات لا تعقد إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ، وَمَا كَانَ مُحْتَمِلًا كَالصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّرِيحَ حَقِيقَةٌ وَالثَّانِيَ مَجَازٌ، وَالْحَقَائِقُ يُفْهَمُ مَقْصُودُهَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 وَالْمَجَازُ لَا يَقُومُ مَقْصُودُهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى نِيَّةٍ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الصَّرِيحُ إِلَى نِيَّةٍ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ إِذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ النِّيَّةِ كَالْبَائِنِ وَالْبَتَّةِ والخلية والبرية كَانَ رَجْعِيًّا، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بَائِنًا، لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ كَتَبَ بِطَلَاقِهَا فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ كَمَا لَا يَكُونُ مَا خَالَفَهُ الصَّرِيحُ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يَنْوِيَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ الْكَلَامِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فِعْلٌ وَكِنَايَةٌ وَإِشَارَةٌ، فَأَمَّا الْفِعْلُ: مِثْلُ الضَّرْبِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَكُونُ طَلَاقًا، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُوقِعَهُ بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ، عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالْفِعْلِ، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ النِّيَّةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ الطَّلَاقَ أَعْظَمُ حُكْمًا مِنَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، لِأَنَّهُ يُسَاوِيهِمَا فِي قَصْدِ التَّحْرِيمِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِمَا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ إِلَّا بِقَوْلِهِ دُونَ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ، كَانَ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ أَوْلَى. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْكِنَايَةُ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ بِخَطِّ يَدِهِ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهَا صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْذَرَ بِكُتُبِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 91] . وَقَدْ بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرسالة بمكاتبة من كَاتِبِهِ، وَلِأَنَّهَا تَقُومُ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ، ثُمَّ هِيَ أَعَمُّ مِنْ إِفْهَامِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُخْتَصِّ بِإِفْهَامِ الْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي مَوْضِعِ الْكَلَامِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَارِيَةً فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْكَلَامِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ خَطًّا، وَأَقَامُوهُ مَقَامَ تَلَفُّظِهِمْ بِهِ نُطْقًا، حَتَّى صَارَ مَا تَضَمَّنَهُ إِجْمَاعًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ صَرِيحًا فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الصَّرِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رَسُولَهُ نَذِيرًا لِأُمَّتِهِ وَمُبَلِّغًا لِرِسَالَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 199] . فَلَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ كَالْكَلَامِ الصَّرِيحِ، لَمَكَّنَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مِنْهَا، وَلَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِيَكُونَ مَعَ تَكْلِيفِ الْإِنْذَارِ مُمَكَّنًا مِنْ آلَائِهِ، وَكَامِلًا لِصِفَاتِهِ، وَمُعَانًا عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ، حَتَّى لَا يَنَالَهُ نَقْصٌ فَيُقَصِّرَ، وَلَا ضَعْفٌ فَيَعْجِزَ، وَلَكَانَ لَا يَبْعَثُ رَسُولًا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 إِلَّا أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ، كَمَا لَا يَبْعَثُ رَسُولًا أَخْرَسَ، لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنْ كتب، وفي فحوى هذا دليل على خروج الكتابة مِنْ صَرِيحِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ مَقَامَ صَرِيحِ الْكَلَامِ لَأَجْزَأَ مِنْ كَتْبِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَاقْتَضَى مِنَ الْمُرْتَدِّ إِذَا كَتَبَ الشَّهَادَتَيْنِ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَفِي امْتِنَاعِنَا مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْكِتَابَةِ مِنْ حُكْمِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ صَرِيحًا كَالْكَلَامِ لَصَحَّ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، كَمَا يَقَعُ بِهَا فِيهِ الطَّلَاقُ، وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِهَا لَا يِصِحُّ دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِهِمَا مِنْ صَرِيحِ الْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَيْسَتِ الْكِتَابَةُ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ. وَقَالَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهَا لَا تَكُونُ كِنَايَةً، وَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَاهُ، لِأَنَّهَا فِعْلٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّ كِتَابَةَ الْيَدِ تُرْجُمَانِ اللِّسَانِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ كَمَا أَنَّ كِنَايَةَ الْكَلَامِ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ تَقُمِ الْكِتَابَةُ مَقَامَ الصَّرِيحِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْقَلْبِ لَمْ تَقُمِ الْكِنَايَةُ مَعَ الْكَلَامِ إِلَّا بِنُطْقِ اللِّسَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا وَفِي الْإِمْلَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّ الْكِتَابَةَ كِنَايَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا نَقْصٌ عَنِ الْكَلَامِ لِاحْتِمَالِهَا وَتُخَالِفُ الْأَفْعَالَ لِإِفْهَامِ الْمُخَاطَبِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْكَلَامِ، تَقْتَضِي أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَحْكَامِ الْكَلَامِ، فَصَارَتْ كَالْمُحْتَمَلِ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِيهِ: (فَصْلٌ:) فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ مِنْ حَاضِرٍ وَلَا غَائِبٍ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فِي أَنَّ الْكِتَابَةَ كِنَايَةٌ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَيَصِحُّ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ مِنَ الْغَائِبِ، وَهَلْ يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْغَائِبِ، لِأَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ، مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنَ الْغَائِبِ ضَرُورَةٌ كَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَمِنَ الْحَاضِرِ غَيْرُ ضَرُورَةٍ كَإِشَارَةِ النَّاطِقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي عُرْفِ الْغَائِبِ، وَغَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِي عُرْفِ الْحَاضِرِ، فَأَمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 الظِّهَارُ بِالْكِتَابَةِ فَهُوَ كَالطَّلَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ بِالْكِتَابَةِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ، وَأَمَّا عَقْدُ الْبَيْعِ وَالْإِجَابَةِ بِالْكِتَابَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِن الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِمَا وَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ فَأَوْلَى أَن لَا يَنْعَقِدَ بِهَا بَيْعٌ وَلَا إِجَارَةٌ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا، وَإِنَّهَا كِنَايَةٌ فِيهِ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِهِمَا وَجْهَانِ، مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِصَرِيحِ الْعَقْدِ وَكِنَايَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَا تَصِحُّ بِالْكِنَايَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ تَصِحُّ بِالْكِنَايَاتِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ: أَنَّهُ وَجَدَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ إنِّي قَدْ بِعْتُكَ دَارِي، فِيهِ بِكَذَا صَحَّ الْبَيْعُ، إِذَا قَبِلَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يفارق مجلسه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: (فإذا كَتَبَ إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي فَحَتَّى يَأْتِيَهَا) . قَالَ الماوردي: وإذا قد مضى الكلام، حُكْمُ الْكِتَابَةِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، وَفِي كَوْنِهَا كِنَايَةً قَوْلَانِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ كَتَبَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِكِتَابَتِهِ لَفْظٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا نِيَّةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَتَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ وَنِيَّةٍ، فَإِنْ قَارَنَهَا لَفْظٌ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الْكِتَابَةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكِتَابَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَقَعَ بِهِ، وَإِنْ قَارَنَهَا نِيَّةُ الطَّلَاقِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا قَوْلَانِ، إِنْ قِيلَ كِنَايَةٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قِيلَ لَيْسَتْ كِنَايَةً لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ تَجَرَّدَتِ الْكِتَابَةُ عَنْ قَوْلٍ وَنِيَّةٍ لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ مُجَرِّبًا لِخَطِّهِ، أَوْ مُرْهِبًا لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا؛ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى زَوْجَتِهِ إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِمَّا مَعَ لَفْظٍ اقْتَرَنَ بِهِ فَكَانَ طَلَاقًا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِمَّا مَعَ نِيَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِخَطِّهِ، فَكَانَ طَلَاقًا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ تَفَرُّعُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَهُوَ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَهُوَ مَجِيءُ الْكِتَابِ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِئْهَا الْكِتَابُ لَمْ تُطَلَّقْ فَإِنْ تَأَخَّرَ لِهَلَاكِهِ فَقَدْ بَطَلَتْ صِفَةُ طَلَاقِهَا، فَهُوَ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ سَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُهُ بِسَبَبٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ مَعَ بَقَائِهِ فَالصِّفَةُ بَاقِيَةٌ، وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهَا مُنْتَظِرٌ لِمَجِيءِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ سَوَاءٌ قَرَأَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْرَأْهُ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَجِيئِهِ لَا بِقِرَاءَتِهِ، وَلَوْ كَانَ كَتَبَ إِذَا جَاءَكِ كِتَابٌ وَقَرَأْتِيهِ لَمْ تُطَلَّقْ لِمَجِيئِهِ حَتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 تقرأه، فإن قرأ عَلَيْهَا لَمْ تُطَلَّقْ، إِنْ كَانَتْ تُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَطُلِّقَتْ إِنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ مَمْحُوَّ الْكِتَابَةِ، فَلَا طَلَاقَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْمَكْتُوبُ وَمَا لا كتابة فيه فهو كأخذ وَلَيْسَ بِكِتَابٍ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمَاحِيَ لَهُ أو غيره، ولكن لو تطلست كتابته ولم يمح نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْقِرَاءَةِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومٍ لَمْ تُطَلَّقْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُ، فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ مَوْضِعَ طَلَاقِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَصِلْ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ طَلَاقِهَا بَاقِيًا وَالذَّاهِبُ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُطَلَّقُ سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ، لِأَنَّ الْوَاصِلَ مِنْهُ بَعْضُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَاصِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنَ الْمَكْتُوبِ لَمْ تُطَلَّقْ، لا بَعْضُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ غَيْرِ الْمَكْتُوبِ طُلِّقَتْ، لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ هُوَ جَمِيعُ الْكِتَابِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنْ وَصَلَ أَكْثَرُهُ طُلِّقَتْ، وَإِنْ وَصَلَ أَقَلُّهُ لَمْ تُطَلَّقِ اعْتِبَارًا بالأغلب. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ حِينِ كَتَبَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اقْتَرَنَ بِكِتَابَتِهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْأَصَحِّ مِنْ قَوْلَيْهِ، الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَتَبَ طَلَاقًا نَاجِزًا، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِوُصُولِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا، فَيَعْمَلُ وُقُوعُهُ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ تَلَفَّظَ بِطَلَاقِهَا نَاجِزًا وَخَالَفَ أَنْ يُكْتَبَ، إِذَا وَصَلَ إليك كتابي فأنت طالق، فلا يطلق إِلَّا بِوُصُولِهِ، لِأَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ، وَذَاكَ نَاجِزٌ، فَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: إِذَا أَتَاكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهَا إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَهَا الْكِتَابُ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِوُصُولِ الْكِتَابِ وَالثَّانِيَةُ بِمَجِيءِ الطَّلَاقِ، لأن الصفتين موجودتين فِي وُصُولِهِ، وَعَلَى مِثَالِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أَكَلْتِ رُمَّانَةً، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً فَتُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ لِأَنَّهَا قَدْ أَكَلَتْ نِصْفَ رُمَّانَةٍ وَأَكَلَتْ رُمَّانَةً وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا أَكَلْتِ نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكُلَّمَا أَكَلْتِ رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ فِيهَا نِصْفَيْنِ، فَطُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَهِيَ رُمَّانَةٌ، فَطُلِّقَتْ ثَالِثَةً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ تَدَّعِيَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا، أَنَّهُ كَتَبَ إليها بطلاقها، وتحضر كِتَابًا بِالطَّلَاقِ تَدَّعِي أَنَّهُ كِتَابُهُ وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَهُ، فَإِنْ لَمْ تَصِلِ الْمَرْأَةُ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ كِتَابُهُ، نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ، لَمْ يُحْلَفِ الزَّوْجُ، وَإِنْ وَصَلَتْ دَعْوَاهَا، بِأَنَّهُ كَتَبَ نَاوِيًا أُحْلِفَ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْكِتَابِ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا كَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلنِّيَّةِ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا نَوَى، وَإِنْ أُحْلِفَ أَنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ، وَيَعْتَقِدُهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْكِتَابِ شَاهِدَانِ، أَنَّهُ خَطُّهُ وَكِتَابُهُ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَالشَّهَادَةُ وَإِنْ صَحَّتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَا تَصِحُّ عَلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ تَخْفَى وَالْكِتَابَةَ لَا تَخْفَى، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ، يَعْنِي يُقِرُّ بِالْكِتَابِ وَالنِّيَّةِ مَعَ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى خطه؟ قيل بأن رأياه يكتبه، ولا تغيب الْكِتَابُ عَنْ أَعْيُنِهِمَا حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَأَيَاهُ، يَكْتُبُهُ وَلَكِنَّهُمَا عَرَفَا خَطَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، لِأَنَّ الْخَطَّ (يشبه الخط) ، وَإِنْ رَأَيَاهُ قَدْ كَتَبَهُ وَغَابَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ فَيَتَشَبَّهُ بِهِ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَلْزَمُ الشَّاهِدَيْنِ، أَنْ يَشْهَدَا بِهَا، وَلَا الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْإِشَارَةُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَخْرَسِ، قَامَتْ مَقَامَ نُطْقِهِ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِإِشَارَتِهِ كَمَا يَقَعُ طَلَاقُ النَّاطِقِ بِلَفْظِهِ، إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ مِنْهُ طَلَاقًا صَرِيحًا وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ نَاطِقٍ، لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ بِالطَّلَاقِ أَخَصُّ. فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ مُرِيدًا بِهَا الطَّلَاقَ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَدْءٌ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةً، فَالْإِشَارَةُ بَعْدَ الْبَدْءِ، لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ قَدْ تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا وَأَشَارَ بِأصْبَعٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَلَوْ أَشَارَ بِأصْبَعَيْنِ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَلَوْ أشار بثلاثة أَصَابِعَ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَقَامَتْ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الثَّلَاثِ، مَعَ قَوْلِهِ هَكَذَا مَقَامَ نِيَّتِهِ بِالثَّلَاثِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ، فَلَوْ أَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ قَائِمَةٍ وَبِأصْبَعَيْنِ مَعْقُودَتَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ الثَّلَاثَ الْقَائِمَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ أَرَادَ الْأصْبَعَيْنِ الْمَعْقُودَتَيْنِ طُلِّقَتْ ثنتين، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ، طُلِّقَتْ بِالثَّلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثًا، لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ إِشَارَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْإِشَارَةِ عَدَدٌ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ مَا أَرَدْتُ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا إِلَّا بِأَنْ يُرِيدَهُ وَلَوْ أَرَادَ طَلَاقًا فَقَالَتْ قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي سُئِلَتْ فَإِنْ أَرَادَتْ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ فليس بطلاق) . قال الماوردي: اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: أحدهما: أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِنَفْسِهِ مُبَاشِرًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُبَاشَرَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ وَكِيلًا، فَيَقُومُ الْوَكِيلُ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي اسْتَنَابَهُ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُفَوِّضَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لَهَا وَلَا يَكُونُ تَوْكِيلًا وَاسْتِنَابَةً، وَهُوَ جَائِزٌ يَصِحُّ بِهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير نساءه، فاخترنه فلولا أن لتخييرهن تأثير فِي الْفُرْقَةَ إِنِ اخْتَرْنَهَا، مَا كَانَ لِتَخْيِيرِهِنَّ مَعْنًى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَفْوِيضِهِ الطَّلَاقَ إِلَى زَوْجَتِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحٍ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: بِكِنَايَةٍ مِنْهُمَا، وَالثَّالِثُ: بِصَرِيحٍ مِنْهُ وَكِنَايَةٍ مِنْهَا، وَالرَّابِعُ: بِكِنَايَةٍ مِنْهُ وَصَرِيحٍ مِنْهَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وهو أن يكون بصريح مِنْهُمَا جَمِيعًا فَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ فَتَقُولَ: قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِطَلَاقِهَا لِنَفْسِهَا، وَلَا يُرَاعَى مِنْ أَصْلِ الطلاق ووقوعه نية واحدة مِنْهُمَا، فَأَمَّا عَدَدُ الطَّلَاقِ فَلَهُمَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أحوال: أحدها: أَنْ يَذْكُرَاهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَاهُ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يطلقاه، فإن ذكراه فلهما فيه حالتان: أحدهما: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَعَ الْعَدَدُ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ طَلْقَتَيْنِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلْقَتَيْنِ، أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَالَتْ: قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ أَوْ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ وَقَعَ أقل العددين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَتُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ تُطَلَّقْ. وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَ هَذَا وَأَمَّا إِنْ نَوَيَا الْعَدَدَ وَلَمْ يَذْكُرَاهُ حُمِلَا فِيهِ عَلَى نِيَّتِهِمَا، فَإِنِ اتَّفَقَا فِي نِيَّةِ الْعَدَدِ فَنَوَيَا طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كَانَ عَلَى مَا نَوَيَا مِنَ الْعَدَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِي الْعَدَدِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي النِّيَّةِ كَانَ الْعَدَدُ مَحْمُولًا عَلَى أَقَلِّ الثِّنْتَيْنِ كَمَا لَوْ أَظْهَرَاهُ قَوْلًا، فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَنَوَتِ الزَّوْجَةُ وَاحِدَةً كَانَتْ وَاحِدَةً وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا عَدَدًا وَلَا نَوَيَاهُ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ كِنَايَةً وَقَبُولُهَا كِنَايَةً كَقَوْلِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ فَتَقُولُ: قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي، فَلَا يَقَعُ الطلاق حتى ينوياه جميعاً فإن نواه دُونَ الزَّوْجَة أَوِ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِيَاهُ وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْكِنَايَةَ الظَّاهِرَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا نَوَاهُ الزَّوْجُ وَحْدَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَنْوِهِ الزَّوْجَةُ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ سُئِلُوا عَمَّنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةً، وَلَهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا طَلَاقَ، وَتَابَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فَأَوْقَعَ جَمِيعُهُمُ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا النِّيَّةَ، فَصَارُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ مِنْ جِهَتِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ نِيَّتِهَا فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ لَهَا كِنَايَةً، يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّة، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اخْتَارِي نَفْسَكِ لِلنِّكَاحِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهَا لِنَفْسِهَا كِنَايَةً، تَرْجِعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهَا لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ اخْتَرْتُ نَفْسِي لِنِكَاحِكَ أَوْ طَلَاقِكَ، أَلَا تَرَاهَا لَوْ قَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي لِنِكَاحِكَ لَمْ تُطَلَّقْ، كَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَتْ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الزَّوْجِ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ، فَكَذَلِكَ إذا لم يعتبروا نية الزوجة، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، فَحَسْبُنَا بِهِ دَلِيلًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا صَحَّ، بدخول الدار لم تطلق لا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْهَا، كَذَلِكَ إِذَا خَيَّرَهَا فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَخْتَارَ طَلَاقَ نَفْسِهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْهُمَا، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِنِيَّتِهِمَا فَلَهَا ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا. وَالثَّالِثَةُ: أن لا يَكُونَ لَهَا اخْتِيَارٌ. فَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا اخْتِيَارٌ لَمْ تُطَلَّقْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا، مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] الْآيَةَ. فَقُلْتُ فِي أَيِّ هَذَيْنِ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَا فَعَلْتُ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ، فَاخْتَرْتَهُ طَلَاقًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ اخْتَرْنَهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا ضِدُّ اخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهَا، فَلَمَّا طُلِّقَتْ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، وَجَبَ أَن لَا تُطَلَّقَ بِاخْتِيَارِ زَوْجِهَا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَلَا تكون ثلاثاً ولا واحدة بائنة، ما قدمناه فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ إِذَا وَقَعَ بِالْكِنَايَةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَقَالَتْ: قَدِ اخترت نفسي أو قال لها لَهَا: أَبِينِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي، وَهَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَتِ الْكِنَايَةُ مِنْهُمَا، فَقَالَ لَهَا: حَرِّمِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي، أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ قَدْ حَرَّمْتُ نَفْسِي لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ حَتَّى يَنْوِيَاهُ جَمِيعًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 (فَصْلٌ:) فَإِنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي، لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَتْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةً، إِذْ لَيْسَ اخْتِيَارُهَا لِأَبِيهَا مُوجِبًا لِفِرَاقِ زَوْجِهَا. وَلَوْ قَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ الْأَزْوَاجَ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ إِذَا نَوَتْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى نِكَاحِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ لِعِلَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِنَفْسِهَا لَا تَكُونُ ذَاتَ زَوْجٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَتْ: قَدِ اخْتَرْتُ زَيْدًا نَاوِيَةً لِلطَّلَاقِ طُلِّقَتْ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ صَرِيحًا وَقَبُولُهَا كِنَايَةً. فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، أَوْ قَدْ جَعَلْتُ بِيَدِكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ، فَتَقُولُ: قَدِ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي، فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجِ، لِأَنَّ صَرِيحَ الزَّوْجِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَكِنَايَةَ الزَّوْجَةِ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ نَاوِيَةً لِلطَّلَاقِ طُلِّقَتْ، عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ قَبُولَ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا لِلنِّكَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ النِّيَّةِ تَقُومُ مَقَامَ الصَّرِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَجَرَى اخْتِلَافُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ مَجْرَى اخْتِلَافِ الصَّرِيحَيْنِ، وَاخْتِلَافِ الْكِنَايَتَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَسُئِلَتِ الزَّوْجَةُ عَنْ نِيَّتِهَا، فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ الطَّلَاقَ لَمْ تُطَلَّقْ فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ طُلِّقَتْ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا قَدْ نَوَتْ، وَإِنْ قَالَتْ: أَرَدْتُ الطَّلَاقَ، طُلِّقَتْ فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ النِّيَّةَ بَاطِنَةٌ لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ قَوْلُهَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ كَمَا لَوِ ادَّعَتْهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ دَخَلْتُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّتُهَا، أَخْفَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِحَيْضِهَا، فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ لَهَا إِذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ، قُبِلَ فِيهِ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَكْذَبَهَا، فَأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِيمَا تَعَلَّقَ مِنْ نِيَّتِهَا، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى نِيَّتِهَا، أَشَدُّ تَعَذُّرًا مِنْ إِقَامَتِهَا عَلَى حَيْضِهَا، لِاسْتِحَالَةِ تِلْكَ وَإِمْكَانِ هَذِهِ، وَخَالَفَ قَوْلُهُ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَدَّعِي دُخُولَهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دُخُولِهَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ كِنَايَةً وَقَبُولُهَا صَرِيحًا فَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَتَقُولُ قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي، فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزوج ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ كِنَايَةَ الزَّوْجِ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَصَرِيحَ الزَّوْجَةِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النية، فإن قالت أَرَدْتُ الطَّلَاقَ طُلِّقَتْ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ جُنَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ إِرَادَتُهُ، لَا تُطَلَّقُ وَكَانَ لَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ مُجَوِّزَةٌ وَالطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَأَرَادَ بِهِ طَلَاقَهَا فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ بَذْلًا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِمْلَاءِ) : لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا صَارَ صَرِيحًا، فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا، وَتَعْلِيقِهِ بِقَبُولِهَا، فَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِهِ الْجَارِي مَجْرَى قَوْلِهِ: قَدْ مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ، وَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْتِ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا نَوَاهُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَأَرَادَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى قَبُولِهَا وَتَطْلِيقِهَا لِنَفْسِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ أَحْبَبْتِ فِرَاقِي، فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، حَتَّى تَقُولَ قَبْلَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحْبَبْتُ فِرَاقَكَ، ثُمَّ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُؤَجَّلٌ، وَبَذْلٌ مُنْتَظَرٌ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِ زَيْدٍ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِبُطْلَانِ التَّمْلِيكِ، وَفَسَادِ الْبَذْلِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ تُطَلِّقِينَ نَفْسَكِ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ جَازَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَلَهَا إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ أَوْ قَدِمَ زَيْدٌ أَنْ تُعَجِّلَ طَلَاقَهَا، فَإِنْ أَخَّرَتْهُ لَمْ تُطَلَّقْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّمْلِيكِ، الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ لِأَجَلٍ مُنْتَظَرٍ، وَلَا بِصِفَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ، وَقُدُومِ زَيْدٍ لَمْ تُطَلَّقْ، لِبُطْلَانِ التمليك، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّهَا إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَجْلِسِ وَتُحْدِثُ قَطْعًا لِذَلِكَ أَنَ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِهَذَا الْمَوْضِعِ إِجْمَاعٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا فَهُوَ تَمْلِيكٌ، يُرَاعَى فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبُولِ، وَالْقَبُولُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فَتَمْلِكَ بِتَعْجِيلِ الطَّلَاقِ مَا مَلَّكَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَجْلِسِ أَوْ يُحْدِثَ قَطْعًا لِذَلِكَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَا مَا يَقْطَعُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا عَنِ الْمَجْلِسِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ حَدَثَ تَشَاغُلٌ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعَالٍ لَمْ تُطَلَّقْ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا مُمْتَدًّا فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا، وَفِي (الْإِمْلَاءِ) أَنَّهُ مُمْتَدٌّ فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ، فَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِيهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ تَرَاخَى الزَّمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّهُ قَبُولُ تَمْلِيكٍ، فَأَشْبَهَ الْقَبُولَ فِي تمليك البيع والهبة، وإطلاق الشافعي من مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّ أُصُولَهُ مُقَرَّرَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، أَنَّهَا إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ إِجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ إِلَى شَهْرٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْدُودٌ وَمَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا مَلَّكَهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا، ثُمَّ رَجَعَ فِي التَّمْلِيكِ، قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا صَحَّ رُجُوعُهُ وَبَطَلَ تَمْلِيكُهُ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ طُلِّقَتْ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، فَلَمْ يَمْلِكِ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتُطَلَّقُ مَتَى دَخَلَتِ الدَّارَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ لِوُقُوفِهِ عَلَى قَبُولِهَا، وَلِلْمَالِكِ وبعد بَذْلِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِهِ مِنْهُ، كَمَا يَرْجِعُ فِي بَذْلِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، قَبْلَ قَبُولِهِمَا مِنْهُ، وَخَالَفَ تَعْلِيقَ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَيْسَ لَهَا إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَالتَّمْلِيكِ الَّذِي لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَكَانَ لَهُ إِبْطَالُهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا صَحَّ رُجُوعُهُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَمَتَى طلقت نفسها بعد عِلْمِهَا بِرُجُوعِهِ، كَانَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ، مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ حَتَّى اقْتَصَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ المزني: (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَإِنْ مَلَّكَ أَمْرَهَا غَيْرَهَا فَهَذِهِ وَكَالَةٌ مَتَى أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَمَتَى شَاءَ الزَّوْجُ رَجَعَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا وَكِيلُ زَوْجِهَا، بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَمْضَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْوَكَالَةُ فِي النِّكَاحِ مَعَ تَغْلِيظِ حُكْمِهِ كَانَ جَوَازُهَا فِي الطَّلَاقِ أَوْلَى، فَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا عَاقِلًا جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَجْنُونًا وَلَا صَغِيرًا، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِمَا، وَفِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ لِامْرَأَةٍ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي الْخُلْعِ، ثُمَّ الْوَكَالَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ، فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ لِنَفْسِهَا، لِأَنَّ هَذِهِ نِيَابَةٌ وَذَاكَ تَمْلِيكٌ، فَإِنْ ذَكَرَ لَهُ مِنَ الطَّلَاقِ عَدَدًا لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طالق ونوى أن يكون ثلاثاً فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَقُومُ مَقَامَ التَّلَفُّظِ بِالثَّلَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَلَا تَقُومُ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّةِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ مَدِينٌ فِي الطَّلَاقِ مَعْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ فِيهِ، وَالْوَكِيلُ غَيْرُ مَدِينٍ فِي الطَّلَاقِ فَلَمْ يُعْمَلْ عَلَى نِيَّتِهِ فِيهِ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَفِي وُقُوعِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقَعُ، لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا وَكَّلَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وُكِّلَ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَهَذَا الطَّلَاقُ غَيْرُ بَائِنٍ فَصَارَ غَيْرَ مَا وُكِّلَ فِيهِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً، لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ، وَفِي وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ وَجْهَانِ: لَوْ وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَهَا صَحَّ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ جَائِزٌ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ فِيهِ جَائِزًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ تَعْيِينِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ إِبْهَامَ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّعْيِينِ، وَمِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّعْيِينِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُقَيَّدَةً، وَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي طَلَاقِهَا عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا فِيهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ، أَوْ يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ لَمْ تُطَلَّقْ، أَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 يَأْمُرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْبِدْعَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا لِلسُّنَّةِ لَمْ تُطَلَّقْ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا إِنْ شِئْتَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ حَتَّى يَقُولَ قَدْ شِئْتُ وَلَا يَكُونُ إِيقَاعُهُ لِلطَّلَاقِ مَشِيئَةً مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةٍ وَغَيْرِ مَشِيئَةٍ، وَالْمَشِيئَةُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَوْلِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَشِيئَتِهِ الْفَوْرُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَتِهَا، لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ لِلطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا، تَمْلِيكٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ، وَتَعْلِيقَهُ لِلطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهِ صِفَةٌ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهَا الْفَوْرُ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَهَا إِذَا شَاءَ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي جَازَ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَعَ الطَّلَاقِ الْمُتَرَاخِي، لَكِنْ مِنْ صِحَّةِ مَشِيئَتِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا الزَّوْجَ قَبْلَ طَلَاقِهِ فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا غَيْرَهُ ثُمَّ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ، لأنه إذا كان إخباره بها شرطاً، كان إِخْبَارُ الزَّوْجِ بِهَا أَحَقَّ، وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا إِنْ شَاءَتْ، رُوعِيَتْ مَشِيئَتُهَا عِنْدَ عَرْضِ الْوَكِيلِ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَسُؤَالِهَا عَنْ مَشِيئَتِهَا، فَتَصِيرُ حِينَئِذٍ مَشِيئَتُهَا مُعْتَبَرَةً عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ عَجَّلَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِذَا أَوْقَعَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَهَا، سَوَاءٌ أَوْقَعَهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ تَرَاخَتْ مَشِيئَتُهَا، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا، لِفَسَادِ الْمَشِيئَةِ. (فَصْلٌ:) وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا، بَطَلَتْ وَكَالَةُ الْآخَرِ وَلَوْ جَعَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَمْ تَبْطُلْ وَكَالَةُ الْآخَرِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا صَحَّ. وَهَكَذَا لَوْ وَكَّلَ وَاحِدًا فِي طَلَاقِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ بَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. وَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً، كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِحَالِهَا فِي الطَّلْقَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ ثَلَاثًا وَقَعَ مِنْهُمَا طَلْقَتَانِ، لِأَنَّهُمَا الْبَاقِيَتَانِ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ، بَعْدَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِهَا وَاحِدَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً، لَمْ تَبْطُلِ الْوَكَالَةُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً فِي الْعِدَّةِ، طُلِّقَتْ سَوَاءٌ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ مِنْ طَلْقَتِهِ، أَوْ لَمْ يُرَاجِعْ، فَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلْقَةِ الزَّوْجِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فَفِي بَقَاءِ الْوَكَالَةِ وَجَوَازِ طَلَاقِ الْوَكِيلِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ وَطَلَاقُ الْوَكِيلِ لَهَا وَاقِعٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ وَطَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِهِ أَمْ لَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْوَكَالَةِ أَوْ جُنَّ أَوْ مَاتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِجُنُونِ مُوَكِّلِهِ أَوْ مَوْتِهِ فَطَلَّقَ، لَمْ يَقَعْ طلاقه، لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ عَنْ زَوْجٍ مَيِّتٍ، أَوْ مَجْنُونٍ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِرُجُوعِ الزَّوْجِ حَتَّى طَلَّقَ، كَانَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُوَكَّلِ فِي الْقِصَاصِ، إِذَا اقْتَصَّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَفْوِ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ جَعَلَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فطلقت واحدة فإن لَهَا ذَلِكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا واحدة، طلقت واحدة، وقال مالك إذا قال طلقي نفسك ثلاثاً، فطلقت واحدة لا يقع شيء وإذا قال: طلقي واحدة فطلقت ثلاثاً، وقعت الثلاث، وعنه لَا تُطَلَّقُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَبُولَهَا بَعْضَ مَا مَلَّكَهَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ الْقَبُولِ، وَبُطْلَانِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ فَقَبِلَتْ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ مَنْ مَلَكَ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَلَكَ إِيقَاعَ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ كَالزَّوْجِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِتَبْعِيضِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْبَذْلَ إِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ ثَمَنٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالتَّبْعِيضِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُ الْبَعْضِ، وَلَوْلَا الثَّمَنُ لَصَحَّ، أَلَا تَرَى لَوْ وَهَبَ لَهَا عَبْدَيْنِ، فَقَبِلَتْ إحداهما صَحَّ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ مَا عَدَلَتْ إِلَيْهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي طَلَاقِهَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَمَا لَوْ جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَضَرَائِرَهَا، وَادَّعَى فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الثَّلَاثِ، غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَرُبَّمَا حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حنيفة والأول عن مالك. (مسألة:) قال الشافعي: (وَقَالَ فِيهِ وَسَوَاءٌ قَالَتْ طَلَّقْتُكَ أَوْ طَلَّقْتُ نَفْسِي إِذَا أَرَادَتْ طَلَاقًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا جَعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا، فَإِنْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي، طُلِّقَتْ وَكَانَ هَذَا صَرِيحًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّتِهَا. وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْتُكَ كَانَتْ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا نَوَتْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَتْهُ، وَقَدْ مَضَى الكلام في هذه المسألة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ طَلَّقَ بِلِسَانِهِ وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَكُنِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا بِلِسَانِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: أحدها: ما يصح مضمراً، مظهراً. وَالثَّانِي: مَا لَا يَصِحُّ مُضْمَرًا، وَلَا مُظْهَرًا. وَالثَّالِثُ: مَا يَصِحُّ مُظْهَرًا وَلَا يَصِحُّ مُضْمَرًا. فَأَمَّا مَا يَصِحُّ إِظْهَارُهُ وَإِضْمَارُهُ فَهُوَ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُطَلَّقَةِ، فَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ مُسَرَّحَةٌ إِلَى أَهْلِكِ، أَوْ مفارقة إلى المسجد فإن أظهره بلفظ صَحَّ وَحُمِلَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِهِ، فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي لَفْظِهِ وَأَضْمَرَهُ فِي نِيَّتِهِ صَحَّ إِضْمَارُهُ، وَدِينَ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ، اعْتِبَارًا بِالْمُضْمَرِ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ، اعْتِبَارًا بِالْمَظْهَرِ، وَأَمَّا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُطَلَّقَةِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَلَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ إِلَّا عَلَى الْحَالِ الَّتِي شَرَطَهَا، وَإِنْ أَضْمَرَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِلَفْظِهِ دِينَ فِيهِ، وَفِي الْبَاطِنِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِذَلِكَ الشَّرْطِ، اعْتِبَارًا بِإِضْمَارِهِ وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ اعْتِبَارًا بِإِظْهَارِهِ، فَهَذَا ضَرْبٌ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ إِضْمَارُهُ، وَلَا إِظْهَارُهُ، فَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ مَا أَوْقَعَ وَنَفْيُ مَا أَثْبَتَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ فِي إِظْهَارِهِ بِاللَّفْظِ وَإِضْمَارِهِ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ بَطَلَ وَبَيْنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ حَيْثُ صَحَّ: أَنَّ ذَاكَ صِفَةٌ مُحْتَمَلَةٌ وَحَالٌ مُمْكِنَةٌ، يَبْقَى مَعَهَا اللَّفْظُ عَلَى احْتِمَالٍ مُجَوَّزٍ، وَهَذَا رُجُوعٌ لَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ بِمَا عَلَّلْنَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَصِحُّ إِظْهَارُهُ وَلَا يَصِحُّ إِضْمَارُهُ، فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعَدَدِ، أَوِ الشَّرْطُ الواقع بحكم الطلاق، فالاستثناء من الْعَدَدِ، أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثنتين والشرط الرافع لحكم الطلاق، أنت يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فِي لَفْظِهِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ صَحَّ، وَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الطلاق إذا قال: إن شاء الله يقع عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ، فَأَوَّلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَصَحَّ وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بِلِسَانِهِ وَأَضْمَرَهُ بِقَلْبِهِ وَنَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى إلا اثْنَتَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ مَا أَضْمَرَهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمِنَ الْعَدَدِ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا كَانَ صَحِيحًا مَعَ الْإِظْهَارِ وَبَاطِلًا مَعَ الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَقْوَى مِنَ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَا يَقَعُ لِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، فَإِذَا تَعَارَضَتِ النِّيَّةُ وَاللَّفْظُ، يُغَلَّبُ حُكْمُ اللَّفْظِ لِقُوَّتِهِ عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ لِضَعْفِهِ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ. فَلَوْ قَالَ: وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ: أَنْتُنَّ طَوَالِقٌ، وَاسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَعَزَلَهَا مِنَ الطَّلَاقِ صَحَّ استثناؤه من الطلاقهن، مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا إِنِ اسْتَثْنَاهَا ظَاهِرًا بِلَفْظِهِ لَا فِي الظَّاهِرِ، وَلَا فِي الْبَاطِنِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا إِنِ اسْتَثْنَاهَا، بَاطِنًا بنيته في الباطن، وإن كان واقعاً، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِلْأَرْبَعِ: أَنْتُنَّ يَا أَرْبَعُ طَوَالِقٌ وَأَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً فَإِنِ اسْتَثْنَاهَا بِلَفْظِهِ صَحَّ، وَإِنْ عَزَلَهَا بِنِيَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ، كَالِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَرْبَعِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ بِقَلْبِهِ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ إِلَى أصْبَعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدِينُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدِينُ فِيهِ لِاحْتِمَالِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: لَا يَدِينُ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأصْبَعَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا طَلَاقُ انْفِصَالٍ، وَلَا طَلَاقُ تَحْرِيمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلَاقًا عَلَى أَن لَا يَكُونَ طَلَاقًا فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ تَحْرِيمَهَا بِلَا طَلَاقٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّمَ جَارِيَتَهُ فَأُمِرَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمَا تَحْرِيمُ فَرْجَيْنِ حِلَّيْنِ بِمَا لَمْ يَحْرُمَا بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا يَقَعُ مِنْ عَدَدِهِ مَا نَوَاهُ، مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عَدَدًا، كَانَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِيلَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 لَمْ يَكُنْ إِيلَاءً، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ يَحْرُمْ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا ظِهَارٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، وَهَلْ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي (الْإِمْلَاءِ) . وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حرام، فإن أرادبه عِتْقَهَا، عَتَقَتْ وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ تحرم وَطْئِهَا لَمْ تَحْرُمْ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَوْلًا وَاحِدًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْحُرَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خرجَ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أقاويل: أحدهما: تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ وَلَا فِي الْأَمَةِ. وَالثَّالِثُ: تَجِبُ فِي الْأَمَةِ، وَلَا تَجِبُ فِي الْحُرَّةِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْأَمَةِ أَصْلٌ، وَفِي الْحُرَّةِ فَرْعٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَمِينٌ، هَذَا مَذْهَبُنَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ - رضي الله عنه - في لفظ الَّذِي يُوجِبُ إِذَا فُقِدَتْ فِيهِ الْإِرَادَةُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بكر - رضي الله عنه - أنها يمين يجب بِهَا إِذَا حَنِثَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَالثَّانِي: مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ. وَالثَّالِثُ: مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالرَّابِعُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا لَا تَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَبِهِ قَالَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ. وَالْخَامِسُ: مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَالسَّادِسُ: مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَسْرُوقٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مَا أُبَالِي حَرَّمْتُهَا أَوْ حَرَّمْتُ مَاءَ الْبِئْرِ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: ما أبالي حرمتها أو حرمت قصعة تريد، وَبِهِ قَالَ: الشَّعْبِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالسَّابِعُ: مَا حُكِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهَا طَلْقَةٌ بائن، وبه قال: الحكم به عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 وَالثَّامِنُ: مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يكون إيلاء، يؤجل فيه أربعة من أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَطِئَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ طُلِّقَتْ طَلْقَةً بَائِنَةً، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا يَمِينٌ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ بِمَا يُعَلِّقُ عَلَيْهَا مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ طَعَامَهُ أَوْ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ يَمِينًا يَلْزَمُهُ بِهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، بِتَحْرِيمِ طَعَامِهِ وَمَالِهِ كَفَّارَةٌ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ يُوجِبُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِيلَاءِ وَالْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مرضات أزواجك والله غفور رحيم، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2] . فَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَحَكَى عُرْوَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتِ الْبَاقِيَاتُ: نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْمَعَافِيرِ، وَالْمَعَافِيرُ صَمْغُ الْعُرْفُطِ، لِأَنَّ مِنَ النَّحْلِ مَا يَكُونُ يَرْعَاهُ، فَيَظْهَرُ فِيهِ رِيحُهُ، وَكَانَ يُكْرَهُ رِيحُهُ، فَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ كَفَّرَ. وَحَكَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، لأنه كان خلا بها في منزل د حَفْصَةَ، فَغَارَتْ فَحَرَّمَهَا ثُمَّ كَفَّرَ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِمَاءِ وَالطَّعَامِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَجِبُ فِي الْإِمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال: {قد فرض لكم تحلة أيمانكم} فَدَلَّ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ عَلَى يَمِينٍ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (الْحَرَامُ يَمِينٌ تُكَفَّرُ) وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، كَانَتْ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي الطَّعَامِ وَالْمَالِ كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يا أيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مرضات أزواجك} فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَحَلَّهُ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَقَعْ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا وَظِهَارًا، وقَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، بِيَمِينٍ حَلَفَ بِهَا، فَعُوتِبَ فِي التَّحْرِيمِ، وَأُمِرَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّحْرِيمُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ مَاضٍ وَوَعْدًا بِمُسْتَقْبَلٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَحَرَّمَ جَارِيَتَهُ يَوْمًا بِيَمِينٍ، وكفر عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 تَحْرِيمِهِ. فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ يَمِينًا، أَوْ يَصِيرَ مُؤْلِيًا، وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ كَفَّرَ عَنْ تَحْرِيمِ الْجَارِيَةِ دُونَ الْعَسَلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ عَنِ اسْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ، قِيَاسًا عَلَى كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِيَمِينٍ حَلَفَ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ ابْنَ مُحْرِزٍ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَرَوِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ قَوْلَهُ: (الْحَرَامُ يَمِينٌ تُكَفَّرُ) ، أَيْ فِي الْحَرَامِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ خَالَفَ اللَّهَ تعالى فانعقدت به اليمين. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَا أَمْلِكُ عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي امْرَأَتَهُ وَجَوَارِيَهُ وَمَالَهُ كَفَّرَ عَنِ الْمَرْأَةِ والجواري كفارة يمين وَاحِدَةً وَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْ مَالِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُ مِنْ نِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا تَغْلِيظَ وَلَا حَدَّ فِي تَنَاوُلِ مَحْظُورِهِ، وَأَمَّا نِسَاؤُهُ وَجَوَارِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وهو قوله في القديم، وظاهرة نَصِّهِ هَاهُنَا، عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ لَفْظَةَ التَّحْرِيمِ وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ كَفَّارَةٌ، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِنَّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُحَرَّمَةٌ، وَمِثْلُهُ مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، بِاعْتِبَارِ أَعْدَادِهِنَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُحَرَّمَةٌ أَنَّهُ مُظَاهِرٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَهَكَذَا مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحَدِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِي: يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حد، لأنه مقذوف في عيشه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وَأَمَّا إِذَا حَرَّمَهُنَّ غَيْرَ مُرِيدٍ لِتَحْرِيمِ وَطْئِهِنَّ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ كِنَايَةً فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حُكْمٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْكَفَّارَةُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يلزمه منها، فمذهب جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ: أَحَدُهُمَا: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: بِأَعْدَادِهِنَّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ فِي إِرَادَةِ التَّحْرِيمِ، يَحْرُمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَجَازَ اعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِأَعْدَادِهِنَّ، وَمَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ، فَالْحُكْمُ فِي الْكَفَّارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ دُونَهُنَّ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِ عَدَدِهِنَّ وَجْهٌ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال المزني: (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ وَإِنْ نَوَى إِصَابَةً قُلْنَا أَصِبْ وَكَفِّرْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا، وَإِنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي تَحْرِيمِ الوطئ. الفرق بينه ونين الظِّهَارِ لِأَنَّهُ فِي الظِّهَارِ تَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَيَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى إِنْ أَخَّرَهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَيَجُوزُ لَهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِصَابَةَ وَيُؤَخِّرَ الْكَفَّارَةَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهَا عَلَى الْإِصَابَةِ، وَجَازَ تَعْجِيلُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطٍ. (فَصْلٌ:) فَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهِنَّ، إِنْ أَصَابَهُنَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى يُصِيبَهُنَّ، لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيمَ مَشْرُوطًا فِي نِيَّتِهِ بِإِصَابَتِهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَهُنَّ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِخِلَافِ مَا يَنْوِيهِ مِنْ شُرُوطِ الطَّلَاقِ، الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَدِينُ فِيهَا، فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَيْسَ كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَهُوَ كَالْحَرَامِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 قال الماوردي: إذا قال لزوجته أو لأمته: أنت عليه كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَهَذَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا أَوْ عِتْقًا صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يريد به تحريم الوطئ، فَيَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَفْظَ التَّحْرِيمِ، فَيَجْعَلَهُ قَائِمًا مَقَامَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَرَامَ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، كَانَ هَذَا كِنَايَةً عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ يُكَنَّى عَنْهُ، فَيَصِيرُ بِالنِّيَّةِ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِهِ وَاجِبَةً، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْحَرَامَ كِنَايَةٌ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حُكْمٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَيْسَ لَهَا كِنَايَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَن لَا يُرِيدَ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، أو حائض أو في عدة عن طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، أَوْ فِي ظِهَارٍ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّ وَطْأَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ، وَقَدْ زَوَّجَهَا أَوْ كَاتَبَهَا. أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، يُرِيدُ تَحْرِيمَ وطئها، لم تلزمه الكفارة، لأن وطئها مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَهُمَا: وَهُمَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا، لَا يُرِيدُ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا، فَإِنْ جَعَلْنَا اللَّفْظَ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِيرُ مُعَلَّقًا بِاللَّفْظِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً فِيهِمَا، لَمْ تَجِبْ عليه. (فصل:) وإذا قال زوجته: فَرَجُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَالَ: رَأْسُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَيْسَ لِذِكْرِ الْفَرْجِ زِيَادَةُ حُكْمٍ، لِأَنَّهُ بَعْضُهَا كَرَأْسِهَا، فَدَخَلَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ التَّحْرِيمِ أَعَمَّ، فَإِنْ أَرَادَ بِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَالرَّأْسِ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ بَطْنُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَانَ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ طَالِقٌ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ طُلِّقَتْ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَصَارَ مَا تَعَقَّبَ التَّحْرِيمَ مِنَ الطَّلَاقِ تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَصِرِ الطَّلَاقُ تَفْسِيرًا لِاسْتِئْنَافِهِ بِلَفْظٍ مُبْتَدَأٍ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي التَّحْرِيمِ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، كَانَ مُظَاهِرًا وَلَمْ تَلْزَمْهُ بِالتَّحْرِيمِ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَفَسَّرَ إِطْلَاقُهُ، بِقَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي، فَيَكُونُ ظِهَارًا، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ، الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حرام، فيكون مطلقاً مظاهراً. (مسألة:) قال الشافعي: (فأما ما لا يشبه الطلاق مثل قوله بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ أَوِ اسْقِينِي أَوْ أَطْعَمِينِي أَوِ ارْوِينِي أَوْ زَوِّدِينِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ نَوَاهُ وَلَوْ أَجَزْتُ النِّيَّةَ بِمَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ أَجَزْتُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي نَفْسِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: صَرِيحٌ وَقَدْ مَضَى، وَكِنَايَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَهُوَ هَذَا، كَقَوْلِهِ: أَطْعِمِينِي أَوِ اسْقِينِي أَوْ زَوِّدِينِي وَمَا أَحْسَنَ عِشْرَتَكِ وَمَا أَظْهَرَ أَخْلَاقَكِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوضَعُ لِلْفُرْقَةِ وَلَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبُعْدِ، فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لوقَوعَ بِمَا لا يتضمن معنى الفرقة، لوقع بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَى مَالِكٍ فِي إِيقَاعِهِ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: اطْعَمِي أَوِ اشْرَبِي، كَانَ كِنَايَةً يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، إِذَا نَوَاهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا يَكُونُ كِنَايَةً كَمَا قَالَ أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ اطعمني وَاشْرَبِي، يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبُعْدِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ اطْعَمِي مالك وَاشْرَبِي شَرَابَكِ وَهِيَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ، إِذَا خَلَتْ مِنْ زَوْجٍ، وَقَوْلُهُ: أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي، إذناً لها وتقريب، فجرى هذا مجرى قوله اقري، وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ اذْهَبِي، وَهِيَ كِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ: تَجَرَّعِي وَتَفَصَّصِي، كَانَ كِنَايَةً، وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَوْ قَالَ: جَرِّعِينِي وَغَصِّصِينِي كَانَ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ كِنَايَةً، كَمَا لَوْ قَالَ: أَطْعِمِينِي وَاسْقِينِي. وَالثَّانِي: يَكُونُ كِنَايَةً، لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَرَّعَنِي فرقاك، وَغَصَّصْتِينِي لِبِعَادِكِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، لَا يَكُونُ كِنَايَةً وَلَوْ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكِ، كَانَ كِنَايَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ الطَّلَاقُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَكُونُ صَرِيحًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ صَرِيحٌ، فَعَلَى هَذَا يطَلقُ وَاحِدَةً، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَكْثَرَ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَكُونُ كِنَايَةً، لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لَا تَكُونُ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 عَلَيْهَا إِذَا أَوْقَعَهُ، فَلِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعْنَ مَعًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: وَالْمَغْرِبِيُّ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا شَيْءٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ هُوَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لِاحْتِمَالِهِ الْعَدَدَ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا تَفْسِيرًا مِنْهُ لِلْعَدَدِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ مَنْصُوبًا، لِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، صَارَ الدِّرْهَمُ لِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا، تَفْسِيرًا لِلْعَدَدِ كَذَلِكَ الثَّلَاثُ تَفْسِيرا لِلْعَدَدِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، إِذَا طُلِّقَتْ ثلاثاً، قال عطاء بن يسار: فقلت ولاثنتين، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَأَمَّا هِيَ الْوَاحِدَةُ بَيَّنَتْهَا، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ: يَقَعُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، كَوُقُوعِهِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَقَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، وَقَعْنَ مَعًا فِي الْحَالِ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا، لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةٌ وَلَا بِدْعَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً تَبِينُ بِهَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، فِي أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ، أَنْ تَقَعَ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ، وَهِيَ بِالطَّلْقَةِ الْأُولَى قَدْ بَانَتْ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَقَدْ مضى الكلام معه. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَبَانَتْ بِلَا عِدَّةٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، مُرِيدًا بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ الِاسْتِئْنَافَ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا بِالْأُولَى بَانَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا إِذَا قَالَ لَهَا: مُتَّصِلًا لِأَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ، وَحُكْمُ أَوَّلِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى آخِرِهِ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُرَتَّبٌ قُدِّمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا وَقَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مَنْعَ مِنْ وُقُوعِ مَا تأخر عنه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 وَخَالَفَ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُنَّ وَقَعْنَ مَعًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا كَقَوْلِ مَالِكٍ فَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلُوهُ جَوَابَهُ عَنْ مَالِكٍ. فَصْلٌ: فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أنت طالق طَلْقَتَيْنِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا الثَّالِثَةُ لِانْفِرَادِهَا عَنْ مَا قَبْلَهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْفَ وَاحِدَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، طَلْقَتَانِ وَنِصْفٌ بكلمة واحدة فكلمت ثَلَاثًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةً، فَهِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا يُوجِبُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ قَبْلَهَا وَوُقُوعَ مَا قَبْلَهَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا، فَاقْتَضَى تَنَافِي الدَّوْرِ وإِسْقَاطَ الْجَمِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ وُقُوعَ مَا قَبْلَهَا مُوجِبٌ لِإِسْقَاطِهَا، وَإِسْقَاطَ مَا قَبْلَهَا يُوجِبُ إِثْبَاتَهَا، وَإِسْقَاطَ مَا قَبْلَهَا، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَهَا وَاحِدَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يَقَعَانِ مَعًا لَا تَتَقَدَّمُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَفْرَدَهَا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إذا دخلت فأنت طالق ثنتين، فَدَخَلَتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِوُقُوعِهِنَّ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، مَعَهَا وَاحِدَةٌ، فَدَخَلَتِ الدار، طلقت ثنتين لِوُقُوعِهِمَا مَعًا، وَلَوْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ وَاحِدَةً، لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ رَتَّبَهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ، كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَصْلًا. وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شيء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 وَلَوْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الدَّارِ طَلْقَتَانِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَقَعُ بِدُخُولِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا مُوَاجَهَةً: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ فِي الْمُوَاجَهَةِ يَتَرَتَّبُ وَفِي تَعْلِيقِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا الْوَجْهِ، أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ عِنْدَهُ، تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 (باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره وغيره من كتاب إباحة الطلاق والإملاء وغيرهما) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَأَيُّ أَجَلٍ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ وَقْتِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الطَّلَاقُ يَقَعُ نَاجِزًا وَعَلَى صِفَةٍ، وَإِلَى أَجَلٍ، فَوُقُوعُهُ نَاجِزًا أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَتَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَوُقُوعُهُ عَلَى صِفَةٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، سَوَاءٌ بِصِفَةٍ مُضَافَةٍ إِلَيْهَا بِدُخُولِ الدَّارِ، أَوْ مُضَافَةٍ إِلَى غَيْرِهَا كَقُدُومِ زَيْدٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِأَجَلٍ فَكَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى بَعْدِ شَهْرٍ، أَوْ إِلَى سَنَةٍ، أَوْ رَأْسِ الشَّهْرِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ الطَّلَاقُ مُعَجَّلًا، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ نِكَاحًا إِلَى مُدَّةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ كَالْمُتْعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ التَّحْرِيمِ إِلَى أَجَلٍ، يُوجِبُ تَعْجِيلَهُ كَالْمُكَاتَبَةِ لَمَّا أَوْجَبَتِ الْكِتَابَةُ تَحْرِيمَهَا بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْأَدَاءِ، تُعَجِّلُ تَحْرِيمَهَا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِشَرْطٍ، فَوَجَبَ أَن لَا يَقَعَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، قِيَاسًا عَلَى تَعْلِيقِهِ بِمَوْتِ زيد، فإن قبل فَمَوْتُ زَيْدٍ مَجْهُولُ الْأَجَلِ، قِيلَ إِذَا ثَبَتَ فيه لأجل الْمَجْهُولُ كَانَ ثُبُوتُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ أَحَقَّ، وَلِأَنَّهُ إزالة ملك لو علق بأجل معلوم مَجْهُولٍ، لَمْ يَزُلْ قَبْلَهُ وَجَبَ، وَإِذَا عُلِّقَ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَن لَا يَزُولَ قَبْلَهُ كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ أَجَلٌ لَوْ عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ، فَوَجَبَ إِذَا عُلِّقَ بِهِ الطَّلَاقُ أن لَا يَقَعَ قَبْلَهُ كَالْمَجْهُولِ، أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ إِلَى مُدَّةٍ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ النِّكَاحَ، عَقْدٌ يتَمنعُ فِيهِ دُخُولُ الْأَجَلِ، فَفَسَدَ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالطَّلَاقُ حَدٌّ لَا يَفْسَدُ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ، فَكَانَ أَوْلَى أن لا يَفْسَدَ بِالْأَجَلِ الْمَعْلُومِ، عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ مُبْطِلٌ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ مِثْلَهُ، لَكَانَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ مُبْطِلًا لَهُ دُونَ النِّكَاحِ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُهُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ دُونَ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِبَارُ لَهَا، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَمَلَكَ الْمَالَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مِلْكِ الْمَالِ عَلَيْهَا وَمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا كَالْخُلْعِ، وَخَالَفَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 الطلاق الموجل لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَعَجَّلُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ شَهْرٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهْرٍ، فِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ فِي الْحَالَيْنِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ شَهْرٍ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى شَهْرٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا، لِمُدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، بَلْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ شَرْطٌ، وَالطَّلَاقُ فِيهِمَا مُؤَجَّلٌ بَعْدَ شَهْرٍ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا خَارِجٌ بَعْدَ شَهْرٍ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَارِجٌ إِلَى شَهْرٍ، فِي أَنَّ الشَّهْرَ أَجَلٌ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ بَعْدَهُ. (فَصْلٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْإِمْلَاءِ) : وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، تِلْكَ الطَّلْقَةَ الْآنَ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَعْجِيلَهَا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ مَا أَجَّلَ، فَكَانَ أَغْلَظَ، وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ تِلْكَ وَإِيقَاعَ هَذِهِ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَفْعَ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ وَلَا الْمُعَلَّقِ بِصِفَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي غُرَّةِ هِلَالِ كَذَا طُلِّقَتْ فِي الْمَغِيبِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ ذَلِكَ الشَّهْرِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا تُطَلَّقُ إِلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِيَسْتَوْعِبَ بِهِ الصِّفَةَ الَّتِي علق به طَلَاقَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَقَعُ بِأَوَّلِ وُجُودِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، تُطَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ كَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَبَ أَنْ تُطَلَّقَ بِأَوَّلِ دُخُولِهِ فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ يُرَى فِيهَا هِلَالُهُ فَقَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْتِ طالق في شهر رمضان، وقوع الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي آخِرِهِ دِينَ فِيهِ، وَحُمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِهِ، وَأُلْزِمَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، كالذي قلنا بوفاق أبو ثَوْرٍ هَاهُنَا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا فِي آخِرِهِ لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ، وَلَزِمَهُ فِي الظَّاهِرِ تَعْجِيلُهُ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّ آخِرَهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ أَوَّلِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ دِينَ فِيهِ لِاحْتِمَالِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوَّلِهِ. وَلَوْ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 أَرَدْتُ فِي آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فَهَلْ يَدِينُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ مَسْأَلَةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غُرَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ بِدُخُولِ أَوَّلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي آخِرِهِ، لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغُرَّةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَرَادَ وُقُوعَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ، وَثَانِيهِ وَثَالِثِهِ، دِينَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ مِنَ الشَّهْرِ مِنْ غُرَّتِهِ لِقَوْلِهِمْ: ثَلَاثٌ غُرَرٌ، وَثَلَاثٌ بُهَرٌ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، لِمَ يُدَيَّنْ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسْتَهَلِّهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ إِلَى آخِرِهِ دِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَهَلُّ أَيَّامِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي انْسِلَاخِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي انْقِضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ يَكُونُ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ بِخُرُوجِ النَّهَارِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَجْمَعُهُمَا لُغَةً، وَالشَّرْعُ يَخُصُّ النَّهَارَ مِنْهُمَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ صَوْمَ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، فَكَانَ النَّهَارُ هُوَ الشَّهْرَ الشَّرْعِيَّ، وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ، قِيلَ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِجَمْعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وَهِيَ تَعْتَدُّ فِيهَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ جَمِيعًا، فَلَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا وَجْهٌ، مَا لَمْ يَخُصُّهُ دَلِيلٌ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ الشَّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهُ لِأَنَّ آخِرَ الشَّهْرِ نِصْفُهُ الثَّانِي، وَأَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا، فَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، فَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، لِأَنَّ آخِرَ الشَّهْرِ هُوَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْهُ، وَأَوَّلُ الْيَوْمِ طُلُوعُ فَجْرِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشمس في اليوم الخامس عشرة، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ نِصْفُهُ الْأَوَّلُ، وَآخِرَهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ، لِأَنَّ أَوَّلَهُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَآخِرَهُ غُرُوبُ شَمْسِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: تُطَلَّقُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ السَّادِسِ عَشَرَ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ أَوَّلَ آخر الشهر، أول الليلة السادسة عشر فَكَانَ آخِرُهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ، لِأَنَّ أَوَّلَ آخِرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ، فَكَانَ آخِرُهُ غُرُوبَ شَمْسِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ آخِرِ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: تُطَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ، لِأَنَّ آخِرَ أَوَّلِهِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ فَكَانَ أَوَّلُهُ طُلُوعَ فَجْرِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: تُطَلَّقُ بطلوع الفجر في أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ لِأَنَّ آخِرَ أَوَّلِ الشَّهْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِهِ، فَكَانَ أَوَّلُهُ طُلُوعَ الْفَجْرِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ طُلِّقَتْ فِي وَقْتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فِي غَدٍ طُلِّقَتْ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، طُلِّقَتْ فِي غَدٍ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، وَرُجِعَ إِلَى بَيَانِهِ فِي غَدٍ، فَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ أُخْرَى فِيهِ، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً، وَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ طَلْقَةٍ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً، فِي الْيَوْمِ وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى غَدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ لَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ، لِأَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي الْيَوْمِ فَهِيَ فِي غَدٍ كَذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِي الْيَوْمِ وَاحِدَةً، وَفِي غَدٍ أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْيَوْمِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ، وَفِي غَدٍ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ، طُلِّقَتْ فِي الْيَوْمِ وَاحِدَةً وَسُئِلَ عَنْ إِرَادَتِهِ عَنْ بَعْضِ التَّطْلِيقَةِ فِي غَدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَاقِيَ مِنَ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى، لَمْ تُطَلَّقْ فِي غَدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ بَاقِيَهَا، بِتَكْمِيلِ الطَّلْقَةِ فِي الْيَوْمِ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى طُلِّقَتْ فِي غَدٍ تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً تَكْمِيلًا لِلْبَعْضَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 أَحَدُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا يَقِينٌ. وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ، وَأُخْرَى فِي غَيْرِ تَسْوِيَةٍ بَيْنَ حُكْمِ الْيَوْمَيْنِ، وَأَنَّ بَعْضَ التطليقة يوم مَقَامَ التَّطْلِيقَةِ، لِوُجُوبِ تَكْمِيلِهَا بِالشَّرْعِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِذَا رَأَيْتُ هِلَالَ شَهْرِ كَذَا حَنِثَ إِذَا رَآهُ غَيْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رُؤْيَةَ نَفْسِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ رَآهُ جَمِيعُ النَّاسِ طُلِّقَتْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ رَآهُ النَّاسُ دُونَهُ طُلِّقَتْ عندنا، وقال أبو حنيفة: لا تطلق متى تراه بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحِنْثِ بِرُؤْيَتِهِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَرَآهُ غَيْرُهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ رُؤْيَةَ غَيْرِهِ لِلْهِلَالِ كَرُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ. ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ رُؤْيَةِ الشَّهْرِ مَحْمُولًا عَلَى مَا قَيَّدَهُ الشَّرْعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذَا عَلَّقَهُ بِرُؤْيَةِ زَيْدٍ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَ رُؤْيَةَ الْغَيْرِ لَهُ كَرُؤْيَتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ رُؤْيَةَ نَفْسٍ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَا نَوَى، وَلَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ وَحَنِثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ رَآهُ وَقَدْ أَرَادَ رُؤْيَةَ نَفْسِهِ فِي نَهَارِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِهِ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ تَقَدَّمَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ هِلَالَ الشَّهْرِ مَا كَانَ مَرْئِيًّا فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى صَارَ قَمَرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ حَقِيقَةَ الِاسْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِشَارَةَ، وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِيرُ الْهِلَالُ قَمَرًا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَصِيرُ قَمَرًا بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِذَا اسْتَدَارَ. وقال آخرون: إذا بهر ضوؤه، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْهِلَالِ خَمْسٌ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَمْضِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ تَكَلَّمَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَخَمْسٌ بَعْدَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ، التي هي اثني عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، بِكَمَالِ الشُّهُورِ وَنُقْصَانِهَا، لِأَنَّ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، فَإِنْ كَمُلَ فَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَقَصَ فَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا، وَالْأَغْلَبُ مِنَ السَّنَةِ الهلالية أنها ثلثمائة وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَرُبَّمَا نَقَصَتْ يَوْمًا أَوْ زادا يَوْمًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ فِيهَا بالأهلة، وهي مقدرة ثلثمائة وَسِتِّينَ يَوْمًا لِأَنَّهَا أَيَّامُ السَّنَةِ عُرْفًا، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا إِلَّا بِهَا، وَقَدْ يَكْمُلُ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ تَارَةً وتنقص أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عشر شهراً} . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا يُقَدَّرُ بِالشُّهُورِ، لَا يُرَاعَى فِيهِ كَمَالُ الْأَيَّامِ، وَجَبَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالسِّنِينَ لَا يُرَاعَى فِيهِ كَمَالُ الشُّهُورِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَقْتِ الَّذِي عُقِدَ فِيهِ هَذَا الطَّلَاقُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ، أَوْ قَضَاءً عَيَّنَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ ومع رأسه هلاله، اعتبرت اثني عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، فَإِذَا طَلَعَ هِلَالُ الشَّهْرِ الثَّالِثَ عَشَرَ، فَقَدِ انْقَضَتِ السَّنَةُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ فِي قَضَاءٍ عُيِّنَ شَهْرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا: وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ كَامِلًا، أَوْ نَاقِصًا، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا، وَبَاقِيهِ خمس وَعِشْرُونَ يَوْمًا، فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَمَضَى مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثَ عَشَرَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، فَقَدْ تَمَّتِ السَّنَةُ، وَوَقَعَ الطلاق، وإن كان الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، اعْتِبَارًا بِكَمَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَمَالُ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، لِأَنَّ فَوَاتَ هِلَالِهِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ كَمَالِهِ كَالصَّوْمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ) . فَلَوْ شَكَّ فِي وَقْتِ عَقْدِهِ لِهَذَا الطَّلَاقِ، هَلْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَوْ بَعْدَ عَشْرٍ مَضَتْ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إِلَّا بَعْدَ عَشْرٍ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ، اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ. وَهَلْ يَحْرُمُ عليه في هذا الشهر وطئها، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ طَلَاقُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إنَّ وَطْأَهَا لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا لَمْ يَقَعْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ وَطْأَهَا يَحْرُمُ لِلشَّكِّ فِي اسْتِبَاحَتِهَا، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 (فَصْلٌ:) فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ السَّنَةَ الْعَدَدِيَّةَ، الَّتِي هِيَ استكمال ثلثمائة وَسِتِّينَ يَوْمًا، دِينَ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ الَّتِي هِيَ ثلثمائة وخمس وَسِتُّونَ يَوْمًا تَرْجِعُ الشَّمْسُ بَعْدَهَا، إِلَى الْبُرْجِ الَّذِي طَلَعَتْ مِنْهُ، دِينَ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ فِي الشَّرْعِ يُوجِبُ حَمْلَهُ فِي الْحُكْمِ عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ، دُونَ الْعَدَدِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يُقْبَلْ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجَلِ، وَدِينَ فِي الْفُتْيَا لِاحْتِمَالِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ سَنَةَ التَّأْرِيخِ، الَّتِي أَوَّلُهَا مُسْتَهَلُّ الْمُحَرَّمِ، وَآخِرُهَا مُنْسَلَخُ ذِي الْحِجَّةِ، قُبِلَ مِنْهُ فِي الْفُتْيَا والحكم، لأنه أضر به وأقضى لأجله. فلو وقال: إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْحُكْمِ عَلَى سَنَةِ التَّأْرِيخِ، لِأَنَّهَا مَعْهُودَةٌ فَإِذَا انْقَضَتْ بِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ كَمَالَ سَنَةِ الْأَهِلَّةِ دِينَ فِي الْفُتْيَا، دُونَ الْحُكْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِيَ طُلِّقَتْ مَكَانَهَا وَإِيقَاعُهُ الطَّلَاقَ الْآنَ فِي وَقْتٍ مَضَى مُحَالٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِيَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ أَمْسَ، يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي طَلَاقًا يُوقِعُهُ الْآنَ فَهَذَا مُحَالٌ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا الْآنَ طَلَاقًا يَقَعُ عَلَيْهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ فَوَقَعَ، وَلَمْ يُرِدْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ يَقَعْ، وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ وَاقِعٌ لِوَقْتِهِ، وَلَا يَتَقَدَّمُ حُكْمُهُ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُتَقَدِّمُ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ وَاقِعًا لِلشَّهْرِ الْمَاضِي، اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهُ بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ، فَوَجَبَ إِذَا عَلَّقَهُ بِوَقْتٍ مَاضٍ أن لا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ صَحَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَاضِي، لِأَنَّهُ يَصِحُّ إِيجَادُ الْفِعْلِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَا يَصِحُّ إِيجَادُهُ فِيمَا مَضَى، ولذلك صح الأمر، فالأفعال الْمُسْتَقْبَلَةِ دُونَ الْمَاضِيَةِ، وَصَارَ مِنْهَا خَبَرًا، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَلَا إِرَادَةَ لَهُ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في كتاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَأُلْغِيَتِ الصِّفَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِمَنْ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ أَنْتِ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ؛ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَجْعَلُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ تَعْلِيلًا بِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ وَإِلْغَاءَ الصِّفَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، أَوْ شَرِبْتِ مَاءَ الْبَحْرِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ صُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي لَا يَجِبُ وُقُوعُهُ فِي الْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِلرَّبِيعِ، وَلَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ اسْتِحَالَةَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ لَا أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقُدْرَةِ، فَلِذَلِكَ صَارَ صِفَةً مُعْتَبَرَةً لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِلْغَائِهَا، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ الْحَادِثِ فِي الزمان الماضي مستحيل لخروجه عن القدرة، فصار الصِّفَةُ فِيهِ مُلْغَاةً، وَالطَّلَاقُ فِيهِ وَاقِعًا، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ، إِذَا عَلَّقَهُ بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لِاسْتِحَالَتِهِ كَمَا إِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّهْرِ الْمَاضِي، وَالصَّحِيحُ أن لا يَقَعَ، وَإِنْ كَانَ بينهما فرق فهو ما تقدم. (فصل:) فَصْلٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، فَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ شَهْرٍ، طُلِّقَتْ قَبْلَ قُدُومِهِ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ يَقَعُ بَعْدَ عَقْدِهِ، وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ قَبْلَ شَهْرٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُجعلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالرَّبِيعِ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ أَوْقَعَهُ قَبْلَ عَقْدِهِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ ها هنا، قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ وجود الشرط ها هنا مُمْكِنًا لَا يَسْتَحِيلُ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَوُجُودُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُسْتَحِيلٌ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، طُلِّقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ شَهْرٍ بلم تُطَلَّقْ؛ لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَمَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهَا، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنْ تَمُوتَ بَعْدَ شَهْرٍ، وَيَكُونُ مَوْتُهَا قَبْلَهُ لِأَقَلَّ مَنْ شَهْرٍ، لِيَكُونَ الشَّرْطُ مُصَادِفًا لِحَيَاتِهَا، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ، لِمُصَادَفَةِ الشَّرْطِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ سَوَاءٌ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يقع عَلَيْهَا مَعَ الْمَوْتِ، كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدُمُ فِيهِ زَيْدٌ، ثُمَّ مَاتَتْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ زَيْدٌ فِي آخِرِهِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ فِي (فُرُوعِهِ) ، أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، طُلِّقَتْ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لَهَا: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زَيْدٌ، كَانَ قُدُومُهُ فِي الْيَوْمِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مَعَ طُلُوعِ فَجْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، إِذَا تَقَدَّمَ الْمَوْتُ عَلَى الْقُدُومِ، وَأَنَّ قُدُومَ زَيْدٍ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ، حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَخَالَفَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْيَوْمِ وَحْدَهُ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِيهِ، حَيْثُ وَقَعَ بِطُلُوعِ فَجْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْيَوْمِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وُجِدَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَفِي تَعْلِيقِهِ بِقُدُومِ زَيْدٍ تَعْلِيقٌ لِطَلَاقِهَا بِشَرْطَيْنِ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِلَّا بِهِمَا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، قَدِمَ زَيْدٌ فِي آخِرِهِ، عُتِقَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَى قَوْلِ سُرَيْجٍ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ؛ ثُمَّ خَلَعَهَا وَقَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ قَبْلَ شَهْرٍ، لَمْ تُطَلَّقْ بِقُدُومِهِ، وَصَحَّ الْخُلْعُ، وَإِنْ قَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ شَهْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ صَحَّ الْخُلْعُ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِقُدُومِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهَا باتت بِالْخُلْعِ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ. فَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَقَدِمَ زَيْدٌ بَعْدَ عَقْدِ الطَّلَاقِ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ طُلِّقَتْ بِقُدُومِ زَيْدٍ، وَبَطَلَ الْخُلْعُ، لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ وَتَقَدُّمِ زَيْدٍ عَلَى الْخُلْعِ، فَصَارَ الْخُلْعُ وَاقِعًا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بقدوم زيد. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ عَنَيْتُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ غَيْرِي لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُطَلَّقَةً مِنْ غَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الشَّهْرَ الْمَاضِي، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِيهِ زَوْجٌ كَانَ لَهَا قَبْلِي، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ قَوْلِهِ فِي تَقَدُّمِ الزَّوْجِ وَطَلَاقِهِ فَقَوْلُهُ إنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ، مَقْبُولٌ لاحتماله، فإن صدقته الزوجة عَلَى إِرَادَتِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَعْلَمَ كَذِبَ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ زَوْجٌ غَيْرُهُ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِلْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ حَالَهَا وَيَجُوزُ الْأَمْرَانِ فِيهَا، فَيَرْجِعُ إِلَى الزَّوْجَةِ، وَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تُصَدِّقَهُ عَلَى تَقَدُّمِ زَوْجٍ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ لِتَصْدِيقِهَا لَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُكَذِّبَهُ عَلَى تَقَدُّمِ الزَّوْجِ، وَعَلَى أَنَّهُ طَلَاقُ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ما تَقَدُّمِ زَوْجٍ قَبْلَهُ صَارَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَرَادَ طَلَاقَ الْأَوَّلِ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى زَوْجٍ قَبْلَهُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ وَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مَدِينًا فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، أَنَّنِي كُنْتُ طَلَّقْتُهَا فِيهِ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعْتُهَا، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ طَلَاقَ زَوْجٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ طَلَاقًا ارْتَجَعَهَا فِيهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ، أَنَّهُ بِادِّعَاءِ الرَّجْعَةِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ فِي نِكَاحِهِ، وَبِادِّعَاءِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُوقِعٍ لَهُ فِي نِكَاحِهِ. (فصل:) ثم يتفرع على تعليق الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ فُرُوعٌ، فَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ رَمَضَانَ تُطَلَّقُ فِي شَعْبَانَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ رَمَضَانَ، وَلَوْ قَالَ: فِي شَهْرٍ قَبْلَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ، لِأَنَّهُ قَبْلَهُ رَمَضَانُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ، وَلَوْ قَالَ: فِي شَهْرٍ بَعْدَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ عَلَى قَبْلُ وبعد مخالفاً لِحَذْفِهَا مِنْهُمَا؛ تَعْلِيلًا بِمَا يَظْهَرُ فِي النُّفُورِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي رَجَبٍ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ، وَمَا قَبْلَ شَعْبَانَ رَجَبٌ، وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ؛ طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ شَوَّالٌ، وَمَا قَبْلَ شَوَّالٍ رَمَضَانُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ولو قال: في شهر مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ، طُلِّقَتْ فِي رَجَبٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي شَعْبَانَ، وَلَوْ قَالَ: فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ مَا بَعْدَهُ رَمَضَانُ، طُلِّقَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ، طُلِّقَتْ فِي شَوَّالٍ، وَلَوْ قَالَ؛ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ مَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ، طُلِّقَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَلَّقْتُكِ فَإِذَا طَلَّقَهَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ بِابْتِدَائِهِ الطَّلَاقَ وَالْأُخْرَى بِالْحِنْثِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ، يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ: قَدْ مَلَّكْتُكِ نَفْسَكِ، يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، فَإِنَّهَا تُطَلَّقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ بِالْمُبَاشَرَةِ صَرِيحًا كَانَ مَا بَاشَرَهَا بِهِ أَوْ كِنَايَةً، وَالطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهُ لَهَا صِفَةً، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا،، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِهَا فِي وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثم قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ أَحَدُهُمَا بِدُخُولِ الدَّارِ، وَالثَّانِيَةُ بِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا، طَلَاقَ مُبَاشَرَةٍ أَوْ طَلَاقًا قَدْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ طَلَّقَهَا فَصَارَ صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا مُبْتَدِئًا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِدُخُولِ الدَّارِ، وَلَا تُطَلَّقُ الثَّانِيَةَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ إِحْدَاثَهُ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَيْهَا، وَإِذَا طُلِّقِتْ بِمَا تَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا؛ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَلَمْ تُوجَدِ الصِّفَةُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْحِنْثُ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ كَالَّذِي ذَكَرْنَا، إِحْدَاهَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَالثَّانِيَةُ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ كُلَّمَا تَأْثِيرُهَا هُنَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كُلَّمَا أَحْدَثْتُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَ لَهَا مِنْ بَعْدُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَمَا أَحْدَثَ لِلطَّلَاقِ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّةً، فَلَمْ يَقَعِ الْحِنْثُ بِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 فَلَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا: أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهَا تَكُونُ طَالِقًا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، إِخْبَارًا عَنْهُ، وَلَمْ أُرِدْ بِهِ عَقْدَ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ، دِينَ فِي الْفُتْيَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْبَاطِنِ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِاحْتِمَالِ مَا أَرَادَ، وَلَزِمَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ طَلْقَتَانِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الظَّاهِرِ. (فَصْلٌ:) ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنْ يَقُولَ وَلَهُ امْرَأَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ: يَا حَفْصَةُ كُلَّمَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيَا عَمْرَةُ كُلَّمَا طَلَّقْتُ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ جَعَلَ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صِفَةً فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْأُخْرَى، إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ عَقْدَ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ قَبْلَ عَمْرَةَ. فَإِنِ ابْتَدَأَ فَقَالَ لِحَفْصَةَ: أَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَاحِدَةً مُبَاشَرَةً، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً بِالصِّفَةِ وَهِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ، فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ وَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَلَوِ ابْتَدَأَ فَقَالَ لِعَمْرَةَ أَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِالْمُبَاشَرَةِ وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَاحِدَةً بِالصِّفَةِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ، وَإِنْ طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً، بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى حَفْصَةَ، وَمُؤَخِّرٌ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَى عَمْرَةَ، فَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَمْرَةَ، لِحُدُوثِ عَقْدِ طَلَاقِهَا بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى حَفْصَةَ وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حَفْصَةَ، لِتَقَدُّمِ عَقْدِ طَلَاقِهَا قَبْلَ يَمِينِهِ عَلَى عَمْرَةَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ، فَوَلَدْنَ جَمِيعًا، فَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ نُبَيِّنُ بِهِ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا. أَحَدُ الْأَقْسَامِ: أَنْ يَلِدْنَ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَتُطَلَّقُ كُلُّ واحدة منهن ثلاثاً ثلاثاً ويعتد بالأقراء، لأن لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ صَوَاحِبَ، يَقَعُ عَلَيْهَا بِوِلَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةٌ وَلِذَلِكَ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا بِوِلَادَةِ صَوَاحِبِهَا الثَّلَاثِ، وَاعْتَدَدْنَ بِالْأَقْرَاءِ، لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَأَوَّلُ عِدَدِهِنَّ طُهْرُهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ النِّفَاسِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَلِدْنَ جَمِيعًا وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِنَّ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ، ذَكَرَهُ فِي فُرُوعِهِ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأُولَى تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَالثَّانِيَةَ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ، وَالثَّالِثَةَ تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ وَالرَّابِعَةَ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأُولَى إِذَا وَلَدَتْ طُلِّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُولَى، لِأَنَّ وِلَادَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى غيرها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 وَلَيْسَ بِصِفَةٍ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ، بَانَتْ بِوِلَادَتِهَا لِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا، وَطُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى وَاحِدَةً، وَطُلِّقَتْ بِهَا الثَّالِثَةُ طَلْقَةً ثَانِيَةً، وَطُلِّقَتْ بِهَا الرابعة طَلْقَةً ثَانِيَةً. فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى ثَانِيَةً، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا الثَّانِيَةُ لِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِالْوِلَادَةِ، وَطُلِّقَتْ بِهَا الرَّابِعَةُ ثَالِثَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ، بَعْدَ وُقُوعِ طَلْقَتَيْنِ عَلَيْهَا. فَإِذَا وَلَدَتِ الرَّابِعَةُ، طُلِّقَتْ بِهَا الْأُولَى طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ لِانْقِضَاءِ عِدَدِهِمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ، ذَكَرَهُ فِي (تَلْخِيصِهِ) وَلَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَيْهِ مَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْأُولَى لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ وَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ تَطْلِيقَةً، لِأَنَّ الْأُولَى إِذَا وَلَدَتْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِوِلَادَتِهَا طَلَاقٌ، وَوَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ تَطْلِيقَةٌ، فَإِذَا وَلَدَتِ الثَّانِيَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَتِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا غَيْرُهَا، لِأَنَّهَا بِالْبَيْنُونَةِ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةً لَهُنَّ، وَخَرَجْنَ بِبَقَائِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَكُنَّ صَوَاحِبَ لَهَا، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الطَّلَاقِ مِنْهُنَّ فَلَمْ يُطَلَّقْنَ. وَكَذَلِكَ إِذَا وَلَدَتِ الثَّالِثَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ يُطَلَّقْ بِهَا غَيْرُهَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الرَّابِعَةُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى إِرَادَةِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ. فَإِنْ أَرَادَ الشَّرْطَ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْرِيفَ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، أَوْ فَاتَ الرُّجُوعُ إِلَى إِرَادَتِهِ بِالْمَوْتِ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّعْرِيفِ دُونَ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ عُقُودٌ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَالْجِوَازِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَلِدَ اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي حَالٍ مَعًا، ثُمَّ تَلِدُ بَعْدَهُمَا اثْنَتَانِ فِي حَالٍ مَعًا. فَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَدَّادِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الأولتين تُطَلَّقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَكُلَّ واحدة من الآخرتين تطلق تطليقتين وتنقضي عدتهما بالولادة،؛ لأن الأولتين إِذَا وَلَدَتَا طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطْلِيقَةً، بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا. وَطُلِّقَتْ كل واحدة من الآخرتين تطليقتين، بولادة كل واحدة من الأولتين، فإذا ولدت كل واحدة من الآخرتين، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا، لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بولادتهما وطلقت كل واحدة من الأولتين طلقتين بولادة الآخرتين، فاستكمل طلاق الأولتين ثلاثاً ووقع على الآخرتين تطليقتان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: أَنَّ كُلَّ واحدة من الأولتين تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا. وَكُلَّ وَاحِدَةٍ من الآخرتين تطلق تطليقتين بولادة الأولتين. ولا تطلق الأولتين بولادة الآخرتين؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَتَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ، مِنْ أن تكونا صاحبتين للأولتين. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا طُلِّقَتْ بِالْأُولَى وَحْدَهَا قال الشافعي وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَهَا بِطَلْقَةٍ مَدْخُولًا بِهَا قَالَ المزني رحمه الله تعالى أَلْطَفَ الشَّافِعِيُّ فِي وَقْتِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يُوقِعْ إِلَّا وَاحِدَةً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: كُلَّمَا: وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُول بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِعَةً. فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَمَتَى طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَاحِدَةً بِمُبَاشَرَتِهِ، وَالثَّانِيَةَ بِالصِّفَةِ وَهُوَ وُقُوعُ الْأُولَى عَلَيْهَا وَالثَّالِثَةَ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا فَصَارَتْ صِفَةً فِي وُقُوعِ الثَّالِثَةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ عَقْدِ هَذَا الطَّلَاقِ أَوْ قَبْلَهُ، إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَاحِدَةً بِدُخُولِ الدَّارِ، وَثَانِيَةً بِوُقُوعِ الْأُولَى، وَثَالِثَةً بِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةً لِمَسْطُورِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثم طلقها واحدة، طلقت ثنتين لَا غَيْرَ. وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأُولَى، فِعْلُ الطَّلَاقِ، وَفِي الثَّانِيَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَفِعْلُ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَكَرَّرْ، فلذلك لم يتكرر وقوع الطلاق به. ووقوع الطلاق قد تكرر، فلذلك تكرر وقوع الطلاق، وَلَوْلَا أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ مَقْصُورٌ عَلَى الثَّلَاثِ لَتَنَاهَى وُقُوعُهُ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَانِيَةً لَا غَيْرَ، كَقَوْلِهِ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ الْوُقُوعَ إِلَى نَفْسِهِ فَصَارَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِفِعْلِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً بِدُخُولِهَا. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِنْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ ثنتين. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الْأُولَى جَعَلَ الشَّرْطَ إِحْدَاثَ الطَّلَاقِ فَإِذَا طُلِّقَتْ بِمَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَهُ فَلَمْ تُطَلَّقْ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ، فَلِذَلِكَ طُلِّقَتْ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَقُلْ كلما، ثم طلقها واحدة طلقت ثنتين؛ لِأَنَّ إِذَا لَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ، وَكُلَّمَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِالصِّفَةِ، بَعْدَ أَنْ بَانَتْ طَلَاقٌ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ، فَكِلَاهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، فَإِذَا وَطِئَهَا بِأَنْ غَيَّبَ الْحَشَفَةَ فِي الْفَرْجِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَاحِدَةً بِالْوَطْءِ، وَثَانِيَةً بِالْأُولَى، لِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ قَدْ صَارَتْ مَدْخُولًا بِهَا، تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، وَثَالِثَةً بِالثَّانِيَةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِوَطْئِهِ مَعَ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حِينَ أَوْلَجَ نَزَعَ وَلَمْ يُعَاوِدْ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَعَ ثُمَّ عَادَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَدِيمَهُ بَعْدَ الْإِيلَاجِ، مِنْ غَيْرِ نَزْعٍ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِعَةً، حِينَ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ طَلَاقِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، لَمْ تُطَلَّقْ بِالْمُبَاشَرَةِ وَلَا بِالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ. وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَلِعَةٍ، فَقَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، طُلِّقَتْ بِهَا، وَلَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَهَا بِوُقُوعِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْخُلْعِ، كَمَا بَانَتْ بِالثَّلَاثِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا فَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً، لَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ لَيْسَ هُوَ فِعْلَ الزَّوْجِ وَإِنْ لَزِمَهُ حُكْمُهُ. وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طلاقي، فأنت طالق، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَكِيلُهُ وَاحِدَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ غَيْرَهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُطَلِّقَ لَهَا، وَاحِدَةً بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ وَثَانِيَةً بِالْأُولَى، وَثَالِثَةً بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْوَكِيلِ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَعَبِيدٌ: كُلَّمَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَوَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ اثْنَتَيْنِ فَعَبْدَانِ حُرَّانِ، وَكُلَّمَا طَلَّقْتُ ثَلَاثًا فَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ أحراراً، وكلما طلقت أربعاً فأربعة أعبد أحراراً، فَطَلَاقُ الْأَرْبَعِ كُلِّهِنَّ عَتَقَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ عَبْدًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْآحَادِ وَبِالِاثْنَيْنِ وَبِالثَّلَاثِ وَبِالْأَرْبَعِ وَفِي الْأَرْبَعِ أَرْبَعَةُ آحَادٍ فَعَتَقَ بِهِنَّ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ، وَفِيهِنَّ اثْنَانِ وَاثْنَانِ، فَعَتَقَ بِهِنَّ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ، وَفِيهِنَّ ثَلَاثٌ وَاحِدَةٌ، فَعَتَقَ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ وَهنَّ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ، فَعَتَقَ أربعة عبيد، فصار ذلك خمسة عشرة عَبْدًا، أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ بِطَلَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَإِنَّ طَلَاقَ الْأُولَى، يَعْتِقُ بِهِ عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَطَلَاقَ الثَّانِيَةِ يَعْتِقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أعبدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جُمِعَ فِيهَا صِفَتَانِ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا ثانية، وطلاق الثانية يَعْتِقُ بِهِ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ، لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا صِفَتَانِ، أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَأنَّهَا ثَالِثَةٌ، وَطَلَاقَ الرَّابِعَةِ يَعْتِقُ سَبْعَةُ عَبِيدٍ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثُ صِفَاتٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهَا ثَانِيَةٌ وَأَنَّهَا رَابِعَةٌ هَذَا هُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَعْتَقَ بِهِنَّ سَبْعَةَ عَشَرَ عَبْدًا، وَزَادَ عَبْدَيْنِ بِالثَّالِثَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ صِفَاتٍ صِفَةَ الْوَاحِدَةِ، وَصِفَةَ الِاثْنَتَيْنِ، وَالثَّالِثَةِ وَصِفَةَ الثَّلَاثِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَعْتَقَ بِهِنَّ عِشْرِينَ عَبْدًا، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَعَلُوا فِي الرَّابِعَةِ أَرْبَعَ صِفَاتٍ، صِفَةَ الْوَاحِدَةِ، وَصِفَةَ الِاثْنَتَيْنِ وَصِفَةَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ ثَلَاثٌ، وَصِفَةَ الرَّابِعَةِ، فَأَعْتَقَ بِالْأُولَى عَبْدًا، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةً، وَبِالثَّالِثَةِ، سِتَّةً، وَبِالرَّابِعَةِ عَشَرَةً وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ إِنَّمَا يَتَكَرَّرُ بَعْدَ كَمَالِ عَدَدِهَا الْأَوَّلِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَكَلْتُ نِصْفَ رُمَّانَةٍ، فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ فَأَكَلَ رُمَّانَةً، عَتَقَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 عَلَيْهِ عَبْدَانِ، لِأَنَّ الرُّمَّانَةَ لَهَا نِصْفَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَعْتِقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ، عَبْدٌ بِالنِّصْفِ الْأَوَّلِ وَعَبْدٌ ثَالِثٌ إِذَا أَكَلَ الرُّبْعَ الثَّالِثَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ الرُّبْعِ الثَّانِي نِصْفًا، وَعَبْدٌ ثَالِثٌ إِذَا أَكَلَ الْبَاقِيَ، لِأَنَّهُ مَعَ الرُّبْعِ الثَّالِثِ يَكُونُ نِصْفًا، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ثلاثة أعبد، ويكون هذا فاسد؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ نِصْفٌ ثَانٍ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفَيْنِ، كَذَلِكَ الْأَرْبَعَةُ لَا يَكُونُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ فِي الرُّمَّانَةِ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ مَا وَهِمَ فِيهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا عَشَرَةُ أَعْبُدٍ، وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، وَهَذَا وَهْمٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَتَدَاخَلُ فِي مِثْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَدَاخَلَ فِي غَيْرِهِ، وَالْآحَادُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَرْبَعَةِ فَتَضَاعَفَتْ، وَالِاثْنَانِ تَتَضَاعَفُ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَلَا تُضَاعَفُ الِاثْنَتَانِ مِنَ اثْنَيْنِ، وَلَا الثَّلَاثَةُ من ثلاثة، ففسد ما قاله بن الْقَطَّانِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى عِتْقِ عَشَرَةٍ، كَمَا فَسَدَ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ فِي عِتْقِهِ سَبْعَةَ عشرة وَفِي عِتْقِهِ عِشْرِينَ، وَكَانَ الصَّحِيحُ عِتْقَ خَمْسَةَ عشرة عَبْدًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التَّعْلِيلِ. (مَسَأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَسَكَتَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ طُلِّقَتْ وَلَوْ كَانَ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا بِمَوْتِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ إذا وإن فَأَلْزَمَ فِي إِذَا لَمْ نَفْعَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ فِي إِنْ إِلَّا بِمَوْتِهِ أَوْ بِمَوْتِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي شُرُوطِ الطَّلَاقِ سَبْعَةٌ. إِنْ وَإِذَا وَمَتَى وَمَا وَأَيُّ وَقْتٍ وَأَيُّ زَمَانٍ وَأَيُّ حِينٍ، وَلَهَا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي شُرُوطِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَجَرَّدَ عَنْ عِوَضٍ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا لَمْ الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ،. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهَا الْعِوَضُ،. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهَا لَمْ الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَتَجَرَّدَ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ عَنِ الْعِوَضِ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَيْهَا لَمْ، فَلَا تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ مُسْتَعْمَلَةً إِلَّا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَيُعْتَبَرُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ أَبَدًا مَا لَمْ يَفُتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْفَوْرُ، وَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ. فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ مَتَى مَا دَخَلْتِ، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ أَيُّ حِينٍ دَخَلْتِ الدار، فأنت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 طَالِقٌ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ السَّبْعَةُ كُلُّهَا عَلَى التَّرَاخِي لِتَعَلُّقِهَا بِوُجُودِ شَرْطٍ، لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ فَمَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَلَوْ لَمْ تَدْخُلِ الدَّارَ حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ، ثُمَّ دَخَلَتْ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ، فَصَارَ الشَّرْعُ رافعاً لحكم الشرط بالموت، فإن قبل فَقَدْ قُلْتُمْ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ، أَنَّهُ عَلَى التراخي وسويتم ها هنا بَيْنَ قَوْلِهِ، أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ، أَنَّهُمَا عَلَى التَّرَاخِي، قِيلَ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْخُلْعِ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: (أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي) ، (وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ) . فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَتِهَا، فَهُوَ تَخْيِيرٌ وَمِنْ حُكْمِ التَّخْيِيرِ أن يكون على الفور، وإذا علته بِدُخُولِ الدَّارِ، فَهُوَ صِفَةٌ مَشْرُوطَةٌ، يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا مَتَى وُجِدَتْ، فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى التَّرَاخِي. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْعِوَضُ، فَيَنْقَسِمُ حُكْمُ الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ بِدُخُولِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ مَعَ اقْتِرَانِ الْعِوَضِ بِهِ عَلَى التَّرَاخِي أَيْضًا، وَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ مَتَى، وَمَتَى مَا، وَأَيُّ وَقْتٍ، وَأَيُّ زَمَانٍ، وَأَيُّ حِينٍ، فَإِذَا قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ أَعْطَيْتِنِي، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَوْ أَيُّ حِينٍ أَعْطَيْتِنِي، كَانَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ كُلِّهَا عَلَى التَّرَاخِي، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ مِنْ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ طُلِّقَتْ. وَالثَّانِي: مَا يَصِيرُ بَاقِي الْعِوَضِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ لَفْظَتَانِ إِنْ وَإِذَا، فَإِذَا قَالَ؛ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، رُوعِيَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِدَفْعِهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الْفَوْرُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إذا وإن مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الْعِوَضُ صَارَ الْحُكْمُ لَهُ، وَصَارَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ صَرِيحَةٌ فِي الْوَقْتِ، فَصَارَ حُكْمُهَا لِقُوَّتِهِ أَغْلَبَ مِنْ حُكْمِ الْعِوَضِ، فَصَارَتْ عَلَى التَّرَاخِي، لِتَسَاوِي الْأَوْقَاتِ فِيهَا، وَصَارَ كَالْقِيَاسِ الَّذِي إِنْ قَوِيَ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ ضَعُفَ مِنْ مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ حُكْمُهُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ عَلَى الْأَلْفَاظِ السَّبْعَةِ، لَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلنَّفْيِ، فَتَنْقَسِمَ أَيْضًا قسمين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ تَصِيرُ بِدُخُولِ لَمْ عَلَيْهَا، مُوجِبَةً لِلْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ دُخُولِهَا مُوجِبَةً لِلتَّرَاخِي، وَهِيَ مَتَى، وَمَتَى مَا، وَأَيُّ وَقْتٍ، وَأَيُّ زَمَانٍ، وَأَيُّ حِينٍ، فَإِذَا قَالَ: مَتَى لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَتَى مَا لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ، أَوْ أَيُّ وَقْتٍ لَمْ تَدْخُلِي، أَوْ أَيُّ زَمَانٍ لَمْ تَدْخُلِي أَوْ أَيُّ حِينٍ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فَمَتَى مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ زَمَانٌ يُمْكِنُ دُخُولُ الدَّارِ فِيهِ فَلَمْ تَدْخُلْ طُلِّقَتْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهَا بِدُخُولِ لَمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ لَمْ، فَالطَّلَاقُ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الصِّفَةِ. فَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدَتْ وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ، فَصَارَتْ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهَا لَمِ الموضوعة للنفي، صار الطلاق مشروطاً بعد الصِّفَةِ، وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْمُكْنَةِ، فَلِذَلِكَ صَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ. وَالْقِسْمُ الثاني: وهما للفظتان: إن وإذا، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمَا لَمِ الْمَوْضُوعَةُ لِلنَّفْيِ، فَالَّذِي نص عليه الشافعي، ونقله المزني ها هنا، أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَسَكَتَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ، طُلِّقَتْ فَحَصَلَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا بِمَوْتِهِ، أَوْ مَوْتِهَا فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى التراخي، وفرق بين إذا وإن، فَلَا وَجْهَ لِتَسْوِيَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيْنَهُمَا، لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَظُهُورِ الْفَرْقِ. وَأَمَّا أبو حنيفة: سوى بَيْنَ إِذَا وَإِنْ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي، لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْحِنْثِ إِلَّا أَنْ يَفُوتَ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْمَوْتِ فَجَعَلَ حُكْمَ إِذَا عِنْدَهُ كَحُكْمِ إِنْ عِنْدَنَا. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ إِذَا فِي هَذَا الموضع على الفور وإن عَلَى التَّرَاخِي. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ فَرْقُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ إذا موضوع لليقين والتحقيق وإن مَوْضِعٌ لِلشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ جِئْتُكَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ جِئْتُكَ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقِينٌ وَلَيْسَ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ إِنْ جَاءَ الْمَطَرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَقَمْتُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَقَمْتُ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الْمَطَرِ فِيهِ شَكٌّ وَتَوَهُّمٌ لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] لِأَنَّ تَكْوِيرَهَا يَقِينٌ، فَلَمَّا كَانَ إِذَا مُسْتَعْمَلًا فِي الْيَقِينِ وَالتَّحْقِيقِ، فَإِذَا مَضَى زَمَانُ الْمُكْنَةِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، فَصَارَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمَّا كَانَ إِنْ مُسْتَعْمَلًا فِي الشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْفَوَاتِ، فَصَارَ عَلَى التَّرَاخِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ فَرْقُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ: أن إذا مستعمل في الأوقات، وإن مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ رجل: متى تأتيني، يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ، أَنْ تَقُولَ إِذَا شِئْتَ،. وَمَتَى شِئْتَ وَلَمْ يَحْسُنْ فِي الْجَوَابِ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شِئْتَ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمُكْنَةِ قَدْ مَضَى. وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ وَهُوَ فَرْقُ أَبِي الْحَسَنِ الْفَرَضِيِّ، أَنَّ إِذَا اسْمٌ فَكَانَ أَقْوَى عَمَلًا، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، وإن حَرْفٌ فَكَانَ أَضْعَفَ عَمَلًا، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الفرق بين إذا وإن، فَقَالَ لَهَا: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَتَى أَمْسَكَ عَنْ طَلَاقِهَا، بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، زَمَنًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ طُلِّقَتْ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا عَقِيبَ كَلَامِهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ فَصْل يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ طَلَاقِهَا فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ لِأَنَّ زَمَانَ الْمُكْنَةِ لَمْ يُوجَدْ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ طَلَاقُهَا بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا، فَتُطَلَّقُ حِينَئِذٍ ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ فَاتَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا، وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهَا بِزَمَانٍ يَضِيقُ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، وَلَهُ الْمِيرَاثُ إِنْ كَانَ دُونَهَا، وَإِنْ فَاتَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ وَقْتِهِ فِي آخِرِ زَمَانِ قُدْرَتِهِ، إِذَا ضَاقَ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ، أَنْتِ طَالِقٌ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ زَمَانِ قُدْرَتِهِ وَبِمَوْتِهَا قَبْلَ زَمَانِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ جِهَتِهِ، فروعي فيه آخر أوقات الموت، إلا أن الموت يعرف آخِرُ أَوْقَاتِ الْقُدْرَةِ، وَتَكُونُ كَالْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ فَتَرِثُهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُورِّثُ الْمَبْتُوتَةَ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا وَجَبَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالْمَوْتِ، فَهَلَّا مَنَعْتُمْ مِنْ وُقُوعِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ لَمْ تُطَلَّقْ، قِيلَ: لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْمَوْتِ تُوجَدُ فِيهِ الصِّفَةُ بَعْدَ زَوَالِ ملكه بالموت فلذلك لم يَقَعْ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ تُوجَدُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ عُلِمَ فَوَاتُهَا بِالْمَوْتِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ. (فَصْلٌ:) ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنْ يَقُولَ لَهَا: كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ، يُمْكِنُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا، أَنْ يَقُولَ لَهَا فِيهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ كُلَّمَا مَوْضُوعٌ لِلتَّكْرَارِ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ الْأَوَّلُ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، ثُمَّ إِذَا مَضَى الْوَقْتُ الثَّانِي وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا طُلِّقَتْ ثَانِيَةً، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ الثَّالِثُ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي، لَمْ تُطَلَّقْ غَيْرَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بَعْدَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ، وَلَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَخَالَعَهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، طُلِّقَتْ بِالْخُلْعِ دُونَ الْحِنْثِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ بَائِنٌ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْيَوْمِ حَتَّى مَضَى، لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ الْيَوْمِ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بَعْدَ مُضِيِّهِ، لِامْتِنَاعِ صِفَتِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ: أَيَّتُكُنَّ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقِي، فَصَوَاحِبُهَا طَوَالِقُ ثُمَّ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، لِأَنَّ طَلَاقَهُ لِلْوَاحِدَةِ مُوقِعٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَوُقُوعُ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى صَوَاحِبِهَا وَهِيَ ثَلَاثٌ كل واحدة ثلاث. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقُدِمَ بِهِ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا لَمْ تُطَلَّقْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْلُو قُدُومُ زَيْدٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدَمَ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا لِلْقُدُومِ، عَالِمًا لِلْيَمِينِ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، سَوَاءٌ قَدِمَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، أَوْ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ قَادِمٌ وَسَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ الْقُدُومَ بِنَفْسِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُقْدَمَ بِزَيْدٍ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ صِفَةَ الطَّلَاقِ فِعْلَ زَيْدٍ لِلْقُدُومِ، فَإِذَا قُدِمَ بِزَيْدٍ مَيِّتًا أَوْ مُكْرَهًا، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا مُخَوَّفًا غير مختاراً، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقَعُ لِوُجُودِ الْقُدُومِ مِنْهُ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، فَأَشْبَهَ الْمَحْمُولَ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْفِطْرِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِيَمِينِ الْحَالِفِ، أَوْ عَلِمَ بِهَا، فَقَدِمَ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْقَصْدُ بِالْيَمِينِ مَنْعَ زيد من القدوم، إما لأن زيد سُلْطَانٌ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْقُدُومِ بِيَمِينِ هَذَا الْحَالِفِ، أَوْ يَكُونُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا لَا قصد له، فالطلاق ها هنا وَاقِعٌ بِقُدُومِهِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِصِفَةٍ مَحْضَةٍ لَا يُرَاعَى فِيهَا الْقَصْدُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فَوَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْحِمَارُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ طَارَ الْغُرَابُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَ الْحِمَارُ وَطَارَ الْغُرَابُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذِي قَصْدٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 والضرب الثاني: أن يقصد الحالف يمينه مَنْعَ زَيْدٍ مِنَ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَوْ يُتَمَثَّلُ أَمْرُهُ فَهَذِهِ يَمِينٌ مَحْضَةٌ، وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا عِلْمٍ قَوْلَانِ، مَنْ حِنْثِ النَّاسِ فِي قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يُرَاعَى فِي فِعْلِ الْحَالِفِ لَا فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَا بُدَّ أَنْ يكون ذا قصد، فجاز أن ويراعى الْقَصْد فِي أَفْعَالِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، غَيْرَ ذِي قَصْدٍ، فَلَمْ يُرَاعَ الْقَصْدُ فِي أَفْعَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (ولو قال إذا رأيته فرأته فِي تِلْكَ الْحَالِ حَنَثَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِرُؤْيَتِهَا لِزَيْدٍ، فَإِذَا رَأَتْهُ مَيِّتًا أَوْ رَأَتْهُ مَجْنُونًا أَوْ مُكْرَهًا مَحْمُولًا، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْهَا، فَحَصَلَتْ صِفَةُ الْحِنْثِ، وَوَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ فَلَوْ كَانَ زيد في مقابلة مرآة، فاطلقت فِي الْمِرْآةِ صُورَةُ زَيْدٍ فِيهَا، أَوِ اطَّلَعَتْ فِي الْمَاءِ، وَزَيْدٌ فِي مُقَابَلَةِ الْمَاءِ، فَرَأَتْ صُورَتَهُ فِيهِ، لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ، وَإِنَّمَا رَأَتْ مِثَالَهُ، وَصَارَ كَرُؤْيَتِهَا لِزَيْدٍ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ. فَإِنْ رَأَتْ زَيْدًا مِنْ وَرَاءِ زُجَاجٍ شَفَّافٍ، لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا وَرَاءَهُ فَإِنْ كَانَ حَائِلًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِخِلَافِ رُؤْيَتِهِ فِي الْمِرْآةِ، لأنها رأت ها هنا جِسْمَ زَيْدٍ، وَرَأَتْ فِي الْمِرْآةِ مِثَالَ زَيْدٍ وَلَا يَكُونُ الزُّجَاجُ الْحَائِلُ مَعَ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وَرَائِهِ، مَانِعًا لَهُ مِنْهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ حَلَفَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ فَأَجْبَرَهُ السلطان فأخذ منه المال حنث ولو قال لَا أُعْطِيكَ لَمْ يَحْنَثْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ فمَنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ فِعْلٍ، فَوَجَدَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا اخْتِيَارٍ، إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ. فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْحَالِفِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِ الْحَالِفِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ، الْحَالِفِ فَصُورَتُهَا فِي الطَّلَاقِ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَلْ يَكُونُ قَصْدُ الدُّخُولِ مُعْتَبَرًا فِي حِنْثِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ قَصْدَ زَيْدٍ لِلدُّخُولِ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الْحِنْثِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا يَكُونُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى قَوْلَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحِنْثِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ذِي قَصْدٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ذِي قَصْدٍ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا. وَظَاهِرُ كلام الشافعي ها هنا، أَشْبَهُ بِمَا قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ حلف لا يأخذ مَالَكَ عَلَيَّ، فَأَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ حنث، ولو قال: لا أعطيك لم يحنث، فَحَنَّثَهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُحَنِّثْهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْحَالِفِ، وَلَوِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ فِيهِمَا لَسُّوِّيَ فِي الْحِنْثِ بَيْنَهُمَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْليْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى صَاحِبِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، أَنَّكَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ، فَصَارَ الْمَالُ إِلَيْهِ، فَلَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مُخْتَارًا لِأَخْذِهِ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ سَوَاءٌ دَفَعَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا أَوْ مَكْرَهًا أَوْ أَخَذَ الْمَالَ بِنَفْسِهِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِالْأَخْذِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ مُتَطَوِّعٍ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ حَنِثَ، بِوُجُودِ الْأَخْذِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ قَالَ: لَا تَأْخُذُ مِنِّي مَالَكَ عَلَيَّ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَأْخُذَهُ وَكِيلُهُ فَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ وَكِيلُهُ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَرَضًا أَوْ حَوَالَةً، فَلَا حِنْثَ عليه أيضاً؛ لأنه قد بدل الْمَالَ وَلَمْ يَأْخُذْ عَيْنَ الْمَالِ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ الْمَالَ، وَيَضَعَهُ فِي حِرْزِ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ فِي حِجْرِهِ فَلَا حِنْثَ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْمَحْلُوفُ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْ حِرْزِهِ أَوْ حِجْرِهِ، فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ حِينَئِذٍ لِوُجُودِ الْآخذِ الْآنَ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُخَوِّفَهُ السُّلْطَانُ فَيَأْخُذَ الْمَالَ مُكْرَهًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ هَلْ يَكُونُ حَنِثَ الْحَالِفُ عَلَى قَوْلَيْنِ، تَسْوِيَةٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ مِنَ الْحَالِفِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يُرَاعَى مِنْ غَيْرِ الْحَالِفِ، وَقَدْ وُجِدَ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلٌ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ، أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مَالَهُ فَلَهُ فِي أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ سِتَّةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا فَيَحْنَثُ، سَوَاءٌ أُخِذَ الْمَالُ مِنْهُ، بِاخْتِيَارٍ أَوْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِالْعَطَاءِ دُونَ الْأَخْذِ، وَقَدْ وُجِدَ فَوَقَعَ الْحِنْثُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى وَكِيلِهِ فَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى وَكِيلُهُ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ، فَلَا حِنْثَ سَوَاءٌ دَفَعَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ غَيْرُهُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَالَ عَرَضًا أَوْ حَوَالَةً، فَلَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ أَعْطَى بَدَلَ الْمَالِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَالَ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَأْخُذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا، فَيُعْطِيَهُ فَلَا حِنْثَ، كَدَفْعِ الْوَكِيلِ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يُخَوِّفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى دَفْعِهِ، فَيُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مُكْرَهًا، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِنْ كَلَّمْتِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُ حَيْثُ يَسْمَعُ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ مَيِّتًا أَوْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ مُكْرَهَةً لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَلَّمَتْهُ سَكْرَانَةً حَنِثَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَلَّمَتْهُ مُخْتَارَةً كَلَامًا سَمِعَهُ، سَوَاءٌ قَلَّ الْكَلَامُ أَوْ كَثُرَ، أَجَابَ زَيْدٌ عَنْهُ أَوْ لَمْ يُجِبْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ وُجِدَ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ فَلَمْ يَسْمَعْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ لِقُرْبِهِ، فَلَمْ يَسْمَعْ لِشُغْلِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلَمْ يَسْمَعْ فَصَارَتْ مُكَلِّمَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ لِبُعْدِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُكَلِّمَةً لَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ وَاصِلًا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُتَكَلِّمَةٌ وَلَيْسَتْ مُكَلِّمَةً، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهَا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ، لَوْ كَانَ سَمِيعًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ كَمَا لَوْ كَلَّمَتْ سَمِيعًا، فَلَمْ يَسْمَعْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْمَعُ، لِأَنَّ مِثْلَهُ غَيْرُ مُكَلَّمٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52] . وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ حَيٌّ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 مِثْلَهُ لَا يُكَلَّمُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَالنَّائِمُ وَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ، وَهُمْ فِي الْقَلِيبِ فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قَيْلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ أَمْوَاتًا لَا يَسْمَعُونَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَأَسْمَعُ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ، فَصَارَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ بِكَلَامِهَا لَهُ مَيِّتًا. قِيلَ: هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَلَامَهُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ مُكَلَّمًا مَا أَنْكَرُوهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، رَدَّ أَرْوَاحَهُمْ إِلَيْهِ، حِينَ كَلَّمَهُمْ مُعْجِزَةً خَصَّ بِهَا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا يُعِيدُ أَرْوَاحَهُمْ لِسَائِلِهِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهُوَ سَكْرَانُ لَا يَشْعُرُ بِالْكَلَامِ وَلَا يَسْمَعُهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ لَا يُكَلَّمُ كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ كَاتَبَتْهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ كَلَامًا، وَإِنْ قَامَتْ فِي الْإِفْهَامِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَهَكَذَا لَوْ رَاسَلَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْهَا، وَلَوْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ إِشَارَةً فَهِمَ بِهَا مُرَادَهَا، فَإِنْ كَانَ نَاطِقًا سَمِيعًا، لَمْ يَحْنَثْ بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 10، 11] فَلَمْ يَجْعَلِ الْإِشَارَةَ كَلَامًا، وَإِنْ قَامَتْ مَقَامَهُ فِي الْإِفْهَامِ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ إِلَّا بِالْإِشَارَةِ فَفِي حِنْثِهِ، بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَلَامًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُكَلَّمُ الْأَصَمُّ، وَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا آخَرَ كَلَامًا سَمِعَهُ زَيْدٌ؛ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا مُكَلِّمَةٌ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَلَّمَتِ الْحَائِطَ كَلَامًا لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا زَيْدٌ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ كَلَّمَتْ غَيْرَهُ فَسَمِعَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُكَلَّمُ، فَصَارَ الْكَلَامُ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّمَ وَلَوْ سَلَّمَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ تَعْزِلْهُ بِنِيَّتِهَا حَنِثَ، وَإِنْ عَزَلَتْهُ بِنِيَّتِهَا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 (فَصْلٌ:) وَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا وَهِيَ نَائِمَةٌ، لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ كَلَامَ النَّائِمِ هَذَيَانٌ، وَهَكَذَا لَوْ كَلَّمَتْهُ وَهِيَ مَجْنُونَةٌ فَلَا حِنْثَ عَلَيْها، أَوْ فِي إِغْمَاءٍ قَدْ أَطْبَقَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ كَلَامًا وَلَوْ كَلَّمَتْهُ وَهِيَ سَكْرَانَةٌ لَا تَعْقِلُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَحْنَثْ كَالْإِغْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُ مَعْصِيَةٍ حَنِثَ، لِأَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ، كَطَلَاقِ الصَّاحِي، وَإِنْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لم يحنث ها هنا، وَلَوْ كَلَّمَتْهُ نَاسِيَةً حَنِثَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَوْ كَلَّمَتْهُ مُكْرَهَةً كَانَ فِي حِنْثِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ قَوْلَانِ وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ ها هنا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْصَدُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ بِكَلَامٍ، فَجَرَى مَجْرَى هَذَيَانِ النَّائِمِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنْ بَدَأْتُكَ بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ، انْحَلَّتْ يَمِينُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بقولها، إن بدأتك بكلام فَعَبْدِي حُرٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَادِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ، فَإِنْ بَدْأَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ انْحَلَّتْ يَمِينُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يَحْنَثِ الزَّوْجُ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِمَا بَدَأَهَا الزَّوْجُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، أَنْ تَكُونَ بَادِئَةً لَهُ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ بَدَأَتْهُ بِالْكَلَامِ حَنِثَ وَعَتَقَ عَبْدُهَا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إِنْ أَمَرْتُكِ بِأَمْرٍ فَخَالَفْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا؛ إِنْ لَمْ تَصْعَدِي السَّمَاءَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَ فِي طَلَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعُرْفِ مَا أَمْكَنَ إِجَابَةَ الْمَأْمُورِ إِلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. (فَصْلٌ:) فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ بصفة وبين اليمين بالطلاق. والطلاق بالعقد أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَلَعْتِ الشَّمْسُ أَوْ إِذَا دَخَلَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ، أَوْ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ، أَوْ إِذَا نَعَبَ الْغُرَابُ أَوْ إِذَا حَضْتِ، أَوْ إِنْ وَلَدْتِ، أَوْ إِنْ شِئْتِ، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ فَإِذَا قَالَ؛ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا؛ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُطَلِّقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِحَالِفٍ بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ مَا مَنَعَ بِهَا مِنْ فِعَالٍ، وَحَثَّ بِهَا عَلَى فِعْلٍ، أَوْ قَصَدَ تَصْدِيقَ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَالَّتِي يَمْنَعُ بِهَا مِنْ فِعْلٍ، أَنْ يَقُولَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 وَالَّتِي يَحُثُّ بِهَا عَلَى فِعْلٍ، أَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالَّتِي قصد بها التصديف عَلَى فِعْلٍ، أَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا كُلُّهُ حَلِفٌ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، حَنِثَ وَطُلِّقَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، بِدُخُولِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْأُولَى، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، طُلِّقَتْ ثَانِيَةً بِدُخُولِهَا، فَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مِمَّنْ يُطِيعُهُ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ فَهِيَ يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ سُلْطَانًا أَوْ ذَا قُدْرَةٍ لَا بطبعه وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ طَلَاقٌ بِصِفَةٍ، وَلَيْسَ بِيَمِينٍ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ هَذَا يَمِينٌ كَالطَّلَاقِ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا حِضْتِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا طَهُرْتِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ، أَنْ يُوقِعَهُ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ إِنْ شِئْتِ التَّمْلِيكُ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ الرَّدُّ وَالْقَبُولُ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ، أَوِ الْحَثُّ عَلَى شَيْءٍ، أَوِ التَّصْدِيقُ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ بِيَمِينٍ كَقَوْلِهِ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ثَانِيَةً، فَيَقُولُ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَتُطَلَّقُ مِنْهُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا، فَلَوْ أَعَادَهُ ثَالِثَةً، فَقَالَ؛ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَالِثَةً بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيْنَ قَوْلِهِ، كُلَّمَا حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: كُلَّمَا فِي وُجُودِ التَّكْرَارِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَكْرَارِ الْأَيْمَانِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَلَا تُطَلَّقَ إِلَّا الْأُولَى وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِهَا. فَرْعٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، فَقَالَ لَهُمَا: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثَانِيَةً، فَقَالَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، حَنِثَ وَطُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاحِدَةً، إِلَّا أَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ، وَطَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا رَجْعِيٌّ. فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَالِثَةً، فَقَالَ: إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَلِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ، وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَلِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا، وَهُوَ غَيْرُ حَالِفٍ بِطَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا لَا يَكُونُ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 فَرْعٌ: وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ، حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ حَالِفًا بِطَلَاقِ حَفْصَةَ، فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَانِيَةً فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ حَفْصَةَ، وَطُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَانِيَةً، لِأَنَّهُ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ ثَالِثَةً، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيَا عَمْرَةُ إِنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِ حَفْصَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ثَالِثَةً وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ ثَانِيَةً. فَإِنْ أَعَادَ ذَلِكَ رَابِعَةً لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَصَارَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى حَفْصَةَ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى عَمْرَةَ اثْنَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حَفْصَةَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ طَلَاقِهَا، لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ وَلَا يَكُونُ حَالِفًا عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ فَلَمْ تُطَلَّقْ بِعَمْرَةَ لِاسْتِكْمَالِهَا لِلثَّلَاثِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهَا عَمْرَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ حَالِفًا عَلَى حَفْصَةَ بِالطَّلَاقِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَتِ الْأُولَى وَسُئِلَ مَا نَوَى فِي الثِّنْتَيْنِ بَعْدَهَا فَإِنْ أَرَادَ تَبْيِينَ الْأُولَى فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَمَا أَرَادَ وَإِنْ قَالَ لم أرد طلاقا لم يدين فِي الْأُولَى وَدِينَ فِي الثِّنْتَيْنِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُكَرِّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، وَلَا يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَيْرَ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إِحْدَى الْمَوْضِعَيْنِ وَجَمَعَ فِي الْآخَرِ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التَّكْرَارَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّكْرَارُ وَالِاسْتِئْنَافُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. فَكَرَّرَهَا ثَلَاثًا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ وَقَالَ: (وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا) . فَكَانَ تَكْرَارُهُ لِذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْزُهَا بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ، إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، هَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَعَادَتُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُ لَفْظِ الطَّلَاقِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كُرِّرَ الْإِقْرَارُ لَمَا تَضَاعَفَ بِهِ الْحَقُّ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ؛ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ التَّكْرَارُ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ فَكَذَلِكَ الطلاق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدُ تَارَةً وَالِاسْتِئْنَافُ أُخْرَى، وَقَعَتِ الطَّلْقَةُ الْأُولَى وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ، فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَلَهُ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّأْكِيدَ لِلْأُولَى، فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّهُ أَرَادَ التَّأْكِيدَ، وَقَالَتْ: بَلْ أَرَدْتَ الِاسْتِئْنَافَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِئْنَافَ فتطلق ثلاثاً، فإن أكذبته الزوجة وقالت: أرد التَّأْكِيدَ لَمْ يُؤَثِّرْ تَكْذِيبُهَا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِإِحْدَاهُمَا التَّأْكِيدَ، وَبِالْأُخْرَى الِاسْتِئْنَافَ، فَقَدْ طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ وَكَانَتِ الْأُخْرَى تَأْكِيدًا لِإِحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ وَلَا تَلْزَمُهُ إِلَّا الطَّلْقَةُ الْأُولَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ صَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ شَكًّا وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا رُجِعَ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ صَارَ كِنَايَةً وَالْكِنَايَةُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ مِنَ الْجَدِيدِ، يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ، وَعَلَى صِيغَتِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِمَا كَانَ مِثْلًا لَهُ مِنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ مُقَيَّدٌ، وَعَلَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَفَادَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يُفِدْ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمُ الْإِقْرَارَ، إِذَا تَكَرَّرَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَضَاعَفْتُمُ الْحَقَّ بِتَكْرَارِهِ كَالطَّلَاقِ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ بِحَقٍّ مُسْتَقِرٍّ فَلَمْ يُوجِبْ تَكْرَارُهُ تَكْرَارَ الْحَقِّ، وَالطَّلَاقُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَجَازَ إِذَا تَكَرَّرَ، أَنْ يَبْقَى. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وقعت الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ لَأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِكَلَامٍ فِي الظَّاهِرِ وَدِينَ فِي الثَّالِثَةِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا تَكْرِيرًا فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثَمَّ طَالِقٌ وَكَذَلِكَ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ بَلْ طالق (قال المزني) رحمه الله وفي كتاب الإملاء وإن أدخل (ثم) أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 واواً في كلمتين فإن لم تكن له نية فظاهرها استئناف وهي ثلاث (قال المزني) رحمه الله والظاهر في الحكم أولى والباطن فيما بينه وبين الله تعالى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ، فَالطَّلْقَةُ الْأُولَى بِحَرْفِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ، وَالطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَإِذَا غَايَرَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التأكيد، إلى الاستئناف، لأن التأكيد يكون يشاكل الْأَلْفَاظَ فَإِنْ تَغَايَرَتْ صَارَتِ اسْتِئْنَافًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِتَغَايُرِهِمَا، وَكَانَتِ الثَّالِثَةُ مُشَابِهَةً لِلثَّانِيَةِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي وَاوِ الْعَطْفِ، فَدَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُرْجَعَ فِيهَا إِلَى إِرَادَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ، كَانَتْ تَأْكِيدًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا ثِنْتَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إرادة ففيها قولان: إحداهما: يَكُونُ تَأْكِيدًا. وَالثَّانِي: يَكُونُ اسْتِئْنَافًا عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ التَّأْكِيدَ قُبِلَ مِنْهُ فِي الثَّالِثَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَمْ تَقَعْ وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَقُبِلَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ وَكَانَ فِيهَا مَدِينًا، فَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ طَلْقَتَانِ، وَفِي الْبَاطِنِ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، لِأَنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى بِحَرْفِ النَّسَقِ، وَالثَّالِثَةُ مِثْلُ الثَّانِيَةِ، يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا التَّأْكِيدَ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ، بَلْ طَالِقٌ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ لِتَغَايُرِهِمَا بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ، الَّذِي يَقْتَضِي الْإِضْرَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاسْتِدْرَاكِ مَا بَعْدَهُ، وَالطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَلَكِنَّ الثَّالِثَةَ مُشَابِهَةٌ لِلثَّانِيَةِ، فَيُسْأَلُ عَنْهَا، وَيُحْمَلُ عَلَى إِرَادَتِهِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ وَاوَ الْعَطْفِ، وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا كَالثَّانِيَةِ. فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طالق فطالق، فالذي نص عليه الشافعي ها هنا، أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، والثانية فَطَالِقٌ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ وَدِرْهَمَانِ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَدِرْهَمٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الإقرار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِقْرَارِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الدَّرَاهِمَ قَدْ تَتَفَاضَلُ فَيَكُونُ دِرْهَمٌ خَيْرًا مِنْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ فَدِرْهَمٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَوْلُهُ فَطَالِقٌ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْأُولَى أَوْ دُونَهَا، فَوَقَعَتِ الثَّانِيَةُ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، وَقَعَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِتَغَايُرِ اللَّفْظِ فِيهِمَا وَرُجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا كَالثَّانِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إِرَادَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى إِرَادَتِهِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ التَّأْكِيدَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، فَطَالِقٌ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى غَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظِ لَمْ يُسْأَلْ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَايَرْ سُئِلَ فَأَمَّا الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ مَعَ اتِّفَاقِ الْحُرُوفِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ مُفَارَقَةٌ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَمُغَايَرَةِ الْحُرُوفِ، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَخَصُّ مِنْهُ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمُتَشَاكِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ الْحُرُوفَ هِيَ الْعَامِلَةُ فِي وُقُوعِ الْحُكْمِ بِاللَّفْظِ. فَعَلَى هَذَا يُرْجَعُ إِلَى مَا أَرَادَهُ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا بَلْ طَالِقٌ، وَنَوَى بِقَوْلِهِ لَا بَلْ طَالِقٌ إِثْبَاتَ الثَّانِيَةِ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى قَالَ ذَلِكَ مُرْسَلًا، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ قَدْ غَايَرَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ نَوَى بِالثَّالِثَةِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ بِهَا وُقُوعَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي إِيقَاعِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا أَرَادَ، هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَقَعُ فِي الْبَاطِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي الظَّاهِرِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا لَا تَقطعُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَهُوَ مَعْلُولٌ، لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَلْفَاظِ يَحْمِلُ لِكُلِّ طَلْقَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِهَا. (فَصْلٌ:) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَدْرَكَ بِالثِّنْتَيْنِ، الْإِضْرَابَ عَنِ الْوَاحِدَةِ، فَوَقَعَتِ الثنتان ولم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 يَصِحَّ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا طَلْقَتَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَدْرَكَ زِيَادَةً عَلَى الْأُولَى بَطَلَ حُكْمُ الْإِضْرَابِ، لِدُخُولِهِ فِي الْمُسْتَدْرِكِ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِرْهَمَانِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ لَا غَيْرَهُ، لِدُخُولِ الدِّرْهَمِ فِي الدِّرْهَمَيْنِ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْإِضْرَابِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، لَا بَلْ هَذِهِ ثَلَاثًا، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَاحِدَةً وَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ بِالثَّانِيَةِ الْإِضْرَابَ عَنْ طَلَاقِ الْأُولَى، فَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْأُولَى، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، لَا بَلْ ثَلَاثًا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ فِي فُرُوعِهِ: طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً، وَطُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ تَمَامَ الثَّلَاثِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَجَعَلَ الشَّرْطَ رَاجِعًا إِلَى الثَّلَاثَةِ وَحْدَهَا، وَجَعَلَ الْأُولَى بِآخِرِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، لِإِضْرَابِهِ عَنْهَا بِاسْتِدْرَاكِ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي لِدُخُولِ الْوَاحِدَةِ فِي الثَّلَاثِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ رَاجِعًا إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَا تُطَلَّقُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ شَيْئًا، فَإِذَا دَخَلَتْهَا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً، أَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا ثَلَاثًا، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ يُوجِبْ وُقُوعُهَا وُقُوعَ ثَلَاثٍ قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ، بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي الْوَاحِدَةِ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا رَجْعَةَ فِي طَلَاقِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الثَّلَاثِ فِيهَا، فَوَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ، وَلَمْ تَقَعِ الثَّلَاثُ، وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، مَلَكَ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ رَجَعَتْهَا، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الثَّلَاثِ فِيهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَا الْوَاحِدَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَلَا الثَّلَاثُ الْمُعَلَّقَةُ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّ وُقُوعَ النَّاجِزَةِ تُوجِبُ وُقُوعَ ثَلَاثٍ قَبْلَهَا بِالصِّفَةِ، وَوُقُوعَ الثَّلَاثِ مِنْ قَبْلُ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ وُقُوعَ الْآخَرِ فَسَقَطَا مَعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ خِلَافَهُ، فَقَدْ وَهِمَ أَنَّهُ تَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ النَّاجِزَةُ وَحْدَهَا وَلَا يَكُونُ اشْتِرَاطُهَا فِي وُقُوعِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهَا وَهَذَا الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاجِزَ أَصْلٌ وَهُوَ أَقْوَى، وَالْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ فَرْعٌ وَهُوَ أَضْعَفُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفُهُمَا رَافِعًا لِأَقْوَاهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ طَلَاقَ الصِّفَةِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ النَّاجِزِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا الْوَاحِدَةَ النَّاجِزَةَ وَثِنْتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ رَابِعَةً مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ مَا سِوَاهَا إِذَا كَانَ وُقُوعُهُ مُمْكِنًا، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا طُلِّقَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الرَّابِعَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ طُلِّقَتْ مَا أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا مِنْ نَاجِزِ الطَّلَاقِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا تُطَلَّقُ شَيْئًا، لَا مِنْ نَاجِزِ الطَّلَاقِ وَلَا الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ لِتَدْفَعَ الطَّلَّاقَيْنِ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقَعُ الثَّلَاثُ النَّاجِزَةُ، لِأَنَّهَا أَثْبَتُ الطَّلَّاقَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ: فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ قَطُّ، لأن وقوعه يقتضي وقوع ثلاثة قبله ووقع ثَلَاثَةٍ قَبْلَهُ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ مَا بَعْدَهُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْقُطُ حُكْمُ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَلْحَقَهَا طَلَاقٌ أَبَدًا، وَهَذَا مَدْفُوعٌ فِي الزَّوْجَاتِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِنَّ فَبَطَلَ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا مَا اسْتَأْنَفَهُ من الطلاق والله أعلم. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ طَلَاقًا حَسَنًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَاقًا مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الطَّلَاقِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَاقًا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ طَلَاقًا حَسَنًا، وَهَكَذَا أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ. فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقًا ثِنْتَيْنِ لَزِمَهُ ثِنْتَانِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ ثَلَاثًا، لَزِمَهُ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 أَرَادَ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ خَالَفَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً بِالنَّصْبِ كان المريض شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَمَا لَمْ تَمْرَضْ لَمْ تُطَلَّقْ، فَإِذَا مَرِضَتْ طُلِّقَتْ، لِأَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ يُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةٌ بِالرَّفْعِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَرِيضَةً أَوْ غَيْرَ مَرِيضَةٍ، لِأَنَّهُ بِالرَّفْعِ يَصِيرُ صِفَةً، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي حُكْمِ مَا يَلْزَمُهُ كَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ عَرَفَ حُكْمَهُ أَوْ جَهِلَهُ مِثْلَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنه يستوفي فِيهِ حُكْمُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْإِعْرَابَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ فَإِذَا جُهِلَتْ عُدِمَتْ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ طَالِقًا، فَقَدْ جَعَلَ الشَّرْطَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ، فَإِنْ دَخَلَتْهَا غَيْرَ مُطَلَّقَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا غَيْرَ رَاكِبَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ طَلَّقَهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، بِأَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ تَكُونَ مُخْتَلِعَةً لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رجعياً طلقت دخول الدَّارِ طَلْقَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَصِيرُ طَالِقًا ثَلَاثًا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بِالْكَسْرِ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا، فَلَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَهَا وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلَتِ الدَّارَ بِالْفَتْحِ، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، سَوَاءٌ دَخَلَتِ الدَّارَ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ، لِأَنَّهَا إِذَا فُتِحَتْ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّكِ دَخَلْتِ الدَّارَ، هَذَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْحَالَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ، كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، لَمْ يَكُنْ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا، وَطُلِّقَتْ فِي الْحَالِ لِأَنَّ إِذَا اسْمٌ لِمُسْتَقْبَلٍ، فَكَانَ شَرْطًا، وإذ اسْمٌ لِمَا مَضَى فَكَانَ خَبَرًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَرَّرَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا رَكِبْتِ إِنْ لَبِسْتِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، إِلَّا بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ فَإِنْ رَكِبَتْ وَلَبِسَتْ عَلَى مَا قَالَهُ فِي لَفْظِهِ فَإِنْ بَدَأَتْ بِالرُّكُوبِ، ثُمَّ عَقَّبَتْهُ بِاللُّبْسِ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ خَالَفَتْ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ فَبَدَأَتْ بِاللُّبْسِ وَعَقَّبَتْهُ بِالرُّكُوبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا رَكِبْتِ إِنْ لَبِسْتِ فَقَدْ جَعَلَ اللُّبْسَ شَرَطًا فِي الرُّكُوبِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ.، لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قُمْتِ إِذَا قَعَدْتِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تُقَدِّمَ الْقُعُودَ عَلَى الْقِيَامِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُعُودَ شَرْطًا فِي الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الشَّرْطِ فِيهِمَا وَاحِدًا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَكَلْتِ إِنْ تَكَلَّمْتِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَكْلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا إِنْ ضَرَبْتِ عَمْرًا لَمْ تُطَلَّقْ، حَتَّى تَفْعَلَ الثَّلَاثَةَ بِعَكْسِ لَفْظِهِ، فَتَبْدَأُ بِضَرْبِ عَمْرٍو ثُمَّ بِكَلَامِ زَيْدٍ ثُمَّ بِدُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَرْطٌ فِيمَا تَقَدَّمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ. ( فصل: في (لو)) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ، كَانَ شَرْطًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ وَجَرَى مَجْرَى إِنِ، الَّتِي تَكُونُ شَرْطًا، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دخلت الدار لخرجت مِنْهَا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ وَلَا يَخْرُجَ الزَّوْجُ مِنْهَا، فَإِنْ دَخَلَتْ وَخَرَجَ منها لم تطلق. (فصل: في (لولا)) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبُوكِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَوْلَا أَبُوكِ لَطَلَّقْتُكِ، وَهَكَذَا أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا جَمَالُكِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْلَا جَمَالُكِ لَطَلَّقْتُكِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَلْ لَا طُلِّقَتْ لِأَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْ لَا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ زَوْجَتُكَ هَذِهِ طَالِقٌ مِنْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ كَانَ هَذَا ابْتِدَاءَ إِيقَاعٍ مِنْهُ لِلطَّلَاقِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ النِّيَّةُ، لِأَنَّهُ أَجَابَ إِلَى صَرِيحٍ فَجَرَى عَلَى جَوَابِهِ حُكْمُ الصَّرِيحِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ هَذِهِ، فَقَالَ: نعم، كان هذا إقرار بِالطَّلَاقِ، يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ فِي الظَّاهِرِ وَيدينُ فِي الْبَاطِنِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَكَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ مُوعِدًا بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ إِيقَاعَهُ مِنْ بَعْدُ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَهَذِهِ زَوْجَتُكَ، فَقَالَ لَا، كَانَ هَذَا إِنْكَارًا، لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَصِيرَ كِنَايَةً فِيهِ، فَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْفَصْل، وَإِنْ خَبَطَ أَصْحَابُنَا فِيهِ خَبْطَ عَشْوَاءٍ. فَصْلٌ: : وَإِذَا قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ كَالْعَرَبِيِّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَعْرِفَ مَعْنَاهُ وَلَا يُرِيدَ مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَغْوًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَعْرِفَ مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلطَّلَاقِ. وَعِنْدِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مُوجَبَ اللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إِرَادَةٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ فَقَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى تَعَرُّفِ مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّنَا لَوْ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الطَّلَاقَ، لَسَوَّيْنَا بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ مُوجَبَهُ أَوْ لَا يُرِيدَ، وَهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ. وَهَكَذَا الْعَرَبِيُّ إِذَا طَلَّقَ بِصَرِيحِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. فَلَوْ أَنَّ زَوْجَةَ الْأَعْجَمِيِّ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْرِفُ مَعْنَى الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ زَوْجَةُ الْعَرَبِيِّ لَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْرِفُ الطَّلَاقَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَكُلُّ مُكْرَهٍ وَمَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الطَّلَاقُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحُّ عَقْدُهُ. وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ إِذَا تَلَفَّظَ بِهِ كُرْهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ وَلَا عِتْقُهُ وَلَمْ تَصِحَّ عُقُودُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالطَّلَاقِ أو العتق أو كان مما لا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْمُكْرَهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ صَحَّ مِنَ الْمُكْرَهِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْمُخْتَارِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُكْرَهٍ وَمُخْتَارٍ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ المعتوه الصبي) . فَدَخَلَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فِي عُمُومِ الْجَوَازِ. وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ) . وَالْمُكْرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جَادًّا أَوْ هَازِلًا فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ عِمْرَانَ كَانَ نَائِمًا مَعَ امْرَأَتِهِ فِي الْفِرَاشِ فَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، وَوَضَعَتِ السِّكِّينَ وَقَالَتْ: طَلِّقْنِي وَإِلَّا ذَبَحْتُكَ فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: (لَا إِقَالَةَ فِي الطَّلَاقِ) . أَيْ لَا رُجُوعَ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ طَلَاقُ مُكَلَّفٍ مَالِكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا كَالْمُخْتَارِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِرَادَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ كَالْهَزْلِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ مَعَ الِاخْتِيَارِ، أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالرَّضَاعِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ مَرْفُوعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَالِاسْتِكْرَاهُ لَمْ يُرْفَعْ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِكْرَاهِ، لَا الِاسْتِكْرَاهُ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْخَطَأِ لَا وُجُودُ الْخَطَأِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: (عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) . فَبَانَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ، قِيلَ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ الْحُكْمَ قَدْ رَفَعَ الْإِثْمَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِغْلَاقُ كَالْإِكْرَاهِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَالْمُغْلَقِ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجُنُونُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقُ الْإِرَادَةِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَقْوَمُ بِمَعَانِيهَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ أَعَمَّ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَهُ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ، لَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ لَهُمْ، مِنْهُمْ عُمَرُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ يَشْتَارُ - أَيْ يَجْتَنِي عَسَلًا - فَأَدْرَكَتْهُ امْرَأَةٌ، فحلفت لتقطعن الحبل أو ليطلقها ثَلَاثًا فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ فَحَلَفَتْ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لِيَفْعَلَنَّ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَمَّا خَرَجَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي كَانَ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَيْهِ، وَالَّذِي كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى امْرَأَتِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُضْطَهَدِ طَلَاقٌ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَانَا يَرَيَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْإِيقَاعِ بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الرَّضَاعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ، وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ بِهِ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَخَالَفَ الْإِيقَاعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ. فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنه إِقْرَارَ الْمُكْرَهِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِاحْتِمَالِ دُخُولِ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ احْتِمَالِ الصِّدْقِ. وَالْكَذِبُ مَوْجُودٌ فِي إِقْرَارِ الْمُخْتَارِ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ الْإِكْرَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِيقَاعِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِعْلٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَوْلٌ يُرَاعَى فِيهِ الْقَصْدُ، فَافْتَرَقَ فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَوْ أَرْضَعَتْ ثَبَتَ بِهِ حكم التحريم، ولو أقرت به لم ثبت. وَالْمَجْنُونُ لَوْ أَوْلَدَ أَمَتَهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ أَعْتِقَهَا لَمْ تَعْتِقْ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ بِالرَّضَاعِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِعْلٌ وَالْآخَرَ قَوْلٌ. وَاسْتَوَى حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى فِعْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ فِيمَنْ كَانَ حَرْبِيًّا فَيُدْعَى بِالسَّيْفِ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِكْرَاهُ الذِّمِّيِّ الْبَاذِلِ لِلْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ظُلْمًا، فَلَمْ يَصِحَّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ إِنَّمَا هُوَ إِكْرَاهٌ عَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، قَبْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ. وَهَذَا ظُلْمٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لِكَوْنِهِمَا ظُلْمًا فَلَمْ يَصِحَّا وَافْتَرَقَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ ظَلَمٌ فَلَمْ يَصِحَّ، وَفِعْلَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ فَصَحَّ، فَإِنْ وَجَبَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَالْإِيقَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَا. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَعْنًى يُزِيلُ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ حُكْمَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ كَالْجُنُونِ وَالنَّوْمِ وَالصِّغَرِ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ فِيهِ حَقٌّ، أَصْلُهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ. قِيَاسٌ رَابِعٌ: أَنَّهُ قَوْلٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالنِّكَاحِ. وَقِيَاسٌ خَامِسٌ: أَنَّ كُلَّ بُضْعٍ لَمْ يُمْلَكْ بِلَفْظِ الْمُكْرَهِ، لَمْ يَحْرُمْ بِقَوْلِ الْمُكْرَهِ، كَالْإِيمَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الآية فهو انه قال: (فإن طلقها) ، وَالْمُكْرَهُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُطَلِّقٍ، وَلَوْ صَحَّ دُخُولُهُ فِي عُمُومِهَا لَكَانَ مَخْصُوصًا بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ) . فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الِاخْتِيَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِثْنَاءِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لِفَقْدِ الْقَصْدِ مِنْها تَنْبِيهٌ عَلَى إِلْحَاقِ الْمُكْرَهِ بِهِمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ثَلَاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ) ، فَهُوَ أَنَّنَا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَنَجْعَلُ الْجِدَّ وَالْهَزْلَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ سَوَاءً، وَالْمُكْرَهُ لَيْسَ بِجَادٍّ وَلَا هَازِلٍ، فخرج عنها كالمجنون، لأن الجاد قاصد اللفظ مُرِيدٌ لِلْفُرْقَةِ وَالْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْفَظِّ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْفُرْقَةِ وَالْمُكْرَهَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلَّفْظِ وَلَا مُرِيدٍ لِلْفُرْقَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لَا إِقَالَةَ فِي الطَّلَاقِ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ فَأَلْزَمَهُ إِقْرَارُهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى مِنْ جَلَدِهِ وَضَعْفِ زَوْجَتِهِ مَا لَا يَكُونُ بِهِ مُكْرَهًا فَأَلْزَمَهُ الطَّلَاقَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُخْتَارِ فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ إِقْرَارِهِ، وَالْمُكْرَهُ لَا يَصِحُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 إِقْرَارُهُ فَلَمْ يَصِحَّ إِيقَاعُهُ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِمْ فَقُلْتَ: فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِيقَاعُهُ بِهَزْلِهِ إِقْرَارَهُ كَالْمُخْتَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ الْإِرَادَةِ، لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَهُ مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وُجُودَ الْإِرَادَةِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهَازِلِ صِحَّةُ إِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّضَاعِ، فَهُوَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُ فِعْلٌ وَالطَّلَاقُ قَوْلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ فَرَّقَ مَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، بِحَالِ الْمَجْنُونَةِ إِذَا أَرْضَعَتْ وَالْمَجْنُونِ إِذَا طَلَّقَ مَا كَفَى. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ طَلَاقَ الْكرهِ لَا يَقَعُ، فَجَمِيعُ مَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ. وَالثَّانِي: مَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى سَبِّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَلَى عَقْدِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَعَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْمَنَاكِحِ وَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوِكَالَاتِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْوَصِيَّةِ، فَهَذَا كُلُّهُ لَا حُكْمَ لَهُ، إِذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّائِمُ إِذَا أُوجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ، فَهُوَ إِسْلَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالرَّضَاعُ وَالْحَدَثُ وَطَرْحُ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي عَلَى خُفِّهِ إِذَا كَانَ مَاسِحًا، إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنَ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ سَوَاءً. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فِي وُجُوبِ الْقَوْدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ، وَإِكْرَاهُ الرَّجُلِ عَلَى الزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ وَإِكْرَاهُ الصَّائِمِ عَلَى الْأَكْلِ فِي فِطْرِهِ بِهِ قَوْلَانِ وَإِكْرَاهُ الْمُصَلِّي عَلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي بُطْلَانِهَا قَوْلَانِ. وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَدْ صَحَّ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي صِفَةِ الْمُكْرِهِ. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْإِكْرَاهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 وَالثَّالِثُ: فِي صِفَةِ الْمُكْرَهِ، فَأَمَّا الْمُكْرِهُ، فَهُوَ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَاهِرًا، وَالْقَاهِرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْقُدْرَةِ كَالسُّلْطَانِ والْمُنقَلِبِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصَّ الْقُدْرَةِ كَالْمُتَلَصِّصِ، وَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَكِلَاهُمَا مَكْرِهٌ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، إِذَا كَانَتْ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ نَافِذَةً عَلَى الْمُكْرَهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ فِي النَّفْسِ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْ إِصَابَتِهِ مَا يَتَوَعَّدُهُ بِهِ وَتَهَدَّدَهُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى النَّفْسِ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَفْعَلَ فَلَيْسَ بِمَكْرِهٍ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَكْرِهًا بِظُلْمٍ، فَأَمَّا إِنْ أَكْرَهْ بِغَيْرِ ظُلْمٍ كَإِكْرَاهِ الْمُولِي عَلَى الطَّلَاقِ فِي قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكْرِهِ، وَمَا أَكْرَهَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَكَالنَّاذِرِ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ عِتْقِهِ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَقَدْ عَتَقَه لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ وَهُوَ بِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ طَوْعًا ظَالِمٌ آثِمٌ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ فِي المكره صار مكرها. (فصل:) وأما الأكراه بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى الْبَيِّنِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْقَتْلُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الضَّرَرُ عَلَى النَّفْسِ، فَإِذَا هَدَرَهُ فِي نَفْسِهِ كَانَ إِكْرَاهًا، فَإِنْ هَدَرَ بِهِ فِي غَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَيْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَيْنَهُمِ بَعْضِيَّةٌ كَالْوَالِدِينَ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا، فَيَكُونَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا لِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تَقْتَضِي التَّمَازُجَ فِي الْأَحْكَامِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، إِمَّا أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا نَسَبٍ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَبَنِي الْأَخْوَالِ، فَلَا يَكُونُ تَهْدِيدُهُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا، لِأَنَّ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ تَنَاسُبٌ مِنْ بَعِيدٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وبينهما، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ دُونَ بَنِيهَا وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ دُونَ بَنِيهَا، فَهَلْ يَكُونُ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِهِمْ إِكْرَاهًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِكْرَاهًا لِثُبُوتِ الْمُحَرَّمِ كَالْوَالِدَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَالْأَبْعَدِينَ، فَهَذَا حُكْمُ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 وَالثَّانِي: الْجُرْحُ، إِمَّا بِقَطْعِ طَرَفٍ أَوْ إِنْهَارِ دَمٍ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ أَلَمٍ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّفْسِ. وَالثَّالِثُ: الضَّرْبُ، فَيَكُونُ إِكْرَاهًا لِأَلَمِهِ وَضَرَرِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشَّطَارَةِ وَالصَّعْلَكَةِ الَّذِينَ يَتَبَاهَوْنَ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ، وَيَتَفَاخَرُونَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالرَّابِعُ: الْحَبْسُ، فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُهَدِّدَهُ بِطُولِ الْحَبْسِ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا، لِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَصِيرَ الزَّمَانِ كَالْيَوْمِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَكُونَ إِكْرَاهًا لِقُرْبِهِ وَقِلَّةِ ضَرَرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ طُولُهُ وَلَا قِصَرُهُ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمَحْبُوسِ عَلَى شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ وَحُكْمُ الْقَيْدِ، إِذَا هدر به كحكم الحبس، لأن أحد المانعين من التَّصَرُّفِ. وَالْخَامِسُ: أَخْذُ الْمَالِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يُؤَثِّرُ أَخْذُهُ فِي حَالِهِ فَيَكُونَ إِكْرَاهًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِهِ فَلَا يَكُونَ إِكْرَاهًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِهِ لِسِعَةِ مَالِهِ، فَفِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا بِأَخْذِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُكْرَهًا بِقَدْرِ الْمَالِ الْمَنْفُوسِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يكون إكراها اعتباراً بما له التي لا يؤثر المأخوذ فيها. وَالسَّادِسُ: النَّفْيُ عَنْ بَلَدِهِ، فَنَنْظُرُ حَالَهُ، فَإِنْ كان ذا ولد وأهل مال لَا يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُ كَانَ إِكْرَاهًا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى نَقْلِهِمَا وَمُكِّنَ مِنْهُمَا فَفِي كَوْنِهِ إِكْرَاهًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا لِتَسَاوِي الْبِلَادِ كُلِّهَا فِي مُقَامِهِ فِيمَا شَاءَ مِنْهَا. وَالثَّانِي: يَكُونُ إِكْرَاهًا لِأَنَّ النَّفْيَ عُقُوبَةٌ كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِي تَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ بِهِ. وَالسَّابِعُ: السَّبُّ وَالِاسْتِخْفَافُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ رَعَاعِ النَّاسِ وَسَفَلَتِهِمُ الَّذِينَ لَا يَتَنَاكَرُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا يُغَضُّ لَهُمْ جَاها، فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّيَانَاتِ وَذَوِي الْمُرُوءَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ، لِمَا يلحقهم من وهن والجاه، وَأَلَمِ الْغَلَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ بِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدنيا وطالبي فيها الرتب، كَانَ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَذَوِي الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ إِعْلَاءً لِذِكْرِهِ مَعَ كَثْرَةِ صَوَابِهِ، هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، جُرِّدَ لِلسِّيَاطِ فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ مِنْ سُقُوطِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ، فَكَأَنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ فِي النَّاسِ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِكْرَاهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْإِكْرَاهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا بِالْهَرَبِ مِنَ الْمُكْرِهِ لِحَبْسِهِ أَوْ لِإِمْسَاكِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا. وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَ الْمُكْرِهَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخَفْ لِعُتُوِّهِ وَبَغْيِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى خَافَ وَكَفَّ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَاصِرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا شَفِيعٌ يَكُفُّهُ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَدَ نَاصِرًا أَوْ شَفِيعًا فَلَيْسَ بِمَكْرَهٍ، فَإِذَا عُدِمَ الْخَلَاصُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَحَقَّقَ إِكْرَاهُهُ، فَإِذَا تَلَفَّظَ حِينَئِذٍ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا مُرِيدٍ لِإِيقَاعِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الطَّلَاقِ، وَيُرِيدَ إِيقَاعَهُ فَطَلَاقُ هَذَا وَاقِعٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْإِرَادَةِ بِقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ وَلَا يُرِيدُ إِيقَاعَهُ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِفَقْدِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ طَلَاقُهُ لِقَصْدِهِ لَفَظَ الطَّلَاقِ، فَصَارَ فِيهِ كَالْمُخْتَارِ، وَإِذَا تَلَفَّظَ الْمُخْتَارُ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَقَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (خَلَا السَّكْرَانَ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مُثَابٌ فَكَيْفَ يُقَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْعِقَابُ على من له الثواب وقد قال بعض أهل الحجاز لا يلزمه طلاق فيلزمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 إذا لم يجز عليه تحريم الطلاق أن يقول ولا عليه قضاء الصلاة كما لا يكون على المغلوب على عقله قضاء صلاة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْليْنِ: أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ. وَالثَّانِي: طَلَاقُ السَّكْرَانِ، فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ عَتَهٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غِشٍّ أَوْ نَوْمٍ، فَإِذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ فِي حَالِهِ هَذِهِ الَّتِي غُلِبَ فِيهَا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ) . وَلِأَنَّهُمْ بِزَوَالِ الْعَقْلِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُكْرَهِ الْعَاقِلِ، فَكَانَ مَا دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَهُوَ عَلَى ارْتِفَاعِ طَلَاقِ هَؤُلَاءِ أَدَلُّ. فَلَوْ أَفَاقَ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْدَ أَنْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يلزمه بعد الإفاقة طلاق، فلو اختلفا قالت الزَّوْجَةُ: قَدْ كُنْتَ وَقْتَ طَلَاقِي عَاقِلًا، وَإِنَّمَا تَجَانَنْتَ أَوْ تَغَاشَيْتَ أَوْ تَنَاوَمْتَ وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ كُنْتُ مَغْلُوبَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعْرَفُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوِ اختلفا فقال زوج: طَلَّقْتُكِ فِي حَالِ الْجُنُونِ. وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ طَلَّقْتَنِي بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَأَنْ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَالطَّلَاقُ لَهُ لَازِمٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِفَاقَةُ، وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ قَدْ جُنَّ قَطُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَالطَّلَاقُ لَهُ لَازِمٌ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الصِّحَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْكَرَ بشرب مطرب (فعلى ضربين) . وَالثَّانِي: أَنْ يَسْكَرَ بِشُرْبِ دَوَاءٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ، فإذا سَكِرَ بِشُرْبِ مُسْكِرٍ مُطْرِبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُنْسَبَ فِيهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ، إِمَّا لِأَنَّهُ شَرِبَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَإِمَّا بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَأُوجِرَ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ عَنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِيهِ لِعِلْمِهِ بأنه مسكر، وشربه له مختار، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ. وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُجَاهِدٍ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَدَاوُدَ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَحَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ يَقَعُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ وَحُكْمُ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فِي الْوُقُوعِ وَالسُّقُوطِ وَاحِدٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ الْمُزَنِيُّ بِنَقْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ؟ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا يَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَلَيْسَ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ يَقَعُ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا، فَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ بِمَذْهَبَيْهِ فِيهِ أَعْرَفُ، وَيَجُوزُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ الْمُزَنِيُّ أَنْ يَكُونَ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ، بِأَنَّهُ مَفْقُودُ الْإِرَادَةِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ. وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالصَّغِيرِ وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ. وَالثَّانِي: وُقُوعُ طَلَاقِهِ. فَأَمَّا ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . فَدَلَّتْ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَتُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَنِدَائُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَلَا يُنَادَى بِهِ إِلَّا لَهُ. وَالثَّانِي: نَهْيُهُمْ فِي حَالِ السُّكْرِ أَنْ يَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَلَا يُنْهَى إِلَّا مُكَلَّفٌ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ شَاوَرَهُمْ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدْ بَالَغُوا فِي شُرْبِهِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ، فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ، فَحَدَّهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 وَعَلِيٌّ ثَمَانِينَ، فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عِلَّةٌ لِافْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمَا حُدَّ بِمَا أَتَاهُ وَلَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ كَالصَّاحِي. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي الْأَصْلِ، فَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَطَبَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَبِيهَا خُوَيْلِدٍ وَهُوَ سَكْرَانُ وَدَخَلَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا يُزَوِّجُ نَشْوَانُ وَلَا يُطَلِّقُ إِلَّا أَجَزْتُهُ) وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِسُكْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِمَا حَدَثَ عَنْ سُكْرِهِ، أَلَا ترى أن من جنى حناية فَسَرَتْ لَمَّا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا، كَانَ مُؤَاخَذًا بِسِرَايَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَلَيْسَ السُّكْرُ مَنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَكَيْفَ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَمُؤَاخَذًا بِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ فِعْلِهِ. فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّ سَرَايَةَ الْجِنَايَةِ لَمَّا حَدَثَتْ عَنْ فِعْلِهِ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، لِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَرُخْصَةٌ، وَإِيقَاعَهُ تَغْلِيظٌ وَغَرِيمَةٌ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الصَّاحِي وَلَيْسَ بِعَاصٍ، كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ السَّكْرَانِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَيْسَ يُسْتَدَلُّ عَلَى سُكْرِهِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ، هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الْخَبَرِ وَرُبَّمَا تَسَاكَرَ تَصَنُّعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ يَقِينِ الْحُكْمِ السَّابِقِ، بِالتَّوَهُّمِ الطَّارِئِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى فَقْدِ الْإِرَادَةِ هُمَا فِيهِ مَعْذُورَانِ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُكْرَهَ وَالْمَجْنُونَ غَيْرُ مُؤَاخَذَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ، فَلَمْ يُؤَاخَذَا بِمَا حَدَثَ فِيهِمَا، كَمَا أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فَسَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ، لَا يُؤَاخِذُهُ بِالسِّرَايَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِالْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالْقَطْعِ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِالسَّرَايَةِ، كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْقَطْعِ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَالصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ وُقُوعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: الْعِلَّةُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَنَّهُ مُتَّهِمٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ سُكْرُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَدِينًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بأنه الْمَعْصِيَةَ مُغَلَّظ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ كُلُّ مَا كَانَ مُغَلَّظًا مِنَ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ والردة والحدود، ولا يصح منه د مَا كَانَ تَخْفِيفًا كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَقَبُولِ الْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ إِسْقَاطُ حُكْمِ سُكْرِهِ بِتَكْلِيفِهِ، وَأَنَّهُ كَالصَّاحِي فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ تَغْلِيظًا وَتَخْفِيفًا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ: كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى وَجَدْتُ نَصًّا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ رَجْعَتُهُ وَإِسْلَامُهُ مِنَ الرِّدَّةِ فَرَجَعْتُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا السَّكْرَانُ بِشُرْبِ دَوَاءٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ كَشَارِبِ الْبَنْجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التداوي ولا يقصد به السكر، فلا يقطع طَلَاقُهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ السُّكْرَ دُونَ التَّدَاوِي فَفِيهِ وَجْهَانِ. أحدهما: أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ السُّكْرِ مِنَ الشَّرَابِ، فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَمُؤَاخَذَتِهِ بِأَحْكَامِهِ عَلَى مَا ذكرنا، لمواخذته بِسُكْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِتَنَاوُلِهِ كَمَعْصِيَتِهِ بِتَنَاوُلِ الشَّرَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِأَحْكَامِهِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِهِ، لأن الشراب مطرب يدعو النفوس إلى تناوله فغلط حكمه آخراً عَنْهُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا غُلِّظَ بِالْحَدِّ، وَهَذَا غير مطرب، والنفوس مِنْهُ نَافِرَةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُغَلَّظْ بِالْحَدِّ، فَلَمْ يغلظ بوقوع الطلاق والله أعلم بالصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 (باب الطلاق بالحساب والاستثناء من الجامع من كتابين) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ فَإِنْ نَوَى مَقْرُونَةً بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى الْحِسَابَ فَهِيَ اثْنَتَانِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ، فَقَدْ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ حَالَهُ فِيهِ ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يُرِيدَ وَاحِدَةً مَعَ اثْنَتَيْنِ، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا لِأَنَّ (فِي) قَدْ تَقُومُ مَقَامَ مَعَ، لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 77] . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الْحِسَابَ وَهُوَ مَضْرُوبُ وَاحِدَةٍ فِي اثْنَتَيْنِ، فَتُطَلَّقَ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مَضْرُوبُ الْوَاحِدَةِ فِيهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ إِرَادَةً، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِيقَاعٌ لَهَا وَقَوْلَهُ فِي اثْنَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ، ظَرْفٌ لِلْوَاحِدَةِ، وَالظَّرْفُ مَحَلٌّ لَا يَتْبَعُ الْمَقْصُودَ فِي حُكْمِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَوْبَيْنِ، أَوْ فِي دَارَيْنِ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً إِذَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ كَانَ إِقْرَارًا بِالثَّوْبِ، دُونَ الْمِنْدِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّلَاقِ مَحَلٌّ، فَيَجْعَلُ الِاثْنَتَيْنِ ظَرْفًا، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ الْحِسَابِ فَكَانَ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ مَحَلٌّ فَلِلْمُطَلَّقَةِ مَحَلٌّ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ فِي ثَوْبَيْنِ وَفِي دَارَيْنِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ. (فَصْلٌ:) فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ أَرَادَ مَعَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرَادَ الْحِسَابَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ طلقت اثنين أيضاً. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا تَقَعُ عَلَيْكِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً، وَأَرَادَ رَفْعَهَا فَالطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَرْتَفِعُ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ، أَنْتَ حُرٌّ حُرِّيَّةً لَا تَقَعُ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا تَرْتَفِعُ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا طُلِّقْتِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ قَوْلُهُ (لَا) بَعْدَ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ لَا طَالِقٌ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ حَرْفَ النَّفْيِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لَا يَقَعَانِ عَلَيْكِ طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَقَعْنَ عَلَيْكِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَانِيَةٌ لَا تَقَعُ عَلَيْكِ أَوْ قَالَ: ثَانِيَةٌ لَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا تَقَعُ عَلَيْكِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَثَالِثَةٌ لَا تَقَعُ عَلَيْكِ، أَوْ قَالَ: وَثَالِثَةٌ لَا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا عَلَيْكِ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَصَارَ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثنتين لا واحدة. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِنْ قَالَ وَاحِدَةٌ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ كَانَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهَا طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا قَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا، هَلْ تَقَعُ قَبْلَهَا عَلَى مُوجَبِ لَفْظِهِ أَوْ تَقَعُ مَعَهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تَقَعُ مع التي أوقعها ولا تقع قبلها، لأن لا يَكُونُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ سَابِقًا لِلَفْظِ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنها تَقَعُ قَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا، اعْتِبَارًا بِمُوجَبِ لَفْظِهِ، وَيَكُونُ وُقُوعُهَا بَعْدَ لَفْظِهِ، وَقَبْلَ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِلَفْظِهِ، فَيَجْعَلُ نَاجِزَ الطَّلَاقِ مُؤَخَّرًا لِيَتَقَدَّمَهُ طَلَاقُ الصِّفَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ وُقُوعُهُ سَابِقًا لِلَفْظِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ نَاجِزَ الطَّلَاقِ يَقَعُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يَتَعَقَّبُهُ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَمَاتَ مَعَ آخِرِ كَلَامِهِ مِنْ غَيْر ِ فَصْلٍ طُلِّقَتْ وَلَوْ كَانَ يَقَعُ بَعْدَهُ لَمْ تُطَلَّقْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تقع الطلقتان عليها بعد لقطه بِزَمَانَيْنِ، لِتَقَعَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، تَقَعُ الطَّلْقَتَانِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ زَمَانٍ يُعْتَبَرُ بَعْدَهُ. فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ فِي نِكَاحٍ كَانَ تَقَدَّمَهُ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ فَإِنْ كانت له بنية على النكاح المتقدم، كان القول فيه مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا وَلَزِمَهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ طَلْقَتَانِ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَتَكُونُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ عَلَى مُوجَبِ لَفْظِهِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَتَكُونُ النَّاجِزَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْوَاقِعَةِ بِالصِّفَةِ إِلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَقَعُ الْأُولَى بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ: تَقَعُ الْأُولَى مَعَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ مَعَ قَوْلِهِ: بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، أَنَّنِي أَسْتَأْنِفُ إِيقَاعَهَا عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِ لَفْظٍ مُسْتَجَدٍّ، وَلَمْ أُرِدْ إِيقَاعَهَا الْآنَ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَال إِلَّا وَاحِدَةٌ، فَكَانَ مُوعِدًا بِطَلْقَةٍ أُخْرَى، إِنْ أَوْقَعَهَا، وَإِلَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَزِمَتْهُ طَلْقَتَانِ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ لَا تَلْزَمُهُ إِلَّا وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبُعْدَهَا وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً تَحْتَ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ أَوْ تَحْتَ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَفَاضَلُ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ فَوْقَ إِلَى الْجَوْدَةِ وَتَحْتَ إِلَى الرَّدَاءَةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَتَفَاضَلُ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى الْوُقُوعِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَإِنْ قَالَ رَأْسُكِ أَوْ شَعْرُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِكِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ لَا يَقَعُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا طَلَّقَ بَعْضَ بَدَنِهَا طَلَّقَ جَمِيعِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَا طَلَّقَهُ مِنْهَا جُزْءًا شَائِعًا مُقَدَّرًا كَقَوْلِهِ: رُبُعُكِ طَالِقٌ، أَوْ نِصْفُكُ طَالِقٌ، أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَقَوْلِهِ جُزْءٌ مِنْكِ طَالِقٌ، أَوْ كَانَ عُضْوًا مُعَيَّنًا كَقَوْلِهِ: رَأْسُكِ طَالِقٌ، أَوْ يَدُكِ طَالِقٌ أَوْ شَعْرُكِ طَالِقٌ، أَوْ ظُفْرُكِ طَالِقٌ، وسواء كان العضو مما يعبر عن الجملة ولا يحيي كَالرَّأْسِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عن الجملة ويحيي بِفَقْدِهِ كَالْيَدِ وَالشَّعَرِ. أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَلَاقِ بَعْضِهَا، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْرِي مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ ثُمَّ يَسْرِي مِنْهُ إِلَى جميعها. والوجه الثاني: انه ينكمل فِي الْحَالِ ثُمَّ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ سَرَايَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا طُلِّقَتْ، مُقَدَّرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَإِنْ طَلَّقَ عُضْوًا مِنْهَا، طُلِّقَتْ بِخَمْسَةِ أَعْضَاءٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: رَأْسُكِ طَالِقٌ أَوْ ظَهْرُكِ طَالِقٌ، أَوْ وَجْهُكِ طَالِقٌ، أَوْ رَقَبَتُكِ طَالِقٌ أَوْ فَرْجُكِ طَالِقٌ، وَلَا تُطَلَّقُ بِغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: يَدُكِ طَالِقٌ وَرِجْلُكِ طَالِقٌ، وَشَعْرُكِ طَالِقٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ دُونَ غَيْرِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ فِيهَا أنها أعضاء لا يحيى بقطعها، واليد والرجل يحيى بِقَطْعِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ إِنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ عَنْ جُمْلَتِهَا، وَلَا يُعَبَّرُ بِغَيْرِهَا عنها، أما الوجه قوله تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] . وَأَمَّا الرَّأْسُ فَلِقَوْلِهِمْ: عِنْدِي كَذَا رَأْسٍ مِنَ الرَّقِيقِ، وَأَمَّا الظَّهْرُ فَلِقَوْلِهِمْ: عِنْدِي مِنَ الظَّهْرِ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . وَأَمَّا الْفَرْجُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَكِبَتِ الْفُرُوجُ الشُّرُوجَ) . وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِطَلَاقِ مَا سِوَاهَا، بِأَنَّهُ جُزْءٌ يَصِحُّ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَعَ فَقْدِهِ، فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ لَمْ يُطَلَّقْ بِهِ كَالدَّمِ وَاللَّحْمِ. قَالَ: وَلِأَنَّ صِحَّةَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالْقَوْلِ، فَلَمْ يَصِحَّ إِيقَاعُهُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ بِبَعْضِ مُعَيَّنٍ كَالْفَسْخِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ طَلَّقَ جُزْءًا اسْتَبَاحَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، إِذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، أَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَالْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ. قِيلَ: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقِفُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ وَلَا يَسْرِي إِلَى غَيْرِهِ، فَصَحَّ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ يَسْرِي، فَوَقَعَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ، وَالشَّائِعِ جَمِيعًا لِسَرَايَتِهَا إِلَى الْجَمِيعِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجُزْءُ الْمُشَاعُ هُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَجَازَ أَنْ يَسْرِيَ، وَالْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ لَيْسَ بِشَائِعٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْرِيَ قِيلَ إِذَا جَازَ أَنْ يَسْرِيَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ الشَّائِعِ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ جَازَ أَنْ يَسْرِيَ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ الْمُعَيَّنِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعُضْوُ تَابِعٌ لِلْجُمْلَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْرِيَ حُكْمُ التَّابِعَ إِلَى الْمَتْبُوعِ، كَمَا لَا يَسْرِي عِتْقُ الْحَمْلِ إِلَى الْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ، وَيَسْرِي عِتْقُ الْحَامِلِ إِلَى الْحَمْلِ، لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ، قِيلَ الْعُضْوُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ دِيَاتُ الأطراف في دية النفس، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 وليس العضو تابع لِلْبَدَنِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِيَةُ عُضْوٍ فِي دِيَةِ عُضْوٍ، ثُمَّ يُنْتَقَضُ بِطَلَاقِ الْفَرْجِ وَالْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ بِالطَّلَاقِ إِلَى عُضْوٍ مُتَّصِلٍ بِهَا اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْإِشَارَةِ بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمْلَةِ كَالْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ، وَقَوْلُنَا: اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ احْتِرَازًا مِنَ الْأُذُنِ إِذَا أُلْصِقَتْ بَعْدَ قَطْعِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ لَمْ يُطَلِّقْ بِهِ. فَإِنْ قيل: المعنى في الأعضاء الخمسة أنها قوم البدن، وأنها لا يحيى بِفَقْدِهَا انْتُقِضَ بِالْكَبِدِ وَالْفُؤَادِ لِأَنَّهُمَا قَوَامُ الْبَدَنِ، لا يحيى إِلَّا بِهِمَا، وَلَا تُطَلَّقُ عِنْدَهُ بِطَلَاقِهِمَا. وَأَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجُمْلَةِ، كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الْجُمْلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ يَتَعَلَّقُ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْجُمْلَةِ إِذَا أُطْلِقَتْ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَهِيَ هَاهُنَا مُضَافَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: رَأْسُكِ طَالِقٌ، فَلَمْ يعبر بها مع الإضافة إلى عَنْهَا، لَا عَنِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ مَيَّزَتِ الْمُضَافَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ الْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ. أما اليد فبقوله تعالى: {تبت يد أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] . وَأَمَّا الرِّجْلُ فَلِقَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَدَمٌ أَيْ مَنْزِلَةٌ، وَأَمَّا الشَّعَرُ فَلِقَوْلِهِمْ حَيَّا اللَّهُ هَذِهِ اللِّحْيَةَ أَيِ الْجُمْلَةَ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّمَا لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ بَطَلَ، وَجَبَ إِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ أَنْ يَقَعَ كَالْفَرْجِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحَمْلِ وَالدَّمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبِحْهُمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلُهُمَا السَّرَايَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْفَسْخِ فَالْمَعْنَى فِي الْفَسْخِ أَنَّهُ لَا يَسْرِي كَسَرَايَةِ الطَّلَاقِ فَخَالَفَ حُكْمَ الطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَكُلُّ مَا كان متصلاً ببدنها اتصال الخلقة مع جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَالشَّعَرِ، وَإِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، وَقَعَ عَلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي وُقُوعِهِ جُمْلَةً أَوْ سَرَايَةً. فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا اتِّصَالَ الْخِلْقَةِ، كالحمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وَالْأُذُنِ الْمُلْصَقَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ، فَلَا تُطَلَّقُ بِطَلَاقِهِ. وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَالرِّيقُ وَالْعَرَقُ، لِأَنَّ الْبَدَنَ وِعَاؤُهُ وَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِهِ، كَمَا يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلِذَلِكَ يَنفَصْلٌ عَنِ الْبَدَنِ كَانْفِصَالِ الطَّعَامِ والشراب، فذلك لَمْ تُطَلَّقْ بِطَلَاقِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تُطَلَّقُ بِطَلَاقِ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا وَفِي بَدَنِهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ: ثِيَابُكِ طَالِقٌ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى أَفْعَالِهَا فَقَالَ: أَكْلُكِ طَالِقٌ، أَوْ شُرْبُكِ طَالِقٌ أَوْ قِيَامُكِ طَالِقٌ أَوْ وقُودُكِ طَالِقٌ، وَهَكَذَا إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى حَوَاسِّهَا فَقَالَ: نَظَرُكِ طَالِقٌ أَوْ سَمْعُكِ طَالِقٌ أَوْ ذَوْقُكِ طَالِقٌ أَوْ لَمْسُكِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ، لِانْفِصَالِهِ عَنْهَا، إِلَّا أَنْ يُوقِعَهُ عَلَى جَوَارِحِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ فَيَقُولَ: عَيْنُكِ طَالِقٌ، وَأُذُنُكِ طَالِقٌ، وَأَنْفُكِ طَالِقٌ وَلِسَانُكِ طَالِقٌ فَتُطَلَّقُ، فَإِنْ قَالَ: عِنْدَكَ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ قَالَ: بَيَاضُكِ طَالِقٌ أَوْ سَوَادُكِ طَالِقٌ، أَوْ لَوْنُكِ طَالِقٌ فَفِي وُقُوعِهِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَاتِهَا الَّتِي لَا تَنْفَصْلٌ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْأَلْوَانَ أَعْرَاضٌ تَحُلُّ الذَّاتَ وَلَيْسَتْ أَجْسَامًا كَالذَّاتِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طالق إلا فرجك، وطلقت مع فرجها، لأنها لا تبتعض فِي الطَّلَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَسْرِي، وَالطَّلَاقُ يَسْرِي وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْتِ، وطلقت وَكَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَغْوًا، لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ: يَا حَفْصَةُ أَنْتِ طَالِقٌ وَرَأْسُ عَمْرَةَ بِالرَّفْعِ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ جَمِيعَ حَفْصَةَ وَطَلَّقَ رَأْسَ عَمْرَةَ، فَطَلَّقَ جَمِيعُهَا، وَلَوْ قَالَ: يَا حَفْصَةُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَرَأْسِ عَمْرَةَ بِالْكَسْرِ لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْقَسَمِ بِرَأْسِ عَمْرَةَ عَلَى طَلَاقِ حَفْصَةَ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ كَانَتْ تَطْلِيقَةً وَالطَّلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال. إذا بَعْضُ طَلَاقِهَا يَكْمُلُ وَلَمْ يَتَبَعَّضْ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعْضُ مِنْهَا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ، أَوْ كَانَ مِقْدَارًا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ عُشْرَ طَلْقَةٍ، سَوَاءٌ قَلَّ الْبَعْضُ أَوْ كَثُرَ، وَيَكُونُ طَلْقَةً كَامِلَةً وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِلَّا بِطَلْقَةٍ كَامِلَةٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْضَ طَلْقَةٍ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ، مَا لَمْ يَلْزَمْ، وَصَارَ الْبَعْضُ الَّذِي أَوْقَعَهُ لَغْوًا. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ تَكْمِيلَ الطَّلَاقِ مُوجِبٌ لِكَمَالِ التَّحْرِيمِ، وَتَبْعِيضَهُ مقْتَضى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 تَبْعِيضَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَتَبَعَّضُ، فَصَارَ التَّحْرِيمُ بِالتَّبْعِيضِ مُمَازِجًا لِلتَّحْلِيلِ، وَهُمَا لَا يَمْتَزِجَانِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فكان تغليب التحريم أولى الأمرين: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا يَغْلِبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَاخْتِلَاطِ زَوْجَتِهِ بِأُخْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ يَسْرِي، وَإِبَاحَةَ النِّكَاحِ لَا تَسْرِي، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِصْفَ زَوْجَتِهِ سَرَى الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِهَا، وَلَوْ نَكَحَ نِصْفَ امْرَأَةٍ لَمْ يَسْرِ النِّكَاحُ إِلَى جَمِيعِهَا (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ لِلْوَاحِدَةِ نِصْفَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي أَنَّهَا فِي الْحَالَيْنِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، كما أن لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ نِصْفَا دِرْهَمٍ، فِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعِ طَلْقَةٍ، كَانَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْهَا، لأن للطلقة الواحدة ثلاث أَثْلَاثٍ وَأَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ. (فَصْلٌ:) وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ، وَمِثْلَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ مِثْلَ النِّصْفِ نِصْفٌ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ بَيْنَ النِّصْفَيْنِ وَاوَ الْعَطْفِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا هَاهُنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَضَافَ النِّصْفَيْنِ إِلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُضِفْهَا هَاهُنَا إِلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَمِثْلَهُ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ طَلْقَتَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أنت طالق نصف طلقة ونصفها طلقت ثنتين وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالضِّعْفِ، أَنَّ الْمِثْلَ نَظِيرٌ، وَالضِّعْفَ تَكْرِيرٌ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أنصاف تكون واحدة ونصف، فَكَمَّلَ اثْنَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ أَضَافَ الثَّلَاثَةَ الْأَنْصَافَ إِلَى الْوَاحِدَةِ، فَصَارَ النِّصْفُ الثَّالِثُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْوَاحِدَةِ لَغْوًا فَسَقَطَ، وَطُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثِ طَلْقَةٍ، أَوْ خَمْسَةَ أَرْبَاعِ طَلْقَةٍ كان على هذين الوجهين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 أحدهما: تطلق ثنتين. وَالثَّانِي: وَاحِدَةً. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَدْ كَمَّلَها بِالْأَجْزَاءِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَهَا وَرُبُعَهَا وَسُدُسَهَا فَقَدْ زَادَتْ أَجْزَاؤُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى وَاحِدَةٍ، فَكَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَقَوْلِهِ ثَلَاثَةَ أضعاف طلقة: أحدهما: تطلق ثنتين. وَالثَّانِي: وَاحِدَةً، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ سُدُسَ طَلْقَةٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ (وَاوَ الْعَطْفِ) تَغَايَرَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَإِذَا حَذَفَهَا لَمْ يَتَغَايَرْ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ واحدة من ثنتين، وَيَكُونُ النِّصْفُ مُمَيِّزًا لِإِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَيَكُونُ النِّصْفُ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ، فَتُطَلَّقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا، وَيَسْرِي إِلَى جَمِيعِهَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ تَطْلِيقَتَيْنِ، فعلى الوجه الأول: تطلق تطلقتين، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلِأَنَّ النِّصْفَ لَمَّا كَانَ مُوقِعًا لِطَلْقَةٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ أَنْصَافٍ مُوقِعًا لِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْصَافِ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ، فَيَصِيرُ مُوقِعًا لِسِتٍّ فَوَقَعَ مِنْهَا ثَلَاثٌ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ نِصْفُ طَالِقٍ طُلِّقَتْ كَمَا لَوْ قَالَ (نِصْفُكِ طَالِقٌ) ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ نِصْفُ طَلْقَةٍ كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ. كَقَوْلِهِ أَنْتِ الطَّلَاقُ. أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً إِذَا قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ الطَّلَاقُ صَرِيحٌ. وَالثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةً كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَالِقًا وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَسْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ فَيُطَلَّقْنَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ لَهُ: قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةً، كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عُرْفِ الْخِطَابِ بَيْنَ قَوْلِهِ: قَدْ أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ، كَمَا لَا فَرْقَ فِي الْإِقْرَارِ بَيْنَ قَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَيْنَ قَوْلِهِ هِيَ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فَلَهُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بَيْنَهُنَّ سِتَّةٌ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَ أَرْبَعٍ، كَانَ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الرُّبُعَ فَيَكْمُلُ الرُّبُعُ بِالسَّرَايَةِ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ قِسْمَةَ جُمْلَةِ التَّطْلِيقَةِ بَيْنَهُنَّ، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ قِسْمَةِ الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ وَاحِدَةٍ فَكَمُلَتْ وَاحِدَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ قِسْمَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُنَّ، فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعٌ، فَيَكْمُلُ الرُّبُعُ طَلْقَةً، فَوَقَعَ عَلَيْهَا بِالرُّبُعَيْنِ تَطْلِيقَتَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ فِي الْقَسْمِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْمُلُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى قِسْمَةِ جُمْلَةِ التَّطْلِيقَتَيْنِ بَيْنَهُنَّ، فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ، وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ إنَّهُ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى قِسْمَةِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ، فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُبُعَيْ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَتُطَلَّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ محتملاً للأمرين وجب حمله على الأقل. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، فَإِنْ أَرَادَ قِيمَةَ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنَ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَةٍ، فَكَمُلَتْ تَطْلِيقَةً وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا، لِأَنَّ قِسْطَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ تَطْلِيقَاتٍ فَيُكْمِلُ كُلُّ رُبُعٍ تَطْلِيقَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُحْمَلُ عَلَى قِسْمَةِ الْجُمْلَةِ فَتُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ أَرْبَعَ تَطْلِيقَاتٍ، فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ الْجُمْلَةِ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ منهن واحدة على الْوَجْهِ الْآخَرِ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا، وَتَكُونُ الرَّابِعَةُ لَغْوًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثًا. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ خَمْسَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ الْجُمْلَةِ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَيْنِ، لِأَنَّ قسط كل واحدة، واحدة وربع، فكملت ثنتين، وَإِنْ أَرَادَ قِسْمَةَ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا مِنْ خَمْسٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُطَلَّقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَعَ بَيْنَهُنَّ سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَةً، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّتِّ تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ، وَمِنَ السَّبْعِ تَطْلِيقَةٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَمِنَ الثَّمَانِ تَطْلِيقَتَانِ، وَلَا فَرَقَ بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَبَيْنَ تَطْلِيقَةٍ مِنْ بَعْضِ ثَانِيَةٍ فِي تَكْمِيلِهَا بِطَلْقَتَيْنِ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُنَّ تِسْعَ تَطْلِيقَاتٍ، فَتُطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، لِأَنَّ قِسْطَهَا مِنْ قِسْمَةِ الْجُمْلَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبُعٌ، وَهُوَ أَقَلُّ أَحْوَالِهَا، فَكَمُلَتْ ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَعَ بينهن اكثر من سبع أو أكبر مِنْ ثَمَانٍ، وَدُونَ التِّسْعِ كَثَمَانٍ وَنِصْفٍ أَوْ ثمان وعشر، لأنه أزاد قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى الثِّنْتَيْنِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ مِنْ ثَالِثَةٍ، كَمُلَ ثَلَاثًا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ تِسْعَ تَطْلِيقَاتٍ، وَقَالَ أَرَدْتُ بِالتِّسْعِ ثَلَاثًا وَاسْتَثْنَيْتُ الرَّابِعَةَ، طَلَّقَ الثَّلَاثَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَطُلِّقَتِ الرَّابِعَةُ فِي الظَّاهِرِ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ خَمْسًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ التَّفْضِيلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ثَلَاثٌ مِنَ الْخَمْسِ لِوَاحِدَةٍ، والثنتان الباقيتان بين الثلاث، قبل قوله الَّتِي فَضَّلَهَا ظَاهِرًا، وَطُلِّقَتْ مِنْهُ ثَلَاثًا، وَقَدْ كَانَ يَقَعُ عَلَيْهَا لَوْلَا التَّفْضِيلُ تَطْلِيقَتَانِ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اللَّائِي نَقَصَهُنَّ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَوْلَا التَّفْضِيلُ طَلْقَتَانِ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ التَّفْضِيلِ وَاحِدَةٌ، فَيَلْزَمُهُ فِي الظَّاهِرِ تَطْلِيقَتَانِ وَفِي الْبَاطِنِ وَاحِدَةٌ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ إِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا بَقَّى شَيئًا فَإِذَا لَمْ يُبَقِّ شَيئًا فمحال) . قال الماوردي: أما الاسثناء فَهُوَ ضِدُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ، فَيَكُونُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، فَإِذَا قَالَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ إِلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 زَيْدًا، فَقَدْ أَثْبَتَ مَجِيءَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، وَنَفَى مَجِيءَ زَيْدٍ إِلَيْهِ، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُمْ وَلَوْ قَالَ: ما جاءني أحداً إلا زيد، فَقَدْ نَفَى مَجِيءَ أَحَدٍ وَأَثْبَتَ مَجِيءَ زَيْدٍ لِاسْتِثْنَائِهِ منْ نَفي، وَإِذَا عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى جُمْلَةٍ، كَانَ الْمُرَادُ بِهَا، مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً كَانَ إِقْرَارُهُ بِسَبْعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِئًا: عَلَيَّ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . فَكَانَ كَقَوْلِهِ: تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ اسْتِثْنَاءٌ ثَانِي بَعْدَ أَوَّلٍ وَثَالِثٌ بَعْدَ ثَانِي فَيَعُودُ الْأَوَّلُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى نَقَصَ فِيهِ إِثْبَاتًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا، وَالثَّانِي إِثْبَاتًا، وَالثَّالِثُ نَفْيًا لِمَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا خَمْسَةً، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِثْبَاتٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِلَّا سَبْعَةً نَفْيًا لَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَقَطَتْ مِنْهَا بَقِيَتْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا قَالَ: إِلَّا خَمْسَةً عَادَ إِلَى السَّبْعَةِ وَهِيَ نَفْيٌ، فَكَانَتِ الْخَمْسَةُ إِثْبَاتًا فَزِيدَتْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ، فصارت ثمانية، وصار مستثناً لِاثْنَتَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ، لِأَنَّ الْخَمْسَةَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنَ السَّبْعَةِ يَبْقَى مِنْهَا اثْنَتَانِ فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْعَشَرَةِ، وَشَاهِدُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ: {قَالُوا إِنَّا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 58 - 60] . فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْهَلَاكِ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَةَ لُوطٍ مِنْ آلِ لُوطٍ الْمُنَجَّوْنَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَصَارَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ يَأْتِي بِوَاوِ الْعَطْفِ، كَانَا اسْتِثْنَاءً وَاحِدًا كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَمَتَى كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً، ثَبَتَ إِقْرَارُهُ بِالْعَشَرَةِ وَبَطَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ لِلْعَشَرَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِبْقَاءِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ لَا لِرَفْعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا الصبيان، لأن في الأول رافع، وفي الثاني مبقي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِلْأَوَّلِ، مُبْقِيًا للأكثر إجماعاً كقوله: علي عشرة إلا درهم، فَيَبْقَى تِسْعَةٌ يَكُونُ مُقِرًّا بِهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ رَافِعًا لِلْأَكْثَرِ مُبْقِيًا لِلْأَقَلِّ جَازَ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَقُولُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ، أَنَّهُ أَبْطَلَ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ رَفْعَ الْأَكْثَرَ، وَأَبْقَى الْأَقَلَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُطْرَحٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدْفَعُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 [الحجر: 39، 40] . فَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَفَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . فَاسْتَثْنَى الْغَاوِينَ من الكافرين وبقي المؤمنين، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ لِقَوْلِهِ: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الاستثناء الأكثر وَقَالَ الشَّاعِرُ. (أَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ عَنْ مِائَةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالًا) فَاسْتَثْنَى تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ وَهِيَ الْأَكْثَرُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَمْهِيدِ هَذِهِ الْأُصُولِ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، لِبَقَائِهَا بَعْدَ اسْتِثْنَائِهَا الْوَاحِدَةَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً اثْنَتَيْنِ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لِبَقَائِهَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ لِلِاثْنَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِإِيقَاعِهَا بَعْدَ اسْتِثْنَائِهَا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا ثَلَاثًا. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا ثَلَاثًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَمْسِ لَغْوٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، فَطُلِّقَتْ ثَلَاثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ الخمس لغواً إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا اسْتِثْنَاءٌ، فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا تَكُونُ لَغْوًا لِأَنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الثَّلَاثِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْخَمْسِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي اثْنَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إِلَّا ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنْ عَادَ إِلَى السِّتِّ فَقَدْ أَبْقَى ثَلَاثًا، وَإِنْ عَادَ إِلَى الثَّلَاثِ فَقَدِ اسْتَثْنَى جَمِيعَهَا فَلَمْ يَصِحَّ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ نَفْيٌّ فَبَقِيَتْ بَعْدَهُ وَاحِدَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِي إِثْبَاتٌ فَزَادَتْ بِهِ وَاحِدَةٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ قَدْ أَسْقَطَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً، فَصَارَ الْبَاقِي مِنْهُ وَاحِدَةً، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الثَّلَاثِ فَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، صَارَ الْمُسْتَثْنَى وَاحِدَةً، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، فَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَإِلَّا وَاحِدَةً، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، لِأَنَّ دُخُولَ وَاوِ الْعَطْفِ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ يَجْعَلُ إِعَادَةَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا جُمِعَا كَانَا ثَلَاثًا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِرَفْعِهِ لِلْجَمِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، إِسْقَاطًا لِلْوَاحِدَةِ، الْأَخِيرَةِ مِنْ عَدَدَيِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِتَكُونَ الثِّنْتَانِ الْبَاقِيَتَانِ مِنْهُ عَدَدًا يَصِحُّ الاستثناء، فلذلك طلقت واحدة، لأه لَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا قَالَ: إِلَّا وَاحِدَةً صَارَ كَأَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا إِسْقَاطًا لِجَمِيعِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ إِسْقَاطًا لِآخِرِ الْعَدَدَيْنِ، وَإِثْبَاتًا لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ، إِلَّا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى أَقْرَبِهَا، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، إِلَّا طَلْقَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ أَفْرَدَهَا، وَلَمْ يَجْمَعْهَا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَنِصْف إِلَّا وَاحِدَةً، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّ نِصْفَ الثَّالِثَةِ يَسْرِي، فَيَصِيرُ وَاحِدَةً كَامِلَةً، وقد ضمنها إِلَى اثْنَتَيْنِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً فَتُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَسْقُطُ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدَةِ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْوَاحِدَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ دَخَلَتْ هَاهُنَا، فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَسَرَايَةُ الطَّلَاقِ تَسْتَقِرُّ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ وَنِصْفٍ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَنِصْفٌ فَكَمُلَتِ اثْنَتَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا نِصْف، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ طَلْقَتَانِ وَنِصْف، وَيَكُونُ تَكْمِيلُ الطَّلَاقِ فِي الْوَاقِعِ مِنْهُ دُونَ الْمُسْتَثْنَى. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْف إِلَّا طَلْقَةً وَنِصْف فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ وَنِصْف لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ نِصْفِ طَلْقَةٍ، فَيَسْقُطَ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكْمُلَ الْوَاقِعُ ثَلَاثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ النِّصْفَ طَلْقَةٍ الْوَاقِعَةَ مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ قَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 صَارَتْ ثَلَاثًا، وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْهَا طَلْقَةً وَنِصْف، فَبَقِيَتْ طَلْقَةٌ فَكَمُلَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ كَمَالَ الْوَاقِعِ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ، وَقَدِ اسْتَثْنَى طَلْقَةً وَنِصْف مِنْ طَلْقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تطلق تُطَلَّقُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ رَافِعٌ لِلْكُلِّ فَيَسْقُطُ، وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُطَلَّقُ طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ سَقَطَ بِرَفْعِهِ لِلْكُلِّ وَقَامَ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَنَفَى طَلْقَةً وَبَقِيَتْ طَلْقَتَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ عَادَ إِلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي فَبَقي مِنْهُ وَاحِدَة وَنفي مِنْهُ اثْنَتَانِ، فَصَحَّ عَوْدُهُ إِلَى الثَّلَاثِ، فَبَقِيَ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ، كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، إِسْقَاطًا لِلِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، وَإِقَامَة الثَّانِي مَقَامَهُ. وَالثَّالِثُ: تُطَلَّقُ اثْنَتَانِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَخِيرَ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، فَبَقِيَ مِنْهُ وَاحِدَةٌ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدَةِ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَتَبْقَى اثْنَتَانِ وَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً اسْتِعْمَالًا لَهَا فَتَسْقُطُ مِنَ الْأَوَّلِ اثْنَتَانِ، وَتَبْقَى مِنْهُ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى. (فَصْلٌ:) وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ بِجَمِيعِ حُرُوفِهِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فيه، وهي: إلا، وغير، وسوى، وخلا، وحاشى، وَعَدَا، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ غَيْرَ وَاحِدَةٍ أَوْ سِوَى وَاحِدَةٍ أو خلا واحدة أو حاشى وَاحِدَةً أَوْ عَدَا وَاحِدَةً، صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا، وَطُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّ غَيْرَ وَحْدَهَا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْإِعْرَابُ، فَتُضُمُّ الرَّاءُ مِنْهَا تَارَةً، وَتُفْتَحُ أُخْرَى، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَيْرَ وَاحِدَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ، كَانَ اسْتِثْنَاءٌ وَطَلَّقَتِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا غَيْرُ وَاحِدَةٍ، بِضَمِّ الراء قال أهل العربية: تطلق ثلاثاً، لان بِالضَّمِّ يَصِيرُ نَفْيًا، وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً وَتَقْدِيرُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَيْسَتْ وَاحِدَةً، وَلَيْسَ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذَا نَصٌّ، فَإِنْ كَانَ الْمُطَلِّقُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُ الْإِعْرَابَ فِي كَلَامِهِ، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا قَالُوهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ وِجْهَتَيْ أَصْحَابِنَا فِي أَمْثَالِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَقَالَ: أَنْتِ إِلَّا وَاحِدَةً طَالِقٌ ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ، لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مَا تَقَدَّمُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَعَقَّبَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 فِي كَلَامِهِمْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا تَعَقَّبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ فِي مَدْحِ هِشَامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ خَالِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. (وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ... أبو أمه حي أبو يقاربه) فقد الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ وَمَا مثله في الناس حتى يُقَارِبُهُ إِلَّا مُمَلَّكًا أَبُو أَمِّ ذَلِكَ الْمُمَلَّكِ، أَبُو هَذَا الْمَمْدُوحِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا قُدِّمَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، مَا زَالَتِ الضَّرُورَةُ عَنْهُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ ثَلَاثًا فِي بَطْنٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي أُخْرَى وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ وَضَعَتْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، كَامِلَ الْخَلْقِ أَوْ نَاقِصًا، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْ يَدًا أَوْ رِجْلًا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ بَعْضُ وَلَدٍ وَلَيْسَ بِوَلَدٍ وَتَصِيرُ بِهِ لَوْ كَانَتْ أُمَّهُ أَمَّ وَلَدٍ، وَلِأَنَّهَا قَدْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ. وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِكَوْنِهِمَا فِي مَشِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَتُطَلَّقُ بِهِمَا طَلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّمَا مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْرَارِ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ صِفَةُ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَعَلَيْهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ، فَتُطَلَّقُ بِالثَّانِي ثَانِيَةً وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ رَاجَعَهَا فَتُطَلَّقُ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّ مَا انْقَضَتْ بِهِ الْعُدَّةُ لم ويقع بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنَّمَا انْقَضَتْ بِهِ الْعُدَّةُ، لِأَنَّهَا بِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ مُعْتَدَّةٌ، وَالْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَانَتْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ إِذَا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِوَضْعِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 والثاني لا يقع عليها الطلاق في حال الْبَيْنُونَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ تُطَلَّقْ بِالْمَوْتِ. وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْإِمْلَاءِ، أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِالثَّانِي أُخْرَى وَتَنْقَضِي بِهِ الْعُدَّةُ؛ لِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الثَّانِي كَوُجُودِهَا فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْبَيْنُونَةُ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، كَالَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنِي لَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمَالِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ابْنُ خَيْرَانَ مَنْ وقف على أمالي الشافعي قبله، فلم يحكيه مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ خَيْرَانَ مَنْسُوبًا فِي حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِجَاجَ يُبْطِلُهُ وَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ لَمْ تُطَلَّقْ إِجْمَاعًا لِأَنَّ مَا بِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا حَكَّاهُ ابْنُ خَيْرَانَ مَحْمُولَا عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَطُلِّقَتْ بِهِمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَلَوْ وَضَعَتْهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً، وَلَمْ تَنْقَضِ به الْعِدَّةُ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ، فَإِنْ وَضَعَتْهُمْ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ طلقت بهم ثلاثاً، وانقضت عدتها بالأقراء، ولو وَضَعَتْهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلَ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي ثَانِيَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَحْدَهُ طَلْقَةً. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا قَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ مُسْتَأْنَفٍ فَيَكُونُ لُحُوقُهُمَا بِهِ، كَمَنْ وَضَعَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا عَلَى مَا سَنُفَصْلهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْتَنِعُ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَنِ الثَّالِثِ فَتُعَلَّقُ وَيَكُونُ بَاقِيه فِي عِدَّتِهَا إِلَى وَضْعِهِ، فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهٌ، وَنُظِرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ وَكَانَ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ، وَصَارَ الثَّالِثُ مَوْلُودًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَيَكُونُ لُحُوقُهُ عَلَى مَا سَنُفَصْل فِي الْمَوْلُودِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا تُطَلَّقُ بِالثَّانِي ثَانِيَةً وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِبَقَاءِ الْحَمْلِ، تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ، وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ وَيُلْحَقَانِ بِالزَّوْجٍ كَالْأَوَّلِ. وَلَوْ وَضَعَتْ أَرْبَعَةَ أَوْلَادٍ نُظِرَ، فَإِنْ وَضَعَتْهُمْ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا تَقَعُ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي حَمْلٍ وَاحِدٍ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَاحِدَةً وَبِالثَّانِي ثَانِيَةً وَبِالثَّالِثِ ثَالِثَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالرَّابِعِ. فَلَوْ وَضَعَتِ اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ بِالِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ طَلْقَتَيْنِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةً بِالِاثْنَيْنِ الْآخِرَيْنِ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمَا كَالْوَلَدِ الواحد في الانفصال، فلو ضعت ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَضَعَتْ رَابِعًا مُنْفَرِدًا طُلِّقَتْ ثَلَاثًا بِالثَّلَاثَةِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالرَّابِعِ الْمُنْفَرِدِ، وَلَوْ وَضَعَتِ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ أَوَّلًا ثُمَّ الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعِينَ مَعًا، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الِافْتِرَاقِ، وَفِي الْعِدَّةِ حُكْمُ الْوَاحِدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِنَ عَدَدُ الطَّلَاقِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَقْتَرِنَ الْعِدَّةُ وَالطَّلَاقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: كُلَّمَا كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَوَضَعَتْ وَلَدًا وَاحِدًا، طُلِّقَتْ بِهِ وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ، إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَالِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَقَدُّمِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تُطَلَّقُ بِكَوْنِهِ فِي بَطْنِهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْوِلَادَةِ، أَنَّهُ كَانَ فِي بَطْنِهَا، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ العدة لولادته بعدم تَقَدُّمِ الطَّلَاقِ وَوُقُوعِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَتْ وَلَدَيْنِ طُلِّقَتْ بِهِمَا طَلْقَتَيْنِ سَوَاءٌ وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ مُفَرَّقًا، وَانْقَضَتْ بِهِمَا الْعِدَّةُ، وَلَوْ وَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ طُلِّقَتْ بِهِمْ ثَلَاثًا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، فَوَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ اللَّفْظَ الْمُوجِبَ لِلتَّكْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (كُلَّمَا) فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ، إِسْقَاطًا لِحُكْمِ التَّكْرَارِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ أَوْ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا أَوْ مَتَى وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِالْأَوَّلِ وَلَمْ تُطَلَّقْ بِالثَّانِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّالِثِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهَا وَلَدٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ وَلَدٌ، وَثَانِيَةً لِأَنَّهُ ذَكَرٌ، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ؛ إِنْ كَلَّمْتِ رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا كَلَّمَتْ زَيْدًا طُلِّقَتِ اثْنَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَثَانِيَةً بِأَنَّهُ زَيْدٌ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَهُمَا أربعة أحوال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بِوَضْعِ الذَّكَرِ وَاثْنَتَانِ بِوَضْعِ الْأُنْثَى وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَلِدَ الْأُنْثَى أولاً ثم الذكر، فتطلق ثنتين بِالْأُنْثَى، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالذَّكَرِ، وَلَا تُطَلَّقُ بِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ أَوَّلًا ثُمَّ الْأُنْثَى، فَتُطَلَّقُ بِالذِّكْرِ وَاحِدَةً، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأُنْثَى، وَلَا تُطَلَّقُ بِهَا. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا تعلم كيف ولدتها فَتُطَلَّقُ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ، لِجَوَازِ أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَى، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، وَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِجَوَازِ أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فَتَكُونَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، فَلِذَلِكَ مَا الْتَزَمَهَا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ ذَكَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ كان في بطنك أنثى فأنت طالق ثنتين فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى طُلِّقَتْ ثَلَاثًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِتَقَدُّمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ مِنْهُمَا، تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَوْ وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكَلًا طُلِّقَتْ بِهِ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ وَإِنْ أُشْكِلَ عِنْدَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُشْكَلٍ، فَأَوْقَعْنَا بِهِ وَاحِدَةً لِأَنَّهَا يَقِينٌ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا. وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى لَمْ تُطَلَّقْ، وَهَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ طَلَاقِهَا أَنْ يَكُونَ كل ما في بطنها ذكراً واحداً، فإذ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ عُدِمَ شَرْطُهُ فَلَمْ يَقَعْ. وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كُلُّ مَا في الكيس دراهم فأنت طالق، فكان فيه دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا فِي الْكِيسِ دَرَاهِمَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الْكِيسِ دَرَاهِمُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَ فِيهِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ طُلِّقَتْ كَذَلِكَ الْحَمْلُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا، نُظِرَ فَإِنْ وَلَدَتَا مَعًا طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا وَالْأُخْرَى بِوِلَادَةِ صَاحِبَتِهَا، وَعَلَيْهِمَا الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ، وَإِنْ وَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى مِثْلَ أَنْ تَلِدَ حَفْصَةُ يَوْمَ السَّبْتَ وَعَمْرَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِوِلَادَتِهَا وَالْأُخْرَى بِوِلَادَةِ عَمْرَةَ، وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ، وَطُلِّقَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ حَفْصَةَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوِلَادَةِ نَفْسِهَا وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، وَلَوْ وَلَدَتْ حَفْصَةُ أَوَّلًا ثُمَّ وَلَدَتْ عَمْرَةُ بَعْدَهَا وَلَدَيْنِ، طُلِّقَتْ حفصة ثلاثاً، واحدة بولادتها، واثنان بِوِلَادَةِ عَمْرَةَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَيْنِ وَاحِدَةً بِوِلَادَةِ حَفْصَةَ وَثَانِيَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَلَدِهَا الثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ. وَلَوْ وَلَدَتْ عَمْرَةُ أَوَّلًا وَلَدَيْنِ، وَوَلَدَتْ حَفْصَةُ بَعْدَهَا وَلَدًا، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ وَاحِدَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عدتها بولدها الثاني ولم تطلق به طلقت حَفْصَةُ طَلْقَتَيْنِ بِوَلَدِي عَمْرَةَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَهَا وَلَدًا ثَانِيًا طُلِّقَتْ عَمْرَةُ طَلْقَتَيْنِ، وَاحِدَةً بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ، وَثَانِيَةً بِوَلَدِ حَفْصَةَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَلَدِهَا الثَّانِي، وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، وَلَوْ وَلَدَتْ حَفْصَةُ وَلَدَيْنِ وَعَمْرَةُ وَلَدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضهم عَلَى بَعْضٍ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثًا لِثَلَاثَةِ الْأَوْلَادِ، وَاعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: يَا حَفْصَةُ إِنْ كَانَ أَوَّلُ مَا تَلِدِينَ ذَكَرًا فَعَمْرَةُ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَلِدَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَى فَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ دُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَلِدَ الْأُنْثَى ثُمَّ الذَّكَرَ، فَتُطَلَّقُ هِيَ دُونَ عَمْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَلِدَهُمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَلَدَيْنِ أَوَّلٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَلِدَهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَيُشْكَلَ هَلْ تَقَدَّمَ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَى؟ فَقَدْ طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا، وَيَكُونُ كَالطَّلَاقِ الْوَاقِعِ عَلَى إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَقَدْ أُشْكِلَتْ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: يَا حَفْصَةُ، إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ وَعَمْرَةُ طَالِقَتَانِ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: قَدْ وَلَدْتُ، وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ، لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، وَفِي طَلَاقِ حَفْصَةَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْعِدَدِ، وَنَقْلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى جَامِعِهِ، أَنَّ قَوْلَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا مَقْبُولٌ وَيَقَعُ بِهِ طَلَاقُهَا وَلَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى نَفْسِهَا كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهَا، وَكَمَا لَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ بِقَوْلِهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُهَا إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وِلَادَتِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: قَدْ دَخَلْتُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ كَهُوَ فِي الأيمان) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهُ أَوْ عِتْقَهُ أَوْ يَمِينَهُ أَوْ نَذْرَهُ أَوْ إِقْرَارَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ عُقُودِهِ وَارْتَفَعَ حُكْمُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَوْ يَكُونُ شَرْطًا يُعَلَّقُ بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لِعَدَمِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهِ فَلَا يَثْبُتُ لِذَلِكَ كُلِّهِ عَقْدٌ وَلَا حُكْمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ شَرْطٌ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَلَمْ يَلْزَمْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْعَقِدَةً فَهَذَا حُكْمُ مَا عُقِدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ، فِي أَنَّ جَمِيعَهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَقَعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْتَفِعُ مَا سِوَى الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَرْتَفِعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعِتْقِ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ وُقُوعُ النَّاجِزِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَرْتَفِعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا، وَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالنُّذُورِ وَالْإِقْرَارِ. فأما مالكاً فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ) فَاقْتَضَى دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَنِثَ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالْكَفَّارَةِ، فَلَمَّا اخْتُصَّتِ الْكَفَّارَةُ بِالْأَيْمَانِ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصًّا بِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ لَهُ بِشَرْطٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُتَعَجَّلَ وُقُوعُهُ وَيَسْقُطَ شَرْطُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السماء طلق في الحال لاستحالة الشرط، قالوا: ولأن أجر اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ عَلَى لِسَانِهِ، مَشِيئَةً مِنْهُ لِإِيقَاعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ لِوُجُودِ شَرْطِهِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِهَا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ وَفِي الطلاق والعتق، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ عُلِّقَ بِمَشِيئَةٍ مِنْ لَهُ مَشِيئَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا، أَصْلُهُ إِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ، وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ صَحِيحَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ قَبْلَ وُجُودِهَا، أَصْلُهُ إِذَا عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَلِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ لَوْ عَلَّقَهَا بِمَشِيئَةِ آدَمِيٍّ، لَمْ تَقَعْ قَبْلَ الْعِلْمِ، بِهَا، وَجَبَ إِذَا عَلَّقَهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنْ لَا تَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حُكْمُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهَا كَانَ رَفْعُ مَا دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ مِنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَهُوَ أَنَّ خَبَرَنَا أَعَمُّ وَأَزْيَدُ فَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْأَخَصِّ الْأَنْقَصِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَالْكَفَّارَةِ فِي رَفْعِ الْيَمِينِ بِهِمَا، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ لِلْيَمِينِ وَالْكَفَّارَةَ غَيْرُ رَافِعَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْحِنْثِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ التي تُوجَدُ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ مَيِّتٌ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَالشَّرْطَ يُلْغَى؛ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْكَلَامِ لَغْوٌ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ وَلَا الْكَلَامُ بِهَا لَغْوٌ، بَلْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بها وندب إليها بقول تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ إِجْرَاءَ الطَّلَاقِ عَلَى لِسَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إرادة إجرائه، ولليس بِدَلِيلٍ عَلَى إِرَادَةِ إِيقَاعِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ إِذَا عَلَّقَهَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّكِ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، فإنها لا يلزم وَإِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَمْ يُرِدْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ) ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ وَالْعِتْقُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعِتَاقِ وَلَا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ) . فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهُوَ حَرٌّ وَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهُ، فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، بِدَلِيلَيْنِ عَلَى حَمْلِ مَا دَلَلْنَا بِهِ عَلَى مَالِكٍ، وَهَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُمَيْدَ بْنَ مَالِكٍ غَيْرُ ثِقَةٍ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا. هَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُ بِحَالٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْكَرَاهِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الشَّيْءُ وَيَلْزَمُ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا وَقَدْ يَقَعُ وَلَا يَلْزَمُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَرْفَعُ حُكْمَ كُلِّ قَوْلٍ اتَّصَلَ بِهَا مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتِ الْمَشِيئَةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ أَوْ تَوَسَّطَتْ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَنْتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا طَلَاقَ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ مَتَى شَاءَ اللَّهُ فَلَا طَلَاقَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشَأَ فَتُطَلَّقُ، وَقَدْ يَشَاءُ فَلَا تُطَلَّقُ وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ وُقُوعِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ لَمْ تُعْلَمْ كَمَا لَا يَقَعُ إِذَا قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ صِفَةَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ لَمْ تُعْلَمْ، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ تُطَلَّقْ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَفِي وُقُوعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ مقيد بمشيئة لا تعلم. الوجه الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ، وَجَعَلَ رَفْعَهُ مُقَيَّدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ، فَسَقَطَ حُكْمُ رَفْعِهِ وَثَبَتَ حُكْمُ وُقُوعِهِ، وَخَالَفَ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ وُقُوعِهِ مُقَيَّدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ طُلِّقَتْ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تُطَلَّقْ، وإن مات زيداً قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ لَمْ تُطَلَّقْ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ زَيْدٌ مَيِّتًا قَبْلَ طَلَاقِهِ لَمْ تُطَلَّقْ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ، فَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ طُلِّقَتْ، فَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ، كَانَ عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 الْوَجْهَيْنِ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتِ، فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ وُقُوعَ طَلَاقِهَا بِشَرْطَيْنِ هُمَا مَشِيئَةُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهَا، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ لَا تُعْلَمُ وَإِنْ عُلِمَتْ مَشِيئَتُهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ. فَلَوْ قال: أنت طالق إن شاء الله زَيْدٌ، وَكَانَ زَيْدٌ مَجْنُونًا فَقَالَ؛ قَدْ شِئْتُ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا مَشِيئَةَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ سَكْرَانَ فَشَاءَ طُلِّقَتْ؛ لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِأَقْوَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ سُكْرَهُ يُوجِبُ تَغْلِيظَ الْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُوجِبُ تَغْلِيظَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَكَانَ أَخْرَسَ فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ طُلِّقَتْ، وَلَوْ كَانَ نَاطِقًا فَخُرِسَ فَشَاءَ بِالْإِشَارَةِ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ لَمْ تطلق؛ لأنه مَشِيئَتَهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ كَانَتْ نُطْقًا فَلَمْ تَثْبُتْ بالإشارة وهذا عندي غير صحيح؛ لأنه إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَقْتَ الْبَيَانِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَ الْأَمْرَ، أَنْ لَوْ كَانَ أَخْرَسَ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ نَاطِقًا فِي وَقْتِ الْبَيَانِ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِلَّا بِالنُّطْقِ دُونَ الْإِشَارَةِ وَإِنْ صَحَّتْ مِنْهُ فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ بِالْإِشَارَةِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ ناطقاً فخرس، فو قَالَ؛ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ الْحِمَارُ، فَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُسْتَحِيلَةِ لِأَنَّهُ لَا مَشِيئَةَ لِلْحِمَارِ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ صَعِدْتِ السَّمَاءَ، فَيَكُونُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ حَفْصَةَ وَعَمْرَةَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا، فَلَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا إِلَّا أَنْ يَعْزِلَهَا فِي اسْتِثْنَائِهِ، وَلَوْ قَالَ: حَفْصَةُ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَمْرَةَ الْأَخِيرَةَ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَلَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، وَإِنْ أَرَادَهُمَا مَعًا لَمْ تُطَلَّقَا جَمِيعًا، وَإِنْ أَطْلَقَ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا فَلَمْ تُطَلَّقَا؛ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَطْفِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ يَرُدُّهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ عِنْدَهُ لِخُرُوجِهَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا تُطَلَّقُ عَمْرَةُ لِدُخُولِهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِالِاسْتِثْنَاءِ حَفْصَةَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ حُمِلَ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَطُلِّقَتْ عَمْرَةُ الْأَخِيرَةُ دُونَ حَفْصَةَ الْأُولَى، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُطَلَّقَانِ مَعًا. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا أَطْلَقَهُ إِلَى الطَّلَاقَيْنِ فَلَمْ يَقَعَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّانِي وَيَقَعُ الْأَوَّلُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا وَصَلَ طَلَاقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُرِيدٍ بِأَوَّلِ كَلَامِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يُعْتَبَرُ حُكْمُ أَوَّلِهُ بِآخِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا حُكْمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى يَنْوِيَهُ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَوَّلِ كَلَامِهِ بَطَلَ وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْفَتْحِ طُلِّقَتْ بِخِلَافِ إِنِ الْمَكْسُورَةِ لِأَنَّهَا بِالْكَسْرِ شَرْطٌ وَبِالْفَتْحِ تَعْلِيلٌ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذْ شَاءَ اللَّهُ طُلِّقَتْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِذَا شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ إِذْ لِلْمَاضِي، فَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَتْ شَرْطًا والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 (باب طلاق المريض) (من كتاب الرجعة ومن العدة ومن الإملاء على مسائل مالك واختلاف الحديث) قال الشافعي رحمه الله تعالى: وَطَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا فَرْقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَقَالَ الشَّعْبِيُّ طَلَاقُ الْمَرِيضِ لَا يَقَعُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الإدما وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ) وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ حَلِّهِ، ثُمَّ نِكَاحُ الْمَرِيضِ يَصِحُّ فَحَلُّهُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ؛ لأن حكمه أغلظ. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ طَلَقَ مَرِيضٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَصِحَّ حَتَى مَاتَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا قَالَ الْمُزَنِيُّ فَذَكَرَ حُكْمَ عُثْمَانَ بِتَوْرِيثِهَا مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ الْمَبْتُوتَةُ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنْ لَا تَرِثَ المَبْتُوتَةُ قَوْلٌ يَصِحُّ وَقَدْ ذِهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْآثَارِ وَقَالَ كَيْفَ تَرِثُهُ امْرَأَةٌ لا يرثها وليست له بزوجة قال المزني فقلت أنا هذا أصح وأقيس لقوله قال المزني وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مسائل مالك إن مذهب ابن الزبير أصحهما وقال فيه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي قَطْعِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي مَرَضٍ غَيْرِ مُخَوِّفٍ، وَالْبَائِنُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَطَلَاقُ الثَّلَاثِ، وَالطَّلَاقُ فِي الْخَلْعِ، فَلَا يَرِثُهَا وَلَا تَرِثُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَقِسْمٌ لَا يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ يَتَوَارَثَانِ فِيهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ وَإِنْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 الْعِدَّةُ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا. وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فِي الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ إِذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا إِجْمَاعًا وَإِنْ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ نص عليهما في الرجعة والعدد وَالْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلَ مَالِكٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهَا نَصٌّ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَبِهِ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْآثَارِ. وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ: أَنَّهَا تَرِثُ فَدَلِيلُهُ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ فِي مَرَضِهِ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ بِمُشَاوَرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّهَا صُولِحَتْ عَلَى رُبُعِ ثَمَنِهَا لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَرْبَعًا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيلَ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَكَانَ بِهِ الْفَالِجُ فَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَرِثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حُوصِرَ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: طَلَّقَهَا فِي شَرَفِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْقَضَايَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ إِلَّا قَوْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ، لَمْ يَبْلُغِ اجْتِهَادِي أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَهْتَدِ إِلَى هَذَا، فَكَانَ هَذَا مَنْ ذَكَرْنَا مَعَ عَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ إِجْمَاعًا حَاجًّا، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ فِي حَالٍ يُعْتَبَرُ عَطَايَاهُ فِيهَا مِنَ الثُّلُثِ، فَوَجَبَ أَنْ تَرِثَهُ كَالْبَائِنِ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي مَنْعِهَا مِنَ الْإِرْثِ فَأَشْبَهَ الْقَاتِلَ الْمَتْهُومَ فِي اخْتِلَافِ الْإِرْثِ فَكَانَتِ التُّهْمَةُ بِالْقَتْلِ مَانِعَةً مِنَ الْمِيرَاثِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ التُّهْمَةُ بِالطَّلَاقِ مَانِعَةً مِنْ إِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ قَدْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ بَيْنَ مَالِهِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْعَطَايَا فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ كَالْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ إِسْقَاطِ حُقُوقِهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بتركته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي: وَأَنَّهَا لَا تَرِثُ وَهُوَ أَقِيسُ الْقَوْلَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا فَدَلِيلُهُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ فِي خِلَافِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ) وَهَذَا إِذَا صَحَّ نَصٌّ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تَقْطَعُ إِرْثَهُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَقْطَعَ إِرْثَهَا مِنْهُ، أَصْلُهُ الْفُرْقَةُ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّهُ إِرْثٌ يَنْقَطِعُ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، أَصْلُهُ إِرْثُ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَتَحْرِيمٍ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا وَثُبُوتِ الْمِيرَاثِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ الْمِيرَاثِ، انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي الْمِيرَاثِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهُ مِنْهَا، وَإِنْ تَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا بَيْنَ وُجُودِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ: فَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا حَاصِلٌ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُوَرِّثُ تَمَاضُرَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَقِيلَ لَهُ أَفَرَرْتَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: مَا فَرَرْتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَهَا فِيهِ مِيرَاثٌ فَأَعْطُوهَا فَصَالَحَهَا عُثْمَانُ مِنْ رُبُعِ الثَّمَنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَلَوْ كَانَتْ وَارِثَةً فَصُولِحَتْ، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِجْمَاعًا. وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ عُثْمَانَ تَقَدَّمَ بِمُصَالَحَتِهَا. وَجَوَابُ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِي الطَّلَاقَ إِلَّا طَلَّقْتُهَا فَغَضِبَتْ تَمَاضُرُ وَسَأَلْتِ الطَّلَاقَ، فَغَضِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلَّقَهَا. وَتَمَاضُرُ هِيَ أُمُّ أَبِي مَسْلَمَةَ وَهُوَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتِ الطَّلَاقَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُورِّثُهَا إِذَا سَأَلَتْ طَلَاقَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ لَوْ كَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا، وَأَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ طَلَاقِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ، قِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُ أَزْيَدُ فَكَانَ الْأَخْذُ به أحق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْمَوْتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَتْلِ فَهُوَ اسْتِدْلَالُ الْعِلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ مِنْ مِيرَاثٍ كَانَ مُسْتَحَقًّا وَهُمْ جَعَلُوا طَلَاقَ الْمَرَضِ يُثْبِتُ مِيرَاثًا كَانَ سَاقِطًا، وَلَيْسَ لِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَجْهٌ فَإِنَّ التُّهْمَةَ لَوْ وُجِدَتْ فِي الْفُرْقَةِ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا لَمْ تُوَرَّثْ فَكَذَلِكَ فِي الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنِ مَالِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَهُ فِي شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ وَلَوْ سُلِّمَ لَهُمْ لَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَارِثَةً عِنْدَ الْمَوْتِ فلم يصح الاستدلال. (فصل:) إذا تقرر القولين فَإِنْ قِيلِ بِالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرِثُ فَلَا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ تَسْأَلْهُ. وَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ: أَنَّهَا تَرِثُ، فَفِي زَمَانِ مِيرَاثِهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهَا تَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا وَهِيَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ، فَإِذَا انْقَضَتْ عَدَّتُهَا لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ بقايا علق النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ فَتَبِعَهَا الْإِرْثُ وَسَقَطَ بِانْقِضَائِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرِثُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا رِضًا مِنْهَا بِطَلَاقِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهَا تَرِثُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّزْوِيجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مِيرَاثَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ إِذَا لَمْ تَخْتَرْ طلاق نفسها فإن اختارات طَلَاقَهَا لَمْ تَخْتَرْ طَلَاقَ نَفْسِهَا فَإِنِ اخْتَارَتْ طَلَاقَهَا لَمْ تَرِثْ. وَاخْتِيَارُهَا لِلطَّلَاقِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنْ تَسْأَلَهُ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا، أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَتِهَا فَتَشَاءُ طَلَاقَهَا أَوْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِهَا فِيمَا لَا تَجِدُ مِنْهُ بُدًّا، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتِ زَيْدًا أَوْ لَبِسْتِ هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ أَكَلْتِ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَفْعَلُ ذَلِكَ، فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهَا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا فَلَا تَدْخُلُ الدَّارَ، وَلَا تُكَلِّمُ زَيْدًا، وَلَا تَلْبَسُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَلَا تَأْكُلُ ذَلِكَ الرَّغِيفَ. فَأَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِ مَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْهُ كَقَوْلِهِ: إِنْ أَكَلْتِ أَوْ شَرِبْتِ أَوْ نِمْتِ أَوْ قَعَدْتِ، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَهِيَ غَيْرُ مُخْتَارَةٍ لِطَلَاقِهَا، فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَإِنْ فَعَلَتْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الِاخْتِيَارِ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ بُدًّا. وَالثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ عَدَمِ الِاخْتِيَارِ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَقْدِيمِهِ قبل الحاجة بداً بحال الفعل؛ لأنها لَا تَجِدُ مِنْ فِعْلِهِ بُدًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَفَتْهُ دَلَّ الْخُلْعُ عَلَى اخْتِيَارِهَا فَمَنَعَهَا طَلَاقُ الْخُلْعِ مِنَ الْمِيرَاثِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهَا الْمِيرَاثُ وَإِنِ اخْتَارَتِ الطَّلَاقَ وَسَأَلَتْهُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا تَعَلُّقًا بِأَنَّ تَمَاضُرَ بِنْتَ الإصبغ الكلبية سَأَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الطَّلَاقَ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ سُؤَالٍ وَغَيْرِ سُؤَالٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ الْمَوْرُوثُ: اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ لَمْ يَرِثْهُ، كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْمِيرَاثِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ سُؤَالٍ وَغَيْرِ سؤال، وهذا فاسد؛ لأنه اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الإرث فإذا اختارت وسألت زالت التهمة سقط مُوجِبُ الْإِرْثِ، وَلِأَنَّهَا إِذَا سَأَلَتْ وَاخْتَارَتْ، صَارَتِ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إِلَيْهَا فَجَرَى مَجْرَى فَسْخِهَا بِالْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ مِيرَاثَهَا وَلَا مِيرَاثَهُ مِنْهَا. وَأَمَّا تَمَاضُرُ فَكُلُّ مَا أَخَذَتْهُ وَإِنْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ صُلْحًا لَا إِرْثًا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى سَأَلَتْهُ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا. وَإِذَا تَأَخَّرَ طَلَاقُهُ عَنْ سُؤَالِهَا لَمْ يَكُنْ جَوَابًا، وَصَارَ طَلَاقًا مُبْتَدَأً، وَقِيلَ إِنَّهَا سَأَلَتْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَطَلَّقَهَا فِي الْمَرَضِ. وَأَمَّا الْإِرْثُ فِي الْقَتْلِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي الْحَظْرِ سَوَاءٌ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ سَوَاءً وَخَالَفَ سُؤَالَ الطَّلَاقِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ طَلَقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا لَمْ تَرِثْهُ وَحُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الإيقاع والإقرار في القياس عندي سواء. وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ليلى لا ترث المبتوتة قال المزني وقد احتج الشافعي رحمه الله على من قال إذا ادعيا ولداً فمات ورثه كل واحد منهما نصف ابن وإن ماتا ورثهما كمال أب فقال الشافعي الناس يرثون من يورثون فألزمهم تناقض قولهم إذا لم يجعلوا الابن منهما كهما منه في الميراث فكذلك إنما ترث الزوجة الزوج من حيث يرثها فإذا ارتفع المعنى الذي يرثهم به لم ترثه وهذا أصح في القياس وكذا قال عبد الرحمن بن عوف ما قررت من كتاب الله ولا من سنة رسوله وتبعه ابن الزبير) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ، يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَمْلِكُ فِيهَا إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فَصَحَّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ، وَيَكُونُ طَلَاقًا فِي الصِّحَّةِ دُونَ الْمَرَضِ، لَا يَرِثُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لَكِنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا تَرِثُهُ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ فِي إِقْرَارِهِ، كَلُحُوقِهَا فِي طَلَاقِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُطَلِّقٍ فِي حَالِ الْإِقْرَارِ، أَلَا تَرَى لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ فَأَقَرَّ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ طَلَاقُ الصِّحَّةِ إِلَى حَالِ الْمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ فِي الْمَرَضِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدِمَ زَيْدٌ فِي مَرَضِهِ، طُلِّقَتْ وَلَا تَرِثُ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ لِعَقْدِهِ فِي الصِّحَّةِ، وَانْتَفَى التُّهْمَهُ عَنْهُ فِي الْإِرْثِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ، فَأَهَلَّ الشَّهْرُ وَهُوَ مَرِيضٌ طُلِّقَتْ، وَلَمْ تَرِثْ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَقَالَ مَالِكٌ تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِي، طُلِّقَتْ فِيهِ وَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ، ولكن لو قال لها في صحتها: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي لِشَهْرٍ، وَمَاتَ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ مِنْ قَوْلِهِ، طُلِّقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا صَحِيحًا لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَقْدُ طَلَاقٍ فِي الصِّحَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ فِي الصِّحَّةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَهُ بِزَمَانِ الْمَوْتِ صَارَ مَتْهُومًا بِالتَّعَرُّضِ لَهُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلَةِ بِأَسْبَابِ أَوَّلِ مَوْتِي طُلِّقَتْ فِيهِ وَلَمْ تَرِثْ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوَرَّثَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا فِي صِحَّتِهِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ أَوْقَعَ الْفِعْلَ فِي مَرَضِهِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ وَهُوَ صَحِيحٌ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ كَلَّمَ زَيْدًا فِي مَرَضِهِ أَوْ دَخَلَ الدَّارَ فِي مَرَضِهِ فَلَهَا الميراث؛ لأنه منهم بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ لَمْ تَرِثْهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ طلاق في المرض، وليس بصحيح؛ لأنه تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ قَدْ أَخْرَجَ مَرَضَ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ ثُمَّ قُتِلَ فِيهِ أَوِ افْتَرَسَهُ سَبْعٌ أَوْ نَهَشَتْهُ أَفْعَى فَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِهِ فَنُفِيَ عَنْهُ حُكْمُ الْخَوْفِ. وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ قَوْلًا واحداً؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالرِّدَّةِ فِي حَالٍ لَوْ مَاتَ فِيهَا لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَطَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَقْتَ طَلَاقِهِ وَقَبْلَ إِسْلَامِهَا لَمْ تَرِثْهُ، فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ، ولو أسلمت ثم طلقها وورثت، ولو قال لها في مرضه مَوْتِهِ: إِنْ أَسْلَمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَسْلَمَتْ وَرِثَتْ لِتُهْمَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَطَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَمْ تَرِثْ، وَلَوْ أُعْتِقَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَرِثَتْ. فَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعَلِّقَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ، وَيُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَهَا بِقُدُومِ زَيْدٍ، فَيَكُونُ قُدُومُ زَيْدٍ مُوقِعًا لِطَلَاقِهَا وَعِتْقِهَا، فَيَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْأَسْبَقِ مِنْهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الزَّوْجُ السَّيِّدَ فَقَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَلَاهُ السَّيِّدُ فَقَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنِ الزَّوْجِ، وَإِنْ سَبَقَ السَّيِّدُ فَقَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ تَلَاهُ الزَّوْجُ فَقَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا السيد: إن طلقتك الزَّوْجُ غَدًا فَأَنْتِ الْيَوْمَ حُرَّةٌ، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ مِنَ الْغَدِ ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ فِي مَرَضِهِ: إِنْ أَعْتَقَكِ السَّيِّدُ غَدًا فَأَنْتِ الْيَوْمَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَأَعْتَقَهَا السَّيِّدُ فِي غَدٍ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ فَتَكُونُ كَالْحُرَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ. وَالثَّانِي: لَا مِيرَاثَ لَهَا لتقدم الطلاق على العتق، فلوا اخْتَلَفَتْ مَعَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي بَعْدَ عِتْقِي فَلِيَ الْمِيرَاثُ. وَقَالَ الْوَرَثَةُ: طَلَّقَكِ قَبْلَ عِتْقِكِ فَلَا مِيرَاثَ لَكِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ مع أيمانهم ولا ميراث لها؛ لأني الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْإِرْثِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَبْقُهُ. وَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْحُرَّةُ وَوَرَثَةُ الزَّوْجِ فَقَالَتْ طَلَّقَنِي فِي مَرَضِهِ فَلِيَ الْمِيرَاثُ، وَقَالَ الْوَرَثَةُ: طَلَّقَكِ فِي الصِّحَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَكِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الطَّلَاقِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ. (فَصْلٌ:) وإذا طلقها في مرضها طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَإِنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا فِي الصِّحَّةِ وَرِثَتْ بِهِ، فَلَأَنْ تَرِثَ بِهِ فِي الْمَرَضِ أَوْلَى، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا لَمْ تَرِثْهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ لَا يَمْنَعُهَا الْمِيرَاثَ فَلَمْ يُتَّهَمْ فِيهِ وَإِنَّمَا مَنَعَهَا الْمِيرَاثَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَلَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي مَرَضِهِ فَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ فِي الْمَرَضِ هُوَ مَتْهُومٌ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَرِثُهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فُرْقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَضَعُفَتْ تُهْمَتُهُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْخِيرَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْفَسْخِ، فَخَالَفَ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا ارْتَدَّ فِي مَرَضِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ تَرِثْهُ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْفُرْقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَخَالَفَتْ حُكْمَ الطَّلَاقِ الْمَوْضُوعِ لِلْفُرْقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَتْهُومٍ بِالرِّدَّةِ فِي قَصْدِ ارْتِدَادِهِ لما يتغلط عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهَا. فَخَالَفَتِ الطَّلَاقَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا لَاعَنَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَرِثُهُ كَالْمُطَلَّقَةِ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ فِيهِ كَالطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: لَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْمَعَرَّةِ بِهِ فِي لِعَانِهِ وَفَسَادِ فِرَاشِهِ وَنَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهِ عَنْهُ، تَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ فِي فُرْقَتِهِ فَلَمْ ترثه. والوجه الثاني: إن لاعنها في المرض عن قذف الصِّحَّةِ لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ لَاعَنَهَا عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ عَلَى الْمَرَضِ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ: إِنْ صَلَّيْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ صُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَصْلتْ وَصَامَتْ نُظِرَ، إِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ تَطَوُّعًا طُلِّقَتْ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ تَرْكِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بُدًّا، فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِلطَّلَاقِ، فَلَمْ تَرِثْ، وَإِنْ صَلَّتْ وَصَامَتْ فَرْضًا طُلِّقَتْ وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بُدًّا، فَلَمْ تَصِرْ مُخْتَارَةً لِلطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كَلَّمْتِ أَبَوَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَلَّمَتْهُمَا طُلِّقَتْ مَكَانَهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ مِنْ كَلَامِ أَبَوَيْهَا بُدًّا لِأَنَّ تَرْكَ كَلَامِهِمَا مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا وكلام غَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، طُلِّقَتْ، وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهَا تَجِدُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمَا بُدًّا، وَقَالَ الحسن بن زياد الؤلؤي: إِنْ كَلَّمَتْ ذَا مَحْرَمٍ وَرِثَتْ كَالْأَبَوَيْنِ وَإِنْ كَلَّمَتْ غَيْرَ ذِي مَحْرَمٍ لَمْ تَرِثْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ وَمَاتَ عَنْهُنَّ وقيل بتوريث المبتوتة، ففي الميراث ها هنا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ الرُّبُعُ أَوِ الثُّمُنُ يَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَ الْأَرْبَعِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 الْمُطَلَّقَاتِ وَالْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ أَثْمَانًا؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَسْبَقُ مِنْ حَقِّ الْمُزَوَّجَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ لِلْأَرْبَعِ الْمُزَوَّجَاتِ دُونَ الْمُطَلَّقَاتِ، لِأَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجَاتِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَحُقُوقَ الْمُطَلَّقَاتِ بِالِاجْتِهَادِ. فَلَوْ تَزَوَّجَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، فَأَحَدُ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمِيرَاثَ مَقْسُومٌ بَيْنَ السِّتِّ كُلِّهِنَّ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ. وَالثَّالِثُ: لِلزَّوْجَتَيْنِ نِصْفُ الْمِيرَاثِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 (باب الشك في الطلاق) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إن الشيطان لعنة الله يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا) . عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُزَلْ يَقِينُ طَهَارَةٍ إِلَّا بِيَقِينِ حَدَثٍ فَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَيْقَنَ نِكَاحًا ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ لَمْ يُزَلِ الْيَقِينُ إِلَّا بِالْيَقِينِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا الشَّكُّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ إِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ، وَاعْتِبَارًا بِيَقِينِ النِّكَاحِ وَأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى تَغْلِيبِ الْيَقِينِ عَلَى الشَّكِّ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعَا فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْتُ أَحْدَثْتُ فَلَا يَنْصَرِفْ مِنْ صَلَاتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا. فَأَمَرَهُ في هين الْخَبِرَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْيَقِينِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ مِنْ صِلَاتِهِ وَفِيمَا يَلْتَزِمُ مِنْ حَدَثِهِ وَأَسْقَطَ حُكْمَ الشَّكِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ يَلْزَمُ مَا يَتَيَقَّنُهُ وَيَسْقُطُ مَا يَشُكُّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ قِيلَ: فقد تركتم هذا لأصل فِي مَوَاضِعَ غَلَّبْتُمْ فِيهَا حُكْمَ الشَّكِّ عَلَى الْيَقِينِ مِنْهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِيهَا فِي دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ غَلَبَ حُكْمُ الشَّكِّ وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْوَقْتِ فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ يُتِمُّهَا لِأَجْلِ الشَّكِّ ظُهْرًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ مُتَيَقَّنٌ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِيَقِينِ الْأَدَاءِ، وَأَدَاءُ الْجُمُعَةِ يَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَيَقَّنٍ وَهُوَ بَقَاءُ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ شَرْطِهَا فَلِذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرًا، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا هُوَ تُقَابُلُ أَصْلَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ عَلَى الْيَقِينِ فيها فَرَجَّحْنَا حُكْمَ الْيَقِينِ فِي أَوْكَدِهِمَا. وَمِنْهَا الْمُتَلَفِّفُ فِي ثَوْبِهِ إِذَا ضَرَبَهُ ضَارِبٌ فَقَدَّهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ ضَرْبِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ ضَارِبِهِ، فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْيَقِينَ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِ، قُلْنَا: أَمَّا الْقَوَدُ فَلَا يَجِبُ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ وَالْقَوَدُ حَدٌّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وإما الدية ففيها قولان: أحدهما: تجب اعتبار باليقين بَقَاءِ حَيَاتِهِ وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ تَقَابَلَ أَصْلَانِ لِأَحَدِهِمَا بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي إِسْقَاطِهَا فَعُلِمَ حُكْمُ الْيَقِينِ فِي أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ فَاعْتُبِرَ الْيَقِينُ فِيهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ حَيَاتِهِ، قِيلَ: هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي عِتْقِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي الزَّكَاةِ، وَحُكْمُ الْمَوْتِ فِي الْكَفَّارَةِ. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَخَرَّجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ كَمَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ؛ تَغْلِيبًا لِلْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ أَصْلَانِ فَرَجَحَ الْيَقِينُ فِي أَوْكَدِهِمَا وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَجِبُ اعْتِبَارُ الْيَقِينِ فِيهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشُكَّ فِي أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ فِي عَدَدِهِ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي أَصْلِهِ، هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَإِسْقَاطًا لِلشَّكِّ فِي رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْوَرِعَ أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَسْتَبِيحَ بُضْعًا بِالشَّكِّ، فَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، هَلْ أَوْقَعَهَا أَمْ لَا؟ فَالْتِزَامُهُ لِحُكْمِهَا وَرَعًا أَنْ يَرْتَجِعَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَ حَلَّتْ لَهُ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَ لَمْ تَضُرَّهُ الرَّجْعَةُ وَيَسْتَبْقِيهَا عَلَى طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هَلْ أَوْقَعَهَا أَمْ لَا؟ فَالْوَرَعُ أَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، أَنْ يَعْتَزِلَهَا وَيَلْتَزِمَ نَفَقَتَهَا، فَيَغْلِبُ الشَّكُّ فِي اعْتِزَالِ الْوَطْءِ وَالْيَقِينُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِتَسْتَبِيحَ نِكَاحَ غَيْرِهِ بِيَقِينٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا مِنْ قَبْلُ لَمْ يَقَعْ هَذَا الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا مِنْ قَبْلُ وَقَعَ هَذَا الطَّلَاقُ. وَحَلَّتْ لَهُ لِزَوْجٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا اسْتَحَلَّتْ بِزَوْجٍ حَلَّتْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ثُمَّ هِيَ مُسْتَبَاحَةٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 بِيَقِينٍ هَذَا فِي الْوَرَعِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَرْتَجِعَ إِذَا شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ، وَلَا أَنْ يَعْتَزِلَ أَوْ يُطْلِّقَ بِالْيَقِينِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَاسْتِدَامَةِ إِبَاحَتِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ مَعَ يَقِينِ وُقُوعِهِ، مِثْلَ أَنْ يَشُكَّ هَلْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْيَقِينُ وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ أَكْثَرُ مَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، فَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ ثَلَاثًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ اثْنَتَيْنِ فَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا ثَالِثَةً بَعْدَ زَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً طُلِّقَتْ مِنْهُ ثَلَاثًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً، وَيُسَمَّى الطَّلَاقُ الدُّولَابِيُّ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْتِزَامِهِ مَعَ الشَّكِّ حُكْمَ الْأَكْثَرِ، بِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَمَنِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا؛ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَكَمَنَ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَهَا، غسل جميعه تغليبا للنجاسة. وكمن طلق أحدى زوجتيه، ولم يعرفها حرمتا على التأبيد تغليباً لحكم الطلاق، كذلك إذا شك في عدد الطلاق لزمه الأكثر تغليباً للطلاق. وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ، أَنَّهُ شَكٌّ فِي طَلَاقٍ فَلَمْ يُحْكَمْ بِوُقُوعِهِ، كَالشَّكِّ في اصل الطلاق، ولأن كلما لَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَصْلِهِ بُنِيَ عَلَى الْيَقِينِ، وَجَبَ إِذَا وَقَعَ فِي عَدَدِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَلَمْ يَلْزَمِ الشَّكُّ كَالْإِبْرَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ دُونَ الشَّكِّ فِيهِمَا، وأن لا أصل تَغْلِيبُ حُكْمٍ. فَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا شَكَّ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ ومنه فَغَلَّبَهُ عَلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ وُقُوعَ النَّجَاسَةِ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهِ، فَلَمْ يَسْتَبِحْهَا فِيهِ إِلَّا بِيَقِينِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِ وَأَمَّا أُخْتُهُ وَأَجْنَبِيَّةٌ، فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ فَلَمْ يَسْتَبِحْ أَحَدَهُمَا بِالشَّكِّ. وَكَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي الْمُطَلَّقَةِ مِنْ زَوْجَتَيْهِ وَلَيْسَ كَالشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الثَّلَاثِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُهَا بِالشَّكِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ حَنِثْتُ بِالطَّلَاقِ أَوْ فِي الْعِتْقِ وَقَفَ عَنْ نِسَائِهِ وَرَقِيقِهِ حَتَى يُبَيِّنَ وَيَحْلِفَ لِلَّذِي يَدَّعِي فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ السَّهْمُ عَلَى الرَّقِيقِ عَتَقُوا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى النِّسَاءِ لَمْ يُطَلَّقْنَ وَلَمْ يَعْتِقِ الرَّقِيقُ وَالْوَرَعُ أَنْ يدعن ميراثه) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 قال الماوردي: وصورتها في رجل تيقين حنثه بطلاق نسائه، أو أعتق إمائه وَأُشْكِلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ أَوْ عِتْقِ الْإِمَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ رَأَى طَائِرًا: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَإِمَائِي أَحْرَارٌ، وَطَارَ الطَّائِرُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَغُرَابٌ كان أو غير غراب، فيصر متقيناً لِلْحِنْثِ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ فَيَتَعَلَّقُ بشكه هذا أربعة أحكام: أحدهما: أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، فلا يحل له وطئ النِّسَاءِ وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْإِمَاءِ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِنَّ تغليباً لحكم الحظر؛ لأن التحريم فيما وَاقِعٌ بِيَقِينِ، وَالشَّكَّ وَاقِعٌ بِالتَّعْيِينِ، فَجَرَى مَجْرَى اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ؛ لِوُقُوعِ التَّحْرِيمِ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا حُرِّمَ عَلَيْهِ النساء بالشك حرم حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ غَيْرَهُ بِالشَّكِّ، وَكَذَلِكَ الْإِمَاءُ يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَصَرَّفْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ، توقف أَمْرُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْبَيَانِ. (فَصْلٌ:) وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ بِنَفَقَاتِ النِّسَاءِ وَنَفَقَاتِ الْإِمَاءِ، وَإِنْ حُرِّمْنَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ نَفَقَاتِهِنَّ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الشَّكِّ، فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِالشَّكِّ، لَكِنْ يَسْقُطُ حَقُّ الْقَسْمِ لِلنِّسَاءِ لِتَحْرِيمِهِنَّ كَالْمُحَرَّمِ بِالرِّدَّةِ وَالْإِحْرَامِ، وَيُوقَفُ كَسْبُ الْإِمَاءِ أَنْ يتصرفن أو السيد فيه، حتى يتيقن عِتْقُهُنَّ فَيَمْلِكْنَ الْفَاضِلَ مِنْ إِكْسَابِهِنَّ أَوْ سَيْرِ رِزْقِهِنَّ فَتَكُونُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُنَّ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِنَّ، وَأَرَدْنَ أَنْ يَكْتَسِبْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ وَيُنْفِقْنَ مِنْ كَسْبِهِنَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ السَّيِّدِ تَغْلِيبًا لِسَابِقِ الْمِلِكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُنَّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ. (فَصْلٌ:) وَالْحُكْمُ الْآخَرُ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَيَانِ الْحِنْثِ، هَلْ كَانَ فِي طَلَاقِ النِّسَاءِ أَوْ عِتْقِ الْإِمَاءِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَيَانٌ فَإِنَّ بَيَّنَ شَيْئًا قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ كَانَ مَقْبُولَ الْبَيَانِ فِي الصِّفَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، فَإِنْ قَالَ: كَانَ الْحِنْثُ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا طُلِّقَ النِّسَاءُ بِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْإِمَاءُ كُنَّ عَلَى رِقِّهِنَّ، وَلَا يَمِينَ، عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبْنَهُ حَلَفَ لَهُنَّ وَكُنَّ عَلَى رِقِّهِنَّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَلَفْنَ عُتِقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ وَطُلِّقَ النِّسَاءُ بِإِقْرَارِهِ فَلَوْ أَكْذَبْنَهُ وَلَمْ يَكُنْ إِحْلَافُهُ، فَهَلْ يُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ أم لا؟ عل وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّ فِي عِتْقِهِنَّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: لَا يُحَلِّفُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُنَّ فِي تَصْدِيقِهِ مَقْبُولٌ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَلَوْ تَجَرَّدَ في حق الله تعالى يحلفن إن صدفه فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهِنَّ، وَإِنْ قَالَ: كَانَ الْحِنْثُ بِعِتْقِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا عَتَقَ الْإِمَاءُ وَإِنْ صَدَّقْنَهُ النِّسَاءُ، وَإِلَّا حَلَفَ لَهُنَّ، ثُمَّ هُنَّ بَعْدَ إِمَائِهِ زَوْجَاتٌ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَلَفْنَ طُلِّقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ، وَعَتَقَ الْإِمَاءُ باقراره، وإن أمسك عن الْبَيَانَ فَلَمْ يُبَيِّنْ طَلَاقَ النِّسَاءِ، وَلَا عِتْقَ الإماء نظر في إمساكه، فإن كان في عِلْمِهِ بِالْحَالِ حُبِسَ لَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنِ الْبَيَانِ لِجَهْلِهِ بِالْحَالِ لَمْ يُحْبَسْ، وَكَانَ النِّسَاءُ وَالْإِمَاءُ مَوْقُوفَاتٍ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا بَقِيَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَوْ قَالَ: أَمْسَكْتُ عَنِ الْبَيَانِ لِخَفَائِهِ عَلَيَّ، وَقُلْنَ بَلْ أَمْسَكَ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، أُحْلِفَ لَهُنَّ وَلَمْ يُحْبَسْنَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهِنَّ وَيُحْبَسُ لَهُنَّ، وَرُجِعَ إِلَى بَيَانِهِنَّ إِنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عِلْمٌ، كَمَا يَجُوزُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا حَلَفَ النِّسَاءُ، وَلَمْ يحلف الإماء، وطلق النساء بأيمانهن ولم يرق الْإِمَاءُ؛ لِشَكِّ السَّيِّدِ فِي عِتْقِهِنَّ. وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ بِعِتْقِ الْإِمَاءِ، لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا حَلَفْنَ دُونَ النِّسَاءِ، وَعَتَقْنَ بِأَيْمَانِهِنَّ، وَلَمْ يُحِلَّ النِّسَاءَ لِشَكِّ الزَّوْجِ فِي طَلَاقِهِنَّ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ فَادَّعَى النِّسَاءُ الْحِنْثَ بِطَلَاقِهِنَّ، لِأَنَّ الطَّائِرَ كَانَ غُرَابًا، وَادَّعَى الْإِمَاءُ أَنَّ الْحِنْثَ بِعِتْقِهِنَّ لِأَنَّ الطَّائِرَ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَطُلِّقَ النِّسَاءُ بِأَيْمَانِهِنَّ وَعَتَقَ الْإِمَاءُ بِأَيْمَانِهِنَّ. (فَصْلٌ:) وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بَيَانٌ أَوْ كَانَ فَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَ، فَهَلْ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ، لِقِيَامِهِمْ بِالْمَوْتِ مَقَامَهُ، فَعَلَى هَذَا يَقُومُ بَيَانُهُمْ مَقَامَ بَيَانِهِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثاني: وهو أصح مذهبنا وحجاجاً، أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ، أَمَّا الْمَذْهَبُ فَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا، فَإِنْ مَاتَ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ وَرَثَتِهِ، فَأَمَّا الْحِجَاجُ فَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْبَيَانَ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الطَّلَاقُ فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِمْ فِي بَيَانِهِ، فَعَلَى هَذَا يُقْرَعُ بَيْنَ الْإِمَاءِ وَالنِّسَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ أَمْ لَا، وَهَكَذَا لَوْ رُجِعَ إِلَى بَيَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِذَا وَجَبَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمْ جُمِعَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي قُرْعَةٍ، وَبَيْنَ الْإِمَاءِ فِي قُرْعَةٍ، وَأُخْرِجَتْ عَلَى الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لأن العتق قد خلا فِي الْقُرْعَةِ فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ مَدْخَلٌ فِي الْقُرْعَةِ فَلِمَ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي ذَلِكَ إِدْخَالُ قُرْعَةٍ فِي شَيْئَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَدْخَلٌ فِي الْقُرْعَةِ قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الشَّيْئَيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِحْدَاهُمَا، كَمَا أَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الْعَزْمِ في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْعَزْمُ وَحْدَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْقَطْعُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقُرْعَةِ فَإِنْ رَجَعَتْ بِقُرْعَةِ الْإِمَاءِ عَتَقْنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْمَرَضِ فَيَعْتِقْنَ مِنَ الثُّلُثِ، وَكَانَ النِّسَاءُ زَوْجَاتٍ يُحْكَمُ لَهُنَّ بِالْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الشَّكِّ فَلِمَ سَقَطَ بِالشَّكِّ كَالنَّفَقَةِ؟ وَإِنْ خرجت القرعة على النساء لم يطلق وَرقَّ الْإِمَاءُ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُطَلَّقُ النِّسَاءُ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يَعْتِقُ الْإِمَاءُ بِهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَجْتَمِعَانِ فِي وُقُوعِهِمَا عَلَى الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي تَمْيِيزِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الْعِتْقِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُنَّ. وَلَوْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْ إِمَائِهِ أَوْ عَبِيدِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْقُرْعَةُ فِي الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ مَحِلُّهُ الْمِلْكُ وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَ فِيمَا يَكُونُ مَحِلُّهُ فِي الْمِلْكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّكَاحُ، وَالْقُرْعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِيمَا يَكُونُ مَحِلُّهُ النِّكَاحُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خُرُوجَ الْقُرْعَةِ عَلَى النِّسَاءِ لَا يُوقِعُ عَلَيْهِنَّ الطَّلَاقَ فَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَا يُسْقِطُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ مَنِ ادَّعَتْ طلاقها يكون الطَّائِرِ غُرَابًا فَلَا تَرِثُ لِإِخْبَارِهَا بِسُقُوطِ الْإِرْثِ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَيَثْبُتُ لَهُنَّ حُكْمُ الرِّقِّ بِخُرُوجِهِنَّ مِنَ الْقُرْعَةِ، وَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ التَّصَرُّفُ فِيهِنَّ لِثُبُوتِ رِقِّهِنَّ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِنَّ كَمَا مُنِعَ السَّيِّدُ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّيِّدَ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ الْمَحْظُورُ وَالْمُبَاحُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِمَاءَ وَأَبْضَاعَ النِّسَاءِ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا يَقِينًا، وَلَيْسَ كذلك للورثة، لأنهمن لا يملكون أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمُ الْإِمَاءُ دُونَ أَبْضَاعِ النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجْتَمِعِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَصَارَ مِلْكًا شُكَّ في حظره بعد الإباحة فأعثر فِيهِ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ، فَإِذَا صَحَّ كَوْنُ الْإِمَاءِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ عَنْهُنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ عَنْهُنَّ لِلشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي عِتْقِهِنَّ، وَأَنَّ الْقُرْعَةَ لَمْ تَدْخُلْ لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَدْخُلَ لِتَحْقِيقِ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِتْقِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ، وَيَجُوزُ التَّوَصُّلُ إِلَى أَخْذِ أَثْمَانِهِنَّ وَيَمْلِك كَسْبَهُنَّ وَلَوْ وُزِّعُوا كَانَ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشُّبْهَةَ عَنْ رِقِّهِنَّ مُرْتَفِعَةٌ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ تَضَمَّنَتْ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. أَمَّا النَّفْيُ فَنَفْيُ عِتْقِ الْإِمَاءِ. وَأَمَّا الإثبات فإثبات طلاق النساء، فإذا لم يعمل فِي إِثْبَاتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَإِذَا عَمِلَتْ فِي نَفْيِ الْعِتْقِ تَحَقَّقَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُمْ وَطْءُ الْإِمَاءِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِنَّ كَيْفَ شَاءُوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَإِنْ كَانَ حَمَامًا فَإِمَائِي أَحْرَارٌ فَطَارَ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّائِرُ لَيْسَ بِغُرَابٍ وَلَا حَمَامٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْحِنْثُ. وَلَيْسَ كالذي يقدم إِنْ كَانَ غُرَابًا أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدِهِمَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَقَالَ آخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَغْرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ فَلَا حِنْثَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِنِسَائِهِ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبِيدِهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاكٌّ فِي الْحِنْثِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حِنْثٌ، وَخَالَفَ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْحِنْثَ يَقِينٌ وَإِنْ جُهِلَ تَعْيِينُهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَالَ رَجُلَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فعبدي حر فطار وَلَمْ يَعْلَمْ أَغُرَابٌ كَانَ أَوْ غَيْرُ غُرَابٍ لَمْ يَعْتَقْ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَكِّهِ فِي عِتْقِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا عَبْدَ الْآخِرِ فَصَارَا مَعًا فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا نُظِرَ، فَإِنْ تَكَاذَبَا عَتَقَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِحُرِّيَّتِهِ، وَعَبْدُهُ الْأَوَّلُ عَلَى رِقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَاذَبَا وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى شَكِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقُ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ وَهُمَا فِي مِلْكِهِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا الْآنَ فِي مِلْكِهِ فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا حَتَّى يُبَيَّنَ الْحُرُّ مِنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا عِتْقَ عَلَيْهِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيِّدَيْنِ قَدْ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي عَبْدِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ لَوْ تنازع كل واحد منهما عبد الآخر فكان كانا تكاذبا اعتق عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَاذَبَا جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَلْكٍ وَمُشْتَرِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ مَقَامَ بَائِعِهِ فِيهِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا مُنِعَ مِنْهُمَا وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهِمَا حَتَى يُبَيِّنَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح. إذ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا، طُلِّقَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى. وَقَالَ مَالِكٌ: طُلِّقَتَا مَعًا، لِأَنَّ إِرْسَالَ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا يَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ منهما حظاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 فَطُلِّقَتَا، كَمَا لَوْ شَرَكَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا طَلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ: لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْخُولٌ وَيَلْزَمُهُ طَلَاقُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ عُمَانَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَ نِسْوَةٍ وَإِنِّي طَلَّقْتُ إِحْدَاهُنَّ، فَثَبَتَ طَلَاقُهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كُنْتَ نَوَيْتَ طَلَاقَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ أُنْسِيتَهَا فَقَدِ اشْتَرَكْنَ فِي الطَّلَاقِ، كَمَا يَشْتَرِكْنَ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ تكن نويت واحدة منهما بِعَيْنِهَا، فَطَلِّقْ أَيَّتَهُنَّ شِئْتَ وَأَمْسِكِ الْبَاقِيَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ أَعْرِفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتَ نَوَيْتَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ أُنْسِيتَهَا فَقَدِ اشْتَرَكْنَ فِي الطَّلَاقِ، يَعْنِي فِي تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ لَا فِي وُقُوعِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ إِجْمَاعًا، فَسَقَطَ بِهِ قَوْلُ دَاوُدَ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَمْيِيزُهَا لَمْ يَغْلِبْ بِهِ حُكْمُ الْحَظْرِ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، عَتَقَ أَحَدُهُمَا، وَبَيَّنَ الْمُعْتَقَ مِنْهُمَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا انْفِصَالٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُطَلِّقُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَهَا بِاللَّفْظِ أَوْ لَا يُعَيِّنَهَا، فَإِنْ عَيَّنَهَا وَقْتَ لَفْظِهِ وَقَصَدَهَا بِإِشَارَتِهِ أَوْ تَسْمِيَتِهِ فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الطَّلَاقَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَسِيَهَا وَلَا أُشْكِلَتْ عَلَيْهِ سُئِلَ عَنْهَا وَأُخِذَ بِبَيَانِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَسِيَهَا أَوْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ظُلْمَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ، وُقِفَ أَمْرُهَا وَأُخِذَ بِبَيَانِهَا بِالْكَشْفِ عَنِ الْحَالَةِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى زَوَالِ الإشكال، فإذ بين أجدهما قَبْلَ قَوْلِهِ، فَإِنْ صُدِّقَ عَلَيْهَا لَمْ يَحْلِفْ وَإِنْ كَذَّبَتَاهُ حَلَفَ لِلْبَاقِيَةِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُطَلَّقَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَوْ رَجَعَ عَنِ الْبَاقِيَةِ قُبِلَ مِنْهُ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَقْتَ لَفْظِهِ دُونَ بَيَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْفَتْرَةُ عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الطَّلَاقَ وَقْتَ لَفْظِهِ وَأَرْسَلَهُ بَيْنَهُمَا فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُ الْآنَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى خِيَارِهِ، فَأَيَّتُهُمَا شَاءَ أَنْ يُعَيِّنَهَا بِالطَّلَاقِ فَعَلَ، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ فِي تَعْيِينِ الَّتِي شَاءَ طَلَاقَهَا، فَإِذَا عَيَّنَهَا بِالطَّلَاقِ وَبَيَّنَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا مَنْ وَقْتِ اللَّفْظِ أَوْ وَقْتِ التَّعْيِينِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّلَاقَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ مَيَّزَ الطَّلَاقَ فَإِذَا قِيلَ بِهَذَا الْوَجْهِ اعْتَدَّتْ مَنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ، وَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ فَفِي عِدَّتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَقَّبُ بِالطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ وَقْتِ تَعْيِينِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ شَرَعَ بِغَلِيظِ الْأَمْرَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 (فَصْلٌ:) فَلَوْ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَكَانَ نِكَاحُ إِحْدَاهُمَا فَاسِدًا، وَنِكَاحُ الْأُخْرَى صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُرْسَلًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَقَعَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى خِيَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَكَانَ مُعَيَّنًا فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَنْكُوحَةَ نِكَاحًا فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ هَكَذَا لَوِ اتَّفَقَتِ الزَّوْجَتَانِ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَنِكَاحُ إِحْدَاهُمَا فَاسِدٌ، فَذُكِرَتْ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الْمَنْكُوحَةَ نِكَاحًا فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ لَمْ يُقْبَلْ، وَوَافَقَنَا فِي الْعَبْدَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا فَاسِدٌ وَشِرَاءُ الْآخَرِ صَحِيحٌ، وَقَالَ يَا فُلَانُ: أَنْتَ حُرٌّ، وَأَرَادَ الْمُشْتَرَى فَاسِدًا قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْ هَذِهِ بِالطَّلَاقِ كَانَ إِقْرَارًا مِنْهُ لِلْأُخْرَى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِالْبَيَانِ، فإن كان الطلاق معيناً أخذ (تبيين الْمُعَيَّنَةِ مِنْهُمَا) ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا عَيَّنَهُ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، ثُمَّ هُمَا إِلَى وَقْتِ الْبَيَانِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ كَالْأَجَانِبِ وَكَالزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ وَإِنَّمَا حُرِّمَتَا مَعًا قَبْلَ الْبَيَانِ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الْمُبَاحَةِ فَغَلَبَ فِيهِمَا حُكْمُ الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، حُرِّمَتَا عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاشْتِبَاهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْتِزَامُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ المحرمة منهما محتبسة على بيانه الْعَائِدِ إِلَيْهِ عَنْ زَوْجَتِهِ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَ عَنْ عَشْرِ زَوْجَاتٍ، كَانَ عَلَيْهِ الْتِزَامُ نَفَقَاتِهِنَّ حَتَّى يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا يُحْبَسُ عَلَى اخْتِيَارِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَخْذِهِ بِالْبَيَانِ، لَمْ تَخْلُ الْمُبَيَّنَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهَا مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا مُرْسَلًا، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَخْلُ حَالُ بَيَانِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْوَطْءِ فَإِنْ بُيِّنَ بِالْقَوْلِ صَحَّ، وَهُوَ فِي بَيَانِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فَتُبَيَّنُ بِهَا زَوْجَتُهُ الْأُخْرَى، كَقَوْلِهِ وَهُمَا حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ: الْمُطَلَّقَةُ هِيَ حَفْصَةُ فَيُعْلَمُ أَنَّ عَمْرَةَ زَوْجَتُهُ، أَوْ يُبَيِّنُ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأُخْرَى هِيَ مُطَلَّقَةٌ، كقوله عمرة هي الزوجة فيعلم أن عمرة هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَكِنْ لَوْ كُنَّ ثَلَاثًا كَانَ أَنْجَزُ الْبَيَانَيْنِ بَيَانَ الْمُطَلَّقَةِ، فَيَقُولُ حَفْصَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ، فَيُعْلَمُ بِبَيَانِ طَلَاقِهَا أَنَّ مَنْ سِوَاهَا من الأخرتين زَوْجَةٌ احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ ثَانٍ فِي الأُخْرَتَيْنِ، إِمَّا بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فَتَكُونَ الْأُخْرَى زَوْجَةً وَإِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا فَتَكُونَ الْأُخْرَى مُطَلَّقَةً، فَهَذَا حُكْمُ بَيَانِهِ بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا بَيَانُهُ بِالْوَطْءِ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا، فَلَا يكون وطئه بياناً لزوجته الموطوءة، وتعيين الطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْوَطْءُ بَيَانًا كَمَا لَوْ قَالَ: بَاعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 أَمَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْبَائِعُ فِي زمان خياره كان وطئه بَيَانًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَا يَطَأُ إِلَّا فِي مِلْكٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَطَأُ إِلَّا زَوْجَةً. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ بَيَانُهُ، وَالْمِلْكُ يَصِحُّ وَيَثْبُتُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَصَحَّ فَسْخُهُ فِي الْبَيْعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْوَطْءِ مُبَيِّنًا عَنِ الطَّلَاقِ، سُئِلَ عَنْ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ قَوْلًا، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ صَارَ وَاطِئًا لِزَوْجَتِهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ دُونَ الْبَيَانِ، وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ صَارَ وَاطِئًا لِأَجْنَبِيَّةٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِنْ عَلِمَ دُونَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ دُونَ الْبَيَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ فِي زمان العدة أم بَعْدَ انْقِضَائِهَا إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنَ الْوَطْءِ إِنْ حُدَّ، لِأَنَّهُ زِنًا، وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُحَدَّ، لِأَنَّهُ شِبْهٌ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَأَرْسَلَ نِيَّتَهُمَا كَانَ مخيراً في إيقاعه على أتيهما شَاءَ وَأَخَذَ بِتَعْيِينِهِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ بِالْقَوْلِ صَحَّ، فَإِنْ عَيَّنَهُ بِالْوَطْءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْيِينُهُ كَمَا يَصِحُّ بِهِ فَسْخُ الْمَبِيعَةِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ فِيهِ بَيَانًا، وَبَيَانُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ حَيْثُ صَارَ الْوَطْءُ فِيهِ بَيَانًا، أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَيَّنَ لَا خِيَارَ فِي تَعْيِينِهِ، فَلَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهُ لِلْوَطْءِ تَعْيِينًا، وَالطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهُ لِلْوَطْءِ تَعْيِينًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْيِينُهُ بِالْوَطْءِ، وَإِنْ صَحَّ بِالْوَطْءِ فُسِخَ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا جَعَلْنَا الْوَطْءَ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ، كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَةً وَصَارَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَى غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ. وَإِذَا لَمْ يجْعَلِ الْوَطْءَ تَعْيِينًا للطلاق، أخذ بتعيينه قولاً واحداً، وهل يلزم تعيينه في غير الموطوءة أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَعْيِينِهِ فِي أيتهما المطلقة على وجهين: أحدهما: يلزم تَعْيِينُهُ بِالْقَوْلِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ لِزَوْجَتِهِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَعْيِينِهِ فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ، كَمَا لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا لَوْ لَمْ يَطَأْ فَعَلَى هَذَا إِنْ عَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ تَعَيَّنَ فِيهَا، وَكَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ عَيَّنَهُ فِي الْمَوْطُوءَةِ تَعَيَّنَ فِيهَا، وَهَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا بِهَذَا التَّعْيِينِ، أَوْ يَكُونُ وَاقِعًا بِاللَّفْظِ الْمُقَدَّمِ؟ عَلَى وجهين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي التَّعْيِينِ وَتَكُونُ الْمُعَيَّنَةُ قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ زَوْجَتَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَنَّ الْوَطْءَ صادفها وهي غير زوجة، عير أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِتَخْيِيرِهِ تَعْيِينَ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالتَّعْيِينِ الْمُتَأَخِّرِ، فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ فَفِي الْعِدَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ لَا مِنَ الْعِدَّةِ بِتَعَقُّبِ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِيظِ في الأمرين. (مسألة:) قال الشافعي: (ولو قال أخطأت بل هي هذه طلقتنا مَعًا بِإِقْرَارِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَأَخَذَ بِبَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا، فَقَالَ: هِيَ هَذِهِ لَا بَلْ هَذِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوقِعِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا أَوْ مُبْهِمًا، فَإِنْ كَانَ مُعَيِّنًا فَقَالَ: هذه لا بل هذه طلقتنا مَعًا، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ بِوُقُوعِهِ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِذَا قَالَ: بَلْ هَذِهِ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِهَا، فَإِذَا قَالَ: لَا بَلْ هَذِهِ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِ الْأُخْرَى رَاجِعًا عَنْ طَلَاقِ الْأُولَى، فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ بِالثَّانِيَةِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنِ الْأُولَى كَمَنْ قَالَ: عَلَيَّ لِزَيْدٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَا بَلْ هِيَ عَلَى عَمْرٍو، كَانَ مُقِرًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو يَجْعَلُهُ مُقِرًّا لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا تُطَلَّقَانِ مَعًا كَالطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نقول: إِنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُبْهَمِ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ دُونَ التَّعْيِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُطَلِّقُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُبْهَمِ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالتَّعْيِينِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمُبْهَمِ، أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْمُعَيَّنِ إقراراً، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي إِقْرَارًا كَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْمُبْهَمِ طَلَاقٌ، وَلَمْ يَكُنِ الثَّانِي طَلَاقًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بمجرد الإشارة. (فصل:) وإذا كان له ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ، وَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ طَلَاقًا مُعَيَّنًا، وَأَخَذَ بِبَيَانِهَا، فَقَالَ: هِيَ هَذِهِ، بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِطَلَاقِهِنَّ كُلِّهِنَّ، فَلَوْ قَالَ: هِيَ هَذِهِ، أَوْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانٌ لِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 لم يرد بَيَانًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ، فَلَوْ قَالَ: هِيَ هذه وهذه وهذه طلقهن كُلُّهُنَّ. وَلَوْ قَالَ: هِيَ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، طُلِّقَتِ الْأُولَى وَأُخِذَ بِبَيَانِ إِحْدَى الْأُخْرَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُطَلِّقًا لِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ قِيَاسُ هَذَا فِي الْأَرْبَعِ إِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ مَاتَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَقَفْنَا لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَإِذَا قَالَ لِإِحْدَاهُمَا هَذِهِ الَّتِي طَلَقْتُ رددنا على أهلها من وَقَفْنَا لَهُ وَأَحْلَفْنَاهُ لِوَرَثَةِ الْأُخْرَى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ، عُزِلَ مَنْ تَرِكَتِهَا مِيرَاثُ زَوْجٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةُ، وَالْأَصْلُ ثُبُوتُ الزَّوْجِيَّةِ، وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُ بِبَيَانِهَا قَبْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي الْإِبْهَامِ لِوُقُوعِهِ فِي التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُعَيَّنِ مُخْبِرًا، فَإِنْ قَالَ: الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَالْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةُ فَقَدِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ فَرُدَّ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَتَكُونُ الْبَاقِيَةُ زَوْجَةً، فَإِنْ أُكْذِبَ فِي هَذَا الْبَيَانِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتَةِ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ شَيْئًا. فَأَمَّا الزَّوْجَةُ الْبَاقِيَةُ إِذَا أَكْذَبَتْهُ، وَقَالَتْ: أَنَا الْمُطَلَّقَةُ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا فَلَهَا إِحْلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُبْهَمًا فَلَيْسَ لَهَا إِحْلَافُهُ، لِأَنَّهُ فِي الْمُعَيَّنِ مُخْبِرٌ فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَكْذِيبِهِ فِي خَبَرِهِ، وَفِي الْمُبْهَمِ مُخَيَّرٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خِيَارِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَيِّتَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَهُوَ وَإِنْ أَسْقَطَ مِيرَاثَهُ مِنْهَا فَقَدْ رَامَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِسْقَاطَ نِصْفِ مَهْرِهَا فَنَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِثْلَ الْمِيرَاثِ، أَوْ أَقَلَّ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ أَكْثَرَ كَانَ لِوَرَثَتِهَا إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا، فَلَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَتَانِ قَبْلَ بَيَانِهِ، عُزِلَ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِيرَاثُ زَوْجٍ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّوْجَةَ وَأُخِذَ بِالْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ طَلَاقَ إِحْدَاهُمَا رُدَّ مَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا عَلَى وَرَثَتِهَا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثَ الْأُخْرَى، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ، فَإِنْ أَكْذَبَهُ الْفَرِيقَانِ كَانَ لِوَرَثَةِ الزَّوْجَةِ مِنْهُمَا إِحْلَافُهُ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا. وَلَمْ يَكُنْ لِوِرْثِهِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَلَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَكَانَ نِصْفُ الصَّدَاقِ أَقَلَّ مِنَ الْمِيرَاثِ أَوْ مِثْلَهُ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَهُمْ إِحْلَافُهُ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا، وَلَيْسَ لَهُمْ إِحْلَافُهُ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ وَقَفْنَا لَهُمَا مِيرَاثَ امْرَأَةٍ حَتَّى يَصْطَلِحَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا، وَجَبَ أَنْ يُعْزَلَ مِنْ تَرِكَتِهِ ميراث زوجة من ربع أو ثمن، هل يَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِيهِ، وَلَا يُرْجَعُ فِي بَيَانِهِ إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا، لِأَنَّ فِي بَيَانِهِمْ إِسْقَاطُ وَارِثٍ مُشَارِكٍ، وَالْوَارِثُ لَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْمِيرَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ، لِأَنَّهُمْ مخيرون وقد يجوز أن يخيروا عَنْهُ، وَلَا يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ، لِأَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى خِيَارِ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ. فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِمْ، قَامُوا فِيهِ مَقَامَ بَيَانِ الزَّوْجِ، وَكَانَ الْخَصْمُ فِي الْمِيرَاثِ هُوَ وَارِثَ الزَّوْجِ، فَإِذَا بَيَّنَ وَأُكْذِبَ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يَحْلِفْ لِلْمُقِرِّ بِزَوَاجِهَا وَحَلَفَ لِلْمُقِرِّ بِطَلَاقِهَا، إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، وَلْمِ يَحْلِفْ إِنْ كَانَ مُبْهَمًا، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ خَصْمًا لَهُمَا، وَوُقِفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ حَتَّى يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ، فَتَأْخُذَهُ الْحَالِفَةُ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلَةِ أَوْ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمَا أحد هذين. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهَا فَقَالَ وَارِثُهُ طَلَّقَ الْأُولَى وَرِثَتِ الْأُخْرَى بِلَا يَمِينٍ وَإِنْ قَالَ طَلَّقَ الْحَيَّةَ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَيَحْلِفُ أَنَّ الْحَيَّةَ هِيَ الَتِي طَلَّقَ ثَلَاثًا وَيَأْخُذُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْمَيِّتَةِ قَبْلَهُ وَقَدْ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ أَوْ بِخَبَرِ غَيْرِهِ مِمَنْ يُصَدِّقُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ مِنَ الْمِيتَةِ قَبْلَهُ وَلِلْحَيَّةِ مِيرَاثُ امْرَأَةٍ مِنْهُ حَتَّى يَصْطَلِحَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، ثم مات إِحْدَاهُمَا وَمَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا قَبْلَ الْبَيَانِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْزَلَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ قَبْلَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةَ وَيُعْزَلُ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ الزَّوْجَةَ، ثُمَّ يُنْظَرُ مَا يَقُولُهُ وَارِثُ الزَّوْجِ، فَإِنْ قَالَ مَا يَضُرُّهُ فِي الْأَمْرَيْنِ: بِأَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 الْمُتَوَفَّاةَ قَبْلَهُ مُطَلَّقَةٌ، فَلَا مِيرَاثَ لَنَا مِنْهَا وَالْبَاقِيَةَ بَعْدَهُ زَوْجَةٌ فَلَهَا الْمِيرَاثُ مَعَنَا، فَقَدْ بَيَّنَ مَا يَضُرُّهُ، فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهِ، لِأَنَّ مَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ مِيرَاثِ الْبَاقِيَةِ قَدْ صُدِّقَ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ قَدْ أَسْقَطَهُ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَيَّنَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: الْمَيِّتَةُ هِيَ الزَّوْجَةُ فَلَنَا الْمِيرَاثُ مِنْ تَرِكَتِهَا، وَالْبَاقِيَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مَعَنَا، فَإِنْ صُدِّقَ عَلَى ذَلِكَ زَالَ النِّزَاعُ، وَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ، فَأُعْطِيَ مِيرَاثَ الْمَيِّتَةِ، وَمُنِعَ مِنْ مِيرَاثِ الْحَيَّةِ. وَإِنْ أُكْذِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ وَارِثُ الْمَيِّتَةِ: هِيَ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا مِيرَاثَ لَكُمْ مِنْهَا. وَقَالَتِ الْبَاقِيَةُ: أَنَا الزَّوْجَةُ فَلِيَ الْمِيرَاثُ مَعَكُمْ، فَفِيهِ قَوْلَانِ، نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا، وَتِلْكَ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَيْهَا، وَمَخْرَجُهُ مِنْهَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ يَرْجِعَ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ، فَيَحْلِفُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتَةِ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ طَلَاقِ غَيْرِهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَيَسْتَحِقُّ مِنْ تَرِكَتِهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ، وَيَحْلِفُ لِلْبَاقِيَةِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى إِثْبَاتِ طَلَاقِهَا فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ طَلَّقَهَا وَيَسْقُطُ مِيرَاثَهَا مِنَ الزَّوْجِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ، وَيَكُونُ مَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ مَوْقُوفًا حَتَّى يَصْطَلِحَ عَلَيْهِ وَارِثُهَا وَوَارِثُ الزَّوْجِ. وَمَا عُزِلَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَوْقُوفًا حَتَّى تَصْطَلِحَ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ الْبَاقِيَةُ وَوَارِثُ الزَّوْجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 (باب ما يهدم الرجل من الطلاق من كتابين) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَمَّا كَانَتِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ كَانَتْ إِصَابَةُ زَوْجٍ غَيْرِهِ تُوجِبُ التَّحْلِيلَ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الطَّلْقَةِ وَلَا فِي الطَّلْقَتَيْنِ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ لَمْ يَكُنْ لِإِصَابَةِ زَوْجٍ غَيْرِهِ مَعْنًى يُوجِبُ التَّحْلِيلَ فَنِكَاحُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى هَذَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سأله عمن طلق امرأته اثنتين فانقضت عدتها فتزوجت غيره فطلقها أو مات عنها وتزوجها الأول قال عمر هي عنده على ما بقي من الطلاق) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِالطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَخَفُّهَا: مَا يَسْتَبِيحُهُ الْمُطَلِّقُ بِالرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَهُوَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَسْتَبِيحُهَا الزَّوْجُ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَغْلَظُهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَبِيحَهَا الْمُطَلِّقُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَوْسَطُهَا أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بَعْدَ نِكَاحٍ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَلَا يَسْتَبِيحَهَا بِالرَّجْعَةِ، وَلَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِكَاحِ زَوْجٍ، وَهُوَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ إِمَّا فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا وَإِمَّا فِي مَدْخُولٍ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِمَّا فِي مُخْتَلِعَهٍ، فَإِنْ نَكَحَهَا قَبْلَ زَوْجٍ أَوْ بَعْدَ زَوْجٍ، لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اثْنَتَانِ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا وَأَصَابَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَعَادَ الْأَوَّلُ بَعْدَ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي وَتَزَوَّجَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الزَّوْجِ الثَّانِي كَعَدَمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا نَكَحَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَهُ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدَةً بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اثْنَتَانِ بَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي وَاحِدَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُوسُفُ: الزَّوْجُ الثَّانِي قَدْ هَدَمَ طَلَاقَ الأول ورفعه، فإذا عادت إلى الأولى كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 299] . فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ جَوَازَ الرَّجْعَةِ إِذَا طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، وَاحِدَةً بَعْدَ اثْنَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْهَا وَتُحَرِّمُونَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِصَابَةُ زَوْجٍ ثَانٍ فَوَجَبَ أَنْ تَهْدِمَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا، قَالَ: وَلِأَنَّ إِصَابَةَ الثَّانِي لَمَّا قَوِيَتْ عَلَى هَدْمِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، كَانَتْ عَلَى هَدْمِ مَا دُونَهَا أَقْوَى، كَمَنْ قَوِيَ عَلَى حَمْلِ مِائَةِ رِطْلٍ كَانَ عَلَى حَمْلِ رِطْلٍ أَقْوَى، وَكَالْمَاءِ إِذَا رَفَعَ كَثِيرَ النَّجَاسَةِ كَانَ بِرَفْعِ قَلِيلِهَا أَوْلَى، وَكَالْغُسْلِ إِذَا رَفَعَ الْجَنَابَةَ، كَانَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ أَوْلَى، وَكَالْجَنَابَةِ إِذَا نَقَضَتْ طُهْرَ الْبَدَنِ، كَانَتْ بِنَقْضِ طَهَارَةِ بَعْضِهِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا قول الله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فَكَانَ طَلَاقُ مَنْ بَقِيَتْ لَهُ مِنَ الثلاث طلقة يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، سَوَاءٌ نَكَحَتْ قَبْلَ طَلَاقِهِ زَوْجًا أَمْ لَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ آخِرُ الْآيَةِ دَلِيلًا لَكُمْ، كَانَ أَوَّلُهَا عَلَى مَا مَضَى دَلِيلًا لَنَا، قِيلَ: إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ، كَانَ تَغْلِيبُ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْلَى. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهَا إِصَابَةٌ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ فَلَمْ تَهْدِمْ مَا تَقَدَّمَ الطَّلَاقَ كَإِصَابَةِ السَّيِّدِ وَالْإِصَابَةِ بِشُبْهَةٍ وَلِأَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ عَدَدِ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَأَصْلُهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي، وَلِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الْمُسْتَبِيحَةِ عَنْ نِكَاحِ زَوْجٍ، لَا تَرُدُّهَا إِلَى أَوَّلِ الْعِدَّةِ كَالرَّجْعَةِ، لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ اسْتَكْمَلَ بِهَا عَدَدَ الثَّلَاثِ، فَوَجَبَ تَحْرِيمُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. أَصْلُهُ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الثَّلَاثَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّ إِصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَهْدِمُهُ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ تَحْرِيمَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فلم يرتفع بعد وقوعه. الثاني: أَنَّهُ لَوِ ارْتَفَعَ لَاسْتَبَاحَهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ، وَإِذَا أَثَّرَتْ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ فِي الثَّلَاثِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ تَحْرِيمٌ لَمْ يَكُنْ لِلْإِصَابَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ. وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ يُبْنَى عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، قَبْلَ زَوْجٍ وَبَعْدَهُ فَكَذَلِكَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الثَّلَاثِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْإِصَابَةُ شَرْطًا فِيهِ كَانَتْ رَافِعَةً لَهُ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِيمَا دُونَهَا فَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا قَوِيَ عَلَى رَفْعِ الْأَكْثَرِ كَانَ عَلَى رَفْعِ الْأَقَلِّ أَقْوَى، فَهُوَ أَنَّ الْإِصَابَةَ عِنْدَنَا لَا تَرْفَعُ الثَّلَاثَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا تَرْفَعُ تَحْرِيمَهَا، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ تَحْرِيمٌ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ عَلَى مَذْهَبِ أبي حنيفة لأنه جَعْلَهُ قَدْ يَجْعَلُ الشَّيْءَ مُؤَثِّرًا فِي الْأَكْثَرِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَقَلِّ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. فَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ جَمِيعَ الدِّيَةِ وَلَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونُ الْمُوضِحَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ يَنْوِي بِهَا الثَّلَاثَ، كَانَتْ ثَلَاثًا وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ كَانَتِ وَاحِدَةً، فَجَعَلَ النِّيَّةَ مُؤَثِّرَةً فِي الثَّلَاثِ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْأَقَلِّ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالطَّهَارَةَ، وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَا تُبْطِلُ الطَّهَارَةَ، فَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِي الْأَكْثَرِ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْأَقَلِّ، فَفَسَدَ بِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: فِي فُرُوعِ الطَّلَاقِ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ أَبِيهِ تَزْوِيجًا صَحِيحًا، لأنه يخاف العنث، أو لأنه عبد، وإن لم يخف العنث فَقَالَ لَهَا: إِنْ مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ أَبُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِكَوْنِهِ عَبْدًا، طُلِّقَتْ بِمَوْتِهِ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا لِكَوْنِهِ حُرًّا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَفِي طَلَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: لَا يُطَلِّقُ، لِأَنَّهُ إِذَا وَرِثَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالْمِلْكِ، وَزَمَانُ الْفَسْخِ وَزَمَانُ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ، فَوَقَعَ الْفَسْخُ وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ لَهَا: إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ لَمْ تُطَلَّقْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَلَا يَقَعُ الْفَسْخُ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ صِفَةَ الطَّلَاقِ تُوجَدُ عَقِيبَ الْمَوْتِ وَهُوَ زَمَانُ الْمِلْكِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْفَسْخُ، فَصَارَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا فِي زَمَانِ الْمِلْكِ لَا فِي زَمَانِ الْفَسْخِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَقَعِ الْفَسْخُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّرِكَةِ إِذَا أَحَاطَ بِهَا الدَّيْنُ، هَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ إلى ملكهم، وتكون لأرباب الذين دُونَهُمْ، فَعَلَى هَذَا تُطَلَّقُ لِوُجُودِ شَرْطِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ شَرْطِ الْفَسْخِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ وَإِنْ أَحَاطَ بِهَا الدَّيْنُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا، فِي تَزْوِيجِ الِابْنِ جَارِيَةَ الْأَبِ، فَقَالَ لَهَا الْأَبُ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَقَالَ لَهَا الِابْنُ: إِذَا مَاتَ أَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَاتَ الْأَبُ نُظِرَ، فَإِنْ مَاتَ وَقِيمَتُهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَتْ عَلَى الْأَبِ، وَطُلِّقَتْ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ لَهَا يَمْنَعُ مِنْ مِلْكِ الِابْنِ لَهَا، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ مَعًا. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهَا وَيَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِهَا مِنْ ثُلُثِهِ، لَمْ تَعْتِقْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ مَرْدُودٌ، فَطَلَاقُهَا عَلَى الِابْنِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، هَلْ يَمْلِكُهَا الِابْنُ إِذَا أَحَاطَ بِهَا دَيْنُ الْأَبِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يَمْلِكُهَا الِابْنُ، فَعَلَى هَذَا تُطَلَّقُ، وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ قَدْ مَلَكَهَا الِابْنُ، فَعَلَى هَذَا فِي طَلَاقِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ: لَا تُطَلَّقُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: تطلق. (فصل: في الشرط والجزاء) إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ طلاق معلق بشرط لا يقع إلا بوجود، وَالشَّرْطُ دُخُولُ الدَّارِ، وَالْجَزَاءُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، فَمَتَى دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ، وَلَا تُطَلَّقُ إِنْ لَمْ تَدْخُلْ. فَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَظَاهِرُهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَإِنْ أَسْقَطَ فَاءَ الْجَزَاءِ فَلَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَوْ قَالَ: أردت به الطلاق في الحال، فقولي: أَنْتِ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى إِرَادَتِهِ، لِأَنَّهُ أَضَرَّ به، ويحلف في الحال ولم يطلق بِدُخُولِ الدَّارِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، احْتَمَلَ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الشَّرْطَ وَيُضْمِرَ الْجَزَاءَ فِي نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ فَحَفْصَةُ طَالِقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا أَرَادَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَحْتَمِلُهُ، فَلَا تُطَلَّقُ هِيَ بِدُخُولِ الدَّارِ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ أُحْلِفُ لَهَا. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ، فَيَكُونَ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَكُونَ عَلَى مَا أَرَادَ شَرْطًا وَجَزَاءً وَتَقُومُ الْوَاوُ مَقَامَ الْفَاءِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ وَذَكَرَتْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا جَمِيعًا الشَّرْطَ لَمْ يَحْلِفْ لَهَا، فَإِنْ ذَكَرَتْ أَنَّهُ أَرَادَ الطَّلَاقَ الْمُعَجَّلَ أُحْلِفُ لَهَا. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ فَتُطَلَّقَ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الدَّارِ صِلَةً لَا شَرْطًا، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ الزَّوْجَةُ لَمْ يَحْلِفْ لَهَا، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 الظَّاهِرُ مِنْهُ حَمْلَهُ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، لَمْ يُجْعَلْ مَبْتُورًا وَالْوَاوُ قَدْ تَقُومُ مَقَامَ الْفَاءِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَنُوبُ بَعْضُهَا مَنَابَ بَعْضٍ. وَلَوْ قَالَ: وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى كَلَامٍ تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فأنت طالق، فيكون شرطاً وجزءا فَمَتَى دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ، وَلَا تُطَلَّقُ قَبْلَ دُخُولِهَا. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، فَتُطَلَّقُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا مَعَ خَالِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَبَكْرًا مَعَ خَالِدٍ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ كَانَ شَرْطُ الطَّلَاقِ كَلَامَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، دُونَ بَكْرٍ وَخَالِدٍ، فَإِذَا كَلَّمَتْ زَيْدًا وَعَمْرًا مَعًا أَوْ عَلَى انْفِرَادٍ طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ بَكْرًا مَعَ خَالِدٍ الشَّرْطَ، صَارَ شَرْطُ الطَّلَاقِ مُقَيَّدًا بِكَلَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَكْرٍ مَعَ خَالِدٍ فَإِنْ كَلَّمَتْهُمْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكْمُلْ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُمْ جَمِيعًا وَأَفْرَدَتْ كَلَامَ بَكْرٍ عَنْ خَالِدٍ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الطَّلَاقِ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْكَلَامِ وَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ بَكْرٍ وَخَالِدٍ فِي الْكَلَامِ وَفَرَّقَتْ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فِي الْكَلَامِ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ بَكْرٍ وَخَالِدٍ شَرْطًا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْجَمْعَ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو شَرْطًا، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ: وَلَا إِرَادَةَ له حمل ذكر وبكر وَخَالِدٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ دُونَ الشَّرْطِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي حُكْمِ الْإِعْرَابِ يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَوْ بَكْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَلَّمَتْ أَحَدَهُمْ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَلَّمَتْهُمْ جَمِيعًا قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ شَرْطٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ إِذَا انْفَرَدَ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَزَاءُ إِذَا اجْتَمَعَ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدٌ عُلِّقَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ فوجب أن لا يَتَعَلَّقَ بِهِمَا إِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَجْزَاءُ وَاحِدَةً، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْتِ عَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْتِ بكراص فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُمْ جَمِيعًا، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ عُلِّقَ بِكُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا جَزَاءٌ مُفْرَدٌ، وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ: وَإِنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ، فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، فَإِنْ دَخَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ طُلِّقَتَا، وَإِنْ دَخَلَتْ إِحْدَاهُمَا إِحْدَى الدَّارَيْنِ وَدَخَلَتِ الْأُخْرَى الدَّارَ الْأُخْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: طُلِّقَتَا، لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارَيْنِ مَوْجُودٌ مِنْهُمَا فَصَارَ الشَّرْطُ بِدُخُولِهِمَا موجوداً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: لَا تُطَلَّقَا حَتَّى تَدْخُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِدُخُولِ الدَّارَيْنِ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِدُخُولِهِمَا مَعًا، فَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارَيْنِ مَعًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ رَكِبْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَرَكِبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّابَّتَيْنِ أَوْ قَالَ إِنْ أَكَلْتُمَا هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ، فَأَكَلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ كَانَ طَلَاقُهُمَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ آخَرُ:) فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، فَمَضَى الْيَوْمُ قَبْلَ أَنْ تُطَلَّقَ لَمْ تُطَلَّقْ قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ مُضِيَّ الْيَوْمِ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْيَوْمِ فَلَيْسَ يُوجَدُ شَرْطُ الطَّلَاقِ، إِلَّا وَقَدِ انْقَضَى مَحِلُّ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ فَوَاتُهُ فِي الْيَوْمِ، وَإِذَا بَقِيَ مِنْ آخِرِهِ مَا يضيف عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَذَلِكَ الزَّمَانُ لَا يَضِيقُ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ لَفْظِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ وَهَذَا فَاسِدٌ، وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَوْلَى، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَزَمَانُ لَفْظِهِ وَزَمَانُ وُقُوعِهِ مِثْلَانِ، فَإِذَا ضَاقَ عَنْ أَحَدِهِمَا ضَاقَ عَنِ الْآخَرِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَبِعْ عَبْدِي الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ فَلَمْ يَبِعْهُ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ، طُلِّقَتْ وَصَحَّ فِيهِ تَعْلِيلُ أَبِي حَامِدٍ، لِأَنَّ زَمَانَ الْبَيْعِ أَوْسَعُ مِنْ زَمَانِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى بَذْلِ الْبَائِعِ وَقَبُولٍ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا ضَاقَ عَنِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْبَيْعِ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَهُوَ لَا يَضِيقُ عَنِ الطَّلَاقِ الَّذِي يَقَعُ بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَبِعْ عَبْدِي الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، فَأَعْتَقَهُ طُلِّقَتْ لِفَوَاتِ بَيْعِهِ بِالْعِتْقِ، وَفِي زَمَانِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَقِيبَ عِتْقِهِ. وَالثَّانِي: فِي آخِرِ الْيَوْمِ إِذَا ضَاقَ عَنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، لَوْ كَانَ بَيْعُهُ مُمْكِنًا وَلَكِنْ لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِفَوَاتِ بَيْعِهِ، لِأَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَفْسَخَ الْمُكَاتِبُ كِتَابَتَهُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ لَا أُطَلِّقُكِ فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، طُلِّقَتْ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ دَارَ زَيْدٍ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ مُضِيُّ الْيَوْمِ، قَالَ: لِأَنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ دُونَ الْيَوْمِ الْمُقَدَّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنعام: 16] . يُرِيدُ بِهِ الْوَقْتَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ نَهَارَ الْيَوْمِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ إِنْ صَحَّ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، صَحَّ في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا أُطَلِّقُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَصِحُّ فَإِنْ جَعَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ فِي دُخُولِ الدَّارِ، عِبَارَةً عَنِ الْوَقْتِ جَعَلَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِبَارَةً عَنِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَجْعَلْ فِي الْآخَرِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَيْلَةٌ لَا أَدْخُلُ فِيهَا دَارَ زَيْدٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِمُضِيِّ اللَّيْلَةِ لَا بِدُخُولِ دَارِهِ فِيهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلَةِ وَالْيَوْمِ، أَنَّ الْعُرْفَ مُسْتَعْمَلٌ بِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَوْمِ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّيْلَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَى حِينٍ أَوْ إِلَى زَمَانٍ، طُلِّقَتْ إِذَا سَكَتَ، لِأَنَّهُ حِينٌ وَزَمَانٌ وَوَقْتٌ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ الْيَوْمَ وَاحِدَةً وَهِيَ لَاحِقَةٌ بِهَا فِي غَدٍ، فَتُطَلَّقُ فِي يَوْمِهِ وَاحِدَةً لَا غَيْرَ وَهِيَ لَاحِقَةٌ بِهَا فِي غَدٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ فِي يَوْمِهِ وَاحِدَةً وَفِي غَدِهِ أُخْرَى فَتُطَلَّقُ اثْنَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ وَأُخْرَى فِي غَدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ تَبْعِيضَ الطَّلَاقِ، الطَّلْقَةُ فِي الْيَوْمِ وَفِي غَدٍ، فَيُنْظَرُ إِنْ أَرَادَ تَبْعِيضَ طَلْقَتَيْنِ كَأَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ طَلْقَةٍ فِي يَوْمِهِ، وَبَعْضَ أُخْرَى فِي غَدِهِ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ فِي يَوْمِهِ وَغَدِهِ تَكْمِيلًا لِلْبَعْضِ الْوَاقِعِ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ تَبْعِيضَ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَقَعُ الْيَوْمَ طَلْقَةٌ تَكْمِيلًا لِلطَّلْقَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ فَهَلْ يُطَلِّقُ فِي غَدِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ: أَحَدُهُمَا: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي غَدِهِ، قَدْ تُعُجِّلَ فِي يَوْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي فِي يَوْمٍ يَكْمُلُ بِالشَّرْعِ، لَا بِتَقْدِيمِ مَا أَخَّرَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ الَّذِي في غده واقعاً بالإرادة تكملاً بِالشَّرْعِ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ فَتُطَلَّقَ فِي يَوْمِهِ وَاحِدَةً، وَلَا تُطَلَّقَ فِي غَدِهِ حَمْلًا عَلَى الْحَالِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تُطَلَّقَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِذَا جَاءَ غَدٌ، فَجَاءَ غَدٌ لَمْ تُطَلَّقْ فِي الْيَوْمِ وَلَا فِي غَدٍ، لِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهَا فِي الْيَوْمِ تَقْدِيمٌ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَوُقُوعَهُ فِي الْغَدِ إِيقَاعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إِذَا جَاءَ غَدٌ، كَقَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ، فَإِنْ أَرَادَ كَوْنَهَا بِمَكَّةَ دُونَهُ، رُوعِيَ ذَلِكَ وَطُلِّقَتْ إِنْ حَصَلَتْ بِمَكَّةَ، وَلَمْ تُطَلَّقْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ أَرَادَ كَوْنَهُ بِمَكَّةَ دُونَهَا رُوعِيَ ذَلِكَ، فَإِذَا حَصَلَ الزَّوْجُ بمكة طلقت، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ رُوعِيَ حُصُولُهَا بِمَكَّةَ دُونَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِذَا حَصَلَتْ بِمَكَّةَ طُلِّقَتْ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: تُطَلَّقُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمَكَّةَ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بِغَيْرِ مَكَّةَ تَكُونُ مُطَلَّقَةً بِمَكَّةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَنْفَصْل فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ. وَيُعَبَّرُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَإِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ قَبْلَ مَجِيءِ غَدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْيَوْمِ مُطَلَّقَةً فِي غَدٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرِيضَةً أَوْ مُصَلِّيَةً، نُظِرَ فَإِنْ قَالَ: مَرِيضَةً أَوْ مُصَلِّيَةً بِالنَّصْبِ كَانَ الْمَرَضُ وَالصَّلَاةُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا تُطَلَّقُ قَبْلَهُ، وَإِنْ قَالَ: مَرِيضَةٌ أَوْ مُصَلِّيَةٌ بِالرَّفْعِ كَانَ جَزَاءً، فَتُطَلَّقُ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرِيضَةً وَلَا مُصَلِّيَةً، فَإِنْ أَدْغَمَ اللَّفْظَ وَأَلْغَى الْإِعْرَابَ فَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ نَصْبَ الشَّرْطِ، وَلَا رَفْعَ الْخَبَرِ سُئِلَ عَنْ مُرَادِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ دُونَ الشَّرْطِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْقَصْدِ فَإِنْ أَعْرَبَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْرَابِ وَلَا عَرَفَ مَعْنَى الْمُعْرَبِ، بِالنَّصْبِ وَلَا بِالرَّفْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَالْعَارِفِ بِالْإِعْرَابِ، وَالْقَاصِدِ لَهُ اعْتِبَارًا لَهُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُلْغَى حُكْمُ الْإِعْرَابِ، وَيُوقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ اعْتِبَارًا بِالْقَصْدِ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنْ بَدَأْتُكِ بِالْكَلَامِ فَعَبْدِي حُرٌّ انْحَلَّتْ يَمِينُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ، وَكَانَتْ يَمِينُهَا بِالْعِتْقِ بَاقِيَةً، فَإِنْ بَدَأَهَا الزَّوْجُ بِالْكَلَامِ انْحَلَّتْ يَمِينُهَا، وَإِنْ بَدَأَتْهُ بِالْكَلَامِ حَنِثَتْ بِالْعِتْقِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كَلَّمْتِنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَتْ لَهُ، إِنْ كَلَّمْتَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ، طُلِّقَتْ، لِأَنَّهَا قد كلمته ولم يعتق عبدها أن يكلمها. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ أَمَرْتُكِ بِأَمْرٍ فَخَالَفْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا تُكَلِّمِي أَبَاكِ وَلَا أَخَاكِ، فَكَلَّمَتْهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهَا خَالَفَتْ نَهْيَهُ وَلَمْ تُخَالِفْ أَمْرَهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ نَهَيْتِنِي عَنْ مَنْفَعَةٍ أَنْوِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ لَهَا فِي يَدِهِ مَالٌ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهَا لِيَنْفَعَهُمَا فَقَالَتْ: لَا تُعْطِيهِمَا مِنْ مَالِي شَيْئًا لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْفَعَهُمَا بِمَالِهَا، إِذْ لَيْسَ يَجُوزُ لَهُمَا الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ مَنْفَعَتِهِمَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ ضَرَبْتُ زَيْدًا، فَضَرَبَهُ مَيِّتًا لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حُكْمُ ضَرْبِهِ بِالْمَوْتِ كَمَا سَقَطَ حُكْمُ كَلَامِهِ بِالْمَوْتِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ بَعْدَ جُنُونِهِ أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 إِغْمَائِهِ أَوْ سُكْرِهِ، طُلِّقَتْ سَوَاءٌ أَحَسَّ بِالضَّرْبِ أم لَمْ يُحِسَّ، لِأَنَّ حُكْمَ الضَّرْبِ لَا يَسْقُطُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى ثَوْبِهِ فأحس بالضرب من تحت الثواب، طُلِّقَتْ سَوَاءٌ آلَمَهُ أَوْ لَمْ يُؤْلِمْهُ، وَإِنْ لَمْ يُحِسَّ بِهِ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ لِكَثْرَتِهَا وَكَثَافَتِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ ضَرْبُ حَائِلٍ دُونَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ ضَرَبَ حَائِطًا هُوَ مِنْ وَرَائِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كُنْتُ أَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ تَقْتَضِي نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ، وَتَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْمِائَةِ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَقْتَضِيهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِنَفْيِ الزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: تَقْتَضِيهِ لِتَتْمِيمِهَا لِلْمِائَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَالِكًا لِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا بَرَّ وَلَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ مَلَكَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ طُلِّقَتْ، وَإِنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ فَفِي طَلَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ. وَالثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَيُّ نِسَائِي بَشَّرَتْنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَبَشَّرَتْهُ إِحْدَاهُنَّ بِقُدُومِهِ فَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فِي الْبُشْرَى طُلِّقَتْ وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبُشْرَى مَا تَمَّ السُّرُورُ بِهَا وَالْبُشْرَى الْكَاذِبَةُ لَا يتم السرور بها. فلم تكن بشرى، لو بَشَّرَتْهُ ثَانِيَةً بَعْدَ الْأُولَى، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى صَادِقَةً طُلِّقَتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى كَاذِبَةً وَالثَّانِيَةُ صَادِقَةً، طُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى، وَلَوْ بَشَّرَتَاهُ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا صَادِقَتَانِ طُلِّقَتَا. وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُنَّ أَخْبَرَتْنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ فَهِيَ طَالِقٌ، فَأَخْبَرَتْهُ إِحْدَاهُنَّ بِقُدُومِهِ طُلِّقَتْ صَادِقَةً كَانَتْ أَوْ كَاذِبَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْبُشْرَى، أَنَّ الْبُشْرَى مَا سَرَّتْ، وَهِيَ لَا تَسُرُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صِدْقًا، وَالْخَبَرَ ذِكْرُ الشَّيْءِ وَقَدْ ذَكَرَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا، هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ الصِّدْقِ أَصَحُّ، فَإِنْ أَخْبَرَتْهُ ثَانِيَةً بِقُدُومِ زَيْدٍ طُلِّقَتْ أَيْضًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَتْهُ جَمِيعًا بِقُدُومِهِ، طُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ بِخِلَافِ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّ الْبُشْرَى تَكُونُ بِالْأَسْبَقِ وَالْخَبَرَ يَصِحُّ مِنَ الْجَمِيعِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا حَتَّى يَقَدَمَ عَمْرٌو، فَإِنْ جَعْلَ الْغَايَةَ فِي قُدُومِ عَمْرٍو حَدًّا لِلشَّرْطِ صَحَّ، فَإِنْ كَلَّمَتْهُ قَبْلَ قُدُومِ عَمْرٍو طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَلَّمَتْهُ بَعْدَ قُدُومِ عَمْرٍو لَمْ تُطَلَّقْ لِخُرُوجِ الشَّرْطِ عَنْ حَدِّهِ، وَإِنْ جَعْلَ الْغَايَةَ فِي قُدُومِ عَمْرٍو حَدًّا لِلطَّلَاقِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يُمْنَعُ مِنْ تَحْدِيدِهِ إِلَى غَايَةٍ. فَإِذَا كَلَّمَتْهُ قَبْلَ قُدُومِ عَمْرٍو أَوْ بَعْدَهُ طُلِّقَتْ عَلَى الأبد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَا تُطَلَّقُ، وَلَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ يَا زَانِيَةُ، وَيَكُونُ قَاذِفًا، لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ لَا يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ يَا زَانِيَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَكَذَا لَوْ قَلَبَ الْكَلَامَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الطَّلَاقِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ فَلَا تُطَلَّقُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَذْفِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ يَكُونُ قَاذِفًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِمَا فَلَا يَكُونُ مُطَلِّقًا وَلَا قَاذِفًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ إِلَى الْأَبْعَدِ دُونَ الْأَقْرَبِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ، بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَقَّةَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ لَا يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا طَالِقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ يَا طَالِقُ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَةٍ وَطُلِّقَتْ بِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَجَعَ إِلَيْهِمَا فَلَا تُطَلَّقُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ، فَقَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَرَادَ الْأَجْنَبِيَّةَ قُبِلَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ تُطَلَّقْ زَوْجَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ وَفِي الْبَلَدِ جَمَاعَةُ زَيَانِبَ يُشَارِكْنَهَا فِي الِاسْمِ، فَقَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ وَقَالَ: أَرَدْتُ غَيْرَ زَوْجَتِي مِنَ الزَّيَانِبِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَطُلِّقَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَكَانَ مَدِينًا فِي الْبَاطِنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ أَقْوَى حُكْمًا مِنَ الْكِنَايَةِ فَاخْتَصَّ الِاسْمُ لِقُوَّتِهِ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَمْ تَخْتَصَّ الْكِنَايَةُ لِضَعْفِهَا بِالزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ وَزَوْجَتُهُ ابْنَةُ زَيْدٍ وَلِزَيْدٍ بِنْتٌ أُخْرَى، فَقَالَ: بِنْتُ زَيْدٍ طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أُخْتَهَا دُونَهَا فَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَعْرِيفًا وَلَمْ يَكُنِ اسْمًا، فَهُوَ بِالِاسْمِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْكِنَايَةِ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الظَّاهِرِ وَيَدِينُ فِي الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا رَأَى امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ عَمْرَةَ فقال لها: أنت طالق، وأشار (بالطلاق إليها، ولم يذكر اسم زوجته في الإشارة) لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ زَوْجَتَهُ لَمْ يُسَمِّهَا، وَلَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ إِلَيْهَا وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، وَلَوْ سَمَّى فَقَالَ: يَا عَمْرَةُ وَأَشَارَ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ طُلِّقَتْ زَوْجَتُهُ عَمْرَةُ فِي الظَّاهِرِ، لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَدِينًا لِأَجْلِ الْإِشَارَةِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَنَادَى حَفْصَةَ فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَلَهُ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حِينَ نَادَى حَفْصَةَ أَنَّ الَّتِي أَجَابَتْهُ عَمْرَةُ وَيُرِيدُ بِالطَّلَاقِ حفصة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 دُونَ عَمْرَةَ، فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِتَسْمِيَتِهَا وَإِرَادَتِهِ وَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لِإِشَارَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ حِينَ نَادَى حَفْصَةَ أَنَّ الَّتِي أَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، وَيُرِيدُ عَمْرَةَ بِالطَّلَاقِ دُونَ حَفْصَةَ فَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِإِشَارَتِهِ مَعَ إِرَادَتِهِ، وَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لِتَسْمِيَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ حِينَ نَادَى حَفْصَةَ أَنَّ الَّتِي أَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، وَيُرِيدُه بِالطَّلَاقِ حَفْصَةَ دُونَ عمرة المشار إليه، طَلَّقَ حَفْصَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِتَسْمِيَتِهَا وَإِرَادَتِهِ، وَلَا تُطَلَّقُ عَمْرَةُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَعَنْ إِرَادَتِهِ، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ مَعَ الْإِرَادَةِ أَقْوَى مِنْهَا وَسَقَطَ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْإِرَادَةِ حُكْمُهَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ حِينَ نَادَى حَفْصَةَ أَنَّ الَّتِي أَجَابَتْهُ عَمْرَةُ وَيُرِيدُ بِالطَّلَاقِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا يَظُنُّهَا حَفْصَةَ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَمَّا حَفْصَةُ فَطُلِّقَتْ فِي الظَّاهِرِ لِلتَّسْمِيَةِ مَعَ ظَنِّهِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهَا وَهِيَ حَفْصَةُ، وَلَمْ تُطَلَّقْ فِي الْبَاطِنِ لِإِرَادَتِهِ عَمْرَةَ بِالْإِشَارَةِ، وَأَمَّا عَمْرَةُ فَطُلِّقَتْ بِإِشَارَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ فِي الْبَاطِنِ لِنِدَائِهِ حَفْصَةَ وَظَنِّهِ أَنَّهَا حَفْصَةُ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يُنَادِيَ حَفْصَةَ وَيُشِيرُ بِالطَّلَاقِ إِلَى عَمْرَةَ يُرِيدُهَا بِالطَّلَاقِ، وَيَظُنُّهَا حَفْصَةَ، طُلِّقَتْ عَمْرَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ عَنْ تَسْمِيَةِ غَيْرِهَا فَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَمْ تُطَلَّقْ حَفْصَةُ فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسَمَّاةٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهَا، وَالظَّنُّ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ تَسْمِيَةٍ وَإِشَارَةٍ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، يَا حَفْصَةُ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا بَلْ عَمْرَةُ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ لَا بَلْ عَمْرَةُ طَالِقٌ بِدُخُولِ حَفْصَةَ فَإِذَا دَخَلَتْ حَفْصَةُ فَإِذَا دَخَلَتْ حَفْصَةُ الدَّارَ، طُلِّقَتْ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ حَفْصَةُ طَالِقٌ لَا بَلْ عَمْرَةُ طُلِّقَتَا مَعًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ لَا بَلْ إِنْ دَخَلَتْ عَمْرَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَتُطَلَّقُ حَفْصَةُ وَحْدَهَا بِدُخُولِهَا الدَّارَ وَتُطَلَّقُ عَمْرَةُ أَيْضًا بِدُخُولِ الدَّارِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى فَيَكُونُ دُخُولُ حَفْصَةَ الدَّارَ مَوْقِعًا لِطَلَاقِهَا وَطَلَاقِ عَمْرَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَضِيَ حَمْلَهُ عَلَى الْحَالِ الثَّانِيَةِ، فَيَكُونَ دُخُولُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوقِعًا لِطَلَاقِهَا وَلَا تُطَلَّقُ عَمْرَةُ بِدُخُولِ حَفْصَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا فَأَمْسَكَ عَلَى فَمِهِ وَمَنَعَهُ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا نُظِرَ، فَإِنْ أَرَادَ الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَمَنَعَ مِنْ إِظْهَارِ الثَّلَاثِ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهَا بِاللَّفْظِ وَقَعَتْ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهَا، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالثَّلَاثِ فَمَنَعَ مِنْهَا طُلِّقَتْ وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا مَعَ إِرَادَةِ التَّلَفُّظِ بِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَمَنَعَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ لَمْ يَقَعْ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ أَنْ يقول ثلاثاً فمات قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا، كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ الثَّلَاثَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَمَاتَتْ قَبْلَ التَّصْرِيحِ بِهِ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الثَّلَاثَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَرِّحَ بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ ثَلَاثًا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَحْبَلِي أَوْ مَا لَمْ تَحِيضِي طُلِّقَتْ إِذَا لَمْ تَحْبَلْ في الحال أو تحيض، فإن كانت حبلى أو حائضاً طلقت، لأنه عَلَى حَبَلٍ وَحَيْضٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَبَلَهَا وَوَضَعَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَحَبَلٍ مُبْتَدَأٍ، وَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ حِينَ خَاطَبَهَا بِذَلِكَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لَهَا طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَبَلٍ اقْتَرَنَ بِلَفْظٍ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْدَاثِ مُبَاشِرَةٍ بَعْدَ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ حِينَ خَاطَبَهَا بِذَلِكَ مُبَاشِرًا لَهَا، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقَعُ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عُمُومٌ إِلَّا بِشَرْطٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ عَجَّلْتُهَا أَنْتِ طَالِقٌ تِلْكَ الطَّلْقَةَ السَّاعَةَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ تِلْكَ الطَّلْقَةَ تَتَعَجَّلُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَمْ تَتَعَجَّلْ وَلَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِمَجِيءِ الشَّهْرِ، وَلَا تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الشُّرُوطِ بَعْدَ عَقْدِهَا لَا يَجُوزُ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَعْجِيلَ طَلَاقِهَا فِي الْحَالِ بَدَلًا مِنَ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ بَدَأَ مِنَ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ الطَّلْقَةَ الْمُعَجَّلَةَ وَلَمْ تَكُنْ بَدَلًا مِنَ الطَّلْقَةِ الْمُؤَجَّلَةِ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ بِالشَّرْطِ أُخْرَى، لِأَنَّ إِبْطَالَ مَا قُيِّدَ بِالشَّرْطِ لَا يَجُوزُ، أَلَّا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: إِذَا كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَبْطَلْتُ هَذَا الشَّرْطَ لَمْ يَبْطُلْ وَطُلِّقَتْ فِي كَلِمَتِهِ، فَلَوْ قَالَ: إِذَا كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَبْطَلْتُ هَذَا الشَّرْطَ لَمْ يَبْطُلْ وَطُلِّقَتْ فِي كَلِمَتِهِ، فَلَوْ قَالَ: إِذَا كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ إِذَا كَلَّمْتِ عَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بِكَلَامِ زَيْدٍ وَاحِدَةً، وَطُلِّقَتْ بِكَلَامِ عَمْرٍو ثَانِيَةً، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي فَلَزِمَهُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ، وَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ:) وَقَدْ تُحْمَلُ الْأَيْمَانُ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْعُرْفِ، كَمَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى غَرِيمِهِ بِالطَّلَاقِ لَيَجُرَّنَّهُ عَلَى الشَّوْكِ، فَإِذَا مَطَلَهُ مَطْلًا بَعْدَ مَطْلٍ بَرَّ فِي يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ لَيَضْرِبَنَّهَا حَتَّى تَمُوتَ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا مُؤْلِمًا وَجِيعًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، إِذَا أَطْلَقَ الْيَمِينَ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، فَإِنْ أَرَادَهُ حُمِلَ عَلَيْهِ وَهَكَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ وَأَشْبَاهُهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، طُلِّقَتْ بِالْيَمِينِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهَا بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، وَسَوَاءٌ جَاءَ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ مُتَّصِلَةً بِالْيَمِينِ الْأُولَى أَوْ مُنْفَصْلةً عَنْهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتُكِ، ثُمَّ أَعَادَهَا وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتُكِ طُلِّقَتْ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهَا بِإِعَادَتِهَا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتُكِ فَاعْلَمِي ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: فَاعْلَمِي ذَلِكَ مُنْفَصْلا عَنْ يَمِينِهِ حَنِثَ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهَا، وَإِنْ قَالَهُ مُتَّصِلًا فَفِي حِنْثِهِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ مِنْ حَالَاتِ يَمِينِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ قَالَ لَهَا وَهُوَ يَأْكُلُ مَا يأتي عليه الإحصاء والعدد مثل النبق وَالرُّطَبِ، وَمَا يُلْقَى نَوَاهُ فِي نَهْرٍ أَوْ نَارٍ، أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ مَا أَكَلْتُ، فَمَخْرَجُهُ مِنَ الْحِنْثِ أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْعَدَدِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ أَقَلَّ مِنْهُ وَتَنْتَهِي إِلَى الْعَدَدِ الَّذِي تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَيَبَرُّ حِينَئِذٍ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهَا قَدِ اجْتَهَدَتْ فِي جُمْلَةِ الْأَعْدَادِ الَّتِي ذَكَرَتْهَا بِعَدَدِ مَا أَكَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا. مِثَالُهُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَلَمْ يَزِدْ مَا أَكَلَهُ عَلَى الْمِائَةِ، فَتَبْتَدِئُ بِالْعَشَرَةِ وَتَنْتَهِي إِلَى الْمِائَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ عَدَدَ الْمَأْكُولِ فِيهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا وَقَدْ أَكَلَتْ مَعَهُ رُطَبًا أَوْ نَبْقًا، وَاخْتَلَطَ نَوَى مَا أَكَلَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ تُمَيِّزِي نَوَى مَا أَكَلْتُهُ مِنْ نَوَى مَا أَكْلَتِيهِ فَمَخْرَجُهُ مِنْ يَمِينِهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ كُلِّ نَوَاةٍ وَبَيْنَ الْأُخْرَى لِتَكُونَ بَعِيدَةً مِنْهَا فَيَبَرَّ وَلَا يَحْنَثَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ فِي وَسَطِ دَرَجَةٍ فَصَعِدَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَصْعَدَ مَعَهُ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ آخَرُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَنْزِلَ مَعَهُ فَصَعِدَ مَعَ الَّذِي حَلَفَ أَنْ لَا يَنْزِلَ مَعَهُ وَنَزَلَ مَعَ الَّذِي حَلَفَ أَنْ لَا يَصْعَدَ مَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ وَهُوَ فِي وَسَطِ دَرَجَةٍ أَنْ لَا يَصْعَدَ مِنْهَا، وَأَنْ لَا يَنْزِلَ عَنْهَا وَلَا يَقْعُدَ عَلَيْهَا فَحَمَلَهُ حَامِلٌ فَصَعِدَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 (فَصْلٌ:) وَإِذَا اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِسَرِقَةٍ، وَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ لَمْ تَصْدُقِينِي هَلْ سَرَقْتِ أَمْ لَا؟ فَمَخْرَجُهُ يَقِينًا مِنْ يَمِينِهِ أَنْ تقول له سرقت، وتقول له ما سرقت فيتقين أَنَّهَا قَدْ صَدَقَتْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ وَاقِفًا فِي الْمَاءِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يُقِيمَ فِيهِ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا لَمْ يَحْنَثْ بِمُقَامِهِ وَلَا بِخُرُوجِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِجَرَيَانِهِ قَدْ مَضَى فَسَقَطَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَأَقَامَ فِيهِ (أو خرج منه حنث، ولو انتقل من موضع منه) إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ حَنِثَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَاءٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَالْجَارِي. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ، فَالنِّيَّةُ فِيهِ نِيَّةُ الْحَالِفِ دُونَ الْمُسْتَحْلِفِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ، فَإِنَّ النِّيَّةَ فِيهِ نِيَّةُ الْحَالِفِ كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا وَالْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا، كَالْحَالِفِ إِذَا كَانَ شَافِعِيًّا فَحَلَفَ أَنْ لَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ لِلْجَارِ أَوْ كَانَ حَنَفِيًّا فَحَلَفَ أَنْ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ لِلْمُدَبَّرِ، فَالنِّيَّةُ فِي الْيَمِينِ نِيَّةُ الْحَالِفِ دُونَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَحْلِفِ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا كَالشَّافِعِيِّ إِذَا حَلَفَ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ لِلْمُدَبَّرِ، وَالْحَنَفِيِّ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا شُفْعَةَ عَلَيْهِ لِلْجَارِ كَانَتِ النِّيَّةُ نِيَّةَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ فَكَأَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفَ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَحْدَهُ، فَأَمَّا إِذَا تَفَرَّدَ الْحَالِفُ بِالْيَمِينِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى نِيَّتِهِ إِذَا كَانَ مَا نَوَاهُ فِيهَا مُحْتَمَلًا. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ مَاضٍ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ، وَقَدْ فَعَلَهُ، وَنَوَى فِي يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ بِالصِّينِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ مُسْتَقْبَلٍ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَنَوَى فِي يَمِينِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ فِي الصِّينِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ حُمِلَ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ فَقَالَ: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ وَنَوَى نِسَاءَ قَرَابَتِهِ لَمْ تُطَلَّقْ نِسَاؤُهُ، وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى بَطْنِهَا، حُمِلَ عَلَى مَا نَوَى وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ فَقَالَ: نَعَمْ وَأَرَادَ نَعَمَ بَنِي فَلَانٍ كَانَ عَلَى مَا نَوَى فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِذَا حَلَفَ مَا كَاتَبْتُ فَلَانًا أَوْ لَا كَلَّمْتُهُ وَلَا رَأَيْتُهُ وَلَا عرفته ولا أعلمته ونوى بالمكاتبة عقد الكاتبة وَبُقُولِهِ: مَا رَأَيْتُهُ أَيْ مَا ضَرَبْتُ رُؤْيَتَهُ وَبِقَوْلِهِ مَا كَلَّمْتُهُ أَيْ مَا صرَخْتُهُ وَبِقَوْلِهِ: مَا عَرَّفْتُهُ أَيْ مَا جَعَلْتُهُ عَرِيفًا، وَبِقَوْلِهِ مَا أَعْلَمْتُهُ أَيْ مَا قَطَعْتُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا، حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَا نَوَى وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ فَقَالَ: مَا أُخَوِّفُ لَكَ جَمَلًا وَلَا بَقَرَةً وَلَا ثَوْرًا وَلَا عَنْزًا وَنَوَى بِالْجَمَلِ السَّحَابَ، وَبِالْبَقَرَةِ الْعِيَالَ، وَبِالثَّوْرِ الْقِطْعَةَ مِنَ الْأَقِطِ، وَبِالْعَنْزِ الْأَكَمَةَ السَّوْدَاءَ، حُمِلَ عَلَى مَا نَوَى وَلَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: مَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً وَنَوَى الْمَنِيَّ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَصَحَّ مَا نَوَاهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَشْبَاهِ الْمُشْتَرَكَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّوَصُّلَ إِلَى مَحْظُورٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62، 63] . قِيلَ: إِنَّهُ نَوَى إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَرُوِيَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ حَنْظَلَةَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَخُوهُ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْعَدُّوِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (صدقت المسلم أخو المسلم) وبالله التوفيق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 (مختصر من الرجعة من الجامع من كتاب الرجعة من الطلاق ومن أحكام القرآن ومن كتاب العدد ومن القديم) قال الشافعي: (قال الله تعالى في المطلقات {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وقال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} فَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ فَأَحَدُهُمَا مُقَارَبَةُ بُلُوغِ الْأَجَلِ فَلَهُ إِمْسَاكُهَا أَوْ تَرْكُهَا فَتُسَرَّحُ بِالطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا قَارَبَتِ الْبَلَدَ تُرِيدُهُ قَدْ بَلَغْتُ كَمَا تَقُولُ إِذَا بَلَغَتْهُ وَالْبُلُوغُ الْآخَرُ انْقِضَاءُ الْأَجَلِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ مَا شَاءَ ثُمَّ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ قُبَيْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهَا: لَا أُقَرِّبُكِ وَلَا تَختلِينَ مِنِّي، قَالَتْ لَهُ كَيْفَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ ثُمَّ أُطَلِّقُكِ فَإِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، قَالَ: فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأنزل الله تعالى: {الطلاق مرتان} الْآيَةَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ مُقَدَّرًا بِالثَّلَاثِ. رَوَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَأَيْنَ الثَّلَاثَةُ؟ قَالَ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . يَعْنِي الرَّجْعَةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. (أَوْ تسريح بإحسان) فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ رَجْعَتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. (وَالْإِحْسَانُ) . هُوَ تَأْدِيَةُ حَقِّهَا وَكَفُّ أَذَاهَا. وقال تعالى: {فإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارقوهن بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . يَعْنِي بِبُلُوغِ الْأَجَلِ مُقَارَبَتَهُ كَمَا يَقُولُ الْعَرْبُ: بَلَغْتُ بَلَدَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 كَذَا، إِذَا قَارَبْتُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَهُوَ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ العدة، أو يسرحخن بِمَعْرُوفٍ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ رَجَعَتْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] . يَعْنِي بِرَجْعَتِهِنِّ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ إِذَا كان دون الثلاث، {إن أرادوا إصلاحاً} يعني إن أراد البعولة إصلاحاً، مَا تَشَعَّثَ مِنَ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ بِمَا جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّلَاحَ فِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى، وَأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَرَادَ بِهَا صَلَاحَ دِينِهِ وَتَقْوَى رَبِّهِ، وَهُوَ قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى إِبَاحَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ، وَإِبْطَالِهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ وَإِبْطَالِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ رَافِعَةٌ لِتَحْرِيمِ الطَّلَاقِ. فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيِ الثَّلَاثِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . يَعْنِي رَجْعَةً فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الرَّجْعَةِ وَاخْتِيَارِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ احْتِرَازًا مِنَ النَّدَمِ فِي الثَّلَاثِ وَأَنَّ وُقُوعَهُ فِي أَقَرَاءِ الْعِدَّةِ أَفْضَلُ. وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الرَّجْعَةِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَلَّقَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ تَطْلِيقَةً فَأَتَاهَا خَالَاهَا قَدَامَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا طَلَّقَنِي عَنْ شِبَعٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَتَجَلْبَبَتْ. فَقَالَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فَقَالَ لِي رَاجِعْ حَفْصَةَ، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ) . وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِسَوْدَةَ: (اعْتَدِّي) فَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً فَجَلَسَتْ فِي طَرِيقِهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَمَا رجَّعْتَنِي وَاجْعَلْ نَصِيبِي مِنْكَ لَكَ تَجْعَلُهُ لِأَيِّ أَزْوَاجِكِ شِئْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ وَأَزْوَاجِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرَاجَعَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ (مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) . وَرُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَأَحْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالرَّجْعَةِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الرجعة بعد الطلاق فإن اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ عَقْدِ نِكَاحٍ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ حَلَالِهَا وَجَوَازِهَا مَعًا مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ جَمَعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ أَوْ فَرَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَتْ أَوْ بَعْدَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 23] وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَا رَجْعَةَ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالرَّجْعَةُ تُمْلَكُ فِي الْعِدَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {. . ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ خُلْعًا بَعِوَضٍ، فَلَا رَجْعَةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَلَا رَجْعَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2 ٍ] . وَالْمُرَادُ بِهِ مُقَارَبَةُ الْأَجَلِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَجَلِ، وإن كان لانقضاء المدة كما قال: {فإذا بلغن أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] . يُرِيدُ بِهِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِنَّ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَجَازًا أَنْ يُقَارِبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ كَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ الرَّجْعَةَ بِمُقَارَبَةِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهِيَ تَجُوزُ فِي أَوَّلِ الْعِدَّةِ، كَمَا تَجُوزُ فِي آخِرِهَا. وَهِيَ فِي أَوَّلِهَا أَوْلَى. قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا جَازَتْ فِي آخِرِ الْعِدَّةِ كَانَتْ بِالْجَوَازِ فِي أَوَّلِهَا أَوْلَى. وَالثَّانِي: لِيَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ فِي حَالِ الْإِضْرَارِ بِهَا، وَهُوَ أَنْ تَنْتَظِرَ بِهَا آخِرَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الرَّجْعَةُ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] . ثُمَّ قَدْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ قَصْدِ الإضرار فكان صحتها بِالْمَعْرُوفِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْإِضْرَارَ أَوْلَى فَإِذَا صَحَّتِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَأَوْجَبُهَا مِلْكًا فِي طَلَاقِ الْبِدْعَةِ وَقَدْ مضى الكلام معه. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلِلْعَبْدِ مِنَ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ مَا لِلْحُرِّ بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَةٌ أَوْ أَمَةٌ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ مَلَكَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَيُرَاجِعُ بَعْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَلَا يُرَاجِعُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَالْعَبْدُ يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ فَيُرَاجِعُ بَعْدَ الْأُولَى وَلَا يُرَاجِعُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَوْفِي بِالثَّانِيَةِ عَدَدَ طَلَاقِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ الْحُرُّ بَعْدَ الثَّالِثَةِ وَإِذَا افْتَرَقَا حُكْمُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ فِيهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ لَا بِحَالِ الزَّوْجَةِ فَيَتَمَلَّكُ الْحُرُّ ثَلَاثًا سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ وَيَمْلِكُ الْعَبْدُ طَلْقَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَيَكُونُ اعْتِبَارُهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالثَّوْرِيُّ: الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، فَالْحُرَّةُ تُمَلِّكُ زَوْجَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَالْأَمَةُ تُمَلِّكُ زَوْجَهَا طَلْقَتَيْنِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُرَّةُ لِقَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ عليهما مما افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَفْتَدِي نَفْسَهَا بِمَا شَاءَتْ، وَقَدْ جعل طلاقها ثلاثة ولم تفرق بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيهِمَا وَبِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أٍسلم عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ) فَجَعَلَ طَلَاقَهَا مُعْتَبَرًا بِهَا كَالْعِدَّةِ. وَلِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لِلنِّسَاءِ كَالْعِدَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَالُهُ وَنُقْصَانُهُ مُعْتَبَرًا بِالْمُوقَعِ عَلَيْهِ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُرُّ لِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] . وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْحُرِّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ قَدْ خَالَعَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ مِنْهُمَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى وَهُوَ عِلَّةُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ ذُو عَدَدٍ مَحْصُورٍ لِلزَّوْجِ إِزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهُ بِعِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كَمَالُهُ وَنُقْصَانُهُ بِالزَّوْجِ. أَصْلُهُ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ فَإِنَّ الْحُرَّ يَنْكِحُ أَرْبَعًا وَالْعَبْدَ اثْنَتَيْنِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 وَقَوْلُهُ: ذُو عَدَدٍ مَحْصُورٍ احْتِرَازًا مِنَ الْقَسْمِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ. وَقَوْلُهُ لِلزَّوْجِ إِزَالَةُ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ احْتِرَازًا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْمَقْذُوفَةِ وَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِأَصَحَّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ مَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ بِنِكَاحِهِ إِذَا اخْتَلَفَ عَدَدُهُ بَعْدَ حَصْرِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، أَصْلُهُ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ وَعِلَّةٌ أُخْرَى أَنَّهُ نَقْصٌ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجِ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَانَ مُعْتَبَرًا بِمَنْ يُبَاشِرُهُ كَالْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ زَوْجُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْحُرُّ إِنَّمَا يَنْكِحُهَا لِضَرُورَةٍ وَشَرْطٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِدَّةِ فَهُوَ مَا جَعَلْنَاهَا بِهِ أَصْلًا فِي وُجُوبِ اخْتِصَاصِهَا بِالْمُبَاشِرِ لَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُدُودِ فَهُوَ أَنَّهَا تَجِبُ عُقُوبَةً فَاخْتَصَّتْ بِالْفَاعِلِ لِسَبَبِهَا، وَالطَّلَاقُ مِلْكٌ فَاعْتُبِرَ بِهِ حَالُ مَالِكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَالْحُرُّ يَمْلِكُ رَجْعَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ، وَالْعَبْدُ يَمْلِكُ رَجْعَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا إِصْلَاحٌ ثَانٍ فِي الْعَقْدِ وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَالْقَوْلُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ قَوْلُهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُنَّ فِي ذَلِكَ أُمَنَاءَ وَحَظَرَ عَلَيْهِنَّ كَتْمَهُ، وَقَرَنَهُ بِوَعِيدِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . قِيلَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِنَّ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ إثم عليه} [البقرة: 283] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الشُّهُودِ مَقْبُولٌ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمُفْتِي: (مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يُحْسِنُهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 والثاني: بوضع الحمل. والثالث: بالشهود. فَإِنِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِيهِ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُطَلَّقَ فِي آخِرِ طُهْرِهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ لَحْظَةٌ، فَتَكُونُ تِلْكَ اللَّحْظَةُ قُرْءًا مُعْتَبَرًا بِهِ. ثُمَّ تَحِيضُ أَقَلَّ الْحَيْضِ يوم وَلَيْلَةً ثُمَّ تَطْهُرُ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً وقد حصل لها به قُرْءٌ ثَالِثٌ، فَإِذَا طَعَنَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بِدُخُولِ لَحْظَةٍ مِنْهَا، فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الطُّهْرِينَ وَهُمَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَبَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَهُمَا يَوْمَانِ وَثُلُثَانِ وَبَيْنَ اللَّحْظَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ غَيْرَ أَنَّ اللَّحْظَةَ الْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْعِدَّةِ وَاللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْعِدَّةِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فَصَارَتْ وَاجِبَةً فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا، فَهَذَا أَقَلُّ زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ تَنْقَضِيَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهَا أَقَلُّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِأَكْمَلِ الحيض، وهو عنده عشرة وأقل الظهر وهو خمسة عشرة يَوْمًا، وَأَنَّ الْأَقْرَاءَ عِنْدَهُ الْحَيْضُ فَتَمْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ حَيْضًا ثُمَّ خَمْسُونَ يَوْمًا حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: أَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ فِي أَوَّلِهِ طُهْرًا كَامِلًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَبِأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَحَدِهِمَا وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الآخر. وإذا كان كذلك لم يخلو حَالُهَا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ مِنْ أَنْ تَذْكُرَ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ أَوْ لَا تَذْكُرَ فَإِنْ ذَكَرَتْ عَادَتَهَا فِيهِمَا، وَأَنَّ حيضها عشرة أيام، وطهرها عشرين يَوْمًا سُئِلَتْ عَنْ طَلَاقِهَا هَلْ هُوَ صَادَفَ حَيْضَهَا أَوْ طُهْرَهَا فَإِنْ ذَكَرَتْ مُصَادَفَتَهُ لِأَحَدِهِمَا، سُئِلَتْ عَنْهُ هَلْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ، فَإِذَا ذَكَرَتْ أَحَدَهُمَا عُمِلَ عَلَيْهِ، وَتُظْهِرُ مَا يُوجِبُهُ حِسَابُ الْعَادَتَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ما ذكر لَهُ مِنْ حَيْضٍ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَوْ طُهْرٍ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ، فَإِنْ وَافَقَ مَا ذَكَرَتْهُ مِنَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَا أَوْجَبَهُ الْحِسَابُ مِنْ عَادَتِيِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ كَانَ مَا ذَكَرَتْهُ مَقْبُولًا بِغَيْرِ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ يُكَذِّبَهَا الزَّوْجُ فِي قَدْرِ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَتَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَتْهُ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَيَكُونَ لَهُ إِحْلَافُهَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فِيهِمَا فَلَسْنَا عَلَى قَطْعٍ بِصِحَّتِهِ، وَمَا قَالَهُ الزَّوْجُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا مُمْكِنَةٌ، فذلك كَانَ لَهُ إِحْلَافُهَا، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مَا ذَكَرَتْهُ مِنَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا أَوْجَبَهُ حِسَابُ الْعَادَتَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ إِقْرَارَهَا بِالْعَادَةِ قَدْ أَكْذَبَ دَعْوَاهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ سُئِلَتْ عَنْ طَلَاقِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 هَلْ كَانَ فِي الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ، فَإِنْ قَالَتْ كَانَ فِي الطُّهْرِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ. إِنْ كَانَتْ حُرَّةً عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ. لِأَنَّ عِدَّتَهَا قُرْءَانِ، فَكَأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي آخِرِ طُهْرِهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ لَحْظَةٌ فَتَكُونُ بَاقِيَةً قُرْءًا ثَالِثًا فَإِذَا دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ حَيْضِهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ اللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ قَالَتْ وَهِيَ حُرَّةٌ كَانَ طَلَاقِي فِي الْحَيْضِ فَأَقَلُّ مَا يَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا حُرَّةً سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ كَأَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي آخِرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ حَاضَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ دَخَلَتْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ حَيْضِهَا فَيَكُونُ يَوْمَانِ بِحَيْضَتَيْنِ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا لِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَلَحْظَتَانِ أَوَّلُهُ هِيَ مِنَ الْعِدَّةِ وَآخِرُهُ لَيْسَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ وَذَلِكَ حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ وَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْحُرَّةُ طَلَاقَهَا هَلْ كَانَ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الطُّهْرِ جُعِلَ أَمْرُهَا عَلَى أَقَلِّ الْحَالَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الطُّهْرِ فَتَنْقَضِيَ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا إِنْ أَكْذَبَهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ إِنْ حَلَفَتْ فَإِنْ تَكَلَّمَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَرَاجَعَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَقْبُولٌ مِنْهَا إِذَا كانت ممن يجوز أن تحيض وتطهر وَتَطْهُرَ بِكَوْنِهَا فَوْقَ التِّسْعِ سِنِينَ وَدُونَ حَدِّ الإياس. فإن كانت صغيرة أو ميؤسة لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ. (فَصْلٌ:) وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بَعْدَ طَلَاقِهَا قُبِلَ قَوْلُهَا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَجَاوَزَ التِّسْعَ سِنِينَ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَتَقْصُرُ عَنْ زَمَانِ الْإِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَالِ مَا وَضَعَتْ فَإِنْ كَانَ سَقَطًا مُصَوَّرًا لَمْ يُسْتَكْمَلْ فَأَقَلُّ مُدَّتِهِ أَنْ تَتَجَاوَزَ ثَمَانِينَ يَوْمًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا) ثُمَّ هُوَ بِانْتِقَالِهِ إِلَى المضغة بتصور خَلْقُهُ، وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَيَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا كَامِلًا فَأَقَلُّ مُدَّتِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَيَكُونُ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِي وِلَادَتِهِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَغَيْرَ مَقْبُولٍ فِي لُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ إِلَّا بِتَصْدِيقٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ فِي وِلَادَتِهِ، وَقَالَ اسْتَعَرْتِيهِ أَوِ اشْتَرَيْتِيهِ أَوِ الْتَقِطِيهِ وَقَالَتْ بَلْ وَلَدْتُهُ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ بَعْدَ إِحْلَافِهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي الْعِدَّةِ، وَلَمْ يُلْحَقْ بِالزَّوْجِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي لُحُوقِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَادَّعَتْ وِلَادَتَهُ مِنْ سَيِّدِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ وَلَا فِي لُحُوقِهِ بِالسَّيِّدِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ ادِّعَاءِ وِلَادَتِهِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُقْبَلُ وَبَيْنَ ادِّعَاءِ وِلَادَتِهِ فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَلَا يُقْبَلُ أَنَّ فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَرَفْعُ الْمِلْكِ مُسْتَقِرٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِدَّةُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَقْبَلَ قَوْلُهَا فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، أَنَّهَا مُؤْتَمَنَهٌ فِي الْعِدَّةِ، وَغَيْرُ مُؤْتَمَنَهٍ فِي لُحُوقِ النسب، فلو علق طلاقها بولاتها فَذَكَرَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ، فَفِي قَبُولِ قَوْلِهَا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ كَمَا يُقْبَلُ فِي حَيْضِهَا. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا يُمْكِنُهَا إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهَا إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحَيْضِ، فَصَارَ قَوْلُهَا فِي الْوِلَادَةِ مَقْبُولًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَغَيْرَ مَقْبُولٍ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَفِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَفِي قَبُولِهِ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَإِنِ اتَّفَقَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنِهِمَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ وَلِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ إِلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَاخْتَلَفَتْ وَالْوَرَثَةُ فِي وَقْتِ الْوَفَاةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْوَرَثَةِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهَا وُقُوعُ فُرْقَةٍ كَالطَّلَاقِ، وَالْوَرَثَةُ يَقُومُونَ فِيهَا مقام الموروث. فلوه ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ فِي شَوَّالٍ، وَادَّعَى الزَّوْجُ تَقْدِيمَهُ فِي رَمَضَانَ فَقَدِ ادَّعَتْ مَا هُوَ أَضَرُّ بِهَا فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَفِي قَبُولِ قَوْلِهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ، وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي اخْتَلَفَا فِيهَا مِنَ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ حَتَّى تُرَاجَعَ وَطَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ طَرِيقُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَسْكَنِهَا فَكَانَ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى كَرَاهِيَةَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا حَتَّى رَاجَعَهَا وَقَالَ عَطَاءٌ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَا يَرَاهَا فَضْلًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً، أو اثنتين بغير عوض، وهو مَدْخُولٌ بِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالنَّظَرِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَعَطَاءٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة وأصحابه: يحل له وطئها وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كَالزَّوْجَةِ بَلْ جَعَلَ وَطْأَهُ لَهَا رجعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 وَالْكَلَامُ فِي الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ يَأْتِي وَهُوَ مَقْصُورٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] فَسَمَّاهُ بَعْلًا دَلَالَةً عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالتَّبَعُّلِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَقَعُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَقَعَ بِهِ التَّحْرِيمُ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِبْطَالُهُ، وَلَهُ إِبْطَالُ الطلاق الرجعي. قال: ولأنها مدة مضروبة للترخص لَا تَمْنَعُ مِنَ اللِّعَانِ فَوَجَبَ أَلَّا تَقْتَضِيَ التحريم كمدة اللعنة وَالْإِيلَاءِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يُزَلْ بِهِ الْمِلْكُ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّحْرِيمُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَوِ اقْتَضَى التَّحْرِيمَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُرَاجِعَ إِلَّا بِعَقْدِ مُرَاضَاةٍ كَالْمُتَقَضِيَةِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لم يوطئها، وَلَمَا تَوَارَثَا بِالْمَوْتِ وَلَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، وَلَمَا صَحَّ مِنْهَا ظِهَارُهُ كَالْمَبْتُوتَةِ وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِبَاحَتِهَا كَالزَّوْجَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلك} : [الطلاق: 2] فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِالرَّجْعَةِ، ثم قال: {إذا أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِصْلَاحُ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْفَسَادِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَلَيْسَ فِي تَسْمِيَتِهِ بَعْلًا دَلِيلٌ عَلَى رَفْعِ التَّحْرِيمِ كَالْمُحَرَّمَةِ وَالْحَائِضِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمْرَ (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَهَا وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَمُرُّ عَلَى مَسْكَنِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ حَتَّى رَاجَعَ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً كَالْبَائِنِ. وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ يَمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا كَالْمُخْتَلِعَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى أَوْقَعَ الْفُرْقَةَ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَالْفَسْخِ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ مُضَادٌّ لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَلَّمَا كَانَ كُلُّ نِكَاحٍ إِذَا صَحَّ أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ طَلَاقٍ إِذَا وَقَعَ أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ جَعَلْنَاهَا دَلِيلًا. وَأَمَّا الْجَوَابَ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى قَوْلِهِ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا فَلَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ ثَلَاثًا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهَا؛ لِعَدَمِ وُقُوعِهَا وَهَذِهِ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَثَبَتَ تَحْرِيمُهَا كَالْبَائِنِ بِثَلَاثٍ أَوْ دونها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُدَّةٌ لَمْ تَقَعْ بِهَا الْفُرْقَةُ وَمُدَّةُ الْعِدَّةِ قَدْ وَقَعَتْ بِهَا الْفُرْقَةُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَّا بِانْقِضَائِهِ عَلَى أَصَحِّ أَقَاوِيلِهِ وَلِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ قَدْ رَفَعَهُ، وَالرَّجْعَةُ لَا تَرْفَعُ الطَّلَاقَ وَإِنَّمَا تَرْفَعُ حُكْمَهُ، وَلَا حُكْمَ لَهُ إِلَّا التَّحْرِيمُ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ مَا تَفَرَّدَ بِاسْتِصْلَاحٍ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَقْدِ مُرَاضَاةٍ لَمْ يُوجِبِ التَّحْرِيمَ فَبَاطِلٌ بِالزَّوْجَيْنِ الْحُرَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا كَانَ التَّحْرِيمُ وَاقِعًا، وَإِنِ ارْتَفَعَ بِإِسْلَامِ المتأخر منهما. وأما استدلالهم بأن أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ مَنَعَ الْإِرْثَ، وَأَوْجَبَ الْحَدَّ فَبَاطِلٌ بالحيض والإحرام والظهار. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ إِلَّا بِكَلَامٍ فَلَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِكَلَامٍ) . قَالَ المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِكَلَامٍ مِنَ النَّاطِقِ وَبِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ، وَلَا تَصِحُّ بِالْفِعْلِ مِنَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ كَالْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ حَتَّى لَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ نَوَى بِالْوَطْءِ الرَّجْعَةَ صَحَّتْ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تَصِحَّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَالرَّدُّ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَلِأَنَهَا مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ لِلْفُرْقَةِ فَصَحَّ رَفْعُهَا بِالْفِعْلِ كَالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ. وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ تُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَصَحَّ رَفْعُهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْوَطْءِ أَبْلَغُ فِي الْإِبَاحَةِ مِنَ الْقَوْلِ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِوَطْءِ زَوْجٍ، فَلَمَّا اسْتُبِيحَتِ الْمُرْتَجَعَةُ بِالْقَوْلِ فَأَوْلَى أَنْ يستباح بِالْفِعْلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَكَانَ فِي الْآيَةِ دَلِيلَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 أحدهما: قوله {فأمسكوهن بمعروف} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ الِامْتِلَاكِ يَكُونُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ. وَالثَّانِي: أَمْرُهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ، إِمَّا واجب على القديم، أو ندباً عَلَى الْجَدِيدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى وَجْهٍ تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ، وَالْوَطْءُ مِمَّا لَمْ تَجُزْ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عَادَةً، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْعَةِ قَبْلَ إِمْسَاكِهَا، وَإِلَّا يَكُونُ إِمْسَاكُهَا رَجْعَةً وَلِأَنَّهُ رفع الحكم طَلَاقِهِ فَلَمْ يَتِمَّ إِلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَالْبَائِنِ، وَلِأَنَّهَا حَادِثَةٌ فِي فُرْقَةٍ فَلَا يَصِحُّ إِمْسَاكُهَا بِالْوَطْءِ كَالزَّوْجَيْنِ الْحُرَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ فَلَمْ تَصِحَّ بِهِ الرَّجْعَةُ كَالْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَلِأَنَّ مَا كَمُلَ بِهِ الْمَهْرُ لَمْ تَصِحَّ بِهِ الرَّجْعَةُ، كَالْخَلْوَةِ. وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَنِ الْوَطْءِ فَاسْتَحَالَ أَنْ تَنْقَطِعَ الْعِدَّةُ بِالْوَطْءِ، لِأَنَّ مَا يُوجِبُ الشَّيْءَ لَا يَقْطَعُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يُقْطَعَ العقد. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُشَاهَدٍ، وَحُكْمٍ فَرَدُّ الْمُشَاهَدَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفِعْلِ كَالْوَدِيعَةِ، وَرَدُّ حُكْمٍ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ: رَدَدْتُ فُلَانًا إِلَى حِزْبِي أَوْ إِلَى مَوَدَّتِي، وَرَدُّ الرَّجْعَةِ حُكْمٌ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْقَوْلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَضْرُوبَةٍ فِي الْإِيلَاءِ، وَالْعُنَّةِ لِلْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَضْرُوبَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْمُدَّةَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ غَيْرُ مَضْرُوبَةٍ لِلْفُرْقَةِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَسْلَمْ وَصْفُ الْعِلَّةِ فِي أَصْلِهِ وَفَرْعِهَا، ثُمَّ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِالْقَوْلِ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَتْ بِالْوَطْءِ، وَهَذِهِ لَمَّا ارْتَفَعَتْ بِالْقَوْلِ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْوَطْءِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ مِلْكٍ وَاسْتِعَادَةُ مِلْكٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّجْعَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأْثِيرِ الْوَطْءِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَطْءَ إِنَّمَا هُوَ تَمْلِيكٌ لَا يُوجِبُ اسْتِيفَاءَ نِكَاحٍ وَلَا تَجْدِيدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ فِي الرَّجْعَةِ مُوجِبًا اسْتِيفَاءَ نِكَاحٍ كَمَا لم يوجب تجديده. (مسألة:) قال الشافعي: (وَالْكَلَامُ بِهَا أَنْ يَقُولَ قَدْ رَاجَعْتُهَا أَوِ ارْتَجَعْتُهَا أَوْ رَدَدْتُهَا إِلَيَّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِالْكَلَامِ اخْتُصَّتْ بِالتَّصْرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ، وَلِلتَّصْرِيحِ فِي الرَّجْعَةِ لَفْظَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: رَاجَعْتُكِ أَوِ ارْتَجَعْتُكِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 الثَّانِيَةُ: رَدَدْتُكِ أَوِ ارْتَدَدْتُكِ فَصَرِيحٌ بِالْكِتَابِ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَأَمَّا رَاجَعْتُكِ فَصَرِيحٌ بِالسُّنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) . ثُمَّ الْعُرْفُ الْجَارِي بِهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ: (رَاجَعْتُكِ) أَنَهُ صَرِيحٌ، وَأَمَّا رَدَدْتُكِ فَقَدَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (الْأُمِّ) عَلَى أَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَمْ يَذَكُرْهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ، فَوِهَمَ الرَّبِيعُ فَخَرَّجَ مِنْهُ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ لَا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ، لِإِخْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِذِكْرِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ، وَقَدْ أَنْكَرَ تَحْرِيمَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ أَمْسَكْتُكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَكُونُ صَرِيحًا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، أَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهَا كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بمعروف} . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا كِنَايَةٌ لَا تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَمْسَكْتُكِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وَبَيْنَ رَاجَعْتُكِ وَرَدَدْتُكِ حَيْثُ كَانَ صَرِيحًا أَنَّ الْمُطْلَقَةَ مُرْسَلَةٌ مُخَلَّاةٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لِمَا خَرَجَ عَنِ الْيَدِ إِذَا أُعِيدَ إِلَيْهَا، قَدِ ارْتَجَعْتُهُ فَرَدَدْتُهُ، وَلَا تَقُولُ أَمْسَكْتُهُ إِلَّا لِمَا كَانَ فِي الْيَدِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا، فَلِذَلِكَ ما افْتَرَقَا فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ. فَأَمَّا إِذَا رَاجَعَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مِثْلَ: قَدْ تَزَوَّجْتُهَا أَوْ نَكَحْتُهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ أَغْلَظُ الْعَقْدَيْنِ كَانَ أَخَفُّهُمَا لَهُ أَصَحَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ كُلِّ عَقْدٍ إِذَا نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ، صَارَ كِنَايَةً فِيهِ كَصَرِيحِ الْبَيْعِ فِي النِّكَاحِ، وَصَرِيحِ الطَّلَاقِ فِي الْعِتْقِ، وَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ، وَلَيْسَ إِذَا انْعَقَدَ الْأَقْوَى بِلَفْظٍ كَانَ صَرِيحًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْأَضْعَفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ أَقْوَى لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ. فَصْلٌ: : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنَّ صَرِيحَ الرَّجْعَةِ لَفْظَتَانِ: رَاجَعْتُكِ أَوْ رَدَدْتُكِ. فَالْأَوْلَى أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُكِ إِلَى النِّكَاحِ، أَوْ يَقُولَ رَاجَعْتُكِ مِنَ الطَّلَاقِ هَذَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً ذَكَرَ اسْمَهَا فَقَالَ: رَاجَعْتُ امْرَأَتَيْ فلانة أو زوجتي فلانة؛ لأن الرجعية زَوْجَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، فَإِنْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ أَوْ رَدَدْتُكِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَى النِّكَاحِ أَوْ مِنَ الطَّلَاقِ صَحَّ وَتَمَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ طَلَاقٍ وَإِلَى نِكَاحٍ، وإن لم يذكر اسمها مع الغيبية، وَقَالَ: رَاجَعْتُهَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا نَدْبٌ وَلَمْ تَصِحَّ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ وَاجِبَةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَلَفَّظَ بِالرَّجْعَةِ صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ رَاجَعْتُكِ بِالْمَحَبَّةِ أَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ مِنَ الْأَذَى صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ قَالَ: رَاجَعْتُ مَحَبَّتَكِ أَوْ رَاجَعْتُ بغضك لم تصح الرجعة؛ لأن الرجعة ها هنا إِلَى الْمَحَبَّةِ، وَهُنَاكَ إِلَى النِّكَاحِ، لِأَجْلِ الْمَحَبَّةِ، وَلَوْ قَالَ: قَدِ اخْتَرْتُ رَجْعَتَكِ أَوْ قَالَ: شِئْتُ رَجْعَتَكِ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَارَ أَوْ شَاءَ أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَجْعَةً؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِرَادَتِهِ لَا عَنْ رَجْعَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ لِذَلِكَ الرَّجْعَةَ فِي الْحَالِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ بِذَلِكَ عَقْدَهَا فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الرَّجْعَةِ أَوْكَدُ فِي صِحَّتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يصح؛ لأنه لما صار محتملاً يُسْأَلَ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّصْرِيحِ إِلَى الْكِنَايَةِ، وَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ؛ وَعَلَى هَذَا لَوْ نَكَحَهَا بَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا، وَهَلْ يَكُونُ رَجْعَةً أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهَا عَقْدٌ قَدْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، وَالْعُقُودُ إِذَا عُلِّقَتْ بِشُرُوطٍ مُتَرَتِّبَةٍ، لَمْ تَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ إِنْ جَاءَ الْمَطَرُ أَوْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ إِذَا جَاءَ غَدٌ أَوْ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِمُدَّةٍ مُنْتَظَرَةٍ. فَإِنْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ أَمْسَ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِقْرَارَ بِهَا عَنْ رَجْعَةٍ كَانَتْ مِنْهُ بِالْأَمْسِ فَيَكُونَ إِقْرَارًا بِالرَّجْعَةِ، وَلَا يَكُونَ فِي نَفْسِهِ رَجْعَةً، وَلَوْ قَالَ لَهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مُوجِبِهَا مِنَ الطلاق حتى تستأنفها بعد الطلاق، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (فَإِنْ جَامَعَهَا يَنْوِي الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَنْوِيهَا فَهُوَ جِمَاعُ شُبْهَةٍ وَيُعَزَّرَانِ إِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ وَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَوْ كَانَتِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَصَابَهَا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ الثَّالِثَةَ فَهِيَ رَجْعَةٌ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهَا فَلَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ وَقَدِ انْقَضَتْ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الْعِدَّةُ وَلَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ مَسَّهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَوْ كَلَّمَهَا يَنْوِي الرَّجْعَةَ، أَرَادَ بِهِ مَالِكًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا أَوْ لم ينو بها أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، لَا اخْتِلَافَ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 إِبَاحَتِهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالْوَلَدِ فَأَمَّا الْحَدُّ فَلَا يَجِبُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَطْءٌ مُخْتَلَفٌ فِي إِبَاحَتِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ لِتَوَارُثِهِمَا وَإِنْ حُرِّمَ وَطْؤُهَا كَالْمُحْرِمَةِ وَالْحَائِضِ. وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الشُّبْهَةُ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ فَأَوْلَى أَنْ تُسْقِطَ التَّعْزِيرَ، وَإِنِ اعْتَقَدَا تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يَجْهَلَاهُ عُزِّرَا فَإِنِ اعْتَقَدَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ عُزِّرَ الْعَالِمُ مِنْهُمَا دُونَ الْجَاهِلِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَطْءِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ فَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْبَيْنُونَةِ فَأَشْبَهَ وَطْءَ زَوْجَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ فِي عِدَّتِهَا، وَوَطْءَ مِنْ أَسْلَمَ عَنْ دِينِهِ فِي عدتها يلزمها مَهْرُ الْمِثْلِ بِوَطْئِهَا؛ لِأَنَّهُمَا وَطِئَا مَنْ هِيَ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِوَطْئِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ أَنْ يُرَاجِعَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ، وَإِنْ رَاجَعَ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُهْرَ لَا يَسْقُطُ الرجعة وَقَالَ فِي وَطْءِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، إِنَّ الْمُهْرَ يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ يَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ وَبِإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِالرَّجْعَةِ وَالْإِسْلَامِ تَكُونُ مَعَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُبْ فِيهِ مَهْرَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمَهْرَ لَا يَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا بِإِسْلَامِ الْمُرْتَدَّةِ وَلَا الْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ بِالْوَطْءِ فَلَمْ يَسْقُطْ معه الوجوب كما لو لم يرتجع وَلَمْ يُسْلِمْ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَسْقُطُ وَطْءُ الْمُطَلَّقَةِ بِالرَّجْعَةِ، وَيَسْقُطُ وَطْءُ الْمُرْتَدَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَرْفَعُ مَا وَقَعَ مِنَ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّهَا تَكُونُ مَعَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الرِّدَّةِ وَالشِّرْكَ، وَيَكُونُ مَعَهُ بِعَدَدِ الطَّلَاقِ الَّذِي مَلَكَهُ بِالنِّكَاحِ، فَصَارَ الطَّلَاقُ خَارِمًا لِلنِّكَاحِ، وَالرِّدَّةُ لَمْ تَخْرِمْهُ. وَأَمَا الْعِدَّةُ فَوَاجِبَةٌ بِهَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ فَاشْتَبَهَ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشُبْهَةٍ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ بَعْدَ هَذَا الْوَطْءِ، إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ نَائِيًا عَنِ الْعِدَّةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مُخْتَصًّا بِعِدَّةِ الْوَطْءِ. مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ قُرْأَيْنِ مِنْ عِدَّتِهَا، وَبَقِيَ مِنْهَا قُرْءٌ فَتَأْتِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءٌ عَنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَطْءِ، لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَتَا، وَإِنَّمَا لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ إِذَا كَانَتَا فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ، وَيَكُونُ الْقُرْءَانِ الْبَاقِيَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ دُونَ الطَّلَاقِ وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ مِنْ بَائِنٍ لَكِنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَائِهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَيْهَا لِحِفْظِ مَاءٍ مُسْتَحَقٍّ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ كَانَ مَاؤُهُ مَحْفُوظًا فَجَازَ، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ كَانَ مُضَاعًا فَلَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَا حَقَّ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ بِالْعَقْدِ، وَفِرَاشٌ بِمَا اسْتُحْدِثَ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْوَطْءِ انْقَضَتْ بِهِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ، فَلَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ عِدَّةُ الْوَطْءِ، وَاسْتَقْبَلَتْ جَمِيعَ أَقْرَائِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْرَائِهَا كَانَ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّتَانِ مَعًا، وَكَانَ عَلَى رَجْعِيَّتِهِ مَا لَمْ تَضَعْ سَوَاءٌ حَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ أَوْ لَمْ تَحِضْ؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا عَلَى الْحَمْلِ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْأَقْرَاءِ وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيْضِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ فَنِكَاحُهَا مَفْسُوخٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ كَانَ مَسَّهَا وَهِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ (قال الشافعي) رحمه الله وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُ الْآخَرِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ بِغَيْرِ عِلْمِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ رِضَاهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا فِي رَفْعِهِ كَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ رضاها معتبراً بما ذكرنا فعلمها وغير معتبر كالطلاق، لأن إعلانها مقصود به الرضا قثبت بذلك أن الرجعة بعلمها وغير علمها، ومعه حُضُورِهَا وَغَيْبَتِهَا جَائِزَةٌ، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَغَابَ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَدِمَ الزَّوْجُ فَادَّعَى أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالٌ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجْعَتِهِ، وَحَالٌ يُعْدَمُهَا، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ كَانَ نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا كَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الثَّانِي كَمَا قَالَ فِي الْوَلِيَّيْنِ إِذَا زَوَّجَا امْرَأَةً، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ) وَلِأَنَّ وَطْءَ الثَّانِي حَرَامٌ، وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لَا يُفْسِدُ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَلَا يُصَحِّحُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْوَطْءِ، وَفُضِّلَ الْأَوَّلُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِمَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَهِيَ أَحَدُ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالْقِيَاسُ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ بَعْدَ ثُبُوتِ رَجْعَتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَتَحِلُّ أَصَابَتُهَا لِلْأَوَّلِ فِي الْحَالِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ مِنْ إِصَابَتِهِ وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمُسَمَّى، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا من الثاني؛ لأنها معتدة في غَيْرِهِ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَا عَلَى الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهَا فَإِنْ قَضَتْ عِدَّتَهَا مِنَ الثاني عادة إِلَى إِبَاحَةِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ عُدِمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجْعَتِهِ فَدَعَوَاهُ مَسْمُوعَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ وَعَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا خَصْمٌ لَهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُدَّعَاةٌ، وَالزَّوْجَ الثَّانِي مُتَمَلِّكٌ، فلذلك صار فِيهَا خَصْمَيْنِ لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَى الرَّجْعَةِ فَيَبْطُلَ نِكَاحُ الثَّانِي. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا حَدَّ، وَعَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بِنِكَاحِهِ الْأَوَّلِ، وَحَلَّ له وطئها فِي الْحَالِ. وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِالرَّجْعَةِ فَهُمَا زَانِيَانِ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِ وَهِيَ حَلَالٌ لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عِدَّةٍ وَلَوْ تَوَقَّفَ عَنْ إِصَابَتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَلَا حَرَجَ كَمَا لَوْ زَنَتْ تَحْتَهُ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِالرَّجْعَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِلشُّبْهَةِ، وَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنَ الثَّانِي، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ نُظِرَ فِيهِ، وَكَانَتْ حَالُهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فِي طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَهَذَا لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنَ الثَّانِي وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ مِنْ إِصَابَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِوِلَادَتِهِ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَهَذَا لَاحِقٌ بالثاني وتنقضي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 عدتها منه بوضعه ويعود إِلَى إِبَاحَةِ الْأَوَّلِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَلَّا يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي، فَلَا يُلْحَقُ بِالثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مِنْ إِصَابَتِهِ وَلَا بِالْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ عُلُوقِهِ قَبْلَ طَلَاقِهِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ إِضَافَةِ الثَّانِي بِالْأَقْرَاءِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَيُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ فَإِذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ، وَكَانَ الْجَوَابُ فِيهِ على ما مضى فهذا إذا كان جاهلين بالرجعة فإذا كَانَ الزَّوْجُ جَاهِلًا بِهَا وَالزَّوْجَةُ عَالِمَةً بِهِ حُدَّتْ دُونَهُ، وَلَا مَهْرَ لَهَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ، وَلُحُوقُ الْوَلَدِ بِهِ لَوْ أَمْكَنَ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ جَاهِلَةً بِهَا وَالزَّوْجُ عَالِمًا حُدَّ دُونَهَا، وَلَهَا الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّوْجِ وَنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ فَهَذَا حُكْمُ الْحَالِ الْأَوَّلِ إِذَا صَدَّقَاهُ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَاهُ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ، فلم يقبل دَعْوَى الْأَوَّلِ فِي إِحْدَاثِ الرَّجْعَةِ وَإِبْطَالِ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيبَا إِلَى الْيَمِينِ فَيَحْلِفَ الزَّوْجُ الثَّانِي لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَهَلْ تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ بَعْدَ يَمِينِ الثَّانِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَحْلِفُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ يُوضَعُ زَجْرًا لِيَرْجِعَ الْحَالِفُ فَتقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى، وَهَذِهِ لَوْ رَجَعَتْ لَمْ يُقْضَ لِلْأَوَّلِ بِهَا بَعْدَ يَمِينِ الثَّانِي، فَلَمْ يَكُنْ لِتَمَيُّزِ الزَّوْجَةٍ مَعْنًى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْلِفُ، حَتَّى إِنْ نَكَلَتْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ حُكِمَ بِأَنَّهَا زَوْجَةٌ لِلثَّانِي. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْكُلَا جَمِيعًا عَنِ الْيَمِينِ، وَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالزَّوْجَةِ، وَهَلْ يَجْرِي يَمِينُهُ بَعْدَ نُكُولِهِمَا مَجْرَى الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يُصِبْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ أَصَابَ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُسَمَّى. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى النِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يُصِبْ فَلَا شَيْءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصَابَ فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ وَالْوَلَدِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ الثَّانِي وَتَنْكُلَ هِيَ عَنِ الْيَمِينِ، فَيُحْكَمَ بِهَا زَوْجَةً لِلثَّانِي بِيَمِينِهِ، وَهَلْ يَكُونُ لِنُكُولِهَا تَأْثِيرٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَجِبُ، لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُقْضَ لَهُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَجِبُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا حَلَفَ قُضِيَ لَهُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَحْلِفَ الزَّوْجَةُ وَيَنْكُلَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَنِ الْيَمِينِ، فَتَكُونَ زَوْجَةً لِلثَّانِي لِسُقُوطِ حَقِّ الْأَوَّلِ بِيَمِينِهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ نُكُولُ الثَّانِي فِي سُقُوطِ حَقِّ الْأَوَّلِ فَهَذَا حُكْمُ الْحَالِ الثَّانِيَةِ إِنْ أَكْذَبَاهُ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُصَدِّقَهُ الزَّوْجَةُ وَيُكَذِّبَهُ الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ وَلَا تُصَدَّقُ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ فِي إِبْطَالِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ حَلَفَ الثَّانِي كَانَتْ زَوْجَتَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَلْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ: فِيمَنْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهَا قَدْ فَوَّتَتْ بُضْعَهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحِ الثَّانِي فَصَارَ كَمَا لَوْ فَوَّتَتْهُ بِرِضَاعٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا مَهْرَ لَهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا قَدْ أَقَرَّتْ لَهُ بِمَا لَزِمَهُ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ صَرَفَهُ عَنْهَا، فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بِالتَّصْدِيقِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ نَكَلَ كَانَتْ زَوْجَةَ الثَّانِي وَعَلَى نِكَاحِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهَا بِالنُّكُولِ فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهَا الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصَدِّقَهُ الزَّوْجُ الثَّانِي، وَتُكَذِّبَهُ الزَّوْجَةُ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الثَّانِي بِتَصْدِيقِهِ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِفَسَادِهِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي سُقُوطِ مَهْرِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِصَابَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ، ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لَا يَخْتَلِفُ فِي إِبْطَالِ رَجْعَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَفَتْ فَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا لِلْأَوَّلِ، وَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ، وَخَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالرَّجْعَةِ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةً، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَقَدْ أُسْقِطَ حَقُّهُ بِنُكُولِهِ والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوِ ارْتَجَعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ فَهِيَ رَجْعَةٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا الرَّجْعَةُ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ، وَلَا إِلَى قَبُولِ الزَّوْجَةِ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى شَهَادَةٍ وَيَكُونُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّ الشَّهَادَةَ فِي الرَّجْعَةِ وَاجِبَةٌ مَعَ التَّلَفُّظِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ كَانَتِ الرَّجْعَةُ بَاطِلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . فَهَذَا أَمْرٌ فَاقْتَضَى الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ بُضْعُ الْحُرَّةِ، فَوَجَبَ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالنِّكَاحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا شُرُوطُ النِّكَاحِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْوَلِيِّ وَالْقَبُولِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الشَّهَادَةُ. وَلِأَنَّهَا رَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ. وَلِأَنَّ الْبَيْعَ أَوْكَدُ مِنْهَا لِاعْتِبَارِ الْقَوْلِ فِيهِ دُونَهَا، ثُمَّ لَمْ تَجِبِ الشَّهَادَةُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ بِأَنْ لَا تَجِبَ لِاعْتِبَارِ الْقَبُولِ فِيهِ دُونَهَا ثُمَّ لَمْ تَجِبِ الشَّهَادَةُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ أَنْ لَا تَجِبَ فِي الرَّجْعَةِ أَوْلَى. فَأَمَّا قَوْله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَعَلَى الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ فارقوهن بمعروف} ثُمَّ لَمْ تَجِبْ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ فَكَانَ بِأَنْ لَا تَجِبَ فِي الرَّجْعَةِ لَبُعْدِهَا أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا نَدْبًا إِنْ لَمْ تُشْهِدْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَهَلْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهَا أم لا؟ على وجهين. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ قَدْ رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ وَقَالَتْ بَعْدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ فَقَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ، وَقَالَتْ: لَمْ تُرَاجِعْنِي فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهَا حَالٌ تُمْلَكُ فِيهَا الرَّجْعَةُ فَمِلْكُ الْإِقْرَارِ فِيهَا بِالرَّجْعَةِ كَالطَّلَاقِ، وَإِذَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الرجعة لما جوزت لَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهَا صَارَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِحْلَافُهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 حُقُّ الزَّوْجَةِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ بِالرَّجْعَةِ، لِأَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ إِقْرَارِهِ بِهَا فَطَالَبَتْهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَجْلِ وَطْئِهِ فَأَنْكَرَ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِمَا أَقَرَّ مِنَ الرجعة قبل وطئه أحلف عَلَى رَجْعَتِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ دَعْوَاهَا بِإِنْكَارِهِ. فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا يَخْلُو إِنْكَارُهَا لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَجْحَدَهُ الرَّجْعَةَ، وَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ بِهَا وَتَدَّعِيَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ قَبْلَهَا، فَإِنْ جَحَدَتْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَاجَعَهَا قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فِي الظَّاهِرِ بِالطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَمْ يُقْبَلْ دَعْوَى الزَّوْجِ فِيمَا يُخَالِفُهُ مَعَ بَقَاءِ عِصْمَتِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ لَهُ بِالرَّجْعَةِ إِلَّا أَنَّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ فِي الْعِدَّةِ، وَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَلَا رَجْعَةَ، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ بعد تقدم إسلام الزوجة، ثم اختلف فَقَالَ: أَسْلَمْتِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ فَنَحْنُ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ أَسْلَمْتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فِي تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الرَّجْعَةِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمٌ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا دُونَهُ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُتَعَذَّرٌ وَإِقَامَتَهَا عَلَى الرَّجْعَةِ مُمْكِنَةٌ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَقَدُّمِ الرَّجْعَةِ لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ مِنْ جِهَتِهَا وَإِمْكَانِهَا مِنْ جِهَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي تَقَدُّمِ الرَّجْعَةِ دُونَهَا، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ مِنْ فِعْلِهِ وَصَادِرَةٌ عَنِ اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ مَنْ فِعْلِهَا وَلَا صَادِرَةً عَنِ اخْتِيَارِهَا فَكَانَ قَوْلُهُ فِيهَا أَمْضَى وَدَعَوَاهُ فِيهَا أَقْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مِنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى فَإِنْ سَبَقَتِ الزَّوْجَةُ بِأَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ وَاسْتَقَرَّ قَوْلُهَا فِي الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ جَاءَ الزَّوْجُ يَدَّعِي تَقَدُّمَ الرَّجْعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا بِاللَّهِ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ تَقَدُّمَ الرَّجْعَةِ، فَيَكُونُ يَمِينُهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، وَإِنْ سَبَقَ دَعْوَى الزَّوْجِ بِأَنَّهُ قَدْ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ فِي الرَّجْعَةِ ثُمَّ جَاءَتِ الزَّوْجَةُ فَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا قَبْلَ رَجْعَتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ فِيمَا سَبَقَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 بِهِ الدَّعْوَى، فَلَمْ تَبْطُلْ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الدَّعْوَى كَاخْتِلَافِ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ بَعْدَ بَيْعِ الْوَكِيلِ هَلْ كَانَ بَيْعُهُ قَبْلَ فَسْخِ الْوَكَالَةِ فَيَصِحَّ، أَوْ بَعْدَ فَسْخِهَا فَيَبْطُلَ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَسْبَقِهِمَا قَوْلًا، فَإِنْ بَدَأَ الْوَكِيلُ فَقَالَ: قَدْ بِعْتُ السِّلْعَةَ بِوَكَالَتِكَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ قَدْ فَسَخْتُ وكالتك قبل بيعك أن القول قول قَوْلُهُ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ كَانَ فِي حَالِ الْوَكَالَةِ فَصَارَ مَقْبُولًا عَلَى مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ سَبَقَ الْمُوَكِّلُ فَقَالَ: فَسَخْتُ وَكَالَتَكَ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ بِعْتُ قَبْلَ فَسْخِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْوَكَالَةِ بِفَسْخِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بَعْدَ فَسْخِ وَكَالَتِهِ كَذَلِكَ حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا فِي تَقَدُّمِ الرَّجْعَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِأَسْبَقِهِمَا قَوْلًا إِذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِإِنْكَارٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِإِنْكَارٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَعَهُ حُكْمُ السَّبْقِ، إِمَّا بِأَنْ تَبْدَأَ الزَّوْجَةُ فَتَقُولَ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَيَقُولَ الزَّوْجُ جَوَابًا لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ، أَوْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ فَيَقُولَ: قَدْ رَاجَعْتُكِ فِي عِدَّتِكِ، فَتَقُولَ الزَّوْجَةُ جَوَابًا لَهُ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ، فَيَكُونَا فِي حُكْمِ الدَّعْوَى سَوَاءً، وَلَا يَقْوَى قَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى إِذَا أُجِيبَتْ بِالْإِنْكَارِ، لِأَنَّ حُكْمَ قوله لم يستقر، وإذا كان كَذَلِكَ صَارَا فِيهَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَالْقَوْلُ حِينَئِذٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَعْنَيَيْنِ يَرْجِعُ بِهِمَا قَوْلُهُمَا إِنَّهَا جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ وَأَنَّ قَوْلَهَا فِي حَيْضِهَا مَقْبُولٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ وَاخْتَارَهُ الدَّارَكِيُّ أَنَّهُمَا إِنِ اتَّفَقَا فِي وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الرَّجْعَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: رَاجَعْتُكِ فِي شَعْبَانَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي رَمَضَانَ، وَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي رَمَضَانَ وَرَاجَعْتَنِي فِي شَوَّالٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الرَّجْعَةِ دُونَ الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ مِنْ فِعْلِهِ دُونَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ رَجْعَتَهُ لَا عَلَى تَأْخِيرٍ عِدَّتِهَا، لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَهِيَ الرَّجْعَةُ دُونَ الْعِدَّةِ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاجَعْتُكِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ، فَتَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّهَا يَمِينُ إِثْبَاتٍ. وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الرَّجْعَةِ، وَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ انْقِضَاءِ العدة، وكأنها قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي فِي شَعْبَانَ وَرَاجَعْتَنِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: رَاجَعْتُكِ فِي رَمَضَانَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُكِ فِي شَوَّالٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهُ حَلَفَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا فِي وَقْتِ الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى عِدَّتِهَا فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبَلَ رَجْعَتِكَ عَلَى الْقِطَعِ، لِأَنَّهَا يَمِينُ إثبات والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ قَدْ أَصَبْتُكِ وَقَالَتْ لَمْ يُصِبْنِي فَلَا رَجْعَةَ وَلَوْ قَالَتْ أَصَابَنِي وَأَنْكَرَ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا وَلَا رجعة له عليها بإقراره وسواء طال مقامه أو لم يطل لا تجب العدة وكمال المهر إلا بالمسيس نفسه ولو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 قال ارتجعتك اليوم وقالت انقضت عدتي قبل رجعتك صدقتها إلا أن تقر بعد ذلك فتكون كمن جحد حقا ثم أقر به (قال المزني) رحمه الله إن لم يقرا جميعا ولا أحدهما بانقضاء العدة حتى ارتجع الزوج وصارت امرأته فليس لها عندي نقض ما ثبت عليها له) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ (وَلَوْ دَخَلَ بها) يعني خلا به، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْخَلْوَةِ فِي دُخُولِ الزَّوْجَيْنِ بيتاً، وأن يغلق عَلَيْهِمَا بَابًا أَوْ يُرْخِيَا عَلَيْهِمَا سِتْرًا وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا كَالْإِصَابَةِ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَهَلْ تَكُونُ كَالْإِصَابَةِ فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا كَالْيَدِ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا فَيَحْلِفُ عَلَيْهَا وَيُحْكَمُ لَهُ بِهَا زَوْجًا كَانَ أَوْ زَوْجَةً. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا فِي اسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ وَلَا فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَلَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَإِنَّ وَجُودَهَا كَعَدَمِهَا. (فَصْلٌ: [اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَةِ إما مع عدم الخلوة أو مع د وُجُودِهَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلْخَلْوَةِ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْإِصَابَةَ وَتُنْكِرَهَا الزَّوْجَةُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ الْإِصَابَةَ وَيُنْكِرَهَا الزَّوْجُ، فَإِنِ ادَّعَاهَا الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهَا الزَّوْجَةُ فَادِّعَاؤُهُ لَهَا إِنَّمَا هُوَ لِإِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ عَلَيْهَا، فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي إِنْكَارِهَا الْإِصَابَةَ مَعَ يَمِينِهَا، بِخِلَافِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ حِينَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا فِي ادِّعَاءِ الْإِصَابَةِ دُونَهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ بَقَاءُ الزَّوْجَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي ادِّعَاءِ الْإِصَابَةِ اسْتِصْحَابًا لِهَذَا الْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ الْعَقْدِ، وَالْأَصْلُ هَاهُنَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ اسْتِصْحَابًا لِهَذَا الْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ، فَإِذَا حَلَفَتْ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ إِلَّا بِنِصْفِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مُطَالَبَتُهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهَا بِاسْتِحْقَاقِ جَمِيعِهِ، فَإِنْ نَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمْنَا عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهَا فَقُبِلَ فِيهِ رُجُوعُهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَنْكَرَتْ أَصْلَ النِّكَاحِ ثُمَّ اعْتَرَفَتْ بِهِ صَحَّ، وَجَازَ لَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 الِاجْتِمَاعُ فَكَانَ لِلرُّجُوعِ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِصَابَةِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْإِصَابَةَ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا، لِأَنَّ دَعْوَاهَا قَدْ تَضَمَّنَتْ مَا يَنْفَعُهَا وَهُوَ كَمَالُ الْمَهْرِ وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ، وَمَا يَضُرُّهَا وَهُوَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيمَا يَضُرُّهَا مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَرُدَّ فِيمَا يَنْفَعُهَا مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجُ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجَةِ فَإِذَا حَلَفَتْ حَكَمْنَا لَهَا عَلَيْهِ بِكَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْعِدَّةِ فَلَازِمَةٌ لَهَا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الإصابة مبطل لرجعته. (فصل:) قال الشافعي في كتاب [ ... ] إذا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ: أَعْلَمَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ، ثُمَّ رَاجَعْتُهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا إِقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ، لِأَنَّهَا قَدْ تُكَذِّبُهُ فِيمَا أَعْلَمَتْهُ، وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ إِنْ عادت فأكذبها نفسها، وهكذا لو أقرت بطلاقها واحدة وراجعتها وَادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهَا ثُمَّ صَدَّقَتْهُ وَأَكْذَبَتْ نَفْسَهَا حَلَّ لَهَا الِاجْتِمَاعُ معه. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ فَارْتَجَعَهَا مُرْتَدَّةً فِي الْعِدَّةِ لَمْ تكُنْ رَجْعَةً لِأَنَّهَا تَحْلِيلٌ فِي حَالِ التَّحْرِيمِ (قَالَ المزني) رحمه الله فيها نظر وَأَشْبَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ رَجْعَةً مَوْقُوفَةً فإن جمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة علمنا أنه رجعة وإن لم يجمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة علمنا أنه لا رجعة لأن الفسخ من حين ارتدت كما نقول في الطلاق إذا طلقها مرتدة أو وثنية فجمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة علمنا أن الطلاق كان واقعاً وكانت العدة من حين وقع الطلاق وإن لم يجمعهما الإسلام في العدة بطل الطلاق وكانت العدة من حين أسلم متقدم الإسلام) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي عِدَّتِهَا، فَالزَّوْجُ مَمْنُوعٌ مَنْ رَجَعْتِهَا فِي الرِّدَّةِ كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ نِكَاحِهَا فَإِنْ رَاجَعَهَا وَهِيَ فِي الرِّدَّةِ كَانَتْ رَجْعَتُهُ بَاطِلَةً سَوَاءٌ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ أَمْ لَا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: رَجْعَتُهُ فِي الرِّدَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِسْلَامِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَتِ الرَّجْعَةُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ طَلَاقَ الْمُرْتَدَّةِ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا صَحَّ أَنْ تَكُونَ رَجْعَتُهَا مَوْقُوفَةً وَلَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ رَجْعَتُهَا مَوْقُوفَةً. وَلِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِ الْمُرْتَدَّةِ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً وَتَحْرِيمُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 كَالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تمكسوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . وَفِي الرَّجْعَةِ تَمَسُّكًا بِرَجْعَتِهَا بِعِصْمَتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الرِّدَّةُ مَانِعَةً مِنْهَا. وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ بُضْعُ الْحُرَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي الرِّدَّةِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فِيهَا كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلرَّجْعَةِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَالرَّجْعَةَ رَافِعَةٌ لِلْبَيْنُونَةِ وَإِذَا تَنَافَيَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْتَمِعَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ فَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلرِّدَّةِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا يَقْتَضِيَانِ الْفُرْقَةَ وَعَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطٍ لَا يَصِحُّ إِيقَافُ الرَّجْعَةِ وَلَا تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الرِّدَّةِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفَسْخُهُ مَوْقُوفٌ وَعَقْدُهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ، وَالرَّجْعَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ دُونَ الْفَسْخِ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فِي الْإِحْرَامِ فَمُفَارِقَةٌ لِلرَّجْعَةِ فِي الرِّدَّةِ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ يَقِفُ الرَّجْعَةَ في الردة، ولا يقفها في الإحرام فهذا الْفَرْقُ جَوَّزْنَا الرَّجْعَةَ فِي الْإِحْرَامِ وَأَبْطَلْنَاهَا فِي الرِّدَّةِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا زُوِّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا، وَقَبْلَ مُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ لَهَا، وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَرَاجَعَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي، وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْأَوَّلِ بعد رجعته حتى تقتضي عِدَّتَهَا مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي، لِأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ فَلَمْ يَكُنْ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ رَجْعَتِهِ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُوجِبُ اسْتِبْقَاءَ النِّكَاحِ، وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِبْقَاءِ النِّكَاحِ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ، فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ فِي إِفَاقَتِهِ، وَبَطَلَتْ فِي جُنُونِهِ فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ: رَاجَعْتُكِ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، وَقَالَتْ رَاجَعْتَنِي فِي حَالِ الْجُنُونِ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالطَّلَاقِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي وُقُوعِهِ فِي الْجُنُونِ وَالصِّحَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَتَصِحُّ رَجْعَتُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَرَجْعَةُ الزَّوْجِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ رَاجَعَهَا وَهُوَ سَكْرَانُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ إِذَا قِيلَ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَلَمْ تَصِحَّ رَجْعَتُهُ إِذَا قِيلَ بِتَخْرِيجِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، وَإِنْ وَقَعَ طَلَاقُهُ، لِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهِ تَغْلِيظٌ وَرَجْعَتَهُ تَخْفِيفٌ، وَالسَّكْرَانُ يُغَلَّظُ عَلَيْهِ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّنَا نُجْرِي عَلَى سُكْرِهِ حُكْمَ الصِّحَّةِ فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 غُلِّظَ وَخُفِّفَ، فَلَوْ رَاجَعَهَا وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ سَكْرَانَةٌ صَحَّتْ رَجْعَتُهَا، لِأَنَّ نِكَاحَهَا فِي جُنُونِهَا وَسُكْرِهَا يَصِحُّ فَكَانَتْ رَجْعَتُهَا أَصَحَّ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا شَكَّ الزَّوْجُ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ رَجْعَتُهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ مُلْغًى فَيَسْقُطُ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ فِي الرَّجْعَةِ. وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الرَّجْعَةَ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَرَهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَفْسَدُ. وَقَدْ حَكَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَطَلَّقْتُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ امْرَأَتُكَ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّكَ طَلَّقْتَهَا فَذَهَبَ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَاجِعْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَلَّقْتَهَا لَا تَضُرَّكَ الرَّجْعَةُ فَذَهَبَ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا ثُمَّ رَاجِعْهَا، قَالَ فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِمْ فَقَالَ لَهُ زُفَرُ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَفْتَاكَ بِالْفِقْهِ. وَأَمَّا سُفْيَانُ فَأَفْتَاكَ بِالْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَأَمَّا شَرِيكٌ فَسَأَضْرِبُ لَكَ مَثَلًا فِيهِ مَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ مَرَّ بِثَقْبٍ فَسَالَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَأَمَّا سُفْيَانُ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِغَسْلِهِ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يَضُرَّهُ، والْغَسْلُ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَقَدْ غَسَلَهُ، وَأَمَّا شَرِيكٌ فَقَالَ بُلْ عَلَيْهِ ثُمَّ اغْسِلْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 (باب المطلقة ثلاثا) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَشَكَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا رِفَاعَةُ ثَلَاثًا زَوْجَهَا بَعْدَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ كُلُّ زَوْجٍ وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَاقِلَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ إِذَا اسْتَكْمَلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَدْخُلَ بِهَا الثَّانِي، فَتَحِلَّ بَعْدَهُ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِ الثَّانِي وَإِصَابَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِعَقْدِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا فَجَعَلَا الشَّرْطَ فِي إِبَاحَتِهَا لِلْأَوَّلِ عَقْدَ الثَّانِي دُونَ إِصَابَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَاسْمُ النِّكَاحِ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فذكرت زوجها وقالت إنما معه كهدية الثَّوْبِ فَقَالَ: (لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ) وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ طَلَّقَ الْغُمَيْصَاءَ فَنَكَحَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا أَوْ طَلَّقَهَا رجل فتزوجها عمرو بن حزاً وَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ هَلْ تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ فَقَالَ لَهَا: هَلْ قَرَبَكِ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كان له إلا كهدية الثَّوْبِ فَقَالَ: فَلَا إِذًا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ زَوْجًا فَخَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 بِهَا وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَكَشَفَ الْقِنَاعَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ إِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي فَقَالَ: (لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا) . وَالْعُسَيْلَةُ: مُخْتَلِفٌ فِيهَا فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ إِلَى أَنَّهَا لَذَّةُ الْجِمَاعِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا الْإِنْزَالُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا الْجِمَاعُ، لِأَنَّ اللَّذَّةَ زِيَادَةٌ وَالْإِنْزَالَ غَايَةٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ) . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُصِيبَهَا الثَّانِي. وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ وَهِيَ مَاؤُهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ شَرْطُ عُقُوبَةٍ للأول، وزجراً مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِتَدْعُوَهُ الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفَةُ مِنْ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ أَنْ لَا يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَيُرَاجِعُونَ، فَلَوْ حَلَّتْ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ لَمَا دَخَلَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الثَّلَاثِ كَمَا يَدْخُلُهُ إِذَا وُطِئَتْ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْوَطْءُ مَشْرُوطًا. فَأَمَّا الْآيَةُ وَأَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الْعَقْدُ دُونَ الوطء فعنها جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ حَقِيقَةٌ فِي النِّكَاحِ، فَجَازَ فِي الْوَطْءُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجَازِهِ بِدَلِيلٍ، وَالسُّنَّةُ أَقْوَى دَلِيلٍ، قَالَ الشافعي: فسرت السنة والكتاب وَأَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ السُّنَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَ أَوْجَبَ شَرْطًا هُوَ الْعَقْدُ، وَالسُّنَّةَ أَوْجَبَتْ شَرْطًا ثَانِيًا وَهُوَ الْإِصَابَةُ فَاقْتَضَى وُجُوبَ أَحَدِهِمَا بِالْكِتَابِ، وَوُجُوبَ الْآخَرِ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْسَعُ لِحُصُولِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ كَذَلِكَ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ وَالْإِبَاحَةُ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ بِالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَلَا بِالْفَاسِدِ مِنَ الْعُقُودِ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِلَّا بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحُدُّهَا: أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَطَأَهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا إِمَّا ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَقْضِيَ مِنْهُ عِدَّتَهَا فَتَحِلَّ حِينَئِذٍ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ الْخَمْسَةِ شَرْطَانِ الْعَقْدُ وَالْإِصَابَةُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَإِذَا أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فَغَيَّبَ الْحَشَفَةَ فِي فَرْجِهَا فَقَدْ ذَاقَا الْعُسَيْلَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا صِفَةَ الشَّرْطَيْنِ أَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا غَيْرَ فَاسِدٍ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا اخْتَصَّتْ بِالْعُقُودِ تَعَلَّقَتْ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا دُونَ الْفَاسِدِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَعْقِدُ نِكَاحًا وَلَا بَيْعًا فَعَقَدَهُمَا عَقْدًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ. وَأَمَّا الْوَطْءُ فَيَكُونُ فِي الْقُبُلِ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ. فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ وَإِنْ كَمُلَ بِهِ الْمَهْرُ وَوَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، فَيَكُونُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لِلْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَمُوَافِقًا لَهُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا لَمْ يُحِلَّهَا إِلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَكُونُ بِدُونِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ وَكَمَالَ الْمَهْرِ وَوُجُوبَ الْحَدِّ وَالْغَسْلِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ لِيَلْتَقِيَ بِهَا الختانان، ولا لا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهَا كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَسَوَاءٌ حَصَلَ مَعَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، لِأَنَّهُمَا قَدْ ذَاقَا الْعُسَيْلَةَ بِتَغْيِيبِهَا وَإِنْ لَمْ يُنْزِلَا، وَكَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْزَالِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَتْ بِكْرًا فَالْإِصَابَةُ الَّتِي تَحِلُّ بِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَفْتَضَّهَا وَلَيْسَ الِافْتِضَاضُ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فِي مَخْرَجِ الْحَيْضِ، وَهُوَ فِي الْبِكْرِ يَضِيقُ عَنْ مَدْخَلِ الذَّكَرِ، فَإِذَا دَخَلَ اتَّسَعَ بِهِ الثَّقْبُ فَانْخَرَقَتْ بِهِ الْجِلْدَةُ فَزَالَتِ الْبَكَارَةُ الَّتِي هِيَ ضِيقُ الثَّقْبِ فَكَانَ هُوَ الِافْتِضَاضَ، فَلَوْ أَرَادَ الثَّانِي افْتِضَاضَهَا بِوَطْئِهِ أَحَلَّهَا، وَالِافْتِضَاضُ هُوَ خَرْقُ الْحَاجِزِ الَّذِي بَيْنَ مَخْرَجِ الْحَيْضِ وَهُوَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ، وَبَيْنَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَهَذَا يُحِلُّهَا، لِأَنَّهُ أُرِيدَ مِنَ الِافْتِضَاضِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَكَانَ أَبْلَغَ في الإباحة. (مسألة:) قال الشافعي: (وَسَوَاءٌ قَوِيُّ الْجِمَاعِ وَضَعِيفُهُ لَا يُدْخِلُهُ إِلَّا بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا فَرْقَ فِي وَطْءِ الثَّانِي بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْجِمَاعِ أَوْ ضَعِيفَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَذُوقُ بِهِ الْعُسَيْلَةَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَوْ يَدِهَا. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْتِشَارِهِ فَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَوِ اسْتَدْخَلَتْهُ الْمَرْأَةُ بِيَدِهَا فِي حُصُولِ الْإِبَاحَةِ بِهِ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ عَلَيْهِ فَأَدْخَلَهُ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ بِيَدِهِ أَوْ يَدِهَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا تَتَعَلَّقْ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ، وَلَا يُجِبْ بِهِ الْغُسْلُ، لِأَنَّ عُرْفَ الْوَطْءِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلِأَنَّ الْعُسَيْلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالشَّهْوَةِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 وَالشَّهْوَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِانْتِشَارِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، وَإِنْ كَانَ الذَّكَرُ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ بِالذَّكَرِ الْمُنْتَشِرِ، لِأَنَّ لِينَ الذَّكَرِ ضَعْفٌ، وَانْتِشَارَهُ قُوَّةٌ، وَضَعْفُ الْجِمَاعِ وَقُوَّتُهُ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ لِينُ الذَّكَرِ وَانْتِشَارُهُ سَوَاءٌ إِذَا أَمْكَنَ دُخُولُ الْحَشَفَةِ مَعَ لِينِهِ، وَلِأَنَّ وُجُودَ اللَّذَّةِ فِي ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ أَحَلَّهَا إِنْ لم تذوق عُسَيْلَتَهُ، وَلَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ حَلَّتْ، وَإِنْ لَمْ يَذُقْ عُسَيْلَتَهَا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ غير منتشر. (مسألة:) قال الشافعي: (أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَبِيٍ مُرَاهِقٍ أَوْ مَجْبُوبٍ بَقِيَ لَهُ قَدْرُ مَا يُغَيِّبُهُ تَغْيِيبَ غَيْرِ الْخَصِيِّ وَسَوَاءٌ كُلُّ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي غَيْرَ بالغ وقد عقد عليها نكاحاً صحيحاً له حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا قَدِ انْتَشَرَ ذَكَرُهُ وَيَطَأُ مِثْلُهُ، فَوَطْؤُهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ، كَالْبَالِغِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ طِفْلًا لَا يَطَأُ مِثْلُهُ، وَلَا يَنْتَشِرُ ذَكَرُهُ، فَالْوَطْءُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ مِثْلِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِدْخَالُ ذَكَرِهِ عَبَثًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالٌ فَخَالَفَ الْبَالِغَ إِذَا أَوْلَجَ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي انْطِلَاقِ اسْمِ الْوَطْءِ عَلَيْهَا فَاخْتَلَفَا فِي حُكْمِهِ. وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ السَّلِيمُ الذَّكَرِ فَوَطْؤُهُ يُحِلُّهَا كَالْفَحْلِ، بَلْ وَطْؤُهُ أَقْوَى لِعَدَمِ إِنْزَالِهِ، وَقِلَّةِ فُتُورِهِ. فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ وَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ يُمْكِنُهُ إِيلَاجُهُ اسْتَحَالَ الْوَطْءُ مِنْهُ فَلَمْ يُحِلَّهَا، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ إِيلَاجُهُ فَإِنْ كَانَ دُونَ مِقْدَارِ الْحَشَفَةِ لَمْ يُحِلَّهَا، لِأَنَّ السَّلِيمَ الذَّكَرِ لَوْ أَوْلَجَ دُونَ الْحَشَفَةِ، لَمْ يُحِلَّ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بِمِثْلِ مِقْدَارِ الْحَشَفَةِ فَمَا زَادَ أَحَلَّهَا، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي إِحْلَالِهِ تَغْيِيبُ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فِيهِ أَوْ يُعْتَبَرُ تَغْيِيبُ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ مِنْهُ تَغْيِيبُ قَدْرِ الحشفة، فإذا غيب من باقي ذكره قَدْرَ الْحَشَفَةِ أَحَلَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحِلُّهَا إِلَّا بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي لِأَنَّ ذَهَابَ الْحَشَفَةِ مِنْهُ قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَهَا فَانْتَقَلَ إِلَى الْبَاقِي بَعْدَهَا. (فَصْلٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَسَوَاءٌ كُلُّ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا مَعَ الزَّوْجَةِ الْكَافِرَةِ عَاقِلًا أَوْ مجنوناً، وكذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 الزَّوْجَةُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، لِأَنَّهَا إِصَابَةٌ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ صحيح. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ أَصَابَهَا صَائِمَةً أَوْ مُحْرِمَةً أَسَاءَ وَقَدْ أَحَلَّهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِفَسَادِ الْعَقْدِ. فَأَمَّا تَحْرِيمُهُ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فَكَالْوَطْءِ فِي حَيْضٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ إِحْرَامٍ فَهُوَ يُحِلُّهَا وَإِنْ حُرِّمَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُحِلُّهَا حَتَّى تَكُونَ حَلَالًا، فَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَا تَحِلُّ كَالزِّنَا، وَكَالْوَطْءِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) فَجَعَلَ الْإِبَاحَةَ بِشَرْطَيْنِ الْعَقْدِ وَذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فَوَجَبَ أَنْ يُوجِدَا الْإِبَاحَةَ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْلِيلُ كَالْمُبَاحِ. فَأَمَّا الزِّنَا فَلَا يُحِلُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ نِكَاحَ زَوْجٍ. وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا يُحِلُّهَا كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى صِحَّةِ عَقْدٍ، وَإِنْ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ فَاشْتَبَهَ الْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ، إِذَا خَلَا عَنْ عَقْدٍ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْقَدِيمِ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَفْسُدُ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَهُوَ أَنْ يُحِلَّ، فَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا لِتَحَلَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا وَيَتَمَسَّكَ بِهَا فَتَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَنْكِحُهُ لِيُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَعُودَ إِلَيْهِ فَهَذَا مَحْظُورٌ. رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المستحل والمستحل له، وكلاهما وَإِنْ كَانَ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ إِلَى عِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ إِلَى ثَلَاثِينَ. رَوَى اللَّيْثُ عَنْ مِسْرَحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ) قَالُوا بَلَى قَالَ: (هو المحل) ثم قال (لعن الله المحل وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) فَإِذَا تَقَرَّرَ وَحُظِرَ هَذَا الشَّرْطُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعَقْدَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْعُقُودَ مِنَ الشُّرُوطِ لَا تَلْزَمُ، فَصَارَ وُجُودُ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ كَعَدَمِهِ، غَيْرَ أَنَّنَا نَكْرَهُهُ، وَهَكَذَا لَوْ أَضْمَرَهُ الزَّوْجَانِ، وَلَمْ يَشْتَرِطَاهُ كَرِهْنَاهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبُيُوعِ، وَإِنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَوْ انطلق بِهِ فِي الْعَقْدِ أَفْسَدَهُ فَمَكْرُوهٌ إِضْمَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَرِّحَا بِاشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهَذَا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ مَكْرُوهٌ، وَالْعَقْدُ مَعَهُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ، وَهَكَذَا حُكْمُ نِكَاحِهِ أن يحلها للزوج الأول، وإن لم يشترط فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الشَّرْطُ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الثَّانِي مَعَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا مُخْتَارًا أَحَلَّهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَنْكِحَهَا عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَحَلَّهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ إِلَى مُدَّةٍ، وَهَذَا أَفْسَدُ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لِأَنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَهَلْ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِذَا أَصَابَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا؟ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ قَدْ سَلَبَهُ حُكْمَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الشُّبْهَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ إِحْلَالِهَا لَهُ، فَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ بِاسْمِ النِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَحُكْمِهِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ إِطْلَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْمَ الْإِحْلَالِ عَلَيْهِ فِي نَهْيِهِ عَنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَنَاكَحِ الْفَاسِدَةِ غَيْرَ مُحِلِّ لَهَا بِخِلَافِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِوَطْئِهِ طَلَّقَهَا فَفِي فَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّنِي إِذَا أَحْلَلْتُكِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنِنَا، فَعَلَى هَذَا، هَلْ يُحِلُّهَا أَمْ لَا؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ عَلَى الْجَدِيدِ لَا يُحِلُّهَا، وَعَلَى الْقَدِيمِ يُحِلُّهَا، وَفِي الْعِلَّةِ وَجْهَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ قُرِنَ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ فَبَطَلَ الشَّرْطُ، وَثَبَتَ الْعَقْدُ، فَعَلَى هَذَا هُوَ بِالْخِيَارِ بَعْدَ إِصَابَتِهَا بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُقِيمَ مَعَهَا، وَلَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 لِلشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِي إِجْبَارِهِ عَلَى طَلَاقِهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا مُخْتَارًا أَحَلَّهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ. (فَصْلٌ:) وَالْمَخْرَجُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِحْلَالَ وَأَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ فَسَادِ الْعَقْدِ وَمِنَ امْتِنَاعِ الثَّانِي مِنَ الطَّلَاقِ، وَمِنْ إِحْبَالِهَا بِالْوَطْءِ، أَنْ تُزَوَّجَ بِعَبْدٍ مُرَاهِقٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَإِذَا أَصَابَهَا وُهِبَ لَهَا فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ بِالْهِبَةِ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا، وَقَدْ حَلَّتْ بِإِصَابَتِهِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَأَمِنَتْ مِنْهُ الْإِحْبَالَ لعدم البلوغ. (مسألة:) قال الشافعي: (وَلَوْ أَصَابَ الذِّمِّيَّةَ زَوْجٌ ذِمِّيٌّ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَحَلَّهَا لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ زَوْجٌ وَرَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَ الْمُسْلِمَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا فَنَكَحَتْ زَوْجًا ذِمِّيًّا، وَأَصَابَهَا حَلَّتْ بِإِصَابَتِهِ لِلْمُسْلِمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُحِلُّهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي فَسَادِ مَنَاكِحِهِمْ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَذَكَرْنَا الْعَفْوَ عَنْ مَنَاكِحِهِمْ، وَجَوَازَ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَقَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ عَلَى نِكَاحِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنَيْنِ، وَلَا يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الصِّحَّةِ كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَوْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ بَعْدَ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا لَمْ تُحِلَّهَا الْإِصَابَةُ لِأَنَّهَا محرمة في تلك الحال (قال المزني) لَا مَعْنَى لِرُجُوعِ الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا عِنْدَهُ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي الَّتِي قَدْ أَحَلَّتْهَا إصابته إياها للزوج قبله فإن كانت غير مدخول بها فقد انفسخ النكاح في قوله ولها مهر مثلها بالإصابة وإن كانت مدخولا بها فقد أحلها إصابته إياها قبل الردة فكيف لا يحلها؟ فتفهم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا فَأَصَابَهَا الزَّوْجُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَوْ رِدَّتِهَا لَمْ يُحِلَّهَا الْوَطْءُ فِي الرِّدَّةِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ جَارِيَةٌ فِي فُرْقَةٍ فَصَارَ الْوَطْءُ فِيهِ مَعَ تَحْرِيمِهِ مُصَادِقًا لِعَقْدِ مُسْلِمٍ يُفْضِي إِلَى فَسْخٍ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الصَّائِمَةَ وَالْمُحْرِمَةَ وَالْحَائِضَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَقَدْ صَادَفَ عَقْدًا كَامِلًا لَمْ يَتَثَلَّمْ شَيْءٌ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا فِي الْإِبَاحَةِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنْ طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ العقد، وكان الوطء بعده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 وطء فِي غَيْرِ عَقْدٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْفُرْقَةِ، فَإِذَا طَرَأَ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَانَتْ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَتِلْكَ الْإِصَابَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ قَدْ أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إِصَابَتُهَا فِي الرِّدَّةِ. وَظَاهِرُ الِاعْتِرَاضِ صَحِيحٌ غَيْرَ أن أصحابنا خرجوا لصحة المسألة والجواب عن هذا الاعتراض وجوهاً: أحدهما: أَنَّهُ صَوَّرَهَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْخَلْوَةَ تُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَكَمَالَ الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِهَا الْإِحْلَالُ لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا ارْتَدَّتْ كَانَ نِكَاحُهَا مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِذَا أَصَابَهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ لَمْ يُحِلَّهَا، فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْجَدِيدِ فِي أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ صُورَتَهَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ مَعًا فِي الموطؤة فِي الدُّبُرِ تَجِبُّ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَيُكْمِلِ الْمَهْرَ لَهَا، وَلَا يُحِلُّهَا الزَّوْج الْأَوَّل، فَإِذَا ارْتَدَّتْ بَعْدَهُ كَانَ نِكَاحُهَا مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُحِلَّهَا. وَالثَّالِثُ: أنها مصورة في موطؤة دُونَ الْفَرْجِ إِذَا اسْتَدْخَلَتْ مَاءَ الزَّوْجِ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُحِلَّهَا، فَإِذَا ارْتَدَّتْ كَانَ نِكَاحُهَا مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَوْ وَطِئَهَا فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُحِلَّهَا، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْجَدِيدِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُحِلُّهَا. فَأَمَّا إِنْ قِيلَ: بِتَخْرِيجِ قَوْلِهِ الثَّانِي فَالْوَطْءُ فِي الرِّدَّةِ أَوْلَى أَنْ يُحِلَّهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا مَا صَادَفَ عَقْدًا فَاسِدًا فَأَوْلَى أَنْ يحلها ما صادف عقداً صحيحاً موقوفاً متثلماً والله أعلم. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ ذَكَرْتَ أَنَّهَا نُكِحَتْ نِكَاحًا صَحِيحًا وَأُصِيبَتْ وَلَا نَعْلَمُ حَلَّتْ لَهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَفْعَلَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا نُكِحَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا زَوْجًا دَخَلَ بِهَا، وَأَنَّهُ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ مِنْهُ عَدَّتُهَا لِيَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصُرَ الزَّمَانُ عَنِ انْقِضَاءِ عِدَّتَيْنِ وَعَقْدٍ وَإِصَابَةٍ فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ لِلْإِحَاطَةِ بِكَذِبِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُتَّسِعًا لِذَلِكَ فَلَا تَخْلُو حَالُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ مَعَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 أَحَدُهَا: أَنْ يَتَيَقَّنَ كَذِبَهَا فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ صِدْقَهَا فَيَجُوزَ نِكَاحُهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَيَقَّنَ صِدْقَهَا وَلَا كَذِبَهَا فَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حُكْمًا وَوَرَعًا وَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ كَذِبُهَا كَرِهْنَا لَهُ وَرَعًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَجَازَ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى نَفْسِهَا لَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يُمْكِنُهَا إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْإِصَابَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَازَ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ كَذِبِهَا كَالْمُحْدِثِ إِذَا غَابَ وَعَادَ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ جَازَ الْإِتْمَامُ بِهِ مَعَ جَوَازِ كَذِبِهِ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى نِيَّتِهِ مُتَعَذِّرَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِي الْإِصَابَةِ، وَهُوَ أَحَدُ شَرْطَيِ الْإِبَاحَةِ جَازَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِي الشَّرْطِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ غَابَ مَعَ زَوْجَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَذَكَرَ مَوْتَ زَوْجَتِهِ حَلَّ لِأُخْتِهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْمَوْتِ مَقْبُولًا، وَلَكِنْ لَوْ غَابَتْ زَوْجَتُهُ مَعَ أُخْتِهَا، ثُمَّ قَدِمَتِ الْأُخْتُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَوْتَ زَوْجَتِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَيَقَّنَ زَوَالَ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُخْتُ؛ لِأَنَّهَا لَا مِلْكَ لَهَا، فَجَازَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِ الزَّوْجِ فِي مَوْتِ أُخْتِهَا. وَلَوْ قَالَتِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا: نَكَحْتُ زَيْدًا وَطَلَّقَنِي بَعْدَ الإصابة، فقال زيد: طلقتها قبل الإصاب، لم تقبل دعوى الإصابة تدخل عَلَى الثَّانِي ضَرَرًا فِي تَكْمِيلِ الْمَهْرِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ، وَغَيْرُ مُدْخِلَةٍ عَلَى الْأَوَّلِ ضَرَرًا فَقُبَلَ قَوْلُهَا فِيهِ. فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ: لَمْ أَتَزَوَّجْهَا وَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجَنِي وَأَصَابَنِي وَطَلَّقَنِي قبل قولها في إحلالها للأول، وإذا كَذَّبَهَا الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ ائْتِمَانِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الثَّانِي، فَلَوْ أَقَرَّ زَيْدٌ بِتَزْوِيجِهَا وَإِصَابَتِهَا وَادَّعَتْ عَلَيْهِ طَلَاقَهَا فأنكرها حرمت عل الْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا؛ لِأَنَّ إِنْكَارَ الثَّانِي لِطَلَاقِهَا مُوجِبٌ لِبَقَائِهَا عَلَى نِكَاحِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْكِحَهَا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ فِي طَلَاقِهَا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرُّ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ثَلَاثًا فوطئها السيد بملك اليمين لم يحل بِهِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَحَلَّهَا بِالْإِصَابَةِ مَنْ زَوْجٍ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِلَّ بِزَوْجٍ فَهَلْ تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ إِصَابَةِ زَوْجٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ؛ لِأَنَّ إِصَابَةَ الزَّوْجِ شَرْطٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ إِصَابَةِ زَوْجٍ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ عَلَيْهِ إِلَّا بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا ثَانٍ فَوَجَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَطِئَهَا قَاصِدًا بِوَطْئِهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 الزِّنَى حَلَّتْ بِهَذَا الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ أَنْ يَكُونَ سِفَاحًا وَلَوْ آوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَوَجَدَ فِيهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ فَوَطِئَهَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلَّ بِهَذَا الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنِ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ فِي عقد والله أعلم بالصواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 (باب الإيلاء) (مختصر من الجامع من كتاب الإيلاء قديم وجديد والإملاء وما دخل فيه من الأمالي) (على مسائل مالك ومن مسائل ابن القاسم من إباحة الطلاق وغير ذلك) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية [البقرة: 226] ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِيلَاءُ فِي كَلَامِهِمْ فَهُوَ الْحَلِفُ، يُقَالُ آلَى يُولِي إِيلَاءً فَهُوَ مُولٍ إِذَا حَلَفَ فَالْإِيلَاءُ الْمَصْدَرُ، وَآلَى أَلِيَّةً الِاسْمُ. قَالَ جَرِيرٌ: (وَلَا خَيْرَ فِي مَالٍ عَلَيْهِ أَلِيَّةٌ ... وَلَا فِي يَمِينٍ عُقِدَتْ بِالْمَآثِمِ) وَجَمْعُ الْأَلِيَّةِ آلَايَا، قَالَ الشَّاعِرُ. (قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ) فَإِنِ اشْتَقَقْتَ الِافْتِعَالَ مِنَ الْأَلِيَّةِ قُلْتَ أَيْتَلَى يَأْتَلِي إِيتِلَاءً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] . فالإيلاء فِي اللُّغَةِ هِيَ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ بِهَا حَالِفٌ عَلَى زَوْجَةٍ، أَوْ غَيْرِ زَوْجَةٍ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. فَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا مُدَّةً يَصِيرُ بِهَا مُولِيًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. (فَصْلٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. كَانَتِ الفرق فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ، فَنَقَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيلَاءَ، وَالظِّهَارَ عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهَا فِي الشَّرْعِ، وَبَقِيَ حُكْمُ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالْأَصْلُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ قَوْلُ الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 [البقرة: 226] وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي يُؤْلُونَ أَنْ يَعْتَزِلُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتُرِكَ أَنْ يَعْتَزِلُوا اكتفاءاً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. والثاني: أنه يكون مولياً بكل يمين التزام بِالْحِنْثِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَفِيمَا يَصِيرُ بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ مُولِيًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْيَمِينُ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا فَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا هُوَ الْإِيلَاءُ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا إِذَا حَلَفَ عَلَى غَيْرِ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى مِسَاسِ زَوْجَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] يَعْنِي انْتِظَارَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُؤَجَّلُ بِهَا الْمُولِي، وَفِيهَا مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَجْلٌ مُقَدَّرٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَجْلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ. ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أَيْ رَجَعُوا، وَالْفَيْئَةُ: الرُّجُوعُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ. (فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... ومن حاجة الإنسان مما ليس قاضياً) وفيما أريد بالفيئة ها هنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجِمَاعُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَاجَعَةُ بِاللِّسَانِ بِكُلِّ مَا أَزَالَ مَسَاءَتَهَا وَدَفْعَ الضَّرَرَ عَنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ مِنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْيَمِينُ عَلَى مَسَاءَتِهَا وَقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِهَا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ، وفيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: غَفُورٌ لِمَآثِمِهِ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 وَالثَّانِي: غَفُورٌ فِي تَخْفِيفِ الْكَفَّارَةِ وَإِسْقَاطِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُ فِيمَا كَانَ الْحِنْثُ فِيهِ بَرأَ. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] وَفِي عَزِيمَتِهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ أَنْ لَا يَفِيءَ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَتُطَلَّقَ بِمُضِيِّهَا، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي يَلْحَقُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَالَبَ بِالْفَيْئَةِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يَفِيءُ وَيُطَلِّقُ وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأبو الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ، عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِ. وَالثَّانِي: سَمِيعٌ لِطَلَاقِهِ عَلِيمٌ بِصَبْرِهِ. (فَصْلٌ:) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِيلَاءِ هَلْ عُمِلَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نَسْخِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُمِلَ بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ ثُمَّ نُسِخَ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ. وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: بَلْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ قَبْلَ نَسْخِهِ. وَإِنَّمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَنَزَلَ إِلَيْهِنَّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يا رسول الله أطلقت نسائك فقال (لا، ولكني آليت شهراً) وسب ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ عَمْرَةُ أَنَّ هَدِيَّةً بُعِثَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا ابْعَثِي إِلَى النِّسَاءِ بِأَنْصَابِهِنَّ فَفَعَلَتْ وَبَعَثَتْ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِنَصِيبِهَا فَرَدَّتْهُ فَقَالَ: زِيدِيهَا فَزَادَتْهَا فَرَدَّتْهُ فَقَالَ: زِيدِيهَا فَزَادَتْهَا فَرَدَّتْهُ فَقَالَ: زِيدِيهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَقَدْ أَقْمَأَتْكَ هَذِهِ، فَغَضِبَ وَقَالَ أَنْتُنَّ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ تُقْمِئْنَنِي وَآلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا وَصَعِدَ إِلَى مَشْرَبَتِهِ فَتَخَلَّى فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 لَيْلَةً نَزَلَ إِلَيْهِنَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنْ لَا سَبِيلَ عَلَى الْمُولِي لِامْرَأَتِهِ حَتَّى يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ بَيْعًا أَوْ ضَمِنَ شَيْئًا إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ عليه سبيل حتى يمضي الأجل وقال سليمان بن سار أدركت بضعة عشر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلهم يوقف المولى. وكان علي وعثمان وعائشة وابن عمر وسليمان بن يسار يوقفون المولى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَصِلُ هَذَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُولِيًا يُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا إِذَا حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْوَطْءِ فَأَشْبَهَ الزَّمَانَ الْمُقَدَّرَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا عَلَى الْأَبَدِ، فَإِنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ وَإِنْ طَالَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَهُ بِزَمَانٍ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلَمْ يَصِرْ مُولِيًا كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ تُقَدَّرُ بِزَمَانٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي أَقَلَّ مِنْهُ وَيَكُونُ مُولِيًا فِي أَكْثَرَ مِنْهُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرِ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُولِي أَجَلًا وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَصْبِرُ النِّسَاءُ فِيهَا عَنِ الرِّجَالِ، وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالْمَدِينَةِ لِيَعْرِفَ أَحْوَالَ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَمَرَّ بِدَارٍ فَسَمِعَ فِيهَا صَوْتَ امْرَأَةٍ تَقُولُ: (أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَازْوَرَّ جَانِبُهْ ... وَلَيْسَ إِلَى جَنْبِي خَلِيلٌ أُلَاعِبُهْ) (فَوَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ ... لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ) (مَخَافَةُ رَبِّي وَالْحَيَاءُ يَكُفَّنِّي ... وَأُكْرِمُ زَوْجِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ) فَسَأَلَ عَنْهَا فَذُكِرَ أَنَّهَا قَدْ غاب عنها فِي بَعْثِ الْجِهَادِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا بِنِسَاءٍ عَجَائِزَ وَسَأَلَهُنَّ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُلِ فَقُلْنَ شَهْرَيْنِ وَفِي الثَّالِثِ يَقِلُّ الصَّبْرُ، وَفِي الرَّابِعِ يَنْفَذُ، فَضَرَبَ لِأَجَلِ الْمُجَاهِدِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا تَحْبِسُوا رَجُلًا عَنِ امْرَأَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَكَتَبَ إِلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَاسْتَدْعَاهُ وَقَالَ: الْحَقْ سَرِيرَكَ قَبْلَ أَنْ تَتَحَرَّكَ جَوَانِبُهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ فِي الْإِيلَاءِ مَا أَجَّلَ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَصِرْ مولياً عن الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ كَانَ مُولِيًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُدَّةَ أجلاً لوقوع الطلاق بها، ولم يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْمُدَّةَ أَجَلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَهَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يَنْبَنِي اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنَ الْفَيْئَةِ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِذَا مَضَتْ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ طُلِّقَتْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: أنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ اسْتَحَقَّتْ مُطَالَبَتَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي فَصْليْنِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَهَا. وَالثَّانِي: الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ طَلْقَةً بَائِنَةً. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ حَتَّى يُطَالَبَ بَعْدَهَا بالفيئة أو الطلاق فإن لم يفيء أُخِذَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ، يُوقِفُ الْمُولِيَ يَعْنِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُولِي فَقَالُوا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدِلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ فِي الْمُدَّةِ ووقوع الطلاق بانقضائها بقوله تعالى: {للذي يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226، 227] . قَالَ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ {فَإِنْ فَاءُوا فيهن فإن الله غفور رحيم} [البقرة: 226] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 فَأَضَافَ الْفَيْئَةَ إِلَى الْمُدَّةِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَإِنْ تَفَرَّدَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِهَا تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَلَوْ كَانَتِ الْفَيْئَةُ بَعْدَهَا لَزَادَتْ عَلَى مُدَّةِ النَّصِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَقَعَتِ الْفَيْئَةُ مَوْقِعَهَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا قَالَ: وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ثَبَتَتْ بِالْقَوْلِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْفُرْقَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَقَّبَهَا الْبَيْنُونَةُ كَالْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَعَلَّقَ بِهِ الْفُرْقَةُ إِلَى مُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِانْقِضَائِهَا كَمَا لَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَدَلِيلُنَا قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سِتَّةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَضَافَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إلى الأزواج بقوله تعالى: {للذين يؤلون} فَجَعَلَ الْمَدَّةَ لَهُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَأَجَلِ الدَّيْنِ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فَذَكَرَ الْفَيْئَةَ بعد المدة بفاء التعقيب فوجب أن يستحق بَعْدَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَاقْتَضَتْ فَاءُ التَّعْقِيبِ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ بَعْدَ طَلَاقِ الْمَرَّتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي الْمُدَّةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ لَا بَعْدَ الْمُدَّةِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مُوجِبِهَا، قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْإِيلَاءِ ثُمَّ تَلَاهُ الْمُدَّةُ ثُمَّ تَعَقَّبَهَا ذِكْرُ الفيئة فإذا أوجبت إلغاء التَّعْقِيبَ بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَقْرَبِهِمَا، وَعَلَى أَيِّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَهُوَ قَوْلُنَا. وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] فَجَعَلَهُ وَاقِعًا بِعَزْمِ الْأَزْوَاجِ لَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ عَزِيمَةً وَإِنَّمَا الْعَزْمُ مَا عَدَّهُ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكتاب أجله} [البقرة: 235] فإن قبل فترك الفيئة عزم على الطلاق، قبل الْعَزْمُ مَا كَانَ عَنِ اخْتِيَارٍ وَقَصْدٍ وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ تَرْكَ الْوَطْءِ لِشَهْوَةٍ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ. وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَلَوْ كَانَ فِي حَالَتَيْنِ لَكَانَ تَرْتِيبًا وَلَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا. وَالدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمَا إِلَيْهِ لِيَصِحَّ مِنْهُ اخْتِيَارُ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ لِبَطَلَ حُكْمُ خِيَارِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 وَالدَّلِيلُ السَّادِسُ: ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عَنْ قَوْلٍ مَسْمُوعٍ، فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا قَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244] قِيلَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِأَنَهُ مَعْقُولٌ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَا فِي آيَةِ الْجِهَادِ سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ فِي التَّحْرِيضِ، عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِمْ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهَا مُدَّةٌ تَقَدَّرَتْ بِالشَّرْعِ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا الْفُرْقَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَا الْبَيْنُونَةُ كَأَجَلِ الْعُنَّةِ وَقَوْلُنَا تَقَدَّرَتْ بِالشَّرْعِ احْتِرَازًا مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَوْلُنَا لَمْ تَتَقَدَّمْهَا الْفُرْقَةُ احْتِرَازًا مِنَ الْعِدَّةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ عَلَّلَ هَذَا الْأَصْلَ بِأَوْضَحِ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ، فَقَالَ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ بِجِمَاعٍ مُنْتَظَرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَا الْفُرْقَةُ كَأَجَلِ الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ كسائر الْمُعَجَّلُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُؤَجَّلُ كَالظِّهَارِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ كَالظِّهَارِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ حُكْمٍ مَنْسُوخٍ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِصَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ صَرِيحًا فِيهِ وَلَا كِنَايَةً لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَرِيحًا لَوَقَعَ مُعَجَّلًا إِنْ أَطْلَقَ أَوْ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى إِنْ قَيَّدَهُ وَلَوْ كَانَ كِنَايَةً لَرُجِعَ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ كَذَلِكَ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِاللِّعَانِ حَيْثُ وقعت به الفرقة وإن لم صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُوقِعُ الْفَسْخَ وَلَا يُوقِعُ الطَّلَاقَ، وَالْفَسْخُ يَقَعُ بِغَيْرِ قَوْلٍ والطلاق لا يقع إلى بِقَوْلٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْهَا ثِقَاةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَشَذَّتْ، وَالشَّاذُّ مَتْرُوكٌ، وَلَوْ ثَبَتَتْ وَجَرَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لَحُمِلَتْ عَلَى جَوَازِ الْفَيْئَةِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّكُمْ تَزِيدُونَ عَلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، فَهُوَ أَنَّنَا لَا نَزِيدُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا نُقَدِّرُ بِهَا مُطَالَبَةَ الْفَيْئَةِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ جَوَازَ الْفَيْئَةِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِدَّةِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِمُدَّةِ الْعُنَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُدَّةَ فِيهَا لَمَّا تَقَدَّمَتْهَا الْفُرْقَةُ جَازَ أَنْ تَقَعَ بِهَا الْبَيْنُونَةُ، وَلَمَّا لَمْ تَتَقَدَّمْ مُدَّةُ الإيلاء لم يجوز أَنْ تَقَعَ بِهَا الْفُرْقَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِمُدَّةِ الْعُنَّةِ، إنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَعَ قَبْلَهَا وَلَوْ عَلَّقَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 أَشْهُرٍ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ عِنْدَهُمْ كذلك والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: (ولي المولى مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ يَلْزَمُهُ بِهَا كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نِفْسِهِ شَيْئًا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَوْجَبَهُ فَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُولِي) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَحْلِفُهُ بِهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْيَمِينَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ فِيهَا شَيْءٌ كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالسَّمَاءِ وَالْعَرْشِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْأَيْمَانِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ فِي يَمِينِهِ شَيْئًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى: أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ يَجِبُ عليه بالحنث فيها كفارة فهذا مولى يُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِالْعِتْقِ، أَوِ الطَّلَاقِ، أَوِ الصَّدَقَةِ، أَوِ الصِّيَامِ كَأَنْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ عَمْرَةُ طَالِقٌ لِزَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، أَوِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْأَيْمَانِ الَّتِي إِذَا حَنِثَ فِيهَا لَزِمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ فَيَكُونُ حَالِفًا وَهَلْ يَصِيرُ بِهَذَا الْحَلِفِ مُولِيًا يُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَحْلِفْ بِاللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 255] يَعْنِي بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فَعَطَفَ بِهِ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا بِهِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَيْمَانِ مَحْمُولَةٌ عُرْفًا وَشَرْعًا عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَمَّا الْعُرْفُ فَلِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ فُلَانٌ قَدْ حَلَفَ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ إِلَّا الْحَلِفَ بِاللَّهِ إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَ فَيُقَالُ حَلَفَ بِالْعِتْقِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ) فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْإِيلَاءِ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْمَعْهُودِ مِنْ عُرْفٍ، أَوْ شَرْعٍ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وَغُفْرَانُ الْمَأْثَمِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الَّذِي يُسْتَضَرُّ بِالْحِنْثِ فِيهِ فليتزم مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، وَالْيَمِينُ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ قَدْ لَا يُسْتَضَرُّ بِالْحِنْثِ فِيهَا وَهُوَ أن يطأ بعد ربيع عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَلَا يَلْتَزِمُ بِالْحِنْثِ بِالْوَطْءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مولياً وإن كان حالفاً لأنه قد يطأها فِي غَيْرِ تِلْكَ الدَّارِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَلَا يَحْنَثُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا سَوَاءٌ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ كَانَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا إِذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَيَكُونُ مُولِيًا إِذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نسائهم} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَالِفٍ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا كَانَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ يَلْتَزِمُ بِالْحِنْثِ فِيهَا مَا لَمْ يَلْزَمْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُولِيًا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ مَا أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَى الْمُولِي وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي يَمِينِهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ مِنَ الضَّرَرِ مِنْ يَمِينِهِ بِاللَّهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِهِمَا مُولِيًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَعَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ عَتَقَ بِوَطْئِهَا، وَلَوْ قَالَ: فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ لَمْ يُعْتَقْ بِالْوَطْءِ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ أَوْ كَفَّارَةٍ وَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مولى، وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَزَيْنَبُ طَالِقٌ فَوَطِئَهَا طُلِّقَتْ زَيْنَبُ وَيَكُونُ مُولِيًا، وَلَوْ قَالَ؛ إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ طَلَاقُ زَيْنَبَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَطِئَهَا لَمْ تُطَلَّقْ زَيْنَبُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَلَوْ قَالَ إِنْ وَطِئْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقِفَ دَارِي كَانَ مُولِيًا، وَلَوْ قَالَ فَدَارِي وَقْفٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِخِلَافِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِوَطْئِهَا وَقْفًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ بِوَطْئِهَا حُرًّا وَلَوْ قَالَ إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِزَوْجَةٍ لَهُ أُخْرَى، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَجِبُ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ قِيلَ لَا تَجِبُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: (وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِيلَاءُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِأَحَدِ أَسْمَاءِ الجماع التي هي صريحة وذلك قوله والله لا أنيكك ولا أغيب ذكري في فرجك أو لا أدخله في فرجك أو لا أجامعك أو يقول إن كانت عذراء والله لا أفتضك أو ما في مثل هذا المعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 فهو مول في الحكم (وقال في القديم) لو قال والله لا أطؤك أو لا أمسك أو لا أجامعك فهذا كله باب واحد كلما كان للجماع اسم كني به عن نفس الجماع فهو واحد وهو مول في الحكم قلنا ما لم ينوه في لا أمسك في الحكم في القديم ونواه فهي الجديد وأجمع قوله فيهما بحلفه لا أجامعك أنه مول وإن احتمل أجامعك ببدني وهذا أشبه بمعاني العلم والله أعلم (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لا أباشرك أو لا أباضعك أو لا أمسك أو ما أشبه هذا فإن أراد جماعاً فهو مول وإن لم يرده فغير مول في الحكم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْلِمُهَا فِي الْإِيلَاءِ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ صريحاً في الظاهر والباطن. وَالثَّانِي: مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ كِنَايَةً فِي الْبَاطِنِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرَّابِعُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَالْخَامِسُ: مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَهُوَ وَاللَّهِ لَا أَنِيكُكِ أولا أدخل ذكري في فرجك أولا أُغَيِّبُهُ فِيهِ أَوْ لَا أَفْتَضُّكِ بِذَكَرِي وَهِيَ بِكْرٌ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِيلَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا به مولياً أرد بِهِ الْإِيلَاءَ أَمْ لَمْ يُرِدْ، فَيَكُونُ مُولِيًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ إِذَا أَرَادَ بِهِ الْإِيلَاءَ وَإِذَا أَطْلَقَ وَإِذَا لَمْ يُرِدْ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ فِي الْبِكْرِ: لَا أَفْتَضُّكِ وَلَمْ يَقُلْ بِذَكَرِي فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ مِنَ الْقَسَمِ الثَّانِي لِاحْتِمَالِهِ أَنْ لا يقتضها بِيَدِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ كِنَايَةً فِي الْبَاطِنِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ وَلَا جَامَعْتُكِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الظَّاهِرِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَيَجْعَلُهُ بِهِ مُولِيًا فِي الْحُكْمِ وَكِنَايَةٌ فِي الْبَاطِنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَا أَطَؤُكِ بِقَدَمِي وَلَا أُجَامِعُكِ أَيْ لَا أجْتَمِعُ مَعَكِ فيدين فِيهِ إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيلَاءَ فَيَصِيرُ بذلك مولياً في حالتين: إذا أردا بِهِ الْإِيلَاءَ، وَإِذَا أَطْلَقَ، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيلَاءَ، فَإِنْ قَالَ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ بِذَكَرِي وَلَا جَامَعْتُكِ بِفَرْجِي فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جعله من القسم الأول صريحاً في الظهر وَالْبَاطِنِ لِخُرُوجِهِ بِذِكْرِ الْفَرْجِ عَنْ حَالِ الِاحْتِمَالِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذِكْرُ الْفَرْجِ مَنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لَا أَطَؤُكِ بِفَرْجِي وَلَا أُجَامِعُكِ بِذَكَرِي دُونَ الْفَرْجِ فَلِذَلِكَ صَارَ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ كِنَايَةً في الباطن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَأَسُوأَنَّكِ وَاللَّهِ لَا قَرَبْتُكِ أَوْ وَاللَّهِ لَا أَجْمَعُ رَأْسِي بِرَأْسِكِ أَوْ لَا ضَمَّنَا بَيْتٌ أَوْ لَا ضَاجَعْتُكِ أَوْ لَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْكِ إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوَطْءِ وَغَيْرِهِ فَتَكُونُ كِنَايَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا إِلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَتَيْنِ: وَهُوَ إِذَا أَطْلَقَ أَوْ لَمْ يُرِدِ الْإِيلَاءَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ، لَا بَاضَعْتُكِ وَلَا بَاشَرْتُكِ وَلَا مَسَسْتُكِ فَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ كِنَايَةً فِي الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي، فَيَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَتَيْنِ إِنْ أَرَادَ أَوْ أَطْلَقَ، وَلَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ إِذَا لَمْ يُرِدْ لِأَنَّ الْمُبَاضَعَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ الْفَرْجُ، وَالْمَسِيسُ وَالْمُبَاشَرَةُ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِمَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُ الْوَطْءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَتَيْنِ: إِذَا أَطْلَقَ أَمْ لَمْ يُرِدْ، وَيَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا أَرَادَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: لَا أَصَبْتُكِ، وَلَا غَشَيْتُكُ، وَلَا لَمْسَتُكِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهَا مَجْرَى هَذَا الْقِسْمِ فِي أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْهُ وَجَعَلَهَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ كِنَايَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا أوحشتك أو لا أحزنتك أو لا كسوتك أولاً أطعمتك أو لا أشربتك أولا ضربتك فهذا ما شَاكَلَهُ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي الْأَحْوَالِ الثلاث لا إن أطلق، وإلا إن لَمْ يُرِدْ وَلَا إِنْ أَرَادَ كَالَّذِي لَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً مِنَ الطَّلَاقِ وَلَا يقع به الطلاق. (مسألة:) قال الشافعي: رضي الله عنه وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أُجَامِعُكِ فِي دُبُرِكِ فهو محسن ولا قال والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أو لأسوأنك أو لتطولن غيبتي عنك أو ما أشبه هذا فلا يكون بذلك مولياً إلا أن يريد جماعاً وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لِجِمَاعِكِ فَإِنْ عني أكثر من أربعة أشهر فهو مول) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا، لِأَنَّ الشَّرْعَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ بِالْيَمِينِ إِلَّا مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مولياً، ولو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 قَالَ: وَاللَّهِ لَا اغْتَسَلْتُ مِنْكِ مِنْ جَنَابَةٍ كَانَ كِنَايَةً لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا إِلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ بِوَطْءِ غَيْرِهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِوَطْئِهَا أَوْ قَدْ يُولِجُ فَيَكْسَلُ وَلَا يُنْزِلُ فَلَا يَغْتَسِلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا وَبِهَذَا الْوَطْءِ يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَلِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا جَامَعْتُكِ جِمَاعَ سُوءٍ كَانَ كِنَايَةً، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ قُوَّةَ الْجِمَاعِ أَوْ ضَعْفَهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا جَامَعْتُكِ جِمَاعَ سُوءٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا سَوَاءٌ أَرَادَ بِهَذَا الْمَكْرُوهَ أَوْ غَيْرَ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ هَذَا الْجِمَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْجِمَاعِ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَيَطُولَنَّ تَرْكِي لِجِمَاعِكِ فَإِنْ عَنَى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا وَإِلَّا فَلَا. (مسألة:) قال الشافعي: رضي الله عنه (وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ قَالَ إِذَا مَضَتْ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً فَوُقِفَ فِي الْأُولَى فَطَلَّقَ ثم ارتجع فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَجْعَتِهِ وَبَعْدَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ وُقِفَ فَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ السَّنَةِ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلُّ لَمْ يُوقَفْ لِأَنِّي أَجْعَلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ يَحِلُّ لَهُ الْفَرْجُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَيَتَعَلَّقُ بِمَسْطُورِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُرُوعٍ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (الْأُمِّ) بَعْضَهَا. فَأَمَّا الْمَسْطُورُ فَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً فَهَذِهِ يَمِينَانِ عَلَى زَمَانَيْنِ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ وَيَكُونُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُولِيًا وَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ فِي إحداهما وطء فِي الْأُخْرَى وَلَا طَلَاقُ إِحْدَاهُمَا طَلَاقًا فِي الْأُخْرَى سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا أَوْ مُن ْفَصْلٌ ا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ فِيهَا بَعْدَ يَمِينِهِ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ الثَّانِي سَنَةٌ فَيُوقَفُ فِيهَا مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْخَمْسَةِ الْأَشْهُرِ إِنْ كَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِذَا مَضَتْ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ طُولِبَ حِينَئِذٍ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ نَشْرَحُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَقُولُ لَهُ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَفِيءَ فِيهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفِيءَ فِي الْأَوَّلِ وَيُطَلِّقَ فِي الثَّانِي. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْأَوَّلِ وَيَفِيءَ فِي الثَّانِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 فأما الحال الأول: وَهُوَ أَنْ يَفِيءَ فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ وَيَفِيءَ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي، فَيَكُونُ حُكْمُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ الْأَوَّلَ إِذَا مَضَى لَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بعد يمينه وطولب بالفيئة، أو الطلاق فقاء وَوَطِئَ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ، بِوَطْئِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِحِنْثِهِ، فَإِنْ وَطِئَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ الْخَامِسِ مِنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَطْئِهِ حِنْثٌ وَلَا يَسْقُطْ بِهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ فَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ الْخَامِسُ فَهُوَ أَوَّلُ زَمَانِ وَقْفِهِ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي لِدُخُولِ السَّنَةِ بِانْقِضَائِهِ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدِ تقضى زَمَانُ الْوَقْفِ مِنَ الْإِيلَاءِ الثَّانِي طُولِبَ فِيهِ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا فَاءَ فِيهِ وَوَطِئَ سَقَطَ حُكْمُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِحِنْثِهِ وَلَا يُوقَفُ بَعْدَ وَطْئِهِ إِنْ كَانَتِ السَّنَةُ بَاقِيَةً وَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي بِاقِيهَا كَوَطْئِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ وَيُطَلِّقَ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي، فَإِذَا طَلَّقَ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوْ لَا تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ وَبَقِيَتْ يَمِينُهُ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي زَوْجَةِ وَالْيَمِينَ يَكُونُ فِي زَوْجَةٍ وَغَيْرِ زَوْجَةٍ، وَإِنْ رَجَعَتْ إِلَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ بِمُرَاجَعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: بِعَقْدِ نِكَاحٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَيْهِ بِالرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ كَانَ الْإِيلَاءُ الثَّانِي بَاقِيًا بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي آلَى فِيهِ بَاقِيًا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي حَالِ رَجْعَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ الْخَامِسِ من الإيلاء الأول لم يعقد عليه بِبَاقِيهِ وَكَانَ حَالِفًا فَإِنْ وَطِئَ بِالْيَمِينِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طَلَاقِهِ وَرَجْعَتِهِ فَإِذَا مَضَى بَقِيَّةُ الشَّهْرِ الْخَامِسِ اسْتُوقِفَ لَهُ مُدَّةُ الْوَقْفِ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَبَعْدَ دُخُولِ السَّنَةِ مِنَ الْإِيلَاءِ الثَّانِي فَأَوَّلُ مُدَّةِ الْوَقْفِ بَعْدَ رَجْعَتِهِ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَجْعَتِهِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا طَلَّقَ فِيهِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ، فَإِذَا رَاجَعَ فِيهِ بَعْدَ طَلَاقِهِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنَ السَّنَةِ بَعْدَ رَجْعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ طَلَّقَ فَمَعْلُومٌ بَعْدَ الْوَقْفَيْنِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ السَّنَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِيهَا، وَيَكُونُ حَالِفًا كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَكُونُ حَالِفًا وَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنَ السَّنَةِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ الْأُولَى مِنَ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ كَانَ فِيهَا حَالِفًا وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَأَمَّا إِذَا عَادَتْ إِلَى الزَّوْجِ فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 بِالرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ، فَهَلْ يُعَدُّ إِيلَاؤُهُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَيَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أم لا على ثلاثة أقاويل: أحدهما: أَنَّهُ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ إِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَالطَّلَاقِ وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ إِلَّا فِي زَوْجَةٍ وَأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْإِيلَاءَ لَا يَصِحَّانِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَالْإِيلَاءُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النِّكَاحِ الثَّانِي فَلَمْ يَصِحَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُوقَفُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ الْإِيلَاءُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ عَقْدَهُ مَوْجُودٌ فِي نِكَاحٍ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ اسْتِدَامَةُ ذَلِكَ النِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ فِيهِ لِلْإِيلَاءِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِ كَالْوَقْفِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَائِنًا وَهُوَ الثَّلَاثُ أَوْ دُونَهَا بَعِوَضٍ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ وَلَمْ يُوقَفْ لَهَا وَكَانَ حَالِفًا إِنْ وَطِئَ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَنَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْهُ عَادَ الْإِيلَاءُ وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ كَمَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أن يفيء بالوطء فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ وَيُطَلِّقَ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي [فَقَدْ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ الْأَوَّلُ بِوَطْئِهِ فِيهِ وَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْوَقْفُ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي] بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ أَوَّلِ الْإِيلَاءِ الثَّانِي وَذَلِكَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَمِينِهِ يُقْضَى بِهِ زَمَانُ الْوَقْفِ فِيهِ فَطُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فِإِذَا طَلَّقَ فِيهِ فَإِنْ لم يرجع إليه حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ سَقَطَتْ يَمِينُهُ وَزَالَ إِيلَاؤُهُ لِتَقَضِّي زَمَانِهِ، وَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ، إِنْ عَادَتْ بِرَجْعَةٍ فِي الْعِدَّةِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ وَقْفُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَطُولِبَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُولِيًا لِقُصُورِهَا عَنْ مُدَّةِ الْوَقْفِ، وَكَانَ فِيهَا حَالِفًا وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا يَبْلُغُ مُدَّةَ الْوَقْفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ أم لا، وعلى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ وَيَفِيءَ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ وَطْئِهِ فِيهِ وَقَدْ سَقَطَ عِنْدَ حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ بِطَلَاقِهِ فِيهِ، وَيَكُونُ حُكْمُ طَلَاقِهِ فِي هَذَا الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَحُكْمِهِ لَوْ طَلَّقَ فِيهِمَا وَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي الْإِيلَاءِ الثَّانِي مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ مُسْقِطًا لِلْإِيلَاءِ كَحُكْمِهِ لَوْ وَطِئَ فِيهِ مَعَ الْإِيلَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ فِي الطَّلَاقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَلِّقَ وَبَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ فَيُطَلِّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُطَلِّقَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ وَإِذَا كَانَ الْحَاكِمُ هُوَ الْمُطَلِّقَ فَلَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدَةَ الرَّجْعِيَّةَ، لِأَنَّهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 أَقَلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنَ الإيلائين وطئ وَلَا طَلَاقٌ حَتَّى انْقَضَى زَمَانُهُمَا فَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ فِيهِمَا وَسَقَطَ حُكْمُهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ هَذَا لِعَفْوِ الزَّوْجَةِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ لَمْ يَأْثَمْ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا يَجُوزُ لَهَا الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ طَالَبَتْهُ فَدَافَعَهَا كَانَ آثِمًا لِاسْتِدَامَةِ الْإِضْرَارِ بِهَا مُدَّةَ يَمِينِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْفَرْعُ الْأَوَّلُ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً فَتَدْخُلُ الْمُدَّةُ الْأُولَى فِي الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ دَاخِلٌ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، دَخَلَتِ الْمِائَةُ فِي الْأَلْفِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمَا إِيلَاءٌ وَاحِدٌ بيمينين يوقف فيهما وقفاً واحدا لكونه إيلاءا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْخَمْسَةَ الْأَشْهُرِ مَعْقُودَةٌ بِيَمِينَيْنِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ تَمَامِ السَّنَةِ مَعْقُودَةٌ بِيَمِينِ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ فَاءَ وَوَطِئَ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةِ أشهر عليه كفارة وادة لأنه معقودة بِيَمِينِ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ فَاءَ وَوَطِئَ فِي الْخَمْسَةِ الْأَشْهُرِ فَهُوَ حِنْثٌ بِيَمِينَيْنِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَفَّارَتَانِ لِأَنَّهُ حِنْثٌ فِي يَمِينَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْحِنْثَ فيهما واحداً. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي فَهُوَ: أَنْ يَقُولَ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً ثُمَّ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، فَهَلْ تَدْخُلُ الْخَمْسَةُ الْأَشْهُرِ فِي السَّنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَدْخُلُ فِيهَا إِذَا تَأَخَّرَتْ كَمَا تَدْخُلُ فيها إذا تقدمت، فعلى هذا يكون إيلاءاً وَاحِدًا عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، بَعْضُهَا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِنْ حَنِثَ فِيهِ لَزِمَتْهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا بِيَمِينَيْنِ إِنْ حَنِثَ فِيهِمَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَالثَّانِي: كَفَّارَتَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَمْسَةَ أَشْهُرٍ لَمْ تَدْخُلْ فِي السَّنَةِ إِذَا تَأَخَّرَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا إِذَا تَقَدَّمَتْ لِأَنَّ لَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ النُّقْصَانُ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ الثَّانِي نَاقِصًا وَلَيْسَ لَهُ النُّقْصَانُ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَإِذَا كَانَ الثَّانِي زَائِدًا وَلَهُ الزِّيَادَةُ حُمِلَ عَلَى التَّدَاخُلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُولِيًا سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ بِيَمِينَيْنِ، وهل يكون ذلك إيلاءاً وَاحِدًا أَوْ إِيلَاءَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إيلاءاً وَاحِدًا يُوقَفُ فِيهِ وَقْفًا وَاحِدًا وَلَا يَجُبْ إِذَا وَطِئَ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ أَحَدَ الزَّمَانَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الآخر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُمَا إِيلَاءَانِ مُدَّةُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا سَنَةٌ، وَمُدَّةُ الثَّانِي خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، وَيُوقَفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ وَلَا يُغْنِي وَقْفُهُ فِي أَحَدِهِمَا عَنْ وَقْفٍ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ وَطِئَ فِيهِمَا لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ يَقْصُرُ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَلَا يُوقَفُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَحْنَثُ إِنْ وَطِئَ فِيهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِيَمِينِهِ مُمْتَنِعًا مَنْ وَطْئِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ مُتَّصِلَةٍ فَصَارَ مُولِيًا كَمَا جَمَعَهَا فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ فِيهِمَا وَقْفًا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا وَفِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بَعْدِ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا تَجْعَلُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُولِيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُوقَفُ مِنْ أَوَّلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَهَذَا على الوجه الذي تجعله فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُولِيًا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَرْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَفِي تَدَاخُلِ الزَّمَانَيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا يَتَدَاخَلَانِ حَمْلًا عَلَى تَكْرَارِ التَّأْكِيدِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَدَاخَلَانِ وَتَكُونُ مُدَّةُ الْمَنْعِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ لَكِنَّهَا بِيَمِينَيْنِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْفَرْعِ الثَّانِي إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً وَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمْ نَجْعَلْ أَحَدَ الزمانين داخلاً في الآخر هل يكون إيلاءاً وَاحِدًا أَوْ إِيلَائَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ جَعَلْنَا ذلك إيلاءاً وَاحِدًا فَقُلْنَا: هَذَا مُولِيًا وَإِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ إِيلَائَيْنِ لَمْ نَجْعَلْ هَذَا مُولِيًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ يَقْصُرُ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: رضي الله عنه: (وَإِنْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ أَمْسٍ وَلَوْ أَصَابَهَا وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهْرِ شَيْءٌ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ أَوْ صَوْمُ مَا بَقِيَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْإِيلَاءَ يَكُونُ بِكُلِّ يَمِينٍ الْتَزَمَ بِهَا مَا يَلْزَمُهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْإِيلَاءَ، لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَإِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ كَانَ حَالِفًا وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوَطْءِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمُ أَمْسٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ وَإِنْ وَطِئَ لِمُضِيِّ زَمَانِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا فَهُوَ حَالِفٌ فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى انْقَضَى ذَلِكَ الشَّهْرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ وَطِئَ بَعْدَهُ، وَإِنْ وَطِئَ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَيَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِ بَاقِيهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ نَذْرُ لَحَاجٍ وَغَضِبَ فَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ حُكْمِ النَّذْرِ وَحُكْمِ الْأَيْمَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَذَلِكَ أَنْ يَطَأَ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ زَيْدٌ. أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ، فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ عَلَى هَذَا الْوَطْءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْوَاطِئُ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِ يَوْمٍ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ إِنْ وَطِئْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَ مُولِيًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْيِينِ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَلْزَمْ لِوُجُودِ الشَّهْرِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَطِئَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ صِيَامِ شَهْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ نَذْرُ لَحَاجٍ وَسَقَطَتْ يَمِينُهُ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ وَطَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمٌ وَلَا كَفَّارَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ رَاجَعَ اسْتُؤْنِفَ لَهُ وَقْفُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ وَطَلَّقَ ثَانِيَةً ثُمَّ رَاجَعَ اسْتُؤْنِفَ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثَالِثَةٍ فَإِذَا مَضَتْ وَطَلَّقَ بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ وَإِنْ عَادَ فَنَكِحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ فَهَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ لَا يَعُودُ ويكون حالفاً غي مولى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْقَدِيمِ يَعُودُ الْإِيلَاءُ لِبَقَاءِ اليمين ووجودها في عقدي نكاح. (مسألة) الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وُقِفَ فَإِنْ فَاءَ وَغَابَتِ الْحَشَفَةُ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا فَإِذَا أَخْرَجَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَعْدُ فَعَلَيْهِ مَهْرُ مثلها) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَيْضًا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا، لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَلَاقِهَا بِالْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيُطَالَبُ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَالَبَ بِالْفَيْئَةِ وَيُؤْخَذَ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهَا تُطَلَّقُ بِهِ ثَلَاثًا فَيَصِيرُ وَاطِئًا لِبَائِنٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَ الْإِيلَاجِ مُحَرَّمًا كَانَ الْإِيلَاجُ مُحَرَّمًا كَالصَّائِمِ إِذَا تَحَقَّقَ بِخَبَرِ نَبِي صَادِقٍ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَّا قَدْرُ إِيلَاجِ الذَّكَرِ دُونَ إِخْرَاجِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ الْإِبَاحَةِ لِتَحْرِيمِ مَا بَعْدَ الْإِيلَاجِ فِي زَمَانِ الْحَظْرِ فَيَحْرُمُ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْفَجْرِ، كَذَلِكَ حَالُ هَذَا الْمُولِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذَا الْمُولِيَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ، وَإِنْ طُلِّقَتْ بِالْإِيلَاجِ، وَيَكُونُ الْمُحَرَّمَ بِهَذَا الْوَطْءِ اسْتِدَامَةُ الْإِيلَاجِ لَا الِابْتِدَاءُ وَالْإِخْرَاجُ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: مَذْهَبٌ، وَحِجَاجٌ. أَمَّا الْمَذْهَبُ، فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَى الصَّائِمِ وَهُوَ مَجَامِعٌ وَأَخْرَجَهُ مَكَانَهُ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ، فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ أَفْطَرَ وَكَفَّرَ، فَحَرَّمَ الِاسْتِدَامَةَ وَلَمْ يُحَرِّمِ الْإِخْرَاجَ لِوُجُودِ الْإِيلَاجِ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّ الْإِخْرَاجَ تَرْكٌ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ الْحَظْرِ فَصَارَ مُبَاحًا. وَأَمَّا الْحِجَاجُ: فَهُوَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْخُلْ دَارِي وَلَا تُقِمِ اسْتَبَاحَ الدُّخُولَ لِوُجُودِهِ عَنْ إِذْنٍ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِمَنْعِهِ عَنِ الْمُقَامِ، وَيَكُونُ الْخُرُوجُ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ الْحَظْرِ مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ كَذَلِكَ حَالُ هَذَا الْمُولِي يَسْتَبِيحُ أَنْ يُولِجَ وَيَسْتَبِيحُ أَنْ يُخْرِجَ، وَيَحْرُمُ عليه استدامة الإيلاج فأما الصائم إذا أخبره أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرُ الْإِيلَاجِ دُونَ الْإِخْرَاجِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ فِي زَمَانِ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ لِوُجُودِهِ فِي زَمَانِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِخْرَاجُ فِي زَمَانِ الْحَظْرِ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حُكْمُ الْمُولِي وَالصَّائِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِيلَاجُ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ الْإِبَاحَةِ لِوُجُودِ الْإِخْرَاجِ فِي زَمَانِ الْحَظْرِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالْمُولِي أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الصَّائِمِ يَعْنِي الْإِيلَاجَ، فَجَازَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ وَالْمُولِي لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ بِغَيْرِ الْإِيلَاجِ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْإِيلَاجُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْإِيلَاجَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ طُلِّقَتْ بِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الْوَقْفِ بَيْنَ الْفَيْئَةِ، أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ فَطَلَاقُهُ فِيهِ كَطَلَاقِهِ فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا مَضَى وَعَلَى مَا سَيَأْتِي، فَإِنْ فَاءَ بِالْوَطْءِ فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ مِنْهُ أَنْ يُولِجَ الْحَشَفَةَ حَتَّى يَلْتَقِيَ بِهَا الْخِتَانَانِ؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ مِنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْإِيلَاجِ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِوَطْئِهَا يَقَعُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَهُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ، وَهِيَ بَعْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يُولِجَ بَاقِيَ ذَكَرِهِ وَأَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فَيَكُونُ تَحْرِيمُ إِيلَاجِ الْبَاقِي مِنَ الذَّكَرِ كَتَحْرِيمِ الْمُكْثِ فَيَصِيرَانِ مَعًا مُحَرَّمَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخْرِجَ حَشَفَةَ ذَكَرِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَسْتَدِيمُهَا وَلَا يُولِجُ بَاقِيَ ذَكَرِهِ مَعَهَا بَلْ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنَ الْفَيْئَةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى مَحْظُورٍ يُوجِبُ حَدًّا، وَلَا مَهْرًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْكُثَ مُسْتَدِيمًا لِإِيلَاجِ الْحَشَفَةِ أَوْ يَسْتَوْفِيَ إِيلَاجَ جَمِيعِ الذَّكَرِ، سَوَاءٌ اسْتَدَامَ حَرَكَةَ الْوَطْءِ حَتَّى أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يَسْتَدِمْهَا حَتَّى أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ إِيلَاجٍ ثَانٍ، فَهَذَا قِسْمٌ وَاحِدٌ وَحُكْمُهُ وَاحِدٌ وَهِيَ إِيلَاجَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ أَوَّلُهَا مُبَاحًا وَآخِرُهَا مَحْظُورًا فَلَا حَدَّ فِيهَا لِأَنَّ اجْتِمَاعَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ وَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا يَجِبُ بِالِابْتِدَاءِ كَالصَّائِمِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ إِيلَاجَ ذَكَرِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِاسْتِدَامَةِ الْإِيلَاجِ كَوُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِابْتِدَاءِ الْإِيلَاجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالِاسْتِدَامَةِ وَإِنْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الصَّائِمِ بِالِاسْتِدَامَةِ لِأَنَّهَا إِيلَاجَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَتَمَيَّزُ حُكْمُهَا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِابْتِدَائِهَا مَهْرٌ لَمْ يَجِبْ بِاسْتِدَامَتِهَا مَهْرٌ، وَخَالَفَ اسْتِدَامَةَ الصَّائِمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الصَّوْمِ تَتَعَلَّقُ بِشَيْئَيْنِ: الزَّمَانِ، وَالِاسْتِدَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ الزَّمَانُ مُتَمَيِّزًا جَازَ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَحُكْمُ الِاسْتِدَامَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَهْرُ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْوَطْءُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِدَامَةِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ إِيجَابَ الْمَهْرِ هَاهُنَا بِالِاسْتِدَامَةِ مُفْضٍ إِلَى إِيجَابِ مهرين بوطء واحد وهو أن تكون مفوضة غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَيَجِبُ لَهَا بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَهْرٌ، وَيَجِبُ لَهَا بِاسْتِدَامَةِ الْإِيلَاجِ مَهْرٌ ثَانٍ فَيَصِيرُ الْوَطْءُ الْوَاحِدُ مُوجِبًا لِمَهْرَيْنِ، وَهَذَا غَيْرُ جائز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ فِي اسْتِدَامَةِ إِيلَاجِ الصَّائِمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ إِلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً عَلَى تَصَارِيفَ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُخْرِجَ الْحَشَفَةَ بَعْدَ إِيلَاجِهَا ثُمَّ يَسْتَأْنِفَ إِيلَاجًا بَعْدَهَا فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ بِالْإِيلَاجَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ مَنْسُوبَتَيْنِ إِلَى وَطْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَتِ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ فِي التَّحْرِيمِ حَتَّى حَلَّتِ الْأُولَى وَحُرِّمَتِ الثَّانِيَةُ، وَإِنْ كانتا في وَطْءٍ وَاحِدٍ تَمَيَّزَتِ الْأُولَى عَنِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ وَطْءٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ إِذَا تَكَرَّرَ مُتَسَاوِي الْحُكْمِ بِأَنْ وَطِئَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ وَطِئَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ وَإِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِأَنْ وَطِئَ مَرَّةً بِنِكَاحٍ وَمَرَّةً بِشُبْهَةٍ تَمَيَّزَ حُكْمُهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَذَلِكَ الْوَاطِئُ الْوَاحِدُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيلَاجَةَ الثَّانِيَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ الْمَهْرِ فَلَا حُكْمَ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ إِيلَاجَةٍ ثَالِثَةٍ وَرَابِعَةٍ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهَا كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ وَطْءُ الشُّبْهَةِ اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي إِيجَابِ مَهْرٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ هَاهُنَا فِي الْإِيلَاجَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ لِقُصُورِهِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِاسْتِكْمَالِ الْوَطْءِ وَإِتْمَامِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَرَاغِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَحْكَامُهُ فِي الشَّرْعِ مُتَعَلِّقَةً بِأَوَّلِهِ، فلهذه الشبهة سقط الحد عنهما ولا تعزيز عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ مَا كَانَ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي التَّعْزِيرِ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ وَجَبَ بِهِمَا الْمَهْرُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ، وَأَنَّ الْإِيلَاجَ الثَّانِيَ وَمَا بَعْدَهُ كَانَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا بِالْإِيلَاجِ الْأَوَّلِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ زِنَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّهُ إِيلَاجٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ فِيهِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ لَهَا لِتَنَافِي مُوجِبِهَمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَيْسَ بِزِنًا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَحْلِيلُ أَوَّلِهِ شُبْهَةً فِي تَحْرِيمِ آخِرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا وَيُعَزَّرَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَالزَّوْجَةُ جَاهِلَةً أَوْ عَالِمَةً لَكِنَّهَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهَا فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ وَلَهَا الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ، وَهَلْ عَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ لِعِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 وَالثَّانِي: لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ وَالزَّوْجَةُ عَالِمَةً بِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَعْزِيرَ لِجَهْلِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّوْجَةِ مَعَ عِلْمِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَتُعَزَّرُ، فَعَلَى هَذَا لَهَا الْمَهْرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهَا الْحَدُّ، فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمَهْرَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةُ) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفِيءَ طُلِّقَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ فَإِنْ رَاجَعَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ رَاجَعَ ثُمَّ هَكَذَا حَتَى يَنْقَضِيَ طَلَاقُ ذَلِكَ الْمِلْكِ ثَلَاثًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَكَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَضَتْ لِلْمُولِي مُدَّةُ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَخُيِّرَ بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ [فَامْتَنَعَ أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْفَيْئَةِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ] فَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ فَهَلْ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] فَأَضَافَ الْعَزْمَ إِلَى الزَّوْجِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَصِحَّ من غيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الطلاق لمن أخذ بِالسَّاقِ) فَجَعَلَهُ إِلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا مَدْخَلَ لِلْحَاكِمِ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْآخَرِ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ الْحَقُّ فِيهِ لِأَجْلِ التَّخْيِيرِ لَمْ يَقُمِ الْحَاكِمُ فِي التَّخْيِيرِ مَقَامَهُ، كَالَّذِي يسلم عغن أُخْتَيْنِ فَيَمْتَنِعُ مِنَ اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَقُمِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَعَلَى هَذَا يُحْبَسُ الزَّوْجُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ لِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا يُحْبَسُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ اخْتِيَارِ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ أَوِ اخْتِيَارِ أَرْبَعٍ إِذَا أَسْلَمَ وَمَعَهُ أَكْثَرُ مِنْهُنَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّ الْحَاكِمَ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ؛ لِأَنَّ مَا دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ إِذَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَامْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْإِيفَاءِ كَانَ لِلْحَاكِمِ الِاسْتِيفَاءُ كَالدُّيُونِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّتْ بِهِ الْفُرْقَةُ بَعْدَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ كَانَ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلٌ فِيهَا كَالْعُنَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الزَّوْجِ مِنْ طَلَاقِهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا، وَتَكُونَ هِيَ الْمُسْتَوْفِيَةَ لِحَقِّهَا دُونَ الْحَاكِمِ كَالدَّيْنِ يَجُوزُ لِمُسْتَحَقِّهِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْغَرِيمِ مِنْ أَدَائِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ دُونَ الحاكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 قُلْنَا: لَا يَجُوزُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَكَانَ الْحَاكِمُ أَحَقَّ بِهِ، وَقَضَاءَ الدِّينِ غَيْرُ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَكَانَ مَالِكُهُ أَحَقَّ بِهِ - فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً لَا يَتَجَاوَزُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ فَاقْتَضَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّلَاقِ، وَهُوَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، فَلَمْ يَلْزَمِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَوْقَعَهَا الزَّوْجُ بِاخْتِيَارِهِ أَوِ الْحَاكِمُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ فَهِيَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ كَمَا يَجْعَلُ أَبُو حَنِيفَةَ مُضِيَّ الْمُدَّةِ مَوْقِعًا لِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَوْقَعَهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْفُرْقَةِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ وَالْعُيُوبِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ بِالطَّلَاقِ رَفْعُ الْإِضْرَارِ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْإِضْرَارُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرَاجِعُ بَعْدَهُ فَيَعُودُ الْإِضْرَارُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَائِنًا لِيَرْتَفِعَ بِهِ الْإِضْرَارُ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَمْ يُسْتَوْفَ عَدَدُهُ فَوَجَبَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعِوَضِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الرَّجْعَةَ كَطَلَاقِ غَيْرِ الْمُولِي؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ كَاسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ فِي الْعِتْقِ فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْوَلَاءَ فِي وَاجِبِ الْعِتْقِ وَتَطَوُّعِهِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الرَّجْعَةَ فِي وَاجِبِ الطَّلَاقِ وَتَطَوُّعِهِ، فَأَمَّا الْفَسْخُ فَلَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَائِنًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فَأَمَّا رَفْعُ الْإِضْرَارِ فَقَدْ يَرْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْ تَعَجَّلَ رَفْعُ الضَّرَرِ، وَإِنْ رَاجَعَ تَأَخَّرَ رَفْعُ الضَّرَرِ، وَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ رَافِعٌ لِلضَّرَرِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّلْقَةَ رَجْعِيَّةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوقِعَ لَهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُوقِعَ لَهَا جَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَتُطَلَّقُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كَمَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ وَاحِدَةً فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَقَدْ بَانَتْ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ يَعُودُ الْإِيلَاءُ فَيُوقِفُ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إنَّهُ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ وَلَا يُوقَفُ وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بَاقِيَةً لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا قَبْلَ النِّكَاحِ وَإِنْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ وُقِفَ لَهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَكَانَ أَوَّلُ زَمَانِ الْوَقْفِ مِنْ بَعْدِ الرَّجْعَةِ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 بما تقدمها، وإن كان مأخوذاً بنفقتها ومحكوم لَهُ بِزَوْجِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَجَارِيَةٌ فِي الْفَسْخِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ الثَّانِي بِانْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثَانِيَةٍ طُولِبَ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ طَلَّقَ ثَانِيَةً أَوِ امْتَنَعَ فَطَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ طَلْقَةً ثَانِيَةً كَانَتِ الثَّانِيَةُ رَجْعِيَّةً كَالْأُولَى، فَإِنْ رَاجَعَهَا اسْتُؤْنِفَ لَهُ وَقْفٌ ثَالِثٌ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُهُ بِانْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثَالِثَةٍ طُولِبَ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَهَا ثَالِثَةً أَوِ امْتَنَعَ مِنْهَا فَطَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ طَلْقَةً ثَالِثَةً فَلَا رَجْعَةَ لَهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهَا مُجْتَمِعَةً كَانَتْ أَوْ مُتَفَرِّقَةً وَقَدْ سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ زَوْجٍ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ كَانَ حَالِفًا، وَعَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ: يَعُودُ الْإِيلَاءُ، وَيُسْتَأْنَفُ لَهُ مُدَّةُ الْوَقْفِ يكون حُكْمُهُ عَلَى مِثْلِ مَا مَضَى فِي النِّكَاحِ إِلَّا أَنْ يَفِيءَ فَيَسْقُطَ بِكُلِّ حَالٍ الْحِنْثُ فِيهِ فَارْتَفَعَ وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ حِنْثٌ فَلَمْ يَرْتَفِعْ فَإِنْ قِيلَ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَلِمَ جَعَلْتُمُوهَا أَضْعَافًا، قِيلَ إِنَّمَا قَدَّرَهَا بِالْأَرْبَعَةِ فِي التَّرَبُّصِ الْوَاحِدِ فَإِذَا وَجَبَ تَكْرَارُ التَّرَبُّصِ وَجَبَ تَكْرَارُ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ تَحْرِيمَهَا بِلَا طَلَاقٍ أَوِ الْيَمِينَ بِتَحْرِيمِهَا فَلَيْسَ بِمُولٍ لأن التحريم شيء حكيم فِيهِ بِكَفَّارَةٍ إِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ كَمَا لَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ طَلَاقًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا طَلَاقٌ لِأَنَّهُ حُكِمَ فِيهِمَا بِكَفَّارَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيلَاءَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الْإِيلَاءِ، لِأَنَّ الْمُولِيَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِصَابَةِ فِيهِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ نَوَى به الْيَمِينَ فِي تَحْرِيمِ الْإِصَابَةِ لَزِمَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ، وَإِنْ أَطْلَقَهُ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ فِي الْحَالِ وَلَا بِالْإِصَابَةِ بِهِ فِي ثَانِي حَالٍ، فَصَارَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَادِرًا عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ كَفَّارَةٍ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنْ وَجَبَتْ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ لَمْ تَجَبْ فَلَا بِاللَّفْظِ وَلَا بِالْإِصَابَةِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْإِصَابَةِ فِي الْأَحْوَالِ كَفَّارَةٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 (فَصْلٌ:) فَإِنْ قَالَ: إِنْ أَصَبْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ كَانَ مُولِيًا لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا بَعْدَ الْوَقْفِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ كَانَ مُولِيًا مَتَى أَصَابَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَعَ الْإِطْلَاقِ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ قِيلَ لَا يُوجِبُهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ: نَوَيْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ إِنْ أَصَبْتُهَا فَنِيَّتُهُ قَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ لَفْظِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ، وَنِيَّتُهُ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ إِنْ أَصَابَهَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ الْكَفَّارَةِ إِلَى الْإِصَابَةِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ يَدِينُ فِيهِ وَالْكَفَّارَةُ مِمَّا يَدِينُ فِيهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدِ اعْتَرَفَ بِالْإِيلَاءِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ بِذَلِكَ مُولِيًا، وَوَجَدْتُ أَصْحَابَنَا يُرْسِلُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا عللنا والله أعلم بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَغُلَامِي حُرٌ عَنْ ظِهَارِي إِنْ تَظَاهَرْتُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى يظاهر) . قال المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ: إِنْ أَصَبْتُكِ فَعَبْدِي هَذَا حَرٌّ عَنْ ظِهَارِي إِنْ تَظَاهَرْتُ فَقَدْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِشَرْطَيْنِ: بِإِصَابَتِهَا، وَبِظِهَارِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِوُجُودِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ حَتَّى يُوجَدَا مَعًا، فَإِنْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَتَظَاهَرْ لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ ظَاهَرَ وَوَطِئَ عَتِقَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ عَبْدُهُ كَمَا لَوْ قال لها: إن وطتئك وَدَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُولِيًا فِي الْحَالِ نُظِرَ، فَإِنْ قَدَّمَ الْوَطْءَ عَلَى الظِّهَارِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْيَمِينِ، فَإِذَا ظَاهَرَ عَتَقَ عَلَيْهِ عَبْدُهُ وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِتَقْدِيمِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَعْتِقُ بِهِ عَبْدُهُ لِأَنَّ عِتْقَ عَبْدِهِ يَكُونُ بِظِهَارِهِ مِنْ بَعْدُ لَا بِإِصَابَتِهِ وَإِنْ قَدَّمَ الظِّهَارَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ صَارَ حِينَئِذٍ مُولِيًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَرْطِ الْعِتْقِ إِلَّا إِصَابَتُهَا فَصَارَتِ الْإِصَابَةُ مُوجِبَةً عِتْقَ عَبْدِهِ فَلِذَلِكَ صَارَ مُولِيًا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا إِذَا قَدَّمَ الْإِصَابَةَ وَيَكُونَ مُولِيًا إِذَا قَدَّمَ الظِّهَارَ، وَجَبَ أَنْ يُوقَفَ لِإِيلَائِهِ هَذَا، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ وَطُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ طَلَّقَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنِ اسْتَبْقَاهُ عَلَى مِلْكِهِ كَانَ إِيلَاؤُهُ بَاقِيًا إِنْ رَاجَعَ بَعْدَ طَلَاقِهِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِإِصَابَتِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ عَنِ الظِّهَارِ، وَيَسْقُطُ إِيلَاؤُهُ وَإِنْ رَاجَعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْتِقُهُ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ فَهَذَا حُكْمُهُ إِنْ طَلَّقَ فِي هَذَا الْإِيلَاءِ فَأَمَّا إِنْ فَاءَ بِالْوَطْءِ وَلَمْ يُطَلِّقْ فَقَدْ عَتَقَ عَلَيْهِ عَبْدُهُ وَسَقَطَ إِيلَاؤُهُ لِحِنْثِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ الْعِتْقُ عَنْ ظُهَارِهِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ وإنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ إِجْزَائِهِ أَنَّهُ قَدَّمَ عَقْدَ عِتْقِهِ عَلَى ظِهَارِهِ فَلَمْ يُجْزِهْ لِأَجْلِ التَّقْدِيمِ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ جَعَلَ عِتْقَهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ظِهَارِهِ وَبَيْنَ حِنْثِهِ فِي إِيلَائِهِ فَلَمْ يُجْزِهْ لِأَجْلِ التَّشْرِيكِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُظَاهِرًا فَقَالَ بَعْدَ ظِهَارِهِ إِنْ أَصَبْتُكِ فَعَبْدِي هَذَا حَرٌّ عَنْ ظِهَارِي كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا عَتَقَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ فَالْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ عليه بالظهار فهو ليس ملتزم بِالْإِصَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فَلِمَ جَعَلْتُمُوهُ مُولِيًا، قُلْنَا: لِأَنَّ عِتْقَ عَبْدِهِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ بِالظِّهَارِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ بِالْإِصَابَةِ فَصَارَ بِالْإِصَابَةِ مُلْتَزِمًا مِنْ تَعْيِينِ الْعِتْقِ مَا لَمْ يَلْزَمْ فَلِذَلِكَ صَارَ مُولِيًا فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ كَانَ مخيراً وبين الْإِصَابَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي عِتْقِ الظِّهَارِ بَيْنَ عِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ عِتْقِ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ إِيلَاؤُهُ إِنْ رَاجَعَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ وَكَانَ إِيلَاؤُهُ إِنْ رَاجَعَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ وَكَانَ إِيلَاؤُهُ إِنْ رَاجَعَ بَعْدَ الطَّلَاقِ بَاقِيًا لِوُقُوعِ عِتْقِهِ بِالْإِصَابَةِ وَإِنْ فَاءَ بِالْوَطْءِ وَلَمْ يُطَلِّقْ عَتَقَ عَلَيْهِ عَبْدُهُ، وَهَلْ يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِن اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي التَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ عِتْقَهُ مَعْقُودٌ بَعْدَ الظِّهَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ عِتْقَهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ظِهَارِهِ وَبَيْنَ وَطْئِهِ [فِي إِيلَائِهِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال المزني قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فُلَانًا عَنْ ظِهَارِي وَهُوَ مُتَظَاهِرٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ فُلَانًا عَنْ ظِهَارِهِ وَعَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (قَالَ المزني) رحمه الله أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنِ الْيَوْمِ الَذِي عَلَيَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ لَأَنَّهُ لَمْ يَنْذِرْ فِيهِ بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَإِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ لَازِمٌ فَأَيُّ يَوْمٍ صَامَهُ أَجْزَأَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلنَّذْرِ فِي ذَلِكَ مَعْنًى يَلْزَمُهُ بِهِ كَفَّارَةٌ فَتَفَهَّمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ يَمِينٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ تَظَاهَرَ وَعَادَ: إِنْ أَصَبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي سَالِمًا عَنْ ظِهَارِي فَصَارَ نَاذِرًا بِعِتْقِ سَالِمٍ عَنْ ظِهَارِهِ، وَحَالِفًا بِعِتْقِ سَالِمٍ فِي إِيلَائِهِ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ تَعْيِينَ عِتْقِهِ فِي الْإِيلَاءِ مَضْمُونًا فِي ذمته، وجعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 عِتْقَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى نَاجِزًا، فَهَذَا فَرْقُ ما بينهما وإذا كان كذلك فإيلاؤه إن هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ عِتْقِهِ بِهَذَا النَّذْرِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ بِهَذَا النَّذْرِ تَعْيِينُ عِتْقِهِ إِلَّا أَنَّهُ نذر لجاج خرج مخرج اليمين فكان فيه بَعْدَ اللُّزُومِ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ الْتِزَامًا لِحُكْمِ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ الْتِزَامًا لِحُكْمِ الْيَمِينِ، فَصَارَ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْتِزَامِ أَحَدِهِمَا مُلْتَزِمًا بِالْإِصَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ صَارَ مُولِيًا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ لَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ تَعْيِينُ الْعِتْقِ وَلَا يَكُونُ بِتَعْيِينِهِ مُولِيًا احْتِجَاجًا بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، فَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَمْ يَتَعَيَّنْ صَوْمُهُ فِيهِ، وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِهِ أَوْ صَوْمِ غَيْرِهِ كَذَلِكَ الْعِتْقُ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الظِّهَارِ فَعَيَّنَهُ بِالنَّذْرِ فِي عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ عِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ عِتْقِ غَيْرِهِ وَاحْتُجَّ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يُوجِبُ التَّعْيِينَ فِي الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِغَيْرِ النَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالصَّوْمِ قَدْ وَجَبَ بِغَيْرِ النَّذْرِ، وَلَيْسَ فِي التَّعْيِينِ زِيَادَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنَا وَلَمْ يَصِرْ مُولِيًا بِتَعْيِنِ الْعِتْقِ كَمَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا بِتَعْيِنِ الصَّوْمِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ خَطَأٌ، أَمَّا تَعْيِينُ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ فَوَاجِبٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ حَتَّى لَوْ قَالَ وَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَاجِبَةٍ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِيَ هَذَا عَنِ الرَّقَبَةِ الَّتِي عَلَيَّ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ تَعَيَّنَ عِتْقُ الرَّقَبَةِ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ وَيَكُونُ أَصْلُ الْعِتْقِ مُسْتَحَقًّا بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَعْيِنُهُ مستحق بالنذر الحادث مستوي فِي تَعْيِينِ الْعِتْقِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ كَالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ قَالَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي عَلَيَّ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ فِيهِ، فَيَسْتَوِي تَعْيِينُ الصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَالْعِتْقِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالنَّذْرِ فِي الِانْتِهَاءِ، كَمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالنَّذْرِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْحُقُوقِ أَشَقُّ وَأَثْقَلُ مِنْ إِرْسَالِهَا فَصَارَ مُلْتَزِمًا بِالتَّعْيِينِ زِيَادَةَ مَشَقَّةٍ وَثِقَلٍ لَمْ يَكُنْ فَلِذَلِكَ وَجَبَ بِالنَّذْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ، كَمَا يَكُونُ مُولِيًا بِتَعْيِينِ الْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) : أَنَّ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَالْعِتْقَ الْوَاجِبَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ يَتَسَاوَى فَصَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ كَيَوْمِ الْأَحَدِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زِيَادَةٌ وَلَا تُفَاضُلٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالنَّذْرِ لِتَسَاوِيهِ وَعِتْقَ الرِّقَابَ يَتَفَاضَلُ فَيَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 رقبة قيمتها مائة دينار، ورقة قِيمَتُهَا دِينَارٌ وَكِلَاهُمَا يُجْزِيَانِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالنَّذْرُ لِتَفَاضُلِهِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَاسْتَوَى فِي حَقِّ اللَّهِ جَمِيعُ أَيَّامِ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَفَاتَهُ صَوْمُهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَاهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ عَجَّلَهُ قَبْلَ الْخَمِيسِ لَمْ يُجْزِهْ لِتَقْدِيمِهِ عَلَى وُجُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ تَعَيُّنُ الْعِتْقِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُ غَيْرِهِ ولو نذر عتقه بعد ثلاثة أيام جازم تَعْجِيلُ عِتْقِهِ، فَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ مَا تَعَيَّنَ الْعِتْقُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، واستوى تعين الْعِتْقِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَافْتَرَقَ تَعْيِينُ الصَّوْمِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِتَعْيِينِ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِتَعْيِينِ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا بِكُلِّ يَمِينٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُزَنِيِّ خَطَأٌ فِي النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَذْهَبِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ أَخْطَأَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي النَّقْلِ، كَمَا خَالَفَهُ فِي الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُمَا مِنَ الْجَدِيدِ لَا مِنَ الْقَدِيمِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا بِكُلِّ يَمِينٍ تَلْزَمُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ إِيلَائِهِ بِتَعْيِينِ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ عَنْ ظِهَارِهِ، وَجَبَ أَنْ يُوقَفَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ فَاءَ وَوَطِئَ فَقَدْ لَزِمَهُ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ ضَرْبَانِ: نَذْرُ طَاعَةٍ يُقْصَدُ بِهِ الْقُرْبَة، وَنَذْرُ لَجَاجٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، فَأَمَّا نذر الطاعة المقصود به القربى فَكَقَوْلِهِ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي هَذَا فَإِذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ عِتْقُ عَبْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا نَذْرُ اللَّجَاجِ الْخَارِجُ مَخْرَجَ الْأَيْمَانِ فَهُوَ مَا قَصَدَ بِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ أَوْ إِلْزَامَ نَفْسِهِ فِعْلَ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي هَذَا أَوْ إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِذَا كَلَّمَ زَيْدًا أَوْ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَجَبَ النَّذْرُ وَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ الْتِزَامِ مَا نَذَرَهُ مِنَ الْعِتْقِ اعْتِبَارًا بِالنُّذُورِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ اعْتِبَارًا بِالْأَيْمَانِ، وَنَذْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نُذُرُ لَجَاجٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَانَ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِ عَبْدِهِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَبَيْنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْكَفَّارَةِ سقط بها حكم إيلاؤه وكان مخيراً في العتق عن ظاهره بَيْنَ عِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ عِتْقِ غَيْرِهِ كَحَالِهِ قَبْلَ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ بِالتَّكْفِيرِ فَإِنْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ اخْتَصَّ بظهاره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 وَحْدَهُ وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ فِي إِيلَائِهِ وَأَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ خَرَجَ بِعِتْقِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَفِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ عَنْ ظِهَارِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول أبي إسحق المروزي يجزئه عن الظهار لتعين عِتْقِهِ بَعْدَ وُجُودِ الظِّهَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ عَنْ ظِهَارِهِ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ظِهَارِهِ وَبَيْنَ إِيلَائِهِ، فَهَذَا حُكْمُ إِيلَائِهِ إِنْ فَاءَ فِيهِ، فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ فَقَدْ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الظِّهَارِ بَيْنَ عِتْقِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ عِتْقِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَمْ يَلْزَمْ لِعَدَمِ الْوَطْءِ فَكَانَ فِي الظِّهَارِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي عِتْقِ أَيِّ عَبْدٍ شَاءَ، فَإِنْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَجْزَأَهُ وَجْهًا وَاحِدًا كَمَا يَجْزِيهِ عِتْقُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِعِتْقِهِ مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ طَلَاقِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ قَبْلَ الْعِتْقِ عَنْ ظِهَارِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ، وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ كَالِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَنْ ظِهَارِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ غَيْرَهُ عَادَ الْإِيلَاءُ بَعْدَ رَجْعَتِهِ لِبَقَاءِ الْعَبْدِ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ عِتْقِهِ وَكَفَّارَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَفِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَعُودُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِفَوَاتِ الْعَبْدِ الْمَنْذُورِ فِي الْإِيلَاءِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي مُدَّةِ الْوَقْفِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ يَعُودُ لِأَنَّ حُكْمَ نَذْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِعِتْقِهِ، وَالْكَفَّارَةُ مَقْدُورٌ عَلَيْهَا فَقَامَتْ مَقَامَ وُجُودِهِ ويكون وجوده موجباً للتخيير بَيْنَ عِتْقِهِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ وَفَوَاتُ عِتْقِهِ مُسْقِطًا لِلتَّخْيِيرِ مُوجِبًا لِلتَّكْفِيرِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي مُدَّةِ الْوَقْفِ أَوْ مَاتَ لَمْ يَسْقُطِ الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى ثَمَّ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعْهَا فِي الْإِيلَاءِ لَمْ تَكُنْ شَرِيكَتَهَا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَزِمَتْهُ لِلْأُولَى وَالْيَمِينُ لَا يُشْتَرَكُ فِيهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِيلَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِكُلِّ يَمِينٍ لَازِمَةٍ، فَإِنْ عَقْدَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الْإِيلَاءِ كَانَ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى، وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا وَقَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الطَّلَاقِ كَانَ مُطَلِّقًا لَهُمَا وَهَكَذَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا يَعْنِي فِي الظِّهَارِ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ تَكُنِ الثَّانِيَةُ شريكة الأولى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 فِي الْإِيلَاءِ إِذَا أَرَادَهُ وَكَانَتْ شَرِيكَةً لَهَا فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ إِذَا أَرَادَهُ، قِيلَ: لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ وَالطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ يَقَعَانِ وَيَنْعَقِدَانِ بِالْكِنَايَةِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ إِنْ حَلَفَ زَيْدٌ بِاللَّهِ تَعَالَى فَأَنَا حَالِفٌ بِهِ، لَمْ يَصِرْ حَالِفًا إِذَا حَلَفَ زَيْدٌ وَلَوْ قَالَ إِنْ طَلَّقَ زَيْدٌ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِطَلَاقِ زَيْدٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي دُخُولِ الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَانْتِفَاءِ الْكِنَايَةِ عَنِ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى حُرْمَةُ التَّعْظِيمِ فَلَمْ يَجُزْ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ حُرْمَةُ تَعْظِيمٍ فَجَازَتِ الْكِنَايَةُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا لَمْ تَصِحَّ فِيهَا الْكِنَايَةُ، وَلَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ تَخْفِيفًا صَحَّتِ فِيهِمَا الْكِنَايَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَانْتِفَاءِ النِّيَابَةِ عَنِ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَقْصُودَ الْيَمِينِ التَّعْظِيمُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَمَقْصُودَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ التَّحْرِيمُ فَصَحَّ فِيهِ النِّيَابَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْثِيرَ الْيَمِينِ فِي الْحَالِفِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ وَتَأْثِيرَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فِي غَيْرِهِ فَجَازَ فِيهِمَا اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا عَقَدَهَا بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ وَجَعَلْنَاهُ مُولِيًا بِهِمَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَإِذَا قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا، سُئِلَ عَنْ إِرَادَتِهِ وَلَهُ فِي الْإِرَادَةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْتِ شَرِيكَتُهَا، أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى، فَالْأُولَى طَالِقَةٌ فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ شريكة للأولى، ولا يكون وطئها شَرْطًا فِي طَلَاقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَ الْأُولَى بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَطْؤُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ شَرْطًا ثَانِيًا بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ حُكْمِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بعد انعقاد، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ يُرِيدُ أَنَّ طَلَاقَهَا لَا يَقَعُ بِكَلَامِ زَيْدٍ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، لَمْ يَثْبُتِ الشَّرْطُ الثَّانِي، وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: أَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى فَهِيَ طَالِقٌ مَعَ الثَّانِيَةِ فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الْأُولَى عَلَى مَا كان عليه قبل مشاركة الثانية لها وحالف بِطَلَاقِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِوَطْءِ الْأُولَى لَا بِوَطْئِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي: وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فَهُمَا طَالِقَانِ فَقَدْ زَادَ بِهَذَا شَرْطًا ثَانِيًا فِي طَلَاقِ الْأُولَى، فَلَمْ يَثْبُتْ وَكَانَ طَلَاقُهَا مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ وَطْؤُهَا وَالشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ وَطْءُ الثَّانِيَةِ لَغْوٌ فِي طَلَاقِ الْأُولَى، ثُمَّ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَ الثَّانِيَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَطْءُ الْأُولَى. وَالثَّانِي: وَطْءُ الثَّانِيَةِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ مَا لَمْ يَطَأِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْءِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهَا فَإِذَا وَطِئَ الْأُولَى صَارَ حِينَئِذٍ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا طُلِّقَتْ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي وَأَنْتِ شَرِيكَتُهَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَمَا أَنَّنِي مَتَى وَطِئْتُ الْأُولَى كَانَتْ طَالِقًا، فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا وَحْدَهَا طُلِّقَتْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا شَرِيكَتَهَا فِي هَذِهِ الحالة الرَّابِعَةِ فَيَكُونَ مُولِيًا إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا يَكُونَ فِيهَا مُولِيًا إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَنْعَقِدُ به اليمين بالله تعالى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِنْ قَرَبْتُكِ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ وَإِنْ قَرَبَهَا فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ إِلَّا بِقَذْفٍ صَرِيحٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُولِيًا، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَ إِصَابَتَهَا بِقَذْفٍ، وَلَيْسَ بِقَذْفٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ وَطْأَهُ لَهَا زِنًا، وَهُوَ يَطَؤُهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ زِنًا، فَتَحَقَّقْنَا كَذِبَهُ فِيهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ كُلُّ النَّاسِ زُنَاةٌ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا وَلَا يُوجِبُ حَدًّا لِيَقِينِ كَذِبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَهَذَا مُعَلَّقٌ بِفِعْلٍ مستقبل، فلم يكون قَذْفًا كَمَا لَوْ قَالَ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ زانية لم يكن قذف. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَذْفَ مَا كَانَ مُطْلَقًا، وَهَذَا مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، فَلَمْ يَصِرْ بِوُجُودِ الصِّفَةِ قَذْفًا كَمَا لَوْ قَالَ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ زَانِيَةٌ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَإِنْ كَلَّمَتْهُ فَصَارَ فَسَادُ هَذَا الْقَذْفِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَسُقُوطُ الْحَدِّ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ، وَمَنْعُ الضَّرَرِ بِالْوَطْءِ يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيلَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ لَا أُصِيبُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَإِنْ وَطِئَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فليس بمول) . قال الماوردي: إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدَّرَ مُدَّةَ يَمِينِهِ بِسَنَةٍ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا وَطْءَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ إِلَّا بِالْحِنْثِ، وَهَذَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْءٍ تِلْكَ الْمَرَّةَ بِغَيْرِ حِنْثٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، فَخَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا تَعْلِيلُهُ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ ضَرَرٌ وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا وَالْإِيلَاءُ ضَرَرٌ فَكَانَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ضَرَرًا فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ مُولِيًا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُولِيَ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْوَطْءِ بِيَمِينٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي وَطْءِ هَذِهِ الْمَرَّةِ يَمِينٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَالثَّانِي: أَنَّ ضَرَرَ الْإِيلَاءِ الْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ، وَهَذَا لَيْسَ يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ مُطَالَبَةٌ، وَإِنْ وَطِئَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، وَيَصِيرُ الْحِنْثُ مُعَلَّقًا بِالْوَطْءِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي بَاقِي السَّنَةِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ حَالِفًا لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَارَ مُولِيًا وَتُضْرَبُ لَهُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْحِنْثِ يَتَّسِعُ لِمُدَّةِ الْوَقْفِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ سَنَةً إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ مدة يمينه وطء مرتين، فهو قد بقي من استثنائه وطء في الحال بغير حنث، فإذا وطء مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ وَلَا يَصِيرُ بِهَا مُولِيًا، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنَ اسْتِثْنَائِهِ وَطْءٌ مَرَّةً أُخْرَى. فَإِذَا وَطِئَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ وَفِي السَّنَةِ بَقِيَّةٌ وَقَعَ الْحِنْثُ بِهِ وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَهَا فَيُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، فَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ صَارَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ كَانَ حَالِفًا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِنْ أَصَبْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَى يُصِيبَهَا فَيَكُونَ مُولِيًا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي أنه اسثتناء مِنْ يَمِينِهِ وَطْءَ مَرَّةٍ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا فِي أَنَّ تِلْكَ مَقْدِرَةٌ بِسَنَةٍ وَهَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْأَبَدِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ إِلَّا مَرَّةً، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَكُونُ فِي الْحَالِ مُولِيًا، يُسْتَضَرُّ بِوَطْئِهِ فِي الْحَالِ لِانْعِقَادِ الْإِيلَاءِ بِهِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَصَحَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُولِيًا مَا لَمْ يَطَأْ، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ، لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَإِذَا وَطِئَ مَرَّةً صَارَ حِينَئِذٍ مُولِيًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ زَمَانَ يَمِينِهِ مُؤَبَّدٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَيُوقَفُ لَهَا مِنْهُ الإيلاء والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ يَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي أَوْ تَفْطِمِي ابْنَكِ فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَ مُولِيًا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهَا قَدْ تَفْطِمُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَكْثَرَ مِنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) هَذَا أولى بقوله لأن أصله أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مَنَعَتِ الْجَمَاعَ بِكُلِّ حَالٍ اكثر من أربعة أشهر إلا بأن يحنث فهو مول وقوله حتى يشاء فلان فليس بمول حتى يموت فلان (قال المزني) وهذا مثل قوله حتى يقدم فلان أو يموت سواء في القياس وكذلك حتى تفطمي ولدك إذا أمكن الفطام في أربعة أشهر ولو قال حتى تحبلي فليس بمول (قال المزني) رحمه الله هذا مثل قوله حتى يقدم فلان أو يشاء فلان لأنه قد يقدم ويشاء قبل أربعة أشهر فلا يكون مولياً (قال المزني) رحمه الله عليه وأما قوله حتى تموتي فهو مول بكل حال كقوله حتى أموت أنا وهو كقوله والله لا أطؤك أبداً فهو مول من حين حلف) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ تَمَهَّدَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْوَطْءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا أن تزيد هذه إِيلَائِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ مُدَّةُ إِيلَائِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِزَمَانٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُطْلَقَةُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ فَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي الْأَبَدَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَبَدًا وَالتَّلَفُّظُ بِالْأَبَدِ هَاهُنَا تَأْكِيدٌ فَهَذَا أَقْوَى. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُقَدَّرُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ إِلَى سَنَةِ كَذَا أَوْ إِلَى شَهْرِ كَذَا أَوْ إِلَى يَوْمِ كَذَا، فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ تَقَدَّرَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِاسْتِحَالَتِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَصْعَدِي السَّمَاءَ أَوْ حَتَّى تُصَافِحِي الثُّرَيَّا أَوْ حَتَّى تُعِدِّي رَمْلَ عَالِجٍ أَوْ حَتَّى تَنْقُلِي جَبَلَ أَبِي قَبِيسٍ أَوْ حَتَّى تَشْرَبِي مَاءَ الْبَحْرِ، وَمَا شَابَهَ كُلَّ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُولِيًا لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَكَانَ ذِكْرُهَا لَغْوًا وَصَارَ الْإِيلَاءُ مَعَهَا مُرْسَلًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلْقَطْعِ وَالْإِحَاطَةِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ، فَهَذَا مُولٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِأَنَّهُ قَدْ تَتَقَدَّمُ الْقِيَامَةَ أَشْرَاطٌ منذرة فنحن إذا لم نر أشراطها على يَقِينٍ مِنْ تَأَخُّرِهَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ مُولِيًا فِي الْبَاطِنِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَوْ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّتِي الْأَغْلَبُ تَأَخُّرُهَا عَنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ جَازَ فِي الْمُمْكِنِ تَقَدُّمُهَا فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ بِهَا مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَأَلْزَمْنَاهُ بِهَا حُكْمَ الْمُولِي فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ كُلَّهَا كَالْقِيَامَةِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ بِهَا مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّ لَهَا أَمَارَاتٌ مُنْذِرَةً كَالْقِيَامَةِ تَتَأَخَّرُ قَبْلَ وُجُودِهَا عَنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ. وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ أَنْ يُقَالَ مَا صَحَّتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهَا تَتَرَتَّبُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ كَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ، كَانَ إِيلَاؤُهُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِيلَاؤُهُ إِلَى ظُهُورِ الدَّجَّالِ ظَاهِرًا دُونَ الْبَاطِنِ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا لَمْ يَتَرَتَّبْ مِنْهَا فَهُوَ بِهِ مُولٍ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَهَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا لَا يَخْتَلِفُ، فَأَمَّا إذا قال: والله أَصَبْتُكِ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي فَهُوَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ [دُونَ الْبَاطِنِ] ، لِجَوَازِ مَوْتِهِمَا قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعَ جَوَازِ الْمَوْتِ قَبْلَ الْمُدَّةِ مُولِيًا فِي الظاهر لعلتين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهُمْ إِلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، وإن جاء مَوْتُهُمَا قَبْلَهَا فَحُكِمَ بِالظَّاهِرِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمَا لَوْ أَطْلَقَا ذَلِكَ عَلَى الْأَبَدِ لَا تُقَدَّرُ بِمُدَّةِ حَيَّاتِهِمَا، فَعَلَى هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَمُوتَ زَيْدٌ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي مَرَضٍ مُخَوِّفٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ، مَوْتُهُ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِأَمَارَاتِ الْمَوْتِ بِحُدُوثِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ صَحِيحًا أَوْ فِي مَرَضٍ غَيْرِ مُخَوِّفٍ، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بِهِ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ بَقَائِهِ إِلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَقَاءِ، وَإِنَّ إِيلَاءَ الزَّوْجَيْنِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِمَوْتِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْ أَصَبْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمُوتَ عَبْدُهُ أَوْ يَبِيعَهُ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، لَكِنْ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ، مَعَ جَوَازِ خِلَافِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ فَيُنْظَرُ غَيْبَةُ زَيْدٍ فَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ مَسَافَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَالصِّينِ كَانَ بِهِ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ مَسَافَتُهُ أَقَلُّ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا، لِجَوَازِ قُدُومِهِ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ سَوَاءٌ قدم قبلها أولاً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْبَةَ زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا أَيْضًا لِجَوَازِ قُدُومِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَكَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَحْبَلِي، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِصِغَرِهَا أَوْ لِإِيَاسِهَا فَيَكُونَ بِذَلِكَ مُولِيًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهَا بَالِغَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَكُونَ بِذَلِكَ مُولِيًا لِإِمْكَانِ حَبَلِهَا وَتَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ فِيهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ مُرَاهِقَةً لِجَوَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ بُلُوغُهَا فَتَحْبَلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بُلُوغُهَا فَلَا تَحْبَلَ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَأَخُّرُ الْبُلُوغِ، وَتَأَخُّرُهُ مَانِعٌ مِنَ الْحَبَلِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بُلُوغُ الْمُرَاهِقَةِ مُمْكِنٌ كَمَا أَنَّ حَبَلَ الْبَالِغَةِ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بِأَغْلَبَ مِنَ الْآخَرِ، وَإِذَا أَمْكَنَ بُلُوغُهَا أَمْكَنَ حَبَلُهَا. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ إِرَادَتِهِ: كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَكِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا قَطْعُهُ فِي الْحَالِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ نُظِرَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَ هَذَا مِنَ الْقَسَمِ الرَّابِعِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ لَا بِاخْتِلَافِ إِرَادَتِهِ فَقَالَ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ طِفْلًا لَا يَجُوزُ قَطْعُ رَضَاعِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ بِهِ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ مُشَدًّا يَجُوزُ قَطْعُ رَضَاعِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ قَطْعَهَا لِرَضَاعِهِ مُمْكِنٌ وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَالْإِيلَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِإِمْكَانِ الْفِعْلِ لَا بِجَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ عَلَّقَ بِمَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ لَكِنْ يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَقْتُلِي أَخَاكِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فِي الْحَالِ، وَكَانَ مُولِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهَا مِنْ قَتْلِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَخْرُجِي إِلَى الْحَجِّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ زَمَانَ الْخُرُوجِ الْمَعْهُودِ كَانَ بِهِ مُولِيًا إِذَا بَقِيَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِعْلَهَا لِلْخُرُوجِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ قَبْلَ الْمُدَّةِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ زَمَانِهِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَسْقُطَ الْبَلَحُ أَوْ يَجْمُدَ الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الشِّتَاءِ وَزَمَانِ الْبَرْدِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُولِيًا لِإِمْكَانِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّيْفِ وَزَمَانِ الْحَرِّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ في آخره والباقي في الشِّتَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ وَالْبَاقِي مِنْهُ إِلَى الشِّتَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا، وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَجِيءَ الْمَطَرُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الصَّيْفِ كَالثَّلْجِ يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لِتَعَزُّرِهِ فِي الْأَغْلَبِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلْجِ، بِأَنَّ الْمَطَرَ قَدْ يَجِيءُ فِي الصَّيْفِ وَالثَّلْجَ لَا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ، فَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يعهد فيها المطر صيفاً وشتاءاً كَبِلَادٍ طَبَرِسْتَانَ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مَا لَا يَكُونُ مُولِيًا لِتَكَافُؤِ أَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى يَبْرَأَ هَذَا الْمَرِيضُ أَوْ حَتَّى يَمْرَضَ هَذَا الصَّحِيحُ أَوْ حَتَّى تَتَعَلَّمِي الْكِتَابَةَ أَوْ حَتَّى يُطَلِّقَ فُلَانٌ زَوْجَتَهُ أَوْ حَتَّى يَعْتِقَ عَبْدَهُ، فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَى مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَإِمْكَانِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَلْبَسِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ تَدْخُلِي هَذِهِ الدَّارَ أَوْ حَتَّى أُخْرِجَكِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِإِمْكَانِ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ لِيَبَرَّ فِي يمينه إن وطء، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَطْؤُهَا وَلَمْ يُطَالَبْ بِفَيْئَةٍ وَلَا طَلَاقٍ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: مَا لَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا لِكَوْنِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكِ حَتَّى تَذْبُلَ هَذِهِ الْبَقْلَةُ أَوْ حَتَّى يَخْتَمِرَ هَذَا الْعَجِينُ أَوْ حَتَّى يَحْمُضَ هَذَا الْعَصِيرُ أَوْ حَتَّى يَنْضَجَ هَذَا الْقِدْرُ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا لِوُجُودِ هَذَا كُلِّهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَبْعِ مَسَائِلَ، وَرَأْيُ الشَّافِعِيِّ قَدْ خَالَفَ فِي جَوَابِ بَعْضِ مَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بيناه في فطام [أم] الْوَلَدِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ مُولٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِيلَاءِ بِمَشِيئَتِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أقسام: أحدها: أن يقول: والله لا أقربك إن شئت أن أَقْرَبَكِ فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي الْإِيلَاءِ مِنْهَا، فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا قَرَبْتُكِ إِنْ شِئْتِ أَنْ أَقْرَبَكِ فَيَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ يَقْرَبَهَا، انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الأول. لَمْ يَنْعَقِدْ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبَنَّكِ إِنْ شِئْتِ فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا، وَلَا تَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ يَقْرَبَهَا شَرْطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ وَفْقَ الْمَشْرُوطِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِلَّا أَنْ تَشَائِي فَتَكُونَ مَشِيئَتُهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا شَرْطًا فِي رَفْعِ الْإِيلَاءِ لَا فِي انْعِقَادِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ شَاءَتْ لَمْ يَنْعَقِدْ وَإِنْ لَمْ تَشَأِ انْعَقَدَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِثْبَاتٌ وَقَوْلَهُ إِلَّا أَنْ تَشَائِي نَفْيٌ، فَصَارَ مُثْبِتًا لِلْإِيلَاءِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَمُثْبِتًا لَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ مَشِيئَتِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا لِأَنَّ فِيهِمَا نَوْعًا مِنَ التَّمْلِيكِ، وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْفَوْرِ أَوْ حُكْمُ الْمَجْلِسِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى حُكْمُ الْفَوْرِ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهَا جَوَابًا فِي الْحَالِ كَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ وَإِنْ تَمَادَى زَمَانًا وَإِنْ قَلَّ أَوْ تَخَلَّلَهُمَا كَلَامٌ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُرَاعَى فِيهَا الْمَجْلِسُ، فَإِنْ شَاءَتْ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا وَثَبَتَ حُكْمُهَا، وَإِنْ شَاءَتْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَلَا حُكْمَ لِمَشِيئَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ تَعْلِيقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 الْإِيلَاءِ، بِمَشِيئَتِهَا رِضًا مِنْهَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ بِمَشِيئَتِهَا رِضًا مِنْهَا فِي إِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْإِيلَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهَا بِالْإِيلَاءِ مُسْقِطًا لِثُبُوتِ حَقِّهَا مِنْهُ، وَالْمِيرَاثُ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ رِضَاهَا بِالطَّلَاقِ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ، بِخِلَافِ مَشِيئَتِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهَا كَانَ فِيهِ تَمْلِيكٌ فروعي فيه الفور، وإذا علق بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمْلِيكٌ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ الْفَوْرُ، فَمَتَى قَالَ زَيْدٌ قَدْ شِئْتُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي انْعَقَدَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ أَشَأْ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ مَشِيئَتَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِيلَاءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا مَشِيئَةَ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَالْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سِوَاءٌ لِمَا تَكُونُ الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سَوَاءٌ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيلَاءَ مُطْلَقًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْإِيلَاءُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا سَوَاءٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ مُولِيًا إِلَّا فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا وَحَكَى نَحْوَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْإِضْرَارِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَضَبِ، فَكَانَ الْغَضَبُ فِيهِ شَرْطًا، وَهَذَا فَاسِدٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَلَمْ يُفَرِّقْ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوَى فِيهَا حَالُ الْغَضَبِ وَالرِّضَا كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ انْعَقَدَتْ فِيهَا الْيَمِينُ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ انْعَقَدَتْ فِيهَا يَمِينُ الْإِيلَاءِ كَالْغَضَبِ. فَأَمَّا قَصْدُ الْإِضْرَارِ فَلَا يُرَاعَى فِيهَا وَإِنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ دُونَ قَصْدِهِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الرِّضَا كَوُجُودِهِ فِي الْغَضَبِ وَإِنْ لَمْ يقصد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَى أُخْرِجَكَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ فَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مَتَى شَاءَ، وَيَقْرَبُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: لَا أَقْرَبُكِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا وَإِصَابَتِهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ مُولِيًا وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِوَطْئِهَا ثُمَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 يَبْتَاعُهُ إِنْ شَاءَ، قِيلَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَمْلَاكِ اقْتِنَاؤُهَا وَاسْتِيفَاؤُهَا، وَفِي بَيْعِهَا ضَرَرٌ، وَفِي تَمْلِيكِ الْغَيْرِ لَهَا أَسَفٌ، وَفِي اسْتِرْجَاعِهَا تَعَذُّرٌ، فَصَارَ الضَّرَرُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي عِتْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ نزهة، وفي إِخْرَاجِهَا إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَافْتَرَقَا، فَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أُخْرِجَكِ إِلَى بَلَدِ كَذَا، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي حَلَفَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَيْهِ عَلَى مَسَافَةٍ أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَلَوْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَهَبَ عَبْدِي كَانَ مُولِيًا لِأَنَّ فِي هِبَتِهِ إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي، فَاسْتَوَيَا فِي الضَّرَرِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ أَضَرَّ لِعَدَمِ الثَّوَابِ فِيهَا، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ حَتَّى أَبِيعَ عَبْدِي فَفِي إِيلَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُولِيًا لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِبَيْعِهِ دَاخِلًا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا وَجَدَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَوْ قِيلَ إِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِبَيْعِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْفَيْئَةِ كَانَ مُولِيًا بِبَيْعِهِ، كَانَ لَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ التِّجَارَةِ مُفِيدٌ، وَبَيْعَ مَالِ الْفَيْئَةِ مُضِرٌّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا ثَالِثًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 (باب الإيلاء من نسوة) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ يُوقَفُ لِكُلِّ واحدة منهن فإذا أصاب واحدة أو ثنتين خرجتا من حكم الإيلاء ويوقف للباقيتين حتى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْبَعَ اللَّائِي حَلَفَ عَلَيْهِنَّ كُلَّهِنَّ وَلَوْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا مِنَ الْبَاقِيَةِ لأنه لو جامعها واللائي طَلَّقَ حَنِثَ وَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ يُجَامِعُ الْبَوَاقِيَ وَلَا يَحْنَثُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَصْلُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مَنَعَتِ الْجَمَاعَ بِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ بِهَا مُولٍ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُولٍ مِنَ الرَّابِعَةِ الْبَاقِيَةِ وَلَوْ وَطِئَهَا وَحْدَهَا مَا حَنِثَ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهَا مولياً؟ ثم بين ذلك بقوله لو ماتت إحداهن سقط عنه الإيلاء والقياس أنه لا إيلاء عليه حتى يطأ ثلاثاً يكون مولياً من الرابعة لأنه لا يقدر أن يطأها إلا حنث وهذا بقوله أولى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَصِلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِتَفْصِيلِهَا، فَإِذَا قَالَ لِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُكُنَّ لَمْ يَحْنَثْ بِإِصَابَةِ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ كَمَا لَوْ قال: والله لا كلمت هؤلاء االأربع الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ وَاحِدَةٍ وَلَا بِكَلَامِ اثْنَتَيْنِ وَلَا بِكَلَامِ ثَلَاثَةٍ حَتَّى يُكَلِّمَ الْأَرْبَعَ كُلَّهُنَّ فَيَحْنَثَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِيلَاءُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِهِنَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَتَعْيِينُهُ فِيهَا بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا، فَإِذَا جَاءَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تُطَالِبُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، فَإِنْ جَاءَتِ الثَّانِيَةُ فَطَالَبَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، فَإِنْ جَاءَتِ الثَّالِثَةُ فَطَالَبَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ، فَإِنْ وَطِئَهَا خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَتَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ حِينَئِذٍ فِي الرَّابِعَةِ، وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهُ مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ، وَأَوَّلُ مُدَّةِ الْوَقْفِ لَهَا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْحِنْثِ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْوَقْفِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ فَاءَ حَنِثَ وَكَفَّرَ، وَإِنْ طَلَّقَ فَعَلَى مَا مَضَى مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ حكم الإيلاء وعوده إن راجع، هذا فقه المسألة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 (فَصْلٌ:) فَأَمَّا بَيَانُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَوْلُهُ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهُنَّ فِيهِ تَأْوِيلَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ فَهُوَ حَالِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهِنَّ كُلِّهِنَّ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِيلَاءَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى 7 مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ مَا قَارَبَ مِنَ الْإِيلَاءِ كَانَ بِهِ مُولِيًا وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَاهُنَا قَوْلًا فِي الْقَدِيمِ ثَانِيًا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا، وَقَوْلُهُ يُوقَفُ لِكُلِّ واحد مِنْهُنَّ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَحِلٌّ لِلْوَقْفِ لَهَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا بِوَطْءِ مَنْ سِوَاهَا وَقَوْلُهُ فَإِذَا أَصَابَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ خَرَجَتَا من حكم الإيلاء، ويوقف للباقيتين حتى يفيء أو يطلق فخروج الموطؤتين مِنَ الْإِيلَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ يُوقَفُ لِلْبَاقِيَتَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ لِلْوَقْفِ لَهُمَا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوقَفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِنْ تَعَيَّنَ الْإِيلَاءُ فِيهَا بِوَطْءِ الْأُخْرَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ مَا يَمْنَعُ اعْتِرَاضَ الْمُزَنِيِّ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. (فَصْلٌ:) ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ فِي الْأَرْبَعِ فَرْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيمَنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا مِنْهُنَّ، فَإِنْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا خَرَجْنَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِالطَّلَاقِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مَوْقُوفًا فِي الرَّابِعَةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَلَا يَحْنَثُ وَلَا يَسْقُطُ الْإِيلَاءُ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَطَأُ الثَّلَاثَ الْمُطَلَّقَاتِ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فَيَتَعَيَّنُ الْإِيلَاءُ فِي الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِوَطْئِهَا، وَوُقُوعُ الْحِنْثِ بِالْوَطْءِ الْمَحْظُورِ كَوُقُوعِهِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (الْأُمِّ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ وَفُلَانَةَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَطَأَ الْأَجْنَبِيَّةَ فَيَصِيرَ مُولِيًا مِنَ امْرَأَتِهِ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْأَرْبَعِ وَاحِدَةٌ فَيَسْقُطُ الْإِيلَاءُ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهِنَّ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ بِالْمَيِّتَةِ مِنْهُنَّ، فَأَسْقَطَ الشَّافِعِيُّ الْإِيلَاءَ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُسْقِطْهُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَفُتْ وَوَطْءَ الْمَيِّتَةِ قَدْ فَاتَ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَطَأُ الْمَيِّتَةَ كَمَا يَطَأُ الْمُطَلَّقَةَ وَهُمَا وَطْآنِ مُحَرَّمَانِ، فَلِمَ أَجْرَيْتُمْ حُكْمَ الْوَطْءِ عَلَى أَحَدِهِمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 وَنَفَيْتُمُوهُ عَنِ الْآخَرِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مُطْلَقَ عُرْفِ الْوَطْءِ يَنْتَفِي عَنْ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ فَوَطِئَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَحْنَثْ وَتَنْتَفِي عَنْهُ أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنَ الْإِحْصَانِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَإِنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَطْءُ الْحَيَّةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَطْءِ عُرْفًا يَنْطَلِقُ عَلَى وَطْئِهَا سِفَاحًا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى وَطْئِهَا نِكَاحًا فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ وَلَوْ طَلَّقَ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا فِي الْبَاقِيَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ كَانَتِ الْبَاقِيَةُ مَحَلًّا لِلْإِيلَاءِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ كَانَ مُولِيًا فِي الْبَاقِيَةِ إِنْ جَامَعَ مَنْ طَلَّقَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لو جامعها واللائي طُلِّقْنَ حَنِثَ، فَبَطَلَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ تَكَلَّمَ عَلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِقْهُهَا لَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ أُصُولُهُ وَتَعْلِيلُهُ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهَا تأويله والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ كَانَ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً منكن وَهُوَ يُرِيدُهُنَّ كُلَّهُنَّ فَهُوَ مُولٍ يُوقَفُ لَهُنَّ فَأَيَّ وَاحِدَةٍ مَا أَصَابَ مِنْهُنَّ خَرَجَ مِنَ الْإِيلَاءِ فِي الْبَوَاقِي لِأَنَّهُ حَنِثَ بِإِصَابَةِ الَوَاحِدَةِ فَإِذَا حَنِثَ مَرَّةً لَمْ يَعُدِ الْحِنْثُ بِإِيلَاءِ ثَانِيَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُخَالِفُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُولَ لِلْأَرْبَعِ مِنْ نِسَائِهِ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُهُنَّ كُلَّهُنَّ، وَلَا يُعَيِّنُ إِحْدَاهُنَّ، فَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ مُولٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ أَيَّتَهُنَّ وَطِئَ حَنِثَ بِوَطْئِهَا كَمَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ وَاللَّهِ لا كلمت واحداً منكن، حَنِثَ بِكَلَامِ أَيِّهِمْ كَلَّمَ. فَإِذَا أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الِابْتِدَاءِ حُكْمَ الْإِيلَاءِ فَأَيَّتُهُنَّ جَاءَتْ مُطَالِبَةً وُقِفَ لَهَا مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أو الطلاق فإذا طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتْ ثَانِيَةٌ وُقِفَ لَهَا، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فإن طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتْ ثَالِثَةٌ وُقِفَ لَهَا، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ ثُمَّ جَاءَتِ الرَّابِعَةُ وُقِفَ لَهَا، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْوَقْفِ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُولِيًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُوقَفُ لَهَا عَلَى الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى عِنْدَ مُطَالَبَتِهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَكِنْ فَاءَ مِنْهَا وَوَطِئَهَا حَنِثَ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ مِمَّنْ بَقِيَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْئِهِنَّ بَعْدَ حِنْثِهِ بِوَطْءِ الْأُولَى، وَلَوْ طَلَّقَ الْأُولَى عِنْدَ انقضاء مدة الوقف ووطء الثَّانِيَةَ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَلَوْ وَطِئَ الثَّالِثَةَ سَقَطَ إِيلَاؤُهُ فِي الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُ إِحْدَاهُنَّ بِعَيْنِهَا كَانَتْ هِيَ الْمُولَى مِنْهَا دُونَ مَنْ سِوَاهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِي الَّتِي عَيَّنَهَا بِإِيلَائِهِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْبَاقِيَاتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْذَبْنَهُ حَلَفَ لَهُنَّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَهُنَّ حَلَفْنَ وَثَبَتَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ بِأَيْمَانِهِنَّ بَعْدَ نُكُولِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَهُوَ يُرِيدُ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْإِيلَاءَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، فَإِنْ وَقَفَ عَنِ التَّعْيِينِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ لِمَا فِي التَّعْيِينِ مِنْ حَقِّ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْإِيلَاءِ، فَإِنْ تَنَازَعْنَ فَلَا اعْتِبَارَ بِتَنَازُعِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ كَالطَّلَاقِ إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَنْ شَاءَ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْإِيلَاءَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ خَرَجَ الْبَاقِيَاتُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَوُقِفَ لِلْمُعَيَّنَةِ، وَفِي ابْتِدَاءِ زَمَانِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ. وَالثَّانِي: مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ كَالْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ إِذَا عُيِّنَ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَصَبْتُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ كُلِّكُنَّ فَهَذَا مُولٍ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ وَمِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَأَيَّتَهُنَّ وَطِئَهَا بَعْدَ الْوَقْفِ حَنِثَ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيمَنْ عَدَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِوَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَأَوَّلُ زَمَانِ الْوَقْفِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 (بَابٌ عَلَى مَنْ يَجِبُ التَّأْقِيتُ فِي الْإِيلَاءِ ومن يسقط عنه) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَا تَعَرُّضَ لِلْمُولِي وَلَا لِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَطْلَبَ الْوَقْفُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الْإِيلَاءِ، فَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَهِيَ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ فِيهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْظَرَهُ بِهَا فَصَارَ كَالْإِنْظَارِ بِآجَالِ الدُّيُونِ لَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَأَوَّلُ وَقْتِ التَّرَبُّصِ مَنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ، لَا مَنْ وَقْتِ الْمُحَاكَمَةِ، بِخِلَافِ أَجَلِ الْعُنَّةِ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلُهُ مَنْ وَقْتِ الْمُحَاكَمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِالنَّصِّ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمٍ، وَمُدَّةَ الْعُنَّةِ مَقْدِرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيلَاءَ يَقِينٌ فَكَانَ أَوَّلُ مُدَّتِهِ مَنْ وَقْتِ وُجُودِهِ، وَالْعُنَّةَ مَظْنُونَةٌ فَكَانَ أَوَّلُ مُدَّتِهَا مَنْ وَقْتِ التَّحَاكُمِ فِيهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ الْمُطَالَبَةَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِيهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا مِنْ حُقُوقِهَا الْمَحْضَةِ فَوَقَفَ عَلَى خِيَارِهَا، فَإِنْ طَالَبَتْ وَمُطَالَبَتُهَا إِمَّا أَنْ تَقُولَ بَيِّنْ أَمْرِي، وَإِمَّا أَنْ تَقُولَ أَخْرِجْ إِلَيَّ مِنْ حَقِّي، فَإِذَا طَالَبَتْ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِيلَ لِلزَّوْجِ قَدْ خَيَّرَكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْفَيْئَةُ أَوِ الطَّلَاقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ حَاكِمٌ وَغَيْرُ حَاكِمٍ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصِّ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمٍ إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُجْبِرُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجْبِرُ عَلَى تَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ فَاءَ فَحُكْمُ الْفَيْئَةِ مَا مَضَى، وَإِنْ طَلَّقَ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ مَا مَضَى، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ. وَالثَّانِي: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ عَفَتْ ذَلِكَ ثَمَّ طَلَبَتْهُ كَانَ ذَلِكَ لَهَا لِأَنَّهَا تَرَكَتْ مَا لَمْ يَجِبْ لَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَفَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ صَحَّ عَفْوُهَا فِي حَقِّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعَفْوُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ مَأْخُوذٌ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهَا وَيَكُونُ كَحَالِفٍ لَيْسَ بِمُولٍ. إِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أُلْزِمَ حُكْمَ حِنْثِهِ، فَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ الْعَفْوِ مُطَالِبَةً بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ كَانَ ذَلِكَ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوُهَا مُسْقِطًا لِحَقِّهَا عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إليه الشافعي رضي لله عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ قُصِدَ بِهَا إِضْرَارُ الزَّوْجَةِ لِيَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا بِيَمِينِهِ وَهَذَا الضَّرَرُ يَتَجَدَّدُ مَعَ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ كَانَ عَفْوُهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا مِنَ الضَّرَرِ الْمَاضِي، فَسَقَطَ، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَنْ حَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى عَفْوِهَا عَنِ النَّفَقَةِ يُسْقِطُ حَقَّهَا الْمَاضِيَ، وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ مُسْتَدِيمٌ يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِسْقَاطًا، فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْجَبِّ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهَا، وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ عَيْبًا وَإِنَّمَا هُوَ ضَرَرٌ لَا يَسْتَدِيمُ فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ تَرْكًا، وَلَمْ يَكُنْ إِسْقَاطًا كَالدَّيْنِ إِذَا تَرَكَهُ بِالْإِنْظَارِ جَازَ الْعَوْدُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِبْرَاءِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ من الدين إسقاطاً لِلدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَلَيْسَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ إِسْقَاطًا لِلْيَمِينِ، فَجَازَ الْعُودُ فِيهِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِثُبُوتِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ عَوْدِهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ أَجْزَأَ مُدَّةُ الْوَقْفِ الْمَاضِي عَنْ تَجْدِيدِ وَقْفٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يُسْتَأْنَفُ الْوَقْفُ فِيهِ بِالْعِدَّةِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ، فَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ حَقُّهَا بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُسْتَأْنَفْ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ جَمَعَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْعَفْوِ وَالطَّلَاقِ فِي اسْتِئْنَافِ الْوَقْفِ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وليس ذلك لسيد الأمة ولا لولي معتوهة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَخْتَصُّ بِحُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ وَلِيِّهَا وَسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ على شهوتها والتزازها فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ الزَّوْجَةُ صَحَّ عَفْوُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا الْمُطَالَبَةُ فَإِنْ قيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 فَهَلَّا اسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ لِحَقِّهِ فِي مِلْكِ الْوَلَدِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ فِي الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ يَكُونُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِحْبَالٌ، فَلَمْ يتعلق للسيد به حق، هكذا لَوْ عَفَا السَّيِّدُ مَعَ مُطَالَبَتِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَفْوُ السَّيِّدِ فِي حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ تَسْتَحِقُّهُ دُونَ سَيِّدِهَا فَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمَعْتُوهَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا فِي الْإِيلَاءِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا الْمُطَالَبَةُ كَمَا لَيْسَ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، فإن قيل فهلا كان الولي الْمَعْتُوهَةِ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَ حُقُوقِهَا كَالدُّيُونِ، وَخَالَفَ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي بِهَا حَقَّ نَفْسِهِ لَا حَقَّ أَمَتِهِ، قِيلَ يَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَإِنِ افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ حَقَّ الْإِيلَاءِ مَقْصُورٌ عَلَى اخْتِيَارِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَى شَهْوَتِهَا، وَلَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَسْتَوْفِيهَا الْوَلِيُّ فِي حَقِّهَا، وَالسَّيِّدُ في حق نفسه. (مسألة) قال الشافعي رضي لله عنه: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تَنْقَضِي وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْيَمِينِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِنَّ الْمُولِيَ مَنِ اسْتُحِقَّتْ مُطَالَبَتُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ تُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ وَالْمُولِي مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْوَقْفِ إِلَّا بِالْحِنْثِ فَخَرَجَ مَنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَصَارَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ الْيَمِينِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ وَإِنْ وَطِئَ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ لَمْ يحنث والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَقْرَبُ امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ نَكَحَهَا فهول مُولٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَوْ آلَى مِنْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثَمَّ نَكَحَهَا نِكَاحًا جَدِيدًا وَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ جَازَ أَنْ تَبِينَ امْرَأَةُ الْمُولِي حَتَّى تَصِيرَ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا مِنْهُ ثُمَّ يَنْكِحَهَا فَيَعُودَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ جَازَ هَذَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَزَوْجٍ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنَهَا يُكَفِّرُ إِنْ أَصَابَهَا كَمَا كَانَتْ قَائِمَةً قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَهَكَذَا الظِّهَارُ مِثْلُ الْإِيلَاءِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ، فَقَالَ يَا حَفْصَةُ إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَمْرَةُ طَالِقٌ فَهَذَا مُولٍ مِنْ حَفْصَةَ، وَحَالِفٌ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ، فَإِنْ أَحْدَثَ طَلَاقَ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ حَفْصَةَ الْمُولَى مِنْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بطلاقها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 فَإِنْ طَلَّقَ حَفْصَةَ الْمُولَى عَلَيْهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فَالْإِيلَاءُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بَاقٍ وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ انْقَطَعَ الْإِيلَاءُ مِنْهَا، فَإِنْ عَادَ فَاسْتَأْنَفَ نَكَحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، نُظِرَ فإن نكاحها بَعْدَ زَوْجٍ مِنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ، فَعَلَى قَوْلِهِ في الجديد كله، وأحد قوليه في القديم لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ يَعُودُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ يَعُودُ الْإِيلَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ لَا يَعُودُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي الطَّلَاقَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَعُودُ فِي الطَّلَاقَيْنِ. وَالثَّالِثُ: يَعُودُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ، وَلَا يَعُودُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا بَيَّنَّا عَدَدَ الطَّلَاقِ فِي أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا. سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْإِيلَاءَ يَعُودُ عَلَى هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ بَاقِيَةٌ، لَا تَنْتَقِضُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ بِطَلَاقِهَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ وَطِئْتُ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ نَكَحَ الْأَجْنَبِيَّةَ وَوَطْئِهَا طُلِّقَتْ زَوْجَتُهُ الْمَحْلُوفُ بِطَلَاقِهَا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَمَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِهَا بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى فِيهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ مِنْ حَفْصَةَ بَاقِيًا بِحَالِهِ مَا لَمْ تَنْتَقِضْ عِدَّةُ عَمْرَةَ، فَإِنْ رَاجَعَ عَمْرَةَ فِي عِدَّتِهَا فَالْيَمِينُ بِطَلَاقِهَا بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا والإيلاء في حفصة باق بحالها فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِثَلَاثٍ أَوْ فِي خُلْعٍ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا سَقَطَ حُكْمُ الْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا، لِأَنَّهَا فِي حَالٍ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ الْمُبْتَدَأُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْحَقَهَا بِصِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَسْتَضِرُّ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا، فَإِنْ عَادَ فَنَكَحَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ نَظَرْتُ، فَإِنْ نكحها بعد أن وطء حفصة المولى منهما فِي زَمَانِ بَيْنُونَتِهَا سَقَطَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُودِهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حِنْثٌ، وَإِنْ نَكَحَ عَمْرَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَ حَفْصَةَ المولى منها فهل تعود يمينه بِطَلَاقِ عَمْرَةَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا؟ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا فَعَلَى قَوْلِهِ في الجديد كله وأحد قوليه في القديم لا يعود وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ: تَعُودُ الْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّلَاثِ، فَعَلَى قوله فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ تَعُودُ الْيَمِينُ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: لَا تَعُودُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي عَوْدِ الْيَمِينِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 أَحَدُهَا: تَعُودُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَعُودُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: تَعُودُ الْيَمِينُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ أَقَلَّ من ثلاث، ولا تعود إن كانا ثَلَاثًا فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ يَمِينَهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ تَعُودُ فِي نِكَاحِهَا الثَّانِي عَادَ إِيلَاؤُهُ مِنْ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا طُلِّقَتْ عَمْرَةُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ يَمِينَهُ بِطَلَاقِ عَمْرَةَ لَا يَعُودُ فِي نِكَاحِهَا الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِيلَاؤُهُ مِنْ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ كَانَ عَوْدُ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ مُعْتَبَرًا بِعَوْدِ الطَّلَاقِ فِي عَمْرَةَ وَلَمْ يَكُنْ عَوْدُ الطَّلَاقِ فِي عَمْرَةَ مُعْتَبَرًا بِعُودِ الْإِيلَاءِ فِي حَفْصَةَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَفْصَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ وَالطَّلَاقَ فِي عَمْرَةَ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى مِنَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَخَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوِ الْعَبْدُ مِنْ حُرَّةٍ ثَمَّ اشْتَرَتْهُ فَتَزَوَّجَتْهُ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هذا كله أشبه بأصله لأن كل نكاح أو ملك حدث لم يعمل فيه إلا قول وإيلاء وظهار يحدث فالقياس أن كل حكم يكون في ملك إذا زال ذلك الملك زال ما فيه من الحكم فإذا زال نكاحه فبانت منه امرأته زال حكم الإيلاء عنه في معناه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الصُّورَةِ مُتَّفِقَتَا الْحُكْمِ: إِحْدَاهُمَا: فِي حَرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً وَآلَى مِنْهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا، فَبَطَلَ بِالشِّرَاءِ نِكَاحُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا أَوْ بَيْعِهَا، هَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَالثَّانِيَةُ: فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ وَآلَى مِنْهَا ثُمَّ اشْتَرَتْهُ فَبَطَلَ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ بَيْعِهِ، هَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ فِي عَوْدِ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفَسْخِ بِالْمِلْكِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَفِيهِ لَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه يجري مجرى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ رَفَعَ جَمِيعَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي بَنَتْهُ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهَا تَحِلُّ قَبْلَ زَوْجٍ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكُونُ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَعَادَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكُونُ كَالطَّلَاقِ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَعُودُ الطَّلَاقُ وَالْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي إِذَا كَانَ مَعْقُودًا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِعَقْدٍ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَقْدُ زَالَ حُكْمُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِعَدَدِ الطلاق بزوال عَقْدُهُ وَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ، وَيَكُونُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي مُعْتَبَرًا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. وَالِاحْتِجَاجُ الثَّانِي: إِنْ قَالَ قَدْ صَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَدَامَ فِيهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْجُنُونِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ الْإِيلَاءُ وَالطَّلَاقُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَدَامَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لِوَقْتٍ فَالحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهَا سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَجَلَ الْعَبْدِ وَأَجَلَ الْحُرِّ الْعِنِّينِ سَنَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا، قَالَ: مُدَّةُ الْوَقْفِ فِي الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَنْتَصِفُ الْمُدَّةُ بِالرِّقِّ، ثُمَّ اخْتَلَفَا. فَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ بِهَا الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَوَقْفُ الْعَبْدِ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعْتَبَرُ بِهَا الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَيُوقَفُ لِلْأَمَةِ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. فَأَمَّا مَالِكٌ فَجَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الْفُرْقَةَ، وَالْعَبْدُ يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ مَعَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِالْعِدَّةِ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ، وَالْأَمَةُ تَعْتَدُّ بِقُرْأَيْنِ مَعَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مَعَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ فِي عَقْدٍ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَالْعُنَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ لِوَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِلَفْظٍ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالظِّهَارِ. فَأَمَّا اعْتِبَارُ مَالِكٍ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ وَالْحَرُّ وَالْعَبْدُ يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِلْكِ فَاخْتَلَفَا فِي إِزَالَتِهِ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَوْضُوعَةٌ لِرَفْعِ الضَّرَرِ لَا لِإِزَالَةِ الْمَالِكِ، وَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فَاسْتَوَيَا فِي مُدَّةِ إِزَالَتِهِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِدَّةِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءً وَتَعَبُّدًا، فَالِاسْتِبْرَاءُ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ تَشْتَرِكُ فيه الحرة والأمة، والقرآن الزَّائِدَانِ تَعَبُّدٌ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ كَالْحُدُودِ، فاختصت الأمة بنصفة وهو أحد القراءين فصارت عدتها تعبداً واستبراء قراءين، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَوْضُوعَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ رَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَتْ قَدِ انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَقَالَ لَمْ تَنْقَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَادَّعَتْهَا وَأَنْكَرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، فِي بَقَاءِ الْمُدَّةِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَائِهَا، وَفِي شَكٍّ مِنَ انْقِضَائِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَلِفٌ فِي وَقْتِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الزَّوْجِ فَكَانَ قَوْلُهُ فِيهِ أَثْبَتَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْلَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ، وَهِيَ تَدَّعِي مَا يُخَالِفُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى مِنْ مُطَلَّقَةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْ حِينِ يَرْتَجِعُهَا وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ رَجْعَتَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَكِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُولِيَ مِنْ مُطَلَّقَةٍ يَمْلِكُ رَجَعَتْهَا فِي الْعِدَّةِ، فَالْإِيلَاءُ مِنْهَا فِي عِدَّتِهَا مُنْعَقِدٌ، لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ مِنَ التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ، وَإِذَا انْعَقَدَ إِيلَاؤُهُ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ الْإِيلَاءُ وَاسْتُحِقَّتِ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ إِيلَاؤُهُ بِالرَّجْعَةِ كَانَ أَوَّلُ مُدَّةِ الْوَقْفِ مَنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ لَا مَنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلُ الْمُدَّةِ من وقت الإيلاء بناءاً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَنَحْنُ نَبْنِي عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مَضْرُوبَةٌ فِي نِكَاحٍ كَامِلٍ فَيُقْصَدُ بِهَا رَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا وَقَدْ دَخَلَ الضَّرَرُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ حَتَّى مُنِعَتْ بِهَا النِّكَاحَ، فَخَرَجَ هَذَا الْإِيلَاءُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالضَّرَرِ فَلَمْ يُحْتَسَبْ فِي الْمُدَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مَضْرُوبَةٌ لِيَأْخُذَ بِالْإِصَابَةِ عِنْدَ انْقِضَائِهَا، وَانْقِضَاءُ الْمُدَّةِ فِي الْعِدَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِهِ بِالْإِصَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا مِنَ الْمُدَّةِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ أَنْ يُولِيَ مِنْ مُعْتَدَّةٍ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ، إِمَّا لِأَنَّهُ ثَلَاثٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ دُونَهَا بِعِوَضٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ مِنْهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا، وَكَانَ حَالِفًا لَا تَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ بِإِيلَائِهِ مِنْهَا فِي الْعِدَّةِ الْبَائِنِ مُولِيًا إِذَا نَكَحَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ نَكَحَهَا كَانَ مُولِيًا، وَهَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَفِيمَا تَقَدَّمَ مَعَهُ مِنَ الدَّلِيِلِ فِي الطَّلَاقِ كَافٍ فِي الْإِيلَاءِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وليست هذه من نسائه. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَالْإِيلَاءُ مِنْ كُلِّ زَوْجَةٍ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَذِمِّيَةٍ سِوَاءٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ وَلِأَنَّ مِنْ مَلَكَ الطَّلَاقَ مَلَكَ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ؛ وَلِأَنَّهُنَّ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ سَوَاءٌ، فَوَجَبَ أَنْ يكون في الإيلاء سواء والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 (الوقف من كتاب الإيلاء ومن الإملاء) (على مسائل ابن القاسم والإملاء على مسائل مالك) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (إِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ لِلْمُولِي وُقِفَ وَقِيلَ لَهُ إِنْ فِئْتَ وَإِلَّا فَطَلِّقْ وَالْفَيْئَةُ الْجِمَاعُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ فَيَفِيءُ بِاللِّسَانِ مَا كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الضِّرَارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْمُولِي قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَهِيَ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ كَانَ الْخِيَارُ إِلَيْهَا فِي مُطَالَبَتِهِ وَتَرْكِهِ فَإِنْ طَالَبَتْ كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ تعالى {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226] فَأَيَّهُمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ بِالْآخَرِ فَإِنْ طَلَّقَ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ، وَإِنْ فَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ، وَأَنَّهُ رَجْعِيٌّ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهَا. وَأَمَّا الْفَيْئَةُ فَهِيَ الْجِمَاعُ لِأَنَّ الْفَيْءَ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا فَارَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِالْإِيلَاءِ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْجِمَاعِ فَكَانَتِ الْفَيْئَةُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْفَيْئَةُ الرُّجُوعَ إِلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فَايِئًا إِلَّا بِجِمَاعٍ، وَأَقَلُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ فَيْءَ مَعْذُورٍ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَسْتُ أَقْدِرَ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَفَعَلْتُهُ، وَإِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ فَعَلْتُهُ فَيَقُومُ فَيْئُهُ بِلِسَانِهِ فِي حَالِ عُذْرِهِ فِي إِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ مَقَامَ فَيْئَتِهِ بِوَطْئِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَلْزَمُهُ الْفَيْئَةُ بِاللِّسَانِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ، وَيُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ إِلَى زَوَالِ الْعُذْرِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ لَمَا لَزَمَهُ الْفَيْئَةُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ لِسُقُوطِ الْحَقِّ بما تقدم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ لَقَامَ مَقَامَهُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وَالْفَيْئَةُ الرُّجُوعُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ رُجُوعٍ بِالْقَوْلِ أَوْ رُجُوعٍ بِالْفِعْلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَيْئَةَ تُرَادُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِالْإِيلَاءِ وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى زَوَالِهِ بِهَا وَقَدْ يَرْتَفِعُ الضَّرَرُ وَتَسْكُنُ النَّفْسُ بِقَوْلِ الْعَاجِزِ كَمَا يَرْتَفِعُ بِفِعْلِ الْقَادِرِ وَلِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَرْفَعُ الضَّرَرَ كَالشُّفْعَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ دَفْعُ الثَّمَنِ وَانْتِزَاعُ الْمَبِيعِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ فِيهَا بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ كَذَلِكَ الْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي ثَوْرٍ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَوْ سَقَطَتْ بِفَيْءِ اللِّسَانِ لَمَا وَجَبَتْ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، فَفَاسِدٌ بِالْمُطَالَبَةِ بِالشُّفْعَةِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الطَّلَبِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَنَحْنُ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ إِحْدَى الطِّهَارَتَيْنِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجِبْ بِهِ الْكَفَّارَةُ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْمُطَالَبَةُ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ الْفَيْئَةَ غيره مُعْتَبَرَةٍ بِوُجُوبٍ بِالْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَ يَفِيءُ فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ وَتَصِحُّ الْفَيْئَةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَيْئَةَ بِاللِّسَانِ تُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ سَقَطَ حُكْمُ الْفَيْئَةِ بِاللِّسَانِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ كَالشَّفِيعِ إِذَا أَشْهَدَ بِالطَّلَبِ فِي الْغَيْبَةِ ثُمَّ حَضَرَ جَدَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَانْتِزَاعِ الْمَبِيعِ وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ بِالْعِلْمِ فِي الْحُضُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بَعْدَ أَنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ فِي حَالِ الْعَجْزِ: لِأَنَّ مَا كَانَ فَيْئَةً فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ فَيْئَةِ كالوطء. دليلنا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَنَّ الْوَطْءَ حَقٌّ ثَبَتَ لَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ حُكْمُ الْقُدْرَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْوَطْءُ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْإِيلَاءِ كَالْقُبْلَةِ؛ وَلِأَنَّ فَيْئَةَ اللِّسَانِ لَا تَتِمُّ إِلَّا أَنْ يَعِدَ فِيهَا بِالْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا فَوَجَبَ وَعْدُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ جَامَعَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أربعة اشهر فليس بمول ومتى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 وطء وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينِهِ لَا يُخْتَلَفُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ، فَإِنْ فَاءَ فِيهَا بِالْوَطْءِ نُظِرَ فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ عَلَّقَهُمَا بِوَطْئِهِ، فَوَطْؤُهُ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ أنه لا كفارة عليه؛ لأن الله تَعَالَى جَعَلَ لِلْإِيلَاءِ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَيْئَةُ أَوِ الطَّلَاقُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ هُوَ الْكَفَّارَةُ لِمَا فِي إِيجَابِهَا مِنْ زِيَادَةِ حُكْمٍ عَلَى النَّصِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الفيئة بالغفران فقال تعالى {فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وَمَا غُفِرَ لَنْ يُكَفَّرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فَلَمْ يُكَفَّرْ لَغْوُ الْيَمِينِ لِلْعَفْوِ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ تَكْفِيرٌ لَمْ يَجِبْ بِالْفَيْئَةِ تَكْفِيرٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْإِيلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ) وَفَيْئَةُ الْمُولِي فِي الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرِ خَيْرٌ مِنْهَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ التَّكْفِيرِ، وَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُولِي أَغْلَظُ مِنْ يَمِينِ غَيْرِ الْمُولِي ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِيَمِينِهِ لَكَفَّرَ بِحِنْثِهِ، فَإِذَا كَانَ مُولِيًا فَأَوْلَى أَنْ يُكَفِّرَ؛ وَلِأَنَّ يَمِينَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ مَأْثَمًا مِنْ يَمِينِهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ إِذَا حَنِثَ بِهِمَا فَأَوْلَى أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنْ عُمُومِ الْفَيْئَةِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا فِي أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَأَمَّا الْفَيْئَةُ قَبْلَ الْمُدَّةِ فَمُوجِبَةٌ لِلْكَفَّارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَوْضُوعَيْنِ بِأَنَّهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَأَوْجَبَتِ الْكَفَّارَةَ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَاجِبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْكَفَّارَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَالْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إِذَا لَمْ تَجِبْ وَلَا يُوجِبُهَا إِذَا وَجَبَ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ كَوُجُوبِهَا فِي حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ فَأَمَّا حَلْقُ الْمُحْرمِ فَلَا شَبَهَ فِيهِ لِلْإِيلَاءِ، لِأَنَّ الْحَلْقَ فِي وَقْفِهِ نُسُكٍ فَلَمْ يُكَفَّرْ فِي غَيْرِ وَقْفِهٍ فَلَيْسَ بِنُسُكٍ ثُمَّ يَسْتَوِي حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 نُسُكًا بَيْنَ مُبَاحَةٍ لِلْحَاجَةِ وَمَحْظُورَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا كَذَلِكَ الْفَيْئَةُ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (ولو قال أجلني في الجماع لم أوجله أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ فَإِنْ جَامَعَ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَعَلَيْهِ الْحِنْثُ فِي يَمِينِهِ وَلَا يبين أن أوجله ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا فَإِنْ طَلَّقَ وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَاحِدَةً (قَالَ المزني) رحمه الله تعالى قد قطع بأنه يجبر مكانه فإما أن يفيء وإما أن يطلق وهذا بالقياس أولى والتأقيت لا يجب إلا بخبر لازم وكذا قال في استتابة المرتد مكانه فإن تاب وإلا قتل فكان أصح من قوله ثلاثا) . قال الماوردي: أما إِذَا سَأَلَ الْإِنْظَارَ بِالْفَيْئَةِ لِعَجْزِهِ عَنْهَا بِالْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ عَلَى مَا مَضَى، فَإِذَا سَأَلَ الْإِنْظَارَ بِهَا بِغَيْرِ مَرَضٍ فَالْمُدَّةُ تَنْقَسِمُ فِي إِنْظَارِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يُجَابُ إِلَيْهِ، وَقِسْمٌ لَا يُجَابُ إِلَيْهِ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُجَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ إِنْظَارَ يَوْمِهِ أَوْ إِنْظَارَ لَيْلَتِهِ فَهَذَا يُجَابُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ إِنْظَارِ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ جَائِعًا فَأُمْهِلَ لِأَكْلِهِ أَوْ شَبِعًا فَأُمْهِلَ لِهَضْمِهِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا فَيُنْظَرُ لَهُ لِيَهْدَأَ بَدَنُهُ إِلَى وَقْتٍ يُعْرَفُ أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْعَارِضُ الَّذِي يَضْطَرِبُ الْبَدَنُ لَهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ يَكُونُ بِأَسْبَابِ مُحَرِّكَةٍ تَخْتَلِفُ النَّاسَ فِيهَا فَأُمْهِلَ لَهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي لَا يُجَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ الْإِنْظَارَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي حَدِّهِ الْكَثْرَةُ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ لَزَادَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ عَلَى النَّصِّ، وَصَارَ بِاسْتِنْظَارِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَالْمُمْتَنِعِ مِنَ الْفَيْئَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَهُوَ إِذَا سَأَلَ إِنْظَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجَابُ إِلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّةِ النَّصِّ وَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي تَأْخِيرَ حَقٍّ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَالدُّيُونِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الْإِنْظَارُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى إِنْظَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا حَدٌّ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَهِيَ حَدٌّ لِأَكْثَرِ الْقَلِيلِ وَأَقَلِّ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا نُظِرَ بِالْقَلِيلِ جَازَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَةِ حَدِّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْعَدَ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ أَنْظَرَ فِيهِ ثَلَاثًا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَمَسُّوهَا بسوء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 فيأخذكم عذاب قريب فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64 - 65] فَكَانَ هَذَا الْإِنْظَارُ فِي الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْعَذَابِ الْمَحْتُومِ، وَهَكَذَا إِذَا اسْتَنْظَرَ الْعِنِّينُ ثَلَاثًا بَعْدَ السَّنَةِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَصْلُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْظَارُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثًا وَفِيهِ قَوْلَانِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِنْظَارِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوِ اسْتِحْبَابٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ كَإِنْظَارِ الْمُرْتَدِّ بِهَا فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ بِهَا سَوَاءٌ اسْتَنْظَرَهَا أَمْ لَا كَالْمُرْتَدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاخْتَارَهُ الدَّارَكِيُّ أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ يُنْظَرُ بِهَا إِنِ اسْتَنْظَرَهَا وَلَا يُنْظَرُ بِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَنْظِرْ وَيُؤْخَذُ بِتَعْجِيلِ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْمُرْتَدِّ، أَنَّ إِنْظَارَ الْمُرْتَدِّ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَقِفْ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ، وَإِنْظَارَ هَذَا فِي حَقِّهِ، فَوَقَفَ عَلَى اسْتِنْظَارِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِنْظَارِ الثَّلَاثِ احْتِجَاجًا بِالْمُرْتَدِّ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُنْظَرُ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَاسْتَوَيَا، بَلِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُرْتَدِّ أَظْهَرُ مِنْهُمَا فِي الزَّوْجِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِ الْإِنْظَارِ بِالثَّلَاثِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالَ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى، وَلَيْسَ هَكَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قِيَاسُ الثَّلَاثِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا بِأَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى ما نقص عنها. والثاني: إن قال التأقيت لَا يَجِبُ إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى هَذَا، وَالشَّافِعِيُّ ثَبَّتَ التَّوْقِيتَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْنَى عَلَى أَنَّ فِي الثَّلَاثِ نَصًّا. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنَّمَا قُلْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمُولِي أَنْ يَفِيءَ أَوْ يطلق إذا كان لا يقدر على الفيئة إلا به فإذا امتنع قدر على الطلاق عنه ولزمه حكم الطلاق كما يأخذ منه كل شيء وجب عليه إذا امتنع من أن يعطيه (وقال في القديم) فيها قولان أحدهما وهو أحبهما إليه والثاني يضيق عليه بالحبس حتى يفيء أو يطلق لأن الطلاق لا يكون إلا منه (قال المزني) رحمه الله تعالى ليس الثاني بشيء وما علمت أحدا قاله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ الْمُدَّةِ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، هَلْ يُطَلَّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا: فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُطَلِّقَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقَلُّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَإِنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 الرَّجْعَةَ بَعْدَهَا، وَإِنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بَانَتْ وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَوْقَعَهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا، إِلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَبَعْدَ الْمُدَّةِ مُسْتَحَقَّةٌ. وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ هُوَ المطلق، فطلاقه معتبر بثلاث شروط: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ فَإِنْ كَانَ غير ممتنع منه فطلق الحاكم عليه ولم يَقَعْ طَلَاقُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَدَدِ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ طَلَّقَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ وَلَمْ يَقَعِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوْجِ: أَنَّ الْحَاكِمَ مُوقِعٌ مَا وَجَبَ وَالزَّوْجَ يُوقِعُ مَا مَلَكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْتَوْفِيهِ، وَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي إِنْظَارِ الْمُولِي بِالْفَيْئَةِ ثَلَاثًا، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يُنْظَرُ بِهَا وَقَعَ طَلَاقُ الْحَاكِمِ قَبْلَهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُنْظَرُ بِهَا فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ قَبْلَهَا وجهان بناءاً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الثَّلَاثِ، هَلْ يَجِبُ شَرْعًا أَوِ اسْتِنْظَارًا فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ اسْتِنْظَارًا وَقَعَ طَلَاقٌ، وَإِنْ قِيلَ يَجِبُ شَرْعًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، هَذَا إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَرَى إِنْظَارَ الثَّلَاثِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يَرَاهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ عَنِ اجْتِهَادٍ سَائِغٍ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِنْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ وَالزَّوْجُ جميعاً فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ ثُمَّ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ بَعْدَهُ فَطَلَاقُ الزَّوْجِ وَاقِعٌ وَطَلَاقُ الْحَاكِمِ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْحَاكِمُ بِطَلَاقِ الزَّوْجِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ فَنَنْظُرُ، فَإِنْ عِلْمَ الزَّوْجُ بِطَلَاقِ الْحَاكِمِ وَقَعَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَطَلَاقُ الْحَاكِمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ بِطَلَاقِ الْحَاكِمِ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ قَدْ سَبَقَ الْحُكْمُ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا وَجَبَ وَمَا لَمْ يَجِبْ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْحَاكِمُ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَسْتَكْشِفِ الزَّوْجُ عَنْهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ وَالْحَاكِمُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَطَلَاقُ الزَّوْجِ وَاقِعٌ وَفِي وُقُوعِ طَلَاقِ الْحَاكِمِ وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقَعُ طَلَاقُهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الزوج بالطلاق والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَيُقَالُ لِلَّذِيَ فَاءَ بِلِسَانِهِ مِنْ عُذْرٍ إِذَا أَمْكَنَكَ أَنْ تُصِيبَهَا وَقَفْنَاكَ فَإِنْ أَصَبْتَهَا وَإِلَّا فَرَّقْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي فَيْئَةِ اللِّسَانِ بِالْعُذْرِ، فَإِذَا زَالَ عُذْرُهُ زَالَ حُكْمُ فَيْئَتِهِ بِلِسَانِهِ وَطُولِبَ بِالْإِصَابَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ حُكْمِ فَيْئَتِهِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَعِدَ بِالْإِصَابَةِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَأْخُوذًا بِهَا لِأَجْلِ وَعْدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْظَارَ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ زَالَ حُكْمُهُ بِزَوَالِ الْعُذْرِ كَإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَكَإِنْظَارِ الْغَائِبِ بِالشُّفْعَةِ إِذَا حضر. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ أَحْرَمَتْ مَكَانَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِإِحْلَالٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ حَتَّى يُمْكِنَ جِمَاعُهَا أَوْ تَحِلَّ إِصَابَتُهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَالْوَقْفُ الْمَأْخُوذُ فِيهِ وَقْفَانِ، وَقْفٌ لِلزَّوْجِ وَوَقْفٌ لِلزَّوْجَةِ فَأَمَّا وَقْفُ الزَّوْجِ فَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُولِي، وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَأَمَّا وَقْفُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ إِذَا كَانَتْ حَادِثَةً مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَوْ فِي مُدَّةِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْمُطَالَبَةِ فَجَمِيعُهَا مَانِعَةٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا لِعَجْزٍ أَوْ شَرْعٍ فَالْمَانِعُ لِعَجْزٍ كَالضَّنَا وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ إِصَابَتُهَا، وَكَالْجُنُونِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ وَالْإِغْمَاءِ الَّذِي لَا تَمْيِزَ مَعَهُ وَالْحَبْسِ بِظُلْمٍ أَوْ بِحَقٍّ. وَأَمَّا الْمَانِعُ بِالشَّرْعِ مَعَ الْمُكْنَةِ مِنَ الْوَطْءِ فَالْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اسْتَحَقَّ فَسْخَهُ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ بِنَفْسِهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَالصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 الْخُرُوجُ مِنْ صَوْمِ الْمَفْرُوضِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَمُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ الْوَطْءَ بِالشَّرْعِ، فَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ يحرم فيها الوطء، فإن وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ الْوَقْفُ الثَّانِي هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهَا مَنَعَهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْعَ عَجْزٍ أَوْ مَنْعَ شَرْعٍ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَيْئَةِ يَكُونُ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا وَهِيَ تَسْتَحِقُّهَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْهَا وَهِيَ غَيْرُ قَادِرَةٍ عَلَى التَّمْكِينِ فَسَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَإِذَا سَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ التَّقْسِيمِ في المسطور والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (إِذَا كَانَ الْمَنْعُ لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ صَبِيَّةً أَوْ مُضْنَاةً لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا، فَإِذَا صَارَتْ فِي حَدِّ مَنْ تُجَامَعُ اسْتُؤْنِفَتْ بِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَهُوَ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ فَجَمِيعُهَا غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَى الزَّوْجِ لِمَنْعِهَا مِنَ الْإِصَابَةِ إِلَّا الْحَيْضَ وَحْدَهُ فَإِنَّ زَمَانَهُ مَحْسُوبٌ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ أَنَّ الْحَيْضَ حلته وَانْقِطَاعُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ غَيْرُ مَعْهُودٍ، وَخُلُوُّ الْمُدَّةِ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَصَارَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَخْلُو مُدَّةُ التَّرَبُّصِ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ، فَإِنْ طَرَأَتْ فِيهَا كَانَتْ نَادِرَةً فَلِذَلِكَ كَانَ زَمَانُهَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يَبْطُلُ تَتَابُعُهُ بِالْحَيْضِ لِتَعَذُّرِ خُلُوِّهِ مِنْهُ، ويبطل تتابعه بفطر ما سوى الحيض لإمكانه خُلُوِّهِ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْحَيْضِ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ فَيَمْنَعُ مِنْهَا كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَبَيْنَ وُجُودِهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَيُحْتَسَبُ بِزَمَانِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ، هُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَسَاوَى غَيْرَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ زَمَانُ التَّرَبُّصِ فِي الْأَغْلَبِ فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ وَجَرَى وُجُودُهُ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ مَجْرَى وُجُودِهِ فِي صَوْمِ الثَّلَاثِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يَبْطُلُ تَتَابُعُهَا لِإِمْكَانِ خُلُوِّهَا مِنْهُ. وَجَرَى وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مَجْرَى وُجُودِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ لَا يَبْطُلُ تَتَابُعُهُمَا لِتَعَذُّرِ خُلُوِّهَا مِنْهُ. فَأَمَّا النِّفَاسُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ لِمُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَمَحْسُوبٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَيْضِ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَاطِعٌ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ وَغَيْرُ مَحْسُوبٍ فِيهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ غَالِبٌ وَالنِّفَاسَ نَادِرٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَوَانِعِ. فَأَمَّا الصِّغَرُ: فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الِافْتِضَاضِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ كَانَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ حَتَّى يَصِيرَ عَلَى حَالٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا فَيُسْتَأْنَفَ لَهُ التَّرَبُّصُ. وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنْ أَمْكَنَ مَعَهُ إِصَابَتُهَا بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَبَهَا كَانَ زَمَانُهُ مَحْسُوبًا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهَا كَانَ زَمَانُهُ غَيْرَ مَحْسُوبٍ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى مَا لَا يَلْحَقُهَا مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ فَتُحْتَسَبُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ المواضع الَّتِي لَا يُحْتَسَبُ بِزَمَانِهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، فإذا زالت استؤنفت مدة لتربص وَلَا شَيْءَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الموانع وبطل الماضي من مدة التربص بالمواقع الطَّارِئَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْظَرَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَاقْتَضَى إِطْلَاقُهَا التَّتَابُعَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ كَمَا اقْتَضَاهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَصَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ يَبْطُلُ مَا تَقَدَّمَهُ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَخَالَفَ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ إِلَى تَلْفِيقِ التَّرَبُّصِ وَالْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى قَبْلَ الْمَوَانِعِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ الْمَوَانِعِ فِي زَمَانِ الْمُطَالَبَةِ لَا يُسْقِطُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَذَلِكَ حُدُوثُهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لَا يُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْهَا وَهَذَا فَاسِدٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنَّ مُوَالَاةَ الْمُدَّةِ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا مَوْجُودٌ وَمُوَالَاتَهَا بِحُدُوثِهِ فِي تَضَاعِيفِهَا مَعْدُومٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الزَّوْجُ حَقَّهُ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا وَمَا اسْتَوْفَاهُ بِحُدُوثِهِ فِي تَضَاعِيفِهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِذَا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيءَ فَيْءَ جِمَاعٍ أَوْ فَيْءَ مَعْذُورٍ وَفَيْءَ الْحَبْسِ بِاللِّسَانِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذَا آلَى فَحُبِسَ اسْتُوقِفَتْ بِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ متتابعة (قال المزني رحمه الله) الحبس والمرض عندي سواء لأنه ممنوع بهما فإذا حسبت عليه في المرض وكان يعجز عن الجماع بكل حال أجل المولى كان المحبوس الذي يمكنه أن تأتيه في حبسه فيصيبها بذلك أولى) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْمَوَانِعُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَزَمَانُ جَمِيعِهَا مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ: زَمَانَ رِدَّتِهِ وَزَمَانَ عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهِ فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مَحْسُوبَتَيْنِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُمَا مُوجِبَانِ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهَا مِثْلَ مَا يُوجِبَانِهِ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ كَإِحْرَامٍ وَصِيَامٍ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّهَا، وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي حَقِّهِ دُونَهَا فافترقا، وإذ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ الْمَحْسُوبَةِ مِنْ أَنْ تُوجَدَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ أَوْ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِي الْأَوَّلِ كَانَتْ مَحْسُوبَةً عَلَيْهِ فَيُحْسَبُ عَلَيْهِ زَمَانُ إِحْرَامٍ وَزَمَانُ صِيَامٍ وَزَمَانُ مَرَضٍ وَزَمَانُ سَفَرٍ سَوَاءٌ سَافَرَ فِي مُبَاحٍ أَوْ فِي وَاجِبٍ وَزَمَانُ حَبْسِهِ سَوَاءٌ حُبِسِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَوْ آلَى فَحُبِسَ اسْتُؤْنِفَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِزَمَانِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ فَكَانَ أَبُو حَفْصِ بْن الْوَكِيلِ يُخْرِجُ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْحَبْسِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِزَمَانٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ بِالْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ وَزَمَانِهِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ لِوُجُودِهِ فِي حَبْسِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَنَّ زَمَانَ الْحَبْسِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُزَنِيُّ فِي أَنَّ زَمَانَ الْمَرَضِ لَمَّا كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ وَحَالُهُ فِيهِ أَغْلَظَ، كَانَ زَمَانُ حَبْسِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَأْتِيَهُ فِي الْحَبْسِ فَيُصِيبَهَا أَوْلَى بِالِاحْتِسَابِ، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فَلَوْ آلَى فَحُبِسَتِ اسْتُؤْنِفَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ جِهَتِهَا فَوَهِمَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ، وَلَوْ آلَى فَحُبِسَ فَأَضَافَ الْحَبْسَ إِلَيْهِ دُونَهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمُزَنِيُّ مُصِيبٌ فِي نَقْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي احْتُسِبَ زَمَانُ حَبْسِهِ عَلَيْهِ إِذَا حُبِسَ بِحَقٍّ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يُحْتَسَبْ بِزَمَانِ حَبْسِهِ عَلَيْهِ إِذَا حُبِسَ بِظَالِمٍ وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَبْطُلُ بِالْمَرَضِ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْلِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاحْتِسَابُ بِهَا كَانَتْ زَمَانًا لِلْفَيْئَةِ فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ مَرَضًا فَإِنْ قَدَرَ مَعَهُ عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ حَبْسًا فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِدْخَالِهَا إِلَى حَبْسِهِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِدْخَالِهَا إِلَى حَبْسِهِ طُولِبَ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ مَا كَانَ فِي حَبْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ إِحْرَامًا أَوْ صِيَامًا، قِيلَ لَا يَسْقُطُ فَيْئَةُ الْجِمَاعِ لِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْكَ، وَلَا يُقْنِعُ مِنْكَ أَنْ تَفِيءَ بِلِسَانِكَ فَيْءَ مَعْذُورٍ لِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى فَيْءِ غَيْرِ مَعْذُورٍ، فَإِنْ أَقْدَمْتَ عَلَى الْفَيْئَةِ بِالْجِمَاعِ خَرَجْتَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 حَقِّ الْإِيلَاءِ وَعَصَيْتَ بِالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ أَوِ الصيام وإن لم يطأ لم يتوجه عليك مآثم التحريم، وإن توجهت عليك الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا. وَالثَّانِي: يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الْمُزَنِيُّ رضي الله عنه: (وقال في موضعين - يعني الشافعي - وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةَ أَشْهُرٍ وَطَلَبَهُ وَكِيلُهَا بِمَا يَلْزَمُهُ لَهَا أَمَرْنَاهُ أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهَا كَمَا يُمْكِنُهُ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا سَافَرَ الْمُولِي عَنْ زَوْجَةٍ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَانَ زَمَانُ سَفَرِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ مُدَّةِ وَقْفِهِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ جِهَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مُبْتَدِئًا فِي سَفَرِهِ كَانَ مَا جَاوَزَ قَدْرَ (الْمُسَافِرِ) مِنْ أَيَّامِ سَفَرِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ وَفِي احْتِسَابِ قَدْرِ الْمَسَافَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ فِيهِ عَلَى الْإِصَابَةِ لَوْ أَرَادَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّفَرِ، وَلَيْسَ تَعَذُّرُ الْإِصَابَةِ لَوْ أَرَادَهَا بِمَانِعٍ مِنَ احْتِسَابِ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ كَالْمَرَضِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ مَحْسُوبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ حَاضِرًا طُولِبَ بِالْإِصَابَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْبَتِهِ وَكَّلَتْ مَنْ يُطَالِبُهُ بِحَقِّهَا حَتَّى يُرَافِعَ وَكِيلُهَا إِلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ غَائِبٌ فِيهِ فَيُطَالِبَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ طَلَّقَ فَحُكْمُ طَلَاقِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَحُكْمِ طَلَاقِهِ فِي حَضَرِهِ، وَقَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ حَقُّهَا حَتَّى إِذَا قَدِمَ فَلَا مُطَالَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْفَيْئَةَ فَيَكْفِيهِ فِي الْفَيْئَةِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفِيءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلْإِصَابَةِ، إِمَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْتَقْدِمَهَا عَلَيْهِ، وَالْخِيَارُ فِيهِمَا إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْفَيْئَةِ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَمْ يَجُزْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَيْئَةِ اللِّسَانِ حَتَّى يَفِيءَ بِالْإِصَابَةِ فَلَوْ أَنَّهُ فِي غَيْبَتِهِ أَخَذَ فِي الْقُدُومِ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ ولم يفيء بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ لَمْ يَكُنْ فَايِئًا وَطَلَّقَ عَلَيْهِ حَاكِمُ ذَلِكَ الْبَلَدِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ فَاءَ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ لَمْ يُأْخَذْ فِي الِاجْتِمَاعِ إِمَّا بِقُدُومٍ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ لَمْ تَتِمَّ الْفَيْئَةُ وَطَلَّقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَاكِمُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِخَوْفِ الطريق المانع أَوْ لِمَرَضٍ مُعْجِزٍ فَالْفَيْئَةُ بِلِسَانِهِ كَافِيَةٌ إِلَى أَنْ يَزُولَ عُذْرُهُ فَيُؤْخَذَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 بِالْقُدُومِ أَوِ الِاسْتِقْدَامِ فَلَوِ اسْتَقْدَمَهَا فَامْتَنَعَتْ إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَ حَقُّهَا من المطالبة والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يُوقَفْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ فَإِنْ عَقِلَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ وقف مكانه فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ (قَالَ المزني رحمه الله) هذا يؤكد أن يحسب عليه مدة حبسه ومنع تأخره يوماً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِ الْمُولِي بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي وَقْفِهِ وَمُدَّةِ تَرَبُّصِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ كَالْمَرَضِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ وَهُوَ عَلَى جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوقَفْ، يَعْنِي الْوَقْفَ الثَّانِيَ الَّذِي هُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَقْفَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، فإذا أفاق من جنونه أو إغمائه استحق حِينَئِذٍ مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ. (فَصْلٌ:) قَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا يُؤَكِّدُ أَنْ يُحْتَسَبَ مُدَّةُ حَبْسِهِ وَمُنِعَ تَأْخِيرُهُ يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةً. أَرَادَ الْمُزَنِيُّ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَجْعَلَ الِاحْتِسَابَ بِزَمَانِ الْجُنُونِ دَلِيلًا عَلَى الِاحْتِسَابِ بِزَمَانِ الْحَبْسِ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ منع تأخيره يَوْمًا أَوْ ثَلَاثَةً دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ إِنْظَارِهِ ثَلَاثًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ وَعَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ الله عنه - من منع تأخيره يوما أو ثَلَاثَةً جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي غَيْرُ مَمْنُوعٍ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِنْظَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْإِنْظَارِ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى الْفَيْئَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ إِلَى الطَّلَاقِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ بِهِ لَمْ يُنْظَرْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْإِنْظَارِ بِالْفَيْئَةِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ أَحْرَمَ قِيلَ لَهُ إِنْ وَطِئْتَ فَسَدَ إِحْرَامُكَ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ طُلِّقَ عَلَيْكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ زَمَانُ إِحْرَامِهِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَلَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، قِيلَ لَهُ إِحْرَامُكَ قَدْ حَظَرَ عَلَيْكَ الْوَطْءَ وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُهُ، وَلَا يَمْنَعُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْكَ مِنْ مُطَالَبَتِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطلاق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ هِيَ أَقْوَى الْحَقَّيْنِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ وَالطَّلَاقَ بَذْلٌ عَلَى وَجْهِ التخيير، فإذا طولب وطلق خرج مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ وَلَا يَأْثَمُ فِي إِفْسَادِ إِحْرَامِهِ، فَإِذَا فَاءَ فَقَدْ عَصَى بِوَطْئِهِ فِي الْإِحْرَامِ وَأَفْسَدَ بِهِ الْحَجَّ وَوَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَوَجَبَتْ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ طُلِّقَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ فهلا اقتنع مِنْهُ بِفَيْءِ مَعْذُورٍ بِلِسَانِهِ كَالْمَرِيضِ؟ قِيلَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْإِحْرَامَ الْمَانِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِهِ، فَكَانَ بِالْإِحْرَامِ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَبِالْمَرَضِ مَعْذُورًا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى ثُمَّ تَظَاهَرَ أَوْ تَظَاهَرَ ثُمَّ آلَى وَهُوَ يَجِدُ الْكَفَّارَةَ قِيلَ أَنْتَ أَدْخَلْتَ الْمَنْعَ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنْ فِئْتَ فَأَنْتَ عَاصٍ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ طُلِّقَ عَلَيْكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَآلَى مِنْهَا ثُمَّ ظَاهَرَ أَوْ ظَاهَرَ ثُمَّ آلَى كَانَ زَمَانُ الظِّهَارِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَاسْتُحِقَّتِ الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ عَلَى ظِهَارٍ لَمْ يُكَفِّرْ مِنْهُ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ حَقَّانِ مُتَنَافِيَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحَرِّمُ الْوَطْءَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُكَفِّرَ وَهُوَ الظِّهَارُ. وَالثَّانِي: يُوجِبُ الْوَطْءَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ، فَإِنْ عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ وَوَطِئَ فِي الْإِيلَاءِ خَرَجَ مِنْ تَحْرِيمِ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ وَمَنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ بِالْوَطْءِ، وَإِنْ طَلَّقَ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ مِنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ، وَخَرَجَ مِنْ مَأْثَمِ الظِّهَارِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَوَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ كَانَ عَاصِيًا بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ، وَخَارِجًا بِهِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ فِي الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِالظِّهَارِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يُنْظَرْ، لِأَنَّهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ لَمْ يُنْظَرْ فِي عِتْقِهَا كَمَا لَا يُنْظَرُ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ أُنْظِرَ لِابْتِيَاعِهَا يَوْمًا، وَهَلْ يَبْلُغُ بِإِنْظَارِهِ ثَلَاثًا، عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَطَأَ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ وَطْأَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي الرِّدَّةِ وَالْحَيْضِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِالرِّدَّةِ وَالْحَيْضِ فِي حَقِّهِمَا وَتَحْرِيمَهُ بِالظِّهَارِ فِي حَقِّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 وَحْدَهُ، وَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ كَالدُّيُونِ الْمَبْذُولَةِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَتْ لَمْ يُصِبْنِي وَقَالَ أَصَبْتُهَا فَإِنْ كانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه لأنها تدعي ما به الفرقة التي هي إليه وإن كانت بكراً أريها النساء فإن قلن هي بكر فالقول قولها مع يمينها (قال المزني) رحمه الله تعالى إِنَّمَا أَحْلَفَهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يبالغ فرجعت العذرة بحالها) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ادَّعَى الْمُولِي إِصَابَتَهَا لِيُسْقِطَ مُطَالَبَتَهَا وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ يستسر بِهِ وَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَقِيلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ كَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ النِّكَاحِ وَدَوَامَ صِحَّتِهِ أَصِلٌ قَدِ اسْتَصْحَبَهُ الزَّوْجُ بِدَعْوَى الْإِصَابَةِ وَالزَّوْجَةُ تَدَّعِي مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ مِنْ وُجُوبِ الْفُرْقَةِ بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِاسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْأَصْلُ أَنْ لَا إِصَابَةَ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الصِّحَّةُ، فَلِمَ اسْتَصْحَبْتُمُ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ؟ وَلَمْ تَسْتَصْحِبُوا الْأَصْلَ فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ أَصْلٌ مُتَيَقَّنٌ، وَعَدَمَ الْإِصَابَةِ أَصْلٌ مَظْنُونٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَكَانَ اسْتِصْحَابُ الْأَصْلِ الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى مِنَ اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ الْمَظْنُونِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِجَوَازِ كَذِبِهِ، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَأُخِذَ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِقَوْلِ الزَّوْجِ فِي ثُبُوتِ الْإِصَابَةِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَنَّهُ لم يصيبها؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهَا فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ، فَصَارَ قَوْلُهَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ الزَّوْجِ، فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنَّمَا أَحْلَفَهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُبَالِغْ فَرَجَعَتِ الْعُذْرَةُ بِحَالِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُحَلِّفُهَا إِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِغْ فِي الْإِصَابَةِ فَعَادَتِ الْعَذْرَةُ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَدَّعِ لم يحلفها. قال البغداديون بل يلحفها بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ ادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَدَّعِيهِ، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ مَعَ الْبَكَارَةِ مُفْضٍ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ حَلَفَتِ الزَّوْجَةُ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَإِنْ نَكَلَ حُكِمَ بِقَوْلِ الزَّوْجَةِ فِي بَقَاءِ حَقِّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ فِي الْبَكَارَةِ فَادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ لِيَكُونَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِي عَدَمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ لِيَكُونَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي وُجُودِ الْإِصَابَةِ لَمْ يُرْجَعْ فِيهَا إِلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُشَاهِدَ ذَلِكَ النِّسَاءُ الثِّقَاتُ فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ بِأَنَّهَا بِكْرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِي إِنْكَارِ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِأَنَّهَا ثَيِّبٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ثبوت الإصابة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوِ ارْتَدَّا أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا أَوْ رَجَعَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمَا فِي الْعِدَّةِ اسْتَأْنَفَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَلَّ له الفرج ولا يشبه هذا الباب الأول لأنها في هذا الباب كانت محرمة كالأجنبية الشعر والنظر والجس وفي تلك الأحوال لم تكن محرمة بشيء غير الجماع (قال المزني) القياس عندي أن ما حل له بالعقد الأول فحكمه حكم امرأته والإيلاء يلزمه بمعناه وأما من لم تحل له بعقده الأول حتى يحدث نكاحاً جديداً فحكمه مثل الأيم تزوج فلا حكم للإيلاء في معناه المشبه لأصله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْوَقْفَ الْأَوَّلَ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَتُسْقِطُ الْوَقْفُ الثَّانِي اسْتِحْقَاقَ الْمُطَالَبَةِ وَزَمَانُهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الرِّدَّةُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا إِلَى الإسلام إلى بَعْدِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ، وَسَقَطَ بِهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ فَسْخٌ، فَإِنْ عَادَ فَنَكَحَهَا فَهَلْ يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا؟ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرْقَةِ بِالْفَسْخِ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى فُرْقَةِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَوْ مَجْرَى مَا دُونَهَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قوله في الجديد كله وأحد قوليه في الْقَدِيمِ، وَيَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ، فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عَلَى قوله فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ، فَأَمَّا إِذَا عَادَ الْمُرْتَدُّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتُوقِفَ لَهُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَبْنِي عَلَى ما مضى منها فإن انقضت طولب بالفيئة أو الطلاق إلى أَنْ تَكُونَ الرِّدَّةُ فِي الْوَقْفِ الثَّانِي وَهُوَ زَمَانُ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يُعَادُ الْوَقْفُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ كاملاً قبل الردة فإن قبل فَهَلَّا اسْتُؤْنِفَ الْوَقْفُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَأْنَفُ الْوَقْفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، قِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّاهَا حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُوفِّهَا حَقَّهَا بِالرِّدَّةِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ وَاسْتُؤْنِفَ لَهُ وَقْفٌ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالرِّدَّةِ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يُسْتَأْنَفْ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا خَالَعَ الْمُولِي زَوْجَتَهُ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِالْخُلْعِ وَسَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَانَ عَوْدُ الْإِيلَاءِ مُعْتَبَرًا بِفُرْقَةِ الْخُلْعِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَعَلَى هَذَا يَعُودُ الْخُلْعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَلَا يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ فَسْخٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَسْخِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَوْ مَا دُونَهَا عَلَى مَا مَضَى، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْ كَلَامِهِ مَا تَقَدَّمَ الجواب عنه. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ الْمُولِي فَائِتًا فِي الثيب أن يغيب الحشفة وفي البكر ذهاب العذرة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ بِهِمَا لِأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْوَطْءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلْأَوَّلِ وَفَسَادِ الْعِبَادَاتِ، كَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَبِذَهَابِ الْعُذْرَةِ لِأَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ يُذْهِبُ الْعُذْرَةَ لَا أَنَّ ذَهَابَ الْعُذْرَةِ هِيَ الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَلَا يُسْقِطُ حُكْمَ الإيلاء والعنة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (فَإِنْ قَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَى افْتِضَاضِهَا أُجِّلَ أَجَلَ الْعِنِّينِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ادَّعَى الْمُولِي الْعُنَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فِي هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ الْإِيلَاءِ أَوْ لَمْ يُصِبْهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ فَدَعَوَاهُ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعُنَّةِ لَا يَثْبُتُ فِي نِكَاحٍ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ إِصَابَةٌ، وَصَارَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى كَالْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَصَابَ أَوْ طَلَّقَ وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ وَهِيَ عَلَى بَكَارَتِهَا أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا قَبْلَ النِّكَاحِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَتْ عُنَّتُهُ قَدْ ثَبَتَتْ قَبْلَ الْإِيلَاءِ وَأَجَّلَ لَهَا وَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْعُنَّةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْفَيْئَةِ لَكِنْ يَفِيءُ بِلِسَانِهِ فَيْءَ مَعْذُورٍ وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعُنَّةِ قَبْلَ الْإِيلَاءِ وَلَمْ يَدَّعِهَا إِلَّا بَعْدَهُ، فَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ مِنَ الْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهَا لَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ لِإِمْكَانِ كَذِبِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ قِيلَ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تَفِيءَ بِلِسَانِكَ فَيْءَ مَعْذُورٍ، فَإِذَا فَاءَ بِلِسَانِهِ أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ سَنَةً فَإِنْ أَصَابَ فِيهَا سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فِيهَا ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ أَقَامَتْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ فَاءَ لَهَا فَيْءَ مَعْذُورٍ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرِ الْمُقَامَ مَعَهُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَقَعَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا بِالْعُنَّةِ وَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا فِي الْعُنَّةِ لَا طَلَاقًا فِي الْإِيلَاءِ وَحُكْمُ الْفَسْخِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْعُنَّةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَتْهُومًا بِدَعْوَاهَا لِيُقْتَنَعَ مِنْهُ بِفَيْءِ الْمَعْذُورِ وَيُنْظَرَ سَنَةً بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَرُدَّ قَوْلُهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَإِذَا صَارَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَرْدُودَ الْقَوْلِ قِيلَ لَا يَسْقُطُ عَنْكَ الْمُطَالَبَةُ إِلَّا بِفَيْئَةِ الْجِمَاعِ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ جَامَعَهَا مُحْرِمَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ هُوَ مُحْرِمٌ أَوْ صَائِمٌ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَطِئَهَا الْمُولِي وَطْئًا مَحْظُورًا فِي إِحْرَامٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ حَيْضٍ كَانَ فِي سُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَكَذَلِكَ فِي الإيلاء. والثاني: أنه قَدْ وَصَلَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَوُصُولِهَا إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُبَاحًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْحِنْثِ بِمَحْظُورِ الْوَطْءِ مَا يَلْزَمُ بِمُبَاحِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْإِيلَاءِ بِمَثَابَتِهِ، وَخَالَفَ هَذَا قَضَاءَ الدَّيْنِ بِالْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعَ الْحَلَالِ فِي الْمِلْكِ، فَلَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَفِي سُقُوطِ حَقِّهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا لِوُصُولِهَا إِلَى الْإِصَابَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدَّرَ عَلَيْهِ الْغُسْلَ وتحريم المصاهرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي فِعْلِهِ لَا فِي فِعْلِهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الإيلاء والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى ثُمَّ جُنَّ فَأَصَابَهَا فِي جُنُونِهِ أَوْ جُنُونِهَا خَرَجَ مِنَ الْإِيلَاءِ وَكَفَّرَ إِذَا أَصَابَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ إِذَا أَصَابَهَا وهو مجنون لأن القلم عنه مرفوع فِي تِلْكَ الْحَالِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ جعل فعل المجنون في جنونه كالصحيح في خروجه من الإيلاء (قال المزني) رحمه الله إذا خرج من الإيلاء في جنونه بالإصابة فكيف لا يلزمه الكفارة ولو لم يلزمه الكفارة ما كان حانثاً وإذا لم يكن حانثاً لم يخرج من الإيلاء) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا جُنَّ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ عَلَيْهِ مَحْسُوبًا، لَكِنْ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيقَ فَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ بِالْجُنُونِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْوَقْفُ الثَّانِي، فَإِنْ وَطِئَ فِي جُنُونِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَفْوٌ، وَهَلْ يَسْقُطُ بِهَذَا الْوَطْءِ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنَ الْإِصَابَةِ فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَالْوَاطِئِ نَاسِيًا لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا وَكَالْمُولِي مِنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِذَا قَصَدَ وطء غير المولى منهما فَخَفِيَتْ عَلَيْهِ وَوَطِئَ الْمُولِي عَنْهَا سَقَطَ حَقُّهَا وإن لم يقصد وطئها، فَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْوَطْءِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُرَاعَى الْقَصْدُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالْمُسْلِمِ إِذَا حَاضَتْ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ أَجْبَرَهَا عَلَى الْغُسْلِ، وَإِنْ لَمْ يُنْوَ لِأَنَّ فِي غُسْلِهَا حَقَّيْنِ. أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْآخَرُ لَهُ وَيَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أُجْزِئَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْفَيْئَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْنَثْ بِهَا وَيَلْزَمِ الْكَفَّارَةَ، وَكَانَ وَطْؤُهُ مِنْ بَعْدُ مُوجَبًا بِالْكَفَّارَةِ كَانَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بَاقِيًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ قَدْ سَقَطَ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا وَيَمِينُهُ بَاقِيَةٌ مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ كَمَنْ آلَى مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَكَانَ حَالِفًا مَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي إَِنَّهُ يَكُونُ عَلَى إِيلَائِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ إِقَامَتِهِ فَهَلْ يُجْزِيهِ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ أَوْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفٌ ثَانٍ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 أَحَدُهُمَا: يَجْرِي لَهُ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِصَابَةَ لَا حُكْمَ لَهَا فَصَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَا أَصْلُ الْإِيلَاءِ كَالرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ الْوَقْفِ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ بِالطَّلَاقِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَقْفِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ وَقْفٌ فِي حَقِّ الْجُنُونِ، قَدِ اسْتَوْفَتْ بِالْإِصَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ لَهَا مَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَقْفِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ إِبْقَاءُ الْإِيلَاءِ أَوْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفٌ ثَانٍ بَعْدَ الْإِصَابَةِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِنْ جُنَّتِ الْمَرْأَةُ الْمُولَى مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِصَابَتِهَا فِي الْجُنُونِ لِهَرَبٍ أَوْ بَطْشٍ لَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهَا زَمَانُ جُنُونِهَا، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهَا فَإِذَا أَفَاقَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ اسْتُؤْنِفَ الْوَقْفُ، وَإِنْ أَفَاقَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَ جُنُونِهَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْوَقْفِ وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ مَعَ الْإِفَاقَةِ فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الزَّوْجَ إِصَابَتُهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ كَانَ زَمَانُ الْجُنُونِ مَحْسُوبًا مِنَ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْمُطَالَبَةُ مَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي جُنُونِهَا لِأَنَّهُ مُوقَفٌ عَلَى اخْتِيَارِهَا مِنْ شَهْوَتِهَا، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْإِصَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ لَمْ يُطَالَبْ لَكِنْ يُقَالُ اسْتِحْبَابًا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَيَفِيءُ أَوْ يُطَلِّقُ، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى فَيْئَةٍ أَوْ طَلَاقٍ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَالذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيلَاءِ إِذَا حَاكَمَ إِلَيْنَا وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ وَاحِدٌ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ لَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعْدِي بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ تَظَاهَرَ حَكَمْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حكمي على المسلمين ولو جاء رجل منهم يطلب حقاً كان على الإمام أن يحكم على المطلوب وإن لم يرض بحكمه (قال المزني) رحمه الله هذا أشبه القولين به لأن تأويل قول الله عز وجل عنده {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أن تجري عليهم أحكام الإسلام. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُ الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا تَحَاكَمَا إِلَيْنَا، هَلْ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا جَبْرًا أَوْ يَكُونُ فِي الْحُكْمِ مُخَيَّرًا، عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالتَّرْكِ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِالْتِزَامِ وَالْإِسْقَاطِ لِقَوْلِ الله تعالى {فإن جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ حُكْمَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إِنْ تَحَاكَمَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ مِنْ دِينَيْنِ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ دِينِ صَاحِبِهِ فَلَزِمَ الْعُدُولُ بِهِمَا إِلَى دِينِ الْحَقِّ الْإِسْلَامِ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَتَرَافَعَ إِلَيْنَا مِنْهُمْ زَوْجَانِ فِي طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إِيلَاءٍ حُكِمَ بَيْنَهُمَا فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] فَإِنْ طَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ وَأَلْزَمَهُ حكمه، وإن ظاهر فيأتي حكم ظاهره، وَإِنَّ الْأَصَحَّ إِيلَاؤُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَمَالِكٌ: رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى في آية الإيلاء {فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ، وَالْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ لَا يَسْتَحِقَّانِ مَعَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ بِهِ الإيلاء لا إِلَى الْمُسْلِمِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ الْمُسْلِمِ صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْإِيلَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَأَمَّا آيَةُ الْإِيلَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ دُونَ الْكَافِرِ لِمَا تَضَمَّنَهُ آخِرُهَا من قوله {فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ثُمَّ قِيسَ مَنْ آلَى مِنَ الْكُفَّارِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ طَلَاقُ الذِّمِّيَّاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ، فَعَلَى هَذَا لِأَصْحَابِنَا في قوله في آخرها: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة: 226] . أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ والكفار، وقوله تعالى {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} خَاصٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلَهُ {فَإِنَّ اللَّهَ غفور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 رَحِيمٌ} [البقرة: 226] خَاصٌّ فِي غُفْرَانِ مَأْثَمِ الْإِيلَاءِ وَالْكُفَّارُ قَدْ يُغْفَرُ لَهُمْ مَأْثَمُ الْمَظَالِمِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يُغْفَرُ لَهُمْ مَأْثَمُ الْأَدْيَانِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا حُكِمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْمُولِي الْمُسْلِمِ مِنْ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مُطَالَبَتِهِ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ القولين والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِذَا كَانَ الْعَرَبِيُّ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ وَآلَى بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ مِنْهَا فَهُوَ مُولٍ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَقَالَ مَا عَرَفْتُ مَا قُلْتُ وَمَا أَرَدْتُ إيْلَاءً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا آلَى الْعَرَبِيُّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ الْأَعْجَمِيَّةَ وَيَتَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا يَكُونُ مُولِيًا بِهَا كَمَا يَكُونُ مُولِيًا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِلِسَانٍ دُونَ لِسَانٍ وَلَيْسَ مَا يَقِفُ على العربية إلا بالقرآن، وَمَا سِوَاهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِكُلِّ لسان، فلو قال قتله وما أرادت بِهِ الْإِيلَاءَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي هَذَا الظاهر، ولم يدين فِي الْبَاطِنِ كَمَا لَوِ ادَّعَى ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَيَكُونُ مُولِيًا بِهَا، فَإِنْ قال ما أرادت الْإِيلَاءَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَدِينَ فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّ تَرْكَهُ الْكَلَامَ بِهَا يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ دِينَ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْرِفَ الْعَجَمِيَّةَ فَيُسْأَلُ عَنْ ذلك، فإن قال أرادت بِهِ الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ قَالَ مَا عَرَفْتُهُ وَلَا أَرَدْتُ بِهِ الْإِيلَاءَ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ وَلَا نَجْعَلُهُ مُولِيًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا حَلَفَتْ حُكِمَ عليه الإيلاء، وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا آلَى بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثلاثة والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ آلَى ثُمَّ آلَى فَإِنْ حَنِثَ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ الْأُولَى فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا فَأُحِبُّ كَفَّارَتَيْنِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا آلَى مَرَّةً ثُمَّ آلَى ثَانِيَةً انْقَسَمَ حَالُهُ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْيَمِينَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ وَعَلَى زَمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطَؤُكِ سَنَةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 فَإِذَا مَضَتْ فَإِنْ وَطِئْتُكِ بَعْدَهَا فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُمَا إِيلَاءَانِ لَا يَكُونُ الْحِنْثُ فِي أَحَدِهِمَا حِنْثًا فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ وَالزَّمَانَيْنِ وَلَا الْوَاجِبُ فِي أَحَدِهِمَا وَاجِبٌ فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَإِذَا وَطِئَ بَعْدَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى حَنِثَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِذَا وَطِئَ بَعْدَهَا حَنِثَ بِالْعِتْقِ وَعُتِقَ عَلَيْهِ عَبْدُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ وَعَلَى زَمَانٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ وَطِئْتُكِ سَنَةً فَمَالِي صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ وَطِئْتُكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ إِيلَاءٌ وَاحِدٌ بِيَمِينَيْنِ يكون الحنث فيه واحد لِأَنَّ الزَّمَانَ وَاحِدٌ وَالْوَاجِبُ فِيهِ شَيْئَيْنِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ فَتُطَلَّقُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ وَيَكُونُ فِي الصَّدَقَةِ فماله مخيراً بين الصدقة وبي 5 ن كَفَّارَةِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ نَذْرُ لَجَاجٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى زَمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ خمسة أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً فَهُوَ إِيلَاءَانِ لَا يَكُونُ الْحِنْثُ فِي أَحَدِهِمَا حِنْثًا فِي الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ وَالْوَاجِبُ فِي أَحَدِهِمَا مِثْلُ الْوَاجِبِ فِي الْآخَرِ لِتَمَاثُلِ الْيَمِينَيْنِ فَإِذَا حَنِثَ فِي الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِذَا حَنِثَ فِي الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى زَمَانٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً ثُمَّ يَقُولُ لَا وَطِئْتُكِ سَنَةً وَيُرِيدُ بِهِمَا سَنَةً وَاحِدَةً فَهُوَ إِيلَاءٌ وَاحِدٌ بِيَمِينَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحِنْثُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَانَ الزَّمَانُ وَاحِدًا أَمْ لَا، وَلَا يَخْلُ حَالُهُ فِي الْيَمِينَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدَ الْأُولَى فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْمُؤَكَّدِ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ تَأْكِيدًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ الِاسْتِئْنَافَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ قَالَ فَأُوجِبُ كَفَّارَتَيْنِ، فَجَعَلَ الثَّانِيَةَ مُسْتَحَبَّةً لَا وَاجِبَةً، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ لَمْ تُفِدْ غَيْرَ مَا أَفَادَتِ الْأُولَى فَلَمْ تُوجِبْ غَيْرَ مُوجَبِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ الْحُرْمَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْمُوجِبِ تَدَاخَلَتَا كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَوَجْهُهُ: إِنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ كَحُرْمَةِ الْيَمِينِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَ مِثْلَ حُكْمِ الْأُولَى، وَلِأَنَّهُمَا يَمِينَانِ مَقْصُودَتَانِ فَلَمْ يَتَدَاخَلْ مُوجِبُهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ فَلَا يُرِيدُ بِهَا التَّأْكِيدَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُرِيدُ بِهَا الِاسْتِئْنَافَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي، فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَفِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 الْإِطْلَاقِ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِئْنَافَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ فَفِيهِ إِذَا أُطْلِقَ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يُرِدْ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ يَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ واحدة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَقَدْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَنَا فِي الْوَقْفِ أَنَّ الْفَيْئَةَ فِعْلٌ يُحْدِثُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فِي الْأَرْبَعَةِ الأشهر إما بجماع أو فيء معذور بلسانه وزعم أن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر بغير فعل يحدثه وقد ذكرهما الله تعالى بلا فصل بينهما فقلت له أرأيت أن لَوْ عَزَمَ أَنْ لَا يَفِيءَ فِي الْأَرْبَعَةِ الأشهر أيكون طلاقاً؟ قال لا حتى يطلق قلت فكيف يكون انقضاء الأربعة الأشهر طلاقاً بغير عزم ولا إحداث شيء لم يكن؟) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فَصْلٌ قَصَدَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالَ لما كان لو عزم أن لا يفي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا حَتَّى يُطَلِّقَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُ الْعَزْمِ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ طَلَاقًا حَتَّى يُطَلِّقَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ فَحْوَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَمْ تَكُنِ الْفَيْئَةُ إِلَّا مِنْ فِعْلِهِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْحِجَاجِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مُسْتَوْفًى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 (باب إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب) (مِنْ كِتَابِ الْإِيلَاءِ وَكِتَابِ النِّكَاحِ وَإِمْلَاءٌ عَلَى مسائل مالك) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَإِذَا آلَى الْخَصِيُّ مِنِ امْرَأَتِهِ فَهُوَ كَغَيْرِ الْخَصِيِّ إِذَا بَقِيَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا يَنَالُ بِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ حَتَّى يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ السَّلِيمُ الذَّكَرِ، فَإِيلَاؤُهُ صَحِيحٌ كَإِيلَاءِ الْفَحْلِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ كَقُدْرَتِهِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ جِمَاعُهُ أَقْوَى وَأَمَدَّ لِعَدَمِ إِنْزَالِهِ، وقيل أنه قد ينزل ماءاً رَقِيقًا أَصْفَرَ، وَلِذَلِكَ أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ فَيُوقَفُ ثُمَّ يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ أَوْ بِالطَّلَاقِ وَفَيْئَتُهُ بِالْجِمَاعِ دُونَ اللِّسَانِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِصَابَةِ، فَإِنِ ادَّعَى الْعُنَّةَ كَانَ كَالْفَحْلِ إِذَا ادَّعَاهَا وَهَكَذَا إِنْ آلَى قَبْلَ الْخَصْيِ ثُمَّ خُصِيَ كَانَ عَلَى إِيلَائِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَصْيُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يؤثر في الاستدامة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وإن كان مجبوباً قيل له فيء بِلِسَانِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ) وَلَا إِيلَاءَ عَلَى الْمَجْبُوبِ لِأَنَّهُ لَا يُطِيقُ الْجِمَاعَ أبداً (قال المزني) رحمه الله تعالى إذا لم نجعل ليمينه معنى يمكن إن يحنث به سقط الإيلاء فهذا بقوله أولى عندي) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ أَمَّا الْمَجْبُوبُ: فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ السَّلِيمُ الْأُنْثَيَيْنِ. وَالْمَمْسُوحُ هُوَ الْمَقْطُوعُ (الذَّكَرِ) السَّلِيمُ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ سَوَاءٌ، وَلَهُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُقْطَعَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى مَا يُولِجُ بِهِ فإيلائه صَحِيحٌ كَإِيلَاءِ الْفَحْلِ (السَّلِيمِ) وَفَيْئَتُهُ بِإِيلَاجِ الْبَاقِي مِنْ ذَكَرِهِ إِنْ كَانَ يَقْدُرُ الْحَشَفَةَ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ إِيلَاجِ السَّلِيمِ، وَيَجْرِي الْبَاقِي مِنْهُ مَجْرَى الذَّكَرِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَشَفَةِ السَّلِيمِ، فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ إِيلَاجُهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُهُ. وَالثَّانِي: قدر الحشفة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 والحالة الثانية: أن يقطع جميعه ففيه قولان لَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ بِيَمِينِهِ ضَرَرًا عَلَى زَوْجَتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا وَقْفَ وَلَا مُطَالَبَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ هَاهُنَا، وَفِي كِتَابِ (الْأُمِّ) يَكُونُ مُولِيًا، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَصَارَ كَقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِفِعْلِهِ كَالْمَرِيضِ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ لَهَا مُدَّةَ التَّرَبُّصِ ثُمَّ يُطَالَبُ بَعْدَهَا بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهَا فَيْئَةُ مَعْذُورٍ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ أَقْدَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ لَوَطِئْتُ فَيَسْقُطُ بِهَذِهِ الْفَيْئَةِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَلَمْ تَجِبْ بِهَا الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لم يحنث. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ آلَى صَحِيحًا ثُمَّ جُبَّ ذَكَرُهُ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ مَكَانَهَا فِي الْمُقَامِ مَعَهُ أَوْ فِرَاقَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا آلَى الْفَحْلُ ثم خصي فهو على إيلائه لأنه الْخَصْيَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعِ ابْتِدَاءَ الْإِيلَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، فَأَمَّا إِذَا آلَى ثُمَّ جُبَّ ذَكَرُهُ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْجَبِّ مِنْ وَقْتِهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ عُيُوبِ الْأَزْوَاجِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ أصابها قبل الجب أو لم يصيبها فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إِذَا أَصَابَ قَبْلَ الْعُنَّةِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ لَهَا الفسخ لأن إصابة العنيين تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ عُنَّتِهِ وَإِصَابَةَ الْمَجْبُوبِ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ جَبِّهِ، وَإِنْ فَسَخَتْ بِالْجَبِّ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ بِالْجَبِّ فَفِي سُقُوطِ الْإِيلَاءِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سقط إيلاءه بِحُدُوثِ الْجَبِّ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَسْقُطُ إِذَا تَقَدَّمَ الْجَبُّ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِفَيْئَةٍ وَلَا طَلَاقٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِيلَاءَهُ لَا يَسْقُطُ إِذَا تَقَدَّمَ الْجَبَّ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَكْمَلُ الْوَقْفُ ثُمَّ يُطَالَبُ بَعْدَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَفَيْئَتُهُ فَيْئَةُ مَعْذُورٍ بِاللِّسَانِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُمَا طلق عليه الحكم فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَالْفَحْلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 (كِتَابُ الظِّهَارِ) (بَابُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الظِّهَارُ ومن لا يجب عليه) (مِنْ كِتَابَيْ ظِهَارٍ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ) (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الْآيَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظِّهَارُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَيْ ظَهْرُكِ مُحَرَّمٌ عَلَيَّ كَتَحْرِيمِ ظَهْرِهَا وَخُصَّ الظَّهْرُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالرُّكُوبِ وَقَدْ كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ عُمِلَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُمِلَ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لم يعمل به حتى تبين. وَالسَّبَبُ فِي نُزُولِ حُكْمِ الظِّهَارِ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي حِينَ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عظمي. وفي رواية بعد أن نثلث لَهُ كِنَانَتِي وَقَدُمَتْ مَعَهُ صُحْبَتِي وَابْنُهُ صِبْيَةٌ إن ضمهم إلي جاعا وإن ضمهم إليه ضاعا إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عَجْزِي وَقَحْرِي - أَيْ هُمُومِي وَأَحْزَانِي -. قَالَ أَنَسٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأوس أعتق رقبة فقال: مالي بِذَلِكَ يَدَانِ فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: أَمَا إِنِّي إِذَا أَخْطَأَنِي أَنْ آكُلَ فِي الْيَوْمِ يَكِلُّ بَصَرِي. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ: مَا أَجِدُ إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِعَوْنٍ وَصِلَةٍ قَالَ: فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا حَتَّى جَمَعَ الْآيَةَ اللَّهُ له (والله غفور رحيم) . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ زَوْجُ خَوْلَةَ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: مَا أَتَانِي فِي هذا شيء فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَالَ مِنِّي وَجَعَلَتْ تَشْكُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْقُرْآنُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فتحرير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثُمَّ حُبِسَ الْوَحْيُ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليها فتلى عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَا نَجِدُ رَقَبَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْوَحْيُ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ثُمَّ حُبِسَ الْوَحْيُ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتلى الْوَحْيَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: مَا نَسْتَطِيعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ الْوَحْيُ {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] فَانْصَرَفَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَلَاهَا عَلَيْهَا فقَالَتَ: مَا نَجِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّا سَنُعِينُهُ) . قَالَ أَصْحَابُنَا: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ. فَالْأُولَى: فِي قِصَّتِهَا. وَالثَّانِيَةُ: فِي قِصَّتِهِ. وَالثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ مُظَاهِرٍ لِكَوْنِهَا عَامَّةً هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ آيِ الظِّهَارِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ. ثُمَّ حَدَثَتْ قِصَّةٌ أُخْرَى بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً يُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ غَيْرِي فَلَمَّا أَظَلَّنِي شَهْرُ رَمَضَانَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَنْزَعَ عَنْهَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِيَ الْفَجْرُ فَتَظَاهَرْتُ مِنْهَا فَخَدَمَتْنِي فِي لَيْلَةٍ قمراً فَرَأَيْتُ سَاقَهَا فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ وَثَبْتُ إِلَيْهَا فَجَامَعْتُهَا ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَ هَذِهِ وَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى رَقَبَتِي فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْتُ: وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا مِنَ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ بِتْنَا ليلتنا هذه ومالنا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَخُذْهَا وَأَطْعِمْ مِنْهَا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَكُلْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ الْبَاقِي. فَخَبَرُ خَوْلَةَ مَعَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ سَبَبٌ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَخَبَرُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ مَعَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَظُهُورِ مَا نزل فيه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَكُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ مِنْ بَالِغٍ جَرَى عَلَيْهِ الظِّهَارُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَمَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ ظهار العبد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنَّا فَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الظِّهَارِ وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَيُّزُ وَالتَّشْرِيفُ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] فَجَعَلَهُ بِالظِّهَارِ قَائِلًا مُنْكَرًا وَزُورًا وَالْكَافِرُ قَائِلٌ بِالشِّرْكِ وَجَحْدِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَغْلَظُ ثُمَّ قَالَ {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] وَالْكَافِرُ لَا يَتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ إِلَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ لَا يَمْلِكُ وَلَا مِنَ الْكَافِرِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي يُعْتِقُهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً وَالْكَافِرُ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا مُسْلِمًا ثُمَّ قَالَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] وَالصَّوْمُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَعَلَى خُرُوجِ الْكَافِرِ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ التَّكْفِيرَ تَغْطِيَةٌ لِلذَّنْبِ وَإِسْقَاطٌ لِلْمَأْثَمِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا: بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التكفير لم يصح منه الظهار كالمجنون. دليلنا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُهَا الْمُنْطَلِقُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4] وَتَوَجُّهُ ذَلِكَ إِلَى الْكَافِرِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ أَخَصُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْمُسْلِمِ فِي اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ فَكَانَ أَسْوَأُ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَا فِيهَا سَوَاءً، فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَالْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا عُمُومَ الثَّانِيَةِ عَلَى خُصُوصِ الْأُولَى. قِيلَ: إِنَّمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأُولَى خَاصَّةً إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدًا فَأَمَّا فِي الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْحُكْمُ فِي الِاثْنَيْنِ مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي تَحْرِيمِ الظِّهَارِ وَالْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ فَإِنْ قَالُوا: فَالثَّانِيَةُ عَطْفٌ عَلَى الْأُولَى وَحُكْمُ الْعَطْفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ قُلْنَا: هَذَا فِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَإِنِ اسْتَقَلَّ لَمْ يُشَارِكِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: اضْرِبْ زَيْدًا وَعَمْرًا كَانَ عَمْرًا مَعْطُوفًا عَلَى زَيْدٍ فِي الضَّرْبِ لِأَنَّ ذِكْرَ زَيْدٍ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ، وَلَوْ قَالَ: اضْرِبْ زَيْدًا وَأَكْرِمْ عَمْرًا لَمْ يَصِرْ عَطْفًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. وَلِأَنَّ الظِّهَارَ طَلَاقٌ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ فَصَحَّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي زَوْجَتِهِ صَحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالنِّكَاحِ خَمْسَةٌ: الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْعِدَّةُ وَالنَّسَبُ فَلَمَّا تَسَاوَى الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي سَائِرِهَا وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الظِّهَارِ. . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يظاهرون منكم من نسائهم} فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ يَخُصُّ الْمُسْلِمَ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ خَصَّتِ الْمُسْلِمَ نُطْقًا فَقَدْ عَمَّتِ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ حُكْمًا إِمَّا تَنْبِيهًا وَإِمَّا قِيَاسًا كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَكَانَ الْكَافِرُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ الله لعفو غفور} . فهذا القول بالكافر أخص وليس إذا قال بالكفر منكراً وزوراً لم يقل بالظهار منكرا وزوراً. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَقُولُهُ بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَعْظَمُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَبِأَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالظِّهَارِ أَوْلَى قِيلَ: إِذَا لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ بِأَغْلَظِ الْمُنْكَرَيْنَ لَمْ تَجِبْ بِأَخَفِّهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ رِدَّةَ الْمُسْلِمِ إِذَا تَابَ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ظِهَارِهِ وَلَا يَدُلُّ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ فِي رِدَّتِهِ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْهُ فِي ظِهَارِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَإِنَّ اللَّهَ لعفو غفور} فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: عَفُوٌ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِقَبُولِهَا إِذَا أُدِّيَتْ وَالثَّانِي: عَفُوٌ إِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا عِتْقُ مُسْلِمٍ عِنْدَكُمْ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مُسْلِمًا فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُجْزِئُ عِتْقُ كَافِرٍ وَهُوَ يَمْلِكُ كَافِرًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ مِنْهُ عِتْقُ مُسْلِمٍ إِذَا وَرِثَ عَبْدًا مُسْلِمًا وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَافِرًا فِي يَدِهِ فَيُسْلِمُ فِي مِلْكِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُسْلِمِ أَعْتِقْ عَنِّي عَبْدَكَ هَذَا الْمُسْلِمَ فَيُجْزِئُ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصَّوْمُ فِيهَا لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعَ التَّعَبُّدِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ. وَقَوْلُهُمْ: (إِنَّهَا تَغْطِيَةٌ لِلذَّنْبِ وَتَكْفِيرٌ لِلْمَأْثَمِ) فَهِيَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَعُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا) . فَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَعُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَاءِ الظِّهَارِ عَلَى التَّكْفِيرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: انتفاضه بِالْمُرْتَدِّ يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ. إِذَا لَمْ يَعُدْ فِيهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ لِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 عَلَى الْمَجْنُونِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُهُ وَالْكَافِرُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَصَحَّ ظِهَارُهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ظِهَارَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ صَحِيحٌ فَكُلُّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ ظَاهَرَ صَحَّ ظِهَارُهُ فَتَكُونُ صِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ هُمَا: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ كَالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ طلاقهما لارتفاع القلم عنهما. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَفِي امْرَأَتِهِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَا يَقْدِرُ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الزَّوْجَةُ الَّتِي يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا فَهِيَ الَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً سَوَاءً كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ فِي الزَّوْجِ وَلَا نَعْتَبِرُهُمَا فِي الزَّوْجَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - (دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) رَدًّا عَلَى قَوْمٍ زَعَمُوا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ مَدْخُولٍ بِهَا وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَوْدَ فِي الظِّهَارِ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى الْوَطْءِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا عِنْدَ ظِهَارِهِ فَوَطِئَهَا لَمْ يَكُنْ عَوْدًا؛ لِأَنَّهُ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْعَوْدُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الظِّهَارُ. وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ يَأْتِي فِي الْعَوْدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُظَاهِرٍ عَائِدًا فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الْعَوْدُ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَا يَقْدِرُ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى آخَرِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إِلَّا على من يمكن جماعها لصغير أَوْ رَتَقٍ، أَوْ لَا تَحِلُّ لِإِحْرَامٍ أَوْ حَيْضٍ لِأَنَّهُ حَرَّمَ بِالظِّهَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ الظِّهَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ لَفْظًا نُقِلَ حُكْمُهُ مَعَ بَقَاءِ مَحَلِّهِ وَالطَّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْهِنَّ فَصَحَّ الظِّهَارُ مِنْهُنَّ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (أَوْ فِي عِدَّةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ سواء (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الَّتِي يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ إِنْ رَاجَعَهَا لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَتْبَعَ التَّظْهِيرَ طَلَاقًا مَلَكَ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَلَا حُكْمَ للإيلاء حتى يرتجع فإذا ارتجع رجع حكم الإيلاء وقد جمع الشافعي رحمه الله بينهما حيث يلزمان وحيث يسقطان وفي هذا لما وصفت بيان) . قال الماوردي: إن ظَاهَرَ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا لِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا لِخُرُوجِهَا مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَإِنْ صَادَقَ ظِهَارَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الظِّهَارُ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا فِي الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا مَعَ صِحَّةِ الظِّهَارِ مَا لَمْ يُرَاجِعْ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ زَوْجَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ يُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وَهَذِهِ فِي تَحْرِيمِ فُرْقَةٍ فَلَمْ يَصِرْ بِظِهَارِهِ عَائِدًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا فَكَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا وَإِنْ صَحَّ ظِهَارُهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْ فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ظِهَارَهُ فِي الْعِدَّةِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا. فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ عَادَتْ إِلَى النِّكَاحِ الَّذِي ظَاهَرَهَا فِيهِ وَعَادَ الظِّهَارُ فِيهِ وَصَارَ عَائِدًا، وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ فِي الْأُمِّ يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ أَوْكَدُ مِنْ إِمْسَاكِهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّمَسُّكِ بِعِصْمَتِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ إِمْسَاكِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَصِيرَ عَائِدًا أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّجْعَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا عَائِدًا، فَلَوِ اتَّبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي (الْإِمْلَاءِ) إِنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهَا بَعْدَهَا زَمَانُ الْعَوْدِ وَهُوَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَ الرجعة حتى يمضي زمان التحريم بالفرقة وإنما لم يصر عائداً إلى بالإمساك بَعْدَ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ وَلَيْسَ يُمْسِكُهَا زَوْجَةً إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَصِرْ عَائِدًا وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ أَمْهَلَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ التَّحْرِيمِ صَارَ حِينَئِذٍ عَائِدًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الكفارة. أما الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ فَقَدْ بَانَتْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفْ نِكَاحَهَا سَقَطَ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فَهَلْ يَعُودُ ظِهَارُهُ فِيهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ ظِهَارَهُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَعُودُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ لَا يَعُودُ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا قِيلَ إِنَّ ظِهَارَهُ لَا يَعُودُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُهُ وَحَلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ فَلَمْ يَحْرُمْ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ ظهاره يعود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 صَارَ عَائِدًا وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَّا بِأَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ النِّكَاحِ زَمَانُ الْعَوْدِ فَلَوِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ يَعُدْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الظِّهَارَ فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ وَمُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَائِدًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ شَرْطَ الظِّهَارِ أَنْ يُصَادِفَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَصَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَشَرْطُ الْعَوْدِ أَنْ يُمْسِكَهَا غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ وَهَذِهِ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَصِرْ عَائِدًا لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: بَلْ تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ جَعَلَهُ مُظَاهِرًا فِي الْعِدَّةِ جَعَلَهُ عَائِدًا فِيهَا فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَهَذَا وَهْمٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ لَهُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَإِنْ جَعَلَهُ مُظَاهِرًا قَبْلَ الرَّجْعَةِ لَمْ يَجْعَلْهُ عَائِدًا إِلَّا بَعْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَسَدَ النِّكَاحُ وَالظِّهَارُ بِحَالِهِ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ وَهِيَ زَوْجَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ فَظِهَارُهُ مِنْهَا صَحِيحٌ كَمَا أَنَّ طَلَاقَهُ عَلَيْهَا وَاقِعٌ فَإِذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ ظِهَارِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ بِالْمِلْكِ، وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالشِّرَاءِ لِوُجُوبِهَا قَبْلَهُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ حَتَّى يُكَفِّرَ كَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَالْمُلَاعَنَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ كَتَحْرِيمِهَا قَبْلَهُ وَكَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا اشْتَرَاهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَتْهُ وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ إِنْ مَلَكَ أَمَةً أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً فَمَلَكَ أَمَةً جَازَ أَنْ يُعْتِقَهَا عَنْ نَذْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ نَذْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهَا قَبْلَ الْعَوْدِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَفِي عَوْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ يَصِيرُ عَائِدًا بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ فَلَا يُحَرِّمُهَا وَلَيْسَ الشِّرَاءُ تَحْرِيمًا لَهَا بَلِ اسْتِبَاحَتُهَا بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنِ اسْتِبَاحَتِهَا بِالنِّكَاحِ فَعَلَى هَذَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْعَوْدِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَوِ اتَّبَعَ الشِّرَاءَ عِتْقَهَا لَمْ تَسْقُطْ عنه الكفارة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالشِّرَاءِ عَائِدًا وَلَا بَعْدَهُ وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ الْعَوْدِ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً وَهَذِهِ بِالشِّرَاءِ عُقَيْبَ الظِّهَارِ خَارِجَةٌ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ أَرْفَعُ لِلزَّوْجِيَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ تَابِعٌ لِلظِّهَارِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ إِلَّا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَوْدُ إِلَّا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ بِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ وَهِيَ زَوْجَتُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ زَوْجَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِيرُ عَائِدًا بِالشِّرَاءِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَتَحِلُّ لَهُ كَالْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ ظِهَارُهَا، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ عُقَيْبَ الظِّهَارِ بِأَنِ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَبِ فَقَالَ لِلْمَالِكِ: بِعْنِي فَقَالَ: قَدْ بِعْتُ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا لِأَنَّهُ شَرَعَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ فِيمَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ عَائِدًا كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنِ ابْتَدَأَ الْمَالِكُ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ بِالْبَذْلِ فَقَالَ: [قَدْ] بِعْتُكَ فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ قَبِلْتُ صَارَ عَائِدًا لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِكِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى فِعْلِ الزَّوْجِ فَصَارَ الزَّوْجُ فِي زَمَانِ الْبَذْلِ مُمْسِكًا عَنْ رَفْعِ الزَّوْجِيَّةِ وَمَا يَعْقُبُ الْبَذْلَ مِنْ قَبُولِهِ الرَّافِعِ لِلزَّوْجِيَّةِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ فَلِذَلِكَ صَارَ عَائِدًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ بَيِّنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يَلْزَمُ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ إِلَّا مِنْ سكر (وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ) فِي ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ وَالْآخَرُ لَا يَلْزَمُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله تعالى يَلْزَمُهُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِأَقَاوِيلِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَشْبَهُ بالحق عندي إذا كان لا يميز (قال المزني) رحمه الله وعلة جواز الطلاق عنده إِرَادَةِ الْمُطَلِّقِ وَلَا طَلَاقَ عِنْدَهُ عَلَى مُكْرَهٍ لِارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى ما يقول لا إرادة له كالنائم فَإِنْ قِيلَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ أَوَلَيْسَ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ في معنى ما أدخله على غيره من ذهاب عقله وارتفاع إرادته وَلَوِ افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نسبته من نفسه ومن غيره لَاخْتَلَفَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَحُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ بِذَلِكَ طَلَاقُ بعض المجانين فَإِنْ قِيلَ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ السَّكْرَانَ وَلَا يلزم المجنون قيل وكذلك فَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ النَّائِمَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ فهل يجيز طلاق النوم لوجوب فرض الصلاة عليهم فإن قيل لا يجوز لأنه لا يعقل قيل وكذلك طلاق السكران لأنه لا يعقل قال الله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تقولون} فَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا وكذلك لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 ظهار حتى يعلمه ويريده وهو قول عثمان بن عفان وابن عباس وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد والليث بن سعد وغيرهم وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى إذا ارتد سكران لم يستتب في سكره ولم يقتل فيه (قال المزني) رحمه الله وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ لا أتوب لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فهو أحد قوليه في القديم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَجْنُونَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُمْ فَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ شَرِبَ شَرَابًا ظَنَّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ فَكَانَ مُسْكِرًا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ أَوْ شَرِبَ دَوَاءً فَأَسْكَرَهُ فَهَذَا كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحَّ ظِهَارُهُ. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ شُرْبَ الْمُسْكِرِ فَيَسْكَرُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ وَمَا ظَهَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ وَاقِعٌ كَالصَّاحِي وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَانِيًا لِثِقَةِ الْمُزَنِيِّ فِي رِوَايَتِهِ وَضَبْطِهِ لِنَقْلِهِ وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَامْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا فَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَوْلُ وَإِمَّا أن يكون منقولاً من أَصْحَابِ الْقَدِيمِ وَهُمُ الزَّعْفَرَانِيُّ وَالْكَرَابِيسِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ مَذْهَبًا لَهُ فَوَهِمَ وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَبَا ثَوْرٍ يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، فَصَارَ مَذْهَبَهُ قَوْلًا وَاحِدًا فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَظِهَارَهُ وَاقِعٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأوْزَاعِيُّ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّامِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَظِهَارُهُ لَا يَقَعُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاسْتَدَلُّوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِطَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِأَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالزِّنَا فَقَالَ: (لَعَلَّكَ لَمَسْتَ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ) قَالَ: لَا قَالَ: أَبِهِ جِنَّةٌ قِيلَ: لَا قَالَ: (اسْتَنْكِهُوهُ) لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ حَالَ سُكْرِهِ مِنْ صَحْوِهِ فَلَوْلَا افْتِرَاقُ حُكْمِهِ بِالسُّكْرِ وَالصَّحْوِ لَمَا كَانَ لأمره بذلك تأثيره. وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا سَنَذْكُرُهُ. . وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ مَعَ عُمُومِ الْقُرْآنِ فِيهِمَا وَمَا اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ فماذا ترون فقال علي ابن أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَرَى أَنْ يُحَدَّ ثَمَانِينَ حَدَّ الْمُفْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَوَافَقُوهُ جَمِيعًا عَلَى قَوْلِهِ وَحَدَّهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ بعد كان حده أربعين، فكانت الزيادة إما تعزيزاً أَوْ حَدًّا عِنْدَ غَيْرِنَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِثْبَاتِ افْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ، وَثُبُوتِهِ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الصَّاحِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَغْلِيظٌ وَسُقُوطَهُمَا تَخْفِيفٌ وَالسَّكْرَانُ عَاصٍ فَكَانَ بِالتَّغْلِيظِ أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنَ التَّخْفِيفِ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الصَّاحِي، وَالْآخَرُ: الْمَجْنُونُ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالصَّاحِي لتكليفة ووجوب العبادات عليه وفسقه وحده ومؤخذاته بِرِدَّتِهِ وَقَذْفِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمَجْنُونِ الَّذِي لا تجري عليه هذه الْأَحْكَامُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا أَمَرَ بِهِ مِنِ اسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ فَهُوَ لِيَجْعَلَ سُكْرَهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وظهاره على ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ عَدَمُ عُذْرِهِ بِزَوَالِ عَقْلِهِ فِي سُكْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّاحِي فِي جَمِيعِ مَا يَضُرُّهُ كَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ وَفِي جَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ كَالرَّجْعَةِ وَطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَفِي الْبَاطِنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي وُجُودِ ذَلِكَ مِنْهُ بَيْنَ حَالِ الْإِصْحَاءِ وَحَالِ السُّكْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ لِسُكْرِهِ فَعَلَى هَذَا تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُوَ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ بِهِ كَالصَّاحِي تَغْلِيظًا. وَقِسْمٌ هُوَ لَهُ كَالرَّجْعَةِ وَطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ صِحَّتَهُ مِنْهُ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 إِبْطَالَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ وَإِبْطَالُ ذَلِكَ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ إِيقَاعَ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: يَكُونُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهُوَ عُقُودُ بِيَاعَاتِهِ وَإِجَارَاتِهِ وَمَنَاكِحِهِ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِهَا كَانَ تَصْحِيحُهَا مِنْهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فَصَحَّتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطَالَبًا بِهَا كَانَ تَصْحِيحُهَا مِنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَأُبْطِلَتْ عَلَيْهِ. قَالَ أبو حامد المروروزي كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ أَنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ وُجُودُ التُّهْمَةِ تَكْفِيهِ فِيمَا أَظْهَرَ مِنْ سُكْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُذْنِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَلَفَّظَ بِهِ مِنْ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَعِتْقِهِ جَازَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَطْءُ زَوْجَتِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا وَبِيعُ عَبْدِهِ إِذَا أَمْكَنَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْبِرَنَا الصَّادِقُ بِصِحَّةِ سُكْرِهِ لَمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ رَدِّ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وإبطال طلاقه وظهاره بأربعة أشياء: أحدهما: علة جواز الطلاق عنده إِرَادَةِ الْمُطَلِّقِ وَلَا طَلَاقَ عِنْدَهُ عَلَى مُكْرَهٍ لِارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى مَا يَقُولُ لَا إِرَادَةَ لَهُ كَالنَّائِمِ فَلَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ. وَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عِلَّةَ طَلَاقِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مَمْنُوعًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ الطَّلَاقِ إِرَادَةُ الْمُطَلَّقِ خَطَأٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْمُطَلِّقِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الصَّاحِي بِاتِّفَاقٍ وَلَوْ طَلَّقَ غَيْرَ مُرِيدٍ وَقَعَ طَلَاقُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ عِلَّةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوقَعْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ مَعَهُمْ عَلَمًا ظَاهِرًا هُمْ يُعْذَرُونَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَلَيْسَ مَعَ السَّكْرَانِ عَلَمٌ ظَاهِرٌ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِرَادَةَ الْمُطَلِّقِ جَعَلَهَا عِلَّةً لِإِثْبَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً لِإِسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْإِثْبَاتِ ضِدُّ عِلَّةِ الْإِسْقَاطِ، وَجَمْعُهُ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ لَا يَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّوْمَ طَبْعٌ فِي الْخِلْقَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّكْرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ بِالنَّوْمِ مَرْفُوعٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّوْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَأْثَمٌ وَيُفِيقُ [وَلَيْسَ] كَذَلِكَ السُّكْرُ. (فَصْلٌ:) وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ الْمُزَنِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ: أَوَلَيْسَ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا فِي مَعْنَى مَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ ذَهَابِ عَقْلِهِ وَارْتِفَاعِ إِرَادَتِهِ. وَهَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْثَمُ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَأْثَمُ بِمَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَغَيْرِ الْإِثْمِ. ثُمَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَلَوِ افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ لَاخْتَلَفَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَحُكْمُ مَنْ جُنَّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ بِذَلِكَ طَلَاقُ بَعْضِ الْمَجَانِينِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّنَا كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْجُنُونِ وَالسُّكْرِ لِأَنَّهُ إِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِشُرْبِ سُمٍّ أَوْ دَوَاءٍ لَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ يُسْكِرُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَنَّ طَلَاقَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَالِهِمَا لَا يَقَعُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الدَّوَاءِ يُسْكِرُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ يُسْكِرُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدْعُوَهُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ بِسُكْرِ هَذَا الدَّوَاءِ مُؤَاخَذًا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ شُرْبُهُ لِدَوَاءٍ اتَّفَقَ الطِّبُّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ شُرْبِهِ لَهُ عِنْدَ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُبَاحًا لَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُسْكِرَةِ مِنَ الْبِنْجِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ كَمَا لَا يَقَعُ طَلَاقُ مَنْ سَكِرَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي لَا يَجِدُ مِنْهَا بُدًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَاحًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (مَا جُعِلَ شِفَاءُ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا) فَعَلَى هَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ سُكْرِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَبَيْنَ سُكْرِ الدَّوَاءِ الْمُسْكِرِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّدَاوِي بِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شُرْبَ الْمُسْكِرِ فِي التَّدَاوِي يَدْعُو إِلَى شُرْبِهِ فِي غَيْرِ التَّدَاوِي لِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ شُرْبُ الدَّوَاءِ فِي التَّدَاوِي بِدَاعٍ إِلَى شُرْبِهِ فِي غَيْرِ التَّدَاوِي لِنُفُورِ النَّفْسِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعَ سُكْرِ الشَّرَابِ لَذَّةً مُطْرِبَةً وَلَيْسَ مَعَ سُكْرِ الدَّوَاءِ هَذِهِ اللَّذَّةُ الْمُطْرِبَةُ فَافْتَرَقَ السَّكْرَانُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْرَبَ الدَّوَاءَ الْمُسْكِرَ قَصْدَ السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى شُرْبِهِ ففي سكره فيه وجهان: أحدهما: [أنه] كَسُكْرِهِ مِنَ الشَّرَابِ يَقَعُ طَلَاقُهُ فِيهِ وَظِهَارُهُ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِخِلَافِ سُكْرِ الشَّرَابِ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ لَذَّةً مُطْرِبَةً تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَإِثَارَةِ الْعَدَاوَاتِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا يَدْعُو إِلَى سُكْرِ الشَّرَابِ فَيَبْعَثُ قَلِيلُهُ عَلَى كَثِيرِهِ وَفِي النَّفْسِ نُفُورٌ مِنْ سُكْرِ الدَّوَاءِ يَبْعَثُ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ وَلَمْ نُوجِبْهُ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ فَلِذَلِكَ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ فِي سُكْرِ الشَّرَابِ، وَلَمْ نُوقِعْهُ فِي سُكْرِ الدَّوَاءِ وَجَعَلْنَا سُكْرَ الدَّوَاءِ كَالْجُنُونِ وَلَمْ نَجْعَلْ سُكْرَ الشَّرَابِ كَالْجُنُونِ، وَهَكَذَا الْجُنُونُ إِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَهُوَ كَالدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَإِنْ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَصْدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِأَحْكَامِهِ وَبِطَلَاقِهِ وَبِظِهَارِهِ لِمَعْصِيَتِهِ كَالسَّكْرَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِالْأَحْكَامِ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَجُلًا لَوْ نَطَحَ رَجُلًا فَانْقَلَبَ دِمَاغُ النَّاطِحِ وَالْمَنْطُوحِ ثُمَّ طَلَّقَا امْرَأَتَيْهِمَا أَنَّ طَلَاقَهُمَا لَا يَقَعُ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاطِحِ وَالْمَنْطُوحِ فِي إِبْطَالِ طَلَاقِهِمَا وَإِنْ كَانَ النَّاطِحُ عَاصِيًا وَالْمَنْطُوحُ غَيْرَ عَاصٍ. (فَصْلٌ:) وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُزَنِيُّ فَإِنْ قِيلَ: فَفَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ السَّكْرَانَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ فَلِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ النَّائِمَ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ فَهَلْ يُجِيزُ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا كَذَلِكَ لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا ظِهَارَ حَتَّى يَعْلَمَهُ وَيُرِيدَهُ. وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَزِمَ طَلَاقُ السَّكْرَانِ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وَلَا يَلْزَمُ الْمَجْنُونَ لَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ طَلَاقُ النَّائِمِ وَطَلَاقُهُ لَا يَلْزَمُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ كَذَلِكَ السَّكْرَانُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّنَا لَسْنَا نُوقِعُ طَلَاقَهُ لِلُزُومِ فَرْضِ الصَّلَاةِ لَهُ فَنُوجِبُ إِلْحَاقَهُ بِالنَّائِمِ وَإِنَّمَا نُوقِعُهُ لِإِحْدَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ: إِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَالنَّائِمُ مَعْذُورٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَاصٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ وَالنَّائِمُ لَيْسَ بِعَاصٍ وَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّغْلِيظِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِإِظْهَارِ سُكْرِهِ كَذِبًا وَالنَّائِمُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. وَالثَّانِي: إِنْ قَالَ إِنْ كَانَ النَّائِمُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ فَالسَّكْرَانُ لَا يَعْقِلُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَيْسَ حَدُّ السُّكْرِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالنَّائِمِ وَقَدْ حَدَّهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: السَّكْرَانُ مَنْ عَزَبَ عَنْهُ بَعْضُ عَقْلِهِ فَكَانَ مَرَّةً يَعْقِلُ وَمَرَّةً لَا يَعْقِلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ وَالسَّمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ وَهَذَا بِعِيدٌ أَنْ يُوجَدَ فِي السُّكْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ مَنْ لَا يُمَيِّزُ رِدَاءَهُ مِنْ أَرْدِيَّةِ الْحَيِّ. قَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَنْ يَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةً فِي حَدِّ السَّكْرَانِ وَكَانَ الْمُزَنِيُّ مُخَالِفًا فِيهَا لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ حُجَّةً لَهُ وَإِنْ سَلَّمَ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِأَنَّ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّائِمِ. وَالثَّالِثُ: أَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} [النساء: 43] فلم يكن [لَهُ] صَلَاةٌ حَتَّى يَعْلَمَهَا وَيُرِيدَهَا كَذَلِكَ لَا طَلَاقَ لَهُ وَلَا ظِهَارَ حَتَّى يَعْلَمَهُ وَيُرِيدَهُ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: فَسَادُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرًا بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالشَّرْطُ فِيهِمَا [مُخْتَلِفٌ] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرًا بِالْآخَرِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِكَمَالِ جَمِيعِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالطَّلَاقُ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِزَوَالِ جَمِيعِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، وَالسَّكْرَانُ خَارِجٌ ممن كمل (جميع) عَقْلُهُ وَتَمْيِيزِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَخَارِجٌ مِمَّنْ زَالَ جَمِيعُ عَقْلِهِ وَتَمْيِيزِهِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّنَا نَجْعَلُهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُ بِالصَّلَاةِ أَمْرًا بها إذا علم ونهياً عنها إذا جعل عَنْهَا وَالْخِطَابُ عَلَى وَجْهَيْنِ: خِطَابُ مُوَاجَهَةٍ مُخْتَصٌّ بِالْعَقْلِ وَخِطَابُ إِلْزَامٍ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَصَاغِرِ وَالْمَجَانِينِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْخِطَابُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ السُّكْرِ فَهُوَ مُوَاجَهَةٌ وَإِمَّا فِي غَيْرِ حَالِ السُّكْرِ فَهُوَ إِلْزَامٌ وَعَلَى أَيِّهِمَا كَانَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ لِسُكْرِهِ. (فَصْلٌ:) وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَمْ نَسْتَتِبْهُ فِي سُكْرِهِ وَلَمْ نَقْتُلْهُ فِيهِ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنْ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الظِّهَارِ. وَهَذَا مِنْ أوهى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 أَسْئِلَتِهِ: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَثْبَتَ رِدَّتَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ وَإِنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ فِي سُكْرِهِ فَصَارَ مُؤَاخَذًا بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِالطَّلَاقِ، فَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ فَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى صَحْوِهِ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَأْخِيرَهَا اسْتِحْبَابٌ وَاحْتِيَاطٌ وَلَوِ اسْتَتَابَهُ فِي سُكْرِهِ صَحَّ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثاني: أن تأخيرها إلى أناقته وَاجِبٌ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ عَلَيْهِ فَكَانَ مَأْخُوذًا بِهَا وَالتَّوْبَةُ لَهُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّوْبَةِ زَوَالُ الشُّبْهَةِ وَوُضُوحُ الْحَقِّ وَالسَّكْرَانُ يُعَارِضُهُ الشُّبَهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ الْحَقُّ فَلِذَلِكَ رِدَّتُهُ وَلَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ مَعَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُتَظَاهِرٌ وَلَا إِيلَاءَ عَلَيْهِ يُوقَفُ لَهُ لَا يَكُونُ الْمُتَظَاهِرُ بِهِ مُولِيًا ولا المولى بالإيلاء متظاهرا وهو مطيع لله تعالى بترك الجماع في الظهار عاص له لو جامع قبل أن يكفر وعاص بالإيلاء وسواء كان مضاراً بترك الكفارة أو غير مضار إلا أنه يأثم بالضرار كما يأثم لو آلى أقل من أربعة أشهر يريد ضراراً ولا يحكم عليه بحكم الإيلاء ولا بحال حكم الله عما أنزل فيه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِعَوْدِهِ وَمُنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا إِلَّا بِتَكْفِيرِهِ فَأَخَّرَ الْكَفَّارَةَ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ سَوَاءً قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ صَارَ مُولِيًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ إِصَابَتَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَصْدَ الْإِضْرَارَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ صَارَ مُولِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُولِيَ قَاصِدٌ لِلْإِضْرَارِ بِهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إِصَابَتِهَا فَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجٍ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالِامْتِنَاعِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُولِيًا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ لَكَانَ مُولِيًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ كَالْحَالِفِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مُتَنَافِيَانِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ وَإِنْ وَطِئَ كَانَ عَاصِيًا، وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُ الْوَطْءَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَإِنْ وَطِئَ كَانَ طَائِعًا فَلَمْ يَجُزْ مَعَ تَنَافِي حُكْمِهِمَا أَنْ يَتَدَاخَلَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَا فَيَصِيرُ الْمُتَظَاهِرُ مُولِيًا لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْمُولِي مُتَظَاهِرًا وَفِي فَسَادِ هَذَا الْعَكْسِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الطَّرْدِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِيلَاءَ قَصْدٌ لِلْإِضْرَارِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُولِيَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْوَقْفِ إِلَّا بِأَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَمَنْ أَخَّرَ الْوَطْءَ فِي الظِّهَارِ فَلَيْسَ يَلْتَزِمُ إِنْ وَطِئَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَمْ يكن مولياً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (ولو تظاهر يريد طلاقا كان طلاقا أَوْ طَلَّقَ يُرِيدُ ظِهَارًا كَانَ طَلَاقًا وَهَذِهِ أُصُولٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَكُونُ الظِّهَارُ طَلَاقًا بِالْإِرَادَةِ وَلَا الطَّلَاقُ ظِهَارًا بِالْإِرَادَةِ لِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ. وَمِنْهَا: أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهَارِ وَلَمْ يُوقَعْ عَلَيْهِ بِالْإِرَادَةِ حُكْمُ الطَّلَاقِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لِجِنْسٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ كِنَايَةً فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي حُكْمٍ غَيْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا، وَلَا يَفْسُدُ بِالْعِتْقِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْحَرَائِرِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِيهِنَّ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) حَيْثُ صَارَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَإِنْ كَانَ على عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّنَا رَاعَيْنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لَا فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي التَّحْرِيمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِيهِ كَالْعِتْقِ جَازَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِاخْتِلَافِ الجنسين. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا ظِهَارَ مِنْ أَمَةٍ وَلَا أُمِّ وَلَدٍ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نسائهم} كما قال: {يؤلون من نسائهم} {والذين يرمون أزواجهم} فَعَقَلْنَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِنَا وَإِنَّمَا نِسَاؤُنَا أَزْوَاجُنَا وَلَوْ لَزِمَهَا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَزِمَهَا كَلُّهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مَنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ يَكُونُ مُظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وَهُوَ بِالظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ قَائِلٌ مُنْكَرًا وَزُورًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ مُبَاحٍ فَصَحَّ مِنْهَا الظِّهَارُ كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَوْلِهِ (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِيهِمَا. وَدَلِيلُنَا: مَعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا لِلزَّوْجَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ حُكْمُهُ عَنْهُنَّ وَأُثْبِتَ مَحَلُّهُ فِيهِنَّ، وَلِأَنَّ مَا أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ فِي الْأَمَةِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ لَمْ يحلقها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 الظِّهَارُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَائِلٌ مُنْكَرًا وَزُورًا فَكَانَ مُظَاهِرًا. قُلْنَا: الْمُرْتَدُّ أَبْلَغُ فِي قَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ مِنَ الْمُظَاهِرِ وَلَا يَصِيرُ مظاهراً، وإنما يصير مظاهرً إِذَا قَالَ مُنْكَرًا وَزُورًا بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَلَمَّا رُوعِيَ خُصُوصُ اللَّفْظِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى خُصُوصُ الْمَحَلِّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ فِي الْأَمَةِ قَائِلًا مُنْكَرًا وَزُورًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَخَالَفَتْهَا الْأَمَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ: بِاسْتِوَائِهِمَا فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ قَوْلَهُ (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْأَيْمَانِ فَكَذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالظِّهَارُ مُلْحَقٌ بِالطَّلَاقِ الْمُخْتَصِّ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يَسْتَوِيَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 (بَابُ مَا يَكُونُ ظِهَارًا وَمَا لَا يَكُونُ ظهاراً) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (الظِّهَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي أَوْ أَنْتِ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي وَمَا أَشْبَهَهُ فَهُوَ ظِهَارٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهُوَ الظِّهَارُ عُرْفًا وَاشْتِقَاقًا فَإِنْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي أَوْ عِنْدِي أَوْ مَعِي كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا، لِأَنَّ هَذِهِ حُرُوفٌ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي الظِّهَارِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ قَالَ فَرْجُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ ظَهْرُكِ أَوْ جِلْدُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ هَذَا ظِهَارًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: بَدَنُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ نَفْسُكِ أَوْ ذَاتُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَقَوْلِهِ أنت علي كظهر أمي يكون (بها) مُظَاهِرًا وَهِيَ أَلْفَاظٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَأَمَّا إِذَا ظَاهَرَ مِنْ بَعْضِ جَسَدِهَا كَقَوْلِهِ فَرْجُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أو ظهرك (أو جلدك) عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا مِنْهَا جَمِيعًا كَالطَّلَاقِ إِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهَا وَقَعَ عَلَى جَمِيعِهَا وَسَوَاءً كَانَ الْعُضْوُ الَّذِي ظَاهَرَ مِنْهُ قَدْ تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ أَوْ مِمَّا لَا تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَالرَّأْسِ وَالْبَطْنِ. وَعَلَى قول أبي حنفية لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا بِالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَحْيَا بِفَقْدِهَا كَالطَّلَاقِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَذَكَرْنَا مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ مَا أَقْنَعَ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ كَبَدَنِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا كَانَ هَذَا ظِهَارًا لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِكُلِّ أُمِّهِ مُحَرَّمٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا مَعْهُودُ الظِّهَارِ عُرْفًا وَشَرْعًا فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَيُشَبِّهُهَا بِظَهْرِ أُمِّهِ، فَإِذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أَوْ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَيَدِ أمي أو كرجل أمي أو كفرج أُمِّي فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ ذَلِكَ مُظَاهِرًا تَعْلِيلًا بِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِكُلِّ أُمِّهِ مُحَرَّمٌ كَالظَّهْرِ وَهَكَذَا لَوْ شَبَّهَ عُضْوًا من زوجته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ فَقَالَ: رَأْسُكِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي، أَوْ رِجْلُكِ عَلَيَّ كَرِجْلِ أُمِّي أَوْ يديك عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَنْصُوصِ وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيمَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ أُمِّهِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ وَقَالَ فِي القديم: لا يكون مظاهرا لأنه عدل عن الْأُمِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. إِلَى غَيْرِهَا، فَعَلَى تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إِذَا عَدَلَ عَنِ الظَّهْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَلْ يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِيءُ فِيهِ تَخْرِيجُهُ وَيَكُونُ فِي تَشْبِيهِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ الظَّهْرِ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ التَّلَذُّذُ بِجَمِيعِهَا مُحَرَّمٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ لا يكون مظاهرا لأنه عدل من الظَّهْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ عُدُولِهِ عَنْ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهَا وَبَيْنَ عُدُولِهِ عَنْ ظَهْرِ أُمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهَا أَنَّ حُرْمَةَ أُمِّهِ أَغْلَظُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِغَيْرِهَا، وَأَعْضَاءُ أُمِّهِ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ فَكَانَ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ ظَهْرِهَا. وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَعْضَاءِ أُمِّهِ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ مَخْصُوصًا بِالْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ كَالرَّأْسِ وَالثَّدْيِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ بِهِ فَيَجْعَلُهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَثَدْيِ أُمِّي غَيْرَ مُظَاهِرٍ وَمَا كَانَ بِخِلَافِ هَذَا مِنْ أَعْضَائِهَا الَّتِي لَا تُقْصَدُ بِالْكَرَامَةِ وَتَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ كَانَ بِهَا مُظَاهِرًا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّخْرِيجُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فَهَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فِي الظِّهَارِ يَصِيرُ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ كِنَايَةً يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا إِذَا نَوَاهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ كَالْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا وَإِنْ نَوَاهُ كَمَا لَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ أُمِّهِ كِنَايَةً وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا وَإِنْ نَوَاهُ تَعْلِيلًا بِالْعُرْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 (فَصْلٌ:) وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَدَنِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ الْبَدَنَ يَشْتَمِلُ عَلَى الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ التَّشْبِيهُ بِهِ أَعَمَّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَنَفْسِ أُمِّي فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ يَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا لِأَنَّ النَّفْسَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الذَّاتِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ كَبَدَنِ أُمِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ كِنَايَةً إِنْ نَوَى الظِّهَارَ بِهِ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الذَّاتَ فِي التَّحْرِيمِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَرَامَةَ فِي التَّعْظِيمِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرُوحِ أُمِّي فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَكُونُ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ كَالْبَدَنِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَرْئِيَّةِ الَّتِي يُتَعَلَّقُ بِهَا حَظْرًا أَوْ إِبَاحَةً وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ لَا تَحْيَا بِفَقْدِهِ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ تَحْيَا بِفَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَشْبِيهِ عُضْوٍ مِنْ زَوْجَتِهِ بِأُمِّهِ وَالْخِلَافُ فِيهَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ كَأُمِّي أَوْ مِثْلَ أُمِّي وَأَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَا ظِهَارَ وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ قَالَ لَا نِيَّةَ لِي فَلَيْسَ بِظِهَارٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلَ أُمِّي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِثْلَهَا فِي الْكَرَامَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِثْلَهَا فِي التَّحْرِيمِ فَلِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً إِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ قَالَ وَلَا نِيَّةَ [لَهُ] لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَجُمْلَةُ الْأَلْفَاظِ فِي الظِّهَارِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ صَرِيحًا يَكُونُ بِهِ مُظَاهِرًا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ كِنَايَةً يُرَاعِي فِيهِ النِّيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ أُمِّي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً وَلَا يَقَعُ بِهِ الظِّهَارُ وَإِنْ نَوَاهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ زَوْجَتِي هَذِهِ أَوْ كَظَهْرِ أَمَتِي هَذِهِ أَوْ كَظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَنَفْسِ أُمِّي وَفِيهِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ أَوْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَزَوْجِ أُمِّي وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَكُونُ ظِهَارًا صَرِيحًا أَوْ لَيْسَ بِظِهَارٍ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي وَفِيهِ قَوْلَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَمْ لَا وَهُوَ قَوْلُهُ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ قَامَتْ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْأُمِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النسب) (قال المزني) رحمه الله تعالى وحفظي وغيري عنه لا يكون متظاهراً بمن كانت حلالا في حال ثم حرمت بسبب كما حرمت نساء الآباء وحلائل الأبناء بسبب وهو لا يجعل هذا ظهاراً ولا في قوله كظهر أبي) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظِّهَارُ الْمَعْهُودُ عُرْفًا وَشَرْعًا فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ فَيَقُولُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا الللائي ولدتهم وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وَكَذَلِكَ إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِجَدَّاتِهِ كَأُمِّ الْأُمِّ أَوْ أُمِّ الْأَبِ كَانَ مُظَاهِرًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ لِأَنَّ الْجَدَّةَ تُسَمَّى أُمًّا. وَالثَّانِي: بِالْقِيَاسِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْوِلَادَةِ كَالْأُمِّ. فَأَمَّا إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ. وَالثَّانِي: مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ. فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَنْسَابِ كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَهَذَا تَحْرِيمٌ أَزَلِيٌّ اقْتَرَنَ بِوُجُودِ الْعَيْنِ فَإِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ خَالَتِي أَوْ عَمَّتِي فَهَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ أَغْلَظُ حُرْمَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهَا غَيْرُهَا فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ التَّنْبِيهَ لَنَصَّ عَلَى الْأَدْنَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الْأَعْلَى وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْأُمُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَدْنَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهَذَا التَّحْرِيمِ قَائِلًا مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا كَالْأُمِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا كَالتَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي الْأُمِّ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي يَكْفُرُ بِاسْتِبَاحَتِهِ فَصَارَ مُظَاهِرًا بِهِ كَالْأُمِّ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْأَسْبَابِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: سَبَبٌ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهُ كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا يَحْرُمْنَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى نِكَاحِ امْرَأَتِهِ فَإِذَا فَارَقَهَا حَلَلْنَ لَهُ فَلَا يَكُونُ بِتَشْبِيهِ زَوْجَتِهِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُظَاهِرًا فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِ زَوْجَتِي، أَوْ كَظَهْرِ خَالَتِهَا، أَوْ كَظَهْرِ عَمَّتِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ ظَهْرَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجَتِهِ وَلَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بَعْدَ فِرَاقِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِنَّ التَّحْرِيمُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: سَبَبٌ يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهُ وَذَلِكَ شيئان الرضاع والمصاهرة وتحريمها عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَزَلِيٌّ وَطَارِئٌ فَأَمَّا الطَّارِئُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ يَحْدُثَ التَّحْرِيمُ بِهِمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. مِثَالُهُ فِي الرَّضَاعِ: أَنْ تَرْتَضِعَ صَبِيَّةٌ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَتَصِيرُ أُخْتًا مُحَرَّمَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً. وَمِثَالُهُ فِي الْمُصَاهَرَةِ: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبُوهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ أَوْ تَكُونَ بِنْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ أُمَّ زَوْجَتِهِ فَتَصِيرُ مُحَرَّمَةً بِالْمُصَاهَرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً، فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لا لَاعَنَ مِنْهَا؟ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ طَرَأَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّحْرِيمِ فِي الِانْتِهَاءِ لِخُرُوجِهِ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا الْأَزَلِيُّ: فَمِثَالُهُ فِي الرَّضَاعِ: أَنْ تَرْتَضِعَ صَبِيَّةٌ مِنْ أُمِّهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فَلَا يُوجَدُ إِلَّا وَالتَّحْرِيمُ مَوْجُودٌ. وَمِثَالُهُ فِي الْمُصَاهَرَةِ: أَنْ يَتَزَوَّجَ أَبُوهُ امْرَأَةً قَبْلَ وِلَادَتِهِ ثُمَّ يُولَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يُوجَدُ إِلَّا وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ، فَإِنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِوَاحِدَةٍ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِهَا هَلْ يَكُونُ مُظَاهِرًا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ تَحْرِيمُ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَاعْتَبِرْهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ طُرُوئِهِ أَوْ أَزَلِيَّتِهِ فَلَا تَجْعَلْهُ مُظَاهِرًا بِهِ إِنْ كَانَ طَارِئًا وَاجْعَلْهُ مُظَاهِرًا بِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ أَزَلِيًّا، وَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَقَدْ فَصَّلَهُ المزني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 وَالرَّبِيعُ عَنْهُ وَهُمَا أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ وَهِمَ مِنْ أَصْحَابٍ فَسَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَرَامًا كَالْأُمِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ ظَهْرَ الْأُمِّ مَحَلُّ الِاسْتِمْتَاعِ فَاخْتُصَّ بِتَحْرِيمِ الْمُظَاهَرَةِ وَلَيْسَ ظَهْرُ الْأَبِ مَحَلًّا لَهُ فَانْتَفَى عَنْهُ تَحْرِيمُ الْمُظَاهَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَاخْتَصَّتْ بِالظِّهَارِ وَلَيْسَ الْأَبُ مَحَلًّا لَهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ظِهَارٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: أَنَا عَلَيْكِ كَظَهْرِ أُمِّكِ كَانَ كِنَايَةً إِنْ أَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَيَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَنَا طَالِقٌ مِنْكِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ كِنَايَةً وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا وَلَمْ تَلْزَمْهَا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الحسن البصري، والنخعي: يكون مُظَاهِرَةً مِنْهُ كَالرَّجُلِ وَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً مِنْ زَوْجِهَا فَإِنْ قَالَتْ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْهُ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ قَالَتْ: إِنْ تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَأُمِرَتْ أن تعتق رقبة وتزوجه وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فَخَصَّ الرِّجَالَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ مِنَ النِّسَاءِ حُكْمٌ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لِلظِّهَارِ مِنْهُنَّ حُكْمٌ. فأما الخير فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالتَّكْفِيرِ مِنْ قَوْلِهَا ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَنَ بِظِهَارِهَا يَمِينٌ فَأَمَرَهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَيَلْزَمُ الْحِنْثُ بِالظِّهَارِ كَمَا يَلْزَمُ بِالطَّلَاقِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الظِّهَارَ مُلْحَقٌ بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ مُعَجَّلًا بِأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَمُؤَجَّلًا بِأَنْ يَقُولَ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا قَبْلَ الشَّهْرِ فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ صار مظاهراً، ويقع على صفة أن يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شِئْتِ فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ صَارَ مُظَاهِرًا، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَمَتَى شَاءَ زَيْدٌ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي كَانَ مُظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ، وَيَقَعُ بِأَنْ يَحْلِفَ بِهِ فَيَحْنَثُ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَتَى حَنِثَ بِكَلَامِ زَيْدٍ صَارَ مُظَاهِرًا. وَيَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ: إِذَا ظَاهَرَ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ وَهُوَ مَذْهَبٌ فِي الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: يَقَعُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ لَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَلَا مَذْهَبًا مُعْتَمَدًا كَمَا لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الطَّلَاقِ وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَخْرِيجَهُ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَصِحُّ ظِهَارُهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ جِنْسَ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَجِنْسُ الظِّهَارِ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَمَنْ قَالَ بِتَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ بِهِ فِي تَعْلِيقِ الظِّهَارِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَيَقَعُ نَاجِزًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ إِذَا نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمي فنكحها لم يكن متظاهراً لأن التحريم إنما يقع من النساء على من حل له ولا معنى للتحريم في المحرم ويروى مثل ما قلت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم علي وابن عباس وغيرهم وهو القياس) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ لَمْ يَنْعَقِدْ ظِهَارٌ وَلَا إِيلَاءٌ قَبْلَ نِكَاحٍ فَإِذَا نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ فَفِي عَوْدِ ظِهَارِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ. وَلَوْ قَالَ وَتَزَوَّجَهَا صَغِيرًا: إِذَا بَلَغْتِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا إِذَا بَلَغَ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بَالِغٌ وَهِيَ صَغِيرَةٌ إِذَا بَلَغْتِ فَأَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا إِذَا بَلَغَتْ لِأَنَّهُ عَقَدَ الظِّهَارَ فِي وَقْتٍ لَوْ عجله صح. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي يُرِيدُ الظِّهَارَ فَهِيَ طَالِقٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ كَظَهْرِ أُمِّي إِلَّا أَنَّكِ حَرَامٌ بالطلاق كظهر أمي) . قال الماوردي: محال فلا معنى له. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقَ لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الظِّهَارِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ فَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي زَوْجَةٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الظِّهَارِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي طُلِّقَتْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ ينوي به أنها تصير عليه ب (الطلاق) مُحَرَّمَةً كَظَهْرِ أُمِّهِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ وَتَأْكِيدًا لِإِثْبَاتِهِ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَا يَصِيرُ بِهِ آثِمًا لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَحْرِيمَ مُحَرَّمَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِقَصْدِهِ بِتَحْرِيمِ مُحَرَّمَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: يَقْتَضِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا وَلَا آثِمًا قِيلَ: يَكُونُ فِي الْمُحْرِمَةِ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالطَّلَاقُ يُخْرِجُهَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ وَلَا يَحْرُمُ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُحْرِمَةِ وَيَحْرُمُ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُطَلَّقَةِ: فَإِنْ قَالَ فِي الْمُحْرِمَةِ إِنَّهَا عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بِالْإِحْرَامِ الطَّارِئِ لَا بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَهُ ظِهَارًا فَيَكُونُ مُطَلِّقًا وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَزُولُ عَنْ حُكْمِهِ بِالنِّيَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الظِّهَارَ بِانْفِرَادِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا إِمَّا لِكَوْنِهِ ثَالِثًا أَوْ دُونَهَا بِعِوَضٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ يَقَعِ الظِّهَارُ مِنْهَا كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا كَانَ مُظَاهِرًا وَلَمْ يَكُنْ عَائِدًا فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَهَلْ يَصِيرُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ أَوْ بِمُضِيِّ زَمَانِهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 النِّكَاحِ الثَّانِي قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِذَا عَادَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَهُ مُرْسَلًا لَا يَنْوِي بِهِ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ بِهِ مُظَاهِرًا فَإِنَّ قَوْلَهُ كَظَهْرِ أُمِّي كَلَامٌ مَبْتُوتٌ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بِقَوْلِ أَنْتِ عَلَيَّ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ صَرِيحًا وَإِذَا خَرَجَ بِنُقْصَانِهِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ حُكْمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقَدِّمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ فَيَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي طَالِقٌ فَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ: فَأَمَّا قَوْلُهُ طَالِقٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الظِّهَارِ كَالْمُطَلَّقَةِ فَلَا تَصِيرُ بِالنِّيَّةِ كَالْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ أَنْ يَصِيرَ الظِّهَارُ الَّذِي تَقَدَّمَ طَلَاقًا فَيَصِيرُ ظِهَارًا وَلَا يَصِيرُ بِالنِّيَّةِ طَلَاقًا لِأَنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ لَا يَصِيرُ طَلَاقًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الظِّهَارِ فَيَكُونُ مظاهر وَمُطَلِّقًا وَيَمْنَعُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَصِيرَ عَائِدًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَهُ مُرْسَلًا لَا يَنْوِي بِهِ شَيْئًا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَبْتُوتُ اللَّفْظِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ. وَالثَّانِي: لَمَّا رُوعِيَتْ نِيَّتُهُ فِيهِ صَارَ كِنَايَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ حُكْمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ مِنْ صَرِيحِ أَلْفَاظِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ مَا إِذَا تَلَفَّظَ بَعْدَهُ بِالطَّلَاقِ صَارَ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَ الظِّهَارَ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ بِتَأْخِيرِ الظِّهَارِ حَرْفَانِ: أَحَدُهُمَا: حَرْفٌ لِلْمُوَاجَهَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ، وَالثَّانِي: حَرْفُ الِالْتِزَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ وَالَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ حَرْفُ الْمُوَاجَهَةِ دُونَ الِالْتِزَامِ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يُرِيدُ الطَّلَاقَ فَهُوَ ظِهَارٌ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَكِنَايَةً فِي الظِّهَارِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيمُ أَوْجَبَ كَفَّارَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ فَهَلْ يَكُونُ صَرِيحًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا وَصَفْنَا وَقَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَهُ فِي التَّحْرِيمِ أَرْبَعَةُ أحوال: أحدها: أَنْ يَنْوِيَ لَهُ الظِّهَارَ فَيَكُونُ ظِهَارًا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ لَهُ الطَّلَاقَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا وَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ظِهَارًا وَلَا يَكُونُ طلاقاً لأنه قد اجتمع فيه قرينتان: أحدهما: خَفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَهِيَ النِّيَّةُ. وَالْأُخْرَى: ظَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى الظِّهَارِ وَهِيَ قَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْخَفِيَّةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَهُ مَنْصُوصًا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذَا خَطَأٌ وَوُجُودُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَهْوٌ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ كِنَايَةٌ إِذَا اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الصَّرِيحِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أمي. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ تَحْرِيمَ عَيْنِهَا فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ من أصحابنا يكون ظهاراً. والحالة الرَّابِعَةُ: أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ فَيَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ كَظَهْرِ أُمِّي صَارَ ظِهَارًا فِيهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَاعْتِرَافُهُ مَصْرُوفًا إليه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا أَوْ أنت شريكتها أو أنت كهي ولم ينو ظهاراً لم يلزمه لأنها تكون شريكتها فِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ أَوْ عَاصِيَةٌ أَوْ مطيعة له) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا ظَاهَرَ مِنْ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَقَالَ لِلْأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا أَوْ أَنْتِ مِثْلَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَرِيكَتَهَا فِي الظِّهَارِ فَيَصِيرُ بِهِ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ كَظِهَارِهِ مِنَ الْأُولَى فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ آلَى مِنْ أَحَدِهِمَا وَقَالَ لِلْأُخْرَى أَنْتِ شَرِيكَتُهَا يُرِيدُ فِي الْإِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنَ الثَّانِيَةِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ الْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ لَا يَنْعَقِدُ بِالْإِضْمَارِ وَلَا بالكناية والظهار كالطلاق ينصح بالكناية والمضمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ شَرِيكَتَهَا فِي الْكَرَامَةِ أَوْ فِي الْهَوَانِ أَوْ مِثْلَهَا فِي الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُ مَا أَرَادَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ كِنَايَةً إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنَ الثَّانِيَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَانِيًا اعْتِبَارًا بِالظِّهَارِ وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ الْجَدِيدِ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ إِنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةً كَمَا يُطَلِّقُهُنَّ مَعًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا يَمِينٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْكَفَّارَاتِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو ظِهَارُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرِدَهُنَّ فِيهِ وَيُظَاهِرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِقَوْلٍ مُنْفَرِدٍ فَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفَّارَةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْمَعَهُنَّ فِي الظِّهَارِ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقُولُ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَةَ الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْمُظَاهِرِ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الظِّهَارَ يُلْحَقُ بِالْإِيلَاءِ وَمُعْتَبَرٌ بِالْأَيْمَانِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ آلَى مِنْ أَرْبَعٍ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ فِي الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِذَا طَلَّقَ أَرْبَعًا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي رَجْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ ظِهَارُهُ مِنَ الْأَرْبَعِ يُجْزِئُ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَفَّارَةٌ فَيَلْزَمُ فِي الْأَرْبَعِ إِنْ عَادَ مِنْهُنَّ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَظَاهِرٌ مِنْ أَرْبَعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ كَمَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي الطَّلَاقِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ فِي الرُّجُوعِ وَالرَّجْعَةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ أَوْجَبَتْ تَكْفِيرًا لِتَحْرِيمِهِ وَمَأْثَمِهِ فَلَمَّا تَضَاعَفَ مَأْثَمُهُ وَتَحْرِيمُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَجَبَ أَنْ يَتَضَاعَفَ تَكْفِيرُهُ، وَمِثْلُ هَذَينِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَذْفِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: يُحَدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا لِأَنَّ لفظة لقذف وَاحِدَةٌ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا مِرَارًا يُرِيدُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ ظِهَارًا غَيْرَ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ تَظَاهُرٍ كَفَّارَةٌ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَلَوْ قَالَهَا مُتَتَابِعًا فَقَالَ أَرَدْتُ ظِهَارًا وَاحِدًا فَهُوَ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ تَابَعَ بِالطَّلَاقِ كَانَ كَطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الظِّهَارُ غَيْرُ مَحْصُورِ الْعَدَدِ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ بِثَلَاثٍ، فَإِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ كَرَّرَ الظِّهَارَ مِرَارًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَوَالِيًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ فَيَكُونُ ظِهَارًا وَاحِدًا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَالطَّلَاقُ إِذَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا كَانَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ فَيَكُونُ بِكُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا مُظَاهِرًا فَإِنْ تَقَرَّرَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ كَانَ ظِهَارُهُ خَمْسًا وَلَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ خَمْسًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا ثَلَاثًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَصْرِ الطَّلَاقِ وَإِنْ سَأَلَ الظِّهَارَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ كَرَّرَ مِنْ ظِهَارِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا خَمْسَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الظِّهَارُ الثَّانِي فِي زَمَانِ عَوْدِهِ مِنَ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي وَقْتِ الْعَوْدِ وَكَمَا لَا يَكُونُ عَائِدًا فِي وَقْتِ الظِّهَارِ فَيَصِيرُ الثَّانِي عَوْدًا وَالثَّالِثُ عَوْدًا ظِهَارًا ثَانِيًا وَالرَّابِعُ عَوْدًا فِي الثَّانِي الَّذِي كَانَ ثَالِثًا وَالْخَامِسُ ظِهَارًا ثَالِثًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْعَوْدَ بِالزَّمَانِ وَالظِّهَارَ بِالْقَوْلِ فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُمْسِكًا أَوْ مُتَكَلِّمًا وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي كَلَامٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا أَوْ خِطَابًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَصَارَ مُظَاهِرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثًا فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قولان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَلْزَمُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَدَاخَلُ الْكَفَّارَاتُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَالْحُدُودِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ لَمْ يُفِدْ مِنَ التَّحْرِيمِ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يُوجِبْ مِنَ الْكَفَّارَةِ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِكُلِّ ظِهَارٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ فَيَلْزَمُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُ كَفَّارَاتٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ كَثُبُوتِ الْأَوَّلِ اقْتَضَى أَنْ يُوجِبَ مِثْلَ مَا أَوْجَبَهُ الْأَوَّلُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ تَكْرَارَ ظِهَارِهِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا فَيَكُونُ ظِهَارًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ حَمْلًا عَلَى التَّأْكِيدِ، وَلَوْ أَطْلَقَ تَكْرَارَ الطَّلَاقِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى التَّأْكِيدِ وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ كَالظِّهَارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِخِلَافِ الظِّهَارِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْقُضُ الْمِلْكَ فَكَانَ التَّكْرَارُ مُؤَثِّرًا فِيهِ وَالظِّهَارُ لَا يَنْقُضُ الْمِلْكَ فَلَمْ يُؤَثِّرِ التَّكْرَارُ فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَكْرَارُ الظِّهَارِ مُتَفَرِّقًا، كَأَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَعَادَ الظِّهَارَ مِنْ غَدِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ بَعْدِ غَدِهِ. فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا كَالْمُتَوَالِي وَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَرَّرَ الطَّلَاقَ مُفَرَّقًا وَأَرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لَمْ يَكُنْ تَأْكِيدًا بِخِلَافِ الْمُتَوَالِي. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ فَرُوعِيَ الْوَلَاءُ فِي تَأْكِيدِهِ وَالظِّهَارَ غَيْرُ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يُرَاعَ الْوَلَاءُ فِي تَأْكِيدِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِئْنَافَ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ التَّالِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ فِي الثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ وَكَذَلِكَ فِيمَا يَلِيهِ إِذَا كَفَّرَ عَمَّا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ ظِهَارٍ مِنْهُ كَفَّارَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْأَوَّلِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنِ الْأَوَّلِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَالطَّلَاقِ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا مَضَى. مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَظَاهَرَ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ظِهَارٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ ظِهَارَ زَوْجَتِهِ بِظِهَارِهِ مِنْ غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ لَهَا: إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَخْلُ حَالُ تِلْكَ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ أَجْنَبِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى كَرَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ حَفْصَةُ وَعَمْرَةُ. فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ مَتَّى تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِذَا تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا بِالْمُوَاجَهَةِ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ بِالصِّفَةِ وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الظِّهَارِ. قُلْنَا: لأنه في الجمع بينهما مظاهراً مِنْهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُظَاهِرٌ مِنْهُمَا بِكَلِمَتَيْنِ فَلَزِمَهُ لَهُمَا كَفَّارَتَانِ. وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى أَجْنَبِيَّةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَهَا بِالِاسْمِ وَلَا يَصِفَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ: إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَعَمْرَةُ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ يَتَظَاهَرْ مِنْ عَمْرَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَظَاهِرٍ مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَتَظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا لِأَنَّ الظِّهَارَ صَارَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ بِالظِّهَارِ الصَّحِيحِ فِي عَمْرَةَ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ قَبْلَ نِكَاحِهَا كَانَ ظِهَارُهُ مِنْهَا فَاسِدًا لِأَنَّهُ يُصْبِحُ مِنْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، وَإِذَا فَسَدَ ظِهَارُهُ مِنْهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ ظِهَارَهُ مِنْهَا مَشْرُوطًا بِظِهَارِهِ مِنْ عَمْرَةَ، فَإِذَا فَسَدَ ظِهَارُ عَمْرَةَ عَدِمَ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فِي ظِهَارِ حَفْصَةَ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا طَلَّقْتُ عَمْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ عَمْرَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَا زَوْجَتُهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ لِعَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ لَيْسَ بِطَلَاقٍ كَذَلِكَ الظِّهَارُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ كَانَ وُجُودُ الْأَحْكَامِ مَشْرُوطًا فِي صِحَّةِ الْأَسْمَاءِ، وَعَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ كَاسْمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا مَعَ الصِّحَّةِ وَيَزُولُ عَنْهُمَا بِالْفَسَادِ فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِظِهَارِي مِنْ عَمْرَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَفْظَ الظِّهَارِ فِي اللُّغَةِ دُونَ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ يُحْمَلُ عَلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 قَوْلِهِ وَصَارَ ظِهَارُهُ مِنْ عَمْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مُوجِبًا لِلظِّهَارِ مِنْ حَفْصَةَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِفَهَا مَعَ ذِكْرِ الِاسْمِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ أَجْنَبِيَّةً فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَهَا أَجْنَبِيَّةً شَرْطًا فِي ظِهَارِهِ مِنْهَا لِأَنَّهُ حَذَفَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الْمَوْضُوعَيْنِ لِلتَّعْرِيفِ وَنَصَبَ عَلَى الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَتَى تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ لِأَنَّهُ مَتَى تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تَكُنْ أَجْنَبِيَّةً وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الظِّهَارِ مِنْهَا أَجْنَبِيَّةً فَصَارَ الشَّرْطُ فِي وُقُوعِ الظِّهَارِ عَلَى حَفْصَةَ مَعْدُومًا فِي الظِّهَارِ مِنْ عَمْرَةَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيفِ فَيَقُولُ: إِذَا تَظَاهَرْتُ مِنْ عَمْرَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَنْتِ يَا حَفْصَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ قَبْلَ نِكَاحِهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا لِفَسَادِ ظِهَارِهِ مِنْ عَمْرَةَ، وَإِنْ تَظَاهَرَ مِنْ عَمْرَةَ، صَحَّ ظِهَارُهُ مِنْهَا. وَهَلْ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ أَمْ لَا. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ تَعْلِيلًا بِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ يَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فِيهَا شَرْطًا فَإِذَا تَظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ فَلَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ حَفْصَةَ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلتَّعْرِيفِ دُونَ الشَّرْطِ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ هَذِهِ الْبُسْرَةَ فَأَكَلَهَا رُطَبًا وَلَا كَلَّمْتُ هذا الصبي فكلمه شيخاً في حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ تَعْلِيلًا بِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ بِالتَّعْرِيفِ أَحَقُّ. والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 (باب ما يوجب على المتظاهر الكفارة) (من كتابي الظهار قديم وجديد وما دخله مِنَ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى والشافعي رحمه الله عليهم) (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الْآيَةَ قَالَ وَالَّذِي عَقَلْتُ ممَا سَمِعْتُ فِي {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الْآيَةَ أَنَّهُ إِذَا أَتَتْ عَلَى الْمُتَظَاهِرِ مُدَّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالظِّهَارِ لَمْ يُحَرِّمْهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَأَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ فَخَالَفَهُ فَأَحَلَّ مَا حَرَّمَ وَلَا أَعْلَمُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ بِلَفْظِ الظِّهَارِ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَلَا بِالْعَوْدِ وَلَا يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي الِاسْتِبَاحَةِ كَالطَّهَارَةِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ شرط في فعل الصلاة فإن وطء قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الظِّهَارُ وَكَانَ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ الثَّانِي فَإِنْ وَطِئَ ثَانِيَةً لَمْ تَجِبْ وَكَانَ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ أَبَدًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْعَوْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: - أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ طَلَاقِهَا مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ إِعَادَةُ الظِّهَارِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى فَيَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ الْوَطْءُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْعَوْدَ فِيهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 إِعَادَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عُجْرَةَ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ وَكَانَ إِذَا أَخَذَهُ لَمَمُهُ ذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَتَمْنَعُهُ فَيَقُولُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ لَمْ تُرْسِلِينِي لَأَجْلِدَنَّكِ مِائَةً فَنَزَلَ فِيهِمَا قُرْآنُ الظِّهَارِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْمُنْكَرِ الزُّورِ وَالظِّهَارُ هُوَ الْمُنْكَرُ وَالزُّورُ دُونَ الْعَوْدِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الظِّهَارِ فَكَانَ الْعَوْدُ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ كَمَا قَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] يَعْنِي إِلَى فِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَا قَالَ في الربا (عفا الله عما سلف) فَإِنْ عَادَ يَعْنِي إِلَى ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُقِلَ حُكْمُهُ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ كَالطَّلَاقِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةً بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الظِّهَارُ وَالْآخَرُ الْعَوْدُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بِأَحَدِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى الْعَوْدِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا لَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَفِي ذِكْرِهِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَمَا لَزِمَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا لِمَنْ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَلَبَطَلَ حُكْمُهُ الْآنَ لِانْقِرَاضِ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بالكفارة عن ظهارهما ولم يسلهما عَنْ ظِهَارِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لَسَأَلَهُمَا فَإِنْ قِيلَ: فَمَا سَأَلَهُمَا عَنِ الْعَوْدِ فَلَوْ كَانَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لَسَأَلَ قِيلَ: الْعَوْدُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّلَاقِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُطَلِّقَا فَعُلِمَ بِذَلِكَ عَوْدُهُمَا. لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ كَانَا طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُقِلَا فِي الشَّرْعِ إِلَى مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ الْيَمِينُ وَالْوَطْءُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ بِشَرْطَيْنِ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي تَكْرَارِ ظِهَارِهِ دليلاً عَلَى تَقَدُّمِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} فَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ شُرُوطِ التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطَيْنِ الظِّهَارُ والعود. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْعَوْدُ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هُوَ الرُّجُوعُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ، وَالرُّجُوعُ فِيهِ أَنْ يُحَرِّمَهَا بِالطَّلَاقِ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالطَّلَاقِ: فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُطْلَقٌ وَالظِّهَارَ مُقَيَّدٌ وَلَوْ جَازَ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْمُقَيِّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا كَانَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مُوجِبِهِ أَوْلَى. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا دَاوُدُ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ إِعَادَةُ الظِّهَارِ ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} فتجئ منه ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] يَعْنِي إِلَى مِثْلِ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الظِّهَارِ إِعَادَةَ مَثْلِهِ. وَالثَّانِي: قَالَ (لِمَا قَالُوا) فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ قَوْلًا لَا إِمْسَاكًا كَمَا قُلْتُمْ وَلَا فِعْلًا كَمَا قَالَهُ غَيْرُكُمْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إلى غير القول لقال (ثم يعودون) كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) فَلَمَّا قَالَ (لِمَا قَالُوا) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِعَادَةُ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] يَعْنِي مِنْ قَوْلِ النَّجْوَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {يعودون لما قالوا} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَوْدِ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَقْوَالِ يُقَالُ: عَادَ يَعُودُ عَوْدًا فِي الْفِعْلِ، وَأَعَادَ يُعِيدُ إِعَادَةً فِي الْقَوْلِ، فَلَوْ أَرَادَ إِعَادَةَ الْقَوْلِ لَقَالَ (ثُمَّ يُعِيدُونَ لِمَا قَالُوا) . وَالثَّانِي: أَنَّ إِعَادَةَ الْقَوْلِ مُحَالٌ كَإِعَادَةِ أَمْسِ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ اجْتِمَاعُ زَمَانَيْنِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، فَدَاوُدُ يُضْمِرُ مِثْلَ مَا قَالُوا فِي التَّحْرِيمِ بِالْقَوْلِ وَنَحْنُ نُضْمِرُ بَعْضَ مَا قَالُوهُ مِنَ التَّحْرِيمِ بِالْإِمْسَاكِ، وَمَا قُلْنَاهُ مِنَ الْإِضْمَارِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْهُ دُونَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ مُفَارَقَةُ الْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إِلَى حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] . وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ( ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَإِنْ عَادَ لِلْإِحْسَانِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 وَالْحَالُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا: تَحْرِيمُ الظِّهَارِ، وَالَّتِي كَانَ عَلَيْهَا: إِبَاحَةُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِمْسَاكِهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ التَّحْرِيمِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بالكفارة عن طهارهما وَلَمْ يَسَلْهُمَا عَنْ إِعَادَتِهِ وَلَوْ كَانَ عَوْدُ القول شرط لَسَأَلَ، وَلِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ مُعَلَّقَةٌ بِلَفْظٍ وَشَرْطٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ يُخَالِفُ اللَّفْظَ دُونَ إِعَادَتِهِ كَالْإِيلَاءِ وَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي تَلْزَمُ بِهِ الْأَحْكَامُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَالْأَيْمَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُ مِثْلِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَوْدِ الِانْتِقَالُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُقَامِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِبَاحَةِ دُونَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيمِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ وَصَفَ الْعَوْدَ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَوْدٌ إِلَى الْقَوْلِ بِنَقْضِهِ وَإِبْطَالِهِ لَا بِتَصْحِيحِهِ وَإِثْبَاتِهِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَشْبَهَ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِأَنَّ قَوْلَهُ (ثُمَّ يعودون) . كلام تام وقوله (لما قالوا) عَائِدٌ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ (ثُمَّ يَعُودُونَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا) . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى غَيْرِ الْقَوْلِ لَقَالَ (ثُمَّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْقَوْلِ لَقَالَ (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا) وَسَطٌ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَاقْتَضَى أَنْ يُحْمَلَ الْعَوْدُ عَلَى تَعَيُّنِ الْحَالِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أَيِ الْمُتَيَقَّنُ، وَكَقَوْلِهِمُ اللَّهُ رَجَائِي وَأَمَلِي أَيْ مَرْجُويَ وَمُؤَمَّلِي، وَالْقَوْلُ هُوَ التَّحْرِيمُ فَكَانَ الْعَوْدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لما قالوا} وَثُمَّ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي فَأَوْجَبَتْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ زَمَانٌ لَيْسَ بِعَوْدٍ فَكَانَ حَمْلُ الْعَوْدِ عَلَى الْعَزْمِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظِّهَارِ مُهْلَةٌ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ حِينَ شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنْهَا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْوَطْءِ هُوَ الْعَوْدُ، وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ عَازِمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ فِيهِ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} وَالْعَوْدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا عِنْدَنَا أَوْ قَوْلًا عِنْدَ غَيْرِنَا، وَلَيْسَ الْعَزْمُ قَوْلًا وَلَا فعلاً لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عَوْدًا. وَلِأَنَّ أَوْسَ بْنَ الصامت ظاهر من زوجته خولة فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَسَلْهُ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَوْ كَانَ الْعَزْمُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدَ رُوِّينَا أَنَّ خَوْلَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَا أَثْبَتَهَا أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَلَا مَا أَفْصَحَتْ بِهِ مِنَ الشَّكْوَى وَمَضَى هَذَا الذِّكْرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَوْسٍ دُونَهَا وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا مُتَعَلِّقًا بِالْعَزْمِ لَكَانَ هو مسؤول عَنْهَا وَلَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهَا دُونَهُ، وَلِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْعَازِمِ عَلَى الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِلَفْظٍ وَشَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَالْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ الْعَزْمَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (عُفِيَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِلتَّرَاخِي وَالْمُهْلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] لِأَنَّهَا مِنْ حُرُوفِ الصِّفَاتِ وَهِيَ تَتَعَاقَبُ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي التَّرَاخِي وَالْمُهْلَةِ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَبَاحَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 الْإِمْسَاكَ وَالْوَطْءَ وَالظِّهَارُ حَرَّمَهُمَا فَالْعَوْدُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى إِبَاحَتِهَا فَصَارَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ: فَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْهُ. . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ بِالظِّهَارِ هُوَ عَازِمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَهُوَ أَنَّهُ بِالظِّهَارِ مُحَرِّمٌ وَلَيْسَ بِعَازِمٍ عَلَى التَّحْرِيمِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ الْوَطْءُ بِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ وَطِئَ بَعْدَ ظِهَارِهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْكَفَّارَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ السَّبَبِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَا فَرُجِمَ وَسَرَقَ سَارِقٌ رِدَاءَ صَفْوَانَ فَقُطِعَ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ تَشَابَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمَا طَلَاقًا وَفِي الْإِسْلَامِ فِي إِيجَابِهِمَا الْكَفَّارَةَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَجِبُ بِالْوَطْءِ فَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ، وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ مُحَرِّمٌ لِوَطْئِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ فِيهِ مُخَالَفَتَهُ بِوَطْئِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا مُعَلَّقًا بِالْمَسِيسِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَوْسًا بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْتِزَامِهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا، وَلِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْصُرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَوْدِ مِنْ كَوْنِهِ إِمْسَاكًا عَنِ الطَّلَاقِ أَعَمُّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِهِ وَبِإِعَادَةِ الْقَوْلِ وَبِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ وَبِالْوَطْءِ فَكَانَ أَوْلَى كَالْعِلَلِ يَكُونُ الْأَعَمُّ مِنْهَا أَوْلَى مِنَ الْأَخَصِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَمْرِهِ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفَّارَةِ بَعْدَ وَطْئِهِ وَهُوَ أَنَّ الْوَطْءَ تَالٍ لِلسَّبَبِ الْمَنْقُولِ وَهُوَ الظِّهَارُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالتَّكْفِيرِ عَائِدًا إِلَيْهِمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، فَلَمَّا أَمَرَ أَوْسًا بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ دَلَّ على تعلق وجوبها بما تقدم وطئه مِنْ ظِهَارِهِ وَإِمْسَاكِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ التَّشْبِيهِ بِالْإِيلَاءِ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِيهِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ قَبْلَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مُخَالَفَةَ التَّحْرِيمِ تَكُونُ بِالْوَطْءِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَكُونُ بِالْإِمْسَاكِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَاعْتَبَرَ فِي الْأَمْرِ بِهَا الْإِصَابَةَ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ قَبْلَهَا ثُمَّ قَدَّمَهَا عَلَى الْإِصَابَةِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بِهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَعَلِّقَ بِسَبَبٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَهَا فَامْتَنَعَ بِهَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 وَاسْتَدَلَّ عَلَى إِبْطَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَوْدِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْمُخَالِفِينَ لَنَا، بِأَنَّ الْعَوْدَ لَوْ كَانَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ لَوَجَبَ إِذَا ظَاهَرَ مِنَ الرَّجْعِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ عَائِدًا إِنْ أَمْسَكَ عَنْ طَلَاقِهَا وَأَنْ لَا يَكُونَ مُظَاهِرًا لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طَلَاقِهَا قَالَ: وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَا يَكُونُ عَائِدًا فَبَطَلَ ثُبُوتُ ظِهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَافِعًا وَبَطَلَ بِإِسْقَاطِ عَوْدِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا، قَالَ: وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الظِّهَارِ اسْتِصْحَابٌ لَهُ وَالْمُسْتَصْحِبُ لِلشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُ وَالْمُخَالِفُ لِلشَّيْءِ لَا يَكُونُ عَائِدًا إِلَيْهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَوْدًا، قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ وَالْمَحَلُّ لَا يَكُونُ مُفَارِقًا فَلَمْ يَصِرْ عَائِدًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى مُخَالِفِينَا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَرْطًا عَقَّبَهُ بِالْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ اقْتَضَى وَجُوبَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ وَطْئِهِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْوَطْءِ وَبَعْدَهُ وَأَنْ لَيْسَ الْوَطْءُ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِسَبَبٍ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِعِتْقٍ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَةِ الْقَتْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْإِصَابَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ عَلَّقَهَا بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَمَنَعَ الْإِصَابَةَ قَبْلَهَا فَبَطَلَ مَا فَهِمْتُهُ فِيهِ وَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ ظِهَارِ الرَّجْعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْعَوْدَ عِنْدَنَا هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ تَحْرِيمِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَالرَّجْعِيَّةُ مُحَرَّمَةٌ فَلَمْ يَصِرْ بترك الطلاق عائداً، والظهار يقع عليهما إِذَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ وَالرَّجْعِيَّةُ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الظِّهَارُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الرَّجْعَةِ حُكْمُ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدِ. وَأَمَّا الجواب عن قوله إن إِنَّ الْمُسْتَدِيمَ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفَ لَا يَكُونُ عَائِدًا، فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَدَامَ إِمْسَاكَهَا وَالظِّهَارُ يَمْنَعُ مِنْهُ فَصَارَ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى عَائِدًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْعَوْدِ يَكُونُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَوْدُ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حتى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39] وأنه عائداً إِلَى مَا قَبْلَ الظِّهَارِ فَصَارَ مُفَارِقًا وَلَوْلَا مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ لَكَانَ الْكَلَامُ مع أبي حنيفة أبسط وأطول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْعَوْدِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ عَلَى تَحْرِيمِهَا بَعْدُ بِطَلَاقٍ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِمَا حَدَثَ بَعْدُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ لِعَانٍ إِجْمَاعًا وَلَا بِمَا حَدَثَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قَوْلِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْعَوْدِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ الصَّدَقَةُ فِي مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْعَزْمِ عَلَى مُنَاجَاتِهِ، ثُمَّ لَوْ وَجَبَتْ بِالْعَزْمِ سَقَطَتْ بِفَوْتِ الْمُنَاجَاةِ فَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ لَمْ يَسْقُطْ بِغَيْرِ أَدَاءٍ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْوَطْءُ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ إِذَا فَاتَ بِالْمَوْتِ، فَأَمَّا صَدَقَةُ الْمُنَاجَاةِ فَمَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِحُكْمٍ ثَابِتٍ، عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْمُنَاجَاةِ قَدْ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْعَزْمِ عَلَى الْمُنَاجَاةِ مَوْقُوفًا عَلَى فِعْلِ الْمُنَاجَاةِ وَجَرَى تَقْدِيمُهَا مَجْرَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَخَالَفَ عَوْدَ الظِّهَارِ لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَوْتِ بَعْدَ الظِّهَارِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ زَمَانِ الْعَوْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْعَوْدِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ زَمَانِ الْعَوْدِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانُ طَلَاقِهَا أَوْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَلَا قَدَرَ عَلَى طَلَاقِهَا بِالْمَوْتِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا إِذَا تَعَقَّبَ الظِّهَارَ رِدَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ بِهَا الْفُرْقَةُ سَوَاءً كَانَتْ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا وَقَامَتْ مُقَامَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فِي إِسْقَاطِ الْعَوْدِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ قَامَتْ مُقَامَ الطَّلَاقِ الثَّانِي الرَّجْعِيِّ فِي سُقُوطِ الْعَوْدِ، وَكَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كانا عَلَى النِّكَاحِ وَصَارَ عَائِدًا وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ عَائِدًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ بِالْإِسْلَامِ عَائِدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ زَمَانُ الْعَوْدِ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَطَلَ النِّكَاحُ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهُ فَفِي عَوْدِ الظِّهَارِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى ثُمَّ بِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: وَلَوْ تَعَقَّبَ الظِّهَارَ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ لَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ فِيهِ عَلَى الطَّلَاقِ صَارَ عَائِدًا لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُحَرِّمُ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْعَوْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْجُنُونُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أن يتماسا} وَقَّتَ لِأَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ حَتَّى يُكَفِّرَ وَكَانَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عُقُوبَةً مُكَفِّرَةً لِقَوْلِ الزُّورِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا تَحْرِيمُ وَطْئِهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَمَأْخُوذٌ مِنَ النَّصِّ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يتماسا} فَجَعَلَ الْوَطْءَ غَايَةً لِوَقْتِ التَّكْفِيرِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ هَذَا عُقُوبَةً مُكَفِّرَةً لِقَوْلِ الزُّورِ لِأَنَّهُ قَدْ أَثِمَ بِهِ فَكَفَّرَ عَنْ مَأْثَمِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ كَانَ عَاصِيًا بِوَطْئِهِ كَمَعْصِيَتِهِ بِالْوَطْءِ فِي إِحْرَامٍ أَوْ حَيْضٍ وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ وَلَا تَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُنْتَصِرُ بْنُ دُوسْتَ وَمُجَاهِدٌ تَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَاتٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ وَقَدْ وَطِئَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يُسْقِطْهَا وَلَمْ يُضَعِّفْهَا فَكَانَ نَصًّا يبطل به القولين. ولأن الكفارة عبارة مُؤَقَّتَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فَوَاتُ وَقْتِهَا مُبْطِلًا لَهَا وَلَا مُوجِبًا لِمُضَاعَفَتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا تَعْجِيلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَإِنْ كَانَ مُكَفِّرًا بِالصَّوْمِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ أَوِ الْإِطْعَامِ فإن كان قبل الظهار والعود لم يجزه لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِشَرْطَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا عُقَيْبَ ظِهَارِهِ ثُمَّ يُكَفِّرَ قَبْلَ مُرَاجَعَتِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا لِوُجُودِ أَحَدِ شُرُوطِهَا كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ وَكَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مَعَ وُجُودِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا مَحْظُورٌ فَصَارَ بِالتَّعْجِيلِ مُتَهَيِّأً لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا كَانَ الْحِنْثُ معصية. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (فَإِذَا مُنِعَ الْجِمَاعَ أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا حَتَّى يُكَفِّرَ فَإِنْ مَسَّ لَمْ تَبْطُلِ الْكَفَّارَةُ كَمَا يُقَالُ لَهُ أَدِّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ كَذَا وَقَبْلَ وَقْتِ كَذَا فَيَذْهَبُ الوقت فيؤديها بعد الوقت لأنها فرصه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وَطْءُ الْمُظَاهِرِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْرِيمَهُ بِالنَّصِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِي تَحْرِيمِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّ اجْتِنَابَهُ احْتِيَاطٌ وَفِعْلَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِأَنَّهُ قَالَ أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبْلَةَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ قبل أن يتماسا} وَالْمَسُّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ التَّلَذُّذِ بِمَا سِوَاهُ كَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ لِبَقَاءِ النَّفْعِيَّةِ وَاسْتِبَاحَةِ الدَّوَاعِي مِنَ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ رَأَيْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ وَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أن يتماسا} وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ الْتِقَاءُ الْبَشْرَتَيْنِ وَلِأَنَّهُ بِالظِّهَارِ قَدْ جَعَلَ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ كَتَحْرِيمِ أُمِّهِ وَكُلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِأُمِّهِ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ، وَلِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ يُوقِعُ تَحْرِيمَهَا فِي الزَّوْجَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْوَطْءِ وَتَوَابِعِهِ كَالْإِحْرَامِ وَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَصَابَهَا وَقَدْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ لَمْ يُنْتَقَضْ صَوْمُهُ وَمَضَى عَلَى الْكَفَّارَةِ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ يُنْتَقَضُ بِالْجِمَاعِ لَمْ تُجْزِئْهُ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْجِمَاعِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَفَّرَ الْمُظَاهِرُ بِالصِّيَامِ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَبْلَ الْوَطْءِ كَالْعِتْقِ وَهُوَ نَصٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] فَإِنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ عَامِدًا بَطَلَ صَوْمُهُ وَتَتَابُعُهُ وَاسْتَأْنَفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بَعْدَ وَطْئِهِ، وَإِنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَلَا تَتَابُعُهُ، وَإِنْ وَطِئَ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَمْ يَبْطُلِ الصَّوْمُ وَلَا التَّتَابُعُ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَبْطُلُ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي الْوَطْءِ فِي اللَّيْلِ وَيَبْطُلُ بِوَطْئِهِ نَاسِيًا فِي النَّهَارِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَمِنْهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْوَطْءِ فِيهِ وَقَبْلَهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا مَسِيسٌ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 لَيْسَ فِيهِمَا مَسِيسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْعُدُولُ إِلَى مَا أَمْكَنَهُ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُمَا مَعًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شَهْرَيْ صِيَامِ الظِّهَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ التَّتَابُعُ كَالْوَطْءِ عَمْدًا بِالنَّهَارِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمُ وَطْءٍ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالِاعْتِكَافِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَصِيَامُ شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَلَا فِيهِمَا مَسِيسٌ وَهُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَطْئِهِ فَكَانَ الْبِنَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الظَّاهِرِ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّ صَوْمَ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ مِنْ صَوْمِ شَهْرَيْنِ هُمَا جَمِيعًا بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَكَانَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ بِهَا مِنْ هَذَا الوجه لا من جهة النصفيتوجه احْتِجَاجُ الْكَرْخِيِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ كَوَطْءِ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا وَكَالْوَطْءِ فِي لَيْلِ صِيَامِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. فَإِنْ قِيلَ فَوَطْءُ الْمُظَاهِرِ مُحَرَّمٌ لَيْلًا وَنَهَارًا فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ التَّتَابُعُ بِاللَّيْلِ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ فِي النَّهَارِ كَتَحْرِيمِهِ فِيهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلَا وَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَكَانَ التَّحْرِيمُ عِلَّةً فِي إِبْطَالِ التَّتَابُعِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ: قِيلَ: مَا لَمْ يَبْطُلِ التَّتَابُعُ بِمُبَاحِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَحْظُورِهِ كَالزِّنَا وَمَا أُبْطِلَ التَّتَابُعُ بِمَحْظُورِهِ بَطَلَ بِمُبَاحِهِ كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ لِشِدَّةِ الْمَجَاعَةِ خَوْفًا مِنَ التَّلَفِ يُبْطِلُ صَوْمَهُ وَتَتَابُعَهُ، وَإِنْ فَعَلَ مُبَاحًا كَمَا لَوْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَفِعْلِ مَحْظُورٍ وَإِذَا بَطَلَ تَعْلِيلُهُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَانَ تعليل التتابع بصحة الصوم وفساده أول فَصَحَّ الْقِيَاسُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: هُوَ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي أَثْنَاءِ تَكْفِيرٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِ التَّكْفِيرُ كَالْإِطْعَامِ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يُضَادُّ الصَّوْمَ إِذَا وَقَعَ لَيْلًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ كَالْأَكْلِ. وَاسْتِدْلَالٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أن هذا الصوم مشروط بشرطين التَّتَابُعِ وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، فَالتَّتَابُعُ صِفَةٌ فِي الْمُؤَدَّى وَقَبْلَ الْمَسِيسِ صِفَةٌ فِي الْأَدَاءِ كَالصَّلَاةِ عُلِّقَتْ بِشَرْطَيْنِ الْوَقْتُ وَالتَّرْتِيبُ وَإِنْ ثَبَتَ الْفِعْلُ ثُمَّ كَانَ عَدَمُ الْوَقْتِ أَوْ بَعْضِهِ لَا يَسْقُطُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ كَذَا الصَّوْمُ هَاهُنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْوَطْءُ وَهُوَ فَاسِدٌ حَرَامٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْهَا بِأَنَّهُ يَقَدِرُ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَسِيسٌ فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي الْبِنَاءِ يَأْتِي بِأَحَدِ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ وَبِالثَّانِي قَضَاءً بعد المعصية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَطْءِ النَّهَارِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا أَبْطَلَ الصَّوْمَ أَبْطَلَ التَّتَابُعَ وَوَطْءُ اللَّيْلِ لَمَّا لَمْ يُبْطِلِ الصَّوْمَ لَمْ يُبْطِلِ التَّتَابُعَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الِاعْتِكَافِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ وَطْءَ اللَّيْلِ صَادَقَ زَمَانَ الْعِبَادَةِ فَأَشْبَهَ وَطْءَ النَّهَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ اللَّيْلِ لَمْ يُصَادِفْ زَمَانَ الْعِبَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ تَظَاهَرَ وَأَتْبَعَ الظِّهَارَ طَلَاقًا تَحِلُّ فِيهِ قَبْلَ زَوْجٍ يَمْلِكُ الرَجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ طَلَّقَهَا سَاعَةَ نَكَحَهَا لِأَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرُ من حبسها بعد الظهار (قال المزني) رحمه الله هذا خلاف، أصله كل نكاح جديد لم يعمل فيه طلاق ولا ظهار إلا جديد وقد قال في هذا الكتاب لو تظاهر منها ثم اتبعها طلاقاً لا يملك الرجعة ثم نكحها لم يكن عليه كفارة لأن هذا ملك غير الأول الذي كان فيه الظهار ولو جاز أن يظاهر منها فيعود عليه الظهار إذا نكحها جاز ذلك بعد ثلاث وزوج غيره وهكذا الإيلاء قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ وأولى بقوله والقياس أن كل حكم كان في ملك فإذا زال ذلك ما فيه من الحكم فلما زال ذلك النكاح زال ما فيه من الظهار والإيلاء) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا طَلَّقَ عُقَيْبَ ظِهَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَوْدَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا الطَّلَاقُ وَهُوَ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُمْسِكٍ سَوَاءً كَانَ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقَيْنِ مَعًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَرَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالظِّهَارُ بِحَالِهِ وَيَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ وَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ يَكُونُ عَائِدًا بِنَفْسِ الرَّجْعَةِ، وَإِنِ أَتْبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِإِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّلَاقِ عَائِدًا فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ بِالرَّجْعَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلطَّلَاقِ عَائِدًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا بِالرَّجْعَةِ حَتَّى يَمْضِيَ بَعْدَهَا زَمَانُ الْعَوْدِ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّلَاقِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ، فَإِنِ أَتْبَعَ الرَّجْعَةَ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلرَّدِّ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ وَالْعَوْدُ هُوَ إِمْسَاكُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَذَلِكَ لا يكون إذا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَلَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ سَقَطَ الظِّهَارُ فِي هَذَا النِّكَاحِ، فَإِنْ نَكَحَهَا بِعَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ كَانَ عَوْدُ الظِّهَارِ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ الَّذِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 تَقَدَّمَهُ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثًا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كُلِّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الظِّهَارَ يَعُودُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الظِّهَارَ يَعُودُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الظِّهَارَ لَا يَعُودُ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: بِعَوْدِ الظِّهَارِ فَبِمَاذَا يَصِيرُ عَائِدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ تَخَرَّجَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ عَائِدًا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِيرُ عَائِدًا بِمُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنِ اتَّبَعَ النِّكَاحَ طَلَاقًا لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَعُودَ الظِّهَارُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (قَالَ وَلَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا ثَمَّ لَاعَنَهَا مَكَانَهُ بِلَا فَصْلٍ سَقَطَ الظِّهَارُ وَلَوْ كَانَ حَبَسَهَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ اللِّعَانُ فَلَمْ يُلَاعِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا لَاعَنَ الْمُظَاهِرُ بَعْدَ أَنْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ الْعَوْدِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ كَمَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ شَرَعَ فِي اللِّعَانِ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَانِ الْعَوْدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَ بِالزِّنَا وَدَخَلَ فِي اللِّعَانِ فَأَتَى بِالشَّهَادَاتِ وَبَقِيَتِ اللَّعْنَةُ الْخَامِسَةُ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ عَقَبَهَا بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ فَلَا يَكُونُ عَائِدًا لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَامِسَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ عَقَبَهُ بِاللِّعَانِ فَأَخَذَ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ فَفِي عَوْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ وَالشَّهَادَاتُ الْأَرْبَعُ لَا تُحَرِّمُ فَكَانَ أَخْذُهُ فِيهَا شُرُوعًا فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ فَلِذَلِكَ صَارَ عَائِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَائِدًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ لَا يَقَعُ بِاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ إِلَّا بَعْدَ الشَّهَادَاتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 الْأَرْبَعِ فَصَارَ أَخْذُهُ فِيهَا شُرُوعًا فِي التَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ بِأَخْذِهِ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ كَالْمُطَوَّلِ شُرُوعُهُ فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ الْعَوْدِ، كَمَنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْعَوْدِ أَنْتِ يَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ طَالِقٌ فَأَطَالَ ذِكْرَ الِاسْمِ بِالنَّسَبِ كَانَ كَمَنِ اقْتَصَرَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي سُقُوطِ الْعَوْدِ كَذَلِكَ هَذَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَدِّمَ الظِّهَارَ ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِالْقَذْفِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَالشُّرُوعِ فِي اللِّعَانِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّحْرِيمِ وَلَا مِنْ جُمْلَةِ اللِّعَانِ فَصَارَ عَائِدًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يَكُونُ عَائِدًا وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اللِّعَانِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَذْفٍ فَصَارَ الْقَذْفُ مِنْ أَسْبَابِ اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْحَاكِمِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ وَزُعِمَ أَنَّهُ وُجِدَ لِلْمُزَنِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الظِّهَارُ الْقَذْفَ أَوْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ الظِّهَارَ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءً بَيْنَ مَنْ يُقَدِّمُ الظِّهَارَ عَلَى الْقَذْفِ وَبَيْنَ مَنْ يُقَدِّمُ الْقَذْفَ عَلَى الظِّهَارِ فِي ثُبُوتِ الْعَوْدِ لَا فِي سُقُوطِهِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال المزني رضي الله عنه (قَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَوْ تَظَاهَرَ مِنْهَا يَوْمًا فَلَمْ يُصِبْهَا حَتَّى انْقَضَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ آلَى فَسَقَطَتِ الْيَمِينُ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ اليمين (قال المزني) رحمه الله أَصْلُ قَوْلِهِ إِنَّ الْمُتَظَاهِرَ إِذَا حَبَسَ امْرَأَتَهُ مُدَّةً يُمْكِنُهُ الطَلَاقُ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهَا فَقَدْ عاد ووجبت عليه الكفارة وقد حبسها هذا بعد التظاهر يوما يمكنه الطلاق فيه فتركه فعاد إلى استحلال ما حرم فالكفارة لازمة له في معنى قوله وكذا قال لو مات أو ماتت بعد الظهار وأمكن الطلاق فلم يطلق فعليه الكفارة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الظِّهَارَ ضَرْبَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُطْلَقُ: أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَلَا يَقْدُرُ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ وَالْعَوْدُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِمْسَاكِهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الطَّلَاقِ. فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَلَا يُطْلِقُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفِي كَوْنِهِ مُظَاهِرًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ كَالْأُمِّ فَإِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ يَخْرُجُ بِالتَّقْدِيرِ مِنْ حُكْمِ الظِّهَارِ وَصَارَ كَمَنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 حَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا جمعاً بين تأقيت الْمُدَّةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا فَعَلَى هَذَا لَا يُرَاعِي فِيهِ الْعَوْدَ لِسُقُوطِ الظِّهَارِ. فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَطِئَ فِي الْمُدَّةِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيَصِيرُ بِخُرُوجِهِ مِنَ الظِّهَارِ مُحَرِّمًا لَهَا بِغَيْرِ ظِهَارٍ فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ كَالْإِيلَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ وَهَذَا غَيْرُ حَالِفٍ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيلَاءِ وَهَذَا الظِّهَارِ فَعَادَ جَوَابُهُ إِلَى الْإِيلَاءِ دُونَ الظِّهَارِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ. (فَصْلٌ:) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالْمُؤَقَّتِ كَمَا يَكُونُ مُظَاهِرًا بِالْمُطْلَقِ الْمُؤَبَّدِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ شَهْرًا صَارَ طَلَاقُهُ مُؤَبَّدًا كَذَلِكَ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا شَهْرًا صَارَ مُؤَبَّدًا فَيَسْتَوِي تقدير المدة وتأبيدها في الظهار كما يسستوي فِي الطَّلَاقِ فَيُفَرَّقُ تَقْدِيرُ التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدُهُ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا فِي الظِّهَارِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَقْتَ إِذَا دَخَلَ فِي الظِّهَارِ وَقَدْ قَابَلَهُ التَّأْبِيدُ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا فَصَارَ مُظَاهِرًا لِتَحْقِيقِهِ التَّشْبِيهَ، وَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الْمُشَبَّهِ بِهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِتَحْرِيمِ التَّشْبِيهِ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ عَائِدًا بِأَنْ يَطَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَيْسَ بِعَائِدٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ فِي الْعَوْدِ: فَيَكُونُ الْعَوْدُ فِي الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ إِمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ والظهار المقيد وطئها فِي مُدَّةِ الظِّهَارِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوْدَيْنِ فِيهِمَا: أَنَّ لِلْمُقَيَّدِ غَايَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ تَوَقُّعًا لِانْقِضَائِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ عَوْدًا وَلَيْسَ لِلْمُطْلَقِ فَكَانَ الْإِمْسَاكُ مُنَافِيًا لَهَا وَلِذَلِكَ صَارَ عَوْدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ كَعَوْدِهِ فِي الظِّهَارِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لَمْ يَخْتَلِفْ صِفَتُهَا بِالتَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. وَأَجَابَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَقْدَ الظِّهَارِ بِالْوَطْءِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ وَإِنْ وَطِئَهَا صَارَ مُظَاهِرًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانُ الْعَوْدِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَى لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا فلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا حَمَلَ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي عِلَّةِ الْعَوْدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ تَظَاهَرَ وَآلَى قِيلَ إِنْ وَطِئْتَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ خَرَجْتَ مِنَ الْإِيلَاءِ وَأَثِمْتَ وَإِنِ انْقَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وُقِفْتَ فَإِنْ قُلْتَ أَنَا أُعْتِقُ أَوْ أُطْعِمُ لَمْ نُمْهِلْكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُكَ الْيَوْمَ وَمَا أَشْبَهَهُ وَإِنْ قُلْتَ أَصُومُ قِيلَ إِنَّمَا أُمِرْتَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ بِأَنْ تَفِيءَ أَوْ تُطَلِّقَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَكَ سَنَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ ثَبَتَ حُكْمُهُمَا فَإِنْ قَدَّمَ الظِّهَارَ وَعَادَ فِيهِ ثُمَّ آلَى صَارَ بَعْدَ الظِّهَارِ مُولِيًا وَلَا يَمْنَعُ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ مِنْ ثُبُوتِ الْإِيلَاءِ لِأَنَّهَا بَعْدَ الظِّهَارِ زَوْجَتُهُ وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَتَكُونُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَتَحْرِيمِهَا بِإِحْرَامِهِ، وَإِنْ قَدَّمَ الْإِيلَاءَ ثُمَّ عَقَبَهُ الظِّهَارَ ثَبَتَ ظِهَارُهُ وَصَارَ عَائِدًا فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ ثُبُوتِ الظِّهَارِ بَعْدُ لِأَنَّهَا بعد الإيلاء زوجته كهي قبل وَيَكُونُ زَمَانُ الظِّهَارِ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ بِعِتْقٍ أَوْ إِطْعَامٍ أَوْ صَوْمِ شَهْرَيْنِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ بِالتَّكْفِيرِ حُكْمُ الظِّهَارِ وَصَارَ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ كَمُولٍ غَيْرِ مُظَاهِرٍ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الظِّهَارِ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ: أَحَدُهُمَا: مُوجِبٌ لِلْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَهُوَ الْإِيلَاءُ. وَالثَّانِي: مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ وَهُوَ الظِّهَارُ فَإِنْ سَأَلَ أَنْ يُمْهَلَ فِي الْإِيلَاءِ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنِ الظِّهَارِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوِ الْإِطْعَامِ أُمْهِلَ مُدَّةً يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ كَالْيَوْمِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ زَمَانَهُ قَرِيبٌ يَجُوزُ الْإِنْظَارُ لِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يُمْهَلْ لأنه صَوْمَ شَهْرَيْنِ إِذَا ضُمَّا إِلَى أَرْبَعَةِ التَّرَبُّصِ صَارَتِ الْمُدَّةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَمُنِعَ مِنْهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَطُولِبَ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ، فَإِنْ طَلَّقَ فِيهِ خَرَجَ بِالطَّلَاقِ عَنْ حَقِّ الْإِيلَاءِ وَكَانَ عَلَى ظِهَارِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْوَطْءَ فِيهِ أَفْتَيْنَاهُ بِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْوَطْءَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْهُ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجب عليها منع نفسها منه وعليه تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا إِذَا دَعَاهَا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَهَا فَعَلَى هَذَا إِنْ مَكَّنَتْهُ سَقَطَ حَقُّهَا فَكَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَإِنْ منعته سقط مُطَالَبَتُهَا كَمَا لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهَا مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ إِذَا دَعَاهَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا كَالرَّجْعَةِ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 وَهَذِهِ بِالظِّهَارِ غَيْرُ جَارِيَةٍ فِي فَسْخٍ، فَهَلْ يتحتم بتحريم الوطء عليها طَلَاقُهَا وَيَتَعَيَّنُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَيَتَحَتَّمُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَعَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَالْكَفَّارَاتِ فَعَلَى هَذَا إِنْ طَلَّقَ طَوْعًا وَإِلَّا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ جَبْرًا قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّ عَجْزَهُ عَنِ الْوَطْءِ بِالتَّحْرِيمِ كَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْمَرَضِ ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ كذلك لا يتعين عليه من الظِّهَارِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ أَنْ يَفِيءَ بِالْإِيلَاءِ غَيْرَ مَعْذُورٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِالتَّكْفِيرِ عَنْ ظِهَارِهِ وَلَا يُمْهَلُ فِيهِ مَعَ الْمُهْلَةِ مِنْهُ، فَإِذَا كَفَّرَ زَالَ عُذْرُهُ وَلَزِمَهُ أَنْ يَفِيءَ بِالْإِصَابَةِ فَيْءَ مَعْذُورٍ كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 (باب عتق المؤمنة في الظهار من كتابين قديم وجديد) (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظِّهَارِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) {قَالَ) فَإِذَا كَانَ وَاجِدًا لَهَا أَوْ لِثَمَنِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ غَيْرُهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَفَّارَةُ فِي الظِّهَارِ ذَاتُ أَبْدَالٍ مُرَتَّبَةٍ وَهِيَ عِتْقٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يتماسا} إِلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يستطيع فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 3، 4] . فَإِذَا ثَبَتَ تَرْتِيبُ الْبَدَلِ لَمْ يَكُنِ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ (عَدَمِ) الْمُبْدَلِ. فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ أَعْتَقَ وَلَمْ يَصُمْ، وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لَهَا وَاجِدًا لِثَمَنِهَا كَانَ كَالْوَاجِدِ لَهَا فِي الْمَنْعِ مِنَ الصَّوْمِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يجد فصيام شهرين} وَالْقَادِرُ عَلَى الثَّمَنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْوُجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طيباً} ، فَكَانَ الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالذِّمَمِ كَانَ الْوَاجِدُ لِأَثْمَانِهَا فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ فَرْضِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيام} ، فَكَانَ الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْهَدْيِ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلْهَدْيِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ، وَكَمَا تَقُولُ إِنَّ الْوَاجِدَ لِصَدَاقِ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ مَنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فِي أن لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَهُوَ وَاجِدٌ لِثَمَنِهَا جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى ابْنِ لَبُونٍ وَلَمْ يَكُنِ الْوَاجِدُ لِثَمَنِهَا كَالْوَاجِدِ لَهَا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 لَبُونٍ ذَكَرٌ) فَرَاعَى وُجُودَ ابْنَةِ الْمَخَاضِ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ وُجِدَ شَرْطُ الْبَدَلِ فَجَازَ الْعُدُولُ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي عِتْقِ الظِّهَارِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شهرين متتابعين} فَلَمْ يُرَاعِ مَالًا دُونَ مَالٍ فَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ. وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهُوَ أن زكاة المكان فِي الْعَيْنِ فَرَاعَيْنَا وُجُودَ الْعَيْنِ دُونَ الثَّمَنِ وَالْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ فَسَوَّيْنَا بَيْنَ وُجُودِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وُجُودَ الثَّمَنِ كَوُجُودِ الرَّقَبَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الصَّوْمِ فَكَانَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الثَّمَنِ غَائِبًا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الصَّوْمُ وَانْتَظَرَ بِالْعِتْقِ قُدُومَ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ ثَمَنِ دَمِ الْهَدْيِ غَائِبًا عَنْهُ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَحِلَّ هَدْيِ الْمُتَمَتِّعِ مُعَيَّنٌ فَرُوعِيَ وَجُودُهُ قَبْلَهُ فِي مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَمَانَ الصَّوْمِ فِي التَّمَتُّعِ مُعَيَّنٌ فَرُوعِيَ وُجُودُ الْهَدْيِ قَبْلَهُ، وَزَمَانَ الصَّوْمِ فِي الظِّهَارِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَرُوعِيَ وُجُودُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمُظَاهِرُ الثَّمَنَ وَلَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ انْتَظَرَ وُجُودَهَا وَلَمْ يَصُمْ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُتَمَتِّعُ الثَّمَنَ وَلَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَظِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى ابْتِيَاعِهَا وَلَا يصوم كالمتظاهر. والوجه الثاني: ويعدل إِلَى الصَّوْمِ وَلَا يَنْتَظِرُ بِخِلَافِ الْمُتَظَاهِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانِ الصَّوْمِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فِي الظِّهَارِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمُتَظَاهِرُ الرَّقَبَةَ إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ إِلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ وَفِي إِجْزَاءِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَشَرَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ مُؤْمِنَةً كَمَا شَرَطَ الْعَدْلَ فِي الشَّهَادَةِ وَأَطْلَقَ الشُّهُودَ فِي مَوَاضِعَ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ مَا أَطْلَقَ عَلَى مَعْنَى مَا شَرَطَ وَإِنَمَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ فَلَمْ تَجُزْ إِلَّا لِلْمُؤْمِنْينَ فَكَذَلِكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الرِّقَابِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. . لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ إِلَّا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عِتْقٍ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عِتْقِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مُؤْمِنَةٌ، وَبِمَذْهَبِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجُوزُ فِي عِتْقِ الظِّهَارِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ سِوَى الْقَتْلِ عِتْقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 الْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ سِوَى الْوَثَنِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رقبة فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُهَا الْمُقْتَضِي مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نسخ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ أَوْ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهَا رَقَبَةٌ تَامَّةٌ فِي عِتْقِهَا قُرْبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمُؤْمِنَةِ فاحترزوا في قولهم تامة من ذوات النقض وَبِقَوْلِهِمْ فِي عِتْقِهَا قُرْبَةٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِي عِتْقِهَا قَالُوا وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْنًى يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ فَوَجَبَ أَلَّا يُمْنَعَ مِنَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ الْقَاتِلِ قَالُوا وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَنَّهَا جَزَاءٌ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمُعْتِقِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِأَنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَحَمْلُ عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ وَقَدْ قَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةَ الْقَتْلِ بِالْإِيمَانِ وَالْمُطْلَقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُهَا عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ كَمَا قَيَّدَ الشَّهَادَةَ بِالْعَدَالَةِ كَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذوي عدل منكم} وأطلقها في قوله واستشهدوا شاهدين من رجالكم فَحُمِلَ مِنْهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مُوَافَقَتِهِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِعُرْفِ اللِّسَانِ إِذَا جَمَعَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعُرْفِ اللِّسَانِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَمْ يُوجِبْ حَمْلَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ وَطَرِيقُهُ غير مستمر من ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَأَطْلَقَهُ فَلَمْ يَحْمِلْ هَذَا الْمُطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فِي دُخُولِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ كَمَا دخل في كفارة الظهار. الثاني: أَنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الظِّهَارِ وَأَطْلَقَهُ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّتَابُعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْلَ أَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ وَاقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ مِنْهَا عَلَى عُضْوَيْنِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّيَمُّمِ لَا يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِمَا تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مُسْتَمِرٌّ فَلَيْسَ يُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرُوهُ أَمَّا الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الصِّفَةِ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ وَاجِبًا. فَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ فَلَا وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ لَا صِفَةٍ. وَأَمَّا صِيَامُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ تَتَابُعِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحِقٌّ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْأَصْلُ لِأَنَّنَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا لَمْ يَتَنَازَعْهُ أَصْلَانِ، وَالصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ التَّتَابُعَ وَهُوَ صَوْمُ الظِّهَارِ. وَالثَّانِي: يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ وَهُوَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ فَتُرِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ تَتَابُعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ كَمَا فُعِلَ مِثْلُهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لَمَّا أُطْلِقَ وَهُوَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ تَتَابُعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَلَمْ يُحْمَلْ إِطْلَاقُهُ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا إِطْلَاقَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَرَافِقِ لِتَقْيِيدِ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ فَصَارَ الْأَصْلُ بِهِ مُسْتَمِرًّا، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الشَّافِعِيَّ وَسَائِرَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لَا بِمُوجِبِ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَهَذَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ وَتَارَةً يَتْرُكُونَ الصِّفَةَ إِذَا تَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ كَالشَّهَادَةِ وَتَارَةً يُنَبَّهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَتَارَةً بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ فِي كَلَامِهِمْ لَمْ يُنْكِرْ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ طَرِيقِ اللِّسَانِ دُونَ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْكَفَّارَةِ يُوجِبُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّرِيدِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا رَقَبَةٌ أَفَتُجْزِئُ هَذِهِ عَنْهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (أَيْنَ رَبُّكِ؟) فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) وَرُوِيَ: (فَإِنَّهَا تُجْزِيكَ) فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُ الْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا اعْتَبَرَهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 وَالثَّانِي: تَعْلِيقُهُ بِالْإِجْزَاءِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا اعْتَبَرَ الْإِيمَانَ وَعَلَّقَهُ بِالْإِجْزَاءِ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِجَارِيَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ فَقَالَ لَهَا: (أَتَشْهَدِينَ أن لا إله إلا الله وأنني رَسُولُ اللَّهِ) قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: (تَصُومِينَ) قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) وَقَالُوا هَذِهِ زِيَادَةٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى. وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى إِذَا كَانَ الْخَبَرُ وَاحِدًا وَهَذَانِ خَبَرَانِ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ) لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الرِّقَابِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا عِتْقُ الْمُؤْمِنَةِ فَصَارَ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَشْبَهَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ نَذْرٍ وَلَا قَتْلٍ. وَيُدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِعِتْقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانُ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِتْقٍ لَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْمَعْصِيَةِ وَلِأَنَّهَا مَنْقُوصَةٌ بِالْكُفْرِ لَمْ تُجْزِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَا تُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالْوَثَنِيَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي أَمْوَالِنَا حُقُوقَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ وَضْعُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَنَا عَلَيْهِ وَخَالَفَنَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْكَفَّارَاتِ بِالْعِتْقِ إِلَّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ اسْتِرْقَاقَ الْمُشْرِكِينَ إِذْلَالًا وَصَغَارًا وَأَمَرَ بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِيجَابًا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ بِرَفْعِ الذُّلِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِرَفْعِ اسْتِرْقَاقِهِ قُرْبَةً هُوَ الْمَأْذُونُ فِي اسْتِرْقَاقِهِ مَذَلَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عِتْقَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ عَلَى التَّأْبِيدِ وَالْكَافِرُ لَا يَتَأَبَّدُ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْعَهْدَ ويلحق بدار الحرب ثم يسبأ فَيَسْرِقَ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي عِتْقِ الْمُسْلِمِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَ عِتْقُ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مُتَأَبِّدٌ وَلَمْ يَجْزِ عِتْقُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِعُمُومِ إِطْلَاقِهَا تَخْصِيصُهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ مِنْهَا: بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ مَا شَمِلَهُ الْعُمُومُ وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِ فَصَارَ نَقْصًا لَا زِيَادَةً وَإِنَّمَا صَارَ تَخْصِيصًا لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُمُومَ يَقْتَضِي عِتْقَ الْكَافِرَةِ وَالْمُؤْمِنَةِ وَاشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ مِنْهُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْكَافِرَةِ مِنْهُ فَنَقُولُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً فَبَانَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ على المؤمنة والقاتلة والفاسقة وهو أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمْ جَوَازُ عِتْقِهِمْ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَ فِي الظِّهَارِ وَالْكَافِرَةُ لَا تُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ تُجْزِئْ فِي كفارة الظهار والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ كَانَتْ أَعْجَمِيَّةً وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَعْجَمِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اخْتِبَارِ إِيمَانِ السَّوْدَاءِ بِالْإِشَارَةِ وَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ كَمَا يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ لِأَنَّهُمَا يُعَبِّرَانِ عَنِ الِاعْتِقَادِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ كَالْإِقْرَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (فَإِنْ أَعْتَقَ صَبِيَّةً أَحَدُ أَبَوَيْهَا مُؤْمِنٌ أَجْزَأَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ مَعًا فَهُوَ إِسْلَامٌ لِصِغَارِ أَوْلَادِهِمَا إِجْمَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم} [الطور: 21] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تَنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ مِنْ جَدْعَاءَ) فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَكُونُ إِسْلَامًا لِصِغَارِ أَوْلَادِهِ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يُسْلِمَ أَبَوَاهُ مَعًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبًا أَوْ أُمًّا وَفِي قوله تعالى: {وأتبعناهم ذرياتهم} [الطور: 21] والأولاد من ذرية الأم كما (هم) مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84، 85] وَهُوَ وَلَدُ بِنْتٍ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) فَجَعَلَهُ بِبَقَائِهَا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ يَهُودِيًّا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا يَهُودِيًّا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ) فَإِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْأَبَوَيْنِ غَلَبَ دِينُ الْإِسْلَامِ لِعُلُوِّهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَالْوَلَدُ حَمْلٌ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهَا فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ وَضْعِهِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ، فَإِنْ قَالُوا: إِذَا كَانَ حَمْلًا وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا يَجْرِي مَجْرَى أَبْعَاضِهَا فَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ جُمْلَتِهَا فَإِذَا انْفَصَلَ تَمَيَّزَ ويختص بحكمه يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ حَمْلًا وَلَا يَتْبَعُهَا إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا، فَلَمَّا كَانَ بِإِتْبَاعِهِ فِي الدِّينِ يَصِحُّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَقَبْلَهُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ وَإِتْبَاعُهُ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ كَمَا لَوْ بِيعَ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِي الْأُمِّ مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ فَلَمَّا صَارَ بِإِسْلَامِ الْأَبِ مُسْلِمًا فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ بِإِسْلَامِ الْأُمِّ مُسْلِمًا. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَفِي الْحُرِّيَّةِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْأُمِّ. قِيلَ: هَذَا الِاعْتِبَارُ يَفْسُدُ بِإِسْلَامِهَا وَهُوَ حَمْلٌ ثُمَّ قَدْ يُعْتَبَرُ بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ عَلَى الْأَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْبَعْضِيَّةِ كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ جَازَ عِتْقُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ عِتْقُهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ عِتْقُهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِأَمْرَيْنِ: أحدهما: أنه لما يُقْبَلْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ إِلَّا بَالِغٌ لَمْ يُعْتَقْ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا بَالِغٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصِّغَرَ كَالزَّمَانَةِ لِاسْتِيلَاءِ الْعَجْزِ عَلَيْهِ وَعِتْقُ الزَّمِنِ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ عِتْقُ الصَّغِيرِ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ إِسْلَامَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مَظْنُونٌ وَبَعْدَهُ مُتَحَقِّقٌ - وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْله تعالى: {فتحرير رقبة} وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّهَا رَقَبَةٌ مُسْلِمَةٌ سَلِيمَةٌ فَجَازَ عِتْقُهَا كَالْكَبِيرَةِ وَلِأَنَّ عِتْقَ الصَّغِيرِ أَطْوَلُ فِي الْحُرِّيَّةِ مُقَامًا فَكَانَتْ بِالْعِتْقِ أَوْلَى أَنْ يُفَكَّ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ مِنَ الْكَبِيرِ فَكَانَتْ بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ عِتْقَ الْكَفَّارَةِ مُوَاسَاةٌ وَالصَّغِيرُ أَحَقُّ بِالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْكَبِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِدِيَةِ الْجَنِينِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ ظَاهِرٍ وَمَعْنًى. أَمَّا الظَّاهِرُ: فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي إِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ وَتَقْيِيدِهِ فِي الدِّيَةِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَهُوَ أَنَّهَا فِي الدِّيَةِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً وَفِي الْكَفَّارَةِ مُوَاسَاةٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَجْهُولَةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الصِّغَرَ كَالزَّمَانَةِ فَهُوَ أَنَّ نَقْصَ الزَّمَانَةِ لَا يَزُولُ وَنَقْصَ الصِّغَرِ يَزُولُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّ إِسْلَامَهَا مَجْهُولٌ مَظْنُونٌ فَهُوَ أَنَّ إِسْلَامَ الصَّائِمِ الْمُصَلِّي مَظْنُونٌ لِجَوَازِ أَنْ يُبْطِنَ الرِّدَّةَ، وَعَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَهُوَ يُسَاوِي الْمُتَيَقَّنَ فِي الْقِصَاصِ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَكَذَلِكَ في الكفارة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (أَوْ خَرْسَاءَ جِبِلِّيَّةٍ تَعْقِلُ الْإِشَارَةَ بِالْإِيمَانِ أَجْزَأَتْهُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُعْتِقَهَا إِلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ بِالْإِيمَانِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْأَخْرَسُ إِذَا حُكِمَ بِإِيمَانِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ فَعِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ وَلَا يَمْنَعُ خَرَسُهُ مِنْ إِجْزَاءِ عتقه لأنه عيب لا يضر بالعمل إصراراً بَيِّنًا. وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ فَإِنِ اجْتَمَعَ الْخَرَسُ وَالصَّمُّ لَمْ يَجُزْ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا. فَأَمَّا الْخَرْسَاءُ الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي لَمْ تَتْبَعْ أَحَدَ أَبَوَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ بِالْإِشَارَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَانَتْ مَفْهُومَةَ الْإِشَارَةِ صَحَّ إِسْلَامُهَا وَأَجْزَأَ عِتْقُهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَبَرَ إِسْلَامَ السَّوْدَاءِ بِالْإِشَارَةِ، وَلِأَنَّ إِشَارَةَ الْخَرْسَاءِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِسْلَامَهَا مُعْتَبَرٌ بِالْإِشَارَةِ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ بِالْإِسْلَامِ أَجْزَأَتْهُ. وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ (الْأُمِّ) إِذَا أَشَارَتْ بِالْإِسْلَامِ وَصلَّتْ جَازَ عِتْقُهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ مِنْ صَلَاتِهَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْعِتْقِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَوْكِيدٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَصَرَ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ عَلَى الْإِشَارَةِ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الصَّلَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْأَخْرَسِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ بِالْإِشَارَةِ وَحُمِلَ إِطْلَاقُ الْمُزَنِيِّ عَلَى تَفْسِيرِ الرَّبِيعِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ اسْتِدْلَالٌ يَخْتَصُّ بِالْأَخْرَسِ، وَالصَّلَاةُ فَقَدْ اشْتَرَكَ فِيهَا النَّاطِقُ وَالْأَخْرَسُ فَإِذَا أَمْكَنَ اخْتِبَارُ إِسْلَامِهِ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لَمْ يَجُزِ الِاخْتِصَارُ عَلَى مَا يُخْتَصُّ بِهِ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ سُبِيَتْ صَبِيَّةٌ مَعَ أَبَوَيْهَا كَافِرَيْنِ فَعَقَلَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 وَوَصَفَتِ الْإِسْلَامَ وَصَلَّتْ إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ لَمْ تُجْزِئْهُ حَتَّى تَصِفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا سُبِيَتِ الصَّبِيَّةُ أَوِ الصَّبِيُّ مَعَ أَبَوَيْهِمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا فَلَا اعْتِبَارَ لِحُكْمِ السَّابِي وَهِيَ مُعْتَبَرَةُ الدِّينِ بِمَنْ سُبِيَ مَعَهَا مِنْ أَبَوَيْهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ أبويها المسبي معها كان إسلاماً ولها وَأَجْزَأَ عِتْقُهَا فِي الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهِيَ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ سَوَاءً كَانَ السَّابِي لَهَا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، فَإِنْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ بُلُوغِهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهَا وَجَازَ عِتْقُهَا، وَإِنْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَصَلَّتْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ فِيمَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ كَالْمُرَاهِقَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ إِسْلَامٌ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ ارْتِدَادٌ لارتفاع القلم. وقال أبو سعيد الاصطخري في أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِذَا عَقَلَ مَا يَقُولُ وَمَيَّزَ مَا يَفْعَلُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَفَرَّقَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إِسْلَامَ غَيْرِ الْبَالِغِ يَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ وَرِدَّةَ غَيْرِ الْبَالِغِ لَا تَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَلَا يَصِحُّ تَبَعُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الدَّارَكِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَيَكُونُ إِسْلَامُهُ فِي الْبَاطِنِ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ أَظْهَرَ الشِّرْكَ لَمْ يُقْبَلْ فِي الظَّاهِرِ وَكَانَ مَقْبُولًا فِي الْبَاطِنِ. وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَبَعْدَ وَصْفِهِ الْإِسْلَامَ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ إِسْلَامُهُ، ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَإِنْ أَظْهَرَ الشِّرْكَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إِسْلَامُهُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِفَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَجْزَأَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِي الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا سُبِيَ الطِّفْلُ دُونَ أَبَوَيْهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُعْتَبِرٌ بِحُكْمِ سَابِيهِ وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الطِّفْلَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَتْبَعْ أَبَوَيْهِ لِانْفِرَادِهِ عَنْهُمَا صَارَ تَبَعًا لَسَابِيهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهِ فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلسَّابِي لِأَنَّ عَدَمَ الْبَعْضِيَّةِ لَا يَنْقُلُ حُكْمَهُ إِلَى مَالِكِ الرِّقِّ كَالْمُشْتَرِي فَعَلَى هَذَا لَا يجزئ عتقه في الكفارة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَوَصْفُهَا الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ وَأُحِبُّ لَوِ امْتَحَنَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَا أشبهه) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 قال الماوردي: المعتبر في وصف الإسلام بثلاثة أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَالثَّانِي: الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ. وَالثَّالِثُ: الِاعْتِبَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. فَأَمَّا الشَّهَادَتَانِ فَهُوَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَهَذَا شَرْطٌ فِي إِسْلَامِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَهُ عَلَى كُلِّ مِنْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ لِأَنَّ بَرَاءَتَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ثُبُوتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ عَنْ شَهَادَتِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ أَتَى فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُ بِهَا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ مُحِقٌّ فَقَالَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَقَالَ: نَخَافُ أَنْ يَقْتُلَنَا يَهُودُ لِأَنَّ دَاوُدَ دَعَا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ النُّبُوَّةَ فِي وَلَدِهِ فَلَمْ يُجْرِ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكْمَ الْإِسْلَامِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِهِ وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْهَدُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ دِينِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ إِلَى إِسْمَاعِيلَ دُونَ إِسْحَاقَ وَهَذَا بَعْضُ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَفِي إِسْلَامِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وإن أن مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى صَحَّ إِسْلَامُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعَذَابِ فَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى نُبُوَّتِهِ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي جُمْلَةِ تَصْدِيقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 (بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الرِّقَابِ وَمَا لَا يجزئ) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (لَا يُجْزِئُ فِي رَقَبَةٍ وَاجِبَةٍ رَقَبَةٌ تُشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ تُعْتَقَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضَعُ مِنْ ثَمَنِهَا) . قَالَ الْمَاوَردِيُّ: فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَيُخَالَفُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ مَعَ بُطْلَانِ بَيْعِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ لَازِمٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ وَيُؤْخَذُ بِعِتْقِهِ جَزَاءً بِالشَّرْطِ وَلَا يُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى عِتْقِهِ لَكِنْ إِنِ امْتَنَعَ مِنْ عِتْقِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِتْقَهُ بِغَيْرِ الْكَفَّارَةِ فَأَجْزَأَ عَنِ الْعِتْقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاشْتِرَاطَ فِي عِتْقِهِ ثَابِتٌ فِي فَسْخِ الْبَائِعِ إِنْ لَمْ يُعْتِقْ فَصَارَ مُسْتَحَقًّا. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ ثَمَنِهِ فَصَارَ نَقْصًا وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا مُكَاتَبٌ أَدَّى مِنْ نُجُومِهِ شَيْئًا أَوْ لَمْ يُؤَدِّهِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَاقِعٌ وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ نُجُومِهِ وَلَا يُجْزِئُ إِنْ أَدَّاهُ اسْتِدْلَالًا بقول الله تعالى {فتحرير رقبة} وَاسْمُ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى اسْمِ الْمُكَاتَبِ لِقَوْلِهِ تعالى {وفي الرقاب} [التوبة: 60] وهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 الْمُكَاتَبُونَ فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ فَأَجْزَأَ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ) وَإِذَا كَانَ عَبْدًا أَجْزَأَ عِتْقُهُ كَسَائِرِ الْعَبِيدِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ثَمَنِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ عِتْقُهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ تَعْجِيلِ عِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْعِتْقِ بِصِفَةٍ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْمَرْهُونِ قَالُوا: وَلِأَنَّ عِتْقَهُ يُوجِبُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَصَارَ الْعِتْقُ وَاقِعًا بَعْدَ الْفَسْخِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْفَسْخِ بِالْعَجْزِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى بَعْضِ بَدَلِ الْعِتْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ قِيلَ: لَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى بَعْضَ نُجُومِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ بَعْدَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ أَجْزَأَ فَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى تَأْثِيرٌ فِي الْإِجْزَاءِ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْمَانِعَةَ من إجزاء عقه بَعْدَ الْأَدَاءِ هِيَ مَانِعَةٌ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ حُرِّيَّةٍ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ كَاسْتِيلَادِ أُمِّ الْوَلَدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَعْنَى فِي أُمِّ الْوَلَدِ اسْتِقْرَارُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ مُسْتَقِرًّا قِيلَ: اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يَفْسُدُ بِالْمُؤَدِّي بعض نجومه لأن سبب حريته غير مستقرولا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَنَعَهُ مِنْ بَيْعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ عِتْقِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ كَالْبَيْعِ. فَإِنْ قِيلَ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّ عِتْقَهُ لَا يَقَعُ وَالْمُكَاتَبُ عِتْقُهُ وَاقِعٌ قِيلَ: لَيْسَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ مَانِعًا مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْمُؤَدِّي بَعْضَ نُجُومِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ تَكْفِيرُهُ بِوَلَدِ الْمُكَاتَبِ لَمْ يَجُزْ تَكْفِيرُهُ بِالْمُكَاتَبِ كَالْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ الْمَوْرُوثُ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مُكَاتَبِهِ كَمَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْمَنْعِ من الإجزاء بهما عن كفارته، ولأن سائراً أَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ مُتَسَاوِيَةٌ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ كَالشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِبْرَاءٌ وَإِبْرَاؤُهُ عِتْقٌ وَعِتْقُهُ بِالْإِبْرَاءِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَكَذَلِكَ إِبْرَاؤُهُ بِالْعِتْقِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا بِسَبَبٍ إِلَى أَجَلٍ كَانَ تَعْجِيلُهُ مُعْتَبَرًا بِاسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ السَّبَبِ كَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَصَارَ تَعْجِيلُ الْعِتْقِ قَبْلَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ مُقَيَّدًا لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْكِتَابَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ إِجْزَائِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لَوْ أُعْتِقَ بِالْأَدَاءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ: فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةً لَمْ يَحْنَثْ بِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ وَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَكَانَ مَخْصُوصًا بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ (الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ) وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُعْتقَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَدَائِهِ لَا أَنَّهُ كَالْعَبْدِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ بَيْعِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فمنتقض بمن أدى بعض نجومه في الْمَعْنَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ جَوَازُ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ فِيهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْعِتْقِ بِصِفَةٍ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِالْمَبِيعِ وَغَيْرِهِ وَتَمَلُّكِ أَكْسَابِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَرْهُونِ فَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِتْقِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَنْفَذُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَالثَّالِثُ: يَنْفَذُ عِتْقُهُ مَعَ يَسَارِهِ وَلَا يَنْفَذُ مَعَ إِعْسَارِهِ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ نُفُوذِ عِتْقِهِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَمْلِكُ كَسْبَهُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ الْمَرْهُونَ يَسْتَوِي حُكْمُ عِتْقِهِ بَعْدَ أَدَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَقَبْلَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ أَدَاءِ بَعْضِ النُّجُومِ وَقَبْلَهُ. وأما قولهم إِنَّ عِتْقَهُ مُوجِبٌ لِتَقْدِيمِ الْفَسْخِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهُ (إِبْرَاءٌ) وَلَيْسَ بِفَسْخٍ فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَاسْتَوَى حُكْمُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُ أُمُّ وَلَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ لا يبيعها (قال المزني) رحمه الله تعالى هُوَ لَا يُجِيزُ بَيْعَهَا وَلَهُ بِذَلِكَ كِتَابٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَالَ دَاوُدُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يَجُوزُ عِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ وَإِبْطَالُ بَيْعِهَا يَأْتِي مِنْ بَعْدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِتْقَهَا لَا يُجْزِئُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَارِيَةَ: (أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 أَيِ اسْتَحَقَّتْ عِتْقَهَا بِوَلَدِهَا لِأَنَّ تَجْوِيزَ عِتْقِهَا يَكُونُ بِمَوْتِهِ وَعِتْقُ الْكَفَّارَةِ مَا اخْتَصَّ بِهَا ولا يستحق بغيرها. والثاني: أن استيلادها نَقْصٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ قُتِلَتْ وَجَبَ عَلَى قاتلها قيمتها ناقصة بالاستيلاد وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا كَانَ كَالزَّمَانَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة ومالك الأوزاعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقًا بِأُمِّ الْوَلَدِ. وَعِنْدَنَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلْحَاقًا بِالْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى بَيْعِهِ يَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَعْتَقَ مَرْهُونًا أَوْ جَانِيًا فَأَدَّى الرَّهْنَ وَالْجِنَايَةَ أَجْزَأَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهَا فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. أَحَدُهَا: أَنَّ عِتْقَهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ مَعَ الْيَسَارِ وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِعْسَارِ فَإِنْ أُبْطِلَ الْعِتْقُ فَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةٌ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ بِحَالِهِ وَإِنْ صَحَّ الْعِتْقُ بَطَلَ الرَّهْنُ وَأَجْزَأَهُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَامِلُ الْمِلْكِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ الْعِتْقَ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الرَّاهِنِ الْمُعْتِقِ قِيمَتُهُ فَإِنْ كَانَ أَلْحَقُ حَالًّا جَعَلْتَهُ قِصَاصًا وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا رَهْنًا مَكَانَهُ أَوْ يَجْعَلَهَا قِصَاصًا مِنَ الْحَقِّ فَإِنْ أُعْسِرَ بِهَا أُنْظِرَ إِلَى مَعْسَرَتِهِ ثُمَّ غُرِّمَ مِنْ بَعْدِ يَسَارِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا عِتْقُ الْعَبْدِ الْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ فَكَاكِهِ مِنَ الْجِنَايَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ يَنْفَذُ عِتْقُهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ قَوْلَيْنِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ، فَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ فَيَنْفَذُ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَلَا يَنْفَذُ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَوْلَانِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَعًا فَإِنْ سَوَّيْنَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ سَوَّيْنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، فََإِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَفِي تَفْرِيقِنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ والمعسر وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 أَحَدُهُمَا: لَا فَرْقَ بَيْنَ يَسَارِ السَّيِّدِ وَإِعْسَارِهِ إِلَّا فِي تَعْجِيلِ الْغُرْمِ بِالْيَسَارِ وَإِنْظَارِهِ بِالْإِعْسَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا نَفَذَ عِتْقُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ معسراً فعلى قولين، فإن صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَفِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعِتْقَ قَدْ نَفَذَ أَجَزْأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لأنه عتق لا يستحق في غيره الْكَفَّارَةِ وَكَانَ الْمُعْتِقُ ضَامِنًا لِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَ ضَمِنَ جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ قِيمَتِهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّهُ لَوْ بِيعَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ كُلَّهُ لِأَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ لَجَازَ أَنْ يُوجَدَ رَاغِبٌ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَذُ فِي الْحَالِ فَهَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى أَدَاءِ الْأَرْشِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنْ أَدَّى السَّيِّدُ مَالَ الْجِنَايَةِ عُتِقَ حِينَئِذٍ وَأَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَإِنْ بِيعَ فِيهَا بَطَلَ وَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ أَدَّى الرَّهْنَ وَالْجِنَايَةَ أَجْزَأَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا وَيَكُونُ بَاطِلًا مُرَاعَاةً لِأَنَّ الْعِتْقَ النَّاجِزَ لَا يُوقَفُ وَالْمَوْقُوفُ مَا عُلِّقَ بِالصِّفَاتِ وَهَذَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِصِفَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ أَدَّى أَجْزَأَهُ عَلَى إِجْزَاءِ الْأَدَاءِ دُونَ الْعِتْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: ((قَالَ) وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ غَائِبًا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ الْغَائِبِ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَيَاتِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، فَإِنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ بِالْغَيْبَةِ بِإِبَاقٍ أَوْ غَيْرِ إِبَاقٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا وَمَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الْغَيْبَةِ كَامِلَةٌ وَقَدْ مَلَكَهَا بِالْعِتْقِ بَعْدَ أَنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بِالْإِبَاقِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْعِتْقِ أَوْ لَمْ يعلم لأن عمله لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي حُصُولِ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَيَاتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُجْزِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُصَادَفَتِهَا لِمِلْكٍ تَامٍّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ العتق فقد قال الشافعي هاهنا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِتْقَهُ لَا يُجْزِيهِ وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ إِنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ فِطْرِهِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجَ إِجْزَاءَ عِتْقِهِ وَوُجُوبَ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حَيَاتِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ مَوْتِهِ فَحَمَلَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى يَقِينِ الْحَيَاةِ دُونَ الشَّكِّ فِي الْمَوْتِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُوبُهَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي الزَّكَاةِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهَا فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّكِّ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا وَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ ارْتِهَانُ ذِمَّتِهِ بِالْكَفَّارَةِ بِالظِّهَارِ الْمُتَحَقَّقِ وَارْتِهَانُهَا بِالزَّكَاةِ بِالْمِلْكِ الْمُتَحَقَّقِ فَلَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ بِالْحَيَاةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا وَلَا الزَّكَاةُ بِالْمَوْتِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ حَقٌّ لَهُ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ لَوْ شَكَّ فِي حَقٍّ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَلَوْ شَكَّ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ بِسُقُوطِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا مَغْصُوبًا نَفَذَ عِتْقُهُ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِأَنَّهُ بالغضب مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَ الزَّمِنَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ وَعَدَمِ الْإِجْزَاءِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْإِجْزَاءَ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْعَبْدِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَاصِبِهِ بِالْهَرَبِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى سَيِّدِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ وَالْهَرَبِ فَالْإِجْزَاءُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلَاصِ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ أَوْ عَجْزِهِ أَجْزَأَهُ حِينَئِذٍ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إِجْزَاؤُهُ مَوْقُوفًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُهُ مَوْقُوفًا كَالْغَائِبِ إِذَا عُلِمَ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ أَعْتَقَ حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ عِتْقُ الْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِعِلَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشافعي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا صَحِيحًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا أَوْ رِيحًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الدُّنْيَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ الْإِجْزَاءُ وَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ، فَلَوْ سَقَطَ الْحَمْلُ حَيًّا لَمْ يُجْزِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْلِ إِذَا وُضِعَ وَبَيْنَ الْمَغْصُوبِ إِذَا خُلِّصَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْمَغْصُوبِ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا وَفِي الْحَمْلِ مَعْدُومَةٌ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ عُتِقَتْ مَعَ حَمْلِهَا، وَكَانَ الْإِجْزَاءُ مُخْتَصًّا بِعِتْقِ الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِ الْأُمِّ حَيْثُ سَرَى إِلَى حَمْلِهَا وَبَيْنَ عِتْقِ الْحَمْلِ حَيْثُ لَمْ يَسْرِ إِلَى أُمِّهِ أَنَّ الْحَمْلَ تَابِعٌ وَالْأُمَّ مَتْبُوعَةٌ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوِ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ عُتِقَ بِمِلْكِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الَّذِينَ يُعْتِقُونَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَهُمُ الْوَالِدُونَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَالْمَوْلُودُونَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَأَوْلَادِ الْبَنِينَ وَأَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَلَا يُعْتَقُ مَنْ عدا هذين الطرفين من الأقارب والعصبات فإن اشْتَرَى أَحَدَ هَؤُلَاءِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ عَتَقُوا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمْ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ صَادَفَتْ نِيَّةَ الْحُرِيَّةِ بِسَبَبِ الْعِتْقِ فَوَجَبَ أَنْ تُجْزِئَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الْعِتْقِ بِالْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُتَحَتِّمٌ وَبِالْمُبَاشَرَةِ مُخَيَّرٌ فَلَمَّا أَجْزَأَهُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْزِيَهِ عِتْقُ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ قُرْبَةٌ وَعِتْقَ الْكَفَّارَةِ قُرْبَةٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ، وَلِأَنَّ تَرَادُفَ الْقُرَبِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِصَوْمٍ فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ نَذْرِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رقبة} فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَهَذَا عِتْقٌ بِغَيْرِ تَحْرِيرٍ فَلَمْ يُجْزِهِ لِإِخْلَالِهِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ ثَبَتَ بِحَقِّ الِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ فَنَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ مَعَ الْإِرْثِ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُسْتَحَقَّ بِسَبَبٍ إِذَا صُرِفَ بِالنِّيَّةِ عَنْ ذِكْرِ السَّبَبِ إِلَى الْكَفَّارَةِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ أَنْ يَصِيرَ بِدُخُولِهَا حُرًّا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ تَكْفِيرٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 فَلَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى الْوَالِدِ كَالطَّعَامِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهَا رَقَبَةٌ سَلِيمَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ كَمَا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ثُمَّ يَنْتَقِضُ بِمَنْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ مَلَكْتُ سَالِمًا أَنْ أُعْتِقَهُ فَمَلَكَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهُوَ سَلِيمٌ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُ فَجَازَ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْقِيَ أَبَاهُ عَبْدًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ لِانْحِتَامِهِ فَهُوَ فَسَادُهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ ثُمَّ حَقُّ الْمُبَاشَرَةِ بِالْعِتْقِ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى التَّطَوُّعِ إِنْ شَاءَ وَإِلَى الْوَاجِبِ إِنْ أَحَبَّ وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ فِي التَّطَوُّعِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمَا قُرْبَتَانِ فَلَمْ يَتَنَافَيَا فَهُوَ فَسَادُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ سَالِمٍ إِنِ اشْتَرَاهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ وَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ قُرْبَتَانِ، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِصَوْمٍ فَاعْتَكَفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بِأَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ مُجْزِيًا عَنْ رَمَضَانَ دُونَ نَذْرِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ فَإِنْ أَعْتَقَهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَوْ لَا يَظْهَرُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا أَجْزَأَهُ عِتْقُهَا عَنْ كَفَّارَتِهِ لِأَنَّهَا كَسَائِرِ رَقِيقِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَطَأْ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ الشِّرَاءِ نَظَرَ فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ أَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدَ وَعَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَأَجْزَأَهُ عِتْقُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِهِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ فَلَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وقت الشراء لم يحلق بِهِ وَأَجْزَأَهُ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَعُتِقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِ أُمِّهِ وَهُوَ حَمْلٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَا يَخْلُو حَالُ وَضْعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَيَكُونُ لَاحِقًا بِهِ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَيُجْزِئُهُ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ بِالْمِلْكِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَيُجْزِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِأُمِّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ وَطْئِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ عَنْ وَطْءٍ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُجْزِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا حراً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ عَنْ ظِهَارِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ أَجْزَأَ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَعْتِقَ وَلَا يُرَدُّ عِتْقُهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نِصْفَهُ فَإِنْ أَفَادَ وَاشْتَرَى النِّصْفَ الثَّانِيَ وَأَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَعْتَقَ الْمُكَفِّرَ عبداً بينه وبين شريكه ناوياً بن عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ أَمَّا نَصِيبُهُ مِنْهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَأَمَّا نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يُعْتَقُ بِاللَّفْظِ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِاللَّفْظِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ مَعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ بَأَنَ عِتْقَهُ بِاللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ لَمْ يُعْتَقْ وَلِتَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَوْضِعٌ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ تَفَرَّعَ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالْإِجْزَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِتْقَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَاقِعٌ بِاللَّفْظِ أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ فَدَفَعَهَا وَعَتَقَ بِاللَّفْظِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْوَاقِعِ بِاللَّفْظِ هَلْ هُوَ عِتْقُ مُبَاشَرَةٍ أَوْ عِتْقُ سِرَايَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِتْقُ مُبَاشَرَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَصِيبُ نَفْسِهِ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ بِاللَّفْظِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عِتْقٌ بِالسَّرَايَةِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِنَصِيبِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِيَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُتَقَدِّمًا. فَإِذَا صَحَّ هَذَانِ الْوَجْهَانِ نُظِرَ فَإِنْ نَوَى عِتْقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ عِنْدَ لَفْظِهِ بِعِتْقِهِ أَجْزَأَهُ عِتْقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ لِحِصَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِكٍ كَالْمُعْتِقِ لِجَمِيعِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ نَوَى عِتْقَ حِصَّتِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ عِتْقُ نَصِيبِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ لِوُجُودِ نِيَّتِهِ مَعَ التَّلَفُّظِ بِعِتْقِهِ وَفِي إِجْزَاءِ مَا عُتِقَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالسَّرَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ يُعْتَقُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَجْزَأَتْهُ نِيَّتُهُ فِي حِصَّتِهِ عَنِ النِّيَّةِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ. وَإِنْ قِيلَ يُعْتَقُ بِالسِّرَايَةِ لَمْ يُجْزِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ يَنْوِي بِنِصْفِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ وَأَجْزَأَهُ مِنْهُ لنِصْفِ الَّذِي نَوَاهُ وَفِي إِجْزَاءِ نِصْفِهِ الْبَاقِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ وَيَكُونُ عِتْقَ مُبَاشَرَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُ وَيَكُونُ عِتْقَ سِرَايَةٍ. (فَصْلٌ:) إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ: إِنَّهُ لَا يُعْتَقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ عَتَقَ وَكَانَ عِتْقًا بِالسِّرَايَةِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَتُعْتَقُ حِصَّتُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَأَمَّا نِيَّةُ التَّكْفِيرِ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي حِصَّتِهِ مَعَ التَّلَفُّظِ بِعِتْقِهِ وَفِي اعْتِبَارِهَا فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ نُفُوذِ الْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقْتُ اللَّفْظِ لِيَقْتَرِنَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ وَلَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُ كَمَا لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْوَالِدِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ عَلَى نِيَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعِتْقِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نُفُوذِ الْعِتْقِ. وَأَرَى وَجْهًا رَابِعًا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النِّيَّةِ مَعَ لَفْظِ الْعِتْقِ وَالنِّيَّةِ مَعَ دَفْعِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا وَقَعَ بِسَبَبَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَصَّ النِّيَّةُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ نَوَى عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا عُتِقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَلَمْ يُعْتَقْ نَصِيبُ شَرِيكِهِ وَأَجْزَأَهُ عِتْقُ النِّصْفِ الَّذِي مَلَكَهُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عَلَى رِقِّهِ فَإِنْ بَقِيَ عَلَى إِعْسَارِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَجُزْ إِذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا لِيَكُونَ نِصْفُ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَنَصِفُهُ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي جِنْسَيْنِ، وَقِيلَ: عَلَيْكَ أَنْ تُكْمِلَ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ أَوِ الْإِطْعَامِ فَتَصُومَ شَهْرَيْنِ أَوْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي نِصْفِ الْعِتْقِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِتْقٌ نَافِدٌ فِي التَّكْفِيرِ وَكَمَّلَهُ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ الصِّيَامُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ تَطَوُّعًا وَيَكُونُ التَّكْفِيرُ بِصَوْمِ الشَّهْرَيْنِ لِأَنَّ الصَّوْمَ كَفَّارَةٌ كاملة وليس يلزم أن يريد عَلَيْهَا فَصَارَ مَا تَقَدَّمَهَا تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ إِعْسَارِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ لأداء فَعَلَى هَذَا إِنِ اشْتَرَى نِصْفَهُ الَّذِي أَعْتَقَ نِصْفَهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ لِاسْتِقْرَارِ رِقِّهِ بَعْدَ مَا عَتَقَ مِنْهُ وَخَالَفَ حَالُ يَسَارِهِ وَقْتَ عِتْقِهِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ تَكَمَّلَ لَهُ عِتْقُ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَأَجْزَأَهُ وَإِنْ فَرَّقَ الْعِتْقَ كَمَا يُجْزِئُ تَفْرِيقُ الطَّعَامِ. وَإِنِ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ آخَرَ فَأَعْتَقَهُ حَتَّى يُكْمِلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ فَفِي إجزائه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ لِكَمَالِ الْعِتْقِ الْمُسْتَحَقِّ وَإِنْ تَبَعَّضَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ فِي التَّبْعِيضِ نَقْصًا وَعِتْقُ النَّاقِصِ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ باقيهما حراً أَجْزَأَهُ لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا وَإِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمَا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَ لَهُ رَجُلٌ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ لَمْ يُجْزِئْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ ظِهَارٍ وَلَهُ عَبْدٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ هَذَا عَنْ ظِهَارِكَ عَلَى أَنَّ لَكَ عَلَيَّ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ. فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي عَنْ ظِهَارِي عَلَى عَشْرَةِ دَنَانِيرَ لِي عَلَيْكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَنْ ظِهَارِهِ لِأَنَّ عِتْقَ الظِّهَارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ مشتركاً بين الظهار بين غَيْرِهِ وَهَذَا عِتْقٌ قَدْ جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُ فَلَمْ يَخْلُصْ عَنِ الظِّهَارِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظِّهَارِ وَإِذَا لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظِّهَارِ صَارَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ وَعَلَيْهِ الْعَشْرَةُ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ صَرَفَ الْعِتْقَ إِلَى شَيْئَيْنِ إِلَى الظِّهَارِ وَإِلَى الْعِوَضِ فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَنِ الظِّهَارِ ثَبَتَ حُكْمُ الْآخَرِ وَهُوَ الْعِوَضُ فَصَارَ مُعْتِقًا عَبْدَ نَفْسِهِ بِعِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ فَوَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ وَعَلَيْهِ مَا بَذَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ وَهُوَ الْعَشْرَةُ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتِقُ: قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ ظِهَارِي دُونَ عِوَضِكَ فَيُعْتَقُ عَنْ ظِهَارِهِ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ خَالِصًا عَنْهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى بَاذِلِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ قَدْ رَدَّهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتِقُ: قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ ظِهَارِي وَيُمْسِكُ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ فَلَا يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِهِ وَلَا بِنَفْيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتِقَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْبَاذِلِ لِلْبَذْلِ، فَيُجْزِيهِ عِتْقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَا يَخْتَلِفُ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِمْسَاكُهُ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ فِي عِتْقِهِ. وَالثَّانِيَةُ: خُرُوجُهُ عَنْ حُكْمِ الْجَوَابِ لِبُعْدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْتِقَهُ فِي الْحَالِ عُقَيْبَ الْبَذْلِ ففيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ تَعْلِيلًا بِإِمْسَاكِهِ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ عَنْ ظِهَارِهِ وَيَكُونُ عَنِ الْبَاذِلِ وَعَلَيْهِ مَا بَذَلَ تَعْلِيلًا بِأَنَّ قُرْبَ الزَّمَانِ يُخْرِجُهُ مُخْرَجَ الْجَوَابِ فَصَارَ الْحُكْمُ مصروفاً إليه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ رَجُلٌ عَبْدًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقُهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ وَالْوَلَاءُ لَهُ وَهَذَا مِثْلُ شِرَاءِ مَقْبُوضٍ أَوْ هِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ حَيٍّ لَمْ يَخْلُ عِتْقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمُعَتَقِ عَنْهُ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ عَنْهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ الْعِتْقُ عَنِ المعتق ولا الولاء، فإن أعتقه عن واجب حاز وَكَانَ عَنِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ وَلَهُ الْوَلَاءُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا عَنْ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَجَاءَ أَنْ يَنْفَعَهُ وَيَلْحَقَهُ ثَوَابُهُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْوَاجِبَ كَالدَّيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقْضَى دَيْنُ الْحَيِّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (كِتَابُ اللَّهِ أَصْدَقُ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . فَلَمْ يَجْعَلِ الْوَلَاءَ إِلَّا لِمُعْتِقٍ، وَلِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ وَفِي عِتْقِ غَيْرِهِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِتْقِ مِنْهُ وَعَدَمِ النِّيَّةِ فَكَانَ بِأَنْ لَا يُجْزِيَهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ عَلَى بَدَنٍ وَفِي مَالٍ. فَأَمَّا عِبَادَاتُ الْأَبْدَانِ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ، وَأَمَّا عِبَادَاتُ الْأَمْوَالِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَتَصِحُّ بِإِذْنٍ، كَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ عِبَادَةٌ فِي مَالٍ يَجِبُ أَنْ تَصِحَّ بِإِذْنٍ وَلَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ أَخِيهَا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِقَوْلِهَا رَجَاءَ أَنْ يَنْفَعَهُ وَيَلْحَقَهُ ثَوَابُهُ وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنْ تَطَوُّعِ الْعِتْقِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَوْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذْنِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ يكون فِيهِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلِذَلِكَ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ نِيَّةُ الْأَدَاءِ فَجَازَ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ وَالْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ النِّيَّةُ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 (فَصْلٌ:) وَإِنْ أُعْتِقَ عَنِ الْحَيِّ بِإِذْنِهِ جَازَ وَكَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ سَوَاءً كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا وَسَوَاءً أَعَتَقَ عَنْهُ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ جَازَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَنْ جُعْلٍ فَهُوَ مَبِيعٌ وَعِتْقُ المبيع قبل قبضه يجوز، وإذا كن بِغَيْرِ جُعْلٍ فَهُوَ هِبَةٌ وَعِتْقُ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ وَلَيْسَ بِالْعِتْقِ فِيهَا قَبْضًا لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالْعِتْقِ تَسْلِيمٌ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الشَّرْعِ قَدْ أُقِيمَ مُقَامَ الْقَبْضِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي يَدِ بَائِعِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ عَنِ الْبَائِعِ ضَمَانُهُ وَإِذَا كَانَ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ صَارَ قَبْضًا فِي الْهِبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي صِحَّةِ الْعِتْقِ. وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعِتْقِ يُحَصِّلُ اسْتِدْعَاءَ مُعَاوَضَةٍ تَفْتَقِرُ عِنْدَنَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبْضٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ وَالْعِتْقُ قَائِمٌ مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبْضِ عِنْدَنَا وَقَائِمٌ مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ عِنْدَهُمْ، وَالْإِذْنُ فِي الْعِتْقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ يُحَصِّلُ اسْتِدْعَاءَ هِبَةٍ يَفْتَقِرُ عِنْدَنَا إِلَى إِيجَابٍ وَقَبْضٍ وَعِنْدَهُمْ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ وَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ بَعْدَهَا قَائِمًا مُقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، وَفِي هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِدْلَالَيْنِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا جَازَتْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا بَدَلُ الْعِوَضِ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ بِجُعْلٍ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ فِي الْعِتْقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْعِتْقِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ بِالْجُعْلِ بَيْعٌ وَبِغَيْرِ الْجُعْلِ هِبَةٌ فَهُوَ لَا يُعْتِقُهُ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ مَلَكَهُ ثُمَّ عَتَقَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: مَتَى يَصِيرُ مَالِكًا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ بِاسْتِدْعَاءِ الْعِتْقِ ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمِلْكِ بِلَفْظِ الْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَوَّلِ لَفْظِ الْعِتْقِ وَيُعْتِقُ بِآخِرِ لَفْظِ الْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنْ يَقَعَ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَفْظِ الْعِتْقِ فَمَنِ اشْتَرَى أباه مَلَكَهُ وَعُتِقَ عَلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ. وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ وَيُعْتِقُ بَعْدَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 استقرار الملك، [وكذلك يقول فيمن اشترى أباه أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ وَيُعْتِقُ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ] . وَمِثَالُ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ دُعِيَ إِلَى أَكْلِ طَعَامٍ مَتَى يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يَمْلِكُ اللُّقْمَةَ إِذَا أَخَذَهَا بِيَدِهِ. وَالثَّانِي: إِذَا وَضَعَهَا فِي فَمِهِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا ابْتَلَعَهَا، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَمْلِكُهَا إِذَا أَخَذَهَا بِيَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطْعِمَهَا غَيْرَهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي تَمَلُّكِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ كَالْعَارِيَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنَافِعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ. فَصْلٌ: فَأَمَّا الْعِتْقُ عَنِ الْمَيِّتِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ وَصِيَّةٍ مِنْهُ فَيَصِحُّ سَوَاءً كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بِهِ تَقُومُ مُقَامَ مُبَاشَرَتِهِ لَهُ، وَلَوْ بَاشَرَ عِتْقَ التَّطَوُّعِ صَحَّ فَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ سَوَاءً كَانَ الْعِتْقُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ وَوَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْمَالِكِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمَيِّتِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ وَاجِبًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِبَ وُجُوبًا لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَيَصِحُّ عَنِ الْمَيِّتِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبِغَيْرِ وَصِيَّتِهِ مَنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُ وَارِثٍ بِأَمْرِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْوَالِ فَأَشْبَهَ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْعِتْقِ الْوَاجِبِ تَخْيِيرٌ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الَّتِي هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الثَّلَاثَةِ قِيمَةً صَحَّ وَإِنْ كَانَ أكثرها قيمة لم يصح لأنه بِنُقْصَانِهِ وَاجِبًا وَزِيَادَتِهِ تَطَوُّعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمُعْتِقِ فَفِي جَوَازِهِ عَنْهُ وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ عَنْهُ وَيَكُونُ وَاقِعًا عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمَيِّتِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُ عَنِ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى أَقْرَبِ عَصَبَتِهِ لِأَنَّهُ عِتْقٌ وَاجِبٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِسُقُوطِ الْوَاجِبِ بِهِ فَأَشْبَهَ ما لا تخيير فيه. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عَنْ ظِهَارَيْنِ أَوْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَبْدًا تَامًّا نصفاً عن واحدة ونصفاً عن عَنْ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أُخْرَى نِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفًا عَنْ وَاحِدَةٍ فَكَمَلَ فِيهَا الْعِتْقُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إِمَّا مِنْ جِنْسَيْنِ مِثْلَ كَفَّارَةِ قَتْلٍ وَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِثْلَ كَفَّارَتَيْ قَتْلٍ أَوْ كَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ فَأَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتِقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ بِعَيْنِهَا وَيُعْتِقَ الْعَبْدَ الْآخَرَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ الْعِتْقُ فِيهِمَا عَلَى مَا عَيَّنَ وَنَوَى، فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ إِلَى الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا عَلَى التَّعْيِينِ الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْتِقَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ لَا يُعَيِّنُهَا وَيُعْتِقَ الْعَبْدَ الْآخَرَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا فَيُجْزِيهِ أَيْضًا سَوَاءً كَانَتِ الْكَفَّارَتَانِ عَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُعَيِّنَ اسْتِدْلَالًا: بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ فِي الْمُوجِبِ وَالْمُوجَبِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى التَّعْيِينِ كَالصَّلَاةِ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُوجِبِ أَنَّ إِحْدَاهُمَا عَنْ قَتْلٍ وَالْأُخْرَى عَنْ ظِهَارٍ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُوجَبِ أَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا إِطْعَامًا وَلَيْسَ فِي الْأُخْرَى إِطْعَامٌ. ودليلنا: هو أنه حق يؤدي إلى وَجْهِ التَّكْفِيرِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ التَّعْيِينُ كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الصُّورَةِ فَعَدَمُ التَّعْيِينِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَالدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُخْتَلِفِ مِنْهُ وَالْمُؤْتَلِفِ كَالصَّلَوَاتِ يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيمَا اخْتَلَفَ مِنْهَا كَالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ وَفِيمَا ائْتَلَفَ مِنْهَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُخْتَلِفِ مِنْهُ وَالْمُؤْتَلِفِ كَالزَّكَوَاتِ لَا يَلْزَمُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيمَا اخْتَلَفَ مِنْهَا كَمَنْ لَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مُهْرِيَّةٌ حَاضِرَةٌ وَخَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مُجَيْدِيَّةٌ غَائِبَةٌ فَأَخْرَجَ شَاتَيْنِ عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَجْزَأَ كَمَا يُجْزِيهِ لَوْ كَانَتِ الْعَشْرُ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمُ فِي الْكَفَّارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْمُؤْتَلِفِ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُهَا فِي الْمُخْتَلِفِ كَالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا وَافَقَتْهَا فِي الْمُؤْتَلِفِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا. خَالَفَتْهَا فِي الْمُؤْتَلِفِ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَعْيِينُهَا فِي الْجِنْسَيْنِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ قَدْ شَكَّ فِيهَا هَلْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَيْنِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ يَقْضِي صَلَاتَيْنِ وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا عِتْقُ عَبْدٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُو َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ فَيُعْتِقُ نِصْفَ سَالِمٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَنِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَيُعْتِقُ نِصْفَ غَانِمٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَنِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَهَذَا الْعِتْقُ مُجْزِئٌ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا عَبْدَيْنِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعِتْقُ مُبَعَّضًا عَلَى مَا يَرُدُّهُ أَوْ مُكَمِّلًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ مُبَعَّضًا عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّبْعِيضِ قَدْ كَمَلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَكْمُلُ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بِكَمَالِهِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَالْعَبْدُ الْآخَرُ بِكَمَالِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّ عِتْقَ بَعْضِ الْعَبْدِ يَسْرِي إِلَى جَمِيعِهِ فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ امْتَنَعَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي كَفَّارَتَيْنِ، وَفَائِدَةُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ فَأَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَنِصْفَ آخَرَ حَتَّى كَمَلَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ فَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِيهِ إِذَا مُنِعَ مِنْ تَبْعِيضِ الْعِتْقِ هُنَاكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِيهِ إِذَا جَوَّزُوا التَّبْعِيضَ هُنَاكَ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ مِنْ عبدين باقيهما حراً أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فَيُوجَدُ مَقْصُودُ الْعِتْقِ فِيهِمَا وَإِذَا كَانَ بَاقِيهِمَا مَمْلُوكًا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَبِيدِ فَلَمْ يُوجَدْ مَقْصُودُ الْعِتْقِ فِيهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ: أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَيُخْرِجَ نِصْفَيْ شَاتَيْنِ نِصْفًا مِنْ شَاةٍ وَنِصْفًا مِنْ أُخْرَى فَفِي إِجْزَائِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ شاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ لِمَا أَدْخَلَ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ حَتَّى يُخْرِجَ شَاةً كَامِلَةً. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بَاقِي الشَّاتَيْنِ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ لِارْتِفَاعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يُجْزِ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَصَامَ شَهْرَيْنِ عَنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عَنْهُمَا أَجْزَأَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ فَإِنَّهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فَلَهُ فِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِيهِمَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى عِتْقِ رَقَبَتَيْنِ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُمَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ عِتْقِهِ لَهُمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا يَخْلُو حَالُ صَوْمِهِ فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ صوم شهرين متتابعين عن إحدى الكفارتين بعينها ويصوم شهرين آخرين عن الكفارة الأخرى بعينها فهذا يجزئه وقد أكد ذك بِالتَّعْيِينِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ لَا يُعَيِّنُهَا وَيَصُومَ شَهْرَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا فَهَذَا يُجْزِيهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَمْ يَلْزَمْ كَمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَعْيِينُ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يترك الصوم على إبهامه أو بعينه وَسَوَاءً كَانَتِ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا خَالَفَ فِي الْعِتْقِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْرُدَ صَوْمَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ عَنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهَذَا يُجْزِيهِ وَقَدْ زَادَ بِأَنَّهُ تَابَعَ بَيْنَ صَوْمِ الْكَفَّارَتَيْنِ وَيَكُونُ شَهْرَانِ مُتَوَالِيَانِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَشَهْرَانِ مُتَوَالِيَانِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ وَشَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ فَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ لِأَنَّ تَتَابُعَ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ مُسْتَحَقٌّ وَقَدْ صَارَ بِالتَّبْعِيضِ مُفَرِّقًا. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِي إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَمِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِتْقِ عَنْ إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ شَاءَ سَوَاءً بَدَأَ بِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ مِنْهُمَا أَوْ فِيمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ يَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ شَهْرَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 مُتَتَابِعَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِتْقِ عَنْ إِحْدَاهُمَا لَا يُعَيِّنُهَا ثُمَّ بِالصَّوْمِ عَنِ الْأُخْرَى لَا يُعَيِّنُهَا كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِيهِمَا أَوْ مِنْ أَهْلِ الصَّوْمِ فِيهِمَا، فَلَوْ بَدَأَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ وَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ صَامَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْعِتْقِ، وَلَوْ جَعَلَ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ مَعًا وَالصَّوْمَ عَنْهُمَا مَعًا تَكْمِيلًا لِكُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَتَيْنِ وَأَجْزَأَهُ الْعِتْقُ وَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ الْعِتْقَ فِي إِحْدَاهُمَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ لِلْأُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا نَوَى مِنَ التَّبْعِيضِ فَلَا يَتَكَمَّلُ، فَإِنْ أَيْسَرَ بِإِكْمَالِ الْعِتْقِ أَوِ اسْتَدَانَ حَتَّى أَعْتَقَ عَبْدًا آخَرَ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِعْسَارِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ الْكَفَّارَةَ بِالصَّوْمِ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ نِصْفِ كُلِّ كَفَّارَةٍ شَهْرًا لِأَنَّ تَبْعِيضَ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَيَصُومُ لَهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مَا قَدَّمَهُ مِنَ الْعِتْقِ مُؤَثِّرًا فِي التَّكْفِيرِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَكْمِيلِ الصِّيَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُؤَثِّرُ فِيهِ لِتَقَدُّمِ النِّيَّةِ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَكْمُلُ الصِّيَامُ جَبْرًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً ليس له غيرها وصيام شَهْرَيْنِ ثُمَّ مَرِضَ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا يَنْوِي بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ الظِّهَارِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ واحدة بعينها أجرأه لِأَنَّ نِيَّتَهُ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ بِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ إِمَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ فِي وَاحِدَةٍ وَمِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ فِي ثَانِيَةٍ وَمِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فِي ثَالِثَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بالعتق عن أحدهما إِمَّا بِعَيْنِهَا أَوْ مُبْهَمَةً، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ بَعْدَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدَّمَ الْإِطْعَامَ ثُمَّ الصِّيَامَ ثُمَّ الْعِتْقَ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ وَحْدَهُ وَاسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ بَعْدَهُ ثُمَّ الْإِطْعَامَ بَعْدَ الصَّوْمِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الطَّعَامَ الَّذِي قَدَّمَهُ لِعَدَمِ إِجْزَائِهِ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ قَدْ مَلَكُوهُ بِالْقَبْضِ، فَلَوْ نَوَى وَقَدْ رَتَّبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ أَثْلَاثًا اعْتُدَّ بِجَمِيعِ الْعِتْقِ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِجَمِيعِ الصِّيَامِ وَاعْتُدَّ بِالثُّلُثِ مِنَ الْإِطْعَامِ ثُمَّ هَلْ يَتَكَمَّلُ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا أَمْ لَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَلَزِمَهُ تَكْمِيلُ الْإِطْعَامِ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ عَنِ الأخرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَشَكَّ أَنْ تََكُونَ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ نَذْرٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ أَيِّهَا كَانَ أَجْزَأَهُ وَلَوْ أَعْتَقَهَا لَا يَنْوِي وَاحِدَةً مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ حُكْمِ النِّيَّةِ والكلام يشتمل فيها على ثلاثة فصول: أحدهما: في وُجُوبِهَا. وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهَا. وَالثَّالِثُ: فِي مَحَلِّهَا. فَأَمَّا وُجُوبُ النِّيَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ تُفْعَلُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ تَارَةً وَعَلَى طَرِيقِ التَّطَوُّعِ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِيهَا النِّيَّةُ لِيَمْتَازَ بِهَا الْوَاجِبُ مِنَ التَّطَوُّعِ. وَأَمَّا صِفَةُ النِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ أَنَّهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ عِتْقٌ وَاجِبٌ أَوْ صَوْمٌ وَاجِبٌ أَوْ إِطْعَامٌ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَنَوَّعُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وَصْفِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ لِتَمْيِيزِهِ. وَأَمَّا مَحَلُّ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ صَوْمًا فَفِي لَيْلِ الصِّيَامِ لَا يُجْزِئُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ كَسَائِرِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ. وَإِنْ كَانَ عِتْقًا أَوْ طَعَامًا لَمْ تُجْزِهِ النِّيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ الْعَبْدُ الَّذِي يُعْتِقُهُ وَالطَّعَامُ الَّذِي يُطْعِمُهُ، فَأَمَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْعَبْدِ وَالطَّعَامِ فَفِي مَحَلِّ النِّيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْوِي مَعَ لَفْظِ الْعِتْقِ وَمَعَ تَفْرِيقِ الطَّعَامِ فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ فِيهَا عِنْدَ عَزْلِهَا. وَالثَّانِي: عِنْدَ دَفْعِهَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ وَهُوَ شَاكٌّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا هَلْ وَجَبَتْ بِقَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ، فَإِنْ أَعْتَقَ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الشَّكِّ فِي الْمُوجِبِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَجِبُ، وَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْوِ أَنَّهُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّكْفِيرِ مُسْتَحَقَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ تَعْيِينِ السَّبَبِ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةً، فَإِنْ كَانَ عَيَّنَ الْعِتْقَ وَنَوَى أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَعَ الشَّكِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَّارَةُ عَنْ قَتْلٍ وَلَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَائِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عَنْ ظِهَارٍ، فَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا عَنْ ظِهَارٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا عَنْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَصَارَ الْوَاجِبُ بَاقِيًا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ كَمَنْ شَكَّ فِي حَدَثِهِ هَلْ هُوَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ نَوَمٍ فَتَوَضَّأَ يَنْوِي حَدَثَ الْبَوْلِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ عَنْ نَوْمٍ أَجْزَأَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ الْوَاحِدِ رَافِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْدَاثِ وَلَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ رَافِعَةً لِجَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَشَكَّ فِيهَا هَلْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ نَذْرٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً يَنْوِي بِهَا الْعِتْقَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ نِيَّةَ التَّكْفِيرِ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْعِتْقِ وَلَوْ نَوَى بِهَا الْعِتْقَ عَنِ التَّكْفِيرِ نَظَرَ فِي عِتْقِ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي نَذْرِ اللِّجَاجِ الْخَارِجِ مَخْرَجَ الْأَيْمَانِ أَجْزَأَهُ هُنَا الْعِتْقُ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذَا النَّذْرِ تَكْفِيرٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ نَذْرَ مُجَازَاةٍ أَوْ تَبَرُّرٍ لم يجزه لأنه لا يكن الْعِتْقُ فِيهِ تَكْفِيرًا وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا وَلَا مِنْ بَقَائِهَا فِي النَّذْرِ وَحْدَهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً ثَانِيَةً يَنْوِي بِهَا عِتْقَ النَّذْرِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ يَقِينًا عَنْ ذِمَّتِهِ لِأَنَّ عِتْقَ التَّكْفِيرِ قَدْ سَقَطَ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَعِتْقَ النَّذْرِ قَدْ سَقَطَ الثَّانِي الْمُعَيَّنِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوِ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ فَإِنْ رَجَعَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى دَيْنٍ أَدَّاهُ أَوْ قِصَاصٍ أُخِذَ مِنْهُ أَوْ عُقُوبَةٍ عَلَى بَدَنِهِ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ وَلَوْ صَامَ فِي رِدَّتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَمَلُ الْبَدَنِ وَعَمَلُ الْبَدَنِ لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَنْ يُكْتَبُ لَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ مَا كَانَ حياً وتصرفه فيه جائز. والقول الثاني: أن ملكه زائل عن ملله وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ مَرْدُودٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى وَكَذَلِكَ تَصَرُّفُهُ، فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ عُلِمَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَفَسَادُ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ عُلِمَ أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ بَاقِيًا وَتَصَرُّفَهُ جَائِزًا، وَلِتَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَوْضِعٌ مِنْ كِتَابِ الرِّدَّةِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْهَا وَكَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ كَفَّارَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَتَصَرُّفَهُ فِيهِ جَائِزٌ أَوْ قِيلَ إِنَّهُمَا عَلَى الْوَقْفِ وَالْمُرَاعَاةِ جَازَ لَهُ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ وَتَصَرُّفَهُ مَرْدُودٌ فَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ مِنْ مَالِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ مِنْ مَالِهِ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِاسْتِحْقَاقِ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ كَالدُّيُونِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ وَالْكَفَّارَةَ قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ فَيُجْزِيهِ أَنْ يُعْتِقَ فِيهِ مُؤْمِنَةً قَدْ كَانَ لَهَا مَالِكًا قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ هَذَا الْمُسْلِمَ عَنْ كَفَّارَتِي بِكَذَا. فَإِنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَيَنْفَذُ الْعِتْقُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ بَاطِلًا وَعِتْقُهُ مَرْدُودًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَنْصَرِفُ إِلَى الْآدَمِيِّينَ فَأَشْبَهَتْ قَضَاءَ الدُّيُونِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ ففي جوازه منه وجهان: أحدهما: يجوز من الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصِّيَامِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَأَجْرَى عَلَى الْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 (بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الرِّقَابِ الواجبة) (مِنْ كِتَابَيِ الظِّهَارِ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ) (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا ذُكِرَ لِي عَنْهُ وَلَا بَقِيَ مَنْ خَالَفَ فِي أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ النَقْصِ مِنَ الرِّقَابِ مَا لَا يُجْزِئُ وَمِنْهَا مَا يُجْزِئُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا دون بعض فلم اجد من مَعَانِي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ إِلَّا مَا أَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَجِمَاعُهُ أَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يُتَّخَذُ لَهُ الرَّقِيقُ الْعَمَلُ وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ تَامًّا حَتَّى تَكُونَ يَدَا الْمَمْلُوكِ بَاطِشَتَيْنِ وَرِجْلَاهُ مَاشِيَتَيْنِ وَلَهُ بَصَرٌ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أَطْلَقَهَا وَلَمْ يَصِفْهَا فَأَجْمَعَ مَنْ تَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّ وَعَاصَرَهُ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَأَنَّ مِنَ الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ وَمِنْهَا مَا لَا يُجْزِئُ فَكَانَ الْعُمُومُ مَخْصُوصًا وَخَالَفَ دَاوُدُ مِنْ بَعْدُ فَقَالَ: الْعُمُومُ مُسْتَعْمَلٌ وَجَمِيعُ الرِّقَابِ تُجْزِئُ مِنْ مَعِيبٍ وَسَلِيمٍ وَنَاقِصٍ وَكَامِلٍ تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ وَاحْتِجَاجًا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ، وَهَذَا خَطَأٌ مَدْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَقَبَةٍ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَفَأَعْتِقُ هَذِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَيْنَ اللَّهُ؟) فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ لَهَا (مَنْ أَنَا؟) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ. وَإِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَدَلَّ سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْهَا وَامْتِحَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهَا عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ وَأَنَّ مِنَ الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ وَمِنْهَا مَا لَا يُجْزِئُ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ دَاوُدَ أَنَّ كُلَّ الرِّقَابِ تُجْزِئُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ فِي الْكَفَّارَةِ ذِكْرَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ ثُمَّ كَانَ عُمُومُ الْإِطْعَامِ مَخْصُوصًا فِي أَنْ لَا يُجْزِئَ مِنْهُ إِلَّا مُقَدَّرٌ وَلَا يُجْزِئُ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ إِطْعَامِ لُقْمَةٍ وَكِسْرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصَ الْعُمُومِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مَقْصُودُ التَّحْرِيرِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَمَقْصُودُ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ هُوَ تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا تَكْمِيلُ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِالْحُرِّيَّةِ جَائِزَ الشَّهَادَةِ ثَابِتَ الْوِلَايَةِ مَاضِيَ التَّصَرُّفِ. وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ. فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِالْحُرِّيَّةِ مَالِكًا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 فِي غَيْرِ كَفَّارَةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاقِصَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ وَإِنْ كَانَ فِي كَفَّارَةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْمَنَافِعِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا يُجْزِئُ كَالْبَرْصَاءِ وَالْحَمْقَاءِ وَالْقَبِيحَةِ وَالْمَقْطُوعَةِ الْخِنْصَرِ أَوِ الْبِنْصِرِ، وَأَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَالْمُقْعَدَةُ وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ رَاعَوْا مَا أَثَّرَ فِي الْعَمَلِ وَلَمْ يُرَاعُوا مَا أَثَّرَ فِي الْأَثْمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَبِيدِ هُوَ الْعَمَلُ لِأَنَّهُمْ مُرْصَدُونَ لِخِدْمَةٍ أَوْ تَكَسُّبٍ وَالنُّقْصَانُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّيْءِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَنَ كَانَ مَا أَثَّرَ فِي نُقْصَانِهِ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْخِيَارُ كَالنِّكَاحِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ مَا أَثَّرَ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ وَمَا يُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يُوجِبْهُ كَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ تَمْلِيكَ الْعَمَلِ كَانَ مَا أَثَّرَ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ مَانِعًا مِنَ الْإِجْزَاءِ وَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ أَجْزَأَ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ كُلَّ عيب أضرب بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ فِيهَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا أَصَّلْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَمِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعِتْقِ الْعَمَى لِأَنَّهُ مِنْ أَبْلَغِ النَّقْصِ فِي الْإِضْرَارِ بِالْعَمَلِ فَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ فَأَمَّا الْحَوْلَاءُ وَالْعَمْشَاءُ وَالْعَوْرَاءُ فَتُجْزِئُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَإِثْبَاتِ الْوُجُوهِ الْقَرِيبَةِ مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا نَقْصُ الْأَطْرَافِ فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِيهِ وَهَكَذَا يَقُولُ فِيمَنْ قُطِعَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ وَإِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ خِلَافٍ أَجْزَأَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ لَمْ تُجْزِهِ لِأَنَّ ذَهَابَ أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ لَمْ يُسْقِطْ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فَأَجْزَأَ كَالْعَوْرَاءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَطْعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَقَطْعِهِمَا مَعًا، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُوَافِقٌ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ فَقَطْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ وَفِيهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى الْإِبْهَامَيْنِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، فَأَمَّا الْعَوَرُ فَأَجْزَأَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ وَلَا مُؤَثِّرٍ فِيهِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِبَقَاءِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَفْسُدُ عَلَيْهِ بِقَطْعِ إِحْدَى اليدين والرجلين من شق [واحد] . (فَصْلٌ:) وَأَمَّا قَطْعُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى فَقَطْعُ إِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ مَانِعٌ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَأْثِيرًا فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 الْعَمَلِ. فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ فِي إِحْدَى إِصْبَعَيْنِ وَهِيَ الْخِنْصَرُ أَوِ الْبِنْصِرُ فَقَطْعُ إِحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا فَإِنْ قُطِعَتَا مَعًا نُظِرَ فَإِنْ قطعنا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ لَمْ تُجْزِهِ وَإِنْ كَانَتَا مِنْ يَدَيْنِ أَجْزَأَ. فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَقَطْعُ الْإِبْهَامِ مِنْهَا مَانِعٌ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّ فَقْدَهَا مِنَ الرِّجْلِ مُضِرٌّ بِالْمَشْيِ كَمَا أَنَّ فَقْدَهَا مِنَ الْيَدِ مُضِرٌّ بِالْبَطْشِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْإِبْهَامِ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ إِذَا قُطِعَ أَحَدُهَا مِنْ سَبَّابَةٍ أَوْ وُسْطَى أَوْ خِنْصَرٍ أَوْ بِنْصِرٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِخِلَافِ الْيَدِ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا مِنَ الرِّجْلِ مُتَقَارِبَةٌ وَفِي الْيَدِ مُتَفَاضِلَةٌ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْهُمَا فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، مَنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ بِالْمَشْيِ، وَشَلَلُ الْإِصْبَعِ يَقُومُ مَقَامَ قَطْعِهَا وَكَذَلِكَ شَلَلُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا قَطْعُ الْأَنَامِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ أُنْمُلَتَانِ مِنْ إِصْبَعٍ كَانَ قَطْعُهَا كَقَطْعِ تِلْكَ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ قُطِعَتَا مِنْ إِحْدَى الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى لم تجزه، وإن قطعتا من إحدى إصبعين البنصر أو الخنصر أجزأ، وإن قطع أُنْمُلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ إِصْبَعٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِبْهَامِ لَمْ تُجْزِهِ لِأَنَّهَا ذَاتُ أُنْمُلَتَيْنِ يَذْهَبُ بِإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ إِحْدَى الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ ذَوَاتِ الْأَنَامِلِ الثَّلَاثِ أَجْزَأَ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ أَكْثَرُهَا فَبَقِيَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْجَبُّ وَالْخِصَاءُ فَلَا يَنْفَعَانِ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يَضُرَّانِ بِالْعَمَلِ وَكَذَلِكَ جَدْعُ الْأَنْفِ وَقَطْعُ الْأُذُنِ، فَأَمَّا شِجَاجُ الرَّأْسِ وَجِرَاحُ الْبَدَنِ فَإِنِ انْدَمَلَتْ مَعَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ وَإِنْ شَانَتْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِالْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ تَنْدَمِلْ أَجْزَأَ مَا دُونَ مَأْمُومَةِ الرَّأْسِ وَجَائِفَةِ الْبَدَنِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَخُوفَةٍ وَلَمْ يُجْزِ مِنْهَا مَأْمُومَةُ الرَّأْسِ وَجَائِفَةُ الْبَدَنِ، لِأَنَّهُمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ مَخْوفَتَانِ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَيَكُونُ يَعْقِلُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ بِالْعَقْلِ تَصِحُّ الْأَعْمَالُ وَتَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا قَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ لَمْ يُجْزِهِ لِفَوَاتِ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، فََإِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ جُنُونِهِ نُظِرَ فَإِنْ بَقِيَ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ سَدِرًا مَضْعُوفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ زَالَ عَنْهُ السَّدَرُ بِالْإِفَاقَةِ وَقَدَرَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْعَمَلِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا الْأَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ بَلْهَ بَلَادَةٍ وَدَهَشٍ لَمْ يُجْزِهِ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ بَلَهَ سَلَامَةٍ وَقِلَّةِ فِطْنَةٍ أَجْزَأَهُ. فَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَيُجْزِئُ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيُجْزِئُ وَهُوَ الَّذِي يَضَعُ كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَأْتِي بِالْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْقَبِيحِ وَبِالْقَبِيحِ فِي مَوْضِعِ الْحَسَنِ وَهَذَا غير مضر بالعمل فأجزأ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 (مسالة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ كَانَ أَبْكَمَ أَوْ أَصَمَّ يَعْقِلُ أَوْ أَحْمَقَ أَوْ ضَعِيفَ الْبَطْشِ (قَالَ) فِي الْقَدِيمِ الأخرس لا يجزئ (قال المزني) رحمه الله أولى بقوله إنه يجزئ لأن أصله أن ما اضر بالعمل ضرراً بيناً لم يجز وإن لم يضر كذلك أجزأ (قال) والذي يجن ويفيق يجزئ وإن كان مطبقا لم يجزئ ويجوز المريض لأنه يرجى والصغير كذلك) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيُجْزِئُ لِأَنَّ الصَّمَمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ يُجْزِئُ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ فَكَانَ الْمُزَنِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَبْكَمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْخَرَسِ وَالصَّمِّ لِأَنَّهُمَا نُقْصَانٌ يَضُرُّ اجْتِمَاعُهُمَا بِالْعَمَلِ، وَقَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِذَا انْفَرَدَ بِالْخَرَسِ دُونَ الصَّمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَيْهِمَا إِنَّ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُجْزِئُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ فِي خَرَسِهِ وَقَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ يُجْزِئُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ فِي خَرَسِهِ. وَأَمَّا الضَّعِيفُ الْبَطْشُ لِضُؤُولَةِ جِسْمِهِ وَدِقَّةِ عَظْمِهِ فَإِنْ ضَعْفَ بَطْشِهِ قَدْ فَوَّتَ أَكْثَرَ عَمَلِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَوَّتَ أَقَلَّهُ أَجْزَأَهُ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ أَجْزَأَ وَإِنْ مَاتَ لِأَنَّهُ قل ما يَخْلُو جِسْمٌ مِنْ مَرَضٍ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ عَاشَ، وَأَمَّا عُلُوُّ السِّنِّ فَإِنْ أَفْضَى لِلْهَرَمِ وَذَهَابِ الْبَطْشِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ نَاهِضَ الْحَرَكَةِ ظَاهِرَ الْبَطْشِ أَجْزَأَهُ. فَأَمَّا الطِّفْلُ الصَّغِيرُ فَيُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ ابْنَ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الْمَرْجُوَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغِرَّةِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ. وَأَمَّا الْأَعْرَجُ فَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي مَشْيِهِ مُؤَثِّرًا فِي حَرَكَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ أَجْزَأَهُ وَيُجْزِئُ الْأَغْشَمُ وَالْأَخْشَمُ وَعِتْقُ غَيْرِ ذِي الصِّنَاعَةِ وعتق الفاسد وَوَلَدِ الزِّنَا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ وَلَدِ الزِّنَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ سَلَامَةُ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَلَيْسَ وِلَادَتُهُ مِنْ ريبة مؤثر فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِجْزَاءَ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: - أَحَدُهَا: شَرُّ الثَّلَاثَةِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ يُذْكَرُ أَبَدًا أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا إِذَا سُئِلَ عَنْ أَبِيهِ. وَالثَّانِي: شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى أَبٍ. وَالثَّالِثُ: شَرُّ الثَّلَاثَةِ إِنْ كَانَ زَانِيًا لِأَنَّهُ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ الزِّنَا وَفَسَادِ النَّسَبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَقَدْ عَرَّفَهُ بِالشَّرِّ فَقَالَ: وَلَدُ الزِّنَا مِنْهُمْ هُوَ شَرُّهُمْ كَمَا يُقَالُ: الْمُشْتَمِلُ بِثَوْبِهِ هُوَ شَرُّ الْجَمَاعَةِ لَا لِاشْتِمَالِهِ بِالثَّوْبِ وَلَكِنْ نَبِّهْ عَلَيْهِ بِاشْتِمَالِ الثَّوْبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 (باب من له الكفارة بالصيام من كتابين) (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا وَلَا مَا يَشْتَرِي بِهِ مَمْلُوكًا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَيَلْزَمُهُ الْعِتْقُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِ كِفَايَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: - أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ وَلَا عَلَى قِيمَتِهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فَعَلَيْهِ الْعِتْقُ ولا يجزيه الصَّوْمُ إِجْمَاعًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ عَلَى قِيمَتِهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالصِّيَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ سَوَاءً وَجَدَ الرَّقَبَةَ أَوْ قِيمَتَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ سَوَاءً وَجَدَ الرَّقَبَةَ أَوْ قِيمَتَهَا وَعَلَيْهِ الْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ إِنْ كان واحداً لِلرَّقَبَةِ وَبِالصَّوْمِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْقِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شهرين متتابعين} وَهَذَا وَاجِدٌ لِلرَّقَبَةِ فَلَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِرَقَبَةٍ تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهَا إِلَى الصَّوْمِ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّينَ ثُمَّ كَانَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ وَلَا تَقِفُ عَلَى الْفَاضِلِ عن الكفاية فحق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 الله تعالى أول أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ بِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَرْفَهُ فِي الْكِفَايَةِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ فِي الْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَفَعَ إِلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَرْقًا مِنْ تَمْرٍ لِيُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا فَقَالَ: (خُذْهُ فَكُلْهُ) فَجَعَلَهُ وَعِيَالَهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْكِفَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَقُدِّمَتْ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ بَدَلٍ فَوَجَبَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْمَالِ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْفَاضِلِ عَنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ كَالطَّهَارَةِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ لِعَطَشِهِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَّلْتَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَقُلْتَ: لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَسْتَغْرِقُ مَا مَعَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْعَادِمِ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ خَائِفِ الْعَطَشِ فِي الطَّهَارَةِ، ولأن الْقُدْرَةَ عَلَى الْبَدَلِ فِي حُكْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى البدل فَلَمَّا تَعَلَّقَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ بِالْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى الرَّقَبَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وُجُودِهَا فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ تَسْتَغْرِقْ حَاجَتَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِ مَالِكٍ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَجِبُ إِلَّا عَنْ مُعَاوَضَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ فَأُكِّدَتْ وَحُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ ابْتِدَاءً فَخُفِّفَتْ. والثاني: أن لحق الله تعالى في الكفارة بدلاً فَكَانَ أَخَفَّ وَلَيْسَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ بَدَلٌ فَكَانَ أَغْلَظَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَضْيَقُ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِكُلِّ مَالٍ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْفَاضِلِ عَنِ الْكِفَايَةِ فَمِنْ كِفَايَتِهِ الثِّيَابُ الَّتِي يَلْبَسُهَا لِأَنَّهُ لَا غِنَى لِأَحَدٍ عَنْهَا، وَدَارُهُ الَّتِي يَسْكُنُهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهَا، وَأَمَّا رَقَبَةٌ يَسْتَخْدِمُهَا فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْخِدْمَةِ لِزَمَانَةٍ أَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ مِثْلِهِ إِلَّا بِالْخِدْمَةِ فَالرَّقَبَةُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ مِثْلِهِ بِالْخِدْمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُضَافُ إِلَى كِفَايَتِهِ وَتَكُونُ فَاضِلَةً عَنْهُ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِهَا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كِفَايَتِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ كِفَايَةِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ مَنْ يَخْدِمُ نَفْسَهُ فَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْ يَخْدِمُهُ. وَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ مِنْ كِفَايَتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا وَلَا يُلْزِمُ بَدَنَهُ إِلَّا بِهَا وَهِيَ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ إِمَّا مِنِ اسْتِغْلَالِ عَقَارٍ أَوْ رِبْحِ تِجَارَةٍ أَوْ كَسْبِ صِنَاعَةٍ. فَأَمَّا اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً أَرْضًا تُزْرَعُ وَتَارَةً شَجَرًا تستثمر وتارة أبنية تؤاجر، وَمَثَلُهُ أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً تُحْتَلَبُ، فَإِنْ مَلَكَ من هذه الأصول ما تكونه غَلَّتُهُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ كَانَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِ فَيُجْزِيهِ الصَّوْمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ. وَإِنْ مَلَكَ مِنْهَا مَا غَلَّتُهُ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِ كَانَتْ زِيَادَتُهَا خَارِجَةً عَنْ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ زِيَادَةُ أُصُولِهَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ دُونَ الصَّوْمِ وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا رِبْحُ التِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا يَكُونُ رِبْحُهُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْكِفَايَةِ وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ دُونَ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ زَائِدًا عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خَارِجَةً عَنْ كِفَايَتِهِ فَيَصْرِفُهَا فِي عِتْقِ كَفَّارَتِهِ. وَأَمَّا كَسْبُ الصِّنَاعَةِ فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْكِفَايَةِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِفَايَةِ نَظَرَ فِي زِيَادَةِ الْكَسْبِ فَإِنْ قُلْتَ وَكَانَتْ لَا تَجْتَمِعُ فَتَبْلُغُ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ إِلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ عَنْ وَقْتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ إِذَا جُمِعَتْ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ بَلَغَتْ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا قَارَبَهَا فَفِي وُجُوبِ جَمْعِهَا لِلتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ جَمْعُهَا وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ فَصَارَ كَالْقَادِرِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ وَيَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْعِتْقِ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ حَتَّى جَمَعَ فَاضِلَ الْكَسْبِ فَبَلَغَ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يكفر بالعتق اعتباراً بوقف الْأَدَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ يَزِيدُ عَلَى مَسْكَنِ مِثْلِهِ وَخَادِمٌ يَزِيدُ عَلَى خَادِمِ مِثْلِهِ وَثِيَابٌ تَزِيدُ عَلَى ثِيَابِ مِثْلِهِ نَظَرَ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْدَالُ بِذَلِكَ وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ بَلَغَتْ زِيَادَةُ أَثْمَانِهَا قِيمَةَ الرَّقَبَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا وَبَاعَ مَسْكَنَهُ أَوْ خَادِمَهُ أَوْ ثِيَابَهُ وَاشْتَرَى مِنْ أَثْمَانِهَا مَسْكَنَ مِثْلِهِ وَخَادِمَ مِثْلِهِ وَثِيَابَ مِثْلِهِ وَصَرَفَ فَاضِلَ الْأَثْمَانِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ صَامَ تَطُوُّعَا أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ الَتِي نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِهَا اسْتَأْنَفَهُمَا متتابعين وقال في كتاب القديم إن أفطر المريض بنى واحتج في القاتلة التي عليها صوم شهرين متتابعين إذا حاضت أفطرت فإذا ذهب الحيض بنت وكذلك المريض إذا ذهب المرض بنى (قال) المزني رحمه الله وسمعت الشافعي منذ دهر يقول: إن أفطر بنى (قال المزني) رحمه الله: وإن هذا لشبيه لأن المرض عذر وضرورة والحيض عذر وضرورة من قبل الله عز وجل يفطر بهما في شهر رمضان وبالله التوفيق) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ فِي الظِّهَارِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى {فصيام شهرين متتابعين} كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ بِعُذَرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ وَبَطَلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّوْمِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ عَلَى صِفَةٍ فَإِذَا كَانَ بِخِلَافِ الصِّفَةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرَيْنِ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ بَطَلَ بِهِ التَّتَابُعُ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا لِأَنَّ التَّتَابُعَ مُسْتَحَقٌّ لِصَوْمِ الظِّهَارِ لَا لِغَيْرِهِ فَإِذَا تَخَلَّلَهُ غَيْرُهُ زَالَ عَنْهُ صِفَتُهُ الْمُسْتَحَقَّةُ فَبَطَلَ بِهِ التَّتَابُعُ وَجَرَى صَوْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مَجْرَى فِطْرِهِ فِي حُكْمِ صَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِنِ اعْتَدَّ بِمَا نَوَاهُ مِنَ الصِّيَامِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّتَابُعِ قَدْ أَفْسَدَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الصَّوْمِ وَإِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَالْأَعْذَارُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اخْتَصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِالزَّمَانِ. فَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ فَالْأَعْذَارُ الَّتِي يُفْطِرُ بِهَا فِي صَوْمِهِ سِتَّةُ أَعْذَارٍ. أَحَدُهَا: الْحَيْضُ وَهَذَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالنِّسَاءِ لَا يَكُونُ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ لِاخْتِصَاصِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ وَاحِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ التَّتَابُعِ فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُسْتَحَقَّيْنِ فَبَدَأَ بِالْحَيْضِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَإِذَا وُجِدَ الْحَيْضُ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ بَطَلَ بِهِ الصَّوْمُ فِي زَمَانِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْفِطْرَ بِهِ وَمُنَافَاةِ الصَّوْمِ لَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّتَابُعُ وَلَا مَا تَقَدَّمَ بِهِ مِنَ الصَّوْمِ وَجَازَ الْبِنَاءُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّوْمِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أحدهما: لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ فَخَالَفَ حُكْمَ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عذر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 والثاني: أنه سب وَقَعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَخَالَفَ حُكْمَ الْفِطْرِ عَنِ اخْتِيَارٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ زَمَانَهُ يُنَافِي الصَّوْمَ فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ وَخَالَفَ الزَّمَانَ الَّذِي لَا يُنَافِي الصَّوْمَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ عَادَاتِ النِّسَاءِ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا فَلَمْ تُكَلَّفْ مَا لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِطْرُهَا بِالنِّفَاسِ لَا يُقْطَعُ بِهِ التَّتَابُعُ وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي عَلَى التَّعْلِيلِ الرَّابِعِ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ التَّتَابُعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَالِبٍ وتقدم على صوم شهرين لإنفاس فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا لَكِنَّ حُكْمَ النِّفَاسِ مُلْحَقٌ بِالْحَيْضِ فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ عِلَلِهِ. وَالْعُذْرُ الثَّانِي: الْمَرَضُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَيْضِ فَإِذَا أَفْطَرَ بِهِ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ فَفِي بُطْلَانِ تَتَابُعِهِ قَوْلَانِ: - أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ يَجُوزُ الْبِنَاءُ تَعْلِيلًا بِمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ التَّتَابُعَ قَدْ بَطَلَ تَعْلِيلًا بِمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْمَرَضِ مُجْزِئٌ وَفِي الْحَيْضِ غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَا مَرَضَ فِيهِمَا وَلَا يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا. وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ: الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفِطْرِ بِالْمَرَضِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَانَ الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَوْلَى أَنْ يَقْطَعَ التَّتَابُعَ لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ وَهُمَا أَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْأَغْلَبِ خُلُوُّهُ مِنَ السَّفَرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرَضَ لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ لِعِلَّتَيْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ فَاسْتَوَيَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبْطِلُ التَّتَابُعَ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ وَقَعَ بِاخْتِيَارٍ فَخَالَفَ الْمَرَضَ الْوَاقِعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ: الْفِطْرُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفِطْرِ بِالْمَرَض فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يبطل التتابع كان الفطر بالجنون بالإغماء أَوْلَى أَنْ لَا يُبْطِلَ التَّتَابُعَ لِوُجُودِ عِلَّتَيْهِ وَهُمَا: الْعُذْرُ وَوُقُوعُ سَبَبِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ بِعِلَّتَيْنِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ الْفِطْرُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُبْطِلُهُ تَعْلِيلًا بِإِمْكَانِ خُلُوِّهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُبْطِلُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ كَالْحَيْضِ وَلَا يُنَافِيهِ الْمَرَضُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَصَارَ الْمَرَضُ مُوَافِقًا لِلْحَيْضِ فِي عِلَّتَيْنِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي عِلَّتَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالسَّفَرُ مُوَافِقٌ لِلْحَيْضِ فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ثَلَاثِ عِلَلٍ فَلِذَلِكَ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمَرَضِ وَالْجُنُونُ، وَالْإِغْمَاءُ مُوَافِقٌ لِلْحَيْضِ فِي ثَلَاثِ عِلَلٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلِذَلِكَ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَرَضِ. وَالْعُذْرُ الْخَامِسُ: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا بِالْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِخَوْفٍ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَهُوَ كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فَيَكُونُ بُطْلَانُ التَّتَابُعِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِخَوْفِهِمَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا فَإِنْ قِيلَ: فَالْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ لِعِلَّتَيْنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ. وَالثَّانِي: يُبْطِلُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ وَقَعَ عَنِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي السَّفَرِ. وَالْعُذْرُ السَّادِسُ: الْإِكْرَاهُ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْأَكْلِ بِأَنْ يُوجَرَ فِي حَلْقِهِ كُرْهًا فَلَا يُفْطِرُ. وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَتَتَابُعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُكَرَهُ بِالضَّرْبِ وَمَا يَصِيرُ بِهِ مُكْرَهًا لِيَأْكُل فَيَأْكُلُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ فَفِي فِطْرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَالِفِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ يَصِيرُ حَانِثًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَلَا يُفْطِرُ فِي صَوْمِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عَلَى تَتَابُعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِوُجُودِ عِلَّتَيْنِ وَعَدَمِ عِلَّتَيْنِ كالمرض: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 أَحَدُهُمَا: لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبْطِلُ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ وَلِإِمْكَانِ خُلُوِّ الصَّوْمِ مِنْهُ. فَأَمَّا الْأَكْلُ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلِأَنَّ وُجُودَ مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ لَا يُؤْمَنُ وَإِذَا كَانَ عَلَى صَوْمِهِ كَانَ عَلَى تَتَابُعِهِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُخْتَصَّةُ بالزمان فأربعة: - أحدهما: شهر رمضان يمنع من صوم غيهر فِيهِ. وَالثَّانِي: يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ الصِّيَامِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ كَيَوْمِ الْفِطْرِ يَمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ الصَّوْمِ. وَالرَّابِعُ: أَيَّامُ التشويق الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا تَطَوُّعًا وَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا فِي كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ فَلَا تَصُومُوا) فَإِنْ مُنِعَ مِنْ صَوْمِهَا فِي الْمُتَعِ مُنِعَ مِنْهَا فِي كُلِّ صَوْمٍ وَكَانَتْ كَيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنْ جُوِّزَ صَوْمُهَا فِي التَّمَتُّعِ فَفِي جَوَازِ صَوْمِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّوْمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ تَحْرِيمِهَا وَاسْتِثْنَاءِ التَّمَتُّعِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَوَازَ صَوْمِهَا فِي التَّمَتُّعِ مُوجِبٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَوْمٍ لَهُ سَبَبٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ يَخْتَصَّانِ بِقَطْعِ صَوْمِ الظِّهَارِ وَهُمَا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَقَدَّمُهُمَا مَا يَقْطَعُ الصَّوْمَ فَصَارَا قَاطِعَيْنِ لِلصَّوْمِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ صَوْمِ الظِّهَارِ لِأَنَّهُ إِنْ نَوَى صَوْمَ الظِّهَارِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهُ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ نَوَاهُ وَلَمْ يُجْزِ عَنِ الظِّهَارِ، وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَلِمُنَافَاتِهِ كُلَّ الصِّيَامِ بِوُجُوبِ الْفِطْرِ فِيهِ ثُمَّ يَقْطَعَانِ التَّتَابُعَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى صَوْمِهِ بِاخْتِيَارِهِ لِإِمْكَانِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمَا فَصَارَ كَالْمُفْطِرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْقَطِعَ الصَّوْمُ بِهِمَا، أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ فَيَتَقَدَّمُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُخْتَصُّ بِقَطْعِ الصَّوْمِ وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَيَتَقَدَّمُهَا يَوْمُ النَّحْرِ الْمُخْتَصُّ بِقَطْعِ الصَّوْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ هَذَانِ الصَّوْمَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِقَطْعِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِوُجُودِهِمَا فِي تَضَاعِيفَ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّا بِمَنْعِ ابْتِدَاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 صوم الظهار، فإن صام أول شهر شَوَّالٍ حَتَّى دَخَلَ فِي صَوْمِهِ يَوْمُ الْفِطْرِ لم يعقد بِهِ وَحْدَهُ وَبَنَى عَلَى مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ إِذَا ابْتَدَأَ بِهَا فِي صَوْمِ ظِهَارِهِ فَإِنْ قِيلَ بِمَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجُوزُ صومها فيما له سبب لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِيمَا لَهُ سَبَبٌ وَمَا لَا سَبَبَ لَهُ مَنَعْتَ ابْتِدَاءَ الصِّيَامِ وَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شهرين متتابعين والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِذَا صَامَ بِالْأَهِلَّةِ صَامَ هِلَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهُ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فِي أَوَّلِهِ وَاسْتَهَلَّ الشَّهْرَ بِصَوْمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ هِلَالَيْنِ لِأَنَّ شُهُورَ الشَّرْعِ هِيَ الشُّهُورُ الْهِلَالِيَّةُ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وَشُهُورُ الْأَهِلَّةِ قَدْ تَكْمُلُ تَارَةً فَتَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَنْقُصُ أُخْرَى فَتَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَحُكْمُ الشَّهْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ) يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: (وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ وَثَنَى إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَأَنَّهَا عَقْدُ خَمْسِينَ يَعْنِي تسعة وعشرين) وقالت عائشة - رضي الله عنه - (صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ) فَإِنْ كَانَ شَهْرَا صَوْمِهِ كَامِلَيْنِ صَامَ سِتِّينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ صَامَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلًا وَالْآخَرُ نَاقِصًا صَامَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا. (فَصْلٌ:) وَإِنِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّوْمِ وَقَدْ مَضَى مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَكَانَ أَوَّلُ صَوْمِهِ الْحَادِي عَشَرَ فَيَصُومُ بَاقِيَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ كَامِلًا وَكَانَ بَاقِيهِ عِشْرِينَ يَوْمًا صَامَ الشَّهْرَ الَّذِي بَعْدَهُ مَا بَيْنَ هِلَالَيْنِ كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا ثُمَّ صَامَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ يَسْتَكْمِلُ بِهَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ وَقَدْ أَكْمَلَ بِهَا صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ نَاقِصًا وَكَانَ بَاقِيهِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَامَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا يَسْتَكْمِلُ بِهَا الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِكَمَالِهِ دُونَ نُقْصَانِهِ. . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ هِيَ عِدَّةُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ صَوْمِهِ لِأَنَّ الشَّهْرَ النَّاقِصَ لَا يَلْزَمُ تَكْمِيلُهُ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّهْرَ إِذَا فَاتَ هِلَالُهُ وَجَبَ عَدَدُهُ وَإِذَا عُدَّ وَجَبَ أَنْ يُسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 وَلَأَنْ يَعُدَّ مَا صَامَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُدَّ مَا لَمْ يَصُمْ وَقَدْ صَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ تَرَكَ مِنْ أَوَّلِهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصُومَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ليكمل بها ثلاثين يوماً (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يُقَدِّمَ نِيَّةَ الصَّوْمِ قَبْلَ الدُّخُولِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ النِّيَّةُ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ مستحقة قبل الفجر لأنه صوم واجب عليه أَنْ يُجَدِّدَ النِّيَّةَ لِكُلِّ يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ تَتَابُعُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ نِيَّةِ الصَّوْمِ أَنْ يَنْوِيَ التَّتَابُعَ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَتَابُعَ الصَّوْمِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّتَابُعِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّوْمِ ثُمَّ كَانَتْ نِيَّةُ الصَّوْمِ وَاجِبَةً فَكَذَلِكَ نِيَّةُ التَّتَابُعِ، فَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ وَلَمْ يَنْوِ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَابَعَةُ صَلَاتَيِ الْجَمْعِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَذَلِكَ مُتَابَعَةُ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْمُتَابَعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ نِيَّةُ التَّتَابُعِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَلَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِخِلَافِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الصَّوْمِ بِخُرُوجِ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ تَجْدِيدُ نِيَّةِ الصَّوْمِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ التَّتَابُعِ بِخُرُوجِ الْيَوْمِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ نِيَّةِ التَّتَابُعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَا يَلْزَمُهُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ بِحَالٍ لَا فِي جَمِيعِهِ وَلَا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّ تَتَابُعَ الصَّوْمِ مِنْ شروطه وأحكامه والعبادة إذا تضمت شُرُوطًا وَأَحْكَامًا أَجْزَأَتِ النِّيَّةُ لَهَا عَنِ النِّيَّةِ لِشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا كَالنِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ تُغْنِي عَنْ أَنْ يَنْوِيَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَشُرُوطٍ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ نَوَى صَوْمَ يَوْمٍ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ أَفَاقَ قَبْلَ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَطْعَمْ أَجْزَأَهُ إِذَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَهُوَ يَعْقِلُ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ وهو يعقل (قال المزني) رحمه الله: كل من أصبح نائماً في شهر رمضان صام وإن لم يعقله إذا تقدمت نيته (قال) ولو أغمي عليه فيه وفي يوم بعده ولم يطعم استأنف الصوم لأن في اليوم الذي أغمي عليه فيه كله غير صائم ولا يجزئه إلا أن ينوي كل يوم منه على حدته قبل الفجر لأن كل يوم منه غير صاحبه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُنُونُ فَيُبْطِلُ الصَّوْمَ سَوَاءً كَانَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ أَوْ فِي بَعْضِهِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ وَيُنَافِي الْعِبَادَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَإِنِ اسْتَدَامَ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ أَبْطَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِالنَّوْمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالنَّوْمِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَبْطُلُ بِالنَّوْمِ كَمَا يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ صِحَّةٌ مُعْتَادَةٌ إِذَا نُبِّهَ مَعَهَا تَنَبَّهَ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْيَقَظَةِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ وَالْإِغْمَاءُ مَرَضٌ يُزِيلُ التَّمْيِيزَ وَيُفَارِقُ الشَّهْوَةَ وَيُفَارِقُ الْعَادَةَ وَلَا يَنْتَبِهُ إِذَا نُبِّهَ فَصَارَ بِالْجُنُونِ أَشْبَهَ، فَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ وَأَفَاقَ فِي بَعْضِهِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الظِّهَارِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَعِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ بِحُدُوثِ الْإِغْمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ وَهُوَ يَعْقِلُ، وَإِنْ كَانَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَعِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ أَفَاقَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ صَحَّ يَوْمُهُ. وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَلَوْ حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا فَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا اخْتِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِوُجُودِ الْإِغْمَاءِ فِي بَعْضِهِ كَالْجُنُونِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْإِغْمَاءِ إِذَا وُجِدَتِ الْإِفَاقَةُ فِي بَعْضِهِ كَالنَّوْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِحُدُوثِ الْإِغْمَاءِ فِي بَاقِيهِ وَإِنْ كَانَ الْإِغْمَاءُ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ الْإِفَاقَةِ فِي بَاقِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ مَعَ الْإِغْمَاءِ إِلَّا أَنْ تُوجَدَ الْإِفَاقَةُ فِي طَرَفَيْهِ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَفِي آخِرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْقَصْدِ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَةِ وَآخِرِهَا كَمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَنْكَرَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ تَخْرِيجَهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَجَعَلُوهُ مَذْهَبًا لَهُمَا وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَوَّلِ الصَّوْمِ وَآخِرِهِ بِأَنَّ أَوَّلَ الصَّوْمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْإِفَاقَةُ وَآخِرَهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْإِفَاقَةُ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ في كتاب الصيام مستوفاة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي الشَّهْرَيْنِ أَعَادَ شهر رمضان واستأنف شهرين (قال) وأقل ما يلزم من قال إن الجماع بين ظهراني الصوم يفسد الصوم لقوله تعالى {من قبل أن يتماسا} أن يزعم أن الكفارة بالصوم والعتق لا يجزئان بعد أن يتماسا (قال) والذي صام شهرا قبل التماس وشهراً بعده أطاع الله في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 شهر وعصاة بالجماع قبل شهر يصومه وإن من جامع قبل الشهر الآخر منهما أولى أن يجوز من الذي عصى الله بالجماع قبل الشهرين معا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو إِذَا صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي شَهْرَيِ الظِّهَارِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدَمَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ صَوْمِهِ فَيَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ فَلَا يُجْزِيهِ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ شَوَّالٍ وَبَنَى عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ شَوَّالٍ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ إِنْ كَانَ قَدْ نَوَاهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤَخِّرَ رَمَضَانَ فِي آخِرِ صَوْمِهِ فَيَصُومُ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ فَلَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُمَا أَمَّا رَمَضَانُ فَلِأَنَّهُ زَمَانُهُ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ وَأَمَّا شَعْبَانُ فَلِأَنَّ رَمَضَانَ قَدْ أَبْطَلَ تَتَابُعَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَيَسْتَأْنِفَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي وَسَطِ صَوْمِهِ كَأَنَّهُ صَامَ مِنْ نِصْفِ شَعْبَانَ إِلَى نِصْفِ شَوَّالٍ فَيَعْتَدُّ مِنْ شَوَّالٍ بِمَا بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ مِنْهُ وَيَبْنِي عَلَيْهِ تَمَامَ شَهْرَيْنِ وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْ شَعْبَانَ لِقَطْعِ تَتَابُعِهِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ وَيُعِيدُ صَوْمَ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ صَامَهُ عَنِ الظِّهَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: {وَإِنَّمَا حُكْمُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ حَيْنَ يُكَفِّرُ كَمَا حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يُصَلِّي) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ أَبْدَالَهَا مُرَتَّبَةٌ يَلْزَمُ فِيهَا الْعِتْقُ وَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِعْسَارِ وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ إِلَّا بِالْعَجْزِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يُرَاعَى بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الظِّهَارِ أَنَّ الْمُرَاعَى بِهِ حَالُ الْأَدَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْتَبِرَ بِحَالِ أَدَائِهِ لَا حَالِ وُجُوبِهِ كَالطَّهَارَةِ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ حَتَّى عَدِمَهُ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَتَيَمَّمْ حَتَّى وَجَدَ الْمَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَرْضٌ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ معتبراً بأدائه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 كَالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى مَرِضَ صَلَّى صَلَاةَ مَرِيضٍ وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى صَحَّ صَلَّى صَلَاةَ صَحِيحٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ وَوَجْهُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يجد فصيام شهرين متتابعين} وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَمَّا مَضَى فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا) وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْحُدُودِ حَالُ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِكْرًا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ حُدَّ حَدَّ الْبِكْرِ وَلَوْ زَنَى وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِاسْمِ التَّكْفِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ حَالُ الْوُجُوبِ كَالْمَحْدُودِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ لِامْتِنَاعِ وُجُوبِ مَا لَا يُعْلَمُ صِفَتُهُ، وَالْحَالُ صِفَتُهَا يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ بَدَلًا وَفَسْخًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَاعَى بِهَا أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إِلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مُتَوَسَّعُ الْوَقْتِ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِوُجُودِ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ تَغْلِيظٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْفَكَّ فِي أَحْوَالِهَا عَنِ التَّغْلِيظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ حِينِ عَوْدِهِ فِي ظِهَارِهِ إِلَى وَقْتِ تَكْفِيرِهِ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْعِتْقِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِالْعِتْقِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي كُلِّ الْبِلَادِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي بَلَدِ تَكْفِيرِهِ مُوسِرًا فِي غَيْرِهِ فَالْكَفَّارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مَحَلُّهُ مُعَيَّنًا مِثْلَ كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ بِالْحَجِّ فَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِمَكَّةَ مُوسِرًا فِي غَيْرِهَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ المعسر في جواز صوم اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَحَلُّهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ بِتَأْخِيرِهِ ضَرَرٌ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْحِنْثِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوسِرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْقِ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِهِ حَرَجٌ وَلَا ضَرَرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ لَكِنْ يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَرَرٌ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ قَدْ يَلْحَقُهُ فِي تَأْخِيرِهَا ضَرَرٌ وَإِنْ جَازَ لِمَا عَلَيْهِ مِنِ اجْتِنَابِ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوسِرِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُعْسِرِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي تأخير التكفير. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا عِنْدَ الْعَوْدِ مُعْسِرًا عِنْدَ الْأَدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ أو بأغلط الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ. وَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ وَإِنْ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ العتق أغلظ من التكفير بالصوم. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَقْتَ الْعَوْدِ مُوسِرًا عِنْدَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ أَوْ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ. والحالة الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا فِي الطَّرَفَيْنِ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ وَمُعْسِرًا فِي الْوَسَطِ فَفَرْضُهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا الْعِتْقُ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ موسراً وعند الأداء موسر وأغلظ الأحوال اليسار. والحالة السَّادِسَةُ: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فِي الطَّرَفَيْنِ مُوسِرًا فِي الْوَسَطِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِأَغْلَظِ الْأَحْوَالِ فَفَرْضُهُ الْعِتْقُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ له أن يمضي على الصيام والاختبار لَهُ أَنْ يَدَعَ الصَّوْمَ وَيُعْتِقَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا دَخَلَ المكفر فِي الصِّيَامِ لِاسْتِدَامَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي تَضَاعِيفِ صَوْمِهِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيُجْزِئُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنْ قَطَعَ صَوْمَهُ وَكَفَّرَ بِالْعِتْقِ كَانَ أَفْضَلَ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِتْمَامِهَا وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَاسْتِئْنَافِهَا بِالْوُضُوءِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ يَلْزَمُهُ قَطْعُ صَوْمِهِ وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَاسْتِئْنَافُهَا بِالْوُضُوءِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمُتَيَمِّمِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَضَى الْكَلَامُ فِي الْكَفَّارَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِذَا أَيْسَرَ الْمُتَمَتِّعُ فِي تَضَاعِيفِ صَوْمِهِ تَمَّمَ صَوْمَهُ وَأَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ كَفَّرَ بِالدَّمِ وَإِنْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الصَّوْمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُكَفِّرُ بِالدَّمِ سَوَاءً أَيْسَرَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَوِ السَّبْعَةِ لَكِنْ نَقْتَصِرُ على بعد الْأَدِلَّةِ لِمَا قَدْ أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا مِنَ الْأَسْئِلَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يتماسا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} فأوجب العتق فيه على من إن لَمْ يَجِدْهُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ بِالْإِعْسَارِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ بِحُدُوثِ الْيَسَارِ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مُعْسِرٍ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِحُدُوثِ الْيَسَارِ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِ الصَّوْمِ أَصْلُهُ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الصَّوْمِ. (مسألة:) قال المزني رحمه الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضَهُ مَا جَازَ اخْتِيَارُ إِبْطَالِ الْفَرْضِ وَالرَّقَبَةُ فَرْضٌ وَإِنْ وَجَدَهَا لَا غيرها كما أن والوضوء بِالْمَاءِ فَرْضٌ إِذَا وَجَدَهُ لَا غَيْرُهُ وَلَا خيار في ذلك بين أمرين فلا يخلو الداخل في الصوم إذا وجد الرقبة من أن يكون بمعناه المتقدم فلا فرض عليه إلا الصوم فكيف يجزئه العتق وهو غير فرضه أو يكون صومه قد بطل لوجود الرقبة فلا فرض إلا العتق فكيف يتم الصوم فيجزئه وهو غير فرضه فلما لم يختلفوا أنه إذا اعتق أدى فرضه ثبت أن لا فرض عليه غيره وفي ذلك إبطال صومه كمعتدة بالشهور فإذا حدث الحيض بطلت الشهور وثبت حكم الحيض عليها ولما كان وجود الرقبة يبطل صوم الشهرين كان وجودها بعد الدخول في الشهور يبطل ما بقي من الشهور وفي ذلك دليل أنه إذا وجد الرقبة بعد الخول بطل ما بقي من الشهرين. وقد قال الشافعي رحمه الله بهذا المعنى زعم في الأمة تعتق وقد دخلت في العدة أنها لا تكون في عدتها حرة وتعتد عدة أمة وفي المسافر يدخل في الصلاة ثم يقيم لا يكون في بعض صلاته مقيماً ويقصر ثم قال وهذا أشبه بالقياس (قال المزني) فهذا معنى ما قلت وبالله التوفيق) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ أَعْرَضَ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ بِخَمْسَةِ أَسْئِلَةٍ: أَحَدُهَا: إِنْ قَالَ لَوْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضَهُ مَا جَازَ إِبْطَالُ الْفَرْضِ وَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْعِتْقِ دُونَ الصَّوْمِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ تَخْفِيفٌ وَالْعِتْقَ تَغْلِيظٌ وَإِسْقَاطُ الْأَخَفِّ بالأغلظ يجوز كما أن فرض لواجد لِلْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ التَّيَمُّمُ وَلَوِ اشْتَرَى الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْضَهُ، وَالْمَرِيضُ فَرْضُهُ فِي الصَّلَاةِ الْقُعُودُ وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي قِيَامِهِ أَجْزَأَهُ كَمَا أَنَّ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ فَرَضُهُ الصَّوْمُ وَلَوِ اسْتَدَانَ وَأَعْتَقَ أَجَزْأَهُ الْعِتْقُ كَذَلِكَ إِذَا أَيْسَرَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّوْمِ. وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالَ الْفَرْضُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَإِذَا خُيِّرَ بين إتمام الصوم والعتق جَعَلْتَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَفِي هَذَا إِحَالَةُ فَرْضٍ وَتَغْيِيرُ نَصٍّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ فَرْضَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُوبِ وَعَلَى التَّمْيِيزِ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَالْمُعْسِرِ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ مِنْ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ إِذَا اسْتَحَبَّ التَّغْلِيظَ وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ إِحَالَةُ فَرْضِهَا مِنَ التَّرْتِيبِ إِلَى التَّخْيِيرِ. وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ إِذَا حَاضَتْ فِي تَضَاعِيفِ شُهُورِهَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَاعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ وَبَطَلَتْ شُهُورُهَا كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ وَإِنِ انْتَقَلَتْ بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ شُهُورِهَا قُرْءًا ثُمَّ تُكْمِلُ أَقَرَاءَهَا بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِمَا مَضَى مِنَ الشُّهُورِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ الانتقال إلى الأقراء وليس يقع الاعتداء بِمَا مَضَى مِنَ الصَّوْمِ فَلَمْ يَلْزَمِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْعِتْقِ لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا فِي التَّكْفِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْعِتْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ شُهُورِهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى شَكٍّ مِنْ فَرْضِهَا لِجَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْحَيْضِ وَمِنَ الْحَيْضِ إِلَى الْحَمْلِ وَالدُّخُولُ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْفَرْضِ فِيهِ. وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ إِذَا أَيْسَرَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فَعَلَى هَذَا يسقط السؤال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَقَعُ الِاحْتِسَابُ بِمَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ وَلَا يَقَعُ الِاحْتِسَابُ بِمَا مَضَى مِنَ الصَّوْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعِدَّةِ بِالِانْتِهَاءِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْكَفَّارَةِ بِالِابْتِدَاءِ لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ عَنْهُ. وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: إِنْ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ نَاوِيًا الْقَصْرَ ثُمَّ أَقَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّهَا صَلَاةَ مُقِيمٍ وَلَا يَبْنِي وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى صَلَاةِ مُسَافِرٍ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهَا مُسَافِرًا كَذَلِكَ الْمُكَفِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إِذَا صَارَ مُوسِرًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ إِقَامَتِهِ وَهُوَ لَا يَعْتَدُّ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ فَافْتَرَقَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْعِتْقِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ هَكَذَا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ لِعَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ فَشَرَعَ فِيهِ فَأَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِسْكِينًا وَاحِدًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ وَجَازَ أَنْ يُخْرِجَ بَاقِيَ الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْبَدَلِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ عَنْ ظِهَارِي إِنْ تَظَهَّرْتَهُ كَانَ حُرًّا لِسَاعَتِهِ وَلَمْ يجزئه أن يتظهر لأنه لم يكن ظهاراً ولم يكن سبباً مِنْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُعْتَقُ عَلَيْهِ العبد لأنه قد أنجز عتقه ولا يجزيه عَنْ ظِهَارِهِ إِنْ تَظَاهَرَ لِوُجُوبِ الْعِتْقِ بِسَبَبَيْنِ هُمَا: الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُودِ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَلَا تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، وَلَوْ أَعْتَقَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ إِذَا عَادَ لِوُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُظَاهِرَةً وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالنَّخَعِيُّ يَكُونُ ظِهَارًا تَلْزَمُهَا بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لما قالوا فتحرير رقبة} فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِالظِّهَارِ فِي النِّسَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ النِّسَاءِ فِي الرِّجَالِ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ وَالْعَوْدُ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ كذلك الظهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 (باب الكفارة بالطعام) (مِنْ كِتَابَيْ ظِهَارٍ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ) (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى:) فيمن تظهر وَلَمْ يَجِدْ رَقَبَةً وَلَمْ يَسْتَطِعْ حِينَ يُرِيدُ الْكَفَّارَةَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ مَا كَانَتْ أَجْزَأَهُ أَنْ يُطْعِمَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِطْعَامِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصِّيَامِ قَالَ الله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يستطع فإطعام ستين مسكيناً} وَعَجْزُهُ عَنِ الصِّيَامِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْهَرَمِ فَهَذَا عَجْزٌ مُتَأَبِّدٌ يَجُوزُ مَعَهُ الْإِطْعَامُ وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْمَرَضِ فَهُوَ فِي مِثْلِ هَذَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِ الْإِطْعَامِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرَ حَالَ بُرْئِهِ، فَرُبَّمَا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْفَوْرِ. ثُمَّ الْعَجْزُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْدِرَ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَلْحَقَهُ الْمَشَقَّةُ الْغَالِبَةُ فِي صِيَامِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ وَلَا يُرَاعَى عَدَمُ الْقُدْرَةِ بِكُلِّ حَالٍ وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَوْ كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى صَوْمِ أَحَدِ الشَّهْرَيْنِ عَاجِزًا عَنِ الْآخَرِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنْهُمَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ لِأَنَّ تَبْعِيضَ الصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ وَهَكَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَى الصِّيَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّتَابُعِ فِيهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنْهُ فِي الْعُدُولِ إِلَى الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عَمَّا يُجْزِئُ مِنَ الصِّيَامِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا} . قَالَ المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ. . الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُقَدَّرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَا يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ وَهُوَ عِنْدَنَا مُدٌّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُدَّانِ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 وَالثَّانِي: بِمَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ وَهُمْ عِنْدَنَا سِتُّونَ مِسْكِينًا فَإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ دَفَعَ ذلك القدر إلى مسكين واحد من سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى {فإطعام ستين مسكيناً} وَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ فَجَازَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مِسْكِينٌ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فَجَازَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْهَا كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ فَاسْتَوَى سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ مَنْ شَخْصٍ وَسَدُّهَا مِنْ سِتِّينَ شَخْصًا لِوُجُودِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمُدُّ الْوَاحِدُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ وَيَقُومَ مُقَامَ سِتِّينَ مُدًّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ يُعْطِيَهُ فَيَقُومُ مُقَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى {فإطعام ستين مسكينا} فَأَمَرَ بِفِعْلِ الْإِطْعَامِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَطْعُومِ وَقَرَنَهُ بِعَدَدٍ فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْعَدَدِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الطَّعَامِ وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْدِيرَ الطَّعَامِ دُونَ الْمَطْعُومِ لَقَالَ: وَطَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى أَنَّ فِي الْإِطْعَامِ تَقْدِيرَ الطَّعَامِ وَالْمَطْعُومِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الطَّعَامِ دُونَ الْمَطْعُومِ فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْعُ الْأَخْذِ مِنْهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعْيِينِ الْمَسَاكِينِ وَهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ قُلْنَا: إِنَّمَا يُعَيَّنُ فِي الْمَنْعِ دُونَ الدَّفْعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا يَتَعَيَّنُ مَنْعُهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَلَا تُؤَدِّي إِلَى تَعْيِينِ الْمَسَاكِينِ كَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُدًّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ خِلَافًا لِأَمْرِهِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ بِكَفَّارَتِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى سَدِّ جَوْعَتِهِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ الْمُخْتَلِفَةِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي سَدِّ جَوْعَتِهِ بِهِ. قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أنه لو منع منها في اليوم الواحد لِاسْتِغْنَائِهِ لَمُنِعَ مَنْ غَيْرِهَا فِيهِ وَهُوَ لَا يُمْنَعُ مَنْ غَيْرِهَا فَبَطَلَ بِهَذَا التَّعْلِيلُ. وَالثَّانِي: أنه لو منع منها في اليوم الواحد لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَجَازَ إِذَا سَرَقَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لِحَاجَتِهِ وَهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ فَبَطَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوِ اسْتَبْقَى قُوتَ يَوْمِهِ إِلَى غَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قُوتَ غَدِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْهَا فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فِي يَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فِي غَدِهِ، كَالْغَنِيِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الصِّفَةَ إِذَا اشْتُرِطَتْ فِي عَدَدٍ وَلَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِالصِّفَةِ لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِالْعَدَدِ كَالشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ وَالْعَدَدُ، كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدٌ وَمَسْكَنَةٌ. وَقِيَاسٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ صَرْفُهُ فِي عَدَدٍ عَلَى صِفَةٍ فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ كَالْوَصِيَّةِ لِعَشْرَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْمَسَاكِينِ. وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فِي الْآيَةِ شَيْئَيْنِ عَدَدٌ وَطَعَامٌ وَتَقْدِيرُ الطَّعَامِ مُسْتَفَادٌ بِالِاجْتِهَادِ لِاجْتِهَادِ النَّاسِ فِيهِ وَعَدَدُ الْمَسَاكِينِ مُسْتَفَادٌ بِالنَّصِّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَرْكُ مَا اسْتُفِيدَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ تَقْدِيرِ الطَّعَامِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ تَرْكُ مَا اسْتُفِيدَ بِالنَّصِّ مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ. وَاسْتِدْلَالٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الْعَدَدِ الْمَأْمُورِ بِهِ سِتُّونَ فَنَحْنُ جَعَلْنَاهُ عَدَدَ السِّتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ مَنْصُوصٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَهُ عَدَدَ السِّتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ، ثُمَّ لَوِ اسْتَوَيَا فِي الِاحْتِمَالِ كَانَ مَا قَالَهُ فَاسِدًا لِلِاعْتِلَالِ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُ وَعِنْدَنَا مَعَ فَقْدِ اعْتِلَالِهِ وَوُجُودِ عِلَّتِنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَخْذُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ لَا زَوَالُ الْمَسْكَنَةِ اعْتِبَارًا بِالْيَوْمِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّهُ مِسْكِينٌ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ نَقْلِبَ الْعِلَّةَ عَلَيْهِ فَنَقُولُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ كَفَّارَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا ثَانِيَةً كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَوْصَافًا مِنْ تِلْكَ بِوَصْفٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ وَنَحْنُ قُلْنَا: اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمِهِ فَأَثْبَتُوا الْإِضَافَةَ الَّتِي أَسْقَطْنَاهَا وَهِيَ زِيَادَةُ وَصْفٍ وإذا تَعَارَضْتِ الْعِلَّتَانِ وَقَلَّتْ أَوْصَافُ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ أَوْلَى، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي أَصْلِ عِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَفَّارَةِ سَدُّ سِتِّينَ جَوْعَةٍ فَهُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنْ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ لَوْ أَخَذَ جَمِيعَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَسَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ فِي سِتِّينَ يَوْمًا لَمْ يُجْزِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ السَّدُّ الْوَاحِدُ جَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي تَكْرَارِ الْمُدِّ اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ فَجَازَ وَلَيْسَ فِي تَكْرَارِ الْمِسْكِينِ اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ فلم يجز. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَكْرَارُ الْمُدِّ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ جَازَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَكْرَارُ الْمِسْكِينِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (كُلُّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ أَرُزًّا أَوْ سُلْتًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ أَقِطًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مُدًّا وَاحِدًا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَتَمْرٍ وَزَبِيبٍ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا قِيلَ بِدُخُولِ الْإِطْعَامِ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَطْءُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْأَيْمَانُ إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى وَحْدَهَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: جَمِيعُ الْكَفَّارَاتِ سَوَاءٌ وَيَخْتَلِفُ الْمِقْدَارُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ بُرًّا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ قَدْرُهُ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ وَإِنْ كَانَ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَعْطَاهُ صَاعًا قَدْرُهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَعَنْهُ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ صاع كالبر والآخر صاعاً كَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ الْأَقْوَاتِ سَوَاءٌ وَيَخْتَلِفُ الْمِقْدَارُ بِاخْتِلَافِ الْكَفَّارَاتِ فَيُعْطَى فِيمَا سِوَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنْ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ مُدًّا بِمُدِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَيُعْطَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُدًّا بمد هشام وهو الحجاجي وقدره مد وثلثاً بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (أَعْتِقْ رَقَبَةً) قُلْتُ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: (صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ) قَالَ: لَا أَمْلِكُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلى صدقة بني زريق فخذها وأطعم منها سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا. قَالُوا فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ فَلَمْ يُجْزِ فِيهِ الْمُدُّ كَالْكَفَّارَةِ فِي الْأَذَى. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تعالى {فإطعام ستين مسكينا} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِطْعَامِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ إِلَّا مَا خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا نَقَصَ عَنِ الْمُدِّ. وَحَدِيثُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (أَعْتِقْ رَقَبَةً) قُلْتُ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: (صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَقُلْتُ: لا أستطيع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 فَقَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقُلْتُ: لَا أَمْلِكُ قَالَ: فَأَعْطَانِي خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَالَ: (أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا لِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا سِتُّونَ مُدًّا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ وَالْبُرَّ سَوَاءٌ لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ مُدِّ بُرٍّ لَا يُجْزِئُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا عَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِيُتَمِّمَ بَاقِيَهُ مِنْ عِنْدِهِ. قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلِكْتُ وَأَهْلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ) قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: (اعْتِقْ رَقَبْةً) فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: (صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقَالَ: لَا أَمْلِكُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق من تمر فقال: (خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: (كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُكَ) . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْعَرَقُ ما بين خمسة عشرة صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ صَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِسْكِينُ صَاعًا وَلَا نِصْفَهُ، وَالْعَرَقُ كَالزِّنْبِيلِ مِنْ خُوصٍ لَيْسَ لَهُ عُرًى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مد من حنظة وَبِغَيْرِ إِدَامِهِ، وَوَافَقَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ حَقُّ الْمِسْكِينِ بِصَاعٍ، كَالْبُرِّ، وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُخْرَجٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوَى فِي قَدْرِهِ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالدَّيْنِ. وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا بَدَلًا مِنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا فَجَعَلَ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِطْعَامِ فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يُعَانِيهِ وَيَنْزِفُهُ فِي الصِّيَامِ وَالَّذِي كَانَ يُعَانِيهِ جُوعُهُ فِي صِيَامِهِ فِي نَهَارِهِ تَرَفُهُ فِيهَا بِغَدَائِهِ فَلَزِمَ أَنْ يَسُدَّ جَوْعَةَ الْمِسْكِينِ بِمِثْلِهِ وَالْغَدَاءُ الَّذِي يَسُدُّ الْجَوْعَةَ فِي الْأَغْلَبِ مُدٌّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هذا القدر المدفوع إلى كل مسكين أن هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يُتْرِفُهُ بِهِ فِي صِيَامِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِفْطَارِهِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَوْسِ بن الصامت فتستعمل الْحَدِيثَيْنِ وَنَسْتَعْمِلُ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَدَفْعَ الْوَسْقِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 يَدْفَعَ مِنْهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَيَأْكُلَ الْبَاقِيَ، وَحَدِيثُ أَوْسٍ على أن اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قَدْ رَوَى حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا. أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْأَذَى فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَلَّ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ فِيهَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ قَدْرُ الطَّعَامِ فِيهَا وَلَمَّا كَثُرَ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ جَازَ أَنْ يَقِلَّ قَدْرُ الطَّعَامِ فِيهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يُوجِبُ تَقْدِيرَهُ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الْإِطْعَامِ بِمُدٍّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَهِيَ الْأَجْنَاسُ الْمُزَكَّاةُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الْمُقْتَاتَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْمُزَكَّاةِ وَإِنَّ كل مُقْتَاتاً إِلَّا الْأَقِطِ فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَفِي الْكَفَّارَاتِ إِذَا كَانَ قُوتًا لِلْمُزَكِّي وَالْمُكَفِّرِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُخْرِجَ مِنْ أَغْلَبِهَا قُوتًا فِي الْكَفَّارَةِ، فَأَمَّا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يُخُرِجَ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ لِأَنَّ النَّفْعَ بِهِ أَعَمُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ عَنْ مَالٍ وَبَدَنٍ فَلَمَّا كَانَ مَا وَجَبَ عَنِ الْمَالِ يَخْرُجُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْبَدَنِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ بَدَنِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ غَالِبُ الْقُوتِ شَعِيرًا فَأَخْرَجَ مَا هُوَ أَغْلَى مِنْهُ كَالتَّمْرِ وَالْبُرِّ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ بُرًّا فَأَخْرَجَ مَا هُوَ دُونَ مِنْهُ كَالشَّعِيرِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِئُ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ جُمْلَةَ سِتِّينَ مُدًّا أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَخْذَهُمُ الطَّعَامَ يَخْتَلِفُ فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَأْخُذُ أَقَلَّ وَغَيْرَهُ أَكْثَرَ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سَنَّ مِكْيَلَةَ طَعَامٍ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ كَفَّارَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَدَفْعُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ حُمِلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْطِيَهُمْ وَلَا يُمَلِّكَهُمْ إِيَّاهُ بِالسَّوِيَّةِ وَيَقُولُ: خُذُوهُ أَوْ كُلُوهُ فَلَا يُجْزِئُهُ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ خُذُوهُ فَقَدْ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ فَلَا تُحْتَسَبُ الزِّيَادَةُ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ فَلَا يُجْزِيهِ النُّقْصَانُ، وَإِنْ قَالَ: كُلُوهُ فَمَا مَلَّكَهُمْ وَإِنَّمَا أَبَاحَهُمْ وَالتَّكْفِيرُ يُوجِبُ تَمْلِيكَ الْفُقَرَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُمَلِّكَهُمْ ذَلِكَ وَيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِيهِ فَيَدْفَعُ إِلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا سِتِّينَ مُدًّا وَيَقُولُ: قَدْ مَلَّكْتُكُمْ هَذَا بَيْنَكُمْ بِالتَّسْوِيَةِ فَاقْتَسِمُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي إسحاق المروزي أنه يجزئه، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ حَصَلَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ قَدْ وُجِدَتْ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لا يجزيه حَتَّى يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَهُوَ مُدٌّ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْإِشَاعَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَيَحْتَاجُ إِلَى مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ رُطَبًا لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ مُؤْنَةِ تَجْفِيفِهِ وَلَا سُنْبُلًا لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ مُؤْنَةِ دياسته وتصفية. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا وَلَا خُبْزًا حَتَّى يُعْطِيَهُمُوهُ حَبًّا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى الْحُبُوبِ فَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَبَّ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَزَرْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ، فَإِذَا صَارَ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا أَوْ خُبْزًا نَقَصَتْ مَنَافِعُهُ وَإِخْرَاجُ النَّاقِصِ فِي مَوْضِعِ الْكَامِلِ غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْخُبْزِ لِأَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِلِاقْتِيَاتِ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَؤُونَةٍ وَعَمَلٍ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الِاقْتِيَاتَ أَحَدُ مَنَافِعِهِ وَإِذَا كَمُلَ اقْتِيَاتُهُ بِالْخُبْزِ فَقَدْ فَوَّتَ كَثِيرًا مِنْ مَنَافِعِهِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَدْعَى وَالنَّفْسُ إِلَيْهَا أَشْهَى. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَسَوَاءٌ مِنْهُمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَأَنَّ الصَّغِيرَ رُبَّمَا كَانَ أَمَسَّ حَاجَةً، وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ عِتْقُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ يَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ إِلَّا أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبْضُ مَا يُعْطَى حَتَّى يَقْبِضَهُ وَلَيُّهُ مِنَ الْمُكَفِّرِ أَوْ مِنَ الصَّبِيِّ بَعْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ فَيُجْزِئُ، فَإِنْ أَكَلَهُ الصَّبِيُّ أَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى وَلِيِّهِ لم يجزه وكذلك المجنون. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ كَفَّارَتَهُ أَوْ زَكَاتَهُ إِلَى أَحَدٍ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ وَالِدَيْهِ وَمِنْ مَوْلُودِهِ. فَالْوَالِدُونَ هُمُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَنَفَقَاتُهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِشَرْطَيْنِ الْفَقْرُ وَالزَّمَانَةُ. وَالْمَوْلُودُونَ: هُمُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَبَنُو الْبَنِينَ وَبَنُو الْبَنَاتِ وَنَفَقَاتُهُمْ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ الْفَقْرُ وَالصِّغَرُ أَوِ الزَّمَانَةُ مَعَ الْكِبَرِ، فَإِذَا وَجَبَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ غَيْرَ مجزئ لأمرين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ بِهِ أَغْنِيَاءُ وَالزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ لَا يُدْفَعَانِ إِلَى غَنِيٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُ مَا دَفَعَ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَاتُهُمْ بِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَفَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَلَمْ تُجْزِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى زَوْجَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَى زَوْجِهَا لِعَدَمِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِهَا غَنِيًّا وَلَا يَلْزَمُهَا نَفَقَتُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ بِهَا عَنْهَا شَيْئًا كَانَ يَلْزَمُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فهو ذا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَيْهَا. قِيلَ: لَيْسَ يَجِبُ لَهَا بِذَلِكَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَيْسَ يَصِيرُ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهَا غَنِيًّا فَلَيْسَ يَجِبُ لَهَا فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا نَفَقَةُ مُعْسِرٍ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا إِنْ أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَعَوْدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ. فَإِنْ كَانَ الْوَالِدُونَ وَالْمَوْلُودُونَ فُقَرَاءَ غَيْرَ زُمَنَاءَ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ لَا تَجِبُ فَيَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي مِنَ الْقَدِيمِ أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ لَمْ يجز دفعها إليهم. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا عَبْدًا وَلَا مُكَاتَبًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَلَا الزَّكَاةِ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ وَلَا إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَصَارَ ذَلِكَ دَفْعًا إِلَى سَيِّدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهَا بِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَهُوَ غَنِيٌّ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مَالٍ فَيَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِسَيِّدِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الزَّكَاةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ والعاملون [عليها] وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَازَ أن يدفع منها إلا الْمُكَاتَبِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِلَى غَنِيٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَاتَبِ، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَحُكْمِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ دَفْعُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ إِلَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. فِي الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى كَافِرٍ سَوَاءً كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَ الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ إِلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ وَمَنَعَ مِنْ دَفْعِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ إِلَّا لِمُسْلِمٍ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ: أَنَّهُ حَقٌّ مُخْرَجٌ بَاسِمِ التَّكْفِيرِ فَلَمْ يَجُزْ وَضْعُهُ فِي الْكُفَّارِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: ((وَقَالَ) فِي الْقَدِيمِ لَوْ عَلِمَ بَعْدَ إِعْطَائِهِ أَنَّهُ غنِيٌ أَجْزَأَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا أَقْيَسُ لِأَنَّهُ أَعْطَى مَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَلْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ وَالْخَطَأُ عِنْدَهُ فِي الْأَمْوَالِ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ إِلَّا فِي الْمَأْثَمِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى مِنَ الزَّكَوَاتِ أَوِ الْكَفَّارَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مستحقاً فَبَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِكَوْنِهِ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ قَلَّ مَا يَخْفَيَانِ مَعَهَا فَإِنَّ الْخَطَأَ فِيهَا لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِكَوْنِهِ غَنِيًّا، فَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِيهِ عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ مَعَ وُجُودِ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَفَا عَلَيْهِ وَسَأَلَاهُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ: (إِنْ شِئْتُمَا فَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) ثُمَّ أَعْطَاهُمَا رُجُوعًا إِلَى قَوْلِهِمَا وَعَمَلًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمُسْتَحِقِّ يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَمَا لَوْ بَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ فِي دَفْعِ الْحُقُوقِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا لَا يَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْهَا كَالْوَدَائِعِ إِذَا دُفِعَتْ إِلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا وَالدُّيُونِ إِذَا أُدِّيَتْ إِلَى غَيْرِ أَصْحَابِهَا، وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ، وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَالْمُصَلَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ في ثوبه نجاسة أو نسي قرأة الْفَاتِحَةِ وَمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ فِي رَمَضَانَ فَبَانَ أَنَّهُ صَامَ شَعْبَانَ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا قَوْلَانِ كَدَفْعِ الْكَفَّارَةِ إِلَى مَنْ بَانَ أنه غني. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَيُكَفِّرُ بِالطَّعَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مُدًّا عَنْ ظِهَارِهِ وَمُدًّا عَنِ الْيَمِينِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُمَا كفارتان مختلفتان) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَحْرِيمُ الْمَسِيسِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ فَمِمَّا أَجَابَهُ النَّصُّ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بما تعملون خبير فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 3، 4] وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمَسِيسِ قَبْلَ الْإِطْعَامِ فَقَدْ جَوَّزَهُ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الَثَّوْرِيُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الْعِتْقَ وَالصِّيَامَ بِتَحْرِيمِ الْمَسِيسِ قَبْلَهُمَا فَبَقِيَا عَلَى تَقْيِيدِهِمَا وَأَطْلَقَ الْإِطْعَامَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَحْرِيمِ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ فَحُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَسِيسَ قَبْلَ الْإِطْعَامِ يُحَرَّمُ كَتَحْرِيمِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَكْفِيرٌ عَنْ ظِهَارِهِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى مُقَيَّدٍ وَاحِدٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مُقَيَّدَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَوْكَدُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ لِتَغْلِيظِ حَالِ الظِّهَارِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيسِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ وَهُوَ أَطْوَلُ وَزَمَانُهُ أَضَرُّ كَانَ تَأْخِيرُهُ عَنِ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ مَعَ قُرْبِهِ أحق. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا كَفَّارَةً كَامِلَةً مِنْ أَيِّ الْكَفَّارَاتِ كَفَّرَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَلَا غَيْرَهَا مِنَ الْكَفَّارَاتِ فَيُعْتِقُ بَعْضَ رَقَبَةٍ وَيُتِمُّهَا بِبَعْضِ الصَّوْمِ أَوْ يَصُومُ بَعْضَ الصِّيَامِ وَيُتِمُّ بِالْإِطْعَامِ حَتَّى يُكْمِلَهَا مِنْ أَحَدِ الأجناس، فإذا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ كَمَّلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ كَمَّلَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ كَمَّلَ إطعام ستين مسكيناً لأن الله يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ وَلَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْنَاسٍ ثَلَاثَةٍ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِتَبْعِيضِ الْأَجْنَاسِ أَوْ تَفْرِيقِهَا جَامِعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَالْإِضْرَارُ يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: أَوَ لَسْتُمْ تَقُولُونَ فِيمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ أن يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيهِ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَل. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: ظَاهِرٍ وَمَعْنًى أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِأَنَّهُ فِي الْكَفَّارَةِ قَالَ {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} إِلَى أَنْ قَالَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 3، 4] فَجَعَلَ الصِّيَامَ بَدَلًا مِنْ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي كَانَتْ فَرَضَهُ فَي التَّكْفِيرِ وَقَالَ فِي التَّيَمُّمِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فَذَكَرَ مَاءً مُنْكَرًا فَصَارَ فَرْضَهُ أي ما وجده. أما الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ يَنُوبُ تَارَةً عَنْ طَهَارَةِ بَعْضِهِ فِي الْحَدَثِ وَلَا تُمَاثِلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 الطَّهَارَةُ فِي الْبَعْضِ عِتْقَ الْبَعْضِ وَصَوْمَ الْبَعْضِ فَجَازَ فِي الْوَاجِدِ لِبَعْضِ الْمَاءِ أَنْ يَنُوبَ عَنْ بَاقِيهِ وَصَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَوْمُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ بَعْضِ الْعِتْقِ فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَكُلُّ الْكَفَّارَاتِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تَخْتَلِفُ وَفِي فَرْضِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما يدل على أنه بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَيْفَ يَكُونُ بِمُدِّ مَنْ لَمْ يُولَدْ فِي عهده أو مد أحدث بعده وإنما قلت مدا لكل مسكين لحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المكفر في رمضان فإنه آتى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال للمكفر كفر به وقد أعلمه أن عليه إطعام ستين مسكيناً فهذا مدخله وكانت الكفارة بالكفارة أشبه في القياس من أن نقيسها على فدية في الحج وقال بعض الناس المد رطلان بالحجازي وقد احتججنا فيه مع أن الآثار على ما قلنا فيه وأمر الناس بدار الهجرة وما ينبغي لأحد أن يكون اعلم بهذا من أهل المدينة وقالوا أيضاً لو أعطى مسكيناً واحداً طعام ستين مسكينا في ستين يوماً أجزأه (قال الشافعي) رحمه الله: لئن أجزأه في كل يوم وهو واحد ليجزئه في مقام واحد فقيل له أرأيت لو قال قائل قال الله {وأشهدوا ذوي عدل منكم} شرطان عدد وشهادة فأنا أجيز الشهادة دون العدد فإن شهد اليوم شاهد ثم عاد لشهادته فهي شهادتان فإن قال لا حتى يكونا شاهدين فكذلك لا حتى يكونوا ستين مسكيناً وقال أيضاً لو أطعمه أهل الذمة أجزأه فإن أجزأ في غير المسلمين وقد أوصى الله تبارك وتعالى بالأسير فلم لا يجزئ أسير المسلمين الحربي والمستأمنون إليهم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَعْدَادِ الْأَمْدَادِ وَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ إِلَّا فِدْيَةَ الْأَذَى فَإِنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمُدّ وَهُوَ مُدُّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْرُهُ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ، وقال مالك جميع الكفارات بعج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا بِالْمُدِّ الْحَجَّاجِيِّ وَأَصْلُ هَذَا صَاعُ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الزكاة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (لَوْ غَدَّاهُمْ أَوْ عَشَّاهُمْ وَإِنْ تَفَاوَتَ أَكْلُهُمْ فَأَشْبَعَهُمْ أَجْزَأَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي بِهَذَا أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا إِنَّهُ لَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ أَجَزْأَهُ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِطْعَامِ سَدُّ الْجَوْعَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 وَإِصْلَاحُ الْخَلَّةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْإِطْعَامِ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ كَوُجُودِهِ بِالْعَطَاءِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ صَرْفُهُ فِي الْمَسَاكِينِ لَزِمَ فِيهِ الْعَطَاءُ وَالتَّمْلِيكُ كَالْكُسْوَةِ وَلِأَنَّهُ قُوتٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ التَّمْلِيكُ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الطَّعَامِ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَصْلًا إِذَا أَبَاحَ الْمَسَاكِينَ إِطْعَامَهُمْ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْكَفَّارَةِ مُسْتَحَقَّةٌ عند إخراجها عَنْ مِلْكِهِ وَنِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهُ إِنْ نَوَى عِنْدَ التَّقْدِيمِ كَانَتْ نِيَّةً قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الْأَكْلِ كَانَتْ نِيَّةً بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ وَإِنْ نَوَى مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ شَقَّ، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَعَمُّ مَنْفَعَةً مِنَ الْأَكْلِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِدْخَالِهِ عَلَى بَيْعِهِ وَعَلَى أَكْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْ عُمُومِ الْمَنَافِعِ بِأَخْذِهَا وَفِي هَذَا انفصال عن الاستدلال. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ أَعْطَاهُمْ قِيمَةَ الطَّعَامِ عَرَضًا أَجْزَأَ فَإِنَّهُ أَتْرَكَ مَا نَصَّتِ السُّنَّةُ مِنَ الْمِكْيَلَةِ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ صَبِيًّا أَوْ رِجَالًا مَرْضَى أَوْ مَنْ لَا يُشْبِعُهُمْ إِلَّا أَضْعَافُ الْكَفَّارَةِ فَمَا يَقُولُ إِذَا أُعْطِيَ عَرَضًا مَكَانَ الْمِكْيَلَةِ لَوْ كَانَ مُوسِرًا يُعْتِقُ رَقَبَةً فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا فَإِنْ أَجَازَ هَذَا فَقَدْ أَجَازَ الْإِطْعَامَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا رَقَبَةٌ فَلِمَ جَوَّزَ الْعَرَضَ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ مِكْيَلَةُ طَعَامٍ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُحِيلَ الصَّوْمَ وَهُوَ مُطِيقٌ لَهُ إِلَى الضِّدِّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَالَهُ احْتِجَاجًا فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ أنه أَحَلَّهَا يُكَفِّرْ بِهَا وَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الْعِتْقِ. فَإِنْ قَالُوا: وَالْمَعْنَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ، فَإِذَا أَخْرَجَ قِيمَتَهُ صَارَتْ مَصْرُوفَةً فِي غَيْرِ مُسْتَحَقِّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قِيمَةُ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ فِي مُسْتَحِقِّ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ. قُلْنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ غَيْرُهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الْحَقَّ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فِي أَنَّهُ يَصْرِفُ الْحَقَّ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ قِيمَتَهُ بَدَلَ حَقِّهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أن يدفعه إلى غيره. فإن قالوا: أوليس الْقِيَاسُ يُجَوِّزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ قِيمَةَ حَقِّهِ عَنْ تَرَاضٍ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الْمَسَاكِينِ قِيمَةَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ عَنْ تَرَاضٍ قِيلَ: لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَتَعَيَّنُ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى الْقِيمَةِ وَالْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ مُعِيَّنٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرَاضِي عَلَى الْقِيمَةِ والله أعلم. نجز كتاب الظهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 (بسم الله الرحمن الرحيم) (مختصر من الجامع من كتابي لعان جديد وقديم وما دخل فيهما من الطلاق من أحكام القرآن ومن اختلاف الحديث) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اللِّعَانُ فَمَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ: وَهُوَ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ، يُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا، أي أبعده الله وطرده. قال الشَّمَّاخُ: (ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ) أَيِ الطَّرِيدَ الْبَعِيدَ: فَسُمِّيَ اللِّعَانُ لِعَانًا؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِبُعْدِ أَحَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ لِعَانًا لِمَا فِيهِ مِنْ لَعْنِ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ، وَيُقَالُ الْتَعَنَ الرَّجُلُ، إِذَا لَعَنَ نَفْسَهُ، وَلَاعَنَ، إِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ لَعَنَةٌ - بِتَحْرِيكِ الْعَيْنِ - إِذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ، وَرَجُلٌ لَعْنَه - بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ - إِذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ "، وَمَعْنَاهُ احْذَرُوا الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ عَلَى الطُّرُقَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى لعن الناس له. (فَصْلٌ) وَاللِّعَانُ حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْأَزْوَاجِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين، والخامسة أن لعنة اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6، 7]] فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَانَ الزَّوْجِ، ثُمَّ بَيَّنَ بعدها لعان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 الزَّوْجَةِ قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين} . فقوله: {والذين يرمون أزواجهم} يَعْنِي بِالزِّنَا، فَكَانَ ذَلِكَ مُضْمَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ. وَقَوْلُهُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنفسهم} أَيْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أَيْ فَيَمِينُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ فِيهَا مُوَافِقٌ لِعَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ لِعَانِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ، لِرَدِّ شَهَادَتِهِمَا، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ وَيَمِينَهُ لِنَفْسِهِ مَقْبُولَةٌ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ: (فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا) أَيْ أَحَلِفُ بِاللَّهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ كَانَ فِي قِصَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ، وَالثَّانِيَةُ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَمَّا قِصَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ فَقَدْ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزَّهْرِيِّ. وَرَوَاهَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنْ سهل بن سعد: " أن عويمر أتى رسول الله فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنًا، فَأَمَرَهُمَا بِالْمُلَاعَنَةِ فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: انْظُرُوا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الإليتين خدلج الساقين، فلا أحسب عويمر إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أحيمر كأنه وحرة، فلا أحسب عويمر إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، وَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أمه ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 وَقَوْلُهُ: وَحَرَةٌ: هِيَ دُوَيْبَّةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: ولقد صار أمير بِمِصْرَ وَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: فَقَدْ رَوَاهَا هِشَامٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ ابن أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا الرَّجُلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ قَالَ: فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيُنْزِلَنَّ اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبَرِّئُ بِهِ ظَهْرِيَ مِنَ الحد قال فنزل جبرائيل فأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} حَتَّى بَلَغَ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كان من الصادقين} فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليهما فجاءا فقام هلال من أُمَيَّةَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَقَامَتْ فَشَهِدَتْ. فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَوْقِفُوهَا فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا سَتَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ. فَهَاتَانِ الْقِصَّتَانِ وَرَدَتَا فِي اللِّعَانِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ الْعَجْلَانِيِّ أَسْبَقُ مِنْ قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ قِصَّةَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْبَقُ من قصة العجلاني، والنقل فيهما مشتبه مختلف، والله أعلم بصواب ذلك. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} إِلَى قَوْلِهِ {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كان من الصادقين} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْقَذْفِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَتَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ، وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرًّا، وَرَدُّ شَهَادَتِهِ، وَثُبُوتُ فِسْقِهِ، وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ أَحْكَامُ الْقَذْفِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِتَصْدِيقِهَا، وَإِمَّا بِإِقَامَةِ البينة على زناها بأربعة شهود يعفون مُشَاهِدَةَ زِنَاهَا فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَيَزُولُ فِسْقُهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4] . وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا تَعَلَّقَ بِقَذْفِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، الْحَدُّ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ وَالتَّفْسِيقُ فَيَصِيرُ مُشَارِكًا لِلْأَجْنَبِيِّ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا، وَيَخْتَصُّ بِالثَّالِثِ، فَأَمَّا الِاثْنَانِ الْمُسَاوِي لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: تَصْدِيقُهَا لَهُ. وَالثَّانِي: إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا، فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ فَأَمَّا الثَّالِثُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ فَهُوَ اللِّعَانُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوَارِدِ فِيهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَأَمَّا ارْتِفَاعُ الْفِسْقِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا فَإِنْ لَمْ تلق من بَعْدُ وَحُدَّتِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْفِسْقُ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ صَارَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَإِنْ لَاعَنَتْ وَلَمْ تُحَدَّ احْتَمَلَ ارْتِفَاعُ فِسْقِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدِ ارْتَفَعَ فِسْقُهُ، لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ حَدِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْتَفِعُ فِسْقُهُ لِأَنَّ لِعَانَهَا مُعَارِضٌ لِلِعَانِهِ، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ حَدِّهَا بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لما اخْتَصَّ الزَّوْجُ بِالْقَذْفِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الزَّوْجَ مُضْطَرٌّ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ عَنْ فِرَاشِهِ وَنَفْيِ النَّسَبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ فَصَارَ مَعْذُورًا فِي الْقَذْفِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مِنْ نَفْيِهِ سَبِيلٌ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ وَرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيُّ مُضْطَرًّا، فَلَمْ يَكُنْ في القذف معذوراً فصار أغلظ حكماً. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فكان بينا والله أعلم في كتابه أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّوْجَ مِنْ قَذْفِ الْمَرْأَةِ بِالْتِعَانِهِ كَمَا أَخْرَجَ قَاذِفَ الْمُحْصَنَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ مِمَا قَذَفَهَا بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ مِنْ ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ تُصَدِّقَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَتَصْدِيقُهَا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْقَذْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِذَا صَدَّقَتْ، لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ لَا تُقَامُ عَلَى مُقِرٍّ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يأتي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 والحالة الثانية: أن تكون منكر لِلزِّنَا لَكِنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا. فَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَهَا لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا أَلَكُمَا بَيِّنَةٌ أَمْ لَا؟ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الشَّهَادَةُ مِنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مَقْصُورَةً عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا وَفِي اللِّعَانِ إِثْبَاتُ حَقِّهِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهَا فَجَازَ مَعَ وُجُودِهَا لِعُمُومِ حُكْمِهِ، فأما الآية فخارجة مخرج الشرط لا مخرج الخبر. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِإِجْمَاعٍ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي لَاعَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ وَلَيْسَ اللِّعَانُ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ لَهُ وَلَا إِذَا لَاعَنَ وَجَبَ اللِّعَانُ عَلَيْهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ تُلَاعِنَ بَلِ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ فِي لِعَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ حُدَّ لِلْقَذْفِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا لِعَانَ، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا، فَإِنْ لَاعَنَه سَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى اللِّعَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اللِّعَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ فَإِذَا لَاعَنَ وَجَبَ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَاعَنَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ حَتَّى تُقِرَّ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ اللِّعَانِ عَلَيْهِمَا وَسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] الْآيَةَ وَفِيهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَابَلَ الْقَذْفَ بِاللِّعَانِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُورِدْ لِلْحَدِّ ذِكْرًا فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِقِيَاسٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى اللِّعَانِ فِي قَذْفِ الْأَزْوَاجِ وَعَلَى الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ اللِّعَانِ إِلَى الْأَجَانِبِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُ الْحَدِّ إِلَى الْأَزْوَاجِ، قَالَ: وَلِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَمَا جَازَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا كَالْبَيِّنَةِ لَمَا كَانَ لَهَا سَبِيلٌ إِلَى إِسْقَاطِهِ عَنْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَلِأَنَّ اللِّعَانَ الْقَذْفُ فَلَوْ كَانَ الْحَدُّ قَدْ وَجَبَ بِالْقَذْفِ لَمَا سَقَطَ بِتَكْرَارِ الْقَذْفِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَجَانِبِ وَالْأَزْوَاجِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ فِي الْأَزْوَاجِ بِآيَةِ اللِّعَانِ، قِيلَ آيَةُ اللِّعَانِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ حُكْمٍ فِي قَذْفِ الْأَزْوَاجِ وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْأَصْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ " الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ " يُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ مِرَارًا فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي قَذْفِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ اللِّعَانِ، لِأَنَّ نُزُولَهَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ كَمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِالْبَيِّنَةِ فَاقْتَضَى أَنَّ يَكُونَ نُزُولُهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَدِّ كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْبَيِّنَةِ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى قَوْلِنَا أَوْ شَهَادَةً عَلَى قَوْلِهِمْ وَكِلَاهُمَا لَا يَقَعَانِ إلا عن مطالبة بحق تقدممها، وَلَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عِنْدَ عَدَمِ اللِّعَانِ كَالْبَيِّنَةِ. وَلِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْقِيقِ الْقَذْفِ لَمْ يَمْنَعْ عَدَمُهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ كَالْبَيِّنَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الِانْفِصَالُ قِيَاسًا مُجَوِّزًا؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْقَذْفِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَوْلَا وُجُوبُهُ قَبْلَ الْإِكْذَابِ لَمَا جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِالْإِكْذَابِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ نَفْسِهِ تَنْزِيهٌ لَهَا مِنَ الْقَذْفِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ قَاذِفٍ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِابْتِدَاءِ قَذْفِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الزَّوْجِ كَالْعَبْدِ وَالْمَكَاتَبِ. فَإِنْ قِيلَ الْعَبْدُ وَالْمَكَاتَبُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْهُمَا قِيلَ: عِنْدَنَا يَصِحُّ اللِّعَانُ منهما فلم تسلم هذه الممانعة ثم تَفْسُدُ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ وهو من أضل اللِّعَانِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَذْفِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ وَجْهَيِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {والذين يرمون أزواجهم} فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذُكِرَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ مَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي قَذْفِهِ، وَذُكِرَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي قَذْفِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي قَذْفِهِ حَقٌّ لَهُ وَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَنَافَيَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ وَمَخْصُوصٌ بِزِيَادَةِ حُكْمٍ فِي اللِّعَانِ فَلَمْ يتعارضا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَتُعْتَبَرُ نَسْخًا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِلَيْهِمَا نَصٌّ فَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا. وَالثَّانِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ عِنْدَنَا نَسْخًا، لِأَنَّ النَّسْخَ يَكُونُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بينهما والجمع هاهنا مُمْكِنٌ فَلَمْ تُعْتَبَرْ نَسْخًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ اللِّعَانِ إِلَى الْأَجَانِبِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُ الْحَدِّ إِلَى الْأَزْوَاجِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آيَةَ الْقَذْفِ عَامَّةٌ فَدَخَلَ فِيهَا الْأَزْوَاجُ، وَآيَةُ اللِّعَانِ خَاصَّةٌ فَخَرَجَ مِنْهَا الْأَجَانِبُ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. وَالثَّانِي: أَنَّ عِلَّةَ الْحَدِّ الْقَذْفُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَزْوَاجِ فَسَاوَى فِيهِ الْأَجَانِبَ وَعِلَّةَ اللِّعَانِ الزَّوْجِيَّةُ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْأَجْنَبِيِّ فَخَالَفَ فِيهِ الْأَزْوَاجَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا كَانَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى قَوْلِنَا أَوْ شَهَادَةً عَلَى قَوْلِهِمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللِّعَانَ تَكْرِيرُ الْقَذْفِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ ولا يكون واحداً مِنْهُمَا قَذْفًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاللِّعَانِ عِنْدَنَا عَلَى طَرِيقِ الْجَوَازِ وَعِنْدَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، والقذف مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمَيْنِ فَبَطَلَ بهذين أن يكون قذفاً. . والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ أَنْ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَلْتَعِنَ حَتَى تَطْلُبَ الْمَقْذُوفَةُ كَمَا لَيْسَ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَدٌّ حَتَّى تَطْلُبَ حَدَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ على خمسة مذاهب: أحدهما: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُحَصَّنَةِ يَجِبُ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمُحَصَّنَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بالموت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ: إنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: إنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ فَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَشَاهِدَانِ وَجَبَ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ، وَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَهَذَا خِطَابٌ مُتَوَجَّهٌ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَكُلُّ خِطَابٍ تُوُجِّهَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ حُقُوقِ الآدميين كقوله: {الزاني والزانية فاجلدوا} [النور: 2] ، و {السارق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَالٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالزِّنَا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُفَرَّقُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ حَدَّ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَوَجَبَ إِذَا قَذَفَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَقَالَ: زَنَيْتُ أَنْ لَا يُحَدَّ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ". وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ أَعْرَاضَنَا إِلَيْنَا كَإِضَافَةِ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، ثُمَّ كَانَ مَا وَجَبَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ فِي الْأَعْرَاضِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ ". فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ عَنْ عَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ عَفْوِهِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ إِذَا ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقِصَاصِ. وَقِيَاسٌ ثَانٍ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 الآدميين كالديون، فإن قالوا: ينتقص بِالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ ثُمَّ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَن يَقْطَعَ السَّارِقَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ سَرِقَتُهُ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ، وَالتَّعْلِيلُ مَوْضُوعٌ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ مَعْنًى وُضِعَ لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَطَلَبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَنَاكِحِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ مَسْمُوعَةٌ وَالْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُسْمَعُ فِيهَا الدَّعْوَى وَلَا تُسْتَحَقُّ فِيهَا الْأَيْمَانُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْخِطَابَ فِي اسْتِيفَائِهِ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْوُلَاةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِطَابِهِمْ، أَنْ يَقُومُوا بِاسْتِيفَائِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يَعْجِزُوا عَنْهَا إِنْ ضَعُفُوا، أَوْ يَتَعَدُّوا فِيهَا إِنْ قَوَوْا فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْوُلَاةِ لَهَا أَعْدَلَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ فَهُوَ الْمُعَارَضَةُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، إِمَّا بِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، فَخَالَفَهُ حَدُّ الْقَذْفِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ وَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِقَذْفِ نَفْسِهِ مُقِرًّا بِالزِّنَا فَلَزِمَهُ حَدُّهُ دُونَ الْقَذْفِ، وَحَدُّ الزِّنَا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَأْخُوذًا بِهِ. وَحَدُّ الْقَذْفِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ سَاقِطًا عَنْهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حَدَّ القذف من حقوق الآدميين المحصنة يجب بالطلب وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَقَذْفُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا فَلَهُمَا ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ تُمْسِكَ الزَّوْجَةُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، وَيُمْسِكَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَالِاسْتِبَاحَةِ، وَحُكْمُ الْقَذْفِ مَوْقُوفٌ لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَطْلُبَ الزَّوْجَةُ بِالْحَدِّ مَعَ إِمْسَاكِ الزَّوْجِ عَنِ اللِّعَانِ، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي الالتعَانِ فَإِنِ الْتَعَنْتَ وَإِلَّا حُدِدْتَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ الزَّوْجُ إِلَى اللِّعَانِ مَعَ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ عَنْ طَلَبِ الْحَدِّ، فَلَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 يَخْلُو إِمْسَاكُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَفْوٍ أَوْ لِتَوَقُّفٍ. فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِتَوَقُّفٍ عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ عَنْهُ، جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِيُسْقِطَ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِيَرْفَعَ بِهِ الْفِرَاشَ، وَيَنْفِيَ بِهِ النَّسَبَ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا لِعَفْوٍ عَنِ الْحَدِّ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ الزَّوْجُ نفيه باللعان فعليه أن يلتعن لنفيه، لأنه لا ينتفى عنه إلا بلعان، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ يُنْفَى، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِلِعَانِهِ فائدة، وتحريمها يقدر عليه بطلاقه، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ أَحَدًا مِنَ الْأَزْوَاجِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ كَانَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ وَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ وَالْفُرْقَةُ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اللِّعَانُ يَمِينٌ تَصِحُّ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صح طَلَاقه وَظِهَاره وَمَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ صَحَّ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخِرُ كَافِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا، وَسَوَاءٌ كَانَا عَفِيفَيْنِ أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمَا عَفِيفًا وَالْآخَرُ مَحْدُودًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ، عَفِيفَيْنِ، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ لِعَانُهُ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنفسهم} . فاستثنائهم مِنَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجُمْلَةِ دَاخِلٌ فِي جِنْسِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ عَدَدَ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا فَدَلَّ اللَّفْظُ وَالْعَدَدُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ. وَقَالَ: وَلِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَكَانَ شَهَادَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ رَفْعُ حُكْمِ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً كَالْبَيِّنَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ مَحْدُودًا. بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا لِعَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، النَّصْرَانِيَّةُ وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمَيْنِ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ حُرٍّ " قَالُوا: هَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكْمُلِ الحد يقذفها لَمْ يَصِحَّ اللِّعَانُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا كَالصَّغِيرَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ إِلَّا بِقَذْفِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ لَمْ يَصْحَّ اللِّعَانُ إِلَّا مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ وَلَيْسَ شَهَادَةً. مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي زَوْجَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ جَاءَتْ بِوَلَدِهَا عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ: " لَوْلَا مَا مَضَى مِنَ الْأَيْمَانِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ " فَسمي اللِّعَان يَمِينًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ لَهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يُلَاعِنُ عَنْ حَقٍّ لِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا لَزِمَ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا، لَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُكَرَّرُ وَالْأَيْمَانَ قَدْ تُكَرَّرُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يَتَضَمَّنُهَا لَعْنٌ وَلَا غَضَبٌ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الشَّهَادَةِ وَتُسَاوِيهِ فِي الْأَيْمَانِ، وَهِيَ فِي اللِّعَانِ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَلِأَنَّ لَفْظَ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَنَّهُ يَمِينٌ فَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا صَحَّ لِعَانُ الْفَاسِقَيْنِ، وَلَا مِنَ الْأَعْمَيَيْنِ التَّحَصُّنُ وَقَدْ وَافَقَ عَلَى صحة لعان هذين فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ، عُمُومُ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَوْجٍ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ لِعَانُهُ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ قَذْفِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ خَرَجَ بِهِ مِنَ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلُ الشَّهَادَةِ كَالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّهُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي أَنَّهُ شَهَادَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ) ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ فَمِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1، 2] إلى قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} فَعَبَّرَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ بِالشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا سُلِبَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمَ الشَّهَادَاتِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكِمُ الْأَيْمَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أوجه: أحدهما: أَنَّهُ أَثْبَتَ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارَ لَفْظِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَرَنَهُ بِاللِّعَانِ وَالْغَضَبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَصَلَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قولهم: إن ما لم يصح إلا بلفظة الشَّهَادَة كَانَ شَهَادَةً، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اللِّعَانِ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، وَأُولِي بِاللَّهِ. كَمَا يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ - لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُتَوَجِّهًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأُلْحِقَ بِالْأَيْمَانِ الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ كَالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقَذْفِ وَلَا يَكُونُ بَيِّنَةً، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: أَنَّ أَبَا يَحْيَى السَّاجِيَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَإِذَا قَالَ إِمَامٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ هَذَا، سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتِ الْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا حُجَّةً، وذلك أن عمرو بن شعيب ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وجده الأدنى ليس له صحبه وراوية فَإِذَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَدُّهُ الْأَدْنَى فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُرْسَلًا لَا يَلْزَمُ الِاحْتِجَاجُ به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 وَالثَّالِثُ: أَنَّنَا نُسَلِّمُ الْحَدِيثَ، وَنَحْمِلُ قَوْلَهُ: " لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ "، إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَغَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ لِعَانُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَمَا فَائِدَةُ التَّخَصُّصِ؟ . قِيلَ: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ لِنَقْصِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ جَوَازُ لِعَانِ الْعَبْدِ عِنْدَ سَيِّدِهِ، وَلِعَانِ الْكَافِرِ فِي أَهْلِ دِينِهِ، فَنَفَى النَّصُّ هَذَا التَّوَهُّمَ، عَلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ قَالَ: لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّغِيرَةِ: فَهُوَ أَنَّ لِلصَّغِيرَةِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا فَاللِّعَانُ فِيهَا يَصِحُّ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا، لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ وطء مثلها، فالقذف هنا مستحيل للعلم يكذبه، فَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ كَمَنْ يَجُوزُ صِدْقُهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ لِعَانُ الزَّوْجِ يَمِينٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَكَالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَالشَّهَادَةُ تسمع على الكافرة والمملوكة، فكذا اللِّعَانُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ اللِّعَانِ يَمِينًا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ، وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَازَ طَلَاقُهُ أَيْ كَانَ مُكَلَّفًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِعَانُهُ، وقوله: ولزمه الغرض، أَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَتَيْنِ فَسَّرَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لِعَانُهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُلَاعِنَ الزَّوْجُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، لَا يَخْتَلِفُ القول فيه الفرقة ونفي الولد وهذا صحيح، ليس يختلفان اللِّعَانُ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْقَذْفِ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَمَا تَخْتَلِفُ الْحُدُودُ وَالطَّلَاقُ. وَجَمِيعُهُمْ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ وَأَحْكَامِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا صَحِيحٌ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْمَقْذُوفِ بِالْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا بِالرِّقِّ، أَوِ الْكُفْرِ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَيَلْزَمُ التَّعْزِيرُ، وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ نصف الحد أربعون جلدة والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء قال زنت أو رأيتها تزني أو يَا زَانِيَة كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: كُلُّ قَذْفٍ أَوْجَبَ الْحَدَّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ قَذْفًا يَجُوزُ بِهِ اللِّعَانُ مِنَ الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي، أو كان بغير لفظ الشهاد كَقَوْلِهِ: قَدْ زَنَتْ، أَوْ يَا زَانِيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أَنْ يَقْذِفَهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَالْعَجْلَانِيَّ قَذَفَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ هِلَالٌ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي. فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى سَبَبِهَا، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوُجُوبِ حَدِّ الزنا عليه، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِيهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالشَّهَادَةِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزواجهم} الْآيَةَ، فَاقْتَضَى حُكْمُ الْعُمُومِ أَنْ يَصِحَّ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ، فَإِنْ قَالُوا: اللَّفْظُ الْعَامُّ وَارِدٌ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ. وَالِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قِيلَ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا حُكْمَ ثُمَّ وَرَدَ اللَّفْظُ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا وُجِدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مَا لَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ إِنَّمَا يَقَعُ بِمَا يُنَافِي اللَّفْظَ وَلَا يَقَعُ بِمَا يُوَافِقُهُ، وَالسَّبَبُ مُوَافِقٌ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، صَحَّ بِهِ اللِّعَانُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ كَالْحَامِلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَذْفٍ صَحَّ بِهِ لِعَانُ الْحَامِلِ صَحَّ بِهِ الْحَائِلُ قِيَاسًا عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَلِأَنَّ لِعَانَ الْأَعْمَى صَحِيحٌ وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ بِكُلِّ قَذْفٍ وَجَبَ بِمِثْلِهِ الْحَدُّ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَ منها وذلك في أربعة أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِزِنَاهَا ثِقَةٌ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ أَنَّهَا تَزْنِي وَيَرَى مَعَ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فِي أَوْقَاتِ الرِّيَبِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ صِدْقُ الِاسْتِفَاضَةِ فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا، فَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا جَازَ، وَكَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَحَالِ الْإِبَاحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " طلقها "، قال: إني أحبها، قال: " فأمسكها " فأباح إِمْسَاكَهَا مَعَ مَا كني عَنْهُ مِنْ زِنَاهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَهِيَ الْعَفِيفَةُ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا تَزْنِي وَلَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، وَلَا اسْتَفَاضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا وَلَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِزِنًا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَذْفُهَا، وَلَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إن الذين جاؤوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] . نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَحُكْمُهَا عَامٌّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ قَذْفِهَا وَلِعَانِهَا، وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيضَ فِي النَّاسِ زِنَاهَا، وَلَا يَرَى مَعَ الِاسْتِفَاضَةِ رَجُلًا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا، فَفِي جَوَازِ قَذْفِهَا، وَلِعَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً. وَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِفَاضَةُ لَوْثًا فِي الْقَسَامَةِ يُحْلَفُ بِهَا عَلَى الْقَتْلِ جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَوَاهِدِ الْقَذْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفَاضَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَهِرَ عَنْ قَوْلٍ وَاحِدٍ يَتَخَرَّصُ عَلَيْهَا بِالْكَذِبِ وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَظْهَرُ عِنْدِي، فَأَمَّا إِنْ رَأَى رَجُلًا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْذِفَهَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لِحَاجَةٍ أَوْ رُبَّمَا وَلَجَ عَلَيْهَا فَلَمْ تُطِعْهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْحَائِلِ. (فَصْلٌ) أَمَّا الْحَامِلُ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا بِغَيْرِ قَذْفٍ وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِيَنْفِيَ وَلَدًا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى لا يحلقه بِالْفِرَاشِ فَيَخْتَلِطَ بِنَسَبِهِ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ، وَيَجْعَلَهُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِهِ وَهُنَّ أَجْنَبِيَّاتٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ أَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَلَا تَكُونُ زَانِيَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُلَاعَنَتُهَا لَكِنْ بَعْدَ الْقَذْفِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا وَاسْتَبْرَأَهَا وَوَجَدَ مَعَهَا رَجُلًا يَزْنِي بِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِحَمْلٍ بَعْدَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ نَسَبَهُ مَنْ لَا يُنَاسِبُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 يَقْذِفَ، فَيَصِيرُ الْقَذْفُ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْحَمْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُلَاعِنَهَا أَوْ يُمْسِكَ، وَهُوَ أن يطأها ولا يستبريها، وَيَرَى رَجُلًا يَزْنِي بِهَا، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ أَوِ الْإِمْسَاكِ، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يُغَلِّبَ فِي نَفْيِهِ حُكْمَ الشَّبَهِ لِأَجْلِ مَا شَاهَدَ مِنَ الزِّنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل للشبه في زوجة هلال من أُمَيَّةَ حِينَ وَضَعَتْ وَلَدَهَا تَأْثِيرًا وَقَالَ " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ ". وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ مُلَاعَنَتُهَا وَلَا نَفْيُ وَلَدِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِصَابَتِهَا وَلَا يَرَاهَا تَزْنِي، وَلَا يُخْبَرُ عَنْهَا بِالزِّنَا، وَلَا يَرَى فِي وَلَدِهَا شَبَهًا مُنْكَرًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ هُوَ يَرَاهُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ". وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ مُلَاعَنَتِهَا: أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ مِنْ بَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، أَوْ أَبْيَضَ مِنْ بين أسودين ولا يراها تزني، ولا يخير بِزِنَاهَا، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا بِهَذَا الشَّبَهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِعَانُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا "، فَجَعَلَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا، وَلَا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهَا، لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رجلاً من بني فزار آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَّى تَرَاهُ؟ قَالَ: عَنْ أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ، فَقَالَ: كَذَلِكَ هَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِرْقًا نَزَعَهُ ". أَيْ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي آبَائِهِ مَنْ رَجَعَ بِهَذَا الشَّبَهِ إِلَيْهِ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ وَلَوْ جَاءَتْ بِحَمْلٍ وَزَوْجُهَا صَبِيٌّ دُونَ الْعَشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ كَانَ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَيَكُونَ وَلَدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الزَّمَانِ الذي يحتلم فيه الغلمان وهو عثر سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ غُلَامًا احْتَلَمَ لأقل منها بدليلنا عَلَيْهِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِاعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي أَحْكَامِ الْبُلُوغِ. وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ " مُرُوهُمْ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجح " ولأن أقل زمان الاحتلام معتبراً بِالْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِعَشْرٍ وَإِنْ نَدَرَ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ حَدًّا لِأَقَلِّهِ كَالْحَيْضِ لِتِسْعٍ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وُلِدَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَلَوْ وُجِدَ مَنِ احْتَلَمَ لِأَقَلَّ مِنْهَا فَجَعَلْنَاهُ حَدًّا، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ، كَمَا لَمْ تُوجَدْ مَنْ تَحِيضُ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ ولو وجدت لصارت حداً، فإن قيل: لما صَارَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرًا. قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُ أَقَلَّ زَمَانِهِمَا تِسْعَ سِنِينَ، وَيَحْمِلُ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَشْرِ عَلَى أَنَّهَا حَدُّ لُحُوقِ الْوَلَدِ تَقْرِيبًا لِأَقَلِّ زَمَانِهِ وَإِنْ قَلَّ الِاحْتِلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ لِتِسْعِ سِنِينَ كَالْحَيْضِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْبُلُوغِ بِالسِّنِينَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ لِتِسْعِ سِنِينَ، فَعَلَى هَذَا لو جاءت امرأته الْغُلَامِ بِوَلَدٍ لِتِسْعِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ التِّسْعِ هِيَ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرُ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّ زَمَانِ الْحَيْضِ تِسْعًا لِأَنَّ أَقَلَّهَا مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ الْحَيْضُ لِتِسْعٍ وَلَمْ يُوجَدِ الِاحْتِلَامُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وهو أن دم الحيض يرخيه الرحم بعد اجتماعه لِضَعْفِ الْجَسَدِ عَنْ إِمْسَاكِهِ، وَمَنِيُّ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ لِقُوَّةِ الْجِسْمِ عَنْ دَفْعِهِ فَصَارَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ لِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ بِهِمَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ أَقَلَّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ عَشْرُ سِنِينَ فَمَتَى وَضَعَتْ زَوْجَةُ الْغُلَامِ وَلَدًا نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ مُنْتَفِيًا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ انْتَفَى عَنْهُ، كَمَنْ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 لِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا أُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ الْعَشْرَ سِنِينَ أَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ، وَالسِّتَّةَ أَشْهُرٍ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَصَارَ لُحُوقُهُ مُمْكِنًا، وَالْأَنْسَابُ تُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ. وَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْعُلُوقَ يَصِيرُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَلِذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُ، كَمَنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ فَلِذَلِكَ أَطْلَقَهُ فَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لنفيه عنه، واعتدت بأربعة أشهر وعشراً. وَإِذَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِعَشْرِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلْتُمُوهُ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلُوهُ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ فِي اللِّعَانِ؟ . وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْبُلُوغِ فِي شيء دون شيء. قيل: الفرق بين لوحق الولد ولنفيه مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَأَلْحَقْنَاهُ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ مُعْتَبَرٌ بِالْيَقِينِ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِهِ فَمَنَعْنَاهُ مِنْ نَفْيِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَنَفْيَ النَّسَبِ حَقٌّ لَهُ. فَلَمْ يُسْتَبَحْ نَفْيُهُ بِالْإِمْكَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا مُنِعَ مِنْ نَفْيِهِ بَعْدَ لُحُوقِهِ كَانَ نَفْيُهُ مُعْتَبَرًا بِبُلُوغِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَصِيرُ بِهَا بَالِغًا. وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى احْتِلَامَهُ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَيَصِيرُ بَالِغًا. وَإِمَّا بِأَنْ يَدَّعِيَ الِاحْتِلَامَ فَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا. فَإِذَا نَفَاهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ بُلُوغِهِ انْتَفَى عَنْهُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُلَاعِنُوا عَنْهُ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَلَوْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ بَعْدَ مَوْتِهِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، كَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ لِعَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَلْحَقَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ اللِّعَانِ لَحِقَ بِهِ، وَلَوِ اسْتَلْحَقَ الْمَوْلُودَ لَأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَافْتَرَقَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِي اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِه ِ مَسْأَلَةً مَخْصُوصَةً وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ الزَّوْجُ وِلَادَتَهَا لَهُ، وَيَقُولَ الْتَقَطْيهِ وَلَمْ تَلِدِيهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ حَتَّى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ولادته، فلو مات الزوج قبل أن يخلق قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ، فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَتْ عَلَى وِلَادَتِهِ وَلَحِقَ بِالزَّوْجِ، فَإِنْ نَكَلَتْ فَفِي وُقُوفِ الْيَمِينِ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ وَجْهَانِ مَضَيَا فِي مَوَاضِعَ تقدمت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ بَالِغًا مَجْبُوبًا كَانَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَجْبُوبُ: فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ، وَأَمَّا الْخَصْيُّ: فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الْخِصْيَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْيُ بَاقِيَ الذَّكَرِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ إِيلَاجَ الذَّكَرِ يَحْتَلِبُ الْمَنِيَّ مِنَ الظَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ يَعْنِي أَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ عَدَمَ إِنْزَالِهِ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ". وَعَلَّلَ فَقَالَ: " لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُحِيطُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَهُ " وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ إنَّ تَعْلِيلَ الْمُزَنِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بلعان، لأننا لسنا نقطع يقيناً بعد الْإِنْزَالِ، وَإِنَّمَا الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ، وَقَدْ يَجُوزُ فِي الْمُمْكِنِ إِذَا سَاحَقَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يُنْزِلَ ثُمَّ يَجْتَذِبُ الْفَرَجُ الْمَاءَ إِذَا أَنْزَلَ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْبَلَ الْبِكْرُ بِأَنْ يَجْتَذِبَ فَرْجُهَا مَنِيَّ الرَّجُلِ إِذَا أنزل خارج الفرج ويلحق بِهِ وَلَدَهَا، كَذَلِكَ وَلَدُ الْمَجْبُوبِ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ فِيهِ فَيَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الولد يلحق من طريق الإمكان وإن كن بَعِيدًا فِي الْوُجُودِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَجْبُوبُ خَصِيًّا مَمْسُوحَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَيَيْنِ مَحَلُّ الْمَنِيِّ الَّذِي يَتَدَفَّقُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنَ الظَّهْرِ فَإِذَا عَدِمَ الْمَمْسُوحُ الذَّكَرِ الَّذِي يَجْتَذِبُ بِهِ مِنَ الظَّهْرِ وَعَدِمَ الْأُنْثَيَيْنِ الَّذَيْنِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا مَاءُ الظَّهْرِ، اسْتَحَالَ الْإِنْزَالُ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيَ الْأُنْثَيَيْنِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لِإِمْكَانِ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ لِقُرْبِ مَخْرَجِهِ فَاسْتَغْنَى عَنِ اجْتِذَابِ الذَّكَرِ لَهُ مِنَ الظَّهْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيّ إنَّ فِي أَصْلِ الذَّكَرِ إِذَا جُبَّ ثُقْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَخْرَجُ الْبَوْلِ، وَالْآخَرُ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ، فَإِذَا كَانَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ قَدِ انْسَدَّ وَالْتَحَمَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ لِاسْتِحَالَةِ إِنْزَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ بَاقِيًا كَمَخْرَجِ الْبَوْلِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، لِجَوَازِ إِنْزَالِهِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ فَهُوَ قَاذِفٌ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُصِيبُهُ فَيُصَدَّقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ: قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ، مِنْ أَنْ يُعْلَمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ حَالٌ يَذْهَبُ فِيهَا عَقْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَهَابِ عَقْلِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الصِّحَّةُ حَتَّى يُعْلَمَ مَا عَدَاهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُوَ الْآنَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَ الْمَقْذُوفِ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ قَذْفِهِ كَانَ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْقَاذِفِ، فَإِنْ عُلِمَ صِحَّةُ عَقْلِه لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ مِنْ قَبْلُ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ بِأَنَّ الْقَاذِفَ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَحِيحَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِي حَقِّهِ صِحَّةُ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، وَإِنْ نَكِلَ الْمَقْذُوفُ عَنِ الْيَمِينِ، حَلَفَ الْقَاذِفُ أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ سُقُوطِهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ عُلِمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَذْفِ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَقُومَ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ لِمَنِ ادَّعَى الْقَذْفَ، فَقَالَ كَانَ هَذَا الْقَذْفُ مني وأنا ذاهب العقل، أن قَالَ: قَذَفْتُكِ هَذَا الْقَذْفَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لَا يَخْتَلِفُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ جَنْبَهُ حِمًى، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ قَذْفٌ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ: كُنْتُ عِنْدَ قَذْفِي هَذَا ذَاهِبَ الْعَقْلِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِالْقَذْفِ، أَنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، فَالْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِدَعْوَاهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، فَيُحْكَمُ بِهَا إِذَا شَهِدَتْ بِذَهَابِ عَقْلِهِ فِي قَذْفٍ قَذَفَهَا بِهِ وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِحَّةٍ، وَالْآخَرُ فِي مَرَضٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ، وَلَا يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى ذَهَابِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، فَصَارَتْ شُبْهَةً فِي إِدْرَائِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ مَعَ يَمِينِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي الصِّحَّةِ، وَيُحَدُّ الْقَاذِفُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجًا فَيُلَاعِنُ، وَهَذَا قَوْلٌ مُخَرَّجٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ. فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ هو مخرج اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَطْعِ الْمَلْفُوفِ فِي ثَوْبٍ إِذَا ادَّعَى قَاطِعُهُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا. وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ: هُوَ مُخَرَّجٌ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اللَّفْظِ إذا قذف وادعى أنه عبد. والفرق بين أن يقر بالقذف من غير بينة ويدعي فيه ذهاب العقل فيقبل قولاً واحداً، وبين أن يدعيه بعد قيام البينة عليه فلا يقبل في أحد القولين، أن البينة قد تقررت بشهادة توجب الحد والإقرار له بتجرد عن دعوى تسقط الحد والحدود تدرأ بالشبهات بخلاف الحقوق والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلَاعِنُ الْأَخْرَسُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ الْإِشَارَةَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُلَاعِنُ وَإِنْ طَلَّقَ وَبَاعَ بِإِيمَاءٍ أَوْ بِكِتَابٍ يُفْهَمُ جَازَ قَالَ وَأُصْمِتَتْ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ فَقِيلَ لَهَا لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ فَرُفِعَ ذلك فرأيت أنه وَصِيَّةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْخَرَسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ مَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ مَوْجُودًا مَعَ الْوِلَادَةِ، فَهَذَا مُسْتَقِرٌّ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَكُونُ هَذَا الْأَخْرَسُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بأقواله معتبرا بها حال الإشارة، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ، وَلَا مَقْرُوءِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدٌ وَلَا قَذْفٌ وَلَا لِعَانٌ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ، مَقْرُوءَ الْكِتَابَةِ صَحَّتْ عُقُودُهُ اتِّفَاقًا. وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ بِالْإِشَارَةِ وَلِعَانِهِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَذَفٌ وَلَا لِعَانٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَذْفِهِ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ كِنَايَةٌ. وَالْقَذْفُ لَا يَثْبُتُ بِالْكِنَايَاتِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِعَانَهُ لَا يَصِحُّ بِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالشَّهَادَةُ لَا تصح من الأخرس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 وتحريره قياساً: أن تورع بأن قال ما افتقر إلى لفظ الشهادة لم يصح من الأخرس كالشهادة. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، صَحَّ قَذْفُهُ، وَلِعَانُهُ كَالنَّاطِقِ، وَلِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ تَقُومُ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ نُطْقِهِ كَالْعُقُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ النِّكَاحُ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ، فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الطَّلَاقُ مَعَ جَوَازِ نيابة وكيله فيه أولى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ مِنْ قَذْفٍ وَلِعَانٍ، وَلِأَنَّ الْخَرَسَ أَنْ لَا تَمْنَعَ مِنَ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَمْنَعَ مِنَ اللِّعَانِ كَالطَّرَشِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم بأنالإشارة بالقدف كتاية وَلَا يَثْبُتُ بِهَا، فَهُوَ أَنَّهَا كِنَايَةٌ مِنَ النَّاطِقِ، وَصَرِيحٌ مِنَ الْأَخْرَسِ، كَمَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِإِشَارَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بِالْكِنَايَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ. فَاللِّعَانُ عِنْدَنَا يَمِينٌ، وَيَمِينُ الْأَخْرَسِ تَصِحُّ بِالْإِشَارَةِ، وَالشَّهَادَةُ فَقَدْ جَوَّزَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِإِشَارَتِهِ، فَيَكُونُ الْأَصْلُ عَلَى قَوْلِهِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَذْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ يَخْتَصَّانِ بِهِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِمْضَائِهِ بِإِشَارَتِهِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى إِمْضَائِهَا بِإِشَارَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْخَرَسُ الْحَادِثُ لِعِلَّةٍ طَرَأَتْ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى عُلَمَاءِ الطِّبِّ فَإِنْ شَهِدَ عُدُولُهُمْ بِدَوَامِهِ وَعَدَمِ بُرْئِهِ جَرَى عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْخَرَسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ مِنْ إِشَارَتِهِ وَالْمَقْرُوءِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَقَدْ أُصْمِتَتْ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهَا، فَأَشَارَتْ بِوَصَايَا أَمْضَتْهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي شَدَخَ الْيَهُودِيُّ رَأْسَهَا فَأُصِمَّتْ بِإِشَارَتِهَا إِلَى قَاتِلِهَا، وَإِنْ شَهِدَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ بِزَوَالِهِ وَحُدُوثِ بُرْئِهِ لَمْ يَجْرِ عَلَى إِشَارَتِهِ حُكْمٌ وَكَانَ كَالنَّاطِقِ الْمُشِيرِ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الطِّبِّ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ وَتَرْكُ الْحُكْمِ بِإِشَارَتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ إِلَى زَمَانٍ تَيْأَسُ فِيهِ مِنْ بُرْئِهِ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِخَرَسِهِ وَاعْتِبَارِ إِشَارَتِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا حُكِمَ بِخَرَسِهِ وَاعْتِبَارِ إِشَارَتِهِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ، تَعَلَّقَ بِلِعَانِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ النَّاطِقِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَتَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 وَإِسْقَاطُ الْحَدِّ، وَنَفْيُ النَّسَبِ، فَلَوْ نَطَقَ بَعْدَ خَرَسِهِ وَعَادَ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ، سُئِلَ عَنْ إِشَارَتِهِ بِالْقَذْفِ وَاللِّعَانِ فِي حَالِ خَرَسِهِ وَفِي سُؤَالِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِظْهَارٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِشَارَتِهِ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سُؤَالَهُ وَاجِبٌ، لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ احْتِمَالًا يَلْزَمُ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فإذا سئل كان له في الجواب ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْقَذْفِ وَاللِّعَانِ فَيَسْتَقِرُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ وَيَكُونُ جَوَابُهُ مُوَافِقًا لِحَالِ إِشَارَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ، فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا رَجَعَ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ، فَصَارَ كَالنَّاطِقِ إِذَا لَاعَنَ ثُمَّ رَجَعَ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا لَهُ مِنَ التَّخْفِيفِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّغْلِيظِ وَالَّذِي لَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ شَيْئَانِ: وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَتَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا بِإِنْكَارِ اللِّعَانِ لِتُوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فِيهِمَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ شَيْئَانِ، وُجُوبُ الْحَدِّ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا بِإِنْكَارِ اللِّعَانِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، عَنْهُ، فَإِنْ قَالَ عِنْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ: أَنَا أُلَاعِنُ الْآنَ جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ نُطْقًا، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِالْقَذْفِ وَيُنْكِرَ اللِّعَانَ، فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَذْفُ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ، وَأَحْكَامُ اللِّعَانِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ كَانَ لِعَانًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ تَتَأَكَّدُ بِهِ أَحْكَامُ اللعان الأول وإن لم يجب إليه، صَارَ كَالْمُنْكِرِ لِلْقَذْفِ وَاللِّعَانِ، يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ أحكامه ماله مِنَ الْحَدِّ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ تَغْلِيظًا بَعْدَ التَّخْفِيفِ، وَلَا يُعُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا عَلَيْهِ من وقوع الفرقة، وتحريم التأييد، لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ بَعْدَ التَّغْلِيظِ، وَالْحُكْمُ فِي خَرَسِ الزَّوْجَةِ كَالْحُكْمِ فِي خَرَسِ الزَّوْجِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً عَلَى عَقْلِهَا فَالْتَعَنَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَنُفِيَ الْوَلَدُ إِنِ انْتَفَى مِنْهُ وَلَا تُحَدُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَنْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ ". قَالَ الماوردي: إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ عَاقِلَةٌ فَجُنَّتْ قَبْلَ لِعَانِهِ، أَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ مَجْنُونَةٌ، فَحُكْمُ لِعَانِهِ مِنْهَا فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقَذْفِ، فَإِنْ قَذَفَهَا عَاقِلَةً ثُمَّ جُنَّتْ، وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ جُنُونِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ قَذْفِهِ هَذَا نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا فِي حَالَةِ جُنُونِهَا، وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَنَفْيِ الْوَلَدِ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ، لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 الْأَحْكَامِ كُلِّهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ لِعَانُهَا بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ جُنُونُهَا مِنْ لِعَانِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بحد القذف، أو تغريره مَا كَانَتْ فِي جُنُونِهَا، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ إِفَاقَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - إنَّهُ يلاعن ليتعجل به سقوط الحد اوالتغرير وَلِيَسْتَفِيدَ بِهِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مَا لم تطالب بالحد أو التغرير، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى جُنُونِهَا، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِفَادَةِ الْفُرْقَةِ به لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَاسْتُغْنِيَ بِهِ من اللعان. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ طَلَبَهُ وَلِيُّهَا أَوْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أَمَةً فَطَلَبَهُ سَيِّدُهَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الْمَقْذُوفَةُ مَجْنُونَةً، فَطَلَبَ وَلَيُّهَا حَدَّ الْقَاذِفِ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَطَالَبَهُ سَيِّدُهَا فَلَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدٍّ وَلَا لِعَانٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِهَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُطَالَبَتِهَا دُونَ الْوَلِيِّ كَالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ دُونَ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَمِ وَلَا يَحِقُّ الْإِيلَاءُ وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَارَقَ المطالبة بحقوق الأموال. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ فَطَلَبَهُ وَلِيُّهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ أَوْ يُحَدَّ لِلْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ وَيُعَزَّرَ لِغَيْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَلَا تُوَرَّثُ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أحدهما: أنه حد لا يرجع إلى مال فَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَا: وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ مُتَقَابِلَانِ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ، ثُمَّ كَانَ حَدُّ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُوَرَّثُ فَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْبَدَنِ إِذَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ فَوَجَبَ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ كَالْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قُذِفَتْ أَمَةٌ بَعْدَ مَوْتِهَا وَجَبَ لَهُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَقَذْفُهَا فِي الْحَيَاةِ أَغْلَظُ فَكَانَ بِأَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَجْدَرَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ، فَهُوَ أَنَّ الْحُقُوقَ تَتَنَوَّعُ فَتَكُونُ تَارَةً فِي مَالٍ، وَتَارَةً عَلَى بَدَنٍ، وَلَوِ اخْتَصَّ الْآدَمِيِّينَ بِالْمَالِ دُونَ الْبَدَنِ لَاخْتَصَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَدَنِ دُونَ الْمَالِ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى تَجْمَعُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ، فَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَدْ مَضَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّنَا لِتَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا، فَهُوَ أَنَّ تَنَافِيَ اجْتِمَاعِهِمَا يُوجِبُ تَنَافِيَ حُكْمِهِمَا وَلَا يُوجِبُ تَسَاوِيَهِ، وعلى أن أبا حنيفة قد ناقض فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ أَسْقَطَ حَدَّ الزِّنَا بِمَوْتِ الزَّانِي، وَأَسْقَطَ الْقَذْفَ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَوْرُوثَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّ مِيرَاثِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْأَمْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَرَثَةُ بِالْأَنْسَابِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ دُونَ الْوَرَثَةِ بِالْأَسْبَابِ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، لِارْتِفَاعِ سَبَبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَا بِانْقِطَاعِ السَّبَبِ كَالْأَجَانِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ذُكُورُ الْعَصِبَاتِ دُونَ إِنَاثِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِدُخُولِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَخْتَصُّونَ لأجل ذلك بالولاية على النكاح. (فصل) فإذا وَرِثَهُ مَنْ ذَكَرْنَا: اسْتَحَقُّوهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْمُسْتَحَقِّ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِحَاضِرٍ مُطَالِبٍ أَنْ يَقْبِضَ وَلَهُ شَرِيكٌ غَائِبٌ أَوْ قَدْ عَفي وَيَجُوزُ لِوَارِثِ حَدِّ الْقَذْفِ إِذَا كَانَ لَهُ شَرِيكٌ غَائِبٌ أَوْ قَدْ عَفي أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ كُلِّهِ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَتَبَعَّضُ الْحَدُّ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ. وَقَالَ أبو الحسن بْنُ الْقَطَّانِ: حَدُّ الْقَذْفِ يَتَبَعَّضُ فَيستوفى مِنْهُ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَلَا يسْتَوْفي جَمِيعُهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْمَعَرَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَدٍّ مُقَدَّرٍ فَامْتَنَعَ تَبْعِيضُهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَقْذُوفَةُ إِذَا مَاتَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْتَهَا مُسْقِطٌ لِلتَّعْزِيرِ عَنْ قَاذِفِهَا، لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تُوَرَّثُ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مَالُهَا إِلَى سَيِّدِهَا بِالْمِلْكِ دُونَ الْإِرْثِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ التَّعْزِيرُ مَا لا يَمْلِكُهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَوْتِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، فَعَلَى هَذَا فِي مُسْتَحَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: سَيِّدُهَا، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِهَا. وَالثَّانِي: الْأَحْرَارُ مِنْ عَصَبَتِهَا، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْعَارِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ دُونَ السَّيِّدِ وَاللَّهُ أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ الْتَعَنَ وَأَبَيْنَ اللِّعَانَ فَعَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْحَدُّ وَالْمَمْلُوكَةِ نِصْفُ الْحَدِّ وَنَفْيُ نِصْفِ سَنَةٍ وَلَا لِعَانَ عَلَى الصِّبْيَةِ لِأَنَهُ لَا حَدَّ عليها ". قال الماوردي: كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ، وَالثَّانِيَةُ حُرَّةٌ كِتَابِيَّةٌ، وَالثَّالِثَةُ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ وَالرَّابِعَةُ صَغِيرَةٌ بَالِغَةٌ، وَقَذَفَهُنَّ بِالزِّنَا، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ قَذْفِهِ لَهُنَّ. وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ لِعَانِهِ مِنْهُنَّ. وَالثَّالِثُ: فِي حُكْمِهِنَّ إِذَا لَاعَنَ مِنْهُنَّ. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حِكَمِ القذف لهن فعليه الحد بقذف الحرة المسلمة لِكَمَالِهَا وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ فِي قَذْفِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالْأَمَةِ وَالصَّغِيرَةِ لِنَقْصِهِنَّ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي اللِّعَانِ مِنْهُنَّ، فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ إِجْمَاعًا، لِيُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْتِعَانِهِ، وَلَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ لِيُسْقِطَ التَّعْزِيرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْتِعَانِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَكْمُلِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهِمَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ: فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لِصِغَرِهَا، كَالَّتِي لَهَا سَنَةٌ، فَلَا يَكُونُ رَمْيُهَا بِالزِّنَا قَذْفًا، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَقَذْفُ هَذِهِ كَذِبٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ فَكَانَ سَبًّا وَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، فَكَانَ التَّعْزِيرُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ تَعْزِيرَ سَبٍّ وَلَمْ يَكُنْ تَعْزِيرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 قَذْفٍ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ، لِأَنَّ السَّبَّ لَا لِعَانَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اللِّعَانُ فِي الْقَذْفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي تَعْزِيرِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعَزَّرُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُطَالِبَ. وَالثَّانِي: يُعَزَّرُ قَبْلَ بُلُوغِهَا لِأَنَّ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ حَدٌّ مَوْقُوفٌ عَلَى بُلُوغِهَا وَتَعْزِيرَ السَّبِّ أَدَبٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ قَبْلَ بُلُوغِهَا فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْقُوفُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْوَلِيِّ لِقِيَامِهِ بِحُقُوقِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَائِهِ لِقِيَامِهِ بِالْمَصَالِحِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا مِمَّنْ تُجَامَعُ، لِأَنَّهَا ابْنَةُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَيَكُونُ رَمْيُهَا بِالزِّنَا قَذْفًا لِاحْتِمَالِهِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ فِيهِ بَدَلًا مِنْ حَدِّ الْكَبِيرَةِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا لِتَكُونَ هِيَ الْمُطَالِبَةَ بِهِ فَيُعَزَّرُ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حُكْمِهِنَّ بَعْدَ لِعَانِهِ مِنْهُنَّ، فَعَلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ حَدُّ الزِّنَا إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَجَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً فَالرَّجْمُ فَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهَا نِصْفُ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَفِي تَغْرِيبِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِسَيِّدِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُغَرَّبُ، وَفِي قَدْرِ تَغْرِيبِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَامٌ كَامِلٌ كَالْحُرَّةِ. وَالثَّانِي: نِصْفُ عَامٍ. كَمَا عَلَيْهَا نِصْفُ الْجَلْدِ، وَفِي نَفَقَتِهَا مُدَّةَ تَغْرِيبِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْعِ سَيِّدِهَا مِنْهَا. وَالثَّانِي: عَلَى سَيِّدِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْدَامَهَا بَعْدَ تَغْرِيبِهَا. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهَا، وَهَلْ لَهَا إِذَا بَلَغَتْ أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ حَدٌّ فَيَسْقُطُ بِلِعَانِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ لِتَنْفِيَ بِلِعَانِهَا الْمَعَرَّةَ عَنْ نَفْسِهَا، وَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الزَّوْجَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ مَا لَمْ تُلَاعِنْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَتْ حَتَّى تُلَاعِنَ، وَلَمْ تُحَدَّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثلاث خصال، كفره بعد إيمانه، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلٌ بِغَيْرِ نَفْسٍ " فَمَنَعَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ قَتْلِهَا بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ خِصَالٍ. وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزوج مفضي إِلَى قَتْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُحَصْنَةً، وَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ الْخَبَرُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِهِ حَدٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ كَالْأَيْمَانِ طَرْدًا وَالشَّهَادَةِ عَكْسًا، قَالُوا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَا يَحْكُمُ بِالنُّكُولِ عَلَيْهَا، وَفِي حَدِّهَا إِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] وَذِكْرُ الْعَذَابِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى جِنْسٍ، أَوْ مَعْهُودٍ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى جِنْسِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ على المعهود وهو الحد لقوله تعالى: {أو ليشهد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . فَإِنْ قِيلَ فَالْجنْسُ مَعْهُودٌ فِي عَذَابِ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُقُوقِ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْجنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجنسَ لَمْ يُسَمَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَذَابًا وَقَدْ سُمِّيَ الْحَدُّ عَذَابًا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يَعْنِي الْحَدَّ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَانَهَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْوَاجِبَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَالْجنسُ لَمْ يَجِبْ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِامْتِنَاعِهَا، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ قَذْفِهِ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى زَوْجَتِهِ كَالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ ثَبَتَ بِلِعَانِهِ كَالْجنسِ، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرَأَ بِلِعَانِهَا الْحَدُّ كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ اسْتُفِيدَ صِدْقُهُ فِيهِ كَالْمُتَلَاعِنَيْنَ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الزِّنَا وَنَفْيَ الْوَلَدِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِلِعَانِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ به ثبوت الزنا. لأنه أَحَدُ مَقْصُودَيِ اللِّعَانِ، وَثُبُوتُ الزِّنَا مِنْهَا يُوجِبُ الحد عليها. وأما الجواب عن استدلاله بالخير فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ قَتْلَهَا بِزِنَاهَا بَعْدَ إِحْصَانِهَا وَبِذَلِكَ تُقْتَلُ لَا بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي اللِّعَانِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالْأَزْوَاجِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَانِ مُبَايَنَتُهَا لِلِعَانٍ فِي نَفْيِ النَّسَبِ فَتُبَايِنُهَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ حَدَّهَا حُكْمٌ عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ الَّذِي لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّنَا نَحُدُّهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَا بِنُكُولِهَا عَنِ اللِّعَانِ، لِأَنَّ لِعَانَهَا يُسْقِطُ عَنْهَا الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ سَوَاءٌ لَاعَنَتْ أَوْ حُدَّتْ إِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَلَهَا السُّكْنَى زَمَانَ عِدَّتِهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا نُظِرَ، فَإِنْ نفي حَمْلهَا بِلِعَانٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ كَحَمْلِ المبتوتة والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أُجْبِرُ الذِّمِّيَّةَ عَلَى اللِّعَانِ إِلًا أَنْ ترغب في حكمنا فتلتعن فإن لم يفعل حَدَدْنَاهَا إِنْ ثَبَتَتْ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِنَا (قَالَ المزني) رحمه الله تعالى أولى به أن يحدها لأنها رضيت ولزمها حكمنا ولو كان الحكم إذا بت عليها فأبت الرضا به سقط عنها لم يجر عليها حكمنا أبدا لأنها تقدر إذا لزمها بالحكم ما تكره أن لا تقيم على الرضا ولو قدر اللذان حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليهما بالرجم من اليهود على أن لا يرجمهما بترك الرضا لفعلا إن شاء الله تعالى (وقال) في الإملاء في النكاح والطلاق على مسائل مالك إن أبت أن تلاعن حددناها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَذَفَ الذِّمِّيُّ زَوْجَتَهُ ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمِنَا فَفِي وُجُوبِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا جبراً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِمَا إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمَا حُكْمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَهُمْ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الالتزام لقوله تعالى {فإن جاؤك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 44] فَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فَحَكَمَ، كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ إِنِ اعْتَرَفَ بِالْقَذْفِ، وَكَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِنَقْصِهَا بِالْكُفْرِ وَإِنْ سَاوَاهَا فِيهِ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا الْتَعَنَ سَقَطَ تَعْزِيرُ الْقَذْفِ وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا إِنْ لَمْ تَلْتَعن وَهُوَ الْحَدُّ الْكَامِلُ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. والرجم إن كانت ثيباً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت امرأة محدودة في زنا فقذفها بذلك لزنا أَوْ بِزِنًا كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْتَعِنْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَحْدُودَةَ فِي الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ أَجْنَبِيًّا وَسَوَاءٌ حُدَّتْ بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ عَلَيْهَا لِثُبُوتِ مَا قُذِفَتْ بِهِ مِنَ الزِّنَا فَصَارَ الْقَذْفُ صِدْقًا وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَحْتَمِلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لِدُخُولِ الْمَعَرَّةِ وَهَتْكِ الْحَصَانَةِ، وَالْمَحْدُودَةُ قَدْ دَخَلَتِ الْمَعَرَّةُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ، وَارْتَفَعَتْ بِهِ حَصَانَتُهَا فَسَقَطَ الْحَدُّ فِي قَذْفِهَا وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ ثُمَّ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ بِالزِّنَا، لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا، لِثُبُوتِ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ حُدَّتْ بِهَا أَوْ لَمْ تُحَدَّ وَسَوَاءٌ أَقَامَهَا الْقَاذِفُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِهَا حَدٌّ عُزِّرَ، وَكَانَ تَعْزِيرَ سَبٍّ وَأَذًى لَا تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِتَحَقُّقِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا وأراد أن يلتعن فالذي رواه المزني هاهنا: عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ أَوْ يَلْتَعِنُ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ تَمْنَعُ مِنَ اللِّعَانِ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ تُجَوِّزُهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا على ثلاثة طرق: أحدها: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الرَّبِيعَ وَهِمَ فِي رِوَايَتِهِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ هِيَ الصَّحِيحَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ يُرَادُ لِتَصْدِيقِ الْقَذْفِ وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَسَقَطَ حُكْمُ اللِّعَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ مَا أَوْجَبَهُ القذف وهي تَعْزِيرُ سَبٍّ لَا تَعْزِيرَ قَذْفٍ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ تَصْحِيحُ الرِّوَايَتَيْنِ وَتَخْرِيجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْتَعِنُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهِ ما ذكرناه. والقول الثاني: يلتعن عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ، لِأَنَّهُ أَجَازَ تَحْقِيقَ قَذْفِهِ بِالِالْتِعَانِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ بِالِالْتِعَانِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ لِصِدْقِهِ وَأَنْفَى لِكَذِبِهِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ: فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ فِي مَنْعِهِ مِنَ الِالْتِعَانِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزِنًا كَانَ قَبْلَ زَوْجِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَ حَدِّهِ بِاللِّعَانِ، فَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ فِي أَنَّهُ يُلَاعِنُ أَرَادَ بِهِ إِذَا قَذَفَ بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ثُمَّ أَعَادَ الْقَذْفَ بِذَلِكَ الزِّنَا فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ تُحْمَلُ فِي مَنْعِهِ مِنَ اللِّعَانِ إِذَا لَمْ يَنْفِ بِهِ وَلَدًا، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ فِي جَوَازِ الِالْتِعَانِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاللِّعَانِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقَذْفِ وَإِنْ سَقَطَ حَدُّهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلِذَلِكَ جُوِّزَ لَهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا وَالْتَعَنَ مِنْهَا وَامْتَنَعَتْ بَعْدَهُ مِنَ اللِّعَانِ فَحُدَّتْ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بِالزِّنَا ثَانِيَةً لَمْ يُحَدَّ لَهَا، لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ فِي حَدِّهَا وَثُبُوتِ صِدْقِهِ، وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِالزِّنَا حُدَّ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الزَّوْجُ وَكَانَ لِعَانُهُ مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ الْمُسْقِطَةِ لِحَصَانَتِهَا فِي حَقِّهِ لَا فِي حُقُوقِ الْأَجَانِبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ يَنْفِ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ وَلَدًا أَوْ نَفَاهُ وَقَدْ مَاتَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي قَذْفِهَا، وَإِنْ نَفَى بِهِ وَلَدًا بَاقِيًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَوَافَقَ فِي حَدِّهِ مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ، وَخَالَفَ فِيهِ مَعَ عَدَمِهِ، وَجَعَلَ لِعَانَ الزَّوْجِ مُسْقِطًا لِحَصَانَتِهَا فِي حَقِّهِ وَحُقُوقِ الْأَجَانِبِ كَالْبَيِّنَةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَضَى بِأَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا تُرْمَى وَلَا وَلَدُهَا، فَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّهَا حُدَّتْ لِامْتِنَاعِهَا عَنِ اللِّعَانِ فَلَمْ تَسْقُطْ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ كَمَا لَوْ كَانَ ولدها المنفي باقياً، والفصل بين الزوج والأجنبي في اللعان والتسوية بينهما في البينة، أن الْبَيِّنَةِ حُجَّةٌ عَامَّةٌ فَسَقَطَتْ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ واللعان حجة خاصة فَسَقَطَتْ بِهِ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَزْوَاجِ لَا مِنْ جميع الناس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَذَفَهَا فَجَاءَتْ بِشَاهِدَيْنِ لَاعَنَ وَلَيْسَ جُحُودُهُ الْقَذْف إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْقَذْفِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ فِي لِعَانِهِ، لِأَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ يَقُولُ: لَمْ أَقْذِفْهَا بِالزِّنَا وَقَدْ تَكُونُ زَانِيَةً وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْهَا، فَلِذَلِكَ لَاعَنَ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي إِنْكَارِهِ فَقَالَ: مَا زَنَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ. مِثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْوَدِيعَةِ إِذَا ادَّعَيْتَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لَكَ فِي يَدِي وَدِيعَةٌ، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ مَعِي وَدِيعَةً، فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْدَعَهُ فَادَّعَى تَلَفَهَا قَبْلَ قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْوَدِيعَةِ قَدْ أَوْدَعْتِنِي وَتَلِفَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ فِي الْأَوَّلِ. كَذَلِكَ حُكْمُ اللِّعَانِ بَعْدَ إِنْكَارِ الْقَذْفِ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ بِإِنْكَارِ الْقَذْفِ فَلِذَلِكَ لَاعَنَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَكُونُ إِنْكَارُهُ إِكْذَابًا لِلْبَيِّنَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ إِكْذَابًا لَهَا كَمَا لَا يَكُونُ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَأَنَا صَادِقٌ فِي أَنَّهَا زَنَتْ، فَلَمْ أَكُنْ قَاذِفًا، وَالشُّهُودُ قَدْ صَدَقُوا فِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِي إنَّهَا زَنَتْ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَهَا بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ يَسْتَجِدُّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ بِإِنْكَارِ الْقَذْفِ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ قَدْ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِإِنْكَارِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعْنَى الْقَذْفِ تَأْوِيلٌ لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ إِكْذَابًا لِلْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِكْذَابًا لِنَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ إِلَّا بِقَذْفٍ يستجده، وهذا هو فائدة هذين الوجهين. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَذْفُ الصَّبِيِّ لَا يُوجِبُ حَدًّا وَلَا يُبِيحُ لِعَانًا، لِأَنَّهُ وَبِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ حَدٌّ وَلَا قَطْعٌ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا يُؤْذِي قَذْفُ مِثْلِهِ عُزِّرَ أَدَبًا، كَمَا يُؤَدَّبُ فِي مَصَالِحِهِ، وَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يُؤْذِي قَذْفُهُ لَمْ يُعَزَّرْ، فَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيهِ بِالْقَذْفِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى الْقَذْفِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا فِي عِدَّةٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فِيهَا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَذَفَ الرَّجْعِيَّةَ فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَمْ يَسْلُبْ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَّا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْوَطْءِ مَا لَمْ يُرَاجِعْ. وَالثَّانِي: جَرَيَانُهَا فِي الْفَسْخِ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى تَبَيَّنَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ هِيَ فِيمَا عَدَاهُمَا جَارِيَةٌ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالظِّهَارِ وَالتَّوَارُثِ، وَلُحُوقِ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ، وَبِهَذَا خَالَفَتِ الْمَبْتُوتَةُ الْمَسْلُوبَةُ لِأَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَبَعْدَهَا وَمِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ قَدِ انْقَضَتْ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَقَفَ حُكْمُ اللِّعَانِ قَبل رَجْعَتِهِ كَمَا وَقَفَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَلَمْ تَجِبْ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؟ وَلَمْ يَحْتَسِبْ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 قِيلَ: لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى فِيهِمَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الرَّجْعَةِ كَوُجُودِهِ بَعْدَهَا، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ تَجِبُ بِالْعَوْدِ الَّذِي هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا أَمْكَنَ الْوَطْءُ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهَا، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَانَتْ فَقَذَفَهَا بِزِنًا نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ حُدَّ وَلَا لِعَانَ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا أَوْ حَمْلًا فَيَلْتَعِنَ فإن قيل فلم لاعنت بينهما وهي بائن إذا ظهر بها حمل؟ قيل كما ألحقت الولد لأنها كانت زوجته فكذلك لاعنت بينهما لأنها كانت زوجته ألا ترى أنها إن ولدت بعد بينونتها كهي وهي تحته وإذا نفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الولد وهي زوجة فإذا زال الفراش كان الولد بعد ما تبين أولى أن ينفى أو في مثل حاله قبل أن تبين ". قال الماوردي: وهذا كَمَا قَالَ: إِذَا بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ إِمَّا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَإِمَّا بِالْخُلْعِ، وَإِمَّا بِالْفَسْخِ، وَإِمَّا بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يُرَاجِعْ فِيهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَصَارَتْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ بَائِنًا، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا نِسْبَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جواز لعانه منها على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ سَوَاءٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، سَوَاءٌ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، إن لَمْ يُرِدْ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، فَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِي الْحَالَيْنِ بِأَنَّهُ قَذْفٌ مُضَافٌ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ فَجَازَ اللِّعَانُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ اللِّعَانِ فِي الْحَالَيْنِ: بِأَنَّهُ قَذْفٌ صَادَفَ أَجْنَبِيَّةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ كَالْحَائِلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ جَوَازِهِ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ فِي عَدَمِهِ، أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا لِمَعَرَّةٍ بِزِنَاهَا فِي نِكَاحِهِ، وَإِمَّا لِنَفْيِ نَسَبِ مَنْ لَا يَلْحَقُ بِهِ. وَالثَّانِي: قَدْ زَالَ عَارُهَا عَنْهُ، وَلَمْ يُنْفَ وَلَدُهَا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى نَفْيِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ عَدَمِ النسب لزوال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 مَعَرَّتِهَا عَنْهُ بِالْفُرْقَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا وَانْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى الْبَتِّيِّ خَاصَّةً فِي عَدَمِ النَّسَبِ أَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ فَلَا تُلَاعَنُ مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ أَنَّهُ قَذْفٌ اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ زَوْجَهُ لَأَنَّ وَلَدَهَا يَلْحَقُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ كَمَا يَلْحَقُ بِهِ قَبْلَهَا. فَإِنْ قِيلَ يَفْسُدُ بِأُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهَا قِيلَ يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ وَهُوَ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى اللِّعَانِ بِخِلَافِ الزَّوْجِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ لِعَانِهِ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ الْمُنَاسِبِ خَاصَّةً لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّسَبِ اللَّاحِقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا مُنْفَصِلًا أَوْ حَمْلًا مُتَّصِلًا، فَإِنْ كَانَ وَلَدًا قَدْ وَضَعَتْهُ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ، وَإِنْ كَانَ حَمْلًا مُتَّصِلًا لَمْ تَضَعْهُ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا قَبْلَ وَضْعِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَمْلِهَا كَمَا يُلَاعِنُ مِنْ وَلَدِهَا، لِأَنَّ مَنْ لَاعَنَ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ لَاعَنَ مِنْ ذَاتِ الْحَمْلِ كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ قَبْلَ وَضْعِهَا فَلَمْ يَقْدِرِ الْوَرَثَةُ عَلَى لِعَانِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَمْلِهَا حَتَّى تَضَعَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا أَوْ رِيحًا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لَاعَنَ مِنْهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنِ انفشي حدّ وَلَمْ يُلَاعِنْ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بِنَاءِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَكُونُ مُتَحَقِّقًا تَسْتَحِقُّ بِهِ تَعْجِيلَ النَّفَقَةِ قَبْلَ وَضْعِهِ، أَوْ يَكُونُ مَظْنُونًا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا لَاعَنَ مِنَ الْمَبْتُوتَةِ لِنَفْيِ النَّسَبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَثْبُتُ بِلِعَانِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ - عَلَى وَجْهَيْنِ: حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ إِذَا لَاعَنَ مِنْ وَلَدِهَا. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمَنْكُوحَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي نَفْيِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْحَدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ تَابِعٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَهَذَا اللِّعَانُ لَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الْأَبَدِ، فَعَلَى هَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ لِيُكْمِلَ بِهِ عَدَدَ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمَ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ أَحْوَالِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَ كَالطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ إِذَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الثَّلَاثَ بِطَلَاقِهِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ هَذَا اللِّعَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْفُرْقَةِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّحْرِيمِ، وَلَوْ أَثَّرَ لَكَانَ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ أَوْلَى. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ في حال نكاحها بزنا نسبة إلى أنه كان منها قبل نكاحها، فَقَالَ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً على خلافهم في جواز لعانه بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى جَوَازِ لِعَانِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ لِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اللِّعَانَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ بِاللِّعَانِ حَالَ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ، وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ حَالَ الْقَذْفِ دُونَ الزِّنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَجَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ كُلُّ قَاذِفٍ لِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِزَوْجَتِهِ فَجَازَ لِعَانُهُ كَالزِّنَا فِي الزَّوْجِيَّةِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الزِّنَا الْحَادِثِ فِي نِكَاحِهِ لِئَلَّا يَلْتَحِقَ بِهِ وَلَدُ الزِّنَا جَازَ فِي الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُلَاعِنَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ، وَهَذَا فِي الزِّنَا الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ فَحُدَّ وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنًا هِيَ فِيهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزِّنَا لَا بِحَالِ الْقَذْفِ. أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ عِتْقِكَ، وَلِبَالِغٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ بُلُوغِكَ، وَلِمُسْلِمٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ إِسْلَامِكَ، لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا دُونَ حَالِ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِحَالِ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَالْمَعْنَى فِي الزَّوْجَةِ ضَرُورَتُهُ إِلَى قَذْفِهَا لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ، وَنَفْيِ النَّسَبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ، لِأَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا مِنَ الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَاضْطُرَّ إِلَى قَذْفِهَا وَالْتِعَانِهِ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْتِعَانِهِ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلضَّرُورَةِ أَنْ يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 إذا جاز أن ينفي نسب بِزِنًا كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَهُ بِزِنًا كَانَ قَبْلَ نِكَاحِهِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ إِلَّا بِقَذْفِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنه لا يجوز أن يُلَاعِنَ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَإِنْ خَلَتْ مِنْ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ زِنًا مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِزِنًا مُطْلَقٍ فَيُلَاعِنَ مِنْهُ وَلَا يَنْسِبُهُ إِلَى مَا قَبْلَ الزوجية فيمنعه من اللعان والله اعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أَصَابَكِ رَجُلٌ فِي دُبُرِكِ حُدَّ أو لاعن ". قال الماوردي: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْقَذْفِ بِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجِبُ فِي فِعْلِهِ وَفِي الْقَذْفِ بِهِ الْحَدُّ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَبِّلُهَا بِمَائِهِ وَلَا يَقْدَحُ فِي نَسَبِهِ، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ دُونَ الْفَرْجِ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى فَاعِلِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ " وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْحَدُّ كَالْقُبُلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوب حَدِّ الْقَذْفِ فِي الرَّمْيِ بِهِ، أَنَّهُ إِيلَاجٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْبَحُ وَالْمَعَرَّةَ بِهِ أَفْضَحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِيهِ عُمُومُ قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، فَجَازَ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْقُبُلِ، فَإِذَا لَاعَنَ بِهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهِ، وَفِي جَوَازِ نَفْيِ الْوَلَدِ، بِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَاقَةَ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِاسْتِحَالَةِ الْعُلُوقِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْإِنْزَالَ فَيَسْتَدْخِلَهُ الْفَرَجُ فَيَعْلَقَ بِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا بِسِحَاقِ النِّسَاءِ فَلَا حد فيه ولا لعان منه، لِأَنَّ فِعْلَهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ الْقَذْفُ بِهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ فَصَارَ كَذِبًا صَرِيحًا، وَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَاخْتُصَّ التَّعْزِيرُ لِلْأَذَى وَلَمْ يَجر فِيهِ اللِّعَانُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ وأمها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ فَطَلَبَتْ حَدَّ أُمِّهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا وَحُدَّ لِأَنَّهَا إِذَا طَلَبَتْهُ أَوْ وَكِيلُهَا وَالْتَعَنَ لِامْرَأَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ فَإِذَا بَرَأَ حُدَّ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ قَاذِفًا لَهَا وَلِأُمِّهَا بِلَفْظَيْنِ فَقَوْلُهُ: يَا زَانِيَةُ، هُوَ قَذْفٌ لِزَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لِأُمِّهَا. وَقَوْلُهُ: بَنَتَ الزَّانِيَةِ هُوَ قَذْفٌ لِأُمِّهَا وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لَهَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ لَهَا حَدَّانِ لَا تَعَلُّقَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَجَعَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَذْفًا وَاحِدًا وَأَوْجَبُوا فِيهِ حَدًّا وَاحِدًا، وأجري مجرى قوله لهما يا زانيتين، فَجَمَعُوا بَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظِةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظَتَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ مَتَى قَذَفَهُمَا بِلَفْظَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ، وَإِنْ قَذْفَهُمَا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ -: يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ -: يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ اثْنَتَانِ وفيما ذكرناه في تَعْلِيلِ هَذَا الشَّرْحِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّانِ أَحَدُهُمَا لِزَوْجَتِهِ، وَالْآخِرُ لِأُمِّهَا فَحَدُّ الْأُمِّ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا، وَإِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا، وَحَدُّ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا بِإِقْرَارِهَا، وَإِمَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا بِاللِّعَانِ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدَّانِ عَنْهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِمَا، وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ حَقُّ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِإِقْرَارٍ وَلَا بِبَيِّنَةٍ وَاجْتَمَعَ الْحَدَّانِ عَلَيْهِ فَلَهُمَا إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ مُطَالَبًا ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ حَاضِرَةً وَأُمُّهَا غَائِبَةً فَيُحَدُّ لِلْبِنْتِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ، وَلَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْأُمِّ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْأُمُّ حُدَّ لَهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِنْ حُدَّ لِلُزُوجَةِ لَمْ يُحَدَّ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ حَدًّا وَاحِدًا، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنَ الزَّوْجَةِ حُدَّ لِلْأُمِّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ حَاضِرَةً، وَالزَّوْجَةُ غَائِبَةً، فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ، وَلَا يَقِفُ حَدُّهَا عَلَى حُضُورِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا حَضَرَتْ حُدَّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يُحَدُّ لَهَا وَلَا يَلْتَعِنُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبُوا ثَانِيًا وَقَدْ صَارَ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ أَنْ يُلَاعِنَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَا حَاضِرَتَيْنِ مُطَالِبَتَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأُمَّ تُقَدَّمُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا عَلَى الْبِنْتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَقُوَّةِ حَقِّهَا، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِقَذْفِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوُجُوبَهُ لِبِنْتِهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ لَهَا مَخْرَجٌ، وَلَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ لِزَوْجَتِهِ مَخْرَجٌ بِاللِّعَانِ فَصَارَتْ بِهَذَيْنِ أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: تُقَدَّمُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ أُمِّهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ عَلَى قَذْفِ أُمِّهَا فِي قَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَصَارَتْ لِتَقَدُّمِ قَذْفِهَا أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ، فَإِنْ قُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فَحُدَّ لَهَا ثُمَّ طَالَبَتْهُ الْبِنْتُ، فَإِنْ أَجَابَ فِي مُطَالَبَتِهَا إِلَى اللِّعَانِ الْتَعَنَ مِنْهَا لِوَقْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَى اللِّعَانِ حُبِسَ وَلَمْ يُجْلَدْ لِوَقْتِهِ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لَهَا وَلَا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ فَيُفْضِي إِلَى التَّلَفِ، وَهَكَذَا لَوْ قُدِّمَتِ الزَّوْجَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهَا حُدَّ لِلْأُمِّ لِوَقْتِهِ، وَإِنْ حُدَّ لِلزَّوْجَةِ وَلَمْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا لَمْ يُحَدَّ فِي وَقْتِهِ لِلْأُمِّ، وَحُبِسَ لَهَا حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لِئَلَّا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ لَوْ قُطِعَ يَمِينُ يَدٍ مِنْ رَجُلٍ، وَيُسْرَى يَدٍ مِنْ آخَرَ، اقْتَصَصْنَا مِنْ يُمْنَاهُ وَيُسْرَاهُ لِوَقْتِهِ، وَجَمَعْنَا عَلَيْهِ بَيْنَ قِصَاصَيْنِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْحَدِّ كَذَلِكَ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِزِيَادَةٍ، وَالْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِالْجِنَايَةِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِطُ بِزِيَادَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْقِصَاصَيْنِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ واحد، ولم يجمع بين الحدين، لأنهما لا يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى أَبَى اللِّعَانَ فَحَدَدْتُهُ إِلَّا سَوْطًا ثَمَّ قَالَ أَنَا ألْتَعِنُ قَبِلْتُ رُجُوعَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا مَضَى مِنَ الضَّرْبِ كَمَا يَقْذِفُ الْأَجْنَبِيَّةَ وَيَقُولُ لَا آتِي بِشُهُودٍ فَيُضْرَبُ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا آتِي بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَلْتَعِنْ فَضُرِبَتْ بَعْضَ الْحَدِّ ثَمَّ تَقُولُ أَنَا أَلْتَعِنُ قَبِلْنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ بَعْدَ قَذْفِهِ مِنَ اللِّعَانِ فَحُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ أَوْ أَكْثَرَهُ إِلَّا سَوْطًا ثُمَّ أَجَابَ إِلَى اللِّعَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ وَهَكَذَا الزَّوْجَةُ إِذَا لَاعَنَهَا وَامْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ فحدث بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَجَابَتْ إِلَى اللِّعَانِ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْتَعِنَ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الْخِلَافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى أَجَابَ الزَّوْجُ إِلَى اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ لَمْ يجب إِلَيْهِ، وَاسْتوفى، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجِ حَدًّا عَلَيْهِ، وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَلَا يُوجِبُ بِلِعَانِهِ حَدًّا عَلَيْهَا وَيَحْبِسُهَا حَتَّى تُلَاعِنَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ مَذْهَبًا لَهُ نَاقَضَ أَصْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبًا لَهُ فَنَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ، شيئان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ كَالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ، فَكَذَلِكَ الْتِعَانُهُ يُقْبَلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْقِطَ بِاللِّعَانِ جَمِيعَ الْحَدِّ، كَانَ إِسْقَاطُهُ بَعْضَ الْحَدِّ بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: فَاللِّعَانُ عِنْدَكُمْ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ إِذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهَا بَعْدَ ردها على المدعي لم يجيز أَنْ تُعَادَ إِلَيْهِ فَهَلَّا كَانَ اللِّعَانُ بَعْدَ النُّكُولِ عَنْهُ كَذَلِكَ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا نَكَلَ عَنْهَا المدعى عليه صارت حجة للمدعي، فلم يجيز أن تعاد إِلَيْهِ، وَاللِّعَانُ حَقٌّ لَهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ فَإِذَا أَجَابَ إِلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وقال قَائِلٌ كَيْفَ لَاعَنْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْكُوحَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا بِوَلَدٍ وَاللَّهُ يَقُولُ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقلت لَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فلم يختلف المسلمون أنه مالك الإصابة بالنكاح الصحيح أو ملك اليمين قال نعم هذا الفراش قلت والزنا لا يلحق به النسب ولا يكون به مهر، ولا يدرأ فيه حد؟ قال نعم قلت: فإذا حدثت نازلة ليست بالفراش الصحيح ولا الزنا الصريح وهو النكاح الفاسد أليس سبيلها أن نقيسها بأقرب الأشياء بها شبهاً؟ قال نعم قلت فقد أشبه الولد عن وطء بشبهة الولد عن نكاح صحيح في إثبات الولد وإلزام المهر وإيجاب العدة فكذلك يشتبهان في النفي باللعان وقال بعض الناس لا يلاعن إلا حران مسلمان ليس واحد منهما محدوداً في قذف وترك ظاهر القرآن واعتل بأن اللعان شهادة وإنما هو يمين ولو كان شهادة ما جاز أن يشهد أحد لنفسه ولكانت المرأة على النصف من شهادة الرجل ولا كان على شاهد يمين ولما جاز التعان الفاسقين لأن شهادتهما لا تجوز فإن قيل قد يتوبان فيجوزان قيل فكذلك العبدان الصالحان قد يعتقان فيجوزان مكانهما والفاسقان لو تابا لم يقبلا إلا بعد طول مدة يختبران فيها فلزمهم أن يجيزوا لعان الأعميين النحيفين لأن شهادتهما عندهم لا تجوز أبداً كما لا تجوز شهادة المحدودين ". قال الماوردي: وهذا كما قاله، يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِلِعَانِهِ نَسَبًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا إِنْ لم ينفى نسباً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُهُ وَيَصِحُّ فِيهِ ظِهَارُهُ، وَلَا يُلَاعِنُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا فِي مَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ نَسَبٍ يَلْحَقُهُ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يرمون أزواجهم} وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَتَهُ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ وَلِأَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ اللِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَغَيْرِ ذَاتِ الْوَلَدِ. وَدَلِيلُنَا قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، وَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُنَّ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فِرَاشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، فَجَازَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ، وَخَالَفَتِ الْأَمَةُ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ، وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ، وَلُحُوقُهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَضْعَفُ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ بِاللِّعَانِ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ كَانَ أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ بِاللِّعَانِ شَيْئَانِ، رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ النَّسَبِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَفْعِ الْفِرَاشِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْيِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى رَفْعِ شَيْئَيْنِ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحْكَامِهَا فِي الصِّحَّةِ، فَلَمَّا جَازَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي صَحِيحِ الْمَنَاكِحِ كَانَ نَفْيُهُ فِي فَاسِدِهَا أولى. فأما الجواب عن الآية فهو اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِأَنَّهُ قُذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فهو أن فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا. فَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهِ الْأَجْنَبِيَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَسَبٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ، وَاللِّعَانَ يُمْلَكُ بِحُدُوثِ الزِّنَا، فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ فِي صَحِيحِ الْعَقْدِ وَفَاسِدِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْفُرْقَةِ، وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَاللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَنَفْيِ لِحَوْقِ النَّسَبِ، فَصَحَّ فِيهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ سَبَبِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعْنَاهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ وَلَدِ النَّسَبِ لِزَوَالِ أَسْبَابِهِ كُلِّهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، تَعَلَّقَ بِالْتِعَانِهِ فِيهِمَا مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ الأربعة حكمان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 أَحَدُهُمَا: دَرْءُ الْحَدِّ. وَالثَّانِي: نَفْيُ النَّسَبِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَابِعٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ. وَالثَّانِي: يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، لِأَنَّ سقوط بعض أحكام اللعان لا توجد سقوط باقيها، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْوَجْهَيْنِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وبالله التوفيق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 (باب أين يكون اللعان) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ فَإِذَا لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ أَوْ بِالْمَدِينَةِ فَعَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ ببيت ففي مسجده وَكَذَا كُلُّ بَلَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اللِّعَانُ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِه وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِهِ لِعَانٌ. غَيْرُ هَذَيْنِ - فَتَوَلَّاهُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِمَا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدَنَا - وَشَهَادَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ إِلَّا بِحُكْمٍ، فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَاللِّعَانُ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ حَتَّى لَا يُقْدِمَ الْمُتَلَاعِنَانِ عَلَى دَعْوَى كَذِبٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، فَوَجَبَ تَغْلِيظُهُ بِمَا يَزْجُرُ عَنْهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ، وَتَغْلِيظُهُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: بِالتَّكْرَارِ، وَبِالْمَكَانِ، وَبِالزَّمَانِ، وَبِالْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَهُوَ إِعَادَةُ لَفْظِهِ بِالشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِيهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وَيَلْعَنُ نَفْسَهُ فِي الْخَامِسَةِ إِنْ كَانَ مِنَ الكاذبين، وتكرر الزوجة شهادتها بالله أنه مِنَ الْكَاذِبِينَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَتَأْتِي فِي الْخَامِسَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [النور: 6] . وَتَكْرَارُ هَذَا الْعَدَدِ مُسْتَحَقٌّ وَشَرْطٌ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ، فَإِنْ تُرِكَ بَعْضُهُ وَإِنْ قال لَمْ يَصِحَّ اللِّعَانُ وَلَمْ يَتِمَّ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تُرِكَ أَقَلُّهُ جَازَ، وَإِنْ تُرِكَ أَكْثَرُهُ لَمْ يَجُزْ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ يُؤْمَرُ بِهِ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى تَغْلِيظِهِ بِالْمَكَانِ وَاخْتِصَاصِهِ بِأَشْرَفِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُتَوَقَّى فِيهَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْفُجُورِ، فَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَدَلَّ اخْتِصَاصُهُ بِالْمِنْبَرِ عَلَى تَغْلِيظِهِ بِهِ لِشَرَفِهِ، وَلِعَظَمِ الْعُقُوبَةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعَاصِي فِيهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وَرَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً عَلَى مِنْبَرِي هَذَا، وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ مَنْ أَرَاكٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " وَمَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِقَوْمٍ يُحَلِّفُونَ رَجُلًا بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ فَقَالَ: أَفِي دَمٍ؟ قِيلَ: لَا قَالَ: أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ؟ قِيلَ: لَا، قَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَكَانِ وَإِذَا تَغَلَّظَتْ بِهِ الْأَيْمَانُ، فَأَوْلَى أَنْ تُغَلَّظَ بِهِ فِي اللِّعَانِ. أَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة 106] قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا ثُمَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ فَضُلَ عَنْهُ مَاءٌ بِالْفَلَاةِ فَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى أَخِيهِ ". وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْجَمَاعَةِ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَالْعَذَابُ هُوَ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ اللِّعَانُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ رَوَاهُ أَحْدَاثُ الصَّحَابَةِ، كابن عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَلَا يَحْضُرُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ إِلَّا مَعَ أَضْعَافِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَسْنَانِ، وَلِيَكُونَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيهِ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ وَلِيَكُونُوا حجة إن تناكر المتلاعنان. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ وَيَبْدَأُ فَيُقِيمُ الرَّجُلَ قَائِمًا وَالْمَرْأَة جَالِسَةً فَيَلْتَعِنُ ثُمَّ يُقِيمُ الْمَرْأَة قَائِمَةً فَتَلْتَعِنُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَعَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. الِابْتِدَاءُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ بِلِعَانِهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وقال مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ الزَّوْجِ مَشْرُوعٌ وَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ، فَإِنْ تَقَدَّمَتِ الزَّوْجَةُ جَازَ، وَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فَجَعَلَ لِعَانَهَا إِدْرَاءً لِلْعَذَابِ عَنْهَا وَهُوَ الْحَدُّ عِنْدَنَا وَالْحَبْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِدْرَاءُ عَنْهَا يَكُونُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي النَّصِّ الْمُخَالِفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصُّ التَّنْزِيلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ فِي إِدْرَاءِ الْعَذَابِ عَنْهَا بَعْدَ وجوبه عليها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 وَالثَّانِي: نَصُّ السُّنَّةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين ابتدأ في السعي بالصفا، وقال: " ابدأوا بما بدأ الله به ". (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَغْلِيظُهُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا، أَمَّا تَغْلِيظُهُ بِتَكْرَارِ الْعَدَدِ فَسَنَذْكُرُ شَرْحَهُ مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ فَفِي أَشْرَفِ مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَوْضِعُ: الْحَطِيمَ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يُحَطِّمُ الْعُصَاةَ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَفِي مَسْجِدِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَا هُنَا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: عِنْدَ الْمِنْبَرِ فاختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه: أحدهما: إنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه لايلاعن بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ، لِأَنَّهُ مَقَامُ عُلُوٍّ وَشَرَفٍ، وَاللِّعَانُ نَكَالٌ وَخِزْيٌ فَاخْتَلَفَ مَقَامُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا، وَحُمِلَ قول الشافعي على المنبر، أي عنده، ولأنها حُرُوفُ صِفَاتٍ يُخْلِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَيُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِنْبَرِ إِنْ كَثُرَ النَّاسُ، وَعِنْدَ الْمِنْبَرِ إِنْ قَلُّوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُشَاهَدَةُ الْحَاضِرِينَ لَهُمَا، وَسَمَاعُ لِعَانِهِمَا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وَإِنْ كَانَ نَكَالًا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ شَرَفٍ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي النَّكَالِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا اللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. كَانَ فِي مَسْجِدِهَا الْأَقْصَى، وَفِي مَوْضِعِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ، عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَطَائِفَةٍ: إنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالشُّهْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَفِي جَوَامِعِهَا، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَيَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَوْ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالزَّمَانِ فَمِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَإِقَامَةِ جَمَاعَتِهَا، ولا يلتعنان بعد دخول وقتها وقبل إقامتهما لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلدُّعَاءِ، وَلِارْتِفَاعِ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا تَغْلِيظُهُ بِالْجَمَاعَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أنهم فَمَا زَادَ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْبَيِّنَةِ فِي الزِّنَا ويكونوا عُدُولًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِيَجْتَمِعَ الْأَشْهَادُ بِحُضُورِهِمْ، وَالْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَغْلِيظِ اللِّعَانِ شَرْعًا بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ فِي اللُّزُومِ والاختيار منقسمة أقسام: أَحَدُهَا: مَا كَانَ شَرْطًا مُسْتَحَقًا فِيهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ تَكْرَارُ شَهَادَتِهِمَا أَرْبَعًا، وَفِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الزَّوْجِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَى الزَّوْجَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَحَبًّا وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُسْتَحَقًا وَهُوَ شَيْئَانِ أحدهما: تغليظه بالزمان، وتغليظه بِالْجَمَاعَةِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ تَغْلِيظُهُ بِالْمَكَانِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ لَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إِلَّا بِهِ إِلْحَاقًا بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا يُؤَثِّرُ تَرْكُهُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ إِلْحَاقًا بالزمان والجماعة. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حُضُورِ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّهُ لِعَانٌ بَيْنَهُمَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَأَقَلُّ مَا فِي اجْتِمَاعِهِمَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَ صَاحِبِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَرَاهُ مَعَ سَمَاع لِعَانِهِ لِيَسْتَطِيعَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ فَإِنْ تَبَاعَدَا عَنْ هَذَا الْمَوْقِفِ فَلَمْ يرد أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ فَأَوْلَى الْأُمُورِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَجْمَعُ أَرْبَعَةً مِنْ شُهُودِ اللِّعَانِ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمَا وَسَمَاعِ كَلَامِهِمَا، فَإِنْ تَبَاعَدَا عَنْ هَذَا الْمَوْقِفِ الثُّنَائِيِّ، وَتَبَاعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُؤْيَةِ صَاحِبِهِ وَعَنْ جَمْعِ الشُّهُودِ بَيْنَ رُؤْيَتِهِمَا وَسَمَاعِ كَلَامِهِمَا جَازَ، لِأَنَّ لِعَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ جَائِزٌ وَالْمَوْتُ قَاطِعٌ لِلِاجْتِمَاعِ، لَكِنْ إِنْ بَعُدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَمْ يُكْرَهْ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ لَكِنْ تَقِفُ فِي أَقْرَبِ بَوَّابَةٍ مِنَ الْمِنْبَرِ الَّذِي يُلَاعِنُ فِيهِ الزَّوْجُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الشَّرْحُ اخْتِيَارًا وَجَوَازًا ابْتَدَأَ الْحَاكِمُ بِالزَّوْجِ فَأَقَامَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ وَالزَّوْجَةُ جَالِسَةٌ، لِيَكُونَ قِيَامُ الزَّوْجِ أَشْهَرَ لَهُ فِي النَّاسِ لِيُشَاهِدَهُ جَمِيعُهُمْ فَيَنْزَجِرَ وَلِيَرَاهُ وَيَسْمَعَهُ جَمِيعُهُمْ فَيَشْهَدُوا، فَإِذَا الْتَعَنَ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ نَزَلَ عَنْ مَقَامِهِ وَجَلَسَ وَقَامَتِ الزَّوْجَةُ فِي مِثْلِ مَقَامِهِ وَلَاعَنَتْ مِثْلَ لِعَانِهِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ فِيهِمَا، فَإِنِ الْتَعَنَا جَالِسَيْنِ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَمْ يُكْرَهْ إن كان لعذر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 (مسألة) قال الشافعي: " أو كَانَتْ مُشْرِكَةً الْتَعَنَتْ فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ تُعَظِّمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَرَافَعَ إِلَى حُكَّامِنَا زَوْجَانِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي لِعَانٍ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمَا، وَلَمْ يُلَاعِنْ فِي مَسَاجِدِنَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ حُرْمَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَوَاضِعِ اللِّعَانِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُتَلَاعِنَانِ مِنْ تَعْظِيمِهِمَا وَعِظَمِ الْمَآثِمِ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهَا، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَرَوْنَ لِتَعْظِيمِ مَسَاجِدِنَا مَا يَرَوْنَهُ مِنْ تَعْظِيمِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ بِالِالْتِعَانِ فِيهَا فَإِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَوَاضِعِهِمْ وَإِنْ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي بِيَعِهِمْ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَوَاضِعِهِمْ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتِ نِيرَانِهِمْ، وَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْضُرَهَا فِي لِعَانِهِمْ، لِأَنَّ حُضُورَهَا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا إِظْهَارُ الْمَعَاصِي فِيهَا مَحْظُورٌ، فَإِذَا لَمْ يُشَاهِدْهَا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ جَازَ الدُّخُولُ إِلَيْهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا غلظ لعان الذميين بما يعظمون مِنَ الْأَمْكِنَةِ كَانَ تَغْلِيظُهُ بِمَا يُعَظِّمُونَ مِنَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا بِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَمَا خَلي مِنْ مَعْصِيَةٍ جَازَ تَغْلِيظُ أَيْمَانِهِمْ بِهِ كَقَوْلِهِ فِي لِعَانِ الْيَهُودِيَّيْنِ: - أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَفِي لِعَانِ النَّصْرَانِيَّيْنِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، فَقَدْ رَوَى جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أراد إحلاف اليهود عن إِنْكَارِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ قَالَ لَهُمْ: " بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى " فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَيْمَانِهِمْ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَغْلِيظُ لِعَانِهِمْ بِهِ كَقَوْلِ الْيَهُودِ: فِي عُزَيْرٍ إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، أَوْ كَيَمِينِ غَيْرِهِمْ بِأَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْيَهُودِ بِمُوسَى، وَلَا إِحْلَافُ النَّصَارَى بِعِيسَى، كَمَا لَا يَجُوزُ إِحْلَافُ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ بِالْمَخْلُوقِينَ مَحْظُورٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " ز (مسألة) قال الشافعي: " وإن شاءت المشركة أن تحصره في المساجد كلها حضرته إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام لقول الله تَعَالَى {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا يَكُونُ فِي لِعَانِ الْكِتَابِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلِعَانُهَا فِيمَا تُعَظِّمُهُ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَوْلَى مِنْ لِعَانِهَا فِي مَسَاجِدِنَا، فَإِنْ وَافَقَهَا الزَّوْجُ عَلَى الْتِعَانِهِمَا فِي مَسَاجِدِنَا لَمْ يُمْنَعْ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ إِدْخَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ إِدْخَالَهُمْ إِلَى جَمِيعِهَا وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَالِكٌ يَمْنَعُ مِنْ إِدْخَالِهِمْ إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] . فنصه على أبي حنيفة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 وَدَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ: قَدْ رَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ إِلَى سَارِيَةٍ فِي مَسْجِدِهِ إِلَى أَنْ سَمِعَ سُورَةَ طه فَأَسْلَمَ وَقَالَ: كَانَ قَلْبِي يَتَصَدَّعُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ. (فصل) قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا جُعِلَ لِلْمُشْرِكَةِ أَنْ تَحْضُرَهُ في المسجد وعسى بها من شِرْكِهَا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا كَانَتِ الْمُسْلِمَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمُزَنِيِّ بَيَانٌ عَمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ دُخُولِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ كَمَا يَجُوزُ دُخُولُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ جُنُبٌ وَحَائِضٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّنَا إِذَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ الدَّاخِلَ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ لَمْ تُمْنَعْ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ قَدْ أُمِنَ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا فَفِي جَوَازِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهَا وَلَا يُمَكَّنُونَ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمَكَّنُونَ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الدُّخُولِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ إِلَّا أَنْ لَا يُؤْمَنَ بِتَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِ الْحَيْضِ فَيُمْنَعُوا وَإِنْ خَالَفُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ فَلَزِمَهُ اجْتِنَابُهُ مَعَ تَغْلِيظِ حَدَثِهِ، وَلَيْسَ الْمُشْرِكُ مُلْتَزِمًا لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُهُ مَعَ حَدَثِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ وَالزَّوْجَةُ الذِّمِّيَّةُ فِي مَوْضِعِ لِعَانِهِمَا مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَهَا لِأَنَّ التَّغْلِيظَ عَلَيْهَا فِي اللِّعَانِ حَقٌّ لَهُ عَلَيْهَا فَإِنْ دَعَتْ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ الزوج في الكنسية كَانَ الْقَوْلُ قَوْل الزَّوْجِ أَوْلَى لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهَا وَإِنْ دَعَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْكَنِيسَةِ وَدَعَى الزَّوْجُ إِلَى لِعَانِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حقه من التغليظ عليها. (مسألة) قال الشافعي: " وإن كان مُشْرِكَيْنِ وَلَا دِينَ لَهُمَا تَحَاكَمَا إِلَيْنَا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ الْمُشْرِكَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَيْسَ لَهُمَا دِينٌ مَعْرُوفٌ كَالزَّنَادِقَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِ وَسَقَطَ تَغْلِيظُ لِعَانِهِمَا بِالْمَكَانِ لِاسْتِوَاءِ الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُمَيَّزُونَ بِتَعْظِيمِ مَكَانٍ مِنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُحَلِّفُهُمَا بِاللَّهِ وَهُمَا لَا يَعْتَقِدَانِ تَوْحِيدَهُ وَلَا يُثْبِتَانِ قُدْرَتَهُ وَلَا عِقَابَهُ، وَالْيَمِينُ تُوضَعُ زَجْرًا لِمَنِ اعْتَرَفَ بِاللَّهِ وَخَافَ عَذَابَهُ لِيَتَوَقَّاهُمَا فِي الْإِقْدَامِ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 فَهَلَّا عَدَلَ عَنْ إِحْلَافِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى مَا يَكُونُ تَوَقِّيهِمْ لَهُ أَكْثَرَ وَحَذَرُهُمْ مِنْهُ أَعْظَمَ، قِيلَ: الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ تَوَقِّيهِمْ لِغَيْرِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إِحْلَافِهِمْ بِهِ وَأَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَوَقَّى الْحَلِفَ بِسُلْطَانِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَوَقِّي الْحَلِفِ بِاللَّهِ، وَيَجِبُ إِحْلَافُهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّوْهُ وَلَا يَجُوزُ إِحْلَافُهُمْ بِسُلْطَانِهِمْ وَإِنْ تَوَقَّوْهُ، كَذَلِكَ حَالُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ مِنَ الْكَفَّارِ يَحْلِفُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّوْهُ وَيُسْتَفَادُ بِهَا فِي اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ ثُبُوتُ مَا يَتَعَلَّقُ بها من الأحكام في وقوع الفرقة وتأييد التَّحْرِيمِ وَنَفْيِ النَّسَبِ لِتَجْرِيَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إِكْرَاهًا وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا دِينًا، وَيَكُونُوا مُؤَاخَذِينَ بِعِقَابِ اجْتِرَائِهِمْ مَعَ عِقَابِ كُفْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فإن أغلظ عَلَيْهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاطِنَ كَفْرِهِمْ. هَلَّا غَلَّظَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَيْمَانِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَعَاصِيهِمْ. قِيلَ: لَيْسَتْ بِيَعُهُمْ وَكَنَائِسُهُمْ مَعْصِيَةً، إِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يُبْدُونَهُ فِيهَا مِنْ كُفْرِهِمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِهِ من شكرهم فَجَازَ الدُّخُولُ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يُجَاهِرُونَا فِيهَا بِكُفْرِهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ أَيْمَانِهِمْ بِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ لِكَوْنِهَا مَعَاصِيَ يُسْتَحَقُّ الْعِقَابُ عليها فافترقا - والله أعلم بالصواب -. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 (بَابُ سُنَّةِ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْأُمِّ وغير ذلك (من كتابي لعان جديد وقديم ومن اختلاف الحديث) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وانتفى من ولدها ففرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ وَقَالَ سَهْلٌ وَابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّعَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ، وَخَامِسٌ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، فَأَحَدُ الْأَرْبَعَةِ: دَرْءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ، وَالثَّانِي: نَفْيُ النَّسَبِ عَنْهُ، الثَّالِثُ: وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَالرَّابِعُ: تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ، وَالْخَامِسُ الْمُخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ وُجُودُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي يَخْتَصُّ بِاللِّعَانِ حُكْمَانِ، وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَنَفْيُ النَّسَبِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجِ، وَلَا وُجُوبُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللعان عليهما، بحسبها عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا، وَلَا يُوقِعُ عِنْدَهُ تَحْرِيمَ التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهُ يَحِلُّهَا لَهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي وُجُوبِ الْحَدَّيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير عن ابن ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَمْ يَجْتَمِعَا أَبَدًا "، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: اللِّعَانُ مُخْتَصٌّ بِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ وَلَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ إِلَّا بِطَلَاقِ الزَّوْجِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ طَلَّقَ حِينَ لَاعَنَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا بِالطَّلَاقِ وَقَدْ رَوَى أَبُو مَالِكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا قَالَا: " مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا " وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سُنَّةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَأَنَّهُمَا رَوَيَاهُ نُطْقًا، وَسَيَأْتِي مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا مَا يَدْفَعُ قَوْلَهُمَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِاللِّعَانِ فَنَفْيُ النَّسَبِ مُخْتَصٌّ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْفُرْقَةِ بِمَاذَا تَقَعُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 الْخَمْسَةُ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ لِعَانُ الزَّوْجَةِ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهَا لَا غَيْرَ وَإنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ يَكُونُ تَنْفِيذًا وَلَا يَكُونُ إِيقَاعًا. وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا تَقَعُ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ تَنْفِيذًا لَا إِيقَاعًا، فَخَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِهِمَا وَوَافَقُوهُ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بها تنفيذاً وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا بِلِعَانِهِمَا وَتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهَا إِيقَاعًا لَهَا لَا تَنْفِيذًا وَيَكُونُ إِيقَاعُهُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لِعَانِهِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا، وَجَعَلَ مَالِكٌ حُكْمَهُ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا تَنْفِيذًا وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِيقَاعًا، وَلِأَنَّ الْعَجْلَانِيَّ قَالَ: إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِهِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا قَالَهُ مِنْ إِمْسَاكِهَا، وَمَا أَوْقَعَهُ مِنْ طَلَاقِهَا، وَفِي إِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لَا يَثْبُتُ سَبَبُهَا إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْعُنَّةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتُ سَبَبُهَا فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَلَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ فِيهَا إِلَّا بِحُكْمٍ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاذِفُ مِنْ قَذْفِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِحُكْمٍ كَالْبَيِّنَةِ. وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بِمَا يَخْتَصُّ بِأَلْفَاظِهَا مِنْ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ، وَلَيْسَ فِي اللِّعَانِ صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْعَجْلَانِيِّ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ الْخَامِسَةَ بَعْدَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ: " إِنَّهَا الْمُوجِبَةُ " إِبَانَةً عَنْهَا فِي وُقُوعِ أَحْكَامِ اللِّعَانِ بِهَا، فَدَلَّ ثُبُوتُهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. وروى سعيد بن جبير عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ". وقد روى أبو بمالك عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ أَبَدًا. وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمَا تَأْثِيرًا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: " حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، لَا سَبِيلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 لَكَ عَلَيْهَا " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي، قَالَ: " لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ ". فَكَانَ قَوْلُهُ: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا إِخْبَارًا عَنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِلْفِرْقَةِ، لِأَنَّ إِيقَاعَ الْفُرْقَةِ أَنْ يَقُولَ: " قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا " فَدَلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عَلَى تَقَدُّمِهَا قَبْلَ خَبَرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا فُرْقَةٌ تَجَرَّدَتْ عَنْ عِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَفَرُّدُ الزَّوْجَةِ بِهَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الزَّوْجُ بِهَا كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَمْنَعُ إِقْرَارَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِيهِ تَنْفِيذًا لَا إِيقَاعًا كَالْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْفُرْقَةِ، لَا يُفْتَقَرُ إِلَى وُجُودِهَا مِنْ جِهَتِهَا كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدِنَا وَشَهَادَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحُكْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ بِتَنْفِيذٍ وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ، وَلِأَنَّ حُكْمَ التَّنْفِيذِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ كَالْحَاكِمِ بِشَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ، وَحُكْمَ الْإِيقَاعِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ كَالْفَسْخِ فِي الْعُنَّةِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ، وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّنْفِيذِ دُونَ الْإِيقَاعِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَيَنْتَفِي بِهِ النَّسَبُ، فَلَمَّا اخْتَصَّ نَفْيُ النَّسَبِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمَثَابَتِهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ اللِّعَانِ. فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ نَفْيِ اللِّعَانِ النَّسَبَ، بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِالْحُكْمِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا. كَانَ فَاسِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّسَبِ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ النَّسَبِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ نَفْيُهُ إِلَّا بِقَوْلِ النَّافِي دُونَ الْمُثْبِتِ اعْتِبَارًا بِالْمُوَافَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَنَفْيِهِ بِالزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ وَنَفَتْهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ نَفْيُهَا، وَلَوْ نَفَاهُ وَأَقَرَّتْ بِهِ لم يؤثر إقرارها، ولو استلتحقه بعد نفيه بلعانهما ألحق به وإن أَقَامَتْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ، فَاقْتَضَى بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ النَّسَبِ مُخْتَصًّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَإِذَا اخْتَصَّ بِهِ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِمَثَابَتِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بأن رسول الله فرق بيت الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ لِعَانِهِمَا، فَهُوَ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا يُدَّعَى فِيهَا الْعُمُومُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بينهما في النكاح ويتحمل وهو الأشبه أن يكن أَخْبَرَهُمَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِيهِ " وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ، وَقَدْ كَانَ لَاحِقًا بِهَا "، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِلُحُوقِهِ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْعَجْلَانِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْهُ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ بِقَوْلِهِ: " لَا سَبِيلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 لَكَ عَلَيْهَا أَبَدًا " وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ لَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعُنَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ، الْمُعَارَضَةُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ. إِمَّا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الْعُنَّةِ لَا تَمْضِي إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ وَفِي اللِّعَانِ تَمْضِي بِغَيْرِ طَلَبٍ فَصَارَتْ تِلْكَ الْفُرْقَةُ إِيقَاعًا، وَهَذِهِ تَنْفِيذًا. وَإِمَّا لِأَنَّ الْعُنَّةَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمَا عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ فَصَارَتْ تِلْكَ الْفُرْقَةُ إِيقَاعًا وَهَذِهِ تَنْفِيذًا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَلَا كِنَايَةٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَى فِي الطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْفُسُوخِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللِّعَانَ صَرِيحٌ في أحكامه المختصة به. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا فُرْقَةٌ بِلَا طَلَاقِ الزَّوْجِ (قَالَ) وتفريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرُ فُرْقَةِ الزَّوْجِ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين المتلاعنين كان إيقاعاً بحكم، فَلِذَلِكَ لَمْ يُوقِعِ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مَعَهُ. وَقُلْنَا إِنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ تَنْفِيذًا وَإِخْبَارًا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بيان حكم الفرقة الواقعة بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هِيَ فُرْقَةُ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهَا عِنْدَهُ، وَأَحَلَّهَا لَهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالْحَاكِمِ، دُونَ الزَّوْجِ، وَالطَّلَاقُ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ دُونَ الْحَاكِمِ، قَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ". فتناقص فِي قَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَعَلْتُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمُ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةً بِالزَّوْجِ دُونَ الْحَاكِمِ وَالزَّوْجُ لَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَّا الطَّلَاقُ، قِيلَ: قَدْ يَصِحُّ مِنَ الزَّوْجِ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَالْفَسْخُ إِذَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ، كَالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لِسَبَبٍ فَكَانَتْ فَسْخًا وَلَمْ تَكُنْ طَلَاقًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمَا يَخْتَصُّ مِنْ أَلْفَاظِهِ مِنْ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَتِهِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 وَلَا يَكُونُ اللِّعَانُ مِنْ غَيْرِ الْمُلْتَعِنِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةً، وَلِأَنَّ لِفُرَقَةِ الطَّلَاقَ عَدَدًا لَيْسَ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ وَحُكْمًا يُخَالِفُ حُكْمَ اللِّعَانِ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَتَحِلُّ فِيمَا دون مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَهُوَ يَقُولُ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَسَلَبَهُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ وَاعْتَبَرَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ مَا لَا يَعْتَبِرُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقَيْنِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ طَلَاقًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الطلاق لعاناً. (مسألة) قال الشافعي: " (قَالَ) وَإِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ " فَحَكَمَ عَلَى الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ حُكْمًا وَاحِدًا وَأَخْرَجَهُمَا مِنَ الْحَدِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ قَالَ: " اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ " قَالَهَا ثَلَاثًا. وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِذِكْرِهِ بَيَانُ مَا دل عليه من ثلاثة أحكام: أحدهما: أَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْبَاطِنَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ حَالُ عِلْمِهِ وَحَكَمَ بِالظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِهِمَا. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ سَوَّى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ أَحَدِهِمَا وَصِدْقَ الْآخَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ اشْتِبَاهَ أَحْوَالِهِمَا مَنَعَ مِنْ تَمْيِيزِهِمَا فِيهِ، وَصَارَ حُكْمُ الصَّادِقِ مِنْهُمَا وَالْكَاذِبِ سَوَاءً فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ التَّوْبَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمْحِيصُ الْمَآثِمِ يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ لَا بِالْحُكْمِ. وَالثَّانِي: قَبُولُ التَّوْبَةِ مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ فَكَانَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَ معتقده مخالفه لظاهر توبته. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُدَيْعَجَ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قد صدق عَلَيْهَا " فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ عليه السلام " إِنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلَا مَا حَكَمَ اللَّهُ " فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه لم يستعمل دلالة صدقه عليها وحكم بالظاهر بينه وبينها فمن بعده من الولاة ذكره أنه لما نزلت آية المتلاعنين قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 قال الماوردي: قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حديثين: أَحَدُهُمَا: فِي لِعَانِ الْعَجْلَانِيِّ. وَالثَّانِي: فِي لِعَانِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ نَحْنُ نَذْكُرُهُمَا وَتَفْسِيرَهُمَا وَمُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ فِي لِعَانِ الْعَجْلَانِيِّ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا: " أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ، أَدْعَجَ، عَظِيمَ الْإِلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا " قَالَ: فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ. الْأَسْحَمُ: الْأَسْوَدُ، وَالْأَدْعَجُ: شَدِيدُ سَوَادٍ الْحَدَقَةِ، وَالْأُحَيْمِرُ: تَصْغِيرُ أَحْمَرَ، وَالْوَحَرَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: دُوَيْبَّةٌ كَالْوَزَعَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الْقَطَاةُ، أما المروي في لعان هلال ابن أمية، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا إِنْ أَتَتْ بِهِ أُصَيْهَبَ، أُثَيْبَجَ أحمش الساقين فهو لهلال ابن أُمَيَّةَ. . وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جَمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِعَ الْإِلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سحماء فجاءت به أورق جعداً جمالياً خلدج السَّاقَيْنِ سَابِعَ الْإِلْيَتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ " قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ. قَوْلُهُ: أُصَيْهِبُ تَصْغِيرُ أَصْهَبَ وَهُوَ الْأَشْقَرُ. وَأُثَيْبَجُ: هُوَ الَّذِي لَهُ ثَبْجَةٌ، وَهِيَ لَحْمَةٌ نَاتِئَةٌ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَالْكَاهِلِ وَفَوْقَ الظَّهْرِ. وَأَحْمَشُ السَّاقَيْنِ دَقِيقُهُمَا. وَالْأَوْرَقُ: الْأَسْمَرُ يُقَالُ فِي الْبَهَائِمِ أَوْرَقُ، وَفِي الْآدَمِيِّينَ أَسْمَرُ. وَالْجَعْدُ يَعْنِي جَعْدَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْجَمَالِيُّ مِنَ النَّاسِ مَنْ رَوَاهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجَمَالِ، وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ الْعَظِيمُ الْخَلْقِ مُشْتَقًّا مِنَ الْجَمَلِ. وَسَابِعُ الْإِلْيَتَيْنِ: تَامُّهُمَا. وَخَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ: عَظِيمُهُمَا فَهَذَا تَفْسِيرُ الْحَدِيثَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أحدهما: حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُغَيِّرُ الْأَمْرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ يُحِيلُ الْأَمْرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَدَلِيلُ الْخَبَرِ يَدْفَعُ قَوْلَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ حُكْمَ الشَّبَهِ يَقْتَضِي لُحُوقَهُ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ ثُمَّ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ مَانِعٌ مِنْ لُحُوقِهِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ: أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلشَّبَهِ تَأْثِيرًا فِي لُحُوقِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 الْأَنْسَابِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْقِيَافَةِ عِنْدَ إِشْكَالِهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِنْ كَانَ عَلَى شَبَهِهِ، وَمِنْ شَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ إِنْ كَانَ عَلَى شَبَهِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا وَمَا أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ؟ . قِيلَ: لِأَنَّ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ نَص، وَإِلْحَاقَهُ بِالشُّبْهَةِ اسْتِدْلَالٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَيُسْتَعْمَلُ إِذَا انْفَرَدَ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا: أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي مع وجود الشبه، لأنه قد أشبه الولد شريكاً، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه منه بالشبه وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِهِ فِي الْحُكْمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب -. (مسألة) قال الشافعي: " وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِلزَّوْجِ قُلْ أَشْهَدُ بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ مِنَ الزِّنَا وَيُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُهَا حَتَّى يُكْمِلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقِفُهُ الإمام ويذكره الله تعالى ويقول إني أخف إِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْتَ أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللِّهِ فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يُمْضِيَ أَمْرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ إِن قَوْلَكَ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ مُوجِبَةٌ فَإِنْ أَبِي تَرَكَهُ وَقَالَ قُلْ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانَةَ مِنَ الزَّنَا ". قَالَ الماوردي: وهذه صِفَةُ اللِّعَانِ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَرَدَا بِهِ، فَإِنْ قَدَّمَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَاعْتَدَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ إِثْبَاتٌ لِقَذْفِهِ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، فيبدأ الإمام بالزوج، أو من يستنيبه الْإِمَامُ مِنَ الْحُكَّامِ فَيَقُولُ لَهُ: قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّنِي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتَيْ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ مِنَ الزِّنَا فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ مَقَامِهِ، إِمَّا بِمَوْتٍ، أَوْ بِحَيْضٍ أَوْ كُفْرٍ، وَقَفَتْ لِأَجْلِهِمَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ سَقَطَ حُكْمُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا لِلْغَيْبَةِ، وَرَفَعَ فِي نَسَبِهَا بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ لِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا وَلَا يُشَارِكُهَا فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهَا لِيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ فِي تَوْجِيهِ اللِّعَانِ إِلَيْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 (باب كيف اللعان) من كتاب اللعان والطلاق وأحكام القرآن) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَمَّا حَكَى سَهْل شهود المتلاعنين مع حداثته وحكاه ابن عمر رضي الله عنهما اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بمحضر من طائفة من المؤمنين لأنه لا يحضر أمراً يريد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ستره ولا يحضره إلا وغيره حاضر له وكذلك جميع حدود الزنا يشهدها طائفة من المؤمنين أقلهم أربعة لأنه لا يجوز في شهادة الزنا أقل منهم وهذا يشبه قول الله تعالى في الزانيين {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} وفي حكاية من حكى اللعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جملة بلا تفسير دليل على أن الله تعالى لما نصب اللعان حكاية في كتابه فإنما لاعن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين المتلاعنين بما حكى الله تعالى في القرآن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِحُضُورِ الَّذِينَ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الدَّلِيلِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ الَّتِي يَخْفَى أَثَرُهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَالزِّنَا، كَانَ أَقَلَّ مَنْ شَهِدَ حَدَّهُ أَرْبَعَةٌ، وَمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَالْقَذْفِ، فَالشَّاهِدَانِ أَقَلُّ مَنْ يَحْضُرُ اسْتِيفَاؤهُ، فَأَمَّا مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْقَطْعِ فِي السرقة، فليس يؤمر في استيفاؤه بحضور الشهود، لأن شواهد استيفاؤه تُغْنِي عَنِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً أَشَارَ إِلَيْهَا، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ كَالشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَا، فَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى شَرْطَيْنِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ هُوَ الِاسْمُ دُونَ النَّسَبِ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتَيْ فُلَانَةً هَذِهِ مِنَ الزِّنَا لِيَتَوَجَّهَ اللِّعَانُ إِلَى حَاضِرٍ مُسَمًّى، لِأَنَّهُ لا يحضر معها من يجوز أن تنصرف الإشارة إليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَحَكَاهُ فِي جَامِعِهِ الَّذِي نَقَلَ فِيهِ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالِاسْمِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى شَرْطٍ رَابِعٍ وَهُوَ النَّسَبُ فَيَقُولُ: زَوْجَتَيْ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ هَذِهِ لِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَنَفْيِ الِاحْتِمَالِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَذْكُرُهُ الزَّوْجُ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى مِنْ لِعَانِهِ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُكَرِّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ يُعِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَالَهُ فِي الْأُولَى، فَإِذَا أَكْمَلَ أربعاً يقيت الْخَامِسَةُ وَهِيَ اللَّعْنَةُ، فَوَقَفَهُ قَبْلَهَا وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ اللَّهَ تَعَالَى، وَخَوَّفَهُ مِنْ عِقَابِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ اللَّعْنَةُ الْمُوجِبَةُ، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ حَتَّى لَا يُسْرِعَ إِلَيْهَا، فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ فِي لِعَانِهِ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ: قُلْ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، فَإِذَا قَالَهَا فَقَدْ أَكْمَلَ بِهَا جَمِيعَ لِعَانِهِ مَا لَمْ يَكُنْ نَسَبًا يُرِيدُ نَفْيَهُ. فَإِنْ كَانَ نَسَبًا يُرِيدُ نَفْيَهُ قَالَ: فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ: وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ زِنًا وَمَا هُوَ مِنِّي. وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَمْلٍ قَالَ: وَأَنَّ حَمْلَهَا لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي فَتَضَمَّنَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي لِعَانِهِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِضَافَتُهُ إِلَى الزِّنَا. وَالثَّانِي: نَفْيُهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى الزَّانِي إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَنْ يُسَمَّى فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يلحق بالزان فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا فرغ من لعان الزوج على ما وصفناه أَجْلَسَهُ وَأَقَامَ الزَّوْجَةَ فِي مَقَامِهِ وَقَالَ لَهَا: قَوْلِي أَشْهَدُ بِاللَّهِ إنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَهَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذِكْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ نَفَى بِلِعَانِهِ نَسَبًا فَهَلْ تُؤْمَرُ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهَا لَا تَذْكُرُهُ فِي لِعَانِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهَا حُكْمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ تَذْكُرُهُ فِي لِعَانِهَا لِتُقَابِلَ الزَّوْجَ عَلَى مَثَلِ لِعَانِهِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَ مِنَ الزِّنَا وَإِثْبَاتِ مَا نَفَى مِنَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مني، فأثبت الزنا ونفي النسب، وهو تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ هَذَا الزِّنَا، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ زِنًا، فَنَفَتِ الزنا وأثبت الْوَلَدَ، فَإِذَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى، أَمَرَهَا أَنْ تُعِيدَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا أَكْمَلَتِ الرَّابِعَةَ وَقَفَهَا، وَوَعَظَهَا بِمِثْلِ مَا وَعَظَ بِهِ الزَّوْجَ، وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهَا فِي الْخَامِسَةِ لِتَرْجِعَ عَنْهَا وَلَا تُسْرِعَ إِلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَمَرَ امْرَأَةً بِذَلِكَ، فَإِنْ رَآهَا تُرِيدُ إِتْمَامَهُ، قَالَ لَهَا فِي الْخَامِسَةِ: قَوْلِي وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ زَوْجِي هَذَا مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ منْ زِنًا فَإِذَا قَالَتِ الْخَامِسَةَ فَقَدْ أَكْمَلَتْ لِعَانَهَا وَأَسْقَطَتْ بِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنْ حَدِّ الزِّنَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ سِوَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا عِنْدَنَا، وَإِنْ جَعَلَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْخِلَافِ مَعَهُمَا. (فَصْلٌ) فَإِنْ خَالَفَ الْحَاكِمُ فِي لِعَانِهِمَا مَا وَصَفْنَا، اشْتَمَلَ خِلَافُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِفَ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ فَيَأْمُرَهُمَا بَدَلًا مِنْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَنْ يَقُولَا: أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أُولِي بِاللَّهِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُخَالَفَةُ النَّصِّ وَتَغْلِيظُ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَكَانَ أَلْفَاظُ الْأَيْمَانِ بِهِ أَخَصَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّهَادَةَ كِنَايَةٌ وَالْيَمِينَ صَرِيحٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي لَفْظِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ فِي الْخَامِسَةِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدِلَ عَنْ لَفْظِهِمَا إِلَى غَيْرِهِمَا، فَيَقُولُ بَدَلًا مِنَ اللَّعْنَةِ فِي الزَّوْجِ الْإِبْعَادَ، ومن الغضب في الزوجة، السخط، فلا يجزيه لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَغْيِيرِ النَّصِّ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالنَّصِّ صَرِيحًا فَصَارَ مَا سِوَاهُ كِنَايَةً وَإِنْ وَافَقَ مَعْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى، فَيَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ نَقَلَ اللَّعْنَ مِنَ الزَّوْجِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى قَالَتْ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهَا وعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ أَغْلَظُ مِنَ اللَّعْنِ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ انْتِقَامٌ وَاللَّعْنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 إِبْعَادٌ، وَكُلُّ مُنْتَقَمٍ مِنْهُ مُبْعَدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُبْعَدٍ مُنْتَقَمًا مِنْهُ، فَصَارَ الْغَضَبُ أَغْلَظَ، وَلِذَلِكَ غَلُظَ بِهِ لِعَانُ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْهَا أَقْبَحُ وَالْمَعَرَّةَ مِنْهَا أَفْضَحُ. وَإِنْ نَقَلَ الْغَضَبَ إِلَى الزَّوْجِ حَتَّى قَالَ: وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ؛ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ النَّصِّ مَعَ دُخُولِهِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَيَجْعَلَ مَا فِي الْخَامِسَةِ مِنَ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ قَبْلَ الشَّهَادَاتِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ لِمُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ التَّغْلِيظِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فِي الزِّيَادَةِ فَزَادَ عَلَى الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ خَامِسَةً، أَوْ عَلَى اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ في الخامسة سادسة، فقد أساء وأجزاء، وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ فِي النُّقْصَانِ فَتَرَكَ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ، أَوْ تَرَكَ الْخَامِسَةَ فِي اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ، سَوَاءٌ تَرَكَ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ، وَيُنْقَضُ حُكْمُهُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تَرَكَ أَقَلَّهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أساء، ولا ينقض حُكْمُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهِ، وَمَا اسْتَقَرَّ فيه الخلاف ساع فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ لَمْ يُنْقَضْ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِدْرَاكَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِهِ، كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا كَانَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ كَالْمُدْرِكٍ لَهُ مُحْرِمًا، كَذَلِكَ أَكْثَرُ اللِّعَانِ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ جَمِيعِهِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لمن الكاذبين وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8، 9] فَعَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِخَمْسٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ بِأَقَلَّ مِنْهَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ بِخَمْسٍ ثُمَّ فَرَّقَ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِسَبَبٍ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ مِنَ اللِّعَانِ عَلَى بَعْضِهِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّهِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِعَدَدٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَعْضِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَكَذَلِكَ أَعْدَادُ اللِّعَانِ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ عَدَدُهُ فِي دَرْءِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 يَكُونَ يَمِينًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ مَا شُرِعَ فِيهَا مِنَ الْعَدَدِ كَالْقَسَامَةِ، أَوْ يَكُونَ شَهَادَةً فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ عَدَدِهَا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ الِاخْتِلَافِ مُسَوِّغٌ لِلِاجْتِهَادِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْخَمْسِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهَا أَوْ بِمَا بَعْدَهَا وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لَمْ يَسُغِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّ إِدْرَاكَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِهِ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِإِدْرَاكِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَرْبَعٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إِدْرَاكِ الْأَرْبَعِ إِنَّمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِإِدْرَاكِ أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا وَقَامَ مَقَامَهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ لم يدركها والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان أو فلان وقال عند اللعان وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا سَمَّى فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ الزَّانِيَ بِهَا، فقال: زنا بِكِ فُلَانٌ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْقُطُ حَدُّ قَذْفِهِ بِذِكْرِهِ فِي لِعَانِهِ، فَإِنْ قَدَّمَتِ الزوجة المطالبة فلاعن مها حُدَّ بَعْدَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُطَالَبَةَ فَحُدَّ لَهُ لَمْ يُلَاعِنْ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي قَذْفٍ لا يلاعن، واستدل على أن حد يقذفه لِلْأَجْنَبِيِّ لَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ، بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {والذين يرمون المحصنات} لِأَنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَسْقُطُ حَدُّهُ بِاللِّعَانِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ بِالْقَذْفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيٍّ: زَنَيْتُمَا لَمْ يَسْقُطْ قَذْفُ الْأَجْنَبِيِّ بِاللِّعَانِ، كَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَيْتِ بِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربعة شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: تَخْلِيصُهُ مِنْ قَذْفِهِ بِلِعَانِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ اللِّعَانَ كَالشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنفسهم} وَالشَّهَادَةُ تَسْقُطُ حَدُّهَا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ اللِّعَانُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَثْبَتَ صِدْقَهُ بِاللِّعَانِ، وَصِدْقُهُ يَمْنَعُ مِنْ حَدِّهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ؛ وَقَدْ قَذَفَهَا بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ فَلَمْ يَحُدَّهُ لَهُ بَعْدَ لِعَانِهِ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِلِعَانِهِ؛ وَلِأَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ بِزَانٍ يَمْنَعُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 حَدِّهِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَغَيْرِ الْمُسَمَّى؛ وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ بِهِ حَدُّ الزَّوْجَةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسَمَّى سَقَطَ بِهِ حَدُّهَا وَحَدُّ الْمُسَمَّى كَالْبَيِّنَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَدٍّ اسْتَفَادَ إِسْقَاطَهُ بِالْبَيِّنَةِ اسْتَفَادَ إِسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُضْطَرُّ إِلَى تَسْمِيَةِ الزَّانِي كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى قَذْفِ زَوْجَتِهِ وَضَرُورَتُهُ إِلَى تَسْمِيَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَنْفَى لِلظَّنِّ. وَالثَّانِي: لِيَكُونَ فِي شَبَهِ الْوَلَدِ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ فِي قَذْفِهِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى صِدْقِ الْعَجْلَانِيِّ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَالثَّالِثُ: لِيَكُونَ تَعْيِينُهُ فِي الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَزْجَرَ لِلنَّاسِ عَنِ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَذَرًا مِنْ فَضِيحَةِ التَّسْمِيَةِ فِي الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ، فَالْمُلَاعِنُ مَخْصُوصٌ مِنْهَا بِدَلِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى انْفِرَادِ الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَذْفٌ لَا مَدْخَلَ لِلِعَانٍ فِيهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ لَهُمَا: زَنَيْتُمَا، فَنَحْنُ نَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ هَذَا الْقَذْفِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا زنا بِصَاحِبِهِ فَهِيَ مَسْأَلَتُنَا الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا وَنَحْنُ نُجَوِّزُ فِيهِ اللِّعَانَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ واحد منهما زنا بِغَيْرِ الْآخَرِ، مَنَعْنَا مِنَ اللِّعَانِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَذْفِهِ زَوْجَتَهُ فَلَمْ يكن في ذلك دليل. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ فَنَفَاهُ أَوْ بِهَا حَمْلٌ فَانْتَفَى مِنْهُ قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها بِهِ مِنَ الزِّنَا وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ فِي لِعَانِهِ فِي الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ، وَفِي اللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِهِ فِي أَحَدِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ، وَصِفَةُ نَفْيِهِ فِي لِعَانِهِ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي، فَيَجْمَعُ فِي نفيه بين شرطين أحدهما، إِضَافَتُهُ إِلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ اعْتُبِرَ حَالُ الشَّرْطِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ قَالَ: وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ وُلِدَ مِنْ زِنًا، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ يُشْبِهُنِي فِي خَلْقِي أَوْ خُلُقِي أَوْ فِعْلِي وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ لِابْنِهِ، لَسْتَ بِابْنِي قَذْفًا لِأُمِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ قَالَ: وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَوُلِدَ مِنْ زِنًا، وَلَمْ يَقُلْ: مَا هُوَ مِنِّي، فَفِي انْتِفَائِهِ عَنْهُ بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: قَدِ انْتَفَى عَنْهُ، لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يلحق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 بِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَا هُوَ مِنِّي تَأْكِيدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَلَدِهِ: أَنْتَ وَلَدُ زِنًا، كَانَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ: مَا هُوَ مِنِّي؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مِنْ زِنًا وَيَكُونُ مِنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ زَنَى قَبْلَ تَزَوُّجِهِ بِهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَيَكُونُ لَاحِقًا بِهِ؛ وَلِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ زِنًا وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِيهِ لاحقاً، ولا يؤمن من الملاعن اعْتِقَادُ مَذْهَبِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالِ أَنْ يُضِيفَ إِلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ وَلَدُ زِنًا، مَا هُوَ مِنِّي وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَلَدَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ لِعَانَهُ وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ قِيلَ: قَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَلَمْ يَنْتِفِ الْوَلَدُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْفِيَهُ اسْتَأْنَفَ لِوَقْتِهِ لِعَانه خَاصًّا لِنَفْيِ الْوَلَدِ كَامِلًا بِالشَّهَادَاتِ وَاللَّعْنَةِ الْخَامِسَةِ. وَلَمْ تُلَاعِنْ مَعَهُ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلِعَانِهَا فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَلَا فِي إِثْبَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الزِّنَا عَنْهَا وَقَدْ سَقَطَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ لِعَانِهَا، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " تُعِيدُ الزَّوْجَةُ لِعَانَهَا بَعْدَ إِعَادَةِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اختيار حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ الزَّوْجُ بِلِعَانٍ لَا تُسَاوِيهِ فيه الزوجة. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ حَمْلًا قَالَ وَإِنَّ هَذَا الْحَمْلَ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ مِنَ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا وَحَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ مُتَحَقَّقٌ أَوْ مَظْنُونٌ، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنَ الْحَمْلِ بَعْدَ طَلَاقِهِ وَقَبْلَ وَضْعِهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيهِ هَلِ الْحَمْلُ مُتَحَقَّقٌ أَوْ مَظْنُونٌ. فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَهُ فِي لِعَانِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ قَالَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: وَإِنَّ هَذَا الْحَمْلَ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ لَحَمْلٌ مِنْ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي مِثْلَ مَا قَالَ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَهُ فِي لِعَانِهِ كَانَ كَإِغْفَالِ الْوَلَدِ فِيهِ، فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ لِنَفْيِهِ جَازَ أَنْ يُعِيدَهُ وَإِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا كَانَ مُجَوَّزًا في لعانه الأول. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ فَرَغَ مِنَ الالتعَانِ فإن أخطأ الإمام فلم يذكر نفي الولد أو الحمل في اللعان قال للزوج إن أردت نفيه أعدت اللعان ولا تعيد المرأة بعد إعادة الزوج اللعان إن كانت فرغت منه بعد التعان الزوج ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ لِقَذْفٍ وَلَا زنا. وقال أبو حنيفة: يعذران بَعْدَ الِالْتِعَانٍ لِتَحَقُّقِ الْكَذِبِ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهُ لَمْ يُعَزَّرْ كَالشَّهَادَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْمُتَدَاعِيَتَيْنِ، وَكَالْيَمِينِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا عَلَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَا وَلَا عَلَى الْحَالِفَيْنَ وَإِنْ تَكَاذَبَا. كَذَلِكَ فِي الْتِعَانِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ وَالنَّكَالِ، وَمَا فِي اللِّعَانِ من الزجر والنكال أعظم. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ أَخْطَأَ وَقَدْ قَذَفَهَا بِرَجُلٍ وَلَمْ يَلْتَعِنْ بِقَذْفِهِ فَأَرَادَ الرَّجُلُ حَدَّهُ أَعَادَ عَلَيْهِ اللِّعَانَ وقال في كتاب الطلاق من أحكام القرآن: وإلا حد له إن لم يلتعن وفي الإملاء على مسائل مالك: ولما حكم الله تعالى على الزوج يرمي المرأة بالقذف ولم يستثن أن يسمي من يرميها به أو لم يسمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجَمُلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَعِنَ. وَالثَّالِث: أَنْ لَا يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوْلَى وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهِمَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا جَازَ لِيَرْفَعَ بِهِ الْفِرَاشَ، وَيَنْفِيَ بِهِ النَّسَبَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اللِّعَانُ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنَ الزِّنَا كَانَ فِيمَا ثَبَتَ أَجَوْزَ. (فَصْلٌ) أَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي لِعَانِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَنْ رَمَاهُ بِهَا أَوْ لَا يَذْكُرُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا، وَوَجَبَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الزَّوْجَةِ، وَلَمْ يَجِبْ بِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمُسَمَّى مَعَهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا بِاللِّعَانِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا بِالْبَيِّنَةِ؟ قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَامَّةٌ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَجَانِبِ وَاللِّعَانَ خَاصٌّ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ دُونَ الْأَجَانِبِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلزَّوْجَةِ إِسْقَاطُهُ بِلِعَانِهَا جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَجْنَبِيِّ إِسْقَاطُهُ بِلِعَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْأَجْنَبِيَّ الْمُسَمَّى فِي لِعَانِهِ حِينَ طَالَبَ بِحَدِّ قَذْفِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: قوله في " الإملاء "، " وأحكام الْقُرْآنِ ": وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي اللِّعَانِ تَبَعٌ لِلزَّوْجَةِ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ لَوْ أُفْرِدَ بِالْقَذْفِ، فَإِذَا سَقَطَ حَدُّ الزَّوْجَةِ بِاللِّعَانِ سَقَطَ حَدُّ مَنْ تَبِعَهَا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِاللِّعَانِ فِعْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا تَحَقَّقَ مِنَ الْآخَرِ، لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ زَانِيَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، يُحَدُّ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ فِي لِعَانِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَمْ يُسَمَّ فِي اللِّعَانِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ قَذْفُ الْأَجْنَبِيِّ بِعَفْوِ الزَّوْجَةِ لَمْ يَسْقُطِ اللِّعَانُ مِنْهَا، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبَعًا لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُ الْأَجْنَبِيِّ فِي اللِّعَانِ شَرْطًا فِي سُقُوطِ قَذْفِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَرْطًا، فَإِذَا أَخَلَّ بِذِكْرِهِ قِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ ثَانِيَةً مِنْ قَذْفِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ اللِّعَانَ بِقَذْفِهِ وَهُوَ لَوِ انْفَرَدَ بِالْقَذْفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَدَ بِاللِّعَانِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْقَذْفَ إِذَا شَارَكَ فِيهِ الزَّوْجَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الِالْتِعَانِ مِنْهُ مُشَارِكًا لِلزَّوْجَةِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي إِعَادَةِ اللِّعَانِ مِنْ قَذْفِهِ بِإِعَادَةِ ذِكْرِ الزَّوْجَةِ فِيهِ وَلَا يُفْرَدُ بِالذِّكْرِ دُونَهَا كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجَةِ إِعَادَةُ اللِّعَانِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَجَازَ أَنْ يَتَلَاعَنَ بَعْدَ لِعَانِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِهِ حَدٌّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ بعد لعانه. (فصل) وأما الحالة الثَّالِثَةُ: فَهُوَ أَنْ لَا يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يُلَاعِنَ، فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لِاثْنَيْنِ وَقَذْفُ الِاثْنَيْنِ ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقذفهما بِزِنَائَيْنِ بِلَفْظَيْنِ فَيَقُولُ: زَنَيْتَ يَا زَيْدُ، وَزَنَيْتَ يَا عَمْرُو، أَوْ يَقُولُ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ: زَنَيْتَ يَا رَجُلُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَزَنَيْتِ يَا امْرَأَةُ بِغَيْرِ هَذَا الرَّجُلِ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الْحَدَّيْنِ في الآخر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِزِنَائَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ لِرَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ زَنَيْتُمَا، فَفِي الْحَدِّ لَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، يحد لهما حد واحد؛ لأن اللفظ بقذفهما واحداً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يُحَدُّ لَهُمَا حَدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِاثْنَيْنِ بِزِنَائَيْنِ فَصَارَ كَقَذْفِهِ لَهُمَا بِلَفْظَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْذِفَهُمَا بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ فَيَقُولَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِهَذَا الرَّجُلِ، أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، فَالصَّحِيحُ ومما عليه جمهور أصحابنا أنه لا يجب فيه حداً واحداً، لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنًا وَاحِدٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزِّنَائَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الِاثْنَيْنِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ قَذْفٌ وَاحِدٌ وَقَذْفَ الِاثْنَيْنِ بِزِنَائَيْنِ قَذْفَانِ فَجَازَ أَنْ يجب في القذف الواحد حد واحداً، وَفِي الْقَذْفَيْنِ حَدَّانِ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ حَدٌّ وَاحِدٌ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِي حَقِّ الْمَقْذُوفَيْنِ بِهِ، فَأَيُّهُمَا طَالَبَ بِالْحَدِّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كَامِلًا، لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا حتى يعفو عَنْهُ مَعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ لَهُمَا من أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يُصَدِّقَاهُ عَلَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ وَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهِمَا، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ إِنْ شَاءَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَاهُ وَيُطَالِبَاهُ بِحَدِّهِمَا فَيُحَدُّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًّا عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ طَالَبَهُ أَحَدُهُمَا وَعَفَا عَنْهُ الْآخَرُ حُدَّ لِلطَّالِبِ حَدًّا كَامِلًا وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ سَوَاءٌ طَالَبَتْهُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْأَجْنَبِيُّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّوْجَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُصَدِّقَهُ الزَّوْجَةُ وَيُكَذِّبَهُ الْأَجْنَبِيُّ. فَقَدْ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِتَصْدِيقِهَا، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِتَكْذِيبِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كَامِلًا، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهَا وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْإِقْرَارِ قَاذِفَةً لَهُ. وَالْحَالُ الرابعة: أن يصدقه وتكذبه الزوجة فيسقط الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِتَصْدِيقِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِتَكْذِيبِهَا وَوَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ حَدُّ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِقْرَارِ قَاذِفًا لَهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْقَذْفِ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ مِنْهَا، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ إِلَّا فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ الْأَجَانِبِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وَرَمَى الْعَجْلَانِيُّ امْرَأَتَهُ بِابْنِ عَمِّهِ أَوْ بِابْنِ عمها شريك بن السحماء وذكر للنبي أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَالْتَعَنَ وَلَمْ يُحْضِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَرْمِيَّ بِالْمَرْأَةِ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا الْتَعَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ لَلَذِيَ قَذَفَهُ بِامْرَأَتِهِ حَدٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ لَأَخَذَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَبَعَثَ إِلَى الْمَرْمِيِّ فَسَأَلَهُ فَإِنْ أَقَرَّ حُدَّ وَإِنْ أَنْكَرَ حُدَّ لَهُ الزَّوْجُ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ وَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا فَأَنْكَرَ فَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَلَمْ يَحُدَّهُ بِالْتِعَانِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَحُدَّ الْعَجْلَانِيَّ الْقَاذِفَ لَهُ بِاسْمِهِ ". قال الماوردي: أما رواية المزني هاهنا عَنِ الشَّافِعِيِّ: قَالَ: رَمَى الْعَجْلَانِيُّ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّ الْمُزَنِيَّ غَلَطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا النَّقْلِ وَأنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ هُوَ الَّذِي قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ دُونَ الْعَجْلَانِيِّ وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " عَنْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَاعَنَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ بِزَوْجَتِهِ سَوَاءٌ سَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، لِأَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي لِعَانِهِ فَلَمْ يَحُدَّهُ لَهُ وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِأَعْلَمَ شَرِيكًا بِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ إِنْ شَاءَ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْتِعَانِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحَدُّ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَلَيْسَ فِي تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِعْلَامَ شَرِيكٍ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ، لِأَنَّ شَرِيكًا قَدْ عَلِمَ بِالْحَالِ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يُطَالِبْ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ مَعَ صِغَرِهَا وَقِلَّةِ أَهْلِهَا، وَاشْتِهَارِ لِعَانِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قَذْفِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى شَرِيكٍ وَهُوَ حَاضِرٌ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْقَذْفِ فَإِذَا عَلِمَ وَأَمْسَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعْلَامُهُ، وَلَا اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ لَهُ. (فَصْلٌ) أَمَّا الْمَقْصُودُ الثَّانِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّقْلِ فِيهَا، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يُحْضِرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَرْمِيَّ بِالْمَرْأَةِ. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا فَأَنْكَرَ، فَصَارَ ظَاهِرُ هَذَا النَّقْلِ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّهُ حَكَى أَنَّ شَرِيكًا لَمْ يَحْضُرْ ثُمَّ أنَّهُ حَضَرَ وَسُئِلَ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْيُهُ مُتَنَافٍ مُسْتَحِيلٌ. وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا النَّقْلِ خِلَافٌ مُسْتَحِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يُحْضِرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا - يَعْنِي وَقْتَ اللِّعَانِ. وَقَوْلُهُ: وَسَأَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا يَعْنِي وَقْتَ وَضْعِ الْوَلَدِ عَلَى شَبَهِهِ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِ فَلَمْ يُمْتَنَعْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْتَحَلَّ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخَذَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَوْ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُحْضِرْ شَرِيكًا وَلَا سَأَلَهُ. فَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " وَفَرَّعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَمِعَ مِنْ غَيْرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْضَرَ شَرِيكًا، أَوْ حَضَرَ فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ فَذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَرْجِعْ عَمَّا أَخَذَهُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِصِحَّةِ أَحَدِ النَّقْلَيْنِ، وَإِمَّا لِأَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقْلَيْنِ، وَإِمَّا لِسَهْوِهِ عَنِ الْأَوَّلِ لِتَشَاغُلِهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ هَذَا سَبَبَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ نَقْلُهُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " (وقال) في اللعان لَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رُمِيَ رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يبعث إليه عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلا تَجَسَّسُوا} فَإِنْ شُبِّهَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ أُنَيْسًا إِلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ فَقَالَ: " إِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَتِلْكَ امْرَأَةٌ ذَكَرَ أَبُو الزَّانِي بِهَا أَنَّهَا زَنَتْ فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ فإن أقرت حدت وسقط الحد عمن قدفها وإن أنكرت حد قاذفها وكذلك لو كان قاذفها زوجها (قال) ولما كان القاذف لامرأته إذا التعن لو جاء المقذوف بعينه لم يؤخذ له الحد لم يكن لمسألة المقذوف معنى إلا أن يسأل ليحد ولم يسأله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنما سأل المقذوفة والله عز وجل أعلم للحد الذي يقع لها إن لم تقر بالزنا ولم يلتعن الزوج ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَمِعَ قَذْفًا بِالزِّنَا فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أحدهما: أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاذِفُ وَلَا يَتَعَيَّنَ الْمَقْذُوفُ كأن سمع رجلاً يقول زنا رَجُلٌ مِنْ جِيرَانِي، أَوْ زَنَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، فَالْقَاذِفُ مُتَعَيَّنٌ وَالْمَقْذُوفُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّ الْحَدِّ، وَلَا يَسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِ الْمَقْذُوفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تسؤكم} [المائدة: 101] . وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: أن فلانا زنا، أو سمعت الناس وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْمَقْذُوفُ وَلَا يتعين القاذف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 يقولون: زنا فَلَانٌ، فَلَا حَدَّ عَلَى حَاكِي الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِحَدٍّ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ المقذوف هل زنا أَمْ لَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِهَزَّالٍ: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ". وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ، كَقَوْلِ رجل للإمام: زنا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ، فَيَكُونُ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ مُعَيَّنَيْنِ، فلا يجوز للإمام أن يسأل المقذوف هل زنا أَمْ لَا؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ". وَهَلْ يَلْزِمُ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْمَقْذُوفِ بِحَالِ قَذْفِهِ لِيُطَالِبَ قَاذِفَهُ بِحَدِّهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِالْقَذْفِ حَقٌّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَزِمَ الْإِمَامَ حِفْظُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ إِنْ شَاءَ كَمَا يَلْزَمُهُ إِعْلَامُهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، لِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي قَوْلِهِ: " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ " وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُنَيْسًا حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا لِهَذَا، وَأَنَّهُ زنا بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَكَانَ إِيفَادُ أُنَيْسٍ إليها لا ليسألها عن الزنى هَلْ زَنَتْ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ لِيُخْبِرَهَا بِحَالِ قَاذِفِهَا، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَطَلَبَتْ حَدَّهُ حُدَّ لَهَا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا حُدَّتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ، لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى ". وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ أن يعدي قَذْفَ الْغَائِبِ إِلَى قَذْفِ حَاضِرٍ مُطَالِبٍ كَرَجُلٍ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَلَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُهُ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يُسْقِطُ مِنَ الْقَذْفِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْلِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا حِينَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَذْفُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِزِنَاهَا بِهِ فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا مُطَالِبًا بِالْحَدِّ لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ إِذَا اسْتَوْفَى الْحَدَّ فَهُوَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ فِي زَوَالِ الْمَعَرَّةِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْحَدِّ فِي قَذْفِهِمَا زَوَالًا لِلْمَعَرَّةِ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَذْفُ الْغَائِبِ بِحَاضِرٍ فَيُطَالِبُ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُ الْغَائِبِ لِيَسْتَوْفِيَ بِالْمُطَالَبَةِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ كَمَا أَوْفَدَ أُنَيْسًا إِلَى الْمَرْأَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 (مسألة) قال الشافعي: " وَأْيُّ الزَّوْجَيْنِ كَانَ أَعْجَمِيًّا الْتَعَنَ بِلِسَانِهِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَذْفُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لِمَنْ يَعْرِفُهَا فَكَالْقَذْفِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا، فَأَمَّا اللعان بالأعجمية فإن كان ممن يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ جَازَ لِعَانُهُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَمِينًا أَوْ شَهَادَةً وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ بالعربية نُظِرَ فِي أَصْلِ لِسَانِهِ وَعُمُومِ كَلَامِهِ فَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ وَهُوَ يَعْرِفُ الْأَعْجَمِيَّةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ مَحْمُولُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقُرْآنُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْعَرَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي عُدُولِ الْعَرَبِيِّ عَنْ لِسَانِهِ اسْتِرَابَةً تَضْمَنُ احْتِمَالًا يَمْنَعُ مِنْ تَغْلِيظِ اللِّعَانِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ لِسَانِهِ أَعْجَمِيًّا، وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي اللِّعَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ اعْتِبَارًا بِزَوَالِ الِاسْتِرَابَةِ مِنْ مِثْلِهِ فِي جَرْيِهِ عَلَى عَادَةِ لِسَانِهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَ الْأَعْجَمِيَّيْنِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِهِمَا أَوْ غَيْرَ عَارِفٍ، فَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِلِسَانِهِمَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تُرْجُمَانٍ وَجَعَلَ الحاضرين للعانهما من يعرفون الأعجمية، أن يَكُونُ فِيهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا الْعَدَدُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا احْتَاجَ إِلَى تُرْجُمَانٍ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّرْجَمَةِ هَلْ تَكُونُ خَبَرًا أَوْ شَهَادَةً. فَجَعَلَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ خَبَرًا وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى تَرْجَمَةِ الْوَاحِدِ كَالْأَخْبَارِ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَهَادَةٌ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُتَرْجِمِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا مِنَ الْمُتَرْجِمِ فَصَارَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةً بِإِقْرَارٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الشَّهَادَاتِ، وَسَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الشَّهَادَاتِ ". (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي لِعَانٍ قَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الزِّنَا وَالشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا مُعْتَبَرَةٌ بِمَا تَضَمَّنَهَا فَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا لَمْ تَثْبُتْ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا كَمَا تُوجِبُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا لَمْ تَكْمُلْ أَوْجَبَتْ حَدَّ الْقَذْفِ وَعَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُوجِبُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّرْجَمَةُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَدُ الشُّهُودِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَدُ الشُّهُودِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَضَمَّنَ اللِّعَانُ إِقْرَارًا بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَرْبَعَةً وَفِي الثَّانِي شَاهِدَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ الزِّنَا فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَاهِدَيْنِ لأنه ليس في المتلاعنين أقر بالزنا، فإن أقر به أَحَدُهُمَا اعْتُبِرَ حِينَئِذٍ فِي إِقْرَارِهِ شَهَادَةُ الْمُقِرِّ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةً عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْحُضُورِ دون المترجمين. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ الْتَعَنَ بِالْإِشَارَةِ وَإِنِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بَعْدَ الْخَرَسِ لَمْ يُعِدْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا وَمَنْعَهُ مِنْ لِعَانِ الْأَخْرَسِ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ، فَلَوْ لَاعَنَ الْأَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ انْطَلَقَ لِسَانُهُ لَمْ يُعِدِ اللِّعَانَ وَأَجْزَأَ ما تقدم منه بالإشارة. (مسألة) قال الشافعي: " ثُمَّ تُقَامُ الْمَرْأَةُ فَتَقُولُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ زَوْجِيَ فُلَانًا وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا ثم تعود حتى تقول ذلك أربع مرات فإذا فرغت وقفها الإمام وذكرها الله تعالى وقال احذري أن تبوئي بغضب من الله إن لم تكوني صادقة في أيمانك فإن رآها تمضي وحضرتها امرأة أمرها أن تضع يدها على فيها وإن لم تحضرها ورآها تمضي قال لها قولي وعلي غضب الله إن كان مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا فإذا قالت ذلك فقد فرغت قال وإنما أمرت بوقفهما وتذكيرهما الله لأن ابن عباس رضي الله عنهما حكى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر رجلاً حين لاعن بين المتلاعنين أن يضع يده على فيه في الخامسة وقال إنها موجبة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ صفة العان فِي الْمَرْأَةِ بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُلِ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَهُ بما أغنى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَاتِ أَرْبَعًا ثَمَّ فَصَلَ بَيْنَهُنَّ بِاللَّعْنَةِ فِي الرَّجُلِ وَالْغَضَبِ فِي الْمَرْأَةِ دَلَّ عَلَى حَالِ افْتِرَاقِ اللِّعَانِ وَالشَّهَادَاتِ وأن اللعنة والغضب بعد الشهادة موجبان على من أوجبا عليه بأن يجترئ على القول أو الفعل ثم على الشهادة بالله باطلاً ثم يزيد فيجترئ على أن يلتعن وعلى أن يدعو بلعنة الله فينبغي للإمام إذا عرف من ذلك ما جهلا أن يقفهما نظراً لهما بدلالة الكتاب والسنة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا أَرَادَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي إِثْبَاتِ اللِّعَانِ يَمِينًا حِينَ جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَقْنَعَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 (بَابُ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ مِنَ الفرقة ونفي الولد وحد المرأة من كتابين قديم وجديد) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا بِحَالٍ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعْنَ وإنما قلت هذا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " لا سبيل لك عليها " ولم يقل حتى تكذب نفسك وقال في المطلقة ثلاثاً " حتى تنكح زوجاً غيره " ولما قال عليه الصلاة والسلام " الولد للفراش " وكانت فراشاً لم يجز أن ينفي الولد عن الفراش إلا بأن يزول الفراش وكان معقولاً في حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذ ألحق الولد بأنه أمه نفاه عن أبيه وإن نفيه عنه بيمينه بالتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه بنفيه ومعقول في إجماع المسلمين أن الزوج إذا أكذب نفسه لحق به الولد وجلد الحد إذ لا معنى للمرأة في نفسه وأن المعنى للزوج فيما وصفت من نفيه وكيف يكون لها معنى في يمين الزوج ونفي الولد وإلحاقه والدليل على ذلك ما لا يختلف فيه أهل العلم من أن الأم لو قالت ليس هو منك إنما استعرته لم يكن قولها شيئا إذا عرف أنها ولدته على فراشه إلا بلعان لأن ذلك حق للولد دون الأم وكذلك لو قال هو ابني وقالت بل زنيت فهو من زنا كان ابنه ألا ترى أن حكم الولد في النفي والإثبات إليه دون أمه فكذلك نفيه بالتعانه دون أمه ". قال الماوردي: وقصد الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْكَلَامَ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ مُخْتَصَّةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدٌ لَا يَزُولُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ أَرْبَعَةٌ وَخَامِسٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ، فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ، فَارْتِفَاعُ الفراش، وتأييد التَّحْرِيمِ وَنَفْيُ النَّسَبِ، وَسُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ، وَأَمَّا الْخَامِسُ الْمُخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ فَهُوَ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ ثَبَتَتْ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَلِعَانُ الزَّوْجَةِ مَقْصُورٌ عَلَى سُقُوطِ الزِّنَا عَنْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 وَعَلَّقَ مَالِكٌ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِلِعَانِهِمَا مَعًا، وَعَلَّقَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِلِعَانِهِمَا وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تأييد التَّحْرِيمِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدٌ لَا يَزُولُ أَبَدًا، فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْتِعَانِهِ لَزِمَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ شَيْئَانِ - وُجُودُ الْحَدِّ، وَلُحُوقُ النَّسَبِ، وَبَقِيَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ وتأييد التَّحْرِيمِ بِحَالِهِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ، مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلَّتْ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي لِعَانِهِ حَدٌّ فِي قَذْفٍ فَلَمْ يَجْعَلْ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنْ أَكْذَبَ نفسه وهي في العدة حَلَّتْ لَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ مُسْتَجَدٍّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنْ أَكْذَبَ نفسه هي فِي الْعِدَّةِ حَلَّتْ لَهُ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَهَذِهِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فَحَلَّتْ لَهُ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلَمْ يَتَأَبَّدْ كَالطَّلَاقِ وَخَالَفَ تَحْرِيمَ الرِّضَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بالزوجية، ولأنه بتحريم إذا عري عن الحرمة لم يتأيد ثُبُوتُهُ كَالرِّدَّةِ طَرْدًا وَالرِّضَاعِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا اسْتُفِيدَ حُكْمُهُ بِاللِّعَانِ جَازَ أَنْ لَا يَتَأَبَّدَ ثُبُوتُهُ كَالنَّسَبِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنْ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا وَقَالَ: " لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " فَدَلَّ هَذَا الخبران على تأييد التَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تَحِلَّ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ شَرْطَ الْإِحْلَالِ كَمَا قَالَ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ تَحْرِيمُ عَقْدٍ لَا يَرْتَفِعُ بِغَيْرِ تَكْذِيبٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنَّ لَا يَرْتَفِع بِالتَّكْذِيبِ وَالْحَدِّ كَالْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ تَحْرِيمُهُ بِالتَّكْذِيبِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ. وَمِنْهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِعَقْدٍ كَالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَمِنْهَا تَحْرِيمٌ بِعَقْدٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ كَالطَّلَاقِ الثلاث. ومنها تحريم مؤيد كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَالرِّضَاعِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ مُلْحَقًا بِالْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِي شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالرَّابِعِ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ تَسْلِيمِ الْوَصْفِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا كَانَ مِنْهُ مَا لَا يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ ضَعُفَ عَنْ تَحْرِيمِ الْأَبَدِ، وَخَالَفَ تَحْرِيمَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُ الْعَقْدُ لِقُوَّتِهِ أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ لَا تَقَعُ بِهَا الْفُرْقَةُ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهَا إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِخِلَافِ اللِّعَانِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّسَبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُلْحِقَهُ بِالتَّكْذِيبِ، وَارْتِفَاعُ التَّحْرِيمِ حَقٌّ لَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَصَارَ فِي النَّسَبِ مُقِرًّا وَفِي ارْتِفَاعِ التَّحْرِيمِ مُدَّعِيًا وَالْإِقْرَارُ مُلْزِمٌ وَالدَّعْوَى غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. (فَصْلٌ) وَإِذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ ابْتَاعَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ، وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنِ ابْتَاعَهَا فَفِي إِحْلَالِهَا لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْمُلَاعَنَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا - فَلَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْمِلْكِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ زَوْجٍ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَتَحْرِيمَ اللِّعَانِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ لِوُقُوعِهِ فِي النِّكَاحِ الفاسد ووطء الشبهة. (مسألة) قال الشافعي: " وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا الْتَعَنَ ثُمَّ قَالَتْ صَدَقَ إِنِّي زَنَيْتُ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ وَلَا حَدَّ عليها وكذلك إن كانت محدودة فدخل عليه أن لو كان فاسقاً قذف عفيفة مسلمة والتعنا نفي الولد وهي عند المسلمين أصدق منه وإن كانت فاسقة فصدقته الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 لم ينف الولد فجعل ولد العفيفة لا أب له وألزمها عارة وولد الفاسقة له أب لا ينفى عنه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا فَصَدَّقَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا، وَلَا يَنْتَفِيَ من ولدها، ولا يوجب حد الزنا، وبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ لَا تُقَامُ عَلَى مُعْتَرِفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ فَجَوَّزَ لَهُ نَفْيَ وَلَدِ الْعَفِيفَةِ وَأَلْحَقَ بِهِ وَلَدَ الزَّانِيَةِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّنَاعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَهَاءِ أُصُولِهِ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِنْ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُصَدِّقَةِ عَلَى الزِّنَا الْمُعْتَرِفَةِ بِهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تُصَدِّقَ الزَّوْجَ قَبْلَ لِعَانِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنَّ صَدَّقَتْهُ بَعْدَ لِعَانِهِ ثَبَتَتْ أَحْكَامُ اللِّعَانِ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ تَأْثِيرٌ إِلَّا فِي مَنْعِهَا مِنَ الِالْتِعَانِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ لِعَانَهَا لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَالْمُقِرَّةُ بِالزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِاللِّعَانِ، فَإِنْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِقْرَارِ صَارَ الْحَدُّ وَاجِبًا عَلَيْهَا بِاللِّعَانِ دُونَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مَقْبُولٌ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَجَازَ لَهَا أَنْ تُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، فَأَمَّا إِنْ صَدَّقَتْهُ عَلَى الزِّنَا قَبْلَ لِعَانِهِ أو في تضاعيفه فقط سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ بِتَصْدِيقِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ لِأَنَّهُ لمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْمُكَذِّبَةِ الظَّاهِرَةِ الْعِفَّةِ فَلِأَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْمُصَدِّقَةِ الظَّاهِرَةِ الْفُجُورِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِتَصْدِيقِهَا وَعَدَمِ الْوَلَدِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَ لِعَانِهِ مَا أَقَامَتْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْهُ لَاعَنَتْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ يُكْمِلُ الزَّوْجُ اللِّعَانَ وَرِثَ صَاحِبَهُ وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ حَتَّى يَكْمُلَ ذَلِكَ كُلُّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي اللِّعَانِ وَقَبْلَ كَمَالِهِ تَوَارَثَا، وَنُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا هِيَ الزَّوْجَةَ فَقَدْ بَانَتْ بِالْمَوْتِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ أَوْ لَا وَلَدَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ لِعَانِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ مَاتَ جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَرِثُ الولد وإن ورث الزَّوْجَةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ يَمْنَعُ مِنْ نِسْبَتِهِ قَبْلَ النَّفْيِ، فَلِذَلِكَ وَرِثَ الزَّوْجَةَ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ، وَلَمْ يَرِثِ الْوَلَدَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ لِعَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ زَالَ حُكْمُ نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ حَدُّ الْقَذْفِ وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْرُوثٌ فَإِنْ طَالَبَهُ بِهِ الْوَرَثَةُ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِهِ وَلَا يَمْنَعَهُ اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِهِ وَلِنَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ مِيرَاثِهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالْمَوْتِ لَا باللعان، فإن قيل: أفليس إذا ورثها حَقَّهُ مِنْ حَدِّ قَذْفِهَا؟ فَهَلَّا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ إِذَا وَرِثَ بَعْضَهُ؟ . قِيلَ: لِأَنَّ مِيرَاثَ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكٌ عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِذَا وَرِثَ بَعْضَهُ سَقَطَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ كُلَّهُ مِيرَاثٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ كُلَّهُ، فَإِنْ عفى الْوَارِثُ عَنِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ، وَالْحَدُّ قَدْ سَقَطَ بِالْعَفْوِ وَلَيْسَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُنْفَى فَلَمْ يَبْقَ مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ فَفِي قِيَامِ الْإِمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ مَقَامَ الْوَرَثَةِ فِي الْمَالِ فَقَامَ مَقَامَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَإِنِ اسْتَوْفَى مِيرَاثَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ لِبَيْتِ الْمَالِ حُقُوقًا مُسْتَفَادَةً تُخَالِفَ حَدَّ الْقَذْفِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَبْلَ إِكْمَالِ اللِّعَانِ هُوَ الزَّوْجَ فَلِلزَّوْجَةِ مِيرَاثُهَا مِنْهُ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى الْمَوْتِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ نَفْيُهُ وَهُوَ وَارِثٌ مَعَهُمْ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا زَوْجٌ. وَحَدُّ الْقَذْفِ قَدْ بَطَلَ اسْتِيفَاؤُهُ بِمَوْتِ مَنْ لَزِمَهُ وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ كَالْقِصَاصِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ حكمه. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُكْمِلَ اللِّعَانَ حُدَّ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَرَعَ فِي اللعان إما في حياتها أبو بَعْدَ مَوْتِهَا، ثُمَّ امْتَنَعَ أَنْ يُكْمِلَهُ حُدَّ لَهَا حَدَّ الْقَذْفِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ لِعَانِهِ أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، وَحَتَّى لَوْ أَتَى بِالشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَبَقِيَتِ اللَّعْنَةُ الْخَامِسَةُ حُدَّ لَهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ لِعَانِهِ وَلَا يتسقط الْحَدُّ عَلَى أَعْدَادِ اللِّعَانِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا كَالْبَيِّنَةِ يُقِيمُهَا وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ حُدَّ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهَا تَأْثِيرٌ كَذَلِكَ اللِّعَانُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَيْمَانِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَعْضِهَا كَالْقَسَامَةِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَعَتِ الزَّوْجَةُ فِي اللِّعَانِ بَعْدَ الْتِعَانِ الزَّوْجِ ثُمَّ امْتَنَعَتْ مِنْ إِتْمَامِهِ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا وَكَانَ مَا مَضَى مِنْ لِعَانِهَا مُلْغَى. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَإِنْ طَلَبَ الْحَدَّ الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ لَمْ يُحَدَّ لِأَنَهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ حُدَّ فِيهِ مَرَةً والولد للفراش فلا ينفى إلا على ما نفى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك أن العجلاني قذف امرأته ونفى حملها لما استبانه فنفاه عنه باللعان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَإِنِ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وَسَمَّاهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ حَدُّ قَذْفِهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِقَذْفِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُحَدُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِعَادَةُ اللِّعَانِ مِنْ أَجْلِهِ. وَالثَّانِي: يُحَدُّ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْقُطَ بِلِعَانِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْ زَوْجَتِهِ وَحُدَّ لَهَا ثُمَّ جَاءَ الْمُسَمَّى بِهَا مُطَالِبًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهُ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ قَدْ حُدَّ فِيهِ مَرَّةً يَعْنِي أَنَّ الزِّنَا الَّذِي قَذَفَهُمَا بِهِ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَقَدِ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ يُحَدُّ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ هَذَا التَّخْرِيجِ، فَإِنْ قِيلَ بِتَخْرِيجِهِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قذف قد كان مُجَوَّزًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِحَدِّ الزَّوْجَةِ فِي اللِّعَانِ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ سُقُوطِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ أَنْ يُفْرَدَ بِاللِّعَانِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " ولو أَكْمَلَ اللِّعَانَ وَامْتِنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ أَوْ فِي بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَكَانَتْ ثَيِّبًا رجمت وإن كانت بكرا لم تحد حتى تصح وينقضي الحر والبرد لقول الله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} الآية والعذاب الحد فلا يدرأ عنها إلا باللعان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَلِعَانَ الزَّوْجَةِ بَعْدَهُ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَا عَنْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ حَتَّى يَلْعَنَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدُّ الزَّوْجُ وَلَا يُحْبَسُ، وَلَا تُحَدُّ الزَّوْجَةُ وَتُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ بِمَا أَقْنَعَ، فَإِذَا امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ اللِّعَانِ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَعَلَيْهَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالرَّجْمُ. فَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَالزَّمَانُ معتدلاً أقيم عليها كان وَاحِدٍ مِنَ الْحَدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ خَارِجًا عَنِ الِاعْتِدَالِ بِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ شِدَّةِ بِرْدٍ أُخِّرَ جَلْدُهَا إِلَى زَمَانِ الِاعْتِدَالِ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِحَدِّهِ الزَّمَانَ إِلَى تَلَفِهَا، وَلَا يُؤَخَّرُ رَجْمُهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْمِ تَلَفُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَرِيضَةً فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ رُجِمَتْ فِي الْمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ رُوعِيَ مَرَضُهَا، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ أُنْظِرَتْ إِلَى وَقْتِ الصِّحَّةِ ثُمَّ جُلِدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُهُ جُلِدَتْ بِمَا يُؤْمَنُ بِهِ تَلَفُهَا مِنْ أَثْكَالِ النَّخْلِ وَأَطْرَافِ النِّعَالِ، وَخَالَفَ الرَّجْمَ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّلَفُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُؤَخَّرُ رَجْمُهَا فِي الْمَرَضِ إِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ ولعان حتى برأ، وَلَا يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ وَيَسْقُطُ إِذَا وَجَبَ بِاللِّعَانِ بِالْإِجَابَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِعَكْسِ هَذَا أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ لِجَوَازِ رُجُوعِهَا وَلَا يُؤَخَّرُ إِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ وَاللِّعَانِ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ بِذَلِكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ تسقط بالبينة كسقوطها بالإقرار. ويمكن رجوع الْبَيِّنَةِ كَمَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الإِقْرَارٍ، فَلَمْ يكن للفرق بينهما وجه. (مسألة) قال الشافعي: " وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُلَاعِنُ بِحَمْلٍ لَعَلَّهُ رِيحٌ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ أَحَاطَ الْعِلْمَ بِأَنْ لَيْسَ حَمْلٌ أَمَا تُلَاعِنُ بِالْقَذْفِ؟ قَالَ بَلَى قِيلَ فَلِمَ لَا يُلَاعِنُ مَكَانَهُ؟ ")) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الْحَامِلِ، وَيَنْفِيَ حَمْلَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ. وَإِنْ خَالَفَ وَلَاعَنَ فِي حَمْلِهَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ الْحَمْلُ بِلِعَانٍ، وَصَارَ لَاحِقًا بِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِي وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ إِنْ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 غِلَظًا أَوْ رِيحًا فَهِيَ حَائِلٌ وَيَجُوزُ أَنْ يلاعن عنها، وإن كان صحيحاً فهي كذات وَلَدٍ، فَهَلَّا لَاعَنَ مِنْهَا، وَقَدْ مَضَى مِنَ الكلام معه فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى. وَإِنْ كَانَ لِعَانُهُ مِنَ الْحَامِلِ جَائِزًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُعَجِّلَ نَفْيَهُ قَبْلَ وَضْعِهِ فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ يُؤَخِّرَ نَفْيَهُ حَتَّى تَضَعَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَيَّنٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَإِنْ عَجَّلَ بِاللِّعَانِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَلَمْ يَنْتَفِ بِهِ الْحَمْلُ كَانَ لَهُ إِذَا وَلَدَتْ وَأَرَادَ نَفْيَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لِنَفْيِهِ لِعَانًا يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرُهُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَظْنُونًا غير متيقن. (مسألة) قال الشافعي: " وزعم لو جامعها وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَمْلِهَا فَلَمَّا وَضَعَتْ تَرَكَهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَهِيَ فِي الدَّمِ مَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثَمَّ نَفَى الْوَلَدَ مَعَهُ كَانَ ذَلِكَ له فيترك ما حكم به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للعجلاني وامرأته وهي حامل من اللعان ونفى الولد عنه كما قلنا ولو لم يكن ما قلنا سنة كان يجعل السكات في معرفة الشيء في معنى الإقرار فزعم في الشفعة إذا علم فسكت فهو إقرار بالتسليم وفي العبد يشتريه إذا استخدمه رضي بالعيب ولم يتكلم فحيث شاء جعله رضا ثم جاء إلى الأشبه بالرضا والإقرار فلم يجعله رضا وجعل صمته عن إنكاره أربعين ليلة كالإقرار وأباه في تسع وثلاثين فما الفرق بين الصمتين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُؤَخِّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْلِ حَتَّى تَضَعَ، فَلَهُ أَنْ يُعَجِّلَ نَفْيَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْوَضْعِ وَعَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْتِعَانِهِ لَعَنَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ نَفْيَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ: لَهُ نَفْيُهُ عَلَى التَّرَاخِي مَتَى شَاءَ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ خِيَارَ نَفْيِهِ لِعَيْبٍ دَخَلَ عَلَى فِرَاشِهِ فَجَرَى مَجْرَى خِيَارِ الْعُيُوبِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ لَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ بِالشَّرْعِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ، وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ فِي الْخِيَارِ حَدٌّ مَشْرُوعٌ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي خِيَارِ نَفْيِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ بَعْضُ أَحْوَالِ الْوِلَادَةِ فَلَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُهَا فِي خِيَارِ نَفْيِهِ بِأَوْلَى مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ فِي أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ أَوْ بِمُدَّةِ رَضَاعِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ كَانَ نَفْيُهُ فِي الْحَمْلِ عَلَى التَّرَاخِي وَبَعْدَ الْوِلَادَةِ عَلَى الْفَوْرِ؟ قِيلَ: لأنه قبل الولادة مظنون وبعدها متقين. (مسألة) قال الشافعي: " وَزَعَمَ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الشَّهَادَةَ لِيَخْرُجَ بِهَا مِنَ الحد فإذا لم يخرج من معنى القذف لَزِمَهُ الْحَدُّ قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 كل من أحلفته ليخرج من شيء وكذلك قلت إن نكل عن اليمين في مال أو غصب أو جرح عمد حكمت عليه بذلك كله قال نعم قلت فلم لا تقول في المرأة إنك تحلفها لتخرج من الحد وقد ذكر الله تعالى أنها تدرأ بذلك عن نفسها العذاب فإذا لم تخرج من ذلك فلم لم توجب عليها الحد كما قلت في الزوج وفيمن نكل عن اليمين وليس في التنزيل أن الزوج يدرأ بالشهادة حدا وفي التنزيل أن للمرأة أن تدرأ بالشهادة العذاب وهو الحد عندنا وعندك وهو المعقول والقياس وقلت له لو قالت لك لم حبستني وأنت لا تحبس إلا بحق؟ قال أقول حبستك لتحلفي فتخرجي به من الحد فقالت فإذا لم أفعل فأقم الحد علي قال لا قالت فالحبس حد قال لا فقال قالت فالحبس ظلم لا أنت أقمت علي الحد ولا منعت عني حبساً ولن تجد حبسي في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس على أحدها قال فإن قلت فالعذاب الحبس فهذا خطأ فكم ذلك مائة يوم أو حتى تموت وقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المؤمنين} أفتراه عني الحد أم الحبس؟ قال بل الحد وما السجن بحد والعذاب في الزنا الحدود ولكن السجن قد يلزمه اسم عذاب قلت والسفر والدهق والتعليق كل ذلك يلزمه اسم عذاب قال والذين يخالفوننا في أن لا يجتمعا أبدا وروي فيه عن عمر وعلي وابن مسعود رضوان الله عليهم لا يجتمع المتلاعنان أبدا رجع بعضهم إلى ما قلنا وأبى بعضهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا يُوسُفَ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ، وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ على الزوجة إذا امتنعت منه ويحسبها حَتَّى تُلَاعِنَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحَدَّانِ مَعًا وَيُحْبَسَانِ حَتَّى يُلَاعِنَانِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمَا يُحَدَّانِ وَلَا يُحْبَسَانِ، فَصَارَ أَبُو يُوسُفَ مُوَافِقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي حَبْسِ الزَّوْجَةِ، وَمُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الزَّوْجِ، وَحَبْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 48] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا لِلشَّهَادَةِ مُوجِبٌ لِتَوَجُّهِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ: فَالْحَبْسُ عَذَابٌ، قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] أَفَيُحْبَسُ الشُّهُودُ مَعَهُمَا؟ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: جَعَلْتَ الْحَبْسَ عَذَابًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الْمَخْصُوصُ بِالزِّنَا وَالْقَذْفِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ الْعَذَابُ الْمَخْصُوصُ بِالزِّنَا قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَّبَ الزَّانِيَ بِالْحَدِّ لَا بِالْحَبْسِ. وَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 أَوْجَبَ الْحَبْسَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ، قِيلَ: لَهُ: لِمَ خَصَّصْتَ الْحَبْسَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِهِ؟ هَلَّا عَدَلْتَ إِلَى الدَّهْقِ، وَالتَّعْلِيقِ وَالْإِعْزَارِ وَالتَّجْوِيعِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَحَبَسْتَهُمَا عَلَى حَقٍّ أَوْ غَيْرِ حَقٍّ؟ . فَإِنْ قَالَ: لِحَقٍّ، قِيلَ هَلَّا اسْتَوْفَيْتَ ذَلِكَ الْحَقَّ وَمَنَعْتَ مِنَ الْحَبْسِ؟ فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا مِنْهَا فَلِذَلِكَ حُبِسَتْ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَمَا ذَلِكَ الْحَقُّ؟ فَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يَجِبِ الْحَبْسُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكُرْهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ حَقٌّ، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي يُوسُفَ: حَدَدْتَ الزَّوْجَ وَلَمْ يَدْرَأِ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِلِعَانِهِ، وَلَمْ تَحُدَّ الزَّوْجَةَ وَقَدْ دَرَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِلِعَانِهَا الْحَدَّ عَنْهَا فَكَانَ عَكْسُ مَقَالَتِكَ أَوْلَى لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 (باب ما يكون قذفا ولا يكون ونفي الولد بلا قذف وقذف ابن الملاعنة وغير ذلك) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ ولداً فقال ليس مني فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ حَتَى يَقِفَهُ فَإِنْ قَالَ لَمْ أَقْذِفْهَا وَلَمْ تَلِدْهُ أَوْ وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلِي وَقَدْ عُرِفَ نِكَاحُهَا قَبْلَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ إِلَّا بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ لِوَقْتٍ يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ فِيهِ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَإِنْ سَأَلَتْ يَمِينَهُ أَحْلَفْنَاهُ وَبَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ أَحْلَفْنَاهَا وَلَحِقَهُ فَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ لَمْ يَلْحَقُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَذْفًا صَرِيحًا لِاحْتِمَالِهِ فَيُؤْخَذُ بِبَيَانِ مُرَادِهِ، وله في البيان أربعة أحوال: أَنْ يُبَيِّنَهُ بِمَا يَكُونُ قَذْفًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّهَا زَنَتْ فَجَاءَتْ بِهِ مِنَ الزِّنَا فَيَصِيرُ قَاذِفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ: أَرَدْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنِّي شَبَهًا فَلَا يُشْبِهُنِي خَلْقًا وَخُلُقًا، وَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ حَلَفَ وَبَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَإِنْ حَلَفَتْ صَارَ قَاذِفًا وَحُدَّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ نَسَبَهُ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيِّنَ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَإِنَّمَا الْتَقَطَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهَا؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ مُمْكِنَةٌ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَخْلُو فِي الْأَغْلَبِ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ لَهَا، وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِوِلَادَتِهَا كَالرِّضَاعِ وَالِاسْتِهْلَالِ، فَإِنْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ذَكَرَا مُشَاهَدَةَ الْوِلَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدِ النَّظَرِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ أَغْلَظُ، فَإِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِوِلَادَتِهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، فَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ فَهَلْ تَرْجِعُ إِلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ إِلَى الْقَافَةِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِهِ بِالرَّجُلِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوهُ بِهَا صَارَ كَالْبَيِّنَةِ عَلَى وِلَادَتِهَا فَيَلْحَقُ بِهَا وَبِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ ويجوز أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 يُرْجَعَ إِلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِهِ بِالْأَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا وَلَدُهَا قَطْعًا بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاجْتِهَادِ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ مَدْخَلٌ وَلَا يَلْحَقُ الْأَبَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فَجَازَ اجْتِهَادُ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِهِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الزَّوْجُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا مَا وَلَدَتْهُ، فَإِذَا حَلَفَ انْتَفَى عَنْهُ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، فَإِذَا حَلَفَتْ لَحِقَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنْ نَكَلَتْ فَهَلْ تُوقِفُ الْيَمِينَ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ لِيَحْلِفَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُوقَفُ الْيَمِينَ وَقَدِ انْقَطَعَ حكمها، لأن حقها في اليمين في بَطَل بِنُكُولِهَا وَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنِ الزَّوْجِ بِإِنْكَارِهَا وَنُكُولِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوقِفُ الْيَمِينَ عَلَى بُلُوغِهِ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَ الزَّوْجِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقَّانِ، حَقٌّ لَهَا فِي الْوِلَادَةِ، وَحَقُّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ، فَإِذَا بَطَلَ حَقُّهَا بِنُكُولِهَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفَ الْوَلَدُ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَحِقَ بِالزَّوْجِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَكَانَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ، وَهَلْ يَلْحَقُ بِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْحَقُ بِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ: أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا فِي لُحُوقِهِ بِهَا مِنْ إِلْحَاقِهِ بِزَوْجِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْحَقُ بِإِقْرَارِهَا وَلَا يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا مَعَ إِنْكَارِهِ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُعْرَفَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ أَوْ لَا يُعْرَفَ فَإِنْ لَمْ يُعَرَفْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ قِيلَ هَذَا الْبَيَانُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْكَ فَبَيِّنْهُ بِمَا يُمْكِنُ لِيُقْبَلَ، وَإِنْ عُرِفَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُعْرَفَ وَقْتُ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَعَقْدِ الثَّانِي وَوَقْتُ الْوِلَادَةِ أَوْ لَا يُعْرَفَ ذَلِكَ كُلُّهُ. فَإِنْ عُرِفَ وَقْتُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَوَقْتُ عَقْدِ الثَّانِي وَوَقْتُ الولادة، فللولد أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي عَنِ الثَّانِي لِلُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ عَقْدِهِ الثَّانِي. فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أن لا يحلق بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طلاق الأول ولأقل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي عَنْهُمَا وَهُوَ بَعْدَ يَمِينِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفِرَاشِ الْمُوجِبِ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ وَلِإِمْكَانِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ يَمِينُهَا أَنْ تَحْلِفَ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ غَيْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِذَا حَلَفَتْ لَحِقَ بِالزَّوْجِ وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ فَهَلْ تُوقَفُ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ: " (قَالَ) فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَوْ قَالَ لَهَا مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ وَلَمْ أُصِبْهَا قَدْ تُخْطِئُ فَلَا يكون حملاً فيكون صادقاً وهي غير غَيْرُ زَانِيَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ فَمَتَى اسْتَيْقَنَّا أَنَّهُ حَمْلٌ قُلْنَا قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَأْخُذَ نُطْفَتَكَ فَتُدْخِلَهَا فَتَحْمَلَ مِنْكَ فَتَكُونَ صَادِقًا بِأَنَّكَ لَمْ تُصِبْهَا وَهِيَ صَادِقَةٌ بِأَنَّهُ وَلَدُكَ فَإِنْ قَذَفْتَ لَاعَنَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَظْهَرَ بِالزَّوْجَةِ حَمْلٌ فَيَقُولُ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَلَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ وَلَمْ أُصِبْهَا، قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَمْلُ غِلَظًا أَوْ رِيحًا فَلَا يَعْجَلُ، فَإِنْ تَيَقَّنَاهُ حَمْلًا صَحِيحًا قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُدْخِلَ نَطْفَتَكَ فَتَعْلَقَ مِنْهَا فَيَكُونُ الْحَمْلُ مِنْكَ وَهِيَ عَفِيفَةٌ. وَأَنْتَ صَادِقٌ فَلَا يَنْتَفِي عَنْكَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي الشَّرْعِ بِمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الطِّبِّ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي الرَّحِمِ مِنْ مَخْرَجِ الذَّكَرِ وَأَصَابَهَا الْهَوَاءُ فَبَرُدَتْ لَمْ يكون مِنْهَا عُلُوقٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَهُوَ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَا يَنْتَفِي بِالْإِمْكَانِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا عَقِيمٌ وَهِيَ عَفِيفَةٌ وَلَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي قِيلَ: هَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: هِيَ عَاقِرٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْعَاقِرُ وَيُولَدَ لِلْعَقِيمِ. هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا يَقُولُ: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وقد بلغت من الكبر عتيا} [آل عمران: 4] فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] فَجَاءَهُمَا الْوَلَدُ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذَا صَدَّقَهَا عَلَى الْوِلَادَةِ إِلَّا أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ دَخَلَ عَلَى فِرَاشِهِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ عَلَيْهِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ بَعْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ على ما سنشرحه. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا وَقَالَ لَا أُلَاعِنُهَا وَلَا أَقْذِفُهَا لَمْ يُلَاعِنْهَا وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ قَذَفَهَا لاعنها لأنه إذا لاعنها بغير قذف فإنما يدعي أنها لم تلده وقد حكت أنها ولدته وإنما أوجب الله اللعان بالقذف فلا يجب بغيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَدُ الْمَرْأَةِ لَاحِقٌ زَوْجَهَا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَلِدَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا، وَلَا يَقِفُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 لُحُوقُهُ عَلَى اعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ لَمْ تَلِدْهُ وَإِنَّهَا الْتَقَطَتْهُ أَوِ اسْتَعَارَتْهُ فَيَحْلِفُ إِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ وَيَنْتَفِي عَنْهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْذِفَهَا إِذَا اعْتَرَفَتْ بِوِلَادَتِهَا وَيُلَاعِنَ مِنْهَا فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِقَذْفِهِ وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ. (مسألة) قال الشافعي " وَلَوْ قَالَ لَمْ تَزْنِ بِهِ وَلَكِنَّهَا عَصَتْ لَمْ يُنْفَ عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَتَحَرَّرْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى فُصُولِهَا مِنَ الْأَقْسَامِ وَنَجْتَهِدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ فِي تَحْرِيرِ الْأَجْوِبَةِ. فَإِنْ نَسَبَ وَلَدَ امْرَأَتِهِ إِلَى وَطْءِ غَيْرِهِ لَمْ يخل من أربعة أقسام: أحدها: أن يقذفهما بِالزِّنَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْذِفَ الْمَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ. وَالرَّابِعُ: أَلَّا يَقْذِفَ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُمَا مَعًا بِالزِّنَا فَيَقُولُ: زَنَيْتِ بفلان، أو زنا بِكِ رَجُلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَهَا وَيَنْفِيَ بِهِ وَلَدَهَا سَوَاءٌ سَمَّى الزَّانِيَ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، فَإِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ سَمَّى الزَّانِيَ وَالْعَجْلَانِيَّ لَمْ يُسَمِّهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَ بِالزِّنَا الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: اغْتُصِبْتِ فَاسْتُكْرِهْتِ عَلَى نَفْسِكِ فَيَكُونُ قَذْفًا لِلْمُغْتَصِبِ دُونَهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِهَذَا الْقَذْفِ وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا سَوَاءٌ سَمَّى الْمُغْتَصِبَ أَوْ لم يسمه، وحكي، عن الزني فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ إِنْ سَمَّى الْمُغْتَصِبَ لَاعَنَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يُلَاعِنْ، لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سَمَّاهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ، وَاللِّعَانُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي قَذْفٍ يُوجِبُ الْحَدَّ وَنَظَرْتُ فِي جَامِعِهِ فَلَمْ أَرَهُ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلًا وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَقْذُوفِ مِنْ شُرُوطِ اللِّعَانِ كَالْمَقْذُوفِينَ، وَلَا سُقُوطُ الْحَدِّ بِمَانِعٍ مِنْ لِعَانِهِ فِي نَفْيِ النَّسَبِ كَالْمَجْنُونِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ فِي إِفْسَادِ الْفِرَاشِ كَغَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ بِلِعَانِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 (فَصْلٌ) أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقْذِفَ الْمَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: تَشَبَّهْتِ لَهُ بِزَوْجَتِهِ فَأَصَابَكِ يَظُنُّكِ زَوْجَتَهُ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ لِعِلْمِكِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ زَانٍ لِجَهْلِهِ بِكِ، فيحوز عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْحَدِّ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ بِهَذَا الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ يُوجِبُ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ إِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ نَفْيُ النَّسَبِ بِغَيْرِ لِعَانٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ كَوَلَدِ الْأَمَةِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ بِادِّعَاءِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ غَيْرَ مُسَمَّى فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، وَلَوْ كَانَ مُسَمًّى لَجَازَ أَنْ يُنْكِرَ الْوَاطِئُ فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ، وَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ لَجَازَ أَنْ لَا تُلْحِقَهُ الْقَافَةُ بِهِ، وَلَوْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ بِلِعَانِهِ فَصَارَ اللِّعَانُ مُسْتَحَقًّا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَجَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ نَفْيُ النَّسَبِ الَّذِي قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَذْفُ نَفْيَهُ وَإِنْ لَحِقَ بِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَقْذِفَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالزِّنَا فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: وَجَدَكِ عَلَى فِرَاشِهِ فَظَنَّكِ زَوْجَتَهُ وَظَنَنْتِيهِ زَوْجَكِ. فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا زَانٍ، فَلَا يَجِبُ بِهَذَا الرَّمْيِ حَدٌّ، وَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ حَمْلًا فَلَا لِعَانَ بِهِ، وَلَا تَنَازُعَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غِلَظًا أَوْ رِيحًا، فَإِذَا وَضَعَتْ رُوعِيَ حَالُ الْمَرْمِيِّ بِوَطْئِهَا فَإِنْ كَانَ مُسَمًّى مُعْتَرِفًا بِوَطْئِهَا فَلَا لِعَانَ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالزَّوْجِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَرْمِيُّ بِهَا مُنْكِرًا لِوَطْئِهَا أَوْ كَانَ مَجْهُولًا غَيْرَ مُسَمًّى اضْطُرَّ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، وَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ قَذْفٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُهُ مِنْهُ بِغَيْرِ قَذْفٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُفْسِدٌ لِفِرَاشِهِ كَالزِّنَا فَاسْتَوَيَا فِي نَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَزْنِيَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمَا فِي رَمْيِهِمَا بِالزِّنَا، فَعَلَى هَذَا يَقُولُ فِي لِعَانِهِ: أشهد بالله أنني لمن الصادقين فيما رميتها بِهِ مِنْ إِصَابَةِ غَيْرِي لَهَا عَلَى فِرَاشِي وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ تِلْكَ الْإِصَابَةِ مَا هُوَ مِنِّي. فَإِذَا أَكْمَلَ لِعَانَهُ انْتَفَى عَنْهُ النَّسَبُ وَلَمَ تُلَاعِنِ الْمَرْأَةُ بَعْدَهُ، لِأَنَّ هَذَا اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا الْحَدَّ، لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ وَطْءَ شُبْهَةٍ وَلَمْ يُثْبِتِ الزِّنَا وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَلْتَعِنْ لِأَنَّ لِعَانَهَا مَقْصُورٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَدِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 يُلَاعِنَ مِنْهُ حَتَّى يَتَضَمَّنَ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَقَامُ خِزْيٍ فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ فَحْوَى الْكِتَابِ وَنَصَّ السُّنَّةِ جَاءَتْ بِمِثْلِهِ، فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ قَذْفِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَوْ كَانَ فِيهِ إِكْذَابٌ لِنَفْسِهِ، حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِمَعَارِيضِ الزِّنَا، كَقَوْلِهِ: فَجَرَتْ بِوَطْءِ غَيْرِي، أَوْ وُطِئَتْ وَطْأً حَرَامًا، لِئَلَّا يُصَرِّحَ بِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ، فَإِنْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى مَعَارِيضِ الْقَذْفِ، بَنَى لَفْظَ لِعَانِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ وَطْءِ الْفُجُورِ أَوِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا هُوَ مِنِّي، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تُلَاعِنَ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَضَافَ الْفُجُورَ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْوَاطِئِ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَنَعْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَذْفِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ قَذَفَهَا لَاعَنَ، وَلَاعَنَتْ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَذَفَهُ دُونَهَا لَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنْ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَذَفَهَا دُونَهُ لَاعَنَ وَلَاعَنَتْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْ قَذْفِهَا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا. فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهَا إِلَّا بِلِعَانِهَا، وَلِعَانِهِ وَقَذْفُ الْوَاطِئِ وَحْدَهُ، غَيْرُ مُوجِبٍ لِحَدِّهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إلى لعانها، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " ولو قال لابن ملاعنة لست ابن فُلَانٍ أُحْلِفَ مَا أَرَادَ قَذْفَ أُمِّهِ وَلَا حَدَّ فَإِنْ أَرَادَ قَذْفَ أُمِّهِ حَدَدْنَاهُ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ الَّذِي نَفَاهُ حُدَّ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً إِنْ طَلَبَتِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ إِنْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ أَمَةً (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِابْنِهِ لَسْتَ بِابْنِي إِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأُمِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَزّيَهُ إِلَى حَلَالٍ وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَشْبَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدْ نَفَاهُ أَبُوهُ بِلِعَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدِ اسْتَلْحَقَهُ أَبُوهُ بَعْدَ نَفْيِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ابْنَ غَيْرِ مُلَاعِنَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ قَدْ نَفَاهُ أَبُوهُ بِلِعَانِهِ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ: لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَسْتَ بِابْنِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ نَفَاهُ بِلِعَانِهِ فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ بِهِ فَيَصِيرُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ: فَصَارَ مِنْ مَعَارِضِ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتِهِ فَوَجَبَ مَعَ الْمُطَالَبَةِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِلَى بَيَانٍ فِي إِرَادَتِهِ، وَلَهُ فِي بَيَانِهِ ثَلَاثة أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرِيدَ بِهِ قَذْفَهَا. وَالثَّالِث: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ حُدَّ لَهَا، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا، لِأَنَّ لِعَانَهُ بَيِّنَةٌ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَتْ بَيِّنَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَصَارَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنِ ارْتَفَعَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الزَّوْجِ، فَيُحَدُّ لَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً، وَيُعَزَّرُ لَهَا إِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ أَمَةً، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَنَفَى النَّسَبَ، وَقَضَى أَلَّا تَرْمِيَ وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، فَمَنْ رَمَاهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَمُطْلَقُ جَوَابِهِ فِي قَذْفِهَا وَتَفْصِيلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنْ لَاعَنَتْ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ وَحُدَّتْ فِي الزِّنَا، ذَهَبَتْ عِفَّتُهَا، وَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا، لِأَنَّهُ يَتَنَافَى ثُبُوتُ الْعِفَّةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ كَمَا يَتَنَافَى إِذَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَهُ عَنِ الْأَبِ بِلِعَانِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوِ ادَّعَى ذَلِكَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِهَا أُحْلِفَ بِاللَّهِ مَا أَرَادَ قَذْفَهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَقَدْ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوْ حَلَفَ وَلَدُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُدَّ لَهَا حَدُّ الْقَذْفِ، وَإِنْ نَكَلَتْ أَوْ نَكَلَ وَلَدُهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةُ قَذْفٍ فلا حد عليه لأن الكناية إذا تجردت عَنْ نِيَّتِهِ سَقَطَ حُكْمُهَا كَالْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ إِرَادَةَ الْقَذْفِ أُحْلِفَ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ اسْتَحْلَفَهُ أَبُوهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُهُ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ: لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ، فَظَاهِرُهُ الْقَذْفُ، لِأَنَ الِاحْتِمَالَ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ أَقَلُّ، فَصَارَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ الْقَذْفَ، فَيُؤْخَذُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ فِيهِ هَذَا مَا لَمْ يَدَّعِ احْتِمَالًا مُمْكِنًا، فَإِنِ ادَّعَاهُ وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَكُنِ ابْنَ فُلَانٍ حِينَ نَفَاكَ بِلِعَانِهِ وَإِنْ صِرْتَ ابْنًا لَهُ بَعْدَ اسْتِلْحَاقِهِ، فَقَوْلُهُ مُحْتَمَلٌ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ، وَإِمْكَانِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ زِنَا الْعَيْنِ أَوِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. فَهَلَّا كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَأُخِذَ بِالْحَدِّ وَلَمْ يَنْوِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ تَعْرِيضًا بِقَذْفٍ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَلِذَلِكَ جَازَ مَعَ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْوِيَ. وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُسْأَلَ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 وَفِي هَذَا الْقِسْمِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْقَذْفُ فَحُدَّ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ ثَابِتَ النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أُمِّهِ لِعَانٌ قَطُّ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ: لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّ فِي الْمُسْتَلْحِقِ بَعْدَ الِالْتِعَانِ مِنَ الِاحْتِمَالِ مَا لَيْسَ فِي هَذَا، فَلِذَلِكَ كَانَ قَذْفًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَذْفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَحَكَى الْمُزَنِيُّ عَنْهُ في الأب إذا قال لابنه: ليست بِابْنِي، أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ حَتَّى يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ، فَخَالَفَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ قَذْفًا، وَجَعَلَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ قَذْفًا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: أحدها: وَقَدْ أَوْمَأَ الْمُزَنِيُّ إِلَيْهَا: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا مِنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ جَمِيعًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَجْنَبِيِّ فَيُحَدَّانِ مَعًا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ الْأَبُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ مَوْضُوعٌ فِي الْعُرْفِ لِقَذْفِ أُمِّهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُعْتَبَرًا وَالْحُكْمُ بِهِ مُتَعَلِّقًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا مِنَ الْأَبِ وَلَا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ لِظُهُورِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ لَيْسَ بِابْنِهِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ، فَخَرَجَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ، وَمَا الَّذِي يَكُونُ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْذُوفًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَلَّظْ عَلَى الْمُسْتَلْحِقِ بَعْدَ النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِالْحَدِّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الْقَذْفَ، فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُحَدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ يَنْوِي فِيهِ وَلَا يُحَدُّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ، بِخِلَافِ الْمُسْتَلْحِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ لَمَّا اعْتَلَّ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ صَارَ الظَّاهِرُ مِنْ نَفْيِهِ قَذْفَ أُمِّهِ، وَغَيْرُ الْمُسْتَلْحِقِ لَمَّا لَمْ يَعْتَلَّ نَسَبُهُ صَارَ الظَّاهِرُ مَنْ نَفْيِهِ مُخَالَفَةَ أَبِيهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى لِأَصْحَابِنَا وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقَةَ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ فِيهِمَا فَيَكُونُ قَذْفًا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَكُونُ قَذْفًا مِنَ الْأَبِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ لِلْأَبِ مِنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ بِالضَّرْبِ وَالْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ مَا لَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ إِغْلَاظًا فِي الْقَوْلِ الْمَحْمُولِ عَلَى التَّأْدِيبِ، وَمِنَ الْأَجْنَبِيِّ إِغْلَاظَ قَذْفٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْدِيبِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِيهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا، فَالَّذِي قَالَهُ فِي الْأَبِ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا إِذَا قَالَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ أَرَادَ نَفْيَهُ فِيهَا بِاللِّعَانِ لِأَمْكَنَهُ، وَالَّذِي قَالَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا قَالَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ فِي حَالٍ لَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ نَفْيُهُ فِيهَا بِاللِّعَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَذْفًا مِنَ الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ النَّسَبِ وَلَا يَكُونُ قَذْفًا مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ لِضَعْفِ النَّسَبِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ، وَقُوَّتِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَإِذَا نَفَيْنَا عَنْهُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ ثُمَّ جَاءَتْ بعده بولده لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ لَهُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ فَهُوَ وَلَدُهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْفِيَ بِهِ حَمْلًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ حَمْلًا فَإِذَا وَضَعَتْ وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا انْتَفَى عَنْهُ جَمِيعُهُمْ، لِأَنَّ الْحَمْلَ مَا اشْتَمَلَ الْبَطْنُ عَلَيْهِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَخِيرِ مِنْهُمْ فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا فَانْتَفَى عَنْهُ وَانْقَضَتْ بِهِ عَدَّتُهَا فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ وَضَعَتْ بِهِ وَلَدًا آَخَرَ، نَظَرَ فِي زَمَانِ وَضْعِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَقَلُّ مِنْهُمَا كَانَا حَمْلًا وَاحِدًا اشْتَمَلَ الْبَطْنُ عَلَيْهِمَا، فَانْتَفَيَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ، وَعَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا إِلَى وَضْعِ الثَّانِي. وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا ثَالِثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْتَفَى الثَّالِثُ مَعَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ بِاللِّعَانِ الْمُتَقَدِّمِ لِاشْتِمَالِ الْبَطْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ، وَعِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةٌ بِوَضْعِ الثَّالِثِ، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ فَهِيَ مثبوته بِاللِّعَانِ وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ انْقِضَاءً تيقناً به استبراء رحمها فلم يحلق بِهِ الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِصَابَتِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 قَبْلَ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْوَلَدَيْنِ فِي الِاسْتِلْحَاقِ، فَإِنِ اسْتَلْحَقَ الْأَوَّلَ لَحِقَ بِهِ، لِأَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَإِنِ اسْتَلْحَقَ الثَّانِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بِلِعَانِهِ وَلَدًا، فَإِذَا اعْتَدَّتْ مِنْ فُرْقَةِ اللِّعَانِ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ وَضَعَتْ بَعْدَهُ وَلَدًا ثَانِيًا لَمْ يَخْلُ وَضْعُهُ مِنْ ثَلَاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ. وَالثَّالِث: أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ ثَانٍ، بِخِلَافِ الْتِعَانِهِ مِنَ الْحَمْلِ، لِأَنَّ الْتِعَانَهُ مِنَ الْحَمْلِ مُتَوَجَّهٌ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَطْنُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فَانْتَفَى جَمِيعُهُمْ بِاللِّعَانِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ اللِّعَانُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، كَانَ النَّفْيُ مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللِّعَانُ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ إِلَّا الْأَوَّلَ فَانْتَفَى عَنْهُ دُونَ الثَّانِي، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُلَاعِنْ مِنْهُ لَحِقَ بِهِ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ حَيْثُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالْحَمْلُ الْوَاحِدُ لَا يَتَبَعَّضُ فِي اللُّحُوقِ بِاثْنَيْنِ كَمَا لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ بِاثْنَيْنِ فَجَعَلْنَا الْأَوَّلَ تَبَعًا لِلثَّانِي فِي الِاسْتِلْحَاقِ وَلَمْ نَجْعَلِ الثَّانِيَ تَبَعًا لِلْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِلْحَاقِ [بَعْدَ النَّفْيِ جَائِزٌ، وَالنَّفْيُ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَا يَنْتَفِي بِالْإِمْكَانِ، فَيَغْلُظُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حُكْمُ الِاسْتِلْحَاقِ] وَعَلَى حُكْمِ النَّفْيِ فَصَارَ الْأَغْلَظُ مَتْبُوعًا وَالْأَخَفُّ تَابِعًا فَإِذَا لَحِقَهُ لم يحد لقذف الأم لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ لَا يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُ فِي الْقَذْفِ، كَمَا لَوْ لَاعَنَ مِنْهَا وَلَمْ يَنْفِ وَلَدَهَا. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ اللِّعَانِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ حَمْلٍ ثَانٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْ حَمْلِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ الثَّانِي لَاحِقًا بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَصِرْ ذَاتَ زَوْجٍ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا، لِأَنَّ وَلَدَ الْمَبْتُوتَةِ يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ قَدْ نَفَيْتُمْ عَنْهُ إِذَا الْتَعَنَ مِنَ الْحَمْلِ مَنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 قُلْنَا: إِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي اللُّحُوقِ لِافْتِرَاقِهِمَا في معنى الاستبراء واختلافما فِي إِمْكَانِ اللُّحُوقِ فَصَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا لَاعَنَ مِنْهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ يَقِينٌ فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ لِلزَّوْجِ مَا فِي الرَّحِمِ، وَذَاتُ الْوَلَدِ إِذَا لَاعَنَ مِنْهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَالِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَقْرَاءِ غَلَبَةُ ظَنٍّ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ عَلَى الْحَمْلِ وَيُرَى دَمُ فَسَادٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّحِمُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَاءِ الزَّوْجِ وانعقاد الولد منه. والثاني: أنه يمنع مِنْ ذَاتِ الْحَمْلِ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهَا أَنْ يَطَأَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَامْتَنَعَ أن يكون الحمل الثاني منه [وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَاتِ الْوَلَدِ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الثَّانِي مِنْهُ] . فَلِهَذَيْنِ مَا فَرَّقْنَا فِي الثَّانِي بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ الثَّانِي وَلَمْ يَنْتَفِع مِنْهُ إِلَّا بِلِعَانٍ فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ احْتَاجَ فِيهِ إِلَى قَذْفٍ ثَانٍ، لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ قَدِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ مَاءٍ ثَانٍ فَاقْتَضَى أَنْ يُضَافَ فِي اللِّعَانِ إِلَى زِنًا ثَانٍ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ مِنَ الثَّانِي لَحِقَ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلَيْنِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْحَمْلَيْنِ أَنْ يَكُونَا مِنَ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ لِعَانِهِ، فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِصَابَتِهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ لِعَانِهِ لِتَجَاوُزِهِ مدة أكثر الحمل. (مسألة) قال الشافعي: " وإذا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ فَهُمَا ابْنَاهُ وَلَا يَكُونُ حَمْلٌ وَاحِدٌ بولدين إلا من واحد (قال الشافعي) رحمه الله وَإِنْ كَانَ نَفْيُهُ بِقَذْفٍ لِأُمِّهِ فَعَلَيْهِ لَهَا الْحَدُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ لِاشْتِمَالِ الْبَطْنِ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا بِاللِّعَانِ وَاعْتَرَفَ بِالْآخَرِ، أَوْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَأَمْسَكَ عَنْ نَفْيِ الْآخَرِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُمَا لَاحِقَانِ بِهِ، لِأَنَّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ وَأَمْسَكَ عَنْ نَفْيِهِ لَاحِقٌ بِهِ، وَهُوَ مِنْ حَمْلِ الْأَوَّلِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتْبَعَهُ الْأَوَّلُ فِي اللُّحُوقِ وَإِنْ نَفي لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، فَصَارَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لِلثَّانِي فِي الْإِقْرَارِ، وَلَمْ يَصِرِ الثَّانِي تَابِعًا لِلْأَوَّلِ فِي الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْإِقْرَارُ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 الْإِنْكَارُ؟ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا وَرِثَاهَا عَنْ أَبِيهِمَا فَصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرَ، فَكَانَ النِّصْفُ الْمُقَرُّ شِرْكَةً بَيْنَهُمَا فَتَعَدَّى الْإِقْرَارُ إِلَى الْمُكَذَّبِ وَلَمْ يَتَعَدَّ الْإِنْكَارُ إِلَى الْمُصَدَّقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهَيْنِ مَضَيَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الثَّانِيَ يَلْحَقُ بِهِ مَعَ الْأَوَّلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَال اللُّحُوقِ، فَإِنْ كَانَ لُحُوقُ الثَّانِي لِإِمْسَاكِهِ عَنْ نَفْيِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي لُحُوقِهِمَا بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِمْسَاكِهِ تَكْذِيبُ الْقَذْفِ، وَإِذَا كَانَ لُحُوقُ الثَّانِي لِاعْتِرَافٍ بِهِ وَقَدْ كَانَ قَالَ فِي لِعَانِهِ فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ منْ زنَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقْنَاهُمَا بِالِاعْتِرَافِ حَدُّ الْقَذْفِ لِمَا فِي الِاعْتِرَافِ بِأَحَدِهِمَا مِنْ تَكْذِيبِ نَفْسِهِ فِي قَذْفِهِمَا بِالَآخَرِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا نَفَى بِاللِّعَانِ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْتَفِيَا عَنْهُ فِي الْأُمِّ وَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِهَا دُونَهُ وَهَكَذَا تَوْأَمُ الزِّنَا يحلقان بِالزَّانِيَةِ دُونَ الزَّانِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ أُمِّهِ يَقِينًا وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا، فَرَفَعَ الشَّرْعُ حُكْمَ الظَّنِّ فِي الزَّانِي وَلَمْ يَرْفَعْ حُكْمَ الْيَقِينِ فِي الزَّانِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَرِثَا الْأُمَّ وَوَرِثَتْهُمَا وَلَمْ يَرِثَا الزَّانِيَ وَلَا الْمُلَاعِنَ وَلَمْ يَرِثَاهُمَا، وَفِيمَا يَتَوَارَثُ بِهِ هَذَانِ التَّوْأَمَانِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مِيرَاثُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِعِلْمِنَا قَطْعًا أَنَّهُمَا مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَبٌ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَا أَخَوَيْنِ مِنْ أَبٍ وصار أَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ لِأَنَّ لَهُمَا أُمًّا فَوَرِثَا بِالْأُمِّ لَمَّا وَرِثَاهَا، وَلَمْ يَرِثَا بِالْأَبِ لَمَّا لَمْ يَرِثَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَوْأَمَ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَتَوْأَمَ الزِّنَا يَتَوَارَثَانِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ، لِأَنَّ تَوْأَمَ الْمُلَاعَنَةِ لو استلحقا صار أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَتَوْأَمَ الزِّنَا لَا يَصِيرَانِ بِالِاسْتِلْحَاقِ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَافْتَرَقَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ الْتَعَنَ نُفِيَ عَنْهُ الحي والميت ولو نفى ولدها بلعان ثم ولدت آخر بعده بيوم فأقر به لزماه جميعاً لأنه حمل واحد وحد لها إن كان قذفها ولو لم ينفه وقف فإن نفاه وقال التعاني الأول يكفيني لأنه حمل واحد لم يكن ذلك له حتى يلتعن من الآخر (وقال) بعض الناس لو مات أحدهما قبل اللعان لاعن ولزمه الولدان وهما عندنا وعنده حمل واحد فكيف يلاعن ويلزمه الولد؟ قال من قبل أنه ورث الميت قلت له ومن زعم أنه يرثه)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الِالْتِعَانِ جَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ موته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا مَاتَ قَبْلَ اللِّعَانِ وَرِثَهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أن من مات على حكم استقر الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَنْ مَاتَ عَبْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ مَاتَ كَافِرًا لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ، كَذَلِكَ هَذَا الْوَلَدُ مَاتَ ابْنًا فَلَمْ تَرْتَفِعْ بُنُوَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَدْ صَارَ وَارِثًا لَهُ وَمِيرَاثُهُ اعْتِرَافٌ بِهِ وَالْمُعْتَرِفُ بِالْوَلَدِ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِاللِّعَانِ فِرَاشُ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبَ وَلَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ نَسَبَ الْحَيِّ أَقْوَى مِنْ نَسَبِ الْمَيِّتِ. فَلَمَّا جَازَ أن ينفي باللعان أقوى النسبين كما أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى. لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى نَفْيِهِ فِي الْحَيَاةِ أَمْرَانِ: أَنْ لَا يَنْتَسِبَ إليه، وأن لا يلزمه مونته وَهَذَانِ مَوْجُودَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَوُجُودِهِمَا قَبْلَهُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْحَالَانِ فِي نَفْيِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ [يَوْمَ] الْمَوْتِ جَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ اللُّحُوقِ وَالنَّفْيِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا اسْتَوَيَا قَبْلَهُ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إِلَى الْمَوْتِ يَمْنَعُ مِنَ ارْتِفَاعِهِ بَعْدَهُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِيمَا تَقَدَّمَهُمَا، فَذَلِكَ مَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفْيُ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَهُ مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيمَا بَعْدُ عَنِ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ لِيَرْتَفِعَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ بِاللِّعَانِ، أَنَّهُ رَافِعٌ فِي الْحَالِ مَعَ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبْلُ وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَبْقَ لِرَفْعِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَأْثِيرٌ بِخِلَافِ النِّسَبِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ فَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ وَارِثٍ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهُ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَا وَلَدَيْنِ الْتَعَنَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ وَمَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ نَفْيِهِ فَإِنَّ الْتِعَانَهُ مِنَ الْحَيِّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَيِّتِ عَنْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْهُ لَحِقَ بِهِ الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ انْتَفَيَا عَنْهُ بِلِعَانَيْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى قَذْفٍ يَتَقَدَّمُهُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ لَهُ وَمَاؤُهُ وَاحِدٌ فَافْتَقَرَ إِلَى قَذْفٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُلَاعِنُ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَلْحَقُ بِهِ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ لِأَنَّهُمَا من حمل واحد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 (مسألة) قال الشافعي: " وَقَالَ أَيْضًا - يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ - لَوْ نَفَاهُ بلعان وَمَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْأَبُ ضُرِبَ الْحَدّ وَلَمْ يثبت النسب فإن كان الابن المنفي ترك ولداً حد أبوه وثبت نسبه منه وورثه (قال الشافعي) رحمه الله ولا فرق بينه ترك ولداً أو لم يتركه لأن هذا الولد المنفي إذا مات منفي النسب ثم أقر به لم يعد إلى النسب لأنه فارق الحياة بحال فلا ينتقل عنها وكذلك ابن المنفي في معنى المنفي وهو لا يكون ابنا بنفسه فكيف يكون ابنه بالولد المنفي الذي قد انقطع نسب الحي منه والذي ينقطع به نسب الحي ينقطع به نسب الميت لأن حكمهما واحد (قال الشافعي) رحمه الله ولو قتل وقسمت ديته ثم اقر به لحقه وأخذ حصته من دينه ومن ماله لأن أصل أمره أن نسبه ثابت وإنما هو منفي ما كان أبوه ملاعنا مقيماً على نفيه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ نَفَى وَلَدَهُ بِاللِّعَانِ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَاعْتَرَفَ بِهِ وَاسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - هَلْ يَلْحَقُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ إِذَا اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ تَرَكَ وَلَدًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ غَنِيًّا مَاتَ أَوْ فَقِيرًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تَرَكَ الْمَنْفِيُّ وَلَدًا أُلْحِقَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ غَنِيًّا ذَا مَالٍ لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: بِأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ أَسْبَابُهُ فَصَارَ قَطْعًا لِاسْتِلْحَاقِهِ، وَهُوَ بَاقِي الْأَسْبَابِ بِالْوَلَدِ فَبَقِيَ حُكْمُ استلحاقه. والثاني: أنه بعدم الولد متهم الاستلحاق فِي إِجَازَةِ الْمِيرَاثِ فَرَدَّ إِقْرَارَهُ بِالتُّهْمَةِ وَمَعَ وجود الولد غير [متهم] فلزم إقراره. والثالث: أنه فِي اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ حَقَّينِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَّصِلَ بِحَيٍّ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِلْحَاقِ مِثْلُ مَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِأَنَّ مَوْتَ الْغَنِيِّ بَاقِي الْعَلَقِ فَكَانَ لِاسْتِلْحَاقِهِ تَأْثِيرٌ فَثَبَتَ، وَمَوْتَ الْفَقِيرِ مُنْقَطِعُ الْعَلَقِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِلْحَاقِهِ تَأْثِيرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِلْحَاقِ نَسَبِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْوَلَدِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مقبول الاعتراف في الحياة وبعد الموت، لأن لا يَكُونَ عَلَى الْجُحُودِ مُصِرًّا وَلِلْوَعِيدِ مُسْتَحِقًّا، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْحَيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ نَسَبُ الْمَيِّتِ كَالَّذِي تَرَكَ وَلَدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْغَنِيِّ مَعَ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ ذِي الْوَلَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْأَبِ مَنْ نسب غير ذي الْوَلَدِ الْحَيِّ، وَلِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مَنْ نَسَبَ الْأَبِ فَلَا يُؤْخَذُ مَنْ نَسَبَ الْوَلَد، لِأَنَّ الْفُرُوعَ تُرَدُّ إِلَى أُصُولِهَا، وَلَا تُرَدُّ الْأُصُولُ إِلَى فُرُوعِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَكَسَ فِيهِمَا أُصُولَ الشَّرْعِ فَجَعَلَ نَسَبَ الْأَبِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَلَمْ يَجْعَلْ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْأَبِ، وَمَا انْعَكَسَتْ بِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ كَانَ مَدْفُوعًا، وَبِمْثِلِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ اسْتِلْحَاقِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ، أَوْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ لِجَوَازِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَالْمَوْتُ مَوْجُودٌ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْهُومٍ وَتَرَكَ وَلَدًا لَا يَرْثُ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا، وَإِذَا بَطَلَ تَعْلِيقُ الْمَنْعِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ثَبَتَ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَطْعِ الْأَسْبَابِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَسْبَابَ بَاقِيَةٌ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ كَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ، لِأَنَّهُ قد تعلق بالأسباب مع الْحُقُوقِ لَهَا وَعَلَيْهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا الْحُقُوقُ الْمُسْتَقْبَلَةُ لَمْ تُقْطَعْ بِهَا الْحُقُوقُ الْمَاضِيَةُ، وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ. لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالتُّهْمَةِ فَقَدْ أَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ وُجُودَ الْوَلَدِ يَجْمَعُ حَقَّيِ النَّسَبِ وَيُعْدَمَانِ بِفَقْدِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ أَحْكَامٌ سِوَى أَحْكَامِ الْوَلَدِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ أَغْلَظُ وَمَعَ عَدَمِهِ أَخَفُّ. فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي أَغْلَظِ حَالَيْهِ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي أَخَفِّهِمَا أَوْلَى. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ فَلَهُ مِيرَاثُهُ بِالْأُبُوَّةِ سَوَاءٌ حَجَبَ الْوَارِثَ أَوْ شَارَكَهُ بَاقِيَهُ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَوْ مَقْسُومُهُ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ مَاتَ قَتِيلًا، وَرِثَ الْأَبُ مَالَهُ وَدِيَتَهُ، وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ ثَابِتَ النسب من وقت الولادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ زَنَيْتُ بِكَ وَطَلَبَا جَمِيعًا مَا لَهُمَا سَأَلْنَا فَإِنْ قَالَتْ عَنَيْتُ أَنَّهُ أَصَابَنِي وَهُوَ زَوْجِي أُحُلِفَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَيَلْتَعِنُ أَوْ يُحَدُّ وَإِنْ قَالَتْ زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَنِي فَهِيَ قَاذِفَةٌ لَهُ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ لَهُ بِالزِّنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا مُبْتَدِئًا: يَا زَانِيَةُ فَهُوَ قَذْفٌ لَهَا صَرِيحٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهَا لَهُ فِي جَوَابِ قَذْفِهَا لَهُ: زَنَيْتُ بِكَ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ إِذَا كَانَ جَوَابًا، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا إِلَّا أَنْ تُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ وَالَّذِي يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ اثْنَيْنِ، وَأَغْفَلَ الثَّالِثَ: أَحَدُهَا: أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَقَذْفَهَا لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ قَذْفَهُ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا تُرِيدَ قَذْفَهُ وَلَا إِقْرَارَهَا بِهِ، فَأَمَّا الأول وهو أن تريد إقرارها بالزنا وقدفه بِهِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: أَرَدْتُ بِهِ أَنَّهُ زنا بِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، فَكُنْتُ زَانِيَةً بِهِ وَكَانَ زَانِيًا بِي، فَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِمَا فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهَا حَدَّانِ: أَحَدُهُمَا: حَدُّ الزِّنَا لِإِقْرَارِهَا بِهِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُرَاعَى فِيهِ الْمُطَالَبَةُ. وَالثَّانِي: حَدُّ الْقَذْفِ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهَا قَاذِفَةٌ لَهُ. وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِطَلَبِهِ وَقَدْ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ بِتَصْدِيقِهَا لَهُ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدَّانِ عَلَيْهَا لَمْ يَتَدَاخَلَا، لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْمُوجِبُ وَالْحُكْمُ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا يُجْمَعَ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ، وَنَحْنُ نُجْرِيهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ نَصٌّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْعُدْ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ: ماذا فعلت؟ فقالت: زَنَيْتُ بِبِنْتِ امْرَأَتِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُمَرَ وَعَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ وَسَأَلَهَا فَقَالَتْ: مَا زَنَيْتُ، فَأَمَرَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَدَّيْنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: أَرَدْتُ أَنِّي زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجَنِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، إِمَّا بِأَنْ تَقُولَ: اسْتَدْخَلْتُ ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ نِمْتُ عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَنِي وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِي، فَكُنْتُ زَانِيَةً بِهِ وَلَمْ يَكُنْ زَانِيًا بِي، فَهَذَا الْبَيَانُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّهَا وَأَخَفُّهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 حَدُّ الزِّنَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ، وَقَدْ سَقَطَ بِهِ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا أَرَادَتْ قَذْفَهُ أَحْلَفَهَا أَنَّهَا مَا أَرَادَتْهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ قَذْفَهُ بِالزِّنَا وَلَا تُرِيدَ إِقْرَارَهَا به، فهو أن تقول: زنا بِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي وَأَنَا نَائِمَةٌ أَوْ مُسْتَكْرَهَةٌ، فَهُوَ زَانٍ بِي وَأَنَا غَيْرُ زَانِيَةٍ بِهِ، فَهَذَا الْبَيَانُ أَخَفُّ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّهَا وأغلظها فِي حَقِّ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهَا حَدُّ قَذْفِهِ، وَعَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهَا، وَلَا قِصَاصَ فِي 7 الْحَدَّيْنِ، وَلَهُ إِسْقَاطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهَا، فَإِنْ أَكْذَبَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا أَحْلَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ، لِمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ سُقُوطِ حَدِّ قَذْفِهَا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تُرِيدَ لَا إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَلَا قَذْفَهُ، فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أَصَابَنِي بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَنِي فَإِنْ كُنْتُ زَانِيَةً فِيهِ زَنَيْتُ، فَهَذَا أَخَفُّ أَحْوَالِهَا فِي حقها وحق الزوج، فيكون قولها من الْأَمْرَيْنِ مَقْبُولًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا وَلَا حَدُّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ قَدْ يَخْرُجُ فِي مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ وَيُخَالِفُهُ فِي حُكْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . وَالِابْتِدَاءُ سَيِّئَةٌ وَالْجَزَاءُ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] . فَالِابْتِدَاءُ مَكْرٌ وَالْجَزَاءُ لَيْسَ بِمَكْرٍ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِابْتِدَاءُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: مَا زَنَيْتُ إِلَّا بِكَ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ زَانِيًا لَمْ أَكُنْ زَانِيَةً، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: دَخَلْتَ الدَّارَ فَيَقُولُ: مَا دَخَلْتُهَا إِلَّا مَعَكَ: يُرِيدُ أَنَّكَ لَمَّا لَمْ تَدْخُلِ الدَّارَ، لَمْ أَدْخُلْهَا، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابِ، وَلِأَجْلِهِمَا جَعَلْنَا الِابْتِدَاءَ صَرِيحًا، وَالْجَوَابَ كِنَايَةً، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ قَوْلُهُمَا فِي الْأَمْرَيْنِ مَقْبُولًا، وَإِنْ كَانَ أَخَفَّ أَحْوَالِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِ الزَّوْجِ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ مِنْ هَذَا الوجه أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يُصَدِّقَهَا فِي الْأَمْرَيْنِ، أَنَّهَا مَا أَرَادَتْ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَلَا قَذْفَهُ بِهِ، فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ قَذْفٍ وَلَا زِنًا، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا إِمَّا أَنْ يُلَاعِنَ [فَإِنْ لَاعَنَ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ] ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَلْتَعِنُ مِنْهَا وَقَدْ صَدَّقَهَا، قِيلَ: إِنَّمَا صَدَّقَهَا عَلَى أَنْ لَمْ تُقِرَّ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُصَدِّقْهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ فَلِذَلِكَ الْتَعَنَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهَا فِي الْأَمْرَيْنِ وَيَقُولَ: بَلْ أَرَدْتِ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَقَذْفِي بِهِ. فَلَهُ إِحْلَافُهَا عَلَى الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا الزِّنَا فَيَحْلِفُ أَنَّهَا مَا أَرَادَتِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا، وَلَا تحلف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 أَنَّهَا مَا زَنَتْ، وَتَكُونُ يَمِينَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لأن منكر الزنا لا تجب [عليه اليمين] . وَأَمَّا الْقَذْفُ فَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهَا مَا أَرَادَتْ قَذْفَهُ، وَلَا تَحْلِفُ أَنَّهَا قَذَفَتْهُ، وَهَلْ يَلْزَمُهَا فِي الْأَمْرَيْنِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ أَوْ يَمِينَانِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِيهَا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمِينَانِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا يُخَالِفُ حُكْمَ الْآخَرِ، فَإِنْ حَلَفَتْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الْقَذْفِ كَمَا لَوْ صَدَّقَهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَهَا، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ فِي الْأَمْرَيْنِ أُحْلِفَ الزَّوْجُ عليها أنها أرادت الإقرار بالزناه وَأَرَادَتْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا وَهَلْ يَحْلِفُ يَمِينًا أَوْ يَمِينَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ قَذْفِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ قَذْفِهِ وَلَمْ تُحَدَّ لِلزِّنَا لِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ فِي الزِّنَا بِيَمِينِ غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ يَمِينُ الزَّوْجِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الزَّوْجِ: أَنْ يُصَدِّقَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا، وَيُكَذِّبَهَا فِي أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا، فَيُحَلِّفُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ فَإِذَا حَلَفَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِقَذْفٍ وَلَا زِنًا وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ، وَإِنْ نَكَلَتْ حَلَفَ وَحُدَّتْ لَهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَيُصَدِّقَهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ بِالزِّنَا، فَلَهُ إِحْلَافُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا، فَإِذَا حَلَفَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ، وَإِنْ نَكَلَتْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَعِنَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَيَجِبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا إلا أن يلتعن. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: بَلْ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي كَانتْ قَالَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْقَذْفِ إِذَا لَمْ تُرِدْ بِهِ قَذْفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ اللِّعَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ يَا زَانِيَةُ، فَتَقُولُ لَهُ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، فَمَا ابْتَدَأَهَا بِهِ قَذْفٌ صَرِيحٌ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ، وَمَا أَجَابَتْهُ بِهِ كِنَايَةٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهَا كَالَّذِي تَقَدَّمَ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَعَارِيضَ الْقَذْفِ قَذْفٌ كَالصَّرِيحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ صَرِيحِ اللَّفْظِ وَكِنَايَتِهِ وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 وَالثَّانِي: أَنْ مَعَارِيضَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا تَكُونُ كَصَرِيحِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، فَكَذَلِكَ مَعَارِيضُ الْقَذْفِ بِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ قَذْفًا بِالزِّنَا لَكَانَ إِقْرَارًا بِالزِّنَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا: أَزْنَى مِنِّي يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَأَنْ يَكُونَ هَذَا أَبْلَغَ فِي الزِّنَا عَمَلًا، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، لِأَنَّ الزَّانِيَ فَاعِلٌ وَالزَّانِيَةَ مُمَكِّنَةٌ، وَمَالِكٌ لَا يَجْعَلُهَا مُقِرَّةً فَلَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا قَاذِفَةً. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهَا: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي كِنَايَةٌ إِذَا كَانَ جَوَابًا، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَا وَطِئَنِي غَيْرُكَ فَإِنْ كُنْتُ زَانِيَةً فَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي لِأَنَّكَ فَاعِلٌ وَأَنَا مُمَكِّنَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ: هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ، لِأَنَّ أَزْنَى صِفَة فَاسْتَوَى فِي الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ وَكِنَايَةً فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَوَابِ رَدًّا، وَفِي الِابْتِدَاءِ جَرْحًا، كَمَا يَكُونُ قَوْلُهَا: زَنَيْتُ بِكَ فِي الْجَوَابِ كِنَايَةً، وَفِي الِابْتِدَاءِ صريح، وكذلك هذا. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَة أَوْ أَزْنَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَة. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكُنْ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا فَجَعَلَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فُلَانَةٍ الْمُشَبّهِ بِهَا، وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْجَوَابِ. وَقَالُوا: يُسْأَلُ الزَّوْجُ وَيَنْوِي فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى من فلانة الزانية كان قافذاً لَهَا وَلِفُلَانَةَ وَعَلَيْهِ لَهُمَا حَدَّانِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ، وَلَيْسَتْ فُلَانَةُ زَانِيَةً، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ تَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمَا فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَفَى الزِّنَا عَنْ فُلَانَةَ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، لِأَنَّ لَفْظَ الْكِنَايَةِ الْمَنَوِيَّ فِيهِ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَهَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى شَرْحِهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي زَوْجَتِهِ، وَكِنَايَةً فِي قَذْفِ فُلَانَةَ، أَمَّا كَوْنُهُ قَذْفًا صَرِيحًا لِزَوْجَتِهِ فلانة قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِلَفْظِ الزِّنَا وَأَدْخَلَ أَلِفَ الْمُبَالَغَةِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِ الْقَذْفِ كَمَا دَخَلَتْ أَلِفُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَكْثَرِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّعْظِيمِ، فَكَانَتْ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ فِي هَذَا الْقَذْفِ شَرًّا لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 وقد قال الشاعر: (هو أزناهما بظنون أفا ... ليس مِمَّنْ يُقَادُ بِالتَّقْلِيدِ) فَرَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَذْفًا لِلْأُمِّ، وَلِهَذَا الشِّعْرِ حَدِيثٌ فِي هِجَاءِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ قُتِلَ بِهِ الشَّاعِرُ فَوَضَحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ يُحَدُّ فِيهِ وَلَا يَنْوِي، وَأَمَّا فُلَانَةُ الَّتِي جَعَلَ زَوْجَتَهُ أَزْنَى مِنْهَا، فَيُحْتَمَلُ مِنْ لَفْظِهِ فِيهَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إِمَّا الِاشْتِرَاكُ وَإِمَّا السَّلْبُ، فَالِاشْتِرَاكُ كَقَوْلِهِمْ: زِيدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو فَيَكُونُ شَرِيكًا بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَتَفْضِيلًا لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو فِيهِ، وَأَمَّا السَّلْبُ فَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يومئذ خيرا مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] . فَكَانَ ذَلِكَ سَلْبًا لِلْخَيْرِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِذَا احْتَمَلَ لَفْظُهُ فِي فُلَانَةَ الِاشْتِرَاكَ وَالسَّلْبَ صَارَ كِنَايَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ كَانَ قَذْفًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ السَّلْبَ وَالنَّفْيَ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ. (فَصْلٌ) أَمَّا ال ْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا، فَجَعَلَهُ كِنَايَةً فِي الْقَذْفِ [فَعَلَّلَ] أَصْحَابُنَا هَذَا الْجَوَابَ حِينَ تَابَعُوهُ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ النَّاسِ فِي الْمُبَالَغَةِ، وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَيْسُوا زُنَاةً، فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ يَقِينًا فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُبَالِغَةِ فِي الصِّفَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ فِيهِمْ مُشَارِكٌ فِيهَا مُخَالِفٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَةِ، وَلَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْمُخَالِفِ فِي نَفْيِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: زِيدٌ أَعْلَمُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، - وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِالْبَصْرَةِ عُلَمَاءَ وَغَيْرَ عُلَمَاءَ - كَانَ مَحْمُولًا عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِهِ فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُهَّالِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي النَّاسِ زُنَاةً وَغَيْرَ زُنَاةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مُبَالَغَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الزُّنَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْقَذْفِ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهَا أَزْنَى مِنْ كُلِّ زَانٍ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا لَوْ أَخْرَجْنَا هَذَا اللَّفْظَ مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ تَيَقُّنِ كَذِبِهِ لَخَرَجَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مِنْ كِنَايَةِ الْقَذْفِ، وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا وَإِنْ أَرَادَهُ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَأَمَّا مَا قُطِعَ فِيهِ بِالصِّدْقِ أَوْ قُطِعَ فِيهِ بِالْكَذِبِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِبِنْتِ شَهْرٍ: زَنَيْتِ، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِاسْتِحَالَتِهِ، وَلَوْ قَذَفَ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِاسْتِحَالَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ قَذْفًا وَإِنْ أَرَادَهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ وَكِنَايَتِهِ تَصْحِيحًا لِهَذَا التَّعْلِيلِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 قِيلَ: قَدْ خَالَفْتُمُ الْمُزَنِيَّ فِي هَذَا الْجَوَابِ لِأَنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُ كِنَايَةً فِي الْقَذْفِ فَبَطَلَ بِخِلَافِكُمْ لَهُ صِحَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ، عَلَى أَنَّنِي لَمْ أرد لِلْمُزَنِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَا فِي جَامِعِهِ مَا حَكَيْتُمُوهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا مَدْخُولٌ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِ كَانَ قَذْفًا وَهَذَا تَرْخِيمٌ كَمَا يُقَالُ لِمَالِكٍ يَا مَالِ وَلِحَارِثٍ يَا حَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا زَانِ كَانَ قَذْفًا، وَعَلَّلَ لَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ تَرْخِيمٌ حُذِفَ بِهِ الْيَاءُ وَالْهَاءُ، وَكَمَا يُقَالُ لِمَالِكٍ: يَا مَالِ، وَلِحَارِثٍ: يَا حَارِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ. وَحَكَى عَنْهُ حَرْمَلَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِي كَانَ قَذْفًا، بِحَذْفِ الْهَاءِ، وَحْدَهَا وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ. وَجُمْلَتُهُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِ، أَوْ يَا زَانِي، أو يا زانية، كانت هذا الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءً فِي الْقَذْفِ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَمَنْ يُعْتَدُّ بِمَذْهَبِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ: إِذَا قَالَ لَهَا: يَا زَانِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَرْخِيمًا، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ مَعًا، وَاحْتَجَّ لِإِبْطَالِ الْحُكْمِ بِالْقَذْفِ، بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعِ اللُّغَةِ أَنْ يَتَوَجَّهَ اللَّفْظُ الْمُذَكَّرُ إِلَى الْإِنَاثِ كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ اللَّفْظُ الْمُؤَنَّثُ إِلَى الذُّكُورِ لِيَتَمَيَّزَ بِاللَّفْظِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَرِّضِ المؤمنين على القتال} [الأنعام: 65] . فخرج منه المؤمنات، والشافعي جعل هاهنا لَفْظَ الْمُذَكَّرِ مَصْرُوفًا إِلَى الْأُنْثَى وَهَذَا فَاسِدٌ. وَاحْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي التَّرْخِيمِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مِثْلِ مَالِكٍ، وَحَارِثٍ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَلَا فِيمَا يُشْتَقُّ مِنْهَا، مِثْلِ: زَنَى، وَدَخَلَ، وَخَرَجَ، فَلَا يَقَعُ فِيهَا تَرْخِيمٌ، وَلَا يُقَالُ لِدَاخِلٍ: يَا دَاخِ، وَلَا لِخَارِجِ: يَا خَارِ، كَذَلِكَ فِي الزِّنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّرْخِيمَ إِسْقَاطُ حَرْفٍ وَاحِدٍ كَمَا حَذَفُوا فِي تَرْخِيمِ مَالِكٍ، وَحَارِثٍ، حَرْفًا وَاحِدًا، وَالشَّافِعِيُّ أَسْقَطَ فِي تَرْخِيمِ الزَّانِيَةِ حَرْفَيْنِ: الْيَاءُ، وَالْهَاءُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْهَاءَ إِذَا تَطَرَّفَتِ الْكَلِمَةُ لَمْ تُحْذَفْ إِلَّا أَنْ تُوصَلَ بِمَا بَعْدَهَا كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ. (أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 وَالشَّافِعِيُّ قَدْ حَذَفَهَا فِي تَرْخِيمِ زَانِيَةٍ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ ابْنِ دَاوُدَ فِي الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالتَّرْخِيمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ مِنْ أَوْضَحِ خَطَأٍ وَأَقْبَحِ ذَلَلٍ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَنْ يَكُونَ قَذْفًا إِذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِ مَعَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّرْخِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدها: أن القذف بالزنى هُوَ دُخُولُ الْمَعَرَّةِ بِالْفَاحِشَةِ، وَقَدْ أَدْخَلَ الْمَعَرَّةَ عليها بالزنى فِي قَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِ كَمَا أَدْخَلَهَا فِي قَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ كَمَا اسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَالْأَعْجَمِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَى الْقَذْفِ كَانَ قَذْفًا صَوَابًا كَانَ أَوْ خَطَأً، كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَلِامْرَأَةٍ زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ، كَانَ قَذْفًا وَإِنْ لَحَنَ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَذْفَ مَفْهُومٌ مِنْهُ، كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِ، وَإِنْ كَانَ لَحْنًا عِنْدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَاءَ التَّأْنِيثِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِيَزُولَ بِهَا الْإِشْكَالُ وَالْإِشَارَةُ بِالنِّدَاءِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِي إِرَادَةِ الْمُخَاطَبِ فَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهَا فِي النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: يَا زَانٍ أَغْنَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا عَنِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهَا فَلَمْ يُؤَثِّرْ حَذْفُهَا مَعَ وُجُودِ الْإِشَارَةِ وَإِنْ أَثَّرَ حَذْفُهَا مَعَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالتَّرْخِيمِ فَإِنَّ التَّرْخِيمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مَعًا، قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا، يَعْنِي شَاهِدًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي حَدِّ التَّرْخِيمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: يَدْخُلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي مَفْهُومَ الْمُرَادِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ كُلِّهَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ بَاقِيهَا مِثْلُ طَالُوتَ وَجَالُوتَ، وَلَا يُمْنَعُ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِذَا فُهِمَ بَاقِيهَا مِثْلُ مَالِكٍ مُشْتَقٍّ منْ مَلَكَ، وَحَارِثٍ مِنْ حَرَثَ وَصَاحِبٍ مِنْ صَحِبَ. فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ دَاوُدَ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لَهَا لَمَّا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنَ امْتِنَاعِهِ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّ بَاقِيَهَا غَيْرُ مَفْهُومٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحْذَفُ بِالتَّرْخِيمِ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحْذَفُ بِالتَّرْخِيمِ حَرْفَانِ وَأَكْثَرُ مَا بَعْدَ الْحَرْفِ الثَّالِثِ مِنَ الِاسْمِ مِعْتَلًّا. وَالْحُرُوفُ الْمُعْتَلَّةُ: الْأَلِفُ وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ، فَيَقُولُ فِي عُثْمَانَ يَا عُثْمَ، وَفِي مَنْصُورٍ: يَا مَنْصُ، وَفِي مَرْوَانَ: يَا مَرْوَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا، يَعْنِي شَاهِدًا، فَحَذَفَ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ، وَنَادَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: " يَا أَبَا هِرٍّ، فَحَذَفَ مِنْ كُنْيَتِهِ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ، أَمَّا قوله: إن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 الْهَاءَ إِذَا تَطَرَّفَتِ الْكَلِمَةُ لَمْ تُحْذَفْ فِي التَّرْخِيمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَا بَعْدَهَا، فَخَطَأٌ، لِأَنَّ مَا فُهِمَ الْمُرَادُ بِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي التَّرْخِيمِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ تَطَرَّفَتِ الهاء. قال الشاعر: (ففي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ضُبَاعَا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ) يَعْنِي ضُبَاعَةَ. وَقَوْلُهُ لَهَا يَا زَانِ، كَلِمَةٌ مَفْهُومَةُ الْمُرَادِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " ولو قالت يَا زَانِيَةُ أَكْمَلَتِ الْقَذْفَ وَزَادَتْهُ حَرْفًا أَوِ اثْنَيْنِ (وَقَالَ) بَعْضُ النَّاسِ إِذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِ لَاعَنَ أَوْ حُدَّ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول {وقال نسوة} وَقَالَ وَلَوْ قَالَتْ لَهُ يَا زَانِيَةُ لَمْ تحد (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وهذا جهل بلسان العرب إذا تقدم فعل الجماعة من النساء كان الفعل مذكراً مثل قال نسوة وخرج النسوة وإذا كانت واحدة فالفعل مؤنث مثل قالت وجلست ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا عَنَى الشَّافِعِيُّ بِبَعْضِ النَّاسِ أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ فِي الرَّجُلِ إِذَا قَالَ لَهَا: يَا زَانِ، أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا، وَخَالَفَ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا قَالَتْ: لَهُ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَ لَا يَكُونُ قَذْفًا، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ قَذْفًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ زوجتين أو أجنبيتين، ووافقه عليه أبو مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ الْعَرَبَ تُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ وَلَا تُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ اسْتِشْهَادًا بِآيَتَيْنِ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمَا إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] . وَلَمْ يَقُلْ وَقَالَتْ وَحَكَى أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] . وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَ الرَّجُلِ لَهَا يَا زَانِ قَذْفًا، لِأَنَّهُ تَذْكِيرُ مُؤَنَّثٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ الْمَرْأَةِ لَهُ يَا زانية قَذْفًا لِأَنَّهُ تَأْنِيثُ مُذَكَّرٍ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالُوا؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِدْخَالِ الْهَاءِ تُغَيِّرُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَصِيرُ كِنَايَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَعْهُودِ إِلَى غَيْرِ مَعْهُودٍ وَالْكِنَايَةُ لَا تَكُونُ قَذْفًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ زِنَا الرَّجُلِ بِزِنَا الْمَرْأَةِ، وَزِنَا الْمَرْأَةِ تَمْكِينٌ وَزِنَا الرَّجُلِ فِعْلٌ، فَإِذَا نُسِبَ الرَّجُلُ إِلَى التَّمْكِينِ وَسُلِبَ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ قَذْفًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَذْفٌ: هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى مَعْقُولَ الْمُرَادِ ثَبَتَ حُكْمُهُ صَوَابًا كَانَ أَوْ لَحْنًا كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَمَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهَا: يَا زَانِيَةُ، إِرَادَةُ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي مَقْذُوفٍ كَانَ صَرِيحًا فِي كُلِّ مَقْذُوفٍ كَاللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ فِي النِّسَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَسْقُطُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ اسْتَوَى الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فِي حُكْمِ تَذْكِيرِهِ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ تَأْنِيثِهِ كَالْعِتْقِ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ مَوْضُوعٌ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] . كقولهم: علامة ونساية، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ دُخُولِهَا لِلْمُبَالِغَةِ أَنْ تَسْلُبَ لَفْظَ الْقَذْفِ حُكْمَهُ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْهَاءِ الَّتِي لَا يَفْتَقِرُ اللَّفْظُ إِلَيْهَا إِنْ لَمْ تُوجِبْ زِيَادَةَ الْحُكْمِ لَمْ تَقْتَضِ نُقْصَانًا مِنْهُ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ لَغْوًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بأن المؤنث يذكر والمؤنث لَا يُؤَنَّثُ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِمَا فِيهِ مِنَ اشْتِبَاهِ اللَّفْظِ وَإِشْكَالِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّأْنِيثِ رُبَّمَا حُذِفَتْ مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَقَوْلِهِمْ " عَيْنٌ كَحِيلٌ "، وَ " كَفٌّ خَصِيبٌ "، وَأُدْخِلَتْ عَلَى الْمُذَكَّرِ كَقَوْلِهِمْ: " رَجُلٌ دَاهِيَةٌ وَرَاوِيَةٌ "، فَصَارَ حَذْفُهَا مِنَ الْمُؤَنَّثِ كَدُخُولِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ إِذَا زَالَ الْإِشْكَالُ عَنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ - فَأَمَّا قوله تعالى: {وقال نسوة فى المدينة} فَلِأَنَّ فِعْلَ الْمُؤَنَّثِ إِذَا تَقَدَّمَ ذُكِّرَ جَمْعُهُ وَأُنِّثَ وَاحِدُهُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْجَمْعِ: " وقال نسوة " وقال في الواحدة: {قالت امرأة الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] فَأَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْهُنَّ كَانَ مُؤَنَّثًا فِي الْجَمْعِ وَالِانْفِرَادِ تَقُولُ: النِّسَاءُ قُلْنَ وَالْمَرْأَةُ قَالَتْ. أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ بِأَنَّهُ الشَّمْسُ وَلَمْ يُشِرْ بِهِ إِلَى الشَّمْسِ بِأَنَّهَا الرَّبُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى شُعَاعِ الشَّمْسِ وَشُعَاعُهَا مُذَكَّرٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكَلِمَةِ تُغَيِّرُ معناها فَهُوَ: وَإِنْ غَيَّرَتْ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ السَّلْبِ إِثْبَاتًا لِلزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، وَقَوْلُهُمْ: تَصِيرُ كِنَايَةً لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَعْهُودِ فَتَعْلِيلٌ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَضَافَ إِلَى الرَّجُلِ زِنَا الْمَرْأَةِ فَسَلَبَهُ فِعْلَ الزِّنَا فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ زِنَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ لَا إِلَى فِعْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 صَاحِبِهِ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِلَفْظِ صَاحِبِهِ لَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ فِعْلِهِ وَإِنْ سلبه صفة لفظه. (مسألة) قال الشافعي: " وقائل هذا القول لو قال رجل زنات في الجبل حد له وإن كان معروفاً عند العرب أنه صعدت في الجبل (قال الشافعي) رحمه الله تعالى يحلف ما أراد إلا الرقي فِي الْجَبَلِ وَلَا حَدَّ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ إِذَا حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أَرَادَ الْقَذْفَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إِذَا قَالَ لَهَا زَنَأْتِ فِي الجبل كان قذفاً صريحاً يوجب حد. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ هُوَ التَّرَقِّي فِيهِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا إِنْ لَمْ يُرِدْهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنْ كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفْهَا كَانَ قَذْفًا، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَذْفٌ: بِأَنَّ لَفْظَ الزِّنَا يَقْصُرُ تَارَةً وَيُمَدُّ أُخْرَى، فَيُقَالُ: زَنَأْتِ. وَزَنَيْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ. (كَانَتْ فَرِيضَةً مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ) وَإِذَا اسْتَوَى فِي الْقَذْفِ زَنَأْتِ وَزَنَيْتِ لَمْ تَكُنْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْجَبَلِ مُخْرِجًا لَهُ مِنَ الْقَذْفِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ، كَانَ قَذْفًا فَلَمْ تُخْرِجْهُ الْإِضَافَةُ إِلَى الْجَبَلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، أَمَّا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَالْعَامِّيِّ، فَإِنَّ النَّحْوِيَّ لِوُقُوفِهِ عَلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ التَّرَقِّي فِيهِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: زَنَيْتِ فِي الْجَبَلِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِتْيَانُ الْفَاحِشَةِ فِيهِ، وَالْعَامِّيُّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ مِنَ الْعَامِّيِّ قَذْفًا لِجَهْلِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ النَّحْوِيِّ قَذْفًا لِعِلْمِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. كَمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، يُفَرَّقُ فِي حَقِّ النَّحْوِيِّ بَيْنَ كَسْرٍ إِن وَفَتْحِهَا، فَإِنْ فَتَحَهَا فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْتِ الدَّارَ كَانَ خَبَرًا، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّكِ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِنْ كَسَرَهَا فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ، كَانَتْ شَرْطًا، لَا تُطَلَّقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا إِذَا لَمْ تَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دون مجازه في الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ، كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ: زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ، هُوَ الصُّعُودُ إِلَيْهِ وَالتَّرَقِّي فِيهِ، يُقَالُ زَنَأَ يَزْنَأُ وَزَنْوًا إِذْ صَعَدَ فِيهِ، وَزَنَى يَزْنِي زِنًا، إِذ فَجَرَ، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَالْقَصْرُ أَكْثَرُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِيقَةِ اللِّسَانِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَشْهُوره، حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرَقِّصُ ابْنًا وَهِيَ تَقُولُ: (أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلْ ... وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ) (يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ ... وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأْ فِي الْجَبَل) قَوْلُهَا: " أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ " يَعْنِي أَبَاهَا الَّذِي هُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ. وَأَشْبِهْ جَمَلْ هُوَ نَجِيبٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَلَعَلَّهُ أَبُوهُ، وَمَعْنَاهُ أَشْبِهْ هَذَا أَوْ هَذَا، وَلَا تَكُونُنَّ كَهِلَّوْفٍ. الْهِلَّوْفُ: الرَّجُلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ. والوكل: الضعيف، معناه لَا تَكُونُنَّ رَجُلًا ثَقِيلَ الْجِسْمِ مُسْتَرْخِيًا. يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلَ، يَعْنِي وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجِدَالَةَ. وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَعْنَاهُ وَاصْعَدْ إِلَيْهَا. زَنَّأْ فِي الْجَبَلِ: أَيْ كَصُعُودِكَ فِيهِ وَمَعْنَاهُ إنَّكَ تَعْلُو بِصُعُودِكَ إِلَى الْخَيْرَاتِ كَمَا تَعْلُو بِصُعُودِكَ فِي الْجَبَلِ. وَهَذَا لِسَانُ مَنْ قَدْ فُطِرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّفْهَا فَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ حَقِيقَةً فِي مَعَانِيهَا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِزَنَأَ فِي الْجَبَلِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا أَنْ يُعَلِّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِمَجَازِهِ، وَلِأَنَّ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الصُّعُودِ وَحَقِيقَةً فِي الْفَاحِشَةِ لَكَانَ مَا قُرِنَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْجَبَلِ يَصْرِفُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْفُجُورِ الصُّعُودِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ تَصْرِفُ حَقَائِقَ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى حَقَائِقِ قَرَائِنِهَا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّ الْقَرِينَةَ بِقَوْلِهِ: مِنْ وِثَاقٍ قَدْ صَرَفَتْهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: زَنَأْتِ وَلَمْ يُقِلْ فِي الْجَبَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ قَذْفًا، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الثَّانِي قَذْفًا، فَصَارَ عَلَى وَجْهَيْنِ وَفِيمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ انْفِصَالٌ عَمَّا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا استوضح. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَوْ قَالَ وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 أَوْ أَمَةٌ وَقَدْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ أَمَةً وَقَالَ مُسْتَكْرَهَةً أَوْ زَني بِكِ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَمَعَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا بَيْنَ خَمْسِ مَسَائِلَ لِاتِّفَاقِ أَحْكَامِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَقْسَامِهَا، وَنَحْنُ نُفْرِدُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا لِتَوْضِيحِ أَقْسَامِهَا وَأَحْكَامِهَا: فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَيُسْأَلُ عَمَّا أَرَادَ مِنْ حَالِ صِغَرِهَا فَإِنَّهُ لَا يخلو من أحد حالين: أحدهما: أَنْ تَكُونَ طِفْلَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا كَابْنَةِ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ فَهَذَا يَسْتَحِيلُ صِدْقُهُ وَيَتَحَقَّقُ كَذِبُهُ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا لِأَنَّ الْقَذْفَ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَيُعَزَّرُ لِلْفُحْشِ وَالْخَنَا تَعْزِيرَ الْأَذَى لَا تَعْزِيرَ الْقَذْفِ، وَلَا يُلَاعِنُ مِنْ هذا التعزير لخروجه عن حكم القذف. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مُشْتَدَّةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا كَابْنَةِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَهَذَا قَذْفٌ لِاحْتِمَالِهِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا، وَإِنَّهَا لَوْ زَنَتْ لَمْ تُحَدَّ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَكِنْ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ لِكَوْنِهِ قَاذِفًا وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَعْزِيرِ الْأَذَى وَتَعْزِيرِ الْقَذْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْزِيرَ الْأَذَى مَوْقُوفٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِمَامِ دُونَهَا وَتَعْزِيرَ الْقَذْفِ مَوْقُوفٌ عَلَى مُطَالَبَتِهَا دُونَ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي تَعْزِيرِ الْقَذْفِ وَلَا يُلَاعِنُ فِي تَعْزِيرِ الْأَذَى. (فَصْلٌ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: زنيت وأنت نصرانية أو يهودية فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعلم أنها كانت نصرانية. والثاني: أن يعلم أنها لم تزل مسلمة. والثالث: أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا فِي حَالِ النَّصْرَانِيَّةِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ: أَرَدْتَ قَذْفِي بَعْدَ إِسْلَامِي فَعَلَيْكَ الْحَدُّ، وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتُ قَذْفَكِ قَبْلَ إِسْلَامِكِ فَلَا حَدَّ عَلَيَّ، فَالَّذِي قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَنَيْتِ يَقْتَضِي الْقَذْفَ فِي الْحَالِ، وَقَوْلَهُ: وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ عَنْ تَقَدُّمِ حَالِهَا، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَهَا، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ قَوْلَهُ: زَنَيْتِ، بِقَوْلِهِ وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ كَانَ أَظْهَرُ احْتِمَالَيْهِ إِضَافَةَ الزِّنَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا تَعَلَّقَ بِالَآخَرِ، وَلَوِ اسْتَوَى الِاحْتِمَالَانِ لَوَجَبَ أَنْ تُدْرَأَ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا، وَرَامِيًا لَهَا بِالْكُفْرِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهَا إِلَّا أَنْ يُلَاعِنَ وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ فِي رَمْيِهَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ لِأَجْلِ الْأَذَى. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَمْ لَا؟ فَإِنَّهَا تُسْأَلُ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ بِتَقَدُّمِ النَّصْرَانِيَّةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى إِذَا عُلِمَ نَصْرَانِيَّتُهَا وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَنْكَرَتْهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعَزَّرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الإسلام تجمع الفريقين، وجنب المؤمن حمى، والحدود تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي هَذَا التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ قَذْفٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً وَيُحَدُّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعْنَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا، فَجَرَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجْرِي حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى اللَّقِيطِ إِذَا جُهِلَتْ حَالُهُ. (فَصْلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، فلها أربعة أحوال: أحدها: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا أَمَةٌ فِي الْحَالِ فَيُعَزَّرُ لِقَذْفِهَا وَلَا يُحَدُّ لِنَقْصِهَا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ وَيُلَاعِنُ مِنْ هَذَا التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَعْزِيرُ قَذْفٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ وَأَمَةٌ مِنْ قَبْلُ فَيُعَزَّرُ تَعْزِيرَ قَذْفٍ وَلَا يُحَدُّ، فَإِنِ اخْتُلِفَ فِي الْقَذْفِ فَقَالَتْ: أَرَدْتَ بِهِ قَذْفِي بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ قَذْفَكِ قَبْلَهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَيُحَدُّ لَهَا وَعَلَى مَا أَرَاهُ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعَزَّرُ ولا يحد. والحال الثالثة: أن علم أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً، فَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُعَزَّرُ لِرَمْيِهَا بِالرِّقِّ، وَإِنْ عُزِّرَ لِرَمْيِهَا بِالْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ اعْتِقَادٌ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَصَارَ فِي الرَّمْيِ بِهِ مَعَرَّةٌ، وَالرِّقُّ لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فِي مُسْلِمٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّمْيِ بِهِ مَعَرَّةٌ فَافْتَرَقَا فِي التَّعْزِيرِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعَرَّةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَجْهَلَ حَالَهَا فِي تَقَدُّمِ الرِّقِّ مَعَ تَحَقُّقِ حُرِّيَّتِهَا فِي الْوَقْتِ فَفِيهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا قَوْلَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 5 - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً وَيُعَزَّرُ لَهَا تَعْزِيرَ الْقَذْفِ وَلَا يُحَدُّ، لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَجْمَعُ الْأَحْرَارَ وَالْمَمَالِيكَ. وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً، وَيُحَدُّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهَا، وَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. (فَصْلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، فَهَذَا لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهَا إِلَى مَا يُعِرُّهَا. فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا تَعْزِيرُهُ، وَفِي تَعْزِيرِهِ لِلْأَذَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعَزَّرُ لِانْتِفَاءِ مَعَرَّةِ الزِّنَا. وَالثَّانِي: يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، لِأَنَّ فِيهِ أَذًى بِمَا أَضَافَ إِلَيْهَا مِنَ اخْتِلَاطِ النَّسَبِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: وُطِئْتِ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَفِي تَعْزِيرِهِ لِلْأَذَى وَجْهَانِ. (فَصْلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا قَالَ لها زنا بِكِ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَهَذَا لَيْسَ بِقَاذِفٍ لِاسْتِحَالَتِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يَلْتَعِنُ فَهَذَا تَفْصِيلُ مَا جَمَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ، وَقَوْلُهُ فِيهَا وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ إِشَارَةٌ إِلَى أَذَى الْقَذْفِ دُونَ أَذَى الْفُحْشِ وَالْخَنَا، وَعَبَّرَ عَنْ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ بِتَعْزِيرِ الْأَذَى؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أَذًى، وَفِيمَا شَرَحْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ زَوَالُ مَا أُشْكِلَ مِنْ إِطْلَاقِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ قَالَ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ حُدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَوْمِ تَكَلَّمَ بِهِ وَيَوْمِ تَوَقُّعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِزِنًا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُلَاعِنُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الزِّنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُلَاعِنُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْقَذْفِ وَتَقَدَّمَ مِنَ الْحِجَاجِ عَلَيْهِ مَا أَغْنَى، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا لَاعَنَ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ نِكَاحِهِ؟ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْبَلُ مِنْهُ فَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ فَصَارَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى قَذْفِهَا وَلِعَانِهِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ نَسَبُ الزِّنَا، قِيلَ: قَدْ كَانَ يُمْكِنُ إِطْلَاقُ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَ مِنْ هذا القذف ليست حَامِلًا لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ نَسَبُ وَلَدٍ تَضَعُهُ بَعْدَ لِعَانِهِ، فَإِنْ وَلَدَتْ، بَعْدَ هَذَا الْقَذْفِ وَلَدًا نَظَرَ زَمَانَ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ نِكَاحِهِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لِعِلْمِنَا بِتَقَدُّمِ عُلُوقِهِ عَلَى نِكَاحِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا حِينَئِذٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِهِ بِذَاكَ الْقَذْفِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي نُسِبَ الزِّنَا فِيهِ إِلَى مَا قَبْلَ نِكَاحِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَذْفِ الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الْأَجَانِبِ بِمَنْعِهِ مِنَ الِالْتِعَانِ فِيهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ سَوَاءٌ وَضَعَتِ الْوَلَدَ أَوْ لَمْ تَضَعْ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُحَدِّدْ قَذْفًا مُطْلَقًا، حُدَّ لِلْقَذْفِ، الْأَوَّلِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَإِنْ جَدَّدَ قَذْفًا مُطْلَقًا، حُدَّ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَلَاعَنَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ بِاللِّعَانِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَ لَوْ لَمْ تَلِدْ لَأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِعَانِ مَعَ الْوِلَادَةِ وَلَا تَدْعُوهُ مِعِ عَدَمِهَا؛ وَلِأَنْ يَصْدُقَ فِي إِضَافَةِ الْقَذْفِ إِلَى مَا قَبْلَ نِكَاحِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا مُطْلَقًا يَتَجَوَّزُ فِي إِرْسَالِهِ فَعَلَى هَذَا إِذَا الْتَعَنَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْقَذْفِ الْأَوَّلِ أَجْزَاهُ وَانْتَفَى بِهِ الْوَلَدُ، وَسَقَطَ بِهِ الحد، ولو جد بَعْدَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ قَذْفًا ثَانِيًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى زَمَانِ نِكَاحِهِ فَهُوَ غَيْرُ الزِّنَا الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يُلَاعِنُ مِنَ الْقَذْفِ الثَّانِي وَيَنْفِي بِهِ الْوَلَدَ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ فَصَارَ كَوُجُوبِهِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا وَلَاعَنَهَا وَطَلَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ لَهَا وَلَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ حَتَّى حَدَّهُ الْإِمَامُ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ ثَمَّ طَلَبَتْهُ بِالْقَذْفِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَاعَنَ لِأَنَّ حُكْمَهُ قَاذِفًا غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَحُكْمَهُ قَاذِفًا زَوْجَتَهُ الْحَدُّ أَوِ اللِّعَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ قَسَّمَ الشَّافِعِيُّ أَحْوَالَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا لِيَكُونَ جَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا، وَمُقَدِّمَتُهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيَةً وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَذْفِ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حَدِّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ حُدَّ مِنَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْذِفَهَا ثَانِيَةً بِالزِّنَا الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي حَدٌّ؛ لِأَنَّهُمَا قَذْفٌ بِزِنًا وَاحِدٍ، وَقَدْ حُدَّ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ الْحَدُّ فِيهِ؛ لأن لا يَجْتَمِعَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا الْوَاحِدِ حَدَّانِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي فِعْلِ الزِّنَا الْوَاحِدِ حَدَّانِ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ فِي إِعَادَةِ الْقَذْفِ الثَّانِي لِأَجْلِ الْأَذَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهَا ثَانِيَةً بِزِنًا ثَانٍ غَيْرِ الزِّنَا الْأَوَّلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ ثَانٍ بَعْدِ الْحَدِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَائَيْنِ، فَإِذَا حُدَّ لِأَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يحد للآخر كما لو زنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 5 - فحد، ثم زنا ثَانِيَةً يُحَدُّ حَدًّا ثَانِيًا، فَهَذَا حُكْمُ الْقَذْفِ الثَّانِي إِذَا كَانَ بَعْدَ حَدِّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ أَيْضًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَذْفَيْنِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْقَذْفِ لِوَقْتِهِ فَقَالَ: زَنَيْتِ، زَنَيْتِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِزِنَاءٍ ثَانٍ غَيْرِ الزِّنَا الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي القذف الأول زنا بِكِ زَيْدٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي: زنا بِكِ عَمْرٌو فَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِمَا إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَيَدْخُلُ أَحَدُ الْقَذْفَيْنِ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ زَنَى فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى زَنَى حُدَّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخْرَّجٌ مِنْ دَلِيلِ كَلَامِهِ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ لَهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَوْ قِيلَ عَلَيْهِ حَدَّانِ كَانَ مَذْهَبًا فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَانِيًا في القديم ثم إن لهذين القذفين حدان، بِخِلَافِ الزِّنَائَيْنِ، لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَى مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ، فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ وَحَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يتداخل. (مسألة) فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ: فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيَةً بَعْدَ التَّزْوِيجِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ كَانَ الْقَذْفَانِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُدَّ لَهُ قَبْلَ الْقَذْفِ الثَّانِي، أَوْ لَمْ يُحَدَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حُدَّ لَهُ، وَقَدْ قَذَفَهَا ثَانِيَةً فِي التَّزْوِيجِ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ، فَالْقَذْفُ الثَّانِي عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَى الْأَوَّلِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ حُدَّ لَهُ فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِزِنَاءٍ قَبْلَ نِكَاحِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِزِنَاءٍ ثَانٍ بَعْدِ الزَّوْجِيَّةِ فَعَلَيْهِ حَدٌّ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ تَقَضَّى حُكْمُهُ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ، وَقَدْ قَذَفَ مُبْتَدِأً بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ فَانْفَرَدَ بِحُكْمِهِ فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي قَبْلَ حَدِّهِ مِنَ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا الأول، فليس عليه فيها إلا حداً واحداً، لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَنْ زِنًا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَلْتَعِنُ مِنْهُ مَعَ الْوَلَدِ كَمَا لَا يَلْتَعِنُ مِنْهُ مَعَ عَدَمِهِ، فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ لِلْقَذْفَيْنِ حَدًّا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ مَعَ عَدَمِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُسْقِطُ حَدَّ قَذْفٍ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ الثَّانِي بِزِنَاءٍ ثَانٍ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ، فَيَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا بِزِنَائَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ. وَالثَّانِي: فِي الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ اللِّعَانَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْقَذْفَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ، وَخَالَفَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَذْفَيِ الْأَجْنَبِيِّ، حَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِمَا إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ قَذْفَيِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُتَّفِقَا الْحُكْمِ فَتَدَاخَلَا، وَقَذْفَا الزَّوْجِيَّةِ مُخْتَلِفَا الْحُكْمِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا وَإِنْ تَجَانَسَا وَجَبَ إِذَا زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ فَلَمْ يحد حتى زنى بعد إحصائه أَنْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا وَإِنْ تَجَانَسَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْأَوَّلَ جَلْدٌ، وَالثَّانِيَ رَجْمٌ، فَيُجْلَدُ ويرجم، وهذا غلط لأن حد الزنى مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ أَخَفُّهُمَا فِي أَغْلَظِهِمَا عِنْدَ التَّجَانُسِ كَمَا يَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ، وَلَمْ يَجُزْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّيْنِ يُلَاعِنُ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا وَلَا يُلَاعِنُ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ [مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدُهَا: أَنْ تُقَدِّمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَيُحَدُّ لَهَا فِي وَقْتِهِ، فَإِذَا طالبته] بعده بالقذف الثاني نظر فإن قدمت المطالبة بالقذف الأول فإن لاعن منه الْتَعَنَ لِوَقْتِهِ وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ حُدَّ لِلثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَبْرَأَ جِلْدُهُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِئَلَّا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُقَدِّمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ الثَّانِي، فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ حُدَّ بَعْدَهُ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ إِذَا طَالَبَتْهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهُ، وَوَقَفَ حَدُّهُ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ وَلَا يَكُونُ لِعَانُهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي سُقُوطِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ كَالْبَيِّنَةِ فِي سُقُوطِ قَذْفٍ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ اللِّعَانِ مُسْتَقِرٌّ وَمَا بَعْدَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَطْلُبَهُمَا وَلَا تُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا، فَيُقَالُ لَهَا: الْحَقُّ فِي الْقَذْفِ الثَّانِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمَا لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ خَالِصٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تعيينه عند الاستيفاء، وحقك فيهما أقوى، ولا بد مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَالرُّجُوعِ فِيهِمَا إِلَى خِيَارِكِ لِقُوَّةِ حَقِّكِ فِيهِمَا عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ، فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَلَفَا أَوْ طَالَبَ الزَّوْجُ تَقْدِيمَ الثَّانِي لِيَلْتَعِنَ مِنْهُ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ تَقْدِيمَ الْأَوَّلِ لِيُحَدَّ فِيهِ فَيُعْمَلُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهَا طَالِبَةٌ، وَالزَّوْجَ مَطْلُوبٌ، فَلَوِ اسْتَوْفَى مِنْهُ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ وَلِي أَنْ أَلْتَعِنَ مِنَ الثَّانِي، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ هُوَ الْحَدُّ الثَّانِي وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَلْتَعِنَ مِنَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ اللِّعَانِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي إِسْقَاطِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِزِنَاءٍ آخَرَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ عَكْس ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْقَذْفَ الأول ها هنا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ الثَّانِي هُنَاكَ لِأَنَّهُمَا فِي الزوجية، والقذف الثاني ها هنا فِي حُكْمِ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ هُنَاكَ لِأَنَّهُمَا فِي أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ الْقَذْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا، فَتَعَلَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَذْفَيْنِ حُكْمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَقْسِيمٍ وَجَوَابٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَهُ وَالْتَعَنَ مِنْهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ بِزِنَاءٍ آخَرَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ لِعَانِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ، لِأَنَّ حَصَانَتَهَا مَعَهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِلِعَانِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حَصَانَتُهَا بَاقِيَةً مَعَ غَيْرِهِ، وَجَرَى لِعَانُهُ فِي حَقِّهِ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ عُزِّرَ لِلْأَذَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ ينسبه إلى ما قبل لعانه وقبل زوجتيه فَيُحَدُّ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ، وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَدُّ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ لِعَانِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْسِبَهُ إِلَى مَا بَعْدَ نِكَاحِهَا وَقَبْلَ لِعَانِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْتِعَانِهِ مِنْهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حَصَانَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إِذَا نَفَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّسَبِ رَفَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحَصَانَةِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَا التَّعْزِيرِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبًا لَمْ يَنْفِهِ بِلِعَانِهِ فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ إِلَى نَفْيِهِ أَنْ يَلْتَعِنَ ثَانِيَةً لِنَفْيِهِ فَيَتْبَعُهُ سُقُوطُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَلَمْ يَلْتَعِنَ حَتَّى قَذَفَهَا بِزِنَاءٍ آخَرَ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ فِيهِمَا حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَدَّانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ وَتَخْرِيجَهُمَا فَإِنْ لَاعَنَ مِنْهُمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 الْتَعَنَ لِعَانًا وَاحِدًا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدَّانِ مَعًا؛ لأنه اللِّعَانَ يَمِينٌ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدَّانِ إِذَا كَانَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ كَالْيَمِينِ عَلَى حَقَّيْنِ مِنْ مَالٍ. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ الْتَعَنَ مِنْهُمَا لِعَانَيْنِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي لِعَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ فَوَجَبَ لِشَخْصٍ فَاخْتُصَّ إِسْقَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ بِيَمِينٍ كَإِسْقَاطِ حَقَّيْ مَالٍ لِشَخْصَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِيَمِينَيْنِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ فِي الْقَذْفَيْنِ مِنَ الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ يَلْتَعِنُ فِيهِمَا لِعَانًا وَاحِدًا لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْقَذْفَيْنِ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ صِدْقَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يُؤْمَنْ إِذَا ذَكَرَ أَحَدَهُمَا فِي لِعَانِهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ كَاذِبًا فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى فِيهِمَا زَانِيًا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّنِي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا [قَذَفْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا الْأَوَّلِ وَمِنَ الزِّنَا الثَّانِي وَإِنْ سَمَّاهُمَا قَالَ: أَشْهَدُ بالله إني لمن الصادقين فيما] رميتها به مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَإِنْ سَمَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُسَمِّ الْآخَرَ، بَدَأَ بِذِكْرِ مَنْ سَمَّاهُ ثُمَّ بِالْآخَرِ، سَوَاءٌ إِنْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّنِي لِمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ، وَفِيمَا رَمَيْتُهَا به من الزنا الآخر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَهُ بل أنت زان لاعنها وجدت لَهُ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ فَأَبْطَلَ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَتْ حُجَّتُهُ أَنْ قَالَ أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدَّهَا وَمَا قَبُحَ فَأَقْبَحُ مِنْهُ تَعْطِيلُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَذَفَهَا وَقَذَفَتْهُ فَقَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ، وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهَا بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ لَهُ بِقَوْلِهَا: بَلْ أَنْتَ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهَا وَحُدَّتْ لَهُ، وَإِنِ الْتَعَنَ وَالْتَعَنَتْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهِ، وَسَقَطَ عَنْهَا حَدُّ الزِّنَا دُونَ حَدِّ الْقَذْفِ. فَإِنِ الْتَعَنَ وَلَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِلِعَانِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدَّانِ، حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ القذف ويقدم حد القدف عَلَى حَدِّ الزِّنَا لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا حَدَّهَا الْجَلْدَ لَا يُوَالِي عَلَيْهَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَأُمْهِلَتْ بَيْنَهُمَا لِيَبْرَأَ جِلْدُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَدَّهَا الرَّجْمَ رُجِمَتْ لِوَقْتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنِ الزَّوْجُ مِنْهَا، حد لها حد القذف، وحدت لها حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَمْ يَتَقَاصَّا الْحَدَّيْنِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَدْخُلُهُ الْقِصَاصُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاذِفِ بِأَنْ يَقْذِفَهُ مِثْلَ قَذْفِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَاصَّا الْقَذْفَ، لَمْ يَتَقَاصَّا حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَكِنْ لَوْ تَبَارَآ وَعَفَى كُلُّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ جَازَ فَسَقَطَ الْحَدَّانِ بِعَفْوِهِمَا لَا بِقِصَاصِهِمَا، فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي قَذْفِهِ لَهَا وَقَذْفِهَا لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا قَذَفَهَا فَقَذَفَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَا، وَحُدَّتْ لِقَذْفِهِ وَلَمْ يُحَدَّ لِقَذْفِهَا، اسْتِدْلَالًا بِاسْتِقْبَاحِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ، لِأَنَّ مَنْ حُدَّ لَمْ يَلْتَعِنْ، وَمَنِ الْتَعَنَ لَمْ يُحَدَّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ فَلَا يُوَالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمَحْدُودَ لَا يَلْتَعِنُ، وَهَذِهِ فِي لُزُومِ الْحَدِّ لَهَا كَالْمَحْدُودَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ الحدود. ودليلنا قوله عز وجل {والذي يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ لِقَذْفِهِ لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَتَقَاذُفِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِ الْقَذْفَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ أَحَدِهِمَا بِالَآخَرِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا كَتَقَاذُفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ قَاذِفًا وَمَقْذُوفًا فَصَارَتْ حَالُهُمَا سَوَاءً وَكَانَا بِتَغْلِيظِ الِالْتِعَانِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ حَقُّ الزَّوْجِ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النسب الذي لا ينفي بِغَيْرِهِ فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ اللِّعَانِ بِقَذْفِهَا له لما أمكن زوج أَنْ يَنْفِيَ نَسَبًا إِذَا قَذَفَ، وَلَتَوَصَّلَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ مِنَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ النَّسَبِ بِقَذْفِهِ وَأَلْحَقَتْ بِهِ كُلَّ وَلَدٍ مِنْ زِنًا، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِقْبَاحِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ فَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ أَقْبَحَ مِنْهُ تَعْطِيلُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمَا، ثُمَّ هَلَّا إِذَا اسْتَقْبَحَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَثَبَتَ حُكْمَ أَغْلَظِهِمَا وَهُوَ اللِّعَانُ، وَأَسْقَطَ حُكْمَ أَخَفِّهِمَا وَهُوَ الْحَدُّ فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوَابٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِبْقَاءِ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ فَلَا يُوالَى بَيْنَ حَدَّيْنِ فَالْجَوَابُ عنه من وجهين: أحدهما: وهو قوله في القديم يجب بقذفها حد واحد؛ لأن كلمة القذف واحدة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ حدود مُتَجَانِسَةً كَالْقَاذِفِ لِجَمَاعَةٍ، مُخْتَلِفَةٍ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا، وَأَمَّا بِنَاؤُهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فَهُمْ مُخَالِفُونَ عَنْهُ أَصْلًا وَفَرْعًا فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ دَلِيلٌ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ لَاعَنَ وَحُدَّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَأَصِلُ ذَلِكَ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّتَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يجب بقذفها حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: يَجِبُ بِقَذْفِهِمَا حَدَّانِ لِأَنَّهُمَا مَقْذُوفَانِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَحُكْمُ قَذْفِهِمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فله حالتان: أحدهما: أَنْ يَلْتَعِنَ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ، فإذا كان كذلك فله حالتان: أحدهما: أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ حَدُّ قَذْفِهَا وَيُحَدُّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ، لِأَنَّ اللِّعَانَ كَالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَجْنَبِيَّةُ تَبَعٌ لِزَوْجَتِهِ فِي الْقَذْفِ، فَهَلَّا سَقَطَ بِاللِّعَانِ حَقُّهَا فِي الْقَذْفِ كَمَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَسَقَطَ حَدُّهُمَا بِلِعَانِهِ وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لِكَوْنِهِ تَبَعًا. قِيلَ: لِأَنَّ قَذْفَهُ لِلرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ هُوَ زِنَاءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَثْبَتَهُ بِاللِّعَانِ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَذْفُ زَوْجَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَائَيْنِ فَلَمْ يُوجِبْ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا ثُبُوتَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَلْتَعِنَ مَنْ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يُحَدُّ لَهُمَا، فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ جَمَعَ فِي الْقَذْفِ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ وَالثَّانِي حَدَّانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُحَدُّ بِهِ لَهُمَا حَدَّيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُمَا مُتَسَاوِي الْأَحْكَامِ وَقَذْفَ زَوْجَتِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُخْتَلِفُ الْأَحْكَامِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَاعَنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَإِنْ تَشَاحَحْنَ أَيَّتُهُنَّ تَبْدَأُ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَ وَأَيَّتُهُنَ بَدَأَ الْإِمَامُ بِهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا يَأْثَمَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِلَّا واحداً واحداً (قال المزني) رحمه الله قال في الحدود ولو قذف جماعة كان لكل واحد حد فكذلك لو لم يلتعن كان لكل امرأة حد في قياس قوله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَذْفَ الْوَاحِدِ لِجَمَاعَةٍ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرِدَ قَذْفَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنْ أَفْرَدَ قَذْفَهُمْ وَقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَالَ: قَدْ زَنَيْتَ يَا زَيْدُ وَزَنَيْتَ يَا عَمْرُو، وَزَنَيْتَ يَا بَكْرُ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا. وَقَالَ مالك يحد لجميعهم حداً واحداً؛ لأن الزنما أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ فَلَمَّا تَدَاخَلَتْ حُدُودُ الزِّنَا فَأَوْلَى أَنْ تَتَدَاخَلَ حُدُودُ الْقَذْفِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالْقِصَاصِ وَالدُّيُونِ لما في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 تَدَاخُلِهَا مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَخَالَفَتْ حَدَّ الزِّنَا، وَقَطْعَ السَّرِقَةِ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إِذَا تَجَانَسَا، لِأَنَّ تَدَاخُلَهَا غَيْرُ مُسْقِطٍ لِحَقِّهِ مِنْ جَمِيعِهَا. وَأَمَّا إِنْ شَرَكَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ لِجَمَاعَتِهِمْ: زَنَيْتُمْ، أَوْ قَالَ لَهُمْ يَا زُنَاةُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُمْ حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ بِهَا قَدِ ارْتَفَعَتْ بِتَكْذِيبِهِ عَلَيْهَا بِالْحَدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُ جَمِيعِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا كَامِلًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْذُوفٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا لَمْ تَتَدَاخَلْ إِذَا انْفَرَدَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ إِذَا اجْتَمَعَتْ، كَالْقِصَاصِ وَالدُّيُونِ، وَإِذَا تَدَاخَلَتْ إِذَا اجتمعت تداخلت إذا انفردت كالزنى وَالسَّرِقَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَمَا كَانَ لَوْ أَقَامَ البينة عليهم بالزنا حداً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا وَجَبَ إِذْ عَدِمَهَا أَنْ يُحَدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي جِهَتِهِ فِي مُقَابَلَةِ حَدِّ الزِّنَا فِي جِهَتِهِمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَقَذَفَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَخْلُو فِي قَذْفِهِنَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ، فَفِيمَا يُحَدُّ لَهُنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ يُحَدُّ لِجَمَاعَتِهِنَّ حَدًّا وَاحِدًا إِذَا اجْتَمَعْنَ عَلَى الطَّلَبِ، فَإِذَا طَلَبَتْ وَاحِدَةٌ فَحُدَّ لَهَا وَالْبَاقِيَاتُ مُتَأَخِّرَاتٌ لِغَيْبَةٍ ثُمَّ حَضَرْنَ فَطَالَبْنَ لَمْ يُحَدَّ ثَانِيَةً لِئَلَّا يُضَاعَفَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِغَيْبَتِهِنَّ، وَيَكُونُ الْحَدُّ مُسْتَوْفِيَ حَقِّ مَنْ حَضَرَ وَغَابَ، وَلَوْ حَضَرْنَ فَعَفَوْنَ إِلَّا وَاحِدَةً حُدَّ لَهَا حَدًّا كَامِلًا وَلَمْ يَتَبَعَّضِ الْحَدُّ فِي حُقُوقِهِنَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَدًّا كَامِلًا إِذَا طَلَبَتْ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الطَّلَبِ وَتَنَازَعْنَ فِي التَّقْدِيمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ وَقُدِّمَ حَقُّ مَنْ قُرِعَ مِنْهُنَّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجِيبَ إِلَى مُلَاعَنَتِهِنَّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِلِعَانٍ مُفْرَدٍ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يُحَدُّ لَهُنَّ حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حُدُودًا وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ فِي لِعَانٍ وَاحِدٍ لأمرين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلِعَانِ كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمًا فَلَمْ يَشْتَرِكْنَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ وَالْأَيْمَانُ لَا تَتَدَاخَلُ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: اسْتَحْلَفَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي رَجُلًا فِي حَقٍّ لِرَجُلَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً فَاجْتَمَعَ فُقَهَاءُ زَمَانِنَا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ. قَالَ الدَّارَكِيُّ: فَسَأَلْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَا ادَّعَيَا ذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلَ أَنْ تَدَاعَيَا دَارًا وَرِثَاهَا عَنْ أَبِيهِمَا، أَوْ مَالًا شَرِكَةً بَيْنَهُمَا، حَلَّفَ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ جِهَتَيْنِ حَلَّفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ لم يحنث، والمقصود باليمين ما تم إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا حَقٌّ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مَا تَمَّ الْحِنْثُ إِنْ كَذَبَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إسحاق صحيح وحقوق الزوجات ها هنا مِنْ جِهَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِكْنَ فِي زِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْتَعِنَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ لِعَانًا مُفْرَدًا وَتَنَازَعْنَ فِي التقديم أقرع بينهن وقدم من قرعت من مِنْهُنَّ لِاسْتِوَائِهِنَّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ قَدَّمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ مِنْ رَأَى جَازَ، وَإِنْ تَرَكَ مِنَ الْقَرْعَةِ مَا هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُنَّ قَدْ وَصَلْنَ إِلَى حُقُوقِهِنَّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ لَاعَنَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَحُدَّ لِمَنْ بَقِيَ. فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً حُدَّ لَهَا حَدًّا كَامِلًا، وَإِنْ بَقِيَ اثْنَتَانِ حُدَّ لَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ حَدًّا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ حَدَّيْنِ، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي تَقْدِيمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ قُدِّمَ اللِّعَانُ عَلَى الْحَدِّ لِخِفَّتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مشترك. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي رَمَاهَا فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَالْوَلَدُ لَهَا وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ عَطَاءٍ قَالَ وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ إِنَّمَا يَنْفِي الْوَلَدَ إذا قال استبرأتها كأنه ذهب إلى نفي ولد العجلاني إذا قال لم أقر بها منذ كذا وكذا قيل فالعجلاني سمى الذي رأى بعينه يزنى وذكر أنه لم يصبها فيه أشهرا ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علامة تثبت صدق الزوج في الولد فلا يلاعن وينفي عنه الولد إذاً إلا باجتماع هذه الوجوه فإن قيل فما حجتك في أنه يلاعن وينفي الولد وإن لم يدع الاسبتراء؟ (قال الشافعي) رحمه الله: قلت قال الله تعالى {والذين يرمون المحصنات} الآية فكانت الآية على كل رام لمحصنة قال الرامي لها رأيتها تزني أو لم يقل رايتها تزني لأنه يلزمه اسم الرامي وقال {والذين يرمون أزواجهم} فكان الزوج راميا قال رأيت أو علمت بغير رؤية وقد يكون الاستبراء وتلد منه فلا معنى له ما كان الفراش قائماً ". (فصل) إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ جَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَذَفَهَا فِي طُهْرٍ قَدْ وَطِئَهَا فِيهِ لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلَمْ يَلْتَعِنْ لِنَفْيِ النَّسَبِ، وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ حُدَّ وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَيُجْعَلُ الْوَطْءُ تَكْذِيبًا لِنَفْسِهِ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ وَرَدَتْ فِي الْعَجْلَانِيِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: " رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، وَمَا قَرَبْتُهَا مُنْذُ عِفَارِ النَّخْلِ "، وَفِي عِفَارِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَلْقِيحُهَا. وَالثَّانِي: تَرْكُ سقيها، لأنهم يتركون سقيها إذا ذهت، وذلك الحد شهرين فَقَصَدَ الْعَجْلَانِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَرَكَ إِصَابَتَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُ إِصَابَتِهَا شَرْطًا فِي جَوَازِ لِعَانِهَا، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ عِنْدَهُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ إِذَا شَارَكَ الزَّانِيَ فِي وَطْئِهَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ فِي لِعَانِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ، وَقَالَ: وَلِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ الَّذِي يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ أَثْبَتُ نَسَبًا مِنْ وَلَدِ الْأَمَةِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ الْأَمَةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْفِيَ وَلَدَ الْحُرَّةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} فَكَانَ عُمُومُهُ فِيمَنْ أَصَابَ زَوْجَتَهُ أَوْ لَمْ يُصِبْهَا فَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِي، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ دُونَ الْعَجْلَانِيِّ، وَهِلَالٌ لَمْ يَقُلْ: إِنِّي لَمْ أُصِبْهَا فَكَانَ السَّبَبُ عَامًّا. وَالثَّانِي: لَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا ليكون الِاسْتِبْرَاءِ يَخُصُّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ إِصَابَتِهَا مِنْ عِفَارِ النَّخْلِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ شَرْطًا، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْعَجْلَانِيِّ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي شَرْطًا، وَقَوْلُهُ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا شَرْطًا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا فَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا شَرْطًا "، وَمِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْفِرَادَ الْعُمُومِ وَالسَّبَبِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ دُونَ السَّبَبِ فَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ حُكْمُ الْعُمُومِ عَلَى السَّبَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبَبَ بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْعُمُومُ لِدُخُولِهِ فِيهِ، وَخُصَّ بِمَا نَافَاهُ لِخُرُوجِهِ مِنْهُ، كَمَا خُصَّ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] . يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ " وَلِمُنَافَاةِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يُخَصَّ بِقَطْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الْمِجَنِّ " لِمُوَافَقَتِهِ الْعُمُومَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا أَنَّهُ قَذْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ فَجَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 لِنَفْيِ الْوَلَدِ كَالَّذِي لَمْ يَطَأْ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ بِاللِّعَانِ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ بِالِاسْتِدْلَالِ لِإِمْكَانِ الْإِصَابَةِ، فَجَازَ أَنْ يُنْفَى بِالِاسْتِدْلَالِ لِإِمْكَانِ الزِّنَا، وَخَالَفَ وَلَدُ الْأَمَةِ حِينَ لَمْ يَلْحَقْ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ فَلَمْ يَنْتَفِ إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْإِصَابَةِ، فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مِنَ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَطَأْ وَلَا يَعْلَمُ إِذَا وَطِئَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ وَهِيَ حَائِلٌ، وَقَدْ يَطَأُ وَهِيَ حَامِلٌ، فَكَانَ الْعِلْمُ فِي الْحَالَيْنِ مُمْتَنِعًا، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْأَمَارَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّحِمِ مَاؤُهُ وَمَاءُ الزِّنَا مِنْ أَيْنَ تُرَجِّحُ لَهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا. قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ مَعَ اخْتِلَاطِ الْمَائَيْنِ. وَهُوَ خَاصُّ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَالصَّحِيحُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِتَرَجُّحِهِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الذَّكِيَّ الْفَطِنَ مِنَ الرِّجَالِ يُحِسُّ بِالْعُلُوقِ عِنْدَ الْإِنْزَالِ إِنْ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ مِنْ نَفْيِهِ أَنَّهُ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ بِهِ وَمِنْهُ أَنْ يَرَى مَنْ بِهِ الْوَلَدُ بِالزَّانِي مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ التَّرْجِيحُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَ الزِّنَا، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فِي نَفْيِ وَلَدِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُنْفَى مِنْهَا إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطًا، وَوَلَدُ الْحُرَّةِ يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي نفيه شرطاً. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ زَنَتْ بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا فَيَلْتَعِنَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ على صدقه (قال المزني) رحمه الله كَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ وَالْوَقْتُ الَّذِي رَمَاهَا فِيهِ كَانَتْ فِي الْحُكْمِ غَيْرَ زَانِيَةٍ؟ وأصل قوله إنما ينظر في حال من تكلم بالرمي وهو في ذلك في حكم من لم يزن قط)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي قَاذِفِ الزِّنَا وَجَبَ الحد عليه فلم يحد حتى زنا الْمَقْذُوفُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الْقَاذِفِ بِمَا حَدَثَ مِنْ زِنَا الْمَقْذُوفِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ لَا بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ لَمْ يُحَدَّ، وَلَوْ قَذَفَ مُسَلِمًا فَارْتَدَّ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ اعْتِبَارًا بِحَالِ الوجوب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 وَالثَّانِي: أَنَّ شَوَاهِدَ الْأُصُولِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، كَالزَّانِي إِذَا زَنَى بِكْرًا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ لَمْ يُرْجَمْ. وَكَالسَّارِقِ لِمَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا إذا انقصت قِيمَتُهُ قَبْلَ الْقَطْعِ لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْقَذْفِ بِمَثَابَتِهَا فِي اعْتِبَارِهِ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ. وَدَلِيلُنَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمُحْصَنِ إِثْبَاتًا لِعِفَّتِهِ، وَالزَّانِي لَا يَثْبُتُ لَهُ عِفَّةٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي قَذْفِهِ حَدٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِإِسْقَاطِ الْمَعَرَّةِ عَنِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَعَرَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا زَنَى فَلَمْ يَجِبْ فِي قَذْفِهِ حَدٌّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ مَنْ لَا يُبَالِي بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَتِرَ بِإِخْفَائِهَا وَأَنَّ ظُهُورَهَا مِنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَثْرَتِهَا وَتَكْرَارِهَا، حُمِلَ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ الله عنه - رجل زنا، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ قَبْلَ هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَفْضَحُ عَبْدَهُ بِأَوَّلِ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ زِنَاهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِهِ مِنْهُ فَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ. وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْعُمْدَةُ: أَنَّ الْعِفَّةَ تَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالظَّاهِرِ دُونَ الْيَقِينِ كَالْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ، فَإِذَا ظَهَرَ مَا كَانَ يُخْفِيهِ مِنَ الزِّنَا قُدِحَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْعِفَّةِ فَسَقَطَ ثُبُوتُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ كَالشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا حَتَّى ظَهَرَ فسقه سقط الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ عَدَالَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَهَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَا تُسْقِطُ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْعِفَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْعَدَالَةِ لَازِمٌ، وَالْبَحْثَ عَنِ الْعِفَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ الْعِفَّةُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي لَا تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ فَافْتَرَقَا، قِيلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا يُقْدَحُ فِيهِمَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ. أَمَّا أَوَّلُ الْوَجْهَيْنِ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِالرِّدَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مَوْضُوعٌ لِحِرَاسَةِ الْعِفَّةِ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ الرِّدَّةِ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ بِحُدُوثِ الزِّنَا وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِحُدُوثِ الرِّدَّةِ وَالْعَدَالَةُ مَحْرُوسَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الرِّدَّةُ وَغَيْرُهَا وَإِنْ خَالَفَتْ فِي الْعِفَّةِ غَيْرَهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْعِفَّةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِفَّةِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ فِي وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنِ الْعِفَّةِ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ لِأَنَّ جَنْبَهُ حِمَى فَلَا يُسْتَبَاحُ عِرْضُهُ بِالِاحْتِمَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنِ الْعِفَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنِ الْعَدَالَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْعَدَالَةِ إِنَّمَا يَجِبُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فَجَازَ الِاسْتِظْهَارُ لَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعِفَّةِ، لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْهَا فِي حَقِّ الْقَاذِفِ وَالْقَاذِفُ عَاصٍ بِقَذْفِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لِمَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " فَكَانَ بِأَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ الْمَقْذُوفُ بِتَرْكِ الْبَحْثِ أَوْلَى مِنْ يَسْتَظْهِرَ لَهُ، ثُمَّ افْتِرَاقُ الْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْبَحْثِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْعِلْمِ بِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَقَدُّمِ الرِّقِّ، وَالْبَكَارَةِ، وَقِيمَةِ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، مَعْلُومٌ قَطْعًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِفَّةُ، لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ اسْتِدْلَالًا فَأَثَّرَ فِيهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا كَالْعَدَالَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زِنَا الْمَقْذُوفَةِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْ قَاذِفِهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أوطئت وَطْئًا حَرَامًا " فَجَمَعَ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْقَاذِفِ بَيْنَ زِنَاهَا وَبَيْنَ وَطْئِهَا حَرَامًا، وَهَذَا الْجَمْعُ عَلَى تَفْصِيلٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ. وَالْوَطْءُ الْحَرَامُ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ الْعِفَّةَ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ بِعَقْدِ نِكَاحٍ، أَوْ يَطَأَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ الَّتِي دَفَعَهَا صَدَاقًا فَيَجِبُ فِي ذَلِكَ الْحَدُّ إِذَا عَلِمَ. وَتَسْقُطُ بِهِ عِفَّتُهُ، وَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَسْقُطُ بِهِ عِفَّتُهُ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: وَهُوَ أَنْ يَطَأَ ذَاتَ مَحْرَمٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَمَنْ مَلَكَ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ، أَوْ أُخْتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، فَوَطِئَهَا بِمِلْكِهِ فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ. وَالثَّانِي: لَا يُحَدُّ، وَعِفَّتُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَاقِطَةٌ وَيَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَكِنْ يَسْقُطُ بِالْعِفَّةِ وَهُوَ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ، أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 أَمَةً بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا، أَوْ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ فِي الدُّبُرِ، فَلَا حَدَّ فِي ذَلِكَ، وَالْعِفَّةُ بِهِ سَاقِطَةٌ، يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَفِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ وَجْهَانِ: وَهُوَ الْوَطْءُ، فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، أَوْ شِغَارٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ بِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِفَّةَ بَاقِيَةٌ لِسُقُوطِ الْحَدِّ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِفَّةَ سَاقِطَةٌ بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ التَّحَرُّجِ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ الْعِفَّةَ وَهُوَ وَطْءُ الْأَمَةِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ، أَوِ الْإِحْرَامِ، أَوِ الصِّيَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَكِنْ لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَا تَسْقُطُ بِهِ الْعِفَّةُ، وَالْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مَحِلًّا مُبَاحًا طَرَأَ التَّحْرِيمُ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْقَاذِفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الزِّنَا وَالْوَطْءِ الْحَرَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اللِّعَانِ، فَأَمَّا إِذَا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُنْفَى عَنْهُ مَعَ سُقُوطِ الْحَدِّ إِلَّا بِاللِّعَانِ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ أَنْ يَرْفَعَ بِاللِّعَانِ الفراش ليثبت به التحريم المؤيد، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ لَاعَنَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا فَلَا حَدَّ لَهَا كَمَا لَوْ حُدَّ لَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُحَدَّ ثَانِيَةً وَيُنْهَى فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ لِعَانَهُ مِنْهَا قَدْ أَسْقَطَ عِفَّتَهَا فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الزَّوْجِ كَمَا هِيَ مَعَ الْأَجَانِبِ، وَلَا يُؤَثِّرُ اللِّعَانُ فِي الْعِفَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللِّعَانُ فِي تَصْدِيقِ الزَّوْجِ دُونَ الْأَجَانِبِ كَالْبَيِّنَةِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ الْعِفَّةُ، فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْعِفَّةُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِعَانَهُ لَمَّا سَقَطَتْ بِهِ الْعِفَّةُ إِنْ نَفَى وَلَدًا أَسْقَطَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ، لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ بِلِعَانِهِ وَلَدًا سَقَطَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ فِي الْحَالَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا نَفَى بِلِعَانِهِ وَلَدًا سَقَطَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ كَسُقُوطِهَا مَعَ الزَّوْجِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِاخْتِصَاصِ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ دُونَ الْأَجَانِبِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَعَادَ الزَّوْجُ فَقَذَفَهَا بَعْدَ لِعَانِهِ لَمْ يَخْلُ قَذْفُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا الَّذِي لَاعَنَهَا عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَإِنْ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي لَاعَنَهَا عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ، لِأَنَّ لِعَانَهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بتصديقه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، وَإِنْ قَذَفَهَا بِغَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِذَا حُكِمَ بِتَصْدِيقٍ فِي قَذْفٍ اقْتَضَى أَنْ يُحْكَمَ بِهِ فِي كُلِّ قَذْفٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ عِفَّتَهَا قَدْ سَقَطَتْ فِي حَقِّهِ بِلِعَانِهِ لِأَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ لَهُ، وَمَعَ سُقُوطِ الْعِفَّةِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا من أن تكون قد لاعنت أن نَكَلَتْ، فَإِنْ لَاعَنَتْ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنْ سَقَطَتْ مَعَ الزَّوْجِ، فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِبَقَائِهَا عَلَى الْعِفَّةِ مَعَهُ. وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ اللِّعَانِ وَحُدَّتْ لِلزِّنَا فَفِي سُقُوطِ عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهَا عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَأَنَّ مَنْ قَذَفَهَا فِيهِمْ حُدَّ لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْحَدَّ قَدْ أَسْقَطَ عِفَّتَهَا مَعَ الأجانب كما لو حدث بِالْبَيِّنَةِ، لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْحَدِّ وَالْعِفَّةِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ زَوْجًا لكن يعزر للأذى. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَذَفَهَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَطَلَبَا الْحَدَّ فَإِنِ الْتَعَنَ فَلَا حَدَّ لَهُ إِذَا بَطَلَ الْحَدُّ لِهَا بَطَلَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لَهُمَا أَوْ لِأَيِّهِمَا طَلَبَ لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فحكمه حكم الحد الواحد إذا كان لعان واحد أو حد واحد وقد رمى العجلاني امرأته برجل سماه وهو ابن السحماء رجل مسلم فلاعن بينهما ولم يحده له ولو قذفها غير الزوج حد لأنها لو كانت حين لزمها الحكم بالفرقة ونفي الولد زانية حدت ولزمها اسم الزنا ولكن حكم الله تعالى ثم حكم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيهما هكذا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا ذَكَرَ فِي قَذْفِ زَوْجَتِهِ اسْمَ الزَّانِي بِهَا وَصَارَ قَاذِفًا لَهُ وَلَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُلَاعِنَ، أَوْ يَمْتَنِعَ، فَإِنِ امْتَنَعَ وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِمَا، فَإِنْ قيل يقوله فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ إِذَا قَذَفَ اثْنَيْنِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ كَانَ هَذَا الْقَذْفُ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ بِهِ حَدٌّ وَاحِدٌ. وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ: إِنَّ عَلَيْهِ فِي قَذْفِ الِاثْنَيْنِ حَدَّيْنِ فَقَدْ عَلَّلَهُ أَصْحَابُنَا بِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ بِقَذْفِهِ الْمَعَرَّةَ عَلَى اثْنَيْنِ، فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ بِالْمُسَمَّى حَدَّيْنِ لِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ بِهِ عَلَى اثنين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنَاءٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَذْفِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ زِنًا وَاحِدٌ. (فَصْلٌ) وَإِنْ لَاعَنَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ الْمُسَمَّى فِي لِعَانِهِ أَوْ لَا يَذْكُرَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي لِعَانِهِ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ لَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَدُّ لِلْمُسَمَّى، وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ فِيهِ لِاخْتِصَاصِ اللِّعَانِ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَجَانِبِ، فَصَارَ كَمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً وَلَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِلِعَانِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ سَمَّى شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ فَلَمْ يَحُدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ بَعْدَ لِعَانِهِ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِهِ، وَلِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ أَوْجَبَ تَصْدِيقَهُ فِي حَدِّ الْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُ زِنًا وَاحِدٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُصَدَّقًا وَمُكَذَّبًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي لِعَانِهِ وَطَالَبَ بِحَدِّهِ، فَإِنْ أَعَادَ اللِّعَانَ فَذَكَرَهُ فِيهِ فَلَا حَدَّ فَيَكُونُ هَذَا اللِّعَانُ لِاسْتِدْرَاكِ مَا أَخَلَّ بِهِ فِي اللِّعَانِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ قولان: أحدهما: لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ حَدُّ مَنْ لَمْ يُسَمِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا حَدَّ لِأَنَّهُ زِنًى وَاحِدٌ وَقَدْ حُكِمَ بِتَصْدِيقِهِ فِيهِ بِلِعَانِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَسَقَطَ الْحَدُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا حُبِسَ حَتَّى يَعْدِلُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا فَأَنْكَرَ. فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ، أَوْ كَانَتْ دَعْوَى الْقَذْفِ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ، نُظِرَتْ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ عُلِمَتْ عَدَالَتُهُمَا حُكِمَ بِهِمَا، وَإِنَ عُلِمَ جَرْحُهُمَا أُسْقِطَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ جُهِلَ حَالُهُمَا حُبِسَ الْقَاذِفُ حَتَّى يُسْتَكْشَفَ عَنْهُمَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ لِلْكَشْفِ عَنْ جَرْحِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ إِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ، فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِالْقَذْفِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ لَمْ يُحْبَسِ الْقَاذِفُ وَإِنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَهَلْ يُحْبَسُ عَلَى حُضُورِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ، لِأَنَّهُ كَمَا حُبِسَ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الْعَدَالَةِ جَازَ أَنْ يُحْبَسَ مَعَ كَمَالِ الْعَدَالَةِ وَنُقْصَانِ الْعَدَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِكَمَالِ الْعَدَدِ مَوْجُودَةٌ وَبِنُقْصَانِهِ مَفْقُودَةٌ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكْفُلُ رَجُلٌ فِي حَدٍّ وَلَا لِعَانٍ ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 يُحْبَسُ بِوَاحِدٍ. (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ كَفَالَةَ الْوَجْهِ فِي غَيْرِ الْحَدِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: في حقوق الله عز وجل. والثاني: فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي حُدُودٍ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْإِدْرَاءِ وَالتَّسْهِيلِ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَمْوَالٍ فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى أَمَانَتِهِ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ أَوْ زَكَاةٍ تُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ مَا بِيَدِهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَضَرْبَانِ: أَمْوَالٌ، وَحُدُودٌ. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِيهَا جَائِزَةٌ وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ: غَيْرَ أَنَّ كَفَالَةَ الْأَبْدَانِ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَضْعِيفِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى إِبْطَالِهَا وَخَرَّجَ كَفَالَةَ النَّفْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ضَعْفِهَا فِي الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ ضَمَانٌ عُيِّنَ بِعَقْدٍ لَكِنْ جَازَ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ وَكَمَا خَالَفَ ضَمَانَ الدَّرْكِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْحُدُودُ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِيهَا ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الْكَفَالَةُ بِذِي الذِّمَّةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْكَفَالَةَ فِي الْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهَا كَالْأَمْوَالِ فِي جَوَازِ الْكَفَالَةِ فِيهَا بِالنَّفْسِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشَّرْحِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يُبَاشِرُ فِيهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ فِيهَا لِمَنْ هِيَ لَهُ وَلَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، فَاسْتَوَى فِيهَا مَا يَجُوزُ ضمانه وما لا يجوز. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ زَنَى فَرْجُكِ أَوْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ فَهُوَ قَذْفٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي جامعه، فجعل قوله لها زنا فَرْجُكِ أَوْ يَدُكِ، أَوْ رِجْلُكِ، قَذْفًا وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَّا فِي الْقَدِيمِ فقال: ولو قال: زنا فَرْجُكِ فَهُوَ قَاذِفٌ، وَإِنْ قَالَ: يَدُكِ أَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 رِجْلُكِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ - يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ: فِي الْبَدَنِ وَهُوَ قَاذِفٌ وَفِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَكُونُ قَاذِفًا، وَلَا فِي الْعَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا الْفَرْجَ واحداً وَلَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْقَذْفِ، فَلَمْ يختلف أصحابنا أنه إذا قال: زنا فَرْجُكِ، أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَإِذَا قَالَ: زَنَتْ عَيْنُكِ، لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ هَلْ يَكُونُ قَاذِفًا بِإِضَافَةِ الزِّنَا إِلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا قَالَ: زَنَتْ يَدُكِ، أَوْ رِجْلُكِ أَوْ رَأْسُكِ، أَوْ يَدُكِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَدِيمِ، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا اللَّمْسُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ، وَلِأَنَّ بِالْفَرْجِ يَكُونُ الزِّنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَاذِفًا كَالْفَرْجِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ كَمَا يَسْتَوِي جَمِيعُهُ فِي الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سريج إنه إذا قال: زنا بَدَنُكِ كَانَ قَاذِفًا، وَلَوْ قَالَ زَنَتْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ رَأْسُكِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، لِأَنَّ الْبَدَنَ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا الْفَرَجُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْفَرْجِ قَاذِفًا وَبِالْبَدَنِ الَّذِي مِنْهُ الْفَرَجُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ فَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَلَا تَخْتَصُّ بِالزِّنَا فَلَا يَكُونُ بِهَا قَاذِفًا كَالْعَيْنِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ فَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَبْقَى الحياة بانفصالها وبين ما تبقى الحياة بفصالها فجعله قاذفاً بقوله: زنا رَأْسُكِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَاذِفًا بِقَوْلِهِ: زَنَتْ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ، وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ مَا يَحْفَظُ الْحَيَاةَ وَمَا لَا يَحْفَظُهَا، أَنَّ كُلَّ مَا لَوْ نَسَبَهُ مِنْهَا إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالزِّنَا لَمْ يَكُنْ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِهِ قَاذِفًا بِالزِّنَا، كَالْعَيْنِ طَرْدًا وَالْفَرْجِ عَكْسًا لِاسْتِوَاءِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالْقَذْفِ به في الصريح والكناية. (مسألة) قال الشافعي: " وَكُلُّ مَا قَالَهُ وَكَانَ يُشْبِهُ الْقَذْفَ إِذَا احْتَمَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَقَدْ أَتَى رَجُلٌ مِنْ فَزَارَةَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فلم يجعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قذفا وقال اللَّهُ تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ به من خطبة النساء} فكان خلافاً للتصريح ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كِنَايَاتُ الْقَذْفِ وَمَعَارِيضُهُ لَا تَكُونُ قَذْفًا إِلَّا بِالْإِرَادَةِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى جَمِيعًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: أَكْثَرُ الْمَعَارِيضِ قَذْفٌ فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَى كَقَوْلِهِ: أَنَا مَا زَنَيْتُ، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَالِكًا فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِ ابْنَ الزَّانِيَةِ، قَالَ: هُوَ قَاذِفٌ، قَالَ: فَإِنْ قَالَ: يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ، قَالَ هُوَ قَاذِفٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا قَالَ: يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ وَإِذَا قَالَ: يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَأْتِيهِ [الْبَاطِلُ] بِلَفْظِ الْحَقِّ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بقوله تعالى: {وإنا وإياكم لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] . فَكَانَ صَرِيحَ الْآيَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَلَى هُدًى وَالَآخَرَ عَلَى ضَلَالٍ، وَدَلِيلُهَا فِي مَوْضِعِ الْخِطَابِ وَالتَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأُمَّتَهُ عَلَى هُدًى، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَعَارِيضِ كُلِّهَا. وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ احْتِمَالَ التَّعْرِيضِ يَصْرِفُهُ الْغَضَبُ إِلَى الصَّرِيحِ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ أَظْهَرُ مِنَ الِاعْتِقَادِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ فَزَارَةَ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَكَ إِبِلٌ، قَالَ نَعَمْ: قَالَ مَا أَلْوَانُهَا، قَالَ: حُمْرٌ كُلُّهَا، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَّى تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ، قَالَ: كَذَلِكَ هَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ)) . فَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ صَرِيحًا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْغَضَبِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ غَضَبٌ، قِيلَ حَالُهُ يَشْهَدُ بِغَضَبِهِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهُمَا أَبْيَضَانِ أَنْ تَلِدَ غُلَامًا أَسْوَدَ يُخَالِفُهُمَا فِي الشَّبَهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال: يا رسول الله إني امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ طَلِّقْهَا، فقال: إن أُحِبُّهَا، قَالَ: أَمْسِكْهَا وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَاذِفًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " يَدَ لَامِسٍ "، أُرِيدَ بِهِ مُلْتَمِسٍ، أَيْ طَالِبٍ لِمَا لَهُ لِتَبْذِيرِهَا لَهُ فِي كُلِّ سَائِلٍ وَطَالِبٍ، وَلَمْ يُرِدِ الْتِمَاسَ الْفَاحِشَةِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا، قِيلَ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لأمرين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْقَوْلَ لَقَالَ: لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ، وَلَمْ يَقُلْ: يَدَ لَامِسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ هَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَاقِهَا، وَلَأُمِرَ بِحَبْسِ مَالِهِ عَنْهَا. وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أن تَرَوْنَ كَيْفَ عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّهُمْ يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يَجْعَلْ تَعْرِيضَهُمْ بِهِ صَرِيحًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ التَّعْرِيضَ بِالْخُطْبَةِ وَقَدْ حَرَّمَ صَرِيحَهَا، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أن كل ما كان كناية في الرضى كَانَ كِنَايَةً فِي الْغَضَبِ كَالْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالزِّنَا وَجَبَ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ قَذْفًا بِالزِّنَا قياساً على حال الرضى، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِنَفْسِهِ: أَنَا مَا زَنَيْتُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا، كَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنَا مَا زَنَيْتُ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ، فَهِيَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحُ أَدَلُّ، لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: نَحْنُ عَلَى هُدًى، وَأَنْتُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، [إِلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ] فِي الْقَوْلِ تَأْلِيفًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي معناه، فقال: {إنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} فَلَوْ كَانَ التَّعْرِيضُ كَالتَّصْرِيحِ لَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ إِلَى مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ وَأَبْيَنُ. أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ خُولِفَ فِيهِ فَقَدْ رَوَتْ عَمْرَةُ أَنَّ شَابًّا خَاصَمَ غَيْرَهُ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا زَنَى أَبِي، وَلَا أُمِّي، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ، فقالوا: مدح أباه وأمه، فحده عمر - رضي الله عنه - فَثَبَتَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لِمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَنْفِي احْتِمَالَ الْمَعَارِيضِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ فِي حَالَةِ الرِّضَا والبر لا يزوال عَنْ حُكْمَهِ، وَكَذَلِكَ التَّعْرِيضُ فِي حَالِ الْغَضَبِ والعقوق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونُ اللِّعَانُ إِلَّا عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ عُدُولٍ يَبْعَثُهُمُ السُّلْطَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ اللِّعَانِ وَثُبُوتِ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَشْهَدِهِ، وَلَا يَصِحُّ لِعَانُ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَبَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنِيبُهُ عَنْهُ شَرْطًا فِيهِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ عِنْدِنَا، وَشَهَادَةٌ عِنْدَ غَيْرِنَا، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الْحُقُوقِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِهِ حُدُودٌ لَا يَسْتَوْفِيهَا وَيُقِيمُهَا إِلَّا الْحَاكِمُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ فِيمَنْ صَحَّ لِعَانُهُ خِلَافٌ وَلَا يَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْحُكْمِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ فِي نَفْيِ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مُسَمًّى فِي قَذْفٍ، فَلَمْ يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْحَاكِمُ لِيَنُوبَ عَمَّنْ غَابَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا إِمَّا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ وَلَيْسَ الْحَاكِمُ شَرْطًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قِيلَ: قَدْ يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ وَنَفْيِ النَّسَبِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِطَلَاقٍ وَلَا فَسْخٍ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْفُسُوخِ مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَكَانَ اللِّعَانُ أَوْلَى. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوِ الْحَاكِمَ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ أَحَدُهُمَا شَرَطَا فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ فتفرد الزوجان بِهِ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ عَلَى خَلْوَةٍ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ لَا فِي وُقُوعِ فُرْقَةٍ وَلَا فِي سُقُوطِ حَدٍّ، وَفِي نَفْيِ نَسَبٍ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا لَوْ حَضَرَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَسَبَقَا بِاللِّعَانِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمَا لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَسْتَأْنِفَاهُ [عَنْ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عِنْدِنَا، وَشَهَادَةٌ عِنْدَ غَيْرِنَا، وَلَا يَجُوزُ الْيَمِينُ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ، وَالشَّهَادَةُ] قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا رَضِيَاهُ لِيُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ التَّحْكِيمُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ما عدا الحدود واللعان جائز، فَقَدِ اتَّفَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى تَحْكِيمِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّ وَفْدًا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيهم رجل يكنى أبا الحكم، فقال: لما كُنِّيتَ أَبَا الْحَكَمِ، فَقَالَ: لِأَنَّ قَوْمِي يُحَكِّمُونِي بَيْنَهُمْ فَأَحْكُمُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ بَعْدُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 وَإِذَا صَحَّ التَّحْكِيمُ فَالْخَصْمَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ مُخَيَّرَانِ فِي الْمُقَامِ عَلَى التَّحْكِيمِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنْهُ، فَإِذَا حَكَمَ فَفِي لُزُومِ حُكْمِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ عَلَيْهِمَا وَلَازِمٌ لَهُمَا، وَغَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى رِضَاهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ لازم لهما إلا بعد الرضى بِالْتِزَامِهِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ لَكَانَ وَسِيطًا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمًا. فَأَمَّا التَّحْكِيمُ فِي اللِّعَانِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي لُزُومِ حُكْمِهِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ لَازِمٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بالرضى لأن حكم اللعان لا يقع بالرضى وَلَا يَقِفُ عَلَى التَّرَاضِي وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ. وَالْإِبْرَاءُ كَالْحُدُودِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَقُولُ: يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاكِمِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ اعْتِبَارًا بِالضَّرُورَةِ فِيهِ، فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، فَصَارَ كَالْحَاكِمِ مَعَ غَيْرِهِمَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 (باب في الشهادة في اللعان) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا جَاءَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَى امْرَأَتِهِ مَعًا بِالزِّنَا لَاعَنَ الزَّوْجُ فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ حُدَّ لِأَنَّ حُكْمَ الزَّوْجِ غَيْرُ حُكْمِ الشُّهُودِ لأن الشهود لا يلتعنون ويكونون عند أكثر العلماء قذفه يحدون إذا لم يتموا أربعة وإذا زعم بأنها قد وترثه في نفسه بأعظم من أن تأخذ كثير ماله أو تشتم عرضه أو تناله بشديد من الضرب بما يبقى عليه من العار في نفسه بزناها تحته وعلى ولده فلا عداوة تصير إليهما فيما بينها وبينه تكاد تبلغ هذا ونحن لا نجيز شهادة عدو على عدوه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ مَعَ ثَلَاثَةٍ عُدُولٍ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ مَعَهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُقْبَلُ استدلالا بقوله عز وجل {واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاسشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَجَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَدٍّ غَيْرِ الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَدِّ الزِّنَى كَالْأَجْنَبِيِّ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] فَلَمْ يَجْعَلْ لِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا حُكْمًا وَلَا جَعَلَ قَوْلَهُ عَلَيْهَا مَقْبُولًا. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ وَأَحَدُهُمْ زَوْجُهَا فَقَالَ: يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ، وَهَذَا قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَشِرٍ فَهُوَ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ؛ وَلِأَنَّهُ مَنِ انْتَصَبَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهَا، أَصْلُهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى خِيَانَتِهَا لَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا، أَصْلُهُ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا بِإِتْلَافِ وَدِيعَةٍ لَهُ فِي يَدِهَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَصْدِيقُ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ لِعَانُهُ، أَصْلُهُ نَفْيُ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 صَارَ عَدُوًّا بِمَا وَتَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَخَانَتْهُ فِي حَقِّهِ، وَأَدْخَلَتِ الْعَارَ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعَدَاوَةِ مِنْ مُؤْلِمِ الضَّرْبِ وَفَاحِشِ السَّبِّ وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ " أَيْ ذِي جور. وأما الجواب عن قوله: {فاسشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ خطاب للأزواج؛ لأنه تعالى قال: {واللائي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ غَيْرَهُمْ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهَا لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا وَلَا يَسْتَدْفِعُ بِهِ ضَرَرًا وَهُوَ فِي الزِّنَا مَتْهُومٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهِ ضَرَرًا وَيَسْتَفِيدُ بِهِ نَفْعًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ التُّهْمَةِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَوُجُودِهَا فِي الزَّوْجِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، فَالشُّهُودُ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ لَا تَكْتَمِلُ بِهِمُ الْبَيِّنَةُ فِي الزِّنَا لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ فَهَلْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْقَذْفِ، لَوْ كَانُوا قَذَفَةً لَمَا جَازَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ مَعَ كَمَالِ عَدَدِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ كَمَالِ الشَّهَادَةِ قَذَفَةً، لِإِدْخَالِهِمُ الْمَعَرَّةَ بِالزِّنَا كَالْقَذْفِ الصَّرِيحِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا شَهِدَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَتَوَقَّفَ زِيَادٌ عَنِ الْإِفْصَاحِ بِالشَّهَادَةِ أَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِ الثَّلَاثَةِ وَجَعَلَهُمْ قَذَفَةً فَعَلَى هَذَا لَوْ كَمُلَ عَدَدُهُمْ أَرْبَعَةً وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِرِقٍّ أَوْ فِسْقٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِينَ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَرُدَّ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فِي أَنَّ وُجُوبَ حَدِّهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا كَمُلَ عددهم ونقصت صفتهم لم يجدوا قَوْلًا وَاحَدًا وَفَرَّقَ بَيْنَ نُقْصَانِ الصِّفَةِ وَنُقْصَانِ الْعَدَدِ بِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ رَاجِعٌ إِلَى الشُّهُودِ وَنُقْصَانَ الصِّفَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: يُوجَبُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ فَعَلَى الزَّوْجِ أَيْضًا الْحَدُّ، لِأَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كأحدهم، لكن الزوج أَنْ يُلَاعِنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْقَذْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهِ قَاذِفًا وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الشُّهُودِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ قَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الزَّوْجِ إِذَا لَاعَنَ وَامْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ اللِّعَانِ فَحُدَّتْ هَلْ تَسْقُطُ حَصَانَتُهَا مَعَ الْأَجَانِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ؛ أَنَّ حَصَانَتَهَا لَا تَسْقُطُ مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنْ حُدَّتْ؛ لِأَنَّهُ عَنْ لِعَانٍ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِيَّةِ دُونَ الْأَجَانِبِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ قَبْلَ لِعَانِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ حَصَانَتَهَا قَدْ سَقَطَتْ مَعَ الْأَجَانِبِ كَسُقُوطِهَا مَعَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ حُدَّتْ بِاللِّعَانِ كَمَا تُحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ الشُّهُودُ إِلَّا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللِّعَانِ فَيُحَدُّ فَتَسْقُطُ حَصَانَتُهَا مَعَهُمْ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الشُّهُودَ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّوْجِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الشُّهُودِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَالشُّهُودِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا بِلَفْظِ الْقَذْفِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ قَذْفٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحَدُّ بِخِلَافِ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ لَفْظَ شَهَادَةٍ وَصَارَ قَاذِفًا مَحْضًا فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ بِالْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا يَسْتَأْنِفَ قَذْفًا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا وَانْتَفَى مِنْ حَمْلِهَا فَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهَا زَنَتْ لَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى تَلِدَ فَيَلْتَعِنُ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْوَلَدِ فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ ثَمَّ تُحِدُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ عَلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ بِالزِّنَاءِ تَعَلَّقَ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمَانِ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 أَحَدُهُمَا: ارْتِفَاعُ حَصَانَتِهَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الزَّوْجِ وَمَعَ غَيْرِهِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِحَالٍ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا، إِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَجَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَرَجْمٌ، وَلَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِالْبَيِّنَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الفراش إلا أن يلتعن، فإن أردا الزَّوْجُ أَنْ يَلْتَعِنَ لَمْ يَخْلُ حَالُ لِعَانِهِ مَعَ سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: لِنَفْيِ الْحَمْلِ. وَالثَّالِثُ: لِرَفْعِ الْفِرَاشِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، فَيَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِهِ، فَكَانَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ دَاعِيَةً، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ قَذَفَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ، جَازَ أَنْ يُلَاعِنَهَا بِذَاكَ الْقَذْفِ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّهُ بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَهَلْ يَسْتَغْنِي بِالشَّهَادَةِ عَنِ التَّلَفُّظِ بِقَذْفِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الْقَذْفِ لِثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا يَقُولُ فِي لِعَانِهِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِي زِنَاهَا، وَلَا يَقُولُ: فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَغْنِي بِالشَّهَادَةِ عَنِ الْقَذْفِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يرمون أزواجهم} فَجَعَلَ رَمْيَهُ شَرْطًا فِي لِعَانِهِ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْنِفُ الْقَذْفَ، وَيَأْتِي بِاللِّعَانِ عَلَى صِفَتِهِ. فَصْلٌ: أما القسم الثاني: وهو أن تلتعن لنفي الحمل قبل وضعه، ففي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يَلْتَعِنُ منه قبل وضعه؛ لأن لعانه مقصوراً عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَفٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا فَيَنْفُشُ وَإِنَّمَا يُلَاعِنُ لِنَفْيِهِ إِذَا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ لِيُسْقِطَ بِلِعَانِهِ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ نَفْيُ الحمل تبعاً وليس على الزوج ها هنا حَدٌّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَعِنَ فِيمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِهِ بِالْوِلَادَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْتُوتَةِ الْحَامِلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا معتبراً وظاهراً مغلباً. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ لَا غَيْرَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِرَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَلَمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 يَكُنْ بِهِ إِلَى اللِّعَانِ ضَرُورَةٌ، وَاللِّعَانُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِالضَّرُورَاتِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ لِيَسْتَفِيدَ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِهَا فَيَنْحَسِمُ عَنْهُ الطَّمَعُ فِي مراجعتها وليكون أدخل فِي وُجُوبِ الْمَعَرَّةِ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ تَلْتَعِنِ الزَّوْجَةُ بَعْدَهُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِالشَّهَادَةِ فَإِذَا أُرِيدَ حَدُّهَا وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ لِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالزِّنَا وَكَانَتْ حَامِلًا قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: طَهِّرْنِي قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِي وَلَدَكِ حَوْلَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُ حَوْلَيْنِ. ثُمَّ عَادَتْ وَمَعَهَا وَلَدُهَا فِي يَدِهِ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ، وَقَالَتْ: طَهِّرْنِي، فَرَجَمَهَا حِينَئِذٍ. قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ أَمَرَ بِرَجْمِ حَامِلٍ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا مَكَّنْتَ من سقيه لباها الَّذِي لَا تُحْفَظُ حَيَاةُ الْمَوْلُودِ إِلَّا بِهِ، ثُمَّ رُوعِيَ حَالُ مَنْ تُرْضِعُهُ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَانٍ لَا يُوجَدُ بِهِ مُرْضِعٌ غَيْرُهَا أُخِّرَ حَدُّهَا إِنْ كَانَ رَجْمًا حَتَّى تُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا قُدِّمَ جَلْدُهَا إِذَا انْقَطَعَ عَنْهَا ضَعْفُ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ وُجِدَ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ قُدِّمَ رَجْمُهَا قَبْلَ رَضَاعِهِ، وَهَلْ تُرْجَمُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمُرْضِعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي غير موضع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا لَمْ يُلَاعِنْ وَلَمْ يُحَدَّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ". قَالَ الماوردي: أما الشهادة على الإقرار بالزناء فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِيَكُونَ الْفَرْعُ مُعْتَبَرًا بِأَصْلِهِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزِّنَى مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ فِي الْإِقْرَارِ بِهَا إِلَّا مَا يُقْبَلُ فِي أَصْلِهَا. كَالْقَتْلِ يُقْبَلُ فِيهِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ شَاهِدَانِ، وَكَالدَّيْنِ يُقْبَلُ فِيهِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا شَاهِدَيْنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَكَانَ مَأْخُوذًا بِهِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تَكْتَمِلْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قال في الجديد: يقبل الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا شَاهِدَانِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي فِعْلِ الزِّنَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ بِالزِّنَا لَا يَتَحَتَّمُ حَدُّهُ، لِأَنَّ لَهُ إسقاط بالرجوع في إقراره، والمشهود عليه بفعل الزناء مَحْتُومُ الْحَدِّ لَا سَبِيلَ إِلَى إِسْقَاطِهِ عَنْهُ فَتَغَلَّظَتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَدِّ وَتَحَقَّقَتْ فِي الْإِقْرَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهَا وَفِي الْإِقْرَارِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالْقَتْلِ مَأْخُوذٌ بِالْقَوْلِ كَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، فَاسْتَوَتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْقَتْلِ وَفِي الْإِقْرَارِ بِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ، وَمَنْ قَالَ: أَقْرَرْتُ بِالْقَتْلِ: أُقْيِدَ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ بَعْدَ قَذْفِهَا شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ولم يجب عليها الحد لأن بإنكارها رجوع فِي الْإِقْرَارِ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهَا فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَذْفِهَا وَتَكْذِيبًا لِإِنْكَارِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْنَعُ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ حَقًّا؛ لِأَنَّ حَدَّهُ قَدْ سَقَطَ بِإِقْرَارِهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْقَذْفَ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ابْنَاهُ بِقَذْفِهَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِهَا سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مِنْهَا لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأُمِّهِمَا، وَإِذَا قَذَفَهَا وَشَهِدَ ابْنَاهَا عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى أُمِّهِمَا، وَإِنْ كَانَا مِنْهُ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأَبِيهِمَا، وَإِذَا قَذَفَهَا وَشَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى مِنْ بَنِيهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَا الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَهُ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْأُمِّ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ، إِذَا رُدَّ بَعْضُهَا هَلْ يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا؟ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُحَدُّ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ فِي الْبَعْضِ يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِأَبِيهِمْ عَلَى أُمِّهِمْ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلْأَبِ. وَالثَّانِي: تُحَدُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ رَدَّ بَعْضِهَا لَا يُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِهَا إِذَا رُدَّتْ فِي حَقِّ الْأَبِ وَأَمْضِيَتْ عَلَى الْأُمِّ، وَلَوْ شَهِدَ ابْنَاهَا عَلَى أَنَّ أَبَاهُمَا قَذَفَ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى غَيْرَ أُمِّهِمَا فَفِي قَبُولِ شهادتهما قولان ذكرهما في القديم ونقلها الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا وَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِمَا لِغَيْرِ أُمِّهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُلَاعِنُ مِنْهَا إِذَا ثَبَتَ قَذْفُهُ فَتَنْتَفِعُ الْأُمُّ بِعَدَمِ الضَّرَّةِ وَخُلُوعِهَا بِالزَّوْجَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِأُمِّهِمَا فِيهَا إِلَّا أَنْ تُسَرَّ بِفِرَاقِ ضَرَّتِهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، لِأَنَّهُ لِلْأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَكَانَهَا وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ ابْنَاهُمَا عَلَى الزَّوْجِ بِطَلَاقِ غَيْرِ أُمِّهِمَا كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي القديم: أحدهما: لا يقبل. والثاني: يقبل وتوجيهما ما قدمناه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَذَفَهَا وَقَالَ كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا يَوْمَ قَذَفَهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةُ الْحَدِّ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيُعَزَّرُ إِلَّا أن يلتعن ". قال الماوردي: جملته أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْقَذْفِ، فَقَالَ قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ، وَقَالَتْ بَلْ كُنْتُ حُرَّةً أَوْ مُسْلِمَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ، ويجعل أَمْرَهَا فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ أَوْ مُسْلِمَةٌ وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْهَلَ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ وَفِي الْحَالِ فَلَا يَعْلَمُ لَهَا حُرِّيَّةً ولا رق، ولا إسلام ولا شرك. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا فِي الْحَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ فَيُحَدُّ. لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ رِقٍّ أَوْ شِرْكٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْحَالِ حُرَّةٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ، وَيَجْهَلُ أَمْرَهَا مِنْ قَبْلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حُرَّةً مُسْلِمَةً مِنْ قَبْلُ، وَيُحَدُّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُشْرِكَةً مِنْ قَبْلُ فَيُعَزَّرُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ مِنْ حُرِّيَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَجْهَلَ أَمْرَهَا فِي الْحَالِ وَمِنْ قَبْلُ، فَلَا يعرف لها حرية ولا رق ولا إسلام ولا شرك، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَذْفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ دُونَ المقذوف الذي نَصَّ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجُوا الْقَذْفَ وَالْقَتْلَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاتِلِ وَالْقَاذِفِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَجْمَعُهُمْ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَوَلِيِّ الْمَقْتُولِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا وَحُرِّيَّتُهُمْ فَأُجْرِيَ حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِيهَا، كَمَا يَجْرِي عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا حَدُّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ حَمَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَجَعَلُوا فِي الْقَذْفِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 الْقَوْلَ قَوْلَ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَجَعَلُوا فِي الْقَتْلِ الْقَوْلَ قَوْلَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ وفرقوا بينهما بفرقين: أحدهما: أن القود في القتل موضوع لمعنى الْمُمَاثَلَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى التَّعْزِيرِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا انْتُقِلَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ انْتُقِلَ مِنْ مَشْكُوكٍ فِيهِ إِلَى مَشْكُوكٍ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِنَقْلِهِ تَأْثِيرٌ، وَالْقَذْفُ إِذَا انْتُقِلَ عَنِ الْحَدِّ فِيهِ إِلَى التَّعْزِيرِ انْتُقِلَ مِنْ مَشْكُوكٍ فِيهِ إِلَى يَقِينٍ، فَكَانَ لِانْتِقَالِهِ تَأْثِيرٌ، وَكِلَا الْفَرْقَيْنِ مَعْلُولٌ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً وَادَّعَى أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَهَا فِيمَا ادَّعَاهُ مَنْ رِدَّتِهَا وَقْتَ قَذْفِهِ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ لَهَا رِدَّةً تَقَدَّمَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا. أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُسْلِمَةً وَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا اسْتِدَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى تُخَالِفُهُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى رِدَّتِهَا فَيُحْكَمُ بِهَا وَلَا يُحَدُّ وَفِي كَيْفِيَّةِ الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَشَهَدَ بِرِدَّتِهَا ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَلَا يَكْتَفِيَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّدَّةِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَلَا تُقْبَلُ يَمِينُهُ إِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ تَقَدُّمَ رَدَّتِهَا وَيَخْتَلِفَانِ، فَيَقُولُ الْقَاذِفُ: قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ مُرْتَدَّةٌ وَتَقُولُ الْمَقْذُوفَةُ: قَذَفْتَنِي وَأَنَا مُسْلِمَةٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ مع يمينه؛ لأن الحدود قدراً بِالشُّبُهَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفَةِ مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِحْصَانُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّدَّةِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا فَسَأَلَ الْأَجَلَ لَمْ أُؤَجِّلْهُ إِلَّا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَإِلَّا حُدَّ أَوْ لَاعَنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ لأنا لَوْ لَمْ نُؤَجِّلْهُ لِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ لِوَقْتِهِ، لَأَنَّ الشُّهُودَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ حُضُورٍ، ولو عُوجِلَ بِالْحَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ لَصَارَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 مظلوماً، ولو مُدَّ لَهُ فِي الْإِمْهَالِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ الِانْتِظَارُ لَصَارَ الْمَقْذُوفُ فِي تَأْخِيرِ حَدٍّ وَجَبَ لَهُ مَظْلُومًا وَكَانَ لِكُلِّ قَاذِفٍ أَنْ يُسْقِطَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ الْبَيِّنَةِ؛ فَلَمَّا امْتَنَعَ الطَّرَفَانِ لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ ظُلْمٌ فِي أَحَدِهِمَا، وَجَبَ ال فصل بينهما يتوسط الطَّرَفَيْنِ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ فَكَانَ الْإِنْظَارُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ عَدْلًا بَيْنَهُمَا فِي وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى حَقِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] ، وَلِخَبَرِ " الْمُصَرَّاةِ " وَخَبَرِ حَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ فِي بَيْعِ خِيَارٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُنْظِرَ الْقَاذِفُ بِالْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَإِلَّا حُدَّ أَوْ لَاعَنَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ أُؤَجِّلْهُ إِلَّا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَأْجِيلِهِ فِي الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ فِي وَجْهِ التَّقْرِيبِ فِي الْحَدِّ، فَإِنْ سَأَلَتِ الْمَقْذُوفَةُ حَبْسَهُ فِي الثَّلَاثِ حُبِسَ، فَإِنْ قَالَ: لَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ إِنْ حُبِسْتُ، أُخْرِجَ مِنَ الحبس ملازماً ليحفظ بالملازمة، ويمكنه إحضار البينة بالإفراج. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا كَبِيرَةً وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَذَفَهَا صَغِيرَةً فَهَذَانِ قَذْفَانِ مُفْتَرِقَانِ وَلَوِ اجْتَمَعَ شُهُودُهُمَا عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مُتَصَادِمَةٌ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا اخْتَلَفَ فِي الْقَذْفِ فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ قَذَفَهَا كَبِيرَةً، وَأَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهَا كَانَتْ وَقْتَ قَذْفِهِ لَهَا صَغِيرَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا بينة فالقول قول مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ قَذَفَهَا صَغِيرَةً وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصِّغَرَ يَقِينٌ وَجَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الصَّغِيرَةِ يُوجِبُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الصِّغَرِ زَوْجَتَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْ تَعْزِيرٍ وَجَبَ فِي غَيْرِ الزَّوْجِيَّةِ، كَمَا لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْ حَدٍّ وَجَبَ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ زَوْجَتَهُ نُظِرَ، فَإِنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى حَالٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهُوَ تَعْزِيرُ قَذْفٍ يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهُ. وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَتْ مِنْ قَذْفِهِ لَهَا فِي الْكِبَرِ حُكِمَ بِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ وَإِنْ عَارَضَ بَيِّنَتَهَا بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي الصِّغَرِ فَلِلْبَيِّنَتَيْنِ حَالَتَانِ: اتِّفَاقٌ وَمُضَادَّةٌ. فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الِاتِّفَاقُ الْمُمْكِنُ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُطْلِقَ الْبَيِّنَتَانِ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ، وَإِمَّا أَنْ تُؤَرِّخَا تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا قَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الصِّغَرِ ببينته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 وَالثَّانِي: فِي الْكِبَرِ بِبَيِّنَتِهَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِقَذْفِ الصِّغَرِ التَّعْزِيرُ، وَبِقَذْفِ الْكِبَرِ الْحَدُّ. وَلَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَعِنَ فَيُسْقِطُ بِلِعَانِهِ الْحَدَّ، وَالتَّعْزِيرُ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ وَلَا يَسْقُطُ بِلِعَانِهِ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْدَ اللِّعَانِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَلْتَعِنَ فَيُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْكِبَرِ، وَأَمَّا التَّعْزِيرُ لِلْقَذْفِ فِي الصِّغَرِ فَإِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى لِكَوْنِهَا فِي صِغَرٍ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فِيهِ لَمْ يَدْخُلْ هَذَا التَّعْزِيرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّهَا؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ لِكَوْنِهَا فِي صِغَرٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فِيهِ فَهُمَا جَمِيعًا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَفِي دُخُولِ التَّعْزِيرِ فِي الْحَدِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ وَمُسْتَحَقِّهِ كَدُخُولِ الْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ وَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْحَدِّ وَحْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِيهِ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ثُمَّ الْحَدُّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مُضَادَّةُ الشَّهَادَتَيْنِ، فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّارِيخِ وَيَخْتَلِفَا فِي السِّنِّ، فَتَشْهَدُ بَيِّنَتُهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ وَتَشْهَدُ بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ قَذَفَهَا مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً كَبِيرَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَصَارَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ تَكَاذُبٌ تَعَارَضَتَا فِيهِ، وَفِي تَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطَانِ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي الصِّغَرِ وَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ قَذْفٍ، وَلَا يَلْتَعِنُ إِنْ كَانَ تَعْزِيرَ أَذًى وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا حَدَّ، وَلَا لِعَانَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُمَا تُسْتَعْمَلَانِ، وَفِي اسْتِعْمَالِهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: يوقفان حتى يقع البيان، والوقف ها هنا لَا وَجْهَ لَهُ لِفَوَاتِ الْبَيَانِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يعمل بهما في قسمة الدعوى، والقسمة ها هنا لَا تَعُمُّ، لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَتَبَعَّضُ. وَالْقَوْلُ الثالث: يقرع بينهما، والقرعة مرجحة ها هنا، فَأَيُّ الْبَيِّنَتَيْنِ قُرِعَتْ حُكِمَ بِهَا، وَهَلْ يَحْلِفُ مَنْ قُرِعَتْ بَيِّنَتُهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقُرْعَةِ، هَلْ دَخَلَتْ مُرَجِّحَةً لِلدَّعْوَى أَوِ الْبَيِّنَةِ؟ . فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِلدَّعْوَى حَلَفَ صَاحِبُهَا وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِلْبَيِّنَةِ لَمْ يَحْلِفْ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ لَمْ تَجُزْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 شهادتها إلا أن يعفوا قبل أن يشهدوا وَيُرَى مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ حَسَنٌ فَيَجُوزَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ تَدَّعِيَ زَوْجَتُهُ عَلَيْهِ الْقَذْفَ فَيُنْكِرُهَا، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ، أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمَا الشَّهَادَةَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ يُؤَخِّرَاهَا فَقَدْ صَارَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا وَلِغَيْرِهِمَا، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مَرْدُودَةٌ وَصَارَا بِهَا خَصْمَيْنِ وَعَدُوَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ عَدُوٌّ لِلْقَاذِفِ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ فَرُدَّتْ لِلزَّوْجَةِ كَمَا رُدَّتْ لِأَنْفُسِهِمَا وَلَمْ تُقْبَلْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ أَمَّهُمَا وَقَذَفَ أَجْنَبِيًّا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأُمِّهِمَا لِلتُّهْمَةِ وَهَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ وَلَا تَتَبَعَّضُ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَقَذَفَ زَوْجَتَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ رُدَّتْ لِأُمِّهِمَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لِأُمِّهِمَا رُدَّتْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ وَمَنِ اتُّهِمَ فِي شَهَادَةٍ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِي غَيْرِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ فَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَمَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْعَدَاوَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ فِيهَا وَلَا فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوِ افْتَرَقَتْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ عَدُوًّا فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَكُونُ مَفْهُومًا فِي الْجَمِيعِ فَافْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا جَمْعًا يُبْطِلُهُ الْفَرْقُ الذي ذكرناه. (فصل) فأما إن عفى الشاهدان عن حقهما وحسن ما بينه وبينها، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ، وَذَكَرَا أَنْفُسَهُمَا بَعْدَ الْعَفْوِ إِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلزَّوْجَةِ لِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا بِالْعَفْوِ مِنْ أَنْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ وَخَرَجَا بِحُسْنِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَفْوُهُمَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِالْعَفْوِ الْحَادِثِ بَعْدَهَا، لِاقْتِرَانِهِمَا بِمَا مَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا فَلَوْ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ لَمْ تُقْبَلْ، لِأَنَّهَا رُدَّتْ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَصَارَ كَرَدِّهَا بِالْفِسْقِ، فَلَا تُقْبَلُ إِذَا أُعِيدَتْ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، وَيَجْرِي عَفْوُهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ مَجْرَى الْعَدَالَةِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ. فَلَا يَمْنَعُ تَقَدُّمُ الْفِسْقِ مِنْ قَبُولِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ يَجُوزَا لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَلَامَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَدَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. فَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنَ الْقَذْفِ، وَلِأَنَّ قَذْفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ قَذْفِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْقَذْفَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا [يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ السَّبْتِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزَيْدٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِعَمْرٍو أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا] وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا زَنَيْتِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ، فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِقَذْفَيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَجِبْ بِشَهَادَتِهِمَا حَدٌّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَجْمَعُ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى قَذْفِهِ وَأُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ أَضُمُّ الشَّهَادَةَ إِلَى الشَّهَادَةِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ، وَلَا أَضُمُّ الشَّهَادَةَ فِي الْأَفْعَالِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِبَيْعِ دَارِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِقَذْفِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِالْقَتْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ تُضَمَّ الشَّهَادَةُ إِلَى الشَّهَادَةِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّ فِي الْأَفْعَالِ، لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَفْقُودٌ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِي الْجَمِيعِ مُخْتَلِفٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا، وَيَشْهَدُ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فَهَذَا قَذْفٌ وَاحِدٌ، قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ فَكَمُلَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ وَوَجَبَ بِهِ الْحَدُّ، وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِقَذْفِهَا، لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْيَوْمَيْنِ مُقِرٌّ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ، فَكَمُلَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَيَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِيهِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِيهِ فَهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَكْتَمِلِ الشَّهَادَةُ فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَجِبْ عليه الحد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 (مسألة) قال الشافعي: " وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي بِقَذْفِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، يُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَتَجُوزُ فِيهِمَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي يَجِبُ النَّظَرُ وَالِاسْتِظْهَارُ لِحِفْظِهَا، وَفِي جَوَازِهَا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فِيهِمَا كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ، لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، ثُمَّ لِفَرْقٍ ثَانٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَتَى، مَا يُوجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَدًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهُ، وَمَنْ لزمه حق الآدميين فعليه أن يظهره، فذلك وَجَبَ الِاسْتِظْهَارُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ حُقُوقِ الله تعالى، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَتُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُدُودِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ أَوْ يَأْخُذَ اللِّعَانَ أُحْضِرَ الْمَأْخُوذُ لَهُ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْحَدِّ وَالْقَصَاصِ، فَجَائِزَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُبَاشِرَ تَثْبِيتَهُ صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ مُسْتَحِقُّهَا عَنْ تَثْبِيتِ الْحُجَّةِ فِيهَا وَتَجَوَّزَ عَنْهَا فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَإِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْحَدِّ وَالْقَصَاصِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُمَا مَا لَمْ يُوَكَّلْ فِي الِاسْتِيفَاءِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِالتَّثْبِيتِ الِاسْتِيفَاءَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ هَاهُنَا، وَفِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي الْجِنَايَاتِ جَوَازُهُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِلَّا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْوَكِيلِ، فَإِنْ غَابَ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَعْرَاضَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ إِذَا غَابَ وَلَا يَعْلَمُ الْوَكِيلُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 وَالثَّانِي: أَنَّ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَى الْعَفْوِ، وَقَدْ يُرْجَى بِحُضُورِهِ أَنْ يَرِقَّ قَلْبُهُ فَيَعْفُوَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جوزه فيه إذا استأنف التوكيل اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ مِنْ جَوَازِهِ فِيهِ إِذَا جَمَعَ فِي التَّوْكِيلِ بَيْنَ تَثْبِيتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ظُهُورُ الْقُدْرَةِ لِيَعْفُوَ عَنْ قَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِيفَاءُ إِلَّا بِحُضُورِهِ، وَإِذَا وَكَّلَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَقَدْ عُرِفَتْ قُدْرَتُهُ وَلَيْسَ مِنْ عَفْوِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَصْدٌ غَيْرُ الِاسْتِيفَاءِ فَصَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ وَكَيْلُهُ وَقَدْ لَوَّحَ بِهَذَا الْفَرْقِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ التَّوْكِيلُ وَالِاسْتِنَابَةُ، لِأَنَّهُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَصِحُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَثْبِيتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَصِحُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَا أُنَيْسُ اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 (بَابُ الْوَقْتِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَمَنْ لَيْسَ له أن ينفيه ونفي ولد الأمة من (كتابي لعان قديم وجديد) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَلْقَاهُ لَهُ إِمْكَانًا بَيِّنًا فَتَرَكَ اللِّعَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَمَا يَكُونُ بَيْعُ الشِّقْصِ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ تَكُنِ الشُّفْعَةُ لَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْوَلَدِ فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُهُ حَتَى يُقِرَّ بِهِ جَازَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ شَيْخًا وَهُوَ مُخْتَلِفٌ مَعَهُ اخْتِلَافَ الْوَلَدِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ يَكُونَ لَهُ نَفْيُهُ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ حاضراً كان مذهبا وقد منع الله من قضى بعذابه ثلاثا وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن للمهاجر بعد قضاء نسكه في مقام ثلاث بمكة وقال في القديم إن لم يشهد من حضره بذلك في يوم أو يومين لم يكن له نفيه (قال المزني) لو جاز في يومين جاز في ثلاثة واربعة في معنى ثلاثة وقد قال لمن جعل له نفيه في تسع وثلاثين وأباه في أربعين ما الفرق بين الصمتين فقوله في أول الثانية أشبه عندي بمعناه وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حنيفة - رحمه الله - فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ فِيهَا، وحكي عن شريح والشعبي أنهما جوزاً له نفيه مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ وَإِنْ صَارَ شَيْخًا فَجَعَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ شَرْطًا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " لأنهما يجعلا الْوَلَدَ لِلْإِقْرَارِ دُونَ الْفِرَاشِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِنَفْيِهِ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفِيهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا هِيَ أَكْثَرُ مُدَّةِ النفاس عنده وفيه على مذهب الشافعي - رضي الله عنه - قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ نَفْيُهُ إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة - رحمه الله - لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الِارْتِيَاءِ وَالتَّفْكِيرِ، وَلِقَاءِ حاكم وفقيه حتى لا يستحلق وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يَنْفِيَ وَلَدًا هُوَ مِنْهُ، فَأُجِّلَ قَلِيلَ الزَّمَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ بِالسُّكُوتِ فَمُدَّةُ لُزُومِهِ معتبةر بِالْإِمْكَانِ بَعْدَ عِلْمِهِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ خِيَارٍ تَعَلَّقَ بِالنِّكَاحِ كَانَ مُعْتَبَرًا بالفور كالخيار بالعيوب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّ مُدَّةٍ؟ قُلْتُ لَهُ نَفْيُهُ فِيهَا فَأَشْهَدَ على نفيه وهو مشغول بما يخالف فَوْتَهُ أَوْ بِمَرَضٍ لَمْ يَنْقَطِعْ نَفْيُهُ)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَفْيَهُ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِي نَفْيِهِ ثَلَاثًا فَمَضَتْ صَارَ الْخِيَارُ عِنْدَ انْقِضَائِهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ حِينَئِذٍ وَاحِدٌ، وإذا كان كذلك فالفور في نفيه معتبراً بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ. الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ بِوِلَادَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ كَانَ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنْ نُوزِعَ فِي الْعِلْمِ. لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ غَائِبًا قُبِلَ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِي دَارٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي دَارَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ لَا يَخْفَى وِلَادَتُهَا عَلَى مَنْ فِيهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ كان في دار تلتها، نُظِرَ فَإِنْ شَاعَ خَبَرُ وِلَادَتِهَا فِي الْجِيرَانِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ لِاسْتِحَالَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُشَعِ الْخَبَرُ فِي جِيرَانِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ لِإِمْكَانِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ قَاطِعٌ عَنْ نَفْيِهِ، وَالْأَعْذَارُ الْقَاطِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا، أَوْ مَرِيضًا، أَوْ مُقِيمًا عَلَى مَرِيضٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِ مَالٍ يخاف من تلفه، أو مستتراً في ذِي سَطْوَةٍ يَخَافُ ظُلْمَهُ أَوْ طَالِبًا لِضَالَّةٍ يخاف موتها أَوْ مُقِيمًا عَلَى إِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوِ اسْتِنْقَاذِ غَرِيقٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يجوز معها ترك الجمعة. فلا يزمه الْحُضُورُ مَعَهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ قَدَرَ مَعَهَا عَلَى مُرَاسَلَةِ الْحَاكِمِ بِحَالِهِ فَعَلَ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَفْعَلْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَكَانَ لَهُ نَفْيُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْإِمْكَانُ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ. وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَحَتَّى يُصَلِّيَ، وَإِنَّ حَضَرَ طَعَامٌ فَحَتَّى يَأْكُلَ وَإِنْ كَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا بِذْلَةً لَا يَلْقَى الْحَاكِمَ بِهَا فَحَتَّى يَلْبَسَ ثِيَابَ مِثْلِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرْكَبُ فَحَتَّى يُسْرِجَ مَرْكُوبَهُ، وَإِنْ كان له مال بارز فحتى يتحرز مَالَهُ، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 مُكْنَتِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ نَفْيِهِ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْفَوْرُ وَلَزِمَ تَعْجِيلُ النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ فَأَقَامَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْيِهِ ثُمَّ يَقْدُمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَرَفَ وِلَادَتَهُ وَكَانَ غَائِبًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ فَيُؤْخَذُ بِهِ إِنْ أَرَادَ نَفْيًا مُتَأَنِّيًا مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ لِتَلَمُّسِ صُحْبَةٍ، أَوْ يُعِدُّ مَرْكَبًا كَمَا لَمْ يَرْهَقْ فِي الْحَضَرِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُرْفِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ فِي الْمَسِيرِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ إِمَّا بِشُغْلٍ لَهُ أَوْ بِعُذْرٍ فِي الطَّرِيقِ. أَوْ لِعَدَمِ صُحْبَةٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمَسِيرُ وَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِالتَّوَقُّفِ. ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيفَادِ رَسُولٍ فَعَلَ لِيَكُونَ مُخَيَّرًا بِإِنْكَارِ الْوَلَدِ وَلَا يفوته حَقُّهُ فِي نَفْيِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ وَفَعَلَ، [فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَفْعَلْهُمَا، أَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمَا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَفَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَكَانَ فِي حَقِّهِ مِنْ نَفْيِهِ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَسِيرٍ أَوْ رَسُولٍ أَوْ شَهَادَةٍ فَيُؤْخَذُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ حَقُّهُ في نفيه باقياً] . (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ لَمْ أُصَدِّقْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ بِوِلَادَتِهِ فَيُمْسِكُ عَنْ نَفْيِهِ، وَيَقُولُ لَمْ أُصَدِّقِ الْمُخْبِرَ فِي خَبَرِهِ، فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ طَرِيقِ الْآحَادِ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَرَابُ بِالْعَدْلِ، وَيُسْتَوْثَقُ بِالْفَاسِقِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي تَكْذِيبِ الْخَبَرِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَفِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ دُونَ النُّكُولِ. وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا عَلَى الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ تَصْدِيقُهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَكْذِيبُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْأُمِّ فَإِنْ حَلَفَتْ لَزِمَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ نَكَلَتْ وَقَفَتْ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ نَكَلَ انْتَفَى عَنْهُ لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ، وَفِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمِّ نَفْيُ الْمَعَرَّةِ عَنْهَا فَوَجَبَ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا إِنْ وقفت على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 بُلُوغِ الْوَلَدِ لَمْ يُؤْخَذِ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ لَاحِقٍ إِلَّا بيمينه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَقَالَ لَمْ أَعْلَمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الْعِلْمِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: لَمْ أَعْلَمْ بِوِلَادَتِهِ، مَعَ كَوْنِهِ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَالدَّارُ صَغِيرَةٌ لَا يَخْفَى طَلْقُهَا وَوِلَادَتُهَا عَلَى مَنْ فِيهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ أُخْرَى وَقَدْ شَاعَ الْخَبَرُ فِي الْجِيرَانِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُشَعِ الْخَبَرُ قُبِلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ بِوِلَادَتِهَا، وَيَقُولَ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي نَفْيَهُ أَوْ يَقُولَ عَلِمْتُ ذَاكَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ لِمُخَالَطَةِ الْفُقَهَاءِ، وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ، فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ ظَاهِرَ حَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَيَجْهَلُهُ، لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ أَوْ مَجِيئِهِ مِنْ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ، فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ ظَاهِرَ حَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِيهِ مُحْتَمَلًا لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ فِي حَضَرٍ لَكِنَّهُ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ الْفُقَهَاءَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النَّسَبِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَآهَا حُبْلَى فَلَمَّا وَلَدَتْ نَفَاهُ فَإِنْ قَالَ لَمْ أَدْرِ لَعَلَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ لَاعَنَ وَإِنْ قَالَ قُلْتُ لَعَلَّهُ يَمُوتُ فَأَسْتُرَ عَلَيَّ وَعَلَيْهَا لَزِمَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إِذَا ظَنَّ رِيحًا أَوْ غِلَظًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِمَا يَقْتَضِي لُحُوقَ النَّسَبِ سَوَاءٌ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ أَوْ لَمْ يُجْعَلْ، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ حَمْلًا صَحِيحًا وَرَجَا مَوْتَهُ أَوْ مَوْتَ الْأُمِّ فَسَتَرَ عَلَيْهَا وَعَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ صَارَ مُعْتَرِفًا بِهِ مُمْتَنِعًا مِنْ نَفْيِهِ فَلَزِمَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَامِلُ مَبْتُوتَةً فَفِي جَوَازِ نَفْيِهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نَفْيِ حَمْلِ الْمَبْتُوتَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْتَعِنُ لِنَفْيِهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَزِمَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ قِيلَ لَا يَلْتَعِنُ مِنْ حَمْلِ الْمَبْتُوتَةِ إِلَّا بَعْدَ وِلَادَتِهَا جَازَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ هُنِّئَ بِهِ فَرَدَّ خَيْرًا وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا إِقْرَارًا لِأَنَّهُ يُكَافِئُ الدُّعَاءَ بِالدُّعَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: وَالتَّهْنِئَةُ بِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ خَلَفًا صَالَحَا وَأَرَاكَ فِيهِ السُّرُورَ، فَإِذَا أَجَابَ عَنْ هَذِهِ التَّهْنِئَةِ لَمْ يَخْلُ جَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى إِقْرَارِهِ، كَقَوْلِهِ: أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ وَرَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ، أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ: آمِينَ، فَيَكُونُ بِهَذَا الْجَوَابِ وَأَمْثَالِهِ مُقِرًّا بِهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرضى وَالِاعْتِرَافِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ عَلَى إِنْكَارِهِ كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، أَوْ يَكْفِي اللَّهُ، فَيَكُونُ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَأَمْثَالِهِ مُنْكِرًا لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافًا وَلَا إِنْكَارًا، كَقَوْلِهِ: أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاكَ وَبَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِقْرَارًا وَلَهُ نَفْيُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِجَابَةُ بِالدُّعَاءِ رضى والرضى إِقْرَارٌ بِمَنْعِهِ مِنَ النَّفْيِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الدُّعَاءِ بِالدُّعَاءِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التحية. قال سبحانه: {إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو رودها} [النساء: 86] . فصار ظاهر جواب التحية دون الرضى وَالِاعْتِرَافِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي: " وَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ فَإِنَّ سَعْدًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أبي ولد على فراشه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ للفراش وللعاهر الحجر " فأعلم أن الأمة تكون فراشاً مع أنه رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال لا تأتيني وليدة تعترف لسيدها أنه أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَأَرْسِلُوهُنَّ بعد أو أمسكوهن وإنما أنكر عمر حمل جارية له فسألها فأخبرته أنه من غيره وأنكر زيد حمل جارية له وهذا إن حملت وكان على إحاطة من أنها من تحمل منه فواسع له فيما بينه وبين الله تعالى في امرأته الحرة أو الأمة إن ينفى ولدها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى يُعْلَمَ الْوَطْءُ، فَتَصِيرَ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَالْحُرَّةُ تَصِيرُ فِرَاشًا إِذَا أَمْكَنَ الْوَطْءُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وطئها، ولم يجز أن ينكح من لا يحمل له وطئها امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ الْأَمَةُ بِالْمِلْكِ فِرَاشًا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَصِيرَ الْحُرَّةُ بِالْعَقْدِ فِرَاشًا، فَإِذَا ثبت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 هَذَا وَوَطِئَ الْأَمَةَ صَارَتْ حِينَئِذٍ فِرَاشًا فَأَيُّ وَلَدٍ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْئِهِ لَحِقَ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ إِقْرَارُهُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا حَتَّى يُقِرَّ بِهِ فَيَصِيرَ بِإِقْرَارِهِ وَلَدًا، فَإِنْ وَضَعَتْ بَعْدَهُ وَلَدًا صَارَتْ بِالْأَوَّلِ فِرَاشًا وَلَحِقَ بِهِ الثَّانِي، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِوَلَدِ الْحُرَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا لَمْ يَلْحَقْهُ وَلَحِقَهُ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَلَوِ اسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَلْحَقْهُ وَلَحِقَهُ وَلَدُ الْحُرَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهِ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ لِفِرْقِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ لَمَا انْتَفَى عَنْهُ إِلَّا بِلِعَانِهِ، وَفِي نَفْيِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ كَالْحُرَّةِ لَاعْتُبِرَ فِي رَفْعِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِبْرَاءِ مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ، كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِرَاشُ الْحُرَّةِ. (فَصْلٌ) وَدَلِيلُنَا السُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْعِبْرَةُ. فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَرَوَى الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مالك - رضي الله عنه - عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ أَخِي عُتْبَةَ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ كَانَ أَلَمَّ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنْ أَطْلُبَهُ إِنْ دَخَلَتْ مَكَّةَ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ للفراش، وللعاهر الحجر: وفيه ثلاثة أدلة: أحدهما: قَوْلُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَجَعَلَهَا فِرَاشًا لِأَبِيهِ، وَجَعَلَ وَلَدَهَا أَخًا لَهُ بِالْفِرَاشِ، فَإِنَّ إِقْرَارَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ. وَالثَّانِي: جَوَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ للفراش وللعاهر الْحَجَرُ " فَجَعَلَهَا فِرَاشًا وَحَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَخًا وَجَعَلَ الْفِرَاشَ مُثْبِتًا لِنَسَبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا صَارَتِ الْحُرَّةُ فِرَاشًا بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ فِي الْأَمَةِ دُونَهَا فَلِأَنْ تَصِيرَ بِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا أَوْلَى، لِأَنَّ نَقْلَ السَّبَبِ مَعَ الْحُكْمِ يَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ الْحُكْمِ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ إِجْمَاعًا إِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ أَوْ مُتَجَاوِزًا لَهُ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 اعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَبْدًا لَا وَلَدًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، هُوَ لَكَ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمِلْكَ دُونَ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " هُوَ لَكَ عَبْدٌ " وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّنَازُعَ كَانَ فِي نَسَبِهِ دُونَ رِقِّهِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَنَازَعَا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّلَ بِالْفِرَاشِ وَالْفِرَاشُ عِلَّةٌ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ دُونَ الرِّقِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّنَا رُوِّينَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ أَخًا " وَمَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ لَكَ عَبْدٌ " مَحْمُولٌ عَلَى النِّدَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ يَا عَبْدُ فَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ إِيجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] يَعْنِي يَا يُوسُفُ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: دَعْوَى النَّسَبِ تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَدَعْوَى الْمِلْكِ تَصِحُّ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ كَانَ لِزِمْعَةَ ابْنٌ هُوَ عَبْدٌ الْمُدَّعِي، وَبِنْتٌ هِيَ سَوْدَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ تَدَّعِ، فَدَلَّ عَلَى قُصُورِ الدَّعْوَى عَلَى الْمِلْكِ دُونَ النَّسَبِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الدَّعْوَى بِالنَّسَبِ دُونَ الْمِلْكِ. فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالدَّعْوَى مَعَ إِمْسَاكِ سَوْدَةَ مُحْتَمِلٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِاسْتِنَابَتِهَا لَهُ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِحُجَّتِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ وَارِثَ أَبِيهِ دُونَهَا؛ لِأَنَّ زِمْعَةَ مَاتَ كَافِرًا وَقَدْ أَسْلَمَتْ سَوْدَةُ قَبْلَهُ وَأَسْلَمَ عَبْدٌ بَعْدَهُ، فَوَرِثَهُ عَبْدٌ دُونَهَا، فَلِذَلِكَ تَفَرَّدَ بِالدَّعْوَى. الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا لَمَا حَجَبَهَا عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفَى نَسَبَهُ وَلَمْ يُلْحِقْهُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ حَكَمَ لِعَبْدٍ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ نَسَبِهِ، وَالْحُكْمُ بِالدَّعْوَى مَحْمُولٌ عَلَى إِثْبَاتِهَا دُونَ إِبْطَالِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّقِّ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَمْرُهُ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِأَنْ يُبَيِّنَ بِذَلِكَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْجُبَ زَوْجَتَهُ عَنْ أَقَارِبِهَا فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِبَيَانِ الْحُكْمِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ رَأَى فِيهِ شَبَهًا قَوِيًّا مِنْ عُتْبَةَ، وَقَدْ نَفَاهُ الشَّرْعُ عَنْهُ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ لِغَيْرِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ إِمَّا بِطْرِيقِ الِاسْتِظْهَارِ، وَإِمَّا لِأَنْ تَرَى سَوْدَةُ مَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِعُتْبَةَ فَتَرْتَابَ فِي نسبه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: أَنْ قَالُوا: قَدْ أَضْمَرْتُمْ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَنَحْنُ شَرَطْنَا الْإِقْرَارَ بِنَسَبِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ، فَصَارَ بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِالْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنَ الْوَطْءِ، الَّذِي لَيْسَ بِمَذْكُورٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبْدًا ادَّعَى أُخُوَّتَهُ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ فَصَارَ الْفِرَاشُ مُوجِبًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ دُونَ الْإِقْرَارِ وَالْفِرَاشُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ فَصَارَ ثُبُوتُ الْفِرَاشِ إِقْرَارًا بِالْوَطْءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ سَبَبَ لُحُوقِ نَسَبِهِ الْفِرَاشَ دُونَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعْلِيلُ. وَالِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: أَنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَثْبَتَ نَسَبَ الْوَلَدِ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَلَا يُرَاعَى إِقْرَارُهُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِطْلَاقَ حُكْمِهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لِزَمْعَةَ وَلَدٌ غَيْرُ عَبْدٍ وَسَوْدَةَ، وَلَوْ كَانَ لَعُرِفَ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ: فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ، ثُمَّ يُرْسِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ. فَنَادَى بِهِ فِي النَّاسِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، مَعَ انْتِشَارِهِ فِيهِمْ أَحَدٌ؛ فَصَارَ إِجْمَاعًا، فَإِنْ قِيلَ: خَالَفَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ نَفَى حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ قِيلَ: إِنَّمَا نَفَاهُ لِأَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْزِلُ عَنْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَعٌ مَعَهُمْ إِذْ لَوْ لَمْ يَعْزِلْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ: فَهُوَ أَنَّهُ وَطْءٌ ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ لُحُوقُ النَّسَبِ كَوَطْءِ الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِوَطْءِ الْحُرَّةِ ثَبَتَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ إِقْرَارٌ بِالسَّبَبِ وَالْإِقْرَارُ بِالسَّبَبِ إِقْرَارٌ بِالْمُسَبَّبِ: كَالْمُقِرِّ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ مُقِرًّا بِالْتِزَامِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ بِالْمُسَبَّبِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَإِذَا أُلْحِقَ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَأَوْلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُسَبَّبِ مِنَ الْوَطْءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَطْءِ الْأَمَةِ الَّذِي هُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ وَلِأَنَّهُمْ قد ألحقو بِهِ وَلَدَ الْحُرَّةِ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ وَنَفَوْا عَنْهُ وَلَدَ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الْوَطْءِ. وَفِيهِ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وقلب للسنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِفَرْقِ مَا بَيْنَ وَلَدِ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، فهو أن هذا الفرق يقتضي اختلافها فِي سَبَبِ اللُّحُوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَطْءِ وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ فَأَغْنَى هَذَا الْفَرْقُ عَنِ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ فَهُوَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَدْ رَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَاعَنَ مِنْ وَلَدِ الْأَمَةِ، وَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الرَّجُلَ يُلَاعِنُ مِنَ الْأَمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَلَهُ عِنْدِي وَجْهٌ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ نَصٌّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاللِّعَانِ كَوَلَدِ الْحُرَّةِ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا وَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَهَلْ يَسْتَغْنِي بِإِنْكَارِهِ عَنِ الْقَذْفِ فِي لِعَانِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُغْنِيهِ إِنْكَارُهُ عن القذف، ويكون لعانه أن يوقل: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي لا تَحْتَاجُ الْأَمَةُ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ تَلْتَعِنَ، لِأَنَّ ما ثبت عليها الزنا، ولك يَجِبْ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ حَدٌّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ إِنْكَارُهُ عَنِ الْقَذْفِ فَيَلْتَعِنُ كَمَا يَلْتَعِنُ مِنَ الْحُرَّةِ، وَعَلَيْهَا الْحَدُّ بِلِعَانِهِ إِلَّا أَنْ تَلْتَعِنَ فَهَذَا إِذَا قِيلَ بِتَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَتَأَوَّلَهُ: أَنْ يَلْتَعِنَ مِنَ الْأَمَةِ إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ وَلَدِ الْأَمَةِ وَوَلَدِ الْحُرَّةِ فِي اللِّعَانِ أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَمَّا انْتَفَى بِالِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ وَوَلَدَ الْحُرَّةِ لَمْ يَنْتَفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ احْتَاجَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا كَالْحُرَّةِ لَارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِرَاشُ الْحُرَّةِ، فَهُوَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي أَنَّ فِرَاشَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ مَا ثَبَتَ بِهِ فِرَاشُهَا، فَإِنَّ فِرَاشَ الْحُرَّةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ فَارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ وَفِرَاشَ الْأَمَةِ ثَبَتَ بِالْوَطْءِ فَارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الْوَطْءِ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى رَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى زَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُدُومِ الْفِرَاشِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءُ الْمِلْكِ فِي ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ فِي الِانْتِهَاءِ وَبِعَكْسِهَا تَكُونُ الْحُرَّةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ فِي ارْتِفَاعِ فِرَاشِ الْأَمَةِ وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنِ السَّيِّدِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَجْهًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَيَكْفِي فِي نَفْيِ الْوَلَدِ أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِبْرَاءَ، وَهَذَا وَجْهٌ لَا يَتَحَصَّلُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ شَرْطًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 فِي نَفْيِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ شَرْطًا وَاجِبًا فِي رَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ لِلْعَامِ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى اسْتِبْرَائِهِ سَوَاءٌ اسْتَبْرَأَهَا بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ اسْتِبْرَائِهَا نُظِرَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ بِوَلَدٍ وضعته لم يحلق بِهِ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كَانَا مِنْ حَمْلَيْنِ فَصَارَ الثَّانِي حَادِثًا مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ يَقِينًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا بِالْأَقْرَاءِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ لَحِقَ بِهِ كَالْحُرَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عِنْدِي، وَإِنْ كَانَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خِلَافِهِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ، وَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ بِخِلَافِ وَلَدِ الْحُرَّةِ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ يَلْحَقُهُ بِالْإِمْكَانِ، وَالْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلِذَلِكَ لَحِقَ بِهِ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ يَلْحَقُ بِالْعِلْمِ بِالْوَطْءِ وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا زَادَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقُ بِهِ وَفِي هَذَا الْفَرْقِ وَهَاءٌ إِذَا اسْتَبْرَأَ فَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ الِاسْتِبْرَاءَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَأَنْكَرَتْهُ الْأَمَةُ فَفِي وُجُوبِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَفْيَهُ مُعْتَبَرٌ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ لَا بِفِعْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ نَفْيَهُ مُعْتَبَرٌ بِفِعْلِ الِاسْتِبْرَاءِ لَا بِدَعْوَاهُ فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِ فَإِنْ حَلَفَ انْتَفَى عَنْهُ، وَإِنْ نَكَلَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لَاحِقًا بِهِ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْأَمَةِ، فَإِنْ حَلَفَتْ لَحِقَ بِهِ وَكَانَتْ صِفَةُ يَمِينِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي يَمِينِ السَّيِّدِ وَإِنْ نَكَلَتْ عَنِ الْيَمِينِ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَجْهًا واحداً، فإن حلف لحق به، وإن نَكَلَ انْتَفَى عَنْهُ وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الاتصال من شرح المذهب ما لم تجديداً منه فلذلك أطنبت وَإِنْ كُنْتُ لِلْإِطَالَةِ كَارِهًا وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ مُسْتَعِينًا. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ كُنْتُ أَعْزِلُ عَنْهَا أَلْحَقَتِ الْوَلَدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 استبراء بعد الوطء فيكون دليلا له وقال بعض الناس لو ولدت جارية يطؤها فليس هو ولده إلا أن يقر به فإن اقر بواحد ثم جاءت بعده بآخر فله نفيه لأن إقراره بالأول ليس بإقرار بالثاني وله عنده أن يقر بواحد وينفي ثانياً وبثالث وينفي رابعاً ثم قالوا لو أقر بواحد ثم جاءت بعده بولد فلم ينفه حتى مات فهو ابنه ولم يدعه قط ثم قالوا لو أن قاضياً زوج امرأة رجلاً في مجلس القضاء ففارقها ساعة ملك عقدة نكاحها ثلاثا ثم جاءت بولد لستة أشهر لزم الزوج قالوا هذا فراش قيل وهل كان فراشاً قط يمكن فيه الجماع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَزْلُ فَضَرْبَانِ: عَزْلٌ عَنِ الْإِنْزَالِ، وَعَزْلٌ عَنِ الْإِيلَاجِ وَكِلَاهُمَا مُبَاحٌ فِي الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ اسْتِطَابَةُ نَفْسِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِطَابَةُ نَفْسِ الْأَمَةِ، لِأَنَّ لِلْحُرَّةِ حَقًّا فِي الْوَلَدِ دُونَ الْأَمَةِ: فَأَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الْإِنْزَالِ فَهُوَ أَنْ يُولِجَ فِي الْفَرْجِ، فَإِذَا أَحَسَّ بِالْإِنْزَالِ أَقْلَعَ فَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ، وَهَذَا الْعَزْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نُصِيبُ السَّبَايَا وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ، أَفَنَعْزِلُ عَنْهُنَّ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى خَلْقَ نَسَمَةٍ خَلَقَهَا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ مِنْ إِنْزَالِهِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ فَتَعَلَّقَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا اسْتَدْخَلَ الْفَرْجُ مِنَ الْمَنِيِّ الْخَارِجِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْعُلُوقُ. فَأَمَّا الْعَزْلُ عَنِ الْإِيلَاجِ: فَهُوَ أَنْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ وَيُنْزِلَ فَفِي لُحُوقِ وَلَدِ الْأَمَةِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْحَقُهُ لِخُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنِ الْفَرْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْحَقُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَدْخِلَهُ الْفَرْجُ بِحَرَارَتِهِ، وَهَكَذَا وَلَدُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعَزْلِ عَنِ الْإِنْزَالِ، وَفِي لُحُوقِهِ بِهِ فِي الْعَزْلِ عَنِ الْإِيلَاجِ وَجْهَانِ. فَأَمَّا وَلَدُ الزَّوْجِ فَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ لثبوت الفراش بالعقد والإمكان. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا أَحَاطَ الْعِلْمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ فَالْوَلَدُ مَنْفِيٌ عَنْهُ بِلَا لِعَانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَدُ الْحُرَّةِ يَلْحَقُ الزَّوْجَ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 وَالثَّانِي: الْإِمْكَانُ، وَالْإِمْكَانُ يَكُونُ بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمْكَانُ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي: إِمْكَانُ الْعُلُوقِ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْوَطْءِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ مُجَوَّزًا، سَوَاءٌ عُلِمَ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اجْتِمَاعُهُمَا وَأَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَطْءٌ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ، وَأَمَّا إِمْكَانُ الْعُلُوقِ فَيَكُونُ بِاجْتِمَاعِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُولَدُ لِمَثَلِهِ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِيهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لُحُوقِهِ بِالْعَقْدِ وَالْإِمْكَانِ لَمْ يَلْحَقْهُ إِذَا اسْتَحَالَ الْإِمْكَانُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِمْكَانُ الْوَطْءِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَقْدِ إِمْكَانُ الْعُلُوقِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَالْوِلَادَةُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَإِنَّ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا حَتَّى قَالَ فِي ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ حَكَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْهَا فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَطَلَّقَ فِيهِ لِوَقْتِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِهِ مَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْ هَذَا وَأَشْنَعُ، وَهُوَ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِذَا تَزَوَّجَهَا طُلِّقَتْ عَقِبَ نِكَاحِهَا فَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ بِكْرًا وَغَابَ عَنْهَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ ثُمَّ بَلَغَهَا خَبَرُ مَوْتِهِ فَاعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي سِنِينَ وَجَاءَتْ مِنْهُ بِأَوْلَادٍ ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ لَحِقَ بِهِ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا دُونَ الثَّانِي؟ وَالْأَوَّلُ مُنْكِرٌ لَمْ يَطَأْ، وَالثَّانِي مُقِرٌّ قَدْ وَطِئَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي رجل بالمشرق وتزوج امْرَأَةً بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ عَقْدِهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَيْهَا لَمْ يَصِلْ إِلَّا فِي سِنِينَ، وَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " قَالَ: وَالْفِرَاشُ هُوَ الزَّوْجُ، وَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ. (بَاتَتْ تُعَانِقُنِي وَبَاتَ فِرَاشُهَا ... خَلْفَ الْعَبَاءَةِ بِالدِّمَاءِ غَرِيقًا) يَعْنِي بِقَوْلِهِ بَاتَ فِرَاشُهَا أَيْ زَوْجُهَا، قَالَ: فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ إِمْكَانِ الْوَطْءِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ لِأَنَّ إِمْكَانَ الزِّنَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الزِّنَا وَإِمْكَانَ الْقَتْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَتْلِ، كَذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 إِمْكَانُ الْوَطْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَطْءِ فَبَطَلَ أن يكون معتبراً ولم يبق الاعتبار الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُعْتَبَرًا بِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ فَرْجَ الزَّوْجَةِ مَحَلٌّ لِمَاءِ الزَّوْجِ وَمُسْتَحَقًّا لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا مَا ثَبَتَ فِيهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَاءَ زَوْجَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ مَاءَ أَمَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَاءَ الْأَمَةِ لَوِ انْعَقَدَ وَلَدًا كَانَ لِلسَّيِّدِ فَوَجَبَ إِذَا انْعَقَدَ مَاءُ الزَّوْجَةِ وَلَدًا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ كَزَوْجَةِ الصَّغِيرِ، وَكَالْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قِيلَ فَالصَّغِيرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ لَا يُسَمَّى فِرَاشًا وَالْمَوْلُودُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَادِثٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَلِذَلِكَ انْتَفَى الْوَلَدُ عَنْهُمَا وَخَالَفَهُمَا مَا عَدَاهُمَا، قِيلَ أَمَّا الصَّغِيرُ فَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ اسْمًا لِلزَّوْجِ فَهُوَ زَوْجٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ فِرَاشًا لِاسْتِحَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَمِثْلُ اسْتِحَالَتِهِ مَوْجُودٌ فِي وَلَدِ الْمَغْرِبِيَّةِ مِنَ الْمَشْرِقِيِّ، وَأَمَّا الْمَوْلُودُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ مَائِهِ فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرِبِيَّةَ وَإِنْ كَانَ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بَطَلَ طَرْدُهُ بِالصَّبِيِّ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ، وَبِطَلَ عَكْسُهُ بِالْوَطْءِ لِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَإِذَا بَطَلَ طَرْدُهُ وَعَكْسُهُ لَمْ يبق إلا أن يكون لاستحالة وجوده في مَائِهِ، كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَحِيلَةِ، وَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الِاسْتِلْحَاقِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ كَالشَّابِّ إذا ادعى شيخاً ولداً ولأنه لما انتف عَنْهُ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ تَغْلِيبًا لِصِدْقِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَلِأَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ اسْتِحَالَةِ كَذِبِهِ وَالْقَطْعِ بِصِدْقِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ لِلزَّوْجِ، فَهُوَ أَنَّ الْفِرَاشَ بِالزَّوْجَةِ أَخَصُّ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ مُشْتَقٌّ مِنَ الِافْتِرَاشِ فَكَانَتِ الزَّوْجَةُ أَشْبَهَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ قَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَأُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فَإِنَّهُ مَجَازٌ وَاتِّسَاعٌ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ فَهُوَ أَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمِ يَقُمْ مَقَامَ الْفِعْلِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا إِمْكَانَ الْوَطْءِ وَاعْتَبَرُوا زَوْجًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْوَطْءُ فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ اعْتِبَارِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ فِي اعْتِبَارِنَا مُمْكِنٌ وَفِي اعْتِبَارِهِمْ مُسْتَحِيلٌ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ كَالْأَرْضِ فَمِنْ وجهين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ مَا زَرَعَهُ غَيْرُهُ فِيهَا فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفُرُوجِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَا انْعَقَدَ مِنْ مَاءِ أَمَتِهِ مالك مَا انْعَقَدَ مِنْ مَاءِ زَوْجَتِهِ، فَهُوَ أَنَّهُمْ إِنِ انْقَادُوا إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ لَا فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَلَدَ الْحُرَّةِ، وَإِنَّمَا يُمَلَكُ وَلَدُ الْأَمَةِ اسْتِرْقَاقًا يَنْتَفِي عَنْ وَلَدِ الْحُرَّةِ، فَافْتَرَقَا فِي مِلْكِ الْوَلَدِ، وانفقا فِي نَفْيِ النَّسَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ آخَرُ كتاب اللعان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 (كتاب العدد) (عدة المدخول بها) (من الجامع من كتاب العدد ومن كتاب الرجعة والرسالة) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعِدَّةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ الْإِحْصَاءِ لِلْعَدَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4] وَالْعُدَّةُ: بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الْمُسْتَعَدُّ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {أعدوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَالْعَدُّ بِالْفَتْحِ الْجُمْلَةُ الْمَعْدُودَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنْ شَاءَ مَوَالِيكَ عَدَدْتُ لَهُمْ ثَمَنَكَ عَدَّةً وَاحِدَةً. وَعِدَّةُ النِّسَاءِ تَرَبُّصُهُنَّ عَنِ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ فُرْقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ. وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْعِدَدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَارْتَابَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي عِدَّةِ الصِّغَارِ وَالْمُؤْيِسَاتِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته بذلك فأنزل الله تعالى: {واللاتي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَزَالَتِ الِاسْتِرَابَةُ عَنْهُمْ وَعَلِمُوا كُلَّ الْعِدَدِ، وَنَزَلَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة: 234] فَصَارَتِ الْعِدَدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ وُضِعَتْ تَعَبُّدًا واستبراء: أحدها: وهو أقواهما الْحَمْلُ وَالِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ أَقْوَى مِنَ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَوْسَطُهَا: الْأَقْرَاءُ وَيُسْتَوْفَى فِيهِ التَّعَبُّدُ وَالِاسْتِبْرَاءُ. والثالث: وهو اضعفهما الشُّهُورُ فَإِنْ كَانَتْ بِمَدْخُولٍ بِهَا مِمَّنْ يَجُوزُ حَبَلُهَا كَانَتْ تَعَبُّدًا وَاسْتِبْرَاءً وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا مِنْ وَفَاةٍ كَانَتْ تَعَبُّدًا محضاً. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} قَالَ وَالْأَقْرَاءُ عِنْدَهُ الْأَطْهَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِدَلَالَتَيْنِ أَُولَاهُمَا: الْكِتَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْأُخْرَى اللسان (قال) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لعدتهن} وقال عليه الصلاة والسلام في غير حديث لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض " يرتجعها فإذا طهرت فليطق أو ليمسك " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن " الشافعي شك فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الله تعالى أن العدة الأطهار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 دون الحيض وقرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو أن يطلقها طاهراً لأنها حينئذ تستقبل عدتها، ولو طلقت حائضاً لم تكن مستقبلة عدتها إلا من بعد الحيض والقرء اسم وضع لمعنى فلما كان الحيض دماً يرخيه الرحم فيخرج والطهر دماً يحتبس فلا يخرج كان معروفاً من لسان العرب أن القرء الحبس تقول العرب هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه وتقول هو يقري الطعام في شدقه وقالت عائشة رضي الله عنها " هل تدرون ما الأقراء الأقراء الأطهار " وقالت " إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه والنساء بهذا أعلم " وقال زيد بن ثابت وابن عمر إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها (قال الشافعي) والاقراء والأطهار والله أعلم ولا يمكن أن يطلقها طاهراً إلا وقد مضى بعض الطهر وقال الله تعالى {الحج أشهر معلومات) وكان شوال وذو القعدة كاملين وبعض ذي الحجة كذلك الأقراء طهران كاملان وبعض طهر. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الطُّهْرِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَا تُسَمَّى الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إِلَّا إِذَا حَاضَتْ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: (يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ) يَعْنِي أَنَّ نُفُوذَ حِقْدِهِ كَنُفُوذِ دَمِ الْحَيْضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيْضِ مَجَازًا لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْقُرْءَ الْجَشْمُ وَاسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا غَرِيمَ عَزَائِكَا) (مُوَرَّثَةٍ مَالَا وَفِي الْحَيِّ رَفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا) وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْحَيْضِ حَقِيقَةً كَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى مُتَضَادَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ كَالصَّرِيمِ: اسْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّاهِلِ: اسْمٌ لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ، وَالْمَسْحُورِ: اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ، وَالْحُورِ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَلْوَانِ، وَالشَّفَقِ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ، وَالْبَيَاضِ، وَالدُّلُوكِ: اسْمٌ لِلزَّوَالِ والغروب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 والقول الرابع: إن اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مُعْتَادٍ إِلَى مُعْتَادٍ فَيَتَنَاوَلُ الِانْتِقَالَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ، وَالِانْتِقَالَ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَأَ النَّجْمُ إِذَا طَلَعَ وَأَقْرَأَ إِذَا غَابَ قَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أَقْرَأَتْ ... أَحَسَّ السِّمَا كَانَ مِنْهَا أُفُولَا) وَيُقَالُ قَرَأَتْ إِذَا انْتَقَلَتْ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ أَوْ مِنْ جَنُوبٍ إِلَى شَمَالٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: (كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلِ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ) وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَقْرَاءَ الْعِدَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَحَكَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ التَّابِعَيْنِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلُ الْعِرَاقَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ: وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ؛ الزَّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَمَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ حَزْمٍ: أَنَّهُ قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَقْرَاءِ خِلَافًا لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَا أَعْلَمُ فِيهَا بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا لَا أُحْسِنُ أَنْ أُفْتِيَ فِيهَا بِشَيْءٍ فَتَوَقَّفَ. وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَالَ: إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ قُرْءًا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّانِيَ كَانَ قُرْءًا ثَانِيًا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتِ الطُّهْرَ الثَّالِثَ حَتَّى بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كَانَ قُرْءًا ثَالِثًا، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ فَإِذَا بَرَزَ دَمُ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَمَنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضُ قَالَ إِنْ طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ لَمْ تُعَدَّ بِمَا طُلِّقَتْ فِيهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الطُّهْرِ الرَّابِعِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ اسْتِيفَاءَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْأَطْهَارَ، لَمْ يَسْتَوْفِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ وَجَعَلَ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَيْضَ اسْتَوْفَاهَا كَامِلَةً فَصَارَ بِالْأَطْهَارِ أَخَصَّ لِأَنَّهُ لَمَّا تَنْقَضِ الْأَقْرَاءُ الثَّلَاثَةُ كَمَا لَمْ تَنْقَضِ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ. ثُمَّ قَالَ عُقَيْبَهُ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] يَعْنِي مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْمُعْتَدَّ بِهَا هِيَ الْحَيْضُ وقَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَلَمْ يَقُلْ فِي عِدَّتِهِنَّ، وَالطَّلَاقُ لَهَا غَيْرُ الطَّلَاقِ فِيهَا، وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ فِي الْعِدَّةِ إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْعِدَّةَ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَنَقَلَهَا عَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْبَدَلُ غَيْرُ الْمُبْدَلِ فَلَمَّا كَانَ الْإِيَاسُ مِنَ الْحَيْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحِيَضُ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِرِوَايَةِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عن الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " يَعْنِي: أَيَّامَ حَيْضَتِكِ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا قَضَاءً عَلَى الْحَيْضِ فِي الْأَقْرَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بِالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُهَا الْأَطْهَارَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضِ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ جَعَلَ عِدَّتَهَا مُتَقَضِّيَةً بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ، فَقَاسُوا الطَّرَفَ الْأَوَّلَ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي فَقَالُوا: أَحَدُ طَرَفَيِ الْعِدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا الثَّانِي. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا انْقَضَتْ بِخُرُوجِ كَامِلِ وَقْتِ انْقِضَائِهَا عَلَى انْفِصَالِ جَمِيعِهَا كَالْحَمْلِ لَا يَنْقَضِي بِخُرُوجِ بعضه كذلك بالحيض الأخير لا ينقضي الْعِدَّةُ بِخُرُوجِ بَعْضِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْعِدَّةِ يُرَادُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ عَنِ الْحَمْلِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَقْرَاءِ بِمَا يُرَى أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا لَا يُرَى وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ، فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَمْلِ فَكَانَتْ بَدَلًا مِنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِدَادَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 لِلْحَامِلِ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ فَاعْتِدَادُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِخُرُوجِ مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الْحَيْضُ دُونَ الطُّهْرِ. (فَصْلٌ) وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا أَوْجَبَهُ مِنَ التَّرَبُّصِ بِالْأَقْرَاءِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ فَاقْتَضَى أَنْ تَصِيرَ مُعْتَدَّةً بِالطُّهْرِ لِيَتَّصِلَ اعْتِدَادُهَا بِمُبَاحِ طَلَاقِهَا وَمَنِ اعْتَدَّ بِالْحَيْضِ لَمْ يَصِلِ الْعِدَّةَ بِالطَّلَاقِ سَوَاءً كَانَ مُبَاحًا فِي طُهْرٍ أَوْ مَحْظُورًا فِي حَيْضٍ فَكَانَ قَوْلُنَا بِالظَّاهِرِ أَحَقَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ثَلاثَةَ قروء} فَأَثْبَتَ التَّاءَ فِي الْعَدَدِ وَإِثْبَاتُهَا يَكُونُ فِي مَعْدُودٍ مُذَكَّرٍ، فَإِنْ أُرِيدَ مُؤَنَّثًا حُذِفَتْ كَمَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ مُتَنَاوِلًا لِلطُّهْرِ الْمُذَكَّرِ دُونَ الْحَيْضِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَمِنْهُ دَلِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قوله {لعدتهن) أَيْ لِوَقْتِ عِدَّتِهِنَّ ثُمَّ كَانَ هَذَا الطَّلَاقُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الطُّهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُكُونَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةَ دُونَ الْحَيْضِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ دُونَ الِاحْتِسَابِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُخُولَ لَامِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ لَهَا لَا عَلَيْهَا، وَعِدَّةُ الِاحْتِسَابِ الَّذِي هُوَ لَهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَالْإِحْصَاءُ لِعِدَّةِ الِاحْتِسَابِ دُونَ الطَّلَاقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِسَابِ مَعًا فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لعدتهن} يَقْتَضِي اسْتِقْبَالَ الْعِدَّةِ وَاتِّصَالَهَا بِالطَّلَاقِ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فَطَلَّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ وَقُبُلُ الشَّيْءِ مَا اتَّصَلَ بِأَوَّلِهِ فَكَانَ الْقُبُلُ وَالِاسْتِقْبَالُ سَوَاءً. وَالثَّانِي: أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى الشَّرْطِ يَقْتَضِي اتِّصَالَهُ بِالْمَشْرُوطِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 أَطْعِمْ زَيْدًا لِيَشْبَعَ وَأَعْطِ زَيْدًا لِيَعْمَلَ، يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ دُونَ التَّأْخِيرِ. وَمَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ اعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَوَصَلَ بِهِ الْعِدَّةَ. وَمَنْ جَعَلَهَا الْحَيْضَ لَمْ يَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ فَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَصِلَ الْعِدَّةَ بِهَذَا الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ لِاتِّصَالِ الْحَيْضِ بِهِ وَهُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَكُمْ فَسَاوَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الظَّاهِرِ حَيْثُ وَصَلْنَا بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْوَضْعِ دُونَكُمْ وَوَصَلْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَنَا. قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِاعْتِدَادِ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ آخِرَ أَجْزَاءِ الطهر على وجهين حكاهما ابن سري. أَحَدُهُمَا: يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا، وَيَكُونُ الْعِدَّةَ وَالطَّلَاقَ مَعًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ فَأَعْتَقَهُ، كَانَ وَقْتُ عِتْقِهِ وَقْتًا لِلتَّمْلِيكِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ التَّسَاوِي فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّنَا نُسَاوِيهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ زَمَانُ الْعِدَّةِ لتمييز فَتَكُونُ الْعِدَّةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَوْ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِزَمَانِ الطَّلَاقِ لَصَارَتِ الْعِدَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الطَّلَاقِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فَعَلَى هَذَا هُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الظَّاهِرَ فِي نَادِرٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهُ فِي غَالِبٍ مُعْتَادٍ، فَكَانَ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى اسْتِعْمَالٍ مُعْتَادٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَكَلُّفِ اسْتِعْمَالٍ نَادِرٍ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ " مُرْهُ فَلَيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تطهر إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ " فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. فَجَعَلَ الطُّهْرَ زَمَانَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ. فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ فَتِلْكَ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى مُؤَنَّثٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُذَكَّرٌ وَعَادَ إِلَى الْحَيْضِ لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيْضِ، لِأَنَّ زَمَانَ الطَّلَاقِ الْمَأْمُورَ بِهِ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ وَتَكُونُ إِشَارَةُ التَّأْنِيثِ مَحْمُولَةً عَلَى الْعِدَّةِ أَوْ عَلَى حَالِ الطُّهْرِ وَالْحَالُ مُؤَنَّثَةٌ، وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَقِيَاسٌ وَاسْتِدْلَالٌ وَاشْتِقَاقٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَقِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ. وَالثَّانِي: مَا نَفَى الْحَيْضَ. فَأَمَّا مَا أَثْبَتَ الطُّهْرَ فَقِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ طُهْرٌ أَوْجَبَ الِاعْتِدَادَ بِذَلِكَ الطُّهْرِ كَالصَّغِيرَةِ وَالْمُؤَيَّسَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى خَارِجٍ مِنَ الرَّحِمِ كَانَ الِاعْتِدَادُ بِحَالِ كُمُونِهِ دُونَ ظُهُورِهِ كَالْحَمْلِ. وَأَمَّا مَا نَفَى الْحَيْضَ فَقِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ حَيْضٌ لَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَمٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِبَعْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِجَمِيعِهِ كَدَمِ النِّفَاسِ وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ قرأ يقرى أي جميع وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَرَا الطَّعَامَ فِي فَمِهِ، وَقَرَا الْمَاءَ فِي جَوْفِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَقْرَاةً لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهِ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: (فَتُوضِحَ فَالْمَقْرَاةُ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ) وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْقَرْيَةُ قَرْيَةً لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِاجْتِمَاعِهِ قَالَ اللَّهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يَعْنِي إِذَا جَمَعْنَاهُ فَاتَّبِعِ اجْتِمَاعَهُ وقيل: ما قرأت الناقة ساقط أَيْ مَا ضَمَّتْ رَحِمًا عَلَى وَلَدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي صِفَةِ نَاقَةٍ لَهُ. (تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ ... وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا) (ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا) أَيْ لَمْ يَجْمَعْ بَطْنُهَا وَلَدًا وَإِذَا كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الْجَمْعَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ، لِأَنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ وَالْحَيْضَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ، وَمَا وَافَقَ الِاشْتِقَاقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا خَالَفَهُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَزَمَانُ الطُّهْرِ أَخَصُّ بِحُقُوقِهِ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 زَمَانِ الْحَيْضِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْوَطْءِ وَيَمْلِكُ إِيقَاعَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنَ الْحَيْضِ. وَلَكَ تَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: حَقُّ الزَّوْجِ إِذَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِ الزَّمَانَيْنِ كَانَ بِالطُّهْرِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالْحَيْضِ كَالْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ. وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَقْرَاءِ تَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَنَا ثَلَاثَةُ أطهار تتخللها حيضتان وعندهم ثلاث حيض تتخللها طُهْرَانِ، وَأَكْثَرُهُمَا مَتْبُوعٌ وَأَقَلُّهَا تَابِعٌ فَكَانَ الطُّهْرُ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِطَرْءِ الْحَيْضِ عَلَى الطُّهْرِ فِي الصِّغَرِ وَارْتِفَاعِهِ مِنْ بَقَاءِ الطُّهْرِ فِي الْكِبَرِ. وَالثَّانِي: لِغَلَبَةِ الطُّهْرِ بِكَثْرَتِهِ عَلَى الْحَيْضِ لِقِلَّتِهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا أُبِيحَ فِي الطُّهْرِ وَحُظِرَ فِي الْحَيْضِ لِيَكُونَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ يَتَعَجَّلُ بِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَتُخَفُّفُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ أَعْجَلُ مِنَ انْقِضَائِهَا بِالْحَيْضِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَنَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ وَلَا تَعْتَدُّ عِنْدَهُمْ بِالْحَيْضِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ. وَالثَّانِي: في الانتهاء؛ لأنها تقضي عِنْدَنَا بِدُخُولِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَتَنْقَضِي عِنْدَهُمْ بِاسْتِكْمَالِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَمَا وَافَقَ مَقْصُودَ الْإِبَاحَةِ كَانَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِمَّا وَافَقَ مَقْصُودَ الْحَظْرِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يَقْتَضِي اسْتِكْمَالَهَا وَالِاعْتِدَادُ بِالْأَطْهَارِ مُفْضٍ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْءَ مَا وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ مِنْ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الطُّهْرِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَنَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْحَيْضِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَهُمْ فَصَارَ الطُّهْرُ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ قُرْءًا كَامِلًا وَإِنْ كَانَ زَمَانُهُ قَلِيلًا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الثَّلَاثِ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَهُوَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، وَكَقَوْلِهِمْ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ وَهُوَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ كَذَلِكَ فِي الْأَقْرَاءِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى نُقْصَانِ الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَالْحَيْضُ مُفْضٍ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّالِثِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَصَارَ النُّقْصَانُ عِنْدَنَا مُسَاوِيًا لِلزِّيَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ ثُمَّ عِنْدَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّقْصَانِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ قَوْلَهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] كَلَامٌ تَامٌّ مُخْتَصٌّ بِالْعِدَّةِ وَقَوْلُهُ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أرحامهن} اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ مُبْتَدَأٍ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ نُهِيَتْ فِيهِ عَنْ كَتْمِ حَمْلِهَا أَوْ حَيْضِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا عَائِدًا لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الطُّهْرَ وَالْحَيْضَ جَمِيعًا فَاسْتَوَيَا. وَالثَّانِي: لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ الْحَيْضَ؛ لِأَنَّ بِهِ يُنْقَضُ الطُّهْرُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {فطلقوهن لعدتهن} وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ الْمُعْتَدِّ بِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَا بَعْدَ زَمَانِ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يكون قوله {لعدتهن} أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ كَمَا قَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وَأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْبَدَلِ مُخَالِفٌ لِلْمُبْدَلِ فَهُوَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِحَيْضٍ فَصَارَتْ بِالْإِيَاسِ مُعْتَدَّةً بِطُهْرٍ مُقَدَّرٍ بِالشُّهُورِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعَدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَدَارُهُ عَلَى مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا يَكُونُ بِحَيْضَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَحَدَهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ " اقْعُدِي عَنِ الصَّلَاةِ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُرْءَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَيْضِ إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَرِينِةٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا أُطْلِقَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الطَّرَفِ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ لَهُمُ الطَّرَفَانِ لِأَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 الطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمْ إِلَّا بِالدُّخُولِ فِي الطُّهْرِ وَالطَّرَفَ الْأَوَّلَ لَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِالْحَيْضِ إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ فَبَطَلَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَمْلِ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ لِزَمَانِ كُمُونِهِ وَالْخُرُوجَ مِنْهَا بطهوره فقياسه أن تكون عدة الحائض زمانه كُمُونِهِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا بِظُهُورِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِي الْحَيْضِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ تَكُونُ بِالْحَيْضِ وهو مبرئ، وإن كان الاعتداء بِغَيْرِهِ كَالْوِلَادَةِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَبَرِئَ بِهَا الرحم، وإن كان الاعتداء بِمَا تَقَدَّمَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَيْضِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنِ اسْتَبْرَأَهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بِالطُّهْرِ كَالْحُرَّةِ فَاسْتَوَيَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ بِالْحَيْضِ وَالْحُرَّةُ بِالطُّهْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمُوجِبَيْنِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ مَوْضِعٌ لِاسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا فَكَانَ بِالْحَيْضِ لِيَتَعَقَّبَهُ الطُّهْرُ الْمُبِيحُ، وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطُّهْرِ فَاخْتَلَفَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لِلْغُسْلِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ مَعْنًى تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ ". قال الماوردي: والذي أراد الشافعي بِهَذَا الْفَصْلِ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ فِي مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَقْرَاءِ الَّتِي أمر الله تعالى بها، ويناقض أَقَاوِيلِهِمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى وُجُوبِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عِنْدَهُ نَسْخًا، فَقَالَ: إِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ الَّتِي تَنْقَضِي بِهَا عِنْدَهُ الْعِدَّةُ قَالَ: اعْتَبَرَ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ، فَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَامِلَةً انْقَضَتْ بِهَا الْعِدَّةُ إِذَا تَعَقَّبَهَا الطُّهْرُ سَوَاءٌ اغْتَسَلَتْ أَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ نَاقِصَةً لِنُقْصَانِهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ وَيَفُوتَ وَهِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ إِنَّهَا كَالْحُرَّةِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ فَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ كَفٍّ مِنْ جسدها فكلا غُسْلَ، وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ وَإِنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا مِقْدَارَ أُصْبُعٍ فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَبِحِ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعُمَّ الغسل جسدها وإن تممت فَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 الصَّلَاةِ، وَإِنِ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ فَهِيَ فِي العدة حتى تتمم فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِهَا حَتَّى تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِي الذِّمِّيَّةِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَجَمِيعُهَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْمُقَدَّرِ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إِلَّا بِالْغُسْلِ وَحْدَهُ مَعَ كَمَالِ الْحَيْضِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ بَقَايَا أَحْكَامِ الْحَيْضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَفِي الظَّاهِرِ وُجُوبُ غَيْرِهَا فَصَارَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً الظاهر كالنقصان منها، وقال: {وإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} فَأَبَاحَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَنْفُسِهِنَّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ غُسْلًا وَلَا صَلَاةً؛ وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ مَنَعَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فَوَجَبَ أَنْ تَرْتَفِعَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ كَالْحَيْضِ الْكَامِلِ، وَلِأَنَّ مَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِكَمَالِ مُدَّتِهِ انْقَضَتْ بِنُقْصَانِ مُدَّتِهِ كَالْحَمْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْغُسْلُ مَشْرُوطًا فِي ابْتِدَائِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي انْتِهَائِهَا لِقُوَّةِ الِابْتِدَاءِ وَضَعْفِ الِانْتِهَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْحَيْضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَسَادُ اعْتِبَارٍ بِالْحَيْضِ الْكَامِلِ وَمُرُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْغُسْلِ فِيهِمَا لَا يُوجِبُ بَقَاءَ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّلَاةِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَشْرُوطًا فِي الْعِدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَا يُوجَبُ لَهُمَا مُسْتَحَقًّا فِيهِمَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ شَرْطُهُمُ الْغُسْلُ لِلْعِدَّةِ فِي بَعْضِ الْحِيَضِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ الْحِيَضِ، وَأَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْمُسَلِّمَاتِ وَلَمْ تُوجِبُوهُ عَلَى الذِّمِّيَّاتِ وَجَمِيعُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَنِ اغْتَسَلَتْ إِلَّا قدر الكف وبين ما اغْتَسَلَتْ إِلَّا قَدْرَ الْأُصْبُعِ وَكِلَاهُمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ، وَأَقَمْتُمُ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْغُسْلِ فِي اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُقِيمُوهُ مَقَامَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ عِنْدَكُمْ بِالتَّيَمُّمِ وَأَقَمْتُمُ الْغُسْلَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْغُسْلِ بِمَاءِ الْقِرَاحِ وَمَنَعْتُمُوهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا مَعَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَإِبْطَالِ رَجْعَتِهَا وَلَمْ تَحْكُمُوا بِذَلِكَ فِي غُسْلِهَا فَجَعَلْتُمُوهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُعْتَدَّةً وَغَيْرَ مُعْتَدَّةٍ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: هَدَمْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَصْلًا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَقَدْ مَنَعْتُمْ بِهِ مِنَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَمِنَ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ وَلَمْ تَمْنَعُوا مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ مع الأقراء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 فَإِنْ قَالُوا: رُوِّينَاهُ عَنِ الصَّحَابَةِ. قِيلَ: فَقَدْ نَسَخْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ اسْتِوَاءٌ لِلْحَالِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا، وَبِهَذَا الاعتذار تقصيراً (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ ثَمَّ حَاضَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةٍ فَذَلِكَ قُرْءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلِلْبَاقِي مِنْهُ قُرُوءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ سَوَاءٌ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: إِنْ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَاقِيهِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَالْحَيْضِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ بِطُهْرِ الطَّلَاقِ صَارَتْ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عِدَّتُهَا لِفَوَاتِ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضِهَا وَتَرْكُهُ الِاعْتِدَادَ بِطُهْرِ الْجِمَاعِ أَبْعَدُ لِعِدَّتِهَا وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَالطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعُ فِيهِ اشْتَمَلَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَوَّلِ الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: فِي آخِرِهَا. فَأَمَّا أَوَّلُ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ. فَإِنْ كَانَ فِي حَيْضٍ فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الْحَيْضِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الْمُقْبِلِ فَهُوَ أَوَّلُ عِدَّتِهَا عِنْدَنَا، وَيَكُونُ اعْتِدَادُهَا بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَوَامِلَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَلَهُ حَالَتَانِ: أحدهما: أَنْ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ زَمَانٌ يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ قُرْءًا وَإِنْ قَلَّ وَحَدَّهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ زَمَانٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَزَمَانٍ لِوُقُوعِهِ، وَزَمَانٍ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَبَرَهُ مِنْ زَمَانِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ فِي التَّصَوُّرِ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بِاسْتِيفَاءِ لَفْظِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَصَارَ مَحْدُودًا بِزَمَانَيْنِ، زَمَانِ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ وَزَمَانِ الِاعْتِدَادِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إِمَّا بِأَنْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَإِمَّا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ طُهْرِكِ فَاسْتَوْعَبَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ آخِرَ الطُّهْرِ فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِيهِ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 أَحَدُهُمَا: تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطُّهْرِ قُرْءًا وَيَكُونُ زَمَانُ الطَّلَاقِ زَمَانًا لِوُقُوعِهِ وَلِلْعِدَّةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ طَلَاقَ سُنَّةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ زَمَانَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الِاعْتِدَادِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ حَرُورُ الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ بِمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الطُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقَ بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا طَلَّقَهَا فِي آخِرِ أَجْزَاءِ حَيْضِهَا. فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الطَّلَاقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ طَلَاقُ سُنَّةٍ كَانَ هَذَا طَلَاقَ بِدْعَةٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَاكَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا آخِرُ الْعِدَّةِ فَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ: أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ عَدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقَرَاءٍ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَحَرْمَلَةُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ حَيْضٌ بيقين. الوجه الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِرُؤْيَةِ الدَّمِ إِذَا كَانَتْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي وَقْتِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ أَنَّهُ حَيْضٌ؛ وَرِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ وَحَرْمَلَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِمُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَتْ مُبْتَدِأَةً أَوْ مُعْتَادَةً وَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ ابْتِدَائِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ حَتَّى تَسْتَدِيمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الدَّمِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زَمَانِهِ، هَلْ يَكُونُ مِنَ الْعِدَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعِدَّةِ لِاعْتِبَارِهِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ مِنْهَا كَغَسْلِ الرَّأْسِ فِي تَجَاوُزِهِ إِلَى مَا لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الوجه كالصائم يستزيد بإمساك جزئين مِنْ طَرَفَيِ اللَّيْلِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ إِمْسَاكَ جَمِيعِ النَّهَارِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَجْعَتُهَا فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَتُصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَقَلُّهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ، وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ مِنْ آخِرِ الطُّهْرِ فَتَكُونُ السَّاعَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهُ قُرْءًا ثُمَّ يَمْضِي أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّانِي، ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّالِثُ فَإِذَا طَعَنَتْ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي أَقَلِّ الطُّهْرَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَأَقَلِّ حَيْضَتَيْنِ وَذَلِكَ يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ وَسَاعَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ طُهْرٍ هِيَ قُرْءٌ، وَسَاعَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ حَيْضٍ يُعْلَمُ بِهَا انْقِضَاءُ الطُّهْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِالْأَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ حيضات وطهرين؛ لأن أقل الحيض عندهما ثلاث أَيَّامٍ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيْضِ ثُمَّ يَمْضِي ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ أَقَلُّهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا طُهْرَانِ أَقَلُّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، ثُمَّ تَدْخُلُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ طُهْرِهَا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ مِنْ طُهْرِهَا اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ وَالْأَقَلُّ مِنْ طُهْرَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ يَدْخُلُ بِهَا فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ فَوَافَقَ فِي اعْتِبَارِ أَقَلِّ الطُّهْرِ، وَخَالَفَنَا وَخَالَفَ صَاحِبَهُ فِي اعْتِبَارِهِ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الطُّهْرِ وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقَلِّ الْحَيْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْيَقِينِ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ طلاقها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي حَيْضٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يعلم واحداً منهما. فإذا عَلِمَ أَنَّهُ فِي طُهْرٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 [البقرة: 228] . يَعْنِي مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ فَوَجْهُ الْوَعِيدِ النَّهْيُ لِقَبُولِ قَوْلِهِنَّ فِيهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا ادَّعَتْهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَحْلَفَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ مِنْ أَقَلِّ الْمُمْكِنِ فَأَوْلَى أَنْ تقبل قَوْلُهَا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُمْكِنِ كَادِّعَائِهَا انْقِضَاءَ ثَلَاثَةِ أَقَرَاءٍ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ لِاسْتِحَالَتِهِ ثُمَّ فِيهِ وجهان: أحدهما: أنها إذ اسْتَكْمَلَتْ أَقَلَّ الْمُمْكِنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى لِدُخُولِ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ مَا لَمْ تَسْتَأْنِفِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ مَرْدُودَةٌ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنِ اسْتَأْنَفَتِ الدَّعْوَى فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا إِنْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا وَإِلَّا فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا طُلِّقَتْ فِي حَيْضٍ فأقل ما تنقضي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبَيَانُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ حَيْضِهَا فَتَسْتَقْبِلُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ أَقَلُّهُمَا خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ أَقَلُّهَا يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ ثُمَّ تَطْعَنُ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْحَيْضِ فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، فَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَهَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ قِيلَ: كَانَ فِي حيض أو طهر رجع إلىقولها فيه كما يرجع إلى قولها يفي الطَّلَاقِ إِذَا عَلَّقَهُ بِحَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي حَيْضِهَا فَهُوَ أَغْلَظُ أَمْرَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ إِنْ أَكْذَبَهَا مَا لَمْ تُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا، وَكَانَ أَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ، وَإِنِ ادَّعَتْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا إِنْ أَكْذَبَهَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا، وَيَكُونُ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَتَيْنِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ عَادَةُ الْمُطَلَّقَةِ أَنْ تَحِيضَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَتَطْهُرَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا طُلِّقَتْ مِنْ أَنْ تَدَّعِيَ انْتِقَالَ العادة أو لا تدعيها، فإن لم تدعي انْقِضَاءَ الْعَادَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا فِي طُهْرٍ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا خَمْسُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ وَبَيَانُهُ أَنْ تُطَلَّقَ فِي آخِرِ طهرها فيكون قرءاً ثم طهرين أربعون يوماً وحيضتين عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ سَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ فَأَقَلُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ عَدَّتُهَا سَبْعُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كَوَامِلُ هِيَ سِتُّونَ يَوْمًا يَتَخَلَّلُهَا حَيْضَتَانِ هِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَسَاعَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا الطُّهْرُ الثَّالِثُ فَإِنِ ادَّعَتْ فِي أَحَدِ الطَّلَاقَيْنَ أَقَلَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 مِنْ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عَادَتِهَا فَإِنِ ادَّعَتِ انْتِقَالَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ إِلَى أَقَلِّهِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وفي الطهر إلى أقله خمسة عشرة يَوْمًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَقْبُولًا لِإِمْكَانِهِ كَمَا قِيلَ فِي ابْتِدَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الْعَادَةِ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أصلاً متيقناً. (مسألة) قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنَ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَقَالَ في موضع آخر يوم وليلة (قال المزني) رحمه الله وهذا أولى لأنه زيادة في الخبر والعلم وقد يحتمل قوله يوماً بليلة فيكون المفسر من قوله يقضي على المجمل وهكذا أصله في العلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَإِعَادَتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالثَّانِي: أَقَلُّهُ يَوْمٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنْ تَعَارُضِ ظَاهِرَيْنِ أَوْ تَرْجِيحِ قِيَاسَيْنِ وَأَقَلُّ الْحَيْضَتَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ الْمُعْتَادِ فَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ بَطَلَ الْأَكْثَرُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَطَلَ الْأَقَلُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِأَصْحَابِنَا أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ صَحَّ عِنْدَهُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ تَحِيضُ بِالْغَدَاةِ وَتَطْهُرُ بِالْعَشِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَصَارَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الموضع " أقله يوم " يريد يه لَيْلَتَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَيَّامَ، وَتُرِيدُ بِهَا مع الليالي ويذكر اللَّيَالِيَ وَتُرِيدُ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا للتأكيد قال الله تعالى: {أن لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] . وَأَرَادَ بِأَيَّامِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَأَرَادَ بِلَيَالِيهَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى هَذَا، فِي أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَخَالَفَ فِي الْعِلَّةِ قَالَ: لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودُ الْأَكْثَرِ وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ صَحِيحًا لَكَانَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ بِالثَّلَاثِ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ عِلْمًا وَأَحْسَبُ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَزِدْ مَا تَوَهَّمَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 أَصْحَابُنَا مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَخِيلُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا فَيُنْسَبَ إِلَيْهِ والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ طُهْرَ امْرَأَةٍ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرَيْنِ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْوُجُودِ الْمُعْتَادِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَالْقَبْضِ وَالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ وَجَدْنَا طُهْرًا مُعْتَادًا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا انْتَقَلْنَا إِلَيْهِ وَعُمِلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ طُهْرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا مُتَوَالِيَةً أَقَلُّهَا ثلاث مرارا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عَارِضٍ، فَإِنْ تَفَرَّقَ وَلَمْ يَصِرْ عَادَةً. وَإِمَّا بِأَنْ يُوجَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ أَقَلُّهُنَّ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وهل يراعى أن تكون ذَلِكَ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي فَصْلَيْنِ مَنْ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ فَصْلٍ وَاحِدٍ مِنْ عَامَيْنِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً مُعْتَبَرَةً لِيَكُونَ اخْتِلَافُ طِبَاعِهِنَّ مع اتفاق زمانهن شاهد عَلَى صِحَّةِ الْعَادَةِ احْتِيَاطًا لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْفُصُولِ وَالْأَعْوَامِ جَازَ وَصَارَ عَادَةً لِيَكُونَ أَنْفَى لِلتَّوَاطُؤِ وَأَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يُقْبَلُ خبر المعتدة معهن في حق نفسها لتوحه التُّهْمَةِ إِلَيْهَا وَفِي قَبُولِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لِرَدِّهِ بِالتُّهْمَةِ. وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا ثِقَةٌ فَإِذَا انْتَقَلْنَا فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى مَا هو أقل في أحد الوجهين المذكورين واعدت الْمُعْتَدَّةُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا بِالطُّهْرِ الْأَقَلِّ قُبِلَ قَوْلُهَا فيما نقض عَنْهَا وَإِلَى وَقْتِنَا مِنْ هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يستمر طهر نقضي عنها فلا تقبل فِيهِ قَوْلٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا مُعْتَدَّةً - والله أعلم -. مسألة: قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ تُصَدَّقُ عَلَى الصِّدْقِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالسَّقْطِ كَانَ قَوْلُهَا مَقْبُولًا إِذَا أَمْكَنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 [البقرة: 228] . وَإِمْكَانُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ وَطْئِهِ وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ بِالثَّمَانِينَ، لِأَنَّ أَقَلَّ حَمْلٍ يَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً مُخَلَّقَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْلَقُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ الثَّمَانِينَ، وَقُبِلَ قَوْلُهَا بَعْدَهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا إِحْضَارُ السَّقْطِ لِأَنَّهَا لَوْ أَحْضَرَتْهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهَا إِلَّا بِقَوْلِهَا. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا، وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ دُونَهَا، لِأَنَّ الشُّهُورَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ وَالْحَلِفُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ حَلِفٌ فِي زَمَانِ الطَّلَاقِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ كَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ فِي الثَّالِثَةِ دَفْعَةً ثُمَّ ارْتَفَعَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي رَأَتْ فِيهِ الدَّفْعَةَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا وَرَأَتْ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً أَوْ لَمْ تَرَ طُهْرًا حَتَّى يُكْمِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ حَيْضٌ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رؤيتها الدم والحيض قبله قدر طهر وإن رأت الدم أقل من يوم وليلة لم يكن حيضاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ فِي الطُّهْرِ تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْمُطَلَّقَةُ فِي الْحَيْضِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ فَوَصَفَ الشَّافِعِيُّ حَالَ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ لتعلق انقضاء المدة بها، فإذا رأت يوم الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ، أَوْ يَكُونَ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيَكُونُ حَيْضًا سَوَاءٌ بَلَغَ قَدْرَ عَادَتِهَا مِنَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ أَسْوَدَ أَوْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً لِأَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضٌ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِدُخُولِهَا فِي هَذَا الْحَيْضِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقَطِعَ لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 النَّاقِصُ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ حَيْضًا لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الطُّهْرِ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ مُضَافًا إِلَى الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَجَمِيعُهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْحَيْضَ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا اتَصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لا يتصل الطهر الذي يعده خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى يُرَى الدَّمُ فَيُلَفَّقُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنِ اسْتَكْمَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَانَ الْأَوَّلُ حَيْضًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَكْمِلْ بِالتَّلْفِيقِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَلَيْسَ بِحَيْضٍ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَاهُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَكُونُ حَيْضًا لِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ اتَّصَلَ يَوْمًا وليلة أن انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْهَا، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَرَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الطُّهْرِ الْأَخِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الدَّمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيُنْظَرُ فِي صِفَةِ الدَّمِ فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ فَهُوَ حَتَّى يَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ: وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ فَحَمَلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَيَّامِ الْإِمْكَانِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَكُونُ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ حَيْضًا، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ عَلَى أَيَّامِ الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ صِفَةِ الْحَيْضِ وَخَرَجَ عَنْ زَمَانِهِ كَانَ قَاصِرًا وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى رأيت للشافعي نصاً يسوي كُنَّا نُعِدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ ألْحَيْضِ حيضاً، وإن كان هذا القول يتحمل الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَمْنَعُ مِنْ تَأْوِيلِ مَذْهَبِهِ عَلَى غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَيُعْتَبَرُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الطُّهْرِ فَإِنِ اتَّصَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذَا الدَّمُ لِنُقْصَانِهِ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمُ فساد وما بعده من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 الطهر متصلاً بِالَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَرَى دَمَ الْحَيْضِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ طُهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الدَّمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلِ الطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ هَذَا الدَّمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى رَأَتْ دَمًا آخَرَ رُوعِيَ حَالُ الدَّمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ لُفِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ الثَّانِي، فَإِذَا اسْتَكْمَلَا يَوْمًا وَلَيْلَةً بِالتَّلْفِيقِ صَارَ الدَّمُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَيْسَ بِحَيْضٍ لِوُجُودِهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ الثَّانِي إِذَا اتَّصَلَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَعَلَى قَوْلِ سَائِرِ أَصْحَابِنَا فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ أَنَّهَا حَيْضٌ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا يَعْتَبِرُونَ حَالَ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً كَانَ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي حَيْضًا إِذَا تَلَفَّقَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَسْوَدَ فَفِي الْأَوَّلِ مِنَ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ لَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَكُونُ حَيْضًا، وَيُسَوِّي بَيْنَ حُكْمِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي تَقَدُّمِهَا عَلَى الدَّمِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانِ الْإِمْكَانِ، وَيَجْعَلُ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ، لِأَنَّ الدَّمَ الْأَسْوَدَ أَقْوَى وَالصُّفْرَةَ أَضْعَفُ وَأَوَّلَ الْحَيْضِ أَقْوَى، وَآخِرَهُ أَضْعَفُ، فَإِذَا صَادَفَتِ الصُّفْرَةُ بِالتَّأْخِيرِ زَمَانَ الضَّعْفِ وَافَقَهُ فَكَانَ حَيْضًا، فَإِذَا صَادَفَ بِالتَّقَدُّمِ زَمَانَ الْقُوَّةِ خَالَفَهُ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَيَكُونُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالدَّمِ الثَّانِي دُونَ الصُّفْرَةِ الْأُولَى. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " ولو طبق عليها فإن كان دمها ينفصل فيكون فِي أَيَّامٍ أَحْمَرَ قَانِئًا مُحْتَدِمًا كَثِيرًا وَفِي أَيَّامٍ بَعْدَهُ رَقِيقًا إِلَى الصُّفْرَةِ فَحَيْضُهَا أَيَّامَ المحتدم الكثير وطهرها أيام الرقيق القليل إلى الصفرة وإن كان مشتبها كان حيضها بقدر أيام حيضها فيما مضى قبل الاستحاضة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا طَبَقَ فَاتَّصَلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَيْسَ لَهَا عَادَةٌ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى تَمْيِيزِهَا لِدَمِهَا فَمَا كَانَ مِنْهُ مُحْتَدِمًا ثَخِينًا فَهُوَ حَيْضٌ إِذَا بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 أَصْفَرَ رَقِيقًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ الطُّهْرِ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِيهِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، وَإِذَا رَأَتْهُ بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّالِثِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ وَلَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ، لِأَنَّ دَمَهَا كَاللَّوْنِ الْوَاحِدِ إِمَّا عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ ثَخِينٌ مُحْتَدِمٌ وَإِمَّا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِحَاضَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَهَذِهِ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حِيضَتْ عَشْرًا، وَكَانَ مَا سِوَاهَا طُهْرًا، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهَا قُرْءًا وَانْقَضَتْ بِدُخُولِهَا فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الْعَشْرِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ وَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، وَلَمْ يَنْقَضِ بِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ الْعِدَّةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْمَعَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَادَةٌ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - يَغْلِبُ حُكْمُ التَّمْيِيزِ عَلَى الْعَادَةِ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ دَلَالَةٌ فِي الْحَيْضِ الْمُشْكِلِ، وَالْعَادَةُ لَا دَلَالَةَ فِي غَيْرِ الْمُشْكِلِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - يَغْلِبُ حُكْمُ الْعَادَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِتَكَرُّرِهَا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْمُعْتَادَةِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ وَهِيَ إِمَّا مُبْتَدَأَةٌ أَوْ نَاسِيَةٌ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَإِنِ ابْتَدَأَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ نَسِيَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَاسْتَقْبَلْنَا بِهَا الْحَيْضَ مِنْ أَوَّلِ هِلَالٍ يَأْتِي عَلَيْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْحَيْضِ الَّتِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَادَةَ وَهِيَ امْرَأَتَانِ مُبْتَدَأَةٌ، وَنَاسِيَةٌ. فَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ إِذَا طَبَقَ عَلَيْهَا الدَّمُ وَلَمْ تُمَيِّزْ فَفِي مَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَوْمًا وَلَيْلَةً، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. وَالثَّانِي: سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ أَغْلَبُ، فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّمِ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّمِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنْ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَيَكُونُ كُلُّ شَهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِهَا يَجْمَعُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 حَيْضًا وَطُهْرًا، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَضَى لَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ لِتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَغْلَبُ مُعْتَبَرًا لأمرين: أحدهما: أن الأغلب محصور. والثاني: غَيْرُ مَحْصُورٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَقَابَلُ فِيهِ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْأَغْلَبِ، فَإِذَا صَحَّ انْقِضَاءُ عَدَّتِهَا بِاسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ طلاقها فقد حكى المزني ها هنا وَفِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْمُزَنِيُّ عَدَّ الهلال الذي طلقت فيه مع رويته لِاتِّصَالِهِ بِالْعِدَّةِ فَجَعَلَ الْعِدَّةَ مُنْقَضِيَةً إِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ، وَالرَّبِيعُ لَمْ يَعُدَّ الْهِلَالَ الْأَوَّلَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ فَصَارَ الْهِلَالُ الَّذِي انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ ثَالِثًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَدُّ بِبَاقِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بَعْدَهُ بِالشَّهْرِ فَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِالْهِلَالِ الرَّابِعِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ قَوْلَ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَاخْتَارَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَغْلَبِ فِي الشَّهْرِ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا يَقْتَضِي تَغْلِيبَ الْحَيْضِ فِي أَوَّلِهِ وَالطُّهْرَ فِي آخِرِهِ فَيَصِيرُ الطَّلَاقُ الْأَخِيرُ طَلَاقًا فِي الطُّهْرِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا وَتَصِيرُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الرَّبِيعِ عَلَى هَذَا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ. وَأَمَّا إِذَا طُلِّقَتِ الْمُبْتَدَأَةُ فِي الطُّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ فِي شَهْرِهَا فَفِي اعْتِدَادِهَا بِمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا قُرْءًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا لِكَوْنِهِ طُهْرًا فَإِنَّمَا اسْتُكْمِلَ شَهْرَيْنِ بَعْدَهُ مَعَ اتِّصَالِ الدَّمِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مَعَ انْقِضَائِهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ. وَالْوَجْهُ الثاني: وهي مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْءًا لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَتَقَدَّمُهُ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَقَّبُهُ الْآخَرُ فَعَلَى هَذَا يُعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّمُ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الدَّمِ هُوَ الْحَيْضُ يَقِينًا، فَلِذَلِكَ احْتُسِبَ بِأَوَّلِ شُهُورِ الْإِقْرَاءِ مِنْ وَقْتِ رؤيته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 (فصل) وما النَّاسِيَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، إِمَّا نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا فَفِي مَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَوْمًا وَلَيْلَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ، وَكَانَ طَلَاقُهَا فِي أَوَّلِهِ طلاق بدعة، وإن طلقت في تضاعيفه اعتدت بثلاثة أشهر كوامل، وَكَانَ طَلَاقُهَا فِي أَوَّلِهِ طَلَاقَ بِدَعَةٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِهِ اعْتَدَّتْ بِبَاقِيهِ قُرْءًا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا قَدْ تَيَقَّنَتْ وُجُودَ حَيْضِهَا فِي أَوَّلِهِ فَصَارَ بَاقِيهِ طُهْرًا يَقِينًا فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا، فَإِذَا مَضَى بَعْدَهُ شَهْرَانِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ الثَّالِثِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِقَدْرِهِ، وَهِيَ أَنْ تَقُولَ: أَعْلَمُ أَنَّ حِيضَتِي فِي كُلِّ شهر عشر أَيَّامٍ، وَنَسِيتُ وَقْتَهَا مِنَ الشَّهْرِ هَلْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ؟ فَهَذِهِ ينظر في الباقي في شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ احْتُسِبَ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ قُرْءًا لِوُجُودِ الطُّهْرِ فِي بَقِيَّتِهِ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا بَعْدَ بَقِيَّةِ شَهْرِهَا وَرَأَتِ الْهِلَالَ الثَّالِثَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ شَهْرِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا وَاسْتَقْبَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً، فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ الرَّابِعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنِّي أَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ قَالَتْ: أَحِيضُ فِي كل أربعة أَشْهُرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ قَالَتْ: أَحِيضُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً انقضت عدتها ستة تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ عَلَى قياس ما قدمناه ما اعْتِدَادِهَا بِبَقِيَّةِ شَهْرِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضَتِهَا وَوَقْتِهِ فَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا أَوْ عَشْرًا وَهَلْ كَانَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ شُهُورٍ، أَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ سَنَتَيْنِ؟ فَهَذِهِ هِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ وَحُكْمُهَا فِي الْعِبَادَاتِ قَدْ مَضَى. فَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَعَلَى هَذَا تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا ثُمَّ شَهْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَمَا دُونَ لَمْ يُعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ يَجُوزُ ان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 يَكُونُ حَيْضًا، وَاسْتَقْبَلَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَامِلَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَحِيضُ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ طُلِّقَتْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ قُرْءًا، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ فَمَا دُونَ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّتِهِ فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: أَنْ يُجْعَلَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ وَكُلَّ زَمَانِهَا شَكٌّ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ بِحَيْضٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ مِنْ وَقْتِ طَلَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ تَضَاعِيفِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وَهَذِهِ مُرْتَابَةٌ فَتَكُونُ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ غَيْرَ أَنَّهَا تَكُونُ شُهُورَ إِقْرَاءٍ لَا شُهُورَ إِيَاسٍ، وَفِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَخَلَتْ لَوْلَا الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى إِمْضَائِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَارَةً بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْهَا، وَتَعْتَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تنقص - والله أعلم -. (مسألة) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَطْهُرُ يَوْمًا وَنَحْوُ ذَلِكَ جُعِلَتْ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَحِضْنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَا أَجِدُ مَعْنًى أَوْلَى بِعِدَّتِهَا مِنَ الشُّهُورِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ بِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فِي أَيَّامِ الدَّمِ وَأَيَّامِ النَّقَاءِ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا كَالَّتِي طَبَقَ بِهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَتُلَفِّقُ لَهَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا وَهِيَ أَكْثَرُ الحيض، وخمسة عشر يوماً أَيَّامِ الدَّمِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ، وَإِنْ طُلِّقَتْ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَهَذَا إِنْ عَدِمَتِ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ مُؤَثِّرًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِالتَّلْفِيقِ، يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ وَلَا تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً، وَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 وَالثَّانِي: أَنَّ قَدْرَ حَيْضِهَا يَكُونُ مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ حَيْضُهَا بِالتَّلْفِيقِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِذَا لَمْ تُلَفِّقْ فَفِي قَدْرِ مَا تَرُدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّتْ إِلَى السِّتَّةِ أَيَّامٍ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّهَا فِي السَّادِسِ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَإِنْ رَدَّتْ إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَانَ جَمِيعُهَا حَيْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيْضَهَا فِي التَّلْفِيقِ يَكُونُ مُتَفَرِّقًا وَكَذَلِكَ طُهْرُهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ كَانَ مُجْمَعًا، وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَتَقَارَبَ الْقَوْلَانِ فِيهِمَا وإن كان بينهما فرق تقدم ذكره يكون انْقِضَاؤُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ مَضَى مِنَ التَّلْفِيقِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَا أَغْنَى مِنْ إِعَادَتِهِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ حَتَّى تَبْلُغَ السِّنَ الَّتِي مَنْ بَلَغَهَا لَمْ تَحِضْ بَعْدَهَا مِنَ الْمُؤَيَّسَاتِ اللَّاتِي جَعَلَ اللَّهُ عدتهن ثلاثة أشهر فاستقبلت ثلاثة أشهر. وقد روي عن ابن مسعود وغيره مثل هذا وهو يشبه ظاهر القرآن وقال عثمان لعلي وزيد في امرأة حبان بن منقذ طلقها وهو صحيح وهي ترضع فأقامت تسعة عشرة شهراً لا تحيض ثم مرض: ما تريان؟ قالا نرى أنها ترثه إن مات وَيَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ثُمَّ هِيَ عَلَى عدة حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَرَجَعَ حبان إلى أهله فاخذ ابنته فلما فقدت الرَّضَاعَ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ تُوُفِّيَ حِبَّانُ قَبْلَ الثالثة فاعتدت عدة المتوفى عنها وورثته. وقال عطاء كما قال الله تعالى إذا يئست اعتدت ثلاثة اشهر (قال الشافعي) رحمه الله: في قول عمر رضي الله عنه في التي رفعتها حيضتها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر ثم حلت يحتمل قوله قد بلغت السن التي من بلغها من نسائها يئسن فلا يكون مخالفا لقول ابن مسعود رضي الله عنه وذلك وجه عندنا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ إِذَا تَأَخَّرَ حَيْضُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْإِيَاسِ حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ فَتَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ تَطَاوَلَتْ مُدَّتُهَا حتى يعاودها الحيض فتعد بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَأَقَامَتْ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لَا تَحِيضُ ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَا تَرَيَانِ فِي امْرَأَةِ حِبَّانَ فَقَالَا: نَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا إِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 مَاتَتْ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاعِدِ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَبْكَارِ اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ الْمَحِيضَ ثُمَّ هِيَ عَلَى حَيْضِهَا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَرَجَعَ حِبَّانُ إِلَى أَهْلِهِ وَأَخَذَ بِنْتَهُ فَلَمَّا فَصَلَتِ الرَّضَاعَ حَاضَتْ حيضتين ثم توفي حبان قبل الثلاثة فَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَوَرِثَتْهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ حَيْضِهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُعْرَفُ فَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ومذهب مالك - رحمه الله - أَنَّهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا مُدَّةَ غَالِبِ الْحَمْلِ، فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ غَيْرُ مُسْتَرِيبَةٍ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْإِحَاطَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ عِدَّةِ الْمُدَّةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَيْهَا فَلَمْ يُكَلَّفْ مَا يَضُرُّهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ لَهَا قُرْءٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ مِنْ شَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَا تُبْنَى أَحَدُ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَاسْتَأْنَفَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِتَأَخُّرِ حَيْضَتِهَا سَنَةً مِنْهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَتْ بِعِدَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهَا فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا هِيَ الْعِدَّةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ فِي اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَاوَدَتِ الْأَقْرَاءَ وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى، وَإِنَّ تَأَخَّرَ بَعْدَ الْحَيْضَةِ اسْتَأْنَفَتْ تَرَبُّصَ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ حُكْمُهَا إِنْ عَاوَدَهَا مِنْ بَعْدُ. فَأَمَّا إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ الثَّلَاثَةِ رُوعِي حَالُهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْتَهَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ عَلَى نِكَاحِ الثَّانِي وَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجَتْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُعَاوِدُ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ لِمَا يُحْذَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ كَمَا لَوْ عَاوَدَهَا الْحَيْضُ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهَا تَمْكُثُ مُتَرَبِّصَةً بِنَفْسِهَا مُدَّةَ الْإِيَاسِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْعِدَدِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَرْحَامِ وَحِفْظِ الْأَنْسَابِ، فَوَجَبَ الِاسْتِظْهَارُ لَهَا لَا عَلَيْهَا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 وَلَيْسَ لِتَطَاوُلِهَا بِالْبَلْوَى مِنْ وَجْهٍ فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ كَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ مُدَّةِ إِيَاسِهَا؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ نِسَاءُ عَشِيرَتِهَا فِي زَمَانِ إِيَاسِهِنَّ، فَإِذَا انْتَهَتْ إِلَى ذَلِكَ السِّنِّ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ تَحِضِ امْرَأَةٌ لِخَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً، وَلَمْ تَحِضْ لِسِتِّينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ قُرَشِيَّةً، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَحَضَرَتْنِي وَأَنَا بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ ذَاتُ خَفَرٍ وَخُشُوعٍ، فَقَالَتْ: قَدْ عَاوَدَنِي الدَّمُ بَعْدَ الْإِيَاسِ فَهَلْ يَكُونُ حَيْضًا فَقُلْتُ كَيْفَ عَاوَدَكِ قَالَتْ: أَرَاهُ كُلَّ شَهْرٍ كَمَا يَعْتَادُنِي فِي زَمَانِ الشَّبَابِ، فَقُلْتُ: وَمُذْ كَمْ رَأَيْتِيهِ فَقَالَتْ: مُذْ نَحْوٍ مِنْ سَنَةٍ قُلْتُ: كَمْ سِنُّكِ؟ قَالَتْ: سَبْعِينَ سَنَةً، قُلْتُ: مِنْ أَيِّ النَّاسِ أَنْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قُلْتُ: أَيْنَ مَنْزِلُكِ؟ قَالَتْ: فِي بَنِي حَصِينٍ، فَأَفْتَيْتُهَا أَنَّهُ حَيْضٌ يَلْزَمُهَا أَحْكَامُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ بِإِيَاسِهَا أَبْعَدُ زَمَانِ الْإِيَاسِ فِي نِسَاءِ الْعَالَمِ كُلِّهِنَّ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ عَادَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحِيضَ بِأَهْلِهَا وَعَشِيرَتِهَا، فَإِذَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اعْتَدَّتْ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ اشهر عدة المؤيسة. (مسألة) قال الشافعي: " وإن مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَوَضَعَتِ امْرَأَتُهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَتَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنْ مَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ حَلَّتْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ يَغِيبُ فِي الْفَرْجِ أَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ بِوَضْعٍ وَاعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الحمل أو بعده. به قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ وَضَعَتْهُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَإِنْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ انْقَضَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بَعْدَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَكَانَ عُمُومُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ انْقِضَاءَ عَدَّتِهَا قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَدَّتْ زوجته عنه بالشهر جاز، وإن تَعْتَدَّ عَنْهُ بِالْحَمْلِ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَمْلٍ وَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَإِنِ انْتَفَى عَنِ الزَّوْجِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاعْتِدَادُ بِهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ وُجُوبِهَا قِيَاسًا عَلَى زَوْجَةِ الْحَيِّ إِذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ طَلَاقِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّعَبُّدِ لَا لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ التَّعَبُّدُ مِنَ الشُّهُورِ دُونَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ مِنَ الْوِلَادَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِاتِّصَالِهَا بِالطَّلَاقِ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ مَنْصُوصٌ فِيهَا عَلَى الشُّهُورِ، وَإِنَّمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ إِذَا كَانَ لَاحِقًا بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَمْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِالشُّهُورِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ وَعَدَّتُهَا بِالْحَمْلِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ وَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْمُتَقَدِّمَةِ وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَا: إِنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَلْ يوضع الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَ أَقَصَرَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآيَةِ الْحَمْلِ لِتَأَخُّرِهَا، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، أَنَّ السُّورَةَ الصُّغْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى يَعْنِي نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَا فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ فَيُقْضَى بِالْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا تُخَصُّ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالتَّخْصِيصُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمُتَقَدِّمٍ وَمُتَأَخِّرٍ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ آيَةَ الْحَمْلِ مَخْصُوصٌ بِالشُّهُورِ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْعَقْدِ مَوْتَ الصَّبِيِّ فَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ، لأنه في الحالين غير لاحق به. وأم الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَكَالْجَوَابِ عَنِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَالِغِ فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ لُحُوقِهِ بِهِ فَلِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ، وَحَمْلُ الصَّبِيِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَيَلْحَقُ بِهِ لو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 اعْتَرَفَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَمْلُ مِنَ الصَّبِيِّ لعلمنا قطعيا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَلْحَقُهُ لَوِ اعْتَرَفَ بِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي وَفَاةِ الصَّبِيِّ فَلِلْحَمْلِ حَالَتَانِ: أحدهما: أنه لا يكون لاحقاً بوطء شبهة. والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا لَا يَلْحَقُ بِأَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ مِنْ وَاطِئِ الشُّبْهَةِ وَلَا تَحْتَسِبُ أَشْهُرَ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُ عِدَّتَانِ مِنْ شَخْصَيْنِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ من زنا لا يلحق بأحد اعتدت بِشُهُورِ حَمْلِهَا مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِاسْتِحْقَاقِهَا فِي عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ انْقَضَتْ شُهُورُهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ اسْتَكْمَلَتْهَا ثُمَّ حَلَّتْ بَعْدَهَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ لَحِقَهُمَا الْوَلَدُ وَاعْتَدَّتْ زَوْجَتَاهُمَا كَمَا تَعْتَدُّ زَوْجَةُ الْفَحْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالْخَصِيِّ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمَجْبُوبُ، لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدُ " وَكَانَ وَالْخَصِيُّ يُنْزِلَانِ " فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ خَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ وَمَسْمُوحٍ. فَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الْمَسْلُولُ الْأُنْثَيَيْنِ بَاقِي الذَّكَرِ، فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوَطْءُ لِبَقَاءِ ذَكَرِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِإِحْدَاثِهِ الْمَاءَ مِنْ ظَهْرِهِ بِقُوَّةِ إِيلَاجِهِ، وَيَكُونُ كَالْفَحْلِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْهُ، سَوَاءٌ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ بَاقِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ بِقَدْرِ حَشَفَةِ الْفَحْلِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاجُ وَالْإِنْزَالُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَجِبُ مِنْهُ الْعِدَّةُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرَ الْحَشَفَةِ اسْتَقَرَّ بِهِ الدُّخُولُ وَوَجَبَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ ذَكَرِهِ قَدْرُ الْحَشَفَةِ إِمَّا باستئصال الذكر أو باستبفاء أَقَلَّ مِنَ الْحَشَفَةِ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ قَدْ سَاحَقَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ فَيُنْزِلُ مَاءً يَسْتَدْخِلُهُ الْفَرْجَ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ حَبَلَ الْبِكْرِ بِاسْتِدْخَالِ الْمَنِيِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتْ مِنْهُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حائلاً فبأربعة أشهر وعشر. فأما عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ مِنْهُ، لِأَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الشُّهُورِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ مُدَّةَ حَمْلِهَا حَفِظًا لِمَائِهِ، وَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَمْسُوحُ فَهُوَ الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ الْمَسْلُوبُ الْأُنْثَيَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مُلْتَحِمًا فَهَذَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِيلَاجِ لِجَبِّ ذَكَرِهِ وَغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِنْزَالِ لِالْتِحَامِ مَخْرَجِهِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِعَدَمِ مَائِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] . فَإِذَا عُدِمَ الْمَاءُ اسْتَحَالَ الْوَلَدُ، فَإِنْ طَلَّقَ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِ وَإِنْ مَاتَ اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ كَالصَّبِيِّ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ مَفْتُوحًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ، لأن المني بسل الأنثيين قد بعد ولده بجب الذكر وقد قعد. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حَرْبَوَيْهِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، لِأَنَّ إِنْزَالَهُ مِنَ الظهور مجوز، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا وَالْوَلَدُ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ وَالْجَوَازِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قُلِّدَ قَضَاءَ مِصْرَ فَقَضَى فِي مِثْلِ هَذَا بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَحَمَلَهُ الْخَصِيُّ عَلَى كَتِفِهِ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَالَ: انْظُرُوا هَذَا الْقَاضِي يُلْحِقُ أَوْلَادَ الزِّنَا بِالْخَدَمِ، فَأَمَّا إِنْ بَقِيَ إِحْدَى أُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ لَحِقَ بِهِ الولد وجهاً واحداً سواء كان يُمْنَى أَوْ يُسْرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ بَقِيَتِ الْيُسْرَى لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ بَقِيَتِ الْيُمْنَى لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْيُسْرَى لِلْمَنِيِّ، وَالْيُمْنَى لِشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الطِّبِّ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي إِنْسَانٍ ذُو خِصْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ وَأَوْلَادٍ، فَإِنْ كَانَتْ يُمْنَى فَقَدْ وُلِدَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ يُسْرَى فَقَدْ نَبَتَتْ لَهُ لِحْيَةٌ فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِهِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا فِي الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ بِوَضْعِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهَا فِي الطَّلَاقِ عِدَّةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ حتى تضع - والله أعلم -. (مسألة) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَإِنْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ مَيِّتًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ. فَإِنَّا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَلْحَقُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا فُرْقَةُ الْمَوْتِ فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ فِيهَا وَلَا تُمْنَعُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا مِنَ الْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَمْلِهَا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ فِي فُرْقَةِ الطَّلَاقِ، وَيَحْكُمُ بِهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَلِوَرَثَتِهِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَضَعَ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا السُّكْنَى وَلَهُمْ إِجْبَارُهَا عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا سُكْنَى لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْوَرَثَةُ لَهَا بِالسُّكْنَى فتمنع من الخروج. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ طَلَّقَ مَنْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ اعْتَدَّتْ شَهْرَيِنِ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَشَهْرًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا مِنَ الشَّهْرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّ عِدَّةَ مَنْ لَا تَحِيضُ بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ مَعَ اسْتِهْلَالِهِ وَقَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، إِمَّا بِأَنْ يُرَاعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِيهِ أَوْ عَلَّقَهُ فِيهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَامِلَةً فَكَانَتْ تِسْعِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً فَكَانَتْ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا أَوْ كَانَ بَعْضُهَا كَامِلًا وَبَعْضُهَا نَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ويسئلونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَكَانَتِ الشُّهُورُ مُعْتَبَرَةً بِالْأَهِلَّةِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ تَرَدَّدَ شَهْرُ الْهِلَالِ بَيْنَ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مُشِيرًا بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَقَدْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ اعْتَدَّتْ بِبَقِيَّتِهِ مِنْ سَاعَةِ طَلَاقِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 وَبِشَهْرَيْنِ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَا كَامِلَيْنِ أَوْ نَاقِصَيْنِ ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ بَعْدَهُ الْعِدَّةَ مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ شَهْرُ الطَّلَاقِ كَامِلًا وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا اعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاعْتَدَّتْ مِنَ الرَّابِعِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَعْتَدُّ مِنَ الرَّابِعِ عِدَّةَ مَا مَضَى مِنْ شَهْرِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَدَدِ مَا فَاتَ مِنْهُ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: الطَّلَاقُ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْأَهِلَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ يَتَّصِلُ فَلَا تَبْتَدِئُهُ إِلَّا فِي غَيْرِ هِلَالٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ تعيين يوماً كاملاً لِفَوَاتِ هِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يُسْتَوْفَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ كَامِلًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا طُلِّقَتْ فِي تَضَاعِيفِ يَوْمٍ لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَقِيَّتِهِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ نَهَارًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا دُخُولُ اللَّيْلِ وَإِنْ طُلِّقَتْ لَيْلًا كَانَ أَوَّلَ عِدَّتِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي يَوْمِ نَقْصِهِ وَزِيَادَتِهِ وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ فِي يَوْمَيْ زِيَادَتِهَا وَنُقْصَانِهَا، وَمَعَ مَالِكٍ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَسْقَطَهَا وَاحْتَسَبْنَاهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الشَّهْرَ إِذَا أُدْرِكَ هِلَالُهُ تَعْتَدُّ بِهِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَإِذَا فَاتَ هِلَالُهُ اسْتُكْمِلَ عِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا فَابْتَدَأَ الصِّيَامَ فِي أَوَّلِ شَهْرٍ اعْتُبِرَ بِمَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالصِّيَامِ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِيَكُونَ بِفَوَاتِ الْهِلَالِ كَامِلًا فَاقْتَضَى أَنْ تَسْتَكْمِلَ الْمُعْتَدَّةُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِفَوَاتِ هِلَالِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: وَتَعْتَدُّ بِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ فِي الشَّهْرِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلَيْنِ وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ لِإِدْرَاكِ هِلَالِهِمَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَدْ زَادَا فِي الْعِدَّةِ بِمَا اسْتَنْقَصَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَلَيْلَتِهِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالنُّقْصَانِ مِنْهَا فِي مُخَالَفَةِ التَّقْدِيرِ وَمُجَاوَزَةِ النَّصِّ، وَلَوْ لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ لَلَزِمَ أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الشَّهْرِ اعْتِبَارًا بِالْكَمَالِ وَفِي فَسَادِ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ دَلِيلٌ عَلَى فساده في بقية اليوم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَوْ حَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِطَرْفَةٍ خَرَجَتْ مِنَ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَاسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ يَخْلُ حَيْضُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَوْ قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الشُّهُورِ أَجْزَأَتْهَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِلْحُكْمِ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ يُؤَثِّرْ حُدُوثُ الْحَيْضِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ صَارَتْ مُؤَيَّسَةً أَجْزَأَتْهَا الْأَقْرَاءُ، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَهَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بَطَلَ الْأَقْرَاءُ، فَهَلَّا كَانَتِ الصَّغِيرَةُ فِي حُدُوثِ الحيض كذلك؟ قيل؛ - لأن الحمل متقدما على الأقراء ما انْتَقَلَتْ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِالشُّهُورِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَلْفِيقُ الْعِدَّةِ مِنْ جِنْسَيْنِ شُهُورٍ وَأَقْرَاءٍ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ مِنْ أَقَرَاءٍ وَشُهُورٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " اسْتَقْبَلَتِ الْأَقْرَاءَ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِيمَا مَضَى مِنْ طُهْرِهَا هَلْ تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ طُهْرٌ بَعْدَهُ حَيْضٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ كَمَا لَوْ طُلِّقَتْ فِي طهرها اعتدت به؛ لأن بعده حيض وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْحَيْضِ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يُحْتَسَبُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ الطُّهْرِ قُرْءًا وَلْتَسْتَقْبِلْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ؛ لِأَنَّ القرء هو طهرين حيضتين فَلَمَّا كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا، كَانَ فَقْدُ الْحَيْضَةِ الْأَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْءًا؛ وَلِأَنَّهَا لَوِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيَاسُ لَمْ تَحْتَسِبْ بِزَمَانِ الْقُرْءِ وَشَهْرٍ وَلْتَسْتَقْبِلَنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِئَلَّا تُلَفَّقَ عِدَّةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ كَذَلِكَ حَيْضُ الصَّغِيرَةِ لَا يُوجِبُ احْتِسَابَ مَا مَضَى مِنَ الشُّهُورِ قُرْءًا لِئَلَّا يَجْمَعَ فِي عِدَّتَيْنِ جِنْسَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَأَعْجَبُ مَنْ سَمِعْتُ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ يَحِضْنَ نساء تهامة لِتِسْعِ سِنِينَ فَتَعْتَدُّ إِذَا حَاضَتْ مِنْ هَذِهِ السِّنِّ بِالْأَقْرَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّ أَقَلَّ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ تِسْعُ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ عَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فَإِنْ وُجِدَتْ عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ من السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَارِضِ، إِمَّا فِي ثَلَاثِ نِسَاءٍ حِضْنَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعٍ، وَإِمَّا فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَاضَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ انْتَقَلْنَا عَنِ التِّسْعِ فِي أَقَلِّهِ إِلَى مَا وَجَدْنَاهُ غَيْرَ أَنَّنَا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فَوَقَفْنَا فِي الْأَقَلِّ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ وُجُودُهُ وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ، فَلَوْ أَنَّ مُعْتَدَّةً رَأَتِ الدَّمَ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ كَانَ دَمَ فساد ولم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 يَكُنْ حَيْضًا فَتَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ وَلَوْ رَأَتْهُ لِتِسْعِ سِنِينَ، وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تحض. (مسألة) قال الشافعي: فَإِنْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَحِضْ قَطُّ اعْتَدَتْ بِالْشُهُورِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الزَّمَانِ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ حَتَّى طَعَنَتْ فِي السِّنِّ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِفَةُ الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ غَالِبِ الْعَادَةِ كَالْحَمْلِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْحَامِلِ فِي بَقَائِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَإِنْ خَالَفَ غَالِبَ الْعَادَةِ فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَأَمَّا إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ حَيْضَهَا قَبْلَهُ وَلَا نِفَاسًا بَعْدَهُ ثُمَّ طُلِّقَتْ فَفِي عِدَّتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِضْ وَوِلَادَتُهَا قَبْلَ الْحَيْضِ كَالْبُلُوغِ الَّذِي تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِالشُّهُورِ إِذَا لَمْ تَحِضْ كَذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ كَالَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ الْإِيَاسِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَيَكُونُ فِيمَا يُعْتَدُّ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا: أَحَدُهَا: تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مُدَّةَ أَوْسَطِ الْحَمْلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَالثَّانِي: تَمْكُثُ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّالِثُ: تَمْكُثُ إِلَى مُدَّةِ الْإِيَاسِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِقُوَّةِ الحمل على الأقراء. (مسألة) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ طَرَحَتْ مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً أَوْ غَيْرَهَا حَلَّتْ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابَيْنِ لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى يَبِينَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ وَهَذَا أَقْيَسُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِسْقَاطَ الْوَلَدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ. وَلَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُضْغَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تكون دونها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمُضْغَةِ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ لِأَنَّهُ دَمٌ فَصَارَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْقُرُوءُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُمْ دَوَامَ الْحَيْضِ فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ الدَّمُ حَتَّى صَارَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَهُوَ دَمُ حَيْضٍ يَتِمُّ بِهِ الطُّهْرُ وَلَا يَكُونُ نِفَاسًا لِأَنَّ النِّفَاسَ مَا اتَّصَلَ بِوَضْعِ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْمُضْغَةِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ خَلْقُهُ وَتَشَكَّلَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّمَامُ وَالِاشْتِدَادُ فَهَذَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ بِهِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ وَيَكُونُ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الدَّمِ نِفَاسًا، وَإِنْ كَانَتْ مُضْغَةً فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ مَنْ عَيْنٍ، أَوْ أُصْبُعٍ، أَوْ تَبِينُ فِيهِ أَوَائِلُ التَّخْطِيطِ وَأَوَائِلُ الصُّورَةِ فَتَتَعَلَّقُ فِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مُشَاهَدًا أَوْ كَانَ خَفِيًّا تُفَرِّقُهُ الْقَوَابِلُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ في الماء الجار فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تبلغ هذا الْحَدَّ وَتَضْعُفَ عَنْ قُوَّةِ الْحَمْلِ الْمُتَمَاسِكِ فَيَكُونُ بِالْعَلَقَةِ أَشْبَهَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَحْوَالِ انْتِقَالِهِ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَحْمًا مُتَمَاسِكًا قَدْ تَهَيَّأَ لِلِانْتِقَالِ إِلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّخْطِيطِ وَلَمْ يَبْدُ فِيهِ تَصَوُّرٌ وَلَا تُخَطُّطٌ لَا ظَاهِرَ وَلَا خفي، فظاهر ما قاله الشافعي ها هنا فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: أَنَّهَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَبَادِئِ الْخِلْقَةِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِ خَلْقُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَتَنْقَضِي بهد الْعِدَّةُ وَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تجب في الْغُرَّةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَإِلْقَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مُسْتَبْرِئٌ لِرَحِمِهَا كَمَا لَوْ تُصُوِّرَ فَلِذَلِكَ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِهِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا انْطَلَقَ اسْمُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ وَثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فَتَعَدَّتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ قَبْلَ التَّصَوُّرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ حُرْمَةٌ تَعَدَّتْ إِلَيْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَمْ تَجِبْ فيه الغرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ وَاجْتَنَبَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِالْحَيْضِ عِدَّتُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَدَّةً بِهِ وَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُهُ غِذَاءً لِلْجَنِينِ وَرُبَّمَا بَرَزَ الدَّمُ فِي حَالِ الْحَمْلِ إِمَّا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ غِذَاءِ الْجَنِينِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ الْجَنِينِ عَنِ الاعتداء بِجَمِيعِهِ فَيَخْرُجُ فَاضِلُ الدَّمِ، وَيَكُونُ عَلَى صِفَةِ الْحَيْضِ وَقَدْرِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، هَلْ يَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُ النِّسَاءُ فِي الْحَيْضِ أَوْ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا حُكْمَ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ حَيْضًا وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ لَا تُمْنَعُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الزَّوْجِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وما تحيض الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَيْضَ يَفِيضُ مَعَ الْحَمْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الدَّمِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فَجَعَلَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَدَلَّ عَلَى تَنَافِي اجْتِمَاعِهِمَا، وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَيْضًا كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْحَمْلِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ عَلَى الْحَمْلِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فلو حاضت لما دل عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ وَلَكَانَتِ الْعِدَّةُ غَيْرَ مُقْتَضِيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهُ يَكُونُ حَيْضًا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَاجْتِنَابِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ إِنَّ لِدَمِ الْحَيْضِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ إِنَّهُ الْأَسْوَدُ الثَّخِينُ الْمُحْتَدِمُ فَأَمَّا إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَتْ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْحَمْلَ لَا يُنَافِي اجْتِمَاعُهُمَا سُنَّةً وَإِجْمَاعًا، وَاسْتِدْلَالًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَلَمَّا رَأَتْ بَرِيقَ أَسَارِيرِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنْتَ أَحَقُّ بِمَا قَالَهُ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ. (وَمُبَرَّأٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ) (وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ حَمَلَتْ بِهِ وَهِيَ حَائِضٌ لِأَنَّ مَا تَحْمِلُهُ في الحيض يكون غير اللَّوْنِ كَمِدَاءٍ وَمَا يَحْمِلُهُ فِي الطُّهْرِ وَضِيءَ الْأَسَارِيرِ صَافِيَ اللَّوْنِ، وَكَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ. وَقَوْلُهُ: وَدَاءٍ مُغْيِلٍ: الْوَطْءُ عَلَى الْحَمْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ يَعْنِي وَطْءَ الْحَامِلِ حَتَّى قِيلَ لِي إِنَّ نِسَاءَ الرُّومِ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُنَّ فَمَوْضِعُ السُّنَّةِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا نَزَّهَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الحمل به في الحيض أُمِّهِ وَعَنْ غِيلَتِهَا بِصِفَتِهِ الَّتِي يُخَالِفُ حَالَ مَنْ حَمَلَتْ بِهِ فِي حَيْضَتِهَا فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهَا، وَلَوْ خَالَفَ الشَّرْعَ لِأَنْكَرَهُ وَنَهَى عَنْهُ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْغِيلَةِ: " أَرَدْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ عَرَفْتُ أَنَّ الرُّومَ لَا يَضُرُّهُمْ " يُرِيدُ فِي الْحَمْلِ الْحَادِثِ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ إِقْرَارِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَافَى فِي اجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعِيًا وَلَدًا وَتَنَازَعَا فِيهِ إِلَى عمر رضي الله تعالى عنه فدعي لَهُ الْقَافَةُ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا، فَدَعَا لَهُ عَجَائِزَ قُرَيْشٍ وَسَأَلَهُنَّ عَنْهُ فَقُلْنَ: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الْأَوَّلِ وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتَخْشَفَ الْوَلَدُ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ الشَّبَهَ مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ شَهِدَهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَسَمِعُوا مَا جَرَى فَأَقَرُّوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِيمَنْ وَطِئَ فِي حَيْضٍ أَوْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى حَائِضٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ لِوُجُودِ زَمَانِ حَمْلِهِ مِنْ وَقْتِ وَطْئِهِ وَعَقْدِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ حَمْلِهَا فِي الْحَيْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاعْتَبَرُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ بَعْدِ انْقِضَاءِ حَيْضَتِهَا فَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ عُلُوقِ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْحَمْلِ جَوَّزْنَاهُ قِيَاسًا، فَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا تُنَافِي عُلُوقَ الْوَلَدِ لَا تنافي الحمل كالظهر لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ حُدُوثُ الْحَمْلِ عَلَى الْحَيْضِ صَحَّ حُدُوثُ الْحَيْضِ عَلَى الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ؛ وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ بِهِ الْحَيْضُ فِي الْغَالِبِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ إِذَا حَدَثَ نَادِرًا كَالرَّضَاعِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَأَخَّرُ بِهِ الحمل، ولأن الأقراء بالعدة أَقْوَى مِنَ الشُّهُورِ وَالْحَمْلَ فِيهَا أَقْوَى مِنَ الْأَقْرَاءِ فَلَمَّا انْتَقَلَتْ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الشُّهُورِ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى الْحَمْلِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ وَفِيهِ انْفِصَالٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنْهُ حُكْمُ الْحَيْضِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَإِنْ تَرَكَتِ الصَّلَاةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ بِخَفَاءِ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ قَضَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ وَقْتِ حَرَكَةِ الْحَمْلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِدَادِ بِهِ مِنَ الْحَيْضِ؛ فَإِنْ صَامَتْ بَعْدَ الْعُلُوقِ وَقَبْلَ حَرَكَتِهِ أَعَادَتْ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ نظر في الدم فإن كان ثخيناً محترماً فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا أَصْفَرَ فَفِي كَوْنِهِ حَيْضًا وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي الْحَمْلِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَفِي وُجُودِ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ وَجْهَانِ كَذَلِكَ هَذَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَا تُنْكَحُ الْمُرْتَابَةُ وَإِنْ أَوْفَتْ عِدَّتَهَا لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي مَا عِدَّتُهَا فَإِنْ نُكِحَتْ لَمْ يُفْسَخْ وَوَقَّفْنَاهُ فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ (قال المزني) رحمه الله جعل الحامل تحيض ولم يجعل لحيضها معنى يعتد به كما تكون التي لم تحض تعتد بالشهور فإذا حدث الحيض كانت العدة بالحيض والشهور كما كانت تمر عليها وليست بعدة وكذلك الحيض يمر عليها وليس كل حيض عدة كما ليس كل شهور عدة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْتَابَةُ فَهِيَ الَّتِي تَمْضِي فِي أَقْرَائِهَا وَهِيَ مُرْتَابَةٌ بِحَمْلِهَا لِمَا تَجِدُهُ مِنْ غِلَظٍ وَتَحُسُّ بِهِ مِنْ نَقْلٍ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ النِّكَاحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَتَّى تزول ريبتها، فإن نكحت قال الشافعي ها هنا لَمْ يُفْسَخِ النِّكَاحُ وَوَقَّفْنَاهُ فَإِنْ بَرِئَتْ مِنَ الْحَمْلِ فَهُوَ ثَابِتٌ وَقَدْ أَسَاءَتْ وَإِنْ وَضَعَتْ بَطَلَ النِّكَاحُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ نَكَحَتِ الْمُرْتَابَةُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ حَالَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَّفَ فِيهِ نِكَاحَهَا إِذَا أُحْدِثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَوُجُودُ الرِّيبَةِ فِيهَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِانْقِضَائِهَا فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَاقِيَةِ فِي عِدَّتِهَا وَإِنِ انْقَضَتْ أَقَرَاؤُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 وَإِذَا صَدَقَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهَا الْحُكْمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَمْ تَنْقَضِ لِمَظْنُونٍ مُجَوِّزٍ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا تَحَقَّقَ مِنْ حَالِ الْحَمْلِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ بَانَ لَهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ وَحَكَّمَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ أَمْضَى الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَعِّضْهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ نَقَضَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَتِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَبْطُلُ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْمَوْضِعَ الَّذِي وُقِفَ فِيهِ نِكَاحُهَا إِذَا حَدَثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَى مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِهِ فَاسْتَوَى فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرِّيبَةِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا فَلِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَاسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ ولدها إذا وضعته لستة أشهر فلذلك وقت نِكَاحُهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ يَنْزِلُ لَهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ بَاطِلًا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ نِكَاحِهَا سَوَاءٌ زالت الريبة أو تحققت بالولادة. والحال الثاني: مَا كَانَ نِكَاحُهَا فِيهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ عُقِدَ عَلَى الصِّحَّةِ فِي الظَّاهِرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْوَهْمِ لكن يكره له وطئها حَتَّى يُنْظَرَ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ رِيبَتِهَا، فَإِنِ انْفَشَّ الْحَمْلُ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَالنِّكَاحُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَالنِّكَاحُ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: مَا كَانَ نِكَاحُهَا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّيبَةُ حَادِثَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي فَفِي النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَوْقُوفٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الرِّيبَةَ قَبْلَ الْعِدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَوْقُوفًا وَعَقْدُ النِّكَاحِ عِنْدَهُ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ إِلَّا عَلَى فَسَادٍ أَوْ صِحَّةٍ قِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ لَا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْإِمْضَاءِ كَمَا يُوقَفُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَسْخِ دون الإمضاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 (مسألة) قال الشافعي رضوان الله عليه: " وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَلَدَيْنِ فَوَضَعَتِ الْأَوَّلَ فَلَهُ الرَّجْعَةُ وَلَوِ ارْتَجَعَهَا وَخَرَجَ بَعْضُ وَلَدِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهُ كَانَتْ رَجْعَةً وَلَا تَخْلُو حَتَّى يُفَارِقَهَا كُلُّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهَا إِذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ، أَوْ خَرَجَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا انْتَقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَبَطَلَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ كَمَا تَنْقَضِي عِدَّةُ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ بِأَوَّلِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ الْحَامِلُ تَقْضِي عِدَّتَهَا بِأَوَّلِ الْحَمْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَوَضْعُ الْحَمْلِ يَكُونُ بَعْدَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَخُلُوِّهِ مِنْ وَلَدٍ مَظْنُونٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ مَعَ بَقَاءِ وَلَدٍ مَوْجُودٍ، فَأَمَّا ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا بِالْأَطْهَارِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَيْضِ لِاسْتِكْمَالِهَا وَالْحَامِلُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يُرَاعَى اسْتِكْمَالُهُ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَجَعَهَا بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَلَوْ نَكَحَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَوِ انْفَصَلَ جَمِيعُ حَمْلِهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَمْنَعُهَا بَقَاءُ النَّاسِ مِنْ نكاح غيره. (مسألة) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " وَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَدْرِ أَقَبْلَ وِلَادِهَا أَمْ بَعْدَهُ فَقَالَ وَقَعَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ فَلِيَ الرَّجْعَةُ وَكَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ وَالْخُلُوَّ مِنَ الْعِدَّةِ حَقٌّ لَهَا وَلَمْ يَدْرِ وَاحِدٌّ مِنْهُمَا كَانِتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَلَا نُزِيلُهَا إِلَّا بِيَقِينٍ وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ دُونَ الثَّلَاثِ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا هَلْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَأَنْ عِدَّتَهَا بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقَنِي قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِهَا وَلَا رَجْعَةَ لَكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: هُوَ يَوْمُ السَّبْتَ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ، هُوَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسَ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ فِعْلِهِ فَرُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ وُقُوعِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ، بَلْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْوِلَادَةِ لِتَأَخُّرِهَا وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ فِعْلِهَا وَمَعْلُومٌ مِنْ جهتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَفِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ، وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَطَلَّقْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ بَلْ طُلِّقْتُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَوَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَالْبَادِي بِالْيَمِينِ أَسْبَقُهُمَا بِالدَّعْوَى، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ الزَّوْجُ بِاللَّهِ مَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا بَعْدَ وِلَادَتِهَا، وَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ بِاللَّهِ مَا وَلَدْتُ إِلَّا بَعْدَ طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزَ وَأَخْصَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَحْلِفَانِ عَلَى صِفَةِ الدَّعْوَى فَتَضْمَنُ يَمِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِثْبَاتَ مَا ادَّعَاهُ وَنَفْيَ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَلَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا طَلَّقْتُهَا إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ طَلَّقَنِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَقَدْ وَلَدْتُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ مَا وَلَدْتُ إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَتَكَرَّرُ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي التَّحَالُفِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْكُلَا فَيُحْكَمُ عِنْدَ نُكُولِهَا بِقَوْلِ أَسْبَقِهِمَا بِالدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُكِمَ لَهُ بِالرَّجْعَةِ، وَعَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُكِمَ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِسْقَاطِ الرَّجْعَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَنْكُلَ الْآخَرُ فَيُحْكَمُ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا دُونَ النَّاكِلِ سَوَاءٌ كَانَ سَابِقًا بِالدَّعْوَى أَوْ مَسْبُوقًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَا مَعًا فَالتَّحَالُفُ مِنْهُمَا وَقَعَ عَلَى حُكْمَيِ الرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ فَأَثْبَتَهُمَا الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ بِيَمِينِهِ وَنَفَتْهُمَا الزَّوْجَةُ عَنْهَا بِيَمِينِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّهِ يَقِينًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُمَا فَتَسْقُطُ رَجْعَةُ الزَّوْجِ بِيَمِينِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهَا وَأَنْفَى لِلتُّهْمَةِ عَنْهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَيَشُكَّا فِي الطَّلَاقِ هَلْ تَقَدَّمَهَا أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَيُحْكُمُ عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الطَّلَاقِ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ وَالْوَرَعُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْتَجِعَ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ وَيَشُكَّا فِي الْوِلَادَةِ هَلْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ أو تأخرت عنه فَيُحْكَمُ لَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ الْوِلَادَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهَا وَالْوَرَعُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِجَوَازِ تَقَدُّمِهَا. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَدْ عَلِمْتِ أَنَّنِي طَلَّقْتُكِ بَعْدَ وِلَادَتِكَ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِعِلْمِهِ بِمَا جَهِلَتْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَلَهَا إِحْلَافُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ دُونَ الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا مَعَ الجهل بأدائها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّنِي وَلَدْتُ بَعْدَ طَلَاقِكَ وَيَقُولَ الزَّوْجُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَلَهُ إِحْلَافُهَا فِي سُقُوطِ الْعِدَّةِ دُونَ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الرَّجْعَةَ مَعَ الْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَجْهَلَا جَمِيعًا وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، هَلْ تَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْوِلَادَةِ أَوْ تَقَدَّمَتِ الْوِلَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ فَلَا تَنْقَضِي بِالشَّكِّ وَأَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ لَا يَرْتَجِعَهَا احتياطاً. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا فَلَمْ يُحْدِثْ لَهَا رَجْعَةً وَلَا نِكَاحًا حَتَّى وَلَدَتْ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَهُوَ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ (قال المزني) رحمه الله فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَهُ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِلِّعَانِ بِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَلَطًا مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ، فَأَمَّا مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ الَّذِي يَعِيشُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ اسْتِنْبَاطًا مِنْ نَصٍّ وَانْعِقَادًا مِنْ إِجْمَاعٍ وَاعْتِبَارًا بِوُجُودٍ. أَمَّا اسْتِنْبَاطُ النَّصِّ فَقَوْلُ اللَّهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف 15] فَجَعَلَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ وَلِفِصَالِ الرَّضَاعِ وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْمُدَّةُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلِّهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِهِمَا أَوْ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ أَوْ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَقَلَّيْهِمَا لِأَنَّ أَقَلَّ الرَّضَاعِ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما لزيادها عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وَأَقَلِّ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّهُ غير محدد فلم يبق إلا أن جَامِعَةً لِأَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ الرَّضَاعِ ثُمَّ ثَبَتَ أن أكثر الرضاع حولين لِقَوْلِ اللَّهِ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُدَّةُ أَقَلِّ الْحَمْلِ. وَأَمَّا انْعِقَادُ الإجماع فما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَوَلَدَتْ فَرَافَعَهَا إِلَيْهِ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهِمَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ خَاصَمْتُكَ الْمَرْأَةُ خَاصَمْتُكَ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَإِذَا ذَهَبَ الْحَوْلَانِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا كَانَ الْبَاقِي لِحَمْلِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِ وَرَجَعَ عُثْمَانُ، وَمَنْ حَضَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْوُجُودِ فَمَا حُكِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وُلِدَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادَةِ أَخِيهِ الْحَسَنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا مُدَّةُ أَكْثَرِ الْحَمْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَبْعُ سِنِينَ وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: رُوِيَ عَنْهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَرُوِيَ خَمْسُ سِنِينَ، وَرُوِيَ سَبْعُ سِنِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مُدَّتِهِ سَنَتَانِ. وبه قال المزني استدلالا بقول اللَّهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَى الْمُدَّتَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ عَنْهُمَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ أَوْ دَلِيلٍ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَاجَ إِلَى حَدٍّ وَتَقْدِيرٍ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ كَانَ مِقْدَارُهُ بِالْعُرْفِ وَالْوُجُودِ كَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ وُجِدَ مِرَارًا حَمْلٌ وُضِعَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ رَوَى دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِنِّي حُدِّثْتُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ الْمِغْزَلِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ وَحَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عشر سَنَةً تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَشْهُورٌ عِنْدَنَا كَانَتِ امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحُولُ وَتَضَعُ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فَكَانَتْ تُسَمَّى حَامِلَةَ الْفِيلِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَأَى رَجُلًا فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هَذَا غَابَ عَنْ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَضَعَتْ هَذَا، وَلَهُ ثَنَايَا. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ يَحْيَى الْمُجَاشِعِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا يَحْيَى ادْعُ لِامْرَأَتِي حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ، وَقَالَ: مَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهَا عَنْهَا السَّاعَةَ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةً فَأَبْدِلْهَا بِهَا غُلَامًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ ثُمَّ رَفَعَ مَالِكٌ يَدَهُ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى غُلَامٍ جَعْدٍ قَطَطٍ ابْنِ أَرْبَعِ سِنِينَ، قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ مَا قُطِعَتْ أَسْرَارُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّقْلُ صَحِيحًا مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ثَبَتَ وُجُودُهُ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اقْتَضَتْهُ وَفِيهِ جواباً. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْتَقَلْنَا عَنْهُ بِالْوُجُودِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي الظَّاهِرِ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ وَضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَلَدًا فَإِنْ رَضَّعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَهُوَ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْغَالِبَ كَمَا يَلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ وَإِنْ نَدَرَ وَخَالَفَ الْغَالِبَ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا نَادِرَيْنِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا. وَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فَوْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا وَالْبَائِنُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ. إِمَّا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، أَوِ الْخُلْعُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، أَوِ الْفَسْخُ بِمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّ الْعُلُوقَ مَعَ حَادِثٍ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِي حَالٍ لَوْ وَطِئَهَا حُدَّ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: أَنَّهَا تَنْقَضِي بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْوِلَادَةِ أَقْوَى وَالْعِدَّةُ تُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بِمَا هُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تُعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الْأَقْرَاءُ انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا فَإِنْ وُجِدَتِ الْوِلَادَةُ انْتَقَلَتْ عَنِ الْأَقْرَاءِ إِلَيْهَا لِقُوَّتِهَا. قَالُوا: وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ لَا يُلْحَقُ بِهِ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَالَّذِي عِنْدِي: أَنَّ عِدَّتَهَا قَدِ انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اعْتَدَّتْ بِهَا دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 مِنْ حَمْلٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْهُ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ امْتَنَعَ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ كَزَوْجَةِ الصَّغِيرِ إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ دُونَ الْحَمْلِ. فَإِنْ قَالُوا: وَلَدُ الصَّغِيرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا ادَّعَاهُ قِيلَ: كَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ لَا يُلْحَقُ به لو ادعاه كما لا يحلق بِالزَّانِي مَا لَمْ يَدَّعِ نِكَاحًا أَوْ شُبْهَةً، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِمُطَلَّقَتِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى تَجَاوَزَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِجَوَازِ أَنْ تَضَعَ وَلَدًا وَهَذَا مَدْفُوعٌ. فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِغَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِهِ، وَهَذِهِ قَدْ حُكِمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِغَيْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَدِمِ الْعِدَّةُ إِلَى حِينِ وَضْعِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَّانِ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَهَذَا نَفَاهُ الشَّرْعُ بِاسْتِحَالَتِهِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ وَيَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ فَانْتَفَى عَنْهُ وَلَدُهَا لِحُدُوثِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا يَنْتَفِي عَنْهُ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ وَتَكُونُ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَعِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُلْحَقُ وَلَدُ الرَّجْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَدُ الْمَبْتُوتَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا، وَمِيرَاثِهَا، وَسُقُوطِ الْحَدِّ فِي وَطْئِهَا فَكَانَ مُخَالَفَتُهَا لِلْمَبْتُوتَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُوجِبًا لِمُخَالَفَتِهَا فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ زَوْجَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ أَجْنَبِيَّةٌ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بعد أربع سنين، هل تقدم أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَأَنَّهَا مَتَى وَلَدَتْهُ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَ الْوَلَدُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَهَذَا بِعِيدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أشبه أنه مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمَبْتُوتَةَ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْوَطْءِ فَصَارَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَبْتُوتَةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي لُحُوقِ وَلَدِهَا أَرْبَعُ سِنِينَ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَحِقَ بِهِ وَانْقَضَتْ به العدة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَانْقَضَتْ عِنْدِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَانِ ثُمَّ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يكون منفياً عنه لا بل اللعان فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ وَأَنَّ الرَّبِيعَ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ لَا بِاللِّعَانِ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ: لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا الْتَصَقَتِ اللَّامُ مِنْ لَا بِأَلِفٍ مِنَ اللِّعَانِ فَقُرِئَ بِاللِّعَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ باللعان ولا حق بِهِ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ لَاحِقٌ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَيَكُونُ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَا لَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ يَعْنِي فِي الْأَغْلَبِ يُجْعَلُ لِلزَّوْجِ عُذْرًا فِي نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (فَصْلٌ) قَالَ المزني: " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ طُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْآخَرِ ولم نلحق به الآخر لأن طلاقه وقع بولادتها ثم لم يحدث لها نكاحاً ولا رجعة ولم يقربه فيلزمه إقراره فكان الولد منتفياً عنه بلا لعان وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه (قال المزني) رحمه الله فوضعها لما لا يلد له النساء من ذلك أبعد وبأن لا يحتاج إلى لعان به أحق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِه ِ مَسْأَلَةٌ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْغَلَطِ فِي النَّقْلِ، فَنَقُولُ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ إِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَانَ الْمَوْلُودُ قَبْلَهَا مُتَقَدِّمَ الْعُلُوقِ عَلَى وِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَصَارَا حَمْلًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَا حَمْلًا وَاحِدًا لَحِقَ بِهِ جَمِيعًا وَطُلِّقَتْ بِالْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي وَلَمْ تُطَلَّقْ بِهِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِمَا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ فَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِالْأَوَّلِ فِي هَذِهِ المسألة رجعي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 وَلَوْ كَانَ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَارَتْ بِهِ مَبْتُوتَةً، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجْعِيًّا، وَوَلَدَتِ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَفِي لُحُوقٍ الثَّانِي بِهِ قَوْلَانِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ إِذَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ: أَحَدُهُمَا: لَا يُلْحَقُ بِهِ كَالْمَبْتُوتَةِ. وَالثَّانِي: يُلْحَقُ بِهِ، وَفِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: لَا تَتَقَدَّرُ وَاعْتِبَارُهُ بِأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّرُ بِمُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وِلَادَةِ ذَاتِ الأقراء والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوِ ادَعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا وَهِيَ تَرَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَكَانَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَعَلَى وَرَثَتِهِ عَلَى عِلْمِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ تَأْتِيَ الْمُطَلَّقَةُ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ وَيُحْكَمُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ فَتَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ، وَإِنَّ الْوَلَدَ بِهِ لَاحِقٌ فَهَذِهِ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ، وَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ: حَيٌّ، وَمَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا سُئِلَ عَنْهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَاسْتَحَقَّتْ فِي الْعَقْدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ بِالرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ كُلِّفَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ شاهدين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة يشهدت لَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَإِنْ أَقَامَتْهَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَإِنْ عَدِمَتْهَا حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ وَانْتَفَى عَنْهُ نَسَبُهُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الرَّهْنِ وَاللِّعَانِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ النِّكَاحِ، أَوِ الرَّجْعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ عَدِمَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، فَإِنْ عَدِمَتِ الْبَيِّنَةَ وَحَلَفَ الزَّوْجُ فَلَا نِكَاحَ وَلَا رَجْعَةَ وَالْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ نَفْيَ لِعَانٍ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالنَّفَقَةِ وَحْدَهَا فِي الرَّجْعَةِ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَفِي وُقُوفِ نِسَبِ الْوَلَدِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجْهَانِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا سُمِّعَتِ الدَّعْوَى عَلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَوْ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ إِنْ كَانُوا عَدَدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَصَدَّقَهَا كَانَ كَتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي ثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَلُحُوقِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَأَمَّا مِيرَاثُ الْوَلَدِ فَيُنْظَرُ فِي الْوَارِثِ الْمُصَدِّقِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ بِالْوَلَدِ كَالِابْنِ وَرِثَ الْوَلَدُ الْمُسْتَحَقَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِهِ كَالْأَخِ ثَبَتَ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَرْثِ لِمَا فِي تَوْرِيثِهِ مِنْ حَجْبِ الْمُقِرِّ وَإِبْطَالِ إِقْرَارِهِ بِحَجْبِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ مَا ادَّعَتْهُ حَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفِي بِيَمِينِهِ فِعْلَ نَفْسِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ وَالْوَارِثَ يَنْفِي يَمِينُهُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ كَانَ كَالزَّوْجِ إن حلف أن نَكَلَ وَقَامَ فِيهَا مَقَامَ الزَّوْجِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الْبَتِّ وَمِنَ الْوَارِثِ عَلَى الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ نَفْيَهُ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ نَفْيُهُ وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَمَاعَةُ سَمِّعَتِ الدَّعْوَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَهُمْ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقُوهَا جَمِيعًا عَلَيْهَا فَيَكُونُ كَتَصْدِيقِ الْوَاحِدِ لَهَا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبُوهَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمُ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفُوا أَوْ نَكَلُوا كَانُوا كَالْوَاحِدِ إِذَا حَلَفَ أَوْ نَكَلَ.. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يصدقها بعضهم ويكذبها بعضهم فاللمكذب حالتان: أحدهما: أَنْ يَحْلِفَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْكُلَ. فَإِنْ حَلَفَ انْتَفَى نَسَبُ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِتَصْدِيقِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يُلْزَمِ الْمُكَذِّبُ مَهْرًا، وَلَا نَفَقَةً، وَلَا مِيرَاثًا، فَأَمَّا الْمُصَدِّقُ فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ مِيرَاثِ الِابْنِ شَيْءٌ وَفِي الْتِزَامِهِ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ بِقِسْطِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ نَكَلَ الْمُكَذِّبُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ حَلَفَتْ ثَبَتَ مَا ادَّعَتْ وَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَهَا جَمِيعُهُمْ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ نَكَلَتْ كَانَ نُكُولُهَا فِي حَقِّهَا كَمَا لَوْ حَلَفَّتِ الْمُكَذِّبَ فَلَا تَسْتَحِقُّ فِي حِصَّتِهِ شَيْئًا وَتَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُصَدِّقِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَفِي مِيرَاثِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَجْهَانِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَلَدِ، فَهَلْ يُوجِبُ نُكُولُهَا عَنِ الْيَمِينِ وُقُوفَهَا عَلَى بُلُوغِ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 أَحَدُهُمَا: لَا يُوقَفُ فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ مَعَ تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوقَفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَوَرِثَ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ حَقِّ مَنْ صَدَّقَ وَكَذَّبَ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا لِرَجْعَةٍ أَوْ نِكَاحٍ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِوَاطِئِ شُبْهَةٍ فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَنْ دَعْوَى الرَّجْعَةِ وَالْعَقْدِ فِي حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِيرَاثُهَا فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا مِيرَاثَ لَهَا. وَالثَّانِي: فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حائلاً، وَفِي نَفَقَتِهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَوْلَانِ، وَهِيَ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا مَضَى تَقْسِيمًا وَحُكْمًا. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَأُصِيبَتْ فَوَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الْآخَرِ وَتَمَامِ أَرْبَعِ سَنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ ابْنَ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لم يمكن من واحد منهما (قال المزني) رحمه الله فهذا قد نفاه بلا لعان فهذا والذي قبله سواء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا زَوْجًا، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْعَدَّةِ وَلَهَا حَالَتَانِ: أحدهما: أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ فَتَكُونُ سَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا غَيْرَ أَنَّ مَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ قَدْ أَسْقَطَ نَفَقَتَهَا إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَسُكْنَاهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنَةً، لِأَنَّهَا قَصَدَتْ بِذَلِكَ إِسْقَاطَ حَقِّ الْمُطَلِّقِ فَسَقَطَ حَقُّهَا عَنِ الْمُطَلِّقِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الثاني، فلها حالتان: أحدهما: أَنْ يَعْلَمَا التَّحْرِيمَ فَيَكُونَ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَاجِبًا لِارْتِفَاعِ الشُّبْهَةِ بِعِلْمِهَا بِالتَّحْرِيمِ وَتَسْرِي فِي عِدَّتِهَا وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي وَلَحِقَ بِالْأَوَّلِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْهَلَا التَّحْرِيمَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِلثَّانِي بِالْإِصَابَةِ وَخَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لِوَاحِدٍ وَمُعْتَدَّةً مِنْ آخر ووجبت أن يفرق بينهما وَبَيْنَ الثَّانِي، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ، وَلَهَا حَالَتَانِ حَائِلٌ، وَحَامِلٌ. فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَالْعِدَّتَانِ بِالْأَقْرَاءِ فَتُقَدَّمُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي لِتَقَدُّمِ وُجُوبِهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 وَلِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَتَبْنِي عِدَّةً عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ إِصَابَةِ الثَّانِي قُرْءًا اعْتَدَّتْ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قُرْأَيْنِ اعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ لِتَسْتَكْمِلَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ وَيَجُوزُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ لِتَحْرِيمِهَا عليه ولا على الثاني لفساد عقده فإنه لَمْ يَرْتَجِعْهَا الْأَوَّلُ فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ كَانَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي زَمَانِ عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَسْقُطُ عَنْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهِ إِنْ تَزَوَّجَهَا. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَمْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالثَّانِي: أَنْ تُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَهُ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا فَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي الثَّانِي بِوَضْعِهِ وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ تَقْدِمَةِ عِدَّةِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ لُحُوقِ الْحَمْلِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْحَمْلُ بِشَخْصٍ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ غَيْرِهِ فَلِأَجْلِ ذلك قدمت عدة الثاني على عدة لأول وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَطَلِّقِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْحَقُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَاحِقًا بِالثَّانِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَتَأْتِي بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدُ مِنَ الْبَقِيَّةِ مِنْ عِدَّتِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لما بقي عليها من عِدَّتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ لَاحِقٌ بِالْمُطَلَّقَةِ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنِ ادعاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 الْقَافَةِ لَهُ، وَيَجُوزُ هُنَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طلاق الأول ولأقل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِأَحَدِهِمَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْتُهُ مِنْ قَبْلُ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُلْحَقُ بِالْمُطَلِّقِ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ عِدَّتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تَنْقَضِي وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ كَذَلِكَ لَا يُلْحَقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِيهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا وَيَكُونُ الْوَلَدُ وَلَدَ زِنًى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ عِدَّةَ الثَّانِي بِالْأَقْرَاءِ وَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَنَدَّعِي لَهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ كَانَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي كَانَ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عَدِمُوا وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ حَتَّى يَنْتَسِبَ بِطَبْعِهِ إِلَى أَبِيهِ مِنْهُمَا، وَتَنْقَضِي إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِوَضْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِوَقْتِهِ فَتَأْتِي بِالْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِظْهَارًا؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِلثَّانِي وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي كَانَ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ الْأَقْرَاءِ احْتِيَاطًا. (مسألة) قال الشافعي: " فإن قيل فكيف لم ينف الْوَلَدُ إِذَا أَقَرَّتْ أُمُّهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ إِقْرَارِهَا؟ قِيلَ لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَحِيضَ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْحَمْلُ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَلْزَمْنَاهُ الْأَبَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا مِنْهُ وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَحِلَّانِ بِانْقِضَاءٍ للأزواج وقال في باب اجتماع العدتين والقافة إن جاءت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلقها الأول إن كان يملك الرجعة دعا له القافة وإن كان لا يملك الرجعة فهو للثاني (قال المزني) رحمه الله فجمع بين من له الرجعة عليها ومن لا رجعة له عليها في باب المدخول بها وفرق بينهما بأن تحل في باب اجتماع العدتين والله أعلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ، أَوِ الْأَقْرَاءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ ثُمَّ وَضَعَتْ وَلَدًا، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وقت الطلاق كان لاحقاً بِالزَّوْجِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا أَوْ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنْ زَوْجٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْمُطَلِّقِ وَلَا يَكُونُ إِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُبْطِلًا لِنَسَبِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلْحَقُ بِهِ وَتَابَعَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِانْقِضَاءِ، عِدَّتِهَا قَدْ أَبَاحَهَا لِلْأَزْوَاجِ فَانْقَطَعَتْ بِهِ أَسْبَابُ الْأَوَّلِ فَلَوْ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ لَمَا كَانَتْ أَسْبَابُهُ مُنْقَطِعَةً وَلَمَا كَانَتْ مُبَاحَةً لِلْأَزْوَاجِ وَلَنَقَضْنَا حُكْمًا قَدْ نَفَذَ عَلَى الصِّحَّةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَمُجَوَّزٍ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَامْتَنَعَ بِهِ لُحُوقُ الْوَلَدِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا أَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ وَانْقِطَاعِ أَحْكَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ وَضَعَتْهُ لَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى عِدَّتِهَا وَمُصَدَّقَةٌ فِي انقضائها فوجب أن يُحْكَمَ بِإِبْطَالِهَا مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَذِبُهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأُمَنَاءِ وَفِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ وَلِأَنَّهَا أَتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا بِحَمْلٍ لِتَمَامٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ وَضَعَتْهُ لِتَمَامٍ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْهُ وَلَدُ أَمَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ حَمْلُ زَوْجَتِهِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ عِدَّتِهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ومعلوم أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ مَقْصُورًا عَلَى أَنْ تَلِدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَهَذَا الْوَلَدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ تَارَةً أُخْرَى ثُمَّ وَافَقُونَا أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ ذَلِكَ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ لَحِقَ بِالْإِمْكَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ كَالْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ لَحِقَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي الِابْتِدَاءِ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلِّ الْحَمْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ فِي الِانْتِهَاءِ لِإِمْكَانِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 وَلِأَنَّهَا قَدْ تَحِيضُ عَلَى الْحَمْلِ فَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَيْضِهَا لَمْ يُوجِبْ إِقْرَارُهَا انْتِفَاءَ النَّسَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهَا وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ إِلْحَاقُ وَلَدٍ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِإِقْرَارِ الْمُفْتَرَشَةِ. أَصْلُهُ: إِذَا أَقَرَّتْ بِمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّسَبِ مَعَ بَقَاءِ الْفِرَاشِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا حُكِمَ بِهِ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِبَاحَتِهَا لِلْأَزْوَاجِ فَلَمْ تَنْقَضِ بِالْجَوَازِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَائِهَا فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ حَدَثَ مِنْ حَمْلِهَا مَا خَالَفَ الظَّاهِرَ فَجَازَ أَنْ يَنْقَضِيَ كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالشُّهُورِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نَقْضِهَا إِذَا انْقَضَتْ بِالْأَقْرَاءِ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ: إِذَا تَزَوَّجَتْ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَابَلَ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا حُكْمُ فِرَاشٍ ثَابِتٍ وَحُكْمُ فِرَاشٍ زَائِلٍ غَلَبَ أَقْوَاهُمَا، وَهُوَ الْفِرَاشُ الثَّابِتُ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجِ انْفَرَدَ حُكْمُ الْفِرَاشِ الزَّائِلِ فَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَالْمَذْهَبُ فِيهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بعد ستة أشهر من استبرائها. وقال فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ: إِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَيُخْرِجُهَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ، فَعَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِيهِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْحُرَّةِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَلَا يُلْحَقُ به ولد الأمة بعد استبرائها والفراق بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَحِقَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ فَلَحِقَ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ وَوَلَدَ الْأَمَةِ لَمَّا لَمْ يُلْحَقْ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِمْكَانِ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْوَطْءِ لَمْ يُلْحَقْ فِي الِانْتِهَاءِ بِالْإِمْكَانِ إِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الْوَطْءِ، ثُمَّ، يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْتَ تُلْحِقُ الْوَلَدَ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَتَنْفِيهِ مَعَ وُجُودِ الْإِمْكَانِ فَنَقُولُ: فِيمَنْ نَكَحَ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَطَلَّقَ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ إِذَا وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْعِلْمُ محيط أنه ليس منه، وتقول فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْعِدَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَفِي هَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ وَعَكْسِ الْمَعْقُولِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَعْنِي فِي وَضْعِ الْوَلَدِ فِي نَفْيِهِ عَنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: يَفْتَرِقَانِ فَيُنْفَى عَنْهُ فِي الْبَائِنِ وَيُلْحَقُ بِهِ فِي الرَّجْعِيِّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الفرق بينهما، والله أعلم بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 (بَابُ لَا عِدَّةَ عَلَى الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بها زوجها) (مسألة) قال الشافعي رحمه لله قال اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيَةَ قَالَ وَالْمَسِيسُ الْإِصَابَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِلَّا بَالْإِصَابَةِ بِعَيْنِهَا لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هَكَذَا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ لِقَوْلِ الله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُطَلِّقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ، وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ كَامِلًا لِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حتيفة - أن الخلوة فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ لَكِنْ يَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا تَكُونُ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَيَكُونُ وَجُودُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالْمِهْرِ كَعَدَمِهَا، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ وَحِجَاجِ الْمُخَالِفِ مَا أَغْنَى عن الإعادة. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنْ وَلَدَتِ الَّتِي قَالَ زَوْجُهَا لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَأَكْثَرِ مَا يَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ يَوْمِ عَقْدِ نِكَاحِهَا لَحِقَ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الْوَلَدَ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُصِيبٌ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي الْمُطَلِّقِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهَا إِلَّا بِنِصْفِ الْمَهْرِ، إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقَاوِيلِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ وَلِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " وَلَا يَنْتَفِي عَنْهُ بِاللِّعَّانِ وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ حَلَفَ وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ فَأَمَّا اسْتِكْمَالُ الْمَهْرِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ فَإِنْ وَافَقَتْهُ عَلَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِاسْتِدْخَالِ مَائِهِ قُبِلَ قَوْلُهَا وَلَمْ يُكْمِلْ مَهْرَهَا مَعَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتِ الْإِصَابَةَ، فَهَلْ تَكُونُ وِلَادَتُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهَا فِي الدُّخُولِ وَاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ بِالْإِصَابَةِ أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ اللَّاحِقِ لِلنَّسَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَسَبِهِ، أَوْ يَنْفِيَ نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ. فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى نَسَبِهِ فَالَّذِي نَقَلَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يُحْكَمُ لها بالإصابة وكمال المهر؛ لأنه لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ شَاهِدٌ لَهَا عَلَى إِصَابَتِهِ قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالْإِصَابَةِ وَلَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ. لِأَنَّهُ قَدْ تَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُهَا بِهِ مِنِ اسْتِدْخَالِ مَائِهِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِاسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ مَعَ الشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الرَّبِيعُ هَلْ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ أَوْ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَهُ تَخْرِيجًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهِ؛ وَأَنَّ ظاهر الحكم محمول عل غَالِبِ الْحَالِ دُونَ نَادِرِهَا، وَالْغَالِبُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْوَطْءِ دُونَ الِاسْتِدْخَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ وَشَاهِدًا فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ نَقْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ رَاوِي أَقَاوِيلِهِ، وَحَاكِي مَذَاهِبِهِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قولين أو على اختلاف حالين؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالثَّانِي: لَا يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا حَكَاهُ الرَّبِيعُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُكَمَّلُ بِهِ الْمَهْرُ إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ إِنْكَارِ الزَّوْجِ لِلْإِصَابَةِ وَقَبْلَ اخْتِلَافِهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَمْ يَنْبَرِمْ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يُكَمَّلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 إذا كانت الولادة بعد إحلافه عليها انبرام الْحُكْمِ فِيهَا فَلَمْ يَتَعَقَّبْ بِنَقْضٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قَدْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِنَّ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ كَجُحُودِهِ لِوِلَادَتِهِ وَيَصِيرُ كَاخْتِلَافِهِمَا لَوْ لَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ فَلَا يَكُونُ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ وَسَوَّى بين جحوده وولادته وبين فيه، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي بَلْ حُكْمُ نَسَبِهِ قَدْ ثَبَتَ فَتَثْبُتُ بِهِ الْوِلَادَةُ، وَإِنَّمَا اسْتَأْنَفَ نَفْيَهُ بَعْدَ لُحُوقِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَنْ لَمْ يُلْحِقْ نَسَبَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يُسْتَكْمَلَ بِهِ مَهْرُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ خَلَا بِهَا فَقَالَ لَمْ أُصِبْهَا وَقَالَتْ قَدْ أَصَابَنِي وَلَا وَلَدَ فَهِيَ مُدَّعِيَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَاخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نَصْفُهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ يَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُنْكِرِهَا مَعَ يَمِينِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِيهَا وَفِي وُجُوبِهَا الْيَمِينَ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْخَلْوَةَ كَالْإِصَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنِ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى عِنْدَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ أَنْكَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ الْعِدَّةُ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ وَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا وَإِنْ أَنْكَرَتِ الْإِصَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلنَّفَقَةِ فَقَدْ مُنِعَتْ بِالْعِدَّةِ مِنَ الزَّوْجِ فَاسْتَحَقَّتْ بِالْمَنْعِ النَّفَقَةَ. فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا لَمْ يَسْتَرْجِعِ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَمْ تَأْخُذْ إِلَّا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هِيَ الزَّوْجَةَ فَلَهَا إِذَا حَلَفَتْ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ جَاءَتْ بِشَاهِدٍ بِإِقْرَارِهِ أَحْلَفْتُهَا مَعَ شَاهِدِهَا وَأَعْطَيْتُهَا الصَّدَاقَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ فِي الْإِصَابَةِ قَوْلَ مُنْكِرِهَا إِمَّا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِمَّا مَعَ وُجُودِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُنْكِرِهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ حُكِمَ لَهَا فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لَمْ يُحْكَمْ لَهُ فِي الْإِصَابَةِ بِإِقْرَارِهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الزَّوْجَةِ لِلْإِصَابَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ فِي اسْتِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَالْمَالُ يُحْكَمُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَدَعْوَى الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 (بَابُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ وَزَوْجٍ غَائِبٍ) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " وَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ يَقِينَ مَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ أَيِّ عِلْمٍ اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ كَانَتْ فِيهِ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا لِأَنَّهَا مُدَّةٌ وقت مَرَّتْ عَلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " تَعْتَدُّ مِنْ يَوْمِ تَكُونُ الْوَفَاةُ أَوِ الطَّلَاقُ " وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَ، أَوْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهِ فَعِدَّتُهَا إِذَا عَلِمَتْ بِطَلَاقِهَا أو موته في حِينِ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ لَا مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَبَرٍ. وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ عَلِمَتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ اعْتَدَّتْ بِمَا مَضَى، وَإِنْ عَلِمَتْهُ بِخَبَرٍ اعْتَدَّتْ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَالتَّرَبُّصُ فِعْلٌ مِنْهَا مَقْصُودٌ فَخَرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فِي سَفَرٍ بِالْقَدُومِ فَلَمَّا عَلِمَتْ بِقَتْلِهِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ لَهَا: امْكُثِي فِي بَيْتِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَأَمَرَهَا بِاسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ لِوَقْتِهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِهَا مَا مَضَى، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ فِي الْعِدَّةِ بِالْإِحْدَادِ، وَاجْتِنَابِ الطِّيبِ وَأَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَسْكَنِهَا، وَهِيَ قَبْلَ عِلْمِهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ لِأَحْكَامِ الْعِدَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَعْتَدُّنَّ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى اتِّصَالِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا، وَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 لَمْ تَعْلَمْ بِطَلَاقِهَا كَذَلِكَ إِذَا أَمْضَتْ أَقَرَاءَهَا وَشُهُورَهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهَا قَبْلَ عِلْمِهَا بِطَلَاقِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ مُطَلَّقَةً فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ فَثَبَتَ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ أَوْ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا فَبَطَلَ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ تُجْرِيَهَا عَلَيْهَا كَالْعَالِمَةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ التَّرَبُّصُ بِنَفْسِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْعِلْمِ مُؤَثِّرًا كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فيها غير معتبرة، ولأنها لو علمت فتوت أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ وَتَرَكَتِ الْإِحْدَادَ، وَاسْتَعْمَلَتِ الطِّيبَ وَخَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهَا، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَضَتْ مدة العدة أجزائها، وَإِنْ كَانَتْ عَاصِيَةً فِيمَا فَعَلَتْ وَاعْتَقَدَتْ، وَالَّتِي لم تعلم غير عاصية فكان بأن يجزها أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ وُجُودُ التَّرَبُّصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَاقْتَضَى إِجْزَاءَهُ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ فُرَيْعَةَ فَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا بِالْمُكْثِ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِدَامَةَ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فَإِنَّهَا غير قاصد لِلْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْقَصْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِمَا ذَكَرْنَا وَالْإِحْدَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَيْسَ لِلْجَهْلِ بِحَالِهَا تَأْثِيرٌ إِلَّا فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ وَتَرْكُ الْإِحْدَادِ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِصَحَّ الْإِجْزَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 (باب في عدة الأمة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي حَدِّ الزِّنَا فَقَالَ فِي الإماء {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَذَكَرَ الْمَوَارِيثَ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ وَفَرَضَ اللَّهُ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَفِي الْمَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشراً وسن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَبْرَأَ الْأَمَةُ بِحَيْضَةٍ وَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الْحَرَائِرِ اسْتِبْرَاءً وَتَعَبُّدًا وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ عدة الأمة نصف عدة الحرة فيما له نِصْفٌ مَعْدُودٌ فَلَمْ يَجُزْ إِذَا وَجَدْنَا مَا وَصَفْنَا مِنَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْفَرْقِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ عِدَّةَ الْأَمَةِ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ فِيمَا لَهُ نِصْفٌ فَأَمَّا الْحَيْضَةُ فَلَا يُعْرَفُ لَهَا نِصْفٌ فَتَكُونَ عِدَّتُهَا فِيهِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ مِنَ النِّصْفِ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ مِنَ النِّصْفِ شَيْءٌ وَذَلِكَ حَيْضَتَانِ. وَأَمَّا الْحَمْلُ فَلَا نِصْفَ لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَطْعِ نِصْفٌ فَقُطِعَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا طُلِّقَتِ الْأَمَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْعِدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عِدَّةٌ بِالْحَمْلِ، وَعِدَّةٌ بِالْأَقْرَاءِ وَعِدَّةٌ بِالشُّهُورِ. فَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْحَمْلِ فَتَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلا بوضع الحمل لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِدَّةِ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَلَا يَبْرَأُ رَحِمُ الْحَامِلِ إِلَّا بِالْوِلَادَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحُرَّةُ والأمة وأما العدة بالأقراء، فعدة الأمة قرءان بِخِلَافِ الْحُرَّةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَالْحُرَّةِ اسْتِدْلَالًا بقول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَذِمِّيَّةٍ، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لِمَّا سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْحَمْلِ وجب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، لِأَنَّهَا عِنْدَنَا فُرْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلْحُرَّةِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ، وَالسُّكْنَى فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَهَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ". وَرَوَى مُظَاهِرُ بْنَ أَسْلَمَ عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ الْتِوَاءً، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا عَدَا بِحَسَبِ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسْتَبْرَأِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ فِي الْمِلْكِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ لِنَقْصِهَا بِالرِّقِّ وَعَدَمِ الْعَقْدِ وَاسْتِبْرَاءَ الْحُرَّةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِكَمَالِهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْدِ وَنِكَاحُ الْأَمَةِ مُنَزَّلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَاوَتِ الْحُرَّةَ فِي الْعَقْدِ، وَشَارَكَتِ الْأَمَةَ فِي الرِّقِّ فَصَارَتْ مُقْتَصِرَةً عَنِ الْحُرَّةِ بِالرِّقِّ وَمُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأَمَةِ بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْهِمَا فِي الْحُرْمَةِ فَتَزِيدُ عَلَى الْأَمَةِ قُرْءًا بِالْعَقْدِ، وَتَنْقُصُ عَنِ الْحُرَّةِ قرءاً بالرق فيكون عليها قرءان. فأما الآية فمخصوصة العموم بما ذكرنا. أما الْحَمْلُ فَإِنَّمَا سَاوَتِ الْأَمَةُ فِيهِ الْحُرَّةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَأَمَّا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فَهِيَ فِي أَكْثَرِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْعِدَّةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَمَةِ بِالشُّهُورِ فَعِدَّةُ وَفَاةٍ، وَعِدَّةُ طَلَاقٍ. فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرَّةِ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، لِأَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْرَاءِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى الْحُرَّةِ؛ وَفِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ الْأَمَةُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَقَيْسُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِصْفِهَا، شَهْرًا وَنِصْفًا لِيُجْزِئَهَا عَلَى الصِّحَّةِ كَالْعِدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ بَدَلًا مِنْ قُرْأَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ فِي مُقَابِلِهِ قُرْءٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَحْوَطُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُطَهِّرُ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً " وَهُوَ فِي حَالِ الْمُضْغَةِ يَتَخَلَّقُ وَيَتَصَوَّرُ وَتَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَمِنْ غِلَطِ الْجَوْفِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الشهر الثالث. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ أَكْمَلَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ وَهِيَ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا وَيَتَوَارَثَانِ فِي عِدَّتِهَا بِالْحَرِيَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَأَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا مِنْ عِتْقِ السَّيِّدِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِتْقُ عَلَى الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: إِذَا أُعْتِقْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لَهَا: إِذَا طُلِّقْتِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَيَلْزَمُهَا فِي اجْتِمَاعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْعِدَّةِ إِلَّا وَهِيَ حُرَّةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ الطَّلَاقُ عَلَى الْعِتْقِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَا حَدَثَ مِنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي زَمَانَهُ يَقْتَضِي حُكْمَهُ كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ شُهُورِهَا وَأَيِسَتِ الْكَبِيرَةُ بَعْدَ أَقْرَائِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُعْتَقَ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا فَتَبْنِي عِدَّتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ تَقْضِي عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَمَذْهَبُهُ في الجديد كله، وأحد قوليه في القديم أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ، وَلَهُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ فَتَرَتَّبَ له في اعتدادها من الطلاقين ثلاث أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الرِّقِّ لَا يُعْتَبَرُ بِحُدُوثِ الْعِتْقِ كَأُمِّ الْوَلَدِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَبَعَّضَ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِيهَا عِدَّةَ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اخْتَلَفَ بِهِ الْعِدَّةُ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ كَالشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِلْعِدَّةِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْمُعْتَدَّةِ كَالْمُسْتَرِيبَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِدَّةَ أَمَةٍ وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِنَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ، وَالرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا فِي الْعِدَّةِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهَا الْبَائِنُ وَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ عِدَّةِ الرِّقِّ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْبَائِنُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَتُكْمِلُ مِنْهُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، وَهِيَ أَمَةٌ فَتُعْتَقُ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا، فَقَدْ وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعِتْقِ لِارْتِفَاعِهِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ فَسَخَتْ لَمْ يَكُنْ لِفَسْخِهَا تَأْثِيرٌ وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا أَمَةً، وَصَارَتْ فِي انْتِهَائِهَا حُرَّةً، فَهَلْ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَمْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا فَلَهَا بِالْعِتْقِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَهُ وَحُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ جَارٍ عَلَيْهَا بِالرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا الْفَسْخُ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِهِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ فَإِنْ أَرَادَتْ تَعْجِيلَهُ كَانَ لَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِالطَّلَاقِ جَارِيَةٌ فِي فَسْخٍ فَلَمْ يُنَافِ الْفَسْخَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَسْتَفِيدُ بِهِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، فَإِذَا فَسَخَتْ، فَهَلْ يَكُونُ فَسْخُهَا قَاطِعًا لِرَجْعَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَقْطَعُ رَجْعَةَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ طَلَاقِهِ، فَعَلَى هَذَا إن راجع الزوج وقعت الفرقة بالفسخ فدون الطَّلَاقِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِالْعِدَّةِ وَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرَاجِعِ الزَّوْجُ فَالْفُرْقَةُ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ فَيَكُونُ أَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ بَدَأَتْ بِهَا وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ صَارَتْ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 تَضَاعِيفِهَا حُرَّةً فَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عدة حرة؟ على ما مضى من القولين. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ قَدْ قَطَعَ رَجْعَةَ الزَّوْجِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْإِبَاحَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنْ رَجْعَةِ مَنِ ارْتَدَّتْ، فَعَلَى هَذَا يُغَلَّبُ فِي الْفُرْقَةِ حُكْمُ الطَّلَاقِ أَوْ حُكْمُ الْفَسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ حُكْمُ الطَّلَاقِ لِتَقَدُّمِهِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ أَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْفَسْخِ لِقُوَّتِهِ فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ حُرَّةٍ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْفَسْخَ مَا وَقَعَ إِلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لَكِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مضى من وقت الطلاق ولا تبدئها م وَقْتِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ قَدْ أَبْطَلَ الرَّجْعَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَوَّلَ بِهِ الْعِدَّةُ. (فَصْلُ) وَإِنْ أَخَّرَتِ الْفَسْخَ وَلَمْ تُعَجِّلْهُ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنْهُ مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا الزَّوْجُ وَلَا يَكُونُ، إِمْسَاكُهَا عَنْهُ اخْتِيَارًا لِلزَّوْجِ وَرِضًا بِالْمُقَامِ مَعَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَأَثَّرَ سُقُوطُ الْخِيَارِ، وَالْمُطَلَّقَةُ لَا يُؤَثِّرُ رِضَاهَا فِي الِاسْتِبَاحَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ فَعَلَى هَذَا الزَّوْجِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَمْضِيَ الْعِدَّةُ فَتَكُونَ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِالطَّلَاقِ، وَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مَعَ زَوَالِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَوْ عَلَى عِدَّةِ حُرَّةٍ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ فَتَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَصَارَتْ كَزَوْجَةٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا طَلَاقٌ، فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ أَحْدَثَ لَهَا رَجْعَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُصِبْهَا بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لم تمسس (قال المزني) رحمه الله هذا عندي غلط بل عدتها من الطلاق الثاني لأنه لما راجعها بطلت عدتها وصارت في معناها المتقدم بالعقد الأول لا بنكاح مستقبل فهو في معنى من ابتدأ طلاقها مدخولاً بها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُطَلِّقٍ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَتِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الْثَانِي وَقَدِ انْهَدَمَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ بِالْإِصَابَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِالثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 وَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ سَقَطَتِ الْعِدَّةُ عَنْهَا وَحَلَّتْ للأزواح؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالرَّجْعَةِ فَسَقَطَتْ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ رَجْعَةٍ حَلَّتْ مِنْ إِصَابَتِهِ فَصَارَ كَطَلَاقٍ فِي نِكَاحٍ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ عِدَّةٌ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَأَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ فِي يَوْمٍ عِشْرُونَ زَوْجًا يَدْخُلُ بِهَا كل واحد منهم ولم تَعْتَدُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا وَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَسْقُطُ الْعِدَّةُ وَتَنْكِحُ آخَرَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَى عِشْرِينَ زَوْجًا، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ، وَقَوْلُ دَاوُدَ: يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ مَنْ شَاءَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي غَيْرُ مُحْتَسَبٍ بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ كَانَتْ فِرَاشًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ، لأن الفراش إِبَاحَةٌ وَالْعِدَّةَ تَحْرِيمٌ فَصَارَا ضِدَّيْنِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَجْتَمِعَا، فَأَمَّا مَا مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَهَلْ تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ وَتَبْنِي عِدَّةَ الطَّلَاقِ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا دُخُولٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِمَا مَضَى قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ قَدْ هَدَمَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ تَعَقَّبَهَا دُخُولٌ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ أَنَّهَا تُبْنَى عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، لَا تَسْتَأْنِفُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَدَلِيلُهُ ثلاثة أشياء: أحدها: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فَلَوْ أَوْجَبَتِ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ لَصَارَ مُمْسِكًا لَهَا إِضْرَارًا بِهَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الرَّجْعَةِ هُوَ الْإِصَابَةُ وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ بِأَقْوَى مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ إِذَا خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ إِذَا خَلَتْ مِنْ إِصَابَةٍ فَإِذَا رَفَعَهَا صَارَ كَطَلَاقٍ بَعْدَ طَلَاقٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهَا رَجْعَةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ لِبِنَاءِ الْعِدَّةِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِئْنَافَ العدة من الطلاق الثاني مفضي إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي لِأَنَّهُ طَلَاقٌ خَلَا مِنْ إِصَابَةٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا، حُمِلَ الطَّلَاقُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ فَدَلِيلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَارْتَفَعَ بِهَا حُكْمُ الطَّلَاقِ فَصَارَ الطَّلَاقُ الثَّانِي هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا قَدْ تَسْرِي فِي الْعِدَّةِ بِطَلَاقِهِ كَمَا تَسْرِي فِيهَا بِرِدَّتِهِ وَالْعِدَّةُ تَرْتَفِعُ بِرَجْعَتِهِ كَمَا تَرْتَفِعُ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ اسْتَأْنَفَ الْعِدَّةَ وَلَمْ يَبْنِ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ اسْتَأْنَفَ الْعَدَّةَ وَلَمْ تَبْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ القولين بعد ما قَدَّمْنَا مِنْ إِبْطَالِ قَوْلِ دَاوُدَ فِي إِسْقَاطِهِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ نُظِرَ فِيمَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْأَيْنِ فَلَوْ كَانَ قَدْ مَضَى لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وقبل الطلاق الثاني قرءان لَمْ تَعْتَدَّ بِهِمَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ فِرَاشًا وَزَمَانُ الِافْتِرَاشِ غَيْرُ مُحْتَسَبٍ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَاضِي في العدة قبل الرجعة قرءان اعْتَدَّتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي بِقُرْءٍ وَاحِدٍ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي لَهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ قرء واحد وَبَعْضَ الثَّانِي لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَعْضِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لَا يَتَبَعَّضُ وَاحْتُسِبَ قُرْءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا حَتَّى لَوْ رَاجَعَهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنِ اسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ هَدَمَتِ الرَّجْعَةُ جَمِيعَ مَا مَضَى وَلَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ عدة كاملة. (فصل) ثم يتفرع ما ذكرنا فرعين: أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَرَتْ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ جَازَ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ منه حفظاً لِمَائِهِ فَلَمْ يَمْنَعِ اسْتِئْنَافَ عَقْدِهِ كَمَا لَوِ اعْتَدَّتْ مِنْهُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُمَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ " فإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ نِكَاحِهِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفِ الْعَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي قَوْلًا وَاحِدًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الْخُلْعِ كَمَا لَا تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ ثَانٍ خَلَا مِنْ دُخُولٍ فَلَمْ يَجِبْ بِالطَّلَاقِ فِيهِ عِدَّةٌ وَلَزِمَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِالْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَتِ الْمُطَلَّقَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَاجَعَهَا فَصَارَتْ مَعَهُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فَجَرَى عَلَى مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَهَذَا فَرْقٌ، وَدَلِيلٌ، وَلَكِنْ نُحَرِّرُهُ قِيَاسًا، فَنَقُولُ: كُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُوجِبِ الْعِدَّةَ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُوجِبْهَا بِانْضِمَامِهِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُخَالِعَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ صَارَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ ثُمَّ رَاجَعَ ثُمَّ طَلَّقَ فَهَلْ تَبْنِي على العدة أن تَسْتَأْنِفُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالطَّلَاقِ أَيْضًا فَتَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَسْخَ جِنْسٌ يُخَالِفُ جِنْسَ الطَّلَاقِ فَاقْتَضَى اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ أَنْ لَا يَبْنِيَ عِدَّةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَلَا تَبْنِيهَا عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ثَمَّ عُتِقَتْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَبْنِيَ عَلَى الْعِدَّةِ الْأُولَى وَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَأْنِفُ عِدَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعَانِي الْأَزْوَاجِ والثاني: أن تكمل عدة حرة (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ ومما يدلك على ذلك قوله في المرأة تعتد بالشهور ثم تحيض إنها تستقبل الحيض ولا يجوز أن تكون في بعض عدتها حرة وهي تعتد عدة أمة وكذلك قال لا يجوز أن يكون في بعض صلاته مقيما ويصلي صلاة مسافر وقال هذا أشبه القولين بالقياس (قال المزني) رحمه الله وما احتج به من هذا يقضي على أن لا يجوز لمن دخل في صوم ظهار ثم وجد رقبة أن يصوم وهو ممن يجد رقبة ويكفر بالصيام ولا لمن دخل في الصلاة بالتيمم أن يكون ممن يجد الماء ويصلي بالتيمم كما قال لا يجوز أن تكون في عدتها ممن تحيض وتعتد بالشهور في نحو ذلك من أقاويله وقد سوى الشافعي رحمه الله في ذلك بين ما يدخل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 فيه المرء وما بين ما لم يدخل فيه فجعل المستقبل فيه كالمستدبر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَذَكَرْنَا حُكْمَ عِتْقِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ بِمَا أغنى عن إعادته. (مسألة) قال الشافعي: " وَالطَّلَاقُ إِلَى الرَّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَثَرِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا سِوَى هَذَا مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُقَامُ عَلَيْهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُحْصَنَ يَزْنِي بِالْأَمَةِ فَيُرْجَمَ وَتُجْلَدَ الْأَمَةُ خَمْسِينَ وَالزِّنَا مَعْنًى وَاحِدٌ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ حَالِ فَاعِلِيهِ فَكَذَلِكَ يُحْكَمُ لِلْحُرِّ حُكْمَ نَفْسِهِ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أَمَةً على الْأَمَةِ عِدَّةُ أَمَةٍ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمَا: أَحَدُهُمَا: فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ فيه حَالُ الزَّوْجَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: فِي الطَّلَاقِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حال الزَّوْجِ فِي حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ أَوْ حَالُ الزَّوْجَةِ فاعتبره أبو حنيفة بحال الزوجة، واعتبر الشَّافِعِيُّ بِحَالِ الزَّوْجِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَالِ الْفَصْلَيْنِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 (باب عدة الوفاة) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا عَلَى الْحُرَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَقَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ " قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا وَضَعَتْ حَلَّتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِحَوْلٍ كامل قال الله: {والذي يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ " [البقرة: 240] فَكَانَتِ الْعِدَّةُ سَنَةً وَلَهَا فِي الْعِدَّةِ النَّفَقَةُ فَنُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالْمِيرَاثِ، وَنُسِخَتِ السَّنَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَقَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَصَارَ الْحَوْلُ بِهَا مَنْسُوخًا فَإِنْ قِيلَ: فَنَسْخُ الشُّهُورِ بِالْحَوْلِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ الْحَوْلِ بِالشُّهُورِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آيَةَ الْحَوْلِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَنْ آيَةِ الشُّهُورِ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ لِمَا تَقَدَّمَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَوْلَ أَعَمُّ مِنَ الشُّهُورِ وَأَزْيَدُ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالنُّقْصَانِ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ آيَةِ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّسْخِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التَّنْزِيلِ لَا بِالْمُتَأَخِّرَةِ فِي التِّلَاوَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تِلَاوَةً مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ وَتَتأَخَّرَ تِلَاوَةً مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] نزل بَعْدَ قَوْلِهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي التِّلَاوَةِ وَكَقَوْلِهِ {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] مُتَقَدِّمٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى قَوْلِهِ {إن أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ في التلاوة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى آيَةِ الْحَوْلِ. قُلْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَقْلٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَوْلَ تَقَدَّمَ فِعْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَا خَالَفَهُ طَارِئًا عَلَيْهِ قَالَ لَبِيدٌ. (إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ) فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَقَدُّمُ الْحَوْلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ صَارَتْ آيَةُ الشُّهُورِ بَعْدَهَا فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ، وَهَلَّا كَانَتِ التِّلَاوَةُ مُتَرَتِّبَةً عَلَى التَّنْزِيلِ؟ قِيلَ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا تَارَةً وَأَمَرَ بِهَذَا تَارَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ تَرْتِيبَ التِّلَاوَةِ عَلَى التَّنْزِيلِ فُقُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَقَدَّمَ تَنْزِيلُهُ وَأُخِّرَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَقَدِ انْقَضَى وَإِنْ قُدِّمَتْ تِلَاوَةُ مَا تَأَخَّرَ تَنْزِيلُهُ فَلِسَبْقِ الْقَارِئِ إِلَى تِلَاوَتِهِ وَمَعْرِفَةِ الثَّابِتِ مِنْ حُكْمِهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يُقِرَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ مَنْسُوخِ الْحُكْمِ أَجْزَأَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أشهر وعشر بخبرين: أحدهما: مارواه الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ". وَالثَّانِي: مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قالت جاءت امرأة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: يا رسول الله إن بنتي توفي زَوْجُهَا وَقَدْ رَمِدَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 عَيْنُهَا أَفَأَكْحُلُهَا فَقَالَ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ حَوْلًا ثُمَّ تَرْمِي بالبعرة، وإما هي أربعة اشهر وعشراً. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى إِلْقَائِهَا لِلْبَعْرَةِ عَلَى قَبْرِهِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَنَّنِي قَدْ أَدَّيْتُ حَقَّكَ وَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي كَإِلْقَاءِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا لَقِيتُهُ فِي الْحَوْلِ مِنَ الشِّدَّةِ هِيَ فِي عِظَمِ حَقِّكَ عَلَيَّ كَهَوَانِ هَذِهِ الْبَعْرَةِ فَأَتَتِ السُّنَّةُ بِهَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ، وَإِنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَاسِخَةٌ لَآيَةِ الْحَوْلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ النَّسْخِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَسَخَتْ جَمِيعَ الْحَوْلِ ثُمَّ ثَبَتَ بِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ آيَةَ الشُّهُورِ نَسَخَتْ مِنْ آيَةِ الْحَوْلِ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَبَقِيَ الْحَوْلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِآيَةِ الْحَوْلِ وَآيَةُ الشُّهُورِ مَقْصُورَةٌ عَلَى نَسْخِ الزِّيَادَةِ وَمُؤَكِّدَةٌ لِوُجُوبِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ فِي حُكْمٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ صَغِيرَةٍ، أَوْ كَبِيرَةٍ، عَاقِلَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ، مَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا تَقْتَضِيهِ عُمُومُ الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَكْمَلَتِ الْمَهْرَ بِالْمَوْتِ كَالدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ بِهِ الْعِدَّةُ كَالدُّخُولِ، وَلِأَنَّ غَايَةَ النِّكَاحِ اسْتِيعَابُ زَمَانِهِ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْلَبَ حُكْمُ كَمَالِهِ بِسُقُوطِ الْعِدَّةِ كَمَا لَمْ يُسْلَبِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمَسُّكُ الْمَيِّتِ بِعِصْمَتِهَا وَقَطْعُ الْمُطَلِّقِ لَهَا فَلَزِمَ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُطَلِّقَ حَيٌّ يَسْتَظْهِرُ لِنَفْسِهِ أَنْ أُلْحِقَ به تسب أَوْ نُفِيَ عَنْهُ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهِ مَقْصُورَةً عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَيْسَ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ اسْتِبْرَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ فَاسْتَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَبُّدًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الدُّخُولُ (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِلًا، أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَعِدَّتُهَا بِالشَّهْرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِلْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي حَقِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 حَيٍّ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا لِنَفْسِهِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْمَيِّتِ بِالشُّهُورِ لِتَكُونَ مُسْتَوْفَاةً بِزَمَانٍ فِيهِ اسْتِظْهَارٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَادَ عَلَى شُهُورِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ بِالشُّهُورِ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ لَيَالٍ فَأَسْقَطَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَدًا يَنْطَلِقُ عَلَى الليالي دون الأيام؛ لأنه قال " وعشراً)) بِحَذْفِ الْهَاءِ فَتَنَاوَلَتْ مَا كَانَ مُؤَنَّثًا فِي اللَّفْظِ وَهُوَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْآحَادِ مَحْذُوفُ الْهَاءِ وَلَوْ أَرَادَ الْأَيَّامَ لَقَالَ وَعَشْرَةً بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ كَمَا قَالَ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَيَّامَ دَاخِلَةٌ فِيمَا قَبِلَ الْعَاشِرِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهَا فِي الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِ الْعَدَدِ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّيَالِي يَقْتَضِي دُخُولَ الْأَيَّامِ مَعَهَا وَإِطْلَاقَ الْأَيَّامِ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيَالِي مَعَهَا. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الْهَاءَ تَدُلُّ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَعَدَمَهَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَنَّثِ إذا كان كان العدد مفسراً فيقال عشرة أيام وعشرة لَيَالٍ، فأمَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَيَّامَ الَّتِي يَكُونُ الصَّوْمُ فِيهَا دُونَ اللَّيَالِي. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا سَوَاءٌ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ حَلَّتْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنَ الشُّهُورِ أَوِ الْحَمْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِدَادِهَا بِالْحَمْلِ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَالَ أَيُّ آيَةٍ قُلْتُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ نَعَمْ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 مُتَّفِقَةٍ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا وَأَنَّهُ لَقِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلُوهُ فَوَضَعَتْ سُبَيْعَةُ حَمْلَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ فَمَرَّ بِهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ وَكَانَ يُرِيدُ خِطْبَتَهَا وَقَدْ كَرِهَتْهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْخٌ وَقَدْ خَطَبَهَا شَابٌّ فَقَالَ: أَرَاكِ قَدْ تَصَنَّعْتِ لِلْأَزْوَاجِ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته بذلك فقال: كذب أو السَّنَابِلِ: قَدْ حَلَلْتِ قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ. وَقَوْلُهُ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ يَعْنِي أَخْطَأَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ. (كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا) قِيلَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي لَمْ يَعِشْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهَا إِلَّا شُهُورًا. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: يَا سُبَيْعَةُ أَرْبِعِي بِنَفْسِكَ فَتَأَوَّلَهُ مَنْ أَلْزَمَهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ أَقِيمِي فِي رَبْعِكِ لِبَقَائِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَتَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِ اسْكُنِي أَيَّ رَبْعٍ شِئْتِ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَرْسَلُوا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهُمْ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهَا. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ لِذَلِكَ بِمَعْنًى صَحِيحٍ، فَقَالَ: لَمَّا لَحِقَهَا التَّغْلِيظُ إِذَا تَأَخَّرَ لَحِقَهَا التَّخْفِيفُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُعْتَبَرِ الْأَقْرَاءُ مَعَ الْحَمْلِ لَمْ تُعْتَبَرِ الشُّهُورُ مَعَ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " فتحل إذا وضعت قبل أن تَطْهُرَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَإِنْ كَانَتْ فِي النِّفَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا وَتَغْتَسِلَ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 [الطلاق: 4] وَلِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَجَلُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " فَلَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَتَأْثِيرُ النِّفَاسِ بَعْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالْحَائِضِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمَفْسُوخٍ يَعْنِي فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَإِنْ لَمْ يقترن بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمَوْتِهِ فَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْفُرْقَةِ لَا عِدَّةَ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِوَضْعِ الْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي ابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ لِلْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا نَفَقَةٌ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا نَفَقَةَ لَهَا حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لأن مالكه قد انقطع بالموت (قال الْمُزَنِيِّ) : هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي وهو أصح، وهو في الباب الثالث مشروح ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا. وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَكَالْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ وَاعْتِبَارًا بِوُجُوبِ السُّكْنَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا النَّفَقَةُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا " وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا رَجْعَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ مُتَجَدِّدٌ مَعَ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، وَلِأَنَّ استحقاقها للنفقة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِحَمْلِهَا، أَوْ لَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا فَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَتْ حَائِلًا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ الْمُرْتَفِعِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَتْ بحملها بالحمل لَوْ وُلِدَ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَفَقَةً فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَارِثًا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُ الْأَبِ فِي الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الرِّضَاعِ تَالِيَةٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَلَمَّا سَقَطَتْ أُجْرَةُ الرِّضَاعِ بِالْمَوْتِ سَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَهِيَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَيِّتِ خِطَابٌ فَصَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الطَّلَاقِ اعْتِبَارًا بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ. وَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ كَالنَّفَقَةِ فَاسْتَوَيَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهَا سَقَطَتْ وَالسُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا لَمْ يَسْقُطْ فَافْتَرَقَا فِي الْوُجُوبِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّغْلِيظِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي، وَهَذَا أَصَحُّ وَهُوَ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ لسقوط النفقة ها هنا بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ أَصَحُّ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ وُجُوبِ السُّكْنَى إِثْبَاتًا لِمِلْكِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ شَرَحَهُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ بِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَإِنْ مَاتَ نِصْفَ النَّهَارِ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْهِلَالِ عَشْرُ لَيَالٍ أَحْصَتْ مَا بَقِيَ مِنَ الْهِلَالِ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ حَفِظَتْهَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الشَّهْرَ الرَّابِعَ فَأَحْصَتْ عِدَّةَ أَيَامِهِ فَإِذَا كَمُلَ لَهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا بَلَيَالِيهَا فَقَدْ أوفت أربعة اشهر واسقبلت عشراً لياليها فَإِذَا أَوْفَتْ لَهَا عَشْرًا إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى حُكْمُ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ وَذَكَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِمَثَابَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 حَالُ الْوَفَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ أَوْ فِي تَضَاعِيفِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرٍ وَمَعَ أَوَّلِ هِلَالِهِ اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالْأَهِلَّةِ بِحَسَبِ وَجُودِهَا مِنْ كَمَالٍ وَنُقْصَانٍ ثُمَّ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَإِنْ كَانَ فِي تَضَاعِيفِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بَاقِيَهُ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ احْتَسَبَتْهَا وَاعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهَا بِالْأَهِلَّةِ ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ شَهْرَ الْوَفَاةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عَدَدًا سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا فَتَأْتِي مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا تَكْمِلَةَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاضِي مِنْهُ عِشْرِينَ يَوْمًا لِكَمَالِهِ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِنُقْصَانِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ إِلَى مِثْلِ سَاعَةٍ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ زَوْجُهَا فَإِنْ قِيلَ، فلما زِيدَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَمَسُّكِهِ بِعِصْمَتِهَا وَحِفْظِهِ لِزِمَامِهَا بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ الَّذِي أَبَتَّ عِصْمَتَهَا وَقَطَعَ زِمَامَهَا فَجُوزِيَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ فِيهَا لِحِفْظِ حُرْمَتِهِ وَالرِّعَايَةِ لِحُسْنِ صُحْبَتِهِ. وَالثَّانِي: لِيَكُونَ فَقْدُ الزَّوْجِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مَجْبُورًا بِالزِّيَادَةِ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَدَّرَهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، قِيلَ: لِمَصْلَحَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ خَلْقُ الْوَلَدِ وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ " فَصَارَ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْعَشْرِ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلِذَلِكَ قُدِّرَتْ بِأَرْبَعَةِ أشهر والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِيهَا بِحَيْضٍ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْحَيْضِ بِشُهُورٍ وَلِأَنَّ كُلَّ عِدَّةٍ حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَمْ تَرَ فِيهَا حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتَهَا الْحَيْضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَمْ لَا؟ . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أن تحيض في شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَيْضَةً لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا حَيْضَةٌ وَمَكَثَتْ مُعْتَدَّةً بَعْدَهَا حَتَّى تَحِيضَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ وَالْمُسْتَرِيبَةُ تَمْكُثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَتَرَبَّصْنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] . يَعْنِي فِي التَّزْوِيجِ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُ الْجُنَاحَ عَلَيْهَا بَاقِيًا، وَلِأَنَّهَا قَدْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ مِنَ الطَّلَاقِ تَارَةً وَفِي الْوَفَاةِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الطَّلَاقِ غَيْرُهَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي شُهُورِ الْوَفَاةِ غَيْرُهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَكُونُ بِالشُّهُورِ تَارَةً وَبِالْأَقْرَاءِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الشُّهُورِ الْأَقْرَاءُ لَمْ يُعْتَبَرِ الْحَيْضُ فِي الشُّهُورِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً فَلَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ إِلَّا حَيْضَةً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ خَالَفَ الْعَادَةَ، كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا حَيْضَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا رِيبَةٌ. قِيلَ: الرِّيبَةُ: إِنَّمَا تَكُونُ بِانْتِفَاخِ الْجَوْفِ وَدُرُورِ اللَّبَنِ وَالْإِحْسَاسِ بِالْحَرَكَةِ، وَلَيْسَ تَأَخُّرُ الْحَيْضِ رِيبَةً كَمَا لَا يَكُونُ تَأَخُّرُهَا عن كل شهر ريبة. (مسألة) قال الشافعي: " إِلَّا أَنَّهَا إِنِ ارْتَابَتِ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُرْتَابَةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ، وَقَدْ أَعَادَهَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالرِّيبَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي الرِّيبَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ العدة فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ زَوَالِهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا وَبَعْدَ نِكَاحِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَيُوقَفُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَالِ الْحَمْلِ فَإِنِ انْفَشَّ ثَبَتَ النِّكَاحُ، وَإِنْ وَلَدَتْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ يُوقَفُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرِيضًا ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةً وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ لِمَنْ قَالَ بِهِ قُلْتُ فَالِاسْتِخَارَةُ شَكٌّ وَقَوْلُهُ يَصِحُّ إِبْطَالًا للشك (وقال) فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: إِنَّ المبتوتة لا ترث وهذا أولى بقوله وبمعنى ظاهر القرآن لأن الله تعالى ورث الزوجة من زوج يرثها لو ماتت قبله فلما كانت إن ماتت لم يرثها وإن مات لم تعتد منه عدة من وفاته خرجت من معنى حكم الزوجة من القرآن واحتج الشافعي رحمه الله على من ورث رجلين كل واحد منهما النصف من ابن ادعياه وورث الابن إن ماتا قبله الجميع فقال الشافعي رحمه الله إنما يرث الناس من حيث يورثون يقول الشافعي فإن كانا يرثانه نصفين بالبنوة فكذلك يرثهما نصفين بالأبوة (قال المزني) رحمه الله فكذلك إنما ترث المرأة الزوج من حيث يرث الزوج المرأة بمعنى النكاح فإذا ارتفع النكاح بإجماع ارتفع حكمه والموارثة به ولما أجمعوا أنه لا يرثها لأنه ليس بزوج كان كذلك أيضاً لا ترثه لأنها ليست بزوجة وبالله التوفيق (قال الشافعي) رحمه الله فإن قيل قد ورثها عثمان قيل وقد أنكر ذلك عبد الرحمن بن عوف في حياته على عثمان رضي الله عنهما إن مات أو يورثها منه وقال ابْنِ الزُّبَيْرِ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أن ترث مبتوتة وهذا اختلاف وسبيله القياس وهو ما قلنا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْفَرَائِضِ "، وَفِي كِتَابِ " الطَّلَاقِ " وَأَعَادَ ذِكْرَهَا فِي كِتَابِ " الْعِدَدِ " لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ. وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُطَلَّقَةُ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ، فَإِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْهَا، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَفِي تَوْرِيثِهَا مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا مِيرَاثَ لَهَا بِحَالٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ، وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ تَرِثْ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: تَرِثُ أَبَدًا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ. وَبِهِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَمِنَ التَّفْرِيعِ فِي ذَلِكَ مَا أَغْنَى عن الإعادة. مسألة: قال الشافعي: " وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا فَمَاتَ وَلَا تُعْرَفُ اعْتَدَّتَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تُكَمِّلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَطَلَاقُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٍ، وَمُبْهَمٍ فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ مُعَيَّنًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَا يُبَيِّنُ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ زَالَ حُكْمُ الْإِشْكَالِ وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ حُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَكَانَ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ عُمِلَ عَلَى بَيَانِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْوَرَثَةِ بَيَانٌ فَقَدْ أُشْكِلَتِ الْمُطَلَّقَةُ مِنَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهَا أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِذَا أَشْكَلَتَا اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اسْتِظْهَارًا لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ لِتَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا يَضُرُّ اعْتِدَادُ الْمُطَلَّقَةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِظْهَارِ مَعَ حُدُوثِ الْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فعلى كل واحد منهما والعدة يَقِينًا لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ عِدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ الْحَمْلِ فَأَيَّتُهُمَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطلاق في أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَلَا يَخْلُو مَوْتِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ العدة فكل واحد مِنْهُمَا زَوْجَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَيُحْكَمُ لَهَا بِالْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَعَلَى هَذَا تَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اعْتِدَادًا يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا حَيْضٌ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا قَدْ بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ الزَّوْجَةُ الْمُعْتَدَّةُ، وَلَكِنَّ إِشْكَالَهُمَا قَدْ أَوْجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أشهر وعشر ولا يلزم أن يكون فيها حَيْضٌ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَلَا يَخْلُو مَوْتُ الزَّوْجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مُضِيِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ أَشْكَلَتْ فَأَوْجَبَ إِشْكَالُهُمَا الِاحْتِيَاطَ فِي عِدَّتِهِمَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِنْ مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مَكَثَتْ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اسْتِكْمَالًا لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مَكَثَتْ تَمَامَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ اسْتِكْمَالَا لِعِدَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ "، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّتَيْنِ قَدْ أَوْجَبَ حَمْلَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ احْتِيَاطًا فِي الْعِدَّةِ وَاسْتِظْهَارًا لِلْعِبَادَةِ كَمَنْ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ صَلَاتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. والْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا، كَأَنَّهُ مَاتَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْعِدَّةِ قُرْءُ وَبَقِيَ قُرْءَانِ فَعَلَى كُلِّ واحدة منهما أن تعتد بأربعة أشهر فيما حَيْضَتَانِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ حَيْضَتَانِ مَكَثَتْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ حَيْضَتَيْنِ لِتَنْقَضِيَ بِالْحَيْضَتَيْنِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَبِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِدَّةُ الْوَفَاةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضٌ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ مَحْضَةٍ اخْتَصَّتْ بِإِحْدَاهُمَا، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي الْتِزَامِهِمَا بِحُكْمِ الْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَتَعْتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَهَذَا حُكْمُهُمَا مَعَ اتِّفَاقِ أَحْوَالِهِمَا. فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَدْخُولًا بِهَا وَالْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا حَامِلًا وَالْأُخْرَى حَائِلًا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْأُخْرَى مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ، فَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا الَّذِي أَجْرَتْهُ عَلَيْهَا لَوْ شاركتها الأخرى من صِفَتِهَا فَتُجْرِي عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى مَدْخُولًا بِهَا وَتُجْرِي عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَتُجْرِي عَلَى الْحَامِلِ حُكْمَهَا لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَامِلًا، وَيَجْرِي عَلَى الْحَائِلِ حكمها لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى حَائِلًا، وَيَجْرِي عَلَى ذَوَاتِ الأقراء حكمها لَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ الْأَقْرَاءِ وَعَلَى ذَاتِ الشهور حكمها إذا لو كَانَتِ الْأُخْرَى ذَاتَ شُهُورٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَلَمْ يُشِرْ بِالطَّلَاقِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلَهُ تَعْيِينُهُ فِيمَنْ شَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقَعُ الْمُبْهَمُ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذَا عَيَّنَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ بَعْدَ اللَّفْظِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ ". وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّفَاتِ وَالْمُبْهَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ مُسْتَقِرٌّ فِي طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا، وَإِنَّمَا وُقِفَ تَعَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى خِيَارٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُخِذَ بِالتَّعْيِينِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَهَلْ يَكُونُ وَطْؤُهُ تَعْيِينًا لِلطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِذَا عُيِّنَ الطَّلَاقُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ اللَّفْظِ أَمْ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ فَاتَ التَّعْيِينُ مِنْ جِهَتِهِ فَهَلْ لِلْوَارِثِ تَعْيِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّعْيِينِ. فَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لو أوقع الطلاق فيه معنياً فِي اعْتِبَارِهِ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِيهِ مُعَيَّنًا فِي اعْتِبَارِهِ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا وَفِي اعْتِبَارِهِ مَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالتَّعْيِينِ فَأَوَّلُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ الْمُعَيَّنِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ مِنْ عِدَّتِهِ وَأَصَابَهَا مَعَ دُخُولِ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ فِي إِلْحَاقِهِ بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ عِدَّةُ إِحْدَاهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْآخَرِ كَانَ الحمل لاحقاً بالميت اعتدت مِنَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِالثَّانِي اعْتَدَّتْ لِلْأَوَّلِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهِ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِذَا أَشْكَلَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 (بَابُ مُقَامٍ الْمُطَلَّقَةِ فِي بَيْتِهَا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا من كتاب العدد وغيره) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَاتِ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا فَإِذَا بَدَتْ فَقَدْ حَلَّ إخراجها (قال الشافعي) رحمه الله هو معنى سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيما أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم مع ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أرسلت إلى مروان في مطلقة انتقلها " اتق الله واردد المرأة إلى بيتها " قال مروان أما بلغك شأن فاطمة؟ فقالت لا عليك أن تذكر فاطمة فقال إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر وعن ابن المسيب تعتد المبتوتة في بيتها فقيل له فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال قد فتنت الناس كانت في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فعائشة ومروان وابن المسيب يعرفون حديث فاطمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم كما حدثت ويذهبون إلى ذلك إنما كان للشر وكره لها ابن المسيب وغيره أنها كتمت السبب الذي به امرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تعتد في بيت غير زوجها خوفاً أن يسمع ذلك سامع فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فلم يقل لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعتدي حيث شئت بل خصها إذ كان زوجها غائباً فبهذا كله أقول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عِدَّةَ الزَّوْجَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَفَاةٍ، وَمِنْ طَلَاقٍ. فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا، وَفِي السُّكْنَى قَوْلَانِ: نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَضَرْبَانِ رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَهَا حَالَتَانِ: حَائِلٌ وَحَامِلٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 فَأَمَّا الْحَامِلُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَأَمَّا الْحَائِلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ بِالْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّفَقَةِ فَيَأْتِي. وَأَمَّا السُّكْنَى فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ بِمَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: بَتَّ زَوْجِي طَلَاقِي فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى، وَقَالَ: إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِمَنْ يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نَتَطَوَّعُ عَلَيْكِ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، قِيلَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ حَيْثُ شِئْتِ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ والسكنى يجريان مجرى واحد لاجتماعهما في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 الْوُجُوبِ وَفِي السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، فَإِنْ نَشَزَتْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فَإِنْ طُلِّقَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، فَإِنْ طُلِّقَتْ مَبْتُوتَةً فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا السُّكْنَى. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا أَسْقَطَ النَّفَقَةَ تُسْقِطُ السُّكْنَى كَالْمَوْتِ، وَالنُّشُوزِ؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ وَالْمَبْتُوتَةُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ كَالنَّفَقَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ طَلَاقِهِنَّ. لِأَنَّ بُيُوتَهُنَّ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْهَا بِحَالٍ وَلَوْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ ها هنا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعِيَّةُ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يَعْنِي رَجْعَةً. فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُحْدِثُهُ نِكَاحًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَامًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ، وَآخِرُهُ خَاصًّا فِي الرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْمَبْتُوتَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ وَإِنْ كَانَ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَخَصَّ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قُتِلَ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَلَمَّا أَوْجَبَ السُّكْنَى لَهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ لَهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالرَّجْعِيَّةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِسَبَبٍ كَتَمَتْهُ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْقَهِ النَّاسِ بِهَا فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ فَقَالَ: لَهَا السُّكْنَى، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فتنت الناس كان في لسانها ذرابة فَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِطُولِ لِسَانِهَا. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَانْتَقَلَهَا أَبُوهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدِ الْمَرْأَةَ إِلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 بَيْتِهَا، تَعْنِي أَنَّ سُكْنَاهَا وَاجِبٌ فَقَالَ مَرْوَانُ، أو ما بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَا عَلَيْكَ أَلَّا تَذْكُرَ فَاطِمَةَ تَعْنِي أَنَّ تِلْكَ كَانَ لَهَا قِصَّةٌ أُخْرِجَتْ لَهَا فَقَالَ مَرْوَانُ إِنْ كَانَ بِكِ الشَّرُّ يَعْنِي الَّذِي كَانَ مِنْ فَاطِمَةَ حِينَ أُخْرِجَتْ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ، يَعْنِي أَنَّنِي أَخْرَجْتُهَا لِأَجْلِ الشَّرِّ الَّذِي أُخْرِجَتْ فَاطِمَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَوْلُ فَاطِمَةَ: لَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى؛ فَلِأَنَّهَا حِينَ كَتَمَتِ السَّبَبَ، وَرَأَتِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَقَلَهَا إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تصورت أنه نقلها لإسقاط سكناها، وهذ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ أسقطها لأرسالها لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ، وَرِوَايَتُهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلَّتِي يَمْلِكُ زوجها رجعيتها " يَعْنِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا مَعًا بِمَجْمُوعِهِمَا يَكُونُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا تَسْتَحِقُّهَا، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ أَحَدَهُمَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ السُّكْنَى فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى النُّقْلَةِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَا كَانَ مِنْ سُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَلَمْ يَسْقُطْ سُكْنَى الْعِدَّةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَفَّيَا فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ سُكْنَى الْعِدَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَسْقُطْ بِالْبَذَاءَةِ وَالشَّرِّ. قِيلَ: الْبَذَاءَةُ وَالشَّرُّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِسُقُوطِهَا وَإِنَّمَا تُوجِبُ النُّقْلَةُ فِيهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِفْظِ الْأَنْسَابِ فَاسْتَوَى فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ. فَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَلِلسَّيِّدِ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ، فَإِنْ رَفَعَ السَّيِّدُ يَدَهُ عَنْهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى تَحْصِينًا لِمَاءِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ وَأَرَادَ اسْتِخْدَامَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا نَهَارًا مِنْ زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهَا مَعَ زَوَالِهِ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا لَيْلًا إِنْ شَاءَ وَفِي أَخْذِهِ بِهِ جبراً وجهان. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَهَا السُّكْنَى فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا فإن كان بكراء فهو عَلَى الْمُطَلِّقِ وَفِي مَالِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى، فَأَمَّا مَوْضِعُهَا فَمُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَوْضِعُهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَهُوَ إِلَى خِيَارِ الزَّوْجِ فِي إِسْكَانِهَا حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ؛ لِأَنَّهُ سُكْنَى زَوْجِيَّةٍ يُسْتَحَقُّ مع النفقة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 فَأَشْبَهَتْ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي نَقْلِهَا كَذَلِكَ بَعْدَهُ وَيَكُونُ هَذَا السُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَمَوْضِعُهَا مُتَعَيَّنٌ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا منه لغير موجب وهي التي يجعلها مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَوْضِعُ الْمُعَيَّنُ لِسُكْنَاهَا هُوَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتي بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] يَعْنِي مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ وَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِنَّ لِاسْتِحْقَاقِهِنَّ سُكْنَاهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا. فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ إِلَّا بِالْبَذَاءَةِ وَالِاسْتِطَالَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تَبْدُوَ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ هِيَ الزِّنَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخراجها من منزل زوجها لاستطالة وذرابة لِسَانِهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَوَجَبَ نَقْلُهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا تُنْقَلُ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي هِيَ فِيهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَوْ بَذَأَ عَلَيْهَا أَحْمَاؤُهَا نقل أحماؤها عنه، وَلَمْ تُنْقَلْ هِيَ لِتَكُونَ النُّقْلَةُ عَنْهُ لِمَنْ بَذَأَ أَوِ اسْتَطَالَ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ الزَّوْجِ يَضِيقُ عَنْهُ أُقِرَّتْ فِيهِ وَأُخْرِجَ الزَّوْجُ مِنْهُ وَلَمْ تُجْبَرْ إِذَا انْفَرَدَتْ فِيهِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ لِتَفَرُّدِهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ لِاسْتِطَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَأُخْرِجَ مِنْهُ الزَّوْجُ إِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ، وَلَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِأُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ السُّكْنَى فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ كَالنَّفَقَةِ لَوْ وَجَبَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَصَارَ الْإِمْسَاكُ عَنْهَا عَفْوًا وَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ لِغَيْرِهِمَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بإجارة فهي لازمة لا تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا لَا تَخْرُجُ مِنْ مِلْكٍ، وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ دُونَهَا، فَإِنْ حَدَثَ اسْتِطَالَةٌ وَبَذَاءَةٌ فَعَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ عَارِيَةً فَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْمُعِيرِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْعَارِيَةِ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَإِنْ رَجَعَ عَنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى اسْتَدَامَتِهَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ وَجَازَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 إِخْرَاجُهَا مِنْهُ بِغَيْرِ اسْتِطَالَةٍ وَلَا بَذَاءَةٍ، وَسَوَاءٌ كان المعير أجنبياً أو أبا أو واحد مِنْهُمَا وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنَةِ مِنْهُ، إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أُجْرَةٍ تَأْخُذُهَا لِتَسْكُنَ حَيْثُ شَاءَتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِتَعْيِينِ الْمَسْكَنِ الْمُسْتَحَقِّ تَعْيِينُهُ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَفِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ الْمَيِّتِ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى وُجُوبِ سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِ قولاً واحداً. (مسألة) قال الشافعي: " وَلِزَوْجِهَا إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدِي أَوْلَى وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يُغْلِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا حُجْرَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٍ مِنَ الرِّجَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ ثُمَّ مَضَى الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ السُّكْنَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قَدْرِ الْمَسْكَنِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِمَسْكَنِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ لُغَةً وَلَا شَرْعًا تَقَدَّرَ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رُوعِيَ فِيهِ عَدَمُهَا لَا عُرْفُ الزَّوْجِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَسُكْنَى الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يُرَاعَى فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَهَا؛ لِمَا تَوَجَّهَ فِي هَذَا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ كَثِيرَةَ الْجِهَازِ وَالْخَدَمِ احْتَاجَتْ إِلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا مِنْ دَارٍ وَاسِعَةٍ ذَاتِ حُجَرٍ يَسَعُهَا وَيَسَعُ جِهَازَهَا وَخَدَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ ذَاتَ جِهَازٍ مُقْتَصِدٍ وَخَادِمٍ وَاحِدٍ فَدَارٌ مُقْتَصِدَةٌ لِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُجْرَةٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَمَنْزِلٌ لَطِيفٌ أَوْ بَيْتٌ فِي خَانٍ مُشْتَرَكٍ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي قَدْرِهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ أَطْرَافِ الْبَلَدِ، فَهَذَا هُوَ الْمَسْكَنُ الْمُعْتَبَرُ فِي سُكْنَاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ يَسْكُنُهَا الزَّوْجُ فِيهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ فَتَقْنَعُ مِنْ زَوْجِهَا لِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَسْكُنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ دُنَاةِ النَّاسِ فَيُسْكِنُهَا الزَّوْجُ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا فَلَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مِثْلِهِ فَلَا يُرَاعَى مَا اقْتَضَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَلَا مَا تَبَرَّعَ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ يُرَاعَى الْعُرْفَ فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ مَسْكَنُهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهَا فِيهِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ بِطَلَاقِهَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ حَقِّهَا فَوَجَبَ إِخْرَاجُ الزَّوْجِ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا، فَإِنْ قَنِعَتْ بِهِ أُقِرَّتْ فِيهِ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَقْنَعْ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُكْمِلَ حَقَّهَا فِي مَسْكَنِ مِثْلِهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا تُضَافُ إِلَيْهَا فَعَلَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُخْرَجَ مِنْ دَارِهَا إِلَّا لِلِارْتِفَاقِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ بَابٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَارٍ تُلَاصِقُهَا اسْتَأْجَرَ لَهَا مَسْكَنَ مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ دَارِ طَلَاقِهَا، وَكَانَ انْتِقَالُهَا إِلَيْهَا لِعُذْرٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَجَازَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ مَسْكَنِ مِثْلِهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ الْمَسْكَنِ وَسَتَرَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا ". وَتَفْصِيِلُهُ أن يراعي حال المسكن، فإن كان دار ذات حجرة تنفذ إليها سكنت فيها مسكناً مِثْلِهَا وَالزَّوْجُ فِي الْأُخْرَى بَعْدَ سَدِّ الْمَنْفَذِ أَوْ غَلْقِهِ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الدَّارَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الْحُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْحُجْرَةَ سَكَنَتْهَا وَالزَّوْجُ فِي الدَّارِ، وَتَكُونُ الدَّارُ وَالْحُجْرَةُ كَدَارَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ حُجْرَةٌ، وَكَانَ لَهَا عُلُوٌّ كَانَ الْعُلُوُّ كَالْحُجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ مَسْكَنُ مِثْلِهَا الْعُلُوَّ سَكَنَتْهُ وَالزَّوْجُ فِي السُّفْلِ، وَقُطِعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ بِغَلْقِ بَابٍ أَوْ سَدِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ عُلُوُّ فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ وَاسِعَةً تَكْتَفِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَانِبٍ مِنْهَا فَإِنْ قُطِعَ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ بِحَاجِزٍ مِنْ بِنَاءٍ مَكِينٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ جَازَ أَنْ تَنْفَرِدَ الزَّوْجَةُ بِالسُّكْنَى فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالزَّوْجُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا دُونَ مَحْرَمٍ، وَلَا نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ قَدْ صَارَتْ كَالدَّارَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ بَيْنَهُمَا بِحَاجِزٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. والحال الثانية: أن تكون الدار ضيفة لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْطَعَ بِحَاجِزٍ فَلَهَا حَالَتَانِ: أحدهما: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ بُيُوتٍ يُمْكِنُ إِذَا أُسْكِنَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ الزَّوْجَةُ فِي بَيْتٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٌ، أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِتَكُونَ مَحْفُوظَةً بِمُرَاقَبَةِ ذِي الْمَحْرَمِ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءِ الثِّقَاتِ، وَيَسْكُنُ الزَّوْجُ فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنَ الدَّارِ وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَقَعَ عَيْنُهُ عليها. والحال الثالثة: أَنْ تَكُونَ الدَّارُ ذَاتَ بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ لَا تَقَعَ عَيْنُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُحْفَظُ عِنْدَ إِرْسَالِهَا قَدْ صَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ رَدِيفَهُ بِمِنَى عَنِ الْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَجَعَلَتْ تنظر إليه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 وَقَالَ: شَابٌّ وَشَابَّةٌ وَخِفْتُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ المحرم. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنٌ لَمْ يَبِعْ مَسْكَنَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا مَلَكَتْ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا يُكفِيهَا حِينَ طَلَّقَهَا كَمَا يَمْلِكُ مَنْ يَكْتَرِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ، وَفِي عَيْنِ مَسْكَنِهِ فَكَانَ أَوْكَدَ مِنَ الدُّيُونِ الْمُخْتَصَّةِ بِذِمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ مَسْكَنُهَا فِي دَيْنِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ بَاعَهُ فِي دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ دَيْنِ نُظِرَ حَالُ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِسُكْنَى الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّةِ مُفْضٍ إِلَى الْجَهْلِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ فَصَارَ بِهِ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمُدَّةِ لِكَوْنِهَا بِالشُّهُورِ فَصَارَتْ سُكْنَاهَا مُسْتَحَقَّةً فِي الْعِدَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهَا فِي الْإِجَارَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَاجَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَعَلَى هذا بيعها في العدة أولى أن يكون بَاطِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهَا فِي الْإِجَارَةِ جَائِزٌ، فَعَلَى هَذَا فِي بَيْعِهَا إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا بَيْعُهَا جَائِزٌ فِي الْعِدَّةِ لِجَوَازِهِ فِي الْإِجَارَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ جَازَ فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ قَدْ تَمُوتُ فَيَعُودُ السُّكْنَى إِلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ مَنْ بَاعَ دَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهَا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ وَصَارَ بِخِلَافِ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي عَوْدَ السُّكْنَى إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ عِدَّتُهَا مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا مُرَاهِقَةً يَجُوزُ أَنْ يَتَعَجَّلَ حَيْضُهَا وَمُؤْيِسَةً يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْحَيْضُ إِلَيْهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْجَهَالَةِ وَالْعِلْمِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ لِكَوْنِهَا صَغِيرَةً لَا يَجُوزُ أَنْ تَحِيضَ قَبْلَ شُهُورِ عِدَّتِهَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا كَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الْمَوْتِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّلَامَةِ كَمَا تُحْمَلُ إِجَارَةُ الدَّارِ وَالْعَبْدِ عَلَى الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا بِالسَّلَامَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْطُلَ بانهدام الدار وموت العبد. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ وَلَمْ يكتره فالأهلة إِخْرَاجُهَا وَعَلَيْهِ غَيْرُهُ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا فَقَدْ مَلَكَ سُكْنَاهُ فَيَلْزَمُ إِقْرَارُهَا فِيهِ كَمَا تُقَرَّ فِي مِلْكِهِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْزِلُ مُعَارًا فَمَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الْمُعِيرُ فَهِيَ مُقَرَّةٌ عَلَى السُّكْنَى مَا أَقَرَّهَا الْمَالِكُ، فَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ إِخْرَاجَهَا مِنْهُ، وَلِمَالِكِهِ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبْذُلَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، فَعَلَى الزَّوْجِ بَذْلُهَا لَهُ وَتُقَرُّ الْمُعْتَدَّةُ فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا منه. والحال الثانية: أن يمتنع المالك في بَذْلِ الْمَنْزِلِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيُقِيمُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مَانِعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الزِّيَادَةِ عَلَى أجرة المثل في المطلق أن يستأجر لها مسكنا مِثْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ بِالْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَإِنْ أَجَابَ الْمَالِكُ إِلَى بَذْلِهِ بَعْدَ نَقْلِهَا مِنْهُ نُظِرَ فِي بَذْلِهِ، فَإِنْ كَانَ بِعَارِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَةِ فَيَنْقُلَهَا ثَانِيَةً، وَإِنْ كان بإجارة نظر إلى الْمَسْكَنِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَارِيَةً أُعِيدَتْ إِلَى الْمَسْكَنِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُعِيرُ فَتُخْرَجَ مِنْهُ فَتَكُونَ فِي عَوْدِهَا إِلَى مَنْزِلِ الطَّلَاقِ مَعَ لُزُومِ سُكْنَاهُ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مُسْتَأْجِرَيْنِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُقَرُّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعَادُ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَقْتَسِمُوا مَسْكَنَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ فَيَأْخُذَ بَعْضُهُمُ الدَّارَ، وَيَأْخُذَ الْبَاقُونَ غَيْرَهَا جَازَ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ لِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فِي تَرِكَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى فِي الْبَيْعِ وَلَهَا سُكْنَى الدَّارِ فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا، وَلَا يَرْجِعُ مَنْ صَارَتِ الدَّارُ فِي سَهْمِهِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا عَلَى شُرَكَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَسْكَنَ الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَقْتَسِمُوهَا قِسْمَةَ إِجَارَةٍ فَيُقَسِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ فيها مجازة فَهَذَا فِي ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حَازَهُ بِحَاجِزٍ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ، لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ سُكْنَى دَارٍ غَيْرِ مُحَجَّزَةٍ بِالْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِالْقِسْمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْجِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى عَلَامَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا مَا حَازَهُ فَتَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بها ضرر والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ فَتَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ قِيمَةِ سُكْنَاهَا وَتُتْبِعُهُ بِفَضْلِهِ مَتَى أَيْسَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُفْلِسَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ وَتَسْتَحِقَّ سُكْنَى الْعِدَّةِ فَلِلزَّوْجِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ مَسْكَنَ عِدَّتِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَهُ. فَإِنْ كَانَ مَالِكَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَجْزِ عَلَيْهِ بِفَلَسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ سَبَقَ اسْتِحْقَاقُ الْغُرَمَاءِ لِذَلِكَ الْمَسْكَنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِسُكْنَى الْعِدَّةِ؛ فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا وَيَضْرِبُ مَعَهُمْ بأجرة سكناها وإن أن الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَالْمُطَلَّقَةُ أَحَقُّ بِسُكْنَى الدَّارِ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الزَّوْجِ وَتَعَيَّنَ فِيهِ الْمَسْكَنُ فَاخْتُصَّتْ بِهِ فِي مُدَّةِ السُّكْنَى دُونَهُمْ كَمَا يُخْتَصُّ الْمُرْتَهَنُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ دُونَهُمْ لِثُبُوتِ حَقِّهِ في العين والذمة وانفرد حُقُوقِهِمْ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَسْكَنِ عِدَّتِهَا ضَرَبَتْ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَتِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَكَانَتْ أُسْوَةَ جَمِيعِهِمْ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى حَجْرِهِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْحَجْرِ فَقَدْ صَارَ الْحَجْرُ لَهَا ولم وَإِنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ سَبَبٌ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجْرِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَصَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ قَبْلَ الْحَجْرِ وَخَالَفَ مَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ حَجْرِهِ فِي أَنَّ بَائِعَهُ لَا يَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ لَا مُسْتَحْدِثَ السَّبَبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأُجْرَةِ سُكْنَاهَا فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً بِالشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ فَتَضْرِبَ مَعَهُمْ بِأُجْرَةِ مَسْكَنِهَا فِي شُهُورِ الْعِدَّةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ بِالشُّهُورِ، لِأَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ أَوْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً فَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ قُرْءٌ فَتَحْمِلُ فِي سُكْنَى الْعِدَّةِ الَّتِي تَضْرِبُ بِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ عَلَى عَادَتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْأَقْرَاءِ فَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 كَانَتْ حَامِلًا كَانَتْ مُدَّةُ سُكْنَاهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ كَانَ مُدَّةُ سُكْنَاهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَزِيدَ أَوْ تَنْقُصَ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ عَادَتِهَا لِيَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَمْلِ وَلَا فِي الْأَقْرَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَبِأَقَلَّ مُدَّةٍ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ، وَعِنْدِي: أَنَّهَا تَضْرِبُ مَعَهُمْ فِي الْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَبِالْغَالِبِ مِنْ مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حُمِلَتِ الْمُعْتَادَةُ عَلَى غَالِبِ عَادَتِهَا مَعَ جَوَازِ النُّقْصَانِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْيَقِينِ فِي الْأَقَلِّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ غَيْرُ الْمُعْتَادَةِ مَحْمُولَةً عَلَى الْغَالِبِ مِنْ عَادَةِ غَيْرِهَا، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ فِي النُّقْصَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا تَضْرِبُ به من الْغُرَمَاءِ، وَكَانَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْأَقْرَاءِ وَبِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ الْحَمْلِ نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ سُكْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَتْ سِتِّينَ دِرْهَمًا نُظِرَ مَالُ الْمُفْلِسِ مَعَ دُيُونِهِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِثُلْثِهَا وَذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَإِذَا أَخَذَتْهَا تَوَلَّى الزَّوْجُ اسْتِئْجَارَ الْمَسْكَنِ لَهَا بِذَلِكَ دُونَهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي السُّكْنَى دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا سَكَنَتْ تِلْكَ الْمُدَّةَ سَكَنَتْ بَعْدَهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَصِّنَهَا فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَشَاءُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِالسُّكْنَى فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ سَقَطَ خِيَارُهُ وَكَانَ الْأَمْرُ لَهَا فِي السُّكْنَى حَيْثُ تَشَاءُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُونَةِ عل مِثْلِهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ لَهَا مِنْ أُجْرَةِ السُّكْنَى مُعْتَبَرَ الْمِقْدَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِي انْقِضَائِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْقَضِيَ فِي مُدَّةٍ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَتَضَعُ حَمْلَهَا فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَيَنْقَضِي أَقَرَاؤُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ يُرْجَعُ بِهِ عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَتَقْضِيَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ ثُلْثَيِ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَتَرُدُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ ثُلُثَ مَا أَخَذَتْهُ؛ لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ مَعَهُمْ بِمَا هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِثُلُثَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي أَكْثَرَ مِنَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَتَضَعَ حَمْلَهَا فِي سَنَةٍ وَتَقْضِيَ أَقَرَاءَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَزِيدَ عِدَّتُهَا ثُلُثَ الْعِدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَهَا فَهَلْ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ أَوْ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ غَرِيمٌ ضَرَبَ مَعَهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَيَكُونُ مَعَ بَقِيَّةِ السُّكْنَى ديناً على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 الزَّوْجِ بِخِلَافِ الْغَرِيمِ إِذَا حَدَثَ؛ لِأَنَّهَا ضَرَبَتْ بِهَذَا الْقَدْرِ مَعَ الْعِلْمِ بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَخَالَفَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ لَمْ يُرْجَعْ بِهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ مُشَاهَدٌ يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَمُدَّةَ الْأَقْرَاءِ مَظْنُونَةٌ لَا تَقُومُ بِهَا بَيِّنَةٌ وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي مَوْتِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مَا وَصَفْتُ وَمَنْ قَالَهُ احْتَجَّ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفُرَيْعَةَ: " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " وَالثَّانِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَسْكُنُوهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ مَلَكُوا دُونَهُ فَلَا سكنى لها كما لا نفقة لها ومن قاله قال أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لفريعة: " امكثي في بيتك ما لم يخرجك منه أهلك " لأنها وصفت أن المنزل ليس لزوجها (قال المزني) هذا أولى بقوله لأنه لا نفقة لها حاملاً وغير حامل وقد احتج بأن الملك قد انقطع عنه بالموت (قال المزني) وكذلك قد انقطع عنه السكنى بالموت وقد أجمعوا أن من وجبت له نفقة وسكنى من ولد ووالد على رجل فمات انقطعت النفقة لهم والسكنى لأن ماله صار ميراثا لهم فكذلك امرأته وولده وسائر ورثته يرثون جميع ماله ". قال الماوردي: أما النفقة فلا تجب فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِجْمَاعًا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، وَفِي وُجُوبِ السُّكْنَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سُكْنَى لَهَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ السُّكْنَى بِأَنَّ السُّكْنَى تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِوُجُوبِهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا في النشور، وَقَدْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ السُّكْنَى وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي مُدَّةِ الزَّوْجِيَّةِ سَقَطَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَالنَّفَقَةِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدِ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَأَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ الْمَالِكِ؛ لأن غَيْرُ زَوْجٍ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ لَهَا السُّكْنَى حَامِلًا لَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ حَامِلًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 كَالْمَبْتُوتَةِ، وَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا فِي الْحَالَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ سُكْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا سقط بالموت سكنى الأقارب لسقوط نققاتهم وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ سُكْنَى الزَّوْجَاتِ لِسُقُوطِ نَفَقَاتِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى بِمَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا؛ فَلَمَّا كان عثمان 7 به عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْسَلَ إِلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لَمَا أَعَادَهَا إِلَى مَسْكَنٍ قَدِ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَذِنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ ثُمَّ مَنَعَهَا فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لِسَهْوٍ أُسْقِطَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لِاجْتِهَادٍ نُقِلَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ. قِيلَ: إِنَّمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ زَمَانِ فِعْلِهِ، وَيَجُوزُ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا وَجَبَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْمُخْتَصَّةِ بِتَحْصِينِ مَائِهِ دُونَ حُرْمَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى أَحَقَّ مِنَ الطَّلَاقِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا عِدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ فِيهَا السُّكْنَى كَالطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا خُصَّتْ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مَعَ قُدْرَةِ الزَّوْجِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ التَّعَبُّدُ، وَالِاسْتِبْرَاءَ تَبَعٌ، وَالْمُغَلَّبَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الِاسْتِبْرَاءُ وَالتَّعَبُّدَ تَبَعٌ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَمَّا وَجَبَ السُّكْنَى فِي الِاسْتِبْرَاءِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي التَّعَبُّدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَوْكَدُ وَلِفَحْوَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَبَيْنَ سُكْنَى الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يُسْكِنُوهَا حَيْثُ شَاءُوا إِذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 كَانَ مَوْضِعُهَا حِرْزًا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخُصَّهَا حَيْثُ تَرْضَى لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالزَّوْجِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أَنَّ السُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَلِلْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى حَال الزَّوْجِيَّةِ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ فَتَعْتَدَّ بِالْمَوْتِ فَهَذِهِ الَّتِي فِي وُجُوبِ سُكْنَاهَا قَوْلَانِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَلَهَا السُّكْنَى قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ السُّكْنَى، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ عِدَّتَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ أَخَذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرَ أُجْرَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَيَمُوتُ زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَتُعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ وُجُوبُهُ لِهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ فِيهِ لِهَذِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَوْكَدَ حَالًا مِنَ الزَّوْجَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ اسْتِصْحَابًا لِوُجُوبِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِدَّتِهَا كَالْبَائِنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا تَفَرَّعَتْ أَحْكَامُ السُّكْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا اسْتَقَرَّتْ فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَرُوعِيَ حَالُ مَسْكَنِهَا فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ أُخِذَ الْوَرَثَةُ جَبْرًا بِإِقْرَارِهَا فِيهِ وَأُخِذَتْ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَتْ بِالسُّكْنَى فِيهِ، وَإِنْ رَاضَاهَا الْوَرَثَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ أَحَدُهُمَا أَوِ السُّلْطَانُ جَبْرًا بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يُضَاعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنُهَا مِلْكًا لِلزَّوْجِ وَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ أُجْرَةُ مَسْكَنِهَا، وَقُدِّمَتْ بِهِ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، فَإِنْ زَاحَمَهَا الْغُرَمَاءُ اسْتَهَمُوا فِي التَّرِكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَلَسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ تَرِكَةٌ يَحْتَمِلُ السُّكْنَى لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ دَفْعُهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدَفَعَهَا السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِقَامَةِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ دَفْعُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَكَنَتِ الْمُعْتَدَّةُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَحَفِظَتْ فِي نَفْسِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقَّ الْمَيِّتِ. وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ السُّكْنَى فَلَا حَقَّ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ حيث شاءت؛ لأنه إذا أسقط حقها في السُّكْنَى سَقَطَ مَا عَلَيْهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 تَجِدَ مُتَطَوِّعًا بِسُكْنَاهَا فَتَصِيرَ السُّكْنَى وَاجِبًا عَلَيْهَا وَلَيْسَ يَخْلُو الْمُتَطَوِّعُ بِسُكْنَاهَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: الْوَارِثُ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا إِمَّا مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَتْ أَوْ مِنْ مَالِهِ تَحْصِينًا لِمَاءِ مَيِّتِهِ فَيَلْزَمُهَا إِجَابَتُهُ إِذَا أَقَامَ لَهَا بِهِ أَوْ بَذَلَ لَهَا أُجْرَتَهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا كَانَ أَوْلَى وَإِنْ أَعْوَزَهُ فَأَقْرَبُ الْمَسَاكِنِ بِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَسْكَنُ طَلَاقِهَا فَعَدَلَ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: السُّلْطَانُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حِفْظِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِرَاسَةِ الْأَنْسَابِ قَدْ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي عِدَّتِهَا حِينَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَيَدْفَعُ سُكْنَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جعلة الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَهُ فِعْلُهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَجْنَبِيٌّ يَتَطَوَّعُ بِسُكْنَاهَا فَنَنْظُرُ حَالَهُ، فَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا ذَا رِيبَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا، وَإِنْ كَانَ سَلِيمًا ذَا دِينٍ قَامَ بَذْلُه لِسُكْنَاهَا مَقَامَ بَذْلِ الْوَرَثَةِ وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْكُنَ حَيْثُ يُسْكِنُهَا إِذَا كَانَ مَسْكَنَ مِثْلِهَا وَأَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ السُّكْنَى عَلَيْهَا مَشْرُوطًا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ مَسْكَنِ مِثْلِهَا جَازَ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِمَا لَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ. مَسْأَلَةٌ قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أُذِنَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ فَنُقِلَ مَتَاعُهَا وَخَدَمُهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ بِبَدَنِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَ اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أُذِنَ لِمُسْتَحَقَّةِ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهِ إِلَى أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي الدَّارِ الْأُولَى بِبَدَنِهَا، وَرَحْلِهَا، وَخَدَمِهَا اعْتَدَّتْ فِيهَا، وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالنَّقْلِ بِأَثَرٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ بِبَدَنِهَا وَرَحْلِهَا وَخَدَمِهَا اعْتَدَتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ فِي الْعِدَّةِ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَتْ رَحْلَهَا وَخَدَمَهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِبَدَنِهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الطَّلَاقُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَبَقِيَ رَحْلُهَا وَخَدَمُهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى اعْتَدَّتْ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِبَدَنِهَا دُونَ رَحْلِهَا وَخَدَمِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ لو قال: والله لأسكنت هَذِهِ الدَّارَ، فَانْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ بَرَّ وَلَوْ نَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَدَنِهِ حَنِثَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاعْتِبَارُ فِي الْأَيْمَانِ بِرَحْلِهِ وَمَالِهِ دُونَ بَدَنِهِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا فَنَقَلَ رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ وَهُوَ مقيم ببدنه بر ولو انتقل ببدنه خلف فِيهَا رَحْلَهُ وَخَدَمَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ، فَالْبِرُّ يَتَعَلَّقُ بِرَحْلِهِ، وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ قَالَ وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّهَا تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِنَقْلِ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ دُونَ بَدَنِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَسْكُنَنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَعَلَّقَ الْبِرُّ بِبَدَنِهِ دُونَ رَحْلِهِ وَخَدَمِهِ كَمَا قُلْنَا، وَالصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْأَيْمَانِ مِنَ الْعِدَّةِ بِنَقْلِهِ الْبَدَنَ دُونَ الرَّحْلِ وَالْخَدَمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] فَأَخْبَرَ أَنَّ بُيُوتَ الْمَتَاعِ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي ذرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فَأَخْبَرَ بِإِقَامَتِهِمْ فِيهِ مَعَ خُلُوِّهِمْ مِنْ رَحْلِهِمْ وَمَالِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُ الْمُقَامِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ صِفَةُ السَّفَرِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَدَنِهِ دُونَ مَالِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ فِي حَظْرِ الرُّخَصِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ السُّكْنَى وَالِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الْمَالِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اعْتِبَارِ الِانْتِقَالِ بِالْبَدَنِ دُونَ الرَّحْلِ وَالْمَالِ فَطُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّارِ الْأُولَى وَقَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ هِيَ الْمَسْكَنَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْقُرْبِ فَيَرْجِعَ حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الثَّانِيَةِ أَقْرَبَ اعْتَدَّتْ فِيهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي الْفَيَّاضِ، وَلَكِنْ لَوِ انْتَقَلَتْ بِبَدَنِهَا إِلَى الدَّارِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأُولَى لِنُقِلَّ رَحْلَهَا فَطَلَّقَهَا وَهِيَ فِيهَا اعْتَدَّتْ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ عَوْدَهَا إلى الأرض لَمْ يَكُنْ بِمُقَامٍ وَنُقْلَةٍ فَصَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ جَارٍ لِحَاجَةٍ. (فَصْلٌ) وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الدَّارِ الْأُولَى وَاحِدَةً ثُمَّ كَمَّلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ عَادَتْ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى فَأَكْمَلَتْ فِيهَا بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوَّلَ عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ الْمَبْتُوتِ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِي الْأُولَى فَلِذَلِكَ لَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ فِيهَا آخِرًا كَمَا اعْتَدَّتْ فِيهَا أولاً والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ أَذِنَ لَهَا في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 الْحَجِّ فَزَايَلَتْ مَنْزِلَهُ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَسَوَاءٌ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَمْضِيَ لِسَفَرِهَا ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ سَفَرَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي السَّفَرِ، إِمَّا مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ثُمَّ يَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ لَزِمَهَا أَنْ تُقِيمَ، وَتَعْتَدَّ فِيهِ سَوَاءٌ بَرَزَتْ بِرَحْلِهَا أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَفِيمَا تَسْتَقِرُّ بِهِ دُخُولَهَا فِي السَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِهِ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا السَّفَرُ بِإِذْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بُنْيَانِ بَلَدِهِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْمَنْزِلِ الْمَسْكُونِ فَلَا يَلْزَمُهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ أَنْ تُقِيمَ وَلَهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي سَفَرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا بِمُفَارَقَةِ آخِرِ بُنْيَانِ الْبَلَدِ اعْتِبَارًا بِمُفَارَقَةِ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطَنِ لِتَصِيرَ بِحَيْثُ يُسْتَبَاحُ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا مَا لَمْ تُفَارِقْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ، وَتَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَإِنْ طُلِّقَتْ وَقَدْ فَارَقَتْ آخِرَ بُنْيَانِ الْبَلَدِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَسْتَقِرُّ دُخُولُهَا فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اعْتِبَارًا بِالسَّفَرِ الَّذِي تُسْتَبَاحُ فِيهِ الرُّخَصُ فَمَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ أَنْ تَعُودَ فِي مَنْزِلِهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حِينَ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ عَلَى ما ذكرنا ما الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى خِيَارِهَا فِي الْعَوْدِ وَالتَّوَجُّهِ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالسَّفَرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سَفَرُ عَوْدٍ، وَسَفَرُ نُقْلَةٍ. فَأَمَّا سَفَرُ الْعَوْدِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدِ الْحَجِّ، أَوْ زِيَارَةٍ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ثُمَّ تَعُودُ مِنْهُ فَهِيَ بَعْدَ حُدُوثِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ التَّوَجُّهِ أَوِ الْعَوْدِ إِذَا كَانَتْ فِي الْحَالَيْنِ آمِنَةً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَوْطَنَةٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَقْصِدَ أَقْرَبَ الْبَلَدَيْنِ إِلَيْهَا لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا فِي الْحَضَرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَضَائِهَا فِي السَّفَرِ، فَإِنْ قَصَدَتْ أَبْعَدَ الْبَلَدَيْنِ جَازَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا سَفَرُ النُّقْلَةِ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَى بَلَدٍ لِتَسْتَوْطِنَهُ وَتُقِيمَ فِيهِ فَفِيهِ عِنْدُ حُدُوثِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، كَمَا لَوْ أَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 أَحَدُهَا: عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا فَارَقَتِ الْأَوَّلَ صَارَ الثَّانِي هُوَ الْوَطَنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فِي التَّوَجُّهِ وَالْعَوْدِ لِخُرُوجِهَا عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ فَعَلَيْهَا التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ لِتَعْتَدَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي فَارَقَتْهُ أَقْرَبَ كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْعَوْدِ والتوجه. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تُقِيمُ فِي الْمِصْرِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ أَوِ النُّقْلَةِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمِصْرَ فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهَا مُسَافِرَةً أَقَامَتْ مَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُ ثَمَّ رَجَعَتْ وَأَكْمَلَتْ عِدَّتَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَذِنَ لَهَا بِالسَّفَرِ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفَتْ مَوْتَهُ، أَوْ طَلَاقَهُ فِي طَرِيقِهَا فَاخْتَارَتِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْبَلَدِ، أَوْ عَرَفَتْهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْبَلَدِ فَالْحُكْمُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَا يَخْلُو حَال إِذْنِهِ لَهَا فِي السَّفَرِ مِنْ خَمْسَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النُّقْلَةِ إِلَيْهِ مُسْتَوْطِنَةً لَهُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَطَنًا فَصَارَ كَطَلَاقِهِ لَهَا فِي بَدَنِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ تَتَقَدَّرُ بَعْدَ دُخُولِهَا بِالْفَرَاغِ مِنْهَا إِمَّا لِحَجٍّ يُؤَدَّى أَوْ دَارٍ تُبْقَى لَهَا فَلَهَا الْمُقَامُ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَجَّتَهَا وَتَبْنِيَ دَارَهَا، وَتَسْتَكْمِلَ ثُمَّ لَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فَرَاغُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهَا أَنْ تَضَعَ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ مِنْ مُقَامٍ أَوْ عَوْدٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهَا، وَيُمْكِنُ إِذَا عَادَتْ إِلَى بَلَدِهَا أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعِدَّةِ مَا تقضيه في بلدها، ففي وجوب العدة وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهَا الْعَوْدُ لِيَكُونَ قَضَاءَ عِدَّتِهَا. فِيمَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُدْرِكُ قَضَاءَ الْعِدَّةِ فِي الْمِصْرِ، وَتَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْعَوْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَيْهِ لِمَا لَا يُفْتَقَرُ إِلَى مُقَامٍ فِيهِ مِنْ رِسَالَةٍ تُؤَدَّى أَوْ خَبَرٍ يُعْرَفُ فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ كَانَ الْمَسِيرُ مُمْكِنًا، وَالطَّرِيقُ مَأْمُونًا لِتَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا، فَإِنْ أَخَّرَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ مَا كَانَ عُذْرُهَا بَاقِيًا، فَإِذَا زَالَ فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ صَنَعَتْ بِنَفْسِهَا مَا شَاءَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَأَمْكَنَ أَنْ تَقْضِيَ بَقِيَّتَهَا بِبَلَدِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ بَقِيَّتَهَا فِي بَلَدِهَا فَفِي وُجُوبِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَقِيمِي شَهْرًا فَهَلْ لَهَا إِذَا أُدْخِلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ أَنْ تُقِيمَ فِيهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِتَقَدُّمِ الْإِذْنِ بِهَا، وَعَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا إِنْ أَدْرَكَتْ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الْإِذْنُ بِالْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِدَّةِ فِي الْوَطَنِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَهَا عُذْرٌ فَتُقِيمَ مَا بَقِيَ عُذْرُهَا. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي السَّفَرِ عَنْهُ إِذْنًا مُطْلَقًا لَا يَتَضَمَّنُ مُقَامًا وَلَا عَوْدًا فَتُرَاعِيَ شَوَاهِدَ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمُقَامِ أَقَامَتْ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْعَوْدِ عَادَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ اقْتَضَى مُطْلَقُ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ مُقَامٍ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ فِيهِ فَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ الْعِدَّةِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ لَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْمُدَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُقَامًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا صُورَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهَا بِالزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدِهَا، وَلَمْ يُرِدِ الزِّيَارَةَ وَالنُّزْهَةَ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَلَا تَقُمْ عَلَى زِيَارَتِهَا وَنُزْهَتِهَا بِخِلَافِ إِذْنِهِ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى، وَلَوْ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهَا لِلزِّيَارَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 وَالنُّزْهَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْخُرُوجُ وَأَقَامَتْ فِي مَنْزِلِهِ لِلْعِدَّةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ لَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ السَّفَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ اسْتِقْرَارَ سَفَرِهَا بِمَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي زِيَارَةٍ أَوْ نُزْهَةٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ خُرُوجِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا أَنْ تَعُودَ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ وُصُولِهَا أَوْ فِي طَرِيقِهَا فَعَلَيْهَا بَعْدَ الْوُصُولِ أَنْ تَعُودَ لِوَقْتِهَا لِحُصُولِ الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ عِنْدَ الْوُصُولِ فَلَا تُقِيمُ إِلَّا مُقَامَ الْمُسَافِرِ وَلَا يَجْعَلُ لِلزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ حَدًّا زَائِدًا عَلَى مُقَامِ الْمُسَافِرِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْمَسْأَلَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ سَفَرِهَا وَقَبْلَ وُصُولِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَلَوْ كان وَعَدَمُهَا فِي الزِّيَارَةِ وَالنُّزْهَةِ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ لَا أَجِدُ لَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَجْهًا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا إِلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَتَكُونَ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ ثُمَّ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ لِاسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَحُجَّ فِي تَضَاعِيفِهَا وَإِنْ خَافَتِ الْفَوَاتَ لِتُقَدِّمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَوَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنٌ خَرَجَتْ لِأَدَائِهِ وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ فَوَاتِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِحْرَامُهَا بِالْحَجِّ عَنْ إِذْنِهِ ثُمَّ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعًا كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ تَقْدِيمِ الْعِدَّةِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ، وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ عَلَى الْمُقَامِ لِلْعِدَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ فَيَلْزَمُهَا الْمُقَامُ لِلْعِدَّةِ، وَإِنْ فَاتَهَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ يُقْضَى وَفَوَاتَ الْعِدَّةِ لَا يُقْضَى؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُفْرَدَةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَحَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 إِكْمَالُ مَا دَخَلَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَجَّحَ حُكْمُ أَسْبِقِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ غُلِّبَ حُكْمُ الْعِدَّةِ، كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْعِدَّةِ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَغْلَظُ أَحْكَامًا مِنَ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَضْعُفَ عَنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فوات الحج قضي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّتِهِ وَتَغْلِيظُ حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى ضَعْفِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ دُونَ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةَ أَوْكَدُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ عَلَى الْعِدَّةِ ثُمَّ تَطْرَأَ الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَعْدَ إِتْمَامِ الْحَجِّ فَيَكُونَ حكمها في العدة من سَافَرَتْ عَنْ إِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا بَعْدَ السَّفَرِ بِمَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعُودَ إِلَى بَلَدِهَا فَتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْعِدَّةُ عَلَى الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْعِدَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا تَبَعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَا اعْتَرَضَ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ بَعْدَ كَمَالِ الْعِدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي حَجِّهَا، هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى ذِي مَحْرَمٍ أَمْ لَا؟ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْرِمَ لِلْحَجِّ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا تَمَسُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا لَمْ يَكُنِ الْمَحْرَمُ فِيهِ شَرْطًا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَإِذَا كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْغَرَضِ، وَإِنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ مُعْتَبَرٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ شَرْطًا لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَأَمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ فَلَوْلَا جَوَازُهُ لِمَا أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ السَّفَرِ يُسْقِطُ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ فِيهِ كَالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مُسْتَوْفَاةً وَتَأَوَّلْنَا الْخَبَرَ عَلَى التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَحُمِلَ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ دُونَ الفرض. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ صَارَتْ إِلَى بَلَدٍ أَوْ مَنْزِلٍ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا أَقِيمِي ثُمَّ طَلَّقَهَا فَقَالَ لَمْ أَنْقُلْكِ وَقَالَتْ نَقَلْتَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا إِلَّا أَنْ تُقِرَّ هِيَ أَنَّهُ كَانَ لِلزِّيَارَةِ أَوْ مدة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 تُقِيمُهَا فَيَكُونَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ وَتَعْتَدَّ فِي بَيْتِهِ وَفِي مُقَامِهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُقِيمَ إِلَى الْمُدَّةِ كَمَا جُعِلَ لَهَا أَنْ تُقِيمَ فِي سَفَرِهَا إِلَى غَايَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ قَدِ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبُوا الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ فِي نَقْلِهِ وَالْخَطَأِ فِي جَوَابِهِ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فِي تَفْرِيقِ أُصُولِهَا، وَسَنُوَضِّحُهَا بِمَا تَزُولُ بِهِ الشُّبْهَةُ وَيَصِحُّ فِيهَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَجَوَابُهُ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ نُعِيدُهَا لِنَبْنِيَ حُكْمَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهَا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا أذن لها في سفر النقلة فَانْتَقَلَتْ ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ قَضَتِ الْعِدَّةَ فِي بَلَدِ النُّقْلَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرِ الْعَوْدَةِ ثُمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقِيمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ إِذْنًا مُطْلَقًا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِنُقْلَةٍ وَلَا عَوْدٍ حُمِلَ عَلَى سَفَرِ النُّقْلَةِ دُونَ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ سَفَرٌ آخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ آخَرَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ كَانَ سَفَرَ عَوْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرَ مُقَامٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ لِتُقِيمَ شَهْرًا ثُمَّ تَعُودَ، فَهَلْ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَهَذِهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي جَوَابِهَا مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهَا اشْتَمَلَ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّقْلَةِ، وَيَدَّعِيَ الزَّوْجُ سَفَرَ الْعَوْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَعَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَ النُّقْلَةِ وَاحِدٌ وَسَفَرَ الْعَوْدِ اثْنَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الثَّانِي قَوْلَ مُنْكِرٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ الْعَوْدِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا سَفَرَ النُّقْلَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي فِيهِ سَفَرًا ثَانِيًا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مُنْكِرِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَدَّعِيَ فِي السَّفَرِ الْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّقْلَةُ فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي حَيَاتِهِ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ دُونَهَا، فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ تَسْتَوِي حُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرًا لِمُدَّةٍ، وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفَرٌ لِلنُّزْهَةِ فَإِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 قِيلَ: إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُقَامِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا لِلْوَقْتِ، وَإِنْ قِيلَ: بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَ الزَّوْجِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعَ تَسَاوِي الظَّاهِرِ فِي اخْتِلَافِهِمَا مُبَايَنَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا رَجَعَ إِلَى الزَّوْجِ الْإِذْنُ فِي صِفَةِ إِذْنِهِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ إِذْنِهِ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْوَرَثَةِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى مَنْ سَوَّمَهُ بِالْإِذْنِ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ دُونَ الْوَرَثَةِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ سَفَرَ النُّزْهَةِ وَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَفُرُ الْمُدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ لَا تُقِيمُ تِلْكَ الْمُدَّةَ فَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِهِمَا لِوُجُوبِ الْعَوْدِ فِيهِمَا. وَإِنْ قِيلَ بِمُقَامِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَانِ قِسْمَانِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ الزَّوْجِ وَالْوَرَثَةِ وَإِنِ اتَّفَقَ حُكْمُهُمَا فِي تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ وَالتَّسْوِيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِيَسْلَمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ خَطَأٍ فِي النَّقْلِ لِحَمْلِ مُرَادِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ وَيَسْلَمَ أَصْحَابُنَا مِنَ الْوَهْمِ فِي الشُّبْهَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَخْطِئَتِهِ لِحَمْلِ جَوَابِهِ عَلَى مَا وَافَقَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَأَخِّرَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَوَرَثَتِهِ، وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ أقسام لا تخرج عن أحكام الأقسام السنة إذا حقق تَعْلِيلُهَا فَاسْتُغْنِيَ بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمُغْفَلِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التوفيق. (مسألة) قال الشافعي: " وَتَنْتَوِي الْبَدَوِّيةُ حَيْثُ يَنْتَوِي أَهْلُهَا لِأَنَّ سَكَنَ الْبَادِيَةِ إِنَّمَا هُوَ سُكْنَى مُقَامِ غِبْطَةٍ وَظَعْنِ غِبْطَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: لِأَنَّ الْبَادِيَةَ تُخَالِفُ الْحَاضِرَةَ فِي السُّكْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْمَسَاكِنِ؛ لِأَنَّ بُيُوتَ الْبَادِيَةِ خِيَامُ نُقْلَةٍ، وَبُيُوتَ الْحَاضِرَةِ أَبْنِيَةُ مُقَامٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ البادية ينتقلون للنجعة طلب الكلأ، وَالْحَاضِرَةَ يُقِيمُونَ فِي أَمْصَارِهِمْ مُسْتَوْطِنِينَ فَإِذَا طُلِّقَتِ الْبَدَوِيَّةُ اعْتَدَّتْ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَسَكِنُهَا مِنْ خِيَامِ النُّقْلَةِ وَأَقَامَتْ فِيهِ مَا أَقَامَ قَوْمُهَا، فَإِنِ انْتَقَلُوا فَلَهُمْ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْتَقِلَ جَمِيعُ الْحَيِّ فَتَنْتَقِلَ بِانْتِقَالِهِمْ مُنْتَجِعَةً بِنَجِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي مُقَامِهَا بَعْدَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ حَالَ الْبَادِيَةِ هِيَ الْأَوْطَانُ لَا الْمَكَانُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَقِلَ رِجَالُهُمْ وَتُقِيمَ نِسَاؤُهُمْ لِحَرْبٍ يَقْصِدُونَهَا فَيَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ نِسَائِهِمْ إذا آمن على أنفسن وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الرِّجَالِ، فِي هَذِهِ الْحَالِ كَسَفَرِ الْحَاضِرَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَنْتَقِلَ نِسَاؤُهُمْ وَيُقِيمَ رِجَالُهُمْ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ يَقْصِدُهُمْ فَتَنْتَقِلُ هَذِهِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلَا تُقِيمُ مَعَ الرِّجَالِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْضُ الْحَيِّ، وَفِيهِ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ بَاقِي الْحَيِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَهْلُهَا وَلَا أَهْلُ الزَّوْجِ فَهَذِهِ تَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ أهلها ولا يقيم بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمْ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُقِيمَ أَهْلُهَا وَأَهْلُ الزَّوْجِ، وَيَنْتَقِلَ مَنْ عَدَاهُمْ فَهَذِهِ تُقِيمُ مَعَ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا تَنْتَقِلُ مَعَ الْمُنْتَقِلِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُهَا وَيُقِيمَ أَهْلُ الزَّوْجِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ وَلَا تَنْتَقِلَ مَعَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِمَسْكَنِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ مَسْكَنِ أَهْلِهَا. وَالْحَالُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُ الزَّوْجِ وَيُقِيمَ أَهْلُهَا فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِانْتِقَالِ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ لِاخْتِلَاطِ بَيْتِهَا بِبُيُوتِهِمْ، أَوْ تُقِيمُ مَعَ أَهْلِهَا بِمَكَانِهِمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَكَانِ الطَّلَاقِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْبَذَاءِ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا كَانَ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ أَكْثَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِعْذَارِ مُخَالِفَةٌ لِأَحْكَامِ الْإِخْبَارِ. وَالْإِعْذَارُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ، وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا إِمَّا مِنْ تَلَفِ مُهْجَةٍ، وَإِمَّا مِنْ إِتْيَانِ فَاحِشَةٍ فَهَذِهِ تُؤْخَذُ بِالنُّقْلَةِ جَبْرًا لِتَحْصِينِ نَفْسِهَا، وَفَرَجِهَا. وَضَرْبٌ يَجُوزُ لَهَا الِانْتِقَالُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَهُوَ مَا أَدَّى إِلَى الْخَوْفِ عَلَى مَالِهَا مِنْ تَلَصُّصٍ أَوْ أَذِيَّةِ جَارٍ فِي شَتْمٍ أَوْ سَفَهٍ فَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالنُّقْلَةِ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَعَ أَمْنِهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْفَرْجِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَيُخْرِجُهَا السُّلْطَانُ فِيمَا يَلْزَمُهَا فَإِذَا فَرَغَتْ رَدَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِغْنَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهَا، وَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ كَالْأَمْوَالِ. فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَطَالِبِهِمْ، فَإِنْ أَخَّرُوهَا فِي الْعِدَّةِ كَانَتْ عَلَى حَالِهَا مُقِيمَةً إِلَى انْقِضَائِهَا، وَإِنْ طَالَبُوهَا بِحُقُوقِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا، فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حقوقهم في ديون قضتها، أو ودائع درتها أُقِرَّتْ فِي مَسْكَنِهَا، وَإِنِ اقْتَضَتِ الْمُحَاكَمَةُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 عِنْدَ التَّنَاكُرِ رُوعِيَ حَالُهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا السُّلْطَانُ لِلْمُحَاكَمَةِ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ انْبِرَامِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَنْفَذَ السُّلْطَانُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خُصُومِهَا فِي مَسْكَنِهَا كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ مِنِ اعْتِبَارِ الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ فِي إِخْرَاجِهَا وَإِقْرَارِهَا. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ فَيُعَجَّلُ اسْتِيفَاؤُهَا وَلَا يُؤَخَّرُ بِالْعِدَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْمَرَضِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ السُّلْطَانُ اسْتِيفَاءَ الْحُدُودِ مِنْهَا رُوعِيَ حَالُهَا أَيْضًا فِي الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً أَقَامَ الْحَدَّ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهَا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " وَإِنْ كَانَتْ بَرَزَةً أَخْرَجَهَا لِإِقَامَةِ الحد عليها قوله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وَالزِّنَا مِنْ أَكْبَرِ الْفَوَاحِشِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ بِمَا فِي الزِّنَا فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ وَالْأَقْرَاءِ رُجِمَتْ، وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَالْعِدَّةُ مَوْضُوعَةٌ لِمَنْعِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ وَرَجْمُهَا أَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ أَوْ يَنْفَشَّ حَمْلُهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُقَامُ عَلَى حَامِلٍ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا جُلِدَتْ، وَإِنْ كانت حائلاً وفي تَغْرِيبِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تغرب إلى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَغْلِيبًا لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي تَحْصِينِ مَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُغَرَّبُ حَوْلًا إِلَى أَحْصَنِ الْمَوَاضِعِ وَيُرَاعَى تَحْصِينُهَا فِي التَّغْرِيبِ فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ حَوْلَ التَّغْرِيبِ قَبْلَ انقضاء العدة وجب رَدُّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ فِي السُّكْنَى حَقًّا لَهَا فِي الْمَسْكَنِ وَحَقًّا عَلَيْهَا فِي الْمُقَامِ فِيهِ، فَإِنْ مَلَكَ الزَّوْجُ مَسْكَنًا لَزِمَهُ إِقْرَارُهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهِ طَلَاقُهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَسْكَنًا اكْتَرَاهُ بِمَالِهِ إِنْ حَضَرَ، وَاكْتَرَاهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ إِنْ غَابَ إِذَا وَجَدَ لَهُ مَالًا؛ لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ مِمَّنْ غَابَ عَنْهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَيَكُونَ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ يَأْخُذُهُ بِأَدَائِهِ إِذَا قَدِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي اكْتِرَاءِ مَسْكَنٍ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ إِذَا قَدِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقْرِضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أُجْرَةَ مَسْكَنٍ يُطَالِبُهُ بِهِ إِذَا حَضَرَ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ هُوَ الْمُقْتَرِضَ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اكْتَرَى لَهَا مَسْكَنًا تَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ تَتَجَاوَزَ بِهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى أَكْرَى مَنْزِلًا إِنَّمَا كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِنْزَالِ مَنِازِلِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ مَعْ مَنَازِلِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ يَكْتَرِي عَلَى الْغَائِبِ مَسْكَنًا إِذَا لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِمَسْكَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنْ لَمْ يَكْتَرِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ بَعْدَهُ، فَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَطَوَّعُونَ بِإِعَارَةِ مَنَازِلِهِمْ وَلَا يَكْرُونَهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا مَوْجُودًا فِي عُرْفِ بَعْضِ الْبِلَادِ اسْتَعَارَهُ الْحَاكِمُ لَهَا وَلَمْ يَكْتَرِهِ عَلَى زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا اكْتَرَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مُعِيرًا وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُعِيرُ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُ الْعَارِيَةُ أَوِ الْكِرَاءُ، وَأَمَّا الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي مَسْكَنٍ مُعَارٍ فَأَرَادَ نَقْلَهَا مِنْهُ إِلَى مَسْكَنٍ يَكْتَرِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْعَارِيَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُ أَهْلِهِ الْكِرَاءُ فَفِي جَوَازِ نَقْلِهَا مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مَا لَمْ يَرْجِعْ أَهْلُهُ فِي إِعَارَتِهِ كَالْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ نَقْلُهَا مِنْهُ كَيْ لَا يَلْحَقَهُ مِنَ الْمِنَّةِ فِيهِ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي الْبَلَدِ الْمَعْهُودِ إِعَارَتُهُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ تَكَارَتْ فَإِنَّ الْكِرَاءَ كَانَ لَهَا مِنْ يَوْمِ تَطْلُبُهُ وَمَا مَضَى حَقُّ تَرِكَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا طَالَبَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالسُّكْنَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِسُكْنَى مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ، وَسَقَطَ حَقُّهَا فِيمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةُ ذَاتَ حَمْلٍ وَطَالَبَتْ نَفَقَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ حُكِمَ لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ فَخَالَفَ فِيمَا مَضَى بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَوْلَيْنِ، وَيُخَرِّجُ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِيهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى وَلَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي السُّكْنَى وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ الْجَوَابِ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُحْكَمُ لَهَا فِيمَا مَضَى بِالنَّفَقَةِ وَلَا يُحْكَمُ لَهَا بِالسُّكْنَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ السُّكْنَى تَشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ لَهَا، وَعَلَى حَقٍّ عَلَيْهَا لِأَنَّ لَهَا الْمَسْكَنَ وَعَلَيْهَا الْمُقَامُ، فَإِذَا تَرَكَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا فِي تَحْصِينِ مَاءِ الزَّوْجِ حيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 يَشَاءُ، وَأَقَامَتْ حَيْثُ شَاءَتْ سَقَطَ الْحَقُّ الَّذِي لَهَا كَمَا أَسْقَطَتِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَفَرَّدَتْ بِهِ إِمَّا بِحَمْلِهَا، وَإِمَّا لَهَا لِأَجْلِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ مُقَابَلَةَ حَقٍّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى اسْتِحْقَاقِهَا كَالدُّيُونِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا بِمَا مَضَى قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَهَا السُّكْنَى فِيمَا بَقِيَ بَعْدَهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا أَتَتِ الْحَاكِمَ حَتَّى يَحْكُمَ لَهَا بِالسُّكْنَى لِيَكُونَ دَيْنًا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ عَدَلَتْ عَنِ الْحَاكِمِ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَرْجِعْ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْيِهَا بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا تَتَكَارَى مَسْكَنًا عَلَى زَوْجِهَا فَفِي رُجُوعِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَرْجِعُ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي: لَا تَرْجِعُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَاكِمُ شَرْطًا فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ مَعَ عَدَمِهِ كَالْعُنَّةِ. 0 (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا امْرَأَةُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَتْ مُسَافِرَةً معه فالمرأة الْمُسَافِرَةِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَاحِبَ سَفِينَةٍ فَسَافَرَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَسْكَنٌ غَيْرُ السَّفِينَةِ فِي بَلَدٍ مُسْتَوْطَنَةٍ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ فَتَكُونُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ إِذَا اتَّسَعَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ فَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسَافِرَةِ فِي الْبَرِّ إِذَا طُلِّقَتْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَلَدِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ لَهَا مَسْكَنٌ غَيْرُ سَفِينَتِهِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْتَدَّ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَبَيْنَ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْبَرِّ فَتَعْتَدَّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ثُمَّ فِيهِ إِنْ صَعِدَتْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ لَهَا إِذَا صَعِدَتْ أَنْ تَعْتَدَّ فِي أَيِّ بَلَدٍ شَاءَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو اصح أنها تعتد من أقرب البلاد في الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فيه. فَأَمَّا مُقَامُهَا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّفِينَةِ، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً كَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا انْفَرَدَتْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا، وَحَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 تَعْتَدَّ مَعَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا حَاجِزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو مَحْرَمٍ جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهَا إِذَا سَتَرَتْ عَنْهُ نَفْسَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ لَمْ يَجُزْ كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَصْعَدَ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الصُّعُودِ فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ فَتَعْتَدَّ فِيهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْمَسْكَنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ فَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: خُرُوجُ نُقْلَةٍ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ يُخَافُ بِهَا عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَيَجُوزُ مَعَهَا الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِحَاجَةٍ تَعُودُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَوْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ جَازَ أَنْ يُخْرَجَ بِهَا فِي حَوَائِجِهَا وَتَعُودَ لَيْلًا إِلَى مَسْكَنِهَا وَرَوَى مُجَاهِدٌ، قَالَ: اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ، وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ فَجِئْنَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَوْحِشُ اللَّيْلَ فَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّدْنَا إِلَى بُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَأْتِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَى بيتها " وإنما لم يفسح لهن في مفارقة منازلهن ليلا وفسح لَهُنَّ فِي مُفَارَقَتِهَا نَهَارًا، لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الْخَلَوَاتِ وَالِاسْتِخْفَاءِ بِالْفَوَاحِشِ فَمَنَعَهُنَّ تَحْصِينًا لَهُنَّ وَحِفْظًا لِمِيَاهِ أَزْوَاجِهِنَّ فِي زَمَانِ الْحَذَرِ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَخَّصَ لَهُنَّ فِي زَمَانِ الْأَمْنِ مِنَ النَّهَارِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَاتٍّ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لَيْلًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَفِي جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا لِلْحَاجَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ كَالْمُتَوَفَّى عنها زوجها؛ لِمَا رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا فَزَجَرَهَا رَجُلٌ عَنِ الْخُرُوجِ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلَى فَجُدِّيَ نَخْلَكِ فَلَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا مَعْرُوفًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: نَخْلُ الْأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْجُدَادُ يَكُونُ نَهَارًا فَأَذِنَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 (باب الإحداد) (من كتابي العدد القديم والجديد) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " وَكَانَتْ هِيَ وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِي لَا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا مَعًا فِي عِدَّةٍ وَكَانَتَا غَيْرَ ذَوَاتَيْ زَوْجَيْنِ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إِحْدَادٌ كَهُوَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَأُحِبُّ ذَلِكَ لَهَا وَلَا يَبِينُ أَنْ أُوجِبَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا قَدْ تَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْزَمِ الْقِيَاسُ إِلَّا بَاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ جَعَلَهُمَا فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَقَالَ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِحْدَادُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالزِّينَةُ مِنْ لِبَاسٍ وَغَيْرِ لِبَاسٍ إِذَا كَانَ يَبْعَثُ عَلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ لَهَا، وَسُمِّيَ إِحْدَادًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ كَمَا سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ وَسُمِّيَ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَتِهِ فَلَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى غَيْرِ مُعْتَدَّةٍ. فَأَمَّا الْمُعْتَدَّاتُ فَثَلَاثٌ، مُعْتَدَّةٌ يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، وَمُعْتَدَّةٌ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَمُعْتَدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ الَّتِي يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا فَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمَّا أَتَاهَا نَعْشُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا " فَدَلَّ عَلَى اقْتِصَارِهِ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّ مَا عَدَاهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الْعِدَّةِ بِأَسْرِهَا مَا رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ فَمَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قالت زينب، دخلت على زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ". قَالَتْ زَيْنَبُ: فَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت يا رسول الله إن بنتي توفي زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرِ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ " قَالَ حُمَيْدٌ، قُلْتُ: لِزَيْنَبَ مَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانْتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى يَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تَأْتِي بِدَابَّةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَقَلَّمَا تَقْبِضُ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ يَعْنِي لِطُولِ أَظْفَارِهَا، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْغَرِيبِ فَقَالَ: " الْحِفْشُ هُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الذَّلِيلُ مِنَ الشعر والبناء وغيره ". وقال الأزهري: " وهو الْبَيْتُ الصَّغِيرُ السُّمْكِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ هَلَّا جَلَسَ فِي حِفْشِ أُمِّهِ " وَسُمِّيَ حِفْشًا لِصِغَرِهِ. وَأَنَّهُ يَجْمَعُهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ حَفَشَتْ زَوْجَهَا إِذَا حَلَّلَتْهُ بِنَفْسِهَا. وَقِيلَ لِلزَّوْجِ الْحِفْشُ وَقَوْلُهَا: فَتَقْبِضُ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَبْضُ بِالْكَفِّ، وَرَوَى غَيْرُهُ فَتَقْتَضُّ الْقَضَّ مِنَ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ لأن القبض الذي هو الأخذ بالكف يؤول إِلَى الْقَضِّ الَّذِي هُوَ الْكَسْرُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بما يؤول إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْبَعْرَةُ فَفِي إِلْقَائِهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرِيدُ بِإِلْقَائِهَا أَنَّهَا قَدْ أَلْقَتْ حُقُوقَهُ عَنْهَا بِأَدَائِهَا كَإِلْقَاءِ الْبَعْرَةِ. وَالثَّانِي: تَعْنِي بِإِلْقَائِهَا أَنَّ مَا مَضَى عَلَيْهَا مِنْ بُؤْسِ الْحَوْلِ هَيِّنٌ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ كَهَوَانِ الْبَعْرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَسْمَاءَ: " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا " فَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ عَلَيْهَا تَسَلَّبِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا لِأَمْرِهِ فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَفِي مَعْنَى تَسَلَّبِي تَأْوِيلَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 أَحَدُهُمَا: نَزْعُ الْحُلِيِّ وَالزِّينَةِ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِي: لُبْسُ الثِّيَابِ السُّودِ، وَهِيَ تُسَمَّى السِّلَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (يَخْمِشْنَ حُرَّ أَوْجُهٍ صِحَاحٍ ... فِي السُّلُبِ السُّودِ وَفِي الْأَمْسَاحِ) (فَصْلٌ) وَأَمَّا الَّتِي لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا فَهِيَ الرَّجْعِيَّةُ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الزَّوْجَاتِ، وَفِي اسْتِحْبَابِ الْإِحْدَادِ لَهَا وجهان: أحدهما: يستحب لها ليظهر بالإحداد أسفاً عَلَيْهِ فَيَحْنُوَ عَلَيْهَا، وَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا، وَتُنْدَبُ إِلَى التَّصَنُّعِ لَهُ بِالزِّينَةِ لِيَمِيلَ إِلَيْهَا فَيَرْغَبَ فِي مُرَاجَعَتِهَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فَهِيَ الْمَبْتُوتَةُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ، وَالْمُلَاعِنَةُ فَالْإِحْدَادُ مُسْتَحَبٌّ لَهُنَّ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ فِي عِدَّةِ الْبَنَاتِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ عَنْ نِكَاحٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمَا فِيهَا لِزَوْجٍ؛ وَلِأَنَّ عِدَّةَ الْمَبْتُوتَةِ أَغْلَظُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ نَهَارًا وَلَا تُمْنَعُ مِنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا كَالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ اسْتَنْكَحَهُ المرض إذا دوامه فَإِذَا مَاتَ عَنْهَا فَقَدِ اسْتَوْفَى مُدَّةَ نِكَاحِهِ فَوَجَبَ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ، وَخَالَفَ الْمَبْتُوتَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَى عِصْمَتَهَا فَلَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ فِي عِدَّتِهِ لِقَطْعِ حُرْمَتِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي فُرْقَةِ الْإِحْدَادِ بَيْنَ عِدَّةِ الْمَوْتِ وَعِدَّةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ فَأَنْكَرَ الْمُزَنِيُّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي فُرْقَتِهِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي حَالٍ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أُخْرَى فَقَالَ: كُلُّ مَا قِيسَ عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ مُشْتَبِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي حَالٍ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أُخْرَى ثُمَّ قَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقِيَاسِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ كُلِّ الْوُجُوهِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِلْمُزَنِيِّ: أَمَّا آخِرُ كَلَامِكَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 اجْتِمَاعُ كُلِّ الْوُجُوهِ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّيْئَيْنِ الْمَتْبُوعَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مُمْتَنِعٌ وَلَوِ اشْتَرَكَا لَمْ يَتَنَوَّعَا، وَأَمَّا أَوَّلُ كَلَامِكَ فِي اعْتِرَاضِكَ فَلَيْسَ إِذَا اجْتَمَعَ الشَّيْئَانِ مِنْ وَجْهٍ وَاخْتَلَفَا من جوه وَجَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى إِرْسَالِ هَذَا الْقَوْلِ وَإِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُلِّبَ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ لِمَا اخْتَلَفَ حُكْمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْء فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَقَدْ يشتركان في الحدوث، ولو غُلِّبَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ لِمَا اجْتَمَعَ حُكْمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ إِلَّا وَقَدْ يُخَالِفُ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي غَيْرِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ وَجْهٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي الْعِدَّةِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْعِدَّتَيْنِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَزِمَ فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي عِدَّةٍ الطَّلَاقِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَأُمُّ الْوَلَدِ مَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ وَيَسْكُنَّ حَيْثُ شِئْنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَالْأَمَةُ الْمُسْتَبْرَأَةُ فِي مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ فِيهَا تَأَكَّدَتْ حُرْمَتُهُ مِنْ عُقُودِ الْمَنَاكِحِ الصَّحِيحَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحِفْظًا لِحُرْمَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ فِيمَنْ ذَكَرْنَا من غير الزوجات حكمهن فِي الْإِحْدَادِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي السُّكَّنْى فَلَا سُكْنَى لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَلَا لِلْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ السُّكْنَى قَبْلَ الْعِدَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْعِدَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّ سُكْنَاهَا وَجَبَ بِالرِّقِّ فَسَقَطَ بِالْعِتْقِ وَإِذَا لم يكن لهن سكنى سكن حَيْثُ شِئْنَ فَإِنْ أَحَبَّ الْوَاطِئُ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، تَحْصِينَ مَائِهِ فَبَذَلَ السُّكْنَى أُجْبِرَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَلَى السُّكْنَى حَيْثُ شَاءَ الْوَاطِئُ، وَكَذَلِكَ وَرَثَةُ السَّيِّدِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا بَذَلُوا سُكْنَاهَا لِتَحْصِينِهَا سَكَنَتْ حَيْثُ شَاءُوا لِئَلَّا تُدْخِلَ عَلَيْهِمْ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا الْإِحْدَادُ فِي الْبَدَنِ وَتَرْكِ زِينَةِ الْبَدَنِ وَهُوَ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى الْبَدَنِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ طِيبًا يَظْهَرُ عَلَيْهَا فَيَدْعُوَ إِلَى شهوتها " الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ مُخْتَصٌّ بِالْبَدَنِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إِدْخَالِ الزِّينَةِ عَلَيْهِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِهَا شَهْوَةُ الْجِمَاعِ، إِمَّا شَهْوَتُهَا لِلرِّجَالِ، وَإِمَّا شَهْوَةُ الرِّجَالِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لما حرم نكاحها ووطئها حرم دواعيها كالمحرمة ودواعيها مَا اخْتَصَّ بِالْبَدَنِ لَا مَا فَارَقَهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَفَرْشٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا سَكَنَتْ وَافْتَرَشَتْ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِيمَا زَيَّنَتْ بِهِ بَدَنَهَا وَتَحَرَّكَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ لَهَا وَمِنْهَا فَوَافَقَتِ الْمُحْرِمَةَ فِي حَالٍ وَفَارَقَتْهَا فِي حَالٍ، فَأَمَّا حَالُ الْمُوَافِقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الِاسْتِبَاحَةِ بِوَطْءٍ أَوْ عَقْدٍ. وَالثَّانِي: حَظْرُ مَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ مِنْ طِيبٍ وَتَرْجِيلٍ. وَأَمَّا حَالُ الْمُفَارَقَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَعْنَى الْحَظْرِ، وَأَنَّهُ فِي الْمُحْرِمَةِ مَا أَزَالَ الشَّعَثَ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَأُبِيحَ لَهَا الْحُلِيُّ وَالزِّينَةُ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ فِي الْمُعْتَدَّةِ اسْتِعْمَالُ الزِّينَةِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَتْ مِنَ الْحُلِيِّ وَزِينَةِ الثِّيَابِ، وَأُبِيحُ لَهَا أَخْذُ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَى الْمُحْرِمَةِ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا وَالْمَحْظُورَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي إِحْدَادِهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِالصَّبِرِ لَيْلًا وَتَمْسَحَهُ نَهَارًا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْفِدْيَةِ وَأَذِنَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ فِي إِحْرَامِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى أَنَّ الْفِدْيَةَ فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي فَاسِدِهِ وَجَبَتْ فِي مَحْظُورَاتِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ فِي فَاسِدِ الْعِدَّةِ لَمْ تَجِبْ فِي مَحْظُورَاتِهَا، وَسَنَصِفُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ كَمَا وَصَفْنَا كُلَّ نَوْعٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإحرام. (مسألة) قال المزني رحمه الله تعالى: " فَمِنْ ذَلِكَ الدُّهْنُ كُلُّهُ فِي الرَّأْسِ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ الْأَدْهَانِ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ وِإِذْهَابِ الشَّعَثِ سَوَاءٌ وَهَكَذَا الْمُحْرِمُ يَفْتَدِي بِأَنْ يَدْهِنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِزَيْتٍ لِمَا وَصَفْتُ وَأَمَّا مَدُّ يَدَيْهَا فَلَا بَأْسَ إِلَّا الطِّيبَ كَمَا لَا يَكُونُ بِذَلِكَ بَأْسٌ لِلْمُحْرِمِ وَإِنْ خَالَفَتِ الْمُحْرِمَ فِي بَعْضِ أَمْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّهْنُ فَمِمَّا تَسْتَوِي فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ لِوُجُودِ مَعْنَاهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْدِثُ الزِّينَةَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ وَيُزِيلُ الشَّعَثَ فَمُنِعَتْ مِنْهُ الْمُحْرِمَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طِيبٍ، وَغَيْرِ طيب فأما الطيب فنوعان: مَا كَانَ طِيبًا لِذَاتِهِ كَالْبَانِ. الثَّانِي: مَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الطِّيبُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي الشَّعْرِ وَالْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ وَتَرْجِيلٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 وَأَمَّا غَيْرُ الطِّيبِ فَكَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ لِمَا يُحْدِثُ فِيهِ مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَشِدَّةِ بَصِيصِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَنْمِيسَ الْبَدَنِ وَاجْتِذَابَ الْوَسَخِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ تُمْنَعُ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا إِزَالَةُ الشَّعَثِ تُمْنَعُ بِهِ الْمُحْرِمَةُ، فَلَوْ قَرِعَ رَأْسُهَا حَتَّى ذَهَبَ شَعْرُهَا جَازَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِي رَأْسِهَا كَمَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِذَهَابِ الشَّعْرِ كَالْبَدَنِ وَلَوْ حَلَقَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَدْهِنَهُ؛ لِأَنَّ شَعْرَهَا يَنْبُتُ بَصِيصًا مُرَجَّلًا، وَلَوْ نَبَتَ فِي وَجْهِهَا شَعْرُ لِحْيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيهَا وَإِنْ نُفِخَتْ بِاللِّحْيَةِ لِمَا فِي الدُّهْنِ مِنْ تَرْجِيلِهَا وَبَصِيصِ شَعْرِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: {وَكُلُّ كُحْلٍ كَانَ زِينَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ لَهَا فَأَمَّا الْفَارِسِيُّ وَمَا أَشْبَهَهُ إِذَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا وَمَا اضْطُرَّتْ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ زِينَةٌ مِنَ الْكُحْلِ اكْتَحَلَتْ بِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَحَظْرُ الْكُحْلِ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَدَّةِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَا يُزِيلُ الشَّعَثَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ زِينَةٌ كَالْإِثْمِدِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَالصَّهْرُ وَهُوَ الْأَصْفَرُ فَهُوَ زِينَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَسْوَدَ يَصِيرُ عِنْدَ الِاكْتِحَالِ بِهِ كَالْخُطَّةِ السَّوْدَاءِ فِي أُصُولِ أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَ بَيَاضَيْنِ، بَيَاضِ الْعَيْنِ، وبياض المحاجز فَصَارَ تَحْسِينًا لَهَا وَزِينَةً، فَأَمَّا الْأَصْفَرُ فَإِنَّهُ يُصَفِّرُ مَوْضِعَهُ وَيُحَسِّنُهُ كَالْخِضَابِ فَلِأَجْلِ الزِّينَةِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ، رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امرأة إلى النبي فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ بِنْتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا عَنْهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا فَنَكْحُلُهَا، فَقَالَ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا وَلِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِذَلِكَ مِمَّا يَعْطِفُ أَبْصَارَ الرَّجُلِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى شَهْوَتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْهُ مَا لَا زِينَةَ فِيهِ كَالْفَارِسِيِّ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ مِنَ الْبُرُودِ وَالْعَنْزَرُوتِ وَالتُّوتْيَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّهُ لَا تَحْسِينَ فِيهِ بَلْ يَزِيدُ الْعَيْنَ مَرَهًا وَقُبْحًا، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ زِينَةٌ لِبِيضِ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ بِزِينَةٍ لِسُمْرِهِنَّ وَسُودِهِنَّ كَنِسَاءِ مَكَّةَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ الْبِيضُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ السُّمْرُ وَالسُّودُ، بَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِنَّ مُبَاحٌ، وَلَوِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ لِلنِّسَاءِ لَكَانَ الْأَبْيَضُ بِالسُّمْرِ وَالسُّودِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ زِينَةً مِنْهُ بِالْبِيضِ، وَلَكَانَ الْأَسْوَدُ مِنْهُ مُخْتَلِفَ الْحُكْمِ فِي الْبِيضِ وَالسُّودِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِلَوْنِهِ لَا بِلَوْنِ مُسْتَعْمِلِهِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتِ الْمُعْتَدَّةُ كُحْلَ الزِّينَةِ فِي غَيْرِ عَيْنِهَا مِنْ يَدِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ مَا سِوَى الْعَيْنِ مِنَ الْبَدَنِ تَشْوِيهًا وَقُبْحًا إِلَّا الْأَصْفَرَ مِنْهُ الَّذِي لَهُ لَوْنٌ إِذَا طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ كَالصَّبِرِ حَسَّنَهُ فَتَمَنَّعَ مِنْهُ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْجَسَدِ كَالْوَجْهِ وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا يُظَنُّ لِامْتِدَادِ الْأَبْصَارِ إِلَى مَا ظَهَرَ دون ما بطن فإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 اضطررت الْمُعْتَدَّةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُحْلِ الزِّينَةِ لِمَرَضٍ بِعَيْنِهَا اسْتَعْمَلَتْهُ لَيْلًا وَمَسَحَتْهُ نَهَارًا؛ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ قَالَ: إِنَّهُ يُشِبُّ الْوَجْهُ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بالنهار. (مسألة) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الدِّمَامُ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادٌّ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ " فَقَالَتْ إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " (قال الشافعي) الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب فأذن لها فيه بالليل حيث لا يرى وتمسحه بالنهار حيث يرى وكذلك ما أشبهه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالدِّمَامُ هُوَ مَا يُغْشَى بِهِ الْجَسَدُ، ويُطْلَى عَلَيْهِ حَتَّى يُغَيِّرَ لَوْنَهُ وَيُحَسِّنَهُ كاسفيذاج العرائس الذي يبيض اللَّوْنَ، وَكَالْحُمْرَةِ الَّتِي يُوَرَّدُ بِهَا الْخَدُّ وَالْوَجْهُ، فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ كَالصَّبْرِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَّ سَلَمَةَ عَنْهُ سُمِّيَ دِمَامًا مِنْ قَوْلِهِمْ قِدْرٌ مَدْمُومَةٌ إِذَا طَلَى عَلَيْهَا الْكَلْكُونَ أَوْ نَحْوَهُ، فَهَذَا مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ فِي الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمَةَ، لأنه لا يزل الشَّعَثَ، وَهَكَذَا الْخِضَابُ تُمْنَعُ مِنْهُ بِالْحِنَّاءِ أَوِ الْكَتَمِ سَوَاءٌ تُرِكَ عَلَى حُمْرَتِهِ أَوْ غُيِّرَ حَتَّى اسْوَدَّ لِأَنَّهُمَا مَعًا زِينَةٌ وَتَحْصِينٌ. رَوَتْ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نَهَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَكْتَحِلَ أَوْ تَخْتَضِبَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ لَوْنٍ طُلِيَ بِهِ الْجَسَدُ فحسنه منعت منه المعتدة في إحدادها؛ لأن لا يَدْعُوَ شَهْوَةَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا التَّصَنُّعَ لَهُمْ بِالزِّينَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا وَوَارَتْهُ ثِيَابُهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّبْرِ لَيْلًا وَنَهَاهَا عَنْهُ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ يَخْفَى بِاللَّيْلِ عَنِ الْأَبْصَارِ وَيُرَى فِي النَّهَارِ فَكَذَلِكَ مَا أَخْفَاهُ ثِيَابُهَا وَلَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ غَيْرَ أَنَّهَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الطِّيبُ فَتُمْنَعُ الْمُعْتَدَّةُ فِي إحداها مِنِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مِنْ ذِي لَوْنٍ فِي بَخُورٍ وَطَلْيٍ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ الْمُعْتَدَّةُ وَالْمُحْرِمَةُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ شَعَثَ الْمُحْرِمَةِ، وَيُحْدِثُ الزِّينَةَ فِي الْمُعْتَدَّةِ فَإِنْ أَرَادَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تَتَطَيَّبَ فِيمَا خَفِيَ مِنْ جَسَدِهَا لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْخِضَابِ، لِأَنَّ الطِّيبَ رَائِحَتُهُ تَظْهَرُ فَتُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ بِخِلَافِ الْخِضَابِ وَهَكَذَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَطَيَّبَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ ولم يجز لأنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا وَإِنْ لَمْ يُحَرِّكْ شَهْوَةَ غَيْرِهَا، وَالْخِضَابُ لَا يُحَرِّكُ إِلَّا شَهْوَةَ غَيْرِهَا فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فِي الْعِدَّةِ فَالطِّيبُ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا إِنْ وَجَبَ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَفِي حَظْرِهِ إِنْ لَمْ يَجِبِ الْإِحْدَادُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ كَمَا لَا يَحْرُمُ غَيْرُهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا لِاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْدَادِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَتِهَا وَشَهْوَةِ الرِّجَالِ لها. (مسألة) قال الشافعي: " وَفِي الثِّيَابِ زِينَتَانِ إِحْدَاهُمَا جَمَالُ اللَّابِسِينَ وَتَسْتُرُ العورة قال اللَّهُ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فالثياب زينة لمن لبسها فإذا أفردت العرب التزين على بعض اللابسين دون بعض فإنما من الصبغ خاصة ولا باس أن تلبس الحاد كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين وكذلك الصوف والوبر وكل ما نسج على وجهه لم يدخل عليه صبغ من خز أو غيره وكذلك كل صبغ لم يرد به تزيين الثوب مثل السواد وما صبغ ليقبح لحزن أو لنفي الوسخ عنه وصباغ الغزل بالخضرة يقارب السواد لا الخضرة الصافية وما في معناه فأما ما كان من زينة أو شيء في ثوب وغيره فلا تلبسه الحاد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا نَقْلَ هَذَا ال ْفَصْلِ لِأَنَّهُ مَشْرُوحٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى عِلَلِهِ. وَجُمْلَةُ الثِّيَابِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى جِهَتِهِ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ زِينَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زِينَةً يَتَزَيَّنُ بِهَا اللَّابِسُ، وَيَسْتُرُ بِهَا الْعَوْرَةَ عَلَى مَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من الزينة في قوله: {خذو زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَذَلِكَ هُوَ الْبَيَاضُ مِنْ جَمِيعِ الثِّيَابِ فَمِنْهَا الْقُطْنُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ وَمِنْهَا الْكَتَّانُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ ثِيَابَ الْوَرَعِ، وَمِنْهَا الْوَبَرُ أَرْفَعُهُ وَهُوَ الْخَزُّ وَأَدْوَنُهُ وَهُوَ الْمِعْزَى، وَمِنْهَا الصُّوفُ أَرْفَعُهُ وَأَدْوَنُهُ، وَمِنْهَا الْإِبْرَيْسَمُ وَهُوَ رَفِيعُ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْبَيَاضِ كُلِّهِ مَقْصُورًا وَخَامًا، لِأَنَّ الْقِصَارَةَ كَالْغَسْلِ فِي إِنْقَاءِ الثَّوْبِ وَإِذْهَابِ وَسَخِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيَاضِ الثِّيَابِ طُرُزٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامًا كِبَارًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَلْبَسَهَا لِأَنَّهَا زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ قَدْ أُدْخِلَتْ عَلَى الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَتْ صِغَارًا خَفِيَّةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا زِينَةٌ تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَفْوٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا لِخَفَائِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ رُكِّبَتْ بَعْدَ النَّسْجِ كَانَتْ زِينَةً مَحْضَةً تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَسِيجَةً مَعَهَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْ لُبْسِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ فِي الثَّوْبِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الثِّيَابِ مَا غَيَّرَ بَيَاضَهَا بِالْأَصْبَاغِ الْمُلَوَّنَةِ حَتَّى تَصِيرَ زِينَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْزَجَ لَوْنُهُ بِالنُّقُوشِ كَالْوَشْيِ وَالسَّقْلَاطُونِ أَوْ بِالتَّخْطِيطِ كَالْعَتَّابِيِّ فَهُوَ إِدْخَالُ زِينَةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الثَّوْبِ وَتَسْتَوِي جَمِيعُ الْأَلْوَانِ فِي حَظْرِهِ عَلَى الْحَادِّ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِ سَوَادٍ سَوَاءٌ كَانَ نَقْشُهُ نَسْجًا أَوْ تَرْكِيبًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يصبغ جميعه لوناً واحداً فألوان الأصابغ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ زِينَةً مَحْضَةً وَهُوَ الْأَحْمَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ، وَالْأَصْفَرُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلُبْسُهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي الْإِحْدَادِ، لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَى الْمُحْرِمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الشَّعَثَ. رَوَتْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَلْبَسِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمَمْشُوقَ، وَلَا الْحُلِيَّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الصَّبْغِ مَا لَمْ يَكُنْ زِينَةً وَكَانَ شِعَارًا فِي الْإِحْدَادِ وَلِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ، وَهُوَ السَّوَادُ صَافِيهِ وَمُشَبَّعُهُ فَلَا يُمْنَعُ الْحَادُّ لُبْسَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْهَا قُبْحًا لَمْ يُكْسِبْهَا جَمَالًا وَهُوَ لُبْسُ الْإِحْدَادِ وَشِعَارُهُ حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِاخْتِصَاصِهِ بِشِعَارِ الْحُزْنِ وَالْمَصَائِبِ. وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ لِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِمَا يَجْتَنِبُهُ دُونَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاسماء بن عُمَيْسٍ حِينَ أَتَاهَا نَعْيُ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَسَلَّبِي فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ لُبْسَ السَّوَادِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا فِي الْإِحْدَادِ لِأَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَزْعَ الْحُلِيِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لُبْسُهُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَمْرٌ، وَيَكُونُ نَزْعُ الْحُلِيِّ وَاجِبًا لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَخْتَلِفُ حَالُ مُشَبَّعِهِ وَصَافِيهِ، وَهُوَ الْخُضْرَةُ وَالزُّرْقَةُ فَإِنْ كَانَا صَافِيَيْنِ مُشْرِقَيْنِ فَهُمَا زِينَةٌ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ فَتُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِالزِّينَةِ، وإن كانا مشبعين بَيْنَ كَمُشَبَّعِ الْحُلِيِّ وَالْأَخْضَرِ فَهُمَا كَالسَّوَادِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 يَدْخُلَانِ عَلَى الثَّوْبِ لِإِخْفَاءِ الْوَسَخِ فَلَا تُمْنَعُ الْحَادُّ مِنْ لُبْسِهَا، وَيُفَارِقَانِ السَّوَادَ فِي وُجُوبِ لُبْسِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِي أَلْوَانِ الزِّينَةِ الْمَحْظُورَةِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْغِ الْغَزْلِ بِهَا قَبْلَ نَسْجِهِ وَبَيْنَ صَبْغِ الثَّوْبِ بِهَا بعد نسجه، لأنهما في الحالتين زِينَةٌ وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا صبغ قبل النسج وبعد فَمَنَعَ مِنَ الْمَصْبُوغِ بَعْدَ نَسْجٍ وَأَبَاحَ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ نَسْجِهِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَرْحِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ الْمَمْشُوقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصْبُوغَ قَبْلَ النِّسَاجَةِ أَحْسَنُ، وَهُوَ بِذَوِي النَّبَاهَةِ أَخَصُّ فَكَانَ بِالْحَظْرِ أَحَقَّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحُلِيُّ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا فِي الْإِحْدَادِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ، وَلِأَنَّ نَزْعَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ: تَسَلَّبِي وَهَذَا مِمَّا تُخْتَصُّ بِهِ الْمُعْتَدَّةُ بِحَظْرِهِ دُونَ الْمُحْرِمَةِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي زَوَالِ الشَّعَثِ تَأْثِيرٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُلِيُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ أَوِ الْجَوَاهِرِ وَسَوَاءٌ مَا كَثُرَ مِنْهُ كَالْخَلَاخِلَةِ وَالْأَسْوِرَةِ وَمَا قَلَّ كَالْخَوَاتِيمِ وَالْأَقْرَاطِ، فَأَمَّا إِنْ تَحَلَّتْ بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ فَإِنْ كَانَ مُمَوَّهًا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَوْ كَانَ مُشَابِهًا لِلْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ إِلَّا بَعْدَ شِدَّةِ التَّأَمُّلِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ لُبْسِهِ أَيْضًا كَمَا تُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي لِبَاسِهِ وَتَحْسِينِهَا الدَّاعِي إِلَى اسْتِحْسَانِهَا، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ. (وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةٌ لِنَقِيضَةٍ ... يُتِمُّ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا) (فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا ... كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّدَا) فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشَبَّهْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَمَيَّزَ عَنْهُمَا فِي النَّظَرِ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ، فَإِنْ كانت من قوم جرت عادتهم أن يتحلو بِالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ مُنِعَتْ مِنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِمَا يَتَصَوَّرُونَ فِيهِ مِنَ الْحِرْزِ وَالنَّفْعِ جَازَ لَهَا لُبْسُهُ؛ لأنه ليس يزينة لها، فإذا أرادت المعتدة في إحداها أَنْ تَلْبَسَ حُلِيَّهَا لَيْلًا وَتَنْزِعَهُ نَهَارًا جَازَ ذَلِكَ لَكِنْ إِنْ فَعَلَتْ ذَاكَ لِإِحْرَازِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ فَعَلَتْهُ لِغَيْرِ إِحْرَازٍ وَحَاجَةٍ كُرِهَ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مَا عَدَا زِينَةَ جَسَدِهَا مِنْ زِينَةِ مَنْزِلِهَا وَزِينَةِ فُرِشِهَا فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا عَلَى الْإِحْدَادِ مِنَ الْأَجَانِبِ مَنْ يَرَاهَا فِيهِ فَيُحَسِّنُهَا وَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَنَامَ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ تَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى وِسَادَةٍ وَلَا تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالْحَلْوَاءِ وَسَائِرِ الْمَآكِلِ الْمُشْتَهَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 فَأَمَّا أَكْلُ مَا فِيهِ طِيبٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ أَوِ الطَّبِيخِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ شَهْوَتَهَا لِلرِّجَالِ وَإِنْ لَمْ تَتَحَرَّكْ لَهَا شَهْوَةُ الرجال والله أعلم بالصواب. (مسألة) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ كُلُّ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فَأَمَّا الْحُرَّةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَهِيَ فِي الْإِحْدَادِ كَالْحُرَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا السُّكْنَى فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّدُ اسْتِخْدَامَهَا وَجَبَ لَهَا السُّكْنَى كَالْحُرَّةِ وَلَزِمَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالْإِحْدَادِ وَإِنِ اسْتَخْدَمَهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا لِحَقِّهِ فِي الْمِلْكِ، وَسَقَطَتِ السُّكْنَى وَلَزِمَ الْإِحْدَادُ وَلَا يَكُونُ سُقُوطُ السُّكْنَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِحْدَادِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ. وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ مِنَ الزِّينَةِ لِأَنْ لَا تَشْتَهِيَ وَيَشْتَهِيَهَا الرِّجَالُ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مَا يُخَالِفُ فِيهِ مَعْنَى الْحُرَّةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ الْخِدْمَةِ. (فَصْلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ فَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْإِحْدَادُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الصَّغِيرَةَ كَالْعِبَادَاتِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ بِنْتَهَا مَاتَ زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: لَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ وَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَالْكَبِيرَةِ. فَأَمَّا رَفْعُ الْقَلَمِ عَنْهَا فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْدَادِ تَعَبُّدًا مَحْضًا فَهُوَ كَالْعِدَّةِ فِيهِ تعبد ويتعلق به حتى الزَّوْجِ إِمَّا لِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ وَإِمَّا لِصَرْفِ الرِّجَالِ عن الرغبة فيها في عدته وَهَذَانِ مِمَّا لَا يَفْتَرِقُ فِيهِمَا حُكْمُ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ. وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَهِيَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ كَالْمُسْلِمَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا ذِمِّيًّا فَلَا عِدَّةَ وَلَا حِدَادَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُمَا وَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَمَّا خَصَّ الْمُؤْمِنَةَ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَسَقَطَتْ بِالْكُفْرِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا أُقِرَّتْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ كَانَ إِقْرَارُهَا عَلَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَلَا الْمُمَشوق وَلَا الْحُلِيَّ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا، فِيهِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ وَالْإِحْدَادُ كَالْمُسْلِمَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِرِعَايَةِ الْحُرْمَةِ وَإِمَّا لِحِفْظِ الشَّهْوَةِ وَإِنْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ أَقَلَّ رِعَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَهِيَ أَقْوَى شَهْوَةً لِقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ فَكَانَتْ بِالْإِحْدَادِ أَوْلَى مِنَ الْمُسْلِمَةِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَمْ يُذْكَرِ الْإِيمَانُ فِيهِ شَرْطًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَدْنَى وكما قال تعالى: {إن نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْإِيمَانِ فِيهِنَّ شَرْطًا، وَكَانَ تَنْبِيهًا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كفر. والجواب عن قولهم: أن تعبد، فهو أن التعبد لما اقْتَرَنَ بِهِ حَقُّ الزَّوْجِ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى المحضة والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ نَصْرَانِيًّا فَأَصَابَهَا أَحَلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَيُحْصِنُهَا لِأَنَّهُ زَوْجٌ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنَاكِحَ الْمُشْرِكِينَ صَحِيحَةٌ وَأَبْطَلَهَا مالك. والدليل عليه قول تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] فَجَعَلَهَا زَوْجَةً بِنِكَاحِ الشِّرْكِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ جَازَ وَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا فِي شِرْكِهِمْ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 وَالْفَصْلُ الثَّانِي: وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مَنَاكِحِهِمْ حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ بطَلَاق بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي فَسَادِ مَنَاكِحِهِمْ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: ثُبُوتُ إِحْصَانِهِمْ بِالْإِصَابَةِ فِي مَنَاكِحِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا إِحْصَانَ لَهُمْ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا " وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا، وَلِأَنَّهَا إِصَابَةٌ فِي نِكَاحٍ يُقِرُّ عَلَيْهَا أَهْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَصَانَةُ كَالْمُسْلِمَةِ. وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا، ونكحت بعده ذمياً أجلها لِلْمُسْلِمِ بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يُحِلُّهَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِصَابَةِ فِيهِ نِكَاحُ الْأَوَّلِ كَالْمُسْلِمِ. وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنَ الْكَافِرِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَقَدْ كُنَّ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ فِي الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ عليها أن تحفظ أنساب المشتركين كَمَا تَحْفَظُ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 49] وَلِتَمْيِيزِ أَنْسَابِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْسَابِ الْمُشْرِكِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ فَاسْتَوَيَا فِي الْعِدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 (باب اجتماع العدتين والقافة) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِنِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) لَأَنَّ عَلَيْهَا حَقَّيْنِ بِسَبَبِ الزَّوْجَيْنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَقَّيْنِ لَزِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وُجُوبُ الْعِدَّةِ تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنْ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَنِ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجله} [البقرة: 235] ولفساد العقد حالتان: إحدهما: أَنْ يَخْلُوَ مِنْ وَطْءٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ وَطْءٌ. فَإِنْ خَلَا مِنَ الْوَطْءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا يُعَزَّرَانِ إِنْ جَهِلَاهُ، وَالتَّعْزِيرُ لِإِقْدَامِهِمَا عَلَى التَّعَرُّضِ لِمَحْظُورِ النِّكَاحِ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مَهْرٌ، وَلَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى وَلَا تَصِيرُ فِيهِ فِرَاشًا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَجِبُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا عِدَّةٌ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ، وَتَكُونُ جَارِيَةً فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تَقْطَعُ عِدَّةَ الْمُطَلَّقِ حَتَّى إِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِمَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقِ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّةِ فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ قَاطِعَةً لِلْعِدَّةِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُرْتَجَعَةَ تَكُونُ فِرَاشًا فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمُدَّةِ الْفِرَاشِ مِنَ الْعِدَّةِ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ فِرَاشًا فَجَازَ أَنْ يُحْتَسَبَ بِمُدَّةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَكْمَلَتِ الْعِدَّةَ قَبْلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَانَ لِلنَّاكِحِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَحْسَبُ مالكاً بقول لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ غَيْرَهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 (فَصْلٌ) فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْوَاطِئِ لِأُمِّهِ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْحِجَاجِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ هَاهُنَا، وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، فَقَالَ: أَرْسَلَنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رَجُلٍ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ أَقْتُلَهُ وَآتِيَهُ بِرَأْسِهِ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ. وَالْعَرْسَةُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاحْتَمَلَ تَخْمِيسَ مَالِهِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَصَارَ مُرْتَدًّا وَصَارَ مَالُهُ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا وَاحْتَمَلَ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ فَقَتَلَهُ حَدًّا وَخَمَّسَ مَالَهُ عُقُوبَةً، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْوَالِ، فَدَلَّ ذِكْرُ الْحَسَبِ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَتْلِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ ارْتَفَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي إِبَاحَتِهِ وَارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ فِي الوطء ويوجب للحد كَالزِّنَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ كَالزِّنَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ وَلَا بقطع عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَيَسْرِي فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهَذَا الْوَطْءِ فِرَاشًا لَهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَاهِلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ: إِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَلَا حَدَّ عليهما، لأن في الجهل بالتحريم شبهة تدرأها الْحُدُودُ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْوَاطِئِ أَحْكَامُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمَهْرُ وَيُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ وَتُقْطَعُ بِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لَهُ وَمُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُنَافِي الْفِرَاشَ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا صارت بالتفرقة داخلة في عدة لاأول لِارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ بِهَا فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ إِصَابَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ إِذَا كَمُلَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَى الثَّانِي أَبَدًا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَالِكٍ، أَوْ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا، هَلْ يَكُونُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا شَرْطًا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ شَرْطًا، وَقَدْ حَرُمَتْ أَبَدًا سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّحْرِيمِ لَا تَقِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ شَرْطٌ فِي تَأْبِيدِ هَذَا الْحُكْمِ كَاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ: هُمَا دَلِيلٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَالَمِ وَالْجَاهِلِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِمَ بِالتَّحْرِيمِ مَزْجُورٌ فَاسْتَغْنَى عَنِ الزَّجْرِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عليه والجاهل به غيره مزجوراً بِالْحَدِّ فَزُجِرَ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّحْرِيمِ مُفْسِدٌ لِلنَّسَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ فَزُجِرَ عَلَى إِفْسَادِهِ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ وَالْعَالِمَ بِهِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِيهِ فَلَمْ يُزْجَرْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ لِعَدَمِ إِفْسَادِهِ فَهَذَا دَلِيلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ، وَمَذْهَبُ مَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ثُمَّ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ بِالْجَهْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْرُمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَلَالَ الْوَطْءِ وَحَرَامَهُ مِنْ نِكَاحٍ وَزِنًا لَا يُوجِبُ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَهَذَا الْوَطْءُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ لَا يَكُونُ بِالتَّحْرِيمِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ، وَالْجَاهِلُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِيفُ وَلَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَالْعَالِمُ هُوَ الْمُفْسِدُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ وَلَدَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الثَّانِي. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ دُونَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ بِوَطْئِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ: لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَيَكُونُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ اجْتِمَاعِهِمَا مُحْتَسِبًا بِهِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتُبْنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي حق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَمَا وَجَبَ مِنَ الْمَهْرِ فِيهِمَا فَهُوَ لِلْمَوْطُوءَةِ وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ مَهْرُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِغَيْرِهَا. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ عَالِمَةً بِهِ فَالْحَدُّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْمَهْرَ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا، وَالْوَلَدَ لَاحِقٌ بِهِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لِأَنَّهُمَا مُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِصَابَةُ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهَا فِرَاشًا لِلثَّانِي، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا دَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَتَسْتَأْنِفَ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي، وَتَجْرِي عَلَى هَذِهِ الْإِصَابَةِ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي فَتَصِيرُ إِصَابَةُ الثَّانِي قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا جَهِلَا التَّحْرِيمَ أَوْ جَهِلَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا، وَغَيْرَ قَاطِعَةٍ لِعِدَّتِهِ فِي قِسْمَيْنِ إِذَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ أَوْ عَلِمَهُ الْوَاطِئُ دُونَهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ عِدَّةٌ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ، وَأَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ لِتُقَدِّمِهِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَأَبُو حَنِيفَةَ تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ وَلَا يَلْزَمُهَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي عِدَّةِ الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْحَامِلِ عِدَّةً غَيْرَ وَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ تَرَادَفَتَا فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَا كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تُرَادُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، فَإِذَا عُرِفَ فِي حق إحداهما عُرِفَ فِي حَقِّهِمَا فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِالزِّيَادَةِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَدَاخُلِهِمَا حَتَّى لا تتأخر واحد مِنْهُمَا عَنْ سَبَبِهَا، وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَجُوزُ لِمُخَالِعِهَا أن يتزوجها في عدتها، ولو طئت فِيهَا بِشُبْهَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَوْلَا أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَاقْتَضَى هَذَا الْمَنْعُ تَدَاخُلَ الْعِدَّتَيْنِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ أَجَلٌ يُقْضَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَجَلَانِ فِي دَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ تَدَاخَلَا كَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّتَانِ. وَدَلِيلُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَمْسَكَ الْبَاقُونَ عَنْ مُخَالَفَتِهِمَا. أَحَدُهُمَا: عَنْ عُمَرَ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سعيد بن المسيب، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا الْبَتَّةَ فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ الْآخَرِ وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا. وَالثَّانِي: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَاعْتَدَّتْ مِنْهُ حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا نَكَحَهَا رَجُلٌ فِي آخِرِ عَدَّتِهَا وَبَنَى بِهَا فَأُتِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا الْأُولَى ثُمَّ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَلَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمَا فِي أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ وَأَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ إِجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ. قِيلَ: لَيْسَ بِثَابِتٍ مَعَ اشْتِهَارِ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنْ إِمَامَيْنِ لَوْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا لَاشْتُهِرَ كَاشْتِهَارِهِمَا وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُورَانِ لِآدَمِيِّينَ فَوَجَبَ إِذَا تَرَادَفَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ بِأَحَدِهِمَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قُتِلَ لهما وتؤخذ منه الدية تكون بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يُمْنَى رَجُلَيْنِ اقْتَصَّ مِنْ يَمِينِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ يَمِينِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي النَّفْسِ، وَلَيْسَ تَدَاخُلُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ فِي الْآخَرِ عَلَى كُلِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي النُّفُوسِ، وَالْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزوج على حَقَّيْنِ نِكَاحٍ وَعِدَّةٍ فَلَمَّا امْتَنَعَ اشْتِرَاكُ الزَّوْجَيْنِ امْتَنَعَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّعَبُّدِ وَحَقِّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ مَائِهِ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي السُّكْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَدَاخَلَ مَعَ اختلاف مستحقهما لأنه إن غلب يها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْ غُلِّبَ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ، وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي عِدَّةٍ أَنْ تَتَدَاخَلَ بِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ العدة لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 تَتَدَاخَلْ بِاخْتِلَافِ مَنْ لَهُ الْعِدَّةُ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْعِدَّتَانِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ تَضْمَنُ عِدَّةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى عِدَّتَيْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ، وَإِذَا كَانَ مِنِ اثْنَيْنِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءٌ مِنْ مَائَيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِذَا عُرِفَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا عَنْ أَحَدِهِمَا عُرِفَ بَرَاءَتُهُ فِي حَقِّهِمَا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ وَتَعَبُّدٌ فَإِذَا عُرِفَ الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ التَّعَبُّدُ كَعِدَّةِ الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي الْوَفَاةِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعِدَّةَ تَتَّصِلُ بِسَبَبِهَا وَلَا تَنْفَصِلُ عَنْهُ فَفَاسِدٌ بِمَسْأَلَتِنَا لِانْفِصَالِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فِي مُدَّةِ وَطْءِ الثَّانِي ثُمَّ بِالْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ وَلَيْسَ الحيض، وإنها تستقبل العدة بما بعد بعض حَيْضِ الطَّلَاقِ، وَمَا قَالُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَيْهِ إِذَا وُطِئَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ نِكَاحِهَا، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ عِدَّتِهِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّةَ غَيْرِهِ فَصَارَتْ كَالْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَدَاخُلِ الْأَجَلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِالتَّعْجِيلِ، وَالْأَجَلُ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ بِالْعَفْوِ فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الْآجَالِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْحُقُوقِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَدَاخِلَةٍ، وَالْعِدَدُ هِيَ الْحُقُوقُ الْمَقْصُودَةُ فَاقْتَضَى قِيَاسُهُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ فَلَزِمَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ. إِحْدَاهُنَّ: فِي زَوْجَةٍ لِرَجُلٍ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ فَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَاطِئِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَدَخَلَتْ فِيهَا عِدَّةُ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لأصحابنا فيها وجهان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَمَا لَمْ يَتَدَاخَلَا فِي غَيْرِهِمَا، وَيَكُونُ هَذَا أَصْلًا مُسْتَمِرًّا وَتَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ لِتَقَدُّمِهَا ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَيَسْقُطُ بِهَا الْبَاقِي مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَا تَدْخُلُ بَقِيَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطلاق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ: أَنَّ الْعِدَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ فجاز أن يسقط حكمها له سفعها بِعِدَّةِ النِّكَاحِ لِقُوَّتِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ طَرَأَتْ عِدَّةٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلَزِمَتَا مَعًا، وَلَمْ يَتَدَاخَلَا لِأَنَّ فِي تَدَاخُلِهِمَا سُقُوطَ إِحْدَاهُمَا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالُوا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُشْرِكٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الشِّرْكِ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا الثَّانِي ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ تُدْخِلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ هَذَا تَدَاخُلُ عِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الحرب لم يتداخل عِدَّتَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَنْسَابِنَا وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ كَمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَحْفَظَ أَنْسَابَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ فِي حُقُوقِهِمْ وَإِنَّمَا تُوجَبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِ حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَسْتَبْرِئُ المسببة حِفْظًا لِنَسَبِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالُوا قَدْ قُلْتُمْ فِي رجل وطأ أَمَةً اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وإن لزمها الاستبراء بقرأين ويدخل أحد الاستبرائين فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا أَيْضًا فِيهَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْأَيْنِ لِلْمُسْتَبْرَأَيْنِ، وَلَا تَتَدَاخَلُ وَهَذَا أَصَحُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِمَا الاستبراء وَاحِدٌ، وَيَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءَانِ وَإِنْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّتَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِبْرَاءُ أَخَفُّ مِنَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَالْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَجَازَ أَنْ يَتَدَاخَلَ الِاسْتِبْرَاءُ لِضَعْفِهِ وَلَمْ تَتَدَاخَلِ الْعِدَّةُ لِقُوَّتِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاءٌ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِحُدُوثِ مِلْكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ ارْتِفَاعُهُ فِي سُقُوطِهَا، وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي وجوبها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِدَّتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ لِصِغَرٍ، أَوْ إِيَاسٍ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ شَهْرًا وَاحِدًا اعْتَدَّتْ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ شَهْرَانِ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَلِلْمُطَلِّقِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهِمَا إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَلِلْوَاطِئِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَإِنْ مَضَى لَهَا مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرَانِ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ شَهْرٌ مِنْهَا تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَيُنْظَرُ فِي الْمَاضِي مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قُرْءًا اعْتَدَّتْ بخمسة أقراء منها قرءان تَسْتَكْمِلُ بِهِمَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الوطء وإن مضى منها قرءان اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَقْرَاءٍ مِنْهَا قُرْءٌ تَسْتَكْمِلُ بِهِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ عِدَّةُ الْوَطْءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْلِ فَيُنْظَرُ فِي الْحَمْلِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ وَاسْتَأْنَفَتْ لِلثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ بِوَضْعِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِهِ وَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَتْ بِهِ عِدَّةُ الثَّانِي وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِادِّعَائِهِ لَهُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ فَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهُ فَيَنْتَفِيَ بِاللِّعَانِ وَلَا يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يُلْحَقْ بِالثَّانِي وَتَكُونُ عِدَّةُ مَنْ نَفَاهُ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ، لِأَنَّهُ نُفِيَ بَعْدَ لُحُوقٍ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ تَنْقَضِ بِوَضْعِهِ عِدَّةُ واحد منهما، وكان عليهما أَنْ تَسْتَكْمِلَ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الثَّانِي وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَعَدِمَتِ الْقَافَةُ وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ قَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِهِ وَبَقِيَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى فَهِيَ بَقِيَّتُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ فَهِيَ جَمِيعُهَا فَإِذَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَانَتْ يَقِينًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ كون كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ عَنْ عَقْدٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ عَقْدٍ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي عِدَّتِهَا فَهَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَلَا تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الرَّجْعَةِ " وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَطْءُ مُحَرَّمًا فَلَا حَدَّ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الشُّبُهَاتِ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَكِنْ يُعَزَّرَانِ إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَهُ وَلَا يعزران إن جهلاه، وعليهما أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ يُوجِبُ لُحُوقَ النَّسَبِ وَيَدْخُلُ فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُمَا عِدَّتَانِ لِحِفْظِ مَاءٍ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلَتَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حَامِلًا. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتٍ الشُّهُورِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ يَدْخُلُ فِيهَا مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ شَهْرٌ وَبَقِيَ مِنْهَا شَهْرَانِ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، وَالشَّهْرُ الثَّانِي مِنَ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَمِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهَا فِيهِمَا النَّفَقَةُ، وَلَهُ فِيهِمَا الرَّجْعَةُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا لَمْ يُحَدَّ وَكَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مُخْتَصًّا بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيهِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَأَجْزَأَهَا عَنِ الْعِدَّتَيْنِ فَإِنْ كان الوطء بعد أن مضى قرءان مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ كَانَ الْقُرْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَأَوَّلَ عِدَّةِ الْوَطْءِ وَلَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إن وطئ فيه وكان القرءان الْآخَرَانِ مُخْتَصَّيْنِ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَيْسَ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِمَا نَفَقَةٌ وَإِنْ وَطِئَهَا فِيهِمَا حُدَّ. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ يَخْلُ حَمْلُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَعِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ، وَهُمَا جِنْسَانِ وَفِي تَدَاخُلِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَدَاخَلَانِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عَدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَدَاخَلَانِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسَيْنِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ، وَهَكَذَا لَوْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا فَفِي تَدَاخُلِ الْحَدَّيْنِ وَجْهَانِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنْ تَدَاخُلِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِي الْحَمْلِ مِنْ أَنْ تَرَى عَلَيْهِ دَمًا أَوْ لَا تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ دَمًا انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعْ أَنْ يُرَاجِعَ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَإِذَا وَضَعَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا عَلَيْهِ فِيهَا نَفَقَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَى عَلَى الْحَمْلِ دَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، هَلْ يَكُونُ دَمُهَا عَلَى الْحَمْلِ حَيْضًا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ في القديم يكون دم فعاد وَلَا يَكُونُ حَيْضًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَيْضِ دَمًا فِي أَنَّ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَمِنَ الْوَطْءِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ بَعْدَ النِّفَاسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الدَّمَ عَلَى الْحَمْلِ يَكُونُ حَيْضًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ تَكُونُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَعْتَدَّ هَذِهِ الْحَامِلُ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ غَيْرُهَا بِهِ، لِأَنَّ عَلَى هَذِهِ عِدَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْلِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْرَى بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ وَغَيْرُهَا لَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَعْتَدَّ إِلَّا بِالْحَمْلِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ مَضَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَتَصِيرُ هَذَا الْمَوْضِعَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَضَعْ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ انْقَضَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ بِوَضْعِهِ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ النَّفَقَةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَلَزِمَهَا أَنْ تُكْمِلَ بَعْدَ الْوَضْعِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ، وإن كان الحمل حدثاً بَعْدَ الْوَطْءِ فَعِدَّةُ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْوَطْءِ بِالْحَمْلِ، وَفِي تَدَاخُلِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ جِنْسِهِمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَدَاخَلَانِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي عِدَّتَاهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَهُ مَا لَمْ تَضَعِ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَدَاخَلَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَرَ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا أَوْ رَأَتْهُ وَلَمْ تَجْعَلْهُ حَيْضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَطْءِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَكُونُ عدتها الْوَطْءِ هَاهُنَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا اسْتَكْمَلَتْ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي مِنْهَا قَبْلَ الْوَطْءِ قُرْءٌ أَتَتْ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِيَ مِنْهَا قرءان أَتَتْ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَنْ يُرْجِعَهَا فِي الْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْحَمْلِ، وَعَلَيْهِ فِيهِ النَّفَقَةُ وَفِي مُرَاجَعَتِهَا وَوُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَجْهَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 أَحَدُهُمَا: لَا رَجْعَةَ لَهُ، وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ مَنْ وَطِئَ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَمْلِ حُدَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الرَّجْعَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَقَّبَ الْحَمْلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ جَرَى عَلَى مُدَّةِ الْحَمْلِ أَحْكَامُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَهَا فِي الحمل لم يجد وَإِنْ رَأَتْ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا وَجَعَلْنَاهُ حَيْضًا اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ عَلَى الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ فَإِنْ سَبَقَ وَضْعَ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَطْءِ وَأَتَتْ بِالْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ الطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي الرَّجْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ سَبَقَتِ الْأَقْرَاءُ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ انْقَضَتْ بِهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَانْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِدَّةُ الْوَطْءِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ الْأُولَى عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَالْعِدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَقْدِ نِكَاحٍ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا سَقَطَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِدُخُولِهِ، وَعَلَيْهَا إِنْ طَلَّقَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنْ طَلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهَلْ تَكُونُ مُدَّةُ النِّكَاحِ قَاطِعَةً لِعِدَّةِ الْوَطْءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ عِدَّةُ الْوَطْءِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ حَتَّى يَطَأَ فِيهِ كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَجَعَلَهَا فِي مُدَّةِ النِّكَاحِ جَارِيَةً فِي عِدَّةِ الْوَطْءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْوَطْءِ قَدِ انْقَطَعَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ فِيهِ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ فِرَاشًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَخَالَفَتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِرَاشًا فِيهِ إِلَّا بِالْوَطْءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ الْعِدَّةُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَطَعَ الْعَقْدُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِدَّةِ أَكْمَلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِدَّةَ الْوَطْءِ وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ وَحَلَّتْ بَعْدَهَا لِلْأَزْوَاجِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا مِنَ الطَّلَاقِ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي نِكَاحٍ تَجَرَّدَ عَنْ دُخُولٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّتَانِ عَنْ عَقْدَيْنِ، فَصُورَتُهُ فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، فَإِنْ طَلَّقَ فِي هَذَا الْعَقْدِ الثَّانِي لَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ سَقَطَ بِالدُّخُولِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فِي الْخُلْعِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَإِن لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَ وَلَمْ يُلْزِمْهَا فِيهِ عِدَّةً، وَلَمْ يُسْقِطْ بِهِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 إِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي مَعَ خُلُوِّهِ مِنَ الْوَطْءِ قَاطِعًا لِلْعِدَّةِ الْأُولَى أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا تَقْطَعُهَا وَتَكُونُ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْعَقْدِ، وَيَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةُ وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ لِاقْتِضَاءِ التَّسْلِيمِ لَهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى السَّيِّدِ حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّتَهَا فَإِذَا قَضَتْهَا حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ بَاعَهَا السَّيِّدُ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا بِالْعِدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لَهَا كَالْمُحَرَّمَةِ بِنَسَبٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ بِخِلَافِ الْبَائِعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَائِعَ عَادَتْ إِلَيْهِ بِمِلْكٍ مُتَقَدِّمٍ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا فِيهِ فلم يلزمه أن يستبرأها ثَانِيَةً لِأَنَّهُ مَا اسْتَحْدَثَ مِلْكًا ثَانِيًا وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَى مِلْكِهِ فِرَاشَ الزَّوْجِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْهُ فَعَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِبْرَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهِ وَعِدَّةُ الْمُطَلِّقِ كَانَتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَصَارَ كَعِدَّتَيْنِ مِنِ اثْنَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ كَذَلِكَ لَا يَتَدَاخَلُ الِاسْتِبْرَاءُ وَالْعِدَّةُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا ظَنَّهَا الْوَاطِئُ زَوْجَةً فَإِنْ ظَنَّهَا عِنْدَ وَطْئِهِ لَهَا أَنَّهَا زَوْجُهُ فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ عِدَّةَ زَوْجَةٍ، أَوِ اسْتِبْرَاءَ أَمَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: استبراء أمة بحيضة واحدة اعتباراً يالموطوءة وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عِدَّةُ الزَّوْجِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ مَمْلُوكَةً، وَلَمْ تَكُنْ حُرَّةً لَزِمَ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ عِدَّةُ أَمَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَفِيمَا يَلْزَمُ الْأَمَةَ الْمَوْطُوءَةَ مِنَ الْعِدَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ عِدَّهُ حُرَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِ الْوَاطِئِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ حُرَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا عِدَّةُ أَمَةٍ، لأن عدة الزوجية معتبرة بحال الموظوءة دُونَ الْوَاطِئِ فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ يَظُنُّهَا أَمَةَ نَفْسِهِ فَعَلَيْهَا مِنْ وَطْئِهِ عِدَّةُ حُرَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِمُعْتَقَدِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 الْحُرَّةَ لَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا إِلَّا بِعِدَّةٍ، وَالْأَمَةُ قَدْ تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ عِدَّةٍ فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حَالُ الْأَمَةِ وَلَا يَخْتَلِفَ حَالُ الْحُرَّةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ ثُمَّ أَصَابَهَا الثَّانِي وَحَمَلَتْ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا اعْتَدَّتْ بِالْحَمْلِ فَإِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ نَكَحَهَا الْآخَرُ فهو من الأول وإن جاءت به لأكثر من أربع سنين من يوم فارقها الأول وكان طلاقه لا يملك فيه الرجعة فهو للآخر وإن كان يملك فيه الرجعة وتداعياه أو لم يتداعياه ولم ينكراه ولا واحداً منهما أريه القافة فإن ألحقوه بالأول فقد انقضت عدتها منه وتبتدئ عدة من الثاني وله خطبتها فإن ألحقوه بالثاني فقد انقضت عدتها منه وتبتدئ فتكمل على ما مض من عدة الأول وللأول عليها الرجعة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُطَلَّقَةٍ نَكَحَتْ فِي عدتها فقد ذكرنا بطلان نكاحها، وأنهإ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي كَانَتْ جَارِيَةً فِي عِدَّتِهَا، وَكَانَ وُجُودُ النِّكَاحِ فِي النِّكَاحِ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي لَا بِعَقْدِهِ، لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَبِالْفِرَاشِ تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ، فَإِذَا فراق بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي ارْتَفَعَ فِرَاشُهُ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْئِهِ بَعْدَ أَنْ تُكْمِلَ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا بَدَّلَتْ بِبَقِيَّةِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ فُرْقَةِ الثَّانِي، فَإِذَا أَكْمَلَتْهَا اسْتَأْنَفَتْ بَعْدَهَا عِدَّةَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهَذَا قَدْ مَضَى وَإِنْ كَانَتْ حِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي حَامِلًا فَلِحَمْلِهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِالْوُجُودِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَكَانَتِ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ حَدًّا لِأَقَلِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا دُونَهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ، وَكَانَتِ الْأَرْبَعُ سِنِينَ حَدًّا لِأَكْثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةً لِلْحَمْلِ فَلِذَلِكَ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ لِوُجُودِهِ فِي مُدَّةِ حَمْلِهِ، وَانْتَفَى عَنِ الثَّانِي لِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ حَمْلِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ النَّسَبُ، وَالْعِدَّةُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالنَّفَقَةُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 فأما النسب فقد ذكرناه، وأنه لا حق به هَاهُنَا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَأَمَّا الْعِدَّةُ فَهِيَ عِدَّتَانِ فَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِلُحُوقِهِ بِهِ وَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ النِّفَاسِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ دُونَ الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلَيْسَ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِي مُدَّةِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ فِيهَا عَنْ عِدَّتِهِ وَفِرَاشٌ لِغَيْرِهِ فَإِنْ رَاجَعَ فِيهَا كَانَتِ الرَّجْعَةُ بَاطِلَةً، فَإِذَا فَارَقَتِ الثَّانِي صَارَتْ دَاخِلَةً فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا فَلَهُ حِينَ الرَّجْعَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ فِي وَقْتِ الرَّجْعَةِ بِتَقَدُّمِ حَمْلِهَا عل وَطْءِ الثَّانِي فَرَجْعَتُهُ صَحِيحَةٌ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَعْلَمَ تَحَمُّلَهَا وَقْتَ رَجْعَتِهَا، وَلَا يَعْلَمَ تَقَدُّمَهُ عَلَى وَطْءِ الثَّانِي فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِطْلَاقِهِ أَنَّ الرَّجْعَةَ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مُدَّةَ عِدَّتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ وَضْعِهِ مُشْتَبِهُ الْحَالِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَيَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهَا فَصَارَ شَاكًّا فِي اسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ فَبَطَلَتْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرَاجِعَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِحَمْلِهَا فَيَنْظُرَ فِي وَقْتِ رَجْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّهَا لَمْ تَصِحَّ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْ عدته قرءان فَرَاجَعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقُرْأَيْنِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مُدَّةَ عِدَّتِهِ اعْتِقَادًا وَحُكْمًا، وَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرْأَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنِ انْقِضَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَاطِنِ بَاقِيَةً فِيهَا وَصَارَتْ رَجْعَتُهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ عَبَثًا مِنْهُ، وَإِنْ وَافَقَتْ زَمَانَ الْعِدَّةِ. وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَلَا يَجُوزُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ بِحَالٍ، وَأَمَّا فِي عِدَّةِ الثَّانِي بَعْدَ الْحَمْلِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِيهَا، وَيَجُوزُ لِلثَّانِي عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالتَّخْرِيجُ الْمَحْكِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ قَدْ حَرُمَتْ عَلَى الثَّانِي أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا مَسْطُورًا مِنْ بَعْدُ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِهَا وهو أن يكون لاحقا بالثاني دون الأول فهو أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طلاق الأول ولستة أشهر فصاعدا من أَوَّلِ دُخُولِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِاسْتِكْمَالِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ وَنُقْصَانِهَا مِنْ آخِرِ دُخُولِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: كَالْبَائِنِ يُلْحَقُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْبَائِنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَكُونَ كَالْقِسْمِ الرَّابِعِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَالتَّفْرِيعُ هَاهُنَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَفْرِيعَ الْقَوْلِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَجَّهَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: الْعِدَّةُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، لِأَنَّ النَّسَبَ مَضَى، وَالنَّفَقَةَ تَأْتِي. فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَتَنْقَضِي عِدَّةُ الثَّانِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ عِدَّتَهُ لِحِفْظِ مَائِهِ ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انقطاع دم النفاس والباقي منها قرءان، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنْهَا قُرْءٌ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا حَلَّتْ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فإذا رَاجَعَهَا بَعْدَ نِفَاسِهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهِ صَحَّتْ رجعته، فإن رَاجَعَهَا قَبْلَ دُخُولِهَا فِي عِدَّتِهِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا: أَحَدُهُمَا: الرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ لِبَقَاءِ عِدَّتِهِ. وَالثَّانِي: فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ عِدَّتِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ يُفْصَلَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ صَحَّتْ، لِأَنَّهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَفِي مُدَّةِ النِّفَاسِ غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَحَدٌ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَغْنَتْهُ الرَّجْعَةُ عَنِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا وَحَلَّتْ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُحِلَّهَا الثَّانِي لَهُ لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّ إِصَابَتَهُ كَانَتْ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُلْحَقَ بالأول ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 بِالثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ آخِرِ دُخُولِ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ يُلْحَقْ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي لِتَجَاوُزِ مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَلِقُصُورِهِ عَنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَالْبَائِنِ لَا يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُلْحَقُ بِهِ وَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِدُخُولِ حُكْمِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِما عِدَّتَانِ بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ عِدَّةِ الثَّانِي وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَرَى فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ دَمًا أَوْ لَا تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ عَلَيْهِ دَمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْقُطُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ تَخْرِيجًا - أَنَّهُ تَنْقَضِي بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، لِأَنَّ نَفْيَهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَعَلَى هَذَا تَنْقَضِي بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِعِدَّةٍ أَوْ فِي الْعِدَّتَيْنِ احْتِيَاطًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ بَاقِيَتَانِ لَا تَسْقُطُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِوَضْعِهِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِحِفْظِ مَاءٍ مُسْتَلْحَقٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ لَاحِقٍ فَخَرَجَ زَمَانُهُ عَنْ حُكْمِ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَسْتَكْمِلَ بَعْدَ دَمِ نِفَاسِهَا مَا بَقِيَ مِنْ عدة الأول، وهي قرءان ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَهُمَا عِدَّةَ الثَّانِي، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، فَإِنْ رَأَتْ عَلَى الْحَمْلِ دَمًا، فَإِنْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ كَانَتْ فِي حكم من لم ترد دَمًا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حَيْضٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ لَمْ يَجُزْ أن تعتد بالحيض الذي على الحمل، لأن لا تَتَدَاخَلَ عِدَّتَانِ فِي حَقَّيْ شَخْصَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِالْحَمْلِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْتِفَائِهِ عَنْهُمَا، فَهَلْ تَحْتَسِبُ حَيْضَهَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْرَاءِ عِدَّتِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لا نحتسب بِهِ عِدَّةَ أَقْرَائِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَعْتَدَّ بِالْحَمْلِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي عَلَى الْحَمْلِ، وَيَكُونُ زَمَانُ الْحَمْلِ كُلُّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعِدَّتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اسْتِئْنَافِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْتَسِبُ بِهِ مِنْ عِدَّةِ أَقْرَائِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْحَمْلِ مِنَ الْعِدَّةِ ثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ الْأَقْرَاءِ وَكَمَا تَعْتَدُّ بِهَا مَعًا إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ مَعًا مِنْ صَاحِبِ الْحَمْلِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَضَتْ لَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسَةُ أَقْرَاءٍ انْقَضَتْ عدتاها قرءان مِنْهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ هِيَ عِدَّةُ الثَّانِي لَكِنْ لَا يُحْكَمُ لَهَا فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 الْحَالِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ بَعْدَ وَضْعِهَا أَنَّ حَمْلَهَا غَيْرُ لَاحِقٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِذَا عَلِمَ تَبَيَّنَا انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا مِنْ قَبْلُ بِانْقِضَاءِ الْأَقْرَاءِ الْخَمْسَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَاؤُهَا على الحمل أقل من خمسة لم تنقضي عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَمْسَةِ الْأَقْرَاءِ بَعْدَ ولادتها، فإن كان الماضي على حملها قرءان اسْتَكْمَلَتْ بِهِمَا عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَاعْتَدَّتْ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ هِيَ عِدَّةُ الثَّانِي بِكَمَالِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَاضِيَ عَلَى حَمْلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَانَ قرءان مِنْهَا بَقِيَّةَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ أَوَّلَ قُرْءِ الثَّانِي فَتَأْتِي بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِقُرْأَيْنِ تَمَامَ عِدَّتِهِ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ فِي طَلَاقِهِ الرَّجْعِيِّ وَاسْتِحْقَاقُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْحَمْلِ فِي سُقُوطِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ سَقَطَتْ بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ فَلَا رَجْعَةَ لِلْأَوَّلِ لَا فِي زَمَانِ الْحَمْلِ، وَلَا فِي زَمَانِ الْأَقْرَاءِ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّمَانَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْكُوكًا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا بِالشَّكِّ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ رَجْعَتِهَا فِي الْحَمْلِ وَرَجْعَتِهَا فِي الْقُرْأَيْنِ بَعْدَ الْحَمْلِ احْتَمَلَ صِحَّةُ رَجْعَتِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ رَجْعَتُهُ لِمُصَادَفَةِ إِحْدَاهُمَا زَمَانَ الْعِدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الصِّحَّةَ فِي إِحْدَاهُمَا لَمْ يَصِحَّ مَعَ إِبْهَامِهِمَا. وَإِنْ قِيلَ: الْحَمْلُ لَا تَسْقُطُ بِهِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ وَافَتْهَا بِالْأَقْرَاءِ فَعِدَّةُ الْأَوَّلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي سَوَاءٌ اعْتَدَّتْ بِأَقْرَائِهَا عَلَى الْحَمْلِ أَوْ لَمْ تَعْتَدَّ بِهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْبَاقِي مِنْ أَقْرَاءِ عدته، وفي جواز فِي الْحَمْلِ قَبْلَ عِدَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ بِهِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَمْلِ وَلَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُطَّابِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْوَالِهَا الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ وَبِالثَّانِي فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا مِنْ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذِهِ أَكْثَرُ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ فِي حَقِّ الثَّانِي فَاسْتَوَيَا فِي لُحُوقِهِ بِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ حَتَّى يُلْحِقُوهُ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بالأول انقضت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 بِهِ عِدَّتُهُ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي انْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ وَكَمَّلَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَافَةِ بَيَانٌ وُقِفَ الْوَلَدُ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ لِيَنْتَسِبَ بِطَبْعِهِ إِلَى أَبِيهِ مِنْهُمَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الرَّحِمَ إِذَا تَمَاسَّتْ تَعَاطَفَتْ " وفي زمان انتسابه ذكر كَانَ أَوْ أُنْثَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا اسْتَكْمَلَ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِذَا بَلَغَ لِيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ فَيَكُونَ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا أُلْحِقَ بِهِ وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ أُبُوَّةُ الْآخَرِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الِانْتِسَابِ أُخِذَ بِهِ جَبْرًا حَتَّى يَنْتَسِبَ لِمَا فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ حَقٍّ لَهُ وَعَلَيْهِ. فَأَمَّا الْعِدَّةُ: فَقَدِ انْقَضَتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، لَا بِعَيْنِهَا، وبقيت عليها إحداها لا يعينها، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقُرْأَيْنِ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالثَّانِي أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ إِنْ كَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ فَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَوْفَاهُمَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِتَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَضَائِهَا. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلَا تَخْلُو مُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِ لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَمْلِ أَوْ فِي الْأَقْرَاءِ فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْحَمْلِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْحَمْلِ فَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي فَرَجْعَةُ الْأَوَّلِ فِيهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ رَجْعَتُهُ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ عِدَّتَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَلَى شَكٍّ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَمَنْ بَاعَ دَارَ أَبِيهِ يَعْتَقِدُ حَيَاتَهُ، وَكَانَ مَيِّتًا فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ رَاجَعَ فِي الْأَقْرَاءِ الَّتِي بَعْدَ الْحَمْلِ نُظِرَ فِي رَجْعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الْقُرْءَ الْثالث لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّتِهِ يَقِينًا، لِأَنَّهُ إِنْ لَحِقَ بِهِ الْحَمْلُ كَانَتْ عِدَّتُهُ بِهِ، وَالْأَقْرَاءُ مِنَ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْحَمْلُ كَانَتْ عِدَّتُهُ قُرْأَيْنِ وَكَانَ الثَّالِثُ مِنْ غَيْرِ عِدَّتِهِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ فِيهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ رَاجَعَ فِي الْقُرْأَيْنِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالْحَمْلِ فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ فِي الْقُرْأَيْنِ، لِأَنَّهُمَا فِي عِدَّةِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالثَّانِي، وكان القرءان مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَفِي صِحَّةِ رَجْعَتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، لِأَنَّهَا صَادَفَتْ عِدَّتَهُ. وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانِ الشَّكِّ، وَأَمَّا تَزْوِيجُهَا فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَأَمَّا الثَّانِي إِذَا قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ لَحِقَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْحَقْ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَحِقَ بِهِ فَعَلَيْهَا بَعْدَهُ عِدَّةٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْأَقْرَاءِ بَعْدَ الْحَمْلِ نُظِرَ فِي حَالِ تَزْوِيجِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْأَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّتِهِ فَيَصِحَّ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَيَبْطُلُ فَصَارَ متردداً بين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَبَطَلَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالشَّكِّ وَسَوَاءٌ بَانَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ مِنْ عِدَّتِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى خُلُوِّهَا مِنَ الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مُعْتَدَّةً مِنْهُ أَوْ خَالِيَةً مِنْ عِدَّةٍ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ نِكَاحِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يُلْحِقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ أَوْ مَاتَ قَبْلَ يَرَاهُ الْقَافَةُ أَوْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَلَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ مَعَ إِشْكَالِ النَّسَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَيَانٌ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ خَمْسَ مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أن لا يلحقوه بواحد منها فَلَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ نَفْيُهُ عَنْهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِرَاشُهُمَا، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ لُحُوقَهُ بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَوْقُوفَ النَّسَبِ عَلَيْهِمَا فَقُبِلَ مِنْهُمْ لُحُوقُهُ بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ تَمْيِيزٌ مَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَقْبَلْ نَفْيَهُ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ فَصَارُوا مِمَّنْ لَا بَيَانَ فِيهِمْ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ مَنَعَ مِنْ لُحُوقِهِ بِأَبَوَيْنِ فَصَارُوا مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ الشَّرْعُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَيَانٌ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ قَافَةٌ يُرِيدُ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَمَا قَارَبَهُ إِلَى مَسَافَةِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَنِصْفِ لَيْلَةٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنَ الْحِجَارِ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا بَعُدُوا أَنْ يُحْمَلَ الْوَلَدُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أَنْ يُحْمَلُوا إِلَيْهِ كَالشُّهُودِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ نَقْلُهُمْ وَلَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِمْ، وَكَالْوَلِيِّ الْغَائِبِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ نَقْلُهُ وَلَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ خُلُوُّ الْمَوْضِعِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْقَافَةِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْعَدَمِ لَهُمْ وَفَقْدِ الْبَيَانِ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَكَلَّفُوا الِانْتِقَالَ إِلَيْهِمْ أَوْ نَقْلَ الْقَافَةِ إِلَيْهِمْ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَلَزِمَ بَعْدَ حُضُورِهِمْ أَنْ يُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِمْ إِذَا كَانَ فِيهِ بَيَانٌ. وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الْقَافَةِ مَيِّتٌ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتَ الْمُتَنَازِعَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَكَانَ الْقَافَةُ يَعْرِفُونَ الْمَيِّتَ فِي حَيَاتِهِ بِكَلَامِهِ وَأَلْحَاظِهِ وَشَمَائِلِهِ وَأَمَارَاتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ مَوْتُهُ فِي حُكْمِ الْقَافَةِ، وَجَازَ أَنْ يُلْحِقُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَنْ حَكَمُوا بِشَبَهِهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ نُظِرَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ تَغَيَّرَ فِي أَوْصَافِهِ وَحُلَاهُ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْقَافَةِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى أَوْصَافِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْقَافَةِ فِيهِمْ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَعَ الشَّبَهِ الظَّاهِرِ مَا خَفِيَ مِنَ الشَّبَهِ الْخَفِيِّ فِي الْكَلَامِ وَالْأَلْحَاظِ وَالشَّمَائِلِ وَالْإِشَارَاتِ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 أَحَدِهِمَا وَهَذَا الشَّبَهُ الْخَفِيُّ مَفْقُودٌ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ الْقَافَةِ، لِأَنَّ الشَّبَهَ الظَّاهِرَ أَقْوَى، وَبَيَانَهُ فِي الْحُلَى وَالْأَوْصَافِ أَوْضَحُ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُونَ إِلَى الشَّبَهِ الْبَاطِنِ فِي الْإِشَارَاتِ عِنْدَ إِشْكَالِ الشَّبَهِ الظَّاهِرِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ فَقَدْ مَرَّ مُجَزِّز الْمُدْلِجِيُّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ نَائِمَيْنِ وَقَدْ تَغَطَّيَا بِقَطِيفَةٍ بَدَتْ مِنْهُمَا أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهُمَا مِنْ بَعْضٍ فَقَضَى فِيهِمْ بِالشَّبَهِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ مَعَهُ إِلَى الشَّبَهِ الْبَاطِنِ فِي الْإِشَارَاتِ وَالنَّوْمِ فِي خَفَاهَا عَلَيْهِ كَالْمَوْتِ. وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا أَلْقَتِ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا، فَإن كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ أَوْصَافَهُ وَتَتَنَاهَى صُورَتُهُ لَمْ يُحْكَمْ فيه بالقافة، وإن كان بعد تناهيها وَاسْتِكْمَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا مَاتَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ حَيَّا، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَافَةِ فِي الْمَوْلُودِ مَيِّتًا أَضْعَفَ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِذَا عُدِمَ بَيَانُ الْقَافَةِ، فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْنِي بِعَيْنِهِ لِلْجَهْلِ بِهِ، وإن كان ابن أحدهما لا يعنيه كَأَنَّهُ لَا أَبَّ لَهُ سِوَاهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وُقِفَ حَتَّى يَصْطَلِحَا فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي بِهِ هَذَا الْوَلَدَ الْمَوْقُوفَ نَسَبُهُ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ مَاتَ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ لَهُ فِي حَالِ حَمْلِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَلَا يَخْلُو مَوْتُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبُولُهَا قَدْ يَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ انْتِسَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْبَلَهَا الْحَاكِمُ لَهُ فِي صِغَرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْبَلَهَا لَهُ الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَسَبِهِ فَيَصِحَّ قَبُولُهَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، فَإِنْ قَبِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ قَبِلَتْهَا أُمُّهُ، فَفِي صِحَّةِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَتِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَبُولِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ وَكَانَ قَبُولُهَا مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِمَاعِ وَرَثَتِهِ عَلَى قَبُولِهَا، وَهُوَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمُّ مَعَ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ وَرِثُوهُ عَنْهُ فَلَا يصح إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَإِنْ تَفَرَّدَتِ الْأُمُّ بِالْقَبُولِ صَحَّ فِي حَقِّهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ الْمُتَنَازِعَانِ بِالْقَبُولِ صَحَّ فِي حَقِّهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَبُولِ لَمْ يَصِحَّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ، وَإِنْ قَبِلَ الْحَاكِمُ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ، وَإِنْ صَحَّ فِي حَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِمَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَا مَوْلَى عَلَيْهِ فَإِذَا صَحَّ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ يَمِينُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَلِلْأُمِّ فِي قَدْرِ مِيرَاثِهَا مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ تَسْتَحِقُّ فِيهَا الثُّلُثَ يَقِينًا، وَحَالٌ تَسْتَحِقُّ فِيهَا السُّدُسَ يَقِينًا، وَحَالٌ شك في اسحقاقها لثلث أو سدس. فأما الحال المتيقن فيما اسحقاقها لِلثُّلُثِ فَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ مُتَحَقِّقَانِ إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ وَيَكُونَ لَهَا وَلَدٌ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ، أَوْ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ فَمُسْتَحَقُّ الثُّلُثِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ لِفَقْدِ الْأَخَوَيْنِ، وَيَكُونُ الثُّلُثَانِ الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ثُلُثِهَا مَوْقُوفَيْنِ عَلَى الْمُتَنَازِعَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ عَنْ تَرَاضٍ، إِمَّا بِالتَّسَاوِي فِيهِ أَوْ بِالتَّفَاضُلِ أَوْ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الْمُتَيَقَّنُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُهَا لِلسُّدُسِ فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ مُتَحَقَّقَانِ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدَانِ فَيَكُونَا أَخَوَيْنِ مِنْ أُمٍّ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ فَيَكُونَ له لَهُ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أُمٍّ وَالْآخَرُ مِنْ أَبٍّ وَأُمٍّ فَيَحْجُبُونَهَا إِلَى السُّدُسِ فَتُعْطَاهُ وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مَوْقُوفًا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الْمَشْكُوكُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِثُلُثٍ أَوْ سُدُسٍ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَخَوَانِ فِي حَالٍ وَوَاحِدٌ فِي حَالٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ لِأُمِّهِ وَلَدٌ وَلِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَلَدٌ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَدٌ أَوْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدَانِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ إِلَّا وَلَدٌ وَاحِدٌ، فَقَدْ تَرِثُ الْأُمُّ إِنْ لَحِقَ بِصَاحِبِ الْوَلَدَيْنِ السُّدُسَ، وَإِنْ لَحِقَ بِصَاحِبِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ الثُّلُثَ وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ هَذَا الشَّكِّ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إسحاق المروزي: أحدهما: تعطى السُّدُسَ، لِأَنَّهَا لَا تُوَرَّثُ بِالشَّكِّ وَيَكُونُ السُّدُسُ الْآخَرُ مَوْقُوفًا بَيْنَهَما وَبَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ حَتَّى يُصَالِحْنَهَا عَلَيْهِ، وَتَكُونُ مَا عَدَاهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُعْطَى الثُّلُثَ، لِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ بَانَ حَجْبُهَا رجع عليها بالسدس الزائد على حقها إن لَمْ يَبِنْ فَلَا رُجُوعَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَالثَّانِي أَقْيَسُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ فِي حَالِ حَمْلِهِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 أَحَدُهُمَا: أَنْ تُطْلَقَ الْوَصِيَّةُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُضَافَ فِيهَا إِلَى أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ. فَإِنْ أُطْلِقَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ فَقَالَ الْمُوصِي قَدْ وَصَّيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أن تضعه حياً فتصح بَعْدَ وِلَادَتِهِ، وَيَكُونَ الْقَبُولُ لَهَا وَالْمِيرَاثُ فِيهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَلِدَهُ مَيِّتًا لَمْ يَسْتَهِلَّ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُضَافَةً إِلَى حَمْلِهِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ كَقَوْلِهِ قَدْ وَصَّيْتُ لِحَمْلِهَا مِنْ زَيْدٍ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى لُحُوقِهِ بِهِ وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِهِ فَتَصِحَّ الْوَصِيَّةُ، وَيَكُونَ قَبُولُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ بِغَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ باطلة لعدة شَرْطِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا لِبَقَاءِ الْإِشْكَالِ وَالْإِيَاسِ مِنَ الْبَيَانِ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ الصَّحِيحِ النِّكَاحِ وَلَا آخُذُهُ بنفقتها حتى تلده فإن ألحق به الولد أعطيتها نفقة الحمل من يوم طلقها وإن أشكل أمره لم آخذه بنفقته حتى ينتسب إليه فإن الحق بصاحبه فلا نفقة منا لأنها حبلى من غيره (قال المزني) رحمه الله خالف الشافعي في إلحاق الولد في أكثر من أربع سنين بأن يكون له الرجعة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيَانِ النَّفَقَةِ لِلْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ وَمُقَدِّمَتُهَا أَنَّ الْعِدَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَالثَّانِي: مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. فَأَمَّا الْعِدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَجْعِيَّةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 وَالثَّانِي: مَبْتُوتَةٌ. فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، لِأَنَّهَا فِي مَعَانِي الزَّوْجَاتِ وَنَفَقَتُهَا مُعَجَّلَةٌ وَتَسْتَحِقُّهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ. وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَهَا حَالَتَانِ: حَامِلٌ وَحَائِلٌ فَالْحَائِلُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَالْحَامِلُ لَهَا النَّفَقَةُ وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لَهَا. وَالثَّانِي: لِحَمْلِهَا وَفِي صِفَةِ اسْتِحْقَاقِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُعَجَّلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَالثَّانِي: مُؤَجَّلَةٌ بَعْدَ الْوَضْعِ. وَأَمَّا الْعِدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ حَمْلٍ إِمَّا بِشُهُورٍ أَوْ أَقْرَاءٍ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا لِلْمُعْتَدَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَمْلٍ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْحَمْلِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْحَمْلِ، وَهَلْ تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً أَوْ بَعْدَ الْوَضْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ، وَكَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ ذَاتَ حَمْلٍ تَرَتَّبَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَنَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً اسْتَحَقَّتْهَا مُعَجَّلَةً يَوْمًا بِيَوْمٍ مِنْ بَعْدِ فِرَاقِ الثَّانِي وَإِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَلَا تَسْتَحِقُّهَا فِي نِفَاسِ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: مُؤَجَّلَةٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي فِي امْتِدَادِهَا مِنْهُ بِالْإِقْرَاءِ لِفَسَادِ نِكَاحِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَهَلْ عَلَى الثَّانِي نَفَقَتُهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لِكَوْنِهَا حَامِلًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ لِحَمْلِهَا وَفِي تَعْجِيلِهَا وَتَأْجِيلِهَا قَوْلَانِ: فَأَمَّا نَفَقَتُهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ بِالْأَقْرَاءِ بَعْدَ الْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ دَمِ نِفَاسِهَا، لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ بَعْدِ الْوِلَادَةِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ بِالنِّفَاسِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا حَائِضًا كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ فِي حَيْضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ بِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَاحِقٍ به ولا في حال عدتها في الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَتْ مَبْتُوتَةً مِنْهُ فَكَذَلِكَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْمَنْظُورُ أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَفَقَتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِطَلَاقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: رَجْعِيٍّ، وَبَائِنٍ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَالنَّفَقَةُ فِي عِدَّتِهِ مُسْتَحَقَّةٌ وَيَتَرَتَّبُ اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ إِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي، فَهَلْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي فَتَسْقُطَ نَفَقَتُهُ وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ فَتَجِبَ نَفَقَتُهُ فَصَارَتْ نَفَقَتُهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ وُجُودٍ وَإِسْقَاطٍ فَلَمْ تَجِبْ لَكِنَّهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ لِكَوْنِهَا رَجْعِيَّةً وَنَفَقَتُهَا مُعَجَّلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ وَعِدَّتُهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِالْحَمْلِ إِنْ لَحِقَ بِهِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ إِنِ انْتَفَى عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِنَفَقَةِ أَقْصَى الْمُدَّتَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِهَا يَقِينًا، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ أَقْصَرَ أُخِذَ بِنَفَقَتِهَا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْأَقْرَاءِ أَقْصَرَ أُخِذَ بِنَفَقَةِ قُرْأَيْنِ، لِأَنَّهُمَا قَدْرُ الْبَاقِي مِنْ عِدَّتِهِ، ثُمَّ يُرَاعَى حَالُ الْحَمْلِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا بِمُدَّةِ الْحَوْلِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَقْصَرَ الْمُدَّتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَتْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْهَا، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا بِمُدَّةِ الْقُرْأَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَقْصَرَ الْمُدَّتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَتْهَا، وَهَلْ تَسْتَحِقُّ مَعَهَا نَفَقَةَ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَ الْمُدَّتَيْنِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَهَلْ يُضَافُ إِلَيْهَا مُدَّةُ النِّفَاسِ أَمْ لا؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ النَّفَقَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الثَّانِي، إِنْ لَحِقَ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ، فَعَلَى هَذَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ مُعَجَّلَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مُؤَجَّلَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُسْتَحَقُّ مُؤَجَّلَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْخَذُ بِالثَّانِي بِشَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ فِي أَقْصَرِ الْمُدَّتَيْنِ عَلَى مَا مَضَى مُعَجَّلَةً، لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ نَفَقَةُ زَوْجِيَّةٍ، وَفِي حَقِّ الثَّانِي نَفَقَةُ حَمْلٍ، ثُمَّ يُرَاعَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالُ الْحَمْلِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّرَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ، هَلْ هِيَ أَقْصَرُ الْمُدَّتَيْنِ أَوْ أَطْوَلُهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَتَقَدَّرَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَتَقَدَّرَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِقُرْأَيْنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ تُسْتَحَقُّ مُعَجَّلَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي نَفَقَةِ الْحَمْلِ لِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِنْ لَحِقَ بِهِ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْحَمْلِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ وَقَدْ صَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِيهَا سَوَاءً فَيُؤْخَذَانِ جَمِيعًا بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْآخَرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حَالُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّانِي وَيُرْجَعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ وَكَانَ على الأول نفقة عدته بالأقراء، وهي قرءان، وَهَلْ يُضَمُّ إِلَيْهَا نَفَقَةُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الْأَوَّلِ بَائِنًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ لَا تَجِبُ عَلَى الثَّانِي إِنْ لَحِقَ بِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْحَقَ ثُمَّ رُوعِيَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ لَحِقَ بِالثَّانِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ عَلَى الثَّانِي وَاجِبَةٌ فَإِنْ جَعَلْنَاهَا مُؤَجَّلَةً لَمْ يُؤْخَذْ وَاحِدٌ مِنْهَا بِهَا حتى كُلِّ يَوْمٍ أُخِذَا جَمِيعًا بِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا، فَإِذَا أُلْحِقَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِأَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ، وَصَارَ هُوَ الْمُخْتَصَّ بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَا عَلَى اشْتِرَاكٍ فِي تَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَيَصِيرُ الَّذِي انْتَسَبَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُتَحَمِّلُ لِجَمِيعِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ، وَبَعْدَ وِلَادَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا من الآخر وأخذا جميعاً بكفنه، ومؤونة دفنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ، فَتَكُونَ نَفَقَتُهُ في حياته ومؤونة كَفَنِهِ وَدَفْنِهِ فِي مَالِهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَفَقَةِ حَمْلِهِ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: " فَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ لَمْ آخُذْهُ بِنَفَقَتِهِ " يَعْنِي لَمْ يَأْخُذْهُ وَحْدَهُ بِهَا كَأَنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنْهُمَا؟ (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَاشْتَرَكَا فِي تَحَمُّلِ نَفَقَتِهِ حَمْلًا وَمَوْلُودًا ثُمَّ لَحِقَ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَرَادَ الْآخَرُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا لِلْوَلَدِ أَوْ غَيْرَ مُدَّعٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَنْفَقَهَا عَلَى وَلَدٍ، وَإِنْ نَفَاهُ الشَّرْعُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَّعٍ لَهُ وَلَا مُنَازِعٍ فِيهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يُوجِبُ تَحَمُّلَهَا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَإِنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ فِي حَالِ الْإِنْفَاقِ رَجَعَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ تَطَوُّعًا، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا مَعَ الِاشْتِبَاهِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَاسْتَوَى فِي الرُّجُوعِ بِهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ وَعَدَمُهُ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَوْلُودِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ كَالْبَائِنِ، وَاخْتَارَهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 (بَابُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ يموت أو يطلق) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا ثُمَ مَاتَ اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَوَرِثَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ بَطَلَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ تَعْتَدُّ مِنَ الطَّلَاقِ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالشُّهُورِ فَلَوِ اعْتَدَّتْ مِنْ شهور بالطلاق بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا سَاعَةً اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي مَعَانِي الزَّوْجَاتِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ طلاقته، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، كَذَلِكَ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ فُرْقَةِ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهَا فُرْقَةُ بَتَاتٍ فَسَقَطَ بِهَا فُرْقَةُ الرَّجْعِيَّةِ وَلَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ بِهَا وَقَعَتْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْتَنَبَ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْوَفَاةِ مِنَ الشُّهُورِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتُقَدُّمِهِ عَلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهَا كَمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا لَزِمَهُ حَدَّانِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ لَزِمَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ انْتِقَالُهَا إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ مُسَاوِيَةً لِمَنْ يُطَلِّقُهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَتْ هِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ رَجْعِيَّةٍ بِسَاعَةٍ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا وَأَمْكَنَ لُحُوقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَائِنًا فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ فِي حَالِ الْحَمْلِ تَوَارَثَا سواء لحقه الحمل أو انتفى عنه، لأن إن لحق به كان بِهِ فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَمْلِ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ نُظِرَ حَالُ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ فَلَا تَوَارُثَ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إِنْ كَانَ الْمَوْتُ فِي الْقُرْأَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِدَوَامِ إِشْكَالِهِ فَفِي التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا فِي عِدَّةِ القرءين وَجْهَانِ مِنْ وَجْهَيْ مِيرَاثِهَا مِنْ وَلَدِهَا إِذَا حَجَبَهَا وَأَوْلَادَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمِيرَاثُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَ الْأَصْلُ هُنَاكَ عَدَمَ الْحَجْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا مِيرَاثَ لَهَا، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ أحدهما تعتد من الطلاق الأخير وهو قول ابن جريج وعبد الكريم وطاوس والحسن بن مسلم ومن قال هذا انبغى أن يقول رجعته مخالفة لنكاحه إياها ثم يطلقها قبل أن يمسها لم تعتد فكذلك لا تعتد من طلاق أحدثه، وإن كانت رجعة إذا لم يمسها (قال المزني) رحمه الله المعنى الأول أولى بالحق عندي لأنه إذا ارتجعها سقطت عدتها وصارت في معناها القديم بالعقد الأول لا بنكاح مستقبل فإنما طلق امرأة مدخولاً بها في غير عدة فهو في معنى من ابتدأ طلاقه (قال المزني) رحمه الله ولو لم يرتجعها حتى طلقها فإنها تبنى على عدتها من أول طلاقها لأن تلك العدة لم تبطل حتى طلق وإنما زادها طلاقا وهي معتدة بإجماع فلا تبطل مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ عِدَّةٍ قَائِمَةٍ إِلَّا بإجماع مثله أو قياس على نظيره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقُ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوَطْءِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا فِي رَجْعَتِهِ، فَقَدْ بَطَلَ بِالْوَطْءِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ، وَعَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى طَلَّقَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ قَطَعَتْ عِدَّةَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي غَيْرُ مُعْتَدَّةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْقَطِعُ عِدَّتُهَا بِالرَّجْعَةِ حَتَّى يَطَأَ، وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِبَاحَةٌ، وَالْعِدَّةَ حَظْرٌ وَهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فَالْإِبَاحَةُ ثَابِتَةٌ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَظْرِ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مُفْضٍ إِلَى أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بَعْدَ رجعتها إذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 أَخَّرَ الْإِصَابَةَ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَيَصِيرُ سِرَايَةُ الطَّلَاقِ مُبْطِلًا لِحُكْمِ الرَّجْعَةِ وَالْمُسْتَقِرُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعَةِ أَنْ تَبْطُلَ سِرَايَةُ الطَّلَاقِ فَصَارَ عَكْسًا فَبَطَلَ قَوْلُهُ، فَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّانِي فَهَلْ تَسْتَأْنِفُ لَهُ الْعِدَّةَ أَوْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي، وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ لَكِنِ احْتَجَّ الْمُزَنِيُّ لِمَا اخْتَارَهُ مِنِ اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِهَا سِرَاءَةُ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِدَّةِ كَالْوَطْءِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْمُخْتَلِعَةِ إِذَا نَكَحَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَطَعَ الْعِدَّةَ، وَلَمْ يُبْطِلْهَا، وَالطَّلَاقُ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْبِنَاءِ دُونَ الِاسْتِئْنَافِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا رَفَعَتْ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ رَفَعَتْ عِدَّةَ تَحْرِيمِهِ وَصَارَتْ بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ تُطَلَّقْ، فَإِذَا طُلِّقَتْ مِنْ بَعْدُ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا قَطَعَتِ التَّحْرِيمَ وَلَمْ يُرْفَعْ مَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ تَنْقَطِعُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا ترفع ما تقدم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " يشبه أَنْ يَلْزَمَهُ أَنْ يَقُولَ: ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءٌ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ زَوْجَهَا لَوْ مَاتَ اعْتَدَّتْ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَوَرِثَتْ كَمَنْ لَمْ تُطَلَّقْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَيُرَاعِيَ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ تَبْنِ به وبنت عَلَى مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ الطَّلَاقَيْنِ وَالْعِدَّتَيْنِ، وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ تَبْنِي مِنْهُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَالطَّلَاقُ الثَّانِي إِنْ لَمْ يَزِدْهَا تَحْرِيمًا لَمْ يَنْقُصْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ الثَّانِي بَائِنًا وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسْتَكْمِلَ بِهِ عِدَدَ الثَّلَاثِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَقْتَرِنَ بِخُلْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُمَا كَالَّتِي قَبْلَهَا إِذَا ارْتَجَعَهَا هَلْ تَبْنِي أَوْ تَسْتَأْنِفُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ الثَّانِي مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِ الثَّانِي بَائِنًا وَالْأَوَّلِ رَجْعِيًّا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُ الرَّجْعَةِ في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 استئناف العدة كالموت الذي يوهب اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ رَجْعَةٌ، وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءً ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ وَلَا تَسْتَأْنِفُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ اخْتَارَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَسْتَأْنِفَ وَقَبْلَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَبْنِيَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَمَّا رَفَعَتِ التَّحْرِيمَ رَفَعَتِ الْعِدَّةَ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَرْتَفِعُ بِعَدَمِ الرَّجْعَةِ فَلَمْ تَرْتَفِعِ الرَّجْعَةُ. وَاحْتَجَّ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَسَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ إِذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إِبَاحَةٌ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " ارْتَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْتَجِعْ سَوَاءٌ " عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ ليبطل به ما أوجبه ودعي إِلَيْهِ، وَهُنَا لَا يَلْزَمُ فَكَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ " مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي اللُّحْمَانِ وَمَنْ قَالَ إِنَّ اللُّحْمَانَ صِنْفٌ وَاحِدُ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الثِّمَارِ أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ أَيْ لَمْ يَقْبَلْ بِهَذَا أَحَدٌ فِي الثِّمَارِ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ بِهِ فِي اللُّحْمَانِ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ بِإِجْمَاعٍ فَلَا يَبْطُلُ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ عِدَّةٍ قَائِمَةٍ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى نَظِيرِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بِإِجْمَاعٍ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا إِلَّا بِإِجْمَاعٍ، وَالْإِجْمَاعُ أَنْ تَأْتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّانِي وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 (بَابُ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَعِدَّتِهَا إِذَا نَكَحَتْ غَيْرَهُ وغير ذلك) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فِي امْرَأَةِ الْغَائِبِ أَيَّ غَيْبَةٍ كَانَتْ لَا تَعْتَدُّ وَلَا تَنْكِحُ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَهَا يَقِينُ وفاته وترثه ولا يجوز أن تعتد من وفاته ومثلها يرث إلا ورثت زوجها الذي اعتدت من وفاته وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه في امرأة المفقود إنها لا تتزوج ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلِغَيْبَةِ الرَّجُلِ عَنْ زَوْجَتِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلَ الْأَخْبَارِ مَعْلُومَ الْحَيَاةِ فَنِكَاحُ زَوْجَتِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ وَسَوَاءٌ تَرَكَ لَهَا مَالًا أَمْ لَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعَ الْأَخْبَارِ مَجْهُولَ الْحَيَاةِ فَحُكْمُهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فِي سَفَرِهِ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَعَدَ فِي بَلَدِهِ أَوْ بعده خُرُوجِهِ مِنْهُ فِي بَرٍّ كَانَ سَفَرُهُ أَوْ فِي بَحْرٍ، وَسَوَاءٌ كُسِرَ مَرْكَبُهُ أَوْ فُقِدَ بين صفي حرب فهو في هذه الأحوا كلها مفقود وما له عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وُكَلَاؤُهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ وَرَثَتُهُ، فَأَمَّا زَوْجَتُهُ إِذَا بَعُدَ عَهْدُهُ، وَخَفِيَ خَبَرُهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ثُمَّ بِحُكْمِ مَوْتِهِ فِي حَقِّهَا خَاصَّةً ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَإِذَا انْقَضَتْ فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا فَرَّقَ بَيْنَ خُرُوجِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فَجَعَلَهُ مَفْقُودًا إِذَا خَرَجَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَفِي حَبْسِهَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِضْرَارٌ وَعُدْوَانٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَتْ إِنَّ زَوْجِي خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِ أَهْلِهِ وَفُقِدَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ فَتَرَبَّصَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ لَهَا اعْتَدِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشراً، ففعلت ثم عادت فقالت: قَدْ حَلَلْتُ لِلْأَزْوَاجِ فَتَزَوَّجَتْ فَعَادَ زَوْجُهَا فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ زَوَّجْتَ امْرَأَتِي، فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَقَالَ: غِبْتُ أَرْبَعَ سِنِينَ فَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ: يَغِيبُ أَحَدُكُمْ أَرْبَعَ سِنِينَ فِي غَيْرِ غَزَاةٍ وَلَا تِجَارَةٍ ثُمَّ يَأْتِينِي فَيَقُولُ زَوَّجْتَ امْرَأَتِي، فَقَالَ: خرجت إلى مسجد أهلي فاستلبنني الْجِنُّ فَكُنْتُ مَعَهُمْ فَغَزَاهُمْ جِنٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدُونِي مَعَهُمْ فِي الْأَسْرِ، فَقَالُوا مَا دِينُكَ قُلْتُ الْإِسْلَامُ فَخَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِي فَاخْتَرْتُ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِي فَسَلَّمُونِي إِلَى قَوْمٍ فَكُنْتُ أَسْمَعُ بِاللَّيْلِ كَلَامَ الرِّجَالِ وَأَرَى بِالنَّهَارِ مِثْلَ الْغُبَارِ فَأَسِيرُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى هَبَطْتُ عِنْدَكُمْ فَخَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ زَوْجَتَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مهرها. وروى عاصم الأحول عن عُثْمَانَ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَتِ اسْتَهْوَتِ الْجِنُّ زَوْجَهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ أَمَرَ وَلِيَّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فِي الصَّحَابَةِ، وَحُكِمَ بِهَا عَنْ رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَتْ حُجَّةً، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ لَمَّا اسْتُحِقَّ بِالْعُنَّةِ وَهُوَ فَقْدُ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، وَاسْتُحِقَّ بِالْإِعْسَارِ وَهُوَ فَقْدُ النَّفَقَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ، فَلِأَنْ تُسْتَحَقُّ بِغَيْبَةِ الْمَفْقُودِ، وَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ فَقْدِ الِاسْتِمْتَاعِ وَفَقْدِ النَّفَقَةِ، أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ مَحْبُوسَةٌ عَلَى قُدُومِ الزَّوْجِ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ مَا لَمْ يَأْتِهَا يَقِينُ مَوْتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيُّونَ. وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ نَصٌّ إِنْ ثَبَتَ، وَلِأَنَّ مَنْ جُهِلَ مَوْتُهُ لَمْ يُحْكَمْ بِوَفَاتِهِ كَمَنْ غَابَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَفَاةِ فِي مَالِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَيَاتِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي زَوْجَاتِهِ كَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ غَابَتِ الزَّوْجَةُ حَتَّى خَفِيَ خَبَرُهَا لَمْ يُجْزِهَا أَنْ يُحْكَمَ بِمَوْتِهَا فِي إِبَاحَةِ أُخْتِهَا لِزَوْجِهَا، وَنِكَاحِ أَرْبَعٍ سِوَاهَا كَذَلِكَ غَيْبَةُ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ حُكْمُ طَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَضِيَّتِهِ حِينَ رَجَعَ الزَّوْجُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانُ فَصَارَ إِجْمَاعًا بَعْدَ خِلَافٍ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْعُنَّةِ وَالْإِعْسَارِ مَعَ فَسَادِهِ بِغَيْبِهِ الْمَعْرُوفِ حَيَاتِهِ، فَالْمَعْنَى فِي الْعُنَّةِ: نَقْصُ الْخِلْقَةِ، وَفِي الْإِعْسَارِ وَمَا أُلْزِمَهُ، وَهُمَا مَفْقُودَانِ فِي الْمَفْقُودِ بِسَلَامَةِ خِلْقَتِهِ وَصِحَّةِ ذمته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ تفرع الحكم عليهما، فإذا قبل بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فَإِنَّمَا تَقَدَّرَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ثُمَّ أُلْزِمَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ الْمَفْقُودِ مَوْتُهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَلَاقٍ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ وَلِيَّ الْمَفْقُودِ أن يطلق قبل لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِمَوْتِهِ لَا تَقِفُ فُرْقَةُ زَوْجَتِهِ عَلَى طَلَاقِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا سِوَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ اسْتِبْرَاءٌ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَقَدِ اسْتَبْرَأَتْ هَذِهِ نَفْسَهَا بِأَرْبَعِ سِنِينَ فَلَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَأُلْزِمَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِحْدَادًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مِنْ وَقْتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهَا بِالتَّرَبُّصِ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَوَّلُهَا مِنْ وَقْتِ الْغَيْبَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمَرَهَا بِالتَّرَبُّصِ مِنْ وَقْتِ قَضَائِهِ وَالْعَمَلِ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُدَّةٌ تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادٍ فَاقْتَضَى أَنْ تَتَقَدَّرَ بِالْحُكْمِ كَأَجَلِ الْعُنَّةِ، وَخَالَفَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ الْمُقَدَّرَةُ بِالنَّصِّ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا وَتَقَدُّرِهَا، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوَفَاتِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ بَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ التَّقْدِيرِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهَا مُعَاوَدَةُ الْحَاكِمِ وَصَارَتْ دَاخِلَةً فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَإِذَا اقْتَضَتْ عِدَّتَهَا حَلَّتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ حُكْمًا بِالْمَوْتِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَحْكُمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتَأْنَفَ حُكْمَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَجْلِ الْعُنَّةِ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْفُرْقَةِ حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِأَجْلِ الْغَيْبَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِلَّا بِأَنْ يَحْكُمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ فتقع الفرقة ما حُكِمَ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ تَدْخُلُ بَعْدَ حُكْمِهِ فِي الْعِدَّةِ وَتَحِلُّ حِينَئِذٍ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا حُكِمَ بِالْفُرْقَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَقَعُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى إِنْ قَدِمَ الزَّوْجُ حَيًّا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ النكاح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 وَالثَّانِي: لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلًا فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَقَعُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَإِنْ قَدِمَ الزَّوْجُ حَيًّا بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِي، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه حين خبر الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَمَحْبُوسَةٌ عَلَى نِكَاحِهِ حَتَّى يُعْرَفَ يَقِينُ مَوْتِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَوْ بَعْدَهَا كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَكَمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِالْمُدَّةِ قَضَى بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِالْفُرْقَةِ فَفِي نَقْضِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُنْقَضُ لِنُفُوذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ مُسَوِّغٍ وَخِلَافٍ مُنْتَشِرٍ والوجه الثاني: أن حكمه ينقض وقضاؤه يُرَدُّ، لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ رُجُوعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدْ رَفَعَ الْخِلَافَ وَعَقَدَ الْإِجْمَاعَ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِمَا قَوِيٌّ لَا يُحْتَمَلُ خلافه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ خَفِيُّ الْغَيْبَةِ أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ تَظَاهَرَ أَوْ قَذَفَهَا لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْحَاضِرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا فَعَلَهُ الزَّوْجُ فِي غَيْبَتِهِ الَّتِي خَفِيَ فِيهَا خَبَرُهُ مِنْ طَلَاقٍ، وَظِهَارٍ، وَإِيلَاءٍ وَقَذْفٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَهُ فَكُلُّ ذلك نافد يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ وَيُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ وَوَقْفِ الْمُدَّةِ وَيَلْزَمُهُ الْقَذْفُ وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ وَيَكُونُ فِعْلُهُ لِذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ كَفِعْلِهِ فِي حُضُورِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنِهِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الزَّوْجِ أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ يَقِينُ مَوْتِهِ فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ قَدْ بَطَلَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ تَيَقَّنَ حَيَاتَهُ فَصَارَ كَحُكْمِهِ، مُجْتَهِدًا إِذَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا، وَلَا يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْضِ حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي نَقْضِهِ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ لَا مَعَ ارْتِفَاعِهِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِحُكْمِ طَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، وَقَذْفِهِ. وَإِنْ قِيلَ: بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَانَ حُكْمُهُ إِذَا بَانَتْ حَيَاةُ الزَّوْجِ بَاطِنًا وَالزَّوْجُ مَأْخُوذٌ بِحُكْمِ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ وَلِعَانِهِ وَقَذْفِهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَهُ قَدْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ صَحَّ حُكْمُهُ مَعَ حَيَاةِ الزَّوْجِ وَمَوْتِهِ وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ وَلَا ظهاره، ولا إيلائه وَيُحَدُّ مِنْ قَذْفِهِ وَلَا يَلْتَعِنُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِأَمْرِ حَاكِمٍ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أَوْ نَكَحَتْ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ كَانَ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِحَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فَرْجِهَا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ لَهَا الْحَاكِمُ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدِمَ الْأَوَّلُ حَيًّا أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنَ الثَّانِي وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ حِينَ قَدِمَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهَذَا التَّخْيِيرُ فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقِرَّ مَعَ الثَّانِي، أَوْ تَكُونَ زَوْجَةً لِلثَّانِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَزِعَهَا الْأَوَّلُ، وَإِذَا بَطَلَ التَّخْيِيرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ النِّكَاحُ مَحْمُولًا عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي وَفَسَادِهِ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ نِكَاحُ الثَّانِي وَهِيَ زَوْجَةٌ لِلْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ مِنْ وَقْتِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُوجِبُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ حَلَّتْ لَهُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِذَا قَدِمَ الْأَوَّلُ حَيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِفَسْخِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى حُكْمٍ الْحَاكِمِ هَلْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا فَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا. وَإِنْ قِيلَ: بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَنِكَاحُ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ سَوَاءٌ نَكَحَتْ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ تَنْكِحْ لِزَوَالِ الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفَسْخِ تَغْلِيبُ حُكْمِ الْمَوْتِ، وَقَدْ بَطَلَتْ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْفَسْخِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِأَثَرِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةِ مَوْجُودَةٌ، وَإِنْ بَانَ حَيًّا مِنْ بَعْدُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ أو لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 تَتَزَوَّجْ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ كَانَ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا سَوَاءٌ بَانَتْ حَيَاةُ الْأَوَّلِ أَوْ مَوْتُهُ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: حَكَاهُ الدَّارِكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ إِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِغَيْرِهِ وَبَاطِلٌ إِنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحُكْمِ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَقْصُودُ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَسْتَقِرَّ كَالْمُتَيَمِّمِ مَقْصُودُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهَا اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، وَإِذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا بَطَلَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ تخَرِّجُ مِنْهَا فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ عَلَى تَفْصِيلِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِلزَّوْجَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ، وَحَكَى الْكَرَابِيسِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ عَلَى تَفْصِيلِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي بَاطِلًا وَفِي زَمَانِ بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا حِينَ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِنْ دَخَلَ بِهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي صَحِيحٌ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَيَاةِ الْأَوَّلِ كَالْغَاصِبِ إِذَا غَرِمَ قِيمَةَ الْعَبْدِ بَعْدَ إِبَاقِهِ، أَوِ الْجَانِي إِذَا غَرِمَ دِيَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ بَيَاضِهَا ثُمَّ وُجِدَ الْعَبْدُ، وَبَرَأَتِ الْعَيْنُ رُدَّتِ الْقَيِّمَةُ بَعْدَ صِحَّةِ مِلْكِهَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ، وَنِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ مَيِّتًا قَبْلَ نِكَاحِهَا فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ نِكَاحُهَا جَائِزٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ اعْتِبَارًا بِحَظْرِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: صَحِيحٌ اعْتِبَارًا بِظُهُورِ الْإِبَاحَةِ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ بَاعَ دَارَ أَبِيهِ يَظُنُّهُ حَيًّا فَبَانَ مَيِّتًا، وَكَاخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ بَعْدَ عَزْلِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْعَزْلِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ نِكَاحُ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُعْتَقَدُ أَنَّهَا أُخْتُهُ فَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً أَوْ يُعْتِقُ أَمَةَ أَبِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهَا، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ رَاكِبًا فَزَحَمَ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا تَأَخَّرِي عَنِ الطَّرِيقِ يَا حُرَّةُ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ فَلَمْ يَتَمَلَّكْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَتَقَتْ عِنْدَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْتَقَهَا تَبَرُّعًا وَتَوَرُّعًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينَ نَكَحَتْ وَلَا فِي حِينِ عِدَّتِهَا مِنَ الْوَطْءِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهَا مخرجة نفسها من يديه وغيره وَاقِفَةٍ عَلَيْهِ وَمُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي دَخَلَتْ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا مِنْهَا فَإِنْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى حَاكِمٍ لَمْ يَرَ الْفُرْقَةَ وَلَا ضَرْبَ الْمُدَّةِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَإِنْ رَأَى وَحَكَمَ لَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ فِيهَا عَلَيْهِ فَإِذَا انْقَضَتْ بِهِ التَّرَبُّصَ ودخلت في الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا نَفَقَةَ لَهَا لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ لَكِنْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلسُّكْنَى في مدة العدة قولان؛ لأنها من عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ، وَالْحُكْمَ بِهَا لَمْ يُنَفَّذْ، وَاعْتِقَادَهَا لِلتَّحْرِيمِ لَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا مَا كَانَتْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقَهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ سَقَطَتْ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهَا بِالتَّزْوِيجِ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ نِكَاحَ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالنِّكَاحِ نَاشِزًا، فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ إِصَابَتِهِ فَإِنْ حَضَرَ الْأَوَّلُ وَأُقِرَّتْ عَلَى نِكَاحِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مَا كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِذَا قَضَتْهَا وَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حِينَ فَارَقَهَا الثَّانِي غَائِبًا، وَقَضَتْ عِدَّتَهَا وَعَادَتْ إِلَى مَسْكَنِ الْأَوَّلِ مُسَلِّمَةً نَفْسَهَا، فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا قَبْلَ أَنْ يَعُودَ فَيَتَسَلَّمَهَا ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا يَقْتَضِي وُجُوبَ نَفَقَتِهَا، لِأَنَّهُ قَالَ لَا نفقة لها من حين نكحت ولا في حِينِ عِدَّتِهَا فَدَلَّ مَجْرَى كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ بَعْدَ عِدَّتِهَا. وَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ خَرَّجُوا وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَادَتْ إِلَى يَدِهِ بِمَعْنَاهَا الْأَوَّلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَعُودَ الْأَوَّلُ فَيَتَسَلَّمَهَا عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَكَحَهَا ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا ثُمَّ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا تَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ كَذَلِكَ هَذِهِ، وَلِأَنَّهَا بِنِكَاحِ الثَّانِي مُتَعَدِّيَةٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ كَالْمُتَعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَسْقُطُ التَّعَدِّي بِالْكَفِّ عَنْهَا إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهَا إِلَى مَالِكِهَا كَذَلِكَ هَذِهِ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أصحابنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حالين، واختلاف مَنْ قَالَ بِاخْتِلَافِهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَهَا إِذَا كَانَتْ هِيَ الزَّوْجَةَ لِنَفْسِهَا دُونَ الْحَاكِمِ فَلَوْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ فَلَا نفقة لهاحتى يَتَسَلَّمَهَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ رَافِعٌ لِيَدِ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ النفقة لَهَا إِذَا أَعَادَهَا الْحَاكِمُ إِلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَادَتْ هِيَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ حُكْمَ الحاكم مثبت ليد الأول. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ أُلْزِمِ الْوَاطِئَ بِنَفَقَتِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا لُحُوقَ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ فِرَاشٌ بِالشُّبْهَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي فَمُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ نِكَاحِهِ. فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ نِكَاحَهُ صَحِيحٌ فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِلَى حِينِ الْفُرْقَةِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لا يملك فيها الرجعة، ولها السكنى كالمتبوتة. وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ نِكَاحِهِ وَلَا فِي حَالِ دُخُولِهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ تُسْتَحَقُّ في مقابلة التمكين المستحق، وفساد النكاح يمنح مِنِ اسْتِحْقَاقِ التَّمْكِينِ فَمَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ كَالْمُتَصَرِّفِ عَنْ إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مَعَ فَسَادِ عَقْدِهِ. قِيلَ: لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ فِي يَدِهِ تَضَمَّنَهَا بِالْيَدِ وَمَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي يَدِهَا فَلَمْ يُضَمَّنْهَا إِلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكُ هُوَ الْوَطْءُ فَالْوَطْءُ مُوجِبٌ لَغُرْمِ الْمَهْرِ دُونَ النَّفَقَةِ، وَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ بِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَفَرْقٌ مِنْ آخَرَ، فَإِنْ فَارَقَهَا الثَّانِي فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهِ وَلَا سُكْنَى لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبْلَ التفرقة فأولى أن لا يجب بعدها إلى أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا لِلْحَمْلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ لِكَوْنِهَا ذَاتَ حَمْلٍ، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ وَضْعِهَا، فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ مُدَّةَ نِفَاسِهَا وَجْهَانِ مَضَيَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَضَعَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا إِلَّا اللَّبَأَ وَمَا إِنْ تَرَكَتْهُ لَمْ يَعْتَدَّ غَيْرُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا عَادَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْ نِكَاحِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 غَيْرِهِ كَانَ الْحَمْلُ لَاحِقًا بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا تَرَبَّصَتْ لِلْأَوَّلِ بِمُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ، وَهِيَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ وَأُلْحِقَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِوَطْءِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةِ فِرَاشٍ لَهُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ حَتَّى تَضَعَ لِبَقَاءِ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي، فَإِذَا وَضَعَتْ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَةِ الْأَوَّلِ، وإن حرم عليه وطئها فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نِفَاسِهَا مِنْهُ، فَأَمَّا رِضَاعُ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ رِضَاعِ اللِّبَأِ وَمَا لَا يَغْذُوهُ غَيْرُهُ وَلَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنِ اللِّبَأِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْ رَضَاعِهِ اسْتِيفَاءً لِحَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ لِحَقِّهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُحْيِيَ بِمَالِهِ نَفْسَ غَيْرِهِ، وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرْضِعَةٌ غَيْرُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ رَضَاعِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُتَطَوِّعَةٌ لَا تُجْبَرُ عَلَى رَضَاعِهِ إِذَا امْتَنَعَتْ وَفِي الْحَالِ الْأُولَى مُعْتَرِضَةٌ تُجْبَرُ عَلَى رَضَاعِهِ لَوِ امْتَنَعَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَعَ التَّطَوُّعِ بِرَضَاعِهِ أَنْ تُسْقِطَ بِهِ حَقَّ اسْتِمْتَاعِهِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِرِضَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدُلُّ مَنْعُهُ لَهَا مِنَ الرِّضَاعِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الرِّضَاعَ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ خِدْمَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا خِدْمَةَ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبِنَاءِ ولا يستحق عليه البناء. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فِي رِضَاعِهَا وَلَدَ غَيْرُهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَرْضَعَتْ وَلَدَ الثَّانِي بَعْدَ عَوْدِهَا إِلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي بَيْتِ الْأَوَّلِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَمْ تَعْصِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَصَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِضَاعُهُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ بِهِ عَاصِيَةً، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْأَوَّلِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَدْ عَصَتْهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَمْ تَعْصِهِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلنَّفَقَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ. وَالثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا لِتَفْوِيتِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُسَافِرَةِ إِنْ كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنِ انْفَرَدَتْ عَنْهُ بِالسَّفَرِ، وَكَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ ففي وجوب نفقتها وجهان: (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ أُرِيَتْهُ الْقَافَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَتَتْ بِوَلَدِ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، فَفِي لُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ فِرَاشِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُودَ مَنْ عُدِمَتْ أَخْبَارُهُ، وَانْقَطَعَتْ آثَارُهُ، وَقَدْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ مَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ مَائِهِ مَعَهَا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مِنْهُ، وإن تزوجت غيره ولدت بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ دُخُولِ الثَّانِي فَهُوَ لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَدِّعِهِ الْأَوَّلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الثَّانِي يَكُونُ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَشْرِقِيِّ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَغْرِبِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، فَإِنِ ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أُرِيَتْهُ الْقَافَةُ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ادِّعَائِهِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ فِي الدَّعْوَى إِنِّي رَجَعْتُ سِرًّا فَأَصَبْتُهَا، وَيَكُونُ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا فيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّانِي فَيَرَى الْقَافَةُ حَتَّى يُلْحِقُوهُ بِأَشْبَهِهِمَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي دَعْوَاهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ وَيَكُونُ مِنَ الثَّانِي، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ادَّعَاهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً قَبِلْنَا دَعَوَاهُ، وَجَعَلْنَا لَهُ فِي الْوَلَدِ حَقًّا فَيَرَى الْقَافَةُ فَيُلْحِقُوهُ بِأَحَدِهِمَا، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِهِ لَجَعَلْنَاهُ لِلثَّانِي تَغْلِيبًا لِلظَّاهِرِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ الولد إذا لم تتزوج. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْآخُرُ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا بَدَأَتْ فَاعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ثَمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ ثُمَّ يَمُوتُ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَالْكَلَامُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى بَيَانِ حُكْمَيِ الْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَقْدِ الثَّانِي: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ، وَإنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَدِ انْفَسَخَ بِالْحُكْمِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ نُظِرَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَهَا مِيرَاثُهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا هُوَ الْمَيِّتُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْهُمَا هُوَ الثَّانِي وَهِيَ شَاكَّةٌ فِي مَوْتِهِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ فَتَعْتَدَّ مِنْهُ وَتَرِثَهُ. وَإِنْ قِيلَ: بِفَسَادِ نِكَاحِ الثَّانِي وَبَقَائِهَا عَلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي أَوْ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ أَوْ هُمَا جَمِيعًا معاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ الزَّوْجُ الْمَوْرُوثُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا يَكُونُ أَوَّلَهَا وَقْتُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِلثَّانِي بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى فِرَاشِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي بَدَأَتْ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ وَاسْتَحَقَّتْ مِيرَاثَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ يُورَثُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ مَوْتِهِ بِالْأَقْرَاءِ دُونَ الشُّهُورِ، لِأَنَّهَا عِدَّةُ اسْتِبْرَاءٍ لَا عِدَّةَ زَوْجِيَّةٍ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَوْتِ الْأَوَّلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِرَاشٌ لِلْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ وَفِرَاشٌ لِلثَّانِي بِالْوَطْءِ فَرَاعَيْنَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ أَنْ تَبْتَدِئَهَا بَعْدَ رَفْعِ فِرَاشِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَحَقٌّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَلَا يُعْلَمُ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَكْثَرَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الميت فقد انقضت عدته بأربعة أشهر وعشراً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْمَيِّتُ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَا مَعًا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ ثُمَّ يَمُوتَ الثَّانِي بَعْدَهُ فَتَبْدَأُ بِعِدَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ الثَّانِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَلَهَا مِيرَاثُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي ثُمَّ يَمُوتَ الْأَوَّلُ بَعْدَهُ فَأَوَّلُ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ ثُمَّ يُرَاعَى مَوْتُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّةِ الثَّانِي فَقَدْ وَفَّتْ عِدَّةَ الثَّانِي، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الْأَوَّلُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّةِ الثَّانِي، كَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ قُرْءٍ وَاحِدٍ مِنْ عِدَّتِهِ فَتَقْطَعُ وَفَاةُ الْأَوَّلِ عِدَّةَ الثَّانِي لِصِحَّةِ عَقْدِهِ وَقُوَّةِ حَقِّهِ وَتَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا عَادَتْ فَتَمَّتْ عِدَّةُ الثَّانِي، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا وَهُوَ قُرْءٌ وَاحِدٌ فَتَأْتِي بِقُرْأَيْنِ، وَقَدْ حَلَّتْ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ وُطِئَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ بِشُبْهَةٍ فَشَرَعَتْ فِي الِاعْتِدَادِ مِنْ وَطْئِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا انْقَطَعَتْ عِدَّةُ الْوَطْءِ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلزَّوْجِ مِنْ طَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ عِدَّتَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 عَادَتْ فَتَمَّتْ عِدَّةَ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ لِقُوَّةِ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى حَقِّهِ بِصِحَّةِ عَقْدِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجْهَلَ مَا بَيْنَ مَوْتِهِمَا فَيَلْزَمُهَا أَنْ تَعْمَلَ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تَبْتَدِئَ بِعِدَّةِ أَقْرَبِ الْمَوْتَيْنِ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ عَنِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَهَا عَنِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَا يَتَدَاخَلَانِ فَتُقَدَّمُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ عَقْدِهِ وَقُوَّةِ حَقِّهِ فَتَعْتَدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا عَنِ الثَّانِي بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِمَا حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّتَانِ حَلَّتْ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَضَى زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ ثُمَّ قَدْ مَضَى الزَّمَانُ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ بِهِ الِاعْتِدَادُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ مَوْتُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاعْتِدَادُ بِمَا بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الثَّانِي فَتَعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَقْرَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا تُعْتَدُّ بِهِ شُهُورِهِ فَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْإِشْكَالِ أَنْ تَعْتَدَّ بِهِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَا بَعْدَ الْمَوْتَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ شُهُورِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْ أَقْرَاءِ الثَّانِي لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى عِدَّةِ الثَّانِي، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا اسْتَأْنَفَتْ لِلثَّانِي ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْمَوْتَيْنِ مَجْهُولًا اسْتَظْهَرَتْ فِيهِ بِأَقْرَبِ عَهْدِهِ وَأَقْرَبِهِ عَهْدًا مَسَافَةً فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ عَلَى مَسَافَةِ شَهْرٍ احْتُسِبَ بِشَهْرٍ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَبَنَتْ، وَإِنْ كَانَ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ بَعْدَ الْمَوْتَيْنِ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ احْتَسَبَتْ بِهَا ثُمَّ بَنَتِ اسْتِكْمَالَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِمَا حَامِلًا فَحَبَلُهَا لَاحِقٌ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَتَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الثَّانِي، وَإِنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْتَدُّ بِوَضْعِهِ إِلَّا مِمَّنْ هُوَ لَاحِقٌ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوَضْعِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ تُحْتَسَبُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ فِيهَا أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي علي بن أبي هريرة لَا تُحْتَسَبُ مُدَّةُ نِفَاسِهَا فِي عِدَّةِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ النِّفَاسِ مِنْ تَوَابِعِ الْعِدَّةِ الْفَاسِدَةِ فَكَانَ فِي حُكْمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْتَسَبُ مُدَّةُ النِّفَاسِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ خَارِجَةٌ عن عدة الثاني، وتحمل لِلْأَزْوَاجِ لَوْ حَلَّتْ مِنْ عِدَّةٍ أُخْرَى. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ عِنْدَ الثَّانِي فَمِيرَاثُهَا لِمَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ مِنْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كَانَ مِيرَاثُهَا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وإن قبل بِبَقَاءِ النِّكَاحِ لِلْأَوَّلِ وَفَسَادِ نِكَاحِ الثَّانِي كَانَ مِيرَاثُهَا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا غَلَطٌ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَهْرَ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْهُ فَصَارَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهَا، وَهَذَا الَّذِي تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ مَهْرُهَا عَلَى الثَّانِي مِلْكٌ لَهَا وَمِنْ جَمَاعَةِ تَرِكَتِهَا وَيَرِثُ الْأَوَّلُ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا " عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - إنَّهُ عنى بِهَذَا التَّخْيِيرِ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِقْرَارِهَا عَلَى الثَّانِي وَأَخْذِ مَهْرِهَا مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ مَهْرَ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّهُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا حَكَاهُ الْكَرَابِيسِيُّ فَيَكُونُ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ جَمِيعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 (باب استبراء أم الولد من كتابين امرأة المفقود وعدتها إذا نكحت غيره وغير ذلك) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ يُتَوَفَّى عَنْهَا سَيِّدُهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ لَزِمَهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ، وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَاةُ وَالْحُرَّةُ الْمُسْتَرَقَّةُ بِالسَّبْيِ فَيَلْزَمُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ أَنْ يَسْتَبْرِئْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْأَمَةِ والمسبية أنهما يستبرئا نفسهما بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَخَالَفَ فِي الْمُدَبَّرَةِ فَقَالَ: لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا، وَخَالَفَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالُ: تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أُمُّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَالْحُرَّةِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَارِيَةَ اعْتَدَّتْ لِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَهِيَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، قَالَ وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ وَجَبَتْ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ. قَالَ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي طَرَفَيْ عِدَّتِهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِدَّتُهَا عِدَّةَ حُرَّةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَجَعَلَ الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ عِدَّةَ مَنْ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ عَنْ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ تَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى قُرْءٍ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَلِأَنَّ ذَوَاتَ الْأَعْدَادِ مِنَ الْعِدَدِ لَا يَجِبُ اسْتِيفَاءُ عَدَدِهَا عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلِأَنَّهَا عِدَّةٌ وَجَبَتْ عن انتقال رق وَحُرِّيَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ كَامِلَةً كَالْمَسْبِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَسْبِيَّةَ كَانَتْ حُرَّةً فَرُقَّتْ كَالسَّبْيِ، وَهَذِهِ كَانَتْ أَمَةً فَعَتَقَتْ بِالْمَوْتِ وَالْجَمِيعُ انْتِقَالُ عِتْقٍ وَحُرِّيَّةٍ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَمَّا انْتَفَى عَنْهَا أحكام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا عِدَّةُ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو فِي اسْتِبْرَائِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً بِالْحَرَائِرِ، أَوْ بِالْإِمَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بِالْحَرَائِرِ، وَثَبَتَ اعْتِبَارُهَا بِالْإِمَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِدَادِ مَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِثَلَاثَةِ أقراء فهو أن فعلها أضعف حكماً في قَوْلِهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهَا حُجَّةً فَفِعْلُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً وَعَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ وَمَارِيَةُ مُحَرَّمَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ كُلُّ زَمَانِهَا عِدَّةً فَلَمْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ الْأَقْرَاءُ الثَّلَاثَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِكَمَالِ طَرَفَيْهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الطَّرَفَ الْأَوَّلَ حَالُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي الرِّقِّ، وَهُوَ طَرَفٌ نَاقِصٌ وَنُقْصَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الْعِدَّةِ كَالْحُرَّةِ إِذَا سُبِيَتْ لَمَّا نَقَصَ طَرَفُهَا الْأَدْنَى وَإِنْ كَمُلَ طَرَفُهَا الْأَعْلَى اقْتَصَرَتْ عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَدْ رَوَى رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قَالَ: لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعشراً يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى سُنَّةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَارَ كَالرِّوَايَةِ عَنْهُ نَقْلًا، وَهَذَا أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] فَجَعَلَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مَقْصُورَةً عَلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِبْرَاءٌ عَنْ مِلْكٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِقُرْءٍ كَالْأَمَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ قَبِيصَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَمْرِو. وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ " لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا " يَعْنِي بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِاجْتِهَادِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَحِلُّ أُمُّ الْوَلَدِ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَرَى الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِبْرَاءَ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فِي حياته بقروء وَاحِدٍ كَالْأَمَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقُرْءِ هَلْ مَقْصُودُهُ الطُّهْرُ، وَالْحَيْضُ فِيهِ تَبَعٌ كَالْعِدَّةِ أَمْ مَقْصُودُهُ الْحَيْضُ، وَالطُّهْرُ فِيهِ تَبَعٌ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذكرهما البغدادي. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْبَصْرِيُّونَ فَصَارَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، لِأَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِيهَا مُحْتَمَلٌ وَلِاحْتِمَالِهِ خَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَقَاوِيلَ عَنْهُ، فَأَحَدُ الْوُجُوهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ الطُّهْرُ، وَالْحَيْضُ تَبَعٌ كَالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ عِتْقِهِ حَالَتَانِ، حَائِضٌ أَوْ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ الْحَيْضِ، فَإِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا دَخَلَتْ فِي قُرُوئهَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ طُهْرَهَا وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّت وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَكُونُ قُرْءًا مُعْتَدًّا بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهُ يَكُونُ قُرْءًا كَمَا يكون في العدة قروءاً لَكِنْ تُضَمُّ إِلَيْهِ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ لِيُعْرَفَ بِهَا بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ، فَإِذَا مَضَتْ بَقِيَّةُ طُهْرِهَا وَاسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ الَّتِي بَعْدَهَا وَانْقَطَعَتْ حَلَّتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ، هَذَا الطُّهْرِ قُرْءًا وَإِنْ كَانَ في العدة قروءاً لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْءًا لَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تُضَمَّ إِلَيْهِ حَيْضَةٌ مُسْتَكْمِلَةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْءٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ فَرْقٌ وَتَوْجِيهٌ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْعِدَّةِ قُرُوءًا لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِأَقْرَاءٍ كَامِلَةٍ فَقَوِيَ حُكْمُهُ بِأَتْبَاعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ قُرْءًا فِي العدة لانفراده من غير فَضَعُفَ عَنْ حُكْمِ الْكَمَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ حَتَّى يَنْقَضِيَ وَتَحِيضَ ثم الطهر، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذَا الطُّهْرَ وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّتْ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْقُرُوءِ كَالْعِدَّةِ. والوجه الثاني: أن المقصد في هذا القروء وَالْحَيْضَ، وَالطُّهْرُ فِيهِ تَبَعٌ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ حَيْضًا كَامِلًا فَقَوَّى طُهْرَهَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَكَانَ الطُّهْرُ فِيهَا مَقْصُودًا وَطُهْرُ الِاسْتِبْرَاءِ يَضْعُفُ بِانْفِرَادِهِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَصَارَ الْحَيْضُ فِيهِ مقُصودًا لِأَنَّ الطُّهْرَ لَا يُنَافِي الْحَمْلَ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ الْحَيْضُ، فَعَلَى هَذَا لَهَا حَالَتَانِ حَائِضٌ أَوْ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الْحَيْضِ بوفاق البغداديين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 وَالْبَصْرِيِّينَ وَإِنْ خَالَفَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي الِاعْتِدَادِ بِبَقِيَّةِ الطُّهْرِ، وَجَعَلَهُ الْبَصْرِيُّونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي بَقِيَّةِ الطُّهْرِ، وَفَرَّقَ الْبَغْدَادِيُّونَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ بَقِيَّةَ الْحَيْضِ يَتَعَقَّبُهُ طُهْرٌ لَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَبَقِيَّةُ الطُّهْرِ تَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَاعْتَدَّتْ بِهِ وَهَذَا، وَهَذَا تَزْوِيقٌ، وَلَيْسَ تَحْقِيقًا وَلَوْ عُكِسَ لَكَانَ أَشْبَهَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا اعْتَدَّتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ، وَإِنْ مَاتَ فِي آخِرِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَوَّلِ الْحَيْضِ وَآخِرِهِ بِأَنَّ قُوَّةَ أَوَّلِهِ تَمْنَعُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ فَبَرَأَ بِهِ الرَّحِمُ وَضَعْفُ آخِرِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُلُوقِ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَبْرَأْ بِهِ الرَّحِمُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ بِهِ الرَّحِمُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ لَبَرِئَ بِهِ الرَّحِمُ فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ الرَّحِمُ بِأَوَّلِهِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى اسْتِكْمَالِ آخِرِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ، مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ حَيْضِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا، وَدَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَما فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَدُخُولِهَا فِي الطهر الثاني حلت، وإن كانت عنه مَوْتِ السَّيِّدِ طَاهِرًا لَمْ تَعْتَدَّ بِبَقِيَّةِ طُهْرِهَا، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَا فَإِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْحَيْضَةَ، وَطَهُرَتْ حَلَّتْ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَيْضُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ أَنَّ الطُّهْرَ وَالْحَيْضَ مَقْصُودَانِ مَعًا فِي قُرُوءِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدَا مَعًا فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ يَجْتَمِعَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا، وَفِي قُرُوءِ الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا أَنْ يُقْصَدَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِيهِ مَقْصُودَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ حَالَتَانِ: حَائِضٌ، أَوْ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا وَرَأَتِ الطُّهْرَ دَخَلَتْ في قرئها، فإذا استكملت طهرها ثم حَيْضَةً كَامِلَةً بَعْدَهُ، وَدَخَلَتْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي حَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا، فَهَلْ تَعْتَدُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَعْتَدُّ بِهِ كَمَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ إِذَا كَانَ الطُّهْرُ وَحْدَهُ مَقْصُودًا فَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ بَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ دَخَلَتْ فِي قُرْئِهَا، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ حَيْضَتَهَا ثُمَّ اسْتَكْمَلَتْ بعدها طهر كَامِلًا، وَرَأَتْ دَمَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ حَلَّتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْرِ إِذَا كَانَا مَقْصُودَيْنِ، وَلَا تَعْتَدُّ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا لِقُوَّتِهِ إِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ وَضَعْفِهِ إِذَا انْفَرَدَتْ بِذَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِي قُرْئِهَا فِي بَقِيَّةِ طُهْرِهَا، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ وَاسْتَكْمَلَتْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَدُخُولِ الطُّهْرِ حَلَّتْ وَيَصِيرُ اسْتِبْرَاؤُهَا بِذَلِكَ مُوَافِقًا لِأَحْكَامِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ إِمْلَاءً عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَشَهْرٌ (قَالَ) وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُؤَيَّسَةً اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِالشُّهُورِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ عَلَيْهَا قُرْءًا وَاحِدًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَقْرَاءَ الثَّلَاثَةَ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَ الْقَرْءُ الْوَاحِدُ مُقَابِلًا لِشَهْرٍ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا فِي الْقُرْءِ الْوَاحِدِ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَالْحُرَّةِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الزَّمَانِ الَّذِي يَبْرَأُ فِيهِ الرَّحِمُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ ابْنَ آدَمَ يَمْكُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً "، فَهُوَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ تَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَيُعْرَفُ بِهِ حَالُ الْحَمْلِ، وَبِفَقْدِ أَمَارَاتِهِ تُعْرَفُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَلَمْ يَتَبَعَّضْ هَذَا الزَّمَانُ فِيهِ، وَجَرَى مَجْرَى الْحَمْلِ الَّذِي لَا يَتَبَعَّضُ فَاسْتَوَى فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ، وَهَذِهِ الْحُرَّةِ كَذَلِكَ الشُّهُورُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَأَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ مِنْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ يَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سبي أوطاس: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ". وَرَوَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عِدَّةُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا " وَلِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَبَعَّضُ فَعَمَّ حُكْمُهُ فِي الْحَرَائِرِ، وَالْإِمَاءِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا لَكِنْ يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا فِي النِّفَاسِ كَمَا لَوْ كَانَ مِنْهُ وَصَارَ اسْتِبْرَاءُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَالْحُرَّةِ الْمَسْبِيَّةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْحَمْلِ إِنْ كَانَ وَهْمًا وَهُوَ مِمَّا تَسَاوَى فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَبِالطُّهْرِ وَالْحَيْضِ إِنْ فُقِدَ الْحَمْلُ، وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَهُوَ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحُرَّةُ، وَبِالشُّهُورِ إِنْ فُقِدَتِ الْأَمْرَانِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مُسَاوَاتِهِمَا فيه الحرة. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ إِذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِبْرَاءٌ عَنْهُ، وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ مِنْ سَاعَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ موته بقروء وَاحِدٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَلَمْ تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ إِلَّا بعد الاسبتراء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 فأما الأمة إذا مات عنها سيدها لم يَلْزَمْهَا عَنْهُ اسْتِبْرَاءٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لَا؟ لَكِنْ لَيْسَ لِمَنِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِهِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مُشْتَرٍ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا كَمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَإِنْ كَانَ وَاطِئًا لَهَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ شِرَاءُ الْأَمَةِ، وَإِنْ حَرُمَتْ فَجَازَ أَنْ يكون استبرائها فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِذَا حُرِّمَتْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وتأخر عن البيع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَرَابَتْ فَهِيَ كَالْحُرَّةِ الْمُسْتَرِيبَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الْحُرَّةِ الْمُسْتَبْرِئَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَهَذِهِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ فِي حُكْمِهَا وَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِرَابَتِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ قُرْئِهَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ بَطَلَ نِكَاحُهَا لَا يَخْتَلِفُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ نِكَاحِهَا، وَتَقْضِي مُدَّةَ اسْتِبْرَائِهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ وِلَادَتِهَا لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حُدُوثَ الرِّيبَةِ يَمْنَعُ مِنْ صحة الاستبراء ويوجب بقائها فِيهِ، فَإِنْ نَكَحَتْ كَانَ نِكَاحُهَا بَاطِلًا كَمَا لَوْ تَقَدَّمَتِ الرِّيبَةُ فِي زَمَانِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن حُدُوثَ الرِّيبَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الصحة، ولا يوجب بقاؤها فِي الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ نَكَحَتْ كَانَ نِكَاحُهَا جَائِزًا كَمَا لَوْ حَدَثَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةِ زَوْجٍ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا لِأَنَّ فَرْجَهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَاحَهُ لِزَوْجِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَاتَ سَيِّدُ أُمِّ الْوَلَدِ وَهِيَ ذَاتُ حَمْلٍ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِرَاشَهُ قَدْ زَالَ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ أَوْ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِطَلَاقِهِ أَوْ مَوْتِهِ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِكَمَالِ طَرَفَيْهَا بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ أَوْ مَوْتُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَوْتِ السَّيِّدِ لَمْ يَخْلُ مَوْتُ السَّيِّدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَعُدْ إِلَى إِبَاحَتِهِ مِعِ بَقَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ فِي حُكْمِ الْأَمَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي آخِرِهَا حُرَّةً فَهَلْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ أَمَةٍ أَوْ تَسْتَكْمِلُ عِدَّةَ حُرَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ لَمْ تَكُنْ عِدَّتُهَا مِنَ الزَّوْجِ إِلَّا عِدَّةَ أَمَةٍ لِنُقْصَانِ طَرَفَيْهَا بِالرِّقِّ قبل الطلاق، وبعده هل تَصِيرُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ وَيُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وما ظهر من منصوصاته في كتبه: أنه قَدْ عَادَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَى فِرَاشِ السَّيِّدِ، وَحَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِرَحِمِهَا بِالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وطأ أَوْ لَمْ يَطَأْ، وَحَكَى ابْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا ثَانِيًا تَفَرَّدَ بِنَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ولا يستباح وطئها إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ؟ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ تَجَدَّدَتْ فِي مَالِكٍ فَلَزِمَ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ كَالْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَا يُجْزِئُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَائِعِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَبْرَأَهَا السَّيِّدُ وَوَطِئَهَا صَارَتْ بِهَذَا الْوَطْءِ فِرَاشًا، وَإِنْ مَاتَ لَزِمَهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ مَاتَ، وَهِيَ غَيْرُ فِرَاشٍ لَهُ، وَفِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي اسْتِبْرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ، هَلْ وَجَبَ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ أَوْ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ وَجَبَ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَجَبَ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَعُدْ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يُزَوِّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا مِنْ وَطْئِهِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ، وَتَعْتَدُّ مِنْ طَلَاقِهِ فَفِي اسْتِبَاحَةِ السَّيِّدِ لَهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَجْهَانِ وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا لَهُ إِلَّا بِالْوَطْءِ لِأَنَّ فِرَاشَ أم الولد أثبت، لأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 وَلَدَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا يُلْحَقُ بِالسَّيِّدِ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُ الْأَمَةِ، وَإِذَا مَاتَ عَنِ الْأَمَةِ لَمْ يَلْزَمْهَا الاستبراء بموته ويلزم أم الولد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَاتَا فَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلًا اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الْآخِرُ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فيها حيضة وإنما لزمها إحداهما فإذا جاءت بهما فذلك أكمل ما عليها (قال المزني) رحمه الله هذا عندي غلط لأنه إذا لم يكن بين موتهما إلا أقل من شهرين وخمس ليال فلا معنى للحيضة لأن السيد إذا كان مات كان أولاً فهي تحت زوج مشغولة به عن الحيضة وإن كان موت الزوج أولاً فلم ينقض شهران وخمس ليال حتى مات السيد فهي مشغولة بعدة الزوج عن الحيضة وإن كان بينهما أكثر من شهرين وخمس ليال فقد أمكنت الحيضة فكما السيد الشافعي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ يَقِينَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَيَقِينَ مَوْتِ الزَّوْجِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وُقُوعِ الشَّكِّ فِي مَوْتِهِمَا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ بَعْدَ غَيْبِهِمَا، هَلْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمْ لَا؟ فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الشَّكِّ وَهِيَ عَلَى حُكْمِهَا كَمَا لَوْ كَانَا بَاقِيَيْنِ فَإِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُمَا، فقد خبرهما جر عَلَيْهِمَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ السَّيِّدِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ مُعْتَبَرَةٌ بِمَالِهِ، وَفِي حَقِّ الزَّوْجَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِنِكَاحِهِ، وَإِذَا قَضَى لَهَا الْحَاكِمُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ بِالتَّرَبُّصِ لِلزَّوْجِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا وَيُشَكَّ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا هَلْ هُوَ السَّيِّدُ أَوِ الزَّوْجُ فَلَا تَعْتِقُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الزَّوْجَ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ السَّيِّدَ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، وَتَكُونُ مُتَرَدِّدَةَ الْحَالِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَيِّتَ أَوْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَيِّتَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالشَّكِّ أَحَدُهُمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِمَا بَقَاءُ حُكْمِهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهَا فِي الزَّوْجِ حُكْمُ الْمَفْقُودِ دُونَ السَّيِّدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُمَا، وَيَقَعَ الشَّكُّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْهُمَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وخمس ليال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيمَا بَيْنُ مَوْتِهِمَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ بين موتهما أقل من شهرين وخمس ليال، فَهَذِهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَيْضَةٌ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ حَالَيْهِمَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَاتَ أَوَّلًا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ وَقَدْ عَتَقَتْ، وَعَلَيْهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ بَعْدَهُ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، وَمَوْتُ السَّيِّدِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا سَقَطَ لِاسْتِبْرَائِهَا مِنْهُ فَيَسْقُطُ اسْتِبْرَاءُ السَّيِّدِ من الحالين يقين، وَصَارَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ عِدَّتِهَا مِنَ الزَّوْجِ هَلْ هِيَ بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ السَّيِّدِ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهَا أَطْوَلَ الْعِدَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ لِتَخْرُجَ مِنَ الْعِدَّةِ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال فَهَذِهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ بَعْدِ آخِرِهِمَا مَوْتًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا حَيْضَةٌ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِدَّةَ حُرَّةٍ، أَوْ قُرُوءٍ وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ أُمِّ وَلَدٍ، لِأَنَّ عَلَيْهَا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَسْبَقَهُمَا مَوْتًا، وَهُوَ الزَّوْجُ فَقَدْ مَضَتْ عِدَّتُهُ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَلَزِمَهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِحَيْضَةٍ لِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ أَسْبَقَهُمَا مَوْتًا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا لِمَوْتِهِ، وَعَلَيْهَا إِذَا مَاتَ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَصَارَتْ حَالُهَا مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَهَا حَيْضَةٌ لَا غَيْرَ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ إِنْ تَقَدَّمَ مَوْتُ السَّيِّدِ فَأَلْزَمْنَاهَا أَغْلَظَ الْأَمْرَيْنِ وَأَطْوَلَ الزَّمَانَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ قُرْءٍ كَامِلٍ كَالْمُطَلِّقِ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ إِذَا مَاتَ عَنْهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيْضَةُ الَّتِي فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ قَبْلَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا يُجْزِئُهَا الْحَيْضَةُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَهَا فَلَا يَجْرِي تَقَدُّمُ الْحَيْضَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إِلَّا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَأْمُرُهَا بِذَلِكَ بِعِدَّةِ آخِرِهِمَا مَوْتًا فَلَيْسَ تُوجَدُ الْحَيْضَةُ إِلَا بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ شُهُورِهِمَا أَوْ تَأَخَّرَتْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُشَكَّ فِيمَا بَيْنَ مَوْتِهِمَا فَلَا يُعْلَمُ، هَلْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَغْلَظُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ، لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَزِمَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهِمَا حَيْضَةٌ فَلَزِمَهَا مَعَ هَذَا الشَّكِّ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ قُرْءٍ وَاحِدٍ لِتَخْرُجَ مِنْ عَدَّتِهَا بِيَقِينٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي إِيجَابِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا حَيْضَةٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَطِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَفَصَّلَ الْمُزَنِيُّ اعْتِرَاضَهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسٍ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَقَلَّ فَهُوَ سَهْوٌ وَغَلَطٌ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْمُزَنِيُّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفِقْهِ صَحِيحًا فَهُوَ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّافِعِيِّ سُوءُ ظَنٍّ بِهِ وَوَهْمٌ مِنْهُ، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِمَا يُغْنِي عَنْهُ الظَّنُّ وَالِاشْتِبَاهُ، وَفِي إِطْلَاقِهِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْطُورَةٌ فِي الْعِلْمِ بِمَوْتِهِمَا، وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا وَفِيمَا بَيْنُ مَوْتِهِمَا وَفِي مَسْطُورِهَا مَا يَقْتَضِيهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَعُمُّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، وَالْجَوَابُ عَائِدٌ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَأْخُوذٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَاكْتَفَى بِهِ عَنْ تَفْصِيلِ جَوَابِهِ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَرِثُ زَوْجَهَا حَتَّى يُسْتَيْقَنَ أَنَّ سَيِّدَهَا مَاتَ قَبْلَ زَوْجِهَا فَتَرِثَهُ وَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ كَالْحُرَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَدَامَ الشَّكُّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْهُمَا لَمْ تَرْثِ زَوْجَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الرِّقِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ حُرَّةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ غَلَّبْتُمْ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعِدَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ، وَغَلَّبْتُمْ حُكْمَ الرِّقِّ فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْعِدَّةِ. قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِيَقِينٍ فَلَمْ تَرِثْ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَقِّهِ بِالشَّكِّ وَلَا يَتَعَلَّقَ بِتَغْلِيظِ الْعِدَّةِ إِسْقَاطُ حَقٍّ فَجَازَ أَنْ يَتَغَلَّظَ بِالشَّكِّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا مُنِعَتْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ فَهَلَّا أَوْجَبَتْ بِالشَّكِّ وَقْفَ مِيرَاثِهَا، حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ كَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَلَمْ يُبِنْ حَتَّى مَاتَ وَقَفَ عَلَيْهِمَا مَعَ الشَّكِّ بِمِيرَاثِ زَوْجَتِهِ حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ، فَهَلَّا كَانَ مِيرَاثُ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفًا كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ مِيرَاثَ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِ وَإِسْقَاطِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَقْفُهُ مَعَ الشَّكِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَمِيرَاثُ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَطْعًا، وَإِنْ أَشْكَلَ مُسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا فَجَازَ أَنْ يُوقَفَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ عَلَى بَيَانِ مُسْتَحِقِّهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْفَرْقُ يَفْسُدُ بِمَنْ لَهُ زَوْجَتَانِ، مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا، وَلَمْ يَبِنْ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يُوقَفُ مِنْ مَالِهِ مِيرَاثُ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّ شَكَّ فِي استحقاقه، كأنه متردد بين أن يكون الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الذِّمِّيَّةَ فَتَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمَةُ الْمِيرَاثَ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ فَلَا تَسْتَحِقُّ الذِّمِّيَّةُ الْمِيرَاثَ وَلَمْ يَمْنَعْ هَذَا الشَّكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَهَلَّا كَانَ مِيرَاثُ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفًا. قِيلَ: فَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلْمِيرَاثِ، فَلَمْ تُسْقِطْ مِيرَاثَهَا بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّهَا غَيْرُ وَارِثَةٍ فَلَمْ يُوقَفْ لَهَا مِيرَاثٌ بِالشَّكِّ، فَصَحَّ بِهَذَا الْفَرْقِ مَا تقد من الفرق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَمَةُ يَطَؤُهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَهَا فَمَفْسُوخٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا وَطِئَ أَمَتَهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ بَعْدَ مِلْكِهِ لِجَوَازِ أن يملك من لا تحل له والزواج لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ بَعْدَ نِكَاحِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا بِالْمِلْكِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سبي أوطاس: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَذَلِكَ لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ بِالسَّبْيِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِلْكٍ مُسْتَحْدَثٍ فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدِ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهِ جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْبَائِعُ لَوْ لَمْ يَبِعْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمِلْكِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَبَيْنَ أَنْ يَطَأَهَا بِالنِّكَاحِ فَتَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ هُوَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْبَائِعِ لَهَا قَبْلَ بَيْعِهَا قَدْ أَبْرَأَ رَحِمَهَا في الظاهر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَمْكَنَ نَفْيُهُ فِي النِّكَاحِ بِاللِّعَانِ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ نَفْيُهُ فِي الْمِلْكِ إِلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَجْدِيدُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يَجِبْ تَجْدِيدُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مَا اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي إِذَا أَعْتَقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا وَيَمْنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ وُجُوبُ الْعِدَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ " الرَّشِيدِ " فَإِنَّهُ اسْتَبْرَأَ أَمَةً فَمِنْ شِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا اسْتَصْعَبَ الصَّبْرَ عَنْهَا إِلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا فَسَأَلَ أَبَا يُوسُفَ عَنِ الْمَخْرَجِ فِي تَعْجِيلِ الِاسْتِبَاحَةِ، فَقَالَ تُعْتِقُهَا وَتَتَزَوَّجُهَا فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَوَصَلَهُ وَشَكَرَتْهُ الْجَارِيَةُ وَوَصَلَتْهُ، وَقَالَتْ: فَكَكْتَ رِقِّي، وَجَعَلْتَنِي زَوْجَةَ الرَّشِيدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يشترك رجلان في طهر امرأته " وَتَزْوِيجُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُفْضٍ إِلَى اشْتِرَاكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجِ عَلَى وَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْقِ بِمَائِكَ زَرْعَ غَيْرِكَ " فَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْقِيَ زَرْعَ الْبَائِعِ بِمَائِهِ، وَلِأَنَّ وَطْءَ الْبَائِعِ وَطْءٌ لَهُ حُرْمَةٌ فَلَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا مِنْهُ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ مَعَ حَظْرِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَإِبَاحَةِ وَطْءِ السيد، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَطِئَ الْمُكَاتِبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ ومنعته الوطء وفيها قولان أحدهما لا يبيعها بحال لأني حكمت لولدها بحكم الحرية إن عتق أبوه والثاني أن له بيعها خاف العجز أو لم يخفه (قال المزني) رحمه الله القياس على قوله أن لا يبيعها كما لا يبيع ولدها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ لِلْمَكَاتِبِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ الرَّقِيقَ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ إِذَا قَصَدَ بِهِ تَمْيِيزَ الْمَالِ لِوُجُودِ الْفَضْلِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرِّ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ بِالْمِلْكِ إِلَّا مَالِكٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا أَحْبَلَهَا فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، وَلَمْ يُؤْمَنْ تَلَفُهَا، وَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِ مَا بِيَدِهِ أَوْ إِحْدَاثِ نَقْصٍ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَ سَيِّدَهُ فِي وَطْئِهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَالْحَظْرُ بَاقٍ لِحَالِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَالْحَظْرُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَمْلِيكٍ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ بِالْكِتَابَةِ، وَفِي جَوَازِ وَطْئِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ في العيد، هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ إِذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَمْلِكُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 وَإِنْ مُلِّكَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْوَطْءِ أَنْ لَا يَمْلِكَ إِبَاحَةَ الْفَرْجِ الْمَمْلُوكِ وَالْفَرْجُ لَا يَحِلُّ بِالْإِبَاحَةِ، فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُكَاتَبُ فَأَحْبَلَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنَ سَيِّدَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ، لِأَنَّهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَالِكٌ، وَعَلَى الثَّانِي فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا حَدَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَهْرَهَا مِنْ كَسْبِهِ وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ وَلَدَهُ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ لَا يُعْتَقُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَدُهُ وَلَا يَجُوزُ له بيعه، لأن الولد لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ وَلَدِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ نَفْسِهِ، فَإِنْ خَافَ الْعَجْزَ إِنْ لَمْ يَبِعْهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ، لِأَنَّ عَجْزَهُ مُفْضٍ إِلَى رِقِّهَا فَكَانَ بَيْعُهُ فِي عِتْقِ الْأَبِ أَوْلَى مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ مَعَ الْأَبِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ إِنْ خَافَ الْعَجْزَ، لِأَنَّ الْعِتْقَ بِبَيْعِهِ بِظُنُونٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلَفَ ثَمَنُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ فِي الْكِتَابَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهَذَا التَّجْوِيزِ مَا اسْتَحَقَّهُ عَلَى أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَابَلَ هَذَا التَّجْوِيزَ مِثْلُهُ مِنْ أَنْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْمُكَاتِبُ مَالًا قَبْلَ تَعَجُّزِهِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ لَفْظَةٍ فَيُعْتَقَانِ مَعًا فَلَا يُرْفَعُ هَذَا التَّجْوِيزُ بِمِثْلِهِ، وَإِذَا تَقَابَلَ التَّجْوِيزُ إِنْ سَقَطَا، وَكَانَ الْأَصْلُ حَظْرَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أُمُّهُ فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةُ حُرِيَّةِ مُشْتَرًى إِلَيْهَا، وَلَيْسَ مَا يُرْجَى مِنْ حُدُوثِ عِتْقِهِ بِمُوجِبٍ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهَا كَمَا لَوْ أَوْلَدَهَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ تَصِرْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ مَلَكَهَا، وَلَوِ اشْتَرَاهُمَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ وَلَمْ يُوجِبْ حُدُوثُ عِتْقِهِ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا سَوَاءٌ أَدَّى فَعَتَقَ أَوْ عَجَزَ فَرَقَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَكَاتِبِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ وَلَدِهَا انْتَشَرَتْ حُرْمَةُ هَذَا الْمَنْعِ إِلَيْهَا فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ وَلَدِهَا، وَبَيْعِ أَمَتِهِ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ عُتِقَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ عِنْدَ عِتْقِهِ بِالْأَدَاءِ، وَاسْتَقَرَّ لِأَمَتِهِ حُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ فَحَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا عَلَى الْأَبَدِ، وَعَتَقَتْ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ عَجَزَ وَرَقَّ صَارَ الْوَلَدُ وَأَمَتُهُ مَمْلُوكَيْنِ لِلسَّيِّدِ مَعَ الْأَبِ، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُمْ إِذَا شَاءَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتِبُ زَوْجَتَهُ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَبَطَلَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الشراء، لأنه قبل الشراء يطأها بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْمُكَاتِبُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ بِالزَّوْجِيَّةِ وبعد الشراء يطأها بِالْمِلْكِ، وَالْمُكَاتِبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى، وبالله التوفيق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 (باب الاستبراء من كتاب الاستبراء والإملاء) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ سَبْيِ أَوَطَاسٍ أَنْ تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ أَوْ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَلَا يُشَكُّ أن فيهن أبكاراً وحرائر كن قبل أن يستأمين وَإِمَاءً وَوَضِيعَاتٍ وَشَرِيفَاتٍ وَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِنَّ وَاحِدًا (قال الشافعي) رحمه الله فكل ملك يحدث من مالك لم يجز فيه الوطء إلا بعد الاستبراء لأن الفرج كان ممنوعاً قبل الملك ثم حل بالملك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ اسْتَحْدَثَ مِلْكَ أَمَةٍ بِابْتِيَاعٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ مَغْنَمٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا شَرِيفَةً كَانَتْ أَوْ وَضِيعَةً مَنْ يجوز حبلها أولاً يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ جُومِعَ مِثْلُهَا لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، وَإِنْ لَمْ يُجَامَعْ مِثْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ الليث بن سعيد إِنْ كَانَ مِثْلُهَا يَحْبَلُ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ يَحْبَلْ مِثْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ بكراُ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا ثَيِّبٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْبِكْرِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، وَبِمَا رُوِيَ عن عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْعَذْرَاءِ ". قَالُوا: وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَوْضُوعٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيمَنْ عَلِمَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا، وَلِأَنَّ عَدَدَ الْحَرَائِرِ أَعْلَى مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ، وَذَلِكَ سَاقِطٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَائِلٍ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَبِكْرٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 وَثَيِّبٍ مَعَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَكَانَ فِيهِنَّ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَعَمَّ وَلَمْ يُفَرِّقْ. فَإِنْ قِيلَ: فَاسْمُ الْحَائِلِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْلَفَ حَمَلُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِهِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ: نَخْلَةٌ حَائِلٌ إِذَا أَخْلَفَتْ بَعْدَ أَنْ حَمَلَتْ، وَتَسْمِيَةُ حَائِلٍ لَا يَنْطَلِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ تَحْمِلْ مِنْ فَسِيلِ النَّخْلِ، وَصِغَارِ الْبَهَائِمِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْحَائِلَ ضِدُّ الْحَامِلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى أَبُو الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ " وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَجَدَّ مِلْكَ أَمَةٍ مُحَرَّمَةٍ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ قِيَاسًا عَلَى مَوْضِعِ الْوِفَاقِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ مَنْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، وَلَا يُجَامَعُ، وَمَنْ يَحْبَلُ مِثْلُهَا وَلَا يَحْبَلُ يَشُقُّ لِاخْتِلَافِهِ فِي النَّاسِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فَحُسِمَ الْبَابُ، وَقُطِعَ التَّنَازُعُ كَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ حِينَ قُدِّرَ شَرْعًا لِحَسْمِ التَّنَازُعِ، وَتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ حَسْمًا لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ عُمُومُ الِاسْتِبْرَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ لِقَوْلِهِ: " وَلَا ثَيِّبٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَالْأَثْبَتُ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ بَعْضَ مَا شَمِلَهُ مِنَ الْعُمُومِ فَلَمْ يُعَارِضْهُ. فَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: " لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى عَذْرَاءَ "، فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي جَمِيعِهِنَّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلِ الِاسْتِبْرَاءُ لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ تَارَةً وَلِلتَّعَبُّدِ أُخْرَى، كَالْعِدَّةِ تَكُونُ اسْتِبْرَاءً لِلرَّحِمِ تَارَةً وَلِلتَّعَبُّدِ أُخْرَى إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِدَدِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً مِنِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ وَقَبَضَتْهَا وَتَفَرَّقَا بَعْدَ الْبَيْعِ ثُمَ اسْتَقَالَهَا فَأَقَالَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَرْجَ حُرِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ حَلَّ لَهُ بِالْمِلْكِ الثَّانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا أَوْضَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ اسْتِبْرَاءَ الْإِمَاءِ مَعَ يَقِينِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَتَفَرَّقَا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ ثُمَّ اسْتَقَالَهَا فَأَقَالَتْهُ لَزِمَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ سَوَاءٌ أَقْبَضَهَا أَوْ لَمْ يُقْبِضْهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا إِنْ أَقْبَضَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاؤُهَا إِنْ لَمْ يُقْبِضْهَا اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَزِمَهُ قِيَاسًا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَوْ دَفَعَ الْقِيَاسَ لَكَانَ بِإِيجَابِ الِاسْتِبْرَاءِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ أَحَقَّ، فَأَمَّا إِنْ تَفَاسَخَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْبَيْعِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ " بِمَا أَغْنَى عَنِ الإعادة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِبْرَاءُ أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي طَاهِرًا بَعْدَ مِلْكِهَا ثَمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهَا فَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ وَاجِبٌ فَمَلَكَ الرَّجُلُ أَمَةً بِالِابْتِيَاعِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، وَيُسْتَحَبُّ لَوِ اسْتَبْرَأَهَا الْبَائِعُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا الْمُشْتَرِي. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي. وَقَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بَعْدَ رَفْعِ يَدِ الْبَائِعِ، وَقَبْلَ دُخُولِ يَدِ الْمُشْتَرِي. فَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فاستدل بأنه لما لزم استبراء الحرية قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لَزِمَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ابْتِيَاعِ الْمُشْتَرِي لَهَا. وَأَمَّا النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، فَإِنَّهُمَا اسْتَدَلَّا بِأَنَّهَا تَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ لِتَقَدُّمِ إِصَابَتِهِ، وَمِنْ مَاءِ الْمُشْتَرِي لِمُسْتَحْدِثِ إِصَابَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ لِحِفْظِ مَائِهِ، وَفِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِحِفْظِ مَائِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ تَنُوبُ عَنِ الْحَقَّيْنِ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمَا تَنُوبُ عَنْ حَقِّهِ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْحَقَّيْنِ بِالْمُوَاضَعَةِ أَوْلَى مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا بِالِانْفِرَادِ. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا يُبِيحُهُ إِذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ سُفْيَانَ وَإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا بَعْدَ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ السَّبْيِ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 اسْتِبْرَاءٌ عَنْ إِصَابَةٍ، فَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى الْبَتِّيِّ قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِبَاحَةِ كَالزَّوْجِيَّةِ، وَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ إِلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ كَالزَّوْجِيَّةِ، وَإِنِ احْتَجَجْتُ بِهِ عَلَى مَالِكٍ، قُلْتُ: فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ الْمُوَاضَعَةُ كَالزَّوْجَةِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْبَتِّيِّ بِالنِّكَاحِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْتِيَاعِ وَإِنْ كَانَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَ الْمُطَلِّقِ يَزُولُ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ فَأَمْكَنَ تَقْدِيمُ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى عَقْدِ الثَّانِي، وَمِلْكُ الْبَائِعِ يَزُولُ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيمُ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَنْكُوحَةِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهَا، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَيْهِ وَتَحْرِيمُ الْأَمَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهَا، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ فَمَنَعَ بَقَاءُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّتِهِ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَمْنَعْ بَقَاءُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ صِحَّتِهِ. وَأَمَّا الثَّوْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ فَخَالَفَا مَوْضِعَ الِاسْتِبْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا يَتَمَيَّزُ لَهُ حِفْظُ مَا فِي الرَّحِمِ عَلَى مُسْتَحَقِّهِ وَهُوَ لا يستحقه إلا واحد فلذلك وجب اسبتراء واحد، ولووجب استبراآن لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ بَيْنَ الْقَبِيحَةِ وَالْمَلِيحَةِ فَأَوْجَبَ الْمُوَاضَعَةَ فِي الْمَلِيحَةِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْقَبِيحَةِ، وَحُكْمُ الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَفْتَرِقُ فِي الْقَبَائِحِ، وَالْمِلَاحِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ قَدْ مَنَعْتَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ مِنْ قَبْضِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِقَبْضِهِ مِنْ مِلْكِهِ بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ؟ وَفَوَّتَ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ، وَلَيْسَ مَنْعُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ يَتْلَفُ فِي الْمُوَاضَعَةِ فَمِنْ مَالِ أَيِّهِمَا يَتْلَفُ، فَإِنْ قَالَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُهُ، قِيلَ: قَدْ أَقْبَضَ مَا بَاعَ فَلِمَ جَعَلْتَهُ تَالِفًا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ إِقْبَاضِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَكُونُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَبَعْدَ حُدُوثِ كُلِّ مِلْكٍ بِغَيْرِ شِرَاءٍ مِنْ وَصِيَّةٍ، وَهِبَةٍ، وَمَغْنَمٍ، وَمِيرَاثٍ انْقَسَمَتْ أَسْبَابُ الْأَمْلَاكِ ثلاثة أقسام: قسم لا نصح الِاسْتِبْرَاءُ، فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْهِبَةُ وَالْمَغْنَمُ، فَإِنْ وُجِدَ الِاسْتِبْرَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَلَزِمَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بَعْدَهُ. وَقِسْمٌ ثَانٍ: يُعْتَدُّ الِاسْتِبْرَاءُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، فَإِذَا وُجِدَ الاستبراء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 بَعْدَ الْإِرْثِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ اعْتُدَّ بِهِ، لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: يُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ الِابْتِيَاعُ فَالَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِيهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْرُوثَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بَعْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ لِيُعْلَمَ بِهِ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي يَكُونُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي اسْتِبْرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَيُوضَعُ الْحَمْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الشُّهُورِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْحَيْضُ فَتَسْتَبْرِئُ نَفْسَهَا بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً " يَعْنِي كَامِلَةً، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ وَعِدَّةِ الْحُرَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِ بِالطُّهْرِ كَالْحُرَّةِ وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا: " ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً مَعْرُوفَةً " لِيَقْوَى بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يَكْمُلْ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَقْوِيَةً لِحُكْمِهِ، وَزِيَادَةً فِي الِاسْتِظْهَارِ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْحُرَّةِ إِذَا تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ مَكَثَتْ حَتَّى تَحِيضَ فَتَسْتَبْرِئَ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ أَوْ تَبْلُغَ زَمَانَ الْإِيَاسِ فَتَسْتَبْرِئَ بشهر في أحد القولين وبثلاثة اشهر من الْقَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا غَالِبَ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا مُدَّةَ أَكْثَرِ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَسْتَبْرِئُ تَتَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغَ زَمَانَ الْإِيَاسِ ثُمَّ تَسْتَبْرِئُ بِالشُّهُورِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ من حالين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَظْهَرَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا، وَأَنْ لَا حَمْلَ مَعَهَا فَتَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي وَلِكُلِّ مَالِكٍ مِنْ وَارِثٍ وَغَانِمٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا بِوَضْعِ وَلَدٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ فِرَاشًا لِزَوْجٍ وَلَا لِسَيِّدٍ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَسْبِيَّةً أَوْ تَكُونَ حَامِلًا مِنْ زِنًا فَيَكُونَ وَضْعُ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الشِّرَاءِ، وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ النِّفَاسِ وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، فَأَمَّا بَعْدَهَا فَإِنْ تَحَقَّقَ حَمْلُهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْعَيْبِ رِضًى بِالْعَيْبِ، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَمْلَهَا حَتَّى وَلَدَتْ نُظِرَ حَالُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهَا بِالْوِلَادَةِ فَلَا رَدَّ له الزوال الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْعَيْبِ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا اعْتُبِرَ النَّقْصُ، فَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا رَدَّ لَهُ لِحُدُوثِهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا وَقْتَ الْحَمْلِ فَلَهُ الرَّدُّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِزَوْجٍ كَأَنَّهَا زَوْجَةُ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ بِهَا فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِزَوْجِهَا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمُسْتَوْهِبِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنَ الزَّوْجِ بِوِلَادَتِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاؤُهَا بَعْدَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ لِمَا عَلِمَ مِنْ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا بِالْوِلَادَةِ، وَتَكُونُ الْوِلَادَةُ اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ اثْنَيْنِ لِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ الْبَائِعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وِلَادَتُهَا قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فِي الْوَلَدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ من البائع، لأنه لم يستبدئها مِنْ وَطْئَهِ وَقَدْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا لَاحِقًا بِالْبَائِعِ، وَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَادَقَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَطَأْهَا أَوْ لِأَنَّهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهِ لَهَا فيكون البيع ماضياً، والولد مملوك لِلْمُشْتَرِي وَتَكُونُ وِلَادَتُهَا اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ نِفَاسِهَا أَنْ يَطَأَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَهُ الْبَائِعُ وَيُنْكِرَهُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولَ الْبَائِعُ وَطِئْتُهَا وَلَمْ أَسْتَبْرِئْهَا وَقَدْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ وَطْئِي وَقَبْلَ اسْتِبْرَائِي، وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي هُوَ مِنْ زِنًا فَلِلْبَائِعِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ إِمَّا مَعَ الْعَقْدِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِرَافِهِ بِالْوَطْءِ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِيهِمَا بَاطِلًا وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْعِتْقِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُسْمَعَ مِنَ الْبَائِعِ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَدَّعِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْبَيْعِ الصِّحَّةُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى السَّلَامَةِ وَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ دَعْوَى الْبَائِعِ لِإِبْطَالِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْأَمَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَتَكُونُ وِلَادَتُهَا اسْتِبْرَاءً فِي حَقِّهِ يَسْتَبِيحُهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِ النِّفَاسِ وَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَفِي لُحُوقِ نَسَبِهِ بِالْبَائِعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَ " الْإِيلَاءِ " يُلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهِ فَأَرْفَقْنَاهُ لِنَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَمْ نَنْفِ نَسَبَهُ عَنِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي أن يكون عدة ذَا نَسَبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ عَنْهُ الْبُوَيْطِيُّ لَا يُلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْبَائِعِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْخِلُ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَرَرًا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ بِالْبَائِعِ، إِذَا مَاتَ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَنْ يَصِيرَ مِيرَاثُهُ لِأَبِيهِ دُونَ مُعْتِقِهِ لِتَقَدُّمِ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ عَلَى الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِيُ إِنَّهُ مِنَ الْبَائِعِ، وَيُنْكِرَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِعَ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا، فَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ إِذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا يُؤَثِّرُ إِنْكَارُهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ لَا يَسْقُطُ بِالْجُحُودِ وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ يَبْطُلُ فِيهَا الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِثَمَنِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُسْمَعَ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ بِوَطْئِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عليه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَسَلَامَةُ الْعَقْدِ لَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِاعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِبَائِعِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَلَدِ إِذَا لم يكن المشتري قدم وطأها. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَ مَعَ اعْتِرَافِهَا بِالْوَطْءِ، لِأَقَلَّ من ستة أشهر من وطء المشتري، فيكون لاحقاً بالبائع نصير بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ فِيهَا بَاطِلًا، وَعَلَى الْمُشْتَرِي مَهْرُ مِثْلِهَا لِلْبَائِعِ لِوَطْئِهِ أُمَّ وَلَدِهِ بِشُبْهَةٍ، وَيَتَقَاصَّا ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِبَاقِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا بِالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِوَضْعِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فصاعداً من وطء المشتري، فالبيع ماضى على الصحة ولا تراجع فيه من الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُلْحَقَ بِالْبَائِعِ وَلَا بِالْمُشْتَرِي، وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْوَلَدُ منفياً عنهما ومملوك لِلْمُشْتَرِي، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ، وَهِيَ مَمْلُوكَةُ الْمُشْتَرِي وَحَلَالٌ لَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الَّذِي يُمْكِنُ لُحُوقُهُ بِهِمَا فَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْحُرَّةِ وَمُمْتَنِعٌ فِي الْأَمَةِ، لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ لَاحِقٌ بِهِ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ مِنَ الْعِدَّةِ وَوَلَدَ الْأَمَةِ لَا يُلْحَقُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِ تَخْرِيجُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ إِنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ فَتَخْرِيجُهُ فِي إِمْكَانِ لُحُوقِهِ بِهِمَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ فَهُوَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ وَطْأَهُ بَعْدَ وَطْءِ الْبَائِعِ فَيَكُونَ لَاحِقًا بِالْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ اسْتِبْرَاءَهُ قَبْلَ وَطْءِ الْمُشْتَرِي فَيَكُونَ لَاحِقًا بِالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِذَلِكَ مَا امْتَنَعَ تخريجه هَذَا الْقِسْمِ فِي إِمْكَانِ لُحُوقِهِ بِهِمَا وَإِنْ وهم أبو حامد الإسفراييني في تخريج. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَرَابَتْ أَمْسَكَتْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الريبة لم تكن حَمْلًا وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَوْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَهِيَ تَرَى أَنَّهَا حَامِلٌ لَمْ تَحِلَّ إِلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوِ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَمْلًا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْحُرَّةِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ، وَحُكْمَ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَمَةِ إِذَا اسْتَبْرَأَتْ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَتَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بعد الاستبراء، وبعد إصابة المشتري فلا ففي يحرم عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ لَهُ بِالْإِصَابَةِ فِرَاشًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقَبْلَ إِصَابَةِ الْمُشْتَرِي فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنها حَلَالٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ حَمْلُهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ التَّلَذُّذُ بِمُبَاشَرَتِهَا ولا نظر بشهوة إلهيا وَقَدْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ عَلَى مَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَطْؤُهَا لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ هُوَ اعْتِزَالُ الْوَطْءِ سَوَاءٌ مَلَكَهَا عَنْ شِرَاءٍ أَوْ سَبْيٍ، فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا عَدَا الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَمْلِ إِنْ ظَهَرَ بِهَا هَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ كَانَ مَالِكَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَاةٌ مِنْ مَالِكٍ كَانَتْ لَهُ فِرَاشًا أَوْ مَوْرُوثَةً عَنْهُ أَوْ مُسْتَوْهَبَةً مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّلَذُّذُ بمباشرتها، والنظر إليها لشهرة كما يحرم عليه وطئها لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ كَالْمَسْبِيَّةِ وَالْحَامِلِ مِنْ زِنًا فَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمُبَاشَرَتِهَا وَمَا دُونُ الْفَرَجِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ تَبَعًا لِلْوَطْءِ كَالْمُشْتَرَاةِ مِنْ ذِي فِرَاشٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَحْرُمُ، لِأَنَّ الْمُشْتَرَاةَ تَصِيرُ بِالْحَمْلِ أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَحَرُمَتْ قَبْلَهَا، وَالْمَسْبِيَّةُ وَالزَّانِيَةُ لَا تَصِيرُ بِحَمْلِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْرِئُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَائِهِ مَاءُ غَيْرِهِ، فَإِذَا اجْتَنَبَ الْوَطْءُ حَلَّ لَهُ مَا عَدَاهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ فِي سَهْمِي جارية من سبي جلولاء فرأيت لها عتقا كَإِبْرِيقِ الْفِضَّةِ فَمَا تَمَالَكْتُ أَنْ قَبَّلْتُهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ وَلَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إِذَا وُطِئَتْ زَوْجَةٌ بِشُبْهَةٍ، وَلَزِمَهَا الِاعْتِدَادُ مِنْ وَطْئِهِ حَرُمَ عَلَى زَوْجِهَا وَطْؤُهَا فِي عِدَّةِ الشُّبْهَةِ، وَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمَا دون الوطء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 وجهان: لأن المقصود بالعدة حذراً مِنِ اخْتِلَاطِ الْمَائَيْنِ، وَهِيَ بَعْدَ الْعِدَّةِ حَلَالٌ لِلزَّوْجِ فَأَشْبَهَتِ الْمَسْبِيَّةَ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْوَطْءِ وَالتَّلَذُّذِ جَمِيعًا، لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ فَحَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالْوَطْءِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالثَّانِي: بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أن يستبرئها وهي محرمة عليه لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا أَنْ يَطَأَهَا، وَفِي تَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِمَا دُونَ الْوَطْءِ وَجْهَانِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَالِكًا لَهَا قَبْلَ تَزْوِيجِهَا ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الزَّوْجِ وَحَرُمَتْ عَلَى الْمَالِكِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَهِيَ فِي زَمَانِ عِدَّتِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَطَأَهَا أَوْ يَتَلَذَّذَ بِهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْعِدَّةِ يَجْرِي مَجْرَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَفِي وُجُوبِ اسْتِبْرَائِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَجْهَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَحْرِيمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا بِالْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْعِدَّةِ تَعَبُّدًا فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وطئها وَفِي تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّلَذُّذِ وَجْهَانِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى وَضَعَتْ حَمْلًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا تَمَّ حِينَ تَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا وُجُودَ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَلُزُومِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ وَجُودَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَفِيهِ شَاهِدٌ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى مَا أُخْبِرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَجَعَلُوهُ شَرْطًا فِيهِ، فَإِذَا وَضَعَتِ الْأَمَةُ الْمُشْتَرَاةُ حَمْلَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ وَمُضِيِّ زَمَانِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ اسْتِبْرَاءً يَحِلُّ بِهِ الْمُشْتَرِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ فَيَكُونُ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ، هَلْ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ أَوْ بِهِ؟ وَيَنْقَضِي زَمَانُ الْخِيَارِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِهِمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَوُجُودِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ عَلَيْهَا قُرْءٌ بِحَيْضٍ أَوْ بِطُهْرٍ لَمْ يَكُنِ اسْتِبْرَاءً، وَلَا يَدْخُلُ بِالنِّفَاسِ فِي اسْتِبْرَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ، إِنَّهُ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالطُّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى نِفَاسُهَا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالطُّهْرِ دَخَلَتْ فِيهِ عِنْدَ تَقَضِّي النِّفَاسِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ بِالْحَيْضِ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَضِّي طُهْرِهَا وَطُهُورِ حَيْضِهَا فَهَذَا حُكْمُ وَضْعِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: وَمَا عَدَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ مَوْقُوفٌ بِعِلْمِ تَقَضِّي الْخِيَارِ وَوُجُودِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ وَضْعُ الحمل استبراءاً لِوُجُودِهِ بَعْدَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَوُجُودِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الخيار فإن كان بدل الولادة قروءاً مِنْ حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْعِ، وَقَبْلَ التَّفْرِيقِ فَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ اسْتِبْرَاءً كَالْحَمْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ وَلَا أَعْرِفُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهًا إِلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْحَمْلِ أَقْوَى وَلَيْسَ بِفَرْقٍ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ في حصول الاستبراء بهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً مُكَاتَبَةً فَعَجَزَتْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةُ الْفَرْجِ مِنْهُ ثُمَّ أبيح بالعجز ولا يشبه صومها الواجب عليها وحيضتها ثم تخرج من ذلك، لأنه يحل له في ذلك أن يمسها ويقبلها ويحرم عليه ذلك في الكتابة كما يحرم إذا زوجها وإنما قلت طهر ثم حيضة حتى تغتسل مِنْهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دل على أن الأقراء الأطهار بقوله في ابن عمر يطلقها طاهراً من غير جماع فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النساء وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الإماء أن يستبرئن بحيضة فكانت الحيضة الأولى أمامها طهر كما كان الطهر أمامه الحيض فكان قصد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الاستبراء إلى الحيض وفي العدة إلى الأطهار ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَاتَبَ أَمَتَهُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْعَجْزِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حتى يستبرئها وكذلك لو ارتد أو ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا اعْتِبَارًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ بِحُدُوثِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمُكَاتَبَةِ إِذَا عَجَزَتْ، وَلَا فِي الْمُزَوَّجَةِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَا فِي الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتِ اعْتِبَارًا ببقاء الملك واستدلالا بأن طريان التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَالرِّدَّةِ لِحُدُوثِ التَّحْرِيمِ بِالصِّيَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا كَالْكِتَابَةِ، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ فِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ عَجْزِهَا فِي الْكِتَابَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إِبَاحَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ استباحة يملك بَعْدَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ كَالَّتِي اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا، وَخَالَفَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّائِمَةِ، وَالْحَائِضِ وَالْمُحْرِمَةِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ دَوَاعِيهِ فِي الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ إلى المحرمة، وتحريم ما ذَكَرْنَاهُ عَامٌّ زَالَ بِهِ عُمُومُ الِاسْتِبَاحَةِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا إِذَا أُمِنَ حَمْلُهَا بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ وَطْؤُهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَكَانَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ الْحَبَلِ إِلَّا لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي وَطْئِهَا جَازَ، وَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يَجُزْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا سَنُوَضِّحُهُ فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَمَةً مَجُوسِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ، وَبِالْإِسْلَامِ حَلَّتْ فَلَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِحُدُوثِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتْ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمَةً وَيَسْتَبْرِئَهَا فَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، فَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ السَّيِّدِ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَقْتَ اسْتِبْرَائِهَا حَلَّ لِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا لِوُجُودِ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى دَيْنِهِ، فَإِذَا قَضَاهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا إِبَاحَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ، وتحل له بالاستبراء المتقدم لوجوده بعد استقرار الملك، وَأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَحَلَّتْ لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ إِبَاحَةٍ بِزَوْجِيَّةٍ إِلَى إِبَاحَةٍ بِمِلْكٍ فَلَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَظْرٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَبْرِئْ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بَعْدَ ابْتِيَاعِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، وَبِمَاذَا يَكُونُ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ اسْتِبْرَاءَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 الْإِمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ ابْتِيَاعِهَا اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِقُرْأَيْنِ عِدَّةَ أَمَةٍ، لِأَنَّهُ عَنْ وَطْءٍ فِي زَوْجِيَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 ( كتاب مختصر ما يحرم من الرضاع ة من كتاب الرضاع ومن كتاب النكاح ومن أحكام القرآن) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ حَرُمَ مَعَ الْقَرَابَةِ {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة} وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ " " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّضَاعُ فَاسْمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ وَشُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَدْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُنْتَشِرَةً بَيْنَهُمْ وَمَرْعِيَّةً عِنْدَهُمْ، حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَوَازِنَ لِمَا سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ لِحُنَيْنٍ قَدِمَتْ وُفُودُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْلِمِينَ فَقَامَ فِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ وَاللَّائِي كُنَّ يُرْضِعْنَكَ وَيَكْفُلْنَكَ وَلَوْ أنا ملحنا أَيْ أَرْضَعْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ، أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ ثُمَّ نَزَلْنَا بِمِثْلِ مَنْزِلِنَا مِنْكَ رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا وَفَائِدَتَهُمَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَافِلِينَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: (امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ) (امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ) (إِنْ لَمْ تدراكها نَعْمَاءُ نَسْتُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ) (إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ) فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ فَقَالُوا: أَخَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا بَلْ تَرُدُّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَّا كَانَ لِي وَلِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ فَرَعَى لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُرْمَةَ رِضَاعِهِ فِيهِمْ، وَجَرَى عَلَى مَعْهُودِ الْعَرَبِ مَعَهُمْ مِنْ إِثْبَاتٍ لِحُرْمَةِ النَّسَبِ، وَلَا حُكْمَ لِتَحْرِيمٍ وَلَا مُحَرَّمٍ ثُمَّ رَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَسِّمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ إِذَا أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ فَدَنَتْ إِلَيْهِ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَكُونُ أُمًّا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الرَّضَاعَةِ فَعِيفَ بِهَا حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي تقول: أنا أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ، وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ قَالَتْ عَضَّةٌ عَضِضْتَهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ فَعَرَفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَلَامَةَ وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ مُكَرَّمَةً أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِهَا مُمَتَّعَةً، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُمَتِّعَهَا وَتَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهَا فَفَعَلَ. فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ بِنْتَ الْمُرْضِعَةِ أُخْتٌ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَثَبَتَ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ أَنَّهَا كَالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ النَّسَبِ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَ بِهِ حُكْمَ الرَّضَاعِ فِي تَحْرِيمِ الْمَنَاكِحِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ فَقَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إِلَى قَوْلِهِ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من الرضاعة} فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا وَبِنْتَهَا أُخْتًا تَأْكِيدًا، لِمَا تَقَدَّمَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الِاسْمِ وَزِيَادَةً عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ وَحُرْمَتُهَا كَتَحْرِيمِ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ كَمَا كَانَتِ الْوَالِدَةُ أَصْلًا فِي إِيجَادِهِ، وَصَارَتْ بِنْتُ الْمُرْضِعَةِ أُخْتًا كَمَا كَانَتْ بِنْتُ الْوَالِدَةِ أُخْتًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَنْسَابِ، فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ مَا أُرِيدَ بِالْكِتَابِ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ علي ابن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ عَمِّكَ حَمْزَةَ فَإِنَّهَا أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ حَمْزَةَ أَخِي فِي الرَّضَاعَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ. فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعَةِ كَتَحْرِيمِ النَّسَبِ فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَبِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْمَنَاكِحِ لِذِكْرِهِ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الْمُحَرَّمِ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَالْخَلْوَةِ مَعَهَا. رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا؟ وَكَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي قُعَيْسٍ قَدْ أَرْضَعَتْهَا فقال: " ليلج عليك، فإنه معك مِنَ الرَّضَاعَةِ)) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ رَجُلٍ فِي مَنْزِلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ: أُرَاهُ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَأَمَّا مَا عَدَا هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحَضَانَةِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ، وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَالْمَنْعِ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بالنسب دون الرضاعة وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النِّسَاءِ: الْوَالِدَةُ وَالْمُرْضِعَةُ وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالْوَالِدَةُ مُسْتَوْجِبَةٌ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، وَالْمُرْضِعَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُكْمَيْنِ التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ وَفِي أَزْوَاجِ الرَّسُولِ وجهان: أحدهما: يُشَارِكْنَ الْمُرْضِعَةَ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمَ. وَالثَّانِي: يَنْفَرِدْنَ بالتحريم دون المحرم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ كَمَا تُحَرِّمُ وِلَادَةُ الْأَبِ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلَامًا وَالْأُخْرَى جَارِيَةً هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلَامُ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ وَقَالَ مِثْلَهُ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ فَبِهَذَا كُلِّهِ نَقُولُ فَكُلُّ مَا حَرُمَ بِالْوِلَادَةِ وَبِسَبَبِهَا حَرُمَ بِالرَّضَاعِ وَكَانَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّبَنَ يَحْدُثُ بَعْدَ عُلُوقِ الْحَمْلِ لِيَكُونَ غِذَاءً لِلْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَ الْمَوْلُودُ وَلَدًا لِلزَّوْجَيْنِ لِحُدُوثِهِ مِنْ مَائِهِمَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضَعُ وَلَدًا لَهَا لِاغْتِذَائِهِ بِلَبَنِهَا، لِأَنَّ اللَّبَنَ تَابِعٌ لِلْمَاءِ، لِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ خَلْقِهِ، وَاللَّبَنَ حَافِظٌ لِحَيَاتِهِ، وَإِذَا كان كذلك نظر في المولود، فإذا كان لاحقا بِالْوَاطِئِ لِكَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ شُبْهَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِعَهُ الْمُرْتَضَعُ فِي لَبَنِهِ فَكَانَ وَلَدَ رِضَاعٍ لِلْوَاطِئِ وَالْمُرْضِعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ غَيْرَ لَاحِقٍ بِالْوَاطِئِ لِكَوْنِهِ مِنْ زِنًا صَرِيحٍ تَبِعَهُ الْمُرْضَعُ فِي انْتِفَائِهِ عَنِ الْوَاطِئِ، وَكَانَ وَلَدَ رِضَاعٍ لِلْمُرْضِعَةِ دُونَ الْوَاطِئِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَضَعُ تَابِعًا لِلْمَوْلُودِ فِي لُحُوقِهِ وَانْتِفَائِهِ فَإِذَا أُلْحِقَا بِالزَّوْجِ الْوَاطِئِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ فِي ثَدْيٍ لَبَنٌ يُرْضِعُ بِهِ وَلَدًا فَيَصِيرُ وَلَدَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، فَإِذَا أُلْحِقَ وَلَدُ الرَّضَّاعِ بِهِمَا انْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْ جِهَتِهِمَا إِلَيْهِ فَهِيَ عَامَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَنْ نَاسَبَهُمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، فَتَكُونُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّهُ وَأُمَّهَاتُهَا جَدَّاتِهِ لِأُمٍّ وَأَبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ لِأُمٍّ وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالَهُ، وَأَخَوَاتُهَا خَالَاتِهِ، وَأَوْلَادُهَا إِخْوَتَهُ، وَأَخَوَاتِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنَ الزَّوْجِ فَهُمْ لِأَبٍّ وَأُمٍّ وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا دُونَهُ، فَهُمْ لِأُمٍّ وَيَكُونُ الزَّوْجُ الْوَاطِئُ أَبَاهُ وَآبَاؤُهُ أَجْدَادَهُ لِأَبٍّ وَأُمَّهَاتُهُ جَدَّاتِهِ لِأَبٍّ، وَإِخْوَتُهُ أعمامه وأخواته عماته، وأولاد إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُرْضِعَةِ فَهُمْ لِأَبٍّ وَأُمٍّ، وَإِنْ كَانُوا مِنْهَا دُونَهَا فَهُمْ لِأَبٍّ فَيَحْرُمُ مِنْ أَقَارِبِ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ من أقارب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 النَّسَبِ، وَأَمَّا انْتِشَارُهَا مِنْ جِهَتِهِ إِلَيْهِمَا فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ دُونَ مَنْ عَلَا مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ، وَدُونَ مَنْ شَارَكَهُ فِي النِّسَبِ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلَا يحرم آباؤه وأمهاته وَلَا أَخَوَاتُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيِ الرَّضَاعِ، فَيَكُونُ انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ مِنْ جِهَتِهِ أَخَصَّ، وَانْتِشَارُهَا مِنْ جِهَتِهِمَا أَعَمَّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عُمُومِ الْحُرْمَةِ مِنْ جِهَتِهِمَا وَخُصُوصِيَّتِهَا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ لَهُمَا دُونَهُ، وَفِعْلَ الرَّضَاعِ مِنْهُمَا لَا مِنْهُ، فَكَانَتْ جِهَتُهُمَا أَقْوَى فَعَمَّتِ الْحُرْمَةُ وَضَعُفَتْ مِنْ جِهَتِهِ فَخُصَّتِ الْحُرْمَةُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الرَّضَّاعِ وَبِهِ يُعْتَبَرُ حُكْمَاهُ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ فَانْتِشَارُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَانْتِشَارُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ وَانْتِشَارَهَا مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ فِي التَّحْرِيمِ وَالْمُحَرَّمِ كَثُبُوتِهَا، وَانْتِشَارِهَا مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْفَحْلَ لَا يَنْتَشِرُ عَنْهُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهِ تَحْرِيمٌ وَلَا مُحَرَّمٌ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْمُرْتَضَعَةَ بِلَبَنِهِ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ: وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَعَلَهُ دَاوُدُ مَقْصُورًا عَلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) [النساء: 23] فَخَصَّهُمَا بِذِكْرِ التَّحْرِيمِ ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَنْ عَدَاهُمَا وَادَّعَوْا فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ، لِأَخِيهِ حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ كَيْفَ أُزَوِّجُهَا بِهِ وَهُوَ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَاكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا الْكَلْبِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَمْزَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أُمُّهُ الْكَلْبِيَّةُ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ قَدْ أَرْضَعَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَصَارَتْ بِزَيْنَبَ أُخْتًا لِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأُخْتًا لِحَمْزَةَ مِنْ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ فَجَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ أُخْتًا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا أُخْتًا لِأَخِيهِ حَمْزَةَ، وَلَا جَعَلَ اللَّبَنَ لِأَبِيهِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: سَلِي الصَّحَابَةَ، فَسَأَلُوا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحِيرَةِ فَأَبَاحُوهَا لَهُ، وَقَالُوا: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ فَزُوِّجَتْ بِهِ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ وَلَدًا لَمْ يَصِرْ لَهُ أَبًا فَلِأَنْ لَا يَصِيرَ أَبًا لَهُ بِلَبَنِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ لَهُمَا لَكَانَ إِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ وَلَدًا يَكُونُ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الْمُرْضِعَةُ بِالْأُجْرَةِ دُونَ الْفَحْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ لَهَا لَا لِلْفَحْلِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَحْكَامِ النَّسَبِ لِضَعْفِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُرْضِعَةِ لِنَفْسِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخوانكم مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ، وَيَنْفَصِلُ بِهِمَا عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْأُمَّهَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبَنَاتِ، وَنَصَّ عَلَى الْأَخَوَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ اكْتِفَاءً بِمَا تقدم تفصيله. والثاني: أن قوله " وأخواتكم " عُمُومٌ يَتَنَاوَلُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ فَلَمْ يَقْتَضِ الظَّاهِرُ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَتَحْرِيمُ النَّسَبِ عَامٌّ فِي جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي قُعَيْسٍ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، فَاسْتَتَرْتُ مِنْهُ فَقَالَ: تَسْتَتِرِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ، فَقَالَتْ مِنْ أَيْنَ فَقَالَ أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةٌ وَلَمْ يُرْضِعْنِي رَجُلٌ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَدَّثَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ. وَهَذَا نَصٌّ. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ حَرُمَ بِالنَّسَبِ حَرُمَ بِالرَّضَاعِ كَالْأُمِّ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ فِيهِ لَفْظُ السُّنَّةِ مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِمَا، فَكَانَ الْوَلَدُ لَهُمَا وَإِنْ بَاشَرَتِ الْأُمُّ وِلَادَتَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ الْحَادِثُ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ بَاشَرَتِ الْأُمُّ رِضَاعَهُ، وَإِذَا كَانَ اللَّبَنُ لَهُمَا وَجَبَ أَنْ تَنْتَشِرَ حُرْمَتُهُ إِلَيْهِمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهُ الرَّضَاعَ فِي التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ، وَأَحْكَامُ النَّسَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْتَصُّ بِعَمُودَيِ النَّسَبِ الْأَعْلَى وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَالْأَسْفَلُ وَهُمُ الْمَوْلُودُونَ وَلَا يَتَجَاوَزُهُمَا إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ وَالْعِتْقُ بِالْمِلْكِ وَالْمَنْعُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِالنَّسَبِ إِلَى حَيْثُ مَا انْتَشَرَ وَتَفَرَّعَ وَذَلِكَ الْمِيرَاثُ. وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمَنَاكِحِ. فَلَمَّا لَمْ يَلْحَقِ الرَّضَاعُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِعَمُودَيِ النَّسَبِ لِتَحْرِيمِ الْأَخَوَاتِ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَا تَفَرَّعَ عَلَى النَّسَبِ لِإِبَاحَةِ بَنَاتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ثَبَتَ لُحُوقُهُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِذِي الرَّحِمِ وَالْمُحَرَّمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ ادِّعَائِهِمُ الْإِجْمَاعَ فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ عَلِيٌّ وَابْنُ عباس رضي الله تعالى عنهما وَمَعَ خِلَافِهِمَا يَبْطُلُ الْإِجْمَاعُ مَعَ كَوْنِ الْقِيَاسِ مَعَهُمَا بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْفَحْلَ لَوْ أُرْضِعَ بِلَبَنِهِ لَمْ يَحْرُمْ، فَهُوَ أَنَّهُ لَبَنٌ لَمْ يُخْلَقْ مِنْهُ الْمَوْلُودُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ، وَجَرَى مَجْرَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْبَانِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَخَالَفَ فِيهِ لَبَنَ الْمَرْأَةِ الْمَخْلُوقَ لِغِذَاءِ الْمَوْلُودِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ اللَّبَنُ لَهُمَا لَكَانَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ الرَّضَاعِ إِلَى مَاذَا يَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعُ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِلَى اللَّبَنِ وَالْحَضَانَةُ تَبَعٌ، فَعَلَى هَذَا الْأُجْرَةُ مَأْخُوذَةٌ عَلَى فِعْلِ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً ثَمَنًا لِلَّبَنِ لِلْجَهَالَةِ بِهِ وَفَقْدِ رُؤْيَتِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ جَعَلَهَا ثَمَنًا لِلَّبَنِ، وَجَعَلَهَا أَحَقَّ بِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِهِ، لِأَنَّهَا مُبَاشِرَةٌ كَرَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي حَفْرِ بِئْرٍ فَاسْتَقَى أَحَدُهُمَا مِنْ مَائِهَا كَانَ أَحَقَّ بِمَا اسْتَقَاهُ لِمُبَاشَرَتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ النَّسَبِ لِضَعْفِهِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ جِهَاتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ النَّسَبَ فِي التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ وَيَغْلُبُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ الْمُرْتَضَعُ مُوَافِقًا لِلْمَوْلُودِ فِي الرَّضَاعِ وَمُفَارِقًا لَهُ فِي الْوِلَادَةِ اقْتَضَى أَنْ يُسْلَبَ بِفَقْدِ النَّسَبِ الْوَاحِدِ مَا تَعَلَّقَ لسبب واحد والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالرَّضَاعُ اسْمٌ جَامِعٌ يَقَعُ عَلَى الْمَصَّةِ وَأَكْثَرَ إِلَى كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ وَعَلَى كُلِّ رِضَاعٍ بَعْدَ الحولين فوجب طلب الدلالة في ذلك وقالت عائشة رضي الله عنها كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ " عشر رضعات معلومات يحرمن " ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهن مما يقرأ من القرآن فكان لا يدخل عليها إلا من استكمل خمس رضعات وعن ابن الزبير قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ ولا الرضعتان " (قال المزني) رحمه الله قلت للشافعي أفسمع ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال نعم وحفظ عنه وكان يوم سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابن تسع سنين وعن عروة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالماً خمس رضعات فتحرم بهن (قال) فدل ما وصفت أن الذي يحرم من الرضاع خمس رضعات كما جاء القرآن بقطع السارق فدل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أراد بعض الشارقين دون بعض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 وكذلك أبان أن المراد بمائة جلدة بعض الزناة دون بعض لا من لزمه اسم سرقة وزناً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ تحريم الرضاع إلى بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَلَا يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُمَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ دَاوُدُ: مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فَحَرَّمَ أُمًّا أَرْضَعَتْ، وَالَّتِي أَرْضَعَتْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ قَالَ: لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزبير، بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ يَعْنِي مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَالرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تَسُدُّ الْجَوْعَةَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّ اللِّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ " وَتَحْرِيمُ النَّسَبِ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَدُ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوَطْءِ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالشُّرْبِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعَدَدُ كَحَدِّ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى الْجَوْفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفِطْرُ تَارَةً وتحريم الرضاع أخرى، فلما لم يتعبر الْعَدَدُ فِي الْفِطْرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرَّضَاعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 قَالَ: " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ ". وَرَوَى أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يحرم المصة ولا المصتان، فَرَوَى عَنْ عَائِشَةَ مَا سَمِعَ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سَمِعَهُ مِنْهُ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ أَسَمِعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: نَعَمْ سَمِعَ مِنْهُ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعُ سِنِينَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَةَ وَمَنْ لَهُ تِسْعُ سِنِينَ قَدْ يَضْبِطُ مَا يَسْمَعُهُ وَيَصِحُّ نَقْلُهُ وَرِوَايَتُهُ. وَرَوَتْ أُمُّ الْفَضْلِ قَالَتْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتِي، وَعِنْدِي أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَتِ الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتِ الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ أَوِ الْإِمْلَاجَتَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ الإملاجة مأخوذة من ملج يملج إذا استحلب اللَّبَنَ مِنَ الثَّدْيِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحَرِّمُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ تُحَرِّمْ إِذَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ بَعْدَ الْحِلَابِ أَوْ بَعْدَ مَصِّهَا مِنَ الثَّدْيِ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّضْعَةَ لَا تَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى مَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ بِالْمَصِّ وَالِازْدِرَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَخْصِيصٌ يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ بَيْنَ رَضْعَتَيْنِ وَبَيْنَ مِائَةِ رَضْعَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ وَفِيمَا لَمْ يَصِلْ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ نُطْقُهُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَإِنَّ دَلِيلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ نُطْقَهُ أَنَّ الرَّضْعَتَيْنِ لَا تُحَرِّمَانِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تُحَرِّمُ وَأَنْتُمْ لَا تُحَرِّمُونَ إِلَّا بِخَمْسٍ، فَصَارَ مَذْهَبُكُمْ مَدْفُوعًا بِدَلِيلِهِ كَمَا دَفَعْتُمْ مَذْهَبَنَا بِنُطْقِهِ. قِيلَ قَدْ صَحَّ بِهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِكُمْ، وَلَوْ تَرَكَنَا وَدَلِيلَ نُطْقِهِ صِرْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَكُمْ لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ مَنْطُوقٍ بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ تُحَرِّمُ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْعَشَرِ مَنْسُوخٌ بِالْخَمْسِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ، لِأَنَّهَا دُونَهَا وَلَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِأَقَلَّ مِنْهَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الخمس ناسخاً، وصار منسوخاً كالعشر وهذا خلال النَّصِّ وَمُسْقِطٌ لِتَعَدِّي الْخَمْسِ. وَاعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا فِيهِ إِثْبَاتٌ لِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ القرآن لكان مثبتاً في المصحف متلو فِي الْمَحَارِيبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا أَثْبَتْنَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ حُكْمًا لَا تِلَاوَةً وَرَسْمًا وَالْأَحْكَامُ تَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ سَوَاءٌ أُضِيفَتْ إِلَى السُّنَّةِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ كَمَا أَثْبَتُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " حُكْمَ التَّتَابُعِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنِ اسْتَفَاضَ نَقْلُهُ ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ. وَمِثَالُهُ مَا نَقُولُ فِي السَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ ثَبَتَ الْمَالُ وَالْقَطْعُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْقَطْعُ، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْقَطْعِ مَفْقُودَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمَالِ مَوْجُودَةٌ كَذَلِكَ خَبَرُ الِاسْتِفَاضَةِ بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ التِّلَاوَةِ، وَالْحُكْمُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ ثَابِتُ الْحُكْمِ فَكَانَ وُرُودُهُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْآحَادِ سَوَاءً فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ، وَسُقُوطِ تِلَاوَتِهِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ " وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عَمَرُ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْتُهَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْمَتْلُوِّ لَكَتَبْتُهَا مَعَ الْمَرْسُومِ الْمَتْلُوِّ وَإِنَّمَا أراد بكتبتها في الحاشية، لأن لا يَنْسَاهَا النَّاسُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ لِئَلَّا تَصِيرَ مَتْلُوَّةً، لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ كَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا ثُمَّ سَأَلَ آخَرَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَتَى جَمِيعُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا رُفِعَتِ اللَّيْلَةَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ، وَعَنْ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَشْرَ نُسِخْنَ بالخمس، إنما هما جميعاً بالسنة إلا بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى الْقُرْآنِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: امْرَأَةٌ مَا وَجَدْتُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَمِثْلُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَخْبَرْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتدوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَسُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَشَاغَلْنَا بِغَسْلِهِ فَدَخَلَ دَاجِنُ الْحَيِّ فَأَكَلَهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا كَانَ مَحْرُوسًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي أَكَلَهُ دَاجِنُ الْحَيِّ رَضَاعُ الْكَبِيرِ وَحُكْمُهُ مَنْسُوخٌ. وَالثَّانِي: أنه العشر منسوخ بالخمسن وَذَلِكَ غَيْرُ صَائِرٍ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَاجِيلُ أُمَّتِي فِي صُدُورِهَا، وَلَوْ أُكِلَتْ مَصَاحِفُ الْعُمْرِ كُلُّهَا، لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُرْآنِ لِحِفْظِهِ فِي الصُّدُورِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا هَذَا إِثْبَاتٌ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا قَالَتْ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِمَّنْ يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَوَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ نَسْخًا كَانَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ وَقَوْلُهَا كَانَ مِمَّا يُقْرَأُ أَيْ مِمَّا يُعْمَلُ بِهِ. والثاني: أنه كان يقرأ بعد رسول لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ لَا لِإِثْبَاتِ تِلَاوَتِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ تُرِكَتْ تِلَاوَتُهُ. وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ نَسْخٍ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا خَبَرُ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ بِهَا خَبَرُ النَّاسِخِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي إِثْبَاتِ الْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ نَسْخًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَقْلُ نَسْخٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَقْلُ النَّسْخِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَعَلِمَتْ عَائِشَةُ الْعَشْرَ وَنَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَرَوَتْهَا وَرَجَعَتْ إِلَى الْخَمْسِ، وَعَلِمَتْ حَفْصَةُ الْعَشْرَ، وَلَمْ تَعْلَمْ نَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِالْعَشْرِ دُونَ الْخَمْسِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كَانْتَ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ سَالِمًا كُنَّا نَرَاهُ وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيٌّ وَأَنَا فُضُلٌ وَقَدْ نَزَلَ مِنَ التَّبَنِّي وَالْحِجَابِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَمَاذَا تُرَانِي، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَضِعِيهِ خَمْسًا يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ "، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ بِمَا دُونَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ سَالِمٍ حَالُ ضَرُورَةٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَلَوْ وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا وَارِدٌ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَرِضَاعُهُ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ. وَالثَّانِي: عَدَدُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَنَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] فَاشْتَمَلَتْ عَلَى حُكْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَدَدُ الْبَيِّنَةِ فِي الزِّنَا. وَالثَّانِي: إِمْسَاكُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْمَوْتِ حَدًّا فِي الزِّنَا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدُّ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ سُقُوطَ عَدَدِ الْبَيِّنَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ حُرِّمَ عِنْدَ جَوَازِ التَّبَنِّي، لِأَنَّ سَلَمَةَ وَأَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّيَا سَالِمًا، وَكَانَ التَّبَنِّي مُبَاحًا، وَكَانَا يَرَيَانِ سَالِمًا وَلَدًا فَلَمَّا حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَنَزَلَ الْحِجَابُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرَّضَاعِ عَنْ تَبَنِّيهِ الْمُبَاحِ لِيَعُودَ بِهِ إِلَى التَّبَنِّي الْأَوَّلِ فَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] سَقَطَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ ثَبَتَ بِوُجُودِهِ وَسَقَطَ بِعَدَمِهِ فَصَارَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ غَيْرَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 مُحَرِّمٍ لِعَدَمِ سَبَبِهِ لَا لِنَسْخِهِ، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ نُفُورِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَأَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنِ اسْتِئْنَافِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَلِيَزُولَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَا اسْتَنْكَرُوهُ فَلَا يَنْفُرُوا مِنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ زَالَ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي النُّفُوسِ فَزَالَ بِهِ فَسْخُ الْحَجِّ، لَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ فَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنَّ الثَّالِثَةَ تُحَرِّمُ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِمَا دُونَ الْخَمْسِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " مَدْفُوعُ الدَّلِيلِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنَ النَّصِّ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الرِّبَا فِي النَّقْدِ، ثُمَّ هُوَ مَدْفُوعٌ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " جَارِيًا عَلَى السؤال عن ذلك، وقد روايناه عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ أَبَانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَعْضُ الْمُرْضِعِينَ دُونَ بَعْضٍ وَاحْتَجَّ فِيمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ لَمَّا قَالَتْ لَهُ كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فَضْلٌ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَأْمُرِنِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَلَغَنَا " أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا " فَفَعَلَتْ فَكَانَتْ تَرَاهُ ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة رضي الله عنها فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبى سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن ما نرى الذي أمر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا رخصة في سالم وحده وروى الشافعي رحمه الله أن أم سلمة قالت في الحديث هو لسالم خاصة (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فإذا كان خاصا فالخاص مخرج من العام والدليل على ذلك قول الله جل ثناؤه {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل الحولين غاية وما جعل له غاية فالحكم بعد مضي الغاية خلاف الحكم قبل الغاية كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإذا مضت الأقراء فحكمهن بعد مضيها خلاف حكمهن فيها (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عِنْدِي عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ بِتَأْقِيتِ حَمْلِهِ وفصاله ثلاثين شهراً كما نفى توقيت حولين الرضاع لأكثر من الحولين (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وكان عمر رضي الله عنه لا يرى رضاع الكبير يحرم وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما وقال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 أبو هريرة رضي الله عنه لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَضَاعُ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ كَرِضَاعِ الصَّغِيرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَسَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ، وَكَانَ سَالِمٌ كَبِيرًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا إِذَا أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ أَحَدٌ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ بَنَاتِ إِخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَصِيرُ بِهِنَّ مُحَرَّمًا، وَخَالَفَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِكَ قُلْنَ مَا نَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ إِلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ وَحْدَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 223] فَجُعِلَ تَمَامُ الرَّضَاعِ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرًا بِحَوْلَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ مُخَالِفًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَحُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ هُوَ التَّحْرِيمُ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ نَفْيًا لِتَحْرِيمِهِ لَا لِجَوَازِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ، يَعْنِي لا تحرم رَضَاعٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَمَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَالْكَبِيرُ لَا يَسُدُّ الرَّضَاعُ جَوْعَتَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ العظم وروى الرضاعة ما فتقت الأمعاء وأثبتت اللَّحْمَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّغِيرِ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَالِمٍ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالرَّضَاعِ فِي الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعَ مُخْتَصٌّ بِالصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ تَحْرِيمِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُحَدَّدٌ بِحَوْلَيْنِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِيَوْمٍ لَمْ يُحَرِّمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ إِنَّهُ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِشَهْرٍ فَجَعَلَ زَمَانَهُ مُحَدَّدًا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ يُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَجَعَلَ زَمَانَهُ مُحَدَّدًا بِثَلَاثِينَ شَهْرًا وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: مَا قَالَهُ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مُحَدَّدَةٍ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قول الله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَلِأَنَّهَا مَنْ يُعْتَدُّ فِيهَا بِالرَّضَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا التَّحْرِيمُ كَالْحَوْلَيْنِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَمَا حُدَّ فِي الشَّرْعِ إِلَى غَايَةٍ كَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا كَالْأَقْرَاءِ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ " وَالْفِصَالُ فِي الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الْفِصَالُ، وَلِأَنَّهُ حَوْلٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ فِي آخِرِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي أَوَّلِهِ كَالْحَوْلِ الرَّابِعِ طَرْدًا، وَالثَّانِي عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا عُلِّقَ بِالْحَوْلِ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْكَمَالَ قُطِعَ عَلَى التَّمَامِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلَيْنِ فَفَاسِدٌ بِالشَّهْرِ السَّابِعِ يُتَغَذَّى فِيهِ بِاللَّبَنِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فِي آخِرِهِ وَقَعَ بِالرَّضَاعِ فِي أَوَّلِهِ وَخَالَفَ الثَّالِثَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ تَحْرِيمِهِ بِالْحَوْلَيْنِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ فِيهَا بِالطَّعَامِ عَنِ الرَّضَاعِ أَمْ لَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعٍ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ بِالطَّعَامِ عَنْهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الرَّضَاعِ بِالْحَوْلَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ تعلقه بالحولين نص، واستغناؤه بِالطَّعَامِ اجْتِهَادٌ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْحَوْلَيْنِ عِلْمٌ وَاعْتِبَارَهُ بِالِاسْتِغْنَاءِ خَاصٌّ وَاعْتِبَارُ مَا عَمَّ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ مَا خَصَّ. (فَصْلٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عِنْدِي عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ بِتَأْقِيتِ حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا كَمَا نُفِيَ تَوْقِيتُ الْحَوْلَيْنِ لِلرِّضَاعِ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ ". وَالَّذِي أَرَادَهُ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَكْثَرِ الحمل أنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 مُقَدَّرٌ بِسَنَتَيْنِ كَالرَّضَاعِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إِذَا وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا يُحَرَّمُ بِالرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَجَعَلَ مُدَّتَهَا ثَلَاثِينَ شَهْرًا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا وهذا الذي ذكره المزني فاسد، لأته لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَدَّرَهُ بِثَلَاثِينَ شَهْرًا مُدَّةً لِأَكْثَرِهِمَا لِزِيَادَتِهِمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا مُدَّةَ لِأَقَلِّهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ أَقَلَّ الرَّضَاعِ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَلَا مُدَّةَ لِأَكْثَرِ الْحَمْلِ وأقل الرضاع، لأن أقل الرضاع غير ممدود فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّةً لِأَكْثَرِ الرَّضَاعِ، وَأَقَلُّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرُ الرَّضَاعِ مُقَدَّرٌ بِحَوْلَيْنِ فَكَانَ الْبَاقِي بِعْدَهُمَا مُدَّةَ أَقَلِّ الْحَمْلِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ مُدَّتَيْ أَكْثَرِ الرَّضَاعِ وَأَقَلِّ الْحَمْلِ تَنْبِيهًا عَلَى حُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ وَوُجُوبِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ لِيَعْلَمَ مَنْ وُلِدَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّ حَقَّ وَالِدَتِهِ أَكْثَرُ وَشُكْرَهَا أَعْظَمُ كَمَا قَالَ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَخَصَّصَ التَّأْفِيفَ بِالتَّحْرِيمِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ أَغْلَظُ ولم يذكر أول الرضاع، لأن لا تَقْتَصِرَ الْأُمَّهَاتُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا خَمْسُ رَضْعَاتٍ مُتَفَرَّقَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي الْحَوْلَيْنِ قَالَ وَتَفْرِيقُ الرَّضَعَاتِ أَنْ تُرْضِعَ الْمَوْلُودَ ثُمَّ تَقْطَعَ الرَّضَاعَ ثُمَّ تُرْضِعَ ثُمَ تَقْطَعَ كَذَلِكَ فَإِذَا رَضَعَ فِي مَرَّةٍ مِنْهُنَّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ فَهِيَ رضعة وإن التقم الثدي فلها قليلا وأرسله ثم عاد إليه كانت رضعة واحدة كما يكون الحالف لا يأكل بالنهار إلا مرة فيكون يأكل ويتنفس بعد الازدراد ويعود يأكل فذلك أكل مرة وإن طال وإن قطع قطعا بعد قليل أو كثير ثم أكل حنث وكان هذا أكلتين ولو أنفد ما في إحدى الثديين ثم تحول إلى الأخرى فأنفد ما فيها كانت رضعة واحدة ". قال الماوردي: ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعائشة رضي الله تعالى عنها " اشتري واشترطي لهم الولاء " ثم شرط الولاء، وصحح الشراء ليستقر في نفوسهم المنع من اشتراط الولاء في البيع، ومع استقراره فالبيع باشتراطه باطل ولو لم يستقر لأجيز البيع حتى يستقر، فصارت هذه الأحكام مرتفعة لزوال أسبابها لا لنسخها، وهذا قول حكاه المروزي، وبعض أصحابنا واختاره ابن أبي هريرة. والدليل من طريق المعنى أن كل سبب رفع به التحريم المؤبد إذا عرى عن جنس الاستباحة افتقر إلى العدد كاللعان وما لم يعر عن جنس الاستباحة لم يفتقر إلى العدد كالنكاح والوطء، ولأنه شرب لا يعدوه في العرف فوجب أن لا يقع به التحريم كالرضاع الكبير، ولأن ما يقع به التحريم نوعان، أقوال وأفعال، فلما كان من الأقوال ما يفتقر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 إلى العدد، وهو اللعان وجب أن يكون من الأفعال ما يفتقر إلى العدد، وهو الرضاع. وتحريره: أنه أحد فرعي التحريم فوجب أن يكون منه ما يفتقر إلى العدد كالأقوال، ولان وصول اللبن إلى الجوف إذا عرى عن عدد لم يقع به التحريم كالحقنة والسعطة فإن أكثرهم يوافق عليه. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وهو محكى عن ابن أبي هريرة أن قوله {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] يقتضي إثباتها أما أولاً ثم ترضع فتحرم، وليس في عموم الآية ما يدل على إثباتها أماً، ولو قال واللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم صح لهم استعمال العموم. والثاني: أنه لا فرق بين تقدم الوصف للموصوف وتأخره في استعماله على عمومه ما لم يرد تخصيص، وقد خصه ما رويناه من الأخبار التي قصد بها قدر ما يقع به التحريم وقول ابن عمر قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير فهو كمال قال: ونحن إنما خصصناه برواية ابن الزبير لانقضائه. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَخْبَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن قوله " الرضاعة من المجاعة " يدفع أن تكون المصة محرمة، لأنها لا تسد جوعه. والثاني: أنها اخبار قصد بها تحريم الرضاع، وأخبارنا قصد بها عدد الرضاع فاقتضى أن يكون كل واحد منهما محمولاً على ما قصد به. وأما قياسهم على النكاح والوطء فالمعنى فيه أنه تحريم لم يرد عن جنس الاستباحة وأما قياسهم على الحد في الشرب فالمعنى فيه أن المشروب محرم فلم يعتبر فيه العدد واستوى حكم قليله وكثيره، والرضاع يحدث عنه التحريم فافترق حكم قليله وكثيره. وأما استدلالهم بالفطر فمعناه مخالف لمعنى الرضاع، لأن الفطر يقع بما وصل إلى الجوف على أي صفة كان، ولذلك لو خرج جائفة أفطر بها، والرضاع يحرم إذا غذى وأنبت اللحم وأنشز العظم فافترق أكلتين ولو أنفد ما في إحدى الثديين ثم يحول إلى الأخرى فأنفذ ما فيها كانت رضعة واحدة، وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ إِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ وَجَبَ تَحْدِيدُ الرَّضْعَةِ وَتَقْدِيرُهَا وَالْمَقَادِيرُ تُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْ شَرْعٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عُرْفٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ حَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ فِي الرَّضْعَةِ أَنَّهَا مَا اتَّصَلَ شُرْبُهَا ثُمَّ انْفَصَلَ تَرْكُهَا، فإن تخلل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 فَتْرَةَ الِانْقِطَاعِ نَفَسٌ أَوْ لَهَثٌ أَوْ لِازْدِرَادِ مَا اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ أَوْ لِاسْتِمْرَاءِ مَا حصل فيه فمه حلقه ثُمَّ عَاوَدَ الثَّدْيَ مُرْتَضِعًا، فَهِيَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الرَّضْعَةِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا فَتَرَاتٌ وَاسْتِرَاحَةُ وَلَهَثٌ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مرة مقتر فِي أَكْلَةٍ لِقَطْعِ نَفْسٍ أَوِ ازْدِرَادٍ أَوْ لَهَثٍ ثُمَّ عَاوَدَ الْأَكْلَ كَانَتْ أَكْلَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوِ انْتَقَلَ الطِّفْلُ مِنْ أَحَدِ الثَّدْيَيْنِ إِلَى الْآخَرِ كَانَتْ رَضْعَةً وَاحِدَةً كَمَا انْتَقَلَ الْحَالِفُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ تَرَكَ الثَّدْيَ وَقَطَعَ الرَّضْعَةَ لغير سبب، ثم عاود مرتضعاً نظر إلى زَمَانِ الْفَتْرَةِ، فَإِنْ قَلَّ فَهِيَ رَضْعَةٌ وَإِنْ طَالَ فَهِيَ رَضْعَتَانِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَالِفِ إِذَا قَطَعَ ثُمَّ عَاوَدَهُ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التقدير فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ وَيَمُصَّهُ فَيَخْرُجَ الثَّدْيُ مِنْ فَمِهِ وَيَقْطَعَ عَلَيْهِ رَضَاعَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ يَسْتَكْمِلُ بِهِ الرَّضْعَةَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّضْعَةَ لَمْ تَكْمُلْ حَتَّى يَقْطَعَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا يَحْتَسِبَ بِهَا مِنَ الْخَمْسِ لِعَدَمِ كَمَالِهَا كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَرَّةً فَقُطِعَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَاوَدَ الْأَكْلَ بَعْدَ تَمْكِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ رَضْعَةً كَامِلَةً يُحْتَسَبُ بِهَا مِنَ الْخَمْسِ، لِأَنَّ الرَّضَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ وَالْمُرْضَعِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ كَانَ لَهَا رَضَاعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِعْلٌ، وَلَوْ أَوْجَرَتْهُ لَبَنَهَا، وَهُوَ نَائِمٌ كَانَ رَضَاعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَرْتَضِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنِ امْرَأَتَيْنِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا ثُمَّ يُرْضَعُ الْخَامِسَةَ مِنْ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ ثَدْيَيْهَا إِلَى ثَدْيِ الْأُخْرَى فَتُرْضِعُهُ، فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَعْضُهَا فَلَمْ تَكْمُلْ بِهَا الْخَامِسَةُ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ الْحَالِفُ مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ، وَيُعْتَدُّ بِمَا شَرِبَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضْعَةً كَامِلَةً، لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَدْيَهَا تَارِكًا لَهُ فَلَمْ يَقَعِ الْفَصْلُ فِي تَرْكِهِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَارْتِضَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنًا فِي إِنَاءٍ يَمْتَزِجُ فِيهِ لَبَنُهُمَا ثُمَّ يَشْرَبُهُ الطِّفْلُ فِي رَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَيُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضْعَةً كَامِلَةً والله أعلم بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوُجُورُ كَالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ السُّعُوطُ لِأَنَّ الرَّأْسَ جَوْفٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْوُجُورُ فَهُوَ صَبُّ اللَّبَنِ فِي حَلْقِهِ، وَأَمَّا السُّعُوطُ فَهُوَ صَبُّ اللَّبَنِ فِي أَنْفِهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِهِمَا إِذَا وَصَلَ اللَّبَنُ بِالْوُجُورِ إِلَى جَوْفِهِ، وَبِالسُّعُوطِ إِلَى دِمَاغِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا ثَابِتٌ كَالرَّضَاعِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَدَاوُدَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ بِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَبَتَ بِالْوُجُورِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّعُوطِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَالْوُجُورُ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ، وَالسُّعُوطُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ فَأَشْبَهَ الْحُقْنَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا فِي الْوُجُورِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَالْوُجُورُ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ، وَالسُّعُوطُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوُجُورِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَالِمٍ " أَرَضِعِيهِ خَمْسًا يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ ارْتِضَاعَهُ مِنَ الثَّدْيِ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْوُجُورَ. وَالدَّلِيلُ على أبي حنيفة في السعود قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أن تكون صائماً، لأن لا يَصِيرَ بِالْمُبَالَغَةِ وَوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الرَّأْسِ مُفْطِرًا كَوُصُولِهِ إِلَى الْجَوْفِ كَذَلِكَ الرَّضَاعُ، وَلِأَنَّ مَا أَفْطَرَ بِاعْتِدَائِهِ مِنْ لَبَنِهَا أَثْبَتَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ فِي زَمَانِهِ كَالرَّضَاعِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتي أرضعنكم} ، فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الرَّضَاعَ اسْمًا وَمَعْنًى. وَأَمَّا الْحُقْنَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهَا تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَإِنْ أَفْطَرَ بِهَا الصَّائِمُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الِاعْتِدَاءِ فِي السُّعُوطِ وَالْوُجُورِ، وَتَأْثِيرَهُ فِي الْحُقْنَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا فَرْقَ فِي الْخَمْسِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا رَضَاعًا أَوْ كُلُّهَا سُعُوطًا أَوْ كُلُّهَا وُجُورًا أَوْ بَعْضُهَا رَضَاعًا، وَبَعْضُهَا سُعُوطًا أَوْ بَعْضُهَا وجوراً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حُقِنَ بِهِ كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 جوف وذلك أنها تفطر الصائم والآخر أن ما وصل إلى الدماغ كما وصل إلى المعدة لأنه يغتذي من المعدة وليس كذلك الحقنة (قال المزني) رحمه الله قد جعل الحقنة في معنى من شرب الماء فأفطر فكذلك هو في القياس في معنى من شرب اللبن وإذ جعل السعوط كالوجور لأن الرأس عنده جوف فالحقنه إذا وصلت إلى الجوف عندي أولى وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْحُقْنَةُ بِاللَّبَنِ أَنْ تُوَصَّلَ إِلَى دُبُرِهِ، وَفِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَالسُّعُوطِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ بِهِ كَالسُّعُوطِ، وَكَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِمَثَابَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ السُّعُوطُ كَالْوُجُورِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ جَوْفٌ، وَالْوَاصِلَ مِنَ الدُّبُرِ، وَاصِلٌ إِلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَحَقَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ " وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْحُقْنَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَحَلِّ الْغِذَاءِ لِلْإِسْهَالِ وَإِخْرَاجِ مَا فِي الْجَوْفِ فخالفت حكم ما يصل إلى جوف ". (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَأَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ كَانَ مَا خَلَطَ بِاللَّبَنِ أَغْلَبَ لَمْ يَحْرُمْ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الْأَغْلَبَ حَرُمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ خَلَطَ حَرَامًا بِطَعَامٍ وَكَانَ مُسْتَهْلَكًا فِي الطَّعَامِ أَمَا يَحْرُمُ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا شِيبَ اللَّبَنُ بِمَائِعٍ اخْتَلَطَ بِهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ خَلٍّ أَوْ خَمْرٍ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ غَالِبًا كَانَ أَوْ مَغْلُوبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ شِيبَ اللَّبَنُ بِجَامِدٍ كَالدَّقِيقِ وَالْعَصِيدِ فَأَكَلَهُ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ غَالِبًا كَانَ أَوْ مَغْلُوبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنِ اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ نَشَرَ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ غَالِبًا، وَلَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِجَامِدٍ لَمْ يَنْشُرِ الْحُرْمَةَ سَوَاءٌ كَانَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نَشَرَ الْحُرْمَةَ إِذَا كَانَ غَالِبًا سَوَاءٌ اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ أَوْ بِجَامِدٍ، وَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا وَحَكَى الْمُزَنِيُّ نَحْوَهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى اعتبار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 الْغَلَبَةِ، فَإِنَّ اللَّبَنَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَزَالَ عَنْهُ الِاسْمُ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ الْحُكْمُ. أَمَّا زَوَالُ اسْمِهِ فَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ اللَّبَنَ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ. وَأَمَّا ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ لَوْ كَانَ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِشُرْبِهِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ مَغْلُوبًا فِي الْمَاءِ لَمْ يُفْدِ الْمُحْرِمُ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَإِذَا زَالَ عَنِ الْمَغْلُوبِ اسْمُهُ، وَحُكْمُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ بِمَغْلُوبِ اللَّبَنِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ اسْمِهِ وَحُكْمِهِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ خَالِصًا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا كَانَ مُخْتَلِطًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غَالِبًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مُمَازَجَةٍ تَسْلُبُ حُكْمَ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ غَالِبًا لَمْ تَسْلُبْ حُكْمَهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا. دليله إذا خلط بن آدَمِيَّةٍ بِلَبَنِ بَهِيمَةٍ فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ، وَلِأَنَّ كل ما تعلق به التحريم غائبا تَعَلَّقَ بِهِ مَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ كَاخْتِلَاطِهِ بِهِ فِي فَمِهِ، وَلَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِي فَمِهِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ قَبْلَ دُخُولِهِ فَمَهُ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِزَوَالِ اسْمِهِ الْمُوجِبِ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْخَالِصَ دُونَ الْغَالِبِ ثُمَّ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الِاسْمِ عَنْهُ إِذَا كَانَ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِهِ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ، وَالْمَعْنَى حُصُولُ اللَّبَنِ فِي جَوْفِهِ، وَقَدْ حصل بالامتزاح غَالِبًا وَمَغْلُوبًا كَالنَّجَاسَةِ إِذَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَبَتَ حُكْمُهَا مَعَ زَوَالِ اسْمِهَا. فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ بِمَغْلُوبِ الْخَمْرِ دُونَ غَالِبِهِ، فَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. فَأَمَّا سُقُوطُ الْفِدْيَةِ بِمُسْتَهْلَكِ الطِّيبِ فِي الْمَاءِ فَلِزَوَالِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ. وَأَمَّا سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحَالِفِ فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ التَّحْرِيمُ بِاللَّبَنِ الْمَشُوبِ غَالِبًا وَمَغْلُوبًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُشْرَبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ أَوْ بَعْضُهُ، فَإِنْ شُرِبَ جَمِيعُ الْمَشُوبِ بِاللَّبَنِ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ شُرِبَ بَعْضُهُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يُعْلَمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ وَقَعَتْ فِي جُبٍّ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ الطِّفْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَإِنْ عُلِمَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِجَمِيعِهِ كَأُوقِيَّةٍ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 لَبَنٍ مُزِجَتْ بِأُوقِيَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمَاءُ مِنَ اللَّبَنِ، فَحُكْمُ جَمِيعِهِ فِي حُكْمِ اللَّبَنِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ فَأَيُّ شَيْءٍ شَرِبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَشُوبِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا امْتَزَجَ لَبَنُ امرأتين ثم شربه المولود ثبت به تحريمها عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَسَاوَى لَبَنُهُمَا أَوْ غَلَبَ لَبَنُ إِحْدَاهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا لَبَنًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي اعتبار الأغلب. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى " وَلَوْ جَبَّنَ اللَّبَنَ فَأَطْعَمَهُ كَانَ كَالرَّضَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا جَبَّنَ اللَّبَنَ أَوْ أَغْلَاهُ بِالنَّارِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء: 23] وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الْمُجَبَّنِ وَالْمَغْلِيِّ، وَلِأَنَّ زَوَالَ اسْمِ اللَّبَنِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمَشُوبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ " وَهَذَا أَبْلَغُ فِي سَدِّ المجاعة من مائع اللبن فوجب أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بِالتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ مَائِعًا تَعَلَّقَ بِهِ جَامِدًا كَالنَّجَاسَةِ وَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ انْعِقَادَ أَجْزَائِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ تَحْرِيمِهِ كَمَا لَوْ ثَخُنَ، وَلِأَنَّ تَغْيِيرَ صِفَتِهِ لَا تُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ حَمُضَ وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه " ولا يحرم لبن البهمية إِنَّمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جل ثناؤه {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وقال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ارْتَضَعَ رَجُلَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَمْ يَصِيرَا أَخَوَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِلَبَنِهَا تَحْرِيمٌ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَصْحَابُهُ إِنَّ لَبَنَ الْبَهِيمَةِ يُحَرِّمُ وَيَصِيرَا بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى لَبَنٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَا بِهِ أَخَوَيْنِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتي أرضعنكم) وَالْبَهِيمَةُ لَا تَكُونُ بِارْتِضَاعِ لَبَنِهَا أُمًّا مُحَرَّمَةً كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُرْتَضِعَانِ بِلَبَنِهَا أَخَوَيْنِ، لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ فَرْعٌ مِنَ الْأُبُوَّةِ. وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ يُلْحِقُ بِالنَّسَبِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الرَّضَاعُ إلا من جهتهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ وَلَوْ حُلِبَ مِنْهَا رَضْعَةٌ خَامِسَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ فَأُوجِرَهُ صَبِيٌّ كَانَ ابْنَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْتَهَا بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ كَوْنُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللبن في فمه، لأن فهمه كَالْإِنَاءِ فَلَمَّا كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ اللَّبَنِ في فمه وقبل ازْدِرَادُهُ ثَبَتَ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا ازْدَرَدَهُ كَذَلِكَ إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ حَلْبِ اللَّبَنِ فِي الْإِنَاءِ فَوَجَبَ التَّحْرِيمُ إِذَا شَرِبَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّضَاعَ مُعْتَبَرٌ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ، وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ ثَدْيِهَا. وَالثَّانِي: وُلُوجُهُ فِي جَوْفِ الْمُرْتَضَعِ فَاعْتَبَرْنَا حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا فِيمَا يُخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَالْجَارِحِ رَجُلًا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْمَجْرُوحِ كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ كَمُرْسِلِ السَّهْمِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ وُصُولِ السَّهْمِ إِلَى الْمَرْمَى ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ، فَمَاتَ كَانَ الرَّامِي مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَصُولُ السَّهْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْإِرْسَالِ فِي حَيَاتِهِ، وَكَالْحَافِرِ بِئْرًا إِذَا تَلِفَ فِيهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِ حَافِرَهَا كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ فِيمَا خَلَّفَهُ مَنْ تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ اكْتِسَابِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْكَسْبِ فِي حَيَاتِهِ. قِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَا ذَكَرَ مِنْ كسب المكاتب، لأن المعتبر في الكتابة في جِهَةِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُكَاتَبِ الْأَدَاءُ فَمِثَالُهُ مِنَ الرَّضَاعِ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَ عَقْدِهِ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ وَمَوْتُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَمَوْتِ الطِّفْلِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَضَعَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا ارْتُضِعَ الْمَوْلُودُ مِنْ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَدْيِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ كَارْتِضَاعِهِ فِي حَيَاتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرضاعة من المجاعة ". وقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ "، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لَبَنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 الْمَيِّتَةِ كَوُجُودِهِ فِي لَبَنِ الْحَيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَبَنُ آدَمِيَّةٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي زَمَانِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ كَمَا لَوْ شربه في حياتنا. وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ لَوْ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فِي حياتها ثبت من التَّحْرِيمُ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَالْمَحْلُوبِ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ. فَاسْتَوَى وُجُودُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ كَالْوِلَادَةِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْتِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِ فِعْلِهَا، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ كَمَا لَوِ ارْتَضَعَ مِنْهَا فِي نَوْمِهَا. وَلِأَنَّ لَبَنَهَا مَا مَاتَ بِمَوْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ " وَهَذَا اللَّبَنُ مُحَرَّمٌ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ حَلَالًا مِنْ قَبْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ يَنْتَفِي مِنْ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ ثَبَّتَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْمَيِّتَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِوَطْئِهِ التَّحْرِيمُ كَذَلِكَ ارْتِضَاعُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِحَيَاتِهَا زَالَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ إِذَا اتَّصَلَ بِمَوْتِهَا كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِانْفِصَالِهِ مِنْ ثَدْيِ الْأُمِّ وَوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِ الْوَلَدِ فَلَمَّا كَانَ وَصُولُ اللَّبَنِ إِلَى الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهَا مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ جِهَتَيِ التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْتُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ كَالْوَلَدِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا أَسْقَطَ حُرْمَةَ وَطْئِهَا وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ حُرْمَةَ لَبَنِهَا كَالزِّنَا، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ كَالْجِنَايَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ التَّحْرِيمِ وَالْمَيِّتُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَيِّتًا لَوْ سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ ضَمِنَهُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا حَدَثَتْ بِهَا جِنَايَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوُجُودِ الْحَفْرِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا سَقَطَ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ سَقَطَ بِهَا حُكْمُ الضَّمَانِ. وَلِأَنَّ لَبَنَ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللحم وأنشزالعظم، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَثْبُتْ رَضَاعُ الْكَبِيرِ، وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ دَاءٌ لَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ وَلَا يَنْتَشِرُ بِهِ الْعَظْمُ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُجَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرَيْنِ. وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شُرْبِهِ فِي حَيَاتِهَا أَنَّ لَبَنَ الْحَيَّةِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 وَجَوَابٌ ثَانٍ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنَّهَا حَالٌ لَوْ وَطِئَتْ فِيهَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، وَالْوَطْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ أَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ بِالْعُلُوقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ وَتَتَحَقَّقُ حَالُهُ بِالْوِلَادَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثُبُوتِهِ بِعُلُوقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُ وَيُوَرَّثُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ وَيُضْمَنُ دِيَتُهُ جَنِينًا. وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ سُقُوطَ فِعْلِهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ كَالنَّائِمَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ فِعْلٌ، وَيُضَافُ إِلَى النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُمْ إِنَّ لَبَنَهَا لَمْ يَمُتْ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تُحِلَّهُ حَيَاةٌ تَبَعٌ لِمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا وَزَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ لِعَدَمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حُلِبَ مِنِ امْرَأَةٍ لَبَنٌ كَثِيرٌ فَفُرِّقَ ثُمَّ أُوجِرَ مِنْهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَضْعَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَاللَّبَنِ يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا حُلِبَ لَبَنُهَا وَشَرِبَهُ الْوَلَدُ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذِهِ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ قَلَّ اللَّبَنَ أَوْ كَثُرَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسِ أَوَانِي وَيَشْرَبَهُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ لِوُجُودِ الْعَدَدِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَيَشْرَبَهُ الْمَوْلُودُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجَامِعِهِ وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعَةِ قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهَا خَمْسُ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَخْرِيجِ الرَّبِيعِ، هَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ أَوْ هُوَ وَجْهٌ قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلَانِهِ وَجْهًا، قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ يُخَرِّجُونَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ إِنَّهُ يَكُونُ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِفِعْلِ المرضعة فوجه قول الله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23] فَأَضَافَ فِعْلَ الرَّضَاعِ إِلَيْهِنَّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُنَّ فِيهِ أَغْلَبَ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَهْلَةَ فِي سَالِمٍ " أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " فَاعْتَبَرَ فِعْلَهَا، وَإِذَا قِيلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 بِالثَّانِي وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ إِنَّهُ يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ جِهَتَهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْمُرْضِعَةِ لِوُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَيْهِ لَا بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْحَالِفَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَرَّةً إِذَا جُمِعَ لَهُ الطَّعَامُ فَأَكَلَهُ مِرَارًا حَنِثَ اعْتِبَارًا بِأَكْلِهِ لَا يجمعه كَذَلِكَ الرَّضَاعُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُحْلَبَ لَبَنُهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوَانِي، وَيَشْرَبَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدَهُمَا: يَكُونُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الْمُرْضِعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَضْعَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِشُرْبِ الْمُرْتَضَعِ. وَأَمَّا إِذَا حُلِبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي خمس اواني ثُمَّ جُمِعَ فِي إِنَاءٍ وَشَرِبَهُ الْمُرْتَضَعُ فِي خَمْسِ مَرَّاتٍ فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أنه يكون خمس رَضَعَاتٍ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْعَدَدِ فِي الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْتَبَرُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْحَلْبَةِ الْوَاحِدَةِ يَشْرَبُهَا الْمُرْتَضَعُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ صَارَ شَارِبًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ كُلِّ حَلْبَةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ بَعْدَ وُجُودِ التفرقة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ أَوِ ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوِ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ أَبَدًا وَكَانَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَرَجَعَ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ صَدَاقِ مِثْلِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْسَدَ شَيْئًا لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ بِخَطَأٍ أَوْ عَمْدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ، فَأَرْضَعَتْهَا ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ الْمُرْضَعَةُ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْكَبِيرَةِ الْمُرْضِعَةِ. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةُ بِرِضَاعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا لَمْ تَحْرُمِ الصَّغِيرَةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْمُرْضِعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمَّ الزَّوْجِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا إِحْدَى جَدَّاتِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَتَهُ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتِ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 بِنْتَ بِنْتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ مَنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ. وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ، لِأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ خَالَاتِهِ وَلَا بَنَاتُ عَمَّاتِهِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ بِلَبَنِ أَبِيهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ أَبِيهِ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ أَبِيهِ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ ابْنِهِ بِلَبَنِ ابْنِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ ابْنِهِ، وَلَا تَحْرُمُ لَوْ أَرْضَعَتْهَا بِغَيْرِ لَبَنِ ابْنِهِ، لِأَنَّهَا رَبِيبَةُ ابْنِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ، فَإِذَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَطَلَ نِكَاحُهَا لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا مُؤَبَّدٌ، وَمَنْ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا ثبت بها تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بَطَلَ بِهَا نِكَاحُ الْمُحَرَّمَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَجِبُ لِلْمُحَرَّمَةِ عَلَى الزَّوْجِ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرَّضَاعِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الصَّغِيرَةُ فَتَرْضَعَ مِنْ لَبَنِ الْكَبِيرَةِ وَهِيَ نَائِمَةٌ لَا تَعْلَمُ بِارْتِضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَنْفَرِدَ بِهِ الْكَبِيرَةُ فَتُرْضِعَهَا فَلِلصَّغِيرَةِ عَلَى زَوْجِهَا نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهَا فِي الْفَسْخِ فَصَارَ كَطَلَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ وَالِاشْتِرَاكُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَيَّزَا فِي الشَّرِكَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَمَيَّزَا فِيهَا. فَالَّذِي لَا يَتَمَيَّزَانِ فِيهِ أَنْ تَبْتَدِئَ الصَّغِيرَةُ فِي كُلِّ رَضْعَةٍ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ، وَتُمَكِّنُهَا الْكَبِيرَةُ مِنْ شُرْبِهِ وَلَا تَنْزِعُ ثَدْيَهَا مِنْ فَمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ فِعْلُ الْكَبِيرَةِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَبَعٌ لَهَا، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونَانِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءً، لِأَنَّ الْبُلُوغَ فِي فِعْلِ هَذَا التَّحْرِيمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ التَّحْرِيمُ مِنْ فِعْلِهَا فَيَسْقُطُ مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ مَا قَابَلَ فِعْلَهَا وَهُوَ نِصْفُ النِّصْفِ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبْعُ فَتَسْتَحِقُّ رُبْعَ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الرَّضَاعِ مُتَمَيِّزًا. مِثَالُهُ أَنْ تَنْفَرِدَ الْكَبِيرَةُ بِأَنْ تُرْضِعَهَا بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ وَتَنْفَرِدَ الصَّغِيرَةُ بِأَنْ تَرْضَعَ بَعْضَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ تَفَرَّدَ بِالرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ، لِأَنَّ بِهَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ فَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الصَّغِيرَةُ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْكَبِيرَةُ فَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَقَسَّطُ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّضَعَاتِ، لِأَنَّ الْخَامِسَةَ لَمْ تُحَرِّمْ إِلَّا بِمَا تَقَدَّمَهَا فَصَارَ لِكُلِّ رَضْعَةٍ تَأْثِيرٌ فِي التَّحْرِيمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الصَّغِيرَةُ قَدِ انْفَرَدَتْ بِرَضْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْكَبِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ خَمْسَةٌ وَوَجَبَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النصف من مهرها، وإن تفردت مرضعة وَاحِدَةٍ وَالصَّغِيرَةُ بِأَرْبَعِ رَضَعَاتٍ سَقَطَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، وَوَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا خُمْسُهُ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا صَارَ التَّحْرِيمُ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا، وَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَفِي ذِمَّتِهَا مَالٌ كَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ أَمَتِهِ مَالًا، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً رَجَعَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا بِالْكِتَابَةِ قَدْ مَلَكَتْ مَا بِيَدِهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا بِيَدِهَا كَالْأَمَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مَنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَفِي ذِمَّتِهَا مَالًا كَسَائِرِ الْحَرَائِرِ فَلَهَا فِي الرَّضَاعِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ كَالْإِبْرَاءِ كَمَنِ اسْتَحْفَرَ أَجِيرًا بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا كَانَ غُرْمُ مَا تَلَفَ بِهَا مَضْمُونًا عَلَى الْآمِرِ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَأْذَنَ لَهَا الزَّوْجُ وَتَكُونَ هِيَ الْمُنْفَرِدَةَ بِالرَّضَاعِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي صِفَتِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ ضَامِنَةٌ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ الْمُرْضِعَةُ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ غَيْرُ ضَامِنَةٍ لِغُرْمِ التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ تَقْصِدْهُ بِأَنْ خَافَتْ تَلَفَ الصَّغِيرَةِ فَأَرْضَعَتْهَا أَوِ اسْتُؤْجِرَتْ مُرْضِعًا لَهَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنْ قَصَدَتِ التَّحْرِيمَ ضَمِنَتْ، وَإِنْ لَمْ تَقْصِدْهُ لَمْ تَضْمَنْ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ سَبَبٌ، لِأَنَّ الرَّضَاعَ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ ثُمَّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَالِاسْتِهْلَاكُ، إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ التَّعَدِّي بِالْقَصْدِ، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ بِقَاصِدٍ وَلَا مُتَعَدٍّ، كَحَافِرِ الْبِئْرِ إِنْ تَعَدَّى بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِحَفْرِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ. والدليل على ذلك قول الله تعالى {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله {وآتوهم ما أنفقوا} فَمَنَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ رَدَّ الْمُسْلِمَةَ الْمُهَاجِرَةَ عَلَى زَوْجِهَا مَعَ اشْتِرَاطِ رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِمْ وَأَوْجَبُ غُرْمَ مَهْرِهَا لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمُرْضِعَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْعَقْدِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْأَمْوَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا ضُمِّنَتْ بِالْعَمْدِ ضُمِّنَتْ بِالْخَطَأِ كَالْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْعَمْدِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ عَنْ سَبَبٍ فَهُوَ أَنَّ كَوْنَ السَّبَبِ عُدْوَانًا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ وَفِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ إِنْ أَرْضَعَتْ بِشَرْعٍ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ كَالَّتِي يُخَافُ تَلَفُهَا إِنْ لَمْ تُرْضِعْهَا لَمْ تَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا ضَمِنَتْ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ مِنْ سُقُوطِ الْغُرْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَجْهٌ فِي سُقُوطِ الْمَاءِ ثُمَّ كَمَنَ خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ فَأَحْيَاهَا بِمَالِ غَيْرِهِ ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ قَدْرُ الضَّمَانِ إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَقَالَ فِي الشَّاهِدَيْنِ " إِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا عَنِ الشَّهَادَةِ غَرِمَا لَهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ " فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ كَالرَّضَاعِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الرضاع والشهادة على ثلاثة طُرُقٍ: أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: وهي طرية أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَخَرَّجُوهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ الزَّوْجُ فَلَمْ يُرْجَعْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ وَالشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِالْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَجَبَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَيُرْجَعُ فِي الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي الرَّضَاعِ وَقَعَتْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ حَقِيقَةً وَالزَّوْجُ بِهَا مُعْتَرِفٌ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَمْ يُرْجَعْ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إِلَّا بِالنِّصْفِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، وَخَالَفَ الشَّهَادَةَ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهَا فِي الظَّاهِرِ وَاعْتِرَافِ الشُّهُودِ بِإِحْلَالِهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا فَلِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَةِ مَا فَوَّتُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ جَمِيعُ الْمَهْرِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الرَّضَاعِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ، إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الطَّلَاقِ لَا يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ فَصَارَ مُلْتَزِمًا بِجَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الشُّهُودِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْجَعُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ دُفِعَ إِلَيْهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَفْعُ نِصْفِهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ بِادِّعَاءِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ الَّذِي لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ فَلَا يُرْجَعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ صِفَةُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَا تَضَمَّنَهُ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ الْمُرْتَضَعَةِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَكُونَ الْمُسَمَّى إِذَا نَقَصَ منه باطلاً، يجب لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ، فَفِي جَوَازِ تَزْوِيجِهِ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ الْمَهْرِ، فَأَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَتَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْ جَمِيعِ مَهْرِهَا، لِأَنَّهُ يُبَرِّئُ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِيَسْتَفِيدَ مِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ الْمُسْتَقْبَلِ وَخَالَفَ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ لَهَا حَقًّا لَا يَسْتَفِيدُ مثله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 وَالْفَصْلُ الثَّانِي: صِفَةُ مَا تَضْمَنُهُ الْمُرْضِعَةُ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ زَادَ عَلَيْهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرْجَعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي غَرِمَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِمِثْلِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْمُسَمَّى فِيهِ، وَالْمُرْضِعَةُ اسْتَهْلَكَتِ الْبُضْعَ بِالتَّحْرِيمِ فَلَزِمَهَا قِيمَةُ مَا اسْتَهْلَكَتْ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ لَمْ يُغَرَّمْ إِلَّا الْقِيمَةَ، وَإِنْ غُرِّمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الْمُسَمَّى بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَقَدْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ غَرِمَ لَهَا أَلْفًا وَرَجَعَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحَابَاةٌ كَالْعَطَايَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ لَهُ كَبِيرَةٌ لَمْ يُصِبْهَا حَرُمَتِ الْأَمُّ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ لِأَنَّهَا الْمُفْسِدَةُ وَفَسَدَ نِكَاحُ الْمُرْضَعَةِ بِلَا طَلَاقٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَأُمُّهَا فِي مِلْكِهِ فِي حَالٍ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَيُرْجَعُ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فَسْخُ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ. وَالثَّالِثُ: الْمَهْرُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ إِنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الضَّرَائِرِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى بَطَلَ نِكَاحُهَا وَثَبَتَ نِكَاحُ الصُّغْرَى. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى ثَبَتَ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الصُّغْرَى. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ بَطَلَ بِالرَّضَاعِ نِكَاحُهُمَا مَعًا سَوَاءٌ دَخَلَ بِالْكُبْرَى أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَأَمَّا الصُّغْرَى فَتَحْرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا حَرُمَتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 الصُّغْرَى، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا مِنْ رَبَائِبِهِ وَتَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ يَكُونُ بِدُخُولِهِ بِالْأُمِّ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَهْرُ فَلِلصُّغْرَى عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسْخَ نِكَاحِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيُرْجَعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا مَهْرُ الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ وَإِلَّا سَقَطَ بِالرَّضَاعِ كَالْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَقَطَ مَهْرُهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ جِهَتِهَا كالردة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ امْرَأَةٌ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ مَعًا فَسَدَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَنِكَاحُ الصَّبِيَّتَيْنِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ويرجع على امرأته بمثل نصف مهر كل واحدة منهما وتحل له كل واحدة منهما على الانفراد لأنهما ابنتا امرأة لم يدخل بها فإن أرضعت الثالثة بعد ذلك لم تحرم لأنها منفردة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اعْتَمَدَتِ الْكُبْرَى وَلَهُ مَعَهَا ثَلَاثٌ صِغَارٌ فَأَرْضَعَتِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَنِكَاحُ الْكُبْرَى، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكُبْرَى عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا، وَلِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّغِيرَتَيْنِ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمَا مِنْ رَبَائِبِهِ فإن دخل بالأم حرمتا على التأييد، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ يَتَأَبَّدْ تَحْرِيمُهُمَا. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَحَرُمَتَا تَحْرِيمَ جَمْعٍ، وَحَلَّ لَهُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُمِّ أَنْ يَنْكِحَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ، فَأَمَّا مُهُورُهُنَّ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ مَهْرِهَا الْمُسَمَّى فَيَرْجِعُ عَلَى الْكُبْرَى بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا الْكُبْرَى فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى وَيَبْطُلُ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُنَّ الرَّضْعَةَ الْخَامِسَةَ ثُمَّ الْأُخْرَيَيْنِ الْخَامِسَةَ مَعًا حَرُمْتَ عَلَيْهِ وَالَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوَّلًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا وَحَرُمَتِ الْأُخْرَيَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ فِي وقت معا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْكُبْرَى إِذَا أَرْضَعَتِ الْأُولَى مِنَ الصَّغَائِرِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا وَحَرُمُ نِكَاحُ الْكُبْرَى، عَلَى التَّأْبِيدِ، فَأَمَّا الصُّغْرَى، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكُبْرَى حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ بِهَا حَلَّتْ، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْكَبِيرَةِ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ بِجَمِيعِهِ عَلَى مَا مَضَى وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَإِنْ عَادَتِ الْكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مَعًا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى حَرُمَتَا تَحْرِيمَ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنَ الثَّلَاثِ الصَّغَائِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَهْرِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٌ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَى الْكِبَارِ الصَّغِيرَةَ بَطَلَ نِكَاحُهَا، فَإِنْ جَاءَتْ ثَانِيَةٌ مِنَ الْكِبَارِ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ بَعْدَ بُطْلَانِ نِكَاحِهَا حَرُمَتِ الْكَبِيرَةُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهُ فَإِنْ جَاءَتِ الثَّالِثَةُ فَأَرْضَعَتْ تِلْكَ الصَّغِيرَةَ بَطَلَ نِكَاحُهَا أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى فَطَلَّقَ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتِ الْكُبْرَى قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا الصُّغْرَى نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الصُّغْرَى حُرِمَّتْ عَلَيْهِ الْكُبْرَى، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْكُبْرَى لَمْ تَحْرُمِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ لم يدخل بأمها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مُتَفَرِّقَتَيْنِ لَمْ يَحْرُمَا مَعًا لَأَنَّهَا لم ترضع واحدة منهما إلا بعد ما بَانَتْ مِنْهُ هِيَ وَالْأُولَى فَيَثْبُتَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُمَا بَعْدَ مَا بَانَتِ الْأُولَى وَيَفْسَدَ نِكَاحُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا بَعْدَهَا لِأَنَّهَا أُخْتُ امْرَأَتِهِ فَكَانَتِ كامرأة نكحت على أختها (قال المزني) رحمه الله ليس ينظر الشافعي في ذلك إلا إلى وقت الرضاع فقد صارتا أختين في وقت معا برضاع الآخرة منهما (قال المزني) رحمه الله ولا فرق بين امرأة كبيرة أرضعت امرأة له صغيرة فصارتا أما وبنتا في وقت معا وبين أجنبية أرضعت له امرأتين صغيرتين فصارتا أختين في وقت معا ولو جاز أن تكون إذا أرضعت صغيرة ثم صغيرة كامرأة نكحت على أختها لزم إذا نكح كبيرة ثم صغيرة فأرضعتها أن تكون كامرأة نكحت على أمها وفي ذلك دليل على ما قلت أنا وقد قال في كتاب النكاح القديم لو تزوج صبيتين فأرضعتهما امرأة واحدة بعد واحدة انفسخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 نكاحهما (قال المزني) رحمه الله وهذا وذاك سواء وهو بقوله أولى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثًا صِغَارًا فَأَرْضَعَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْ قَبْلِ دُخُولِهِ بِهَا إِحْدَى الصِّغَارِ فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا مَعًا، لِأَنَّهُمَا أُمٌّ وَبِنْتٌ ثُمَّ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ ثَانِيَةً مِنَ الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ، لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ فَإِنْ عَادَتِ الْكَبِيرَةُ فَأَرْضَعَتِ الصَّغِيرَةَ الثَّالِثَةَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَ الثَّانِيَةِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِهَا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِصُغْرَى وَكُبْرَى فَأَرْضَعَتِ الْكُبْرَى الصُّغْرَى بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ سَبَبُ الْكُبْرَى عَلَى رَضَاعِ الصُّغْرَى كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ إِنَّ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ بِرِضَاعِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا بِرِضَاعِهَا لَمْ يَنْفَسِخْ بِرِضَاعِ غَيْرِهَا وَصَارَتْ كَامْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَيْهَا أُخْتُهَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَثَبَتَ نِكَاحُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا كَانَتِ الْأُخْرَى مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحْرُمِ الأولى بوطء الثانية وكانت الأولة عَلَى إِبَاحَتِهَا كَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ صِغَارٌ، فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ الْأَرْبَعِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ قد بطل نكاحهن كلهن فيبطل نكاح الأولة بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ بِرِضَاعِ الرَّابِعَةِ. والقول الثاني: ثبت نكاح الأولة، ويبطل نكاح الثلاث برضاعهن بعد الأولة. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْأَجْنَبِيَّةِ الْأُخْرَى بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ خَالَةَ الْأُولَى، وفي بطلان نكاح الأولة قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأُولَى بِرِضَاعِ الثَّانِيَةِ. والقول الثاني: لا يبطل نكاح الأولة، وَإِنْ بَطَلَ بِالرَّضَاعِ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَكَانَ لِلَّتِي بَطَلَ نِكَاحُهَا نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَبِجَمِيعِهِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَفِي الَّتِي يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمُرْضِعَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ بِرِضَاعِهَا انْفَسَخَ النكاح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُرْضِعَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، لِأَنَّ بِرِضَاعِهِمَا اسْتَقَرَّ فَسْخُ النِّكَاحِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لِلْكَبِيرَةِ بَنَاتٌ مَرَاضِعُ أَوْ مِنْ رَضَاعٍ فَأَرْضَعْنَ الصِّغَارَ كُلَّهُنَّ انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ مَعًا وَرُجِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِنِصْفِ مَهْرِ التي أرضعت (قال المزني) رحمه الله ويرجع عليهن بنصف مهر امرأته الكبيرة إن لم يكن دخل بها لأنها صارت جدة مع بنات بناتها معاً وتحرم الكبيرة أبداً ويتزوج الصغار على الانفراد ولو كان دخل بالكبيرة حرمن جميعاً أبداً ولو لم يكن دخل بها فأرضعتهن أم امرأته الكبيرة أو جدتها أو أختها أو بنت أختها كان القول فيها كالقول في بناتها في المسألة قبلها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صِغَارٍ، وَلِلْكَبِيرَةِ ثَلَاثُ بَنَاتٍ مَرَاضِعَ أَيْ لَهُنَّ لَبَنٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 2] فَتُرْضِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكَبِيرَةِ وَاحِدَةً مِنَ الزَّوْجَاتِ الصِّغَارِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا بَطَلَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ وَنِكَاحُ الثَّلَاثِ الصغار عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَضَاعُهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. أَمَّا الْكُبْرَى فَلِأَنَّهَا جَدَّةُ الصِّغَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بَنَاتِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ. وَأَمَّا الصِّغَارُ فَلِأَنَّهُنَّ صِرْنَ بَنَاتِ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّغَارِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ عَلَى الَّتِي حَرَّمَتْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ بَنَاتُهَا أَرْضَعْنَ الصَّغَائِرَ مُتَفَرِّقَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى رَجَعَ بِمِثْلِ مَهْرِ الْكُبْرَى عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى عَلَى بَنَاتِهَا الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّهُنَّ يَشْتَرِكْنَ فِي تَحْرِيمِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ بَعْدُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ قَدْ دُخِلَ بِجَدَّتِهِنَّ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ وَاحِدَةً مِنَ الْبَنَاتِ الْمُرْضَعَاتِ، لِأَنَّهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ امْرَأَةٍ قَدْ دَخَلَ بِهَا. (فَصْلٌ) وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكُبْرَى لَمْ يَخْلُ رَضَاعُ بَنَاتِهَا لِلصَّغَائِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرْضِعْنَ الصَّغَائِرَ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ. فَإِنْ أَرْضَعَهُنَّ مَعًا مِثْلَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى بِوَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَتُرْضِعُهَا أَرْبَعَ رَضَعَاتٍ، إِمَّا عَلَى الِاجْتِمَاعِ أَوْ عَلَى الِانْفِرَادِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى إِجْمَاعِهِنَّ فِي الرَّضْعَةِ الْخَامِسَةِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغَائِرِ مَعًا، لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَنَاتِ بَنَاتِهَا، وَحَرُمَتِ الْكُبْرَى عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهَا جَدَّةُ نِسَائِهِ وَحَرُمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 بَنَاتُهَا الْمَرَاضِعُ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ نِسَائِهِ وَحَلَّ لَهُ الصَّغَائِرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ رَبَائِبُ مِنْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ، وَلَسْنَ بِأَخَوَاتٍ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُنْكَحْنَ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ سَهَا فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ بِوَهْمٍ مِنْهُ، وَلَا سَهْوٍ، وَإِنَّمَا صور ال ْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى أَرْضَعَتِ الثَّلَاثَ كُلَّهُنَّ فَصِرْنَ أَخَوَاتٍ وَبَنَاتِ خَالَاتٍ فَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ بِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ. فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الَّتِي حَرَّمَهَا وَيَكُونُ لِلْكُبْرَى نِصْفُ مَهْرِهَا، وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى بَنَاتِهَا لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي تَحْرِيمِهَا. (فَصْلٌ) وَإِنِ افْتَرَقْنَ فِي الرَّضَاعِ فَأَرْضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِ الْكُبْرَى لِوَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَانِيَةٌ لِثَانِيَةٍ ثُمَّ أَرْضَعَتْ ثَالِثَةٌ لِثَالِثَةٍ بَطَلَ نِكَاحُ الْكُبْرَى وَالصَّغِيرَةِ الْأُولَى، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِهَا، وَيُرْجَعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْمُرْضِعَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا الْمُخْتَصَّةُ بِتَحْرِيمِهَا، وَأَمَّا نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَبِحَالِهِ، وَعَلَى صِحَّتِهِ لِأَنَّهَا بَنَاتُ خَالَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْأُولَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ كُلِّهِنَّ لِهَذَا الْمَعْنَى. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ زَوْجَاتٍ كِبَارٍ وَرَابِعَةٌ صَغِيرَةٌ، فَاجْتَمَعَ الْكِبَارُ عَلَى رَضَاعِ الصَّغِيرَةِ فَأَرْضَعْنَهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، إِمَّا لِلصَّغِيرَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ رَضَاعَهَا خَمْسًا، وَفِي تَحْرِيمِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ اللَّبَنُ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَصِيرُ لَهُ وَلَدًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ يَنْتَشِرُ عَنِ الْمُرْضِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِي الْمُرْضِعَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْتَشِرَ إِلَى غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ وَالْكِبَارِ بِحَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ صَارَتْ بِنْتًا لِلزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بِنْتًا لِوَاحِدَةٍ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ، لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَصِيرُ أُمًّا إِذَا أَرْضَعَتْ خَمْسًا، وَهَذِهِ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ الْخَمْسِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ خَمْسٍ. فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَهُ، وَلَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 الْكِبَارِ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ، وَيَكُونُ لِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ مَهْرِهَا وَتَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى الْكِبَارِ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَعْدَادِ الزَّوْجَاتِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسُ بَنَاتٍ مَرَاضِعُ اشْتَرَكْنَ فِي إِرْضَاعِ صَغِيرَةٍ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً فَلَا تَكُونُ فِيهِنَّ أُمٌّ لَهَا، وَهَلْ أَبُوهُنَّ جَدٌّ لَهَا وَيَصِرْنَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ خَالَاتٍ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَنْمَاطِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا، وَلَا هُنَّ خَالَاتِهَا وَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِنَّ وَلَا على إخواتهن، وَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُرْضِعَاتِ الْخَمْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَبُوهُنَّ جَدًّا لَهَا لِارْتِضَاعِهَا مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ إِذَا تَزَوَّجَهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِحْدَى الْمُرْضِعَاتِ، لِأَنَّهَا خَالَتُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ الْمُرْضِعَةُ أَبَاهُ وَيَتَزَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْضِعْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا بِلَبَنِ زَوْجِهَا صَارَ ابْنًا لَهُمَا وَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ فَانْتَشَرَتْ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ، بِأَنْ صَارَ وَلَدًا لَهُمَا، وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْهُ إِلَيْهِمَا بِأَنْ صَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْأَبَوَيْنِ مُتَعَدِّيًا عَنْهُمَا إِلَى كُلِّ مَنْ نَاسَبَهُمَا فَيَصِيرُ أَبُو الزَّوْجِ جَدًّا لَهُ مِنْ أَبٍ، وَأُمُّهُ جَدَّةً لَهُ مِنْ أَبٍ، وَإِخْوَةُ الْأَبِ أَعْمَامَهُ، وَأَخَوَاتُ الْأَبِ عَمَّاتِهِ، وَأَبُو الْمُرْضِعَةِ جَدًّا لَهُ مِنْ أُمٍّ، وَأُمُّهَا جَدَّةً لَهُ مِنْ أُمٍّ فَكَذَلِكَ مَا عَلَا مِنْهُمَا. وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْمُنْتَشِرُ إِلَى الْوَلَدِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى أَبَوَيْهِ فَيَجُوزُ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمُرْضِعَةِ، لِأَنَّ أُمَّ وَلَدِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لِأُمِّهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَبِيهِ من الرضاع، ويجيز لِإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ وَلَا رَضَاعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ بِأَمَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَاخْتَارَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ، وَتَزَوَّجَتْ فَنَزَلَ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا لَبَنٌ أَرْضَعَتْ بِهِ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ بَطَلَ نِكَاحُهَا مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَصَارَتْ مِنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ زَوَّجَ السَّيِّدُ أُمَّ وَلَدِهِ بِصَغِيرٍ فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ زَوْجِهَا وَحَرُمَتْ عَلَى سَيِّدِهَا، لِأَنَّ زَوْجَهَا صَارَ ابْنًا لِسَيِّدِهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَكَّ أَرْضَعَتْهُ خَمْسًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنِ ابْنًا لَهَا بِالشَّكُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الشَّكَّ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْيَقِينِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالشَّاكِّ فِي الطَّلَاقِ وَالْحَدَثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ شَكَّ فِي الَّتِي طَلَّقَهَا مِنْ نِسَائِهِ، حَرُمْنَ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالشَّكِّ قَبْلَ الْجَوَابِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ مُتَيَقَّنٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ، وَخَالَفَ هَذَا التَّحْرِيمَ الْمَشْكُوكَ في وقوعه والله أعلم بالصواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 (باب لبن الرجل والمرأة) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَاللَّبَنُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا الْوَلَدُ لَهُمَا وَالْمُرْضَعُ بِذَلِكَ اللَّبَنِ وَلَدُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ لَبَنَ الرضاع للرجل والمرأة، والمرضع به ابناً لَهُمَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَجَعَلُوا اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَلَدَتِ ابْنًا مِنْ زِنًا فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا فَهُوَ ابْنُهَا وَلَا يَكُونُ ابْنَ الَّذِي زَنَى بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَدُ الرَّضَاعِ تَبَعٌ لِوَلَدِ الْوِلَادَةِ فَإِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، كَانَ وَلَدُهَا الذي ولدته لاحقاً بِزَوْجِهَا الَّذِي وَلَدَتْ مِنْهُ وَبِالْوَطْءِ لَهَا بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الرَّضَاعِ وَلَدًا لِلزَّوْجِ الَّذِي تَزَوَّجَتْ بِهِ، وَلِلْوَاطِئِ الَّذِي وطئها بالشبهة لأنه مخلوق من مائهما كان ولد الرضا لهما لأنه معتد بِلَبَنِهِمَا، فَإِنْ زَنَتْ وَوَلَدَتْ وَلَدًا مِنْ زِنًا وَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهِ وَلَدًا كَانَ وَلَدُ الزِّنَا وَوَلَدُ الرَّضَاعِ لَاحِقَيْنِ بِهَا وَلَمْ يُلْحَقَا بِالزَّانِي، لِأَنَّ ابْنَهَا الْمَوْلُودَ عَنِ الزَّانِي يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُرْضَعِ عَنْهُ، لِأَنَّ وَلَدَ النَّسَبِ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ وَلَدِ الرَّضَاعِ، وَقَدِ انْتَفَى عَنِ الزَّانِي فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُ الرَّضَاعِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يَنْكِحَ بَنَاتِ الَّذِي وَلَدَهُ مِنْ زِنًا فَإِنْ نَكَحَ لَمْ أفسخه لأنه ابنه في حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى عليه الصلاة والسلام بابن وليدة زمعة لزمعة وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى من شبهه بعتبة فلم يرها وقد حكم أنه أخوها لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخاها (قال المزني) رحمه الله وقد كان أنكر على من قال يتزوج ابنته من زنا ويحتج بهذا المعنى وقد زعم أن رؤية ابن زمعة لسودة مباح وإن كرهه فكذلك في القياس لا يفسخ نكاحه وإن كرهه ولم يفسخ نكاح ابنه من زنا بناته من حلال لقطع الأخوة فكذلك في القياس لو تزوج ابنته من زنا لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 يفسخ وإن كرهه لقطع الأبوة وتحريم الأخوة كتحريم الأبوة ولا حكم عنده لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وللعاهر الحجر " فهو في معنى الأجنبي وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ وَذَكَرْنَا أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يُلْحَقُ بِالزَّانِي وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا كَانَتْ بِنْتًا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ نِكَاحَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ وَمَتَى أَقَرَّ بِهَا لَحِقَتْهُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا تُلْحَقُ بِهِ إِذَا أَقَرَّ بِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ نِكَاحُهَا وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَيَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَرَاهِيَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ بِأَنْ حُبِسَا مَعًا مِنْ مُدَّةِ الزِّنَا إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يُكْرَهُ نِكَاحُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَافٍ كَمَا كُرِهَ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَائِزًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَحَقَّقَ خَلْقُهَا مِنْ مَائِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لثلاثة أمور: أحدها: لانتقاء نَسَبِهَا عَنْهُ كَالْأَجَانِبِ. وَالثَّانِي: لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّسَبِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقِصَاصِ كَذَلِكَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ. وَالثَّالِثُ: لِإِبَاحَتِهَا لِأَخِيهِ وَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْأَبُ لَحَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْعَمُّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى كَرَاهَةِ الشَّافِعِيِّ لَهُ، فَإِنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى التَّحْرِيمِ كَانَ غَلَطًا مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَسَبَهُ إِلَى كَرَاهَةِ اخْتِيَارٍ مَعَ جَوَازِهِ كَانَ مُصِيبًا وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الكراهية. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَأَصَابَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَرْضَعَتْ مَوْلُودًا كَانَ ابْنَهَا وَأُرِيَ الْمَوْلُودُ الْقَافَةَ فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَ لَحِقَ وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنَهُ وَسَقَطَتْ أَبُوَّةُ الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا وَوَضَعَتْ وَلَدًا أَرْضَعَتْ بلبنه طفلا فالمرضع تابع للمولود، وللمولود أربعة أحوال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 أَحَدُهَا: أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ يُلْحَقُ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَكُونَ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْتَفِيَ الْمَوْلُودُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَتْبَعَهُ الْمُرْضَعُ، وَيَنْتَفِيَ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمُرْضَعِ بِالْأَوَّلِ لِثُبُوتِ لَبَنِهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدِ الْمُرْضِعَةُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَأَنَّ لَبَنَ الْوِلَادَةِ قَاطِعٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ فَإِذَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الرَّضَاعُ عَنْهُمَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُمْكِنَ لُحُوقُ الْمَوْلُودِ بكل واحد منهما فيرى المولد لِلْقَافَةِ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي لَحِقَ بِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَافَةِ أَوْ عُدِمُوا وُقِفَ الْمَوْلُودُ إِلَى زَمَانِ الْأَنْسَابِ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِانْتِسَابِ، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ قَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ، فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى أحدهما لَحِقَ بِهِ وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَارَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ مَعْدُومًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " ضَاعَ نَسَبُهُ " وَمَعْنَاهُ: ضَاعَ النَّسَبُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الْمُرْضَعِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ أَبَوَانِ مِنْ نَسَبٍ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلَقُ إِلَّا مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ رَضَاعٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُرْتَضَعُ مِنْ لَبَنِهِمَا وَيَكُونُ غِذَاءُ اللَّبَنِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَحْدُثُ بِالْوَطْءِ تَارَةً وَبِالْوِلَادَةِ أُخْرَى فَلِذَلِكَ صَارَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ صَارَ ابْنًا لَهُمَا بِمَوْتِ الْوَلَدِ لَمَا جَازَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ أُبُوَّةُ أَحَدِهِمَا بِحَيَاةِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الْوَاطِئِ بِالْوِلَادَةِ لَا بِالْوَطْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لَهَا بِوَطْئِهِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ وَلَدًا لَمْ يَصِرِ ابْنًا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَلِدَ مِنْهُ فَيَصِيرَ اللَّبَنُ لَهُ وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُ فَهَذَا قَوْلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرْضَعَ يُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، كَمَا كَانَ الْمَوْلُودُ يُنْسَبُ إلى أحدهما لأنهذذ تَابِعٌ لَهُ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا انْتَسَبَ الْمَوْلُودُ، لِأَنَّ الطَّبْعَ جَاذِبٌ وَالشَّبَهَ غَالِبٌ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 الْمُرْضَعِ، وَلِذَلِكَ رُجِعَ إِلَى الْقَافَةِ فِي الْمَوْلُودِ، وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَيْهِمْ فِي الْمُرْضَعِ. قِيلَ: قَدْ يُحْدِثُ الرَّضَاعُ مِنْ شَبَهِ الْأَخْلَاقِ مِثْلَ مَا تُحْدِثُهُ الْوِلَادَةُ مِنْ شَبَهِ الْأَجْسَامِ وَالصَّوْتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى فَإِنَّ اللَّبَنَ يُغَذِّي ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ وَأَخْوَالِي بَنُو زُهْرَةَ وَارْتُضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ ". وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا فَقَالَ أَنْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ قَالَ مِنْهُمْ رَضَاعًا لَا نَسَبًا فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِشَبَهِ الْأَخْلَاقِ كَمَا تُضِيفُهُ الْقَافَةُ بِشَبَهِ الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ الْمُرْضَعِ، وَإِنْ عُوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي إِلْحَاقِ الْمَوْلُودِ، لِأَنَّ شَبَهَ الْأَجْسَامِ وَالصُّوَرِ أَقْوَى بِظُهُورِهِ، وَشَبَهَ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ أَضْعَفُ لَحْقًا بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْأَنْسَابَ تَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ بِالْفِرَاشِ ثُمَّ الْقَافَةِ ثُمَّ الِانْتِسَابِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الرَّضَاعِ فِرَاشٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِالْقَافَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالِانْتِسَابِ وَإِنْ ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسَبَ لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَجَازَ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الطَّبْعِ الْحَادِثِ وَيَقَعُ فِي الرَّضَاعِ اشْتِرَاكٌ فَعُدِمَ فِيهِ الطَّبْعُ الْحَادِثُ. وَالثَّانِي: أَنَّ امْتِزَاجَ النَّسَبِ مَوْجُودٌ مَعَ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالرَّضَاعَ حَادِثٌ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَلْقِ وَاسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَاتَ فَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَنْكِحَ ابْنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَكُونَ مَحْرَمًا لَهَا وَلَوْ قَالُوا الْمَوْلُودُ هُوَ ابْنُهُمَا جُبِرَ إِذَا بَلَغَ على الانتساب إلى أحداهما وَتَنْقَطِعُ أُبُوَّةُ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا لَمْ يُلْحَقْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَمُوتَ وَلَهُ وَلَدٌ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حُدُوثُ الْمَوْتِ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ ب ِفَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: نَسَبُ الْمَوْلُودِ. وَالثَّانِي: أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ. فَأَمَّا نَسَبُ الْمَوْلُودِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِفَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْقِيَافَةِ. وَالثَّانِي: حكم الانتساب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 فَأَمَّا حُكْمُ الْقِيَافَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمَوْلُودَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ وَقَامَ وَلَدُهُ فِي إِلْحَاقِ الْقَافَةِ مَقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا نُظِرَ فَإِنْ دُفِنَ انْقَطَعَ بدفنه حكم القيافة وإن لم يدفن فتى انْقِطَاعِ حُكْمِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ لِبَقَاءِ الصُّوَرِ الْمُشَاكِلَةِ أَوِ الْمُتَنَافِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ حُكْمُ الْقِيَافَةِ لِأَنَّ فِي إِشَارَاتِ الْحَيِّ وَحَرَكَاتِهِ عَوْنًا لِلْقَافَةِ عَلَى إِلْحَاقِهِ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هو الواطئان أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَالِدًا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْقَافَةِ بِمَوْتِهِ، وَقَامَ وَالِدُهُ مَقَامَهُ كَمَا قَامَ وَلَدُ الْمَوْلُودِ مَقَامَهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَلَدِ الْوَاطِئِ وَأَخِيهِ، هَلْ يَقُومَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَ أَبِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِامْتِزَاجِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ لِبُعْدِ الِامْتِزَاجِ وَتَغَيُّرِ الْخَلْقِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَّهَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْوَاطِئُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَحَدًا فَفِي انْقِطَاعِ الْقِيَافَةِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ الْوَجْهَانِ الْمَاضِيَانِ: وَأَمَّا الِانْتِسَابُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلُودِ دُونَ الْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ الْمَوْلُودُ لِانْفِرَادِهِ، وَمُنِعَ مِنْهُ الْوَاطِئُ لِاشْتِرَاكِهِ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأُخِذَ بِهِ الْمَوْلُودُ جَبْرًا وَإِنِ امْتَنَعَ لِأَنَّ فِي انْتِسَابِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْعِهِمْ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ الِانْتِسَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَعَنَ اللَّهُ مَنِ انْتَفَى مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ رُقَّ "، وَلِأَنَّ فِي الِانْتِسَابِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْلُودَ رُوعِيَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا قَامَ وَلَدُهُ فِي انْتِسَابِ مَقَامِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الطَّبْعِ الْحَادِثِ كالأب، وإن لم بترك وَلَدًا انْقَطَعَ حُكْمُ النَّسَبِ بِمَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْوَاطِئَ نُظِرَ حَالُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا قَوِيَّ الْفِطْنَةِ صَحِيحَ الذَّكَاءِ قَدْ شَاهَدَ الْوَاطِئَ لَمْ يَنْقَطِعِ انْتِسَابَهُ بموت المواطئ، وَكَانَ لَهُ الِانْتِسَابُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الِانْتِسَابِ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ طِفْلًا لَا يُمَيِّزُ أَوْ لَمْ يَرَهُ فِي حَيَاتِهِ سَقَطَ حُكْمُ انْتِسَابِهِ فَهَذَا حُكْمُ نَسَبِ الْمَوْلُودِ إِنْ حَدَثَ مَوْتٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِنَسَبِ الْمَوْلُودِ فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ نَسَبُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ لَمْ تَنْقَطِعْ أُبُوَّةُ الْمُرْضَعِ، وَكَانَ فِيمَا تَبِعَ الْوَلَدُ النَّسَبَ عِلَّةُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنِ انْقَطَعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ، كَانَ فِي بُنُوَّةِ الْمُرْضَعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَيْهَا تُبْنَى مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي تَزْوِيجِهِ بِنْتًا مِنَ الْوَاطِئَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ ابْنٌ لَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ مَحْرَمًا لَهُنَّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُ نُسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَيْهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَصَارَ مَحْرَمًا لَهُنَّ لِثُبُوتِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ الْآخَرِ، وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِنَّ وجهان: أحدهما: يحرم عليهن تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ قَبْلَ الِانْتِسَابِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمْنَ لِانْقِطَاعِ النَّسَبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُنَّ وَرَعًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ: إِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أُبُوَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِهِ بَنَاتِهِمَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بَنَاتُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْقِطَاعِ الْأُبُوَّةِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهِمَا وَرَعًا لَا تَحْرِيمًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ الْمُشْتَبَهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بِنْتِ الْآخَرِ، فَإِذَا فَارَقَهُمَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُ بِنْتِ الْآخَرِ فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا فِي نِكَاحِ بِنْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمَنَعَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا يَتَعَيَّنُ الْحَظْرُ فِيهَا، وَتَعَيَّنَ فِي الشَّيْئَيْنِ فَمُنِعَ مِنَ الْجَمْعِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الِانْفِرَادِ، وَضَرَبَ بِذَلِكَ مِثَالًا لِرَجُلَيْنِ رَأَيَا طَائِرًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، فَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ غُرَابًا أَوْ غَيْرَ غُرَابٍ لَا عِتْقَ عَلَى واحد منهما لانفراد بِمَشْكُوكٍ فِي عِتْقِهِ فَإِنِ اجْتَمَعَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَ أَيِّهِمَا شاء، فإن نَكَحَهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ الْآخَرِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي إِنَائَيْنِ مِنْ مَاءٍ إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ مَوْلُودٍ نَفَاهُ أَبُوهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ أَبًا لِلْمُرْضَعِ فَإِنْ رَجَعَ لَحِقَهُ وَصَارَ أَبًا لِلْمُرْضَعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ بِلَبَنِ وِلَادَتِهَا طِفْلًا وَنَفَى الزَّوْجُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ انْتَفَى عَنْهُ نَسَبُ الْمَوْلُودِ بِلِعَانِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُرْضَعُ فِي نَفْيِهِ، لِأَنَّ بُنُوَّةَ النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ بُنُوَّةِ الرَّضَاعِ فَإِذَا انْتَفَتْ بُنُوَّةُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْتَفِيَ بُنُوَّةُ الرضاع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 سَوَاءٌ أُرْضِعَ قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ الْمُرْضَعَ فِي لِعَانِهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَوْلُودِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الْأَبُ بَعْدَ نَفْيِهِ لَحِقَ بِهِ الْمَوْلُودُ، وَتَبِعَهُ وَلَدُ الرَّضَاعِ فَصَارَ لَهُ ابْنًا مِنَ الرَّضَاعِ كَمَا صَارَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُ مِنَ النَّسَبِ لِاتِّبَاعِهِ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَثَبَتَ لَبَنُهَا أَوِ انْقَطَعَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا فَأَصَابَهَا فَثَابَ لَهَا لَبَنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَهُوَ من الأول ولو كان لبنها ثبت فحملت من الثاني فنزل بها لبن في الوقت الذي يكون لها فيه لبن من الحمل الآخر كان اللبن من الأول بكل حال لأنا على علم من لبن الأول وفي شك من أن يكون خلطه لبن الأخر فلا أحرم بالشك وأحب للمرضع لو توقى بنات الزوج الآخر (قال المزني) رحمه الله عليه: هذا عندي أشبه (قال الشافعي) رحمه الله ولو انقطع فلم يثب حتى كان الحمل الآخر في وقت يمكن من الأول ففيها قولان أحدهما إنه من الأول بكل حال يثوب بأن ترحم المولود أو تشرب دواء فتدر عليه، والثاني أنه إذا انقطع انقطاعاً بينا فهو من الآخر وإن كان لا يكون من الآخر لبن ترضع به حتى تلد فهو من الأول في جميع هذه الأقاويل وإن كان يثوب شيء ترضع به وإن قل فهو منهما جميعاً وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ هو للأول ومن فرق قال هو منهما معاً ولو لم ينقطع اللبن حتى ولدت من الآخر فالولادة قطع للبن الأول فمن أرضعت فهو ابنها وابن الزوج الآخر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ مِنْ وَلَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ فَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا كَانَ ابْنًا لَهَا وَلِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ لِحَاجَتِهِ إِلَى اغْتِذَائِهِ بِهِ فَصَارَ اللَّبَنُ لَهُ، وَهُوَ وَلَدُ الْمُطَلِّقِ فَكَانَ وَلَدُ الرَّضَاعِ بِمَثَابَتِهِ، وَعَلَى حُكْمِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا أَوِ انْقَضَتْ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ عِدَّتِهَا زَوْجًا كَانَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مَا لَمْ تَحْبَلْ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ قَدِ انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِ الثَّانِي ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِي كَانَ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا ثَابَ لِلثَّانِي بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، لِأَنَّ الْجِمَاعَ لِقَاحٌ مُبَاحٌ بِهِ اللَّبَنُ فَثَابَ وَظَهَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْأَوَّلِ وَكَانَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُ دُونَ الثَّانِي. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِذَا حَمَلَتْ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ عَلَى حَمْلِهَا وَلَدًا فَيُنْظَرُ في وقت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 الرضاع فإن كان في مبادئ الْحَمْلِ فِي وَقْتٍ لَا يُخْلَقُ لِلْحَمْلِ فِيهِ اللَّبَنُ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَمْلِ يَحْدُثُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ يُسْتَكْمَلُ فِيهِ خَلْقُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُولَدَ فِيهِ حَيًّا فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْحَمْلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ ثَابَ وَنَزَلَ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ، قَدِ انْتَهَى إِلَى وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ لِمِثْلِهِ لَبَنٌ لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ لَبَنُ الْحَمْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالُهُ قَبْلَ الْحَمْلِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَيَكُونَ لَبَنُهَا لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَ لَبَنُهَا بِالْحَمْلِ فَيَكُونُ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدْ زَادَ بِالْحَمْلِ، وَلَمْ يَنْقُصْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَكُونُ اللَّبَنُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لَهُمَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَمْلِ تَكُونُ مُضَافَةً إِلَيْهِ، وَحَادِثَةً عَنْهُ، فَامْتَزَجَ اللَّبَنَانِ فَصَارَ كَامْتِزَاجِهِ مِنِ امْرَأَتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ اللَّبَنَ لِلْأَوَّلِ، وَالْمُرْضَعُ بِهِ ابناً لَهُ دُونَ الثَّانِي لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بقاء اللبن من الأول في شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ لِلثَّانِي لِجَوَازِ حُدُوثِهَا وَبِتَهَيُّجِ الْجِمَاعِ كَحُدُوثِهَا قَبْلَ الْحَمْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ لَهُ تَوَقِّي بَنَاتِ الثَّانِي لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ لَهُ ". وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَدِ انْقَطَعَ ثُمَّ ثَابَ وَنَزَلَ بِالْحَمْلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أحدها: أنه للأول والمرضع به ابناً لَهُ، دُونَ الثَّانِي اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ لَبَنِهِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْجِمَاعِ فَثَابَ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الثَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنه للثاني والمرضع به ابناً لَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حُدُوثِهِ بِالْحَمْلِ أَنَّهُ مِنْهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَوْ تَوَقَّى بَنَاتِ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَهُمَا وَالْمُرْضَعُ به ابناً لَهُمَا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهُمَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْأَمْرَيْنِ يُوجِبُ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، وَأَنْ لَا يُخْتَصَّ بِأَحَدِهِمَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَاللَّبَنُ بَعْدَهُ حَادِثٌ مِنْهُ وَمُضَافٌ إِلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَوْلُودِ إِلَى اغْتِذَائِهِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَيَكُونَ الْمُرْضَعُ بِهِ ابْنًا لِلثَّانِي وَهُوَ فِي بَنَاتِ الْأَوَّلِ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ قَالَ هُوَ لِلْأَوَّلِ وَمَنْ فَرَّقَ، قَالَ: هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَكُونُ مِنْ أَبَوَيْنِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرْضَعُ ابْنًا لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَ الثَّانِي، فَإِذَا وَضَعَتْهُ صَارَ الْمُرْضَعُ بَعْدَ وَضْعِهِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْضَعُ ابْنًا لَهُمَا، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ ابْنًا لَهُمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَمَنْ فَرَّقَ قَالَ هُوَ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا " يَعْنِي وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ فَجَعَلَ اللَّبَنَ لِرَجُلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ لِأَبَوَيْنِ، لأنه يجوز أن يكون للمرضع أمين، ولا يجوز أن يكون للمولود أمين. فعلى هذا يجوز أن يكون للمرضع بِاللَّبَنِ الزَّائِدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لَهُمَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَّا لِأَحَدِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْوَلَدِ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلُودِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ لَبَنٌ، وَيُجْعَلَ جَمِيعُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ لِلْأَوَّلِ جَعَلَ الْمُرْتَضِعَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ابْنًا لِلْأَوَّلِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي جَعَلَ لَهُ اللَّبَنَ الْحَادِثَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ إِذَا زاد بحمله قال: إن المرتضع به ابناً لَهَا، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا فَيَصِيرَ الْمُرْتَضِعُ بَعْدَ الْحَمْلِ ابْنًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ محتمل والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 (الشهادات في الرضاع والإقرار من كتاب الرضاع ومن كتاب النكاح القديم) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ لِغَيْرِ شَهَادَةٍ مِنْ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ وَعُيُوبِهَا الَّتِي تَحْتَ ثِيَابِهَا وَالرَّضَاعُ عِنْدِي مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ثَدْيِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَضَاعِهَا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ ثَدْيَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: الْوِلَادَةُ وَالِاسْتِهْلَالُ، وَالرَّضَاعُ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ الَّتِي تَحْتَ الثِّيَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لا تقبل شهادتين إلا في الولادة وحدها، واستدلالا بِأَنَّ الرَّضَاعَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ من ذوي المحارم، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ النِّسَاءُ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَكُنَّ فِيهِ عَلَى اسْتِتَارٍ وَصِيَانَةٍ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ كَالْوِلَادَةِ، وَخَالَفَ الزِّنَا لِأَنَّهُنَّ هَتَكْنَ فِيهِ الْعَوْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فَإِنْ شَهِدَ الرِّجَالُ بِذَلِكَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِلنَّظَرِ فَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِغَيْرِ الشَّهَادَةِ كَانُوا فَسَقَةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ تَعَمَّدُوا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُمْ فَسَقَةٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لأنهم عمدوا النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ لِمَا فِي النَّظَرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَلْزَمُ حِفْظُهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمْ يُقْبَلُونَ فِي الزِّنَا وَلَا يُقْبَلُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 فِيمَا عَدَاهُ، لِأَنَّ الزَّانِيَ قَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَجَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حُكْمَ مَنْ كَانَ عَلَى ستره وصيانته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ بَوَالِغَ عُدُولٍ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما أجاز شهادتين فِي الدَّيْنِ جَعَلَ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ النِّسَاءِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فِيهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ، أَنَّهُ لَا يقبل منهن أقل من أربع. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَطَاءٍ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ. وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ أُقِيمَ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَقَامَ الرِّجَالِ فَأُبْدِلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتَيْنِ فَصِرْنَ ثَلَاثًا. وَاحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً شَهِدَتْ عِنْدَهُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ اطْلُبُوا لِي مَعَهَا أُخْرَى، وَلَمْ يَفْسَخِ النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ أُقِمْنَ مَقَامَ الرِّجَالِ فَاقْتُصِرَ مِنْهُنَّ عَلَى عَدَدَ الرِّجَالِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سمع شهادة القائلة؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتُصِرَ عَلَى قَبُولِ النِّسَاءِ لِلضَّرُورَةِ قُبِلَتِ الْوَاحِدَةُ، لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز أن يقبل منهم أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَهَا كَالذَّكَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ تُذَكِّرَهَا إِذَا نَسِيَتْ فَلَمَّا أَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ لَمْ يُقْبَلْ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنَ النِّسَاءِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فِيهَا مَدْخَلٌ لَمْ يقتصر على شهادة الواحدة كَالْأَمْوَالِ. فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ يَأْتِي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَجِئْتُ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَلْتُ: إِنَّ السَّوْدَاءَ قَالَتْ كَذَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا ". قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بشادتها فِي الْإِمْضَاءِ، وَلَا فِي الرَّدِّ وَأَجْرَاهُ فَجَرَى الْخَبَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَمْ يَقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " طَرِيقُهُ طَرِيقُ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِالْتِزَامِ وَالْإِيجَابِ لِقَوْلِهِ " لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " وَلَوْ حَرُمَتْ لَأَخْبَرَهُ بِتَحْرِيمِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّوْدَاءَ الَّتِي شَهِدَتْ كَانَتْ أَمَةً وَشَهَادَةُ الْأَمَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَلَى سِيَاقِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَكَحَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ فَقَالَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَجَاءَتْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، قَالَ: فَجِئْتُ فذكرته ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا "، قَالَ: فَنَهَى عَنْهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن السلماني عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. قِيلَ: هَذَا رَوَاهُ حَرَامٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عُمَارَةُ بْنُ حَرَمِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الشافعي حديث حرام قبوله حرام وابن السلماني ضَعِيفٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ الرِّجَالُ إِذَا انْفَرَدُوا وَيَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ إِذَا انْفَرَدْنَ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْكِرُ الرَّضَاعَ فَكَانَتْ فِيهِنَّ أُمُّهَا أَوِ ابْنَتُهَا جُزْنَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَدَّعِي الرَّضَاعَ لَمْ يَجُزْ فِيهَا أُمُّهَا وَلَا أُمَّهَاتُهَا وَلَا ابْنَتُهَا وَلَا بَنَاتُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي الرَّضَاعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيهِ الزَّوْجَ فَقَدِ انفسخ نكاح بِدَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِيَدِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ أن يطلق واحدة ليستبيح الأزواج بيقين ". وإنما قيل قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ " بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ "، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَهْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى وَبَعْدَ الدُّخُولِ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ، وبينته شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرٌ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَهْرُ الْمِثْلِ يُسْتَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِفَسَادِ الْعَقْدِ. فَلَوْ شَهِدَ لَهُ بِالرَّضَاعِ أُمَّهَاتُهُ أَوْ بَنَاتُهُ لَمْ يُقْبَلْنَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ الزَّوْجَةِ أَوْ بِنْتُهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الرَّضَاعَةِ الزَّوْجَةَ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي الْفُرْقَةِ إلا ببنية لأنها لا تملك الفرقة، فإن أقامت بينة بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ بِالرَّضَاعِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا، وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ كَانَ فِي شُهُودِهَا أُمُّهَا أَوْ بِنْتُهَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِلتُّهْمَةِ، وَلَوْ كَانَ فيهن أو الزَّوْجِ أَوْ بِنْتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَشْهَدَ الْبِنْتُ عَلَى رَضَاعِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَالرَّضَاعُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَهُ الْوَلَدُ، قِيلَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ كَبِيرًا لَهُ وَلَدٌ يَكُونَ الْآخَرُ صَغِيرًا فَيَرْتَفِعَ مِنْ أُمِّ الْكَبِيرِ وَتَشْهَدَهُ بِنْتُهُ فتشهد بالرضاع له وعليه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَا عَلَيْهَا مَا ترد به شهادتهما (قال المزني) رحمه الله وكيف تجوز شهادتهما على فعلها ولا تجوز شهادة أمها وأمهاتها وبناتها فهن في شهادتهن على فعلها أجوز في القياس من شهادتها على فعل نفسها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ بِالرَّضَاعِ فَمَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَدَّعِ بِهَا أُجْرَةَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَفِيدُ بِهَا نَفْعًا، وَلَا تَسْتَدْفِعُ بِهَا ضَرَرًا، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا فَقُبِلَتْ. فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فِعْلِهَا وَشَهَادَةُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ مَرْدُودَةٌ كَالْحَاكِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَالْقَاسِمِ إِذَا شَهِدَ بِمَا قَسَّمَهُ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ وَالْقَاسِمَ تَفَرَّدَا بِالْفِعْلِ فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمَا بِهِ وَالْمُرْضِعَةُ إِمَّا أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَلَدُ بِالرَّضَاعِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، وَإِمَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ فَيَكُونَ الْوَلَدُ هُوَ الْمُرْتَضِعَ فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مُجَرَّدِ فِعْلِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 وَالثَّانِي: أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْحَاكِمِ وَالْقَاسِمِ تَزْكِيَةً لَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ الْفُسُوقِ وَالْكُفْرِ فَلَمْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَتُهَا مَعَ الْعَدَالَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْمُرْضِعَةُ بِشَهَادَتِهَا الْأُجْرَةَ لَمْ يُقْبَلْ بِهِ قَوْلُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ، وَهَلْ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُا فِي الرَّضَاعِ وَثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَلَا تُرَدُّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا تُرَدُّ وَلَا تُقْبَلُ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاهِدِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ هَلْ تُرَدُّ فِي الْبَاقِي؟ عَلَى قَوْلَيْنِ يُذْكَرَانِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ غَلَطًا وَاضِحًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ وَرَدَّ شَهَادَةَ أُمِّهَا. فَقَالَ: " كَيْفَ يجوز شَهَادَتُهُا عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أُمِّهَا؟ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الزَّوْجَيْنِ مِنَ النَّسَبِ وَلَمْ يَرُدَّ شَهَادَةَ أُمِّ الْمُرْضِعَةِ؟ لِأَنَّ أُبُوَّةَ الرَّضَاعِ لَا تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا منعت أبوة النسب منها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُوقَفْنَ حَتَّى يَشْهَدْنَ أَنْ قَدْ رَضَعَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَخْلُصْنَ كُلُّهُنَّ إِلَى جَوْفِهِ وَتَسَعُهُنَّ الشهادة على هذا لأنه ظاهر علمهن وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً وامرأة تناكحا فسال الرجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فأعرض فقال " وكيف وقد زعمت السوداء أنها قد ارضعتكما " (قال الشافعي) إعراضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه أن يكون لم ير هذا شهادة تلزمه وقوله " وكيف وقد زعمت السوداء أنها قد أرضعتكما " يشبه أن يكره له أن يقيم معها وقد قيل إنها أخته من الرضاعة وهو معنى ما قلنا يتركها ورعاً لا حكما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ إِلَّا مَشْرُوحَةً يَنْتَفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالُ وَيَنْقَطِعُ بِهَا النِّزَاعُ، فَإِذَا شَهِدْنَ أَنَّهُمَا أَخَوَانِ مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ تسمع شهادتين حَتَّى يَصِفْنَ الرَّضَاعَ، وَيَذْكُرْنَ الْعَدَدَ وَصِفَةَ الرَّضَاعِ فَجَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: مُعَايَنَةُ الْتِقَامِ الْمَوْلُودِ لِثَدْيِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُعَايَنُ وَيُشَاهَدُ فَلَمْ يُعْمَلْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ، فَلَوْ دَخَلَ الْمَوْلُودُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ مُسْتَتِرًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ شهادتين بِالرَّضَاعِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ قَطْعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدْنَ أَنَّ فِي ضَرْعِ الْمُرْضِعَةِ لَبَنًا بِفِعْلِ الْمَفْطُومِ، وَعِلْمُهُنَّ بِوُجُودِ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ يَكُونُ بِأَنْ يُحْلَبَ فَيُرَى لَبَنُهُ، وَهَذَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي الرجعة الْأُولَى فَأَمَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ الْخَمْسِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَيُحْتَاجُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدْنَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ، وَهَذَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا عُلِمَ جُوعُ الطِّفْلِ، وَقَدِ الْتَقَمَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَحَرَّكَ حُلْقُومُهُ حَرَكَةَ الشُّرْبِ وَسَكَنَ مَا كَانَ فِيهِ من الهتم بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ عُلِمَ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ بِظَاهِرِ الِاسْتِدْلَالِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ طريقاً إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ بِهِ قَطْعًا مَعَ عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهَا غَايَةُ مَا يُعْلَمُ بِهِ مِثْلُهُ كَالشَّهَادَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ حَيْثُ جَازَتْ بِشَائِعِ الْخَبَرِ فَتَحَرَّرَتْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ أن يشهدن فيقلن نشهد أنه التقم ثدييها، وَفِيهِ لَبَنٌ ارْتَضَعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَصَلْنَ كُلُّهُنَّ إلى جوفه فيحكم حينئذ بشهادتين لا ينفى الاحتمال عنها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ هَذِهِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ قَالَتْ هَذَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَكَذَّبَتْهُ أَوْ كَذَّبَهَا فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَنْكِحَ الْآخَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَأَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ أُمُّهُ، أَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِأَنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ ابْنُهَا أَوْ أَبُوهَا كَانَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّحْرِيمِ مَقْبُولًا عَلَيْهَا إِذَا كَانَ مُمْكِنًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَذَّبَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَاسْتَحَالَ مِثْلَ أَنْ يَتَسَاوَى بَيْنَهُمَا أَوْ يَتَقَارَبَ فَتَقُولَ الْمَرْأَةُ: هَذَا أَبِي مَنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ يَقُولَ الرَّجُلُ: هَذِهِ أُمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَيُعْلَمَ اسْتِحَالَةُ هَذَا الْإِقْرَارِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ وَيَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ الْتِزَامًا لِلْإِقْرَارِ، وَتَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ، أَنْتَ ابْنِي، عَتَقَ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ بُنُوَّتِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَهْجَنٌ يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي بَعْدُ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَحُكِمَ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُحْتَجْ فِي الْإِقْرَارِ إِلَى صِفَةِ الرَّضَاعِ وَذِكْرِ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَاسْتَوْفَى فِيهَا شُرُوطَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ رَضَاعَ نَفْسِهِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرَ الَّذِي يُوَثَّقُ لَهُ فَيُصَدِّقُهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْتِزَامَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِ الْمُشَاهِدِ فَبُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي نَفْيِ الِاحْتِمَالِ، وَالْإِقْرَارُ الْتِزَامُ حَقٍّ عَلَى النَّفْسِ فَكَانَ في ترك الاحتياط تقصير عن المقر فالتزام حُكْمُ إِقْرَارِهِ هَذَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةِ الرَّضَاعِ. فَأَمَّا الْعَدَدُ فَمُعْتَبِرٌ بِحَالِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: بَيْنِي وَبَيْنَهَا رَضَاعٌ افْتَقَرَ التَّحْرِيمُ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ فِي اعْتِرَافِهِ بِأُخُوَّتِهَا الْتِزَامًا بِحُكْمِ التَّحْرِيمِ بِالْعَدَدِ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِجَهْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُحْتَمَلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْعَدَدِ، وَلَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْإِقْرَارِ بِالتَّحْرِيمِ كَمَا لَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ مِنَ النَّسَبِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِإِقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُمَا يمنعان من النكاح، فإن تناحكا فُسِخَ النِّكَاحُ عَلَيْهِمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا حُدَّا إِنْ عَلِمَا تَحْرِيمَ الرضاع، ولا تحد عَلَيْهِمَا، إِنْ لَمْ يَعْلَمَا وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ حُدَّتْ وَلَهَا الْمَهْرُ إِنْ لَمْ تُحَدَّ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِالتَّحْرِيمِ قَوْلَانِ، كَالْأُخْتِ مِنَ النَّسَبِ. فَلَوْ رَجَعَا عن الرضاع بعد إقراراهما اعْتُبِرَ حَالُ إِقْرَارِهِمَا، فَإِنْ لَزِمَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِعِلْمِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا فِيهِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَإِنْ لَزِمَهُمَا إِقْرَارُهُمَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لِجَهْلِهِمَا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ رجوعهما ظاهراً، وقيل بَاطِنًا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ عَقْدَ نِكَاحٍ وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهَا حَلَّتْ لَهُ؟ فَهَلَّا كَانَ فِي الرَّضَاعِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الَّتِي أَنْكَرَهَا غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِالِاعْتِرَافِ، وَتَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مؤبد فلم يستبحها بالاعتراف. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ نِكَاحِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أَخَذَتْ نِصْفَ مَا سُمِّيَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إِنَّ دَعْوَى أَحَدِهِمَا لِلرِّضَاعِ بَعْدَ وُجُودِ العقد بينهما مقبول فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ ولا تملكها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 فَلِذَلِكَ قُبِلَ فِي الْفُرْقَةِ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالِانْتِقَالُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ حَقٌّ لَهُ وَالْمَهْرَ حَقٌّ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا عَلَيْهِ فَتَحْلِفُ الزَّوْجَةُ إِذَا أَكْذَبَتْهُ وَتَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعَهُ بَعْدَهُ وَيَمِينُهَا عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيٍ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ فَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا فَإِنْ نَكَلَتْ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحَلَفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا يَصِفُهُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ كَالْبَيِّنَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ أَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ لِتَحِلَّ بِهَا لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً وَأُحَلِّفُهُ لَهَا فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزوج معها من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقُهَا فَيُفْسَخَ النِّكَاحُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَسْقُطَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِدَعْوَاهَا وَتَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ عِدَّتِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَذِّبَهَا فَلَا يُقْبَلَ دَعْوَاهَا عَلَيْهِ وَيَحْلِفَ لَهَا الزَّوْجُ، وَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ وَفِي صِفَةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الْعِلْمِ كَيَمِينِ الزَّوْجَةِ إِذَا أَنْكَرَتِ الرَّضَاعَ. وَالثَّانِي: عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ يَمِينِ الزَّوْجِ وَيَمِينِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ كَانَتَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ أَنَّ فِي يَمِينِ الزَّوْجِ مَعَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيمَا مَضَى إِثْبَاتَ اسْتِبَاحَةٍ فِي الْمُسْتُقْبَلِ فَكَانَتْ عَلَى الْبَتِّ تَغْلِيظًا، وَيَمِينُ الزَّوْجَةِ لِبَقَاءِ حَقٍّ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ تَحْقِيقًا، فَإِنْ كَانَ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَحَلَفَتْ عَلَى الْبَتِّ، لِأَنَّهَا يَمِينُ إثبات فكانت على البت. والحال الثانية: أَنْ يَسْكُتَ فَلَا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا وَلَا كَذِبُهَا فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي صِفَةِ يَمِينِهِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا حُكْمًا وَيَخْتَارَ أَنْ يُفَارِقَهَا وَرَعًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْبَتِّ، وَيَكُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا الْيَمِينَ فَإِذَا حَلَفَتْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً لِتَحِلَّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَفْتَيْتُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَدَعَ نِكَاحَهَا بِطَلْقَةٍ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّهَا تَسْتَبِيحُ الْأَزْوَاجَ بِيَقِينٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي دَعْوَى الرَّضَاعِ صَادِقَةً فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَيْسَ بِضَارٍّ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً حَلَّتْ بِالطَّلَاقِ لِلْأَزْوَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 (باب رضاع الخنثى) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنَ الْخُنْثَى أَنَّهُ رَجُلٌ نَكَحَ امْرَأَةً وَلَمْ يُنْزِلْ فَنَكَحَهُ رَجُلٌ فَإِذَا نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا يُحَرِّمُ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَرْضَعَ صَبِيًّا حَرَّمَ وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَلَهُ أَنْ يُنْكَحَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَبِأَيِّهِمَا نُكِحَ به أولاً أجزته ولم أجعل له يُنْكَحَ بِالْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي كِتَابِنَا هَذَا ذِكْرُ الْخُنْثَى، وَذَكَرْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ طَرَفًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْحَيَوَانَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّبَهِ لِيَأْنَسَ الذَّكُورُ بِالْإِنَاثِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي آلَةِ التَّنَاسُلِ فَجَعَلَ لِلرَّجُلِ ذَكَرًا وَلِلْمَرْأَةِ فَرْجًا لِيَجْتَمِعَا عَلَى الْغَشَيَانِ بِمَا رَكَّبَهُ فِي طِبَاعِهِمَا مِنْ شَهْوَةِ الِاجْتِمَاعِ فَيَمْتَزِجُ الْمَنِيَّانِ فِي قَرَارِ الرَّحِمِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْعُلُوقِ لِيَحْفَظُ بِالتَّنَاسُلِ بَقَاءَ الْخَلْقِ فَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا، وَمَنْ أَفْرَدَهُ بِالْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً، وَمَنْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ الذَّكَرَ وَالْفَرْجَ فَهُوَ الْخُنْثَى سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَخَنَّثَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَخْلُصْ طَعْمُهُ الْمَقْصُودُ وَشَارَكَهُ طَعْمٌ غَيْرُهُ، وَرَجُلٌ مُخَنَّثٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِالْإِنَاثِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ عُضْوَيِ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ مَنْفَعَتَيْنِ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ فَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ، هِيَ الْبَوْلُ وَالْمَنْفَعَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ غَشَيَانُ التَّنَاسُلِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعُضْوَانِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَكَانَ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ذَكَرًا وَبَعْضُهُ أُنْثَى لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِي خَلْقِهِ، وَحَفِظَ بِهَا تَنَاسُلَ الْعَالَمِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ، إِمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا أُنْثَى، وَقَدِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا، وَالْفَرْجِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ امْرَأَةً، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْغَالِبِ الظَّاهِرِ مِنْ مَنَافِعِهِمَا، وَهُوَ الْبَوْلُ فَإِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ كَانَ رَجُلًا وَكَانَ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ كَانَ امْرَأَةً وَكَانَ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَأُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ النِّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، لِأَنَّ وُجُودَ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غُلَامٍ مَيِّتٍ حُمِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ فَقَالَ وَرِّثُوهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، وَهَذَا الْخُنْثَى غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 يَبُولُ مِنْهُمَا فَيَخْرُجُ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ وَمِنْ فَرْجِهِ، وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى أَسْبَقُهُمَا بَوْلًا لِقُوَّتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى آخِرُهُمَا انْقِطَاعًا لِغَلَبَتِهِ فَيُحْكَمَ بِهِ فإن استويا في السبق والخروج غير مشكل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ أَكْثَرُهُمَا بَوْلًا فَيُحْكَمُ بِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا فَلَوْ سَبَقَ بوله في أَحَدِهِمَا، وَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُهُ مِنَ الْآخَرِ بِقَدْرِ السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِالسَّبْقِ. وَالثَّانِي: قَدِ اسْتَوَيَا، وَيَكُونُ مُشْكِلًا، فَلَوْ سَبَقَ بَوْلُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ قَلِيلًا وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآخَرِ، وَكَانَ كثيراً ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يُحْكَمُ بِالسَّابِقِ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يُحْكَمُ بِأَكْثَرِهِمَا. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ مُشْكِلًا فَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا تَارَةً، وَمِنَ الْآخَرِ تَارَةً، أَوْ كَانَ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا تَارَةً وَيَتَأَخَّرُ تَارَةً، اعْتُبِرَ أَكْثَرُ الْحَالَتَيْنِ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ مُشْكِلٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: اعْتُبِرَ صِفَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ زَرَقَ فَهُوَ ذَكَرٌ وَإِنْ رَشَّشَ فَهُوَ أُنْثَى. وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا هَذَا الِاعْتِبَارَ وَجَعَلُوهُ مُشْكِلًا، فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْ طَرِيقِ الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَتِي الْعُضْوَيْنِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ الْمَنِيُّ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ أَمْنَى مَنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ أَمْنَى مِنْهُمَا فَلَا بَيَانَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِالْحَيْضِ فَإِنْ حَاضَ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ لَمْ يَحِضْ فَهُوَ ذَكَرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا اعْتِبَارَ بِالْحَيْضِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ الْمَنِيُّ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَنِيِّ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَوْلِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَخْرِجِهِ وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْحَيْضِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ بِاعْتِبَارِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ فَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَصِفَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِي اللِّحْيَةِ دَلِيلٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِبَعْضِ النِّسَاءِ، وَلَا تَكُونُ فِي الثَّدْيِ وَاللَّبَنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الرِّجَالِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ فإن أضلاع المرأة متساوية في الْجَانِبَيْنِ، وَأَضْلَاعَ الرَّجُلِ تَنْقُصُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، ضِلْعًا لِأَجْلِ مَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَبِهَذَا قَالَ حَسَنٌ الْبَصْرِيُّ وَحَكَاهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْأَضْلَاعِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَقُدِّمَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَبَالِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْخِلْقَةِ. وَالثَّانِي: مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ التَّشْرِيحِ وَمَا تُوجَدُ شَوَاهِدُهُ فِي الْبَهَائِمِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَنَّ أَضْلَاعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَفِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا خَمْسَةٌ مِنْهَا تَتَلَاقَى، وَسَبْعَةٌ مِنْهَا أَضْلَاعُ الْخَلَفِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَلَاقَى، فَإِذَا لَمْ يزل إشكاله بالأمارات الظاهرة لتكافئ دَلَائِلِهَا وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي طَبْعِهِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ مَطْبُوعٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ شَهْوَةِ الْأُنْثَى وَالْأُنْثَى مَطْبُوعَةٌ عَلَى مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تعالى فيها من شهوة الرجال الذكر لِيَحْفَظَ بِالشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بَقَاءَ التَّنَاسُلِ. وَمِثَالُهُ مَا يَقُولُهُ فِي لُحُوقِ الْأَنْسَابِ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِالْقَافَةِ إِلَى الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْجَسَدِ فَإِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ مِنْهَا رَجَعْنَا إِلَى الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ فِي الْمَيْلِ بِالطَّبْعِ الْمَرْكُوزِ فِي الْخِلْقَةِ إِلَى الْمُتَمَازِجِينَ فِي الِانْتِسَابِ فَيُؤْخَذَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى مَنْ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ الْخُنْثَى، وَهَذِهِ الشَّهْوَةُ تُسْتَكْمَلُ بِالْبُلُوغِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالَّذِي يَكُونُ بِهِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ بَالِغًا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَإِذَا بَلَغَ اعْتُبِرَتْ حِينَئِذٍ شَهْوَتُهُ فِي الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ فَإِنْ مَالَتْ شَهْوَتُهُ إِلَى النِّسَاءِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ وَإِنْ مَالَ إِلَى شَهْوَةِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ كَمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْ دَلَائِلِ أَصِلِ الْخِلْقَةِ مَا تَقْتَضِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى شَهْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمَ الْبَيَانِ فِي الْمَبَالِ لِتَسَاوِيهِمَا، وَيُحْكَمُ بِمَيْلِهِ إِلَى الرِّجَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ثُمَّ يَنْقَطِعُ بَوْلُهُ مِنَ الْفَرْجِ وَيَسْتَدِرُّ مِنَ الذَّكَرِ، فَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ بَعْدَ أَنْ جَرَى حُكْمُ النِّسَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةَ أَقْوَى بَيَانًا مِنَ الْأَمَارَاتِ الْبَاطِنَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ رَجُلًا فُسِخَ نِكَاحُهُ وَزُوِّجَ امْرَأَةً إِنْ شَاءَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْخُنْثَى فِي زَوَالِ إِشْكَالِهِ أَوْ بَقَائِهِ عَلَى إِشْكَالِهِ فيحكم مَنْ أَرْضَعَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ فَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ طِفْلًا لَمْ تَنْتَشِرْ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَمْ يَصِرِ ابْنًا لَهُ مِنَ الرَّضَاعِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا وَقَالَ الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ: يَصِيرُ بِلَبَنِهِ أَبًا كَالْأُمِّ تَصِيرُ بِلَبَنِهَا أُمًّا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالرَّضَاعِ أُمًّا، وَلَمْ يُثْبِتْ بِهِ أَبًا فَقَالَ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ عَنِ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ لِغِذَاءِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَالِبًا مِنْ أَلْبَانِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَصَارَ لَبَنُ الرَّجُلِ أَضْعَفَ حُكْمًا مِنْ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ الرَّضَاعَ تَبَعٌ لِلْوِلَادَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ الْوِلَادَةِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَحَلَّ الرَّضَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَنْتَشِرِ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِ الرَّجُلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهْتُ لَهُ إِنْ كَانَ الْمُرْضَعُ بِنْتًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاغْتِذَائِهَا بِلَبَنِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهُ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَى الْخُنْثَى حُكْمُ النِّسَاءِ وَأُبِيحِ لَهُ التَّزْوِيجُ بِالرِّجَالِ انْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَبَعْدَهُ، لِأَنَّ لَبَنَ النِّسَاءِ مَخْلُوقٌ لِلِاغْتِذَاءِ، وَلَيْسَ جِمَاعُ الرَّجُلِ شَرْطًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِهِ فِي الْأَغْلَبِ فَصَارَ كَالْبِكْرِ إِذَا نَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلًا انْتَشَرَتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَوْ حُكِمَ بِانْتِشَارِ حُرْمَةِ اللَّبَنِ بِمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَتَزَوَّجَ رَجُلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَيْلَهُ إِلَى طَبْعِ الرِّجَالِ، وَقَالَ أَنَا رَجُلٌ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ انْتِقَالِ الشَّهْوَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَهَوِّمٌ فِيهِ، وَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَى نِكَاحِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: نَخْتَارُ لَكَ فِي الْوَرَعِ أَنْ تُفَارِقَهَا إِنْ صَدَّقْتَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ الَّذِي لَا يُتَّهَمُ فِيهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ إِلَى أَحْكَامِ الرِّجَالِ وَانْفَسَخَ نِكَاحُ الزَّوْجِ، وَبَطَلَ مَا انْتَشَرَ مِنْ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ، وَكَرِهْنَا لَهُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِرَجُلٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِتَكَافُئِهَا وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الطَّبْعِ صَارَ نُزُولُ اللَّبَنِ بَيَانًا، لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ فَاعْتُبِرَ الْإِشْكَالُ بِالْأَغْلَبِ مِنْهُمَا لَا اللَّبَنُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ وَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ عَنْ لَبَنِهِ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي ظُهُورِ اللِّحْيَةِ هَلْ يَصِيرُ بَيَانًا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ بَيَانًا كَاللَّبَنِ. وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ بَيَانًا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ اللِّحْيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْأُنُوثَةِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا دَلِيلًا عَلَى الذُّكُورِيَّةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ اللَّبَنُ وَاللِّحْيَةُ بَيَانًا، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الْجِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَصِرْ بَيَانًا، وَإِذَا فَاتَ الْبَيَانُ وَدَامَ الْإِشْكَالُ وَأَرْضَعَ بِلَبَنِهِ مَوْلُودًا لَمْ يُحْكَمْ لِلَبَنِهِ بِانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَلَا يُعْدَمْهَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، وَكَانَ عَلَى الْوَقْفِ مَا بَقِيَ عَلَى الْإِشْكَالِ، لِأَنَّ مَا مِنْ وَقْتٍ يَحْدُثُ إِلَّا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ مَا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وُقِفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 (كتاب النفقات) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " قَالَ اللَّهُ عز وجل: (ذلك أدنى أن لا تَعُولُوا} [النساء: 3] أَيْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ (قَالَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ فَأُحِبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ الرَجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ وَجَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جناح. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال يا رسول الله عندي دينار فقال " أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ فَقَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أنت أعلم " قال سعيد المقبري ثم يقول أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يَقُولُ وَلَدُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ وَتَقُولُ زَوْجَتُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي وَيَقُولُ خادمك أنفق علي أو بعني)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَاتِ بِأَسْبَابِهَا الْمُسْتَحَقَّةِ، فَمِمَّا لَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْهُ لِعَجْزِ ذَوِي الْحَاجَةِ عَنْهَا وَقُدْرَةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ عَلَيْهَا ليأتلف الخلق بوجود الكافية: فَجَعَلَهَا لِلْأَبَاعِدِ زَكَاةً لَا تَتَعَيَّنُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بعض لعمومها فيهم، وجعلهم لِلْأَقَارِبِ بِأَنْسَابٍ وَأَسْبَابِ مَعُونَةٍ وَمُوَاسَاةٍ تَتَعَيَّنُ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ مُوجِبِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ فَمِنْ ذَلِكَ نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ. وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْفَرْضِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فَأَمَرَهُ بِهَا فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا ممن أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، فَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ مَعْقُولٍ وَنَصٍّ، فَالْمَعْقُولُ مِنْهَا قَوْلُهُ جَلَّ وعز: {الرجال قوامون على النساء} ، وَالْقَيِّمُ عَلَى غَيْرِهِ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَمْرِهِ، وَالنَّصُّ مِنْهَا قَوْلُهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 {وبما أنفقوا من أموالهم} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْوِلَادَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي تَتَشَاغَلُ بِوَلَدِهَا عَنِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فَلَمَّا أَوْجَبَ نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْفُرْاقِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا كَانَ وُجُوبُهَا قَبْلَ الْفُرْاقِ أَوْلَى، وَقَالَ تَعَالَى: فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) [النساء: 3] ، قَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَلَوْلَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ الْعِيَالِ تَأْثِيرٌ، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيَّ ابْنُ دَاوُدَ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى عال يعول أي جاز يجوز، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَيُقَالُ فِيهِ أَعَالَ يُعِيلُ فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ جَهْلًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ وَغَفْلَةً عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْوِيلَ الشَّافِعِيِّ أَصَحُّ لِشَاهِدَيِ وشرح وَلُغَةٍ. فَأَمَّا الشَّرْحُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظًا مَتْلُوًّا حَكَاهُ التَّاجِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ اخْتَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ حَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ، مَعْنَاهُ كَثُرَ عِيَالُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمِنْهُ أُخِذَ عَوْلُ الْفَرَائِضِ لِكَثْرَةِ سِهَامِهَا، فَهَذَا جَوَابٌ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ. بِمَعْنَى جَارَ يَجُورُ. وَبِمَعْنَى مَانَ يَمُونُ. وَبِمَعْنَى أَكْثَرَ الْعِيَالَ. فَهُوَ بِكَثْرَتِهِمْ. فَتَنَاوَلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَطَائِفَهٌ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي اللُّغَةِ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَجَازَهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَجَازِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْجَوْرِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} وحمله على كثرة العيال مستفاداً بمجاز قوله تعالى: {ذلك أدنى أن لا تعدلوا} لِيَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا: وَالثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَؤُولُ إِلَى الْجَوْرِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوْرِ، لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، وَلَمْ يَعْصِرْ إِلَّا عِنَبًا فسماه خمراً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعِي دِينَارٌ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ دِينَارِ الْخَادِمِ مَعِي آخِرُ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ قَالَ أَنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَدْنَاهَا أَجْرًا. قَالَ سَعِيدٌ الْمُقْبُرِيُّ: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قَالَ يَقُولُ وَلَدُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، وَتَقُولُ زَوْجَتُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ خَادِمُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي، وَهَذَا أَعَمُّ حَدِيثٍ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ وُجُوبِهَا بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَا يُخْرِجُ الزَّوْجَةَ مِنْ بَيَانِ إِجْمَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ يُدْخِلُ الزَّوْجَةَ فِي جُمْلَةِ عُمُومِهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا آخُذُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهَلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ، فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وجوب نفقة الزوجة الولد، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا جَوَازُ بُرُوزِ الْمَرْأَةِ فِيمَا عَرَضَ مِنْ حَاجَةٍ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِهَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كَلَامِهَا لِلْأَجَانِبِ وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُوصَفَ الْإِنْسَانُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَمًّا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَا عَسُرَ، لِأَنَّهَا نَسَبَتْ أَبَا سُفْيَانَ إِلَى الشُّحِّ وَهُوَ ذَمٌّ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إِذْنَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذا عدم الجنسن لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى أَخْذِ مَا تَسْتَحِقُّهُ من قوت أَوْ لِبَاسٍ. وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ لِقَوْلِهِ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ "، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِ أَبِي سُفْيَانَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا لِقَوْلِهِ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " وَأَمَّا الْمَعْقُولُ مِنْ معاني لمن مَعَانِي الْأُصُولِ، فَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَحْبُوسَةُ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِ وَمَمْنُوعَةٌ مِنَ التَّصَرُّفِ لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَوَجَبَ لَهَا مُؤْنَتُهَا وَنَفَقَتُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ لِمَمْلُوكِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَاتُ أَهْلِ النَّفِيرِ لِاحْتِبَاسِ نُفُوسِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نفقات الزوجات واجبة فقد إباحة اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا بِقَوْلِهِ: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وَنَدَبَهُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى واحدة بقوله: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} وَذَهَبَ ابْنُ دَاوُدَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ إذا قدر على القيام بهن ولا يتقصر عَلَى وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ أَكْثَرُ. لِيَأْمَنَ الْجَوْرَ بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ أَوْ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَاتِهِنَّ، وَأَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ وَكَثْرَةِ جِمَاعِهِ فَالْأَوْلَى أن ينتهي إلى العدد المقنع من اثنين أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ لِيَكُونَ أَغْنَى لِبَصَرِهِ وَأَعَفَّ لِفَرْجِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 (الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ أَنَّ عَلَى الرَجُلِ مَا لَا غِنَى بِامْرَأَتِهِ عَنْهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا صَلَاحَ لِبَدَنِهَا مِنْ زَمَانَةٍ ومرض إلا به (وقال) في كتاب عشرة النساء يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها وقال فيه أيضاً إذا لم يكن لها خادم فلا يبين أن يعطيها خادماً ولكن يجبر على من يصنع لها الطعام الذي لا تصنعه هي ويدخل عليها ما لا تخرج لإدخاله من ماء وما يصلحها ولا يجاوز به ذلك (قال المزني) قد أوجب لها في موضع من هذا نفقة خادم وقاله في كتاب النكاح إملاء على مسائل مالك المجموعة وقاله في كتاب النفقة وهو بقوله أولى لأنه لم يختلف قوله أن عليه أن يزكي عن خادمها فكذلك ينفق عليها (قال المزني) رحمه الله: ومما يؤكد ذلك قوله لو أراد أن يخرج عنها أكثر من واحدة أخرجهن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا فَأَمَّا نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 9] وَالْخِدْمَةُ مِنَ الْمُعَوَّدِ الْمَعْرُوفُ. وَلِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. فَكَانَ الْخَادِمُ مِنَ الْمَعْرُوفِ. وَلِأَنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعَ الْكَامِلَ فَلَزِمَهُ لَهَا الْكِفَايَةُ الْكَامِلَةُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن مثلها مخدوماً لقياسها بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهَا، وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُرْفِ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُرْفُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ. فَإِنَّ عُرْفَ ذَوِي الْأَقْدَارِ بِشَرَفٍ أَوْ يَسَارٍ أَنْ يَخْدُمَهُمْ غَيْرُهُمْ فَلَا يَخْدُمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَعُرْفَ مَنِ انْخَفَضَ قَدْرُهُ وَانْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ أَنْ يَخْدُمَ نَفْسَهُ وَلَا يُخْدَمَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عُرْفُ الْبِلَادِ فَإِنَّ عَادَةَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا وَلَا يَخْدُمُوا، وَعَادَةَ أَهْلِ السَّوَادِ أَنْ يَخْدُمُوا وَلَا يَسْتَخْدِمُوا فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ وَسُكَّانِ الْأَمْصَارِ لَزِمَهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً فَيَلْتَزِمَ لَهَا مُدَّةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 مَرَضِهَا وَإِنْ طَالَتْ، نَفَقَةُ خَادِمِهَا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ قَدْ تَجِبُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجَاتِ وَلَا يَجُبْ فِي حُقُوقِهِنَّ الدَّوَاءُ وَالطَّبِيبُ. وَالِاعْتِبَارُ فِي خِدْمَتِهَا بِمَا تَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَرَفَّعَتْ عَنِ الْخِدْمَةِ لَمْ تَلْزَمْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَبَذَّلَتْ فِي الْخِدْمَةِ لَزِمَهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ لَهَا نفقة اكثر من خادم واحد وإن جلت. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَمْ تَسْتَقِلَّ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ لِجَلَالَةِ الْقَدْرِ وَكَثْرَةِ الْحَشَمِ. أُخِذَ مِنْهَا مَنْ جَرَتْ بِهِمْ عَادَةُ مِثْلِهَا مِنْ عَادَةِ الْخَدَمِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ مَعَهُ لِزِينَةٍ أَوْ حِفْظِ مَالٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الزَّوْجِ، وَجَرَى حُكْمُ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ حُكْمَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى الأسهم فَرْضٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَمَا عَدَاهُ لِعِدَّةٍ أَوْ زِينَةٍ. ". [الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْخِدْمَةِ] فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْخِدْمَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْخِدْمَةِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ، فَأَمَّا صِفَةُ الْخِدْمَةِ فَهِيَ نَوْعَانِ: خَارِجَةٌ وَدَاخِلَةٌ. فَأَمَّا الْخَارِجَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ، وَأَمَّا الدَّاخِلَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهَا إِلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةٍ. إِمَّا النِّسَاءُ، وَإِمَّا ذُو مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَالِ. وَإِمَّا صَبِيٌّ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَفِي الشَّيْخِ الْهَرِمِ وَمَمْلُوكِهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمَا. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ لَهَا مَنْ خَالَفَ دِينَهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، يَجُوزُ لِحُصُولِ الْخِدْمَةِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا أَذَلَّ نُفُوسًا وَأَسْرَعَ فِي الْخِدْمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا عَافَتِ اسْتِخْدَامَهُ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يُؤْمَنُوا لِعَدَاوَةِ الدِّينِ وَلَوْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ الْخَارِجَةِ وَلَا يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ الدَّاخِلَةِ كَانَ وَجْهًا، وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أما بأن المشتري خَادِمًا يَقُومُ بِخِدْمَتِهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا خَادِمًا، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَالْخِيَارُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَيْهِ دُونَهَا، لِأَنَّ حَقَُّهَا فِي الْخِدْمَةِ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَخْدُمَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ ذَاكَ لِاسْتِغْنَائِهَا بِخِدْمَتِهِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهَا قد تحتشمه من الِاسْتِخْدَامِ فَيَلْحَقُهَا تَقْصِيرٌ، فَلَوْ قَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَ نَفْسِي وَآخُذَ أُجْرَةَ خَادِمِي لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ كَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِلْمَالِ حَمَّالًا وَنَقَّالًا، فَلَوْ تَكَلَّفَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ حَمْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَطَوَّعَ إِنْسَانٌ بِخِدْمَتِهَا سَقَطَتْ خِدْمَتُهَا عَنِ الزَّوْجِ سَوَاءٌ تَطَوَّعَ بِالْخِدْمَةِ عَنْهَا أَوْ عَنِ الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخَادِمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهَا أَوْ لِلزَّوْجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُكْتَرًى فَعَلَى الزَّوْجِ أُجْرَتُهُ وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا زَكَاةُ فَطَرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أُجْرَتُهُ وَلَا نَفَقَتُهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ نَفَقَةَ خَادِمِهَا في موضع ولم يوجبها في موض فَوَهِمَ وَتَصَوَّرَ أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُهُ لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا، والموضع الذي أسقط فيه نفقة خادمها إذا كَانَ مِثْلُهَا غَيْرَ مَخْدُومٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَيْهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مشتراً. والموضع الذي أسقط فيه نفقة خادمها إذا كان مكترا، ثُمَّ وَهِمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: قد أوجب زكاة فطرته وَلَمْ يُوجِبْ نَفَقَتَهُ وَهَذَا أَظْهَرُ وهْمًا مِنَ الأول، لأن زكاة الفطر لابن م إِلَّا بِلُزُومِ النَّفَقَةِ وَقَدْ تَلْزَمُ النَّفَقَةُ وَإِنْ لم تلزم زكاة الفطرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 (القول في نفقة المكاتب) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْفِقُ الْمُكَاتَبُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِوَلَدِ الْمُكَاتَبِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ يَأْتِي. والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا فِي كِتَابَتِهِ فَأَوْلَدَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِالْمِلْكِ أَوْ بِشُبْهَةِ الْمِلِكِ وَهُوَ تَابِعٌ لِأَبِيهِ بِعِتْقِهِ إِنْ أَدَّى وَيَرِقُّ بِرِقِّهِ إِنْ عَجَزَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ ينفق عليه مما بيده من ماله الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ لِِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ تَابِعٌ لَهُ إِنْ عَتَقَ وَعَائِدٌ إِلَى سَيِّدِهِ إِنْ رُقَّ، فَخَالَفَ وَلَدَ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ أُعْتِقَ فَمَالُهُ لَهُ: فَجَازَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ. وَإِنْ رُقَّ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ وَوَلَدُهُ مَمْلُوكَانِ لِلسَّيِّدِ وَمَا بِيَدِهِ لِلسَّيِّدِ، فَجَازَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةٍ وَلَيْسَتْ كِتَابَتُهُمَا وَاحِدَةً وَلَا مَوْلَاهُمَا وَاحِدًا وولدته فِي الْكِتَابَةِ أَوْلَادٌ فَنَفَقَتَهُمْ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِمْ وَيُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَتُهُ عَلَى أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْأَبِ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى سَيِّدِهِ بِأَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إِنْ عَتَقَ أَوْ بِالْمِلْكِ إِنْ عَجَزَ وَرُقَّ فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ من الإنفاق على ولده الحر، لأنه لاحق فِيهِ لِلسَّيِّدِ. وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ مَنْ أَمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ السَّيِّدِ، وَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنِ الْأَبِ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ بِهَا الْأَبُ الحر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَتَسْقُطُ عَنْ أُمِّهِ لِرِقِّهَا وَعَنْ أَبِيهِ لِكِتَابَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مُكَاتَبَةٍ: فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْأَبِ، وَهَلْ يَكُونُ تَبَعًا لِأُمِّهِ أَوْ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مِلْكًا لِسَيِّدِهَا وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا دُونَهَا وَدُونَ الْأَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا كَمَا قُلْنَا فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ وَالرِّقِّ دُونَ الْأَبِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي الْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ لِسَيِّدَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أن ينفق عليه، لأن سيد الأب لاحق لَهُ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ لِسَيِّدِهِ حَقًّا فِي ولده. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ مِنْ أَبَوَيْهِ دُونَ الْمَمْلُوكِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ دُونَ أَبِيهِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الْعَبْدُ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَلَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَلَمَّا مَلَكَ الِاسْتِمْتَاعَ مَلَكَ عَلَيْهِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَلَيْسَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهَا وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِخُرُوجِهِ مَنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 (باب قدر النفقة) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " عَلَيْهِ النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ نَفَقَةُ الْمُوسِعِ وَنَفَقَةُ الْمُقْتِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رزقه} قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ مُقَدَّرَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدٍّ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا تَقَدَّرَتْ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ: نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَتِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ فَخَالَفُوا فِي الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَجْعَلُوهَا مُقَدَّرَةً وَلَا مُعْتَبَرَةً بِحَالِ الزَّوْجِ وَلَا مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِهِنْدٍ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". فَأَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ كِفَايَتِهَا، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، وَنَفَقَةُ وَلَدِهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ لَهَا إِلَّا فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِفَايَةَ هِيَ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالتَّمْكِينُ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَةِ الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ما في مقابلته من النفقة معتبراً بكافية الزَّوْجَةِ كَالْمُقَاتِلَةِ لَمَّا يَلْزَمُهُمْ كِفَايَةُ الْمُسْلِمِينَ جِهَادَ عَدُوِّهِمُ اسْتَحَقُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بِنَسَبٍ، وَزَوْجِيَّةٍ، وَمِلْكٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهَا جِهَةٌ تَسْتَحِقُّ بِهَا النَّفَقَةَ. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً بِالْكِفَايَةِ كَالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ بِالزَّوْجِ وَاخْتِلَافِهَا بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ. فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ كِفَايَتِهَا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهَا أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَحَقَّ بِالزَّوْجِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْمَهْرِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الْإِطْعَامِ إِذَا لَمْ يَسْقُطُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 بِالْإِعْسَارِ كَانَ مُقَدَّرًا كَالْكَفَّارَاتِ. وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْكِفَايَةِ مُفْضٍ إِلَى التَّنَازُعِ فِي قَدْرِهَا. فَكَانَ تَقْدِيرُهَا بِالشَّرْعِ حَسْمًا لِلتَّنَازُعِ فِيهِ أَوْلَى كَدِيَةِ الْجَنِينِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ. فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ لَا تَأْخُذَ فِي الْإِعْسَارِ مَا تَأْخُذُهُ فِي الْيَسَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَبَرِ بِالْكِفَايَةِ كَالْمُجَاهِدِينَ. فَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ مُسْتَحَقٍّ بِعَقْدٍ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ عَنِ الْتِمَاسِ الْكِفَايَةِ فَجَازَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهَا قَدْرُ الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ غير مقدرة، ونفقة الزوجة مستحق عَنْ بَدَلٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً كَالْأُجُورِ وَالْأَثْمَانِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ، نَفَقَةُ الْمُوسِرِ، وَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، ثُمَّ قَدَّرَهَا ثَلَاثَ نَفَقَاتٍ. مُوسِرٌ وَمُعْسِرٌ وَمُتَوَسِّطٌ فَنَقَضَ بَعْضُ كَلَامِهِ بَعْضًا. قِيلَ: أَرَادَ الْمُعْتَبَرُ بِالشَّرْحِ نَفَقَتَانِ يَسَارٌ وَإِعْسَارٌ، وَالثَّالِثَةُ مُعْتَبِرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ لِتَوَسُّطِهَا بين اليسار والإعسار. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْمُقْتِرَ لِامْرَأَتِهِ إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ بِبَلَدِهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مَخْدُومَةً عَالَهَا وَخَادِمًا وَاحِدًا بِمَا لَا يَقُومُ بَدَنٌ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ طَعَامِ الْبَلَدِ الْأَغْلَبِ فِيهَا مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: فِي جِنْسِهَا. والثالث: في صفتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 (الفصل الأول في مقدار النفقة) فَأَمَّا مِقْدَارُهَا. فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّوَسُّطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ مُخْتَلِفًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَأَنْ يُعْتَبَرَ بِأَصْلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ الْمِقْدَارُ مِنْهُ، فَكَانَ أَوْلَى الْأُصُولِ بِهَا الْكَفَّارَاتُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَعَامٌ يُقْصَدُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَعَامٌ يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ. ثُمَّ وَجَدْنَا أَكْثَرَ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِدْيَةَ الْأَذَى قُدِّرَ فِيهَا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِنَفَقَةِ الْمُوسِرِ، فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زوجته في يَوْمٍ مُدَّيْنِ وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَغْلَبِ، وَوَجَدْنَا أَقَلَّ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ. فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَغْلَبِ، ثُمَّ وَجَدْنَا الْمُتَوَسِّطَ يَزِيدُ عَلَى حَالِ الْمُقْتِرِ وَيَنْقُصُ عَنْ حَالِ الْمُوسِرِ. فَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُعْسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ حَيْفِ النُّقْصَانِ. وَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُوسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ حَيْفِ الزِّيَادَةِ فَعَامَلْنَاهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مُدًّا وَنِصْفًا، لِأَنَّهُ نِصْفُ نَفَقَةِ مُوسِرٍ وَنِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ. فَأَمَّا الْمُوسِرُ: فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ كُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ كَسْبِهِ لَا مِنْ أَصْلِ مَالِهِ. وَأَمَّا الْمُعْسِرُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَّا نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ لَا مِنْ كَسْبِهِ. وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ: فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ الْمُتَوَسِّطِينَ. فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا فَضُلَ مِنْ كَسْبِهِ. فَيَكُونُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ بِالْكَسْبِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْمَالِ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُقَدَّرَ لِلزَّوْجَةِ وَهُوَ شِبَعَهَا أَوْ كَانَ زَائِدًا أَوْ مُقَصِّرًا، فَإِنْ زَادَ عَلَى شِبَعِهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِلْكًا لَهَا، وَإِنْ نَقَصَ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى التَّشَبُّعِ، بِهِ كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهَا قَدْرَ شِبَعِهَا وَبَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنَ اكْتِسَابِهِ. فَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَلَا خِيَارَ لَهَا. فَإِنْ مَكَّنَهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اكْتِسَابِ كِفَايَتِهَا صارت من أهل الصدقات تأخذ د باقي كفايتها من الزكوات والكفارات. ( [فصل: القول في جنس النفقة] ) وَأَمَّا جِنْسُ النَّفَقَةِ. فَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِمَا. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّفَقَاتِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ثم كانت الكفارات كفارات من غالب الأقوات، فكانت النفقة بِذَلِكَ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَغَالَبُ قُوتِ أَهْلِ الْحِجَازِ التَّمْرُ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الطَّائِفِ الشَّعِيرُ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْيَمَنِ الذَّرَّةُ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْبُرُّ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ الْأُرْزُ. فَيُنْظَرُ فِي غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِمَا فَتَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهَا مِنْهُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ قُوتُ بَلَدِهِمَا وَجَبَ لَهَا الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا دُونَهَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ بَلَدَيْنِ يَخْتَلِفُ قُوتُهُمَا نَظَرَ، فَإِنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجِ، وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهَا فِي بَلَدِهَا اعْتُبِرَ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَمْ تَأْلَفِ الزَّوْجَةُ أَكْلَ قُوتِ بَلَدِهِ، قِيلَ: هَذَا حَقُّكِ فَإِنْ شِئْتِ فَأَبْدِلِيهِ بِقُوتِ بَلَدِكِ، وَهَكَذَا لَوِ انْتَقَلَا عَنْ بَلَدِهِمَا إِلَى بَلَدٍ قُوتُهُ مُخَالِفٌ لِقُوتِ بَلَدِهِمَا، لَزِمَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ الَّذِي انتقلا إليه دون البلد الذي انتقلا إليه، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى. لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وقت حكمه. (فصل: القول في صفة النفقة) فَأَمَّا صِفَةُ جِنْسِ النَّفَقَةِ. فَهُوَ الْمُدُّ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوِ الْأُرْزِ أَوِ الذُّرَةِ. دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْتَاتُ إِلَّا بَعْدَ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَبَّ أَكْمَلُ مَنْفَعَةً مِنْ مَطْحُونِهِ وَمَخْبُوزِهِ لِإِمْكَانِ ادِّخَارِهِ وَازْدِرَاعِهِ. وَالثَّانِي: لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ فِيهَا إِلَّا الْحَبُّ. دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ، فَإِذَا وَجَبَ لَهَا الْحَبُّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا طَحْنَ أَقْوَاتِهِمْ وَخَبْزَهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَأَهْلِ السَّوَادِ، كَانَ مُبَاشَرَةُ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عادت أَمْثَالِهَا بِمُبَاشَرَةِ طَحْنِ أَقْوَاتِهِمْ وَخَبْزِهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا أُجْرَةَ الطَّحْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ لَهَا مَنْ يَتَوَلَّى طَحْنَهُ وَخَبْزَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَفْضَى حَقُّهَا إِلَى الْخُبْزِ كَانَ إِيجَابُهُ أَحَقَّ. قِيلَ: لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَدَّخِرَهُ وَتَزْرَعَهُ إِنْ شَاءَتْ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا قِيمَةَ الْحَبِّ لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَوْ طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ الْقِيمَةَ لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِهَا، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَكَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ، ولمعين بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ، فَأَشْبَهَ الْقُرُوضَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 426 (الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلِخَادِمِهَا مِثْلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا وَأَخْدَمَهَا مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لَهُ، فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ نَفَقَتُهُ. لَكِنْ إِنْ كَانَ الْخَادِمُ لَهُ فَنَفَقَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَتِهِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا لَهَا فَنَفَقَتُهُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسْبِ حَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِقْتَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُدَّانِ، فَتَكُونُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدًّا وَثُلُثًا، لِكَوْنِهِ تَابِعًا لَهَا فَلَمْ يَتَسَاوَيَا فِيهَا، وَلَمْ يُعْطَ مُدًّا وَنِصْفًا لِئَلَّا يُسَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ، وَاقْتُصِرَ بِهِ عَلَى مُدٍّ وَثُلُثٍ وَهُوَ ثُلُثَا نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُتَوَسِّطًا وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ ثُلُثَا نَفَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ. فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ وَاحِدٌ، وَقَدْ كَانَ الِاعْتِبَارُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا مُدٍّ وَلَا يُسَاوَى بَيْنَهُمَا، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بَدَنٌ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ كَامِلٍ فَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّسْوِيَةِ كَالْعَدَدِ وَالْحُدُودِ تَنْقُصُ بِالرِّقِّ عَنْ حَالِ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا تَبَعَّضَ مِنَ الْأَقْرَاءِ وَالشُّهُورِ وَالْجَلْدِ وَسُوِّيَ بَيْنُهَمَا فِيمَا لَمْ يَتَبَعَّضْ مِنَ الْحَمْلِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَكِيلَةٌ مِنْ أُدْمِ بِلَادِهَا زَيْتًا كَانَ أَوْ سَمْنًا بِقَدْرِ مَا يَكْفِي مَا وَصَفْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأُدْمُ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْلُوفِ، لِأَنَّ الطعام لا ينساغ أَكْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا بِهِ. فَأَوْجَبْنَاهُ لَهَا عُرْفًا، وَإِذَا كَانَ أُدْمُهَا مُسْتَحَقًّا فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ دُهْنًا، وَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى عُرْفِ الْبِلَادِ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالدُّهْنِ، وَمِنَ الْبِلَادِ مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِاللَّحْمِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَحْمًا، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالسَّمَكِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا سَمَكًا، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِاللَّبَنِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَبَنًا، وَنَحْنُ نِصْفُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِدَامِ الدُّهْنِ، وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ بِقِيَاسِهِ فَالْبِلَادُ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالدُّهْنِ يَخْتَلِفُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْبِلَادِ. فَإِدَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ السَّمْنُ وَإِدَامُ أَهْلِ الشَّامِ الزَّيْتُ وَإِدَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الشَّيْرَجُ، فَيُعْتَبَرُ جِنْسُهُ بِعُرْفِ الْبَلَدِ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ، فَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ. فَيُقَالُ كَمْ يَكْفِي إِدَامُ كُلِّ مُدِّ طَعَامٍ مِنَ الدُّهْنِ. فَإِذَا قِيلَ كُلُّ مد يكتفي في آدامه بأوقية من دم جَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْرًا مُسْتَحَقًّا فِي إِدَامِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَتِهَا مُدَّانِ مِنْ حَبٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِإِدَامِهَا أُوقِيَّتَانِ مِنْ دُهْنٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا تَجِبُ عَلَيْهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ. وَجَبَ لِإِدَامَهَا أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ مقتراً وجب عليه مد وجب لإدامه أُوقِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ إِدَامُ خَادِمِهَا تُعْتَبَرُ بِقُوتِهِ مِنَ الْحَبِّ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ مِنَ الْحَبِّ، كَانَ لَهُ أُوقِيَّةٌ وَثُلُثٌ مِنَ الدُّهْنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ مِنَ الْحَبِّ كَانَ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنَ الدُّهْنِ، ثُمَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 يُرَاعَى بَعْدَ الدُّهْنِ حَالُهُمْ فِيمَا عَدَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِاللَّحْمِ عَادَةً اعْتَبَرْتَهَا فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، أَوْجَبْتَهُ لَهَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ عُرْفُ مَنْ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ إِلَّا مَرَّةً، وَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْجَبْتَهُ لَهَا مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْأُخْرَى فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، لِأَنَّهُ عُرْفُ مَنْ يَأْكُلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْعِبْرَةُ فِي الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ اللَّحْمِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ قَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِرِطْلٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمِقْدَارُ عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ عُرْفَ بِلَادِهِ بِالْحِجَازِ وَمِصْرَ، وَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهَا أَنْ يَتَأَدَّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ مِنَ اللَّحْمِ فَقَدْرُهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَعَلْتُمُ الْحَبَّ مُقَدَّرًا لَا يُعْتَبَرُ بِالْعُرْفِ وَجَعَلْتُمُ الدُّهْنَ وَاللَّحْمَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ قِيلَ، لِأَنَّ الْحَبَّ يُقَدَّرُ بِالشَّرْعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِيهِ وَالْأُدْمَ لَمْ يَتَقَدَّرْ إِلَّا بِالْعُرْفِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيهِ، وَمَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ عُرْفِ الْأَزْوَاجِ فِي إِدَامِهَا اعْتَبَرْنَا عُرْفَ الْخَدَمِ فِي إِدَامِ خَادِمِهَا. (الْقَوْلُ فِي أَدَوَاتِ الزِّينَةِ وَالنَّظَافَةِ لِلزَّوْجَةِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْرَضُ لَهَا فِي دُهْنٍ وَمُشْطٍ أَقَلُّ مَا يَكْفِيهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِخَادِمِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ لَهَا وَقِيلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ رِطْلُ لحم وذلك المعروف لمثلها ". قال الماوردي: قَالَ تَسْتَحِقُّ فِي نَفَقَتِهَا عَلَى الزَّوْجِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّهْنِ لِتَرْجِيلِ شَعْرِهَا وَتَدْهِينِ جَسَدِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَإِنَّ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالَ الزِّينَةِ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ بِلَادِهَا، فَمِنْهَا مَا يَدِّهِنُ أَهْلُهُ بِالزَّيْتِ كَالشَّامِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لَهَا، وَمِنْهَا مَا يَدَّهِنُ أَهْلُهُ بِالشَّيْرَجِ كَالْعِرَاقِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لَهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَعْمِلُ أَمْثَالَهَا فِيهِ إِلَّا مَا طُيِّبَ مِنَ الدُّهْنِ بِالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ، فَتَسْتَحِقُّ فِي دُهْنِهَا مَا كَانَ مُطَيَّبًا فَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِكِفَايَةِ مِثْلِهَا، وَأَمَّا وَقْتُهُ فَهُوَ كُلُّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: ادَّهِنُوا يَذْهَبُ الْبُؤْسُ عَنْكُمْ، وَالدُّهْنُ فِي الْأُسْبُوعِ يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْمُشْطُ يَعْنِي بِهِ آلَةَ الْمُشْطِ مِنَ الْأَفَاوِيهِ وَالْغِسْلَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُرْفِ بِلَادِهِمْ. فَأَمَّا الكحل فما كان منه للزينة الاثمد فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ لِلدَّوَاءِ فَهُوَ عَلَى الزَّوْجَةِ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَهِيَ لِلدَّوَاءِ أَحْوَجُ مِنْهَا إِلَى الدُّهْنِ فَكَانَ بِأَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَحَقُّ قِيلَ: لِأَنَّ الدَّوَاءَ مُسْتَعْمَلٌ لِحِفْظِ الْجَسَدِ فَكَانَ عَلَيْهَا، وَالدُّهْنَ مُسْتَعْمَلٌ لِلزِّينَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ لَهُ وَحِفْظَ الْجَسَدِ لَهَا، وَجَرْيُ الزَّوْجِ مَجْرَى الْمُكْرَى لَزِمَهُ بِنَاءَ مَا اسْتُهْدِمَ مِنَ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ دُونَ مُكْتَرِيهَا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 فَأَمَّا دُخُولُ الْحَمَّامِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ. فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَهْلِهَا بِدُخُولِ الْحَمَّامِ كَالْقُرَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِهَا كَالْأَمْصَارِ كَانَ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّسَاءِ يَغْتَسِلْنَ بِهِ وَيَخْرُجْنَ بِهِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ الَّذِي يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فِي الْغَالِبِ، فَأَمَّا الْحِنَّاءُ وَالِاخْتِضَابُ بِهِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ يَلْزَمْهَا، وَإِنْ طَلَبَهُ الزَّوْجُ وَجَبَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " لَعَنَ السَّلْتَاءَ وَالْمَرْهَاءَ " وَالسَّلْتَاءُ: الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَرِهَتْ زَوْجَهَا لِيُفَارِقَهَا فَلِذَلِكَ لَعَنَهَا. فَأَمَّا الطِيِبُ فَمَا كَانَ مِنْهُ مُزِيلًا لِسَهُوكَةِ الْجَسَدِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ لَهَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَعْمَلًا لِلِالْتِذَاذِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِرَائِحَتِهِ فَهُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ لَزِمَهَا اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَمْ يستحق المطالبة به. (فصل) فأما خدامها فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الزَّوْجِ دُهْنًا وَلَا مُشْطًا، لِأَنَّهَا زِينَةٌ تُقْصَدُ فِي الزَّوْجَاتِ دُونَ الْخَدَمِ، فَأَمَّا مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَاءِ فَيَسْتَحِقُّهُ عَلَى مَالِكِهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ فَدَوَاؤُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ دَوَاؤُهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مِلْكًا لِلزَّوْجَةِ كَانَ دَوَاؤُهُ عَلَيْهَا. (الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ كِسْوَةِ الزوجة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفُرِضَ لَهَا مِنَ الْكِسْوَةِ مَا يُكْسَى مِثْلُهَا بِبَلَدِهَا عِنْدَ الْمُقْتِرِ مِنَ الْقُطْنِ الْكُوفِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ فَمُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الزَّوْجِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلِأَنَّ اللِّبَاسَ مِمَّا لَا تَقُومُ الْأَبْدَانُ فِي دَفْعِ الحر البرد إِلَّا بِهِ، فَجَرَى فِي اسْتِحْقَاقِهِ عَلَى الزَّوْجِ مَجْرَى الْقُوتَ، وَإِذَا وَجَبَتِ الْكِسْوَةُ تَعَلَّقَ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: عَدَدُ الثِّيَابِ. وَالثَّانِي: جِنْسُهَا. وَالثَّالِثُ: مِقْدَارُهَا. فَأَمَّا الْعَدَدُ فَأَقَلُّ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فِي الصَّيْفِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الشِّتَاءِ. قَمِيصٌ لِجَسَدِهَا وَقِنَاعٌ لِرَأْسِهَا، وَسَرَاوِيلُ أَوْ مِئْزَرٌ لِوَسَطِهَا. وَالرَّابِعُ: جُبَّةٌ تَخْتَصُّ بِالشِّتَاءِ، فَأَمَّا الْمِلْحَفَةُ فَلَا تَجِبُ، لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي الْخُرُوجِ الَّتِي تَلْتَحِفُ بِهَا، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ فَسَقَطَ عَنْهُ مَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 خُرُوجِهَا، وَكَذَلِكَ الْخُفُّ مِمَّا يَسْتَوِي فِي عَدَدِهِ زَوْجَةُ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَلَئِنْ كَانَ فِي سُكَّانِ الْقُرَى مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَالْمِئْزَرَ فَفِي تَرْكِهِ هَتْكُ عَوْرَةٍ، وَيُؤْخَذُ بِهَا فِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعُ النَّاسِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْبَلَدِ جَارِيَةً بِلَبْسِ السَّرَاوِيلِ كَانَ حَقُّهَا فِيهِ دُونَ الْمِئْزَرِ، وَإِنْ كُنَّ يَلْبَسْنَ الْمِئْزَرَ فَحَقُّهَا دون السراويل، وإن كان السَّرَاوِيلُ أَصْوَنَ وَأَسْتَرَ، فَأَمَّا مَدَاسُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ نعل أو شبشب فمعتبر بالعادة والعرف، وإن كَانَ ذَلِكَ فِي سُكَّانِ الْقُرَى الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَةُ نِسَائِهَا بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ وَمِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ مَدَاسًا مُعْتَبَرًا بالعرف من نعل أو شبشب. (فصل: [القول في جنس الكسوة] ) فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ فَتَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ وَالتَّوَسُّطِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ثِيَابِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِهِ الْقُطْنَ فِي الصَّيْفِ وَالْخَزَّ فِي الشِّتَاءِ، فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ ثَوْبًا مِنْ مُرْتَفِعِ الْقُطْنِ وَنَاعِمِهِ كَالْبَصَرِيِّ وَمُرْتَفِعِ الْمَرْوَزِيِّ، وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ خَزٍّ وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ ثوباً من وسط القطن وكالبصري وَالْبَغْدَادِيِّ وَجُبَّةَ قُطْنٍ مَحْشُوَّةً أَوْ مِنْ وَسَطِ الْخَزِّ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ ثَوْبًا مِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ كَالْبَصَرِيِّ وَالْكُوفِيِّ وَجُبَّةً مِنْهُ أَوْ مِنْ صوف إن كان يكتسبه نِسَاءُ بَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِ بَلَدِهَا الْكَتَّانَ وَالْإِبْرَيْسَمَ فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ مِنْ مرتفع الكتاب كَالدَّبِيقِيِّ وَمُتْرَفٍ وَمُرْتَفِعِ السَّقْلَسِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مِنْ مُرْتَفِعِ الْقَصَبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ. لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ ثَوْبًا وَاحِدًا وَذَلِكَ لَا يَسْتُرْهَا وَلَا تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُا فلذلك فرض لها ما تجزي فِيهِ الصَّلَاةُ، وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ إِبْرِيسَمَ كَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَمَا يَخْتَصُّ بِبَلَدِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِبْرَيْسَمِ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ وَسَطَ الْكَتَّانِ كَالْمَعْصُورِ بِمِصْرَ وَالْمَعْرُوفِ بِالْبَصْرَةِ، وَوَسَطَ الرُّومِيِّ بِبَغْدَادَ وَجُبَّةً مِنْ وَسَطَ الْجِبَابِ الَّتِي يَلْبَسُهَا نِسَاءُ بَلَدِهَا، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ غَلِيظَ الْكَتَّانِ وَخَشِنَهُ وَجُبَّةً لِجِسْمِهَا وَهَذَا مِثَالٌ وَلِكُلِّ بَلَدٍ عُرْفٌ فاعتبر عرفهم فيه. (فصل: [القول في مقدار الكسوة] ) وَأَمَّا مِقْدَارُ ثِيَابِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِقَدِّهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالنَّحَافَةِ وَالسِّمَنِ، هَذَا فِي مِقْدَارِ قميصها فأما القناع فيتساوى والسراويل يتقارب وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا مِقْدَارَ الثِّيَابِ بِكِفَايَتِهَا، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْقُوتُ بِكِفَايَتِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَتَقَدَّرُ بِهِ الْقُوتُ فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الكفاية وليس في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 الشرع يَتَقَدَّرُ بِهِ اللِّبَاسُ فَاعْتَبَرَنَا فِيهِ الْكِفَايَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِفَايَةَ فِي الْكِسْوَةِ مُتَحَقِّقَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَاعْتَبَرْنَاهَا وَكِفَايَةُ الْقُوتِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ لَمْ نَعْتَبِرْهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جِنْسِ الْكِسْوَةِ وَمِقْدَارِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا ثِيَابًا وَلَا يَدْفَعَ إِلَيْهَا ثَمَنَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لِلْكِسْوَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ لَهَا مِنْهُ مَا احتاج إلى د خِيَاطَةٍ، فَإِنْ بَاعَتْهَا لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَمَلَكَتِ الثَّمَنَ، وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَكْسُوَ نَفْسَهَا بِمَا شَاءَتْ. وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِهَا أَوْ مِلْكِ الزَّوْجِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا. فَثَبَتَ أَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ وَجَازَ لَهَا بَيْعُ مَا مَلَكَتْ وَاللَّهُ أعلم. (كسوة خادم الزوجة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِخَادِمِهَا كِرْبَاسٌ وَمَا أَشْبَهَهُ وَفِي الْبَلَدِ الْبَارِدِ أَقَلُّ مَا يَكْفِي الْبَرْدَ مِنْ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَقَطِيفَةٍ أَوْ لِحَافٍ يَكْفِي السَنَتَيْنِ وَقَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَخِمَارٍ أَوْ مَقْنَعَةٍ وَلِجَارِيَتِهَا جُبَّةُ صُوفٍ وَكِسَاءٌ تَلْتَحِفُهُ يُدْفِئُ مِثْلَهَا وَقَمِيصٌ وَمَقْنَعَةٌ وَخُفٌّ وَمَا لَا غِنَى بِهَا عَنْهُ وَيَفْرِضُ لَهَا فِي الصَّيْفِ قَمِيصًا وَمَلْحَفَةً وَمَقْنَعَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَكِسْوَةُ الْعَبْدِ قَمِيصٌ وَمِنْدِيلٌ، وَفِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ، فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَإِنْ كَانُوا فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ عَبِيدُهُ السَّرَاوِيلَاتِ كَسَاهُ سَرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَسُونَهُ سَقَطَ عَنْهُ وَإِنْ كَانُوا فِي بَلَدٍ يَأْتَزِرُونَ وَلَا يَتَقَمَّصُونَ كَالْبَحْرِ كَسَاهُ مِئْزَرًا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَمِيصُ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ أَمَةً كَسَاهَا قَمِيصًا وَقِنَاعًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهَا عَلَى الْمِئْزَرِ وَحْدَهُ وَإِنْ أَلِفُوهُ لِأَنَّهُ يُبْدِي مِنْ جَسَدِهَا مَا تُغَضُّ عَنْهُ الْأَبْصَارُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَوْرَةً. وَتَحْتَاجُ الْأَمَةُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى مِلْحَفَةٍ إِذَا خَرَجَتْ لِلْخِدْمَةِ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الزَّوْجَةُ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ. فَأَمَّا الْخُفُّ في خروج الأمة، فَإِنْ كَانَ عَادَةُ الْبَلَدِ أَنْ تَتَخَفَّفَ إِمَاؤُهُ لَزِمَهُ خُفُّهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَخَفَّفُوا سَقَطَ عَنْهُ، وَبِمِثْلِهِ يُعْتَبَرُ حَالُ السَّرَاوِيلِ وَالْمِئْزَرِ، فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ فَفِي النَّاسِ قَوْمٌ تَتَسَاوَى كِسْوَاتُهُمْ وَكِسْوَاتُ إِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ كَفُقَرَاءِ الْبَوَادِي وَسُكَّانِ الْفَلَوَاتِ فَيَكُونُ أَحْرَارُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي الْكِسْوَةِ سَوَاءً، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَنَّ كِسْوَاتِ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ أَدْوَنُ مِنْ كِسْوَاتِ سَادَاتِهِمْ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ، فَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ أَدْوَنَ مِمَّا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ أَدْوَنَ مِنْهَا، ويفرض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ مِثْلَ مَا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ مِثْلَهَا، وَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُقْتِرِ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ كَغَلِيظِ الْكَرَابِيسِ وَثِيَابِ الصُّوفِ، وَإِلَّا سَاوَى بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ شَاهِدًا مُعْتَبَرًا فِي الثِّيَابِ وَالْجِبَابِ. (الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تُكْفَى الزَّوْجَةُ بِهَا) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ رَغِيبَةً لَا يُجْزِئْهَا هَذَا دَفَعَ إِلَيْهَا ذَلِكَ وَتَزَيَّدَتْ مِنْ ثَمَنِ أُدْمٍ وَلَحْمٍ وما شاءت في الحب وإن كانت زهيدة تزيدت فيما لا يقوتها من فضل المكيلة وإن كان زوجها موسعاً فرض لها مدان ومن الأدم واللحم ضعف ما وصفت لامرأة المقتر وكذلك في الدهن والمشط ومن كسوة وسط البغدادي والهروي ولين البصرة وما اشبهه ويحشي لها إن كانت ببلاد يحتاج أهلها إليه وقطيفة وسط ولا أعطيها في القوت دراهم فإن شاءت أن تبيعه فتصرفه فيما شاءت صرفته وأجعل لخادمها مداً وثلثا لأن ذلك سعة لمثلها وفي كسوتها الكرباس وغليظ البصري والواسطي وما أشبهه ولا أجاوزه بموسع من كان، ومن كانت امرأته ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّغِيبَةُ فَالْأَكُولَةُ، وَأَمَّا الزَّهِيدَةُ فَالْقَنُوعَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ رَغِيبَةً لَا تَكْتَفِي مِنَ الْحَبِّ بِمَا فَرَضَ لَهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ أُدْمِهَا مَا تَزِيدُهُ فِي الْحَبَّ الَّذِي يَكْفِيهَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا فَأَمَّا الْكِسْوَةُ إِذَا أَرَادَتْ بَيْعَهَا وَشِرَاءَ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي زِينَةِ ثِيَابِهَا فَمُنِعَتْ مِنْ تَغْيِيرِهَا وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قُوتِهَا فَمُكِّنَتْ مِنْ إِرَادَتِهَا، وَسَوَّى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ، وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِجَمِيعِ قُوتِهَا أَوْ تَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ تَهَبَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَلَمْ تُمْنَعْ إِذَا وَجَدَتْ قُوتَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ فِيمَا صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ مَنْ حَالِ الرَّغِيبَةِ وَالزَّهِيدَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقُوتَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْكِفَايَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ لَهَا التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ. فَلَوْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى أَكْلِ ما لا يشبعها وإن كانت تقضي بِهَا شِدَّةُ الْجُوعِ إِلَى مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ مُنِعَتْ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ مَا يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا مِنَ السُّمُومِ وَإِنْ كَانَ لَا يُفْضِي إِلَى مَرَضِهَا وَكَانَ مُفْضِيًا إِلَى هُزَالِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى الِاسْتِحْدَادِ وَمَنْعِهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى بِرَائِحَتِهِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ مَعَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِجْبَارُهَا عَلَى أَكْلِ مَا يَحْفَظُ بِهِ جَسَدَهَا وَيَدْفَعُ به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 هُزَالَهَا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. (القول في ما يجب للزوجة من الفراش) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِامْرَأَتِهِ فِرَاشٌ وَوِسَادَةٌ مِنْ غَلِيظِ مَتَاعِ الْبَصْرَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَلِخَادِمَهَا فَرْوَةٌ وَوِسَادَةٌ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ عَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ غَلِيظٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْقُوتِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ثم تلاه بالكسوة لأنها أمس ثُمَّ عَقَبَهُ بِالدِّثَارِ وَالْوَطَاءِ، لِأَنَّ دِثَارَ الشِّتَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِدَفْعِ الْبَرْدِ بِهِ فَكَانَ مستحقاً على الزوج، وعاد النَّاسِ فِي الدِّثَارِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ اللُّحُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْقُطُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَكْسِيَةَ فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَلَدِهَا. فَيَكُونُ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ لِحَافٌ مَحْشُوٌّ مِنْ مُرْتَفِعِ الْقُطْنِ أَوْ مِنْ وسط الحرير، وإن كانوا يستعملون القطيف فَرَضَ لَهَا قَطِيفَةً مُرْتَفِعَةً، أَوِ الْأَكْسِيَةَ فَرَضَ لَهَا كِسَاءً مُرْتَفِعًا مِنْ أَكْسِيَةِ بَلَدِهَا، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ الْوَسَطَ مِنَ اللُّحُفِ أَوِ الْقُطُفِ أَوِ الْأَكْسِيَةِ، وَلِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ الْأَدْوَنُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، هَذَا فِي الشِّتَاءِ فَأَمَّا الصَّيْفُ فَإِنِ اعْتَادُوا لِنَوْمِهِمْ غِطَاءً غَيْرَ لِبَاسِهِمْ فَرَضَ لَهَا بِحَسْبِ عُرْفِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَادُوهُ أُسْقِطَ عَنْهُ، وَخَالَفَ فِيهِ حَالُ الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ الِاسْتِكْثَارُ فِي دِثَارِ اللَّيْلِ عَلَى لِبَاسِ النَّهَارِ. وَالْعُرْفُ فِي الصَّيْفِ إِسْقَاطُ اللِّبَاسِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ عَنْ لِبَاسِ النَّهَارِ، وَأَمَّا الْوِطَاءُ فَهُوَ نَوْعَانِ: بِسَاطٌ لِجُلُوسِهَا، وَفِرَاشٌ لِمَنَامِهَا، فَأَمَّا بِسَاطُ الْجُلُوسِ فَمِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مُوسِرٌ وَلَا مُقْتِرٌ، فَيَفْرِضُ لَهَا بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَةِ أَهْلِهِ مِنْ بُسُطِ الشِّتَاءِ وَحُصُرِ الصَّيْفِ، فَأَمَّا الْفِرَاشُ فكان الامصار وذو الْيَسَارِ يَسْتَعْمِلُونَهُ زِيَادَةً عَلَى بُسُطِ جُلُوسِهِمْ، فَيُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ فِرَاشٌ مَحْشُوٌّ وَوِسَادَةٌ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَأَمَّا سُكَّانُ الْقُرَى وَدُورِ الْأَقْتَارِ فَيَكْتَفُونَ فِي نَوْمِهِمْ بِالْبُسُطِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِجُلُوسِهِمْ. فَلَا يُفْرَضُ لمثلها فراش لكن وسادة لرأسها، قَدْ أَلِفَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَكُونَ جِهَازُ الْمَنَازِلِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ عُرْفًا مُعْتَبَرًا. كَمَا أُلِفَ رَشْوَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يَصِيرُ حَقًّا مَعْتَبَرًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ فِي الْمَنَاكِحِ تَجِبُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَلَا تُعْكَسُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَأَمَّا خَادِمُهَا فَلَا يستغنى عن دثار في الشتار بِحَسْبِ عَادَتِهِ مِنَ الْفِرَاءِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوِسَادَةٍ لِرَأْسِهِ وَبِسَاطٍ لِجُلُوسِهِ وَمَنَامِهِ مَا يَجْلِسُ مِثْلُهُ عَلَيْهِ فِي جَسَدِهِ. . فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ لِخَادِمِهَا ذَلِكَ كَمَا يفرض قوته وكسوته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلِيَ أَخْلَفَهُ وَإِنَّمَا جَعَلْتُ أَقَلَّ الْفَرْضِ فِي هَذَا بِالدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دَفْعِهِ إِلَى الَّذِي أَصَابَ أَهْلَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَرَقًا فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا لِسِتِّينَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا جَعَلْتُ أَكْثَرَ مَا فَرَضْتُ مُدَّيْنِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَمَرَ بِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فِدْيَةِ الْأَذَى مُدَّانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ أُقَصِّرْ عَنْ هَذَا وَلَمْ أُجَاوِزْ هَذَا مَعَ أَنَّ مَعْلُومًا أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ أَقَلَّ الْقُوتِ مُدٌّ وَأَنَّ أَوْسَعَهُ مُدَّانِ وَالْفَرْضُ الَّذِي عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي لَيْسَ بِالْمُوسِعِ وَلَا الْمُقْتِرِ بَيْنَهُمَا مُدٌّ وَنِصْفٌ وَلِلْخَادِمَةِ مُدًّا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُوتُ فَمُسْتَحَقٌّ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يُوَقِّتُهُ عَلَيْهَا وَتَسْتَحِقُّهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِتَتَشَاغَلَ بِعَمَلِهِ وَلِتُبْدِيَ مِنْهُ لِغِذَائِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهَا فَسُرِقَ مِنْهَا أَوْ تَلِفَ فِي إِصْلَاحِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا فَرَّقَ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَالْعُرْفُ الْجَارِي فِيهَا، أَنْ تَسْتَحِقَّ فِي السَّنَةِ دَفْعَتَيْنِ، كِسْوَةٌ فِي الصَّيْفِ تَسْتَحِقُّهَا فِي أَوَّلِهِ، وَكِسْوَةٌ فِي الشِّتَاءِ تُسْتَحَقُّ فِي أَوَّلِهِ فَتَكُونُ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِسْوَتَيْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَسْتَحِقُّ عِنْدَ انْقِضَائِهَا الْكِسْوَةَ الْأُخْرَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَكْسُوَّةِ بَعْدَ لِبَاسِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وَفْقَ مُدَّتِهَا لَا تَخْلُقُ قَبْلَهَا وَلَا تَبْقَى بَعْدَهَا فَقَدْ وَافَقَتْ مُدَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَنْ يَكْسُوَهَا الْكِسْوَةَ الثَّانِيَةَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَبْلَى كِسْوَتُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. فَيَنْظُرُ فِيهَا. فَإِنْ بَلِيَتْ لِسَخَافَةِ الثِّيَابِ وردائتها كَسَاهَا غَيْرَهَا لِبَاقِي مُدَّتِهَا، وَإِنْ بَلِيَتْ لِسُوءِ فِعْلِهَا وَفَسَادِ عَادَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْقَى الْكِسْوَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ كِسْوَتُهَا فِي وَقْتِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَقَدَّمَهَا كَمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهَا إِلَى غَدِهِ اسْتَحَقَّتْ فِيهِ قُوتَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ مَعَ بَقَائِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْقُوتِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْكِسْوَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَالْقُوتَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِسْوَةِ، فَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَ مُدَّتِهَا لِجَوْدَتِهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا، لِأَنَّ الْجَوْدَةَ زِيَادَةٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا لِصِيَانَةِ لُبْسِهَا اسْتَحَقَّتْ بَدَلَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَلْبَسْهَا هَذَا كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الْجِبَابِ. فَأَمَّا الْجِبَابُ فَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ تَجْدِيدُهُ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ مِثْلُ: جِبَابِ الْقُطْنِ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ جُبَّةً، وَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ أَنْ يُلْبَسَ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالدِّيبَاجِ وَالسَّقْلَاطُونِ. فَلَا يَلْزَمُهُ إِبْدَالُهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ مِثْلِهَا فِيمَا تَلْبَسُ لَهُ مِنَ السِّنِينَ، وَأَمَّا الدِّثَارُ مِنَ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَمَا تَسْتَوْطِئُهُ مِنَ الْفُرُشِ وَالْوَسَائِدِ فَهُوَ فِي الْعُرْفِ أَبْقَى مِنَ الْكِسْوَةِ، وَمُدَّةُ اسْتِعْمَالِهِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ الثِّيَابِ، وَمُدَّةُ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ الْوَسَائِدِ وَالْفُرُشِ لِقُصُورِ مُدَّةِ اسْتِعْمَالِ اللُّحُفِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالشَّتَاءِ، وَالْفَرُشُ مُسْتَدَامَةٌ فِي الصَّيْفِ وَالشَّتَاءِ. فَيُعْتَبَرُ في ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَهِيَ جَارِيَةٌ بِتَصَرُّفِهَا وَعَمَلِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهَا فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي مُدَّةِ اسْتِحْقَاقِهَا. فَإِنْ بَلِيَتْ قَبْلَهَا أَوْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا فَهِيَ كَالثِّيَابِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَخَذَتْ مَا تَسْتَحِقُّهُ وَاسْتَعْجَلَتْهُ فَفَارَقَهَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا بِطَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ وَمَا أَخَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ بَاقٍ بِحَالِهِ. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قُوتًا أَوْ كِسْوَةً. فَإِنْ كَانَ قُوتُ يَوْمِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ، وَإِنْ تَعَجَّلَتْ قُوتَ شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا لِيَوْمِهَا اسْتَرْجَعَ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى قُوتِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَا لَا تَسْتَحِقُّ فَصَارَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ قَبْلَ الْحَوْلِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْآخِذِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ عَنْهَا اسْتَرْجَعَ الْوَرَثَةُ مِنْهَا نَفَقَةَ مَا زَادَ عَلَى يَوْمِ الْمَوْتِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهَا بِرٌّ وَمُوَاسَاةٌ وَهِيَ عِنْدُنَا مُعَاوَضَةٌ فَرَجَعَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ كِسْوَةً مِنْ لِبَاسٍ أَوْ دِثَارٍ. فَفَارَقَهَا بَعْدَ دَفْعِهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ. فَفِي اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا كَالْقُوتِ الْمُعَجَّلِ لِأَنَّهَا لِمُدَّةٍ لَمْ تَأْتِ. وَالْوَجْهُ الثاني: لا يرجع بها لأنه دَفَعَهَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا تُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا بِخِلَافِ الْقُوتِ الْمُعَجَّلِ. فَجَرَى مَجْرَى قُوتِ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يُسْتَرْجَعُ. ( [الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْبَدَوِيَّةِ) (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ بَدَوِيَّةً فَمَا يَأْكُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَمِنَ الْكِسْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَلْبَسُونَ لَا وَقْتَ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَدْرُ مَا يَرَى بِالْمَعْرُوفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يُخَالِفُونَ الْحَاضِرَةَ فِي الْأَقْوَاتِ وَاللِّبَاسِ، فَأَقْوَاتُهُمْ أَخْشَنُ وَمَلَابِسُهُمْ أَخْشَنُ، وَمَنْ قَرُبَ مِنْ أَمْصَارِ الرِّيفِ وَطُرُقِهَا كَانَ فِي الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا، فَيَنْظُرُ فِي الْأَقْوَاتِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْهُ، وَفِي الْمَلَابِسِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَضَرِيًّا وَالزَّوْجَةُ بَدَوِيَّةً. فَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْبَادِيَةِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ الْبَادِيَةِ وَكِسْوَتُهُمْ، وَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ الْحَضَرِ وَكِسْوَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إِذَا تَزَوَّجَ حَضَرِيَّةً رُوعِيَ مَوْضِعُ مُسَاكَنَتِهِمَا فَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي قُوتِهَا وَمَسْكَنِهَا وَكِسْوَتِهَا. (الْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُضَحِّيَ لِامْرَأَتِهِ وَلَا يُؤَدِّيَ عَنْهَا أَجْرَ طَبِيبٍ وَلَا حَجَّامٍ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأُضْحِيَةُ فَمِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا فِي حَقِّهَا، وَهِيَ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعُرْفُ فِيهَا مُعْتَبَرًا كَالْأَقْوَاتِ. قِيلَ إِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ مِثْلَهُ فِي قُوتِهَا، وَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الصَّدَقَةِ فَهُوَ عَنِ الزَّوْجِ لَا عَنْهَا، وَأَمَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ فِي الْأَمْرَاضِ فَجَمِيعُهُ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالْمُشْطِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدُّهْنَ مَأْلُوفٌ وَهَذَا نَادِرٌ. وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُ الدُّهْنِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَاخْتِصَاصُ الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ بِحِفْظِ الْجَسَدِ. وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 (بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّفَقَةُ وَمَا لا يجب من كتاب عشرة النساء) (وكتاب التعريض بالخطبة ومن الإملاء على مسائل مالك) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَخَلَّتْ أَوْ أَهْلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ قبله وقال في كتابين وقد قيل إذا كان الحبس من قبله فعليه وإذا كان من قبلها فلا نفقة لها ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعة من غيره كان مذهباً (قال المزني) رحمه الله قد قطع بأنها إذا لم تخل بينه وبينها فلا نفقة لها حتى قال فإن ادعت التخلية فهي غير مخلية حتى يعلم ذلك منها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ شَيْئَانِ: الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ. فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ. وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِسُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَدَخَلَ بِهَا بَعْدَ سِنْتَيْنِ فَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَنُقِلَ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهَا لَسَاقَهُ إِلَيْهَا وَلَمَا اسْتَحَلَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ لَهَا، وَلَكَانَ إِنْ أَعْوَزَهُ فِي الْحَالِ بِسَوْقِهِ إِلَيْهَا من بعد أو يعملها بِحَقِّهَا ثُمَّ يَسْتَحِلُّهَا لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِفَرْضٍ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مَوْجُودًا، وَكَذَلِكَ لا تجب بالعقد والاستماع، لِأَنَّهَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، فَدَلَّ إِذَا لَمْ تَجِبْ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِاجْتِمَاعِ الْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْرِيرِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ. فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْدٍ فَجَعَلُوا الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا بِالتَّمْكِينِ وَتَقْدِيمَ الْعَقْدِ شَرْطًا فِيهِ وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَجَعَلُوا الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا بِالْعَقْدِ وَحُدُوثَ التَّمْكِينِ شَرْطًا فِيهِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَكُونُ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ لِلتَّمْكِينِ هَلْ تَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ أَمْ لَا. فَمَنْ جَعَلَ التَّمْكِينَ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ شَرْطًا لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ وَأَوْجَبَهَا بِكَمَالِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 التَّمْكِينِ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْدَ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ حُدُوثَ التَّمْكِينِ شَرْطًا أَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ التَّأْنِيثِ لِلتَّمْكِينِ إِلَى أَقْصَى كَمَالِ التَّمْكِينِ. (الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْعَقْدَ الْفَاسِدِ) (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ مِنَ الْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَالْعَقْدُ مَا حُكِمَ لَهُ بِالصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ وَأَمَّا التَّمْكِينُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا. أَحَدُهُمَا: تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: تَمْكِينُهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ إِذَا كَانَتِ السُّبُلُ مَأْمُونَهً فَلَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، لِأَنَّ التَّمْكِينَ لَمْ يَكْمُلْ إِلَّا أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّقْلَةِ، فَتَجِبَ لَهَا النَّفَقَةُ وَيَصِيرَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النَّقْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنْ أَجَابَتْهُ إِلَى النَّقْلَةِ وَمَنَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ. فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يَحْرُمُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَالْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا، فَيَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَطَأُ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ تُوطَأُ، فَإِذَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ كَانَتْ مُرَاهِقَةً غَيْرَ بَالِغٍ فَمَكَّنَهُ مِنْهَا وَلِيُّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْهَا أَهْلُهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً، لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ، فَلَوْ بَذَلَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا وَأَكْرَهَتْ أَهْلَهَا عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْهَا اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ كَالْمَبِيعِ إِذَا سَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي غَيْرَ بَالِغٍ صَحَّ الْقَبْضُ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَمَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَلَّمَهَا قَبْلَ الْغِيبَةِ فَالنَّفَقَةُ لَهَا فِي زَمَانِ الْغِيبَةِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا مُسْتَدِيمَةٌ لِتَمْكِينٍ كَامِلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الْغَيْبَةِ فَشُرُوعُهَا فِي التَّمْكِينِ أَنْ تَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَتُخْبِرَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَهُ بِأَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ كَتَبَ حَاكِمُ بَلَدِهَا إِلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ زَوْجُهَا بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهَا، فَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ مِنْ حَاكِمِ بَلَدٍ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ فَكَمَالُ التَّمْكِينِ يَكُونُ بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ عِلْمِهِ زَمَانُ الِاجْتِمَاعِ إِمَّا بِأَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَنْقُلَهَا إِلَيْهِ، وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 دُونَهَا وَنَفَقَةُ نَقْلَتِهَا عَلَيْهِ دُونَهَا، فَإِذَا كَمَلَ التَّمْكِينُ بِمُضِيِّ زَمَانِ الِاجْتِمَاعِ فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا حِينَئِذٍ، وَلَا تَجِبُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَذْلِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا مِنْ وَقْتِ الشُّرُوعِ فِي التَّسْلِيمِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمْكِينِ هَلْ هُوَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ أَصْلٌ أَمْ شَرْطٌ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لِبُلُوغِهِ وَغَيْرَ مُمْكِنٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ لِصِغَرِهَا وَكَوْنِهَا مِمَّنْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَهْلُهَا تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ، لأنه زمان يطأها إِنْ تَسَلَّمَهَا، وَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي الصِّغَرِ كَالْمَانِعِ مِنْهُ بِالْمَرَضِ، وَنَفَقَةُ الْمَرِيضَةِ وَاجِبَةٌ كَذَلِكَ نَفَقَةُ الصَّغِيرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا اسْتِمْتَاعَ فِيهَا فَصَارَ كَالْعَاقِدِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعُيُوبِ، فَلَزِمَ فِيهَا حُكْمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ، وَفِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَقْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالصِّغَرِ أَغْلَظُ مِنْ تَعَذُّرِهِ بِالنُّشُوزِ فِي الْكِبَرِ لِإِمْكَانِهِ فِي حَالِ النُّشُوزِ وَتَعَذُّرِهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالنُّشُوزِ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَصَارَتْ بَدَلًا فِي مُقَابَلَةِ مُبْدَلٍ وَفَوَاتُ الْمُبْدِلِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْبَدَلِ سَوَاءٌ كَانَ فَوَاتُهُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لِسُقُوطِ الثَّمَنِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنَ الزَّوْجَةِ لِكِبَرِهَا وَمُتَعَذِّرًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لِصِغَرِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى تَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَإِنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِصِغَرِهِ كَعِلْمِهِ بِصِغَرِهَا فَاسْتَوَى فَوَاتُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ جِهَتِهِ مُخَالِفٌ لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دُونَهُ، وَقَدْ وُجِدَ التَّمْكِينُ مِنْ جهة الزوج فَلَمْ تَسْقُطِ النَّفَقَةُ بِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَرَبَ أَوْ جُبَّ وَكَالْمُسْتَأْجِرِ داراً إذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 مُكِّنَ مِنْ سَكَنَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ أُجْرَتُهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ سُكَنَاهَا. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ جِهَتِهِمَا لِصِغَرِهِمَا وَأَنَّ الزَّوْجَ مِمَّنْ لَا يَطَأُ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا تُوطَأُ. فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ أَصَحُّ تَغْلِيبًا لِعِلْمِهَا بِالْحَالِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَجْزِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا اعْتِبَارًا بِتَعَذُّرِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْقَوْلُ فِي نفقة المريضة) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالْمَرَضِ وَإِنْ سَقَطَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصِّغَرِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرِيضَةَ فِي قَبْضَتِهِ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، وَالصَّغِيرَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَرِيضَةِ اسْتِمْتَاعًا بِمَا سِوَى الْوَطْءِ، وَإِنَّهَا سَكَنٌ وَإِلْفٌ وَلَيْسَ فِي الصَّغِيرَةِ اسْتِمْتَاعٌ. وَلَيْسَتْ بِسَكَنٍ وَلَا إِلْفٍ. وَفَرْقٌ بَيْنَ تَعَذُّرِ جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِ بَعْضِهِ كَالرَّتْقَاءِ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِصَابَتِهَا. (الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَ فِي الْجِمَاعِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا) (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ فِي جِمَاعِهَا شِدَّةُ ضَرَرٍ مُنِعَ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كان الجماع ينكأها وَيَنَالُهَا مِنْهُ شِدَّةُ ضَرَرٍ إِمَّا لِضُؤُولَةِ جَسَدِهَا وَضِيقِ فَرْجِهَا وَإِمَّا لِعَظْمِ خِلْقَةِ الزَّوْجِ وَغِلَظِ ذَكَرِهِ مُنِعَ مَنْ وَطْئِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُخَافُ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَاهَا وَأَدَّى إِلَى تَلَفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الْمُسْتَحَقَّ مَا اشْتَرَكَ فِي الِالْتِذَاذِ بِهِ غَالِبًا. فَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الْفَسْخَ. لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَيْبَ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ زَوْجٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِثْلَهَا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ فِي حقها عيباً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجِ عَيْبًا تَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبًا يَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجُ. فَلَوِ اخْتَلَفَا وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ دُخُولَ شِدَّةِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا فِي جِمَاعِهِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا فِيهِ ضَرَرٌ فَهَذَا مِمَّا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِيهِ عَدَالَةُ ثِقَاتِ النِّسَاءِ لِيَشْهَدْنَ. فَإِنْ وَصَلْنَ إِلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيلَاجِ نَظَرْنَهُ. وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْنَ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا عِنْدَ الْإِيلَاجِ جَازَ أَنْ يَشْهَدْنَ حَالَ الْإِيلَاجِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ كَمَا يَشْهَدْنَ الْعُيُوبَ الْبَاطِنَةَ، وَكَمَا يُشَاهِدُ الطَّبِيبُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ أَوِ الشهادة؟ على وجهين: إحداهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةٌ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أقل من أربعة نسوة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ارْتَتَقَتْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهَا فَهَذَا عَارِضٌ، لَا مَنْعَ بِهِ مِنْهَا وَقَدْ جُومِعَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُرْنُ فَهُوَ عَظْمٌ يَعْتَرِضُ الرجم لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى نِكَاحِهَا لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا، وَأَمَّا الرَّتْقُ: فَهُوَ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ لِضِيقِ الْفَرْجِ بِهِ عَنْ دُخُولِ الذَّكَرِ وَيَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ بَعْدَ حُدُوثِهِ فَلِلزَّوْجَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ، وَفِي فَسْخِهِ لِنِكَاحِهَا إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْفَسْخِ جَمِيعُ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. فَإِنْ أَقَامَ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ. لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ، وَلَهَا النَّفَقَةُ لِكَوْنِهَا مُمْكِنًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جِمَاعُهَا وَأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا. (الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أحرمت أو اعتكفت) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فَأَحْرَمَتْ أَوِ اعْتَكَفَتْ أَوْ لَزِمَهَا نَذْرُ كَفَّارَةٍ كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جُمْلَةُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ، الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالِاعْتِكَافُ وَالْحَجُّ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَجِّ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ مَعَ السَّفَرِ فِيهِ عَنِ الْوَطَنِ، فَإِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بإذنه، أو غير إِذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَارَتْ بِالْإِحْرَامِ فِي حُكْمِ النَّاشِزِ وَنَفَقَتُهَا سَاقِطَةٌ عَنْهُ سَوَاءٌ أَحَرَمَتْ بِتَطَوُّعٍ أَوْ وَاجِبٍ. لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتِمْتَاعَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ مُحِلًّا يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ أَوْ كَانَ مُحْرِمًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُدُوثِ الِامْتِنَاعِ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا عَنْهَا وَتَرَكَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِالْغِيبَةِ عَلَى إِصَابَتِهَا، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ إِذْنَهُ لَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَاجْتِمَاعِهَا مَعَهُ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مُبَاعَدَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إليه هاهنا، لِأَنَّ إِحْرَامَهَا عَنْ إِذْنِهِ فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ مَعَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النُّشُوزِ. لِأَنَّهَا سَافَرَتْ عَنْهُ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا وَهَكَذَا حُكْمُ الْعُمْرَةِ. (فصل) (القول في نفقة المعتكفة) وَأَمَّا اعْتِكَافُهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي مَنْزِلِهَا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ اعْتِكَافِهَا فِيهِ فَلَهَا نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا. لِأَنَّهَا لَمْ تَبْعُدْ عَنْهُ وَيَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدٍ خَارِجَ مِنْ مَنْزِلِهَا. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِهِ وَهُوَ مَعَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَجِّ. أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا. وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 (الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ الصَّائِمَةِ) (فَصْلٌ) وَأَمَّا صَوْمُهَا فَيَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا مِنَ الْفُرُوضِ الْمَشْرُوعَةِ فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ فِيهِ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: قَضَاءُ رَمَضَانَ. فَزَمَانُهُ مَا بَيْنَ رَمَضَانِهَا الَّذِي أفطرته ورمضانها الذي تستقبله. فإذا كَانَ فِي آخِرِ زَمَانِهِ وَعِنْدَ تَعْيِينِ وَقْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ، وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِصَوْمِهَا فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ وَقَبْلَ تَعَيُّنِ وَقْتِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الاستمتاع به عَلَى الْفَوْرِ وَهَذَا الصَّوْمَ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ فَفِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْفِطْرِ وَجْهَانِ: مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى إِحْلَالِهَا مِنَ الْحَجِّ. أَحَدُهُمَا: لَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْفِطْرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَفْطَرَتْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ الِامْتِنَاعِ كَالنَّاشِزِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْفِطْرِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالْحَجِّ. وَالْوَجْهُ الثاني: لا تسقط به النفقة لأمرين. مما فرق بين الصوم والحج. أَحَدُهُمَا: لِقُرْبِ زَمَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي لَيْلِهِ. وَالثَّانِي: لِمَقَامِهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَالَفَ الْحَجَّ فِي خُرُوجِهَا مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ "، لِأَنَّ صَوْمَهَا يَمْنَعُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَصَارَتْ مَانِعَةً مِنْ وَاجِبٍ بِتَطَوُّعٍ، فَإِنْ صَامَتْ وَلَمْ يَدْعُهَا الزَّوْجُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ دَعَاهَا إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِنْ كَانَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ فِي آخِرِهِ، لِقُرْبِهِ مِنْ زَمَانِ التَّمْكِينِ فَصَارَ مُلْحَقًا بِوَقْتِ الْأَكْلِ وَالطَّهَارَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: صَوْمُ الْكَفَّارَةِ. فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْوَقْتِ فَلَهُ مَنْعُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ بَعْدَ مَنْعِهِ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِيهِ فَفِي إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ إِجْبَارُهَا وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا إِنْ أَقَامَتْ عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا. فَعَلَى هَذَا ينظر. فإن كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا بَطَلَتْ بِهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ التَّتَابُعِ فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ فِي أَيَّامِ الصَّوْمِ كَالْمُتَتَابِعِ. وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ لِقُوَّتِهِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي نَفَقَةِ الْأَمَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا مُكِّنَ مِنْهَا لَيْلًا وَمُنِعَ مِنْهَا نَهَارًا هَلْ تَجِبُ نَفَقَتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: صَوْمُ النَّذْرِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنِ الزَّمَنِ فَهُوَ كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الزَّمَانِ، فَلَهَا فِيهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ نَذْرِهَا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا فَلَا يَمْنَعُ صَوْمُهُ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّقْدِيمِ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ كَالَّذِي اسْتَثْنَاهُ الشرع. والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ نَذْرُهَا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِإِذْنِهِ لم يكن لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِأَنَّ فِي إِذْنِهِ تَرْكًا لَحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى نَذْرِهَا. (فَصْلٌ) وأما الصلاة فتنقسم ستة أقسام: أحدهما: مَا كَانَ مِنَ الْفُرُوضِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا لِاسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ لَهَا، وَلَهَا تَعْجِيلُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، بِخِلَافِ فَرَضِ الْحَجِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهَا، وَتَعْجِيلُ الْحَجِّ احْتِيَاطٌ لَا يَخْتَصُّ فَضِيلَةَ تَفْوِيتٍ فَافْتَرَقَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا سَنَّهُ الشَّرْعُ مِنْ تَوَابِعِ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْهَا عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا إِطَالَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: قَضَاءُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ. فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا فَأَحْرَمَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطْعُهَا عَلَيْهَا. لِاسْتِحْقَاقِهَا بِالشَّرْعِ وَقُرْبِ زَمَانِهَا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ تُحْرِمْ بِهَا وَتَدْخُلْ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ. لِاسْتِحْقَاقِ الْقَضَاءِ لَهَا مَعَ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْقَضَاءِ وَأَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فَفِيهِ وجهان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يُقَدَّمُ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ الْقَضَاءِ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، إِنَّهُ يُقَدَّمُ حَقُّ الْقَضَاءِ عَلَى حَقِّهِ. لِأَنَّ فَرْضَ الْقَضَاءِ مُسْتَحَقٌّ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْمُكْنَةِ فَصَارَتْ كَالْمُؤَقَّتَةِ شَرْعًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجَمَاعَةِ كَالْعِيدَيْنِ، وَكَذَا الِاسْتِسْقَاءُ وَالْخَسُوفَيْنِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِلْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ فِعْلِهَا فِي مَنْزِلِهَا لِمُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي الْأَمْرِ بِهَا وَالنَّدْبِ إِلَيْهَا وَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَأَشْبَهَتِ الْفُرُوضَ وَإِنْ لَمْ تُفْرَضْ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ نَذْرًا فَتَكُونَ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَلَهُ قَطْعُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا كَمَا يَقْطَعُ عَلَيْهَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ لِوُجُوبِ حَقِّهِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بتطوعها والله أعلم بالصواب. (الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ امتنعت) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو هربت أو امتنعت أن كَانَتْ أَمَةً فَمَنَعَهَا سَيِّدُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا هَرَبُهَا أَوْ نُشُوزُهَا عَلَيْهِ مَعَ الْمَقَامِ مَعَهُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِالْهَرَبِ أَعْظَمَ مَأْثَمًا وَعِصْيَانًا. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنُّشُوزِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ النَّفَقَةُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا تَجِبُ أُجْرَةَ الدَّارِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْجِرَ إِذَا مَنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ السُّكْنَى سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ. كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا مَنَعَتْ مِنَ التَّمْكِينِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْأَمَةُ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْحُرَّةِ فِي التَّمْكِينِ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ يَلْزَمُهَا تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنْ يُمَكِّنَ زَوْجَهَا مِنْهَا لَيْلًا وَلَا يَلْزَمَهُ تَمْكِينُهُ مِنْهَا نَهَارًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَمَةَ مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ، وَمَمْلُوكَةُ الِاسْتِمْتَاعِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا وَتَمَيُّزِ زَمَانِهِمَا، وَالِاسْتِخْدَامُ أَخَصُّ بِالنَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ فَاخْتَصَّ بِهِ السَّيِّدُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا بِالنَّهَارِ، وَاللَّيْلُ أخص الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّهَارِ فَاخْتَصَّ بِهِ الزَّوْجُ وَلَزِمَ السَّيِّدَ تَسْلِيمُهَا فِيهِ، وَالْحُرَّةُ بِخِلَافِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكِ الزَّوْجَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخِدْمَةِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ مَالِكَةٌ لِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَهَلَّا اسْتَحَقَّتْ مَنْعَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي زَمَانِ الْخِدْمَةِ وَهُوَ النَّهَارُ كَالْأَمَةِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْخِدْمَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ عَلَيْهَا، فَصَارَ فَى تَزْوِيجِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهَا مِنَ الْخِدْمَةِ، فَخَالَفَتِ الْأَمَةَ الَّتِي قَدْ مَلَكَ مِنْهَا الْخِدْمَةَ، فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ كَانَتِ الْحُرَّةُ قَدْ أَجَرَتْ نَفْسَهَا لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ أَيَكُونُ نَهَارُ الْخِدْمَةِ خَارِجًا مِنَ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ اسْتِمْتَاعُهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ قِيلَ نَعَمْ، وَلَوْ رَامَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُؤْجِرَ نَفْسَهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ لَمْ يَجُزْ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَهِيَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ مُفَوِّتَةٌ لِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِذَا تَقَدَّمَتِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ الزَّوْجُ عَالِمًا بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ قِيَامِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي النَّهَارِ عَيْبٌ فَاسْتَحَقَّ بِهِ الْفَسْخَ فَلَوْ مَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي النَّهَارِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنَ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُتَطَوِّعٌ بِالتَّمْكِينِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَطَوُّعِهِ خِيَارٌ مُسْتَحَقٌّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الْأَمَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ إِجَارَتُهَا فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا لِكَمَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَمْنَعُهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ. فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِرِقِّهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ اسْتِمْتَاعِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي إِنَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا بِقِسْطِهِ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ على الزوج عشاؤها وعلى السيد غذاؤها لأن العشاء يراد لزمان الليل والغذاء يُرَادُ لِزَمَانِ النَّهَارِ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْكِسْوَةِ مَا تَتَدَثَّرُ بِهِ لَيْلًا وَعَلَى السَّيِّدِ مِنْهُ مَا تَلْبَسُهُ نَهَارًا، وَإِنَّمَا تُقَسَّطُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِمْتَاعِ لِئَلَّا يَخْلُوَ اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِ نَفَقَةٍ. كَالْحُرَّةِ إِذَا مَكَّنَتْ فِي يَوْمٍ وَنَشَزَتْ فِي يَوْمٍ. (الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ) (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُبْرِئُهُ مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهَا إِلَّا إِقْرَارُهَا أَوْ بَيِّنَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 5 - قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَبْضِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ إِجْمَاعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون بعد الدخول فمذهب الشافعي وأبو حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُرْفِ فِي أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ صَدَاقَهَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا وَلَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ تُقِمْ مَعَهُ فَشَهِدَ بِصِحَّةِ قَوْلِ الزَّوْجِ دُونَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ دَارًا هِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُرْفِ يَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمُزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى إِنْكَارُ الْبَائِعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ فِيمَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِي التَّسْلِيمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ. كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فِي إِنْكَارِهَا قَبَضَ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا قَبِلَ التَّمْكِينِ وَبَعْدَهُ، وَبِهَذَا يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ إِذَا سَلَّمَ لَهُ الْعُرْفُ فِيهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ يَمِينِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ بِقَبْضِهِ أَوْ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالْقَبْضِ، وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مَعًا، وَسَوَاءٌ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ سَيِّدِهَا دُونَهَا، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَلِكٌ لَهُ لَا لَهَا. فَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ حَلَفَ وَلَمْ تَحْلِفِ الْأَمَةُ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا دُونَ سَيِّدِهَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا فَكَانَتْ هِيَ الْحَالِفَةَ دُونَهُ. (فَصْلٌ) فَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَدَفَعَ نَفَقَةَ مُعْسِرٍ وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ يَسَارَهُ وَطَالِبَتْهُ بنفقة موسر، فالقول قول الزوج مع يمنيه مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ يَسَارُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ حَتَّى يُوجَدَ الْيَسَارُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلِهَذَيْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْإِعْسَارِ وَأُحْلِفَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْيَسَارُ. (الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أسلم أحد الزوجين) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَمَتْ وَثَنِيَّةٌ وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 أَوْ بَعْدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ متى شاء أسلم وكانت امرأته، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نفقة في أيام كفرها وإن دفعها إليها فلم يسلم حتى انقضت عدتها فلا حق له لأنه تطوع بها وقال في كتاب النكاح القديم فإن اسلم ثم أسلمت فهما على النكاح ولها النفقة في حال الوقف لأن العقد لم ينفسخ (قال المزني) رحمه الله: الأول أولى بقوله لأنه تمنع المسلمة النفقة بامتناعها فكيف لا تمنع الوثنية بامتناعها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي زَوْجَيْنِ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَ أَحَدَهُمَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْطُلُ نِكَاحُهَا وَسَقَطَ مَهْرُهَا لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْمَهْرُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لَهَا فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا عَلَى النِّكَاحِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوِ افْتَرَقَا فِيهِ بِمُقَامِ الزَّوْجِ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَقَدْ كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَلَافِيهِ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتْهَا فَصَارَتِ الْفُرْقَةُ مَنْسُوبَةً إِلَى اخْتِيَارِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّهَا بِمُقَامِهَا عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النَّاشِزِ فَكَانَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ، وَلَئِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَهَا تَلَافِي التَّحْرِيمِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هِيَ مَأْمُورَةٌ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ وَقْفِهَا فِي الشِّرْكِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ الزَّوْجِ قَدْ شَعَّثَ الْعَقْدَ وَأَحْدَثَ فِيهِ خَلَلًا، فَإِذَا اسْتَدْرَكَتْهُ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا زَالَ حُكْمُهُ فَاسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، لِأَنَّ مَقَامَهَا عَلَى الْكُفْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّشُوزِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِقْلَاعُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ فِيهِ فَكَانَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الْكُفْرِ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِاسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إنه لا نفقة لها ينظر فِي زَمَانِ التَّعْجِيلِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 إِسْلَامِ الزَّوْجِ اسْتَرْجَعَهُ لِأَنَّهُ كَانَ تَعْجِيلًا عَنْ ظَاهِرِ اسْتِحْقَاقٍ وَإِنْ عَجَّلَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَلَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَهَا النَّفَقَةُ فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى دِينِهَا الْمَأْمُورَةِ بِهِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ قِبَلَ الزَّوْجِ وَيُقْدَرُ عَلَى تَلَافِيهِ وَاسْتِدْرَاكِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنِ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ الرِّدَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ قِبَلِهَا بِمَا لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النُّشُوزِ فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا عَنْهَا وَقْتَ إِسْلَامِهَا وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِهَا وَلَوْ كَانَتْ نَاشِزًا وَغَابَ الزَّوْجُ عَنْهَا ثُمَّ أَطَاعَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الزَّوْجِ لِتَسْلِيمِهِ وَقُدُومِهِ أَوْ قُدُومِ وَكِيلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمُرْتَدَّةِ سَقَطَتْ بِالرِّدَّةِ. فَإِذَا زَالَتِ الرِّدَّةُ عَادَتِ النَّفَقَةُ، وَنَفَقَةَ النَّاشِزِ سَقَطَتْ بِالِامْتِنَاعِ فَلَمْ تَعُدْ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ. ( [الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ] ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ إذ بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا وَإِذَا احْتَاجَ سَيَّدُهَا إِلَى خِدْمَتِهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ مُوَاسَاةٌ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ إِعْسَارِهِ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ فَسَقَطَتْ عَنِ الْعَبْدِ لِإِعْسَارِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ نَظَرَ فِي زَوْجَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مُكَاتَبَةً لَزِمَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا ليلاْ وَنَهَارًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً نَظَرَ فَإِنْ كَانَ بَوَّأَهَا مَعَهُ السَّيِّدُ مَنْزِلًا لَيْلًا وَنَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَكَانَ السَّيِّدُ مُتَعَدِّيًا بِمَنْعِهَا مِنْهُ فِي اللَّيْلِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 دُونَ النَّهَارِ، وَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ لَيْلًا وَاسْتَخْدَمَهَا نَهَارًا لَمْ يَتَعَدَّ، وَفِي نَفَقَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقِسْطِهَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ دُونَ النهار وهو ما قابل العشاء دون الغذاء. فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي كَسْبِهِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِذِمَّتِهِ وَلَا بِرَقَبَتِهِ مَعَ وُجُودِ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لَهُ بِالنِّكَاحِ إِذْنٌ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ، وَيُنْظَرُ فِي كَسْبِهِ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ صُرِفَ جَمِيعُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةَ زَوْجَتِهِ. وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى نَفَقَتِهِمَا أَخَذَ السَّيِّدُ فَاضِلَهُ وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النَّفَقَةِ نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ وَفْقَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ صَرَفَهُ الْعَبْدُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكَانَ على السيد نفقة العبد في حق نسه وَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ الْتَزَمَ السيد النفقة للعبد وكمل الباقي في نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِعَجْزِهِ عَنِ الِاكْتِسَابِ مَعَ تَخْلِيَةِ السَّبِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ، فَعَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ الْعَبْدِ، وَفِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ بِالْتِزَامِهَا، لِأَنَّ وَطْأَهُ كَالْجِنَايَةِ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ لِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ. فَيُقَالُ لِزَوْجَتِهِ: قَدْ أَعْسَرَ زَوْجُكِ بِنَفَقَتِكِ فَأَنْتِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالصَّبْرِ بِالنَّفَقَةِ إِلَى حِينِ اكْتِسَابِهِ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عتقه وبين فسخ نكاحه. والحال الثانية: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ النَّفَقَةِ لِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ لَهُ أَوْ لِسَفَرِهِ بِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ لَهَا جَمِيعَ نَفَقَتِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى كَسْبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْكَسْبِ مَا يَفِي بِنَفَقَتِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى كَسْبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ لَهَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا فَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا أَقَلَّ ضَمِنَ لَهَا جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ضَمِنَ لَهَا قَدْرَ كَسْبِهِ، وَكَانَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 أَحَدُهُمَا: فِي رَقَبَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ بِيعِهِ وَكَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَ أَرْشِهَا. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ. (الْقَوْلُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ) (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " ونفقة نَفَقَةُ الْمُقْتِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَهُوَ فَقِيرٌ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ وَإِنِ اتَّسَعَ لسيد ومن لم تكمل فيه الحرية فكالمملوك (قال المزني) رحمه الله إذا كان تسعة أعشاره حراً فهو يجعل له تسعة أعشار ما يملك ويرثه مولاه الذي أعتق تسعة أعشاره فكيف لا ينفق على قدر سعته (قال المزني) رحمه الله قد جعل الشافعي رحمه الله من لم تكمل فيه الحرية كالمملوك وقال في كتاب الأيمان إذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً كفر بالإطعام فجعله كالحر ببعض الحرية ولم يجعله ببعض الحرية هاهنا كالحر بل جعله كالعبد فالقياس على أصله ما قلنا من أن الحر منه ينفق قدر سعته والعبد منه بقدره وكذا قال في كتاب الزكاة أن على الحر منه بقدره في زكاة الفطر وعلى سيد العبد بقدر الرق منه فالقياس ما قلنا فتفهموه تجدوه كذلك إن شاء الله تعالى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَةُ الْعَبْدِ عَلَى زَوْجَتِهِ فَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنَ الطَّعَامِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُوسِرَةً أَوْ مُعْسِرَةً، لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ دُونَ الزَّوْجَةِ، وَالْعَبْدُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَالْحَرُّ يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَكَانَ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ أَخَصَّ، وَهَكَذَا نَفَقَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ نَفَقَةُ مِعْسَرٍ، وَلَئِنْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ مَا بِيَدِهِ فَمِلْكُهُ لَهُ ضَعِيفٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا نَفَقَةُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَفَقَتَهُ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ فَيَلْزَمُهُ لِزَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ تَبَعَّضَتِ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيَلْزَمُهُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ نِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ وَذَلِكَ نِصْفُ مُدٍّ وَبِنِصْفِهِ الْحُرِّ نِصْفُ نَفَقَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 مُوسِرٍ وَذَلِكَ مُدٌّ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ إِثْبَاتًا لِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مُلْتَزِمًا لِنِصْفِ زَكَاتِهِ بِنِصْفِ حريته والسيد نَصِفُهَا بِالنِّصْفِ مِنْ رِقِّهِ وَلَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الرِّقِّ فِي إِسْقَاطِهَا عَنْهُ كَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. والثالث: أنه لما كان مورثاً إِذَا مَاتَ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَلَمْ يَسْقُطِ الْمِيرَاثُ تَغْلِيبًا لِرِقِّهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي النَّفَقَةِ بِمَثَابَتِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ يَغْلِبُ حُكْمُ رِقِّهِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ، فَلَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ وَلَا يَنْكِحُ إِلَّا زَوْجَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يَغْلِبُ حُكْمُ الرِّقِّ، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ حَتَّى يَلْتَزِمَ مُدًّا وَنِصْفًا، لَمَلَكَ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ ثَلَاثًا وَاحِدَةٌ بِنِصْفِهِ الْمُسْتَرَقِّ وَاثْنَتَيْنِ بِنِصْفِهِ الْمُعْتَقِ، وَفِي إِبْطَالِ هَذَا وَتَغْلِيبِ حُكْمِ الرِّقِّ دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي النَّفَقَةِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الرِّقِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ فِي تَبْعِيضِ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا غَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. وهو الجدود وَالْمِيرَاثُ وَالطَّلَاقُ. وَأَعْدَادُ الْمَنْكُوحَاتِ وَزَكَاةُ الْمَالِ، وَسُقُوطُ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا أَحْكَامُ مَنْ رُقَّ جَمِيعُهُ. وَالثَّانِي: مَا تَغْلِبُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ عَلَى الرِّقِّ وَذَلِكَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ بِحَسْبِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَذَلِكَ الْكَسْبُ وَالنَّفَقَةُ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أُصُولُ الشَّرْعِ كَانَتْ نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ مُحْتَذِيَةً إِلَى أَحَدِ الْأُصُولِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَا يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ أَحْكَامِهِ وَضَعْفُ شَوَاهِدِهِ. وَالثَّانِي: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ لَا تَتَبَعَّضُ فِيمَا عَدَا النَّفَقَةَ فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ لَا تَتَبَعَّضُ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى زَوْجَيْنِ فَوَجَبَ أَلَّا تَتَبَعَّضَ باختلاف الحكمين، فلم يبق فيها من الْأَقْوَالِ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ الرِّقِّ مع كثرة أحكامه وقوة شواهده، أما اسْتِشْهَادُهُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي إِطْعَامِهِ في الكفار فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ نَصِّهِ على ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ. إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَصَارَ بِالتَّمْلِيكِ فِي حُكْمِ مَنْ عَتَقَ جَمِيعُهُ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يَحْمِلُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ. لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحَمُّلُ وَيَصِحُّ فِي الْإِطْعَامِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حُكْمُ الْحَرِيَّةِ عَلَى الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ وَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى تَغْلِيبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ تَغْلِيبُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الرِّقِّ، لِأَنَّ مَنْ فَرْضُهُ الْإِطْعَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ فَرْضُهُ الصِّيَامُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ رَدِّ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِلَى التَّبْعِيضِ وَيُوجِبُ تَغْلِيبَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِشْهَادُهُ بِهِ. وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ فِي تَبْعِيضِهَا فَيَدْفَعُهُ زَكَاةُ الْمَالِ فِي تَغْلِيبِ الرِّقِّ فِي إِسْقَاطِهَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَتَبَعَّضُ فِي الْتِزَامِ الشُّرَكَاءِ لَهَا، وَنَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ لَا تَتَبَعَّضُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا زَوْجَانِ مُشْتَرِكَانِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ فِي مِيرَاثِ مَالِهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يَرِثُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ يُورَثُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: وَبِهِ قَالَ مالك إنه لا يورث لم يرث، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ لِسَيِّدِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الرِّقِّ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُورَثَ مَنْ لَا يَرِثُ، لِأَنَّ الْجَنِينَ إذا سقط ميتاً بجانية كَانَ مَوْرُوثًا وَلَمْ يَكُنْ وَارِثًا، ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَبْعِيضِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَبَعَّضُ وَنَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَا تَتَبَعَّضُ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 (باب الرجل لا يجد نفقة من كتابين) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَعُولَهَا احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيَمْنَعَهَا حَقَّهَا وَلَا يُخَلِّيَهَا تَتَزَوَّجُ مَنْ يُغْنِيهَا وَأَنْ تخير بين مقامها معه وفراقه وكتب عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نسائهم يأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا وهذا يشبه ما وصفت. وسئل ابن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما قيل له فسنة؟ قال سنة والذي يشبه قول ابن المسيب سنة أن يكون سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ الْمُوسِرِ وَهِيَ مُدَّانِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ وَهِيَ مُدٌّ فَلَا يُوجِبُ لِلزَّوْجَةِ خِيَارًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِعْسَارُهُ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ وَهِيَ مُدٌّ حَتَّى عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ تَسْتَحِقُّ بِهِ الزَّوْجَةُ خِيَارَ الْفَسْخِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ بَيْنَ مُقَامِهَا مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ لِتَكُونَ النَّفَقَةُ دَيْنًا لَهَا عَلَيْهِ تَرْجِعُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ وَبَيْنَ فَسْخِ نِكَاحِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهَا وَعَلَيْهَا الْإِنْظَارُ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ: الزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي وُجُوبِ إِنْظَارِ كُلِّ مُعْسِرٍ بِحَقٍّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يكونوا فقراء يغنيهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، فَنَدَبَ الْفُقَرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْدُبَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الصَّدَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْكَدُ لِتَقَدُّمِهِ وَقُوَّتِهِ ثُمَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخَ فَلَأَنْ لَا تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ أَوْلَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَمْلِكَ بِهِ الْفَسْخَ كَالصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ مُدَّ الْيَسَارِ إِذَا أَعْسَرَ بِهِ الْمُوسِرُ لَمْ يُوجِبِ الْخِيَارَ كَذَلِكَ مُدٌّ الْمُعْسِرِ إِذَا أَعْسَرَ بِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْخِيَارَ، وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِنَفْسِهَا وَلِخُدَّامِهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا فَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهَا وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ أَعْوَزَ التَّمْكِينَ مِنْهَا بِالنُّشُوزِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ، كَذَلِكَ إِذَا أَعْوَزَتِ النَّفَقَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِالْإِعْسَارِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الزَّوْجَةُ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ وَلِأَنَّ لِلنَّفَقَةِ حَالَتَيْنِ: مَاضِيَةٌ، وَمُسْتُقْبَلَةٌ. وَالْمَاضِيَةُ دَيْنٌ لَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ. وَالْمُسْتُقْبَلَةُ لَمْ تَجِبْ فَتَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ، فَلَمْ يَبْقَ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ. وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعِبْرَةُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَلِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَزَوْجَةُ الْمُعْسِرِ مُسْتَضَرَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْسَاكُهَا. وَالسُّنَّةُ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُّودِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ قَالَ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ رَجُلٍ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قِيلَ سُنَّةٌ قَالَ سُنَّةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُ الرَّاوِي سُنَّةٌ يَقْتَضِي سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَارَ كَرِوَايَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ سَعِيدًا تَابِعِيٌّ قِيلَ: عَضَّدَهُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ، وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَتَبَ بِهِ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا وَلَيْسَ لَهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يُسَوَّغُ خِلَافُهُ. وَالْعِبْرَةُ: أَنَّهُ حَقٌّ مَقْصُودٌ لِكُلِّ نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِإِعْوَازِهِ كَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَجْبُوبِ، وَالْعِنِّينِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَحَدَهُمَا وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْآخَرَ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبَدَنَ يَقُومُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَلَا يَقُومُ بِتَرْكِ الْغِذَاءِ فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ الْجِمَاعِ كَانَ ثُبُوتُهُ بِفَوَاتِ النَّفَقَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 أَوْلَى، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ فِي الْجِمَاعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالنَّفَقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهَا، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الْمُخْتَصِّ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِهِ، قُلْنَا: نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ لَا تُقَدَّرُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ فَاسْتَوَيَا. وَقِيَاسٌ ثَانٍ: لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ مِلْكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ كَالْمُعْسِرِ بِنَفَقَةِ عَبْدِهِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أُزِيلَ مِلْكُهُ عَنْ عَبْدِهِ إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهَا، قِيلَ: أُزِيلَ الْمِلْكُ لِإِعْوَازِهَا فِي الْحَالِ وَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَثْبُتُ عَلَى فَقْدِهَا فَاسْتَوَيَا فِي الْحَالِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْإِزَالَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا سِوَاهَا، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أُزِيلَ مِلْكُهُ عَنْ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى اسْتِهْلَاكِ مِلْكِهِ لِوُصُولِهِ إِلَى ثَمَنِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ عَنْ زَوْجَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مِلْكٍ لَا يَصِلُ إِلَى بَدَلِهِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْإِزَالَةِ إِلَى بَدَلٍ وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مَالًا يُرْجَعُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى بَدَلٍ فَافْتَرَقَا فِي الْبَدَلِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ الْمُفْتَرِقِينَ فِيهِ وَاسْتَوَيَا فِي الْإِزَالَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهَا. وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ مُبْدَلٌ فِي مُعَاوَضَةٍ أَعْوَزَ الْوُصُولُ إِلَى بَدَلِهِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ خِيَارَ فَسْخِهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا أَعْسَرَ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَظِرَةٌ إلى ميسرة} فَهُوَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ بِمَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَاضِي نَفَقَتِهَا، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّهُ بِنَفَقَةِ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا الْآيَةُ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فضله} ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْآمِرَ فِي الْآيَةِ تَوَجَّهَ مِنَ الْفُقَرَاءِ إِلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْفَقِيرِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهَا، بَلْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِنَهْيِهِ عَنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ "، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الصَّدَاقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ إِعْسَارِ الْمُوسِرِ بِمُدِّ الْيَسَارِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مُدِّ الْإِعْسَارِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُدَّ الْيَسَارِ يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ فَلَمْ تَمْلِكِ الْفَسْخَ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، وَمُدَّ الْإِعْسَارِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِعْسَارِهِ فَجَازَ أَنْ تَفْسَخَ بِمَا تَسْتَحِقُّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بَدَنُهَا إِذَا عُدِمَ مُدَّ الْيَسَارِ بِمَا بَقِيَ مِنْ مُدِّ الْإِعْسَارِ، وَلَا قوام لبدنها وإذا تَعَذَّرَ مُدُّ الْإِعْسَارِ فَافْتَرَقَا، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ تَابِعَةٌ وَلَيْسَتْ عَامَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فَخَالَفَتْ حُكْمَ مَا كَانَ متبوعاً من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ النُّشُوزِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النُّشُوزَ لَمَّا سَقَطَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعْوَازُ النَّفَقَةِ يُسْقِطُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِالْمَاضِي وَلَا بِالْمُسْتُقْبِلِ فَصَحِيحٌ وَالْفَسْخُ إِنِّمَا هُوَ بِحَالِ وَقْتِهَا دُونَ مَا مَضَى وَمَا يَسْتَقْبِلُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعْسِرَ بِالْمُدِّ كُلِّهِ أَوْ يُعْسِرَ بِبَعْضِهِ حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ وَعَجَزَ عَنْ عُشْرِهِ كَانَ لَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ إِعْسَارٌ بِمُسْتَحَقٍّ فِي النَّفَقَةِ فَإِنْ أَعْسَرَ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ وَقَدَرَ عَلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَلَدٍ يَقْتَاتُ فُقَرَاؤُهُ الشَّعِيرَ لَمْ تُفْسَخْ، سَوَاءٌ جَرَتْ عَادَتُهَا بِاقْتِيَاتِ الشَّعِيرِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَلَدٍ لَا يَقْتَاتُ فُقَرَاؤُهُ الشَّعِيرَ كَانَ لَهَا الْفَسْخُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قُوتِهَا وَأَعْسَرَ بأدمها. نظر، فإن كان قوتاً اينساغ لِلْفُقَرَاءِ أَكْلُهُ عَلَى الدَّوَامِ بِغَيْرِ أُدْمٍ لَمْ تُفْسَخْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسَاغُ أَكْلُهُ عَلَى الدَّوَامِ إِلَّا بِأُدْمٍ فُسِخَتْ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قُوتِهَا وَأَعْسَرَ بِكِسْوَتِهَا فُسِخَتْ، لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بَدَنُهَا إِلَّا بِكِسْوَةٍ تَقِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. (الْقَوْلُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَعَ الْيَسَارِ) (فَصْلٌ) فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا مَعَ يَسَارٍ لَمْ يُفْسَخْ وَبَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا حَبَسَهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَيْهَا كَمَا يُحْبَسُ مَنْ مَطَلَ بِدَيْنٍ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا مَفْقُودًا وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ يُصْرَفُ فِي نَفَقَتِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِفَسْخِ نِكَاحِهِ بِإِعْوَازِ النَّفَقَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لَا فَسْخَ لَهَا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَطْلِ الْمُوسِرِ وَإِعْوَازِ الْمُعْسِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْقَوْلُ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَجَدَ نَفَقَتَهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ لَهَا فِي الْيَوْمِ أَكْثَرُ مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِذَا أَعْطَاهَا أَيَّامًا مِنْ كَسْبٍ لَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ غَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ جَازَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ الْغَدِ لَجَازَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ شَهْرِهَا وَسَنَتِهَا، وَهَذَا شَطَطٌ لَا يُسْتَحَقُّ، وَالْوَقْتُ الَّذِي تَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةَ يَوْمِهَا هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، لِأَنَّهَا إِنْ طَالَبَتْهُ مَعَ طُلُوعِ فَجْرِهِ خَرَجَتْ عَنِ الْعُرْفِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 إِلَى غُرُوبِ شَمْسِهِ أَضَرَّ بِهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يَجِدُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ إِلَّا نَفَقَةَ الْغَدَاءِ وَفِي آخِرِهِ إِلَّا نَفَقَةَ الْعَشَاءِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَسْتَحِقُّهُ لِوُصُولِهَا إِلَى الْكِفَايَةِ فِي وَقْتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَسْتَحِقُّ الْخِيَارَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ لَا تَتَبَعَّضُ وَلَوْ تَبَعَّضَتْ لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا كَسْرًا أَوْ لُقَمًا، فَلَوْ وَجَدَ نَفَقَةَ يَوْمٍ وَعَدِمَ نَفَقَةَ يَوْمٍ، كَأَنْ وَجَدَ فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ نَفَقَةَ يَوْمٍ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَادِمٌ بَعْضَ نَفَقَتِهَا. (الْقَوْلُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُؤَجَّلُ فِيهَا الزَّوْجُ لِلْإِعْسَارِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يُؤَجَّلْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعْوَزَتْهُ النَّفَقَةُ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِشُرُوعِهِ فِي عَمَلٍ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ وَيَقْدِرُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ عَلَى النَّفَقَةِ كَالنَّسَّاجَ الَّذِي يَنْسِجُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ ثَوْبًا فَإِذَا نَسَجَهُ كَانَتْ أُجْرَتُهُ نَفَقَةَ أُسْبُوعِهِ فَلَا خِيَارَ لِزَوْجَةِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِنَفَقَتِهَا، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ، وَيُنْفِقُ مِنَ الِاسْتِدَانَةِ لِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ كَالصُّنَّاعِ بِأَبْدَانِهِمْ مِنْ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ وَحَمَّالٍ إِذَا عَمِلَ فِي يَوْمِهِ كَسَبَ قَدْرَ نَفَقَتِهِ فَيُعْذَرُ عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي صَنْعَتِهِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ تَعَذُّرُهُ عَلَيْهِ نادر لَمْ يَكُنْ لِزَوْجَتِهِ خِيَارٌ، وَإِنْ كَانَ غَالِبًا فلها الخيار. والقسم الثالث: يَكُونُ لِعَجْزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ كَالصَّانِعِ إِذَا مَرِضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَمَلِ، فَيُنْظَرُ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الزَّوَالِ فَلَهَا الْخِيَارُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لِدَيْنٍ لَهُ عَلَى غَرِيمٍ لَا يَمْلِكُ سِوَاهُ وَقَدْ أَلَظَّ بِهِ الْغَرِيمُ وَمَطَلَهُ فَيُنْظَرُ فِي الغريم، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أن يكون معسراً فالدين عليه تائه وَمَالِكُهُ مُعْدَمٌ، فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ الْخِيَارُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ حَاضِرٍ فَمَالِكُ الدَّيْنِ مُوسِرٌ بِهِ وَلَا خِيَارَ لِزَوْجَتِهِ وَيُحْبَسُ الْغَرِيمُ حَتَّى يُؤَدِّيَ دَيْنَهُ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ فِي حُكْمِ مَنْ زَوْجُهَا مُوسِرٌ وَقَدْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ فَيَسْقُطُ الخيار ويحبس زوجها على نفقتها، ذلك هاهنا يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُحْبَسُ الْغَرِيمُ دُونَ الزَّوْجِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى مُوسِرٍ غَائِبٍ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي زَوْجَةِ الْمُوسِرِ الْغَائِبِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ هُوَ غَائِبٌ عَنْهُ يَنْتَظِرُ قُدُومَهُ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَ مِنْهُ، فَيُنْظَرُ فِي غَيْبَةِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ مَالَهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ وَيُؤْخَذُ بِتَعْجِيلِ نَقْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْمَسَافَةِ عَلَى أَكْثَرَ من يوم وليلة فهو في حكم التائه ومالكه كالمعدوم فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَالٍ حَاضِرٍ قَدِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ فِي دُيُونِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِي قَضَائِهِ مَا فَضُلَ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ صَارَ بَعْدَ يَوْمِهِ مُعْسِرًا. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَعْجِزَ عَنْ حَلَالِ الْكَسْبِ وَيَقْدِرَ عَلَى مَحْظُورِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا مُحَرَّمَةً كَأَمْوَالِ السَّرِقَةِ وَالتَّطْفِيفِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ، فَالْوَاجِدُ لَهَا كَالْعَادِمِ لِحَظْرِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ الْخِيَارُ بِالْإِعْسَارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ مَحْظُورًا كَصُنَّاعِ الْمَلَاهِي الْمَحْظُورَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَحْظُورٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِقَّ لِتَفْوِيتِ عَمَلِهِ أَجْرًا فَيَصِيرَ بِهِ مُوسِرًا وَلَا يَكُونَ لِزَوْجَتِهِ خِيَارٌ، وَكَذَلِكَ كَسْبُ الْمُنَجِّمِ. وَالْكَاهِنِ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ لَكِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ عَنْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْمُعْطِي فأجرى مجرى الهبة، وإن كان محظوراً السَّبَبِ فَسَاغَ لَهُ إِنْفَاقُهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْمُعْسِرِينَ وَسَقَطَ بِهِ خِيَارُ زَوْجَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ النَّفَقَةِ لِعُدْمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ مِنْ مِلْكٍ وَلَا كَسْبٍ فَهَذَا هُوَ الْمُعْسِرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الَّذِي تَسْتَحِقُّ زَوْجَتُهُ الْخِيَارَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا اسْتِحْقَاقُهَا لِلْخِيَارِ بِالْإِعْسَارِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي يَوْمِهَا مِنْ غَيْرِ إِنْظَارٍ وَلَا تَأْجِيلٍ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ بِعَيْبٍ فَأَشْبَهَ الْفَسْخَ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْفَوْرِ فَكَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنْ فَسْخِ الْإِعْسَارِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَوْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يُؤَجَّلُ ثلاثاً لا يزاد عليها ولا تفسح الزَّوْجَةُ قَبْلَ مُضِيِّهَا لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِرْهَاقِهِ عَلَى تَعْجِيلِ الْفَسْخِ إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ فَأُمْهِلَ مِنَ الزَّمَانِ أَكْثَرَ قليله وهو ثلاث ليزول بها الضرر على الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَحَقَّ بِالنِّكَاحِ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُيَاسَرَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي الْمُيَاسَرَةِ إِلَى إِرْهَاقٍ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ، وَإِنْ نُظِرَ مِنَ الزَّمَانِ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حد الإرهاق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ فِي ثَلَاثٍ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ فَتَعْمَلَ أَوْ تَسْأَلَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَتَهَا خُيِّرَتْ كَمَا وَصَفْتُ فِي هَذَا الْقَوْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَمْهَلَتِ الزَّوْجَةُ بِالْفَسْخِ ثَلَاثًا كَانَ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا لِتَكْتَسِبَ نَفَقَتَهَا بِعَمَلٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مَعَ تَعَذُّرِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا قِوَامَ لِبَدَنِهَا إِلَّا بِمَا يَقُوتُهَا، فَلَوْ وَجَدَتْ مِنَ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ وَأَمَرَهَا بِالْمُقَامِ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهَا وَجَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِتَكْسِبَ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا اكْتِسَابُ النَّفَقَةِ مِنَ الزَّوْجِ جَازَ لَهَا أَنْ تَكْتَسِبَهَا بِعَمَلٍ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَوْ قَدَرَتْ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فِي مَنْزِلِهَا بِغَزْلٍ أَوْ خِيَاطَةٍ فَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ لِلتَّكَسُّبِ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، هَذَا فِي النَّهَارِ فَأَمَّا اللَّيْلُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ إِلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ زَمَانُ الْإِيوَاءِ دُونَ الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فِي زَمَانِ الْإِنْظَارِ اسْتَحَقَّهُ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ الدَّعَةِ، وَلَمْ يَسْتَحِقُّهُ نَهَارًا لِأَنَّهُ زَمَانُ الِاكْتِسَابِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا حُكْمُ النُّشُوزِ، وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ صَارَتْ نَاشِزًا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَهَكَذَا حُكْمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ مَكَّنَهَا مِنَ الِاكْتِسَابِ نَهَارًا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْلًا وَكَانَتِ النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ يُؤْخَذُ بِهَا بَعْدَ إِيسَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ إِذَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا نَهَارًا أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ نَفَقَتُهَا كَمَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَخْدَمَهَا بِالنَّهَارِ سَيِّدُهَا، قِيلَ: لِأَنَّ مَنْعَ الْأَمَةِ مِنْ جِهَتِهَا فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ بِهِ نَفَقَتُهَا وَمَنْعَ الْمُعْسِرِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ به نفقتها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَجَدَ نَفَقَتَهَا وَلَمْ يَجِدْ نَفَقَةَ خَادِمِهَا لم تخير لأنها تماسك بِنَفَقَتِهَا وَكَانَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ مَتَى أَيْسَرَ أَخَذَتْهُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَمُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا وَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِمَنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ حُقُوقِ كُلِّ زَوْجَةٍ، وَخَالَفَتِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِكُلِّ زَوْجَةٍ فَإِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا وَمِثْلُهَا يُخْدَمُ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْخِيَارَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَبَعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَخَالَفَتْ فِي الْفَسْخِ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ الْمَقْصُودِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِدْمَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلدَّعَةِ وَالتَّرْفِيهِ وَيُمْكِنُ تَحَمُّلُهُ وَيَقُومُ الْبَدَنُ بِتَحَمُّلِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُدِّ الثَّانِي مِنَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْيَسَارِ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِي الْإِعْسَارِ بِهِ خِيَارٌ، وَنَفَقَةُ نَفْسِهَا لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِعَدَمِهَا كَمُدِّ الْإِعْسَارِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ الْخِيَارَ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ حُكْمُ الْإِعْسَارِ بِنَفَقَتِهَا دُونَ نَفَقَةِ خَادِمِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ خَدَمَتْ نَفْسَهَا أَوِ اسْتَأْجَرَتْ خَادِمًا أَوْ أَنَفَقَتْ عَلَى خَادِمٍ لَهَا فَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِنَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِأُجْرَتِهِ فَإِنْ بَاشَرَتْ هِيَ الْخِدْمَةَ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ خَدَمَهَا لِلزَّوْجِ فِي مُدَّةِ إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا فَفِي رُجُوعِهَا عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِ وَجْهَانِ: مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ بِخِدْمَتِهِ لَهَا نَفَقَةَ خَادِمِهَا أَمْ لَا. (الْقَوْلُ فِي الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ومن قال هذا لَزِمَهُ عِنْدِي إِذَا لَمْ يَجِدْ صَدَاقَهَا أَنْ يخيرها لأنه شبيه بنفقتها (قال المزني) رحمه الله قد قال ولو أعسر بالصداق ولم يعسر بالنفقة فاختارت المقام معه لم يكن لها فراقة لأنه لا ضرر على بدنها إذا أنفق عليها في استئخار صداقها (قال المزني) فهذا دليل على أن لا خيار لها فيه كالنفقة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِعْسَارِ الزوج بصداق زوجته كلاماً محتملاً قاله هاهنا وَفِي الْإِمْلَاءِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ لِأَجْلِهِ اخْتِلَافًا مُنْتَشِرًا جُمْلَتُهُ أَنْ يَتَخَرَّجَ فِي إِعْسَارِهِ بِصَدَاقِهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: لَهَا الْخِيَارُ فِي إِعْسَارِهِ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدِهِ كَالنَّفَقَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ أَقْوَى الْمَقْصُودَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَضْعَفِهِمَا كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَقْوَى أَحَقَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ لَا خِيَارَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ لِمُخَالَفَةِ الصَّدَاقِ النفقة من وجهين: أحدهما: أن يضعها بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَهْلَكٌ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ الْمَبِيعِ فِي الْفَلَسِ لَا خِيَارَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ يَسْقُطُ صَدَاقُهَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَكُنِ الْفَسْخُ فِيهِ إِلَّا ضَرَرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتَأَخُّرِ الصَّدَاقِ عَنْهَا ضَرَرٌ فِي بَدَنِهَا وَيَقُومُ بَدَنُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 بِتَأْخِيرِهِ وَفَقْدُ النَّفَقَةَ لَا يَقُومُ مَعَهُ بَدَنٌ وَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ صَبْرٌ فَافْتَرَقَا فِي الْخِيَارِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا إِنَّ لَهَا الْخِيَارَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بُضْعَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَهْلَكٌ فَسَقَطَ خِيَارُهَا كَمَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْبَائِعِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ، وَهُوَ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُسْتَهْلَكٍ فَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مَعَ بَقَاءِ الْمَبِيعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ يَدُهَا فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَقْوَى فَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْإِعْسَارِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ أَضْعَفُ فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي الْإِعْسَارِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَا خِيَارَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ تَرْجِعُ بِهِ مَتَى أَيْسَرَ، وَتُنْظِرُهُ بِهِ مَا أَعْسَرَ، وَالْقَوْلُ فِي الْمَعْسَرَةِ بِهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ قِيلَ لَهَا الْخِيَارُ كَانَ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ أَمْسَكَتْ عَنْ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِإِعْسَارِهِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالصَّدَاقِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوسِرَ بِهِ عِنْدَ مُطَالَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ سَقَطَ خِيَارُهَا، وَكَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ مُحَاكَمَتِهِ رِضًا بِإِعْسَارِهِ، وَلَوْ حَاكَمَتْهُ وَعَرَضَ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ الْفَسْخَ وَخَيَّرَهَا فِيهِ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ سَقَطَ خِيَارُهَا، فَإِنْ عَادَتْ تُحَاكِمُهُ وَتَطْلُبُ فَسْخَ نِكَاحِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ الْأُولَى بَعْدَ الدُّخُولِ لَاسْتَوَى إِعْسَارُهُ فِي الْحَالَيْنِ، فَسَقَطَ حُكْمُ الْخِيَارِ فِيهِ مَعَ الرَّضَا بِهِ كَالْخِيَارِ فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ الْأُولَى وَالرِّضَا فِيهَا بِالْمُقَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمُحَاكَمَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلْخِيَارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَتَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ فِي مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ الْأُولَى وَإِنْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ مِلْكَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ قَدْ كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى نِصْفِهِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى جَمِيعِهِ، فَصَارَ إِعْسَارُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِحَقٍّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ تَسْتَجِدَّ بِهِ خِيَارًا لَمْ يَكُنْ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ فَمَتَى شَاءَتْ أَجَّلَ أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ عَفْوٌ عَمَّا مَضَى ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ فِي إِعْسَارِهِ بِنَفَقَتِهَا فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ رِضًا بِعُسْرَتِهِ ثُمَّ عَادَتْ تُحَاكِمُهُ تَلْتَمِسُ الْخِيَارَ وَالْفَسْخَ كَانَ ذَلِكَ لَهَا فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا فِي الصَّدَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَفْوُهَا سَقَطَ خِيَارُهَا، وَالنَّفَقَةُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَفْوُهَا كَانَ عَفْوُهَا عَمَّا تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُهُ وَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَمَّا تَأَخَّرَ اسْتِحْقَاقُهُ فَصَارَ مَا طَالَبَتْ بِالْفَسْخِ فِيهِ غَيْرَ مَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ عَلَيْهِ فَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعَفْوِ تَأْثِيرٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْوُجُوبِ كَالشَّفِيعِ إِذَا عَفَا عَنِ الشُّفَعَةِ قبل الشراء والورثة إذا جازوا الْوَصَايَا قَبْلَ الْوَفَاةِ وَالْأَمَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ كُلِّهِ تَأْثِيرٌ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَوْ عَفَتْ فِي يَوْمٍ ثُمَّ عَادَتْ تُطَالِبُ فِيهِ بِالتَّخْيِيرِ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لَهَا لِسُقُوطِ حَقِّهَا فِيهِ بِعَفْوِهَا، فَإِنْ عَادَتْ مِنْ غَدِهِ خُيِّرَتْ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَلِمَتْ عُسْرَتَهُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُوسِرَ وَيُتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْغُرْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ ثُمَّ طَلَبَتِ الْفَسْخَ بَعْدَ نِكَاحِهِ لِإِعْسَارِهِ بِالصَّدَاقِ أَوِ النَّفَقَةِ خُيِّرَتْ فِيهِمَا وَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا بِالْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِ. لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُيُوبَ الْمَظْنُونَةِ دُونَ الْمُتَحَقِّقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْعُيُوبِ الْمَظْنُونَةِ وَالْمُتَيَقَّنَةِ وَبَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ وَلَا يَزُولَ أَلَا تَرَاهَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِعِنَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا، لِأَنَّ الْعِنَّةَ مَظْنُونَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَزُولَ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِأَنَّهُ مَجْبُوبٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ، لِأَنَّ الْجَبَّ مُتَيَقَّنٌ وَلَا يَزُولُ بَعْدَ وُجُودِهِ. (امْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِ إِذَا أَعْسَرَ بِصَدَاقِهَا حَتَى تَقْبِضَهُ وَاحْتَجَّ عَلَى مُخَالِفِهِ فَقَالَ إِذَا خَيَّرْتَهَا فِي الْعِنِّينِ يُؤَجَّلُ سَنَةً وَرَضِيَتْ مِنْهُ بِجِمَاعٍ مَرَّةً فَإِنَّمَا هُوَ فَقْدُ لَذَّةٍ وَلَا صَبْرَ لَهَا عَلَى فَقْدِ النَّفَقَةِ فَكَيْفَ أَقَرَرْتَهَا مَعَهُ فِي أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْغَرِ الضَّرَرَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وَلِامْتِنَاعِهِ مِنْ دَفْعِ صَدَاقِهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تسليم نفسها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 والثاني: قَبْلَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهِ أُخِذَ جَبْرًا بِدَفْعِهِ وَحُبِسَ بِهِ إِنْ مَطَلَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِفَسْخِ، نكاحه قولان، وإن كان ذلك قبل التسليم نَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ فَلَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِعُسْرَتِهِ كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا مَعَ الْعُسْرَةِ إِلَى أَنْ تقبض الصداق، ولا يكون رضاها بالعسرة سقطاً لِحَقِّهَا مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَعَادَ الشَّافِعِيُّ ذِكْرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ لِئَلَّا يَسْتَهْلِكَ بَعْضَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا لَمْ يُفْسَخْ وَيُؤْخَذَ جَبْرًا بِدَفْعِهِ، وَلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَإِنْ تَمَانَعَا وَقَالَ الزَّوْجُ: لَا أَدْفَعُ الصَّدَاقَ إِلَّا بَعْدِ التَّسْلِيمِ وَقَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ كَتَمَانُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَمَانُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ يَقْطَعُ التَّخَاصُمَ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَقٌّ فِي الِامْتِنَاعِ فَإِنْ سَلَّمْتِ أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ نَفْسَكِ أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِ صَدَاقِكِ، وَإِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِدَفْعِ الصَّدَاقِ أُجْبِرَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الزَّوْجَ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَى عَدْلٍ يَكُونُ أَمِينًا لَهُمَا فَإِذَا يحصل الصَّدَاقُ عِنْدَهُ أَجْبَرَ الزَّوْجَةَ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ دَفَعَ الأمين الصداق إليها والله أعلم بالصواب. (نَفَقَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا وَغَيْرُ ذلك) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وجدكم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يضعن حملهن} فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهَا نَفَقَةً بِالْحَمْلِ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا بِخِلَافِ الْحَمْلِ ولا أعلم خلافاً أن التي يملك رجعتها في معاني الأزواج في أن عليه نفقتها وسكناها وأن طلاقه وإيلاءه وظهاره ولعانه يقع عليها وأنها ترثه ويرثها فكانت الآية على غيرها من المطلقات وهي التي لا يملك رجعتها وبذلك جاءت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في فاطمة بنت قيس بت زوجها طلاقها فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال " ليس لك عليه نفقة " وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال " نفقة المطلقة ما لم تحرم " وعن عطاء ليست المبتوتة الحبلى منه في شيء إلا أنه ينفق عليها من أجل الحبل فإن كانت غير حبلى فلا نفقة لها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْمُطَلَّقَةِ حَالَتَانِ: رَجْعِيَّةٌ وَمَبْتُوتَةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا السُّكْنَى، وَالنَّفَقَةُ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا، وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إِمَّا بِالْخُلْعِ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ. وَالثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَهَا السُّكْنَى وَلَيْسَ لَهَا النفقة، وبه قال من ال الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. فَأَمَّا وُجُوبُ السُّكْنَى فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الْعِدَدِ. وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنَ النَّفَقَةِ ضِرَارٌ قَدْ نَهَى عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا لَهَا. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ: مَا جَعَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلمها غَلِطَتْ أَوْ نَسِيَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ " وَهَذَا نَصٌّ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ كَالرَّجْعِيَّةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ لِحَقِّهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ كَالزَّوْجَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْبَيْنُونَةِ كَالسُّكْنَى. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) [الطلاق: 6] ، فَجَعَلَ نَفَقَةَ الْمَبْتُوتَةَ مَشْرُوطَةً بِالْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا بِعَدَمِ الْحَمْلِ وَرُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَبَتَّ زَوْجُهَا طَلَاقًا فَأَتَاهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ وَأَتَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ عَنْ نَفَقَتِهَا فَقَالَ: " لَا نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: " إِنَّمَا النَّفَقَةُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجَعَتْهَا ". وَلِأَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ فَوَجَبَ أن تسقط النفقة بزوالها كالوفاة، ولأنه بَائِنٌ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ نَفَقَتُهَا كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ فَإِذَا زَالَ التَّمْكِينُ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِزَوْجَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ رِقَّ أَمَتِهِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْأَمَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ رِقِّهَا وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. فَأَمَّا عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الْآيَةِ فهو وروده في السكنى بدليل قوله تعالى: {ولا تضارهن} . وَآخِرُ الْآيَةِ فِي النَّفَقَةِ دَلِيلُنَا لِاشْتِرَاطِ الْحَمْلِ في وجوبها واثر عمر فمنقطع، لأن راويه النَّخَعِيِّ وَلَمْ يَلْحَقْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنِ اتَّصَلَ لَكَانَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَوْلَى مِنْهُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهَا وَارِدٌ فَكَانَتْ بِمَا تَضَمَّنَهُ أَخْبَرَ كَمَا أَخَذَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَقَوْلِهَا: " فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاغْتَسَلْنَا "، وَلَوِ اسْتَدَلَّ بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّ طَلَاقَهَا رَجْعِيٌّ فَأَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلِمَا عَلِمَ أَنَّهُ بَائِنٌ أَسْقَطَ نَفَقَتَهَا وَأَوْجَبَ سُكْنَاهَا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ كَمَا أَقْطَعَ الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مِلْحَ مُآبٍ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ قَالَ: " فَلَا إذن "، وقياسهم عَلَى الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا رَجْعَتُهَا، وَالْبَائِنُ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِعَدَمِ التَّوَارُثِ وَسُقُوطِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ بينهما وأنا مُحَرَّمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ لِحَقِّهِ يَفْسَدُ بِالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زوجها وبالموطوئة بالشبهة، وقياسهم عَلَى السُّكْنَى فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُوبُ السُّكْنَى لِتَحْصِينِ مَائِهِ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَبَعْدَهَا، وَالنَّفَقَةُ لِأَجْلِ التَّمْكِينِ وَذَلِكَ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ فَخَالَفَ لِمَا بَعْدَهَا. . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (النَّفَقَةُ فِي حال الفسخ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ مُتْعَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ سُكْنَى فَلَيْسَتْ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَأَمَّا كُلُّ نِكَاحٍ كَانَ مَفْسُوخًا فَلَا نَفَقَةَ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النِّكَاحُ ضربان: صحيح، وفاسد. وصحيح يَرْتَفِعُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: طَلَاقٌ وَوَفَاةٌ وَفَسْخٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الرَّجْعِيِّ وَوُجُوبِ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ فِي الْبَائِنِ، وَأَمَّا الْمُرْتَفِعُ بِالْوَفَاةِ فَيَأْتِي. وَأَمَّا الْفَسْخُ فَلَا مُتْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مَفْقُودٌ وَتَسْتَحِقُّ بِهِ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ كَالْبَائِنِ. لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ كَالْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ أَوْ إِحْرَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دُخُولٌ فَلَا صَدَاقَ فِيهِ وَلَا مُتْعَةَ وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ فَفِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَلَا مُتْعَةَ فِيهِ لِعَدَمِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَخْلُو الْمَوْطُوءَةُ فِيهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّهَا فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَسْتَحِقَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَفِي وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا لَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ فِي حَالِ التَّمْكِينِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَسْتَحِقَّهَا بَعْدَهُ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا لِلْحَمْلِ: كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ وَقِيلَ فِي السُّكْنَى أَيْضًا تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ، لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ ذَاتِ النِّكَاحِ الصحيح فكان له النَّفَقَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَحْكَامُ الْحَمْلِ في النفقة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ ادَّعَتِ الْحَمْلَ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِيَقِينٍ حَتَّى تَلِدَ فَتُعْطَى نَفَقَةَ ما مضى لها، وهكذا لو أوصى لحمل أو كان الوارث أو الموصى له غائبا فلا يعطى إلا بيقين أرأيت لو أعطيناها بقول النساء ثم أنفس أليس قد أعطينا من ماله ما لم يجب عليه، والقول الثاني أن تحصى من يوم فارقها فإذا قال النساء بها حمل أنفق عليها حتى تضع ولما مضى (قال المزني) رحمه الله هذا عندي أولى بقوله لأن الله عز وجل أوجب بالحمل والنفقة وحملها قبل أن تضع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْحَمْلِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ بِالْوِلَادَةِ وَلَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ قَبْلَ الْوَضْعِ وَذَلِكَ الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ بِهِ. فَإِذَا بَانَتْ لِمَا رَأَتْ وَغَلَبَ وُجُودُهُ فِي الظَّنِّ كَانَ حُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ مَوْقُوفًا عَلَى أَمْرِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَلَا يُوقَفُ عَلَى الْيَقِينِ بِالْوِلَادَةِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ " وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِبِلِ الدِّيَةِ: " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَلْ يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ فِي عِدَّتِهَا. أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا عَلَى الْيَقِينِ وَأَنْ لَا يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ كَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يكون ما ظن بها من الحمل غلطاً أَوْ رِيحًا فَانْفَشَّ وَلَا تَسْتَحِقُّ بِهِ نَفَقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ إِيجَابُ حَقٍّ بِشَكٍّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ. فَإِذَا قَالَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ مِنَ الْقَوَابِلِ إِنَّ بِهَا حَمْلًا حَكَمْنَا لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قُلْنَا فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالرَّدِّ بِعَيْبِهِ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ حَيْثُ عُمِلَ فِيهَا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ حَيْثُ عُمِلَ فِيهِمَا عَلَى الْيَقِينِ أَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْحَمْلِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَانِ بحياة فلم يتعلق إِلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْيَقِينِ وَقَفَ أَمْرُ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا أُعْطِيَتْ نَفَقَةَ مَا مَضَى لَهَا إِلَى أَنْ وَضَعَتْ وَلَا تُعْطَى النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ نِفَاسِهَا، لِأَنَّهَا تَحِلُّ فِيهِ لِعَقْدِ الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ أُعْطِيَتْ نَفَقَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ، فَإِنْ وَلَدَتْ لِمُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ تَحَقَّقَ اسْتِحْقَاقُهَا لِمَا أَحْدَثَ وَإِنِ انْفَشَّ مَا بِهَا أَوْ وَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَصَاعِدًا اعلم أَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ مَا أَحْدَثَ فَيَسْتَرْجِعُ جَمِيعَهُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا اسْتَرْجَعَ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. (الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُلَاعَنَةِ) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَنَفَاهُ وَقَذَفَهَا لَاعَنَهَا وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ وَلَاعَنَ مِنْهَا بَعْدَ قَذْفِهِ صَحَّ لِعَانُهُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيهِ. لِأَنَّ نَفْيَهُ تَبَعٌ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَلَهَا السُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ. وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لِانْتِفَاءِ حَمْلِهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ فَصَارَتْ كَالْحَائِلِ سواء قيل إن النفقة لحملها أولها لِأَجْلِ الْحَمْلِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ، فَهَلَّا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ كَاللَّاحِقِ؟ قِيلَ: الْعِدَّةُ تَجِبُ لاستبراء الرحم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 وَالتَّعَبُّدِ وَلِئَلَّا يَلْحَقَ بِزَوْجٍ غَيْرِهِ وَهُوَ أَقْوَى مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ، فَاسْتَوَى فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ مَنْ يَلْحَقُ وَمَنْ لَا يَلْحَقُ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ وَالْمَنْفِيَّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ فَلَمْ تَجِبْ لَهُ وَلَا نَفَقَةَ، فَإِنْ نَفَى حَمْلَهَا بَعْدَ أَنْ أَبَانَهَا بِالْخُلْعِ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا لِنَفْيِ الْحَمْلِ قَوْلَانِ، مَضَيَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ اعْتِبَارًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي نَفْيِهِ وَنَفَقَتِهِ، فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ إِذَا لَاعَنَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ حَتَّى تَضَعَ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي نَفْيِهِ وَنَفَقَتِهِ فَعَلَى هَذَا إِذَا وَضْعَتْ لَاعَنَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ النفقة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ثُمَّ أَخَذَتْ مِنْهُ النَّفَقَةَ الَّتِي بَطَلَتْ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِ حَمْلِهَا أَوْ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ. وَإِكْذَابُهُ لِنَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي نَفْيِ وَلَدِهَا فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ فِي الْحَالَيْنِ، وَيُحَدُّ بِقَذْفِهَا عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَيَّامِ حَمْلِهَا فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ مُدَّةَ حَمْلِهَا، وَلَا يَكُونُ لِلِعَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهَا كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَفْيِ وَلَدِهَا. (الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْقَوَابِلِ في النفقة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَعْطَاهَا بِقَوْلِ الْقَوَابِلِ أَنَّ بِهَا حَمْلًا ثُمَّ عَلِمَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَمْلٌ أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَجَاوَزَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْخُلْعِ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَادَّعَتِ الْحَمْلَ فَصَدَّقَهَا أَوْ أَنْكَرَ فَشَهِدَ الْقَوَابِلُ بِحَمْلِهَا وَدَفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا ثُمَّ بَانَ أَنْ لَا حَمْلَ بِهَا أَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ لَا يَلْحَقُ بِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي النَّفَقَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا مُجْبَرًا، وَقَدْ عَلِمَ سُقُوطَهَا فَاسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ كَانَ بِظَاهِرٍ بَانَ خِلَافُهُ فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادٍ خَالَفَ فِيهِ نَصًّا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ النفقة للحامل فتستحقه في الحال يوماً بيوم رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ صَدَّقَ عَلَى الْحَمْلِ لِأَنَّ الْيَقِينَ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ التَّصْدِيقِ، وَيَكُونُ دَفْعُهَا بِغَيْرِ حُكْمٍ كَدَفْعِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِحُكْمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ حُوكِمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 لَأُجْبِرَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا بَعْدَ الْوَضْعِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا التَّعْجِيلَ أَوْ لَا يَشْتَرِطَ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ فِيهَا التَّعْجِيلَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، لِأَنَّهَا مِنْهُ تَطَوُّعٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ فِيهَا التَّعْجِيلَ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ تَضَمَّنَهَا الرُّجُوعُ بِهَا إِنِ انْفَشَّ حَمْلُهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُضَمِّنَهَا الرُّجُوعَ بِهَا فَفِي اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَرْجِعُ بِهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ مَا اشْتَرَطَهُ مِنَ التَّعْجِيلِ، كَمَا يَسْتَرْجِعُ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ عِنْدَ تَلَفِ ماله إذا اشتراطه. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا إِذَا اشْتَرَطَ التَّعْجِيلَ حَتَّى يَشْتَرِطَ التَّضْمِينَ مَعَهُ لِاحْتِمَالِ التَّعْجِيلِ وَإِخْلَالِهِ بِالتَّضْمِينِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى، وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا ثُمَّ عَلِمَ فَسَادَ نِكَاحِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَنْفَقَ بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَامِلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَنْفَقَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ، وَفِي الْحَامِلِ أَنْفَقَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ. (الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَلَمْ تُقِرَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ كَانَ حَيْضُهَا يَخْتَلِفُ فَيَطُولُ وَيَقْصُرُ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ اليقين وأطرح الشك (قال المزني) رحمه الله إِذَا حُكِمَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ في القياس لها بالعدة قائمة ولو جاز قطع النفقة بالشك في انقضاء العدة لجاز انقطاع الرجعة بالشك في انقضاء العدة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالنَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ فِيهِ وَاجِبَةٌ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجَاتِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ وَاسْتِمْتَاعَهُ بِهَا مُمْكِنٌ إِذَا أَرَادَ وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا وادعت حملاً ظهرت أمارته وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَمْلِهَا وَتَتَعَجَّلُهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي العدة مع وجوب الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ فَتَعَجَّلَتْ لِوَقْتِهِ وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى الوضع، ولها فيما بعد حالتان: أحدهما: أن تنفش حَمْلُهَا وَيَظْهَرَ أَنَّهُ كَانَ رِيحًا وَغِلَظًا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ تَسْتَحِقُّ فِيهَا نَفَقَتَهَا وَتَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا فِي مِقْدَارِ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِيمَا تَذْكُرُهُ مِنْ مُدَّةِ أَقْرَائِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ والظهر مَعْرُوفَةً لَا تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ قَدْرَ الْعَادَةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا، فَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ نُقْصَانَ عَادَتِهَا فَلَهُ إِحْلَافُهَا، لِأَنَّ النُّقْصَانَ مُمْكِنٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُتَّفِقَةً لَا تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ زِيَادَةَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي زِيَادَةِ الْعَادَةِ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَهِيَ مُصَدِّقَةٌ عَلَى نَفْسِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُتَّفِقَةً لَا تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ نُقْصَانَ عَادَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَضَرُّ بِهَا، وَقَدْ تَقْضِي زَمَانَ الرَّجْعَةِ فِي زِيَادَةِ الْعَادَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَذْكُرَ أَطْوَلَ الْعَادَتَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَذْكُرَ أَقْصَرَ الْعَادَتَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَضَرُّ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَمْ يَرُدُّهَا الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَأَطْرَحُ لِلشَّكِّ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَجْهَلَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ هَلْ كَانَتْ بِأَطْوَلِ الْعَادَةِ أَوْ بِأَقْصَرِهَا فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهَا إِلَّا نَفَقَةَ الْأَقْصَرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَالْأَطْوَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ دَاخِلٌ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ حَيْضُهَا يَخْتَلِفُ فَيَطُولُ وَيَقْصُرُ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَأَطْرَحُ لِلشَّكِّ، يَعْنِي أَطْوَلَ عَادَتِهَا. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَجْعَلَ قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ أَقَلِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَتَانِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: " لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ " يَعْنِي أَقْصَرَ مَا يُمْكِنُ فَيَدْخُلُ هَذَانِ الْقَسَمَانِ فِي مُرَادِهِ بِالْأَقْصَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْأَقْصَرُ فِيهِمَا فَكَانَ فِي السَّادِسِ مِنْ أَقْصَرِ عَادَتِهَا وَفِي السَّابِعِ أَقْصَرَ مَا يُمْكِنُ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَضَعَ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَضَعَهُ إِلَى مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَيَكُونَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالْمُطَلِّقِ وَتَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ لِانْقِضَاءِ العدة توضع الْحَمْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَفِي لُحُوقِهِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابَيِ " الرَّجْعَةِ " وَ " الْعِدَدِ ". أَحَدُهُمَا: يَلْحَقُ بِهِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْحَقُ بِهِ كَالْبَائِنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي اسْتِحَالَةِ عُلُوقِهِ قَبْلَ طَلَاقِهَا، فَعَلَى هَذَا تُسْأَلُ عَنْ حَالِ الْحَمْلِ وَلَا يَخْلُو حَالُ جَوَابِهَا فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ أَصَابَهَا بِرَجْعَةٍ أَوْ غَيْرِ رَجْعَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ أَجْنَبِيًّا أَصَابَهَا بِشُبْهَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تقر أن رجلاً زنا بِهَا سَفْحًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا تَعْزِيَهُ إِلَى جِهَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الْعِدَّةِ فَيُسْأَلُ الزَّوْجُ عَنْ دَعْوَاهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، فَأَمَّا النَّفَقَةُ فتستحق منها النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِنَفَقَةِ مَا بَعْدَهَا مِنْ بَقِيَّةِ مُدَّةِ الْحَمْلِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَا مِنْ نِكَاحٍ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِانْتِفَائِهِ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ كَحَمْلِ الْمُلَاعَنَةِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمُلَاعَنَةِ كَانَ قبل اللعان لاحقا فجاز أن تنقض بِهِ الْعِدَّةُ وَحَمْلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَدْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْمَرْدُودَةِ غَيْرَ لَاحِقٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ ثُمَّ نَاقَضَ أَبُو حَامِدٍ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلَ عِدَّتَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَكَانَ فَرْقُهُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيمَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيمَا لَهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِهَذَا الْفَرْقِ يَفْسَدُ بِالْمُدَّعِيَةِ فِي عِدَّةِ أَقْرَائِهَا زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا قَوْلُهَا مَقْبُولٌ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةُ لَهَا، وَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا حُكِمَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ فِي الْقِيَاسِ لَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ هَذَا الْحَمْلِ، أَنْ تُسْأَلَ عَمَّا ادَّعَتْهُ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجِ، فَإِنْ قَالَتْ وَطِئَنِي عَقِيبَ طَلَاقِي لَزِمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ أَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَلَا رَجْعَةَ فِيهَا لِلزَّوْجِ لِإِكْذَابِهَا فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ قَالَتْ وَطِئَنِي بَعْدَ مُضِيِّ أَقْرَائِي كَأَنَّهَا قَالَتْ وَطِئَنِي فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 بَعْدَ مُضِيِّ قُرْأَيْنِ احْتَسَبَتْ بِالْقُرْأَيْنِ الْأَوَّلِينِ وَاعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ ثَالِثٍ بَعْدَ الْوِلَادَةِ تَنْقَضِي بِهِ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ أَجْنَبِيًّا أَصَابَهَا بِشُبْهَةٍ فَدَعَوَاهَا إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ، فَإِنْ صَدَّقَهَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ فَتُسْأَلُ الْمُطَلَّقَةُ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ، وَلَهَا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَهُ عَقِيبَ طَلَاقِهَا فَيَكُونَ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ عَنْ مُطَلِّقِهَا فَيَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ عَنْهُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهَا نَفَقَةَ الْحَمْلِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْحَمْلِ، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى إِصَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ إِنْ أَكْذَبَهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلزَّوْجِ بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَيَسْتَرْجِعَ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا إِلَّا مُدَّةَ أَقْرَائِهَا الثَّلَاثَةِ، وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ إِذَا انْفَشَّ حَمْلُهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ فِي تَضَاعِيفِ أَقْرَائِهَا، كَأَنَّهَا ادَّعَتْ إِصَابَتَهُ فِي الْقُرْءِ الثَّانِي بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَوَّلِ فَتُحْسَبَ لَهَا بِقُرْءٍ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِقُرْأَيْنِ، ويسترجع منها نفقة الحمل إلا قرء واحد وَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ قُرْأَيْنِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَجْهَلَ الْوَقْتَ الَّذِي ادَّعَتْ فِيهِ الْإِصَابَةَ وَلَا تُخْبِرَ بِهِ فَتَصِيرَ شَاكَّةً فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. فَيَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِيَقِينٍ، وَيَسْتَرْجِعَ الزَّوْجُ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ منه، ويدفع الزَّوْجُ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ نَفَقَةَ عِدَّةٍ، وَلَا يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ لِلشَّكِّ فِي اسْتِبَاحَتِهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تقر أن رجلاً زنا بِهَا فَتَعْتَدَّ بِمَا مَضَى مِنْ أَقْرَائِهَا قَبْلَ الزِّنَا وَبَعْدَهُ، وَلَا تَفِسَدَ الْأَقْرَاءُ بِوَطْءِ الزِّنَا وَتَعْتَدَّ بِحَيْضِهَا عَلَى الْحَمْلِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ ما تراه الحامل من الدم حيضاً أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ هَذَا الْحَمْلِ فَاعْتَدَّتْ فِيهِ بِالْحَيْضِ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ إِذَا قِيلَ لَيْسَ بِحَيْضٍ وَيَسْتَرْجِعَ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى قَوْلِهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا تَعْزِيَ وطأها إلى أحد أن تنكر أو يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا أَحَدٌ فَيَجْرِيَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ وَطْءِ الزِّنَا فَيَكُونَ حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْقَوْلُ في نفقة الحمل) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أَعْلَمُ حُجَّةً بِأَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى الْأَمَةِ الْحَامِلِ، وَلَوْ زَعَمْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ كَانَتْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ لَا تَبْلُغُ بَعْضَ نَفَقَةِ أمة ولكنه حكم الله جل ثناؤه (وقال) في كتاب الإملاء: النفقة على السيد (قال المزني) رحمه الله: الأول أحق به لأنه شهد أنه حكم الله وحكم الله أولى مما خالفه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمَبْتُوتَةِ وَاجِبَةٌ، وَهَلْ وَجَبَتْ لِحَمْلِهَا أَوْ لَهَا؟ لِأَنَّهَا حَامِلٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا. أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا لِكَوْنِهَا حَامِلًا لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِكِفَايَةِ الْأُمِّ وَنَفَقَاتُ الْأَقَارِبِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَاتِهِمْ لَا بِكِفَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لِلْحَمْلِ لَمَا تَقَدَّرَتْ وَلَكَانَتْ بَعْضَ نَفَقَةِ أَمَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَهَا لَا لِحَمْلِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ إِذَا مَلَكَ الْحَمْلُ مَالًا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْأَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ الْجَدُّ بِهَا عِنْدَ إِعْسَارِ الْأَبِ وَفِي سُقُوطِهَا عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِمْلَاءِ " إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ لَا لِلْحَامِلِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّفَقَةَ لما وجبت لوجود الحمل وسقطت بعدمه عَلَى وُجُوبِهَا لِلْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ لِتَحْفَظَ بِهَا حَيَاتَهُ في الحالين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ الْمُرْضِعَةِ تَجِبُ لِلْمُرْضِعِ دُونَهَا وَإِنْ تَقَدَّرَتْ بِكِفَايَتِهَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْحَامِلِ بِمَثَابَتِهَا تَجِبُ لِلْحَمْلِ دُونَهَا وَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا دُونَهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا إن أبت الحرة طَلَاقَ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى سَيِّدِهَا دُونَ زَوْجِهَا، لِأَنَّ الْحَمْلَ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ دُونَ الأب، ولو أبى الْعَبْدُ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ وَهِيَ حَامِلٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْهُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا كُلُّ نِكَاحٍ كَانَ مَفْسُوخًا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ (وقال) في موضع آخر إلا أن يتطوع المصيب لها بذلك ليحصنها فيكون ذلك لها بتطوعه وله تحصينها وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّكَاحُ الْمَفْسُوخُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْسُوخَ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَبِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ فَلَا تَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ لَا فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ إِذَا كَانَتْ حَائِلًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ التَّمْكِينِ، وَمَعَ فَسْخِ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ فَلَمْ تَجِبْ لَهَا النَّفَقَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ لِحُرْمَةِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْمَفْسُوخِ حُرْمَةٌ فَلَمْ تَجِبْ بِهِ نَفَقَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فِي حَالِ الْعِدَّةِ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ مِنْ أَصْلِهِ كَالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ إِذَا جُعِلَ لِلزَّوْجِ الْفَسْخُ لِحُدُوثِهَا فَتَسْتَحِقُّ بَعْدَ فَسْخِهِ الصَّدَاقَ الْمُسَمَّى وَتَكُونُ فِي عِدَّتِهَا كالمبتوتة لانفقة لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا، وَلَهَا النَّفَقَةُ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بِمَا يُوجِبُ رَفْعَهُ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 أَصْلِهِ كَالْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا فَسَخَ الزَّوْجُ بِهَا. أن يقع العقد من اصله يقدم سَبَبُ الْفَسْخِ عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَفْسُوخِ حَالَ الْعَقْدِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ كَالْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَجَبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَسْخِ الطَّارِئِ الْمَانِعِ مِنَ الِاسْتِدَامَةِ وَلَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وهو وُجُوبَ النَّفَقَةِ قَبْلَ الْفَسْخِ تَسْتَحِقُّ وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ الْفَسْخِ لِوُجُودِ مُوجِبَيِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَهُمَا وُجُوبُ التَّمْكِينِ وَحُرْمَةُ الْعَقْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَفَقَةُ مَا بَعْدَ الْفَسْخِ مِنْ عِدَّةِ الْحَمْلِ ذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى إِلْحَاقِهَا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمَفْسُوخِ مِنْ أَصْلِهِ وَخَرَّجَ اسْتِحْقَاقَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِرَفْعِهِ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ الثَّانِي لِاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فِي الْفَسْخِ الطَّارِئِ الرَّافِعِ لِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا في عدة الحمل على القولين معاً لوجود مُوجِبَيِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْفَسْخِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ التَّمْكِينِ وَحُرْمَةِ الْعَقْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 (باب النفقة على الأقارب من كتاب النفقة ومن ثلاثة كتب) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " فِي كِتَابِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانٌ أَنَّ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَقُومَ بِالْمُؤْنَةِ فِي إِصْلَاحِ صِغَارِ وَلَدِهِ مِنْ رَضَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ دُونَ أُمِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعِبْرَةِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اشْتِغَالَ الْأُمِّ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ نَفَقَتِهَا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، يَعْنِي الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا أَرْضَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَجَبَتْ لَهُنَّ أُجْرَةُ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا لَزِمَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ كَانَ لُزُومُ النَّفَقَةِ أَحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] ، فَلَوْلَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَا قَتَلَهُ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ مِنَ النَّفَقَةِ. وَأَمَّا دَلِيلُ السُّنَّةِ فَمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَقَالَ: إِنَّ مَعِي دِينَارًا قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ قال: إن معي آخر قال: أنفقه عَلَى وَلَدِكَ قَالَ: إِنَّ مَعِي آخَرَ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ هِنْدَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا آخُذُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)) ، فَدَلَّ هَذَا أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ. وَأَمَّا الْعِبْرَةُ فَإِنَّ وُجُودَ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 تَعْتِقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ كَمَا لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُنْفِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ. (الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ) (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِشُرُوطٍ فِي الْوَلَدِ وَشُرُوطٍ فِي الْوَالِدِ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَلَدِ، فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ سَيِّدُهُ أَحَقَّ بِالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ مِنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ مَالِكُ كَسْبِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أن يكون فقيراً لا مال له إن كَانَ لَهُ مَالٌ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ لَا تَجِبُ إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَعَجْزُهُ عَنْهُ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِنُقْصَانِ خَلْقِهِ وَإِمَّا بِنُقْصَانِ أَحْكَامِهِ، أَمَّا نُقْصَانُ خَلْقِهِ فَكَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ أَحْكَامِهِ فَكَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى الْأَبِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ. لِيَكُونَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ، لأنه لما تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى نَفَقَتِهِ، وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا تَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا مِنْ يَسَارٍ بِمَالٍ يَمْلِكُهُ، وَإِمَّا بِكَسْبِ بَدَنِهِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ تُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمَ الْغِنَى وَتَسْلُبُهُ حُكْمَ الْفَقْرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ عَنِ الزَّكَاةِ إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ ". وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْضُلْ عَنْهَا سَقَطَتْ عَنْهُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ ". (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " النوفية دلالة أن النفقة ليست على الميراث وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} من أن لا تضار والدة بولدها لا أن عليها النفقة ". قال الماوري: وَهَذَا صَحِيحٌ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ أَبَوَاهُ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 فِيهِمَا شُرُوطُ الِالْتِزَامِ، فَإِنْ أَعْسَرَ الْأَبُ بِهَا أَوْ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَبِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ أبي الأب ثم أباؤه وَإِنْ عَلَوْنَ دُونَ الْأُمِّ. سَوَاءٌ مَاتَ الْأَبُ أَوْ أَعْسَرَ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى الْأُمِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا عَلَى الْجَدِّ، سَوَاءٌ مَاتَ الْأَبُ أَوْ أَعْسَرَ؛ لِبُعْدِ نَسَبِ الْجَدِّ وَضَعْفِ النِّسَاءِ عَنِ التَّحَمُّلِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِنْ أَعْسَرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْهَا الْأُمُّ لِتَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ كَانَتْ عَلَى الْجَدِّ دُونَ الْأُمِّ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَوْتِ الْأَبِ وَإِعْسَارِهِ عَلَى الْجَدِّ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا كَالْمِيرَاثِ، ثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ وَثُلُثَاهَا عَلَى الْجَدِّ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} الْآيَةَ إِلَى أَنْ قَالَ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك} يَعْنِي مِثْلَمَا كَانَ عَلَى الْأَبِ مِنْ رِزْقِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْأُمُّ وَالْجَدُّ وَارِثَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي تَحَمُّلِ ذَلِكَ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ وَهَذَا نَصٌّ. وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ الْجَدَّ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] فَسَمَّانَا أَبْنَاءً وَسَمَّى آدَمَ أَبًا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فَسَمَّاهُ أَبًا وَإِنْ كَانَ جَدًّا بَعِيدًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الْجَدُّ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ وَاخْتَصَّ دُونَ الْأُمِّ بِالتَّعْصِيبِ وَجَبَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التأويل في المراد بالوارث هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ الْمَوْلُودُ يَلْتَزِمُ نَفَقَةَ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ كَمَا الْتَزَمَهَا أَبُوهُ، وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَسْقُطُ الدَّلِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَارِثَ الْأَبِ فَعَلَى هَذَا الْجَدُّ الَّذِي هُوَ أبوه أخص بميراثه نسباً من الأم هي زوجته فسقط الدليل. والثالث: وَارِثُ الْمَوْلُودِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مثل ذلك مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ فِي أَنْ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِهَا عَلَى الْجَدِّ دُونَ الْأُمِّ فَهِيَ بَعْدَ الْجَدِّ عَلَى آبَائِهِ وَإِنْ بَعُدُوا دُونَ الْأُمِّ، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْعَدِ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَقْرَبِ أَوْ عُسْرَتِهِ، فَإِذَا عُدِمُوا أَوْ أَعْسَرُوا انتقل وجوبها إلى الأم. قال مَالِكٌ: لَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي تَحَمُّلِ النَّفَقَاتِ لِقَوْلِ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] فَأَوْجَبَ النَّفَقَةَ لَهُنَّ وَلَمْ يُوجِبِ النَّفَقَةَ عَلَيْهِنَّ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمِّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْأَبُ مِنَ الرَّضَاعِ وَجَبَ عَلَيْهَا مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ فَلَمَّا تَحَمَّلَتْ بِالْمَظْنُونَةِ كَانَ تَحَمُّلُهَا بِالْمُسْتَيْقِنَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ الْوَلَدُ نَفَقَةَ أَبَوَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَبَوَاهُ نَفَقَتَهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِوُرُودِهَا فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَحَمُّلُ الْأُمِّ لَهَا كَالْأَبِ خَرَجَ مِنِ الْتِزَامِهَا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ وَالْعَصَبَاتِ، وَاخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا وَالْتِزَامِهَا مَنْ فِيهِ بَعْضِيَّةٌ مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ، فَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ أَقَارِبُ الْأَبِ فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فَإِنْ عُدِمَ أَوْ أَعْسَرَ انْتَقَلَتْ عَنْهُ إِلَى جَدِّ الْجَدِّ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى جَدٍّ بَعْدَ جَدٍّ، فَإِذَا عُدِمَ جَمِيعُ الْأَجْدَادِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى أُمِّ الْأَبِ لِقِيَامِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَالْمِيرَاثِ مَقَامَ الْأَبِ، وَلَيْسَ يُشَارِكُهَا فِي دَرَجَتِهَا بَعْدَ الْجَدِّ أَحَدٌ، فَإِذَا صَعِدَتْ بَعْدَهَا دَرَجَةً اجْتَمَعَ فِيهَا بَعْدَ أَبِي الْجَدِّ ثَلَاثَةٌ: أُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأَبُ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي تَحَمُّلِهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَعَدَمِ التَّعَصُّبِ، فَيَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَتَحَمَّلُهَا أُمُّ أَبِي الْأَبِ، لِأَنَّهَا مَعَ مُسَاوَاتِهِمْ في الدرجة أقرب إدلاءاً بِعَصَبَةٍ لِتَحَمُّلِهَا، وَأَرَى وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ، أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِمْ مَعَ اسْتِوَاءِ الدَّرَجِ وَارِثٌ وَغَيْرُ وَارِثٍ كَانَ الْوَارِثُ بِتَحَمُّلِهَا أَحَقَّ مِنْ غَيْرِ الْوَارِثِ لِقُوَّةِ الْوَارِثِ عَلَى مَنْ لَا يَرْثُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا لِقُوَّةِ سَبَبِهِ. كَمَا تُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لِقُوَّتِهِمْ بِالتَّعَصُّبِ فَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْمِيرَاثِ تَحَمَّلَهَا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إدلاءاً بِعَصَبَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ رَحِمُهُمْ تَحَمَّلَهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أُمُّ أَبٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُنَّ اشْتَرَكْ فِي تَحَمُّلِهَا أُمُّ أبي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 الْأَبِ، وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَتَسْقُطُ عَنْ أَبِي أُمِّ الْأَبِ لِسُقُوطِ مِيرَاثِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ فِي جَمِيعِ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا فَإِذَا صَعَدْتَ إِلَى دَرَجَةٍ رَابِعَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ فِيهَا بَعْدَ جَدِّ الْجَدِّ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي تَحَمُّلِهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. سَبْعَةٌ: أَحَدُهُمْ: أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ. وَالثَّانِي: أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأَبِ. وَالثَّالِثُ: أُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبٍ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَارِثَاتٌ. وَالرَّابِعُ: أَبُ أُمِّ أَبِي أَبٍ. وَالْخَامِسُ أَبُ أُمِّ أُمِّ أَبٍ. وَالسَّادِسُ: أَبُ أَبِي أُمِّ أَبٍ. وَالسَّابِعُ: أُمُّ أَبِي أُمِّ أَبٍ وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَارِثٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ يَتَحَمَّلُونَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ، فَإِنْ عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ تَحَمَّلَهَا مَنْ بَقِيَ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِتَحَمُّلِهَا وَارِثٌ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ وَلَا مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ عَلَى مَنْ أَدْلَى بِغَيْرِ عَصَبَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ فِي تَحَمُّلِ النَّفَقَةِ قُرْبَ الدَّرَجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَمَّلُهَا مِنْهُمْ مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ وَارِثٌ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَذْكُورِينَ مِنَ السَّبْعَةِ، أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَتَسْقُطُ عَمَّنْ سِوَاهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِقُوَّتَيِ الْمِيرَاثِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ، فَإِنْ عَدِمَتْ كَانَتْ عَلَى الثَّانِيَةِ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأَبِ لِاخْتِصَاصِهَا بَعْدَ الْأُولَى بِالْقُوَّتَيْنِ الْمِيرَاثُ وَقُرْبُ الْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ فَإِنْ عُدِمَتِ الثَّانِيَةُ كَانَتْ عَلَى الثَّالِثَةِ لِتَفَرُّدِهَا بِالْقُوَّتَيْنِ، فَإِنْ عُدِمَ الثَّلَاثُ الْوَارِثَاتُ كَانَتْ عَلَى الرَّابِعِ، وَهُوَ أَبُ أُمِّ أَبِي الْأَبِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إدلاءاً بعصبة وأقرب إدلاءاً بِوَارِثٍ، فَإِنْ عُدِمَ الرَّابِعُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ رَاعَى قُرْبَ الْإِدْلَاءِ بالعصبة فجعلها على الثلاثة الباقيين بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ دَرَجِهِمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي رَأَيْتُ تَخْرِيجَهُ أَصَحَّ فِي تقديم الوارث على من ليس بوارث. تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِدْلَاءً بِوَارِثٍ وَهُوَ الْخَامِسُ. أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ، لِأَنَّهُ يُدْلِي بَعْدَ دَرَجَتِهِ بِوَارِثٍ، فَإِنْ عُدِمَ الْخَامِسُ اسْتَوَى السَّادِسُ وَالسَّابِعُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالتَّعَصُّبِ عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَهُ وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ. لَكِنَّ السَّادِسَ مِنْهُمَا ذَكَرٌ وَالسَّابِعَ أُنْثَى، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي تَحَمُّلِ النَّفَقَةِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 وَهُمَا يُدْلِيَانِ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ كَانَ الذَّكَرُ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْأُنْثَى كَالْأَبَوَيْنِ، وَلَوْ أَدْلَيَا بِشَخْصَيْنِ تَسَاوَيَا رُوعِيَتْ قُوَّةُ الْأَسْبَابِ، فَإِنِ اسْتَوَتِ اشْتَرَكَا في التحمل، والسادس والسابع هاهنا يُدْلِيَانِ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبُ أُمِّ الْأَبِ، فَالسَّادِسُ مِنْهُمَا أَبُوهُ وَالسَّابِعُ أُمُّهُ، فَاخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا السَّادِسُ الَّذِي هُوَ أَبُ أَبِي أُمِّ الْأَبِ دُونَ السَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي أُمِّ الأب، فإن عدم السادس بتحملها السَّابِعُ حِينَئِذٍ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَقَارِبُ الْأُمِّ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِمْ عَصَبَةٌ وَيَخْتَصُّ بِمَنْ فِيهِ مِنْهُمْ وِلَادَةً وَهُمْ فِي أَوَّلِ دَرَجَةٍ بَعْدَ الْأُمِّ أَبَوَاهَا وَهُمَا أَبُ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأُمِّ فَهِيَ عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ فِي التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ تَجِبُ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ دُونَ أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ دُونَهُ، وَلَهُ مَنِ اخْتُصَّ بِالذُّكُورَةِ، فَالتَّرْجِيحُ بِالْمِيرَاثِ أَقْوَى، فَإِذَا صَعِدْتَ بَعْدَهُمَا إِلَى دَرَجَةٍ ثَالِثَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْأُمِّ أَبَوَاهُ وَمِنْ جِهَةِ أُمِّ الْأُمِّ أَبَوَاهَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ، وَالثَّانِي أَبَ أُمِّ الْأُمِّ وَالثَّالِثُ أَبَ أَبِي الْأُمِّ وَالرَّابِعُ أُمَّ أَبِي الْأُمِّ فَهِيَ عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ فِي التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ وَاجِبَةٌ عَلَى أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ مِنْ جَمِيعِهِمْ فَإِنْ عُدِمَتْ وَجَبَتْ بَعْدَهَا عَلَى أَبِي أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِدْلَاءً بِوَارِثٍ، فَإِنْ عدم استوى الأثنان الباقيان فيها وهما أبرأ أَبِي الْأُمِّ وَقَدْ أَدْلَيَا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا ذَكَرٌ فَكَانَ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا وَوَجَبَتْ عَلَى أَبِي الْأُمِّ دُونَ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، فَإِنْ صَعِدْتَ بَعْدَهُمْ إِلَى دَرَجَةٍ رَابِعَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ فِيهَا ثَمَانِيَةٌ أَحَدُهُمْ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَالثَّانِي أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، وَالثَّالِثُ أَبُ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ، وَالرَّابِعُ أُمُّ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ وَالْخَامِسُ أَبُ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَالسَّادِسُ أُمُّ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَالسَّابِعُ أَبُ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، وَالثَّامِنُ أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، فَعَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجِ تَجِبُ عَلَى جَمْعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ، وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ، فِي التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ تَجِبُ عَلَى الْأُولَى وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَهِيَ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِدْلَاءً بِوَارِثٍ فَإِنْ عُدِمَ فَهِيَ عَلَى الثَّالِثِ وَهُوَ أَبُ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ، لِأَنَّهُ مَعَ الرَّابِعَةِ يُدْلِيَانِ بِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ الْمُدْلِي بِوَارِثٍ فَقُدِّمَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمَا لِبُعْدِ إِدْلَائِهِمْ بِوَارِثٍ وَقُدِّمَ الثَّالِثُ لِذُكُورِيَّتِهِ عَلَى الرَّابِعَةِ لِأُنُوثِيَّتِهَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنْ عُدِمَ الثَّالِثُ فَهِيَ عَلَى الرَّابِعَةِ وَهِيَ أُمُّ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَعَلَى الْخَامِسِ وَهُوَ أَبُ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُ مَعَ السَّادِسَةِ يُدْلِيَانِ بِأَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فقدم الخامس لذكوريته وإدلالئهما بِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عُدِمَ كَانَتْ بَعْدَهُ عَلَى السَّادِسَةِ وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبِي الْأُمِّ فَإِنْ عُدِمَتْ فَهِيَ بَعْدَهَا عَلَى السَّابِعِ وَهُوَ أَبُ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُ يُدْلِي مَعَ الثَّامِنَةِ بِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ فَاخْتُصَّ بِهَا لِذُكُورِيَّتِهِ، فَإِنْ عُدِمَ فَهِيَ بَعْدَهُ عَلَى الثَّامِنَةِ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقَارِبُ الْأَبِ أَقْرَبَ فَهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِتَحَمُّلِهَا لِقُرْبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ دَرَجِهِمْ دُونَ أَقَارِبِ الْأُمِّ لِبُعْدِهِمْ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَارِبُ الْأُمِّ أَقَرَبَ فَهُمْ أَخَصُّ بِتَحَمُّلِهَا لِقُرْبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ دَرَجِهِمْ دُونَ أَقَارِبِ الْأَبِ لِبُعْدِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ فِي الدَّرَجِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ الْفَرِيقَانِ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يختصر بِتَحَمُّلِهَا أَقَارِبُ الْأَبِ دُونَ أَقَارِبِ الْأُمِّ وَهَذَا قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ بِالْعَصَبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَحَمَّلَهَا الْوَرَثَةُ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَرِثْ، فَإِنْ لَمْ يَرِثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ اخْتُصَّ بِهَا مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِدْلَاءً بِإِرْثٍ، وَهَذَا قَوْلِي فِي اعْتِبَارِ الْقُوَّةِ بِالْإِرْثِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَشْتَرِكَانِ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ وَاعْتَبَرَ الْمِيرَاثَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجِ وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ الْأَبِ دُونَ أُمِّ الْأُمِّ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ بِالْعَصَبَةِ لِاخْتِصَاصِ أُمِّ الْأَبِ بِتَعْصِيبِ الْأَبِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ أُمُّ أَبٍ وَأَبُ أُمٍّ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ الْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ بِالْعَصَبَةِ وَقَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْقُوَّةَ بِالْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا فِي جِهَةِ أُمِّ الْأَبِ دُونَ أَبِي الْأُمِّ، وَلَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةٌ أَبُ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أُمٍّ. كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا لِاسْتِوَاءِ الدَّرَجِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ أَبِي الْأَبِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِدْلَاءً بِعَصَبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ التَّعْصِيبَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَ فِي تَحَمُّلِهَا أُمُّ أَبِي الْأَبِ وَأُمُّ أُمِّ الْأُمِّ لاشتراكهما في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 الْمِيرَاثِ دُونَ أَبِي أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَبَدًا. (الْقَوْلُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَوْلَادِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَيُنْفِقُ الرَّجُلُ عَلَى وَلَدِهِ حَتَّى يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أَوِ الْمَحِيضَ ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا زَمْنَى فَيُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يُغْنُونَ أَنْفُسَهُمْ وَكَذَلِكَ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبٌ دُونَهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِصِغَرِهِ سَقَطَتْ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ تَخْلُفِ الصِّغَرَ زَمَانَةٌ أَوْ جُنُونٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَإِذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ أَوْ حَاضَتِ الْجَارِيَةُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تُزَوَّجَ فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَا سَقَطَتْ بِهِ نَفَقَةُ الْغُلَامِ سَقَطَتْ بِهِ نَفَقَةُ الْجَارِيَةِ كَالْيَسَارِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْغُلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْأُنُوثِيَّةِ مَزِيَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لَوَجَبَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ وَفِي سُقُوطِهَا لِلْمُطَلَّقَةِ إِسْقَاطٌ لِحُكْمِ الْأُنُوثِيَّةِ. (الْقَوْلُ في سقوط نفقة الولد) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَنَفَقَتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَوْلَادِ مُوَاسَاةٌ فَوَجَبَتْ مَعَ الْعُدْمِ وَسَقَطَتْ مَعَ الْغِنَى، وَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ بِالْغِنَى، فَسَوَاءٌ كَانَ الولد ذكر أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهُ بِوَاجِبٍ كَالْمِيرَاثِ أَوْ بِتَطَوُّعٍ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ عَقَارًا نَامِيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَامٍ فَلَوْ كَانَ أَبُوهُ قَدْ وَهَبَ لَهُ مَالًا فَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ الِابْنُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ على الْأَبِ، وَوَجَبَتْ عَلَى الْوَلَدِ فِي الْمَالِ الَّذِي مَلَكَهُ عَنْ أَبِيهِ بِالْهِبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي هِبَتِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ وَعَلَيْهِ أَنْ ينفق بعد رجوعه عليه، إن كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ فَرْضًا مَوْقُوفًا، فَإِنْ قَدِمَ مَالُهُ سَالِمًا رَجَعَ الْأَبُ بِمَا أَنْفَقَ سَوَاءٌ أَنَفَقَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ إِذَا قَصَدَ بِالنَّفَقَةِ الرُّجُوعَ، لِأَنَّ أَمْرَ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ أَنْفَذُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنْ هَلَكَ مَالُ الْوَلَدِ قَبْلَ قُدُومِهِ بَانَ اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتِهِ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي تَلِفَ مَالُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ بِتَلَفِ مَالِهِ صَارَ فَقِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ، فَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ مِنْ أَوَّلِ إِنْفَاقِهِ سَقَطَ جميعه، وبرئت ذمة الولد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 498 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 499 سقط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 500 من شاءت من أبويها، وتزول عنها الكفارة بِالتَّزْوِيجِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِهَا، فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ تَعُدِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهَا، وَأَقَامَتْ حَيْثُ شَاءَتْ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى الْجَارِيَةِ أَنْ تُقِيمَ مَعَ الْأُمِّ حَتَّى تتزوج، فإن طلقت قبل الدخول عادة الْكَفَالَةُ عَلَيْهَا لِلْأُمِّ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمَا فِي بَقَاءِ النَّفَقَةِ لَهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ. وَالشَّافِعِيُّ يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا بِالْبُلُوغِ فَأَسْقَطَ الْكَفَالَةَ عَنْهَا بِالْبُلُوغِ وَاسْتَبْقَى مَالِكٌ الْحَجْرَ عَلَى مَالِهَا حَتَّى تَزُوَّجَ وَجَعَلَ حَجْرَ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لِمَالِهَا، وَفِيمَا مَضَى مَعَهَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا جَعَلَاهُ أَصْلًا لِغَايَةٍ عَنْ تَجْدِيدِ الِاحْتِجَاجِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمَا لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ فِي ثُبُوتِ الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَارْتِفَاعِهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا بَيْنَ الْبُلُوغِ والتزويج والله اعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا اسْتَكْمَلَ سَبْعَ سِنِينَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أنثى وهو يعقل عقل مثله خير وقال في كتاب النكاح القديم إذا بلغ سبعاً أو ثمان سنين خير إذا كانت دارهما واحدة وكانا جميعاً مأمونين على الولد فإن كان أحدهما غير مأمون فهو عند المأمون منهما حتى يبلغ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ثَبَتَ تَخْيِيرُ الْوَلَدِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ وَبَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ حَدِّ الْحَضَانَةِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْوَلَدِ وَشُرُوطٍ فِي الْأَبَوَيْنِ، فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَلَدِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا كَفَالَةَ لِأَبَوَيْهِ سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، وَسَيِّدُهُ أَحَقُّ بِهِ مِلْكًا لَا كَفَالَةً، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ لَهُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ وَفِي جَوَازِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ مَا بَيْنَ سَبْعٍ وَالْبُلُوغِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، فَفِي إِجْرَاءِ حُكْمِ الْأُمِّ عَلَيْهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بينهما وجهان. فلو بَعْضُ الْوَلَدِ حُرًّا وَبَعْضُهُ مَرْقُوقًا خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا اجْتَمَعَ مَعَ سَيِّدِهِ الْمَالِكِ لِرِقِّهِ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ فِي كفالته من اشتراك فِيهَا أَوْ مُهَايَأَةٍ عَلَيْهَا أَوِ اسْتِنَابَةٍ فِيهَا، فَإِنْ تَنَازَعَا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا أَمِينًا يَنُوبُ عَنْهُمَا فِي كَفَالَتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُمَيِّزَ وَيَعْقِلَ عَقْلَ مِثْلِهِ لِيَكُونَ مُتَصَوِّرًا حَظَّ نَفْسِهِ فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ كَانَ مَخْبُولًا أَوْ مَجْنُونًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَنَافِعِهِ وَمَضَارِّهِ لَمْ يُخَيَّرْ، وَكَانَ مَعَ أُمِّهِ كَحَالِهِ فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْ تَخْيِيرِهِ لِصِحَّةِ تَمْيِيزِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِحَظِّ نَفْسِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: انْتِهَاؤُهُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَسْتَحِقُّ التَّخْيِيرَ فيها قال الشافعي: هاهنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 501 فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَقَالَ فِي كِتَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ مِنَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ، إِذَا بَلَغَ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ خُيِّرَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فِي مُرَاعَاةِ أَمْرِهِ فِي ضَبْطِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ أَسْبَابَ الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهِ وَوَجَدَ لِسَبْعٍ لِفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لِبُعْدِ فِطْنَتِهِ خُيِّرَ فِي الثَّامِنَةِ عِنْدَ ظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِ وَيَكُونُ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الأبوين فخمسة يشترك الأبوان فيها وسادس تختص به الأم وسابع مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ، وَيُرْفَعُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حُرًّا وَالْأُمُّ أَمَةً، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَالْكَفَالَةُ لِلْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً وَالْأَبُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَالْكَفَالَةُ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلَ الرِّقِّ، وَالْآخِرُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ فَلَا كَفَالَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلَ الْحُرِّيَّةِ وَالْآخِرُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَرْقُوقٌ، فَالْكَفَالَةُ لِمَنْ كَمَلَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ دُونَ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَسْقَطْتُمْ كَفَالَةَ مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ، وَلَمْ تُسْقِطُوا تَخْيِيرَ الْوَلَدِ إِذَا رُقَّ بَعْضُهُ. قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ تَسْقُطُ بِقَلِيلِ الرِّقِّ، وَتَخْيِيرُ الْوَلَدِ لِطَلَبِ حَظِّهِ فَلَمْ يُمْنَعْ رِقُّ بَعْضِهِ مِنْ طَلَبِ حَظِّهِ فِي بَقِيَّةِ حُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ عَتَقَ الْمَرْقُوقُ وَصَارَ حُرًّا اسْتَحَقَّ الْحَصَانَةُ، وَنَازَعَ فِيهَا مَنْ كَانَتْ لَهُ. (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْوِلَايَةُ، وَتَقُومُ مَعَهُ بِالْكَفَالَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ مَخْبُولًا فَلَا كَفَالَةَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَكْفُولًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كاملاً، فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ خَرَجَ مِنْهَا، فَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ زَمَانًا، وَيُفِيقُ زَمَانًا، فَلَا كَفَالَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ الْجُنُونِ زَائِلُ الْوِلَايَةِ وَفِي زَمَانِ الْإِفَاقَةِ مُخْتَلُّ التَّدْبِيرِ، وَرُبَّمَا طَرَأَ جُنُونُهُ عَلَى عَقْلِهِ لَا يُؤْمَنُ معه على الولد إلا أَنْ يَقِلَّ جُنُونُهُ فِي الْأَحْيَانِ النَّادِرَةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّمْيِيزِ بَعْدَ زَوَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ. وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنْ كَانَ طَارِئًا يُرْجَى زَوَالُهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ، وَإِنْ كَانَ مُلَازِمًا كَالْفَالِجِ وَالسُّلِّ الْمُتَطَاوِلِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِي عَقْلِهِ أَوْ تَشَاغَلَ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ فَلَا كَفَالَةَ لَهُ لِقُصُورِهِ عَنْ مُرَاعَاةِ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَإِنْ أَثَّرَ فِي قُصُورِ حَرَكَتِهِ مَعَ صِحَّةِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ أَلَمِهِ رُوعِيَتْ حَالُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُبَاشِرُ كَفَالَتَهُ بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُرَاعِي بِنَفْسِهِ التَّدْبِيرَ، وَيَسْتَنِيبُ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُبَاشَرَةُ. كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْكَفَالَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا، فَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَبَرَأَ الْمَرِيضُ عاد إِلَى حَقِّهِمَا مِنَ الْكَفَالَةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 502 (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فِي الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كَافِرًا سَقَطَتْ كَفَالَتُهُ بِكُفْرِهِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا تَبْطُلُ كفالته يكفره وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: ابْنَتِي، وَقَالَ رَافِعُ ابْنَتِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرَافِعٍ: " اقْعُدُ نَاحِيَةً " وَلَهَا: " اقْعُدِي نَاحِيَةً " وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: ادْعُوَاهَا، فَمَالَتْ إِلَى أُمِّهَا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اللَّهُمَّ اهْدِهَا، فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُسْقِطُ الْكَفَالَةَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مُتَدَيِّنٌ بِاعْتِقَادِهِ فَكَانَ مَأْمُونًا عَلَى وَلَدِهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، وَلِأَنَّ افْتِرَاقَ الْأَدْيَانِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهَا عَلَى الْمَالِ، وَفِي النِّكَاحِ وِلَايَةٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ وَرُبَّمَا أَلِفَ مِنْ كُفْرِهَا مَا يَتَعَذَّرُ انْتِقَالُهُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ ظهور المعجزة باستحبابه دَعَوْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فَطِيمًا، وَالْفَطِيمُ لَا يُخَيَّرُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَعَا بِهِدَايَتِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّ كَفَالَتِهَا لَا إِلَى الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ إِسْلَامِهَا بِإِسْلَامِ أبيها فلو كان للأم حق لأقرها علي، وَلَمَا دَعَا بِهِدَايَتِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَافِرَ مَأْمُونٌ عَلَى وَلَدِهِ. قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى بَدَنِهِ فَغَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى دِينِهِ، وَحَظُّهُ فِي الدِّينِ أَقْوَى، فَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا عَادَ إِلَى كَفَالَتِهِ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ سَقَطَتْ كَفَالَتُهُ. (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْأَمَانَةُ بِوُجُودِ الْعَدَالَةِ، وَعَدَمِ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ فَكَانَتْ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ عَادِلٌ عَنْ صَلَاحِ نَفْسِهِ فَكَانَ بِأَنْ يَعْدِلَ عَنْ صَلَاحِ وَلَدِهِ أَشْبَهَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا اقْتَدَى الْوَلَدُ بِفَسَادِهِ لِاقْتِرَانِهِ بِهِ ونشوئه معه، والعدالة المعتبرة فيه عدالة الظاهرة الْمُعْتَبَرَةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يُرَاعَى عَدَالَةُ الْبَاطِنِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِ مَأْمُونًا عَلَى وَلَدِهِ قَيِّمًا بِمَصَالِحِهِ فَلَوْ صَارَ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلًا اسْتَحَقَّ الْكَفَالَةَ، وَلَوْ فَسَقَ بَعْدَ عَدَالَتِهِ خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَبَوَانِ، فَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا فِسْقَ صَاحِبِهِ لِيَنْفَرِدَ بِالْكَفَالَةِ مِنْ غَيْرِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 503 تَخْيِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ حَتَّى يُقِيمَ مُدَّعِي الْفِسْقِ بَيِّنَةً عَلَيْهِ فَيَثْبُتَ بِهَا فِسْقَهُ، وَتَسْقُطَ بِهَا كَفَالَتُهُ. (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: اجْتِمَاعُ الْأَبَوَيْنِ فِي وَطَنٍ وَاحِدٍ لَا يختلف بهما بلد ليتساويا في الولد ويتساوا بِهِمَا حَالُ الْوَلَدِ، فَإِنْ سَافَرَ أَحَدُهُمَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَفَرَ الْحَاجَةِ إِذَا نجزت عَادَ، فَالْمُقِيمُ مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ ابْنًا كَانَ أَوْ بِنْتًا، لِأَنَّ الْمُقَامَ أَوْدَعُ وَالسَّفَرَ أَخْطَرُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ لِنَقْلَةٍ يَسْتَوْطِنُ فِيهَا بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِ الْآخَرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ تَخْيِيرُ الِابْنِ سَوَاءٌ انْتَقَلَ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ سَوَاءٌ اخْتَارَ الْمُقِيمَ مِنْهُمَا أَوِ الْمُتَنَقِّلَ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا؛ لِأَنَّ قُرْبَ الْمَسَافَةِ كَالْإِقَامَةِ فِي انْتِفَاءِ أَحْكَامِ السَّفَرِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْبَلَدِ الْوَاسِعِ إِذَا تَبَاعَدَتْ، فَحَالُهُ لَمْ يَمْنَعِ التَّنَقُّلُ فِيهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ بَعِيدَةً يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِكَفَالَةِ وَلَدِهِ لِحِفْظِ نَسَبِهِ مِنَ الْأُمِّ، سواء كان هو المقيم أو المننتقل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ انْتَقَلَ الْأَبُ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْأُمُّ نُظِرَ فِي انْتِقَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَ انْتِقَالُهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى قَرْيَةٍ كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، لِفَضْلِ الْبُلْدَانِ عَلَى الْقُرَى بِمَا فِيهَا مِنْ صِحَّةِ الْأَغْذِيَةِ وَظُهُورِ التَّأْدِيبِ وَصِحَّةِ التَّعْلِيمِ وَالتَّقْوِيمِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا فِي انْتِقَالِ الْأُمِّ لَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي انْتِقَالِ الْأَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حِفْظَ نَسَبِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالِاعْتِبَارِ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ. فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ التي يشترك الأبوان في اعتبارهما فيهما. (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: الْمُخْتَصُّ بِالْأُمِّ أَنْ تَكُونَ خَلِيَّةً مِنْ زَوْجٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا الْكَفَالَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما زوج أُمَّ سَلَمَةَ أَقَرَّهَا عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِهَا زَيْنَبَ، وَجَعَلَ كَفَالَةَ بِنْتِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا وَزَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 504 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْمُنَازِعَةِ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهَا: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَمْنَعُ مِنْ مقصود الكفالة لاشتغالها بحقوق الزوج، ولأن الزوج مَنْعَهَا مِنَ التَّشَاغُلِ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ عَلَى الْوَلَدِ وعصبته عار فِي الْمُقَامِ مَعَ زَوْجِ أُمِّهِ فَأَمَّا أُمُّ سَلَمَةَ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُصْبَتِهَا نِزَاعٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَالْمَضْمُومُ إِلَيْهِ أَفْضَلُهُمْ نَشْأً فَخَالَفَ مَنْ عَلَاهُ وَإِقْرَارُهُ بِنْتَ حَمْزَةَ مَعَ خَالَتِهَا وَزَوْجِهَا جَعْفَرٍ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ تَرْجِيحًا لِخَالَتِهَا، وَقِيلَ قَضَى بِهَا لِلْخَالَةِ تَرْجِيحًا لِجَعْفَرٍ، لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ زَوْجُ الْأُمِّ عَصَبَةً لِلْوَلَدِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنَ الْكَفَالَةِ سَقَطَ حَقُّهَا، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فِي الْكَفَالَةِ وَمَكَّنَهَا مِنَ الْقِيَامِ بِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّ الْكَفَالَةَ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمَانِعِ بِالتَّمْكِينِ وَانْتِفَاءِ الْعَارِ بِامْتِزَاجِ النَّسَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا كَفَالَةَ لَهَا لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِمَا يَجْذِبُهَا الطَّبْعُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَفُّرِ عَلَى الزَّوْجِ، وَمُرَاعَاةِ أَوْلَادِهَا مِنْهُ إِنْ كَانُوا. (فَصْلٌ) وَالشَّرْطُ السَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: أَنْ يُوجَدَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ شُرُوطُ الْكَفَالَةِ، وَيُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ فِي الدِّينِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْمَالِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْمَحَبَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ يُسْقِطُهُ التخيير وتكون الكفالة وفضلهما لِظُهُورِ الْحَظِّ فِيهِ لِلْوَلَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ، وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ فَضِيلَةٍ إِذَا خَلَا مِنْ نَقْصٍ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْكَفَالَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَافِلِ وَالْمَكْفُولِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْكَافِلِ بِالزِّيَادَةِ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَالَةِ فِي الْأَبَوَيْنِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِيهِ من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَتَنَازَعَا فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَدَافَعَا عَنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَلِّمَهَا أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَنَازَعَا فِيهَا وَيَطْلُبَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَلَّى الْحَاكِمُ تَخْيِيرَهُ، لِأَنَّ التَّنَازُعَ إِلَيْهِ وَنُفُوذَ الْحُكْمِ مِنْهُ. وَلِلْوَلَدِ فِي التَّخْيِيرِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 505 أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَيَكُونَ مَنِ اخْتَارَهُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَهُمَا فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِيهِ مَعَ التَّنَازُعِ، وَيُقْرَعَ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَأَيَّهُمَا قَرَعَ كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَجَّحَ بِالْقُرْعَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الِاخْتِيَارِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَلَّا يَخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَكْفُلُهُ مِنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ لِاسْتِحْقَاقِهَا لِحَضَانَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ غَيْرَهَا لِكَفَالَتِهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَتَدَافَعَا كَفَالَتَهُ وَيَمْتَنِعَا مِنْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُمَا مَنْ يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ كَالْجَدِّ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدَّةِ بَعْدَ الْأُمِّ، فَيَخْرُجَانِ بِالتَّمَانُعِ مِنْهَا وَتَنْتَقِلُ الْكَفَالَةُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمَا وَيُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا إِذَا تَكَافَأَتْ أَحْوَالُهُمَا، لِأَنَّ حَقَّ الْوَلَدِ بِتَمَانُعِ الْأَبَوَيْنِ مُحْفَظٌ بِغَيْرِهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بعدهما مستحقاً لِكَفَالَتِهِ لِتَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ الْوَلَدُ عَلَى خِيَارِهِ وَيُجْبَرُ مَنِ اخْتَارَهُ عَلَى كَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ حَقًّا لَهُمَا وَحَقًّا عَلَيْهِمَا، فَإِذَا سَقَطَ بِالتَّمَانُعِ حَقُّهُمَا لَمْ يُسْقُطْ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّمَانُعِ فِي وَقْتِ الْحَضَانَةِ وَقَبْلَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَقْتِ التَّخْيِيرِ فِي الْكَفَالَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا مَنْ قَرَعَ مِنْهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اختصموا تنازعاً لكفالتهما فَتُسَاهِمُوا عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا تَدَافُعًا لِكَفَالَتِهَا فَاسْتَهَمُوا فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّدَافُعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْهُمَا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدَهُمَا كَفَالَتَهُ إِلَى الْآخَرِ فَيَكُونَ مَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، وَيَسْقُطَ تَخْيِيرُ الْوَلَدِ فِيهَا فَإِنْ عَادَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ مُطَالِبًا بِهَا عَادَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهَا، فَإِنْ تَنَازَعَا بَعْدَ عَوْدِهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ جَعَلْتَ الْكَفَالَةَ لِأَحَدِهِمَا بِاخْتِيَارِ الْوَلَدِ فَدَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ إِلَى الْآخَرِ، فَإِنْ دَفَعَهَا الْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَكَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ قَبِلَهَا فَكَالْقِسْمِ الثَّالِثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 506 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ وَهُمَا فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَعَلَى أَبِيهِ نَفَقَتُهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَأْدِيبِهِ وَيَخْرُجُ الْغُلَامُ إِلَى الْكُتَّابِ أَوِ الصِّنَاعَةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَيَأْوِي إِلَى أُمِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ زَمَانِ الْحَضَانَةِ وَزَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَأَنَّ الْحَضَانَةَ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ فِيهَا بِالْوَلَدِ، وَالْكَفَالَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ اخْتَارَهُ الْوَلَدُ أَوِ اخْتَارَ أُمَّهُ، وَكَذَلِكَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ تَعْلِيمٍ وَتَأْدِيبٍ، لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَلَدِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا وَزَمَانُ التَّعْلِيمِ فِي إِسْلَامِهِ إِلَى الكتاب أو الصناعة الْوَلَدِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا وَزَمَانُ التَّعْلِيمِ فِي إِسْلَامِهِ إِلَى الْكُتَّابِ أَوِ الصِّنَاعَةِ بِحَسْبِ عَادَتِهِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ مُخْتَصٌّ بِالْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ وَزَمَانُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَ فَطِنًا ذَكِيًّا قُدِّمَ فِي زَمَانِ الْحَضَّانَةِ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا أَوْ سِتًّا، وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا ضَعِيفَ التَّخْيِيرِ أُخِّرَ إِلَى زَمَانِ الْكَفَالَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا، فَإِذَا احْتَاجَ الْوَلَدُ إِلَى خِدْمَةٍ فِي الْحَضَانَةِ وَالْكَفَالَةِ وَمِثْلُهُ مَنْ يُخْدَمُ قَامَ الْأَبُ بِمَؤُونَةِ خِدْمَتِهِ إِمَّا بِاسْتِئْجَارِ خَادِمٍ أَوِ ابْتِيَاعِهِ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ أَهْلِهِ وَعُرْفِ أَمْثَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا لِحَضَانَتِهِ أَنْ تَقُومَ بِخِدْمَتِهِ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يَخْدِمُ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ هِيَ الْحِفْظُ وَالْمُرَاعَاةُ وَتَدْبِيرُ الْوَلَدِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ مُبَاشَرَةَ الْخِدْمَةِ، وَالْخِدْمَةُ إِذَا وَجَبَتْ فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ وَالتَّأْدِيبُ مُخْتَصَّا بِالْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ، وَتَخْتَصُّ الْجَارِيَةُ بِأَنْ تؤخذ بالخفر والصيانة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اخْتَارَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ وَتَأْتِيهِ فِي الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ تُمْنَعُ أُمُّهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ الْمَكْفُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَلَهُ حَالَتَانْ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ أُمَّهُ فَيَأْوِيَ فِي اللَّيْلِ إِلَيْهَا وَيَكُونَ فِي النَّهَارِ مَعَ أَبِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ أَوْ فِي الكتاب إنه كَانَ مَنْ أَهْلِ التَّعْلِيمِ وَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ تَقْطَعَهُ فِي النَّهَارِ إِلَيْهَا؛ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِهِ عَنْ تَعْلِيمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَ أَبَاهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِيَأْوِيَ فِي اللَّيْلِ إِلَيْهِ وَيَكُونَ فِي النَّهَارِ مُتَصَرِّفًا بِتَدْبِيرِ أَبِيهِ، إِمَّا فِي كُتَّابٍ يَتَعَلَّمُ فِيهِ، وَإِمَّا فِي صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِذَهُ إِلَى زِيَارَةِ أُمِّهِ فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهَا قَرِيبًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ لِيَأْلَفَ بِرَّهَا، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهَا فَيَأْلَفَ الْعُقُوقَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً: فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَخْتَارَ أُمَّهَا فَتَكُونَ أحق به لَيْلًا وَنَهَارًا بِخِلَافِ الْغُلَامِ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 507 مِنْ ذَوَاتِ الْخَفَرِ فَتُمْنَعُ مِنَ الْبُرُوزِ لَيْلًا وَنَهَارًا لِتَأْلَفَ الصِّيَانَةَ وَلِأَبِيهَا إِذَا أَرَادَ زِيَارَتَهَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مُشَاهِدًا لَهَا وَمُتَعَرِّفًا لِخَبَرِهَا، لِتَأْلَفَهُ وَيَأْلَفَهَا، وَلَا يُطِيلَ، وَلْيَكُنْ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ دُخُولِ الْأَبِ لِزِيَارَةِ بِنْتِهِ ذُو مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِتَنْتَفِيَ رِيبَةُ الْخَلْوَةِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَخْتَارَ أَبَاهَا فَتَكُونَ مَعَهُ وَعِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَإِنْ أَرَادَتِ الْأُمُّ زِيَارَتَهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الْأَبَ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَلَا يَمْنَعَهَا فَتَوْلَهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَيُنْظَرُ حَالُ الْأَبِ عِنْدَ دُخُولِ الْأُمِّ عَلَى بِنْتِهَا، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْأُمُّ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ بِنْتِهِ فِي دَارِهِ لَمْ تَدْخُلْ إِلَّا مَعَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمَا التُّهْمَةُ، وَلَا يَحْصُلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ خَلْوَةٌ، وَلَيْسَ لِلْأُمِّ إِذَا أَرَادَتْ زِيَارَتَهَا أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْخَفَرِ فَتَمْنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى لَا تَأْلَفَ التَّبَرُّجَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَمْرُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ هِيَ الْخَارِجَةَ إِلَى بِنْتِهَا وَلَا تَكُونُ الْبِنْتُ خَارِجَةً إِلَيْهَا. قِيلَ: لِأَنَّ الْحَذَرَ عَلَى الْبِنْتِ أَكْثَرُ وَحَالُهَا فِي الصِّغَرِ أَخْطَرُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَعْلَمُ عَلَى أَبِيهَا إِخْرَاجَهَا إِلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَمْرَضَ فَيُؤْمَرَ بِإِخْرَاجِهَا عَائِدَةً وَإِنْ مَاتَتِ الْبِنْتُ لَمْ تُمْنَعِ الْأُمُّ مِنْ أَنْ تَلِيَهَا حَتَّى تُدْفَنَ وَلَا تُمْنَعْ فِي مَرَضِهَا مِنْ أَنْ تَلِيَ تَمْرِيضَهَا فِي مَنْزِلِ أَبِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا مَرِضَتِ الْأُمُّ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ إِخْرَاجُ بِنْتِهَا لِتَزُورَهَا زِيَارَةَ الْعَائِدِ، وَلَئِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنَ الْبُرُوزِ لِتَأْلَفَ الْخَفَرَ، فَهَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ يَتَّسِعُ حُكْمُهَا، وَتَعُودُ الْبِنْتُ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْعِيَادَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَعَ الصِّغَرِ فَاضِلٌ لِتَمْرِيضِ الْأُمِّ، فَانْصَرَفَتْ بَعْدَ الْعِيَادَةِ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ أَقَامَتْ عِنْدَهَا حَتَّى تُوَارَى وَمَنَعَهَا مِنَ اتِّبَاعِ جِنَازَتِهَا وَزِيَارَةِ قَبْرِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّبَرُّجِ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ " فَلَوْ مَرِضَتِ الْبِنْتُ فِي مَنْزِلِ أَبِيهَا كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ بِتَمْرِيضِهَا مِنَ الْأَبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّسَاءَ بِتَعْلِيلِ الْمَرَضِ أَقْوَمُ مِنَ الرِّجَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ بِضَعْفِ الْمَرَضِ كَالْعَائِدَةِ إِلَى حَالِ الصِّغَرِ، وَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا فِي صِغَرِهَا مِنَ الْأَبِ فَإِذَا أَرَادَتِ الْأُمُّ تَمْرِيضَهَا فَالْأَبُ فِيهَا بَيْنَ خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْزِلِ الْأُمِّ، لِتَقُومَ بِتَمْرِيضِهَا فِيهِ فَإِذَا بَرَأَتْ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهَا مَنْعُ الْأَبِ مِنَ الدُّخُولِ لِعِيَادَةِ بِنْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُفْرِدَ لَهَا فِي مَنْزِلِهِ مَوْضِعًا تَخْلُو لِتَمْرِيضِهَا فِيهِ، وَلْيَكُنْ بَيْنَهُمَا مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 508 ثِقَاتِ النِّسَاءِ أَوْ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْمَحَارِمِ مَنْ تَنْتَفِي بِهِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا، فَإِذَا بَرَأَتِ انْصَرَفَتِ الْأُمُّ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ أَقَامَتِ الْأُمُّ لمواراتها حتى تدفن، وليس الأب أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهَا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ النِّيَاحَةِ وَاللَّطْمِ، وَيَمْنَعَهَا مِنَ اتِّبَاعِ جِنَازَتِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّهِ، وَيَمْنَعَهَا مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهَا إِنْ دُفِنَتْ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ دُفِنَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مَنَعَهَا مِنَ الزيادة فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّهِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله زورات القبور ". (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَخْبُولًا فَهُوَ كَالصَّغِيرِ فَالْأُمُّ أحق بِهِ وَلَا يُخَيَّرُ أَبَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي شُرُوطِ التَّخْيِيرِ، لِأَنَّ الْمَخْبُولَ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ، وَفَقْدِ تَمْيِيزِهِ يَكُونُ كَالصَّغِيرِ، فَصَارَتِ الْأُمُّ بِهِ أَحَقَّ، كَالْمَحْضُونِ سَوَاءٌ كَانَ ابْنًا أَوْ بِنْتًا، هَكَذَا لَوْ طَالَ الْخَبَلُ وَالْجُنُونُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الصِّحَّةِ وَالْبُلُوغِ كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِمَا مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَخْبُولِ وَالْمَجْنُونِ زَوْجَةٌ أَوْ كَانَ لِلْمَخْبُولَةِ وَالْمَجْنُونَةِ، زوجا، كَانَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِمَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا عَوْرَةَ بَيْنَهُمَا وَلِوُفُورِ السُّكُونِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ لِلْمَخْبُولِ أم ولد كان الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْلَاءِ يَدِهَا، لَكِنْ تَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَتَقُومُ الْأُمُّ بِكَفَالَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا خُيِّرَ فَاخْتَارَ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ حُوِّلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ تَخْيِيرَ الْوَلَدِ حَقٌّ لَهُ لَا عَلَيْهِ يَقِفُ عَلَى شَهْوَتِهِ وَالْمَيْلِ إِلَى مَصْلَحَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى اخْتِيَارِ الْآخَرِ حُوِّلَ إِلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى اخْتِيَارِ الْأَوَّلِ أُعِيدَ إِلَيْهِ على هذا أبداً، كلما اختار واحد بَعْدَ وَاحِدٍ حُوِّلَ إِلَيْهِ لِوُقُوفِهِ عَلَى شَهْوَتِهِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا حَدَثَ مِنْ تَقْصِيرِ مَنِ اخْتَارَهُ مَا يَبْعَثُهُ عَنِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مُنِعَتْ مِنْهُ بِالزَّوْجِ فَطَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فيه الرجعة أولا لَا يَمْلِكُهَا رَجَعَتْ عَلَى حَقِّهَا فِي وَلَدِهَا لَأَنَّهَا مَنَعَتْهُ بِوَجْهٍ فَإِذَا ذَهَبَ فَهِيَ كَمَا كانت فإن قيل فكيف تعود إلى ما بطل بالنكاح، قيل لو كان بطل ما كان لأمها أن تكون أحق بولدها من أبيهم وكان ينبغي إذا بطل عن الأم أن يبطل عن الجدة التي إنما حقها لحق الأم وقد قضى أبو بكر على عمر رضي الله عنهما بأن جدة ابنه أحق به منه فإن قيل فما حق الأم فيهم؟ قيل كحق الأب هما والدان يجدان بالولد فلما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 509 كان لا يعقل كانت أولى به على أن ذلك حق للولد للأبوين لأن الأم أحنى عليه وأرق من الأب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمِّ يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ وَالْكَفَالَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي "، فَلَمْ يَكُنْ لِخِلَافِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيهِ مَعَ هَذَا النص وجه، وإذا سقط حضانتها انتقلت عنها إلى أمها إذ لَمْ تَكُنْ أُمُّهَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ نُظِرَ فِي الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ جَدَّ الْوَلَدِ لَمْ يُسْقِطْ حَضَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ أَجْنَبَيًّا أَسْقَطَهَا، وَصَارَتْ لِلْأَبِ، فَإِنْ أَتَمَّتِ الْأُمُّ بَعْدَ التَّزْوِيجِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقٍ عَادَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنْ حَضَانَةِ وَلَدِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ بَطَلَ حَقُّهَا بِالتَّزْوِيجِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا وَإِنْ أَيْمَنَ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ حَضَانَتِهَا بِالزَّوْجِ كَسُقُوطِهَا بِجُنُونٍ أَوْ فَسْقٍ، وَهِيَ تَعُودُ إِلَى حَقِّهَا بِالْإِفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ، وَالْعَدَالَةِ بَعْدَ الْفِسْقِ، فَكَذَلِكَ تَعُودُ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ يُوجِبُ إِسْقَاطَهَا بِزَوَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَضَانَتَهَا بِالتَّزْوِيجِ تَأَخَّرَتْ، وَلَمْ يَبْطُلْ لِانْتِقَالِهَا إِلَى أُمِّهَا المدلية بها، ولو بطلت حضانتها فانتقلت إِلَى مَنْ أَدْلَى بِهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ. (فَصْلٌ) فَإِنْ ثَبَتَ عَوْدُهَا إِلَى الْحَضَانَةِ بَعْدَ طَلَاقِهَا فَسَوَاءٌ كَانَ طَلَاقُهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا لَمْ تَعُدِ الْحَضَانَةُ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَوَافَقَهُ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ تجري عليها أحكام الزوجية، ونحن نبينه عَلَى أُصُولِنَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ كَالْبَائِنِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ صَارَتْ بِهِ كَالْخَلِيَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ كَمَا صَارَتْ كَالْخَلِيَّةِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا بِرَجْعَتِهِ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى لَمْ تَسْتَحِقَّ الْحَضَانَةَ لِبَقَائِهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ وَلِيَ نَفْسَهُ إِذَا أُونِسَ رُشْدُهُ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أحدهما وأختار له برهما وترك فراقهما وإذ بلغت الجارية كانت مع أحدهما حتى تزوج فتكون مع زوجها فإن أبت وكانت مأمونة سكنت حيث شاءت ما لم تر ريبة وأختار لها أن لا تفارق أبويها ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 510 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُ الْوَلَدِ عِنْدَ اكْتِفَائِهِ بِنَفْعِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْ كَفَالَةِ أَبَوَيْهِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً، وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُقِرَّهُ فِي مَنْزِلِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ وَلَوْ سَأَلَاهُ الْمُقَامَ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُقَامُ فِيهِ، لأنه قد ملكت تَصَرُّفَ نَفْسِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ التَّفَرُّدُ عَنْهُمَا مُحَافَظَةً عَلَى بِرِّهِمَا، وَحَذَرًا مِنْ عُقُوقِهِمَا وَمُقَامِهِ مع أبويه أَوْلَى مِنْ مُقَامِهِ عِنْدَ أُمِّهِ لِلتَّجَانُسِ وَإِنْفَاقِهِمَا عَلَى التَّصَرُّفِ وَالتَّعَاوُنِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ وَلَمْ يَأْثَمْ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْبِرِّ إِلَى الْعُقُوقِ. فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إِذَا بَلَغَتْ فَحُكْمُهَا أَغْلَظُ لِكَوْنِهَا عَوْرَةً تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ، وَتَسْبِقُ إِلَيْهَا الظُّنُونُ فَيَلْزَمُهَا وَيَلْزَمُ أَبَوَيْهَا مِنْ نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهَا مَا لَا يَلْزَمُهَا فِي حَقِّ الِابْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى بِهَا أَلَّا تُفَارِقَ أَحَدَ أَبَوَيْهَا، وَمُقَامِهَا مَعَ أُمِّهَا أَوْلَى مِنْ مُقَامِهَا مَعَ أَبِيهَا، لِأَنَّهَا أَقْدَرُ عَلَى حِفْظِهَا، وَأَخْبَرُ بِتَدْبِيرِهَا، لِأَنَّ النِّسَاءَ أَعْرَفُ مِنَ الرِّجَالِ بِعَادَاتِ النِّسَاءِ، كَمَا كَانَ الرِّجَالُ أَعْرَفُ مِنَ النِّسَاءِ بِعَادَاتِ الرِّجَالِ، لِأَجْلِ التَّجَانُسِ وَتَشَابُهِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ فَارَقَتْ أَبَوَيْهَا نُظِرَ فِي حَالِهَا فَإِنِ انْتَفَتِ الرِّيبَةُ عَنْهَا فِي فِرَاقِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عليه اعْتِرَاضٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى بِهَا أَلَّا تُفَارِقَ بِرَّهُمَا، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهَا رِيبَةٌ كَانَ لَهُمَا فِي حَقِّ صِيَانَتِهَا أَنْ يَأْخُذَاهَا بِمَا يَنْفِي الرِّيبَةَ عَنْهَا مِنْ مُقَامِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَوْ عِنْدَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا وَالنِّسَاءُ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنَ الرِّجَالِ لِفَضْلِ الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ طَلَبَتِ الْمُقَامَ عِنْدَ أَحَدِ أَبَوَيْهَا فَامْتَنَعَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لِخَوْفِهَا عَلَى عَقَّهَا أُخِذَا جَبْرًا بِمُقَامِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لِسُقُوطِ مُؤْنَةِ السُّكْنَى لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهَا كَمَا لا يجبر على نفقتهما، ويكره لهما تضيعها فَإِذَا تَزَوَّجَتْ صَارَ الْأَبُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمَا فَإِنْ أُيِّمَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقٍ، كَانَتْ حَالُهَا فِي الِانْفِرَادِ عَنْ أَبَوَيْهَا بَعْدَ الْأَيْمَةِ أَخَفَّ مِنْ حَالِهَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا قَدْ خَبَرَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ الْغِرَّةِ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ الْأَيْمَةِ رِيبَةٌ تَوَلَّى الْأَبَوَانِ حَسْمَهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَرَابَةُ مِنَ النِّسَاءِ فَتَنَازَعْنَ الْمَوْلُودَ فَالْأُمُّ أَوْلَى ثُمَّ أُمُّهَا ثُمُّ أُمَّهَاتُ أُمِّهَا وَإِنْ بَعُدْنَ ثُمَ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأَبِ ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا ثُمَّ الْجَدَّةُ أُمُّ الْجَدِّ لِلْأَبِ ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَةُ ثُمَّ الْعَمَّةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَضَانَةِ ثُمَّ الْكَفَالَةِ مُسْتَحَقَّةٌ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ النَّسَبِ لِحُدُوثِ الْوِلَادَةِ عَنْهُمَا فَتَفَرَّعَ عَنْهُمَا جَمِيعُ مَنْ عَلَا مِنَ القرابات، كما ترفع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 511 عَنِ الْوَلَدِ جَمِيعُ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْقِرَابَاتِ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ أَصْلٌ لِمَنْ عَلَا مِنْ قِرَابَاتِهِ. وهو أصلاً لِمَنْ نَزَلَ عَنْهُ مِنْ قِرَابَاتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَضَانَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يَتَقَدَّمُ بِهَا مِنْهُمْ أَقْوَاهُمْ سَبَبًا فِيهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْحَضَانَةِ قَرَابَاتُ الْمَوْلُودِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يكونوا نساء لا رجلاً فِيهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا رِجِالًا لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا رِجِالًا وَنِسَاءً. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ فَيَخْرُجَ مِنْهُنَّ مَنْ لَا حَضَانَةَ لَهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِنَقْصٍ كَإِخْلَالِهَا بِأَحَدِ الشُّرُوطِ السِّتَّةِ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بُعْدِ وَطَنٍ أَوْ تَزْوِيجٍ بِأَجْنَبِيِّ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِضَعْفِ قَرَابَتِهَا، وَهِيَ كُلُّ مُدْلِيَةٍ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ كَأُمَّ ابْنِ الْأُمِّ، وَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ ابْنِ الْأُخْتِ فَلَا حَضَانَةَ لَهُنَّ لِإِدْلَائِهِنَّ بِذَكَرٍ قَدْ فَقَدَ آلَةَ التَّرْبِيَةِ مِنَ الْأُنُوثِيَّةِ، وَعَدَمِ قُوَّةِ الْقَرَابَةِ لِسُقُوطِ الْمِيرَاثِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ حَضَانَةُ الْمُدْلِينَ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهُنَّ لِلنَّقْصِ، فَلَا حَضَانَةَ لَهَا من مُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا مَنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِضَعْفِ قَرَابَتِهَا فَلَا حَضَانَةَ لَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلْحَضَانَةِ مَعَ عَدَمِ مُسْتَحِقِّهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْقُرْبَى، وَإِنْ ضَعُفَتْ، لِأَنَّ ضَعْفَهَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مَعَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، وَلَا يُسْقِطُهَا مَعَ مَنْ عُدِمَ قَرَابَتَهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْأَجَانِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، وَإِنْ عُدِمَ جَمِيعُ الْقِرَابَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مُثْبِتٌ لِاسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَجَانِبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا نُقَدِّمُ الْمُرْضِعَةَ وَالْجَارَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَدَّى اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَجَانِبِ جَازَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا مستحقات الحضانة فهو من الصفين الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْقِرَابَاتِ، فَيَتَقَدَّمْنَ فِيهَا بِقُوَّةِ النَّسَبِ. وَقُوَّةُ النَّسَبِ شَيْئَانِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 512 أَحَدُهُمَا: دُنُوُّ الْقَرَابَةِ كَالْأُمِّ مَعَ ابْنِهَا، وَالْأُخْتِ مَعَ بِنْتِهَا. وَالثَّانِي: قُوَّةُ الْقَرَابَةِ وَقُوَّتُهَا تَكُونُ بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ: أَوَّلُهَا: مُبَاشَرَةُ الْوِلَادَةِ، وَوُجُودُ الْبَعْضِيَّةِ. ثَانِيهَا: التَّعْصِيبُ. ثَالِثُهَا: الْمِيرَاثُ. رَابِعُهَا: الْمَحْرَمُ. خَامِسُهَا: الْإِدْلَاءُ بِمُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ. وَيَنْقَسِمُ الْإِدْلَاءُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْإِدْلَاءُ بِالْوِلَادَةِ، كَإِدْلَاءِ أُمِّ الْأُمِّ بِوِلَادَةِ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ بِوِلَادَةِ الْأَبِ، وَهَذَا أَقْوَى أَقْسَامِ الْإِدْلَاءِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْإِدْلَاءُ بِالِانْتِسَابِ كَإِدْلَاءِ الأخوات بالأبوين، وإدلاء بناتهن بهن، وهذا يتلوا الْأَوَّلَ فِي الْقُوَّةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِدْلَاءُ بِالْقُرْبَى كَإِدْلَاءِ الْخَالَةِ بِالْأُمِّ وَالْعَمَّةِ بِالْأَبِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ كَانَ أَحَقَّ الْقُرَابَاتِ بِالْحَضَانَةِ الْأُمُّ لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي الِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا، وَأَنَّهَا أَكْثَرُهُنَّ إِشْفَاقًا وَحُنُوًّا ثُمَّ تَلِيهَا أُمُّهَا لِمُشَارَكَتِهَا فِي الْوِلَادَةِ وَأَنَّهَا بَعْضُ أُمِّهَا كَمَا كَانَ الْوَلَدُ بَعْضَهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ بَعُدْنَ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَبِ، وَإِنْ قَرُبْنَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهِنَّ مُتَحَقِّقَةٌ، وَفِي أُمَّهَاتِ الْأَبِ لِأَجْلِ الْأَبِ مَظْنُونَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ أَقْوَى مِيرَاثًا مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، لِأَنَّهُنَّ لَا يُسْقُطْنَ بِالْأَبِ وَتَسْقُطُ أُمَّهَاتُ الْأَبِ بِالْأُمِّ وَتَسْقُطُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ مَنْ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا عُدِمَتْ أُمَّهَاتُ الْأُمِّ قُرْبًا وَبُعْدًا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى أُمَّهَاتِ الْأَبِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَمُقْتَضَى أُصُولِهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ إِلَى الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأَبَوَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوِلَادَةَ وَالْبَعْضِيَّةَ أَقْوَى وَلِثُبُوتِ مِيرَاثِهِنَّ مَعَ الْأَبْنَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فأحق أمهات الأب بالحضانة أمه لمباشرته لولادته ثم أمهاتها وإن علوان مُقَدَّمَاتٌ عَلَى أُمِّ الْجَدِّ لِتَقْدِيمِ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ، فَكَانَ الْمُدْلِي بِالْأَبِ أَحَقَّ مِنَ الْمُدْلِي بِالْجَدِّ، فَإِذَا عُدِمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 513 أُمَّهَاتُ الْأَبِ فَأُمُّ الْجَدِّ ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ ثُمَّ أُمُّ ابْنِ الْجَدِّ ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا، وإن علوان ثم أم جد الجد أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي أُمَّهَاتِ مَنْ عَلَا مِنْ كُلِّ جَدٍّ وَلَا حَضَانَةَ فيهن لما أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، كَأُمِّ ابْنِ الْأُمِّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا عُدِمَ أُمَّهَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْأَخَوَاتِ وَتَقَدَّمْنَ عَلَى الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، لِأَنَّهُنَّ رَاكَضْنَ الْمَوْلُودَ فِي الرَّحِمِ، وَشَارَكْنَهُ فِي النَّسَبِ، فَتَكُونُ الْحَضَانَةُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُمَّ لِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: الْأُخْتُ لِلْأُمِّ مُقَدِّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، لِأَنَّ الْمُدْلِي بِالْأُمِّ أَحَقُّ مِنَ الْمُدْلِي بِالْأَبِ كَالْجَدَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قُوَّتُهَا بِالْمِيرَاثِ وَتَعْصِيبِ الْبَنَاتِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا فِي الْأُنُوثِيَّةِ. وَالثَّانِي أَنَّهَا تَقُومُ فِي الْمِيرَاثِ مَقَامَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ إِذَا عُدِمَتْ فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ، وَمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ إِدْلَاءِ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ بِالْأُمِّ، فَالْقُوَّةُ بِالْمِيرَاثِ صِفَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ أَوْلَى فِي التَّرْجِيحِ مِنَ اعْتِبَارِ صِفَةٍ مِنْ غَيْرِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا عُدِمَ الْأَخَوَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْخَالَاتِ وَتَقَدَّمْنَ فِيهَا عَلَى الْعَمَّاتِ لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأُمِّ، وَإِدْلَاءُ الْعَمَّاتِ بِالْأَبِ مَعَ اسْتِوَائِهِنَّ فِي الدَّرَجَةِ وَعَدَمِ الْمِيرَاثِ فَتُقَدَّمُ الْخَالَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ ثُمَّ الْخَالَةُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْخَالَةُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ تُقَدَّمُ الْخَالَةُ لِلْأُمِّ عَلَى الْخَالَةِ لِلْأَبِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَسْقَطَ حَضَانَةَ الْخَالَةِ لِلْأَبِ لِإِدْلَائِهَا بِأَبِي الْأُمِّ، وَالْأُنْثَى إِذَا أَدْلَتْ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا كَأُمِّ ابْنِ الْأُمِّ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمُسَاوَاتِهَا لِلْأُمِّ فِي دَرَجَتِهَا فَصَارَتْ مُدْلِيَةً بِنَفْسِهَا، وَخَالَفَتْ أُمَّ ابْنِ الْأُمِّ الْمُدْلِيَةَ بِغَيْرِهَا. فَإِذَا عُدِمَ الْخَالَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى الْعَمَّاتِ لِإِدْلَائِهِنَّ لِأُخُوَّةِ الْأَبِ كَإِدْلَاءِ الْخَالَاتِ بِإِخْوَةِ الْأُمِّ فَتُقَدَّمُ الْعَمَّةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ تُقَدَّمُ الْعَمَّةُ لِلْأُمِّ عَلَى الْعَمَّةِ لِلْأَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْأَخَوَاتِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا عُدِمَ الْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي مُسْتَحِقَّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُنَّ لِانْتِهَائِهَا إِلَيْهِنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَصِبَاتِ قُرْبًا فَقُرْبًا ثُمَّ بَنَاتِ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ ثُمَّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصِبَاتِ اعْتِبَارًا بِالْمِيرَاثِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 514 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ عَمَلًا عَلَى تَدْرِيجِ الْأُبُوَّةِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ تُقَدَّمُ فِيهَا بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ لِتَقَدُّمِ الْأَخَوَاتِ فِيهَا عَلَى الْإِخْوَةِ، فَتُقَدَّمُ فِيهَا بَنَاتُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ بَنَتُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنَتُ الأخت للأم على قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ تُقَدَّمُ بِنْتُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ عَلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إلى بنات الإخوة فيقدم بِنْتُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ بِنْتُ الْأَخِ للأب، ثم بنت الأخ للأم. وعلى قول ابن سريج على ما ذكرنا ثُمَّ تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ بَنِي الْإِخْوَةِ دُونَ بَنَاتِ بَنِي الْأَخَوَاتِ؛ لِأَنَّ بَنِي الْأُخْوَةِ عَصَبَةٌ يَرْثُونَ، وَبَنُو الْأَخَوَاتِ لَا يَرْثُونَ فتقدم الحصانة بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ لِبِنْتِ الأخ للأب، لأحضانة لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهَا تُدْلِي بِذَكَرٍ لَا يَرْثِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ الْأَعْمَامِ فَتُقَدَّمُ بِنْتُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ بِنْتُ الْعَمِّ لِلْأَبِ، وَلَا حَضَانَةَ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِلْأُمِّ لِإِدْلَائِهَا بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ بَنَاتِ الْعَصِبَاتِ إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ ثُمَّ بَنَاتِ الْعَمَّاتِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: فِي انْتِقَالِهَا بَعْدَ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى خَالَاتِ الْأُمِّ يَتَرَتَّبْنَ فِيهَا تَرْتِيبَ الْخَالَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، وَلَا حَضَانَةَ لِعَمَّاتِ الْأُمِّ لِإِدْلَائِهِنَّ بِأَبِي الْأُمِّ، وَهُوَ ذَكَرٌ لَا يَرِثُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ خَالَاتِ الْأُمِّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ إِلَى عَمَّاتِهِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ خَالَاتِ الْأَبِ وَعَمَّاتِهِ إِلَى خَالَاتِ أُمِّ الْأُمِّ دُونَ عَمَّاتِهَا، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى خَالَاتِ الْجَدِّ ثُمَّ إِلَى عَمَّاتِهِ، ثُمَّ تَسْتَعْلِي كَذَلِكَ إِلَى دَرَجَةٍ بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَلَا تَسْتَوْعِبُ عَمُودَ الْأُمَّهَاتِ كَمَا اسْتَوْعَبَتْ أُمَّهَاتِ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ وَارِثَةٌ كَالْقُرْبَى، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَضَانَتِهِنَّ قُرْبُ الدَّرَجِ، وَالْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ بِخِلَافِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ، فَاعْتُبِرَ فِيهِنَّ قُرْبُ الدَّرَجِ، فَإِذَا عُدِمَ خَالَاتُ الْأُمَّهَاتِ وَخَالَاتُ الْآبَاءِ وَعَمَّاتُهُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ بَنَاتِ الْأُخْوَةِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ، ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَمَّاتِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا اسْتَوْضَحْتَ مَا قَرَّرْتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ صَحَّ لَكَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقُرَابَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْجِهَاتِ، وَسَنَذْكُرُ تَفَرُّدَ الرَّجُلِ بِهَا، وَاشْتِرَاكَهُمْ مَعَ النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ بَعْدُ وبالله التوفيق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 515 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وِلَايَةَ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ لِأَنَّ قَرَابَتَهَا بِأَبٍ لَا بِأُمٍّ فَقَرَابَةُ الصَّبِيِّ مِنَ النِّسَاءِ أَوْلَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ ذكر لها يَرِثُ فَلَا حَضَانَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ عُدِمَ آلَةَ التَّرْبِيَةِ مِنَ الْأُنُوثِيَّةِ وَفَقَدَ قُوَّةَ النَّسَبِ لِسُقُوطِ للميراث فَجَرَى مَجْرَى الْأَجَانِبِ فَمِنْهُمْ أَبُو الْأُمِّ وَلَا حَضَانَةَ لَهُ وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَالْعَمُّ لِلْأُمِّ، وَبَنُو الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حَضَانَةٌ، فَلَا حَضَانَةَ لِبَنَاتِهِمْ لِإِدْلَائِهِنَّ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، فَصِرْنَ فِيهِ أَضْعَفَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ إِذَا سَقَطَتْ حَضَانَةُ الْكَافِرَةِ وَالْفَاسِقَةِ وَذَاتِ الزَّوْجِ لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَةُ بَنَاتِهِنَّ، وَإِنْ أَدْلَيْنَ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، فَهَلَّا كَانَتِ الْمُدْلِيَةُ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا، كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَضَانَةِ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ لِعَارِضِ نَقْصٍ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَضَانَةَ، وَقَدْ يَزُولُ فَتَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ وَلَيْسَ كَمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الذُّكُورِ الَّذِينَ لَا يَرْثُونَ لِأَنَّهُمْ سَقَطُوا لِعَدَمِ النَّسَبِ لَا لِنَقْصِ عِرْضٍ فَافْتَرَقُوا فَعَلَى هَذَا فَلَا حَضَانَةَ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَلَا لِأُمَّهَاتِ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَدَّةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ. فَإِنِ انْفَرَدَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ مِنَ الْقَرَابَاتِ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا فَهَلْ يُسَاوِينَ الْأَجَانِبَ فِيهَا، وَيَصِرْنَ أَحَقَّ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ وَالْأَجَانِبَ فِيهَا سَوَاءٌ، فَإِنْ قَدِمُوا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهَا بَعْدَ عَدَمِ مُسْتَحِقِّهَا لِتَمَيُّزِهِمْ بِقَرَابَةٍ بَانُوا بِهَا جَمِيعَ الْأَجَانِبِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا الذُّكُورُ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ مِنَ الْإِنَاثِ فَفِي أَحَقِّهِمْ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذُّكُورَ أَحَقُّ بِهَا لِقُرْبِهِمْ مِمَّنْ أَدْلَى بِهِمْ لِبُعْدِهِمْ فَيَكُونُ أَبُو الْأُمِّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ أُمِّهِ. وَالْخَالُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ بِنْتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنَاثَ مَعَ بَعْدَهُنَّ أَحَقُّ بِهِمَا مِمَّنْ أَدْلَيْنَ بِهِ مِنَ الذُّكُورِ مع قربهم لاختصاصهن بالأنثوية الَّتِي هِيَ آلَةُ التَّرْبِيَةِ، وَمَقْصُودُ الْحَضَانَةِ فَتَكُونُ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 516 أَحَقَّ مِنْ أَبِيهَا، وَبِنْتُ الْخَالِ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْخَالِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا انْفَرَدَ الذُّكُورُ مِنْهُمْ عَنِ الْإِنَاثِ، وَتَنَازَعَ الْحَضَانَةَ مِنْهُمُ اثْنَانِ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وِلَادَةٌ كَأَبِي الْأُمِّ وَالْخَالِ كَانَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنِ اخْتُصَّ مِنْهُمَا بِالْوِلَادَةِ فَتَكُونُ لِأَبِي الْأُمِّ دُونَ الْخَالِ لِبَعْضِيَّتِهِ، وَأُجْرَى حُكْمُ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ وَعِتْقِهِ عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وِلَادَةٌ كَالْخَالِ وَالْعَمِّ مِنَ الْأُمِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، فَيَتَقَرَّعُ بَيْنَهُمَا فِيهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ أَدْلَيَا بِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهُمَا مَنْ قَوِيَ بِسَبَبِ إِدْلَائِهِ، فَيَكُونُ الْخَالُ لِإِدْلَائِهِ بِالْأُمِّ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْعَمِّ لِلْأُمِّ لِإِدْلَائِهِ بِالْأَبِ الَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْأُمُّ، وَلَوْ كَانَ ابْنَ أَخٍ لِأُمِّ وَعَمٍّ لِأُمٍّ، كَانَ الْعَمُّ لِلْأُمِّ أَحَقَّ بِهَا مِنَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ لِإِدْلَائِهِ لِأُمِّ الْأَبِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَهَكَذَا لَوِ انْفَرَدَ النِّسَاءُ مِنْهُمْ عَنِ الذُّكُورِ، وَتَنَازَعَهَا مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ وَكَانَتْ فِي إِحْدَاهُمَا وِلَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْأُخْرَى كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ مَعَ بِنْتِ الْخَالِ كَانَتْ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ أَحَقَّ بِهَا لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ مِنْ بِنْتِ الْخَالِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وِلَادَةٌ كَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ الْعَمِّ لِلْأُمِّ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَلَكِنْ لَوْ تَنَازَعَ فِيهَا مِنْهُنَّ أُنْثَى وَذَكَرٌ، وَلَيْسَ يُدْلِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَانَتِ الْأُنْثَى أَحَقَّ بِهَا مِنَ الذَّكَرِ وَجْهًا وَاحِدًا لِاخْتِصَاصِهَا بِآلَةِ التَّرْبِيَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الذَّكَرِ وِلَادَةٌ سَوَاءٌ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ مَعَ الْأَبِ غَيْرَ الْأُمِّ وأمهاتها فأما أخواته وغيرهين فَإِنَّمَا حُقُوقُهُنَّ بِالْأَبِ فَلَا يَكُونُ لَهُنَّ حَقٌّ مَعَهُ وَهُنَّ يُدْلِينَ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِمَاعُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ انْفِرَادَ النِّسَاءِ بِهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ بِهَا عَلَى النِّسَاءِ كَمَا قَدَّمَ انْفِرَادَ النِّسَاءِ بِهَا عَلَى الرِّجَالِ لِيَكُونَ حُكْمُ اجْتِمَاعِهِمَا مَبْنِيًّا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنْ حُكْمِ انْفِرَادِهِمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ مِنْ أَقَارِبِ الْمَوْلُودِ يَتَنَازَعُونَ حَضَانَتَهُ، مُنْفَرِدِينَ عَنِ النِّسَاءِ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ وَارِثٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَعْفِ قِسْمِهِمْ لِسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ وَتَمَيُّزِهِمْ عَمَّنْ لَا يَرِثُ من النساء بعد الْأُنُوثِيَّةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي اسْتِحْقَاقِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 517 الْحَضَانَةِ وَإِذَا اخْتَصَّتْ بِالْوَرَثَةِ مِنَ الذُّكُورِ لِمَنْ يستحقها من قبل الأم إلا واحد، وَهُوَ الْأَخُ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَرْثِ مِنْ جِهَتِهَا ذَكَرٌ سِوَاهُ، وَكَثُرَ مُسْتَحِقُّوهَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِكَثْرَةِ الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَرْثِ مِنْهُمْ إِلَّا عَصَبَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَحَقُّ الذُّكُورِ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ الْأَبُ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوِلَادَةِ وَتَمَيُّزِهِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُ إِلَى آبَائِهِ الَّذِينَ وَلَدُوهُ، وَيَتَقَدَّمُ بِهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَيَكُونُ أَبْعَدُ الْآبَاءِ دَرَجَةً أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْإِخْوَةِ، وَإِنْ قَرُبُوا، فَإِذَا عُدِمَ الْأَجْدَادُ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْإِخْوَةِ فَيُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ والأم ثم الأخ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا عُدِمَ الْإِخْوَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى بَنِي الْإِخْوَةِ، وَيَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى الْأَعْمَامِ لِقُوَّةِ تَعَصُّبِهِمْ فِي حَجْبِ الْأَعْمَامِ عَنِ الْمِيرَاثِ فَيَتَقَدَّمُ بِهَا ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ ولاحق فِيهَا لِابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى أَوْلَادِهِمَا وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى الْأَعْمَامِ فَيَتَقَدَّمُ بِهَا الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِلْعَمِّ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهَا إِلَى أَوْلَادِهَا وَإِنْ جَعَلُوا يَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى أَعْمَامَ الْأَبِ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى بَنِي الْأَعْمَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْإِخْوَةِ إِلَى الْأَعْمَامِ دُونَ بَنِي الْأُخْوَةِ لِقُوَّتِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ عَلَى غَيْرِ الْأُخْوَةِ فَإِذَا عُدِمَ الْأَعْمَامُ انْتَقَلَتْ إِلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا دُونَ بَنِي الْأَعْمَامِ، وَإِنْ قَرُبُوا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لِاخْتِصَاصِ بَنِي الْإِخْوَةِ بِالْمَحْرَمِ دُونَ بَنِي الْأَعْمَامِ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى أَعْمَامِ الْأَبِ فَإِذَا عُدِمَ بَنُو الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَفِي مُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى بَنِي الْأَعْمَامِ إِذَا قِيلَ يَتَقَدَّمُ بِهَا بَنُو الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى الْعَمِّ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى عَمِّ الْأَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى عَمِّ الْأَبِ يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى بَنِي الْعَمِّ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَمَّ مُقَدَّمٌ بِهَا عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ فَإِذَا عُدِمَ عَمُّ الْأَبِ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُ إِلَى بَنِي الْعَمِّ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى بَنِي الْعَمِّ، وَإِنْ قَرُبُوا لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْقُرْبِ وَتَسَاوِيهِمْ فِي عَدَمِ الْمَحْرَمِ ثُمَّ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي بَنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ فَإِذَا عُدِمَ جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى الْمُعْتَقِ فِيهَا حَقٌّ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ بِالْعِتْقِ حَقَّ نَفْسِهِ عَنِ الْمُعْتِقِ فَسَقَطَتْ حَضَانَتُهُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى الْمُعْتَقِ نَسَبٌ هُوَ أَبْعَدُ مَنْ نَسَبِ مَنْ حَضَرَ، فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِوِلَايَةِ مَنْ بَعْدِهِ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ كَعَمٍّ وَعَمِّ أَبٍ مُعْتَقٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 518 أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ بِهِ وَإِنْ بَعُدَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَجْرِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ التعصب فَتَكُونُ الْحَضَانَةُ لِعَمِّ الْأَبِ لِوَلَائِهِ دُونَ الْعَمِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ بِهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَضَانَةَ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ بِهِ الْحَضَانَةُ إِلَّا مَعَ التَّكَافُؤِ فَيَكُونُ الْعَمُّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ بِقُرْبِهِ مِنْ عَمِّ الْأَبِ مَعَ ولادته، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ مَا أَوْضَحْنَا مِنْ حُكْمِ النِّسَاءِ إِذَا انْفَرَدُوا عَنِ الرِّجَالِ، وَمِنْ حُكْمِ الرِّجَالِ إِذَا انْفَرَدَتْ عَنِ النِّسَاءِ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَأَحَقُّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْحَضَانَةَ الْأُمُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي " وَلِأَنَّهَا مُبَاشَرِةٌ لِلْوِلَادَةِ قَطْعًا وَإِحَاطَةً وَهِيَ فِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا، وَلِأَنَّهَا بِتَرْبِيَتِهِ أَخْبَرُ وَعَلَى التَّشَاغُلِ لِحَضَانَتِهِ أَصْبَرُ، فَإِذَا أُعْدِمَتِ الْأُمُّ فَأُمُّهَا لِأَنَّهَا تَلِي الْأُمَّ فِي مَعَانِيهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الْأَبِ مَعَ قُرْبِهِ. فَإِذَا عُدِمَتِ الْأُمُّ وَأُمَّهَاتُهَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْأَبِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا دَلَّ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ تَقْدِيمِ مَنْ أَدْلَى بِالْأُمِّ مِنَ النِّسَاءِ كَالْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّ فِي الْأَبِ مِنَ الولادة، والاختصاب بِالنَّسَبِ، وَفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ مَا لَا يَكُونُ فِيمَنْ عُدِمَ الْوِلَادَةَ وَيَكُونُ مَنِ اخْتُصَّ بِالْوِلَادَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فَمَنْ عُدِمَ الْوِلَادَةَ فَإِنْ تَسَاوَى فِي الْوِلَادَةِ أَبَوَانِ قُدِّمَتِ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ بِالْأُنُوثِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالتَّرْبِيَةِ، فَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتِهَا إِلَى الْأَبِ، فَإِنْ عُدِمَ انْتَقَلَتْ إِلَى أُمِّهِ، وَمَنْ عَلَا تَقَدَّمَ عَلَى أَبِيهِ فَإِنْ عُدِمَ أُمَّهَاتُ الْأَبِ انْتَقَلَتْ إِلَى أَبِي الْأَبِ وَهُوَ الْجَدُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتِهِ ثُمَّ إِلَى أَبِي الْجَدِّ ثُمَّ أُمَّهَاتِهِ عَلَى هَذَا، حَتَّى تَسْتَوْعِبَ عَمُودَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ الْوِلَادَةِ فِيهِمْ مَنْ عُدِمَهَا، فَإِذَا عُدِمَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَ النِّسَاءِ مِنَ الْأَقَارِبِ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ فَتُقَدَّمُ الْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ عَلَى جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْأُنُوثِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِالْحَضَانَةِ أَخَصُّ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْعَصَبَاتِ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَحَقُّ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَمَنْ يُدْلِي بِهِنَّ مِنْ بَنَاتِهِنَّ لِاخْتِصَاصِ الْعَصِبَاتِ بِالنَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْقِيَامِ بِتَأْدِيبِ الْمَوْلُودِ وَتَقْوِيمِهِ وَلِقُوَّتِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِنَقْلِهِ إِلَى وَطَنِهِمْ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، بِخِلَافِ مَنْ عُدِمَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ مِنَ النساء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 519 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ تَفَاضُلِ الدَّرَجِ، وَيَتَرَتَّبُونَ تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ فِي دَرَجَتِهِ فَالْمُسَاوِي لِلْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ أَقْرَبَ قُدِّمُوا وَإِنْ كَانَ النِّسَاءُ أَقْرَبَ قُدِّمْنَ وَإِنِ اسْتَوَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الدَّرَجِ قُدِّمَ النِّسَاءُ فِيهَا عَلَى الرِّجَالِ لِاخْتِصَاصِهِنَّ بِالْأُنُوثِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إِلَى الْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ فَتُقَدَّمْنَ الْأَخَوَاتُ لِأُنُوثَتِهِنَّ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى الْإِخْوَةِ، فَإِذَا عُدِمُوا انْتَقَلَتْ إلى بنوات الْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنِي الْإِخْوَةِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ ابن أخت وابن أخ كانت بنت الأخ أحق من الْأُخْتِ، وَإِنْ كَانَ مُدْلِيًا بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ اعْتِبَارًا بِأُنُوثِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّ فَإِذَا عُدِمَ دَرَجَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الْمُسَاوِينَ لِلْوَلَدِ فِي دَرَجَتِهِ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُمْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِيهِمْ وَهُمْ مِنْ مُسَاوِي الْأَبَوَيْنِ فِي دَرَجَتِهِمَا الْخَالَاتُ، وَالْمُسَاوِينَ لِلْأَبِ فِي دَرَجَتِهِ الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأُمِّ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَبِ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى الْعَمَّاتِ يَتَقَدَّمُونَ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَامِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى الْأَعْمَامِ فَإِذَا عُدِمَ الْأَعْمَامُ انْتَقَلَتْ إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَمَّاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَمِّ ثُمَّ إِلَى بَنِي الْعَمِّ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ انْتَقَلْتَ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الَّتِي تُسَاوِي دَرَجَةَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ فَيُسَاوِي دَرَجَةَ الْجَدَّةِ خَالَاتُ الْأُمِّ وَتُسَاوِي دَرَجَةَ الْجَدِّ أَعْمَامُ الْأَبِ وَعَمَّاتُهُ فَتَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إِلَى خَالَاتِ الْأُمِّ ثُمَّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ إِلَى عَمَّاتِ الْأَبِ ثُمَّ إِلَى أَعْمَامِ الْأَبِ. ثُمَّ إِلَى أَوْلَادِهِمْ فَتَكُونُ بعدهم بنات خَالَاتِ الْأُمِّ ثُمَّ لِبَنَاتِ خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنَاتِ عَمَّاتِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنَاتِ أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنِي أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ تُسْتَعْلَى عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الدَّرَجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) فَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ خُنْثَى مُشْكِلٌ نُظِرَ فِي مُسْتَحِقِّهَا، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يُسَاوِهِ الْخُنْثَى فِيهَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَهَلْ يَتَقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّجَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا امْرَأَةً لَمْ يُسَاوِهَا الْخُنْثَى، وَهَلْ يَتَقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَوْ أَخْبَرَ الْخُنْثَى عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رجلاً أَوِ امْرَأَةٌ عُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ وَهَلْ يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أعرف بنفسه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 520 وَالثَّانِي: لَا يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ لِتُهْمَتِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي كَفَالَةِ الْمَوْلُودِ، وَلَهُ زَوْجَةٌ كَبِيرَةٌ نُظِرَ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا أَوِ اسْتِمْتَاعِهَا بِهِ، فَهِيَ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْ جَمِيعِ قِرَابَاتِهِ، لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمَوَدَّةِ، فَكَانَ أَسْكَنَ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ أَعْطَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا وَاسْتِمْتَاعُهَا بِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي كَفَالَتِهِ، وَأَقَارِبُهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَحَقُّ مِنْهُمَا بِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَقَارِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ لِجَمْعِهَا بَيْنَ سَبَبَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَقِفُ فِي الْكَفَالَةِ عَلَى دَرَجَتِهَا مِنَ الْقَرَابَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ بِالْكَفَالَةِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَوْلُودُ جَارِيَةً، وَلَهَا زَوْجٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهَا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنُهُ فَالْأَقَارِبُ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهَا مِنْهُ، فَإِنْ شَارَكَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلِيُّهُمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا لم يكن أبا أَوْ كَانَ غَائِبًا أَوْ غَيْرُ رَشِيدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ مَوْتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ بِرِقٍّ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ مَعَ غَيْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْأُمِّ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ مَوْتِهَا، وَنَقْصِهَا وَمَعَ غَيْبَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ فلما نَقَلْتُمُ الْحَضَانَةَ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا بِالْغَيْبَةِ، وَلَمْ تَنْقُلُوا وِلَايَةَ النِّكَاحِ عَنِ الْغَائِبِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حَقُّ الْوَلِيِّ، وَتَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ فَسَقَطَ بِهَا حَقُّ الْكَفِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ يَتَقَدَّمُ بِالْحَضَانَةِ، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَهُمْ فِي الْكَفَالَةِ فَأَصْلُ تَخْيِيرِهِ يَكُونُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، فَإِنْ عُدِمَتِ الْأُمُّ خُيِّرَ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ جَمِيعِ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ، وَكُنَّ فِي تَخْيِيرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَهُنَّ كَالْأُمِّ، وَلَوْ عُدِمَ الْأَبُ مَعَ بَقَاءِ الْأُمِّ، خُيِّرَ الْمَوْلُودُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَمِيعِ آبَاءِ الْأَبِ مِنْ سَائِرِ الْأَجْدَادِ، وَكَانُوا فِي تَخْيِيرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَهُمْ كَالْأَبِ وَإِذَا وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَبِ وَجَمِيعِ الْجَدَّاتِ وَبَيْنَ الْأُمِّ وَجَمِيعِ الْأَجْدَادِ، ثبت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 521 التَّخْيِيرُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَجْدَادِ وَجَمِيعِ الْجَدَّاتِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَّا تَخْيِيرُ الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ سائر العصبات عشر عَدَمِ الْأَبِ وَالْأَجْدَادِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَيْنَهُمْ فَفِيهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُخَيَّرُ وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ أَبُو أَبِي الْأَبِ وَكَذَلِكَ الْعَصَبَةُ يَقُومُونَ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَعَ الْأُمِّ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمِّهَاتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجَدُّ أَبُو أَبِي الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ نَقْصِهِ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ يقوم مَقَامَ الْأُمِّ، عِنْدَ مَوْتِهَا أَوْ نَقْصِهَا، فَأَمَّا التخيير الْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي حَضَانَتِهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، والأم والأب، ولا تخير بَيْنَ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، فَإِنْ عُدِمَتِ الْأُمُّ خُيِّرَ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ جَمِيعِ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ وَإِنْ عُدِمَ الْأَبُ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُمِّ وَجَمِيعِ آبَاءِ الْأَبِ، هَذَا فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْأُمِّ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُخَيَّرُ وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْوِلَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخَيَّرُ كَمَا يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وبين الأب لأنهم عصبة مناسبون كالأب ولحديث عُمَارَةَ الْجُرَمِيِّ قَالَ: خَيَّرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ أُمِّي وَعَمِّي وَقَالَ لِأَخٍ لِي هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي، وَهَذَا أَيْضًا لَوْ قَدْ بَلَغَ لَخَيَّرْتُهُ. فَأَمَّا تَخْيِيرُهُ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتِهَا مِنْ نِسَاءِ الْحَضَانَةِ، فَإِنْ أَدْلَيْنَ بِالْأَبِ لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَإِنْ أَدْلَيْنَ بِالْأُمِّ كَالْخَالَاتِ فَفِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَهُنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا تَخْيِيرُهُ بَيْنَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَبَيْنَ سَائِرِ النِّسَاءِ سِوَى الْأُمَّهَاتِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تخير وَتَكُونُ الْعَصَبَاتُ أَحَقَّ. وَالثَّانِي: لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ نِسَاءُ الْقُرَابَاتِ أَحَقَّ. وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ عَصَبَاتِهِ وبين نساء قراباته إذا تساوت درجتهم فَإِنْ تَسَاوَى اثْنَانِ فِي عَصَبَتِهِ لِأَخَوَيْنِ أَوِ اثْنَتَانِ مِنْ قِرَابَاتِهِ كَالْأُخْتَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يخير بينهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 522 وَالثَّانِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُخَيَّرُ وَيَسْتَحِقُّهُ مِنْ قرع منهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي نَكَحَ بِهِ الْمَرْأَةَ كَانَ بَلَدَهُ أَوْ بَلَدَهَا فَسَوَاءٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا قَالَ أَرَدْتُ النَّقْلَةَ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مُرْضَعًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا انْتَقَلَ الْأَبُ عَنْ وَطَنِ الْأُمِّ لِاسْتِيطَانِ غَيْرِهِ مِنَ البلاد يكون بِوَلَدِهِ أَحَقَّ مِنْ أُمِّهِ سَوَاءٌ كَانَ رَضِيعًا فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ أَوْ فَطِيمًا فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَهَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْأَبُ وَانْتَقَلَتِ الْأُمُّ، كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَلَدَهُ أَوْ بَلَدَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِ انْتَقَلَتِ الْأُمُّ إِلَى بَلَدِهَا الَّذِي نَكَحَهَا فِيهِ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى غَيْرِهِ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ حِفْظَ نَسَبِهِ مُخْتَصٌّ بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَصَالِحِهِ لِثُبُوتِ التَّوَارُثِ بِهِ، وَلَوْ خَرَجَ لِسَفَرِ حَاجَةٍ فَالْأَمْرُ عَلَى حَقِّهَا مِنْ كَفَالَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِمَا يَنَالُهُ مِنْ شَقَاءِ السَّفَرِ وَكَثْرَةِ الحظر فلو اختلفا في السفرن فَقَالَ الْأَبُ أُرِيدُهُ لِلنَّقْلِ فِي الِاسْتِيطَانِ وَقَالَتِ الْأُمُّ: بَلْ تُرِيدُهُ لِلْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ مع يمنيه لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَزْمُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي كَفَالَةِ وَلَدِهِ جَازَ. وَلَوْ أَرَادَتِ الْأُمُّ الِاسْتِنَابَةَ لَمْ يَجُزْ، لِاخْتِصَاصِ الْأَبِ بِالْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تُمَكِّنُهُ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ وَاخْتِصَاصُ الْأُمِّ بِمُبَاشَرَةِ التَّرْبِيَةِ، وَهَى مَعْقُودَةٌ مَعَ الاستنابة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْعَصَبَةُ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ الْأُمُّ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَتَكُونُ أَوْلَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْعَصَبَةَ بَعْدَ الْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ إِذَا انْتَقَلُوا فِي إِخْرَاجِهِ مَعَهُمْ لِحِفْظِ نَسَبِهِ بِهِمْ، كَالْأَبِ، فَإِنِ انْتَقَلَ بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْتَقِلَ أَبَاعِدُهُمْ وَيُقِيمَ أَقَارِبُهُمْ فَالْمُقِيمُونَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ أَقَارِبُهُمْ وَيُقِيمَ أَبَاعِدُهُمْ فَالْمُنْتَقِلُونَ أَوْلَى بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ قُرْبًا وَبُعْدًا فَالْمُقِيمُونَ أَوْلَى به من المتنقلين لِاسْتِوَائِهِمْ فِي حِفْظِ نَسَبِهِ وَحُصُولِ الدَّعَةِ بِإِقَامَتِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فِي وَلَدِ الْحُرِّ وَإِذَا كَانَ وَلَدُ الْحُرِّ مَمَالِيكَ فَسَيِّدُهُمْ أَحَقُّ بِهِمْ ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 523 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا حَقَّ لِلْمَمْلُوكِ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهِ، لِأَنَّ فِي الْحَضَانَةِ وِلَايَةً لَا تَسْتَحِقُّ مَعَ الرِّقِّ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ جَارِيَةٌ، فَإِنْ عَتَقُوا زَاحَمُوا أَهْلَ الْحَضَانَةِ فِيهَا وَلَا يَمْنَعُهُمْ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ عَلَيْهِمْ مُنَازَعَةَ مَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَلِكَمَالِ التصرف. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانُوا مِنْ حُرَّةٍ وَأَبُوهُمْ مَمْلُوكٌ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِمْ وَلَا يُخَيَّرُونَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو دُخُولُ الرِّقِّ بَيْنَ الْوَلَدِ وَأَبَوَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَأَبَوَاهُ مَمْلُوكَيْنِ فَلَا حَضَانَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرِقِّهِ وَلَا لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وَلَدِ مَمْلُوكِهِ لِحُرِّيَّتِهِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لِأَبَوَيْهِ فَيَقُومُ بِكَفَالَتِهِ وَنَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى أَنْ يُرَاهِقَ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ مُرَاعَاةِ غَيْرِهِ، وَيَقْدِرَ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِنَفْسِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ إِلَّا فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَالُ الضَّرُورَةِ، وَفِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَمَالُ الْوَلَدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا وَأَبَوَاهُ حُرَّيْنِ فَلَا كَفَالَةَ لَهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ لِرِقِّ الْوَلَدِ، وَلَا حَضَانَةَ لِأَبِيهِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُمِّ لِحَضَانَتِهِ فِي السَّبْعِ رَضِيعًا أَوْ فَطِيمًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا لِفَضْلِ حُنُوِّهَا، وَعَجْزِ السَّيِّدِ عَنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَأَبُوهُ حُرَّيْنِ، وَأُمُّهُ مَمْلُوكَةً فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ حَاضِنًا وَكَفِيلًا لِحُرِّيَّتِهِ وَرِقِّ الْأُمِّ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَأُمُّهُ مَمْلُوكَيْنِ وَأَبُوهُ حُرًّا، فَلَا حَقَّ لِأَبِيهِ فِي حضانته ولا في كفالة، فَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي حَضَانَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِسَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ صِغَرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تولد وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا ". وَهَلْ تَصِيرُ بِالْمَنْعِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مُسْتَحِقَّةً لِحَضَانَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا قَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّقِّ عَلَيْهَا مَانِعٌ مِنْ وِلَايَتِهَا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 524 (باب نفقة المماليك) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ بَكْرٍ أَوْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " الْمُزَنِيُّ شَكَّ " عَنْ عَجْلَانَ أَبِي مُحْمَدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ (قَالَ) فَعَلَى مَالِكِ الْمَمْلُوكِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْبَالِغَيْنِ إِذَا شَغَلَهُمَا فِي عَمَلٍ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمَا وَيَكْسُوَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النَّفَقَةُ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ، بِنَسَبٍ، وَزَوْجِيَّةٍ وَمِلْكِ يَمِينٍ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا بِالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ، فَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَتَجِبُ بِهِ نَفَقَاتُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ، مَا لَا يُطِيقُ فَبَيَّنَ بِهَذَا الخبر ما يجب المملوك مِنَ النَّفَقَةِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لِمَا يَلْزَمُهُ من حراسة نفسه. (فيما تجب فيه نفقة المملوك) (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا صَحِيحًا أَوْ زَمِنًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا مُكْتَسِبًا أَوْ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ أَنَفَقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ فِي اسْتِخْدَامِهِ وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ لَهُ فِي الِاكْتِسَابِ وَيَكُونُ اكْتِسَابُهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِتَصَرُّفِهِ، وَعَلَى السَّيِّدِ نَفَقَتُهُ، وَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَأَخْذِ جَمِيعِ كَسْبِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنِ اكْتَسَبَ وَفْقَ نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ السَّيِّدُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ أَقَلَّ مِنْ نَفَقَتِهِ رَجَعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْبَاقِي مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِفَاضِلِ كَسْبِهِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 525 (الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ وَجِنْسِهَا) (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَذَلِكَ نَفَقَةُ رَقِيقِ بَلَدِهِمَا الشِّبَعُ لِأَوْسَاطِ النَاسِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنْ أَيِّ الطَّعَامِ كَانَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ ذُرَةً أَوْ تَمْرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُكْمُ فِي نَفَقَةِ الْعَبْدِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مِقْدَارِهَا. وَالثَّانِي: فِي جِنْسِهَا. فَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَيُعْتَبَرُ بِالْكِفَايَةِ فِيمَا يَقْتَاتُهُ أَمْثَالُهُ فِي الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ مُعَاوَضَةٌ وَهَذِهِ مُوَاسَاةٌ فَتُعْتَبَرُ بِالْأَغْلَبِ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الناس زهيد يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ وَهُوَ نَادِرٌ، وَمِنْهُمْ رَغِيبٌ لَا يَكْفِيهِ إِلَّا الْكَثِيرُ وَهُوَ نَادِرٌ، وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالنَّادِرَيْنِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَيُعْتَبَرُ وَسَطُ الطَّرَفَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ، وقد يختلف ذلك على وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَإِنَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ مقدار لا يكتفي به الكبير، وللكبير مقدار لَا يَسْتَحِقُّهُ الصَّغِيرُ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَسَبِ حَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ مِقْدَارُهُ بِعُرْفِ الْبِلَادِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يَكْتَفُونَ بِالْقَلِيلِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ يَتَوَسَّطُونَ، وَالْأَعَاجِمَ وَأَهْلَ الْجِبَالِ يُكْثِرُونَ، فَلَوْ أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعُرْفِ الْمُتَوَسِّطِ لَمْ يَخْلُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وفق كفايته فقد ملكه: ولي لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَهُ مَتَى شَاءَ إِذَا تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي مَرَّةٍ أو مرتين أو مرار، فَإِنْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ فِي وَقْتِ أَكْلِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ جَازَ لِيُعْتَبَرَ فِيهِ حَقُّهُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَعِنْدِي إِنْ كَانَ إِبْدَالُهُ يُؤَخِّرُ أَكْلَهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ لَمْ يُؤَخِّرْ جَازَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ، لِأَنَّهُ زَهِيدٌ مُقَلِّلٌ فَلِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُ الْفَاضِلِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَهَبَهُ وَلَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهِ، لِأَنَّهُ رَغِيبٌ مُكْثِرٌ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَوَسِّطِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي بَدَنِهِ وَقُوَّتِهِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي بَدَنِهِ وَقُوَّتِهِ لَزِمَ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ وَإِنْ نَدَرَتْ لِأَنَّ عَلَيْهِ حراسة نفسه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 526 (الْقَوْلُ فِي جِنْسِ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ) (فَصْلٌ) وَأَمَّا جِنْسُ قُوتِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ بِعُرْفِ بَلَدِهِ فِيمَا يَقْتَاتَهُ غَالِبُ مُتَوَسِّطِهِمْ، فَإِنِ اقْتَاتُوا الْحِنْطَةَ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَإِنِ اقْتَاتُوا غَيْرَهَا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ أَقِطٍ أَوْ تَمْرٍ كَانَ حَقُّهُ مِنْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِالسَّيِّدِ إِذَا تَنَعَّمَ فَأَكَلَ السَّمِيدَ وَالْمُحَوَّرَ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ فِي الْأَغْلَبِ بَيْنَ السَّادَةِ وَالْعَبِيدِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ "، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ بِالْمَأْلُوفِ وَكَذَلِكَ حَالَةُ الْعَبْدِ فِي إِدَامِهِ يُؤْدِمُ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ فِي بَلَدِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ سَمَكٍ أَوْ دُهْنٍ أَوْ لَبَنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِدَامِ السَّيِّدِ إِذَا تلذذ بأكل الدجاج والخرفان، وكذلك لوقتر عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُتَحَكِّمٌ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مُلْتَزِمٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي طَعَامِ عَبْدِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ مَخْبُوزًا، وَفِي إِدَامِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ مَصْنُوعًا. بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهُ حَبًّا لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّيِّدِ إِذَا تَوَلَّى عَبْدُهُ صُنْعَ طَعَامِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ شَهْوَتَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه قال: " إذا كفى خادم أحدكم طَعَامَهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُرَوِّغْ لَهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ، وَالتَّرْوِيغُ أَنْ يُرَوِّيَهَا مِنَ الدَّسَمِ فَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبِرْهُ. (الْقَوْلُ في كسوة المملوك) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكِسْوَتُهُمْ كَذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَنَّهُ معروف صُوفٌ أَوْ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ الْأَغْلَبَ بِذَلِكَ الْبَلَدِ وَكَانَ لَا يُسَمَّى مِثْلُهُ ضَيِّقًا بِمَوْضَعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كِسْوَةُ الْعَبْدِ مُعْتَبَرَةٌ بِمِثْلِ مَا اعْتُبِرَ بِهِ قُوتُهُ مِنْ غَالِبِ كِسْوَاتِ الْعَبِيدِ فِي الْبَلَدِ، وَالْإِمَاءِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيَمْلِكُ الْعَبْدُ لِبَاسَ كِسْوَتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَثْمَانَهَا وَإِذَا خَلَقَتِ اسْتَجَدَّ لَهُ السَّيِّدُ غَيْرَهَا، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِذَا كَانَ يَلْبَسُ مُرْتَفِعَ الثِّيَابِ وَنَاعِمَهَا مِنَ الْوَشْيِ وَالْحَرِيرِ أَنْ يُسَاوِيَ فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، وَيَلْزَمُهُ إِذَا كَانَ يَلْبَسُ أَدْنَى الثِّيَابِ كَالْبَوَادِي وَأَهْلِ الْقُرَى أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَعَبْدِهِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: إخوانكم حولكم تَحْتَ أَيْدِيكُمْ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي مَأْكَلِهِمْ وَمَلْبَسِهِمْ بِمُسَاوَاةِ عَبِيدِهِمْ دُونَ الْمُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، وَالسَّادَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 527 أَحَدُهَا: مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ الْمُوسِرِينَ، فَلَا تَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَعَبْدِهِ. وَالثَّانِي: مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ الْمُعْسِرِينَ فَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ. وَالثَّالِثُ: هُوَ مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَفْعَالَ الْمُعْسِرِينَ فَيَلْزَمُهُ مُسَاوَاةُ عَبْدِهِ. وَالرَّابِعُ: مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أفعال الموسرين فيمنع من مساواة عبده لترفهه فِي حَقِّ نَفْسِهِ. (الْقَوْلُ فِي كِسْوَةِ الْجَوَارِي) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْجَوَارِي إِذَا كَانَتْ لَهُنَّ فَرَاهَةٌ وَجَمَالٌ فَالْمَعْرُوفُ انهن يكسين أحسن من كسوة اللائي دُونَهُنَّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَمْلُوكِينَ أَطْعِمُوهُمْ مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون (قال الشافعي) رحمه الله: هذا كلام مجمل يجوز أن يكون على الجواب فيسال السائل عن مماليكه وإنما يأكل تمراً أو شعيراً ويلبس صوفاً فقال أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون والسائلون عرب ولبوس عامتهم وطعامهم خشن ومعاشهم ومعاش رقيقهم متقارب فأما من خالف معاش السلف فأكل رقيق الطعام ولبس جيد الثياب فلو آسى رقيقه كان أحسن وإن لم يفعل فله ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نفقته وكسوته بالمعروف " فأما من لبس الوشي والمروي والخز وأكل النقي وألوان لحوم الدجاج فهذا ليس بالمعروف للمماليك وقال عليه السلام " إِذَا كَفَى أَحَدِكُمْ خَادِمُه طَعَامَهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فليدعه فليجلسه معه فإن أبى فليروغ له لقمة فيناوله إياها " أو كلمة هذا معناها فلما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فليروغ له لقمة " كان هذا عندنا والله أعلم على وجهين أولاهما بمعناه أن إجلاسه معه أفضل وإن لم يفعل فليس بواجب إِذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وإلا فليروغ له لقمة " لأن إجلاسه لو كان واجبا لم يجعل له أن يروغ له لقمة دون أن يجلسه معه أو يكون بالخيار بين أن يناوله أو يجلسه وقد يكون أمر اختيار غير الحتم وهذا يدل على ما وصفنا من بيان طعام المملوك وطعام سيده والمملوك الذي يلي طعام الرجل مخالف عندي للمملوك الذي لا يلي طعامه ينبغي أن يناوله مما يقرب إليه ولو لقمة فإن المعروف أن لا يكون يرى طعاماً قد ولي العمل فيه ثم لا ينال منه شيئاً يرد به شهوته وأقل ما يرد به شهوته لقمة وغيره من المماليك لم يله ولم يره والسنة خصت هذا من المماليك دون غيره وفي القرآن ما يدل على ما يوافق بعض معنى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 528 هذا قال الله جل ثناؤه {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فارزقوهم منه} ولم يقل يرزق مثلهم ممن لم يحضر وقيل ذلك في المواريث وغيرها من الغنائم وهذا أوسع وأحب إلي ويعطون ما طابت به نفس المعطي بلا توقيت ولا يحرمون ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. فَجِوَارِي الْخِدْمَةِ مُبْتَذَلَاتٌ، فَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ تَكُونَ أَدْوَنَ، وَجِوَارِي التَّسَرِّي مَصُونَاتٌ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ تَكُونَ أَرْفَعَ، فَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ كِسْوَةُ مَنْ هُوَ بَيْنَ الدَّوَابِّ أَدْوَنُ مِنْ كِسْوَةِ مَنْ قَامَ بِتَمْيِيزِ الْأَمْوَالِ، وَكِسْوَاتُ الْجَوَارِي أَعَمُّ مِنْ كِسْوَاتِ الْعَبِيدِ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ فَضْلِ السَّتْرِ لِئَلَّا تَمْتَدَّ إِلَيْهِنَّ الْأَبْصَارُ فَتَتَحَرَّكَ بِهَا الشَّهَوَاتُ. (الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ من العمل) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَعْنَى لَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا مَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ لَا مَا يُطِيقُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ ثَمَّ يَعْجِزُ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ مَا لَا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى مَا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ مِنَ الْقُوتِ وَالْكِسْوَةِ، فَأَمَّا مَا لِلسَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ فَيَفْتَرِقُ فِيهِ حَالُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعُرْفِ نَوْعًا مِنَ الْخِدْمَةِ وَصِنْفًا مِنَ الْعَمَلِ، لِاخْتِلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِمَا، فَيُكَلَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْهُودَ خِدْمَتِهِ وَمَأْلُوفَ عَمَلِهِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي عَمَلٍ اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ مِنْ صِنَاعَةٍ قَدِ اخْتَصَّ بِهَا إِلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مِنْ صَنَائِعِ مِثْلِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ الْعَمَلِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنٍ وَإِضْعَافِ قُوَّةٍ، فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنِهِ وَإِضْعَافِ قُوَّتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ إِيَّاهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَلَا فِي قَصِيرِهِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ خَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّ عَمَلِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْعَبْدُ فِي مُدَّةِ طَاقَتِهِ جَازَ. وَإِنْ كَثُرَ مُنِعَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ (الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ إذا عمي أو زمن) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَمَلِ فَاسْتَوَى فِيهَا الصَّحِيحُ وَالزَّمِنُ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 529 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَمَةَ غَيْرَ وَلَدِهَا فَيَمْنَعَ مِنْهَا وَلَدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ رِيِّهِ أَوْ يَكُونَ وَلَدُهَا يَغْتَذِي بِالطَّعَامِ فَيُقِيمَ بَدَنَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعُهُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ سَيِّدِ أُمِّهِ، وَلِسَيِّدِهَا أَنْ يَسْتَرْضِعَ لَبَنَهَا مَنْ أَرَادَ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِا، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ سَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ لِسَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا وَأُمُّهُ أَحَقُّ بِرَضَاعِهِ مِنْ غَيْرِهَا لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَاسْتِمْرَاءِ لَبَنِهَا وَإِدْرَارِهِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا يَخْلُو لَبَنُهَا مَعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رِيِّهِ وَوَفْقَ كِفَايَتِهِ فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَضَاعِ وَلَدِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَاصِرًا عَنْ رِيِّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ رَضَاعِهِ وَيُتَمِّمَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا بِقِيمَةِ رِيِّهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا أَكْثَرَ مِنْ رِيِّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ ارْتِضَاعِ رِيِّهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ فَاضِلَ لَبَنِهَا مَنْ شَاءَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِ أُمِّ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وَلَدُهُ مِنْهَا فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ كَسَائِرِ وَلَدِهِ، وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَتَبَعٌ لِأُمِّهِ يُمْنَعُ مَنْ بِيعِهِ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مَعَ أُمِّهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِيعَهُمَا لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا، وَيَمْلِكُ أَكْسَابَهُمَا وَيَسْتَخْدِمُهُمَا للأم دون الولد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَمْنَعُهُ الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلْ عَلَى أَمَتِهِ خَرَاجًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلٍ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الْكَسْبَ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ " لَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْسِبَ بِفَرْجِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ هُوَ أَنْ يُخْلِفَ السَّيِّدُ بَيْنَ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَيَكُونَ لَهُ فَاضِلُ كَسْبِهِ بِنَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 11 ¦ الصفحة: 530 موالي أَبِي طِيبَةَ حِينَ حَجَّمَهُ وَقَدْ ضَرَبُوا عَلَيْهِ خَرَاجًا أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ، وخَرَاجَهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ، وَجَوَازُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ مِنَ الْإِجْبَارِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُكْتَسِبًا لِقَدْرِ خَرَاجِهِ فَمَا زَادَ، فَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ خَرَاجِهِ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ لَا تُكَلِّفِ الصَّغِيرَ الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْتَسِبَ بِفَرْجِهَا، ويستوفي منه السيد خراجه. قال عَجَزَ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُنْظِرَ بِهِ وَجَازَ لَهُ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدَ الْمُخَارَجَةِ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ فَسَخَهُ أَحَدُهُمَا وَفِي يَدِ الْعَبْدِ فَاضِلٌ مِنْ كسبه كان ملكاً لسيده، وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ دَابَّةٌ فِي الْمِصْرِ أَوْ شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ عَلَفَهُ بِمَا يُقِيمُهُ فَإِنِ امْتَنَعَ أَخَذَهُ السُلْطَانُ بِعَلَفِهِ أَوْ بَيْعِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَاتُ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَرْبَابِهَا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " وَنَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ وَعَنْ قَتْلِهَا إِلَّا لِمَأْكَلِهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُطْلِعْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي. فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً تُعَذَّبَ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا رَبَطَتْ هِرَّةً فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ فَعَذَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَاطَّلَعَتُ عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً مُوَمِسَةً يَعْنِي زَانِيَةً فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى بِئْرٍ يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَأَرْسَلَتْ إِزَارَهَا فَبَلَّتْهُ وَعَصَرَتْهُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى رُوِيَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا، فَدَلَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَلَى حِرَاسَةِ نُفُوقِ الْبَهَائِمِ بِإِطْعَامِهَا حَتَّى تَشْبَعَ وَيسَقْيِهَا حَتَّى تُرَوَى سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا حَتَّى هَلَكَتْ أَوْ نُهِكَتْ أَثِمَ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ بِبَادِيَةٍ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ بقر أخذت على المرعى خلاها والرعي فإن أجدبت الأرض علفها أو ذبحها أو باعها ولا يحبسها فتموت هزلا إن لم يكن في الأرض متعلق وأجبر على ذلك إلا أن يكون فيها متعلق لأنها على ما في الأرض تتخذ وليست كالدواب التي لا ترعى والأرض مخصبة إلا رعيا ضعيفاً ولا تقوم للجدب قيام الرواعي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عُلُوفَةُ الْبَهَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ بِعُرْفِهَا، وَلَهَا فِي الْعُرْفِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً لَا تَرْعَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلِفَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَوَّلِ شِبَعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الِانْتِهَاءُ إِلَى غَايَتِهِ وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى رِيِّهَا دُونَ غَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَدِّلَ بِهَا إِلَى الرَّعْيِ إِذَا لَمْ تَأْلَفْهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا أَوْ قَصَّرَ عَنْ كِفَايَتِهَا رُوعِيَ حالها، فإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 531 كَانَتْ مَأْكُولَةً خُيِّرَ مَالِكُهَا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ ذَبْحِهَا أَوْ بَيْعِهَا. فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ السُّلْطَانُ مِنْهَا بِقَدْرِ عَلَفِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهَا بَاعَ عَلَيْهِ جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، خُيِّرَ بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ بَيْعِهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكِلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ رَاعِيَةً لَا تَعْتَلِفُ. فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهَا فِي الْمَرْعَى حَتَّى تَشْبَعَ مِنَ الْكَلَأِ، وَتَرْتَوِيَ من الماء وعليه في تسريحها للمرعى حقاً أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَرْضُ الْمَرْعَى ذَاتَ مَاءٍ مَشْرُوبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ غَيْرَ مُشْبِعَةٍ حَتَّى لَا تَفْتَرِشَ، ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الشِّبَعِ وَالرَّعْيِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَوَامِلَهَا. فَإِنْ جَدَبَتِ الْأَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ تَرْعَى نَقَلَهَا إِلَى أَرْضٍ خِصْبَةٍ إِنْ وَجَدَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ ارْتَادَ لَهَا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فُعِلَ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً بَيْنَ الْعُلُوفَةِ وَالرَّعْيِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدها: أَنْ تَكْتَفِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا. فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكْتَفِيَ إِلَّا بِهِمَا فَعَلَيْهِ لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَقْتَصِرَ بِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى. (الْقَوْلُ في حلب أمهات النسل) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُحْلَبُ أُمَّهَاتُ النَّسْلِ إِلَّا فَضْلًا عَمَّا يُقِيمُ أَوْلَادَهُنَّ لَا يَحْلِبُهُنَّ فَيَمُتْنَ هَزَلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَدُ الْبَهِيمَةِ فِي ارْتِوَائِهِ مِنْ لَبَنِهَا إِذَا كَانَ رَضِيعًا كَوَلَدِ الْأَمَةِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ رِيِّهِ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يجلب مِنْ لَبَنِهَا إِذَا كَانَ رَضِيعًا إِلَّا مَا فضل عن ريه حتى يستغنى عنه برعي أَوْ عُلُوفَه أَوْ ذَبْحِهِ إِذَا كَانَ مَأْكُولًا، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى لَبَنٍ غَيْرِ أُمِّهِ جَازَ إِنِ اشْتَرَاهُ، وَإِنْ أَبَاهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ كان أحق بلبن أمه، وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 532 بسم الله الرحمن الرحيم (كِتَابُ الْقَتْلِ) (بَابُ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ) (وَمَنْ يَجِبُ عليه القصاص ومن لا يجب) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحق} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ وَتَحْرِيمِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِيلَ، وَقَابِيلَ، حَتَّى بَلَّغَ الْأُمَّةَ وَأَنْذَرَهَا فَقَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] يَعْنِي بِالصِّدْقِ، وَيُرِيدُ بِابْنَيْ آدَمَ قَابِيلَ الْقَاتِلَ، وَهَابِيلَ الْمَقْتُولَ {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] وَسَبَبُ قُرْبَانِهِمَا أَنَّ آدَمَ أَقَرَّ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ بِتَوْأَمَةِ أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ هَابِيلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتَوْأَمَةِ قَابِيلَ مَنَعَهُ مِنْهَا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ. وَفِي سَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ قَابِيلَ وَتَوْأَمَتَهُ كَانَا مِنْ وِلَادَةِ الْجَنَّةِ؛ وَهَابِيلَ وَتَوْأَمَتَهُ كَانَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ،. وَالثَّانِي: لِأَنَّ تَوْأَمَةَ قَابِيلَ كَانَتْ أَحْسَنَ مِنْ تَوْأَمَةِ هَابِيلَ فَاخْتَصَمَا إِلَى آدَمَ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ هَابِيلُ راعياً فقرب هابيل سَمِينَةً مِنْ خِيَارِ مَالِهِ، وَكَانَ قَابِيلُ حَرَّاثًا، فَقَرَّبَ حِزْمَةَ زَرْعٍ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْقَبُولِ فَازْدَادَ حَسَدُ قَابِيلَ لِهَابِيلَ، فقال: " لأقتلنك " قال: {إنما يتقبل الله من المتقين لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 27، 28] فَلَمْ يَمْنَعْ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ الْآنَ؛ وَفِي وُجُوبِهِ لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: شَجَّعَتْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: زينت قاله قتادة. فقتله {فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30] قِيلَ: بِحَجَرٍ شَرَخَ بِهِ رَأْسَهُ {فأصبح من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] لِأَنَّهُ خَسِرَ أَخَاهُ وَدِينَهُ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] لِأَنَّهُ تَرَكَ أَخَاهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَدْفِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قَبْلَهُ مَقْتُولًا وَلَا مَيِّتًا، وَفِي بَحْثِ الْغُرَابِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى مَا يَدْفِنُهُ فِيهَا لِقُوَّتِهِ فَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَحَثَ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ حتى دفنه {قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغرب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة: 31] فَدَفَنَهُ حِينَئِذٍ وَوَارَاهُ فأصبح من النادمين فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ. وَالثَّانِي: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى أَنْ تَرَكَ مُوَارَاةَ سَوْأَةِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَنْهَاهُ مِنْ حَالِ ابْنَيْ آدَمَ {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] أَنْ خَلَّصَهَا مِنْ قَتْلٍ وَهَلَكَةٍ وَسَمَّاهُ إِحْيَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحْيِي، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا وَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ عِنْدَ الْمَقْتُولِ، وَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ دَمَ الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُمْ جَمِيعًا وَعَلَيْهِمْ شُكْرَ الْمُحْيِي كَمَا لَوْ أَحْيَاهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ. وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضُرِبَا مَثَلًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا ". وَقَالَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 92] الْآيَةَ وَهَذَا أَغْلَظُ وَعِيدٍ يَجِبُ فِي أَغْلَظِ تَحْرِيمٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الوَعِيدِ إِنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا نَازَلْتُ رَبِّي فِي شَيْءٍ كَمَا نَازَلْتُهُ فِي تَوْبَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ فَأَبَى عَلَيَّ " وَذَهَبَ مَنْ سِوَاهُ إِلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إِلَى قَوْلِهِ: {إلا من تاب} فَاسْتَثْنَاهُ مِنَ الوَعِيدِ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ ما بعدها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 قِيلَ: لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا فِيهَا إِثْبَاتُ شَرْطٍ، وَالشَّرْطُ مَعْمُولٌ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فأما الخبر المحمول عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ لِئَلَّا يُسَارِعَ النَّاسُ على الْقَتْلِ تَعْوِيلًا عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ " مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى هَذَا مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْزَعِ التَّوْبَةَ عَنْ أُمَّتِي إِلَّا عِنْدَ الْحَشْرَجَةِ " يَعْنِي وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ بِالسُّنَّةِ فَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ عَنْ عُثْمَانَ، وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ، كُلُّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِأحَدَ ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بقتيل فقال من لهذا؟ قلم يُذْكَرْ لَهُ أَحَدٌ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ ". وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " زَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ ". وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُّ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلَا إِنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حراماً عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَشَوَاهِدِ الْعُقُولِ فَالْقِصَاصُ فِيهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِ الله تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ من أخيه شيء فاتباع بمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178] يَعْنِي أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَوَدِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ، يُطَالِبُ بِهَا الْوَلِيُّ بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّيهَا الْقَاتِلُ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، يَعْنِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصَ دُونَ الدِّيَةِ، وَقَوْمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَخُيِّرَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَ تَخْفِيفًا من الله تعالى ورحمة وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِيفَائِهِ حَيَاةٌ فَوُجُوبُهُ سَبَبٌ لِلْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَصَارَ حَيَاةً لَهُمَا، وَهَذَا مِنْ أَوْجَهِ كَلَامٍ وَأَوْضَحِ مَعْنًى. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ: يا بني إسرائيل لاتقتلوا تُقْتَلُوا، وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ إِذَا سُبِرَ، وَتَعَاطَتِ الْعَرَبُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَكَانَ لَفْظُ الْقِرَآنُ أَفْصَحَ، وَمَعْنَاهُ: أَوْضَحَ وَكَلَامُهُ أوجز، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عباس فلا يسرف في القتل فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ. وَالثَّانِي: يُمَثِّلُ بِهِ إِذَا اقْتَصَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَتَأَوَّلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَدَاوُدُ تَأْوِيلًا ثَالِثًا: أَنْ يَقْتُلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ. (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلِيَّ كَانَ مَنْصُورًا بِتَمْكِينِهِ مِنَ القِصَاصِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ مَنْصُورًا بِقَتْلِ قَاتِلِهِ، وَهُوَ قول مجاهد، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بالعين} إِلَى قَوْلِهِ {فَهُوَ كَفَّارَةٌ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 [المائدة: 45] لَهُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ لِلْمَجْرُوحِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَالثَّانِي: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لَنَا. قِيلَ: فِي لُزُومِهَا لَنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُنَا إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بِالرَّفْعِ وَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْخَبَرِ إِلَى الْأَمْرِ. وَالثَّانِي: مَا رَوَى حُمَيْدٌ عن أنس قال: كسرت الربيع بنت مسعود وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " فَرَضِيَ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ. فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهَا لَنَا، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ ". وروي عن البني أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَهُوَ بِهِ بِسَوَاءٍ " يَعْنِي سَوَاءً فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، وهو معتبر بالتكافئ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ. وَالثَّانِي: لِلْمَقْتُولِ. فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ فَشَيْئَانِ الكفارة والمأثم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَأَمَّا الْمَأْثَمُ فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالتَّوْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ بثلاثة شروط: أحدها: النَّدَمُ عَلَى قَتْلِهِ، وَتَرْكُ الْعَزْمِ عَلَى مِثْلِهِ، وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ؛ لِيَقْتَصَّ مِنْهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَأَمَّا حَقُّ الْمَقْتُولِ فَأَحَدُ أَمْرَيْنِ يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى خِيَارِ وَلِيِّهِ فِي الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَرُوِيَ أَنْ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُطَالِبُهِ بِدَمِ أَخِيهِ وَقَدْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ، فَحَكَمَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَأَخَذَهَا ثُمَّ عَدَا عَلَى قاتل أخيه وعاد إلى مكة مرتداً. وأنشأ يَقُولُ. (شَفَى النَفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنِدًا ... تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ) (ثَأَرْثُ بِهِ قَهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ) (حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ رَاجِعِ) فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ صَبْرًا. وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَافَأَ الدَّمَانِ مِنَ الأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْأَحْرَارِ مِنَ المُعَاهَدِينَ أَوِ الْعَبِيدِ مِنْهُمْ قُتِلَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُكَافِئُ دَمِهِ مِنْهُمُ الذَّكَرُ قُتِلَ بِالذَّكَرِ وَبِالْأُنْثَى وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُكَافَأَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى تَفْصِيلِ أَقْسَامِهَا وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مُكَافَأَةٌ فِي الْأَجْنَاسِ، وَمُكَافَأَةٌ فِي الْأَنْسَابِ، وَمُكَافَأَةٌ فِي الْأَحْكَامِ. فَأَمَّا مُكَافَأَةُ الْأَجْنَاسِ: فَهُوَ الذُّكُورُ بِالذُّكُورِ وَالْإِنَاثُ بِالْإِنَاثِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَسْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَبِالْأُنْثَى، وَتُقْتَلَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ. وَحَكَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ يُقْتَلُ بِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] فَلَمَّا لَمْ يَتَكَافَأِ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ لَمْ يَتَكَافَأِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَلِأَنَّ تَفَاضُلَ الدِّيَاتِ تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَمَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ الْقِيَمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْغُرْمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] فَعَمَّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ وَأَنْفَذَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِيهِ " يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيًّا مَرَّ بِجَارِيَةٍ عَلَيْهَا حُلِيٌّ لَهَا، فَأَخَذَ حُلِيَّهَا، وَأَلْقَاهَا فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ وَبِهَا رَمَقٌ، فَقِيلَ: مَنْ قَتَلَكِ؟ قَالَتْ: فُلَانٌ الْيَهُودِيُّ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِحُرْمَةٍ كَالْحُدُودِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ كَالْمِيرَاثِ؛ فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْقَوَدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحُرْمَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ. وَالدِّيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنْ وَجَبَ فَبَذْلُ الْمَالِ مَعَهُ لَا يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَبَذْلُ الْمَالِ لَا يَجِبُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالأُنْثَى بالأنثى} فَلَيْسَ يَمْنَعُ قَتْلُ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى مِنْ قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ عَمَّا عَدَاهَا. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الدِّيَاتِ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَتَفَاضُلِ الدِّيَاتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْقِصَاصِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا التَّكَافُؤُ بِالْأَنْسَابِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْتَلُ الشَّرِيفُ بِالدَّنِيءِ، وَالدَّنِيءُ بِالشَّرِيفِ، وَالْعَرَبِيُّ بِالْعَجَمِيِّ، وَالْعَجَمِيُّ بِالْعَرَبِيِّ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ائْتُونِي بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا تَأْتُونِي بِأَنْسَابِكُمْ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: مَنْ لَهُ عَلَيَّ مَظْلَمَةٌ أَوْ لَهُ قِبَلِي حَقٌّ فَلْيَقُمْ لِيَأْخُذَ حَقَّهُ فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عُكَّاشَةُ، فَقَالَ: لِي عَلَيْكَ مَظْلَمَةٌ ضَرْبَتَين بِالسَّوْطِ عَلَى بَطْنِي يَوْمَ كَذَا، فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَطْنِهِ وَقَالَ: قُمْ فَاقْتَصَّ، فَبَكَى الرَّجُلُ، وَقَالَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّ الشَّرِيفَ كَانَ إِذَا أَتَى الْحَدَّ لَمْ يُحَدَّ وَحُدَّ الدَّنِيءُ ". وَأَمَّا تَكَافُؤُ الْأَحْكَامِ فَكَالْأَحْرَارِ مَعَ الْعَبِيدِ، وَالْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُعَاهِدِينَ، فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ خُولِفْنَا فِيهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِيهِ. وَأَصْلُ التَّكَافُؤِ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بيانه. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ". وَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَهُوَ فِي التَّحْرِيمِ مثل المعاهد. (قال المزني) رحمه الله: فإذا لم يقتل بأحد الكافرين المحرمين لم يقتل بالآخر. (قال الشافعي) رحمه الله: قال قائل: عنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقتل مؤمن بكافر حربي فهل من بيان في مثل هذا يثبت؟ . قلت نعم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن " فهل تزعم أنه أراد أهل الحرب لأن دماءهم وأموالهم حلال؟ قال لا ولكنها على جميع الكافرين لأن اسم الكفر يلزمهم. قلنا وكذلك لا يقتل مؤمن بكافر لأن اسم الكفر يلزمهم فما الفرق؟ . قال قائل: روينا حديث ابن البيلماني قلنا منقطع وخطأ إنما روي فيما بلغنا أن عمرو بن أمية قتل كافراً كان له عهد إلى مدة، وكان المقتول رسولاً فقتله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - به فلو كان ثابتاً كنت قد خالفته، وكان منسوخاً لأنه قتل قبل الفتح بزمان، وخطبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يقتل مؤمن بكافر " عام الفتح، وهو خطأ لأن عمرو بن أمية عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دهراً وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْعِلْمَ مِمَّنْ بَعُدَ لَيْسَ لَكَ به معرفة أصحابنا ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَكَافُؤُ الْأَحْكَامِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَمُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا فَيُقْتَصُّ مِنَ الأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهِدًا، أَوْ حَرْبِيًّا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُعَاهِدِ وَالْحَرْبِيِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكِتَابِيِّ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْمَجُوسِيِّ. وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَبِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَرِوَايَةِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ وَقَالَ: " أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ ". وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُشْرِكًا، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ مُسْلِمٍ قَتَلَ نَصْرَانِيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَقْتَادَ مِنْهُ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِهِ الْكَافِرُ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِالْكَافِرِ كَالْكَافِرِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِأَهْلِ مِلَّتِهِ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ كَقَتْلِ الْيَهُودِيِّ بِالنَّصْرَانِيِّ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ سَاوَى الذِّمِّيَّ فِي حَقْنِ دَمِهِمَا عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَالْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ الذِّمِّيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ مَالِهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ تُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ بِيَدِهِ، وَلِأَنَّ كَافِرًا لَوْ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ لَمْ يَمْنَعْ إِسْلَامُهُ مِنَ الاسْتِيفَاءِ لِلْقَوَدِ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْكَافِرِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ دَفْعًا عَنْ نفسه، كان قبله قَوَدًا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْحَالَيْنِ قَتْلُ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] فَكَانَ نَفْيُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي نُفُوسِهِمَا، وَتَكَافُؤِ دِمَائِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ بِالْجَنَّةِ لِجَوَازِ كُفْرِهِ، وَلَا عَلَى الْكَافِرِ بِالنَّارِ لِجَوَازِ إِسْلَامِهِ. قِيلَ: الْحُكْمُ وَارِدٌ فِي عُمُومِ الْجِنْسَيْنِ دُونَ أَعْيَانِ الْأَشْخَاصِ، وَقَدْ قَطَعَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْجَنَّةِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِالنَّارِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، وَقَدْ نَرَى لِلْكَافِرِ سَبِيلًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالتَّسَلُّطِ وَالْيَدِ، وَنَفْيُ السَّبِيلِ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ. فإن قيل: وهو مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِغَيْرِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ". وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً لم يعهده إلى الناس [عامة؟] فَقَالَ: لَا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَإِذَا فِيهِ " المسلمون تتكافأ دماءهم، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدناهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافرن ولا ذو عهد في عهده ". وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَخْرَجَ أَبِي سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا فِيهِ الْعَقْلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَلَا يُتْرَكُ مُفْرَجٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وَالْمُفْرَجُ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ قَبِيلَةٌ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا فَأَمَرَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى قَبِيلَةٍ يُضَافُ إِلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْرَدًا. فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا عَلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ " أَيْ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ " وَذُو الْعَهْدِ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، وَلَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ؛ لِيَكُونَ حُكْمُ الْعَطْفِ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَعَنْهُ جوابان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ " يَقْتَضِي عُمُومَ الْكُفَّارِ مِنَ المُعَاهَدِينَ، وَأَهْلِ الْحَرْبِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِإِضْمَارٍ وَتَأْوِيلٍ، وَقَوْلُهُ: " وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عهده " كلام مبتدأ أي: لا يقبل ذُو الْعَهْدِ لِأَجْلِ عَهْدِهِ، وَأَنَّ الْعَهْدَ مِنْ قِبَلِهِ حَقْنًا لِدِمَاءِ ذَوِي الْعُهُودِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ " مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُعَاهَدٍ وَحَرْبِيٍّ. وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُصُوصِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ، وَإِنْ قُتِلَ بِالْمُعَاهَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِ الْآخَرِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا مُسْلِمًا بِكَافِرٍ لَقَتَلْتُ خِدَامًا بِالْهُذَلِيِّ " وَلَوْ جَازَ قَتْلُهُ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ غيره وَلَمْ يُطْلِقْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا لم يقتل بالمستأمن لم يقتل بالذمي. وللجمع بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ عِلَلٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْكُفْرِ؛ فَوَجَبَ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنْ لَا يُقَادَ بِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ دِينُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ مَنْ مَنَعَ دِينُهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْكَافِرِ إِذَا قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي شَرْطِ الْعِلَّةِ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا قَتَلَهُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَلَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ الْعِلَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْجِنْسِ فَلَا تَنْتَقِضُ إِلَّا بِمِثْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَأْمَنُ نَاقِصُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ مَحْقُونٌ إِلَى مُدَّةٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ تَامُّ الْحُرْمَةِ، مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَأَشْبَهَ الْمُسْلِمَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْحُرْمَتَيْنِ فِي الْمُدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُؤَقَّتٌ، وَتَحْرِيمَ ذَاتِ الْمَحْرَمِ مُؤَبَّدٌ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الزِّنَا كَذَلِكَ ها هنا. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلنَّفْسِ بَدَلَيْنِ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُرْمَةِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَوَدِ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 الْعِرْضِ، وَالْقَوَدُ يَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنِ الْمُسْلِمِ حَدُّ قَذْفِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا أَكْفَاءَ فَلَمْ يَجُزْ حُكْمُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْأَكْفَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُمُومٌ خُصَّ بِدَلِيلٍ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَهُوَ قِصَاصٌ لَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْعَلَ قِصَاصًا عَلَيْهِمْ. وأما حديث عبد الرحمن بن الْبَيْلَمَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْبَيْلَمَانِيِّ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَلَوْ سُلِّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَمَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَا تَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَسْلَمَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَقَتَلَهُ بِهِ، وَإِذَا احْتُمِلَ هَذَا وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنِ الِاحْتِجَاجِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ فَقَدْ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ طَرِيقَهُ ضَعِيفٌ وَرُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَاتَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ؛ فَاسْتَحَالَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْعِلْمَ، من بَعُدَ لَيْسَ لَكَ بِهِ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِنَا يَعْنِي: أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ بَيْنَهُمْ فَكَانُوا بِأَقْوَالِهِ وَأَصْحَابِهِ أَعْرَفَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَسُولٌ مُسْتَأْمَنٌ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ. وَرَوَى لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ " وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ لَهُ: لَا تَقْتُلْ أَخَاكَ بِعَبْدِكَ فَرَجَعَ عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ لَا تَقْتُلَهُ بِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُقِنَ دَمُهُ بِدِينِهِ وَأَنَّ دِينَهُ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ فَخَالَفَ الْكَافِرَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِ الْيَهُودِيِّ بِالنَّصْرَانِيِّ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَ، فَلِذَلِكَ جَرَى الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا، وَمِلَّةُ الْإِسْلَامِ مُخَالِفَةٌ لَهُمَا وَمُفَضَّلَةٌ عَلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ، وَالْمُسْلِمُ يُقْطَعُ فِي مَالِ الْكَافِرِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِنَفْسِ الْكَافِرِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي مَالِ الْكَافِرِ كَمَا يُسْتَحَقُّ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ وَالْقَوَدُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَطْعُ الْمُسْلِمِ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ، وَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ، جَازَ أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ قَتْلِهِ لَا وَجْهَ لَهُ لَأَنَّ الْقَوَدَ حَدٌّ، وَالْحُدُودُ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، وَلَا تُعْتَبَرُ بِمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَجْنُونًا لَوْ قَتَلَ ثُمَّ عَقَلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا وَقْتَ الْقَتْلِ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ " وَإِنْ خَالَفْنَاهُ فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَمَّا جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا، جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ قَوَدًا، فَيُفَسَّرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ دَفْعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ قَوَدًا. وَالثَّانِي: بِالْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِدَفْعِهِ عَنْهُ وَلَا يُقْتَلُ مَا بِدَفْعِهِ عَلَيْهِ. وَفِيمَا تَتَجَافَاهُ النُّفُوسُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ القَوْلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ. حَكَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِرُقْعَةٍ أَلْقَاهَا إِلَيْهِ مِنْ شاعر بغدادي يكنى أبو الْمُضَرِّجِي فِيهَا مَكْتُوبٌ. (يَا قَاتِلَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ... جُرْتَ وَمَا الْعَادِلُ كَالْجَائِرِ) (يَا مَنْ بِبَغْدَادَ وَأَطْرَافِهَا ... مِنْ فُقَهَاءِ النَّاسِ أَوْ شَاعِرِ) (جَارَ عَلَى الدِّينِ أَبُو يُوسُفَ ... إِذْ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ) (فَاسْتَرْجِعُوا وَابْكُوا عَلَى دِينِكُمْ ... وَاصْطَبِرُوا فَالْأَجْرُ للصابر) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 فَأَخَذَ أَبُو يُوسُفَ الرُّقْعَةَ، وَدَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَأَخْبَرَهُ بِالْحَالِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الرُّقْعَةَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: تَدَارَكْ هَذَا الْأَمْرَ بِحِيلَةٍ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُ فِتْنَةٌ. فَخَرَجَ أَبُو يُوسُفَ وَطَالَبَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الذِّمَّةِ، وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فلم يأتوا بها فأسقط القود وحكم الدية، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِنْكَارِ النُّفُوسِ وَانْتِشَارِ الْفِتَنِ كَانَ الْعُدُولُ عَنْهُ أَحَقَّ وَأَصْوَبَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ فَحَالُهُمَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ كَافِرٍ، وهو أن يبتدئ المسلم بقتل الكافر توجيه فَلَا يَجِبُ الْقَوَدُ لِإِسْلَامِ الْقَاتِلِ، وَتَجِبُ بِهِ دِيَةُ كَافِرٍ لِكُفْرِ الْمَقْتُولِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَتَجِبُ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا، ثُمَّ يُسْلِمُ الْمَجْرُوحُ، وَيَمُوتُ مُسْلِمًا، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ وَقْتَ الْجُرْحِ كَانَ كَافِرًا، وَفِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنَ الجُرْحِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْقَوَدِ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ، وَفِي الدِّيَةِ بِحَالِ الِانْتِهَاءِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يقتل به المسلم ولا يجب فيه الدية كافر، وذلك في حالتين: أحدهما: أَنْ يَقْتُلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ يُسْلِمَ الْقَاتِلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَتْلِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةُ كَافِرٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ كَافِرًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَ المسلم نفس الكافر فيجوز للكافر أن يقبل طَالِبَ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ الطَّالِبُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةُ كَافِرٍ، وَلَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمَ لَمْ يَجِبْ لَهُ دِيَةٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ مَضْمُونَةٌ، وَنَفْسَ الطَّالِبِ هَدَرٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي الْحِرَابَةِ فَفِي قَتْلِهِ بِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ: هَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُسْتَوْفَى وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَهُوَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَسَقَطَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَلَوْ قَتَلَ مُرْتَدٌّ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْكُفْرِ لِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ أحكامه. (مسألة) قال الشافعي: قَالَ وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ وَبِعَبْدِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْتَلُ بِعَبْدِ نَفْسِهِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ قال: المسلمون بتكافؤ دماؤهم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ فَاعْتَبَرَ الْمُكَافَأَةَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدِ اسْتَوَى الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَافَأَ دَمُهُمَا، وَيَجْرِيَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِالْحُرِّ قُتِلَ بِهِ الْحُرُّ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ، وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَجْرُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَى مَنِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحَجْرُ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ الْحُرُّ دَفْعًا جَازَ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ قَوَدًا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ". وَرَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وهذا نَصٌّ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ. وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: " مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَمِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ " يَعْنِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَصَارَ مَعَ السُّنَّةِ إِجْمَاعًا، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَطْرَافِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ امْتَنَعَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ امْتَنَعَ فِي النَّفْسِ كَالْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ طَرْدًا، وَكَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوَدٍ سَقَطَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ سَقَطَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ كَالْأَطْرَافِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَطْرَافُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ السَّلِيمَةُ بِالشَّلَّاءِ الْمَرِيضَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْأَيْدِي بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُمَاثَلَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي النُّفُوسِ لِقَتْلِ الصَّحِيحِ بِالْمَرِيضِ، وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ جَرَى الْقَوَدُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي النَّفْسِ، وَسَقَطَ فِي الْأَطْرَافِ. قِيلَ: هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّنَا نَقْطَعُ الْأَيْدِي بِيَدٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 وَاحِدَةٍ؛ وَإِنْ خَالَفْتُمُونَا فِيهِ وَنَقْتُلُ الصَّحِيحَ بِالْمَرِيضِ كَمَا نَقْطَعُ الْيَدَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَلِيلَةِ، وَلَا نَقْطَعُهَا بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحَيُّ بِالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ مَيِّتَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَطْعِ الشَّلَّاءِ فِي وُجُوبِ الْأَرْشِ فِيهِمَا، وَبَيْنَ اسْتِهْلَاكِ الْمَيِّتِ فِي سُقُوطِ الْأَرْشِ فِيهِ. قِيلَ: لِأَنَّ الشَّلَّاءَ مُتَّصِلَةٌ بِحَيٍّ، وَفِيهَا جَمَالٌ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْأَرْشُ بِقَطْعِهَا مَعَ مَوْتِهَا؛ كَمَا يَجِبُ فِي الشَّعْرِ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَكُمْ مَيِّتًا، وَلِأَنَّ الرِّقَّ حَادِثٌ عَنِ الْكُفْرِ فَلَمَّا سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنَ الرِّقِّ بِمَثَابَتِهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْحُرِّ وَلِأَنَّ النَّقْصَ بِالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَى الْحُرِّ كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِقَتْلِهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ نَفْسًا وَأَطْرَافًا فَلَمَّا خَرَجَ الْعَبِيدُ مِنْ حُكْمِ الْأَطْرَافِ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ النُّفُوسِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ " وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " يُرِيدُ بِهِ الْعَبِيدَ، وَمَنْ كَانَ أَدْنَاهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَعْلَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُرِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ جَرَيَانُ الْقَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ فَجَرَى فِي النُّفُوسِ وَلَا يَجْرِي فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَلَمْ يَجْرِ فِي النُّفُوسِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِتَأْثِيرِ الْحَجْرِ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ قَتْلِ الدَّفْعِ وَقَتْلِ الْقَوَدِ، وَلَيْسَ لِمَا تَنَاكَرَتْهُ الْعَامَّةُ، وَنَفَرَتْ مِنْهُ الخاصة مساغاً فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ. حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ سُئِلَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِهَا عَنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فَمَنَعَ مِنْهُ وَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أُقَدِّمُ قَبْلَ الدَّلِيلِ حِكَايَةً إِنِ احْتَجْتُ بَعْدَهَا إِلَى دَلِيلٍ فَعَلْتُ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَيَّامَ تَفَقُّهِي بِبَغْدَادَ نَائِمًا ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ فَسَمِعْتُ مَلَّاحًا يَتَرَنَّمُ وَهُوَ يَقُولُ: (خُذُوا بِدَمِي هَذَا الْغُلَامَ فَإِنَّهُ رَمَانِي ... بِسَهْمَيْ مُقْلَتَيْهِ عَلَى عَمْدِ) (وَلَا تَقْتُلُوهُ إِنِّي أَنَا عَبْدُهُ ... وَلَمْ أَرَ حُرًّا قَطُّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ) وما انتشر في العامة تناكره حَتَّى نَظَمُوهُ شِعْرًا، وَجَعَلُوهُ فِي الْأَمْثَالِ شَاهِدًا كَانَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ خَارِجًا فَقَالَ الْأَمِيرُ: حَسْبُكَ فَقَدْ أَغْنَيْتَ عَنْ دَلِيلٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 (فَصْلٌ) وَاسْتَدَلَّ النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ عَلَى قَتْلِ السَّيِّدِ بِعَبْدِهِ بِمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " وَمَنْ خَصَا عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ ". وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده أن رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَقُدْهُ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، وَهَذَا نَصٌّ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ جَلْدِهِ وَنَفْيِهِ تَعْزِيرٌ. فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَرْوِ عَنْ سَمُرَةَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ". وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ لِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِ عَبِيدِهِمْ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ كَانَ عَبْدُهُ فَأَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ يُقَادُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبْلِ عِتْقِهِ لَا يُقَادُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ مِنَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ، وَإِنْ قَلَّ، فَلَوْ قَتَلَ حُرٌّ كَافِرٌ عَبْدًا مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِإِسْلَامِهِ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا نِصْفُهُ حُرٌّ قُتِلَ بِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الْقَاتِلِ حُرًّا وَثُلُثُ الْمَقْتُولِ حُرًّا لَمْ يُقْتَلْ لِفَضْلِ حُرِّيَّةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ الْقَاتِلِ حُرًّا وَنِصْفُ الْمَقْتُولِ حُرًّا قُتِلَ بِهِ لِفَضْلِ حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَلَوْ قَتَلَ حراً عَبْدًا فِي الْحِرَابَةِ كَانَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ فِي الْحِرَابَةِ، وَلَوْ جَرَحَ عَبْدٌ حُرٌّ عَبْدًا فَأُعْتِقَ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ حُرًّا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ، وَلَوْ جَرَحَ عَبْدٌ عَبْدًا فَأُعْتِقَ الْجَارِحُ وَمَاتَ قُتِلَ بِهِ. (مسألة) قال الشافعي: " وفيه قيمته وإن بلغت ديات (قال المزني) رحمه الله تعالى وفي إجماعهم أن يده لا تقطع بيد العبد قضاء على أن الحر لا يقتل بالعبد فإذا منع أن يقتص من يده وهي أقل لفضل الحرية على العبودية كانت النفس أعظم وهي أن تقتص بنفس العبد أبعد ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ بِجِنَايَةٍ أَوْ مَاتَ فِي يَدِهَا مِنْهُ فَفِيهِ قِيمَةُ مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ ضِعَافًا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ العِرَاقِيِّينَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُضْمَنُ فِي الْيَدِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ، وَيُضْمَنُ فِي الْجِنَايَةِ بِقِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ تبلغ دية حر أو تزيد عليها فتنتقض عن دية الحر عشر دَرَاهِمَ حَتَّى لَا يُسَاوِيَهُ فِي دِيَتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً قَدْ زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ نَقَصَتْ عَنْهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَقِيلَ: خَمْسَةَ دراهم؛ لأن لا تُسَاوِيَ دِيَةَ الْحُرِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يُضْمَنْ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ حُرٍّ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ ضَمَانَ النُّفُوسِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِمُقَدَّرٍ كَالْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ نَقْصَهُ بِالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ بَدَلِهِ كَالنَّاقِصِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا أُوجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ مِمَّا أُوجِبُ فِي الْمَالِكِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والمثل في الشرع مثلان: مثل يفي الصُّورَةَ، وَمِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ الْمِثْلُ فِي الصُّورَةِ اعْتُبِرَ فِي الْقِيمَةِ مَا بَلَغَتْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُضْمَنَ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَنْ تَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ مَضْمُونٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تتقدر قِيمَتُهُ كَالْبَهِيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّ قِيمَتِهِ لَمْ تَتَقَدَّرْ أَكْثَرُهَا كَالْبَهِيمَةِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَغْلَظُ مِنْ ضَمَانِهِ بِالْيَدِ، ثُمَّ كَانَ فِي الْيَدِ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُضَمَّنَ فِي الْجِنَايَةِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الضَّمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِهِ قِيمَةَ الْمَضْمُونِ كَالضَّمَانِ بِالْيَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِنَتْ قيمته باليد ضمنت قيمه بِالْجِنَايَةِ كَالنَّاقِصِ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحُرُّ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 وَالثَّانِي: الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ يُبَاعُ وَيُوهَبُ وَيُورَثُ وَهُوَ فِي الْقِيمَةِ مُلْحَقٌ بِأَحَدِ أَصْلَيْنِ: فَلَمَّا أُلْحِقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِذَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ. وَالثَّانِيَةُ: إِذَا ضُمِّنَ بِالْيَدِ. وَالثَّالِثَةُ: إِذَا ضَمِنَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعِتْقِ. وَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي الْحَالِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ إِذَا أَرَادَتْ قِيمَتُهُ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَقَلِّهَا، وَيُلْحَقَ بِالْحُرِّ فِي أَكْثَرِهَا، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُلْحِقُونَهُ بِالْحُرِّ فِي أَكْثَرِهَا حَتَّى يُنْقِصُوا مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةً، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُرِّ، فَهُمْ لَا يُسَاوُونَهُ بِالْحُرِّ لِمَا يَعْتَبِرُونَهُ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهَذَا جَوَابٌ. وَجَوَابٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُلْحَقْ بِالْحُرِّ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ لَمْ يُلْحَقْ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ إِذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ امْتَنَعَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ إِذَا زَادَتْ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى ضَمَانِ أَطْرَافِهِ فَأَطْرَافُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِهَا أَطْرَافُهُ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ ناقص بالرق فلم يساوي الْحُرَّ فِي دِيَتِهِ، فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَامِلًا فِي الْقِصَاصِ وَنَاقِصًا فِي الدِّيَةِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ نَقْصُهُ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ فِي ضَمَانِهِ بِالْجِنَايَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَخْلُ الضَّمَانُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَهُ أَوْ لِمَا دُونَهَا فَإِنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ اسْتَوَى ضَمَانُهَا بِالْيَدِ إِذَا غُصِبَ وَبِالْجِنَايَةِ إِذَا قُتِلَ، فَتَجِبُ فِيهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ لَكِنْ يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَةِ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَتُعْتَبَرُ فِي الْيَدِ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. فَأَمَّا مَا دُونَ نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جُرْحًا لَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الحُرِّ دِيَةٌ، فَتَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ طَرَفًا يَتَقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الحُرِّ دِيَةٌ كَالْيَدِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا مِنَ الحُرِّ نِصْفُ الدِّيَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 فَلَا يَخْلُو ضَمَانُهَا فِي الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ فَتُضْمَنَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ كَالْحُرِّ فِي ضَمَانِهَا بِنِصْفِ دِيَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تُضْمَنَ بِالْيَدِ فَتُضْمَنَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ كَالْبَهِيمَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُضْمَنَ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ فَيَضْمَنُهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ أَوْ مَا نَقَصَ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَغْلَظُهُمَا لوجود موجبه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدٍ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَلَا جَدٌّ مِنْ قِبَلِ أُمٍّ وَلَا أَبٍ بِوَلَدِ وَلَدٍ وَإِنْ بَعُدَ لأنه والد (قال المزني) رحمه الله: هذا يؤكد ميراث الجد لأن الأخ يقتل بأخيه، ولا يقتل الجد بابن ابنه، ويملك الأخ أخاه في قوله، ولا يملك جده وفي هذا دليل على أن الجد كالأب في حجب الإخوة وليس كالأخ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ وَلَا وَالِدَةٌ وَلَا جَدٌّ وَلَا جَدَّةٌ بِوَلَدٍ وَلَا بِوَلَدِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفُلَ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ ذَبْحًا أَوْ حَذْفًا وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذَبَحَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْقَوَدِ كَالْأَجَانِبِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ جَازَ قَتْلُ الْوَالِدِ بِالْوَلَدِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُقَادُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ أَوْلَدَ جَارِيَةً فَأَصَابَ مِنْهَا ابْنًا، وَكَانَ يَسْتَخْدِمُهَا، فَلَمَّا شَبَّ الْغُلَامُ قَالَ: إِلَى مَتَى تَسْتَأْمِي أُمِّي أَيْ: تَسْتَخْدِمُهَا خِدْمَةَ الْإِمَاءِ فَغَضِبَ فَحَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَصَابَ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا، وَمَاتَ فَانْطَلَقَ فِي رَهْطٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَنْتَ الَّذِي قَتَلْتَ ابْنَكَ لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنَ ابْنِهِ لَقَتَلْتُكَ هَلُمَّ دِيَتَهُ قَالَ فَأَتَاهُ بِعِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ قَالَ فَخَيَّرَ مِنْهَا مِائَةً فَدَفَعَهَا إِلَى وَرَثَتِهِ، وَتَرَكَ أَبَاهُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ لِلْحَذْفِ وَدُخُولِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي ذبحه غيلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 قيل: هذا فاسد من وجهين إنَّهُ لَيْسَ فِي عُرْفِ التَّأْدِيبِ حَذْفُهُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ أَنْ لَا يُقَالَ لِحَذْفِهِ يَسْقُطُ بِهِ الْقَوَدُ عَنْ كُلِّ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ، وَهُمْ يُقَادُونَ بِهِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلتَّأْدِيبِ فَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْأَبِ فِي الْحَذْفِ أَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةٍ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شُبْهَةً فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْوَلَدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لِشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ الْأُبُوَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ أَبِيهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي وَلَدِهِ لِأَنَّهُ بَعْضُ نَفْسِهِ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِالظَّوَاهِرِ مَخْصُوصٌ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْأَجَانِبِ مَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ البَعْضِيَّةِ وَاعْتِبَارُهُ بِقَتْلِ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ فَاسِدٌ لِتَسْوِيَتِهِ فِي الْوَلَدِ بَيْنَ الذَّبْحِ، وَالْحَذْفِ، وَفَرْقِهِ فِي الْأَبِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْحَذْفِ، وَأَنَّهُ يُحَدُّ الْوَلَدُ بِقَذْفِ الْوَالِدِ، وَلَا يُحَدُّ الْوَالِدُ بِقَذْفِ الْوَلَدِ، وَهَذَا انْفِصَالٌ وَدَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِ مِثْلِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ لِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَمْ يخالف أَحَدُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُهُ حَذْفًا إِجْمَاعٌ لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ فَكَانَ الذَّبْحُ بِمَثَابَتِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ عَنِ الْمِيرَاثِ. قِيلَ؛ إِنَّمَا قَالَ: إِنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْجَبَ بِهِ الْإِخْوَةُ، كَمَا تَجْعَلُ الْأُمَّ وَأَبَاهَا كَالْأَبِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَلَا تَجْعَلُهَا كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَمَنْ عَلَا مِنَ الأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ مَنْ وَرِثَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يَرِثْ فَسَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ الْقَاتِلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَيُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي أُبُوَّةِ وَلَدٍ ثُمَّ قَتَلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَقِيطًا قَدِ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا أَوْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 افْتِرَاشِ أَمَةٍ بِشُبْهَةٍ فَإِنْ كَانَ لَقِيطًا وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِمَا. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَافَةِ، وَيُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وُقِفَ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ لِيَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِطَبْعِهِ، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُدَّعِي أُبُوَّتَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يكون مُقِيمَيْنِ عَلَى ادِّعَائِهِ، وَالتَّنَازُعِ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلَاهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا؛ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبَاهُ وَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ لَحِقَ بِالْقَاتِلِ أَوْ بِالْآخَرِ؛ لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِيهِ عِنْدَ قَتْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسَلِّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيَلْحَقُ بِمَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ، وَيَصِيرُ ابْنًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ أُلْحِقَ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَبٌ لَهُ. وَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ أُقِيدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ، وَإِنْ قَتَلَاهُ مَعًا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْأَبِ، وَيُقَادُ مِنَ الآخَرِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْجِعَا جَمِيعًا عَنِ ادِّعَائِهِ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُمَا، وَإِنْ قبل رجوع أحدهما؛ لأنه قد صاراً بِدَعْوَاهُمَا مُسْتَحِقًّا لِأُبُوَّةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا صار مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِثْبَاتِ أُبُوَّتِهِ فَقُبِلَ مِنْهُمَا، وَإِذَا رجع عَنْهَا صَارَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ أُبُوَّتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَتَلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأُبُوَّةِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَنَازَعَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ، أَوْ تَنَاكَرَاهُ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بِخِلَافِهِمَا فِي دَعْوَى اللَّقِيطِ؛ لَأَنَّ حُكْمَ الْأُبُوَّةِ فِي اللَّقِيطِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَى؛ فَجَازَ تَسْلِيمُهُ لِأَحَدِهِمَا. وَفِي وَلَدِ الْمَوْطُوءَةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأُبُوَّةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْفِرَاشِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالْإِنْكَارُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِبَيَانِ نَسَبِهِ فِي لحوقه بأحدهما حالتان: أحدهما: بِالْوِلَادَةِ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْءِ أَحَدِهِمَا، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْءِ الْآخَرِ؛ فَيَكُونُ لَاحِقًا بِمَنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَطْئِهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِ الْوِلَادَةِ فَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نَسَبِهِ؛ فَإِنْ قَتَلَهُ مَنْ لَحِقَ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أُقِيدَ به، وإن اشتركا في قتله بِهِ غَيْرُ أَبِيهِ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ عَنْ أَبِيهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُبَيَّنَ نَسَبُهُ بِالْوِلَادَةِ؛ لِوِلَادَتِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِمَا مَعًا؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 فَيُوقَفُ نَسَبُهُ عَلَى الْبَيَانِ، بِالْقَافَةِ أَوِ الِانْتِسَابِ، فَإِنْ قُتِلَ بَعْدَ الْبَيَانِ أُقِيدَ بِهِ غَيْرُ أَبِيهِ، وَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ بَانَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ أَبٌ أَوْ غَيْرُ أَبٍ؛ لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ حَالَ الْقَتْلِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَتَرَكَتْ وَلَدًا فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ القَاتِلِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ القَاتِلِ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ وَارِثَهَا ابْنُ قَاتِلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ قَوَدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ بِإِرْثِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ قَذَفَهَا قَبْلَ الْقَتْلِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا وَرِثَهَا ابْنُهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِ نَفْسِهِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِرْثِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمَقْتُولَةِ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ ثَبَتَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ وَحَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ بَيْنَهُمَا؛ وَلَا بَعْضِيَّةَ. وَلَوْ تَرَكَتِ الْمَقْتُولَةُ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنَ القَاتِلِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَرِثَهَا الْوَلَدَانِ مَعًا، وَسَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ الْقَوَدُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ فِي حَقِّ ابْنِهِ قَدْ سَقَطَ فَسَقَطَ فِي حَقِّ الْآخَرِ مِنْهُمَا، كما لو عفى أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنِ الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ. وَحَدُّ الْقَذْفِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ عَفْوَ أَحَدِ الْوَارِثِينَ عَنْهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّ الْآخَرِ منه، ويجوز لأحدهما أن يستوفه فَافْتَرَقَا فِيهِ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَرُوعٌ قَدَّمْنَاهَا في كتاب الفرائض. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ وَالْكَافِرُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ". قال الماوردي: وإذا مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِيقَادِ مِنَ الأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَادَ مِنَ الأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَلَدُ بالولد، وإن لم يجر أَنْ يُقْتَلَ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ اقْتِصَارٌ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ، وَأَخْذَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ اسْتِفْضَالٌ عَلَى الْحَقِّ فَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ، وَمَنَعَ مِنَ الاسْتِفْضَالِ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ بَذَلَ الْأَكْمَلُ نَفْسَهُ بِالْأَنْقَصِ فَبَذَلَ الْحُرُّ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ، وَبَذَلَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ، وَبَذَلَ الْوَالِدُ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الْوَلَدِ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَادَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ إِذْ لَمْ يَجِبْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْبَذْلِ؛ كَمَا لَوْ بَذَلَ نَفْسَهُ أَنْ يُقْتَلَ بِغَيْرِ قَوَدٍ لِقَوْلِ اللَّهِ: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 (مسألة) قال الشافعي: وَمَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ كُلُّ شَخْصَيْنِ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الدِّيَةِ كَالْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوِ اخْتَلَفَا فِي الدِّيَةِ، كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبِيدِ إِذَا تَفَاضَلَتْ فِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ فِي الْأَطْرَافِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ مَعَ الْحُرِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَاتُهُمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ بِقَتْلِهِ بِهَا، وَلَا يُقْطَعُ يَدُهُ بِيَدِهَا، وَالْعَبِيدُ إِذَا تَفَاضَلَتْ قِيَمُهُمْ، وَقَلَّ أَنْ تَكُونَ مُتَّفِقَةً، فَيُوجِبُ الْقَوَدَ بَيْنَهُمْ فِي النُّفُوسِ، وَيُسْقِطُهُ فِي الْأَطْرَافِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْيَدُ السَّلِيمَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَتُؤْخَذُ النَّفْسُ السَّلِيمَةُ بِالنَّفْسِ السَّقِيمَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَفَاضُلُ الدِّيَاتِ مِنَ القَوَدِ فِي النُّفُوسِ، وَمَنَعَ مِنَ القَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَ الرَّجُلِ أَعَمُّ نَفْعًا مِنْ أَطْرَافِ الْمَرْأَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَعْمَالِ وَالِاكْتِسَابِ، فَلَمْ تُكَافِئْهَا أَطْرَافُ الْمَرْأَةِ فَسَقَطَ الْقَوَدُ فِيهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إِلَى قَوْلِهِ: {والجروح قصاص} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ جَرَى فِي الْأَطْرَافِ كَالرَّجُلَيْنِ. وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ جَرَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ جَازَ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَالنُّفُوسِ، وَكُلَّ قِصَاصٍ جَرَى بَيْنَ الْحُرَّيْنِ جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَالنُّفُوسِ، وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاعْتِبَارِ التَّكَافُؤِ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النَّفْسِ بِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَفِي الشَّلَلِ حُكْمٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ اخْتِصَاصِ أَطْرَافِ الرَّجُلِ بِالْمَنَافِعِ فَيَفْسُدُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ يَدِ الْكَاتِبِ وَالصَّانِعِ وَالْمُحَارِبِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ بِكَاتِبٍ وَلَا صَانِعٍ وَلَا مُحَارِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ مَنَافِعَ لَيْسَتْ فِي يَدِ الرَّجُلِ فَتَقَابَلَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ تُمَاثِلُ فِي الْمَنَافِعِ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا قَوَدٌ، فَبَطَلَ هَذَا الاعتبار وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي: " ويقتل بِالْوَاحِدِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل خمسة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا إِذَا كَانُوا لَهُ أَكْفَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مِنَ الجَمَاعَةِ وَاحِدًا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى خِيَارِهِ، وَيَأْخُذَ مِنَ البَاقِينَ قِسْطَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي التَّابِعِينَ: قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا قود على واحد من الجماعة بحال، وتؤخذ مِنْهُمُ الدِّيَةُ بِالسَّوِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ: رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنْ لَا تُقْتَلَ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ، وَلَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ حُرٍّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وَمِنَ السَّرَفِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ " وَهَذَا نَصٌّ ولأن الواحد لا يكافئ الجماعة لا يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ إِذَا قَتَلَهُمْ، وَيُقْتَلُ بِأَحَدِهِمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ؛ كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يُقْتَلُوا بِهِ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ إِذَا مَنَعَتْ مِنَ القَوَدِ حَتَّى لَمْ يُقْتَلْ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، كَانَ زِيَادَةُ الْعَدَدِ أَوْلَى أَنْ تَمْنَعَ مِنَ القَوَدِ، فَلَا يُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ، وَلِأَنَّ لِلنَّفْسِ بَدَلَيْنِ قَوَدٌ وَدِيَةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ دِيَتَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا قَوَدَانِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَسَبَبُ الْحَيَاةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْقَاتِلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ كَفَّ عَنِ القتل، فحي القاتل والمقتول، فلو لم تقتص مِنَ الجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، لَمَا كَانَ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَلَكَانَ الْقَاتِلُ إِذَا هَمَّ بِالْقَتْلِ شَارَكَ غَيْرَهُ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا وَصَارَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّصِّ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ، فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 وَهَذَا الْخَبَرُ وَارِدٌ فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ لِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ قَالَ: " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ " ثُمَّ قَالَ: " فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلًا " ومَنْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الْوَاحِدِ ثُمَّ قَالَ: " فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أحبوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " فَدَلَّ عَلَى قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَارِجًا مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا بِهِ. وَالْقَتْلُ عَلَى أَنْوَاعٍ غِيلَةٌ، وَفَتْكٌ، وَغَدْرٌ، وَصَبْرٌ. فَالْغِيلَةُ: الْحِيلَةُ وَهُوَ أَنْ يَحْتَالُوا لَهُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاسْتِخْفَاءِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ. وَالْفَتْكُ: أَنْ يَكُونَ آمِنًا فَيُرَاقَبَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَالْغَدْرُ: أَنْ يُقْتَلَ بَعْدَ أَمَانَةٍ. وَالصَّبْرُ: قَتْلُ الْأَسِيرِ مُحَاصَرَةً. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً قَتَلُوا واحد وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ النَّهْرَوَانِ حِينَ قَتَلُوا عَامِلَهُ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا إِذَنْ أَقُدُّ مِنْكُمْ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ. وَقَتَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ سَبْعَةً بِوَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ وَلَوْ كَانُوا مِائَةً. وَهَذَا قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ إِمَامَانِ عَمِلَا بِمَا قَالَا بِهِ فَلَمْ يُقَابِلْهُمْ قول معاذ ابن الزُّبَيْرِ وَصَارَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ خَارِجَيْنِ مِنْ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ بِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ خَالَفَ فِيهِ الْفَرِيقَيْنِ فَصَارَا مُخَالِفَيْنِ لِلْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا بَعْدَ قَوْلَيْنِ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ، وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ هَتْكِ العرض بالقذف فلما حد الجماعة بقتل الْوَاحِدِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا بِقَتْلِ الْوَاحِدِ. وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الجَمَاعَةِ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَالْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ لَمْ يَسْقُطْ فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ كَالدِّيَةِ. فَأَمَّا قوله تعالى: {النفس بالنفس} وقوله: {الحر بالحر} [المائدة: 45] فَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْجِنْسِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْطَلِقُ عَلَى النُّفُوسِ، وَالْحُرَّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَحْرَارِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 وَقَوْلُهُ: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] يُرِيدُ أَنْ لَا يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: {قد جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُلْطَانُهُ فِي الْجَمَاعَةِ كَسُلْطَانِهِ فِي الْوَاحِدِ فَصَارَتِ الْآيَةُ دَلِيلَنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ الضَّحَّاكِ فَمُرْسَلٌ مَنْكُورٌ وإن صح كان محمولاً على المسك والقاتل، فيقتل به دون المسك. وَقَوْلُهُمْ إِنَّ دَمَ الْوَاحِدِ لَا يُكَافِئُ دَمَ الْجَمَاعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَاحِدِ كَحُرْمَةِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوَدُ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَلَيْسَ يُوجِبُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، أَنْ تُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَوَدِ حَقْنُ الدِّمَاءِ، وَأَنْ لَا تُهْدَرَ فَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ لِئَلَّا تُهْدَرَ دِمَاؤُهُمْ. وَقَوْلُهُمْ: لَمَّا مَنَعَ زيادة الوصف ممن القَوَدِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ مَنَعَتْ مِنْ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَاحِدِ فَلَمْ تَمْنَعْ فِي الْجَمَاعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ زِيَادَةَ الْوَصْفِ فِي الْقَاذِفِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةَ الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُمْ: لَمَّا لَمْ تُسْتَحَقَّ بِقَتْلِهِ دِيَتَانِ لَمْ تُسْتَحَقَّ بِهِ قَوَدَانِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ فَعَمَّ حُكْمُهُ كَسَرِقَةِ الْجَمَاعَةِ لَمَّا أَوْجَبَتْ غُرْمًا يَتَبَعَّضُ، وَقَطْعًا لَا يَتَبَعَّضُ اشْتَرَكُوا فِي غُرْمٍ وَاحِدٍ وَقَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَلَزِمَ فِي الْجَمَاعَةِ كَلُزُومِهِ فِي الْوَاحِدِ، وَالدِّيَةُ بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهَا إِلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ: كَانَ الْوَلِيُّ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إما أن يقتص من جميعهم أو يعفوا عن جميعهم، إلى الدِّيَةِ فَتَسْقُطُ الدِّيَةُ الْوَاحِدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهِمْ، ويأخذ ممن عفى عنه من الدية بقسطه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ: " رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مِائَةَ جُرْحٍ وَالْآخَرُ جُرْحًا وَاحِدًا فَمَاتَ كَانُوا فِي الْقَوَدِ سَوَاءً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوجَبًا مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقُرَ الْآخَرُ بَطْنَهُ وَيَقْطَعَ حَشْوَتَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَا ذَلِكَ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونَا جَمِيعًا قَاتِلَيْنِ، وَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَيْهِمَا، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَوْجَئَهُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْآخَرُ مَعَ بَقَاءِ النَّفَسِ وَوُجُودِ الْحَرَكَةِ فَيَوْجَئَهُ حَتَّى يَطْفَأ وَيَبْرُدَ، فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا هُوَ الْقَاتِلُ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَجَمِيعُ الدِّيَةِ، دُونَ الثَّانِي: لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجْرِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ النَّفَسِ وَالْحَرَكَةِ حُكْمُ الْحَيَاةِ، وَلَوْ مَاتَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَيِّتٌ لَمْ يَرِثْهُ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَلَوِ انْقَلَبَ عَلَى طِفْلٍ فَقَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي أَدَبًا وَزَجْرًا. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِحًا أَوْ قَاطِعًا غَيْرَ مُوجٍ فَيَكُونُ جَمِيعُهُمْ قَتَلَهُ سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ تفرقوا، وسواء اتفقوا في عدد الجرح أَوِ اخْتَلَفُوا حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمْ جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَجَرَحَهُ الْآخَرُ مِائَةَ جِرَاحَةٍ، كَانُوا فِي قَتْلِهِ سَوَاءً وَعَلَيْهِمُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لَا عَلَى عَدَدِ الْجِرَاحِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الجُرْحِ الْوَاحِدِ، وَيَحْيَا مِنْ مِائَةِ جُرْحٍ، إِمَّا لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْقَاتِلَةِ، وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ مَوْرِ الْحَدِيدِ فِي دُخُولِهِ فِي جَسَدِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُشَاهَدٍ. فَلِهَذَيْنِ لَمْ تُقَسَّطِ الدِّيَةُ عَلَى عدد الجراح، وتقسطت على عدد الجناة الْجِنَايَةُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ الْجَلَّادُ لَوْ حَدَّ الْقَاذِفَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَوْطًا فَمَاتَ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ جُزْءٌ مِنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ جُزْءًا فَهَلَّا كَانَ الْجُنَاةُ فِي أَعْدَادِ الْجِرَاحِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: فِي الْجَلَّادِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِفَوَاتِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ، مُبَاحٌ، وَمَحْظُورٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْجَلْدِ، وَتَسَاوِي حُكْمِ الْجُنَاةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَتَقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْجَلْدِ وَلَا تَتَقَسَّطُ عَلَى أَعْدَادِ الْجِرَاحِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَحَلَّ الْجَلْدِ مُشَاهَدٌ يُعْلَمُ بِهِ التَّسَاوِي فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِ وَمَوْرُ الْجِرَاحِ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَا يُعْلَمُ بِهِ التَّسَاوِي فَلَمْ تَتَقَسَّطِ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى عَدَدِهِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جَارِحًا، وَالْآخَرُ مُوجٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجَارِحُ عَلَى الْمُوجِي فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ جَارِحًا فَيُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الجراح، إن كان مثله قصاص أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَتُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ، وَيَكُونُ الثَّانِي قَاتِلًا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي النَّفْسِ، أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوِ اجْتَمَعَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حكم الجرح لأن التوجيه لَمْ تَتَقَدَّمْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُوجِئُ على الجارح فيسقط حكم الجرح بعد التوجبة وَيُؤْخَذُ الْمُوجِئُ بِالْقَوَدِ أَوْ جَمِيعِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً، وَجَرَحَهُ الْآخَرُ جَائِفَةً، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا كَانَا قَاتِلَيْنِ، وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الجَائِفَةِ، وَيَمُوتَ مِنَ المُوضِحَةِ وَالْوَلِيُّ فِي صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَبْدَأَ بِقَتْلِهِ أَوْ يُوضِحَهُ ثُمَّ يَقْتُلَهُ وَفِي صَاحِبِ الْجَائِفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ بَيْنَ قَتْلِهِ ابْتِدَاءً، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الجَائِفَةِ ثُمَّ يَقْتُلَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِجَافَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَيُعْتَدُّ لَهُ بِالْقَتْلِ فَلَوِ انْدَمَلَتِ الْمُوضِحَةُ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجَائِفَةِ، صَارَ الَّذِي أَوْضَحَهُ جَارِحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْمُوضِحَةِ أَوْ تُؤْخَذَ دِيَتُهَا، وَصَارَ الَّذِي أَجَافَهُ قَاتِلًا عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَهَلْ لَهُ إِجَافَتُهُ قَبْلَ قَتْلِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَلَوِ انْدَمَلَتِ الْجَائِفَةُ، وَمَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ كَانَ فِي انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ فِي الْجَائِفَةِ دِيَتُهَا دُونَ القود، وصار الموضع قَاتِلًا وَالْوَلِيُّ مَعَهُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبْدَأَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَقْتَصَّ مِنَ المُوضِحَةِ ثُمَّ يَقْتُلُهُ. فَلَوِ ادَّعَى صَاحِبُ الْجَائِفَةِ أَنَّ جِرَاحَتَهُ انْدَمَلَتْ وَمَاتَ مِنَ المُوضِحَةِ فَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُ الْمُوضِحَةِ، نَظَرَ فِي حَالِ الْوَلِيِّ فَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ قَبْلَ قَوْلِ الْوَلِيِّ فِي تَصْدِيقِهِ لِصَاحِبِ الْجَائِفَةِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مَنْ صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ وَحْدَهُ، وَيَأْخُذَ مَنْ صَاحِبِ الْجَائِفَةِ أَرْشَ جَائِفَتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ لَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْجَائِفَةُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ قَدْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ، وَأَرَادَ الدِّيَةَ لَمْ يَقْبَلْ تَصْدِيقَهُ لِصَاحِبِ الْجَائِفَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا فِي أَخْذِ أَرْشِ الْجَائِفَةِ بَعْدَ انْدِمَالِهَا مَعَ دِيَةِ النَّفْسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُدْخِلُ عَلَى صَاحِبِ الْمُوضِحَةِ ضَرَرًا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُلْتَزِمًا مَا لَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْجَائِفَةُ نِصْفَ الدِّيَةِ فَأَلْزَمَهُ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَفَ صَاحِبُ الْمُوضِحَةِ بِاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ الْمَجْرُوحُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجَائِفَةِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْجَائِفَةِ وَقَضي لَهُ بجميع الدية. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُجْرَحُونَ بِالْجُرْحِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ جُرْحُهُمْ إِيَّاهُ مَعًا لَا يَتَجَزَّأُ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي جُرْحٍ أَوْ قَطْعِ طَرَفٍ اقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْأَطْرَافِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي النَّفْسِ اسْتِدْلَالًا بِمَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ السَّلِيمَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ، وَتُقْتَلُ النَّفْسُ السَّلِيمَةُ بِالنَّفْسِ السَّقِيمَةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَادَا، وَمَعَهُمَا آخَرُ فَقَالَا أَخْطَأْنَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ السَّارِقُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا، وَلَمْ يَقْطَعِ الثَّانِي وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الْيَدَيْنِ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا الْوَاحِدُ أُقِيدَ، وَجَبَ إِذَا اشْتَرَكَ فِيهَا الْجَمَاعَةُ أَنْ يُقَادُوا، كَالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ، وَلِأَنَّهُ قَوَدٌ يُسْتَحَقُّ فِي النَّفْسِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الطَّرَفِ كَالْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الطَّرَفِ فَلَمَّا أُقِيدَتِ النُّفُوسُ بِنَفْسٍ، فَأَوْلَى أَنْ تُقَادَ الْأَطْرَافُ بِطَرَفٍ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ، دُونَ النُّفُوسِ بِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا فِي اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِيهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ الْأَطْرَافِ بِطَرَفٍ فَاعْتِبَارُ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى أَخْذِ السَّيْفِ بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُوا جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عَلَى قطع اليد فحينئذ يصيروا شُرَكَاءَ فِي قَطْعِهَا، فَتُقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ بِهَا. فَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَطْعِ مَوْضِعٍ مِنْهَا حَتَّى بَانَتْ، إِمَّا فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا أَوْ فِي مَوَاضِعَ، أَوْ يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا مِنْ بَاطِنِ الْيَدِ وَالْآخَرُ مِنْ ظَاهِرِهَا حَتَّى يَلْتَقِيَ الْقَطْعَانِ فَتَبِينُ الْيَدُ وَتَسْقُطُ فَلَيْسَ هَذَا اشْتِرَاكًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوَدٌ، وَأُخِذَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ. فَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمْ فِي جُرْحِ مُوضِحَةٍ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى سَيْفٍ وَاحِدٍ، أَوْضَحُوهُ بِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ عَفي عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ دِيَةُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ أَوْضَحَ مِنْهَا مَوْضِعًا حَتَّى اتَّسَعَ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ مَا أَوْضَحَ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ فِي صَغِيرِ الْمُوضِحَةِ كَمَا يَجِبُ فِي كَبِيرِهَا فَإِنْ عَفي عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِيَةُ مُوضِحَةٍ لِأَنَّ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ إِذَا صغرت كديتها إذا كبرت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْتَصُّ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ وَهُوَ مَنِ احْتَلَمَ مِنَ الذُّكُورِ أَوْ حَاضَ مِنَ النِّسَاءِ أو بَلَغَ أَيُّهُمَا كَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وُجُوبُ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرَيْنِ فِي التَّكْلِيفِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحتلم، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَطَعَ أُنْمُلَةَ صَبِيٍّ. قِيلَ: لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا لِأَكَلَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا لِتَسْلَمَ مِنْ سَرَايَتِهَا، وَلَمْ يَقْطَعْهَا قَوَدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غُلَامًا صَغِيرًا فِي الْمَنْظَرِ وَإِنْ بَلَغَ، وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّكْلِيفِ يَمْنَعُ مِنَ الوَعِيدِ وَالزَّجْرِ؛ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَوَدٌ كَمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْأَبْدَانِ تَسْقُطُ بِالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ كَالْعِبَادَاتِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا إِذَا جَنَيَا لَمْ يُؤْخَذَا بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، وَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إِذَا قَتَلَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ فَلَوِ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ قَتَلَ وَكَانَ بَالِغًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ حَتَّى يُعْلَمَ الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ سُقُوطُ الْقَوَدِ حَتَّى يُعْلَمَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَلَوِ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ قَتَلَ وَكَانَ عَاقِلًا؛ فَإِنْ عُلِمَ بِجُنُونِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِلْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ جُنُونُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ؛ فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا فِي الْعَمْدِ لَزِمَتْهُمَا الدِّيَةُ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ، وَفِي الدِّيَةِ اللَّازِمَةِ لَهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمَا. وَالثَّانِي: عَلَى عَوَاقِلِهِمَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِمَا هَلْ يَكُونُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 (بَابُ صِفَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ الَّتِي فيها قصاص وغير ذلك) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عَمَدَ رَجُلٌ بِسَيْفٍ أَوْ خِنْجَرٍ أَوْ سِنَانِ رُمْحٍ أَوْ مَا يُشَقُّ بِحَدِّهِ إِذَا ضُرِبَ أَوْ رُمِيَ بِهِ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ دُونَ الْمَقْتَلِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَمَاتَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُثَقَّلُ وَيَأْتِي. وَالثَّانِي: الْمُحَدَّدُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا شَقَّ بِحَدِّهِ. وَالثَّانِي: مَا نَفَذَ بِدَفْنِهِ. فَأَمَّا مَا شَقَّ بِحَدِّهِ فَقَطَعَ الْجِلْدَ وَمَارَ فِي اللَّحْمِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ وَالْحَرْبَةِ، وَهَذَا يَجْمَعُ نُفُوذًا وَقَطْعًا فَالْقَوَدُ فِيهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِيدِ مِنْ مُحَدَّدِ الْخَشَبِ وَالزُّجَاجِ وَالْقَصَبِ. وَأَمَّا مَا نَفَذَ بِدَفْنِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَبُرَ وَبَعُدَ غَوْرُ نُفُوذِهِ كَالسَّهْمِ وَالْمِسَلَّةِ، إِذَا وَصَلَا إِلَى الْجَسَدِ فَنَفَذَ فِيهِ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ بَعْدَ نُفُوذِهَا، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْهَا دَمٌ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا صَغُرَ مِنْهُ كَالْإِبْرَةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَقْتَلٍ كَالنَّحْرِ وَالصَّدْرِ وَالْخَاصِرَةِ وَالْعَيْنِ فَفِيهِمَا الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ كَالْأَلْيَةِ وَالْفَخْذِ نُظِرَ حَالُهَا، فَإِنِ اشْتَدَّ أَلَمُهَا وَلَمْ يَزَلِ الْمَجْرُوحُ بِهَا زَمَنًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ فَفِيهَا الْقَوَدُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْلِمْ نُظِرَ فِي الْمَوْتِ فَإِنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ بَعْدَ الْجُرْحِ بِهَا، فَلَا قَوَدَ فِيهَا، وَلَا دِيَةَ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ مَاتَ مَعَهَا فِي الْحَالِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْقَوَدَ فِيهَا وَاجِبٌ لِأَنَّ لَهَا سَرَايَةً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 وَمَوْرًا، وَلِأَنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلُ خَافِيَةٌ فِي عُرُوقٍ ضَارِبَةٍ، قَالَ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ جُرْحًا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: إنَّهُ لَا قَوَدَ فِيهَا لِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ فِي الْمُثَقَّلِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَجَبَ الْفَرْقُ فِي الْمُحَدَّدِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ سُقُوطِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ احْتِمَالَيْ قَتْلٍ وَسَلَامَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْفُذُ مِنَ المُحَدَّدِ كَأَقَلِّ مَا يُضْرَبُ بِهِ مِنَ الثِّقَلِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ فِي أَقَلِّ الْمُثَقَّلِ لَمْ تَجِبْ في أقل المحدد. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ شَدَخَهُ بِحَجَرٍ أَوْ تَابَعَ عَلَيْهِ الْخَنْقَ أَوْ وَالَى عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ طَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْتًا بِغَيْرِ طَعَامٍ، وَلَا شَرَابٍ، مُدَّةً الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ وَمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الخَنْقِ وَالْحَرْقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَمَا أَشْبَهَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ فِي الْمُثَقَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ، وَلَا قَوَدَ فِي غَيْرِ الْمُثَقَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّارِ، اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عن ابن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ ". وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ ". وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ أَبِي عَازِبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إِلَّا السَّيْفَ وَفِي كُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ عُبَيْدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَهِيَ حُبْلَى فَقَتَلَتْهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِدِيَتِهَا عَلَى عَصَبَتِهَاٍ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْمُثَقَّلِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي الْمُحَدَّدِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي الْمُثَقَّلِ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَهَذَا قُتِلَ مَظْلُومًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّهِ الْقَوَدُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَارِيَةً كَانَ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ فَرَضَخَ رَأْسَهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ لَهَا: مَنْ قَتَلَكِ؟ وَذَكَرَ لَهَا جَمَاعَةً وَهِيَ تُشِيرُ بِرَأْسِهَا إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْيَهُودِيَّ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُتِلَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ لِنَقْضِ عَهْدِهِ لَا لِقَتْلِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُكْمٌ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ الحَجَرِ دَلَّ عَلَى أنه مماثلة قود لا لنقض عَهْدِهِ. وَحَكَى السَّاجِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِالْمُثَقَّلِ: قَالَ لَوْ رَمَاهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بِحَجَرٍ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُتِلَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقَالَ: هَذَا بِهَذَا. وَبِمِثْلِ هذا القول لا تدفع أخبار الرسول . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَابِغَةَ الْكِلَابِيِّ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي يَعْنِي زَوْجَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، وَالْمِسْطَحُ عَمُودُ الْخَيْمَةِ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي جَوْفِهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَأَنْ يُقْتَلَ مَكَانَهَا. وَلَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ، لِأَنَّهُ أجنبي من المرأتين، وحمل ابن مَالِكٍ زَوْجُ الضَّرَّتَيْنِ، فَكَانَ بِحَالِهِمَا أَعْرَفَ. وَمِنَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُثَقَّلَ: أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ فِي الْغَالِبِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ الْقَوَدُ كَالْمُحَدَّدِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَوَدُ فِي مُحَدَّدِهِ وَجَبَ فِي مُثَقَّلِهِ كَالْحَدِيدِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِحِرَاسَةِ النُّفُوسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَلَوْ سَقَطَ بِالْمُثَقَّلِ لَمَا انْحَرَسَتِ النُّفُوسُ، وَلَسَارَعَ كُلُّ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ إِلَى الْمُثَقَّلِ ثِقَةً بِسُقُوطِ الْقَوَدِ وَمَا أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ مَعْنَى النَّصِّ كَانَ مُطَّرَحًا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ " فَظَاهِرُهُ حَالَ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ: " كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٍ إِلَّا السَّيْفَ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ " كُلُّ شَيْءٍ مِنْ خَطَأٍ إِلَّا السَّيْفَ " وَهَذَا أَوْلَى لِزِيَادَتِهِ، وَلَوْ لَمْ تُنْقَلِ الزِّيَادَةُ لَكَانَ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ بِأَدِلَّتِنَا، وَقَوْلُهُ " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ " فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الدِّيَةَ، وَلَمْ يَجْعَلِ السَّوْطَ وَالْعَصَا عَمْدًا خَطَأً. وَالثَّانِي: مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا عَمْدًا خَطَأً، وَلَيْسَ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَنَوَّعُ، وَالسَّيْفُ لَا يَتَنَوَّعُ، وَقَدْ دَفَعْنَا حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بِرِوَايَةِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ،. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ صَغِيرِ الْمُثَقَّلِ وَكَبِيرِهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ صَغِيرِ الْمُحَدَّدِ وَكَبِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ صَغِيرُ الْمُحَدَّدِ وَكَبِيرُهُ يَقْتُلُ غَالِبًا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَصَغِيرُ الْمُثَقَّلِ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا وَيَقْتُلُ كَبِيرُهُ فِي الْغَالِبِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ قَوَدًا فَالْمُثَقَّلُ يَنْقَسِمُ ثمانية أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: قَتْلُ مِثْلِهِ فِي الْأَغْلَبِ كَالصَّخْرَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْخَشَبَةِ الْكَبِيرَةِ، وَيَقْتُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَسَدِ وَعَلَى مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ كَالْحَصَاةِ مِثْلُ النَّوَاةِ وَالْخَشَبَةِ مِثْلُ الْقَلَمِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 لَا يَقْتُلُ فِي أَيِّ مَوْقِعٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَسَدِ، وَلَا عَلَى مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهُ، ويجوز أن يقتل وَهُوَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا قَوَدَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ مُغْلَّظَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ بِالسَّوْطِ والعصا مائة من الإبل مغلظة مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَقْتُلُ إِذَا رُدِّدَ، وَلَا يَقْتُلُ إِذَا أُفْرِدَ كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا فَإِنْ رَدَّدَهُ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ لَمْ يُرَدِّدْهُ وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا يَقْتُلُ الصَّغِيرَ وَالْمَرِيضَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْكَبِيرَ وَالصَّحِيحَ، فَيُرَاعَى الْمَقْتُولُ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا صَحِيحًا فَفِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا يَقْتُلُ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَاتِلَةِ وَلَا يَقْتُلُ إِذَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا فَيُرَاعَى مَوْضِعُ وُقُوعِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ، وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مَا يَقْتُلُ بِقُوَّةِ الضَّارِبِ وَلَا يَقْتُلُ مَعَ ضَعْفِهِ، فَيُرَاعَى حَالُ الضَّارِبِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: مَا يَقْتُلُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا يَقْتُلُ مَعَ سُكُونِهِمَا، فَيُرَاعَى وَقْتُ الضَّرْبِ، فَإِنْ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ سُكُونِهِمَا وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. وَجُمْلَتُهُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الضَّرْبُ لِيُفْصَلَ لَكَ بِهَا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. (فَصْلٌ ثَانٍ) وَأَمَّا الْخَنْقُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِآلَةٍ وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ حَلْقَهُ بِحَبْلٍ حَتَّى يَخْتَنِقَ فَيَمْنَعَ النَّفَسَ فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَوْجَى مِنَ السَّيْفِ، وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ بِحَبْلٍ أَوْ أَرْسَلَهُ فَإِنْ عَفَي عَنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ أَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ كَالْمُحَارِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ انْحَتَمَ قَتْلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخَنْقُ لَانْحَتَمَ قَتْلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ، وَإِنَّ تَكَرَّرَ، وَكَذَلِكَ الْخَنْقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَارَ فِي انْحِتَامِ قَتْلِهِ كَالْمُحَارِبِ لَمَا اعْتُبِرَ تَكْرَارٌ مِنْهُ كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُحَارِبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْنُقَهُ بِغَيْرِ آلَةٍ مِثْلَ أَنْ يُمْسِكَ حَلْقَهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَمْنَعَ نَفَسَهُ وَلَا يَرْفَعُهَا عَنْهُ حَتَّى يَمُوتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ الْمَخْنُوقُ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ لِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْخَانِقِ فَهَذَا هُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ، وَلَا قَوَدَ لَهُ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مِمَّنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ فَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ قَاتِلِهِ الْقَوَدُ فَهَلَّا كَانَ حَالُ هَذَا الْمَخْنُوقِ كَذَلِكَ. قُلْنَا: لِأَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْمَخْنُوقِ مَوْجُودٌ، فَكَانَ تَرْكُهُ إِبْرَاءً وَسَبَبُهُ فِي الطَّالِبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِمْسَاكِ قَبْلَ حُدُوثِ السَّبَبِ إِبْرَاءٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ لِفَضْلِ الْخَانِقِ عَلَى قُوَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فَلَوْ رَفَعَ الْخَانِقُ يَدَهُ، أَوْ حَلَّ خِنَاقَهُ، وَفِي الْمَخْنُوقِ حَيَاةٌ ثُمَّ مَاتَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَفَسُهُ ضَعِيفًا كَالْأَنِينِ وَالشَّهِيقِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَيَكُونُ بَقَاءُ هَذَا النَّفَسِ كَبَقَاءِ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَفَسُهُ قَوِيًّا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْرُبَ مَوْتُهُ مِنْ حَلِّ خِنَاقِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِدُنُوِّهِ مِنْ سَبَبِ الْقَتْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ حَلِّ خِنَاقِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَمِينًا مَرِيضًا مِنْ وَقْتِ خِنَاقِهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ مَرَضِهِ دَلِيلٌ عَلَى سِرَايَةِ خِنَاقِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ خِنَاقِهِ عَلَى مَعْهُودِ صِحَّتِهِ ثُمَّ يَمُوتُ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَانْدَمَلَ جُرْحُهُ، ثُمَّ مَاتَ. وَهَكَذَا لَوْ وَضَعَ عَلَى نَفَسِهِ ثَوْبًا أَوْ وِسَادَةً، وَجَلَسَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ فَإِنْ أَرْسَلَهُ وَنَفَسُهُ بَاقٍ فَهُوَ كَالْمَخْنُوقِ بَعْدَ حَلِّ خِنَاقِهِ. فَإِنْ لَطَمَهُ فَمَاتَ من لطمته هذا على ثلاثة أقسام: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 أحدها: ايكون مِثْلُهَا قَاتِلًا فِي الْغَالِبِ لِقُوَّةِ اللَّاطِمِ وَضَعْفِ الْمَلْطُومِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ لِضَعْفِ اللَّاطِمِ، وَقُوَّةِ الْمَلْطُومِ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا، وَلَا يَقْتُلَ لِقُوَّةِ اللَّاطِمِ وَقُوَّةِ الْمَلْطُومِ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وفي الدِّيَةُ. فَصْلٌ ثَالِثٌ: وَأَمَّا إِذَا طَيَّنَ عَلَيْهِ بَيْتًا حَبَسَهُ فِيهِ حَتَّى مَاتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهُمَا، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْبُوسُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، مَا لَمْ يَكُنْ طِفْلًا لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضْمَنُ الصَّغِيرُ وَإِنْ كَانَ يَهْتَدِي إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِذَا اقْتَرَنَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ كَنَهْشَةِ حَيَّةٍ، وَلَدْغَةِ عَقْرَبٍ لَمْ يَضْمَنْهُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ وَلَوْ ضُمِنَ بِهَا كَالْمَمْلُوكِ لَلَزِمَ ضَمَانُهُ فِي مَوْتِهِ بِسَبَبٍ وَغَيْرِ سَبَبٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهُ فِي حَبْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَطُولَ مُدَّةُ حَبْسِهِ حَتَّى لَا يَعِيشَ فِي مِثْلِهَا حَيٌّ بِغَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَإِنْ حَدَّهُ الطِّبُّ بِاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاعَةً مُتَّصِلَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ وَذَهَبَ فِي السَّمْنِ إِلَى أَنَّهُ يَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ وَيُلَيِّنُهَا، وَفِي اللَّبَنِ إِلَى أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ، وَفِي الصَّبِرِ إِلَى أَنَّهُ يَشُدُّ الْأَعْضَاءَ، فَإِذَا مَاتَ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَقْصُرَ مُدَّةُ حَبْسِهِ عَنْ مَوْتِ مِثْلِهِ بِغَيْرِ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ إِمْسَاكَهُ فِي الصَّوْمِ، وَلَوْ كَانَ قَاتِلًا مَا أَوْجَبَهُ؛ فَهَذَا لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُدَّةً يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ فِي مِثْلِهَا وَيَعِيشَ فَلَا قَوَدَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ عَمْدٌ كَالْخَطَأِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا الصَّغِيرُ وَالْمَرِيضُ، وَلَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا الْكَبِيرُ الصَّحِيحُ فَيُرَاعَى حَالُ الْمَحْبُوسِ، فَإِنْ كان صغيراً أو مريضاً وجب في الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا صَحِيحًا لَمْ يَجِبْ وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ دُونَ الشَّرَابِ، أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 مَنَعَهُ الشَّرَابَ دُونَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَحْيَا إِلَّا بِهِمَا إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَنِ الطَّعَامِ إِذَا وَجَبَ شَرَابًا أَمَدُّ زَمَانًا مِنَ الصبر عن الشارب إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ الْإِسْلَامَ اخْتَفَى مِنَ المُشْرِكِينَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ بِضْعَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا، فَكَانَ يَخْرُجُ فِي اللَّيْلِ مِنْ بَيْنِ الأستار فيشرب مَاءَ زَمْزَمَ، قَالَ: فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ " فَبَانَ أَنَّ الْمَاءَ يُمْسِكُ الرَّمَقَ فَيُرَاعَى حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي الْأَغْلَبِ. (فَصْلٌ رَابِعٌ) إِذَا أَلْقَاهُ فِي نَارٍ مؤجحة أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ نَارًا أَجاجَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا حَتَّى يَمُوتَ فِيهَا، وَذَلِكَ لِإِحْدَى خَمْسَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ يُلْقِيَهُ فِي حُفْرَةٍ قَدْ أَجَّجَهَا. وَإِمَّا أَنْ يَرْبِطَهُ فَلَا يَقْدِرُ مَعَ الرِّبَاطِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَإِمَّا أَنْ يَطُولَ مَدَى النَّارِ فَلَا يَنْتَهِي إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ فِي طَرَفِهَا فَيَمْنَعَهُ مِنَ الخُرُوجِ. وَإِمَّا أَنْ تُثَبِّطَ بَدَنَهُ فَيَعْجَزُ عَنِ النُّهُوضِ فِيهَا، فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا وَهُوَ أَشَدُّ الْقَتْلِ عَذَابًا، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ " فِعْلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا فَهَذَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ حَتَّى يَمُوتَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي قَتْلِهِ، أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى مُدَاوَاةِ جُرْحِهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الدَّوَاءِ حَتَّى مَاتَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا دِيَةَ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا لَفَحَتْهُ النَّارُ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِاسْتِدَامَةِ النَّارِ، وَالَّتِي يُنْسَبُ اسْتِدَامَتُهَا إليه دُونَ مُلْقِيهِ، وَخَالَفَ تَرْكَهُ لِدَوَاءِ الْجُرْحِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا حَيًّا ثُمَّ يَمُوتَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَثْبِيطَ بَدَنِهِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ كَالْجُرْحِ إِذَا مَاتَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْدَمِلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْرَأَ مِنَ التَّثْبِيطِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ كَالْجُرْحِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ انْدِمَالِهِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا لَفَحَتْهُ النَّارُ وَتَثْبِيطُ جَسَدِهِ. فَصْلٌ خَامِسٌ: إِذَا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ يَبْعُدُ سَاحِلُهُ، فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ أَوْ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ بِالْعَوْمِ لَا يَصِلُ إِلَى السَّاحِلِ مَعَ بُعْدِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ " فَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِإِتْلَافِهِ. وَأَغْزَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَلَمَّا عَادَ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَقَالَ: دُودٌ عَلَى عُودٍ، بَيْنَ غَرَقٍ أَوْ فرق فآلا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُغْزِيَ فِي الْبَحْرِ أَحَدًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ يَقْرُبُ مِنَ السَّاحِلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْبِطَهُ أَوْ يُثْقِلَهُ حَتَّى لا يقدر على الخلاص من الماء غرير فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَيْضًا، كَالْمُلْقَى فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَرْبُوطٍ وَلَا مُثْقَلٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُحْسِنَ الْعَوْمَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحْسِنَ الْعَوْمَ فَلَا يَعُومُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ، فَصَارَ مُتْلِفًا لَهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَخَرَّجَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُلْقَى فِي النَّارِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَمَنَعَ الْبَاقُونَ مِنْ وُجُوبِهَا، قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ جِنَايَةٌ مُتْلِفَةٌ لَا يُقْدِمُ النَّاسُ عَلَيْهَا مُخْتَارِينَ وَلَيْسَ الْإِلْقَاءُ فِي الْمَاءِ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَوْمَ جِنَايَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَعُومُونَ فِيهِ مُخْتَارِينَ لِتَبَرُّدٍ أَوْ تنظف، فلا ينسون إِلَى تَغْرِيرٍ. فَلَوْ أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِلْقَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ عَلَى مَا فَصَّلْنَا فَلَا قَوَدَ فِيهِ إِذَا الْتَقَمَهُ الْحُوتُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ أَفْضَى إلى تلفه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِلْقَاءُ فِي ذَلِكَ الماء موجب لِلْقَوَدِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ قَبْلَ التَّلَفِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْتَقِمْهُ الْحُوتُ لَوَجَبَ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْتِقَامِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَاهُ الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ تَلَفِهِ حَصَلَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْقَوْلُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْقَوَدَ مَحْمُولٌ عَلَى نِيلِ مِصْرَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّمَاسِيحُ فَلَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، وَالْقَوْلُ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ الْقَوَدَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ البِحَارِ وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَخْلُو غَالِبًا مِنْ مِثْلِهِ. (فَصْلٌ) إِذَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ سَبُعًا فَافْتَرَسَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ لِقُصُورِ خُطْوَتِهِ عَنْ وَثْبَةِ السَّبُعِ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَرْسَلَ سَهْمًا قَاتِلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ، إِمَّا بِسُرْعَةِ الْعَدْوِ وَإِمَّا بِالدُّخُولِ إِلَى بَيْتٍ، أَوْ بِالصُّعُودِ إِلَى شَجَرَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَضْعُوفَ الْقَلْبِ، إِمَّا بِصِغَرٍ أَوْ بَلَهٍ يُدْهِشُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ تَوَقِّيهِ، فَالْقَوَدُ فِيهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْخَلَاصِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّفَسِ قَوِيَّ الْقَلْبِ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى افْتَرَسَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَ السَّبُعُ بِقَدْرِ إِرْسَالِهِ زَمَانًا، ثُمَّ يَسْتَرْسِلُ فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّ حُكْمَ إِرْسَالِهِ قَدِ انْقَطَعَ بِوُقُوفِهِ فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَرْسِلَ بِنَفْسِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْسِلَ عَلَيْهِ مَعَ إِرْسَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَلَا قَوَدَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلَاصِ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ تَخْرِيجًا مِنَ القَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْخَلَاصِ تَقْطَعُ حُكْمَ الْإِرْسَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْإِرْسَالِ. فَأَمَّا إِذَا كَتَفَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الأرض مُسْبِعَةٍ، فَافْتَرَسَهُ السَّبُعُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، وَيَكُونُ كَالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ، لَا يَجِبُ عَلَى الممسك قود كذلك ها هنا، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِإِرْسَالِ السَّبُعِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِتَوْجِيهِ السَّبُعِ لَهُ، فَأَمَّا إِنْ جرحه السبع فمات من جراحته لم يخل جِرَاحَتُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهَا وَلَا يَقْتُلَ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ. فَأَمَّا إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ حَيَّةً فَنَهَشَتْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْقِيَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّبُعِ لَا يَضُرُّ أَوِ الْحَيَّةُ تَهْرُبُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَهَا عَلَى جَسَدِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَهْشُهَا مُوجِبًا مِثْلَ حَيَّاتِ الطَّائِفِ، وَأَفَاعِي مَكَّةَ، وَثَعَابِينِ مِصْرَ وَعَقَارِبِ نَصِيبِينَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ قَدْ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهَا كَحَيَّاتِ الدُّودِ وَالْمَاءِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا لجنس القاتل. والقول الثاني: لا قود، عليه الدِّيَةُ، لِإِمْكَانِ السَّلَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَطَعَ مَرِيئَهَ وَحُلْقُومَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَأَبَانَهَا مِنْ جَوْفِهِ أَوْ صَيَّرَهُ فِي حَالِ الْمَذْبُوحِ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ فَالْأَوَّلُ قَاتِلٌ دُونَ الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَوَّلِ قَدْ أَتَتْ عَلَى النَّفَسِ بِقَطْعِ حُلْقُومِهِ أَوْ مَرِيئِهِ أَوْ قَطْعِ حَشَوْتِهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ، لِانْتِقَاضِ بِنْيَتِهِ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاتَهُ، وَلَا حُكْمَ لِمَا بَقِيَ مِنَ الحَيَاةِ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ الَّتِي لَا يُنْسَبُ مَعَهَا إِلَى الْحَيَاةِ وَتَجْرِي مَجْرَى الِاخْتِلَاجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَى فَلَوْ جَاءَ آخَرُ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ كَانَ الْأَوَّلُ قَاتِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ وَالثَّانِي عَابِثًا فَجَرَى مَجْرَى ضَرْبِ عُنُقِ مَيِّتٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، لَكِنْ يُعَزَّرُ أَدَبًا لِانْتِهَاكِهِ الْحُرْمَةَ الَّتِي يَجِبُ حِفْظُهَا فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَ جِنَايَةِ الْأَوَّلِ يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَعَ انْتِهَائِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْهَذَيَانِ الَّذِي لَا يَصْدُرُ مِنْ عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا قَلْبٍ ثَابِتٍ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قُطِعَ وَسْطُهُ نِصْفَيْنِ فَتَكَلَّمَ وَاسْتَسْقَى مَاءٍ فَسُقِيَ، وَقَالَ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْجِيرَانِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ فَهُوَ كَلَامٌ تَصَوَّرَ فِي النَّفَسِ قَبْلَ قَطْعِهِ فَنَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَوْ وَصَّى لَمْ تَمْضِ وَصِيَّتُهُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلَامٌ وَلَا كُفْرٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 وَهَكَذَا لَوِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَقَطَعَ حَشَوْتَهُ أَوْ قَطَعَ مَرِيئَهُ أَوْ حُلْقُومَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ إِنْسَانٌ عُنُقَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ قَدْ أَتَى عَلَى حَيَاتِهِ، وَالْبَاقِي مِنْهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَمِثَالُهُ فِي مَأْكُولَةِ السَّبُعِ إِذَا قَطَعَ حَشَوْتَهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ حَيَاتِهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ أَجَافَهُ أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ مَا لَمْ يَقْطَعْ حَشْوَتَهُ فَيُبِينُهَا مِنْهُ ثُمَّ ضَرَبَ آخَرُ عُنُقَهُ فَالْأَوَّلُ جَارِحٌ وَالْآخَرُ قَاتِلٌ قَدْ جُرِحَ مَعِيُّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَعَاشَ ثَلَاثًا " فَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ قَاتِلًا وَبَرِئَ الَّذِي جَرَحَهُ مِنَ القَتْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ لَمْ تَأْتِ عَلَى النَّفَسِ وَلَا نَقَضَتْ بِنْيَةَ الْجَسَدِ، وَكَانَتِ الْحَيَاةُ مَعَهَا مُسْتَقِرَّةً، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ وَذَبَحَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَالثَّانِي: هُوَ الْقَاتِلُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَالْأَوَّلُ جَارِحٌ يُؤْخَذُ بِحُكْمِ جِرَاحِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا فِيهِ الْقَوَدُ كَقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ أَوْ شَجَّةٍ مُوضِحَةٍ اقْتُصَّ مِنْهُ أَوْ أُخِذَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا قَوَدَ فِيهِ أُخِذَ مِنْهُ دِيَتُهَا، وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ لِاخْتِلَافِ الْجَانِبَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مِنْهَا، أَوْ لَا يَعِيشَ؛ لِأَنَّهُ بَاقِي الْحَيَاةِ. وَإِنْ قَطَعَ بِمَوْتِهِ مِنْهَا فَجَرَى مَجْرَى الْمَرِيضِ الْمُدْنِفِ الْمَقْطُوعِ بِمَوْتِهِ إِذَا قُتِلَ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِنَقْصِ بِنْيَتِهِ وَإِفَاتَةِ حَيَاتِهِ، وَقَدْ جُرِحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ أَمْعَائِهِ فَسَقَاهُ الطَّبِيبُ لَبَنًا فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَنْتَ مَيِّتٌ فَاعْهَدْ بِمَا شِئْتَ، فَعَهِدَ بِالشُّورَى، وَوَصَّى بِوَصَايَا، وَعَاشَ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَمْضَى الْمُسْلِمُونَ عُهُودَهُ، وَنَفَّذُوا وَصَايَاهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ كَانَ قَاتِلًا وَبَرِئَ الَّذِي جَرَحَهُ مِنَ القَتْلِ. وَهَكَذَا لَوِ افْتَرَسَ السَّبُعُ رَجُلًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا يَعِيشُ مِنْهُ أَوْ لَا يَعِيشُ لَكِنَّهُ بَاقِيَ الْحَشْوَةِ وَالْحُلْقُومِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ رَجُلٌ، أَوْ ذَبَحَهُ أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ النَّاقِضُ لِبِنْيَتِهِ، وَالْمُفَوِّتُ لِحَيَاتِهِ، وَلَوْ تَقَدَّمَتْ جِنَايَةُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا يَعِيشُ مِنْهُ ثُمَّ أَكَلَهُ السَّبُعُ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْجَارِحِ، لِأَنَّ نَقْضَ الْبِنْيَةِ وَفَوَاتَ الْحَيَاةِ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ الْجَارِحُ بِالْقِصَاصِ مِنْ جُرْحِهِ إِنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ قِصَاصٌ، أَوْ دِيَةُ جُرْحِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 وَمِثَالُ ذَلِكَ: فِي فَرِيسَةِ السَّبُعِ أَنْ يَجْرَحَ بَهِيمَةً لَا تَعِيشُ مِنْ جِرَاحَتِهِ لَكِنَّهَا بَاقِيَةُ الحلقوم والحشوة فتذكا، حَلَّ أَكْلُهَا لِوُرُودِهَا عَلَى حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ وَإِنْ لم تدم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَاتٍ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ صَارَ وَالْجِرَاحَ نَفْسًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ابْتَدَأَ الْجَانِي فَجَرَحَهُ جِرَاحَاتٍ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا، وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَنْدَمِلْ حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الْجِرَاحِ وَفِي النَّفْسِ وَيُدْخِلُ دِيَةَ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إنَّ دِيَةَ الْجِرَاحِ لَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ، فَيُؤْخَذُ بِدِيَةِ الْجِرَاحِ وَبِدِيَةِ النَّفْسِ كَمَا أُقِيدَ بِالْجِرَاحِ وَأُقِيدَ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْوَاحِدِ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ بُنِيَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَدَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ، فَإِذَا صَارَتْ بَعْدَ الْجِرَاحِ نَفْسًا كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَةِ النَّفْسِ، وَدَخَلَ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِيهَا، لِأَنَّ دِيَةَ الْجِرَاحِ لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ سِرَايَتِهَا، وَهِيَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ فَلِذَلِكَ سَقَطَ أَرْشُهَا، وَصَارَ دَاخِلًا فِي دِيَةِ مَا انْتَهَتْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الِانْدِمَالُ فِيهَا لِانْقِطَاعِ سِرَايَتِهَا، وَالتَّوْجِيَةُ بَعْدَهَا قَطْعٌ لِسِرَايَتِهَا، فَصَارَتْ كَالِانْدِمَالِ. قِيلَ: التَّوْجِيَةُ عَلَيْهِ سِرَايَةُ الْجِرَاحِ، وَلَمْ تَقْطَعْهَا وَالِانْدِمَالُ قَطَعَ سِرَايَتَهَا فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا قَوَدُ الْجِرَاحِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْفَى مَعَ قَوَدِ النَّفْسِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الإسفرييني إنَّهُ يُسْتَوْفَى، بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لِيُقَابَلَ الْقَاتِلُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَوَدًا فِي الْجِرَاحِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوَدُ فِي الْجِرَاحِ دَاخِلًا فِي قَوَدِ النَّفْسِ، كَمَا دَخَلَتْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إنَّهُ يَكُونُ قَوَدًا فِي الْجِرَاحِ يُسْتَوْفَى لِأَجْلِهَا، لَا لِأَجْلِ النَّفْسِ لِتَمَيُّزِهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ، وَإِنْ دَخَلَتْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْقَوَدِ أَعَمُّ مِنْ حُكْمِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقَادُونَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَجَازَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَدْخُلَ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجِرَاحُ مِنْ رَجُلٍ وَالتَّوْجِيَةُ مِنْ آخَرَ أُخِذَ الْجَارِحُ بِحُكْمِ جِرَاحَتِهِ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، وَأُخِذَ الْمُوجِي بِحُكْمِ الْقَتْلِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا تَفَرُّدُ الْوَاحِدِ وَتَمَيُّزُ الِاثْنَيْنِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ بَرِأَتِ الْجِرَاحَاتُ ثُمَّ عَادَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْجَارِحِ مُنْفَرِدًا وَمَا عَلَى الْقَاتِلِ مُنْفَرِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ إِذَا انْدَمَلَتْ وَبَرِأَتِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَهَا الْقَتْلُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمُسْتَقِرَّةَ لَا تَسْقُطُ بِحُقُوقٍ مُسْتَجَدَّةٍ كَالدُّيُونِ وَالْحُدُودِ، فَيَسْتَوْفِي قَوَدَ الْجِرَاحِ وَدِيَتَهَا وَقَوَدَ النَّفْسِ وَدِيَتَهَا، وَلَا يَدْخُلُ دِيَةُ الْجِرَاحِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ قَوَدُ الْجِرَاحِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ، وَسَوَاءٌ كَانَا مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَنْدَمِلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِاسْتِقْرَارِ، فَلَوِ انْدَمَلَ بَعْضُ الْجِرَاحِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا حَتَّى طَرَأَتِ التَّوْجِيَةُ سِوَى فِيمَا انْدَمَلَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَفَرَّقَ فِيمَا لَمْ يَنْدَمِلْ بين الواحد والاثنين. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ تَدَاوَى الْمَجْرُوحُ بِسُمٍّ فَمَاتَ أَوْ خَاطَ الْجُرْحَ فِي لَحْمِ حَيٍّ فَمَاتَ فَعَلَى الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَاطَةُ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَالدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي التَّدَاوِي بِسُمٍّ. وَالثَّانِي: فِي خِيَاطَةِ الْجِرَاحِ. فَأَمَّا التَّدَاوِي بِالسُّمِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ قَاتِلًا مُوجِبًا فِي الْحَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ قَاتِلًا يَتَأَخَّرُ قَتْلُهُ عَنِ التَّوْجِئَةِ فِي الْحَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ قَاتِلًا فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنْ جَازَ أَلَّا يُقْتَلَ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ غَيْرَ قَاتِلٍ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَاتِلُ الْمُوجِي فِي الْحَالِ، فَهَذَا هُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ بِالتَّوْجِيَةِ بَعْدَ جُرْحِهِ بِالْجِنَايَةِ، فَيَسْقُطُ عَنِ الْجَارِحِ حُكْمُ النَّفْسِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الْجُرْحِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، فَالْجَارِحُ إِذَا تَعَقَّبَهُ قَاتِلٌ مُوجٍ وَسَوَاءٌ تَدَاوَى بِهِ الْمَجْرُوحُ عَالِمًا بِحَالِهِ أَوْ جَاهِلًا شُرْبَهُ، أَوْ طِلَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِ جَسَدِهِ إِذَا كَانَ مُوجِيًا فِي الحالين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَاتِلُ الَّذِي لَا يُوجِي فِي الْحَالِ وَيَقْتُلُ فِي ثَانِي حَالٍ فَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ فِيهِ سِرَايَةُ الْجُرْحِ عَلَى سِرَايَةِ السُّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ سِرَايَةُ السُّمِّ عَلَى سِرَايَةِ الْجُرْحِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ مِنَ الآخَرِ، فَاسْتَوَيَا وَصَارَ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمَا، فَيُعْتَبَرُ حَالُ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ، فَلَا يخلو مستعلمه مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ عَمْدٌ شِبْهُ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي الْفِعْلِ خَاطِئٌ فِي النَّفْسِ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ، لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَ فِي النَّفْسِ خَاطِئًا، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ إِذَا شَارَكَهُ الْخَاطِئُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَاوِي هُوَ الْمَجْرُوحُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ عُلِمَ بِأَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوِي بِهِ طَبِيبَ غَيْرِ الْمَجْرُوحِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِمَا بِفِعْلٍ تَعَمَّدَاهُ فَصَارَا كَالْجَارِحَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ: هُوَ الْمُدَاوِي لِنَفْسِهِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَادُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ، لِمُشَارَكَتِهِ فِيهَا لِلْعَامِدِ، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُهُ عَنِ الشَّرِيكِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنْهُ كَشَرِيكِ الْأَبِ فِي قَتْلِ الِابْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَدَ الْقَاتِلَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ مِنَ الجُرْحِ دُونَ النَّفْسِ نَظَرَ فِي الْجُرْحِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ إِذَا انْفَرَدَ كَالْجَائِفَةِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِانْفِرَادِ حُكْمِهِ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ كَالْمُوضِحَةِ أَوْ كَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْهُ مَعَ سُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَا يَجِبُ، وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ عَنْهَا رُوعِيَ فِيهِ الِانْدِمَالُ، وَلَمْ يَنْدَمِلْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَتْ غَايَتُهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْمُنْدَمِلِ فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُ الْجُرْحِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دِيَةُ مِثْلِهِ نِصْفَ دِيَةِ النَّفْسِ كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، فَقَدِ اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُ جَمِيعَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ دِيَةِ النَّفْسِ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهُ بِقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ كَالْإِصْبَعِ فِيهَا عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ، فَإِذَا اقْتَصَّ مِنْهَا اسْتَوْفَى بِهَا خُمُسَ حَقِّهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْهَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ النِّصْفِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهَا جَمِيعَ النِّصْفِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دِيَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنَّ زَادَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ لِانْفِرَادِهِ بِالْحَاكِمِ عَنْ سُقُوطِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالِانْدِمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ بِنِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الأَعْضَاءِ إِلَّا مَا قَابَلَهَا؟ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَمْكَنَ تَبْعِيضُهُ، وَأَنْ تُسْتَوْفَى مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَالْيَدَيْنِ إِذَا قَطَعَهُمَا فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ إِحْدَاهُمَا، وَفِيهِمَا نِصْفُ الدية فها هنا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَيَسْقُطُ فِي الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِهَا نِصْفَ الدِّيَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَزِيدَ عَلَيْهَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يُمْكِنْ تَبْعِيضُهُ كَجَدْعِ الْأَنْفِ، وَقَطْعِ الذَّكَرِ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيهِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ: وَهُوَ الْقَاتِلُ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فَهَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الجُرْحِ دُونَ السُّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنَ السُّمِّ دُونَ الْجُرْحِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ مِنَ الآخَرِ فَجَرَى السُّمُّ مَجْرَى الْجُرْحِ الْآخَرِ، وَالْحُكْمُ فِي مُسْتَعْمِلِهِ عَلَى مَا مَضَى؛ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَوْ خَطَأِ الْعَمْدِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ خَطَأِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دِيَةُ التَّدَاوِي فَصَارَ خَطَأً فِي الْقَصْدِ، عَمْدًا فِي الْقَتْلِ، يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ قَتْلًا وَيَكُونُ حُكْمُ شَرِيكِ عَمْدِ الْخَطَأِ كَشَرِيكِ الْخَطَأِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ فِي الْجُرْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ شَرِيكَ الْخَطَأِ فِي الْجُرْحِ كَشَرِيكِهِ فِي النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُّمَّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى يُقَادُ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَحَدِهِمَا لِخُرُوجِهَا بِعَمْدٍ مَحْضٍ، وَلَا يُقَادُ مِنْهَا فِي الْآخَرِ لِسُقُوطِهِ فِي حُكْمِ السُّمِّ إِذَا كَانَ الْمُتَدَاوِي بِهِ هُوَ الْمَجْرُوحُ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقَوَدَ فِي الْجُرْحِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا من الوجهين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ: وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقْتُلَ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ، اشْتَرَكَ فِيهِ عَمْدٌ مَحْضٌ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ وَالْجُرْحِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، حَالَّةً مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ مَحْضٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهَا بِمُشَارَكَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ قَتْلًا. فَإِنْ جُهِلَ حَالُ السُّمِّ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ أَيِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ؟ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ أَخَفِّهَا، وَهُوَ هَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ، وَفِي شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ فَصْلَيِ الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ أَنْ يَخِيطَ الْمَجْرُوحُ جُرْحَهُ فَيَمُوتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَاطَ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْخِيَاطَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي اللَّحْمِ الْمَيِّتِ لَا تُؤْلِمُ، وَلَا تَسْرِي، فَيَصِيرُ الْجَارِحُ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ بِسِرَايَةِ جُرْحِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ فِي مَالِهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخِيطَ فِي لَحْمٍ حَيٍّ فَالْخِيَاطَةُ جُرْحٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ عَمْدِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ حِفْظَ الْحَيَاةِ فَأَفْضَى بِهِ إِلَى التَّلَفِ؛ فَصَارَ عَمْدًا فِي الْفِعْلِ، خَطَأً فِي القصد. فإن قيل: فبهذا فَالْجَارِحُ قَدْ صَارَ قَاتِلًا شَرِيكًا لِعَمْدِ الْخَطَأِ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً مُغَلَّظَةً مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ إنَّ الْخِيَاطَةَ عَمْدٌ مَحْضٌ رُوعِيَ مَنْ تَوَلَّى الْخِيَاطَةَ أَوْ إِبْرَتَهَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَبُو الْمَجْرُوحِ تَوَلَّاهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيٌّ تَوَلَّاهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْمَجْرُوحُ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، إِذَا اعْتُبِرَ فِي الْقَوَدِ خُرُوجُ النَّفْسِ عَنْ عَمْدٍ مَحْضٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ خُرُوجُ النَّفْسِ عَنْ عَمْدٍ مَضْمُونٍ، لِأَنَّ عَمْدَ الْمَجْرُوحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ تَوَلَّاهَا مَنْ أَمَرَهُ الْجَارِحُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 الْمَأْمُورُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْمَجْرُوحِ تَوَلَّاهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ فَيَكُونُ الْأَبُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوَدَ لِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ جُرْحَهُ صَارَ نَفْسًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ. فَفِي ضَمَانِ الْأَبِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا تَغْلِيبًا لِحُسْنِ النَّظَرِ بِمَقْصُودِ وِلَايَتِهِ، فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا رُوعِيَ مُشَارَكَتُهُ فِي عَمْدٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَبَ ضامنا لَهَا تَغْلِيبًا لِلْفِعْلِ الْمَضْمُونِ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَلَّاهَا مَنْ أَمَرَهُ الْأَبُ؛ لَأَنَّ لِلْأَبِ فِي النَّظَرِ عَلَى وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ خُلَفَائِهِ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ مُطَاعٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ فَعَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ؛ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ وَالْكَفَّارَةُ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَا عَمْدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي قَطْعِ السَّلْعَةِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ وعلى الجارح القود؛ فإن عفى عَنْهُمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ وَالْكَفَّارَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَى الْإِمَامِ لِشُبْهَةِ وِلَايَتِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَيْنَ تَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، لَوْ عَزَّرَ فَتَلِفَ الْمُعَزَّرُ، فَأَمَّا الْجَارِحُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي عَمْدٍ مَضْمُونٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ فَمَنْسُوبُ الْفِعْلِ إِلَى الْإِمَامِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ مِنَ الْتِزَامِ طَاعَتِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَأْمُرَ بِهَا غَيْرَهُ، فَإِنْ تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعَلَى الْجَارِحِ مَعًا لِأَنَّهُمَا قَاتِلَا عَمْدٍ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَهُ، وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَعُزِّرَ الْآمِرُ لِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى مَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ، وَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْجَارِحِ، فإن عفا عنهما، كانت الدية سنة وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ نِصْفَيْنِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ. (فَصْلٌ) وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجَارِحُ وَالْوَلِيُّ فِي الْخِيَاطَةِ فَقَالَ الْوَلِيُّ: كَانَتْ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَقَالَ الْجَارِحُ: بَلْ كَانَتْ فِي لَحْمٍ حَيٍّ، فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الجارح مع يمنيه وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ فِي وُجُوبِ النِّصْفِ، وَفِي شَكٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ اللَّحْمِ حَتَّى يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَ الْجَارِحِ دُونَ الْوَلِيِّ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الدواء، فقال الجارح: كان سما موحياً وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا دِيَةُ الْجُرْحِ، وَلَا قَوَدَ فِي النَّفْسِ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ كَانَ دَوَاءً غَيْرَ قَاتِلٍ، وَأَنْتَ الْقَاتِلُ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ، أَوْ دِيَةُ النَّفْسِ، فَالْقَوْلُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ قَوْلُ الْوَلِيِّ دُونَ الْجَارِحِ، وَعَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ لِأَمْرَيْنِ اقْتَضَيَا عَكْسَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ الخِيَاطَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ جِنَايَةِ الْجَارِحِ وَفِي شَكٍّ مِنْ غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ فِي التَّدَاوِي أَنَّهُ بِالنَّافِعِ دُونَ الْقَاتِلِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ هُوَ المغلب والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قُطِعَ يَدُ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَكُنْ قَوَدٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ وَهُوَ مِمَّنْ لَا قَوَدَ فِيهِ وَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ وَلَا يُشْبِهُ الْمُرْتَدَّ لِأَنَّ قَطْعَهُ مُبَاحٌ كَالْحَدِّ وَالنَّصْرَانِيُّ يَدُهُ مَمْنُوعَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ وَوَجَبَ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ، اعْتِبَارًا فِي الْقَوَدِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَفِي الدِّيَةِ باستقرار السراية، وإنما اعتبر في القود بحال الْجِنَايَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّصْرَانِيُّ لَوْ قَطَعَ يَدَ نَصْرَانِيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاطِعُ ومات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 الْمَقْطُوعُ، لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ عَنِ الْقَاطِعِ بِإِسْلَامِهِ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَوَجَبَ إِذَا انْعَكَسَ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا قَطَعَ يَدَ نَصْرَانِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَقْطُوعُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاطِعِ الْقَوَدُ، اعْتِبَارًا بِسُقُوطِهِ عَنْهُ حَالَ الْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِسْقَاطٌ بِالْكُفْرِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ، وَإِيجَابٌ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ السِّرَايَةِ، وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى حُكْمِ الْإِيجَابِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ إِسْقَاطُ مَا وَجَبَ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ إِيجَابُ مَا سَقَطَ، وَاعْتَبَرْنَا فِي الدِّيَةِ اسْتِقْرَارَهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرْنَا اسْتِقْرَارَ السِّرَايَةِ فِيمَا زَادَ فِي الْمُوضِحَةِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا فِي إِيجَابِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بَعْدَ أَنْ وَجَبَ نِصْفُ عُشْرِهَا، وَفِيمَا نَقَصَ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فِي إِيجَابِ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ وُجُوبِ دِيَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِمَا مَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَضْمُونِ مُلْتَزَمَةٌ كَزِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ، فَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي اعْتِبَارِ الْقَوَدِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ وَاعْتِبَارِ الدِّيَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا بِالسِّرَايَةِ، وَهَكَذَا لَوْ جَرَحَ الْحُرُّ عَبْدًا فَأُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ جَرَحَهُ وَهُوَ عَبْدٌ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ وَهُوَ حُرٌّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ الْمُسْلِمُ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، فَشَابَهَ النَّصْرَانِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَخَالَفَهُ فِي الدِّيَةِ فِي تَرْكِ الِاعْتِبَارِ بِهَا عِنْدَ اسْتِقْرَارِهَا بِالسِّرَايَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نَفْسَ النَّصْرَانِيِّ مَضْمُونَةٌ بِحَقْنِ دَمِهِ، فَضُمِّنَ مَا حَدَثَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ زِيَادَةِ دِيَتِهِ، وَنَفْسُ الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَصَارَ مَا حَدَثَ مِنْ سِرَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ هَدَرًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالسَّارِقِ إِذَا سَرَى إِلَى نَفْسِهِ الْقَطْعُ لَمْ يُضَمَّنْ، لِأَنَّ قَطْعَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَكَالْحَرْبِيِّ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُضَمَّنْ بِقَوَدٍ، وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ. فَأَمَّا إِذَا جُرِحَ مقراً بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ ثُمَّ مَاتَ فَفِي ضَمَانِ نَفْسِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: لَا يُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ لِإِبَاحَةِ نَفْسِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَالْمُرْتَدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضْمَنُ دِيَتُهُ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُبَاحُ الدَّمِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ رِدَّتِهِ، وَالزَّانِي مَحْظُورُ النَّفْسِ إِلَّا أَنْ يقيم على إقراره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا فَلَمْ يَقَعْ عَلَى نَصْرَانِيٍّ حَتَّى أَسْلَمَ أَوْ عَلَى عَبْدٍ فَلَمْ يَقَعْ حَتَّى أُعْتِقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لِأَنَّ تَخْلِيَةَ السَهْمِ كَانَتْ وَلَا قِصَاصَ وَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَالْكَفَّارَةُ وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُسْلِمُ قَبْلَ وُقُوعِ السَهْمِ لِتَحَوُّلِ الْحَالِ قَبْلَ وُقُوعِ الرَّمْيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي إِرْسَالِ السَّهْمِ بَيْنَ ثَلَاثِ مَسَائِلَ، وَضَمَّ إِلَيْهَا أَصْحَابُنَا رَابِعَةً تَظْهَرُ بِاسْتِمْرَارِ الْقِيَاسِ: فَإِحْدَاهُمَا: مُسْلِمٌ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى نَصْرَانِيٍّ، فَأَسْلَمَ ثَمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ. وَالثَّانِيَةُ: فِي حُرٍّ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى عَبْدٍ فَأُعْتِقَ، ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ، فَلَا قَوَدَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَرْسَلَهُ عَلَى نَصْرَانِيٍّ، وَالْحُرُّ أَرْسَلَهُ عَلَى عَبْدٍ، وَعَلَيْهِمَا دِيَةُ مُسْلِمٍ، وَدِيَةُ حُرٍّ، اعْتِبَارًا بِوُصُولِ السَّهْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ، وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ فَفِيهِ قِيمَتُهُ لِسَيِّدِهِ اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ دُونَ الْإِصَابَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَدِيَتُهُ وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَمْ يَصِلِ السَّهْمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَالْعَبْدَ لَمْ يَصِلِ السَّهْمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ وَقْتَ الْإِرْسَالِ، وَالدِّيَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ الْإِصَابَةُ. فَأَمَّا مَا ظَهَرَ فِيهِ اشْتِبَاهُ الْقِيَاسِ فَمَسْأَلَتَانِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي إِحْدَاهُمَا، وَظَهَرَ الْخِلَافُ فِي الْأُخْرَى. فَأَمَّا الَّتِي اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهَا مَعَ ظُهُورِ الِاشْتِبَاهِ فِيهَا: فَهِيَ فِي مُسْلِمٍ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا قَوَدَ عَلَيْهِ " اعْتِبَارًا بِإِرْسَالِ السَّهْمِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِإِصَابَةِ السَّهْمِ وَهَذَا مُشْتَبَهٌ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْجِنَايَةِ إِنْ كَانَ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ إِرْسَالِهِ مُرْتَدًّا، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ إِصَابَتِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ابْتِدَاؤُهَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ لِتَنَافِيهِمَا، وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، وَكَادَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يُخَرِّجَهُ وَجْهًا ثَانِيًا: أَنَّهُ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِرْسَالِ كَمَا اعْتُبِرَ فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْعَبْدِ حَالَ الْإِرْسَالِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يَعْنِي: فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ قَائِلٌ مَذْهَبًا فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَحَدٌ؛ لَأَنَّ الدِّيَةَ تُضْمَنُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ فَرُوعِيَ فِيهَا وَقْتُ الْمُبَاشَرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ وَالْقَوَدَ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْحُدُودِ، فَرُوعِيَ فِيها وَقْتُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الْمُرْتَدِّ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِرْسَالِ، وَوَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِصَابَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَسْأَلَتَيِ الِاشْتِبَاهِ فَهِيَ الَّتِي ضَمَّهَا أَصْحَابُنَا إِلَى الثَّلَاثِ الْمَنْصُوصَاتِ، وَظَهَرَ فِيهَا مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافٌ.؟ وَهِيَ فِي مُسْلِمٍ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ فَمَاتَ، فَقَدْ جَمَعَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ، فَأَسْقَطُوا فِيهِ الْقَوَدَ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِرْسَالِ، وَأَوْجَبُوا فِيهِ دِيَةَ مُسْلِمٍ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْإِصَابَةِ. وَفَرَّقَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ، فَأَسْقَطَ فِي الْحَرْبِيِّ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ مَعًا، وَأَوْجَبَ فِي الْمُرْتَدِّ الدِّيَةَ، وَأَسْقَطَ الْقَوَدَ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَمُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ قَتْلَ الْحَرْبِيِّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَقَتْلَ الْمُرْتَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِلَّا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا، قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ الدية. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ جَرَحَهُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا قَوَدَ لِلْحَالِ الْحَادِثَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُسْلِمٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمًا، فَلَا يَخْلُو زَمَانُ رِدَّتِهِ مِنْ أَنْ تَسْرِيَ فِيهِ الْجِنَايَةُ أَوْ لَا تَسْرِي. فَإِنْ كَانَ زَمَانًا لَا تَسْرِي فِيهِ الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ لِقُرْبِهِ وَقِصَرِهِ، فَالدِّيَةُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ مِنْ جِنَايَةٍ وَسِرَايَةٍ، وَهُوَ مَضْمُونُ النَّفْسِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ السِّرَايَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ، وَلَا يُؤَثِّرَ فِيهَا زَمَانُ الرِّدَّةِ إذا لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي السِّرَايَةِ. فَأَمَّا الْقَوَدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُؤَثِّرِ الرِّدَّةُ فِي الدِّيَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالرِّدَّةِ فِي حَالٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهَا سَقَطَ الْقَوَدُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا كَالْمَبْتُوتَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ زَوْجِهَا لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي رِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْهُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ دِيَةَ النَّفْسِ كَامِلًا فَصَارَ قَاتِلًا، وَإِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ فِي زَمَانٍ تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ لِطُولِهِ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مُسْتَحَقَّ ضَمَانِ النَّفْسِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ وَبَعْضِ السِّرَايَةِ الْمُقَابِلِ لِزَمَانِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَصَارَ الضَّمَانُ مُخْتَصًّا بِالْجِنَايَةِ وَبَعْضِ السِّرَايَةِ، وَسَاقِطًا عَنْ بَعْضِ السِّرَايَةِ، فَسَقَطَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَبَعَّضُ وَجَرَى مَجْرَى عَفْوِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ عَنِ الْقَوَدِ، يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِي حَقِّهِمَا، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَصِحُّ فِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 التَّبْعِيضُ فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ فَفِي قَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ لِاعْتِبَارِهَا بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَاسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ، وَهُوَ فِيهِمَا مُسْلِمٌ مَضْمُونُ الدِّيَةِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَةٍ وَسِرَايَةٍ، بَعْضُهَا مَضْمُونٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَصَارَ كَمَجْرُوحٍ جَرَحَ نَفْسَهُ ثُمَّ مَاتَ كَانَ عَلَى جَارِحِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: عَلَيْهِ أَرْشُ الْجُرْحِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْإِسْلَامِ حَادِثَةٌ عَنْ سِرَايَةِ الرِّدَّةِ، فَصَارَتْ تَبَعًا لَهَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَارِحٌ وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا اسْتَحَقَّ فِيهِ مِنْ قَوَدٍ وِدِيَةٍ فَهُوَ لِوَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا فَوَرِثَهُ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَنْعَكِسَ الرِّدَّةُ فَتَكُونَ فِي الْجَانِي دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَ مُسْلِمًا خَطَأً ثُمَّ يَرْتَدَّ الْجَارِحُ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَمُوتَ الْمَجْرُوحُ، فَعَلَى الْجَارِحِ جَمِيعُ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً وَمَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ الْمُسْلِمُونَ لَهَا، مُعْتَبَرٌ بِزَمَانِ رِدَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّدَّةُ فِي الْمَجْرُوحِ تَحَمَّلَ الْجَارِحُ جَمِيعَ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ زَمَانُ رِدَّتِهِ كَثِيرًا تَسْرِي الْجِنَايَةُ فِي مِثْلِهِ، فَفِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْد ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ عَاقِلَتُهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُضْمَنُ فِي رِدَّةِ الْمَجْرُوحِ جَمِيعُ الدِّيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي نِصْفَهَا الْمُقَابِلَ لِزَمَانِ رِدَّتِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُضْمَنُ فِي رِدَّةِ الْمَجْرُوحِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ عُصْبَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فِي إِسْلَامِهِ، وَلَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ فِي رِدَّتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ أَرْشَ الْجُرْحِ، وَيَتَحَمَّلُ هُوَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، إِذَا قِيلَ إِنَّ رِدَّةَ الْمَجْرُوحِ تُوجِبُ أَرْشَ جُرْحِهِ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا كَانَ لِوَلِيِّهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يقتص بالجرح (قال المزني) القياس عندي على أصل قوله أن لا ولاية لمسلم على مرتد كما لا وراثة له منه وكما أن ماله للمسلمين فكذلك الولي في القصاص من جرحه ولي المسلمين ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُسْلِمٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، فَلَا يَجِبُ فِي النَّفْسِ قَوَدٌ، وَلَا دِيَةٌ، لِأَنَّ تَلَفَهَا كَانَ بِجِنَايَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَسِرَايَةٍ فِي الردة، والردة يسقط حُكْمُ مَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ السِّرَايَةِ فَسَقَطَ بِهَا مَا زَادَ عَلَى الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْجِنَايَةُ، وَلَيْسَتْ عَلَى النَّفْسِ فَسَقَطَ حُكْمُ النَّفْسِ. فَأَمَّا الْجِنَايَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ جُرْحٍ أَوْ طَرَفٍ، فالمنصوص عليه من مذهب الشافعي ها هنا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِصَاصِ، وَالْأَرْشِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا لِحُدُوثِهَا فِي الْإِسْلَامِ الْمُوجِبِ لِضَمَانِهَا، وَتَكُونُ الرِّدَّةُ مُخْتَصَّةً بِسُقُوطِ مَا حَدَثَ مِنَ السِّرَايَةِ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: " يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ الْأَرْشُ " لِأَنَّ الْجُرْحَ إِذَا صَارَ نَفْسًا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا، وَصَارَ تَبَعًا لَهَا. فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ الْمَتْبُوعَةِ سَقَطَ فِي الْجُرْحِ التَّابِعِ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ الجناية في القصاص الأرش جَمِيعًا، لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ نَفْسًا دَخَلَتْ فِي حُكْمِهَا، وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النَّفْسِ فَسَقَطَ حُكْمُ مَا دُونَهَا. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَصْلٌ، وَالسِّرَايَةَ فَرْعٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْأَصْلِ بِسُقُوطِ فَرْعِهِ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِسُقُوطِ أَصْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فِي الرِّدَّةِ وَسَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ لِسُقُوطِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَرَتْ فِي الرِّدَّةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أن الجناية مضمونة بالأمرين، وإن سقط الحكم السِّرَايَةِ فِي الْأَمْرَيْنِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ كَالْجَائِفَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا، وَكَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ، وَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ كَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ،. وَفِي مُسْتَحِقِّ اسْتِيفَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لِلْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ كَالْمَالِ، وَمَالُ الْمُرْتَدِّ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ وَرَثَتِهِ، فَتَوَلَّى الْإِمَامُ كما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 يَتَوَلَّى أَخْذَ أَرْشِهِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " كَانَ لِوَلِيِّهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتَصَّ بِالْجُرْحِ " إِشَارَةً إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيَهُ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوهُ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي وَدَفْعِ الِاسْتِطَالَةِ فَاخْتَصَّ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصُّوا أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ، وَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُمْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْقِصَاصَ وَلَمْ يَمْلِكُوا الْأَرْشَ فَصَحَّ عَفْوُهُمْ عَمَّا مَلَكُوهُ مِنَ القِصَاصِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُمْ عَمَّا لَمْ يَمْلِكُوهُ مِنَ الأَرْشِ؛ فَإِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِمْ أَوْ بِعَفْوِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُ الْأَرْشِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الْإِمَامِ عَنْهُ كَمَا لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَرْشِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُوجِبُهَا وَيَسْقُطُ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِالسِّرَايَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِثْلَ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ، فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ فَيُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلسِّرَايَةِ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ، وَجَدْعِ الْأَنْفِ، وَمِنْ حُكْمِ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِ أَنَّهَا إِذَا انْدَمَلَتْ وَجَبَ فِيهَا دِيَتَانِ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ وَجَبَ فِيهَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا فَلَمْ تَزِدْ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ، فَأَمَّا إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ السِّرَايَةِ فِي الدِّيَةِ عَلَى حُكْمِ الْجِنَايَةِ، فَلَا يَجَبُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ نَفْسًا فَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِهَا أَوْ دِيَةِ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِمَا بَلَغَ مِنْ أَرْشِهَا وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ أَضْعَافًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ يُجْرِي عَلَى الْجُرْحِ حُكْمَ الِانْدِمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ إِذَا نَقَصَ أَرْشُ الْجُرْحِ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ إِذَا زَادَ الْأَرْشُ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ، وَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً بِمَبْلَغِ أَرْشِهَا فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَرَدَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ لَوِ اسْتَدَامَ الْإِسْلَامَ أَغْلَظَ مِنْ حُرْمَتِهَا إِذَا ارْتَدَّ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِسْلَامِهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ فَلِأَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا مَعَ الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ مِنَ الإِبِلِ فَأُعْتِقَ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا دِيَةٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَنْقُصُ بِمَوْتِهِ حُرًّا وَكَانَتِ الدِّيَةُ لِسَيِّدِهِ، دُونَ ورثته (قال المزني) رحمه الله القياس عندي أن السيد قد ملك قيمة العبد وهو عبد فلا ينقص ما وجب له بالعتق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ دِيَةٌ وَجَبَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ قِيمَةٌ، وَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ كَانَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَمَا وَجَبَ فِي الْحُرِّ مِنْهُ حُكُومَةٌ كَانَ فِي الْعَبْدِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ قِيَمٌ كَمَا تَجْتَمِعُ في الحر ديات، فَإِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ لَمْ تَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ فِي الْعَبْدِ، وَدِيَةٍ فِي الْحُرِّ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْأَصْلُ فَصُورَةُ مسئلتنا: فِي حُرٍّ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ دِيَتَانِ قَدَّرَهُمَا الشَّافِعِيُّ بِمِائَتَيْنِ مِنَ الإِبِلِ، وَإِنْ لَمْ يقوم العبد بالإبل، وذلك بقدرهما بِأَلْفَيْ دِينَارٍ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْقِيَمِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ حَتَّى تَسْتَقِرَّ الْجِنَايَةُ، إِمَّا بِالِانْدِمَالِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْجَانِي إِنِ انْدَمَلَتْ أَلْفَا دِينَارٍ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ أَلْفَا دِينَارٍ أَيْضًا، وَيَسْتَوِي حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي الِانْدِمَالِ أَوِ السِّرَايَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا قِيمَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ فَقَأَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَجَبَ فِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ إِنِ انْدَمَلَتْ، وَهُوَ أَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ وَهُوَ أَلْفَا دِينَارٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْتِقَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَسْتَقِرَّ الْجِنَايَةُ بِالِانْدِمَالِ فَيَجِبُ فِيهَا الْقِيمَةُ الْكَامِلَةُ أَلْفَا دِينَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّ مَا انْدَمَلَ وَلَمْ يَسْرِ اعْتُبِرَ فِيهِ وَقْتُ الْجِنَايَةِ وَكَانَ الِانْدِمَالُ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِقْرَارِ دُونَ الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ نَصْرَانِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ انْدَمَلَتْ عَيْنَاهُ وَجَبَ فِيهِمَا دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الِانْدِمَالِ مُسْلِمًا كَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا انْدَمَلَتْ عَيْنَاهُ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجَبَ فِيهِمَا قِيمَتُهُ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الِانْدِمَالِ حُرًّا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَجِبُ فِيهَا دِيَةُ حُرٍّ، وَذَلِكَ أَلْفُ دِينَارٍ، لِأَنَّهَا إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ اعْتُبِرَ بِهَا وَقْتُ السِّرَايَةِ دُونَ الْجِنَايَةِ، لِدُخُولِ الْأَطْرَافِ فِي النَّفْسِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَجِبُ فِيهَا أَلْفَا دِينَارٍ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ مَلَكَ بِالْجِنَايَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ هِيَ قِيمَةُ عَبْدِهِ وَالْعِتْقُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ إِنْ لَمْ يَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ يَزِدْهُ شَرًّا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 وَالثَّانِي: أَنَّ الِانْدِمَالَ غَايَةٌ كَالسِّرَايَةِ، ثُمَّ كَانَ الِانْدِمَالُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَقْتَضِي نَقْصَ قِيمَتِهِ، كَذَلِكَ السِّرَايَةُ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الِانْدِمَالُ وَالسِّرَايَةُ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ ثُمَّ انْدَمَلَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ وَجَبَ فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ وَلَوْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ دِيَتُهُ حُرًّا، كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَا دِينَارٍ وَجَبَ فِيهَا إِذَا انْدَمَلَتْ أَلْفَانِ، وَإِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ أَلْفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الِانْدِمَالُ وَالسِّرَايَةُ فِي دِيَاتِ الْأَطْرَافِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَجَبَ فِي الِانْدِمَالِ دِيَتَانِ، وَفِي السِّرَايَةِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وجب أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الدِّيَةِ فَيَجِبُ إِذَا انْدَمَلَتْ أَلْفَا دِينَارٍ، وَإِذَا سَرَتْ أَلْفٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ، وَالْخَيْرُ الْمُسْتَزَادُ بِالْعِتْقِ هُوَ الثَّوَابُ، وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِبْرَاءُ وَالْمَعُونَةُ فَصَارَ خَيْرًا أَيْضًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ وَجَبَ بِالِانْدِمَالِ أَلْفَانِ فَهَذِهِ الْأَلِفُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ دُونَ وَرَثَةِ الْعَبْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتْ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ النَّصَارَى، لِأَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّصْرَانِيَّ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْشِ فِي الْجِنَايَةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَوُرِثَتْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُسْلِمًا، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ كَانَتْ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ تُورَثْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُرًّا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِجِنَايَةٍ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ وَسرائهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فِي مِلْكِ الْمُعْتِقِ، فَيَكُونُ مَا قَابَلَ زَمَانَ الرِّقِّ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ وَمَا قَابَلَ زَمَانَ الْعِتْقِ لِلْوَارِثِ كَمَا لَوْ كَسَبَ مَالًا فِي الْعِتْقِ وَمَالًا فِي الرِّقِّ كَانَ مَا كَسَبَهُ فِي الرِّقِّ لِسَيِّدِهِ، وَمَا كَسَبَهُ فِي الْعِتْقِ لِوَارِثِهِ قِيلَ: السِّرَايَةُ أَثَّرَتْ نُقْصَانًا فِي حَقِّ السَّيِّدِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَهُ الْوَارِثُ وَلَوْ أَثَّرَتْ زِيَادَةً كَانَتْ لِلْوَارِثِ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقْتَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ يَسْرِي بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ دِيَتُهُ حُرًّا فَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا مِائَةُ دينار هي قيمته عبداً والباقي وهو تسع مائة دِينَارٍ لِوَرَثَتِهِ لِحُدُوثِهَا بَعْدَ عِتْقِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ وَأُعْتِقَ ثَمَّ مَاتَ فَلَا قَوَدَ إِذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا حُرًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا حُرًّا وَعَلَى الْحُرِّ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَطْعِهِ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ حَالُ الْجِنَايَةِ، وَالْمُعْتَبَرَ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 الدِّيَةِ حَالُ الِاسْتِقْرَارِ، إِمَّا بِالِانْدِمَالِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ كَانَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَبْدًا، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ حُرٍّ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مَاتَ حُرًّا، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا، أَوْ جَمِيعُ دِيَتِهِ حُرًّا؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا. وَهَذَا زَلَلٌ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتُ الْجِنَايَةِ فَنِصْفُ الْقِيمَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتُ الْمَوْتِ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ يُعْتَبَرَ بِهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مَا وَجَبَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ جَمِيعُ الدِّيَةِ. فَأَمَّا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا فِي جِنَايَةِ الِاثْنَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ يَدَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَيَقْطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى بعد العتق، ثم يموت فتكون عليها دِيَةُ حُرٍّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ، أَحَدُهُمَا فِي الرِّقِّ يَخْتَصُّ بِهَا السَّيِّدُ، وَالْأُخْرَى فِي الْحُرِّيَّةِ، يَخْتَصُّ بِهَا الْوَرَثَةُ. فَأَمَّا الْجَانِي الْوَاحِدُ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ جَمِيعِ دِيَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ نِصْفُ قِيمَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِيَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا فَمَا دُونَ، فَيَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ نِصْفَ قِيمَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لِوَرَثَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ دِيَتِهِ، وَلَا تَزِيدُ عَلَى جَمِيعِهَا فَيَسْتَحِقُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ جَمِيعِ دِيَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ دِيَتِهِ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَمِيعَ دِيَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَسْتَحِقُّ نِصْفَ دِيَتِهِ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ فَيُعْتَقُ، ثُمَّ يَعُودُ الْحُرُّ الْجَانِي فَتُقْطَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَطْعَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْدَمِلَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْرِيَا إِلَى النَّفْسِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْدَمِلَ الْأَوَّلُ، وَيَسْرِيَ الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْدَمِلَ الثَّانِي وَيَسْرِيَ الْأَوَّلُ إِلَى النَّفْسِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَا قَوَدَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَفِيهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَتِهِ حُرًّا؛ لِأَنَّ انْدِمَالَهَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ مَا وَجَبَ بِهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ. وَأَمَّا الْقَطْعُ الثَّانِي: فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ نِصْفُ دِيَتِهِ حُرًّا تَكُونُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ فَيَصِيرُ الْجَانِي فِي هَذَا الْقِسْمِ ضَامِنًا بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الْقِيمَةِ دُونَ الْقِصَاصِ، وَبِالْقَطْعِ الثَّانِي الْقِصَاصَ، أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَسْرِيَ الْقَطْعَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ فِيهَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْجَانِي فِي النَّفْسِ لِخُرُوجِهَا بِسِرَائهِ قَطْعَيْنِ، لَا قِصَاصَ فِي سِرَايَةِ أَحَدِهِمَا فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي سِرَايَةِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّهَا، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ؛ لِاسْتِقْرَارِهَا بَعْدَ السِّرَايَةِ فِي حُرٍّ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ القَطْعِ الثَّانِي فِي الْحُرِّيَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا قِصَاصَ لَهُ فِيهِ لِدُخُولِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي نَفْسٍ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا قَوَدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إنَّهُ يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ لِتَمْيِيزِهَا فِي الْقَطْعِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي النَّفْسِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ لِسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ وَجَبَ الدِّيَةُ، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ مِنْهُمَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِهِ لَوْ تَفَرَّدَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ قبل عتقه؛ لأن نصف الجناية ها هنا فِي حَالِ الرِّقِّ وَنِصْفَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَالَفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ حَمْلًا عَلَى هَذِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي، وَإِنْ سَقَطَ فِي النَّفْسِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْوَارِثِ دُونَ السَّيِّدِ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى بِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَقَدِ اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيِّدِ وَالْوَارِثِ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ مَنْ نِصْفِ الدِّيَةِ رَاجِعًا عَلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ بِالْحُرِّيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ، وَيَسْرِيَ الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 فَعَلَى الْجَانِي فِي الْقَطْعِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ لِانْدِمَالِهَا فِي عَبْدٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ. وَعَلَيْهِ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي الْقَوَدُ فِي الْنفسِ لِسِرَايَتِهِ إِلَيْهَا، وَأَنَّهَا مِنْ حُرٍّ إِلَى حُرٍّ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الدِّيَةِ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي نَفْسِ حُرٍّ، فَيَصِيرُ بِالْقَطْعَيْنِ مُلْتَزِمًا لِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَجَمِيعِ الدِّيَةِ يَخْتَصُّ السَّيِّدُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَالْوَرَثَةُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الثَّانِي، وَيَسْرِيَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ فِي النَّفْسِ، فَفِي الْقَطْعِ الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِيهِ الْقِصَاصُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِاسْتِقْرَارِهَا مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ نَفْسًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي حُرٍّ، يَكُونُ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ أو نصف ديته. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَطَعَ ثَانٍ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ رِجْلَهُ وَثَالِثٌ بَعْدَهُمَا يَدَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ حُرٍّ وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ الْأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَنِصْفَ قِيمَتِهِ عَبْدًا وَلَا يُجْعَلُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عبداً ولو كان لا يبلغ إلا بعيراً لأنه لم يكن في ملكه جناية غيرها ولا يجاوز به ثلث دية حر ولو كان نصف قيمته مائة بعير من أجل أنه تنقص بالموت والقول الثاني أن لسيده الأقل مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حراً لأنه مات من جناية ثالثة (قال المزني) رحمه الله وقد قطع في موضع آخر أنه لو جرحه ما الحكومة فيه بعير ولزمه بالحرية ومن شركه عشر من الإبل لم يأخذ السيد إلا البعير الذي وجب بالجرح وهو عبده (قال المزني) رحمه الله فهذا أقيس بقوله وأولى عندي بأصله وإن لم يزده على بعير لأنه وجب بالجرح وهو عبده ففي القياس أن لا ينقصه وإن جاوز عقل حر لأنه وجب له بالجرح وهو عبد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَدَدٍ مِنَ الأَحْرَارِ جَنَوْا عَلَى مُعْتَقٍ بَعْضُهُمْ فِي الرِّقِّ، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنِ اثنين. فإن كان الجاني عليه اثنان فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا فِي حَالِ الرِّقِّ إِحْدَى يَدَيْهِ، وَقَطَعَ الْآخَرُ بَعْدَ الْعِتْقِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَطْعَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْدَمِلَا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ قَاطِعًا فِي الرِّقِّ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تَكُونُ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَالْقَاطِعُ الثَّانِي عَلَيْهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 الْقَوَدُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ تَكُونُ لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الْأَوَّلُ، وَيَسْرِي الثَّانِي إِلَى النَّفْسِ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ دُونَ الْقِصَاصِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوِ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْدَمِلَ الْقَطْعُ الثَّانِي، وَيَسْرِيَ الْأَوَّلُ إِلَى النَّفْسِ، فَيَكُونُ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، فَإِنْ عَفَي عَنْهُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمُعْتَقِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا بَعْدَ الْعِتْقِ. وَأَمَّا الْقَطْعُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ نَفْسًا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِاسْتِقْرَارِهَا فِي حُرٍّ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ القِيمَةِ أَوِ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ الْأَوَّلُ بِقَطْعِهِ دُونَ الثَّانِي، وَلَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّ يَسْرِيَ الْقَطْعَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتَ، فَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: فِي الدِّيَةِ. فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ الْقَاطِعِ فِي الرِّقِّ قِصَاصٌ فِي الْيَدِ، وَلَا قَوَدٌ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهُ قَاطِعٌ فِي الرِّقِّ فَتَبِعَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ، لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُضْمَنْ جِنَايَتُهُ بِالْقِصَاصِ لَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتُهُ بِالْقَوَدِ. كَمَا أَنَّ مَا لَمْ تُضْمَنْ جِنَايَتُهُ بِالْأَرْشِ لَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتُهُ بِالدِّيَةِ. وَأَمَّا الْقَاطِعُ الثَّانِي بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ فِي حَالِ الْقَطَعِ وَالسِّرَايَةِ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِسِرَايَةِ جُرْحَيْنِ مُمْتَزِجَيْنِ فَأَوْجَبَ سُقُوطُ الْقَوَدِ فِي أَحَدِهِمَا سُقُوطَهُ فِي الْآخَرِ كَاشْتِرَاكِ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِاشْتِرَاكِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَتْلِ عَبْدٍ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ، لَا يَكُونُ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْفَضْلِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ فِي سِرَايَةِ الْقَطْعِ، وَخَالَفَ اشْتِرَاكَ الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْفَضْلِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَيْهَا دِيَةُ حُرٍّ لِاسْتِقْرَارِ جِنَايَتِهَا فِي حُرٍّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَلَا يَتَحَمَّلُ الْقَاطِعُ فِي الرِّقِّ أَقَلَّ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الْقَاطِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلَانِهِ لاختلافهما في رقه وحريته؛ كما لو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 عَبْدًا فِي الْحَالَتَيْنِ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ سَلِيمًا، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ مَقْطُوعًا. قُلْنَا: لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَخْتَلِفُ بِالسَّلَامَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَدِيَةَ الْحُرِّ لَا تَخْتَلِفُ بِالسَّلَامَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلِذَلِكَ تَسَاوَيَا فِي دِيَةِ الْحُرِّ وَتَفَاضَلَا فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَهِيَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ، لِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فِي رِقٍّ وَحُرِّيَّةٍ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدِّيَةِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ اسْتَوْفَى مِنَ القَاطِعِينَ الدِّيَةَ إِبِلًا وَأَعْطَى السَّيِّدَ نِصْفَهَا إِبِلًا، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفَهَا إِبِلًا. وَهَلْ يَخْتَصُّ السَّيِّدُ بِالنِّصْفِ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُحْتَمَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَخْتَصُّ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْجِنَايَةِ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ النِّصْفُ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ لِلسَّيِّدِ، وَالنِّصْفُ الَّذِي عَلَى الْقَاطِعِ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ، وَلَا يَقَعُ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِيهِمَا عَلَى الْقَاطِعَيْنِ، وَلَا يختص واحد منهما بما على أحدهما؛ لأنها اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِالسَّيِّدِ عَنْ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الإِبِلِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الإِبِلِ مُسْتَحَقَّةً فِي قِيَمِ الْعَبِيدِ، لِأَنَّهُ صَارَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيمَةِ إِلَى الدِّيَةِ، وَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنْ جِنْسِ الْقِيمَةِ إِلَى جِنْسِ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ السَّيِّدُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ نِصْفَ قِيمَةِ عَبْدِهِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِبِلِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إنَّ حَقَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْجَانِي الْأَوَّلِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ، وَقَوَّمَ بِهَا مِنَ الإِبِلِ مَا قَابَلَهَا، وَدَفَعَ مَا بَقِيَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ مَعَ جَمِيعِ النِّصْفِ الْآخَرِ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إنَّ السَّيِّدَ وَالْوَرَثَةَ مُشْتَرِكَانِ فِيمَا عَلَى الْقَاطِعَيْنِ أُخِذَتْ مِنْهُمَا الدِّيَةُ إِبِلًا، وَكَانَ السَّيِّدُ شَرِيكًا فِيهَا لِلْوَارِثِ بِنِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ، وَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مِنْ مَالِهِ، وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الدِّيَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَارِثُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى السَّيِّدِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ إِبِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي غَيْرِهَا، فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا كَانَتْ مِنِ اثْنَيْنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَدَدُ الْجُنَاةِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ كَالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَقَلَّ مِنَ الجُنَاةِ بَعْدَ الْعِتْقِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ من الجناة بعد العتق. والثالث: أن يتساوى عَدَدُهُمْ فِي الرِّقِّ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِذَا كَانُوا فِي الرِّقِّ أَقَلَّ، فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَصُورَتُهَا: أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ يَدَهُ فِي حَالِ الرِّقِّ، ثُمَّ يُعْتَقَ، فَيَقْطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَيَقْطَعَ ثَالِثٌ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، وَتَسْرِي الْجِنَايَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ، فَالْجَانِي فِي حَالِ الرِّقِّ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ. وَأَمَّا الْجَانِيَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ. وَعِنْدَ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ طَرَفِهِ، وَلَا يُقَادُ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ دِيَةُ حُرٍّ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، مُشْتَرِكٌ فِي الْتِزَامِهَا الْجَانِي فِي الرِّقِّ، وَالْجَانِيَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَهُمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ لِحُرٍّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي مِلْكِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْجَبَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ بِالسِّرَايَةِ زِيَادَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا لِزَوَالِ مِلْكِهِ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَإِنْ حَدَثَ نُقْصَانٌ عَادَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَاتٍ تُوجِبُ قِيَمًا ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَجَبَ قِيمَةٌ وَاِحِدَةٌ، وَعَادَ الْبَعْضُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَاتِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا سَقَطَ اعْتِبَارُ أُرُوشِهَا، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ، أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً، وَالْآخَرُ جَائِفَةً وَمَاتَ كَانَا فِي دِيَتِهِ سَوَاءً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ أَعْدَادُ الْجُنَاةِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ أَعْدَادُهُمْ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ لِلدِّيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَجَنَى عَلَيْهِ رَابِعٌ بَعْدَ الْعِتْقِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ رُبْعِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ من ربع قيمته عبدا، أو ربع ديته حراً اعتباراً، ولو كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 مَعَ الرَّابِعِ خَامِسٌ لَكَانَ لَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ خُمُسِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَلَهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ خُمُسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ خُمُسِ دِيَتِهِ حُرًّا؛ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي الْأَوَّلُ قَطَعَ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَقَطَعَ ثَانٍ بَعْدَ الْعِتْقِ بيَدَهُ، وَقَطَعَ ثَالِثٌ رِجْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ. فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثُلُثِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجُنَاةُ فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَصُورَتُهُ، أَنْ يَقْطَعَ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الرِّقِّ، ثُمَّ يَقْطَعُ ثَانٍ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ فَيَقْطَعُ ثَالِثٌ يَدَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ، فَعَلَى الثَّلَاثَةِ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثُلُثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ قِيمَتَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلْثَيْ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلُثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الجناة؛ لأن في الرق من الثلاثة اثنان، وبعد العتق واحد. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فِي الرِّقِّ ثَلَاثَةٌ: قَطَعَ أَحَدُهُمْ إِحْدَى يَدَيْهِ، وَقَطَعَ الْآخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَقَطَعَ الثَّالِثُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ رَابِعٌ بَعْدَ الْعِتْقِ رِجْلَهُ الْأُخْرَى، وَمَاتَ. فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَجَبَ لِجِنَايَاتِ الرِّقِّ قِيمَةٌ وَنِصْفٌ، فَهَلَّا أَوْجَبْتُمُوهَا لَهُ إِذَا اعْتَبَرْتُمْ أَرْشَ الْجِنَايَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّهَا إِذَا صَارَتْ نَفْسًا بَطَلَ اعْتِبَارُ مَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ حُكْمُهُمَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ. وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ، وَقَطَعَ ثَانٍ أصْبَعًا ثَانِيَةً، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَقَطَعَ ثَالِثٌ أصْبَعًا ثَالِثَةً، ثُمَّ مَاتَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ. وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ خُمْسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَوْ ثُلْثَيْ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلْثَيِ الْقِيمَةِ، أَوْ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَعْدَادُ الْجُنَاةِ فِي الرِّقِّ وَبَعْدَ الْعِتْقِ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقْطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الرِّقِّ، وَيَقْطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى ثُمَّ يُعْتَقُ، فَيَقْطَعَ ثَالِثٌ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، وَيَقْطَعَ رَابِعٌ رِجْلَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَمُوتُ، فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ، وَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ الْقِيمَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ، وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ. وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ، وَقَطَعَ الثَّانِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَقَطَعَ الثَّالِثُ رِجْلَهُ الْأُخْرَى، وَقَطَعَ الرَّابِعُ يَدَهُ الْأُخْرَى وَمَاتَ، فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ، وَفِي الْيَدِ نِصْفَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ. وَلَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ فِي الرِّقِّ إِحْدَى أَصَابِعِهِ، وَقَطَعَ الثَّانِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ الثَّالِثُ رِجْلَهُ الْأُخْرَى، وَقَطَعَ الرَّابِعُ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَمَاتَ فَفِيمَا لِلسَّيِّدِ مِنْهَا قَوْلَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ فِي الْإِصْبَعِ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَفِي الرِّجْلِ نِصْفَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ، لِأَنَّ فِي الرِّقِّ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ، وَفِي الْحُرِّيَّةِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ. وَصُورَتُهُ: فِي حُرٍّ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ؛ فَقَطَعَ ثَانٍ يَدَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ ذُبِحَ الْمَقْطُوعُ فَمَاتَ تَوْجِئَةً بِالذَّبْحِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الذَّابِحِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَاطِعَ الْأَوَّلَ فَقَدْ صَارَ بِالذَّبْحِ قَاطِعًا لِسِرَايَةِ الْقَاطِعِ الثَّانِي سَوَاءٌ انْدَمَلَ قَطْعُهُ، أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ، فَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي لِلْوَارِثِ دُونَ السَّيِّدِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَطَعَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. وَأَمَّا الْأُولَ فَقَدْ قَطَعَ ثُمَّ ذَبَحَ فَيُعْتَبَرُ الْقَطْعُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ انْدَمَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ وَوَجَبَ فِيهِ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ دُونَ الْقَوَدِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاطِعِ بِذَبْحِهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ لِلْوَارِثِ، فَإِنْ عَفَا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ قَطْعُهُ حَتَّى ذَبَحَهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ حُرٌّ جَنَى عَلَى عَبْدٍ، وَدَخَلَ أَرْشُهُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ دِيَةِ النَّفْسِ أَرْشُ قَطْعٍ لَمْ يَنْدَمِلْ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُ دُونَ السَّيِّدِ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنِ اقْتَصَّ الْوَارِثُ سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدِ مِنْ أَرْشِ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ قِصَاصٌ وَأَرْشٌ. فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ لَهُ دِيَةُ حُرٍّ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ نِصْفِ دِيَتِهِ حُرًّا قَوْلًا وَاحِدًا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْيَدِ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ لِإِصْبَعٍ مِنَ اليَدِ، كَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ عَبْدًا، أَوْ عُشْرِ دِيَتِهِ حُرًّا، اعْتِبَارًا بِأَرْشِ الْإِصْبَعِ. وَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ هُوَ الْقَاطِعَ الثَّانِي فَقَدِ اسْتَقَرَّ قَطْعُ الْأَوَّلِ الْقَاطِعِ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ انْدَمَلَ أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ، لِأَنَّ حُدُوثَ الذَّبْحِ بَعْدَهُ قَاطِعٌ لِسِرَايَتِهِ فَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، وَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَلَا قَوَدَ لِأَنَّهُ قَطْعُ حُرٍّ لِعَبْدٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْقَطْعِ الثَّانِي بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ قَدِ انْدَمَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ مَعَ حُكْمِ الذَّبْحِ، وَكَانَ لِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ. بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ، وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَيَسْتَوِي بِهِمَا حَقَّيِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ، وَيَأْخُذَ دِيَةَ النَّفْسِ، وَبَيْنَ أَنْ يقتص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 مِنَ النَّفْسِ وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْيَدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهَا فَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْيَدِ، وَدِيَةً كَامِلَةً فِي النَّفْسِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِانْدِمَالِ الْيَدِ دِيَةٌ وَنِصْفٌ. وَلَوْ لَمْ تَنْدَمِلِ الْيَدُ فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ أربعة أشياء: أحدها: أن يقتص من النفس واليد، فَيَسْتَوْفِيَ بِهِمَا حَقَّيِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ. وَالثَّانِي: أَنْ يقتص من اليد، ويعفوا عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ النَّفْسِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ سَهْوٌ إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ النَّفْسِ، وَيَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْعَبْدِ، فَيَسْقُطُ أَرْشُ الْيَدِ لِاخْتِصَاصِهَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ بِالْقِصَاصِ دُونَ الْأَرْشِ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي اليد والنفس فيحكم له بدية النفس، ويقسط أَرْشُ الْيَدِ لِدُخُولِهِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ. وَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ أَجْنَبِيًّا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعَيْنِ وَصَارَا وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلَا كَالْمُنْدَمِلَيْنِ لِمَا تَعَقَّبَهُمَا مِنَ التَّوْجِئَةِ الْقَاطِعَةِ لِسِرَايَتِهَا، وَكَانَ عَلَى الْقَاطِعِ الْأَوَّلِ لِلسَّيِّدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ عَبْدًا دُونَ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الثَّانِي لِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ؛ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حُرٍّ وَعَلَى الذَّابِحِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا الْوَارِثُ عَنْهُ فَلَهُ دِيَةُ النَّفْسِ كَامِلَةً، لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حُرٍّ عَلَى حُرٍّ، وَلَا تَنْقُصُ بِالْمَأْخُوذِ مَنْ أَرْشِ الْيَدَيْنِ لِمَا جَرَى عَلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الِانْدِمَالِ. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَيَقْطَعُ حُرٌّ إِحْدَى يَدَيْهِ، ثَمَّ يُعْتِقُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَيَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ يَدَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَمُوتُ، وَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِي نِصْفِهِ، وَالْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ عَبْدًا مَا بَلَغَتْ، وَنِصْفُ دِيَتِهِ حُرًّا لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ بَعْدَ عِتْقِ نِصْفِهِ وَرِقِّ نِصْفِهِ، وَيَتَحَمَّلُ الْقَاطِعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْقِيمَةِ وَرُبْعُ الدِّيَةِ، وَلَا يُفَضَّلُ وَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِنَايَتُهُمَا فِي الرِّقِّ وَالْعِتْقِ، لِاسْتِقْرَارِهَا فِيمَنْ رَقَّ نِصْفُهُ وَعُتِقَ نِصْفُهُ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَرِقِّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَتِهِ. فَأَمَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُعَتِقُ وَالْوَارِثُ إِذَا جَعَلْنَا مَنْ عُتِقَ بَعْضُهُ مَوْرُوثًا فَيَأْخُذُ مِنْهَا الْمُعَتِقُ أَقَلَّ الأمرين من ربع قيمته عبدا، أو ربع دِيَتِهِ حُرًّا، لِأَنَّ إِحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَالْأُخْرَى بَعْدَ عِتْقِهِ. وَيَعُودُ عَلَى الْوَارِثِ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فَضَلَ مِنْ رُبْعِ الْقِيمَةِ، إن كان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَعَادَ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ فَقَطَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَمَاتَ، فَقَدْ مَاتَ مِنْ جِنَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْأُخْرَى نِصْفُهَا فِي الرِّقِّ وَنِصْفُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ، لِاسْتِقْرَارِهَا فِيمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ، وَهُمَا فِي تَحَمُّلِهَا بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْجَانِي يُبْنَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، إِذَا صَارَتْ نَفْسًا. وَلَا يَتَقَسَّطُ الْأَرْشُ على أعداد الجرح، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جُرْحًا، وَالْآخَرُ عُشْرًا. وَيَكُونُ لِمَالِكِ رِقِّهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَا بَلَغَتْ. فَأَمَّا نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَكُونُ مِنْهَا لِمُعْتِقِهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رُبْعِ قِيمَتِهِ، أَوْ ثُمْنِ دِيَتِهِ، لِاسْتِقْرَارِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْجِنَايَةِ فِي نِصْفٍ بَعْدَ عِتْقِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا فَقَأَ عَيْنَيْهِ فِي الرِّقِّ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَا دِينَارٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ كَانَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: هِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ إِذَا جَنَى وَاحِدٌ عَلَيْهِ فِي الرِّقِّ، وَاثْنَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ، أَنَّهُ يُخْتَارُ مِنَ القَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي الرِّقِّ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِأَعْدَادِ الْجُنَاةِ تَمَسُّكًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَذِكْرَ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مَا تَكَرَّرَ وَنَفَيَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ قَالَ: لَمَّا كَانَ الزَّائِدُ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يَعُودُ عَلَى السَّيِّدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ بِالْحُرِّيَّةِ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الزَّائِدَ بِالْحُرِّيَّةِ حَادِثٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، وَالنَّاقِصَ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ فِعْلِهِ فَعَادَ عليه نقصه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى الْمُتَغَلِّبِ بِاللُّصُوصِيَّةِ وَالْمَأْمُورِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِلْمَأْمُورِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ بِقَتْلِ نَفْسٍ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِمَامًا مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا نَافِذَ الْأَمْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَاوِيَ الْمَأْمُورَ، وَلَا يَعْلُوَ عَلَيْهِ بِطَاعَةٍ وَلَا قُدْرَةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ إِمَامًا مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُورِ فِي قَتْلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَجْهَلَ حَالَ الْمَقْتُولِ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْتُلُ إِلَّا بِحَقٍّ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَا دِيَةَ، وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَعَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ أَمْرَهُ إِذَا كَانَ مُلْتَزَمَ الطَّاعَةِ يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِ لِنُفُوذِهِ، وَحُدُوثِ الْفِعْلِ عَنْهُ، وَجَرَى الْمَأْمُورُ مَعَهُ جَرْيَ الْآلَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا قَتْلُ الْأَئِمَّةِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يُكَفِّرَ لِمَا تَوَلَّاهُ مِنَ المُبَاشَرَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ، يُقْتَلُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِهَذَا الْمَأْمُورِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقْتُلَهُ مُخْتَارًا. والثاني: مُكْرَهًا. فَإِنْ قَتَلَهُ مُخْتَارًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْإِمَامِ، لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ لَا تَلْزَمُ فِي الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَيَكُونُ الْإِمَامُ بِأَمْرِهِ آثِمًا، وَيَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنَ القَتْلِ عَاصِيًا، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَوَدٌ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْإِمَامِ بِمُجَرَّدِ أَمْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِكْرَاهٌ لِلُزُومِ طَاعَتِهِ، وَنُفُوذِ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ الْقَوَدَ وَاجِبًا عَلَى الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ مَعًا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ فِي اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ، وَحَسْمِ عُدْوَانِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ ضَعِيفًا. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُكْرَهًا عَلَى الْقَتْلِ بِأَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلْتُكَ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ وَاجِبٌ. وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ كَالْإِمَامِ يُقَادُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا اشْتَرَكَا فِي الدِّيَةِ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ. وَبِهِ قَالَ زُفَرُ بن الهذيل. والقود الثَّانِي: أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ وَالْمُكْرَهِ، وَيَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِالْإِمَامِ الْمُكْرِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْمَأْمُورِ فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ. فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سَقَطَ القود عنه نصف الدية، لأنه أحد القائلين، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ: إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِلْجَاءٌ وَضَرُورَةٌ تَنْقُلُ حُكْمَ الْفِعْلِ عَنِ الْمُبَاشِرِ إِلَى الْآمِرِ كَالْحَاكِمِ إِذَا أَلْجَأَهُ شُهُودُ الزُّورِ إِلَى الْقَتْلِ. فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ تَسْقُطُ عَنْهُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْقَوَدُ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ الْمُكْرِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَوَدَ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ، وَلَا عَلَى الْمَأْمُورِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ سَبَبٌ وَمُبَاشَرَةُ الْمَأْمُورِ إِلْجَاءٌ، فَسَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِحُدُوثِ الْمُبَاشَرَةِ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ بِوُجُودِ الْإِلْجَاءِ، فَسَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ الله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [الإسراء: 33] فَلَوْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا مَعَ وُجُودِ الظُّلْمِ فِي الْقَتْلِ لَبَطَلَ سُلْطَانُهُ، وَلَمَّا انْزَجَرَ عَنِ الْقَتْلِ ظَالِمٌ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ يَمْنَعُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَّى رَجُلًا الْيَمَنَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهَما مَقْطُوعُ الْيَدِ. فَقَالَ: إِنَّ خَلِيفَتَكَ ظَلَمَنِي فَقَطَعَنِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ ظَلَمَكَ لَقَطَعْتُهُ. فَدَلَّ عَلَى مُؤَاخَذَةِ الْوَالِي بِظُلْمِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ. وَقَدْ أَنْفَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَسُولًا إِلَى امْرَأَةٍ أَرْهَبَهَا فَأَجْهَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَزَعًا فَالْتَزَمَ عُمَرُ دِيَتَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ عَادَا، وَقَالَا غَلِطْنَا، وَالسَّارِقُ هُوَ هَذَا فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا، وَلَمْ يَقْطَعِ الثَّانِي، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. فَجَعَلَ الْجَهْلَ لَهُمَا بِالشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِمَا وَأَخْذِهِمَا بِمُوجِبِهَا، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ عَاصَرَهُ فَصَارَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 قَدْ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ تَارَةً، وَبِالسَّبَبِ أُخْرَى، فَلَمَّا وَجَبَ الْقَوَدُ بِالْمُبَاشَرَةِ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِالسَّبَبِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقَتْلِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ وَافَقَ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْإِمَامِ الْآمِرِ رَدًّا عَلَى أَبِي يُوسُفَ، وَأَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنِ الْمَأْمُورِ الْمُكْرَهِ، وَسَلَبَهُ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ. وَمُوجِبُ تعليل البصريين في سقوط الدية والكفارة، ومخالف لِتَعْلِيلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ مَعَ سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِمَامِ الْآمِرِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَسْلُبُهُ بِالْإِكْرَاهِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَالْمَقْتُولِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ بِفِعْلِ الْمُخْتَارِ سَقَطَ فِيهِ الْقَتْلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ كَالزِّنَا، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ نَقَلَ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْآمِرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ حُكْمُهَا عَنِ الْمَأْمُورِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَيَصِيرُ الْمَأْمُورُ فِيهِ كَالْآلَةِ أَوْ كَالسَّبُعِ الْمُرْسَلِ وَالْكَلْبِ الشَّلَّاءِ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: إِكْرَاهُ حُكْمٍ، وَإِكْرَاهُ قَهْرٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ إِكْرَاهَ الْحُكْمِ وَهُوَ إِلْجَاءُ الْحَاكِمِ إِلَى الْقَتْلِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَمْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ إِكْرَاهُ الْقَهْرِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ تَارَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَتَارَةً عَلَى الْقَتْلِ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَتْلِ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قول الله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [الإسراء: 33] وَلِأَنَّهُ عَمْدٌ، قَتَلَهُ ظُلْمًا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ إِحْيَاؤُهُ لَهَا مِنْ قَتْلِهِ قَوَدًا، قِيَاسًا عَلَى الْمُفْطِرِ إِذَا أَكَلَ مِنَ الجُوعِ مَحْظُورَ النَّفْسِ، ثُمَّ هَذَا أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ المُضْطَرِّ، لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ عَلَى يَقِينٍ مِنَ التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلَيْسَ الْمَأْمُورُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ القَتْلِ إِنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَعَلَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ رُكَّابَ السَّفِينَةِ إِذَا خَافُوا الْغَرَقَ مِنْ ثِقَلِهَا فَأَلْقَوْا بَعْضَهُمْ فِي الْبَحْرِ لِيَسْلَمَ بَاقِيهِمْ لَزِمَهُمُ الْقَوَدُ، وَلَوْ صَادَفَهُمْ سَبُعٌ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ أَحَدَهُمْ لِيَتَشَاغَلَ بِهِ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ، كَذَلِكَ الْمُكْرَهُ الْمُفْتَدِي نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ غَيْرِهِ مِثْلُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِالْغَيْرِ أَوْلَى مِنْ إِحْيَاءِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ فَاسْتَوَيَا، وَصَارَ وُجُودُ الْعُذْرِ كَعَدَمِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا كَوُجُوبِهِ لَوْ لَمْ يكن مكرهاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ مُنْتَقِضٌ بِأَكْلِهِ مِنَ الجُوعِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَدْفُوعِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ نَفْسَهُ بِالطَّلَبِ فَصَارَ مَقْتُولًا بِحَقٍّ، وَهَذَا مقتول بظلم، فافترقا. وقياسهم عَلَى الْإِكْرَاهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِحَالَتِهِ لِأَنَّ إِيلَاجَ الذَّكَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْتِشَارِهِ، وَانْتِشَارُ الذَّكَرِ، وَإِنْزَالُ مَائِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فَاسْتَحَالَ فِيهِ الْإِكْرَاهُ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ، فِيهِ لِأَنَّ انْتِشَارَ الذَّكَرِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّبْعِ الْمُحَرِّكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا بِمَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَبْعِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالْإِكْرَاهِ اخْتِصَاصَهُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَتْلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ نَقَلَ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ تَعَدَّى عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ، وَالْفِعْلُ إِذَا تَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ الْفَاعِلُ، لِأَنَّ تَعَدِّيِهِ لِفَضْلِ قوته. وجمعهم بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْحَاكِمِ إِلْجَاءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِالْقَوَدِ، وَمَنْ قَتَلَهُ الْمُكْرَهُ مَظْلُومٌ، وَالْقَاتِلُ فِيهِ مَأْثُومٌ فَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ الْقَتْلِ افْتَرَقَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ وَوَلَّاهُ إِذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْقَتْلِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْآمِرِ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ، لِأَنَّ طَاعَةَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ تَلْزَمُ كَلُزُومِ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَا كَرِهَتْهُ النَّفْسُ وَشَقَّ عَلَيْهَا مِنْ قَتْلٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، كَالْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، أَوْ بِمَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جُرْحٍ، وَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ، وَأَخْذُ الْمَالِ فِيهِ إِكْرَاهًا، لِأَنَّ حُرْمَةَ النفوس من أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَتْلِ أَغْلَظَ مِنَ الإِكْرَاهِ فِيمَا عَدَاهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِكْرَاهِ الْإِمَامِ عَلَى قَتْلِ الظُّلْمِ هَلْ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَلِكَ فِي ارْتِكَابِهِ لِلْكَبَائِرِ الَّذِي يَفْسُقُ بِهَا. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِمَامَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَا مِنَ الإِمَامَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، لانعقادها بهم، وعليهم أن يستنيبوه فإن تاب وإلا خعلوه. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ مُتَغَلِّبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا بِتَأْوِيلٍ كَمَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِإِمَامَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ، إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُورِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى رَأْيَهُ، وَيَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ، أَوْ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِنْ كان موافقا لرأيه معتقد الطَّاعَةَ فَحُكْمُ الْمَأْمُورِ مَعَهُ كَحُكْمِهِ مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الآمِرِ إِكْرَاهٌ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ إِكْرَاهٌ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ فِي رَأْيِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حَالُ الْمَأْمُورِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْآمِرِ، ويجري عليه حكمه مع الآمر إذا كان مُتَغَلِّبًا بِاللُّصُوصِيَّةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حَالُ الْآمِرِ، وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ مَعَ الْآمِرِ إِذَا كَانَ إِمَامًا لِأَهْلِ الْعَدْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَاغِي مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعَدْلِ مَعَ إِمَامِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَمْضَى أَحْكَامَ قَضَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، وَجَوَازَ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ مِنْهُمَا فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمُعْتَقَدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَلِّبًا بِاللُّصُوصِيَّةِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 فَالْفَرْقُ بَيْنَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْإِمَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا. فَأَحَدُهَا: أَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَطَاعَةُ هَذَا الْمُتَغَلِّبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِ الْإِمَامِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ يَحِقُّ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ ظَلَمَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَغَلِّبِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ يَظْلِمُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ حَقٌّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ فِيمَنْ يَسْتَبِيحُ قَتْلَهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ، وَحُرٍّ بِعَبْدٍ نَافِذٍ، وَاجْتِهَادُ هَذَا الْمُتَغَلِّبِ فِيهِ غَيْرُ نَافِذٍ. فَإِذَا افْتَرَقَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ اعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآمِرِ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مُتَغَلِّبًا فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا فِي الْجِهَتَيْنِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ الْإِكْرَاهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ أَوْ يَخْتَلِفَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْإِكْرَاهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْآمِرِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَمَرَ الْمُتَغَلِّبُ رَجُلًا بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُورِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِظُلْمِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَمْرِهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَاعٍ فِي الظَّاهِرِ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَصَارَ الْمَأْمُورُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْقَتْلِ، وَالْآمِرُ مُشِيرٌ بِهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْآمِرُ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ عَلَى الْآمِرِ الْقَوَدُ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ، لِاسْتِوَاءِ الْإِمَامِ وَالْمُتَغَلِّبِ فِي الْإِكْرَاهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ كَمَا اخْتَلَفَا فِي حُكْمِ الِاخْتِيَارِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ شُبْهَةً لَيْسَتْ فِي طَاعَةِ الْمُتَغَلِّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، لَا يُقْدَرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ، وَأَمْرُ الْمُتَغَلِّبِ خَاصٌّ فِي بَعْضِهَا يُقْدَرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهَا. فَعَلَى هَذَا إِذَا أَكْرَهَ الْمُتَغَلِّبُ رَجُلًا عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ فِي مُكْرَهِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ: لِمَا ذُكِرَ مِنَ الفَرْقَيْنِ، وَإِنْ كَانَا ضَعِيفَيْنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ مُسَاوِيًا لِلْمَأْمُورِ لَا يَفْضُلُ عَلَيْهِ بِقُدْرَةٍ، وَلَا يَدٍ فَالْإِكْرَاهُ مِنْ مِثْلِهِ مَعْدُومٌ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْآمِرُ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ المُمْسِكِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لكن يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 آثِمًا بِالرِّضَا وَالْمَشُورَةِ، وَعَلَى الْمَأْمُورِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيَخْتَصُّ بِالْتِزَامِهَا مَعَ الْكَفَّارَةِ. فَإِنْ غَرَّ الْآمِرُ الْمَأْمُورَ وَقَالَ: اقْتُلْ هَذَا فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ فَقَتَلَهُ وَكَانَ مُسْلِمًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَاجِبٌ، وَلَا قَوَدَ عَلَى الْآمِرِ، فَإِنْ عَفَي عَنِ الْقَوَدِ وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْآمِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا، فَضَعُفَ غُرُورُ الْآمِرِ فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ وَلَا عَلَى الْآمِرِ، وَتَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ الدِّيَةُ كَالْخَاطِئِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ كُفْرُ أَهْلِهَا. فَإِذَا غَرِمَ الْمَأْمُورُ الدِّيَةَ فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا عَلَى الْآمِرِ الْغَارِّ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ غَرَّ رَجُلًا فِي النكاح على أن المنكوحة حرة فباتت أَمَةً، هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا غَرَّمَهُ مِنْ صَدَاقِهَا فِيهَا قَوْلَانِ: كَذَلِكَ هَاهُنَا يَتَخَرَّجُ فِيهِ وجهان والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى السَّيِّدِ الْقَوَدُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْقِلُ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَعْقِلُ فَعَلَى الْعَبْدِ الْقَوَدُ وَلَوْ كَانَا لِغَيْرِهِ فَكَانَا يُمَيِّزَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِمَا فَهُمَا قَاتِلَانِ وَإِنْ كَانَا لَا يُمَيِّزَانِ فَالْآمِرُ الْقَاتِلُ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمَرَ عَبْدَهُ بِالْقَتْلِ. فَامْتَثَلَ أَمْرَهُ فِيهِ فَلِلْعَبْدِ الْمَأْمُورِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ بَيْنَ الْمَحْظُورِ وَالْمُبَاحِ، إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِأَعْجَمِيَّتِهِ، فَيَكُونُ السَّيِّدُ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مَعَهُ كَالْآلَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا أَوْ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي يُشْلِيهَا فَيَكُونُ الْقَوَدُ فِي الْمَقْتُولِ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ، فَإِنْ عَفَي عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ حَالَّةً فِي مَالِهِ، وَلَا تَرْتَهِنُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ بِهَا، وَيَكُونُ كَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِهَذَا الْعَبْدِ، اقْتُلْنِي فَقَتَلَ سَيِّدَهُ بِأَمْرِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ السَّيِّدُ قَاتِلَ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ: اقْتُلْ نَفْسَكَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ عَنْ أَمْرِهِ، كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْقَاتِلَ لِعَبْدِهِ، فَيُؤْخَذُ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ قَاتِلُ عَبْدِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ يُمَيِّزُ فِي طَاعَةِ سَيِّدِهِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَبَيْنَ الْمَحْظُورِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مَحْظُورٌ لَا يُطَاعُ فِيهِ السَّيِّدُ، إِمَّا لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ، وإما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 لِمُرَاهَقَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا لَمْ يَبْلُغْ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ: اقْتُلْنِي فَقَتَلَ سَيِّدَهُ بِأَمْرِهِ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي أَمْرِ السَّيِّدِ إِبْرَاءً مِنَ القَوَدِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي رَقَبَتِهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمُسْتَحِقِّهَا مِنَ الوَرَثَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ السَّيِّدُ: اقْتُلْ نَفْسَكَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ دُونَ السَّيِّدِ. وَهَكَذَا حُكْمُ الْأَبِ مَعَ ابْنِهِ إِذَا أَمَرَهُ بِالْقَتْلِ فِي أَنْ يُرَاعَى تَمْيِيزُ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ الْأَبِ فِي الْقَتْلِ لَا تَجِبُ، فَالِابْنُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرِهِ أَوْ بَلَهِهِ، فَالْأَبُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الِابْنِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ عَبْدَ غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ، فَأَطَاعَ الْعَبْدُ غَيْرَ سَيِّدِهِ فِي الْقَتْلِ، رُوعِيَ حَالُ الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَاعَةِ سَيِّدِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ لِصِغَرِهِ أَوْ أَعْجَمِيَّتِهِ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ آمِرٍ مُطَاعٌ كَانَ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِ طَاعَتِهِ، فَالْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْآمِرِ، فَإِنْ تَشَبَّهَ الْأَجْنَبِيُّ بِالسَّيِّدِ وَدَلَّسَ نفسه على العبد حين أمره القتل كَانَ الْآمِرُ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ الْعَبْدِ، إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُفَرِّقُ فِي طَاعَةِ السَّيِّدِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ، وَإِنْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، فَالْعَبْدُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ الْآمِرِ. وَلَوْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْعَبْدِ: قَدْ أَمَرَكَ سَيِّدُكَ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَأَمْرِ سَيِّدِهِ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ كَأَمْرِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا تَفَصَّلَ مِنَ الحُكْمَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَتَلَ مُرْتَدٌّ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ رَجَعَ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَهُوَ أَوْلَاهُمَا لِأَنَّهُ قَتَلَ وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَالثَّانِي أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَبَانَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَاهُمَا فَالْأَوْلَى أَحَقُّ بِالصَّوَابِ وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي رَفْعِ الْقَوَدِ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ نَصْرَانِيًّا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ لَكَانَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْلَمَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ الْحَرَامُ الدَّمِ إِذَا أَسْلَمَ يُقْتَلُ بِالنَّصْرَانِيِّ فَالْمُبَاحُ الدَّمِ بِالرِّدَّةِ أَحَقُّ أَنْ يُقَادَ بِالنَّصْرَانِيِّ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ نَصْرَانِيًّا صَاحِبَ عَهْدٍ أَوْ جِزْيَةٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَاجِبٌ، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ تَنَوَّعَ وَاخْتَلَفَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 وَاحِدَةٌ، ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ المُرْتَدِّ، لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ إِسْلَامِ النَّصْرَانِيِّ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ نَصْرَانِيًّا لَا يَمْنَعُ مِنَ القَوَدِ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْكُفْرِ عِنْدَ الْقَتْلِ، كَذَلِكَ تَقَدُّمُ إِسْلَامِ الْمُرْتَدِّ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ القَوَدِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَتِهِ بَعْدَ زَوَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِي قَتْلِ النَّصْرَانِيِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَى الْمُرْتَدِّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ الْقَوَدِ، بِمَا يُؤْخَذُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُؤْخَذُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَوَاتِ وَقْتِهِ، ولا يؤخذ منه الجزية، لأن لا يجري عليه صغر الْكُفْرِ، وَتُمْنَعُ الْمُرْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحِ كَافِرٍ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لَهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارِيًا عَلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِقَتْلِ الْكَافِرِ، وَبِهَذَا يُدْفَعُ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ كَانَتْ دِيَةُ النَّصْرَانِيِّ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ رَجَعَ عَنْهَا، وَيَكُونُ بَاقِي مَالِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ إِنْ قَلَّ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَوَلِيُّ النَّصْرَانِيِّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ، فَإِنْ عفى عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ فَعَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ فَلِلْمُرْتَدِّ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيَسْقُطَ قَتْلُ الرِّدَّةِ وَيُقْتَلَ قَوَدًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِيمَ عَلَى رِدَّتِهِ فَيُقَالُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: إِنْ عَدَلْتَ إِلَى الدِّيَةِ قَتَلْنَاهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَقَمْتَ عَلَى طَلَبِ الْقَوَدِ قَتَلْنَاهُ قَوَدًا، وَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ، وَكَانَ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُقَدَّمُ قَتْلُهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَصْمَ فِي الْقَوَدِ آدَمِيٌّ حَاضِرٌ فَكَانَ أَوْكَدَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ الرِّدَّةِ أَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي قَتْلِهِ قَوَدًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ نَصْرَانِيٌّ مُرْتَدًّا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَلَا دِيَةَ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ فَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُبَاحُ الدَّمِ فِي حُقُوقِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، كَالْقَاتِلِ مُبَاحُ الدَّمِ فِي حُقُوقِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ لَمْ يَضْمَنُوا وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمْ ضَمِنُوا، كَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إِنْ قَتَلَهُ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَضْمَنُوهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمْ ضَمِنُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ بِالْقَوَدِ دُونَ الدِّيَةِ، فَيُقَادُ بِهِ النَّصْرَانِيُّ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مُعْتَبَرٌ بِالْمُعْتَقَدِ، وَقَدْ تَكَافَآ فِيهِ فَوَجَبَ فَإِنْ عَفَي عَنْهُ سَقَطَتِ الدِّيَةُ، لِأَنَّهَا بِوُجُوبِ الْحُرْمَةِ، وَلَا حُرْمَةَ لِنَفْسِ الْمُرْتَدِّ، فَلَمْ تَجِبْ فِي قَتْلِهِ دِيَةٌ، وَعَكْسُ مَا قَالَهُ ابْنُ سَلَمَةَ أَشْبَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ أَغْلَظُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ لِأَنَّ عَمْدَ الْخَطَأِ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَلَا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَلَوْ قَالَ: إِنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْقَوَدِ لَكَانَ أَشْبَهَ بِالْأُصُولِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا وَجَبَ قَتْلُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ. فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ وَلِيَّ قَتْلِهِ هُوَ الْإِمَامُ، فَإِذَا تَوَلَّاهُ غَيْرُهُ أُقِيدَ مِنْهُ، كَالْعَامِلِ إِذَا قَتَلَهُ غَيْرُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ أُقِيدَ بِهِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا قَوَدَ، لِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ؟ أَمْ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَفَى بِالسَّيْفِ شَا " يَعْنِي شَاهِدًا هَذَا فَانْصَرَفَ سَعْدٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَنْصَارِ: أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ فَقَالُوا: اعْذُرْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَمَا طَلَّقَ امْرَاةً فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنَّا ". فَمَوْضِعُ الدليل منه أنه أباح قَتْلَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا غَزَا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَخَاهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ. فَقَالَتْ لَهُ: أَدْرِكِ امْرَأَةَ أَخِيكَ، عِنْدَهَا رَجُلٌ يُحَدِّثُهَا، فَتَسَوَّرَ السَّطْحَ، فَإِذَا هِيَ تَصْنَعُ لَهُ دَجَاجَةً وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: (وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنِّي ... خَلَوْتُ بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ) (أَبِيتُ عَلَى ترائبها ويمسي ... على جرد الأعنة والحزام) (كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا ... فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إِلَى فئام) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 بِجِيفَتِهِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أُنْشِدُ اللَّهَ امْرَأً عِنْدَهُ عِلْمُ هَذَا الْقَتِيلِ إِلَّا أَخْبَرَنِي، فَقَامَ الرَّجُلُ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَأَهْدَرَ عُمَرُ دَمَهُ، وَقَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَسَحَقَهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ خَيْبَرِيٍّ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ وَقَتَلَهَا، فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الْقَضَاءُ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهَا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِنَا حَلَفْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرْنِي بِهَا فَقَالَ: كَتَبَ بِهَا إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ عَلِىٌّ: يَرْضَوْنَ بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُونَ عَلَيْنَا، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ ". وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلْيَضْرِبْ عَلَى رُمَّتِهِ يَعْنِي بِالسَّيْفِ قَوَدًا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ فَلْيُسَلَّمْ بِرُمَّتِهِ حَتَّى يُقَادَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ، فَقَدْ فَرَّقَ مَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ قَوَدًا وِدِيَةً، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ الدِّيَةِ بِالْقَوَدِ، وَلَيْسَ عَلَى الزَّانِي إِلَّا الْقَتْلُ الَّذِي لَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ وَجَبَ قَتْلُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ فَلَا قَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ لِانْحِتَامِ قَتْلِهِ وَإِنْ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ أُقِيدَ مِنْ قَاتَلِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِإِقْرَارِهِ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ لِسُقُوطِهِ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ مُحَارِبًا مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ قَتَلَ فِي الْحِرَابَةِ رَجُلًا فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ دُونَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، لِمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ. فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الأَجَانِبِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ لا قود عليه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُقْتَلُ الذَّابِحُ دُونَ الْمُمْسِكِ كَمَا يُحَدُّ الزَّانِي دُونَ الْمُمْسِكِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ، فَأَمَّا الْمُمْسِكُ فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِالْإِمْسَاكِ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُمْسِكِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِحَبْسِ الْمُمْسِكِ حَتَّى يَمُوتَ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الْمَقْتُولَ حَتَّى مَاتَ، فَوَجَبَ أَنْ يُجَازَى بِمِثْلِهِ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ قَوَدًا كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ مَازِحًا مُلَاعِبًا فَلَا يُقَادُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تعالى {فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء: 33] . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ. وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ أَيْ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ. وَالْمُمْسِكُ قَدْ عَاوَنَ عَلَى الْقَتْلِ وَلِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا فِي قَتْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَوَدِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَلِأَنَّ مُمْسِكَ الصَّيْدِ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَلَوْ أَمْسَكَهُ أَحَدُ الْمُجْرِمَيْنِ، وَقَتَلَهُ الْآخَرُ اشْتَرَكَا فِي الْجَزَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكُ الْمَقْتُولِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَيَكُونَا فِيهِ سَوَاءً، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لِلْقَتْلِ كَالشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعُوا قُتِلُوا قَوَدًا بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا كَذَلِكَ الْمُمْسِكُ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " يُقْتَلُ الْقَاتِلُ، وَيُصْبَرُ الصَّابِرُ ". قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّ الْمَصْبُورَ هُوَ الْمَحْبُوسُ، يُرِيدُ بِالْحَبْسِ التَّأْدِيبَ لَا كَمَا تَأَوَّلَهُ رَبِيعَةُ عَلَى الْحَبْسِ إِلَى الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ، وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّبَبِ إِلْجَاءٌ كَالشُّهُودِ سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِوُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَدَفَعَ رَجُلٌ فِيهَا إِنْسَانًا فَمَاتَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْقَتْلِ تَارَةً بِالْإِمْسَاكِ وَتَارَةً بِالْحَبْسِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْحَبْسِ لَمْ يُقْتَلِ الْحَابِسُ، كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ لَمْ يُقْتَلِ الْمُمْسِكُ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُمْسِكِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْمُبَاشِرِ فِي الزِّنَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً حَتَّى زَنَا بِهَا رَجُلٌ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي دُونَ الْمُمْسِكِ. وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُمْسِكِ فِي الْقَتْلِ بِمَثَابَتِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْمُمْسِكِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْقَوَدِ جَازَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الْحَدِّ. وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَوِ انْفَرَدَ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُضْمَنَ إِذَا تَعَقَّبَهُ الْقَتْلُ. وَلِأَنَّ مَا لَا يضمن خطاؤه لم يضمن عمده كالضرب بما لا يقبل. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وَالسَّرَفُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْقَاتِلُ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِقَاتِلٍ. وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي قَتْلِهِ، لَأَنَّ الْمُعَاوَنَةَ هِيَ التَّسَاوِي فِي الْفِعْلِ وَبِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضْمَنُ إِذَا انْفَرَدَ، فَضُمِنَ إِذَا شَارَكَ وَالْمُمْسِكُ لَا يُضْمَنُ إِذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يُضْمَنْ إِذَا تَعَقَّبَهُ قَاتِلٌ. وَأَمَّا إِمْسَاكُ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِهِ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْيَدِ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَالْمَقْتُولُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ جَارِيًا مَجْرَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَوَجَبَ إِذَا أَمْسَكَ الْمَجُوسِيُّ شَاةً فَذَبَحَهَا مُسْلِمٌ أَنْ لَا تُؤْكَلَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَ فِي ذَبْحِهَا مَجُوسِيٌّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُمْسِكِ وَالْمُشَارِكِ. وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمَا أَلْجَآ الْحَاكِمَ إِلَى الْقَتْلِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُمْسِكِ إِلْجَاءٌ فَافْتَرَقَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَهُ بِمَا الْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَقْطَعُ عُضْوًا أَوْ يُوضِحُ رَأْسًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ فِي الْقَتْلِ بالمحدود وَالْمُثَقَّلِ، كَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ يَجِبُ فِي الْمُحَدَّدِ وَالْمُثَقَّلِ، فَلَوْ رَمَى رَأْسَهُ بِحَجَرٍ فَأَوْضَحَهُ، وَمِثْلُهُ يُوضِحُ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يُوضِحُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا أَوْضَحَ فَهُوَ عَمْدٌ شِبْهُ الْخَطَأِ، فَفِيهِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ دُونَ الْقَوَدِ، كَذَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ بِخَشَبَةٍ فَأَبَانَهَا، كَانَ مِثْلُهَا يَقْطَعُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا لَا يَقْطَعُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهَا الدِّيَةُ، كَمَا قُلْنَا فِي تَلَفِ النُّفُوسِ. فَلَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ، فَلَوْ شَجَّهُ بِحَجَرٍ فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ، وَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ فمات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 فَإِنْ كَانَ مِثْلُ الْحَجَرِ يُوضِحُ وَيَقْتُلُ غَالِبًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَالْقَوَدُ فِي النَّفْسِ. وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُوضِحُ غَالِبًا وَلَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ، لِأَنَّهَا عَمْدٌ مَحْضٌ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يُشْبِهُ الْخَطَأَ، وَهَذَا إِذَا حَدَثَ مِنْهُ الْقَتْلُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ سِرَايَةٍ. فَأَمَّا إِذَا سَرَتِ الْمُوضِحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَالْقِصَاصُ فِيهَا وَفِي النَّفْسِ وَاجِبٌ بِحُدُوثِ الْقَتْلِ عَنْ جُرْحٍ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سِرَايَتُهُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا سَقَاهُ سُمًّا فَمَاتَ فَالسُّمُّ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا فِي الْغَالِبِ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَوَدَ، وَيَكُونُ هَذَا السُّمُّ مِنْ آلَةِ الْقَتْلِ كَالسَّيْفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا السُّمُّ قَاتِلًا بِانْفِرَادِهِ، وَلَا يَقْتُلُ إِذَا كُسِرَ بِغَيْرِهِ، فَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِنْ أَفْرَدَهُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِنْ كَسَرَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتُلَ إِذَا خُلِطَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَقْتُلَ إِذَا أُفْرِدَ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِذَا أُفْرِدَ، وَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ إِذَا خُلِطَ بِمَا يَقْتُلُ مَعَهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ الْعُضْوَ الضَّعِيفَ، وَلَا يَقْتُلُ الْجَلْدَ الْقَوِيَّ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْجَلْدِ الْقَوِيِّ، وَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْعُضْوِ الضَّعِيفِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ فِي بَعْضِ الْفُصُولِ فِي السَّنَةِ، وَلَا يَقْتُلُ فِي بَعْضِهَا فَيَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي الْفَصْلِ الْقَاتِلِ، وَلَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْفَصْلِ الْقَاتِلِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ تَارَةً، وَلَا يَقْتُلُ أُخْرَى فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ، وَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَيَكُونُ كَعَمْدِ الْخَطَأِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاقِي لِلسُّمِّ وَوَلِيُّ الْمَسْقِيِّ فِي السُّمِّ. فَقَالَ السَّاقِي: لَيْسَ بِقَاتِلٍ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَقْسَامِ مَا لَا يَقْتُلُ. وَقَالَ وَلِيُّ الْمَسْقِيِّ: هُوَ قَاتِلٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَقْسَامِ مَا يَقْتُلُ، فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَدِمَا الْبَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاقِي مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ. فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَاتِلٌ وَقَالَ السَّاقِي: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ قَاتِلٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 أَحَدُهُمَا: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لم يعلم، لأنه شُبْهَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَالْخَاطِئِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْلَامِ حَالِهِ فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ عَلِمَ بِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَقْسَامِ السُّمِّ الْقَاتِلِ وَأَحْكَامِهِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطِهِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي صِفَةِ وَصُولِ السُّمِّ إِلَى الْمَسْمُومِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّاقِي إِكْرَاهٌ عَلَى شُرْبِهِ أَوْ أَكْلِهِ فَهُوَ قَاتِلُ عَمْدٍ وَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ إِكْرَاهٌ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَ السُّمَّ مِنْ يَدِهِ إِلَى الْمَسْمُومِ فَيَشْرَبَهُ الْمَسْمُومُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ أَبْلَهَ لَا يُمَيِّزُ، وَيُطِيعُ كُلَّ أَمْرٍ فَعَلَى السَّاقِي الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ أَبْلَهَ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا فَلِلسَّاقِي حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّهُ سُمٌّ فَيَشْرَبَهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَى السَّاقِي وَلَا دِيَةَ وَيَكُونُ شَارِبُ السُّمِّ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ السَّاقِي بَعْدَ تَسْمِيَتِهِ بِالسُّمِّ أَنَّهُ قَاتِلٌ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، لِأَنَّ اسْمَ السُّمِّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَقْتُلُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُعْلِمَهُ عِنْدَ دَفْعِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُمٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِمُبَاشَرَةِ الدَّفْعِ وَإِخْفَاءِ الْحَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِشُرْبِ الْمَسْمُومِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهُ السَّاقِي بِطَعَامٍ لِنَفْسِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْكُلَهُ الْمَسْمُومُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَلَا قَوَدَ عَلَى السَّاقِي وَلَا دِيَةَ، وَالْآكِلُ هُوَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ فَيَكُونَ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ مِنْ يَدِهِ، لَأَنَّ الْإِذْنَ فِي الطَّعَامِ أَمْرٌ بِأَكْلِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَضَعَهُ فِي طَعَامِ الْمَسْمُومِ فَيَأْكُلَهُ الْمَسْمُومُ، وَهُوَ لَا يعلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 بِسُمِّهِ، فَيَكُونُ السَّاقِي ضَامِنًا لِقِيمَةِ الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالسُّمِّ كَالْمُسْتَهْلِكِ، وَفِي ضَمَانِهِ لِنَفْسِ الْمَسْمُومِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَضْمَنُهَا بِالْقَوَدِ، وَهَكَذَا يَكُونُ الْقَتْلُ بِالسُّمِّ فِي الْأَغْلَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ جِهَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ وَضْعِ السُّمِّ فِي طَعَامِ السَّاقِي وَوَضْعِهِ فِي طَعَامِ الْمَسْمُومِ أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامَ السَّاقِي بِأَمْرِهِ فَصَارَ بِالْأَمْرِ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ، وَأَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ ديته، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَمَدَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ فَفَقَأَهَا اقْتُصَّ مِنْهُ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ يَأْتِي مِنْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بِهِ السِّلَاحُ مِنَ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ تَنْفَقِئْ وَاعْتَلَّتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا أَوِ انْتَجَفَتْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ بِأُصْبُعِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ الْإِصْبَعَ يَأْتِي مِنَ العَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَدِيدُ مِنَ النَّفْسِ، وَالْعَيْنُ تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الجَسَدِ وَتَنْفَصِلُ كَالْأَعْضَاءِ، فَوَجَبَ الْقَوَدُ فِيهَا كَالْأَطْرَافِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فِي شَرِيعَتِنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ إِخْبَارٌ عَنْ شَرِيعَةِ غَيْرِنَا، وَهِيَ لَازِمَةٌ لَنَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ، وَإِذَا كَانَ الْقَوَدُ فِيهَا وَاجِبًا، فَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أن تنقلع الحدقة بالفقإ فَيَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا بِالْإِصْبَعِ مُقَابَلَةً لِلْجِنَايَةِ بِمِثْلِهَا، وَيَجُوزُ قَلْعُهَا بِالْحَدِيدِ، لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَأَسْرَعُ، فَإِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يُبْصِرُ بِالْعَيْنِ الْأُخْرَى، جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى الِاقْتِصَاصَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِخَوْفِ تَعَدِّيهِ، وَتَوَلَّاهُ وَكِيلُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْحَدَقَةُ بَاقِيَةً فِي مَوْضِعِهَا، وَأَذْهَبَتِ الْأصْبَعُ ضَوْءَ بَصَرِهَا أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذْهَبَتْ ضَوْءَ بَصَرِهِ، أَوْ لَطَمَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَذَهَبَ ضَوْءُ نَاظِرِهِ، فَالْقِصَاصُ فِيهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ يَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ، فَلَمَّا وَجَبَ الْقَوَدُ بِإِفَاتَةِ الرُّوحِ مَعَ بَقَاءِ الْجَسَدِ وَجَبَ الْقِصَاصُ بِإِذْهَابِ الضَّوْءِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَيُفْعَلُ بِالْجَانِي مِثْلُ فِعْلِهِ بِإِصْبَعٍ كَإِصْبَعِهِ أَوْ لَطْمَةٍ مِثْلِ لَطْمَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَاللَّطْمِ، وَلَكِنْ لِيُسْتَوْفَى بِاللَّطْمِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ. فَإِنْ ذَهَبَتْ بِالْأصْبَعِ وَاللَّطْمَةِ ضَوْءُ عَيْنِ الْجَانِي فَقَدِ اسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصَ. وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهَا ضَوْءُ عَيْنِهِ عُدِلَ إِلَى إِذْهَابِ ضوءها بِمَا تَبْقَى مَعَهُ الْحَدَقَةُ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَّا بِذَهَابِ الْحَدَقَةِ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، لِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنِ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي إِلَى غَيْرِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْجَانِي مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إِلَّا السَّكْرَانُ فَإِنَّهُ كَالصَّحِيحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إِذَا جُرِحَ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ ". وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدٌّ فَأَشْبَهَ فِي سُقُوطِهِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ سَائِرَ الْحُدُودِ. وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْأَبْدَانِ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَا تَسْقُطُ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ الْقَصْدِ كَالْخَاطِئِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا، لَمْ تَخْلُ جِنَايَتُهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ أَوِ الْعَمْدِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ فَالدِّيَةُ مُتَحَقِّقَةٌ عَلَى عَوَاقِلِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَفِي عَمْدِهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْخَطَأِ لِعَدَمِ قَصْدِهِمَا فَتَكُونُ الدِّيَةُ مُحَقَّقَةً عَلَى عَوَاقِلِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَعَمْدِ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا مُغَلَّظَةً فِي أَمْوَالِهِمَا حَالَّةً. فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ صِغَرِهِ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ قَتْلِهِ، لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ فِيمَا جَنَاهُ فِي الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ مَعَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ. فَقَالَ الْقَاتِلُ: قَتَلْتُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا قَوَدَ عَلَيَّ. وَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَعَلَيْكَ الْقَوَدُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الصِّغَرَ صِفَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ، وَالْأَصْلُ: " أَنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى ". وَلَوْ قَالَ الْقَاتِلُ: كُنْتُ عِنْدَ الْقَتْلِ مَجْنُونًا. وَقَالَ الْوَلِيُّ: بَلْ كُنْتَ مُفِيقًا. فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَاتِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُعْلَمَ لَهُ جُنُونٌ مُتَقَدِّمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ جُنُونُهُ طَبَقًا مُسْتَدِيمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِيهِ أَصْلًا فَشَابَهَ دَعْوَى الصِّغَرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ، وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْقَاتِلِ مع يمينه لاحتماله وأن جنبه رحمى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَغْلَبُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا السَّكْرَانُ مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ وَاجِبٌ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي خَرَّجَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ظِهَارَ السَّكْرَانِ لَا يَصِحُّ، وَطَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ صَحَّ تَخْرِيجُهُ قَوَدٌ وَتَخْرِيجُهُ مُسْتَنْكَرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ سواء في قدم وَلَا جَدِيدٍ، فَيُقَالُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَأَمَّا النَّائِمُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى صَغِيرٍ أَوْ مَرِيضٍ فَقَتَلَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُحَقَّقَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ بِهِ عَقْلُهُ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي فَهُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِنْ أَفَاقَ، وَكَالْمَجْنُونِ إِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ زَوَالَ الْعَقْلِ وَاسْتِدَامَةَ الْجُنُونِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ كَالسَّكْرَانِ لِمَعْصِيَتِهِمَا بِمَا أَزَالَ عَقْلَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حُكْمَ السَّكْرَانِ أَغْلَظُ لِمَا اقْتَرَنَ بِسُكْرِهِ مِنَ الطَّرَبِ الدَّاعِي إِلَيْهِ فِي حَالِ مَنْ شَرِبَ مَا أَزَالَ الْعَقْلَ، وَأَحْدَثَ الْجُنُونَ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ، وَأَنَّهُ نَادِرٌ مِنْ فَاعِلِيهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ عَمْدًا قِيلَ إِنْ شِئْتَ وَقَفْنَاكَ فَإِنْ بِنْتَ ذَكَرًا أَقَدْنَاكَ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلْنَا لك حكومة في الشفرين وإن بنت أنثى فلا قود لك وجعلنا لك دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين (قال المزني) رحمه الله بقية هذه المسألة في معناه أن يقال له وإن لم تشأ أن تقف حتى يتبين أمرك وعفوت عن القصاص وبرأت فلك دية شفري امرأة وحكومة في الذكر والأنثيين لأنه الأقل وإن قلت لا أعفو ولا أقف قيل لا يجوز أن يقص مما لا يدري أي القصاص لك فلا بد لك من الأمرين على ما وصفنا ". قال الماوردي: لهذه المسألة خمس مقدمات: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 إحداهما: في ذكر الرجل القود فإن عفى عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الرَّجُلِ تَامَّةً. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي أُنْثَيَيِ الرَّجُلِ الْقَوَدُ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الرَّجُلِ تَامَّةً. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ فِي إِسْكَتَيِ الْمَرْأَةِ وَهُمَا شُفْرَاهَا الْقَوَدَ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَفِيهِ دِيَةُ الْمَرْأَةِ تَامَّةً. وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ فِي الشُّفْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَهَذَا زَلَلٌ مِنْهُ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي كتاب " الأم " لأن الشفرين هما المحيطا بِالْفَرْجِ مِنْ جَانِبَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الفَمِ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الْقَوَدُ، كَذَلِكَ فِي الشُّفْرَيْنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقَوَدُ فَالدِّيَةُ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الشُّفْرَيْنِ دَاخِلُ الْإِسْكَتَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُحِيطُ بِالْفَرْجِ الْإِسْكَتَانِ، وَدَاخِلُهُمَا الشُّفْرَانِ، وَالْخِلَافُ فِي الِاسْمِ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ. وَالْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْعُضْوَ الزَّائِدَ عَلَى الْخِلْقَةِ لَا يُكَافِئُ عُضْوًا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِي قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، فَلَا يُقَادُ بِالذَّكَرِ الزَّائِدِ ذَكَرًا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ مِنَ الأُنْثَيَيْنِ وَالشُّفْرَيْنِ. وَالْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقْضِيَ بِالْقَوْلِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ، وَلَا بِالدِّيَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ، وَيُعْطِيَ مَعَ الْإِشْكَالِ أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ الْخَمْسُ اشْتَمَلَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: رَجُلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ. وَالثَّانِي: امْرَأَةٌ جَنَتْ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ. وَالثَّالِثُ: خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى رَجُلٍ. وَالرَّابِعُ: خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى امْرَأَةٍ. وَالْخَامِسُ: خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَسْطُورُ إِذَا قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ، وَطَالَبَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ بِحَقِّهِ مِنَ القَوَدِ وَالدِّيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ بِالْقَوَدِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ فَإِنْ بَانَ رَجُلًا وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ فِي ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَأُقِيدَ بِمَا كَافَأَهُمَا، وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ، لِأَنَّهُمَا زَائِدَانِ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 الْخِلْقَةِ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ دِيَتَيْ رَجُلٍ إِحْدَاهُمَا فِي الذَّكَرِ، وَالْأُخْرَى فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ. وَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَلَا قَوَدَ عَلَى الرَّجُلِ الْجَانِي فِي ذَكَرِهِ وَلَا فِي أُنْثَيَيْهِ، لِأَنَّهُمَا زَائِدَانِ فِي خِلْقَةِ الْمَرْأَةِ، وَأُعْطِيَتْ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ بَقِيَ الْخُنْثَى عَلَى إِشْكَالِهِ، وَلَمْ يَتَعَجَّلْ بَيَانَهُ، وَطَالَبَ بِحَقِّهِ، نُظِرَ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ أَقَلَّ حَقَّيْهِ وهو أن يجري عليه حُكْمِ الْمَرْأَةِ فَيُعْطَى دِيَةً فِي الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا، وَإِنْ بَانَ رَجُلًا كَمُلَ لَهُ دِيَتَيْ رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي الشُّفْرَيْنِ. فَإِنْ تَعَجَّلَ الطَّلَبَ وَلَمْ يَعْفُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ الْقَوَدُ مَوْقُوفًا عَلَى زَوَالِ الْإِشْكَالِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُعْطَى الْمَالَ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى زَوَالِ الْإِشْكَالِ، كَمَا وَقَفَ الْقَوَدُ، لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ سُقُوطَ الْقَوَدِ، وَهُوَ يُطَالِبُ بِالْقَوَدِ فَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْطَى مِنَ المَالِ أَقَلَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ فِي عُضْوٍ، وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إِعْطَائِهِ عَفْوٌ عَنِ الْقَوَدِ، وَالَّذِي يُعْطَاهُ مِنَ المَالِ حُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ كَوُقُوفِ الْقَوَدِ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، إِذَا بَانَ رَجُلًا. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": يُعْطَى دِيَةَ الشُّفْرَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَاهُ مَالًا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إِنْ أُقِيدَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ رَجُلًا فَيُقَادُ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْحُكُومَةَ فِي شُفْرَيْهِ، وَلَوْ أَعْطَاهُ الدِّيَةَ لَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى الْحُكُومَةِ، فَلِذَلِكَ اقْتُصَّ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحُكُومَةِ، وَرُوعِيَ مَا سَبَقَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى حُكُومَةَ شُفْرَيْهِ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً سَقَطَ الْقَوَدُ وَكَمُلَ لَهَا دِيَةُ الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَقْطَعَ امْرَأَةٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ، فَيَصِيرُ الْقَوَدُ مَوْقُوفًا عَلَى الشُّفْرَيْنِ كَمَا كَانَ الْقَوَدُ فِي جِنَايَةِ الرَّجُلِ مَوْقُوفًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ اعْتِبَارًا بِالتَّجَانُسِ. فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ لِزِيَادَتِهِمَا عَلَى الْخِلْقَةِ وَكَانَ لَهُ دِيَتَا رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين. وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنَ الشُّفْرَيْنِ، وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 وَإِنْ بَقِيَ عَلَى إِشْكَالِهِ وَعَفَا عَنِ الْقَوَدِ أُعْطِيَ أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ، وَهُوَ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَرُوعِيَ مَا تَبَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا، وَإِنْ بَانَ رَجُلًا كَمُلَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنِ الْقَوَدِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الشُّفْرَيْنِ، وَأُعْطِيَ إِذَا قِيلَ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ مَعَ الْوَقْفِ عَلَى الْقَوَدِ حُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنَ الشُّفْرَيْنِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى حُكُومَةَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُسْقِطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَكَمُلَ لَهُ دِيَتَا رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ، فَلَوِ اشْتَرَكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْخُنْثَى رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَطَعَا مَعًا ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ سَقَطَ عَنِ الرَّجُلِ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَكَانَ الْقَوَدُ مَعَهَا مَوْقُوفًا عَلَى التَّعْيِينِ. فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ بِذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ، وَأُخِذَ مِنَ المَرْأَةِ نِصْفُ حُكُومَةِ الشُّفْرَيْنِ مَعَ النِّصْفِ مِنْ دِيَتَيْ رَجُلٍ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، لِأَنَّهَا أَحَدُ جَانِبَيْنِ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ بِشُفْرَيْهِ مِنَ المَرْأَةِ، وَكَانَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ حُكُومَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعَ النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ امْرَأَةٍ عَلَى الشُّفْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى رَجُلٍ فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ. فَإِنْ طَلَبَ الْقَوَدَ وُقِفَ عَلَى الْبَيَانِ. فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ. وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً فلا قود عليها ديتان فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ بَقِيَ الْخُنْثَى عَلَى إِشْكَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِمَالٍ إلا أن يعفوا عَنِ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ الْقَوَدِ مالاً بخلاف ما مضى ولكن لو عفى عَنِ الْقَوَدِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَطَلَبَ الْقَوَدَ فِي الذَّكَرِ أُعْطِيَ دِيَةَ الْأُنْثَيَيْنِ، وَوُقِفَ الْقَوَدُ فِي الذَّكَرِ عَلَى الْبَيَانِ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُقِيدَ مِنْهُ، وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُخِذَ مِنْهَا دِيَةُ الذَّكَرِ وَسَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَطَعَ شُفْرَيْهَا فَإِنْ طَلَبَتِ الْقَوَدَ وُقِفَ عَلَى الْبَيَانِ. فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُقِيدَ مِنْ شُفْرَيْهَا. وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَلَا قَوَدَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ، فَلَوْ قَطَعَ مَعَ شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ أَعْلَى الرُّكَبِ وَهُوَ مَنَابِتُ الشَّعْرِ لَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ قَوَدٌ، لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَيْسَ لِانْتِهَائِهِ حَدٌّ، وَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ قُطِعَ مَعَ الشُّفْرَيْنِ وَجَبَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَالْحُكُومَةُ فِي الرَّكَبِ، فَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَجَبَ فِي الشُّفْرَيْنِ دِيَةٌ، وَفِي الرَّكَبِ حُكُومَةٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ جَنَى عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَشُفْرَيْهِ وُقِفَ الْقَوَدُ على البيان ولهما ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَبِينَا رَجُلَيْنِ فَيُسْتَحَقُّ الْقَوَدُ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الشُّفْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يُمْكِنَ الْقَوَدُ مِنْهُمَا لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْهُمَا، فَيُقَادُ مِنَ الزَّائِدِ بِالزَّائِدِ عِنْدَ التَّمَاثُلِ كَمَا قِيدَ مِنَ الأَصْلِ بِالْأَصْلِ لِأَجْلِ التَّمَاثُلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِينَا امْرَأَتَيْنِ فَيُقَادُ مِنَ الشُّفْرَيْنِ، وَيُؤْخَذُ حُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَمَاثَلَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُقَادَا بِالزَّائِدِ كَمَا قِيدَ بِالْأَصْلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِينَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ لِاخْتِلَافِ التَّجَانُسِ وَعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَانَ رَجُلًا أُعْطِيَ دِيَتَيْ رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين. وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُعْطِيَتْ دِيَةَ امْرَأَةٍ فِي الشُّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ مَاتَا مَعَ بَقَاءِ إِشْكَالِهِمَا جَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيَانُ حَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْجَانِي مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَوَدِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْمَوْتِ، وَبَيَانَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الدِّيَةِ وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ لَمْ يَبِنْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَجَبَ أَقَلُّ الْحَقَّيْنِ. فإن اختلف وارثهما فادعا وَارِثُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْثَرَهُمَا، وَاعْتَرَفَ وَارِثُ الْجَانِي بِأَقَلِّهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ تَأْثِيرٌ، أَلَا تَرَى أَنْ يَصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَ الْخُنْثَى بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ، فَإِنْ أَخَلَّا بِالصِّفَةِ اطُّرِحَ قَوْلُهُمَا وَوَجَبَ أَقَلُّ الْحَقَّيْنِ، وَإِنْ وَصَفَاهُ بِمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمَا وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ عُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِيَمِينِ الْحَالِفِ عَلَى النَّاكِلِ، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا تَعَارَضَتِ الْيَمِينَانِ وَسَقَطَتَا، وَأَوْجَبْنَا أَقَلَّ الْحَقَّيْنِ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا خُلِقَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا يَبُولُ مِنَ الآخَرِ، فَالذَّكَرُ هُوَ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ، وَفِيهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَلَا قَوَدَ فِي الْآخَرِ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا فَأَكْثَرُهُمَا بَوْلًا وَأَقْوَاهُمَا خُرُوجًا هُوَ الذَّكَرُ، وَفِيهِ الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَفِي الْآخَرِ حُكُومَةٌ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبَوْلِ فَالَّذِي يَنْتَشِرُ مِنْهُمَا وَيَنْقَبِضُ هو الذكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 وَإِنْ كَانَا فِي الِانْتِشَارِ وَالِانْقِبَاضِ سَوَاءٌ، فَالثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الذَّكَرِ الْمُنْفَرِدِ هُوَ الذَّكَرُ وَالْمُنْحَرِفُ زَائِدٌ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي مَحَلِّ الذَّكَرِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِوَصْفٍ زَائِدٍ فَهُمَا جَمِيعًا ذَكَرٌ زَائِدٌ لَا يَجِبُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوَدٌ، وَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ مِنْ نِصْفِ ذَكَرٍ، فَإِنْ قُطِعَا مَعًا وَجَبَ فِيهِمَا الْقَوَدُ، وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ فِي الزِّيَادَةِ كَالْكَفَّيْنِ عَلَى ذِرَاعٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 (باب الخيار في القصاص) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْبُرِيَّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " ثُمَّ أَنْتُمْ يَا بَنِي خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أحبوا أخذوا الْعَقْلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَلَا يَفْتَقِرَ إِلَى مُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ وَلَا تَجِبُ لَهُ الدِّيَةُ إِلَّا بِمُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي النَّفْسِ غَيْرُ النَّفْسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْقِصَاصِ إِيجَابُ مَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَبْدَالِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ للقود في عمده والدية في خطأه، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الدِّيَةِ فِي خطأ إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُعْدَلَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يُسْتَحَقُّ بِالْقَوَدِ تَارَةً، وَبِالدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يُمْلَكْ بَدَلُ قَتْلِهِ دَفْعًا لَمْ يُمْلَكْ بَدَلُ قَتْلِهِ قَوَدًا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] مَعْنَاهُ فَمَنْ عَفَا لَهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَلْيُتْبِعِ الْوَلِيُّ الدِّيَةَ بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّيَهَا الْقَاتِلُ بِإِحْسَانٍ فَجَعَلَ لِلْوَلِيِّ الْإِتْبَاعَ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْأَدَاءُ فَلَمَّا تَفَرَّدَ الْقَاتِلُ بِالْأَدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْوَلِيُّ بِالْإِتْبَاعِ وَلَا يَقِفَ عَلَى الْمُرَاضَاةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 وَحَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ ". فَجَعَلَ الْوَلِيَّ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ: " إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا فَادَوْا " وَالْمُفَادَاةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. قِيلَ: هَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَتُحْمَلُ الْمُفَادَاةُ فِيهَا عَلَى بَذْلِ الدِّيَةِ الَّتِي لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَيُحْمَلُ خَبَرُنَا فِي خِيَارِ الْوَلِيِّ عَلَى أَصْلِ الدِّيَةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مُرَاضَاةٍ لِيُسْتَعْمَلَ الْخَبَرَيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يَسْقُطُ بعفو الولي إذا كان واحداً، ويعفوا أَحَدُهُمْ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَهُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ فَكَذَلِكَ يَكُونُ وُجُوبُهَا بِعَفْوِ جَمِيعِهِمْ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ قَوَدٌ سَقَطَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ فَلَمْ تَقِفِ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى مُرَاضَاةٍ كَمَا لَوْ عَفَا عَنْهُ أَحَدُهُمْ. وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَوَدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اخْتِيَارِ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ كَفًّا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ، وَفِي كَفِّهِ أَرْبَعَةُ أَصَابِعَ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ. فَإِنْ أَحَبَّ الدِّيَةَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ أَحَبَّ الْقِصَاصَ اقْتُصَّ عِنْدَهُمْ بِالْكَفِّ النَّاقِصَةِ، ولا شي لَهُ غَيْرُهَا، وَعِنْدَنَا يُقْتَصُّ مِنْهَا، وَيُؤْخَذُ دِيَةُ الْأُصْبُعِ النَّاقِصَةِ مِنْ كَفِّ الْجَانِي، وَلِأَنَّ لِلْقَتْلِ بدلين، وأغلظهما الْقَوَدُ وَأَخَفُّهُمَا الدِّيَةُ فَلَمَّا مَلَكَ الْقَوَدَ الْأَغْلَظَ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَانَ بِأَنْ يَمْلِكَ الدِّيَةَ الْأَخَفَّ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَقَتْلَ الْخَطَأِ أَخَفُّ، فَلَمَّا مَلَكَ الدِّيَةَ فِي أَخَفِّهِمَا فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهَا فِي أَغْلَظِهِمَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ: فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ العَفْوِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْمُرَاضَاةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى إِتْلَافِ الْمَالِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ إِلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ، وَلِلْقَتْلِ بَدَلَانِ فَافْتَرَقَا. وَقَوْلُهُمْ: لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْعُدُولَ عَنْ دِيَةِ الْخَطَأِ إِلَّا بِالْمُرَاضَاةِ كَذَلِكَ الْقَوَدُ الْعَمْدُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَوَدَ أَغْلَظُ وَالِدِّيَةَ أَخَفُّ فَمَلَكَ إِسْقَاطَ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ، وَلَمْ يَمْلِكْ إِسْقَاطَ الْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ، وَمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ قَتْلِ الدَّفْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ فِيهِ الدِّيَةَ فَلَا يُشْبِهُ قَتْلَ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِقَتْلِ الدَّفْعِ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَهَا بِالدِّيَةِ مُرَاضَاةً وَلَا اخْتِيَارًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَتْلُ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِهِ اسْتِيفَاءَ حَقٍّ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 بِالْمُرَاضَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ مُرَاضَاةٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لَا يَقِفُ عَلَى مُرَاضَاةِ الْقَاتِلِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُوجِبُهُ قَتْلُ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مِنَ القَوَدِ، أَوِ الدِّيَةِ، وَكِلَاهُمَا بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ، وَالْوَلِيُّ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ، كَالْحَالِفِ مُخَيَّرٌ فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " وَتَخَيُّرُهُمْ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مِنَ القَتْلِ كَالْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ دُونَ الْقَاتِلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ قَتَلَتْ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهَا دِيَةُ الرَّجُلِ، فَلَوْ جُعِلَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ صَارَتْ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا قَتَلَتْ رَجُلًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا دية امرأة، إذا ثبت أن الدية بدلاً مِنْ نَفْسِ الْمَقْتُولِ جَرَتْ مَجْرَى الْقَوَدِ فَصَارَا وَاجِبَيْنِ بِالْقَتْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، فَإِنْ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ فَيَصِيرُ بَدَلًا عَنِ النَّفْسِ. وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فدل على أن الَّذِي يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ لَمَّا أَوْجَبَ بَدَلًا وَاحِدًا، وَهُوَ الدية اعتباراً بالمتلفات التي ليس لها مِثْلٌ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْعَمْدِ مُوجِبًا لِبَدَلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِالْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَهَا مِثْلٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْقَوَدُ مُسْتَحَقًّا عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَتَرَتَّبَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إِمَّا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْعَفْوِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ اسْتَحَقَّهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ الْأَغْلَظِ إِلَى الْأَخَفِّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ فَيُعْطَاهَا، وَيَسْقُطَ حَقُّهُ مِنَ القَوَدِ لِمَا فِي الْعُدُولِ إِلَيْهِ مِنَ الانْتِقَالِ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ فَلَا يَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يعفوا عَنِ الْقَوَدِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الدِّيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهَا إِلَى الْقَوَدِ إِلَّا بَعْدَ سُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ فَلَهُ الْقَوَدُ، وَلَا يَكُونُ لِعَفْوِهِ عَنِ الدِّيَةِ تَأْثِيرٌ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ القَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الأَغْلَظِ إِلَى الْأَخَفِّ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا وَلَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَ الْعَفْوِ وَاحِدًا مِنْهُمَا مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ. وَالْحَالُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي فَيَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّ قتل العمد موجب للقود وحده ولا تجب الدِّيَةُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ بَدَلًا مِنَ القَوَدِ فَلِلْوَلِيِّ فِي اخْتِيَارِهِ وَعَفْوِهِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ حَقُّهُ مِنِ اخْتِيَارِ الدِّيَةِ وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهَا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اخْتِيَارَهَا بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ القَوَدِ، فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، لَا يُبْرِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَارَ هَذَا الِاخْتِيَارُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ فَيَكُونُ فِي اخْتِيَارِهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ القَوَدِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِالدِّيَةِ وَيَسْقُطُ الْقَوَدُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَارَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَوَدِ وَلَا فِي الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ بِالِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا فَيَسْتَوِي حُكْمُ الِاخْتِيَارِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ فِي الْعَفْوِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ القَوَدِ بِالْعَفْوِ وَتَجِبُ لَهُ الدية بالاختيار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ، وَلَا يُعِلَّهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ - أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الدِّيَةَ مِنْ بَعْدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ بَعْدُ. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُدَّعِي إِذَا قَامَ شَاهِدًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَعُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكَرِ فَنَكَلَ عَنْهَا، فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ لِعَفْوِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَوَدِ وَلَا فِي الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَالدِّيَةَ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مَعَ بَقَاءِ الْقَوَدِ، فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْهَا. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وفي سقوط الدية بعفوه عنهما قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهَا لِاقْتِرَانِهِ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ القود. فعلى هذا إن اختيار الدِّيَةَ فِي الْحَالِ وَجَبَتْ لَهُ، فَإِنِ اخْتَارَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ: وَالْحَالُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَسْقُطُ الدِّيَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا، فَإِنْ عَجَّلَ اخْتِيَارَهَا وَجَبَتْ لَهُ وإن لم يعجله فعلى القولين: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ لَهُ الدِّيَةُ إِنِ اخْتَارَهَا. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ لَهُ وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا بتأخير الاختيار والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُورَثُ كَالْمَالِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَكُلُّ وَارِثٍ وَلِيَ زَوْجَةً أَوِ ابْنَةً لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ وِلَايَةِ الدَّمِ ". قَالَ الماوردي: أما الدية فموروثة مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْعَقْلَ مَوْرُوثٌ " إِلَّا حِكَايَةً شَاذَّةً عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثِ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالْإِخْوَةَ مِنَ الأُمِّ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ خَطَأً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا، إِنَّمَا الدِّيَةُ لِلْعَصَبَةِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنِي أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ فَوَرَّثَهَا عُمَرُ وَرَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَعَقْلِهِ وَيَرِثُ هُوَ مِنْ مَالِهَا وَعَقْلِهَا ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، وَوَرَّثَ زَوْجًا من دية امرأته. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْقَوَدُ فَهُوَ عِنْدَنَا مَوْرُوثٌ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَرِثُهُ رِجَالُ الْعَصَبَاتِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْأَسْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَرِثُهُ ذَوُوا الْأَنْسَابِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُونَ ذَوِي الْأَسْبَابِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء: 33] وَالْوَلِيُّ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ مِنَ العَصَبَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِدَفْعِ الْعَارِ فَأَشْبَهَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِرِجَالِ الْعَصَبَاتِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ لَوْ وَرِثْنَ الْقَوَدَ لَتَحَمَّلْنَ الْعَقْلَ كَالْعَصَبَاتِ، وَهُنَّ لَا يَتَحَمَّلْنَ الْعَقْلَ فَوَجَبَ أَنْ يسقط ميراثهم مِنَ القَوَدِ كَالْأَجَانِبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَهُ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ، وَالدِّيَةُ تَكُونُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فَكَذَلِكَ الْقَوَدُ. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَلِأَهْلِ الْقَتِيلِ، أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً " وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " لِيَنْحَجِزُوا " أَنْ يَتْرُكُوا يَعْنِي بِتَرْكِهِمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ قَوَدٍ وِدِيَةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَرِثَ الدِّيَةَ وَرِثَ الْقَوَدَ كَالْعَصَبَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ وَرِثَهُ الْعَصَبَةُ وَرِثَهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الوَرَثَةِ كَالدِّيَةِ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْوَلِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الرَّجُلِ، لِأَنَّهَا تَلِيهِ وَإِنْ لَمْ تَلِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَنَاوَلَتْ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْهُمُ الْأَبْنَاءُ وَالْإِخْوَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُبَاشَرَةُ الِاسْتِيفَاءِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنِّكَاحِ فِي وَضْعِهِ لِنَفْيِ الْعَارِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْقَوَدَ يُسْتَحَقُّ لِلتَّشَفِّي لَا لِنَفْيِ الْعَارِ، عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ لَا تُورَثُ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ بِالنَّسَبِ، وَالْقَوَدُ مَوْرُوثٌ فَافْتَرَقَا. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ اخْتِصَاصِ الْقَوَدِ، مَنْ يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ فَاسِدٌ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْفُقَرَاءِ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَرِثُونَ الْقَوَدَ، وَلَا يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ كَذَلِكَ النِّسَاءُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوَدَ مَوْرُوثٌ كَالْمَالِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَتِيلِ من ثلاثة أحوال: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ مَالِهِ فَلَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا الْقَوَدُ، أَوِ الدِّيَةُ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ بِحَالٍ فَالْإِمَامُ وَلِيُّهُ لِأَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلِلْإِمَامِ الِاخْتِيَارُ فِي اعْتِبَارِ الْأَصْلَحِ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْقَوَدِ، أَوِ الدِّيَةِ، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمَا كَالْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ الْحَقَّ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الوَرَثَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَ تَرِكَتِهِ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 فَلَيْسَ لِهَذَا الْوَارِثِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَوَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالْمِيرَاثِ وَشَرِيكُهُ فِي اسْتِيفَائِهِ الْإِمَامُ، لِأَنَّ بَاقِيَ التَّرِكَةِ مِيرَاثٌ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَإِنِ اتَّفَقَ الْوَارِثُ وَالْإِمَامُ عَلَى الْقَوَدِ وَجَبَ، وَإِنْ أَرَادَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ، وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ، وَكَانَ الْوَارِثُ فِي حَقِّهِ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ، وَفِي خِيَارِ الْإِمَامِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ فِيهِمَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يقتل إلا باجتماعهم ويحبس الْقَاتِلُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ الطِّفْلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَعْتُوهٌ فَحَتَّى يُفِيقَ أَوْ يَمُوتَ فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ أَهْلَ رُشْدٍ لَا وِلَايَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَوَدِ دُونَ شُرَكَائِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ مَنْ حَضَرَ وَيَنْتَظِرَ مَنْ غَابَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَوْلًى عَلَيْهِ لِعَدَمِ رُشْدِهِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ مَوْقُوفٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الرَّشِيدُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَجُوزُ لِلرَّشِيدِ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَلَا يَنْتَظِرَ بُلُوغَ الصَّغِيرِ وَإِفَاقَةَ الْمَجْنُونِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جَازَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي اسْتِيفَائِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ الْوَلِيُّ الْوَاحِدُ. وَلِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ قَتَلَ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ، وَقَدْ شَارَكَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا، وَلَمْ يَقِفِ الْقَوَدُ عَلَى بُلُوغِهِمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَصَارَ إِجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِ به. قال: ولأن للقود حق يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ فَجَازَ إِذَا لَمْ يَتَبَعَّضْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ إِذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ ينفرد بِاسْتِيفَائِهِ وَاحِدٌ، كَالْقَتِيلِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا اسْتَحَقَّ قَوَدَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ ينفرد باسيتفائه. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " فَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 العدول عن مقتضى الخير. وَلِأَنَّ الْقَوَدَ إِذَا تَعَيَّنَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ، كَمَا لَوْ كَانُوا جَمِيعًا أَهْلَ رُشْدٍ. وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ كَالدِّيَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ كَالْأَجَانِبِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا. وَأَمَّا تَفَرُّدُ الْحَسَنِ بِقَتْلِ ابْنِ ملجم لعنه الله فعنه جوابان: أحدهما: أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي شُرَكَائِهِ مِنَ البَالِغِينَ مَنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ، لِأَنَّ عَلِيًّا خَلَّفَ حِينَ قُتِلَ عَلَى مَا حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّقْلِ سِتَّةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَسِتَّ عَشْرَةَ أُنْثَى فَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ تَرْكِ اسْتِئْذَانِهِ لِلْأَكَابِرِ جَوَابَنَا فِي تَرْكِ وُقُوفِهِ عَلَى بُلُوغِ الْأَصَاغِرِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ انْحَتَمَ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ إِمَامَ عَدْلٍ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فَصَارَ مَحْتُومَ الْقَتْلِ، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْوَرَثَةِ فِيهِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ اسْتَحَلَّ قَتْلَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَارَ بِاسْتِحْلَالِهِ قَتْلَهُ كَافِرًا، لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ قَتْلَ إِمَامِ عَدْلٍ كَانَ كَافِرًا فَقَتَلَهُ الْحَسَنُ لِكُفْرِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَوَدًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيْقَظَ عَلِيًّا مِنْ نَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، وَقَدْ سِيقَتِ الرِّيحُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، فَقَالَ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَشْقَى الْأَوَّلِينَ عَاقِرُ نَاقَةِ صَالِحٍ، وَأَشْقَى الْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ هَذِهِ مِنْ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى خِضَابِ لِحْيَتِهِ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ عَرَفَ بِهَذَا الْخَبَرِ كُفْرَ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ لِاعْتِقَادِهِ اسْتِبَاحَةَ قَتْلِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا الْأَكَابِرُ دُونَ الْأَصَاغِرِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْأَكَابِرُ وَالْقَوَدُ يَسْتَحِقُّهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الْأَكَابِرُ. وَالثَّانِي: أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ يَسْتَحِقُّهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا أَحَدُهُمْ وَالْقَوَدُ يَسْتَحِقُّهُ جَمِيعُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَفَرُّدِ الْإِمَامِ بِالْقَوَدِ فِيمَنْ وَرِثَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ وَكَانَ لِلْكَافَّةِ، تَفَرَّدَ بِهِ مَنْ وَلِيَ أُمُورَهُمْ، وَهَذَا قَدْ تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوفُ الْقَوَدِ عَلَى بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ وَجَبَ حَبْسُ الْقَاتِلِ إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ لِيُحْفَظَ حَقُّهُمَا بِحَبْسِهِ وَلَا يُطْلَقُ، وَإِنْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يُمْلَكُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا مِنْهُ، وَالْمُتَوَلِّي لِحَبْسِهِ الْإِمَامُ دُونَ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ أَنْفَذُ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُلَازِمَهُ لَمْ يُمْنَعْ، وَلَا يَقِفُ حَبْسُ الْحَاكِمِ لَهُ عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إِلَيْهِ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْقَتْلُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى مَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ رَشِيدٌ غَائِبٌ لَمْ يلزم الحاكم حبس القاتل إلا بعد الاستدعاء إِلَيْهِ، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقَوَدِ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ دَارًا لِغَائِبٍ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنْزِعَهَا مِنَ الغَاصِبِ إِنْ كَانَ مَالِكُهَا مُوَلِّيًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ إِنْ كَانَ مَالِكُهَا رَشِيدًا، فَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى غَيْرِ مَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَفْوَ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ نُظِرَ فِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ غَيْرَ مُحْتَاجَيْنِ إِلَى الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ، وَإِنْ عَفَا بَطَلَ عَفْوُهُ، وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ لِاسْتِغْنَائِهِمَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا مَنْ يَلْتَزِمُ نَفَقَتَهُمَا وَهُمَا مِنْ ذَوِي الْفَاقَةِ إِلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِمَا، فَفِي جَوَازِ عَفْوِ وَلِيِّهِمَا عَنِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ اعْتِبَارًا بِمَصْلَحَتِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِمَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُولي فَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ وَصِيًّا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا صَحَّ عَفْوُهُ، لِأَنَّهُ حَكَمٌ يَجُوزُ أَنْ ينفرد باجتهاده والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه " وَأَيُّهُمْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَانَ الْبَاقُونَ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ ". قَالَ الماوردي: وإن عفى عَلَى غَيْرِ مَالٍ كَانَ الْبَاقُونَ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ إِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ جَمَاعَةً فعفى أَحَدُهُمْ عَنِ الْقَوَدِ سَقَطَ جَمِيعُ الْقَوَدِ فِي حُقُوقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يقتص سواء عفى أَقَلُّهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ أَنْ يقتص ولو كان واحد مِنْ جَمَاعَةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا} فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ لَكَانَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، كَذَلِكَ الْقَوَدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَفْوُ بَعْضِهِمْ عَنِ الدِّيَةِ مُؤَثِّرًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إليه بإحسان} وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِذِكْرِ الشَّيْءِ مُنْكِرًا، وَجَعَلَ عَفْوَهُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِ الدِّيَةِ بِمَعْرُوفٍ، وَأَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ الْعَفْوِّ مِنَ الوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " فَجَعَلَ الْخِيَارَ فِي الْقَوَدِ لِجَمِيعِ أَهْلِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَطَالَبَ أَوْلِيَاؤُهُ بِالْقَوَدِ فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَقْتُولِ وَهِيَ زَوْجَةُ الْقَاتِلِ: عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي مِنَ القَوَدِ فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، عُتِقَ الرَّجُلُ يَعْنِي مِنَ القَوَدِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِهِ فِيهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِهِ كَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَفْوِ بَعْضَ نَفْسِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ إِيجَابُ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِسُقُوطِ مَا وَجَبَ مِنْهُ بَدَلًا وَهُوَ الدِّيَةُ، وَلَيْسَ لِلْإِيجَابِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بَدَلٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُمْ فِي الْقَوَدِ مُشْتَرِكُونَ وَفِي الْحَدِّ مُنْفَرِدُونَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وإنما اشتركوا جميعها فِي الْقَوَدِ وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحَدِّ لأمرين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَلَكُوا الْقَوَدَ مِيرَاثًا عَنْ مَيِّتِهِمْ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ نَفْسِهِ فَاشْتَرَكُوا فِيهِ كَالدِّيَةِ وَمَلَكُوا الْحَدَّ نِيَابَةً عَنْ مَيِّتِهِمْ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُ فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوَدَ بَدَلٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ، فَلِذَلِكَ مَا اشْتَرَكُوا وَلَيْسَ لِلْحَدِّ بَدَلٌ فَانْفَرَدَ، وَلِئَلَّا يَسْقُطَ بِالْعَفْوِ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنَّمَا لَمْ تُسْقِطْ بِالْعَفْوِ حَقَّ مَنْ لَمْ يَعْفُ، لِأَنَّهَا تَتَبَعَّضُ فَصَحَّ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى اسْتِيفَاؤُهُ إِلَى حَقِّ شَرِيكِهِ وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي إِلَى حَقِّ شَرِيكِهِ، فَسَرَى الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَمْ يَسْرِ الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمْ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الدِّيَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْفُ فَقَدْ مَلَكُوا حُقُوقَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ وَلَا يَقِفُ مِلْكُ الدِّيَةِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ صَارَ فِي حُقُوقِهِمْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ جَارِيًا مَجْرَى قَتْلِ عَمْدِ الْخَطَأِ الَّذِي لَا يَجِبُ فِيهِ قَوَدٌ، وَيَمْلِكُ بِهِ الدِّيَةَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَأَمَّا الدِّيَةُ فِي حَقِّ الْعَافِي فَمُعْتَبَرَةٌ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ، فَإِنْ قَرَنَهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ وَجَبَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ فِي الَّذِي أَوْجَبَهُ قَتْلُ الْعَمْدِ، ثُمَّ عَلَى مَا مضى من التفصيل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ عَفَوْا جَمِيعًا وَعَفَا الْمُفْلِسُ يُجْنِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ الْقِصَاصُ جَازَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا مَنْعُهُمْ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يُمْلَكُ بِالْعَمْدِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَبِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إِنْ كان ميتاً (قال المزني) رحمه الله ليس يشبه هذا الاعتلال أصله لأنه احتج في أن العفو يوجب الدية بأن الله تعالى لما قال {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان} لم يجز أن يقال عفا إن صولح على مال لأن العفو ترك بلا عوض فلم يجز إذا عفا عن القتل الذي هو أعظم الأمرين إلا أن يكون له مال في مال القاتل أحب أو كره ولو كان إذا عفا لم يكن له شيء لم يكن للعافي ما يتبعه بمعروف ولا على القاتل ما يؤديه بإحسان (قال المزني) رحمه الله فهذا مال بلا مشيئة أو لا تراه يقول إن عفو المحجور جائز لأنه زيادة في ماله وعفوه المال لا يجوز لأنه نقص في ماله وهذا مال بغير مشيئة فأقرب إلى وجه ما قال عندي في العفو الذي ليس لأهل الدين منعه منه هو أن يبرئه من القصاص ويقول بغير مال فيسقطان وبالله التوفيق ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَارِثِ لِقَتْلِ الْعَمْدِ فِي عَفْوِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ مَالِكَ التَّصَرُّفِ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ وَعَنِ الدِّيَةِ جَمِيعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَا عَنِ الدِّيَةِ جَمِيعًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ:: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَجْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ فَهَذَا قَدْ يُسْتَحَقُّ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَةِ الْمَقْتُولِ دُيُونٌ وَوَصَايَا فَتَتَعَلَّقُ بِدَيْنِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَيَصِيرُ الْوَارِثُ فِي حُكْمِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تُقْضَى الدُّيُونُ وَتُنَفَّذَ الْوَصَايَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فِي حُقُوقِ غُرَمَائِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا مَالَهُ فِي دُيُونِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لِسَفَهٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حِفْظًا لِمَالِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مَرِيضًا يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ مِنَ العَطَاءِ إِلَّا فِي ثُلْثِهِ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ يَصِحُّ عَفْوُهُمْ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِهِمْ وَالْعَفْوَ عَنْهُ أَرْفَقُ بِهِمْ وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِمْ عَنِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ قَتْلَ الْعَمْدِ فِيهِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ وَالدِّيَةُ لَا تَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَارِثِ، فَيَصِحُّ عَفْوُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَيُعَارَضُ فِيهِ وَلَا يَمْلِكُهَا إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ عَمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَفْوَ الثَّلَاثَةِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ قَتْلَ الْعَمْدِ فِيهِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ، أَوِ الدِّيَةَ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ مَالٍ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَعَفْوُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلْثِهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ ثُلْثُهُ جَمِيعَ الدِّيَةِ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ ثُلْثِهَا وَبَطَلَ عَنْ بَاقِيهَا فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 وَالثَّانِي: فِي اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إن قَتلَ الْعَمْد مُوجِبٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مِنَ القَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَسَلِمَ كَلَامُهُ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى اخْتَلَطَ تَعْلِيلُهُ، وَضَعُفَ دَلِيلُهُ وَفِي كَشْفِهِ إِطَالَةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى سَيرِهِ عِنْدَ تَأَمُّلِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 (باب القصاص بالسيف وغيره) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطاناً} قَالَ وَإِذَا خَلَّى الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى سَيْفِهِ فَإِنْ كَانَ صَارِمًا وَإِلَّا أَمَرَهُ بِصَارِمٍ لِئَلَّا يُعَذِّبَهُ ثُمَّ يَدَعُهُ وَضَرْبَ عُنُقِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ مِنَ الجِنَايَاتِ ضَرْبَانِ: طَرَفٌ، وَنَفْسٌ. فَأَمَّا الطَّرَفُ فَلَا يُمْكِنُ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ، لِمَا يَخَافُ مِنْ تَعَدِّيهِ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَأَمَّا النَّفْسُ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْهَا بِنَفْسِهِ إِذَا قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ لِلْآيَةِ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا " وَكَمَا يَسْتَوْفِي جَمِيعَ حُقُوقِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي فَكَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِ أَشْفَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاسْتِيفَاؤُهُ لِلْقَوَدِ مُعْتَبَرٌ بِسِتَّةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ لِيُمَيِّزَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ مِنْ عَمْدِ الْخَطَأِ، وَلِيَتَعَيَّنَ بِالْحُكْمِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَلِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ إِلَى اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيهِ رَجُلًا فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مُنِعَتْ، لِمَا فِيهِ مِنْ بَذْلَتِهَا وَظُهُورِ عَوْرَتِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّفْسِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ، فَإِنْ ضَعُفَتْ مُنِعَ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْرِفَ الْقَوَدَ وَيُحْسِنَ إِصَابَةَ الْمَفْصِلِ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ مُنِعَ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْيَدِ نَافِذَ الضَّرْبَةِ، فَإِنْ ضَعُفَتْ يَدُهُ لِشَلَلٍ أَوْ مَرَضٍ مُنِعَ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ وَصَارَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ عَدَدًا، فَإِنْ كان واحداً قام باستيائه، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَكَامَلْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَ الْبَاقُونَ فِيهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ سَلَّمُوهُ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِهِ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ قَرَعَ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الِاسْتِيفَاءُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ اعْتُبِرَ فِي اسْتِيفَائِهِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 أَحَدُهَا: حُضُورُ الْحَاكِمِ الَّذِي حَكَمَ لَهُ بِالْقَوَدِ، أَوْ نَائِبٌ عَنْهُ لِيَكُونَ حُضُورُهُ تَنْفِيذًا لِحُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْضُرَهُ شَاهِدَانِ لِيَكُونَا بَيِّنَةً فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ فِي التَّعَدِّي بِظُلْمٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مِنَ الأَعْوَانِ مَنْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَعَانُوا، فَرُبَّمَا حَدَثَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى كَفٍّ وَرَدْعٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُؤْمَرَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ يَوْمِهِ، لِيَحْفَظَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الإِضَاعَةِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُؤْمَرَ بِالْوَصِيَّةِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الحُقُوقِ، لِيَحْفَظَ بِهَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِهِ، لِيَزُولَ عِنْدَ مَآثِمِ الْمَعَاصِي. وَالسَّابِعُ: أَنْ يُسَاقَ إِلَى مَوْضِعِ الْقِصَاصِ سَوْقًا رَفِيقًا، وَلَا يُكَلَّمُ بِخَنَا وَلَا شَتْمٍ. وَالثَّامِنُ: أَنْ تُسْتَرَ عَوْرَتُهُ بِشِدَادٍ حَتَّى لَا تَبْرُزَ لِلْأَبْصَارِ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ تُشَدَّ عَيْنَيْهِ بِعِصَابَةٍ حَتَّى لَا يَرَى الْقَتْلَ وَيُتْرَكُ مَمْدُودَ الْعُنُقِ، حَتَّى لَا يَعْدِلَ السَّيْفُ عَنْ عُنُقِهِ. وَالْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ سَيْفُ الْقِصَاصِ صَارِمًا لَيْسَ بِكَالٍّ وَلَا مَسْمُومٍ، لِأَنَّ الْكَالَّ وَالْمَسْمُومَ يُفْسِدُ لَحْمَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ غُسْلِهِ، فَيُرَاعَى سَيْفُ الْوَلِيِّ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَإِلَّا الْتَمَسَ سَيْفًا عَلَى صِفَتِهِ أَوْ أُعْطِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ وَالْأَوْصَافَ إِحْسَانًا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَمَنْعًا مِنَ التَّعْذِيبِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْإِحْسَانَ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ " فَكَانَ النَّهْيُ عن تعذيب الآدميين أحق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يُخْطَئُ بِمِثْلِهِ مِنْ قطع رجل أو سط عُزِّرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ وَأَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُحْسِنُ ضَرْبَ الْعُنُقِ لِيُوجِيَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا مَحَلُّ الْقِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ فَهُوَ الْعُنُقُ يُضْرَبُ بِالسَّيْفِ مِنْ جِهَةِ الْقَفَا، لِأَنَّهُ أَمْكَنُ وَالسَّيْفُ فِيهِ أَمْضَى حَتَّى يَقْطَعَ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ، وَلَا يُرَاعِي قَطْعَ الْحُلْقُومِ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ السَّيْفُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي قَطْعِ الْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ تَوْجِئَةً، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ مَعَهُ أَوْجَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى الذَّبْحِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَذْكِيَةِ البهائم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ وَصَلَ بِالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مَحَلِّ التَّوْجِئَةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَزِدْ، وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَحَلِّ التَّوْجِئَةِ ضَرَبَهُ ثَانِيَةً، فَإِنْ لَمْ تَصِلِ الثَّانِيَةُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَالِ سَيْفِهِ فَيُعْطَى غَيْرَهُ مِنَ السُّيُوفِ الصَّارِمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَعْفِ يَدِهِ، فَيُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْقُوَّةِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ ضَرَبَهُ فَوَقَعَ السَّيْفُ فِي غَيْرِ عُنُقِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي مِثْلِهِ كَضَرْبِهِ لِرِجْلِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ، فَيُعَزَّرُ لِتَعَدِّيهِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِيهِ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِاسْتِحَالَةِ صِدْقِهِ، وَالْيَمِينُ تَدْخُلُ فِيمَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِيمَا قَطَعَ أَوْ جَرَحَ، وَلَا غُرْمَ لِأَرْشٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ إِتْلَافَ نَفْسِهِ، وَإِنْ تَعَدَّى بِالسَّيْفِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ السَّيْفُ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْغَلَطُ بِمِثْلِهِ كَأَعْلَى الْكَتِفِ وَأَسْفَلِ الرَّأْسِ سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ: عَمَدْتُ عُزِّرَ وَمُنِعَ وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ أُحْلِفَ عَلَى الْخَطَأِ لِإِمْكَانِهِ وَلَمْ يُعَزَّرْ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ القِصَاصِ، فَإِنْ تَابَ بَعْدَ عَمْدِهِ وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْقِصَاصِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ الاسْتِيفَاءِ بِقَوْلِهِ: " وَأَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُحْسِنُ ضَرْبَ الْعُنُقِ " لِيُوجِيَهُ " يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِتَابَةَ فِيهِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " يُمَكِّنُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الاسْتِيفَاءِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَخَرَّجَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَنْعُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَانَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْقِصَاصَ، وَالتَّمْكِينُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْسِنُ الْقِصَاصَ. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ القَطْعِ وَالْقَتْلِ جَازَ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَطْعَ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا مُنِعَ مِنَ القَطْعِ وَالْقَتْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَمْرَانِ: الْإِمَاتَةُ، وَشُرُوطُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَوْ بَادَرَ الْوَلِيُّ وَقَدْ عَدِمَ شُرُوطَ الِاسْتِيفَاءِ فَاقْتَصَّ بِنَفْسِهِ مِنَ النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ لَمْ يُضْمَنْ قَوَدًا وَلَا دِيَةً، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ما استحق ويعزره الحاكم لافتياته. وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِيفَاءِ فَامْتَنَعَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَنَابَ وَإِلَّا اخْتَارَ لَهُ الْحَاكِمُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ النَّائِبُ إِلَّا بِأُجْرَةٍ أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنَ المَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يُعْطَاهُ كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ المقتص منه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 دون المتقص لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ الْأُجْرَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ لَهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي الكلام معه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " (قال) وَلَوْ أُذِنَ لِرَجُلٍ فَتَنَحَّى بِهِ فَعَفَاهُ الْوَلِيُّ فَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مَا عَلِمَهُ عَفَا وَلَا عَلَى الْعَافِي وَالثَّانِي أَنْ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ قَوَدٌ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْوَلِيِّ لأنه متطوع وهذا أشبههما (قال المزني) رحمه الله فَالْأَشْبَهُ أَوْلَى بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّوْكِيلُ فِي الْقِصَاصِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَوْكِيلٌ فِي إِثْبَاتِهِ. وَالثَّانِي: تَوْكِيلٌ فِي اسْتِيفَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كِلَا الضَّرْبَيْنِ فِي كِتَابِ " الْوَكَالَةِ "، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهِمَا، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْفَاعِلِ فَلَمْ يَتَعَدَّ إِلَى التَّوْكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ، وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْإِثْبَاتِ مُخْتَصٌّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُوَكِّلُ وَتَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّوْكِيلِ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ لَهُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَحْدَهُ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْإِثْبَاتِ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْبَيْعِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُوَكِّلِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْكِيلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّاهُ وَلِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ يَقِفُ مُوجِبُهُ عَلَى خِيَارِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْقِصَاصِ إِتْلَافَ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ وَخَالَفَ قَبْضُ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وجهين. أحدها: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْبَيْعِ قَبْضُ الثَّمَنِ، وَالْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ مُخْتَلِفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ مُسْتَدْرَكٌ، وَرَدَّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُسْتَدْرَكٍ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اقْتَصَّ الْوَكِيلُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إِلَى الدِّيَةِ لِفَوَاتِ الْقِصَاصِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بمشهد الْمُوَكِّلِ فَيَصِحُّ الْوَكِيلُ، لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فِي مُبَاشَرَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُوَكِّلُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَظَاهِرُ مَا قَالَهُ هَاهُنَا صِحَّةُ الْوِكَالَةِ، وَظَاهَرُ مَا قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْوِكَالَةِ " فَسَادُهَا، فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَسَادُهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ جَوَازِهَا وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، وَمَنْ عَدَلَ بِهِمَا مِنْ أصحابنا إلى اختلاف تأويلين، وعلى كلى الْقَوْلَيْنِ مِنْ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ وَفَسَادِهَا إِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّ مُوَكِّلِهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ عَنْ إِذْنِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْقِصَاصِ، ثُمَّ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ الْوَكِيلُ مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ اقْتِصَاصِ الْوَكِيلِ، فَيَكُونُ عَفْوُهُ بَاطِلًا، لِأَنَّ عَفْوَهُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَعَفْوِهِ عَنْ دَيْنٍ قَدِ اسْتَوْفَاهُ وَكِيلُهُ وَيَكُونُ عَفْوُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَاطِلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْفُوَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَصَّ الْوَكِيلُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الْوَكِيلِ أَبْعَدَ مِنْ زَمَانِ الْعَفْوِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَيَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ الْقِصَاصِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ عَفْوُهُ بَاطِلًا لَا حُكْمَ لَهُ كَمَا لَوْ رَمَى سِلَاحَهُ عَلَى المتقص مِنْهُ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ قَبْلَ وُصُولِ السِّلَاحِ إِلَيْهِ كَانَ عَفْوُهُ هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الْوَكِيلِ أَقْصَرَ مِنْ زَمَانِ الْعَفْوِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَلَى مَسَافَةِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَيَعْفُوَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ اقْتِصَاصِ الْوَكِيلِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِعَفْوِ مُوَكِّلِهِ قَبْلَ الْقِصَاصِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْإِذْنِ وَيَصِيرُ قَاتِلًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْقَوْلَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِعَفْوِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَقْتَصَّ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَصْحِبٌ حَالَةَ إِبَاحَةٍ، فَكَانَتْ أَقْوَى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عليه قولان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 أَحَدُهُمَا: لَا دِيَةَ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْإِبَاحَةِ كَالْقَوَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّهُ صَادِقُ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ، فَصَارَ بِعَمْدِ الْخَطَأِ أَشْبَهَ، وَكَالْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَتَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، قَدْ أَسْلَمَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ فَقَتَلَهُ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ " فَقَضَى عَلَيْهِمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِدِيَتِهِ " وَمِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خَرَّجَ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْوَكِيلِ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ لِمُصَادَفَتِهِ حَالَ الْعَزْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ، و َمَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي نَسْخِ الْحُكْمِ هَلْ يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسْخِ، أَمْ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَسْخِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ انْتِشَارِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ حِينَ بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ إِلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ النَّسْخِ لَازِمٌ لِلْكَافَّةِ مَعَ الْبَلَاغِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا عَلِمَهُ أَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْجَمَاعَةِ وَاحِدٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ فَقَتْلُ الْوَكِيلِ لِلْجَانِي يَكُونُ قَوَدًا وَيَكُونُ عَفْوُ الْمُوَكِّلِ بَاطِلًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَكِيلِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجْرَى عَلَى قَتْلِهِ حُكْمَ اسْتِيفَائِهِ قَوَدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَنْ رَمَى دَارَ الْحَرْبِ فَقَتَلَ مُسْلِمًا ضَمِنَهُ وَكَفَّرَ عَنْهُ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ الْوَكِيلَ ضَامِنٌ لِلدِّيَةِ، فَعَفْوُ الْمُوَكِّلِ صَحِيحٌ وَحَقُّهُ فِي الدِّيَةِ إِذَا اسْتَوْجَبَهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْجَانِي قَاتِلِ أَبِيهِ يَرْجِعُ بِهَا فِي مَالِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى وَكِيلِهِ، وَيَرْجِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَاتِلِ الْمَقْتُولِ بِدِيَتِهِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَهَلْ تَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِ الْوَكِيلِ أَوْ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ بِشُبْهَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِيَ هُرَيْرَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُعْتَقِدًا لِاسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِ فَصَادَفَ الْحَظْرَ فَصَارَ خَاطِئًا فَإِذَا أُغْرِمَ الْوَكِيلُ الدِّيَةَ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِهَا قَوْلَانِ، كَالزَّوْجِ الْمَغْرُورِ إِذَا أُغْرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ بِالْغُرُورِ هَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِمِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ صَارَ بِعَفْوِهِ غاراً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 لِلْوَكِيلِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِعَفْوِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْوَكِيلُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ مُتَطَوِّعًا، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْأَطْرَافِ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهَا الْوَكِيلُ بَعْدَ العفو. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا تُقْتَلُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَوْ تُرِكَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْوَلِيِّ حَتَّى يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ فَإِنْ لَمْ يفعل قتلت (قال المزني) رحمه الله إِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَوْلُودِ مَا يَحْيَا بِهِ لَمْ يَحِلَّ عِنْدِي قَتْلُهُ بِقَتْلِ أُمِّهِ حَتَّى يُوجَدَ مَا يَحْيَا بِهِ فَتُقْتَلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى حَامِلٍ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَائِلٌ فَحَمَلَتْ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وَفِي قَتْلِ الْحَامِلِ سَرَفٌ لِلتَّعَدِّي بِقَتْلِ الْحَمْلِ مَعَهَا، وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ أَقَرَّتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالزنا وهي حامل، وقالت: طهرني يا رسو ل اللَّهِ فَقَالَ لَهَا: " اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ " وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَهِيَ حَامِلٌ فَرَدَّهَا عَلِيٌّ وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: " لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ ". وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْقَائِلُ ذَلِكَ مُعَاذ بْن جَبَلٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: (كَادَ النِّسَاءَ يعجزون أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَكَ " وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِي الْحَامِلِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ تَعْجِيلَ قَتْلِهَا وَهُوَ الْقِصَاصُ. وَالثَّانِي: اسْتِبْقَاءُ حَيَاتِهَا وَهُوَ الْحَمْلُ، فَقُدِّمَ حَقُّ الْحَمْلِ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى حَقِّ الْقِصَاصِ فِي التَّعْجِيلِ لِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ قَتْلِهَا إِسْقَاطَ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ وَفِي إِنْظَارِهَا اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ، فَكَانَ الْإِنْظَارُ أَوْلَى مِنَ التَّعْجِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْحَمْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ، عُلِمَ ذَلِكَ بِحَرَكَةِ الْحَمْلِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ إِلَّا بِقَوْلِهَا لِيُسْتَبْرَأَ صِحَّةُ دَعْوَاهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا لِلْحَمْلِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ، وَيُعَجَّلُ قَتْلُهَا إِنْ لَمْ يَشْهَدْنَ لَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] فَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ عَلَى مَا وَجَبَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ، وَتَحْلِفُ عَلَيْهِ إِنِ اتُّهِمَتْ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أُمْهِلَتْ حَتَّى تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللَّبَأَ الَّذِي لَا يَحْيَا الْمَوْلُودُ إِلَّا بِهِ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْأَغْلَبِ، فَإِذَا أَرْضَعَتْهُ مَا لَا يَحْيَا إِلَّا بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي رَضَاعِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُوجَدُ لَهُ مُرْضِعٌ سِوَاهَا، فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رَضَاعَةَ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَّرْنَاهَا لِحِفْظِ حَيَاتِهِ حَمْلًا فَأَوْلَى أَنْ نؤخرها لحفظ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 حَيَاتِهِ مَوْلُودًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ حِينَ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ وَضْعِ حَمْلِهَا: " اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ". وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ قَدْ تَعَيَّنَتْ وَسُلِّمَ إِلَيْهَا مُلَازِمَةً لِرَضَاعِهِ فَيُقْتَصُّ مِنْهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَقِيَّةِ نِفَاسِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَلَدِ عَلَيْهَا حَقٌّ وَلَا لِحَيَاتِهِ بِهَا تَعَلُّقٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَنْ لَا يَتَرَتَّبُ لِرَضَاعِهِ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ يُوجَدُ لَهُ بَهِيمَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ يَكْتَفِي بِلَبَنِهَا وَلَا يُوجَدُ لِرَضَاعِهِ أَحَدُ النِّسَاءِ، فيقال لولي القصاص. الأولى بك أن تصر عَلَيْهَا لِتَقُومَ بِرَضَاعِهِ، لِئَلَّا يَخْتَلِفَ عَلَيْهِ لَبَنُ النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ لَهُ إِحْدَاهُنَّ، أَوْ يُعْدَلْ بِهِ إِلَى لَبَنِ بَهِيمَةٍ وَلَبَنُ النِّسَاءِ أَوْثَقُ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُكَ الصَّبْرُ، لِأَنَّ فِيمَا يُوجَدُ مِنْ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ وَمَنْ لَا يَتَرَتَّبُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ حِفْظٌ لِحَيَاتِهِ فَإِنْ صَبَرَ مُخْتَارًا أُخِّرَ قَتْلُهَا، وَإِنِ امْتَنَعَ وَطَلَبَ التَّعْجِيلَ قُتِلَتْ وَلَمْ تُؤَخَّرْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ تُرِكَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْوَلِيِّ حَتَّى يُوجَدَ لَهُ مُرْضِعٌ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَتْ " وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ أَرَادَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُرْضِعٌ أَبَدًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيُوجَدُ لَهُ مُرْضِعٌ يَتَرَتَّبُ لِرَضَاعِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَالِ وَلَا تَسَلَّمَتْهُ، فَفِي تَعْجِيلِ قَتْلِهَا قَبْلَ تَعْيِينِ مُرْضِعَةٍ وَتَسْلِيمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا تَعْجِيلُ قَتْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَلِيُّ بِإِنْظَارِهَا إِلَى تَعْيِينِ الْمُرْضِعِ وَتَسْلِيمِهِ لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ تَلَفِ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ تَأْخِيرُ قَتْلِهَا حَتَّى يَتَعَيَّنَ الْمُرْضِعُ وَتَتَسَلَّمُهُ، رَضِيَ بِهِ الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَرْضَ؟ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَأَخَّرَ تَعْيِينُ المرضع وتسليمه إليها زماناً لا يصير الْمَوْلُودُ فِيهِ عَلَى فَقْدِ الرَّضَاعِ فَيَتْلَفُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله: " ولوعجل الْإِمَامُ فَاقْتَصَّ مِنْهَا حَامِلًا فَعَلَيْهِ الْمَأْثَمُ فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا ضَمِنَهُ الْإِمَامُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ المقتص (قال المزني) رحمه الله بل على الولي لأنه اقتص لنفسه مختاراً فجنى على من لا قصاص له عليه فهو بغرم ما أتلف أولى من إمام حكم له بحقه فأخذه وما ليس له ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عُجِّلَ قَتْلُ الْحَامِلِ قَوَدًا ولم تسهل حَتَّى تَضَعَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْقَتْلِ من أن تلق وَلَدًا، أَوْ لَا تُلْقِيَهُ فَإِنْ لَمْ تُلْقِ وَلَدًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْحَمْلِ، لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ وَيُنْظَرُ حَالُهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتُ الْحَمْلِ ظَاهِرَةً عَلَيْهَا كَانَ قَاتِلُهَا آثِمًا إِذَا عَلِمَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 بِالْأَمَارَاتِ، لِأَنَّهُ عَجَّلَ بِقَتْلٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَاتُهُ فَلَا مَأْثَمَ فِيهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ خُلُوُّهَا مِنَ الحَمْلِ وَإِنْ أَلْقَتْ وَلَدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَيًّا يَبْقَى بعد قتلها فلاضمان فِيهِ لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهَا رُوعِيَ أمره فيما يبين وَضْعِهِ وَمَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَزَلْ فِيهِ ضَمِنًا يَحْدُثُ بِهِ ضَعْفٌ بَعْدَ ضَعْفٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ يِقَتل أُمَّه فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ وَضْعِهِ وَمَوْتِهِ سَلِيمًا يَزْدَادُ قُوَّةً بَعْدَ قُوَّةٍ ثُمَّ مَاتَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مَوْتِهِ أَنَّهُ عَنْ سَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ وِلَادَتِهِ فَلَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ جَنِينًا لَا يَبْقَى لَهُ حَيَاةٌ فَيَكُونُ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إِلْقَائِهِ أنه كان بقتل أُمّه لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِحَيَاتِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَقَدَ غِذَاءَهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا وَجَبَ فِيهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِينَارًا هِيَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ: وَنِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أَبِيهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَإِنِ اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ صَارِخًا ضُمِنَ بِكَمَالِ دِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ضُمِنَ بِدِيَةِ رَجُلٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى ضُمِنَ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَنِينَ مَضْمُونٌ بِالْغُرَّةِ إِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ، وَبِالدِّيَةِ إِنِ اسْتَهَلَّ كَانَ لُزُومُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْإِمَامِ لحكمه بالقصاص، وعلى الوليد لِاسْتِيفَائِهِ الْقِصَاصَ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْحَمْلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ الْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْإِمَامُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ لِمُبَاشَرَتِهِ لِقَتْلٍ عُلِمَ حَظْرُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ بِالْحَمْلِ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ الْوَلِيُّ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ لِحُكْمِهِ بِقَتْلٍ عُلِمَ حَظْرُهُ، كَالشُّهُودِ بِالْقَتْلِ إِذَا اسْتَوْفَاهُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنُوهُ دُونَ الْحَاكِمِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: فِي هَذَا الْقِسْمِ " يَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ لِمُبَاشَرَتِهِ " وَهُوَ فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْوَلِيِّ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: عَلَى الْوَلِيِّ دُونَ الْإِمَامِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ وَالْإِمَامَ هُوَ الْمُمَكِّنُ مِنْهُ، وَالْحَاكِمُ بِهِ فَكَانَ بِالْتِزَامِ الضَّمَانِ أَحَقَّ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ الْإِمَامُ وَلَا الْوَلِيُّ بِالْحَمْلِ، فَفِي مَا يُلْزِمُ الضَّمَانَ ثلاثة أوجه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْوَلِيِّ، لِمُبَاشَرَتِهِ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْوَلِيِّ، بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، إنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْوَلِيِّ نِصْفَيْنِ لِوُجُودِ التَّسْلِيطِ مِنَ الإِمَامِ وَوُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ مِنَ الوَلِيِّ، فَصَارَا فِيهِ شَرِيكَيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتَقَرَّ تَعْيِينُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ كَانَ مَا ضَمِنَهُ الْوَلِيُّ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ غُرَّتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ خَطَئِهِ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ، وَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ دُونَ الْكَفَّارَةِ. فَأَمَّا مَا ضَمِنَهُ الْإِمَامُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْغُرَّةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ يَتَحَمَّلُونَهُ عَنْهُ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ضَمِنَ جَنِينَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْهَبَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا قَالَ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " عزمت عليه لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ " يَعْنِي مِنْ قُرَيْشٍ، لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ وَكَمَا يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ الْعَقْلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ كَغَيْرِ الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَكُونُ الدِّيَةُ أَوِ الْغُرَّةُ مَضْمُونَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَكْثُرُ مِنَ الإِمَامِ لِمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا يَجِدُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا بُدًّا، فَلَوْ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَتُهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ خَطَأِ اجْتِهَادِهِ عَجَزُوا عَنْهُ وَلَمْ يُطِيقُوهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِمْ، فَيَكُونُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ. قِيلَ: لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ الْقِصَاصَ الَّذِي فِيهِ حِفْظُ حَيَاتِهِمْ وَصَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ كَانَ مُوجِبُ الْخَطَأِ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ مَصَالِحِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا ضَمِنَهُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْغُرَّةِ عَلَى تَأْجِيلِ الْخَطَأِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالدِّيَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ فِي مَالِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ عَاقِلَتُهُ وَالْعَاقِلَةُ تتحمل الدية دون الكفارة. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَتَلَ نَفَرًا قُتِلَ لِلْأَوَّلِ وَكَانَتِ الدِّيَاتُ لِمَنْ بَقِيَ فِي مَالِهِ فَإِنْ خَفِيَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ قَتَلَ أَوَّلًا قُتِلَ بِهِ وَأُعْطِيَ الْبَاقُونَ الدِّيَاتِ مِنْ مَالِهِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَتَلَ الْوَاحِدُ جَمَاعَةً إِمَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ حَائِطًا، أَوْ أَلْقَاهُمْ فِي نَارٍ، أَوْ غَرَّقَهُمْ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ قَتَلَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ بِأَحَدِهِمْ، وَتُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُقْتَلُ بِجَمَاعَتِهِمْ وَقَدِ اسْتَوْفَوْا بِهِ حُقُوقَهُمْ، وَلَا دِيَةَ لَهُمْ فِي مَالِهِ فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَحُقُوقِهِمْ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ غَيْرَ الْقَوَدِ، وَأَنَّ الدِّيَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا فَاتَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِ دِيَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي، وَاسْتَدَلَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِنْ كَانُوا كُفُؤًا لِلْوَاحِدِ إِذَا قَتَلُوهُ قُتِلُوا بِهِ، وَجَبَ أن يكون الواحد كفوءاً لِلْجَمَاعَةِ إِذَا قَتَلَهُمْ قُتِلَ بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا تَرَادَفَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ تَدَاخَلَ بَعْضُهُ في بعض، كالعبد إذا قتل جَمَاعَةٌ، وَكَالْمُحَارِبِ إِذَا قَتَلَ فِي الْحِرَابَةِ جَمَاعَةً، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَلِأَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي عَيْنٍ ضَاقَتْ عَنْ حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا أُسْوَةً كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النفس بالنفس} فَمَنْ جَعَلَ نَفْسًا بِأَنْفُسٍ خَالَفَ الظَّاهِرَ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطاناً} وَمَنْ قَتَلَهُ بِجَمَاعَتِهِمْ أَبْطَلَ سُلْطَانَ كُلِّ وَاحِدٍ منهم، ولأنها جنايات لا يتداخل خطأها فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ عَمْدُهَا، كَالْأَطْرَافِ لِأَنَّ وَاحِدًا لَوْ قَطَعَ أَيْدِيَ جَمَاعَةٍ قُطِعَ عِنْدَنَا بِأَحَدِهِمْ، وَأُخِذَ مِنْهُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ يَدُهُ بِجَمَاعَتِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ إِن كَانُوا عَشَرَةً تِسْعُ دِيَاتِ يَدٍ تُقْسَمُ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، فَصَارَ هَذَا الِاخْتِلَافُ إِجْمَاعًا عَلَى أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ الْأَطْرَافُ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَاتٌ لَا تَتَدَاخَلُ فِي الْأَطْرَافِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ فِي النُّفُوسِ كَالْخَطَأِ، وَلِأَنَّ جِنَايَاتِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنَ الخَطَأِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْ مُوجِبِ الْخَطَأِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا لَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِإِحْيَاءِ النُّفُوسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {ولكم في القصاص حياة} فَلَوْ قُتِلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ لَكَانَ فِيهِ إِغْرَاءٌ بِقَتْلِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بَعْدَ قَتْلِ الْأَوَّلِ شَيْئًا فِي جَمِيعِ مَنْ قَتَلَ، وَلِيُسَارِعَ النَّاسُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِمْ بِالْقَتْلِ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ وَلَمْ يَكُفُّوا، وَلَمْ يَصِرِ الْقِصَاصُ حَيَاةً، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَقَتْلِ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ وَالْمُحَارِبِ، فَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْعَبْدَ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَتْ جِنَايَاتُ خَطَئِهِ تَدَاخَلَتْ جِنَايَاتُ عَمْدِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ قَتْلَ الْمُحَارِبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَدَاخُلِ جِنَايَتِهِ فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ بِالْأَوَّلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى تَدَاخُلِهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِانْحِتَامِ قَتْلِهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُهُ تَتَدَاخَلُ وَإِذَا قِيلَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لَمْ يَنْحَتِمْ قَتْلُهُ، فَكَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوقُهُمْ لَا تَتَدَاخَلُ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحُدُودِ وَقِيَاسِهِمْ عَلَى غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ عَيْنٌ يَسْتَوْفُونَ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا، فَاسْتَهَمُوا فِي الْمَوْجُودِ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مُفْلِسًا لَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ بِمَثَابَتِهِمْ وَإِذَا فَارَقَ الْمُفْلِسُ يَسَارَهُ وَجَدَ الْأَوْلِيَاءُ سَبِيلًا إِلَى اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ، فَافْتَرَقَ الْجَمْعَانِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَاتِلَ الْجَمَاعَةِ يُقْتَلُ بِأَحَدِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ قَتْلِهِ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يقتلهم في دُفْعَة وَاحِدَة. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُشْكِلَ حَالُ قَتْلِهِ لَهُمْ وَمَنْ يُقَدَّمُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُ وَلِيُّ الْأَوَّلِ، فَلَا يُخَاطَبُ أَوْلِيَاءُ الْبَاقِينَ إِلَّا بَعْدَ عَرْضِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ طَلَبَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ وَكَانَ فِي مَالِهِ دِيَاتُ الْبَاقِينَ، فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِجَمِيعِ دِيَاتِهِمُ اسْتَوْفَوْهَا وَإِنْ ضَاقَ عَنْهَا اسْتَهَمُوا فِيهَا بِالْحِصَصِ، وَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فِيهَا أُسْوَةً، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ الْأَسْبَقُ فِي الْقِصَاصِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الدِّيَةِ، لِأَنَّ مَحَلَّ الدِّيَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَهِيَ تَتَّسِعُ لِجَمِيعِهَا، فَشَارَكَ الْمُتَأَخِّرُ الْأَسْبَقَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَحَلُّ الْقَوَدِ الرَّقَبَةُ، وَهِيَ تَضِيقُ عَنِ اقْتِصَاصِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَتَّسِعُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، فَيُقَدَّمُ الْأَسْبَقُ بِهَا عَلَى الْمُتَأَخِّرِ، فَإِنْ عَفَا الْأَوَّلُ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ عُرِضَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ رَجَعَ الْأَوَّلُ وَمَنْ بَعْدَ الثَّانِي بَدِيَاتِهِمْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ عَفَا الثَّانِي عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ عُرِضَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّالِثِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى آخِرِهِمْ، فَلَوْ عَمَدَ الْإِمَامُ فَقَتَلَهُ لِلْأَخِيرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ إِنْ عَلِمَ بِتَقَدُّمِ غَيْرِهِ، وَلَا يَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ بَادَرَ وَلِيُّ الْأَخِيرِ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَعُزِّرَ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 وَقَفَ الِاقْتِصَاصُ مِنَ القَاتِلِ عَلَى إِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ وَبُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ ثُمَّ عَرَضَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمِ الْقِصَاصَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ الْإِمَامُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةَ الْمَجْنُونِ وَقُدُومَ الْغَائِبِ وَعَجَّلَ قَتْلَهُ قِصَاصًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُ لَهُمْ، أَوْ يَقْتُلَهُ لِأَوْلِيَاءِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنْ قَتَلَهُ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِصَاصًا فِي حَقِّهِمْ وَلَا حَقِّ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ لَهُمُ الْعُدُولَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنْهَا وَيَصِيرُ الْإِمَامُ ضَامِنًا لِدِيَةِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، لِأَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا وَهَلْ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القَوْلَيْنِ، وَإِنْ قَتَلَهُ لِمَنْ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عَنْ أَمْرِهِمْ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَقْدِيمِهِمْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ قَتْلِهِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَائِبِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ الْجَمَاعَةَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ سَلَّمُوا الْقَوَدَ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِهِ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بِالدِّيَاتِ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِيهِ وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُقَادَ بِقَتِيلِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَاخْتَصَّ بِقَتْلِهِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَاقْتَصَّ مِنْهُ بِقَتِيلِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْإِمَامِ فَقَدْ أَسَاءَ الْإِمَامُ وَلَمْ يُعَزَّرِ الْمُقْتَصُّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عُزِّرَ، وَقَدِ اسْتَوْفَى بِالِاقْتِصَاصِ حَقَّهُ وَرَجَعَ الْبَاقُونَ بَدِيَاتِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ ضَاقَتِ اقْتَسَمُوهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ غُرْمًا ضَرَبُوا بِدُيُونِهِمْ مَعَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِينَ بَدِيَاتِهِمْ فِي التَّرِكَةِ لِيَتَوَزَّعُوهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُشْكِلَ حَالُ قَتْلِهِ لَهُمْ هَلْ تَرَتَّبُوا، أَوِ اشْتَرَكُوا؟ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْتَرِفَ أَوْلِيَاءُ جَمِيعِهِمْ بِالْإِشْكَالِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنْ سَلَّمْتُمِ القصاص لأحدكم كان أحققكم بِهِ وَإِنْ تَشَاحَحْتُمْ أُقْرِعَ بَيْنَكُمْ وَاقْتَصَّ مِنْهُ مَنْ قَرَعَ مِنْكُمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفُوا وَيَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ عُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَدِمُوهَا رُجِعَ إِلَى الْجَانِي الْقَاتِلِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالتَّقَدُّمِ لِأَحَدِهِمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْقِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ لِتَكَافُئِهِمْ، وَاخْتَصَّ بِالْقِصَاصِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمْ، فَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِالتَّقَدُّمِ لِأَحَدِهِمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ فِيهَا فَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا بِجُرْحٍ سَقَطَ حَقُّهُمَا مِنَ القِصَاصِ بِالِاعْتِرَافِ بِهِ لِغَيْرِهِمَا، وَالِاعْتِبَارُ بِالتَّقَدُّمِ أَنْ يُرَاعي وَقْت الْمَوْتِ لَا وَقْت الْجِنَايَةِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَ زَيْدٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ عَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ اسْتَحَقَّ زَيْدٌ الْقِصَاصَ فِي الْيَدِ دُونَ عَمْرٍو، لِأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ أَسْبَقُ وَاسْتَحَقَّ عَمْرٌو الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ دُونَ زَيْدٍ، لِأَنَّ مَوْتَهُ أَسْبَقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ بِالْيَدِ وَقُتِلَ بِالنَّفْسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَطَعَ الْجَانِي يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ قُطِعَتْ يَدُهُ لِلْأَوَّلِ، وَقُتِلَ لِلثَّانِي. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ بِالثَّانِي وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعَمُّ فَاسْتَوْعَبَ الْحَقَّيْنِ وَلِأَنَّ الغرض إفاتة نفسه والزيادة عليه ومثلة وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ فِي الرِّدَّةِ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ وَدَخَلَ فِيهِ قَطْعُ السَّرِقَةِ، كَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى النَّفْسِ، يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ قَطْعُ الْيَدِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعتدى عليكم} فَوَجَبَ أَنْ يُجَازَى بِالْأَمْرَيْنِ، وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقَّانِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَالْقَتْلَ حَقَّانِ لِشَخْصَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَدَاخَلَا كَالدُّيُونِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ تَدَاخُلُهُمَا فِي الدِّيَةِ امْتَنَعَ تَدَاخُلُهُمَا فِي الْقَوَدِ، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ أَخَفُّ مِنَ العَمْدِ وَهُمَا لَا يَتَدَاخَلَانِ فِي الْخَطَأِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا فِي الْعَمْدِ فَبَطَلَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَكُونُ نَكَالًا ومثلة، لِأَنَّهُ جَزَاءٌ فَاجْتِمَاعُ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَدَاخُلِهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَدَاخَلَانِ وَيُسْتَوْفَيَانِ، فَيُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ وَيُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَتَدَاخَلَانِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَازَ تَدَاخُلُهُمَا وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ، وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا، هَلْ يَدْخُلُ الْجَلْدُ فِي الرَّجْمِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُوجِبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: (فَصْلٌ) وَلَوِ ابْتَدَأَ الْجَانِي فَقَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ اقْتُصَّ مِنْ يَدِهِ بِالْقَطْعِ، ثُمَّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ وَيُقَدَّمُ الْقَطْعُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقَتْلِ وَإِنْ تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْقَتِيلَيْنِ فِي تَقْدِيمِ الْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فِي الْقَتِيلَيْنِ، فَقُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فِي الْيَدِ وَالنَّفْسِ فَرُبَّمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا. وَلَوْ قُدِّمَ الْقَتْلُ سَقَطَ الْقَطْعُ، وَإِذَا قُدِّمَ الْقَطْعُ لَمْ يَسْقُطِ الْقَتْلُ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ الْقَطْعُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَلَى الْقَتْلِ وَإِنْ تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ مِثَالُ الْقَتْلَيْنِ مِنَ الأَطْرَافِ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنَ اثْنَيْنِ مِثْلَ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ رَجُلٍ يُمْنَى يَدَيْهِ، وَمِنْ آخَرَ يُمْنَى يَدَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنَ اليَدِ الْوَاحِدَةِ، فَيُقَدَّمُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا لِأَسْبَقِهِمَا كَالْقَتْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ عَفَا الْأَوَّلُ اقْتُصَّ مِنْهَا لِلثَّانِي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 فَإِنْ قِيلَ فَالْمَقْتُولُ كَانَ كَامِلَ الْأَطْرَافِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ نَفْسٍ كَامِلَةِ الْأَطْرَافِ. قِيلَ: كَمَالُ النُّفُوسِ لَا يُعْتَبَرُ بِكَمَالِ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ كَامِلَ الْأَطْرَافِ وَالْمَقْتُولُ نَاقِصَ الْأَطْرَافِ قُتِلَ بِهِ مَعَ كَمَالِ أَطْرَافِهِ وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ نَاقِصَ الْأَطْرَافِ وَالْمَقْتُولُ كَامِلَ الْأَطْرَافِ قُتِلَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي زِيَادَةِ أَطْرَافِهِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ وَإِنْ نَقَصَتْ أَطْرَافُهَا كَدِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ كَمُلَتْ أَطْرَافُهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا ابْتَدَأَ الْجَانِي فَقَطَعَ أُصْبُع رَجُلٍ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَقَطَعَ مِنْ آخَرَ يَدَهُ الْيُمْنَى قُدِّمَ الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُع لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَإِنِ اقْتَصَّ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ مِنْهَا اقْتُصَّ بَعْدَهُ لِصَاحِبِ الْيَدِ وَقَدِ اقْتُصَّ مِنْ يَدٍ نَقَصَتْ أُصْبُعا بِيَدِهِ الْكَامِلَةِ فَيُرْجَعُ بَعْدَ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَانِي بِدِيَةِ أُصْبُع وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ إِذَا نَقَصَتْ أَطْرَافُهَا، لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي تَكَافُؤِ الْأَطْرَافِ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَكَافُؤِ النُّفُوسِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْأَطْرَافِ مُسَاوِيَةٌ لِدِيَةِ النَّفْسِ الْكَامِلَةِ الْأَطْرَافِ، فَلَوْ عَفَا صَاحِبُ الْأُصْبُع عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ دِيَتُهَا وَقُطِعَ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ فِي يَدٍ كَامِلَةٍ بِيَدِهِ الْكَامِلَةِ، وَلَوْ تَرَتَّبَ الْقَطْعَانِ بِالضِّدِّ، فَبَدَأَ الْجَانِي فَقَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ مِنْ آخَرَ أُصْبُعا مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى قَدَّمَ الْقِصَاصَ لِصَاحِبِ الْيَدِ عَلَى الْقِصَاصِ لِصَاحِبِ الْأُصْبُع، لِتَقَدُّمِ قَطْعِ الْيَدِ عَلَى قَطْعِ الْأُصْبُع اعْتِبَارًا بِالْأَسْبَقِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا قَدَّمْتُمُ الْقِصَاصَ فِي الْأُصْبُع، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ الْحَقَّانِ كَمَا قَدَّمْتُمُ الْقِصَاصَ فِي الْيَدِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَلَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقَّيْنِ؟ قِيلَ: لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْكَمَالِ فِي تَكَافُؤِ الْأَطْرَافِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ فِي تَكَافُؤِ النُّفُوسِ، وَقَدِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْيَدِ بِكَمَالِ يَدِهِ الِاقْتِصَاصَ مِنْ يَدٍ كَامِلَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ يَدٍ نَاقِصَةٍ مَعَ إِمْكَانِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمَا وَهِيَ كَامِلَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاقْتَصَّ صَاحِبُ الْيَدِ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِصَاحِبِ الْأُصْبُع وَرَجَعَ بِدِيَتِهَا، وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْيَدِ عَنِ الْقِصَاصِ رَجَعَ بِدِيَتِهَا وَاقْتُصَّ لِصَاحِبِ الْأُصْبُع، وَهَكَذَا قَطْعُ الْأُنْمُلَةِ، مِنْ رَجُلٍ وَقَطْعُ تِلْكَ الْأُصْبُع مِنْ آخَرَ يَكُونُ عَلَى قِيَاسِ الْأُصْبُع مَعَ الْكَفِّ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ مَاتَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ الْأَوَّلُ بَعْدَ أَنِ اقْتَصَّ مِنَ اليَدِ فَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فِي مَالِ قَاطِعِهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ قَدِ اسْتَوْفَى قَبْلَ مَوْتِهِ مَا فِيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ بِاقْتِصَاصِهِ بِهِ قَاطِعَهُ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَ آخَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا لِلْأَوَّلِ، وَقُتِلَ قَوَدًا لِلثَّانِي ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ سِرَايَةِ يَدِهِ، صَارَ الْقَطْعُ قَتْلًا وَقَدْ فَاتَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ بِالْقَوَدِ الثَّانِي فَوَجَبَ لِلْمَقْطُوعِ دِيَةُ نَفْسِهِ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ إِلَيْهَا، وَقَدْ أَخَذَ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْ يَدِهِ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ دِيَةِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ وَلِيُّهُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي بِنِصْفِهَا لِيَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَطْعِ وَالْأَخْذِ بِمَا يُقَابِلُ جَمِيعَ دِيَةِ النَّفْسِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ مِنَ الأَوَّلِ إِحْدَى أَصَابِعِهِ وَقَتَلَ آخَرَ فَاقْتُصَّ لِلْأَوَّلِ مِنْ أُصْبُعهِ، وَقُتِلَ لِلثَّانِي ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ سِرَايَةِ أصْبعهِ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي تِسْعَةَ أَعْشَارِ دينه لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْأصبع عُشْرَهَا، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ لِلْأولَ وَقُتِلَ لِلثَّانِي ثُمَّ سَرَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ كَمَالَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ جَمِيعَ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ رَجُلٍ فَاقْتُصَّ مِنْهَا ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ الْقَاطِعِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ صَارَ قَتْلًا، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ إِلَى الدِّيَةِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ، أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ وَلَمْ يَقْتَصَّ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ سَقَطَ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ عُدُولَهُ إِلَى دِيَةِ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ، وَلَوْ قَطَعَ يَد رَجُلٍ فَاقْتُصَّ مِنْهُمَا ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، كَانَ لِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ لَمْ يستحقها، لأنه يقطع الْيَدَيْنِ قَدِ اسْتَوْفَاهُمَا، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَهُوَ نَادِرٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِدِيَةِ الْقَطْعِ وَاسْتِيفَاءِ دِيَةِ النَّفْسِ بِدِيَةِ الْيَدَيْنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ رَجُلٍ فَأَخَذَ الْمَقْطُوعُ دِيَتَهَا نِصْفَ الدِّيَةِ ثُمَّ عَادَ الْجَانِي إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ يَدِهِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ بِقَتْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، لِأَخْذِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَيَرْجِعُ وَلَيُّهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَهُوَ الْبَاقِي مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ دِيَةِ النَّفْسِ وَجَعَلَ جِنَايَةَ الْوَاحِدِ كَجِنَايَةِ الِاثْنَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْأَعْضَاءِ فَلَمْ يُوجِبْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 سُقُوطُ الْقَوَدِ فِي الْيَدِ سُقُوطَهُ فِي النَّفْسِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا نِصْفَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مَا فِيهِ نِصْفُهَا. (فَصْلٌ) إِذَا قَطَعَ نَصْرَانِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ فَاقْتَصَّ الْمُسْلِمُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعِ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ النَّصْرَانِيِّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ قَدْ صَارَ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمُسْلِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ النَّصْرَانِيِّ ثُلْثُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدِ اقْتَصَّ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ بِنِصْفِهَا وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَقَدْرُهُمَا سُدْسُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَصَارَ الْبَاقِي لَهُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ بِنِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَأْخُذَ يَدَ النَّصْرَانِيِّ بِيَدِهِ وَدِيَةُ الْيَدِ نِصْفُ دِيَةِ النَّفْسِ صَارَ الْبَاقِي لَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ أَلَا تَرَاهُ لَوِ ابْتَدَأَ النَّصْرَانِيُّ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرَضِيَ وَلِيُّهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ كَانَتْ نَفْسُهُ بِنَفْسِ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلِيُّهُ بِفَاضِلِ دِيَتِهِ، كَذَلِكَ فِي الْيَدِ، وَلَوْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ قَطَعَ يَدَيِ الْمُسْلِمِ فَاقْتَصَّ الْمُسْلِمُ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ كَانَ لِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلْثَيِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْيَدَيْنِ دِيَةَ نَصْرَانِيٍّ قَدْرُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ لَهُ ثُلْثَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي يَدَيِ النَّصْرَانِيِّ دِيَةَ نَفْسِهِ فَصَارَ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهَا كَالْمُقْتَصِّ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ قَطَعَتِ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهَا إِلَى الدِّيَةِ رَجَعَ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ وَقَدْ أَخَذَ بِيَدِهَا نِصْفَ دِيَتِهَا وَهِيَ رُبْعُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِالْيَدِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالدِّيَتَانِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا يَتَمَاثَلَانِ فِي الْقِصَاصِ، وَلَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَيِ الرَّجُلِ فَاقْتَصَّ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ: فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ وَلِيُّهُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِشَيْءٍ لِاقْتِصَاصِهِ مِنْ يَدَيْنِ يَجِبُ فِيهَا دِيَةُ النَّفْسِ. (فَصْلٌ) سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مضمونة على الجاني، وسراية القصاص غير مضمونة عَلَى الْمُقْتَصِّ، فَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الجَانِي، ثُمَّ مَاتَ المجني الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 عَلَيْهِ مِنَ القَطْعِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي، وَلَوْ مَاتَ الْجَانِي مِنَ القِصَاصِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا لَا يَضْمَنُهَا الْمُقْتَصُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سِرَايَةُ الْقِصَاصِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُقْتَصِّ كَمَا أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَانِي، فَإِذَا مَاتَ الْجَانِي مَعَ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ ضَمِنَ الْمُقْتَصُّ جَمِيعَ دِيَةِ نَفْسِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا حَدَثَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُبَاشِرِ كَالْجَانِي. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِتَخْيِيرِ وَلِيِّهِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ وَالْأَبِ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ التَّلَفِ عَنْ ضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْأَبِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ مَا حَدَثَ عَنِ الْقِصَاصِ يجب أن يكون مضموناً على المتقص. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: " مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَلَا دِيَةَ لَهُ الْحَقُّ قَتلهُ " وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ قَطْعُهُ بِالنَّصِّ لَمْ يُضْمَنْ سِرَايَتُهُ كَالسَّرِقَةِ، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا فَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا لِحَظْرِهِ ضُمِنَتْ سِرَايَتُهُ، وَإِنْ كَانَ هَدَرًا لِإِبَاحَتِهِ لَمْ يُضْمَنْ سِرَايَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقَرِّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ بِأَنَّ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي مِلْكِهِ فَتَعَدَّتْ إِلَى جَارِهِ، أَوْ أَجْرَى الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ فَجَرَى إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَأَجْرَى الْمَاءَ فِي غَيْرِ أَرْضِهِ ضُمِنَ بِتَعَدِّيهِمَا، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا سَقَطَ فِيهَا وَلَوْ حَفَرَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ضَمِنَ مَا سَقَطَ فِيهَا كَذَلِكَ سِرَايَةُ الْقِصَاصِ عَنْ مُبَاحٍ فَلَمْ يَضْمَنْ وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ عَنْ مَحْظُورٍ فَضُمِنَتْ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ السِّرَايَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْأَبِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ تَقْدِيرُ الْقِصَاصِ بِالشَّرْعِ نَصًّا، فَلَمْ يَضْمَنْ وَالضَّرْبُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَضَمِنَ، كَمَا لَا يُضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْ جَلْدِ الزَّانِي وَيُضْمَنُ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ. (فَصْلٌ) إِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الجَانِي ثُمَّ سَرَى الْقَطْعَانِ إِلَى النَّفْسِ، فَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَمَاتَ الْجَانِي فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ مَوْتُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى موت الجاني، فيجزي قَطْعُ الْقِصَاصِ وَسِرَايَتُهُ عَنْ قَطْعِ الْجَانِي وَسِرَايَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ السِّرَايَةُ فِي الْجِنَايَةِ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ وَجَبَ أَنْ تَقُومَ السِّرَايَةُ فِي الْقِصَاصِ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى الْجَانِي أَخْذُ نَفْسِهِ وَقَدْ أَخَذَهَا وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِسِرَايَةِ قَوَدِهِ، هَذَا مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ سِرَايَةَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِهَا سِرَايَةَ الْجَانِي وهي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 مَضْمُونَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْجَانِي قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا يجزى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ فِي الْقَوَدِ عَمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ تقديم القصاص من قبل استحقاقه لا يجزي بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَفًا، وَالسَّلَفُ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تجزي سِرَايَةُ الْقِصَاصِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَمَّا وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ عَنِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّرَايَتَيْنِ تَابِعَةٌ لِأَصْلِهَا، وَقَطْعَ الْقِصَاصِ مُتَأَخِّرٌ، فَجَرَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِرَايَتِهِ حُكْمُ المتأخر والله أعلم. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَعْتُوهٌ أَوْ كَانَ حُرٌّ وَعَبْدٌ قَتَلَا عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ قَتَلَا نَصْرَانِيًّا أَوْ قَتَلَ ابْنَهُ وَمَعَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْقِصَاصُ الْقِصَاصُ وَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَعُقُوبَةٌ إِنْ كَانَ الضَّرْبُ عمداً (قال المزني) رحمه الله وشبه الشافعي أخذ القود من البالغ دون الصبي بالقاتلين عمداً يعفو الولي عن أحدهما إن له قتل الآخر فإن قيل وجب عليهما القود فزال عن أحدهما بإزالة الولي قيل فإذا أزاله الولي عنه أزاله عن الآخر فإن قال لا قيل فعلهما واحد فقد حكمت لكل واحد منها بحكم نفسه لا بحكم غيره (قال) فإن شركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله وجناية المخطئ على عاقلته واحتج على محمد بن الحسن في منع القود من العامد إذا شاركه صبي أو مجنون فقال إن كنت رفعت عنه القود لأن القلم عنهما مرفوع وإن عمدهما خطأ على عاقلتهما فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمداً مع الأب لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع وهذا ترك أصلك (قال المزني) رحمه الله قد شرك الشافعي رحمه الله محمد بن الحسن فيما أنكر عليه في هذه المسألة لأن رفع القصاص عن الخاطئ والمجنون والصبي واحد فكذلك حكم من شاركهم بالعمد واحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ نَفْسٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ قُتِلَ بِهِ كَحُرَّيْنِ قَتَلَا حُرًّا أَوْ عَبْدَيْنِ قَتَلَا عَبْدًا، أَوْ كَافِرَيْنِ قَتَلَا كَافِرًا، فَعَلَيْهِمَا إِذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، كَحُرَّيْنِ قَتَلَا عَبْدًا، أَوْ مُسْلِمَيْنِ قَتَلَا كَافِرًا، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا إِذَا اشْتَرَكَا لِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجِبَ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَوِ انْفَرَدَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ إِذَا انْفَرَدَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لَوِ انْفَرَدَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَكَالْحُرِّ إِذَا شَارَكَ عَبْدًا فِي قَتْلِ عَبْدِهِ، وَكَالْمُسْلِمِ إِذَا شَارَكَ كَافِرًا فِي قَتْلِ كَافِرٍ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَا فِي فِعْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لَوِ انْفَرَدَ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كالخاطئ إذا شارك عاملاً فِي الْقَتْلِ أَوْ تَعَمَّدَ الْخَطَأَ إِذَا شَارَكَ عَمْدًا مَحْضًا فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ لَا فِي نَفْسِهِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَرِيكِ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ، هَلْ تُوجِبُ الشَّرِكَةُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْهُ بِسُقُوطِهَا عَنْ شَرِيكِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ بِسُقُوطِهِ عَنْ شَرِيكِهِ، سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ لِسُقُوطِهِ عَنْ شَرِيكِهِ، سَوَاءٌ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا شَارَكَ مَنْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالْأَبِ إِذَا شَارَكَ أَجْنَبِيًّا لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ شَارَكَ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ إِذَا شَارَكَ عَامِدًا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ عَلَى الْعَامِدِ، فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ مَالِكٍ فِي شَرِيكِ الْخَاطِئِ، عِنْدَهُ يُقْتَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْتَلُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَرِيكِ الْأَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْتَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلُ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْخَاطِئِ يُقْتَلُ، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا انْفَرَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ إِذَا شَارَكَ فَمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَوَدٌ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَتَعَدَّى حُكْمُ الْخَاطِئِ إِلَى الْعَامِدِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لَجَازَ أَنْ يَتَعَدَّى حُكْمُ الْعَامِدِ إِلَى الْخَاطِئِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الدِّيَةِ بِمُشَارَكَةِ الْخَاطِئِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا حُكْمُ الْقَوَدِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْخَاطِئِ لَا يُقْتَلُ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً " وَهَذَا الْقَتِيلُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّهَا نفس خرجت بعدم وخطأ، فوجب أن يسقط فيه الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ الْوَاحِدُ عَمْدًا وَجَرَحَهُ خَطَأً؟ وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي النَّفْسِ مُوجِبٌ وَمُسْقِطٌ يَغْلِبُ حُكْمُ الْمُسْقِطِ عَلَى حُكْمِ الْمُوجَبِ، كَالْحُرِّ إِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الْخَطَأِ يَجْرِي فِي حَقِّ الْقَاتِلِ مَجْرَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَفْوِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي حَقِّ مَنْ بَقِيَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَتَلَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَمَّنْ بَقِيَ مِنَ القَتَلَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ جَمِيعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: وَقَوْلُهُ: " لَوْ تَعَدَّى الْخَطَأ إِلَى الْعَمْدِ لَتَعَدَّى الْعَمْد إِلَى الْخَطَأِ " فَهُوَ خَطَأٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ اجْتِمَاعَ الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ حُكْمِ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ. وَقَوْلُهُ: " لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الدِّيَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْقَوَدِ " لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ. فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْعَامِدِ لِسُقُوطِهِ عَنِ الْخَاطِئِ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاطِئِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً إِلَى أَجَلِهَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ لَا يُقْتَلُ بِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّ مُشَارَكَةَ الْأَبِ كَمُشَارَكَةِ الْمَقْتُولِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ شَارَكَ قَاتِلَهُ لَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، كَذَلِكَ الْأَبُ إِذَا شَارَكَ الْأَجْنَبِيَّ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ يُقْتَلُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ خَرَجَتْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ، كَالْعَفْوِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَبِ بِمُشَارَكَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ بِمُشَارَكَةِ الْأَبِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَاطِئِ فَهُوَ أَنَّ سُقُوطَهُ عَنِ الْخَاطِئِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَقَدِ امْتَزَجَ الْفِعْلَانِ فِي السِّرَايَةِ فَلَمْ يَتَمَيَّزَا، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَقَدْ تَمَيَّزَ الْقَاتِلَانِ فَلَمْ يَسْتَوِيَا، وَجَمْعُهُ بَيْنَ شَرِكَةِ الْأَبِ وَشَرِكَةِ الْمَقْتُولِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَرِيكَ الْمَقْتُولِ يُقْتَلُ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يُقْتَلُ، وَإِنْ قُتِلَ شَرِيكُ الْأَبِ، لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمَقْتُولِ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَتْ شَرِكَةُ الْأَبِ إِبْرَاءً. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ إِذَا شَارَكَ فِي الْقَتْلِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ قَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَلَى صِفَةِ الْخَطَأِ فَلَا قَوَدَ عَلَى شَرِيكِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْعَامِدِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهِ غَيْرُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ قَتْلُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عَلَى صِفَةِ الْعَمْدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَمْدِهِمَا هَلْ يَكُونُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ عَمْدَهَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ " وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا لَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَوَدُ وَالْمَأْثَمُ، وَبِسُقُوطِهِمَا عَنْهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ، فَعَلَى هَذَا لَا قَوَدَ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إِذَا شَارَكَهُمَا، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ، وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَوَاقِلِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَمْدَهَا عَمْدٌ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يُمَيِّزَانِ مَضَارَّهُمَا مِنْ مَنَافِعِهِمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ جَعَلَ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزًا فِي اخْتِيَارِ الْأَبَوَيْنِ، وَقَدَّمَهُ لِلصَّلَاةِ إِمَامًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمْدُهُ لِلْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ عَمْدًا وَعَمْدُهُ لِلْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَمْدُهُ لِلْقَتْلِ عَمْدًا، وَلَوْ جَعَلَ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدًا وَعَمْدَ الْمَجْنُونِ خَطَأً لَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ وَلَا تَصِحُّ مِنَ المَجْنُونِ، لَكِنَّ الْقَوْلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقٌ فَأَطْلَقْنَاهُ مَعَ الْفَرْقِ الَّذِي أَرَاهُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ إِذَا شَارَكَهُمَا فِي الْقَتْلِ الْقَوَدُ بِخُرُوجِ النَّفْسِ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ سَاقِطٌ عَنْهُمَا، وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً مِنْ أَمْوَالِهِمَا، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْوَالِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، فَصَارَ سقوط القود وعنهما عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِمَا فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَوَدُ عَمَّنْ شَارَكَهُمَا، وَسُقُوطُهُ عَنْهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مَعْنًى فِي أَنْفُسِهِمَا، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ شَارَكَهُمَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْعَامِدُ إِذَا شَارَكَ فِي الْقَتْلِ سَبُعًا أَوْ ذِئْبًا أَوْ نَمِرًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّجُلِ الْعَامِدِ، وَمَنْ شَارَكَهُ مِنْ سَبُعٍ أَوْ ذِئْبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُوجِئًا وَالسَّبُعُ جَارِحًا فَعَلَى الرَّجُلِ الْقَوَدُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ جَارِحًا وَالسَّبُعُ مُوجِئًا، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ السَّبُعِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا أَرْشٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ جِرَاحَةُ الرَّجُلِ ضَمِنَ الْجِرَاحَةَ وَحْدَهَا بِقَوَدِهَا أَوْ أرشها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا مُوجَئَيْنِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ السَّبُعِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِئَةُ الرَّجُلِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا جَارِحَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الرَّجُلِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا، عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِخُرُوجِ النَّفْسِ بِالْعَمْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيزَ لِلسَّبُعِ، فَصَارَ كَاشْتِرَاكِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَهَكَذَا مُشَارَكَتُهُ لِلْحَيَّةِ إِذَا نَهَشَتْ يَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَالَّةً فِي مَالِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ وَعَبْدٌ آخَرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا قِيمَةٍ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُشَارِكِ لَهُ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى شَرِيكِ السَّبُعِ، لِأَنَّ فِعْلَ السَّيِّدِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، كَمَا كَانَ فِعْلُ السَّبُعِ غَيْرَ مَضْمُونٍ. أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ لِخُرُوجِ النَّفْسِ بِعَمْدٍ مَحْضٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِمُشَارَكَةِ مَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا جَرَحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَرَحَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ وَمَاتَ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ جُرْحَهُ فِي الرِّدَّةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الثَّانِي قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَمْ يُضْمَنْ: أَحَدُهُمَا: يُقَادُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رُجَلًا قُطِعَتْ يَدُهُ قَوَدًا وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى ظُلْمًا وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ فَقَدْ خَرَجَتِ النَّفْسُ عَنْ قِصَاصٍ مُبَاحٍ وَظُلْمٍ مَحْظُورٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى ظَالِمِهِ بِالْقَطْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ اليَدِ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا كَلَامُ الْمُزَنِيِّ فَيَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي شَرِيكِ الصَّبِيِّ، لِمَ أُسْقِطُ عَنْهُ الْقَوَدَ؛ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 بِأَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَكَ، وَلَيْسَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنِ الْأَبِ، فَأَبْطَلَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَهُ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُلْزَمُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةَ، لِأَنَّهَا نَقِيضُ الْعَكْسِ دُونَ الطَّرْدِ، وَالنَّقِيضُ إِنَّمَا يُلْزَمُ فِي الطَّرْدِ بِأَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ، وَلَا يُلْزَمُ فِي الْعَكْسِ بِأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِطَرْدِهَا وَعَكْسِهَا، فَأَلْزَمَهُمُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيلَ إِذَا كَانَ لِعَيْنٍ انْتَقَضَ بِإِيجَادِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِإِيجَادِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ، وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ لِجِنْسٍ انْتَقَضَ بِإِيجَادِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ بِإِيجَادِ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ، وَتَعْلِيلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَدْ كَانَ لِلْجِنْسِ دُونَ الْعَيْنِ، فَصَحَّ انْتِقَاضُهُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ. وَال ْفَصْلُ الثَّانِي: مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ أَنِ اعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الشافعي فقال قد شارك محمد ابن الْحَسَنِ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَفَعَ الْقِصَاصَ عَنِ الْخَاطِئِ حَتَّى أَسْقَطَ بِهِ الْقَوَدَ عَنِ الْعَامِدِ، وَرَفَعَ الْقِصَاصَ عَنِ الصَّبِيِّ وَلَمْ يُسْقِطْ بِهِ الْقَوَدَ عَنِ الْبَالِغِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَهْمٌ مِنَ المُزَنِيِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَكُونُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَجَعَلَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَمْدًا فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْبَالِغِ إِذَا شَارَكَهُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي الْفَاعِلِ دُونَ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ الْخَاطِئِ، وَإِنْ جُعِلَ عَمْدُهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي خَطَأً سَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ عَنِ الْبَالِغِ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَتْلِ دُونَ الْفَاعِلِ كَالْخَاطِئِ، فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ زَلَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا قِصَاصَ بِحَالٍ لِلشُّبْهَةِ قَالَ الله تعالى {فقد جعلنا لوليه سلطاناً} يَحْتَمِلُ أَيَّ وَلِيٍّ قَتَلَ كَانَ أَحَقَّ بِالْقَتْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُنْزِلُونَهُ مَنْزِلَةَ الْحَدِّ لَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ إِنْ عَفوا إِلَّا واحدا كان له أن يحده (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لا يجهل عزر وقيل للولاة معه لكم حصصكم والقول من أين يأخذونها واحد من قولين أحدهما أنها لهم من مال القاتل يرجع بها ورثة القاتل في مال قاتله ومن قال هذا فإن عفوا عن القاتل الدية رجع ورثة قاتل المقتول على قاتل صاحبهم بحصة الورثة معه من الدية والقول الثاني في حصصهم أنها لهم في مال أخيهم القاتل قاتل أبيهم لأن الدية إنما كانت تلزمه لو كان لم يقتله ولي فإذا قتله ولي فلا يجتمع عليه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 القتل والغرم والقول الثاني أن على من قتل من الأولياء قاتل أبيه القصاص حتى يجتمعوا على القتل (قال المزني) رحمه الله وأصل قوله إن القاتل لو مات كانت الدية في ماله (قال المزني) رحمه الله وليس تعدي أخيه بمبطل حقه ولا بمزيله عمن هو عليه ولا قود للشبهة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوْلِيَاءُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ فَقَتَلَ الْقَاتِلَ انْقَسَمَتْ حَالُهُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنْ أَخِيهِ وَشَرِيكِهِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ بِقَتْلِهِ مُتَعَدِّيًا، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْقَوَدَ فِي حَقِّهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ وَعِلْمِهِ بِعَفْوِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِهَذَا الْقَتْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ لِسُقُوطِهِ فِي حَقِّهِمَا بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَخِيهِ إِذْنٌ وَلَا عَفْوٌ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِالْقَوَدِ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْمَنْعِ مِنَ القَوَدِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ بِرَفْعِ الشُّبْهَةِ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الحَاكِمِ فِيهِ حُكْمٌ بِتَمْكِينٍ وَلَا مَنْعٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرِيكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفْسِ الَّتِي قَتَلَهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِكَةُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ كَالْأَمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِشُبْهَةِ الشَّرِكَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ نَفْسًا اسْتُحِقَّ بَعْضُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَادَ مِنْ نَفْسِهِ الَّتِي لَمْ يُسْتَحَقَّ بَعْضُهَا، لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ كَمَا لَا يُقَادُ الْحُرُّ بِمَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ فِي قَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ كَمَا يَجِبُ فِي قَتْلِ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْقَتْلِ يُقَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ مُتْلِفٌ لِبَعْضِ النَّفْسِ، كَمَا يُقَادُ بِهِ إِذَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ، كَذَلِكَ هَذَا الشَّرِيكُ قَدْ صَارَ قَاتِلًا لِبَعْضِ النَّفْسِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِبَعْضِ النَّفْسِ كَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْقَوَدِ مِنْ بَعْضِ الْجَسَدِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْقَوَدَ مِنْ بَعْضِ الْجَسَدِ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، كَذَلِكَ إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَوْلٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صِحَّةَ حُكْمِهِ مِنَ الأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِيجَابًا وَإِسْقَاطًا. (فصل) فإذا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قبل بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْوَلِيِّ الْقَاتِلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُهَا، وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ دِيَةِ أَبِيهِ إِذَا جَعَلَ الدَّيْنَ الْمُتَمَاثِلَ قَصَاصًا، وَبَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ، وَبَقِيَ لِأَخِيهِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ، وَفِي انْتِقَالِ حَقِّهِ مِنْ هَذَا النِّصْفِ عَنْ قَاتِلِ أَبِيهِ إِلَى أَخِيهِ الْقَاتِلِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ وَيَرْجِعُ الْأَخُ بِحَقِّهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ، وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى الْأَخِ الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَقِلْ حَقُّ الْأَخِ الَّذِي لَيْسَ بِقَاتِلٍ إِلَى الْأَخِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى قَاتِلِ أَبِيهِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى قَاتِلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ أَخِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْرَأَ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبَ لِلْأَخِ الْقَاتِلِ بَرِئَ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَخُوهُ لَمْ يَبْرَأْ، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدِيةِ مُسْتَحَقٌّ لِوَرَثَةِ قَاتِلِ أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَخُ ورثة قاتل أبيه برؤا لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى قَاتِلِ أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ حَقُّ الْأَخِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ عَنْ قَاتِلِ أَبِيهِ إِلَى أَخِيهِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْقَتْلِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِمَا مِنْ قَتْلِ أَبِيهِمَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُمَا وَدِيعَةٌ فَأَخَذَهَا أَحَدُهُمَا مِنَ المُودِعِ كَانَ قَابِضًا لِحَقِّهِمَا، وَلِلْأَخِ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ مِنْهَا دُونَ الْمُودِعِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَرِئَ وَرَثَةُ قَاتِلِ الْأَبِ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ وَصَارَ مَا عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَخِيهِ دُونَهُ، فَلَوْ أَبْرَأَهُ أَخُوهُ بَرِئَ وَلَوْ أَبْرَأَهُ وَرَثَةُ قَاتِلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْرَأْ، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّ الْقَوَدَ عَلَى وَلِيِّ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ فَلِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ لِأَبِيهِ الْخِيَارُ، بَيْنَ أَنْ يَقْتَصُّوا أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، أَوْ يَعْفُوا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ. فَإِنِ اقْتَصُّوا فَقَدِ اسْتَوْفَوْا حَقَّهُمْ قَوَدًا، وَعَلَيْهِمْ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِمْ دِيَةُ قَتِيلِهِ يَكُونُ نِصْفُهَا لِوَلِيِّهِ الْبَاقِي، وَنِصْفُهَا لِوَرَثَةِ وَلِيِّهِ الْمَقْتُولِ قَوَدًا، وَإِنْ عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ وَجَبَتْ لَهُمْ دِيَةُ أَبِيهِمْ عَلَى قَاتِلِهِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِمْ دِيَةُ مقتولة، فيبرؤوا مِنْ نِصْفِهَا وَهُوَ حَقُّ الْقَاتِلِ، وَيَبْقَى لَهُمْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي انْتِقَالِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ نِصْفِهَا لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِقَاتِلٍ إِلَى مَنْ لَهُمْ عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَهُوَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى، لَوْ قِيلَ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ حُكْمًا وَتَفْرِيعًا فَإِنْ عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جميعاً سقط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 فِي قَتْلِ أَبِيهِمْ وَوَجَبَ فِي تَرِكَتِهِ دِيَةُ قَتِيلِهِ لِوَلِيِّهِ لِيَسْتَوِيَ فِيهَا الْقَاتِلُ وَغَيْرُ الْقَاتِلِ، وَيَجْرِيَ قَتْلُ أَبِيهِمْ بَعْدَ عَفْوِهِمْ مَجْرَى مَوْتِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَتْ عَنْهُ الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ سَقَطَتْ عَنْهُ دِيَةُ قَتِيلِهِ، وَوَجَبَت لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِالْمُرَاضَاةِ عِنْدَ النُّزُولِ عَنِ الْقِصَاصِ الْمُمْكِنِ، وَالْمَوْتُ قَدْ مَنَعَ إِمْكَانَ الْقِصَاصِ فَمَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَاسْتِدْلَالًا بَعْدَهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ بِتَلَفِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَ الْقِصَاصُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى الدِّيَةِ عِنْدَ تَلَفِهِ، لَصَارَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَمَا أَحَدٌ يَضْمَنُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا غَيْرُهُ. وَدَلِيلُنَا مَعَ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةٍ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " وَمَنْ خُيِّرَ بَيْنَ حَقَّيْنِ، إِذَا فَاتَهُ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْآخَرِ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ انْتَقَلَ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ إِلَى الدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا وَجَبَتْ فِي أَخَفِّ الْقَتْلَيْنِ مِنَ الخَطَأِ كَانَ وُجُوبُهَا فِي أَغْلَظِهِمَا مِنَ العَمْدِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُمَاثَلَةٌ لِجِنْسٍ مُتْلَفٍ، فَوَجَبَ إِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ أَنْ يُسْتَحَقَّ الِانْتِقَالُ إِلَى بَدَلِهِ مِنَ المَالِ، كَمَنِ اسْتَهْلَكَ ذَا مِثْلٍ مِنَ الطَّعَامِ فَأَعْوَزَ انْتَقَلَ إِلَى قِيمَتِهِ. فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي فَلَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنْ لِتَعَذُّرِ وَجُودِهَا بِعَدَمِ مِلْكِهِ وَقَفَ اسْتِحْقَاقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْحُرُّ مُعْسِرًا. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ " فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا حَيًّا بِبَذْلِ الدِّيَةِ جَازَ أَنْ يَضْمَنَهَا مَيِّتًا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ الدِّيَةَ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ قَتِيلِهِ لا من نفسه. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ من م فصل الكوع فلم يبرأ حتى قطعها آخَرُ مِنَ المِرْفَقِ ثَمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ يُقْطَعُ قَاطِعُ الْكَفِّ مِنَ الكُوعِ وَيَدِ الْآخَرِ مِنَ المِرْفَقِ ثُمَّ يُقْتَلَانِ لِأَنَّ أَلَمَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ وَاصِلٌ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَالَتْ جِنَايَتَانِ فَأَزَالَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْأُولَى، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ، ويقطع الثاني بقيتهما مِنَ الكَتِفِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا أصْبعهُ وَيَقْطَعَ الثَّانِي بَقِيَّةَ كَفِّهِ، أَوْ يَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمَقْطُوعُ وَدَمُهُ سَائِلٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ وَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ وَفِي النَّفْسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَوَّلُ قَاطِعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ دُونَ النَّفْسِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ السِّرَايَةَ تَحْدُثُ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا زَالَ مَحَلُّهَا زَالَتْ سِرَايَتُهَا لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ سِرَايَةَ الْأَكَلَةِ تَزُولُ بِقَطْعِ مَحَلِّهَا، فَصَارَ انْقِطَاعُهَا كَالِانْدِمَالِ، وَصَارَ الثَّانِي كَالْمُنْفَرِدِ، أَوِ الْمُوجِئِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ الْأَوَّلِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالسِّرَايَةِ حَادِثٌ عَنْ أَلَمِهَا، وَأَلَمُ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ قَدْ سَرَى فِي الْحَالِ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ قَبْلَ الْقَطْعِ الثَّانِي، فَانْتَقَلَ مَحَلُّهُ إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَدَثَ الْقَطْعُ الثَّانِي أَحْدَثَ أَلَمًا ثَانِيًا زَادَ عَلَى الْأَلَمِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ الْمَوْتُ حَادِثًا عَنْهُمَا لَا عَنِ الثَّانِي مِنْهُمَا، كَمَنْ سَجَّرَ تَنُّورًا بِنَارٍ حَمِيَ بِهَا ثُمَّ أَخْرَجَ سَجَارَهُ وَسَجَرَهُ بِأُخْرَى تَكَامَلَ حِمَاهُ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ تَكَامُلُ الْحَمى مَنْسُوبًا إِلَى السَّجَارِ الثَّانِي، وَإِنْ زَالَ السَّجَارُ الْأَوَّلُ، بَلْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمَا، كَذَلِكَ تَكَامُلُ الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَكُنْ بِالْقَطْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، بَلْ كَانَ بِالثَّانِي وَالْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعَةٌ وَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الثَّانِي مُسْتَدِيمَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَلَمِ الثَّانِي لِاتِّصَالِ مَادَّتِهِ دُونَ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْأَلَمِ الثَّانِي وَقِلَّةَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَتْلِ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ فَكَانَتْ جِرَاحَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ أَلَمًا كَانَا سَوَاءً فِي قَتْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ انْقِطَاعَ أَسْبَابِ الْأَلَمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ مَا بَقِيَتْ أَسْبَابُهُ فِي إِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا بِخَشَبَةٍ وَجَرَحَهُ الْآخَرُ بِسَيْفٍ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ الْخَشَبَةِ مُرْتَفِعًا وَأَثَرُ السَّيْفِ بَاقِيًا، وَفِي هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَانْفِصَالٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَطْعِ الْأَكَلَةِ لِانْقِطَاعِ سِرَايَتِهَا فَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الزِّيَادَةِ دُونَ الْإِزَالَةِ، وَأَنْ لَا يَسْرِيَ إِلَى مَا جَاوَزَهُ، وَأَمَّا الِانْدِمَالُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْأَلَمِ، وَالْقَطْعُ لَا يُزِيلُ الْأَلَمَ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ زِيَادَتَهُ فافترقا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 وَأَمَّا التَّوْجِئَةُ فَلَا بَقَاءَ لِلنَّفْسِ مَعَهَا، فَارْتَفَعَ بِهَا حُكْمُ السِّرَايَةِ وَنَاظَرَنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْتُ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ، فَاعْتَرَضَ عَلَيَّ بِأَنَّ الْأَلَمَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى مَعَ انْقِطَاعِ مَادَّتِهِ فَأَجَبْتُهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَلَمَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ صَارَ مَحَلًّا لَهُ، فَتَوَالَتْ مِنْهُ مَوَادُّهُ كَمَا يَتَوَالَى مِنْ مَحَلِّ الْقَطْعِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الأَوَّلِ، فَيَقْطَعَ يَدَهُ بِالْجِنَايَةِ وَيَقْتُلَهُ بِالسِّرَايَةِ، فَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفِّ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْطَعَ ذِرَاعَهُ مِنَ المِرْفَقِ بِالْجِنَايَةِ وَيَقْتُلَهُ بِالسِّرَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَفُّهُ بَاقِيَةً عَلَى ذِرَاعِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَفِي جَوَازِ قَطْعِ ذِرَاعِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إِفَاتَةُ نَفْسِهِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ زِيَادَتُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ، لِأَنَّهُ إِيجَابُ قِصَاصٍ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ، وَهَكَذَا كُلُّ جُرْحٍ إِذَا انْفَرَدَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ إِذَا صَارَتَا نَفْسًا، فَفِي جَوَازِ الْقِصَاصِ مِنْهُ عند إرادة قتله قولان. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَشَاحَّ الْوُلَاةُ قِيلَ لَهُمْ لَا يَقْتُلُهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْكُمْ فَإِنْ سَلَّمْتُمْ لِوَاحِدٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ قَتْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَحْتُمْ أَقْرَعْنَا بَيْنَكُمْ فَأَيُّكُمْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ خَلَّيْنَاهُ وَقَتْلَهُ وَيُضْرَبُ بِأَصْرَمِ سَيْفٍ وَأَشَدِّ ضَرْبٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْقِصَاصِ وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسٍ اسْتَوْفَاهُ الْأَوْلِيَاءُ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، وَهُمْ ثلاثة أصناف: أحدهما: أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ كَانُوا إِذَا جَازَ أَمْرُهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُوَكِّلُوا مَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفَوِّضُوهُ إِلَى الْإِمَامِ لِيَسْتَنِيبَ لَهُمْ مَنْ يَخْتَارُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ خَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَبَقِيَ أَهْلُهُ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لَهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 وَيَكُونُ التَّنَازُعُ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قَالَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ أَنَا أَدْخُلُ فِي التَّنَازُعِ لِأَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهُ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي، فَكَانَ مُبَاشَرَةُ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ أَوْلَى مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّائِبِ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي اسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّهُ قَتْلُ وَاحِدٍ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَتَوَلَّاهُ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ فَوَّضُوهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارُوا أَشَدَّهُمْ وَأَقْوَاهُمْ وَأَدْيَنَهُمْ، فَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى أَدْوَنِهِمْ جَازَ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ وَتَشَاجَرُوا عَلَيْهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا خَرَجَتِ الْقَرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ أَحَقَّهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ بَعْدَ خُرُوجِ قُرْعَتِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمْ لَا يَكُونُ إِذْنًا مِنْهُمْ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِهِ مُبَاشَرَةُ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ مَوْقُوفًا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 (باب القصاص بغير السيف) (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ طَرَحَهُ فِي نَارٍ حَتَّى يَمُوتَ طُرِحَ فِي النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِجَمِيعِ مَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِ حَدِيدٍ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ لَا قِصَاصَ إِلَّا فِي الْقَتْلِ بِالْحَدِيدِ وَالنَّارِ، وَلَا قَوَدَ فِي الْقَتْلِ، بِمُثَقَّلَاتٍ وَغَيْرِهَا إِلَّا بِمُثَقَّلِ الْحَدِيدِ وَحْدَهُ، فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَ بِالْحَدِيدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إِلَّا بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ كَانَ الْوَلِيُّ مُخَيَّرًا فِي اسْتِيفَائِهِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِالْحَدِيدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَهُ بِمُثَقَّلِ الْحَدِيدِ أَوْ بِالنَّارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنْهُ إِلَّا بِمُحَدَّدِ الْحَدِيدِ دُونَ مُثَقَّلِهِ، وَدُونَ النَّارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ ". وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَرَّقَ قَوْمًا بِالنَّارِ ادَّعَوْهُ إِلَهًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَقْتُلْهُمْ إِلَّا بِالسَّيْفِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ "، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِ السَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ وَكَالْقَاتِلِ بِالسَّيْفِ، وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ النُّفُوسِ الْمُبَاحَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْمُحَدَّدِ كَالذَّبَائِحِ، مَعَ أَنَّ نُفُوسَ الْآدَمِيِّينَ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ نُفُوسِ الْبَهَائِمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ ". وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ شَدَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَتَلَهَا، وَأَخَذَ حُلِيَّهَا، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشدخَ رَأْسهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى قُتِلَ. وَلِأَنَّ كُلَّ آلَةٍ قَتَلَ مِثْلُهَا جَازَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِمِثْلِهَا كَالسَّيْفِ. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ لِلْمُمَاثَلَةِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النَّفْسِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ فِي آلَةِ الْقَتْلِ. وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى تَارَةً وَلِلْآدَمِيِّينَ تَارَةً، فَلَمَّا تَنَوَّعَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَيْنِ بِالْحَدِيدِ تَارَةً، وَبِالْمُثَقَّلِ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ نَوْعَيْنِ بِمُثَقَّلٍ وَغَيْرِ مُثَقَّلٍ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَحَدُ الْقَتْلَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ اسْتِيفَاءُ نَوْعَيْنِ كَالْقَتْلِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ ". وَقَوْلُهُ: " إِلَّا بِحَدِيدَةٍ "، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ إذا كان بسيف أو حديدة، ورواية ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنْ لَا يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ " فَوَارِدٌ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّ القصاص مماثلة ليس بعذاب، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الذبائح مع فساده يرجم الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الذَّبْحِ مُعَيَّنٌ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ مُعَيَّنَةً، وَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الْمُمَاثَلَةُ بمحل الجناية اعتبرت بمثل آلتها. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ بِكُلِّ مَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِكُلِّ مَا قَتَلَ، إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْتَلَ بِالسِّحْرِ، أَوْ بِاللِّوَاطِ، أَوْ بِسَقْيِ الْخَمْرِ، فَلَا يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَإِنْ قَتَلَ وَلَا يُقْتَلُ باللواط وإن لاط به، ولا يقتب بِسَقْيِ الْخَمْرِ وَإِنْ سَقَاهُ، وَيُعْدَلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي قَتْلِ اللِّوَاطِ بِإِيلَاجِ خَشَبَةٍ، وَفِي سَقْيِ الْخَمْرِ بِسَقْيِ الْخَلِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ لِحَظْرِهَا عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا مُمَاثَلَةٌ، كَانَ السَّيْفُ أَحَقَّ، فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ بِالسُّمِّ الْمَهْرِيِّ احْتَمَلَ الْقِصَاصُ بِمِثْلِهِ وَجْهَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِإِمْكَانِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غُسْلُهُ، كَذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَنْ بَاشَرَ غُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ. (فَصْلٌ) نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَرْقِهِ بِالنَّارِ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ حَرْقِهِ بِالنَّارِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، فَلَهُ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَى وَأَسَلُّ، فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْعُنُقِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جَسَدِهِ أَسَاءَ وَعُزِّرَ، وَقَدِ اسْتَوْفَى قِصَاصَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ كَانَ لَهُ، وَرُوعِيَ مَا فَعَلَهُ الْجَانِي مِنْ إِحْرَاقِهِ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ نَارًا، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّارَ حَتَّى يَمُوتَ وَبَيْنَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ أَوْجَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ، فَلِوَلِيِّهِ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّارَ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ عَذَابًا، وَإِذَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي مِثْلِهَا وَمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ فِيمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ عَذَابًا، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِهِ وَمَا هُوَ أَمْضَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ، وَيُخْرَجُ مِنَ النَّارِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُشْوَى جِلْدُهُ، لِيُمْكِنَ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ، وَلَا تَمَاثُلَ بِالْمُحَرَّقِ إِنْ أَكلتهُ النَّارُ لِمَا عَلَيْنَا مِنِ اسْتِيفَاءِ جَسَدِهِ في حقوق الله تعالى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ أعطي وليه حجراً مثله فقتله به، وقال بعض أصحابنا، إن لم يمت من عدد الضرب قتل بالسيف ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَتَلَهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُ مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِمِثْلِهِ، وَكَانَ لِوَلِيِّهِ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ بِالسَّيْفِ، لِأَنَّهُ أَوْجَى، وَإِنْ شَاءَ رَمَاهُ بِحَجَرٍ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي رَمَاهُ مِنْ بَدَنِ الْمَقْتُولِ إِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ رَمَاهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّهْرِ رَمَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَطْنِ رَمَاهُ عَلَى بَطْنِهِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْ مَوْضِعِ الرَّمْيِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ رَمَاهُ بِمِثْلِ مَا رمي فَمَاتَ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُوَالِي رَمْيَهُ بِالْحَجَرِ وَيُكَرِّرُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَالَةٍ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهَا، وَلَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بَعْدَهَا، فَيُمْسِكُ عَنْهُ كَمَا يُمْسَكُ عَنِ الْمَضْرُوبِ الْعُنُقِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِرَمْيِهِ حَتَّى يَمُوتَ كَانَ لَهُ وَجْهٌ كَالزَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ إِذَا لَمْ يَمُتْ مِنْ رَمْيه بِمِثْلِ مَا رَمَى، لِأَنَّ السَّيْفَ أَوْجَى، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ بِعَصًا حَتَّى مَاتَ ضُرِبَ بِمِثْلِهَا وَبِمِثْلِ عَدَدِهَا، فَإِنْ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْعَدَدَ فَلَمْ يَمُتْ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوَالِي عَلَيْهِ الضَّرْبَ حَتَّى يَمُوتَ. وَالثَّانِي: يَعْدِلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ إِذَا لَمْ يَمُتْ مِنْ رَمْيه بِمِثْلِ مَا رَمَى، لِأَنَّ السَّيْفَ أَوْجَى، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ بِعَصًا حَتَّى مَاتَ ضُرِبَ بِمِثْلِهَا وَبِمِثْلِ عَدَدِهَا، فَإِنْ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْعَدَدَ فَلَمْ يَمُتْ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوَالِي عَلَيْهِ الضَّرْبَ حَتَّى يَمُوتَ. وَالثَّانِي: يَعْدِلُ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، لَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَلٍ حَتَّى تَرَدَّى فَمَاتَ، أَوْ مِنْ جِدَارٍ أَوْ سَطْحِ دَارٍ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ فَعَلَ، وَإِنْ أَرَادَ إِلْقَاءَهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَعَلَ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُلْقَى حَتَّى يَمُوتَ. وَالثَّانِي: يَعْدِلُ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، فَلَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جِدَارٍ فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ بِسَيْفِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ رُوعِيَ مَدَى الْعُلُوِّ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مَنْ أُلْقِيَ مِنْهُ فَالْمُسْتَقْبِلُ لَهُ بِسَيْفِهِ هُوَ الْقَاتِلُ، وَإِنْ كان ذلك المدى بعيد لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ مَنْ أُلْقِيَ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُلْقِيَ هُوَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ بِإِلْقَائِهِ كَالْمُوجِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ لَهُ بِالسَّيْفِ هُوَ الْقَاتِلُ، لِمُبَاشَرَةِ التَّوْجِئَةِ. (مَسْأَلَةٌ) (قال المزني) : هكذا قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَحْبُوسِ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ إِنَّهُ يُحْبَسُ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ حَبْسِهِ إِلَى قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْبِسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ جَازَ أَنْ يَحْبِسَهُ فِي ذَلِكَ الْمَحْبِسِ وَفِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الْمَحَابِسِ زِيَادَةٌ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ إذا حبس من ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَمُوتَ كَأَنَّهُ قَدْ حَبَسَ الْمَقْتُولَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَاتَ فِيهَا، فَحُبِسَ هُوَ فَمَاتَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُهُ لِيُوَارَى وَيُدْفَنَ، وَلَا يُتْرَكُ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ فَيَتَغَيَّرُ لَحْمُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ فِي مِثْلِهَا فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي الْمُدَّةِ وَالتَّلَفِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْبَسَ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يَمُوتُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَدَامُ حَبْسُهُ حَتَّى يَمُوتَ. وَالثَّانِي: يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ حبسته فِي بَيْتٍ مَفْعًى فَنَهَشَتْهُ أَفْعَى فَمَاتَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَفَاعِيهِ تَغِيبُ عَنْهُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقِيمَةً فِيهِ نُظِرَ حَالُ الْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا يَزِيدُ على طول الجبة وَمُنْتَهَى نَفْخِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ البُعْدِ عَنْهَا إِذَا قَرَبَتْ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا يَقْصُرُ عَنْ طُولِهَا وَمَدَى نَفْخِهَا رُوعِيَ الْبَيْتُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ كُوًى وَنِقَابٌ تَتَسَرَّبُ فِيهِ الْأَفَاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْأَفْعَى أَنْ تَغِيبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ مُمْلِسًا لَا كُوَّةَ فِيهِ وَلَا نَقْبَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دِيَتِهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَعَمْدِ الْخَطَأِ إِلَّا إِنْ نَهَشَتْهُ الْأَفْعَى بِيَدِهِ، وَهِيَ مِنَ الأَفَاعِي الْقَاتِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُقَادُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَادُ بِالسَّيْفِ، لِأَنَّ الْأَفَاعِيَ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ وَلَا نَهَشَاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَادَ بِإِنْهَاشِ الْأَفْعَى لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَى مَوْجُودَةً لَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ فُقِدَتِ الْتُمِسَ مِثْلُهَا، فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَاتَ فَقَدِ اسْتَوْفَى، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعَادُ عَلَيْهِ نَهَشُهَا حَتَّى يَمُوتَ. وَالثَّانِي: يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. فَأَمَّا إِذَا حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ مَعَ سَبُعٍ حَتَّى افْتَرَسَهُ فَهَذَا قَاتِلٌ، لِأَنَّ ضَرَاوَةَ السَّبُعِ طَبْعٌ لَا تَزُولُ فِي الْأَغْلَبِ، وَفِي الْقَوَدِ مِنْهُ بِإِضْرَارِ السَّبُعِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَهْشَةِ الْأَفْعَى لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الْجِنَايَةِ وَالْقودِ، وَيُمْنَعُ السَّبُعُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِحُرْمَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله: " وكذا قال لو غرقه في الماء وكذلك يلقيه في مهواة في البعد أو مثل سدة الأرض وكذا عدد الضرب بالصخرة فإن مات وإلا ضربت عنقه فالقياس على ما مضى في أول الباب أن يمنعه الطعام والشراب حتى يموت كما قال في النار والحجر والخنق بالحبل حتى يموت إذا كان ما صنع به من المتلف الوحي ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ مَوْلَى الْغَرِيقِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِ الْمُغَرِّقِ بِالسَّيْفِ لِأَنَّهُ أَوْجَى وَبَيْنَ تَغْرِيقِهِ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي التَّغْرِيقِ مُمْكِنَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ وَفِي غَيْرِهِ، فَإِنْ غَرَّقَهُ فِي مَاءٍ مِلْحٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي مَاءِ الْمِلْحِ وَفِي الْعَذْبِ، لِأَنَّ الْعَذْبَ أَسْهَلُ، وَإِنْ غَرَّقَهُ فِي الْعَذْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغَرِّقَهُ فِي الْمِلْحِ، لِأَنَّهُ أَشَقُّ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ رُبِطَ حَتَّى لَا يَنْجُوَ مِنْهُ ثُمَّ يُخْرَجُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُوَارَى، سَوَاءٌ فُعِلَ ذَلِكَ بِالْغَرِيقِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُفْعَلْ، فَإِنْ كَانَ في الماء من حيتانه ما يأكل غرقاً، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلِ الْحِيتَانُ الْغَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يلق المقتص منه إلا في ماء يُؤْمَنُ أَنْ يَأْكُلَهُ حِيتَانُهُ، وَإِنْ أَكَلَتهُ الْحِيتَانُ فَفِي جَوَازِ إِلْقَائِهِ فِيهِ لِتَأْكُلَهُ حِيتَانُهُ وَجْهَانِ إِذَا اقْتَصَرَتِ الْحِيتَانُ عَلَى إِفَاتَةِ نَفْسِهِ دُونَ اسْتِهْلَاكِ جَسَدِهِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَتْهُ لَمْ يَجُزْ لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُوَارَاةِ جَسَدِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَمَاتَ فَعَلَ بِهِ الْوَلِيُّ مَا فَعَلَ بِصَاحِبِهِ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلِيُّ الْمَقْطُوعِ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ إِذَا سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ بالخيار بين ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ يُقْتَصُّ مِنْ تَلَفِهَا بِالسِّرَايَةِ كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ تَلَفِهَا بِالتَّوْجِيَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْليه وَيَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا مَعَ عَدَمِ السِّرَايَةِ كَانَ مَعَ السِّرَايَةِ أولى، فإن اقتص وعفى عَنِ النَّفْسِ إِلَى الدِّيَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَهَذَا مِنَ المَوَاضِعِ النَّادِرَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ فِيهَا مِنَ النَّفْسِ وَلَا يُمَلَّكَ دِيَتُهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا عفي عَنِ النَّفْسِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الطَّرَفِ لَزِمَتْهُ دِيَةُ الْأَطْرَافِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَبَعٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ سَقَطَ فِي الْأَطْرَافِ التَّابِعَةِ لَهَا، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ فَصَارَ آخذًا لَهَا بِغَيْرِ قِصَاصٍ، فَلَزِمَهُ دِيَتُهَا، وَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْأَطْرَافِ مَعَ الْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُضْمَنْ مِنَ الأَطْرَافِ إِذَا انْدَمَلَتْ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُضْمَنَ إِذَا سَرَتْ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ يَسْقُطُ بِالِانْدِمَالِ كَمَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ يُسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ، فَجَازَ مَعَ الْعَفْوِ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنْ يُسْتَوْفَى الْآخَرُ مِنْهُمَا كَالطَّرَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَكَالدَّيْنِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ سَقَطَ فِيهِ الضَّمَانُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِدُخُولِ الْأَطْرَافِ فِي النَّفْسِ: هُوَ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَنْفَرِدُ عَنِ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِرْ بَعْضًا مِنْهُ ولا تابعاً له. والحال الثالثة: أن يتقص مِنَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ثُمَّ يَقْتُلُهُ قِصَاصًا مِنْ نَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْقَوَدِ فِي الْأَطْرَافِ وَالنَّفْسِ، وَيَقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ دُونَ أَطْرَافِهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لِلطَّرَفِ بَدَلَيْنِ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ دِيَةُ الْأَطْرَافِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ قَوَدُ الْأَطْرَافِ فِي قَوَدِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فَأَشْبَهَ الدِّيَةَ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ طَرَفٍ اقْتُصَّ مِنْهُ لَوِ انْفَرَدَ عَنِ النَّفْسِ جَازَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ وَإِنِ اقْتُصَّ مِنَ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّفْسَ بِالتَّوْجِئَةِ، كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهَا بِالسِّرَايَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوَافِقُ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَهَابِ النَّفْسِ بِالسِّرَايَةِ إِلَى الْقِصَاصِ فِيمَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَيُسْقِطُ الْقِصَاصَ مِنَ الأَطْرَافِ فِيهِمَا، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بِالتَّوْجِئَةِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ عَنِ الْأَطْرَافِ فَلِأَنْ لَا تَسْقُطَ بِالسِّرَايَةِ الْحَادِثَةِ عَنِ الْأَطْرَافِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَالْأَطْرَافُ بِالْأَطْرَافِ أَشْبَهُ بِالْمُمَاثَلَةِ مِنَ النَّفْسِ بِالْأَطْرَافِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عن الدِّيَةِ مَعَ فَسَادِهِ بِالْقَتْلِ تَوْجِئَةً هُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَعَ الْعَفْوِ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ أَطْرَافِهِ ثُمَّ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ مِنَ النَّفْسِ وَفِي جَوَازِ مُبَاشَرَتِهِ لِقَطْعِ الْأَطْرَافِ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ، وَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَسْتَوْفِي لَهُ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِاتِّصَالِهَا بِالنَّفْسِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَوَائِفِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا، هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْجَانِي حِينَ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَرِجْلَيْهِ جَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ كَانَ لِلْجَانِي أَنْ يَقْتَصَّ لِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهُمَا، وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، لِعَدَمِهِمَا، وَكَانَ مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهِمَا إِذَا اقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ خَالِصًا لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مُسْتَحَقًّا لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِهِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا قِصَاصًا لَا مَالًا، وَهَكَذَا لو قطع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ يَدَيِ الْجَانِي وَرِجْلَيْهِ قِصَاصًا ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فَقَتَلَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ فِي النفس، فإن عفى عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ قَطْعُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ إِنِ انْدَمَلَتَا كَانَ عَلَى مَا قَابَلَهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، تَخْتَصُّ بِهَا وَرَثَتُهُ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِهِ، لِاسْتِيفَائِهِمْ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ نَفْسِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ أَجَافَهُ أَوْ قَطَعَ ذِرَاعَهُ فَمَاتَ كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ فَأَمَّا عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَهُ فَلَا يُتْرَكُ وَإِيَّاهُ (وَقَالَ) فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هذا والآخر لا نقصه من ذلك بحال لعله إذا فعل ذلك به أن يدع قتله فيكون قد عذبه بما ليس في مثله قصاص (قال المزني) رحمه الله قَدْ أَبَى أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ كَمَا والى عليه بالنار والحجر والخنق بمثل ذلك الحبل حتى يموت ففرق بين ذلك والقياس عندي على معناه أن يؤالي عليه بالجوائف إذا والى بها عليه حتى يموت كما يوالي عليه بالحجر والنار والخنق حتى يموت (قال المزني) أولاهما بالحق عندي فيما كان في ذلك من جراح أن كل ما كان فيه القصاص أو برئ أقصصته منه فإن مات وإلا قتلته بالسيف وما لا قصاص في مثله لم أقصه منه وقتلته بالسيف قياساً على ما قال في أحد قوليه في الجائفة وقطع الذراع أنه لا يقصه منهما بحال ويقتله بالسيف ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ الْجُرْحِ إِذَا صَارَ نَفْسًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ إِذَا انْفَرَدَ أَوْ لَا يُوجِبُهُ، فَإِنْ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ كَالْمُوضِحَةِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ م َفْصِلٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُمَا وَمِنَ النَّفْسِ بَعْدَهَا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ لَمْ يُوجِبِ الْقِصَاصَ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ النَّفْسِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فِي الْغَالِبِ كَشَدْخِ الرَّأْسِ بِالْحِجَارَةِ، فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ إِذَا صَارَ نَفْسًا وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ إِذَا انْفَرَدَ، لِأَنَّهُ مُوجٍ فِي الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ مُوجِيًا فِي الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَصَّ مِنَ اليَهُودِيِّ الَّذِي شَدَخَ رَأْسَ الْأَنْصَارِيَّةِ بِشَدْخِ رَأْسِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ غَيْرَ مُوجٍ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا جَازَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ النَّفْسِ. فَأَمَّا الِاقْتِصَاصُ مِنَ الجَوَائِفِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَإِنْ أَرَادَهُ مَعَ عَفْوِهِ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ كَالْمُنْفَرِدِ عَنِ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ كَالْمُنْفَرِدِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَعَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ فَفِي جَوَازِهِ قولان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْفُو بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمَا عَنِ النَّفْسِ فَيَصِيرُ مُقْتَصًّا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا لِدُخُولِهَا فِي النَّفْسِ، فَخَالَفَتْ مَا انْفَرَدَ عَنْهَا، وَلَيْسَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ النَّفْسِ مَانِعًا مِنْ دُخُولِهَا فِي حُكْمِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ بِالسَّيْفِ حَزًّا لَا قِصَاصَ فِيهِ، ثُمَّ يَعْفُوَ بَعْدَ فِعْلِ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا التَّوَهُّمُ مِنْ جَوَازِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ كَذَلِكَ فِي الْجَوَائِفِ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) قَالَ الْمُزَنِيُّ: " قَدْ أَبَى أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ بِالْجَوَائِفِ كَمَا يُوَالِي عليه بالنار، والحجر والخنق بمثل ذلك الحبل حتى يموت ففرق بين ذلك إذا والى بها عليه ... . " وَالْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى مَعْنَاهُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ الْجَوَائِفَ وَالْكَلَامُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْجَمْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ بِالْحِجَارَةِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنَ الجَوَائِفِ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا قَوْلَانِ: وَالْفَرْقُ بينهما: أن الحجارة موجية فَجَازَ الِاقْتِصَاصُ بِهَا، وَالْجَوَائِفُ غَيْرُ مُوجِئَةٍ فَعُدِلَ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِجَارَةَ يَجُوزُ أَنْ تُوَالَى إِلَى التَّلَفِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوَالَى الْجَوَائِفُ إِلَى التَّلَفِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَنَّ مُوَالَاةَ الْحِجَارَةِ مُوجٍ وَمُوَالَاةُ الْجَوَائِفِ غَيْرُ مُوجٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْحِجَارَةِ تَأْثِيرًا إِذَا أُعِيدَتْ فِي مَوَاضِعِهَا، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَإِنْ تَأَثَّرَتْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 (بَابُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَالْأَسْنَانِ وَمَنْ بِهِ نَقْصٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْقِصَاصُ دُونَ النَّفْسِ شَيْئَانِ جُرْحٌ يُشَقُّ وَطَرَفٌ يُقْطَعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي النَّفْسِ، لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 194] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومَ الْقِصَاصِ فِيمَا اسْتُحِقَّ مِنَ الوُجُوهِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ، وَالْقِصَاصُ في الجروح، ولا قصاص فيما عداهما، وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَوْجَبَ الْأَرْشَ دُونَ الْقِصَاصِ إِمَّا بِمُقَدَّرٍ كَالْجَائِفَةِ أَوْ بِغَيْرِ مُقَدَّرٍ كَالْحَارِضَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يُوجِبُ أَرْشًا وَلَا قِصَاصًا كَالضَّرْبِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجَسَدِ فَصَارَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنْهَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَالْأَرْشُ فِي أَرْبَعٍ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ فِي الْخَامِسِ، وَفِيهِ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ أَدَبًا. فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْمُكَافَأَةُ فِي الْقِصَاصِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: فِي الْأَوْصَافِ. فَأَمَّا الْمُكَافَأَةُ فِي الْأَحْكَامِ فَهُوَ اعْتِبَارُ التَّكَافُؤِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ مِنَ الأَقْسَامِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ، فَإِذَا مَنَعَ الرِّقُّ وَالْكُفْرُ مِنَ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَنَعَ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُ حُرٍّ وَلَا مُسْلِمٍ بِطَرَفِ عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ وَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ. وَأَمَّا الْمُكَافَأَةُ فِي الْأَوْصَافِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 أَحَدُهَا: فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. وَالثَّانِي: فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَالثَّالِثُ: فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَلَا يُعْتَبَرُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقِصَاصِ مِنَ النَّفْسِ، فَيُقْتَص مِنَ الصَّحِيحِ بِالْمَرِيضِ، وَمِنَ الْمَرِيضِ بِالصَّحِيحِ، وَمِنَ الْكَامِلِ بِالْأَقْطَعِ، وَمِنَ الْأَقْطَعِ بِالْكَامِلِ، وَمِنَ السَّلِيمِ بِالْأَشَلِّ، وَمِنَ الْأَشَلِّ بِالسَّلِيمِ، وَمِنَ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ، وَمِنَ الْبَصِيرِ بِالْأَعْمَى، وَمِنَ الْكَبِيرِ بِالصَّغِيرِ، وَالْعَاقِلِ بِالْمَجْنُونِ، وَلَا يَقْتَصُّ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِالْكَبِيرِ، وَلَا بِالْعَاقِلِ، لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ. وَأَمَّا الْأَطْرَافُ فَيُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا السَّلَامَةُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَلَا الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْيَدُ الْكَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِالْيَدِ النَّاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، وَلَا الْيَدُ الزَّائِدَةُ الْأَصَابِعِ بِالْيَدِ الْكَامِلَةِ حَتَّى يَقَعَ التَّسَاوِي فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَتُؤْخَذُ الْيَدُ الْكَبِيرَةُ بِالْيَدِ الصَّغِيرَةِ، وَالْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْيَدِ الْكَبِيرَةِ، وَالْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الْمَرِيضَةِ إِذَا سَلِمَتْ مِنْ شَلَلٍ، وَيَأْخُذُ الْيَدَ الْمَرِيضَةَ إِذَا سَلِمَتْ مِنْ شَلَلٍ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ سَلِيمَةٌ بِشَلَّاءَ، وَتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالسَّلِيمَةِ إِذَا رضى مستحق القصاص بها. وأما الجراح فيعتبر في القصاص فيها الصغر والكبر والزيادة والنقصان، فلا يؤخذ بالصغير إلا صغيراً، وبالناقص إلا ناقصاً، وبالكبير إلا كبيراً على ما سنذكره. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَبَرِئَ حُلِقَ مَوْضِعُهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ ثُمَّ شُقَّ بِحَدِيدَةٍ قَدْرَ عَرْضِهَا وطولها فإن أخذت رأس الشاج كله وبقي شيء منه أخذ منه أرشه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا قَدْ مَضَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا ضَرْبَانِ: طَرَفٌ يُقْطَعُ بِطَرَفٍ، وَجُرْحٌ يُشَقُّ بِجُرْحٍ. فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَدْ مَضَى وُجُوبُهُ، وَسَيَأْتِي اسْتِيفَاؤُهُ. وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ شِجَاجَ الرَّأْسِ وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: الْحَارِصَةُ. وَالدَّامِيَةُ. والدامغة. وَالْبَاضِعَةُ. وَالْمُتَلَاحِمَةُ. وَالسِّمْحَاقُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 وَالْمُوضِحَةُ. وَالْهَاشِمَةُ. وَالْمُنَقِّلَةُ. وَالْمَأْمُومَةُ. وَالدَّامِغَةُ. فَأَمَّا الْحَارِصَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ جِلْدَ الرَّأْسِ أَيْ تَكْشِطُهُ وَلَا تُدْمِيهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ: إِذَا شَقَّهُ. ثُمَّ تَلِيهَا الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْدِشُ الْجِلْدَ حَتَّى يُدْمى، وَلَا يَجْرِي. ثم تليها الدامغة وَهِيَ الَّتِي يَجْرِي دَمُهَا كَجَرَيَانِ الدُّمُوعِ. ثُمَّ تَلِيهَا الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ أَيْ: تَشُقُّهُ. ثُمَّ تَلِيهَا الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَقَدْ يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَاذِلَةُ، لِأَنَّهَا تَبْذُلُ أَيْ يُشَقُّ فِيهَا اللَّحْمُ، وَيُحْتَمَلُ أن تكون البازلة بَيْنَ الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَبَذَّلُ الدَّمُ مِنْهَا فَتَكُونُ أَقْوَى مِنَ الدَّامِغَةِ، لِأَنَّ دَمَ الْبَاذِلَةِ مَا اتَّصَلَ، وَدَمَ الدَّامِغَةِ مَا انْقَطَعَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقِ، فَيَصِيرُ الشِّجَاجُ عَلَى هَذَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ شَجَّةً. ثُمَّ تَلِيهَا السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ اللَّحْمِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى سِمْحَاقِ الرَّأْسِ، وَهِيَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَغْشَى عَظْمَ الرَّأْسِ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ سَمَاحِيقِ الْبَطْنِ وَهُوَ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ، وَغَيْرُ سَمَاحِيقَ إِذَا كَانَ رَقِيقًا وَقَدْ يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبلْطَاء، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ فَيَصِيرُ الشِّجَاجُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ شَجَّةً. ثُمَّ تَلِيهَا الْمُوضِحَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الرَّأْسِ حَتَّى يَظْهَرَ. ثُمَّ تَلِيهَا الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْمُوضِحَةِ حَتَّى تَهْشِمَ الْعَظْمَ: أَيْ تَكْسِرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ بين الموضحة والهاشمة شجة تسمى المفرشة، وهي الَّتِي إِذَا أَوْضَحَتْ صَدَعَتِ الرَّأْسَ وَلَمْ تُهَشِّمْهُ، فَيَصِيرُ شِجَاجُ الرَّأْسِ عَلَى هَذَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَجَّةً. ثُمَّ تَلِيهَا الْمُنَقِّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْهَاشِمَةِ بِنَقْلِ الْعِظَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. ثُمَّ تَلِيهَا الْمَأْمُومَةُ، وَيُقَالُ لَهَا الْأمَّةُ: وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَهِيَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ مُحِيطَةٌ بِالدِّمَاغِ، ثُمَّ تَلِيهَا الدَّامِغَةُ، وَهِيَ الَّتِي خَرَقَتْ غِشَاوَةَ الدِّمَاغِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مُخِّهِ. فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْهَا سِتَّةٌ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ وَأَرْبَعَةٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ آخَرِينَ، مِنْهَا ثَمَانِيَةُ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ، وَخَمْسَةٌ بَعْدَهَا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 وَلَيْسَ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ وَلَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَلَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ، وَفِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ إِلَّا الْمُفَرِّشَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَادَهَا فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُوضِحَةِ مِنْهَا حُكُومَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ. فَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْقِصَاصُ إِنْ شَاءَ وَالْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ إِنَّ عُدِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَصَارَتِ الشِّجَاجُ مُنْقَسِمَةً عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: قِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ، وَيَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ حُكْمِهَا. وَقِسْمٌ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَهُوَ بَعْدَ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلْثُ الدِّيَةِ، ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّامِغَةِ، وَكِتَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ الدَّامِغَةَ وَالْمَأْمُومَةَ سَوَاءً، وَيَجْعَلُهَا الدَّامِغَةَ غَيْرَ مُعَمَّمَةٍ وَهِيَ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِي الدَّامِيَةَ، وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ، لِأَنَّهَا لَوْ زَادَتْ عَلَى الْمَأْمُومَةِ لَزَادَتْ عَلَى أَرْشِهَا. وَقِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا أَرَادَ القصاص من الموضحة فيقدر اعتباراها من رأس المشجوج فَاعْتُبِرَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَوْضِعُهَا مِنْ رَأْسِهِ هَلْ هِيَ فِي مُقَدَّمِه، أَوْ مُؤَخَّرِهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ وَفِي يَافُوخِهِ أَوْ فِي هَامَتِهِ، أَوْ قَرَعَتِهِ، لِاسْتِحْقَاقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي مَحَلِّهَا، فَلَا يُؤْخَذُ مُقَدَّمٌ بِمُؤَخَّرٍ وَلَا مُؤَخَّرٌ بِمُقَدَّمٍ وَلَا يُمْنَى بِيُسْرَى، كَمَا لا يؤخذ يمنى اليدين يسراها. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهَا طُولًا لِئَلَّا يُزَادَ عَلَيْهَا أَوْ يُنْقَصَ مِنْهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عُدْوَانٌ وَالنَّقْصَ مِنْهَا بَخْسٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَدَّرَ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهَا عَرْضًا لِأَنَّهُ قد يوضح بالشي الْغَلِيظِ فَتُعَوَّضُ الْمُوِضِحَةُ وَيُوضَعُ بِالشَّيْءِ الدَّقِيقِ فَيَقِلُّ عَرْضُهَا فَيُعْتَبَرُ مِنْ مُوضِحِهِ الْمَشْجُوجِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عُمْقُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الموضحة الْوُصُولُ إِلَى الْعَظْمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعُمْقِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَغْلُظُ جِلْدَةُ الرَّأْسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ وترق من آخر، فصار عتق الرَّأْسِ فِي سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ جَارِيًا مَجْرَى مِسَاحَةِ الْأَطْرَافِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ، ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشِّجَاجِ فَيُحْلَقُ شَعْرُ رَأْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْجُوجُ أَشْعَرَ أَوْ مَحْلُوقًا، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَوْضِعِهَا عَنْ رَأْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَيُعْلَمُ فِي رَأْسِ الشَّاجِّ مَا قَدَّمْنَا اعْتِبَارَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ، وَهُوَ مَوْضِعُهَا، وَطُولُهَا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 وَعَرْضُهَا، وَيُخَطُّ عَلَيْهِ بِسَوَادٍ أَوْ حُمْرَةٍ، وَيُبْضَعُ الْقِصَاصُ بِالْمُوسَى، وَلَمْ يُضْرَبْ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي شَجَّ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ السَّيْفِ رُبَّمَا هَشَّمَ وَلَا يَسْتَوْفِيهِ الْمَشْجُوجُ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَنِيبُ فِيهِ مَنْ يُؤْمَنُ تَعَدِّيهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَنِبْ نَدَبَ الْإِمَامُ مَأْمُومًا يَنُوبُ عَنْهُ فِي اسْتِيفَائِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِصَاصِ فِيهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ الرَّأْسِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِهِ اقْتُصَّ بِقَدْرِهَا فِي مَحَلِّهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جَمِيعِهِ قَدْ أَخَذَتْ طُولًا مَا بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْقَفَا، وَأَخَذَتْ عَرْضًا مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، لَمْ يَخْلُ رَأْسُ الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَاثَلَ رَأْسَاهُمَا فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، فَاسْتِيعَابُ الْقِصَاصِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا كَانَتْ طُولًا مَا بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْقَفَا اقْتُصَّ مِنَ الشَّاجِّ طُولُ رَأْسِهِ مِنْ جبهته إلى قفاه، واختلف أصحابنا في هذه الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ مِنَ المَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْجَانِي، إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبْهَةِ أَوِ الْقَفَا لِيُمَاثِلَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا يُمَاثِلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ أَشْكَلَ رُجِعَ إِلَى الْجَانِي دُونَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ الْمُسْتَوْفَى لَهُ الْقِصَاصُ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا فِي أَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَصْغَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، فَيستوْفي بِمِقْدَارِهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، وَيُتْرَكُ لَهُ بَاقِي رَأْسِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ طُولُ رَأْسِ الشَّاجِّ عِشْرِينَ أصْبعا، وَطُولُ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ خَمْسَةَ عَشَرَ أصْبعا، فَيُقْتَصُّ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ أصْبعا وَيَبْقَى مِنْ رَأْسِهِ مِقْدَارَ خَمْسِ أَصَابِعَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِفَضْلِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَيَكُونُ مَحَلُّ هَذَا الْمَتْرُوكِ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِمَوْضِعِ الْقِصَاصِ. فَإِنْ قِيلَ: بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ يُبْدَأُ فِي الْقِصَاصِ بِالْمَوْضِعِ بِدَايَةَ الْجَانِي نُظِرَ، فَإِنْ بدأ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، وَإِنْ بدأ بِمُؤَخَّرِهِ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ مُقَدَّمِهِ. وَإِنْ قِيلَ: بِالْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَصَحُّ إِنَّ الْمُقْتَصَّ لَهُ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَيِّ الْمَوْضِعَيْنِ شَاءَ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثلاثة أحوال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 إِمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصَهُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ من مؤخره، وبترك فَاضِلَهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ، أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَسَطِهِ وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ طَرَفَيْهِ وَيَتْرُكَ فَاضِلَهُ مِنْ وَسَطِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا صَارَتَا مُوضِحَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ مُوضِحَةٍ بِمُوضِحَتَيْنِ، وَيَجِيءُ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دِيَةِ هَذَا الْقَاتِلِ أن يَجُوز لَهُ ذَلِكَ لِيَجْرِيَ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ من الجناية حكم الموضحة، وليس بصحيح، لما ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَشْجُوجِ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ طُولُ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ عِشْرِينَ أصْبعا، وَطُولُ رَأْسِ الشَّاجِّ خَمْسَةَ عَشْرَةَ أصْبعا، فَيَسْتَوْعِبُ فِي الِاقْتِصَاصِ طُولَ رَأْسِ الشَّاجِّ، وَقَدْرُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُوضِحَةِ، فَلَا يَسْتَوْفِي الرُّبْعَ الْبَاقِيَ مِنَ الجَبْهَةِ وَلَا مِنَ القَفَا، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقِصَاصِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ مِنَ الرَّأْسِ، وَلَا فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ مِنَ الوَجْهِ، وَيُرْجَعُ عَلَى الْجَانِي بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ رُبْعُ أَرْشِهَا، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا رُبْعُهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا ثُلْثَهَا رَجَعَ بِثُلْثِ أَرْشِهَا، وَخَرَّجَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِمَالَ وَجْهٍ ثَانٍ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَنِ الْبَاقِي مِنْهَا بِجَمِيعِ أَرْشِ الْمُوِضِحَةِ، لِأَنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَكْمُلُ فِيمَا قَلَّ مِنْهَا وَكَثُرَ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْفَصْلُ فِيهَا أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، فَاسْتَوَى الْأَرْشُ فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَاقِي مِنْ هَذِهِ الْمُوضِحَةِ اسْمُ الْمُوضِحَةِ، وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ بَعْضِهَا فَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ إِلَّا بَعْضُ أَرْشِهَا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ بَيْنَ قَرْنَيْ رَأْسِهِ، وَكَانَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ رَأْسِ الشَّاجِّ أَضْيَقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ إِلَى مَا يُجَاوِزُهُمَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّأْسِ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الْقِصَاصِ وَرَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتُوفِيَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ اخْتِلَافُ الشَّجَّتَيْنِ قبل الاندمال، فلو اندمل جرح [المشجوج شائناً ظاهر العظم غير ملتحم الجلد واندمل جُرْحُ] الشَّاجِّ حَسَنًا قَدْ تَغَطَّى لَحْمُهُ وَالْتَحَمَ جِلْدُهُ فَلَا شَيْءَ لِلْمَشْجُوجِ فِي زِيَادَةِ الشَّيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْقِصَاصِ وَقَدِ اسْتَوْفَاهُ. وَكَذَلِكَ لَوِ انْعَكَسَ فَكَانَ الشَّيْنُ فِي جِرَاحَةِ الشَّاجِّ دُونَ الْمَشْجُوجِ، وَكَانَتْ زِيَادَةُ الشَّيْنِ هَدَرًا كَمَا تَكُونُ سِرَايَتُهَا هَدَرًا، فَلَوْ تَجَاوَزَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ مِقْدَارَ الْمُوضِحَةِ، وَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ إِنْ عَمَدَ، وَأَرْشُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 الْمُوضِحَةِ كَامِلَةً إِنْ أَخْطَأَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَاقِي مِنْ مُوضِحَةِ الْمَشْجُوجِ حَيْثُ رَجَعَ مِنْ أَرْشِهَا بِقِسْطِ الْبَاقِي مِنْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْقِصَاصِ إِلَى الزِّيَادَةِ لَمَّا أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْعُدْوَانِ تَمَيَّزَا، فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُوضِحَةً غَيْرَ الْأُخْرَى، فَلِذَلِكَ كَمُلَ أَرْشُهَا وَمَا نَقَصَ عَنِ اسْتِيفَاءٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعُدْوَانِ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ، وَصَارَ مُوضِحَةً وَاحِدَةً فَرَجَعَ بِقِسْطِ بَاقِيهَا مِنْ أَرْشِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنِ اضْطِرَابِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ عِنْدَ الْقِصَاصِ كَانَتْ هَدَرًا، فَلَوِ اخْتَلَفَا وَالْحَالُ مُشْتَبَهٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَانِيًا مِنَ المَقْلُوفِ إِذَا قُطِعَ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُودِ جِنَايَةٍ عِنْدَ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ إِذَا قيل في الملقوف إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ وَلِيِّهِ وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَائِحًا، فَلَوْ كَانَتْ مُوضِحَةُ الْمَشْجُوجِ قَدْ وُضِحَ وَسَطُهَا حَتَّى بَرَزَ الْعَظْمُ وَتَلَاحَمَ طَرَفَاهَا حَتَّى بَقِيَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيمَا وَضَحَ عَنِ الْعَظْمِ، وَالْأَرْشُ دُونَ الْقِصَاصِ فِيمَا تَلَاحَمَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ لَمَّا سَقَطَ فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا انْفَرَدَتْ سَقَطَ فِيهَا إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمُوضِحَةِ وَكَانَتْ حُكُومَتُهَا أَقَلَّ مِنْ قِسْطِهَا وَأَرْشِ الْمُوضِحَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ حُكْمِ الْمُوضِحَةِ. (فَصْلٌ) وإذا أوضحه موضحتين وأكثر، كان المشجوج مخير فيها بين ثلاثة أحوال: أحدها أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الِاقْتِصَاصِ عَنْ جَمِيعِهَا إِلَى الدِّيَةِ، فَيَسْتَحِقُّ فِي كُلِّ مُوضِحَةٍ أَرْشًا، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ أَرْشُ مَا صَغُرَ مِنْهَا وَمَا كَبُرَ، وَسَوَاءٌ تَقَارَبَتْ أَوْ تَبَاعَدَتْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أن يقتص من جميعهما فيقاد في يوم واحد إنشاء أَوْ فِي أَيَّامٍ شَتَّى إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِ الشَّاجِّ إِنِ اقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إِمَّا الْمَرَضَ أَوْ شِدَّةَ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْ جَمِيعِهِمَا، وَيَقْتَصُّ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا انْدَمَلَتِ اقْتَصَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْمُوضِحَةُ وَاحِدَةً قَدِ اسْتَوْعَبَتْ طُولَ الرَّأْسِ وَعَرْضَهُ وَخِيفَ عَلَى نَفْسِهِ إِنِ اقْتَصَّ مِنْ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُفَرِّقَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهَا، وَيَسْتَوْفِيَ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَلَوْ قِيلَ يَسْتَوْفِي الْمُوضِحَةَ الْوَاحِدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ خِيفَ مِنْهَا كَمَا يَقْطَعُ الْيَدَ قِصَاصًا وَإِنْ خِيفَ مِنْهَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا وَيَعْفُوَ إِلَى الدِّيَةِ عَنْ بَاقِيهَا، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ شَائِنٍ وَغَيْرِ شَائِنٍ، وَيَرْجِعُ بِأُرُوشِ بَاقِيهَا مُتَسَاوِيَةً عَلَى أعدادها، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَا كُلُّ جُرْحٍ يُقْتَصُّ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْجِرَاحُ مَا كَانَ فِي الْجَسَدِ، والشجاج ما كان في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 الرأس، وقد مضى حكم الشجاج فِي الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَأَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ. وَقِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَيَجِبُ فِيهِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، وَهَذَا حُكْمُ شجاج الرأس وكذلك إذا كان في الوجه واللحين يَكُونُ فِي حُكْمِ شِجَاجِ [الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ جُرْحًا، وَيَصِيرُ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ فِي حُكْمِ الشِّجَاجِ] وَالْجِرَاحِ، سَوَاءٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الأَرْشِ فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي هَاشِمَتِهِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِبِلِ. فَأَمَّا جِرَاحُ الْبَدَنِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجِبْ فِيهِ مُقَدَّرٌ وَلَا يَجِبْ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْجَائِفَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى الْجَوْفِ، لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَفِيهَا ثُلْثُ الدِّيَةِ. وَقِسْمٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا مُقَدَّرَ وَهُوَ مَا عَدَا الْمُوضِحَةَ وَالْجَائِفَةِ مِنَ البَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ قِصَاصٌ وَلَا مُقَدَّرٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ مِنَ البَدَنِ قِصَاصٌ وَلَا مُقَدَّرَ، لِشَرَفِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَأَنَّ الشَّيْنَ فِيهِمَا أَقْبَحُ مِنَ الشَّيْنِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْمُقَدَّرُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ إِذَا كَانَتْ فِي ذِرَاعٍ أَوْ عَضُدٍ أَوْ سَاقٍ أَوْ فَخِذٍ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِهِ كَالرَّأْسِ، وَتَجِبُ حُكُومَةٌ وَلَا تَجِبُ فِيهَا مُقَدَّرٌ بِخِلَافِ الرَّأْسِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرَفِ الرَّأْسِ وَقُبْحِ شَيْنِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصِهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَا قِصَاصَ فِي مُوضِحَةِ الْبَدَنِ، لِأَنَّهَا لَمَّا خَالَفَتْ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ فِي الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ خَالَفَتْهَا فِي الْقَوَدِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مَذْهَبًا وَحِجَاجًا. أَمَّا الْمَذْهَبُ، فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": إِنَّ الْمُوضِحَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى السَّاقِ لَمْ تَصْعَدْ إِلَى الْفَخِذِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى الْقَدَمِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّرَاعِ لَمْ تَصْعَدْ إِلَى الْعَضُدِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى الْكَتِفِ. وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْبَدَنِ جُرْحٌ مُقَدَّرٌ وَهُوَ الْجَائِفَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يُوجِبُ القصاص وهو الموضحة كالرأس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو جرحه فلم يوضحه منه أقص مِنْهُ بِقَدْرِ مَا شَقَّ مِنَ المُوضِحَةِ فَإِنْ أَشْكَلَ لَمْ أَقُدْ إِلَّا مِمَّا اسْتُيْقِنَ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ مِنَ الشِّجَاجِ السِّتَّةِ وَهِيَ: الْحَارِصَةُ، وَالدَّامِيَةُ، وَالدَّامِغَةُ، وَالْبَاضِعَةُ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ، لَا قِصَاصَ فِيهَا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ مَوْرَهَا فِي اللَّحْمِ وَقُصُورَهَا عَنْ حَدِّ الْعَظْمِ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ لِعَدَمِ الْغَايَةِ فِيهِ كَالْجَائِفَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ يَنْقُصُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا مُوضِحَةً لِاخْتِلَافِ الْحَلْقَةِ فِي جِلْدَةِ الرَّأْسِ لِأَنَّهَا تَغْلُظُ مِنْ قَوْمٍ وَتَرِقُّ مِنْ آخَرِينَ وَلَا بُدَّ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ تَقْدِيرِ عُمْقِهَا حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ، وَقَدْ يَكُونُ عُمْقُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ يَبْلُغُ إِلَى الْمُوضِحَةِ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ، فَنَكُونُ قَدِ اقْتَصَصْنَا مِنَ المُتَلَاحِمَةِ بِالْمُوضِحَةِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَلِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمُقْتَضَى أُصُولِهِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَغَيْرِهِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ " حَرْمَلَةَ ": لِأَنَّ ذَلِكَ فِي لَحْمٍ، غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: " وَلَوْ جَرَحَهُ فَلَمْ يُوضِحْهُ اقْتُصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا شَقَّ مِنَ المُوضِحَةِ "، وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ وَهْمٌ مِنَ المُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ أَضْبَطُ منْ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَثْبَتُهُمْ رِوَايَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلٍ ثَانٍ، فَيَكُونُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ بِخِلَافِ نَصِّهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِيفَائِهِ [إِذَا أَمْكَنَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا قِصَاصَ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ] الْقِصَاصِ مِنْهُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّاجُّ قَدْ جَرَحَ الْمَشْجُوجَ مُوضِحَةً وَمُتَلَاحِمَةً فَيُنْظَرُ عُمْقُ الْمُوضِحَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَعُمْقِ الْمُتَلَاحِمَةِ، فَإِذَا كَانَ عُمْقُ الْمُوضِحَةِ أَنْمُلَةً وَعُمْقُ الْمُتَلَاحِمَةِ نِصْفَ أَنْمُلَةٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مِنْ رَأْسِهِ هِيَ نِصْفُ مُوضِحَةٍ، فَيُقْتَصُّ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ مُوضِحَةً وَيُنْظَرُ عُمْقُهَا فَإِنْ كَانَ أَنْمُلَةً فَقَدِ اسْتَوْفَى فِي عُمْقِ جِلْدَةِ الرَّأْسِ، فَإِذَا أَرَدْنَا الِاقْتِصَاصَ مِنَ المُتَلَاحِمَةِ بَعْدَ الْمُوضِحَةِ [اقْتُصَّ إِلَى نِصْفِ أَنْمُلَةٍ مِنْ جِلْدِ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَرَقَّ جِلْدًا وَلَحْمًا وَكَانَ عُمْقُ مُوضِحَتِهِ] نِصْفَ أَنْمُلَةٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 اقْتُصَّ مِنْ مُتَلَاحِمَتِهِ رُبْعُ أَنْمُلَةٍ لِيَكُونَ نِصْفَ مُوضِحَةٍ كَمَا كَانَتْ مِنَ المَشْجُوجِ نِصْفَ مُوضِحَةٍ، لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مُوضِحَةٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَشْجُوجِ وَالْقِصَاصِ مِنَ الشَّاجِّ، وَإِذَا تَقَدَّرَتِ الْمُتَلَاحِمَةُ فِي الْقِصَاصِ إِمَّا بِالنِّصْفِ عَلَى مَا مَثَّلْنَاهُ، أَوْ بِالثُّلْثِ إِنْ نَقَصَ، أَوْ بِالثُّلُثَيْنِ إِنْ زَادَ تَقَدَّرَ أَرْشُهَا بِقِسْطِهَا مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرِ الْمُتَلَاحِمَةُ مِنَ المُوضِحَةِ فِي الْقِصَاصِ لَمْ يَتَقَدَّرْ أَرْشُهَا وَكَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ كَمَا يُقَدِّرُ حُكُومَاتِ سَائِرِ الْجِرَاحِ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ: أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ مَوْرُ الْمُتَلَاحِمَةِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ قَدْرُ عُمْقِهَا [اعْتُبِرَ مَا يُتَيَقَّنُ قَدْرُ مَوْرِهَا] وَمَا يُشَكُّ فِيهِ وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ لِيُعْتَبَرَ بِيَقِينِ الْمَوْرِ صِحَّةُ التَّقْوِيمِ فِي الْحُكُومَةِ وَيُعْتَبَرَ بِتَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الْمَوْرِ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا أَنَّ مَوْرَ الْمُتَلَاحِمَةِ نِصْفُ عُمْقِ الْمُوضِحَةِ وَشَكَكْنَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَا تَقْوِيمَ الْحُكُومَةِ، فنجده لا يخلوا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ نِصْفِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَيَتَّفِقَانِ فِي وُجُوبِ النِّصْفِ وَيَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صِحَّةِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ الشَّكُّ فِي زِيَادَةِ الْمَوْرِ مُطَّرَحًا بِالتَّقْوِيمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَيُوجِبُ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْأَرْشِ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَوْرِ عَلَى النِّصْفِ، قَدْ صَارَ بِالتَّقْوِيمِ مَعْلُومًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَقْوِيمُ الْحُكُومَةِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ وَيُسْتَدَلُّ بِيَقِينِ الْمَوْرِ عَلَى أَنَّ تَقْوِيمَ الحكومة خطأ، لأن اليقين لا يتغير بِالِاجْتِهَادِ وَيُسْتَفَادُ بِالتَّقْوِيمِ إِسْقَاطُ الشَّكِّ فِيمَا زَادَ على النصف والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُقْطَعُ الْيَدُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ مِنَ المَفَاصِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ كَوُجُوبِهِ فِي النُّفُوسِ، لِأَنَّ الْأَطْرَافَ مَفَاصِلُ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ بِهَا، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَلَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ م َفْصِلِ الْكُوعِ، فَيُقْتَصُّ مِنْهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ نَقْصٍ أَوْ شَلَلٍ، فَيُقْتَصُّ مِنَ الكَبِيرَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 بِالصَّغِيرَةِ، وَمِنَ الْقَوِيَّةِ بِالضَّعِيفَةِ، وَمِنْ ذَاتِ الصَّنْعَةِ وَالْكِتَابَةِ بِغَيْرِ ذَاتِ الصَّنْعَةِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا يَجْرِي مِثْلُهُ فِي النُّفُوسِ، وَلَا تُؤْخَذُ سَلِيمَةٌ بِشَلاء، وَلَا كَامِلَةٌ بِنَاقِصَةٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ فَيُقْتَصُّ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ نِصْفِ ذِرَاعِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا مَفْصِلَ فِيهَا فَيُسْتَوْفَى وَرُبَّمَا وَقَعَ التَّجَاوُزُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أنه قد يتشظا الْعَظْمُ إِذَا قُطِعَ وَلَا يَتَمَاثَلُ فِي الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَضَعْتُمِ الْقَطْعَ فِي الْقِصَاصِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنَ الجِنَايَةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُمَاثَلَةً قُلْنَا: لَمَّا تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ كَانَ الْعُدُولُ إِلَى مَا دُونَهَا إِذَا أَمْكَنَتْ لِدُخُولِهَا فِي الْجِنَايَةِ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنْ كَفِّ الْجَانِي أُخِذَتْ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي نِصْفِ الذِّرَاعِ لَا يُبْلَغُ بِهَا دِيَةُ الْكَفِّ، وَلَوْ عَفَا الْمَقْطُوعُ عَنِ الْقِصَاصِ أُعْطِيَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْكَفِّ وَحُكُومَةً هِيَ أَقَلُّ مِنْهَا فِي نِصْفِ الذِّرَاعِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الْمِرْفَقِ فَيُقْتَصُّ مِنْ جَمِيعِهَا، وَيُقْطَعُ الْجَانِي مِنْ مِرْفَقِهِ، لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَإِنْ عُدِلَ إِلَى الدِّيَةِ أُعْطِيَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي كَفٍّ وَحُكُومَةً فِي الذِّرَاعِ، وَلَوْ طَلَبَ الْقِصَاصَ مِنَ الكَفِّ وَأَرش فِي الذِّرَاعِ فِي الْمِرْفَقِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْمَقْطُوعِ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ فِي الْقِصَاصِ وَضْعُ السِّكِّينِ فِي مَحَلِّهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَنْ مَحَلِّهَا. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقْطَعَ يَدُهُ مِنَ المَنْكِبِ فَيُقْتَصُّ مِنْهَا فِي الْمَنْكِبِ، لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، فَإِنْ طَلَبَ الْقِصَاصِ مِنَ الكَفِّ أَوِ الْمِرْفَقِ وَحُكُومَةً فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ أُعْطِيَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْكَفِّ وَحُكُومَةً فِي الذِّرَاعِ، وَالْعَضُدُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَجَافَهُ حِينَ قَطَعَ يَدَهُ مِنَ الكَفِّ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الجَائِفَةِ، وَأُعْطِيَ أَرْشَهَا ثُلْثَ الدِّيَةِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ المَنْكِبِ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ الْعَضُدِ فَيَجِبُ بِالْقِصَاصِ من المرفق لإمكانه فيه وَتَعَذُّره فِي نِصْفِ الْعَضُدِ كَمَا قُلْنَا فِي قَطْعِهَا مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، فَإِنْ طَلَبَ الْقِصَاصَ مِنَ الكَفِّ وَأَخَذَ حُكُومَةً فِي الزِّيَادَةِ أُجِيب، وَيَكُونُ فِي الْقِصَاصِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ المِرْفَقِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وبين أن يقتص من الكف للفرق بينهما بأن ما أمكن وضع السكين في القصاص في موضعها لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَخَالَفَ الْجِنَايَةَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 الْمرفق حيث لَمْ يَجُز أن يقتص فيها من الكف [في الجناية لم يجز العدول عنه، وإذا لم يمكن جاز وضعها فيما قرب منها، وإذا جاز وضعها] فِي الْأَكْثَرِ جَازَ وَضْعُهَا فِي الْأَقَلِّ. (فَصْلٌ) وَهَكَذَا الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ تَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ القَدَمِ اقْتُصَّ مِنْهَا، فَتُؤْخَذُ الْقَدَمُ الْكَبِيرَةُ بِالصَّغِيرَةِ، وَالْمَاشِيَةُ بِغَيْرِ الْمَاشِيَةِ، وَالصَّحِيحَةُ بِالْمَرِيضَةِ وَالْمُعْتَدِلَةُ بِالْعَرْجَاءِ، وَالْمُسْتَقِيمَةُ بِالْحَتْفَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نِصْفِ السَّاقِ اقْتُصَّ مِنَ القَدَمِ وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي نِصْفِ السَّاقِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الرُّكْبَةِ اقْتُصَّ مِنْهَا، لِأَنَّهَا مَفْصِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِصْفِ الْفَخِذِ اقْتُصَّ مِنَ الرُّكْبَةِ، فَإِنْ سَأَلَ مِنَ القَدَمِ أُجِيبَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الوَرِكِ اقْتُصَّ مِنْهَا، فَإِنْ سَأَلَ الْقِصَاصَ مِنَ الرُّكْبَةِ وَالْقَدَمِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: الْقِصَاصُ فِي الْأَنْفِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ، فَإِذَا جَدَعَ أَنْفَهُ مِنَ العَظْمِ حَتَّى اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَارِنِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ بِمِثْلِهِ، وَقُطِعَ جَمِيعُ مَارِنِهِ وَيُقْتَصُّ مِنْ أَنْفِ الشَّامِّ بِأَنْفِ الْأَخْشَمِ، وَمِنَ الْكَبِيرِ بِالصَّغِيرِ وَمِنَ الْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَمِنَ الصَّحِيحَةِ بِالْخَرْمَاءِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْخَرَمِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ مِنْ نِصْفِ الْمَارِنِ اقْتُصَّ مِنْ نِصْفِ مَارِنِهِ، بِخِلَافِ الْقَاطِعِ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، لِأَنَّ فِي الذِّرَاعِ عَظْمًا يَمْنَعُ مِنْ مُمَاثَلَةِ الْقِصَاصِ وَمَارِنُ الْأَنْفِ لَيْسَ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ، فَلَوْ قَطَعَهُ مِنْ نِصْفِ الْعَظْمِ صَارَ حِينَئِذٍ كَالْقَاطِعِ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ فَيُقْتَصُّ لَهُ مِنْ حَدِّ الْعَظْمِ وَيُسْتَوْعَبُ بِهِ جَمِيعُ الْمَارِنِ، وَيُعْطَى حُكُومَةً فِيمَا قُطِعَ مِنَ العَظْمِ، فَلَوْ أَوْضَحَ عَنِ الْعَظْمِ وَلَمْ يَقْطَعْهُ أَخَذَ مِنْهُ دِيَةَ مُوضِحَةٍ، وَلَوْ هَشَّمَهُ أَخَذَ مِنْهُ دِيَةَ هَاشِمَةٍ، وَلَوْ نَقَّلَهُ أَخَذَ مِنْهُ دِيَةَ مُنَقِّلَةٍ، وَفِي حُكُومَةِ قَطْعٍ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ مُنَقِّلَةً، وَإِذَا قَطَعَ أَحَدَ شِقَّيْ أَنْفِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ، لِأَنَّ حَاجِزَ الْمِنْخَرَيْنِ حَدٌّ يَنْتَهِي الْقِصَاصُ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَطَعَ حَاجِزَ الْمِنْخَرَيْنِ اقْتُصَّ مِنْهُ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي قَطَعَهُ لِإِمْكَانِ الِاقْتِصَاصِ مِنْ جَمِيعِهِ، وَلَوْ ضَرَبَ أَنْفَهُ فَاسْتَحْشَفَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَكَانَ لَهُ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ، وَيَحْتَمِلُ أن يتخرج فيه قول آخر من استشحاف الْأُذُنِ أَنَّ لَهُ حُكُومَةً، وَلَوْ كَسَرَ أَنْفَهُ مُجَبَّرَةً أُعْطِيَ حُكُومَةً وَلَا قَوَدَ لَهُ فَلَوِ انْجَبَرَ مُعْوَجًّا كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا لَوِ انجبر مستقيماً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " والأذن بالأذن ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 قال الماوردي: وهذا نص الكتاب؛ لأن للأذن حداً يَتَمَيَّزُ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، فَيُقْتَصُّ مِنْ أُذُنِ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ، لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ، وَيُقْتَصُّ مِنَ الكَبِيرَةِ بِالصَّغِيرَةِ، وَمِنَ الصَّحِيحَةِ بِالْمَثْقُوبَةِ ثُقْبَ قُرْطٍ أَوْ شَنْفٍ، فَأَمَّا الْمَخْرُومَةُ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِالْخُرْمِ مِنْهَا شَيْء اقْتُصَّ بِهَا مِنَ الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا أَذْهَبَ الْخُرْمُ شَيْئًا مِنْهَا قِيلَ لِلْأَخْرَمِ: إِنْ شِئْتَ الْقِصَاصَ قَطَعْنَا لَكَ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي إِلَى مَوْضِعِ خرمتك [وأعطيناك دية ما بقي منها بعد الخرم] وإِنْ شِئْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِيَةَ الْأُذُنِ، وَلَوْ قَطَعَ بعض أذنيه اقْتُصَّ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي بِقَدْرِهِ، لِإِمْكَانِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، وَلَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَذَهَبَ مِنْهَا سَمْعُهُ اقْتُصَّ مِنْ أُذُنِهِ وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْ سَمْعِهِ لِتَعَذُّرِهِ، وَلَوْ ضَرَبَ أُذُنَهُ فَاسْتَحْشَفَتْ وَيَئِسَتْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِصَاصٌ كَالْيَدِ إِذَا شُلَّتْ، وَفِيمَا يَجِبُ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: دِيَتُهَا كَشَلَلِ الْيَدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حُكُومَةٌ، لِأَنَّ شَلَلَ الْيَدِ يُذْهِبُ مَنَافِعَهَا فِي الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي اسْتِحْشَافِ الْأُذُنِ، فَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ وَلَا تَنْقُصُ الْحُكُومَتَانِ عَنْ دِيَةِ الأذن ويجوز أن يكونا أكثر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالسِّنُّ بِالسِّنِ كَانَ الْقَاطِعُ أَفْضَلَ طَرَفًا أَوْ أَدْنَى مَا لَمْ يَكُنْ نَقْصٌ أَوْ شَلَلٌ ". قال الماوردي: " وهذا نص الكتاب فِي السِّنِّ لِتَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الْقِصَاصُ فِيهِ فِي الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ وَالْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ، فَيُقْتَصُّ بِهَا إِذَا أُقْلِعَتْ بِمِثْلِهَا مِنْ أَسْنَانِ الْجَانِي، فَيُقْلَعُ مِنْ أَسْنَانِهِ مِثْلُ مَا قَلَعَ، فَيُقْتَصُّ مِنَ البَيْضَاءِ بِالسَّوْدَاءِ وَالْخَضْرَاءِ، وَمِنَ الشَّابِّ بِسِنِّ الشَّيْخِ، وَمِنَ الْقَوِيَّةِ بِالضَّعِيفَةِ، وَمِنَ الْكَبِيرَةِ بِالصَّغِيرَةِ، وَمِنَ الْمُشْتَدَّةِ بِالْمُتَحَرِّكَةِ إِذَا كَانَتْ مَنَافِعُهما بَاقِيَةً، وَلَا قَوَدَ فِي السِّنِّ الزَّائِدَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي مِثْلُهَا فِي مِثْلِ مَوْضِعِهَا فَيُقْتَصَّ مِنْهَا، فَإِنْ كَسَرَ سِنَّهُ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكْسِرَ سَنَّ الْجَانِي مِثْلَ كَسْرِهِ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلَا قِصَاصَ، وَكَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ السِّنِّ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ بِقِسْطِ مَا كُسِرَ مِنْهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ وَيَكُونُ بِقِسْطِهِ عَلَى مَا جُرِحَ فِي اللِّثَةِ وَظَهَرَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَطَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا يَجِبُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْهَا كَمَا لَوْ قَطَعَ أَصَابِعَ كَفِّهِ وَجَبَ فِيهَا دِيَتُهَا، وَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ لَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، وَلَا تُؤْخَذُ ثَنِيَّةٌ بِرُبَاعِيَّةٍ وَلَا نَابٌ بِضِرْسٍ وَلَا يُمْنَى بِيُسْرَى، وَلَا عُلْيَا بسفلى. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ قاطع اليد نَاقِصًا أصْبعا قُطِعَتْ يَدُهُ وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْشُ أصبع ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو كَفُّ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ مِنْ أَرْبَعَة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَا كَامِلَتَيِ الْأَصَابِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَكُونَا نَاقِصَتَيِ الْأَصَابِعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ كَفُّ الْمَقْطُوعِ كَامِلَةً وكف القاطع ناقصة. والرابع: أن يكون كَفُّ الْمَقْطُوعِ نَاقِصَةً وَكَفُّ الْقَاطِعِ كَامِلَةً، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَامِلَةِ بِالْكَامِلَةِ وَالنَّاقِصَةِ بِالنَّاقِصَةِ إِذَا كَانَ النَّقْصُ فِيهِمَا مُتَسَاوِيًا، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَيَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةً أصبعا فَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ كَفِّهِ النَّاقِصَةِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيَةَ الْأُصْبُعِ الَّتِي نَقَصَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْتَصُّ مِنْ كَفِّهِ النَّاقِصَةِ بِكَفِّهِ الْكَامِلَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْأصْبع النَّاقِصَةِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي قَوَدِ النُّفُوسِ نُقْصَانُ الْأَطْرَافِ لِدُخُولِهَا فِي النَّفْسِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي قِصَاصِ الْأَطْرَافِ مَا تَخَلَّلَهَا مِنْ نَقْصٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ الشَّلَّاءِ بِالسَّلِيمَةِ إِذَا رَضِيَ بِهَا الْمَقْطُوعُ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِنَقْصِ الشَّلَلِ كَذَلِكَ أَخْذُ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ النَّقْصِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يُوجِبُ وَضْعَ السِّكِّينِ مِنَ القَاطِعِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ المَقْطُوعِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْكَفِّ النَّاقِصَةِ فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْحَقِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 136] وَالْمِثْلُ مِثْلَانِ: مِثْلٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَمِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ، وَلَيْسَتِ الْكَفُّ النَّاقِصَةُ مِثْلًا فِي الْخِلْقَةِ وَلَا مِثْلًا فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ تُكَافِئْ مَا فُضِّلَتْ عَنْهَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْقِيمَةِ، وَإِذَا عُدِمَ مِثْلُ الْخِلْقَةِ فِي النَّاقِصَةِ أَوْجَبَ الْعُدُولَ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْقِيمَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ أُخِذَ قَوَدًا إِذَا كَانَ مَوْجُودًا أُخِذَتْ دِيَتُهُ إِذَا كَانَ مَفْقُودًا كَمَا لَوْ قُطِعَ أَصَابِعُهُ وَكَانَ لِلْقَاطِعِ بَعْضُهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَلَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ نُقْصَانُ كَفِّهِ فِي نُقْصَانِ الدِّيَةِ لَمْ يُؤَثِّرْ نُقْصَانُهَا فِي نُقْصَانِ الْقِصَاصِ. فَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ بِالشَّلَلِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّلَّاءَ تَامَّةُ الْأَصَابِعِ نَاقِصَةُ الْمَنَافِعِ، وَهَذِهِ نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ وَالْمَنَافِعِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ بِوَضْعِ السِّكِّينِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ المَقْطُوعِ فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْوَضْعِ فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي التَّمَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يستوفي الناقص بالتام. (فصل) وإن كان كَفُّ الْمَقْطُوعِ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ وَكَفُّ الْقَاطِعِ كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْ كَفِّهِ الْكَامِلَةِ بِكَفٍّ نَاقِصَةٍ، وَيُلْزِمْ أَبَا حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا كَمَا قَالَهُ فِي نُقْصَانِ كَفِّ الْقَاطِعِ وَكَمَالِ كَفِّ الْمَقْطُوعِ، فَإِنْ قَالَهُ فَقَدْ جَرَى فِيهِمَا عَلَى قِيَاسٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 فَقَدْ نَاقَضَ وَمَذْهَبُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسَمًّى عَلَى الْقِيَاسِ. فَإِذَا كَانَتْ كَفُّ الْمَقْطُوعِ نَاقِصَةً أصْبعا سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي كَفِّ الْقَاطِعِ لِزِيَادَةِ أُصْبُعِهِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مع قطع الكف، فوجب استيفاء الكف بهائا لِحِفْظِ الْأصْبع الزَّائِدَةِ، وَاقْتُصَّ مِنْ أَصَابِعِهِ الَّتِي لِلْمَقْطُوعِ مِثْلُهَا، وَاسْتَبْقَى لِلْقَاطِعِ الْأُصْبُعَ الَّتِي فُقِدَتْ مِنَ المَقْطُوعِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْشُ الْكَفِّ الْمُسْتَبْقَاةِ لَهُ، وَلَا يُبْلَغُ بِأَرْشِهَا دِيَةُ أصْبع، لِأَنَّهَا تبع للأصابع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ شَلَّاءَ فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ بِأَنْ يَأْخُذَ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ الْيَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَطَعَ الْأَشَلُّ الْيَدِ يَدًا سَلِيمَةً لَمْ تَكُنِ الشَّلَّاءُ مُكَافِئَةً لَهَا لِنَقْصِهَا عَنْ كَمَالِ السَّلَامَةِ فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْطُوعُ أُعْطِيَ دِيَةَ يد سلمية فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ مِنَ الشَّلَّاءِ بِيَدِهِ السَّلِيمَةِ كَانَ لَهُ، لِأَنَّ أَخْذَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ يَجُوزُ، وَأَخْذَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الشَّلَّاءِ لِيَأْخُذَ مَعَ الْقِصَاصِ مِنَ الكَامِلَةِ أَرْشَ النَّقْصِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ قَتَلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا فَأَرَادَ وَلِيُّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الكَافِرِ وَيَأْخُذَ فَضْلَ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْقَاطِعِ الْأَشَلِّ إِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الشَّلَّاءُ أَنْ لَا تَنْدَمِلَ عُرُوقُ الدَّمِ بِالشَّلَلِ الَّذِي لَا يَلْتَحِمُ وَيَتَحَقَّقُ تَلَفُهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اقْتِصَاصًا من يد بنفس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ أَشَلَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَوَدُ فَيَأْخُذُ أَكْثَرَ وَلَهُ حُكُومَةُ يَدٍ شَلَّاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ اليَدِ السَّلِيمَةِ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُقْتَصُّ مِنَ السَّلِيمَةِ بِالشَّلَّاءِ اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ، كَمَا يُقْتَصُّ مِنَ القَوِيَّةِ بِالضَّعِيفَةِ وَمِنَ الصَّحِيحَةِ بِالْمَرِيضَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اقْتُصَّ مِنَ الأُذُنِ السَّلِيمَةِ بِالْأُذُنِ الْمُسْتَحْشِفَةِ، وَالِاسْتِحْشَافُ شَلَلٌ، كَذَلِكَ شَلَلُ الْيَدِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَلَيْسَتِ الشَّلَّاءُ مِثْلًا لِسَلِيمَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ بِهَا، وَلِأَنَّ الْبَصِيرَ إِذَا قَلَعَ عَيْنًا قَائِمَةً لَا تُبْصِرُ لَمْ يُقْتَصَّ بِهَا مِنْ عَيْنِهِ الْمُبْصِرَةِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيمَا قَلَعَ، فَكُلُّ شَلَلِ الْيَدِ مَعَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فِيهَا أَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهَا مِنْ يَدِ ذَاتِ حَيَاةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الشَّلَّاءُ مَيِّتَةً لَمَّا حَلَّ أَكْلُهَا مِنَ الحَيَوَانِ الْمُذَكَّى؟ قِيلَ: إِنَّمَا حَلَّ أَكْلُهَا لَحْمًا وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا لِمُذَكًّى كالجنين إذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 مَاتَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ قَطْعَ الشَّلَّاءِ مِنْ حَيٍّ كَقَطْعِهَا مِنْ مَيِّتٍ، لِأَنَّهَا فِي الْحَالَيْنِ مَيِّتَةٌ، وَقَطْعُهَا مِنَ المَيِّتِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَكَذَلِكَ قَطْعُهَا مِنَ الحَيِّ. فَإِنْ قِيلَ فَقَطْعُهَا مِنَ المَيِّتِ لَا يُضْمَنُ بِالْأَرْشِ، وَقَطْعُهَا مِنَ الحَيِّ مَضْمُونٌ بِالْأَرْشِ فَجَازَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْقَوَدِ وَإِنْ لَمْ تُضْمَنْ بِهِ يَدُ الْمَيِّتِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْيَدَ تَبَعٌ لِلْجَسَدِ وَجَسَدُ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ تُضْمَنْ يَدُهُ، وَجَسَدُ الْأَشَلِّ مَضْمُونٌ فَضُمِنَتْ يَدُهُ وَخِلَافُ نَفْسِ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ مَعَهُمَا وَحُصُولِ النَّفْعِ بِهِمَا، فَأَمَّا الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ فَفِي الِاقْتِصَاصِ بِهَا مِنَ السَّلِيمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قِصَاصَ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْتَصُّ بِهَا مِنَ السَّلِيمَةِ بِخِلَافِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُذُنِ هُوَ حُصُولُ الْجَمَالِ بِهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحْشِفَةِ كَوُجُودِهِ فِي السَّلِيمَةِ، وَمَنْفَعَةُ الْيَدِ قَبْضُهَا وَبَسْطُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الشَّلَّاءِ مَوْجُودٌ فِي السَّلِيمَةِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا شَلَّاءَ فَفِي الْقِصَاصِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أنه لا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَاعَتَلَّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَبْدَانِ تَتَفَاوَتُ وَلَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهَا، فَصَارَ الشَّلَلَانِ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرَ مُتَمَاثِلَيْنِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ تَفَاوُتَ الشَّلَلِ يَكُونُ فِي نِهَايَتِهِ وَيَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ سِرَايَةً مِنْهُ فِي الْآخَرِ، وَلَسْنَا نَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ إِلَّا مِنْ حَدِّ الْقَطْعِ فَقَدْ تَسَاوَيَا فِي نَقْصِهِ فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّلَلِ كَمَا يَجْرِي مَعَ السَّلَامَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّلَّاءُ مِنَ المَقْطُوعِ يُمْنَاهُ وَمِنَ الْقَاطِعِ يُسْرَاهُ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ يُمْنَى بِيُسْرَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّلَلُ حَادِثًا مَعَ الْوِلَادَةِ أَوْ طَارِئًا بَعْدَهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَتَأكلَتْ فَذَهَبَتْ كَفُّهُ أُقِيدَ مِنَ الأُصْبُعِ وَأُخِذَ أَرْشُ يَدِهِ إِلَّا أُصْبُعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ قَطَعَ أصْبع رَجُلٍ فَسَرَى الْقَطْعُ إِلَى أَنْ تَآكَلَتْ كَفُّهُ ثُمَّ انْدَمَلَتْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ فِي الْأصْبع دُونَ الْكَفِّ، فَأَوْجَبَهُ فِي الْجِنَايَةِ دُونَ السِّرَايَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْأصْبع وَلَا فِي الْكَفِّ، فَأَسْقَطَهُ فِي الْجِنَايَةِ والسراية. وقال آخرون: يحب عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِ الْكَفِّ فَأَوْجَبُوهُ فِي الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ إِذَا سَرَى إِلَى النَّفْسِ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ، فَكَانَ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرًا بِالسِّرَايَةِ دُونَ الْجِنَايَةِ، وَلَيْسَ فِي السِّرَايَةِ هَاهُنَا قِصَاصٌ فَسَقَطَ فِي الْجِنَايَةِ، وَاحْتَجَّ بَعْدَهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ إِذَا لَمْ تُضْمَنْ سِرَايَتُهَا بِالْقَوَدِ لَمْ يُضْمَنْ أَصْلُهَا بِالْقَوَدِ كَالْخَطَأِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا مُوجِبُ الْقِصَاصِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَسَقَطَ لَهُ بِالسِّرَايَةِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْجِنَايَةِ مُوجِبٌ وَمُسْقِطٌ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ كَالْعَامِدِ إِذَا شَارَكَ خَاطِئًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ دُونَ السِّرَايَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَالْجُرْحُ مُخْتَصٌّ بِالْجِنَايَةِ دُونَ السِّرَايَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا مَعَ عَدَمِ السِّرَايَةِ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ السِّرَايَةِ، قِيَاسًا عَلَى قَطْعِ يَدِ الْحَامِلِ إِذَا سَرَى إِلَى إِسْقَاطِ حَمْلِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ وَإِنِ انْتَهَتْ إِلَى مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ كَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَنَفَذَ السَّهْمُ إِلَى آخَرَ وَمَاتَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَلِأَنَّنَا نَبْنِيهِ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ في الجناية وإن اقتص في السراية، نقابل أَصْلَهُمْ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فَاسِدٌ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ إِلَى الْحَمْلِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخَطَأِ سُقُوطُ الْقِصَاصِ مَعَ الِانْدِمَالِ فَسَقَطَ مَعَ السِّرَايَةِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ مَعَ الِانْدِمَالِ فَوَجَبَ مَعَ السِّرَايَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ فَالْمَعْنَى فِيهِ مَعَ فَسَادِهِ بِالسِّرَايَةِ إِلَى الْحَمْلِ هُوَ أَنَّ قَتْلَ الشَّرِيكَيْنِ حَادِثٌ بِالسِّرَايَةِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ سِرَايَةُ الْعَمْدِ مِنْ سِرَايَةِ الْخَطَأِ، فَسَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُمَا بِسُقُوطِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَحُكْمُ الْجِنَايَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا مُتَمَيِّزٌ عَنِ السِّرَايَةِ فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْقَوَدِ فِي أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا وَقَطَعَ الْآخَرُ يَدَهُ الْأُخْرَى خَطَأً لَمَّا تَمَيَّزَ فِعْلُ أَحَدِهِمَا مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْآخَرِ. (فَصْلٌ) وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ والسراية بأمرين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي السِّرَايَةِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى النَّفْسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِيهَا إِذَا كَانَتْ دُونَ النَّفْسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا إِذَا سَرَتْ إِلَى ذَهَابِ الْبَصَرِ وَجَبَ فِيهَا إِذَا سَرَتْ إِلَى طَرَفٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي السِّرَايَةِ وَإِنْ وَجَبَ فِي الْجِنَايَةِ: أَنَّ مَا أَمْكَنَ مُبَاشَرَةَ أَخْذِهِ بِغَيْرِ سِرَايَةٍ كَانَ انْتِهَاءُ السِّرَايَةِ إِلَيْهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَمَا لَمْ يُقْصَدْ بِالْجِنَايَةِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِالسِّرَايَةِ، لِأَنَّهَا مُغَيَّبَةٌ تَسْرِي فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ وَبَيْنَ السِّرَايَةِ إِلَى الطَّرَفِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السِّرَايَةِ وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ إِلَى ذَهَابِ الْبَصَرِ، لِأَنَّهُ مَحْسُوسٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَا يُؤْخَذُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا بِالسِّرَايَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ دُونَ السِّرَايَةِ قِيلَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الْجِنَايَةِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ فِيهَا إِلَى الدِّيَةِ كَانَ لَهُ دِيَةُ الْكَفِّ كُلِّهَا، وَهِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ، وَكَانَ دِيَةُ الْجِنَايَةِ مِنْهَا وَهِيَ دِيَةُ الْأُصْبُع الْمَقْطُوعَةِ عَشْر مِنَ الإِبِلِ دِيَةَ عَمْدٍ مَحْضٍ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً، وَفِي دِيَةِ السِّرَايَةِ إِلَى الْكَفِّ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ مِنَ الإِبِلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهَا لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهَا دِيَةُ خَطَأٍ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ تَجِبُ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ أَرْشِهَا، وَإِنْ طَلَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْ أصْبع الْجَانِي وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْكَفِّ لِذَهَابِهَا بِالسِّرَايَةِ عَنْ جِنَايَةٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ مِنَ الإِبِلِ هِيَ دِيَةُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَأُصُولِهَا مِنَ الكَفِّ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا أَرْشُ أَصْلِ الْأصْبع الْمَأْخُوذِ قَوَدًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ تَبَعًا لِدُخُولِهِ في حكم الدية تبعاً. [وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّ أُصُولَ الْأَصَابِعِ مِنَ الكَفِّ تَكُونُ تَبَعًا] لَهَا فِي الدِّيَةِ وَلَا تَكُونُ تَبَعًا لَهَا فِي الْقِصَاصِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أصابعه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 الْخَمْسَ كَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ وَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْخَمْسُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَصَارَتِ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ فِي الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ أَصَابِعَهُ الْخَمْسَ ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْكَفِّ اقْتُصَّ مِنْ خَمْسِ أَصَابِعِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُ الْكَفِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَرْشُ الْكَفِّ تَبَعًا لِلْقِصَاصِ فَاقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ أَرْشُ مَا يَجِبُ لِلْأصْبع الْمُقْتَصِّ مِنْهَا مِنَ الكَفِّ مُضَافًا إِلَى دِيَةِ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ، وَهَلْ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَالًّا فِي مَالِ الْجَانِي أَوْ مُؤَجَّلًا عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولم ينتظر به أن يراقى إلى مثل جِنَايَتِهِ أَوَّلًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اقْتُصَّ مِنْ أصْبع الْجَانِي فَسَرَتْ إِلَى كَفّهِ كَسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ مِنْ أصْبع الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى كَفِّهِ لَمْ تَكُنِ السِّرَايَةُ قِصَاصًا مِنَ السِّرَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتِ السِّرَايَةُ إِلَى الْأَطْرَافِ قِصَاصًا كَمَا كَانَتِ السِّرَايَةُ إِلَى النَّفْسِ قِصَاصًا؟ قِيلَ: النَّفْسُ لَا تُؤْخَذُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالسِّرَايَةِ، وَالْأَطْرَافُ تُؤْخَذُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السِّرَايَةِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي سِرَايَةِ النَّفْسِ وَلَمْ تَجِبْ فِي سِرَايَةِ الْأَطْرَافِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَسَرَتْ إِلَى ذَهَابِ بَصَرِهِ فَاقْتُصَّ مِنْ مُوضِحَةِ الْجَانِي فَسَرَتْ إِلَى بَصَرِهِ كَانَتِ السِّرَايَةُ قِصَاصًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ سِرَايَةً إِلَى نَفْسٍ، فَهَلَّا كَانَ فِي السِّرَايَةِ إِلَى الطَّرَفِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّ أَخْذَ الْبَصَرِ يَكُونُ بِالسِّرَايَةِ كَالنَّفْسِ، لِأَنَّ ضَوْءَ الْبَصَرِ غَيْرُ مُشَاهَدٍ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي السِّرَايَةِ إِلَى ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا بِالسِّرَايَةِ إِلَى ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا بِالسِّرَايَةِ إِلَى ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سِرَايَةَ الْقِصَاصِ إِلَى الْكَفِّ لَا تَكُونُ قِصَاصًا مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ إِلَى الْكَفِّ، فَإِذَا اقْتَصَصْنَا مِنْ أصْبع الْجَانِي أَخَذْنَا الْبَاقِيَ مِنْ دِيَةِ الْكَفِّ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِأصْبعهِ أَنْ يَنْتَهِيَ فِي السِّرَايَةِ إِلَى مِثْلِ سِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، لِأَنَّهَا لَوِ انْتَهَتْ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا فَلَمْ يَكُنْ لِلِانْتِظَارِ وَجْهٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " وَلِمَ يُنْتَظَرْ بِهِ أَنْ يُرَاقَى إِلَى مِثْلِ جِنَايَتِهِ أَوَّلًا "، فَإِنْ سَرَتْ أَكَلَةُ الْكَفِّ إِلَى نَفْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنْ أصْبع الْجَانِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ السِّرَايَةُ إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ أَخْذِ دِيَةِ بَاقِي كَفِّهِ فَلَا قِصَاصَ [لَهُ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ دِيَتِهَا فَيَسْتَوْفِي مَا بَقِيَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ وَذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِالْقِصَاصِ] وَالْأَرْشِ نِصْفَهَا الْآخَرَ، وَإِنْ كَانَتِ السِّرَايَةُ قَبْلَ أَخْذِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 الْبَاقِي مِنْ دِيَةِ كَفِّهِ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي دِيَةِ السِّرَايَةِ إِلَى الْكَفِّ هَلْ يَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا دِيَةُ خَطَأٍ، فَعَلَى هَذَا لَا قَوَدَ فِي السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، وَيُعْدَلُ إِلَى اسْتِكْمَالِ الدِّيَةِ لِيَأْخُذَ تِسْعِينَ من الإبل لاقتصاصه من إصبع ديتها عشر مِنَ الإِبِلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَرَى الْقِصَاصُ مِنَ الجَانِي إِلَى نَفْسِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الدِّيَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ إنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ إِلَى الدية فيعطاها إلى دِيَةَ أصْبع، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَرَى الْقِصَاصُ مِنْ أصْبع الْجَانِي إِلَى نَفْسِهِ كَانَتْ سِرَايَتُهُ قِصَاصًا، لَأَنَّ سِرَايَةَ جِنَايَتِهِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي عنه: " وَلَوْ سَأَلَ الْقَوَدَ سَاعَةَ قَطْعِ أصْبعهِ أَقَدْتُهُ فَإِنْ ذَهَبَتْ كَفُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جَعَلْتُ عَلَى الْجَانِي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال: يجوز القصاص في الأطراف قَبْلَ انْدِمَالِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ طَرَفٍ أَوْ جُرْحٍ حَتَّى يَنْدَمِلَ أَوْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ، وَبَنَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ أَنَّ سِرَايَتَهُ إِلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةٌ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِيهِ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا جُرِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيدَ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُسْتَقَادَ مِنَ الجَارِحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يتسانا بِالْجِرَاحَاتِ سَنَةً، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِيفَاؤُهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ كَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مِنَ الطَّرَفِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى نَفْسِ الْجَانِي قَبْلَ سِرَايَتِهِ إِلَى نَفْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ جَعَلْتُمُوهُ قصاصاً في النفس كان سالفاً في قتل قبل استحقاقه وذلك غير جائز قصاصاً [إن أَخَذْتُمُ الدِّيَةَ كُنْتُمْ قَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَقِيدُ فَقِيلَ لَهُ: حَتَّى تَبْرَأَ، فَأَبَى وَعَجَّلَ، فَاسْتَقَادَ فَعَرَجَتْ رِجْلُهُ، وَبَرِئَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَيْسَ لَكَ شَيْءٌ أَنْتَ أَبَيْتَ " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: جَوَازُ تَعْجِيلِ الْقَوَدِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى وَقْتِ الِانْدِمَالِ اسْتِحْبَابٌ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُ الْقَوَدِ مِنَ الجِنَايَةِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ بِقَرْنٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ بِالْجِنَايَةِ وَالِانْدِمَالَ عَافِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ، وَسِرَايَتُهَا لَا تَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِقْرَارُ الْجِنَايَةِ عَلَى أَحَدِ الْحَالَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَعْجِيلِ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِيهِ الْقَوَدُ لَمْ يَلْزَمْ تَأْخِيرُهُ كَالْمُنْدَمِلِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ خَبَرِنَا. وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي فَمَتْرُوكٌ مِنْ [وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ضَعْفُ رَاوِيِهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ] . وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ تَأْخِيرِهِ بِالسَّنَةِ لَا يَلْزَمُ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدِّيَةِ فَهُوَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي أَخْذِ دِيَةِ الطَّرَفِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الْمُكَاتِبِ ": لَوْ جَنَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُكَاتِبِ فَقَطَعَ يَدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ أَرْشَ يَدِهِ قِصَاصًا مِنْ كِتَابَتِهِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْأَرْشِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ أُخِذَ جَمِيعُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كَقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَخْذِ مَا زَادَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ وَإِنْ كَانَتْ أربعا فوق دية النفس [اعتبارا بحال الجناية كالقود. والثاني: حكاه عن أبي إسحاق المروزي أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ] لِجَوَازِ السِّرَايَةِ إِلَيْهَا فَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْهَا فَلَا يُؤْخَذُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرْجَعَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَدْ بَطَلَ أَصْلُ الْقِيَاسِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ فِي اسْتِيفَائِهِمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ عِنْدَ سَائِرِ أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الدِّيَةِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَإِنْ كَانَ الْقَوَدُ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَسْقُطُ بِمَا حَدَثَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنِ انْدِمَالٍ أَوْ سِرَايَةٍ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَوْفَى قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا، وِدِيَةُ الطَّرَفِ لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا بَعْدَ الِانْدِمَالِ، لِأَنَّهُ إِن قَطَعَ أصْبعا أَرْشُهَا عُشْرُ الدِّيَةِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي قَتْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِائَةُ نَفْسٍ، فَلَا يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الجَمَاعَةِ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا عُشْرُ عُشْرِهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَى قَاطِعِ الْأصْبع الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْقَوَدِ مِثْلُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْأصْبع خَاطِئٌ فَتَسْرِي الْجِنَايَتَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَلَى الْعَامِدِ. قِيلَ: إِنَّمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنِ الْعَامِدِ فِي النَّفْسِ إِذَا شَارَكَهُ خَاطِئٌ بِخُرُوجِ النَّفْسِ بِعَمْدِهِ وَخَطَئِهِ، فَأَمَّا الطَّرَفُ الَّذِي تَفَرَّدَ الْعَامِدُ بِأَخْذِهِ فَلَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيهِ بِمُشَارَكَةِ الْخَاطِئِ لَهُ فِي النَّفْسِ، وَصَارَ الْقَوَدُ فِي الطَّرَفِ مَحْتُوم الِاسْتِحْقَاقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ هَذَا يُفْضِي عِنْدَ السِّرَايَتَيْنِ إلى السلف في القصاص فهو أن تقول: لَا تَخْلُو السِّرَايَتَانِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ مِنْ أن تتقدم سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ أَوْ سِرَايَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ سراية الجناية على سراية القصاص [فقد استوفى بسراية القصاص ما وجب في سراية الجناية من القصاص، وإن تقدمت سراية القصاص على سراية الجناية فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنها تكون قصاصاً وإن تقدمت على سراية الجناية] فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ سَلَفًا لِحُدُوثِهَا عَنْ قِصَاصٍ قَدِ اسْتُوفِيَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَالسَّلَفُ أَنْ يَقُولَ: اقْطَعْ يَدِي لِيَكُونَ قِصَاصًا مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ لتقدمها عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ قِصَاصًا، لِتَقَدُّمِهَا عَلَى سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ وَتَمَيُّزِ الطَّرَفَيْنِ عَنِ السِّرَايَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِدِيَةِ النَّفْسِ لِفَوَاتِ الْقِصَاصِ فِيهَا بِالسِّرَايَةِ إِلَيْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِحُدُوثِهَا عَنْ مُبَاحٍ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ عُشْرَهَا وَهِيَ دِيَةُ الْأصْبع الْمُقْتَصِّ مِنْهَا، فَيَرْجِعُ فِي مَالِ الْجَانِي بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمَا مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ مَاتَ مِنْهَا قَتَلْتُهُ بِهِ لِأَنَّ الْجَانِيَ ضَامِنٌ لِمَا حَدَثَ مِنْ جِنَايَتِهِ وَالْمُسْتَقَادَ مِنْهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَهُ مَا حَدَثَ مِنَ القَوَدِ بِسَبَبِ الْحَقِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَانِي، وَسِرَايَةَ الْقِصَاصِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ، لِحُدُوثِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ عَنْ مَحْظُورٍ وَحُدُوثِ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ عَنْ مُبَاحٍ، وَإِنْ سَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ ضمان السرايتين، فعلى هذا صورة مسئلتنا أَنْ يَقْطَعَ أصْبعهُ فَيَقْتَصُّ مِنْ أصْبعهِ، ثُمَّ تَسْرِي الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ نَفْسِ الْجَانِي، وَلَوْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدْ أَخَذَ دِيَةَ أصْبعهِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سِرَايَتِهَا لَمْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ نَفْسِ الْجَانِي، لِأَنَّ أَخْذَهُ لِدِيَةِ أصْبعهِ عَفْوٌ عَنِ الْقِصَاصِ فِيهَا، وَسِرَايَةُ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي دِيَةِ الْأُصْبُع عُشْرَهَا، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدية. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ مِنْهَا عَيْنَاهُ وَشَعْرُهُ فَلَمْ يَنْبُتْ ثم برئ أقص مِنَ المُوضِحَةِ فَإِنْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ عَيْنَاهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ زِدْنَا عَلَيْهِ الدِّيَةَ وَفِي الشعر حكومة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ فِي السِّرَايَةِ كَوُجُوبِهِ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ تَارَةً بِالتَّوْجِئَةِ وَتَارَةً بِالسِّرَايَةِ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْحَالَيْنِ وَلَيْسَتِ النَّفْسُ عَيْنًا تَرَى فَتَنْفَرِدُ بِالْأَخْذِ، فَلَوْ سَرَى قِصَاصُ الْجِنَايَةِ إِلَى النَّفْسِ كَانَ وَفَاءً لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ إِلَى عُضْوٍ فِي الْجَسَدِ كَسِرَايَةِ قَطْعِ الْأصْبع إِلَى الْكَفِّ وَسِرَايَةِ قَطْعِ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، فَالْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ دُونَ السِّرَايَةِ، وَيُؤْخَذُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 أَرْشُ السِّرَايَةِ مَعَ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ سَرَى قِصَاصُ الْجِنَايَةِ مِثْلَ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ أَرْشُ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُوثِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَصَارَ مَضْمُونًا، وَحُدُوثُ سِرَايَةِ الْقِصَاصِ عَنْ غَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَمْ يَصِرْ مَضْمُونًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ إِلَى ذَهَابِ ضَوْءِ الْعَيْنِ كَالْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ إِذَا ذَهَبَ بِهَا ضَوْءُ الْعَيْنِ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي السِّرَايَةِ إِلَيْهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ لَيْسَ بشخص يرى فيؤخذ بقلع العين تارة وَبِالسِّرَايَةِ أُخْرَى فَأَشْبَهَ النَّفْسَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي السِّرَايَةِ إِلَيْهِ كَمَا يَجِبُ فِي السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، فَيَصِيرُ هَذَا مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ فِي الْمُوضِحَةِ وَلَا فِي السِّرَايَةِ كَمَا لَا يَجِبُ فِي الْأصْبع وَلَا فِي السِّرَايَةِ إِلَى الْكَفِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَفِي السِّرَايَةِ إِلَى ضَوْءِ الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي الْأصْبع وَالسِّرَايَةِ إِلَى الْكَفِّ، وَخَرَجَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ قَوْلًا ثَانِيًا لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ إنَّ السِّرَايَةَ إِلَى ضَوْءِ الْعَيْنِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كَمَا لَا تُوجِبُهُ السِّرَايَةُ إِلَى أَعْضَاءِ الْجَسَدِ، لِأَنَّهُمَا سِرَايَتَانِ إِلَى مَا لَا دُونَ النَّفْسِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الثَّانِي، فَأَمَّا السِّرَايَةُ إِلَى ذَهَابِ الشَّعْرِ فَلَا توجب القصاص، لأن الشعر عين تَرَى يُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدَ بِالْأَخْذِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَ مِنْهَا ضَوْءُ عَيْنَيْهِ وَشَعْرُ رَأْسِهِ، فَعَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّرَايَةِ إِلَى ضَوْءِ الْعَيْنِ، يُقْتَصُّ مِنْ مُوضِحَةِ الْجَانِي، فَإِنْ ذَهَبَ مِنْهَا ضَوْءُ عَيْنَيْهِ وَشَعْرُ رَأْسِهِ فَقَدِ اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا ضَوْءُ عَيْنَيْهِ وَلَا شَعْرُ رَأْسِهِ أُخِذَ مِنْهَا حُكُومَةٌ فِي الشَّعْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَوْضِعِ الْمُوضِحَةِ، لِأَنَّ الشَّعْرَ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْمُوضِحَةِ قَدْ دَخَلَ فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا أَوْ فِي أَرْشِ دِيَتِهَا، وَلَا يُعَالَجُ شعره حَتَّى يَذْهَبَ وَلَا يَعُودَ نَبَاتُهُ، لِأَنَّهُ قِصَاصٌ فِي السِّرَايَةِ إِلَى الشَّعْرِ، وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الجَانِي حُكُومَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ شَعْرٌ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ تَبَعًا لِخِفَّةِ حُكْمِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَعْضَاءِ، فَأَمَّا ضَوْءُ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِسِرَايَةِ الْقِصَاصِ فَإِنْ أَمْكَنَ يُعَالِجُ الْعَيْنَ بِمَا يُذْهِبُ ضَوْءَهَا مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى الْحَدَقَةِ مِثْلَ الْكَافُورِ أَوْ مِيلٍ يُحْمَى بِالنَّارِ وَيُقَرَّبُ إِلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذُوبَ بِهِ شَحْمُهَا اقْتُصَّ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِقَلْعِ الْحَدَقَةِ لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدَقَةَ عُضْوٌ لَمْ يُجْنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يقتص منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُوضَعَ حَدِيدَةُ الْقِصَاصِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا مِنَ الجِنَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يسر القصاص إلى نفس الجاني. قيل ووضع حَدِيد الْقِصَاصِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنَ الجِنَايَةِ؟ قيل: لأن القصاص في النفس يستهلك به [جميع الجسد وفيما دون النَّفْسِ لَا يُسْتَهْلَكُ بِهِ] إِلَّا عُضْوُ الْجِنَايَةِ وَحْدَهُ فَافْتَرَقَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِي ضَوْءِ الْعَيْنِ أُخِذَ مِنْهُ دِيَتُهَا مَعَ حُكُومَةِ الشَّعْرِ بَعْدَ الْقِصَاصِ مِنَ المُوضِحَةِ، وَلَوْ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهَا يُضَمُّ إِلَى ذَلِكَ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ. فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي خَرَّجَهُ الْمَرْوَزِيُّ، إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي ذَهَابِ ضَوْءِ الْعَيْنِ بِالسِّرَايَةِ فَيُقْتَصُّ مِنَ المُوضِحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الجَانِي دِيَةٌ فِي ذَهَابِ ضَوْءِ الْعَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي ذَهَابِ الشَّعْرِ، سَوَاءٌ سَرَى قِصَاصُ الْمُوضِحَةِ إِلَى ذَهَابِ ضَوْءِ عَيْنِ الْجَانِي وَذَهَابِ شَعْرِهِ أَمْ لَا، كَمَا قُلْنَا فِي السِّرَايَةِ إِلَى الْكَفِّ بِقَطْعِ الْأصْبع لَمَّا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقِصَاصُ لَمْ تَكُنْ سِرَايَةُ الْقِصَاصِ إِلَى الْكَفِّ مُسْقِطًا لِمَا وَجَبَ مِنْ أَرْشِ الْكَفِّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السِّرَايَةِ فِي النَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ لَطَمَهُ فَأَذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَتِ اللَّطْمَةُ يَذْهَبُ بِمِثْلِهَا ضَوْءُ الْعَيْنِ فِي الْغَالِبِ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا بِلَطْمَةٍ يُقْصَدُ بِهَا ذَهَابُ ضَوْءِ العين، [ولا يقصد بها القصاص في اللطمة] فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا ضَوْءُ الْعَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا ضَوْءُ العين وأمكن أن يؤخذ ضؤها مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ بِغَيْرِ حَدِيدٍ فُعِلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُخِذَتْ مِنْهُ دِيَةُ الْعَيْنِ، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ فِي اللَّطْمَةِ لِاسْتِيفَاءِ مَا حَدَثَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ اللَّطْمَةُ لَا يَذْهَبُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْهَا ضَوْءُ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا؛ - لِأَنَّهَا عَمْدُ الْخَطَأِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ الْعَيْنِ وَلَا يُعَزَّرُ فِي اللَّطْمَةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ حَقُّهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا أَبْلُغَ بِشَعْرِ رأسه ولا بشعر لحيته دية (قال المزني) رحمه الله هذا أشبه بقوله عندي قياساً على قوله إذا قطع يده فمات عنها أنه يقطع فإن مات منها فقد استوفى حقه فكذلك إذا شجه مقتصا فذهبت منها عيناه وشعره فقد أخذ حقه غير أني أقول إن لم ينبت شعره فعليه حكومة الشعر ما خلا موضع الموضحة فإنه داخل في الموضحة فلا نغرمه مرتين ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الشَّعْرَ إِذَا عَادَ نَبَاتُهُ فَلَا دِيَةَ فِيهِ، فَأَمَّا الْحُكُومَةُ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الشَّعْرِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا شَيْنَ فِي أَخْذِهِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ وَالشَّارِبِ فَلَا يَجِبُ فِي أَخْذِهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشِينُ أَخْذُهُ كَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ نَبَاتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعُودَ مِثْلَ مَا كَانَ، فَلَا حُكُومَةَ فِيهِ وَيُعَزَّرُ جَانِبُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعُوَدَ أَخَفَّ مِمَّا كَانَ وَأَقَلَّ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ مَا نَقَصَ مِنْهُ، سَوَاءٌ عَادَ أَقْبَحَ مِمَّا كَانَ أَوْ أَجْمَلَ، لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ مِنْ جَسَدِهِ مَا لَمْ يَعُدْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعُودَ أَكْثَفَ مِمَّا كَانَ وَأَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ قُبْحٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ، وَإِنْ كَانَ فِي الزِّيَادَةِ قَبَاحَةٌ وَشَيْنٌ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ مَا نَقَصَ بِالْقَبَاحَةِ وَالشَّيْنِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ نَبَاتَ الشَّعْرِ بَعْدَ ذَهَابِهِ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ فِيهِ مِنْ حُكُومَةِ أَخْذِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَثَّلَ بِالشَّعْرِ فَلَيْسَ لَهُ خَلَاقٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُثْلَةَ الشَّعْرِ تَغْيِيرُهُ بِالسَّوَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَتْفُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَلْقُهُ فِي الْخُدُودِ وَغَيْرِهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِنْ قَلَعَ شَعْرَهُ قَلْعًا لَمْ يَعُدْ نَبَاتُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِ الْقِصَاصُ حَتَّى يَذْهَبَ فَلَا يَعُودُ نَبَاتُهُ اقْتُصَّ مِنْهُ مَعَ التَّمَاثُلِ وَالْمُكْنَةِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَعُودَ نَبَاتُهُ فَعَلَيْهِ فِي جَمِيعِهِ حُكُومَةٌ، وَلَا تَبْلُغُ حُكُومَتُهُ دِيَةً، وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّيَةَ فِي الشَّعْرِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ، فَجُعِلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الدِّيَةُ إِلَّا فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رجلاً أفرغ قدر يَغْلِي عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَتَمَعَّطَ مِنْهَا شَعْرُهُ فَأَتَى عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: اصْبِرْ سَنَةً فَصَبَرَ فَلَمْ يَنْبُتْ فَقَضَى عَلي لَهُ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فكان إجماعاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 قَالَ: وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَبِإِتْلَافِ مَا فِيهِ جَمَالٌ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَفِي هَذَا الشَّعْرِ جَمَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ. قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ ما فرق بين رجل وَالْمَرْأَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا تَوْقِيفًا كَدِيَاتِ الشِّجَاجِ وَالْأَطْرَافِ، وَلَيْسَ فِي الشَّعْرِ تَوَقُّفٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُؤْلِمُ وَلَيْسَ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ أَلَمٌ، وَمَا اخْتَصَّ بِالْجَمَالِ دُونَ الْأَلَمِ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الدِّيَةُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ لَا يَجِبُ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ مُقَدَّرٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي الْحُرِّ مِنْهُ مُقَدَّرٌ كَشَعْرِ الْجَسَدِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَجِبُ فِي شَعْرِ جَسَدِهِ مُقَدَّرٌ لَمْ يَجِبْ فِي شَعْرِ وَجْهِهِ مُقَدَّرٌ كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهِ عِنْدَ تَجَاوُزِهِ حَدَّهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ فِي إِزَالَةِ أَصْلِهِ كَالْأَظْفَارِ، ثُمَّ فِي الْأَظْفَارِ مَعَ الْجَمَالِ نَفْعٌ لَيْسَ فِي الشَّعْرِ، لِأَنَّ الْأَنَامِلَ لَا يُتَصَرَّفُ إِلَّا بِهَا فَنَقَصَ حُكْمُ الشَّعْرِ عَنْهَا. فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَضَاءِ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقضى فيه بعشر من الإبل، فَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه فقضى فيه بعشر من الإبل، وخالفها فِيهِ زَيْدٌ فَقَضَى فِيهِ بِثُلْثِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْخِلَافِ إِجْمَاعٌ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الذَّكَرِ لِاخْتِصَاصِ الرِّجَالِ بِهِ فَيَفْسُدُ بِشَعْرِ الشَّارِبِ يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ وَلَا يَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الذَّكَرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً وَإِنَّمَا يُخَافُ مِنْهُ لِلسِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، فَخَالَفَ الشَّعْرَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ القِيَاسِ عَلَى الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ فَلَا تَسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّعْرِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ فِي الشَّعْرِ، لِأَنَّ الْأَنْفَ يَحْفَظُ النَّفْسَ وَالشَّمَّ، وَالْأُذُنَ يَحْفَظُ السَّمْعَ وَيَدْفَعُ الْأَذَى. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي قَطْعِهِمَا أَلَمًا رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى النَّفْسِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ الَّذِي لَا يُؤْلِمُ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ جُرْحِ يَدِهِ أَكَلَةٌ فَقُطِعَتِ الْكَفُّ لِئَلَّا تَمْشِيَ الْأَكَلَةُ فِي جَسَدِهِ لَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي مِنْ قَطْعِ الْكَفِّ شَيْئًا فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي وَيَسْقُطُ نِصْفُهَا لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَطَعَ أصْبع رَجُلٍ فَتَآكَلَتْ، وَخَافَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سِرَايَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ كَفَّهُ لِيَقْطَعَ سِرَايَتَهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْدَمِلَ بقَطْع كَفِّهِ فَيَجِبُ عَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الإصبع التي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 قَطَعَهَا، وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ فِيمَا سَرَتْ إِلَيْهِ الْجِنَايَةُ مِنْ كَفِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَأَنَّهَا سَرَتْ إِلَى أصْبع ثَانِيَةٍ، فَيَلْزَمُهُ دِيَتُهَا لِذَهَابِهَا بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيَكُونُ بَاقِي الْكَفِّ الَّتِي قَطَعَهَا صَاحِبُهَا هَدَرًا لَا يَضْمَنُهَا الْجَانِي. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا قَطَعَهَا مِنَ الخَوْفِ الْحَادِثِ عَنْ جِنَايَتِهِ فَهَلَّا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ كَالسِّرَايَةِ. قِيلَ: تَلَفُ السِّرَايَةِ حَادِثٌ عَنْ فِعْلِهِ فَضَمِنَهُ، وَتَلَفُ الْخَوْفِ حَادِثٌ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّ يَسْرِيَ قَطْعُ الْكَفِّ إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتَ، فَيَكُونُ الْمَوْتُ حَادِثًا مِنْ سِرَايَتَيْنِ: قَطْعِ الْجِنَايَةِ، وَقَطْعِ الِاسْتِصْلَاحِ، فَيَصِيرُ الْجَانِي أَحَدَ الْقَاتِلَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ الثَّانِي قَاتِلًا دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ قَطَعَ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ فَأَزَالَ سِرَايَتَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ كَانَ بِسِرَايَةِ الْأَلَمَيْنِ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْأَوَّلُ أَحَدَ الْقَاتِلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي قَطْعِ الْجَانِي نِصْفُ الدِّيَةِ، فَأَمَّا الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ فَقَدْ صَارَ مُشَارِكًا فِي النَّفْسِ لِمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ شَرِيكِ السَّبُعِ وَمِنْ جَارِحِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ قَبْلُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ شَرِيكَ السَّبُعِ وَشَرِيكَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّفْسَ فِي شَرِكَةِ السَّبُعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ خَرَجَتْ عَنْ قَصْدِ التَّلَفِ فَصَارَ جَمِيعُهَا عَمْدًا مَحْضًا فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْقَوَدُ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَرَجَتْ عَنْ قَصْدِ الِاسْتِصْلَاحِ دُونَ التَّلَفِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ عَمْدَ الْخَطَأِ وَلَا قَوَدَ عَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ الْجَانِي قِطْعَةَ لَحْمٍ مِنْ بَدَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَخَافَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سِرَايَتَهَا فَقَطَعَ مَا يَلِيهَا فَمَاتَ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ قَطَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَحْمًا مَيِّتًا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْقِطْعَةِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْمَيِّتِ لَا سِرَايَةَ لَهُ، وَالْجَانِي هُوَ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ، وَالْقَوَدُ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ وَاجِبٌ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَجَمِيعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَطَعَ لَحْمًا حَيًّا فَالْمَوْتُ مِنْ سِرَايَتِهَا وَالْجَانِي أَحَدُ الْقَاتِلَيْنِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ بَاقِيًا حَدَثَتِ السِّرَايَةُ عَنْهُمَا، وَإِنْ أَزَالَهُ الثَّانِي كَانَتِ السِّرَايَةُ عَنِ الثَّانِي، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَزَوَالِهِ فِي حُدُوثِ السِّرَايَةِ عَنْهُمَا، وَيَكُونُ الْقَوَدُ هَاهُنَا عَلَى الْجَانِي مَحْمُولًا عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ الْمَجْرُوحَ خَاطَ جُرْحَهُ فَمَاتَ فَإِنْ خَاطَهُ فِي لَحْمٍ مَيِّتٍ فَالْجَارِحُ هُوَ الْقَاتِلُ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوْ جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَإِنْ خَاطَهُ فِي لَحْمٍ حَيٍّ كَانَ الْجَارِحُ أَحَدَ الْقَاتِلَيْنِ وَكَانَ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اختلاف أصحابنا في القولين. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان في يد المقطوع أُصْبُعانِ شَلَّاوَانِ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ الْجَانِي وَلَوْ رَضِيَ فَإِنْ سَأَلَ الْمَقْطُوعُ أَنْ يُقْطَعَ لَهُ أصْبع الْقَاطِعِ الثَّالِثِ وَيُؤْخَذَ لَهُ أَرْشُ الِإصْبَعَيْنِ وَالْحُكُومَةِ فِي الْكَفِّ كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَلَا أَبْلُغُ بِحُكُومَةِ كَفِّهِ دِيَةَ أصْبع لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ وَكُلُّهَا مُسْتَوِيَةٌ وَلَا يَكُونُ أَرْشُهَا كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّلِيمَةَ لَا تُقَادُ بِالشَّلَّاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُقَادَ الشَّلَّاءُ بِالسَّلِيمَةِ، فَإِذَا قَطَعَ كَفًّا فِيهَا أصْبعانِ شَلَّاوَانِ فَلَا تَخْلُو كَفُّ الْقَاطِعِ مِنْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً أَوْ فيهَا شَلَلٌ فَإِنْ كَانَتْ سَلِيمَةً فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي كَفِّهِ وَإِنْ بَذَلَهَا، لِأَنَّ سَلَامَةَ مَا قَابَلَ الْأَشَلَّ يُوجِبُ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنْهُ، وَمَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْأَبِ بِالِابْنِ وَعَنِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ يَمْنَعُ مِنَ القَوَدِ مَعَ رِضَا الْأَبِ وَالْحُرِّ كَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ مَعَ رِضَا السَّلِيمِ بِالْأَشَلِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ في السليم عن الجاني قد أجب الْمَالَ أَرْشًا فِي الْأَشَلِّ مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَوْ بَذَلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ لَمْ يَجُزْ، كَذَلِكَ هُنَا وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ مِنَ السَّلِيمِ الْمُقَابِلِ لِلْأَشَلِّ لَمْ يَسْقُطْ مِنَ السَّلِيمِ الْمُقَابِلِ لِلسَّلِيمِ فَيُقَالُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، فَإِنْ طَلَبَ الدِّيَةَ وَعَفَا عَنِ الْقِصَاصِ أُعْطِيَ دِيَةَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يَدْخُلُ فِيهَا حُكُومَةُ مَا تَحْتَهَا مِنَ الكَفِّ، وَأُعْطِيَ حُكُومَة أُصْبُعيْنِ شَلَّاوَيْنِ لا يبلغ بهادية أُصْبُعيْنِ سَلِيمَتَيْنِ، وَيُدْخِلُ فِي حُكُومَتِهِمَا حُكُومَةُ مَا تَحْتَهُمَا مِنَ الكَفِّ، وَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ اقْتَصَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كَفِّ الْجَانِي الْمُمَاثِلَةِ لِلسَّلِيمَةِ مِنْ كَفِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ حُكُومَةً فِي الْأصْبعيْنِ الشَّلَّاوَيْنِ يُدْخِلُ فِيهِمَا حُكُومَةَ مَا تَحْتَهُمَا مِنَ الكَفِّ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ حُكُومَةُ مَا تَحْتَهُمَا مِنَ الكَفِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ: أَحَدُهُمَا: تَدْخُلُ حُكُومَتُهَا فِي الْقِصَاصِ كَمَا تَدْخُلُ حُكُومَتُهَا فِي الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لَا تَدْخُلُ حُكُومَتُهَا فِي الْقِصَاصِ، لِبَقَائِهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِحُكُومَةِ الْكَفِّ دِيَةَ أُصْبُع، لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِالتَّابِعِ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْكَفِّ فَالْمُسْتَحَقُّ هَاهُنَا حُكُومَةُ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الْكَفِّ، لِأَنَّ حُكُومَةَ خُمُسِهَا قَدْ دَخَلَ فِي حُكُومَةِ الْأصْبعيْنِ الشَّلَّاوَيْنِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ فِي اعْتِبَارِ حُكُومَتِهِمَا فَلَا تَبْلُغُ بِحُكُومَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ دِيَةِ أصْبع وَثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ دِيَتِهَا سِتٌّ مِنَ الإِبِلِ فَيَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ فِي كَفِّ الْجَانِي شَلَلٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَسَاوَى الشَّلَلَانِ مِنْ كَفِّ الْجَانِي وَكَفِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الشَّلَلُ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصَرِ وَالْبَاقِي مِنْهَا سَلِيمٌ فَيُقْتَصُّ مِنْ كَفِّ الْجَانِي لِتَكَافُئِهِمَا فِي الْأَشَلِّ وَالسَّلِيمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ الشَّلَلَانِ فَيَكُونُ الْأَشَلُّ مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصَرَ وَمِنَ الْجَانِي الْإِبْهَامَ وَالسَّبَّابَةَ، فَإِنْ رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَشَلَّ بِالسَّلِيمِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْوُسْطَى سَلِيمَةٌ بِسَلِيمَةٍ وَالسَّبَّابَةُ وَالْإِبْهَامُ شَلَّاوَانِ بِسَلِيمَتَيْنِ، وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي أصْبعيْهِ الشَّلَّاوَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَخْذَ الْأَشَلِّ بِالسَّلِيمِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْ أصْبع وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْوُسْطَى، لِسَلَامَتِهَا مِنْهُمَا مَعًا، وَأُعْطِيَ دِيَتَيْ أصْبعيْنِ عِشْرِينَ بَعِيرًا فِي السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ، لِسَلَامَتِهِمَا مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَشَلَلِهِمَا مِنَ الجَانِي، وَأُعْطِيَ حُكُومَةَ أصْبعيْنِ شَلَّاوَيْنِ لِنَقْصِهِمَا مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَسَلَامَتِهِمَا مِنَ الجَانِي، وَيُدْخِلُ فِي دِيَةِ السَّلِيمَتَيْنِ مَا تَحْتَهُمَا مِنَ الكَفِّ، وَفِي حُكُومَةِ الشَّلَّاوَيْنِ مَا تَحْتَهُمَا مِنَ الكَفِّ فِي سُقُوطِ حُكُومَةِ مَا تَحْتَ الْمُقْتَصِّ مِنْهَا وَجْهَانِ على ما مضى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مَقْطُوعَ الْأُصْبُعَيْنِ قُطِعَتْ لَهُ كَفُّهُ وَأُخِذَتْ لِلْمَقْطُوعَة يَدُهُ أَرْشُ أصْبعيْنِ تَامَّتَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَطَعَ كَفًّا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَكَفُّ الْقَاطِعِ نَاقِصَةٌ أصْبعيْنِ كَانَ لِلْمَقْطُوعِ الْخِيَارُ فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ أُعْطِيَ دِيَةَ يَدٍ كَامِلَةٍ لِكَمَالِهَا مِنَ المَقْطُوعِ، وَإِنْ نَقَصَتْ مِنَ القَاطِعِ وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ دِيَتَهَا لَا تَقِفُ عَلَى مُرَاضَاةِ الْقَاطِعِ وَهُوَ أَصْلٌ مَعَهُ فِيمَا خَالَفَنَا عَلَيْهِ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْقَوَدَ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ أُقِيدَ مِنْهَا وَهِيَ أَنْقَصُ مِنْ حَقِّهِ، فَيُقَادُ مِنَ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ، وَيُعْطَى بَعْدَ الْقِصَاصِ دِيَةَ أصْبعيْنِ لِوُجُودِهِمَا فِي كَفِّ الْمَقْطُوعِ وَنُقْصَانِهِمَا مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شَيْءَ لَهُ بَعْدَ الْقِصَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَاعْتُبِرَ فَقْدُ الْأصْبعيْنِ بِشَلَلِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ نَقْصُ شَلَلِهِمَا كَذَلِكَ لا يلزم بعده دية فقدهما، وهذا فساد بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ شَلَلِهِمَا وَفَقْدِهِمَا بِكَمَالِ الْعَدَدِ مَعَ الشَّلَلِ وَنُقْصَانِهِ مَعَ الْفَقْدِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ لِلْقَاطِعِ سِتُّ أَصَابِعَ لَمْ تُقْطَعْ لِزِيَادَةِ الْأصْبع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الجَانِي مِثْلُ مَا أَخَذَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَإِذَا كَانَ لِلْقَاطِعِ سِتُّ أَصَابِعَ وَلِلْمَقْطُوعِ خُمْسٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ سِتٌّ بِخَمْسٍ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا جَازَ إِذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي قَطْعِ يَدٍ أَنْ يُقْطَعُوا يَدَيْنِ يد فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذُوا سِتَّ أَصَابِعَ بِخَمْسٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَاثِلَةٌ لِيَدِ الْمَقْطُوعِ فَقَطَعْنَاهَا وَلَيْسَتْ يَدُهُ مُمَاثِلَةً لِلْيَدِ الزَّائِدَةِ فَلَمْ يَقْطَعْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي السَّادِسَةِ الزَّائِدَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ الْكَفِّ فِي طَرَفِ الذِّرَاعِ وَأَصْلِ الزَّنْدِ اقْتُصَّ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ، لِبَقَاءِ الزَّائِدَةِ بَعْدَ أَخْذِ الْكَفِّ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّائِدَةُ فِي الْكَفِّ مَعَ أَصَابِعِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي الْكَفِّ، فَيُقْتَصُّ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ الْخَمْسِ وَتُسْتَبْقَى الزَّائِدَةُ عَلَى كَفِّهِ، وَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةُ كَفِّهِ الْمُسْتَبْقَاةِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: يُؤْخَذُ حُكُومَةُ كَفِّهِ لِبَقَائِهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ فِيهَا، وَلَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ أصْبع، لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةُ كَفِّهِ فَتَكُونُ تَبَعًا لِلِاقْتِصَاصِ مِنْ أَصَابِعِهِ كَمَا تَكُونُ تَبَعًا لَهَا لَوْ أُخِذَتْ دِيَتُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُصْبُع الزَّائِدَةُ مُلْتَصِقَةً بِإِحْدَى أَصَابِعِهِ الْخَمْسِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُع الزَّائِدَةِ مَعَ الْمُلْتَصِقَةِ بِهَا، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الزَّائِدَةِ، وَيُقْتَصُّ مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ أُصْبُع وَهِيَ الْمُسْتَبْقَاةُ لَهُ مَعَ الزَّائِدَةِ وَتَدْخُلُ حُكُومَةُ مَا تَحْتَهَا مِنَ الكَفِّ فِي دِيَتِهَا، وَفِي دُخُولِ حُكُومَةِ بَاقِي كَفِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ أَصَابِعِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأُصْبُع الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً عَلَى إِحْدَى أَنَامِلِ أُصْبُع فَيُقْتَصُّ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ الْأَرْبَعِ، فَأَمَّا الْأُصْبُع الَّتِي تَثْبُتُ الزَّائِدَةُ فِي أَنَامِلِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً مِنْهَا فِي الْأَنْمُلَةِ الْعُلْيَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ الْأُصْبُع، وَلَوْ بَذَلَهَا قِصَاصًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً عَلَى الْأَنْمُلَةِ الْوُسْطَى، فَيُقْتَصُّ مِنْ أنملته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 الْعُلْيَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ ثُلْثَيْ أُصْبُع سِتَّةِ أَبْعِرَةٍ وَثُلْثَيْنِ لِبَقَاءِ الْأَنْمُلَةِ الْوُسْطَى وَالْأَنْمُلَةِ السُّفْلَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً فِي الْأَنْمُلَةِ السُّفْلَى، فَيُقْتَصُّ مِنْ أَنْمُلَتِهِ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثُلْثُ دِيَةِ أُصْبُع، لِبَقَاءِ الْأَنْمُلَةِ السفلى، وهو ثلاثة أبعرة وثلث. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ هُوَ الْقَاطِعَ كَانَ لِلْمَقْطُوعِ قَطْعُ يَدِهِ وَحُكُومَةُ الْأُصْبُع الزَّائِدَةِ وَلَا أَبْلغ بِهَا أَرْشَ أُصْبُع ". قَالَ الماوردي: إذا كان الإصبع الزائدة فِي كَفِّ الْمَقْطُوعِ دُونَ الْقَاطِعِ اقْتَصَصْنَا مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ وَأَخَذْنَا مِنْهُ حُكُومَةَ الْأُصْبُع الزَّائِدَةِ، [ولا تبلغ بها دية أصبع من أصل الخلقة، فلو قطع الْأُصْبُع الزَّائِدَةِ] وحدها فَلَا قِصَاصَ فِيهَا لِعَدَمِ مِثْلِهَا فِي أَصَابِعِ الْقَاطِعِ، وَتُؤْخَذُ حُكُومَتُهَا، فَإِنْ بَقِيَ لَهَا بَعْدَ انْدِمَالِهَا شَيْنٌ وَكَانَتْ كَفُّهُ بَعْدَ أَخْذِهَا أَجْمَلَ مِنْهَا مَعَ بَقَائِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَيُعَزَّرُ الْجَانِي عَنْهُمَا، لِأَنَّ الْحُكُومَةَ أَرْشٌ لِلنَّقْصِ وَلَمْ يَحْدُثْ مِنْ جِنَايَتِهِ نَقْصٌ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ لِلْأَلَمِ، وَيَكُونُ مَثَابَة مَنْ قَطَعَ سِلْعَةً يَضْمَنُ إِنْ أَفْضَتْ إِلَى التلف، ولا يضمن إن برأت. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالسَّاجِيِّ: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَاقَ دَمًا بِجِنَايَةٍ، وَاخْتَلَفَا فِي اعْتِبَارِ حُكُومَتِهَا، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: اعْتُبِرَ حُكُومَتُهَا وَالدَّمُ جَارٍ. وَقَالَ السَّاجِيُّ: اعْتُبِرَ حُكُومَتُهَا فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ انْدِمَالِهَا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِانْدِمَالِ الْمُعْتَبَرِ فِي غَيْرِهَا. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَتِ الْأُصْبُع الزَّائِدَةُ فِي كَفِّ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ مَعًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَاثَلَ مَحَلُّ الزَّائِدَةِ مِنْ كَفَّيْهِمَا فَتَكُونُ مَعَ الْخِنْصَرَيْنِ أَوْ مَعَ الْإِبْهَامَيْنِ فَيُقْتَصُّ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ بِكَفِّ الْمَقْطُوعِ وَيُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ مَحَلُّ الزَّائِدَةِ مِنْ كَفَّيْهِمَا فَتَكُونُ الزَّائِدَةُ مِنَ القَاطِعِ مع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 خِنْصَرِهِ وَالزَّائِدَةُ مِنَ المَقْطُوعِ مَعَ إِبْهَامِهِ، فَلَا قِصَاصَ فِي الزَّائِدَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهِمَا، وَيُقْتَصُّ مِنْ أَصَابِعِهِ الْخَمْسِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةُ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ أَصَابِعَ من أصل الخلقة وإصبع زائدة، في محل الخامسة الناقصة [والعلم بزيادتها وإن كانت في مَحَلِّ الْخَامِسَةِ النَّاقِصَةِ] ، يَكُونُ إِمَّا بِضَعْفِهَا وَقِلَّةِ حَرَكَتِهَا، وَإِمَّا بِدِقِّهَا وَصِغَرِهَا، وَإِمَّا بِغِلَظِهَا وَطُولِهَا، وَإِمَّا بِسَلْبِهَا عَنِ اسْتِوَاءِ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ قَطَعَ هَذَا الْكَفَّ رَجُلٌ سَلِيمُ الْكَفِّ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْ كَفِّهِ، لِأَنَّ فِيهَا أُصْبُعا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ قَدْ قَابَلَتْهَا أُصْبُع زَائِدَةُ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ كَمَا لَا يَأْخُذُ السَّلِيمَةَ بِالشَّلَّاءِ، فَإِنْ أَرَادَ الدِّيَةَ أُعْطِيَ دِيَةَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ أَرْبَعِينَ مِنَ الإِبِلِ وَأُعْطِيَ حُكُومَةً فِي الزَّائِدَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حُكُومَةُ الْكَفِّ، فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ اقْتَصَّ مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي الْأُصْبُع الزَّائِدَةِ، وَلَوْ قَطَعَ كَفًّا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَلَهُ كَفٌّ قَدْ نَقَصَتْ أُصْبُعا وَزَادَ فِي مَحَلِّهَا أُصْبُع، فَإِنْ رَضِيَ الْمَقْطُوعُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَةَ بِالْكَامِلَةِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي نَقْصِ الزَّائِدَةِ كَمَا لَوِ اقْتُصَّ مِنْ شَلَّاءَ بِسَلِيمَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ يأخذها بَدَلًا مِنْ أُصْبُعهِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ، وَأُخِذَ مِنْهُ دِيَةُ أُصْبُع عَشْرًا مِنَ الإِبِلِ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّائِدَةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّاقِصَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا بِالْكَامِلَةِ وَإِنْ تَرَاضَيَا لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ كَانَتْ كَفُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ القَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ نَاقِصَةً أُصْبُعا وَزَائِدَةً أُصْبُعا فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي النَّاقِصَةِ وَالزَّائِدَةِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الزَّائِدَةِ وَاخْتَلَفَا فِي النَّاقِصَةِ اقْتُصَّ مِنَ الزَّائِدَةِ بِالزَّائِدَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ القَاطِعِ دِيَةُ أُصْبُع وَاحِدَةٍ وَهِيَ النَّاقِصَةُ مِنْ كَفِّ الْقَاطِعِ وَيُقْتَصُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعِ الْمُتَمَاثِلَةِ فِيهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الزَّائِدَةِ وَاسْتَوَيَا فِي النَّاقِصَةِ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا فِي الزَّائِدَةِ، وَيُقْتَصُّ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ الْأَرْبَعِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةُ الزَّائِدَةِ مِنَ المَقْطُوعِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَطَعَ لَهُ أَنْمُلَةٌ لَهَا طَرَفَانِ فَلَهُ الْقَوَدُ مِنْ أُصْبُعهِ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ وَإِنْ كَانَ لِلْقَاطِعِ مِثْلُهَا أُقِيدَ بِهَا وَلَا حُكُومَةَ فَإِنْ كَانَ لِلْقَاطِعِ طَرَفَانِ وَلِلْمَقْطُوعِ وَاحِدٌ فَلَا قَوَدَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الطرفان في أنملة المقطوع اقتص من القاطع وأخذ منه حكومة الطرف الزائد، وإن كَانَ الطَّرَفَانِ فِي أَنْمُلَةِ الْقَاطِعِ فَلَا قِصَاصَ عليه، وتؤخذ منه دية أنملة، [وإن كانا الطرفان في أنملة القاطع والمقطوع اعتبر تماثل الطرفي، فإن كان متماثلين جرى القصاص بينهما في الطرفين] وإن كانا غير متماثلين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 فلا، لِأَنَّ الطَّرَفَ الزَّائِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا مُتَيَامِنٌ وَمِنَ الْآخَرِ مُتَيَاسِرٌ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنَ القَاطِعِ دِيَةُ أَنْمُلَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ فِي الطَّرَفِ الزائد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَطَعَ أَنْمُلَ طَرَفٍ وَمِنْ آخَرَ الْوُسْطَى من أصبع واحد فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُ قَبْلُ اقْتُصَّ لَهُ ثُمَّ الْوُسْطَى وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْوُسْطَى قِيلَ لَا قِصَاصَ لَكَ إِلَّا بَعْدَ الطَّرَفِ وَلَكَ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ابْتَدَأَ فَقَطَعَ أَنْمُلَةً عُلْيَا من سباية رجل ثم قطع أنملة وسطى من سبابة آخر ليس لها عليا كان القصاص لصاحب العليا مستحقا في الحال، وقصاص صاحب الْوُسْطَى مُعْتبر بِصَاحِبِ الْعُلْيَا، فَإِنِ اقْتَصَّ صَاحِبُ الْعُلْيَا اقْتُصَّ بَعْدَهُ لِصَاحِبِ الْوُسْطَى، وَإِنْ طَالَبَ صَاحِبُ الْوُسْطَى بِالْقِصَاصِ قَبْلَ اقْتِصَاصِ صَاحِبِ الْعُلْيَا لَمْ يَخْلُ صَاحِبُ الْعُلْيَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يَعْفُ، فَإِنْ عَفَا سَقَطَ قِصَاصُ صَاحِبِ الْوُسْطَى، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَنَمُلَتَيْنِ عُلْيَا وَوُسْطَى بِأَنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ وُسْطَى وَإِنْ لَمْ يَعْفُ صَاحِبُ الْعُلْيَا قِيلَ لِصَاحِبِ الْوُسْطَى: لَا قِصَاصَ لَكَ فِي الْحَالِ مَعَ بَقَاءِ الْعُلْيَا وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَنْتَظِرَ بِهَا قِصَاصَ صَاحِبِ الْعُلْيَا. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلْقِصَاصِ فِي الْحَالِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ فِي ثَانِي حَالٍ، وَهَلَّا كَانَ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ كَالْحُرِّ إِذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ لَمَّا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ فِي الْحَالِ لَمْ يُنْتَظَرْ بِهَا عِتْقُ الْعَبْدِ مِنْ بَعْدُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْهُ قِيلَ: الْقِصَاصُ فِي الْوُسْطَى قَدْ وَجَبَ بَعْدَ قَطْعِ الْعُلْيَا وَإِنَّمَا أُخِّرَ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْعُلْيَا، وَمَا أُخِّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ القِصَاصِ لِسَبَبٍ لَمْ يُوجِبْ تَأْخِيرُهُ بُطْلَانَهُ كَتَأْخِيرِ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، وَخَالَفَ قَطْعَ الْحُرِّ الْعَبْدَ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَهُ يَجِبُ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُ الْوُسْطَى فَاقْتُصَّ مِنَ القَاطِعِ فَقَدْ تَعَدَّى بِأَخْذِ العليا مع الوسطى إذا لَا قَوَدَ لَهُ عَلَيْهِ فِيهَا لِعَدَمِ مَحَلِّهَا مِنْهُ، وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا لِلْقَاطِعِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْعُلْيَا بِدِيَتِهَا عَلَى الْقَاطِعِ. (فَصْلٌ) وَلَوِ ابْتَدَأَ الْجَانِي فَقَطَعَ الْأَنْمُلَةَ الْوُسْطَى مِنْ سَبَّابَةِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عُلْيَا، ثُمَّ قَطَعَ الْعُلْيَا مِنْ سَبَّابَةِ آخَرَ فَلَا قِصَاصَ لِصَاحِبِ الْوُسْطَى، سَوَاءٌ اقْتَصَّ صَاحِبُ الْعُلْيَا أَوْ لَمْ يَقْتَصَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ فِي الْحَالِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّهُ فِي ثَانِي حَالٍ كَالْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ، وَكَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعا شَلَّاءَ ثُمَّ شُلَّتْ أُصْبُع الْقَاطِعِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهَا، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السَّلِيمَةِ إِذَا شُلَّتْ وَجْهًا ثَانِيًا إنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهَا وَلَا وَجْهَ لَهُ اعتباراً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ قَطَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ لِصَاحِبِ الْوُسْطَى الْقِصَاصُ إِذَا اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُ الْعُلْيَا، وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ بِقَطْعِ الْعُلْيَا ثُمَّ الْوُسْطَى، لَأَنَّ الْقِصَاصَ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ الْقَطْعِ وَالْعُلْيَا بَعْدَهُ مُسْتَحَقَّةُ الْقَطْعِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أُقِيدُ بِيُمْنَى يُسْرَى وَلَا بِيُسْرَى يُمْنَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، فَالْجِنْسُ أَنْ تُؤْخَذَ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ بِرِجْلٍ، وَالنَّوْعُ أَنْ تُؤْخَذَ يُمْنَى بِيُمْنَى، وَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَكَانَ لِلْقَاطِعِ يَدٌ يُمْنَى أَخَذْنَاهَا قَوَدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يُمْنَى سَقَطَ الْقِصَاصُ إِلَى الدِّيَةِ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِهَا الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَقْطَعُ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى وَلَا أَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى الْيُسْرَى، فَإِنْ عَدِمْتُ الْيُمْنَى قَطَعْتُ الْيُسْرَى بِهَا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الاسم وَتَمَاثُلِهِمَا فِي الْخِلْقَةِ وَتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَلِأَنَّ مَا تَمَيَّزَ مَحَلُّهُ وَتَفَرَّدَ بِنَوْعِهِ لَمْ يَكُنِ الِاشْتِرَاكُ فِي الِاسْمِ الْعَامِّ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْأُصْبُع لَا تُؤْخَذُ السَّبَّابَةُ بِالْوُسْطَى وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَحَلِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَخْذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى عِنْدَ عَمْدِهَا لَجَازَ أَنْ تُؤْخَذَ بِهَا مَعَ وُجُودِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ الوجود فكذلك مع العدم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قُلِعَ سِنُّهُ أَوْ قُطِعَ أُذُنُهُ ثُمَّ إِنَّ الْمَقْطُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَلْصَقَهُ بِدَمِهِ وَسَأَلَ الْقَوَدَ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ بِإِبَانَتِهِ وَكَذَلِكَ الْجَانِي لَا يُقْطَعُ ثَانِيَةً إِذَا أُقِيدَ مِنْهُ مَرَّةً إِلَّا بِأَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهَا مَيِّتَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَشْتَمِلُ فِي الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَهُ فَيُبِينُهَا ثُمَّ إِنَّ الْمَقْطُوعَ أُذُنَهُ أَلْصَقَهَا بديها فَالْتَحَمَتْ مُنْدَمِلَةً ثُمَّ سَأَلَ الْقِصَاصَ مِنَ القَاطِعِ اقْتُصَّ لَهُ مِنْهُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْإِبَانَةِ، فَإِنْ سَأَلَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ أَنْ تُزَالَ أُذُنُ الْمُقْتَصِّ لَهُ. قِيلَ: لَا حَقَّ لَكَ فِي إِزَالَتِهَا وَإِنَّمَا تُزَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ مَيِّتَةٌ نَجِسَةٌ يَلْزَمُ أَخْذُهُ بِإِزَالَتِهَا لِمَا عَلَيْهِ مِنِ اجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ حُقٌّ يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ دُونَكَ، وَهَكَذَا لَوِ اقْتَصَّ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي فَأَلْصَقَهَا بِدَمِهَا فَسَأَلَ الْمُقْتَصُّ لَهُ أَنْ تُعَادَ إِزَالَتُهَا، قِيلَ: لَهُ: قَدِ اسْتَوْفَيْتَ حَقَّكَ مِنَ القِصَاصِ بِالْإِبَانَةِ، وَإِنَّمَا تُزَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّكَ، فَلَوْ قَطَعَ هَذِهِ الْأُذُنَ الْمُلْصَقَةَ قَاطِعٌ مِنَ المُقْتَصِّ لَهُ أَوْ مِنَ المُقْتَصِّ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهَا بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَيُعَزَّرُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ لَا لِتَعَدِّيهِ عَلَى الْمَقْطُوعِ، لِأَنَّهُ مستحق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا فِي حَقِّهِ وَكَانَ افْتِيَاتًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِمُدَاخَلَتِهِ فِي سُلْطَانِهِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تُقْطَعَ أُذُنُهُ إِلَى نِصْفِهَا ثُمَّ يَتْرُكُهَا فَيُلْصِقُهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِدَمِهَا فَتَلْتَحِمُ وَتَنْدَمِلُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْجَانِي لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْإِبَانَةِ. وَالثَّانِي: إِقْرَارُهَا مُنْدَمِلَةً وَتُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةُ مَا حَدَثَ مِنَ الشَّيْنِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا آخَرُ فَقَطَعَهَا إِلَى آخِرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَطَعَهَا الْأَوَّلُ أَخَذَ بِحُكُومَتِهَا دُونَ الْقَوَدِ كَالْأَوَّلِ، وَلَوْ أَبَانَهَا اقْتُصَّ مِنْهُ بِهَا، فَلَوْ بَلَغَ الْقِصَاصُ إِلَى نِصْفِ أُذُنِ الْقَاطِعِ فَأَلْصَقَهَا بِدَمِهَا أُعِيدَ قَطْعُهَا مِنْهُ قَوَدًا، لِأَنَّهَا مُقَرَّةٌ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ فِي الْقِصَاصِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُقْطَعَ أُذُنُهُ وَتَتَعَلَّقَ بِالْجِلْدِ فَلَا تَنْفَصِلُ مِنْهُ، فَإِنْ أَعَادَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَالْتَصَقَتْ أُقِرَّتْ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَنْفَصِلْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهَا، وَإِذَا أُقِرَّتْ بَعْدَ الِالْتِحَامِ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، وَفِيهَا حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الشَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَلْتَحِمْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا فَيُقْتَصُّ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي حَتَّى تَتَعَلَّقَ بِجِلْدَتِهَا، وَلَا يَقْطَعُ الْجِلْدَةَ كَمَا لَمْ يَقْطَعْهَا، لِأَنَّ غَضَارِيفَ الْأُذُنِ مَحْدُودَةٌ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ الْجِلْدِ الْمُغَشِّي لَهَا كَمَا يُقْتَصُّ مِنَ المُوضِحَةِ لِانْتِهَائِهَا إِلَى الْعَظْمِ كَذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْ غُضْرُوفِ الْأُذُنِ لِانْتِهَائِهِ إلى اللحم، فإذا اقتضى مِنْهَا وَأَعَادَهَا الْجَانِي فَأَلْصَقَهَا حَتَّى الْتَحَمَتْ أُعِيدَ قَطْعُهَا ثَانِيَةً، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي بَقَائِهَا بَائِنَةً كَمَا بَقِيَتْ أُذُنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَائِنَةً. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَادُ بِذَكَرِ رَجُلٍ شَيْخٍ وَخَصِيٍّ وَصَبِيٍّ وَالَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ كَانَ الذَّكَرُ يَنْتَشِرُ أَوْ لَا يَنْتَشِرُ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ شَلَلٌ يمنعه من أن ينقبض أو ينسبط ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْقِصَاصُ فِي الذَّكَرِ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَهُ حَدٌّ وَغَايَةٌ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَهُ مِنْ أَصْلِ الْقَضِيبِ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ الطَّوِيلُ بِالْقَصِيرِ، وَالْغَلِيظُ بِالدَّقِيقِ، وَذَكَرُ الشَّابِّ بِذَكَرِ الشَّيْخِ، وَذَكَرُ الَّذِي يَأْتِي النِّسَاءَ بِذَكَرِ الْعَنِّينِ، وَالذَّكَرُ الَّذِي يَنْتَشِرُ بِالَّذِي لَا يَنْتَشِرُ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ شَلَلٌ، وَذَكَرُ الْفَحْلِ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا أَقْتَصُّ مِنْ ذَكَرِ الفحل [بذكر الخصي، ولا الذكر المنتشر بغير المنتشر لنقصهما وقلة النفع بهما، فلم يقتص من كامل بناقص، وهذا فاسد] ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل: 126] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مَعَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الشَّلَلِ فَجَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ ذَكَرَ الْعَنِّينِ صَحِيحٌ وَعَدَمَ الْإِنْزَالِ لِعِلَّةٍ فِي الصُّلْبِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُ الْخَصِيِّ صَحِيحٌ، وَالنَّقْصُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعُنَّةِ وَالْخَصِيِّ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ الْوَلَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ، كَمَا يُؤْخَذُ ذَكَرُ مَنْ وُلِدَ لَهُ بِذَكَرِ الْعَقِيمِ، وَكَمَا يُؤْخَذُ ثَدْيُ الْمُرْضِعَةِ ذَاتِ اللَّبَنِ بِثَدْيِ مَنْ لَا تُرْضِعُ وَلَيْسَ لَهَا لَبَنٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْفِصَالٌ. فَأَمَّا الذَّكَرُ الْأَشَلُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ السَّلِيمِ كَمَا لَا يُقْتَصُّ مِنَ اليَدِ السَّلِيمَةِ بِالشَّلَّاءِ، وَشَلَلُ الذَّكَرِ هُوَ أَنْ يَسْتَحْشِفَ أَوْ يَنْقَبِضَ فَلَا يَنْبَسِطَ بِحَالٍ، وَيَنْبَسِطُ فَلَا يَنْقَبِضُ بِحَالٍ أَوْ يَنْقَبِضُ بِالْيَدِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ انْبَسَطَ، أَوْ يَنْبَسِطُ بِالْيَدِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ انقبض، فهذا هو الأشل على اختلاف أنوع شَلَلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ إِلَّا بِأَشَلَّ وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِ الشَّلَلِ مِنْ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا لِعُمُومِ النَّقْصِ وَعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قطع حشفة الذكر كان فيها القصاص، لأنه مَعْلُومَةُ الْغَايَةِ وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ ذَكَرِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ إِذَا أَمْكَنَ، لِأَنَّهُ عَصَبٌ يُمْكِنُ قَطْعُهُ وَلَيْسَ فِيهِ عَظْمٌ يَتَشَظَّى كَالذِّرَاعِ، فَيُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ مِنْ ذَكَرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فإن كان نصفه قطع نصف الذكر الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ ذَكَرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ ثُلْثُهُ قُطِعَ ثُلْثُ ذَكَرِ الْجَانِي، وَلَا يُؤْخَذُ بِقَدْرِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نِصْفُ ذَكَرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الثُّلْثِ مِنْ ذَكَرِ الْجَانِي، فَيُؤْخَذُ نِصْفُ ذَكَرِهِ وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى ثُلْثِهِ اعْتِبَارًا بِمِقْدَارِ الْمَقْطُوعِ مِنْ بَقِيَّةِ ذَكَرِهِ لَا مِنْ ذَكَرِ الجاني. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَبِأُنْثَيَيِ الْخَصِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرَفٌ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُقَادَ مِنْ إِحْدَى أُنْثَيَيْ رَجُلٍ بِلَا ذَهَابِ الْأُخْرَى أُقِيدَ مِنْهُ وَإِنْ قَطَعَهُمَا فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ تَامَّةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَوَدُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ فَوَاجِبٌ، لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَيُخَافُ مِنْ قَطْعِهِمَا عَلَى النَّفْسِ فَأَشْبَهَا الذَّكَرَ، فَيُؤْخَذُ أُنْثَيَا الشاب بأنثيي الشيخ، وأنثيي الرجل بأنثيي الصبي، وأنثيي من يأتي النساء بأنثيي العنين، وأنثيي الْفَحْلِ بأُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِالْخَصِيِّ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ مِنْ أَخْذِ أُنْثَيَيِ الْفَحْلِ بأُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ، وَمِنْ أَخْذِ أُنْثَيَيِ الَّذِي يَأْتِي النِّسَاءَ بأُنْثَيَيِ الْعَنِّينِ، كَمَا مَنَعَا مِنْهُ فِي الذَّكَرِ، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَاحِدٌ. فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ اقْتُصَّ مِنْهَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْقِصَاصَ [مِنْهُمَا] لَا يَتَعَدَّى إِلَى ذَهَابِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا جَرَى فِي أَحَدِهِمَا كَالْيَدَيْنِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ إِحْدَاهُمَا يَتَعَدَّى إِلَى ذَهَابِ الْأُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا مِنْ عُضْوَيْنِ بِعُضْوٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَتُهَا وَهِيَ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ فِي الْأُنْثَيَيْنِ جَمِيعَ الدِّيَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ الْجَانِي جَنَيْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَوْجُوءٌ وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَلْ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ هَذَا يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَلَا يَجُوزُ كَشْفُهُ لَهُمْ ". قال الماوردي: إذا اختلف فِي سَلَامَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَالَ الْجَانِي: هُوَ أَشَلٌّ وَهُوَ مَوْجُوءٌ قَدْ بَطَلَتْ مَنَافِعُهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيَّ وَلَا دِيَةَ، وَعَلَيَّ حُكُومَةٌ. وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ سَلِيمٌ اسْتَحِقَّ فِيهِ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ عَامَّةً فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى سَلَامَتِهَا، وَلَهُ الْقَوَدُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْجَانِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشَّلَلِ، وَنَصَّ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْعَيْنَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا غَيْرُ سَلِيمَةٍ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَلَامَتِهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّهَا غَيْرُ سَلِيمَةٍ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ صِدْقَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَةُ الْخِلْقَةِ وَثُبُوتُ الصِّحَّةِ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ رَجُلًا مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ: [أَحَدُهُمَا: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ وَأَصْلُهُمَا اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي أَيِّهِمَا هُوَ الْمُدَّعِي: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَانِيَ هُوَ الْمُدَّعِي لِحُدُوثِ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَوَدِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، إنَّ اخْتِلَافَ النَّصَّيْنِ محمول على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ قول الجاني مع يمينه أنها غير سليمة، وَالْقَوْلُ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا سَلِيمَةٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: تَقْدِيرُ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَإِمْكَانِهَا فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، فَيَقْوي فِي الْبَاطِنِ جَنَبَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقَوِيَ فِي الظَّاهِرِ جَنَبَةُ الْجَانِي، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَادَّعَتِ الْوِلَادَةَ وَأَنْكَرَهَا، كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهَا لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا. وَإِنْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَادَّعَتِ الْوِلَادَةَ وَأَنْكَرَهَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ دُونَهَا، لِإِمْكَانِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وِلَادَتِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي سَلَامَتِهَا مَعَ يَمِينِهِ حَلَفَ لَقَدْ كَانَ سَلِيمًا عِنْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشَّلَلِ وَعَدَمِ السلامة، فإن شهدوا أنه كان أشلا عِنْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ قَبْلَهَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَسَقَطَ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ، لِأَنَّ الشَّلَلَ إِذَا ثبت قبل الجناية يَزُل وَكَانَ بَاقِيًا إِلَى وَقْتِ الْجِنَايَةِ، فَلِذَلِكَ مَا اسْتَوَى حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَالْبَيِّنَةُ هَاهُنَا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ شَاهِدَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَرَفَ بِالسَّلَامَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِالسَّلَامَةِ وَقَالَ لَمْ تَزُلْ سَلَامَتُهُ وَحَلَفَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالسَّلَامَةِ وَادَّعَى حُدُوثَ الشَّلَلِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ لِلِاعْتِرَافِ بِالسَّلَامَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِاعْتِرَافِهِ بِهَا أَصْلُ اسْتِصْحَابِهِ فَيَصِيرُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقْبَلَ دَعْوَاهُ فِي حُدُوثِ الشَّلَلِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِتَقَدُّمِ السلامة، لأننا لما قدمناه قَوْلَهُ فِي الشَّلَلِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ سَلَامَةَ الْخِلْقَةِ قَبِلْنَا قَوْلَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِسَلَامَةِ الْخِلْقَةِ، لِاعْتِرَافِهِ بِمَا وَافَقَ الظَّاهِرَ مِنَ السَّلَامَةِ، فَيَكُونُ القول قوله مع يمينه، لقد كان اشلاً وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى شَلَلِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا يَزُولُ بَعْدَ حُدُوثٍ، فَإِنْ أَقَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى سَلَامَتِهِ سَمِعْنَاهَا إِنْ شَهِدَتْ بِسَلَامَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 وَإِنْ شَهِدَتْ بِسَلَامَتِهِ قَبْلَهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا اعْتَرَفَ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهِ هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حُدُوثِ شَلَلِهِ. فَإِنْ قِيلَ بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ، وَكَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَقَدْ كَانَ سَلِيمًا إِلَى وَقْتِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا أَوْجَبَ الْقَوَدَ إِلَّا شَاهِدَانِ وَيُقْبَلُ فِيمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَادُ أَنْفُ الصَّحِيحِ بِأَنْفِ الْأَخْرَمِ مَا لَمْ يَسْقُطْ أَنْفُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بالأنف} [المائدة: 45] ولأن الأنف حدا يُنْتَهَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَارِنُ الْمُتَّصِلُ بِقَصَبَةِ الْأَنْفِ الَّذِي يَحْجِزُ بَيْنَ الْمِنْخَرَيْنِ، وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنَ الأَنْفِ مِنَ القَصَبَةِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنَ العَظْمِ فَشَابَهَ حَدَّ الْكَفِّ مِنْ زَنْدِ الذِّرَاعِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ، فَيُؤْخَذُ الْأَنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْغَلِيظُ بِالدَّقِيقِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَالشَّامِّ بِالْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ، لِأَنَّ الْخَشْمَ عِلَّةٌ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ، وَيُؤْخَذُ أَنْفُ الصَّحِيحِ بِأَنْفِ الْأَجْذَمِ وَالْأَخْرَمِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْجُذَامِ وَالْخَرْمِ شَيْءٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْجُذَامَ مَرَضٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ القَوَدِ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالْجُذَامِ وَالْخَرْمِ شَيْءٌ مِنْ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ رُوعِيَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ وَمَا بَقِيَ، فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِ الْقَوَدُ اسْتُوفِيَ، وَهُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَحَدُ الْمِنْخَرَيْنِ وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا فَيُقَادُ مِنَ المِنْخَرِ الْبَاقِي وَيُؤْخَذُ مِثْلُهُ مِنَ الجَانِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْقَوَدُ لِذَهَابِ أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ وَهُوَ مُقَدَّمُهُ سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْأَرْنَبَةِ مَعَ الْقَوَدِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ مَا أَبْقَاهُ الْجُذَامُ مِنْ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلْثٍ أَوْ رُبْعٍ. وَلَوْ كَانَ أَنْفُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ صَحِيحًا وَأَنْفُ الْجَانِي أَجْذَمَ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِالْجُذَامِ شَيْءٌ مِنْهُ أُقِيدَ بِهِ أَنْفُ الصَّحِيحِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَذْهَبَ الْجُذَامُ بَعْضَهُ أُقِيدَ مِنْ أَنْفِهِ وَأُخِذَ مِنْ دِيَةِ الْأَنْفِ بِقِسْطِ مَا أَذْهَبَهُ الْجُذَامُ مِنْ أَنْفِ الْجَانِي مِنْ رُبْعٍ أَوْ ثُلْثٍ أَوْ نِصْفٍ، وَلَوْ قَطَعَ الْجَانِي بَعْضَ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحَ الْأَنْفِ قُدِّرَ الْمَقْطُوعُ مِنْ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ ثُلْثَ أَنْفِهِ أُقِيدَ مِنَ الجَانِي ثُلْثُ أَنْفِهِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُ، وَلَا يُقَادُ بِقَدْرِ الْمَقْطُوعِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَبُرَ أَنْفُ الْمَجْنِيِّ علي فَكَانَ نِصْفُهُ مُسْتَوْعِبًا لِأَنْفِ الْجَانِي، فَيُفْضِي إِلَى أَخْذِ الْأَنْفِ بِنِصْفِ أَنْفٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ وَبَعْضَ الْقَصَبَةِ أُقِيدَ مِنْ مَارِنِ الْجَانِي وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْشُ الْمَقْطُوعِ مِنَ القَصَبَةِ، لِأَنَّهُمَا عَظْمٌ لَا يَتَمَاثَلُ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا مِنْ عَظْمِ الذِّرَاعِ أُقِيدَ مِنْ كَفِّهِ وَأُخِذَ مِنْهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ عَظْمِ الذِّرَاعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُذُنُ الصَّحِيحِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْقَوَدُ فِي الْأُذُنِ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} فَيَأْخُذُ الْأُذُنَ الْكَبِيرَةَ بِالصَّغِيرَةِ، وَالْغَلِيظَةَ بِالدَّقِيقَةِ، وَالسَّمِينَةَ بِالْهَزِيلَةِ، وَالسَّمِيعَةَ بِالصَّمَّاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُقِيدُ أُذُنَ السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ، لِنَقْصِهَا بِذَهَابِ السَّمْعِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي الرَّأْسِ، وَالصَّمُّ يَكُونُ إِمَّا بِسَدَادِ مَنَافِذِهِ، وَإِمَّا لِذَهَابِهِ مِنْ مَحَلِّهِ فَلَمْ يَكُنْ نَقْصًا فِي الْأُذُنِ وَإِنَّمَا هُوَ نَقْصٌ فِي غَيْرِهَا، فَجَرَى الْقَوَدُ بَيْنَهُمَا فِيهَا، وَمَنْفَعَةُ الْأُذُنِ تَجْمَعُ الْأَصْوَاتَ لِتَصِلَ إلى السبع، وَتُؤْخَذُ الْأُذُنُ الَّتِي لَا ثُقْبَ فِيهَا بِالْأُذُنِ الْمَثْقُوبَةِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالثُّقْبِ شَيْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ أَذْهَبَ الثُّقْبُ مِنْهَا شَيْئًا فَهِيَ كَالْأَنْفِ إِذَا أَذْهَبَ الْجُذَامُ شَيْئًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ بعضها على ما بيناه في الأنف لتشابهما. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ سِنُّهُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْلُوعُ سِنُّهُ لَمْ يَثْغَرْ فَلَا قَوَدَ حَتَّى يَثْغَرَ فَيَتَتَامَّ طَرْحَةُ أَسْنَانِهِ وَنَبَاتُهَا فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَنْبُتُ أَقَدْنَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَسْنَانِ فَوَاجِبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] . وَلِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي السِّنِّ الْقِصَاصُ " وَلِأَنَّ فِيهَا مَنْفَعَةً وَجَمَالًا فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسِّنُّ عَظْمٌ وَالْعَظْمُ لَا قِصَاصَ فِيهِ. قِيلَ: السِّنُّ لِانْفِرَادِهِ كَالْأَعْضَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا، وَغَيْرُهُ مِنَ العِظَامِ مُمْتَزِجٌ وَمَسْتُورٌ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ مُمَاثَلَةِ الْقِصَاصِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِيهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِقَلْعِ سِنِّهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ثَغَرَ أَوْ لم يثغر، والمثغور أن يطرح أَسْنَانَ اللَّبَنِ وَيَنْبُتَ بَعْدَهَا أَسْنَانَ الْكِبَرِ، فَإِنْ كَانَ مَثْغُورًا قَدْ طَرَحَ أَسْنَانَ اللَّبَنِ وَنَبَتَتْ أَسْنَانُ الْكِبَرِ فَقُلِعَتْ سِنُّهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا مِنْ مِثْلِهَا مِنْ سِنِّ الْجَانِي، وَأَسْنَانُ الْفَمِ إِذَا تَكَامَلَتِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا، مِنْهَا أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رُبَاعِيَّاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ ضَوَاحِكَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ ضِرْسًا وَهِيَ الطَّوَاحِنُ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ وَهِيَ أَوَاخِرُ أَسْنَانِ الْفَمِ، فَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ، وَلَا تُؤْخَذُ ثَنِيَّةٌ بِرُبَاعِيَّةٍ، وَلَا نَابٌ بِضَاحِكٍ، كَمَا لَا يُؤْخَذُ إِبْهَامٌ بِخِنْصَرٍ، وَتُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى وَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى وَتُؤْخَذُ الْعُلْيَا بِالْعُلْيَا وَلَا تُؤْخَذُ عُلْيَا بِسُفْلَى، وَتُؤْخَذُ السِّنُّ الْكَبِيرَةُ بِالصَّغِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، كَمَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَرِيضَةِ، لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 الِاعْتِبَارَ بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ بِالْجِنَايَةِ مِنْ أَنْ تُقْلَعَ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ يُكْسَرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، فَإِنْ قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا قُلِعَتْ سِنُّ الْجَانِي مِنْ أَصْلِهَا الدَّاخِلِ فِي لَحْمِ الْعُمُورِ وَمَنَابِتِ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كُسِرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَبَرَزَ مِنْ لَحْمِ الْعُمُورِ كُسِرَ مِنْ سِنِّ الْجَانِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَتُرِكَ عَلَيْهِ مَا سَتَرَهُ اللَّحْمُ مِنْ أَصْلِهَا، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ كَانَتْ فِيهِ دِيَةُ السِّنِّ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ كَمَا لَوْ قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا، لَأَنَّ مَنْفَعَتَهَا وَجَمَالَهَا بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَإِنْ عَادَ وَقَطَعَ مَا بَطَنَ مِنْ بَقِيَّتِهَا كَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ، كَمَنْ قَطَعَ أَصَابِعَ الْكَفِّ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ كَفٍّ، فَإِنْ عَادَ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْكَفِّ كَانَتْ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَطَعَهَا مِنْ أَصْلِ الْكَفِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ كُسِرَ نِصْفُ سِنّه بِالطُّولِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ مِنْهَا اقْتُصَّ، وَإِنْ تَقَدَّرَ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهَا. (فَصْلٌ) وَإِنْ قُلِعَ سِنُّ مَنْ لَمْ يَثْغَرْ فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَسْنَانِ اللَّبَنِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِنَبَاتِهَا بَعْدَ سُقُوطِهَا وَوَجَبَ الِانْتِظَارُ إِلَى أَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَا مِنَ الطِّبِّ أَنَّهَا تَنْبُتُ فِيهِ، فَإِنْ نَبَتَتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ إِنَّمَا يَجِبَانِ فِيمَا يَدُومُ ضَرَرُهُ وَعَيْنُهُ وَلَا يَجِبَانِ فِيمَا يَزُولُ ضَرَرُهُ وَشيْنُهُ كَالسِّنِّ إِذَا نَبَتَتْ وَكَاللَّطْمَةِ إِذَا آلَمَتْ، لِزَوَالِ ذَلِكَ وَعَوْدِهِ إِلَى الْمَعْهُودِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَ سِنِّ اللَّبَنِ حِينَ قُلِعَتْ دَمٌ نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ لَحْمِ الْعُمُورِ وَجَبَ فِيهِ أَرْشٌ، كَمَنْ جُرِحَ فِي لَحْمِ بَدَنِهِ فَأَنْهَرَ دَمَهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مَحَلِّ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ فَفِي وُجُوبِ الْأَرْشِ وَجْهَانِ حَكَاهَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ كَمَنْ لُطِمَ فَرَعَفَ لَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِيهِ الْأَرْشُ، لِأَنَّهُ قَدْ قَلَعَ بِقَلْعِهِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ عُرُوقِ مَحَلِّهِ وَمَرَابَطِهِ فَلَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ دَمٌ لِقَطْعِ تِلْكَ الْمَرَابِطِ وَالْعُرُوقِ. فَإِنْ قِيلَ بِهِ كَانَ هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحَّ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدِي أَوْلَى. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِانْتِظَارِ بِالسِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ وَقْتَ نَبَاتِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعِيشَ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَهُ، فَإِنْ عَاشَ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ تِلْكَ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ مِنْ أحد أمرين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 إِمَّا أَنْ تَنْبُتَ أَوْ لَا تَنْبُتَ، فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَالدِّيَةُ تَامَّةٌ، لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنًّا لَمْ تَعُدْ فَصَارَتْ كَسِنِّ الْمَثْغُورِ وَإِنْ نَبَتَتْ فَلَهَا ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ تَنْبُتَ كَأَخَوَاتِهَا فِي الْقَدِّ وَاللَّوْنِ، [فَلَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْبُتَ أَقْصَرَ مِنْ أَخَوَاتِهَا] فَالظَّاهِرُ مِنْ قِصَرِهَا أَنَّهُ مَنْ قَلَعَ مَا قَبْلَهَا قَبْلَ أَوَانِهِ فَصَارَ مَنْسُوبًا إِلَى الْجَانِي فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ السِّنِّ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنَ السَّنِّ الْعَائِدِ، فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَنِصْفُ دِيَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الثُّلْثُ فثلثها. والحال الثالثة: أن تنبت في قد أَخَوَاتِهَا لَكِنَّهَا مُتَغَيِّرَةُ اللَّوْنِ بِخُضْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الجِنَايَةِ، فَيُؤْخَذُ الْجَانِي بِأَرْشِ تَغْيِيِرهَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَقْلُوعُ سِنُّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ لِعَوْدِهَا فَلَا قَوَدَ فِيهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَعَادَتْ، وَالْقِصَاصُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَحَقُّ، لِأَنَّ قَلْعَهَا مُسْتَحَقٌّ وَعَوْدَهَا مَعَ الْبَقَاءِ مُتَوَهَّمٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالظَّنِّ حُكْمُ الْيَقِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ كَمَا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ الْمَقْلُوعُ سِنُّهُ مَثْغُورًا فَعَادَتْ سِنُّهُ وَنَبَتَتْ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ كَغَيْرِ الْمَثْغُورِ إِذَا عَادَتْ سِنُّهُ بَعْدَ قَلْعِهَا تَكُونُ هِيَ الْحَادِثَةَ عَنِ الْمَقْلُوعَةِ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ فَأَذْهَبَ ضَوْءَهَا ثُمَّ عَادَ الضَّوْءُ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَكُنْ حَادِثًا عَنْ غَيْرٍ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا لَمْ يُقْتَصَّ لِلْجَانِي، مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لَكِنْ لَهُ الدِّيَةُ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِأَخْذِهِ الْقِصَاصَ مِنْ سِنٍّ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا الْقِصَاصُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ هَذِهِ السِّنَّ الْحَادِثَةَ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ مُسْتَجَدَّةٌ وَلَيْسَتْ حَادِثَةً مِنَ المَقْلُوعَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمَثْغُورِ أَنَّ سِنَّهُ إِذَا انْقَلَعَتْ لَمْ تَعُدْ، فَلَا يَسْقُطُ بِعَوْدِهَا قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، فَيُقْتَصُّ مِنَ الجَانِي وَإِنْ عَادَتْ مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَثْغَرْ، لِأَنَّ سِنَّ الْمَثْغُورِ لَا تَعُودُ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ، وَسنَّ غَيْرِ الْمَثْغُورِ تَعُودُ فِي الْأَغْلَبِ، وَخَالَفَ ضَوْءَ الْعَيْنِ إِذَا عَادَ بَعْدَ ذَهَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَسْتُورًا بِحَائِلٍ زَالَ فَأَبْصَرَ بِالضَّوْءِ الْأَوَّلِ لَا بِضَوْءٍ تَجَدَّدَ وَهَذِهِ سِنٌّ تَجَدَّدَتْ فَافْتَرَقَا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَرْعَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 أحدهما: أن يقلع رجل سن فَيُقْتَصُّ مِنْ سِنِّ الْجَانِي بِسِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَعُودُ سِنُّ الْجَانِي فَتَنْبُتُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ السِّنَّ الْعَائِدَةَ فِي الْمَثْغُورِ هِيَ هِبَةٌ مستجدة وليست حادثة عن الأولة، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي بِعَوْدِ سَنِّهِ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ السِّنَّ الْعَائِدَةَ فِي الْمَثْغُورِ هِيَ الْحَادِثَةُ عَنِ الْأُولَى، فَفِي وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهَا ثَانِيًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا عادت ثانية كما اقتص منها في الأولة، وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَتْ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً، لِأَنَّهُ قَدْ أَفْقَدَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ سِنَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَابَلَ بِمَا يُفْقِدُ سِنَّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قِصَاصَ فِيهَا لِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا وَأَنَّهُ جَنَى دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنَّ يُقْتَصَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ لِتَرْكِ سِنِّهِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ بِالدِّيَةِ كَمَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْقِصَاصِ، لأن لا يُجْمَعَ بَيْنَ دِيَةٍ وَقِصَاصٍ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ سِنِّ الْجَانِي بِسِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَتَعُودُ سَنُّ الْجَانِي وَتَعُودُ سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَا قِصَاصَ هُنَا مِنَ الثَّانِيَةِ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّنَا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعَائِدَةَ هِبَةٌ مُسْتَجَدَّةٌ فَهِيَ هِبَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا حَادِثَةٌ عَنِ الْأُولَى فَقَدْ عَادَتْ سِنُّ كُلِّ وَاحِدٍ منهما والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَلَعَ لَهُ سِنًّا زَائِدَةً فَفِيهَا حُكُومَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْقَالِعِ مِثْلُهَا فَيُقَادُ مِنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السِّنُّ الزَّائِدَةُ فَهِيَ مَا زَادَتْ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِينَ سِنًّا الْمَعْدُودَةِ الَّتِي عَيَّنَّاهَا مِنْ أَسْنَانِ الْفَمِ، وَتَنْبُتُ فِي غَيْرِ نِظَامِ الْأَسْنَانِ، إِمَّا خَارِجَةً أَوْ دَاخِلَةً، وَتُسَمَّى هَذِهِ الزِّيَادَةُ سِنًّا ثَانِيَةً، قَالَ الشَّاعِرُ: (فَلَا يُعْجِبَنْ ذَا الْبُخْلِ كَثْرَةُ مَالِهِ ... فَإِنَّ الشَّغَا نَقْصٌ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا) فَإِذَا جَنَى عَلَيْهَا جَانٍ فَقَلَعَهَا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَانِي مِثْلُهَا أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهَا فَلَا قَوَدَ فِيهَا، لِعَدَمِ مَا يُمَاثِلُهَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ نَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَابٌ لَمْ يُؤْخَذْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 بِهِ غَيْرُ النَّابِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الشَّاغِبَةِ فَعَلَيْهِ فِيهَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ سِنٍّ غَيْرِ شَاغِبَةٍ لِنَقْصِ الْأَعْضَاءِ الزَّائِدَةِ عَنْ أَعْضَاءِ الْخِلْقَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْجَانِي سِنٌّ زَائِدَةٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مِثْلِ مَحَلِّهَا مِنَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ مَحَلِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا مِنْهُ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الزَّائِدَةُ مِنَ الجَانِي مَعَ الْأَسْنَانِ الْعُلْيَا وَمِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ الْأَسْنَانِ السُّفْلَى أَوْ تَكُونَ مِنَ الجَانِي يُمْنَى وَمِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يُسْرَى، أَوْ تَكُونَ مِنَ الجَانِي مُقْتَرِنَةً بِالنَّابِ وَمِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُقْتَرِنَةً بِالثَّنِيَّةِ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ مَحَلِّهِمَا يمنع من تماثلهما فإن كانت من الجاني في مثل محلها من المجني عليه ففيها القصاص، لثماثلهما فِي الْمَحَلِّ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الْقَدْرِ وَالْمَنْفَعَةِ أَوْ تَفَاضَلَا، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ كَمَا قلناه فيما كان من أصل الخلقة المعهودة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ اقْتَصَّ حَقَّهُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ عُزِّرَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ". [قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ لِمُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي الْقِصَاصِ مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِيفَائِهِ فَلَمْ يُتَيَقَّنْ فِيهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ مَوْجُودٌ فِي تَعْدِيَتِهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْقِصَاصُ إِلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَزْجُرُهُ عَنِ التَّعَدِّي، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ وَيُعَزَّرُ عَلَى افْتِيَاتِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنَ القِصَاصِ ثَابِتًا فَإِنِ ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَصَارَ جَانِيًا، فَيُؤْخَذُ بِمَا جَنَاهُ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، وَلَا تَكُونُ دَعْوَاهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْهُ، لِأَنَّ سَعْدًا قَالَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ؟ قَالَ: " لَا، حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَا " يَعْنِي: شَاهِدًا عَلَيْكَ بِالْقَتْلِ، وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ (التَّمِيمِيُّ الْمِصْرِيُّ) مِنْ أَصْحَابِنَا، لَا يُعَزَّرُ الْوَلِيُّ إِذَا اسْتَوْفَاهُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَاسْتِرْجَاعِ الْمَغْصُوبِ وَهَذَا فَاسِدٌ بما قدمناه من الأمرين] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 (بسم الله الرحمن الرحيم) (صلى الله على سيدنا محمد وآله) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ الْمُقْتَصُّ أَخْرِجْ يَمِينَكَ فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ فَقَطَعَهَا وَقَالَ عَمَدْتُ وَأَنَا عَالِمٌ فَلَا عَقْلَ وَلَا قِصَاصَ فَإِذَا بَرأ اقْتُصَّ مِنْ يَمِينِهِ وَإِنْ قَالَ لَمْ أَسْمَعْ أَوْ رَأَيْتُ أَنَّ الْقِصَاصَ بِهَا يَسْقُطُ عَنْ يَمِينِي لَزِمَ الْمُقْتَصَّ دِيَةُ الْيَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فِي يُمْنَاهُ فَأَخْرَجَ يُسْرَاهُ فَقَطَعَهَا الْمُقْتَصُّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيُسْرَى قِصَاصًا بِالْيُمْنَى لِاسْتِحْقَاقِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، كَمَا لَا تَكُونُ الْيَدُ قِصَاصًا بِالرَّجُلِ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ التَّرَاضِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بُدِئَ بِسُؤَالٍ فَخَرَجَ يَدَهُ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُقْتَصِّ الْقَاطِعَ هَلْ أَخْرَجَ يَدَهُ بَاذِلًا لِقَطْعِهَا أَوْ غَيْرَ بَاذِلٍ؟ فَإِنْ قَالَ: أَخْرَجْتُهَا غَيْرَ بَاذِلٍ لِقَطْعِهَا وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِإِخْرَاجِهَا التَّصَرُّفَ بِهَا سئلَ حِينَئِذٍ الْمُقْتَصُّ الْقَاطِعَ هَلْ عَلِمَ أَنَّهَا الْيُسْرَى أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؟ فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا الْيُسْرَى وَظَنَنْتُهَا الْيُمْنَى فَقَطَعْتُهَا قِصَاصًا فَلَا قِصَاصَ عَلَى هَذَا الْمُقْتَصِّ فِي الْيُسْرَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا فِي الْيُمْنَى، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ، وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا خَطَأً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَلْ يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُ مِنْ قَطْعِ الْيُمْنَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الاقْتِصَاصِ مِنْهَا لِاعْتِقَادِهِ اسْتِيفَاءَ قِصَاصِهِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمُقْتَصُّ عَلَى مُخْرِجِ يَدِهِ الْيُمْنَى حَالَّةً فِي مَالِهِ، لِأَنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ، وَيَرْجِعُ مُخْرِجُ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ، لِأَنَّهَا دِيَةُ خَطَأٍ، وَلَا يَكُونَا قِصَاصًا لِاخْتِلَافِ مَحَلِّهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى بَاقٍ لِبَقَائِهَا، وَأَنَّ الْخَطَأَ بِغَيْرِهَا لَا يُزِيلُ الْحَقَّ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُقْتَصِّ أَنْ يَقْطَعَ يَمِينَ الْجَانِي الْمُخْرِجِ لِيُسْرَاهُ إِذَا انْدَمَلَتِ الْيُسْرَى، لأن لا يُوَالِيَ عَلَيْهِ بَيْنَ قَطْعَيْنِ فَيَسْرِيَ قَطْعُهُمَا إِلَى تَلَفِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَطْعُ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ عَلَيْهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمَا بَيْنَ قَطْعِهِمَا وَلَا يَنْتَظِرُ انْدِمَالَ أُولَاهُمَا، لِأَنَّ قَطْعَهُمَا مُسْتَحَقٌّ فَلَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ الِانْدِمَالُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأُولَى غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَانْتُظِرَ انْدِمَالُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَهُ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنَ اليُمْنَى كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ يُسْرَى الْجَانِي. وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ الْقَاطِعُ لِلْيُسْرَى عَلِمْتُ حِينَ قَطَعْتُهَا أَنَّهَا الْيُسْرَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 قِيلَ عَلَيْكَ مِنْهَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّكَ أَخَذْتَهَا عَمْدًا بغير حق، سواء علم تحريم قطع اليسرى باليمنى أَوْ جَهِلَ، فَيُقْتَصُّ مِنْ يُسْرَاهُ بِيُسْرَى الْجَانِي، فَأَمَّا حَقُّهُ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ يَمِينِ الْجَانِي فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِهِ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى هَلْ قَصَدَ بقطعها القصاص من اليمنى أو لَمْ يَقْصِدْ بقطعها أن تكون قِصَاصًا بِالْيُمْنَى؟ فإن لم يقصد قِصَاصًا بِالْيُمْنَى [كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الاقْتِصَاصِ مِنْ يَمِينِ الْجَانِي، وَإِنْ قَصَدَ بِقَطْعِ الْيُسْرَى أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا مِنَ اليُمْنَى] فَفِي سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ الاقْتِصَاصِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ قَطْعِ الْيُمْنَى قِصَاصًا لِاعْتِقَادِهِ اسْتِيفَاءَ بَدَلِهِ وَيَكُونُ لَهُ عَلَى الْجَانِي دِيَتُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنِ الْيُسْرَى بَدَلًا عَنْهُمَا وَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ لَهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ القِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى. (فَصْلٌ) وَإِنْ قَالَ الْجَانِي الْمُخْرِجُ لِيُسْرَاهُ: أَخْرَجْتُهَا بَاذِلًا لِقَطْعِهَا سُئِلَ عَنْ بَذْلِهَا هَلْ جَعَلْتَهُ بَدَلًا مِنَ اليُمْنَى أَوْ غَيْرَ بَدَلٍ؟ فَإِنْ قَالَ لَمْ أَجْعَلْهُ بَدَلًا لِعِلْمِي بِأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ يُسْرَى بِيُمْنَى قِيلَ فَقَطْعُ يَدِكَ هَدَرٌ لِإِبَاحَتِكَ لَهَا، فَلَا قَوَدَ لَكَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ، وَيُعَزَّرُ قَاطِعُهَا زَجْرًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَظْرِ، وَلَا يُعْذَرُ مَعَ جَهْلِهِ بِهِ، ثُمَّ يُسْأَلُ قَاطِعُهَا هَلْ قَطَعَهَا قِصَاصًا أَوْ غَيْرَ قِصَاصٍ؟ فَإِنْ قَالَ: قَطَعْتُهَا غَيْرَ قِصَاصٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليُمْنَى بَعْدَ انْدِمَالِ الْيُسْرَى، وَإِنْ قَالَ: قَطَعْتُهَا قِصَاصًا مِنَ اليُمْنَى، قِيلَ لَهُ: عَلِمْتَ أَنَّهَا الْيُسْرَى أَوْ لَمْ تَعْلَمْ؟ فَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا الْيُسْرَى صَارَ ذَلِكَ عَفْوًا مِنْهُ عَنْ قَطْعِ الْيُمْنَى فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الاقْتِصَاصِ مِنْهَا، وَلَهُ دِيَتُهَا حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُهَا الْيُمْنَى وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا الْيُسْرَى فَهَلْ يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُ مِنَ القِصَاصِ فِي الْيُمْنَى؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ وَلَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهَا بَعْدَ انْدِمَالِ الْيُسْرَى. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْهَا وَيَرْجِعُ بِدِيَتِهَا، وَإِنْ قَالَ الْمُخْرِجُ لِلْيُسْرَى أَخْرَجْتُهَا لِتَكُونَ بَدَلًا مِنَ اليُمْنَى سُئِلَ قَاطِعُهَا: هَلْ قَطَعْتَهَا بَدَلًا مِنَ اليُمْنَى أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَقْطَعْهَا بَدَلًا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي يُسْرَاهُ، وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي يُمْنَى الْجَانِي، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَقُّهُ مِنَ القِصَاصِ فِي الْيُمْنَى لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِصَاصُ فِي الْيُسْرَى، وَلَمْ يَكُنْ بَذْلُ مُخْرِجِهَا مُسْقِطًا لقصاصه نها، لِأَنَّهُ بَذَلَهَا لِتَكُونَ مُعَاوَضَةً بِالْيُمْنَى، فَإِذَا لَمْ تكن عوضاً سقط حكم البذل، وإن قال: قطعتها بدلا [لتكون قصاصاً من اليمنى سئل: هل عَلِمْتَ أَنَّهَا الْيُسْرَى أَوْ لَمْ تَعْلَمْ؟ فَإِنْ علم أنها اليسرى] سقط قصاصه من اليمنى، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 وَكَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيُسْرَى وَلَهُ دِيَةُ الْيُمْنَى فَيَتَقَاصَّانِ، لِأَنَّهُمَا دِيَتَا عَمْدٍ فِي أَمْوَالِهِمَا، فَإِنْ تَفَاضَلَتْ دِيَةُ أَيْدِيهِمَا لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا رَجُلًا وَالْآخَرِ امْرَأَةً تَرَاجَعَا فَضْلَ الدِّيَةِ وَإِنْ ظَنَّهَا الْيُمْنَى وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا الْيُسْرَى فَفِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ ما قدمناه من الوجهين. [ (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَرِقَةٍ لَمْ يُقْطَعْ يَمِينُهُ وَلَا يُشْبِهُ الْحَدُّ حُقُوقَ الْعِبَادِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُسْتَحَقَّ قَطْعُ يَمِينِ السَّارِقِ فَيُخْرِجُ يُسْرَاهُ فَتُقْطَعُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي موضع القديم: القياس أن تقطع يمناه والاستحان؟ إلا تقطع فصار قوله في القديم لم يلزم من تقديم عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ يُسْرَى السَّارِقِ بِيُمْنَاهُ كَالْقِصَاصِ وَتقطعُ الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُسْرَى إِذَا انْدَمَلَتْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَخْرَجَهَا السَّارِقُ مُبِيحًا لَهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَهَا دِيَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا لِتُقْطَعَ فِي السَّرِقَةِ بَدَلًا مِنْ يُمْنَاهُ فَلْيُسْتَقَدْ بِهَا مِنْهُ. وَإِنْ عَمَدَ الْجَلَّادُ قَطْعَ الْيُسْرَى وَعَلِمَ بِهَا اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْقَوَدِ فِي عَمْدِهِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي خَطَئِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا دِيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْخَطَأِ مُتَسَلِّطٌ، وَفِي الْعَمْدِ مَمْنُوعٌ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَنَّ أَخْذَ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ مُجْزِئٌ عَنْ قَطْعِ الْيُمْنَى، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقِصَاصِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالْمُشَاحَّةِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ قَطْعَ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِذَهَابِهَا إِذَا تَآكَلَتْ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِذَهَابِهَا فِي الْقِصَاصِ إِذَا تَآكَلَتْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ يُسْرَى السَّارِقِ تُقْطَعُ إِذَا عَدِمَ الْيُمْنَى، وَلَا تُقْطَعُ يُسْرَى السَّارِقِ بِجَانِي إِذَا عَدِمَ الْيُمْنَى فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ افْتَرَقَا] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ الْجَانِي مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَقَالَ الْوَلِيُّ مَاتَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عليه فلا يخلو موته من خمسة أحوال: أحدها: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَيَكُونُ الْجَانِي قَاطِعًا وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ فَيَلْزَمُهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْيَدَيْنِ، وَالْأُخْرَى فِي الرِّجْلَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا فَيَصِيرُ الْجَانِي قَاتِلًا يُقْتَصُّ مِنْ نَفْسِهِ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ مِنَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ تَدْخُلُ فِي دِيَاتِ النَّفْسِ إِذَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَيْهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ انْدِمَالِ أَحَدِهِمَا وَبَقَاءِ الْأُخْرَى، كَمَوْتِهِ بَعْدَ انْدِمَالِ يَدَيْهِ وَبَقَاءِ رِجْلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْجَانِي قَاتِلًا بِسِرَايَةِ الرِّجْلَيْنِ قَاطِعًا بِانْدِمَالِ الْيَدَيْنِ وَتَلْزَمُهُ دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي النَّفْسِ لِسِرَايَةِ الرِّجْلَيْنِ إِلَيْهِمَا وَالْأُخْرَى فِي الْيَدَيْنِ لِاسْتِقْرَارِ دِيَتِهَا بِانْدِمَالِهِمَا، لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ مَا لَمْ تَنْدَمِلْ، وَلَا تَدْخُلُ فِيهَا إِذَا انْدَمَلَتْ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدَّعِي الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْدِمَالِهِمَا فَاسْتَحَقَّ عَلَى الْجَانِي دِيَتَيْنِ، وَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا لِيَلْتَزِمَ دِيَةً وَاحِدَةً، فَالْوَاجِبُ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنْ يُعْتَبَرَ الزَّمَانُ الَّذِي بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْتِ، فَإِنِ اتَّسَعَ لِلِانْدِمَالِ كَالشَّهْرِ فَمَا زَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ دِيَتَيْنِ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الانْدِمَالِ مُحْتَمَلٌ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْجَانِي فِي إِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً أَنَّ الْمَقْطُوعَ لَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ مِنَ الجِنَايَةِ فَيُحْكَمُ بِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الِانْدِمَالِ كَمَوْتِهِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي، لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْوَلِيُّ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَيَحْلِفُ الْجَانِي وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمَقْطُوعُ مَخْنُوقًا أَوْ مَسْمُومًا، فَإِنِ ادَّعَى الْوَلِيُّ مَعَ ضِيقِ الزمان عن الاندمال أن المقطوع مات موجا بِذَبْحٍ أَوْ سُمٍّ أَوْ خَنْقٍ صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ يُوجِبُ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ فِي الظَّاهِرِ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ دِيَتَيْنِ وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ التَّوْجِيَةِ مُحْتَمَلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ مِنَ الجِنَايَةِ وَمَا ادَّعَاهُ الْوَلِيُّ مِنْ حُدُوثِ التَّوْجِيَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي اتِّسَاعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 الزَّمَانِ وَضِيقِهِ فَقَالَ الْوَلِيُّ: اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلِي فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَتَيْنِ، وَقَالَ الْجَانِي ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلِي فِي أَنْ لَا تَلْزَمَنِي إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْوَلِيِّ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ قُرْبُ الزَّمَانِ حَتَّى يُعْلَمَ بُعْدُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُعْلَمَ انْدِمَالُهَا. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَدَّعِي الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنَ الجِنَايَةِ فَاسْتَحَقَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، وَيَدَّعِي الْجَانِي أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، فَإِنِ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ. (فَصْلٌ) فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِضِدِّ الْمَسْطُورِ وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوضِحَةً تُوجِبُ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ وَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْجَانِي، فَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ مِنْ جِنَايَتِكَ فَعَلَيْكَ دِيَةُ النَّفْسِ أَوِ الْقِصَاصُ فِيهَا، وَقَالَ الْجَانِي: بَلْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِي فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا دِيَةُ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَإِنِ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلِانْدِمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ فِي أَنْ لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ إِلَّا دِيَةُ مُوضِحَةٍ وَأَنَّ النَّفْسَ لَا قِصَاصَ فِيهَا، فَصَارَ الْجَوَابُ بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهَا بضده والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: (وَيُحْضِرُ الْإِمَامُ الْقِصَاصَ عَدْلَيْنِ عَاقِلَيْنِ حَتَّى لَا يُقَادَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ حَادَّةٍ مُسْقَاةٍ وَيَتَفَقَّدَ حَدِيدَهُ لِئَلَّا يُسَمَّ فَيُقْتَلَ مِنْ حَيْثُ قُطِعَ بِأَيْسَرَ مَا يَكُونُ بِهِ الْقَطْعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يُحْضِرَ الْقِصَاصَ عَدْلَيْنِ شَاهِدَيْنِ لِيَشْهَدَا بِاسْتِيفَائِهِ إِنِ اسْتُوفِيَ، وَبِالتَّعَدِّي فِيهِ إِنْ تُعُدِّيَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " عَدْلَيْنِ عَاقِلَيْنِ "، وَالْعَدْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَاقِلًا فمنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وَ {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَقْلِ ثَبَاتَ النَّفْسِ وَسُكُونَ الْجَأْشِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ كُلُّ عَدْلٍ يَمْكُنُ جَأْشُهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَقْلِ الْفِطْنَةَ وَالتَّيَقُّظَ لِيَفْطِنَ بِمَا يَجْرِي مِنِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ حَقٍّ أَوْ تَعَدٍّ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ عَدْلٍ يَفْطِنُ لِذَلِكَ قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، فَإِنْ غَابَ الشَّاهِدَانِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَكَانَ الْمُسِيءُ هُوَ الْحَاكِمَ بِالْقِصَاصِ دُونَ الْمُسْتَوْفِي لَهُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 فَأَمَّا صِفَةُ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ مِنَ الحَدِيدِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ حَكَمَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ قَاضٍ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ مَثْلُومًا كَالًّا وَلَا مَسْمُومًا، لِأَنَّ الْكَالَّ يُعَذِّبُ الْمُقْتَصَّ مِنْهُ وَالْمَسْمُومَ يَهْرِي لَحْمَهُ، فَإِنِ اقْتَصَّ بِكَالٍّ مَثْلُومٍ لَمْ يُعَزَّرْ، وَإِنِ اقْتَصَّ بِمَسْمُومٍ فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَدِ اسْتَوْفَى وَلَا غُرْمَ فِي السُّمِّ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمُقْتَصُّ أَدَبًا، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ بَعْدَ قَتْلِهِ قِطَعًا، وَإِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ فَأَفْضَى السُّمُّ إِلَى تَلَفِهِ وَصَارَ التَّلَفُ حَادِثًا عَنِ الْقِصَاصِ الَّذِي لَا يُضْمَنُ وَعَنِ السُّمِّ الَّذِي يُضْمَنُ فَيَلْزَمُ نِصْفُ الدِّيَةِ لحدوث لتلف عَنْ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ وَجَرَحَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ ضَمِنَ نِصْفَ دِيَتِهِ لِتَلَفِهِ عَنْ سَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا مباح والآخر محظور. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُرْزَقُ مَنْ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَيَأْخُذُ الْقِصَاصَ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الخُمُسِ كَمَا يُرْزَقُ الْحُكَّامُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ الْأَجْرُ كَمَا عَلَيْهِ أَجْرُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فِيمَا يَلْزَمُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْدُبَ لِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ رَجُلًا أَمِينًا يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا، لِأَنَّهُ مِنَ المَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَيَكُونُ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُعَدِّ بَعْدَهُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْجَلَّادُ الْقِصَاصَ أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِنْهُ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَالِ أَوْ كَانَ فِيهِ وَلَزِمَ صَرْفُهُ فِيمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ مِنْ سَدِّ الثُّغُورِ وَفِي أَرْزَاقِ الْجُيُوشِ مِنْهُ كَانَتْ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ أُجْرَتُهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أُجْرَتُهُ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ال ْفَصْلِ بَيْنَ حَقِّهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ فَكَانَتْ أُجْرَةُ الْفَاضِلِ عَلَى مُسْتَوْفِيهِ كَمُشْتَرِي الثَّمَرَةِ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ لُقَاطِهَا وَجِذَاذِهَا، وَكَمُشْتَرِي الصُّبْرَةِ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ حَمَّالِهَا وَنَقَّالِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أُجْرَةُ مُتَعَدِّ الْمَالِ عَلَى مُسْتَوْفِيهِ دُونَ مُوفِيهِ كَذَلِكَ الْقِصَاصُ، وَلِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الصَّدَقَاتِ مُسْتَوْفٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ، ثُمَّ كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ الْمُسْتَوْفَى لَهُمْ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُمْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةُ الْمُقْتَصِّ فِي مَالِ الْمُسْتَوْفَى لَهُ دُونَ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهُ عَلَى الْمُوفِي دُونَ الْمُسْتَوْفي كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ، وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهُ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنْهُ كَالْخِتَانِ وَحَلْقِ شَعْرِ الْمُحْرِمِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْخِتَانُ وَحَلْقُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ مِنْهُ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أُجْرَتُهُ وَالْقِصَاصُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ لَهُ دُونَ الْمَقْطُوعِ مِنْهُ فَكَانَ الْمَقْطُوعُ لَهُ أَوْلَى بِالْتِزَامِ أُجْرَتِهِ مِنَ المَقْطُوعِ منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 قُلْنَا: هُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْخِتَانَ وَحَلْقَ الشَّعْرِ حَقٌّ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْخِتَانِ وَالْحَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقِصَاصِ لِلْوَلِيِّ فَكَمَا الْتُزِمَ حَقُّ اللَّهِ الْتُزِمَ حَقُّ الْآدَمِيِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأُجْرَةِ الْجِذَاذِ وَالنَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيمَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فَاخْتُصَّ بِمُؤْنَةِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ مُنْتَقِدِ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ إِبْقَاءٌ لِلْحَقِّ وَمَؤُونَةُ الْإِبْقَاءِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُوَفِّي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ} [يوسف: 88] . ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْمُوفي دُونَ الْمُسْتَوْفِي، كَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَأَمَّا عَامِلُ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي الْإِبْقَاءِ عَنْهُمْ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ نَابَ عَنْهُ كَأُجْرَةِ الْوَكِيلِ، وَخَالَفَ الْمُقْتَصَّ، لِأَنَّهُ يَقُومُ بِالْإِبْقَاءِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ، فَصَارَ بِالْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ أَشْبَهَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ لَهُ فَقَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: أَنَا أَقْتَصُّ لَكَ مِنْ نَفْسِي لِتَسْقُطَ عَنِّي أُجْرَةُ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوجِبَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ هُوَ الْآخِذَ لَهُمَا مَعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لَهُ كَمَا لَوْ أَرَادَ بَائِعُ الصُّبْرَةِ أَنْ يَكِيلَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ السَّارِقُ وَقَدْ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ أَنَا أَقْطَعُ يَدَ نَفْسِي وَلَا أَلْتَزِمُ أُجْرَةَ قَاطِعِي فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْقِصَاصِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ حَقٌّ لِلَّهِ يُقْصَدُ بِهِ النَّكَالُ وَالزَّجْرُ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَخَالَفَ القصاص المستحق للآدمي وبالله التوفيق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 (بَابُ عَفْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَمَّ يَمُوتُ وَغَيْرِ ذلك) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَمْدًا قَدْ عَفَوْتُ عَنْ جِنَايَتِهِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ ثُمَّ صَحَّ جَازَ فِيمَا لَزِمَهُ بِالْجِنَايَةِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَجَبَتْ حِينَ عَفَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَتْ جِنَايَةُ العمد على طرف كإصبع فعفى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْدَمِلَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَسْرِيَ إِلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَنْدَمِلَ الْجِنَايَةُ وَلَا تَسْرِيَ فَهُوَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَى أُصْبُع قَطَعَهَا فَانْدَمَلَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَفْوِ عَنْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا وَجَبَ بِهَا مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ وَحْدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا وَجَبَ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا وَجَبَ بِهَا مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: " يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ " لِأَنَّ الْقَوَدَ وَجَبَ قَبْلَ عَفْوِهِ وَالدِّيَةَ لَمْ تَجِبْ إِلَّا بَعْدَ عَفْوِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَبَ الْقَوَدَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ اسْتَحَقَّهُ، وَلَوْ طَلَبَ الدِّيَةَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا، وَالْعَفْوُ عَمَّا وَجَبَ صَحِيحٌ وَعَمَّا لَمْ يَجِبْ مَرْدُودٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْجِنَايَةِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى الِانْدِمَالِ كَالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَبْدًا لَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَبَاعَهُ سَيِّدُهُ قَبْلَ انْدِمَالِ جِنَايَتِهِ ثُمَّ انْدَمَلَتْ فِي يَدِ مُشْتَرِيهِ كَانَ أَرْشُهَا لِبَائِعِهِ دُونَ مُشْتَرِيهِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فِي مِلْكِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 وَلَمْ يَسْتَحِقَّهَا الْمُشْتَرِي وَإِنِ انْدَمَلَتْ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ ذَلِكَ عَفْوًا عَمَّا وَجَبَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَهَا، وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَمَّا احْتَجَّ لَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الدِّيَةِ وَيَكُونُ عَفْوًا مَقْصُورًا عَلَى الْقَوَدِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ اخْتُصَّ بِالْحُكْمِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يُسَمَّى قَوَدًا وَلَا عَقْلًا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَوَدِ، وَهَلْ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تُوجِبُهُ جِنَايَةُ الْعَمْدِ. فإن قيل: إنها توجب أحد الأمرين مِنَ الْقَوَدِ أَوِ الْعَقْلِ كَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الدِّيَةِ كَمَا كَانَ عَفْوًا عَنِ الْقَوَدِ لوجوب الدية بالجناية كوجوب الْقَوَدِ بِهَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تُوجِبُ الْقَوَدَ وحده [على التعيين] وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ وَإِنْ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ وَجَبَ وَالدِّيَةَ لَمْ تَجِبْ، فَهَذَا حُكْمُ الْجِنَايَةِ إِذَا انْدَمَلَتْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَسْرِيَ إِلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَسِرَايَتِهَا مِنَ الْأُصْبُع إِلَى الْكَفِّ فَلَا قَوَدَ فِي الْكَفِّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي أَصْلِ الْجِنَايَةِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِهِ فِيمَا حَدَثَ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ السِّرَايَةَ إِلَى الْأَطْرَافِ لَا تُوجِبُ الْقَوَدَ وَإِنْ وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَخْذَ الْكَفِّ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْأُصْبُع غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَأَمَّا دِيَةُ مَا ذَهَبَ بِالسِّرَايَةِ مِنَ الْكَفِّ فَوَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْ دِيَةِ الْأُصْبُع لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ عَفْوٌ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الْعَفْوِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ عَفْوٌ. وَالثَّالِثُ: إنَّ الدِّيَةَ لَمَّا تَبَعَّضَتْ لَمْ يَسْرِ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهَا إِلَى جَمِيعِهَا، وَالْقَوَدَ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ سَرَى الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ إِلَى جَمِيعِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ أَرْبَعُونَ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ فِي الْأُصْبُع الْمَعْفُوِّ عَنْهَا عُشْرَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَسْرِيَ جِنَايَةُ الْأُصْبُع إِلَى النَّفْسِ فَيَمُوتُ مِنْهَا فَلَا قَوَدَ فِي النَّفْسِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي أَصْلِ الْجِنَايَةِ يوجب سقوط فِيمَا حَدَثَ عَنْهَا، وَعَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ إِلَّا قَدْرَ دِيَةِ الْأُصْبُع إِذَا صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ دِيَتِهَا، لِمَا قَدَّمْنَاهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 مِنِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَيَلْزَمُهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْأُصْبُع عُشْرُهَا إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَيَلْزَمُهُ جميعها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا مِنْ عَقْلٍ وَقَوَدٍ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوَدِ لِلْعَفْوِ وَنُظِرَ إِلَى أرش الجناية فكان فيها قولان أحدهما أنه جائز العفو عنه من ثلث مال العافي كأنها موضحة فهي نصف العشر ويؤخذ بباقي الدية. والقول الثاني أن يؤخذ بجميع الجناية لأنها صارت نفساً وهذا قاتل لا يجوز له وصية بحال (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ لأن كل ذلك وصية لقاتل فلما بطل بعضها بطل جميعها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَهَا فِي " صِفَةِ الْعَفْوِ " وَإِنْ وَافَقَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقَدْ قُطِعَتْ أُصْبُعهُ عَمْدًا: قَدْ عَفَوْتُ عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ، وَكَانَ عَفْوُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَقْصُورًا عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا دُونَ ما حث مِنْهَا فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ تَنْدَمِلَ، فَيَكُونَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِحَّةِ عَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ فِي الْأُصْبُع وَعَنْ دِيَتِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ إِلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَسِرَايَتِهَا إِلَى الْكَفِّ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيهَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَيَبْرَأُ مِنْ دِيَةِ الْأُصْبُع لِعَفْوِهِ عَنْهُ وَيُؤْخَذُ بِدِيَةِ الْبَاقِي مِنْ أَصَابِعِ الْكَفِّ وَهِيَ أَرْبَعٌ ذَهَبَتْ بِالسِّرَايَةِ مَعَ الْكَفِّ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَجِبْ، وَالْإِبْرَاءُ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْلَ وُجُوبِهَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وهو مسألة الكتاب: أن تسري الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ فَيَمُوتُ مِنْهُمَا وَقَدْ عَفَا عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا مِنْ قَوَدٍ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ فِي النَّفْسِ وَالْأُصْبُع بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَقَدْ صَارَ هَذَا الْجَانِي قَاتِلًا وَالْعَفْوُ عَنْهُ مِنْ عَطَايَا الْمَرِيضِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ كَالْمِيرَاثِ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ " فَعَمَّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ، وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ قَبُولٍ وَلَا اخْتِيَارٍ وَوُقُوفِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْقَبُولِ وَالِاخْتِيَارِ، فَلَمَّا مَنَعَ الْقَتْلُ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى كَانَ بِأَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَرْثِ لِتَخْصِيصِ النَّصِّ بِرَدِّهَا لِلْوَارِثِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " فَدَلَّ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 عُمُومِ جَوَازِهَا لِغَيْرِ الْوَارِثِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَذَلِكَ الْقَتْلُ. فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ بَاطِلَةٌ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ كُلُّهَا وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا بِالْعَفْوِ عَنْهَا، وَسَوَاءٌ مَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ قَبْلَ الْعَفْوِ وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ بِالسِّرَايَةِ، لِأَنَّ سِرَايَةَ جِنَايَتِهِ إِلَى النَّفْسِ قَدْ جَعَلَتْهُ قَاتِلًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَبْطَلْتُمُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ وَأَسْقَطْتُمْ عَفْوَهُ عَنِ الدِّيَةِ فَهَلَّا بَطَلَ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ كَمَا أَبْطَلْتُمْ عَفْوَهُ عَنِ الدِّيَةِ أَوْ أَخَّرْتُمْ عَفْوَهُ عَنِ الدِّيَةِ كَمَا أَخَّرْتُمْ عَفْوَهُ عَنِ الْقَوَدِ؟ قِيلَ: لأنه الدِّيَةَ مَالٌ وَالْقَوَدُ لَيْسَ بِمَالٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَ الْمُوصِي لَهُ شَرِيكًا فِي الدِّيَةِ وَلَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي الْقَوَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِالدِّيَةِ صَحَّ، وَلَوْ وَصَّى لَهُ بِالْقَوَدِ لَمْ يَصِحَّ فَلِذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا حُكْمُ عَفْوِهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَرِدُ فِيهِ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ. وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ اعْتُبِرَ حَالُ عَفْوِهِ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَقَالَ: قَدْ وَصَّيْتُ لَهُ بِهَا وَبِمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ صَحَّ عَفْوُهُ عَنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ مَا وَجَبَ مِنْهَا قَبْلَ الْعَفْوِ مِنْ دِيَةِ الْأُصْبُع وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ وَجَبَتْ عِنْدَ الْعَفْوِ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تَصِحُّ بِمَا وَجَبَ وَبِمَا سَيَجِبُ، وبما ملك وبما سيملك، [وإذا صار ذلك وصية كانت الدية معتبرة من الثلث] كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ صَحَّ جَمِيعُهَا فَيُبرئ الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهَا الثُّلُثُ أَمْضَى مِنْهَا قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَرَدَّ فِيمَا عَجَزَ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ وَجَعَلَهُ عَفْوًا أَوْ إِبْرَاءً مَحْضًا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي عَفْوِهِ وَإِبْرَائِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي مَجْرَى الْوَصِيَّةِ لِاعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِحَّةِ جَمِيعِهِ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَصِيرُ وَصِيَّةً وَإِنِ اعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ وَهُوَ الْعَفْوُ، وَالْإِبْرَاءُ هُوَ تَرْكٌ وَإِسْقَاطٌ، فَخَرَجَ عَنْ عَطَايَا الْوَصَايَا، فَعَلَى هَذَا يَبْرَأُ الْجَانِي فِيمَا وَجَبَ قَبْلَ الْعَفْوِ وَهُوَ دِيَةُ الْأُصْبُع وَلَا يَبْرَأُ فِيمَا وَجَبَ بَعْدَهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 مِنْهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَيَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا، وَاعْتَرَضَ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حِينَ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ بَعَّضَ عَفْوَهُ فَأَجَازَ بَعْضَهُ وَرَدَّ بَعْضَهُ اعْتِرَاضًا وَهِمَ فِيهِ فَقَالَ: إِنْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ صَحَّتْ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ بَطَلَتْ رُدَّتْ فِي الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَبْعِيضِهَا وَتَفْرِيقِهَا وَجْهٌ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مَا بَعَّضَ عَفْوَهُ وَفَرَّقَهُ إِذَا كَانَ وَصِيَّةً، وَالْحَاكِمُ فِي جَمِيعِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِحَّتِهِ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ إِبْطَالُهُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ رُدَّتْ وَإِنَّمَا فَرَّقَهُ إِذَا جُعِلَ إِسْقَاطًا وَإِبْرَاءً، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْإِبْرَاءِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَصِحَّ فِيمَا وَجَبَ وَيَبْطُلَ فِيمَا لَمْ يَجِبْ فَبَطَلَ اعتراضه. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " قال - يعني الشافعي ولأنه قطع بِأَنَّهُ لَوْ عَفَا وَالْقَاتِلُ عَبْدٌ جَازَ الْعَفْوُ من ثلث الميت (قال) وإنما أجزنا ذلك لأنه وصية لسيد العبد مع أهل الوصايا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: [وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثِ مَسَائِلَ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا لِاعْتِرَاضِهِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ] ، وصورتها في عبد جنى على حر فعفى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ، ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ عَنْهَا، فَهَذَا الْعَفْوُ قَدْ تَضَمَّنَ إِسْقَاطَ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطَ الدِّيَةِ، وَالْقَوَدُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَبْدِ الْجَانِي، وَالدِّيَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى سَيِّدِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَفْوِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُضَافَ إِلَى الْعَبْدِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّيِّدِ. فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ الْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ عَقْلٍ وَقَوَدٍ صَحَّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَصَحَّ عَنِ الدِّيَةِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ، وَسَوَاءٌ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ أَوْ لَمْ تَجُزْ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِلسَّيِّدِ وَالسَّيِّدُ غَيْرُ قَاتِلٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ مُضَافًا إِلَى الْعَبْدِ بِأَنْ قَالَ لَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَمَّا يَجِبُ لِي عَلَيْكَ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ صَحَّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ لِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ مُضَافًا إِلَى السَّيِّدِ بِأَنْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: قَدْ عَفَوْتُ عَمَّا وَجَبَ لِي عَلَى سَيِّدِكَ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى السَّيِّدِ وَوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْعَبْدِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " قال - يعني الشافعي ولأنه قال فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لَوْ عَفَا عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ جَازَ عَفْوُهُ لَأنَهَا وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ قَاتِلٍ ". وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ لِحِجَاجِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَيَعْفُو عَنْهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ مِنْهَا فَلَا يَخْلُو ثُبُوتُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِأَنْ تَكُونَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْجَانِي وَعُدِمَتْ فِيهَا الْبَيِّنَةُ لَزِمَتْ بِإِقْرَارِهِ كَمَا يَلْزَمُ جِنَايَةُ الْعَمْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ وَإِنْ لَزِمَ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَبَطَلَ إِقْرَارُهُ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَبْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا " فَأَثْبَتَ لِلِاعْتِرَافِ حُكْمًا وَنَفَاهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهِ، وَلِأَنَّ لِلْقَتْلِ الْخَطَأَ حُكْمَيْنِ الْكَفَّارَةَ وَالدِّيَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِإِقْرَارِهِ وَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ كَالدَّيْنِ، وَإِذَا لَزِمَ [إِقْرَارُهُ بِهَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ إِذَا لَمْ] يُصَدِّقُوهُ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُمْ، وَإِذَا لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ وَقَدْ صَارَ قَاتِلًا جَرَى عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا حُكْمُ الْعَفْوِ عَنْ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي إِبْطَالِهِ إِنْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ وَجَوَازِهِ إِنْ أُمْضِيَتْ. (فَصْلٌ) وَإِنْ ثَبَتَتْ جِنَايَةُ الْخَطَأِ بِالْبَيِّنَةِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَجَبَتْ عَلَيْهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَجَّهَ وُجُوبُهَا عَلَى الْجَانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ، وَعَاقِلَتُهُ عَصَبَتُهُ، فَإِنْ عَدِمُوا فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ، لِأَنَّ دِينَ الْحَقِّ قَدْ عَقَدَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ فَصَارَ الْمُسْلِمُ لَا يَعْدِمُ عَصَبَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مَخْرَجُ عَفْوِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ إِبْرَاءً فَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهَا لِلْعَاقِلَةِ فَيَقُولُ: قَدْ وَصَّيْتُ بِهَا وَبِمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لِعَاقِلَتِهِ فَتَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِهِ إِذَا احْتَمَلَهَا، وَتُبَرَّأُ الْعَاقِلَةُ مِنْهَا، سَوَاءٌ أُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ أَوْ رُدَّتْ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ غَيْرُ قَتَلَةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا لِلْقَاتِلِ فَيَقُولُ: قَدْ وَصَّيْتُ بِهَا وَبِمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لِلْجَانِي فَإِنْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ أُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَإِنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَهَا مِنْ عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ بِمَا عَلَيْهِمْ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ تَحَمُّلًا أَوِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهَا سَاعَةَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ فَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الْوَصِيَّةَ بِهَا مُطْلَقَةً فَيَقُولُ قَدْ وَصَّيْتُ بِهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، وَلَا يُسَمَّى الْمُوصِي لَهُ بِهَا، فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لِغَيْرِ مُسَمًّى، وَلِلْوَرَثَةِ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الْعَاقِلَةِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَفْوُهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بَلْ كَانَ عَفْوًا وَإِبْرَاءً مَحْضًا فَالْعَفْوُ وَالْإِبْرَاءُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ جِهَةِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ إِلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، سَوَاءٌ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ أَوْ حُكْمَ الْإِسْقَاطِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ جَرَى عَلَيْهِ حكم الوصية كان عفوا عن جميع الدية، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ كَانَ عَفْوًا عَمَّا وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ دُونَ مَا حَدَثَ عَنْهَا، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ عَفْوِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْجَانِي فَيَقُولُ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَمَّا يَحْدُثُ بِجِنَايَتِكَ، فَإِنْ قِيلَ: إِن الدِّيَة وَجَبَتِ ابْتِدَاءً على العاقلة لم يبرأوا مِنْهَا، وَكَانُوا مَأْخُوذِينَ بِهَا، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ عَنْهَا وَبَرأتِ الْعَاقِلَةُ مِنْهَا لِتَوَجُّهِ الْعَفْوِ إِلَى مَحَلِّ الْوُجُوبِ، سَوَاءٌ جُعِلَ هَذَا الْعَفْوُ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا أَوِ الْإِبْرَاءِ، وَسَوَاءٌ أُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ أَوْ رُدَّتْ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِانْتِقَالِهَا فِي الْحَالِ عَنْهُ إِلَى عَاقِلَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَصِيَّةِ بِهَا مَا يَمْنَعُ الْقَتْلَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ مَالُهَا، لَكِنْ إِنْ أُجْرِي عَلَيْهِ حكم الوصية كان عفوا عن جميع الدية، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ أَوِ الْإِسْقَاطِ كَانَ عَفْوًا عَمَّا وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا بِالسِّرَايَةِ فَيَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مَا حَدَثَ بِالسِّرَايَةِ دُونَ مَا لَزِمَ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَفْوُ إِلَى الْعَاقِلَةِ فَيَقُولُ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ عَاقِلَتِكَ فِي جِنَايَتِكَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمِ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا، لِأَنَّهُمْ مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهَا، وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْجَانِي بِهَا، لِانْتِقَالِهَا عَنْهُ إِلَى مَنْ بَرِئَ مِنْهَا، لَكِنْ إِنْ أُجْرِيَ عَلَى الْعَفْوِ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ كَانَ عفوا عن جميع الدية، وإن أجري عليه حُكْمَ الْإِبْرَاءِ كَانَ عَفْوًا عَمَّا وَجَبَ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ، وَتُؤْخَذُ الْعَاقِلَةُ بِمَا حَدَثَ بِالسِّرَايَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مُطْلَقًا فَيَقُولُ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِتُوَجِّهِ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ إِلَى مَحَلِّ الْحَقِّ، لَكِنْ إِنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ صَحَّ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِبْرَاءِ صَحَّ فِيمَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ وَبَطَلَ فِيمَا حَدَثَ بِالسِّرَايَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ خَطَأً ذِمِّيًّا لَا يَجْرِي عَلَى عَاقِلَتِهِ الْحُكْمُ أَوْ مُسْلِمًا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ خَطَأٍ فَالدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا والعفو باطل لأنه وصية للقاتل ولو كان لهما عاقلة لم يكن عفوا عن العاقلة إلا أن يريد بقوله عفوت عنه أرش الجناية أو ما يلزم من أرش الجناية قد عفوت ذلك عن عاقلته فيجوز ذلك لها (قال المزني) رحمه الله قد اثبت أنها وصية وأنها باطلة لقاتل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَسَائِلِ حِجَاجِهِ، وَهِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَفِي الْمُسْلِمِ إِذَا أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا بَيِّنَةً، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ وَإِنِ افْتَرَقَا فِيهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَاسْتِوَاؤُهُمَا فِيهَا أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا كَانَتْ لَهُ عَاقِلَةٌ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُنَا كَانَتْ جِنَايَةُ خَطَئِهِ فِي مَالِهِ، فَلَوْ جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُنَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْمُسْلِمُ إِذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَوْ قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَصَارَ الْمُسْلِمُ إِذَا أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ كَالذِّمِّيِّ إِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى عَاقِلَتِهِ حُكْمٌ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا فِي أَمْوَالِهِمَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمَا قَاتِلَانِ، فَإِنْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ خَرَجَ الْعَفْوُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ أَوْ مَخْرَجَ الْإِبْرَاءِ، وَإِنْ أُجِيزَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَى الْعَفْوِ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ صَحَّ فِيمَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ وَبَطَلَ فِيمَا حَدَثَ بِالسِّرَايَةِ، وَأَمَّا مَا يَفْتَرِقُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهِ مِنْ جِنَايَةِ الْخَطَأِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاءُ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ فَعَقَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يَعْقِلُوا عَنِ الْكَافِرِ، وَلَئِنْ صَارَ مَالُهُمَا بِالْمَوْتِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَارِثٌ فَحُكْمُهُ مُخْتَلِفٌ، لِأَنَّ مَالَ الْمُسْلِمِ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا وَيَنْتَقِلُ مَالُ الذِّمِّيِّ إِلَيْهِ فَيْئًا، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مَنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْمُزَنِيُّ مَا يَزُولُ بِهِ احْتِجَاجُ وهمه وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله: " ولو جنا عبد على حر فابتاعه بأرش الجرح فَهُوَ عَفْوٌ وَلَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا أَرْشَ الْجُرْحِ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَجُوزُ إِلَّا مَعْلُومَةً فَإِنْ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ وَكَانَ لَهُ فِي عُنُقِهِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي عَبْدٍ جَنَى عَلَى حُرٍّ جِنَايَةَ عَمْدٍ فَالْتَمَسَ الْمَجْنِيُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مِنْ سَيِّدِهِ، فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ أَوْ مَنْعِهِ مِنْهُ سَوَاءٌ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ أَوْ أَنْ يَبِيعَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنْ أَجَابَ سَيِّدُهُ إِلَى بَيْعِهِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضربين: أحدهما: أن بيعه عَلَيْهِ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنِ الِابْتِيَاعُ عَفْوًا عَنِ الْقَوَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَى الْعَبْدِ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِانْتِقَالِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ الْقِصَاصُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا فِي طَرَفٍ أَوْ نَفْسٍ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي طَرَفٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَطْرَافِهِ إِذَا صَارَ فِي مِلْكِهِ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ في نقصه بهذا القصاص، لعلمه باستحقاقه، وإن كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ عَفْوٍ واقتصاص، كالمريض المدمن يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ خَوْفِ مَوْتِهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهِ بَيْنَ بُرْءٍ وَعَطَبٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَوَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْقِصَاصِ، وَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ اسْتَقَرَّ الْبَيْعُ فِيهِ، وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ بَائِعِهِ بِالدِّيَةِ إِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ فَمَا دُونَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُطَالِبُهُ بِجَمِيعِهَا. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِلَّا قَدْرُ ثَمَنِهِ، وَسَيِّدُهُ الْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَفْعِ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنَ الدِّيَةِ بَعْدَ ثَمَنِهِ هَدَرًا، وَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي لَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى مُسْتَهْلِكِهِ بِالْغَصْبِ أَوْ مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِحْقَاقِهِ بِالْغَصْبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِوَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ، لِأَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ غَاصِبِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِغَصْبِهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي مَجْرَى مَوْتِهِ بِالْمَرَضِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهِ وَلَا بِأَرْشِ عَيْنِهِ لِعِلْمِهِ بِجِنَايَتِهِ. (فَصْلٌ) وَإِنِ اشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقِصَاصِ بِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ، سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ عُدُولٌ إِلَى الْأَرْشِ، وَالْعُدُولُ إِلَيْهِ عَفْوٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ جَهِلَهَا الْمُتَبَايِعَانِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ عَلِمَاهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً إِبِلًا كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأُصْبُع مُقَدَّرَةً بِعَشْرٍ مِنَ الْإِبِلِ أَثْلَاثًا فِي الْعَمْدِ وَأَخْمَاسًا فِي الْخَطَأِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ بِهَا فَهِيَ مَعْلُومَةُ الْجِنْسِ وَالسِّنِّ مَجْهُولَةُ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَفِي جَوَازِ جَعْلِهَا صَدَاقًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلْعِلْمِ بِجِنْسِهَا وَسِنِّهَا وَثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِنَوْعِهَا وَحَبْسِهَا، وَأَنَّ حُكْمَ الْعُقُودِ أَضْيَقُ وأغلط. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ على قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ، وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى بُطْلَانِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِاتِّسَاعِ حُكْمِ الصَّدَاقِ لِثُبُوتِهِ بِعَقْدٍ وَغَيْرِ عَقْدٍ وَضِيقِ حُكْمِ الْبَيْعِ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ الثَّمَنُ فِيهِ إِلَّا بِعَقْدٍ. فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ بَرِئَ الْعَبْدُ وَبَائِعُهُ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَلَيُّهُ عَيْبًا سِوَى الْجِنَايَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ وَيَعُودَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهَا أَوْ يَفْدِيهِ السَّيِّدُ مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي رَدِّهِ بِعَيْبِهِ وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرُ ثَمَنِهِ مَعِيبًا؟ قِيلَ: لِجَوَازِ أَنْ يَرْغَبَ فِي ابْتِيَاعِهِ مَنْ يَرْضَى بِعَيْبِهِ فَيَبْرَأُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ دَرْكِهِ. وَبِاللَّهِ التوفيق. تم كتاب جراح العمد والحمد لله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 (كِتَابُ الدِّيَاتِ) (بَابُ أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْمُغَلَّظَةِ) (وَالَعَمْدِ وكيف يشبه العمد الخطأ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا إِنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلقة فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا خَطَأٌ فِي الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فِي الضَّرْبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَنَصَّ عَلَى دِيَةٍ أَجْمَلَ بَيَانَهَا حَتَّى أَخَذَ مِنَ السُّنَّةِ الَّذِي قَدَّمَهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْقَتْلُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا. وَقِسْمٌ يَكُونُ خَطَأً مَحْضًا. وَقِسْمٌ يَكُونُ عَمْدَ الْخَطَأِ يَأْخُذُ مِنَ الْعَمْدِ شَبَهًا وَمِنِ الْخَطَأِ شَبَهًا. فَأَمَّا الْعَمْدُ الْمَحْضُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ قَاصِدًا لِقَتْلِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِسَيْفٍ أَوْ مَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ مِنَ الْمُثْقَلِ عَامِدًا فِي الْفِعْلِ قَاصِدًا لِلنَّفْسِ. وَأَمَّا الْخَطَأُ الْمَحْضُ: فَهُوَ أَنْ لَا يَعْمِدَ الْفِعْلَ وَلَا يَقْصِدَ النَّفْسَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْمِيَ هَدَفًا أَوْ صَيْدًا أَوْ يُلْقِيَ حَجَرًا فَيَعْتَرِضُهُ إِنْسَانٌ فَتُصِيبُهُ الرَّمْيَةُ فَيَمُوتُ مِنْهَا فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ. وَأَمَّا عَمْدُ الْخَطَأِ: فَهُوَ أن يكون عامداً في الفعل غير قاصداً لِلْقَتْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْمِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يقتل في الأغلب وإن جاز أن يقتل كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَمَا تَوَسَّطَ مِنَ الْمُثْقَلِ الَّذِي يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل، فَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنَ الْعَمْدِ لِعَمْدِهِ لِلْفِعْلِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 وَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنَ الْخَطَأِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ لِلْقَتْلِ فَسُمِّيَ عَمْدَ الْخَطَأِ لِوُجُودِ صِفَةِ الْعَمْدِ فِي الْفِعْلِ وَصِفَةِ الْخَطَأِ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ، فَصَارَ الْعَمْدُ مَا كَانَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ وَقَصْدِهِ، وَالْخَطَأُ مَا كَانَ مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَقَصْدِهِ، وَعَمْدُ الْخَطَأِ مَا كَانَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ خَاطِئًا فِي قَصْدِهِ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَمْدِ الْخَطَأِ، وَخَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ: وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ عَمْدَ الْخَطَأِ وَلَيْسَ الْقَتْلُ إِلَّا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ، كَمَا قَالَ: لَا أَعْرِفُ الْخُنْثَى وَمَا هُوَ إِلَّا ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى اسْتِدْلَالًا بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فِي حَالَةٍ، لِأَنَّ الْخَطَأَ ضِدُّ الْعَمْدِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَجْتَمِعَا، كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا قَاعِدًا، وَمُتَحَرِّكًا سَاكِنًا، وَنَائِمًا مُسْتَيْقِظًا، قَالَ: وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حُكْمَ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَحُكْمَ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ عَمْدِ الْخَطَأِ لِاسْتِحَالَتِهِ. وَدَلِيلُنَا السُّنَّةُ الْمَعْمُولُ بِهَا، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ بَعْدَهَا ثُمَّ الِاعْتِبَارُ الْمُوجِبُ لِمُقْتَضَاهَا. فَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا قَدَّمَهُ الْمُزَنِيُّ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد ابن جُدْعَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا " فَدَلَّ عَلَى مَالِكٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَصْفُهُ بِالْعَمْدِ الْخَطَأِ، وَمَالِكٌ يُنْكِرُهَا. وَالثَّانِي: إِيجَابُ الدِّيَةِ فِيهِ، وَمَالِكٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدَّرَ الدِّيَةَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَمَالِكٌ يُوجِبُ مَا تَرَاضَيَا بِهِ كَالْأَثْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ ضَعِيفٌ لَا يُؤْخَذُ بِحَدِيثِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عُمَرَ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا. قِيلَ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي ضَعْفِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ هُوَ ثِقَةٌ قَدْ نَقَلَ عَنْهُ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فِي انْقِطَاعِهِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ قَدْ لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بن أوس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَّصِلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَارَةً وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ أُخْرَى. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى عَمْدِ الْخَطَأِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ: فَهُوَ أَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ لَمَّا جَمَعَ صِفَتَيْنِ مِنِ اعْتِمَادِ الْفِعْلِ وَقَصْدِ النَّفْسِ وَسُلِبَ الْخَطَأُ الْمَحْضُ الصِّفَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَا وُجِدَ فِيهِ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَهُوَ اعْتِمَادُ الْفِعْلِ وَسُلِبُ الْأُخْرَى وَهُوَ قَصْدُ النَّفْسِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ لِاعْتِمَادِ الْفِعْلِ وَحُكْمُ الْخَطَأِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ سُقُوطُ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ خَاطِئٌ فِي النَّفْسِ فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَمْدَ الخطأ ولا يكون ذلك جميعاً بَيْنَ ضِدَّيْنِ مُمْتَنِعَيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا في حكم واحد فيمتنعان. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ فَالدِّيَةُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ اعْتِبَارًا بِأَقْسَامِ الْقَتْلِ. أَحَدُهَا: دِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: تَغْلِيظُهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالثَّانِي: تَعْجِيلُهَا. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُهَا فِي مَالِ الْجَانِي. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: دِيَةُ الْخَطَأِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ تِلْكَ الْأَحْكَامَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُؤَجَّلَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: دِيَةُ الْعَمْدِ الْخَطَأِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: مَأْخُوذٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَهُوَ تَغْلِيظُهَا. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ: مَأْخُوذَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَهُوَ تَأْجِيلُهَا ووجوبها على العاقلة. (مسألة) قال المزني رضي الله عنه: " واحتج الشافعي بعمر بن الخطاب وعطاء رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَغْلِيظِ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 جَذَعَةً (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْخَلِفَةُ الْحَامِلُ وَقَلَّ مَا تَحْمِلُ إِلَّا ثَنِيَّةً فَصَاعِدًا فَأَيَّةُ نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ الْعَاقِلَةِ حَمَلَتْ فَهِيَ خَلِفَةٌ تُجْزِئُ فِي الدِّيَةِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعِيبَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْإِبِلِ يَكُونُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ وَالصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ الْقَدْرِ، وَتَغْلِيظُهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْعَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ الصِّفَةِ. فَأَمَّا الدِّيَةُ مِنَ الْإِبِلِ فَهِيَ مِائَةُ بَعِيرٍ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُهَا بِالتَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَغْلِيظِهَا بِالسِّنِّ وَالصِّفَةِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلى أنها أثلاث: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَالْخَلِفَاتُ الْحَوَامِلُ الَّتِي فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، وَهَلْ مَا تَحْمِلُ إِلَّا ثَنِيَّةً. وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ: عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُغِيرَةِ. وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَفِي الْفُقَهَاءِ، قَوْلُ مَالِكٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَغْلِيظُهَا أَنْ تَكُونَ أَرْبَاعًا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَلَمْ يُوجِبِ الْخَلِفَاتِ، فَخَالَفَ فِي السِّنِّ وَالصِّفَةِ وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْحَوَامِلُ كَالْخَطَأِ، لِأَنَّ الْحَوَامِلَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ فِي الدِّيَةِ كَالزَّائِدِ عَلَى الثَّنَايَا، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ صِفَةٌ مَجْهُولَةٌ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ كَالْمُسَعَّرِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ لِيَعُمَّ بَيَانُهُ فَلَمْ يَجُزْ خِلَافُهُ وَلَا دَفْعُهُ بِالتَّأَوُّلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا عَوَّلْتُمْ عَلَى هَذَا النَّصِّ فِي الْخَلِفَاتِ الْأَرْبَعِينَ فَبِأَيِّ دَلِيلٍ أَوْجَبْتُمْ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً؟ قِيلَ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ عُمَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْخَلِفَاتِ لِتَغْلِيظِهَا عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ دُونَهَا وَدُونَ الثَّنَايَا هِيَ الْجِذَاعُ، وَدُونَ الْجِذَاعِ الْحِقَاقُ، فَلَمْ يَقْتَصِرْ بِالْبَاقِي عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَجَعَلْنَاهُ مِنْ سِنِينَ مُتَوَالِيِينَ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا ثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَثَلَاثِينَ حِقَّةً عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ ضِدَّ تَخْفِيفِهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مَا فِي الْمُغَلَّظَةِ مِنَ الْأَسْنَانِ هُوَ أَعْلَى أَسْنَانِ الْمُخَفَّفَةِ لِأَجْلِ الْعِلَّتَيْنِ، فَوَجَبَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهَا الْجِذَاعَ وَالْحِقَاقَ دُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَبَنَاتِ مَخَاضٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَيَمْنَعُ قِيَاسَهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي الدِّيَةِ الثَّنَايَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي الزَّكَاةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْجَهْلِ بِالْحَمْلِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ لَهُ أَحْكَامٌ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الدِّيَةِ كَمَا ثَبَتَ فِيهَا الْجِذَاعُ وَالثَّنَايَا كَالْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ نَعْتٍ وَلَا صِفَةٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَغْلِيظُهَا فِي الْإِبِلِ بِمَا وَصَفْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْحَوَامِلِ السِّنُّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا السِّنُّ، وَأَيُّ نَاقَةٍ حَمَلَتْ مِنْ ثَنِيَّةٍ أَوْ مَا دُونَهَا لَزِمَ أَخْذُهَا فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا السِّنُّ أَنَّ تَكُونَ ثَنِيَّةً فَمَا فَوْقَهَا، وَلَا يُقْبَلُ مَا دُونَ هَذَا السِّنِّ مِنَ الْحَوَامِلِ، لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا مَا بَيْنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى بَازِلِ عَامِهَا ". فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَكُونُ زِيَادَةَ ثُلُثِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. (فَصْلٌ) وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ صِفَةُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَهِيَ تَتَغَلَّظُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ إِذَا سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ وَتَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً، وَتَتَغَلَّظُ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ وَتَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً، وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ فِيهِ الْقَوَدَ وَجَعَلَهَا ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي مَالِ الْجَانِي دُونَ عَاقِلَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّةٍ أَوْ رَمْيًا بِحَجَرٍ أَوْ ضَرْبًا بِعَصًا أَوْ سَوْطٍ فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَأِ وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرف ولا عدل ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ الْعَمْدِ وَلَا يُقْتَلْ صَاحِبُهُ ". ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " فَسَقَطَ بهما قول مالك وابن شبرمة. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَدِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ مُغَلَّظَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، بِالسِّنِّ، وَالصِّفَةِ، وَالتَّعْجِيلِ، وَالْمَحَلِّ، فَتَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي دُونَ عَاقِلَتِهِ، وَدِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ مُخَفَّفَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالسِّنِّ، وَالصِّفَةِ، وَالتَّأْجِيلِ، وَالْمَحَلِّ، فَتَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَهُ، وَدِيَةُ عَمْدِ الْخَطَأِ مُغَلَّظَةٌ بِشَيْئَيْنِ الصِّفَةِ وَالسِّنِّ، وَمُخَفَّفَةٌ بِشَيْئَيْنِ التَّأْجِيلِ وَالْمَحَلِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ وَمُخْطِئًا فِي قَصْدِهِ بِخِلَافِ الْعَمْدِ تَوَسَّطَ فِيهَا بَيْنَ حُكْمِ الخطأ والعمد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك لو ضَرَبَهُ بِعَمُودٍ خَفِيفٍ أَوْ بِحَجَرٍ لَا يَشْدَخُ أَوْ بِحَدِّ سَيْفٍ لَمْ يَجْرَحْ أَوْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ قُرْبَ الْبَرِّ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ أَوْ مَاءٍ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْ مِثْلِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَذَلِكَ الْجِرَاحُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا بَيَانَ عَمْدِ الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ خَاطِئًا فِي قَصْدِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُحَدَّدٍ، وَمُثَقَّلٍ: فَأَمَّا الْمُحَدَّدُ مِنَ الْحَدِيدِ إِذَا ضُرِبَ بِحَدِّهِ أَوْ بِرُمَّتِهِ فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُضْرَبُ بِحَدِّهِ إِلَّا لِقَصْدِ الْقَتْلِ صَارَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ وَقَصْدِهِ، فَصَارَ عَمْدًا مَحْضًا وَأَمَّا الْمُثْقَلُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقْتُلُ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ مَضْرُوبُهُ كَالْحَجَرِ الْعَظِيمِ وَالْخَشَبَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا ضَرَبَهُ بِهِمَا فَهَذَا كَالْمُحَدَّدِ فِي أَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ الضَّرْبَ إِلَّا لِلْقَتْلِ فَصَارَ عَامِدًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ مَنْ ضُرِبَ بِهِ كَالنَّوَاةِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْقَلَمِ مِنَ الْخَشَبِ فَهَذَا هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا مِنَ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ فَإِذَا قَتَلَ فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ خَاطِئٌ فِي قَصْدِهِ. وَأَمَّا إِنْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ بِقُرْبِ الْبَرِّ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَوْمَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُسْلَمُ مِنْ مِثْلِهِ لِعَظَمِ مَوْجِهِ وَقِلَّةِ خَلَاصِ مَنْ يُلْقَى فِي مِثْلِهِ، فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدٍ يَجِبُ عليه القود له مدة فِي فِعْلِهِ وَقَصْدِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَمُوتُ فِيهِ مَنْ يُحْسِنُ الْعَوْمَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا جَازَ أَنْ يَمُوتَ مِنْهُ وَجَازَ أَنْ يَسْلَمَ، فَهَذَا مِنْ عَمْدِ الْخَطَأِ، لِعَمْدِهِ فِي فِعْلِهِ وَخَطَئِهِ فِي قَصْدِهِ. وَأَمَّا شِجَاجُ الرَّأْسِ إِذَا كَانَ بِالْمُثْقَلِ فَهُوَ عَلَى ضربين: أحدهما: [أن يكون مثله يشج في الأغلب، فإذا ضربه به فأوضحه كانت موضحة عمد يجب فيها القود، لأنه عامد في فعله وقصده. والثاني] : أن يكون مثله يجوز أن يشج ويجوز أن لا يَشُجَّ، فَإِذَا أَوْضَحَهُ فَهُوَ مُوضِحَةُ عَمْدٍ الْخَطَأُ فيها الدية دون القود. فأما الضرب الثالث الَّذِي قَسَّمْنَاهُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتُلَ مِثْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ فَيَقْتَرِنَ بِهِ الْمَوْتُ فَيَسْتَحِيلُ الشِّجَاجُ أَنْ يَكُونَ مَا لَا يُشَجُّ مِثْلُهُ فَيَقْتَرِنُ بِهِ الشِّجَاجُ، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَكُونُ بِالطَّبْعِ وَبِالْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَعْرَاضٍ، فَجَازَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالضَّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ، وَالشِّجَاجُ لَا تَحْدُثُ بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْأَسْبَابِ الْخَافِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُهُ إِلَّا مِنَ الضَّرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَجَرُ عَمْدًا مَحْضًا فِي الشِّجَاجِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ يُوضِحُ الرَّأْسَ لَا مَحَالَةَ وَيَكُونُ ذلك الحجر عمداً الْخَطَأِ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ فِي شِجَاجِ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ بِهِ الْقَوَدُ فَيَصِيرُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ فِي النَّفْسِ هَدَرًا وَلَا يَكُونُ الشِّجَاجُ هَدَرًا: وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُثْقَلُ فِي النَّفْسِ عَمْدَ الْخَطَأِ وَفِي الشِّجَاجِ عَمْدًا مَحْضًا ثُمَّ يَكُونُ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِيهِمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ لِتَغْلِيظِهَا فِي النَّفْسِ عَلَى ما سنذكره. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ فِي الشَّهْرِ الحرام والبلد الحرام وذي الرحم وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قضى في دية امرأة وطئت بمكة بدية وثلث (قال) وهكذا أسنان دية العمد حالة في ماله إذا زال عنه القصاص (قال المزني) رحمه الله: إذا كانت المغلظة أعلى سنا من سن الخطإ للتغليظ فالعامد أحق بالتغليظ إذا صارت عليه وبالله التوفيق ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: دِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ تَجِبُ عَلَى الْجَانِي حَالَّةً. وَالثَّانِي: دِيَةُ الْعَمْدِ الْخَطَأِ وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَتَسَاوَى الدِّيَتَانِ فِي التَّغْلِيظِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّحَمُّلِ، فَتَكُونُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي عَمْدِ الْخَطَأ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمْدُ الْخَطَأِ أَخَفَّ مِنَ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَقَدْ سَاوَاهُ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ لِعَمْدِهِ فِي الْفِعْلِ خَالَفَهُ فِي التَّأْجِيلِ وَالْمَحَلِّ لِخَطَئِهِ فِي الْقَصْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَهِيَ مُخَفَّفَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ صِفَةِ التَّخْفِيفِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثَةِ سِنِينَ وَلَا تَتَغَلَّظُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْخَطَأِ فِي الْحَرَمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَتَكُونُ مُغَلَّظَةً فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ كَمَا تَتَغَلَّظُ دِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَدِيَةُ الْعَمْدِ الْخَطَأِ، فَيَصِيرُ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَفِي الْعَمْدِ الْخَطَأِ، وَفِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَتَغَلَّظُ دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ بِالْحَرَمِ وَلَا بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا عَلَى ذِي الرَّحِمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ لَمْ يَتَغَلَّظْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ أَخَفُّ مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَرَمِ وَالرَّحِمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ زِيَادَةُ تَأْثِيرٍ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا زِيَادَةُ تأثير في قَتْلِ الْخَطَأِ، وَلِأَنَّ لِحَرَمِ الْمَدِينَةِ حُرْمَةً كَمَا لِحَرَمِ مَكَّةَ حُرْمَةٌ، وَلِشَهْرِ رَمَضَانَ حُرْمَةٌ كَمَا لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حُرْمَةٌ، وَلِشَرَفِ النَّسَبِ حُرْمَةٌ كَمَا للرحم حرمة، ثم لم يتغلظ الدِّيَةُ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ وَحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحُرْمَةِ شَرَفِ النَّسَبِ كَذَلِكَ لَا تَتَغَلَّظُ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَحُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَحُرْمَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ كَالزِّنَا لِوُجُوبِ الْقَتْلِ بِهِ تَارَةً وَمَا دُونَهُ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَتَغَلَّظْ حُكْمُ الزِّنَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالرَّحِمِ لَمْ يَتَغَلَّظْ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَغَلَّظَ حُكْمُ الْقَتْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَوَجَبَ إِذَا جَمَعَهَا أَنْ يُضَاعِفَ التغليظ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 بِهَا وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى سُقُوطِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ تُضْمَنُ كَالنُّفُوسِ، وَالْعَبْدَ يُضْمَنُ بِالْقَتْلِ كَالْحُرِّ، وَلَمْ يَتَغَلَّظْ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ وَقَتْلُ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ لَا يَتَغَلَّظُ بِهَا ضَمَانُ النُّفُوسِ فِي الْأَحْرَارِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا عُمَرُ فَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ. وَأَمَّا عُثْمَانُ فَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِي دِيَةِ امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِمَكَّةَ بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ تَغْلِيظًا لِأَجْلِ الْحَرَمِ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ امْرَأَةٍ دِيسَتْ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَهَلَكَتْ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدِّيَةُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ تَغْلِيظًا، لِأَجْلِ الحرم، وأربعة آلاف للشهر الحرام. وليس لقول لِهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ انْتِشَارِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ فِيهِمْ إِمَامَيْنِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّغْلِيظُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ هُوَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَوْ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَغْلِيظِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ فِي الْخَطَأِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ نَصُّوا عَلَى تَغْلِيظِهَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ لَمَا تَغَلَّظَتْ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمُ نَقْلٍ مَعَ سَبَبٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، كَمَا نُقِلَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " سَهَى " فَسَجَدَ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سُجُودِهِ لِأَجْلِ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ مَخْصُوصَةً بِتَغْلِيظِ الْحُرْمَةِ فِي الْقَتْلِ جَازَ أَنْ يَتَغَلَّظَ بِهَا حُكْمُ الْقَتْلِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 أَمَّا الْحَرَمُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الكعبي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّمَ مَكَّةَ، فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر فلا يسفك فيها دماً، ولا يعضدن فِيهَا شَجَرًا، فَإِنْ رَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ فَقَالَ إِنَّهَا أحلت لرسول الله فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّهَا لِي سَاعَةً، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تغلظ بِالْحَرَمِ حُرْمَةُ الصَّيْدِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تُغَلَّظَ بِهِ نُفُوسُ الْآدَمِيِّينَ. وَأَمَّا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {يسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] . وَقَدْ قَالَ الْقِتَالُ فِيهَا محرما فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِعَظَمِ حُرْمَتِهَا، وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] فَقِيلَ هِيَ الرَّحِمُ أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَعَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ قَتْلِ أَبِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ: " دَعْهُ يَلِي قَتْلَهُ غَيْرُكَ " حَتَّى قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَنَعَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ قَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَخْصُوصَةً بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ وَعِظَمِ الْمَأْثَمِ فِي الْقَتْلِ جَازَ أَنْ يُخْتَصَّ بِتَغْلِيظِ الدِّيَةِ كَالْعَمْدِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ قَتْلٌ فِي الْحَرَمِ فَكَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي قَدْرِ غُرْمِهِ سَوَاءً كَقَتْلِ الصَّيْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ جَوَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَتَخْصِيصُهُ بِدَلِيلِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَفَّارَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَغَلَّظْ بِالْعَمْدِ لَمْ تَتَغَلَّظْ بِهَذِهِ الأٍسباب، وَالدِّيَةُ لَمَّا تَغَلَّظَتْ بِالْعَمْدِ تَغَلَّظَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَمْدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى غَايَةَ التَّغْلِيظِ فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّغْلِيظِ تَأْثِيرٌ وَالْخَطَأُ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ حَرَمَ مَكَّةَ بِحَرَمِ الْمَدِينَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّظَ الدِّيَةَ فِيهَا كَتَغْلِيظِهَا بِمَكَّةَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ " إِنَّ صَيْدَهَا مَضْمُونٌ " فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَتَغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهَا وَإِنْ تَغَلَّظَتْ بِحَرَمِ مَكَّةَ، لِأَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ أَغْلَظُ حُرْمَةً لِاخْتِصَاصِهِ بِنُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَحْرِيمُ الدُّخُولِ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِحْرَامٍ، فَلِذَلِكَ تَغَلَّظَتِ الدِّيَةُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَدِينَةِ، وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ بِالْقَتْلِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ حُرْمَةَ شَهْرِ رَمَضَانَ مُخْتَصَّةٌ بِالْعِبَادَةِ دُونَ الْقَتْلِ، وَحُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُخْتَصَّةٌ بِالْقَتْلِ فَلِذَلِكَ تَغَلَّظَتِ الدِّيَةُ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَمْ تَتَغَلَّظْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَا الرَّحِمِ بِذِي النَّسَبِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الرَّحِمِ أَقْوَى لِاخْتِصَاصِهَا بِالتَّوَارُثِ وَالنَّفَقَةِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْقَتْلِ بِالزِّنَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الزِّنَا لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْقَتْلِ بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ نُفُوسَ الْأَحْرَارِ بِنُفُوسِ الْعَبِيدِ وَالْأَمْوَالِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي نُفُوسِ الْعَبِيدِ وَالْأَمْوَالِ غُرْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ فِي نُفُوسِ الْأَحْرَارِ غُرْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ اخْتَلَفَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فِي الْحَرَمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ فِي الْحَرَمِ مِنَ الْقَاتِلِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي الْحِلِّ إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، وَيُلْجَأُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِالْهَجْرِ وَتَرْكِ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُشَارَاةِ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْحِلِّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمنا} [آل عمرا: 96] . وقوله تعالى: {أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت 67] فَوَجَبَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلُهُ آمِنًا، وَلَيْسَ قَتْلُهُ فِيهِ أَمْنًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ الْقَاتِلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَالضَّارِبُ غَيْرَ ضَارِبِهِ وَالْقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ، وَالْقَاتِلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 وَقَوْلُهُ: " الْقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ ": يَعْنِي قَوَدًا وَقِصَاصًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَاتِلِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: " الْقَاتِلُ غَيْرُ قَاتِلِهِ " وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ مُنْتَشِرَةٌ عَنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ فِي الْكَعْبَةِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ فِيمَا انْتَشَرَتْ حُرْمَتُهَا إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّينَ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّيْدِ، فَلَمَّا حُرِّمَ قَتْلُ الصيد إذا ألجأ إِلَى الْحَرَمِ كَانَ قَتْلُ الْآدَمِيِّ أَشَدَّ تَحْرِيمًا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْقِصَاصِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَخْصِيصُ الْحِلِّ مِنَ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحِلِّ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحَرَمِ كَالْقَاتِلِ فِي الْحَرَمِ وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ اسْتُوفِيَ مِنْ جَانِبِهِ فِي الْحَرَمِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ كَالْأَطْرَافِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَحَلًّا لِلْقِصَاصِ إِذَا جَنَى فِيهِ كَانَ مَحَلًّا لَهُ وَإِنْ جَنَى فِي غَيْرِهِ كَالْحِلِّ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَارِدٌ بتحريم الهجرة وَإِبَاحَةِ الْبَيْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ " فَأَمَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَجْرِهِ وَهُوَ مَحْظُورٌ، وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ وَهُوَ مُبَاحٌ، وَأَخَّرَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُ وَهُوَ وَاجِبٌ، فَصَارَ فِي الْكُلِّ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96] فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران: 96] . فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96] وَمَقَامُهُ خَارِجَ الْبَيْتِ لَا فِيهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ حَجَرٌ مَنْقُولٌ لَا يَسْتَقِرُّ مَكَانَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي الْبَيْتِ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] فَهُوَ دَلِيلُنَا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْنِ أَنْ لَا يُؤَخَّرَ فِيهِ الْحُقُوقُ وَيُعَجَّلَ اسْتِيفَاؤُهَا لِأَهْلِهَا، وَإِذَا أُخِّرَتْ صَارَتْ مُضَاعَةً فَخَرَجَ الْحَرَمُ عَنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَقَوْلِهِ " الْقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ دُونَ الْقِصَاصِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِقَتْلِ الْقِصَاصِ أَسْمَاءً هُوَ أَخَصُّ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ وَلَيْسَ الْمُقْتَصُّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ، لِأَنَّهُ مستوف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 لِحَقِّهِ وَمُسْتَوْفِي الْحَقِّ لَا يَكُونُ عَاتِيًا، وَإِنَّمَا الْعَاتِي الْمُبْتَدِئُ وَلَئِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: " مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ " فَأُعِيدَ ذِكْرُ قَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ تَغْلِيظًا وَتَأْكِيدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ والوسطى} [البقرة: 238] وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَالْحَرَمِ فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ إِذَا قَتَلَ فِيهِ فَجَازَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِيهِ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْكَعْبَةِ إِذَا قَتَلَ فِيهَا، فَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِيهَا إِذَا لَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصَّيْدِ وَتَغْلِيظِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ عَلَيْهِ فَاسِدٌ بِالْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِصَاصِ مَعَ تَغْلِيظِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّيْدِ كَذَلِكَ حَالُ الْإِحْرَامِ والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 (بَابُ أَسْنَانِ الْخَطَأِ وَتَقْوِيمِهَا وَدِيَاتِ النُّفُوسِ وَالْجِرَاحِ وغيرها) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فَأَبَانَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ دِيَةُ الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ عِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ الله: فبهذا نأخذ ". قال الماوردي: أما الدية من الإبل فمائة بَعِيرٍ فِي الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَفِي عَمْدِ الْخَطَأِ، قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " الْمَعَارِفِ) أَبُو سَارَةَ الْعُدْوَانِيُّ الَّذِي كَانَ يُفِيضُ بِالنَّاسِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا فَجَاءَ الشَّرْعُ بِهَا وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْجَانِي وَقَدْ ذَكَرْنَا تَغْلِيظَهَا، وَدِيَةَ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ تَخْفِيفِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَكُونُ أَرْبَاعًا، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي صِفَةِ أَرْبَاعِهَا فَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا عِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا أَخْمَاسٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ " وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي صِفَةِ أَخْمَاسِهَا: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا عِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالثَّوْرِيُّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِمِثْلِ ذَلِكَ إِلَّا فِي ابْنِ اللَّبُونِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَكَانَهُ عِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَضَافُوهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطَّائِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَةُ الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ". وَلِأَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ سِنٌّ يَجِبُ دُونَهَا فِي الدِّيَاتِ سِنٌّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ذَكَرٌ مِنْ هَذَا السِّنِّ كَالْجِذَاعِ وَالْحِقَاقِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ دِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى التَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لَهَا فَكَانَ إِيجَابُ بَنِي الْمَخَاضِ أَقْرَبَ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْ بَنِي اللَّبُونِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكر، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف ابن مَالِكٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى في دية الخطأ أخماساً: خمساً جذاع، وخمساً حقاق، وَخُمْسًا بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخُمْسًا بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَخَمْسًا بني لبون ذكر. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَأَشْبَهُ بِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلْقَمَةُ وَهُوَ لَا يُفْتِي بِخِلَافِ مَا يَرْوِي ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: دِيَةُ الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَسُلَيْمَانُ تَابِعِيٌّ وَإِشَارَتُهُ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّحَابَةِ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا نَقَلَهُ عَنْهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ كَالثَّنَايَا وَالْفِصَالِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنَ الْإِبِلِ مُوَاسَاةً لَمْ يَجِبْ فِيهِ بَنُو الْمَخَاضِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ بَنَاتِ الْمَخَاضِ أَحَدُ طَرَفَيِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجِبْ ذُكُورُهَا فِي الدِّيَةِ كَالْجِذَاعِ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِهِمْ مَعَ ضَعْفِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ وَأَنَّ خَشْفَ بْنَ مَالِكٍ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَهُوَ أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ خِلَافِهِ وَأَنَّهُ وَافَقَ فِيهِ الْجَمَاعَةَ مِنْ إِبْدَالِ بَنِي اللَّبُونِ مَكَانَ بَنِي الْمَخَاضِ أَوْلَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِذَاعِ وَالْحِقَاقِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مَالٌ أُقِيمَ فِي الزَّكَاةِ الذَّكَرُ مِنْهَا مَقَامَ سِنٍّ دُونَهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِي الدِّيَةِ، وَبَنُو اللَّبُونِ بِخِلَافِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ، فَإِذَا تَخَفَّفَتْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَجِبْ تَخْفِيفُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّنَا نُوجِبُ فِيهَا مَعَ التَّخْفِيفِ مَا نُوجِبُهُ فِي الْمُغَلَّظَةِ مِنَ الجذاع والحقاق والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ مِنَ الْعَاقِلَةِ غَيْرَ إِبِلِهِ ولا يقبل منه دونها فإن لم يكن لبلده إبل كلف إلى أقرب البلدان إليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَقَادِيرِ الدِّيَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَأَسْنَانِهَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَنَقْلِهَا نَصًّا، فَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، لِأَنَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَى الْعُرْفِ اعْتِبَارًا بِنَظَائِرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ إِبِلِ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَإِبِلِ الْقَاتِلِ فِي الْعَمْدِ، فَإِنْ كَانَتْ إِبِلُهُ عِرَابًا أُخِذَتْ عِرَابًا، وَإِنْ كَانَتْ بِخَاتِيَّ أُخِذَتْ بُخْتًا، وَإِنْ كَانَتْ عِرَابًا مَهْرِيَّةً أُخِذَتْ مَهْرِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَدَبَةً أُخِذَتْ مُحْتَدَبَةً، تُؤْخَذُ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ وَنَوْعِهِ كَالزَّكَاةِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ إِبِلُهُ خَيْرَ الْأَنْوَاعِ أَوْ أَدْوَنِهَا، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ إِبِلِهِ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى مَا هُوَ أَدْوَنُ لَمْ يُقْبَلْ كَالزَّكَاةِ، وَإِنْ طُولِبَ بِمَا هُوَ أَعْلَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَإِنْ طُولِبَ بِمَا هُوَ أَدْوَنُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ كُلِّفَ الْغَالِبَ مِنْ إِبِلِ الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِبَلَدِهِ إِبِلٌ كُلِّفَ الْأَغْلَبَ مِنْ إِبِلِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ كَانَتْ إِبِلُ الْعَاقِلَةِ مُخْتَلِفَةٌ أَدَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ إِبِلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتِلَافُ إِبِلِ الْعَاقِلَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَوْعٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِي مِلْكِهِ وَلَا يُكَلَّفُ أَحَدُهُمْ إِبِلَ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُ جَمِيعِهِمْ نَوْعًا وَاحِدًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِبِلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعِهَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الأغلب من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 إِبِلِهِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَغْلَبَ إِبِلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْلَاهَا جَازَ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَدْنَاهَا قُبِلَ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنَ الْجَانِي فِي الْعَمْدِ، لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَاقِلَةِ مُوَاسَاةً وَمِنِ الْجَانِي اسْتِحْقَاقًا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كانت عِجَافًا أَوْ جُرْبًا قِيلَ إِنْ أُدِّيَتْ صِحَاحًا جُبِرَ عَلَى قَبُولِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُسْتَحَقُّ فِي إِبِلِ الدِّيَةِ مَا كَانَ سَلِيمًا مِنَ الْعُيُوبِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَنِ النَّفْسِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَعْوَاضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ فَأَشْبَهَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَالنَّفَقَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ إِبِلُ العاقلة كلها مراضاة أَوْ عِجَافًا أَوْ جَرْبَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا مِرَاضًا وَلَا عِجَافًا وَإِنْ أَخَذْنَاهَا فِي الزَّكَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ غَيْرُهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَأَخَذْنَا مِثْلَ إِبِلِهِ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ وَلَا يَعْدِلُ إِلَى الْغَالِبِ مِنْ إِبِلِ بَلَدِهِ، لِأَنَّ النَّوْعَ مُعْتَبَرٌ بِمَالِهِ وَإِنْ مُنِعَ الْعَيْبُ أَخَذَهُ، فَصَارَ أَصْلًا مُعْتَبَرًا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَعْوَزَتِ الْإِبِلُ فَقِيمَتُهَا دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ كَمَا قَوَّمَهَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ الشافعي) رحمه الله تعالى: وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُقَوِّمْهَا إِلَّا قِيمَةَ يومها فإذا قومها كذلك فاتباعه أن تقوم متى وجبت ولعله أن لا يكون قومها إلا في حين وبلد أعوزت فيه أو يتراضى الجاني والولي فيدل على تقويمه للإعواز قوله لا يكلف أعرابي الذهب ولا الورق لأنه يجد الإبل وأخذه ذلك من القروي لإعواز الإبل فيما أرى والله أعلم. ولو جاز أن يقوم بغير الدراهم والدنانير جعلنا على أهل الخيل الخيل وعلى أهل الطعام الطعام (قال المزني) رحمه الله وقوله القديم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم وَرُجُوعُهُ عَنِ الْقَدِيمِ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى الْجَدِيدِ وهو بالسنة أشبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدِّيَةُ مِنَ الْإِبِلِ فَمُقَدَّرَةٌ بِمِائَةِ بَعِيرٍ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ، وَانْعَقَدَ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ، فَإِذَا وُجِدَتْ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، فَإِنْ أَعْوَزَتْ إِمَّا بِعَدَمِهَا وَإِمَّا بِوُجُودِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا عُدِلَ عَنْهَا إِلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ وَقِيَمٌ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعُدُولِ عَنِ الْإِبِلِ إِلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ عِنْدَ إِعْوَازِ الْإِبِلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 بَدَلًا مِنَ النَّفْسِ، وَلَا تَكُونُ بَدَلًا مِنَ الْإِبِلِ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَتَصِيرُ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ دُونَ التَّقْوِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ إِعْوَازَ الْإِبِلِ يُوجِبُ الْعُدُولَ إِلَى قِيمَتِهَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مَا بَلَغَتْ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِي الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ، فَتَكُونُ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ بَدَلًا مِنَ الْإِبِلِ لَا مِنَ النَّفْسِ وَلَا تَكُونُ لِلدِّيَةِ أَصْلًا وَاحِدًا وَهُوَ الْإِبِلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلدِّيَةِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ: مِائَةُ بَعِيرٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، يَكُونُ الْجَانِي فِيهَا مُخَيَّرًا فِي دَفْعِ أيهما شاء فخالفهم الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَيِّرُ فِيهَا مَعَ إِمْكَانِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِالْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَالشَّافِعِيُّ قَدَّرَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَوَافَقَهُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ فَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: التَّخْيِيرُ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَيِّرُهُ. وَالثَّانِي: فِي الْبَدَلِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بَدَلًا مِنَ النَّفْسِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنَ الْإِبِلِ. وَالثَّالِثُ: فِي التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ لَا يُقَدِّرُهَا، لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا قِيمَةً تَقِلُّ وَتَكْثُرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وعلى أهل البقر مائتي بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ أَلْفُ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ، فَجَعَلُوا لِلدِّيَةِ سِتَّةَ أُصُولٍ، وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِتَوْجِيهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ نَعْدِلُ إِلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابِنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَمْرِو ابن حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ " أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرَقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 وَإِذَا صَحَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ أَصْلَانِ مُقَدَّرَانِ كَالْإِبِلِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي الدِّيَةِ أَصْلًا مُقَدَّرًا كَالْإِبِلِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ مَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَوِّمُ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ عَدْلِهَا مِنَ الْوَرِقِ وَيُقَوِّمُهَا عَلَى أَثْمَانِ الْإِبِلِ، فَإِذَا قَلَّتِ الْإِبِلُ رَفَعَ في قيمتها، وإذا هانت برخص ... منها نقص فَبَلَغَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[ما بين أربعمائة دينار إلى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ] أَوْ عَدْلِهَا ... ". وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوَّمَ لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ وَغَلَتِ الْإِبِلُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ مِنْ سِتِّمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " شَرْحِهِ ". وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانَمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَغَلَتِ الْإِبِلُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ فَقَضَى يَعْنِي فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى أهل الورق أثنى عشر ألف درهم. لأن الْإِبِلَ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْهَا عِنْدَ إِعْوَازِهَا إِلَى قِيمَتِهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ وَبِالْحُرِّيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالذَّهَبِ إِذَا عَدَلَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى قِيمَتِهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ) مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُعْدَلُ عَنْ إِبِلِ الدِّيَةِ إِذَا وُجِدَتْ، وَخَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِجَمِيعِهَا فَدَلَّ عَلَى التَّخْيِيرِ فِيهَا وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا مُوَاسَاةً مَكَانَ التَّخْيِيرِ فِيهَا أَرْفَقُ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أُصُولُ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ فَرْعًا لِلْإِبِلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا " فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ أَصْلًا لَا يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَّا بَعْدَ الْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَكْرِمُوا الْإِبِلَ فَإِنَّ فِيهَا رَقُوءَ الدَّمِ " فَخَصُّهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهَا تُبْذَلُ فِي الدِّيَةِ فَيُعْفَى بِهَا عَنِ الْقَوَدِ فَدَلَّ عَلَى اختصاصها بالحكم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 وَرَوَى عَطَاءٌ قَالَ: كَانَتِ الدِّيَةُ بِالْإِبِلِ حَتَّى قَوَّمَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مَا قَوَّمَهَا إِلَّا قِيمَةَ يَوْمِهَا " وَإِذَا كَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا قِيمَةً لَهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ الْقِيَمَ إِلَّا بَعْدَ الْعَدَمِ، لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَدْخُلْهَا تَخْيِيرٌ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ لِمَا احْتِيجَ بِهِ مِنْ قضاء النبي بِجَمِيعِهَا وَجْهٌ لِاحْتِمَالِ قَضَائِهِ بِذَلِكَ مَعَ الْإِعْوَازِ وَالْعَدَمِ، وَلَا تُوجِبُ الْمُوَاسَاةُ بِهَا التَّخْيِيرَ فِيهَا كَمَا لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ مَا سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " إِنَّهَا أَرْفَقُ ". (فَصْلٌ) قَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّيَةَ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إِذَا تَقَدَّرَتْ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَوَّمَ الشَّافِعِيُّ كُلَّ دِينَارٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَقَوَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ اسْتِدْلَالًا بِقَضَاءِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَبِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ وَاحِدًا مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ ". صَرْفَ الدِّينَارَ بِالدَّرَاهِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَدَّرَ فِي الزَّكَاةِ وَالسَّرِقَةِ كُلَّ دِينَارٍ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَمَّا الزَّكَاةُ فَلِأَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا وَنِصَابَ الْوَرِقِ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْقَطْعُ فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ". وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ [وَحَدِيثُ عمرو بن حزم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ] ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الدِّيَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا لَا يُسَوَّغُ خِلَافُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا رَوَيْنَاهُ وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَحَضَرَ السِّيرَةَ فِيهِ فَكَانَ أَثْبَتَ نَقْلًا وَأَصَحَّ عَمَلًا وَلَوْ تَعَارَضَتْ عَنْهُ الرِّوَايَتَانِ كَانَ خَارِجًا مِنْ خِلَافِهِمْ وَوِفَاقِهِمْ، وَلَكَانَ قَوْلُ مَنْ عَدَاهُمْ إجماعاً منعقداً. فإن قيل فتحمل الاثني عَشَرَ أَلْفًا عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ، وَالْعَشَرَةُ آلَافٍ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ، فَيَكُونُ وِفَاقًا فِي الْقَدْرِ وَإِنْ كَانَ خِلَافًا فِي الْعَدَدِ. قِيلَ: لَيْسَ تُعْرَفُ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ إِلَّا وِزَانٌ سَبْعَةٌ، وَلَوْ جَازَ لَكُمْ أَنْ تَتَأَوَّلُوهُ عَلَى هَذَا لَجَازَ لَنَا أَنْ نُقَابِلَكُمْ بِمِثْلِهِ فَتَأَوَّلَ مَنْ رَوَى عشرة آلاف درم عَلَى أَنَّهَا وَزْنُ ثَمَانِيَةٍ، وَمَنْ رَوَى اثْنَيْ عشر ألف عَلَى أَنَّهَا وَزْنُ سَبْعَةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 وَقَوْلُهُمْ: إِنِ الدِّينَارَ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الزَّكَاةِ وَالسَّرِقَةِ فَلَيْسَتِ الزَّكَاةُ أَصْلًا لِلدِّيَةِ، لِأَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ فِيهَا خَمْسٌ، وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، يَكُونُ الْبَعِيرُ الْوَاحِدُ فِي مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَالدِّيَةُ مِنَ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ تَقْتَضِي عَلَى اعْتِبَارِ الزَّكَاةِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ نِصَابِ الْوَرِقِ بِنِصَابِ الذَّهَبِ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ فَالْحَدِيثُ فِيهَا مَدْفُوعٌ وَالنَّقْلُ مَرْدُودٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا لِغَيْرِهِ وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّهُ قَالَ: " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ " فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَرُجُوعُهُ عَنِ الْقَدِيمِ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى الْجَدِيدِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالسَّنَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ فَيَكُونُ اخْتِيَارًا لَهُ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَدِيدُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ فَيَكُونُ اخْتِيَارًا لَهُ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ الَّتِي تُبْرِزُ الْعَظْمَ حَتَّى يُقْرَعَ بِالْمِرْوَدِ لِأَنَّهَا عَلَى الْأَسْمَاءِ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ شَانَتْ أَوْ لَمْ تَشِنْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شِجَاجَ الرَّأْسِ إِحْدَى عَشْرَةَ شَجَّةً فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مِنْهَا سِتَّةٌ قَبْلَ الْمُوضِحَةِ وَأَرْبَعَةٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَجَّةً في قول آخرين منها ثمانية قبل الموضحة، وَخَمْسٌ بَعْدَهَا، فَأَوَّلُهَا الْحَارِصَةُ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ، ثُمَّ الدَّامِغَةُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، وَقَدْ يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْبَازِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ شَجَّةً زَائِدَةً وَهِيَ الْمُفَرِّشَةُ، ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ ثُمَّ الْمَأْمُومَةُ، ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجْعَلُ بَعْدَ الْمَأْمُومَةِ شَيْئًا، وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ وَبَعْدَهَا قِصَاصٌ. فَأَمَّا الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ فَلَا تَجِبُ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ، وَيَجِبْ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا فَتَصِيرُ شِجَاجُ الرَّأْسِ مُنْقَسِمَةً ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَهُوَ [مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ. وَالثَّانِي: مَا يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ وَهُوَ] الْمُوضِحَةُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ مُقَدَّرَةٌ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، لِرِوَايَةِ عمرو بن حزم أن فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ " وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ " وَرَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَفْظًا سَمِعَهُ مِنْهُ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ خَمْسٌ " وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الرَّأْسِ أَوْ فِي الْوَجْهِ وَلَا تَجِبُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْبَدَنِ إِلَّا أَرْشٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَبَيْنَ مُوضِحَةِ الْجَسَدِ، وَسَوَّى بَيْنَ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفَرَّقَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشْرًا، وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ خَمْسًا وَأَوْجَبَ فِي مُوضِحَةِ الْأَنْفِ خَمْسًا، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْأَخْبَارِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا صِفَةُ الْمُوضِحَةِ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ مِنْهَا وَهُوَ مَا أَوْضَحَ عَنِ الْعَظْمِ وَأَبْرَزَهُ حَتَّى يُقْرَعَ بِالْمِرْوَدِ وَإِنْ كَانَ الْعَظْمُ غَيْرَ مُشَاهَدٍ بِالدَّمِ الَّذِي يَسْتُرُهُ أَوْ أُوصِلَ الْمِرْوَدُ إِلَيْهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَهِيَ عَلَى الْأَسْمَاءِ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ " وَهَذَا صَحِيحٌ، وَفِيهَا إِذَا صَغُرَتْ فَكَانَتْ كَالْمُحِيطِ أَوْ كَبُرَتْ فَأَخَذَتْ جَمِيعَ الرَّأْسِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا عَلَى الْأَسْمَاءِ فَاسْتَوَى حُكْمُ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا كَالْأَطْرَافِ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا الدِّيَاتُ وَلَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُوضِحَةِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي جِهَةِ الْوَجْهِ أَوْ فِي لِحْيَتِهِ وَذَقْنِهِ، سَتَرَهَا الشَّعْرُ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " شَانَتْ أَوْ لَمْ تَشِنْ " هَذَا مَذْهَبُهُ أَنَّ فِيهَا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فِيمَا شَانَ أَوْ لَمْ يَشِنْ، قَلَّ الشَّيْنُ أَوْ كَثُرَ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ مُوضِحَةِ الْجَبْهَةِ إِذَا كَثُرَ شَيْنُهَا فِي الْوَجْهِ أَنَّ فِيهَا أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهَا أَوْ أَرْشِ شَيْنِهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ خَرَّجُوا زِيَادَةَ الشَّيْنِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي شَيْنِ الرَّأْسِ إِلَّا دِيَتُهَا، وَيَلْزَمُهُ فِي شَيْنِ الْوَجْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِهَا أَوْ دِيَتِهَا، لِأَنَّ شَيْنَهَا فِي الْوَجْهِ أَقْبَحُ، وَهِيَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْخَوْفُ عليها أقرن. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ وَسَطَهَا مَا لَمْ يَنْخَرِقْ فَهِيَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 موضحتان فإن قال شَقَقْتُهَا مِنْ رَأْسِي وَقَالَ الْجَانِي بَلْ تَأَكَّلَتْ مِنْ جِنَايَتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا وَجَبَتَا لَهُ فَلَا يُبْطِلُهُمَا إِلَّا إِقْرَارُهُ أَوْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ الْمُوضِحَةِ حَاجِزٌ بَيْنَ طَرَفِهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الْحَاجِزُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ جِلْدَةَ الرَّأْسِ وَمَا تَحْتَهَا مِنَ اللَّحْمِ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَاجِزُ فَصْلًا بَيْنَهُمَا فَتَصِيرُ مُوضِحَتَيْنِ، وَيَلْزَمُهُ فِيهِمَا دِيَتَانِ، سَوَاءٌ صَغُرَ الْحَاجِزُ وَدَقَّ أَوْ كَبُرَ وَغَلُظَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا لَحْمًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْجِلْدِ عَنْهُ فَصَارَ بِهِ مَا بَقِيَ مِنَ اللَّحْمِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْجِلْدِ حَارِصَةً أَوْ مُتَلَاحِمَةً فَهِيَ مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا، سَوَاءٌ قَلَّ اللَّحْمُ أَوْ كَثُرَ، انْكَشَفَ عِنْدَ الِانْدِمَالِ أَوْ لَمْ يَنْكَشِفْ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرَفَيِ الْمُوضِحَةِ مَعَ إِيضَاحِ وَسَطِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَتُهَا، وَدَخَلَ حُكُومَةُ الْحَارِصَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ مَا لَمْ يُوَضِّحْهُ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِذَا لَمْ يُوَضِّحْهُ أَوْلَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْجِلْدَ بَعْدَ انْخِرَاقِ مَا تَحْتَهُ مِنَ اللَّحْمِ حَتَّى وُضِعَ بِهِ الْعَظْمُ فَصَارَتْ مُوضِحَتَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَوَاحِدَةً فِي الْبَاطِنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا مُوضِحَتَانِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ فِي الِانْفِصَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ اعْتِبَارًا بِالْبَاطِنِ فِي الِاتِّصَالِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْمُوضِحَتَيْنِ بِالْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَانْخَرَقَ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا حَتَّى اتَّصَلَتِ الْمُوَضِحَتَانِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْخَرِقَ بِالسِّرَايَةِ الَّتِي تَآكَلَ بِهَا الْحَاجِزُ حَتَّى انْخَرَقَ فَتَكُونَ مُوضِحَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ مَا حدث عن الجناية من سرائة كَانَ مُضَافًا إِلَيْهَا وَالْجَانِي مَأْخُوذٌ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْخَرِقَ الْحَاجِزُ بِقَطْعِ قَاطِعٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ قَاطِعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَانِيَ يَعُودُ فَيَقْطَعُهُ فَتَكُونُ مُوضِحَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْجَانِي يُبْنَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَزِمَهُ دِيَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ الْجَانِيَ مُوضِحَتَانِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يُبْنَى عَلَى فِعْلِ الْجَانِي كَمَا لَوْ قَطَعَ الْجَانِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَتَلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَفْسَهُ كَانَ عَلَى الْجَانِي دِيَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْطَعَهُ حَتَّى يَنْخَرِقَ بِجِنَايَتِهِ الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ ثَلَاثَ مَوَاضِعَ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ مِنْهَا مُوضِحَتَانِ، وَيَلْزَمُ الثَّانِي مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا لَا يُبْنَى عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَتَلَهُ الثَّانِي، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دِيَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي دِيَةُ النَّفْسِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَاجِزِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَقَالَ الْجَانِي: أَنَا قَطَعْتُهُ أَوِ انْخَرَقَ بِالسِّرَايَةِ فَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: أَنَا قَطَعْتُهُ أَوْ قَطَعَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَيْكَ مُوضِحَتَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا عَدِمَ الْجَانِي الْبَيِّنَةَ، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمُوضِحَتَيْنِ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ وَفِي شَكٍّ مِنْ سُقُوطِ إِحْدَاهُمَا، فَاعْتُبِرَ حُكْمُ الْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِكَ فَعَلَيْكَ دِيَتَانِ، وَقَالَ الْجَانِي: مَاتَ مِنْ جِنَايَتِي فَعَلَيَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَمْكَنَ مَا قَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَهُ دِيَتَانِ لِوُجُوبِهِمَا بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً أَخَذَتْ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى جَبْهَتِهِ فَصَارَ بِهَا مُوضِحًا لِرَأْسِهِ وَجَبْهَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا مُوضِحَتَانِ وَيَلْزَمُهُ دِيَتَاهُمَا، لِأَنَّهُمَا عَلَى عُضْوَيْنِ فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ فَلَمْ يَنْفَصِلْ حُكْمُهُمَا بِالْمَحَلِّ، وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَخَذَتْ مُؤَخَّرَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى قَفَاهُ فَصَارَ بِهَا مُوضِحًا لِرَأْسِهِ وَقَفَاهُ لَزِمَهُ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ فِي رَأْسِهِ وَحُكُومَةُ الْمُوضِحَةِ فِي قَفَاهُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ وَلِمُوضِحَتِهِمَا حُكْمَانِ، لِأَنَّ فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ دِيَةٌ وَفِي مُوضِحَةِ الْقَفَا حُكُومَةٌ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا وَمَحَلِّهِمَا، وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فِي طَرَفَيْهَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ تَدَاخَلَا وَلَزِمَهُ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهَا مُخَالِفًا لِحُكْمِهَا لَوِ انْفَرَدَ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ الْمُوضِحَةِ أَنْ يَنْدَرِجَ طَرَفَاهَا حَتَّى يُوضِحَ وَسَطَهَا فَأَلْحَقَ الطَّرَفَانِ بِالْوَسَطِ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ فَهِيَ مُوضِحَتَانِ يَلْزَمُهُ أَرْشُهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا مُخْتَلِفٌ وَأَرْشُهُمَا مختلف، لأن فِي مَوَاضِعِ الْجَسَدِ حُكُومَةً تَخْتَلِفُ أَرْشَهَا بِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلْ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ مَعَ اختلاف المحل والأرش. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ وَتُهَشِّمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْهَاشِمَةُ فَهِيَ الَّتِي أَوْضَحَتْ عَنِ الْعَظْمِ وَهَشَمَتْهُ حَتَّى كَسَرَتْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 وَفِيهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: فِيهَا دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَحُكُومَةٌ فِي الْهَشْمِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ وَدِيَةَ الْمُنَقِّلَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَأَغْفَلَ الْهَاشِمَةَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدَّرَةُ فِيهَا مَا قَدَّرَهُ دُونَ مَا أَغْفَلَهُ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَدَّرَ الْهَاشِمَةَ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْمُوضِحَةُ ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ وَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ وَكَانَتِ الْمُنَقِّلَةُ ذَاتَ ثَلَاثَةِ أَوْصَافِ إِيضَاحٍ، وَهَشْمٍ، وَتَنْقِيلٍ، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ وَجَبَ إِذَا كَانَتِ الْهَاشِمَةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَيَكُونُ فِيهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ كَالَّذِي قُلْنَاهُ فِي نَفَقَةِ الْمُوسِرِ إِنَّهَا " مُدَّانِ " وَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِ إِنَّهَا " مُدٌّ "، فَأَوْجَبْنَا نَفَقَةَ الْمُتَوَسِّطِ مُدًّا وَنِصْفًا، لِأَنَّهُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَلِأَنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ بِالْهَشْمِ مُلْحَقٌ بِكَسْرِ مَا تَقَدَّرَتْ دِيَتُهُ مِنَ السِّنِّ وَفِيهِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَكَذَلِكَ فِي الْهَشْمِ، فَصَارَ مَعَ الْمُوضِحَةِ عَشْرًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ فَلَوْ هَشَمَ وَلَمْ يُوضِحْ فَفِيهِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَأَوْجَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الْهَاشِمَةِ إِذَا انْفَرَدَ حُكُومَةً كَهَشْمِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَقَدَّرْ مُوضِحَةُ الْخَدِّ وَهَاشِمَتُهُ لَمْ يَتَقَدَّرِ انْفِرَادُ هَشْمِهِ وَلَمَّا تَقَدَّرَتْ مُوضِحَةُ الرَّأْسِ وَهَاشِمَتُهُ تَقَدَّرَ انْفِرَادُ هَشْمِهِ، وَهَذَا الْهَشْمُ مِمَّا لَا يُرَى فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا بِإِقْرَارِ الْجَانِي أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ مِنَ الطِّبِّ يَشْهَدَانِ بِاخْتِيَارِ الشَّجَّةِ أَنَّ فِيهَا هَشْمًا يَقْطَعَانِ بِهِ، فَلَوْ أَوْضَحَ وَهَشَمَ فَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْمُوضِحَةِ فِي الْعَمْدِ حُكِمَ لَهُ بِالْقِصَاصِ وَأُغْرِمَ دِيَةَ الْهَشْمِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَلَوْ شَجَّهُ هَاشِمَتَيْنِ عَلَيْهِمَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَتَا هَاشِمَتَيْنِ وَعَلَيْهِ دِيَتَاهُمَا، لِأَنَّهُ زَادَ إِيضَاحَ مَا لَا هَشْمَ تَحْتَهُ، وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ تَحْتَهُمَا هَاشِمَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَتْ مُوضِحَتَيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ هَشْمَ مَا لَا إِيضَاحَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا هَشْمٌ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ فَهَلَّا كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمُوضِحَةِ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا امْتِزَاجُ اللَّحْمِ بِالْجِلْدِ فِي الْمُوضِحَةِ، وَانْفِصَالُ الْعَظْمِ عَنِ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ فِي الْهَاشِمَةِ. (فَصْلٌ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ بين الموضحة والهاشمة شجة تسمى المفرشة وهي الْمُوضِحَةُ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا صُدَاعٌ، فَيُنْظَرُ فِي الصُّدَاعِ الْحَادِثِ عَنْهَا، فَإِنِ انْقَطَعَ وَلَمْ يَدُمْ فَلَا شَيْءَ فِيهِ سِوَى دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ فَآلَمَهُ وَإِنِ اسْتَدَامَ الصُّدَاعُ عَلَى الْأَبَدِ وَلَمْ يَسْكُنْ كَانَ فِيهِ مَعَ دِيَةِ الموضحة حكومة لا تبلع زِيَادَةَ الْهَاشِمَةِ، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِدَامَةِ قَدْ صَارَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 كَالْجُرْحِ الثَّابِتِ، فَإِنْ كَانَ يَضْرِبُ فِي زَمَانٍ وَيَسْكُنُ فِي زَمَانٍ نُظِرَ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ عَوْدَ الصُّدَاعِ مِنَ الْمُوضِحَةِ كَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا حُكُومَةَ فِيهِ [وَلَا فِيمَا تَقَدَّمَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدُمْ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَلَا حُكُومَةَ فِيهِ] لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالشَّكِّ. (فَصْلٌ) وَإِذَا شَجَّهُ فَهَشَمَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى جَبْهَتِهِ فَصَارَ هَاشِمًا لِرَأْسِهِ وَجَبْهَتِهِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُوضِحَةِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ هَاشِمَتَيْنِ، لِأَنَّهَا عَلَى عُضْوَيْنِ: وَالثَّانِي: تَكُونُ هَاشِمَةً وَاحِدَةً لِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلَوْ شَجَّهُ فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ وَهَشَمَ جَبْهَتَهُ، أَوْ هَشَمَ رَأْسَهُ وَأَوْضَحَ جَبْهَتَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَةِ مُوضِحَةٍ فِي إِحْدَاهُمَا وَبِهَاشِمَةٍ فِي الْأُخْرَى، لِأَنَّ مَحَلَّهَا مُخْتَلِفٌ وَدِيَتَهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا مَعَ اختلاف المحل والدية. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ عَظْمَ الرَّأْسِ حَتَّى يَتَشَظَّى فَيُنْقَلُ من عظامه ليلتئم ". قال الماوردي: أما المنقلة فهي التي تهشم العظم حتى يتشظى فينتقل حتى يلتئم. قَالَ الشَّافِعِيُّ: تُسَمَّى الْمَنْقُولَةَ أَيْضًا، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَقَدِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ ". وَرَوَى عمرو بن حزم أن فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: " فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ " فَلَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ مِنَ الْمُوضِحَةِ سَقَطَ بِالْقِصَاصِ دِيَتُهَا وَهِيَ خَمْسٌ، وَوَجَبَ الْبَاقِي مِنْ دِيَتِهَا وَذَلِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ فِي الْهَشْمِ وَالتَّنْقِيلِ، وَلَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً لَا إِيضَاحَ عَلَيْهَا لَزِمَهُ كَمَالُ دِيَتِهَا بِخِلَافِ الْهَاشِمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إِيضَاحٌ، لِأَنَّ الْمُنَقِّلَةَ لَا بُدَّ مِنْ إِيضَاحِهَا لِتَنْقِيلِ الْعَظْمِ الَّذِي فِيهَا فَصَارَ الْإِيضَاحُ عَائِدًا إِلَى جَانِبِهَا فَلَزِمَهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا، وَالْهَاشِمَةُ، لَا تَفْتَقِرُ إِلَى إِيضَاحٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَدْرُ مَا جَنَى فِيهَا، وَإِذَا شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُتَّصِلَةً كَانَ بَعْضُهَا مُوضِحَةً وَبَعْضُهَا هَاشِمَةً وَبَعْضُهَا مُنَقِّلَةً كَانَ جَمِيعُهَا مُنَقِّلَةً لَا يُؤْخَذُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا، لِأَنَّهَا غَايَةُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 جِنَايَتِهِ الَّتِي تَنْدَرِجُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَسَوَاءٌ فِي دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ أَنْ يَتَشَظَّى عَظْمُهَا فَلَا يُعَادُ أَوْ يَتَشَظَّى فَيُعَادُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ أَنَّ فِي جَمِيعِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، كما يجب في ذلك في صغير الْمُوضِحَةِ وَكِبَرِهَا، وَإِذَا انْتَقَلَتِ الشَّجَّةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ رَأْسِهِ وَقَدِ اتَّصَلَ إِيضَاحُهَا كَانَتْ مُنَقِّلَتَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْهَاشِمَتَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الفرق، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي تَقْدِيرَ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ وَالْهَاشِمَةِ بِعَشْرٍ، وَالْمُنَقِّلَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَاللَّحْيِ الْأَسْفَلِ، فَأَمَّا فِي الْجَسَدِ وَمَا قَارَبَ الرَّأْسَ مِنَ الْعُنُقِ فَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَلَا دِيَةُ الْهَاشِمَةِ، وَلَا دِيَةُ الْمُنَقِّلَةِ وَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغَ بِأَرْشِ مُوضِحِهَا خَمْسًا وَلَا بِأَرْشِ هَاشِمَتِهَا عَشْرًا، وَلَا بِأَرْشِ مُنَقِّلَتِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الرَّأْسِ أخوف. والثاني: أن شينها فيه أقبح، ويتغلظ هذه الشجاج في الرأس بالعمد، ويتخفف بِالْخَطَأِ، وَلَا تَتَغَلَّظُ فِي الْجَسَدِ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ يَخْتَصُّ بِالْمُقَدَّرِ مِنَ الدِّيَاتِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَا يَتَقَدَّرُ مِنْ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَيَتَغَلَّظُ خُمْسُ الْمُوضِحَةِ بِالْأَثْلَاثِ، فَيَكُونُ فِيهَا خِلْفَتَانِ، وَجَذَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَحِقَّةٌ وَنِصْفٌ، فَتُخَفَّفُ فِيهَا بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا جَذَعَةٌ وَحِقَّةٌ، وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَابْنُ لَبُونٍ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَتَتَغَلَّظُ غَيْرُ الْهَاشِمَةِ بِالْأَثْلَاثِ فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ خُلُفَاتٍ، وَثَلَاثُ جِذَاعٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَيُتَخَفَّفُ بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا جَذَعَتَانِ، وَحِقَّتَانِ، وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَابْنَا لَبُونٍ، وَبِنْتَا مَخَاضٍ، وَيَتَغَلَّظُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَقِّلَةِ بِالْأَثْلَاثِ فَيَكُونُ فِيهَا سِتُّ خَلِفَاتٍ، وَأَرْبَعُ حِقَاقٍ وَنِصْفٌ، وَأَرْبَعُ جِذَاعٍ وَنِصْفٌ، وَيُتَخَفَّفُ فِيهَا بِالْأَخْمَاسِ فَيَكُونُ فِيهَا ثَلَاثَةُ جِذَاعٍ، وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَثَلَاثَةُ بَنِي لَبُونٍ، وَثَلَاثُ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعَلَى غَيْرِ هَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ فِيمَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وفي المأمومة ثلث النفس وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ إِلَى جِلْدِ الدِّمَاغِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَهِيَ الْوَاصِلَةُ إِلَى أُمِّ الرَّأْسِ، وَأُمُّ الرَّأْسِ هِيَ الْغِشَاوَةُ الْمُحِيطَةُ بِمُخِّ الدِّمَاغِ وَتُسَمَّى الْأُمَّةَ. وَأَمَّا الدَّامِغَةُ فَهِيَ الَّتِي خَرَقَتْ غِشَاوَةَ الدِّمَاغِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مُخِّهِ، وَفِيهَا جَمِيعًا ثُلُثُ الدِّيَةِ لَا تُفَضَّلُ دِيَةُ الدَّامِغَةِ عَلَى دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ، وَإِنْ كُنْتُ أَرَى أَنْ يَجِبَ تَفْضِيلُهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 بِزِيَادَةِ حُكُومَةٍ فِي خَرْقِ غِشَاوَةِ الدِّمَاغِ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى صِفَةِ الْمَأْمُومَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَةَ ثُلُثُ الدِّيَةِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي " الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ". وَالْآخَرُ: حَدِيثُ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: " وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ " وَلِأَنَّهَا وَاصِلَةٌ إِلَى جَوْفٍ فَأَشْبَهَتِ الْجَائِفَةَ، فَلَوْ أَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْإِيضَاحِ سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا إِذَا اقتص دية الموضحة خمس مِنَ الْإِبِلِ وَأَخْذَ بِالْبَاقِي مِنْهَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ، فَلَوْ شَجَّهُ رَجُلٌ مُوضِحَةً وَهَشَمَهُ ثَانٍ بَعْدِ الْإِيضَاحِ وَنَقَلَهُ ثَالِثٌ بَعْدِ الْهَشْمِ وَأَمَّهُ رَابِعٌ بَعْدِ التَّنْقِيلِ كَانَ عَلَى الأول دية الموضحة خمس مِنَ الْإِبِلِ وَعَلَى الثَّانِي مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْهَاشِمَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى الثَّالِثِ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى الرَّابِعِ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلُثٌ، فَإِنْ أُرِيدَ الْقِصَاصُ اقْتُصَّ مِنَ الْأَوَّلِ الْمُوضِحِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ، وَأُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ دِيَةِ جِنَايَتِهِ، وَلَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْنَتِهِ مِنْ وَجْهِهِ جِرَاحَةً حَرَقَتِ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَهَشَمَتِ الْعَظْمَ وَتنَقَلَّ الْعَظْمُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى الْأُمِّ أَوْ كَانَتْ فِي إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ فَخَرَقَتْ كَذَلِكَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْفَمِ فَفِيهَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ ". أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مَأْمُومَةٌ يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ وُصُولُهَا إِلَى الْفَمِ كَوُصُولِهَا إِلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ عَمَلَ الْمَأْمُومَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مُنْتَقِلَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْفَمِ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ الْمَأْمُومَةِ، لِأَنَّ وَصُولَ الْمَأْمُومَةِ إِلَى الدِّمَاغِ أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْفَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِدِيَةِ مَا قَلَّ خَوْفُهُ دِيَةَ مَا هُوَ أخوف. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ أَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَكَمَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ فَفِيمَا دُونَهَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا قَدْرَ مُوَضِحَةٍ وَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا شجاج الرأس قبل الموضحة وأنها ست. الحارصة: وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ، وَهِيَ الَّتِي يُدْمَى بِهَا مَوْضِعُ الشَّقِّ. ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وهي التي يدفع مِنْهَا الدَّمُ. ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُبَضِّعُ اللَّحْمُ فَتَشُقُّهُ. ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَمُورُ فِي اللَّحْمِ حَتَّى تَنْزِلَ فِيهِ وَقَدْ تُسَمَّى البازلة، ومنهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 مَنْ جَعَلَ الْبَازِلَةَ شَجَّةً زَائِدَةً بَيْنَ الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ فَيَجْعَلُ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ سَبْعًا. ثُمَّ السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَمُورُ جَمِيعَ اللَّحْمِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى سِمْحَاقِ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَةٌ تَغْشَى عَظْمَ الدِّمَاغِ، وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِلْطَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ فَيَجْعَلُ شِجَاجَ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ ثَمَانِيًا، وَلَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْمِلْطَاةِ حَدًّا يَزِيدُ عَلَى الْمُتَلَاحِمَةِ وَتَنْقُصُ عَنِ السمحاق فيصر وَسَطًا بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الشِّجَاجِ الَّتِي قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِالنَّصِّ، وَأَوَّلُ الشِّجَاجِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَقْدِيرِ أَرْشِهَا الْمُوضِحَةُ لِانْتِهَائِهَا إِلَى حَدٍّ مُقَدَّرٍ فَصَارَ أَرْشُهَا مُقَدَّرًا كَالْأَطْرَافِ، وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ أَرْشُ مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ نَصًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ فِيهَا حُكُومَةً يَخْتَلِفُ قَدْرُهَا بِاخْتِلَافِ شَيْنِهَا تَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَصِيرُ مَا قَدَّرُهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا مُقَدَّرًا مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا، لِجَوَازِ زِيَادَةِ الشَّيْنِ وَنُقْصَانِهِ، فَإِذَا أَفْضَى الِاجْتِهَادُ فِي حُكُومَةٍ أَرْشُهَا إِلَى مِقْدَارٍ يَنْقُصُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ صِفَةِ الِاجْتِهَادِ أَوْجَبْنَا جَمِيعَهُ، وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ الْمُوضِحَةِ أَوْ سَاوَاهَا لَمْ يُحْكَمْ بِجَمِيعِهِ وَنُقِصَ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ شَيْنَهَا لَوْ كَانَ فِي مُوضِحَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى دِيَتِهَا، فَإِذَا كَانَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ دِيَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي النَّفْسِ إِلَّا الدِّيَةُ فَهَلَّا وَجَبَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ الشَّيْنِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ. قِيلَ: لِأَنَّ مَا دُونُ الْمُوضِحَةِ بَعْضُ الْمُوضِحَةِ وَبَعْضُهَا لَا يُكَافِئُهَا وَلَيْسَتِ الْأَطْرَافُ بَعْضَ النَّفْسِ، لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَبَعَّضُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ أُرُوشَهَا مُقَدَّرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا تَقَدَّرَتِ الْمُوضِحَةُ وَمَا فَوْقَهَا بِالنَّصِّ وَلَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ اجْتِهَادًا كَمَا تُقَدَّرُ الْقُلَّتَانِ بِخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ اجْتِهَادًا، فَجَعَلَ فِي الْحَارِصَةِ بَعِيرًا وَاحِدًا، وَجَعَلَ فِي الدَّامِيَةِ وَالدَّامِغَةِ بَعِيرَيْنِ، وَجَعَلَ فِي الْبَاضِعَةِ، وَالْبَازِلَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةَ أَبْعِرَةٍ، وَجَعَلَ فِي الْمِلْطَاةِ، وَالسِّمْحَاقِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الشِّجَاجِ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَكَانَ أَرْشُهَا أَقْرَبَ الْأُرُوشِ إِلَى دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَارِصَةُ أَوَّلَ الشِّجَاجِ كَانَ فِيهَا أَوَّلُ مَا فِي الْمُوضِحَةِ وَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَا يَقْتَضِيهِ قُرْبَةً مِنْ أَحَدِهِمَا فَلِذَلِكَ رَتَّبَهُ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِرًّا بالظاهر فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا دَخَلَهُ الِاجْتِهَادُ بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الِاجْتِهَادُ فِيهِ بِمِقْدَارٍ مَحْدُودٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ولا ينقص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 مِنْهُ لَكَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ أَمْضَى وَتَقْدِيرُهُمْ لَهُ أَلْزَمَ، وَقَدْ رَوَى سعيد ابن الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي الْمِلْطَاةِ وَالسِّمْحَاقِ بِنِصْفِ مَا فِي الْمُوضِحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي اللَّحْمِ مِنْ مِقْدَارِ مَا بَلَغَتْهُ الْمُوضِحَةُ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْعَظْمِ إِذَا أَمْكَنَ، فَإِذَا عُرِفَ مِقْدَارُهُ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ كَانَ فِيهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ النِّصْفُ وَشَكَّ فِي الزِّيَادَةِ اعْتَبَرَ شَكَّهُ بِتَقْوِيمِ الْحُكُومَةِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى النِّصْفِ وَبَلَغَ الثُّلُثَيْنِ زَالَ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ بِإِثْبَاتِهَا وَحُكِمَ بِهَا، وَلَزِمَ ثُلُثَا دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ بَلَغَتِ النِّصْفَ زَالَ حُكْمُ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ بِإِسْقَاطِهَا وَحُكِمَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصْفِ بَطَلَ حُكْمُ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَثَبَتَ حُكْمُ النِّصْفِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنَ الْمُوضِحَةِ عُدِلَ حِينَئِذٍ إِلَى الْحُكُومَةِ الَّتِي يَتَقَدَّرُ الْأَرْشُ فِيهَا بِالتَّقْوِيمِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ أَصْلٌ وَذَلِكَ أَنَّ مِقْدَارَ الْحُكُومَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَيْئَيْنِ: الضَّرَرِ وَالشَّيْنِ، وَهُمَا لَا يَتَقَدَّرَانِ بِمِقْدَارِ الْمَوْرِ فِي اللَّحْمِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ أَصْلٌ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَلَمْ يَرِدْ بِهَا شَرْعٌ، وَأَسْقَطَ أَرْشَ الدَّمِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ شَرْعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي كُلِّ جُرْحٍ مَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ حُكُومَةٌ إِلَّا الْجَائِفَةَ فَفِيهَا ثُلُثُ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ صَدْرٍ أَوْ ثَغْرَةِ نَحْرٍ فَهِيَ جائفة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَسَنَذْكُرُ مَا عَدَاهُ مِنْ جِرَاحِ الْبَدَنِ وَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَتَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَهُوَ الْأَطْرَافُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَهُوَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَوْ فَوْقَهَا وَدُونَ الْجَائِفَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَهُوَ الْمُوضِحَةُ، يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ فِي الْبَدَنِ كَالرَّأْسِ، وَلَا تَتَقَدَّرُ فِيهَا الدِّيَةُ، وَإِنْ تَقَدَّرَتْ فِي الرَّأْسِ وَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ. وَالْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّأْسَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَيْنَهَا فِيهِ أَقْبَحُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْجَائِفَةُ، وَالْجَائِفَةُ وُصُولُ الْجُرْحِ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ ثَغْرَةِ نَحْرٍ تَخْرِقُ بِهِ غِطَاءَ الْجَوْفِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدَّدِ، وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، لِرِوَايَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[قال: " في الجائفة ثلث الدية وَفِيَّ الْمَأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ " وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ " وَلِأَنَّهَا وَاصِلَةٌ إِلَى غَايَةٍ مَخُوفَةٍ فَأَشْبَهَتِ الْمَأْمُومَةَ، وَلَا قِصَاصَ فِيهَا، لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ بِنُفُوذِ الْحَدِيدِ إِلَى مَا لَا يُرَى انْتِهَاؤُهُ، فَإِنْ أَجَافَهُ حَتَّى لَذَعَ الْحَدِيدُ كَبِدَهُ أَوْ طِحَالَهُ لَزِمَتْ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي الْجَائِفَةِ وَحُكُومَةٌ فِي لَذْعِ الْحَدِيدِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ. وَلَوْ أَجَافَهُ فَكَسَرَ أَحَدَ أَضْلَاعِهِ لَزِمَهُ دِيَةُ الْجَائِفَةِ، وَتَكُونُ حُكُومَةُ الضِّلَعِ مُعْتَبَرَةً بِنُفُوذِ الْجَائِفَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ مِنْ غَيْرِ ضِلَعٍ لَزِمَهُ حُكُومَةُ الضِّلَعِ، وَإِنْ لَمْ تَنْفُذْ إِلَّا بِكَسْرِ الضِّلَعِ دَخَلَتْ حُكُومَتُهُ فِي دِيَةِ الْجَائِفَةِ، وَإِذَا أَشْرَطَ بَطْنَهُ بِسِكِّينٍ ثُمَّ أَجَافَهُ فِي آخِرِ الشَّرْطَةِ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَائِفَةِ دِيَتُهَا وَفِي الشَّرْطَةِ حُكُومَتُهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَائِفَةِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْهَا فَتَمَيَّزَتْ بِحُكْمِهَا كَمَا قُلْنَا إِذَا أَوْضَحَ مُؤَخِّرَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى قَفَاهُ، وَلَوْ جَرَحَهُ بِخِنْجَرٍ لَهُ طَرَفَانِ فَأَجَافَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ كَانَتْ جَائِفَتَيْنِ وَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، فَإِنْ خَرَقَهُ الْجَانِي أَوْ تَآكَلَ صَارَتْ جَائِفَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ خَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ كَانَتْ ثَلَاثَ جَوَائِفَ، وَلَوْ خَرَقَهُ الْمَجْرُوحُ كَانَتْ جَائِفَتَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُوضِحَتَيْنِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَدْخَلَ فِي حَلْقِهِ خَشَبَةً أَوْ حَدِيدَةً حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ أَوْ أَدْخَلَهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 فِي سَبِيلِهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْجَوْفَ لَمْ تَكُنْ جَائِفَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَا خُرِقَ بِهَا حَاجِزٌ، فَإِنْ خَدَشَ بِهَا مَا حِيَالَهَا مِنْ دَاخِلِ الْجَوْفِ لَزِمَتْهُ حُكُومَتُهُ، وَعُزِّرَ فِي الْحَالَيْنِ أَدَبًا وَإِنْ لَمْ يُعَزَّرِ الْجَانِي إِذَا أُغْرِمَ الدِّيَةَ، لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَكَ مِنْهُ بِإِيلَاجِهَا مَا لَمْ يُقَابِلْهُ غُرْمٌ، فَإِنْ خَرَقَ بِوُصُولِ الْخَشَبَةِ إِلَى الْجَوْفِ حَاجِزٌ مِنْ غِشَاوَةِ الْمَعِدَةِ أَوِ الْحَشْوَةِ فَفِي إِجْرَاءِ حُكْمِ الْجَائِفَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَائِفَةِ وَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ دِيَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَقَ حَاجِزًا فِي الْجَوْفِ فَأَشْبَهَ حَاجِزَ الْبَطْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَائِفَةِ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ لِبَقَاءِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ حَاجِزٌ عَلَى جَمِيعِ الْجَوْفِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمُوضِحَتَيْنِ إِذَا انْخَرَقَ بَاطِنُهُ مِنَ اللَّحْمِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجِلْدِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُوضِحَةِ فِي الْجَمِيعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ أَوْلَجَ خَشَبَةً فِي فَرْجِ عذراء خرق بها حاجز بكارتها عذر وَلَمْ يُحَدَّ، إِلَّا أَنْ يَطَأَ فَيُحَدَّ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ أَكْرَهَهَا، وَلَا تَلْزَمُهُ دِيَةُ الْجَائِفَةِ بِخَرْقِ حَاجِزِ الْبَكَارَةِ، لِأَنَّهَا فِي مَسْلَكِ الْخَرْقِ، وَأَمَّا الْحُكُومَةُ فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ وَطْءٍ لَزِمَهُ حُكُومَةُ بَكَارَتِهَا، لِأَنَّهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ بِوَطْءٍ لَمْ يَلْزَمْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فِي وَطْئِهِ مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ مُطَاوَعَةٍ، فَإِنْ أُكْرِهَ دَخَلَ أَرْشُ الْحُكُومَةِ فِي الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنَ الْأَبْكَارِ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ كَانَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ كَالْمُبَرَّئَةِ مِنَ الْأَرْشِ، لِأَنَّ الْمُطَاوَعَةَ إِذْنٌ، وَإِذَا عَصَرَ بَطْنَهُ وَدَاسَهُ حَتَّى خَرَجَ الطَّعَامُ مِنْ فَمِهِ أَوِ النَّجْوِ مِنْ دُبُرِهِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا، فَإِنْ زَالَ بِالدَّوْسِ أَحَدُ أَعْضَاءِ الْجَوْفِ عَنْ مَحَلِّهِ حَتَّى تَيَاسَرَ الْكَبِدُ أَوْ تَيَامَنَ الطِّحَالُ، لِأَنَّ الْكَبِدَ مُتَيَامِنٌ وَالطِّحَالَ مُتَيَاسِرٌ، فَعَلَيْهِ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ عَادَ إِلَى مَحَلِّهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا جَرَحَهُ جَائِفَةً ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَوْلَجَ فِي الْجَائِفَةِ سِكِّينًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَلَا فِي عُمْقِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَا جَرَحَ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا لِلْأَذَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَلَا يُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا، فَعَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ سِعَتِهَا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا دِيَةُ جَائِفَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجَافَهُ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِجَائِفَةٍ غَيْرِهِ، فَإِنِ اتَّسَعَتْ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ جُرْحٌ لَمْ يَسْتَكْمِلْ جَائِفَةً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا وَلَا يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا فَيَلْذَعُ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْجَوْفِ مِنْ كَبِدٍ أَوْ طِحَالٍ فَعَلَيْهِ فِي لَذْعِ ذَلِكَ وَجُرْحِهِ حُكُومَةٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سِعَتِهَا وَيُؤَثِّرَ فِي عُمْقِهَا، فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ جَائِفَةٍ فِي زِيَادَةِ سَعَتِهَا، وَحُكُومَةٌ فِي جِرَاحَةِ عمقها، فإن قطع بها معا، أو حشوته صار موجاً قَاتِلًا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوْ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ جَارِحًا جَائِفًا يَلْزَمُهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلَوْ جَرَحَ الثَّانِي الْمِعَاءَ وَالْحَشْوَةَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ صَارَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَاتِلَيْنِ وَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ أَوِ الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِحُدُوثِ التَّلَفِ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا خَاطَ الْمَجْرُوحُ جَائِفَةً فَفَتَقَهَا آخَرُ حَتَّى عَادَتْ جَائِفَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَفْتِقَهَا قَبْلَ الْتِحَامِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَائِفَةِ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا لِلْأَذَى، وَيُغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الْخِيَاطَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَفْتِقَهَا بَعْدَ الْتِحَامِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، فَقَدْ صَارَ جَائِفًا وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْجَائِفَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ جَائِفَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الِانْدِمَالِ كَحَالِهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ فَانْدَمَلَ، ثُمَّ عَادَ فَأَوْضَحَهُ فِي مَوْضِعِ الِانْدِمَالِ لَزِمَهُ دِيَةُ مُوضِحَةٍ ثَانِيَةٍ وَيُغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ، وَلَا يُغْرَمُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لدخول أجرة فتقها في دية جائفتها بخلافه لَوْ لَمْ يَغْرَمْ دِيَتَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَلْتَحِمَ بَاطِنُهَا وَلَا يَلْتَحِمَ ظَاهِرُهَا، فَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ فِي فَتْحِ مَا الْتَحَمَ مِنْ بَاطِنِهَا، وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الْخِيَاطَةِ، لِأَنَّهُ مَا التزم في محله غرماً سواء. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَلْتَحِمَ ظَاهِرُهَا وَلَا يَلْتَحِمَ بَاطِنُهَا، فَتَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ فِي فَتْحِ مَا الْتَحَمَ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْخَيْطِ، وَلَا يُغْرَمُ أُجْرَةَ الْخِيَاطَةِ، لِدُخُولِهِ فِي حُكُومَةِ مَحَلِّهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا جَرَحَهُ نَافِذَةً، وَالنَّافِذَةُ: أَنْ يَجْرَحَهُ بِسَهْمٍ أَوْ سِنَانٍ فَيَدْخُلُ فِي ظَهْرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهِ، أَوْ يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ ظَهْرِهِ، أَوْ يَنْفُذُ مِنْ أَحَدِ خَصْرَيْهِ إِلَى الْآخَرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ النَّافِذَةَ جَائِفَتَانِ، وَيَلْزَمُهُ فِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُهُ دِيَةُ جَائِفَةٍ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ، وَحُكُومَةٌ فِي النُّفُوذِ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ الْجَائِفَةَ مَا وَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ، وَالنَّافِذَةُ خَارِجَةٌ مِنْهُ فَكَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الْجَائِفَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَأَنْفَذَهُ بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 خَرَقَ حِجَابَ الْجَوْفِ كَانَ جَائِفَةً كَالدَّاخِلَةِ، فَإِنْ قَطَعَ سَهْمَ النَّافِذَةِ بِنُفُوذِهِ فِي الْجَوْفِ بَعْضَ حَشَوْتِهِ كَانَ عَلَيْهِ مَعَ دِيَةِ الْجَائِفَتَيْنِ حُكُومَةٌ فيما قطع من حشوته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَالَ مَالِكٌ: فِيهِمَا حُكُومَةٌ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْجَمَالِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَا كَالْيَدَيْنِ الشَّلَّاوَيْنِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: " وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا مَفْقُودَةٌ. قِيلَ: إِنَّ مَنْفَعَتَهُمَا مَوْجُودَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْأَعْضَاءَ عَبَثًا وَلَا قَدَّرَهَا إِلَّا لِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ، وَمَنْفَعَةُ الْأُذُنِ جَمْعُ الصَّوْتِ حَتَّى يَلِجَ إِلَيْهَا فَيَصِلُ إِلَى السَّمْعِ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْمَنَافِعِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ فِيهِمَا فَتَكْمُلُ الدية إذا استوصلنا، صَغُرَتِ الْأُذُنَانِ أَوْ كَبُرَتَا، وَالْمَثْقُوبَةُ وَذَاتُ الْخُرْمِ مُسَاوِيَةٌ لِغَيْرِ ذَاتِ الثُّقْبِ وَالْخُرْمِ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنَ الْأُذُنِ بِالثَّقْبِ وَالْخَرْمِ، فَإِنْ أَذْهَبْ شَيْئًا مِنْهَا سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الذَّاهِبِ، وَإِذَا قَطَعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ كَانَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ يُمْنَى كَانَتْ أَوْ يُسْرَى كَالْيَدَيْنِ، فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقِسْطِ مَا قَطَعَ مِنْهَا مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ، سَوَاءٌ قَطَعَ مِنْ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ، وَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ كَمَا تَسْتَوِي دِيَاتُ الْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ مَنَافِعِهِمَا، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أُذُنَ سَمِيعٍ أَوْ أَصَمَّ، لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي الصِّمَاخِ لَا فِي الْأُذُنِ، لِبَقَاءِ السَّمْعِ بَعْدَ قَطْعِهِمَا، وَخَالَفَ حُلُولَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ وَحُلُولَ حَرَكَةِ الْكَلَامِ فِي اللِّسَانِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا جَنَى عَلَى أُذُنَيْهِ فَاسْتَحْشَفَتَا وَصَارَ بِهِمَا مِنَ الْيُبْسِ وَعَدَمِ الْأَلَمِ مَا بِالْيَدَيْنِ مِنَ الشَّلَلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً كَمَا يَلْزَمُهُ فِي شَلَلِ الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِبَقَاءِ مَنَافِعِهِمَا بَعْدَ الشَّلَلِ وَالِاسْتِحْشَافِ وَعَدَمُ مَنَافِعِ الْيَدِ بِالشَّلَلِ سَوَاءٌ، فَلَوْ قُطِعَتِ الْأُذُنُ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِمَا حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ إِذَا قُطِعَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهَا الدِّيَةُ إِذَا قِيلَ فِي الِاسْتِحْشَافِ حُكُومَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهَا دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالِاسْتِحْشَافِ، وَالْأُخْرَى بِالْقَطْعِ، وَلَا حُكُومَتَانِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِمَا دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، فَإِنْ أُوجِبَتِ الدِّيَةُ فِي الِاسْتِحْشَافِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ فِي الْقَطْعِ وَإِنْ أُوجِبَتِ الْحُكُومَةُ فِي الِاسْتِحْشَافِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي الْقَطْعِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا حُكُومَةُ إِحْدَاهِمَا بِالِاسْتِحْشَافِ وَالْأُخْرَى بِالْقَطْعِ، تَسْتَوْفِي بِالْحُكُومَةِ جَمِيعَ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ نُقْصَانُهَا، وَيَجُوزُ زِيَادَتُهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إِحْدَى الْحُكُومَتَيْنِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الدِّيَةِ. فَأَمَّا إِذَا جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْوَدَّ لَوْنُهَا [فَفِيهَا حُكُومَةٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ] لِأَنَّ سَوَادَ اللَّوْنِ فِي الْأَبْيَضِ شَيْنٌ، وَكَذَلِكَ بَيَاضُ اللَّوْنِ فِي الْأَسْوَدِ شَيْنٌ، وَالْحُكُومَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ بَاقِيَةً. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ وَيُتَغَفَّلُ وَيُصَابُ بِهِ فَإِنْ أَجَابَ عُرِفَ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عِنْدَ غَفَلَاتِهِ وَلَمْ يَفْزَعْ إِذَا صِيحَ بِهِ حَلَفَ لَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُهُ وَأَخَذَ الدِّيَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ إِمَّا بِفِعْلٍ بَاشَرَ بِهِ جَسَدَهُ أَوْ بِإِحْدَاثِ صَوْتٍ هَائِلٍ خَرَقَ الْعَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ السَّمْعُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ فَالدِّيَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْهَائِلَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ مَا تُؤَثِّرُهُ الْمُبَاشَرَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ ". وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَأْسَ رَجُلٍ بِحَجَرٍ فِي زَمَانِ عُمَرَ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ، فَقَضَى عَلَيْهِ عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مِنْ أَشْرَفِ الْحَوَاسِّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ، [وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: حَاسَّةُ الْبَصَرِ] أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ بِهِ تُدْرَكُ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: حَاسَّةُ السَّمْعِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ بِهِ يُدْرَكُ الْفَهْمُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَرَنَهُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ، لِأَنَّ بِذَهَابِ الْبَصَرِ فَقَدَ النَّظَرَ وَبِذَهَابِ السَّمْعِ فَقَدَ الْعَقْلَ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَصَرِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] وَقَالَ فِي السَّمْعِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] . (فَصْلٌ) وَالسَّمْعُ لَا يُرَى فَيُرَى ذَهَابُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ مَعَ التَّنَازُعِ، وَلَكِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 لَهُ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ يُعْلَمُ بِهَا وُجُودُهُ مِنْ عَدَمِهِ، فَإِذَا ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ سَمْعِهِ فَلِلْجَانِي حَالَتَانِ: تَصْدِيقٌ، وَتَكْذِيبٌ. فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِظْهَارِ بالأمارات، وسأل عَنْهُ عُدُولُ الطِّبِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ نَفَوْا عَوْدَهُ حُكِمَ لَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ وَإِنْ جَوَّزُوا عَوْدَهُ إِلَى مُدَّةٍ قَدَّرُوهَا وَجَبَ الِانْتِظَارُ بِالدِّيَةِ إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ عَادَ السَّمْعُ فِيهَا سَقَطَتِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى انْقَضَتِ اسْتَقَرَّ بِهَا ذَهَابُ السَّمْعِ، وَاسْتَحَقَّ بِهَا دَفْعَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَذَّبَ الْجَانِي عَلَى ذَهَابِ السَّمْعِ اعْتُبِرَ صِدْقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُتَغَفَّلَ ثُمَّ يُصَاحُ بِهِ بِأَزْعَجِ صَوْتٍ وَأَهْوَلِهِ يَتَضَمَّنُ إنذار أو تحذير، فَإِنْ أُزْعِجَ بِهِ وَالْتَفَتَ لِأَجْلِهِ، أَوْ أَجَابَ عَنْهُ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ سَمْعِهِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَ الْجَانِي، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ أَنَّ سَمْعَهُ لَبَاقٍ مَا ذَهَبَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَنَّهُ بَاقِي السَّمْعِ أَجْزَأَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ سَمْعَهُ مَا ذَهَبَ بِجِنَايَتِهِ، لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى ذَهَابِ السَّمْعِ وَبَقَائِهِ لَا ذَهَابِهِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا حَلَفَ الْجَانِي مع ظهور الأمارة في جنيته لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِزْعَاجُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالصَّوْتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ غَيْرُ مُنْزَعِجٍ بِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مَعَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَهَابِ سَمْعِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ جِنَايَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالدِّيَةِ لِجَوَازِ ذَهَابِهِ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ، وَلَزِمَهُ الْيَمِينُ مَعَ وجود الأمارات في جنيته لِجَوَازِ أَنْ يَتَصَنَّعَ لَهَا بِذَهَابِهِ وَجَلَدِهِ، وَلَا يُقْتَصَرُ بِهَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لِجَوَازِ التَّصَنُّعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ وَفِي أَوْقَاتِ الْخَلَوَاتِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالَ السَّمْعِ بِهَا، فَإِنَّ الطَّمَعَ يَظْهَرُ مِنْهَا فَيَزُولُ مَعَهُ التَّصَنُّعُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ صَمَمَ إِحْدَى أذنيه سدت سميعته بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الصَّوْتِ فِيهَا، وَأُطْلِقَتْ ذَاتُ الْجِنَايَةِ، وَأُزْعِجَ فِي غَفَلَاتِهِ بِالْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ، فَإِنِ انْزَعَجَ بِهَا كَانَ سَمْعُهُ بَاقِيًا بِظَاهِرِ الْأَمَارَةِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي بَقَائِهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، [فَإِنْ لَمْ يَنْزَعِجْ بِهَا كَانَ سَمْعُهَا ذَاهِبًا بِظَاهِرِ الْأَمَارَةِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَهَابِهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ] وَيَكُونُ عَلَى الجاني نصف الدية، لأنه قد أذهب بضمها نِصْفَ مَنْفَعَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَسْمَعُ الْأُخْرَى مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهَا. قِيلَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِدْرَاكُ بَاقِيًا، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ ضَوْءَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهَا وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ بِالْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 (فَصْلٌ) وَلَوِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقْرًا فِي إِحْدَى أُذُنَيْهِ ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ سَمْعِهَا اعْتُبِرَ مَا ذَهَبَ مِنْ قَدْرِ سَمْعِهَا تُصَمُّ ذَاتُ الْجِنَايَةِ وَسَدَّهَا وَإِطْلَاقُ السَّلِيمَةِ، وَأَنْ يُنَادَى مِنْ بُعْدٍ فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ بَعْدَ الْمُنَادِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَقْصَرِ غَايَةٍ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فِيهَا، ثم صمت السميعة وَفُتِحَتْ ذَاتُ الْجِنَايَةِ، وَنُودِيَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ، فَإِنْ سَمِعَهُ كَانَ سَمْعُهُمَا بَاقِيًا بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ قَرُبَ الْمُنَادِي مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ، وَيُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ دَفْعًا يَزُولُ مَعَهَا التَّصَنُّعُ وَيَتَّفِقُ فِيهَا النِّدَاءُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ عَمِلَ عَلَى أَقَلِّ الْوُجُوبِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَسَافَتَيِ السَّمِيعَةِ وَذَاتِ الْوَقْرِ النِّصْفُ كَانَ عَلَيْهِ رُبْعُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ رُبْعَ سَمْعِهِ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ كَانَ عَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقْرًا فِي أُذُنَيْهِ مَعًا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ سَمْعِهِ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَدَى سَمَاعِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْجِنَايَةِ، اعْتُبِرَ مَدَى سَمَاعِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ دِيَةِ السَّمْعِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ نِصْفٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَدَى سَمَاعِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الدِّيَةِ وَيُعْطَى فِي الذَّاهِبِ مِنْهُ حُكُومَةً يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ. فَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: أَنَا أَعْرِفُ قَدْرَ مَا ذَهَبَ مِنْ سَمْعِي، وَهُوَ النِّصْفُ، أُحْلِفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحُكِمَ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي حَيْضِهَا. وَلَوِ ادَّعَى الْجَانِي عَوْدَ السَّمْعِ بَعْدَ ذَهَابِهِ وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَوْدَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ لَمْ يَدَّعِ عِلْمَهُمْ، وَإِنِ ادَّعَاهُ أَحْلَفَهُمْ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُونَ سَمِعَ بَعْدَ ذَهَابِ سَمْعِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَطَعَ أُذُنَيْهِ فَذَهَبَ بِقَطْعِهِمَا سَمْعُهُ لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: فِي الْأُذُنَيْنِ. وَالْأُخْرَى: فِي السَّمْعِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى مَحَلَّيْنِ فَصَارَتْ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوَيْنِ، وَخَالَفَ قَلْعَ الْعَيْنِ إِذَا ذهب ضؤها فَلَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ الضَّوْءِ فِي الْعَيْنِ، وَمَحَلَّ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ، وَلِذَلِكَ كَمُلَتِ الدِّيَةُ فِي أُذُنِ الْأَصَمِّ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ذَهَابِ الْعَقْلِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَحَلِّهِ، فَمِنْ طَائِفَةٍ تَقُولُ محله الدماغ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 وَأُخْرَى تَقُولُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ. وَأُخْرَى تَقُولُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعُلُومِ. وَالثَّانِي: تَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّهُ يَذْهَبُ يَسِيرَ الْجِنَايَةِ وَلَا يَذْهَبُ بِكَثِيرِهَا، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَوَاجِبَةٌ فِيهِ عَلَى كَمَالِهَا لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " فِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ ". وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ". وَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَشْجُوجِ رَأْسُهُ حِينَ ذَهَبَ بِهَا سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَذَكَرُهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ مِنْ حَوَاسِّ الْجَسَدِ كُلِّهَا لِامْتِيَازِهِ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، وَفَرْقِهِ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتَوَصُّلِهِ بِهِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَوَقْعِ الْمَضَارِّ، وَتَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَوَاسِّ مَعَ تَأْثِيرِ ذَهَابِهِ فِيهَا وَفَقْدِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهَا. (فَصْلٌ) إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الدِّيَةِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرِكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، فَأَمَّا الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ الَّذِي هُوَ حُسْنُ التَّقْدِيرِ وَإِصَابَةُ التَّدْبِيرِ وَمَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأُمُورِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ، [لِمَا أَحْدَثَ مِنَ الدَّهَشِ بَعْدَ التَّيَقُّظِ، وَالِاسْتِرْسَالِ بَعْدَ التَّحَفُّظِ، وَالْغَفْلَةِ بَعْدَ الْفِطْنَةِ يُعْتَبَرُ بِحُكُومَتِهِ] قَدْرُ مَا حَدَثَ مِنْ ضَرَرِهِ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ بِمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَبَعَّضُ زَمَانُهُ فَيَعْقِلُ يَوْمًا وَيُجَنُّ يَوْمًا، فَإِنْ تَبَعَّضَ زَمَانُهُ بِالْجِنَايَةِ فَكَانَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَزِمَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ فِي يَوْمٍ وَيُجَنُّ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ ثُلُثَا دِيَتِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْجِنَايَةُ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْعَقْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَنْ مُبَاشَرَةٍ. وَالثَّانِي: عَنْ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مُبَاشَرَةٍ فَكَضَرْبَةِ سَيْفٍ أو رمية بحجر أو قرعة بعصى، إِمَّا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ كَانَ عَنْ جِنَايَتِهِ، سَوَاءٌ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جَسَدِهِ أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَطَمَهُ بِيَدِهِ، أَوْ رَكَلَهُ بِرِجْلِهِ حَتَّى أَزْعَجَهُ بِرَكْلَتِهِ أَوْ لَطْمَتِهِ الَّتِي يَقُولُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ: إِنَّ مِثْلَهَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ كَانَ ذَاهِبًا عَنْ جِنَايَتِهِ وَمَأْخُوذًا بِدِيَتِهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَكَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِسَيْفٍ أَوْ تَقْرِيبِ سَبُعٍ أَوْ إِدْنَاءِ أَفْعَى فَيُذْعَرُ مِنْهُ فَيَزُولُ عَقْلُهُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَوْ مَضْعُوفًا مَذْعُورًا فَذَلِكَ مُزِيلٌ لِعَقْلِ مِثْلِهِ فَيُؤْخَذُ بِدِيَتِهِ [وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ ثَابِتَ الْجَأْشِ فَعَقْلُ مِثْلِهِ لَا يَزُولُ بِهَذَا التَّفْزِيعِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَهَكَذَا إِنْ زَعَقَ عَلَيْهِ بِصَوْتٍ مُهَوَّلٍ فَزَالَ عَقْلُهُ كَانَ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ فِي قُوَّةِ جَأْشِهِ أَوْ ذُعْرِهِ، فَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي ذِي الْجَأْشِ وَتَلْزَمُهُ فِي الْمَذْعُورِ، فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَهُ مُصِيبَةً حَزِنَ لَهَا فَزَالَ عَقْلُهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِمَسَرَّةٍ فَرِحَ بِهَا فَزَالَ عَقْلُهُ لِحُدُوثِ زَوَالِهِ عَنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ أَحْدَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا زَالَ عَقْلُهُ بِجِنَايَةِ مُبَاشَرَةٍ فَلَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ يُوجِبَ غُرْمًا سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ أَوْ لَا يُوجِبُ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ غُرْمًا كَاللَّطْمَةِ وَاللَّكْمَةِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ مِنَ الْخَشَبِ وَالْمُثْقَلِ فِي الْجَسَدِ غَيْرَ الْأَلَمِ فَتَسْتَقِرُّ بِهَا دِيَةُ الْعَقْلِ، وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ هَدَرًا، وَهَلْ يُعَزَّرُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعَزَّرُ لِإِيجَابِهِ دِيَةَ الْعَقْلِ، وَغُرْمُهَا أَغْلَظُ مِنَ التَّعْزِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعَزَّرُ، لِأَنَّ غُرْمَ الدِّيَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَلَمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْلُوَ مِنْ تَعْزِيرٍ إِذَا خَلَا مِنْ غُرْمٍ. وَإِنْ أَوْجَبَتِ الْجِنَايَةُ غُرْمًا سِوَى دِيَةِ الْعَقْلِ مِنْ مُقَدَّرٍ أَوْ غَيْرِ مُقَدَّرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْمُوضِحَةِ وَالْمَأْمُومَةِ، أَوْ قَطَعَ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ دَخَلَ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا مِنَ الدِّيَةِ، لقطع الأذنين وجذع الْأَنْفِ، دَخَلَتْ فِيهِ دِيَةُ الْعَقْلِ وَأَخَذَ بِدِيَةِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ لِيَكُونَ الْأَقَلُّ دَاخِلًا فِي الْأَكْثَرِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الْمَوْتَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ: إِنَّ دِيَةَ الْعَقْلِ لَا تَسْقُطُ بِمَا عَدَاهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِهَا مَا عَدَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْمَأْمُومَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي الْمَأْمُومَةِ وَجَمِيعُ الدِّيَةِ فِي الْعَقْلِ، أَوْ كَانَ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ أَكَثَرَ مِنْ دِيَةِ الْعَقْلِ كَالْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ دِيَاتٍ وَاحِدَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَثَانِيَةٌ فِي الْأُذُنَيْنِ، وَثَالِثَةٌ فِي الْأَنْفِ، لِرِوَايَةِ أَبِي الْمُهَلَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 قَضَى عَلَى رَجُلٍ رَمَى رَجُلًا بِخِنْجَرٍ فِي رَأْسِهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَلِأَنَّ مَا اخْتُلِفَ مَحَلُّهُ لَا يَتَدَاخَلُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ عَرَضٌ يَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَلَمْ يَتَدَاخَلْ فِيهِ أَرْشُ الجنايات كالسمع والبصر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِرِوَايَةِ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الجوارح نفعاً وأجل الجوار قَدْرًا، فَكَانَا بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَحَقَّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، وَالْحَادَّةُ وَالْكَلِيلَةُ، وَالصَّحِيحَةُ وَالْعَلِيلَةُ، وَالْعَمْشَاءُ وَالْعَشْوَاءُ، وَالْحَوْلَاءُ، إِذَا كَانَ الْبَاطِنُ سَلِيمًا، كَمَا لَا تَخْتَلِفُ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ مَعَ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهِمَا، وَفِي إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِرِوَايَةِ عمرو بن حزم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ " وَفِي الْعَيْنَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: " أَرَادَ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ ". وَرَوَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ " وَلِأَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ فِي عُضْوَيْنِ وَجَبَ نِصْفُهَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلَا فَضْلَ لِيُمْنَى عَلَى يُسْرَى، وَلَا لِصَحِيحَةٍ عَلَى مَرِيضَةٍ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ذَهَابِ بَصَرِهِمَا الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لِرِوَايَةِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ بِنَاظِرِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدنيا بمقلته ... إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ) وَإِذَا سَلَبَهَا مَنْفَعَتَهَا كَمُلَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا كَالشَّلَلِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ فَقَلَعَ الْعَيْنَ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ فَغَرِمَ دِيَتَهَا ثُمَّ عَادَ بَعْدَ الشَّلَلِ فَقَطَعَهَا لَزِمَهُ حُكُومَتُهَا، وَلَوْ قَطَعَهَا ابْتِدَاءً لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا دِيَتُهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ قَطْعِ الأذنين فيذهب بما السَّمْعُ فَتَلْزَمُهُ دِيَتَانِ، وَبَيْنَ قَلْعِ الْعَيْنَيْنِ فَيَذْهَبُ بِهِمَا الْبَصَرُ فَيَلْزَمُهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ بِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ فِي غَيْرِ الْأُذُنَيْنِ فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمَحَلَّ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ، وَيَلْحَقُ بِالْأُذُنَيْنِ ذهاب الشم بجذع الْأَنْفِ فَتَلْزَمُهُ دِيَتَانِ، وَيَلْحَقُ بِالْعَيْنِ ذَهَابُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ اللِّسَانِ فَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ الدِّيَةَ نُظِرَ: فَإِنْ مُحِقَ ذَهَابُ الْبَصَرِ كَانَ الْمَحْقُ مِنْ شَوَاهِدِ ذَهَابِهِ الَّذِي يَقْطَعُ التَّنَازُعَ فِيهِ، كَمَا لو استأصل عينه ففقأها، وهو ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 يؤس مِنْ عَوْدِهِ فَنَقْضِي فِيهِ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ ظَاهِرَةً لَمْ تَمْحَقْهَا الْجِنَايَةُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا مَعَ بَقَائِهَا عَلَى صُورَتِهَا فَيُوقَفُ عُلَمَاءُ الطِّبِّ عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا عِلْمٌ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْهَا عِلْمٌ لِإِشْكَالِهَا وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَصَرُهَا ذَاهِبًا وَبَاقِيًا عَمِلْنَا عَلَى قَوْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي، لِأَنَّ ذَهَابَ بَصَرِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَجُعِلَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا بِأَنْ يُسْتَقْبَلَ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ بِمَا يُزْعِجُ الْبَصِيرَ رُؤْيَتُهُ، وَيُشَارُ إِلَى عَيْنِهِ بِمَا يَتَوَقَّاهُ الْبَصِيرُ بِإِغْمَاضِهَا وَيُؤْمَرُ بِالْمَشْيِ في طريق الخطائر وَالْآبَارِ وَمَعَهُ مَنْ يَحُولُهُ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِذَا دَلَّتْ أَحْوَالُهُ بِأَنْ لَا يُطْبِقَ طَرْفَهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّى بِئْرًا إِنْ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَارَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِ، فَيَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَازِ تَصَنُّعِهِ فِيهِ، وَنَقْضِي لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ والدية في الخطأ، وإن كان يطيق طَرْفَهُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ وَيَتَوَقَّى بِئْرًا إِنْ كَانَتْ وَيَعْدِلُ عَنْ حَائِطٍ إِنْ لَقِيَهُ صَارَتْ شَوَاهِدُ هَذَا الظَّاهِرِ مُنَافِيَةً لِدَعْوَاهُ، فَانْتَقَلَ الظَّاهِرُ إِلَى جَنَبَةِ الْجَانِي، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ إِنَّ بَصَرَهُ لَبَاقٍ لَمْ يَذْهَبْ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَحَرُّزُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَاسْتَظْهَرَ لَهُ بِالْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُرْجَعْ إِلَى قَوْلِهِمَا وَلَمْ يقبل دعواهما، لأنه لا حكم لهما، وَوُقِفَ أَمْرُهُمَا إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ بَعْدَ حَبْسِ الْجَانِي لِيَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِمَا إِذَا بَلَغَ الصبي وأفاق المجنون أو يموتان فيقوم مَقَامَهُمَا فِيمَا يَدَّعِيَانِهِ مِنْ ذَهَابِ الْبَصَرِ وَإِحْلَافِهِمَا عليه إن كان معهما ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الطِّبِّ مِنْ حَالِ الْعَيْنِ فَلَا يَخْلُو عِلْمُهُمْ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أقسام: أحدها: أن يشهد عدولهم ببقاء ببصرها فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدُوا بِبَقَائِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ ذَهَابِهِ فِي ثَانِي حَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِذَهَابِهِ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي حَالٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِذَهَابِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ عَوْدِهِ فِي ثَانِي حَالٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا شَهِدُوا بِبَقَاءِ الْبَصَرِ فِي الْحَالِ وَمَا بَعْدَهَا حُكِمَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ مِنْهُمْ، فَبَرِئَ الْجَانِي مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، ونظر في الجناية فإن كان لها [أثر] يُوجِبُ حُكُومَةً غَرِمَهَا وَلَمْ يُعَزَّرْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ عُزِّرَ أَدَبًا وَلَمْ يُغَرَّمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا شَهِدُوا بِبَقَاءِ بَصَرِهِ فِي حَالٍ وَجَوَازِ ذَهَابِهِ فِي ثَانِي حَالٍ لم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 يَخْلُ حَالُ تَجْوِيزِهِمْ لِذَهَابِهِ مِنْ أَنْ يُقَدِّرُوهُ بِمُدَّةٍ أَوْ لَا يُقَدِّرُوهُ فَإِنْ قَدَّرُوهُ بِمُدَّةٍ فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ سَنَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْدَهَا، فَإِنْ ذَهَبَ فِيهَا وَإِلَّا فَقَدَ سَلِمَ مِنْهَا عُمِلَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَوُقِفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سَنَةً فَإِنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فِيهَا كَانَ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ بَعْدَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، وَيُؤْخَذُ بِالْحُكُومَةِ إِذَا كَانَ لِجِنَايَتِهِ أَثَرٌ، وَلَا يُعَزَّرُ وَلَا حُكُومَةَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ وَيُعَزَّرُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ آخَرُ فَفَقَأَهَا قَبْلَ ذَهَابِ بَصَرِهِ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْمَأْخُوذَ فِيهَا بِالْقَوَدِ وَالدِّيَةِ دُونَ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ فَقَأَهَا قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ جَنَى وَالْبَصَرُ بَاقٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا شَهِدُوا بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِي الْحَالِ وَمَا بَعْدَهَا فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْقَوَدِ فِي الْعَبْدِ إِذَا شَهِدَ مِنْ عُدُولِهِمْ رَجُلَانِ، وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ إِذَا شَهِدَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، فَلَوْ عَادَ بَصَرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ قُضِي لَهُ بِالدِّيَةِ أَوِ الْقَوَدِ فَالْمَذْهَبُ أَنْ لَا دَرْكَ عَلَيْهِ بِعَوْدِهَا فِيمَا قَضَى لَهُ مِنْ قَوَدِهَا أَوْ دِيَتِهَا، لِأَنَّ عَوْدَهَا بِهَا مِنْ عَطَايَا اللَّهِ تَعَالَى وَهِبَاتِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي سِنِّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ وَاقْتُصَّ مِنْهَا أو أخذ ديتها ثم عادت فيثبت قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ رَدُّ دِيَتِهَا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فِي الْعَيْنِ إِذَا عَادَ بَصَرُهَا هَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّ دِيَتِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إِذَا عَادَ بَصَرُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا فِي السِّنِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ بِعَوْدِ الْبَصَرِ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّهَا بِعَوْدِ السِّنِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَوْدَ السِّنِّ مَعْهُودٌ فِي جِنْسِهِ وَعَوْدُ الْبَصَرِ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي جِنْسِهِ فَاخْتَلَفَا فِي الرَّدِّ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مَعْهُودِ الْعَوْدِ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اقْتُصَّ مِنْ بَصَرِ الْجَانِي فَعَادَ بَصَرُهُ بَعْدَ الْقِصَاصِ لَمْ يُؤْخَذْ بِذَهَابِهِ ثَانِيَةً عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ فِي السِّنِّ أَمْ لَا؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ ثَانِيَةً، فَإِنْ عَادَ بَعْدَهَا اقْتُصَّ مِنْهُ أَبَدًا حَتَّى يَذْهَبَ فَلَا يَعُودَ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: إِذَا شهدوا بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِي الْحَالِ وَجَوَازِ عَوْدِهِ فِي ثاني حال فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهِ مِنْ أَنْ يُقَدِّرُوا زَمَانَ عَوْدِهِ أَوْ لَا يُقَدِّرُوا، فَإِنْ لَمْ يُقَدِّرُوا وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَبَدِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا إِيَاسٍ لَمْ تُوجِبْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَوَقُّفًا عَنِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَأُخِذَ الْجَانِي بِهِمَا فِي الْحَالِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ يُفْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى سُقُوطِهِ. وَإِنْ قَدَّرُوا الْمُدَّةَ وقالوا: يجوز أن يعود إلى سنة [إن كَانَ مِنْ ظُلْمَةٍ غَطَّتِ الْبَاطِنَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ مِنْ ذَهَابِ الْبَاطِنِ حُبِسَ الْجَانِي، وَوُقِفَ الْبَصَرُ إِلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 سَنَةٍ] ، فَإِنْ عَادَ فِيهَا بَرِئَ الْجَانِي مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، وَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكُومَةِ الْجِنَايَةِ إِنْ أَثَّرَتْ، وَلَمْ يُعَزَّرْ، وَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ عُزِّرَ وَلَمْ يُغَرَّمْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فِي السَّنَةِ حَتَّى انْقَضَّتْ أُخِذَ الْجَانِي بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ آخَرُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَدِيَةُ الْبَصَرِ وَالْقَوَدِ فِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجِنَايَةِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعُدْ عِنْدَ جِنَايَةِ الثَّانِي، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَقَالَ الْأَوَّلُ: عَادَ الْبَصَرُ قَبْلَ جِنَايَتِكَ فَأَنْتَ الْمَأْخُوذُ بِالْقَوَدِ فِيهِ أَوِ الدِّيَةِ دُونِي. وَقَالَ الثَّانِي: بَلْ كَانَ الْبَصَرُ عِنْدَ جِنَايَتِي عَلَى ذَهَابِهِ فَأَنْتَ الْمَأْخُوذُ فِيهِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ دُونِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ دُونَ لأول، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَهَابِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ عَوْدِهِ. فَإِنِ ادَّعَيَا عِلْمَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ إِنْ أَجَابَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِيَ، فَإِنْ صَدَّقَ الثَّانِيَ أَنَّ بَصَرَهُ لَمْ يَعُدْ حَلَفَ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. وَإِنْ صَدَّقَ الْأَوَّلَ أَنَّ بَصَرَهُ عَادَ قَبْلَ جِنَايَةِ الثَّانِي بَرِئَ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ بِتَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الثَّانِي، وَصَارَتْ عَيْنُهُ هَدَرًا لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَأْنَفَ بِتَصْدِيقِ الْأَوَّلِ دَعْوَى عَلَى الثَّانِي، وَشَهَادَةً لِلْأَوَّلِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ عَلَى الثَّانِي، وَلَمْ يُسْتَمَعْ شَهَادَتُهُ لِلْأَوَّلِ لِمَا فِيهَا مِنِ اجْتِلَابِ النَّفْعِ، وَلَوْ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ ثَانٍ وَلَكِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ كَانَ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، لِأَنَّهُ أَذْهَبَ بَصَرًا لَمْ يَعُدْ، وَفِي سِنِّ مَنْ لَمْ يَثَّغِرْ إِذَا قُلِعَتْ فُقِدَ عَوْدُهَا إِلَى مُدَّةٍ مَاتَ قَبْلَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهَا فِي الْمُدَّةِ لَوْ عَاشَ إِلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فِي الْعَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ ثَانٍ فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ وَلَا الدِّيَةُ وَتَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ كَمَوْتِهِ فِي مُدَّةِ السِّنِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِيءُ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ خُرِّجَ فِي السِّنِّ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ السِّنِّ وَالْعَيْنِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَقَالَ الْجَانِي: عَادَ بَصَرُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْوَلِيُّ: لم يعد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّ بَصَرَهُ لَمْ يَعُدْ، وَيَكُونُ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَكَلَ الْوَلِيُّ حَلَفَ الْجَانِي وَبَرِئَ مِنْهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَذْهَبْ بَصَرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ وَذَهَبَ بَعْدَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَلِيلَ الْعَيْنِ أَوْ شَدِيدَ الْأَلَمِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَالظَّاهِرُ ذَهَابُهُ مِنَ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ الْجَانِي مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ فِيهِ أَوِ الدِّيَةِ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا لَمْ يَزَلْ صَبِيًّا حَتَّى مَاتَ. وَإِنْ بَرَأَتْ عَيْنُهُ وَزَالَ أَلَمُهَا ثُمَّ ذَهَبَ بَصَرُهَا كَانَ ذَاهِبًا مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْإِحْلَافُ بِاللَّهِ لَقَدْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ إِنِ ادَّعَى ذَهَابَهُ منها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَقَصَتْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى اخْتَبَرْتُهُ بِأَنْ أَعْصِبَ عَيْنَهُ الْعَلِيلَةَ وَأُطْلِقَ الصَّحِيحَةَ وَأَنْصُبَ لَهُ شَخْصًا عَلَى رَبْوَةٍ أَوْ مُسْتَوًى فَإِذَا أَثْبَتَهُ بَعَّدْتُهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُهَا ثَمَّ أَذْرَعُ بَيْنَهُمَا وَأُعْطِيهِ عَلَى قَدْرِ مَا نَقَصَتْ عَنِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا، أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَيَذْهَبُ بِبَعْضِ بَصَرِهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخْتَبَرَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا بِمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَعْصِيبِ عَيْنِهِ الْعَلِيلَةِ وَإِطْلَاقِ الصَّحِيحَةِ، وَنَصْبِ شَخْصٍ لَهُ مِنْ بُعْدٍ عَلَى رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ أَوْ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإِذَا رَأَى الشَّخْصَ بُوعِدَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَبْعَدِ مَدَى رُؤْيَتِهِ الَّذِي لَا يَرَاهُ بَعْدَهَا، وَاخْتُبِرَ صِدْقُهُ فِي مَدَى الرُّؤْيَةِ بِالصَّحِيحَةِ بِأَنْ يُعَادَ الشَّخْصُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى، وَلَوْ ضُمَّ إِلَى الشَّخْصِ بَعْدَ مَدَى رُؤْيَتِهِ شَخْصٌ آخَرُ يُخْتَبَرُ بِهِ صِدْقُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ كَانَ أَحْوَطَ، لِأَنَّ قَصْدَهُ بُعْدَ مَدَى الْبَصَرِ بِالْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا أَوْثَقَ بِمَا قَالَهُ مِنْ هَذَا الِاخْتِبَارِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ مَدَى الْبَصَرِ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ واختلاف الأشخاص مسح قدر الْمَسَافَةَ، فَإِذَا كَانَتْ أَلْفَ ذِرَاعٍ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْرُ مَدَى بَصَرِهِ مَعَ الصَّحِيحَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَمِلَ عَلَى الْأَقَلِّ احْتِيَاطًا ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْعَلِيلَةُ الصَّحِيحَةُ، [فَإِنْ رَأَى الشَّخْصَ مِنْ مَدَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَصَرِ الْعَلِيلَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ قَرِّبَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى حد يراه، وغرض في هذا تقليل مدى بَصَرِهِ بِالْعَلِيلَةِ كَمَا كَانَ غَرَضُهُ تَبْعِيدَ] مَدَى بَصَرِهِ بِالصَّحِيحَةِ لِيَكُونَ نُقْصَانُ مَا بَيْنَ الْبَصَرَيْنِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَيَسْتَظْهِرُ عَلَيْهِ بِإِعَادَةِ الشَّخْصِ مِنْ جِهَاتٍ، وَيُحْتَسَبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ مِنْ مَدَى بَصَرِهِ بِالْعَلِيلَةِ كَمَا احْتُسِبَ بِأَقَلِّ مَا قَالَهُ مِنْ مَدَى بَصَرِهِ بِالصَّحِيحَةِ حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ لِيَشُكَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ بِالتَّصَنُّعِ لَهُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 وَيُنْظَرُ قَدْرَ مَسَافَةِ الْعَلِيلَةِ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ بَصَرِهَا النِّصْفَ، فَيُؤْخَذُ بِرُبُعِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ نِصْفُ دِيَةِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ أَلْفٍ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ بَصَرِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارٍ، فَيُؤْخَذُ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةُ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، فَإِنْ سَأَلَ الْجَانِي إِحْلَافَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَسَافَةِ أُحْلِفَ لَهُ، وَلَا قِصَاصَ فِي هَذَا، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْبَصَرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهِمَا فَيَعْتَذِرُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارَ مَا ذَهَبَ مِنْهُمَا بِالْجِنَايَةِ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْعَيْنَيْنِ مَعًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ مَدَى بَصَرِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ اعْتَبَرَ مَدَى بَصَرِهِ بَعْدَهَا، وَلَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَعْلَمْ بعدها قدر الذاهب منهما، فيلزمه حكومة بمقدرها الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَيَاضٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي الْبَصَرِ، وَيَرَى مَعَ الْبَيَاضِ مَا كَانَ يَرَاهُ قَبْلَهُ، فَفِي بَصَرِهِ إِذَا ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ الدِّيَةُ تَامَّةً، وَلَا يَكُونُ لِلْبَيَاضِ تَأْثِيرٌ فِي الدِّيَةِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْبَصَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَوْ لَا يَشُقُّ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ مَعَ الْمَشَقَّةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ النَّظَرِ حَتَّى صَارَ لَا يُبْصِرُ مِنْ قُرْبٍ وَلَا بُعْدٍ، فَيَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَالْبَصَرِ الذَّاهِبِ لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ بَاقِيًا تَحْتَ الْبَيَاضِ، لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِهِ كَمَا لَا يُبْصِرُ بِالذَّاهِبِ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَيْسَ مَا يُرْجَى مِنْ زَوَالِ الْبَيَاضِ بِالْعِلَاجِ فَيَعُودُ الْبَصَرُ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حُكْمُ الذَّاهِبِ الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي قَدْرِ الْحُكُومَةِ فَتَكُونُ حُكُومَةُ ذَاتِ الْبَيَاضِ أَكْثَرَ لِبَقَاءِ الْبَصَرِ تَحْتَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ أَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَدْ غَشِيَ جَمِيعَ النَّاظِرِ، وَهُوَ رَقِيقٌ فَصَارَ مُبْصِرًا أَقَلَّ مِنْ بَصَرِهِ قَبْلَ الْبَيَاضِ، فَيَتَعَذَّرُ فِي هَذَا مَعْرِفَةٌ مِنْهُ بِالْبَيَاضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ مَدَى بَصَرِهِ قَبْلَ الْبَيَاضِ فَيَعْرِفُ مَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَهُ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقَدِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ فَيَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَيَاضُ قَدْ غَشِيَ بَعْضَ النَّاظِرِ فَلَا يُبْصِرُ بِمَا غشاه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 وَيُبْصِرُ بِمَا عَدَاهُ فَيَلْزَمُ الْجَانِي عَلَيْهَا إِذَا ذَهَبَ بَصَرُهَا مَا كَانَ بَاقِيًا مِنْهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ إِذَا عَرَفَ ذلك، وخير مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَصَرِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ضَرَبَ عَيْنَهُ فَأَشْخَصَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الشُّخُوصِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَصَرُهَا بَاقِيًا بِحَالِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي إِشْخَاصِهَا حُكُومَةٌ يَتَقَدَّرُ بقبح الإشخاص، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَصَرِ لِبَقَائِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا، فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ دُونَ الْإِشْخَاصِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ بَصَرِهَا فَيَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ الذَّاهِبِ مِنْ بَصَرِهَا أَوْ حُكُومَةِ إِشْخَاصِهَا، وَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا، لِاجْتِمَاعِ مَحَلِّهِمَا، وَيَكُونُ أَقَلُّهُمَا دَاخِلًا فِي الْأَكْثَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ جَنَيْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَاهِبُ الْبَصَرِ فَعَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ يُبْصِرُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ إِذَا اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي سَلَامَتِهَا وَعَطَبِهَا، وَالْعَيْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ رَجُلٍ وَاخْتَلَفَ الْفَاقِئُ وَالْمَفْقُوءُ. فَقَالَ الْفَاقِئُ: فَقَأْتُهَا وَبَصَرُهَا ذَاهِبٌ. وَقَالَ الْمَفْقُوءُ: بَلْ كَانَ سَلِيمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَاقِئِ مِنْ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ أَوْ لَا يَعْتَرِفَ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِهَا وَقَالَ: خُلِقْتَ ذَاهِبَ الْبَصَرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُوءَ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَصَرِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالسَّلَامَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَادَّعَى ذَهَابَ بَصَرِهِ قَبْلَ جِنَايَتِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَاقِئِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَوَدِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يُقِيمَ الْمَفْقُوءُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَلَامَتِهِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَفْقُوءِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى سَلَامَتِهِ حَتَّى يُقِيمَ الْفَاقِئُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذهاب بصر، وأصل هذين القولين اختلاف قوليه في الملفوف إِذَا قُطِعَ، وَقَالَ الْجَانِي: قَطَعْتُهُ وَكَانَ مَيْتًا. وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ كَانَ حَيًّا. أَوْ هَدَمَ عَلَى جَمَاعَةٍ بَيْتًا وَقَالَ: هَدَمْتُهُ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا مَوْتَى، وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ: كَانُوا أَحْيَاءً فَفِيهَا قَوْلَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 أحدهما: أن القول قول الجاني مع يمينه، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَوَدِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، لِأَنَّ الأصل بقاء الحياة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسَعُهَا أَنْ تَشْهَدَ إِذَا رَأَتْهُ يُتْبِعُ الشَّخْصَ بصره ويطرف عنه ويتوقاه وكذلك المعرفة بانبساط اليد والذكر وانقباضهما، وكذلك المعتوه والصبي وَمَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَهُوَ عَلَى الصِّحَّةِ حتى يعلم غيرها ". قال الماوردي: وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِأَقْصَى جِهَاتِ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِذَا شَهِدُوا بِسَلَامَةِ الْبَصَرِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُشَاهَدُ فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ أَمَارَاتِ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَا يَعْتَرِضُهُ شَكٌّ، وَهُوَ أَنْ يَرَاهُ يَتْبَعُ الشَّخْصَ وَيَسَلُكُ الْمَعَاطِفَ وَيَتَوَقَّى الْآبَارَ، وَيَقْرَأُ الْكُتُبَ، وَيَتَطَرَّفُ عَيْنَهُ عَنِ الْأَذَى، فَيَعْلَمُ بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ عِلْمًا لَا يَدْخُلُهُ شَكٌّ أَنَّهُ يُبْصِرُ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِسَلَامَةِ بَصَرِهِ، وَهَكَذَا فِي سَلَامَةِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ إِذَا رَآهُ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ، وَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ قَبْضًا وَبَسْطًا، وَرَفْعًا وَوَضْعًا، عَلِمَ بِذَلِكَ سَلَامَتَهَا مِنْ شَلَلٍ، فَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ، وَهَكَذَا الذَّكَرُ وَهُوَ مِنَ الْأَعْضَاءِ يَجُوزُ إِذَا رَآهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الشَّلَلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشَاهِدَهُ فِي إِحْدَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا حَالَ الصِّغَرِ قَبْلَ تَغْلِيظِ عَوْرَتِهِ. أَوْ يُشَاهِدَهُ فِي الْكِبَرِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِمُشَاهَدَتِهِ. أَوْ يَكُونُ طَبِيبًا قَدْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ تَعَمَّدَ فِي الْكِبَرِ لِلنَّظَرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَقَدْ فَسَقَ، وَلَا يُقْبَلُ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بسلامة أعضائه، لأنه يستبدل عَلَيْهَا بِحَرَكَاتِ طَبْعِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَهُوَ عَلَى الصِّحَّةِ " وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِهَا نُظِرَتْ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ شَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ الْجِنَايَةِ حُكِمَ بِهَا، وَلَمْ يُسْتَحْلَفِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعَهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُغْنِي عَنِ الْيَمِينِ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ، وَإِنْ شَهِدَا بِالسَّلَامَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَفِي سَمَاعِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ عَلِمَ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهَا هَلْ يُحْكَمُ فِيهَا عِنْدَ الْجِنَايَةِ بِقَوْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِهِ، فَعَلَى هَذَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ لَهُ بِتَقَدُّمِ سَلَامَتِهِ، ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ مَعَهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى السَّلَامَةِ إلى حين جنايته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْجُفُونِ إِذَا اسْتُؤْصِلَتِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 واحد منهما ربع الدية لأن ذلك من تمام خلقته وما يألم بقطعه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا جُفُونُ الْعَيْنَيْنِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ تُحِيطُ بِالْعَيْنَيْنِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ، وَتَحْفَظُهُمَا مِنَ الْأَذَى، وَتَجْلِبُ إِلَيْهِمَا النَّوْمَ، وَيَكْمُلُ بِهِنَّ جَمَالُ الوجه والعين، وفيها إذا استوصلت الدِّيَةُ تَامَّةً. وَقَالَ مَالِكٌ: فِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَى النَّصِّ وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعَيْنَيْنِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ، لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْمَتْبُوعِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " وَفِي الجفون إذا استوصلت الدِّيَةُ " وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ تَأَلَّمَ بِقَطْعِهَا وَيُخَافُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ الدِّيَةُ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُمْتَنَعُ، وَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا أَنْ تُسَاوِيَ مَتْبُوعًا فِي الدِّيَةِ إِذَا اخْتُصَّتْ بِزِيَادَةِ جَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ كَالْأَنْفِ فِي الشَّمِّ، وَالْأُذُنَيْنِ فِي السَّمْعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ فَسَوَاءٌ استوصلت مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ بَصِيرٍ، لِأَنَّ لِلضَّرِيرِ بِهَا مَنْفَعَةً وَجَمَالًا وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبَصَرِ بِهَا أَعَمَّ. فَأَمَّا الْقَوَدُ فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَجَبَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ، فَإِنْ قَلَعَ جَفْنًا وَاحِدًا فَفِيهِ رُبْعُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ إِذَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ تَقَسَّطَتْ عَلَى عَدَدِهَا كَالْيَدَيْنِ فِي تَقْسِيطِ دِيَتِهَا عَلَى الْأَصَابِعِ، وَتُقَسَّطُ دِيَةُ الْإِصْبَعِ عَلَى الْأَنَامِلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَفْنُ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ، وَفِي الْجَفْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي ثَلَاثَةِ جُفُونٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، فَلَوْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَقَطَعَ جُفُونَهُمَا وَأَذْهَبَ بَصَرَهُمَا لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: فِي الْجُفُونِ. وَالْأُخْرَى: فِي الْعَيْنَيْنِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَيْهِ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ وَأَشْفَارُهُمَا مِنَ الشَّعْرِ النَّابِتِ فِي أَجْفَانِهِمَا فَفِيهِمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ ذَبُّهَا عَنِ الْبَصَرِ، وَمِنِ الْجَمَالِ حُسْنُ الْمَنْظَرِ، وَفِيهَا إِذَا انْتَفَتْ فَلَمْ تَعُدْ حُكُومَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِيهَا الدِّيَةُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي قَطْعِ مَا يُخَافُ مِنْ سِرَايَتِهِ وَيُؤْلَمُ فِي إِبَانَتِهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْأَهْدَابِ وَمَوْجُودٌ فِي الْجُفُونِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِي الْأَجْفَانِ دِيَةٌ، وَفِي الْأَهْدَابِ حُكُومَةٌ، فَإِنْ نَتَفَ أَهْدَابَهُ فَعَادَ نَبَاتُهَا دُونَ مَا كَانَتْ فَفِيهَا مِنَ الْحُكُومَةِ أَقَلُّ مِمَّا فِيهَا لَوْ لَمْ تَعُدْ، فَإِنْ عَادَ نَبَاتُهَا إِلَى ما كانت عليه ففيهما وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ فِيهَا لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَيُعَزَّرُ لِأَجْلِ الْأَذَى. وَالثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ دُونَ حُكُومَتِهَا لَوْ عَادَ نَبَاتُهَا خَفِيفًا، فَإِنِ اسْتَأْصَلَ أَجْفَانَهُ مع أهدابها فعليه دية الجفون تدل فِيهَا حُكُومَةُ الْأَهْدَابِ، وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ دِيَةِ الْجُفُونِ وَحُكُومَةِ الْأَهْدَابِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْجُفُونَ مَحَلُّ الْأَهْدَابِ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِالْحُكُومَةِ فِيهَا كَالْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ فَيَخْتَصَّانِ بِالْجَمَالِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ نَتَفَهُ حَتَّى ذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِيهِ دِيَةٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُهَا فِي أَرْبَعَةِ شُعُورٍ: شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ. فَلَوْ عَادَ شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ بَعْدَ نَتْفِهِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَلَوْ كَشَطَ جِلْدَةَ الْحَاجِبَيْنِ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، كَانَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبَ الشَّيْنِ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَةِ الشَّعْرِ، فَإِنَّ أَوْضَحَ مَحَلَّهُمَا كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ مُوضِحَتَيْنِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِمَا حُكُومَةُ الشَّيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا نَظِيرَهُمَا مِنْ قَبْلُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، لِمَا رَوَى ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية " فَأَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِلَفْظِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَبِأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِأَلْفَاظِ التَّابِعِينَ، وَكَثِيرًا مَا يُورِدُهَا بِلَفْظِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَرَوَى عمرو بن حزم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ: " وَفِي الأنف إذا أوعب جذعاً مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ " لِأَنَّ الْأَنْفَ عُضْوٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ تَأَلَّمَ بِقَطْعِهِ، وَرُبَّمَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ إِلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُكْمِلَ فِيهِ الدِّيَةَ كَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ، وَمَارِنُ الْأَنْفِ هُوَ مَا لَانَ مِنَ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ الْمُتَّصِلُ بِقَصَبَةِ الْأَنْفِ. وَالْقَصَبَةُ هِيَ الْعَظْمُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْجَبْهَةِ، وَكَمَالُ الدِّيَةِ فِيهِ يَجِبُ بِاسْتِيعَابِ الْمَارِنِ مَعَ الْمَنْخَرَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَنْفُ الْأَقْنَى وَالْأَفْطَسُ وَالْأَحْجَرُ، وَالْأَخْنَسُ، وَأَنْفُ الْأَشَمِّ وَالْأَخْشَمُ فَإِنْ قَطَعَ أَرْنَبَةَ الْأَنْفِ وَتَجَزَّأَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَزَّأْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدَ الْمَنْخَرَيْنِ وَبَقِيَ الْمَنْخَرُ الْآخَرُ مَعَ الْمَارِنِ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ نِصْفَ مَنْفَعَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ تَقْسِيطًا عَلَى الْمَنْخَرَيْنِ وَالْمَارِنِ الَّذِي يَشْتَمِلُ الْأَنْفُ عَلَيْهَا، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا فِي قَطْعِ الْمَارِنِ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْخَرَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلَوْ شَقَّ الْمَارِنَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، انْدَمَلَ أَوْ لَمْ يَنْدَمِلْ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْمُنْدَمِلِ أَقَلُّ وَفِي غَيْرِ الْمُنْدَمِلِ، أَكْثَرُ، فَإِنْ خَرَمَ أَحَدٌ مَنْخَرَيْهِ فَإِنْ لم يذهب منه بالخرم شيء ويجزأ فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَزَّأْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ لَا تَبْلُغُ بِهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَنَصِفُهَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخَرَيْنِ، لِأَنَّ قَطْعَهُ أَكْثَرُ مَنْ خَرْمِهِ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَ قَطْعَ الْأَنْفِ مِنْ أَصْلِ الْمَارِنِ فَأَوْضَحَ عَظْمَ الْقَصَبَةِ فَعَلَيْهِ مَعَ دِيَةِ الْأَنْفِ دِيَةُ مُوضِحَةٍ، وَلَوْ هَشَمَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ هَاشِمَةٍ، وَلَوْ نَقَّلَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ مُنَقِّلَةٍ، وَلَوْ أَجَافَ مَا تَحْتَهُ لَزِمَهُ دِيَةُ مَأْمُومَةٍ، لِوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ " قَوْلًا ثَانِيًا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ دِيَةُ مَأْمُومَةٍ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ مُنَقِّلَةٍ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَ عَظْمَ الْقَصَبَةِ كُلَّهَا لَزِمَهُ مَعَ دِيَةِ الْأَنْفِ حُكُومَةُ الْقَصَبَةِ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ الْأَنْفِ، لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ، وَخَرَّجَ هَذَا التَّعْلِيلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ إِذَا قُطِعَتْ مع الأنف قولاً ثانياً أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا دِيَةٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي قَطْعِ الْحَلَمَةِ مَعَ الثَّدْيَيْنِ، وَقَطْعِ الْحَشَفَةِ مَعَ بَعْضِ الذَّكَرِ، وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِصَحِيحٍ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَحَلَّ الْحَلَمَةِ فِي الثَّدْيِ وَمَحَلَّ الْحَشَفَةِ عَلَى الذَّكَرِ، وَلَيْسَ مَحَلُّ الْأَنْفِ عَلَى الْقَصَبَةِ وَإِنِ اتَّصَلَ بِهَا فَاخْتَلَفَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي إِيضَاحِ الْمَارِنِ دِيَةُ مُوضِحَةٍ كَانَ الْتِزَامُ الْغُرْمِ فِي قَطْعِ أَصْلِهَا أَحَقَّ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَنَى عَلَى أَنْفِهِ فَاسْتَحْشَفَ وَيَبِسَ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْأُذُنَيْنِ إِذَا اسْتَحْشَفَتَا: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الدِّيَةُ تَامَّةً كَالْيَدَيْنِ إِذَا شُلَّتَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِبَقَاءِ نَفْعِهِ مَعَ ذَهَابِ جَمَالِهِ بِخِلَافِ شَلَلِ الْيَدِ الَّذِي قَدْ فَاتَ بِهِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَدَعَ أَنْفًا مُسْتَحْشَفًا، كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِ دِيَةٌ. وَالثَّانِي: دِيَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ جَنَى عَلَى أَنْفِهِ فاعوج لزمته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 حُكُومَةٌ، فَإِنْ جُبِرَ حَتَّى عَادَ مُسْتَقِيمًا كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَقَلُّ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى عِوَجِهِ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ بِحَسَبِ شَيْنِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جُدِعَ أَنْفُهُ فَأَعَادَهُ بِحَرَارَةِ دَمِهِ حَتَّى الْتَحَمَ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجِنَايَةِ قَدْ بَانَ وَانْفَصَلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ كَالْجِرَاحَةِ الْمُنْدَمِلَةِ، وَإِنْ بَانَ وانفصل ففيه الدية كامل، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى تَرْكِهِ، وَيُؤْخَذُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِقَطْعِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ بِالِانْفِصَالِ مَيِّتًا نَجِسًا، وَلَوْ أَلْصَقَهُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ حَتَّى الْتَحَمَ أُخِذَ بِقَطْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، فَإِنْ كَانَ إِلْصَاقُهُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَطْعِهِ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَطْعِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ذَهَابِ الشَّمِّ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ عَمْرِو بن حزم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ: " وَفِي الشَّمِّ الدِّيَةُ "، وَلِأَنَّ الشَّمَّ مِنَ الْحَوَاسِّ النَّافِعَةِ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ الَّتِي لَا تُرَى وَلَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ صَاحِبِهَا، فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ شَمِّهِ وأنكره الجاني وادعى بقاؤه كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَهَابَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ لَكِنْ يستظهر عليه بغاية ما يمكن في اختيار صِدْقِهِ بِأَنْ يُثَارَ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ غَفَلَاتِهِ الروائع الطَّيِّبَةُ وَالْمُنْتِنَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ لَا يَرْتَاحُ إِلَى الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَرَاهَةٌ لِلرَّوَائِحِ الْمُنْتِنَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِإِمْكَانِ تَصَنُّعِهِ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الِارْتِيَاحُ لِلرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَرَاهَةُ لِلرَّوَائِحِ الْمُنْتِنَةِ، صَارَ الظَّاهِرُ بِهَا فِي جَنَبَةِ الْجَانِي فَأُحْلِفَ عَلَى بَقَاءِ شَمِّهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَلَوْ أُحْلِفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى ذَهَابِ شَمِّهِ ثُمَّ غَطَّى أَنْفَهُ عِنْدَ رَائِحَةٍ مُنْتِنَةٍ فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ غَطَّاهُ لِبَقَاءِ شَمِّهِ. وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ غَطَّيْتُهُ لِحَاجَةٍ أَوْ عَادَةٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي، وَيُحْكَمُ لَهُ بِالدِّيَةِ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ ذَهَبَ شَمُّهُ وَقَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ ثُمَّ عَادَ شَمُّهُ لَزِمَهُ رَدُّ الدِّيَةِ، وَعُلِمَ أَنَّ ذَهَابَ شَمِّهِ كَانَ لِحَائِلٍ دُونَهُ، وَلَا حُكُومَةَ لَهُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَمْ يَشُمَّ فِيهَا، لِبَقَاءِ شَمِّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عَوْدِهِ أَضْعَفَ مِنْهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَشُمُّ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ فَصَارَ يَشُمُّ مِنَ الْقَرِيبِ، وَلَا يَشُمُّ مِنَ الْبَعِيدِ، أَوْ كَانَ يَشُمُّ الرَّوَائِحَ الْقَوِيَّةَ وَالضَّعِيفَةَ فَصَارَ يَشُمُّ الرَّوَائِحَ الْقَوِيَّةَ دُونَ الضَّعِيفَةِ، فَإِنْ عُلِمَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهُ وَلَا أَحْسَبُهُ يُعْلَمُ كَانَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الذَّاهِبِ، فَإِنْ لَمْ يحلم فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَلَوْ كَانَ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ يَشُمُّ شَمًّا ضَعِيفًا وَذَلِكَ بِأَنْ يَشُمَّ مِنَ الْقَرِيبِ أَوِ الْقَوِيِّ مِنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 الرَّوَائِحِ دُونَ الضَّعِيفِ فَجَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ صَارَ لَا يَشُمُّ قَوِيًّا وَلَا ضَعِيفًا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الْحَوَاسَّ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَالْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ الدِّيَةُ بِاخْتِلَافِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْجُودَ كَانَ فِيهِ بَعْضِ الشَّمِّ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي إِذْهَابِهِ إِلَّا بَعْضُ الدِّيَةِ، بِخِلَافِ ضَعْفِ الْأَعْضَاءِ الَّذِي يُوجَدُ جِنْسُ الْمَنَافِعِ فِيهَا. فَعَلَى هَذَا إِنْ عُلِمَ قَدْرُ مَا كَانَ ذَاهِبًا مِنْ شَمِّهِ فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهَا رَأْيَهُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ مِنْهُ شَمُّهُ لَزِمَهُ دِيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فِي جَدْعِ الْأَنْفِ، وَالْأُخْرَى فِي ذَهَابِ الشَّمِّ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَحَلِّ كَالْأُذُنَيْنِ وَالسَّمْعِ، وَخَالَفَ ذَهَابَ الْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنَيْنِ، وَذَهَابَ الْكَلَامِ مع اللسان، لاجتماعهما في المحل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ إِذَا اسْتُوعِبَتَا وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِرِوَايَةِ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ، يَأْلَمُ بِقَطْعِهِمَا وَيُخَافُ مِنْ سِرَايَتِهِمَا فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْغَلِيظَتَانِ وَالدَّقِيقَتَانِ، وَالطَّوِيلَتَانِ وَالْقَصِيرَتَانِ، مِنْ نَاطِقٍ أَوْ أَخْرَسَ، ذِي أَسْنَانٍ وَغَيْرِ أَسْنَانٍ، وَفِي إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَا فَضْلَ لِلْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى، وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ فِي السُّفْلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَفِي الْعُلْيَا ثُلُثُهَا، لِأَنَّ السُّفْلَى أَنْفَعُ مِنَ الْعُلْيَا، لِحَرَكَتِهَا وَدَوَرَانِهَا، وَحِفْظِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ حُرُوفِ الْكَلَامِ الشَّفَوِيَّةِ، وَهَذَا يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةً لَيْسَتْ لِلْأُخْرَى فَصَارَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْمَنَافِعِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمُتَجَانِسَةِ لَا يُوجِبُ تَفَاضُلَهَا فِي الدِّيَاتِ كَالْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ، فَإِنْ قَطَعَ النِّصْفَ مِنْ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحَسَبِ مَا قَطَعَ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَاسْتَحْشَفَتَا وَيَبِسَتَا حَتَّى لَمْ يَتَحَرَّكَا وَلَمْ يَأْلَمَا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْأَنْفِ إِذَا اسْتَحْشَفَهُ أَنَّ عَلَيْهِ حُكُومَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَنْفِ بَاقِيَةٌ وَمَنْفَعَةَ الشَّفَةِ ذَاهِبَةٌ، وَإِنْ تَقَلَّصَتَا بِالْجِنَايَةِ حَتَّى صَارَ كَاشِرَ الْأَسْنَانِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 نُظِرَ فَإِنِ انْبَسَطَتَا فَذَلِكَ نَقْصٌ فِي الْمَنْفَعَةِ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَنْبَسِطْ بِالْمَدِّ فَهُوَ ذَهَابُ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ فَتَكْمُلُ فِيهِمَا الدِّيَةُ، وَلَوْ تَقَلَّصَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَنْبَسِطْ بِالْمَدِّ فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِ مَا تَقَلَّصَ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَاسْتَرْخَتَا حَتَّى لَا يَنْفَصِلَا عَنِ الْأَسْنَانِ إِذَا كَشَّرَ أَوْ ضَحِكَ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهِمَا بِحِفْظِ الْأَسْنَانِ وَمَا يَدْخُلُ الْفَمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَاقْتَضَى لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ حُكُومَةٌ بِخِلَافِ تَقَلُّصِهِمَا الْمُذْهِبِ لِجَمِيعِ مَنَافِعِهِمَا، وَلَوْ شَقَّ الشَّفَةَ فَلَمْ يَنْدَمِلْ حَتَّى صَارَ كَالْأَعْلَمِ إِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي الْعُلْيَا وَكَالْأَقْلَعِ إِنْ كَانَ الشَّقُّ فِي السُّفْلَى، فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ لَا يَبْلُغُ بِهَا إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ، وَإِنِ انْدَمَلَتْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ أَنْ تَقِلَّ عَنْ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَنْدَمِلْ، وَتَقِلَّ إِنِ انْدَمَلَتْ مُلْتَئِمَةً وَتَكْثُرْ إِنِ انْدَمَلَتْ غَيْرَ مُلْتَئِمَةٍ وَلَوْ قطع شقة مَشْقُوقَةً لَزِمَهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا إِنْ لَمْ يَذُبَّ الشَّقُّ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِهَا، وَيُقَسِّطُهُ إِنْ أَذْهَبَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَحُكُومَةً تَقِلُّ عَنْ دِيَتِهَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْ مَنَافِعِهَا. (فَصْلٌ) وَحَدُّ الشَّفَتَيْنِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّهُ مَا زَايَلَ جِلْدَ الذَّقَنِ وَالْخَدَّيْنِ مِنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مُسْتَدِيرًا بِالْفَمِ كُلِّهِ مِمَّا ارْتَفَعَ عَنِ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَفِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ ". وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا قَوَدَ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ قَطْعُ لَحْمٍ مِنْ لَحْمٍ فَصَارَ كَقَطْعِ بِضْعَةٍ مِنْ لُحْمَةٍ. وَهَذَا خَطَأٌ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ وَإِنْ كَانَ لَحْمًا مُتَّصِلًا بِلَحْمٍ فَشَابَهَ الْمَحْدُودَ بِالْمُنْفَصِلِ وَخَالَفَ الْبِضْعَةَ مِنَ اللَّحْمِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حد ولا مفصل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِرِوَايَةِ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ يَأْلَمُ بِقَطْعِهِ، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَأَمَّا جَمَالُ اللِّسَانِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ الجمال؟ قال: " في اللسان ". وروي عنه أَنَّهُ قَالَ: " الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 وَأَمَّا مَنْفَعَةُ اللِّسَانِ فَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْكَلَامُ الَّذِي يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا فِي نَفْسِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَلِأَهْلِ التَّأْوِيلِ في قوله تعالى: {خلق الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 2، 3] تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْخَطُّ. وَالثَّانِي: الْكَلَامُ. وَالثَّانِي: مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ حَاسَّةُ ذَوْقِهِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ مَلَاذَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَيَعْرِفُ بِهِ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ، وَالَمُرِّ وَالْعَذْبِ. وَالثَّالِثُ: الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ وَمَضْغِهِ وَإِدَارَتِهِ فِي لَهَوَاتِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ طَحْنَهُ في الأضرس وَيَدْفَعَ بَقَايَاهُ مِنَ الْأَشْدَاقِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُتَوَصَّلُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ إِلَيْهَا، فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا كَانَ نَاطِقًا سَلِيمًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لِسَانِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَعْجَمِيَّةِ، والفصيح والألكن، والثقيل والعجل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَرَسَ فَفِيهِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ حَتَّى خَرِسَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِحَرْفٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كاملة، لأنه قد سلبه أعظم منافعه ذهابة، لأن محل مِنَ اللِّسَانِ مَحَلُّ ذَهَابِ الْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنِ، ولو جنى عليه فأذهب حاسة ذوقه وسلمه لَذَّةَ طَعَامِهِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَعْمِ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الذَّوْقَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ خَاصٍّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ السَّمْعِ وَالشَّمِّ، وَالذَّوْقُ أَنْفَعُ مِنَ الشَّمِّ وَآكَدُ، فَكَانَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ. فَإِنْ جَمَعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِهِ بَيْنَ ذَهَابِ كَلَامِهِ وَذَهَابِ ذَوْقِهِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَتَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ، وَقَدْ يَصِحُّ بَقَاءُ الذَّوْقِ مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ لِأَنَّ حَاسَّةَ الذَّوْقِ تُدْرَكُ بِعَصَبِ اللِّسَانِ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ عَصَبِهِ فِي أَصْلِهِ بَقِيَّةٌ كَانَ الذَّوْقُ بِهَا بَاقِيًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ قَطْعُهُ إِلَّا بِذَهَابِ كَلَامِهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِقَطْعِهِ اسْتِئْصَالُ الْعَصَبِ حَتَّى ذَهَبَ ذوقه وجبت عليه حينئذ ديتان، وإذ وَجَبَ بِمَا ذَكَرْتُ أَنْ يَلْزَمَ فِي ذَهَابِهِ الذَّوْقَ الدِّيَةُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى مَعَ قَطْعِ اللِّسَانِ وَتَذْهَبَ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ حِسُّ الْعَصَبِ تَعَلَّقَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ بِذَهَابِ جَمِيعِ الذَّوْقِ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَذَاقِ الطُّعُومِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَ ذَوْقُهُ بِالْجِنَايَةِ فنقصانه ضربان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 أحدهما: أن يكون نقصان ضعيف، وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ الْفَرْقَ مَا بَيْنَ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ وَلَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْحُلْوِ وَحَقِيقَةَ الْحَامِضِ، فَذَا نَاقِصُ الْمَذَاقِ وَلَا يَنْحَصِرُ قَدْرُ نُقْصَانِهِ فَيَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الْقَوَدِ وَالضَّعْفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْهَبَ بِهَا بَعْضُ ذَوْقِهِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِهِ فَيَصِيرُ مُدْرِكًا طَعْمَ الْحَامِضِ دُونَ الْحُلْوِ وَطَعْمَ الْمُرِّ دُونَ الْعَذْبِ، فَيَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ مَا أَذْهَبَ مِنْ مَذَاقِهِ، وَعَدَدُ الْمَذَاقِ خَمْسَةٌ، رُبَّمَا فَرَّعَهَا أَهْلُ الطِّبِّ إِلَى ثَمَانِيَةٍ عَلَى أُصُولِهِمْ لَا نَعْتَبِرُهَا فِي الْأَحْكَامِ، لِدُخُولِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ كَالْحَرَافَةِ مَعَ الْمَرَارَةِ، وَالْخَمْسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ الْحُلْوُ، وَالْحَامِضُ، وَالْمُرُّ، وَالْعَذْبُ وَالْمَالِحُ فَتَكُونُ دِيَةُ الذَّوْقِ مُقَسَّطَةً عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ، فَإِنْ أُذْهِبَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَفِي الِاثْنَيْنِ خُمُسَاهَا، وَلَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تُقَسَّطُ دِيَةُ الْكَلَامِ عَلَى أَعْدَادِ حُرُوفِهِ. (فَصْلٌ) فَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَهَابَ ذَوْقِهِ وَأَنْكَرَهُ الْجَانِي فَهُوَ مِنَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ كَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مع يمنيه بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ فِي غَفَلَاتِهِ بِأَنْ يُمْزَجَ بِحُلْوِ طَعَامِهِ مُرًّا وَبِعَذْبِهِ مِلْحًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَنَاوُلِهَا وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ أَمَارَاتُ كَرَاهَتِهَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ، وَأُحْلِفَ عَلَى ذَهَابِ ذَوْقِهِ، وَإِنْ كَرِهَهَا وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ كَرَاهَتِهَا صَارَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ لَا مَعَهُ، فَيَصِيرُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى بَقَاءِ ذَوْقِهِ كَمَا قُلْنَا فِي ذَهَابِ الشَّمِّ والسمع والله أعلم،. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ اعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ بِحِسَابِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْضُ كَلَامِهِ اعْتُبِرَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهُ بِعَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاءُ جَمِيعِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا إِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ اعْتُبِرَ عَدَدُ حُرُوفِ كَلَامِهِ، فَإِنَّ حُرُوفَ اللُّغَاتِ مُخْتَلِفَةُ الْأَعْدَادِ وَالْأَنْوَاعِ، فَالضَّادُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرِكٌ بَيْنَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا، وَبَعْضُ اللُّغَاتِ يَكُونُ حُرُوفُ الكلام، فيها أحد وعشرون حرفاً وبعضها ستة وعشرون حرفاً، وبعضها أحد وَثَلَاثِينَ حَرْفًا، فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ بِقَدْرِ حُرُوفِ اللُّغَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ يُقَسَّطُ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهَا ثمانية وعشرون حَرْفًا وَأُسْقِطَ حَرْفٌ لَا لِدُخُولِهِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حُرُوفُ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَكُونُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ مُعْتَبَرًا بِعَدَدِ حُرُوفِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 اللِّسَانِ، وَيَسْقُطُ مِنْهَا حُرُوفُ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ وَهِيَ عَشَرَةُ أَحْرُفٍ، سِتَّةٌ مِنْهَا حَلْقِيَّةٌ وَهِيَ هَمْزَةُ الألف، والحاء، والخاء، والعين، والعين، وَالْهَاءُ. وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا شَفَوِيَّةٌ وَهِيَ الْبَاءُ، وَالْفَاءُ، وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ. وَيَبْقَى مِنْ حُرُوفِ الْكَلَامِ مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهَا مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنْ ذَهَبَ مِنْهُ حَرْفٌ كَانَ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَخَارِجُهَا فِي الْحَلْقِ فَالشَّفَةُ وَاللِّسَانُ مُعَبِّرٌ عَنْهَا وَنَاطِقٌ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَلَفَّظِ الْأَخْرَسُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقْتَضِي غَيْرَ قَوْلِهِمَا أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِهِ ضَمَانُ مَا ذَهَبَ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ وَالشَّفَةِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ مُخْتَصًّا بِمَا ذَهَبَ مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَهِيَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَيَكُونُ ضَمَانُ الْحُرُوفِ الْحَلْقِيَّةِ وَالشَّفَوِيَّةِ سَاقِطًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يجزء على محله قالاه لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَقُولَاهُ فَسَدَ تَعْلِيلُهُمَا. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُمَا فِي الْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَهَا إِذَا جَنَى عَلَى شَفَتِهِ، فَإِنْ قَالَاهُ رَكِبَا الْبَابَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَاهُ فَسَدَ التَّعْلِيلُ وَصَحَّ مَا رَأَيْنَاهُ مِنِ اعْتِبَارِ جَمِيعِهَا بِاللِّسَانِ الْمُفْصِحِ عَنْهَا وَالْمُتَرْجِمِ لَهَا، فَإِنْ أَذْهَبَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَذْهَبْ بِعَشَرَةِ أَحْرُفٍ كَانَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا خَفَّ عَلَى اللِّسَانِ وَقَلَّ هِجَاؤُهُ أَوْ ثَقُلَ عَلَى اللِّسَانِ وَكَثُرَ هِجَاؤُهُ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ مُقَسَّطَةً عَلَى أَعْدَادِ جَمِيعِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْتَبِرَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ وَذَهَابِهِ، لَمْ تَعْتَبِرْ مُفْرَدَاتُ الْحُرُوفِ، لِأَنَّ للحرف الْوَاحِدِ يُجْمَعُ فِي الْهِجَاءِ حُرُوفًا، لَكِنْ تَعْتَبِرُهُ بِكَلِمَةٍ يَكُونُ الْحَرْفُ مِنْ جُمْلَتِهَا إِمَّا فِي أَوَّلِهَا أَوْ فِي وَسَطِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا، وَلَوِ اعْتَبَرْتَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ وَالْأَخِيرِ كَانَ أَحْوَطَ، فَإِذَا أَرَدْتَ اعْتِبَارَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَكَانَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَلِفَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَ: أَحْمَدُ وَأَسْهَلُ وَأَبْصَرُ وَأَبْعَدُ، لِيَكُونَ بَعْدَ الْأَلْفِ حُرُوفٌ مُتَغَايِرَةٌ يَزُولُ بِهَا الِاشْتِبَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْأَلِفُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ كَانَتْ ذَاهِبَةً، وَإِنْ سَلِمَتْ كَانَتْ بَاقِيَةً. وَإِذَا أَرَدْتَ اعْتِبَارَ الْبَاءِ أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَ: بَرَكَةً وَبَابًا وَبُعْدًا، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْحُرُوفِ، فَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْحَرْفُ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ سَلِيمًا عُدَّ فِي السَّلِيمِ دُونَ الذَّاهِبِ، وَإِنْ قَلَبَهُ بِلُثْغَةٍ صَارَتْ فِي لِسَانِهِ عُدَّ فِي الذَّاهِبِ دُونَ السَّلِيمِ، لِأَنَّ الْأَلْثَغَ يبدل الحروف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 بِاعْتِبَارِهَا فَصَارَ حَرْفُ اللُّثْغَةِ ذَاهِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَارَ بِهِ أَرَتَّ، لِأَنَّ مَا خَفِيَ بِالرَّتَّةِ مَعْدُودًا فِي الذَّاهِبِ دُونَ السَّلِيمِ، لِأَنَّ الْأَرَتَّ يَأْتِي مِنَ الْكَلِمَةِ بَعْضَهَا وَيُسْقِطُ بَعْضَهَا وَلَوْ صَارَ أَرَدُّ يُرَدِّدُ الْكَلِمَةَ مِرَارًا أَوْ فَأْفَاءًا يُكَرِّرُ الْفَاءَ مِرَارًا، أَوْ تِمْتَامًا يُكَرِّرُ التَّاءَ مِرَارًا، عُدَّ ذَلِكَ مِنْهُ فِي السَّلِيمِ دُونَ الذَّاهِبِ، لِأَنَّ الْحَرْفَ مِنْهُ سَلِيمٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّ فِيهِ مَعَ بَقَائِهِ نَقْصًا، وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِ بَعْدَ الذَّاهِبِ مِنْهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْجَانِي، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ الْحُرُوفِ لَا يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا ضَمَانَ الذَّاهِبِ منها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَطَعَ رُبُعَ اللِّسَانِ فَذَهَبَ بِأَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الْكَلَامِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَطَعَ مِنَ اللِّسَانِ أَوْ ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ [فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ فَقَدِ اسْتَوَيَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَطَعَ رُبُعَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ دُونَ اللِّسَانِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ، وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ رُبُعُ كَلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ] اعْتِبَارًا بِمَا قَطَعَ من اللِّسَانِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اعْتُبِرَ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي كُنَيْزٍ وَظَاهِرُ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ: أَنَّ مَنْفَعَةَ الْعُضْوِ إِذَا ضُمِنَتْ بِدِيَتِهِ اعْتُبِرَ فِيهَا الْأَكْثَرُ مِنْ ذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ ذَهَابِ الْعُضْوِ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْخِنْصَرَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ فَشُلَّ جَمِيعُهَا لَزِمَهُ دِيَةُ جَمِيعِهَا، لِذَهَابِ جَمِيعِ مَنَافِعِهَا، وَلَوْ لَمْ يُشَلَّ بَاقِيهَا لَزِمَهُ دِيَةُ الْإِصْبَعِ وَهُوَ خُمُسُ دِيَةِ الْيَدِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ خُمُسَ الْيَدِ وَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِهَا أَقَلَّ مِنْ خُمُسِ الْمَنْفَعَةِ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ قَطْعَ رُبُعِ اللِّسَانِ إِذَا أَذْهَبَ نِصْفَ الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى شَلَلِ رُبُعِ اللِّسَانِ فِي الْبَاقِي مِنْهُ، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ دِيَتِهِ، رُبُعُهَا بِالْقَطْعِ، وَرُبُعُهَا بِالشَّلَلِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ مُؤَثِّرٌ فِي فِرْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْطَعُ رُبُعَ لِسَانِهِ فَيَذْهَبُ نِصْفُ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، ثُمَّ يَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ بَاقِيَ لِسَانِهِ فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 اللِّسَانِ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي نِصْفِ اللِّسَانِ، وَحُكُومَةٌ فِي رُبُعِهِ، لِأَنَّ نِصْفَهُ سَلِيمٌ وَرُبُعُهُ أَشَلُّ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَيَذْهَبَ رُبُعُ كَلَامِهِ، فَيَلْزَمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ [ثُمَّ يَأْتِي آخَرُ فَيَقْطَعُ بَاقِيَ لسانه، فعلى التعليل الأول في اعتبار الأغلظ تلزمه ثلاثة أرباع الدية لأنه أذهب ثلاثة أرباع كلامه، وعلى التعليل الثاني في اعتبار الأجزاء تلزمه نِصْفُ الدِّيَةِ] لِأَنَّهُ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ أَخَذَ دِيَةَ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ ثم نطق به عد ذَلِكَ رَدَّ دِيَةَ مَا أَخَذَهُ، وَلَوْ عَادَ بَعْضُهُ رَدَّ دِيَةَ مَا عَادَ وَاسْتَحَقَّ دِيَةَ مَا لَمْ يُعِدْ، وَلَوْ أَخَذَ دِيَةَ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ حُرُوفٌ أُخَرُ مِنْ كَلَامِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْدِمَالِ لِسَانِهِ وَسُكُونِ أَلَمِهِ ضَمِنَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَسُكُونِ الْأَلَمِ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا خُلِقَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ فَقَطَعَ أَحَدَهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ قَطْعِهِ من أن ينطلق بِجَمِيعِ كَلَامِهِ أَوْ لَا يَنْطِقَ، فَإِنْ نَطَقَ بِجَمِيعِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّرَفِ الْمَقْطُوعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلطَّرَفِ الثَّانِي فِي تَخْرِيجِهِ مِنْ أَصْلِ اللِّسَانِ أَوْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ، فَإِنْ سَاوَاهُ لَزِمَهُ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الْمَقْطُوعِ مِنْ قَدْرِ اللِّسَانِ. وَلَوْ قَطَعَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِمَا مِنْ جَمِيعِ اللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ الْمَقْطُوعُ خَارِجًا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ طَرَفٌ زَائِدٌ يَلْزَمُهُ فِي قَطْعِهِ حُكُومَةٌ لَا تَبْلُغُ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ لَوْ كَانَ مِنْ أَصْلِ اللِّسَانِ، وَلَوْ قَطَعَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لَزِمَهُ فِي الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَفِي طَرَفِ الْأَصْلِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ لَزِمَهُ دِيَةُ اللِّسَانِ وَحُكُومَةٌ فِي الطَّرَفِ الزَّائِدِ، وَإِنْ ذَهَبَ مَعَ قَطْعِ هَذَا الطَّرَفِ الزَّائِدِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ الذَّاهِبِ مِنْ كَلَامِهِ أَوِ الْمَقْطُوعِ مِنْ لِسَانِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ قَطَعَ بَاطِنَ لِسَانِهِ لَزِمَهُ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ أَذْهَبْ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا قَوَدَ فِيهِ، لِتَعَذُّرِهِ، وَلَا قَوَدَ فِي ذَهَابِ الْكَلَامِ أَيْضًا إِذَا أَذْهَبَهُ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ فَذَهَبَ بِهِ نِصْفُ كَلَامِهِ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِ اللِّسَانِ وَفِي بَعْضِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالْقَوَدِ نِصْفُ كَلَامِهِ كَانَ وَفَاءَ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ ذَهَبَ بِرُبُعِ كَلَامِهِ لَزِمَهُ مَعَ الْقَوَدِ دِيَةُ رُبُعِ الْكَلَامِ، وَلَوْ ذَهَبَ بِقَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ، فَقَدْ وَفَى الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَتِهِ، وَكَانَ الزَّائِدُ فِيمَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ هَدَرًا، لِحُدُوثِهِ عَنْ قَوَدٍ مُسْتَحَقٍّ، فَأَمَّا قَطْعُ اللَّهَاةِ فَفِيهِ الْقَوَدُ إِنْ أَمْكَنَ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ لَا تَتَقَدَّرُ بِقِسْطٍ مِنْ دِيَةِ اللَّهَاةِ عَنِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي قُدِّرَتْ فِيهَا الدِّيَاتُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي لِسَانِ الصَّبِيِّ إِذَا حَرَّكَهُ بِبُكَاءٍ أَوْ بِشَيْءٍ يُغَيِّرُ اللِّسَانَ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِسَانَ الصَّبِيِّ الطِّفْلِ يَعْجِزُ عَنِ الْكَلَامِ لِضَعْفِ الصِّغَرِ كَمَا تَعْجِزُ أَعْضَاؤُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَرَكَةِ، فَيَلْزَمُ فِي لِسَانِهِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفَ السَّلَامَةِ جَمِيعُ الدِّيَةِ مِثْلَ مَا يَلْزَمُ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ الْكَبِيرِ، كَمَا يَلْزَمُ فِي رِجْلَيْهِ جَمِيعُ الدِّيَةِ إِذَا عُرِفَتْ سَلَامَتُهُمَا وَإِنْ كَانَ يَنْهَضُ لِلْمَشْيِ بِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنَ الطِّفْلِ حَرْفُ الْحَلْقِ فِي الْبُكَاءِ، ثُمَّ حُرُوفُ الشَّفَةِ فِي بَابَا وَمَامَا، ثُمَّ حُرُوفُ اللِّسَانِ إِذَا تَكَلَّمَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَتْلُو بَعْضًا، فَإِذَا عُرِفَ مِنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي زَمَانِهِ دَلَّ عَلَى سَلَامَةِ لِسَانِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ يَكْمُلُ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ إِذَا بَلَغَ زَمَانَ الْكَمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَةِ لِسَانِهِ كَانَ ظَاهِرُهُ دَلِيلًا عَلَى خَرَسِهِ، فَيَلْزَمُهُ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ قَطَعَهُ سَاعَةَ وِلَادَتِهِ قَبْلَ أَوْقَاتِ حَرَكَاتِ لِسَانِهِ صَارَ لِسَانُهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْكَبِيرِ جَارِيًا مَجْرَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ، لِتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ، وَتَكْمُلُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ، لأن لا يَقْضِيَ بِالْإِلْزَامِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِسْقَاطِ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ الذمة، وتجب فيه حكومة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ الدِّيَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ سُلِبَ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَخَصُّ الْأَغْلَبُ مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ وَإِنْ بَقِيَ بِالْخَرَسِ بَعْضُ مَنَافِعِهِ وَهُوَ الذَّوْقُ وَتَصَرُّفُهُ فِي مَضْغِ الطَّعَامِ فَلَمْ تَبْلُغْ دِيَتُهُ دِيَةَ لِسَانِ كَامِلِ الْمَنَافِعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِثْلُهُ لِسَانُ الصَّبِيِّ فَهَلَّا كَانَ فِيهِ أَيْضًا حُكُومَةٌ؟ قِيلَ: لِأَنَّ لِسَانَ الصَّبِيِّ سَلِيمُ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي زَمَانِهِ، وَهَذَا مَعْدُومُ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ مَفْقُودٌ فِي زَمَانِهِ فَافْتَرَقَا، فَلَوْ كَانَ اللِّسَانُ مَسْلُوبَ الذَّوْقِ لَا يُحِسُّ بِهِ طُعُومَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَهُوَ نَاطِقٌ سَلِيمُ الْكَلَامِ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الدِّيَةُ، وَكَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ كَالْأَخْرَسِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِذَا أَذْهَبَتْ بِذَوْقِهِ أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ، وَحُكُومَةُ الْمَسْلُوبِ الذَّوْقِ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ الْمَسْلُوبِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ نَقْصَ الْكَلَامِ أَظْهَرُ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَدْعَى، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى لِسَانِ نَاطِقٍ فَأَخْرَسَهُ، وَضَمِنَ بِالْخَرَسِ دِيَتَهُ، ثُمَّ عَادَ هُوَ فَقَطَعَ لِسَانَهُ لَزِمَهُ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ قَطَعَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ الأولى لسان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 أَخْرَسَ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ قَطَعَهَا بَعْدَ الشَّلَلِ لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فِي الشَّلَلِ وحكومة في القطع بعده. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ لَمْ أَكُنْ أَبْكَمَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ نَاطِقٌ فَهُوَ نَاطِقٌ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا مَضَى إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ قَطْعِ اللِّسَانِ فِي سَلَامَتِهِ وَخَرَسِهِ فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ كَانَ أَخْرَسَ وَادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ نَاطِقًا فَاللِّسَانُ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فِي الْكَبِيرِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِنُطْقِهِ وَسَلَامَتِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ قَوَدٍ وَعَقْلٍ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِتَقَدُّمِ السَّلَامَةِ وَادَّعَى زَوَالَهَا قَبْلَ جِنَايَتِهِ فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَنْ قَطَعَ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا فِيهِ قَوْلَانِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنَ الْمَقْطُوعِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَكُنْ أَبْكَمَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ بَعْدَ قَطْعِهِ عَلَى الْقَوْلِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْعَيْنِ فَعَبَّرَ عَنِ الْإِشَارَةِ بِالْقَوْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَخِدْرُنَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ) فَعَبَّرَ عَنْ إِشَارَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْقَوْلِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَطَعَ لِسَانَهُ فَأَخَذَ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ ثُمَّ ثَبَتَ لِسَانُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى سِنِّ الْمَثْغُورِ إِذَا نَبَتَ بَعْدَ أَخْذِ دِيَتِهَا، وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَسْتَرْجِعُ بِهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهَا، فَعَلَى هَذَا أَوْلَى فِي اللِّسَانِ أَنْ يَكُونَ عَطِيَّتُهُ مُسْتَجَدَّةً لَا يَسْتَرْجِعُ بَعْدَ نَبَاتِهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَذِهِ السِّنَّ الثَّابِتَةَ خَلَفٌ مِنَ السِّنِّ الذَّاهِبَةِ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ أَصْلِهَا، فَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ بَعْدَ نَبَاتِهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ دِيَتِهَا، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُ اللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي عَوْدِ ضَوْءِ الْعَيْنِ بَعْدَ ذَهَابِهِ، وَلَكِنْ لَوْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَخَرِسَ وَغَرِمَ دِيَتَهُ ثُمَّ عَادَ فَنَطَقَ رَدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ اللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَهَابَ اللِّسَانِ مُسْتَحَقٌّ وَأَنَّ النَّابِتَ غَيْرُهُ وَذَهَابُ الْكَلَامِ مَظْنُونٌ، فَدَلَّ النطق على بقائه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ قد أثغر ". قال الماوردي: في كل سن من أسنان المثغور خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ: " وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَفِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ " فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّصُّ فِي وُجُوبِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ سِنٍّ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَسْنَانِ الْمَثْغُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ فِي الْأَغْلَبِ بعد القلع، وسوءا كَانَتْ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، طِوَالًا أَوْ قِصَارًا، كَمَا تُسَاوَى دِيَاتُ الْأَطْرَافِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقَصْرِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ بَيْضَاءَ مِلَاحًا أَوْ سَوْدَاءَ قِبَاحًا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ طَارِئًا عَلَيْهَا، بَاقِيَةَ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّ الْقَلْعَ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهَا وَكَانَتْ كَامِلَةً وَازْدَادَ مَحَلُّهَا بِالْقَلْعِ قُبْحًا فَصَارَ مُذْهِبًا لِنَفْعِهَا وَجَمَالِهَا، فَلِذَلِكَ كَمَّلَ دِيَتَهَا، فَإِنْ قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا مَعَ سِنْخِهَا الدَّاخِلِ فِي لَحْمِ اللِّثَةِ الْمُمْسِكِ لَهَا بِمَرَابِطِ الْعَصَبِ فَفِيهَا دِيَتُهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي قَلْعِهَا مَعَ سِنْخِهَا الْمَغِيبِ حُكُومَةٌ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ السِّنْخَ تَابِعٌ لِمَا ظَهَرَ كَتَبَعِ الْكَفِّ لِلْأَصَابِعِ، وَإِنْ قَلَعَ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ وَخَرَجَ عَنْ لَحْمِ اللِّثَةِ وَبَقِيَ السِّنْخُ الْمَغِيبُ جَرَى مَجْرَى قَطْعِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْكَفِّ، فَإِنْ عَادَ أَوْ غَيْرُهُ فَقَلَعَ السِّنْخَ الْمَغِيبَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، كَمَا لَوْ عَادَ بَعْدَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ فَقَطَعَ الْكَفَّ لَزِمَهُ حُكُومَةٌ، وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ الظَّاهِرِ الْبَارِزِ عَنْ لَحْمِ اللِّثَةِ دُونَ السِّنْخِ الْمَغِيبِ فِيهَا، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ بِقَلْعِ مَا ظَهَرَ فَكَانَ الْكَسْرُ مُعْتَبَرًا بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَلَوْ تَقَلَّصَ عَمُودُ اللِّثَةِ حَتَّى ظَهَرَ مِنَ السِّنْخِ الْمَغِيبِ فِي اللِّثَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا كَانَ الْمَكْسُورُ مِنَ السِّنِّ مُعْتَبَرًا بِمَا كَانَ بَارِزًا مِنْهَا قَلُوصُ الْعُمُورِ عَنْهَا، وَلَا يَعْتَبَرُ بِمَا ظَهَرَ بَعْدَهُ قُلُوصُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاعْتُبِرَ الْمَكْسُورُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ لَزِمَهُ نِصْفُ دِيَتِهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَبِحِسَابٍ مِنْ دِيَتِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَكْسُورُ مِنْ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا، فَلَوْ قَلَعَ آخَرُ بَقِيَّتَهَا مَعَ سِنْخِهَا بَعْدَ أَنْ كَسَرَ الْأَوَّلُ نِصْفَ ظَاهِرِهَا لَزِمَ الثَّانِيَ نِصْفُ دِيَتِهَا، لِأَنَّهُ قَلَعَ نِصْفَهَا الْبَاقِيَ، وَهَلْ تلزمه حكومة بقلع سنخها المعيب أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يلزمه حكومة في النسخ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ بِالْمُقَدَّرِ كَمَا لَا حُكُومَةَ فِيهِ إِذَا قُلِعَ مَعَ جَمِيعِ السِّنِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ حُكُومَةً، لِأَنَّ السِّنْخَ تَابِعٌ لِجَمِيعِ السِّنِّ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنَ التَّابِعِ لِنِصْفِهِ فَلَزِمَتْهُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ الْأَوَّلَ إِنْ كَانَ قَدْ كَسَرَ نِصْفَهُ عِوَضًا لَزِمَ الثَّانِيَ فِي سِنْخِهِ حُكُومَةٌ، لِزِيَادَتِهِ عَلَى سِنْخِ مَا قَلَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 كَسَرَهُ طُولًا لَمْ يَلْزَمِ الثَّانِيَ حُكُومَةٌ فِي السِّنْخِ، لِأَنَّهُ سِنْخٌ لِلْبَقِيَّةِ الَّتِي قَلَعَهَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَلَعَ سِنًّا قَدْ حَصَلَ فِيهَا شَقٌّ أَوْ ثُقْبٌ أَوْ أَكَلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ أَجْزَائِهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ دِيَتِهَا، كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ إِذَا قَطَعَهَا وَإِنْ ذَهَبَ بِالثَّقْبِ وَالتَّآكُلِ بَعْضُ أَجْزَائِهَا أُسْقِطَ مِنْ دِيَةِ السِّنِّ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا، وَلَزِمَهُ بَاقِي دِيَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ قَدْ تَصَدَّعَتْ وَتَحَرَّكَتْ حَتَّى رَبَطَهَا بِالذَّهَبِ أَوْ لَمْ يَرْبُطْهَا فَقَلَعَهَا الْجَانِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً مَعَ حَرَكَتِهَا فِي الْمَضْغِ وَحِفْظِ الطَّعَامِ وَالرِّيقِ فَفِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً، وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا كُلُّهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَإِنْ نَقَصَتْ مَنَافِعُهَا فَذَهَبَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": أَحَدُهُمَا: فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَسْنَانِ مُخْتَلِفَةٌ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ، لِقُصُورِهَا عَمَّا اخْتَصَّ بِهَا مِنْ مَنَافِعِهَا. وَجَهْلُ قَدْرِ النَّاقِصِ فَوَجَبَ فِيهَا حُكُومَةٌ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الجاني ذهاب منافعها وادعى المجني عليه بقائها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ بَقَاءَ مَنَافِعِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَهُ دِيَتُهَا تَامَّةً، وَلَوْ كَانَتِ السِّنُّ كَامِلَةَ الْمَنَافِعِ فَجَنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَصَدَّعَتْ وَتَحَرَّكَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي مَوْضِعِهَا نُظِرَ فَإِنْ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ جَمِيعُ مَنَافِعِهَا حَتَّى صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَضْغِ بِهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا تَامَّةً، وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهَا نِصْفُ مَنَافِعِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ دِيَتُهَا تَامَّةً، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَسْلُوبُ مِنْ مَنَافِعِهَا مُسَاوِيًا لِمَنَافِعِ غَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرَةٌ بِهَا، ولو قيل: بوجه ثالث أنه إن أذهب أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا كَمُلَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ ذَهَابَ مَنَافِعِهَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوِ اخْتَلَفَ نَبَاتُ أَسْنَانِهِ فَكَانَ بَعْضُهَا طِوَالًا وَبَعْضُهَا قِصَارًا فَدِيَاتُهَا مُتَسَاوِيَةٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَإِنْ كَسَرَ بَعْضَ الطَّوِيلَةِ حَتَّى عَادَلَتْ مَا جَاوَزَهَا مِنَ الْقِصَارِ لَزِمَهُ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا كَسَرَ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَتْ مَنَافِعُهَا بِكَسْرِ الزِّيَادَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ بَعْضَ الْقَصِيرَةِ حَتَّى كَانَ مَا كَسَرَ مِنْهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا لَا بِمَا جَاوَرَهَا مِنَ الطُّولِ، فَلَوْ كَانَ الْمَكْسُورُ نِصْفَهَا وَهُوَ مِنَ الطَّوِيلَةِ رُبُعُهَا لَزِمَهُ نِصْفُ دِيَتِهَا، وَلَوْ جَنَى عَلَى سِنٍّ فَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ صَاحِبَتِهَا حَتَّى بَرَزَتْ عَمَّا جَاوَرَهَا فَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا مَعَ الْبُرُوزِ تَمَّتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ بَقِيَتْ مَنَافِعُهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِقُبْحِ بُرُوزِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَى رَبَاعِيَّتِهِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُخْرَى فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا خَالَفَتْ قِصَرَ الثَّنِيَّةِ عَنِ الرَّبَاعِيَّةِ، لِأَنَّ السِّنَّ مُعْتَبَرَةٌ بِأُخْتِهَا لِكَوْنِهَا شبه لَهَا فِي الِاسْمِ وَالْمَحَلِّ، وَلَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِهَا، فَإِذَا نَقَصَتْ إِحْدَى الرَّبَاعِيَّتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى عُلِمَ أَنَّهَا رَبَاعِيَّةٌ نَاقِصَةٌ، فَإِذَا قُلِعَتْ وَعُرِفَ قَدْرُ نُقْصَانِهَا وَجَبَ فِيهَا مِنْ دِيَةِ السِّنِّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَسَقَطَ مِنْهَا قَدْرُ مَا نقص، ولو ذهب حِدَّةُ الْأَسْنَانِ حَتَّى كَلَّتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ كَانَ فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً، لِأَنَّ كَلَالَهَا مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الصِّحَّةِ يَجْرِي مَجْرَى ضَعِيفِ الْأَعْضَاءِ، وَلَوْ حَالَتْ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ بَعْضُ أَضْرَاسِهَا سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقِسْطِ مَا ذَهَبَ مِنْهَا وَوَجَبَ فِي قَلْعِهَا مَا بَقِيَ مِنْ ديتها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يُثْغِرِ انْتَظَرَ بِهِ فَإِنْ لَمْ تنبت ثم عَقْلُهَا وَإِنْ نَبَتَتْ فَلَا عَقْلَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ لَمْ يَثَّغِرْ فَلَا قَوَدَ فِي الْحَالِ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَسْنَانِ اللَّبَنِ أَنَّهَا تَعُودُ بَعْدَ السُّقُوطِ فَلَمْ تَصِرْ مُسَاوِيَةً لِسِنِّ الْمَثْغُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تَعُودَ سِنُّ اللَّبَنِ إِذَا قُلِعَتْ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ سِنُّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ وَإِنْ كَانَ عَوْدُهَا نَادِرًا. وَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ دُونَ النَّادِرِ، وَهُوَ أَنَّ سن اللبن تعود سن الْمَثْغُورِ لَا تَعُودُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الِانْتِظَارُ بِسِنِّ اللَّبَنِ حَالَ عَوْدِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا تَعُودَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِسِنِّ الْمَثْغُورِ حَالَ عَوْدِهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَعُودَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ سِنُّ الصَّبِيِّ إِذَا قُلِعَتْ مِنْ أَنْ يَعُودَ نَبَاتُهَا أَوْ لَا يَعُودَ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ نَبَاتُهَا بَعْدَ نَبَاتِ أَخَوَاتِهَا وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: قَدْ تَجَاوَزَتْ مُدَّةُ نَبَاتِهَا وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ، وَكَمَالُ الدِّيَةِ، وَكَانَتْ فِي حُكْمِ سِنِّ الْمَثْغُورِ، لِأَنَّهَا سِنٌّ لَمْ تَعُدْ بَعْدَ الْقَلْعِ، وَإِنْ عَادَ نَبَاتُهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن يعود مُسَاوِيَةً لِأَخَوَاتِهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالْمَكَانِ فَلَا دِيَةَ فِيهَا وَلَا قَوَدَ، فَأَمَّا الْحُكُومَةُ فَإِنْ كَانَ قَدْ جُرِحَ مَحَلُّ الْمَقْلُوعَةِ حَتَّى أَدْمَاهُ لَزِمَتْهُ حُكُومَةُ جُرْحِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَفِي حُكُومَةِ الْمَقْلُوعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حُكُومَةَ فِيهَا، لِأَنَّهَا تَسْقُطُ لَوْ لَمْ تُقْلَعْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَفْقَدَهُ مَنْفَعَتَهَا. وَلَوْ قِيلَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ: إِنَّهُ إِنْ قَلَعَهَا فِي زَمَانِ سُقُوطِهَا فَلَا حُكُومَةَ فِيهَا، وَإِنْ قَلَعَهَا قَبْلَ زَمَانِهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ كَانَ مَذْهَبًا، لِأَنَّهَا قَبْلَ زَمَانِ السُّقُوطِ نَافِعَةٌ وَفِي زَمَانِهِ مَسْلُوبَةُ الْمَنْفَعَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ نَبَاتُهَا مُخَالِفًا لِنَبَاتِ أَخَوَاتِهَا وَهُوَ أَنْ يُقَاسَ الثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ، وَالرَّبَاعِيَّةُ بِالرَّبَاعِيَّةِ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ، وَلَا يُقَاسُ ثَنِيَّةٌ بِرَبَاعِيَّةٍ، وَلَا نَابٍ، وَيُقَاسُ سُفْلَى بِسُفْلَى، وَلَا يُقَاسُ عُلْيَا بِسُفْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ اخْتِلَافِهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْمِقْدَارِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعُودَ أَطْوَلَ مِنْ أُخْتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي زِيَادَةِ طُولِهَا وَإِنْ شَانَ أَوْ ضَرَّ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَكُونُ مِنْ جِنَايَةٍ، لأن الجناية نقص لا زيادة، وكذلك نَبَتَ مَعَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ تَعُودَ أَقْصَرَ مِنْ أُخْتِهَا فَعَلَيْهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ نَبَاتِهَا، لِحُدُوثِهِ فِي الْأَغْلَبِ عَنْ جِنَايَتِهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ فِي المحل فثنيت هَذِهِ الْعَائِدَةُ خَارِجَةً عَنْ صَفِّ أَخَوَاتِهَا أَوْ دَاخِلَةً، أَوْ رَاكِبَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَذْهَبَ مَنَافِعُهَا بِخُرُوجِهَا عَنْ مَحَلِّهَا لِخُلُوِّهِ وَانْكِشَافِهِ فَفِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً، لِأَنَّهَا قَدْ سَدَّتْ مَحَلَّهَا وَقَامَتْ مقام أختهان فَلَا دِيَةَ فِيهَا، لِكَمَالِ مَنَافِعِهَا، وَفِيهَا حُكُومَةٌ لِقُبْحِ بُرُوزِهَا عَنْ مَحَلِّهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَتَكُونُ أَقَلَّ مِنْ مَنْفَعَةِ أُخْتِهَا مَعَ نَبَاتِهَا فِي مَحَلِّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً. وَالثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ، وَلَوْ قِيلَ: تَكْمُلُ دِيَتُهَا إِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ منافعها، وحكومة إن ذهب أقلها كان [مذهباً. والقسم الرابع: أن يختلف في اللون فتغير لَوْنُهَا مَعَ بَيَاضِ غَيْرِهَا، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِصُفْرَةٍ كَانَ] فِيهَا حُكُومَةٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِخُضْرَةٍ كَانَتْ حُكُومَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِسَوَادٍ فَصَارَتْ سُودًا فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِيهَا حُكُومَةً هِيَ أَزْيَدُ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ، لِأَنَّ شَيْنَ السَّوَادِ أَقْبَحُ، وَخُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ فِيهَا دِيَتَهَا تَامَّةً، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي السِّنِّ إِذَا اسْوَدَّتْ بِجِنَايَتِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 (فَصْلٌ) فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ زَمَانَ نَبَاتِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً، لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنًّا لَمْ تَعُدْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهَا لَوْ بَلَغَ زَمَانَ نَبَاتِهَا. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ طَلَعَ بَعْضُهَا، وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ يَجِبُ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا قِسْطُ مَا تَأَخَّرَ طُلُوعُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَحُكُومَةٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي هِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَعُدْ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالضِّرْسُ سِنٌّ وَإِنْ سُمِّيَ ضِرْسًا كَمَا أَنَّ الثَّنِيَّةَ سِنٌّ وَإِنْ سُمِّيَتْ ثَنِيَّةً وَكَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِبْهَامِ غَيْرُ اسْمِ الْخِنْصَرِ وَكِلَاهُمَا إِصْبَعٌ وَعَقْلُ كُلُّ إِصْبَعٍ سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، دِيَاتُ الْأَسْنَانِ مُتَسَاوِيَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْمَائِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَفِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، تَسْتَوِي فِيهِ الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ وَالنَّابُ وَالنَّاجِزُ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ أَسْنَانِ الْفَمِ بِالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فِي كُلِّ سِنٍّ، وَجَعَلَ فِيمَا غَابَ مِنَ الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ فِي كُلِّ ضِرْسٍ، وَقِيلَ بَعِيرًا، لأن مقاديم الأسنان تشارك مواخيرها فِي الْمَنْفَعَةِ وَتَخْتَصُّ بِالْجَمَالِ، فَيُفَضِّلُ بَيْنَ دِيَاتِهَا، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي مُفَاضَلَةِ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا كَالْأَسْنَانِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْأَسْنَانِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ هَلْ رَجَعَ عَنْ هَذَا التَّفَاضُلِ أَمْ لَا؟ فَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَحَكَى آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ، وَقَدْ أَخَذَ بِمَا قَالَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمٌ مِنْ شَوَاذِّ الْفُقَهَاءِ لِقَضَائِهِ بِذَلِكَ فِي إِمَامَتِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّصِّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ " وَهُوَ اسْمٌ يَعُمُّ كُلَّ سِنٍّ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنَافِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا تَقَدَّرَتْ دِيَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنَافِعَ الْمَيَامِنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ مَنَافِعِ مَيَاسِرِهَا مَعَ تَسَاوِي دِيَاتِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنَافِعَهَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَدِيَاتُهَا مَعَ اخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا سَوَاءٌ، كَذَلِكَ الْأَسْنَانُ، وَعَلَى أَنَّ لِكُلِّ سِنٍّ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ تَقُمْ مَنْفَعَةُ الثَّنِيَّةِ مَقَامَ مَنْفَعَةِ الضِّرْسِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ ثَبَتَتْ سِنُّ رَجُلٍ قُلِعَتْ بَعْدَ أَخْذِهِ أَرْشَهَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ يَرُدُّ مَا أَخَذَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا (قال المزني) رحمه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 الله هذا أقيس في معناه عندي لأنه لم ينتظر بسن الرجل كما انتظر بسن من لم يثغر هل تنبت أم لا؟ فدل ذلك عندي من قوله إن عقلها أو القود منها قد تم، ولولا ذلك لانتظر كما انتظر بسن من لم يثغر وقياساً على قوله ولو قطع لسانه فأخذ أرشه ثم نبت صحيحا لم يرد شيئا ولو قطعه آخر ففيه الأرش تاماً ومن أصل قوله أن الحكم على الأسماء (قال المزني) وكذلك السن في القياس نبتت أو لم تنبت سواء إلا أن تكون في الصغير إذا نبتت لم يكن لها عقل أصلا فيترك له القياس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا: إِنَّ سِنَّ الْمَثْغُورِ إِذَا قُلِعَتْ لَمْ يُنْتَظَرْ عَوْدُهَا، وَقُضِيَ لَهُ بِقَوَدِهَا أَوْ دِيَتِهَا، لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ فِي الْأَغْلَبِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ الَّذِي تَعُودُ سِنُّهُ فِي الْأَغْلَبِ. فَلَوْ عَادَتْ سِنُّ الْمَثْغُورِ بَعْدَ أَخْذِ دِيَتِهَا فَفِي وُجُوبِ رَدِّهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ رَدُّهَا كَالصَّغِيرِ، إِذَا عَادَتْ سِنُّهُ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ لِلْأَلَمِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يُرَدُّ الْكُلَّ وَلَا يُبْقَى شَيْءٌ مِنْهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُبْقَى مِنْهَا قَدْرُ حُكُومَةِ الْأَلَمِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ وَيَرُدُّ مَا سِوَاهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْمَثْغُورَ لَا يَرُدُّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ لِقَوَدِ سِنِّهِ، لِأَمْرَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُزَنِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَظِرْ بِالدِّيَةِ عَوْدَ سِنِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ردها بعوده. أحدهما: أَنَّ دِيَةَ اللِّسَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا بَعْدَ نَبَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْ رَدُّ دِيَةِ السِّنِّ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْلُولٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فِي تَرْكِ الِانْتِظَارِ فَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ الأغلب من أحوالهما دُونَ النَّادِرِ، وَالْأَغْلَبُ مِنْ سِنِّ الْمَثْغُورِ أَنْ لَا تَعُودَ، وَمِنْ سِنِّ الصَّغِيرِ أَنْ تَعُودَ فَانْتُظِرَ بِالصَّغِيرِ وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِالْمَثْغُورِ، وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّسَانِ فَهُوَ أَكْثَرُ نُدُورًا وَأَبْعَدُ وُجُودًا. قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَقَدْ كُنَّا نُنْكِرُ عَلَى الْمُزَنِيِّ حَتَّى وَجَدْنَا فِي زَمَانِنَا رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ قُطِعَ لِسَانَهُ فَنَبَتَ فَعَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهُ قَدْ يَكُونُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ فِي نَبَاتِ اللِّسَانِ مَحْمُولٌ عَلَى عَوْدِ اللِّسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ عَوْدَ السِّنِّ لَا يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَبَاتُ اللِّسَانِ لَا يُوجِبُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 رَدَّ دِيَتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ عَوْدَ السِّنِّ يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَوْدِ اللِّسَانِ هَلْ يُوجِبُ رَدَّ دِيَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يُوجِبُ نَبَاتُ اللِّسَانِ رَدَّ دِيَتِهِ كَمَا أَوْجَبَ عَوْدُ السِّنِّ رَدَّ دِيَتِهَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَأُسْقِطَ اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَبْقَى قَدْرُ الْحُكُومَةِ فِي قَطْعِ الْأَوَّلِ وَجْهًا وَاحِدًا وَرُدَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تُرَدُّ دِيَةُ اللِّسَانِ وَإِنْ رَدَّ دِيَةَ السِّنِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي جِنْسِ السِّنِّ مَا يَعُودُ فِي الْغَالِبِ فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ، وَلَيْسَ فِي جِنْسِ اللِّسَانِ مَا يَعُودُ فَصَارَ جَمِيعُهُ نَادِرًا، وَلِذَلِكَ وُقِفَ سِنُّ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ، وَلَمْ يُوقَفْ لِسَانُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْأَسْنَانُ الْعُلْيَا فِي عَظْمِ الرَّأْسِ وَالسُّفْلَى فِي اللَّحْيَيْنِ مُلْتَصِقَتَيْنِ فَفِي اللَّحْيَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَسْنَانُ الْفَمِ فَأَعْلَاهَا فِي عَظْمِ الرَّأْسِ وَأَسْفَلُهَا فِي اللَّحْيَيْنِ، وَاللَّحْيَانِ يَجْتَمِعُ مُقَدَّمُهُمَا فِي الذَّقْنِ وَمُؤَخَّرُهُمَا فِي الْأُذُنِ، فَإِنْ قَلَعَ الْأَسْنَانَ مَعَ بَقَاءِ اللَّحْيَيْنِ كَانَ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهَا خَمْسٌ من الإبل إذا لم ترد عَلَى الْعِشْرِينَ سِنًّا، وَيُسْتَكْمَلُ فِي الْعِشْرِينَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَبَلَغَتِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سِنًّا وَهِيَ غَايَةُ الْأَسْنَانِ الْمَعْهُودَةِ فَإِنْ قَلَعَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَانَ فِي كُلِّ واحد منهما خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَيَجْتَمِعُ فِي جَمِيعِهَا مِائَةٌ وَسِتُّونَ بَعِيرًا، وَإِنْ قَلَعَ جَمِيعِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ مَا يُجَانَسُ فِي الْبَدَنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَعْدَادِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْهُمَا خَمْسٌ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ، لِأَنَّ لِكُلِّ سِنٍّ مِنْهَا حُكْمَهَا، وَلَيْسَتْ بَعْضُهَا تَبَعًا لِبَعْضٍ، وَكَمَا لَوْ قَلَعَهَا مُتَفَرِّقًا، فَأَمَّا اللَّحْيَانِ إِذَا قَلَعَهُمَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا أَسْنَانٌ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عليها أَسْنَانٌ إِمَّا فِي طِفْلٍ لَمْ تَطَلِعْ أَسْنَانُهُ أَوْ فِي شَيْخٍ قَدْ سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ فَفِيهَا الدِّيَةُ، لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْجَمَالِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَنَّ ذَهَابَهَا أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ وَأَسْلَبُ لِلْمَنَافِعِ مِنَ الْأُذُنِ، فَكَانَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَوْلَى، فَإِنْ قَلَعَ أَحَدَ اللَّحْيَيْنِ وَتَمَاسَكَ الْآخَرُ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَمُلَتْ فِيهَا نُصِّفَتْ فِي أَحَدِهِمَا كَالْيَدَيْنِ. فَأَمَّا الْقَوَدُ فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَجَبَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ فِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 اللَّحْيَيْنِ أَسْنَانٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَنْبُتُ مَعَ قَلْعِهَا فَعَلَيْهِ دِيَةُ اللَّحْيَيْنِ وَدِيَاتُ الْأَسْنَانِ، وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُهَا فِي دِيَةِ اللَّحْيَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا دَخَلَتْ دِيَتُهَا فِي دِيَةِ اللَّحْيَيْنِ لِحُلُولِهَا فِيهَا كَمَا دَخَلَتْ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فِي دِيَةِ الْيَدِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ اللَّحْيَيْنِ عَلَى الْأَسْنَانِ وَلَا اسْمُ الْأَسْنَانِ عَلَى اللَّحْيَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّحْيَيْنِ قَدْ يَتَكَامَلُ خَلْقُهُمَا مَعَ عَدَمِ الْأَسْنَانِ فِي الصَّغِيرِ وَيَبْقَيَانِ عَلَى كَمَالِهِمَا بَعْدَ ذَهَابِ الْأَسْنَانِ مِنَ الْكَبِيرِ، وَلَا يَكْمُلُ خَلْقُ الْيَدِ إِلَّا مَعَ أَصَابِعِهَا، وَلَا تَكُونُ كَامِلَةً بَعْدَ ذَهَابِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلَّحْيَيْنِ مَنَافِعَ غَيْرَ حِفْظِ الْأَسْنَانِ، وَلِلْأَسْنَانِ مَنَافِعَ غَيْرَ مَنَافِعِ اللَّحْيَيْنِ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِكْمَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَنَافِعَ الْكَفِّ، لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْأَصَابِعَ، فَإِذَا زَالَتْ بَطَلَتْ مَنَافِعُهَا فَصَارَتْ تَبَعًا لَهُمَا فَلَوْ جَنَى عَلَى لَحْيَيْهِ فَيَبِسَتَا حَتَّى لَمْ يَنْفَتِحَا وَلَمْ يَنْطَبِقَا ضَمِنَهُمَا بِالدِّيَةِ كَالْيَدِ إِذَا شُلَّتْ، وَلَا يَضْمَنُ دِيَةَ الْأَسْنَانِ وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا وَقَفَ نَفْعُهَا بِذَهَابِ مَنَافِعِ غَيْرِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَلَوِ اعْوَجَّ اللَّحْيَانِ لِجِنَايَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ شَيْنِهِ وَضَرَرِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةَ إِذَا كَانَا يَنْطَبِقَانِ وَيَنْفَتِحَانِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَهَا فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ عُقُولِهَا ثُمَّ عَقَلَهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ الله: الحكومة أولى لأن منفعتها بالقطع والمضغ ورد الريق وسد موضعها قائمة كما لو اسود بياض العين لم يكن فيها إلا حكومة لأن منفعتها بالنظر قائمة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاصْفَرَّتْ أَوِ اخْضَرَّتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَحُكُومَةُ الْخُضْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَةِ الصُّفْرَةِ، لِأَنَّهَا أَقْبَحُ، فَأَمَّا إِنْ ضَرَبَهَا فَاسْوَدَّتْ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا، فِيهَا حُكُومَةٌ كَمَا لَوِ اصْفَرَّتْ أَوِ اخْضَرَّتْ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْعَقْلِ ثُمَّ عَقَلَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ يُخَّرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِيهَا حُكُومَةٌ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِبَقَاءِ مَنَافِعِهَا بَعْدَ سَوَادِهَا، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ فَاسْوَدَّ بَيَاضُهَا لِبَقَاءِ نَظَرِهَا بَعْدَ سَوَادِ البياض. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهَا الدِّيَةُ تَامَّةً، لِذَهَابِ جِمَالِهَا بِالسَّوَادِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَمُتَأَخَّرُوهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافُ حَالَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَالْمَوَاضِعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهَا حُكُومَةً إِذَا كانت باقية المنافع والمواضع الذي أَوْجَبَ فِيهَا الدِّيَةَ إِذَا ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا، وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ بَعْدَ اسْوِدَادِهَا أَكْثَرُ جِمَالِهَا وَهُوَ سِرُّ مَوْضِعِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ أَكْثَرِ جِمَالِهَا وَجَمِيعِ مَنَافِعِهَا دِيَةٌ. فَلَوْ قَلَعَ سِنًّا سَوْدَاءَ سُئِلَ عَنْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَا فَإِنْ قَالُوا: اسْوِدَادُهَا مِنْ غِذَاءٍ أَوْ طُولِ مُكْثٍ كَمُلَتْ فِيهَا الدِّيَةُ. وَإِنْ قَالُوا: مِنْ مَرَضٍ كَانَ فِي كَمَالِ دِيَتِهَا قَوْلَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي السِّنِّ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ مَنَافِعِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ نَصُّ السُّنَّةِ، وَرَوَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا فِي الْبَطْشِ وَالْعَمَلِ، وَفِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَدُ الَّتِي تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ م َفْصِلِ الْكَفِّ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنَ الذِّرَاعِ أَوِ الْعَضُدِ وَجَبَ فِي الْكَفِّ دِيَةٌ وَفِيمَا زَادَ مِنَ الذِّرَاعِ حُكُومَةٌ، فَإِنْ زَادَ إِلَى الْعَضُدِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ قَطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِيَةٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمِرْفَقِ فَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الْيَدِ يَسْتَوْعِبُهَا إِلَى الذِّرَاعِ وَيُفَارِقُهَا بَعْدَهُ كَالْوُضُوءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَوْعَبَ قَطْعَهَا إِلَى الْمَنْكِبِ إِلَّا الدِّيَةُ دُونَ الْحُكُومَةِ، لِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ تَيَمَّمَ حِينَ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْيَدَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمَنَاكِبِ تَعْوِيلًا عَلَى مُطْلَقِ الِاسْمِ حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا يَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِوَجْهِكَ وَضَرْبَةٌ لِذِرَاعِكَ " وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَلَوِ اقْتَضَى إِطْلَاقَ الْيَدِ إِلَى الْمِرْفَقِ لَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمَا قَيَّدَهَا بِالْمَرَافِقِ، فَبَطَلَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَلَمَا جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْيَدِ مَا دُونَ الْغَايَةِ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْيَدُ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ فِي الرِّجْلِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْ مَفْصِلِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ مِنْهُ فِي السَّرِقَةِ، كَذَلِكَ الْيَدُ لَمَّا قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْكَفِّ وَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 (فَصْلٌ) فَإِنْ قَطَعَ أَصَابِعَ الْكَفِّ كَمُلَتْ فِيهَا دِيَةُ الْكَفِّ، لِأَنَّ مَا أَبْقَاهُ مِنْهَا بَعْدَ قَطْعِ الْأَصَابِعِ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ، وَتَكُونُ دِيَةُ الْيَدِ مُقَسَّطَةً عَلَى أَعْدَادِ الْأَصَابِعِ بِالسَّوِيَّةِ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا فِي الْمَعْهُودِ تَقَسَّطَتْ عَلَيْهَا خَمْسُونَ فَكَانَ قِسْطُ كل أصبع منها عشر، وَلَا يُفَضَّلُ إِبْهَامٌ عَلَى خِنْصَرٍ. وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَاضِلٌ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَجَعَلَ فِي الْخِنْصَرِ سِتًّا، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعًا، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرًا، وَفِي السَّبَّابَةِ عَشْرًا، وَفِي الْإِبْهَامِ ثلاثة عشر، فقسط الخمسين على الأصابع الْكَفِّ هَذَا التَّقْسِيطَ الْمُخْتَلِفَ اعْتِبَارًا بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّ الْبِنْصِرَ وَرَاءَ الْخِلَافِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عن عمرو ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةِ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ ". وَرَوَى أَوْسُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَالْأَصَابِعُ سَوَاءٌ " قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِغَالِبٍ التَّمَّارِ حِينَ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَوْسِ بْنِ مَسْرُوقٍ: عَشْرًا عَشْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى يَزِيدُ النَّحْوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ " وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُفَاضَلَ بَيْنَهُمَا لِتَفَاضُلِ الْمَنْفَعَةِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَفُضِّلَتِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَالْقَوِيَّةُ عَلَى الضَّعِيفَةِ، وَالْكَبِيرَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَذَلِكَ فِي الْأَصَابِعِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَشُلَّتْ كَمُلَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بَعْدَ الشَّلَلِ، لِذَهَابِ مَنَافِعِهَا، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، فَإِنْ شُلَّتْ إِصْبَعٌ مِنْهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا، فَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ الشَّلَلِ كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ لا تبلغ دية السليمة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةِ وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةِ [وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 وَلِرِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ " وَلِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا، لِأَنَّ عَلَيْهَا يَسْعَى، وَبِهَا يَتَصَرَّفُ، وَفِي إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِرِوَايَةِ عمرو بن حزم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ " وَلِأَنَّهَا وَاحِدٌ مِنْ عُضْوَيْنِ كَالْيَدَيْنِ، وَلَا فَضْلَ لِيُمْنَى عَلَى يُسْرَى، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، وَلَا يُفَضَّلُ إِبْهَامٌ عَلَى خِنْصَرٍ، فَإِنْ شُلَّتْ كَانَ فِيهَا دِيَتُهَا كَالْمَقْطُوعَةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ عَقْلِ أُصْبُعٍ إِلَّا أُنْمُلَةَ الْإِبْهَامِ فَإِنَهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أُنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ نِصْفُ عَقْلِ الْإِصْبَعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَمَّا قَسَّطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَةَ الْكَفِّ عَلَى أَعْدَادِ أَصَابِعِهَا وَجَبَ أَنْ يُقَسِّطَ دِيَةَ الْإِصْبَعِ عَلَى أَعْدَادِ أَنَامِلِهَا، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ ثَلَاثُ أَنَامِلَ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ دِيَةِ إِصْبَعٍ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، إِلَّا الْإِبْهَامَ فَإِنَّ فِيهَا أُنْمُلَتَيْنِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا نِصْفُ دِيَةِ إِصْبَعِ خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أُنْمُلَةُ الْإِبْهَامِ كَغَيْرِهَا يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ دِيَةِ إِصْبَعٍ، لِأَنَّهَا ثَلَاثُ أَنَامِلَ أَحَدُهَا بَاطِنَةٌ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ أَنَامِلَ بَاطِنَةً، وَإِنَّمَا يُقَسَّطُ دِيَتُهَا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أَنَامِلِهَا، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْإِبْهَامِ أُنْمُلَتَانِ وَمِنْ غَيْرِهَا ثَلَاثُ أَنَامِلَ، فَلَوْ خُلِقَ لِرَجُلٍ فِي إِبْهَامِهِ ثَلَاثُ أَنَامِلَ وَجَبَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ، وَلَوْ خُلِقَ فِي غَيْرِهَا أَرْبَعُ أَنَامِلَ كَانَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا رُبُعُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ، وَلَوْ خُلِقَتْ لَهُ خَمْسُ أَنَامِلَ كَانَ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا خُمْسُ دِيَتِهَا، تَقْسِيطًا لِدِيَةِ الْأَصَابِعِ عَلَى أَعْدَادِ أَنَامِلِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَتْ فَكَانَتْ أُنْمُلَتَيْنِ كَانَ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَسَّطْتُمْ دِيَةَ الْإِصْبَعِ عَلَى مَا زَادَ مِنْ أَنَامِلِهَا وَنَقَصَ وَلَمْ تَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَصَابِعِ إِذَا زَادَتْ وَنَقَصَتْ وَجَعَلْتُمْ فِي الإصبع الزائدة حكومة ولم يقسطوا دِيَةَ الْكَفِّ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَصَابِعِ بَعْدَ الْإِصْبَعِ النَّاقِصَةِ؟ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَتِ الْأَنَامِلُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْمَعْهُودَةِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ النَّادِرَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفِ الْأَصَابِعُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْمَعْهُودَةِ، فَارَقَهَا حُكْمُ الْخِلْقَةِ النادرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 وَالثَّانِي أَنَّ الزَّائِدَةَ مِنَ الْأَصَابِعِ مُتَمَيِّزَةٌ وَمِنِ الْأَنَامِلِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فَلِذَلِكَ مَا اشْتَرَكَتِ الْأَنَامِلُ وتفردت الأصابع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّهَا شُلَّ تَمَّ عَقْلُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ بِشَلَلِ الْأَنَامِلِ مُوجِبٌ لِدِيَتِهَا كَشَلَلِ الْأَصَابِعِ، وَلَيْسَ يُشَلُّ بَعْضُ الْأَنَامِلِ إِلَّا فِي أَعَالِيهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُشَلَّ أُنْمُلَةٌ وُسْطَى مَعَ سَلَامَةِ الْعُلْيَا، وَفِي الْأَنَامِلِ الْقَوَدُ، عَلَى مَا مَضَى فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ أُنْمُلَةٍ لَمْ يَجِبْ فِيهَا قَوَدٌ لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ م َفْصِلٍ، فَإِنْ تَقَدَّرَ الْمَقْطُوعُ مِنْهَا لَزِمَ فِيهِ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ فَفِيهِ حكومة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قُطِعَتْ مِنَ الذِّرَاعِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِيمَا زَادَ حُكُومَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى الْقَدَمِ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ يَنْتَهِي كَمَالُهَا إِلَى مَفْصِلِ الْكُوعِ الَّذِي بَيْنَ الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ، فَإِنِ انْتَهَى الْقَطْعُ إِلَى الذِّرَاعِ كَانَ فِي الْكَفِّ دِيَتُهَا وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ تَقِلُّ بِقِلَّةِ مَا قَطَعَهُ مِنَ الذِّرَاعِ وَتَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ، فَإِنْ قَطْعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَزْيَدُ، وَيَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ إِذَا قَطَعَ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ اعْتِبَارًا بِالْمِفْصَلِ، فَإِنْ قَطَعَ مِنَ الْمَنْكِبِ حَتَّى اسْتَوْعَبَ بِالْقَطْعِ الذِّرَاعَ مَعَ الْعَضُدِ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ إِذَا كَانَ مِنْ مَفْصِلٍ، وَلَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْكَفِّ إِلَّا حُكُومَةٌ هِيَ أَقَلُّ مِنْ دِيَةِ الْكَفِّ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا أَصْلٌ لَهَا يَتْبَعُهَا فِي حُكْمِهَا، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الرِّجْلِ يَنْتَهِي كَمَالُهَا إِلَى قَطْعِ الْقَدَمِ مِنْ مَفْصِلِ الْكَعْبِ، فَإِنْ زَادَ بِقَطْعِهَا مِنَ السَّاقِ فَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ مَفْصِلِ الرُّكْبَةِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ، وَفِيهَا الْقَوَدُ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ الْفَخِذِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ وَلَا قَوَدَ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ أَصْلِ الْوَرْكِ كَانَتِ الْحُكُومَةُ أَكْثَرَ وَفِيهِ الْقَوَدُ، وَلَا يَبْلُغُ بِالْحُكُومَةِ دِيَةَ الْقَدَمِ كَمَا ذكرنا في اليد. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وفي قَدَمِ الْأَعْرَجِ وَيَدِ الْأَعْسَمِ إِذَا كَانَتَا سَالِمَتَيْنِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَرَجُ فِي الرِّجْلِ فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مِنْ قُصُورِ أَحَدِ السَّاقَيْنِ عن الأخرى، وَيَكُونُ تَارَةً مِنْ تَشَنُّجِ عَصَبِ أَحَدِ السَّاقَيْنِ، فَتَصِيرُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُخْرَى، فَيَعْرُجُ إِذَا مَشَى بِالْمَيْلِ عَلَى الْقُصْرَى، وَفِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، لِأَنَّ الْقَدَمَ سَلِيمَةٌ وَالنَّقْصَ فِي غَيْرِهَا، كما يكمل في ذكر العنين الدية، وأذن الْأَصَمِّ، لِأَنَّ النَّقْصَ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا يَدُ الأعسم فقد ذهب قوم إلى الْعَسَمَ قِصَرُ الْعَضُدِ أَوِ الذِّرَاعِ، فَتَصِيرُ إِحْدَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ مِنَ الْأُخْرَى، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ اعْوِجَاجُ الرُّسْغِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ زَنْدُ الذِّرَاعِ عَنْ كُوعِ الْكَفِّ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالدِّيَةُ فِي كَفِّ الْأَعْسَمِ كَامِلَةٌ، لِأَنَّ الْعَسَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْكَفِّ فَسَاوَتْ غَيْرَهَا. (فَصْلٌ) وَلَوْ خَلَعَ كَفَّهُ مِنَ الزَّنْدِ حَتَّى اعْوَجَّتْ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ، لِتَعَذُّرِهِ فِيهِ حُكُومَةٌ، فَإِنْ جُبِرَتْ فَعَادَتْ بِالْجَبْرِ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا قَلَّتِ الْحُكُومَةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَعُدْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ كَثُرَتْ حُكُومَتُهَا، فَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أُعِيدُ خَلْعَهَا وَأُجْبِرُهَا لِتَعُودَ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ وَخَلَعَهَا فَعَادَتْ بَعْدَ الْجَبْرِ مُسْتَقِيمَةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحُكُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَزِمَتْهُ حُكُومَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْخَلْعِ الثَّانِي، غَيْرَ أَنَّ الْحُكُومَةَ الْأُولَى أَكْثَرُ، لِأَنَّهَا عَادَتْ مُعْوَجَّةً، وَالْحُكُومَةُ الثَّانِيَةُ أَقَلُّ، لِأَنَّهَا عَادَتْ مُسْتَقِيمَةً، وَهَكَذَا لَوْ كَسَرَ ذِرَاعَهُ مِنَ الْعَظْمِ حَتَّى انْقَصَفَ وَتَشَظَّى فَإِنْ جُبِرَتْ وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ، وَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ الْجَبْرِ نَاقِصَةَ الْبَطْشِ زِيدَتِ الْحُكُومَةُ فِي ذَهَابِ الْبَطْشِ، فَإِنْ ذَهَبَ جَمِيعُ بَطْشِهَا كَمُلَتْ دِيَتُهَا كَالشَّلَلِ، وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ فِي خَلْعِ الْقَدَمِ وَكَسْرِ الساق وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ خُلِقَتْ لِرَجُلٍ كَفَّانِ فِي ذِرَاعِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى فَكَانَ يَبْطِشُ بِالسُّفْلَى وَلَا يَبْطِشُ بِالْعُلْيَا فَالسُّفْلَى هِيَ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الْقَوَدُ وَالْعُلْيَا زَائِدَةٌ وَفِيهَا حُكُومَةٌ وَكَذَلَكِ قَدَمَانِ فِي ساق فإن استوتا فهما ناقصتان فإن قطعت إحداهما ففيها حكومة لا تجاوز نصف دية قدم وإن قطعتا معا ففيهما دية قدم ويجاوز بها دية قدم وإن قطعت إحداهما ففيها حكومة فإن عملت الأخرى لما انفردت ثم عاد فقطعها وهي سالمة يمشي عليها ففيها القصاص مع حكومة الأولى ". قال الماوردي: وهذا كما قال، إذا خلق لرجل كفان في ذراع أو ذرعان فِي عَضُدٍ، أَوْ عَضُدَانِ فِي مَنْكِبٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَبْطِشَ بِهِمَا وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَهُمَا يَدٌ نَاقِصَةٌ لَا قَوَدَ فِيهِمَا، وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا دِيَةَ فِيهِمَا وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ عَدَمَ الْبَطْشِ قَدْ أَذْهَبَ بِمَنَافِعِهِمَا، وَذَهَابُ الْمَنَافِعِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةُ كَالشَّلَلِ، وَفِيهِمَا حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا دِيَةَ يَدٍ بَاطِشَةٍ، وَفِي إِحْدَاهُمَا حُكُومَةٌ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُكُومَتِهِمَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَزْيَدَ شَيْنًا فَيُزَادُ فِي حُكُومَتِهَا، فَلَوْ بَطَشَتِ الْبَاقِيَةُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَقْطُوعَةِ عُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْيَدُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَيَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ إِنْ قُطِعَتْ وَكَمَالُ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن يبطش بأحدهما لا يَبْطِشَ بِالْأُخْرَى، فَالْبَاطِشَةُ هِيَ الْيَدُ وَفِيهَا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَغَيْرُ الْبَاطِشَةِ هِيَ الزَّائِدَةُ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَاطِشَةُ فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ أَوْ مُنْحَرِفَةً عَنْهُ، لِأَنَّنَا نَسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصْلِ بِمَنَافِعِهِ كَمَا نَسْتَدِلُّ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِبَوْلِهِ، فَإِنْ قُطِعَتِ الزَّائِدَةُ فَصَارَتِ الْبَاطِشَةُ غَيْرَ بَاطِشَةٍ لَزِمَ دِيَتَهَا كَامِلَةً مَعَ حُكُومَةِ الزَّائِدَةِ، وَيَقُومُ ذَهَابُ بَطْشِهَا مَقَامَ الشَّلَلِ، وَلَوْ قُطِعَتِ الْبَاطِشَةُ فَحُكِمَ فِيهَا بِالْقَوَدِ أَوْ كَمَالِ الدِّيَةِ ثُمَّ صَارَتْ غَيْرُ الْبَاطِشَةِ بَاطِشَةً وَجَبَ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ إِنْ قُطِعَتْ، لِأَنَّهَا يَدٌ بَاطِشَةٌ، وَيَجِيءُ فِي رَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمَثْغُورِ إِذَا أَخَذَ دِيَةَ سِنِّهِ فَعَادَتْ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرُدُّ مِنْ كَمَالِ دِيَتِهَا شَيْئًا وَتَكُونُ هَذِهِ قُوَّةً أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَالثَّانِي: يَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ حُكُومَتِهَا مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْبَطْشَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَلَمْ يَسْلُبْهُ الْأَوَّلُ بَطْشَهُ وَبَقَاءُ الْبَطْشِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَاطِشًا بِهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَطْشُهُ بِإِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْأُخْرَى، فَأَكْثَرُهُمَا بَطْشًا هِيَ الْأَصْلُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ أَوْ كَمَالُ الدِّيَةِ وَأَقَلُّهُمَا بَطْشًا هِيَ الزَّائِدَةُ لَا قَوَدَ فِيهَا وَفِيهَا حُكُومَةٌ، كَمَا يُسْتَدَلُّ فِي إِشْكَالِ الْخُنْثَى بِقُوَّةِ بَوْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَوِيَ بَطْشُهُ بِهِمَا فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْبَطْشِ لِتَكَافُئِهِ وَيُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ فِي الْخُنْثَى بِالْبَوْلِ عِنْدَ التَّسَاوِي عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ أَوْ يَخْتَلِفَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَكَانَتْ إِحْدَى الْكَفَّيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْأُخْرَى فَالْكَبِيرَةُ هِيَ الْأَصْلُ تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ، وَالصَّغِيرَةُ هِيَ الزَّائِدَةُ يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ وَلَمْ تَزِدْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْكَفَّيْنِ فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ وَالْأُخْرَى عَادِلَةً عَنْهُ، فَتَكُونُ الَّتِي فِي اسْتِوَاءِ الذِّرَاعِ هِيَ الْأَصْلُ تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ وَالْخَارِجَةُ عَنِ اسْتِوَائِهِ زَائِدَةً يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي مَخْرَجِ الذِّرَاعِ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَالْأُخْرَى نَاقِصَةً فَذَاتُ الْكَمَالِ هِيَ الْأَصْلُ وَذَاتُ النَّقْصِ هِيَ الزَّائِدَةُ، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ وَالْأُخْرَى زَائِدَةَ الْأَصَابِعِ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ الْكَمَالِ دَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكَمَالِ مَعَ النُّقْصَانِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَقْصٌ فَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَصْلٍ، فَإِذَا عُدِمَتِ الْأَمَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَمَيُّزِ الْأَصْلِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَاعْتَدَلَتْ فِي الْكَفَّيْنِ مَعًا فَهُمَا يَدَانِ زَائِدَتَانِ إِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَحُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ يَدٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، لِأَنَّهَا نِصْفُ يَدٍ زَائِدَةٍ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 فَإِنْ قَطَعَ إِصْبَعًا مِنْ إِحْدَاهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ إِصْبَعٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، لِأَنَّهَا نِصْفُ إِصْبَعٍ زَائِدَةٍ، وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ إِصْبَعٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ أُنْمُلَةٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، لِأَنَّهَا نِصْفُ أُنْمُلَةٍ زَائِدَةٍ، فَأَمَّا الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ فَيَسْقُطُ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ إِصْبَعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنَ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ إِبْهَامَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَفَّيْنِ فَيُقْتَصُّ مِنْ إِبْهَامِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ، كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ كَفِّهِ إِذَا قَطَعَ الْكَفَّيْنِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ حُكُومَةٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَلَوْ قَطَعَ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِبْهَامًا وَمِنِ الْأُخْرَى خِنْصَرًا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الْإِبْهَامِ وَلَا فِي الْخِنْصَرِ، لِنَقْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ دِيَةُ إِصْبَعٍ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ، لِأَنَّهَا إِصْبَعٌ زَائِدَةٌ. (فَصْلٌ) وَلَوْ خُلِقَ لَهُ قَدَمَانِ فِي سَاقٍ، أَوْ سَاقَانِ فِي فَخِذٍ، أَوْ فَخِذَانِ فِي وَرْكٍ، فَحُكْمُ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى الْكَفَّيْنِ فِي تَكَافُؤِ اعْتِبَارِ الْمَشْيِ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَمْشِي بِهِمَا فَهُمَا رِجْلٌ نَاقِصَةٌ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالَّتِي يَمْشِي بِهَا هِيَ الْقَدَمُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ لَا قَوَدَ فِيهَا وَلَا دِيَةَ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا طَوِيلَةً وَالْأُخْرَى قَصِيرَةً وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الطَّوِيلَةِ دُونَ الْقَصِيرَةِ لِزِيَادَتِهَا فَقُطِعَتِ الطَّوِيلَةُ فَصَارَ يَمْشِي عَلَى الْقَصِيرَةِ فَفِي الْقَصِيرَةِ بَعْدَ الطَّوِيلَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي قَطْعِ الطَّوِيلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي عَلَى كِلَا الْقَدَمَيْنِ فَهُوَ كَبَطْشِهِ بِالْكَفَّيْنِ فِي اعْتِبَارِ الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، ثُمَّ اعْتِبَارِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعَرَجِ فَإِنْ حَصَلَ التَّسَاوِي فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُمَا رِجْلَانِ زَائِدَتَانِ يَجِبُ فِيهِمَا الْقَوَدُ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْإِلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ وَهُمَا مَا أَشْرَفَ عَلَى الظَّهْرِ مِنَ الْمَأْكَمَتَيْنِ إِلَى مَا أَشْرَفَ عَلَى اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ وَسَوَاءٌ قُطِعَتَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فِي الْإِلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، لِأَنَّهُمَا رِبَاطٌ لِمَفْصِلِ الْوَرْكِ وَبِهِمَا يَسْتَقِرُّ الْجُلُوسُ فَكَمُلَتِ الدِّيَةُ فِيهِمَا كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَمَنْ كَانَ أَرْسَخَ الْإِلْيَةِ مَعْرُوقَهَا، أَوْ لَحِيمَ الْإِلْيَةِ غَلِيظَهَا، فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ إِذَا اسْتَوْعَبَهُمَا مِنَ الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَسْقَطَ الْمُزَنِيُّ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ كَقَطْعِ لَحْمِ بَعْضِ الْفَخِذِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حَدَّهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَجَاوُزِهِمَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ سَقَطَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى الْإِلْيَتَيْنِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ كَقَطْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ إِحْدَاهُمَا وَعُلِمَ قَدْرُ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا فَفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ، فَإِنْ جُهِلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا حَتَّى أَبْقَاهُمَا عَلَى جِلْدٍ لَمْ تَنْفَصِلْ، وَأُعِيدَتَا فَالْتَحَمَتَا كَانَ فيهما حكومة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 كالجراج الْمُنْدَمِلِ، وَلَوْ ثَبَتَتِ الْإِلْيَتَانِ بَعْدَ قَطْعِهِمَا لَمْ يَرُدَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ دِيَتِهِمَا، وَقَدْ خُرِّجَ فِي رَدِّهَا قَوْلٌ آخَرُ كَاللِّسَانِ إِذَا نَبَتَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ مَا قُلْتُ فِيهِمَا الدِّيَةُ فَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ النَّصَّ وَارِدٌ بِهِ، وَالْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِبَارَ مُوجِبٌ لَهُ، فَإِنْ وَجَبَتْ فِي ثَلَاثَةٍ كَالْأَنَامِلِ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي أَرْبَعَةٍ كَالْجُفُونِ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي خمسة كالأصابع كان في كل واحد منهما الْخُمُسُ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، لِأَنَّ مَا قَابَلَ الْجُمْلَةَ تَقَسَّطَتْ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَائِهَا كَالْأَثْمَانِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُفَضَّلُ يُمْنَى عَلَى يُسْرَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا، وَالنَّفْعَ وَالْجَمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَلَئِنْ تَفَاضَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِتُفَاضِلِ الدِّيَةِ، كَمَا لَا تُفَضَّلُ يَدُ الْكَاتِبِ وَالصَّانِعِ عَلَى يَدِ مَنْ ليس بكاتب ولا صانع، وكما لا نفضل يَدُ الْكَبِيرِ الْقَوِيِّ عَلَى يَدِ الصَّغِيرِ الضَّعِيفِ، وَعَلَى أَنَّ لِمَيَاسِرِ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ لِمَيَامِنِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَسَاوَيَا فِي حُكْمِ الدِّيَةِ فَهَلَّا تَسَاوَيَا فِي الْقَوَدِ فَجَازَ أَخْذُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى؛ قِيلَ: الْقَوَدُ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحُكْمِ التَّسَاوِي فِي الْمَحَلِّ وَهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْحُكْمِ فَقَدِ افْتَرَقَا فِي الْمَحَلِّ فَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَوَيَا فِي الدِّيَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الْقَوَدِ وَكَمَا لَا تُفَضَّلُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقَوَدِ كَذَلِكَ لَا تُفَضَّلُ الْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى فِي الْأَنَامِلِ وَالْأَسْنَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَوَدِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا عَيْنُ أَعْوَرَ عَلَى عَيْنِ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ولا يجوز أن يقال فيها دية تامة وإنما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في العينين الدية وعين الأعور كيد الأقطع ". قال الماوردي: وهذا كما قال، إذا فقئت عين الأعور ففيها دية عين واحدة وهي نصف الدية كعين من ليس بأعور وهو قول جمهور الفقهاء. وَقَالَ مَالِكٌ: فِيهَا جَمِيعُ الدِّيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 رُوِيَ عَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيَّرَهُ إِذَا كَانَ لِلْجَانِي عَيْنَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِصَاصِ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِقَوْلِهِمْ مَعَ انْتِشَارِهِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْأَعْوَرَ يُدْرِكُ بِعَيْنِهِ جَمِيعَ مَا يُدْرِكُهُ ذُو الْعَيْنَيْنِ، فَإِذَا قَلَعَ عَيْنَهُ فَقَدْ أَذْهَبَ بَصَرًا كَامِلًا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَخَالَفَ يَدَ الْأَقْطَعِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا مَا كَانَ يُعْمَلُ بِهِمَا، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي الْكَفَّارَةِ عِتْقُ الْعَوْرَاءِ وَلَمْ يَجُزْ عِتْقُ الْقَطْعَاءِ، وَلِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنَيْنِ يُحَوَّلُ فَيَنْتَقِلُ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْدِيدَ نَظَرِهِ فِي رَمْيٍ أَوْ ثقب أغمض إِحْدَى عَيْنَيْهِ لِيُقَوِّيَ ضَوْءَ الْأُخْرَى فَيُدْرِكَ بِهَا نَظَرًا لِمَا يُدْرَكُ مَعَ فَتْحِ أُخْتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ ضَوْءَ الذَّاهِبَةِ انْتَقَلَ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَلَزِمَ فِيهَا جَمِيعَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَعْوَرِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ يُدْفَعُ بِعُمُومِ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ وَاحِدَةٌ فَلَمْ تَكْمُلْ فِيهَا دِيَةُ الْعَيْنَيْنِ كَعَيْنِ ذِي الْعَيْنَيْنِ. وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عُضْوَيْنِ إِذَا وَجَبَ فِيهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مَعَ بَقَاءِ نَظِيرِهِ وَجَبَ فِيهِ ذَلِكَ النِّصْفُ مَعَ عَدَمِ نَظِيرِهِ كَيَدِ الْأَقْطَعِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ عَيْنُ الْأَعْوَرِ مَقَامَ عَيْنَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَّ بِهَا مِنْ عَيْنَيِ الْجَانِي لِقِيَامِهَا مَقَامَ عَيْنَيْهِ، وَلَوَجَبَ إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الْأَعْوَرِ إِحْدَى عَيْنَيْنِ أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْتَصُّ مِنْ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ كَمَالُ الدِّيَةِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ قَلَعَ عَيْنَيْ رَجُلٍ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى أَنْ تَلْزَمَهُ دِيَةٌ وَنَصِفٌ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ بِقَلْعِ الْأُولَى أَعْوَرَ فَلَزِمَهُ بِهَا نِصْفُ الدية ويقلع الْأُخْرَى بَعْدَ الْعَوَرِ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرُوهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ فِيهِ عَائِشَةَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ فَلَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا قَالُوا وَخَالَفَهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يُدْرِكُ بِالْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 أَحَدُهُمَا: دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الْأَعْوَرَ لَا يَرَى الْبَعِيدَ كَرُؤْيَةِ ذِي الْعَيْنَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ضِعْفُ الْمَسَافَةِ فَلَمْ يَسْلَمْ مَا ادَّعَوْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَذَا كَمَالَ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِيمَنْ بَقِيَ سَمْعُهُ مِنْ إِحْدَى أُذُنَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ فِي ذَهَابِهِ مِنَ الْأُذُنِ الْأُخْرَى كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ بِهِمَا مَا كَانَ يَسْمَعُ بِهِمَا، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي سَمْعِ الْأُذُنَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي ضَوْءِ الْعَيْنَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنْ ضَوْءَ الْعَيْنِ يَنْتَقِلُ مِنَ الذَّاهِبَةِ إِلَى الْبَاقِيَةِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قَلَعَ وَاحِدَةً مِنْ عَيْنَيْنِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ دِيَتُهَا، لِأَنَّ ضَوْءَهَا قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْأُخْرَى فَصَارَ كَالْجَانِي عَلَى عَيْنٍ لَا ضَوْءَ لَهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهَا، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى أن الضوء غير منتقل، وإنما يغمض الرَّامِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِي ثُقْبٍ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ ضَوْءُ الْعَيْنَيْنِ وَيَقْتَصِرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لِيَسْتَقِيمَ تَرَاجُعُ السَّهْمِ وَالثُّقْبِ وَلَا يَخْتَلِفَ السَّمْتُ بِاخْتِلَافِ النَّظَرَيْنِ. وَأَمَّا فَرْقُهُمْ بَيْنَ الْعَوْرَاءِ وَالْقَطْعَاءِ لِفَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَدْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي كَمَالِ الدِّيَةِ وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي الْجِهَادِ كَانَ فِي الْبَاقِيَةِ إِذَا قُطِعَتْ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَنَحْنُ نُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَأَنْتَ تُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَنْ قُطِعَتْ خِنْصَرُ أَصَابِعِهِ يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ الْكَفَّ بَعْدَ ذَهَابِ خِنْصَرِهَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ دِيَتِهَا لِإِجْزَائِهَا فِي الْكَفَّارَةِ، كَذَلِكَ عَيْنُ الْأَعْوَرِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ بَصِيرٍ ذِي عَيْنَيْنِ كَانَ لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْأَعْوَرِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْأَعْوَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْأَعْوَرِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَعْوَرِ بِعَيْنِهِ الْوَاحِدَةِ جَمِيعُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَفَا لَهُ عَنْ جَمِيعِ بَصَرِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ يُوجِبُ دِيَةَ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لَا دِيَةَ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ كَانَ لَهَا عَلَيْهِ أَنْ تَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ عَفَتْ عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهَا دِيَةُ يَدِهَا لَا دِيَةُ يَدِ الرَّجُلِ، كَذَلِكَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَعْوَرِ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ عَبْدٌ يَدَ حُرٍّ فَعَفَا الْحُرُّ عَنِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ دِيَةُ يَدِ الْحُرِّ لَا دِيَةُ يَدِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ دِيَةً وَاحِدَةً، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ يُفْضِي إِلَى إِيجَابِ دِيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَلَعَ إحدى عينيه أَعْوَرَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ دِيَةً ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدَ قَلْعِهَا أَعْوَرَ، فَيُوجِبُ فِيهَا إِذَا قُلِعَتْ دِيَةً ثَانِيَةً، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ مُطْرَحًا والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ كُسِرَ صُلْبُهُ فَلَمْ يُطِقِ الْمَشْيَ فَفِيهِ الدِّيَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ جَمَالَهُ بِكَسْرِ صُلْبِهِ وَأَبْطَلَ تَصَرُّفَهُ بِذَهَابِ مَشْيِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ، فَإِنْ كُسِرَ صُلْبُهُ وَلَمْ يَذْهَبْ مَشْيُهُ وَصَارَ يَمْشِي كَالرَّاكِعِ وَجَبَ فِيهِ حُكُومَةٌ، لِذَهَابِ الْجَمَالِ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَوْ صَارَ بَعْدَ كَسْرِ صُلْبِهِ مُنْتَصِبَ الظَّهْرِ لَكِنْ ذَهَبَ مَشْيُهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ تَامَّةً، لِذَهَابِ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْجَمَالِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ، فَلَوْ صَارَ ضَعِيفَ الْمَشْيِ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ وَلَا عَلَى السُّرْعَةِ فَفِيهِ حكومة، لأنه قد أذهب من مشيه مالا يَنْحَصِرُ، وَلَوِ انْحَصَرَ لَوَجَبَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهَا، وَلَوْ صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إِلَّا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا كَانَتْ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهِ لَوْ مَشَى بِغَيْرِ عَصًا، وَكُلَّمَا أَوْجَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْحُكُومَةِ فَإِنَّمَا نُوجِبُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهَا، فَلَوْ حَكَمَ لَهُ بِالدِّيَةِ لِذَهَابِ مَشْيِهِ ثُمَّ صَارَ يَمْشِي مِنْ بَعْدُ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا قَدْرَ حُكُومَةِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِكَسْرِ الصُّلْبِ وَذَهَابِ الْمَشْيِ شَلَلُ الْقَدَمَيْنِ لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فِي ذَهَابِ الْمَشْيِ، وَالْأُخْرَى فِي شَلَلِ الرِّجْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَتْ دِيَةُ الرِّجْلَيْنِ بِذَهَابِ الْمَشْيِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ فِيهِمَا شَلَلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ نَفْعَهُمَا. قِيلَ: لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرِّجْلَيْنِ بَاقِيَةٌ فِي انْقِبَاضِهِمَا وَبَسْطِهِمَا لَا تَذْهَبُ إِلَّا بِالشَّلَلِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الْمَشْيُ لِنَقْصٍ فِي غَيْرِهِمَا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا إِلَّا بِشَلَلِهِمَا. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَعَجَزَ عَنِ الْجِمَاعِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنْهُ لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ مَعَ بَقَاءِ مَنِيِّهِ وَانْتِشَارِ ذَكَرِهِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْزَالِ بِاسْتِدْخَالِ ذَكَرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ الْجِمَاعِ لِذَهَابِ مَنِيِّهِ وَعَدَمِ انْتِشَارِ ذَكَرِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ مَنْفَعَةَ الصُّلْبِ بِذَهَابِ الْمَنِيِّ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي مَا ادَّعَاهُ نُظِرَ فَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِدَعْوَاهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَهَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَلَامَةٌ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا يَذْهَبُ مِنْهُ الْجِمَاعُ حَلَفَ الْجَانِي وَلَمْ يَلْزَمِ الدِّيَةَ، وَإِنْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْهُ الْجِمَاعُ حَلَفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ، وَلَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَأَذْهَبُ مَشْيَهُ وَجِمَاعَهُ مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَةُ عُضْوٍ وَاحِدٍ، حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَلْزَمُهُ دِيَتَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ فِي مَحَلَّيْنِ فَلَزِمَتْ فِيهِمَا دِيَتَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَذَهَبَ سَمْعُهُ، أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ شَمُّهُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْتَوَتْ عُنُقُهُ وَانْعَطَفَ وَجْهُهُ فَصَارَ كَالْمُلْتَفِتِ وَجْهُهُ وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ بِحَسَبِ الشَّيْنِ وَالْأَلَمِ لَا تَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةُ، لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، وَلَوْ كَانَ وَجْهُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ بِهِ كَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ انْعِطَافِهِ، لِأَنَّ شَيْنَهُ أَقَلُّ، فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا بَعْضُ كَلَامِهِ لَزِمَهُ مَعَ حُكُومَةِ الْوَجْهِ دِيَةُ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنْ أَذْهَبَ جَمِيعَ كَلَامِهِ بِالْتِوَاءِ عُنُقِهِ كَمُلَتْ دِيَةُ الْكَلَامِ وَزِيدَ فِي حُكُومَةِ الِالْتِوَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَضْغِ الطَّعَامِ إِلَّا بِشِدَّةٍ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ حُكُومَةٌ فِي نُقْصَانِ الْمَضْغِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَضْغِ وَلَا يَصِلُ الطَّعَامُ إِلَى جَوْفِهِ إِلَّا بِالْوُجُورِ زِيدَ فِي حُكُومَتِهِ، فإن كان لا ينساغ الطَّعَامُ وَلَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ بِوُجُورٍ وَلَا غَيْرِهِ قِيلَ: هَذَا لَا يَعِيشُ وَيَنْتَظَرُ بِهِ فإن مات وجبت ديته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْقِصَاصِ يُوجِبُ تَسَاوِيَهُمَا فِي الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِوَاءَ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُوجِبُ تَسَاوِيَ الدِّيَةِ فِي الرَّجُلِ والمرأة، لأن الغرة أحد الدِّيَتَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وليس بعرف لَهُمْ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ وَالْقِصَاصُ حَدٌّ، وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْحُدُودِ فَسَاوَتْهُ فِي الْقِصَاصِ، وَلَا تُسَاوِيهِ فِي الْمِيرَاثِ وَتَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فَلَمْ تُسَاوِهِ فِي الدية، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 وَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْهَا وَفِيهِ انْفِصَالٌ. فَأَمَّا الْجَنِينُ فَلِأَنَّ اشْتِبَاهَ حَالِهِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ أَوْجَبَتْ حَسْمَ الِاخْتِلَافِ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عليه ما زال عنه الاشتباه والحسم فِيهِ التَّنَازُعُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَتَهَا فِي النَّفْسِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ أَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَهْلِ مِصْرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ: الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى نِصْفِ عُشْرِ دِيَتِهِ أَيْ تُسَاوِيهِ فِي الدِّيَةِ إِلَى نِصْفِ عُشْرِهَا وَهُوَ دِيَةُ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى دِيَةِ الْمُنَقِّلَةِ وَذَلِكَ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ فِيمَا زَادَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُعَاقِلُهُ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ أَرْشِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِيمَا زَادَ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَهُ مَذْهَبًا لَهُ فِي الْقَدِيمِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ حِكَايَةً عَنْ مذهب غيره. قال ربيعة [ابن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ، قُلْتُ: فَفِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ] . قُلْتُ: فَفِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ، قُلْتُ فَفِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ فَقُلْتُ لَهُ: لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا قَلَّ عَقْلُهَا، قال: هكذا السنة يا بن أَخِي. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَرْأَةُ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا " وَلَعَلَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَشَارَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 بِقَوْلِهِ هَكَذَا السُّنَّةُ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا سَاوَتِ الرَّجُلَ فِي الْمِيرَاثِ إِلَى الْمُقَدَّرِ بِالثُّلُثِ وَهُوَ مِيرَاثُ وَلَدِ الْأُمِّ الَّذِي يستوي فيه الذكر وَالْإِنَاثُ وَكَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَبَ أَنْ تَسَاوِيَهُ فِي الدِّيَةِ إِلَى الثُّلُثِ وَتَكُونَ عَلَى النِّصْفِ فِيمَا زَادَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ لَمَّا مَنَعَ مِنْ مُسَاوَاةِ الرَّجُلِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ فِيمَا دُونَهَا مِنْ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ، لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةً بِدِيَةٍ النَّفْسِ وَهِيَ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ فَكَذَلِكَ فِيمَا دُونَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَلَمْ يُسْنِدْهُ، لِأَنَّ جَدَّهُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْنَدًا إِذَا رَوَاهُ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِأَنَّهُ هُوَ الصَّحَابِيُّ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَمْ أَجِدْ لَهُ نَفَاذًا " يَعْنِي طَرِيقًا لِصُحْبَتِهِ. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَقَدْ تَكُونُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدِ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ، وَإِنَّمَا سَاوَتْ وَلَدَ الْأُمِّ، لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ فِيهِ بِالرَّحِمِ الَّذِي يُوجِبُ تَسَاوِيَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ كَفَرْضِ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ تَكُنِ الْعِلَّةُ فِيهِ تَقْدِيرَهُ بِالثُّلْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْصُلَ اخْتِلَافٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ثَدْيَيْهَا دِيَتُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ فِي الثَّدْيَيْنِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً فَصَارَا فِي الدِّيَةِ كَالْيَدَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَا كَبِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرَيْنِ، مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ، نَزَلَ فِيهِمَا لَبَنٌ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ، فَإِنْ قَطَعَهُمَا وَأَجَافَ مَا تَحْتَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِيهِمَا وَأَرْشُ جَائِفَتَيْنِ تحتهما، ولو ضربهما فاستحشفتا وَيَبِسَا حَتَّى صَارَا لَا يَأْلَمَانِ فَهَذَا شَلَلٌ، وفيها الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهُمَا وَإِنْ بَقِيَ الْجَمَالُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَهُ، وَلَوْ ضَرَبَهُمَا فَذَهَبَا مَعَ بَقَاءِ الْأَلَمِ فِيهِمَا ففيهما حكومة، ولو ضربها فَذَهَبَ لَبَنُهُمَا فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَابُهُ مِنَ الضَّرْبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ فيسأل أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ كَانَ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ قَالُوا: مِنْ غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَوْ قَطَعَ إحدى الثَّدْيَيْنِ كَانَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ، وكذلك لو ضربه فشل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي حَلَمَتَيْهَا دِيَتُهَا لِأَنَّ فِيهِمَا مَنْفَعَةَ الرَّضَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ جَمَالَ الثَّدْيِ وَمَنْفَعَتُهُ بِالْحَلَمَةِ كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 الْيَدِ بِالْأَصَابِعِ، فَإِذَا قَطَعَ الْحَلَمَتَيْنِ كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً كَمَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ عَادَ أَوْ غَيْرُهُ فَقَطَعَ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّدْيَيْنِ بَعْدَ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ كَانَ فِي بَقِيَّتِهِمَا حُكُومَةٌ كَمَا يَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ بَعْدَ قَطْعِ أَصَابِعِهَا حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَحْشَفَتِ الْحَلَمَتَانِ بِجِنَايَتِهِ كَمُلَتْ دِيَتَهُمَا لِذَهَابِ مَنَافِعِهِمَا، فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى الْحَلَمَتَيْنِ أَوْ أَحْشَفَهُمَا كَانَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ أَجْزَائِهَا كَانَ فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ قِسْطُ الْمَقْطُوعِ مِنْ نَفْسِ الْحَلَمَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ الثَّدْيِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَطْعِ بَعْضِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ هَلْ يَعْتَبِرُ قِسْطَهُ مِنَ الْحَشَفَةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ الذَّكَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْحَلَمَةِ مِنَ الثَّدْيِ مَحَلُّ الْحَشَفَةِ مِنَ الذَّكَرِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ فَفِيهِمَا مِنَ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا ثَدْيُ الرَّجُلِ فَهُوَ أَقَلُّ مَنْفَعَةً وَجَمَالًا مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ مِنْ مَنْفَعَةٍ وَجَمَالٍ وَفِي قَطْعِهِمَا مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِيهِمَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّ كَمَالَ مَنْفَعَتِهِمَا بِالرَّضَاعِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، فَوَجَبَ فِيهِمَا مِنَ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ، وَمِنِ الْمَرْأَةِ دِيَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ: فِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِكَمَالِ نَفْعِهِمَا فِي الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نَفْعِهِمَا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ، ولو قطعهما وأجاف موضعهما فعليه في إحدى الْقَوْلَيْنِ حُكُومَةٌ فِي الثَّدْيَيْنِ وَدِيَةُ جَائِفَتَيْنِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الثَّدْيَيْنِ وَدِيَةُ جَائِفَتَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَ حَلَمَتَيْ ثَدْيَيْهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِمَا حُكُومَةٌ دُونَ حُكُومَةِ الثَّدْيَيْنِ. والثاني: فيما دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَدِيَةِ الْيَدَيْنِ، وَفِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الْوَاجِبِ فِي قَطْعِهِمَا مِنْ حُكُومَةٍ أَوْ دية. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي إِسْكَتَيْهَا وَهُمَا شَفْرَاهَا إِذَا أُوعِبَتَا دِيَتُهَا وَالرَّتْقَاءُ الَّتِي لَا تُؤْتَى وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِسْكَتَانِ وَهُمَا الشَّفْرَانِ فَهُمَا مَا غَطَّى الْفَرْجَ وَانْضَمَّ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبَيْهِ كَالشَّفَتَيْنِ فِي غِطَاءِ الْفَمِ، وَالْجُفُونِ فِي غِطَاءِ الْعَيْنَيْنِ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا قُطِعَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ كَالشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ لَهُمَا امْرَأَةً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 وَجَبَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ إِنْ أَمْكَنَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا قِصَاصَ مَعَ الْمُكْنَةِ، لِأَنَّهُ قَطْعُ لَحْمٍ مِنْ لَحْمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا فِي الْخِلْقَةِ يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْم َفْصِلِ فِي الْقِصَاصِ، وَسَوَاءٌ قُطِعَا مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ، صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، يُطَاقُ جِمَاعُهَا أَوْ لَا يُطَاقُ، مِنْ رَتْقٍ أَوْ قَرْنٍ، لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرَنَ عَيْبٌ فِي الْفَرْجِ مَعَ سَلَامَةِ الْإِسْكَتَيْنِ فَجَرَيَا في كمال الدية مجرى شفتي الأخرس وأدنى الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ، وَلَوْ ضَرَبَ إِسْكَتَيْهَا فَشُلَّا كَمُلَتْ دِيَتُهَا وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا كَالْيَدِ إِذَا شُلَّتْ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْأُذُنِ إِذَا اسْتَحْشَفَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ شَلَلَهُمَا قَدْ أَذْهَبَ مِنْ مَنَافِعِهِمَا مَا لَمْ يُذْهِبِ اسْتِحْشَافُ الْأُذُنِ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى الْإِسْكَتَيْنِ كَانَ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ. فَأَمَّا الرَّكَبُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَانَةِ مِنَ الرَّجُلِ، وَفِي قَطْعِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهِمَا الدِّيَةَ، فَإِنْ قَطَعَهُ مَعَ الشَّفْرَيْنِ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الشَّفْرَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الرَّكَبِ، وَالْمَخْفُوضَةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ، وَالْخَفْضُ قَطْعُ جِلْدَةٍ نَابِتَةٍ فِي أَعْلَى الْفَرَجِ مِثْلِ عُرْفِ الدِّيكِ وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَخْذِهَا مِنَ النِّسَاءِ كَالْخِتَانِ فِي الرِّجَالِ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا إِنْ قُطِعَتْ بِجِنَايَةٍ مِنْ دِيَةٍ وَلَا حُكُومَةٍ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِأَخْذِهَا تَعَبُّدًا، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهَا مُتَعَدِّيًا إِلَّا أَنْ تَسْرِي فَيَضْمَنُ أرش سرايتها لتعديه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَفْضَى ثَيِّبًا كَانَ عَلَيْهِ دِيَتُهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا بِوَطْئِهِ إِيَّاهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِفْضَاءُ الْمَرْأَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ هَتْكُ الْحَاجِزِ الَّذِي بَيْنَ سَبِيلِ الْفَرْجَيْنِ الْقَبُلِ وَالدُّبُرِ، وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ هَتْكُ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْفَرْجِ بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْقُبُلِ بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْقُبُلِ بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ لِبَعْضِ مَنَافِعِهِ وَلَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الْجَسَدِ مَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ، وَإِذَا خَرَقَ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ كَانَ اسْتِهْلَاكًا لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ. فَإِنْ قِيلَ بِهَذَا إِنَّهُ خَرَقَ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ كَانَ عَلَى خَرْقِ الْحَاجِزِ الَّذِي فِي الْقُبُلِ حُكُومَةٌ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ خَرْقُ حَاجِزِ الْقُبُلِ كَانَ خَرْقُ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْلَى بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْإِفْضَاءُ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مَعَهُ مُسْتَمْسِكًا، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْبَوْلُ وَلَمْ يَسْتَمْسِكْ وَجَبَ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ حُكُومَةٌ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ اسْتَرْسَلَ الْبَوْلُ بِالْإِفْضَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ التَّامَّةُ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ حُكُومَةٍ، وَإِنِ اسْتَمْسَكَ الْبَوْلُ فَفِي الْإِفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكُومَةَ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ بِأَنَّ مَا ضُمِنَ إِتْلَافُهُ بِالدِّيَةِ دَخَلَ غُرْمُ مَنَافِعِهِ فِي دِيَتِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعَ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هَتْكُ هَذَا الْحَاجِزِ بِأَعْظَمَ مِنْ حَاجِزِ الْجَائِفَةِ، فَلَمَّا وَجَبَتْ فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْإِفْضَاءِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَتُقَدَّرُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا هَتْكُ حَاجِزٍ فِي جَوْفٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ حُكُومَةً زَائِدَةً عَلَى دِيَةِ الْإِفْضَاءِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَمْسِكَ الْبَوْلُ مَعَ وُجُودِ الْإِفْضَاءِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ عُلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِفْضَاءِ فَصَارَ مِنْ مَنَافِعِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَرْشُهُ زَائِدًا عَلَى أَرْشِ الْإِفْضَاءِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ فَأَذْهَبَ شَمَّهُ لَزِمَهُ غُرْمُهَا، وَخَالَفَ ذَهَابَ الْكَلَامِ بِقَطْعِ اللِّسَانِ وَذَهَابَ الْبَصَرِ بِفَقْءِ الْعَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ إِذْ لَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ قَطْعِ لِسَانِهِ وَلَا يُبْصِرَ مَعَ فَقْءِ عَيْنِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ دِيَةً كَامِلَةً أَنَّ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ فِي الْجَسَدِ أَخْوَفُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَكَانَتْ بِكَمَالِ الدِّيَةِ أَحَقَّ، وَهَذَا الْحَاجِزُ مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَمَخْصُوصٌ بِمَنْفَعَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، لِامْتِيَازِ الْحَيْضِ وَمَخْرَجِ الْوَلَدِ عَنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْوَلَدَ يَخْرُجَانِ مِنْ مَدْخَلِ الذَّكَرِ، فَإِذَا انْخَرَقَ الْحَاجِزُ بِالْإِفْضَاءِ زَالَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مَا لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُفْرَدَةَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ، وَلِأَنَّ الْإِفْضَاءَ يَقْطَعُ التَّنَاسُلَ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ لَا تَسْتَقِرُّ فِي مَحَلِّ الْعُلُوقِ لِامْتِزَاجِهَا بِالْبَوْلِ فَجَرَى مَجْرَى قَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَفِي ذَلِكَ كَمَالُ الدِّيَةِ، فَكَذَلِكَ الْإِفْضَاءُ. فَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْجَائِفَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ دِيَةَ الْجَائِفَةِ الثُّلُثُ لِانْدِمَالِهَا، وَلَوْ لَمْ تَنْدَمِلْ لَأَفْضَتْ إِلَى النَّفْسِ فَكَمُلَ فِيهَا الدِّيَةُ، وَالْإِفْضَاءُ غَيْرُ مُنْدَمِلٍ فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَوِ انْدَمَلَ لَمَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَلَوَجَبَ فِيهِ حُكُومَةٌ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْإِفْضَاءِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ أَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ وَطْءٍ وَهُوَ نَادِرٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَنْدَمِلَ أَوْ لَا يَنْدَمِلَ، فَإِنِ انْدَمَلَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ فَفِيهِ الدِّيَةُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ اسْتِرْسَالُ الْبَوْلِ فَفِيهِ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْإِفْضَاءِ ذَهَابُ الْعُذْرَةِ مِنَ الْبِكْرِ وَجَبَ فِيهِ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ حُكُومَةُ الْعُذْرَةِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ عَلَى الزَّوْجِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِإِزَالَتِهَا بِاسْتِمْتَاعِهِ فَاسْتَوَى الزَّوْجُ وَغَيْرُهُ فِي دِيَةِ الْإِفْضَاءِ وَحُكُومَةِ اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِفْضَاءِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا فِي كَمَالِهِ عَلَى الزَّوْجِ، لِخُلُوِّهِ مِنْ وَطْءٍ وَإِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 كَانَ هَذَا الْإِفْضَاءُ بِوَطْءٍ وَهُوَ الْأَغْلَبُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ فِي نِكَاحٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ وَكَمَالُ الْمَهْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِفْضَاؤُهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَهْرِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا اسْتُبِيحَ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يُضْمَنْ بِهِ مَا حَدَثَ مِنِ اسْتِهْلَاكٍ كَزَوَالِ الْعُذْرَةِ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ لَا تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ قَدْ يَتَجَرَّدُ الْوَطْءُ عَنْهَا فَلَمْ يَدْخُلْ أَرْشُهَا فِي حُكْمِهِ كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَهْرِ فِيهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِأَنَّهُ مَهْرٌ مُسْتَحَقٌّ بالتقاء الختانين ودية مُسْتَحَقَّةٌ بِالْإِفْضَاءِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ إِذَا ضَمِنَهَا غَيْرُ الزَّوْجِ ضَمِنَهَا الزَّوْجُ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعُذْرَةُ، لِأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَبِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحُدُوثِ سِرَايَتِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ فَلَيْسَ مَا أَدَّى إِلَى الْإِفْضَاءِ مُبَاحًا، وَجَرَى مَجْرَى ضَرْبِ الزَّوْجَةِ يُسْتَبَاحُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّلَفِ وَلَا يُسْتَبَاحُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَهُوَ يُضْمَنُ فِي الضَّرْبِ مَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْوَطْءِ مَا أَدَّى إِلَى الْإِفْضَاءِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْضَاءُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَيَلْزَمُ الْوَاطِئَ بِالشُّبْهَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْوَطْءِ، وَدِيَةُ الْإِفْضَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ وَيَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الْعُضْوِ بِالْإِتْلَافِ يَدْخُلُ فِيهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا يَضْمَنُ يَدَهُ إِذَا قَطَعَهَا بِمَا يَضْمَنُهَا بِهِ لَوْ أَشَلَّهَا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ وَطْءٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُهْرُ فِي أَرْشِهَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدَ أَعْضَائِهَا، وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْقِيمَةِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ قَطْعِ الْيَدِ وَشَلَلِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَدِيَةِ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُفْضَاةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا الْتَزَمَ مُفْضِيهَا ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ، مَهْرَ مِثْلِهَا، وَدِيَةَ إِفْضَائِهَا، وَحُكُومَةَ اسْتِرْسَالِ بَوْلِهَا، وَإِنْ كَانْتَ بِكْرًا الْتَزَمَ الْأَحْكَامَ الثَّلَاثَةَ، وَهَلْ يلتزم معها أرش بكارتها أو تكون دَاخِلًا فِي دِيَةِ إِفْضَائِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِهَا فَكَانَ لُزُومُهُ مَعَ إِفْضَائِهَا أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ مَعَ دِيَةِ الْإِفْضَاءِ أرش البكارة، ويكون داخلاً في الدية، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ حُكْمُ ابْتِدَائِهَا فِي انْتِهَائِهَا كَدُخُولِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الْمَأْمُومَةِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " لَوْ أَفْضَى ثَيِّبًا كَانَ عَلَيْهِ دِيَتُهَا " لَيْسَ بِشَرْطٍ، لِأَنَّ إِفْضَاءَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِفْضَاءُ مِنْ وَطْءِ زِنًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَوْطُوءَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُطَاوِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ وَلَا أَرْشُ الْبَكَارَةِ، لِأَنَّهَا مُبِيحَةٌ لَهُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَلَهَا دِيَةُ الْإِفْضَاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْوَطْءِ بِخِلَافِ الِافْتِضَاضِ وَذَهَابِ الْعُذْرَةِ فَصَارَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ غَيْرَ مُبِيحَةٍ لِلْإِفْضَاءِ وَإِنْ أَبَاحَتْ ذَهَابَ الْعُذْرَةِ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ وَدِيَةُ الْإِفْضَاءِ، وَفِي وُجُوبِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ يَجِبُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَجِبُ فِي الْآخَرِ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْإِفْضَاءِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِيهِ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْأُرُوَشِ الزَّائِدَةِ فِي اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ وَذَهَابِ الْعُذْرَةِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ الْإِفْضَاءُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ صغيرة والواطء كبير الذكر يعلم أن وطء مثله يُفْضِيهَا فَهُوَ عَامِدٌ فِي الْإِفْضَاءِ [فَيَلْزَمُهُ دِيَةٌ مغلظة حالة في مالها، وَإِنْ أَفْضَى الْإِفْضَاءُ إِلَى تَلَفِهَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَدَخَلَتْ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ] فِي دِيَةِ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ أَرْشُ الْبَكَارَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ عَمْدِ الْخَطَأِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَطْءُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَهَا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْضِيَهَا، فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ إِنِ انْتَهَى الْإِفْضَاءُ إِلَى النَّفْسِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَطْءُ مِثْلِهِ مُفْضِيًا لِلصَّغِيرَةِ وَغَيْرَ مُفْضٍ لِلْكَبِيرَةِ، فَيَطَأُ الصَّغِيرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْكَبِيرَةَ فَيُفْضِيهَا فَيَكُونُ إِفْضَاؤُهَا خَطَأً مَحْضًا، فَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَهُ، وَلَا قَوَدَ فِي النَّفْسِ إِنِ انْتَهَى الْإِفْضَاءُ إِلَى التَّلَفِ، وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ صَارَ قَتْلًا والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ فَهِيَ الَّتِي قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهَا وَهِيَ صُورَةُ الصَّحِيحَةِ فَذَهَبَ نَفْعُهَا وَبَقِيَ جَمَالُهَا، فَفِيهَا إِذَا قُلِعَتْ حُكُومَةٌ لِأَجْلِ الْأَلَمِ وَمَا أُذْهِبَ مِنْ جَمَالِهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِمَا مِائَةَ دِينَارٍ، وَهَذَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْحُكُومَةِ إِنْ تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَبِاجْتِهَادِ زَيْدٍ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِاجْتِهَادِ مَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْحُكَّامِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَبِأَقَلَّ مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ فِي الشَّيْنِ وَالْقُبْحِ وَالْأَلَمِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْحُكُومَاتِ لَا يَجْعَلُهَا مَحْدُودَةً فِي جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ، وَكَذَلِكَ الْيَدُ الشَّلَّاءُ الَّتِي لَا تَأْلَمُ، وَالرِّجْلُ الشَّلَّاءُ إِذَا قَطَعَهَا لَا دِيَةَ فِيهَا، لِذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ الْبَطْشُ، وَمَنْفَعَةَ الرِّجْلِ الْمَشْيُ، وَقَدْ ذَهَبَ بَطْشُ الْيَدِ وَمَشْيُ الرِّجْلِ بِشَلَلِهِمَا وَبَقِيَ الْجَمَالُ فِيهِمَا، فَسَقَطَتِ الدِّيَةُ لِذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ، وَوَجَبَتِ الحكومة لأجل الجمال. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِسَانُ الْأَخْرَسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً إِذَا قُطِعَ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْكَلَامِ قَدْ سَلَبَهُ الْمَنْفَعَةَ فَصَارَ كَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ فَاقْتَضَى لِهَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ تَجِبَ فِي قَطْعِهِ حُكُومَةٌ كَمَا يَجِبُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي، لِأَنَّ مَقْصُودَ اللِّسَانِ أَفْعَالٌ: أَحَدُهَا: الْكَلَامُ، وَالثَّانِي: الذَّوْقُ، وَيَقْتَرِنُ بِهِمَا ثَالِثٌ يَكُونُ اللِّسَانُ عَوْنًا فِيهِ وَهُوَ إِدَارَةُ الطَّعَامِ بِهِ فِي الْفَمِ [لِلْمَضْغِ، فَإِنْ كَانَ ذَوْقُ الْأَخْرَسِ بَعْدَ قَطْعِ لِسَانِهِ بَاقِيًا فَفِيهِ حُكُومَةٌ كَمَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلِأَنَّهُ مَا سَلَبَهُ الْقَطْعُ أَحَدَ النَّفْعَيْنِ الْمَقْصُودِينَ، وَإِنَّمَا سَلَبَهُ أَقَلَّ مَنَافِعِهِ وَهُوَ إِدَارَةُ الطَّعَامِ بِهِ فِي فَمِهِ] وَإِنْ ذَهَبَ ذَوْقُ الْأَخْرَسِ بِقَطْعِ لِسَانِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَوَاسِّ كَالشَّمِّ بَلْ هُوَ أَنْفَعُ فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ مَحْمُولًا عَلَى هذا التفصيل والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَذَكَرُ الْأَشَلِّ فَيَكُونُ مُنْبَسِطًا لَا يَنْقَبِضُ أَوْ مُنْقَبِضًا لَا يَنْبَسِطُ " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الذَّكَرُ السَّلِيمُ مِنْ شَلَلٍ فَفِيهِ الدِّيَةُ تَامَّةً، لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ " وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْأُدَافِ الدِّيَةَ، قَالَ قُطْرُبٌ: الْأُدَافُ الذَّكَرُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ التَّنَاسُلِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَنَافِذِ الْجَسَدِ فَأَشْبَهَ الْأَنْفَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِ الصَّبِيِّ وَالرَّجُلِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْعِنِّينِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، لِأَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعُنَّةُ مِنْ قِلَّةِ الشَّهْوَةِ فَمَحَلُّهَا فِي الْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ فملحه في الصلب، والذكر ليس بمحل لواحد منها فَكَانَ سَلِيمًا مِنَ الْعِنِّينِ كَسَلَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعِنِّينِ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ فِي قَطْعِهِ مِنْهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنْ قَطَعَ حَشَفَةَ الذَّكَرِ حَتَّى اسْتَوْعَبَهَا مَعَ بَقَاءِ الْقَضِيبِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، لِأَنَّ نَفْعَ الذَّكَرِ بِحَشَفَتِهِ كَمَا تَكْمُلُ دِيَةُ الْكَفِّ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِهَا، وَهَلْ يَتَقَسَّطُ عَلَى الْحَشَفَةِ وَحْدَهَا أَمْ عَلَى جَمِيعِ الذَّكَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَتَقَسَّطُ عَلَى الْحَشَفَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَكْمُلُ بِقَطْعِهَا، فَتُقَسَّطُ عَلَيْهَا أَبْعَاضُهَا، فَيَلْزَمُهُ فِي نِصْفِ الْحَشَفَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الذَّكَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ تَتَقَسَّطُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْحَشَفَةِ عَلَى جَمِيعِ الذَّكَرِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ فَكَانَتْ أَبْعَاضُهُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ نِصْفِ الْحَشَفَةِ هُوَ سُدُسُ الذَّكَرِ لَزِمَهُ سُدْسُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَلَمَةِ مِنَ الثَّدْيِ إِذَا قَطَعَ بَعْضَهَا كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْأُنْثَيَانِ وَهُمَا الْخُصْيَتَانِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، لِأَنَّهُمَا مِنْ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَهُمَا مَحَلُّ التَّنَاسُلِ، لِانْعِقَادِ مَنِيِّ الصُّلْبِ فِي يُسْرَاهُمَا إِذَا نَزَلَ إِلَيْهَا فَصَارَ لِقَاحًا فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ مَحَلُّهُمَا، وَلِذَلِكَ كَانَ عَصْرُ الْأُنْثَيَيْنِ مُفْضِيًا إِلَى التَّلَفِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْأُنْثَيَيْنِ بَيْنَ قَطْعِهِمَا مِنْ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، عِنِّينٍ وَغَيْرِ عِنِّينٍ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيَ الذَّكَرِ أَوْ مَجْبُوبًا، لِأَنَّ جَبَّ الذَّكَرِ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ فِي أُنْثَيَيِ الْمَجْبُوبِ الذَّكَرِ حُكُومَةً، لِأَنَّ جَبَّ الذَّكَرِ قَدْ أَثَّرَ فِي نَقْصِ الْأُنْثَيَيْنِ بِعَدَمِ النَّسْلِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَعَ سَلَامَتِهِ، وَفِي إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَا فَضْلَ لِيُسْرَى عَلَى يُمْنَى. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا، لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَنِيِّ فِي الْيُسْرَى، وَمَحَلَّ الشَّعْرِ فِي الْيُمْنَى، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ كَمُلَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ تَنَصَّفَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهُمَا كَالْيَدَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ مَا ذكره من لقاح اليسرى مظنون بذكره الطب، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: عَجِبَتْ مَنْ يُفَضِّلُ الْبَيْضَةَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ النَّسْلَ مِنْهَا، كَانَ لَنَا غَنَمٌ فَخَصَيْنَاهَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَكُنَّ يُلَقِّحْنَ، فَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَيَيْنِ لَزِمَهُ دِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا في الذكر والأخرى في الأنثين سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى، سَوَاءٌ قَدَّمَ قَطْعَ الذَّكَرِ أَوْ قَطْعَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا فَفِيهِ الدِّيَةُ وَحُكُومَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ دِيَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ كَمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الذَّكَرَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ إِذَا انْفَرَدَ لَمْ تَنْقُصْ دِيَتُهُ إِذَا اقْتَرَنَ بِغَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ مَعَ الرِّجْلَيْنِ، أَوْ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ ذَهَابِ السَّمْعِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ كَمُلَتْ دِيَتَاهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا كَمُلَتْ دِيَتَاهُمَا إِذَا افْتَرَقَا كَمَا لَوْ قَدَّمَ قَطْعَ الذَّكَرِ، وَهَكَذَا لَوْ وَجَأَ ذَكَرَهُ حَتَّى اسْتَحْشَفَ وَوَجَأَ أُنْثَيَيْهِ حَتَّى اسْتَحْشَفَتَا وَجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أُذْهِبَتْ مَنَافِعُهُمَا بِالِاسْتِحْشَافِ وَالشَّلَلِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ ذَكَرَ أَشَلَّ يَنْقَبِضُ فَلَا يَنْبَسِطُ، أَوْ يَنْبَسِطُ فَلَا يَنْقَبِضُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ كَقَطْعِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ، لِأَنَّ شَلَلَ الذَّكَرِ قَدْ أَبْطَلَ مَنَافِعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنَافِعُهُ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْأَشَلِّ كَخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الْأَشَلِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ فِيهِ الدِّيَةُ. قِيلَ: مَخْرَجُ الْبَوْلِ مِنْهُ هُوَ أَقَلُّ مَنَافِعِهِ، لِأَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مَعَ قَطْعِهِ وَقَدْ فَاتَ بِقَطْعِهِ أَكْثَرُهَا فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةً، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ خُصْيَتَيْنِ مُسْتَحْشِفَتَيْنِ كَانَ فِيهِمَا حُكُومَةٌ لذهاب منافعهما بالاستحشاف. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي الْأُذُنَيْنِ الْمُسْتَحْشِفَتَيْنِ بِهِمَا مِنَ الِاسْتِحْشَافِ مَا بِالْيَدِ مِنَ الشَّلَلِ وَذَلِكَ أَنْ تُحَرَّكَا فَلَا تَتَحَرَّكَا أَوْ تُغْمَزَا بِمَا يُؤْلِمُ فَلَا تَأْلَمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ شَلَلَ الْأَعْضَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَسْلُبُهَا جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْجَمَالُ وَحْدَهُ عَلَى نَقْصٍ فِيهِ كَشَلَلِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذْهَبَ مَنَافِعَهُمَا وَبَقِيَ بَعْضُ جَمَالِهِمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمَالُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 السَّلِيمَةِ كَجَمَالِ الشَّلَّاءِ فَفِيهِمَا إِذَا شُلَّتْ بِجِنَايَتِهِ الدِّيَةُ، لِذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا بَعْدَ الشَّلَلِ كَانَ فِيهِمَا حُكُومَةٌ لِذَهَابِ الْجَمَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَبْقَى بَعْدَ الشَّلَلِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ عَلَى نَقْصٍ فِيهِمَا كَاسْتِحْشَافِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ، لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهِمَا تَجْمَعُ الصَّوْتَ، وَالْأَنْفَ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهِ يَجْذِبُ الرَّوَائِحَ الْمَشْمُومَةَ فَفِيهِمَا إِذَا جَنَى عَلَيْهِمَا فَاسْتَحْشَفَتَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الدِّيَةُ كَامِلَةٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ إِذَا شُلَّتْ. وَالثَّانِي: حُكُومَةٌ لِبَقَاءِ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَلَوْ قَطَعَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْشَافِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: فِيهِمَا الدِّيَةُ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا حُكُومَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهِمَا حُكُومَةٌ إِذَا قِيلَ فِي اسْتِحْشَافِهِمَا الدِّيَةُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ جُرْحٍ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مَعْلُومٌ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ وَمَا دُونَ الْجَائِفَةِ فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ فَفِيهَا حُكُومَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْأَلَمِ وَالشَّيْنِ لَا يَبْلُغُ بِمَا فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ دِيَةَ الْمُوضِحَةِ، وَلَا مِمَّا فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ دِيَةَ الْجَائِفَةِ، لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ أَغْلَظُ مِمَّا تَقَدَّمَهَا وَالْجَائِفَةَ أَجْوَفُ مِمَّا دُونَهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْلُغَ بِالْأَقَلِّ دِيَةَ الْأَكْثَرِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فِي كُلِّ ذَلِكَ حُكُومَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةَ تَامَّةً، وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِهَا حُكُومَةً تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ الشَّيْنِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا الدِّيَةَ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ مَعَ الْجَمَالِ مَنْفَعَةٌ، وَهَذَا مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُؤْلِمُ قَطْعُهُ وَيُخَافُ سِرَايَتُهُ، وَقَدْ عُدِمَ فِي الشَّعْرِ الْأَلَمُ وَالسِّرَايَةُ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّعْرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْجَسَدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 أَحَدُهَا: مَا لَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَذَلِكَ مِثْلُ شَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، سَوَاءٌ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ فِي الْجِلْدِ أَثَرًا فَيَلْزَمُ فِي أَثَرِ الْجَلْدِ حُكُومَةٌ دُونَ الشَّعْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا ثَانِيًا أَنَّ فِيهِ إِذَا لَمْ يَعُدْ حُكُومَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَابُهُ أَجْمَلَ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ فِي لِحْيَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا نُتِفَتْ فَلَمْ تَعُدْ حُكُومَةً، وَإِنْ كَانَ ذَهَابُهَا أَجْمَلَ بِالْمَرْأَةِ مِنْ بَقَائِهَا وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي جَمِيعِ النَّاسِ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فَفِيهِ إِذَا لَمْ يَعُدْ حُكُومَةٌ، وَإِنْ عَادَ مِثْلَ نَبَاتِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ فِيهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ حُكُومَةٌ هِيَ دُونَ حُكُومَةِ مَا لَمْ يَعُدْ، وَقَدْ لَوَّحَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، فَلَوْ خَرَجَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ مُحْتَمَلًا، فَلَوْ نَبَتَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ بَعْضُهُ لَزِمَتْهُ حُكُومَةُ مَا لَمْ يَنْبُتْ، وَفِي حُكُومَةِ مَا نَبَتَ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُحْدِثُ أَخْذُهُ شَيْنًا فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَلَا يُحْدِثُ شَيْنًا فِي بَعْضِهِمْ وَهُوَ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ، يُحْدِثُ شَيْنًا فِيمَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِحَلْقِ رَأَسِهِ وَحَفِّ شَارِبِهِ، وَلَا يُحْدِثُ شَيْنًا فِيمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَخَذَهُ مَنْ لَا يُشِينُهُ أَخْذُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ عَادَ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَهَلْ فِيهِ حُكُومَةٌ هِيَ أَقَلُّ مِنْ حُكُومَةِ الشَّعْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِمَّنْ يَشِينُهُ أَخْذُهُ فَفِيهِ إِنْ لَمْ يَعُدْ حُكُومَةٌ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ حُكُومَتِهِ فِيمَنْ لَا يُشِينُهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ عَادَ فَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي نَتْفِ الشَّعْرِ فَلَا يَجِبُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي كَثَافَتِهِ وَخِفَّتِهِ، وَطُولِهِ وَقِصَرِهِ، وَشَيْنِهِ وَجَمَالِهِ وَذَهَابِهِ وَنَبَاتِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَعْنَى الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَمْ يُسَوِّي أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا غَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَوِّمُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ فُيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْعُشْرَ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَوِ الْخُمُسَ فَعَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأُرُوشِ فِي الْجِنَايَاتِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدِّيَةِ وَاسْمُ الْأَرْشِ إِلَّا دِيَةَ النَّفْسِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَرْشِ، لِأَنَّ الْأَرْشَ لِتَلَافِي خَلَلٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ تَلَفِ النَّفْسِ مَا يُتَلَافَى فَلَمْ تُسَمَّ دِيَتُهَا أَرْشًا، فَكُلُّ شَيْءٍ تقدرت ديته بالشرع زال الاجتهاد فيه، وساوى حكم مَعَ قِلَّةِ الشَّيْنِ وَكَثْرَتِهِ، فَمَا تَقَدَّرَتْ أُرُوشُهُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، وَمَا تَقَدَّرَ أَرْشُهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ كَإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَمَا تَقَدَّرَ أَرْشُهُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ كَالْإِصْبَعِ فَفِيهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 مِنِ الْعَبْدِ عُشْرُ قِيمَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، فَيَصِيرُ الْحُرُّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِي الْمُقَدَّرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِ أَرْشِهِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ، لَا تَتَقَدَّرُ إِلَّا بِاجْتِهَادِ الْحُكَّامِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ حُكُومَةً لِاسْتِقْرَارِهَا بِالْحُكْمِ، فَإِنِ اجْتَهَدَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِحَاكِمٍ مُلْزَمٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ تَقْدِيرُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، ثُمَّ إِذَا تَقَدَّرَتْ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ حُكْمًا مُقَدَّرًا فِي كُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِقُصُورِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ [عَنِ النَّصِّ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ خُصُوصًا وَالنَّصُّ عُمُومًا. وَالثَّانِي: لِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ فِي الِاجْتِهَادِ] وَحَذْفِهِ مِنَ النَّصِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْرِفَةُ الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَا جِنَايَةَ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مِائَةُ دِينَارٍ قُوِّمَ وَبِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ، وَإِذَا قِيلَ: تِسْعُونَ دِينَارًا عُلِمَ أَنَّ نَقْصَ الْجِنَايَةِ عَشَرَةٌ مِنْ مِائَةٍ هِيَ عُشْرُهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ دِيَةِ نَفْسِ الْحُرِّ فَيَكُونُ أَرْشُهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، وَلَوْ نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عِشْرُونَ مِنْ مِائَةٍ هِيَ خُمْسُهَا كَانَ أَرْشُهَا خُمُسَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا كَانَ النَّاقِصُ مِنْ قِيمَتِهِ هُوَ أَرْشَ حُكُومَتِهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ أَصْلًا لِلْحُرِّ فِي الْحُكُومَةِ، وَالْحُرُّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِي التَّقْدِيرِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ نَقْصَ الْجِنَايَةِ مُعْتَبَرًا مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَإِنْ كان على يد وهو العشر وأوجب عُشْرَ دِيَةِ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى إِصْبَعٍ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْإِصْبَعِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّأْسِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْجَسَدِ فِيمَا دُونَ الْجَائِفَةِ أَوْجَبَ عُشْرَ دِيَةِ الْجَائِفَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَ أَرْشُ الْحُكُومَةِ دِيَةَ ذَلِكَ الْعُضْوِ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّقْوِيمُ لِلنَّفْسِ دُونَ الْعُضْوِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ مُعْتَبَرًا مِنْ دِيَةِ النفس دون العضو. والثاني: أنه قد تقارب جِنَايَةُ الْحُكُومَةِ جِنَايَةَ الْمُقَدَّرِ كَالسِّمْحَاقِ مَعَ الْمُوضِحَةِ، فَلَوِ اعْتُبِرَ النَّقْصُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اعْتَبَرْتُمُوهُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ رُبَّمَا سَاوَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ. قِيلَ: يَخْتَبِرُ زَمَنَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ وَالزِّيَادَةُ حَدٌّ فِيهَا وَالنُّقْصَانُ فِيهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً ولا مساواة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِيَارِ الْحُكُومَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ ذَاتِ الْحُكُومَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النُّقْصَانِ وَهُوَ الْعُشْرُ الْمُوجِبُ لِعُشْرِ الدِّيَةِ نُظِرَتْ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ يُقَدَّرُ أَرْشُ الْحُكُومَةِ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، فَيَجِبُ بِهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِدِيَةِ الْعُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِصْبَعِ لَمْ تُوجِبْ فِيهِ حُكُومَتُهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، لأن لا يُسَاوِيَ أَرْشُ حُكُومَتِهَا دِيَةَ قَطْعِهَا، وَنَقَصَتْ مِنْ عُشْرِ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ دِيَةُ الْإِصْبَعِ مَا يَقْتَضِيهِ الِاجْتِهَادُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الشَّيْنِ وَقِلَّتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الرَّأْسِ وَهِيَ دُونَ الْمُوضِحَةِ وَكَانَ نَقْصُهَا عُشْرَ الْقِيمَةِ لَمْ تُوجِبْ بِهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَنَقَصَتْ مِنْ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ بِحَسَبِ الشَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النُّقْصَانَ نَاقِصًا حَقَّهُ أَوْ أَقَلَّهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعٍ أَوْ صَدَاقًا لِزَوْجَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجِنَايَةِ تَأْثِيرٌ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلْجِرَاحِ بَعْدَ انْدِمَالِهَا تَأْثِيرٌ، أَوْ يَكُونَ كَقَطْعِ إِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ قَلْعِ سِنٍّ شَاغِبَةٍ أَوْ نَتْفِ لِحْيَةِ امْرَأَةٍ فَقَدْ أَذْهَبَتِ الْجِنَايَةُ شَيْنًا وَأَحْدَثَتْ جَمَالًا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهَا وَتَكُونُ هَدَرًا، لِأَنَّهَا لَمْ تُحْدِثْ نَقْصًا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي اللَّطْمَةِ تُوجِبُ الْحُكُومَةَ إِنْ أَثَّرَتْ فِي تَغْيِيرِ الْبَشَرَةِ وَتَكُونُ هَدَرًا إِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهَا تُضْمَنُ وَلَا تَكُونُ هَدَرًا، لِاسْتِهْلَاكِ بَعْضِ الْخِلْقَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضَمَانَ جُمْلَتِهَا ضَمَانَ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي لِحْيَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا نُتِفَتْ أَنَّهَا تُوجِبُ حُكُومَةً دُونَ حُكُومَةِ لِحْيَةِ الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ نَتْفُهَا فِي الْمَرْأَةِ شَيْنًا، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي جُرْحٍ قَدِ انْدَمَلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ أَثَرٌ اعْتَبَرَتْ نُقْصَانَ أَثَرِهِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ اعْتَبَرَتْ نُقْصَانَهُ عِنْدَ سَيَلَانِ دَمِهِ فَنَجِدُ لَهُ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ أَثَرًا، وَكَذَلِكَ فِي اعْتِبَارِ قَطْعِ الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ سَيَلَانِ الدَّمَ وَإِنْ كَانَ قَلْعَ سِنٍّ شَاغِبَةٍ فَهِيَ وَإِنْ شَانَتْ فَقَدْ كَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا وَرَاءَهَا مِنْ سِنِّ الْأَصْلِ فَصَارَتْ بَعْدَ قَلْعِهَا أَضْعَفَ فَيُعْتَبَرُ نُقْصَانُ تَأْثِيرِ قُوَّةِ تِلْكَ السِّنِّ وَضَعْفِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَتْفِ لِحْيَةِ امْرَأَةٍ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي الْمَرْأَةِ زِيَادَةً وَفِي الرَّجُلِ نُقْصَانًا، فَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ النُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي الرَّجُلِ، وَيَنْظُرُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُ فَيَعْتَبِرُهُ مِنْ دِيَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ مِنَ النُّقْصَانِ أَوْجَبَ حِينَئِذٍ مَا قَلَّ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ صَدَاقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا كُسِرَ مِنْ سِنٍّ أَوْ قُطِعَ مِنْ شَيْءٍ لَهُ أَرْشٌ مَعْلُومٌ فَعَلَى حِسَابِ مَا ذهب منه ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَسْنَانِ كَانَ فِي أَبْعَاضِهَا إِذَا عُرِفَ مِقْدَارُهُ مِنْهَا قَسَّطَهُ مِنْ دِيَتِهَا، لِأَنَّ مَا قَابَلَ جُمْلَةً تَقَسَّطَ عَلَى أَجْزَائِهَا كَالْأَثْمَانِ، فَيَكُونُ فِي نِصْفِ السِّنِّ نِصْفُ دِيَةِ السِّنِّ، وَفِي نِصْفِ الْأُذُنِ نِصْفُ دِيَةِ الْأُذُنِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ، فَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنَ الْبَاقِي تُقَدَّرْ تَقْسِيطُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي التَّرْقُوَةِ جَمَلٌ وَفِي الضِّلَعِ جَمَلٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُشْبِهُ مَا حُكِيَ عَنْ عمر فيما وصفت حكومة لا توقيت (قال المزني رحمه الله هذا أشبه بقوله كما يؤول قول زيد في العين القائمة مائة دينار أن ذلك على معنى الحكومة لا توقيت وقد قطع الشافعي رحمه الله بهذا المعنى فقال في كل عظم كسر سوى السن حكومة فإذا جبر مستقيماً ففيه حكومة بقدر الألم والشين وإن جبر معيباً بعجز أو عرج أو غير ذلك زيد في حكومته بقدر شينه وضره وألمه لا يبلغ به دية العظم لو قطع ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي التَّرْقُوَةِ جَمَلٌ إِذَا كُسِرَتْ، وَفِي الضِّلَعِ جَمَلٌ إِذَا كُسِرَ، وَهَذَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَنُقِلَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ فِيهِمَا حُكُومَةً، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْجَمَلَ مِنْهُمَا تَقْدِيرٌ يَقْطَعُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَيَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ فِيهِمَا بِالْجَمَلِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدِ انْتَشَرَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ فِيهِ حُكُومَةً، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ تُؤْخَذُ عَنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَصْلٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْجَمَلِ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَذْهَبُهُ فِيهِ وُجُوبُ الْحُكُومَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِمَا الْجَمَلَ تَبَرُّكًا بِقَوْلِ عُمَرَ، وَأَثْبَتَهُ عَلَى قَدْرِ الْحُكُومَةِ أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ دِيَةَ السِّنِّ، وَأَنَّ مَا نَفَذَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِهَذَا الْقَدْرِ كَانَ مَا تَعَقَّبَهُ عَنِ الِاجْتِهَادِ مقارناً له، فإن زاد عليه فيصير وإن نقص عنه فيصير، وَلَا يَصِيرُ حَدًّا لَا يُتَجَاوَزُ. فَأَمَّا الْعَيْنُ القائمة فلا تتقدر رقبتها فصارت يد بمائة دِينَارٍ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ أَبَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ خَالَفَهُ فَأَوْجَبَ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَتَعَارَضَ قَوْلَاهُمَا وَلَزِمَتِ الْحُكُومَةُ، وَخَالَفَ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلَعَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مخالف لعمرو، وَلَوْ قَدَّرَهُ عُمَرُ بِالْجَمَلِ تَقْدِيرًا عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ مَا جَازَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ صَارَ إِجْمَاعًا، وَلَكِنَّهُ قَضَى بِهِ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ انْتَهَتْ حُكُومَتُهُ إِلَيْهِ، وَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ فِي غَيْرِهِ إِلَى أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ الشَّيْنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ حَدًّا، وَخَالَفَ حُكْمَ الصَّحَابَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي يَكُونُ اجْتِهَادُهُمْ فِيهِ مَتْبُوعًا، لِأَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ فِي التَّرْقُوَةِ وَالضِّلَعِ حُكُومَةٌ فَإِنِ انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا قَلَّتْ حُكُومَتُهُ، وَإِنِ انْجَبَرَ مُعَوَّجًا كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اعْوِجَاجِهِ قَدْ صَارَ ذَا عُقْدَةٍ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَكْثَرَ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الشَّيْنِ فِي الْحُكُومَاتِ معتبرة، وَكَذَلِكَ إِذَا كَسَرَ سَائِرَ عِظَامِ الْجَسَدِ سِوَى الْأَسْنَانِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ ضَرَرِهِ وَشَيْنِهِ لَا يَبْلُغُ دِيَةَ ذَلِكَ الْعُضْوِ إِلَّا أَنْ يُشَلَّ، فَلَوْ ضَرَبَ عَظْمَهُ حَتَّى تَشَظَّى لَمْ يَجِبْ فِيهِ دِيَةُ مُنَقِّلَةٍ وَلَا هَاشِمَةٍ كَمَا لَا تَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ فِي الرأس، وكانت الحكومة [فيه بقدر ألمه وضرره وشينه، فلو أنفذ عظمه وأخرج مخه كانت الْحُكُومَةُ] أَكْثَرَ، لِأَنَّ الضَّرَرَ أَعْظَمُ وَالْخَوْفَ أَكْثَرُ، وَلَوْ سَلَخَ جِلْدَهُ فَضَرَرُهُ أَعْظَمُ وَخَوْفُهُ أَكْثَرُ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ لَا تَبْلُغُ دِيَةَ النَّفْسِ، وَيُعْتَبَرُ انْدِمَالُهُ، فَإِنْ عَادَ جِلْدُهُ كَانَتْ حُكُومَتُهُ أَقَلَّ منها إذا لم يعده وَلَوْ لَطَمَهُ فَإِنْ أَثَّرَ فِي جِلْدِهِ أَثَرًا بَقِيَ شَيْنُهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيُعَزَّرُ اللَّاطِمُ أَدَبًا، فَصَارَ تَقْدِيرُ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّهُ مَتَى بَقِيَ لِلْجِنَايَةِ أَثَرُ شَيْنٍ فِي الْجُرْحِ، أَوْ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ، أَوْ فِي اللَّطْمِ وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ شَيْنٍ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَفِي جُرْحِ الْجَسَدِ وَفِي اللَّطْمِ وَجَبَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ حُكُومَةٌ وَلَمْ تَجِبْ فِي اللَّطْمَةِ حُكُومَةٌ، وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ فِي الْجُرْحِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ الْعَظْمَ وَإِنِ انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا فَهُوَ بَعْدَ الْجَبْرِ أَضْعَفُ مِنْهُ قَبْلَهُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الْحُكُومَةُ وَاللَّطْمَةُ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْجَسَدِ شَيْئًا وَلَا ضَعْفًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهَا حُكُومَةٌ. فَأَمَّا الْجُرْحُ فَمُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسَالَ دَمًا وَأَحْدَثَ نَقْصًا كَالْعَظْمِ إِذَا انْجَبَرَ مُسْتَقِيمًا. وَالثَّانِي: لَا حُكُومَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْنًا وَلَا ضَعْفًا كَاللَّطْمَةِ إِذَا لَمْ تُحْدِثْ أَثَرًا والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَرَحَهُ فَشَانَ وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ شَيْنًا يَبْقَى فَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ مِنَ الْجُرْحِ أُخِذَ بِالشَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ أَكْثَرَ مِنَ الشِّينِ أُخِذَ بِالْجُرْحِ وَلَمْ يُزَدْ لِلشَّيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شِجَاجَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ تَتَقَدَّرُ دِيَاتُهَا فِي الْمُوضِحَةِ وَمَا فَوْقَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ دِيَاتُهَا فِي الْجَسَدِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الرَّأْسِ عَلَى حُكْمِ الْجَسَدِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ فِيمَا لَا تَتَقَدَّرُ دِيَاتُهُ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْحَارِصَةِ وَالدَّامِيَةِ وَالدَّامِغَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ أَنْ تَكُونَ حُكُومَاتُهَا فِي الرَّأْسِ أَغْلَظَ مِنْ حُكُومَاتِهَا فِي الْجَسَدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي الرَّأْسِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَفْصِيلِهِ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الشَّيْنِ أَوِ الْجِرَاحِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ أَرَادَ أَكْثَرَ الْحُكُومَتَيْنِ مِنْ حَالِ الشَّيْنِ بَعْدَ انْدِمَالِهِ فِي الِانْتِهَاءِ، أَوْ قَالَ: الْجُرْحُ عِنْدَ سَيَلَانِ دَمِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ القدر المستحق تغليظ لشجاج الرأس على شجاح الْبَدَنِ فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرِ كَمَا تُغَلَّظُ فِي الْمُقَدَّرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِأَكْثَرِ الْحُكُومَتَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُهَا فِي الْعُمْقِ مِنْ قَدْرِ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَهَا اعْتُبِرَ قَدْرُ شَيْنِهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ الْجُرْحُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ قَدْرِ الشَّيْنِ وَإِنْ كَانَ قَدْرُ شَيْنِهَا زَائِدًا عَلَى نِصْفِ الْمُوضِحَةِ. وَبَلَغَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا أَوْجَبَتْ حُكُومَةَ الشَّيْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أرباع الموضحة، لأنه أغلظ. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الشَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ مُوضِحَةٍ نَقَصْتُ مِنَ الْمُوضِحَةِ شَيْئًا مَا كَانَ الشَّيْنُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُوَضِحَةً مَعَهَا شَيْنٌ لَمْ أَزِدْ على موضحة فإذا كان الشين معها وهو أقل من موضحة لم يجز أن يبلغ به موضحة وفي الجراح على قدر دياتهم وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْمُقَدَّرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ، لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى تَفَاضُلِ الْجِنَايَاتِ وَتَسَاوِي الدِّيَاتِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا لِأَنَّكُمْ تُوجِبُونَ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ مَا تُوجِبُونَهُ فِي جَمِيعِ الْكَفِّ وَهُوَ أَقَلُّ؟ قِيلَ: لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَفِّ ذَاهِبَةٌ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْكَفِّ، وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، إِنْ كَثُرَ شَيْنُهَا دِيَةُ الْمُوضِحَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْلُغُ بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْكَفِّ دِيَةَ الْكَفِّ، وَلَا بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْإِصْبَعِ دِيَةَ الْإِصْبَعِ، وَلَا بِالْحُكُومَةِ عَلَى الْأُنْمُلَةِ دِيَةَ الْأُنْمُلَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِرَاحِ: " عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهِمْ " يَعْنِي وَفِي الْجِرَاحِ عَلَى الْأَعْضَاءِ عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهَا لَا يَبْلُغُ بِحُكُومَتِهَا قَدْرَ دِيَتِهَا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ نَقْصَ الْحُكُومَةِ مِنْ دِيَةِ الْعُضْوِ لَا مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَدَّمْنَا مَذْهَبَهُ فِي اعْتِبَارِ الْحُكُومَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". يَعْنِي أَنَّ دِيَةَ شِجَاجِ الْمَرْأَةِ وَجِرَاحِهَا وَأَطْرَافِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ دِيَتَهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَتِهَا بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي هَاشِمَتِهَا خَمْسٌ، فَأَمَّا حُكُومَتُهَا فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ دِيَتِهَا، وَدِيَتُهَا عَلَى النِّصْفِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَنْصِيفِ الْحُكُومَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَفِي الْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ بِقَدْرِ الشَّيْنِ الْبَاقِي بَعْدَ الْتِئَامِهِ لَا يَبْلُغُ بِهَا الدِّيَةَ إِنْ كَانَ حُرًّا وَلَا ثَمَنَهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ قَدْرٌ مَعْلُومٌ سِوَى الْجَائِفَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا اقْتَضَاهُ التَّعْلِيلُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ تَغْلِيظِ شِجَاجِ الرَّأْسِ، وَالْوَجْهِ عَلَى جِرَاحِ الْجَسَدِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ حُكُومَاتِهَا بِحَالِ الشَّيْنِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِرَاحِ فِي الْجَسَدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى عُضْوٍ أَوْ فِي الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى عُضْوٍ اعْتُبِرْ فِي حُكُومَتِهَا حَالَ الشَّيْنِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، فَقُوِّمَ سَلِيمًا وَشَائِنًا، وَوَجَبَ بِقِسْطِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ تَزِيدَ عَلَى دِيَةِ الْعُضْوِ فَيَنْقُصُ مِنْهَا قَدْرُ مَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالصَّدْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حُكُومَةَ الشَّيْنِ مَا لَمْ تَبْلُغْ دِيَةَ النَّفْسِ، فَإِنْ بَلَغَهَا نَقَصَ مِنْهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِدِيَةِ الْجَائِفَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حُكُومَةَ الشَّيْنَ مَا لَمْ تَبْلُغْ دِيَةَ الْجَائِفَةِ، فَإِذَا بَلَغَهَا نقص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 فِيهَا مَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا الْمُقَدَّرُ فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ فَأَشْبَهَتِ الْمُوضِحَةَ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا وَبَيْنَ الْجَائِفَةِ مَعَ غَيْرِهَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْمُوَضِّحَةَ بَعْضُ الْمُوضِحَةِ فَلَمْ يَبْلُغْ دِيَتَهَا، وَغَيْرُ الْجَائِفَةِ قَدْ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ عَظْمٍ وَإِتْلَافِ لَحْمٍ، فَجَازَ أَنْ تَزِيدَ حُكُومَتُهَا عَلَى دِيَتِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْنِ بَعْدَ انْدِمَالِهِ أَثَرٌ وَلَا لِلْحُكُومَةِ فِيهِ قَدْرٌ فَفِيهِ وجهان ذكرناهما من قبل: [أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، تكون هدراً. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: يعتبر ما قبل الاندمال] ولا يقدر مَعَ حَالِ الْأَلَمِ وَإِرَاقَةِ الدَّمِ، فَيَعْتَبِرُ مَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ حَالًا قَبْلَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى وَقْتِ الْجَرْحِ وَسَيَلَانِ الدَّمِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِ الْأَمَةِ إِذَا أَعْتَقَ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ عُلُوقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَدِيَةُ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ سَوَاءً. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَمِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَتَلَ خَطَأً فَنِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ دِيَتَهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 وَمِنِ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ، وَمِنِ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ دِيَتَهُ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَلَمَّا أَطْلَقَ ذِكْرَ الدِّيَةِ فِيهَا دَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا، وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ نِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ كَافِرَيْنِ لَهُمَا أَمَانٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَمَانِهِمَا فَوَدَاهُمَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عِنْدِهِ بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ. وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مَحْقُوقُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ كَامِلَةً كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْحُرَّ مَضْمُونٌ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْعَبْدِ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلَمَّا كَمُلَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا وَجَبَ أَنْ تَكْمُلَ دِيَةُ الْحُرِّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، فَلَمَّا تَمَاثَلَتِ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَجَبَ أَنْ يتماثل الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ فِسْقٌ، وَالْفِسْقَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دَمِهِ وَحِفْظَ مَالِهِ، فَلَمَّا تَسَاوَى بِهَا الْمُسْلِمُ فِي ضَمَانِ مَالِهِ سَاوَاهُ، فِي ضَمَانِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، ذَكَرَهُ رَجَاءُ بْنُ الْمُرَجَّى الْحَافِظُ، وَلِأَنَّ النَّقْصَ نَوْعَانِ أُنُوثِيَّةٌ وَكُفْرٌ، فَلَمَّا أَوْجَبَ نَقْصُ الْأُنُوثِيَّةِ إِسْقَاطَ نِصْفِ الدِّيَةِ كَذَلِكَ نَقْصُ الْكُفْرِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ الْكُفَّارِ لَا تُكَافِئُهُمْ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: " وَفِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ " فَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَمَالِ الدِّيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ بِعَدَمِهِ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 قَضَى أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ مَنْ رَوَى كَمَالَ الدِّيَةِ أَزْيَدُ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ خَبَرَنَا أَزْيَدُ لَفْظًا فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَزْيَدَهُمَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَ الدِّيَةِ لِتَأْجِيلِ دِيَةِ الْخَطَأِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَضَاءَهُ بِأَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ دِيَتِهِ هَذَا الْقَدْرُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَدْرِهَا وَهُوَ بَعْضُهَا، عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الدِّيَةِ عِنْدَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَوَّمَ إِبِلَ الدِّيَةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قِيلَ: لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَدَّرَ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَضَى بِالدَّرَاهِمِ وَلَمْ يَقْضِ بِهَا قَيِّمَةً عَلَى أَنَّا رُوِّينَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. وَمِنِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مُكَلَّفٌ لَا يَكْمُلُ سَهْمُهُ مِنَ الْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكْمُلَ دِيَتُهُ كَالْمَرْأَةِ، وَلَا يُنْتَقَصَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ لِنَقْصِهَا بِالْأُنُوثِيَّةِ، وَجَبَ أَنْ تَنْقُصَ دِيَةُ الرَّجُلِ الْكَافِرِ عَنْ دِيَةِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ لِنَقْصِهِ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّفَاضُلِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ أَغْلَظُ الْكُفْرِ وَهُوَ الرِّدَّةُ فِي إِسْقَاطِ جَمِيعِ الدِّيَةِ وَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ أَخَفُّهُ فِي تَخْفِيفِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ مُؤَثِّرٌ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي قَدْرِ الدِّيَةِ تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَقَلِّهَا كَاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ يُوجِبُ الْأَخْذَ بِقَوْلِ أَقَلِّهِمْ تَقْوِيمًا، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمُطْلَقِ الدِّيَةِ فِي الْآيَةِ فَلَا يَمْنَعُ إِطْلَاقُهَا مِنِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِهَا، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اخْتِلَافِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمَا يُؤَدَّى مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَتَعَارَضَتْ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ حَتَّى لَا يَكُونَ نُقْصَانُ قَدْرِهَا مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ حُلُولِهَا وَتَغْلِيظِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَبَرَّعَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالزِّيَادَةِ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِمَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْجُرُوحِ وَقَبْلَ مَوْتِهِمَا فَكَمُلَ بِالْإِسْلَامِ دِيَتُهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَفَاسِدٌ بِالْمَرْأَةِ والعبد، لا يقتضي حقن دماهما عَلَى التَّأْبِيدِ كَمَالَ دِيَتِهِمَا، كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ كَمَالُ سَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْعَبْدِ فِي اسْتِوَاءِ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ فِي كَمَالِ قِيمَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَسَاوَى فِيهِمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى تَسَاوَى فِيهِمَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَلِمَا اخْتَلَفَ فِي الدِّيَةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعِ التَّسَاوِي فِيهَا مِنِ اخْتِلَافِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الدِّيَةِ كَذَلِكَ تَسَاوِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِيهَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِسْقِ فَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ لا يسلبه أحكام الإسلام فساوى فِي الدِّيَةِ وَالْكُفْرُ يَسْلُبُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَخَالَفَ فِي الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ ضَمَانِ مَالِهِ كَالْمُسْلِمِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ ضَمَانُ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتُلِفَ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ فَجَعَلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَجَعَلَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَالْيَهُودِيِّ والنصراني عنده، وهي عند الشافعي ثمان مائة دِرْهَمٍ، ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَتَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ سِتَّةَ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثَيْنِ، وَمِنِ الدَّنَانِيرِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِينَارًا وَثُلُثَانِ، لِرِوَايَةِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ والمجوسي ثمان مائة دِرْهَمٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 ثمان مائة دِرْهَمٍ، فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْهِمْ مَعَ انْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ إِجْمَاعًا لَا يُسَوِّغُ خِلَافَهُ، وَمَعَ أَنَّ حُكْمَ الْمَجُوسِيِّ فِي إِقْرَارِهِمْ وَأَخْذِ جِزْيَتِهِمْ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَمَعْمُولٌ بِهِ إِجْمَاعًا فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِيهِمْ بِالدِّيَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَتْ رُتْبَةُ الْمَجُوسِيِّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ نَقَصَتْ دِيَتُهُمْ عَنْ دِيَاتِهِمْ، لِأَنَّ الدِّيَاتِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّفَاضُلِ، وَإِذَا نَقَصَتْ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِقَضَاءِ الْأَئِمَّةِ بِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ أولاً يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَدِيَتُهُمْ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَصْحَابَ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَلَكِنْ سَنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَهُمُ الْمَجُوسِيَّةُ، فَدِيَتُهُمْ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابِ وَلَا سَنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ كِتَابٍ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَيُقِرُّونَ بِالْأَمَانِ وَالْعَهْدِ، فَدِيَتُهُمْ كَدِيَةِ الْمَجُوسِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ الدِّيَاتِ فَرُدُّوا إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانُوا أَنْقَصَ رُتْبَةً مِنَ الْمَجُوسِ فِي أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، فَأَمَّا الصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ فَإِنْ أُجْرُوا مَجْرَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي أَصْلِ مُعْتَقَدِهِمْ كَانَتْ دِيَتُهُمْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ مُعْتَقَدِهِمْ فَدِيَتُهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَلَا عَهْدٌ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فَنُفُوسُهُمْ مُبَاحَةٌ وَدِمَاؤُهُمْ هَدَرٌ لَا تُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا عَقْلٍ، سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، كَذَلِكَ دِمَاءُ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ وَرَاءَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَا مِنَ التُّرْكِ وَالْجُزُرِ فَدِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ حَتَّى يُدْعَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْتَنِعُوا فَإِنْ قُتِلُوا قَبْلَ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ضُمِنَتْ نُفُوسُهُمْ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُضَمَّنُ نُفُوسُهُمْ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، لِأَنَّ دِمَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَتَ لَهُ عَهْدٌ أَوْ ذِمَّةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ مَحْقُونَةٌ إِلَّا مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْمُعَانَدَةُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ قَتْلَهُمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ ثَبَتَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ وَوَجَبَ ضَمَانُ نُفُوسِهِمْ كَأَهْلِ الْعَهْدِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ مُسْتَوْفَاةً، فَإِذَا تَقَرَّرَ ضَمَانُ دِيَاتِهِمْ فَفِيهَا وَجْهَانِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَطْلَقَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ مُعَانَدَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَدِيَةِ الْمَجُوسِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ مَعَ الْأَصْلِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَجِرَاحُهُمْ عَلَى قَدْرِ دِيَاتِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرٌ بِدِيَةِ النَّفْسِ، فَيَكُونُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ، وَفِي هَاشِمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي مَأْمُومَتِهِ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَتُسْعٌ، وَفِي إِصْبَعِهِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي أنملته بعير وتسع، وفي موضحة المجوس ثُلُثُ بَعِيرٍ، وَفِي هَاشِمَتِهِ ثُلُثَا بَعِيرٍ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ بَعِيرٌ، وَفِي إِصْبَعِهِ ثُلُثُ بَعِيرٍ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ تُسْعَا بَعِيرٍ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا فِيمَا زاد ونقص. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ وَجِرَاحُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرجل فيما قل أو كثر واحتج في ديات أهل الكفر بأن الله تعالى فرق ثم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين المؤمنين والكافرين فجعل الكفار متى قدر عليهم المؤمنون صنفاً منهم يعبدون وتؤخذ أموالهم لا يقبل منهم غير ذلك وصنفاً يصنع ذلك بهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا يجوز أن يجعل من كان خولاً للمسلمين في حال أو خولاً بكل حال إلا أن يعطوا الجزية كالعبد المخارج في بعض حالاته كفيئاً لمسلم في دم ولا دية ولا يبلغ بدية كافر دية مؤمن إلا ما لا خلاف فيه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي نَفْسِهَا وَأَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ كَانَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ فِي نَفْسِهَا وَأَطْرَافِهَا وَجِرَاحِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ الْكَافِرِ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيَّةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ بَعِيرٍ، وَفِي هَاشِمَتِهَا بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ سُدُسُ بَعِيرٍ، وَفِي هَاشِمَتِهَا ثُلُثُ بَعِيرٍ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَقُولُ جِرَاحُ الْعَبْدِ مِنْ ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَقِيمَتُهُ مَا كَانَتْ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَبْدِ فَمُوجِبَةٌ لِقِيمَتِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ نَفْسِهِ مِنْ أَطْرَافِهِ وَجِرَاحِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً مِنَ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ لِسَانِهِ وَأَنْفِهِ وَذَكَرِهِ قِيمَتُهُ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ كَمَا يَجِبُ فِي الْحُرِّ نِصْفُ دِيَتِهِ، كَمَا يَجِبُ فِي الْحُرِّ دِيَتُهُ، وَيَجِبُ فِي إِصْبَعِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ ثُلُثُ عُشْرِهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ فِي جَمِيعِهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ كَالْبَهَائِمِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: أَنَّ مَا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ بَعْدَ الِانْدِمَالِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ فَفِي مُقَدَّرٍ مِنْ قِيمَتِهِ كَمَا قُلْنَا، وَمَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ كَالْأَطْرَافِ فَفِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ كَالْبَهَائِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ شِجَاجِ رَأْسِهِ وَأَطْرَافِهِ بِأَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ شِجَاجُ الرَّأْسِ فِي الْحُرِّ وَلَمْ تَتَقَدَّرْ جِرَاحُ جَسَدِهِ تَغَلَّظَ حُكْمُهُ على حكمة. والدليل عليهم أَنَّ مَنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ ضُمِنَتْ أَطْرَافُهُ بِالْمُقَدَّرِ كَالْحُرِّ، وَعَلَى مَالِكٍ أَنَّ مَنْ تَقَدَّرَتْ شِجَاجُهُ تَقَدَّرَتْ أَطْرَافُهُ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ فِي الْحُرِّ تَقَدَّرَ فِي الْعَبْدِ كَالشِّجَاجِ، ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ: الْعَبْدُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحُرُّ. وَالثَّانِي: الْبَهِيمَةُ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِالْحُرِّ تَقَدَّرَتْ أَطْرَافُهُ وَشِجَاجُهُ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالْبَهِيمَةِ لَمْ تَتَقَدَّرْ شِجَاجُهُ وَلَا أَطْرَافُهُ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ، وَيَلْزَمُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ، فَأَمَّا ضَمَانُهُ بِالْيَدِ إذا يغصب، فَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْمُقَدَّرِ، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ الْمَحْضَةِ، وَصَارَ فِيهَا مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ، وَيُضْمَنُ فِي الْجِنَايَاتِ بِالْقَوَدِ وَالْكَفَّارَةِ فَأُلْحِقَ بِالْأَحْرَارِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الْجِنَايَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ كَالْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ الْجِنَايَاتِ عَلَيْهِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ زَادَتْ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ أَضْعَافًا أَوْ نَقَصَتْ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ وَجَبَ فِيهَا جَمِيعُ قِيمَتِهِ كَانَ بِيَدِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْجَانِي وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنْهُ أَوْ إِمْسَاكِهِ بِغَيْرِ أرش، لأن لا يَجْمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَإِنْ وَجَبَ بِهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ كَانَ سَيِّدُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْجَانِي وَأَخْذِ جَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِمَّا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَأَمَّا إِذَا تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْعِتْقُ فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا فَفِي أَطْرَافِهِ نِصْفُ مَا فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ وَنِصْفُ مَا فِي أَطْرَافِ الْعَبْدِ، فَيَجِبُ فِي يَدِهِ رُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبْعُ الْقِيمَةِ، وَفِي إِصْبَعِهِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَفِي أُنْمُلَتِهِ سُدُسُ عُشْرِ الْقَيِّمَةِ وَسُدُسُ عُشْرِ الدِّيَةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا زَادَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَنَقَصَ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُكَاتِبِ فَكَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتَحْمِلُ ثَمَنَهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا قَتَلَ خَطَأً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ إِذَا قَتَلَ حُرًّا فَالدِّيَةُ فِي ذِمَّتِهِ وَمُرْتَهِنَةٌ رَقَبَتُهُ، يُبَاعُ فِيهَا وَيُؤَدِّي الدِّيَةَ حَالَّةً فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ وَلَا السَّيِّدُ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِاقْتِدَائِهِ مِنْهَا، فَإِنْ عَجَزَ ثَمَنُهُ عَنِ الدِّيَةِ كَانَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَا يَكُونُ عَلَى سَيِّدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِجِنَايَةِ عَبْدِهِ كَمَا يَضْمَنُ جِنَايَةَ بَهِيمَتِهِ. قِيلَ: لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ مضافة إِلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ إِذَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي حِفْظِهَا وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ مُضَافَةٌ إِلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ، فَلِذَلِكَ ضَمِنَ جِنَايَةَ بَهِيمَتِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ جِنَايَةَ عَبْدِهِ. فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ الْحُرُّ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا مَحْضًا فَقِيمَتُهُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةٌ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً مَحْضًا أَوْ عَمْدَ الْخَطَأِ فَفِي قِيمَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ وَأُرُوشَ أَطْرَافِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ وَأُرُوَشَ أَطْرَافِهِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ نَفْسِهِ وَلَا تَحْمِلُ أُرُوشَ أَطْرَافِهِ، فإذا قتل تحمله العاقلة. فدليله أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِهِ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ بَدَلَ نَفْسِهِ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَرَدِّدُ الْحُكْمِ بَيْنَ الْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ وَمَبِيعٌ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلِمَا يَجِبُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 والقود، فوجب إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى، لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلِمَا يَجِبُ فِي قَتْلِهِ مِنَ الكفارة والقود، فوجب إلحاقه به فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِبَدَلِ أَطْرَافِهِ وَنَفْسِهِ. فَإِذَا قِيلَ: لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَدَلِيلُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا " وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْمِلَهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَهِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْيَدِ تَارَةً وَبِالْجِنَايَةِ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَهُ بِالْجِنَايَةِ كَمَا لَمْ تَحْمِلْ ضَمَانَهُ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ قَاتِلًا لَمْ تَتَحَمَّلْهُ الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ مَقْتُولًا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي ذَكَرِهِ ثَمَنُهُ وَلَوْ زَادَ الْقَطْعُ فِي ثمنه أضعافاً ". (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كنت تزعم أن ثمنه كثمن البعير إذا قتل فلم لم يحكم في جرحه كجرح البعير وبعضه؟ قلت قد يجامع الحر البعير بقتل فيكون ثمنه مثل دية الحر فهو في الحر دية وفي البعير قيمة والقيمة دية العبد وقسته بالحر دون البهيمة بدليل من كتاب الله تعالى في قتل النفس الدية وتحرير رقبة وحكمت وحكمنا في الرجل والمرأة والعبد بديات مختلفات وجعلنا في كل نفس منهم دية ورقبة وإنما جعل الله في النفس الرقبة حيث جعل الدية وبدل البعير والمتاع قيمة لا رقبة معها فجامع العبد الأحرار في أن فيه كفارة وفي أنه إذا قتل قتل وإذا جرح جرح في قولنا وفي أن عليه حد الحر في بعض الحدود ونصف حد الحر في بعض الحدود وأن عليه الفرائض من الصلاة والصوم والتعبد وكان آدمياً كالأحرار فكان بالآدميين أشبه فقسته عليهم دون البهائم والمتاع (قال المزني) وقال في كتاب الديات والجنايات لا تحمله العاقلة كما لا تغرم قيمة ما استهلك من مال (قال المزني) الأول بقوله أشبه لأنه شبهه بالحر في أن جراحه من ثمنه كجراح الحر من ديته لم يختلف ذلك عندي من قوله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّنَا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ مَا فِي الْحُرِّ مِنْهُ دِيَةٌ كَانَ فِي الْعَبْدِ مِنْهُ قِيمَةٌ، وَفِي ذَكَرِ الْحُرِّ دِيَتُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَكَرِ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَطْعُهُ مِنَ الْحُرِّ نَقْصٌ فَلِذَلِكَ ضُمِنَ بِالدِّيَةِ، وَقَطْعُهُ مِنَ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ لِأَنَّ ثَمَنَهُ يَزِيدُ بِقَطْعِهِ فَلَمْ يُضْمَنْ بِالْقِيمَةِ قِيلَ: الْمَضْمُونُ بِالْجِنَايَةِ لَا يُرَاعَى فِيهِ النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ، لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ الزَّائِدَةَ تُضَمَنُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ أحدثت زيادة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا جِنَايَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ فَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَفِي مَالِ الْجَانِي، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنَ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْخَطَأِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا " وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَتَحَمَّلْهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الْعَمْدِ إِذَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ لَمْ تَتَحَمَّلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوَدُ كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفٌ فتنافا اجْتِمَاعُهُمَا، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ رِفْقٌ وَمَعُونَةٌ، وَالْعَامِدُ مُعَاقَبٌ لَا يُعَانُ وَلَا يُرْفَقُ بِهِ، وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالْمَعُونَةِ وَالرِّفْقِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَقِيلَ جِنَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَمْدًا وَخَطَأً يَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَقِيلَ لَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنْ تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ الْخَطَأَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَوْ قَضَيْنَا بِهَا إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ خَالَفْنَا دِيَةَ الْعَمْدِ لِأَنَّهَا حَالَّةٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِدِيَةِ عَمْدٍ بِحَالٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فلا قود عليهما فيه لعدم تَكْلِيفِهِمَا، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ بِكُلِّ حَالٍ كَانَ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ كَالْخَطَأِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ وَإِنْ سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِ مُتَمَيِّزَةٌ فَكَانَ حُكْمُهَا مُتَمَيِّزًا، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ عَمْدِهِ وَنِسْيَانِهِ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَأَكَلَ فِي الصِّيَامِ وَتَطَيَّبَ فِي الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِنَايَاتِ كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَحَّ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا إنَّ عَمْدَهُ كَالْخَطَأِ، فَالدِّيَةُ مُخَفَّفَةٌ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ إِلَّا مُؤَجَّلًا، وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ وَإِنْ سَقَطَ فِيهِ الْقَوَدُ، فَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ تَجِبُ فِي مَالِهِ دون عاقلته، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصبي مميزاً أو غير مميز. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو صاح برجل فَسَقَطَ عَنْ حَائِطٍ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَسَقَطَ مِنْ صَيْحَتِهِ ضُمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا وَقَفَ إِنْسَانٌ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ أَوْ حَافَّةِ نَهْرٍ أَوْ قُلَّةِ جَبَلٍ فَصَاحَ بِهِ صَائِحٌ فَخَرَّ سَاقِطًا وَوَقَعَ مَيِّتًا لَمْ يَخْلُ حال الواقع من أحد أمرين) . أحدهما: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، قَوِيَّ النَّفْسِ، ثَابِتَ الْجَأْشِ، ثَابِتَ الْجَنَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الصَّائِحِ، لِأَنَّ صَيْحَتَهُ لَا تُسْقِطُ مِثْلَ هَذَا الْوَاقِعِ، فَدَلَّ ذلك على وقوعه من غير صيحته. والضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَضْعُوفًا لَا يَثْبُتُ لِمِثْلِ هَذِهِ الصَّيْحَةِ فَالصَّائِحُ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ، لِأَنَّ صَيْحَتَهُ تُسْقِطُ مِثْلَهُ مِنَ الْمَضْعُوفِينَ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ، لَكِنَّهُ إِنْ عَمَدَ الصَّيْحَةَ كَانَتِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْمِدْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُضْمَنُ بِهَا الصَّغِيرُ كَمَا لَا يُضْمَنُ بِهَا الْكَبِيرُ الْقَوِيُّ، وَهَذَا جَمْعٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الصَّيْحَةَ تُؤَثِّرُ فِي الصَّغِيرِ الْمَضْعُوفِ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي الْكَبِيرِ الْقَوِيِّ فَافْتَرَقَا فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ لَطَمَ صَبِيًّا فَمَاتَ ضَمِنَهُ، وَلَوْ لَطَمَ رَجُلًا فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ بِاللَّطْمَةِ وَالرَّجُلَ لَا يَمُوتُ بِهَا، فَلَوِ اغْتَفَلَ إِنْسَانًا وَزَجَرَهُ بِصَيْحَةٍ هَائِلَةٍ فَزَالَ عَقْلُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَحَمَلَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِهَا عَقْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا يَضْمَنُ بِهَا عَقْلُ الرَّجُلِ الثَّابِتِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَضَمَنُ بِهَا عَقْلَ الْفَرِيقَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ فِي الْوُقُوعِ فِعْلًا لِلْوَاقِعِ فَجَازَ أَنْ يَنْسُبَ الْوُقُوعَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي زَوَالِ الْعَقْلِ فِعْلٌ مِنَ الزَّائِلِ الْعَقْلَ فَلَمْ يُنْسَبْ زَوَالُهُ إِلَّا إِلَى الصَّائِحِ الْمُذْعِرِ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِالزِّنَا فَمَاتَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ضَمِنَهُ، لِأَنَّ الْجَنِينَ يُلْقَى مِنْ ذُعْرِ الْقَذْفِ وَالْمَرْأَةَ لَا تَمُوتُ مِنْهُ، قَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى امْرَأَةٍ قُذِفَتْ عِنْدَهُ رَسُولًا فَأَرْهَبُهَا فَأَجْهَضَتْ مَا فِي ذَاتِ بَطْنِهَا فَحَمَّلَ عُمَرُ عَاقِلَةَ نَفْسِهِ دِيَةَ جَنِينِهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ طَلَبَ رَجُلًا بِسَيْفٍ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَنْ ظَهْرِ بَيْتٍ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ أَعْمَى فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الطَّالِبِ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ اضْطَرَّهُ إِلَى ذَلِكَ ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ شَهَرَ سَيْفًا وَطَلَبَ بِهِ إِنْسَانًا فَهَرَبَ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ حَتَّى هَلَكَ فَتَنْقَسِمُ حَالُ الْهَارِبِ الْمَطْلُوبِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا بَصِيرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى طَالِبِهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَبَ سَبَبٌ وَالْإِلْقَاءَ مُبَاشَرَةٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِالْمُبَاشَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ أَلْجَأَهُ بِالطَّلَبِ إِلَى الْهَرَبِ فَلَمْ يُلْجِئْهُ إِلَى الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ جَازَ أَنْ يَجِيءَ عَلَيْهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، فَصَارَ مُلْقِي نَفْسِهِ هُوَ قَاتِلُهَا دُونَ طَالِبِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ إِتْلَافَ نَفْسِهِ بَدَلًا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ لَا يُتْلَفَ بِهِ، فَصَارَ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا ذَبَحَ نَفْسَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ أَعْمَى فَيَهْرَبُ مِنَ الطَّالِبِ حَتَّى يَتَرَدَّى مِنْ سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ، فَإِنْ أُعْلِمَ بِالسَّطْحِ وَالْجَبَلِ وَالْبِئْرِ وَالْبَحْرِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا كَالْبَصِيرِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فَمَاتَ فَعَلَى طَالِبِهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا لِإِلْقَائِهِ فَقَدْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى الْقَتْلِ ضَامِنٌ كَالْقَاتِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَتَلَهُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزُورٍ ضَمِنُوهُ دُونَ الْحَاكِمِ؛ لأنهم ألجؤوه إِلَى قَتْلِهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُلْجِئِ دُونَ الْمُبَاشِرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، فَفِي ضَمَانِ دِيَتِهِمَا عَلَى الطَّالِبِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ أَمْ لَا؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُ دِيَتَهُمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ حُكْمُ الْعَمْدِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ دِيَتَهُمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَى قَصْدِهِمَا لِلْقَتْلِ حُكْمُ الْعَمْدِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَرَضَ لَهُ فِي طَلَبِهِ سَبُعٌ فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الْجَانِيَ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، فَإِذَا اعْتَرَضَ الْهَارِبَ الْمَطْلُوبَ سَبْعٌ فَافْتَرَسَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْجِئَهُ الطَّالِبُ إِلَى مَوْضِعِ السَّبُعِ فَيَضْمَنَهُ بِالدِّيَةِ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ عَلَيْهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُلْجِئَهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا هَرَبَ فِي صَحْرَاءَ وَافَقَ سَبُعًا مُعْتَرِضًا فِيهَا فَافْتَرَسَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّالِبِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبَاشِرٍ وَلَا مُلْجِئٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ضَمِنَهُ فَهَلَّا قُلْتُمْ إِذَا اعْتَرَضَهُ السَّبُعُ ضَمِنَهُ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ مُبَاشِرٌ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ مَا حَدَثَ بِإِلْقَائِهِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُلْجِئًا وَفِي الْهَرَبِ مِنْهُ غَيْرُ مُبَاشِرٍ فَلَمْ يَضْمَنْ مَا حَدَثَ بِالْهَرَبِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إِلْجَاءٌ، وَلَوِ انْخَسَفَ مِنْ تَحْتِ الْهَارِبِ سَقْفٌ فَخَرَّ مِنْهُ مَيِّتًا فَفِي ضَمَانِ الطَّالِبِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ كَالسَّبُعِ إِذَا اعْتَرَضَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُلْجِئٌ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَلَوْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ فَاسْتَقْبَلَهُ آخَرُ بِسَيْفِهِ مِنْ تَحْتِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِقُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الْوَاقِعُ مِنْهُ فَضَمَانُهُ على القاطع دون الملقي؛ لأن القاطع موح وَالْمُلْقِيَ جَارِحٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِقُ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الْوَاقِعُ مِنْهُ فَفِي ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: عَلَى الْمُلْقِي ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِلْقَائِهِ كَالْمُوجِي فَيَضْمَنُهُ بِالْقَوَدِ لِمُبَاشَرَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهُ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاطِعِ دُونَ الْمُلْقِي، لِأَنَّهُ قد سبقه إلى مباشرة موحيه. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِهِ جَمِيعًا بِالْقَوَدِ أَوِ الدية، لأنهما قد صارا كالشريكين في توحيته والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَالُ لِسَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ أَفْدِهَا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ جِنَايَتِهَا ثَمَّ هَكَذَا كُلَّمَا جَنَتْ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا غَرِمَ قِيمَتَهَا ثُمَّ جَنَتْ شَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الثاني المجني عليه الأول (قال المزني) فهذا عندي ليس بشيء لأن المجني عليه الأول قد ملك الأرش الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 بالجناية فكيف تجني أمة غيره ويكون بعض الغرم عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ وَجَبَ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْدِيَهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ وَدَاوُدَ شَذا عَنِ الْجَمَاعَةِ وَأَوْجَبَا أَرْشَ جِنَايَتِهَا فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] وَلِأَنَّهَا إِنْ جَرَتْ مَجْرَى الْإِمَاءِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ الْفِدَاءُ، وَإِنْ جَرَتْ مَجْرَى الْأَحْرَارِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، فَلَمَّا حَرُمَ بَيْعُهَا صَارَتْ كَالْأَحْرَارِ فِي تَعَلُّقِ الْجِنَايَةِ بِذِمَّتِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ تَعَلَّقَتْ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ قَدْ حَرُمَ بَيْعُهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ يَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنًا لِجِنَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِثَمَنِهَا بِالْإِيلَاءِ كَمَا يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لِثَمَنِ عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ إِذَا جَنَتْ أَمَتُهُ بَعْدَ إِيلَادِهَا ضَمِنَ جِنَايَتِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ ضَمَانِ السَّيِّدِ لِجِنَايَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا اقْتَصَّ مِنْهَا لِتَعَلُّقِ الْقِصَاصِ بِبَدَنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ عَمْدًا عُفِي عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ، فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَفْدِيَهَا بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا أَقَلَّ ضَمِنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ قِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِيلَادَ كَالْمُسْتَهْلِكِ لَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ قِيمَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْجَانِي ضَمِنَ جَمِيعَ الْجِنَايَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ مُفَوِّتٌ لِرَغْبَةِ رَاغِبٍ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَوْ مَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ جَمِيعَ جِنَايَتِهِ، وَلَيْسَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَثَابَتِهِ لِعَدَمِ هَذِهِ الرَّغْبَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا غَرِمَ فِي جِنَايَتِهَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ جَنَتْ بَعْدَهُ عَلَى آخَرَ نُظِرَ فِيمَا غَرِمَهُ السَّيِّدُ لِلْأَوَّلِ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّ قِيمَتَهَا أَلْفٌ وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا خَمْسُمِائَةٍ لَزِمَ السَّيِّدَ أَنْ يَغْرَمَ لِلثَّانِي أَرْشَ جِنَايَتِهِ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ مَا غَرِمَهُ لِلْأَوَّلِ مِنْ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ جَمِيعُ قِيمَتِهَا وَهِيَ أَلْفٌ، فَإِذَا جَنَتْ عَلَى الثَّانِي فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ: يَضْمَنُهَا كَضَمَانِ الْأَوَّلِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهَا وَيَعْلَمُ لِلْأَوَّلِ مَا أَخَذَهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَدْ عَادَتْ بَعْدَ الْفِدَاءِ إِلَى مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا كضمانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 لِلْأَوَّلِ كَمَا لَوْ غَرِمَ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي جِنَايَتِهِ لِلْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ ثُمَّ جَنَى ثَانِيَةً فَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ غَرِمَ قِيمَتَهُ ثَانِيَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ مَلَكَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ وَالْجَانِي عَلَى الثَّانِي غَيْرِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَضْمَنَ جِنَايَةَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِجَانٍ وَلَا مِنْ عَاقِلَةِ الْجَانِي، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهَا السَّيِّدُ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ تَجَدَّدَتْ مِنْهَا وَلَوْ كَانَتْ مِائَةَ جِنَايَةٍ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَيُشَارِكُهُ فِي الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِالْإِيلَادِ مُسْتَهْلِكٌ، وَالْمُسْتَهْلِكُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا تَقَدَّمَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغُرْمِ أَكْثَرَ مِنْ قِيَمْتِهَا كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ غُرْمِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا وَقَدْ غَرِمَهَا، وَخَالَفَ الْمَانِعَ مِنْ بَيْعِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مُسْتَهْلَكَةٌ وَالْمَمْنُوعَ مِنْ بَيْعِهِ غَيْرُ مُسْتَهْلَكٍ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جانباً وَلَا عَاقِلَةً، كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي بئر تعدى حفره ضُمِنَ فِي تَرِكَتِهِ فَأُتْلِفَ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ جُنَاةً وَلَا عَاقِلَةً، فلو كانت قيمة ما تلف فيها ألف وجميع التركة ألف فَاسْتَوْعَبَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ تَلِفَ فِيهَا مَا قِيمَتُهُ أَلْفٌ ثَانِيَةٌ رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَشَارَكَهُ فِي الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا، وَإِنْ لَمْ يكن جانباً وَلَا عَاقِلَةً، كَذَلِكَ فِي جِنَايَةِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِمَ قِيمَتَهَا لِلْأَوَّلِ وَهِيَ أَلْفٌ ثُمَّ جَنَتْ ثَانِيَةً بَعْدَ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنَايَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي أَرْشِهَا، فَيَكُونُ أَرْشُ الْأُولَى أَلْفًا وَأَرْشُ الثَّانِيَةِ أَلْفًا، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِيهَا لِتَسَاوِي جِنَايَتِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ أَرْشَ الْأُولَى أَلْفَانِ وَأَرْشَ الثَّانِيَةِ أَلْفٌ، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، لِأَنَّ أَرْشَهُ ثُلُثُ الْأَرْشَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ أَرْشَ الْأُولَى أَلْفٌ وَأَرْشَ الثَّانِيَةِ أَلْفَانِ، فَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِثُلُثَيِ الْأَلْفِ، لِأَنَّ أَرْشَهُ ثُلُثَا الْأَرْشَيْنِ لِتَكُونَ الْقِيمَةُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مُقَسَّطَةً على قدر الأروش، وهكذا لوجبت عَلَى ثَالِثٍ بَعْدِ اشْتِرَاكِ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْقِيمَةِ رَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ بِقِسْطِ جِنَايَتِهِ مِمَّا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ، ثُمَّ كَذَلِكَ عَلَى رَابِعٍ وَخَامِسٍ، وَبِاللَّهِ التوفيق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 (التقاء الفارسين والسفينتين) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا اصطدم الراكبان على أي دابة كانتا فَمَاتَا مَعًا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ صَدْمَتِهِ وَصَدْمَةِ صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ صَاحِبُهُ فَمَاتَ وَإِنْ مَاتَتِ الدَّابَّتَانِ فَفِي مَالِ كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَمَاتَا وَمَاتَتْ دَابَّتَاهُمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الثَّانِي هَدَرًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَجَمِيعُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا هَدَرًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَضَمَنَ جَمِيعَ دِيَتِهِ، كَمَا لَوْ جَلَسَ إِنْسَانٌ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ فَعَثَرَ بِهِ سَائِرٌ فَوَقَعَ عَلَيْهِ فَمَاتَا جَمِيعًا كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ السَّائِرِ جَمِيعَ دِيَةِ الْجَالِسِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ جَمِيعَ دِيَةِ السَّائِرِ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ دِيَتِهِمَا هَدَرًا، كَذَلِكَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ التَّلَفِ إِذَا كَانَ بِفِعْلِهِ ويفعل صَاحِبِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي تَعْيِينِهِ وَكَانَ جَمِيعُهُ مُضَافًا إِلَى فِعْلِ صَاحَبِهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِجَمِيعِ دِيَتِهِ، كَمَا لَوْ تَعَدَّى رَجُلٌ بِحَفْرِ بئر فسقط فيها سائر ممات ضَمِنَ الْحَافِرُ جَمِيعَ دِيَةِ السَّائِرِ وَإِنْ كَانَ الْوُقُوعُ فِيهَا بِحَفْرِ الْحَافِرِ وَمَشْيِ السَّائِرِ، كَذَلِكَ فِي اصْطِدَامِ الْفَارِسَيْنِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه "، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُنْتَشِرًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَلِأَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ بِفِعْلٍ اشْتَرَكَا فِيهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِصَدْمَتِهِ وَصَدْمَةِ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ مَا اخْتُصَّ بِفِعْلِهِ وَلَا يَضْمَنَ مَا اخْتُصَّ بِفِعْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 صَاحِبِهِ، وَعَلَى هَذَا شَوَاهِدُ الْأُصُولِ كُلُّهَا أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا ثُمَّ جَرَحَ الْمَجْرُوحُ نَفْسَهُ وَمَاتَ كَانَ نِصْفُ دِيَتِهِ هَدَرًا، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ جِرَاحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَنِصْفُهَا على جارحه؛ لأن التلف كان يجرح اشتراكاً فِيهِ، وَهَكَذَا لَوْ جَذَبَا حَجَرَ مَنْجَنِيقٍ فَعَادَ الْحَجَرُ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُهَا الْبَاقِي هَدْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ بِهِ تَلَفُهُمَا، وَهَكَذَا لَوِ اصْطَدَمَ رَجُلَانِ مَعَهُمَا إِنَاءَانِ فَانْكَسَرَ الْإِنَاءَانِ بِصَدْمَتِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نصف قمة إِنَاءِ صَاحِبِهِ، وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي هَدَرًا وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَبُطْلَانِ مَا عَدَاهُ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالسَّائِرِ إِذَا عَثَرَ بِالْجَالِسِ فَمَاتَا فَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ دِيَةِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي فِعْلِ التَّلَفِ، لِأَنَّ السَّائِرَ تَلِفَ بِعَثْرَتِهِ بِالْجَالِسِ فَضَمِنَ الْجَالِسُ جَمِيعَ دِيَتِهِ، وَالْجَالِسَ تَلِفَ بِوُقُوعِ السَّائِرِ عَلَيْهِ، فَضَمِنَ السَّائِرُ جَمِيعَ دِيَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي فِعْلِ التَّلَفِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ إنَّ الْحَافِرَ لَهَا مُلْجِئٌ للوقوع فيها مسقط اعتبار فعل الملجأ وصار الجميع مضافاً إلى فعل الملجيء، فَفَارَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا ذَكَرْنَا، كَشَاهِدَيِ الزُّورِ بِالْقَتْلِ يُؤْخَذَانِ بِهِ دُونَ الْحَاكِمِ لِإِلْجَائِهِمَا لَهُ إِلَى الْقَتْلِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّاكِبَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقُوَّةِ أَوْ يَخْتَلِفَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا والآخر صغير، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ مَرِيضًا، وَلَا فرق في المركوبين بين أَنْ يَتَمَاثَلَا أَوْ يَخْتَلِفَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا عَلَى فَرَسٍ وَالْآخَرُ عَلَى حِمَارٍ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عَلَى فِيلٍ وَالْآخَرُ عَلَى كَبْشٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا رَاكِبَيْنِ أَوْ رَاجِلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا وَالْآخَرُ مَاشِيًا رَاجِلًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصْطَدِمَا مُسْتَقْبِلَيْنِ أَوْ مُسْتَدْبِرَيْنِ، أَوْ أحدهما مستقبلاً والآخر مستديراً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا بَصِيرَيْنِ أَوْ أَعْمَيَيْنِ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا وَالْآخَرُ أَعْمَى، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الضَّمَانِ دُونَ أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْأَعْمَى خَاطِئٌ وَقَدْ يَكُونُ الْبَصِيرُ عَامِدًا، ولا فرق بين أن يقعا مستقليين على ظهورهما أو مكبوبين على وجوههما، أن يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ وَالْآخَرِ مَكْبُوبًا عَلَى وَجْهِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ كَانَا مُسْتَلْقِيَيْنِ أَوْ مَكْبُوبَيْنِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مستلقيا على ظهره والآخر مكبوبا على وجهه فِدْيَةُ الْمُسْتَلْقِي كُلُّهَا عَلَى الْمَكْبُوبِ، وَدِيَةُ الْمَكْبُوبِ هَدَرٌ، لِأَنَّ الْمَكْبُوبَ دَافِعٌ وَالْمُسْتَلْقِيَ مَدْفُوعٌ، وَهَذَا اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الِاسْتِلْقَاءَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتُقَدِّمِ الْوُقُوعِ وَالِانْكِبَابَ لِتَأَخُّرِ الْوُقُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِلْقَاءُ فِي الْوُقُوعِ لِشِدَّةِ صَدْمَتِهِ كَمَا يُرْفَعُ الْحَجَرُ مِنَ الْحَائِطِ لِشِدَّةِ رَمْيَتِهِ فَلَمْ يَسْلَمْ مَا اعْتُلَّ بِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَةِ الِاصْطِدَامِ وَحُكْمِهِ، فِي ضَمَانِ النِّصْفِ وَسُقُوطِ النِّصْفِ هَدَرًا فَضَمَانُ الدَّابَّتَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ، وَيَفْتَرِقُ فِي النُّفُوسِ ضَمَانُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ فِي الِاصْطِدَامِ الْخَطَأُ الْمَحْضُ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُخَفَّفَةً، وَصَحَّ فِيهِ عَمْدُ الْخَطَأِ وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُغَلَّظَةً، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ، لِأَنَّ الِاصْطِدَامَ قَاتِلٌ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ حَالَّةً فِي مَالِ الصَّادِمِ دُونَ عَاقِلَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَقْتُلَ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِيهِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الصَّادِمِ. وَصِفَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَا أَعْمَيَيْنِ أَوْ بَصِيرَيْنِ مستديرين. وَصِفَةُ عَمْدِ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَا بَصِيرَيْنِ مُسْتَقْبِلَيْنِ. وَصِفَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَا مُسْتَقْبِلَيْنِ يَقْصِدَانِ القتل، فإن كان أحدهما مستقبلاً والآخر مستديراً كان المستدير خَاطِئًا وَالْمُسْتَقْبِلُ عَامِدًا، فَإِنْ قَصَدَ الْقَتْلَ فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ، وَحُكْمُهُ مَا قَدْ مَضَى. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الرَّاكِبَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا. فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أحدهما بالغ والآخر صغير. فَإِنْ كَانَا بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ فَلَهُمَا خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ الرَّاكِبَانِ وَالدَّابَّتَانِ، فَيَكُونُ فِي مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 دَابَّةِ صَاحِبِهِ، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ لِاخْتِصَاصِ الْعَاقِلَةِ بِحَمْلِ دِيَاتِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْبَهَائِمِ فَيَتَقَاصُّ الْمُصْطَدِمَانِ بِمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ قِيمَةِ نِصْفِ دَابَّتِهِ، وَيَتَرَاجَعَانِ فَضْلًا إِنْ كَانَ فِيهِ وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ مُخَفَّفَةً إِنْ كَانَ خَطَأً مَحْضًا، وَمُغَلَّظَةً إِنْ كَانَ عَمْدًا شِبْهَ الْخَطَأِ، وَلَا قِصَاصَ مِنَ الْعَاقِلَتَيْنِ فِيمَا تَحَمَّلَاهُ مِنْ ديتهما إلا أن يكون عاقلتهما ورثتهما فيتقاصان ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ الرَّاكِبَانِ دُونَ الدَّابَّتَيْنِ، فَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يتقاضانها إلا أن تكون العاقلتان وارثي الْمُصْطَدِمَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَمُوتَ الدَّابَّتَانِ دُونَ الْمُصْطَدِمَيْنِ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ دابة صاحبه في ماله ويتقاضانها. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا وَدَابَّتُهُ دُونَ الْآخَرِ وَدُونَ دَابَّتِهِ، فَيَضْمَنُ الْحَيُّ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ الْمَيِّتَةِ، وَتَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ نِصْفَ دِيَةِ الْمَيِّتِ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ، أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا دُونَ دَابَّتِهِ وَتَمُوتَ دَابَّةُ الْآخَرِ دُونَهُ، فَيَكُونُ نِصْفُ دِيَةِ الْمَيِّتِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ، وَنِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ الحي في مال الميت، ولا يتقاضان قِيمَةَ الدَّابَّةِ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ وَارِثَةً، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَّثُ، وَيَجِيءُ فِيهَا حَالٌ سَادِسَةٌ وَسَابِعَةٌ قَدْ بَانَ حُكْمُهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ وَقَدْ مَاتَا وَدَابَّتَاهُمَا فلهما ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَرْكَبَا بِأَنْفُسِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْكَبَهُمَا وَلِيّهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ رَكِبَا بِأَنْفُسِهِمَا فَحُكْمُهُمَا فِي الضَّمَانِ كَحُكْمِ الْبَالِغِ، يَضْمَنُ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ، وَيُضْمَنُ فِي مَالِهِ نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّتِهِ، وَإِنْ أَرْكَبَهُمَا وَلِيّهُمَا فَالضَّمَانُ فِي أَمْوَالِ الصَّغِيرَيْنِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمَا دُونَ الْوَلِيَّيْنِ، لِأَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقُومَ فِي تَأْدِيبِ الصَّغِيرَيْنِ بِالِارْتِيَاضِ لِلرُّكُوبِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُتَعَدِّيًا. فَإِنْ أَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا ضَمِنَ مَرْكِبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ مَنْ أَرْكَبَهُ وَنِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ وَنِصْفَ قِيمَةِ دَابَّتِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ دَابَّةِ الْآخَرِ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا مِنْ قِيمَةِ دَابَّتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى بِإِرْكَابِهِ فَضَمِنَ جِنَايَتَهُ وَضَمِنَ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَالْآخَرُ كَبِيرًا كَانَ مَا اخْتُصَّ بِالصَّغِيرِ مَضْمُونًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ، وَمَا اخْتُصَّ بِالْكَبِيرِ مَضْمُونًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا كَانَا كَبِيرَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُصْطَدِمَانِ امْرَأَتَيْنِ حَامِلَيْنِ فَأَلْقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنِينًا مَيِّتًا لِمَ يَنْهَدِرْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 شَيْءٌ مِنْ دِيَةِ الْجَنِينِ، وَكَانَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ جَنِينِهَا، وَنِصْفُ دِيَةِ جَنِينِ صَاحِبَتِهَا، لِأَنَّ جَنِينَهَا تَلِفَ بِصَدْمَتِهَا وَصَدْمَةِ الْأُخْرَى، وَجَنِينَهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ لَوِ انْفَرَدَتْ بِاسْتِهْلَاكِهِ، فَكَذَلِكَ تَضْمَنُهُ إِذَا شَارَكَتْ فِيهِ غَيْرَهَا، وَلَا قِصَاصَ هَاهُنَا فِي الدِّيَتَيْنِ بِحَالٍ وَإِنْ كَانَا وَرَثَةَ الْجَنِينَ، لِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ غَيْرُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمُصْطَدِمَانِ عَبْدَيْنِ فَمَاتَا صَارَ دَمُهُمَا هَدَرًا، وَسَقَطَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَقَطَتْ نِصْفُ قِيمَتِهِ بِصَدْمَتِهِ وَوَجَبَ نِصْفُهَا فِي رَقَبَةِ الْآخَرِ لِصَدْمَتِهِ، وَسَوَاءٌ مَاتَا مَعًا، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُصْطَدِمَيْنِ حُرًّا، وَالْآخَرُ عَبْدًا لَمْ يَنْهَدِرْ مِنْ دَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا النِّصْفُ الْمُخْتَصُّ بِفِعْلِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ وَجَبَ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَتِهِ، فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ مَحَلُّ جِنَايَتِهِ فَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ، وَأَنْ تَكُونَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ الْجَانِي. وَالثَّانِي: عَلَى عَاقِلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا تَتَحَمَّلُهُ عَاقِلَتُهُ فَقَدْ وَجَبَ فِي مَالِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَوَجَبَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فِي الْمُسْتَحَقِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَصَارَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ هُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قِصَاصًا، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَى نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فَيَقَعُ الْوَفَاءُ بِالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ دِيَةِ الْحُرِّ، فَيَرْجِعُ سَيِّدُ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْحُرِّ بِالْفَاضِلِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ عَبْدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ هَدَرًا لِبُطْلَانِ مَحَلِّهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْحُرِّ هُمْ وَرَثَتُهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَوَجَبَ لَهُمْ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قِصَاصًا، فَإِنْ فَضَلَ لِلسَّيِّدِ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ أَخَذَهُ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَضْلٌ كَانَ هَدَرًا، وَإِنْ لم يكن العاقلة ورثة الحر وكان وَرَثَةَ غَيْرِهِمْ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَوَجَبَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ فِي الْمُسْتَوْفَى مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَلَا يَكُونُ قِصَاصًا، لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ غَيْرُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَوَى نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَنِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ فَفِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ وَالْأَدَاءِ وجهان محتملان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 أَحَدُهُمَا: يَسْتَوْفِي سَيِّدُ الْعَبْدِ عَنْ عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَيُؤَدِّيهِ إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ لِيَقْبِضَهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ وَيَدْفَعَهَا بِحَقِّ الْتِزَامِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَهُ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، وَرُبَّمَا تَلِفَ بَيْنَ قَبْضِهِ وَإِقْبَاضِهِ فَتَلِفَ عَلَى مُسْتَحَقِّهِ، فَصَارَ مَا اسْتَحَقَّهُ السَّيِّدُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ مُنْتَقِلًا إِلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ بِمَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ أَخَذَ سَيِّدُهُ الْفَاضِلَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَرَثَةُ الْحُرِّ نِصْفَ دِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كَانَ الْفَاضِلُ وَنِصْفُ الدِّيَةِ هَدَرًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (فَصْلٌ) إِذَا جَذَبَ رَجُلَانِ ثَوْبًا بَيْنَهُمَا فَتَخَرَّقَ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لَهُمَا فَعَلَى كُلِّ واحد منهما لصحابه رُبُعُ أَرْشِ خَرْقِهِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ الثَّوْبِ، وَخَرَقَهُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ شَرِيكِهِ مُسْقِطًا مَا قَابَلَ فِعْلَهُ، وَوَجَبَ لَهُ مَا قَابَلَ فِعْلَ شَرِيكِهِ فيتقاضان ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لِأَحَدِهِمَا كَانَ نِصْفُ أَرْشِهِ هَدَرًا، لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِفِعْلِ مَالِكِهِ، وَنِصْفُ الْأَرْشِ عَلَى الَّذِي لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ لِغَيْرِهِمَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ أَرْشِهِ لمالكه. (فصل) وإذا اصطدم رجلان بإنائين فِيهِمَا طَعَامٌ فَانْكَسَرَ الْإِنَاءَانِ وَاخْتَلَطَ الطَّعَامَانِ ضَمِنَ كل واحد منهما لصاحبه نصف قيمة إناثه، وَكَانَ نِصْفُهُ الْبَاقِي هَدَرًا، وَأَمَّا الطَّعَامَانِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ كَالسَّوِيقِ وَالسُّكَّرِ الصَّحِيحِ، فَيُمَيِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِ صَاحِبِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ تَمْيِيزُهُمَا إِلَى أُجْرَةِ صَانِعٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ لِتَمْيِيزِهِمَا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِمَا نُقْصَانٌ فِي قِيمَتِهِمَا رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أَرْشِ نُقْصَانِ طَعَامِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ تَمْيِيزُهُمَا بَعْدَ اخْتِلَاطِهِمَا كَالسَّوِيقِ وَالْعَسَلِ، فَيُقَوَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّعَامَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَانِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نُقْصَانٌ فَلَا غُرْمَ وَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنَيْنِ، كَأَنَّ قِيمَةَ السَّوِيقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَقِيمَةَ الْعَسَلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيَكُونُ صَاحِبُ السَّوِيقِ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثِ، وَصَاحِبُ الْعَسَلِ شَرِيكًا فِيهِ بِالثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ بَاعَاهُ اقْتَسَمَا ثَمَنَهُ عَلَى قَدْرِ شركتهما، وإن أراد قَسْمَهُ بَيْنَهُمَا جَبْرًا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوِضٌ عَنْ سَوِيقٍ بِعَسَلٍ، وَذَلِكَ بيع لا يدخله الإجبار وإن أراد قِسْمَةً عَنْ تَرَاضٍ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ بِدُخُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ، وَإِنَ نَقَصَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 بِاخْتِلَاطِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ أرش الناقص من طعامه، وتقاضا، ثُمَّ كَانَا فِي الشَّرِكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَوْا بِالْمَنْجَنِيقِ مَعًا فَرَجَعَ الْحَجَرُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ فَتُرْفَعُ حِصَّتُهُ مِنْ جِنَايَتِهِ وَيَغْرَمُ عَاقِلَةُ الْبَاقِينَ بَاقِيَ دِيَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا جَذَبَ جَمَاعَةٌ حَجَرَ مَنْجَنِيقٍ فَأَصَابُوا بِهِ رَجُلًا فَقَتَلُوهُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلُوا بِهِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَضَمَانُ نَفْسِهِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَلَهُمْ فِي إِصَابَتِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدُوا بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ هَدْمَ جِدَارٍ فَيَعْتَرِضُهُ فَيُصِيبُهُ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ مُخَفَّفَةً بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً تَحَمَّلَ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ دِيَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يقصدوا قتله بعينه فينفقوا على اعتماده، فهؤلاء عمد على جمعيهم الْقَوَدُ. فَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: عَمَدْتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ أَعْمِدِ اقْتُصَّ مِنَ الْعَامِدِ، وَلَزِمَ مَنْ أَنْكَرَ الْعَمْدَ دِيَةُ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ بَعْدَ إِحْلَافِهِ، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ فَيَتَحَمَّلُوا عَنْهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصِدُوا بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ رَمْيَ جَمَاعَةٍ لِيَقْتُلُوا بِهِ أَحَدَهُمْ لَا بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ هِيَ الْقِتْلَةُ الْعَمْيَاءُ تَكُونُ عَمْدَ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا الْفِعْلَ فأخطأوا فِي تَعْيِينِ النَّفْسِ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ مُغَلَّظَةً. رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قُتِلَ فِي عَمْيَاءَ رَمْيًا بِحَجَرٍ أَوْ ضَرْبًا بِعَصًا فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَأِ، وَمَنْ قُتِلَ اعْتِبَاطًا فَهُوَ قَوَدٌ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاتِلِهِ فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ ". فَالْعَمْيَاءُ أَنْ يَرْمِيَ جَمَاعَةً فَيُصِيبَ أحدهم لا يعينه، وَالِاعْتِبَاطُ: أَنْ يَرْمِيَ أَحَدَهُمْ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَوَاقِلِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ جَذَبَ فِي الرَّمْيِ دُونَ مَنْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَدُونَ مَنْ يُصِيبُ الْمَنْجَنِيقُ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْحَجَرِ كَانَ مِنَ الْجَذْبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ، وَوَضْعُ الْحَجَرِ يَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ السَّهْمِ فِي وَتَرِ الْقَوْسِ، فَإِنْ تَوَلَّى الرَّمْيَ غَيْرُهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي دُونَ وَاضِعِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 السهم، وناصب المنجنيق يجري مَجْرَى صَانِعِ الْقَوْسِ، وَأَجْرَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَجْرَى الْمُمْسِكِ مَعَ الذَّابِحِ وَبِأَنَّهُ أَجْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى جَاذِبِيهِ فَيَقْتُلَ أَحَدَهُمْ وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَيَكُونَ قَتْلُهُ بِجَذْبِهِ وَجَذْبِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا كَانُوا عَشَرَةً سَقَطَ مِنْ دِيَتِهِ عُشْرُهَا، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جَذْبِهِ، وَوَجَبَ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى عَوَاقِلِ التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ، تَتَحَمَّلُ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَهَا، وَلَوْ عَادَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ فَقَتَلَهُمَا سَقَطَ مِنْ دِيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا الْمُقَابِلُ لِجَذْبِهِ، وَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ عُشْرُ دِيَتِهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَتَلَتِهِ، وَوَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الْبَاقِينَ عُشْرُ دِيَتِهِ، فَيَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَانِيَةِ عُشْرَيْ دِيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ قَاتِلُ الِاثْنَيْنِ، وَيَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ عُشْرَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ لِوَاحِدٍ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ قَتَلَ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ، فَإِنْ عَادَ الْحَجَرُ عَلَى جَمِيعِ الْعَشَرَةِ فَقَتَلَهُمْ سَقَطَ الْعُشْرُ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمُقَابَلَتِهَا بِجَذْبِهِ، فَوَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ تِسْعِ دِيَاتٍ، لِوَارِثِ كُلِّ قَتِيلٍ مِنْهُمَا تُسْعٌ. وَهَكَذَا لَوْ جَذَبَ جَمَاعَةٌ حَائِطًا أَوْ نَخْلَةً فَتَلِفَ أَحَدُهُمْ أَوْ جَمِيعُهُمْ كَانَ كَوُقُوعِ حَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى أَحَدِهِمْ أَوْ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي أَنْ يَسْقُطَ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَابَلَ فِعْلَهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ بَاقِي دِيَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وَاقِفًا فَصَدَمَهُ الْآخَرُ فَمَاتَا فَالصِّدَامُ هَدَرٌ وَدِيَةُ صَاحِبِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّادِمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ الصَّادِمَ تَفَرَّدَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْوَاقِفِ الْمَصْدُومِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوُقُوفُ فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ، لِأَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَالِسًا أَوْ نَائِمًا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَثَرَ بِهِ الْآخَرُ فَمَاتَا مَعًا فَدِيَةُ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ، وَأَمَّا دِيَةُ الْعَاثِرِ فَقَدْ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ أَوِ النَّائِمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: دِيَةُ الْعَاثِرِ هَدَرٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ دِيَةَ الْعَاثِرِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَالِسِ كُلِّهَا، وَدِيَةَ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ كُلِّهَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلٍ انْفَرَدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ، فَالْجَالِسُ مَاتَ بِسُقُوطِ الْعَاثِرِ، وَالْعَاثِرُ مَاتَ بِجُلُوسِ الْجَالِسِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَالِسِ وَالْقَائِمِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الطُّرُقَاتِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْهُ، وَخَالَفَ الْجُلُوسَ وَالنَّوْمَ فِيهَا، لِأَنَّ مَوَاضِعَ النَّوْمِ وَالْجُلُوسِ فِي غَيْرِ الْمَسَالِكِ الْمَطْرُوقَةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: أَنَّ حُكْمَ الْوَاقِفِ وَالْجَالِسِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ دِيَةَ الْعَاثِرِ هَدَرٌ وَدِيَةَ الْجَالِسِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَاثِرِ، لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ جَارٍ بِجُلُوسِهِمْ فِي الطُّرُقَاتِ كَمَا تَقِفُونَ فِيهَا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ اخْتِلَافُ نَصِّهِ في القديم [والجديد عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حالين، فالقديم] الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ دِيَةَ الْعَاثِرِ عَلَى الْجَالِسِ إِذَا جَلَسَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقَةٍ يُؤْذِي بِجُلُوسِهِ الْمَارَّةَ، وَلَوْ كَانَ بَدَلُ جُلُوسِهِ فِيهِ قَائِمًا وَقِيَامُهُ مُضِرٌّ بِالْمَارَّةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْجَالِسِ، فَيَضْمَنُ دِيَةَ الْعَاثِرِ، وَالْجَدِيدُ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ دِيَةَ الْعَاثِرِ إِذَا كَانَ الْجَالِسُ قَدْ جَلَسَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ لَا يَضُرُّ جُلُوسُهُ بِالْمَارَّةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَجِدُونَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ الْوَاسِعَةِ بُدًّا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَائِمًا؛ لِأَنَّ مَحِلَّ النَّوْمِ وَالْجُلُوسِ يَتَقَارَبَانِ، وَإِذَا انْهَدَرَتْ دِيَةُ الْعَاثِرِ بِالنَّائِمِ وَالْجَالِسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ ينهدر بالواقف. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اصْطَدَمَتِ السَّفِينَتَانِ وَتَكَسَّرَتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا فَمَاتَ مَنْ فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَضْمَنَ الْقَائِمُ بِهِمَا في تلك الحال نصف كل ما أصاب سَفِينَتُهُ لِغَيْرِهِ أَوْ لَا يَضْمَنَ بِحَالٍ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَصْرِيفِهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ يُطِيعُهُ فَأَمَّا إِذَا غَلَبَتْهُ فَلَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِ من قال بهذا القول والقول قول الذي يصرفها أنها غلبته بريح أو موج وإذا ضمن غير النفوس في ماله ضمنت النفوس عاقلته إلا أن يكون عبداً فيكون ذلك في عنقه (قال المزني) رحمه الله وقد قال في كتابه الإجارات لا ضمان إلا أن يمكن صرفها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي سَفِينَتَيْنِ سَائِرَتَيْنِ اصْطَدَمَتَا فَتَكَسَّرَتَا وَغَرِقَتَا، وَهَلَكَ مَنْ فِيهِمَا مِنَ النَّاسِ، وتلف ما فيها مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَهُمَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ. فَإِنْ كَانَ مَلَّاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّفِينَتَيْنِ الْمُدَبِّرُ لِسَيْرِهَا مُفَرِّطًا وَتَفْرِيطُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنْ يُقَصِّرَ فِي آلَتِهَا، أَوْ يُقَلِّلَ مِنْ أَجْزَائِهَا، أَوْ يَزِيدَ فِي حَمْلِهَا، أَوْ يُسَيِّرَهَا فِي شِدَّةِ رِيحٍ لَا يَسَارُ فِي مِثْلِهَا، أَوْ يَغْفُلَ عَنْهَا فِي وَقْتِ ضَبْطِهَا، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا شَاكَلَهُ تَفْرِيطٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالتَّفْرِيطِ تعلق ب فصل ين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 أَحَدُهُمَا: بِالنُّفُوسِ. وَالثَّانِي: بِالْأَمْوَالِ. فَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنَّ عَمْدَ الْمَلَّاحَانِ لِلصَّدْمِ وَالتَّغْرِيقِ لِنِزَاعٍ أَوْ شَحْنَاءَ فَهُمَا قَاتِلَانِ عَمْدًا لِمَنْ فِي السَّفِينَتَيْنِ مِنَ النُّفُوسِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَوَدُ لِمَنْ فِي سَفِينَتِهِ وَسَفِينَةِ صَاحِبِهِ، فَيُقْتَلُ أَحَدُهُمْ بِالْقَرْعَةِ، وَيُؤْخَذُ فِي مَالِهِ نِصْفُ دِيَاتِ الْبَاقِينَ، وَيُؤْخَذُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ مَالِ الْمَلَّاحِ الْآخَرِ. وإن لم يعمد الاصطدام فلا قود على عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَاتِ رُكَّابِ سَفِينَتِهِ وَرُكَّابِ السَّفِينَةِ الْأُخْرَى، فَتَكُونُ دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُكَّابِ السَّفِينَتَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَّاحَيْنِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَلَّاحَانِ عَبْدَيْنِ فَيَكُونُ الدِّيَاتُ فِي رَقَبَتهمَا، فَإِنْ هَلَكَ الْمَلَّاحَانِ مَعَ الرُّكَّابِ وَكَانَا عَبْدَيْنِ كَانَتْ نُفُوسُ الرُّكَّابِ هَدَرًا، لِتَلَفِ مَحَلِّ جنايتهما، وإن كانا حرين تحملت عاقلة [كل واحد منهما نصف دية كل واحد من الركاب، فتكون عاقلة] هذا نصف الدية، وعلى عاقلة الآخر نصفها الآخر، ويتحمل عاقلة كل واحدة منهما نصف دية الآخر، وَيَكُونُ نِصْفُهَا الْبَاقِي هَدَرًا لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا. فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَّاحِينَ فِي مَالِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي فِي سَفِينَتِهِ، وَنِصْفَ قِيمَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي فِي سَفِينَةِ الْآخَرِ، وَضَمِنَ الْمَلَّاحُ الْآخَرُ النِّصْفَ الْآخَرَ. وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ لَهُمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ مَتَاعِ صَاحِبِهِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هَدَرًا، لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا السَّفِينَتَانِ فَإِنْ كَانَتَا لِغَيْرِهِمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ وَسَفِينَةِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتَا لَهُمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ سَفِينَةِ صَاحِبِهِ وَكَانَ نِصْفُ سَفِينَتِهِ هَدَرًا كَمَا قُلْنَا فِي الْأَمْوَالِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحَانِ غَيْرَ مُفَرِّطَيْنِ لِقِيَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَةٍ وَأَعْوَانٍ وَحَمَّلَ سَفِينَتَهُ مَا تُقِلُّهُ وَتُسَيِّرُهَا فِي وَقْتِ الْعَادَةِ، فَهَاجَتْ رِيحٌ عَاصِفَةٌ لَمْ يَقْدِرُوا مَعَهَا عَلَى ضَبْطِ السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى غَرِقَتَا وَمَا فِيهِمَا مِنَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَاتِ، فَإِذَا قِيلَ: بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اصْطِدَامُ الْفَارِسَيْنِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَإِنْ عَجَزَا عَنْ ضَبْطِ الْفَرَسَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَلَّاحَانِ وَإِنْ عَجَزَا عَنْ ضَبْطِ السَّفِينَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ضَمَانُ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْرِيطِ إِلَّا فِي الْقَوَدِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْغَيْرِ، وَيَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَإِذَا قِيلَ: بِسُقُوطِ الضَّمَانِ فَدَلِيلُهُ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ التَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمَانَاتِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْحَوَادِثِ الطَّارِقَةِ كَالْوَدَائِعِ، وَلِأَنَّ التَّلَفَ لَوْ كَانَ بِصَاعِقَةٍ لَمْ يُضْمَنْ كَذَلِكَ بِالرِّيحِ العارضة، وَخَالَفَ اصْطِدَامَ الْفَارِسَيْنِ، لِأَنَّ عِنَانَ الدَّابَّةِ بِيَدِ رَاكِبِهَا تَتَصَرَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ قَهَرَتْهُ فَلِتَفْرِيطِهِ في آله ضبطها [والريح العارضة لا يقدر على دفعها ولا يجد سبيلاً إلى ضبطها] فَافْتَرَقَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النُّفُوسُ هَدَرًا. فَأَمَّا السُّفُنُ فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا أَوْ مُسْتَأْجَرَةً لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعَارَةً ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَلَّاحَيْنِ جَمِيعَ قِيمَةِ سَفِينَتِهِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا، لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ فِي الْأَصْلِ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِ عُدْوَانٍ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَرْبَابُهَا لَمْ يَضْمَنْهَا الْمَلَّاحَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَرْبَابُهَا لَمْ يَضْمَنْ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا كَالْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ، وَفِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا قَوْلَانِ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ ضَامِنٌ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ إِذَا قِيلَ إِنِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ لَيْسَ بِضَامِنٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَلَّاحَيْنِ مُنْفَرِدًا وَالْآخَرُ مُشْتَرِكًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَفِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِكِ قَوْلَانِ، وَلَوْ فَرَّطَ أَحَدُ الْمَلَّاحَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّطِ الْآخَرُ كَانَ الْمُفَرِّطُ ضَامِنًا، وَفِي ضَمَانِ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ قَوْلَانِ، فَإِنْ غَرِقَتْ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ وَلَمْ تَغْرَقِ الْأُخْرَى كَانَ الْحُكْمُ فِي ضَمَانِ الَّتِي غَرِقَتْ كَالْحُكْمِ فِي ضَمَانِهَا لَوْ غَرِقَا مَعًا، وَإِذَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ مَالِكُهَا وَمَلَّاحُهَا فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا هُوَ الْمُرَاعِيَ لَهَا وَالْمُدَبِّرَ لِسَيْرِهَا كَانَ الضَّمَانَ إِنْ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمَلَّاحِ، وَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ هُوَ الْمُدَبِّرَ لِسَيْرِهَا دُونَ الْمَالِكِ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَلَّاحِ دُونَ الْمَالِكِ. فَلَوِ اخْتَلَفَ فِي التَّفْرِيطِ الْمَلَّاحُ وَالرُّكَّابُ فَادَّعَاهُ الرُّكَّابُ وَأَنْكَرَهُ الْمَلَّاحُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَلَّاحِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْأَمَانَةِ إِلَّا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْثِيرٌ إِلَّا فِيمَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي صِفَةِ ضَمَانِهِ بين التفريط وغيره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا صدمت سَفِينَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْهَدَ بِهَا الصَّدْمُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِمَا فِي سَفِينَتِهِ بِحَالٍ لأن الذين دخلو غَيْرُ مُتَعَدًّى عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي اصْطِدَامِ السَّفِينَتَيْنِ السَّائِرَتَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَيَكُونُ هَذَا بَقِيَّةَ الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي سَفِينَةِ مُرْسَاةٍ إِلَى شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ سَاحِلِ بَحْرٍ قَدْ أُحْكِمَتْ رُبُطُهَا وَأُلْقِيَتْ أَنَاجِرُهَا فَعَصَفَتْ رِيحٌ قَطَعَتْ رَبُطُهَا وَقَلَعَتْ أَنَاجِرَهَا حَتَّى هَلَكَتْ وَمَنْ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ هَاهُنَا عَلَى مَلَّاحِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهَا عِنْدَ غَرَقِهَا، وَخَالَفَ حَالَ السَّائِرَةِ الَّتِي هِيَ مُدَبَّرَةٌ بِفِعْلِهِ، وَرُبَّمَا خَفِيَ فِيهِ وَجْهُ تَقْصِيرِهِ، حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي سَفِينَةٍ مُرْسَاةٍ إِلَى الشَّطِّ مُحْكَمَةُ الرَّبْطِ وَأُخْرَى سَائِرَةٍ عَصَفَتْ بِهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا عَلَى الْوَاقِفَةِ حَتَّى غَرَّقَتْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْوَاقِفَةِ، وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ السَّائِرَةِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مَا يَخَافُونَ بِهِ التَّلَفَ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنْ فِيهَا فَأَلْقَى أَحَدُهُمْ بَعْضَ مَا فِيهَا رَجَاءَ أَنْ تَخِفَّ فَتَسْلَمَ فَإِنْ كَانَ مَالَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا لَهُ أَلْقِ مَتَاعَكَ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَافَ رُكْبَانُ السَّفِينَةِ مِنْ غَرَقِهَا لِثِقَلِ مَا فِيهَا وَعُصُوفِ الرِّيحِ بِهَا فَأَلْقَى رَجُلٌ بَعْضَ مَتَاعِهَا لِتَخِفَّ فَتَسْلَمَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِإِلْقَائِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْقِي صَاحِبَ السَّفِينَةِ أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، سَوَاءٌ نَجَتِ السَّفِينَةُ أَوْ هَلَكَتْ، مَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنْ إِلْقَائِهِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ، لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ عَنْ مَنْعِهِ لَا يُبَرِّئْهُ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ لَهُ قَتِيلًا أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، وَلَا يَجِبُ عَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ مِنْ ضَمَانِهِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِسَلَامَتِهِمْ، فَلَوْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 كَانُوا قَدْ أَمَرُوهُ بِإِلْقَائِهِ لَمْ يَضْمَنُوا، لِأَنَّ الْمُلْقِيَ لَا يَسْتَبِيحُ الْإِلْقَاءَ بِأَمْرِهِمْ، فَصَارَ وُجُودُ أَمْرِهِمْ وَعَدَمُهُ سَوَاءً. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا سَقَطَ ضَمَانُ هَذَا الْمَالِ لِمَا فِي اسْتِهْلَاكِهِ مِنْ خَلَاصِ النُّفُوسِ كَالْفَحْلِ إِذَا صَالَ فَقَتَلَ لَمْ يُضْمَنْ. قِيلَ: لِأَنَّ خَوْفَ الْفَحْلِ لِمَعْنًى فِيهِ فَسَقَطَ ضَمَانُهُ، وَخَوْفَ الْغَرَقِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَالِكِ فَلَزِمَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ ضَمِنَهُ، فَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ نَفْسِهِ فعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِأَمْرِهِمْ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ. فَإِنْ أَلْقَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ كَانَ مُحْتَسِبًا فِي إِلْقَائِهِ لِمَا يُرْجَى مِنْ نَجَاتِهِ وَنَجَاتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَلْقَاهُ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِإِلْقَائِهِ، وَإِنْ أَلْقَاهُ بِأَمْرِهِمْ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنُوا لَهُ قِيمَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَضْمَنُوهَا. فَإِنْ لَمْ يَضْمَنُوهَا بَلْ قَالُوا أَلْقِ مَتَاعَكَ فَأَلْقَاهُ فَلَا غُرْمَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَمَرُوهُ بِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ إنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهُ وَغُرْمَهُ، لِأَنَّ الْآمِرَ كَالْفَاعِلِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الصَّالِحِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ لَمْ يَضْمَنُوهُ فَكَذَلِكَ فِي الْبَحْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَضْمَنُوا كَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ مَالِهِ وَإِنْ ضَمِنُوهُ لَهُ فَقَالُوا لَهُ أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ فَأَلْقَاهُ لَزِمَهُمْ ضَمَانُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَلْزَمُهُمْ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: قَدْ ضَمِنْتُ لَكَ مَا تُدَايِنُ بِهِ فُلَانًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا دَايَنَهُ بِهِ، لِتَقَدُّمِ ضَمَانِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الضَّرُورَاتِ وَعُمُومَ الْمَصَالِحِ أَوْسَعُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ فِي الِاخْتِيَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِعِتْقِهِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَأَمَّا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءٌ لِلِاسْتِهْلَاكِ بِشَرْطِ الْغُرْمِ؛ لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 الضَّمَانَ مَا كَانَ الضَّامِنُ فِيهِ فَرْعًا لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَانٌ وَإِنِ انْعَقَدَ قَبْلَ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الْمُدَايَنَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْمَتَاعِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ لَا يَصِحُّ فَصَحَّ ضَمَانُهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ، وَضَمَانَ الْمُدَايَنَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهَا يَصِحُّ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهَا قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَيَشْهَدْ لَهُ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ خَلْقِهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا قَبْلَ خَلْقِهَا، وَمَنَافِعُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ حُدُوثِهَا صَحَّ قَبْلَ حُدُوثِهَا، كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّمَانِ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ وَقَدْ أَمِنُوا الْغَرَقَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ فَفِي لُزُومِ هَذَا الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَارْتِفَاعِ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ بِشَرْطِ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَالثَّانِي أَقْيَسُ. فَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ فِي هَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَصِحُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِعَقْدِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ. وَالثَّانِي: لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَأَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالضَّمَانِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكُ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَلْقِهِ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَمِنَهُ دُونَهُمْ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعُوا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَقِيَاسُ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بِحِصَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَا يَضْمَنُ أَصْحَابُهُ مَا أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ إِيَّاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُلْقِيَ مَتَاعَهُ فِي الْبَحْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَضْمَنَهُ جَمِيعُهُمْ أَوْ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ ضَمِنُوهُ جَمِيعًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ فَيَقُولُوا: أَلْقِهِ وَعَلَيْنَا ضَمَانُهُ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ مُقَسَّطًا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ قِيمَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدُوا فِيهِ فَيَقُولُوا: أَلْقِهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُهُ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَمَانُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَضْمَنَهُ عَنْ نَفْسِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 أَوْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنْ ضَمِنَهُ عَنْ نَفْسِهِ اخْتُصَّ بِضَمَانِهِ وَغَرِمَهُ، وَإِنْ عَادَ نَفْعُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ ضَمِنَهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِهِمْ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِمْ كَانَ ضَمَانُهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ لَازِمًا لِجَمِيعِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ كَانَ مُتَقَسِّطًا عَلَى أَعْدَادِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ لَزِمَ جَمِيعُ الضَّمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ ضَمِنَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ ضَمَانُهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ أَحَدُهُمَا، وَأَمَّا الضَّامِنُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَقَدْرُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الضَّمَانِ مُعْتَبَرٌ بِلَفْظِهِ وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِانْفِرَادِ فَيَقُولُ: أَلْقِهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ بِلَفْظِهِ وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الِاشْتِرَاكِ فَيَقُولُ: أَلْقِهِ وَعَلَى جَمَاعَتِنَا ضَمَانُهُ، فَعَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ بِقِسْطِهِ مِنْ عَدَدِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ فَيَقُولُ: أَلْقِهِ عَلَى أَنْ أَضْمَنَهُ أَنَا وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُطْلَقِ هَذَا الضَّمَانِ هَلْ يَقْتَضِي حَمْلُهُ عَلَى الِانْفِرَادِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ إِلَّا بِحِصَّتِهِ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ [" ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " مَحْمُولًا عَلَى أَصْلِ الضَّمَانِ دُونَ قَدْرِهِ، وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ مُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ] فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَمُخْطِئًا عَلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الِانْفِرَادِ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " ضَمِنَهُ دُونَهُمْ " مَحْمُولًا عَلَى ضَمَانِ جَمِيعِهِ، وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْحُكْمِ مُصِيبًا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ ضَمَانِهِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ ضَمِنَ أَنْ يَسْتَخْلِصَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَزِمَهُ ضَمَانُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْخُلْعِ: وَلَوْ قَالَ اخْلَعْ زَوْجَتَكَ عَلَى أَلْفٍ أُصَحِّحْهَا لَكَ مِنْ مَالِهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ فِي مَالِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 (فَصْلٌ) وَلَوِ ابْتَدَأَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ فَقَالَ لِرُكْبَانِ السَّفِينَةِ: أَلْقي مَتَاعِي وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ضَمَانُهُ. فَقَالُوا جَمِيعُهُمْ: نَعَمْ، أَوْ قَالُوا: افْعَلْ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَمَانُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمْ: نَعَمْ أَوِ افْعَلْ وَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَهُمْ. وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ قَالَ لَهُمْ: أَلْقي مَتَاعِي وَعَلَيْكُمْ ضَمَانُهُ. فَقَالُوا جَمِيعًا: نَعَمْ لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّمَانِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ اشْتَرَاكٍ وَالْأَوَّلَ ضَمَانُ انْفِرَادٍ، وَلَوْ أَجَابَهُ أَحَدُهُمْ ضَمِنَ وَحْدَهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ خَرَقَ السَّفِينَةَ فَغَرِقَ أَهْلُهَا ضَمِنَ مَا فِيهَا وَضَمِنَ دِيَاتِ رُكْبَانِهَا عَاقِلَتُهُ وَسَوَاءُ مَنْ خرق ذلك منها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَهُ إِذَا خَرَقَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ يَسْتَوِي ضَمَانُ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِهَا وَيَخْتَلِفُ فِيهَا ضَمَانُ النُّفُوسِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ خَرْقُهُ لَهَا عَمْدًا مَحْضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَطَأً مَحْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَمْدَ الْخَطَأِ، فإن كان عمد الخطإ فَهُوَ أَنْ يَعْمِدَ خَرْقَهَا وَفَتْحَهَا لِغَيْرِ إِصْلَاحٍ لَهَا وَلَا لِسَدِّ مَوْضِعٍ فِيهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخَرْقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْلَمَ السَّفِينَةُ مِنْ مِثْلِهِ فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إِنْ سَلِمَ مِنْهَا، وَإِنْ غَرِقَ مَعَهَا فَفِي مَالِهِ دِيَاتُ مَنْ غَرِقَ فِيهَا مَعَ قِيمَةِ الْأَمْوَالِ التَّالِفَةِ فِيهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ تَسْلَمَ السَّفِينَةُ مَعَ مِثْلِهِ وَيَجُوزَ أَنْ تَغْرَقَ مِنْهُ فَهَذَا عَمْدُ الْخَطَأِ لِعَمْدِهِ فِي الْفِعْلِ وَخَطَئِهِ فِي الْقَصْدِ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِمَّا لَا يُغْرَقُ مِنْ مِثْلِهِ فَيَتَّسِعُ وَيُغْرِقُ فَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ، تَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ، فَهَذَا حُكْمُ خَرْقِهِ إِذَا كَانَ عَامِدًا فِي فِعْلِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِنْهُ خَطَأً مَحْضًا، فَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ يَدِهِ حَجَرٌ فَيَفْتَحُهَا فَيَغْرَقُ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْخَرْقِ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ مِنْهُ عَمْدَ الْخَطَأِ فَهُوَ أَنْ يَعْمِدَ فَتْحَهَا لِعَمَلِ عَيْبٍ فِيهَا فَتَغْرَقُ، أَوْ يُدَقُّ فِيهَا مِسْمَارٌ فَيَنْشَقُّ اللَّوْحُ وَتَغْرَقُ، فَتَكُونُ دِيَاتُ النُّفُوسِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي مَالِهِ، وَلَوْ دَقَّ جَانِبًا مِنْهَا لِعَمَلٍ فَانْفَتَحَ الْجَانِبُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ إِلَى سَابِحٍ لِيُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ فَغَرِقَ فَلِلْوَلَدِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ بَالِغٍ، فَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّابِحِ مُغَلَّظَةً كَالْمُعَلِّمِ إِذَا ضَرَبَ صَبِيًّا فَمَاتَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحُطَّهُ فِي الْمَاءِ عَلَى شَرْطِ السَّلَامَةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى تَقْصِيرِهِ فَضَمِنَ، كَمَا يَكُونُ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى شَرْطِ السَّلَامَةِ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَى التَّعَدِّي فَضَمِنَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّابِحِ، لِأَنَّ حِفْظَهُ فِي الْمَاءِ إِذَا كَانَ بَالِغًا وَتَجَنُّبَهُ فِيهِ مِنَ الْغَرَقِ مُتَوَجَّهٌ إِلَيْهِ لَا إِلَى السَّابِحِ، فَصَارَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا رَبَطَ رَجُلٌ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى سَاحِلِ بَحْرٍ فَزَادَ الْمَاءُ فَغَرَّقَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْمَاءِ مَأْلُوفَةً فِي أَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ كَالْمَدِّ وَالْجَزْرِ بِالْبَصْرَةِ، فَهَذَا قَاتِلٌ عَمْدًا وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لأنه فاسد لِتَغْرِيقِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مَأْلُوفَةٍ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْمَاءِ أَنْ يَزِيدَ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَزِيدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَمْدَ الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْمَاءِ أَنْ لَا يَزِيدَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ، فَيَكُونُ هَذَا خَطَأً مَحْضًا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَلَوْ رَبَطَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَأَلْقَاهُ فِي صَحْرَاءَ فَأَكَلَهُ السَّبُعُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُتْلِفَ غَيْرُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتِ الصَّحْرَاءُ مَسْبَعَةً فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَسْبَعَةٍ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَجَارَحَ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ جَرَحَ صَاحِبَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِنْكَارِ الطَّلَبِ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ يَمِينِ الطَّلَبِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَلَا قَوَدَ وَلَا أَرْشَ والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 (باب من العاقلة التي تغرم) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " لم أعلم مخالفا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَاقِلَةُ فَهُمْ ضُمَنَاءُ الدِّيَةِ وَمُتَحَمِّلُوهَا مِنْ عَصَبَاتِ الْقَاتِلِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ عَاقِلَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَقْلَ اسْمٌ لِلدِّيَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ " أَيْ يَتَحَمَّلُ عَقْلَهُ وَهُوَ الدِّيَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ سُمُّوا عَاقِلَةً، لِأَنَّهُمْ يَقُودُونَ إِبِلَ الدِّيَةِ فَيَعْقِلُونَهَا عَلَى بَابِ الْمَقْتُولِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ سُمُّوا عَاقِلَةً، لِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ الْقَاتِلَ أَيْ يَمْنَعُونَ عَنْهُ، وَالْمَنْعُ الْعَقْلُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْلُ فِي النَّاسِ عَقْلًا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبَائِحِ. (فَصْلٌ) لَا خِلَافَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجَائِفَةِ وَسَائِرِ الْجِرَاحِ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي مُؤَجَّلَةً كَالْخَطَأِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ تَأْجِيلَ دِيَتِهِ كَسُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ. وَالثَّانِي: أَنَّ غُرْمَ الْمُتْلِفِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّحَمُّلُ حَلَّ كَالْأَمْوَالِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ دِيَةَ الْخَطَأِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ لَمْ تَتَأَجَّلْ دِيَةُ الْعَمْدِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْقَاتِلِ، وَشَذَّ مِنْهُمُ الْأَصَمُّ، وَابْنُ عُلَيَّةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَأَوْجَبُوهَا عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْعَاقِلَةِ كَالْعَمْدِ، احْتِجَاجًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] وقَوْله تَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] وقَوْله تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مَأْخُوذَةٌ. وَبِمَا روي أن الحسحاس بْنَ عَمْرٍو الْعَنْبَرِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِي يَجْنِي أَفَؤُآخَذُ بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ هَذَا مِنْكَ " وَكَانَ مَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ: ابني أشهد به أي أعلمه قطعاً ولي بِمُسْتَلْحَقٍ فَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ " وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ فِعْلَ الْجِنَايَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِجِنَايَتِكَ وَلَا تُؤَاخَذَ بِجِنَايَتِهِ. وَرَوَى أَيَادُ بْنُ لَقِيطٍ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ أَبِي فَرَأَى الَّتِي فِي ظَهْرِهِ فَقَالَ لَهُ أَبِي: دَعْنِي أُعَالِجْهَا فَإِنِّي طَبِيبٌ، فَقَالَ: " أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ "، مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: ابْنِي أَشْهَدُ بِهِ فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ ". وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ " وَهَذَا نَصٌّ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلِ الْعَاقِلَةُ قِيَمَ الْأَمْوَالِ لَمْ يَتَحَمَّلْ دِيَةَ النُّفُوسِ، وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَوْ تَحَمَّلَتْ دِيَةَ الْخَطَأِ لَتَحَمَّلَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ فَلَمْ تَتَحَمَّلْهَا الْعَاقِلَةُ كَالْقَوَدِ، وَلِأَنَّ لِقَتْلِ الْخَطَأِ مُوَجِبَيْنِ: الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، فَلَمَّا لَمْ تَتَحَمَّلِ الْعَاقِلَةُ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَتَحَمَّلِ الدِّيَةَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَوَرَثَتِهَا ولدها ومن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 معه، فقال حمل بن مالك النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَمِثْلُ ذَلِكَ بطَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ " مِنْ أَجْلِ مَسْجَعِهِ الَّذِي سَجَعَهُ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أن امرأتي مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَرَوَى أَبُو عَازِبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " الْقَوَدُ بِالسَّيْفِ وَالْخَطَأُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَيَّزَ بَيْنَ مَعَاقِلِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فَجَعَلَ مَعَاقِلَ قُرَيْشٍ فِيهِمْ، وَمَعَاقِلَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي سَاعِدَةَ. وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لأن الزبير ابنها وعلي ابْنُ أَخِيهَا، فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ وَعَلَى عَلِيٍّ بِالْعَقْلِ. وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ انْعَقَدَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَنْفَذَ رَسُولَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فِي قَذْفٍ بَلَغَهُ عَنْهَا فَأَجْهَضَتْ ذَاتَ بَطْنِهَا، فَسَأَلَ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ، وَسَأَلَ عَلِيًّا فقال: إن كانا اجتهادا فَقَدْ أَخْطَآ وَإِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشِيَا عَلَيْكَ الدِّيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قومك يعني قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ، فَقَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ فَتَحَمَّلُوهَا عَنْهُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ جَمِيعِ الأمة أحد من انْتِشَارِ الْقَضِيَّةِ، وَظُهُورِهَا فِي الْكَافَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْعَاقِلَةِ بِالِاسْمِ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ، وَفَقْدَ الْحُكْمِ يُوجِبُ زَوَالَ الِاسْمِ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ فِي كَلَامِهِمِ الْمَنْعُ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ عَنِ الْقَاتِلِ بِأَسْيَافِهِمْ، فَلَمَّا مَنَعَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنَ السَّيْفِ عَوَّضَ مِنْهُ مَنَعَهُمْ مِنْهُ بِأَمْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ انْطَلَقَ اسْمُ الْعَاقِلَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ النُّفُوسَ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَقَتْلَ الْخَطَأِ يَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي إِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا اسْتِئْصَالُ مَالِهِ إِنْ كَانَ وَاحِدًا وَقَلَّ أَنْ يَتَّسِعَ لِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَالُ الْوَاحِدِ، وَإِمَّا إِهْدَارُ الدَّمِ إِنْ كَانَ مُعْدَمًا، وَفِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ مُوَاسَاةٌ تُفْضِي إِلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبْقَاءِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا أَدْعَى إِلَى الْمَصْلَحَةِ وَأَبْعَثُ عَلَى التَّعَاطُفِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ بِالنَّسَبِ بَعْضَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ زَكَاةُ الْفِطْرِ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَ بَعْضَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ دِيَاتُ الْخَطَأِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَحَقِيقَةُ الْوِزْرِ الْإِثْمُ، وَهُوَ لَا يَتَحَمَّلُ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْمَأْثَمُ وَإِمَّا أَحْكَامُ عَمْدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْخَبَرَيْنِ إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَبْنَاءَ وَالْآبَاءَ لَا يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ، وَإِنَّمَا يَتَحَمَّلُهُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْعَصَبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعَمْدِ الَّذِي لَا يَتَحَمَّلُ عَنِ الْقَاتِلِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ وَلَا الِابْنُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ ". وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِتَغْلِيظِ النُّفُوسِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْقَسَامَةُ فِي النُّفُوسِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا الْعَمْدُ فَلِأَنَّهُ عَنْ مَعْصِيَةٍ يُسْتَحَقُّ فِيهَا الْقَوَدُ، وَالْعَاصِي لَا يُعَانُ وَلَا يُوَاسَى، وَالْقَوَدُ لَا يَدْخُلُهُ تَحَمُّلٌ وَلَا نِيَابَةٌ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ تَارَةً وَبِالصِّيَامِ تَارَةً، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا عَفْوٌ فَلَمْ يَدْخُلْهَا مُوَاسَاةٌ، وَخَالَفَتْهَا الدِّيَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخَالَفَتَهَا فِي التحمل والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ فِي أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ حَالَةَ يُؤَدُّونَهَا مُعَجَّلَةً كَدِيَاتِ الْعَمْدِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي خَمْسِ سِنِينَ، لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ إنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَضَى بِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَضَافَهُ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَعَلَ نَقْلَهُ كَالْإِجْمَاعِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْقَضَاءِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ اعْتَرَضُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَقَالُوا: مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذَا شَيْءٌ فَكَيْفَ قَالَ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْرِفُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ شَيْئًا، فَقِيلَ لَهُ: إِن أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَعَلَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَدَنِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ حَسَنَ الظَّنِّ فِيهِ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَحْيَى الْهَجَرِيَّ. وَلِأَصْحَابِنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَضَائِهِ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ إِسْنَادَهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 وَالثَّانِي: أَنَّ مُرَادَهُ الْقَضَاءُ بِأَصْلِ الدِّيَةِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا تَأْجِيلُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ دِيَةَ الْخَطَأِ مُوَاسَاةً، وَمَا كَانَ طَرِيقَ الْمُوَاسَاةِ كَانَ الْأَجَلُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَالزَّكَاةِ، وَلَمَّا خَرَجَتْ عَنْ عُرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْقَدْرِ زَادَ حُكْمُهَا فِي الْأَجَلِ، فَاعْتُبِرَ فِي عَدَدِ السِّنِينَ أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ فَكَانَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَبِهَذَا خَالَفَ الْعَبْدَ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، لِأَنَّهُ لَا مُوَاسَاةَ فِيهِمَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا قَالَهُ رَبِيعَةُ إنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي خَمْسِ سِنِينَ، لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، لِأَنَّ عَمْدَ الْخَطَأِ أَثْلَاثٌ والأجل فِيهِمَا سَوَاءٌ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: " ولا مخالفا فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ الْعَصَبَةُ وَهُمُ الْقَرَابَةُ مِنْ قبل الأب وقضى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى علي بن أبي طالب بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب وقضى للزبير بميراثهم لأنه ابنها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعَاقِلَةُ هُمُ الْعَصَبَاتُ سِوَى الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَأَعْمَامِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَبَنِيهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَتَحَمَّلُهَا الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَهُمْ مِنَ الْعَاقِلَةِ كَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ فَأَشْبَهُوا فِي الْعَقْلِ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ وَهُمْ أَوْلَى، لِأَنَّ تَعْصِيبَهُمْ أَقْوَى، وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ أَلْزَمُ فَكَانُوا أَحَقَّ بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حديث الحسحاس بْنِ خَبَّابٍ وَأَبِي رِمْثَةَ فِي الِابْنِ " أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ " وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا يُؤْخَذُ الْأَبُ بِجَرِيرَةِ ابْنِهِ وَلَا الِابْنُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ ". وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ نُصُوصٌ مَعَ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي مَوَالِي صَفِيَّةَ لِلزُّبَيْرِ بِالْمِيرَاثِ وَعَلَى عَلِيٍّ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْمِلُ الْعَقْلَ مَعَ وُجُودِ أَهْلِ الدِّيوَانِ لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ عَدَمِهِمْ كَالصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ تَحَمُّلُ النَّفَقَةِ عَنْهُ فِي مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ عَنْهُ كَالزَّوْجِ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ مُنْتَقَضٌ بِالصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفَرْضِيَّةِ عَدَمُ الْوِلَادَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَاعْتِبَارُهُمْ بِالنُّصْرَةِ فَهُوَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ، وَيَفْسُدُ بِالزَّوْجِ وَالْجَارِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِلْقَاتِلَةِ خَطَأً ابْنٌ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهَا بِالتَّعْصِيبِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْبُنُوَّةِ، وَجَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِالتَّعْصِيبِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِهِ عَلَى الْبُنُوَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانُوا عَصَبَةً لِاخْتِصَاصِهِمْ بِتَحَمُّلِ النَّفَقَةِ وَهُوَ يَتَحَمَّلُهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 هَاهُنَا، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ تَحَمُّلِهَا وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ، وَخَالَفَ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ الَّذِي قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ مَعَ الْبُنُوَّةِ شُرُوطُ الْعَصَبَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ عَدَا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْعَصَبَاتِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْقَاتِلُ مَعَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا، وَاخْتُصُّوا بِتَحَمُّلِهَا عَنْهُ دُونَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُشَارِكُهُمْ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ وَيَكُونُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا ظَنَّهُ كَافِرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: دِيَتُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ. وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ عَنِ الْقَاتِلِ مُوَاسَاةٌ لَهُ وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ عَنْ نَفْسِهِ كَالنَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَهَا عَنْهُ نُصْرَةٌ لَهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ جَعَلَ جَمِيعَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمُوَاسَاةِ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاسَاةُ كَالنَّفَقَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمُوَاسَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ الْقَاتِلُ بِدِيَةِ الْعَمْدِ وَجَبَ أَنْ تَتَفَرَّدَ الْعَاقِلَةُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَيْهِ وُجُوبًا وَعَلَى قَوْمِهِ، تَحَمُّلًا وَأَمَّا النُّصْرَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْصُرُ زَوْجَتَهُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهَا، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ قَدْ كفوه النصرة. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَعْرِفَةُ الْعَاقِلَةِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ فَيُحَمِّلَهُمْ مَا يَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلُوهَا دُفِعَتْ إِلَى بَنِي جَدِّهِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلُوهَا دُفِعَتْ إِلَى بَنِي جَدِّ أَبِيهِ ثُمَّ هَكَذَا لَا يُدْفَعُ إِلَى بَنِي أَبٍ حَتَّى يَعْجِزُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ تَفَرُّدَ الْأَقَارِبِ بِهَا دُونَ الْأَبَاعِدِ إِجْحَافٌ فَخَرَجَ عَنِ الْمُوَاسَاةِ، وَأَخْذَهَا مِنْ كُلِّ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ يُفْضِي إِلَى دُخُولِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِي تَحَمُّلِهَا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ كَالْمِيرَاثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْتَوِي فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَيَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى سَوَاءٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ الَّذِي أَجْهَضَتْهُ الْمَرْأَةُ الموهوبة: " عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُقَسِّمَنَّهَا عَلَى قَوْمِكَ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مِنَ الْأَبْعَدِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْعَقْلِ مِنْهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 فَأَمَّا الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ فَالْمُرَادُ بِهِمَا بَيَانُ مَحَلِّ الْعَقْلِ أَنَّهُمُ الْعَصَبَاتُ ثُمَّ تَقِفُ التَّعْيِين عَلَى مَا يُوجِبُهُ التَّرْتِيبُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَوَّلُ الْعَصَبَاتِ دَرَجَةً فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ الْإِخْوَةُ، وَقَدْرُ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمُوسِرُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ، وَالْمُتَوَسِّطُ رُبُعُ دِينَارٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأُمٍّ، وَيَتَحَمَّلُهَا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا فَهَلْ يُقَدَّمُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَمَا قِيلَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا الْإِخْوَةُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَالْإِخْوَةَ عَشَرَةٌ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهَا، لِأَنَّ الْعَقْلَ خَمْسَةٌ وَالْإِخْوَةَ خَمْسَةٌ ضُمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْإِخْوَةِ، فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً صَارُوا مَعَ الْإِخْوَةِ عَشَرَةً يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَنُو الْإِخْوَةِ أقل من خمسة ضممنا إليه بَنِيهِمْ حَتَّى يَسْتَكْمِلُوا عَشَرَةً فَيَتَحَمَّلُونَ عَقْلَ الْخَمْسَةِ، وَلَا تَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ زَادَ الْعَقْلُ عَلَى الْخَمْسَةِ ضَمَمْنَا إِلَى الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمِ الْأَعْمَامَ، فَإِنْ تَحَمَّلُوهُ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ عَجَزُوا عَنْهُ ضَمَمْنَا إِلَيْهِمْ بَنِيهِمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَعْمَامُ الْأَبِ وَبَنُوهُمْ وَأَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنُوهُمْ حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ إِلَيْهَا مَنْسُوبٌ وَبِهَا مَشْهُورٌ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى النَّسَبِ الْأَدْنَى دُونَ الْأَبْعَدِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ مَعَاقِلَ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ جَعَلْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو قُصَيٍّ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو كِلَابٍ، ثم كذلك بنوأب بَعْدَ أَبٍ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ، وَلَا يَعْدِلُ بَعْدَ قُرَيْشٍ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لتميزهم بأنسابهم، فإن قصروا عنهما عَدَلْنَا إِلَى الْمَوَالِي الْمُعْتَقِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ " فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا كَانَ مَا عَجَزُوا عَنْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَاقِلَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سواهم ". (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فِي الدِّيوَانِ وَمَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا دِيوَانَ فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا صَدْرٍ مِنْ ولاية عمر رضي الله عنه ". قال المارودي: وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَى مَنْ شَارَكَهُ فِي دِيوَانِهِ تُدْفَعُ مِنْ أُعْطِيَاتِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً أَوْ لَمْ يَكُونُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيوَانٌ قُسِّمَتْ حِينَئِذٍ عَلَى عَصَبَتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَجَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ بِالنُّصْرَةِ أَحَقُّ فَكَانُوا بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ أَحَقَّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْعَصَبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدِّيوَانِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَصَبَتُهُ مَعَهُ فِي الدِّيوَانِ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ دِيوَانٌ. وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي خِلَافَتِهِ دِيوَانٌ، وَكَذَلِكَ فِي صَدْرٍ مِنْ أَيَّامِ عُمَرَ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ الدِّيوَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ لِتَمَيُّزِ الْقَبَائِلِ وَتَرْتِيبِ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ بِهِ عَمَّا كَانَ فِي أَيَّامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ مُرْتَفِعٌ بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِ الدِّيوَانِ، تَعَلَّقَ بِهِ مَعَ وُجُودِ الدِّيوَانِ كَالْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يُتَحَمَّلُ عَقْلُهَا فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصَّ بِهَا الْعَصَبَاتُ كَالَّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ لَمْ يُتَحَمَّلْ بِهِ الْعَقْلُ كَالْجِوَارِ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْعَقْلِ فِي مُقَابَلَةِ غُنْمِ الْمِيرَاثِ لِيَكُونَ غَانِمًا وَغَارِمًا وَلَا يَجْتَمِعُ هَذَا إِلَّا فِي الْعَصَبَاتِ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ عَنْهُمُ الْعَقْلُ إِذَا عَدِمُوا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْتِقَالِ مِيرَاثِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَعْقِلُ بَيْتُ الْمَالِ عَنِ الْكَافِرِ، لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا وَفِيمَا ذَكَرْنَا انفصال وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَعْلَمُ مُخَالِفًا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَرَأةَ لَا يَحْمِلَانِ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ عِنْدِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَا يَعْقِلُ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِلَّا الرِّجَالُ الْعُقَلَاءُ الْأَحْرَارُ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ النُّصْرَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ فِي الْإِسْلَامِ بَدَلٌ مِنَ الْمَنْعِ بِالسَّيْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَحْرَارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مُسْتَحَقٌّ بِالنُّصْرَةِ وَلِذَلِكَ ضَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وَقَالَ: " لِأَنَّهُمْ مَا افْتَرَقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ "، ثُمَّ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَهَلَّا كَانَ الْعَقْلُ بِمَثَابَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالنُّصْرَةِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ وَإِنْ أَثَّرَتْ فِي النُّصْرَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلذَّكَرِ فِيهَا مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَلِذَلِكَ أجْرى عَلَيْهِمَا حُكْمَ الْمَوَارِيثِ وَخَالَفَتِ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى التَّعْصِيبِ وَالنُّصْرَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا فَرْقَ فِي الْعَاقِلَةِ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مِنْ بَيْنِ نَاصِرٍ بِيَدٍ أَوْ لِسَانٍ، فَأَمَّا الشُّيُوخُ وَالْمَرْضَى فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَاقِيَ الْمِنَّةِ وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى عَجْزِ الْهَرَمِ وَالْإِيَاسِ بِالْمَرَضِ تَحَمَّلُوا الْعَقْلَ، فَقَدْ تَحَمَّلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَقْلَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ يحارب في محفة، فَأَمَّا مَنِ انْتَهَتْ بِهِ السِّنُّ إِلَى عَجْزِ الْهَرَمِ وَانْتَهَى بِهِ الْمَرَضُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 إِلَى الزَّمَانَةِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ فِيهِمَا نَهْضَةً وَلَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْحُضُورِ فِي جَمْعٍ فَفِيهِم وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ: هَلْ يُقْتَلُونَ إِذَا أُسِرُوا فِي الشِّرْكِ؟ فَإِنْ قِيلَ: يُقْتَلُونَ عَقَلُوا، وَإِنْ قِيلَ: لَا يُقْتَلُونَ لم يعقلوا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ حِينِ يَمُوتُ الْقَتِيلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَوْتِ الْقَتِيلِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَجَلِهَا، سَوَاءٌ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْأَجَلِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ يُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ وُجُوبُهُ إِلَّا بِحُكْمٍ، وَلَمْ يَتَأَجَّلْ إِلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ كَالْعُنَّةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بِسَبَب تَعَلَّق وُجُوبه بِوُجُودِ السَّبَبِ كَالْأَثْمَانِ فِي الْمَبِيعِ تَجِبُ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَهُوَ أَوَّلُ أَجَلِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يَقِفِ ابْتِدَاؤُهَا عَلَى الْحُكْمِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ مُؤَجَّلَةً لَمْ يَقِفْ وُجُوبُهَا وَابْتِدَاؤُهَا عَلَى الْحُكْمِ كَالْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ،. فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ نَصٌّ، وَفِي النَّصِّ عَلَى الْأَجَلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِمَا شَاذٌّ حَدَثَ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ مُطْرَحًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا الدِّيَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَأَوَّلُ أَجَلِهَا مَوْتُ الْقَتِيلِ وَهُوَ وَقْتُ الْجِنَايَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ بِتَوْجِيَةٍ أَوْ سِرَايَةٍ، لِأَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ تَلَفِهَا، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الدِّيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً. فَإِنْ كَانَتْ كَامِلَةً فَهِيَ دِيَةُ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، فَتَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثَةِ سِنِينَ، يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثُهَا، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّانِيَةِ ثُلُث ثَانٍ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ الثُّلُث الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ نَاقِصَةً كَدِيَةِ الْمَرْأَةِ والذمي ففيها وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 أحدهما: أن العاقلة بتحملها في ثلاثة سِنِينَ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ، فَيُؤَدِّي فِي انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُؤَدَّى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ دِيَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ دِيَةَ ذِمِّيٍّ فَهِيَ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَتُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ جَمِيعَهَا، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تُؤَدِّيهِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَةَ امْرَأَةٍ فَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، فَيُؤَدِّي بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَيْهَا وَهُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَيُؤَدِّي بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثَهَا الْبَاقِيَ وَهُوَ سُدُسُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ زَائِدَةً كَقِيمَةِ الْعَبْدِ إِذَا زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ. وَقِيلَ: إِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، يُؤَدِّي عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا إِنْ نَقَصَتْ كَانَتْ تؤدى على ثَلَاثِ سِنِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا تُؤَدَّى مِنْهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ إِذَا قِيلَ نَقَصَتْ كَانَتْ مُؤَدَّاةً فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِيَةً وَثُلُثًا أَدَّاهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ رُبُعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ دِيَةً وَثُلُثَيْنِ أَدَّاهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ خُمُسُهَا، فَهَذَا حُكْمُ دِيَاتِ النُّفُوسِ. فَأَمَّا دِيَاتُ مَا سِوَى النَّفْسِ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَطْرَافِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْدَمِلَ كَقَطْعِ الْيَدِ إِذَا انْدَمَلَتْ أَوِ الْمُوضِحَةِ إِذَا انْدَمَلَتْ، فَدِيَتُهَا وَاجِبَةٌ بِابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بِالِانْدِمَالِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ لَا مِنْ وَقْتِ الِانْدِمَالِ لِتَقَدُّمِ الْوُجُوبِ بِالْجِنَايَةِ دُونَ الِانْدِمَالِ، فَلَوِ انْدَمَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ اسْتُحِقَّ تَعْجِيلُهَا حِينَئِذٍ كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ إِذَا حَلَّ عِنْدَ الْقَبْضِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْرِيَ الْجِنَايَةُ عَنْ مَحَلِّهَا إِلَى عُضْوٍ آخَرَ كَقَطْعِ الْأصْبَعِ إِذَا سَرَى إِلَى الْكَفِّ، فَالدِّيَةُ وَجَبَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ كَمَا تَجِبُ دِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ بَعْدَ انْدِمَالِ السِّرَايَةِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَقَبْلَ انْدِمَالِ السِّرَايَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّأْجِيلِ فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي ثُلُثٍ النَّفْسِ فَمَا دُونَ كَالْجَائِفَةِ وَمَا دُونَهَا، فَتُؤَدِّيهِ الْعَاقِلَةُ فِي سنة واحد إِذَا انْقَضَتْ وَلَوْ كَانَ دِينَارًا وَاحِدًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا تَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، فَتُؤَدِّيهِ فِي سَنَتَيْنِ بَعْدَ انْفِصَالِ السَّنَةِ الْأُولَى وَثُلُثِ الدِّيَةِ، وَبَعْدَ انْفِصَالِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ سُدُسَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَرْشِ كَانَ نِصْفَ الدِّيَةِ فِي إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَدَّتْهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ أَدَّتْهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَزِيدَ عَلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ وَلَا تَزِيدَ عَلَى جَمِيعِ الدِّيَةِ كَدِيَةِ الْيَدَيْنِ، فَتُؤَدِّيهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ دِيَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ مِثْلَ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَنُوجِبُ دِيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي الْيَدَيْنِ، وَالْأُخْرَى فِي الرِّجْلَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَحِقَّا لِنَفْسَيْنِ، فَعَلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ تُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدِّيَتَيْنِ، فَتَصِيرُ فِي كل سنة مؤدية فثلثي الدية لِانْفِرَادِ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يستحقها نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الدِّيَتَيْنِ فِي سِتِّ سِنِينَ، تُؤَدِّي فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا ثُلُثَ دِيَةٍ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ النَّفْسِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقُومُ نَجْمٌ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ حُلُولِهِ فَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ أَوْ مَطَلَ حَتَّى يَجِدَ الْإِبِلَ بَطَلَتِ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الْإِبِلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الدِّيَةَ هِيَ الْإِبِلُ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، فَإِنْ أَعْوَزَتْ، عُدِلَ عَنْهَا إِلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهِيَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ، فَيَكُونُ مِنَ الدَّرَاهِمِ اثْنَي عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِنِ الدَّنَانِيرِ أَلْف دِينَارٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تُقَدَّرُ بِقِيمَةِ وَقْتِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَعَلَى هَذَا مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَوَقْتُ قِيمَتِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْأَدَاءُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ قِيمَةَ مَا فِي الدِّيَةِ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ، كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَعْوَزَ مِثْلُهُ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْغَصْبِ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي اعْتُبِرَتْ عِنْدَهُ قِيمَةُ النَّجْمِ الثَّانِي، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ اعْتُبِرَتْ عِنْدَهُ قِيمَةُ النَّجْمِ الثَّالِثِ، سَوَاءٌ انْقَضَتْ قِيَمُ النُّجُومِ الثَّلَاثِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوِ اخْتَلَفَتْ وَلَوْ أَعْوَزَتْ فِي نَجْمٍ وَوُجِدَتْ فِي نَجْمٍ أُخِذَتْ فِي النَّجْمِ الَّذِي وُجِدَتْ، وَأُخِذَ قِيمَتُهَا مِنَ النَّجْمِ الَّذِي أَعْوَزَتْ، فَلَوْ قُوِّمَتْ فِي حَوْلٍ أُعْوِزَتْ فِيهِ وَوُجِدَتْ فِيهِ نُظِرَ وُجُودَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِ قِيمَتِهَا أَجْزَأَتِ الْقِيمَةُ وَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ بَطَلَتِ الْقِيمَةُ وَأَخَذَ الْإِبِلَ كَالطَّعَامِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 الْمَغْصُوبِ إِذَا قُوِّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ الْقِيمَةِ يُرْجَعُ بِالطَّعَامِ إِنْ لَمْ تُقْبَضِ الْقِيمَةُ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ إِنْ قَبَضَهَا. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَحْمِلُهَا فَقِيرٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، دِيَةُ الْعَاقِلَةِ تُسْتَحَقُّ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْسِرِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَأَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الْقَاتِلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الضَّرَرُ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ الْعَاقِلِ، وَخَالَفَتْ دِيَةَ الْعَمْدِ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِاسْتِحْقَاقِ الْعَمْدِ بِمُبَاشَرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْخَطَأِ بِمُوَاسَاتِهِ. فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَفِي أَخْذِهَا مِنَ الْفَقِيرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كَالْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي: تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذِ الدِّيَةُ مِنْ فُقَرَاءِ الْعَاقِلَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَوْضُوعَةٌ لِحَقْنِ الدَّمِ وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ عِوَضًا، وَتَحَمُّلَ الدية مواساة محضة والفقر يقسط المواساة ولا يسقط المعاوضة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَضَى بِهَا فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ نَجْمٌ مِنْهَا أَوِ افْتَقَرَ غَنِيٌّ فَإِنَّمَا أُنْظِرَ إِلَى الْمُوسِرِ يَوْمَ يَحُلُّ نَجْمٌ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْحَوْلِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ الْحَوْلُ فِيهِ مَضْرُوبًا لِلْوُجُوبِ وَهُوَ حَوْلُ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ الْحَوْلُ فِيهِ مَضْرُوبًا لِلْأَدَاءِ مَعَ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَوْلُ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ حَوْلُ الْجِزْيَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْفَقْرُ وَالْغِنَى فِي الْعَاقِلَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِهِ وَقْتُ الْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ وُجُوبِهِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ بِوَقْتِ أَدَائِهِ كَالْجِزْيَةِ. قِيلَ: لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَيَّنَةٌ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتُ وُجُوبِهَا، وَالدِّيَةَ تَجِبُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، أَلَا تَرَى لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهَا لَأُخِذَتْ، فَإِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَ الْحُلُولِ غَنِيًّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فِي أَوَّلِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي أَوَّلِهِ، فَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 عَلَى غني فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى افْتَقَرَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِفَقْرِهِ، لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ غِنَاهُ، وَيُنْظَرُ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى فَقِيرٍ فَلَمْ يَسْتَوْفِ حَتَّى اسْتَغْنَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِغِنَاهُ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ سُقُوطُهَا عَنْهُ وَقْتَ فَقْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنَ غَرِمَ فِي نَجْمٍ ثُمَّ أَعْسَرَ فِي النَّجْمِ الْآخَرِ تُرِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ مُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَوْلِ إِلَّا النَّجْمُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ فِيهِ، فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ تَحَمَّلَ الْعَقْلَ فِي جَمِيعِهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ سَقَطَ عَنْهُ الْعَقْلُ فِي جَمِيعِهَا، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بعضها ومفتقراً في بضعها وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ فِي حَوْلِ غِنَاهُ وَسَقَطَ عَنْهُ فِي حَوْلِ فَقْرِهِ، فَلَوِ ادَّعَى فَقْرًا بَعْدَ الْغِنَى أُحْلِفَ وَلَمْ يُكَلَّفِ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ العلم بغناه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ النَّجْمِ مُوسِرًا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ مُوسِرٌ بَعْدَ الْحُلُولِ وَقَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعَقْلُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَأَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا صِلَةٌ وَإِرْفَاقٌ فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهَا فِي الْحَيَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْوَفَاةِ كَالدُّيُونِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْوَصَايَا وَهِيَ تَطَوُّعٌ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعُوا مِنَ الْعَقْلِ وَهُوَ وَاجِبٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ دِيَةُ الْعَمْدِ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ دِيَةُ الْخَطَأِ. فَأَمَّا نَفَقَاتُ الْأَقَارِبِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِحِفْظِ النَّفْسِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فَسَقَطَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، وَدِيَةُ الْقَتْلِ وَجَبَتْ لِإِتْلَافِ النَّفْسِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ فَلَمْ تَسْقُطْ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَيْسَ كَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ عَنْهُ، لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ جَبْرًا وَالْهِبَةُ تُبْذَلُ تَطَوُّعًا فَافْتَرَقَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قُدِّمَتْ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، وَتُؤَدَّى وَإِنِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ عَجَزَ صَاحِبُ التَّرِكَةِ عَنْهَا وَعَنْ دُيُونِ الْمَيِّتِ قُسِّمَتْ عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ، وَكَانَ بَاقِي الْعَقْلِ دَيْنًا يُؤَدَّى عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْعَاقِلَةِ لِوُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوِ امْتَنَعَتِ الْعَاقِلَةُ مَنْ بَذْلِ الدِّيَةِ وَلَمْ يُوصَلْ إِلَيْهَا مِنْهُمْ إِلَّا بِحَرْبِهِمْ جَازَ أَنْ يُحَارِبُوا عَلَيْهَا كَمَا يُحَارَبُ الْمُمْتَنِعُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، فَإِنْ وُجِدَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَارَبُوا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنْ لَا يَحْمِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَأَرَى عَلَى مَذَاهِبِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ نِصْفَ دِينَارٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُزَادُ عَلَى هَذَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَشْتَرِكَ النَّفَرُ فِي الْبَعِيرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْمِلُهُ مِنَ الْعَاقِلَةِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْمُتَوَسِّطُونَ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْمُكْثِرُ والمتوسط، وهذا ليس صحيح، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقوله تعالى: {وعلى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَلِأَنَّهُمَا مُوَاسَاةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِمَا بَيْنَ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ كَالنَّفَقَاتِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ فِيهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُقِلِّ وَالْمُكْثِرِ فَالَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الْغَنِيُّ الْمُكْثِرُ مِنْهَا نِصْفُ دِينَارٍ وَالَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الْمُقِلُّ الْمُتَوَسِّطُ رُبُعُ دِينَارٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَتَحَمَّلُونَ مَا يُطِيقُونَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَقِلَّتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِشَرْعٍ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ أَوْكَدُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي زَكَاةِ الْمَالِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ فِي الْعَقْلِ أَقَلُّ مِنْهَا فَكَانَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةً، وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ حُقُوقِ الْمُوَاسَاةِ كَانَ مُقَدَّرًا كَالزَّكَوَاتِ وَالنَّفَقَاتِ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَلَكِنْ فِي تَقْدِيرِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيرِ الْأَقَلِّ، وَيَجْعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَكْثَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيرِ الْأَكْثَرِ وَيَجْعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَقَلِّ. فَإِنْ بَدَأَتْ بِتَقْدِيرِ الْأَقَلِّ فِي حَقِّ الْمُتَوَسِّطِ فَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّافِهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّافِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِيرَاطِ وَالْحَبَّةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَفِي بِالدِّيَةِ وَيَنْهَدِرُ بِهِ الدَّمُ، وَحَدُّ التَّافِهِ مَا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ الْيَدُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ على عبد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ " فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُقِلَّ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّافِهِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ، وَإِذَا لَزِمَ الْمُقِلَّ رُبُعُ دِينَارٍ وَجَبَ أَنْ يُضَاعَفَ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ دِينَارٍ، كَمَا يَلْزَمُ الْمُوسِرَ فِي النَّفَقَةِ مَثَلًا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، وَإِنْ بَدَأَتْ بِتَقْدِيرِ الْأَكْثَرِ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ فَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُوَاسِي بِهِ الْغَنِيُّ فِي زَكَاتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ، مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَحَمْلُ الْغَنِيِّ نِصْفُ دِينَارٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ تُؤَوَّلُ إِلَى الْإِجْحَافِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى مِقْدَارٍ، وَإِذَا لَزِمَ الْغَنِيَّ نِصْفُ دِينَارٍ وَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْمُقِلِّ عَلَى نِصْفِهِ كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ نِصْفُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ دِينَارٍ فِي حَقِّ الْمُكْثِرِ وَرُبُعِ دِينَارٍ فِي حَقِّ الْمُقِلِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ: أَنَّ هَذَا قَدْرُ مَا يُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَكُونُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْمُكْثِرِ دِينَارٌ وَنِصْفٌ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْمُقِلِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّينَارِ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَقَلِّهِمْ: أَنَّ هَذَا قَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَيَصِيرُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُكْثِرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا سُدُسَ دِينَارٍ، وَالْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُقِلِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ نِصْفَ سُدْسِ دِينَارٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، لِأَنَّ لِكُلِّ سَنَةٍ حُكْمَهَا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْإِبِلِ مَعَ وُجُودِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ تَعْيِينِ إِبِلِ الدِّيَةِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَجَزَّأَ فَيَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجُزْءِ قِيمَتِهِ نِصْفِ دِينَارٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي أَدَاءِ الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ الْعَدَدُ الَّذِي يَكُونُ قِسْطُ الْوَاحِدِ مِنْ ثَمَنِهِ نِصْفَ دِينَارٍ إِنْ كَانَ مُكْثِرًا، وَرُبُعَ دِينَارٍ إِنْ كَانَ مُقِلًّا، وَهَذَا عَدَدٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، لِأَنَّ الْبَعِيرَ قد تزيد قيمته في حال وثقل فِي أُخْرَى، وَإِنْ أَعْوَزَتِ الْإِبِلُ عُدِلَ إِلَى الدَّنَانِيرِ، إِمَّا مُقَدَّرَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، أَوْ بِقِيمَةِ مِائَةِ بَعِيرٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، يَحْمِلُ الْمُكْثِرُ مِنْهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 نِصْفَ دِينَارٍ وَالْمُقِلُّ رُبُعَ دِينَارٍ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِعْوَازُ الْإِبِلِ إِلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنْ قُدِّرَتْ بِاثْنَي عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ تَحَمَّلَ الْمُكْثِرُ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَالْمُقِلُّ ثلاثة دراهم، لأن الدينار فيها مقابلاً لِاثْنَي عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنْ قُدِّرَتْ بِقِيمَةِ مِائَةِ بَعِيرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمُكْثِرُ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَالْمُقِلُّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَوْ قُدِّرَتْ بِالدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا بِقِيمَةِ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِالْإِبِلِ إِلَى قِيمَةِ الْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ يَعْدُلَ بِالدِّينَارِ إِلَى قِيمَةِ الْوَقْتِ، فَيَتَحَمَّلُ الْمُكْثِرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ قِيمَةَ نِصْفِ دِينَارٍ بِسِعْرٍ وَقِيمَةٍ، وَالْمُقِلُّ قِيمَةَ رُبُعِ دِينَارٍ، لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي وَقْتِهَا أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْهُ فِي وَقْتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ويحمل كُلَّ مَا كَثُرَ وَقَلَّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَمَّلَهَا الْأَكْثَرَ دَلَّ عَلَى تَحْمِيلِهَا الْأَيْسَرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْمِلُ كُلَّ مَا كَثُرَ وَقَلَّ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ، تَحْمِلُ دِيَةَ النَّفْسِ فِي الْقَتْلِ وَلَا تَحْمِلُ مَا دُونَ النَّفْسِ وَيَتَحَمَّلُهُ الْجَانِي. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ تَحْمِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي مَا دُونَ الثُّلُثِ. وَقَالَ الزُّهْرِيَّ: يَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي الثُّلُثَ فَمَا دُونَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ نِصْفَ عَشْرِ الدِّيَةِ فَمَا زَادَ، وَيَتَحَمَّلُ الْجَانِي مَا دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ بِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْكَفَّارَةِ وَالْقَسَامَةِ فَاخْتُصَّتْ بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ. وَاسْتَدَلَّ مالك وأحمد بأن العاقل مواسي يَتَحَمَّلُ مَا أَجْحَفَ تَحْصِينًا لِلدِّمَاءِ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ غَيْرَ مُجْحِفٍ فَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ. وَاسْتَدَلَّ الزُّهْرِيُّ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الثُّلُثُ كَثِيرٌ " فَصَارَ مُضَافًا إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لَهُ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَحَمُّلِ نِصْفِ الْعُشْرِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ لِمَا عَدَلَ فِيهِ عَنِ الْقِيَاسِ إِلَى الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 بِأَقَلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَأَقَلُّهُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمِثْلِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسِينَ دينار أَوْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي أَقَلِّ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَكَانَ مَا دُونَهُ مَحْمُولًا عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَمَّا لَمْ يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ جَرَى مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ الْأَمْوَالَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي تَحَمُّلِ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ بَيَّنَهُ النَّصُّ وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَمَّلَ الْعَاقِلَةَ جَمِيعَ الدِّيَةِ وَهِيَ أَثْقَلُ، فيه بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ مَا هُوَ أَقَلُّ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْأَقَلِّ لَمَا نَبَّهَ عَلَى حُكْمِ الْأَثْقَلِ، وَفِي إِلْزَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّصَّيْنِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ. ثُمَّ نُحَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ قِيَاسًا فَنَقُولُ: إِنَّهُ أَرْشُ خَطَأٍ عَلَى نَفْسٍ فَجَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ قِيَاسًا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ مَعَ قَتَادَةَ، وَعَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ مَعَ مَالِكٍ، وَعَلَى نِصْفِ عُشْرِهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ الْجَانِي قَلِيلَ الدِّيَةِ وَكَثِيرَهَا فِي الْعَمْدِ وَجَبَ أَنْ تَحْمِلَ الْعَاقِلَةُ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا فِي الْخَطَأِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ كَثِيرَ الدِّيَةِ تَحَمَّلَ قَلِيلَهَا كالجاني. والثاني: كل قدر تحمله الجاني جاز أن يتحمله الْعَاقِلَةُ كَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي جِنَايَةٍ قَدْرُهَا الثُّلُثُ عِنْدِ مَالِكٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَزِمَهُ لِجِنَايَتِهِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَمِنْ نِصْفِ عُشْرِهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا انْفَرَدَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْقَدْرِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ كَثِيرَ الدِّيَةِ تَحَمَّلَ قَلِيلَهَا كَالْجَانِي. وَالثَّانِي: كُلُّ قَدْرٍ يَتَحَمَّلُهُ الْجَانِي جَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ كَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي جِنَايَةٍ قَدْرُهَا الثُّلُثُ عِنْدِ مَالِكٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لَزِمَهُ لِجِنَايَتِهِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَمِنْ نِصْفِ عُشْرِهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا انْفَرَدَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْقَدْرِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَحَمَّلَتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي الِاشْتِرَاكِ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ فِي الِانْفِرَادِ كَالْكَثِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَحَمَّلَتْهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الْكَثِيرِ جَازَ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ مِنَ الْقَلِيلِ كَالِاشْتِرَاكِ، وَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ مِنْ تَغْلِيظِ حُرْمَةِ النَّفْسِ فَحُرْمَتُهَا لِأَجَلِ حُرْمَةِ الْإِنْسَانِ، وَحُرْمَةُ الْإِنْسَانِ عَامَّةٌ فِي نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْغُرْمِ وَمَحَلِّهِ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ لَا يُجْحِفُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الثُّلُثُ كَثِيرٌ " فَصَارَ ضِدَّ قَوْلِهِ ثُمَّ قَدْ يجحف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 الثُّلُثُ وَأَقَلُّ مِنْهُ بِالْجَانِي إِذَا انْفَرَدَ بِغُرْمِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُقِلًّا، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ فِيهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْعٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْعٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ إِجْزَائِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَتَقْدِيرِ الأرش مجرى الأموال فمنتقص بِالْأُنْمُلَةِ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَيَتَقَدَّرُ أَرْشُهَا بِثُلُثِ الْعُشْرِ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عِنْدَهُ، وَقَدْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ وَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَبَطَلَ مَا اعْتَدَّ بِهِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حِفْظُ الدِّمَاءِ بِالْتِزَامِ الْعَاقِلَةِ لِأُرُوشِهَا وَهَذَا يَصِحُّ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ ثُلُثَ الدِّيَةَ أَدَّتْهُ فِي مضي سنة من يوم جرح المجروح فإن كان أكثر من الثلث فالزيادة في مضي السنة الثانية فإن زاد على الثلثين ففي مضي السنة الثالثة وهذا معنى السنة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا وَجَبَ ثُلُثُ الدِّيَةِ مِنْ جُرْحٍ أَوْ طَرْفٍ أَدَّتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا تَلْتَزِمُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ أَدَاءَ ثُلُثِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَإِنْ وجبت ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي نَفْسٍ كَدِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: تُؤَدِّيهِ الْعَاقِلَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِدِيَةِ الْجُرْحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تُؤَدِّيَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِدِيَةِ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ نَصِفُ الْعَشْرِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ يَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا دية نفس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ مَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أمَّا إِذَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ عَمْدًا فَقَطَعَ يَدَهُ أَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ إِمَّا لِغَيْظٍ أَوْ حَمِيَّةٍ، وَإِمَّا مِنْ سَفَهٍ وَجَهَالَةٍ، فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا إِنْ كَانَ حَيًّا، وَلَا يُؤْخَذُ بِهَا وَارِثُهُ إِنْ كان ميتاً، وعليه الكفارة في ماله، فيكون نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ، وَغَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ حُقُوقِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّهَا لَهُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً فَقَطَعَ يَدَهُ بِانْقِلَابِ سَيْفِهِ عَلَيْهِ أَوْ قَتْلِ نَفْسِهِ بِعَوْدِ سَهْمِهِ إِلَيْهِ فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ كَالْعَمْدِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَعَاقِلَتُهُ بَرَاءٌ مِنْ دِيَتِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: تَتَحَمَّلُ عَاقِلَتُهُ مَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفٍ، وَالْوَرَثَةُ إِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْسٍ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ركب دابة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 له وضربها بخشبة كانت يَدِهِ فَطَارَتْ مِنْهَا شَظْيَةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَدُهُ يَدُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى عَصَبَتِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ اعْوَجَّ سَيْفُهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَبْطَلَ جِهَادَهُ " وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَلَا عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمْدِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخَطَأِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ ضَرَبَ مُشْرِكًا بِالسَّيْفِ فَرَجَعَ السَّيْفُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَامْتَنَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالُوا قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَاتَ مُجَاهِدًا شَهِيدًا " فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ هَذَا جَمِيعُ حُكْمِهِ، وَلَوْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ لَأَبَانَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ بَيَانَ الْأَحْكَامِ عَنْ أَوْقَاتِهَا، وَلِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَةِ الْخَطَأِ فلما أهدر عمده كان خطأه أَهْدَرَ، وَلِأَنَّهُ يُوَاسَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ تَخْفِيفًا عَنْهُ، فَصَارَ هَدَرًا وَجَرَى مَجْرَى اسْتِهْلَاكِهِ مَالَ نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا قَضَاءُ عُمَرَ فَهُوَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 (باب عقل الموالي) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَعْقِلُ الْمَوَالِي الْمُعْتِقُونَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمَوَالِي الْمُعْتَقِينَ وَلَهُ قَرَابَةٌ تَحْمِلُ الْعَقْلَ فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ بَعْضٍ حَمَلَ الْمَوَالِي الْمُعْتِقُونَ الْبَاقِيَ وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضٍ وَلَهُمْ عَوَاقِلُ عَقَلَتْهُ عَوَاقِلُهُمْ فَإِنْ عَجَزُوا وَلَا عَوَاقِلَ لَهُمْ عَقَلَ مَا بَقِيَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعَقْلُ يُتَحَمَّلُ بِالْوَلَاءِ كَمَا يُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " والولاء لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ". وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتُحِقَّ الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِالنَّسَبِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِهِ الْعَقْلُ كَمَا يَتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُنَاسِبُونَ مِنَ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمُونَ فِي الْعَقْلِ عَلَى الْمَوَالِي كَمَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، وَيُقَدَّمُ أَيْضًا الْعَصِبَاتُ عَلَى الْمَوَالِي فِي الْعَقْلِ وَالْمِيرَاثِ كَمَا يُقَدَّمُ أَقْرَبُ الْعَصِبَاتِ عَلَى أَبْعَدِهِمْ، فَإِذَا وجد في أقرب العصبات من يتحمل العقل وقف تحملها عليهم، وخرج من التحمل البعداء مِنَ الْعَصَبَاتِ وَشَارَكُوا فِيهَا الْأَقَارِبَ وَخَرَجَ مِنْهَا والموالي، وَإِنْ عَجَزَ الْأَقْرَبُونَ عَنْهَا تَحَمَّلَهَا الْبُعَدَاءُ وَالْمَوَالِي مِنَ الْعَصَبَاتِ وَشَارَكُوا فِيهَا الْأَقَارِبَ وَخَرَجَ مِنْهَا الْمَوَالِي إِذَا تَحَمَّلَهَا جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ، وَإِنْ عَجَزَ جَمِيعُهُمْ عَنْهَا شَرَكَهُمْ فِيهَا الْمَوَالِي وَكَانُوا أُسْوَةَ الْعَصَبَاتِ فِي تَحَمُّلِهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا الْعَصَبَاتُ وَالْمَوَالِي شَرَكَهُمْ فِيهَا عَصَبَاتُ الْمَوَالِي ثُمَّ مَوَالِي الْمَوَالِي، فَإِنْ عَجَزُوا أَوْ عَدِمُوا تَحَمَّلَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا عَجَزُوا عَنْهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ إِذَا عَدِمُوا؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الدِّينِ يَجْمَعُ عَاقِلَةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَتِهِ كَمَا وَرِثُوهُ، وَصَارَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ كَانَتِ الدِّيَةُ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا دَيْنًا، وَفِي مَحَلِّهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ هَلْ كَانَ ابْتِدَاءُ وُجُوبِهَا عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ أَوْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ. فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْجَانِي ثُمَّ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ لِوُجُوبِهَا بِالْقَتْلِ وَتَحَمَّلَهَا بِالْمُوَاسَاةِ، فَعَلَى هَذَا تُؤْخَذُ مِنَ الْقَاتِلِ لِعَدَمِ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ لَمَّا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِعَقْدٍ أَوِ الْتِزَامٍ وَهِيَ تَلْزَمُهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا الْتِزَامٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ دَيْنًا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرْجَعُ بِهَا عَلَى الْجَانِي وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا لوجوبها على غيره. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " (قَالَ) وَلَا أُحَمِّلُ الْمَوَالِيَ مِنْ أَسْفَلَ عَقْلًا حَتَّى لَا أَجِدَ نَسَبًا وَلَا مَوَالِيَ مِنْ أَعْلَى ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ لَا أَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ وَلَكِنْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَوَالِيَ ضَرْبَانِ: مَوْلًى مِنْ أَعْلَى وَهُوَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ. وَمَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ. فَأَمَّا الْمَوْلَى الْأَعْلَى فَيَعْقِلُ عَنِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَيَرِثُهُ وَحُكْمُ عَقْلِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ فَلَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى، وَفِي عَقْلِهِ عَنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَعْقِلُ عَنْهُ كَمَا لَا يَرِثُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَاتِ وَرِثُوا فَعَقَلُوا، وَهَذَا لَا يرث فلم يعقل، لأن غرم العقل مقابلاً لِغُنْمِ الْمِيرَاثِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْلَى الْأَسْفَلَ يَعْقِلُ كَمَا يَعْقِلُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ وَجَبَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَسْفَلُ عَنِ الْأَعْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ الْأَعْلَى مَعَ إِنْعَامِهِ كَانَ عَقْلُ الْأَسْفَلِ مَعَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى فِي الْعَقْلِ بِمِيرَاثِهِ، فَإِنْ عَجَزَ شَرَكَهُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَيَكُونُ الْأَسْفَلُ مَعَ الْأَعْلَى جَارِيًا مَجْرَى الْأَعْلَى مَعَ الْعَصَبَاتِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 (باب أين تكون العاقلة) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا جَنَى رَجُلٌ جِنَايَةً بِمَكَّةَ وَعَاقِلَتُهُ بِالشَّامِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَبَرٌ مَضَى يَلْزَمُ بِهِ خِلَافَ الْقِيَاسِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْتُبَ حَاكِمُ مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ يَأْخُذُ عَاقِلَتَهُ بِالْعَقْلِ وَقَدْ قِيلَ يُحَمِّلَهُ عَاقِلَةَ الرَّجُلِ بِبَلَدِهِ ثَمَّ أَقْرَبَ الْعَوَاقِلِ بِهِمْ وَلَا يُنْتَظَرُ بِالْعَقْلِ غَائِبٌ وَإِنَ احْتَمَلَ بَعْضُهُمُ الْعَقْلَ وَهُمْ حُضُورٌ فَقَدْ قِيلَ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ (قَالَ) وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَوُوا فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَاقِلَةُ الْجَانِي خَطَأً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا حَضَرُوا مَعَ الْجَانِي فِي بَلَدِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا غَائِبِينَ عَنِ الْجَانِي فِي غَيْرِ بَلَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ حَاضِرًا فِي بَلَدِ الْجَانِي وَبَعْضُهُمْ غَائِبًا عَنْ بَلَدِهِ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ حَاضِرِينَ فِي بَلَدِ الْجَانِي فَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الدَّرَجِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ بُدِئَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ نَسَبًا، فَيُقَدَّمُ الْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ عَلَى الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، فَإِنْ تَحَمَّلَهَا الْأَقْرَبُونَ خَرَجَ مِنْهَا الْأَبْعَدُونَ، وَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا شَرَكَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَبَاعِدِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى يُسْتَوْفَى، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا بُعَدَاؤُهُمْ شَرَكَهُمْ مَوَالِيهِمْ، ثُمَّ عَصَبَاتُ مَوَالِيهِمْ، ثُمَّ بَيْتُ الْمَالِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ ولم يتفاضلوا لم يخلوا قَسْمُ الدِّيَةِ فِيهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِعَدَدِهِمْ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْقُصُ عَنْهُمْ فَتُفَضُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ إِكْثَارٍ وَإِقْلَالٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَزِيدَ عَلَى عَدَدِهِمْ كَأَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ نِصْفَهَا وَيَعْجَزُونَ عَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 باقيها، فتفض عَلَى مَا احْتَمَلُوا مِنْهَا، وَيُنْقَلُ مَا عَجَزُوا عَنْهُ إِلَى الْمَوَالِي، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَإِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقُصَ الدِّيَةُ عَنْ عَدَدِهِمْ وَيُمْكِنَ أَنْ تَنْقُصَ عَلَى بَعْضِهِمْ، لِأَنَّهَا تَتَقَسَّطُ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَهُمْ مِائَتَانِ ففيه قولان: أحدهما: أنها تقضى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَوْ تَحَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِيرَاطًا، وَلَا يُخَصُّ بِهَا بَعْضُهُمْ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِهِمْ فيها. والقول الثاني: أنها تقضى عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ وَيُخَصُّ بِهَا مِنْهُمُ الْعَدَدُ الَّذِي يُرَافِقُ تَحَمُّلَهَا، وَيَكُونُ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ خَارِجًا مِنْهَا، وَيَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا فِي فَضِّهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بِوَاجِبٍ وَتُتْرَكُ بِعَفْوٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى مَنْ كَانَ أَسْرَعَ إِجَابَةً إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا خَصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ مَا يَتَحَمَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَجُزِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لم يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْهُ، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَعْلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي أَخْذِهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ هَلْ وَهِمَ فِيهِ أَوْ سَلِمَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سَلِمَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ حَصَلَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ سَهْوٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا حَصَلَ فِيهِ سَهْوٌ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ، لِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، لِأَنَّ العقل لزم الكل، فإن أُخِذَ مِنْ بَعْضِهِمْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْعَقْلِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي اللُّزُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ حَصَلَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ سَهْوٌ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَحْذُوفِ بِالسَّهْوِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ لَا يَأْخُذُهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَسَهَا النَّاقِلُ عَنْهُ فَحَذَفَ " لَا " فَصَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ يَأْخُذُهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَزِمَ الْكُلَّ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي إِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ إِذَا أَخَذَهَا مِنَ الْبَعْضِ فَسَهَا النَّاقِلُ عَنْهُ فِي حَذْفِ الْأَلِفِ الَّتِي أَسْقَطَهَا مِنْ " لَا أَنْ " حِينَ نَقلَ لِأَنَّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاقِلَتِهِ غُيَّبًا عَنْ بَلَدِهِ كَأَنَّهُ جَنَى بِمَكَّةَ وَعَاقِلَتُهُ الشَّامُ، فَعَلَى حَاكِمِ مَكَّةَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى حَاكِمٍ بِالشَّامِ حَتَّى يَفُضَّهَا عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 عَاقِلَتِهِ بِالشَّامِ، وَلِحَاكِمِ مَكَّةَ فِيمَا يُكَاتِبُ حَاكِمَ الشَّامِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ: أَنْ يَكْتُبَ بِهِ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً مَضْمُونًا، فَيَذْكُرُ الْقَاتِلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَيَذْكُرُ الْمَقْتُولَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَإِسْلَامِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، لِاخْتِلَافِ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ قَبِيلَةَ الْمَقْتُولِ وَإِنْ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ قَبِيلَةَ الْقَاتِلِ لِتَوْجِيهِ الْحُكْمِ عَلَى قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ، فَيَكُونُ حَاكِمُ مَكَّةَ نَاقِلًا لِثُبُوتِ الْقَتْلِ الْمَضْمُونِ مِنَ الْقَاتِلِ لِلْمَقْتُولِ، وَيَخْتَصُّ حَاكِمُ الشَّامِ بِالْحُكْمِ فَيَحْكُمُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَيَحْكُمُ بِفَضِّهَا عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَيَحْكُمُ بِاسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ عِنْدَ حُلُولِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكْتُبَ حَاكِمُ مَكَّةَ بِثُبُوتِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَيَحْكُمُ بِالدِّيَةِ فِيهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَهُمْ بَنُو فُلَانٍ إِشَارَةً إِلَى قَتِيلِهِمْ. فإن قيل: فكيف نقضي عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَيْرُ حُضُورٍ وَلَا مُعَيَّنِينَ؟ قِيلَ: لِأَنَّ حُكْمَهُ عَلَى عُمُومِ الْقَبِيلَةِ لَا عَلَى أَعْيَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا لِتَوَجُّهِ الْحُكْمِ إِلَى عُمُومِهِمْ دُونَ أَعْيَانِهِمْ، فَيَحْتَاجُ حَاكِمُ الشَّامِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَضِّهَا عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَيَحْكُمُ بِاسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَاكِمِ مَكَّةَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسَعُ حَاكِمُ مَكَّةَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا فِي فَضِّهَا وَاسْتِيفَائِهَا؛ لأن أعيان من تقضى عَلَيْهِ وَتُسْتَوْفَى مِنْهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عِنْدَ الْحُلُولِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ فِي الْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَكِنْ يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ: وَحَكَمْتُ عَلَى كُلِّ مُوسِرٍ مِنْهُمْ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَعَلَى كُلِّ مُقِلٍّ بِرُبُعِ دِينَارٍ، فَيَقْطَعُ اجْتِهَادَ حَاكِمِ الشَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى حَاكِمِ الشَّامِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ عَاقِلَتِهِ حُضُورًا بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا بِالشَّامِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُونَ نَسَبًا حُضُورًا بِمَكَّةَ وَالْأَبْعَدُونَ نَسَبًا غُيَّبًا بِالشَّامِ فَيَفُضُّهَا حَاكِمُ مَكَّةَ عَلَى الْأَقْرَبِينَ بِمَكَّةَ، فَإِنِ احْتَمَلُوهَا خَرَجَ مِنْهَا الْأَبْعَدُونَ بِالشَّامِ لِاخْتِصَاصِ مَنْ حَضَرَ بِقُرْبِ الدَّارِ وَقُرْبِ النَّسَبِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا كَتَبَ حَاكِمُ مَكَّةَ بِالْبَاقِي مِنْهَا إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ مِنَ الْأَبَاعِدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَبْعَدُونَ نَسَبًا حُضُورًا بِمَكَّةَ وَالْأَقْرَبُونَ نَسَبًا غَيْبًا بِالشَّامِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أحدهما: أنها تقضي عَلَى الْأَقْرَبِينَ نَسَبًا بِالشَّامِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالنَّسَبِ الَّذِي يستحق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 بِهِ الْمِيرَاثُ، وَالْمِيرَاثُ مُسْتَحَقٌّ بِقُرْبِ النَّسَبِ لَا بِقُرْبِ الدَّارِ، كَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكْتُبُ بِهَا حَاكِمُ مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ فَإِنْ وَفَّوْا بِهَا وَإِلَّا فَضَّ حَاكِمُ مَكَّةَ بَاقِيَهَا عَلَى مَنْ بَعُدَ نَسَبُهُ مِنَ الْحُضُورِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِمَكَّةَ وَإِنْ كَانُوا أَبْعَدَ نَسَبًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ مُعْتَبَرٌ بِالنُّصْرَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْقَاتِلِ، وَمَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مَعَ بُعْدِ نَسَبِهِ مِمَّنْ بَعُدَتْ دَارُهُ مَعَ قُرْبِ نَسَبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ فَيَفُضُّهَا حَاكِمُ مَكَّةَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ وَفَّوْا بِهَا خَرَجَ مِنْهَا مَنْ بِالشَّامِ مِنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْهَا فَضَّ بَاقِيَهَا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ مِنْهُمْ، وَكُتِبَ بِهِ بحَاكِم مَكَّةَ إِلَى حَاكِمِ الشَّامِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْغَائِبِينَ أَقْرَبَ دَارًا مِنْ بَعْضٍ مَضَى بَاقِيهَا عَلَى أَقْرَبِهِمْ دَارًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَبَعْضُهُمْ بِالشَّامِ فَيَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِ بَاقِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الشَّامِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَى أَنْسَابُ مَنْ حَضَرَ بِمَكَّةَ وَمَنْ غَابَ بِالشَّامِ فَيَكُونُوا كُلُّهُمْ أَقَارِبَ أَوْ أَبَاعِدَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَسْتَوْعِبَ الدِّيَةُ جَمِيعَهُمْ فَتُفَضُّ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَغَابَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُكْتَفَى بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْحُضُورِ أَوِ الْغُيَّبِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ جَمِيعًا اعْتِبَارًا بِالتَّسَاوِي فِي النَّسَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُفَضُّ عَلَى الحاضرين دون الغائبين [إذا قيل: إن بعد الدار أولى في الإسقاط. والقول الثالث: أن الحاكم بالخيار في أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ دُونَ الْغَائِبِينَ أَوْ أن يفضها على الغائبين دون الحاضرين] أَوْ أَنْ يَفُضَّهَا عَلَى بَعْضِ الْحَاضِرِينَ وَبَعْضِ الْغَائِبِينَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ بُعْدَ الدَّارِ لَا يُؤَثِّرُ وَإِنَّ الْعَدَدَ إِذَا زَادَ فُضَّ عَلَى الْبَعْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 (باب عقل الحلفاء) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَعْقِلُ الْحَلِيفُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضَى بِذَلِكَ خَبَرٌ وَلَا الْعَدِيدُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ إِنَّمَا يَعْقِلُ بِالنَّسَبِ أَوِ الْوَلَاءِ الَّذِي كَالنَّسَبِ وَمِيرَاثُ الْحَلِيفِ وَالْعَقْلُ عَنْهُ مَنْسُوخٌ وَإِنَمَا يَثْبُتُ مِنَ الْحلفِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ وَالْيَدُ وَاحِدَةً لَا غَيْرَ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ كَانَ التَّوَارُثُ وَالْعَقْلُ مُعْتَبَرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: بِالنَّسَبِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْحِلْفِ، وَالْعَدِيدِ، وَالْمُوَالَاةِ. فَأَمَّا النَّسَبُ، وَالْوَلَاءُ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ بِهِمَا. وَأَمَّا الْحِلْفُ: فَهُوَ أَنْ تَتَحَالَفَ الْقَبِيلَتَانِ عِنْدَ اسْتِطَالَةِ أَعْدَائِهَا عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّظَافُرِ لِتَمْتَزِجَ أَنْسَابُهُمْ وَيَكُونُوا يَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَعَاقَلُونَ، أَوْ يَتَحَالَفُ الرَّجُلَانِ عَلَى ذَلِكَ فَيَصِيرَا كَالْمُتَنَاسِبَيْنِ فِي التَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ حِينَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَمَعُونَةِ الْحَجِيجِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ، وَمَا زَادَهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَمَا يَسُرُّنِي بِحَلِّهِ حُمرُ النَّعَمِ ". وَفِيهِ تَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْحِلْفِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثُمَّ نُسِخَ التوارث بالحلف بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] . فَأَمَّا تَحَمُّلُ الْعَقْلِ بِالْحِلْفِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحُلَفَاءَ يتعاقلون إلا أن يكونوا متناسبين فيتعاقلون [بالنسب دون الحلف. وحكي عن مالك بن أنس ومحمد بن الحسن أن الحلفاء يتعاقلون] بِالْحِلْفِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاسَبُوا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثَمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ قَدْ قتلتم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ خُزَاعَةَ وَبَنِي كَعْبٍ كَانُوا حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ فَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عَنْهُمْ بِالْحِلْفِ مَعَ التَّبَاعُدِ فِي النَّسَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ قَوْله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِأَحْكَامِ النَّسَبِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يُحَالِفَ رَجُلًا فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: " لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ " أَيْ لَا حُكْمَ لَهُ، لِأَنَّ الْحِلْفَ إِنْ كان على معصية كان باطلاًن وَإِنْ كَانَ عَلَى طَاعَةٍ فَدِينُ الْإِسْلَامِ يُوجِبُهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْحِلْفِ تَأْثِيرٌ، وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ أَوْكَدُ مِنَ الْحِلْفِ، ثُمَّ لَا تُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ، فَكَانَ الْحِلْفُ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَهُ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقْلَ خُزَاعَةَ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَحَمَّلَ عَقْلَهُمْ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحَمُّلُهُ عَنْهُمْ حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَأَنَا وَاللَّهِ عَاقِلُهُ " أَيْ أَحْكُمُ بِعَقْلِهِ. وَأَمَّا الْعَدِيدُ: فَهُوَ أَنَّ الْقَبِيلَةَ الْقَلِيلَةَ الْعَدَدِ تَعُدُّ نَفْسَهَا عِنْدَ ضَعْفِهَا عَنِ الْمُحَامَاةِ في جملة قبيلة كثيرة العدد قوية الشوكة لِيَكُونُوا مِنْهُمْ فِي التَّنَاصُرِ وَالتَّظَافُرِ وَلَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ فِي سِلْمٍ وَلَا حَرْبٍ، أَوْ يُنَافِرُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ قَوْمَهُ فَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْهُمْ وَيَنْضَمُّ إِلَى غَيْرِهِمْ وَيَعُدُّ نَفْسَهُ مِنْهُمْ فَهَذَا أَضْعَفُ الْحِلْفِ، لِأَنَّ فِي الْحِلْفِ أَيْمَانًا مُلْتَزَمَةً وَعُقُودًا مُحْكَمَةً وَهَذَا اسْتِجَارَةٌ وَغَوْثٌ فَلَمْ يَتَوَارَثْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ تَوَارُثِهِمْ بِالْحِلْفِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ، وَلَا أَعْرِفُ قَائِلًا بِوُجُوبِ عَقْلِهِ. وَأَمَّا الْمُوَالَاةُ، فَهُوَ أَنْ يَتَعَاقَدَ الرَّجُلَانِ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُمَا عَلَى أَنْ يَمْتَزِجَا فِي النَّسَبِ وَالنُّصْرَةِ لِيَعْقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صاحبه [ويرثه، فهذا عقد فاسد على مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء لا يوجب توارثاً، ولا عقلاً، وأجازه أبو حنيفة وقال: لا يرث واحد منهما صَاحِبِهِ] إِلَّا أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ تَوَارَثَا، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي التَّوَارُثِ بِالْوَلَاءِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 (بَابُ عَقْلِ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَعَقْلِ أهل الذمة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا كَانَ الْجَانِي نُوبِيًّا فَلَا عَقْلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النُّوبَةِ حَتَّى يَكُونُوا يُثْبِتُونَ أَنْسَابَهُمْ إِثْبَاتَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ قبيلة أعجمية أو القبط أو غيره فإن لم يكن له ولاء يعلم فعلى المسلمين لما بينه وبينهم من ولاية الدين وإنهم يأخذون ماله إذا مات ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ النُّوبِيَّ إِذَا جَنَى عَقَلَتْ عَنْهُ النُّوبَةُ، وَكَذَلِكَ الزَّنْجِيُّ وَسَائِرُ الْأَجْنَاسِ يَعْقِلُ عَنْهُمْ مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ أَجْنَاسِهِمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَسَبَهُمْ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَنَاصَرُونَ بِالْجِنْسِ كَمَا تَتَنَاصَرُ الْعَرَبُ بِالْأَنْسَابِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْجِنْسُ لَا يُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ إِلَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنْسَابَهُمْ وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ أَقَارِبِهِمْ فِيهَا وَأَبَاعِدِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلْمِيرَاثِ وَالْجِنْسُ لَا يُوجِبُ التَّوَارُثَ فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: قَدْ يَجْمَعُهُمُ اتِّفَاقُ الْبُلْدَانِ وَاتِّفَاقُ الصَّنَائِعِ كَمَا يَجْمَعُهُمُ اتِّفَاقُ الْأَجْنَاسِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ تَعْقِلَ النُّوبَةُ عَنِ النُّوبِيِّ لَجَازَ أَنْ يَعْقِلَ أَهْلُ مكة عن المكي وأهل البصرى عَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّنَائِعِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ مَدْفُوعًا بِالْحِجَاجِ، وَهَكَذَا الْعَجَمُ لَا يَعْقِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ إِلَّا بِالْأَنْسَابِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ الَّذِي لَا يعرف له نسب ولا يَعْقِلُ عَنْهُ مُلْتَقِطُهُ وَلَا الْقَبِيلَةُ الَّتِي نُبِذَ فِيهَا وَالْتُقِطَ مِنْهَا، وَهَكَذَا لَوْ جَنَى رَجُلٌ قُرَشِيٌّ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ هُوَ لَمْ تَعْقِلْ عَنْهُ قُرَيْشٌ كُلُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ هُوَ مِنْ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ أَبَاعِدَ قُرَيْشٍ إِنَّمَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَجْزِ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ لِلْجَهْلِ بِنَسَبِهِ فِيهِمْ سَقَطَ تَحَمُّلُ عَقْلِهِ عَنْهُمْ وَصَارَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا عَوَاقِلَ لَهُمْ بِالْأَنْسَابِ فَيَعْقِلُ عَنْهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بيت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 مَالِهِمْ كَمَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لَهُمْ لِمَا يَجْمَعُهُمْ مِنْ وَلَايَةِ الدِّينِ كَمَا يَعْقِلُ عَنْهُ مَوَالِيهِ لِمَا يَجْمَعُهُمْ مِنْ وَلَايَةِ الْوَلَاءِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى نَسَبٍ فَهُوَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى دَعْوَى النَّسَبِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْوَاحِدُ يَدَّعِي أَبًا فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْأُبُوَّةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ أَوْ يَدَّعِي الْوَاحِدُ ابْنًا فَيَقُولُ: هَذَا ابْنِي، فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ جَمِيعُ مَنْ نَاسَبَهُمَا عَوَاقِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا ادَّعَاهُ رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُهُ لَمْ يُقْبَلْ دَعْوَاهُ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْبَيِّنَةِ بِالْفِرَاشِ أَقْوَى مِنْ لُحُوقِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِأَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالْفِرَاشِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِنَسَبِهِ وَكَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِالْأَوَّلِ يَمْنَعُ مِنْ نَفْيِهِ عَنْهُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ إِلَّا أَنْ تَشْهَدَ بِالْفِرَاشِ وَإِلَّا فَشَهَادَتُهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى السَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ " فَهَذَا حُكْمُ تَأْوِيلِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَول. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى دَعْوَى النَّسَبِ الْعَامِّ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَقُرَيْشٌ تَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُنْكِرُهُ، أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنُو هَاشِمٍ يَسْمَعُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ فَيُحْكَمُ بِنَسَبِهِ فِيهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى دَعْوَى نَسَبِهِمْ وَبِمِثْلِ هَذَا تَثْبُتُ أَكْثَرُ الْأَنْسَابِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ مَنْ أَنْكَرَ نَسَبَهُ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: لَسْتَ مِنْهُمْ لَمْ يُقْبَلْ نَفْيُهُ لَهُ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا شَاعَ هَذَا الْقَوْلُ وَذَاعَ حَكَمْتُ بِهِ وَنَفَيْتُهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْقَوْلِ مَحْكُومٌ بِهِ فِي ثُبُوتِ الْأَنْسَابِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِهِ فِي نَفْيِهَا، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْتَشِرَ فِي الْأَنْسَابِ كَالْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ تُسْمَعُ مِنَ النَّسَبِ وَلَا تُسْمَعُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَذَلِكَ شَائِعُ الْخَبَرِ، وَيَكُونُ عَلَى لُحُوقِهِ بِهِمْ حَتَّى تَشْهَدَ بَيِّنَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَحَدِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِالسَّمَاعِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " وَلَا يُدْفَعُ نَسَبٌ بِالسَّمَاعِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى أَهْلِ الْعَهْدِ أَلْزَمْنَا عَوَاقِلَهُمُ الَّذِينَ تَجْرِي أَحْكَامُنَا عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ لَا يَجْرِي حُكْمُنَا عَلَيْهِمْ أَلْزَمْنَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 الْجَانِيَ ذَلِكَ وَلَا يُقْضَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَصَبَةً لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَهُ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مَالَهُ عَلَى الْمِيرَاثِ إِنَمَا يَأْخُذُونَهُ فَيْئًا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَى الذِّمِّيُّ فِي دار الإسلام جناية خطأ فله حالتان: أحدهما: أن تكون له عاقلة من مناسبيه. والثاني: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يَعْقِلُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَرِثُوهُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ قَاطِعٌ لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ فَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ دِيَاتُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ وَعَاقِلَتُهُ يَهُودًا كُلَّهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ يَهُودِيًّا وَعَاقِلَتُهُ نَصَارَى؛ لِأَنَّ الكفر كله ملة واحدة، ولا يخلوا حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا أَوْ لَا تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا لِمَقَامِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ الْجَانِي كَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّنَاصُرِ، وَظُهُورِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَوَارَثُوا؛ فَكَذَلِكَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَعْقِلُوا، وَإِنْ جَرَتْ أَحْكَامُنَا عَلَى عَاقِلَةٍ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ إِنْ شَارَكُوهُ فِي النَّسَبِ وَوَافَقُوهُ فِي الذِّمِّيَّةِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَتَنَاصَرُونَ فِيهَا فَبَطَلَ التَّعَاقُلُ بَيْنَهُمْ لِذَهَابِ التَّنَاصُرِ مِنْهُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَنْسَابِ الَّتِي يَتَوَارَثُونَ بِهَا تُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْحَقِّ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ. (فَصْلٌ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلذِّمِّيِّ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَعْقِلُ عَنْهُ أَهْلُ جِزْيَتِهِ الَّذِينَ فِي كَوْرَتِهِ لِأَنَّهُمْ مُشَارِكُوهُ فِي ذِمَّتِهِ وَجِزْيَتِهِ كَمَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَمَعَهُمُ الْحَقُّ فَصَحَّتْ مُوَالَاتُهُمْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعَهُمُ الْبَاطِلُ فَبَطَلَتْ مُوَالَاتُهُمْ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَعْيَانُ الْأَجَانِبِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْقِلُوا عَنِ الذِّمِّيِّ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ مَالِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّمَا صَارَ مِيرَاثُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ إِرْثًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَعَقَلَ عَنِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ إِلَيْهِ إِرْثًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 (فَصْلٌ) وَإِذَا اسْتَرْسَلَ سَهْمُ الْيَهُودِيِّ خَطَأً عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ قَبْلَ وُصُولِ السَّهْمِ ثُمَّ وَصَلَ فَقَتَلَ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ عَصَبَاتُهُ مِنَ الْيَهُودِ لِوُصُولِ السَّهْمِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَهُودِيَّتِهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ، وَتُحْمَلُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَوْ قَطَعَ يَهُودِيٌّ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ عَقَلَتْ عَنْهُ عَصَبَتُهُ مِنَ الْيَهُودِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فِي يَهُودِيَّتِهِ وَإِنِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِإِسْلَامِهِ، وَخَالَفَ الْقَطْعُ إِرْسَالَ السَّهْمِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مَعَ الْقَطْعِ وَحُدُوثِهَا بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ عَقَلَ عَنْهُ عَصَبَاتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِإِسْلَامِهِ عِنْدَ جِنَايَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 (بَابُ وَضْعِ الْحَجَرِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَضْعُهُ وحفر البئر وميل الحائط) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا وَآخَرُ حَدِيدَةً فَتَعَقَّلَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ فَعَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ كَانَ مَضْمُونًا، وَإِنْ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ كَانَ هَدَرًا فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا إِمَّا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَوَضْعُهُ مَحْظُورٌ، فَإِنْ عَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ وَاضِعُ الْحَجَرِ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ لِحَظْرِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ، وَالْقَتْلُ يُضْمَنُ بِالسَّبَبِ كَمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشِرَةِ، وَلَوْ دَفَعَهُ رَجُلٌ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ فَمَاتَ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى الدَّافِعِ لَهُ لَا عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَقْوَى مِنَ السَّبَبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَجَرِ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَدِيَةُ الْعَاثِرِ هَدَرٌ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا، دَخَلَ بِإِذْنٍ أَوْ غَيْرِ إِذْنٍ، لِإِبَاحَةِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ وَضَعَ حَجَرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا، وَوَضَعَ آخَرُ حَدِيدَةً بِقُرْبِهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا، فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ فَضَمَانُ دِيَتِهِ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ دُونَ وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى الْحَدِيدَةِ بِعَثْرَةِ الْحَجَرِ فَصَارَ وَاضِعُهُ كَالدَّافِعِ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ كَانَتِ الْحَدِيدَةُ سِكِّينًا قَاطِعَةً فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِهَا دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ، لِأَنَّ السِّكِّينَ الْقَاطِعَةَ مُوجِيَةٌ وَالْحَجَرَ غَيْرُ مُوجٍ. وَهَكَذَا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ رَجُلًا عَلَى سِكِّينٍ فِي يَدِ قَصَّابٍ فَانْذَبَحَ بِهَا أَنَّ دِيَتَهُ عَلَى الْقَصَّابِ دُونَ الدَّافِعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُبَاشَرَةٌ يَضْمَنُ بِهَا الْمَدْفُوعَ، سَوَاءٌ أَلْقَاهُ عَلَى مُوجٍ أَوْ غَيْرِ مُوجٍ، وَلَوْ عَثَرَ بِالْحَدِيدَةِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَجَرِ فَمَاتَ كَانَ ضَمَانُهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 عَلَى وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ صَاحِبُ الْحَدِيدَةِ كَالدَّافِعِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَجَرِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِهِ وَصَاحِبُ الْحَدِيدَةِ مُتَعَدِّيًا فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ فَوَقَعَ عَلَى الْحَدِيدَةِ فَمَاتَ ضَمِنَهُ وَاضِعُ الْحَدِيدَةِ دُونَ وَاضِعِ الْحَجَرِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْحَجَرِ مُبَاحٌ، فَصَارَتِ الْجِنَايَةُ مَنْسُوبَةً إِلَى وَاضِعِ الْحَدِيدَةِ لِتَعَدِّيهِ، وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالدَّفْعِ الْمُلْغِي لِخُرُوجِهِ عَنِ التَّعَدِّي وَالْحَظْرِ، وَهَكَذَا لَوْ بَرَزَتْ نَبَكَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فَعَثَرَ بِهَا هَذَا الْمَارُّ فَسَقَطَ عَلَى الْحَدِيدَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمَاتَ ضَمِنَ وَاضِعُهَا دِيَتَهُ، لِأَنَّ بُرُوزَ النَّبَكَةِ الَّتِي عَثَرَ بِهَا لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فَأَوْجَبَهُ وَضْعُ الْحَجَرِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ أَخْرَجَ طِينًا مِنْ دَارِهِ لِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ لِيَسْتَعْمِلَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَعَثَرَ بِهِ بَعْضُ الْمَارَّةِ فَسَقَطَ مَيِّتًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا أَوِ الطِّينُ كَثِيرًا فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِهِ، فِيهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا وَالطِّينُ قَلِيلًا وَقَدْ عَدَلَ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الْمَارَّةِ إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِهِ وَلَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِهِ بُدًّا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ ضَمِنَ كَتَأْدِيبِ الْمُعَلِّمِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ وُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (فَصْلٌ) وَلَوْ رَشَّ مَاءً فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَزَلِقَ فِيهِ بَعْضُ الْمَارَّةِ فَسَقَطَ مَيِّتًا ضَمِنَ دِيَتَهُ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَحْظُورٍ، وَهَكَذَا لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قُشُورَ بِطِّيخٍ أَوْ فَاكِهَةٍ قَدْ أَكَلَهَا فَزَلِقَ بِهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ ضَمِنَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَالَتْ دَابَّتُهُ فِي الطَّرِيقِ فَزَلِقَ إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ رَمَحَتْ بِرِجْلِهَا وليس صحابها مَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ " يَعْنِي: الْبَهِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا حِينَ بَالَتْ مَعَهَا ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِزَلَقِ بَوْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ قَائِدًا أَوْ سَائِقًا لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا فَجَرَى بَوْلُهَا الَّذِي فِي الطَّرِيقِ مَجْرَى بَوْلِهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ضمان ما تلف به. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حَفَرَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ مُحْتَمِلٍ فَمَاتَ بِهِ إِنْسَانٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَفْصِيلُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي حَفْرِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْفِرَهَا في الموات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 وَالرَّابِعُ: أَنْ يَحْفِرَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي مِلْكِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا مِنْ بَهِيمَةٍ، أَوْ إِنْسَانٍ، بَصِيرٍ أَوْ ضَرِيرٍ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ بِأَمْرٍ أَوْ غَيْرِ أَمْرٍ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَلَكِنْ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَمَرِّ دَارِهِ وَغَطَّاهَا عَنِ الْأَبْصَارِ وَدَخَلَ إِلَيْهَا مَنْ سَقَطَ فِيهَا فَمَاتَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّاخِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُولِ وَنَفْسُهُ هَدَرٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكْرِهَهُ الْحَافِرُ عَلَى الدُّخُولِ، فَيَضْمَنُ دِيَتَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الدُّخُولِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْخُلَهَا مُخْتَارًا بِإِذْنِ الْحَافِرِ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ بِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا وَهُوَ بَصِيرٌ وَلَهَا آثَارٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا آثَارٌ أَوْ كَانَ لَهَا آثَارٌ وَالدَّاخِلُ أَعْمَى فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ نَفْسُ الْوَاقِعِ فِيهَا هَدَرًا، لِأَنَّهُ دَخَلَ بِاخْتِيَارٍ وَالْحَفْرُ مُبَاحٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ الْحَافِرُ دِيَةَ الْوَاقِعِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ سَمَّ طَعَامًا وَأَذِنَ فِي أَكْلِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفِرَهَا الْمَالِكُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا عَلَى الْحَافِرِ وَلَا عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَيَخْرُجُ الْحَافِرُ بِالْإِذْنِ مِنْ عَوَاقِبِ الْحَفْرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْفِرَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا فَالْحَافِرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا وَهُوَ الضَّامِنُ لِمَا تَلِفَ فِيهَا مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، سَوَاءٌ قَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى سَدِّهَا أَوْ لَمْ يَقْدِرْ لِخُرُوجِهِ عَنْ عُدْوَانِ الْحَفْرِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَافِرُ أَنْ يُطِمَّهَا لِيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِهَا أَخَذَ الْمَالِكُ بِتَمْكِينِهِ مِنْ طَمِّهَا لِيَبْرَأَ مِنْ ضَمَانِ مَا سَقَطَ فِيهَا، فَإِنْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنَ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَرَاءَةٌ بَاطِلَةٌ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْوُجُوبِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ بِتَمْكِينِ الْحَافِرِ مِنْ طَمِّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَبْرَأُ وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ جَارِيًا وَمَجْرَى الْإِذْنِ بِالْحَفْرِ، فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ الْحَافِرُ مِنْ طَمِّهَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي الْمَوَاتِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفِرَهَا لِنَفْسِهِ لِيَتَمَلَّكَهَا فَيُمَكَّنُ، وَيَصِيرُ مَالِكًا لَهَا بِالْإِحْيَاءِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا سَقَطَ فِيهَا كَمَا لَا يَضْمَنُهُ فِيمَا حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ مَالِكٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَنْتَفِعَ هُوَ وَالسَّابِلَةُ بِمَائِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا فَيُنْظَرُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي حَفْرِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَقَطَ فِيهَا لِقِيَامِ الْإِمَامِ بِعُمُومِ الْمَصَالِحِ وَإِذْنُهُ حُكْمٌ بِالْإِبْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ فِي حَفْرِهَا فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَجَعَلَ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي الْجَوَازِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْحَافِرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ بِإِذْنِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضُرَّ حَفْرُهَا بِالْمَارَّةِ فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، لِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ لَا يُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَضُرَّ بِالْمَارَّةِ؛ لِسَعَةِ الطَّرِيقِ وَانْحِرَافِ الْبِئْرِ عَنْ جَادَّةِ الْمَارَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا فَهَذَا مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ طَرِيقَ السَّابِلَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْفِرَهَا لِلِارْتِفَاقِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، فَإِنْ لَمْ يُحْكِمْ رَأْسَهَا وَتَرَكَهَا مَفْتُوحَةً ضَمِنَ مَا سَقَطَ فِيهَا، وَإِنْ أَحْكَمَ رَأْسَهَا وَاسْتَأْذَنَ فِيهَا الْإِمَامَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِيهَا فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِلِارْتِفَاقِ الَّذِي لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ حَفَرَهَا لِارْتِفَاقِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا. إِمَّا لِشُرْبِهِمْ مِنْهَا. وَإِمَّا لِيُفِيضَ مِيَاهَ الْأَمْطَارِ إِلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَفْرَهَا لِيَخْتَصَّ بِالِارْتِفَاقِ بِهَا لِحَشْرِ دَارِهِ أَوْ لِمَاءِ مَطَرِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْمَصَالِحِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 خُصُوصِهَا، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " البئر جبار والمعدن جبار " [وفيه] تأويلان: أحدهما: المراد به الأجبر فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَالْمَعْدِنُ إِذَا تَلِفَ كَانَ هَدَرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا سَقَطَ فِيهَا بَعْدَ الْحَفْرِ هَدَرٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا اسْتُبِيحَ فِعْلُهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالْمَارَّةِ لِضِيقِ الطَّرِيقِ أَوْ سَعَةِ الْمَسْجِدِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الْمَارَّةِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ بَنَاهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: لِأَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ، وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا فِي مَسْجِدٍ فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ فَرَشَ فِيهِ بَارِيَّةً أَوْ حَصِيرًا فعثر به داخل إِلَيْهِ فَخَرَّ مَيِّتًا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُجْرِيهِ مُجْرَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ وَخَالَفَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَقَالُوا: لَا يَضْمَنُ وَجْهًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِكَثْرَتِهِ فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ شَقَّ. (فَصْلٌ) وَإِذَا اسْتَقَرَّ حَفْرُ الْبِئْرِ بِحَقٍّ فَوَقَعَ فِيهَا وَاقِعٌ وَوَقَعَ فَوْقَهُ آخَرُ وَحَدَثَ مِنْ ذَلِكَ مَوْتٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ الثَّانِي خَلْفَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ جَذْبٍ وَلَا دَفْعٍ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ فَدِيَتُهُ هَدَرٌ، لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِغَيْرِهِ فِي مَوْتِهِ، وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا وَجَبَتْ دِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَكَانَتْ دِيَةُ الثَّانِي هَدَرًا لِمَا ذَكَرْنَا، رَوَى عُلَيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ أَنَّ بَصِيرًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَ الْبَصِيرِ فَقَتَلَهُ فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى فَكَانَ الْأَعْمَى يَنْشُدُ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا ... هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا) (خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا ... ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْذِبَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ فَيَقَعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ كَانَتْ دِيَتُهُ هَدَرًا وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي كَانَتْ دِيَتُهُ كُلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْجَاذِبَ هُوَ الْقَاتِلُ وَالْأَوَّلُ جَاذِبٌ وَالثَّانِي مَجْذُوبٌ، فَصَارَ الْأَوَّلُ ضَامِنًا غَيْرَ مَضْمُونٍ، وَالثَّانِي مَضْمُونًا غَيْرَ ضَامِنٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ وقع عليه الثاني ثم وقع عليهما ثالثا، فَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُمْ مِنْ غَيْرِ جَذْبٍ وَلَا دَفْعٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 مَاتَ بِوُقُوعِهِمَا عَلَيْهِ فَاشْتَرَكَا فِي دِيَتِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَلَفِهِ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالْوُقُوعِ عَلَيْهِ فَانْفَرَدَ بِدِيَتِهِ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ وُقُوعِهِ، وَإِنْ جَذَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَجَذَبَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَجَذَبَ الثَّانِي الثَّالِثَ فَإِذَا مَاتُوا جَمِيعًا كَانَ مَوْتُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِفِعْلٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَمَوْتُ الثَّالِثِ بِفِعْلٍ لَمْ يُشَارِكْهُمَا فِيهِ، لِأَنَّ مَوْتَ الْأَوَّلِ كَانَ بِجَذْبِهِ لِلثَّانِي وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَمَوْتُ الثَّانِي بِجَذْبِ الْأَوَّلِ وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ فَصَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُشْتَرِكَيْنِ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمُصْطَدِمَيْنِ، وَكَانَ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَةِ الثَّانِي وَبَاقِيهَا هدر، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي نِصْفُ دِيَةِ الْأَوَّلِ وَبَاقِيهَا هَدَرٌ، فَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ، فَتَكُونُ جَمِيعُ دِيَتِهِ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَا يَضْمَنُ دِيَةَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَاذِبٍ وَفِيمَنْ يَضْمَنُ دِيَتَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِجَذْبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي يَضْمَنُهَا الثَّانِي وَالْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوَاءِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا جَذَبَ الثَّانِيَ وَجَذَبَ الثَّانِي الثَّالِثَ صَارَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي جَذْبِ الثَّالِثِ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَا فِي ضَمَانِ دِيَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَذَبَ الْأَوَّلُ ثَانِيًا وَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا وَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا وَمَاتُوا فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ مِنْ دِيَةِ الْأَوَّلِ هَدَرًا وَيَجِبُ ثُلُثَاهَا عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ مات بحذبه لِلثَّانِي وَبِجَذْبِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَبِجَذْبِ الثَّالِثِ لِلرَّابِعِ، فَكَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ الثَّانِي وَفِعْلِ الثَّالِثِ وَلَيْسَ لِلرَّابِعِ فِعْلٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ فَكَانَ ثُلُثَ دِيَتِهِ هَدَرًا؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي، وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الثَّانِي يَكُونُ ثلث ديته هدراً، وثلثاها عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ [وَثُلُثُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ] لِأَنَّهُ مَاتَ بِجَذْبِ الْأَوَّلِ لَهُ وَبِجَذْبِهِ لِلثَّالِثِ وَبِجَذْبِ الثَّالِثِ الرَّابِعَ فَصَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِ الثَّالِثِ، فَسَقَطَ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ وَوَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثِ فَفِي قَدْرِ مَا يُهْدَرُ مِنْهَا وَيُضْمَنُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجَذْبِ الثَّانِي وَبِجَذْبِهِ لِلرَّابِعِ فَصَارَ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فِي قَتْلِ نَفْسِهِ فَسَقَطَتْ نِصْفُ دِيَتِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَتْلِهِ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي وَخَرَجَ مِنْهَا الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ بَاشَرَ جَذْبَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْهَدِرُ مِنْ دِيَتِهِ ثُلُثُهَا وَيَجِبُ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، لِأَنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 الْأَوَّلَ لَمَّا جَذَبَ الثَّانِيَ صَارَ مُشَارِكًا لَهُ فِي جَذْبِ الثَّالِثِ، وَلَمَّا جَذَبَ الثَّالِثُ الرَّابِعَ صَارَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَسَقَطَ مِنْ دِيَتِهِ ثُلُثُهَا، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ، وَوَجَبَ ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَأَمَّا دِيَةُ الرَّابِعِ فَجَمِيعُهَا وَاجِبَةٌ لَا يَنْهَدِرُ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْذُوبٌ وَلَيْسَ بِجَاذِبٍ وَمَقْتُولٌ وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ، وَفِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَى الثَّالِثِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ بَاشَرَ جَذْبَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ أَثْلَاثًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهما جَاذِبٌ لِمَنْ بَعْدَهُ فَصَارُوا مُشْتَرِكِينَ فِي جَذْبِ الرَّابِعِ فَاشْتَرَكُوا فِي تَحَمُّلِ دِيَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ مَالَ حَائِطٌ مِنْ دَارِهِ فَوَقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمَيْلُ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتِرْكِهِ وَمَا وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ فَمَاتَ بِهِ إِنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَإِنْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْوَالِي فِيهِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وصورتها: في حائط سقط في مِنْ دَارِ رَجُلٍ فَأَتْلَفَ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ مُنْتَصِبًا فَيَسْقُطُ عَنِ انْتِصَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَبْنِيَهُ الْمَالِكُ مَائِلًا فَيَسْقُطُ لِإِمَالَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْنِيَهُ مُنْتَصِبًا ثُمَّ يَمِيلُ ثُمَّ يَسْقُطُ لِمَيْلِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا فَيَسْقُطُ عَنِ انْتِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ مُسْتَقِرٍّ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ، بِهِ سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُهُ إِلَى دَارِهِ أَوْ دَارِ جَارِهِ أَوْ إِلَى الطَّرِيقِ السَّابِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَائِطِ شَقٌّ بِالطُّولِ أَوْ بِالْعَرْضِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ كَانَ شَقُّ الْحَائِطِ طُولًا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ شَقُّهُ عَرْضًا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ شَقَّ الْعَرْضِ مُؤْذِنٌ بِالسُّقُوطِ فَصَارَ بِتَرْكِهِ مُفَرِّطًا، وَشَقُّ الطُّولِ غَيْرُ مُؤْذِنٍ بِالسُّقُوطِ فَلَمْ يَصِرِ بِتَرْكِهِ مُفَرِّطًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرِ عليهما السلام {فوجدا فيهما جداراً يريد أن ينقص فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] وَمَعْنَى يَنْقَضُّ: أَيْ يَسْقُطُ، فَلَوْلَا مَا فِي تَرْكِهِ مِنَ التَّفْرِيطِ لَمَا أَقَامَهُ وَلِيُّ اللَّهِ الْخَضِرُ، وَلَأَقَرَّهُ عَلَى حَالِهِ لِمَالِكِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَاسِدٌ من وجهين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِشَقِّ الطُّولِ وَيَبْقَى مَعَ شَقِّ الْعَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ شَقُّهُ عِوَضًا بِأَكْثَرَ مِنْ تَشْرِيخِ آلَةِ الْحَائِطِ وَتَعْيِينِهَا مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَهُوَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَسَقَطَ لَمْ يَضْمَنْ فَكَانَ أَوْلَى إِذَا بَنَاهُ فَانْشَقَّ عَرْضًا أَنْ لَا يَضْمَنَ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَعَنْهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَضِرَ إِمَّا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ أَوْ وَلِيٌّ مَخْصُوصٌ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي نُبُوَّتِهِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَصَالِحِ الْبَوَاطِنِ عَلَى مَا خَالَفَ ظَوَاهِرَهَا وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا مُوسَى عَلَيْهِ، وَلَوْ سَاغَ فِي الظَّاهِرِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يُنْكِرْهُ مُوسَى فَكَانَ فِي إِنْكَارِ مُوسَى فِي الظَّاهِرِ لَنَا دَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِ الْخَضِرِ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْبَاطِنِ دَلِيلٌ، وَالْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرٌ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَكَانَ دَلِيلُنَا مِنَ الْآيَةِ أَحَجَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ عِكْرِمَةُ: " جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَاضَ " وَالْفَرْقَ بَيْنَ يَنْقَضُّ وَيَنْقَاضُ أَنَّ يَنْقَضَّ يَسْقُطُ، وَيَنْقَاضُ يَنْشَقُّ طُولًا، وَانْشِقَاقُ الطُّولِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَلَعَلَّ عكرمة تحرز بهذه القرارة مِنْ مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَهُ مَائِلًا فَيَسْقُطُ لِإِمَالَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ إِمَالَةَ بِنَائِهِ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ إِذَا سَقَطَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِمِلْكِهِ فِي مِلْكِهِ مَا شَاءَ مِنْ مَخُوفٍ أَوْ غَيْرِ مَخُوفٍ كَحَفْرِ بِئْرٍ، وَارْتِبَاطِ سَبُعٍ، أَوْ تَأْجِيجِ نَارٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ بِمَيْلِ الْحَائِطِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، أَنْذَرَهُمْ بِهِ أَوْ لَمْ يُنْذِرْهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا تَحْتَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَلَوْ رَبَطَ أَحَدُهُمْ تَحْتَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَيْهِ نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَائِطُ مُنْذِرًا بِالسُّقُوطِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُنْذِرًا بِالسُّقُوطِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ مَخُوفٌ إِذَا أَنْذَرَ وَغَيْرُ مَخُوفٍ إِذَا لَمْ يُنْذِرْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ إِمَالَةَ بِنَائِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ إِمَّا إِلَى طَرِيقٍ سَابِلٍ، وَإِمَّا إِلَى مِلْكٍ مُجَاوِرٍ، فَيَكُونُ بِإِمَالَةِ بِنَائِهِ مُتَعَدِّيًا لِتَصَرُّفِهِ فِي هَوَاءٍ لَا يَمْلِكُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ أَمَالَهُ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ تَعَدَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمَالَهُ إِلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ إِلَّا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ كَالْجَنَاحِ فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ نُفُوسٍ وَأَمْوَالٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَهُ مُنْتَصِبًا فَيَمِيلَ ثُمَّ يَسْقُطَ بَعْدَ مَيْلِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَمِيلَ إِلَى دَارِهِ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَهُ بِهِ بِسُقُوطِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إِذَا بَنَاهُ مَائِلًا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ إِذَا مَالَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمِيلَ إِلَى غَيْرِ مِلْكٍ، إِمَّا إِلَى دَارِ جَارِهِ، وَإِمَّا إلى طريق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 سَابِلٍ، فَقَدْ أَرْسَلَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَيْلَ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْجَوَابِ هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ فِي مِلْكِهِ وَمَيْلُهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَالَ فَسَقَطَ لِوَقْتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ مَائِلًا ثُمَّ سَقَطَ. وَالثَّانِي: أَنَّ طَيَرَانَ الشَّرَرِ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ أَحْظَرُ وَضَرَرَهُ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَجَّجَ فِي دَارِهِ نَارًا طَارَ شَرَرُهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهَا لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَنَى حَائِطًا فَمَالَ أَنْ لَا يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ، وَسُقُوطُ الضَّمَانِ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ مَيْلِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ شَرَرِ النَّارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى مِلْكِهِ، فَأَمَّا مَيْلُهُ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ فَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِإِطْلَاقِ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِهِ الضَّمَانُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِزَالَةِ مَيْلِهِ إِذَا مَالَ بِنَفْسِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِإِزَالَتِهِ إِذَا بَنَاهُ مَائِلًا، فَصَارَ بِتَرْكِهِ عَلَى مَيْلِهِ مُفَرِّطًا وَبِبِنَائِهِ مَائِلًا مُتَعَدِّيًا، وَهُوَ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي لُزُومِ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا مِنْ دَارِهِ أَقَرَّ عَلَيْهِ وَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَهُوَ لَا يُقِرُّ عَلَى مَيْلِ الْحَائِطِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا إِنْكَارُ الْوَالِي وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ لَمْ يَجِبْ بِإِنْكَارِ الْوَالِي وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَمْ يَسْقُطْ إِمْسَاكُ الْوَالِي وَتُرِكَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَنْكَرَهُ الْوَالِي أَوْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الطَّرِيقِ أَوِ الْجَارِ وَإِنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى دَارِهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُنْكِرَاهُ وَلَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ فَصَارَ مُخَالِفًا كِلَا الْوَجْهَيْنِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَرْكِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْمُطَالَبَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ، وَهُوَ قَبْلَ الْإِنْذَارِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لعدم التعدي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي تَلَفِ الْوَدِيعَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ طَلَبِهَا فَيَضْمَنُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طَلَبِهَا فَلَا يَضْمَنُ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي مَيْلِ الْحَائِطِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُهُ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ فَيَضْمَنُ وبين أن يكون قبل مطالبته لا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى حَائِطٍ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ رَفْعُهُ كَمَا يَدُ الْمُودِعِ عَلَى مَالٍ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِمْسَاكِ. وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَخْلُوَ مَيْلُ الْحَائِطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ مَا وَجَبَ وَلَا فِي وُجُوبِ مَا سَقَطَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مُسْتَحَقًّا فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِعَدَمِهِ كَالْمُنْكَرَاتِ، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِوُجُودِهِ كَالْمُبَاحَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ تَأْثِيرٌ فِي إِبَاحَةِ مَحْظُورٍ وَلَا فِي حَظْرِ مُبَاحٍ، وَبِهِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ تَعَدِّيهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَعَدَمِهِ قَبْلَهُ، وَاحْتِجَاجِهِ بِالْوَدِيعَةِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْمُودِعَ نَائِبٌ عَنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ضَمَانُهَا بِطَلَبِهِ، وَلَيْسَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ نَائِبًا فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ ضَمَانُهُ بِإِنْكَارِهِ وَطَلَبِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِنْكَارِ وَالْإِشْهَادِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا فِي سُقُوطِهِ فَلَا فَرْقَ فِي تَلَفِ مَنْ عَلِمَ بِمَيْلِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، قَدَرَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، فِي أَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِنْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَفِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَخْتَلِفُ بِهَا حُكْمُ مَا سَقَطَ مِنْ آلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ إِذَا عَثَرَ بِهَا مَارٌّ فَتَلَفَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ سُقُوطَهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَنْ عَثَرَ بِآلَتِهِ إِذَا كَانَ عِثَارُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَقْلِهَا، وَيَضْمَنُهُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ سُقُوطَهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ضَمِنَ مَنْ عَثَرَ بِآلَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عِثَارُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّقْلِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى التَّعَدِّي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ حَائِطٌ بَيْنَ دَارَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَارَيْنِ فَخِيفَ سُقُوطُهُ فَطَالَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِهَدْمِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى انْتِصَابِهِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِهَدْمِهِ، وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى استدامه وَإِنْ خَافَاهُ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى هَدْمِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ وَالْتِزَامِ مُؤْنَتِهِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَائِمًا مُسْتَهْدَمًا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ نَقْصًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 مَهْدُومًا لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفَرُّدُ بِهَدْمِهِ، وَإِنْ كانت قيمته نَقْضِهِ وَآلَتِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ أَكْثَرَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُ الْأَبْنِيَةَ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ سُقُوطَهُ يُتَعَجَّلُ وَلَا يَثْبُتُ عَلَى انْتِصَابِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ لِحَسْمِ ضَرَرِهِ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ قَدْ يَلْبَثُ عَلَى انْتِصَابِهِ وَلَا يُتَعَجَّلُ سُقُوطُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمِيلَ إِلَى أَحَدِ الدَّارَيْنِ فَلِلَّذِي مَالَ إِلَى دَارِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكُهُ بِهَدْمِهِ، وَلَهُ إِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ لِحُصُولِهِ فِيمَا قَدِ اخْتَصَّ بِمِلْكِهِ مِنْ هَوَاءِ دَارِهِ، وَلَيْسَ لِلَّذِي لَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكَهُ بِهَدْمِهِ، وَلَا لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَدْمِهِ وَالْتِزَامِ مؤونته، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِنَ مَيْلُهُ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ أَنْ يَسْقُطَ إِلَى دَارِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَشْرَعَ مِنْ دَارِهِ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ جَازَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِمَارٍّ وَلَا مُجْتَازٍ، وَكَذَلِكَ إذا أراد إخراج سياطاً يمده على عرض الطريق مكن إن لم يضر ومنع إن أضر، فاختلف أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ ضَرَرِهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مَا نَالَهُ رُمْحُ الْفَارِسِ مُضِرٌّ، وَمَا لَمْ يَنَلْهُ رُمْحُهُ غَيْرُ مُضِرٍّ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ مَا لَا يَنَالُهُ أَشْرَفُ الْجِمَالِ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا أَعْلَى الْعَمَارِيَّاتِ فَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ وَمَا يَنَالُهُ ذَلِكَ فَهُوَ مُضِرٌّ، وَهَذَا الْحَدُّ عِنْدِي عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِ الْبِلَادِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا تَسْلُكُهُ جِمَالُ الْعَمَارِيَّاتِ [كَانَ هَذَا حَدَّ ضَرَرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ جِمَالُ الْعَمَارِيَّاتِ وَتَسْلُكُهُ الْأَجْمَالُ] كَانَ الْجَمَلُ بِحِمْلِهِ حَدَّ ضَرَرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ الْجِمَالُ وَتَسْلُكُهُ الْخَيْلُ بِفُرْسَانِهَا كَانَ أَشْرَفُ الْفُرْسَانِ عَلَى أَشْرَفِ الْخَيْلِ حَدَّ ضَرَرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَا تَسْلُكُهُ الْخَيْلُ وَلَا الرُّكَّابُ كَجَزَائِرَ فِي الْبَحْرِ وَقُرًى فِي الْبَطَائِحِ كَانَ أَطْوَلُ الرِّجَالِ بِأَعْلَى حِمْلٍ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ حَدُّ ضَرَرِهِ؛ لِأَنَّ عُرْفَ كُلِّ بَلَدٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ عُرْفِ مَا عَدَاهُ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِيهِ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ أُقِرَّ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَرُّ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ إِذَا لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ مُنِعَ مِنْهُ وَأُخِذَ بِقَلْعِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ بِنَاءِ دَكَّةً فِي عَرْصَةِ الطَّرِيقِ مُنِعَ مِنْ إِشْرَاعِ جَنَاحٍ فِي هَوَائِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِدَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ مِيزَابِهَا مَاءٌ فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ، فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ وَقَالَ: قَلَعْتَ مِيزَابًا نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا صَعِدَ مَنْ يُعِيدُ هَذَا الْمِيزَابَ إِلَّا عَلَى ظَهْرِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 فَصَعِدَ الْعَبَّاسُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى أَعَادَ الْمِيزَابَ إِلَى مَوْضِعِهِ فَدَلَّ مَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَصْبِهِ وَمِنْ عُمَرَ فِي إِعَادَتِهِ وَمِنِ الصَّحَابَةِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مَنْقُولٌ وَفِعْلٌ مَتْبُوعٌ. وَالثَّانِي: مُشَاهَدَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى مَا وَطِئَهُ مِنَ الْبِلَادِ وَفِيهَا الْأَجْنِحَةُ وَالْمَيَازِيبُ فَمَا أَنْكَرَهَا وَأَقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَجَرَى خُلَفَاؤُهُ وَصَحَابَتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِقْرَارِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ سَلَكُوا مِنَ الْبِلَادِ أَكْثَرَ مِمَّا سَلَكَ، وَشَاهَدُوا مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَاهَدَ، فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ عارض فيه أحد، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَزَوَالِ الْخِلَافِ عَنْهُ، وَخَالَفَتِ الْأَجْنِحَةُ الدِّكَاكَ، لِأَنَّ الدِّكَاكَ مُضِرَّةٌ بِالْمُجْتَازِينَ مُضَيِّقَةٌ لِطُرُقَاتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْأَجْنِحَةِ مَضَرَّةٌ وَلَا تَضْيِيقٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ فِعْلِهِ وَجَوَازُ إِقْرَارِهِ فَسَقَطَ عَلَى مَارٍّ فَقَتَلَهُ ضِمْنَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ الْإِمَامِ وَضَرْبِ الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا الْمِيزَابُ إِذَا سَقَطَ فَأَتْلَفَ مَارًّا فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ فَصَارَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ وَغَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ فَافْتَرَقَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا يَلْزَمُهُ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْجَنَاحِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِجْرَاءِ مَائِهِ إِلَى بِئْرٍ يَحْفِرُهَا فِي دَارِهِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا تَلِفَ بِالْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ نُظِرَ فِيمَا وَقَعَ بِهِ التَّلَفُ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ ضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ خَارِجًا وَبَعْضُهُ فِي حَائِطِهِ فَسَقَطَ جَمِيعُهُ فَقُتِلَ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ من ديته ثلاثة أقاويل حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَ دِيَتِهِ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْحَائِطِ مِنَ الْخَشَبِ جَذَبَهُ الْخَارِجُ مِنْهُ فَضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ دِيَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ بِهِ نِصْفَ دِيَتِهِ، لِأَنَّ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْهُ مَوْضُوعٌ فِي مِلْكِهِ وَالْخَارِجَ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِالضَّمَانِ، فَصَارَ التَّلَفُ مِنْ جِنْسَيْنِ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ فَضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الْخَارِجِ مِنَ الْخَشَبَةِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ طُولُ الْخَشَبَةِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُبَالِي أَيُّ طَرَفَيْهِ أَصَابَهُ؛ لِأَنَّهَا قَتَلَتْ بِثِقْلِهَا " , (فَصْلٌ) وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطِهِ جَرَّةَ مَاءٍ فَسَقَطَتْ عَلَى مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْهُ لَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ، لِأَنَّهُ وَضَعَهَا فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ نَامَ عَلَى طَرَفِ سَطْحِهِ فَانْقَلَبَ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى مَارٍّ فَقَتَلَهُ نُظِرَ فِي سَبَبِ سُقُوطِهِ، فَإِنْ كَانَ بِفَسْخٍ مِنَ الْحَائِطِ انْهَارَ مِنْ تَحْتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِثِقَلِهِ فِي نَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِهِ، وَسَقَطَ فِي الْأَوَّلِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَكُلَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مِنْ ضَمَانِ النَّفْسِ فَدِيَاتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَطَأُ عَمْدٍ فِيهِ وَعَلَيْهِ مَعَ ضَمَانِ الدِّيَةِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 (باب دية الجنين) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي الْجَنِينِ الْمُسْلِمِ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا غُرَّةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَمْلِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ هَذَا لَيَقُولُ قَوْلَ شَاعِرٍ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ " وَرُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مسور بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ يَعْنِي الْحَامِلَ يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَيَسْقُطُ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ [مَعَكَ، قَالَ فَشَهِدَ مَعَهُ محمد بن مسلمة، وقال أبو عبيد: إملاصها ما أزلفته بالقرب] مِنَ الْوِلَادَةِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْجَنِينِ شَيْئًا إِلَّا قَالَهُ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بسطح فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كِدْنَا وَاللَّهِ نَقْضِي فِيهِ بِآرَائِنَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمِسْطَحُ خَشَبُ الْخِبَاءِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هو الخشبة التي ترفق بها العجين إذا حلج ليخبز؛ ويسميها المولودون الصَّوْلَجَ، فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى أَنَّ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْد أَوْ أَمَة، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: " فِيهِ غُرَّة عَبْد أَوْ أَمَة أَوْ فَرَس أَوْ بَغْل " فَكَيْفَ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى غُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دُونَ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 وَهِمَ فِيهَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَالَّذِي رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَثْبَتُ، وَنَاقِلُوهُ أَضْبُطُ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمْ " فَرَسٌ وَلَا بَغْلٌ "، وَلَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَجَازَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ جُعِلَا بَدَلًا مِنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُرَّةِ فِيهِ فَتَكْمُلُ الْغُرَّةُ إِذَا كَانَ كَامِلًا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ أَكْمَلُ دِيَاتِ الْجَنِينِ فَوَجَبَتْ فِي أَكْمَلِهِمْ وَصْفًا، وَيَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ، وَتَكُونُ الْغُرَّةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِانْتِفَاءِ الْعَمْدِ عَنْهُ بِعَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا خَطَأً مَحْضًا، أَوْ عَمْدَ خَطَأٍ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْجَانِي، فلو ألقت من الضرب جنينين لزمته غُرْمَانِ وَكَفَّارَتَانِ، وَلَوْ أَلْقَتْ ثَلَاثَةَ أَجِنَّةٍ لَزِمَهُ ثَلَاثُ غُرَرٍ وَثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَلَوْ ضَرَبَهَا ثَلَاثَةً فألقت جنيناً واحداً لزمهم غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا يَخْتَصُّ بِالْغُرَّةِ فِيهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَأَمَّا إِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا وَجَبَ فِيهِ دِيَتُهُ، وَدِيَتُهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَمِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ، فَيَسْتَوِي فِي سُقُوطِهِ مَيِّتًا حُكْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيَفْتَرِقُ فِي سُقُوطِهِ حَيًّا حُكْمُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَسُمِّي جَنِينًا لِأَنَّهُ قَدْ أَجَنَّهُ بَطْنُ أُمِّهِ أَيْ سَتَرَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ أَجَنَّهُ اللَّيْلُ إِذَا سَتَرَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أجنة في بطون أمهاتكم} [النجم: 32] . (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ بِهِ جَنِينًا أَنْ يُفَارِقَ الْمُضْغَةَ وَالْعَلَقَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ آدَمِيٍّ أصْبَع أَوْ ظُفْر أَوْ عَيْن أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: أَنَّ فِي أَقَلِّ الْحَبَلِ غُرَّةً. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة: أن فيه ما لم بين خَلْقُهُ حُكُومَةً، فَإِذَا بَانَ خَلْقُهُ فَفِيهِ غُرَّةٌ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَبِنْ خَلْقُهُ، فَإِذَا بَانَ خَلْقُهُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فَفِيهِ غُرَّةٌ فَصَارَ الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يَبِنْ خَلْقُهُ، فَعِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ غُرَّةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِيهِ: بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعُ الْفَرْقُ فِي الْوَلَدِ الْحَيِّ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي الْحَمْلِ بَيْنَ مَبَادِئِهِ وَكَمَالِهِ فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ فِي الْجَنِينِ دُونَ مَا فِي الْوَلَدِ الْحَيِّ وَلَمْ يَكُنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 هَدَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا دُونَ الْجَنِينِ أَقَلُّ مِمَّا فِي الْجَنِينِ وَلَا يَكُونُ هَدَرًا، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْغُرْمِ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَلَيْسَ لَهُ قَبْلَ بَيَانِ خَلْقِهِ حُرْمَةٌ فَكَانَ هَذَا كَالنُّطْفَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ بَيْنَ مَبَادِئِ خَلْقِهِ وَبَيْنَ غَايَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ حَالَتَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ هَدَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى مِنْ حَالَتَيْهِ قَبْلَ بَيَانِ الْخَلْقِ هَدَرًا، وَفِي هذين دليل وانفصال. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْجَنِينِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْغُرَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَصِيرَ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعُدَّةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْإِنْسَانِ فِي مَبَادِئِ خَلْقِهِ إِلَى اسْتِكْمَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] . وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آدَمَ وَحْدَهُ اسْتُلَّ مِنْ طِينٍ وَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِخَلْقِهِ مِنْهُ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى آدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي السُّلَالَةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الصَّفْوَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْقَلِيلُ الَّذِي يَنْسَلُّ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً ثَانِيَةً فِي الْوَلَدِ فقال تعالى {ثم خلقناه نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] يَعْنِي بِهِ ذُرِّيَّةَ آدَمَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ تَنَاسُلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ وَلَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةِ التَّنَاسُلِ، وَالنُّطْفَةُ هِيَ مَاءُ الذَّكَرِ الَّذِي يُعلقُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَهُوَ أَوَّلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وقوله تعالى: {في قرار} يعني به الرحم {مكين} لِاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، فَصَارَتِ النُّطْفَةُ فِي أَوَّلِ مَبَادِئَ خَلْقِهِ كَالْغَرْسِ، وَالرَّحِمُ فِي إِنْشَائِهِ كَالْأَرْضِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَانِيَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] وَالْعَلَقَةُ هِيَ الدَّمُ الطَّرِيُّ الَّذِي انْتَقَلَتِ النُّطْفَةُ إِلَيْهِ حَتَّى صَارَتْ عَلَقَةً، وَسُمِّيَتْ عَلَقَةً لِأَنَّهَا أَوَّلُ أَحْوَالِ الْعُلُوقِ، وَالْعَلَقَةُ فِي حُكْمِ النُّطْفَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حُرْمَةٌ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا غُرَّةٌ، وَلَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً رَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَالِثَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: 14] وَالْمُضْغَةُ اللَّحْمُ، وَهُوَ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْجِسْمِ، سُمِّيَتْ مُضْغَةً، لِأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ مِنَ اللَّحْمِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ فَأَوْجَبَ فِيهِ مَالِكٌ غُرَّةً، وَأَوْجَبَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ حُكُومَةً، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا وَلَا تَصِيرُ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ. وَالثَّانِي: لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً خَامِسَةً وَهِيَ لِلْوَلَدِ رَابِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: {فخلقنا المضعة عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] فَاحْتَمَلَ خَلْقُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ خَلَقَ عَظْمًا كَسَاهُ لَحْمًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حَالَتَيْنِ خَلَقَ فِي إِحْدَاهُمَا عَظْمًا ثُمَّ كَسَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْعَظْمِ لَحْمًا فَيَكُونُ اللَّحْمُ حَالَةً سَادِسَةً هِيَ لِلْوَلَدِ خَامِسَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً سَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ سَادِسَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَمَيّز ذَكَر أَوْ أُنْثَى قَالَهُ الْحَسَنُ، وَمَحْصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُضْغَةٍ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَأَمَّا الْمُضْغَةُ وَمَا قَبْلَهَا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْنَا، إِنَّ مَا قَبْلَ الْمُضْغَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّ الْمُضْغَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا سِوَى الْغُرَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ قَوْلَانِ: وَأَمَّا مَا بَعْدَ الْمُضْغَةِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَالْغُرَّةُ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ بَعْدَ الْمُضْغَةِ وَلَهُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَبِينَ فِيهِ صُورَةٌ وَلَا تَخْطِيطُ الصُّوَرِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِينَ فِيهِ إِمَّا صُورَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَإِمَّا صُورَةُ بَعْضِهَا كَعَيْنٍ أَوْ أصْبَعٍ أَوْ ظُفْرٍ فَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ لِبَيَانِ خَلْقِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الصُّورَةُ ظَاهِرَةً لِلْأَبْصَارِ أَوْ كَانَتْ خَفِيَّةً تَظْهَرُ بِوَضْعِهِ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِينَ فِيهِ التَّخْطِيطُ وَلَا يَبِينُ فِيهِ الصُّورَةُ فَيَتَخَطَّطُ وَلَا يُتَصَوَّرُ، فَفِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ لِعَدَمِ التَّصْوِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ، لِأَنَّ التَّخْطِيطَ مَبَادِئُ التَّصْوِيرِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَلْقَتْ غِشَاوَةً أَوْ جِلْدَةً شُقَّتْ فَوُجِدَ فِيهَا جَنِينَانِ فَفِيهِمَا غُرَّتَانِ وَكَفَّارَتَانِ، وَلَوْ أَلْقَتْ جَسَدًا عَلَيْهِ رَأْسَانِ فَفِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَلِكَ لو ألقت رأساً فَفِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ أَلْقَتْ جَسَدَيْنِ فَفِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا رَأْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ رَأْسَيْنِ وَجَسَدَيْنِ فَفِيهِمَا غُرَّتَانِ لِانْتِفَاءِ الاحتمال. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَلْقَتْ عُضْوًا مِنْ جَسَدٍ خَرَجَ بَاقِيهِ حَيًّا فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ حَيَاتِهِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا أَرْشُ الْعُضْوِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ قَبْلَ ظُهُورِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْقَى عَلَى حَيَاتِهِ فَالْعُضْوُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ إِنْ كَانَ يَدًا فَمُعْتَبَرٌ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَالِهِ مِنْ ثِقَاتِ الطِّبِّ وَالْقَوَابِلِ، فَإِنْ دَلَّتْ شَوَاهِدُ حَالِهِ عَلَى انْفِصَالِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيِّ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى انْفِصَالِهِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ فَفِيهِ نِصْفُ الْغُرَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجَنِينِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ضَرَبَهَا فَتَحَرَّكَ جَوْفُهَا ثُمَّ خَمَدَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ غُرَّةً، لِأَنَّ خُمُودَهُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَلَفِهِ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون لريح انفشت، وهكذا لو ترحك جَوْفُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ ظُهُورِ حَمْلِهَا ثُمَّ خَمَدَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَصَارَ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْء مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْغُرْمُ لَا يَجِبُ بالشك. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أنثى (قال المزني) هذا يدل على أن أمته إذا ألقت منه دماً أن لا تكون به أم ولد لأنه لم يجعله ههنا ولداً وقد جعله في غير هذا المكان ولداً وهذا عندي أولى من ذلك ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا فَرْقَ فِي الْجَنِينِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِيهِ، وَقِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَمِنِ الْوَرِقِ إِذَا قُدِّرَتْ دِيَةُ النَّفْسِ وَرِقًا سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمِنِ الْعَيْنِ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَذَلِكَ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجَنِينِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَأَوْجَبَ فِيهِ إِنْ كَانَ ذَكَرًا نِصْفَ عُشْرِ دِيَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى عُشْرَ دِيَتِهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِي الْعِلَّةِ، وَخِلَافُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْجَنِينِ الْمَمْلُوكِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ " وَلَمْ يَسْأَلْ أَذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى، وَلَوِ افْتَرَقَا لَسَأَلَ وَلَنُقِلَ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا، لِأَنَّ حَالَ الْجَنِينِ فِي الْأَغْلَبِ مُشْتَبِهَةٌ وَفِي الْحَيِّ ظَاهِرَةٌ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجَنِينِ حَسْمًا لِلِاخْتِلَافِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيِّ لِزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا قَدَّرَ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ قَطْعًا للتنازل وَحَسْمًا لِلِاخْتِلَافِ. (فَصْلٌ) فَعَلَى هَذَا لَوْ أَلْقَتْ مِنَ الضَّرْبِ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ وَالْآخَرُ حَيٌّ ثُمَّ مَاتَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الذَّكَرَ وَالْحَيُّ هُوَ الْأُنْثَى فَعَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ فِي الْجَنِينِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي الْحَيِّ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْأُنْثَى وَالْحَيُّ هُوَ الذَّكَرَ فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ فِي الْمَيِّتِ وِدِّيَّةٌ كَامِلَةٌ فِي الْحَيِّ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الضَّارِبُ وَالْمَضْرُوبَةُ فِي الْحَيِّ مِنْهَا، فَقَالَتِ الْمَضْرُوبَةُ هُوَ الذَّكَرُ، وَقَالَ الضَّارِبُ: هُوَ الْأُنْثَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لِلْمَضْرُوبَةِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ أَنَّ الْحَيَّ مِنْهَا هُوَ الذكر فيحكم به والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ إِنْ أَلْقَتْهُ مِنَ الضَّرْبِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَفِيهِ غُرَّة عَبْد أَوْ أَمَة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ وَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا وَغُرَّةٌ فِي جَنِينِهَا، سَوَاءٌ أَلْقَتْهُ قَبْلَ مَوْتِهَا أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ إِنْ أَلْقَتْهُ قَبْلَ مَوْتِهَا وَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ إِنْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِلَّا أَنْ تُلْقِيَهُ حَيًّا فَيَمُوتُ فَتَجِبُ فِيهِ دِيَتُهُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن انفصاله ميت بَعْدَ مَوْتِهَا مُوجِبٌ لِسُقُوطِ غُرْمِهِ كَمَا لَوْ دِيسَ بَطْنُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يُضَمَنْ إِجْمَاعًا وَهُوَ بِدِيَاسِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَخْصُوصٌ بِالْجِنَايَةِ وَقَتْلُهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهَا فَكَانَ بِسُقُوطِ الْغُرْمِ أَحَقَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَنِينَ بِمَنْزِلَةِ أعضائها لأمرين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُهُ لَهَا فِي الْعِتْقِ وَالْبَيْعِ كَالْأَعْضَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُفْرَدُ بِغُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ كَمَا لَا تُفْرَدُ بِهِ الْأَعْضَاءُ، فَلَمَّا كَانَتْ أُرُوشُ أَعْضَائِهَا دَاخِلَةً فِي دِيَتِهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ غُرَّةُ جَنِينِهَا دَاخِلَةً فِي دِيَتِهَا. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَتْ بَطْنَهَا فَقَتَلَتْهَا فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَقْلِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَفِي جَنِينِهَا غُرَّة عَبْد أَوْ أَمَة. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ أَنَّ إِلْقَاءَ الْجَنِينِ كَانَ بَعْدَ مَوْتٍ، وَلَوِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلَوْ سَأَلَ لَنَقَلَ. وَمِنِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ ضُمِنَ بِهَا الْجَنِينُ إِذَا سَقَطَ فِي الْحَيَاةِ وَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِهَا الْجَنِينُ إِذَا سَقَطَ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَالَّذِي سَقَطَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ؛ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ ضَمَانُ النُّفُوسِ دُونَ الْأَعْضَاءِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دِيَتَهُ مَوْرُوثَةٌ وَلَوْ كَانَ كَأَعْضَائِهَا لَوَجَبَتْ دِيَتُهَا لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ دِيَةِ نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَ كَأَعْضَائِهَا لَدَخَلَ فِي دِيَتِهَا، وَإِذَا اخْتُصَّ بِضَمَانِ النُّفُوسِ اعْتُبِرَ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ إِلْقَائِهِ فِي الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِإِلْقَائِهِ إِذَا دِيسَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْغُرَّةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ بَقَاءُ الْحَيَاةِ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ فَيَسْقُطُ بِهِ الْإِجْمَاعُ. وَالثَّانِي: وَإِنْ سَقَطَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَوْتِهِ بِمَوْتِ أُمِّهِ وَالْمَدِيسَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فلم يضمن جنينها [والمضروبة مضمونة فضمن جَنِينَهَا] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِأَنَّهُ كَأَعْضَائِهَا فَقَدْ مَنَعْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ. فَأَمَّا اتِّبَاعُهُ لَهَا فِي الْعِتْقِ وَالْمَبِيعِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْهَا، وَإِنْ تَبِعَهَا كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّدَّةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ. وَأَمَّا الْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ فَهُوَ يَغُسَّلُ وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ مَا يَمْنَعُ مِنِ انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا لَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ وَالذِّمِّيُّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " تُورَثُ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ لِأَنَّهُ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ دُونَ أُمِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، غُرَّةُ الْجَنِينِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ وَلَا تَخْتَصُّ الْأُمُّ بِاسْتِحْقَاقِهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تَكُونُ لِأُمِّهِ وَلَا تُورَثُ عَنْهُ كَأَعْضَائِهَا، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَمْيِيزِهِ عَنْهَا وَضَمَانِهِ كَالنُّفُوسِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ تَكُونُ غُرَّةُ الْجَنِينِ لِأَبَوَيْهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَجَعَلَهُ كَالْبَعْضِ مِنْهُمَا لِخَلْقِهِ مِنْ مَائِهِمَا، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَالْمَقْتُولُ بَعْدَ حَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْرُوثًا لَمْ يَخْلُ حَالُ إِلْقَائِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ فَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ لِاسْتِحْقَاقِ الْغُرَّةِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ، وَلَا يُحْجَبُ بِالْجَنِينِ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ لِأُمِّهِ إِنْ وَرِثَتْهُ ثُلُثَ الْغُرَّةِ وَلِأَبِيهِ إِنْ كَانَ حَيًّا بَاقِيهَا أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا وَلَوْ أَلْقَتْهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ مَاتَ وَرِثَهَا وَلَمْ تَرِثْهُ، فَإِنْ أُشْكِلَ إِلْقَاؤُهُ فِي حَيَاتِهَا وَبَعْدَ مَوْتِهَا قُطِعَ التَّوَارُثُ بينهما كالغرقى. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْجَنِينِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِيهِ بِالْغُرَّةِ وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا وَقَضَى بِهَا، وَلَوْ قَضَى بِهَا لَنَقَلَ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَائِهَا الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ جَنِينُهَا، وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا نَفْسُ آدَمِيٍّ ضُمِنَتْ بِالْجِنَايَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْكَفَّارَةِ كَالْحَيِّ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَخَصُّ وُجُوبًا بِالْقَتْلِ مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَمَنْ رَمَى دَارَ الْحَرْبِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَ بِهِ مُسلِمًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَلَمَّا وَجَبَ فِي الْجَنِينِ الدِّيَةُ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ فَإِنَّمَا كَفَّ عَنْ بَيَانِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَهَا فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] كَمَا بَيَّنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبو قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 الْعَقْلَ "، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْكَفَّارَةَ تَعْوِيلًا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ كَأَعْضَائِهَا فقد أجبنا عنه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا شيء لها في الأم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا شَيْءَ لِأُمِّ الجنين في ألم الضرب إذا لم بين لَهُ أَثَرٌ فِي بَدَنِهَا كَاللَّطْمَةِ وَالرَّفْسَةِ لَا تُوجِبُ غُرْمًا فِي رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ، فَأَمَّا إجهاضها عند إلقائه فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جامعه: أحدهما: لا شي لَهَا فِيهِ أَيْضًا لِأَلَمِ الضَّرْبِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَلَمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهَا فِيهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ كَالْجُرْحِ فِي الْفَرْجِ عِنْدَ خُرُوجِ الْجَنِينِ مِنْهُ فَضَمِنَ بِالْحُكُومَةِ، فَلَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ أَثَّرَ الضَّرْبُ فِي بَدَنِهَا ضَمِنَ حُكُومَةَ الضَّرْبِ وَحُكُومَةَ الإجهاض. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الْغُرَّةُ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي بِنَفْسِهَا دُونَ هَذَيْنِ السِّنَّيْنِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّهَا فِي الْبَيْعِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ السِّنَّيْنِ فَأَعْلَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغُرَّةُ فِي اللُّغَةِ فَتُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَوَّلِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِأَوَّلِ الشَّهْرِ غُرَّتُهُ. وَالثَّانِي: فِي جَيِّدِ الشَّيْءِ وَخِيَارِهِ وَمِنْهُ قِيلَ فُلَانٌ غُرَّةُ قَوْمِهِ إِذَا كَانَ أَسْرَاهُمْ، وَقَدْ أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغُرَّةَ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهَا مَحْمُولًا عَلَى أَوَّلِ الشَّيْءِ وَخِيَارُ الْجِنْسِ، لأنه ليس أحداهما بِأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْآخَرِ فَحُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَإِذَا وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ أَوَّلُ الْجِنْسِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْجَيِّدِ مَرْدُودًا وَالْجَيِّدُ إِذَا خَرَجَ عَنْ أَوَّلِ السِّنِّ مَرْدُودًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا مَعًا فِي السِّنِّ وَالْجَوْدَةِ كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا مُرَادًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ لِلْغُرَّةِ أول وَغَايَةً، فَأَمَّا أَوَّلُهُ فَسَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَهَا حَدًّا لِتَعْلِيمِهِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ فَقَالَ: " عَلِّمُوهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِيهَا بِنَفْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ خُيِّرَ فِيهَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنَ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ مَا لَهَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ النَّفْعِ فِيهِ لَيْسَ بغرة وإن كان بأول الشي من الغرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 وَأَمَّا غَايَةُ سِنِّ الْغُرَّةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَكْمَلُ مَا يَكُونُ نَفْعًا. وَالثَّانِي: أَزْيَدُ مَا يَكُونُ ثَمَنًا وَهِيَ قَبْلَ الْعِشْرِينَ أَزْيَدُ ثَمَنًا وَأَقَلُّ نَفْعًا، وَبَعْدَ الْعِشْرِينَ أَكْمَلُ نَفْعًا وَأَقَلُّ ثَمَنًا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْعِشْرُونَ سَنَةً حَدًّا لِلْغَايَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ سِنٍّ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَكَمَالِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِيمَا جَاوَزَهَا وَيُقْبَلُ فِيمَا دُونَهَا وَيَسْتَوِي فِيهَا الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ، وَفَرَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي غَايَةِ السِّنِّ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ فَجَعَلَ الْغَايَةَ فِي سِنِّ الغلام خمس عشر سَنَةً وَهِيَ حَالُ الْبُلُوغِ، وَالْغَايَةُ فِي سِنِّ الْجَارِيَةِ عِشْرِينَ سَنَةً، لِأَنَّ ثَمَنَ الْغُلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَنْقُصُ وَثَمَنَ الْجَارِيَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ، يَزِيدُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي أَوَّلِ السِّنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي آخِرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نُقْصَانَ ثَمَنِهِ مقابل لزيادة نفعه فتعارضا وتساوا فِيهِمَا الْجَارِيَةُ وَالْغُلَامُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ السِّنِّ فِي الْجَارِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الْغُلَامِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا مَعِيبَةً وَلَا خَصِيَّا لِأَنَّهُ نَاقِصٌ عَنِ الْغُرَّةِ وَإِنْ زَادَ ثَمَنُهَا بِالْخِصَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، يُعْتَبَرُ فِي الْغُرَّةِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْكَفَّارَةِ مِنَ الْعُيُوبِ إِلَّا مَا أَضَرَّ بِالْعَمَلِ فِيهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي الْكَفَّارَةِ مُطْلَقَةٌ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا بَعْضُ الْعُيُوبِ وَفِي الْغِرَّةِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي الْكَفَّارَةِ مِنْ نَقْصِ السِّنِّ مَا لَمْ يَجُزْ فِي الْغِرَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَقَعُ فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ وَالْغُرْمُ عِوَضٌ لِآدَمِيٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّلَامَةُ كَمَا يَعْتَبَرُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي إِبِلِ الدِّيَةِ. فَأَمَّا الْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ فَلَا يُؤْخَذُ فِي الْغِرَّةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَزْيَدُ ثَمَنًا فَإِنَّهُ أَقَلُّ نَفْعًا، وَيُجزِئُ فِي الْغِرَّةِ ذَاتُ الصَّنْعَةِ وَغَيْرُهَا، لِأَنَّ الصَّنْعَةَ زِيَادَةٌ عَلَى كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الِاكْتِسَابُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقِيمَتُهَا إِذَا كَانَ الْجَنِينُ حُرًّا مُسْلِمًا نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ مُسْلِمٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ الْغِرَّةِ لَا يَنْفِي عَنْهَا جَهَالَةَ الْأَوْصَافِ فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِهَا بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَةَ عَنْهَا لِتَسَاوِي جَمِيعِ الدِّيَاتِ فِي الصِّفَةِ فَعَدَلَ إِلَى وصفها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّهَا أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ فَقُوِّمَتْ بِنِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ أو خمسين دينار مَعَ وَصْفِهَا بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِهَذِهِ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَثَرٍ، وَمَعْنًى. فَأَمَّا الْأَثَرُ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِهَذَا الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُخَالَفُوا فِيهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَنِينُ عَلَى أَقَلِّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ اعْتُبِرَ فِيهِ أَقَلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الدِّيَاتِ وَهُوَ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ، وَدِيَةُ السِّنِّ الْمُقَدَّرَةُ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ النَّفْسِ فَجَعَلَ أَقَلَّ الدِّيَاتِ قَدْرًا حَدًّا لِأَقَلِّ النُّفُوسِ حَالًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيرُهَا بِنِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُقَوَّمُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ أَصْلُ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ خَطَأً مَحْضًا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ: جَذَعَةٌ، وَحِقَّةٌ، وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَابْنُ لَبُونٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدَ الْخَطَأِ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ أَثْلَاثٌ [جَذَعَةٌ، وَخِلْفَتَانِ وَنِصْفٌ، وَحِقَّةٌ وَنِصْفٌ] وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ تُقَوَّمَ الْغُرَّةُ بِالْإِبِلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقِيَمِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَوَّمَ الْخُمْسُ مِنَ الْإِبِلِ الْأَخْمَاسَ فِي الْخَطَأِ وَالْأَثْلَاثَ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ بِالْوَرِقِ، لِأَنَّهَا أَصْلُ الْقِيَمِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا فِي التَّغْلِيظِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَفِي التَّخْفِيفِ سَبْعَمِائَةِ درهم أخذنا منه غرة عبد أَوْ أَمَةً قِيمَتُهَا فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهَا فِي جِنَايَةِ عَمْدِ الْخَطَأِ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ البغداديين أننا تقدرها بِالْوَرِقِ الْمُقَدَّرَةِ بِالشَّرْعِ دُونَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ الْإِبِلَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْنَاسِ الْقِيَمِ وَلَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ فَتَكُونُ عَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِذَا قُوِّمَتْ بِالْإِبِلِ احْتِيجَ إِلَى تَقْوِيمِ الْإِبِلِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ فِي تَقْوِيمِ الْغُرَّةِ إِلَى مَا هُوَ أَصْلٌ فِي الْقِيَمِ وَهِيَ الْوَرِقُ، فَعَلَى هَذَا تَقُومُ الْغُرَّةُ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيُزَادُ عَلَيْهَا في عمد الخطإ ثلثها، فتقوم فيه بثمان مائة درهم، وعلى هذا يكون التفريع. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا فَنِصْفُ عُشْرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 دِيَةِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةً وَأَبُوهُ نَصْرَانِيًّا أَوْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً وَأَبُوهُ مجوسياً فدية الجنين في أكثر أبوابه نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ نَصْرَانِيٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْجَنِينِ النَّاقِصِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ النَّاقِصَةِ وَالْكَامِلُ مَا كَمُلَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَقَدْ مَضَى، وَالنَّاقِصُ مَا نَقَصَ بِكُفْرٍ أَوْ رِقٍّ، فَإِذَا جَرَى عَلَى الْجَنِينِ حُكْمُ الْكُفْرِ لِكُفْرِ أَبَوَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَبَوَيْهِ مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ دِيَتُهُمَا أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ دِيَاتُهُمَا فَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ أَوْ يَهُودِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ فِديَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ بَعِيرًا وَثُلُثَيْنِ أَخْمَاسًا فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَأَثْلَاثًا فِي عَمْدِ الْخَطَأِ؛ وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ عُشْرُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ ثُلُثُ بَعِيرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالْغُرَّةُ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ مُعْوَزَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ هُوَ المستحق فيها. (فَصْلٌ) وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَةُ أَبَوَيْهِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَغْلَظِ أَبَوَيْهِ دِيَةً وَهُوَ النَّصْرَانِيُّ أَبًا كَانَ أَوْ أَمَّا، فَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْجَنِينِ النَّصْرَانِيِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْضُوعَ الدِّيَةِ عَلَى التَّغْلِيظِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِأَغْلَظِهِمَا دِيَةً كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا اعْتُبِرَ فِيهِ دِيَةُ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ تَغْلِيظًا، وَكَمَا يُعْتَبَرُ فِي الصَّيْدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ أَغْلَظُ حَالَيْهِ فِي إِيجَابِ الْجَزَاءِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَمَالَ الدِّيَةِ أَصْلٌ فِي ضَمَانِ النُّفُوسِ فَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا إِلَّا الْمُتَحَقَّقُ دُونَ الْمُشْتَبَهِ وَالْمُتَحَقَّقُ مِنَ النُّقْصَانِ هُوَ حَالُ أَغْلَظِهِمَا دِيَةً، لِأَنَّ مَا دُونَهُ مُحْتَمَلٌ مُشْتَبَهٌ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْأَغْلَظِ الْأَعْلَى دُونَ الْأَقَلِّ الْأَدْنَى، وَاعْتِبَارُهُ عِنْدِي بِأَقَلِّهَا دِيَةً أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِالْأُصُولِ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَيَاتُهُ سُقُوطُ الْغُرْمِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الشَّرْعُ مِنْ حَالِ الْجَنِينِ فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ إِلَّا مَا تَحَقَّقْنَاهُ وَهُوَ الْأَقَلُّ دُونَ مَا شَكَكْنَا فِيهِ مِنَ الْأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِأَقَلِّ الدِّيَاتِ دُونَ أَكْثَرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَمْ تُوجِبْ فِيهَا إِلَّا مَا تَحَقَّقْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكُفْرِ الْإِبَاحَةُ إِلَّا مَا حَظَرَتْهُ الذِّمَّةُ فَلَمْ يُعَلَّقْ بِالْحَظْرِ إِلَّا مَا تَحَقَّقْنَاهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِيهِ إِيجَابٌ وَإِسْقَاطٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ الإسقاط على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 الْإِيجَابِ حُكْمًا كَمَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ غَنَمٍ وَظِبَاءٍ تَغْلِيبًا لِلْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ وَالِانْفِصَال عَمَّا تَوَجَّهَ بِهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ظاهر إذا حقق والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جَنَى عَلَى أَمَةٍ حَامِلٍ فَلَمْ تُلْقِ جَنِينَهَا حَتَّى عُتِقَتْ أَوْ عَلَى ذِمِّيَّةٍ فَلَمْ تُلْقِ جَنِينَهَا حَتَّى أَسْلَمَتْ فَفِيهِ غُرَّةٌ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا جَنِينُ الْأَمَةِ فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً حُرًّا إِنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا وَمَمْلُوكًا إِنْ كَانَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَفِيهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ أَلْقَتْهُ وَهِيَ عَلَى رِقِّهَا أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَفِيهِ عشر قيمة أمة، وخالفت فِيهِ أَبو حَنِيفَةَ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَنَحْنُ نَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِيهِ، فَإِنْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ بَعْدَ إِلْقَاءِ جَنِينِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ عِتْقُهَا فِيهِ وَوَجَبَ فِيهِ عُشْرُ قِيمَتِهَا، وَإِنْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ ضَرْبِهَا وَقَبْلَ إِلْقَائِهِ عُتِقَ بِعِتْقِهَا تَبَعًا، لِأَنَّ حَمْلَ الْحُرَّةِ حُرٌّ، وَوَجَبَ فِيهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَوْ أَقَلَّ كَالْحُرِّ إِذَا أُعْتِقَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ وَجَبَ فِيهِ دِيَةُ حُرٍّ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ، وَلِلسَّيِّدِ مِنَ الْغُرَّةِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْغُرَّةِ أَوْ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ كَمَا كَانَ لَهُ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ إِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ دِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ أَقَلَّهُمَا أَخَذَهَا السَّيِّدُ كُلَّهَا بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْ قِيمَةِ الْغُرَّةِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَكَانَ بَاقِيهَا لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا جَنِينُ الذِّمِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا فَالْجَنِينُ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَالْجَنِينُ ذِمِّيٌّ فِي الْحُكْمِ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي جَنِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ أَوْ زَوْجُهَا بَعْدَ إِلْقَاءِ جَنِينِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ إِسْلَامُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجَنِينِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَوَجَبَ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ الذِّمِّيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا بَيْنَهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، لِأَنَّهُ مَوْرُوثٌ فِي الْكُفْرِ قَبْلَ حُدُوثِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ ضَرْبِهَا وَقَبْلَ إِلْقَائِهِ أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُهَا دُونَهَا صَارَ الْجَنِينُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ، فَيَجِبُ فِيهِ إِذَا أَلْقَتْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ دِيَةُ جَنَيْنٍ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مَا اسْتَقَرَّتْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْغُرَّةُ الْوَاجِبَةُ فِيهِ مَوْرُوثَةً للمسلم من أبويه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَلَا أَعْرِفُ أَنْ يَدْفَعَ لِلْغُرَّةِ قِيمَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا مَعْنَى أَصْلِهِ فِي الدِّيَةِ أَنَّهَا الْإِبِلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِهَا فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَقِيمَتُهَا فَكَذَلِكَ الْغُرَّةُ إِنْ لَمْ تُوجَدْ فَقِيمَتُهَا ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْغُرَّةُ مَوْجُودَةً فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْإِبِلِ وَلَا وَرِقٍ وَلَا ذَهَبٍ، سَوَاءٌ قِيلَ فِي دِيَةِ النَّفْسِ إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْوَرِقِ وَالذَّهَبِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، أَوْ قِيلَ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إِلَّا الْإِبِلُ مَعَ وُجُودِهَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِلْفَرْقِ بينها شَرْعًا فِي أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ فِي الْجَنِينِ إِلَّا بِالْغُرَّةِ وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى قِيمَتِهَا بِالِاخْتِلَافِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ عَنْهَا، وَالنَّصُّ وَارِدٌ فِي دِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِبِلِ وَالْوَرِقِ وَالذَّهَبِ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ عُدِمَتِ الْغُرَّةُ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْعُدُولِ إِلَى قِيمَتِهَا كَالطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ مِثْلُهُ، فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ عُدِلَ إِلَى قِيمَتِهِ، وَفِي الْمَعْدُولِ إِلَيْهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا يُقَوَّمُ بِهِ الْغُرَّةُ مَعَ وُجُودِهَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ: يَعْدِلُ عِنْدَ عَدَمِهَا إِلَى الْوَرِقِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْوَرِقِ، فَعَلَى هَذَا تُؤْخَذُ عَنْهَا فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِي عَمْدِ الْخَطَأِ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: يَعْدِلُ عَنِ الْغُرَّةِ عِنْدَ عَدَمِهَا إِلَى الْإِبِلِ إِذَا قِيلَ تُقَوَّمُ بِقِيمَةِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا، وَفِي عَمْدِ الْخَطَأِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَثْلَاثًا، فَإِنْ أُعْوِزَتِ الْإِبِلُ صَارَ كَإِعْوَازِهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ، فَهَلْ يُعْدَلُ إِلَى قِيمَتِهَا مَا بَلَغَتْ، أَوْ إِلَى الْمُقَدَّرِ فِيهَا مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ على ما مضى من القولين؟ الْقَدِيمِ مِنْهَا يَعْدِلُ إِلَى الْمُقَدَّرِ فَيَجِبُ عَنْهَا سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا يُزَادُ عَلَيْهَا فِي التَّغْلِيظِ ثُلُثُهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى قِيمَةِ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِنْ وَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغْرَمُهَا مَنْ يَغْرَمُ دِيَةَ الْخَطَأِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ يَمْتَنِعُ لِامْتِنَاعِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا، وَكَانَتْ مِنْ بَيْنِ خَطَأٍ مَحْضٍ تَتَخَفَّفُ فِيهِ الْغُرَّةُ كَمَا تَتَخَفَّفُ دِيَاتُ الْخَطَأِ وَبَيْنَ عَمْدِ الْخَطَأِ تَتَغَلَّظُ فِيهِ الْغُرَّةُ كَمَا تَتَغَلَّظُ دِيَاتُ عَمْدِ الْخَطَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتِ الْغُرَّةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي حَالَيْ تَخْفِيفِهَا وَتَغْلِيظِهَا وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي مَالِ الْجَانِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ عِنْدَهُ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ دَلِيلِ الْأَصْلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا ضَرَبَ وَلَا أَكَلَ ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل، وَفِي مُدَّةِ مَا تُؤَدِّيهَا الْعَاقِلَةُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: تُؤَدِّيهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ فَشَابَهَتْ كَمَالَ الدية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُؤَدِّيهَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ قِسْطَ الْعَاقِلَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ ثُلُثُهَا، وَالْغُرَّةُ أَقَلُّ مِنَ الثُّلُثِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُؤَدَّى فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ ضَمِنه مِنَ الضَّرْبَةِ حَتَّى طَرَحَتْهُ لَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْجَانِي وَبَرِئَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ حَالِ الْمَرْأَةِ فِي ضَمَانِ جَنِينِهَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَ بَطْنَهَا حَتَّى أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَيُنْكِرُ الْجَانِي الضَّرْبَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِضَرْبِهَا فَيَحْكُمُ بِهَا، وَيَلْزَمُهُ دِيَةُ جَنِينِهَا، وَبَيِّنَتُهَا عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ بِضَرْبِهَا وَيُنْكِرَ أَنَّهُ جَنِينُهَا وَيَدَّعِيَ أَنَّهَا الْتَقَطَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إِلَّا أَنْ تُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى إِسْقَاطِهِ وَبَيِّنَتُهَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى وِلَادَةٍ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ هَذَا الْجَنِينَ الْمَيِّتَ يعينه حُكِمَ لَهَا بِإِسْقَاطِهِ وَدِيَتِهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا أَلْقَتْ جَنِينًا وَلَمْ يُعَيِّنُوهُ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أَحْضَرَتْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدُوا لَهَا بِمَوْتِ الَّذِي أَلْقَتْهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنُوهُ فَيُحْكَمُ لَهَا بِالدِّيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا لَهَا بِجَنِينٍ مَضْمُونٍ وَتَعْيِينُهُ لَا يُفِيدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَشْهَدُوا بِمَوْتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أحدهما: أن يكون لمدة لا تعيش لمثلها فيحكم لها بديته. والضرب الثاني: أني يَكُونَ لِمُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ لِمثلِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي مَوْتِهِ، لِأَنَّ الَّذِي أَحْضَرَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَشْهَدُوا لَهَا بِإِسْقَاطِهِ وَالَّذِي شَهِدُوا بِإِسْقَاطِهِ لَمْ يَشْهَدُوا لَهَا بِمَوْتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ بِضَرْبِهَا وَإِسْقَاطِ جَنِينِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُلْقِيَهُ عَقِيبَ ضَرْبِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا مِنْ ضَرْبَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ تُلْقِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْجَنِينِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهَا أَلْقَتْهُ مِنْ غَيْرِ الضَّرْبِ مِنْ طَلْقٍ أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُلْقِيَهُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنْ ضربها، فإن لم تزل ضنية مَرِيضَةً مِنْ وَقْتِ الضَّرْبِ إِلَى وَقْتِ الْإِسْقَاطِ فَالظَّاهِرُ مِنْ إِلْقَائِهِ مَيِّتًا أَنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ، فتجب ديته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 عَلَى الضَّارِبِ فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهَا إِسْقَاطَهُ مِنْ غَيْرِهَا أَحْلَفَهَا وَضَمِنَ دِيَتَهُ، فَإِنْ سَكَنَ أَلَمُهَا بَعْدَ الضَّرْبِ وَأَلْقَتْهُ بَعْدَ زَوَالِ الْأَلَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَلْقَتْهُ مِنْ غَيْرِ الضَّرْبِ فَلَا تَلْزَمُهُ دِيَتُهُ، فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَلْقَتْهُ مِنْ ضَرْبِهِ أَحْلَفَتْهُ، وَلَيْسَ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ بِالظَّاهِرِ وَحُكْمُ الظَّاهِرِ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَتْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ أَنَّهَا أَلْقَتْهُ مِنْ ضَرْبِهِ وَأَنْكَرَهَا، فَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ ضَنِيَّةً مَرِيضَةً حَتَّى أَلْقَتْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، فَإِنْ أَنْكَرْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِهِ أَحْلَفَهَا، وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ بِمَرَضِهَا فَالْقَوْلُ قوله ولها إحلافه. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَرَخَ الْجَنِينُ أَوْ تَحَرَّكَ وَلَمْ يَصْرُخْ ثُمَّ مَاتَ مَكَانَهُ فَدِيَتُهُ تَامَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مَكَانَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي وَعَاقِلَتِهِ إِنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَلْقَتْ مِنَ الضَّرْبِ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَمِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَخَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ، وَحَيَاتُهُ تُعْلَمُ بِالِاسْتِهْلَالِ تَارَةً، وَبِالْحَرَكَةِ الْقَوِيَّةِ أُخْرَى، وَالِاسْتِهْلَالُ هُوَ الصِّيَاحُ وَالْبُكَاءُ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعُطَاسُ وَالْأَنِينُ. وَأَمَّا الْحَرَكَةُ الْقَوِيَّةُ فَمِثْلُ ارْتِضَاعِهِ، وَرَفْعِ يَدِهِ، وَحَطِّهَا، وَمَدِّ رِجْلِهِ، وَقَبْضِهَا، وَانْقِلَابِهِ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْحَرَكَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِي حَيٍّ. فَأَمَّا الِاخْتِلَاجُ وَالْحَرَكَةُ الضَّعِيفَةُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ لَحْمَ الذَّبِيحَةِ قَدْ يَخْتَلِجُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ حَيَاتُهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اسْتِهْلَالٌ، أَوْ حَرَكَةٌ قَوِيَّةٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ تَثْبُتُ حَيَاتُهُ بِالِاسْتِهْلَالِ وَلَا تَثْبُتُ بِالْحَرَكَةِ. وَبِهِ قَالَ سعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعُطَاسِ هل يكون استهلال؟ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الِاسْتِهْلَالَ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحَيَاةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ " فَخُصَّ الِاسْتِهْلَالُ بِحُكْمِ الْحَيَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِ الِاسْتِهْلَالِ وَكَثِيرُهُ فِي ثُبُوتِ الْحَيَاةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ قَلِيلِ الْحَرَكَةِ وَكَثِيرُهَا فِي عَدَمِ الْحَيَاةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى حَيَاةِ الْكَبِيرِ دَلَّ عَلَى حَيَاةِ الصَّغِيرِ كَالِاسْتِهْلَالِ، وَلِأَنَّ مَنْ دَلَّ الِاسْتِهْلَالُ عَلَى حَيَاتِهِ دَلَّتِ الْحَرَكَةُ عَلَى حَيَاتِهِ كَالْكَبِيرِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَفِيهِ نَصٌّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَأَمَّا قَلِيلُ الْحَرَكَةِ فَمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاخْتِلَاجِ دَلَّ عَلَى الحياة من قليل كثير، وَمَا كَانَ اخْتِلَاجًا فَلَيْسَ بِحَرَكَةٍ فَقَدِ اسْتَوَى حُكْمُ الْحَرَكَةِ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ وَالْحَرَكَةِ فِي ثُبُوتِ الْحَيَاةِ سَوَاءٌ فَمَتَى كَانَ الِاسْتِهْلَالُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ أَنَّهُ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ، وَإِنِ اسْتَهَلَّ قَبْلَ انْفِصَالِهِ عِنْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ مِنْهَا وَبَقَاءِ بَعْضِهِ مَعَهَا ثُمَّ انْفَصَلَ مِنْهَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ وَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إِنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ عِنْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ فِي الْمِيرَاثِ وَكَمَالِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ أَقَلِّهِ لَمْ يَثْبُتِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَهَذَا خَطَأٌ من وجهين: أحدهما: أَنَّهُ إِنْ جَرَى عَلَى مَا قَبْلَ الِانْفِصَالِ حُكْمُ الْحَيَاةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ فِي ثُبُوتِهَا لِلْعِلْمِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُرْ حُكْمُهَا عَلَى الْقَلِيلِ لَمْ يَجْرِ عَلَى أَكْثَرِهِ لِلِاتِّصَالِ وَعَدَمِ الِانْفِصَالِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى خُرُوجُ أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ فِي بَقَاءِ الْعِدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْمِيرَاثِ وَكَمَالِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا وَثَبَتَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ بِاسْتِهْلَالٍ أَوْ حَرَكَةٍ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ سُقُوطِهِ، أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَإِنْ مَاتَ عَقِيبَ سُقُوطِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ ضَرْبِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالضَّرْبِ حُكْمُ إِسْقَاطِهِ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ مَوْتِهِ إِلَّا أَنْ تَحْدُثَ عَلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ جِنَايَةٌ فَيَصِيرَ مَوْتُهُ مَنْسُوبًا إِلَى الْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ دُونَ الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ، مِثْلَ أَنْ تَنْقَلِبَ عَلَيْهِ أُمُّهُ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فَيَصِيرُ مَوْتُهُ بِانْقِلَابِ أُمِّهِ عَلَيْهِ فَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَيْهَا تَتَحَمَّلُهَا عَاقِلَتُهَا إِنْ لَمْ تَعْمِدْ ذَلِكَ، وَلَا تَرِثُهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ قَاتِلَةً، وَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ عَصَرَتْهُ بِرَحِمِهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ لَمْ تَضْمَنْهُ وَكَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى الضَّارِبِ، لِأَنَّ عَصْرَةَ الرَّحِمِ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْهَا مَوْلُودٌ وَوَالِدَةٌ. وَلَوْ جرحه جارح بعد سقوط كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى جَارِحِهِ دُونَ ضَارِبِ أُمِّهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ كَالْجَارِحَيْنِ بِضَمَانِهِ مَعًا؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 قِيلَ: لِأَنَّ جِنَايَةَ الضَّارِبِ سَبَبٌ وَجِنَايَةَ الْجَارِحِ مُبَاشَرَةٌ وَاجْتِمَاعَهُمَا يُوجِبُ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ ضَارِبُ الْأُمِّ وَوَارِثُ الْجَنِينِ فِي مَوْتِهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ فَادَّعَى الْوَارِثُ مَوْتَهُ بِالضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ وَادَّعَى الضَّارِبُ مَوْتَهُ بِجِنَايَةٍ حَدَثَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالضَّارِبُ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ضَرْبِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ جِنَايَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ أَقَامَ الضَّارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ بَرِئَ مِنْ دِيَتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا عَلَى الْجَانِي، لِأَنَّ الْوَارِثَ مُبَرِّئٌ لِلْجَانِي وَمُكَذِّبٌ لِلْبَيِّنَةِ بِمُطَالَبَةِ الضَّارِبِ، فَهَذَا حُكْمُهُ إِذَا مَاتَ عَقِيبَ سُقُوطِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ فَمَا زَادَ نُظِرَ فِي حَالِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فإنه لم يزل فيها ضمنا مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ بِضَرْبِهِ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُدَّةُ حَيَاتِهِ سَاكِنًا سَلِيمًا فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ فَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ، فَإِنِ ادَّعَى الْوَارِثُ عَلَيْهِ مَوْتَهُ مِنْ ضَرْبِهِ أَحْلَفَهُ وَبَرِئَ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَلَوِ اشْتَبَهَتْ حاله مدة حياته هل كان فيها ضمنا مَرِيضًا وَسَاكِنًا سَلِيمًا سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنْ قَوَابِلِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ بِعِلَلِ الْمَوْلُودِ أَخْبَرُ مِنَ الرِّجَالِ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِمَرَضِهِ ضِمْنَ الضَّارِبُ دِيَتَهُ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا. قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إنَّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعْرِفُهُ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَهُ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى الرَّبِيعِ، فَلَوِ ادَّعَى الْوَارِثُ مَرَضَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ ليَكُون الضَّارِبُ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ وَادَّعَى الضَّارِبُ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فِيهَا لِيُبَرَّأَ مِنْ دِيَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْوَارِثُ الْبَيِّنَةَ بِمَرَضِهِ فَيَحْكُمُ بَعْدَ إِقَامَتِهَا بمرضه، ويصير القول قول الوارث مع يمنيه أَنَّهُ مَاتَ مِنَ الضَّرْبِ، وَيَضْمَنُ الضَّارِبُ دِيَتَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَرَضِهِ النِّسَاءُ الْمُنْفَرِدَاتُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَشْهَدُهَا النِّسَاءُ وَهُنَّ بِمَرَضِ الْمَوْلُودِ أَعْرَفُ مِنَ الرِّجَالِ، وَفِيهِ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ لِلرَّبِيعِ إنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ، إِمَّا حِكَايَةً عَنِ الشَّافِعِيِّ أَوْ تَخْرِيجًا عَنْ نَفْسِهِ عَلَى ما قدمناه. (فَصْلٌ) وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي اسْتِهْلَالِ الْمَوْلُودِ فَادَّعَاهُ الْوَارِثُ وَأَنْكَرَهُ الضَّارِبُ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ كَمَا تُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهَا حَالٌ لَا يَكَادُ يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ. فَإِنْ شَهِدْنَ بِاسْتِهْلَالِهِ وَحَيَاتِهِ قَضَى عَلَى الضَّارِبِ بِدِيَتِهِ تَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ إِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ إِنْ كَانَ أُنْثَى، فَلَوْ أَقَامَ الضَّارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ سَقَطَ مَيِّتًا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ حُكِمَ بِبَيِّنَةِ الِاسْتِهْلَالِ، لِأَنَّهَا تُثْبِتُ مَا نَفَاهُ غَيْرُهَا، وَقَدْ يَجُوزُ أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 يَقِفَ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ دُونَ بَعْضٍ فَغُلِّبَ حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الضَّارِبِ وَعَاقِلَتِهِ عِنْدَ التَّنَاكُرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنْكِرَ الضارب والعاقلة معاً حياة الجنين ويدعوا أَنَّهُ سَقَطَ مَيِّتًا وَقَدِ ادَّعَى الْوَارِثُ حَيَاتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ وَعَاقِلَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّهُ سَقَطَ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْجَنِينِ حُكْمُ الْحَيَاةِ، فَإِذَا حَلَفُوا وَجَبَتِ الْغُرَّةُ دُونَ الدِّيَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ الْعَاقِلَةُ بِحَيَاةِ الْجَنِينِ وَيُنْكِرَهَا الضَّارِبُ، فَتَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةً كَامِلَةً، وَلَا يَمِينَ عَلَى الضَّارِبِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الْمُعْتَرِفَةِ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَرِفَ الضَّارِبُ بِحَيَاةِ الْجَنِينِ وَتُنْكِرُهَا الْعَاقِلَةُ فَلَا تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْجَانِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا " وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ تَوَجَّهَتِ اليمين علة الْعَاقِلَةِ يَسْتَحِقُّهَا الضَّارِبُ دُونَ وَارِثِ الْجَنِينِ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الدِّيَةِ مِنَ الضَّارِبِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بِإِنْكَارِهِمْ تَحَمُّلَّهَا مِنَ الضَّارِبِ فَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِإِحْلَافِ الْعَاقِلَةِ دُونَ الْوَارِثِ، فَإِذَا حَلَفُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمِ الْغُرَّةُ، وَقِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى، وَتَحَمَّلَ الضَّارِبُ بَاقِيَ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا لَزِمَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ دِيَتِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ بَعِيرًا وَإِنْ كَانَ أُنْثَى لَزِمَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ دِيَتِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ بَعِيرًا وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا مَا عَدَاهُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ خَرَجَ حَيًّا لِأَقَلَّ مِنْ سَتَةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ فِي حَالٍ لَمْ يَتِمَّ لِمِثْلِهِ حَيَاةٌ قَطُّ فَفِيهِ الدِّيَةُ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ فِي حَالٍ تَتِمُّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَجِنَّةِ حَيَاةٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا سَقْطٌ مِنَ الْكَاتِبِ عِنْدِي إِذَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ لِأَنَّهُ بِحَالٍ تَتِمُّ لِمِثْلِهِ الْحَيَاةُ أَنْ تَسْقُطَ إِذَا كَانَ بِحَالٍ لَا تَتِمُّ لمِثْلِهِ حَيَاةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ أَلْقَتْ مِنَ الضَّرْبِ جَنِينًا مُتَحَرِّكًا فَحَرَكَتُهُ ضَرْبَانِ: حَرَكَةُ اخْتِلَاجٍ، وَحَرَكَةُ حَيَاةٍ، فَحَرَكَةُ الِاخْتِلَاجِ لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْحَيَاةِ، وَتَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ دُونَ الدِّيَةِ، وَحَرَكَةُ الْحَيَاةِ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْحَيَاةِ، وَيَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِلَاجِ، وَحَرَكَةُ الْحَيَاةِ، أَنَّ حَرَكَةَ الِاخْتِلَاجِ سَرِيعَةٌ تَتَكَرَّرُ كَالرَّعْشَةِ فِي الْيَدِ، وَتَكُونُ فِي أَعْضَاءِ الْحَرَكَةِ وَغَيْرِهَا. وَحَرَكَةُ الْحَيَاةِ بَطِيئَةٌ لَا يُسْرِعُ تَكْرَارُهَا وَتَخْتَصُّ بِأَعْضَاءِ الْحَرَكَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ فِي الْجَنِينِ حَرَكَةُ حَيَاةٍ كَمُلَتْ فِيهِ دِيَةُ الْحَيِّ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْحَيَاةِ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 سَوَاءٌ أَلْقَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فِي زَمَانٍ لَا تَتِمُّ حَيَاةُ مَثَلِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَسَبَ الْكَاتِبَ إِلَى الْغَلَطِ، وَقَالَ إِذَا أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ الدِّيَةَ إِذَا كَانَ فِي حَالٍ تَتِمُّ لِمَثَلِهِ حَيَاةٌ اقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ إِنْ كَانَ فِي حَالٍ لَا تَتِمُّ لِمَثَلِهِ حَيَاةٌ، وَلَيْسَ يَخْلُو اعْتِرَاضُهُ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما أن يكون مقصوراً على تغليظ الْكَاتِبِ وَسَهْوِهِ فِي النَّقْلِ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَيْسَ بِمُنْكرٍ أَنْ يَذْكُرَ قِسْمَيْنِ وَيُجِيبَ عَنْهُمَا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِضًا بِذَلِكَ فِي الْجَوَابِ وَيَرَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَتِمَّ لِمَثَلِهِ حَيَاةٌ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَوَى فِي الْكَبِيرِ حَالُ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِالصِّحَّةِ وحال من أشفا عَلَى الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ لِاخْتِصَاصِهِ بِإِفَاتَةِ حَيَاةٍ مَحْفُوظَةِ الْحُرْمَةِ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الْجَنِينِ فِيمَنْ تَتِمُّ حَيَاتُهُ أَوْ لَا تَتِمُّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَفَاتَ حَيَاةً وَجَبَ حِفْظُ حُرْمَتِهَا فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ حَيَاتُهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا قَبْلَهَا، وَإِذَا سَقَطَ حَيًّا تحققنا وجوب عِنْدَ الْجِنَايَةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال المزني رضي الله عنه: " وقد قال لَوْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَأَرَادَ وَرَثَتُهُ الْقَوَدَ فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَعِيشُ الْيَوْمَ أَوِ الْيَوْمَيْنِ فَفِيهِ الْقَوَدُ ثُمَّ سَكَتَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَذْبُوحِ يقطع باثنين أو المجروح تخرج منه حشوته فتضرب عنقه فلا قود على الثاني ولا دية وفي هذا عندي دليل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ احْتِجَاجًا لِنَفْسِهِ وَهِيَ حِجَاجٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشافعي قَدْ أَوْجَبَ الْقَوَدَ وَالدِّيَةَ فِي الْمَقْتُولِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِذَا كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ قَوِيَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ وَلَمْ يَدُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ فِي جَارِي الْعَادَةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَبَطَلَ بِهِ مَا ظَنَّهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ غَلَطِ النَّاقِلِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ نَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فيها فنقول: لا تخلوا حَيَاةُ الْمُلْقَى لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَوِيَّةً أَوْ ضَعِيفَةً، فَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً يَعِيشُ مِنْهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ: إِنْ قَتَلَهُ الْقَاتِلُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِذَا ضَمِنَهُ الثَّانِي بِقَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ سَقَطَ ضمانه عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 الضَّارِبِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِيهِ غُرَّةٌ وَلَا دِيَةٌ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِضَرْبِ الْأُمِّ وَإِجْهَاضِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ ضَرْبِهَا إِلَّا أَنْ تُؤَثِّرَ فِي جَسَدِهَا، وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ عَلَيْهِ فِي إِجْهَاضِهَا قَوْلَانِ تَقَدَّمَا. فَإِنْ كَانَتْ حَيَاةُ الْجَنِينِ ضَعِيفَةً لَا يَعِيشُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ أَوْ بَعْضِهَا فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّالِفِ بِالضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْقَتْلِ الْحَادِثِ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ عَلَى الضَّارِبِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِيهِ قَوَدٌ بِحَالٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ، وَيَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ قَطَعَ مَذْبُوحًا بِاثْنَيْنِ أَوْ ضَرَبَ عُنُقَ مَبْقُورِ الْبَطْنِ فَخَرَجَ الْحَشْوَةُ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ قَاتِلَهُ دُونَ الثَّانِي، فَيُعَزَّرُ وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، فَلَوْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي حَيَاتِهِ عنْه قَتْل الثَّانِي هَلْ كَانَتْ قَوِيَّةً يَضْمَنُهَا الثَّانِي أَوْ ضَعِيفَةً يَضْمَنُهَا الْأَوَّلُ؟ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الثَّانِي مَعَ يَمِينِهِ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَهُ، لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ من ضمان الأول بضرب وفي شك من ضربان الثَّانِي بِالْقَتْلِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ ضَعْفُ الْحَيَاةِ حَتَّى يعلم قوتها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَهَا فَأَلْقَتْ يَدًا وَمَاتَتْ ضَمِنَ الْأُمَّ وَالْجَنِينَ لِأَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ جَنَى عَلَى الْجَنِينِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَلْقَتْ مِنَ الضَّرْبَةِ يَدًا وَمَاتَتْ ضَمِنَ الْأُمَّ وَالْجَنِينَ، ضَمِنَ دِيَةَ نَفْسِهَا، وَغُرَّةَ جَنِينِهَا، وَإِنْ لَمْ تُلْقِهِ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ يَدِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تُخْلَقُ عَلَى انْفِرَادٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ جَسَدٍ، فَلَوْ أَلْقَتْ بَعْدَ الْيَدِ جَنِينًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ يَدٌ فَتِلْكَ الْيَدُ مِنْهُ فَتَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ جَنِينٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ الْجَنِينُ كَامِلَ الْيَدَيْنِ فَتِلْكَ الْيَدُ مِنْ جَنِينٍ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ غُرْمَانِ وَكَفَّارَتَانِ، لِأَنَّهُمَا جَنِينَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْيَدُ يَدًا زَائِدَةً قِيلَ مَحَلُّ الْأَعْضَاءِ الزَّائِدَةِ مُخَالِفٌ لِمَحَلِّ الْأَعْضَاءِ الَّتِي مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الْجَنِينِ أَثَرُ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ أَثَرُ الزِّيَادَةِ فَفِيهِ غُرْمَانِ، وَإِنِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ فَفِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهَا يَقِينٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي إِلْقَاءِ الْيَدِ، فَإِنْ أَلْقَتْهَا قَبْلَ مَوْتِهَا وَرِثَتْ مِنَ الْغُرَّةِ، وَإِنْ أَلْقَتْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهَا، وَلَوْ أَلْقَتِ الْيَدَ قَبْلَ مَوْتِهَا وَالْجَنِينَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ اليدين مِنَ الْجَنِينِ فَفِيهِ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ تَرِثُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهَا غُرَّتَانِ تَرِثُ مِنَ الْأُولَى وَلَا تَرِثُ مِنَ الثَّانِيَةِ. (فَصْلٌ) ولو عاشت المضروبة بعدم إِلْقَاءِ الْيَدِ وَلَمْ تُلْقِ بَعْدَ الْيَدِ جَنِينًا لَمْ يَضْمَنِ الضَّارِبُ إِلَّا يَدَ جَنِينٍ بِنِصْفِ الْغُرَّةِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَيِّ مَضْمُونَةٌ بِنِصْفِ دِيَتِهِ فَضُمِنَتْ يَدُ الْجَنِينِ بِنِصْفِ غُرَّتِهِ، وَلَا يُضْمَنُ بَاقِي الْجَنِينِ، لِأَنَّنَا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا اصْطَدَمَتِ امْرَأَتَانِ حَامِلَتَانِ فَمَاتَتَا وَأَلْقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنِينًا مَيِّتًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 فَمَوْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَإِلْقَاءُ جَنِينِهَا هُوَ بِصَدْمَتِهَا وَصَدْمَةِ صَاحِبَتِهَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبَتِهَا وَنِصْفُهَا الْبَاقِي هَدَرٌ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جِنَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَأَمَّا جَنينَاهُمَا فَجَنِينُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ عَلَى أُمِّهِ وَعَلَى صَاحِبَتِهَا، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ غرة في جَنِينِهَا وَنِصْفُ غُرَّةٍ فِي جَنِينِ صَاحِبَتِهَا، فَتَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُلْتَزِمَةً لِغُرَّةٍ كَامِلَةٍ، وَلَا يَنْهَدِرُ شَيْءٌ مِنْ غُرَّةِ الْجَنِينِ وَإِنِ انْهَدَرَ النصف من دية الأمين، يجب عليها ثماني كفارات، لأنهما قد اشتركا فِي قَتْلِ أَرْبَعَةٍ فَلَزِمَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهم كفارتان لاشتراك اثنين فيه. (فَصْلٌ) وَإِذَا طَفَرَتِ الْحَامِلُ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الطَّفْرَةُ عَنْ عَادَةِ مِثْلِهَا مِنَ الْحَوَامِلِ وَلَا كَانَ مَثَلُهَا مُسْقِطًا لِلْأَجِنَّةِ لَمْ تَضْمَنْهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَةِ مِثْلِهَا وَكَانَتِ الْأَجِنَّةُ تَسْقُطُ بِمِثْلِ طَفْرَتِهَا ضَمِنَتْهُ بِالْغُرَّةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ تَرِثْ مِنَ الْغُرَّةِ، لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَهَكَذَا لَوْ شَرِبَتِ الْحَامِلُ دَوَاءً فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا رُوعِيَ حَالُ الدَّوَاءِ فَإِنْ زَعَمَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ أَنَّ مِثْلَهُ قَدْ يُسْقِطُ الْأَجِنَّةَ ضَمِنَتْ جَنِينَهَا، وَإِنْ قَالُوا: مِثْلُهُ لَا يُسْقِطُ الْأَجِنَّةَ لَمْ تَضْمَنْهُ، وَإِنْ أَشْكَلَ وَجَوَّزُوهُ ضَمِنَتْهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ سُقُوطِهِ أَنَّهُ مِنْ حُدُوثِ شُرْبِهِ، وَلَوِ امْتَنَعَتِ الْحَامِلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى أَلْقَتْ جَنِينَهَا وَكَانَتِ الْأَجِنَّةُ تَسْقُطُ مِنْ جُوعِ الْأُمِّ وَعَطَشِهَا نُظِرَ، فَإِنْ دَعَتَهَا الضَّرُورَةُ إِلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ لِلْإِعْوَازِ وَالْعَدَمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَدْعُهَا ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ ضَمِنَتْهُ، وَلَوْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ فِي صَوْمِ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ ضَمِنَتْ، لِأَنَّهَا مَعَ الْخَوْفِ عَلَى حَمْلِهَا مَأْمُورَةٌ بِالْإِفْطَارِ مَنْهِيَّةٌ مِنَ الصِّيَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 (باب جنين الأمة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ يَوْمَ جُنِيَ عَلَيْهَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلِهِ عشر قيمة أمه يوم تلقيه لأنه قال لو ضربها أمة فألقت جنيناً ميتاً ثم أعتقت فألقت جنيناً آخر فعليه عشر قيمة أمه لسيدها وفي الآخر ما في جنين حرة لأمه ولورثته (قال الشافعي) قال محمد بن الحسن للمدنيين أرأيتم لو كان حياً أليس فيه قيمته وإن كان أقل من عشر ثمن أمه ولو كان ميتاً فعشر أمه فقد أغرمتم فيه ميتاً أكثر مما أغرمتم فيه حيا (قال الشافعي) رحمه الله فقلت له أليس أصلك جنين الحرة التي قضى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يذكر عنه أنه سأل أذكر هو أم أنثى؟ قال بلى قلت فجعلت وجعلنا فيه خمسا من الإبل أو خمسين ديناراً إذا لم يكن غرة قال بلى قلت فلو خرجا حيين ذكراً وأنثى فماتاً؟ قال في الذكر مائة وفي الأنثى خمسون قلت فإذا زعمت أن حكمهما في أنفسهما مختلفان فلم سويت بين حكمهما ميتين أما يدلك هذا أن حكمهما ميتين حكم غيرها ثم قست على ذلك جنين الأمة فقلت إن كان ذكراً فنصف عشر قيمته لو كان حياً وإن كان أنثى فعشر قيمتها لو كانت حية أليس قد جعلت عقل الأنثى من أصل عقلها في الحياة وضعف عقل الرجل من أصل عقله في الحياة لا أعلمك إلا نكست القياس قال فأنت قد سويت بينهما من أجل أنى زعمت أن أصل حكمهما حكم غيرهما لا حكم أنفسهما كما سويت بين الذكر والأنثى من جنين الحرة فكان مخرج قولي معتدلاً فكيف يكون الحكم لمن لم يخرج حياً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: جَنَيْنُ الْأَمَةِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى وَجَبَ فِيهَا عُشْرُ قِيمَتِهَا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 وَاسْتُدِلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا أَوْ حُرًّا وَفِي جَنِينِ الْكَافِرَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أَبَوَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ بِأَبِيهِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِأُمِّهِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِهِمَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي إِلْقَائِهِ حَيًّا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي إِلْقَائِهِ مَيِّتًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْرُوثٌ وَاسْتِحْقَاقُ التَّوَارُثِ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَالْوَارِثِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِغَيْرِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْقِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قُوِّمَ مَيِّتًا لَمْ تَكُنْ لِلْمَيِّتِ قِيمَةٌ، وَإِنْ قُوِّمَ حَيًّا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَيَاةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَقْوِيمِهِ عِنْدَ اسْتِحَالَتِهَا إِلَى تَقْوِيمِ أَصْلِهِ كَمَا يَجْعَلُ الْعَبْدَ أَصْلًا لِلْحُرِّ فِي الْحُكُومَاتِ، وَيَجْعَلُ الْحُرَّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قُوِّمَ بِنَفْسِهِ لَوَجَبَ اسْتِيفَاءُ قِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَمَّا لَمْ يُسْتَوْفَ قِيمَتُهُ لِاعْتِبَارِهِ بِغَيْرِهِ كَانَ أَصْلُ التَّقْوِيمِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِغَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرْمَتَهُ حُرًّا أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَتِهِ مَمْلُوكًا، فَلَمَّا اسْتَوَى الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي أَغْلَظِ حَالَيْهِ حُرًّا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِي أَخَفِّ حَالَيْهِ مَمْلُوكًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُوجِبُ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى كَالدِّيَاتِ وَالْمَوَارِيثِ وَهُمْ لَا يُفَضِّلُونَهُ، وَتَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ وَإِنْ كان مذهبهم مفضياً إليه مدفوع بِالشَّرْعِ فَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِامْتِنَاعِ مَا عَدَاهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ وَبَيْنَ إِسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِسْلَامُهُ وَكُفْرُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَرِقُّهُ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفَسِهِ جَازَ مِثْلُهُ فِي بدل نفسه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ بِأَبِيهِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِأُمِّهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمِلْكِ تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَجَبَ فِي التَّقْوِيمِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهَا دُونَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ افْتِرَاقِ الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ فِي الْحَيِّ فَهُوَ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ فِي الْحَيَاةِ أَوْقَعَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، بِوُقُوعِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمَوْتِ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا كَالْحُرِّ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَارِثِ دُونَ الْمَوْرُوثِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ وَإِبْطَالِ مَذْهَبِ مُخَالِفِهِ بِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِغَيْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْضِيلِ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِيمَةُ أُمِّهِ أَلْفَ دِينَارٍ عُشْرُهَا مِائَةُ دِينَارٍ، وَقِيمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ دِينَار وَاحِد، فَيَجِبُ فِيهِ مَيِّتًا مِائَةُ دِينَارٍ، وَيَجِبُ فِيهِ حَيًّا دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّ الْحَيَّ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَيِّتِ كَالْحُرِّ فَيُقَالُ لَهُ وَقَوْلُكُمْ مُفْضٍ إِلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ فَضَّلْتُمِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ لِأَنَّكُمْ أَوْجَبْتُمْ فِي الْأُنْثَى عُشْرَ قِيمَتِهَا وَفِي الذَّكَرِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَالْأُصُولُ تُوجِبُ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى. وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ أَوْجَبْتُمْ فِيمَنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا أَوْجَبْتُمُوهُ فِيمَنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ فَقُلْتُمْ فِي الذَّكَرِ إِذَا كَانَ قِيمَتُهُ خَمْسِينَ دِينَارًا فِيهِ نِصْفُ عُشْرِهَا دِينَارَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي الْأُنْثَى إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعِينَ دِينَارًا فِيهَا عُشْرٌ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَالْأُصُولُ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْغُرْمِ عِنْدَ زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَلَمْ تُنْكِرْ عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى أَصْحَابِكَ مُخَالَفَةَ أُصُولِ الشَّرْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَعَدَلْتَ إِلَى إِنْكَارِ مَا لَا تَمْنَعُ مِنْهُ أُصُولُ الشَّرْعِ عَنْهُ اخْتِلَافَ الْجِهَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ فَقُلْنَا وَقُلْتُمْ مَعَ اتِّفَاقِنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى تَفْضِيلِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ: إِنَّ الْغَاصِبَ لَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ حَالًا مِنَ الْحَرِّ، ثُمَّ قُلْتُمْ وَحُكْمُ الْقَتْلِ أَغْلَظُ إنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَأَوْجَبْتُمْ فِيهِ غَيْرَ مَقْتُولٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَوْجَبْتُمْ فِيهِ مَقْتُولًا وَلَمْ تُنْكِرُوا مِثْلَ هَذَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِثْلُهُ فِي الْجَنِينِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ ضَرَبَهَا لَا يَوْمَ إِسْقَاطِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ إِسْقَاطِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ وَأَلْقَتْ مِنْ ضَرْبِهِ جَنِينَيْنِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْآخَرُ بَعْدَهُ وَجَبَ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أَلْقَتْهُ قَبْلَ الْعِتْقِ عُشْرُ قِيمَتِهَا، وَفِي الْجَنِينِ الَّذِي أَلْقَتْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ غُرَّةٌ فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِوَقْتِ إِلْقَائِهِ لَا وقت الضرب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 وَالثَّانِي: وَهُوَ احْتِجَاجُ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ الْجِنَايَةَ إِذَا صَارَتْ نَفْسًا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِبَدَلِهَا وَقْتَ اسْتِقْرَارِهَا كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ وَعَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ إِذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِحَال حَادِثَةٍ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ دُونَ اسْتِقْرَارِ السِّرَايَةِ كَالْعَبْدِ إِذَا جُنِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ رِقِّهِ، اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ دُونَ اسْتِقْرَارِهَا، وَلَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ فَأُعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِهِ اعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ اسْتِقْرَارِهَا، كَذَلِكَ الْجَنِينُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ اعْتُبِرَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ تَغَيَّرَتِ اعْتُبِرَ بِهِ وَقْتَ الِاسْتِقْرَارِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ بَطْنَ حَامِلٍ حَرْبِيَّةٍ فَتُسْلِمَ ثُمَّ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا وَتَمُوتَ بَعْدَهُ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَضْمَنُهَا وَلَا يَضْمَنُ جَنِينَهَا، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ يَضْمَنُ جَنِينَهَا وَلَا يَضْمَنُ نَفْسَهَا، لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ جَنِينَهَا بِوَقْتِ الْوِلَادَةِ وَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً، وَتُعْتَبَرُ نَفْسُهَا بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ وَقَدْ كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَضْمَنُ الْجِنَايَةَ عِنْدَ سِرَايَتِهَا فِي الْجَنِينِ إِذَا كَانَتْ هَدَرًا فِي الِابْتِدَاءِ. قِيلَ: لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجَنِينِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالسِّرَايَةِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ فَصَارَتِ السِّرَايَةُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمُزَنِيِّ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا. وَلَوِ ارْتَدَّتْ حَامِلٌ فَضَرَبَ بَطْنَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ ضَمِنَ جَنِينَهَا وَلَمْ يَضْمَنْ نَفْسَهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ جَنِينَ الْمُرْتَدَّةِ مَضْمُونٌ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ بِخِلَافِ أُمِّهِ وَجَنِينُ الْحَرْبِيَّةِ كَأُمِّهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ حَامِلٍ لِمَمْلُوكٍ فَأَعْتَقَهَا السَّيِّدُ ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِاسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ فِيهِ بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ أَوْ مِنَ الْغُرَّةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ دِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْغُرَّةُ أَقَلَّ أَخَذَهَا وَلَا شَيْءَ لِوَارِثِ الْجَنِينِ وَإِنْ كَانَتْ عُشْرَ قِيمَتِهَا أَقَلَّ أَخَذَهَا مِنْ قِيمَةِ الْغُرَّةِ، وَكَانَ بَاقِي الْغُرَّةِ لِوَارِثِ الْجَنِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُنَاسِبٌ عَادَ إِلَى السَّيِّدِ وَارِثًا بِالْوَلَاءِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا وَطِئَ الْحُرُّ أَمَةَ غَيْرِهِ بشبهة [وأتت بولد] كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ لِلسَّيِّدِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ رِقَّهُ عَلَيْهِ بِشُبْهَةٍ، فَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَاطِئِ تَغْلِيبًا لِاسْتِهْلَاكِهِ بِالْمَوْتِ، فَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الضَّارِبِ بغرة عبد أو أمة للواطئ صار مَضْمُونًا عَلَى الْوَاطِئِ بِعُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِلسَّيِّدِ، أَمَّا الْغُرَّةُ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِيهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ فَكَانَتْ لِأَبِيهِ الْوَاطِئِ دُونَ السَّيِّدِ، وَصَارَ الْوَاطِئُ مستهلكاً لرقه على السيد، ولولائه لأخذ مِنَ الْجَانِي عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ فَضَمِنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 الْوَاطِئُ. ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ الْغُرَّةُ وَعُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَسْتَوِيَا وَلَا يُفَضَّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَخْذِهَا مِنَ الْجَانِي وَلَا شَيْءَ فِيهَا لِلْوَاطِئِ، وَلَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَاطِئُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِنَ الْجَانِي وَيُعْطِيَهَا لِلسَّيِّدِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ لَهُ وَعُشْرَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْغُرَّةُ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِ الْقِيمَةِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عُشْرَ الْقِيمَةِ وَيَأْخُذَ الْوَاطِئُ فَاضِلَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عُشْرُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَرْجِعَ عَلَى الْوَاطِئِ بالباقي من عشر القيمة. (فَصْلٌ) وَإِذَا زَنَا الْمُسْلِمُ بِحَرْبِيَّةٍ كَانَ وَلَدُهَا مِنْهُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي نَسَبِهِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي دِينِهِ، وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ هَدَرًا لَا يُضْمَنُ كَأُمِّهِ، وَلَوْ وَطِئَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيَّةً بِشُبْهَةٍ كَانَ وَلَدُهَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِهِ فِي نَسَبِهِ لَحِقَ بِهِ فِي دِيَتِهِ، فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الضَّارِبِ بِغُرَّةِ الْجَنِينِ الْمُسْلِمِ، فَلَوْ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي جَنِينِهَا مِنْ وَطْءِ الْمُسْلِمِ هَلْ هُوَ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَادَّعَتِ الْأُمُّ الْحَرْبِيَّةُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ أَكْذَبَهَا الضَّارِبُ وَعَاقِلَتُهُ، وَقَالُوا هُوَ من زنا فالقول قولهم من أَيْمَانِهِمْ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِمْ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الضَّارِبُ وَكَذَّبَتْهَا عَاقِلَتُهُ ضَمِنَ الضَّارِبُ جَنِينَهَا دُونَ الْعَاقِلَةِ، وَحَلَفَتِ الْعَاقِلَةُ لِلضَّارِبِ دُونَ الْأُمِّ فَبَرِئُوا مِنَ الْغُرْمِ، وَإِنْ صَدَّقَهَا الْعَاقِلَةُ وَكَذَّبَهَا الضَّارِبُ ضَمِنَتِ الْعَاقِلَةُ جَنِينَهَا وَلَا يَمِينَ عَلَى الضَّارِبِ فِي إِنْكَارِهِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عنه. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْحَامِلُ مَمْلُوكَةً بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْهَا وَضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُعْتِقَتْ حِصَّتُهُ مِنْهَا وَمِنْ جَنِينِهَا، لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ يَسْرِي إِلَى حَمْلِهَا، وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهَا وَمِنْ جَنِينِهَا مَوْقُوفًا لِلشَّرِيكِ فِيهَا، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ حال الضارب فإنه لا يخلوا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتِقَ أَوْ يَكُونَ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ، أَوْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا. فَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ هُوَ الشَّرِيكَ الْمُعْتِقَ ضَمِنَ جَنِينَهَا بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَبِنِصْفِ الْغُرَّةِ لِأَنَّ نِصْفَهُ حُرٌّ، وَفِي مُسْتَحَقِّهِ قَوْلَانِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ عُتِقَ بَعْضُهُ هَلْ يَكُونُ مَوْرُوثًا؟ عَلَى قولين للشافعي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 أَحَدُهُمَا: لَا يُورَثُ مِنْهُ كَمَا لَا يَرِثُ لَهُ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِمَالِكِ رِقِّهِ مِلْكًا لَا مِيرَاثًا، فَيَصِيرُ لَهُ نِصْفُ الْغُرَّةِ مَعَ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَذَلِكَ جَمِيعُ دِيَةِ جَنِينٍ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ بِهِ كَسْبَ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ مَلَكَهُ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ مُنَاسِبٌ وَرِثَ نِصْفَ الْغُرَّةِ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا الْآخَرُ شَيْئًا لِرِقِّ بَعْضِهَا وَالْمَرْقُوقُ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ وَرِثَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَكَانَ نِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ لِمَالِكِ الرِّقِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُنَاسِبٌ، وَصَارَ مَوْرُوثًا بِالْوَلَاءِ لَمْ يَرِثْهُ الْمُعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَانْتَقَلَ مِيرَاثُهُ إِلَى عَصَبَةِ مُعْتِقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ مِيرَاثَهُ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَكُونُ لِمَالِكِ رِقِّهِ وَلَا لوراثه. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّارِبُ هُوَ مَالِكَ الرِّقِّ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ فَلَا يَضْمَنُ مَا مَلَكَهُ مِنْ رِقِّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ، وَفِي ضَمَانِ مَا عُتِقَ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ إِذَا قِيلَ لَوْ ضَمِنَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُهُ إِذَا قِيلَ لَوْ ضَمِنَهُ غَيْرُهُ كَانَ مَوْرُوثًا عَنْهُ فَيَكُونُ لِعَصَبَتِهِ، فَإِنْ عَدِمُوا فَلِمُعْتِقِهِ، وَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ عَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ أَجْنَبِيًّا ضَمِنَ جَمِيعَهُ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَجْلِ نِصْفِ الْمَرْقُوقِ يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الْمُسْتَرِقِ وَبِنِصْفِ الْغُرَّةِ لِأَجْلِ نِصْفِ الْمُعْتِقِ، وَفِي مُسْتَحِقِّهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِيكِ الْمُسْتَرِقِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ مَوْرُوثٍ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ مَوْرُوثٌ. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَهَذَا حُكْمُهُ إِذَا كَانَ الشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا قُوِّمَتْ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ النِّصْفُ وَعُتِقَ جَمِيعُهَا نِصْفُهَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَنِصْفُهَا بِالسِّرَايَةِ، وَسَرَى عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ وَعِتْقُ السِّرَايَةِ إِلَى عِتْقِ جَنِينِهَا فَصَارَتْ وَجَنِينُهَا حُرَّيْنِ، وَمَتَى يُعْتَقُ النِّصْفُ الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ؟ فِي ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: بِلَفْظِهِ الَّذِي أَعْتَقَ بِهِ حِصَّتَهُ، وَيُؤَدِّي الْقِيمَةَ بَعْدَ عِتْقِهِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَأَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا لَمْ يُعْتَقْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ بَانَ أَنَّهُ عَتَقَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ بِاللَّفْظِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُهَا فِي إِلْقَاءِ جَنِينِهَا مِنْ أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 يَكُونَ بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ فَقَدْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ عِتْقِهَا وَعِتْقِ جَنِينِهَا، فَيَكُونُ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ هُوَ الْمُعْتِقَ غَرِمَهَا وَلَمْ يَرِثْ مِنْهَا، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَوَرِثَتِ الْأُمُّ لِكَمَالِ حُرِّيَّتِهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهَا لِعَصَبَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ هُوَ الشَّرِيكَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ يَسْتَحِقُّهَا وَرَثَةُ الْجَنِينِ، يَكُونُ لِأُمِّهِ مِنْهَا مِيرَاثُ أُمٍّ وَالْبَاقِي للعصبة، فإن لم يكونوا المعتق لَهُ، وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ دَفْعِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا قَدْ عُتِقَتْ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى وَدَفَعَ الْقِيمَةَ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُعْتَقُ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى وَلَمْ يَدْفَعِ الْقِيمَةَ كَانَ كَمَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَلَمْ يُعْتَقْ بَيْنَهَا إِلَّا مَا عُتِقَ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 (بسم الله الرحمن الرحيم) (كتاب القسامة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أخبرنا مالك عن أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءَ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي قَفِيرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا مَا قَتَلْنَاهُ فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " كَبِّرْ كَبِّرْ) يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وإما أن يؤذنوا بحرب) فكتب عليه السلام إليهم فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) قَالُوا لَا قَالَ فَتَحْلِفُ يَهُودُ قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ قَالَ سَهْلٌ لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (قَالَ الشافعي) رحمه الله فإن قيل فقد قال للولي وغيره تحلفون وتستحقون وأنت لا خلف إلا الأولياء قيل يكون قد قال ذلك لأخي المقتول الوارث ويجوز أن يقول تحلفون لواحد والدليل على ذلك حكم الله عز وجل وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام أن اليمين لا تكون إلا فيما يدفع بها المرء عن نفسه أو يأخذ بها مع شاهده ولا يجوز لحالف يمين يأخذ بها غيره) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَسَامَةُ فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ الْيَمِينُ. سُمِّيَتْ قَسَامَةً لِتَكْرَارِ الْأَيْمَانِ فِيهَا، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ أَوْ لِلْحَالِفِينَ بِهَا؟ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ هِيَ اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنْ أَقْسَمَ يُقْسِمُ قَسَامَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ اسْمٌ لِلْحَالِفِينَ بِهَا لِتَعَلُّقِهَا بهم وتعديها إليهم. والقسامة مُخْتَصَّةٌ بِدَعْوَى الدَّمِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْقَسَامَةِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الإسلام فإن (تجردت) دَعْوَى الدَّمِ عَنْ لَوْثٍ. كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى لَوْثٌ وَاللَّوْثُ - أَنْ يَقْتَرِنَ بِالدَّعْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إِذَا كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ أَيْمَانِهِ بِمَا ادَّعَى مِنَ الْقَتْلِ فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيُبَرَّأُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِاللَّوْثِ وَلَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ أُحْلِفَ مِنْ خِيَارِهَا خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِذَا حَلَفُوا وَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْجُودًا غَرِمَ الدِّيَةَ بَانِي الْقَرْيَةِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ وَإِنْ كَانَ قَتِيلُهُمْ مَفْقُودًا يَغْرَمُهَا سُكَّانُ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ يَغْرَمُهَا سُكَّانُ الْقَرْيَةِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ وَهَكَذَا لَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ حَلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى بَاقِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْجُودًا وَعَلَى الْمُصَلِّينَ فيه إن كان مفقوداً في قول أبو حَنِيفَةَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَكُونُ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّ أَخِي قُتِلَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَقَالَ يَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا قَالَ: مَا لِي مِنْ أَخِي غَيْرُ هَذَا قَالَ بَلَى وَلَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ. وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عبد الرحمن بن عبد الله القرظي أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ فَأَتَتِ الْأَنْصَارُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَى الْيَهُودِ أَنِ احْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ اعْقِلُوهُ فَإِنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَأَلْزَمَهُمُ الْيَمِينَ وَالدِّيَةَ مَعًا. وَرُوِيَ أَنْ رَجُلًا وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ حَيَّيْنِ فَاعْتَبَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 بِأَقْرَبِ الْحَيَّيْنِ وَأَحْلَفَهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فَقَالُوا: مَا وَقَتْ أَمْوَالَنَا أَيْمَانُنَا وَلَا أيماننا أموالنا فقال عمر حصنتم بأموالكم دمائكم وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُنْتَشِرَةٌ لَمْ يَظْهَرْ لِعُمَرَ فِيهَا مُخَالِفٌ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي قَوْلُهُ فَلَمْ يُوجَبِ الْحُكْمُ لَهُ كَالدَّعْوَى وَلِأَنَّهَا دَعْوَى فَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ، لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ وُجُوبِ اللَّوْثِ كَالْأَطْرَافِ. وَدَلِيلُنَا: الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ ادَّعَوْا قَتْلَ صَاحِبِهِمْ عَلَى الْيَهُودِ تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ رَوَاهُ عَبَّادٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا سَهْلٍ إِلَى خَيْبَرَ يَمْتَارُونَ فَتَفَرَّقُوا لِحَاجَتِهِمْ فَمَرُّوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ قَتِيلًا فَرَجَعُوا إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا قَسَامَةً تَسْتَحِقُّونَ بِهِ قَتِيلَكُمْ قَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ غِبْنَا عَنْهُ قَالَ: فيحلف اليهود خمسين يميناً فيبرؤون. فَقَالُوا: نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَالٍ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ - أَحَدُهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) . فَبَدَأَ بِهِمْ، وَجَعَلَ الدَّمَ مُسْتَحَقًّا بِأَيْمَانِهِمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَبْدَأُ بِغَيْرِهِمْ وَيَجْعَلُ الدَّمَ مُسْتَحَقًّا بِأَيْمَانِ غَيْرِهِمْ. الثَّانِي: قَوْلُهُ فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَنَقَلَ الْأَيْمَانَ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ وَجَعَلَهَا مُبْرِئَةً لَهُمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنْقُلُ الْأَيْمَانَ وَلَا يُبْرِئُ بِهَا مِنَ الدَّمِ، فَاعْتَرَضُوا عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أبي حثمة من ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ كَانَ طِفْلًا لَا يَضْبِطُ مَا يَرْوِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَابِطًا لِحَالِهِ وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي زِيَادَاتِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِسَهْلٍ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِ سِنِينَ وَقَدْ عَمِلَ التَّابِعُونَ بِمَا رَوَاهُ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَدَأَ فِي الْقَسَامَةِ بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا رِوَايَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا سُفْيَانُ وَشَكَّ فِيهَا هَلْ بَدَأَ بِأَيْمَانِ الْأَنْصَارِ أَوِ الْيَهُودِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهِمَ سُفْيَانُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ بَشِيرَ بْنَ يَسَارٍ رَوَى عَنْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالَ: محمد بن الحسن قال تلك لهم على وجه الإنكار عليهم ما قال تعالى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لو حكى عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَمَا قَالَ: وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَيَصِيرُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَبِمَا قَالَ بَعْدَهُ فَتُبْرِئُكُمْ يهود بخمسين يميناً خَارِجًا عَنِ الْإِنْكَارِ وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلِفَ لِيَخْرُجَ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَحْلِفُونَ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفَ لِلِاسْتِفْهَامِ لِيَصِيرَ تَفْرِيقًا لِلْحُكْمِ وَاسْتِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا نَصٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا الْقَسَامَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى دُونِ الْمُنْكِرِ. فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) يُرِيدُ بِهِ اخْتِصَاصَهَا بِالْمُنْكِرِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ " إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ) يُرِيدُ بِهِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُنْكِرِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِثْبَاتًا لِيَمِينِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ نَفْيًا لِيَمِينِهِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا مِنَ الْإِثْبَاتِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنَ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ الْبَرَاءَةِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنِ الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِمُوجِبِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْمُونَ عِنْدَ الْمُسْتَحْلِفِ إِذَا حَلَفُوا وَالْيَمِينُ تَسْتَحِقُّ إِمَّا فِيمَا يَأْخُذُ بِهَا الْحَالِفُ لِنَفْسِهِ مَا ادَّعَى وَإِمَّا لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا أَنْكَرَ فَنَقُولُ كُلُّ يَمِينٍ لَا يُحْكَمُ لِلْحَالِفِ بِمُوجِبِهَا لَمْ يَجُزِ الِاسْتِحْلَافُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ وَعَلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِالْحَقِّ فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِأَيْمَانِ الْمُتَبَايِعِينَ إِذَا تَحَالَفَا فِي الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفَانِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِمُوجِبِهَا قِيلَ قَدْ يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَلَا يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَا لِتَعَارُضِهِمَا كَمَا يُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا انْفَرَدَتْ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا إِذَا تَعَارَضَتْ، فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ لَا تَحْكُمُونَ بِمُوجِبِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْقَوَدُ وَأَنْتُمْ لَا تُوجِبُونَهُ قِيلَ: مُوجِبُهَا ثُبُوتُ الْقَتْلِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ وَلَنَا فِي الْقَوَدِ قَوْلٌ نَذْكُرُهُ، وَمِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهَا أَيْمَانٌ تَكَرَّرَتْ فِي الدَّعْوَى شَرْعًا فَوَجَبَ أَنْ يُبْدَأَ فِيهَا بِالْمُدَّعِي كَاللِّعَانِ فَإِنْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ يَمِينًا دَلَّلْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ) . وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ الْقَسَامَةِ أَخَصُّ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يقْضي بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ وَلَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُ عَلَى الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِلَوْثٍ وأما الجواب عن حديث القرطي فَمِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَصِحَّةُ إِسْنَادِنَا وَانْفِرَادُهُ وَكَثْرَةُ رُوَاتِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْبَارَنَا أَزْيَدُ نَقْلًا وَأَشْرَحُ حَالًا وَالزِّيَادَةُ أَوْلَى مِنَ النُّقْصَانِ وَالشَّرْحُ أَصَحُّ مِنَ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَضِيَّةِ عُمَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبْدَ الله بن الزبير وقد خَالَفَهُ فِيهَا فَقَتَلَ فِي الْقَسَامَةِ وَلَمْ يَقْتُلْ فِيهَا عُمَرُ فَتَنَافَتْ قَضَايَاهُمَا فَسَقَطَ الْإِجْمَاعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى قَتْلَ الْعَمْدِ لِيَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ، فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِقَتْلِ الْخَطَأِ فَأَحْلَفَهُمْ عَلَى الْعَمْدِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ دِيَةَ الْخَطَأِ بِالِاعْتِرَافِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ - كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِإِنْكَارِهِ لِلْفَرْقِ فِيمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الدَّعَاوَى فَهُوَ إِجْمَاعُنَا عَلَى اخْتِصَاصِ الْقَسَامَةِ بِالدِّمَاءِ دُونَ سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَطْرَافِ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَدْخُلُهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي النَّفْسِ وَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ وَلِذَلِكَ تَغَلْغَلَتْ بِالنَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا كَانَ مِثْلَ السَّبَبِ الَّذِي قَضَى فِيهِ عليه الصلاة والسلام بالقسامة حكمت بها وجعلت الدية فيها على المدعى عليهم فإن قيل وما السبب الذي حكم فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قيل كانت خيبر دار يهود محضة لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بين الأنصار وبينهم ظاهرة وخرج عبد الله بعد العصر فوجد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 قتيلا قبل الليل فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود فإذا كانت دار قوم محضة أو قبيلة وكانوا أعداء للمقتول فيهم وفي كتاب الربيع أعداء للمقتول أو قبيلته ووجد القتيل فيهم فادعى أولياؤه قتله فلهم القسامة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ فِي إِحْلَافِ الْمُدَّعِي يَكُونُ مَعَ اللَّوْثِ وَيَنْتَفِي مَعَ عَدَمِهِ - وَاللَّوْثُ - مَا شَهِدَ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا وَلَا يَتَخَالَجُ النَّفْسَ شَكٌّ فِيهَا. وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضَهَا لِتَكُونَ دَلِيلًا عَلَى نَظَائِرِهَا فَمِنْهَا: مِثْلُ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتِيلِ الْأَنْصَارِ بَيْنَ الْيَهُودِ لِأَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ دَارَ يَهُودَ مَحْضَةً وَكَانَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً بِالذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَنُصْرَةِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفَارَقَ عَبْدُ اللَّهِ أَصْحَابَهُ فِيهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَوُجِدَ قَتِيلًا قَبْلَ اللَّيْلِ، فَتَغَلَّبَ فِي النَّفْسِ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ غَيْرُ الْيَهُودِ فَيَكُونُ لَوْثًا يُحْكَمُ فِيهِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي. وَقَالَ: مَالِكٌ لَا يَكُونُ اللَّوْثُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ إِلَّا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مَنْ لَا تَكْمُلُ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَهَذَا مُوَافَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ قَبْلَ فِرَاقِهِ لِلدُّنْيَا. دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ فَيَكُونُ هَذَا لَوْثًا دُونَ مَا عَدَاهُمَا. احْتِجَاجًا لِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] فَضُرِبَ بِهَا فَحَيَا. وَقَالَ: قَتَلَنِي فَلَانٌ فَقَتَلَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعَ فِرَاقِ الدُّنْيَا أَصْدَقُ مَا يَكُونُ قَوْلًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ تَحَرُّجًا فَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ تُهْمَةٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ لَوْثًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ مَا اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي كَالَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتِيلِ الْأَنْصَارِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا مَاتَ لَقُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا انْدَمَلَ جُرْحُهُ وَعَاشَ وَلَوْ قُبِلَ فِي الدَّمِ لِقُبِلَ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا قَالَهُ لِعَدَاوَةٍ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ أَنْ لَا يَعِيشَ عَدُوُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أو لفقر قربته فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَغْنُوا بِالدِّيَةِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَمَّا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتِلْكَ قِصَّةٌ أَحْيَا اللَّهُ بِهَا الْقَتِيلَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى، وَلَوْ كَانَ مِثْلُهَا لَجُعِلَ لَوْثًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ. وَأَمَّا انتفاء التهمة عنه فباطل بدعوى الحال وَلِأَنَّ مَالِكًا يُورِّثُ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ فَيُلْحِقُ بِهِ التُّهْمَةَ فِي حَالٍ وَيَنْفِيهَا عَنْهُ فِي حَالٍ، فَتَعَارَضَا قَوْلَاهُ فَبَطَلَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَتِيلِ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَأَنَّ مَا كَانَ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الْأَنْصَارِ لَوْثٌ فَالْمُعْتَبَرُ فِي مِثْلِهَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهَا مُخْتَصَّةً بِأَهْلِهَا لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. كَاخْتِصَاصِ الْيَهُودِ بِخَيْبَرَ. وَفِي حُكْمِ الْقَرْيَةِ مَحَلَّةٍ مِنْ بَلَدٍ فِي جَانِبٍ مِنْهُ لَا يَشْرَكُ أَهْلُهَا فِيهَا غَيْرَهُمْ. أَوْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِي الْحَيِّ غَيْرُهُمْ فَإِنِ اخْتَلَطَ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْحَيِّ غَيْرُهُمْ مِنْ مُسَافِرٍ أَوْ مُقِيمٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا مَعَ أَهْلِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، إِمَّا فِي دِينٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ تِرَةٍ تَبْعَثُ عَلَى الِانْتِقَامِ بِالْقَتْلِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ الِانْفِرَادُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَظُهُورُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ صَارَ هَذَا لَوْثًا وَهُوَ نَصُّ السُّنَّةِ وَمَا عَدَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ نَفَرٌ بَيْتًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ اللَّوْثَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا فِي مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَدْخُلَ جَمَاعَةٌ بَيْتًا أَوْ دارً أَوْ بُسْتَانًا مَحْظُورًا يَتَفَرَّدُونَ فِيهِ. إِمَّا فِي منافرة أو في موانسة ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ فِيهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ. أَوْ لم يكن بخلاف القرية لأن ما انفردوا فِيهِ مِنَ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ مَمْنُوعٌ مَنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَلَيْسَتِ الْقَرْيَةُ مَمْنُوعَةً مَنْ مَارٍّ وَطَارِقٍ فَاعْتُبِرَ فِي الْقَرْيَةِ ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الدَّارِ ظُهُورُ العداوة لعدم الاحتمال. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ صَحْرَاءَ وَحْدَهُمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنَ اللَّوْثِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي صَحْرَاءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ إِلَى جَنْبِهِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُخْتَضِبٌ بِدَمِهِ فِي مَقَامِهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَيْسَ إِلَى جَنْبِهِ عَيْنٌ يُرِيدُ عَيْنَ إِنْسَانٍ أَوْ عَيْنَ حَيَوَانٍ يَقْتُلُ الْإِنْسَانَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ " وَلَا أَثَرَ فِي الصَّحْرَاءِ لِهَارِبٍ) يَعْنِي مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ قَاتِلٍ وَيَكُونُ هَذَا الْحَاضِرُ إِمَّا وَاقِفًا عَلَيْهِ وَإِمَّا مُوَلِّيًا لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ وَعَلَيْهِ آثَارُ قَتْلِهِ مِنِ اخْتِضَابِهِ بِدَمِهِ أَوِ اخْتِضَابِ سَيْفِهِ فَيَصِيرُ بِهِ لَوْثًا فِيهِ إِنِ اسْتُكْمِلَتْ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الصَّحْرَاءُ خَالِيَةً مِنْ عَيْنِ إِنْسَانٍ أَوْ سَبُعٍ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الصَّحْرَاءِ أَثَرٌ لِهَارِبٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ طَرِيًّا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَاضِرِ آثَارُ قَتْلِهِ فَيَصِيرُ بِاجْتِمَاعِهَا لَوْثًا، فَإِنْ أَخَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا فَكَانَ هُنَاكَ عَيْنُ إِنْسَانٍ أَوْ سَبُعٍ لَمْ يكن لوثا لجواز أن يكون القتل من تِلْكَ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَثَرٌ لِهَارِبٍ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مِنَ الْهَارِبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ طَرِيًّا لَمْ يَكُنْ لَوْثًا لِبُعْدِهِ عَنْ شَوَاهِدِ الْحَالِ وَجَوَازِ تَغَيُّرِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَاضِرِ آثَارُ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَوْثًا لِظُهُورِ الِاحْتِمَالِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ صَفَّيْنِ فِي حَرْبٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنَ اللَّوْثِ، أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ صَفَّي حَرْبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ قَبْلَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَاخْتِلَاطِ الصُّفُوفِ فَيُنْظَرُ فِي مَصْرَعِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنَالَهُ سِلَاحُ أَصْحَابِهِ وَلَا يَنَالُهُ سِلَاحُ أَضْدَادِهِ فَيَكُونُ اللَّوْثُ مَعَ أَصْحَابِهِ بِهِ دون أضداده. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنَالَهُ سِلَاحُ أَضْدَادِهِ وَلَا يَنَالَهُ سلاح أصحابه فيكون اللوث مع أضداد. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنَالَهُ سِلَاحُ أَصْحَابِهِ وَسِلَاحُ أَضْدَادِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنْ يَكُونَ لَوْثًا مَعَ أَضْدَادِهِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِعَدَاوَتِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِنُصْرَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ لَوْثًا مَعَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَضْدَادِهِ، لِأَنَّ عَدَاوَةَ أَضْدَادِهِ عَامَّةٌ وقد يكون في أصحابه مع عَدَاوَةٍ خَاصَّةٍ كَالْمَحْكِيِّ مِنْ قَتْلِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي وَقْعَةِ الجعل. قِيلَ: إِنَّهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ فَأَخْطَأَهُ إليه فَصَارَ قَتْلُهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُحْتَمَلًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بَعْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَاخْتِلَاطِ الصفوف فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ وَأَضْدَادُهُ طَالِبِينَ فَيَكُونُ لَوْثًا مَعَ أَضْدَادِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يَخَافُ وَالطَّالِبَ مُنْتَقِمٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُهُ طَالِبِينَ وَأَضْدَادُهُ مُنْهَزِمِينَ فَيَكُونُ لَوْثًا مَعَ أَصْحَابِهِ دُونَ أَضْدَادِهِ لما ذكرناه. القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَتَمَاثَلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَخْلُدُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْهَرَبِ فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ لَوْثًا مَعَ أَضْدَادِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ - لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْعَدَاوَةِ الْعَامَّةِ. وَالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَضْدَادِهِ لِاحْتِمَالِ الخطأ أو عداوة خاصة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوِ ازْدِحَامَ جَمَاعَةٍ فَلَا يَفْتَرِقُونَ إِلَّا وَقَتِيلٌ بينهم أو في ناحية ليس إِلَى جَنْبِهِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ إِلَّا رَجُلٌ واحد مخضب بدمه في مقامه ذلك) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ خَامِسٌّ مِنَ اللَّوْثِ فِي ازْدِحَامِ جَمَاعَةٍ عَلَى بِئْرِ مَاءٍ. أَوْ فِي دُخُولِ بَابٍ، أَوْ لِالْتِقَاطٍ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ لَوْثًا فِي الْجَمَاعَةِ. لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ، سَوَاءٌ اتَّفَقُوا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَوِ اخْتَلَفُوا. وَهَكَذَا لَوْ ضَغَطَهُمُ الْخَوْفُ إِلَى حَائِطٍ ثُمَّ فَارَقُوهُ عَنْ قَتِيلٍ مِنْهُمْ كَانَ لَوْثًا مَعَهُمْ، فَأَمَّا إِذَا هَرَبُوا مِنْ نَارٍ أَوْ سَبُعٍ فَوُجِدَ أَحَدُهُمْ صَرِيعًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ طَرِيقُ هَرَبِهِمْ وَاسِعًا فَظَاهِرُ صَرْعَتِهِ أَنَّهَا مِنْ عَثْرَتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا. وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، فَظَاهِرُ الصَّرْعَةِ أَنَّهَا مِنْ صَدْمَتِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لوثاً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوَاحٍ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِيهَا يُثْبِتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَتَتَوَاطَأُ شَهَادَتُهُمْ وَلَمْ يَسْمَعْ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَمْ يَعْدِلُوا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ سَادِسٌ مِنَ اللَّوْثِ وَهُوَ لَوْثٌ بِالْقَوْلِ، وَمَا تَقَدَّمَ لَوْثٌ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ: أن تأتي جماعة متفرقون من نواحي مُخْتَلِفَةٍ. يَزِيدُونَ عَلَى عَدَدِ التَّوَاطُؤِ وَلَا يَبْلُغُونَ حَدَّ الِاسْتِفَاضَةِ وَتَقْتَصِرُ أَوْصَافُهُمْ عَنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، فَيَشْهَدُونَ أَوْ يُخَيَّرُونَ وَلَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فَلَانًا وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ وَلَا فِي صِفَتِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ أَخْبَارُهُمْ فِي الدِّينِ كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ. فَهَذَا يَكُونُ لَوْثًا لِوُقُوعِ صِدْقِهِمْ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الشَّرْعِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُمْ فِي الدِّينِ كَالصِّبْيَانِ. وَالْكُفَّارِ. وَالْفُسَّاقِ. فَفِي كَوْنِهِ لوث وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَوْثًا لِوُقُوعِ صِدْقِهِمْ فِي النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ لَوْثًا لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي الشَّرْعِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " أَوْ يَشْهَدُ عَدْلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى وليه) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ سَابِعٌ مِنَ اللَّوْثِ. وَهُوَ وُجُودُ الْعَدَالَةِ وَنُقْصَانُ الْعَدَدِ كَمَا كَانَ مَا تَقَدَّمَهُ، وُجُودُ الْعَدَدِ الزَّائِدِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْقَتْلِ عَدْلٌ وَاحِدٌ فَيُحْكَمُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَتِهِ فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي خَطَأٍ مَحْضٍ، أَوْ عَمْدِ الْخَطَأِ، فَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْمَالِ، وَالْمَالُ يُحْكَمُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيَحْلِفُ فِيهِ الْمُدَّعِي يَمِينًا وَاحِدَةً، وَيَكُونُ الشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ بَيِّنَةً عَادِلَةً، وَلَا يَكُونُ لوثاً. إذا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي قَتْلِ عَمْدٍ فَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَوْثٌ، فَيَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُحْكَمُ لَهُ بِأَيْمَانِهِ لَا بِالشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ وَلَمْ يَشْهَدْ بِعَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ فَفِي جَوَازِ الْقَسَامَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَسَامَةَ مَعَهُ: لِلْجَهْلِ بِمُوجِبِهَا فِي قَتْلِ عَمْدٍ وَخَطَأٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْكَمُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ الْقَتْلُ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، وَلَا تَمْتَنِعُ الْقَسَامَةُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ الْقَسَامَةِ بِأَخَفِّهِمَا حُكْمًا، وَهُوَ الْخَطَأُ لَكِنْ تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا يُسْتَحَقُّ فِي مَالِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ مِنْ عُدُولِ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً إِنْ حَلَفَ وَلَا لَوْثًا لِنَقْصِهَا عَنْ رُتْبَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ. وَلَوْ شَهِدَ بِهِ مِنْ عُدُولِهِمُ امْرَأَتَانِ لَمْ تَكُونَا بَيِّنَةً إِنْ حَلَفَ مَعَهُمَا فِي الْخَطَأِ وَكَانَا لَوْثًا كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، لَكِنْ يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ خَمْسِينَ يَمِينًا لِيُحْكَمَ لَهُ بِأَيْمَانِهِ لِكَوْنِهِمَا لَوْثًا. (فَصْلٌ) وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ: أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَتَلَ هَذَا الْقَتِيلَ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ بَيِّنَةً بِالْقَتْلِ، لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ فِيهَا عَلَى الْقَاتِلِ، وكانت لوثا يوجب القسامة، للولي أَنْ يُقْسِمَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَصَّتْ أَحَدَهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ: أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَتَلَ أحد هذين القتلين لَمْ تَكُنْ فِي شَهَادَتِهِمَا بَيِّنَةً وَلَا لَوْثًا، وَلَا قَسَامَةَ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ لَوْثَ الْقَسَامَةِ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ الْمَقْتُولُ وَجُهِلَ فِيهِ القاتل، لأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 مُسْتَحِقَّ الْقَسَامَةِ مُعَيَّنٌ، وَلَا يَكُونُ لَوْثَ الْقَسَامَةِ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاتِلُ وَجُهِلَ فِيهِ الْمَقْتُولُ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقَسَامَةِ فِيهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَصَحَّتِ الْقَسَامَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى لِتَعْيِينِ مُسْتَحِقِّهَا، وَبَطَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحِقِّهَا، وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ فِيهِمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ كَانَ لَوْثًا فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَوْثٌ فِي الْقَسَامَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ، وَيَحْتِمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْثًا مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَوْثًا مَعَ الشَّاهِدَيْنِ - لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ - قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ، نُقْصَانُ الْعَدَدِ وَعَدَمُ التعيين، وانفراد الشاهدان بِأَحَدِ الضَّعِيفَيْنِ فَقَوِيَ اللَّوْثُ مَعَهُمَا وَضَعُفَ مَعَ الْوَاحِدِ فَجَازَتِ الْقَسَامَةُ مَعَ قُوَّةِ اللَّوْثِ، وَلَمْ تجز مع ضعفه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ مَنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ اللَّوْثُ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ تَخْلُ دَعْوَى الْقَتْلِ مِنْ أَنْ يَعُمَّ بِهَا جَمِيعَهُمْ أَوْ يَخُصَّ بِهَا أَحَدَهُمْ. فَإِنْ خَصَّ الْوَلِيُّ أَحَدَهُمْ بِالْقَتْلِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِدُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ اللَّوْثِ، جَازَ أَنْ يُقَسِمَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ أَحَدُهُمْ. وَإِنْ عَمَّ الْوَلِيُّ الدَّعْوَى وَادَّعَى الْقَتِيلَ على جميعهم فلهم حالتان: أحدهما: أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي قَتْلٍ، فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الِاشْتِرَاكِ وَيَبْلُغُوا عَدَدًا لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي قَتْلِ نَفْسٍ كَمَنْ زَادَ عَلَى عَدَدِ الْمِائَةِ وَبَلَغَ أَلْفًا فَمَا زَادَ كَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، لِاسْتِحَالَةِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْقَتْلِ. وَقِيلَ: لِلْوَلِيِّ عَيْنُ الدَّعْوَى عِنْدَ عُمُومِ اللَّوْثِ عَلَى عَدَدٍ مِنْهُمْ يَصِحُّ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَتْلِ فَحِينَئِذٍ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ وَأَقْسَمَ الْوَلِيُّ مَعَ اللَّوْثِ عَلَى وَاحِدٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَلِيِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، أَوْ جَمَاعَةً، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَفِيمَا يُقْسِمُونَ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمَ نَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْلِفُ جَمِيعُهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ الْكَسْرِ، فإن كان ابْنَيْنِ حَلَفَ كُلُّ ابْنٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ ابْنًا وَبِنْتًا حَلَفَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 الِابْنُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ وَحَلَفَتِ الْبِنْتُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا لَمْ تَتَبَعَّضْ جُبِرَ كَسْرُهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا حَلَفُوا لَمْ يَخْلُ الْقَتْلُ من أن يكون موجب لِلْقَوَدِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدهما: أَنْ يَكُونَ خَطَأً مَحْضًا فَتَكُونُ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ مُخَفَّفَةً عَلَى عَوَاقِلِ الْقَتَلَةِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا انْفَرَدَتْ عَاقِلَتُهُ بِالْعَقْلِ، وَإِنْ كَانُوا جماعة، قسمت على أعداد رؤوسهم وَتَحَمَّلَتْ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَهُ مِنَ الدِّيَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدَ الْخَطَأِ، فَتَكُونُ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ مُغَلَّظَةً عَلَى عَوَاقِلِ الْقُتَلَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ لِكَمَالِ الْقَاتِلِ وَنَقْصِ الْمَقْتُولِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ وَالْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ، وتكن الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِ الْأَوْلِيَاءِ مُغَلَّظَةً فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِيهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْعَمْدِ فِي الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَهَلْ يُسْتَحَقُّ القود بالقسامة، ويشاط بِهَا الدَّمُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَحَكَمَ بِهِ فِي أَيَّامِهِ، أَنَّ الْقَوَدَ بِهَا ثَابِتٌ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ: يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيَدْفَعُ بِرُمَّتِهِ يَعْنِي لِلْقَوَدِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَضْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ الْقَتْلُ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ كَالْبَيِّنَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِي الْقَسَامَةِ وَتَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ وَدَلِيلُهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فِي قِصَّةِ الْأَنْصَارِ، " إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ أَوْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ، دُونَ الْقَوَدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْقَسَامَةِ وَقَبْلَ وُجُوبِ الْقَوَدِ قِيلَ إِنَّمَا كَتَبَ بِذَلِكَ بَيَانًا لِلْحُكْمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقَسَامَةِ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَ الْقَسَامَةِ كَمَا لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ، وَلِأَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعِي هِيَ غَلَبَةُ ظَنٍّ فَصَارَ شُبْهَةً فِي الْقَوَدِ، وَالْقَوَدُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّ الدِّمَاءِ فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْمَعْنَى وُجُوبَ الدِّيَةِ وَسَقْطَ القود. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ في إشاطة الدَّمِ وَوُجُوبِ الْقَوَدِ فَإِنْ كَانَتِ الْقَسَامَةُ فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ قُتِلَ قَوَدًا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي عَدَدِ مَنْ يُقْتَلُ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ وَإِنْ كَثُرُوا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكُوا لِأَنَّ الْقَسَامَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَقْتُلُ بِهِ أَكْثَرَ مِنِ اثنين وحكا أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَحَكَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَوْلًا لِنَفْسِهِ: أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ حَقْنًا لِلدِّمَاءِ، وَلِضَعْفِ الْقَسَامَةِ عَنِ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَأَجْعَلُ لِلْوَلِيِّ بَعْدَ أَيْمَانِهِ الْخِيَارَ فِي قَتْلِ أَيِّ الْجَمَاعَةِ شَاءَ فَإِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمْ أُخِذَ مِنَ الْبَاقِي أَقْسَاطُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّ الْقَوَدَ سَاقِطٌ فِي الواحد والجماعة فالدية المستحقة بالقسامة وتكون مُغَلَّظَةً، حَالَّةً فِي مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِنْ تَفَرَّدَ بِهَا وَاحِدٌ غَرِمَ جَمِيعَهَا وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً تَقَسَّطَتْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ كَانَ بِهِ جُرْحٌ أَوْ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ لِلْوَلِيِّ أَنَّهُ يُقْسِمُ فِي الْقَتْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ أَثَرُ جُرْحٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْسِمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ جُرْحٍ. فَإِنْ لَمْ يُكَنْ بِهِ أَثَرُ جُرْحٍ وَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ أَقْسَمَ - وَإِنْ خَرَجَ مَنْ أَنْفِهِ لَمْ يُقْسِمْ لِأَنَّ عَدَمَ الْأَثَرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَوْتٍ وَمِنْ قَتْلٍ وَخُرُوجَ الدَّمِ مِنَ الْأَنْفِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رُعَافٍ أَوْ خَنْقٍ فَضَعُفَتِ الدَّعْوَى وَسَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنَ الْمَوْتِ أَنْ يَكُونَ بِأَسْبَابٍ حَادِثَةٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَادِثٍ، وَمَوْتُ الْفُجَاءَةِ نَادِرٌ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَرَضٌ صَارَ الْأَغْلَبُ مِنْهُ أَنَّهُ بِحَادِثِ الْقَتْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى نَادِرَةِ الْفُجَاءَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْجُرْحِ وَالْأَثَرِ، وَيَكُونُ تَارَةً بِالْخَنْقِ وَالْإِمْسَاكِ لِلنَّفْسِ وَبِعَصْرِ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَإِذَا كَانَ بِهِمَا وَجَبَ أَنْ تَسْتَوِيَ الْقَسَامَةُ فِيهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ لَمْ يَسْمَعِ الْوَلِيُّ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وُجِدَ لَوْثُ الْقَتِيلِ فِي جَمَاعَةٍ فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلٍ وَذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمَاعَةِ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَا قَسَامَةَ لِلْأَوْلِيَاءِ إِذَا حَلَفَ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ تَشْهَدُ بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَوْ يُشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا، لِأَنَّ ظُهُورَ اللَّوْثِ فِيهِمْ لَا يَدُلُّ على أنه كان فيهم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا أَنْظُرُ إِلَى دَعْوَى الْمَيِّتِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا قاله على ردا مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ قَوْلَ الْقَتِيلِ دِيَةً عِنْدَ فُلَانٍ لَوْثًا وَلَيْسَ بِلَوْثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَأَثْبَتَ مَالِكٌ اللَّوْثَ فِيمَا نَفَيْنَاهُ وَنَفَى اللَّوْثَ عَمَّا أَثْبَتْنَاهُ، وَحَكَمَ بِالْقَسَامَةِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِاللَّوْثِ الَذِي قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقَسَامَةِ فَلَمْ يَنْفُذْ مِنْ مُخَالَفَةِ قَضَائِهِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِصِحَّةِ نَقْلِهِ، وَهَذَا وَهْمٌ لَا يَجُوزُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ أَنْ يُقْسِمُوا وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا عَنْ مَوْضِعِ الْقَتِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِاعْتِرَافِ الْقَاتِلِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ لَا يَعْلَمُهُمُ الْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ الْغَائِبُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يُقْسِمُوا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْقَتْلَ إِذَا عَلِمُوهُ مِنْ جِهَةٍ عَرَفُوهَا بِالصِّدْقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْسِمُوا إِذَا غَابُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْهُ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَضَ الْأَيْمَانَ فِي قِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَقُتِلَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ بِخَيْبَرَ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُقْسِمُ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى مَا عَلِمَهُ يَقِينًا وَعَلَى مَا عَرَفَهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَنْ يَجِدَ فِي حِسَابِ نَفْسِهِ بِخَطِّهِ أَوْ فِي حِسَابِ أَبِيهِ بِخَطِّ أَبِيهِ أَنَّ عَلَى فُلَانٍ كَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَلَبَةِ ظَنٍّ لَا بِيَقِينٍ وَكَذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّهَادَةِ أَغْلَظُ، ثُمَّ كَانَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا تَارَةً بِمَا عَلِمُوا قَطْعًا مِمَّا شَهِدُوهُ مِنَ الْعُقُودِ وَسَمِعُوهُ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَكَانَ لَهُمْ تَارَةً أَنْ يَشْهَدُوا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي الْأَنْسَابِ وَالْمَوْتِ وَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ بِخَبَرِ الِاسْتِفَاضَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى يَقِينٍ وَغَالِبِ ظَنٍّ كَذَلِكَ الْأَيْمَانُ تَنْقَسِمُ إِلَى يَقِينٍ وَغَالِبِ ظن والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تحلفوا إلا بعد الاستثبات) . قال الماوردي: إنما أَجَزْنَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعِظَ الْأَوْلِيَاءَ عِنْدَ أَيْمَانِهِمْ وَيُحَذِّرَهُمْ مَأْثَمَ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ. وَيَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِثْبَاتِ وَالْأَنَاةِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي اللِّعَانِ حِينَ وَعَظَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخَامِسَةِ فَكَانَتِ الْأَيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ بِمَثَابَتِهَا وَأَغْلَظَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِأَيْمَانِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنَ الْقَوَدِ فَقَدَّمَ الِاسْتِظْهَارَ بِالْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ، فَأَمَّا وَعْظُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَيْمَانِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ فَإِنْ كَانَ فِي قَتْلِ عَمْدٍ لَمْ يوعظوا لأنه يوجب قود يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي قَتْلٍ خَطَأٍ وُعِظُوا وَحُذِّرُوا مَآثِمَ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ. فَأَمَّا الْأَيْمَانُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَحْضَةِ: فَفِي الْوَعْظِ عِنْدَ الْأَيْمَانِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعِظُ الْحَالِفُ فِيهَا كَالدِّمَاءِ. وَالثَّانِي: لَا يَعِظُ فِيهَا لِتَغْلِيظِ الدِّمَاءِ عَلَى غيرها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُقْبَلُ أَيْمَانُهُمْ مَتَى حَلَفُوا مُسْلِمِينَ كَانُوا عَلَى مُشْرِكِينَ أَوْ مُشْرِكِينَ عَلَى مُسْلِمِينَ لِأَنَّ كُلًّا وَلِيُّ دَمِهِ وَوَارِثُ دِيَتِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تُقْبَلُ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْمَانُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَقْبَلُهَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَا أَقْبَلُهَا فِي الْقَسَامَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَقْبَلُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُشْرِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْقَوَدَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَسَامَةَ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْأَمْوَالِ قُبِلَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْقَسَامَةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ فَصَارَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِسَيِّدِ الْعَبْدِ الْقَسَامَةُ فِي عَبْدِهِ عَلَى الْأَحْرَارِ والعبيد) . قال الماوردي: قد قضى الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 قَوْلَيْنِ: فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِقَتْلِهِ لَوْثٌ فَقَدْ أجاز الشافعي هاهنا لِلسَّيِّدِ الْقَسَامَةَ فِيهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَحَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْعَقْلِ فَإِنْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ أَقْسَمَ سَيِّدُهُ، وَإِنْ قِيلَ: لَا تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ لَمْ يُقْسِمْ لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَجْرَى الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا قَسَامَةَ فِيهَا وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسُ بْنُ سُرَيْجٍ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ الْقَسَامَةَ فِي النُّفُوسِ لِحِفْظِ حُرْمَتِهَا كَمَا حُفِظَتْ حُرْمَتُهَا بِالْقِصَاصِ وَغَلُظَتْ بِالْكَفَّارَةِ وَهُمَا مُعْتَبَرَانِ فِي الْعَبْدِ كَاعْتِبَارِهِمَا فِي الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي الْقَسَامَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَالْحُرِّ وَخَالَفَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلنُّصْرَةِ وَالْمُحَابَاةِ الَّتِي يُقْصُرُ الْعَبْدُ عَنْهَا وَيَخْتَصُّ الْحُرُّ بِهَا فَافْتَرَقَ مَعْنَى الْقَسَامَةِ وَالْعَقْلِ فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ. وَهَكَذَا لَوْ قُتِلَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الْقَسَامَةُ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا عَبِيدًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْقَسَامَةُ عَلَى الْعَبْدِ إِذَا كَانَ قَاتِلًا فَجَائِزَةٌ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ كَالْحُرِّ وَإِنْ كَانَ مَقْتُولًا بِخِلَافِ الْحُرِّ. فَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُ اللَّوْثُ فِي قَتْلِ سَيِّدِهِ جَازَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُقْسِمُوا وَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى مُلْكِهِمْ بِالْمِيرَاثِ لِيَسْتَفِيدُوا بِالْقَسَامَةِ أَنْ يَقْتُلُوهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَأَنْ يَخْرُجَ بِهَا مِنَ الرَّهْنِ إِنْ كَانَ مَرْهُونًا وَأَنْ تَبْطُلَ فيها الوصية فيه إن كان موصاً به. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقْسِمُ الْمُكَاتَبُ فِي عَبْدِهِ لِأَنَّهُ مَالُهُ فَإِنْ لَمْ يُقْسِمْ حَتَّى عَجَزَ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقْسِمَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيمَا بِيَدِهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ كَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ مَالِكٍ وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ كَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ مُسْتَحِقٍّ فَجَازَ لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا أَنْ يُقْسِمَ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَيِّدِهِ. لِاسْتِحْقَاقِ الْمُكَاتَبِ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِيَدِهِ، فَإِنْ أَقْسَمَ الْمُكَاتَبُ مَلَكَ قِيمَةَ عَبْدِهِ لِيَسْتَعِينَ بِهَا فِي كِتَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْسِمْ حَتَّى مَاتَ أَوْ عَجَزَ صَارَ عَبْدُهُ وَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ، لِسَيِّدِهِ فَيُقْسِمُ سَيِّدُهُ بَعْدَ عَجْزِهِ فِي كِتَابَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قُتِلَ عَبْدٌ لِأُمِّ وَلَدٍ فَلَمْ يُقْسِمْ سَيِّدُهَا حَتَّى مَاتَ وَأَوْصَى لَهَا بِثَمَنِ الْعَبْدِ لَمْ تُقْسِمْ وَأَقْسَمَ وَرَثَتُهُ وَكَانَ لَهَا ثَمَنُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْسِمِ الْوَرَثَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَلَا لَهَا شَيْءٌ إِلَّا أَيْمَانُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَدْفَعَ السَّيِّدُ إِلَى أُمِّ وَلَدِهِ عَبْدًا فَيُقْتَلُ فِي يَدِهَا قَتْلَ لَوْثٍ فَلِلسَّيِّدِ فِي دَفْعِهِ إِلَيْهَا حَالَتَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 أحدهما: أن يدفعه إليها للخدمة. والثاني: أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهَا لِلتَّمْلِيكِ، فَإِنْ أَخَذَهَا إِيَّاهُ. وَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يُقْسِمُ دُونَهَا، كَمَا يُقْسِمُ فِي سَائِرِ عَبِيدِهِ فَلَوْ وَصَّى لَهَا بِثَمَنِهِ قَبْلَ قَسَامَتِهِ فَلَهَا قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مُلْكُهُ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ كَمَا تَصِحُّ وَصِيِّتُهُ بِثَمَنِ نَخْلِهِ وَنِتَاجِ مَاشِيَتِهِ وَلَا تَمْتَنِعُ وَصِيَّتُهُ لِأُمِّ وَلَدِهِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وَصَّيْتُهُ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهِ حُرَّةٌ وَعَبْدُهُ مَمْلُوكٌ فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْقَسَامَةِ أَقْسَمَ الْوَرَثَةُ دُونَهَا فَإِنْ أَقْسَمُوا مَلَكَتْ أَمُّ الْوَلَدِ قِيمَتَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَإِنِ امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْقَسَامَةِ وَأَجَابَتْ أَمُّ الْوَلَدِ إِلَيْهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلْقَسَامَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا وَلَهَا الْقَسَامَةُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَهَا بِالْوَصِيَّةِ فَصَارَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي حَقِّهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ المنصوص عليه هاهنا لَا قَسَامَةَ لَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَيْمَانَ على غيرها فصارت فيها نائبة عنهم النيابة فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ مَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَالْمُوصِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا مَا كَانَ هُوَ الْمُقْسِمُ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنْ قرابته وَأَصَلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ فِي الْمُفْلِسِ إِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فِي دَيْنٍ لَهُ وَأَجَابَ غُرَمَاؤُهُ إِلَى الْيَمِينِ. فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ مَلَّكَ أُمَّ وَلَدِهِ الْعَبْدَ حِينَ دَفَعَهُ إِلَيْهَا كَانَ حُكْمُهَا فِيهِ حُكْمَ الْعَبِيدِ إِذَا ملكوا، هل يملكوه بِالتَّمْلِيكِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تَمْلِكُ أُمُّ الْوَلَدِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعَبِيدِ إِذَا مَلَكُوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهَا لَا تَمْلِكُ وَلَا غَيْرُهَا مِنَ الْعَبِيدِ فَإِنْ مَلَكُوا: فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا الْقَوْلِ إِنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ وَإِنْ مَلَكَتْ كَانَ حُكْمُ الْعَبْدِ إِذَا قُتِلَ كَحُكْمِهِ فِيمَا مَضَى يَكُونُ السَّيِّدُ هُوَ الْمُقَسِمَ فِي قَتْلِهِ دُونَهَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ إِنَّهَا تَمْلِكُ إِذَا مَلَكَتْ فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْقَسَامَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا هِيَ الْمُقْسِمَةُ دُونَ السَّيِّدِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمِلْكِهِ فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ مَالِكَةً لِلْقِيمَةِ بِالتَّمْلِيكِ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُقْسِمُ دُونَهَا وَلِأَنَّ مِلْكَهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لِمَا يستحقه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 السَّيِّدُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ إِذَا شَاءَ. فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْسَمَ السَّيِّدُ لَمْ تَمْلِكْ أُمُّ الْوَلَدِ الْقِيمَةَ إِلَّا بِتَمْلِيكٍ مُسْتَجَدٍّ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ قَدِ اسْتَفَادَهُ السَّيِّدُ بِأَيْمَانِهِ وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْعَبِيدِ إِذَا مَلَكُوا وَإِنَّمَا تُفَارِقُهُمْ أَمُّ الْوَلَدِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا مَاتَ عَنْ عَبْدِهِ وَقَدْ مَلَّكَهُ مَالًا كَانَ لِوَارِثِهِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ لِبَقَائِهِ عَلَى رِقِّهِ وَإِذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ وَقَدْ مَلَّكَهَا مَالًا لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا بِعِتْقِهَا وَفِي حُكْمِهَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بَعْدَ التَّمْلِيكِ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ وَلَوْ بَاعَهُ لِبَقَائِهِ عَلَى الرِّقِّ إِذَا بِيعَ وَاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ بِالْحُرِّيَّةِ إِذَا أُعْتِقَ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إِذَا مُلِّكُوا، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ فَلَا يَمْلِكُونَ بِحَالٍ مَعَ بَقَاءِ الرِّقِّ. (مَسْأَلَةٌ) إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قَتْلًا عَلَى رَجُلٍ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِصِفَةِ الْقَتْلِ فَلَا يخلو من أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَدَّعِيَ الْعَمْدَ الْمَحْضَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْقَتْلَ وَلَا يَذْكُرَ عَمْدًا وَلَا خَطَأً لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ فَإِنْ قَالَ هو عمد يؤخذ بصفته فلا يخلوا من أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَضْمَنُ فَلَا يُقْسِمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَةِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَيُقْسِمُ عَلَيْهَا الْمُنْكِرُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَصِفَهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الصِّفَةِ بِأَنْ يَقُولَ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَمَاتَ، قَالَ: يُقْسِمُ وَعِنْدِي إِنَّهُ يَحْتَمِلُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَصِفَهُ بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَإِذَا ادَّعَى شِبْهَ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أربعة أحوال: أحدهما: إِنَّهُ يَصِفُهُ بِمَا لَا يَضْمَنُ فَلَا يُقْسِمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصِفَهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فَيُقْسِمُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَصِفَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ فَيُقْسِمُ عَلَى الدَّعْوَى وَعِنْدِي إِنَّهُ لَا يُقْسِمُ. وَالرَّابِعُ: يَصِفُهُ بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ فَيُقْسِمُ عَلَى الصِّفَةِ وَإِذَا ادَّعَى مَحْضًا فَهَلْ يُؤْخَذُ بِالصِّفَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِذَا قُلْنَا: يُؤْخَذُ بِالصِّفَةِ فَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا لا يضمن، سقط. وإن وصف بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ يُقْسِمْ، وَإِنْ وَصَفَهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ يُقْسِمْ عَلَى الدَّعْوَى دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ وَصَفَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الدَّعْوَى أَقْسَمَ عَلَى الدَّعْوَى وَإِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 رَجَعَ عَنِ الدَّعْوَى إِلَى الصِّفَةِ فَلَا يُقْسِمْ وَإِنْ جَهِلَ صِفَةَ الْقَتْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ لِلْجَهْلِ بِمُوجِبِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - هُوَ قَوْلٌ يُذْكَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - إِنَّهُ يُقْسِمُ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِصِفَةِ الْقَتْلِ لَيْسَ جَهْلًا بِمُوجِبِهِ فَإِذَا أَقْسَمَ يُحْبَسُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِينَ فَإِنْ تَطَاوَلَ زَمَانُهُ أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَزِمَ الدِّيَةَ مِنَ الْخَطَأِ مِنْ مَالِهِ مُؤَجَّلَةً وَفِي تَغْلِيظِهَا بِالْعَمْدِ وَجْهَانِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جُرِحَ رَجُلٌ فَمَاتَ أُبْطِلَتِ الْقَسَامَةُ لِأَنَّ مَالَهُ فَيْءٌ وَلَوْ كَانَ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ كانت فيه القسامة للوارث) . قال الماوردي: وَلَوْ كَانَ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَانَتْ فِيهِ القسامة للوارث، إِذَا ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ وَمَعَهُ لَوْثٌ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَلَا قَسَامَةَ لِوَارِثِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَالَهُ قَدْ صَارَ فَيْئًا لَا يُورَثُ عَنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْسِمَ مَنْ لَا يَرِثُ. وَالثَّانِي: إِنَّ سِرَايَةَ الْجُرْحِ فِي الرِّدَّةِ لَا تُوجِبُ ضَمَانَ النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ لَا قَسَامَةَ فِيهِ. فَأَمَّا إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَالْحُكْمُ فِي الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجُرْحِ سِرَايَةٌ فِي الرِّدَّةِ فَالدِّيَةُ كَامِلَةٌ وَفِي سُقُوطِ الْقَوَدِ قَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ لَهُ سِرَايَةٌ فِي الرِّدَّةِ سَقَطَ الْقَوَدُ وَفِي كَمَالِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَالثَّانِي: نَصِفُهَا. وَمَالُهُ مَوْرُوثٌ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَهُمْ أَنْ يُقْسِمُوا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّدَّةِ سِرَايَةٌ وَفِي قَسَامَتِهِمْ إِذَا سَرَتْ فِي الرِّدَّةِ. وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُمُ الْقَسَامَةُ وَإِنْ مَلَكُوا بِهَا بَعْضَ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا دِيَةُ نَفْسٍ وَإِنْ لَمْ تَكْتَمِلْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا قَسَامَةَ لَهُمْ لِذَهَابِ اللَّوْثِ بِالسِّرَايَةِ فِي الرِّدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ جُرِحَ وَهُوَ عَبْدٌ فَعُتِقَ ثُمَّ مَاتَ حُرًّا وَجَبَتْ فِيهِ الْقَسَامَةُ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْرَارِ وَلِسَيِّدَةِ الْمُعْتِقِ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ فِي جِرَاحِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ مَعَ لَوْثٍ ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ حُرًّا فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ عَبْدًا لِأَنَّ فِي الْيَدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَوْ جَمِيعَ دِيَتِهِ حُرًّا لِأَنَّهَا قَدْ سَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ. فَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ اسْتَحَقَّهَا السَّيِّدُ وَحْدَهُ وَكَانَ هُوَ الْمُقْسِمَ دُونَ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ اسْتَحَقَّهَا السَّيِّدُ وَكَانَ بَاقِي الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْعَبْدِ فَيَشْتَرِكُ السَّيِّدُ وَالْوَرَثَةُ فِي الْقَسَامَةِ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الدِّيَةِ وَلَا تُجْزِئُ قسامة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ بِيَمِينِ غَيْرِهِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمُقْسِمَ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِحَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ، إِلَّا بَعْدَ خَمْسِينَ يَمِينًا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُقْسِمُ وَهُوَ يَأْخُذُ دِيَةَ طَرَفٍ وَلَا قَسَامَةَ فِي الْأَطْرَافِ، قِيلَ قَدْ صَارَ الطَّرَفُ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا فَصَارَ مُشَارِكًا فِي دِيَةِ النَّفْسَ وَإِنْ تَقَدَّرَ حَقُّهُ بِأَرْشِ الطَّرَفِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقْسِمَ. فَإِنْ أَجَابَ الْوَارِثُ إِلَى الْقَسَامَةِ فَفِي قَدْرِ مَا يُقْسِمُ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: خَمْسُونَ يَمِينًا. وَالثَّانِي: يُقْسِمُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ نِصْفُهَا حَلَفَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثُهَا حلف سبعة عشرة يميناً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ فِي دُونِ النَفْسِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَسَامَةٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ أَوْ كَانَ دُونَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَغْلِيظِ حُرْمَةِ النَّفْسِ عَلَى مَا دُونَهَا وَلِذَلِكَ تَغَلَّظَتْ بِالْكَفَّارَةِ فَتَغَلَّظَتْ بِالْقَسَامَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْقَسَامَةَ وَجَبَتْ لِلْوَرَثَةِ لِقُصُورِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ وَتَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ فَحُكِمَ لَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَ اللَّوْثِ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَعَرِفُ الْمَجْنِي عَلَيْهِ مَنْ جَنَى عَلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقَسَامَةِ لِاسْتِغْنَائِهِ فِي الْغَالِبِ عَنْهَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يُقْسِمِ الْوَلِيُّ حَتَّى ارْتَدَّ فَأَقْسَمَ وُقِفَتِ الدِّيَةُ فَإِنْ رَجَعَ أَخَذَهَا وَإِنْ قُتِلَ كَانَتْ فَيْئًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِذَا ارْتَدَّ الْوَلِيُّ فِي الْقَسَامَةِ لَمْ تَخْلُ رِدَّتُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ قَبْلَ مَوْتِ الْقَتِيلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ وَلَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يقسم؛ لأن ردته بعد م وته تَمْنَعُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَلَا يَصِيرُ وَارِثًا بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِلَّا مِنْ وارث فإن لم يكن للمقتول وارثاً سِوَاهُ فَلَا قَسَامَةَ وَيَصِيرُ دَمُهُ هَدَرًا. وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ قَامَ مَقَامَهُ وَأَقْسَمَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِ الْقَتِيلِ وَبَعْدَ قَسَامَتِهِ فَقَدْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِقَسَامَتِهِ وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ رِدَّتِهِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ دُفِعَتْ إِلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ كَانَتِ الدِّيَةُ مَعَ جَمِيعِ مَالِهِ فَيْئًا فِي بَيْتِ الْمَالِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْقَتِيلِ وَقَبْلَ قَسَامَتِهِ فَيَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْقَسَامَةِ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ لِأَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مُنْزَجِرٍ وَيَكُونُ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى عُقْبَى رِدَّتِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهَا أَقْسَمَ وَقُضِيَ لَهُ بِدِيَةٍ. وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَصَارَ الدَّمُ هَدَرًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتِيلِ وَارِثٌ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي الْقَسَامَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْسِمَ جَمِيعُهُمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْسِمَ عَنْهُمْ فَلِذَلِكَ صَارَ الدَّمُ هَدَرًا. فَلَوْ أَقْسَمَ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ وَاسْتَوْفَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ أَيْمَانَ قَسَامَتِهِ صَحَّتِ الْقَسَامَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ فَفِي صِحَّةِ قَسَامَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْقَسَامَةُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهَا الدِّيَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ مِنْهُ الْقَسَامَةُ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُمْنَعُ مِنِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَهَذَا مِنِ اكْتِسَابِهِ وإن زال مِلْكَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ (قَسَامَتِهِ) كَانَتِ الدِّيَةُ مَوْقُوفَةً إِلَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ مَلَكَهَا وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ كَانَتْ فَيْئًا وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ قَسَامَتِهِ وَقَفَ أَمْرُهُ: فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ صَارَ الدَّمُ هَدَرًا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي الْحُقُوقِ وهي في جميع الحقوق يمين يمين وفي الدماء خمسون يميناً وقال في كتاب العمد ولو ادعى أنه قتل أباه عمداً بل خطأ فالدية عليه في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ فإن نكل حلف المدعي لقتله عمداً وكان له القود (قال المزني) هذا القياس على أقاويله في الطلاق والعتاق وغيرهما في النكول ورد اليمين) . قال الماوردي: الدعاوى ضربان في دم وغير دم، فَأَمَّا الدَّعَاوَى فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ فَلَا تُغَلَّظُ بِغَيْرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَلَا يُبْدَأُ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَلَا تُكَرَّرُ فِيهَا الْأَيْمَانُ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِقُصُورِ مَا سِوَى الدِّمَاءِ عَنْ تَغْلِيظِ الدِّمَاءِ. وَأَمَّا الدَّعَاوَى فِي الدِّمَاءِ، فَضَرْبَانِ: فِي نَفْسٍ، وَطَرَفٍ، فَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِالدَّعْوَى لَوْثٌ فَتُغَلَّظُ بِالْقَسَامَةِ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَبْدِئَةُ الْمُدَّعِي وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا يُسْتَوْفَى فيه حكم كل مِمَّنْ كَمَلَتْ لَهُ دِيَتُهُ أَوْ نَقَصَتْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 وَالثَّانِي: تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ بِخَمْسِينَ يَمِينًا وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بحال الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَمَلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ بِأَنْ كَانَ رَجُلًا حُرًّا مُسَلِمًا كَمَلَ فِيهِ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ بِخَمْسِينَ يَمِينًا. وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الدِّيَةُ، بِأَنْ كَانَ امْرَأَةً وَجَبَتْ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وكان ذِمِّيًّا وَجَبَ فِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ الْأَيْمَانُ عَلَى كَمَالِ الدِّيَةِ فَتُغَلَّظُ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَفِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ بِسَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا لِيَقَعَ الْفَرْقُ فِي التَّغْلِيظِ بَيْنَ حُكْمِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ اعْتِبَارًا بِالدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّهَا تُغَلَّظُ فِي كُلِّ قَتِيلٍ بِخَمْسِينَ يَمِينًا مِمَّنْ قَلَّتْ دِيَتُهُ وَكَثُرَتْ، حَتَّى فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى التَّغْلِيظُ بِالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ جَمِيعِهِمْ كَذَلِكَ فِي التَّغْلِيظِ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ جَمِيعَهَا وَوَالَى بَيْنَهَا وَلَمْ يُفَرِّقْهَا، لِأَنَّهَا فِي الْمُوَالَاةِ أَغْلَظُ وَأَزْجَرُ فَإِنْ حَلَفَ أَكْثَرَهَا وَنَكَلَ عَنْ أَقَلِّهَا وَلَوْ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَيْمَانِهِ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَفِي أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا يَسْتَوِي فِيهَا مَنْ قَلَّ سَهْمُهُ فِي الدِّيَةِ وَكَثُرَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْأَيْمَانِ مَوْضُوعٌ لِلتَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ، وَلَيْسَ يُزْجَرُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَّا بِأَيْمَانِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَوْفَى حَقُّهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَقْسَمُوا جَمِيعًا، قُضِيَ لَهُمْ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ وَاقْتَسَمُوا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ الْبَعْضُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ بِحَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ دُونَ النَّاكِلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّ الْأَيْمَانَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ الْكَسْرِ. فَإِنْ كَانُوا زَوْجَةً وَابْنًا وَبِنْتًا حَلَفَتِ الزَّوْجَةُ سَبْعَةَ أَيْمَانٍ وَالِابْنُ ثَلَاثِينَ يَمِينًا وَالْبِنْتُ خَمْسَ عَشْرَةَ يَمِينًا ثُمَّ عَلَى قِيَاسِهِ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ يَخْتَصُّ بِالدَّعْوَى وَهُمْ فِيهَا مُشْتَرِكُونَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِي تَغْلِيظِ أَيْمَانِهَا مُشْتَرِكِينَ. فَعَلَى هَذَا إِنْ حَلَفُوا قُضِيَ لَهُمْ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُحْكَمْ لِلْحَالِفِ بِحَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ طَالَبَ النَّاكِلُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ وَإِنِ اسْتَوْفَى الْحَاكِمُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ، حَتَّى يَحْلِفَ عَدَدَ أَيْمَانِهِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ. فَإِنْ نَكَلَ جَمِيعُهُمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَمَّا غَلُظَتْ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي، وَجَبَ أَنْ تُغَلَّظَ فِي نَقْلِهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِتَتَكَافَأَ الْجَنَبَتَانِ فِي التَّغْلِيظِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَفِي أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 أحدهما: وهو الأصح هاهنا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَالْأَصَحُّ فِي الْمُدَّعِينَ أَنْ تُقَسَّطَ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَالْمُنْفَرِدِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَالْتِزَامِ الْكَفَّارَةِ، فَكَانَ كَالتَّفَرُّدِ فِي عَدَدِ الْأَيْمَانِ، وَخَالَفَ الْمُدَّعِينَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْجَمَاعَةِ لَا يُسَاوِي الْمُنْفَرِدَ فِيهَا فَافْتَرَقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَيْمَانَ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ يجبر الْكَسْرِ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِخِلَافِ أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، لِأَنَّ الْمُدَّعِينَ يَتَفَاضَلُونَ فِي مِيرَاثِ الدِّيَةِ فيفاضلوا فِي الْأَيْمَانِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ يَسْتَوُونَ فِي الْتِزَامِ الدية فيساووا فِي الْأَيْمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِنْ حَلَفُوا برئوا مِنَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا حَلَفُوا غَرِمُوا الدِّيَةَ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ جَدَّهُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَخِي قُتِلَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: مَا لِي من أخي غَيْرِ هَذَا قَالَ: نَعَمْ وَلَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْأَيْمَانِ وَالدِّيَةِ. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَحْلَفَهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَرَفْنَا قَاتِلَهُ وَأَغْرَمَهُمُ الدِّيَةَ. قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمُ الْقَسَامَةَ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الدَّعَاوَى فَصَارَتِ الْأَيْمَانُ فِي الْقَسَامَةِ مَوْضُوعَةً لِلْإِيجَابِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الدَّعَاوَى مَوْضُوعَةً لِلْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَنْصَارِ فَيُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَاقْتَضَى أَنْ يبرأوا بِأَيْمَانِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تُوجِبُ تَحْقِيقَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِثْبَاتَ حُكْمِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ يَمِينُهُ مَوْضُوعَةً لِنَفْيِ الْقَتْلِ، وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ كَمَا كَانَتْ يَمِينُهُ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى مَوْضُوعَةً لِنَفْيِ الدَّعْوَى فَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْأَيْمَانِ أُغْرِمُوا الدِّيَةَ وَلَمْ يُحْبَسُوا. وقال: أبو حنيفة يحبسون حتى يلحفوا ثم يغرمون اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ هِيَ نَفْسُ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يُحْبَسُوا عَلَيْهِ كَمَا يُحْبَسُونَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَيْمَانَ فِي الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ، حَتَّى لَا يُقْدِمَ عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَى وَلَا إِنْكَارٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا فَقَدِ انْزَجَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ عَلَيْهَا لِيُكْرَهَ عَلَى أَيْمَانٍ رُبَّمَا اعْتَقَدَ كَذِبَهُ فِيهَا، فَيَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ وَالْحِنْثِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 وَالثَّانِي: إِنَّ نُكُولَهُ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ لَمَّا لم يوجب حبسه. لنفس الْإِجْبَارِ عَنِ الْأَيْمَانِ، فَنُكُولُهُ فِي الْقَسَامَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِيهَا أَكْثَرُ وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا أَشَدُّ وقوله: " إن الأيمان هي نفس الحق) فليس صحيح لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَإِسْقَاطِ الدَّعَاوَى وَلَوْ كَانَتْ نَفْسَ الْحَقِّ لَمَا جَازَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ الدِّيَةَ إِذَا اعْتَرَفُوا وَحُكْمُهُمْ فِي الِاعْتِرَافِ أَغْلَظُ مِنَ الْجُحُودِ. (فَصْلٌ) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ اللَّوْثِ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي لِضَعْفِ سَبَبِهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَفِي تَغْلِيظِهَا بِالْعَدَدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ إِنَّهَا لَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ ويستحق فيها بيمين واحدة يحلف به المدعى عليه على انكاره؛ لأن لما سقط لعدم اللوث تغليظ الْقَسَامَةُ فِي الِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي سَقَطَ تَغْلِيظُهَا بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ جَمْعًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّعَاوَى فِي الْأَمْرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا، تَغْلِيظًا لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، كَمَا تُغَلَّظُ بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْخَمْسِينَ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ. فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ أَيْمَانٍ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً حَلَفَ كُلُّ واحد منهم خمسة أيمان، فإن حلفوا برئوا وَإِنْ نَكَلُوا رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعِي وَهَلْ تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ إِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُغَلَّظُ وَيَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَيَسْتَحِقُّ دَمَ صَاحِبِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَالثَّانِي: تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ جَمِيعَهَا وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ الْكَسْرِ. فَإِذَا حَلَفُوا حُكِمَ لَهُمْ بِدَمِ صَاحِبِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ أَيْمَانَهُمْ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَجْرِي مَجْرَى إِقْرَارِهِ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَمَجْرَى الْبَيِّنَةِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 وَالْقَوَدُ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِقْرَارِ وَمُسْتَحَقٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ الْمُتَقَدِّمِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الدَّمِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا اللَّوْثُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ تَغْلِيظِ النَّفْسِ عَلَى مَا دُونَهَا، فَيَسْقُطُ الِابْتِدَاءُ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ وَتَغْلِيظُهَا بِالْعَدَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَغْلِيظِهَا فِي دَعْوَى النَّفْسِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ فَإِنْ قِيلَ: لَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ فِي النَّفْسِ إِذَا عُدِمَ اللَّوْثُ فَأَوْلَى أَلَّا تُغَلَّظَ بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ وَإِنْ قِيلَ بِتَغْلِيظِهَا فِي النَّفْسِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ فَفِي تَغْلِيظِهَا بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ وَإِنْ غُلِّظَتْ بِهِ فِي النَّفْسِ لِاخْتِصَاصِ النَّفْسِ بِعَظَمِ الْحُرْمَةِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا تَكْمُلُ فِيهِ الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ أَوْ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ بَعْضُهَا كَالْمُوضِحَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تُغَلَّظُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْعَدَدِ، كَمَا تُغَلَّظُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الدِّمَاءِ اسْتَوَيَا فِي التَّغْلِيظِ بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ - فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُ الدَّعْوَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكْمُلَ فِيهَا الدِّيَةُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ جَبِّ الذَّكَرِ أَوْ قَطْعِ اللِّسَانِ فَتُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ فِيهِ بِخَمْسِينَ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى النَّفْسَ فِي الدِّيَةِ سَاوَاهَا فِي عَدَدِ الْأَيْمَانِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ. فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ أَيْمَانٍ، فَيَصِيرُ فِيمَا يَحْلِفُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: خَمْسُونَ يَمِينًا. وَالثَّانِي: عَشَرَةُ أَيْمَانٍ. وَالثَّالِثُ: يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالدَّعْوَى بَعْضَ الدِّيَةِ. كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ كَالْمُوضِحَةِ فَفِيمَا تُغَلَّظُ مِنَ الْعَدَدِ قَوْلَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 أَحَدُهُمَا: تُغَلَّظُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا فِيمَا قَلَّ مَنِ الدِّيَةِ وَكَثُرَ اعْتِبَارًا بِحُرْمَةِ الدَّمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُقَسَّطُ الْأَيْمَانُ عَلَى الدِّيَةِ وَتُغَلَّظُ فِيمَا دُونَهَا بِقَسْطِهَا مِنْ كَمَالِ الدِّيَةِ، فَإِنْ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ، كَإِحْدَى الْيَدَيْنِ غُلِّظَتْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَإِنْ أَوْجَبَتْ ثُلُثَ الدِّيَةِ كَالْجَائِفَةِ غُلِّظَتْ بِسَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا. وَإِنْ أَوْجَبَتْ عُشْرَ الدِّيَةِ كَالْإِصْبَعِ غُلِّظَتْ بِخَمْسَةِ أَيْمَانٍ. وَإِنْ أَوْجَبَتْ نِصْفَ عُشْرِهَا كَالْمُوضِحَةِ غُلِّظَتْ بِثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ: فَعَلَى هَذَا إِنْ كان المدعى عليه واحد حَلَفَ هَذِهِ الْأَيْمَانَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ فِيهَا وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ الْمُخْتَلَفِ فِي عَدَدِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقَسَّطُ عَدَدُ الْأَيْمَانِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ فَيَجِيءُ فِيمَا يَحْلِفُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا خَمْسَةً وَكَانَتِ الدَّعْوَى فِي قَطْعِ أَحَدِ الْيَدَيْنِ خَمْسَةَ أقاويل: أحدهما: يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَالثَّانِي: يَحْلِفُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا. وَالثَّالِثُ: عَشَرَةَ أَيْمَانٍ. وَالرَّابِعُ: خَمْسَةَ أَيْمَانٍ. وَالْخَامِسُ: يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي وَكَانَ حُكْمُهُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِالْعَدَدِ مِثْلَ حُكْمِهِمْ عَلَى مَا رَتَّبْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ وَشَرَحْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالدَّعْوَى أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ مِثْلَ قَطْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ الرِّجْلَيْنِ، أَوْ جَدْعِ الْأَنْفِ مَعَ اللِّسَانِ، فَتَشْتَمِلُ الدَّعْوَى عَلَى دِيَتَيْنِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَيْمَانَ لَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ فِي الدِّيَةِ وَمَا دُونَهَا لَمْ تُغَلَّظْ بِالْعَدَدِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَاقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى دِيَتَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ إِنِ الْأَيْمَانَ تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ فِي الدِّيَةِ وَمَا دُونَهَا. فَأَوْلَى أَنْ تُغَلَّظَ بِالْعَدَدِ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهَلْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّيَةِ مُوجِبَةً لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الْأَيْمَانِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُوجِبُهَا لِأَنَّ الْخَمْسِينَ غَايَةُ الْعَدَدِ فِي التَّغْلِيظِ فَلَمْ يَحْتَجِ التَّغْلِيظُ إِلَى تَغْلِيظٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْخَمْسِينَ تَغْلِيظٌ مُقَدَّرٌ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَصَارَ غَايَةً فيها فلم يصير غَايَةً فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْجَبَتِ الدَّعْوَى دِيَتَيْنِ تَغَلَّظَتِ الْأَيْمَانُ بِمِائَةِ يَمِينٍ، وإن أوجبت دية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 ونصف تَغَلَّظَتْ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ يَمِينًا، وَإِنْ أَوْجَبَتْ دِيَةً وثلث تَغَلَّظَتْ بِسَبْعَةٍ وَسِتِّينَ يَمِينًا. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ عَلَى وَاحِدٍ حَلَفَ بِجَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَهَا. وَالثَّانِي: تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ، فَيَجِيءُ فِيمَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا خَمْسَةً وَالدَّعْوَى فِيمَا يُوجِبُ دِيَتَيْنِ خَمْسَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مِائَةُ يَمِينٍ. وَالثَّانِي: خَمْسُونَ يَمِينًا. وَالثَّالِثُ: عشرون يميناً. والرابع: عشرة أَيْمَانٍ. وَالْخَامِسُ: يَمِينًا وَاحِدَةً. فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ وَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي كَانَ حُكْمُهُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِالْعَدَدِ مِثْلَ حُكْمِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ فِي النُّكُولِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ مِنْهَا فِي مَالِهِ مَا يَلْزَمُ غير المحجور والجناية خلاف البيع والشراء فإن قال قائل كيف يحلفون على ما لا يعلمون قيل فأنتم تقولون لو أن ابن عشرين سنة رؤي بالمشرق اشترى عبداً ابن مائة سنة رؤي بالمغرب فباعه من ساعته فأصاب به المشتري عيباً أن البائع يحلف على البت لقد باعه إياه وما به هذا العيب ولا علم له به والذي قلنا قد يصح علمه بما وصفنا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْحَجْرُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ كَالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى مِنْهُ وَعَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ فِي مَالٍ وَلَا بَدَنٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ ثُبُوتِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحَجْرُ فِيهِ بِأَحَدِ خَمْسَةِ أَسْبَابٍ: السَّفَهُ وَالْفَلَسُ وَالْمَرَضُ وَالرِّقُّ وَالرِّدَّةُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ لَهُ مَوَاضِعُ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا وَيَأْتِي بَاقِيهَا وإذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا، أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَكَانَ فيها الرشيد، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ إِمَّا ابْتِدَاءً فِي الْقَسَامَةِ أَوِ انْتِهَاءً فِي الرَّدِّ بَعْدَ النُّكُولِ حَلَفَ فِيهَا، وَحُكِمَ لَهُ بِمُوجِبِهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 كَالرَّشِيدِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظٌ لِمَالِهِ وَالْحَجْرُ يَمْنَعُهُ مِنْ إِتْلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْكِرُهَا فَيَسْتَحْلِفُ عَلَيْهَا أَوْ تَشْهَدُ بِهَا بَيِّنَةٌ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ. فَإِنْ كَانَتْ فِي دَمٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْقَسَامَةِ، أَوْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهَا، فَإِنْ أَوْجَبَتِ الْقَسَامَةَ لِوُجُودِ اللَّوْثِ فِي قَتْلِ نَفْسٍ، فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقْسِمُ عَلَى الرَّشِيدِ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِ أَيْمَانِهِ إِذَا حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْأَيْمَانِ رُدَّتْ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى وَكَانَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ كَالرَّشِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الدَّمِ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْقَسَامَةِ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا صَحَّ إِقْرَارُهُ كَمَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فَإِنَّ عُفِيَ عَنِ الْقَوَدِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ حَجْرِهِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي وَحُكِمَ لَهُ بِدَعْوَاهُ إِذَا حَلَفَ وَخُيِّرَ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي خَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ دُونَ القود فتسمع الدعوى عليه فإن أقر بها فَفِي صِحَّةِ إِقْرَارِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّهُ لَا يَصِحُّ كَالْمَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَصِحُّ لِتَغْلِيظِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالنُّفُوسِ، كَالْعَمْدِ فَإِنْ أَبْطَلَ إِقْرَارَهُ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا عَاقِلَتَهُ وَإِنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِهَا لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ عَلَيْهَا فَيَتَحَمَّلُونَهَا عَنْهُ. وَإِنْ أَنْكَرَ الدَّعْوَى، أُحْلِفَ عَلَيْهَا فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ إِقْرَارَهُ يَصِحُّ رُدَّتِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي وَحُكِمَ لَهُ إِذَا نَكَلَ، وَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَوْ مَقَامَ الْإِقْرَارِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ كَمَا تَتَحَمَّلُهَا بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ لَمْ تَتَحَمَّلْهَا الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُهَا بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ قُلْنَا إِنْ إِقْرَارَ السَّفِيهِ بِهَا بَاطِلٌ فَفِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ السَّفِيهِ عَنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَمِينَهُ كَالْبَيِّنَةِ. وَالثَّانِي: لَا تُرَدُّ إِذَا قِيلَ إِنَّ يَمِينَهُ كَالْإِقْرَارِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَالٍ مَحْضٍ سُمِعَتْ عَلَيْهِ فَإِنْ أَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا كَانَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنِ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ الَّذِي هُوَ مَتْهُومٌ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرًا بِالْمَالِ فَإِنْ كَانَ عَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 إِتْلَافٍ، وَاسْتِهْلَاكٍ، إِمَّا لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، لَزِمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مَا كَانَ حَجْرُهُ بَاقِيًا فَإِذَا فُكَّ حَجْرُهُ غَرِمَهُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مُعَامَلَةٍ وَمُرَاضَاةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا يَلْزَمُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْجِنَايَةُ خِلَافُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ دُيُونَ الْمُرَاضَاةِ كَانَتْ بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهَا فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَهْلِكَ لَهَا بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا وَدُيُونَ الْجِنَايَاتِ وَالِاسْتِهْلَاكِ عَنِ الْمُرَاضَاةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِهَا مَا يُوجِبُ سُقُوطَ غُرْمِهَا فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الرُّجُوعِ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَحَقَّ الْغُرْمَ فِي اسْتِهْلَاكِ مَالِ عَمَلٍ غَرِمَهُ عِنْدَ فَكِّ حَجْرِهِ لِأَنَّ غُرْمَ الْأَمْوَالِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مُعَجَّلٌ وَإِنِ اسْتُحِقَّ فِي دِيَةِ خَطَأٍ يَلْزَمُ تَأْجِيلُهَا فَفِي ابْتِدَاءِ الْأَجَلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لِوُجُوبِهَا بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ وَقْتِ فَكِّ حَجْرِهِ لِأَنَّهُ بِفَكِّ الْحَجْرِ صَارَ مِنْ أَهْلِ غُرْمِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 (بَابُ مَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْلَمَهُ مَنِ الذي له القسامة وكيف يقسم) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وينبغي أَنْ يَقُولَ لَهُ مَنْ قَتَلَ صَاحِبَكَ؟ فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ قَالَ وَحْدَهُ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ قَالَ عَمْدًا سَأَلَهُ وَمَا الْعَمْدُ؟ فَإِنْ وَصَفَ مَا فِي مِثْلِهِ الْقِصَاصُ أُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ وَصَفَ مِنَ الْعَمْدِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لم يحلفه عليه والعمد في ماله والخطأ على عاقلته في ثلاث سنين فإن قال قتله فلان ونفر معه لم يحلفه حتى يسمي النفر أو عددهم إن لم يعرفهم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِنَّمَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى لِلْحُكْمِ بِهَا وَلَيْسَ يَسْمَعُهَا لِيَعْلَمَ قَوْلَ الْمُدَّعِي فِيهَا وَالْحُكْمُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ لِمُعَيَّنٍ عَلَى مُعَيَّنٍ فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلَّا هَكَذَا لِيَصِحَّ لَهُ الْحُكْمُ فِيهَا، فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَتْلَ أَبٍ لَهُ أَوْ أَخٍ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ قَاتِلِهِ لِتَتَوَجَّهَ الدَّعْوَى عَلَى مُعَيَّنٍ يَصِحُّ سُؤَالُهُ عَنْهَا فَإِذَا قَالَ قَتَلَهُ فَلَانٌ سَأَلَهُ: هَلْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الِانْفِرَادِ فِي الْقَتْلِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ. وله حالتان: أحدهما: أَنْ يُفْرِدَهُ بِالْقَتْلِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ فِيهِ شَرِيكًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَفْرَدَهُ بِالْقَتْلِ فَقَالَ قَتَلَهُ وَحْدَهُ سَأَلَهُ عَنِ الْقَتْلِ هَلْ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَمْدِ مُخَالِفٌ لحكم الخطأ. وله حالتان: أحدهما: أَنْ يَدَّعِيَ الْعَمْدَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ، فَإِنْ قَالَ قَتَلَهُ عَمْدًا سَأَلَهُ عَنِ الْعَمْدِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ قَتْلَ الْعَمْدِ فِيمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ مِنَ الْعَمْدِ وَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا يَكُونُ عَمْدًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَكُونُ عَمْدًا فَإِنْ وَصَفَهُ بِمَا يَكُونُ عَمْدًا فَقَدْ كَمَلَتْ حِينَئِذٍ الدَّعْوَى وَجَازَ لِلْحَاكِمِ سُؤَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا وَكَمَالُهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ تُعِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الِانْفِرَادَ وَالِاشْتِرَاكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَمْدَ أَوِ الْخَطَأَ، ثُمَّ صِفَتَهُ بما يكون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 عَمْدًا أَوْ خَطَأً. فَإِذَا سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِي قَتْلِ عَمْدٍ فَلَهُ حَالَتَانِ: أحدهما: أَنْ يُقِرَّ بِالْقَتْلِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فإن عفى الْوَلِيُّ عَنِ الْقَوَدِ وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ حالة في مال القائل. وإن أنكر القتل، فللدعوى حالتان: أحدهما: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا لَوْثٌ فَيُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي فِيهَا بِالْقَسَامَةِ فِي التَّبْدِيَةِ بِالْمُدَّعِي وَإِحْلَافِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، فإذا أقسم بها فهل يشاط بِهَا الدَّمُ وَيُقْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا الْقَدِيمُ مِنْهُمَا يشاط بِهَا الدَّمُ فَوْرًا وَالْجَدِيدُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ لَا قَوَدَ وَتَجِبُ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ حَالَّةً فِي مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ وَهَلْ تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَهَلْ تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ عفى فَالدِّيَةُ وَإِنْ نَكَلَ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ وَبَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الدعوى إلا أن تكون بينة. (فصل) وإذا قَدْ مَضَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مَعَ جَمَاعَةٍ شَارَكُوهُ فِيهِ. فَيَقُولُ: قَتَلَهُ هَذَا مَعَ جَمَاعَةٍ فَيُسْأَلُ عَنْ عَدَدِهِمْ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ بِقِلَّةِ الشُّرَكَاءِ وَكَثْرَتِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ التَّعَيُّنُ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَإِنْ كَانَ تَعَيَّنُهُمْ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ أَوْكَدَ وَأَحْوَطَ. وَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ عَدَدَهُمْ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْعَدَدَ. فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدَهَمْ، فَقَالَ هذا واثنان معه سأل هَلْ شَارَكَاهُ عَمْدًا أَوْ خَطَّأً لِأَنَّ شَرِكَةَ الْخَاطِئِ تُسْقِطُ الْقَوَدَ عَنِ الْعَامِدِ. وَلَهُ فِي الْجَوَابِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: شَارَكَاهُ عَمْدًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: شَارَكَاهُ خَطَأً. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْلَمَ صِفَةَ شَرِكَتِهِمَا لَهُ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. فَإِنْ وَصَفَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 الشركة بالعمد، سئل لحاضر الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَرَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَا لَوْثَ حَلَفَ وَبَرِئَ وَإِنْ كَانَ لَوْثٌ أُحْلِفَ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْقَسَامَةِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِهَا، وَهَلْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْقَوَدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ وَصَفَ الشَّرِكَةَ بِالْخَطَأِ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقَوَدِ إِذَا أَقْسَمَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ صِفَةَ الشَّرِكَةِ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ خَطَأً فَلَا يُحْكَمُ بِالْقَوَدِ مَعَ الشَّكِّ، وَحُكِمَ لَهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَنْ عَمْدٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَإِنْ حَضَرَ ثَانٍ بَعْدَ الْقَسَامَةِ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ حُكْمًا عَلَى الثَّانِي وَسَأَلَ الثَّانِيَ عَنْهَا فَإِنْ أَقَرَّ وَكَانَ عَامِدًا اقْتُصَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ خاطئ وَجَبَ ثُلُثُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ اعْتِرَافَ الْجَانِي. وَإِنْ أَنْكَرَ الثَّانِي: نُظِرَ فِيهِ هَلْ كَانَ مُشَارِكًا فِي اللَّوْثِ أَوْ غَيْرَ مُشَارِكٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَارِكٍ فِي اللَّوْثِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي دَارِ الْمَقْتُولِ وَالثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَسَامَةِ فِي الثَّانِي وَإِنَّ حُكِمَ بِهَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْأَوَّلِ وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي اللَّوْثِ لِوُجُودِهِ مَعَ الْأَوَّلِ فِي دَارِ الْمَقْتُولِ أَقْسَمَ الْمُدَّعِي عَلَى الثَّانِي وَفِي عَدَدِ مَا يُقْسِمُ بِهِ عَلَى الثَّانِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: خَمْسُونَ يَمِينًا كَالْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَمِينًا وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنَ الْخَمْسِينَ لَوْ حَضَرَ مَعَ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَمِينًا فَإِنْ وَصَفَ قَتْلَهُ بِالْعَمْدِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ قَوْلَانِ: وَإِنْ وَصَفَهُ بِالْخَطَأِ فَقِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِوُجُوبِهَا بِالْقَسَامَةِ. وَإِنْ جَهِلَ الْمُدَّعِي صِفَةَ قَتْلِهِ، فَفِي جَوَازِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجُوزُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لِلْجَهْلِ بِمُوجِبِهَا، لِأَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ عَلَيْهِ وِدِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ تَجُوزُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِصِفَةِ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ جَهْلًا بِأَصْلِ الْقَتْلِ. فَإِذَا أَقْسَمَ الْوَلِيُّ الْمُدَّعِي حُبِسَ الثَّانِي حَتَّى يُبَيِّنَ صِفَةَ الْقَتْلِ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ تَطَاوَلَ حَبْسُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أُحْلِفَ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَزِمَ دِيَةَ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ مُؤَجَّلَةً وَفِي تَغْلِيظِ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ بِالْعَدَدِ وَجْهَانِ فَإِنْ حَضَرَ الثَّالِثُ بَعْدَ الثَّانِي كَانَ كحضور الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الثَّانِي إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَقْسَمَ الْوَلِيُّ الْمُدَّعِي وَقُلْنَا: تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ بِالْحِصَّةِ حَلَفَ الثَّالِثُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا هِيَ ثُلُثُهَا بَعْدَ جَبْرِ كَسْرِهَا لِأَنَّهُ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ لَوِ اجْتَمَعُوا لَكَانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الْخَمْسِينَ ثُلُثَهَا هَذَا حُكْمُهُ إِذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي عَدَدَ الشُّرَكَاءِ فِي الْقَتْلِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُذْكُرْ عَدَدَهُمْ، لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي قَتْلِ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي خَطَأٍ، لَمْ تَكُنْ لَهُ الْقَسَامَةُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ شَارَكَ وَاحِدًا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عُشْرَهَا، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا قَوَدَ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا قَسَامَةَ لِأَنَّ مُوجِبَهَا الدِّيَةُ وَقَدْرُ اسْتِحْقَاقِهِ مِنْهَا مَجْهُولٌ كَالْخَطَأِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِي جَوَازِ الْقَسَامَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ وَيُقْسِمُ بِهَا الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْقَوَدَ اسْتُحِقَّ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ كَاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ فِي مُشَارَكَةِ الْعَدَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْفُو عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ فَلَا يَعْلَمُ قَدْرَ اسْتِحْقَاقِهِ مِنْهَا وَالْحُكْمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِمَا يَنْفَصِلُ بِهِ التَّنَازُعُ. (فَصْلٌ) وَإِذْ قَدْ مَضَتِ الدَّعْوَى فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي الدَّعْوَى فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنِ الْخَطَأِ هَلْ كَانَ مَحْضًا أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ قَالَ شِبْهُ الْعَمْدِ، سَأَلَهُ عَنْ صِفَتِهِ كَمَا يَسْأَلُهُ عَنْ صِفَةِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ مَحْضُ الْخَطَأِ بِالْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَلَى صِفَتِهِ دُونَ دَعْوَاهُ. فَإِنْ كَانَ مَا وَصَفَهُ شِبْهَ الْعَمْدِ، غَلُظَتْ فِيهِ الدِّيَةُ بَعْدَ الْقَسَامَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا وَصَفَهُ خَطَأً مَحْضًا خُفِّفَتْ فِيهِ الدِّيَةُ بَعْدَ الْقَسَامَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مُخَالَفَةُ صِفَتِهِ لِدَعْوَاهُ مِنْ جَوَازِ الْقَسَامَةِ وَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدِّيَةِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي زِيَادَتِهَا فِي دَعْوَاهُ بِالتَّغْلِيظِ وَنُقْصَانِهَا فِي صِفَتِهَا بِالتَّخْفِيفِ فَصَارَ فِي الصِّفَةِ كَالْمُبْدِئِ فِي بَعْضِ الدَّعْوَى. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ الْقَسَامَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى قَتْلَ خَطَأٍ مَحْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صِفَةِ الْخَطَأِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ عَنْ صِفَةِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْخَطَأَ أقل أحوال القتل وإنما يلزم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 أن يسل عَنِ الْعَمْدِ وَعَنْ شِبَهِ الْعَمْدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً مَحْضًا وَلَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ صِفَةِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ الْمَضْمُونُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِقَتْلِهِ، فَإِذَا سَأَلَهُ عَنْ صِفَتِهِ لَمْ يَخْلُ مَا وَصَفَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ خَطَأً مَضْمُونًا، فَتُوَافِقُ صِفَتُهُ دَعْوَاهُ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْقَسَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَكُونُ قَتْلًا مَضْمُونًا، فَلَا قَسَامَةَ له، والمدعى عليه برئ مِنَ الدَّعْوَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا يَكُونُ عَمْدَ الْخَطَأِ فَيُقْسِمُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ دُونَ عَمْدِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الدَّعْوَى أَقَلُّ مِنَ الصِّفَةِ فَصَارَ كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا مِنْ زِيَادَةِ الصِّفَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا. فَالصِّفَةُ أَغْلَظُ مِنَ الدَّعْوَى فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: اسْتِحْقَاقُ الْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَسُقُوطُهُ فِي الْخَطَأِ. وَالثَّانِي: تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَتَخْفِيفُهَا فِي الْخَطَأِ. وَالثَّالِثُ: تَعْجِيلُهَا فِي الْعَمْدِ وَتَأْجِيلُهَا فِي الْخَطَأِ. وَالرَّابِعُ: اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى الْجَانِي فِي الْعَمْدِ وَعَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ دِيَةَ الْخَطَأِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي هُوَ الْمُحْتَمِلَ لِدِيَةِ الْخَطَأِ أَقْسَمَ عَلَى الدَّعْوَى دُونَ الصِّفَةِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ. فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ دِيَةَ الْخَطَأِ. نُظِرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الدَّعْوَى إِلَى الصِّفَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الدَّعْوَى وَلَا عَلَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الدَّعْوَى مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الصِّفَةِ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْجَانِي فَصَارَ فِي الدَّعْوَى أَبْرَأَ لِلْجَانِي وَفِي الصِّفَةِ أَبْرَأَ لِلْعَاقِلَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الدَّعْوَى إِلَى الصِّفَةِ أَقْسَمَ عَلَى الدَّعْوَى دُونَ الصِّفَةِ وَحُكِمَ لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ. (فَصْلٌ) وَإِذْ قَدْ مَضَى صِفَةُ الْعَمْدِ بما يكون عمداً فالحالة الثَّانِيَةُ أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَكُونُ عَمْدًا، وَلَهُ فِي صِفَةِ الْعَمْدِ بِمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَكُونُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي لَا يُضَمَّنُ بِقَوَدٍ وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 دِيَةٍ: كَمَنْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ فَتَعَثَّرَ بِحَجَرٍ. أَوْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ جِدَارٌ فَالصِّفَةُ قَدْ بَرَأَتْ مِنَ الدَّعْوَى وَسَقَطَتِ الْقَسَامَةُ فِيهَا وَبَرَأَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصِفَهُ بِعَمْدِ الْخَطَأِ كَرَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا يَجُوزُ أَنْ تَقْتُلَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا تَقْتُلَ فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي الْفِعْلِ خَاطِئٌ فِي النَّفْسِ. فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الصِّفَةِ دُونَ الدَّعْوَى، وَيُحْكَمُ لَهُ بِعَمْدِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَلَا يَكُونُ مَا فِي الصِّفَةِ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّعْوَى مَانِعًا مِنَ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالصِّفَةِ لِاشْتِبَاهِ الْحُكْمِ دُونَ الْفِعْلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَصِفَهُ بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الدَّعْوَى بِالصِّفَةِ وَسَقَطَتِ الْقَسَامَةُ فِي الْعَمْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِهَا فِي الْخَطَأِ فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ وَنَقَلَ الرَّبِيعُ أَنَّهُ يُقْسِمُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ طَرِيقَةُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّ اخْتِلَافَهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ إِنَّهُ يُقْسِمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّ صِفَتَهُ أَقَلُّ مِنْ دَعْوَاهُ فَجَازَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْأَخَفِّ بِضِدِّ دَعْوَى الْأَغْلَظِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ لَا يُقْسِمُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ وَدِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَكَانَ فِي الدَّعْوَى أَبْرَأَ لِلْعَاقِلَةِ وَفِي الصِّفَةِ أَبْرَأَ لِلْجَانِي فَسَقَطَتِ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ طَرِيقَةُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ لَيْسَ اخْتِلَافُ النَّقْلِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَقْلُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ لَا يُقْسِمُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إِقْسَامٌ عَلَى الدَّعْوَى، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا إِلَى الصِّفَةِ فَلَا يُقْسِمُ عَلَى الدَّعْوَى لِإِبْطَالِهَا بِالصِّفَةِ وَنَقْلُ الرَّبِيعُ إِنَّهُ يُقْسِمُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الدَّعْوَى إِلَى الصِّفَةِ فَيُقْسِمُ عَلَى الصِّفَةِ لِرُجُوعِهِ بِهَا عَنِ الدَّعْوَى الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنَ الصفة، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَحْلَفَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا وَلَمْ يَقُلْ لَهُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً أَعَادَ عليه عدد الْأَيْمَانِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا عَجَّلَ الْحَاكِمُ فَأَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي عَنْ شَرْطِ الدَّعْوَى فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي اسْتِحْلَافِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَكْمُلْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا أَحْلَفَ عَلَيْهِ لِلْجَهَالَةِ بِهِ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ فِيهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 مُلْغَاةً لَا يُحْكَمُ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ. لِأَنَّ الْيَمِينَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الدَّعْوَى جَارِيَةٌ مَجْرَى الْيَمِينِ قَبْلَ الدَّعْوَى، وَهِيَ قَبْلَ الدَّعْوَى غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا، لِأَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ. . قَالَ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ وَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِيَمِينِهِ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ فَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعُودَ إِلَى سُؤَالِ الْمُدَّعِي عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ الدَّعْوَى فَإِذَا اسْتَكْمَلَ شُرُوطَهَا أَعَادَ الِاسْتِحْلَافَ عَلَيْهَا وَعَلَّقَ مَا يُحْكَمُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 (باب عدد الأيمان) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " يَحْلِفُ وَارِثُ الْقَتِيلِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ بِالْعَدَدِ لِضَعْفِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا وَهُوَ اللَّوْثُ فَقَوِيَتِ الدَّعْوَى لِضَعْفِ سَبَبِهَا بِتَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِيهَا. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْأَيْمَانِ فِيهَا بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَلِسُنَّةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَارِدَةِ بِهَا وَقَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِ: " تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ! قَالُوا: لَا. قَالَ: فَيُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا) . وَإِذَا تَغَلَّظَتْ بِهَذَا الْعَدَدِ لَمْ يُقْسِمْ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَقْتُولِ إِلَّا الْوَرَثَةُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ فَلَمْ يَحْلِفْ بِهَا إِلَّا مُسْتَحِقِّهُا. وَهُمُ الْوَرَثَةُ. وَوَرَثَةُ الدِّيَةِ، هُمْ وَرَثَةُ الْأَمْوَالِ مِنَ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْفُرُوضِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَالزَّوْجَاتِ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي وَرَثَةِ الدِّيَةِ خِلَافًا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، بَيْنَ مِيرَاثِ الدِّيَةِ وَمِيرَاثِ الْمَالِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ وَرِثَ الْمَالَ وَرِثَ الدِّيَةَ وَالْقَوَدَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، أَوْ عَدَدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا فَفِيمَا يُقْسِمُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ -. أَحَدُهُمَا: يُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ يَمِينًا، لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي الْقَسَامَةِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ فَلَمَّا تَسَاوَوْا فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقَسَامَةِ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَمَنْ قَلَّ سَهْمُهُ وَكَثُرَ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ - إِنَّ الْأَيْمَانَ تُقَسَّطُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ بِجَبْرِ كَسْرِهَا لِيَحْلِفَ جَمِيعُهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، لِأَنَّ أَيْمَانَهُمْ فِي الْقَسَامَةِ حُجَّةٌ لَهُمْ، كَالْبَيِّنَةِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا، كَاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْبَيِّنَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ تَكُنْ فَرَائِضُ الْوَرَثَةِ عَائِلَةً قُسِّمَتْ عَلَى فَرَائِضِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا ابْنَيْنِ وَبِنْتًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ عِشْرِينَ يَمِينًا، وَحَلَفَتِ الْبِنْتُ عَشَرَةَ أَيْمَانٍ، وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فَرَائِضُهُمْ فِيهِ فَإِنْ كَانَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 فَرِيضَةُ مَوَارِيثِهِمْ عَائِلَةً كَزَوْجٍ، وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ - فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ - وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ بِثُلُثَيْهَا إِلَى عَشَرَةٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِسْمَةِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ أَوْ عَلَى عَوْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ نِصْفَ الْخَمْسِينَ - وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يميناً لأن فريضه النِّصْفُ، وَتَحْلِفُ الْأُمُّ سُدُسَ الْخَمْسِينَ وَهُوَ تِسْعَةُ أَيْمَانٍ بَعْدَ جَبْرِ الْكَسْرِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا السُّدُسُ، وَتَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُلُثَ الْخَمْسِينَ، وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا بَعْدَ جَبْرِ الْكَسْرِ لِأَنَّ فَرْضَهَا الثُّلُثُ وَتَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ، سُدُسَ الْخَمْسِينَ وَهُوَ تِسْعَةُ أَيْمَانٍ بَعْدَ جَبْرِ الْكَسْرِ لِأَنَّ فَرْضَهَا السُّدُسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ وَعَوْلِهَا مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ وَسَهْمُهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْخَمْسِينَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَمِينًا. وَتَحْلِفُ الْأُمُّ وَلَهَا سَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ عُشْرَ الْخَمْسِينَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَيْمَانٍ، وَتَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَهَا سَهْمَانِ مِنْ عَشَرَةٍ عُشْرَيِ الْخَمْسِينَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيْمَانٍ، وَتَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأُمِّ وَلَهَا سَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ عُشْرَ الْخَمْسِينَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَيْمَانٍ، ثم على هذا القياس. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ كَبِيرًا وَصَغِيرًا أَوْ غَائِبًا وَحَاضِرًا أَكْذَبَ أَخَاهُ وَأَرَادَ الْآخَرُ الْيَمِينَ قِيلَ لَهُ لَا تَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ شِئْتَ فَاحْلِفْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَخُذْ مِنَ الدِّيَةِ مَوْرِثَكَ وَإِنِ امْتَنَعْتَ فَدَعْ حَتَّى يَحْضُرَ مَعَكَ وَارِثٌ تُقْبَلُ يَمِينُهُ فَيَحْلِفَانِ خمسين يميناً فإن ترك ثلاثة بنين حلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً يجبر عليهم كسر اليمين فَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ ابْنًا حَلَفَ كل واحد منهم يميناً يجبر الكسر من الأيمان) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا يَلِيهَا تَتَفَرَّعُ على القول الذي يقسم فيه أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ، فَإِذَا خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ابْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ وَالْآخَرُ كَبِيرٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَاضِرٌ وَالْآخَرُ غَائِبٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُدَّعٍ قَتْلَ أَبِيهِ وَالْآخَرُ مُكَذِّبٌ لَهُ، فَإِنَّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يُقْسِمَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَلِلْحَاضِرِ أَنْ يُقْسِمَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ - فَأَمَّا الْمُكَذِّبُ فَهَلْ تَسْقُطُ قَسَامَتُهُ بِتَكْذِيبِ أَخِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: نَذْكُرُهُمَا فِي الْبَابِ الْآتِي فَإِنْ أَرَادَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 الْبَالِغُ الْحَاضِرُ أَنْ يُقْسِمَ، أَوِ الْمُكَذِّبُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، قِيلَ لَهُ: لَا يُحْكَمُ لَكَ بِحَقِّكَ مِنَ الدِّيَةِ إِلَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ كُلَّهَا. وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُكَ فِي الِاجْتِمَاعِ بَعْضُهَا، لِأَنَّ عَدَدَ الْأَيْمَانِ حُجَّةٌ لَكَ فِي قَبُولِ دَعَوَاكَ، كَالْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا كَمَا لَا يُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ، إِلَّا بَعْدَ كَمَالِهَا، فَإِذَا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا حُكِمَ لَهُ بِحَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ، أَوْ قَدِمَ الْغَائِبُ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِحَقِّهِ مِنَ الدِّيَةِ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى دَمِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَيْمَانُ فِي الْقَسَامَةِ حُجَّةٌ كَالْبَيِّنَةِ فَهَلَّا كَانَ وَجُودُهَا مِنْ بَعْضِهِمْ حُجَّةً لِجَمِيعِهِمْ كَالْبَيِّنَةِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَابَةَ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَصِحُّ وَفِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ. الثَّانِي: إِنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَامَّةٌ وَالْأَيْمَانُ حُجَّةٌ خَاصَّةٌ، فَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ فِيهَا بِأَيْمَانِ أَخِيهِ، وَإِنْ ثَبَتَ حَقُّهُ بِبَيِّنَتِهِ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ حَلَفَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ فَصَارَا بَعْدَ أَيْمَانِ الْأَخِ كَالْمُجْتَمِعَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ غَائِبٌ، حَلَفَ إِذَا حَضَرَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ رَابِعٌ، حَلَفَ إِذَا حَضَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَمِينًا، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِثَالُ هَذَا الشُّفْعَةُ إِذَا اسْتَحَقَّهَا أَرْبَعَةٌ وَحَضَرَ أَحَدُهُمْ كَانَ لَهُ أَخْذُ جَمِيعِهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِحَقِّهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهَا شُرَكَاؤُهُ فَصَارَ فِيهَا كَالْمُنْفَرِدِ بِهَا، فَإِذَا قَدِمَ الثَّانِي أَخَذَ النِّصْفَ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ - فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ أَخْذَ الثُّلُثَ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَإِذَا قَدِمَ الرَّابِعُ، أَخَذَ الرُّبُعَ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ ابْنًا حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا يَجْبُرُ عَلَيْهِ كَسْرَ الْيَمِينِ) وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَبَعَّضُ، فَلِذَلِكَ جَبَرْنَا كَسْرَهَا، كَمَا يُجْبَرُ كَسْرُ الطَّلَاقِ، والإقرار، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ بِقَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ مُسْتَحَقِّي الْقَسَامَةِ مِثْلَ أَنْ يَمُوتَ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ، وَيُخَلِّفَ بَعْدَ مَوْتِهِ ابْنَيْنِ فَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ قَسَامَتِهِ فَقَدْ مَلَكَ حَقَّهُ مِنَ الدِّيَةِ بِأَيْمَانِهِ، فَيُنْقَلُ ذَلِكَ إِلَى وَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَسَامَةٍ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَجْعَلُوا لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَمْلِكَ حقه من الدية بيمين غيره فلما جَعَلْتُمْ لِأَوْلَادِ هَذَا الْمَيِّتِ أَنْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ بِأَيْمَانِ أَبِيهِمْ؟ قِيلَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ عَنْ أَبِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِمْ بِأَيْمَانِهِ، وَلَيْسَ يَمْلِكُ الْأَخُ عَنْ أَخِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بأيمان أخيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ نُكُولِهِ عَنِ الْأَيْمَانِ، فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُقْسِمُوا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَيْمَانِ قَدْ سَقَطَ بِنُكُولِهِ عَنْهَا، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا فِي حُقُوقِ وَرَثَتِهِ. وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُمْ مِنَ الْقَسَامَةِ كَانَ لَهُمْ إِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعِي عَنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ يُوجِبُ نَقْلَهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، فَوَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ بِمَوْتِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ سَقَطَتْ حُقُوقُهُمْ مِنْ أَيْمَانِ قسامته. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْأَيْمَانِ مِنْ غَيْرِ نُكُولٍ عَنْهَا، فَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهَا إِلَى وَرَثَتِهِ، لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَاتَ وَحِصَّتُهُ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَمِينًا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ أَيْمَانُهُ بَيْنَهُمَا، فَيُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَمِينًا، بَعْدَ جَبْرِ كَسْرِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، إِنْ مَاتَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ وترك وارثاً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يُتِمَّ الْقَسَامَةَ حَتَّى مَاتَ ابْتَدَأَ وَارِثُهُ الْقَسَامَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ الْوَارِثُ بَعْضَ أَيْمَانِ قَسَامَتِهِ فَلَمْ يُكْمِلْهَا حَتَّى مَاتَ؟ لَمْ يَجُزْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، وَاسْتَأْنَفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَيْمَانِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ حَتَّى يُسْتَوْفَى فَلَوْ بَنَى الْوَارِثُ عَلَيْهَا، لَصَارَ الْمَوْرُوثُ نَائِبًا فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا نِيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ قَبْلَ مَوْتِهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا جاز لوارثه أن يبني على بينته، فيقم شَاهِدًا آخَرَ، وَتَكْمُلَ الْبَيِّنَةُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الفرق بين الأيمان والبينة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ ثُمَّ أَفَاقَ بَنَى لِأَنَّهُ حَلَفَ لِجَمِيعِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَوْلَى فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ أَنْ تُوَالَى وَلَا تُفَرَّقَ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهِيَ فِي الْمُوَالَاةِ أَغْلَظُ وَأَزْجَرُ، فَإِنْ فُرِّقَتْ كُرِهَ تَفْرِيقُهَا، وَأَجْزَأَتْ سَوَاءٌ طَالَ التَّفْرِيقُ أَوْ قَصُرَ، وَسَوَاءٌ قَلَّ التَّفْرِيقُ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِجَمِيعِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي تَضَاعِيفِ أَيْمَانِهِ أَمْسَكَ عَنِ الْأَيْمَانِ فِي زمان جنونه وإغمائه، لأن لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِيَمِينِهِ حُكْمٌ، فَإِذَا أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَفْرِقَةَ الْأَيْمَانِ لَا تَمْنَعُ مِنْ إِجْزَائِهَا وَلَا يَبْطُلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا لِحُدُوثِ الْجُنُونِ وَإِنْ بَطَلَتْ بِهِ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ مِنَ الشَّرَكِ، وَالْوَكَالَاتِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَسْخٌ وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعُقُودِ فَسْخٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 (بَابُ مَا يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَوْ لا يسقطها) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الابنين على رجل من أهل هذه الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ وَحْدَهُ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ عَدْلٌ مَا قَتَلَهُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ بِبَلَدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي أَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى رَجُلٍ يُبَرِّئُهُ وَارِثُهُ (قال المزني) قياس قوله أن من أثبت السبب الذي به القسامة حلف ولم يمنعه من ذلك إنكار الآخر كما لو أقام أحدهما شاهداً لأبيهما بدين وأنكر الآخر ما ادعاه أخوه وأكذبه أن للمدعي مع الشاهد اليمين ويستحق كذلك للمدعي مع السبب القسامة ويستحق فالسبب والشاهد بمعنى واحد في قوله لأنه يوجب مع كل واحد اليمين والاستحقاق إلا أن في الدم خمسين يميناً وفي غيره يمين) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي قَبِيلَةٍ عَنْ لَوْثٍ ظَهَرَ فِي قَتْلِهِ فَادَّعَى أَحَدُ بَنِيهِ قَتْلَهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّوْثِ فِيهَا يُجَوِّزُ دَعْوَى قَتْلِهِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، إِذَا أَمْكَنَ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهِ وَعَلَى أَحَدِهِمْ فَإِذَا خَصَّ بِالدَّعْوَى أَحَدَهُمْ سُمِعَتْ، وَكَانَ اللَّوْثُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، إِذَا خُصَّ بِالدَّعْوَى وَحْدَهُ ثُمَّ إِنَّ أَخَاهُ الْمُشَارِكَ لَهُ فِي دَمِ أَبِيهِ أَكْذَبَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَقَالَ مَا قَتَلَ هَذَا أَبَانَا، وَلَا حَضَرَ قَتْلَهُ، وَكَانَ غَائِبًا وَقْتَ قَتْلِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَيَكُونُ هَذَا تَكْذِيبًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ. وَإِنَّمَا شَرَطَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ الْعَدَالَةَ لِيَصِحَّ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ يُعِينُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ مِنَ الدَّعْوَى وَلَمْ يَجْعَلْ عَدَالَتَهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّكْذِيبِ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَقُلْ وَكَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا صَحِيحًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ تَكْذِيبًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ تَأْكِيدًا فِي التَّكْذِيبِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ شَرْطٌ فِي التَّكْذِيبِ لَا يَصِحُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 إِلَّا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ وَكَانَ غَائِبًا، لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا صَحِيحًا، لِأَنَّهُ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ أَخُوهُ، وَالنَّفْيُ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ. فَإِذَا أَصْبَحَ التَّكْذِيبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَلْ يَكُونُ التَّكْذِيبُ مُبْطِلًا لَلَّوَّثِ وَمَانِعًا مِنَ الْقَسَامَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ لَا يُبْطِلُ اللَّوْثُ مِنَ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ أَحَدُهُمَا بِيَمِينِهِ لَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْآخَرِ كَالْحُكْمِ بِيَمِينِهِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يُبْطِلُ اللَّوْثَ وَيَمْنَعُ الْقَسَامَةَ، لِأَنَّ اللَّوْثَ سَبَبٌ ضَعِيفٌ يَقْتَضِي غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَإِذَا تَعَارَضَ فِيهِ التَّكْذِيبُ أَوْهَاهُ، وإذا وها بَطَلَ وَخَالَفَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّهَا نَصٌّ، وَاللَّوْثُ اسْتِدْلَالٌ، يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِالتَّكْذِيبِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ النَّصُّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّ اللَّوْثَ لَا يَبْطُلُ، جَازَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَأْخُذَ نِصْفَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَخِ الْمُكَذِّبِ أَنْ يُقْسِمَ، فَإِنِ ادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى آخَرَ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ إِذَا لَمْ يُبْطِلِ اللَّوْثَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَمْ يُبْطِلْهُ فِي حَقِّهِمَا. وَإِنْ قِيلَ: بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ اللَّوْثَ قَدْ بَطَلَ. سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَانْتَقَلَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي قَدْرِ مَا يَحْلِفُ بِهِ قَوْلَانِ كَالدَّعْوَى فِي غَيْرِ لَوْثٍ، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ فَلَا قَوَدَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَلَهُ نِصْفُ الدية، لأن في تكذيب أخيه أبرأ مِنْهُ، وَلَوِ ادَّعَى الْمُكَذِّبُ قَتْلَهُ عَلَى آخَرَ، مُنِعَ مِنَ الْقَسَامَةِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ إِذَا أَبْطَلَ اللَّوْثَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا أَبْطَلَهُ فِي حَقِّهِمَا. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حُكْمِ التَّكْذِيبِ: أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ مَعَ اللَّوْثِ قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَيَدَّعِي الْآخَرُ قَتْلَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آخَرَ مَعَهُ، فَيَكُونُ الْأَخُ الثَّانِي مُكَذِّبًا لِلْأَخِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ دَعْوَاهُ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي، وَيَصِيرُ الْأَخُ الْأَوَّلُ مُكَذِّبًا لِلْأَخِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ دَعْوَاهُ عَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ إِنَّ اللَّوْثَ لَا يُبْطَلُ بِالتَّكْذِيبِ أَقْسَمَ الْأَخُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَأَقْسَمَ الْأَخُ الثَّانِي عَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي وَاسْتَحَقَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ اللَّوْثَ يَبْطُلُ بِالتَّكَاذُبِ، أَقْسَمَ الْأَخُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ، وَأَخَذَ مِنْهُ رُبْعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ فِي نِصْفِ الدَّعْوَى وَمُصَدِّقٌ فِي نِصْفِهَا وَأَقْسَمَ الْأَخُ الثَّانِي عَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ وَأَخَذَ مِنْهُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْأَخِ الثَّانِي أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْقَاتِلِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 الثَّانِي، لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ فِي جَمِيعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَمَا بَطَلَتْ فِيهِ الْقَسَامَةُ رُدَّتْ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَ أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ وَرَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلَ أَبِي زَيْدُ بْنُ عَامِرٍ وَرَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ فَهَذَا خِلَافٌ لِمَا مَضَى لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي عَرَفَهُ الْآخَرُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْقَسَامَةِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اتَّفَقَ الْأَخَوَانِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى اثْنَيْنِ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ وَرَجُلٌ آخَرُ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ عَامِرٍ وَرَجُلٌ آخر لا أعرفه، فليس في هذا الدَّعْوَى تَكَاذُبٌ، وَلَا يَبْطُلُ اللَّوْثُ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَ زَيْدَ بْنَ عَامِرٍ وَلَا مَنْ عَرَفَ زَيْدَ بْنَ عَامِرٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي جَهْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ عرفه الآخر تكذيب للآخر، فَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ عَرَفَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ رُبْعَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِلْأَخَوَيْنِ، فَكَانَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخَوَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلَيْنَ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخَوَيْنِ خَمْسِينَ يَمِينًا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُمَا قَدِ افْتَرَقَا فِي الدَّعْوَى، فَلَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْأَيْمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ الْأَوَّلُ قَدْ عَرَفْتُ زَيْدًا وَلَيْسَ بِالَّذِي قَتَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ قَدْ عَرَفْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِالَّذِي قَتَلَ مع زيد ففيها قولان أحدهما أن يكون لكل واحد القسامة على الذي ادعى عليه ويأخذ حصته من الدية، والقول الثاني أنه ليس لواحد منهما أن يقسم حتى تجتمع دعواهما على واحد (قال المزني) قد قطع بالقول الأول في الباب الذي قبل هذا وهو أقيس على أصله لأن الشريكين عنده في الدم يحلفان مع السبب كالشريكين عنده في المال يحلفان مع الشاهد فإذا أكذب أحد الشريكين صاحبه في الحق حلف صاحبه مع الشاهد واستحق وكذلك إذا أكذب أحد الشريكين صاحبه في الدم حلف صاحبه مع السبب واستحق) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا تَكَاذُبٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ الْآخَرُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ هَذَا التَّكَاذُبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَسَامَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَسَامَةِ، فَفِي إِبْطَالِ اللَّوْثِ بِهِ قَوْلَانِ: عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَسَامَةِ وَالْحُكْمِ بِالدِّيَةِ لَمْ يَقْدَحْ فِي اللَّوْثِ وَلَمْ يُنْقَضْ بِهِ مَا تقدم من الحكم، ويعكس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 هَذَا، لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَرَفْتُ الْآخَرَ وَهُوَ الَّذِي قَدْ عَرَفَهُ أَخِي لِجَهْلِي بِهِ مِنْ قَبْلُ وَمَعْرِفَتِي لَهُ مِنْ بَعْدُ صَارَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمَا عَلَى الْقَاتِلَيْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّفَ مَنْ جَهِلَ فَجَازَ لَهُمَا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمَا وَيَأْخُذَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَتَى قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِمَا يَمْنَعُ إِمْكَانَ السَّبَبِ أَوْ بِإِقْرَارٍ وَقَدْ أُخِذَتِ الدِّيَةُ بِالْقَسَامَةِ رُدَّتِ الدِّيَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقْسَمَ الْوَلِيُّ مَعَ ظُهُورِ اللَّوْثِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهَا مَا يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ شُهُودٍ عُدُولٍ فَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلُ كَانَ فِي وَقْتِ الْقَتْلِ غَائِبًا في بلداً آخَرَ، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا لَا يَصِلُ إِلَى قَتْلِهِ، أَوْ صَرِيعًا مِنْ مَرَضٍ لَا يَنْهَضُ مَعَهُ إِلَى حَرَكَةٍ أَوْ يَشْهَدَانِ أَنَّ الْقَتِيلَ الْمَوْجُودَ فِي مَحَلَّتِهِ نُقِلَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْقَتْلِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مُبْطِلٌ لَلَّوْثِ وَمُوجِبٌ لِنَقْضِ الْحُكْمِ بِالْقَسَامَةِ. وَهَكَذَا: لَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْقَتْلِ كَانَ رَجُلًا آخراً، بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ وَلَمْ يُحْكَمْ بِالْقَتْلِ عَلَى الثَّانِي لِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعَادَا الشَّهَادَةَ بَعْدَ الدَّعْوَى لَمْ تُسْمَعْ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ لَهُمَا بِدَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، انْقَسَمَتْ فِي إِبْطَالِ الدَّعْوَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا يَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى كَمَا بَطَلَتْ بِهِ الْقَسَامَةُ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، أَوْ مَحْبُوسًا، لِاسْتِحَالَتِهَا مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: مَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى، وَإِنْ بَطَلَتْ بِهِ الْقَسَامَةُ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: مَا يَبْطُلُ بِهِ نِصْفُ الدَّعْوَى وَإِنْ بَطَلَ بِهِ جَمِيعُ الْقَسَامَةِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ آخَرُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقَتْلِ عَلَى الثَّانِي بِالشَّهَادَةِ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُرْحُهُ مِنْ قِبَلِ الثَّانِي، فَلَمْ يَرَهُ الشُّهُودُ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا، لِذَلِكَ بَطَلَ نِصْفُ الدَّعْوَى، وَلَمْ يَبْطُلْ نِصْفُهَا، فَهَذَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي إِبْطَالِ اللَّوْثِ، وَإِبْطَالِ الدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخْبَرَ بِإِبْطَالِ اللَّوْثِ بِالْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 أحدهما: أن يكون أخبار آحاد يحتمل التواطئ، فَلَا تَبْطُلُ بِهَا الْقَسَامَةُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى نُفُوذِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْخَبَرِ ابْتِدَاءُ اللَّوْثِ، لَمْ يَبْطُلْ بِهَا مَا ثَبَتَ مِنَ اللَّوْثِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَخْبَارًا منتشرة ينتفي عنها حد التواطئ وَلَا تَبْلُغُ حَدَّ الِاسْتِفَاضَةِ، فَيَبْطُلُ بِهَا اللَّوْثُ، وَيُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِهَا ابْتِدَاءُ اللَّوْثِ جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّوْثِ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِهَا الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الِابْتِدَاءِ فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِهَا الدَّعْوَى، وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ الدَّعْوَى، وَصَارَتِ الدَّعْوَى مُتَجَرِّدَةً عَنْ لَوْثٍ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِمَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَفِي أَيْمَانِهِ قولان: على ما مضى - أحدهما: خمسين يميناً. والثاني: يميناً وَاحِدَةٌ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُجْزِئُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَيْمَانِهِ فِي الْقَسَامَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا، فَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ دُونَ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْقَسَامَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَاهِدٍ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِغَيْرِ مُطَالِبٍ، وَفِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ لِإِكْذَابِهِمَا بِالدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنْ يَصِيرُ تَجْدِيدُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ مُبْطِلًا لِلْقَسَامَةِ مَعَ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي الْقَسَامَةِ عَلَى الْأَوَّلِ كَانَتْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَإِقْرَارُ الثَّانِي يَقِينٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْيَقِينِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الْقَتْلِ غَائِبًا لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّهُ أَكْذَبَهَا بِإِقْرَارِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعِي بَعْدَ قَسَامَتِهِ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهَا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَبْطُلُ بِهِ قَسَامَتُهُ وَدَعْوَاهُ وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ كَذَبَ فِي دَعْوَاهُ، أَوْ يَقُولَ قَتَلَ أَبِي غَيْرُهُ، أَوْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا عِنْدَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا، فَيَكُونُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مُبْطِلًا لِقَسَامَتِهِ وَدَعْوَاهُ، فَإِنْ عَادَ فَادَّعَى قَتْلَ أَبِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِتَكْذِيبِهَا بِالدَّعْوَى الْأُولَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُبْطِلُ قَسَامَتَهُ وَلَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ - وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَقْتُولَ نُقِلَ إِلَى مَحَلَّتِهِ بَعْدَ الْقَتْلِ، فَتَبْطُلُ بِهِ قَسَامَتُهُ لِاعْتِرَافِهِ بِبُطْلَانِ اللَّوْثِ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلَّتِهِ، فَتَصِيرُ الدَّعْوَى مُتَجَرِّدَةً عَنْ لوث، فيكون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي وَاسْتَأْنَفَ الْيَمِينَ وَلَمْ يُجْزِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى إِرَادَتِهِ، لِاحْتِمَالِهِ وَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى بَيَانِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مَا أَخَذَهُ بِالْقَسَامَةِ ظُلْمٌ أَوْ حَرَامٌ وَهَذَا مُحْتَمِلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ ظُلْمٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ حِينَ أَوْجَبَ الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ دَعْوَى اللَّوْثِ كَاذِبَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ دَعْوَى الْقَتْلِ دَعْوًى كَاذِبَةٌ، فَلِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ مَا وَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِرَادَتِهِ وَيَعْمَلَ فِيهِ عَلَى بيانه وينقسم بيانه ثلاثة أقسام: أحدهما: مَا لَا تَبْطُلُ بِهِ الْقَسَامَةُ وَلَا الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا ظُلْمٌ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ يَقْصِدُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَلَا تَبْطُلُ قَسَامَتُهُ، وَلَا يَسْتَرِدُّ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ نُفُوذَ الْحُكْمِ يَكُونُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لَا بِاجْتِهَادِ الْمُدَّعِي لَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الدِّيَةُ، إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَإِنْ لَمْ تُسْتَرْجَعْ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَبْطُلُ بِهِ الْقَسَامَةُ وَتَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِالْكَذِبِ فِيهَا أَوْ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْقَتِيلِ، أَوْ يَدَّعِي أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِقَتْلِ أَبِيهِ غَيْرُهُ فَتَبْطُلُ قَسَامَتُهُ وَدَعْوَاهُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِيئًا مِنَ الدَّعْوَى، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْقَسَامَةِ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ لِإِكْذَابِهَا بِالدَّعْوَى الْأُولَى، فَتَصِيرُ بَاطِلَةً فِي عُمُومِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةٌ فِيهِ وَيَصِيرُ دَمُ أَبِيهِ هَدَرًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَبْطُلُ بِهِ الْقَسَامَةُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ قَتِيلَهُ قُتِلَ فِي غَيْرِ مَحَلَّةِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَبْطُلَ الْقَسَامَةُ لِبُطْلَانِ اللَّوْثِ فِيهَا بِإِقْرَارِهِ وَلَا تَبْطُلُ الدَّعْوَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلَّتِهِ، وَالْقَوْلُ فِيمَا بَيَّنَهُ بِإِرَادَتِهِ مِمَّا لَا تَبْطُلُ بِهِ الْقَسَامَةُ، أَوْ لَا تَبْطُلُ بِهِ الدَّعْوَى قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي دَمٍ وَإِنَّمَا هِيَ فِي شَأْنِ كَلَامٍ مُحْتَمَلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 (بَابُ كَيْفَ يَمِينُ مُدَّعِي الدَّمِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَجَبَتْ لِرَجُلٍ قَسَامَةٌ حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ لَقَدْ قَتَلَ فُلَانٌ فُلَانًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَارَكَهُ فِي قَتْلِهِ غَيْرُهُ وإن ادعى على آخر معه حلف لقتل فلان وآخر معه فلاناً منفردين بقتله ما شاركهما فيه غيرهما) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ مِنْ شَرْطِ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مُفَسَّرَةً، يَنْتَفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ عَلَيْهَا مُطَابِقَةً لَهَا فِي اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا وَنَفْيِ الِاحْتِمَالِ. وَذَلِكَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ هِيَ شُرُوطٌ فِي كَمَالِ يَمِينِهِ وَوُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا، ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَأَغْفَلَ الْخَامِسَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، فِي كِتَابِ الْأُمِّ. أَحَدُهَا: صِفَةُ الْيَمِينِ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الْقَاتِلِ. وَالثَّالِثُ: تَعْيِينُ الْمَقْتُولِ. وَالرَّابِعُ: ذِكْرُ الِانْفِرَادِ بِقَتْلٍ، أَوِ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ الَّذِي أَغْفَلَهُ الْمُزَنِيُّ صِفَةُ الْقَتْلِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ. فَأَمَّا الْيَمِينُ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَإِمَّا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَلَا تَصِحُّ بِصِفَاتِ أَفْعَالِهِ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَصِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ، وَالْيَمِينُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَظَّمَةً فَيَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ وَاللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ، أَوْ تَاللَّهِ فَيَضُمُّ إِلَيْهِ حَرْفَ الْقَسَمِ بِهِ وَهُوَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ حُرُوفٍ الْوَاوُ - وَالْبَاءُ - وَالتَّاءُ - وَدُخُولُ حَرْفِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِعْرَابُهُ مَجْرُورًا فَيَقُولُ وَاللَّهِ بِالْكَسْرِ فَإِنْ جَعَلَهُ مَرْفُوعًا فَقَالَ وَاللَّهُ بِالضَّمِّ، أَوْ جَعَلَهُ مَنْصُوبًا فَقَالَ وَاللَّهَ بِالْفَتْحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَحْنٌ لَا يُزِيلُ الْمَعْنَى وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَفَرَّقَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِعْرَابِ فِي كَلَامِهِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فَجَعَلَهَا مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَمِينًا، لِأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّحْنِ وَالْإِعْرَابِ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَمِينًا لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّحْنِ وَالْإِعْرَابِ، وَلَا يَتَلَفَّظُونَ بِالْكَلِمَةِ إِلَّا عَلَى مَوْضِعِهَا فِي اللُّغَةِ، فَلَا يَجْعَلُونَ مَا خَرَجَ عَنْ إِعْرَابِ الْقَسَمِ قَسَمًا. فَأَمَّا إِنْ حُذِفَ حَرْفُ الْقَسَمِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَمِينًا فِي عُمُومِ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ ذَكَرَ الِاسْمَ مَرْفُوعًا أَوْ مَجْرُورًا أَوْ مَنْصُوبًا وَعَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَعَلَهَا بِالنَّصْبِ فِي أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَمِينًا لِأَنَّهُمْ إِذَا حَذَفُوا حَرْفَ الْجَرِّ نَصَبُوا فَصَارَ النَّصْبُ عِوَضًا عَنْ حَرْفِ الْقَسَمِ فَصَارَتْ فِيهِمْ يَمِينًا دُونَ غَيْرِهِمْ فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِيهَا كَالرَّحْمَنِ فَيَمِينُهُ بِهِ كَيَمِينِهِ بِاللَّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ كَالرَّحِيمِ: فَلَا يَصِحُّ يَمِينُهُ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى يُضَافَ إِلَى صِفَةٍ لَا يُشَارِكُهُ الْمَخْلُوقُونَ فِيهَا. وَأَمَّا يَمِينُهُ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ فَكَقَوْلِهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَعِزَّةِ اللَّهِ فَيَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ مَعَ قِدَمِهِ فَأَمَّا صِفَاتُ أَفْعَالِهِ فَكَقَوْلِهِ وَخَلْقِ اللَّهِ، وَرِزْقِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِحُدُوثِهَا فَصَارَ كَيَمِينِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الْقَسَمُ بِهَا فَإِذَا صَحَّ مَا يُقْسَمُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَصِفَاتِ ذَاتِهِ دُونَ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، فَالْأَوْلَى بِالْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى اسْمِهِ فِي الْيَمِينِ مِنْ صِفَاتِهِ مَا يَكُونُ أَغْلَظَ لِلْيَمِينِ وَأَرْهَبَ لِلْحَالِفِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ لَا إله غيره لأن في الأول إثبات لِإِلَهِيَّتِهِ وَنَفْيًا لِإِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: مَقْصُورٌ عَلَى نفي إلاهية غَيْرِهِ ثُمَّ أَكَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ - وَهَذِهِ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ الْحَالِفُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ الَّتِي أُحْلِفَ بِهَا كَانَ تَأْكِيدًا لَهَا وَإِنِ اقْتَصَرَ فِي الْيَمِينِ عَلَى اسْمِهِ فَأُحْلِفَهُ: وَاللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ صِفَاتِ التَّأْكِيدِ شَيْئًا، أَجَزَأَتِ الْيَمِينُ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَصَرَ فِي إِحْلَافِ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يُغَلِّظْهَا بِالصِّفَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ تَعْيِينُ الْقَاتِلِ، فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَالْحَكَمَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، عَيْنَهُ بِالِاسْمِ وَالْإِشَارَةِ فَقَالَ: بِاللَّهِ لَقَدْ قَتَلَ فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 هَذَا الْحَاضِرُ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فُلَانًا، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ دُونَ الِاسْمِ أَجَزَأَ لِأَنَّ الِاسْمَ مَعَ الْإِشَارَةِ تَأْكِيدٌ وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْإِشَارَةِ أَجَزَأَ ذَلِكَ فِي الْغَائِبِ إِذَا رَفَعَ نَسَبَهُ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْيِينِ الْغَائِبِ إِلَّا بِالِاسْمِ، وَفِي إِجْزَائِهِ فِي الْحَاضِرِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْإِشَارَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ الْإِشَارَةَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ وَأَبْلَغُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَنْتَقِلُ وَيَقَعُ فِيهَا الِاشْتِرَاكُ، وَإِنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا مَعَ الْغَيْبَةِ وَتَرْكُ الْإِشَارَةِ مَعَ إِمْكَانِهَا يُحَدِثُ مِنَ الشُّبْهَةِ الْمُحْتَمَلَةِ مَا لَا تَحْدُثُ مَعَ الْغَيْبَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ - وَهُوَ تَعْيِينُ الْمَقْتُولِ، فَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ وَاسْتِحْقَاقَ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا حَاضِرًا عُيِّنَ بِالِاسْمِ وَالْإِشَارَةِ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلَ فَلَانٌ هَذَا الْحَاضِرُ، فَلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا الْمَقْتُولَ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْيِينِ الْمَقْتُولِ بِالْإِشَارَةِ دُونَ الِاسْمِ أَجْزَأَ وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْيِينِهِ بِالِاسْمِ دُونَ الْإِشَارَةِ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مَوْجُودٍ، جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَعْيِينِهِ بِالِاسْمِ وَحْدَهُ لَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا أَنْ يَرْفَعَ فِي نَسَبِهِ مَا لَا يَرْفَعُ فِيهِ مَعَ الْإِشَارَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ نَسَبَهُ وَصِفَتَهُ وَصِنَاعَتَهُ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ وَيَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ ذِكْرُ انْفِرَادِهِ بِقَتْلِهِ أَوْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فَلِأَنَّ قَتْلَ الْمُنْفَرِدِ مُخَالِفٌ لِقَتْلِ الْمُشَارِكِ فِي الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْقَوَدِ وَإِنْ قَالَ: قَتَلَهُ وَحْدَهُ حَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَارَكَهُ فِي قَتْلِهِ غَيْرُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ مَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ هَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ أَوْ شَرْطٌ وَاجِبٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ فَإِنْ تَرَكَهُ فِي الْيَمِينِ أَجْزَأَ، لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِهِ يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِقَتْلِهِ وَيَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ إِكْرَاهٌ يَلْزَمُهُ بِهِ حُكْمُ الْقَتْلِ. فَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا فِي الْفِعْلِ ومشاركاً في الحكم، فلم يكفي مِنْهُ أَنْ يَقُولَ مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ حَتَّى يَقُولَ: مَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ لِيَنْفِيَ بِذَلِكَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْقَتْلِ عَلَى مُكْرَهٍ غَيْرِ قَاتِلٍ، وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الْقَتْلِ ذَكَرَ عَدَدَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَتَلَهُ هَذَا وَآخَرُ فَإِنْ حَضَرَ الْآخَرُ أَقْسَمَ عَلَيْهِمَا وَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ هَذَانِ مُنْفَرِدَيْنِ بقتله ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 شَرَكَهُمَا فِي قَتْلِهِ غَيْرُهُمَا وَإِنْ غَابَ الْآخَرُ عُيِّنَ الْحَاضِرُ وَجَازَ أَنْ يُسَمِّيَ الْغَائِبَ وَلَا يُسَمِّيَهُ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَتَلَهُ هَذَا وَآخَرُ مَعَهُ مُنْفَرِدَيْنِ بِقَتْلِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ صِفَةُ الْقَتْلِ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، فَلِمَا بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مِنِ اخْتِلَافِ الديتين وحكم القود، فإن كان عمد قَالَ: لَقَدْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَإِنْ كَانَ خَطَأً، قَالَ: لَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً فَيَذْكُرُ الْخَطَأَ كَمَا يَذْكُرُ الْعَمْدَ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَهُمَا حُكْمًا لِأَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ وَدِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِاخْتِلَافِ مَحَلِّهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصِفَ فِي يَمِينِهِ الْعَمْدَ وَلَا الْخَطَأَ، إِذَا كَانَ وَصَفَهُمَا فِي الدَّعْوَى لِأَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ فَصَارَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَحْمُولًا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَى اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْحَاكِمِ الْمُسْتَحْلِفِ، فَهَلَّا كَانَ فِيمَا عَدَاهَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُهَا وَيُحْمَلُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ قِيلَ: لِأَنَّ صِفَةَ الْقَتْلِ مُرَادٌ لِزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ وَمَا عَدَاهَا مُرَادُ الِاسْتِحْقَاقِ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ ادَّعَى الْجَانِي أَنَّهُ بَرَأَ مِنَ الْجِرَاحِ زَادَ وَمَا بَرَأَ مِنْ جِرَاحَةِ فُلَانٍ حَتَّى مَاتَ مِنْهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مَجْرُوحٍ مَاتَ مَعَ لَوْثٍ فِي جِرَاحَتِهِ، فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُقْسِمَ، فَذَكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمَجْرُوحَ مَاتَ مِنْ غَيْرِ الْجِرَاحَةِ الَّتِي كَانَتْ بِهِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ الْجِرَاحَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهَا فَلَا يُؤَثِّرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ حَتَّى زَمَانِ مَوْتِهِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الجراحة قد أندملت فيقسط حُكْمُ الْقَسَامَةِ فِيهَا لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا بِالِانْدِمَالِ وَبَطَلَتْ سِرَايَتُهَا إِلَى النَّفْسِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَسَامَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَمُهَا جَارِيًا لم تندمل فَهَذَا مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْهَا وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا فَيَزِيدُ الْحَالِفُ مِنْ أَيْمَانِ قَسَامَتِهِ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ فَإِنْ أَقْسَمَ عَلَى اثْنَيْنِ قَالَ: فِي يَمِينِهِ، وَأَنَّهُ مَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَتِهِمَا وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحِهِمَا لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جُرْحِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَجْرَى الشَّرْعُ حُكْمَ الْقَتْلِ عَلَيْهِمَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الِانْدِمَالِ فَيَدَّعِيهِ الْجَانِي وَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعِي فَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ لَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْجَانِي فَأَمَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَفِيهِ وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بِبَقَاءِ الْجُرْحِ سَائِلَ الدَّمِ غَيْرَ مُنْدَمِلٍ ثُمَّ يُقْسِمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي بِخِلَافِهِ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَتِ الْقَسَامَةُ غَيْرَهَا فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُدَّعِي فِي الْقَتْلِ خَالَفَتْهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ بِهِ فِي سِرَايَةِ الْجِرَاحِ فَيُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ وَيَزِيدُ فِي يَمِينِهِ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ كَذَلِكَ مَا قَتَلَ فُلَانًا وَلَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ وَلَا نَالَهُ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا بِسَبَبِ فِعْلِهِ شَيْءٌ جَرَحَهُ وَلَا وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْمِي فَيُصِيبُ شَيْئًا فَيَطِيرُ الَّذِي أَصَابَهُ فَيَقْتُلُهُ وَلَا أَحْدَثَ شَيْئًا مَاتَ مِنْهُ فُلَانٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْفِرُ الْبِئْرَ وَيَضَعُ الْحَجَرَ فَيَمُوتُ مِنْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ وَغَيْرِ الْقَسَامَةِ فَذَكَرَ فِي يَمِينِهِ سِتَّةَ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: مَا قتل فلان لِأَنَّهُ أَصْلُ الدَّعْوَى وَيَشْتَمِلُ قَوْلُهُ مَا قَتَلَ عَلَى التَّوْجِيهِ بِالذَّبْحِ وَعَلَى سِرَايَةِ الْجُرْحِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ جَمْعَ كَانَ أَحْوَطَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ وَلَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ الشَّرِكَةَ فِي الْقَتْلِ وَالْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُمْسِكَ فِي الْقَتْلِ، هُوَ قَاتِلٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَذَكَرَهُ فِي يَمِينِهِ احْتِيَاطًا فَيَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي هريرة مستحب وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَاجِبًا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ وَلَا نَالَهُ مِنْ فِعْلِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ لِهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ - إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ سِرَايَةُ الْجُرْحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وُصُولُ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ. وَهُوَ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ شَرْطٌ وَاجِبٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ شُرُوطًا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ وَلَا نَالَهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ شَيْءٌ جَرَحَهُ - اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ - إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَقْيُ السُّمِّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ شَرْطًا رَابِعًا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ - إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَرْمِيَ حَائِطًا بِسَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ فَيَعُودُ السَّهْمُ أَوِ الْحَجَرُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ شَرْطًا فِي قَتْلِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَقُولَ وَلَا وَصَلَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ: أَنْ يَرْمِيَ حَجَرًا فَيُصِيبَ حَجَرًا فَيَنْقَطِعَ الثَّانِي فَيَقَعَ عَلَى ذَلِكَ فَيَقْتُلَهُ وَهَذَا شَرْطٌ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ وَلَا أَحْدَثَ شَيْئًا مَاتَ مِنْهُ وَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَنْ مَاتَ مِنْهُ وَهَذَا شَرْطٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ. يَلْزَمُ مِنْهَا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مَا اخْتَصَّ بِهِ وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ مَا اخْتَصَّ بِهِ وَهِيَ غَايَةُ الشُّرُوطِ الَّتِي يُحْتَاطُ بِهَا فِي الْأَيْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ مُوَافِقَةً لِدَعْوَى الْمُدَّعِي إِذَا فَسَّرَ فَلَمْ يَحْتَجْ فِي يَمِينِ إِنْكَارِهِ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُدَّعِي فِي تَفْسِيرِهِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فِي الدَّعْوَى الْمُطْلَقَةِ دُونَ الْمُفَسَّرَةِ وَهُوَ لَا يَرَى سَمَاعَهَا إِلَّا مُفَسَّرَةً فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّمَاعِ لِلدَّعْوَى مُطَلَقَةً غَيْرَ مُفَسَّرَةٍ وَجَعَلُوا ذَلِكَ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فَخَرَّجُوا سَمَاعَ الدَّعْوَى مُطْلَقَةً فِي الدَّمِ عَلَى قَوْلَيْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ فِي الْقَسَامَةِ إِلَّا مُفَسَّرَةً لِاحْتِيَاجِ الْمُدَّعِي إِلَى الْحَلِفِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا أَخْرَجُوهُ فِيمَا عَدَا الْقَسَامَةِ وَلَوْ فُسِّرَتِ الدَّعْوَى لَمَا تَجَاوَزَ الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّافِعِيَّ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الدَّعْوَى الْمُفَسَّرَةِ فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، لِأَنَّ دَعْوَى الدَّمِ حَقُّ الْمَقْتُولِ فَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ اسْتَظْهَرَ الزَّائِدَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلِيُّهُ. وَهُوَ لَا يَرَى سَمَاعَهَا مُطْلَقَةً وَشَرَطَ فِي الْيَمِينِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَى عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلِيُّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي حَقِّ طِفْلٍ أَوْ غَائِبٍ إِذَا ادَّعَى لَهُ الْقَتْلَ وَلِيٌّ أَوْ وَكِيلٌ فَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي الْيَمِينِ لَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَكِيلُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى لِحَاضِرٍ جَائِزِ الْأَمْرِ لَمْ يَسْتَظْهِرْ لَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ. كَالْبَيِّنَةِ إِذَا قَامَتْ بَدَيْنٍ عَلَى طِفْلٍ أَوْ غَائِبٍ. اسْتَظْهَرَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَى حَاضِرٍ جَائِزِ الْأَمْرِ لَمْ يَحْلِفْ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أن يدعيه الحاضر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَزِدْهُ السُّلْطَانُ عَلَى حَلِفِهِ بِاللَّهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ الأيمان بالله) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِمَا يُضَافُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا وَتَعْظُمُ فِي النُّفُوسِ التَّلَفُّظُ بِهَا مَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتَبَايُنِ مَا قَدْ أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَيْمَانِهِ بِاللَّهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فَيَكُونُ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ. وَالثَّانِي: لِيَنْتَفِيَ بِهَا تَأْوِيلُ ذَوِي الشُّبُهَاتِ، فَإِنْ حَذَفَهَا الْحَاكِمُ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ أَجْزَأَهُ وَحَذْفُهَا فِي أَهْلِ الدِّيَانَةِ أَيْسَرُ مِنْ حَذْفِهَا فِي ذَوِي الشُّبُهَاتِ وَإِنْ كَانَ جَوَازُ حذفها في الفريقين على سواء لقوله اللَّهِ تَعَالَى {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وَقَوْلِهِ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وَأَحْلَفَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي قَتْلِهِ لِأَبِي جَهْلٍ بِاللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ وَأَحْلَفَ رُكَانَةَ بِاللَّهِ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 (بَابُ دَعْوَى الدَّمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ قسامة) (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ أَوْ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ فَلَا قَسَامَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي مَحَلَّةٍ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ بَعْضِهِمْ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِهَا مِثْلَ خَيْبَرَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَلَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلَهُ مِنْهُمْ سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ مُنِعَ مِنَ الْقَسَامَةِ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَقِيلَ: لَهُ: خُصَّ بِالدَّعْوَى مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَقْسِمْ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَحَلَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ تَطْرُقُهَا الْمَارَّةُ وَتَدْخُلُهَا السَّابِلَةُ فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا. فَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ أَهْلِهَا عِنْدَ وُرُودِ الْقَوَافِلِ وَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ إِذَا انْقَطَعَتِ الْقَوَافِلُ عَنْهُمْ جَازَتِ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْقَوَافِلِ، وَلَمْ تَجِبِ الْقَسَامَةُ مَعَ وُرُودِ الْقَوَافِلِ فَهَذَا شَرْطٌ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْقَرْيَةِ أَوْ ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْقَرْيَةِ، فَتَجُوزُ الْقَسَامَةُ مَعَ ظُهُورِ الْعَدَاوَةِ، وَلَا تَجُوزُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَدَاوَةِ فَإِنِ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الْعَدَاوَةِ ثُمَّ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ نُظِرَ حَالُ الصُّلْحِ فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالْحُسْنَى بَعْدَ الصُّلْحِ فَلَا قَسَامَةَ وَإِنْ لَمْ يَتَظَاهَرُوا بِالصُّلْحِ أَقْسَمَ، كَالشَّاهِدِ إِذَا صَالَحَ عَدُوَّهُ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بعد الصلح إذا رأى مَا بَيْنَهُمَا حَسَنًا وَلَا تُقْبَلُ إِنْ لَمْ ير ما بينهما حسناً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ ادَّعَى وَلِيُّهُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمْ يَحْلِفْ إِلَّا مَنْ أَثْبَتُوهُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانُوا أَلْفًا فَيَحْلِفُونَ يَمِينًا يَمِينًا لِأَنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى خمسين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ خمسين يميناً وبرئ فإن نكلوا حلف ولاة الدم خمسين يميناً واستحقوا الدية في أموالهم إن كان عمداً وعلى عواقلهم في ثلاث سنين إن كان خطأ (قال) وفي ديات العمد على قدر حصصهم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ الْقَسَامَةِ. فَأَمَّا دَعْوَى الدِّمَاءِ فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْقَاتِلَ وَادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمْ يُسْمَعْ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تُعَيَّنَ عَلَى عَدَدٍ يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَتْلِ فَإِنْ عَيَّنَ عَلَى عَدَدٍ لَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ لَمْ يُسْمَعْ فَإِذَا عَيَّنَهَا عَلَى مَنْ يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهِ حَلَفُوا وَبَرِئُوا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا اعْتِبَارَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ قَتْلَهُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَعَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهِ فَإِذَا ادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ اخْتَارَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا وَأَحْلَفَهُمْ، فَإِذَا حَلَفُوا أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، فَخَالَفَ أُصُولَ الشَّرْعِ فِي خَمْسَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَالثَّانِي: سَمَاعُهَا عَلَى مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ جَعَلَ لِلْمُدَّعِي اخْتِيَارَ خَمْسِينَ مِمَّنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَتَلَةٍ. وَالرَّابِعُ: إِحْلَافُهُمْ وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُمْ. وَالْخَامِسُ إِلْزَامُهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ فِيهَا دَفْعًا لِقَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا مَا أَقْنَعَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَسُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَكَانَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرْنَاهَا: أَحَدُهَا: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَلَوْ كَانُوا أَلْفًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَحْلِفُ جَمِيعُهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا تُقَسَّطُ عَلَى أَعْدَادِهِمْ. وَالثَّالِثُ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ إِمْكَانَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْقَتْلِ شَرْطَ سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ قَالَ: يَحْلِفُونَ وَلَوْ كَانُوا أَلْفًا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاكُ الْأَلْفِ فِي قتل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 الْوَاحِدِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُ فِي الْقَتْلِ يَخْتَلِفُ حَسَبَ اخْتِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَ ذَبْحًا أَوْ قَطْعًا أَوْ بِضَرْبِ الْعُنُقِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ وَلَا مِائَةٌ وَلَا خَمْسُونَ. وَإِنْ كَانَ بِجِرَاحٍ أُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مِائَةٌ وَمِائَتَانِ وَإِنْ كَانَ بِالْعَصَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ فَيَضْرِبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَوْهُ بِالْبُنْدُقِ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَلْفٌ فَيَرْمِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبُنْدُقَةٍ فَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا كَانَ مُمْكِنًا وَإِنْ حُمِلَ على غيره كان مبالغة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ وَالْجِنَايَةُ خِلَافُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُرِيدُ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أربعة فصول: أحدهما: فِي الدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْهُ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ كَمَا تُسْمَعُ مِنَ الرَّشِيدِ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَالِهِ وَدَعْوَاهُ أَحْفَظُ لِمَالِهِ سَوَاءٌ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي قَسَامَةٍ وَغَيْرِ قَسَامَةٍ. وَالثَّانِي: سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَيَسْمَعُهَا فِي الْعَمْدِ وَفِي سَمَاعِهَا فِي الْخَطَأِ قَوْلَانِ: وَالثَّالِثُ: إِقْرَارُهُ بِالْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ بِعَمْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ عفى عن القود فيه كَانَ بِخَطَأٍ مَحْضٍ فَفِي صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَالرَّابِعُ: إِحْلَافُهُ فَتَصِحُّ أَيْمَانُهُ سَوَاءٌ حَلَفَ مُدَّعِيًا فِي الْقَسَامَةِ، أَوْ حلف منكر فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مِنَ الأحكام وبخلاف الصبي والمجنون. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِلَّا فِي إِقْرَارِهِ بِجِنَايَةٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَمَتَى عَتَقَ لَزِمَهُ (قال المزني) فكما لم يَضُرُّ سَيِّدَهُ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ فَكَذَلِكَ لا يضر عاقلة الحر قوله بما يوجب عليهم المال) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى عَبْدٍ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي خَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَهِيَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ، لِارْتِفَاعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ وَإِقْرَارُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَإِنِ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ بِهَا اقْتُصَّ مِنْهُ، فَإِنْ عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ. وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْقَتْلِ فِي خَطَأٍ يُوجِبُ الْمَالَ، فَيَجُوزُ سَمَاعُهَا عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى سَيِّدِهِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلِتَعَلُّقِهَا إِنْ أَقَرَّ بِذِمَّتِهِ وَأَدَائِهِ لَهَا بَعْدَ عِتْقِهِ، وَأَمَّا السَّيِّدُ فَلِأَنَّهَا إِنْ أَقَرَّ مُسْتَحَقَّةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ سُمِعَتْ عَلَى الْعَبْدِ، فَأَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ إِنْكَارِ عَبْدِهِ وَيَمِينِهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ وَإِنْ أَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ. وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَهَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهُ السَّيِّدُ عَلَيْهَا فَتَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا وَلَوْ قُدِّمَتِ الدَّعْوَى عَلَى السَّيِّدِ. فَإِنِ اعْتَرَفَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ، إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ فِيهَا مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَإِنْ أَنْكَرَهَا السَّيِّدُ حَلَفَ وَبَرِئَ وَجَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَنْكَرَهَا حَلَفَ وَبَرِئَ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ، يُؤَدِّيهَا بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ فَلَوْ أَنْكَرَهَا الْعَبْدُ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فِيهَا فَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي وَحَلَفَ ثَبَتَتْ لَهُ الْجِنَايَةُ بِيَمِينِهِ بَعْدَ النُّكُولِ. وَهَلْ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ أَوْ مَقَامَ الْإِقْرَارِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْإِقْرَارِ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: كَمَا لَا يَضُرُّ سَيِّدَهُ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ فَكَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عَاقِلَةَ الْحُرِّ قَوْلُهُ هَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ اعْتِرَافَ الْجَانِي كَمَا لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِقْرَارُ عَبْدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ سَكْرَانَ لَمْ يَحْلِفْ حَتَّى يَصْحُوَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى سَكْرَانَ لَمْ يَحْلِفْ فِي حَالِ سُكْرِهِ حَتَّى يَصْحُوَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، وَالسَّكْرَانُ يُقْدِمُ فِي سُكْرِهِ عَلَى مَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ عِنْدَ إِفَاقَتِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِامْتِنَاعِ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فَإِنْ أُحْلِفَ فِي حَالِ سُكْرِهِ أَجْزَأَ، لِأَنَّنَا نُجْرِي عَلَيْهِ فِي السُّكْرِ أَحْكَامَ الْمُفِيقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ، لِمَا قَدَّمَنَا مِنْ وَضْعِ الْيَمِينِ لِلزَّجْرِ وَسُكْرُهُ يَصُدُّ عَنِ الِانْزِجَارِ. وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ الشَّافِعِيِّ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ فِي السُّكْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ. فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ ظِهَارِهِ وَثُبُوتِ رِدَّتِهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ مِنْ رِدَّتِهِ حَتَّى يُفِيقَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا ضَرَّهُ أَوْ نَفَعَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَيَحْمِلُ مَنْعَهُ مِنْ إِحْلَافِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِنَّهُ إِنْ حَلَفَ وَتَابَ صَحَّتْ أَيْمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ كَالْمُفِيقِ فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إنه يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ مِمَّا يَضُرُّهُ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، لِأَنَّ السُّكْرَ مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ فَاخْتُصَّ بِلُزُومِ أَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ وَسُقُوطِ أَخَفِّهِمَا فَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ لِلْمُزَنِيِّ فِيهِ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَغْلِيظٌ وَصِحَّةُ الْأَيْمَانِ تَخْفِيفٌ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَدْ قِيلَ لَا يَبْرَأُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُمْ يَمِينٌ غَيْرُهُ وَهَكَذَا الدَّعْوَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى قَدْرِ الدية في اليد خمس وعشرون وفي الموضحة ثلاثة أيمان قال المزني رحمه الله وقد قال في أول باب من القسامة ولا تجب القسامة في دون النفس وهذا عندي أولى بقول العلماء) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فِي غَيْرِ الْقَسَامَةِ مِنَ الدِّمَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: تَغْلِيظٌ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الدِّمَاءِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُغَلَّظُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا سَقَطَتِ الْقَسَّامَةُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدَّعَاوَى وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا مُغَلَّظَةٌ فِي النَّفْسِ وَلَا تُغَلَّظُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِاخْتِصَاصِ النَّفْسِ بِتَغْلِيظِ الْكَفَّارَةِ وَسُقُوطِهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَقَالَ هاهنا تُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَهِمَ وَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ اخْتَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ فِيمَا دُونَ النفس، وهذا ذلل ذَمِيمٌ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي إِحْدَاهُمَا وَاخْتَلَفَ فِي الْأُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 (باب كفارة القتل) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِلْمَقْتُولِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَجُمْلَةُ الْقَتْلِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ، مُبَاحٌ، وَمَحْظُورٌ يَأْثَمُ بِهِ. وَمَحْظُورٌ لَا يَأْثَمُ بِهِ، فَأَمَّا الْوَاجِبُ: فَالْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ وَالزِّنَا وَالْحِرَابَةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَالْقِصَاصُ، وَدَفْعُ الطَّالِبِ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا الْمَحْظُورُ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ، فَهُوَ قَتْلُ الْعَمْدِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ الْقِصَاصُ مَعَ التَّكَافُؤِ وَالدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ، وَالْكَفَّارَةُ عَنِ الْقَتْلِ، وَالْوَعِيدُ فِي الْمَأْثَمِ. وَأَمَّا الْمَحْظُورُ الَّذِي لَا يَأْثَمُ بِهِ: فَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَدْ تَضَمَّنَتْهُمَا الْآيَةُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَالْمَأْثَمُ فَيَصِيرُ مُوَافِقًا لِلْعَمْدِ فِي حُكْمَيْنِ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي حُكْمَيْنِ وَإِذَا كَانَتْ أَقْسَامُ الْقَتْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ عَنْ كل قتل لمضمون في كل قتيل مَضْمُونٍ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ ضَامِنٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْقَتْلُ الْمَضْمُونُ فَعَمْدٌ وَخَطَأٌ - فَالْعَمْدُ يَأْتِي فِي خِلَافٍ نَذْكُرُهُ وَالْخَطَأُ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَتْلُ الْخَطَأِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ، وَالْمُبَاشَرَةُ: أَنْ يَرْمِيَ هَدَفًا فَيُصِيبَ إِنْسَانًا فَيَقْتُلَهُ، وَالسَّبَبُ: أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا فَيَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَيَمُوتَ أَوْ يَضَعَ حَجَرًا فِي طَرِيقِ سَائِرٍ فَيَعْثُرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَيَمُوتَ أَوْ يَرُشَّ مَاءً فِي الطَّرِيقِ فَيَزْلِقَ بِهِ فَيَمُوتَ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ التَّالِفَةِ فَيَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْمُبَاشَرَةِ الدِّيَةُ مِعِ الْكَفَّارَةِ وَتَجِبُ فِي قَتْلِ السَّبَبِ الدِّيَةُ دُونَ الْكَفَّارَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ضَمِنَ نَفْسًا عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَمْ تَجِبْ عليه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 الْكَفَّارَةُ كَالْعَاقِلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجِبْ فِي جِنْسِهِ قَوَدٌ لَمْ يَجِبْ فِي جِنْسِهِ كَفَّارَةٌ كَالْإِمْسَاكِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ قَتْلٌ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ، كَالْمُبَاشَرَةِ. فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا، احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ دِيَةُ النَّفْسِ وَلَا يَكُونُ مُتْلِفًا لِلنَّفْسِ إِذْ لَا يَلْزَمُ دِيَةٌ إِلَّا فِي قَتْلٍ عَنْ مَقْتُولٍ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَلْزَمُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَوْكَدُ مِنَ الدِّيَةِ فَلَمَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَلْتَزِمُ الدِّيَةَ تَحَمُّلًا وَنِيَابَةً وَالْكَفَّارَةُ لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ وَلَا النِّيَابَةُ وَلِذَلِكَ تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْخَطَأِ وَلَمْ تَتَحَمَّلْ كَفَّارَتَهُ - وَإِنْ لَزِمَتْهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِمْسَاكِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الدِّيَةِ لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الْكَفَّارَةِ وَلَمَّا أَوْجَبَ السَّبَبُ ضَمَانَ الدِّيَةِ أَوْجَبَ ضَمَانَ الْكَفَّارَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمَقْتُولُ الْمَضْمُونُ: فَكُلُّ مَنْ ضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالْقَصَاصِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا بِقَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَلَا تَجِبْ بِقَتْلِ عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ وَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَغْلَظِ الْحُرُمَاتِ وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ وَأَطْرَافُ الْمُسْلِمِ أَغْلَظُ مِنْ نَفْسِ الْكَافِرِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ كَمَا أَوْجِبَهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَكَانَ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَآخِرُهَا فِي الْكَافِرِ، وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ بِالدِّيَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْكَفَّارَةِ كَالْمُسْلِمِ وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ ضَعْفِ حُرْمَتِهِ فَرَاجِعٌ عَلَيْهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ ثُمَّ يُقَالُ قَدْ أَثْبَتَتِ الذِّمَّةُ لَهُ حُرْمَةً فَلَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَدِمِهَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقَاتِلُ الضَّامِنُ: فَكُلُّ قَاتِلٍ ضَمِنَ نَفْسَ مَقْتُولٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا يَدْخُلُهَا التَّحَمُّلُ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فَلَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُ الْقَاتِلِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْقِصَاصِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا الْخِطَابُ مُوَاجَهَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصلاة وآتوا الزكاة} تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ خِطَابُ الِالْتِزَامِ وَالْكَفَّارَةُ خِطَابُ الْتِزَامٍ فَتَوَجَّهَ إِلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالدِّيَةِ وَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ ضامن فوجب أن تلزمه الكفارة كالبائغ الْعَاقِلِ وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ بِالْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْعَاقِلُ وَالْمَجْنُونُ كَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَوْكَدُ مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَعَلَى السَّيِّدِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ فَلَمَّا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ) فَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الْقَلَمِ عَنْهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ حُكْمِ الْقَتْلِ فِي أَمْوَالِهِمْ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَكَمَا لَا يَمْنَعُ النَّائِمَ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَمُنْتَقَضٌ بِوُجُوبِ الْغُرْمِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ عَلَى الْبَدَنِ وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ فِي الْمَالِ فَافْتَرَقَا كَمَا افْتَرَقَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمَا الْأَيْمَانُ لم يلزمها كَفَّارَتُهُمَا وَلَمَّا صَحَّ مِنْهُمَا الْقَتْلُ لَزِمَتْهُمَا كَفَّارَتُهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقِصَاصِ فَالْمَعْنَى فِي الْقِصَاصِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ فَسَقَطَ عَنْهُمَا كَالْحُدُودِ وَالْكَفَّارَةُ، حَقٌّ فِي مَالٍ فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمَا كزكاة الفطر وجزاء الصيد والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يَعْنِي فِي قَوْمٍ فِي دَارِ حَرْبٍ خَاصَّةً وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ قَوَدًا وَلَا دِيَةً إِذَا قتله وهو لا يعرفه مسلماً وذلك أن يغير أو يقتله في سرية أو يلقاه منفرداً بهيئة المشركين وفي دارهم أو نحو ذلك) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامَ الْقَتْلِ فِي ثَلَاثَةٍ أحكام أَوْجَبَ فِيهِمْ دِيَتَيْنِ وَثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 أحدهما: وهو المقدم فِيهَا قَتْلُ الْمُؤْمِنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلا أن يصدقوا} وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ. وَالثَّانِي: قَتْلُ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ الدِّيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَمَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أَعْدَائِكُمْ مُؤْمِنٌ قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَهُمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تَلْزَمُكُمْ فِي قَتْلِهِ. وَلَا يَخْلُو حَالُ قَتْلِهِ فِيهِمْ مِنْ أربعة أقسام: أحدها: أنه يعلم قاتله أن مُسْلِمٌ وَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا} وَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ قَوَدٌ كَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا) وَلِأَنَّهُ عَامِدٌ لِقَتْلِ مُسْلِمٍ مَحْقُونِ الدَّمِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسُ أَنَّ دَارَ الشِّرْكِ لَمْ تُبِحْ دَمَهُ وَأَبَاحَتْ دَمَ الْمُشْرِكِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلَمَ قَاتِلُهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَعْمِدُ قَتْلَهُ وَلَكِنْ يَرْمِي إِلَى دَارِ الْحَرْبِ سَهْمًا مُرْسَلًا فَيَقَعُ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَفِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ هَاجَرَ إِلَيْهَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فِيهَا وَلَا هَاجَرَ إِلَيْهَا، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ، لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الدَّارِ عَلَى الْمُهَاجِرِ وَعَدَمِهَا فِي غَيْرِ الْمُهَاجِرِ وَاسْتَدَلَّا فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ودية مسلمة إلى أهله} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ كَالْمَقْتُولِ فِي دَارِ الإسلام، وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اقْتِصَارُهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ لَذَكَرَهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ قَتْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ، وَلَوْ تَسَاوَيَا لِأَطْلَقَ وَلَمْ يُغَايِرْ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهَا دَارُ إِبَاحَةٍ لَمْ يَعْمِدْ فِيهَا قَتْلَ مُسْلِمٍ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ بِالْقَتْلِ دِيَةً كَمَا لَوْ قُتِلَ غَيْرُ مُسْلِمٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَضْمَنْ دِيَتَهُ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُضْمَنْ، وَإِنْ هَاجَرَ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 كالمشرك وعموم الآية مخصص بما تعقبها وقياسه معارض لقياسنا؛ وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ حَاظِرَةٌ وَدَارَ الْمُشْرِكِ مُبِيحَةٌ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ فِيهِ، إِنْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَدَلِيلُنَا: إِنَّ الْيَمَانَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِدِيَتِهِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ وَلِأَنَّ جَهْلَ الْقَاتِلِ بِأَحْوَالِ الْمَقْتُولِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ ضَمَانِهِ عَنِ الْقَاتِلِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. (فَصْلٌ) وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَعْمِدُ قَتْلَهُ وَيَرْمِي أَهْلَ الدَّارِ بِسَهْمٍ فَاعْتَرَضَ الْمُسْلِمُ السَّهْمَ حَتَّى أَصَابَهُ فَقَتَلَهُ. فَلَا قَوَدَ وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دِيَةَ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَةِ. واعتبار بِالْقِسْمِ الثَّانِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِيهِ الدِّيَةُ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ الْيَمَانِ. وَاعْتِبَارًا بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجَمَعَ فِي قَتْلِهِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْكَافِرُ ذُو الْمِيثَاقِ بِذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ إِذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَفِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَجَمَعَ فِي قَتْلِهِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا جَمَعَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بين الدية الكفارة. وَقَدَّمَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ وَفِي قَتْلِ الْكَافِرِ الدِّيَةَ عَلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ وَالْكَافِرُ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَلْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا عَلَى نسق واحد، لأن لا يَلْحَقُ بِهِمَا، مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ في دار الحرب في قوله: {وإن كان من قوم عدوا لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} فَيَضُمُّ إِلَيْهِ الدِّيَةَ إِلْحَاقًا بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَأَزَالَ هذا الاحتمال بأحد اللفظين. وسواء كان صحاب هَذَا الْمِيثَاقِ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ إِذَا قُتِلَ فِي دار الإسلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِ إِذَا قُتِلَ فِيهَا فِي ضَمَانِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ إِلَّا أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ غَالَطًا بِمِيثَاقِهِ الَّذِي هُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْتِزَامِهِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَالْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ، كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي أَيْمَانِ الرَّقَبَةِ وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا وجبت عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي الْخَطَأِ وَفِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِي العمد أولى (قال المزني) رحمه الله وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً سَوَاءٌ إِلَّا في المأثم فكذلك كفارة القتل أَوْ خَطَأً سَوَاءٌ إِلَّا فِي الْمَأْثَمِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَأَسْقَطَاهَا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ فِي الْقَوَدِ أَوْ لَمْ يَجِبْ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فتحرير رقبة مؤمنة} فَجَعَلَ الْخَطَأَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَوَجَبَتْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْعَمْدِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْعَمْدُ قَوَدٌ) فَجَعْلَ مُوجِبَ الْعَمْدِ اسْتِحْقَاقَ الْقَوَدِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ فَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، كَالْقِصَاصِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ عَلَى بَدَنٍ، وَالْكَفَّارَةَ حَقٌّ فِي مَالٍ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْقَتْلِ الْوَاحِدِ كَالْقِصَاصِ مَعَ الدِّيَةِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَاحِبٍ لَنَا اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: " أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ) وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ إِلَّا فِي الْعَمْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَ الْقَاتِلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِلِ قُلْنَا: الْخِطَابُ وإن توجه إلى السائل بالمراد بِهِ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالْقَتْلِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ مَوْؤُودٍ رَقَبَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَحْفِرُ تَحْتَ الْحَامِلِ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ حُفَيْرَةً يَسْقُطُ فِيهَا وَلَدُهَا إِذَا وَضَعَتْهُ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَخْرَجُوهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي حُفْرَتِهَا وَطُمَّ التُّرَابُ عَلَيْهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَهَذَا قَتْلُ عَمْدٍ، وَقَدْ أُوجِبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٌ فَوَجَبَ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَالْخَطَأِ وَلِأَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِقَتْلِ الْعَمْدِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ مَعَ عَدَمِ الْمَأْثَمِ كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى العامد مع المأثم حق كما قال تعالى: {فمن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فَلَمَّا أُوجِبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُفْطِرِ مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَحَقَّ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْقَتْلُ كَفَّارَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى وُجُوبِهَا لَا تَسْقُطُ بِالْقَوَدِ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَسْقُطْ بِتَأْدِيَةِ حَقِّ الْآدَمِيِّ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَتِ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ نَفْسٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الدِّيَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْكَفَّارَةِ وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا اشْتَرَكُوا فِي الْكَفَّارَةِ كَمَا اشْتَرَكُوا فِي الدِّيَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ عَنِ الشَّافِعِيِّ. قِيلَ: الْحَاكِي لَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ غالطاً، لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنُصُوصُهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ بِخِلَافِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا، وَالْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنَ النَّفْسِ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهَا إِلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ الْقَتْلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ فَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ دَلِيلٌ عَلَى عُثْمَانَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُ الْكَفَّارَةِ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي كُلِّ مَقْتُولٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَلَى الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ. فَقَالَ: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فَقَدَّمَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ، وَشَرَطَ فِيهَا الْإِيمَانَ فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، لِأَنَّهُ شَرَطَ إِيمَانَهَا فِي عِتْقِهَا عَنْ قَتْلِ الْكَافِرِ فَكَانَ إِيمَانُهَا فِي عِتْقِهَا عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَتِهِ عَلَى الْأَبَدِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ، وَكَفَّرَ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 أَحَدُهُمَا: يَعْدِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَأَطْلَقَ ذِكْرَهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ إِطْلَاقُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى تَقَيُّدِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا إِطْعَامَ فِيهَا وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْإِبْدَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ مُطَلَقِهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ إِلَّا فِي الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ، كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الْيَدِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقَيُّدِهَا بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي وَصْفٍ، وَلَمْ يُحْمَلْ إِغْفَالُ ذِكْرِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ ذِكْرِهِمَا فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ على مقيد أَصْلٍ. كَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ حَمَلَنَا إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى تَقَيُّدِهِ بِالْإِيمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي وَصْفٍ. وَلَمْ يُحْمَلْ إِغْفَالُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِأَنَّهُ حَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ فِي أَصْلٍ، والله أعلم بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 (باب لا يرث القاتل) (مِنْ كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرِثُ قَاتِلٌ خَطَأً وَلَا عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْهُمَا مَرْفُوعٌ وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ خَطَأٍ مِنَ الدِّيَةِ وَيَرِثُ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هَلْ رَأَيْتُمْ وَارِثًا يَرِثُ بَعْضَ مَالِ رَجُلٍ دُونَ بَعْضٍ إِمَّا أَنْ يَرِثَ الْكُلَّ أَوْ لَا يَرِثَ شيئا (قال الشافعي) رحمه الله يدخل على محمد بن الحسن أنه يسوي بين المجنون والصبي وبين البالغ الخاطئ في قتل الخطأ ويجعل على عواقلهم الدية ويرفع عنهم المأثم فكيف ورث بعضهم دون بعض وهم سواء في المعنى (قال) ويدخل على أصحابنا ما دخل على محمد بن الحسن وليس في الفرق بين قاتل خطأ لا يرث وقاتل عمد خبر يلزم ولو كان ثابتاً كانت فيه أشبه (قال المزني) رحمه الله المعنى تأويله إذا لم يثبت فرق أنهما سواء في أنهما لا يرثان وقد قطع بهذا المعنى في كتاب قتال أهل البغي فقال إذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل لا يتوارثان لأنهما قاتلان قال وهذا أشبه بمعنى الحديث) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ سَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ أَوْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ إِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ وَيَرِثُ إِنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ وَإِنْ رفع عنه القلم ويرث الخطأ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَرَدَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى مَالِكٍ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ وَارِثًا يَرِثُ بَعْضَ مَالِ رَجُلٍ دُونَ بَعْضٍ؟ إِمَّا أَنْ يَرِثَ الْكُلَّ أَوْ لَا يَرِثَ شَيْئًا، وَهَذَا رَدٌّ صَحِيحٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ وَرَّثَ الْخَاطِئَ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، وَكِلَاهُمَا مَالٌ لِلْمَقْتُولِ يَقْضِي مِنْهُمَا دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ مِنْهُمَا وَصَايَاهُ فَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنِ الْخَاطِئِ وَرِثَ الْكُلَّ وَإِنْ تَحَقَّقَتِ التُّهْمَةُ مُنِعَ الْكُلَّ، وَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْمَالِ فِي الْمِيرَاثِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 فيرث بعض ويمنع بعض كَمَا أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ بِالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ لَمَّا لَحِقَ الزَّوْجَ التُّهْمَةُ فِي مَنَعَهَا مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ غَيْرُ مَتْهُومٍ فِي مَنْعِهَا مِنْهُ. لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ كُلَّ وَارِثٍ، فَلَمْ يَلْحَقِ الزَّوْجَ تُهْمَةٌ فِي مَنْعِهَا مِنْهُ وَقَدْ كَانَ يَقْتَضِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ يُوَرِّثَهَا ثُلُثَيْ مَالِهِ وَلَا يُوَرِّثَهَا مِنَ الثُّلُثِ لِاخْتِصَاصِ التُّهْمَةِ بِالثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى إِبْطَالِ هَذَا التَّبْعِيضِ، وَكَانُوا فِي تَوْرِيثِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْ وَرَّثَهَا مِنْهُمْ وَرَّثَهَا جَمِيعَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْهُومٍ فِي بَعْضِهِ وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْهَا مَنَعَهَا جَمِيعَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا فِي بَعْضِهِ فَبَطَلَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبْعِيضُ الْمَالِ لِمِيرَاثِ الْخَاطِئِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَدَّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَوْرِيثِ مَنْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ دُونَ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ قَدْ شَارَكَا الْخَاطِئَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَشَارَكَهُمَا الْخَاطِئُ فِي ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ فَصَارُوا جَمِيعًا سَوَاءً فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ، فَهَلَّا صَارُوا سَوَاءً فِي الْمِيرَاثِ فِي أَنْ يَرِثُوا أَوْ لَا يَرِثُوا؟ وَكَيْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِهِ وَهَذَا التَّكَافُؤُ فِي الِاعْتِرَاضِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْمَذْهَبَيْنِ وَيَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ كُلِّ قَاتِلٍ مِنَ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ. وَقَالَ لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا مِيرَاثَ لِكُلِّ قَاتِلٍ فَكُلُّ قَاتِلٍ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي ضَمَانِ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ بِحَالٍ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقَتْلِ إِذَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِحَقٍّ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا كَالْمُقْتَضَى مِنْهُ قَوَدًا فَلَا مِيرَاثَ لَهُ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْعَفْوِ إِلَى الْقِصَاصِ رَغْبَةً فِي الْمِيرَاثِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا كَالْحَاكِمِ إِذَا قَتَلَ فِي زنا أو في قصاص استوفاه لخصم فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَرِثُ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ فَمَنَعَتْهُ التُّهْمَةُ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ فَفِي مِيرَاثِهِ لَهُمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَرِثُهُمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي إِقْرَارِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَالْأَكْثَرِينَ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَرِثُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 (باب الشهادة على الجناية) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ وَالْحُدُودِ سِوَى الزِّنَا إِلَّا عَدْلَانِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ: مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهَا كِتَابُ الشَّهَادَاتِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْجِنَايَاتِ. وَالْجِنَايَاتُ ضَرْبَانِ: عَمْدٌ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَخَطَأٌ يُوجِبُ الْمَالَ، فَأَمَّا الْعَمْدُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ - ولا يثبت بشاهد وامرأتان، كالحدود وسواء كان في نفس وفيما دُونَ النَّفْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يُقْبَلُ فِي النَّفْسِ إِلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ كَالزِّنَا لِأَنَّهَا إِمَاتَةُ نَفْسٍ، وَيُقْبَلُ فِيمَا دُونَهَا شَاهِدَانِ كَالْحُدُودِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْبَلُ فِيمَا قَلَّ مَنِ الْجِرَاحِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا كَثُرَ إِلَّا شَاهِدَانِ لِخِفَّةِ الْقَلِيلِ وَتَغْلِيظِ الْكَثِيرِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى ثَلَاثِ شَهَادَاتٍ خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَجَعَلَهَا أُصُولًا لِمَا أَغْفَلَهُ لِيَكُونَ الْمُغْفَلُ فَرْعًا مُلْحَقًا بِأَصْلِهِ فِيهَا فَنَصَّ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي الزِّنَا وَنَصَّ عَلَى شَاهِدَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَنَصَّ عَلَى شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَأَغْفَلَ الشَّهَادَةَ فِي الْجِنَايَاتِ فَصَارَتْ فَرْعًا لِأَحَدِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، لِوُجُوبِ تَسَاوِيهِمَا كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ الزِّنَا فِي مَا أوجب الرحم وَمَا أَوْجَبَ الْجَلْدَ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْحَسَنِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهَا فِيمَا كَثُرَ لَمْ تُحْمَلْ عَلَيْهَا فِيمَا قَلَّ، لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ فيما قل وكثر فبطل هذا قَوْلُ مَالِكٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الشَّاهِدَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ فِيمَا كَثُرَ وقل والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقْبَلُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَيَمِينٌ وَشَاهِدٌ فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِثْلَ الْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ مَنْ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْتُوهٍ وَصَبِيٍّ وَمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ وَحُرٍّ عَلَى عَبْدٍ وَأَبٍ عَلَى ابْنٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ كُلُّ جِنَايَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهَا وَأَوْجَبَتِ الدِّيَةَ قبل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ، كَالْأَمْوَالِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَالَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: الْخَطَأُ الْمَحْضُ مِمَّنْ كَانَ وَعَلَى مَنْ كَانَ. وَالثَّانِي: عَمْدُ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ إِلَّا فِي تَقْسِيطِ الدِّيَةِ فِيهِ وَتَخْفِيفِهَا. وَالثَّالِثُ: الْعَمْدُ الَّذِي يَسْقُطُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: أحدهما: مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْجَانِي، كَجِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَجِنَايَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ. وَالثَّانِي: مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَجِنَايَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى كَافِرٍ، وَجِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى عَبْدٍ. وَالثَّالِثُ: مَا سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْجِنَايَةِ كَالْجَائِفَةِ فَيُقْبَلُ فِي جَمِيعِ هَذَا كُلِّهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ جُرْحٍ، فَإِنْ صَارَتِ الْجَائِفَةُ نَفَسًا لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إِلَّا شَاهِدَانِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَقَالَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ: لَسْتُ أَقْتَصُّ فَاسْمَعُوا مني شاهداً وامرأتين، ولم يُقْبَلْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَسْتُ أَقْتَصُّ مَوْعِدٌ بِالْعَفْوِ وَلَيْسَ بِعَفْوٍ وَإِنْ قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْقِصَاصِ فَاسْمَعُوا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنَ بَعْدَ عَفْوِهِ، قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقِصَاصِ. وَقَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا أَقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْعَفْوِ إِلَّا شَاهِدَيْنِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ نَوْعٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ عَفْوٌ مِنْهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْقِصَاصِ وَكِلَا التَّعْلِيلَيْنِ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْعَفْوَ يُخْرِجُهُ مِنْ نَوْعِ الْقِصَاصِ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ، وَالْعَفْوُ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ عَفْوٌ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ لَا بِالْبَيِّنَةِ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ الثَّانِي. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ هَاشِمَةً أَوْ مَأْمُومَةً لَمْ أَقْبَلْ أَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ الَّذِي شُجَّ إِنْ أَرَادَ أَنْ آخُذَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مُوضِحَةٍ فَعَلْتُ لِأَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَزِيَادَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ فَيُقْبَلُ فِيهِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ، وَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 إِذَا كَانَتْ عَمْدًا إِلَّا شَاهِدَانِ، لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَقَامَ فِي عَمْدِهَا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا، هَلَّا حَكَمْتُمْ لَهُ بِالدِّيَةِ وَأَسْقَطْتُمُ الْقَوَدَ؟ كَالسَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ حُكِمَ فِيهَا بِالْقَطْعِ وَالْغُرْمِ وَإِنْ شَهِدَ بِهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أُسْقِطَ الْقَطْعُ وَحُكِمَ بِالْغُرْمِ، [قِيلَ لَا] لِفَرْقٍ مَنَعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْغُرْمَ وَالْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقَّانِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّهَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا مِنَ الْآخَرِ، فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحُكْمِهِ وَالْقِصَاصُ وَالْأَرْشُ فِي الْمُوضِحَةِ حَقٌّ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بدلا مِنَ الْآخَرِ فَشَارَكَهُ فِي حُكْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتَ أَحَدُهُمَا مَعَ انْتِفَاءِ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْمَأْمُومَةِ فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الشِّجَاجُ بَيْنَ مَا فِيهِ قِصَاصٌ وَهُوَ الْإِيضَاحُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ، وَهُوَ الْهَشْمُ وَالتَّنْقِيلُ فَفِيهَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ عَمْدًا إِلَّا شَاهِدَانِ، لِأَنَّ فِيهَا إِيضَاحًا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ طَلَبَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، إِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ ذَلِكَ فِيهِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْإِيضَاحِ لَمْ يَمْتَنِعْ قَوْلُهُ فِيهِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِيضَاحِ وَصَارَ الْإِيضَاحُ مُلْحَقًا بِهِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِمُشَارَكَتِهِ له. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ وَقَفْتُهُمَا فَإِنْ قَالَا فَأَنْهَرَ دَمَهُ وَمَاتَ مَكَانَهُ قَبِلْتُهُمَا وَجَعَلْتُهُ قَاتِلًا وَإِنْ قَالَا لَا نَدْرِي أَنْهَرَ دَمُهُ أَمْ لَا بَلْ رَأَيْنَاهُ سَائِلًا لَمْ أَجْعَلْهُ جَارِحًا حَتَّى يَقُولَا أَوْضَحَهُ هَذِهِ الْمُوضِحَةَ بِعَيْنِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الشُّهُودِ، فَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لَا احْتِمَالَ فِيهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَإِذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ: رَأَيْنَاهُ قَدْ طَلَبَهُ بِسَيْفٍ وَغَابَا عَنَّا ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قَتِيلًا، أَوْ جَرِيحًا، لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَهُ أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ وَهَكَذَا لَوْ قَالَا: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَقَدْ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ ثُمَّ غَابَا وَوَجَدْنَاهُ قَتِيلًا أَوْ جَرِيحًا لَمْ تُقْبَلْ لِجَوَازِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَتْلِ غَيْرِهِ أَوْ جِرَاحَةِ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَا رَأَيْنَاهُ وَقَدْ ضَرَبَهُ بسيفه فأنهر دمه ومات مكانه قبلت هذا الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ أَنَّهُ مِنْ إِنْهَارِ دَمِهِ فَإِنِ ادَّعَى الْجَارِحُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَعَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ عُقَيْبَ جِرَاحَتِهِ وَلَا يَحْلِفُ وَلَيُّهُ، وَإِنْ قَالَا أَنْهَرَ دَمَهُ وَلَمْ يَشْهَدَا بِمَوْتِهِ نُظِرَ فِي مَوْتِهِ فَإِنْ بَعُدَ زَمَانٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْدَمِلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 فِيهِ الْجِرَاحَةُ حُكِمَ عَلَى الْجَارِحِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ أَنَّهُ مِنْهَا فَإِنِ ادَّعَى الْجَارِحُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِهَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَيَحْلِفُ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنَ الْجِرَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَهَا بِزَمَانٍ يَجُوزُ أَنْ تَنْدَمِلَ فِيهِ الْجِرَاحَةُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجِرَاحَةِ وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ حَتَّى يُقِيمَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ضِمْنًا مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالْقَتْلِ. فَإِنِ ادَّعَى مَوْتَهُ مِنْ غَيْرِهِ أُحْلِفَ وَلِيُّهُ لَقَدْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ وَلَمْ يَشْهَدَا أَنَّهُ أَنْهَرَ دَمَهُ لَمْ يَكُنْ جَارِحًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَضْرُوبٍ بِسَيْفٍ يَنْجَرِحُ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَا ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَسَالَ دَمُهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَسِيلَ مِنْ فَتْحِ عِرْقٍ أَوْ رُعَافٍ وَلَوْ قَالَا: ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَأَسَالَ دَمَهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتَهُمَا، لِأَنَّهُمَا أَضَافَا سَيَلَانَ الدَّمِ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ، فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوضِحَةَ حُكِمَ فِيهَا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَاهَا نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ غَيْرُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَتْ هِيَ الْمَشْهُودَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ حُكِمَ فِيهَا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ مَوَاضِحُ جَمَاعَةٍ حُكِمَ فِيهَا بِالدِّيَةِ وَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالْقِصَاصِ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مُوضِحَةٍ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الرَّأْسِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّعْيِينِ وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَوْضِعِ مِنَ الرَّأْسِ وَقَدْرِهَا فِي الطُّولِ والعرض. وهكذا لو شهد أَنَّهُ قُطِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، وَلَمْ يُعَيِّنَاهَا فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ بَاقِيَةً وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الدَّامِيَةِ أَوِ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِبَقَاءِ الْأُخْرَى مُعَيَّنَةً فِي الدَّامِيَةِ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مُسْتَحَقَّهُ فِي يُمْنَى أَوْ يُسْرَى وَحُكِمَ لَهُ بِالدِّيَةِ لِاسْتِوَائِهَا فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا سِوَاهُ والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ وَشَهِدَ الْآخَرَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا وَلِيُّ الدَّمِ مَعًا أُبْطِلَتِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ صَدَّقَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا أَوَّلًا قَبِلْتُ شَهَادَتَهُمَا وَجَعَلْتُ الْآخَرَيْنِ دَافِعَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنْ صَدَّقَ اللَّذَيْنِ شَهِدَا آخِرًا أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِمَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي سَمَاعِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ قَبْلَ دَعْوَى الْوَلِيِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ سَمَاعِهَا قَبْلَ الدَّعْوَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ طِفْلًا، أَوْ غَائِبًا، وَلَا يَجُوزُ سَمَاعُهَا إِذَا كَانَ بَالِغًا، حاضراً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى، إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَلِيُّ شُهُودَهُ وَلَا تُسْمَعُ إِذَا عَرَفَهُمْ بَعْدَ الدَّعْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْجُمْهُورِ إِنَّهَا تُسْمَعُ قَبْلَ الدَّعْوَى فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، وَلَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ، إِلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَغْلِيظِ الدِّمَاءِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَقْتُولِ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ فَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي سَمَاعِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ دَعْوَى أَوْلِيَائِهِ وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَسْمَعَهَا فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، وَلَا يَسْمَعَهَا فِي دُيُونِ الْحَيِّ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ لَا يَسْمَعُهَا فِي دُيُونِ حَيٍّ، وَلَا مَيِّتٍ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُتَأَوَّلُ، اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ) ، إِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يُشْهَدُ فِيهِ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " شَرُّ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ) مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَا يُشْهَدُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا زَيْدًا، وَشَهِدَ الرجلين الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا أَنِّ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ قتلا زيداً، فللولي حالتان: أحدهما: أَنْ تَصِحَّ مِنْهُ الدَّعْوَى. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَصِحَّ مِنْهُ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْهُ الدَّعْوَى لِبُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ، سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَمَّا يَدَّعِيهِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ يُعَيِّنُهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ فِي ذلك على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يدعيه على الآخرين الذين شهد عليهما الأولاد فَتَكُونُ شَهَادَةُ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِمَا مَاضِيَةً وَيُحْكَمُ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْآخِرَيْنِ بِالْقَتْلِ لِسَلَامَةِ الْأَوَّلَيْنِ عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا وَتُهْمَةِ الْآخَرَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِالدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَعِيدَ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بَعْدَ الدَّعْوَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لا يستعيدها، ويحكم بما تقدم من شاهدتهما، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَعِيدُ بِهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ اسْتِعَادَتُهُمَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ سَابِقًا لِلدَّعْوَى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الْآخِرَيْنَ: فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا عَدُوَّيْنِ لَهُمَا، وَمُتَّهَمَيْنِ فِي شَهَادَتِهِمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِي قَتْلَهُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فَتَبْطُلُ الشَّهَادَتَانِ لِإِكْذَابِهِ لَهُمَا، وَإِقْرَارِهِ بِفِسْقِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الدَّعْوَى لِصِغَرِهِ، أَوْ جُنُونِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقْضِي الْحَاكِمُ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ أَوْ يُوقِفُهَا عَلَى بُلُوغِ الْوَلِيِّ وَعَقْلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَقْضِي بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ وَيَقْضِي عَلَى الْآخَرَيْنِ بِالْقَتْلِ بِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقِفُ الشَّهَادَةَ، وَلَا يَبُتُّ الْحُكْمَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَيَعْمَلَ عَلَى مَا بَيَّنَهُ وَادَّعَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِتَرَدُّدِ الشَّهَادَةِ بَيْنَ إِيجَابٍ وَإِسْقَاطٍ فَلَمْ يُحْكَمْ بِأَحَدِهِمَا مَعَ احْتِمَالِهِمَا فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَتْ شَهَادَةُ بَعْضٍ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَكِلْتَا الشَّهَادَتَيْنِ بَاطِلَةٌ لَا يُحْكَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا يُرْجَعُ فِيهِمَا إِلَى دَعْوَى الْوَلِيِّ، لِتَعَارُضِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي التَّدَافُعِ بهما والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَالْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ وَلَمْ يَقُلْ خَطَأً وَلَا عَمْدًا جَعَلْتُهُ قَاتِلًا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ قَالَ خَطَأً أُحْلِفَ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَكَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى إِقْرَارِ رَجُلٍ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً فَقَدْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِصِفَةِ الْقَتْلِ، فَيُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو فِيهَا مِنْ ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَقُولَ قَتَلْتُهُ عَمْدًا، فَيُقْتَصُّ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ الْآنِفِ لَا بِالشَّهَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ، كَانَتْ حَالَةً مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ قَتَلَتُهُ خَطَأً فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ لِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الشَّهَادَةَ بِالْعَمْدِ وَلَكِنْ يَكُونُ هَذَا لَوْثًا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ اللَّوْثُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنْ أَقْسَمَ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَبِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ حَالَّةً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، وَإِنْ لَمْ يُقْسِمْ، أُحْلِفَ الْمُقِرُّ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَزِمَتْهُ دِيَةُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً يُؤَدِّيهَا مِنْ مَالِهِ، فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا تَحْمِلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهَا دِيَةُ اعْتِرَافٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْبَيَانِ، فَيَصِيرُ كَالنَّاكِلِ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَلِيِّ فَإِنْ حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْقَوَدِ بِيَمِينِهِ لَا بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ نَكَلَ حُكِمَ لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ بِالشَّهَادَةِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً، سُئِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صِفَةِ الْقَتْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَاخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُمَا لم تكن فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ تَعَارُضٌ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا شَهِدَا بِهِ مِنْ صِفَةِ الْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا حُكِمَ فِيهِ بِالْقَوَدِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً حُكْمِ فِيهِ بِدِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ فَهُوَ تَعَارُضٌ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَبِاللَّهِ التوفيق. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ غُدْوَةً وَقَالَ الْآخَرُ عَشِيَّةً أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بِسَيْفٍ وَالْآخَرُ بِعَصًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِصَاحِبِهِ وَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَعَارَضَ الشَّاهِدَانِ فَأَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا نَفَاهُ الْآخَرُ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ غُدْوَةً أَوْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلَهُ عَشِيَّةً أَوْ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ، وَقَالَ الْآخَرُ بِعَصًا. أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ بِالْكُوفَةِ فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ فَقَدْ تَعَارَضَا فِي صِفَتِهِ فَصَارَا مُتَكَاذِبَيْنِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ غُدْوَةً، غَيْرُ قَتْلِهِ عَشِيَّةً، وَقَتْلَهَ بِسَيْفٍ غَيْرُ قَتْلِهِ بِعَصًا، فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أُعَزِّرُ الشَّاهِدَيْنِ وَأَحْكُمُ بِفِسْقِهِمَا لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى كَذِبٍ مُسْتَحِيلٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِمَا وَلَا تَفْسِيقَ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمَا، فَيَخْرُجَانِ بِالشُّبْهَةِ عَنِ الفسق، والكذب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 وَالثَّانِي: إِنَّ كَذِبَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ صِدْقَ الْآخَرِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَرْدُودَةٌ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ هاهنا، " وَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ) ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ - فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق المروزي أن الصحيح ما نقله المزني هاهنا، أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَيَكُونُ الرَّبِيعُ سَاهِيًا فِي زِيَادَةِ لَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ الصَّحِيحَ، مَا نَقَلَهُ الرَّبِيعُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ سَاهِيًا فِي حَذْفِ لَا لِأَنَّ تَكَاذُبَهُمَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ كِلَا النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ وَإِنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِثْلَ تَكَاذُبِ الْوَلِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ. وَالثَّانِي: لَا يُوجِبُهَا. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَقَرَّ عِنْدِي [أَنَّهُ قَتَلَهُ غُدْوَةً. وَيَقُولُ الْآخَرُ] أَنَّهُ قَتَلَهُ عَشِيَّةً أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ، وَيَقُولُ الْآخَرُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِعَصًا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْكُوفَةِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَإِنَّمَا التَّعَارُضُ مِنَ الْمُقِرِّ بِالْقَتْلِ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ أَقَدْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَطَأً لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، وَلَزِمَتْهُ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةً فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ، صَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ أَقَدْنَاهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْخَطَأِ أَحْلَفْنَاهُ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيَانِ جَعَلْنَاهُ نَاكِلًا، وَأَحْلَفْنَا وَلِيَّ الدَّمِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعَمْدِ، فَإِنْ نَكَلَ حَكَمْنَا لَهُ بِدِيَةِ الْخَطَأِ فِي مَالِهِ دُونَ عاقلته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُخَالِفٌ لِلْفِعْلِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقَامَ وَلِيُّ الدَّمِ شَاهِدَيْنِ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ، فَقَالَ رَأَيْتُهُ قَتْلَهُ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ، قَالَ: أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قتله لم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 تَتَعَارَضْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ مِنْهُمَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَتْلِ، غَيْرُ الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ، وَلَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى الْإِقْرَارِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، لَكِنْ يَكُونُ هَذَا لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مُقَوِّيَةٌ لِلْأُخْرَى غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَتْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْقَسَامَةِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَتِمُّ الْبَيِّنَةُ فِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيُقَالُ لِوَلِيِّ الدَّمِ احْلِفْ مَعَ أَيِّ الشَّاهِدَيْنِ شِئْتَ يَمِينًا وَاحِدَةً تُكْمِلُ بِهَا بَيِّنَتَكَ وَيُقْضَى لَكَ فِيهَا بِدِيَةِ الْخَطَأِ. وَيُنْظَرُ فإن حلف من الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوْدِ كَقَتْلِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَالْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ وَيَصِيرُ كَالْخَطَأِ فِي أَنْ لَا يُحْكَمَ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ لِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ مَعَ يَمِينِ الْوَلِيِّ مَعَ أَيِّ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيُحْكَمُ لَهُ بِدِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ الْفِعْلَ أَوْ مَعَ شَاهِدِ الْإِقْرَارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْعَمْدِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقَوْدِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِيرُ لَوْثًا فَيَحْلِفُ الْوَلِيُّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيُحْكَمُ لَهُ بِالْقَوَدِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَبِدِيَةِ الْعَمْدِ حَالَّةً عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَاللَّهُ تعالى أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد أنه ضربه ملففا فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنَا أَنَّهُ كَانَ حَيًّا لَمْ أَجْعَلْهُ قَاتِلًا وَأَحْلَفْتُهُ مَا ضَرَبَهُ حَيًّا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ فَغَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ إِمَاتَةُ الْحَيَاةِ فَدَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْقَتْلِ فَأَمَّا إِذَا شَهِدَا أَنَّهُ قُطِعَ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ بِاثْنَيْنِ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْقَطْعِ حَيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَيُسْأَلُ الشَّاهِدَانِ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ حَالِ الْمَلْفُوفِ، ولهما فيه ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَشْهَدَا بِحَيَاتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ، أَوْ بِمُشَاهَدَةِ حَرَكَتِهِ أَوْ بِاخْتِلَاجِهِ بَعْدَ قَطْعِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِالْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِجُ بَعْدَ الْقَطْعِ إِلَّا حَيٌّ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِسَيَلَانِ دَمِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةً بِحَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ دَمُ الْمَيِّتِ جَامِدًا؛ لِأَنَّ جُمُودَ دَمِهِ يَكُونُ بَعْدَ فُتُورِ حَرَارَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِوَقْتِهِ قَبْلَ فُتُورِ حَرَارَتِهِ وَجُمُودِ دَمِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الْحَيَاةُ. وَالْحَالُ الثانية: أن يشهدا موته عند قطعه، فيصير شَاهِدَيْنِ بِنَفْيِ الْحَيَاةِ، وَإِثْبَاتِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 الْمَوْتِ فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ غَيْرِهِمَا بِحَيَاتِهِ، وَيَنْتَفِي عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا عَلَى قَطْعِ ميت لانتهاك حرمته. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْهَلَا حَالَهُ عِنْدَ قَطْعِهِ، فَلَا يَشْهَدَا بِحَيَاتِهِ وَلَا مَوْتِهِ، فَإِنْ تَصَادَقَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ عُمِلَ عَلَى تُصَادُقِهِمَا، وَإِنْ تَنَازَعَا فَقَالَ الْمُدَّعِي كَانَ حَيًّا، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ مَيِّتًا كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِحَيَاتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ حُكِمَ بِهَا، وَأُجْرِيَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِمَوْتِهِ عِنْدَ قَطْعِهِ حُكِمَ بِهَا وَبَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ. وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالْحَيَاةِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِالْمَوْتِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِبَيِّنَةِ الْمَوْتِ، لِأَنَّهَا أَزْيَدُ عِلْمًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا تَقْطَعُ بِإِثْبَاتِ مَا نَفَتْهُ الْأُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ فِي إِحْدَاهُمَا مَعَ الْقَطْعِ بِالشَّهَادَةِ زِيَادَةُ عِلْمٍ، فَأَمَّا إِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا عِنْدَ قَطْعِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ قَتْلِهِ إِنْ حَلَفَ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَمَا لَوِ ادَّعَى الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ جِرَاحَتِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِرَاحَتِهِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي دُونَ الْوَلِيِّ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَتَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ. وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا عِنْدَ قَطْعِهِ وَيُؤْخَذُ الْقَاطِعُ بِحُكْمِ قَطْعِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يُعْلَمَ زَوَالُهَا عِنْدَ الْقَطْعِ، وَالْيَقِينُ، وَالشَّكُّ إِذَا تَعَارَضَا سَقَطَ حُكْمُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ، كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ، أَوْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَعْوَى الْمَوْتِ وَدَعْوَى السِّرَايَةِ أَنَّ الْوَلِيَّ مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى السِّرَايَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قوله فيها، والجانب هاهنا مُسْتَأْنِفٌ لِدَعْوَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهَا والله أعلم بالصواب. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَفَا الْقَوَدَ وَالْمَالَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوَدِ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ وَأُحْلِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَا عَفَا الْمَالَ وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ حَلَفَ الْقَاتِلُ مَعَ شَهَادَتِهِ لَقَدْ عَفَا عَنْهُ الْقِصَاصَ وَالْمَالَ وَبَرِئَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدِّيَةِ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي قَتْلِ عَمْدٍ تَرَكَ ابْنَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخِيهِ بِالْعَفْوِ فَلَا تَخْلُو شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ وَحْدَهُ، فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ، لَا بِحُكْمِ الشَّهَادَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهَا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى أَخِيهِ بِالْعَفْوِ مُقِرٌّ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْقَوَدَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَعَفْوُ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْهُ مُوجِبٌ لِسُقُوطِهِ فِي حُقُوقِ جَمِيعِهِمْ، وَإِذَا سَقَطَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي نَفْيِهِ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقُضِيَ لَهُمَا بِدِيَةِ الْعَمْدِ عَلَى سِوَاهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، فَيُنْظَرُ حَالُ الشَّاهِدِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ بِجُرْحِهِ رُدَّ قَوْلُهُ، وَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ فِي شَهَادَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ، لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَا يَشْهَدُ، وَالْإِقْرَارَ لَا يُؤَثِّرُ، وَكَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِعَدَالَتِهِ لَمْ تُؤَثِّرْ بِشَهَادَتِهِ فِي الْقَوَدِ، لِأَنَّهُ مَا شَهِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَكَانَ أَخُوهُ عَلَى حَقِّهِ مِنْهُ وَهَلْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْعَفْوِ عَنِ الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَالَّذِي يَجِبُ بِهِ عَلَى قولين: أحدهما: أنه موجب لأحد أمرين من الْقَوَدِ، أَوِ الدِّيَةِ، فَعَلَى هَذَا تُؤَثِّرُ شَهَادَةُ الْأَخِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الدِّيَةِ، إِذَا حَلَفَ مَعَهُ الْقَاتِلُ لَقَدْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَالِ يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنَ الدِّيَةِ وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْقَوَدِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ، أَوْ إِسْقَاطِهِ مِنْ غَيْرِ دِيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ وَحْدَهُ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَا تَجِبُ إِلَّا بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ فَعَلَى هَذَا لَا تُؤَثِّرُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ حَلَفَ مَعَهَا الْقَاتِلُ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الدِّيَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا، وَيَكُونُ الْأَخُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ لَا اخْتِيَارَ الدِّيَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا، فَالْقَوَدُ قَدْ سَقَطَ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَوْ لَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، فَأَمَّا الدِّيَةُ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الشَّاهِدِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً، وَحَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَذْكُرَ فِي يَمِينِهِ وَمَا عَفَا عَنِ الْقَوَدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَبْرَأَتْ شَهَادَتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا حَلَفَ مَعَهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 الْقَاتِلُ عَلَى الْعَفْوِ، وَكَانَتْ بَيِّنَةً تَامَّةً فِي الإبراء. وفي صفة يمين القاتل هاهنا مَعَ شَاهِدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَقَالَهُ أَبُو إِسْحَاقُ الْمَرْوَزِيُّ يَحْلِفُ لَقَدْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ، لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِإِقْرَارِ الْأَخِ دُونَ شَهَادَتِهِ، وَكَمَا يَحْلِفُ الْأَخُ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ أَخِيهِ أَنَّهُ مَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَوَدَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّهُ يَحْلِفُ الْقَاتِلُ مَعَ شَاهِدِهِ لَقَدْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ فَكَانَتْ عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَخَالَفَتْ يَمِينَ الْأَخِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِإِثْبَاتِ الْمُسْتَحِقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ وَارِثٌ أَنَّهُ جَرَحَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ أَقْبَلْ لِأَنَّ الْجُرْحَ قَدْ يَكُونُ نَفْسًا فَيَسْتَوْجِبُ بِشَهَادَتِهِ الدِّيَةَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدٍ جَرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ دَفَعَ بِهَا ضَرَرًا، كَانَتْ شهادته مردودة فإذا شهد وارثا المجروح وهم أَخَوَاهُ، أَوْ عَمَّاهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ لَمْ تَخْلُ حَالُ الشَّهَادَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا، سَوَاءٌ أَوَجَبَتِ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ فَلَا تُقْبَلُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا قَدْ تَسْرِي إِلَى نَفْسِهِ فَيَمُوتُ مِنْهَا وَيَصِيرَا الْمُسْتَحِقَّيْنِ لَهَا، فَيَصِيرَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَجْرُوحَ مَعَ بَقَاءِ الْجِرَاحِ مُتَّهَمٌ. وَلِوَرَثَةِ الْمَرِيضِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِي مَالٍ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ كَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَضِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يَسْرِي مِثْلُهُ إِلَى النَّفْسِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لَهُ وَارِثَاهُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ كَانَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي الدَّيْنِ كَمَا لَا تُقْبَلُ فِي الْجُرْحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ إِنَّهَا تُقْبَلُ فِي الدَّيْنِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 فِي الْجِرَاحِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ الدَّيْنَ يَمْلِكُهُ الْمَوْرُوثُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الْوَارِثِ وَالدِّيَةَ يَمْلِكُهَا الْوَارِثُ عَنِ الْجَانِي فَصَارَ فِي الْجِنَايَةِ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَفِي الدَّيْنِ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ فَأُمْضِيَتِ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ السَّارِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجُرْحِ مِنْ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ، أَوْ يَنْدَمِلَ، فَإِنْ سَرَى إِلَى النَّفْسِ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنِ انْدَمَلَ لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّهَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي الْحُكْمِ بِهَا إِنِ اسْتَأْنَفَاهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ لِزَوَالِ مَا مَنَعَ مِنْ رَدِّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِلْحُكْمِ بِرَدِّهَا في الشهادة الأول كَالْفَاسِقِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ إِذَا ادَّعَاهَا بَعْدَ عَدَالَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ شَهِدَ وَلَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ قَبِلْتُهُ فَإِنْ لَمْ أَحْكُمْ حَتَّى صَارَ وَارِثًا طَرَحْتُهُ وَلَوْ كُنْتُ حَكَمْتُ ثُمَّ مَاتَ مَنْ يَحْجُبُهُ وَرَّثْتُهُ لِأَنَّهَا مَضَتْ فِي حِينٍ لَا يَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي الْجِرَاحِ اعْتُبِرَتْ بِكَوْنِهِمَا وَارِثَيْنِ عِنْدَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا لِأَنَّهُمَا بِحَالِ التُّهْمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَاخْتَلَفَ حَالُهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا فَلَهُمَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ ثُمَّ يَمُوتُ مَنْ يَحْجُبُهُمَا فَيَصِيرَا وَارِثَيْنِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يصيرا الشاهدين وَارِثَيْنِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا، فَشَهَادَتُهُمَا مَرْدُودَةٌ لِحُدُوثِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى فَسَقَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْعَدَالَةِ، لِحُدُوثِ الْفِسْقِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَصِيرَا وَارِثَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا فَهِيَ مَاضِيَةٌ لَا تَنْقَضِي بِحُدُوثٍ مَا تَجَدَّدَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا، كَمَا لَوْ حُكِمَ بشهادة العدلين ثم فسقا لم ينقضي الْحُكْمُ بِحُدُوثِ فِسْقِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَا وَارِثَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ وَيَحْدُثُ مَنْ يَحْجُبُهُمَا فَيَصِيرَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ بَعْدَهَا، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَهَادَتِهِمَا لِاقْتِرَانِ التُّهْمَةِ بِهِمَا فَإِنِ اسْتَأْنَفَاهَا بَعْدَ أَنْ صَارَا غَيْرَ وَارِثَيْنِ فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعَادَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ مِنْ عَاقِلَتِهِ بِالْجُرْحِ لَمْ أَقْبَلْ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ فِي وَقْتِ الْعَقْلِ فَيَكُونُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ مَا يَلْزَمُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجَازَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذَا كَانَ مِنْ عَاقِلَتِهِ فِي قُرْبِ النَّسَبِ مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ حَتَّى لَا يَخْلُصَ إِلَيْهِ الْغُرْمُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِجُرْحِهِمَا، فَالْقَتْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ ضَرْبَانِ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجُرْحِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهُ حُكْمٌ فَلَمْ يُتَّهَمُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْجُرْحِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْفَعُونَ بِهَا ضَرَرًا وَلَا يَجُرُّونَ بِهَا نَفْعًا وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي جُرْحِ الشُّهُودِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ فَلَمْ يُتَّهَمُوا فِي شَهَادَةِ الْجُرْحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي الْجُرْحِ لِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا شَهِدُوا بِجُرْحِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، دَفَعُوا بِهَا تَحْمِلُ الدِّيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْقَاتِلِ بِجُرْحِهِمْ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ لِدَفْعِهِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، كَذَلِكَ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِالْجُرْحِ فَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِوَصْفِ مَنْ يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ لِوُجُودِ شَرْطَيْنِ: قُرْبُ النَّسَبِ، وَوُجُودُ الْغِنَى فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَرْدُودُ شَهَادَتُهُمْ بِالْجُرْحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِوَصْفِ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ وَهُمْ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرٍ. وَالثَّانِي: مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ نَسَبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِالْجُرْحِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالْجُرْحِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنْ حَمَلُوا ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِقُرْبِ نَسَبِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي بُعْدِ النَّسَبِ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا بِوَصْفِ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ بِالْجُرْحِ تُهْمَةٌ يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا. وَالْقَوْلُ الثاني: أنه من لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ وَلِفَقْرِهِ وَلَا شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَا عِنْدَ الْحَوْلِ مِمَّنْ يَتَحَمَّلُهَا لِاسْتِغْنَاءِ الْفَقِيرِ وَمَوْتِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذِي النَّسَبِ الْبَعِيدِ فَيَصِيرَا دَافِعَيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِشَهَادَتِهِمَا فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَالْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِفَقْرِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا يَتَحَمَّلُهَا لِبُعْدِ نَسَبِهِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ الْفَقِيرَ مَعْدُودٌ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ، لِقُرْبِ نَسَبِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عِنْدَ الْحَوْلِ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ وَالْبَعِيدُ النَّسَبِ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْعَقْلَ عِنْدَ الْحَوْلِ، وَبِمَوْتِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ فَافْتَرَقَ مَعْنَاهُمَا فَكَذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي الشَّهَادَةِ وَجَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَ مَعْنَاهُمَا وَلِذَلِكَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِذَا كَانَ الْقَوَدُ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَلِيُّ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِقَتْلِهِ فَيَكُونُ لَهُ قَتْلُهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَأَعَادَهَا الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، ثُمَّ كَرَّرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْقَسَامَةِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا مَعَ تَقَدُّمِ اسْتِيفَائِهَا وَالْوَكَالَةُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ فَتَصِحُّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ فِي إِثْبَاتِ حَقٍّ وَمَنَعَ مِنْهَا أَبُو يُوسُفَ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَإِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِقُصُورِ تَصَرُّفِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَكَالَةُ مِنْ تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ وَجَوَّزَ لَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الِاسْتِيفَاءَ، لِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ كَمَا جَوَّزَ لَهُ بِمُطْلَقِهَا فِي الْمَبِيعِ قَبْضَ الثَّمَنَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنِ اقْتَصَّ الْوَكِيلُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَوَازُ الْوَكَالَةِ وَظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ بُطْلَانُهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَقَدْ شَرَحْنَا كِلَا الطَّرِيقَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا تَصِحُّ مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنَ الْقِصَاصِ، فَإِنِ اقْتَصَّ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ مَعَ فَسَادِ عَقْدِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ عُقِدَتِ الْوَكَالَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ صَحَّتْ وَإِنْ عُقِدَتْ قَبْلَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فَفِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ لِعَقْدِهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ الْوَكَالَةُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَتْلِ فَصَارَتِ الْوَكَالَةُ مَعْقُودَةً بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَكَذَا لَوْ جُمِعَ لَهُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بَيْنَ تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ، وَبَيْنَ اسْتِيفَائِهِ، صَحَّتٍ الْوَكَالَةُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَفِي صحتها في استيفائه وجهان. فإذا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَهَلْ يَلْزَمُ إِحْضَارُ الْمُوكَلِ إِلَى حَيْثُ يَعْلَمُ الْوَكِيلُ أَوِ الْحَاكِمُ بِطَلَبِهِ وَعَفْوِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، يَلْزَمُ حُضُورُهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى الْوَكِيلِ أَوِ الْحَاكِمِ حَالُهُ فِي بَقَائِهِ عَلَى الطَّلَبِ أَوْ حُدُوثِ الْعَفْوِ، لِأَنَّهُ قَوَدٌ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ ظُهُورِ الْقُدْرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَقْرُبَ كَمَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْضُرَ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ بَقَاؤُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَا وُكِلَ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَوَاتُ اسْتِدْرَاكِهِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّوْكِيلِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، مَعَ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِ رَجُلٍ أَوْ قَطْعِهِ اقْتُصَّ مِنَ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ هَكَذَا يَفْعَلُ وَيُعَزَّرُ الْمَأْمُورُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحِقٌّ فِي قَتْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى قَتْلَ أَحَدٍ ظُلْمًا فَعَلَى السُّلْطَانِ الْآمِرِ الْقَوَدُ، دُونَ الْمَأْمُورِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ كَالْآلَةِ لِالْتِزَامِهِ طَاعَةَ سُلْطَانِهِ، وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْقَاتِلُ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى الْمَأْمُورِ، لِأَنَّهُ أَطَاعَ فِيمَا ظَاهِرُهُ حَقٌّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُخْتَلَفًا فِي اسْتِحْقَاقِهِ، كَقَتْلِ المسلم بالكافر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ فَيَعْتَقِدُ السُّلْطَانُ الْآمِرُ وُجُوبَهُ، لِمَا أداه اجتهاده إليه، ويعتقد المأمور سقوطه لما يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمَأْمُورُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ بِاجْتِهَادِهِ كَالْآمِرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مَحْظُورًا وَدَمُ المقتول محقونا والمأمور عالم بِظُلْمِهِ إِنْ قَتَلَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ، فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ لِمُبَاشَرَتِهِ لِقَتْلِ مَظْلُومٍ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعَزَّرُ الْآمِرُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ لِأَمْرِهِ بِقَتْلٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِمَنْعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ صَارَ بِهِ الْآمِرُ قَاهِرًا وَالْمَأْمُورُ مَقْهُورًا فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ الْقَاهِرِ وَاجِبٌ، وَلَا تَمْنَعُ وِلَايَتُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ مِنْ إِعْفَاءِ الْوُلَاةِ من القصاص، لأن لا يَنْتَشِرَ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُمْ فَسَادٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْحُقُوقَ يَسْتَوِي فِيهَا الشَّرِيفُ وَالْمَشْرُوفُ، وَالْوَالِي وَالْمَعْزُولُ، وَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِصَاصَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِعْطَاءِ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَلَّى أَخْذَ الْحُقُوقِ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَيَكُونُ الْقَهْرُ مِنْ هَذَا الْآمِرِ فِسْقًا وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِهِ عَنْ إِمَامَتِهِ أَمْ لَا؟ على وجهين: أحدهما: ينعزل لأن العدالة شرطا فِي عَقْدِ إِمَامَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْعَزِلُ بِهِ حَتَّى يَعْزِلَهُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، إِنْ أقام على حاله وهم يَتُبْ عِنْدَ اسْتِتَابَتِهِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ انْعَقَدَتْ بِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلْ عَنْهَا إِلَّا بِهِمْ، فَأَمَّا الْمَأْمُورُ الْمَقْهُورُ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ - قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّتِهِ، فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ أن الإكراه شبهة يدرأ به الْحُدُودُ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُهَا، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَاتِلَيْنِ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ وَلَا تُدْفَعُ بِهَا الْحُقُوقُ، وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِلْجَاءٌ وَضَرُورَةٌ يَنْقِلُ حُكْمَ الْفِعْلِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الَأَمْرِ فَعَلَى هَذَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 (بَابُ الْحُكْمِ فِي السَّاحِرِ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ) أَصْلُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. .} [البقرة: 102] الْآيَةَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا وَمَا احْتَمَلَهُ تَأْوِيلُ مَعَانِيهَا لِيَكُونَ حُكْمُ السِّحْرِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا. أَمَّا قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} فيه وجهان: أحدها: ما تدعي. والثاني: ما تقرأ وفيما تتلوه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: السِّحْرُ. وَالثَّانِي: الْكَذِبُ عَلَى سُلَيْمَانَ وفي الشياطين هاهنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الْمُتَمَرِّدُونَ فِي الضَّلَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: (" أَيَّامَ يدعونني الشيطان من غزلى ... وكن يهونني إذا كُنْتُ شَيْطَانَا)) وَفِي قَوْله تَعَالَى عَلَى مُلْكِ سليمان وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَمَّا كَانَ مَلِكًا حَيًّا وَتَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى فِي. وَالثَّانِي: عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، بَعْدَ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ آلَاتِ مُلْكِهِ وَيَكُونُ عَلَى مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كفروا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي وَمَا سَحَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ سَحَرُوا فَعَبَّرَ عَنِ السِّحْرِ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّهُ يؤول إليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكْفُرْ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ السِّحْرُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ وَيَسْتَخْرِجُونَ السِّحْرَ فَأَطْلَعَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ وَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ دَلُّوا عَلَيْهِ الْإِنْسَ وَنَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ وَقَالُوا بِسِحْرِهِ هَذَا سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيَاحُ وَالشَّيَاطِينُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّيَاطِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ دَفَنُوا سِحْرَهُمْ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُفْرِ، فَفِيمَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ {وما كفر سليمان} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَفَرَ بِالسِّحْرِ. وَالثَّانِي: مَا كَفَرَ بِمَا حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالشَّيَاطِينِ لَهُ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تعالى {ولكن الشياطين كفروا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَفَرُوا بِمَا اسْتَخْرَجُوهُ مِنَ السِّحْرِ وَالثَّانِي: كَفَرُوا بِمَا نَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مِنَ السحر ثم قال: {يعملون الناس السحر} وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ أَعْلَمُوهُمْ وَلَمْ يُعَلِّمُوهُمْ فَيَكُونُ مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ تَعَلَّمُ بِمَعْنَى أَعْلَمَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعَا) وَالثَّانِي: إِنَّهُ التَّعْلِيمُ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَفِي تَعْلِيمِهِمْ لِلنَّاسِ السِّحْرَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَعَلَّمُوهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ دَلُّوهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ فَتَعَلَّمُوهُ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الملكين} وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ قَالَهُ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا مَلِكَانِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ قَالَهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَفِي ما هاهنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَتَقْدِيرُهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَتَقْدِيرُهُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلِكَيْنِ، بِبَابِلَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا أَرْضُ الْكُوفَةِ وَسَوَادُهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ حِينَ تَبَلْبَلَتِ الْأَلْسُنُ بِهَا. وَالثَّانِي: إِنّهَا من نصيبين إلى رأس العين، وهاروت وَمَارُوتَ فِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا اسْمَانِ لِلْمَلَكَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَخْصَيْنِ غَيْرِ الْمَلَكَيْنِ وَفِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ وَالْآخَرِ مَارُوتُ - قَالَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَنْ قِبَلِهِمَا مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا مِنْ نَاسِ الْأَرْضِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ وَالْآخَرِ مَارُوتُ مِنْ أَهْلِ الْحِيَلِ، قَالَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُمَا مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ - فَفِي سَبَبِ هُبُوطِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِبَارُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ عُصَاةِ الْأَرْضِ فَأُهْبِطَ مِنْهُمْ هَارُوتُ وَمَارُوتُ فِي صُورَةِ الْإِنْسِ فَأَقْدَمَا عَلَى الْمَعَاصِي وَتَعْلِيمِ النَّصِيحَةِ وَهَذَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ مِنَ الْمَعَاصِي لَكِنْ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَذَكَرْتُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْبَطَهُمَا لِيَنْهَيَا النَّاسَ عَنِ السِّحْرِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا من ناس الأرض ففيهما وجهان - انهما كانا مؤمنين، وقيل كان نَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ نَهَيَا عَنِ الْكُفْرِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ وَلِذَلِكَ عَلَّمَا السِّحْرَ، ثُمَّ قَالَ {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة} - فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ. وتقديره: لا يعلمان أحد السِّحْرَ فَيَقُولَانِ - إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ أَوْ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ إِثْبَاتٌ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرُ فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ وَمِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ {إِنَّمَا نَحْنُ فتنة} ي شَيْءٌ عَجِيبٌ مُسْتَظْرَفُ الْحُسْنِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ فِتْنَةٌ وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَلا تَكْفُرْ أَيْ فَلَا تَكْفُرْ بِمَا جِئْنَاكَ بِهِ وَتَطْرَحْهُ بَلْ صَدِّقْ بِهِ وَاعْمَلْ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنِ انْتَفَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ أَوْ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَعَلَى هَذَا هَلْ لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ تَعْلِيمُ النَّاسِ السِّحْرَ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُمْ تَعْلِيمُ النَّاسِ السِّحْرَ لِيَنْهَوْا عَنْهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا جَهِلُوهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الِاجْتِنَابِ مِنْهُ كَالَّذِي لَا يَعْرِفُ الْكُفْرَ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُمْ تَعْلِيمُ السِّحْرَ وَلَا إِظْهَارُهُ لِلنَّاسِ لِمَا فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الْإِغْرَاءِ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فَاشِيًا تَعَلَّمُوهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَاخْتَصَّ الْمَلَكَانِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا نحن فتنة أَيِ اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ وَفِي قَوْلِهِ فَلا تَكْفُرْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلَا تَكْفُرْ بِالسِّحْرِ. وَالثَّانِي: فَلَا تَكْفُرْ بِتَكْذِيبِكَ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنِ السِّحْرِ ثُمَّ قال: {فيتعلمون منهما} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَالثَّانِي: مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَفَرَةِ {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وزوجه} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِالسِّحْرِ الَّذِي تعلمون. وَالثَّانِي: يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِالْكُفْرِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مُفَرِّقٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالرِّدَّةِ، ثُمَّ قال تعالى {وما هم بضارين به} من يَعْنِي بِالسِّحْرِ {مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ الله} ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِأَمْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: بِعِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] يَعْنِي يَضُرُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمن اشتراه} يعني السحر بما يبذله للساحر {ماله في الآخرة من خلاق} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ نَصِيبٍ. وَالثَّانِي: مِنْ دين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَحْكَامُ السِّحْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِخْفَاءُ الْخِدَاعِ وَتَدْلِيسُ الْأَبَاطِيلِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ. (أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ) أَيْ نُخْدَعُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَضَهَ وَالْعَضَهُ - شِدَّةُ الْبُهْتِ وَتَمْوِيهُ الْكَذِبِ. وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ: (أعوذ بربي من النفاثات ... وَمِنْ عَضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضَهِ) وَالْكَلَامُ فِي السِّحْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ. وَالثَّانِي: فِي تَأْثِيرِ السِّحْرِ. وَالثَّالِثُ: فِي حُكْمِ السِّحْرِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ المتكلمين أنه لَهُ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَغْرِبِيُّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - إِلَى أَنْ لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَلَا تَأْثِيرَ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ كَالشَّعْبَذَةِ لا تحدث في المسحور إلا التوهم وللاستشعار اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنِ وَمُوسَى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنها تسعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 66، 67] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِيمَا مَثَّلُوهُ بِالْحَيَّاتِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ زِئْبَقًا وَاسْتَقْبَلُوا بِهَا مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَلَمَّا حَمِيَ بِهَا سَاحَ وَسَرَى فَسَرَتْ تِلْكَ الْحِبَالُ كَالْحَيَّاتِ السَّارِيَةِ وَمَعْلُومٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ لَخَرَقَ الْعَادَاتِ، وَبَطَلَ بِهِ الْمُعْجِزَاتُ وَزَالَتْ دَلَائِلُ النُّبُوَّاتِ وَلَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِأُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِبْطَالُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 الْحَقَائِقِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ مَدْفُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَ اخْتِلَافِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّأْوِيلِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَأَبَانَ فَسَادَهُ وَلَذَكَرَ بُطْلَانَهُ، وَلَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ عنه موقعاً وفي هذا رداً لِمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ فَكَانَ مَدْفُوعًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] . وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ لِلسِّحْرِ. رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مِنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرٌ لَمَا أُمِرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ وَلَكَانَ السِّحْرُ كَغَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشْتَكَى شَكْوَى شَدِيدَةً فَبَيْنَمَا هُوَ كَالنَّائِمِ وَالْيَقِظَانِ إِذَا مَلَكَانِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَا شَكْوَاهُ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ وَالطِّبُّ السِّحْرُ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ الْيَهُودِيُّ وَطَرَحَهُ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فِيهَا. فَبَعْثَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا وَتَرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَأَمَرَ بِحَلِّ الْعُقَدِ فَكَانَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ رَاحَةً حَتَّى حُلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ. فَنَزَلَتْ عليه المعوذتان وهما إحدى عشر آيَةً بِعَدَدِ الْعُقَدِ، وَأُمِرَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ وَتَتَّفِقُ مَعَانِيهِ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَثَ أَيَّامًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ فَاسْتَيْقَظَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَالَ يَا عَائِشَةُ قَدْ أَفْتَانِي رَبِّي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فِي الْمَنَامِ وَذَكَرَتْ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ. وَإِذَا أَثَّرَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَعَلَ، وَأَثَّرَ فِيهِ حِينَ نَشِطَ مَعَ مَا عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُومٌ مِنَ السِّحْرِ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِهِ مِنْ خَلَلِ الْعَقْلِ وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَالَ فِي رَسُولِهِ {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] قِيلَ عِصْمَةُ الرَّسُولِ مُخْتَصَّةٌ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ وَهُوَ فِي الْمَرَضِ كغيره من الناس وقد سم يَهُودُ خَيْبَرَ ذِرَاعًا مَشْوِيَّةً وَقُدِّمَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَكَلَ مِنْهَا وَمَرِضَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَكَانَ يَقُولُ مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادُّنِي فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي فَكَانَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ - وَلَمَّا أَجْرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ حِينَ قَرَأَ في سورة النجم {أفرأيتم اللات والعزى ومنوة الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] تِلْكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى أزل اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُ وَعَصَمَهُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَرْسَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى خَيْبَرَ لِأُقَسِّمَ ثِمَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَحَرُونِي فَتَكَوَّعَتْ بيدي فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنِ الْحِجَازِ، فَلَوْلَا أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأَثُّرًا لَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ وَلَمَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَلَرَاجَعَتْهُ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ كَمَا رَاجَعُوهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُحْتَمَلَةِ. وَقَدْ رَوَى بَجَالَةُ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُعْجِزَةَ مُوسَى فِي الْعَصَا لِكَثْرَةِ السِّحْرِ فِي زَمَانِهِ وَمُعْجِزَةَ عِيسَى بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِكَثْرَةِ الطِّبِّ فِي زَمَانِهِ وَمُعْجِزَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقُرْآنَ لِكَثْرَةِ الْفُصَحَاءِ فِي زَمَانِهِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ، كَمَا لِلطِّبِّ وَالْفَصَاحَةِ حَقِيقَةٌ، لَضَعُفَتْ مُعْجِزَةُ مُوسَى فِي عُلُوِّهِ عَلَى السَّحَرَةِ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَلَيْسَ لِدَفْعِ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ تَأْثِيرٌ، وَإِنَّمَا التأثير في دفع ماله تَأْثِيرٌ كَمَا كَانَ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى تَأْثِيرٌ عَلَى الطِّبِّ وَلِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ عَلَى فَصَاحَةِ الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ السِّحْرِ آثَارُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِأَفْعَالِ السِّحْرِ حَقِيقَةٌ وَقَدْ أَثَّرَ سِحْرُهُمْ فِي مُوسَى مَا أَوْجَسَهُ مِنَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا فِيهِ خَرْقُ الْعَادَاتِ وَإِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ، فَهُوَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ السَّحَرَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي السَّحَرَةِ كَمَا أَنَّ الشَّعْبَذَةَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ الْمُتَشَعْبِذَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي الْمُتَشَعْبِذَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّ الشَّعْبَذَةَ فِي خَرْقِ الْعَادَاتِ كَالسِّحْرِ وَلَيْسَ فِيهَا إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ مُخَالِفٌ لِخَرْقِهَا بِالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُعْجِزَاتِ حَقِيقَةٌ وَأَفْعَالَ السَّحَرَةِ مُسْتَحِيلَةٌ لِأَنَّ مُوسَى لَمَّا فَلَقَ الْبَحْرَ ظَهَرَتْ أَرْضُهُ حَتَّى سَارَ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى الْيَابِسِ، وَلَمَّا أَلْقَى السَّحَرَةُ حِبَالَهُمْ حَتَّى ظَنَّهَا النَّاظِرُ حَيَّاتٍ ظَهَرَ اسْتِحَالَتُهَا وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْعِصْمَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ تَأْثِيرُ السِّحْرِ. فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِمَّنْ ضَعُفَتْ فِي الْعِلْمِ مَخَابِرُهُمْ، وَقَلَّتْ فِيهِ مَعْرِفَتُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ قَدْ يَقْلِبُ بِسِحْرِهِ الْأَعْيَانَ، وَيُحَدِثُ بِهِ الْأَجْسَامَ، وَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا بِحَسَبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ السِّحْرِ وَضَعْفِهِ، وَهَذَا وَاضِحُ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا لَصَارَ خَالِقًا وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَرَازِقًا وَهُوَ مَرْزُوقٌ وَرَبًّا وَهُوَ مَرْبُوبٌ، وَشَارَكَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِ وَعَارَضَهُ في حكمته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِهِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَيَرُدُّهَا إِلَى الشَّبَابِ بَعْدَ الْهِرَمِ، وَإِلَى الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ وَيَدْفَعُ الْمَوْتَ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ وَبَايَنَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ جَمِيعِ الْحَقَائِقِ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الأجسام مما قلبت السَّحَرَةُ أَعْيَانَهَا، فَيَكُونُ الْحِمَارُ إِنْسَانًا وَالْإِنْسَانُ حِمَارًا فَإِذَا وَضَحَتِ اسْتِحَالَةُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَالَّذِي يُؤَثِّرُهُ السِّحْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ - أَنْ يُوَسْوِسَ وَيُمْرِضَ وَرُبَّمَا قَتَلَ، لِأَنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] وَالتَّخْيِيلُ بَدْوُ الْوَسْوَسَةِ وَالْوَسْوَسَةُ بَدْوُ الْمَرَضِ وَالْمَرَضُ بَدْوُ التَّلَفِ - فَإِذَا قَوِيَ التَّخْيِيلُ حَدَثَ عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ، وَإِذَا قَوِيَتِ الْوَسْوَسَةُ حَدَثَ عَنْهَا الْمَرَضُ، وَإِذَا قَوِيَ الْمَرَضُ حَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَبَادِئِهِ التَّخْيِيلَ ثُمَّ الْوَسْوَسَةَ ثُمَّ الْمَرَضَ ثُمَّ التَّلَفَ وهو غايته فهذه آثار السِّحْرِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَحْكَامُ السِّحْرِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ السَّاحِرِ. وَالثَّانِي: حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ - فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ - إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَمْ يَقْطَعَا بِكُفْرِهِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالسِّحْرِ وَلَا يَجِبُ بِهِ قَتْلُهُ وَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ مَعَهُ بِمَا يُوجِبُ كُفْرَهُ وَإِبَاحَةَ دَمِهِ كَانَ كَافِرًا بِمُعْتَقَدِهِ لَا بِسِحْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ صار كافراً باعتقاد إباحته لا بفعل فَيُقْتَلُ حِينَئِذٍ بِمَا انْضَمَّ إِلَى السِّحْرِ لَا بِالسِّحْرِ بَعْدَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فَلَا يَتُوبُ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ بِهِ الْقَتْلَ بِرِوَايَةِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ يَعْنِي بِهِ الْقَتْلَ، وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ بَجَالَةَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْ حَفْصَةَ فَبَعَثَتْ بِهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ فَقَتَلَهَا وَلِأَنَّ السَّاحِرَ يُضَاهِي بِسِحْرِهِ أَفْعَالَ الْخَالِقِ وَمِثْلَ هَذَا كُفْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَنْ قَالَهَا مِنْ سَاحِرٍ وَغَيْرِ سَاحِرٍ. وَلِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ أَعْصَمَ الْيَهُودِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُرَيْقٍ قَدْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَهُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّحَرَةِ فَمَا قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ لَمَا أَضَاعَ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرِضَتْ فَسَأَلَ بَعْضُ بَنِي أَخِيهَا طَبِيبًا مِنَ الزُّطِّ عَنْ مَرَضِهَا فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَحَرَتْهَا أَمَتُهَا فَسَأَلَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 عَائِشَةُ أَمَتَهَا وَكَانَتْ مُدَبِّرَةً لَهَا فَاعْتَرَفَتْ بِالسِّحْرِ وَقَالَتْ سَأَلَتُكِ الْعِتْقَ فَلَمْ تُعْتِقِينِي، فَبَاعَتْهَا عَائِشَةُ وَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا أَمَةً أَعْتَقَتْهَا، وَلَوْ كَانَ قَتْلُهَا مُسْتَحَقًّا مَا اسْتَجَازَتْ بَيْعَهَا وَاسْتِهْلَاكَ ثَمَنِهَا عَلَى مُشْتَرِيهَا، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ تُنْكِرُ عَلَيْهَا بَيْعَهَا، وَلِأَنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ كَالشَّعْبَذَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ فَكَذَلِكَ السِّحْرُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَرَاوِيهِ الْحَسَنُ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ قَدْ لَا يَكُونُ قَتْلًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ: وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَاوِيهِ بَجَالَةُ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ فَكَانَ أَيْضًا مُرْسَلًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَذْهَبًا لَهُ، وَأَمَّا حَفْصَةُ فَقَدْ أَنْكَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا قَتْلَهَا وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُنْكِرْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَضَاهُ لِأَفْعَالِ الْخَالِقِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ، لِأَنَّ غَايَةَ سِحْرِهِ أَنْ يُؤْذِيَ وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْذٍ وَمُضِرٍّ مُضَاهِيًا لِأَفْعَالِ خَالِقِهِ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ حُكْمُ تَعَلُّمِ السحر: وتعلمه مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ تَعَلُّمَهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمَا دَعَا إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ مَحْظُورًا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ. فَإِنْ تَعَلَّمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وَهَذَا مَذْهَبٌ، يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ لَيْسَ بِاعْتِقَادٍ فَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ الْكُفْرُ. وَالثَّانِي: إِنَّ تَعَلُّمَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَهُوَ لَا يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِ الْكُفْرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْفُرَ بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي مُعَلِّمِ السِّحْرِ دُونَ مُتَعَلِّمِهِ وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ مُثْبِتٌ وَالْمُتَعَلِّمَ مُتَخَيِّرٌ كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مُعَلِّمِ الْكُفْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ وَعَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا كَفَرَةً بِغَيْرِ السحر والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَحَرَ رَجُلًا فَمَاتَ سُئِلَ عَنْ سِحْرِهِ فَإِنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ هَذَا لِأَقْتُلَ فَأُخْطِئُ الْقَتْلَ وَأُصِيبُ وَقَدْ مَاتَ مِنْ عَمَلِي فَفِيهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ مَرِضَ مِنْهُ وَلَمْ يَمُتْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاؤُهُ لَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَكَانَتِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَالَ عَمَلِي يَقْتُلُ الْمَعْمُولَ بِهِ وَقَدْ عَمَدْتُ قَتْلَهُ بِهِ قُتِلَ بِهِ قَوَدًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا السِّحْرُ - فَهُوَ مَا يَخْفَى فعله من الساحر ويخفى فِعْلُهُ فِي الْمَسْحُورِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ فِي الدَّعْوَى عَلَى السَّاحِرِ وَلَا تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ فِي الْمَسْحُورِ، فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى سَاحِرٍ أَنَّهُ سَحَرَ وَلِيًّا لَهُ، فَقَتَلَهُ بِسِحْرِهِ لَمْ يَسْتَوْصِفْ عَنِ السِّحْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 لِخَفَائِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلَّفِ الْبَيِّنَةَ لِامْتِنَاعِهَا فَإِذَا امْتَنَعَا رَجَعَ إِلَى سُؤَالِ السَّاحِرِ هَلْ سَحَرَ أَوْ لَمْ يَسْحَرْ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا أَوِ اعْتَرَفَ بِالسِّحْرِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَحَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ سَحَرَهُ سُئِلَ عَنْ سِحْرِهِ، لِأَنَّ آثَارَ السِّحْرِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ السَّاحِرِ وَلَا يَخْلُو حَالُ بَيَانِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: عَمَدْتُ سِحْرَهُ وَسِحْرِي يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَقْتُلَ فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدٍ مَحْضٍ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا قَوَدَ إِلَّا بِالْمُحَدَّدِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ فِي الْأَغْلَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي عَمْدِهِ الْقَوَدَ كَالْمُحَدَّدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ سِحْرِي لَا يقتل في الأغلب وإن جاز أن يقتل وَقَدْ مَاتَ مِنْ سِحْرِي،. فَهَذَا قَاتِلُ عَمْدِ شِبْهِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً دُونَ الْقَوَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ عَلَيْهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَيْسَ فِي السِّحْرِ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَمْ تُوجِبْ ضَمَانَ النَّفْسِ كَالشَّتْمِ وَالْبَهْتِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْقَتْلَ حَدَثَ عَنْ سَبَبٍ قَاتِلٍ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ النَّفْسِ كَالسُّمِّ وَحَفْرِ الْبِئْرِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ ينفصل من الساحر مَا يَتَّصِلُ بِالْمَسْحُورِ، كَمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْمُتَثَاوِبِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمُقَابِلِ لَهُ فَيَثَّاوَبُ وَكَمَا يَنْفَصِلُ مِنْ نَظَرِ الَّذِي يُعِينُ مَا اسْتَحْسَنَ فَيَتَّصِلُ بِالْمُعِينِ وَالْمُسْتَحْسِنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْعَيْنُ حَقٌّ كَمَا أَنَا حَقٌّ وَفِي هَذَا الدَّلِيلِ انْفِصَالٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: سِحْرِي يُمْرِضُ وَلَا يَقْتُلُ وَقَدْ أَمْرَضَهُ سِحْرِي وَمَاتَ بِغَيْرِهِ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْمَسْحُورِ فَإِنْ لَمْ يَزَلْ ضِمْنًا مَرِيضًا مِنْ وَقْتِ السِّحْرِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ حُدُوثُ مَوْتِهِ مَنْ مَرَضِ سِحْرِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ وَلِيِّ الْمَسْحُورِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَرَضُ وَصَارَ دَاخِلًا خَارِجًا فَالظَّاهِرُ مِنْ مَوْتِهِ أَنَّهُ بِسَبَبِ حَادِثٍ غَيْرِ سِحْرِهِ، فَيَحْلِفُ السَّاحِرُ لَقَدْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سِحْرِهِ كَالْجِرَاحَةِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَهَا مَوْتُ الْمَجْرُوحِ، وَاخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْجَارِحُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلِ الْجُرْحُ وَكَانَ عَلَى أَلَمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ انْدَمَلَ وَزَالَ الْأَلَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الجارح مع يمنيه. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ سِحْرِي قَدْ يُمْرِضُ وَلَا يُمْرِضُ وَمَا أَمْرَضَهُ سِحْرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ أَدَبًا وَزَجْرًا وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ عُزِّرَ إِذَا سَحَرَ وَلَا يُعَزَّرُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ التَّوْبَةِ إذا لم يسحر وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 (قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ) (بَابُ مَنْ يَجِبُ قِتَالُهُ من أهل البغي والسيرة فيهم) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَصْلُ مَا وَرَدَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أَمَّ زَيْدٍ أَرَادَتْ زِيَارَةَ أَهْلِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا، فَاقْتَتَلَ أَهْلُهُ وَأَهْلُهَا، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. وَالثَّانِي: مَا حَكَاهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنَ الْأَوْسِ. وَسَبَبُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَرَاثَ الْحِمَارُ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ أَنْفَهُ وَقَالَ: إِلَيْكَ حِمَارَكَ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ، وَتَنَافَرُوا وَأَعَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْمَهُ، فَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَأَصْلَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] . يعني: جميعن مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخْرَجَهُمُ التَّنَافُرُ إِلَى الْقِتَالِ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، وَهَذَا خِطِابٌ نُدِبَ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِ الْوُلَاةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْوُلَاةِ أَخَصَّ. {فَإِنْ بَغَتْ إحداهما على الأخرى} وَالْبَغْيُ: التَّعَدِّي بِالْقُوَّةِ إِلَى طَلَبِ مَا لَيْسَ بمستحق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 {فقاتلوا التي تبغي} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْغِي بِالتَّعَدِّي فِي الْقِتَالِ. وَالثَّانِي: تَبْغِي بِالْعُدُولِ عَنِ الصُّلْحِ. وَهَذَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْوُلَاةُ دُونَ غَيْرِهِمْ. {حَتَّى تفيء إلى أمر الله} أَيْ تَرْجِعَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ {فَإِنْ فآءت} يَعْنِي: رَجَعَتْ عَنِ الْبَغْيِ. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْحَقِّ. وَالثَّانِي: بِكِتَابِ اللَّهِ. {وأقسطوا} يَعْنِي: اعْدِلُوا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْدِلُوا فِي تَرْكِ الْهَوَى وَالْمُمَايَلَةِ. وَالثَّانِي: فِي تَرْكِ الْعُقُوبَةِ والمؤاخذة. {إن الله يحب المقسطين} يَعْنِي الْعَادِلِينَ. قَالَ أَبُو مَالِكٍ: فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى بَقَاءِ الْبُغَاةِ عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَدَلَّتْ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالصُّلْحِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ. وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ إِنْ أَقَامُوا عَلَى بَغْيِهِمْ. وَدَلَّتْ عَلَى الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ. وَدَلَّتْ عَلَى أَنْ لَا تِبَاعَةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِيهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَمَنَعَ مِنْهُ، وَجَبَ قِتَالُهُ عَلَيْهِ حتى يؤديه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 فَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ عُنُقِهِ) . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الدَّالُّ عَلَى إِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ: فَهُوَ مُنْعَقِدٌ عَنْ فِعْلِ إِمَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي قتال خَلَعَ طَاعَتَهُ. فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ: ارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ وَالْعَنْسِيَّ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَحَدٌ. وَطَائِفَةٌ: أَقَامُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ بِتَأْوِيلٍ اشْتَبَهَ، فَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ حِينَ وَضَحَ لَهُمُ الصَّوَابُ وَزَالَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ شَرْحَهُ مِنْ بَعْدُ مُفَصَّلًا، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مَعَهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ أَوْكَدَ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ قِتَالَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ، فَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ أَهْلَ الْجَمَلِ بِالْبَصْرَةِ مَعَ عَائِشَةَ. وَثَنَّى بِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ بِصِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ. وَثَلَّثَ بِقِتَالِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ مِنَ الْخَوَارِجِ. فَسَارَ فِي قِتَالِهِمْ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ إِبَاحَةُ قِتَالِهِمْ عَلَى بَغْيِهِمْ، فَقِتَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا فِي مَنَعَةٍ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ إِلَّا بِقِتَالِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا آحَادًا لَا يَمْتَنِعُونَ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ وَلَمْ يُقَاتَلُوا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَأَوِّلًا، فَأُقِيدَ بِهِ. يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا انْفَرَدَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ بِعَدَدٍ لَمْ يُؤَثِّرْ تَأْوِيلُهُ فِي أَخْذِ الْقَوَدِ مِنْهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَزِلُوا عَنْ دَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِدَارٍ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا وَيَتَمَيَّزُونَ بِهَا كَأَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ: فَإِنْ كَانُوا عَلَى اختلاطهم بِأَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَمْ يَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ: لَمْ يُقَاتَلُوا. رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْطُبُ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ - تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ مِنْ تَحْكِيمِهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِفُوهُ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ كَالَّذِي تَأَوَّلَهُ أَهْلُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِذَا بَايَنُوا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ نَصْبُ إِمَامٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: إِنَّهُ شَرْطٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ قِتَالُهُمْ، لِيَسْتَقِرَّ بِهِ تَمَيُّزُهُمْ وَمُبَايِنَتُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قِتَالِهِمْ. لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ، وَقَاتَلَ أَهْلَ صِفِّينَ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا لَهُمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قِتَالِهِمْ، لَمْ يَبْدَأْ بِهِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ انْفِرَادِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا وَنَاظَرَهُمْ عَلَيْهَا، حَتَّى يَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فِيهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ أَوَّلًا وَبِالْقِتَالِ أَخِيرًا. وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ بَالنَّهْرَوَانِ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مُبَايَنَتِهِمْ وَيَحِلُّ شُبْهَةَ تَأْوِيلِهِمْ، لِتَظَاهُرِهِمْ بِالْعِبَادَةِ وَالْخُشُوعِ وَحَمْلِ الْمَصَاحِفِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فقال لهم ابن عباس: هذا علي ابن أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَزَوْجُ ابْنَتِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ فَضْلَهُ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنْهُ؟ قَالُوا: نَنْقِمُ مِنْهُ ثَلَاثًا: حَكَمَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ أَغْنَى كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ عَنِ التَّحْكِيمِ. وَقَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ: وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَيَسْبِيَ أَوْ لَا يَقْتُلَ وَلَا يَسْبِيَ، لِأَنَّهُ إِذَا حُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ فَقَدْ حُرِّمَتْ دِمَاؤُهُمْ. وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ فَلِمَ خُلِعَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ دَخَلَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَمَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَقَدْ حَكَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ فَقَالَ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 65] فَحَكَّمَ فِي أَرْنَبٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، فَبِأَنْ يُحَكِّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوْلَى. فَرَجَعُوا عَنْ هَذَا. فَقَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: كَيْفَ قَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ، فَلَوْ حَصَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَهْمِ أَحَدِكُمْ كَيْفَ يَصْنَعُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] . قَالُوا: رَجَعْنَا عَنْ هَذِهِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ حِينَ كَتَبَ كِتَابَ التَّحْكِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، فَقَدْ مَحَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْمَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ قَاضَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ كَتَبَ كِتَابَ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا تَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا خَالَفْنَاكَ، فَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَلِيٍّ: امْحُهُ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْحُوَ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 فَقَالَ لَهُ: أَرِنِيهِ، فَأَرَاهُ فَمَحَاهُ بِإِصْبَعِهِ. فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ مِنْهُمْ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافٍ لَمْ يَرْجِعُوا، فَعَادَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، فَلَنْ يُفْلِتَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَلَنْ يُقْتَلَ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ، فَسَارُوا مَعَهُ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ تِسْعَةٌ، وَقَالَ: اطْلُبُوا لِي ذَا الثَّدِيَّةِ. فَرَأَوْهُ قَتِيلًا بَيْنَهُمْ، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَ رَسُولِهِ إِذْ قَالَ لِي: تُقَاتِلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهِمْ ذُو الثَّدِيَّةِ. فَهَذِهِ سِيرَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِمْ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَأَخَذُوا السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخَذُوا السِّيرَةَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ قَبْلَ قِتَالِهِمْ سُؤَالَهَمْ عَنْ سَبَبِ بَغْيِهِمْ وَاعْتِزَالِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ مُنَاظَرَتَهُمْ فِي حَلِّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ، فَمَتَى أَمَلَ رُجُوعَهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَدُخُولَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ بِالْقَوْلِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى الْقِتَالِ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْ رُجُوعِهِمْ بَعْدَ كَشْفِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ، جَازَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ حِينَئِذٍ قِتَالُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ، وَانْقَسَمَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي قِتَالِهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَاجِبًا. وَالثَّانِي: مَا كَانَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ مُبَاحًا. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِهِ وَإِبَاحَتِهِ. فَأَمَّا مَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ: فَهُوَ بِوَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحَرِيمِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِإِفْسَادِ سَبِيلِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي قَدِ انْعَقَدَتْ بَيْعَتُهُ وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ خَلَعَ يَدَهُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) . وَأَمَّا مَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ: فَهُوَ أَنْ يَنْفَرِدُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَمْتَنِعُوا مِنْ حَقٍّ، وَلَا يَتَعَدَّوْا إِلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ قِتَالُهُمْ لِتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّاعَةِ. رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ) . وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ قِتَالِهِمْ وَإِبَاحَتِهِ: فَهُوَ إِذَا امْتَنَعُوا مَعَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ دَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وقاموا بتفرقتها في أهل السهمان مِنْهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ قِتَالَهُمْ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، إِذَا قِيلَ فِيهَا بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ قِتَالَهُمْ عَلَيْهَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إِذَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُسْتَحَبٌّ وليس بواجب. والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فأمر الله تعالى جَدُّهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ تِبَاعَةً فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصُّلْحَ آخِرًا كَمَا ذَكَرَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ أَوَّلًا قَبْلَ الْإِذْنِ بِقِتَالِهِمْ فَأَشْبَهَ هَذَا أَنْ تَكُونَ التَّبِعَاتُ فِي الدِّمَاءِ وَالْجِرَاحِ وَمَا تَلِفَ مِنَ الأموال ساقطة بينهم وكما قال ابن شهاب عندنا قد كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلفت فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما علمته اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه (قال الشافعي) رحمه الله: وما علمت الناس اختلفوا في أن ما حووا في البغي من مال فوجد بعينه أن صاحبه أحق) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُسْتَهْلَكُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ فِي غَيْرِ ثَائِرَةِ الْحَرْبِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مُسْتَهْلِكِهَا سَوَاءٌ كَانَ اسْتِهْلَاكُهَا قَبْلَ الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ، فَيَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْيِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ وَيَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ وأن يَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا) . وَأَمَّا الْمُسْتَهْلَكُ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِيمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِتَالِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ بِالْقِتَالِ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ وُجُوبِ الْقِتَالِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَقْصُودَ الْقِتَالِ دَفْعُهُمْ عَنْ بَغْيِهِمْ، فَصَارُوا فِي هَدَرِهَا كَالطَّالِبِ إِذَا قَتَلَهُ الْمَطْلُوبُ دَفَعًا عَنْ نَفْسِهِ. وَهَلْ يَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْيِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: إِنَّهُمْ يَضْمَنُونَهُ لَهُمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنّهُمْ لَمَّا ضَمِنُوهُ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعُوا ضَمِنُوهُ وَإِنِ امْتَنَعُوا كَأَهْلِ الْحِرَابَةِ. وَالثَّانِي: إِنّهُ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مَضْمُونًا كَالْجِنَايَاتِ، كَمَا أَنَّ الْقِتَالَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْحُدُودِ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: 9] . فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَبِعَةً فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْهُمْ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - قَالَ لِمَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ: تدون قتلانا ولا ندري قَتْلَاكُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دية، لأنهم عملوا الله وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ سُكُوتَ رَاجِعٍ إِلَى قَوْلِهِ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَعُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَهَرَبَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ وَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ. وَهَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدًا بِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ وَالتَّالِفِ وَالْمَتْلُوفِ. وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ فَدَلَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ. وَلِأَنَّهُمَا طَائِفَتَانِ مُمْتَنِعَتَانِ اقْتَتَلَتَا تَدَيُّنًا، فَلَمْ يَضْمَنْ بَعْضُهُمْ بعضاً كالمسلمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 [وَلِأَنَّ تَضْمِينَ أَهْلِ الْبَغْيِ مَا أَتْلَفُوهُ مُنَفِّرٌ لَهُمْ وَمَانِعٌ مِنْ رُجُوعِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْرَحًا كَمَا أُطْرِحَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ] . (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ: إِنَّ الضَّمَانَ وَاجِبٌ، ضُمِنَتِ الْأَمْوَالُ بِالْغُرْمِ، فَأَمَّا النُّفُوسُ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ عَمْدَ الْخَطَأِ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ دُونَ الْقَاتِلِ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا مَحْضًا فَفِي ضَمَانِهَا بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تُضْمَنُ بِالْقَوَدِ، لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْحَرْبِ كَمَا تُضْمَنُ في غيره. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، سَقَطَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَوَجَبَ رَدُّ مَا بَقِيَ مِنْهَا. فَأَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، نُظِرَ حَالُ مُتْلِفِهِ: فَإِنْ قَصَدَ بِمَا أَتْلَفَهُ مِنْهَا إِضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ لَمْ يَضْمَنْهَا. وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامَ: ضَمِنَهَا، وَصَارَتْ كَالْمُسْتَهْلَكِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ. وَأَمَّا النُّفُوسُ: فَمَنْ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ لَمْ يُضْمَنْ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَفِي ضَمَانِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ - إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْكَفَّارَةِ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنّهُ يُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَكَّدَتْ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَكَمَا يُضْمَنُ نَفْسُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ. وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَهُوَ مُعْتَزِلٌ عَنْ صُفُوفِ الْحَرْبِ: فَإِنْ كَانَ رَدْءًا لَهُمْ وَعَوْنًا: سَقَطَ ضَمَانُ نَفْسِهِ كَالْمُقَاتِلَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَدْءًا وَلَا عَوْنًا: خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُقَاتِلَةِ وَضُمِنَتْ نَفْسُهُ بِالدِّيَةِ، وَفِي ضَمَانِهَا بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ على ما مضى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَهْلُ الرِّدَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرْبَانِ فَمِنْهُمْ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِثْلُ طُلَيْحَةَ وَمُسَيْلِمَةَ وَالْعَنْسِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَمَسَّكُوا بِالْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الصَّدَقَاتِ وَلَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ وَالرِّدَّةُ ارتداده عما كانوا عليه بالكفر وارتداد بمنع حق كانوا عليه وقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أليس قد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله؟) وقول أبي بكر هذا من حقها لو منعوني عناقاً مما أعطوه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقاتلتهم عليها معرفة منهما معاً أن ممن قاتلوا من تمسك بالإسلام ولولا ذلك لما شك عمر في قتالهم ولقال أبو بكر قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين وذلك بين في مخاطبتهم جيوش أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم فقال شَاعِرِهِمْ: (أَلَا أَصْبِحِينَا قَبْلَ ثَائِرَةِ الْفَجْرِ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي) (أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ما كان بيننا ... فيا عجبا ما بالك مُلْكِ أَبِي بَكْرِ) (فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمُ فَمَنَعْتُمُ ... لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إِلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ) (سَنَمْنَعُهُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ ... كِرَامٌ عَلَى الْعَزَّاءِ في ساعة العسر) وقالوا لأبي بكر رضي الله عنه بعد الإسار ما كفرنا بعد إيماننا ولكنا شححنا على أموالنا فسار إليهم أبو بكر بنفسه حتى لقي أخا بني بدر الفزاري فقاتله ومعه عمر وعامة أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم أمضى أبو بكر رضي الله عنه خالدا في قتال من ارتد ومنع الزكاة فقاتلهم بعوام مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) رحمه الله ففي هذا دلالة على أن من منع حقا مما فرض الله عليه فلم يقدر الإمام على أخذه بامتناعه قاتله وإن أتى القتال على نفسه وفي هذا المعنى كل حق لرجل على رجل فمنعه بجماعة وقال لا أوذي ولا أبدؤكم بقتال قوتل وكذا قال من منع الصدقة ممن نسب إلى الردة فإذا لم يختلف أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قتالهم بمنع الزكاة فالباغي الذي يقاتل الإمام العادل في مثل معناهم في أنه لا يعطي الإمام العادل حقا يجب عليه ويمتنع من حكمه ويزيد على مانع الصدقة أن يريد أن يحكم هو على الإمام العادل) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 أَحَدُهُمَا: الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ نَسَبَتْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الْخَطَأِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالُوا: هَلَّا فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ أَصْحَابَهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَالَّذِي فَعَلَ ابْنُهُ الْحَسَنُ حِينَ رَأَى الثَّائِرَةَ قَدْ هَاجَتْ وَالدِّمَاءَ قَدْ طَاحَتْ، سَلَّمَ الْأَمْرَ تَسْلِيمَ تَقَرُّبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَرَدَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّهُ مَا ابْتَدَعَ ذَلِكَ، وَلَا ارْتَكَبَ فِيهِ مَحْظُورًا، فَقَدْ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبَانِ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرْبَانِ: مِنْهُمْ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ وَكَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مِثْلُ مُسَيْلِمَةَ تَنَبَّأَ بِالْيَمَامَةِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مَنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمِثْلُ طُلَيْحَةَ تَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَمِثْلُ الْعَنْسِيِّ تَنَبَّأَ فِي قَوْمِهِ فَارْتَدَّ مَعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ فَجَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ أَوَّلُ جَيْشٍ سَيَّرَهُ إِلَيْهِمْ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَكَانَ مُبَرِّزًا بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبْنَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَعَادَ ظَافِرًا، ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ جَيْشًا وَأَمَدَّهُمْ بِالْجُيُوشِ حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَنْ قُتِلَ، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ. فَهَذَا ضَرَبٌ مِنْهُمُ انْطَلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ الرِّدَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا - وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْهُمْ: مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى إِسْلَامِهِ وَمَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ بِتَأْوِيلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَكَانَ دُخُولُ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ: فَلَمْ يَتَوَجَّهِ الْخِطَابُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ إِنْ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وليست صلوات ابن أبي قحافة سكن لَنَا فَاشْتَبَهَ تَأْوِيلُهُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصَحَّ فَسَادُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَأَذْعَنَ عَلَى قِتَالِهِمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِأَنْ أَخِرُّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَتَخَطَّفُنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ لَأَهْوَنُ عَلَيَّ مِمَّا سمعت منكم يا أصحاب محمد، والله لافرفت بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا كَانُوا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصَّلَاةِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصِّيَامِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الْحَجِّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ سَأَلُوا الزِّنَا، فَإِذًا لَا تَبْقَى عُرْوَةٌ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ إِلَّا انْحَلَّتْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَامَ نُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) . فَوَكَزَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَدْرِ عُمَرَ وَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي شَدِيدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ حَقِّهَا؟ قَالَ عُمَرُ: فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ فَحِينَئِذٍ أَجْمَعُوا مَعَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ قِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا حَقًّا عَلَيِهِمْ. وَكَذَلِكَ حَالُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَكُونُ كَفُّ عُثْمَانَ وَتَسْلِيمُ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حُجَّةً عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ حُكْمًا، وَلِكُلِّ مُجْتَهِدٍ رَأْيًا. وَلَا يَمْنَعُ إِسْلَامُ مَانِعِي الزَّكَاةِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الرِّدَّةِ عَلَيْهِمْ لُغَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِمْ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ، وَالرِّدَّةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الرُّجُوعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أَيْ رَجَعَا، فَانْطَلَقَ اسْمُ الرِّدَّةِ عَلَى مَنْ رَجَعَ عَنِ الزَّكَاةِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى مَنْ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ. فَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ مُرَادِهِ بِهَا: فَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُمْ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ: مَنَعُوهَا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ. وَضَرْبٌ: مَنَعُوهَا مِنْ بَعْدُ. فَأَمَّا مَانِعُوهَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ: فَهُمْ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ بِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ، فَلَا يكونوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ بَاقُونَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدِ ارْتَدُّوا بِامْتِنَاعِهِمْ عَنْهَا، لِاسْتِحْلَالِهِمْ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خِلَافِهِ، كَمَا لَوِ اسْتَحَلُّوا الْآنَ مَنْعَهَا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الصحابة عارضوا أبا بكر - رضي الله عنهم - فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ لِبَقَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَبَيَّنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِقِتَالِهِمْ، وَلَوِ ارْتَدُّوا لَمَا عَارَضُوهُ، وَلَمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَّ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ. وَلِأَنَّ الْقَوْمَ حِينَ تَابُوا وَقَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا كَفَرْنَا بَعْدَ إِيمَانِنَا وَلَكِنْ شَحَحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 وَقَدْ بَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ شَاعِرِهِمْ: (أَلَا أَصْبِحِينَا قَبْلَ ثَائِرَةِ الْفَجْرِ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي) (أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا ... فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ) (فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمُ فَمَنَعْتُمُ ... لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إِلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ) (سَنَمْنَعُهُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ كِرَامٌ ... عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ) فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ بَقَائِهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ إِجْمَاعًا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مَانِعُو الزَّكَاةِ مِنْ بَعْدُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ مَنَعَهَا مُسْتَحِلًّا لِمَنْعِهَا، فَيَكُونُ بِاسْتِحْلَالِ الْمَنْعِ مُرْتَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَانِعُ مِنْهَا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ مُرْتَدًّا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْمَنْعَ الْأَوَّلَ كَانَ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى إِبْطَالِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ، فَكَانَ لِتَأْوِيلِ الشُّبْهَةِ مَسَاغًا، وَالْمَنْعُ الْحَادِثُ بَعْدَهُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبْطَالِ الشُّبْهَةِ، فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْوِيلِ مَسَاغٌ، فَافْتَرَقَا فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي حَالِ الْإِجْمَاعِ. وَمِثَالُهُ: شَارِبُ الْخَمْرِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا اسْتَحَلَّ شُرْبَهَا بِشُبْهَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] لَمْ يُكَفَّرْ لِاحْتِمَالِ شُبْهَتِهِ فَلَمَّا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ صَارَ مُسْتَحِلُّهَا كَافِرًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَحِلِّينَ لِمَنْعِهَا، فَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِوُجُوبِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَعَلُّقِهَا بِأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَبْدَانِهِمْ، فَكَانَ الْمَالُ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَهُمْ. وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَى أَدَائِهَا فَكَانَتْ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. فَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِ. وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا قُوتِلُوا لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الطَّاعَةِ، كَانَ قِتَالُهُمْ فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ نَوْعَانِ: عَلَى أَبْدَانٍ، وَفِي أَمْوَالٍ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 فَلَمَّا قُوتِلُوا فِي عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ قُوتِلُوا فِي عبادات الأموال. وقولهم: إِنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُوَصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِقِتَالِهِمْ، صَارَ قِتَالُهُمْ موصلاً إلى أخذ الحق منم، وَمَا أَوْصَلَ إِلَى الْحَقِّ كَانَ حَقًّا. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهَا، فَلَمْ يُحَارِبْهُمْ عَلَيْهَا، وَخَالَفَتِ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَاتَلُوا عَلَى إِخْرَاجِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَإِنْ لَمْ يُقَاتَلُوا عَلَى دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قِتَالِهِمْ عَلَى مَنْعِهَا، فَإِنْ قَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَخَذَ زَكَاتَهَا مِنْهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ نُظِرَ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا لِرَفْعِ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهَا لَمْ يُقَاتِلْهُمْ لِأَنَّ هَذَا تَمْكِينٌ مِنَ الزَّكَاةِ. وَإِنْ كَانَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الدَّفْعِ عَنْهَا، كَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ، حَتَّى يُظْهِرُوا الطَّاعَةَ بِأَدَائِهَا طَوْعًا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ نَفَرًا يَسِيرًا قَلِيلِي الْعَدَدِ وَيُعْرَفُ أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يَمْتَنِعُ إِذَا أُرِيدُوا فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ وَنَابَذُوا الْإِمَامَ الْعَادِلَ وَقَالُوا نَمْتَنِعُ مِنَ الْحُكْمِ فَأَصَابُوا أَمْوَالًا وَدِمَاءً وَحَدَّدُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُتَأَوِّلِينَ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَأُخِذَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَأَوِّلِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ - إِذَا قَلَّ أَهْلُ الْبَغْيِ وَلَمْ يَنْفَرِدُوا بِدَارٍ وَنَالَتْهُمُ الْقُدْرَةُ، وَلَمْ يَمْنَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةٍ وَقُوَّةٍ لَمْ يُؤَثِّرْ مَا تَأَوَّلُوهُ فِي سُقُوطِ الْحُقُوقِ عَنْهُمْ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. فَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ مِنْ أَسْوَأِ الْبُغَاةِ مُعْتَقَدًا وأعظمهم إجراماً، قال - وعلي - كرم الله وجهه - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ: وَاللَّهِ لَأُرِيحَنَّهُمْ مِنْكَ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: اقْتُلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَنِي وَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَبَاتَ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فخرج علي - عليه السلام - لِصَلَاةِ الْفَجْرِ مُغَلِّسًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَنْشَدَ بِالِاتِّفَاقِ قول الشاعر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 (اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ آتِيكَ) (وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ ... إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ) وَأَحْرَمَ بِرَكْعَتِي الْفَجْرِ، فَأَمْسَكَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَنْهُ فِي الركعة الأول حَتَّى قَدَّرَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، وَرَأَى سُجُودَهُ أَطْوَلَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَكَذَا السُّنَّةُ. فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ضَرْبَهُ فِي سُجُودِهِ ضَرْبَةً فَلَقَ بِهَا هَامَتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَأُخِذَ ابْنُ مُلْجِمٍ فَحُمِلَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: اقْتُلْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَكَ. فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَنِي، إِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي أَعْفُو إِنْ شِئْتُ وَإِنْ شِئْتُ اسْتَقَدْتُ، وَإِنْ مُتُّ فَقَتَلْتُمُوهُ فَلَا تُمَثِّلُوا وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. وَكَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ، قَالَ: أَطْعِمُوهُ وَأَحْسِنُوا إِسَارَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِي دَارِهِ ابْنُ مُلْجِمٍ. فَلَمَّا مَاتَ قَتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَوَدًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي النَّاسِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا أَنْكَرَ قَتْلَهُ وَلَا عَابَهُ أَحَدٌ. فَدَلَّ عَلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ الِامْتِنَاعِ وَالْقُدْرَةِ. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الِامْتِنَاعِ وَالْكَثْرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَأَلُّفِهِمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُنْفَرِدُ مَقْهُورٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأَلُّفِهِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُمْتَنِعِ وَغَيْرِ الْمُمْتَنِعِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَتْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ جَمَاعَةٌ تَكْبُرُ وَيَمْتَنِعُ مِثْلُهَا بِمَوْضِعِهَا الَّذِي هِيَ بِهِ بَعْضَ الِامْتِنَاعِ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُنَالُ إِلَّا حتى تكثر نكايته واعتقدت ونصبت إماماً وأظهرت حكما وامتنعت من حكم الإمام العادل فهذه الفئة الباغية التي تفارق حكم من ذكرنا قبلها فإن فعلوا مثل هذا فينبغي أن يسألوا ما نقموا فإن ذكروا مظلمة بينة ردت وإن لم يذكروها بينة قيل عودوا لما فارقتم من طاعة الإمام العادل وأن تكون كلمتكم وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة وأن لا تمتنعوا من الحكم فإن فعلوا قبل منهم وإن امتنعوا قيل إنا مؤذنوكم بحرب فإن لم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 يجيبوا قوتلوا ولا يقاتلوا حتى يدعوا ويناظروا إلا أن يمتنعوا من المناظرة فيقاتلوا حتى يفيئوا إلى أمر الله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّهُمْ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ خَرَجُوا عَنِ الْقُدْرَةِ بِالِامْتِنَاعِ وَالْكَثْرَةِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالْجُيُوشِ وَالْمُقَاتِلَةِ. فَهُمْ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي إِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ لَا يَضْمَنُونَ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ، وَفِي تَضْمِينِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي ثَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ قَوْلَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ كَانَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ كَابْنِ مُلْجِمٍ وَأَشْيَاعِهِ، فَأَحْكَامُنَا عَلَيْهِمْ جَارِيَةٌ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ، سَوَاءٌ اسْتَهْلَكُوهَا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوِ اسْتَهْلَكُوهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْعَدْلِ بِضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ عَلَيْهِمْ مِنْ دِمَاءٍ وَأَمْوَالٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدُوا بِدَارٍ لِكَثْرَتِهِمْ وقوتهم غير أنهم لم يتظاهروا بخلع الطَّاعَةِ، وَلَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ، فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَإِنْ خَالَفُوا أَهْلَ الْعَدْلِ فِي مُعْتَقَدِهِمْ. فَقَدِ اعْتَزَلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ عَلِيًّا وَخَالَفُوهُ فِي رَأْيِهِ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ عَامِلًا، فَأَطَاعُوهُ، فَكَفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ أَنْ سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ أُقِيدُ مِنْهُ، قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّظَاهُرِ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ هُمْ بِهِ مُؤَاخَذُونَ وَلَهُ ضَامِنُونَ. كَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ، وَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَنْ تَظَاهَرَ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي قِتَالِهِمْ إِذَا تَظَاهَرُوا بِخَلْعِ الطَّاعَةِ، وَالْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ يَتَظَاهَرُوا. وَالثَّانِي: فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ إِذَا تَظَاهَرُوا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا لم يتظاهروا والله أعلم. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْفَيْئَةُ الرُّجُوعُ عَنِ الْقِتَالِ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ التَّرْكِ لِلْقِتَالِ أَيْ حَالَ تركوا فيها القتال فقد فاءوا وحرم قتالهم لأنه أمر أن يقاتل وإنما يقاتل من يقاتل فإذا لم يقاتل حرم بالإسلام أن يقاتل فأما من لم يقاتل فإنما يقال اقتلوه لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 قاتلوه نادى منادي علي رضي الله عنه يوم الجمل أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جريح وأتى علي رضي الله عنه يوم صفين بأسير فقال له علي لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين فخلى سبيله والحرب يوم صفين قَائِمَةٌ وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا منتصفاً أو مستعلياً فبهذا كله أقول وأما إذا لم تكن جماعة ممتنعة فحكمه القصاص قتل ابن ملجم عليا متأولاً فأمر بحبسه وقال لولده إن قتلتم فلا تمثلوا ورأى عليه القتل وقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وفي الناس بقية من أصحاب النبي فما أنكر قتله ولا عابه أحد ولم يقد علي وقد ولي قتال المتأولين ولا أبو بكر من قتله الجماعة الممتنع مثلها على التأويل على ما وصفنا ولا على الكفر وإن كان بارتداد إذا تابوا قد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يضمن عقلاً ولا قوداً فأما جماعة ممتنعة غير متأولين قتلت وأخذت المال فحكمهم حكم قطاع الطريق (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ في قتال أهل الردة لأنه ألزمهم هناك ما وضع ههنا عنهم وهذا أشبه عندي بالقياس) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . فَكَانَ قَوْلُهُ: {فَقَاتِلُوا} يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ لَا بِقَتْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أمر الله} هُوَ الْغَايَةُ فِي إِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ. وَالْفَيْئَةُ فِي كَلَامِهِمْ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ تَتَّفِقُ أَحْكَامُهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ، فَهُوَ غَايَةُ مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَرَجُوا بِهِ مِنَ الْبَغْيِ اسْمًا وَحُكْمًا، وَصَارُوا دَاخِلِينَ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُلْقُوا سِلَاحَهُمْ مستسملين فَالْوَاجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ لَا بِقَتْلِهِمْ، وَخَالَفُوا أَهْلَ الْحَرْبِ إِذَا أَلْقَوْا سِلَاحَهُمْ فِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَتْلِهِمْ، وَفِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قِتَالِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوَلُّوا مُنْهَزِمِينَ فَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَلَا يُتْبَعُوا بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ. فَقَدْ نَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ يَوْمَ الجمل: أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 مَرْوَانُ فَقَالَ لِي: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ غَلَبَةً مِنْ أَبِيكَ، مَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَلَّيْنَا يَوْمَ الْجَمَلِ حَتَّى نَادَى مُنَادِيهِ: أَلَا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح. وَلَمَّا وَلَّى الزُّبَيْرُ عَنِ الْقِتَالِ وَخَرَجَ عَنِ الصَّفِّ، قَالَ عَلِيٌّ: أَفْرِجُوا لِلشَّيْخِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ، فَمَضَى وَأَتْبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ. حَتَّى ظَفِرَ بِاغْتِيَالِهِ فَقَتَلَهُ بِوَادِي السِّبَاعِ وَأَتَى عَلِيًّا بِرَأْسِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ. فَقَالَ عَمْرٌو: أُفٍّ لَكُمْ إِنْ كُنَّا مَعَكُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ فِي النَّارِ، فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ: (أَتَيْتُ عَلِيًّا بِرَأْسِ الزُّبَيْرِ ... وَكُنْتُ أَظُنُّ بِهَا زُلْفَتِي) (فَبَشَّرَ بِالنَّارِ قَبْلَ الْوَعِيدِ ... وَبِئْسَ بِشَارَةُ ذِي التُّحْفَةِ) وَوَلَّى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ حَتَّى رَمَاهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِسَهْمٍ فِي أَكْحَلِهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ فِي عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ سَارَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَعَهُ قَنْبَرٌ مَوْلَاهُ بِمِشْعَلَةٍ يَتَصَفَّحُ الْقَتْلَى، فَمَرَّ بِطَلْحَةَ قَتِيلًا، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَبَكَى وَقَالَ: أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نجوم السماء، لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، شَفَيْتُ غَيْظِي وَقَتَلْتُ مَعْشَرِي إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: فَتًى كَانَ يُعْطِي السَّيْفَ فِي الرَّوْعِ حَقَّهُ إِذَا ثَوَّبَ الدَّاعِي وَيَشْقَى بِهِ الْجَوْرُ (فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ ... إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ) (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ لَا يُتْبَعُونَ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى غَيْرِ دَارٍ يَرْجِعُ إِلَيْهَا، وَإِلَى غَيْرِ إِمَامٍ يَعُودُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَبَيْنَ الْمُنْهَزِمِ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ، وَيُتْبَعُ الْمُنْهَزِمُ إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ وَيُقْتَلُ إِنْ ظُفِرَ بِهِ. احْتِجَاجًا: بِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّبِعْ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ، لِأَنَّهُمُ انْهَزَمُوا إِلَى غَيْرِ دَارٍ وَإِمَامٍ، وَاتَّبَعَ مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ صِفِّينَ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى دَارٍ وَإِمَامٍ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ اتَّبَعَ مُدْبِرًا ليقتله فكشف عن سؤته فَكَفَّ عَلِيٌّ طَرْفَهُ وَرَجَعَ عَنْهُ. قَالَ: وَلِأَنَّ الِانْهِزَامَ مَعَ بَقَاءِ الدَّارِ وَالْإِمَامِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْبَغْيِ، وَلَا مَانِعًا مِنَ الْعَوْدِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ لَهُ الْأَسِيرُ: أَتَقْتُلُنِي صَبْرًا. فَقَالَ: لَا إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ قَائِمَةٌ، وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا مُسْتَعْلِيًا أَوْ مُنْتَصِفًا. يَعْنِي: مُسْتَعْلِيًا بِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، أَوْ مُنْتَصِفًا بِمُسَاوَاةِ الْجَيْشِ. وَأُتِيَ مُعَاوِيَةُ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْأَسِيرُ: وَاللَّهِ مَا تَقْتُلُنِي لِلَّهِ وَلَا فِيهِ وَلَكِنْ لِحُطَامِ هَذِهِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عَفَوْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ سَبَبْتَ فَأَحْسَنْتَ وخلى سبيل. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالْمُوَلِّي غَيْرُ مُقَاتِلٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ. وَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِتَالِ الْكَفُّ وَالْمُوَلِّي كَافٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتْبَعَ. فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِنِدَائِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ دُونَ صِفِّينَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي الْيَوْمَيْنِ مَعًا أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحٍ. وَالثَّانِي: إِنّهُ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ فِي النِّدَاءِ فَلِأَنَّ الْحَرْبَ انْجَلَتْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَتَفَرَّغَ لِلنِّدَاءِ، وَكَانَتْ يَوْمَ صِفِّينَ بَاقِيَةً فَتَشَاغَلَ بِتَدْبِيرِ الْحَرْبِ عَنِ النِّدَاءِ. وَأَمَّا طَلَبُهُ لِلْأَسِيرِ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الصُّفُوفِ وَبَقَاءِ الْقِتَالِ. وَاحْتِجَاجُهُمْ بِجَوَازِ عَوْدِهِ فَلَا مَعْنًى لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ لَمْ تَكُنْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ وَأَكْفَرُوهُمْ لم يحل بذلك قتالهم بلغنا أن علياً رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخَوَارِجُ، فَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ وَرَأْيٍ اعْتَقَدُوهُ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ إِحْدَى الْكَبَائِرِ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، وَاسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ صَارَتْ بِظُهُورِ الْكَبَائِرِ فِيهَا دَارَ كُفْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَجَرَى عَلَى حُكْمِهِمْ فَكَذَلِكَ. فَاعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ وَأَكْفَرُوهُمْ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَسُمُّوا شُرَاةً، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ على وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَسْمِيَةُ ذَمٍّ، سَمَّاهُمْ بِهِ أَهْلُ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ شَرَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَحَارَبُوا جَمَاعَتَهُمْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَسْمِيَةُ حَمْدٍ، سَمَّوْا بِهَا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهُمْ شَرَوُا الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أَيْ بَاعُوهَا. فَإِذَا اعْتَقَدَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَظَهَرَ مُعْتَقَدُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ غَيْرُ مُنَابِذِينَ لَهُمْ وَلَا مُتَجَرِّئِينَ عَلَيْهِمْ تُرِكُوا عَلَى حَالِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ وَلَا قِتَالُهُمْ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا جَبْرًا بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَذْهَبِهِمْ وَالرُّجُوعِ عَنْ تَأْوِيلِهِمْ وَعُدِلَ إِلَى مُنَاظَرَتِهِمْ وَإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَإِنْ كَانُوا عَلَيْهَا مُقِرِّينَ. فَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلِيُّ بن أبي طالب - عليه السلام - قَبْلَ أَنْ يَعْتَزِلُوهُ وَسُمِعَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ - تَعْرِيضًا بِهِ فِي تَحْكِيمِهِ يَوْمَ صِفِّينَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها باطل - وهذا أحسن جواباً لِمَنْ عَرَّضَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ - ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بِقِتَالٍ. فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِيهِمْ كَهِيَ فِي أهل العدل، واقتضى فِي ذَلِكَ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمُنَافِقِينَ فِي كَفِّهِ عَنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِمُعْتَقَدِهِمْ لِتَظَاهُرِهِمْ بِطَاعَتِهِ مَعَ اسْتِبْطَانِ مَعْصِيَتِهِ. فَإِنْ صرح الخوارج الإمام بسب أَهْلِ الْعَدْلِ: عُزِّرُوا لِلْأَذَى وَذَبًّا عَنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ. وَإِنْ عَرَّضُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ فَفِي تَعْزِيرِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعَزَّرُونَ، لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُعَزِّرْ مَنْ عَرَّضَ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ. وَالثَّانِي: إِنّهُمْ يُعَزَّرُونَ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى التَّعْرِيضِ مُفْضٍ إِلَى التَّصْرِيحِ، فَكَانَ التَّعْزِيرُ حَاسِمًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّصْرِيحِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَتَلُوا وَالِيَهُمْ أَوْ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا أَوْ يُظْهِرُوا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِمَامِ كَانَ عَلَيْهِمْ في ذلك القصاص قد سلموا وأطاعوا والياً عليهم من قبل علي ثم قتلوه فأرسل إليهم علي رضي الله عنه أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به قالوا كلنا قتله قال فاستسلموا نحكم عليكم قالوا لا فسار إليهم فقاتلهم فأصاب أكثرهم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوَارِجُ فِي مَوْضِعٍ تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَقَصَدُوا بِالِاعْتِزَالِ أَنْ يَنْفَرِدُوا عَنْ مُخَالِفِهِمْ وَيَتَسَاعَدُوا عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ، كَانَتْ دَارُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ تُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَتُسْتَوْفَى مِنْهُمُ الْحُقُوقُ ولا يبدأوا بحرب ولا قتال ما لم يبدأوا بِالْمُنَابَذَةِ وَالْقِتَالِ. فَإِنْ قَتَلُوا عَامِلَهُمُ الْوَالِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ، ثُمَّ أَظْهَرُوا خَلْعَ الْإِمَامِ وَنَابَذُوهُ أَجْرَى الْإِمَامُ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ بِمَا أَظْهَرُوا بَعْدَ الْقَتْلِ مِنَ الْخَلْعِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ كَانُوا مَأْخُوذِينِ بِضَمَانِهِ. فقد ولى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النَّهْرَوَانِ عَامِلَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَقَدِ اعْتَزَلُوهُ فَكَانَ نَاظِرًا فِيهِمْ كَنَظَرِهِ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ، إِلَى أَنْ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: مَا تَقَوُلُ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي خَلِيفَتَيْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِمَامَيِ الْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: مَا تَقُولُ فِي عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: فِي السِّتِّ الْأَوَائِلِ خَيْرًا. وَأَمْسَكَ عَنِ السِّتِّ الْأَوَاخِرِ. فَقَالُوا: مَا تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُ الْمُتَّقِينَ. فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَذَبَحُوهُ، فَرَاسَلَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ سَلِّمُوا إِلَيَّ قَاتِلَهُ أَحْكُمْ فِيهِ بِحُكْمِ اللَّهِ. قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ فَدَلَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ إِقْرَارِهِمْ وَإِنِ اعْتَزَلُوا مَا كَانُوا مُتَظَاهِرِينَ بِالطَّاعَةِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِخَلْعِ الطَّاعَةِ. فَأَمَّا مَنْ قَتَلُوهُ بَعْدَ خَلْعِ الطَّاعَةِ وَإِظْهَارِ الْمُنَابَذَةِ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ، اخْتُصَّ بِالْقَاتِلِ مِنْهُمْ، فَإِنْ سَلَّمُوهُ لَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُ مِنْ مُعِينٍ وَلَا مُشِيرٍ، وَفِي انْحِتَامِ الْقِصَاصِ وَجْهَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُنْحَتِمٌ كَالْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ فِي إِشْهَارِ السِّلَاحِ كَالْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. فَعَلَى هَذَا: يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ وَلِيِّهِ وَطَلَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنّهُ غَيْرُ مَنَحْتِمٍ، يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي غَيْرِهِمْ كَجَرَيَانِ حُكْمِ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَعَلَى هَذَا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَحْضُرَ وَلِيُّهُ مُطَالِبًا، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُمَا. فَإِنْ لم يسلموا القاتل، جاز قتال جمعيهم وَحَلَّ قَتْلُهُمْ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ. فَإِنِ انْجَلَتِ الْحَرْبُ عَنْ بَقِيَّةٍ مِنْهُمْ كَفَّ عَنْ قَتْلِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ فِيهِمْ، فَيُقْتَلُ قَوَدًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ في انحتامه. (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا قَاتَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَوْ عَبْدٌ أَوْ غُلَامٌ مُرَاهِقٌ قُوتِلُوا مقبلين وتركوا مولين لأنهم منهم) . وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا قَاتَلَ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ كَانُوا فِي حُكْمِهِمْ يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يكونوا من أهل البيعة والجهاد، لأنم قَدْ صَارُوا فِي وُجُوبِ كَفِّهِمْ عَنِ الْقِتَالِ كَالرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ وَالْجِهَادِ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ جَارٍ مَجْرَى الدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَهُ دَفْعُ الطَّالِبِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، كَذَلِكَ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْبُغَاةِ يُدْفَعُ وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا. وَلَا يُضْمَنُونَ وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، كَمَا لَا يُضْمَنُ الرَّجُلُ الْبَالِغُ، وَلَا تُضْمَنُ الْبَهِيمَةُ إِذَا صَالَتْ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْإِسَارِ وَلَوْ أُسِرَ بَالِغٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ فَحُبِسَ لِيُبَايِعَ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ وَلَا يَسَعُ أَنْ يُحْبَسَ مَمْلُوكٌ وَلَا غَيْرُ بَالِغٍ مِنَ الْأَحْرَارِ وَلَا امْرَأَةٌ لِتُبَايِعَ وَإِنَّمَا يُبَايِعُ النِّسَاءُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُنَّ لَا جِهَادَ عَلَيْهِنَّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: - وَهَذَا صَحِيحٌ - إِذَا أُسِرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ أَسْرَاهُمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُقْسَمُ فَيْئُهُمْ - وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ. وَلِأَنَّ سِيرَةَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمْ كَانَتْ هَكَذَا، وَعَلَيْهَا عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قَتْلَهُمْ. وَلِأَنَّهُمْ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْبَغْيِ فِي حُكْمِ الطَّالِبِ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ كَفِّهِ، كَذَلِكَ الْبُغَاةُ، وَهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَتْلُهُمْ بِقِتَالِهِمْ فَافْتَرَقُوا. فَعَلَى هَذَا: لَوْ قُتِلَ أَسِيرٌ مِنْهُمْ ضَمِنَهُ الْقَاتِلُ بِالدِّيَةِ، وَفِي ضَمَانِهِ بِالْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَادُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ مَحْظُورُ النَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقَادُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِالْحُدُودِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ قَتْلَهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ مَحْظُورٌ، فَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَحْرَارًا بَالِغِينَ، فَيُدْعَوْا إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا إِلَيْهَا وَبَايَعُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا أُطْلِقُوا وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَخْذُ رَهَائِنِهِمْ وَلَا إِقَامَةُ كُفَلَائِهِمْ، وَوُكِلُوا إِلَى مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَسْتَكْشِفُوا عَنْ ضَمَائِرِهِمْ. وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ عَلَى طَاعَتِهِ حُبِسُوا إِلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمُ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ وُجُوبِ الْبَيْعَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ حُبِسَ بِهِ كَالدُّيُونِ - وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حَبْسُهُمْ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: يُحْبَسُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي حَبْسِهِمْ أَنْ تَضْعُفَ مُقَاتَلَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ التَّعْلِيلَيْنِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 لِأَنَّهُمْ لَوْ حُبِسُوا لِوُجُوبِ الْبَيْعَةِ لَمَا جَازَ إِطْلَاقُهُمْ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ إِلَّا بِهَا. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حَبْسُهُمْ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَسْرَى مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، فَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ لِوُجُوبِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ، وَالصِّبْيَانُ لَا بَيْعَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا فِي الْجِهَادِ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْإِسَارِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُمْ عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حَبْسِهِمْ لِإِضْعَافِ الْبُغَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ فِي حَبْسِ أَهْلِ الْجِهَادِ مِنْهُمْ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْبَسُونَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عِلَّةَ حَبْسِهِمْ وُجُوبُ الْبَيْعَةِ عليهم ولالوجه الثَّانِي: يُحْبَسُونَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عِلَّةَ حَبْسِهِمْ إضعاف البغاة بهم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا إِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَلَا يُحْبَسُ أَسِيرُهُمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ انْقِضَاءَ الْحَرْبِ تَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي الْبَيْعَةِ، فَيُطْلَقُ أَسْرَاهُمْ كَمَا خُلِّيَتْ سَبِيلُهُمْ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَنْقَضِيَ بِالِاسْتِسْلَامِ وَإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ اسْتِسْلَامِهِمْ وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقْتَلُوا، وَتَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ مَنِ اعْتَقَدَ رَأْيَهُمْ مُوَادِعًا، فَيُخْلَى سَبِيلُهُمْ وَسَبِيلُ أَسْرَاهُمْ. فَإِنِ اخْتَلَطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ: كَانُوا عَلَى حُكْمِهِمْ. وَإِنْ تَمَيَّزُوا بِدَارٍ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَالِيًا لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُمُ الْحُقُوقَ وَيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ، وَكَانَتْ دَارُهُمْ دَارَ عَدْلٍ وَإِنْ كَانُوا عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْبَغْيِ، اعْتِبَارًا بِنُفُوذِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقَضِي الْحَرْبَ بِهَزِيمَتِهِمْ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمْ لَا يُتْبَعُونَ سواء كانت لهم فيئة يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يرى اتباعهم إن كانت لهم فيئة يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا - وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 فَأَمَّا أَسْرَاهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْهَزِمِينَ دَارٌ وفيئة يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا: أُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ دار وفيئة: فَفِي إِطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِمْ، إِنَّهُمْ يُسْتَبْقَوْنَ فِي حَبْسِهِمْ وَلَا يُطْلَقُونَ إِلَّا أَنْ يُبَايِعُوا وَلَا تَبْقَى لَهُمْ دَارٌ وفيئة. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي حبسهم، أنم يُطْلَقُونَ لِمَا قَدْ تَمَّ مِنْ ضَعْفِهِمْ بِالْهَزِيمَةِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَأَلُوا أَنْ يُنْظَرُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا عَلَى مَا يَرْجُو الْإِمَامُ مِنْهُمْ وَإِنْ خَافَ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ رَأَيْتُ تَأْخِيرَهُمْ إِلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا سَأَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ إِنْظَارَهُمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْإِنْظَارِ قَرِيبًا كَالْيَوْمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا تَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ وَلَا يَتَبَاعَدُ فِيهِ مُعَسْكَرُهُ، فَيُجَابُونَ إِلَيْهِ، وَيُنْظِرُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَعَسْكَرُهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ، وَيَتَحَرَّزُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يَدُومُ اتِّصَالُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اسْتِرَاحَةِ عَسْكَرِهِ وَدَوَابِّهِ، فَيَجْعَلُهَا إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْأَلُوهُ الْإِنْظَارَ مُدَّةً طَوِيلَةً كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ يَبْعُدُ فِيهَا الْمُعَسْكَرُ وَيَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَصْلَحِ، بِالْكَشْفِ عَنْ سَرَائِرِهِمْ وَعَنْ أَحْوَالِ عَسْكَرِهِمْ. فَإِنْ عَلِمَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمُ الْإِنْظَارَ لِيَسْتَوْضِحُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ أَوْ لِيَجْمَعُوا كَلِمَةَ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَنْظَرَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ فِي عَسْكَرِهِ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ضَعْفٌ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الِاصْطِلَامِ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ لِيَجْمَعُوا فِيهَا مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ عَسَاكِرَ أَوْ أَمْوَالٍ أَوْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ لِيَطْلُبُوا لَهُ الْمَكَايِدَ أَوْ لِيَتَفَرَّقَ عَنْهُ الْعَسْكَرُ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ. نَظَرَ حِينَئِذٍ إِلَى حَالِ عَسَاكِرِهِ: فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمْ قُوَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَصَبْرًا عَلَى مُطَاوَلَتِهِمْ لَمْ يُنْظِرْهُمْ وَأَقَامَ عَلَى حَرْبِهِمْ حَتَّى يُذْعِنُوا بِالطَّاعَةِ أَوْ يَنْهَزِمُوا. وَإِنْ وَجَدَ فِي عَسْكَرِهِ ضَعْفًا عَنْهُمْ وَعَجْزًا عَنْ مُطَاوَلَتِهِمْ أَنْظَرَهُمْ لِيَلْتَمِسَ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِعَسَاكِرَ أَوْ بِأَمْوَالٍ، وَجَعَلَ ظَاهِرَ الْإِنْظَارِ إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ لِيُقِيمُوا عَلَى الْكَفِّ وَالْمُوَادَعَةِ، وَبَاطِنَ إِنْظَارِهِمُ الْتِمَاسَ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يغفل عنهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 (فَصْلٌ) فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ مُدَّةً لَا يَجُوزُ إِنْظَارُهُمْ إِلَيْهَا عَلَى مَالٍ بَذَلُوهُ، لَمْ يَجُزْ إِنْظَارُهُمْ بِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى الْمُوَادَعَةِ صَغَارٌ وَذِلَّةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ رُبَّمَا أَخْرَجُوهُ إِلَى إِضْعَافِهِ بِمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ. فَإِنْ أُخِذَ مِنْهُمُ الْمَالُ عَلَى الْإِنْظَارِ بَطَلَ حُكْمُ الْإِنْظَارِ، وَنُظِرَ فِيمَا دَفَعُوهُ مِنَ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ لَمْ يُرَدَّ، وَصُرِفَ فِي مُسْتَحِقِّيهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ خِيفَ الْمَكْرُ بِإِنْظَارِهِمْ فَبَذَلُوا رَهَائِنَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الْإِنْظَارُ مِمَّا لَا تَجُوزُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الرَّهَائِنِ لَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ بِبَذْلِ الرَّهَائِنِ. وَإِنْ جَازَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ الرَّهَائِنِ كَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الرَّهَائِنِ أَوْلَى. فَإِنْ عَادَتِ الْحَرْبُ وَرَهَائِنُهُمْ فِي أَيْدِينَا، لَمْ تُقْتَلْ رَهَائِنُهُمْ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَتَلُوهُمْ، وَفِي أَيْدِينَا لَهُمْ أُسَارَى مِنْهُمْ أَوْ رَهَائِنُ لَهُمْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُمْ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ قُتِلَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَسُبُوا وَلَا يَكُونُ هَذَا أَمَانًا إِلَّا عَلَى الْكَفِّ فَأَمَّا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: - وَهَذَا صَحِيحٌ - إِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَعْطَوْهُمْ، نُظِرَ حَالُ الْأَمَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَشْرُوطًا بِقِتَالِنَا. فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا: صَحَّ الْأَمَانُ لَهُمْ، وَكَانَ عَقْدُ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُمْ كَعَقْدِ أَهْلِ الْعَدْلِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 ويصيرون بهذا الأمان أمنيين مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، لِعُمُومِهِ وَصِحَّتِهِ، مَا لَمْ يُقَاتِلُونَا، فَإِنْ قَاتَلُونَا صَارُوا كَأَهْلِ الْعَهْدِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا قَاتَلُوا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ مَشْرُوطًا بِقِتَالِهِمْ مَعَهُمْ، كَانَ هَذَا الْأَمَانُ بَاطِلًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ عَقْدُ الْأَمَانِ لَهُمْ بِقِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى قِتَالِنَا. وَالثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَنَأْمَنَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وَلَا نَأْمَنَهُمْ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَمَانُ بِمَا ذَكَرْنَا سَقَطَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَزِمَ حُكْمُهُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ بَطَلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَجَازَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَسَبْيُهُمْ وَقَتْلُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، كَمَا يُقْتَلُونَ وَيُقَاتَلُونَ فِي جِهَادِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. وَلَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ قَتْلُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ وَإِنْ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ أَمَانِهِمْ لِلُزُومِهِ فِي الْخُصُوصِ وَإِنْ بَطَلَ فِي العموم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ كَانَ لَهُمْ أَمَانٌ فَقَاتَلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ كَانَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إذا كان لطائفة من المشركين عهداً بِأَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ، فَاسْتَعَانَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا، كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ إِذَا قَاتَلُونَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بِنَقْضِهِ إِذَا خِفْنَاهُمْ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ بِقِتَالِهِمْ. وَلِأَنَّ إِعْطَاءَ الْعَهْدِ لَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَتِنَا لَا لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلُوا الْعَهْدَ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ حَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَاهِدَهُمْ، فَإِذَا قَاتَلُوا زَالَتِ الْمَصْلَحَةُ فَبَطَلَ الْعَهْدُ عُمُومًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ خُصُوصًا. وَجَازَ لَنَا قَتْلُهُمْ وَسَبْيُهُمْ، وَقِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. فَإِنْ أَسْلَمُوا: لَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَبِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ قِتَالَنَا مَعَهُمْ مُبْطِلٌ لِعَهْدِنَا مَعَكُمْ. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ فِي بَقَاءِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ، لِأَنَّ الْأَمَانَ هُوَ الْكَفُّ وَالْمُوَادَعَةُ، فَضَعُفَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْجَهَالَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 فَإِنِ ادَّعَوُا الْإِكْرَاهَ: كُلِّفُوا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى إِكْرَاهِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا بَيِّنَةً، كَانُوا عَلَى عَهْدِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ، وَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ حُدُوثُهُ عَنِ اخْتِيَارِ فَاعِلِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَقَدْ قِيلَ لَيْسَ هذا نقضا للعهد قال وأرى إن كانوا مكرهين أو ذكروا جهالة فقالوا كنا نرى إذا حملتنا طائفة من المسلمين على أخرى أن دمها يحل كقطاع الطريق أو لم نعلم أن من حملونا على قتاله مسلم لم يكن هذا نقضا للعهد وأخذوا بكل ما أصابوا من دم ومال وذلك أنهم ليسوا بمؤمنين الذين أمر الله بالإصلاح بينهم) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَصْحَابِ الْجِزْيَةِ. فَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ: لَمْ تَنْتَقِضْ ذِمَّتُهُمْ. وَإِنْ كَانُوا مُخْتَارِينَ: فَإِنِ ادَّعَوْا جَهَالَةً وَقَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّ مَعُونَتَنَا لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضِ جَائِزَةٌ كَمَا نُعِينُكُمْ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، قُبِلَ مِنْهُمْ دَعْوَى الْجَهَالَةِ، وَلَمْ تُنْقَضْ ذِمَّتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَانْتَقَضَ بِهِ عَهْدُهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ حَقٌّ لَهُمْ عَلَيْنَا، وَعَهْدَ الْأَمَانِ حَقٌّ لَنَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ سَأَلَ الْأَمَانَ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ، وَمَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ لَزِمَتْ إِجَابَتُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ لَنَا مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ أَنْ نَنْقُضَ أَمَانَ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَلَيْسَ لَنَا مَعَ خَوْفِهَا أَنْ نَنْقُضَ أَمَانَ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى نَتَيَقَّنَهَا - فَافْتَرَقَا. وَإِنْ لم يدعوا الجهالة لم يخلوا عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ، فَيَكُونُ مَا خَالَفَ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ قِتَالِهِمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ مُطْلَقًا، لم يشترط ذلك في، فَفِي انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدِ انْتَقَضَتْ بِالْقِتَالِ ذِمَّتُهُمْ كَمَا انْتَقَضَ بِهِ أَمَانُ أَهْلَ الْعَهْدِ. فَعَلَى هَذَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَهْلِ الْعَهْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُنْتَقَضُ بِهِ ذِمَّتُهُمْ وَإِنِ انْتَقَضَ بِهِ أَمَانُ أَهْلَ الْعَهْدِ، لِقُوَّةِ الذِّمَّةِ عَلَى الْعَهْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 أَحَدُهُمَا: إِنَّ الذِّمَّةَ مُؤَبَّدَةٌ وَالْعَهْدَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الذِّمَّةَ تُوجِبُ أَنْ نَكُفَّ عَنْهُمْ أَنْفُسَنَا وَغَيْرَنَا، وَالْعَهْدَ لَا يُوجِبُ أَنْ نَكُفَّ عَنْهُمْ غَيْرَنَا، مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. فَعَلَى هَذَا: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ مُقْبِلِينَ وَنَكُفَّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ، لَكِنْ مَا أَصَابُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُونَ بِغُرْمِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ أَهْلُ الْبَغْيِ بِغُرْمِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ بِتَأْوِيلٍ، وَقِتَالَ أهل الذمة بغير تأويل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَتَى أَحَدُهُمْ تَائِبًا لَمْ يُقَصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُحَرَّمُ الدَّمِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي مُرَادِهِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا مَنِ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَتْلَفُوا فِي حَرْبِنَا دِمَاءً وَأَمْوَالًا ثُمَّ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ وَأَسْلَمُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِغُرْمِهِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَجُعِلَ الْقِتَالُ نَقْضًا لِذِمَّتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ نَقْضًا لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ، وَلَا يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْبُغَاةِ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ بِمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي سُقُوطِهِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهُوَ التَّوْبَةُ، لِأَنَّ عِلَّةَ سُقُوطِهِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ هُوَ التَّأْوِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَهْلَ الْبَغْيِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَتَكُونُ التَّوْبَةُ مَحْمُولَةً عَلَى إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ لِي قَائِلٌ مَا تَقُولُ فِيمَنْ أَرَادَ دَمَ رَجُلٍ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ؟ قُلْتُ يُقَاتِلُهُ وَإِنْ أَتَى الْقَتْلُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِذَلِكَ وَرَوَى حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وقتل نفس بغير نفس) قلت هو كلام عربي ومعناه إذا أتى واحدة من الثلاث حل دمه فمعناه كان رجلا زنى محصنا ثم ترك الزنا وتاب منه وهرب فقدر عليه قتل رجما أو قتل عمداً وترك القتل وتاب منه وهرب ثم قدر عليه قتل قوداً وإذا كفر ثم تاب فارقه اسم الكفر وهذان لا يفارقهما اسم الزنا والقتل ولو تابا وهرباً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا سُؤَالٌ اعْتَرَضَ بِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، لأن قتالهم مفضي إِلَى قَتْلِهِمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) . وَلَيْسَ الْبَاغِي وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَجُعِلَ هَذَا السُّؤَالُ مَقْصُورًا فِيمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ مَنْ أَرَادَهُ بِذَلِكَ. فَاقْتَضَى السُّؤَالُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ وَانْفِصَالًا عَنِ الْخَبَرِ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ مَنْ أَرَادَهُ وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَى نَفْسِهِ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ مِنْ تَرْتِيبِ الدَّفْعِ بِحَالٍ بَعْدَ حَالٍ - قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . وَالشَّهِيدُ مَظْلُومٌ، وَلِلْمَظْلُومِ دَفْعُ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ، وَمَا أُبِيحَ مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَجِبْ بِهِ ضَمَانٌ. وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَبَاحَ الْقَتْلَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهَا: أَحَدُهَا: بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْكُفْرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: بِالزِّنا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، وَفِي سُقُوطِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ خِلَافٌ وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الزِّنا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَالثَّالِثُ: بِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَهَذَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ. فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي وَالْأَسْمَاءُ، صَارَتْ مَعَانِي الْقَتْلِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ دُونَ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رَافِعَةً لِحُكْمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] . وَعَلَى أَنَّ لِلْخَبَرِ تَأْوِيلَيْنِ يُغْنِيَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ صَبْرًا إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَهَذَا لَا يُقْتَلُ صَبْرًا وَإِنَّمَا يَنْتَهِي حَالُهُ إِلَى الْقَتْلِ دَفْعًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 وَالثَّانِي: لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَهَذَا لَا يُقْتَلُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي الْحَالِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإسلام يعلو ولا يعلى) . ولأنهم غير ما مُؤْمِنِينَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا مِنْ إِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى حَظْرَهَا وَأَمَرَ بِالْمَنْعِ مِنْهَا. فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يَرَى قِتَالَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَقَدْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يُخَالِفُ رَأْيَهُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَ مُسْتَخْلِفِهِ، فَيَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ حَنَفِيًّا، وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ شَافِعِيًّا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: إنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ مُدْبِرِينَ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَالْمُعَيَّنُ فِيهِ مَأْمُورٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَالْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الْحُكْمِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ النَّظَرُ، فَسَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ مَنْعُ تَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ. وَالثَّانِي: إنَّهُ مَنْعُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ. فَإِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ لِعَجْزِ أَهْلِ الْعَدْلِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ جَازَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَجِدَ عَوْنًا غَيْرَهُمْ، فَإِنْ وَجَدَ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى رَدِّهِمْ إِنْ خَالَفُوا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِمْ لَمْ يَجُزْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَثِقَ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِوَفَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَحِلُّ دِمَاؤُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعَانَ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَاسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعِينَ دِرْعًا. وَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، وَسَمِعَ أَبَا سُفْيَانَ يَقُولُ: غَلَبَتْ هَوَازِنُ وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ. فَقَالَ لَهُ: بِفِيكَ الْحَجَرُ، وَاللَّهِ لَرَبّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ) . قِيلَ: إِنَّمَا بَرِئَ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِ لِمُشْرِكٍ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُشْرِكِ لِمُسْلِمٍ. وَقد رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ) . وَمَعْنَاهُ: لَا تَرْجِعُوا إِلَى آرَائِهِمْ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نِيَّاتُهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ جَمِيلَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِنِ انْضَمُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَضْعُفِ الْمُسْلِمُونَ عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُؤْمَنَ غدرهم وتخزيلهم. فإذا استكلمت فِيهِمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ اسْتَعَانَ بِهِمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُعِينُ الْعَادِلُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ وَإِنِ اسْتَعَانَتْهُ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيْهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا افْتَرَقَ أَهْلُ الْبَغْيِ طَائِفَتَيْنِ وَقَاتَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَى. فَإِنْ قَوِيَ الْإِمَامُ عَلَى قِتَالِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعُونَةُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى خَطَأٍ، وَالْمَعُونَةُ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خَطَأٌ. وَالثَّانِي: إنَّ مَعُونَةَ إِحْدَاهُمَا أَمَانٌ لَهَا، وَعَقْدُ الْأَمَانِ لَهَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِنْ ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمَا قَاتَلَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ الْأُخْرَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسْتَعِينٌ بِهِمْ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُعِينٌ لَهُمْ، وَلْيَضُمَّ إِلَيْهِ أَقَرَبَهُمَا إِلَى مُعْتَقَدِهِ، وَأَرْغَبَهُمَا فِي طَاعَتِهِ. فَإِنِ اسْتَوَيَا ضَمَّ إِلَيْهِ أَقَلَّهُمَا جَمْعًا، فَإِنِ اسْتَوَيَا ضَمَّ إِلَيْهِ أَقْرَبَهُمَا دَارًا، فَإِنِ اسْتَوَيَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي إِحْدَاهُمَا. فَإِنْ أَطَاعَتْهُ الطَّائِفَةُ الَّتِي قَاتَلَهَا أَوِ انْهَزَمَتْ عَنْهُ، عَدَلَ إِلَى الْأُخْرَى، وَلَمْ يَبْدَأْ بِقِتَالِهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهَا ثَانِيَةً إِلَى طَاعَتِهِ، لِأَنَّ انْضِمَامَهَا إِلَيْهِ كَالْأَمَانِ الَّذِي يَقْطَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ وَالْحَيَاةِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَلَا نَارٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورَةً بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ فَيَخَافُوا الِاصْطِلَامَ أَوْ يُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ فَيَسَعُهُمْ ذَلِكَ دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ كَفُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ، وَالْمَقْصُودَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، فَاخْتَلَفَ قِتَالُهُمَا لِاخْتِلَافِ مَقْصُودِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ الْحَرْبِ. وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهَا. فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي صِفَةِ الْحَرْبِ، فَمِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكْبِسَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بأهل البغي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُحَاصِرَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَيَمْنَعَهُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَخِيلَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُفَجِّرَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْمِيَاهَ لِيَغْرَقُوا، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَحْرِقَ عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ، وَيُلْقِيَ عَلَيْهِمُ النَّارَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالسَّادِسُ: يَجُوزُ أَنْ يُلْقِيَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْحَيَّاتِ وَالْحَسَكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالسَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ الْعَرَّادَاتِ وَيَرْمِيَهُمْ بِالْمَنْجَنِيقَاتِ، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. وَالثَّامِنُ: يَجُوزُ أَنْ يَعْقِرَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَيْلَهُمْ إِذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالتَّاسِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْحَرْبِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، وَلَا يُقَاتِلُ أَهْلَ الْبَغْيِ إِلَّا مُقْبِلِينَ وَيَكُفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي حُكْمِ الْحَرْبِ فَمِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَقْتُلَ أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْهَدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَهْدًا وَهُدْنَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْهَدَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ. وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَهْلَ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَهْلَ الْبَغْيِ. وَالسَّادِسُ: يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ وَأَسْرَى، وَلَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ أَهْلِ البغي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَةِ الْحَرْبِ وَحُكْمِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَوْا بِالْمَنْجَنِيقِ، فَذَلِكَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ. فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ جَازَ أَنْ يُرْمَوْا بِهِ، وَتُلْقَى عَلَيْهِمُ النَّارُ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُقَاتِلُوا أَهْلَ الْعَدْلِ بِذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، قَصْدًا لِكَفِّهِمْ عَنْهُ لَا لِمُقَاتَلَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُبِيحُ الظُّلْمَ، لكن يستدفع الظلم بما أمكن. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحِيطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَيَخَافُوا اصْطِلَامَهُمْ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْمُوهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَيُلْقُوا عَلَيْهِمُ النَّارَ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْهُمْ لَا قَصْدًا لِاصْطِلَامِهِمْ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى بِلَادٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ لَمْ تَعُدْ عَلَيْهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَغَلَّبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِهَا وَجَبَوْا خَرَاجَهَا وَأَقَامُوا الْحُدُودَ عَلَى أَهْلِهَا، أَمْضَى الْإِمَامُ مَا فَعَلُوهُ إِذَا ظَهَرَ عَلَى بِلَادِهِمْ وَلَمْ يُطَالِبْ بِمَا جَبَوْهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَمْ يُعِدْ مَا أَقَامُوهُ من الحدود. لأن علياً - رضوان الله عليه - أَمْضَى ذَلِكَ وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ. وَلِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ فِي جِبَايَتِهِ وَإِقَامَتِهِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى زان حدين. فَإِنِ ادَّعَى أَصْحَابُ الْحُدُودِ إِقَامَتَهَا عَلَيْهِمْ: قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يُحْلَفُوا عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. فَإِنِ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْحُقُوقُ دَفْعَهَا إِلَيْهِمْ. فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةً: قُبِلَ قَوْلَهُمْ فِي دَفْعِهَا وَلَمْ يُكَلَّفُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ فِيهَا أُمَنَاءُ. فَإِنِ اتُّهِمُوا: أُحْلِفُوا، وَفِي يَمِينِهِمْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، إِنْ نَكَلُوا عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، إِنْ نَكَلُوا عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ بِالِاعْتِرَافِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ النُّكُولِ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي ادَّعَوْا أَدَاءَهُ جِزْيَةً أَوْ خَرَاجًا: فَإِنْ كَانَ عَلَى كَافِرٍ: كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ أُجْرَةٌ، وَالْخَرَاجَ إِمَّا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي دَفْعِ الْأُجْرَةِ، وَلَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى دَفْعِهَا بَرِئُوا. وَإِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ. وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى مُسْلِمٍ: فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي دَفْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ وَيَحْلِفُ إِنِ اتُّهِمَ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إنَّ قَوْلَهُ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ. فَإِنْ أَحْضَرُوا خُطُوطًا بِقَبْضِهَا. فَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلشُّبْهَةِ: لَمْ يُعْمَلْ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَلَا فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ. وَإِنْ كَانَتْ سَلِيمَةً مِنَ الِاحْتِمَالِ ظَاهِرَةَ الصِّحَّةِ لَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ وَلَا فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ. وَفِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالْحُقُوقِ، لِدُخُولِ الِاحْتِمَالِ فِيهَا وَإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عليها. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ (وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ وَمَالٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ ولم يقبل كتابه) . قال الماوردي: وقال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه. إِذَا قَلَّدَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَاضِيًا عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي غُلِبُوا عَلَيْهَا، نُظِرَتْ حَالُهُ: فَإِنْ كَانَ يَرَى اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالِهِمْ: كَانَ تَقْلِيدُهُ بَاطِلًا، وَقَضَايَاهُ مَرْدُودَةً، سَوَاءٌ وَافَقَتِ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَتْهُ. لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ فَاسِقٌ، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ بَاطِلَةٌ، وَبُطْلَانُ وِلَايَتِهِ تُوجِبُ رَدَّ أَحْكَامِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى اسْتِبَاحَةَ ذَلِكَ: جَازَ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ بَاغِيًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ مُتَأَوِّلٌ بِشُبْهَةٍ خَرَجَ بِهَا مِنَ الْفِسْقِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا صَحَّ من الباغي أو يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ، صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُنَفِّذَ الْقَضَاءَ، وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَالْعَادِلِ، كَمَا كَانَ فِي التَّقْلِيدِ كَالْعَادِلِ. فَإِذَا حَكَمَ نُفِّذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَمْ يُرَدَّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ أَحْكَامِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِنْ خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ حَكَمَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ نُفِّذَ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا: لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي حَالِ الْقَتْلِ نُفِّذَ حُكْمُهُ لِاحْتِمَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَسَقَطَ عَنْهُمُ الضَّمَانُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَظَاهَرَ بِقَبُولِهِ، وَيَتَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ اسْتِهَانَةً بِهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ بَغْيِهِ. فَإِنْ قَبِلَهُ وَحَكَمَ بِهِ جَازَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَلَا يُنَفِّذَ حُكْمَهُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَرَدِّ أَحْكَامِهِ. وَهَكَذَا يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ كِتَابًا بِحُكْمٍ وَإِنْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْهُ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ سَأَلَ عَلِيًّا - رضوان الله عليه - أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: غَلِطْتُ غَلْطَةً لَا أعذر أَكِيسُ بَعْدَهَا وَاسْتَمرّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلَيْسَ بِقَوْلٍ مُخْتَلِفٍ وَإِنَّمَا وَهِمَ بِهِ الْمُزَنِيُّ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنْ يَشْهَدَ لِمُوَافِقِهِ بِتَصْدِيقِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذا كانوا عدولاً مقبولة، ولا يكونوا بِمَا تَأَوَّلُوهُ مِنَ الْبَغْيِ فُسَّاقًا، لِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ عَنْ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ فُسَّاقٌ، لَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ تَدَيُّنٍ وَاعْتِقَادٍ، وَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ فُسَّاقٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا فِي صِحَّةِ الْعَدَالَةِ مِنْهُمْ وَأَنْ لَا يَصِيرُوا بِالتَّأْوِيلِ الْمُسَوِّغِ فُسَّاقًا أَنَّ الِانْفِصَالَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ لَا يَقْتَضِي التَّفْسِيقَ، كَالْمُنْتَقِلِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَفْسُقُ بِالِانْتِقَالِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ إِلَى مَذْهَبٍ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إِذَا اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ عُدُولُ أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ: أحدهما: أَنْ يَرَى مَنْ خَالَفَهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَالْمَالِ، فيكون بهذه الاستباحة فاسقاً. والحالة الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَقِدَ رَأْيَ الْخَطَّابِيَّةِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِمُوَافِقِهِمْ عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، فَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي أَنَّ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُوجِبٌ لِلْكُفْرِ وَإِحْبَاطِ الطَّاعَاتِ. فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ مَرْدُودَةٌ، وَفِي عِلَّةِ رَدِّهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْفِسْقُ، لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ. وَالثَّانِي: التُّهْمَةُ مَعَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي مُمَاثَلَةِ مُوَافِقِهِ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَالَةٍ. فَعَلَى هَذَا: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِذَا شَهِدَ بِالْحَقِّ مُطْلَقًا، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى إِقْرَار مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَفِي رَدِّ شهادته وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِي الْمُقَيَّدِ كَرَدِّهَا فِي الْمُطْلَقِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي رَدِّهَا الْفِسْقُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُرَدُّ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي رَدِّهَا التُّهْمَةُ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لِتَصْدِيقِ مُوَافِقِهِ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي الْمُقَيَّدِ بِالْإِقْرَارِ أَنْ يَقُولَ: أَقَرَّ عِنْدِي وَلَمْ يُقِرَّ لِأَنَّهُ كَذِبٌ يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْكُفْرَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قُتِلَ بَاغٍ فِي الْمُعْتَرَكِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَالشَّهِيدِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَالْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ: فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً بِهِ وَعُقُوبَةً لَهُ، لِمُخَالَفَتِهِ فِي الدِّينِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا) . وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَتْلُهُ من غسله والصلاة عليه كالزاني والمتقص مِنْهُ، بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الزَّانِيَ فَاسْقٌ، وَهَذَا مُتَرَدِّدُ الْحَالِ بَيْنَ فِسْقٍ وَعَدَالَةٍ. فَأَمَّا اسْتِهَانَتُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَهَانَ بِمَخْلُوقٍ فِي إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْخَالِقِ. وَأَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ عُقُوبَةً، فَالْعُقُوبَةُ إِنَّمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَأْلَمُ بِهَا، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ. فَإِنْ قِيلَ: يُعَاقَبُ بِهَا الْحَيُّ مِنْهُمْ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قُرْبَةً لَهُمْ. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ فِي مَعْرَكَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي الْمَعْرَكَةِ عَلَى حَقٍّ كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ فَغَسَّلَهُ عَلِيٌّ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، فَلَمْ يَمْنَعْ قَتْلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كالمقتول في غير المعركة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ قَتْلِ ابْنِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَقِتَالُهُ، وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] . وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَفَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَفَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ قَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلِأَنَّ فِيهِ اعْتِيَادًا لِلْعُقُوقِ وَاسْتِهَانَةً بِالْحُقُوقِ. وَلِأَنَّ لَهُ فُسْحَةً فِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ ذِي رَحِمِهِ وَيَكِلَ قَتْلَهُ أَوْ قِتَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ لَهُ جَازَ، وَلَمْ يُحَرَّجْ وَإِنْ كُرِهَ لَهُ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ مُشْرِكًا، وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَأْسِهِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى ظَهَرَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ، ثُمَّ وَلَّى مُنَكَّسًا إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عُذْرَهُ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم. . الآية} [المجادلة: 22] . (فَصْلٌ) فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَكْرَهُ أَنْ يَعْمِدَ قتل ذي رحمه. عَمْدُ الْقَتْلِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَمْيُهُ عَمْيًا يَرْمِي إِلَى صَفِّهِمْ سَهْمًا، لَا يَقْصِدُ بِهِ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، فَيَقْتُلُ بِهِ مَنْ أَصَابَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَوْلَى مَا فَعَلَهُ الْعَادِلُ فِي قِتَالِهِ، فَيَكُونُ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ متعمد للمقتول. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، يُقَاتِلُ أَهْلَ الْعَدْلِ وَيَنْكِي فِيهِمْ فَهَذَا مُبَاحٌ لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَتْلُ دَفْعٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ قَدْ كَفَّ عَنِ الْقِتَالِ، وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ صَفِّهِمْ، فَفِي عَمْدِ قَتْلِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَحْظُورٌ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بِقِتَالِهِمُ الْكَفُّ، وَهَذَا كَاف فَصَارَ كَالْأَسِيرِ الَّذِي يَحْرُمُ اعْتِمَادُ قَتْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّهُ رَدْءٌ لَهُمْ وَعَوْنٌ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ مُقَاتَلَتِهِمْ فَقَدْ شَهِدَ حَرْبَ الْجَمَلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَكَانَ نَاسِكًا عَابِدًا وَرِعًا يُدْعَى السَّجَّادَ. فَرَآهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِفًا فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِ وَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ) (هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ) (يُنَاشِدُنِي حم وَالرُّمْحُ مُشْرَعٌ ... فَهَلَّا تَلَا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ) (عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا ... عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَظْلِمِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَا أَخَذَهُ عَلِيٌّ بِدَمِهِ، وَلَا زجره على قتله. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّهُمَا قَتَلَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنْ قَتَلَ الْعَادِلُ أَبَاهُ وَرِثَهُ وَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي لَمْ يَرِثْهُ وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا مُتَأَوِّلَانِ وَخَالَفَهُ آخَرُ فَقَالَ لا يتوارثان لأنهما قاتلان (قال الشافعي) رحمه الله: وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ فَيَرِثُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ وَرَثَتِهِمَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ قَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. فَإِذَا اقْتَتَلَ الْوَرَثَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَوَارُثِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - إنَّهُ يُوَرثُ الْعَادِلُ مِنَ الْبَاغِي، وَلَا يُوَرَّثُ الْبَاغِي مِنَ الْعَادِلِ، لِأَنَّ قَتْلَ الْعَادِلِ ظُلْمٌ، وَقَتْلَ الْبَاغِي حق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، فَيُوَرَّثُ الْعَادِلُ مِنَ الْبَاغِي وَيُوَرَّثُ الْبَاغِي مِنَ الْعَادِلِ لِأَنَّهُمَا مُتَأَوِّلَانِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مالك - أنه إن قتله في عميا تَوَارَثَا، لِأَنَّ الْعَمْيَاءَ خَطَأٌ، وَهُوَ يُوَرِّثُ الْخَاطِئَ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا لَمْ يَتَوَارَثَا. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِحَالٍ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ لِعُمُومِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا ميراث لقاتل. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نفس من أراده (قال الشافعي) رحمه اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَنْ أُرِيدَ دَمُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ حَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ أَرَادَهُ وَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ دَمُ الطَّالِبِ هَدَرًا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَطْلُوبِ مَلْجَأٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، مِنْ حِصْنٍ يُغْلِقُهُ عَلَيْهِ أَوْ مَهْرَبٍ لَا يُمْكِنُ لُحُوقُهُ فِيهِ لِرِوَايَةِ الضِّحَاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرِيمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . فَإِنْ وَجَدَ الْمَطْلُوبُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ: لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ. . وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبَاحَ قِتَالَهُ: إِذَا لَمْ يَأْمَنْ رَجْعَتَهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي مَنَعَ مِنْ قِتَالِهِ: إِذَا أَمِنَ رَجْعَتَهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقِتَالِ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَرَادَهُ الطَّالِبُ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ مَالَ الْمَطْلُوبِ دُونَ دَمِهِ وَحَرِيمِهِ، فَهَذَا الْقِتَالُ مُبَاحٌ وَالْمَطْلُوبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِتَالِ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ وَتَسْلِيمِ مَالِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الطَّالِبُ حَرِيمَ الْمَطْلُوبِ، لِإِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهَا وَيَمْنَعَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ الطَّالِبُ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ، فَفِي وُجُوبِ قِتَالِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهَا وَيَدْفَعَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَقَوْلِهِ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مِنَ الْجُوعِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِ مَا وَجَدَهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِتَالُ وَالدَّفْعُ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ، طَلَبًا لِثَوَابِ الشَّهَادَةِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ إليك يدي لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] . وَلِأَنَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ مَنَعَ عَنْهُ عَبِيدَهُ، فَكَفَّهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُهُ عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ فَقَالَ: لَا، إِلَّا الدَّيْنُ، فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ، ورسول الله يَرَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ. فَأَمَّا الْمُضْطَرُّ جُوعًا إِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ يَخَافُ التَّلَفَ. فَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى ثَمَنِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَنْ أُرِيدَ دَمُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ شَهَادَةً يَرْجُو بِهَا الثَّوَابَ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ شَهَادَةً يُثَابُ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ثَمَنِهِ فَفِي وُجُوبِ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ. وَهَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَيْتَةً كَانَ فِي وُجُوبِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَغْلِيبًا لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِتَنْزِيهِ نَفْسِهِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ وَإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ مِنَ الْتِزَامِ ذَنْبٍ لَا يعذر عليه. (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَالْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حُرٍّ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَهْلِ بَغْيٍ أَوْ حَرْبٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَأَصْلُ هَذَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 قِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ عَبِيدَهُمْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَمَانُ ضَرْبَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ الْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا إِلَّا الْإِمَامُ دُونَ غَيْرِهِ، لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ تَوَلَّاهَا غَيْرُهُ، لَمْ يَلْزَمْ. وَإِذَا اخْتُصَّتْ بِالْإِمَامِ، كَانَ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ أَحَقَّ بِعَقْدِهَا مِنْ إِمَامِ أَهْلِ الْبَغْيِ. فَإِنْ عَقَدَهَا إِمَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ بَطَلَتْ، كَمَا تَبْطُلُ بِعَقْدِ غَيْرِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ إِمَامَةَ الْبَاغِي لَا تَنْعَقِدُ. وَأَمَّا الْأَمَانُ الْخَاصُّ: فَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لِكُلِّ مُشْرِكٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمَانُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، مِنْ حرٍّ كَانَ أَوْ مِنْ عَبْدٍ، مِنْ عَادَلٍ أَوْ بَاغٍ فَيَكُونُ أَمَانُ الْبَاغِي لَازِمًا لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَمَانُ الْعَادِلِ لَازِمًا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ. فَإِنْ أَمنَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ حَتَّى سَبَوْهُمْ وَغَنِمُوهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا سَبْيَهُمْ وَغَنَائِمَهُمْ، وَلَزِمَهُمْ رَدُّ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّنَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَسَبَاهُمْ وَغَنِمَهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ، حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَمَلَّكُوهُمْ، وَحَرُمَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَبْتَاعُوهُمْ. وَعَلَى إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ مِنْهُمْ وَيَرُدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَهَكَذَا لَوْ أَمَّنَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ غَدَرُوا بِهِمْ فَسَبَوْهُمْ وَغَنِمُوهُمْ، لَمْ يَحِلَّ ابْتِيَاعُ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ مِنْهُمْ، وَلَزِمَ أَهْلَ الْعَدْلِ رَدُّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَدْلِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، قُسِّمَ سَبْيُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْمَعُهُمْ وَإِنْ جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ. وَيَنْفَرِدُ إِمَامُ أَهْلِ الْعَدْلِ بِقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَهُمْ، وَيَخْتَصُّ بِإِجَازَةِ الْخُمْسِ إِلَيْهِ لِيَنْفَرِدَ بِوَضْعِهِ فِي مُسْتَحِقِّيهِ لِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، وَبُطْلَانِ إِمَامَةِ غَيْرِهِ. وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 (بَابُ الْخِلَافِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً اسْتُمْتِعَ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وإذا انقضت الحرب فذلك رد قلت أرأيت إن عارضك وإيانا معارض يستحل مال من يستحل دمه فقال الدم أعظم فإذا حل الدم حل المال هل لك من حجة إلا أن هذا في أهل الحرب اللذين ترق أحرارهم وتسبى نساؤهم وذراريهم والحكم في أهل القبلة خلافهم وقد يحل دم الزاني المحصن والقاتل ولا تحل أموالهما بجنايتهما والباغي أخف حالا منهما ويقال لهما مباحاً الدم مطلقاً ولا يقال للباغي مباح الدم وإنما يقال يمنع من البغي إن قدر على منعه بالكلام أو كان غير ممتنع لا يقاتل لم يحل قتاله قال إني إنما آخذ سلاحهم لأنه أقوى لي وأوهن لهم ما كانوا مقاتلين فقلت له فإذا أخذت ماله وقتل فقد صار ملكه كطفل أو كبير لم يقاتلك قط أفتقوى بمال غائب غير باغ على باغ؟ فقلت له أرأيت لو وجدت لهم دنانير أو دراهم تقويك عليهم أتأخذها؟ قال لا قلت فقد تركت ما هو أقوى لك عليهم من السلاح في بعض الحالات قال فإن صاحبنا يزعم أنه لا يصلى على قتلى أهل البغي قلت ولم وهو يصلي على من قتله في حد يجب عليه قتله ولا يحل له تركه؟ والباغي محرم قتله موليا وراجعاً عن البغي ولو ترك الصلاة على أحدهما دون الآخر كان من لا يحل إلا قتله بترك الصلاة أولى (قال) كأنه ذهب إلى أن ذلك عقوبة لينكل بها غيره قلت وإن كان ذلك جائزاً فاصلبه أو حرقه أو حز رأسه وابعث به فهو أشد في العقوبة قال لا أفعل به شيئاً من هذا قلت له هل يبالي من يقاتلك على انك كافر لا يصلى عليك وصلاتك لا تقربه إلى ربه؟ وقلت له أيمنع الباغي أن تجوز شهادته أو يناكح أو شيئاً مما يجري لأهل الإسلام؟ قال لا قلت فكيف منعته الصلاة وحدها؟) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ظَفِرَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِدَوَابِّ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 يُمْلَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَنْ يُسْتَعَانَ بِهَا فِي قِتَالِهِمْ، وَتُحْبَسُ عَنْهُمْ مُدَّةَ الْحَرْبِ كَمَا تُحْبَسُ فِيهَا أَسْرَاهُمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ رُدَّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى حَرْبِهِمْ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . فَكَانَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ عَلَى عُمُومِهِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى دَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ جَازَ قتالها بغير سلامها وَدَوَابِّهَا جَازَ قِتَالُهَا بِسِلَاحِهَا وَدَوَابِّهَا كَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ حَبْسُهُ عَنْهُمْ إِضْعَافًا لَهُمْ جَازَ قِتَالُهُمْ بِهِ، مَعُونَةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ كَافٍ لَهُمْ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ كَأَهْلِ الْعَدْلِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَم يجز أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ مَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَمْلِكُونَ رِقَابَهَا وَمَنَافِعَهَا، فَلَمَّا لَمْ تُسْتَبَحْ بِالْبَغْيِ أَنْ تُمْلَكَ عَلَيْهِمْ رِقَابُهَا لَمْ يُسْتَبَحْ أَنْ تُمْلَكَ بِهِ مَنَافِعُهَا. فَأَمَّا الْآيَةُ: فَلَا دَلِيلَ فِيهَا، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ صِفَةَ الْقِتَالِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ: فَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رِقَابَهَا، جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنَافِعَهَا، وَأَهْلُ الْبَغْيِ بِخِلَافِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَبْسِهَا: فَلَيْسَ جَوَازُ حَبْسِهَا مُبِيحًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، كَمَا جَازَ حَبْسُ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِخْدَامُهُمْ وَالِانْتِفَاعُ بِهِمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَهْلُ الْعَدْلِ لَزِمَهُمْ أُجْرَةُ مِثْلِهَا كَالْغَاصِبِ. فَإِنْ تَلِفَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا ضَمِنُوا رِقَابَهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ من غير استعمال لم يضمنوها، لأهم حَبَسُوهَا عَنْهُمْ بِحَقٍّ. وَلَوْ حَبَسُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ مَعَ إِمْكَانِ رَدِّهَا عَلَيْهِمْ: ضَمِنُوهَا، لِتَلَفِهَا بَعْدَ وُجُوبِ رَدِّهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 فَأَمَّا إِنِ اضْطَرَّ أَهْلُ الْعَدْلِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عِنْدَ خَوْفِ الِاصْطِلَامِ لِيَنْجُوا عَلَى دَوَابِّهِمْ هَرَبًا مِنْهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ بِسِلَاحِهِمْ دَفْعًا لَهُمْ: جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ، لِأَنَّ حَالَ الضَّرُورَةِ يُخَالِفُ حَالَ الِاخْتِيَارَ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَهُ في حال الاختيار. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ أَمَانُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَيْنِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ جاز أمانه وإلا لم يجز قلت فما الفرق بينه يقاتل أو لا يقاتل؟ قال قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) قلت فإن قلت ذلك على الأحرار فقد أجزت أمان عبد وإن كان على الإسلام فقد رددت أمان عبد مسلم لا يقاتل قال فإن كان القتل يدل على هذا؟ قلت ويلزمك في أصل مذهبك أن لا تجيز أمان امرأة ولا زمن لأنهما لا يقاتلان وأنت تجيز أمانهما (قال) فأذهب إلى الدية فأقول دية العبد لا تكافئ دية الحر قلت فهذا أبعد لك من الصواب (قال) ومن أين؟ قلت دية المرأة نصف دية الحر وأنت تجيز أمانها ودية بعض العبيد أكثر من دية المرأة ولا تجيز أمانه وقد تكون دية عبد لا يقاتل أكثر من دية عبد يقاتل فلا تجيز أمانه فقد تركت أصل مذهبك (قال) فإن قلت إنما عني مكافأة الدماء في القود قلت فأنت تقيد بالعبد الذي لا يسوي عشرة دنانير الحر الذي ديته ألف دينار كان العبد يحسن قتالاً أو لا يحسنه قال إني لأفعل وما هو على القود قلت ولا على الدية ولا على القتال قال فعلام هو؟ قلت على اسم الإسلام) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنِ أَمَانِ الرَّجُلِ وَأَمَانِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجَازَ أَمَانَ أَمِّ هَانِئٍ عَامَ الْفَتْحِ، وَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أَمَّ هَانِئٍ. وَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ: فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَائِزٌ كَأَمَانِ الْحُرِّ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ أَمَانُهُ إِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ، اسْتِدْلَالًا بِمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ وَأَجَابَهُ عَلَيْهِ. وَهِذِهِ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَتُسْتَوْفَى فِيهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَالْحَرْبِ) فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمَانِ لِأَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ. يَصِحُّ الْأَمَانُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ. فَأَمَّا الْأَمَانُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فَإِسْلَامُهُمْ أَمَانٌ لَهُمْ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ إِذَا كَفُّوا، وَمِنْ قَتْلِهِمْ إِذَا أُسِرُوا. فَإِنْ أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغِيِ: لَمْ يُؤَثِّرْ أَمَانُهُ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ بَعْدَ كَفِّهِ عَنِ الْقِتَالِ وَقَبْلَ أَسْرِهِ، فَيَمْنَعُ أَمَانُهُ مِنْ أَسْرِهِ، وَلَا يُؤَثِّرُ أَمَانُهُ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَلَا يُؤَثِّرُ أَمَانُهُ وَهُوَ عَلَى قِتَالِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحربي. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِدَارِهِمْ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ فَمَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّجَّارِ وَالْأَسْرَى فِي دَارِهِمْ مِنْ حُدُودِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِلَّهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ وَلَا الْحُقُوقُ بِالْحُكْمِ وَعَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَأْدِيَتُهَا إِلَى أَهْلِهَا قُلْتُ فَلِمَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ قِيَاسًا عَلَى دَارِ المحاربين يقتل بعضهم بعضاً ثم يظهر عليهم فلا يقاد منهم قلت هم مخالفون للتجار والأسرى في المعنى الذي ذهبت إليه خلافاً بينا أرأيت لو سبى المحاربون بعضهم بعضاً ثم أسلموا أندع السابي يتخول المسبى مرقوقاً له قال نعم قلت أفتجيز هذا في التجار والأسرى في دار أهل البغي؟ قال لا قلت فلو غزانا أهل الحرب فقتلوا منا ثم رجعوا مسلمين أيكون على أحد منهم قود؟ قال: لا قلت فلو فعل ذلك التجار والأسرى ببلاد الحرب غير مكرهين ولا شبه عليهم؟ قال يقتلون قلت أيسع قصد قتل التجار والأسرى ببلاد الحرب فيقتلون؛ قال بل يحرم قلت أرأيت التجار والأسرى لو تركوا الصلاة والزكاة في دار الحرب ثم خرجوا إلى دار الإٍسلام أيكون عليهم قضاء ذلك؟ قال: نعم قلت ولا يحل لهم في دار الحرب إلا ما يحل لهم في دار الإسلام؟ قال لا قلت فإذا كانت الدار لا تغير ما أحل لهم وحرم عليهم فكيف أسقطت عنهم حق الله وحق الآدميين الذي أوجبه الله عليهم؟ ثم أنت لا تحل لهم حبس حق قبلهم في دم ولا غيره وما كان لا يحل لهم حبسه فإن على الإمام استخراجمه عندك في غير هذا الموضع؛ قال فأقيسهم بأهل الردة الذين أبطل ما أجابوا قلت فأنت تزعم أن أهل البغي يقاد منهم ما لم ينصبوا إماماً ويظهروا حكما والتجار والأسارى لا إمام لهم ولا امتناع ونزعم لو قتل أهل البغي بعضهم بعضاً بلا شبهة أقدت منهم قال ولكن الدار ممنوعة من أن يجري عليهم الحكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 قلت أرأيت لو أن جماعة من أهل القبلة محاربين امتنعوا في مدينة حتى لا يجري عليهم حكم فقطعوا الطريق وسفكوا الدماء وأخذوا الأموال وآتوا الحدود؟ قال يقام هذا كله عليهم قلت فهذا ترك معناك وقلت له أيكون على المدنيين قولهم لا يرث قاتل عمد ويرث قاتل خطأ إلا من الدية؟ فقلت لا يرث القاتل في الوجهين لأنه يلزمه اسم قاتل فكيف لم تقل بهذا في القاتل من أهل البغي والعدل لأن كلا يلزمه اسم قاتل وأنت تسوي بينهما فلا تقيد أحداً بصاحبه؟) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا فَعَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ فِي دَارِهِمْ مَا يُوجِبُ حُدُودًا أَوْ حُقُوقًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ، لَمْ تُقَمْ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ وَلَمْ تُسْتَوْفَ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَمْ يُؤَاخَذُوا بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ حُقُوقٍ وَارْتَكَبُوهُ مِنْ حُدُودٍ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا فَعَلُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ هَدَرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّارِينَ لِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِ الْإِمَامِ وَتَدْبِيرِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ دَارَ الْحَرْبِ يَسْقُطُ جَرَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ حَدٌّ، ولا يستو مِنْهُمْ حَقٌّ، وَلَا يَسْقُطُ جَرَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. وَدَارُ الْبَغْيِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهَا عَلَى أَهْلِهَا وَغَيْرِ أَهْلِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا) . فَفَرَّقَ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وبين الشِّرْكِ فِي الْحَظْرِ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهِ أَيْنَ كَانُوا، كَمَا أَنَّ حُكْمَ الشِّرْكِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهِ حَيْثُ وُجِدُوا. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُغَيِّرَ الدَّارُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ لَتَغَيَّرَتْ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَيَلْتَزِمُونَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَلْتَزِمُونَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا، وَاسْتَوَى إِلْزَامُهُمْ لَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ يَدَ الْإِمَامِ قَدْ زَالَتْ عَنْ دَارِ الْبَغْيِ فَسَقَطَ عَنْهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ إنَّ الْحُدُودَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِمُخَاطَبَتِهِمْ بِهَا وَارْتِكَابِهِمْ لِمُوجِبِهَا، وَالْإِمَامُ مُسْتَوْفٍ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا كَفَّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا أقامها والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 (باب حكم المرتد) (مسألة) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَ مَوْلُودًا عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قُتِلَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ فَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] . وَأَمَّا الرِّدَّةُ فِي الشَّرْعِ: فَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ. وَهُوَ مَحْظُورٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ من الخاسرين} [المائدة: 5] . وقال الله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] الْآيَةَ. وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إنَّهُمُ الْيَهُودُ، آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، ثُمَّ آمَنُوا بِمُوسَى بَعْدَ عَوْدِهِ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ -. وَالثَّانِي: إنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ، آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ الْكُفْرَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِثُبُوتِهِمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ الرِّدَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْقَتْلِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِجْمَاعِ صَحَابَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . وَرَوَى عُثْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) . وَقَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْلَ الرِّدَّةِ وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ حَتَّى أَسْلَمُوا. وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَتَلَ أُمَّ قِرْفَةَ الْفَزَارِيَّةَ قَتْلَ مُثْلَةٍ، شَدَّ رِجْلَيْهَا بِفَرَسَيْنِ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمَا فَشَقَّاهَا. وَهَذَا التَّنَاهِي مِنْهُ فِي نَكَالِ الْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَتْبُوعًا فيه فالانتشار الرِّدَّةِ فِي أَيَّامِهِ، وَتَسَرُّعِ النَّاسِ إِلَيْهَا، لِتَكُونَ هَذِهِ الْمُثْلَةُ أَشَدَّ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الرِّدَّةِ، وَأَبْعَثَ لَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أن قوماً غلوا في علي - عليه السلام - وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ إِلَهٌ، فَأَجَّجَ لَهُمْ نَارًا وَحَرَّقَهُمْ فِيهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ بِالسَّيْفِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) فَقَالَ - عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: (لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرَا ... أَجَّجَتُ نَارًا وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا) وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قال: شهدت علياً - عليه السلام - وَقَدْ أَتَى بِالْمُسْتَوْرِدِ بْنِ قَبِيصَةَ الْعِجْلِيِّ وَقَدْ تَنَصَّرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: حُدِّثْتُ عَنْكَ أَنَّكَ تَنَصَّرْتَ. فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ: أَنَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَأَنَا أَيْضًا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِيهِ - فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَليّ. فَقَالَ علي - رضوان الله عليه -: طؤه، فَوُطِئَ حَتَّى مَاتَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 فَقُلْتُ لِلَّذِي يَلِينِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمَسِيحَ رَبُّهُ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ الْيَمَنَ وَبِهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ يَهُودِيًّا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ مُنْذُ شَهْرَيْنِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، فَقُتِلَ: (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَتْلِ بِرِدَّةِ الْمُسْلِمِ إِلَى الْكُفْرِ، فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مَوْلُودًا عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، أَوْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ لِضَعْفِ إِسْلَامِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوَارِيثِ وَالشَّهَادَاتِ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الرِّدَّةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا تَبَعُّضَ فِيهِ، فَلَمْ تُبَعَّضْ فِيهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ. وَبِهِ يَفْسُدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعْفِهِ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَيُّ كُفْرٍ ارْتَدَّ إِلَيْهِ مِمَّا يُظْهِرُ أَوْ يُسِرُّ مِنَ الزَّنْدَقَةِ ثُمَّ تَابَ لَمْ يُقْتَلْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَخْلُو حَالُ الكفر إِذَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَظَاهَرَ بِهِ أَهْلُهُ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. أَوْ يُسِرُّونَهُ كَالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَظَاهَرُ بِهِ أَهْلُهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهُ إِذَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ سَوَاءٌ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ كَافِرًا وَأَسْلَمَ. وَحَكَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْسَبُهُ مَالِكًا أَنَّ الْمَوْلُودَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا ارْتَدَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ بِحَالٍ، فَكَانَ أَغْلَظَ حُكْمًا مِمَّنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهَذَا فَاسِدٌ. وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَوْلَى، لِأَنَّ تَوْبَةَ الْمَوْلُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ قَدْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 أَلِفَ الْإِسْلَامَ، وَتَوْبَةُ الْمَوْلُودِ عَلَى الْكُفْرِ أَضْعَفُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكُفْرَ، فَلَمَّا فَسَدَ هَذَا كَانَ عَكْسُهُ أَفْسَدَ. وَدَلَائِلُ هَذَا تَأْتِي فِيمَا يَلِيهِ. وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ مِمَّا يُسِرُّهُ أَهْلُهُ كَالزَّنْدَقَةِ: قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، تَسْوِيَةً بَيْنَ رِدَّةِ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَبَيْنَ الرِّدَّةِ إِلَى كُلِّ كُفْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَفَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْكُفْرِ وَبَعْضِهِ فِي الرِّدَّةِ، كَمَا فَرَّقَ فِي الْأَوَّلِ - إِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ - بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِهِمْ فِي الرِّدَّةِ. وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُ: مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كَقَوْلِنَا. وَالْأُخْرَى: كَقَوْلِ مَالِكٍ. احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] . وَلِأَنَّ الزِّنْدِيقَ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَهُوَ بَعْدَ التَّوْبَةِ هَكَذَا، فَصَارَ كَمَا قَبْلَهَا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ. قَالَ: وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحِرَابَةِ لِجَمْعِهَا بَيْنَ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَمَّا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ أَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهَا الْقَتْلَ، كَمَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ اسْتِدْفَاعَ الْقَتْلِ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ تَوْبَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا فِي دَفْعِ الْقَتْلِ بِهَا، كَمَا حُمِلَتْ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهَا. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَسْتَ مُؤْمَنًا - بِفَتْحِ الْمِيمِ - مِنَ الْأَمَانِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ مِنَ الْإِيمَانِ. وَفِيهَا عَلَى كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ لِمَا حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا: " أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مِرْدَاسُ بْنُ عُمَرَ الْفَدَكِيُّ كَانَتْ لَهُ غُنَيْمَاتٌ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُمْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَبَدَرَ إِلَيْهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا. قَالَ: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ. ثُمَّ حَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِيَّتَهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَنَمَهُ) . وَرَوَى عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ " أَنَّ رَجُلًا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ. قَالَ: أَلَيْسَ يُصَلِّي. قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أولئك الذين نهاني الله عنهم) . وروى عبيد اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي لشجرة، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ أَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ . قَالَ: لَا تَقْتُلُهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ) . فَدَلَّتِ الْآيَةُ وَالْخِبْرَانِ عَلَى الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ قَبِلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بَاطِنُ كُفْرِهِمْ، بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1 - 2] . وَقُرِئَ: إِيمَانَهُمْ - بِكَسْرِ [الْهَمْزَةِ] مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْيَمِينِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] . فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم الَّتِي تَحَقَّقَ بِهَا كُفْرُهُمْ، وَاعْتَبَرَ مَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَحَقَقَ فِيهِ كَذِبُهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ وَدَاخِلِينَ فِي حُكْمِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَفَّ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ لَمَا كَفَّ عَنْهُمْ. قِيلَ: قَدْ كَانُوا أَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَوْا، هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ابن سَلُولَ وَهُوَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، قَدْ تَظَاهَرَ بِالنِّفَاقِ وَأَبْدَى مُعْتَقَدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] . وَقَوْلُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا مِنَ الْغُزَاةِ جَرَّدَ ابْنُهُ عَلَيْهِ سَيْفَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقُلْ إِنَّكَ الْأَذَلُّ وَرَسُولُ اللَّهِ الْأَعَزُّ، لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي هَذَا، فَقَالَهَا. وَلِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالزَّنْدَقَةِ أَقْوَى مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهَا كَانَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّوْبَةِ فِي جَهْرِ الْكُفْرِ وَسِرِّهِ، لَكَانَ قَبُولُ تَوْبَةِ الْمُسَاتِرِ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُجَاهِرِ، لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مُعْتَقَدِهِ، وَالِاسْتِسْرَارِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مُعْتَقَدِهِ، فَلَمَّا بَطُلَ هَذَا كَانَ عِلَّتُهُ أَبْطَلَ، وَلِأَنَّهَا تَوْبَةٌ مِنْ كُفْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ كَالْجَهْرِ. فَأَمَّا الجواب عن قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] . فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ فِيهَا مَا يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يتب، ومن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 تَابَ لَمْ يَزْدَدْ كُفْرًا، وَإِذَا تَنَافَى ظَاهِرُهُمَا صَارَ تَأْوِيلُهَا مَحْمُولًا عَلَى تَقَدُّمِ التَّوْبَةِ عَلَى مَا حَدَثَ بَعْدَهَا مِنْ زِيَادَةِ الْكُفْرِ، فَيُحْبِطُ حَادِثُ الْكُفْرِ سَابِقَ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ بِالتَّوْبَةِ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ مُسْتَبْطِنٌ لِلْكُفْرِ، وَهَكَذَا هُوَ قَبْلَهَا. فَهُوَ أَنَّنَا مَا كُلِّفْنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مَوْكُولٌ إِلَى رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُحَاسِبُوا الْعَبْدَ حِسَابَ الرَّبِّ) . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُؤَثِّرَ التَّوْبَةُ فِي بَاطِنِهِ كَتَأْثِيرِهَا فِي ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَارِبِ فَلَا يَصِحُّ، لِافْتِرَاقِهِمَا فِي مَعْنَى الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ، فَلَمْ تُؤَثِّرِ التَّوْبَةُ فِي رَفْعِهِ، وَالرِّدَّةُ يُقْتَلُ فِيهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ الدَّالِّ عَلَى مُعْتَقَدِهِ، فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَهَا مَا جَانَسَهَا مِنَ الْقَوْلِ فِي تَوْبَتِهِ، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى زَوَالِ مُعْتَقَدِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا اسْتِدْفَاعُ الْقَتْلِ. فَهُوَ أَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي الْمُرْتَدِّ كَمَا لَا يَمْنَعُ إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ إِذَا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ مِنْ قَبُولِ إِسْلَامِهِ وَالْكَفِّ عن قتله والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ امْرَأَةً كَانَتْ أَوْ رَجُلًا عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَسْتَوِي فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَتُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: تُحْبَسُ الْمُرْتَدَّةُ وَلَا تُقْتَلُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَلَا تُحْبَسُ عَنْ سَيِّدِهَا. اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَبِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ أَبِي النُّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 قَالَ: " لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ إِذَا ارْتَدَّتْ وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ كَالصَّبِيِّ. وَلِأَنَّ كُلَّ حُرٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ لَمْ يُقْتَلْ بِالرِّدَّةِ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ. وَلِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تُقَاتِلُ فَلَمْ تُقْتَلْ كَالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْقُونَةُ الدَّمِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُسْتَبَحْ دَمُهَا بِالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لَعَوْدِهَا بَعْدَهُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَبِعَكْسِهَا الرَّجُلُ. وَدَلِيلُنَا: عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الرَّجُلُ لِقَوْلِهِ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَلَوْ أَرَادَ الْمَرْأَةَ لَذَكَرَهُ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ فَقَالَ: مَنْ بَدَّلَتْ دِينَهَا. قِيلَ: لَفْظَةُ مَنْ لِلْعُمُومِ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ، فَاشْتَمَلَتْ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. .} [النساء: 24] الْآيَةَ وَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، اسْتَحَقَّهُ مَنْ دَخَلَهَا منْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عليها - قَالَتْ: " ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ) . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ: " أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ) . وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " فَعُرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ، فَقُتِلَتْ) وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهُ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يسْتَحقّ بِهِ الْقَتْلَ كَالرَّجُلِ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ وَرَدَ النَّصُّ بِهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ. .) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَهَكَذَا نَسْتَنْبِطُ مِنْ هَذَا النَّصِّ عِلَّةً أُخْرَى، فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ قُتِلَ بِزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ قُتِلَ بِكُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ كَالرَّجُلِ، وَمِنْهُ عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ بِالنَّفْسِ قَوَدًا قُتَلَ بِالرِّدَّةِ حَدًّا كَالرَّجُلِ، فَيَكُونُ تَعْلِيلُ النَّصِّ فِي الثَّلَاثَةِ مُسْتَمِرًّا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الرَّجُلِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ قَتْلُ الْمَرْأَةِ كَالزِّنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ والوالدان. فَهُوَ أَنَّ خُرُوجَهُ عَلَى سَبَبٍ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَقَالَ: " لِمَ قُتِلَتْ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ) وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرْبِيَّاتِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّهْيُ عَامٌّ فَلِمَ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ. قِيلَ: لَمَّا عَارَضَهُ قَوْلُهُ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبِهِ، وَحَمْلُ الْآخرِ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ مِنْ إِمَارَاتِ التَّخْصِيصِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَهُوَ أن رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَفَّانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى هَذَا كَذَّابٌ يَضَعُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ. وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَاصِمٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَسَكَتَ وَتَغَيَّرَ. وَأَنْكَرَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَمَا كَانَ بِهَذَا الضَّعْفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدِّينِ أَصْلًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ على الصبي: فهو انتفاضه بِالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ، وَلَا يُقْتَلُونَ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، وَالْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ. وَأَمَّا الجَوَاب عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكَافِرَةِ الْحَرْبِيَّةِ: فَمُنْكَسِرٌ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ لَا يُقْتَلُونَ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَيُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَرْبِيَّةِ أَنَّهَا مَالٌ مَغْنُومٌ وَلَيْسَتِ الْمُرْتَدَّةُ مَالًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَقْنِ دَمِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ بعد الإسلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 فَبَاطِلٌ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالرُّهْبَانِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَيُقْتَلُونَ بِالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ لَمَّا جَازَ إِقْرَارُهَا عَلَى كُفْرِهَا لَمْ تُقْتَلْ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُ الْمُرْتَدَّةِ عَلَى كُفْرِهَا قُتِلَتْ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ يَمْنَعُ مِنْ تساويهما في الحكم والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " (وَقَالَ فِي الثَّانِي) فِي اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عُمَرَ يُتَأَنَّى بِهِ ثَلَاثًا وَالْآخَرُ لَا يُؤَخَّرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يأمر فيه بأناة وهو لو تؤتي به بعد ثلاث كهيئته قبلها) . (مسألة) قال الشافعي رحمه الله: " وهذا ظاهر الخبر (قال المزني) وأصله الظاهر وهو أقيس على أصله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ قَتْلِهِ، فَإِنْ تَابَ حُقِنَ دَمُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ قُتِلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ وَإِنْ وُلِدَ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ. اسْتِدْلَالًا: بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) فَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ دُونَ الِاسْتِتَابَةِ. ولِأَنَّ قَتْلَ الرِّدَّةِ حَدٌّ كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِتَابَةُ الزَّانِي لَمْ يَلْزَمِ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " ارْتَدَّتِ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَمَرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ) وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَة خَبَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَقَتَلْنَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، اللَّهُمَّ لم أحضر ولم أمر. . ولم أرضى إِذْ بَلَغَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِهِ. وَرُوِيَ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عثمان - رضي الله عنهما - فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: ادْعُهُمْ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَجَابُوا فَخَلِّ سَبِيلَهُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 وإن امتنعوا فاقتلهم، فأجاب بعضهم فخلا سَبِيلَهُ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُ. وَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حُدُوثِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ لِاعْتِرَاضِ شُبْهَةٍ، فَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ قَبْلَ كَشْفِهَا وَالِاسْتِتَابَةِ مِنْهَا كَأَهْلِ الْحَرْبِ، لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِتَابَةِ. وَأَمَّا الزِّنَا فَالتَّوْبَةُ لَا تُزِيلُهُ، وَهِيَ تُزِيلُ الرِّدَّةَ، فَلِذَلِكَ اسْتُتِيبَ مِنَ الرِّدَّةِ وَلَمْ يُسْتَتَبْ مِنَ الزِّنَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ الْأَمْرُ بِاسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِتَابَةِ يُوجِبُ حَظْرَ دَمِهِ قَبْلَهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونِ الدَّمِ لَوْ قُتِلَ قَبْلَهَا، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الِاسْتِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، مِنَ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِتَابَةَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ فِي حُكْمِ إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِبْلَاغُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِتَابَةُ. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِقْلَاعُهُ عَنْ رِدَّتِهِ، وَالِاسْتِتَابَةُ أَخَصُّ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهَا مِنَ الْقَتْلِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أَوْجَبَ مِنْهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الِاسْتِتَابَةِ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فَهَلْ يُعَجَّلُ قَتْلُهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّوْبَةِ أَوْ يُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - أَنَّهُ يُعَجَّلُ قَتْلُهُ وَلَا يُؤَجَّلُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الْإِنْظَارَ فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يُؤَجَّلْ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُنْظَرُ مَا كَانَ يَرْجُو التَّوْبَةَ. وَدَلِيلُ تَأْجِيلِهِ ثَلَاثًا: قَوْلُ عَمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أُخْبِرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ. . الْخَبَرَ. وَلِأَنَّ اللَّهَ قَضَى بِعَذَابِ قَوْمٍ ثُمَّ أَنْظَرَهُمْ ثَلَاثًا فَقَالَ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مكذوب} [هود: 65] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اسْتِبْصَارُهُ فِي الدِّينِ وَرُجُوعُهُ إِلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالْفِكْرِ، فَأُمْهِلَ بِمَا يُقَدَّرُ فِي الشَّرْعِ مِنْ مُدَّةِ أَقَلِّ الْكَثِيرِ، وَأَكْثَرِ الْقَلِيلِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: فَعَلَى هَذَا: فِي تَأْجِيلِهِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِتَابَةَ مُسْتَحَبَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ إِنْ قيل: إن الاستتابة واجبة. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " ويوقف ماله) . قال الماوردي: حكم الردة مشتمل عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُهَا فِي نَفْسِ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ مَضَى. وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ. فَأَمَّا بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَثَالِثًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - إِنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَانَ أَنَّ مَالَهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ. وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ بَانَ أَنَّ مَالَهُ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، فَيَصِيرُ مَالُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي - إنَّ مَالَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، إِلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالرِّدَّةِ، فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَالِكٍ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ إِلَّا بِالْمَوْتِ، عُلِمَ بَقَاؤُهُ عَلَى مِلْكِهِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ. وَالثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ: - ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُدَبِّرِ - إنَّ تَدْبِيرَ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ فِي أَحَدِ أَقَاوِيلِهِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ - أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ خُرُوجَ مَالِهِ عَنْ تَصَرُّفِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالرِّدَّةِ مَا عَادَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَمْلِيكٍ مُسْتَجَدٍّ، وَمَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 الْإِسْلَامِ عَادَ الْمَالُ إِلَى مِلْكِهِ كَالْخَلِّ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَمْرًا زَالَ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا عَادَ إِلَى مِلْكِهِ. وَخَرَّجَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ فِي مَالِهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ -: أَحَدُهَا: أَنَّ مَالَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: إنَّ مَالَهُ قَدْ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ قُتِلَ أَوْ لَمْ يُقْتَلْ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِإِسْلَامِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَالَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَمَالُهُ لَمْ يَزَلْ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عُلِمَ أَنَّ مَالَهُ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكُونُ حُكْمُ مَا اسْتَفَادَ مِلْكُهُ فِي رِدَّتِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اصْطِيَادٍ أَوِ احْتِشَاشٍ. فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ: إِنَّ مِلْكَهُ الْمُتَقَدِّمَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، مَلَكَ مَا اسْتَفَادَهُ فِي رِدَّتِهِ، وَصَارَ مُضَافًا إِلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: إنَّ مَالَهُ خَرَجَ بِالرِّدَّةِ عَنْ مِلْكِهِ، لَمْ يَمْلِكْ مَا اسْتَفَادَهُ فِي رِدَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَلِكُهُ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّالِثِ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى، كَانَ مَا اسْتَفَادَهُ فِي الرِّدَّةِ مَوْقُوفًا مُرَاعًى: فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَلَكَهُ مَعَ قَدِيمِ مِلْكِهِ. وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَمْلِكْهُ. فَإِنْ كَانَ عَنْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ: بَطُلَتْ، وَعَادَ إِلَى الْوَاهِبِ وَالْمُوصِي. وَإِنْ كَانَ اصْطِيَادًا أَوِ احْتِشَاشًا: كَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ. فَظُهُورُ الرِّدَّةِ مِنْهُ مُوجِبَةٌ لِوُقُوعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ تَظَاهُرَهُ بِهَا مَعَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِبَاحَةِ دَمِهِ دَلِيلٌ عَلَى سَفَهِ رَأْيِهِ وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ انْتِقَالَ مَالِهِ عَنْهُ إِلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي الدَّيْنِ يُوجِبُ حِفْظُهُ عَلَيْهِ، لِتُوَجَّهَ التُّهْمَةُ إِلَيْهِ، حَتَّى لَا يُسْرِعَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهِ عَلَيْهِمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 فَإِنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ: صَحَّ الْحَجْرُ، وَفِي مَعْنَى حَجْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ كَحَجْرِ السَّفَهِ وَفِي مَعْنَاهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عِلَّةَ حَجْرِهِ سَفَهُ رَأْيِهِ، وَضِعْفُ تَمْيِيزِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَحَجْرِ الْمَرَضِ وَفِي مَعْنَاهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عِلَّةَ حَجْرِهِ تُوَجِّهُ التُّهْمَةَ إِلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ. وَيَكُونُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفِهِ اسْتِهْلَاكٌ لِمَا لَهُ كَالْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ حَجْرِهِ حَجْرُ سَفَهٍ أَوْ حَجْرُ مَرَضٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَتْ وَصَايَاهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ مَرَضٍ، كَمَا تَجُوزُ وَصَايَا الْمَرِيضِ. قِيلَ: لِأَنَّ لِلْمَرِيضِ فِي مَالِهِ الثُّلُثَ، فَأُمْضِيَتْ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ ثُلُثٌ تُجْعَلُ وَصَايَاهُ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ تَصَرُّفِهِ: مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِهْلَاكٌ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ بِأَعْوَاضٍ مِثْلِهَا، فَيَكُونُ فِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَعْنَى حَجْرِهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا جائزة إِذَا قِيلَ: إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ سَفَهٍ لِأَنَّ عُقُودَ السَّفِيهِ بَاطِلَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهَا جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ حَجْرَهُ حَجْرُ مَرَضٍ، لِأَنَّ عُقُودَ الْمَرِيضِ جَائِزَةٌ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، يَكُونُ حُكْمُ إِقْرَارِهِ بِالدُّيُونِ وَالْحُقُوقِ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ بُطْلَانُ إِقْرَارِهِ بِجَمِيعِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ حَجْرُ سَفَهٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صِحَّةُ إِقْرَارِهِ بِجَمِيعِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ حَجْرُ مَرَضٍ. (فَصْلٌ) فَإِنْ لَمْ يَحْجُرِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إنَّ تَصَرُّفَهُ جَائِزٌ مَمْضِيٌّ سواء قتل بالردة أو عاد إلى الإسلام، لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ فِي سَفَهِ رَأْيِهِ وَظُهُورِ تهمته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ تَصَرُّفَهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى: فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ: كَانَ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ بَاطِلًا مَرْدُودًا لِتَحَقُّقِ الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ. وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ: كَانَ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ جَائِزًا مُمْضِيًّا، لِانْتِفَاءِ الْعِلَّتَيْنِ عَنْهُ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ تَنْقَسِمُ عُقُودُهُ فِي رِدَّتِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَيَكُونُ فِي صِحَّتِهِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَكُونُ جَائِزًا. وَالثَّانِي: يَكُونُ بَاطِلًا. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ مَوْقُوفًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، ففيه قولان: أحدها: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فِي أَحَدِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ كَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى طَلَاقٍ وَعِتْقٍ، يَصِحُّ فِيهِمَا الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ، وَعَلَى مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُغَلَّبِ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ مِنْهُمَا حُكْمُ الْعِوَضِ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُغَلَّبُ مِنْهُمَا حُكْمُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: جَائِزٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: مَوْقُوفٌ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قُتِلَ فَمَالُهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَجِنَايَتِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 وَنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَيْءٌ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَكَمَا لَا يَرِثُ مُسْلِمًا لَا يَرِثُهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حُكْمِ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ. فَأَمَّا حُكْمُ مَالِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُرْتَدًّا، فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: فِي اسْتِحْقَاقِ بِاقِيهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَثَلَاثَةٌ: دُيُونٌ، وَجِنَايَاتٌ، وَنَفَقَاتٌ فَأَمَّا الدُّيُونُ: فَمَا وَجَبَ مِنْهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ، وَمَا وَجَبَ مِنْهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَمْضِيٍّ اسْتُحِقَّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَنْ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَرْدُودٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ. وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ: فَمُسْتَحَقَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ ضَامِنٌ لِمَا أَتْلَفَ. وَأَمَّا النَّفَقَاتُ: فَمَا وَجَبَ مِنْهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ فَمُسْتَحَقٌّ إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَوْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِالِافْتِرَاضِ عَلَيْهَا. وَإِنْ سَقَطَتْ بِالتَّأْخِيرِ كَانَ سُقُوطُهَا مَعَ الرِّدَّةِ أَحَقَّ. وَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْهَا فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ: فَإِنْ قِيلَ بِبَقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ: وَجَبَتْ. وَإِنْ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ، فَفِي وُجُوبِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبْ لِعَدَمِ مَحَلِّهَا كَالْإِعْسَارِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَزُولُ عَمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ كَالْمَوْتِ يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَيِّتِ إِلَّا عَمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ كَفَنِهِ وَمَؤونَة دَفْنِهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَوْرُوثُ مِنْ بَاقِي مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُسْتَحِقِّهِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا، وَلَا يَرِثُهُ مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً فَيَكُونَ جَمِيعُ مَا كَسَبَتْهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا لِوَرَثَتِهَا الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّالِثُ: - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - أَنَّ جَمِيعَ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَالرَّابِعُ: - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - إنَّهُ إِنِ اتُّهِمَ بِرِدَّتِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إَزْوَاءَ وَرَثَتِهِ، كَانَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُتَّهَمْ كَانَ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْخَامِسُ: - وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ - إنَّهُ يَكُونُ مَوْرُوثًا لِمَنِ ارْتَدَّ إِلَى دِينِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَلْقَمَةَ وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ - إنَّ مَالَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ) . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِثْ مُسْلِمًا لَمْ يَرِثْهُ مُسْلِمٌ كَالْحَرْبِيِّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَى حِجَاجُهَا في كتاب الفرائض. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقْتَلُ السَّاحِرُ إِنْ كَانَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ - إنَّ السَّاحِرَ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَلَمْ يَقْطَعَا بِكُفْرِهِ. وَالثَّالِثُ: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّ السَّاحِرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِالسِّحْرِ، وَلَا يَجِبُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 بِهِ قَتْلُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا، فَيَصِيرُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ كَافِرًا يَجِبُ قَتْلُهُ بِالْكُفْرِ لَا بِالسِّحْرِ - وَقَدْ دَلَلْنَا لَهُمْ وعليهم بما أجزأ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَقَالَ أَنَا أُطِيقُهَا وَلَا أُصَلِّيهَا لَا يَعْمَلُهَا غَيْرُكَ فَإِنْ فَعَلْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ كَمَا تَتْرُكُ الْإِيمَانَ وَلَا يَعْمَلُهُ غَيْرُكَ فَإِنْ آمَنْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ: جَاحِدٌ وَمُعْتَرِفٌ. فأما الجاحد لوجوبها: فهو مرد تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَرِفُ بِوُجُوبِهَا التَّارِكُ لِفِعْلِهَا: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - إنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا كَمَا يَكْفُرُ بِجُحُودِهَا. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ. وَالثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - إنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا وَلَا يُقْتَلُ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دمائهم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) . وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا لَا بِكُفْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُصَلِّي مُبَاحُ الدَّمِ. - وَقَدْ مَضَى مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَعَانِي مَا أَقْنَعَ -. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ قَتْلُهُ بِتَرْكِهَا وَاجِبًا، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ تَرْكِهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَقْتِ سُؤَالِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْأَلُ عَنْ تَرْكِهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْأَلُ عَنْهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، فَإِذَا سُئِلَ عَنْهَا وَأَجَابَ بِأَنَّهُ نَسِيَ، قِيلَ لَهُ: صِلِّ فَقَدْ ذُكِّرْتَ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا مَرِيضٌ. قِيلَ: صَلِّ كَيْفَ أَطَقْتَ. وَإِنْ قَالَ: لَسْتُ أُصَلِّي كَسَلًا وَاسْتِثْقَالًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 قِيلَ لَهُ: تُبْ وَصَلِّ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا غَيْرُكَ. فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يَصُلِّ فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. وَمَذْهَبُنَا فِيهِ: وُجُوبُ قَتْلِهِ حَدًّا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَيَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يُقْتَلُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَطَائِفَةٍ - إنَّهُ يُضْرَبُ بِمَا لَا يُوجي مِنَ الْخَشَبِ، وَيُسْتَدَامُ ضَرْبُهُ حَتَّى يَمُوتَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ أَوْ جَرَحَهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجُرْحِ فَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ وَيُعَزَّرُ الْقَاتِلُ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِقَتْلِهِ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ الْحَاكِمُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَنْفَرِدُ الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهَا كَالْحُدُودِ. فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْقَاتِلُ وَعُزِّرَ. لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَبَاحَتْ دَمَهُ، فَصَارَ قَتْلُهُ هَدْرًا كَالْحَرْبِيِّ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَضْمَنْهُ لِإِبَاحَةِ دَمِهِ، لكن يعذر قَاتِلُ الْمُرْتَدِّ وَلَا يُعَزَّرُ قَاتِلُ الْحَرْبِيِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: إِنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ حَدٌّ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ فعزر المفتات علي. وَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ جِهَادٌ يَسْتَوِي الْكَافَّةُ فِيهِ، فَلَمْ يُعَزَّرِ الْمُنْفَرِدُ بِقَتْلِهِ. فَأَمَّا إِذَا جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ وَسَرَى الْجُرْحُ إِلَى نَفْسِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتَ مِنْهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ دَمَهُ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ، لِأَنَّهَا عَنْ جِنَايَةٍ فِي الرِّدَّةِ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ، فَكَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ ضَامِنٌ لِنِصْفِ ديته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ، وَمُسْلِمٌ فِي حَالِ السَّرَايَةِ، فَسَقَطَ نِصْفُ الدِّيَةِ بِرِدَّتِهِ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا بِإِسْلَامِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ تَخْرِيجِ الرَّبِيعِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَذْهَبِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْقَاتِلُ فَقَدْ مَضَى فِي الْجِنَايَاتِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُسْبَى لِلْمُرْتَدِّينَ ذُرِّيَّةٌ وَإِنْ لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ آبَائِهِمْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْتَدُّونَ إِذَا كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمِ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا خِلَافَ نَعْرِفُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ تَغْلِيبًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرْمَةِ إِسْلَامِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْكَلَ ذَبَائِحَهُمْ، وَلَا يَنْكِحُوا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ شِرْكِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَلَا يُهَادَنُوا، لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَعَقْدَ الْهُدْنَةِ مَوْضُوعَانِ لِلْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ. فَأَمَّا إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّونَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوِ انْفَرَدُوا بِدَارٍ صَارَتْ لَهُمْ كَدَارِ أَهْلِ الحرب فقد اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - فِي جَوَازِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ. فَذَهَبَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - إِلَى جَوَازِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْكُفْرِ - وَبِهِ قَالَ شَاذٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ -. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى تَحْرِيمِ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، كَمَا يَحْرُمُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. - وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ -. فإن قيل: فقد سبى أبو بكر - رضي الله عنه - بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ ارْتَدُّوا مَعَ مُسَيْلِمَةَ. قِيلَ: إِنَّمَا سَبَاهُمْ سَبْيَ قَهْرٍ وَإِذْلَالٍ لِتَضْعُفَ بِهِمْ قُوَّتُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ سَبْيَ غَنِيمَةٍ وَاسْتِرْقَاقٍ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدَّةِ إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: بأن علي بن أبي طالب - عليه السلام - اسْتَرَقَّ مِنْ سَبي بَنِي حَنِيفَةَ أُمَّ ابْنِهِ محمد وأولدها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 وَبَنَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ كَالْحَرْبِيَّةِ فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَظْرِ الْقَتْلِ عِنْدَهُ وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ: أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ مَنَعَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرَّجُلِ مَنَعَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْمَرْأَةِ كَالْإِسْلَامِ طَرْدًا وَالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ عَكْسًا. فَأَمَّا مَا حَكَاهُ مِنَ اسْتِرْقَاقِ عَلِيٍّ أُمَّ وَلَدِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إنَّهُ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَصَارَ خِلَافًا لَا يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ - أنها كانت أمة سوداء سندية لِبَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى إِمَائِهِمْ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ - إنَّهَا كانت حرة تزوجها علي - عليه السلام - بِرِضَاهَا، فَأَوْلَدَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الأشبه بأفعاله - رضوان الله عليه وسلامه -. (فَصْلٌ) فَأَمَّا ذُرِّيَّةُ الْمُرْتَدِّ: وَهُمْ صِغَارُ أَوْلَادِهِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْجَارِي عَلَيْهِمْ بِإِسْلَامِ آبَائِهِمْ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُمْ بِرِدَّةِ آبَائِهِمْ، لِأَنَّ رِدَّةَ آبَائِهِمْ جِنَايَةٌ مِنْهُمْ فَاخْتَصُّوا بِهَا دُونَهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَعَدَّى إِلَيْهِمْ إِسْلَامُ آبَائِهِمْ فَصَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِمْ فَهَلَّا تَعَدَّى إِلَيْهِمْ رِدَّةُ آبَائِهِمْ فَصَارُوا مُرْتَدِّينَ بِرِدَّتِهِمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ حُكْمِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْفَعَ الْكُفْرُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ. فَإِذَا ثَبَتَ إِسْلَامُ أَوْلَادِهِمْ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَتَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِ آبَائِهِمُ الْمُرْتَدِّينَ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ. فَإِنْ مَاتُوا: غُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمُتْ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجْرِي عَلَى الْمَرْأَةِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ، فَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مُدَبِّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، وَتَحِلُّ عَلَيْهِ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ رَجَعَ بِمَا بَقِيَ فِي أَيْدِي وَرَثَتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ الْبَاقِيَةِ وَلَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 يَرْجِعْ بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ وَقَدْ نَفَذَ عِتْقُ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ، وَلَا يَتَأَجَّلُ مَا حُكِمَ بِحُلُولِهِ مِنْ دُيُونِهِ. احْتِجَاجًا: بِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ، فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ حَيٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَرَّثَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ. وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ إِسْلَامُهُ مِنْ رِدَّتِهِ لَمْ يُقَسَّمْ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ كَالْمُرْتَدِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْ إِجْرَاءِ حُكْمِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ، مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنْ إِجْرَاءِ حِكَمِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدَّةِ. وَقِيَاسُهُ مُنْتَقَضٌ بِالرِّدَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ عَادَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَأَخَذَ مَالَهُ سِرًّا أَوْ كَانَ قَدْ حَمَلَهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغْنَمَ مَالُهُ وَكَانَ فِي أَمَانٍ مِنَّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ مَالُهُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ. وَاعْتِبَارُهُ عندنا بالمالك أولى كالمسلم. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا بَلَغَ أَوْلَادُ المرتدين بعد الحكم بإسلامهم فلهم حالتان: أحدهما: أَنْ يَقُومُوا بِعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ حُقُوقِهِ، فَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُونَ التَّوْبَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَلَا خَرَجُوا فيما بعده من حكم الإسلام. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْتَنِعُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ عِبَادَاتِ الْإِسْلَامِ، فَيُسْأَلُوا عَنِ امْتِنَاعِهِمْ، فَإِنِ اعْتَرَفُوا بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعُوا مِنْ فِعْلِ عِبَادَاتِهِ كَانُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ وَأَخَذُوا بِمَا تَرَكُوهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُتِلُوا بِهَا، وَإِنْ تَرَكُوا الزَّكَاةَ أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوا الصِّيَامَ أُدِّبُوا وَحُبِسُوا. وَإِنْ أَنْكَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَحَدُوهُ: صَارُوا حِينَئِذٍ مُرْتَدِّينَ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قَتَلُوا بِالرِّدَّةِ كَآبَائِهِمْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا آخَرَ: إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُقَرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ مِنَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَخْرِيجِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَيَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ) فَإِنِ ارْتَدُّوا قَبْلَ بُلُوغِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِرِدَّتِهِمْ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَوْلَادُ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ لِإِسْلَامِهِمْ حُكْمٌ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ إِسْلَامٌ وَلَا رِدَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ إِسْلَامُ الصَّبِيِّ وَرِدَّتُهُ وَلَا يُقْتَلُ بِهَا. احْتِجَاجًا: بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فأبواه يهودانه أن يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ لِسَانِهِ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَعْرَبَ لِسَانُهُ عَنْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الرِّدَّةِ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالرِّدَّةُ كَالْبَالِغِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) . وَرَفْعُهُ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَى اعْتِقَادِهِ حُكْمٌ. وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الِاعْتِقَادُ لِإِسْلَامٍ وَلَا رِدَّةٍ كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكُونُ رِدَّةً. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ أَنَّ إِعْرَابَ لِسَانِهِ عَنْهُ يَكُونُ بِبُلُوغِهِ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَالِغِ: فَلَا يَصِحُّ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الرِّدَّةِ، كَمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا في العقود والأحكام. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُسْبَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يُسْبَوْا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ. فَأَمَّا أَوْلَادُهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ: وَهُمُ الْمَوْلُودُونَ لَهُمْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ رِدَّتِهِمْ. فَإِنْ كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْهِمْ مُسْلِمًا: فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، وَكَانُوا كَالْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُمْ مُرْتَدِّينَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - إنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ، إِلْحَاقًا بِآبَائِهِمْ فَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ كَآبَائِهِمْ. لَكِنْ لَا يُقْتَلُونَ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ. فَإِنْ مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُورَثُوا، وَكَانَ مَالُهُمْ فَيْئًا. فيكونوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُوَافِقِينَ لِلْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنْ وَجْهٍ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُسْبَوْنَ وَلَا يُسْتَرَقُونَ، وَمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، وَيَجْرِي عَلَى الْمَوْلُودِينَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِآبَائِهِمْ، فَيَكُونُوا كُفَّارًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ وَصَفُوا الْإِسْلَامَ فَثَبَتَتْ فِيهِمْ حُرْمَتُهُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُولَدُوا فِي إِسْلَامِ آبَائِهِمْ وَلَا وَصَفُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، فَانْتَفَتْ عَنْهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ بِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ كَأَوْلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِدُخُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى خِيَارِهِ فِيهِمْ كَأَهْلِ الْحَرْبِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أشياء: قتل أو استرقاق أو فدا أو من. فيكونوا مُخَالِفِينَ لِلْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنْ جَرَى حُكْمُهُ عَلَى الْمَوْلُودِ قَبْلَ الرِّدَّةِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ يَجُوزُ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمَوْلُودِ قَبْلَ الرِّدَّةِ. (فَصْلٌ) وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا بَيْنَ أَنْ يُولَدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: إِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ وَإِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ سَبْيُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ. احْتِجَاجًا: بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 قَالَ: وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا نَقَضَ عَهْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَجَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَذَلِكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ. وَدَلِيلُنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا الله، فإذا قَالُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) . وَلَمْ يُفَرَّقْ فِيهِمْ بَيْنَ الدَّارَيْنِ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ مُعْتَبَرٌ بِأَهْلِهَا فَهِيَ تَابِعَةٌ وَلَيْسَتْ مَتْبُوعَةً. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالَّذِي أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، وَمِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَوَلَدِ الْحَرْبِيِّينَ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَغْلِيبِ حُكْمِ الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ. وَأَمَّا نَاقِضُ الذِّمَّةِ فَلَمْ نَعْتَبِرْ نَحْنُ وَلَا هُمْ فِيهِ حُكْمَ الْوِلَادَةِ، وَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ وَسَبْيُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَجُزْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ [إِذَا نَقَضَ عَهْدَهُ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ وَخَالَفَ الْمُرْتَدُّ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا أن نبلغه مأمنه] . (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنِ ارْتَدَّ مُعَاهَدُونَ وَلَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَنَا لَهُمْ ذَرَارِيٌّ لَمْ نَسْبِهِمْ وَقُلْنَا إِذَا بَلَغُوا لَكُمُ الْعَهْدَ إِنْ شِئْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ حَرْبٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَقَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ عَقَدَهُ الْإِمَامُ لَهُمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَلَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَخَلَّفُوا أَمْوَالَهُمْ وَذَرَّارِيَّهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، زَالَ الْأَمَانُ عَنْهُمْ، وَصَارُوا حَرْبًا يُقْتَلُونَ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْأَمَانُ بَاقِيًا فِي ذَرَارِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى الذَّرَارِيُّ وَلَا تُغْنَمُ الْأَمْوَالُ، وَإِنْ كَانُوا فِي عَقْدِ الْأَمَانِ تَبَعًا. لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهُ الْحَرْبِيُّ لِمَالِهِ دُونَ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَأْخُذُ أَمَانًا لِمَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَى دار الإسلام لتجارة أو ديعة فَيَكُونُ الْمَالِكُ حَرْبًا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ، وَيَكُونُ مَالُهُ سِلْمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ، فَيَكُونُ الْمَالِكُ سِلْمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 وَيَكُونُ الْمَالُ سَبْيًا يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ. وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ مَعَ ذُرِّيَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَمَانَ لَهُ دُونَهُمْ وَلَهُمْ دُونَهُ، فَإِذَا اشْتَمَلَ عَقْدَ أَمَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ [ثُمَّ نَقَضَ أَمَانَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ زَالَ أَمَانُ نَفْسِهِ وَبَقِيَ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ] فَلَا تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَلَا يُغْنَمُ الْمَالُ. وَلَوْ أَخْرَجَ مَعَهُ حِينَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ذُرِّيَّتَهُ وَمَالَهُ، انْتَقَضَ أَمَانُ مَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَجَازَ غَنِيمَةُ مَالِهِ وَاسْتِرْقَاقُ ذُرِّيَّتِهِ، لِأَنَّ إِخْرَاجَهُمَا مَعَهُ نَقْضٌ لِأَمَانِهِمَا وَأَمَانِهِ. وَلَوْ خَلَّفَهُمَا لَبَقِيَ أَمَانُهُمَا مَعَ زَوَالِ أَمَانِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نَقْضَ أَمَانِهِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِأَمَانِ مَا خَلَّفَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ، فَسَوَاءٌ حَارَبَنَا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَفَّ عَنَّا يَجِبُ عَلَيْنَا حِفْظُ ذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ، وَتَقَرّ الذُّرِّيَّةُ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُعَاهَدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا. فَإِذَا بَلَغُوا: خَيَّرَهُمُ الْإِمَامُ بَيْنَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنِ اخْتَارُوا الْعَوْدَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهُ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُوا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ حَرْبًا. وَإِنِ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَرَّهُمْ فِيهَا عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْنِ: إِمَّا بِجِزْيَةٍ يَبْذُلُونَهَا أَوْ بِعَهْدٍ يَسْتَأْنِفُونَهُ. لِأَنَّ أَمَانَهُمْ بِالْعَهْدِ مُقَدَّرٌ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَغَيْرُ مُقَدَّرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَيَجُوزُ أَمَانُهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ أَمَانُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ سَنَةً، لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ، وَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ أَهْلِهَا. وَأَمَّا مَالُهُ: فَمُقَرٌّ عَلَى مِلْكِهِ مَا بَقِيَ حَيًّا عَلَى حُرِّيَّتِهِ، وَلَهُ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَمُوتَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْتَرَقَّ. فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ: فَفِي مَالِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْنَمُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأَمَانِ عَلَى مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَأَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَتَوَارَثُونَ لِارْتِفَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِيهِ مَقَامَهُ، فَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ بِحُقُوقِهِ وَالْأَمَانُ مِنْ حُقُوقِ الْمَالِ فَصَارَ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 وإن استرق مالك المال: فالاستراقاق يُزِيلُ الْمِلْكَ كَالْمَوْتِ، فَفِي الْمَالِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْنَمُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مَوْقُوفًا لَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهُ حَيٌّ، وَلَا إِلَى مُسْتَرِقِّهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ أَمَانٌ، وَرُوعِيَتْ حَالُهَ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ. فَإِنْ عُتِقَ: دُفِعَ الْمَالُ إِلَيْهِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ. وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا: فَفِي مَالِهِ قَوْلَانِ - حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَغْنُومًا لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا، وَلَا يَكُونُ مَوْرُوثًا، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُورَثُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي حُرِّيَّتِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ حَتَّى جَرَى عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ ارْتَدَّ سَكْرَانُ فَمَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى يَمْتَنِعَ مُفِيقًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ إِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى طَلَاقِ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: تصح ردة السكران وإسلامه كما يصح عنقه وَطَلَاقُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَلَا إِسْلَامُهُ، وَإِنْ صَحَّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ. احْتِجَاجًا: بِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْكُفْرَ يَتَعَلَّقَانِ بِالِاعْتِقَادِ الْمُخْتَصِّ بِالْقَلْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] . وَلَيْسَ يَصِحُّ مِنَ السَّكْرَانِ اعْتِقَادٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا. قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ رِدَّتُهُ وَلَا إِسْلَامُهُ كَالْمَجْنُونِ. وَدَلِيلُنَا: مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - مِنْ تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدْ تَهَافَتُوا وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب - عليه السلام -: أَرَى أَنْ يُحَدَّ ثَمَانِينَ، لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَيُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَوَافَقَهُ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى هَذَا، وَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثمانين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 وَجَعَلُوا مَا تَلَفَّظَ بِهِ فِي السُّكْرِ افْتِرَاءً يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ. وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَكَانَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَافْتِرَاؤُهُ مُطَّرَحًا، وَإِذَا صَحَّ تَكْلِيفُهُ صَحَّ إِسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ. وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ عِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ صَحَّتْ رِدَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ كَالصَّاحِي. وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ وَالْإِسْلَامَ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفُرْقَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مِنَ السَّكْرَانِ كَالطَّلَاقِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهُ لَا اعْتِقَادَ لَهُ: فَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ مَجْرَى مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ وَتَمْيِيزٌ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ، وَلَوْ عَدِمَ التَّمْيِيزَ مَا وَقَعَا كَالْمَجْنُونِ. وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّكْرَانَ فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَالصَّاحِي، كَمَا هُوَ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ كَالصَّاحِي فَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِيمَا لَهُ - وَمَا عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ -. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ تَغْلِيظًا، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَخْفِيفًا، وَالسَّكْرَانُ مُغَلَّظٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُ. فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ مِنْهُ الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا تَغْلِيظٌ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ رِدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ كُفْرٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ كَالذِّمِّيِّ يَصِحُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَغْلِيظٌ - وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ السُّكْرَ إِنْ سَلَبَهُ حُكْمَ التَّمْيِيزِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ كَالْجُنُونِ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ التَّمْيِيزِ وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ كَالصَّاحِي. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرَ مُمَيِّزٍ فِي بَعْضِهَا لِتَنَاقُضِهِ فِي الْمَعْقُولِ، وَفَسَادِهِ عَلَى الْأُصُولِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَارْتَدَّ سَكْرَانُ، جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ مِنْ وُجُوبِ قَتْلِهِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ قَاتِلِهِ، وَتَحْرِيمِ زَوْجَاتِهِ، وَالْحَجْرِ عَلَى أَمْوَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا غَيْرَ مَوْرُوثٍ. فَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ مِنْ رِدَّتِهِ فَقَدْ أَمَرَ الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى حَالِ صَحْوِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا هَلْ هُوَ عَلَى الْإِيجَابِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 اخْتِلَافِهِمْ هَلْ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا لَهُ كَمَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّاحِي فِيمَا عَلَيْهِ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - إنَّ تَأْخِيرَهَا اسْتِحْبَابٌ، فَإِنِ اسْتَتَابَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ أُقِيدَ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى صَحْوِهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَرَضَهُ فِي الرِّدَّةِ شُبْهَةٌ يَسْتَوْضِحُهَا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، فَإِنِ اسْتَتَابَهُ فِي سُكْرِهِ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ، وَكَانَ عَلَى أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ قَاتِلِهِ وَانْتِقَالِ مَالِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا دُونَ وَرَثَتِهِ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَأْخِيرَ تَوْبَتِهِ دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ طَلَاقِهِ، وَغَفَلَ أَنْ يَجْعَلَ ثُبُوتَ رِدَّتِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ارْتَدَّ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُسْتَتَبْ فِي جُنُونِهِ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلَامٌ وَلَا رِدَّةٌ، وَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يُفِيقَ مِنْ جُنُونِهِ. وَلَوْ جُنَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ: قُتِلَ قَبْلَ إِفَاقَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ مَنَعَ الْجُنُونُ مِنْ قَتْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَتْلِ الْقَوَدِ: أَنَّ لَهُ إِسْقَاطَ قتل الردة عن نفس بِتَوْبَتِهِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ فَأُخِّرَ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُ قَتْلِ الْقَوَدِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَالٍ فَلَمْ يؤخر إلى إفاقته. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَهُ قِيلَ إِنْ أَقْرَرْتَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دين خالف دين الإسلام يُكْشَفْ عَنْ غَيْرِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالرِّدَّةِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا عليه مطلقة، حَتَّى يَصِفَا مَا سَمِعَاهُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مُرْتَدًّا، وَسَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، كَمَا لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا بِالْجَرْحِ حَتَّى يَصِفَا مَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا. فَإِذَا ثَبَتَت الشَّهَادَةُ سَأَلْنَاهُ عَنْهَا وَلَمْ يَعْرِضْ لِقَتْلِهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْهَا أَوْ سَيَتُوبُ. فَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ سُؤَالِهِ عُزِّرَ وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، لِثُبُوتِ رِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، وَيُسْأَلُ الْقَاتِلُ، فَإِنْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ رِدَّتِهِ شُبْهَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ عَمَدَ قَتْلَ نَفْسٍ مَحْظُورَةٍ. وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ وَسُئِلَ عنها لم يخلو جَوَابُهُ مِنِ اعْتِرَافٍ بِهَا أَوْ إِنْكَارٍ لَهَا. فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا اسْتَتَبْنَاهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ. وَإِنْ أَنْكَرَهَا قِيلَ لَهُ: إِنْكَارُكَ لَهَا مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهَا تَكْذِيبٌ لِشُهُودٍ عُدُولٍ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُكَ الْإِقْرَارُ بِهَا، وَلَكَ الْمَخْرَجُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا أَظْهَرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ الرِّدَّةُ وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ. فَقَدْ شَهِدَ شُهُودٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَأَحْضَرَهُمْ وَسَأَلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ وَتَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَكَفَّ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَجْرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا أَظْهَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكْشِفْ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ مِنْهُ تأويلين: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكْشِفْ عَمَّا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ مِنْ رِدَّتِهِ. وَالثَّانِي: لَمْ يَكْشِفْ عَنْ بَاطِنِ مُعْتَقَدِهِ، لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ لَا يُؤَاخِذُ بِهَا إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ارْتَابَ بِرَجُلٍ فِي الرِّدَّةِ، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَظُنُّكَ متعوذ بِهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا لِي فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذٌ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: بَلَى إن لك في الإسلام لمعاذ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ: فَتَتَضَمَّنُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ رَفَعَتْ عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، فَيَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ. فَذَكَرَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ. فَأَمَّا الشَّهَادَتَانِ: فَوَاجِبَتَانِ لَا يصح إسلامه إلا بهما. وأما التبري مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي إِسْلَامِ كُلِّ كَافِرٍ وَمُرْتَدٍّ كَالشَّهَادَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ فِي إِسْلَامِ كُلِّ كَافِرٍ وَمُرْتَدٍّ كَالِاعْتِرَافِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَقَدْ أَفْصَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - إنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُنْكِرِي النبوات كالأميين من العرب كان التبري مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ مُسْتَحَبًّا. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ يَعْتَرِفُونَ بِالنُّبُوَّاتِ،. وَأَنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نبي مبعوث إلى قومه كان التبري مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ وَاجِبًا لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ إِلَّا بِذِكْرِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ، نُظِرَ فِي رِدَّتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِجُحُودِ الْإِسْلَامِ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِهِ. وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بِجُحُودِ عِبَادَةٍ مِنْ عِبَادَاتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ بَعْدَ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ الِاعْتِرَافُ بِمَا جَحَدَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُرْتَدًّا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَمْ تَزُلْ عَنْهُ الرِّدَّةُ بِهِمَا حَتَّى يَعْتَرِفَ بِمَا صَارَ مُرْتَدًّا بِجُحُودِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِمَا جَحَدَهُ عَنْ إِعَادَةِ الشَّهَادَتَيْنِ. لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ بِالرِّدَّةِ، فَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الشَّهَادَتَيْنِ، لِيَزُولَ بِهِمَا حُكْمُ الْكُفْرِ، وَلَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِمَا جَحَدَهُ لِيَزُولَ بِهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ. وَهَكَذَا لَوْ صَارَ مُرْتَدًّا بِاسْتِحْلَالِ الزِّنَا وَاسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ، كَانَ مِنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ الِاعْتِرَافُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَحَظْرُ الْخَمْرِ وَلَكِنْ لَوْ صَارَ مُرْتَدًّا بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانَ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ مُقْنِعًا فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِحَظْرِ سَبِّهِ، لِأَنَّ فِي الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِهِ اعْتِرَافًا بِحَظْرِ سبه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ بِالْقَتْلِ، فَمُوَسَّعٌ لَهُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ عَنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ وَبَيْنَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ اسْتِدْفَاعًا لِلْقَتْلِ. فَقَدِ أَكْرَهَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَوَيْهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ أَبَوَاهُ فَقُتِلَا، وَتَلَفَّظَ عَمَّارٌ بِالْكُفْرِ فَأُطْلِقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَذَرَ عَمَّارًا وَتَرَحَّمَ عَلَى أَبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ فِيهِ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] . فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِهِ؟ قِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُكْرَهِ. فَإِنْ كان ممن يرجا مِنْهُ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ أَوِ الْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْتَدْفِعَ الْقَتْلَ بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَرِيهِ مِنْ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فِي الدِّينِ، أَوْ يَمْتَنِعُ بِهِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَالْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرُ عَلَى الْقَتْلِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَقَصْرًا لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ مُحَكَّمٌ في نفسه) . فقيل: إن المحكم هو الذين يُخَيَّرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ، فَيَخْتَارُ الْقَتْلَ عَلَى الْكُفْرِ. فَإِنْ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَلَهُ فِي التلفظ بها ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَلَيْسَ لِتَلَفُّظِهِ حُكْمٌ إِلَّا اسْتِدْفَاعَ الْقَتْلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَهَذَا مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ مُعْتَقِدًا لَهُ بِقَلْبِهِ، فَهَذَا مُرْتَدٌّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّلَفُّظِ فَلَمْ يُكْرَهْ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَصَارَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فيه: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} أَيْ يَسْقُطُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ بِالِاعْتِقَادِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اعْتِقَادُ إِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِكْرَاهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرْتَدًّا حَتَّى يَدْفَعَ حُكْمَ لَفْظِهِ بِمُعْتَقَدِهِ، لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 وَهَكَذَا الْمُكْرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ، تُعْتَبَرُ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ فِي لَفْظِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَلَفَّظَ مُسْلِمٌ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُكْرَهًا، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُخْتَارًا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ يَخَافُ الْكُفْرَ وَيَأْمَنُ الْإِسْلَامَ - أَنَّهُ قَالَهَا عِيَاذًا وَاعْتِقَادًا. وَالظَّاهِرُ مِنْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَهُوَ يَخَافُ الْإِسْلَامَ وَيَأْمَنُ الْكُفْرَ - أَنَّهُ قَالَهَا تَقِيَّةً وَاسْتِدْفَاعًا. وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَظْهَرَهَا وَمَاتَ فَادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا فَلَهُمْ مِيرَاثُهُ. فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ وَلَهُمْ مِيرَاثُهُ. وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ وَحُكِمَ بِرِدَّتِهِ وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَأَكَلَ الْخِنْزِيرَ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا إِلَّا بِاسْتِحْلَالِهِ دُونَ أَكْلِهِ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ إِذَا أَكَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ إِذَا أَكَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ أَكْلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِحْلَالِهِ مِنْ أَكْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ سُؤَالِهِ: فَقَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ: أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا، فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ، فَهُوَ مُسْلِمٌ. فَلِمَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَكَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ مِيرَاثُهُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِإِسْلَامِهِ. فَأَمَّا مِيرَاثُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ - إنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ، وَلَا يَسْقُطَ مِيرَاثُهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - حَكَاهُ الرَّبِيعُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - إنَّهُ يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ مِنْهُ، وَلَا يُوقَفُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 عَلَى الْكَشْفِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ بِالْكُفْرِ، وَعَلَى نَفْسِهِ بِسُقُوطِ الْإِرْثِ، فَنَفَذَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عَلَى غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا صَلَّى الْمُرْتَدُّ قَبْلَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: - فِي كِتَابِ الْأُمِّ - إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ التَّقِيَّةُ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ الِاعْتِقَادُ. وَالثَّانِي: إنَّهُ يُقَدَّرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، فَلَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ، وَلَا يُقَدَّرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ فَصَارَ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ - وَفِي هَذَا نَظَرٌ -. لِأَنَّهُ لَوْ صَارَتِ الصَّلَاةُ إِسْلَامًا لِلْمُرْتَدِّ، لَصَارَتْ إِسْلَامًا للحربي. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا جَرَحَ أَوْ أَفْسَدَ فِي رِدَّتِهِ أُخِذَ بِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو مَا أَتْلَفَهُ الْمُرْتَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ. فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ لَا يَمْتَنِعُ بِهِمْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ وَضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ يَضْمَنُهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهَا زَادَتْهُ تَغْلِيظًا لَا تَخْفِيفًا. وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالْقِتَالِ: فَمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ ضَمِنُوهُ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي الْقِتَالِ فَفِي ضَمَانِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَهُ قَوْلَانِ: فَأَمَّا أَهْلُ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ: فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الِإِسْفِرَايِينِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ في وجوب ضمانهم قولان كَأَهْلِ الْبَغْيِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُونَ كَمَا يَضْمَنُ الْمُحَارِبُونَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ. وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُونَ كَمَا لَا يَضْمَنُ الْمُشْرِكُونَ. وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمَروروذِيُّ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي ضَمَانِ أَهْلِ الْبَغْيِ قَوْلَانِ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ إِمَامًا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ إِمَامٌ يُنَفَّذُ لَهُ حكم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جُرِحَ مُرْتَدًّا ثُمَّ جُرِحَ مُسْلِمًا فَمَاتَ فَعَلَى مَنْ جَرَحَهُ مُسْلِمًا نِصْفُ الدِّيَةِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَضَتْ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا جَرَحَهُ مُسْلِمٌ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَرَحَهُ آخَرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَاتَ فَجُرْحُهُ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ لَا يَضْمَنُهُ الْجَارِحُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ. وَجُرْحُهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، فَيَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ. فَلَوْ عَادَ الْأَوَّلُ فَجُرْحُهُ مَعَ الثَّانِي جُرْحًا ثَانِيًا، وَجَبَ عَلَى الثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ رُبُعُهَا، لِأَنَّ نِصْفَ فِعْلِهِ هَدَرٌ والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 (كِتَابُ الْحُدُودِ) (بَابُ حَدِّ الزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ) قال الشافعي رحمه الله: " رجم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُحْصَنَيْنِ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَرَجَمَ عُمَرُ مُحْصَنَةً وَجَلَدَ عليه السلام بكراً مائة وغربه عاماً وبذلك أقول) . قال الماوردي: وأما الحدود فهي عقوبات زجر الله بِهَا الْعِبَادَ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَظَرَ، وَحَثَّهُمْ بِهَا عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا حُدُودًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَدَّهَا وقدرها فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها فَيَزِيدَ عَلَيْهَا أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ حُدُودًا؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يُوجِبُهَا، مَأْخُوذًا مِنْ حَدِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يمنع من مشاركة غيرها فيها، وبه سُمِّي الْحَدِيدُ حَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ يُمْتَنَعُ بِهِ، وَالْعَرَبُ تسمي البواب والسجان حَدَّادًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ قَالَ الشَّاعِرُ: (كم دون بابك من أقوام أحاذرهم ... بأم عَمْرٍو وَحَدَّادٍ وَحَدَّادِ) يُرِيدُ بِالْحَدَّادِ الْأَوَّلِ الْبَوَّابَ، وَبِالْحَدَّادِ الثَّانِي السَّجَّانَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنَ الْمَنْعِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَائِعَ الْخَمْرِ حَدَّادًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ، وَقَدْ كَانَتِ الْحُدُودُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْغَرَامَاتِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ الله لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ) وَقَدْ كَانَ عليه بعض الشرائع المتقدمة، قال الله عز وجل في قصة يوسف: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أَيْ مَا عُقُوبَةُ مَنْ سَرَقَ مِنْكُمْ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ فِي أَنَّكُمْ لَمْ تَسْرِقُوا مِنَّا. قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أَيْ جَزَاءُ مَنْ سَرَقَ أَنْ يُسْتَرَقَّ. {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 74] أَيْ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ إِذَا سَرَقُوا أَنْ يُسْتَرَقُّوا، فَكَانَ هَذَا مِنْ دِينِ يَعْقُوبَ ثُمَّ نُسِخَ غُرْمُ الْعُقُوبَاتِ بِالْحُدُودِ فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ) فَتَأَوَّلْنَاهُ عَلَى سقوط غرم العقوبة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 (فصل) فبدأ الشَّافِعِيُّ بِحَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَتَعَدَّى فِيهِ حُكْمُهُ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لهن سبيلا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فأعرضوا عنهما} [النساء: 15، 16] فَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وزعموا أن الأولى منهما وهو قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائكم} وَارِدَةٌ فِي إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الحظر ومخالف لَهُ فِي الْحَدِّ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ) وَيَكُونُ الْحَدُّ فِيهِ حَبْسَهُمَا حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالتَّزْوِيجِ، فَيَسْتَغْنِينَ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِ مَا ارْتَكَبْنَهُ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قوله: ... {واللذان يأتيانها منكم} واردة في إتيان الرجال الرجال لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الْحَظْرِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا وَمُبَاشَرَةُ المرأة المرأة زنا) . وقوله {فآذوهما} هُوَ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا، وَهَذَا الْأَذَى مُجْمَلٌ تَفْسِيرُهُ مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ من إتيان الفاحشة بين الذكرين. والفاحشة الثانية التي هي الزنا بين الرجل والمرأة مأخوذ من الآية الثالثة الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي الزِّنَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأُولَى النِّسَاءَ وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجَالَ لِتُحْمَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الأخرى فتصير كالجمع فيها بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَتَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى فِي زِنَا النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي زِنَا الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَهُمَا فِي حُكْمِ الزِّنَا سَوَاءٌ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَتَانِ هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قولين: أحدهما: أَنَّهُ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ؛ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمَوْعِدِ، فَعَلَى هَذَا في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 أحدهما: أنه خطاب للحكام فيمن زنا مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ للأزواج فيمن زنا من خصوص نسائهم فأمسكوهن في البيوت، وَهَذَا خِطَابٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ الْحُكَّامِ؛ لِأَنَّ الْأَزْوَاجَ بِحَبْسِ نِسَائِهِمْ فِي الْبُيُوتِ أَحَقُّ مِنَ الْحُكَّامِ، وَلَوْ تُوَجِّهَ إِلَى الْحُكَّامِ لَأَمَرُوا بِحَبْسِهِنَّ فِي الْحُبُوسِ دُونَ الْبُيُوتِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بهذا الحبس انتظاراً للموعد حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ إِنْ تَأَخَّرَ بَيَانُ الْحَدِّ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا إِنْ وَرَدَ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَدِّ، ثُمَّ قال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم} واللذان تثنية الذي، وفيهما وجهان: أحدهما: أنها الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ يَأْتِيَانِهَا يعني الفاحشة، وهي: الزنا {منكم} يعني: من المسلمين {فآذوهما} ، وهذا خِطَابٌ تَوَجَّهَ إِلَى الْحُكَّامِ فَآذُوهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْحَبْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: بِالْقَوْلِ مِنْ تَوْبِيخٍ وَزَجْرٍ، {فَإِنْ تَابَا} يَعْنِي من الزنا قيل وُرُودِ الْحَدِّ {وَأَصْلَحَا} يَعْنِي: بِالْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا بالنكاح {فأعرضوا عنهما} يحتمل وجهين: أحدهما: فأطلقوها إن قيل: إن الأذى ها هنا الحبس. والثاني: فكفوا عن الإغلاظ لهما إن قيل: إن الأذى ها هنا التَّوْبِيخُ وَالزَّجْرُ فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ موعداً بالحد، ويكون حكمهما ثابتاً فِي الْوَعْدِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَتَحْقِيقُهُ مَا نَزَلَ بَعْدَهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سنة. فأما القرآن فما نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ حَدِّ الْبِكْرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَوَارِدَةٌ فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وتربد وجهه قال: فنزل عليه الرجم فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالنَّفْيُ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 وَرَوَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بالثيب جلد مائة والرجم) . فالمراد بِقَوْلِهِ " قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فكان السبيل ما بينه الرسول من هذا الحكم في جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، وَزَادَ عَلَى مَا في سورة النور في شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَجْمُ الثَّيِّبِ. وَالثَّانِي: تَغْرِيبُ الْبِكْرِ. (فَصْلٌ) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سورة النساء تضمنتا وجوب الحد وليست موعداً فِي الْحَدِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى أَمْرٍ تَوَجَّهَ إِلَى مُخَاطَبٍ وَعَلَى حُكْمٍ تَوَجَّهَ إِلَى فَاعِلٍ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَدِّ دُونَ الْوَعْدِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الحد الذي تضمنتها هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ أَوْ مُفَسَّرٌ تَعَقَّبَهُ النَّسْخُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ هُوَ حُكْمٌ مُبْهَمٌ وَالْأَذَى مِنَ الْعُمُومِ الْمُجْمَلِ، وَيَكُونُ الْبَيَانُ مَا نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ رَجْمِ الثَّيِّبِ وَتَغْرِيبِ الْبِكْرِ، وَيَكُونُ بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَفْسِيرًا لِإِجْمَالِهِمَا؛ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ فَقَالَ: نَعَمِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ الله وأذن لي أن أتكلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قل) فقال: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عِنْدَ هَذَا الرَّجُلِ يعني أجيراً فزنا بامرأته وإني أخبرت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُهُ مِنْهُ بِمِائَةِ شاة ووليدة ثم فسألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أنما عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ على امرأة هذا الرَّجْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالَذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) وَكَانَ أُنَيْسٌ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، فَغَدَا وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ إليها فاعترفت فرجمها، فدل على مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ تَغْرِيبِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثيب قضاء بكتاب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 الله، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِجْمَالِهِ، وَيَكُونَ حُكْمُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ تَفْسِيرٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ السُّنَّةِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَضَمَّنَتَا حَدًّا مَفْهُومًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْأُولَى مِنْ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مَعْلُومٌ، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْأَذَى بما ضر من فعل أو قول مفهوم يتقرر الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِالنَّسْخِ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هَلْ وَرَدَتَا فِي حَدِّ الْبِكْرِ أَوْ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي حَدِّ الْبِكْرِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ هَذَا فِي سَبَبِ تَكْرَارِهِ فِي الْآيَتَيْنِ، فقال أبو الطيب: إن الْأُولَى فِي أَبْكَارِ النِّسَاءِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَبْكَارِ الرجال. وقال غيره: لأن الْأُولَى فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدُّ الْبِكْرِ في هاتين الآيتين منسوخاً بما ورد فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَيَكُونُ حَدُّ الثَّيِّبِ بِالرَّجْمِ فَرْضًا مُبْتَدَأً لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَتَيْنِ مَعًا وَرَدَتَا فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ثُمَّ نسخت بالرحم، وحد البكر فرض مبتدأ بمائة جلدة وردت فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ الأولى في قوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ وَنُسِخَتْ بِالرَّجْمِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَآذُوهُمَا} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ البكر ونسخت بجلد مائة، فيكون كلا الحدين مِنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْقُولَيْنِ عَنْ حَدَّيْنِ مَنْسُوخَيْنِ أَمَّا الْجَلْدُ فِي نَسْخِهِ الْأَذَى مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا الرَّجْمُ فِي نسخه بإمساكهن في البيوت من الآية الأولى فنسخه يترتب على أصل الشافعي مقرراً وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةُ تُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَلَيْسَتِ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ مِثْلَ القرآن إلا القرآن دليل على أن لَا يَجُوزَ نَسْخُ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَلْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ حَتَّى حَظَرَهُ الشَّرْعُ؟ على وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَلِكَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمَأْمُورِ حُكْمُ الْآمِرِ كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْآمِرِ حُكْمُ الْمَأْمُورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ رَافِعًا لِقَوْلِ الْآمِرِ، لِأَنَّ الْآمِرَ مُطَاعٌ وَالْمَأْمُورَ مُطِيعٌ. فَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بالقرآن ففيه للشافعي قولان: أظهرهما: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالتَّجَانُسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ رَفْعُ الأخف بالأعلى وإن امتنع رفع الأعلى بِالْأَخَفِّ. فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ، فَفِي نَسْخِ الرَّجْمِ لِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَجْهَانِ يَسْلَمُ معهما أن يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 16] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ حَدٌّ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ لَفْظِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ كَمَا اقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَعْيَانِ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا لِانْقِضَاءِ زَمَانِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ بِهِ مُدَّةً لَا تَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَلَوِ اقْتَضَتِ التأبيد لصار نسخاً مخرج ذَلِكَ عَنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَصَارَ بَيَانُ القرآن بالسنة. والوجه الثاني: أنه منسوخ بما كان متلواً من القرآن ثم نسخ رسمه وبقي حكمه فهو مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا، إِيَّاكُمْ أَنْ تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا يجد حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: زَادَ ابْنُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 الْخِطَابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد أقرأناها. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَاهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَةَ الرَّجْمِ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ) . فَإِنْ قِيلَ الاعتراض على هذا منوجهين: أحدهما: أنه قَوْلِ وَاحِدٍ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا قِيلَ: أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فِيهِ بِخَبَرِ الواحد ففيه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا عَضَّدَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بالثيب جلد مائة والرجم) ثم تعقبه فعله فِي رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآحَادِ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عمر على المنبر بمشهد جمهور الصحابة رضي الله عنهم فما أنكروه، فدل على اتفاقهم عليه. وأما الاعتراض عليه بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَالْمَنْسُوخُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ كَالَّذِي رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ لِيَقْرَأَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَهَا رُفِعَتِ الْبَارِحَةَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ) . وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَكَقَوْلِهِ فِي الْعِدَّةِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: " وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) . وَمِثْلُ قَوْلِهِ: " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَانِيًا مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) وَمَا بَقِيَ حُكْمُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ نَسْخُ رَسْمِهِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا لَا يوجب رفع الآخر، كما أن رفع حُكْمَهُ لَا يُوجِبُ رَفْعَ رَسْمِهِ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مَنْسُوخًا وَبَيْنَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُجْمَلًا أَوْ محدوداً ولم ينسخ القرآن بالسنة. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الزِّنَا وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى رَجْمِ الثَّيِّبِ وَجَلَدِ الْبِكْرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّانِي مَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ حَالِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَإِنْ أن ثَيِّبًا وَيُسَمَّى الثَّيِّبُ مُحْصَنًا فَحَدُّهُ الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ. وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ: إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ دُونَ الرَّجْمِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ؛ احتجاجاً بظاهر القرآن وأن الرَّجْمَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَيْسَتْ حُجَّةً عِنْدَهُمْ في الأحكام. وقال داود بن علي، وأهل الظَّاهِرِ: عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ، فَجَمَعُوا عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) . وَبِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنِ الشعبي أن شراحة الهمدانية أتت علياً عليه السلام فقالت: قد زنيت قال: لَعَلَّكِ غَيْرَاءُ، لَعَلَّكِ رَأَيْتِ رُؤْيَا، قَالَتْ لَا، فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ عُقُوبَتَيْنِ كَالْبِكْرِ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَى آية الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْخَوَارِجُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الأخبار عن الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْلًا وَفِعْلًا وَعَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا وَعَمَلًا وَاسْتِفَاضَتُهُ فِي النَّاسِ وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ حُكْمُهُ مُتَوَاتِرًا، وَإِنْ كَانَ أَعْيَانُ الْمَرْجُومِينَ فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ خِلَافِ حدث بعده. والدليل على أن الرجم سَاقِطٌ فِي رَجْمِ الثَّيِّبِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَلَوْ جَلَدَهُمَا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ رَجْمُهُمَا. وَرَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ أَتَاهُ فَأَقَرَّ عنده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 بِالزِّنَا: " لَعَلَكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ) قَالَ: لَا قَالَ: " أَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا) لَا يُكَنِّي قَالَ: نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاعترف بالزنا فأعرض عنه، ثم اعترف فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مرات فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَبِكَ جُنُونٌ) ؟ قَالَ لَا: قَالَ: " أُحْصِنْتَ) قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرجم بالمعلى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاعترفت بالزنا، وقالت إني حبلى فدعى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وليها فقال: " أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بِهَا) فَفَعَلَ فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ) فَفَعَلَتْ ثُمَّ جَاءَتْ، فَأَمَرَّ بِهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فشد عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجَمْتَهَا ثُمَّ تُصَلِّي عَلَيْهَا: فَقَالَ: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ هَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا) . وَقَالَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هريرة " اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى اقْتِصَارِهِ عَلَى الرَّجْمِ دُونَ الْجَلْدِ، وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِهِ: " وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) مَنْسُوخٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى مَا رويناه إذا كَانَ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَيَانِ الرَّجْمِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِهِ الْقَتْلُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْجَلْدُ كَالرِّدَّةِ. فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي جَلْدِ شراحة ورجمها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مرسل؛ لأن راوية عن الشعبي ولم يلقه. والثاني: أنه جلدها لأنه حسبها بِكْرًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَرَجَمَهَا، أَلَا تراه أنه جَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَلَوْلَا ذلك لجمع بينهما في يوم واحد، والثابت أَنَّهَا زَنَتْ بِكْرًا فَجَلَدَهَا ثُمَّ زَنَتْ ثَيِّبًا فَرَجَمَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجَمَهَا فِي جُمُعَةٍ لَا تَلِي الْخَمِيسَ أَوْ تَلِيهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 وأما القياس وإن لم يكن من حجج أَهْلِ الظَّاهِرِ فَالْمَعْنَى فِي الرَّجْمِ: أَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَ فِيهِ مَا دُونَهُ، وَالْجَلْدُ خَاصٌّ جَازَ أن يقترن إليه التَّغْرِيبُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْبِكْرُ فَحَدُّهُ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَيَكُونُ كل واحد منهما حداً، فيجمع عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ، رَجُلًا كَانَ الزَّانِي أَوِ امْرَأَةً. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَلْدُ، فأما التَّغْرِيبُ فَهُوَ تَعْزِيرٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ يُرْجَعُ فِيهِ إلى رأي الإمام في فعله وتركه أَوِ الْعُدُولِ إِلَى تَعْزِيرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَدِّ الرَّجُلِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَدِّ الْمَرْأَةِ، وَتُجْلَدُ وَلَا تُغَرَّبُ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ بِحَدٍّ فِي الزِّنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اقتصر في حدها عَلَى الْجَلْدِ، وَلَوْ وَجَبَ التَّغْرِيبُ لَقَرَنَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِهِ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَنَعَ مِنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَإِنْ غُرِّبَتْ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَسْقَطْتُمُ الْخَبَرَ، وَإِنْ غُرِّبَتْ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْجَبْتُمُ التَّغْرِيبَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ التَّغْرِيبُ كَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّهُ زِنًا يُوجِبُ عُقُوبَةً فَلَمْ يُجْمَعْ فِيهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ كَزِنَا الثَّيِّبِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) . فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ مَا اقْتَرَنَ بِرَجْمِ الثَّيِّبِ مِنَ الْجَلْدِ مَنْسُوخًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اقْتَرَنَ بِجَلْدِ الْبِكْرِ مِنَ التَّغْرِيبِ مَنْسُوخًا؟ قِيلَ: نَسْخُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآخَرِ، لِأَنَّ النَّسْخَ يُؤْخَذُ مِنَ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ: " وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) بَعْدَ قَوْلِ الرَّجُلِ وَسَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: عَلَى ابْنَكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ يَجْمَعُ نَصًّا ووفاقاً، ولأنه إجماع الصحابة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جلد وغرب إلى فدك. وجلد عمر وَغَرَّبَ إِلَى الشَّامِ، وَجَلَدَ عُثْمَانُ وَغَرَّبَ إِلَى مِصْرَ. وَجَلَدَ عَلِيٌّ وَغَرَّبَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ عُمَرُ حِينَ غَرَّبَ لَا أنفي بعده أحداً. وَقَالَ عَلِيٌّ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ غَرَّبُوا تَعْزِيرًا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهُ وَلَمْ يَكُنْ حَدًّا مَحْتُومًا. قِيلَ: أَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لا أنفي بعده أحداً، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي شَارِبِ خَمْرٍ نَفَاهُ فَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالرُّومِ، وَالنَّفْيُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ تَعْزِيرٌ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَهُوَ فِي الزِّنَا حَدٌّ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ: " كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً) فَيَعْنِي: عَذَابًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أَيْ يُعَذَّبُونَ، وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ عُقُوبَةٌ تَقَدَّرَتْ عَلَى الزَّانِي شَرْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ حَدًّا أَعْلَى وَهُوَ الرَّجْمُ وَأَدْنَى وَهُوَ الْجَلْدُ، فَوَجَبَ أَنْ يقترن بأدناها غَيْرُهُمَا كَالْقَتْلِ يُوجِبُ أَعْلَى وَهُوَ الْقَوَدُ وَأَدْنَى وَهُوَ الدِّيَةُ وَاقْتَرَنَ بِهَا الْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا وَجَبَ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّغْرِيبُ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ عِنْدَنَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَلَوْ كَانَتْ نَسْخًا لم تكن زيادة التغريب ها هنا نَسْخًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَيْهَا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي حُكْمِهَا، فَجَعَلُوهَا تَعْزِيرًا وَجَعَلْنَاهَا حَدًّا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا إِذَا تَأَخَّرَتْ والتغريب ها هنا تفسير لقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فَكَانَ مقدما على قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ النَّسْخِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَغْرِيبِهَا مَعَ ذِي الْمَحْرَمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَغْرِيبِهَا تَعْزِيرًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تغريبها حداً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 والثاني: أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فِي مُبَاحِ السَّفَرِ دون واجبه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مَحْمُولًا عَلَى تَطَوُّعِ الصَّوْمِ دُونَ مَفْرُوضِهِ، وَهَذَا وَاجِبٌ كَالْحَجِّ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى ذِي مَحْرَمٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطَّرَحًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُغَرَّبَ فِي غَيْرِ الزِّنَا تَعْزِيرًا وَجَازَ فِي الزِّنَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُوبِهِ فِي الزِّنَا حَدًّا وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِ الزِّنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الثَّيِّبِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدَّ الثَّيِّبِ أَغْلَظُ الْعُقُوبَاتِ فَسَقَطَ بِهِ مَا دَوْنَهُ. والثاني: أن الرجم فيه قد منع من حد يتعقبه والجلد لا يمنع والله أعلم. (فصل) فإذا استقر فرق ما بين البكر والثيب في حد الزنا فجمع الزاني بينهما فزنا بكراً ثم زنا ثيباً ففي الجمع عليه بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا، فَيُجْلَدُ لِزِنَا الْبَكَارَةِ، وَيُرْجَمُ لِزِنَا الْإِحْصَانِ، وَلَا يُغَرَّبُ؛ لِأَنَّ رَجْمَهُ يُغْنِي عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ اتَّفَقَ مُوجِبُهُمَا فَدَخَلَ أَخَفُّ الْحُكْمَيْنِ فِي أغلظهما كما يدخل الحدث في الجناية، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الزِّنَا مِنْهُ فِي الْبَكَارَةِ تداخل، ولو تكرر منه فِي الْإِحْصَانِ تَدَاخَلَ، فَوَجَبَ إِذَا تَكَرَّرَ فِي البكارة والإحصان أن يتداخل، وَهَكَذَا لَوْ سَرَقَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَفِي دُخُولِ قَطْعِ السَّرِقَةِ فِي قَتْلِ الرِّدَّةِ وَجْهَانِ عَلَى ما ذكرناه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فإذا أَصَابَ الْحُرُّ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فَقَدْ أُحْصِنَا فَمَنْ زَنَى مِنْهُمَا فَحَدُّهُ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي حَدِّ الزِّنَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِالثَّيِّبِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ لِعَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْإِحْصَانُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ الْمُحْصَنُ، وَالْإِحْصَانُ فِي كَلَامِهِمُ الِامْتِنَاعُ، وَمِنْهُ سُمِّي الْقَصْرُ حِصْنًا لِامْتِنَاعِهِ، وقيل: فرس حَصَانٌ لِامْتِنَاعِ رَاكِبِهِ بِهِ، وَدِرْعٌ حَصِينَةٌ لِامْتِنَاعِ لَابِسِهَا مِنْ وُصُولِ السِّلَاحِ إِلَيْهِ، وَقَرْيَةٌ حَصِينَةٌ لامتناع أهلها قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِحْصَانُ هُوَ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنَ الزِّنَا، وَهِيَ أربعة شروط يصير الزاني بها محصناً: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 أحدهما: الْبُلُوغُ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ خِطَابٌ يَصِيرُ بِهِ مُمْتَنِعًا. وَالثَّانِي: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ ذِلَّةِ الِاسْتِرْقَاقِ وَنَقْصِ الْقَبَائِحِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَكْمَلُ الْحُدُودِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَكْمَلِ الزِّنَا. وَالرَّابِعُ: الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أَكْمَلُ مَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّنَا فَكَانَ شَرْطًا في أكمل حديه، والعقد لا يمنع حَتَّى تُوجَدَ فِيهِ الْإِصَابَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ الرَّجْمُ وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ خَامِسٌ مُعْتَبَرٌ فِي الجناية؛ فَإِنْ عُدِمَ سَقَطَ الرَّجْمُ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ) . وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دعها عنك فإنها لا تحصنك) . قال: ولأنها حصانة مِنْ شَرْطِهَا الْحُرِّيَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِسْلَامُ كَالْحَصَانَةِ فِي الْقَذْفِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لَمْ يُرْجَمْ كَالْعَبْدِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحَصَّنًا، فدل على أن الإسلام ليس بشرط فِي حَصَانَةِ الرَّجْمِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ صُورِيَّا، وَقَدْ حَضَرَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ: " أَسْأَلُكُمْ بِاللَّهِ مَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ) قَالَ: الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ لِتُقْرَأَ عَلْيَهُ فَلَمَّا انْتَهَوْا في قِرَاءَتِهَا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ وَضَعَ ابْنُ صُورِيَّا يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برفع يده، فإذا فيه ذكر الرجم يلوح، فَقَالَ لَهُمْ: " مَا حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ كعب بن صوريا أَجِدُ فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنْ كَثُرَ الزِّنَا في أشرافنا فلم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 نر إقامته إلا على الْأَدْنِيَاءِ وَنَدَعُ الْأَشْرَافَ، فَجَعَلْنَاهُ الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَالتَّجْبِيَةَ يُرِيدُ بِالتَّحْمِيمِ تَسْوِيدَ الْوَجْهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحُمَمَةِ وَهِيَ الْفَحْمَةُ، وَيُرِيدُ بِالتَّجْبِيَةِ أَنْ يَرْكَبَا عَلَى حِمَارٍ أَوْ جَمَلٍ وَظَهْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ فَرَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا) . قِيلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ بِتَوْرَاتِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ كَانَ حُكْمُهُ بِشَرِيعَتِهِ لَا بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا أَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ عَلَى إِنْكَارِهِمْ وُجُودَ الرَّجْمِ فِيهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَلْدِ الْكَامِلِ إِذَا كَانَ بِكْرًا كَانَ وَطْؤُهُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ رَجْعَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ كَانَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ، وَفِيهِمَا احْتِرَازٌ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْ غير الواطئ فِي نِكَاحٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ أَيْ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ قَبِيحٍ. والثاني: أنه محمول على إحصان القذف. فأما الجواب عن حديث كعب بن مالك، فراويه ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ كَعْبٍ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يَلْقَ كَعْبًا فَكَانَ مُنْقَطِعًا. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " فَإِنَهَا لَا تُحْصِنُكَ) مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّرْغِيبَ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ وَالتَّزْهِيدِ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَحْصِينَ الزِّنَا فِي أَصْحَابِهِ لِيُرْجَمُوا وَقَدْ صَانَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِاخْتِيَارِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِ والجهاد عليه مَعَ رَسُولِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَا تعفك عن نكاح غيرها إما لقبحها أو سوء معتقدها. وأما الجواب عن قياسهم على حَصَانَةِ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطَّرَحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى في حصانة القذف اعتبار الصفة فيها فكان أولى أن يعتبر فيها الإسلام، [لما لم يعتبر الْعِفَّةُ فِي حَصَانَةِ الزِّنَا كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْإِسْلَامُ] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِمَنْ لَيْسَ بِعَفِيفٍ يُرْجَمُ إِنْ زنا، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أنه إن لم يكمل جلده فَلَمْ يَجِبْ رَجْمُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ لَمْ يَرْتَفِعْ إِحْصَانُهُ فِي الرِّدَّةِ ولا إذا أسلم، وكان حده الرجم إن زنا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدِ ارْتَفَعَ إِحْصَانُهُ بِرِدَّتِهِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْإِحْصَانِ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَطَأَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْإِسْلَامِ شَرْطًا فِي بَقَاءِ الْحَصَانَةِ كَمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْحَصَانَةِ؛ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ) وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بعد كفر فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَأْنَفَ شَرَائِطُ الْحَصَانَةِ فِيهِ كَالْكَافِرِ الأصلي، ولأنه مبني له على أصله في اشتراك بالأسلام فِي إِحْصَانِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) وَهَذَا زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ القتل. وكان تحرير الِاسْتِدْلَالَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ الرَّجْمَ كَالَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ، وَلِأَنَّهُ إِحْصَانٌ ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ قِيَاسًا عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَسَقَطَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَغَيْرُ مسلم في أصله؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ عِنْدَنَا مُحْصَنًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فَجَمِيعُهَا شُرُوطٌ فِي الْحَصَانَةِ، وَبِكَمَالِ الْحَصَانَةِ يجب الرجم، هذا مذهب الشافعي وقول جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ. وَذَهَبَ شَاذٌّ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أن شرط الحصانة واحد فيها وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، شُرُوطُ وُجُوبِ الرَّجْمِ دون الحصانة، وهذا اختلاف مؤثر في الصحيح وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ إِذَا أَصَابُوا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ثم زنا الصَّبِيُّ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَالْمَجْنُونُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الْحَصَانَةِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلْدَ دُونَ الرَّجْمِ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا والإصابة فِي النِّكَاحِ بَعْدَ كَمَالِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قبل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 كَمَالِهِمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَصْلًا فِي الْحَصَانَةِ لَمْ تُحْصَنِ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ولا يملك الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا إِصَابَةُ كَمَالٍ لِاعْتِبَارِهَا فِي كَمَالِ الْحَدِّ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِهَا، وَالنِّكَاحُ أَكْمَلُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا يحل لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَأَفْضَلُ لِاجْتِمَاعِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَيَتَحَصَّنَا مَعًا فِيهِ بِإِصَابَةِ مرة واحدة إذا غاب بها الحشفة في الفرج، سواء كان عقيبها إنزال أو لم يكن، فأيهما زنا رُجِمَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ مَعًا لِصِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ رِقٍّ فَلَا حَصَانَةَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ مَا كَانَ النَّقْصُ بَاقِيًا، فَإِنْ زَالَ النَّقْصُ فَفِي ثُبُوتِ الْحَصَانَةِ بِمَا تَقَدَّمَ من الإصابة مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالزَّوْجَةُ ناقصة لصغر أو جنون أو رق فيثبت فِيهِ حَصَانَةُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ زَالَ نقص الزوجة ففي ثبوت حصانتها بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ فَيُنْظَرُ فِي نَقْصِ الزَّوْجِ: فَإِنْ كَانَ بِرِقٍّ أَوْ جُنُونٍ تَحَصَّنَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ، فَإِنْ زَالَ نَقْصُ الزَّوْجِ فَفِي ثُبُوتِ حَصَانَتِهِ بما تقدم من أصابته وجهان، فإن كَانَ نَقْصُ الزَّوْجِ لِصِغَرٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مثله لا يستمتع بإصابته لطفوليته كَابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ لَمْ يُحْصِنْهَا وَلَمْ يَتَحَصَّنْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُسْتَمْتَعُ بِمِثْلِهِ كَالْمُرَاهِقِ فَفِي تَحْصِينِهَا بِإِصَابَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وبه قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ) لَا يُحْصِنُهَا وَلَا يَتَحَصَّنُ بِهَا؛ لِضَعْفِ إِصَابَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ) قَدْ حَصَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يتحصن بها؛ لأن المعتبر في الإصابة تغييب الْحَشَفَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ كَإِصَابَةِ الشيخ، وهذا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي كَمَالِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ نَاقِصًا لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَنَفَيُ الْحَصَانَةِ عَنِ الْكَامِلِ لِانْتِفَائِهَا عَنِ النَّاقِصِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ بَرِقٍّ لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 بِصِغَرٍ تَحَصَّنَ الْكَامِلُ مِنْهُمَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَدِّ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَصَانَةِ بِمَثَابَتِهِ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّانِيَيْنِ مِنْ خَمْسَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ فَيُرْجَمَانِ مَعًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الزاني والزانية على ما سنصفه في الرَّجْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا بِكْرَيْنِ فَيُجْلَدَانِ معاً على ما سنصفه في الْجَلْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا، وَالْآخَرُ بِكْرًا، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ مِنْهُمَا، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْصُرَا عَنْ حُكْمِ الْمُحْصَنِ والبكر بصغر أو جنون يزيل القلم عنها، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُعَزَّرُ الصَّبِيُّ مِنْهُمَا دُونَ الْمَجْنُونِ إِنْ كَانَ يُمَيِّزُ أَدَبًا كَمَا يُؤَدَّبُ فِي مَصَالِحِهِ حَتَّى لَا يَنْشَأَ عَلَى الْقَبَائِحِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا مُحْصَنًا أَوْ بِكْرًا، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَيُحَدُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَمَّنْ لَيْسَ مَنْ أَهِلِهِ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً وَلَا يَكُونُ سُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطُهُ عَنِ الزاني، وسقوطه عن الزاني لا يوجب سقوطه عن الزانية، فيحد العاقل إذا زنا بالمجنونة، وَلَا تُحَدُّ الْعَاقِلَةُ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ زانياً، والمجنون جاهل بتحريم الزنا فلم يك وطئه زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِمَّا لَيْسَ بِزِنًا لَا يَكُونُ زِنًا فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْمَوْطُوءَةُ تَابِعَةٌ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَتْبُوعِ سَقَطَ عَنِ التَّابِعِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ أَصْلٌ وَالتَّابِعَ فَرْعٌ فَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ الْفَرْعِ مَعَ ارْتِفَاعِ أَصْلِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ عَاقِلًا وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي وَطْءِ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنِ الْوَاطِئِ لمعنى يخصه لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ كَالْمُسْتَأْمَنِ الْحَرْبِيِّ إذا زنا بِمُسَلِّمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ دُونَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ سبب لو اختص بالموطوءة لم يمنع وجوبه الْحَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ وَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِالْوَاطِئِ أَنْ لَا يُمْنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ كَاعْتِقَادِ الشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الموطوءة بالواطئ في حقه الْحَدِّ إِذَا زَنَتِ الْحُرَّةُ بِعَبْدٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 وَالثَّيِّبُ بِبَكْرٍ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إذا زنت العاقلة بمجنون. فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " إِنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنَا) فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا ثَابِتٌ فِيهِ لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَلَوِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الزِّنَا عَنْهُ لَحِقَ النَّسَبُ بِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ: " بِأَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ) فَهُوَ بَاطِلٌ بِصِفَةِ الْحَدِّ لِمَا جَازَ أَنْ تُرْجَمَ الْمَوْطُوءَةُ وَإِنْ جُلِدَ الْوَاطِئُ، جَازَ أَنْ تُجْلَدَ الْمَوْطُوءَةُ وَإِنْ لَمْ يجلد الواطئ. فإذا تقرر هذا فرع عليه الزنا في مستيقظ ونائم، فإن زنا رجل بنائمة حُدَّ دُونَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ كَزِنَا الْعَاقِلِ بِمَجْنُونَةٍ، وَإِنِ اسْتَدْخَلَتِ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ نَائِمٍ حُدَّتْ عِنْدَنَا، وَلَمْ تُحَدَّ عِنْدَهُ كَالْعَاقِلَةِ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ اعتباراً بسقوط الحد عن النائم، وما قدمناه دليل عليه في الموضعين وبالله التوفيق. (مسألة) قال الشافعي: " ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ إِذَا رُجِمَ الزَّانِي أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي غَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُ قَتْلُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَقْتُولِ قَوَدًا، وَلَمْ يُكْرَهْ لِلْإِمَامِ الْحَاكِمِ بِرَجْمِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ حِينَ رَجَمَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى الَّتِي رَجَمَهَا مِنْ جُهَيْنَةَ وَأَحْسَبُهَا الْغَامِدِيَّةَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ترجمها ثُمَّ تُصَلِّي عَلَيْهَا فَقَالَ: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قسمت على سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ هَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا) . وَجَلَدَ عَلِيُّ بن أبي طالب عليه السلام شراحة الهمدانية في يوم الخميس ورجمها يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُكْرَهُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ فَلَمْ تُكْرَهْ لِلْإِمَامِ كَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الزَّانِي. فَأَمَّا مَاعِزٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ وَيَكْفِي أن يصلي عليها غيره. (مسألة) قال الشافعي: " وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وَيَتْرُكَ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِرَجْمِ زَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا شُهُودُ الزِّنَا حُضُورَ الرَّجْمِ، سَوَاءٌ رجم بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وقال أبو حنيفة: إن رجم بإقرار لزم حضور الإمام أو الحاكم بالرجم، وَإِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ لَزِمَ حُضُورُ الشُّهُودِ دُونَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَصُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ وَالشُّهُودُ أَخَصُّ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ إِنْ شَهِدُوا بِزُورٍ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَحْضُرْهُ وَقَالَ: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) ولأنها إِقَامَةُ حَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْ حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كالقذف، ولأنها إِفَاتَةُ نَفْسٍ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ حُضُورُهُمَا، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الْبِكْرِ لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الزَّانِيَيْنِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ وَالشُّهُودُ الرَّجْمَ لَمْ يَجِبْ الِابْتِدَاءُ بِالرَّجْمِ عَلَى أَحَدٍ، وَبَدَأَ بِهِ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رُجِمَ بِإِقْرَارِهِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الْإِمَامُ، ثُمَّ الشهود، ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَضَرَ رَجْمَ الْغَامِدِيَّةِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَنَّهُ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ، ولأنه حد فلم يتعين فيه المبتدئ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. (فَصْلٌ) [الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّجْمِ] فَأَمَّا صِفَةُ الرَّجْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَرَ فِيهِ عَوْرَةُ الْمَرْجُومِ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَيُسْتَرُ جَمِيعُ بَدَنِهَا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ قَبْلَ رَجْمِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ، وَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُمِرَ بِهَا، وَإِنْ تَطَوُّعَ بِصَلَاةٍ مُكِّنَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنِ اسْتَسْقَى مَاءً سُقِيَ، وَإِنِ اسْتَطْعَمَ طَعَامًا لَمْ يُطْعَمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَاءَ لِعَطَشٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْأَكْلَ لِشِبَعٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُقَيَّدُ، وَيُخَلَّى وَالِاتِّقَاءُ بِيَدِهِ، وَاخْتَارَ الْعِرَاقِيُّونَ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ حُفَيْرَةً يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى وَسَطِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُخْتَارٍ فِي رَجْمِ الرَّجُلِ، سَوَاءً رُجِمَ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِتَأْخُذَهُ الْأَحْجَارُ من جوانبه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَاعِزٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 حين رجمه، فأما المرأة فتحفر لَهَا إِنْ رُجِمَتْ بِالشَّهَادَةِ حُفَيْرَةٌ تَنْزِلُ فِيهَا إلى صدرها؛ لرواية أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ وَلِيَكُونَ ذلك أستر لها وأصون، فإن رُجِمَتْ بِإِقْرَارِهَا فَفِي الْحَفْرِ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْفَرُ لَهَا لِيَكُونَ عَوْنًا لَهَا عَلَى هَرَبِهَا إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يحفر لها تغليباً لحق صيانتها وسترها، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُحْفَرَ للْغَامِدِيَّةِ إِلَى الصَّدْرِ وَكَانَتْ مُقِرَّةً. (فَصْلٌ) [الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فِي الرَّجْمِ] فأما الْحَجَرُ الَّذِي يُرْجَمُ بِهِ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَ مَلْءَ الْكَفِّ، وَلَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ كَالصَّخْرَةِ فترجمه، ولا يكون أخف مِنْهُ كَالْحَصَاةِ فَيَطُولُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْقِفُ الرَّامِي مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ عَلَيْهِ فَيُخْطِئُهُ وَلَا يدنوا مِنْهُ فَيُؤْلِمُهُ، فَإِنْ هَرَبَ عِنْدَ مَسِّ الْأَحْجَارِ اتُّبِعَ إِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا يُتْبَعُ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ حِينَ أَخَذَتْهُ الأحجار فاتبع فقيل: إن عمر أتبعه فرماه بَلَحْيِ جَمَلٍ فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ لَقِيَهُ عَبْدُ الله بن أنيس وقد أعجز أصحابه فَرَمَاهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ قبلت منهم. ولأن رجمه بإقرار غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ وَهَرَبُهُ كَالرُّجُوعِ، وَالْأَوْلَى بِمَنْ حَضَرَ رَجْمُهُ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا فِيهِ إِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ، وَمُمْسِكًا عَنْهُ إِنْ رَجَمَ بِالْإِقْرَارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَجَمِيعُ بَدَنِهِ مَحَلٌّ للرجم في المقاتل وغير المقاتل، ولكن يختار أن يتوقى الوجه وحده لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باتقاء الوجه. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنْ لَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ مِائَةً وَغُرِّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ بِالسُّنَّةِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أن حد البكر الجلد والتغريب، وسمي الحد جَلْدًا لِوُصُولِهِ إِلَى الْجَلْدِ، وَلَهُ حَالَتَانِ: حُرٌّ، وَعَبْدٌ: فَإِنْ كَانَ حُرًّا جُلِدَ مِائَةً ثُمَّ غرب بعد الجلد سنة، فأما الجلد فهو بسوط معتدل لا جديد ولا خلق، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ كَمَا أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ اللَّذَّةِ إِلَّا عُضْوَيْنِ يَكُفُّ عَنْ ضَرْبِهِمَا ويؤمر باتقائهما: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 أحدهما: الوجه؛ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا ضَرَبْتُمْ فَاتَّقُوا الْوَجْهَ) . وَالثَّانِي: الْفَرْجُ؛ لِأَنَّ الْمَذَاكِيرَ قَاتِلَةٌ، فَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يَلْزَمُ اتِّقَاؤُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُ أَنْ يُتَّقَى وَهُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ. وَأَمَّا التَّغْرِيبُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَأَمَّا الزَّمَانُ فقد قدره الشرع بسنة تَجْمَعُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا الْمَكَانُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أصحاب الشافعي: إلى مسافة يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي يقصر فيه وَيُفْطَرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ أَهْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة أنه يغرب إلى حيث ينطلق عَلَيْهِ اسْمُ الْغُرْبَةِ وَتَلْحَقُهُ فِي الْمُقَامِ بِهِ مشقة ووحشة، سواء قصر فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ أَوْ لَمْ تَقْصُرْ؛ لِأَنَّ المقصود بتغريبه خروجه عن أنسه بالأهل وَالْوَطَنِ إِلَى وَحْشَةِ الْغُرْبَةِ وَالِانْفِرَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تَغْرِيبِهِ إِلَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ للزنا وإفساد الناس فيحبس كفا عن الفساد تعزيراً مستجداً، ومؤونته في غربته فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ كَأُجْرَةِ الجلاد، فإن أعوز بيت المال كانت فِي مَالِهِ كَمَا تَكُونُ فِيهِ أُجْرَةُ مُسْتَوْفِي الْحَدِّ مِنْهُ عِنْدَ الْإِعْوَازِ، فَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ فَعَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ كَسْبِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الِاكْتِسَابِ وَلَا أَنْ يُسَافِرَ مَعَهُ بمال يتجر به أو ينفقه، فإن أعوزه الْكَسْبَ فِي سَفَرِهِ كَانَ كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَزِيدَ فِي مَسَافَةِ تغريبه على ما قدمناه جَازَ، فَقَدَ غَرَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَغَرَّبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مِصْرَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ فِي زمان تغريبه على السَّنَةِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ السَّنَةَ نَصٌّ، وَالْمَسَافَةَ اجْتِهَادٌ، وَفِي أَوَّلِ السَّنَةِ فِي تَغْرِيبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ وَقْتِ إِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ سَفَرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَكَانِ التَّغْرِيبِ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أحدهما: بعد مفارقته لأنس الْوَطَنِ وَاعْتِزَالِ الْأَهْلِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ حَدُّ التغريب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَعْدَ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا جُعِلَ حَدًّا لِلتَّغْرِيبِ. (فَصْلٌ) وَالْإِمَامُ فِي تَغْرِيبِهِ بين أمرين: أحدهما: أن يعين على الْبَلَدَ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُقَامُ فِيهِ، ولا يجوز الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَيَصِيرُ لَهُ كَالْحَبْسِ الَّذِي لَا يجوز أن يخرج منه. والثاني: أن لا يعين له على الْبَلَدَ فَيَجُوزُ لَهُ إِذَا تَجَاوَزَ مَسَافَةَ التَّغْرِيبِ أن يقيم في أي بلد من الْبِلَادِ شَاءَ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى أَيِّ بَلَدٍ شَاءَ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّغْرِيبِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ البلد الذي غرب إليه معيناً لم يَعُدْ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنْ عَادَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُزِّرَ كَمَا يُعَزَّرُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَعُودَ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَإِنْ عَادَ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ السَّنَةِ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ، وَبَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ مُقَدَّمِهِ وَلَمْ تُحْسَبْ مُدَّةُ مُقَامِهِ فِي وَطَنِهِ. وَلَوْ غَرَّبَ الْمَحْدُودُ نَفْسَهُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ جَلَدَ نفسه لم يجزه. والفرق بينهما: أن الحد حَقٌّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيهِ وَالتَّغْرِيبُ انْتِقَالٌ إِلَى مَكَانٍ قَدْ وُجِدَ فِيهِ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ أَوَّلَ زَمَانِ تَغْرِيبِهِ لِيَعْلَمَ بِإِثْبَاتِهِ اسْتِيفَاءَ حَدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْهُ وَادَّعَى الْمَحْدُودُ انْقِضَاءَ السَّنَةِ وَعَدِمَتِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ المحدود؛ لأنه من حقوق الله الْمُسْتَرْعَاةِ، وَيَحْلِفُ اسْتِظْهَارًا وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَاتِ زَوْجَاتِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَتَنْقَضِي بِهِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَإِنْ زَنَا فِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ حُدَّ وَغُرِّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ عَامًا إِلَى مَسَافَةِ التَّغْرِيبِ وَإِلَى جِهَةٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَطَنِهِ مِثْلُ مَسَافَةِ التغريب فصاعداً، وتكون بَقِيَّةُ التَّغْرِيبِ الْأَوَّلِ دَاخِلًا فِي التَّغْرِيبِ الثَّانِي؛ لأن حدود الزنا تتداخل فِي الِاسْتِيفَاءِ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كَانَ الزَّانِي عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أُحْصِنَا بِنِكَاحٍ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ وَالرَّجْمُ لَا ينتصف، وإذا سَقَطَ الرَّجْمُ عَنْهُ فَحَدُّهُ خَمْسُونَ جَلْدَةً وَهِيَ نصف حد الحر لقول الله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . فأما التغريب ففيه ثلاثة أقاويل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 أَحَدُهَا: يُغَرَّبُ سَنَةً كَالْحُرِّ وَإِنْ خَالَفَ الْحُرَّ فِي الْجَلْدِ؛ لِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَوْلُ لم يتبعض كالزكاة والجزية. والقول الثَّانِي: لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ لِمَا فِيهِ من الإضرار بسيده، وأنه فِي الْغُرْبَةِ أَرْفَهُ لِقِلَّةِ خِدْمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أنه يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّغْرِيبُ فِي الْحُرِّ تَبَعًا لِلْجَلْدِ ثُمَّ تنصف جلد العبد، وجب أن ينتصف تَغْرِيبُهُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا التَّغْرِيبِ أَنْ يَحُدَّهُ الْإِمَامُ أَوِ السَّيِّدُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ حَدَّهُ السَّيِّدُ لَمْ يُغَرِّبْهُ، وَإِنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ غَرَّبَهُ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مُسْتَوْفًى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ مُسْتَوْفِيهِ كَالْجَلْدِ وَحَّدُّ الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ الْمُدْبِرُ وَالْمُكَاتِبُ وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ كَحَدِّ الْعَبِيدِ كَمَا كَانُوا فِي النكاح والطلاق والعدة كالعبيد، ومؤونة التَّغْرِيبِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَنَفَقَتُهُ فِي زَمَانِ التَّغْرِيبِ عَلَى السَّيِّدِ، فَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتَ الْمَالِ فمؤونة التغريب على السيد كالنفقة والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " ولو أقر مرة حد لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أنيساً أن يغدو على امرأة فإن اعترفت رجمها وأمر عمر رضي الله عنه أبا واقد الليثي بمثل ذلك ولم يأمرا بعدد إقراره وفي ذلك دليل أنه يجوز أن يقيم الإمام الحدود وإن لم يحضره) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يجب به حد الزنا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أنه يجب بإقراره مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حنيفة وأصحابه: أنه لا يجب إلا بإقرار أربع مرار فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وابن أبي ليلى لا تجب إِلَّا بِإِقْرَارٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي مجلس أو في مجالس؛ احتجاجاً فِي اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ بِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَرَدَّهُ، ثُمَّ عاد رابعة فأقر بِالزِّنَا فَسَأَلَ عَنْهُ قَوْمَهُ: " هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟) قَالُوا: لَا، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فِي مَوْضِعٍ قَلِيلِ الْحِجَارَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، فَانْطَلَقَ يَسْعَى إِلَى مَوْضِعٍ كَثِيرِ الْحِجَارَةِ فَرَجَمُوهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 حتى قتل، فَلَّمَا أَمَرَ بِرَجْمِهِ فِي الرَّابِعَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ وأن الأربع كلها شروط فيه. وروى عامر بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَقْبَلَ مَاعِزُ بن مالك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ حَتَّى لَمْ يُرَ، ثُمَّ عاد الرابعة، قال: فنهضت إليه فقلت: يَا هَذَا إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ قَالَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ. قَالُوا: فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّ الرَّابِعَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَجْمِهِ فَأَقَرَّهُ، فَصَارَ كقوله. قالوا: ولأنه سبب يثبت حَدُّ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَجَبَ أَنْ يُغَلَّظَ بِزِيَادَةِ الْإِقْرَارِ عَلَى سَائِرِ الْإِقْرَارَاتِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فِي اعترافها أَرْبَعًا، فَغَدَا إِلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ بِاعْتِرَافِ المرأة الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَا يُبِيحُ رَجْمَهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصحَابة فَكَانَ إِجْمَاعًا. أما أبو بكر فأقر رجل بكر عنده بِالزِّنَا فَجَلَدَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي زَنَتْ فَأَنْفَذَ أَبَا وَاقِدٍ اللِّيثِيَّ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: زَوْجَكِ قَدِ اعْتَرَفَ عَلَيْكِ بِالزِّنَا وَإِنَّكِ لَا تؤاخذين بقوله لتنزع فلم تنزع، فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ مَا ثبت بالإقرار لم يعتبر فِيهِ التَّكْرَارُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِنْكَارِ لَمْ يَلْزَمْ في تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ قَذْفِهِ فاعترف المقذوف مرة واحدة صَارَ كَالْمُقِرِّ بِهِ أَرْبَعًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ كَالْأَرْبَعِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ زَانِيًا وفي بعضها غير زان، ولأنه إقرار ثبت بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا كَالْأَرْبَعِ. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حَقُّ الله سبحانه، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ التَّكْرَارُ فَكَانَ حَدُّ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ عنهما. فأما الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ " مَاعِزٍ) فِي إِقْرَارِهِ أَرْبَعًا فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَقَّفَ عَنْ رَجْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى اسْتِثْبَاتًا لحاله واسترابة لجنونه؛ لأنه كان قصيراً اعضد احمر العينين ناثر الشِّعْرِ أَقْبَلَ حَاسِرًا فَطَرَدَهُ تَصَوُّرًا لِجُنُونِهِ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيُتْلِفُهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَلِذَلِكَ سَأَلَ قَوْمَهُ عَنْ حَالِهِ وَقَالَ: أَبِهِ جِنَّةٌ وَقَالَ اسْتَنْكِهُوهُ لأنه توهمه حين لم ير به جنة أن يكون سكراناً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ مُعْتَبَرًا لَكَانَ الأول مؤثراً، ولما استجاز أن يطرده، وقد تعلق به لله تعالى حق. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَثْبَتَهُ فِي الخامسة وقال: " لعلك قبلت لعلك لمست؟) قال بل جامعتها، قال: " أَوْلَجْتَ ذَكَرَكَ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ والرشا في البئر) ؟ قال: نعم فأقر بِرَجْمِهِ فِي الْخَامِسَةِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا بِإِجْمَاعٍ فَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خَبَرٌ خَالَفَ الْأُصُولَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ) فَلِأَنَّ حَالَهُ قَدْ وَضَحَتْ وَالِاسْتِرَابَةُ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَصَارَتِ الرَّابِعَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِزَوَالِ الِاسْتِرَابَةِ وَلَمْ تكن لاستكمال العدد؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ جَلَدَ فِي أَيَّامِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَدَدًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَدُ فِي غَيْرِ الزِّنَا اعْتُبِرَ فِي الزِّنَا، وَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ الزِّنَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِزِيَادَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ تَغْلِيظًا فَهُوَ أن الشهادة قد تختلف باختلاف الحقوق ولا توجب اخْتِلَافَ الْإِقْرَارِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَا بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتِ الْمَرْأَةُ الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ مَعَ فِعْلِ الْمَرْأَةِ وَطْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا سَقَطَ الحد في جنبتها بالجحود سقط في جنبته وَإِنْ أَقَرَّ لِعَدَمِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلَّا فِي زِنًا كَامِلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا بِجُحُودِهَا وَإِقْرَارِهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، فَصَارَ شُبْهَةٌ فِيهِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِهِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أربع مرات قال: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ قَالَ: بِفُلَانَةٍ فَلَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِ حَدِّهِ وَإِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ لَكَفَّ عَنْ رَجْمِهِ إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهَا. وَرَوَى سَهْلُ بن سعد الساعدي أن رجلاً اقر أنه زنا بِامْرَأَةٍ فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا فَجَحَدَتْ، فَحُدَّ الرَّجُلُ، وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قيل: إنما حده القذف. قيل: حد القاذف لها لا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِمُطَالَبَتِهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهَا طَالَبَتْ، فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى حَدِّ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي جُحُودِهَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ إِقْرَارِهَا بِالزِّنَا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ سقوط الحد عنه كالسكوت إذا لم يجحد وَلَمْ تُقِرَّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ سُكُوتُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَمْنَعْ منه جحوده قياساً على غيرها، وَلِأَنَّ جُحُودَهَا لَوْ كَانَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ لوجب إذا كانت غائبة ألا يَحُدَّ حَتَّى تَحْضُرَ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَجْحَدَ فَيَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِ حَدِّهِ قَبْلَ قُدُومِهَا وَسُؤَالِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَهَا وجحودها سواء في حقه. وأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ " بِأَنَّهُ وَطْءٌ وَاحِدٌ) فَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَطْئًا وَاحِدًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ سَقَطَ فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَاقِلًا وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ كَبِيرًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّ سُقُوطَهُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ فَهُوَ: أَنَّهَا شُبْهَةٌ فِي حَقِّهَا دُونَ حَقِّهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا لَمْ يكن سقوط الحد عنها موجباً لِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى هذه المسألة إذا زنا الناطق بخرساء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِشَارَتَهَا بِالزِّنَا إِقْرَارًا فتصير كالجاحدة، وعندنا يجب الحد عليه وعليها إِنْ أَشَارَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ إِذَا أَشَارَ بالإقرار بالزنا حد. وقد مضت هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ) ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي خَرَسِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُكُوتِهَا وَسُكُوتُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عليه، كذلك خرسها والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عَنْ إِقْرَارِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، سَوَاءً وَقَعَ به الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ وَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ. قَالُوا: ولأنه حق ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ) وَرُجُوعُهُ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ، وَلِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ مِنْ حَرِّ الْأَحْجَارِ وَتَبَعُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى تَرْكِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِرَجْمِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَتَرَكَهُ وَقَالَ: لَأَنْ أَتْرُكَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ أُقِيمَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ، وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه على مِثْلِ هَذَا، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ بِقَوْلِهِ: فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ ما ثبت من حدود الله تعالى بالقول يجب أَنْ يَسْقُطَ بِالْقَوْلِ قِيَاسًا عَلَى رُجُوعِ الشُّهُودِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فِي " إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ) فالراجع غير مبد لصفحته وإنما يكون مبدئاً إذا قام عَلَى إِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حقوق الآدميين فمن وجهين هما فرق يمنع من صحة الجمع: أحدهما: أن حقوق الله تعالى تدرأ بالشبهات وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تُدْرَأُ بِهَا. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يُقِرَّ بها، وكذلك لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فِيهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ لَا يُقِرَّ بِهَا، فلذلك قبل رجوعه فيها. وروى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنِ ابْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بثوبك كان خيراً لك) . (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْحُدُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ. فأما حقوق الله تعالى المحضة فحد الزنا وقتل الردة وحد شرب الْخَمْرِ، فَإِذَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ سَقَطَتْ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، وَلَوْ وَجَبَتْ بِالشَّهَادَةِ لَمْ تَسْقُطْ بِرُجُوعِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَسَقَطَتْ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْإِقْرَارُ بِهَا، وَالشَّهَادَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْتَصُّ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَخْتَصُّ إِقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشهادة مع الاعتراف مطرحة، فعلى هذا لو رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَالْأَصَحُّ من إطلاق هذين الوجهين عندي أن ينظر فِي اجْتِمَاعِهِمَا، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ وَسَقَطَ بِالرُّجُوعِ، وَإِنْ تَقَدَّمَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 بالشهادة ولم يسقط بالرجوع؛ لأن وجوبه ما سبقها فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا تُعْقِبُهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كلها لا يسقط أحدهما الآخر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ بشهادتهم وإن صدقهم سقط عنه الحد فلم يحد بشهادتهم ولا بإقراره قال: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُقِرٍّ فَسَقَطَتْ، وَالْإِقْرَارُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعًا. وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مُنْكَرٍ وَيَسْقُطَ عَنْ مُقِرٍّ، وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهِ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةُ فَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَسْقُطَ بِالتَّصْدِيقِ دُونَ الرُّجُوعِ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ المشتركة التي يتعلق بها حق الله وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ السَّرِقَةُ يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، وهو من حقوق الله الْمَحْضَةِ، وَغُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الآدميين المحضة، فإذا أوجب بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَفِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالرُّجُوعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ لِاقْتِرَانِهِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ. (فَصْلٌ) [الْأَلْفَاظُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي رُجُوعِ المقر على نفسه بالزنا] فأما ما يكون به راجعاً في إِقْرَارِهِ فَهُوَ الْقَوْلُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي، أَوْ يَقُولُ: لَمْ أَزْنِ، أَوْ يَقُولُ: قَدْ رَجَعْتُ عن إقراري، فكل واحد من هذه الألفاظ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ رُجُوعًا صَرِيحًا، فَإِنْ قَالَ: لَا تحدوني لم يكن رجوعاً صريحاً؛ لأنه يجوز أن يريد به العفو أو الإنظار، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الْإِنْظَارُ لَهُ إلا لعذر ينظر لأجله من مرض، أو جنة أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الكف عنه، فإذا بين عَنْ مُرَادِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَحُكِمَ بِمُوجِبِهِ. وَلَوْ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيَّ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى صَرِيحِ الرُّجُوعِ مَعَ احْتِمَالٍ فِيهِ فَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنَّ هَرَبَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ هَرَبُهُ مَقَامَ رُجُوعِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مَاعِزٍ حِينَ هَرَبَ مِنَ الْأَحْجَارِ " هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِاحْتِمَالِهِ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ عَنْ هَرَبِهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ لِاحْتِمَالِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " غرم قَاتِلَ مَاعِزٍ بَعْدَ هَرَبِهِ دِيَتَهُ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا جَعَلْنَاهُ رُجُوعًا صَرِيحًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَوْجَبْنَا بِهِ ضَمَانَ النَّفْسِ إِنْ قُتِلَ بَعْدَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ نَجْعَلْهُ رُجُوعًا صَرِيحًا لم نوجب له به الضمان. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقَامُ حَدُّ الْجَلْدِ عَلَى حُبْلَى وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ وَلَا فِي يَوْمٍ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ مُفْرِطٌ وَلَا فِي أَسْبَابِ التَّلَفِ) . قال الماوردي: إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا أُخِّرَ مَعَ وُجُودِ الأسباب القاتلة وهي ضربان: أحدهما: حَبَلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، وَمَرَضٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ. فَأَمَّا الْحَبَلُ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَحْدُودَةُ حُبْلَى حَامِلًا بِوَلَدٍ فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ جَلْدِهَا كَمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ رَجْمِهَا، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا من زنا أو حَلَالٍ؛ لِأَنَّ جَلْدَ الْحَامِلِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهَا وتلف حَمْلِهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ. وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ أَمَرَ بِحَدِّ زَانِيَةٍ حَامِلٍ إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَرَدَّهَا وَقَالَ: " لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ) فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَهِيَ فِي نِفَاسِهَا فَإِنْ أَمِنَ مِنْ تَلَفِهَا فِيهِ جُلِدَتْ، وإن خيف من تلفها فيه أمهلت. وروى أَبُو جَمِيلَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَجَرَتْ جَارِيَةٌ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَقَالَ لِي: " يَا عَلِيُّ انْطَلِقْ فَأَقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهَا، فَأَتَيْتُهَا فَوَجَدْتُهَا يَسِيلُ دَمُهَا لَا يَنْقَطِعُ، فَعُدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته أني وجدت دمها يسيل لا يَنْقَطِعُ فَقَالَ: دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا، ثُمَّ اجْلِدْهَا، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُرْجَى زواله كالسل، والفالج فيكون في النضو عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ فَيُؤَخَّرَ الْمَحْدُودُ فِيهِ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي الْمَرَضِ مُفْضٍ إِلَى تَلَفِهِ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَدُّهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ. إِمَّا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ أَوْ حَدُّ الْمَرْضَى، أَوْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَبْرَأَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى تَلَفِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمَرْضَى؛ لأنه لا يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَصِحَّاءِ فَلَمْ يبق إلى أَنْ يُؤَخَّرَ إِلَى صِحَّتِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وهو المختص بالزمان فهو شأن إِفْرَاطُ الْحَرِّ وَإِفْرَاطُ الْبَرْدِ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ فِيهِمَا مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْجَلْدِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ دون التلف، فيؤخر فِي شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَفِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِلَى اعْتِدَالِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْدُودُ فِي بِلَادِ الْحَرِّ الَّتِي لَا يَسْكُنُ حَرُّهَا أَوْ فِي بِلَادِ الْبَرْدِ الَّتِي لَا يَقِلُّ بَرْدُهَا لَمْ يُؤَخَّرْ حَدُّهُ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَى الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَقُوبِلَ إِفْرَاطُ الْحَرِّ وَإِفْرَاطُ الْبَرْدِ بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ حَتَّى يَسْلَمَ فِيهِ مِنَ الْقَتْلِ كَمَا نَقُولُهُ فِي الْمَرَضِ الْمُلَازِمِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ جَلْدِهِ فَلَمْ يؤخر وَجَلْدُهُ فِيهِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّلَفِ فَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا فَعَلَ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صدر عنه تلف فيه ضربان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ غَيْرُ الْمَحْدُودِ كَالْحَامِلِ إِذَا جُلِدَتْ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ جَلَدَهَا كَمَا قَدْ ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ المرأة حين أجهضته من رهبة رسالته. والضرب الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ الْمَحْدُودُ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ دِيَتَهُ لِتَعَدِّيهِ بِالْوَقْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ لِحُدُوثِهِ عَنْ جَلْدٍ مستحق. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً حُبْلَى فَتُتْرَكَ حَتَّى تَضَعَ وَيُكْفَلَ وَلَدُهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرْجَمَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ أَتَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَقَالَ: ارْجِعِي فَرَجَعَتْ، فلما كان من الغد أتته فقالت: لعلك تريد أن تردني كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي، فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فَقَالَتْ: قَدْ وَلَدْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعِي فأرضعيه حتى تفطميه [ ... ] وفي يده شيء يأكل فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وَقَدْ أَمَرَ بِرَجْمِ حَامِلٍ: " إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا) فَرَدَّهَا وَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَمْسَكَ عَنْهَا حَتَّى تُرْضِعَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُرْضِعِ الْوَلَدِ بَعْدَ اللِّبَأِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 أحدها: أن يوجد ويتعين فيسلم الولد إلى مرضعته وترجم الأم. والثاني: أن لا يوجد لرضاعه غَيْرُ الْأُمِّ فَيُؤَخَّرُ رَجْمُهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ثُمَّ تُرْجَمَ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا حَفِظْنَا حَيَاتَهُ حَمْلًا فَأَوْلَى أَنْ نَحْفَظَهَا وَلِيدًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ الْمُرْضِعِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَفِي جواز رجمها قبل تعيينه وَدَفْعِهِ إِلَى الْمُرْضِعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ رَجْمُهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْضِعَ مَوْجُودٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَلَّمَ إِلَى الْمُرْضِعِ ثُمَّ تُرْجَمَ. فَأَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِذَا كَانُوا مَرْضَى أَوْ فِي حَرٍّ مُفْرِطٍ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ فَفِي تَعْجِيلِ رَجْمِهِمْ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ وَفَرْطِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، والمنصوص عليه في هذا الموضع أن يُعَجَّلَ الرَّجْمُ وَلَا يُؤَخَّرَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْقَتْلُ بِخِلَافِ الْمَجْلُودِ، وَسَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤَخِّرُ رَجْمُهُ وَلَا يُعَجَّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ وَيَعْتَدِلَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ، سَوَاءٌ رُجِمَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ وَيَرْجِعَ الشُّهُودُ في الشهادة فلا تعجيل في زمان التوجه حَتَّى يُمْكِنَ اسْتِدْرَاكُ مَا يَمْنَعُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أن يُؤَخَّرُ إِنْ رُجِمَ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يُؤَخَّرَ إِنْ رُجِمَ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُقِرِّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى الرُّجُوعِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَنْدُوبِينَ إِلَى الرجوع، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ الْبِكْرُ نِضْوَ الْخَلْقِ إِنْ ضُرِبَ بالسيف تلف ضرب بإثكال النخل اتباعاً لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ فِي مِثْلِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ حَدُّ النِّضْوِ الرَّجْمُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ لِوَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَهُوَ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ كَمَيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ وَهُوَ نضو الخلق ضعيف التركيب، وإن كَانَ سَلِيمَ الْخِلْقَةِ فَحَدَثَ بِهِ مَرَضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَأَنْهَكَهُ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةٍ إِنْ ناله ألم الضرب أتلفه فهو والمخلوق كذلك سواء في الجلد إذا زنيا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جَلْدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أنه يعدل عن جلده بِالسَّوْطِ إِلَى إِثْكَالِ النَّخْلِ فَيَجْمَعُ مِنْهَا مِائَةَ شِمْرَاخٍ يُضْرَبُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَلَا الْعَدَدُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَالْعَدَدُ كَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّوْطُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ، فَيُجْمَعُ مِائَةُ سَوْطٍ وَيُضْرَبُ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ مُقْعَدًا أَسْوَدَ فِي جوار سعد بن معاذ زنا فأحبل فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُجْلَدَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ وَعَادَ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالٌ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ وَقَالَ: اسْتَفْتَوْا لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بِهِ مِنَ الضُّرِّ مِثْلَ مَا بِهِ مَا هُوَ إِلَّا جِلْدٌ وَعَظْمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا نَصٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَبِمِثْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً فَقَالَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] . حَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ فِيهِ فَقَالَ: قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: لَا أعرف الحد إلا واحداً، وإن كان مضنوءاً من خلقته. قُلْتُ لَهُ: أَتَرَى الْحَدَّ أَكْبَرَ أَوِ الصَّلَاةَ؟ . فقال: الصلاة قال كل فرض قَدْ نَأْمُرُهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَجَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فعلى جنبه. فَقَالَ هَذَا اتِّبَاعُ سُنَّةٍ وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ قُلْتُ فَكَذَلِكَ الْجَلْدُ اتِّبَاعُ سُنَّةٍ وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ قَالَ: فَقَدْ يَتْلَفُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَمِلُ لِلضَّرْبِ وَيَعِيشُ النِّضْوُ الضَّعِيفُ. قُلْتُ: إِنَّمَا إِلَيْنَا الظَّاهِرُ وَالْأَرْوَاحُ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَجَوَابٌ مُقْنِعٌ. (فَصْلٌ) فَإِنْ سَرَقَ هَذَا النِّضْوُ الْخَلْقَ وَعُلِمَ أَنَّ الْقَطْعَ قَاتِلُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ عَدَدُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهُ دُونَ قَتْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي جَلْدِ الزِّنَا مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَطْعَ اسْتِهْلَاكٌ كَالرَّجْمِ فاستويا فيه. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَطْعِ بَدَلٌ وَلِلْجَلْدِ بَدَلٌ فَافْتَرَقَا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مُسْتَحِقًّا فِي قِصَاصٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مُسْتَحِقًّا فِي حَدِّ قَذْفٍ حُدَّ كحد الزنا. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ رَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ يَدْخُلُ في ذلك دخول المرود في المكحلة (قال المزني) رحمه الله قلت أنا ولم يجعل في كتاب الشهادات إتيان البهيمة زِنًا وَلَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَسِّ فرج البهيمة وضوءاً) . قال الماوردي: وهذه الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي الزِّنَا. وَالثَّانِي: فِي اللِّوَاطِ. وَالثَّالِثُ: فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ. وَالرَّابِعُ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّنَا: فَهُوَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ، ولا بملك، وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا شُبْهَةِ فِعْلٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَيَجْتَمِعُ فِي وَطْئِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ، فَأَمَّا الْعَقْدُ فَهُوَ مَا صَحَّ مِنَ الْمَنَاكِحِ. وَأَمَّا شُبْهَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ مَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَهَذَا وَمَا جَانَسَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ الْمَانِعُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالْمُوجَبُ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ. وَأَمَّا الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْأُمَّهَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْخَالَاتِ، وَالْعَمَّاتِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ فَلَا يَكُونُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ الْوَاطِئُ فِيهِ زَانِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَ مُعْتَدَّةً أَوْ مُطَلَّقَةً مِنْهُ ثلاثاً قبل زوج ووطء فيه كان من هذه الأحوال كلها زانياً، وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اسْمُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ وجوب الحد، وإذا وطء أُمَّهُ، أَوْ أُخْتَهُ أَوْ مُعْتَدَّةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 ليزني بها أو يستخدمها فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ وَطْءٌ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُحَدُّ بِهِ الْكَافِرُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ بِهِ الْمُسْلِمُ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. قَالَ: وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ، وَاسْتَدَلَّ بأن اسم الزنا غير منطلق عليه أن الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُ الزِّنَا وَلَا حُكْمُهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبائكم مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22] وَالْفَاحِشَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ هي الزنا لقوله تعالى: {واللاتي تأتين الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ) وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ النكاح يستوي فيه ذات المحارم وَغَيْرُهَا. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ مَرَّ بِي خالي أبو بردة بن دينار وَمَعَهُ لِوَاءٌ فَقُلْتُ أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بينهما انا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس مَعَهُمْ لِوَاءٌ فَجَعَلَ الْأَعْرَابُ يَطِيفُونَ بِي لِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ أَتَوْا قُبَّةً فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهَا رَجُلًا فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أبيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْخَبِرَانِ فِي رَجُلَيْنِ، وهو الأظهر؛ لاختلاف الحالين. واحتمل أن يكون في رجل واحد روي على لفظتين مختلفتين وَحَالَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَقْدٍ. فَإِنْ قِيلَ: العقد شبهة. قيل: الشبهة ما اشتبه حُكْمُهُ بِالِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ لِلنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَلَمْ يَكُنْ شُبْهَةً. وَقَوْلُنَا: يَحْرُمُ بِدَوَاعِيهِ، احْتِرَازًا مِنْ وَطْءِ المحرمة والصائمة الحائض. وَقَوْلُنَا: غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، احْتِرَازًا مِنَ الْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا. وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا، احْتِرَازًا مِنَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَنْ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ كَالْعَقْدِ عَلَى الْغُلَامِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ بَعْدَهُ كَوُجُودِهِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى المناكح الفاسدة فالمعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الناس فيه. وقياسهم عَلَى الْكَافِرِينَ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُبَاحًا في دينهم، واستدلالهم بِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ في المجوس لاعتقادهم إباحته، وينطلق عليه من الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ وَشُبْهَتُهُ وَهُمَا شَرْطَانِ مِنَ السِّتَّةِ. (فَصْلٌ) وأما الملك فهو أن يطأ به أمة يصح مِلْكُهُ لَهَا وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا فَيَكُونُ مُبَاحًا كَالنِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي وَطْئِهِنَّ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَوَطْؤُهُ لَهَا وَإِنْ مَلِكَهَا زِنًا، يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِعِتْقِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَفِي وُجُوبِ الحد عليها بِالْوَطْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الحد عليها؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ بِحَالٍ فَأَشْبَهَ مِلْكَ الْغُلَامِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ الْمُسْتَبَاحَ إِذَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَيَكُونُ الْمِلْكُ مُخَالِفًا لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فَكَانَ مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ وَالنِّكَاحُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَصَارَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُسْتَبَاحُ جِنْسُهُ بِحَالٍ، فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ: فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَيَكُونُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ كَالْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلَفِ فِي إِبَاحَتِهَا، فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِي إِبَاحَتِهِ كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَهَكَذَا المرتهن إذا وطئ جارية قد استرقها. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ: وَهُوَ شُبْهَةُ الْفِعْلِ: فَهُوَ أَنْ يَجِدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، أَوْ زَوْجَتَهُ، وَتَظُنُّهُ زَوْجَهَا، أَوْ سَيِّدَهَا فَيَطَأَهَا وَتُمَكِّنَهُ فَلَا حَدَّ عِنْدِ الشَّافِعِيِّ على واحد منهما. وقال أبو حنيفة: عليها الْحَدُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَسْقُطُ بِعَقْدٍ أو شبهة عقد، وليس ها هنا عَقْدٌ وَلَا شُبْهَةُ عَقْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ كَالْعَمْدِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ وَطِئَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِذَا بَانَ أَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ إِذَا قِيلَ: أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَبَانَتْ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، وَبِهِ يَفْسُدُ اسْتِدْلَالُهُ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحِ المتعة، فإن قيل: لأن الْمُتْعَةَ عَقْدٌ. قِيلَ: الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبِيحُ الْوَطْءَ وَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا الْفَرْقُ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ فَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ كَالَّذِي لَمْ تبلغه دعوة الإسلام لم يلزمه أَحْكَامُهُ، كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الزِّنَا مَعَ النَّصِّ الظَّاهِرِ فِيهِ وَإِجْمَاعُ الخاصة والعامة عليه أحد ثلاثة: إما جنون أفاق بعد بلوغه فزنا لِوَقْتِهِ. أَوْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ لَمْ يَعْلَمْ أحكامه. أو قادم من بادية لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا تَحْرِيمُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي أَنَّهُ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كان قوله مقبولاً، ولا يلزمه إحلافه إلا اسْتِظْهَارًا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ شُرُوطُ الزِّنَا السِّتَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ وَطِئَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ زِنًا، ولا يجب به الحد، حتى قال: إنه لَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَالصِّيَامُ. وَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أن ينزل منه فَيَغْتَسِلُ بِالْإِنْزَالِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ إِيلَاجٌ فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقُبُلِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَحَقَّ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ فَالْعِلَّةُ فِيهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ. [وَفَسَادُ النَّسَبِ تَابِعٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ] . (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ، أَوِ اسْتَمْتَعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ عُزِّرَ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَتَعْزِيرُهُ بِتَغْيِيبِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بِاسْتِمْتَاعِهِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وتعزيره بِالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بالمضاجعة والقبلة وإفضاء الْبَشَرَةَ بِالْبَشَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَدٌّ. وَقَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذَا اضْطَجَعَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمُعَانَقَةِ يُقَبِّلُهَا وَتُقَبِّلُهُ حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَحِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ جَلْدَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي نِلْتُ مِنَ امْرَأَةٍ مَا يَنَالُهُ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ إِلَّا بِوَطْءٍ قَبَّلْتُهَا وَعَانَقْتُهَا فَمَا يَجِبُ عَلَيَّ، فَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {أقم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحسنات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَدًّا، فهذا حُكْمُ الزِّنَا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) [الْقَوْلُ في اللواط] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي اللِّوَاطِ فَهُوَ إِتْيَانُ الذكر الذكر، وهو من أَغْلَظُ الْفَوَاحِشِ تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ من العالمين} إلى قوله {بل أنتم مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 80، 81] فَجَعَلَهُ مِنْ سَرَفِ الْفَوَاحِشِ، وَلِذَلِكَ عذب الله قوم لوط بالخسف ومطر عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ حَتَّى لَا يَأْتِيَ ذَكَرٌ ذَكَرًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قوم لوط) . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ لَاطَ إِبْلِيسُ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَةِ فَرْدًا لَا زَوْجَةَ لَهُ فَلَاطَ بنفسه فكانت ذريته منه) . فإذا ثبت أَنَّهُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَفِيهِ أَغْلَظُ الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَلَا الصَّوْمُ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَيَغْتَسِلُ، وَيُعَزَّرَانِ ويحبسان حتى يتوبا استدلالا بأن مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يجب فيه حد كالاستمتاع بما دون الفرج؛ لأنه اسْتِمْتَاعٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ حد الاستمتاع وبمثله مِنَ الزَّوْجَةِ وَلِأَنَّ أُصُولَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ قياساً. دليلنا رِوَايَةُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِتْيَانُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ) . وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةِ فَكَتَبَ إلى أبي بكر، فاستشار أبو بكر الصحابة فيه فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحَرَقَ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ إِلَيْهِ فَحَرَقَهُ، وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يَحْرِقُ اللِّوَاطِيُّ فِي خِلَافَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ لُوطِيًّا وَرَجَمَ لُوطِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُلْقَى من شاهق منكساً ثم يرجم بالحجارة، وهذا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ فيه مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا بَعْدَ نَصٍّ، وَلِأَنَّهُ فَرْجٌ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى قُبُلِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِيهِ حَدُّ الزِّنَا كَالزِّنَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزنا فقد أطلق الله عليه اسم الْفَاحِشَةَ الَّتِي جَعَلَهَا زِنًا. وَأَمَّا اسْتِبَاحَتُهُ مِنَ الزوجة فلأن صحة العقد عليها بشبهة، وَأَمَّا إِيجَابُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَعَلَى أَنَّ فِي حَدِّ اللِّوَاطِ نَصًّا، فَإِذَا ثَبَتَ وجوب الحد فيهما فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ، وَفِيهِ إِذَا كَانَا بَالِغَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلَ فِي الْمُحْصَنِ وَالْبِكْرِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا فَكَانَ حَدُّهُ أَغْلَظَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، فعلى هذا في قتله قولان: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يُقْتَلُ رَجْمًا بِالْأَحْجَارِ كَالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ صَبْرًا كَالرِّدَّةِ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْخَبَرِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَقَلَهُ الرَّبِيعُ وَقَالَ: رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَحَدِّ الزِّنَا يُرْجَمُ فِيهِ الْمُحْصَنُ وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بالثيب جلد مائة والرجم) ولأنه لما وجب الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِيمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرُ بَالِغٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ. [حُكْمُ السِّحَاقِ] فَأَمَّا السِّحَاقُ وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ فَهُوَ مَحْظُورٌ كَالزِّنَا وَإِنْ خَالَفَهُ فِي حَدِّهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ) . وَالْوَاجِبُ فيه التعزير دون الحد لعدم الإيلاج بينهما. (فصل) [حكم إتيان البهائم] وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ فَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ. رَوَى ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عَنْ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ) . وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ ضَعْفًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا قُتِلَ وَقُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يُقْتَلُ وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رجماً بالحجارة قاله البغداديون. والثاني: صبراً بالسيف قاله البصريون، وسواء كان بكراً أو ثيباً، ولأنه فَرْجٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الزِّنَا يُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا وَيُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا أَصْلٌ لِمَا عَدَاهُ مخرج من قوله في كتاب الشهادات. والقول الثالث: لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ الِاسْتِمْنَاءَ وَإِتْيَانَ الْبَهَائِمِ زِنًا فَاقْتَضَى هَذَا مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ زِنًا وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ، وَيُعَزَّرْ فَاعِلُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا تَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهَا. وَالثَّانِي: لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْآدَمِيِّينَ فَوَجَبَ الْحَدُّ فِيمَا مَالَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَسَقَطَ فِيمَا نَفَرَتْ مِنْهُ النُّفُوسُ، كَمَا وَجَبَ الْحَدُّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَيْلِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ، وَسَقَطَ فِي شُرْبِ الْبَوْلِ لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ بِالْإِيلَاجِ فيه، وإن لم نوجب الحد ففي وجوب الغسل بالإيلاج وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّهُ فَرْجٌ مُحَرَّمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا غُسْلَ إِلَّا بِالْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاشِرَةِ فِي غَيْرِ فَرْجٍ، فَأَمَّا الْبَهِيمَةُ فَقَدْ أُغْفِلَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ قَتْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّهِ هَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ إِذَا قِيلَ إِنَّ حَدَّ إِتْيَانِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ قَتْلُهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ، وسواء كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ في " مختصره) أنها تقتل إن كَانَتْ لَهُ وَلَا تُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمَعْنَى فِي قَتْلِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْبَهَائِمِ حُدُودٌ. قِيلَ: لَيْسَتْ تُقْتَلُ حَدًّا وفي معنى قتلها أمران: أحدهما: للستر على من أتاها أن لا ترى فيقذفه الناس بإتيانها. والثاني: أن لا تَأْتِيَ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنْ بَعْضَ الرُّعَاةِ أَتَى بَهِيمَةً فَأَتَتْ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ، فَعَلَى هَذَا تُقْتَلُ ذَبْحًا لَا رَجْمًا، وَفِي إِبَاحَةِ أكلها إن كانت مأكولة اللحم وجهان: أحدهما: لا تؤكل، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُ أَكْلَهَا وَقَدْ أُتِيَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تؤكل؛ لأن إتيانها لم ينقلها عن جِنْسِهَا الْمُسْتَبَاحِ، وَهَلْ يَلْزَمُ غُرْمُهَا لِمَالِكِهَا إِنْ كانت غير مأكولة أو كانت مأكولة فقيل لَا تُؤْكَلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ لَهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ قَتْلَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَغْرَمُ لَهُ قِيمَتَهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ غُرْمُهَا عَلَى مَنْ أَتَاهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بفعله. (فصل) [الشهادة على الزنا] وأما الفصل الثالث فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ فلا يقبل في الشهادة عليها أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ عُدُولٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي رَجْمٍ أَوْ جَلَدٍ، عَلَى حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ولقوله تعالى: {لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ سَأَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أَوْ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَفَى بِالسَّيْفِ شا) يعني شاهد عَلَيْكَ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَاتِ تَتَغَلَّظُ بِتَغْلِيظِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فلما كَانَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ الْمَحْظُورَةِ وآخرها كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ أَغْلَظَ؛ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لِلْمَحَارِمِ، وَأَنْفَى لِلْمَعَرَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَأَرْبَعُ نسوة، وليس كذلك يصح؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ رُخْصَةٌ فِيمَا خَفَّ وَهُوَ الْأَمْوَالُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْمَعَ فِي مَوَاضِعَ التَّغْلِيظِ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يُسْمَعْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ فَفِيهِ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يسمع فيها أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ تَغَلَّظَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، أَنَّهُ يُسْمَعُ فيها شَاهِدَانِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا فِي الْحَدِّ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: يسمع في اللواط وإتيان البهائم ووطء الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ شَاهِدَانِ بِنَاءً عَلَى أصله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 [الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الشَّهَادَةِ] . فَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ فلا يجزئ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي حَتَّى يَصِفُوا ما شاهدوه من الزنا، وهو أَنْ يَقُولُوا: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ؛ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تثبت ماعز في إقراره فقال: " أدخلت ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ في المكحلة والرشا في البئر؟) فقال: نَعَمْ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتَهُ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَثْبِتَ فِي الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا لَمَّا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وهم أبو بكرة، ونافع، ونفيع، وزياد فصرح بذلك أبو بكرة، ونافع، ونفيع، فَأَمَّا زِيَادٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ مَا عندك وأرجوا أَنْ لَا يَهْتِكَ اللَّهُ صَحَابِيًّا عَلَى لِسَانِكَ، فقال زياد: رأيت نفساً تعلوا أواستاً تنبو ورأيت رجلاها عَلَى عُنُقِهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ وَلَا أَدْرِي يا أمير المؤمنين مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَأَسْقَطَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَرَهَا تَامَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الزنا لفظ مشترك. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا اللَّمْسُ وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ) فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ نَفِيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ وُلُوجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ظَهَرَ بِغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ حَمْلٌ، وَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَلَا أَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تُحَدَّ، وَقَالَ مَالِكٌ: تُحَدُّ بِالْحَمْلِ؛ لأنه من وطء، وظاهره إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً أَنَّهُ مِنْ زِنًا فَحُدَّتْ بِالظَّاهِرِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ غَيْرِ ذات زوج فسألها عنه فقال: لَمْ أُحِسَّ حَتَّى رَكِبَنِي رَجُلٌ فَقَذَفَ فِي مِثْلَ الشِّهَابِ فَقَالَ عُمَرُ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا شَابَّةٌ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِكْرَاهٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرؤوا الحدود بالشبهات) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُسْأَلْ عَنِ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوَضْعِ وَلَا إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهَا حُكْمٌ سِوَى الْحَدِّ، وَلَا يجوز أن تسأل عما يوجب حد الزنى عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) . وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا حَيًّا سُئِلَتْ عَنْهُ حِينَئِذٍ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ، فَإِنْ أقرت به من زنا حدث بإقرارها، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وإن شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ قَبِلْتُهُمْ إِذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا فَرْقَ فِي الشهادة على الزنا بين أن يفرق الشهود في أدائها أو يجتمعوا عليها. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَلَا تُقْبَلُ إِنِ افْتَرَقُوا فِي الْأَدَاءِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَلَا يَجِبُ بِشَهَادَتِهِمْ حَدٌّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ بِلَفْظِ الْقَذْفِ، فَإِنْ تَكَامَلَ فِيهَا الْعَدَدُ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلِ الْعَدَدُ اسْتَقَرَّ فِيهَا حُكْمُ الْقَذْفِ وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْلِسُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِقْرَارِ الأحكام كالقبول بعد البدل في العقود، وكالقبض في عقد التصرف. قالوا: وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُعْتَبِرَةٌ بِكَمَالِ الْأَدَاءِ وَكَمَالِ العدد، فلما كان تفريق الأداء في مجلس ذُكِرَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ زِنًا وَوَصِفَ فِي الْآخَرِ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُ الْعَدَدِ فِي مَجْلِسَيْنِ مَانِعًا من صحة الشهادة. قالوا: وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالشَّهَادَةِ أُخْرَى، ثُمَّ تَغَلَّظَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَجْهَيْنِ تَصْرِيحٌ بِصِفَةٍ، وَعَدَدٌ فِي تَكْرَارِهِ وَجَبَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: زِيَادَةُ عَدَدٍ، وَاجْتِمَاعٌ فِي مَجْلِسٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور: 4] . وَلَمْ يُفَرِّقْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 فِي مَجْلِسٍ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عددها في مجلسين ووجب الحكم إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجَالِسَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ غَيْرِ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ في غير الزنا كالموالاة؛ ولأن شهادة الحقوق نوعان: لله، وللآدميين وليست يُعْتَبَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ إِذَا تَقَدَّمَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَاهِدًا، أَوْ قَاذِفًا، فَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لَمْ يَصِرْ قَاذِفًا بِتَأَخُّرِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا لَمْ يَصِرْ شَاهِدًا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ، ولأنه ليس في تفرق الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ تَبَاعُدِ مَا بين الزمانيين، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَامَ الْمَجْلِسُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِهِ وَبَعْضُهُمْ فِي آخِرِهِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إِلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ، وَهُوَ إِذَا قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَإِلَى إِمْضَائِهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ إِذَا استدام مجلسه في جَمِيعَ النَّهَارِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي صَبَاحِهِ وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَسَائِهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ مُطَّرَحًا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَمْنَعُ مِنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ بالشهود تقتضي تفريقاً ليختبر بالتفريق رتبتهم فكان افتراقهم أولى أن يعتبر مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ القاذف وإن لم يكمل العدد: فهو أنه لَوْ كَانَ قَاذِفًا لَمَا جَازَ أَنْ يُكْمِلَ بِهِ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، وما ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ فَلَيْسَ يصح؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهَا يَكُونُ بِالتَّرَاخِي، وَإِنْ كَانَ المجلس واحداً والقبض بالصرف هو المعتبر بالمجلس وليس القبض قولاً فيعتبر بِهِ الشَّهَادَةُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَفَرُّقِ الْأَدَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتِمَّ فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ وَالْعَدَدُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَمَّ فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَغْلِيظِ الْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَلَّظُ عِنْدَنَا بِالتَّكْرَارِ وَإِنْ تَغَلَّظَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَا يَسْتَوِيَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي مَجَالِسَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ لَمْ يَتِمَّ، وَيَعْتَبِرُونَ أعداد الشهادة في مجلس وإن كَانَ فِي مَجَالِسَ لَمْ يَتِمَّ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَعْنَى الْجَمْعِ فَبَطُلَ. (فَصْلٌ) وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا وَحَدِيثِهِ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى قَدِيمِ الزِّنَا وَلَا يُحَدُّ. وَقَالَ أَبُو يوسف: جهدت بأبي حنيفة أن يوقت للمتقدم وَقْتًا فَأَبَى. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقَّتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ شَهِدَ قَبْلَهَا قُبِلَ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَهَا لَمْ يُقْبَلْ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضَغْنٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلِأَنَّ شُهُودَ الزِّنَا مخيرون بين إقامتها وتركها، فإن أَخَّرَهَا صَارَ تَارِكًا لَهَا وَالْعَائِدُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ تَرْكِهَا مُتَّهَمٌ، وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلٍ وَعَدَدٍ كَالْعُقُودِ، فَلَمَّا بَطُلَتِ الْعُقُودُ بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَثَابَتِهَا فِي إِبْطَالِهَا بِتَأْخِيرِ الْقَوْلِ وَافْتِرَاقِ الْعَدَدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ فِي الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ قُبِلَتْ عَلَى الْفَوْرِ قُبِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا ثَبَتَ بِهِ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالتَّرَاخِي كَالْإِقْرَارِ، وأما حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يلقه وخالفه، وَقَدْ خَالَفَ عُمَرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ فَإِنَّهُ نَقَلَ الشُّهُودَ فِيهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَسَمِعَهَا بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " لَمْ يَشْهَدُوا) مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ لم يشهدوا الْفِعْلَ فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ شَهَادَتُهُمْ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالتُّهْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْمُبَادَرَةِ أَقْوَى مِنْهَا فِي التَّأْخِيرِ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا تَثَبَّتَّ أَصَبْتَ أَوْ كِدْتَ تُصِيبُ، وَإِذَا اسْتَعْجَلْتَ أَخْطَأْتَ أَوْ كِدْتَ تُخْطِئُ) . وَالثَّانِي: أَنَّ التُّهْمَةَ بِالْعَدَاوَةِ لَا تُوجِبُ عِنْدَهُ رَدَّ الشهادة وإن ردت عندنا، ولو صار متهوماً بِالتَّأْخِيرِ لَرُدَّتْ بِهِ فِي غَيْرِ الزِّنَا. وَأَمَّا اعتبارهم بالعقود فباطل بسائر الشهادات والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَمَنْ رَجَعَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحَدَّ غيره وإن لم تتم شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ) . قَالَ الماوردي: هاتان مَسْأَلَتَانِ، وَالْأُولَى فِيهِمَا تَقْدِيمٌ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلْأُولَى وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً، أَوِ اثْنَيْنِ، أو واحد، الْحُكْمُ فِيهِمْ سَوَاءٌ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ الرَّابِعُ فَتَوَقَّفَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، فَهَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ إِذَا لَمْ يَكْمُلُ عَدَدُهُمْ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ مِنْ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ. وَالْقَوْلُ الثاني: مخرج من كلام علقه فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، ويكونوا على عدالتهم، ولا يصيروا قَذَفَةً بِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ فَدَلِيلُهُ قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ، وَكَانَ مِنْكَاحًا فَخَلَا بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ كَانَ يَنْزِلُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِيهَا أَبُو بكرة، ونافع وشبل بن معبد ونفيع وزياد بن أمية، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَتَحَتِ الْبَابَ عَنِ الْمُغِيرَةِ فَرَأَوْهُ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ يفعل بها ما يفعل الزوج بزوجته، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَقَدَّمَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكَرَةَ: تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا، وانتشرت القصة، فبلغت عمر فكتبوا وكتب أَنْ يُرْفَعُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ حضروا مَجْلِسَهُ بَدَأَ أَبُو بَكَرَةَ فَشَهِدَ بِالزِّنَا وَوَصَفَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ رُبُعُكَ، ثُمَّ شَهِدَ بعده نافع فقال علي المغيرة ذَهَبَ نِصْفُكَ، ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ: ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ وَقَالَ عُمَرُ: أَوَدُّ الْأَرْبَعَةَ وَأَقْبَلَ زِيَادٌ لِيَشْهَدَ فقال له عمر: إيها يا سرح العقاب قل ما عندك وأرجوا أن لا يفضح الله على يديك أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَنَبَّهَ زِيَادٌ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً، وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً، وَرَأَيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا وَأَنَّ رِجْلَيْهَا عَلَى كَتِفَيْهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وراء ذلك، فقال عمر: الله اكبر يا أخي قم فاجلد هؤلاء الثلاثة، فجلدوا جلد القذف، وقال عمر لأبي بكرة، تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ، والله لقد زنا، والله لقد زنا، فهم عمر بجلده فقال علي: إن جلدته رجمت صاحبكما، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ كان هذا القول منه غير الْأَوَّلِ فَقَدْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، وَإِنْ كان هو الأول فقد جلد فيه. والثاني: معناه إِنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أحد من الصحابة فصارت إجماعاً، فاعترض طَاعِنٌ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: إن قال لما عَرَّضَ عُمَرُ لِزِيَادٍ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ شَهَادَتَهُ وَفِيهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَاعَةٌ لِحُدُودِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّعْرِيضِ بِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحُدُودَ، فَإِنَّهُ عَرَّضَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ: " لعلك قبلت لعلك لامست) لِيَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ فِي تَعْرِيضِهِ لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّ جنب المؤمن حمى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 والاعتراض الثاني: قَالَ: لِمَ عَرَّضَ عُمَرُ بِمَا أَسْقَطَ بِهِ الحد عن المغيرة وهو واحد وواجب به الحد على الشهود وهم ثلاثة؟ فقيل عنه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ قَتْلٍ وَجَلْدٍ كَانَ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ بِالْجَلْدِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الْجَلْدِ بِالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشُّهُودُ مَا نُدِبُوا إِلَيْهِ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَاتِ، وَخَالَفُوا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ) كَانُوا بِالتَّغْلِيظِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالثَّالِثِ: أَنَّ رَجْمَ الْمُغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، وَجَلْدُهُمْ قَدْ وَجَبَ مَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، فَكَانَ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ ما وجب. الاعتراض الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ، وَهَذِهِ الصفة لَا تَخْلُو مِنْ جَرْحِ بَعْضِهِمْ وَفِسْقِهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَقُوا فِي الشَّهَادَةِ فَالْمُغِيرَةُ زَانٍ، وَالزِّنَا فِسْقٌ، وَإِنْ كَذَبُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ، قيل: هذه الصفة لَا تَمْنَعُ مِنْ عَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْ قَدْحٍ يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَمَّا الْمُغِيرَةُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَكَحَهَا سِرًّا فلم يذكروه لعمر؛ لأنه كان لا يرى نكاح السر ويحد فيه وكان يتبسم عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فقال: لأن أَعْجَبُ مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بَعْدَ كَمَالِ شهادتهم، فقيل: وَمَا تَفْعَلُ قَالَ: أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا زَوْجَتِي. وأما الشهود فلأنهم شاهدوا بِظَاهِرِ مَا شَاهَدُوا فَسَلِمَ جَمَاعَتُهُمْ مِنْ جَرْحٍ وَتَفْسِيقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِهِمْ فِي الدِّينِ وَأَثْبَتُوا أَحَادِيثَهُمْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنْ كَانَ أَبُو بَكَرَةَ إِذَا أُتِيَ بِكِتَابٍ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّقُونِي، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ، فَدَلَّتْ هذه القصة من عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَذْفِ: زَنَيْتَ وَلَا يَصِفُ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَنَيْتَ وَيَصِفُ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْمَقْذُوفِ، والشهادة توجب حد المشهود عليه، ولما كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْقَذْفِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أَنْ يُخْرِجُوهُ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُحَدُّوا، وَفِي حَدِّهِمْ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ عَنْ تَوَقِّي الْقَذْفِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَا يُحَدُّونَ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَذَفَةِ وَالشُّهُودِ فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمْ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَرَّةٌ وَالشَّهَادَةُ إِقَامَةُ حق، ولذلك إذا أكثر الْقَذَفَةُ حُدُّوا، وَلَوْ كَثُرَ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدُّوا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ إِذَا قَلُّوا كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ إِذَا كَثُرُوا، وَلِأَنَّ حكم كل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا مُفْضٍ إِلَى كَتْمِ الشَّهَادَةِ خَوْفًا أَنْ يُحُدُّوا إِنْ لَمْ يكملوا فتكتم حقوق الله تعالى ولا تؤدى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ وَكَمُلَتْ فِي الْعَدَالَةِ أَوْصَافُهُمْ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ عَدَدُهُمْ وَنَقَصَتْ أَوْصَافُهُمْ فشهد عليه بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ فَكَانُوا عَبِيدًا، أَوْ فُسَّاقًا، أَوْ أَعْدَاءً لَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُمْ، وَلَمْ يُجْلَدْ بِهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدها: أنهما سواء، وأن كل ما منع مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدٍ أَوْ نُقْصَانِ صِفَةٍ هَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ بِهِ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لم توجب الْحُكْمَ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلَفَانِ فَلَا يصيروا بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ قَذَفَةً، وَلَا يُحَدُّونَ وَإِنْ صَارُوا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ قَذَفَةً وَحُدُّوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ نَصٌّ، وَنُقْصَانُ الصِّفَةِ اجْتِهَادٌ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّدُّ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ أمراً ظاهراً كَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ جَرَى مَجْرَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ هل يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصِّفَةِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ كَالْفِسْقِ الْخَفِيِّ وَالْعَدَاوَةِ الْخَفِيَّةِ كَانَ مُخَالِفًا لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلَمْ يَصِيرُوا بِهِ قَذَفَةً وَلَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ كَالنَّصِّ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ قبل سماعها والخفي منه اجتهاد ترد بها الشَّهَادَةُ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتَكْمُلَ صِفَةُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ كَأَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَفِيهِمْ عَبْدٌ، أَوْ فَاسِقٌ وَبَاقِيهِمْ عُدُولٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الحد فهو أولى، وإن قيل: إنه موجب الْحَدَّ فَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِقُوَّةِ الشهادة بكمال العدد وبكمال صفة الأكثرين. والوجه الثاني: أنه يحد جميعهم لرد شهادتهم. والوجه الثالث: يُحَدُّ مَنْ نَقَصَتْ صِفَتُهُ بِالرِّقِّ وَالْفِسْقِ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ كَمُلَتْ صِفَتُهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 بِالْعَدَالَةِ لِلُحُوقِ الظِّنَّةِ بِالْفَاسِقِ وَانْتِفَائِهَا عَنِ الْعَدْلِ. وَالْفَرْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتَكْمُلَ صِفَتُهُمْ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُرَدَّ لِتَكَاذُبٍ فِيهَا وَتَعَارُضٍ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا يَوْمَ الجمعة ببغداد، ويشهد الآخران أنه زنا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْبَصْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رد الشهود من غير تكاذب موجب الحد فوجب به مَعَ التَّكَاذُبِ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَفِي رَدِّهِمْ بِالتَّكَاذُبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُحَدُّونَ جَمِيعًا لِلْقَطْعِ بِالْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحَدُّونَ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْكَذِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أن يُحَدَّ الْأَخِيرَانِ؛ لِتَقَدُّمِ إِكْذَابِ الْأَوَّلَيْنِ لَهُمَا قَبْلَ شهادتهما ولا يحد الأولان لحدوث إكذاب الآخران لهما بعد شهادتهما وهذا صحيح. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُمْ لِاخْتِلَافِ الزِّنَا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُودِهِ مِنْهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَا بِهَا فِي يوم الجمعة ويشهد الآخران أنه زنا بِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، أَوْ يَشْهَدُ اثْنَانِ أنه زنا بها في الدار، ويشهد آخران أنه زنا بِهَا فِي الْبَيْتِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَكَاذُبٌ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ لَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا حَدُّ الشُّهُودِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ففي وجوبه ها هنا وَجْهَانِ: أْحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُكْمَلْ بِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فصارت كاملة في سقوطه الْعِفَّةِ وَإِنْ لَمْ تُكْمَلْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ أكرهها على الزنا، ويشهد الآخران أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى المرأة؛ لأنها تحد بالمطاوعة دُونَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ تَكْمُلِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالْمُطَاوَعَةِ، فَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ في " جامعه) . أحدهما: لا يحد؛ لأن اخْتِلَافُ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْفِعْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحَدُّ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِزِنًا وَاحِدٍ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَيْسَ فِيهَا تَعَارُضٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ وَالْمُطَاوَعَةَ فِي آخِرِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي حَدِّ الرَّجُلِ لَمْ يُحَدُّوَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَا في الْمَرْأَةِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 بشهادتهم في حد الرجل جاز الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ حَدِّهِمْ كَالضَّرْبِ الثَّانِي إِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا، فَهَؤُلَاءِ أولى أن لا يحدوا، وإن قيل: يُحَدُّونَ إِذَا نَقَصُوا فَفِي وُجُوبِ حَدِّ هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ قُلْنَا الْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ حُدَّ شاهد الْإِكْرَاهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَحُدَّ شاهد الْمُطَاوَعَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَحَقِّ الْمَرْأَةِ وَهُوَ قذف لهما بزنا واحد، فهل يَحُدُّونَ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا أَوْ حَدَّيْنِ؟ عَلَى قولين: أحدهما: وهو الْقَدِيمِ: يُحَدُّونَ حَدًّا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: يُحَدُّونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا مُفْرَدًا؛ لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ فِي عَيْنِهِ، وَاللَّهُ أعلم. (فصل) وأما المسألة المسطورة أوله فصورتها: في أربعة شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِهَا، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَحُدَّ مِنَ الشُّهُودِ الرَّاجِعُ عَنْ شَهَادَتِهِ لِاعْتِرَافِهِ بِالْقَذْفِ، وَلَمْ يُحَدَّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا. وقال أبو حنيفة: حد مَنْ رَجَعَ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا أَنْ يكون رجوعه بعد إقامة الحد فيحد الرابع وَحْدَهُ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فِي الِانْتِهَاءِ كَنُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِ فِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يُحَدَّ إِذَا أَقَامَ عَلَى شَهَادَتِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ بَعْدَ كَمَالِهِ لَا يُوجِبُ حَدَّ مَنْ بَقِيَ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ فُسِّقَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذَا أَلْزَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُحَدَّ الْبَاقُونَ مِنَ الشُّهُودِ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ من الِابْتِدَاءِ وَنُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِابْتِدَاءِ مُمْكِنٌ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ نُقْصَانِهِ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا إذا لم يجب بها حد الزنا وفي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطِهِ عَنْهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ فِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ وَقَبُولِ خَبَرِهِمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ إِلَّا قَاذِفٌ، وَالْقَاذِفُ لا تسمع شهادته حتى يتوب، وبذلك قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَكْرَةَ: " تُبْ أَقْبَلْ شهادتك) فأما قبول أخبارهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ففيه وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَبِلُوا رِوَايَاتِ أَبِي بَكْرَةَ وَمَنْ حُدَّ مَعَهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَقْيَسُ: أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أخبارهم كما لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا جُرِحَ فِي تَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُقُوقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُجْرَحَ في تعديل الرواية المتعلقة بالدين، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: فَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ سَأَلْتُهُ فَإِنْ قَالَ عَمَدْتُ أَنْ أَشْهَدَ بِزُورٍ مَعَ غَيْرِي لِيُقْتَلَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَإِنْ قَالَ شَهَدْتُ وَلَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ غَيْرَهُ أُحْلِفَ وَكَانَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ وَالْحَدُّ وَكَذَلِكَ إِنْ رَجَعَ الْبَاقُونَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَحُدَّ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَدْ صَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً وَيُحَدُّونَ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُقِيمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنَ الْحَدِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجْمًا، أَوْ جَلْدًا، فَإِنْ كَانَ رَجْمًا ضَمِنُوا بِالرُّجُوعِ نَفْسَ الْمَرْجُومِ، وَسُئِلُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ هَلْ عَمَدُوا الْكَذِبَ فِيهَا لِيُقْتَلَ أو لم يعمدوه؟ ولهم فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا: أَخْطَأْنَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ لَا عَلَى عَوَاقِلِهِمْ؛ لِأَنَّهَا عَنِ اعْتِرَافٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولُوا: عَمَدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَظَنَنَّاهُ بِكْرًا، فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَا قَوَدَ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ عَوَاقِلِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولُوا عَمَدْنَا لِيُقْتَلَ فعليهم القود، فإن عفا عنه فدية العمد المحض فِي أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دون القود، والكلام معه يأتي في الشهادات. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولُوا عَمَدَ بَعْضُنَا وَأَخْطَأَ بَعْضُنَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ وَلَا عَلَى الخاطئ؛ لكن على العامد دية العمد، وَعَلَى الْخَاطِئِ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ. (فَصْلٌ) وَإِنْ كان الحد جلداً فلم يُؤَثِّرِ الْجَلْدُ فِي بَدَنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَإِنْ أَثَّرَ فِي بَدَنِهِ فَأَنْهَرَ دَمًا وَأَحْدَثَ جُرْحًا ضَمِنَهُ الشُّهُودُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُونَ أَثَرَ الْجَلْدِ وَمَا حَدَثَ مِنْهُ وَإِنْ ضَمِنُوا دِيَةَ النَّفْسِ فِي الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَوْجَبَتِ الرَّجْمَ فَضَمِنُوهُ، ولم يوجب أَثَرَ الْجَلْدِ فَلَمْ يَضْمَنُوهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ حَدَثَتْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُمْ غُرْمُهَا كَالنَّفْسِ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِّنَ بِهِ النَّفْسُ ضُمِنَ بِهِ مَا دُونَهَا كَالْمُبَاشِرَةِ، وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 السَّرَايَةَ مَضْمُونَةٌ كَالْجِنَايَةِ، فَهَذَا حُكْمُ رُجُوعِهِمْ جَمِيعًا، فأما إذا رجع أحدهم فهي مسألة الكتاب فَيُنْظَرُ، فَإِنْ قَالَ: عَمَدْتُ وَعَمَدَ أَصْحَابِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ دُونَهُمْ، وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ أَوْ قَالَ: عَمَدْتُ وَأَخْطَأَ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ رَجَعَ ثَلَاثَةٌ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا شَهِدَ سِتَّةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، أَوِ اثْنَانِ وَبَقِيَ بَعْدَ الرَّاجِعِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ فَفِي ضَمَانِ الرَّاجِعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأصح، ورواه البويطي عن الشافعي: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ بَيِّنَةٍ يَجِبُ بها الرجم، فصار رجوعه كَعَدَمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَّ الرَّاجِعَ يُضْمَنُ مَعَ بَقَاءِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ رجل بِشَهَادَةِ جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الشَّهَادَةِ بَعْضَهُمْ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الرَّاجِعُ مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ واحد من ستة، ولو رجع اثنان فعليهما ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلَكِنْ لَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ ثَلَاثَةٌ ضَمَنُوا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُونَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الثَّلَاثَةِ رُبُعُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْبَيِّنَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو الظاهر من منصوص الْبُوَيْطِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِمْ نِصْفَ الدِّيَةِ لِرُجُوعِ نِصْفِ الشُّهُودِ. وَلَوْ رَجَعَ مِنَ السِّتَّةِ أربعة فأحد الوجهين: عَلَيْهِمْ نِصْفُ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ بَقِيَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِمْ ثُلُثَا الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ مَنْ رَجَعَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَشَهِدَ اثْنَانِ بِإِحْصَانِهِ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ دُونَ شُهُودِ الزِّنَا فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ رُجِمَ بِالزِّنَا لَا بِالْإِحْصَانِ فَلَمْ يَلْزَمْ شُهُودَ الْإِحْصَانِ ضَمَانٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ، لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِالْإِحْصَانِ لَمْ يُرْجَمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالْإِحْصَانِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 يَضْمَنْ شُهُودُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهَا ضَمِنُوا، ولقوله وجه، فَعَلَى هَذَا إِذَا ضُمِنَ شَاهِدَا الْإِحْصَانِ، فَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهُوَ الظاهر من رواية المزني: اعتباراً بأعداد الجمع. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نِصْفُ الدِّيَةِ، اعْتِبَارًا بِأَنَّهُمَا أَحَدُ خبرين، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا الْأَرْبَعَةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ شاهداً الإحصان ضمنوا. وفي قدر ما يلزمهم ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُونَ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ شاهدي الإحصان يضمنان الثلث. والوجه الثالث: لو رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا وَوَاحِدٌ مِنْ شهود الإحصان ففيها ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا ربع الدية، ولا شيء على شاهدي: الإحصان إذا قيل بخروجهم عَنِ الضَّمَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزنا سدس الدية، وعلى شاهد الإحصان سُدُسُ الدِّيَةِ إِذَا اعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَمِيعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَا ثُمُنَ الدِّيَةِ، وَعَلَى شَاهِدِ الْإِحْصَانِ رُبُعُ الدِّيَةِ إِذَا اعْتُبِرَ كل خبر. (فَصْلٌ) وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَكَانَ لَهُ زَوْجَةً لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِحْصَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: يثبت إحصانه بولد مِنْ زَوْجَتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْوَطْءِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي لُحُوقِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي إِحْصَانِهِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ بِهِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ وَلَدَ الزَّوْجَةِ يَلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ فلحق به الولد، ولم يثبت له الْحَصَانَةُ، فَأَمَّا كَمَالُ الْمَهْرِ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ فَفِيهِ قولان: أحدهما: لا يكمل كما لا تثبت الْحَصَانَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكْمُلُ الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الْحَصَانَةُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ دون الحقوق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ وَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ فَلَا حَدَّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الزِّنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِ الْبَكَارَةِ بَعْدَ الزِّنَا، فَلَمَّا احْتُمِلَ الْأَمْرَيْنِ سقط الحد عنها؛ لأن الحد يدرأ بالشبهة، وَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُذْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَعَوْدِهَا بَعْدَ الزِّنَا فَيَكُونُوا صَادِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون لعدم الزنا فيكونوا كاذبين فلا حد عليهم وَهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُجَرَّحُوا بالشك وجنب المؤمن حمى فلم يجب أن يحد بِالشُّبْهَةِ، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا أَنَّهَا رَتْقَاءُ، أَوْ قَرْنَاءُ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ القرن والرتق يَمْنَعُ مِنْ إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ لَمْ تُحَدَّ كَالْعُذْرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إيلاجها في الفرج حدث بِخِلَافِ الْعُذْرَةِ، ثُمَّ تَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ سقط الحد مُسْقِطَةً لِعِفَّتِهَا، فَإِنْ قَذَفَهَا قَاذِفٌ لَمْ يُحَدَّ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَسُقُوطِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ. (فَصْلٌ) وإذا شهد أربعة على رجل أنه زنا بامرأة فشهد اثنان منهم أنه زنا بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْيُمْنَى مِنْ هَذَا الْبَيْتِ، وشهد الآخران، أنه زنا بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْيُسْرَى مِنْهُ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَحَدُهُمَا اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَ الشهود الأربعة في الزوايا الأربع حدهم استحساناً، وسميت هذه المسألة الزَّوَايَا احْتِجَاجًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْفَسَادِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزْحَفَ الزَّانِيَانِ مِنْ زاوية إلى أُخْرَى فَيَكُونَا فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ فَيَرَاهُمَا شَاهِدَانِ، وَفِي آخِرِ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى فَيَرَاهُمَا فِيهَا شَاهِدَانِ، وَيَكُونُ الزِّنَا وَاحِدًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الزِّنَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أنه زنا بها وقت الظهر، ويشهد الآخران أنه زنا بها وَقْتِ الْعَصْرِ، وَإِنِ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْفِعْلِ فِي الظُّهْرِ وَآخِرُهُ فِي الْعَصْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَكَانِ بِمَثَابَتِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ حُكِمَ اخْتِلَافُهُ عَلَى أَوَّلِ الْفِعْلِ وَآخِرِهِ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ وَفِيهِ انْفِصَالٌ. (مسألة) قال الشافعي: " وإن أكرهها على الزنا فعليه الحد دونها ومهر مِثْلِهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَكْرَهَ امرأة على نفسها حتى زنا بِهَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لِرِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَبْدِ الجبار بن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا، وَحَدَّ الزَّانِي بِهَا. فَأَمَّا المهر فمختلف في وجوبه فمذهب الشافعي أن عليه لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ احْتِجَاجًا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، رَوَاهُ بِالتَّسْكِينِ، وَالْبَغْيُ الزِّنَا، وهذا زنا. قال: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ فوجب أن يسقط عنه المهر كالمطاوعة. قال: وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ مَعَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ وَالْمَهْرُ يَجِبُ مَعَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا) وَهَذَا مُسْتَحِلٌّ لِفَرْجِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرُهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ في العقد الفاسد قيل: كلما ضمن بالبدل من العقد الفاسد ضمن بالغضب والإكراه كالأموال؛ لأنه وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، فَإِذَا سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ كَالْوَاطِئِ بِالشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْمَهْرُ لِلْمَوْطُوءَةِ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ كَانَ وُجُوبُهُ لِلْمُسْتَكْرَهَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَ عِلْمِهَا عَاصِيَةٌ، وَالْمُسْتَكْرَهَةَ غَيْرُ عَاصِيَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مُمَكِّنَةٌ، وَالْمُسْتَكْرِهَةَ غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ " مَهْرِ الْبَغِيِّ) فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْبَغِيُّ بالتشديد يعني الزانية، وليست هذه الزانية. ولا دليل ايضاً لمن روى بالتخفيف يَعْنَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ زِنًا فِي حَقِّ مَنْ حُدَّ، وَلَيْسَ بِزِنَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا. وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ وُجُودِ الشُّبْهَةِ وَعَدَمِهَا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَهُوَ مستحيل في حق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 الواحد، وليس بمستحيل فِي حَقِّ الِاثْنَيْنِ، كَمَا لَمْ يَسْتَحِلَّ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ وَيَسْقُطَ الْحَدُّ عَنِ الموطوءة. وجملته أن الذي يختص بالرجل ثلاثة أحكام الحد، والمهر، والنسب. وأما النَّسَبُ: فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ الْوَاطِئِ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَحِقَ بِهِ وَإِنْ لم يكن لَهُ شُبْهَةٌ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ: فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْوَاطِئِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا شُبْهَةٌ وَجَبَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لها شبهة لم يجب. وَأَمَّا الْحَدُّ فَيُعْتَبَرُ بِهِ شُبْهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا شُبْهَةٌ سَقَطَ الْحَدُّ عنهما، وإن لم يكن لها شبهة وجب الحد عليها، وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا شُبْهَةٌ دُونَ الْآخَرِ وَجَبَ عَلَى مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ وَسَقَطَ عَمَّنْ لحقت به الشبهة. (فصل) فأما الرجل إذا أكره على الزنا فمذهب الشافعي لا حد عليه كالمرأة. وذهب بعض أصحابه إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يكون إلا مع الانتشار الحادث عن الشهوة، وحدوث الشهوة يكون عَنِ الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِكْرَاهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانَ عَلَى الزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْرَهْهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِكْرَاهَ السُّلْطَانِ فِسْقٌ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ فَيَصِيرُ الْوَقْتُ خَالِيًا مِنْ إِمَامٍ كَزَمَانِ الْفَتْرَةِ، وَيَصِيرُ عِنْدَهُ كَدَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَى الزَّانِي فِيهَا حَدٌّ عِنْدِهِ، وَكِلَا الأمرين فاسداً. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ) وَالْإِكْرَاهُ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبَهَاتِ، وَلِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ عَلَى الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ كَإِكْرَاهِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سَقَطَ فيه الحد، أو أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ كَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحُدُوثِ الِانْتِشَارِ عَنِ الشَّهْوَةِ فَهُوَ: أَنَّ الشَّهْوَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي الطِّبَاعِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ دَفْعُ النَّفْسِ عَنِ الانقياد لها لدين أو تقية، فَصَارَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ لَا عَلَى الشَّهْوَةِ، والحد إنما يجب في الْفِعْلِ دُونَ الشَّهْوَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة بخلو الدار من الإمام لِخُرُوجِهِ بِالْفِسْقِ مِنَ الْإِمَامَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانُ الْمُكْرِهُ غَيْرُ إِمَامٍ، فَلَا تَخْلُو الدَّارُ مِنْ إِمَامٍ، وَأَنْتَ تسوي بين الأمرين فلم يصح التعليل. وَالثَّانِي: أَنَّ خُلُوَّ الدَّارِ مِنْ إِمَامٍ لَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ الْحُدُودِ كَمَا لَمْ يُوجِبِ اسْتِبَاحَةَ أَسْبَابِهَا، وَكَذَلِكَ دَارُ الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فيها. (مسألة) قال الشافعي: " وَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أُحْصِنَا بِالزَّوَاجِ أَوْ لَمْ يُحْصَنَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ وَالْجَلْدُ خَمْسُونَ جَلْدَةً وقال في موضع آخر أستخير الله في نفيه نصف سنة وقطع في موضع آخر بأن ينفى نصف سنة (قال المزني) رحمه الله قلت أنا وهذا بقوله أولى قياسا على نصف ما يجب على الحر من عقوبة الزنا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، حَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِذَا زَنَيَا الْجَلْدُ وَإِنْ تَزَوَّجَا دُونَ الرجم، وزعم بعض أهل الظاهر أن عليهم الرَّجْمَ إِذَا تَزَوَّجَا احْتِجَاجًا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، لأن ما أوجب إراقة الدم حد استوى فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُهُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِحْصَانِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] وَأَمَّا الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَلِأَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ إِلَى بَدَلٍ فَاسْتَوَى فِيهِمَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَلَمْ يَتَنَصَّفْ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ، ولما كان للرجم في الزنا بدليتنصف وَهُوَ الْجَلْدُ سَقَطَ الرَّجْمُ عَنْهُ إِلَى الْبَدَلِ الَّذِي يَتَنَصَّفُ وَهُوَ الْجَلْدُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الرَّجْمِ عَنِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فَحَدُّهُمَا الْجَلْدُ، واختلف الناس فيه فمذهب الشافعي، وأبي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: أَنَّهُمَا يُحَدَّانِ نِصْفَ حَدِّ الزِّنَا خمسون جَلْدَةً. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِنْ تَزَوَّجَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْجَلْدِ، وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ دَاوُدُ عَلَى الْعَبْدِ جَمِيعُ الْحَدِّ تَزَوَّجْ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ. وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَعَلَيْهَا نصف الحد وإن لم تتزوج فعنه رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: عَلَيْهَا حَدٌّ كَامِلٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 وَالثَّانِيَةُ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ تعالى: {فإذا أحصن} [النساء: 25 ٍ] أَيْ تَزَوَّجْنَ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِهِنَّ إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكْمُلَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، واحتمل أن لا يجب عليها حد فلذلك ما اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ نِصْفِ الحد على العبد والأمة فيمن تَزَوَّجَ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فإذا أحصن} فِيهِ قِرَاءَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: بِالضَّمِّ، وَمَعْنَاهُ تَزَوَّجْنَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِيَةُ: بِالْفَتْحِ وَمَعْنَاهُ أَسْلَمْنَ قَالَهُ ابن مسعود. {فإن أتين بفاحشة} يَعْنِي الزِّنَا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} يَعْنِي: نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ، فَذَكَرَ إِحْصَانَهُنَّ فِي تنصيف الحد لينبه بأن تَنْصِيفَهُ فِي غَيْرِ الْإِحْصَانِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ثُبُوتِ الرِّقِّ إِحْصَانٌ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَقَالَ: " إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثَمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثَمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَدْرِي أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ وَلَائِدَ أَبْكَارًا مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ فِي الزِّنَا، وَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ؛ لأن الحر مفضل فيه على العبد والثيب مفضل فيه على البكر وقال تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لفضلهن على من سواهن، فلم يجز من نَقْصِ الْعَبْدِ أَنْ يُسَاوِيَ الْحُرَّ فِي حَدِّهِ، وَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ حَدِّهِ؛ لِئَلَّا تُضَاعَ حُدُودُ الله تعالى فَوَجَبَ تَنْصِيفُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَيُقَالُ لِدَاوُدَ لِمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ نِصْفُ الْجَلْدِ وَلَمْ يَكُنْ لِتَنْصِيفِهِ سَبَبٌ سِوَى الرِّقِّ وَجَبَ أَنْ يُتْنَصَفَ فِي الْعَبْدِ لِأَجْلِ الرِّقِّ وَهَذَا مِنْ فحوى الخطاب. فإذا ثبت أن حدها على النصف فهو خمسون جلدة، واختلف قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ التَّغْرِيبِ فِيهِ عَلَى قولين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا تَغْرِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا) وَلَمْ يَأْمُرْ بتغريبها، لأن التَّغْرِيبَ مَوْضُوعٌ لِلُحُوقِ الْمَعَرَّةِ وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ، وَلَا مَعَرَّةَ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَلَا مَشَقَّةَ تلحقها في الغربة؛ لأنهما مع العبد أرفه. والقول الثاني: أن التغريب واجب لقوله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ فَجَلَدَهَا وَنَفَاهَا إِلَى فَدَكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جُلِدَ فِي الزِّنَا غُرِّبَ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ كالجلد، وفيه وجه ثالث لبعض أصحابنا: أنه إن تولى الإمام جلدها غربها، وإن تولاه السيد لم يغربها، وفرق ما بينهما من وجهين: أحدهما: نفوذ أمر الإمام في جميع الْبِلَادِ دُونَ السَّيِّدِ. وَالثَّانِي: لِاتِّسَاعِ بَيْتِ الْمَالِ لنفقة التَّغْرِيبِ دُونَ السَّيِّدِ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ التَّغْرِيبِ ففي قدره قولان: أحدهما: أنه تغريب عام كَالْحُرِّ، قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ مَا قُدِّرَ بِالْحَوْلِ اسْتَوَى فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالْحَوْلِ فِي أجل العنة. والقول الثاني: أنه تغريب نِصْفَ عَامٍ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله ها هنا: " أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي نَفْيِهِ نِصْفَ سَنَةٍ) وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ كَالْجَلْدِ، وَخَالَفَ أَجْلَ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ عَيْبٍ يُعْلَمُ بتغيير الفصول الأربعة فيستوي فِيهِ الْحُرَّ وَخَالَفَهُ فِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَحُدُّ الرَّجُلُ أَمَتَهُ إِذَا زَنَتْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجدها)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَالْإِمَامُ أَحَقُّ بِإِقَامَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لا يجوز أن يتولى السيد حَدَّ أَمَتِهِ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ غَيْرِ ذَاتِ الزوج. واستدلوا بأنه من حدود الله تعالى فوجب أن يكون الأئمة أَحَقَّ بِإِقَامَتِهِ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْحُرِّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْحُرِّ لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ عَلَى الْعَبْدِ كَالصَّغِيرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 وَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِقِّهِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: يَعْنِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ ففيه وجهان: أحدهما: إن إطلاقه يمنع من هذا التقييد. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَذِنَ لِغَيْرِ السَّيِّدِ جَازَ. وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هريرة قال: جاء رجل بوليده إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال له: رسول الله إن جارتي زَنَتْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجلدها خمسين، فإن عَادَتْ فَعُدْ، وَإِنْ عَادَتْ فَعُدْ) ، وَفِي الرَّابِعَةِ: " فإن عَادَتْ فَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ) وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ فَإِنْ عَادَتْ فَزَنَتْ فَتَبَيَّنَ زناها فليبعها ولو بعقد مِنْ شَعْرٍ) وَمَعْنَى لَا يُثَرِّبُ أَنْ لَا يُعَيِّرَ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ نَهَاهُ عَنْ تَعْيِيرِهَا وَالتَّثْرِيبِ عَلْيَهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ دون الحد. والثاني: أن التعبير والتثريب تعزير يَسْقُطُ مَعَ الْحَدِّ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْمِلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْجَلْدِ عَلَى التَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِطْلَاقَ الْحَدِّ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعْزِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ يسقط بالتعزير، ولأنه إجماع الصحابة. روى حسن بن محمد أن فاطمة عليها السلام جلدت أمة لها الحديث. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَطَعَتْ جَارِيَةً لَهَا سَرَقَتْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 وَرُوِيَ أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ الله بن عمر قَطَعَ يَدَ غُلَامٍ لَهُ سَرَقَ، وَرُوِيَ أَنَّ أبا بردة جلد وليدة له زنت. وروي أن مقرن سال ابن مسعود عَنْ أَمَةٍ لَهُ زَنَتْ فَقَالَ اجْلِدْهَا. وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قال: كان الأنصار عند رأس الحول يخرجون من زنا مِنْ إِمَائِهِمْ فَيَجْلِدُونَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُ لهم مخالف فثبت أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الولاية وللسيد حق الملك فيجمع بينهما إحدى علتين: إحدهما: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ تَزْوِيجَهَا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ مَلَكَ حَدَّهَا كَالْإِمَامِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ فِي رقبته ملك إقامة الحد على يديه كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَعَمُّ، وعقوده فيه أتم من الإمام المتفرد بنظر الولاية فَكَانَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَحَقُّ، وَخَالَفَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ وَلَا حَقَّ، وَخَالَفَ الْحُرُّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ إِلَّا لِلْإِمَامِ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا فَلَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ مِنْهُمَا، وَسَنَذْكُرُ فِي حُكْمِ الْبَيِّنَةِ وَالسَّرِقَةِ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ مَا يَكُونُ جَوَابًا وَانْفِصَالًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ إِقَامَةُ الْحَدِّ على عبيده وإمائه فَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي السَّيِّدِ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ. وَالثَّانِي: فِيمَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَهُوَ مَنِ اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: جَوَازُ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالرُّشْدِ؛ لأن من لم ينفذ مرة في حق نفسه فأولى أن يَنْفُذَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أو مجنوناً، أو سفيهاً لم يملك إمامة الْحَدِّ، فَإِنْ أَقَامَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَانَ تَعَدِّيًا مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ بِجَلْدِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. فَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِ لِلْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِوِلَايَةٍ تَنْتَفِي مَعَ الْفِسْقِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ إِقَامَتُهُ؛ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِنْكَاحِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أن يكون رجلا؛ لأن الرجال أحصن بالولايات من النساء، فإن كان امْرَأَةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا حق لها فيه ولا لوليها، وَيَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِقُصُورِهَا عَنْ وِلَايَاتِ الرِّجَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيُّهَا نِيَابَةً عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهَا كَالنِّكَاحِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مُبَاشَرَةَ إِقَامَتِهِ بِنَفْسِهَا وَبِمَنْ تَسْتَنِيبُهُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَغَيْرِ وَلِيٍّ لتفردها بالملك وحقوقه، وقد جلدت فاطمة عليها السلام أَمَةً لَهَا زَنَتْ، وَقَطَعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَامَّ الْمِلْكِ فِي كَامِلِ الرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ فَلَا حق له في إقامة الحد لِنَقْصِهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا، أَوْ مُخَارِجًا، أَوْ مُعْتَقًا نَصْفُهُ لم يملك إقامة الحد على عبده بجريان أحكام الرق عليه، ولو كان مكاتباً ففي استحقاقه بحد عَبْدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَقْصِهِ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ تَامَّ الْمِلْكِ بِكَمَالِ الْحُرِّيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ تَامِّ الرِّقِّ لِعِتْقِ بَعْضِهِ وَرِقِّ بَعْضِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى إِقَامَتِهِ جَازَ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ وَمِنَ المجتهدين فيه ليعلم ما يجب فيه ولا يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ عُمِلَ فِيهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَمْ يَخْلُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْإِمَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى وجوبه فللسيد أن يتفرد بِاسْتِيفَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إِسْقَاطِهِ فَلَا حَدَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَرَى الْإِمَامُ وُجُوبَهُ وَالسَّيِّدُ إسقاطه، فللإمام، يَسْتَوْفِيَهُ دُونَ السَّيِّدِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرَى السَّيِّدُ وُجُوبَهُ دُونَ الْإِمَامِ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِإِسْقَاطِهِ، فَإِنْ حُكِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِمَامِ أَنْفَذُ وَأَعَمُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 السَّيِّدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحُدُودِ مُنِعَ مِنْ إِقَامَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا حَتَّى يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى حَاكِمٍ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ وُجُوبٍ إسقاطه، وَيَقُومَ بِاسْتِيفَاءِ مَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِوُجُوبِهِ، وَلَيْسَ للإمام نقضه وإن رجع فيه إلى استيفاء وفيه نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ مُتَّفَقًا عَلَى وُجُوبِهِ كان لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِقَوْلِ مَنْ أَفْتَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَاءِ السَّيِّدِ له بِفُتْيَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِمِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِسُقُوطِهِ فَيُمْنَعُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فهو ما كان جلداً إما في زِنًا، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَأْدِيبَهُ بِالْجَلْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَهَلْ يَمْلِكُ مِنْ حَدِّهِ مَا تَعَلَّقَ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ مِنْ قَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ أَمْ لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يملك؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يَقْطَعُهُ إِذَا سَرَقَ وَلَا يَقْتُلَهُ إِذَا ارْتَدَّ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ أَحَقَّ بِقَطْعِهِ وَقَتْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ حُدُودِ الدِّمَاءِ مِثْلَ ما يملكه مِنْ حُدُودِ الْجَلْدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يملك مثله منه في حق نفسه كالجناية وقطع السلعة. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ زَوْجَتِهِ فِي النُّشُوزِ، وَالْأَبَ يَسْتَحِقُّ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ فِي الِاسْتِصْلَاحِ، وَلَا يستحق واحد منهما إقامة الحدود. وروى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ قَطَعَتْ أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ، وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. فَأَمَّا التَّغْرِيبُ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إِذَا زَنَيَا فَفِي اسْتِحْقَاقِ السَّيِّدِ لَهُ وَتَفَرُّدِهِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ أَحَدُّ الْحَدَّيْنِ كَالْجَلْدِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تغريبه في غير الزنا فكان بتغريب الزِّنَا أَحَقُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ لأمرين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 أحدهما: أن تَغْرِيبَ الزِّنَا مَا خَرَجَ عَنِ الْمَأْلُوفِ إِلَى النَّكَالِ وَهَذَا بِتَغْرِيبِ الْإِمَامِ أَخَصُّ. وَالثَّانِي: لِاخْتِصَاصِ الْإِمَامِ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ فِي بِلَادِ النَّفْيِ دُونَ السَّيِّدِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ بِهِ الْحُدُودَ فَهُوَ إِقْرَارُ عنده بما يوجب الحد فيحده بإقراره، وأما بسماع الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ فَفِي جَوَازِ حَدِّهِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَاتِ مُخْتَصٌّ بأولى الولايات. والثاني: أنه محتاج إلى اجتهاد في الجرح والتعديل لأنه رُبَّمَا تُوَجَّهَ إِلَى السَّيِّدِ فِيهِ تُهْمَةٌ فَاخْتَصَّ بمن ينتفي عنه التهمة مِنَ الْوُلَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّهُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ حده بالإقرار ملك بالبينة كالحكام. والثاني: أن السيد أبعد من التهمة في عبده لحفظ ملكه من الحكام فَكَانَ بِذَلِكَ أَحَقَّ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ بِعِلْمِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهَا تدرأ بالشبهات. الْقَوْلِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يحكم بعلمه فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحُدُودِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بحقوق الآدميين. والوجه الثاني: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. وَأَمَّا السيد في حق عَبْدِهِ بِعِلْمِهِ فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ الْحَاكِمُ كَانَ السَّيِّدُ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ جُوِّزَ للحاكم كان في جوازه للسيد وجهان من اختلاف الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ حَدِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وبالصواب. . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 (باب ما جاء في حد الذميين) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وإن تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم أَوْ نَدَعَ فَإِنْ حَكَمْنَا حَدَدْنَا الْمُحْصَنَ بِالرَّجْمِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَجَلَدْنَا الْبِكْرَ مِائَةً وَغَرَّبْنَاهُ عَامًا (وَقَالَ) فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ إِنَّهُ لَا خيار له إذا جاؤوه فِي حَدِّ اللَّهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَهُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَهُمْ صاغرون) {قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَوْلَى قَوْلَيْهِ بِهِ إِذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وهم صاغرون} أن تجرى عليهم أحكام الإسلام ما لَمْ يَكُنْ أَمْرُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهِ تَرْكَهُمْ واياه) . قال الماوردي: وهذا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ قَدْ مَضَتَا: إِحْدَاهُمَا: فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ هَلْ تَلْزَمُهُمْ أَحْكَامُنَا أَمْ لَا؟ . وَالثَّانِيَةُ: هَلِ الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي إِحْصَانِ الزنا أم لا؟ . فأما المسألة الأول فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَحَاكِمُنَا إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحْكُمَ، وَهُوَ إِذَا اسْتَعَدُّوا إِلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْدِيَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَا يُعْدِيَ، فَإِنْ أَعْدَى وَحَكَمَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْتِزَامِ حُكْمِهِ وَبَيْنَ رَدِّهِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِي حُقُوقِ الله تعالى، وأصل هذا قوله تعالى: {فإن جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وَلِأَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَأْمَنُونَا وَنَأْمَنَهُمْ فَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ الْأَمَانِ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ لَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا فَتَلْزَمُهُمْ بِالشَّرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ دَخَلَ مُعَاهَدٌ إِلَى دَارِ الإسلام بأمان فزنا بِمُسْلِمَةٍ مُطَاوِعَةً، فَإِنْ شَرَطَ فِي أَمَانِهِ الْتِزَامَ حُكْمِنَا حَدَدْنَاهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي أَمَانِهِ حَدَدْنَا الْمُسْلِمَةَ دُونَ الْمُعَاهَدِ , وَكَذَلِكَ الْمُعَاهَدَةُ إذا دخلت دار الإسلام بأمان فزنا بها مسلم حد الْمُسْلِمُ وَلَمْ تُحَدَّ الْمُعَاهَدَةُ إِلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ في أمانها التزام حكمنا فتحد. (فَصْلٌ) وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجِزْيَةِ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا اسْتَعَدُّوا إِلَيْنَا ثلاثة أقاويل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُ، وَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ كَأَهْلِ العهد؛ لعموم قول الله تعالى: {فإن جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ وَسَوَاءٌ كان هذا في حقوق الله أَوْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَعْدَوُا الْحَاكِمَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْدِيَ المستعدي وبين أن لا يعديه، وإذا أَعْدَاهُ كَانَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحُضُورِ وَالِامْتِنَاعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذمة أن يجري عَلَيْهِمْ أَحْكَامَنَا فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُمْ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيُلْزِمَهُمُ الْحُضُورَ إِلَيْهِ وَالْتِزَامَ حُكْمِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِ تَوَجَّهَ لُزُومُ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ دُونَهُ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ حَكَمَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ حُكْمِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنه لا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَيُعْدِيَ الْمُسْتَعْدِي منهم ويخير الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ عَلَى الْحُضُورِ، وَيُلْزِمَهُ الْحُكْمَ جَبْرًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ في حقوق الأدميين؛ لقول الله تعالى: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وقال الشافعي: والصغار أن يجري عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّغَارَ هُوَ الْإِذْعَانُ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ أَحْكَامُهُ لَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْحُدُودِ مَحْظُورًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالزِّنَا أَقَمْنَا الْحَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عِنْدَنَا مُبَاحًا عِنْدَهُمْ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لَمْ نَحُدَّهُمْ لِإِقْرَارِنَا لَهُمْ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أن يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ الله تعالى لأن حقوق اللَّهِ فِي كُفْرِهِمْ أَعْظَمُ وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَيْهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ لَزِمَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمِ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَعْدِيًا أَوْ مُسْتَعْدًى عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) وَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيِّينَ مِنْ مِلَّتَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا لِاخْتِلَافِ الْمُعْتَقَدَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُشْبِهُ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن يَكُونَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ أَمْ لَا؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِحْصَانِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَصَابَ كافرة في عقد صَارَا مُحْصَنَيْنِ، فَإِنْ زَنَيَا فَحَدُّهُمَا الرَّجْمُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ، فَإِذَا أَصَابَ الْكَافِرُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَحَدُّهُمَا إِذَا زَنَيَا الْجَلْدُ، وَإِنْ أَصَابَ مُسْلِمٌ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ منهما، فأيهما زنا فَحَدُّهُ الْجَلْدُ. وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ أَنَّ الإصابة في نكاح الإسلام شبيه فِي الْإِحْصَانِ، فَإِنْ أَصَابَ الْكَافِرُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ فِي الْكُفْرِ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُ كَافِرَةً فِي عَقْدِ نِكَاحٍ تَحَصَّنَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فأيهما زنا رُجِمَ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنَاكِحَ الشِّرْكِ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِهَا وَالْعَفْوِ عَنْهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَمَضَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 (باب حد القذف) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله: " إذا قذف الْبَالِغُ حُرًّا بَالِغًا مُسْلِمًا أَوْ حُرَّةً بَالِغَةً مسلمة حد ثمانين) . قال الماوردي: والأصل فِي تَحْرِيمِ الْقَذْفِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وَرَوَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: قَذْفُ مُحْصَنَةٍ يُحْبِطُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ) . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ السبع نودي في الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شاء) . قال رجل لابن عمر الْكَبَائِرُ السَّبْعُ سَمِعْتَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " نَعَمْ، الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَالْقَتْلُ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالزِّنَا) ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ عَائِشَةَ رضوان الله عليها في الإفك عليها ما برأها الله تعالى مِنْهُ. وَسَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ سِتٍّ، فَضَاعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جِزْعِ أظفار وَقَدْ تَوَجَّهَتْ لِحَاجَتِهَا، فَعَادَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من منزله، ورفع هودجها ولم يشعر بها أَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِ لِخِفَّتِهَا، وَعَادَتْ فَلَمْ تَرَ فِي الْمَنْزِلِ أَحَدًا، فَأَدْرَكَهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَحَمَلَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَلْحَقَهَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَتَكَلَّمَ فِيهَا وَفِي صَفْوَانَ مَنْ تَكَلَّمَ، وَقَدِمَتِ المدينة وانتشر الإفك وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، ثُمَّ عَلِمَتْ فَأَخَذَهَا مِنْهُ كل عظيم إلى أن انزل تعالى بَرَاءَتِهَا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ قُدُومِ الْمَدِينَةِ مَا انزل فقال تعالى: {إن الذين جاؤوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] وَفِي الْمُرَادِ بِالْإِفْكِ وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْإِثْمُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْكَذِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَزُعَمَاءُ الْإِفْكِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن أبي ابن سَلُولَ، وَزَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] أَيْ لَا تَحْسَبُوا مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِفْكِ شَرًّا لَكُمْ أَيْ أَذًى بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَرَّأَ مِنْهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ؛ لِأَنَّهُمَا قُصِدَا بِالْإِفْكِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر رحمه الله تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور: 11] أَيْ لَهُ عِقَابُ مَا اكْتَسَبَ بِقَدْرِ إِثْمِهِ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور: 11] فِيهِ قراءتان " كبره) بكسر الكاف ومعناه إثمه، وقرئ بضم الكاف ومعناه بعظمه، وَمُتَوَلِّي كِبْرِهِ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ الَّذِي أَقَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِمْ قَالَهُ عُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ عائشة رضي الله عنها حتى قال فيه بَعْضُ شُعَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: (لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَذِي كان أهله ... وحمنة إذ قالا فجوراً وَمِسْطَحُ) (تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ ... وَسُخْطَةَ ذي العرش العظيم فَأَبْرَحُوا) (فَصُبَّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تُسْفَحُ) وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يجلدهم؛ لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، وَلَا تُقَامُ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا كَمَا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِقَتْلِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ هُوَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحَ بْنَ أَثَاثَةَ عَمِيَا، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ، وَاتَّصَلَ دَمُهَا عُقُوبَةً لِمَا كَانَ مِنْهَا. (فَصْلٌ) ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَلَّظَ تَحْرِيمَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] يَعْنِي بالزنا {ثم لو يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلو لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فغلظ بثلاثة أشياء: الحد، والفسق، وَالْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُوجِبْ بِالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَعَرُّ وَهُوَ بِالنَّسْلِ أَضَرُّ، وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالْكُفْرِ يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ حَدَّهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا فَكَانَ أَقَلَّ حَدًّا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاسَ عَلَيْهِ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هذي افترى، وحد المفتري ثمانون، والله أعلم. (فصل) [الشروط المعتبرة في القاذف والمقذوف] فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً فَهُوَ أَكْمَلُ حُدُودِهِ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْمَقْذُوفِ وَشُرُوطٍ فِي الْقَاذِفِ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقْذُوفِ فَخَمْسَةٌ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي حَدِّ القاذف إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] فاعتبر بالبلوغ لنقص الصغر، واعتبر بالعقل لنقص الجنون، واعتبر بالحرية لنقص الرق، واعتبر بالإسلام لنقص الكفر، واعتبر بالعفة لنقص الزنا ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالشُّهَدَاءِ لَمْ يُحَدُّوا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: 23] إنه أراد الغافلات عن الفواحش بتركها، وإن كَانَ الْمَقْذُوفُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ على قاذفها لأمرين: أحدهما: لنقصانهما عَنْ كَمَالِ الْإِحْصَانِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا حَدٌّ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمَا بِالْقَذْفِ حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ عَبْدًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِعُمُومِ الظاهر، ولأنه يحد بالزنا فحد له القاذف بِالزِّنَا كَالْحُرِّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا شُرِطَا فِيهِ، وَلِأَنَّ فعل الزنا أغلظ من القذف، فلما منعه نقص الرِّقِّ مِنْ كَمَالِ حَدِّ الزِّنَا كَانَ أَوْلَى أن يمنع من حد قذفه بالزنا، ولأنه لما منعه نقص الرِّقِّ أَنْ تُؤْخَذَ بِنَفْسِهِ نَفْسُ حُرٍّ كَانَ أولى أن يمنع أن يؤخذ بعرضه عن عوض حر. فإن قيل: ينبغي إِذَا قَذَفَهُ عَبْدٌ مِثْلُهُ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كما يقتص بقتله. قِيلَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ عَدِمَ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فَسَقَطَ حَدُّ قَذْفِهِ وَإِنْ سَاوَاهُ الْقَاذِفُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَفِيفٍ فَقَذَفَهُ غَيْرُ عَفِيفٍ لَمْ يُحَدَّ وَإِنِ اسْتَوَيَا في سقوط الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 العفة لعدم شرط الإحصان وكذلك قَذْفُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِّهِ بِالزِّنَا فَلِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَهُ وَنَقْصُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، كَالْقِصَاصِ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْحُرِّ، وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ الحر. وهكذا لو كان المقذوف مدبراً أو مكاتباً أَوْ مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، سَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الرِّقِّ أو فضل عليه بالحرية، لكن يُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ كَافِرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فيه، ولأنه لما لم يأخذ نَفْسُ الْمُسْلِمِ بِنَفْسِ الْكَافِرِ لَمْ يُؤْخَذْ عِرْضُهُ بِعِرْضِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ عَفِيفٍ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَسَنَذْكُرُ مَا تَسْقُطُ بِهِ الْعِفَّةُ مِنْ بَعْدُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَاذِفِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهَا الْقَاذِفُ حُدَّ حَدًّا كَامِلًا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا، فَإِنْ أَخَلَّ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ؛ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يُحَدَّ بِالزِّنَا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُحَدَ لِلْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ القاذف عبداً حر بِالْقَذْفِ أَرْبَعِينَ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُحَدُّ ثَمَانِينَ حَدًّا كَامِلًا كَالْحُرِّ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ، وَهُوَ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ في حد القذف بالزنا. روي عن عامر بن عبد الله بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ فَكَانَ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الْأَحْرَارِ، لِأَنَّهُ مَنَعَ فِيهَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ لِقَذْفِهِمْ، وَالْعَبْدُ لا تسمع شهادته قاذفاً أَوْ غَيْرَ قَاذِفٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ كَافِرًا حُدَّ حَدًّا كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْحَقِّ الَّذِي لَهُ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ في الحق الذي عليه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فإن قَذَفَ نَفَرًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدُّهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَذْفُ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ فَيَقْذِفُهُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ فَلَا تَتَدَاخَلُ حُدُودُهُمْ، وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا مُفْرَدًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 والضرب الثاني: يَجْمَعَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقُولُ زَنَيْتُمْ، أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ أنه تتداخل حدودهم، ويحد لجميعهم حداً واحداً اعتباراً بكلمة القذف أنها وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ حُدُودَهُمْ لَا تَتَدَاخَلُ وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم حداً منفرداً اعْتِبَارًا بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَتَدَاخَلُ حُدُودُ جَمَاعَتِهِمْ وَيَحُدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا، سَوَاءً جَمَعَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَفْرَدَهُمْ وَقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ؛ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ فَجَعَلَ لِكُلِّ الْمُحْصَنَاتِ حَدًّا وَاحِدًا. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " البينة وحداً أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَذْفُ اثْنَيْنِ وَأَوْجَبَ عليه حداً) . وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا حَدًّا وَاحِدًا، وَقَدْ صَارُوا قَذَفَةً لَهُ وَلِلْمَرْأَةِ. وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ، ثُمَّ كَانَ الزِّنَا إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ تداخلت حدود، فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَتَدَاخَلَ حُدُودُهُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالزِّنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ الْقَذْفُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ تَتَدَاخَلُ فِي الزِّنَا فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ فِي الْقَذْفِ كَالْمُتَكَرِّرِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أن القذف موجب للحد فِي الْأَجَانِبِ وَاللِّعَانَ فِي الزَّوْجَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يتداخل اللعان في الزوجات وأفرد كل واحد مِنْهُنَّ بِلِعَانٍ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْحُدُودُ فِي الْأَجَانِبِ وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَدٍّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أنه أحد موجبي القذف فوجب أن لا يَتَدَاخَلَ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ كَاللِّعَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حقق قذفه الْجَمَاعَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ منهم حد كامل وجب إذا تحقق قذفه أن يحد لكل واحد منهم حداً كاملاً؛ لأن حد القذف مقابل كحد الزِّنَا عَلَيْهِمْ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَدُ حَالَتَيِ الْقَذْفِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ مُوجِبُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَقْذُوفٍ لَوْ تَحَقَّقَ قَذْفُهُ لَمْ يَتَدَاخَلِ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 أن لا يتداخل لَهُ كَقَذْفِ الْوَاحِدِ لِوَاحِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ على أصلنا في حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى مَا سندل عليه مِنْ بَعْدُ، فَنَقُولُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ: إِنَّ كُلَّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ إِذَا لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ كَالْقِصَاصِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ آجال الديون؛ لأنها تتداخل في حق الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاذِفِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَقْذُوفِينَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " حَدٌّ فِي جَنْبِكَ) إشارة إلى الحبس وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ حَدَّانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ لِمَنْ طَالَبَ بِهِ وَلَمْ يخص شَرِيكُ بْنُ السَّحْمَاءِ مُطَالِبًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحَدَّ. وَالثَّالِثُ: مَا حُكِيَ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا حَدَّ فِي قَذْفِ الْيَهُودِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي حَدِّهِ الشهود عَلَى الْمُغِيرَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُعَيِّنُوا الْمَزنِيَّ بِهَا، فَيَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمْ تُطَالَبْ بِهِ فَيُحَدُّونَ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الزنا فهو أن حد مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَإِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ التي تدخلها المضايقة والمشاحنة، ولا تدرأ بالشبهة، فكان افتراقها في التغليظ موجباً لافتراقها فِي التَّدَاخُلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْقَذْفِ لِلْجَمَاعَةِ بِتَكْرَارِهِ فِي الْوَاحِدِ فَهُوَ فَسَادٌ، مَوْضُوعُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ لِعَانُهُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَتَدَاخَلْ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَاتِ كَذَلِكَ الْقَذْفُ. والثاني: أنه لما كان تكرار الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ تَدَاخُلَ الْمَهْرِ في المنكوحة الواحدة ولا يوجب تدخله فِي مُهُورِ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا تَكَرَّرَ فِي الْوَاحِدِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الجماعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 (مسألة) قال الشافعي: " فإن قال يا بن الزَّانِيَيْنِ وَكَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَيِّتَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمحضةِ عِنْدَنَا. وقال أبو حنيفة: هي مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُورَثُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُورَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً اسْتَحَقَّ وَلَدُهَا حَدَّ قَاذِفِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَخَالَفَ إِذَا قَذَفَهَا فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ مَاتَتْ، وَوِفَاقُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ خِلَافِهِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَصَارَ الْحَدُّ حَقًّا لِوَلَدِهَا دُونَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا عنها، وهذا فاسد؛ لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِحْصَانَ الْأُمِّ دون الولد، ولو كان له لَرَاعَيْنَا إِحْصَانَهُ دُونَ الْأُمِّ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا وجب عليها بعد موتها غرم ما تلف بِجِنَايَتِهَا مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ وَوَضْعِ حَجَرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ الْأُمِّ يَقْدَحُ فِي نَسَبِ الِابْنِ، فَوَجَبَ لَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إِرْثٍ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قُذِفَ أَبَوْهُ بِالزِّنَا بِغَيْرِ أُمِّهِ، أَوْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بِالزِّنَا بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَكِبَرِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قادحاً في نسبه، ويملك الحد فيها فَبَطُلَ التَّعْلِيلُ بِقَدْحِ النَّسَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَاسْتَحَقَّهُ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَبَطُلَ الِاعْتِلَالُ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عِلَّةٌ إِلَّا الْمِيرَاثُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ، فَهَذَا قَاذِفٌ لِأَبَوَيْهِ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ، حَيَّيْنِ فَهُمَا الْمُطَالِبَانِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا دُونَهُ، فَإِنْ عَفَوَا صَحَّ عَفْوُهُمَا وَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي حَدِّ قَاذِفِهِمَا وَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَلَدِ عَنْهُمَا وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا، وَهُوَ قَذْفُ اثْنَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ حَدَّانِ؛ لِأَنَّ المقذوف اثنان، فإن عفى الابن عن الحد صح عفوه، ولو عفى عَنْ حَدِّ أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ الْحَدُّ فِي قذف الآخر. (مسألة) قال الشافعي: " وَيَأْخُذُ حَدَّ الْمَيِّتِ وَلَدُهُ وَعَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَارِثِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُّهَا: أَنَّهُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْعَارِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرِثُهُ جَمِيعُ ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَعَرَّةِ النَّسَبِ، فَخَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّسَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يرثه جميع الورثة من دون الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَالْمَالِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِالْإِرْثِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ لِجَمِيعِهِمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، فَلَوْ طَالَبَ بِهِ وَاحِدٌ منهم وعفى الباقون عنه كان للطالب بِهِ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه فِي عَفْوِ الْقِصَاصِ يُرْجَعُ إِلَى بَدَلٍ هُوَ الدِّيَةُ، فَسَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ، وَلَا يُرْجَعُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إِلَى بَدَلٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْثِيرَ الْجِنَايَةِ لَا يَتَعَدَّى الْمَجْنِي عَلَيْهِ فَقَامَ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ فِيهِ مَقَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحَدِّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ، لِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ كَالدِّيَةِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ عِوَضٌ فَجَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ، وحد القذف لنفي المعرة فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا تَبَعَّضَتْ فِي الْوُجُوبِ جَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " ولو قَالَ الْقَاذِفُ لِلْمَقْذُوفِ: إِنَّهُ عَبْدٌ فَعَلَى الْمَقْذُوفِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْحَدَّ وَعَلَى الْقَاذِفِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْحَدَّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَقِيطًا أَوْ مَجْهُولَ النَّسَبِ فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ لِيَحُدَّ قَاذِفُهُ، وَأَنْكَرَ الْقَاذِفُ حُرِّيَّتَهُ، وَقَالَ: أَنْتَ عَبْدٌ فَلَا حَدَّ لَكَ عَلَيَّ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ مَجْهُولُ الأصل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ قَاذِفِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ المقذوف البينة أنه حر. فإن قِيلَ: إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ حُرٌّ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُدُودَ الْأَبْدَانِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى إِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ: إِذَا قَالَ الْجَانِي وَهُوَ حُرٌّ إِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ عَبْدٌ فَلَا قَوَدَ لَهُ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: أَنَا حُرٌّ فَلِيَ الْقَوَدُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي، فَخَالَفَ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالْجِنَايَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجُوا الْقَذْفَ وَالْجِنَايَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَالْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الْجِنَايَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حُرٌّ وَلَهُ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَوَدِ فِي الجناية. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَالْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْقَذْفِ قَوْلَ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَفِي الْجِنَايَةِ القول قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ، فجاز أن يسقط، وليس كذلك القول؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُسْقِطَ لَمْ يُوجِبْ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ. وَالثَّانِي: أن التَّعْزِيرُ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ يَقِينٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الحد، والدية بعد سقوط الحد شَكٌّ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ إِلَى يَقِينٍ وَلَمْ يَجُزْ الانتقال إلى شك. ( [مسألة) قال الشافعي: " ولا يحد في التعريض لأن الله تعالى أباح التعريض فيما حرم عقده فقال {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجله} وقال تعالى {ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء} فجعل التعريض مخالفاً للتصريح فلا يحد إلا بقذف صريح) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " اللِّعَانِ) وَالتَّعْرِيضُ كِنَايَاتُ الْقَذْفِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا بِالْإِرَادَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: الْمَعَارِيضُ قَذْفٌ فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا كَقَوْلِهِ: أَنَا مَا زَنَيْتُ، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مَا كفى، وإذا سقط الحد فيها نظر إلى مجردها فإن تجردت عن أسباب الأذى فلا تعزير فيها، وإن اقترنت بالأذى والسبب عزر فيها، فأما ما كان ظاهره الفحش والسب كقوله: يا فاسق، أو يا فاجر فهو أبلغ من التصريح؛ لأنه سب في الرضا والغضب فيعزر به في الأحوال إلا أن يريد به القذف فيحد، فأما إذا قال: يا عاهر، فقد ذكرنا فيه وجهين: أحدهما: يكون قذفاً صريحاً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وللعاهر الحجر) . والوجه الثاني: يكون كناية إن أراد به القذف حد وإن لم يرده عزر، فإن أراد بهذه المعاريض والكنايات القذف حد لها، وإن أنكر إرادة القذف أحلف لها. وقال أبو حنيفة: لا يحد لها ولا يحلف عليها ولا تسمع الدعوى فيها احتجاجاً بأمرين: أحدهما: أن الكناية تقوم مقام الصريح، والحد إنما يجب بالقذف، ولا يجب بما قام مقام القذف. والثاني: أنه إذا لم يكن لفظ الكناية قذفاً صار بالنية قاذفاً، ونية القذف لا توجب الحد ودليلنا شيئان: أحدهما: أن حد القذف من حقوق الآدميين عندنا ومن حقوق الله تعالى عنده، والعتق والطلاق يجمعان حقوق الله وحقوق الآدميين، ثم كان الكناية فيهما مع النية كالصريح؛ لأن الشهادة فيها غير معتبرة بخلاف النكاح، فوجب أن يكون القذف في اختصاصه بأحد الحقين ملحقاً بما جمع الحقين. والثاني: أن كل لفظ احتمل معنيين مختلفي الحكم فقصده لأحدهما موجب لحمله عليه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] أن قصد به القرآن حرم في الجناية ولم يبط ل به الصلاة وإن لم يقصد به القرآن لم يحرم في الجناية وبطلت به الصلاة فأما الجواب أنه مثل القذف فمن وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 أحدهما: أن مثل الشيء ما أوجب مثل حكمه. والثاني: أنه جار مجراه وليس بمثل له. وأما الجواب عن النية فلم نجعله قاذفاً بها كما لا نجعله مطلقاً، وإنما جعلناه قاذفاً باللفظ مع النية كما نجعله مطلقاً باللفظ مع النية] . (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ فَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ نَبَطِيَّ الدَّارِ أَوِ اللِّسَانِ أَحْلَفْتَهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى النَّبَطِ وَنَهَيْتَهُ أَنْ يَعُودَ وَأَدَّبْتَهُ عَلَى الْأَذَى فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أَرَادَ نَفْيَهُ وَحُدَّ لَهُ فَإِنْ عَفَا فَلَا حَدَّ لَهُ وَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ بِالْقَذْفِ الْأَبَ الْجَاهِلِيَّ حَلَفَ وَعُزِّرَ عَلَى الْأَذَى) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ للعربي يا نبطي يحتمل أن يريد نَفْيَهُ مِنْ نَسَبِ الْعَرَبِ فَيَكُونَ قَذْفًا، وَيُحْتَمَلُ أن يريد أنه نَبَطِيُّ الدَّارِ، أَوِ اللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا، فَخَرَجَ مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ إِلَى كِنَايَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْقَذْفَ بَلْ أَرَدْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدار واللسان كَانَ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ كَلَامِهِ، فَإِنْ لم يرد به الدم والنسب فلا يعزر عليه، وإن أراد به دمه ونسبه عزر للأذى، فَإِنْ نَكِلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أراد به نفي نسبي، وَصَارَ قَاذِفًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ نَفْيَ نَسَبِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى نَسَبِ النَّبَطِ صَارَ قَاذِفًا لِإِحْدَى أُمَّهَاتِهِ فيسأل عَمَّنْ أَرَادَ قَذْفَهَا مِنْهُنَّ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حالهن مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ قَذْفَ أم أب مِنْ آبَائِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَكُونُ قَاذِفًا لِكَافِرَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَكِنْ يُعَزَّرُ. وَالْقِسْمُ الثاني: أن يريد أم أب مِنْ آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ قَاذِفًا لِأُمِّ الْأَبِ الَّذِي أَرَادَهُ فَيَجِبُ فِي قَذْفِهَا الْحَدُّ لأنها مسلمة، ويكون ذلك للأم إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِحَدِّهِ، فَإِنْ مَاتَتْ فَوَلَدُهَا إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ مَاتَ فَلِوَارِثِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ وَرِثَ الْحَدَّ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أقرب كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ، فإن عفى الْأَقْرَبُ عَنْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْأَبْعَدِ لَهُ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي مِيرَاثِ هَذَا الْحَدِّ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى مِيرَاثِ الْأَمْوَالِ أو لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إِذَا قِيلَ إنَّهُ يُوَرَّثُ مِيرَاثَ الأموال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ عَفْوِ الْأَقْرَبِ إِذَا قيل: إنه يختص بِالْعَصَبَاتِ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ الْحَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهَا، فَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ فَلَا حَقَّ لِوَلَدِهَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَفْوِ الْأَقْرَبِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ أَصْلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَارِثِهَا مَعَ سُقُوطِهِ بِعَفْوِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَجْرِي عَفْوُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْحَدَّ مِيرَاثًا عَنْهَا، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَكَانَ لَهَا وَارِثٌ غَيْرَهُ فِي دَرَجَتِهِ فَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ كَالْإِخْوَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْحَدِّ بَعْدَ عَفْوِ الِابْنِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " ولو قذف امرأة وطئت وطأ حراماً درىء عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِّ وَعُزِّرَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قد ذكرنا أن العفة شرط في الإحصان للقذف، فَإِنْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا انْقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ الْعِفَّةَ وَهُوَ الزِّنَا، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حد على قاذفها، سواء حد في الزنا أو لم يحد. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ وَهُوَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ أو وطء أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلَا حَدَّ فِيهِ، لَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ إِلَّا أن تكون مستكرهة فَأَيُّهُمَا قُذِفَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَفِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ وَجْهَانِ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَوْ فِي نِكَاحِ مُتْعَةٍ أَوْ شِغَارٍ، فَإِنْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ الْعِفَّةَ وَهُوَ وَطْءُ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَمَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ في إحرام أو في صِيَامٍ فَتَكُونُ الْعِفَّةُ بَاقِيَةً، لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلَّ الأنكحة، وَالتَّحْرِيمُ عَارِضٌ، فَأَيُّهُمَا قَذَفَ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا هَذَا فِي كِتَابِ " اللِّعَانِ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُحَدُّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا حَدَّ الْعَبْدِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا، أَوْ مُكَاتِبًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنَ الرِّقِّ فِيهِ وَإِنْ قَلَّ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ كَمَا لَوْ قَذَفَ عَبْدًا قِنًّا وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى، فَأَمَّا إِنْ كَمُلَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ وَلَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَكَانَ مُكَاتِبًا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ وَهُوَ نِصْفُ حَدِّ الْحَرِّ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَنِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ والزنا، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 (كِتَابُ السَّرِقَةِ) (بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ من كتاب الحدود وغيره) (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ " الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا لِثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك) . قال الماوردي: والأصل فِي وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وفي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) ، فَجَعَلَ حَدَّ السَّرِقَةِ قَطْعَ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ الْمَالِ بِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدَّ الزِّنَا قَطْعَ الذَّكَرِ لِمُوَاقَعَةِ الزِّنَا بِهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْلَ يَدِهِ إِذَا قُطِعَتْ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي مِثْلَ ذَكَرِهِ إِذَا قُطِعَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُدُودَ زَجْرٌ لِلْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ، وَالْيَدُ تُرَى وَالذَّكَرِ لَا يُرَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ إِبْطَالُ النَّسْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فأمر الله تعالى به في الإسلام فكان أول سارق قطع من الرجال في الإسلام الْخِيَارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عن عروة عن أم سلمة أن قريشاً همهم شأن الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قالوا ما يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَلَّمُوهُ فَأَتَاهُ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إنما هلك من كان قبلكم كَانَ إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُهَا) ثُمَّ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 وَرَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكَّارٍ التَّمِيمِيُّ: أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي اللَّيْلِ إِلَى رَكْبٍ بِجَانِبِ الْمَدِينَةِ فَسَرَقَتْ عَيْبَةً لَهُمْ، فَلَمَّا قَطَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَبُوهَا: اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَخْوَالِهَا بَنِي حويطب فإنها أشبهتهم فقال: فيها الحسين بن الوليد: (يا رب بنت لأبي سلمى جعد ... سراقة لحقائب الركبان) (بانت تحوش عليهم بيمينها ... حتى أقرت غير ذات بيان) (كونوا عبيداً واقتدوا بأبيكم ... وذروا التبختر يا بني سفيان) (اخشوا فإن الله لم يجعل لكم ... كنز الْمُغِيرَةِ أَوْ بَنِي عِمْرَانْ) وَحَكَى الْكَلْبِيُّ أَنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ الظَّفَرِيِّ، سَارِقِ الدِّرْعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا هَلْ هِيَ عُمُومٌ خُصَّ أَوْ مُجْمَلٌ فُسِّرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي خُصَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي فُسِّرَ. وَرَوَى عبد الله بن عمر، وقال: سَرَقَتِ امْرَأَةٌ حُلِيًّا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَطْعِ يَدِهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] وفي قوله ها هنا " وَأَصْلَحَ) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ بِتَرْكِ الْعَزْمِ. وَالثَّانِي: أَصْلَحَ عَمَلَهُ بِتَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قِيلَ لَهُ إِنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، هَلَكَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ، فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَأَخَذَ صفوان السارق وجاء بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 فَأَمَرَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فهلا قبل أن تأتيني به) . (فصل) روى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يزني المؤمن حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . وَيُحْتَمَلُ تَأْوِيلُهَا أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا مَنْصُوصٌ فَيَكْفُرُ بِاسْتِحْلَالِهَا. وَالثَّانِي: يَعْنِي لَا يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ لَا يُصَدِّقُ أَنَّهُ يُحَدُّ إن زنا، وَيُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ، وَيُجْلَدُ إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ مِنْهُ وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَهُ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهَا كَمَا قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخذوها منه وشطر ماله) . (فصل) وقطع السارق حق مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ، وَالْغُرْمُ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ. فَأَمَّا الْغُرْمُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ عِلْمِ الْإِمَامِ وَبَعْدِهِ. وَأَمَّا الْقَطْعُ فيصح العفو عنه قبل علم الإمام به، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ عِلْمِهِ؛ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لصفوان بن أمية في سارق ردائه حين قال: هو لو صَدَقَةٌ فَقَالَ: " هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ، اشْفَعُوا مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْوَالِي، فَإِذَا وصل إلى الوالي فعفى فلا عفا الله عنه) فأمر بقطعه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ شُفِّعَ فِي سَارِقٍ فَقِيلَ لَهُ: حَتَّى يبلغه الإمام فقال: إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أُتَي بِلُصُوصٍ فَقَطَعَهُمْ حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقُدِّمَ لِيُقْطَعَ فَقَالَ: (يَمِينِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُهَا ... بِعَفْوِكَ أَنْ تَلْقَى مَكَانًا يَشِينُهَا) (يَدَيَّ كَانَتِ الْحَسْنَاءُ لو تم سبرها ... ولن تعدم الحسناء عاباً يَشِينُهَا) (فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَتْ حَبِيبَةً ... إِذَا مَا شِمَالِي فَارَقَتْهَا يَمِينُهَا) فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِكَ، وَقَدْ قَطَعْتُ أَصْحَابَكَ، فَقَالَتْ أم السارق: يا أمير المؤمنين اجعلها من ذُنُوبِكَ الَّتِي تَتُوبُ مِنْهَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَكَانَ أول حد يترك فِي الْإِسْلَامِ. (فَصْلٌ) [شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ] . فإذا ثبت ما ذكرناه مِنْ قَطْعِ السَّارِقِ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: الْحِرْزُ، وَالْقَدْرُ، فَأَمَّا الْحِرْزُ فَيَأْتِي وَأَمَّا الْقَدْرُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِهِ فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ وَالْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَدْرِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا يُقْطَعُ فِيهِ ولا يقطع فيما نقص منه، فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعًا قُوِّمَ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَعْدُودٍ مِنْهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 وَقَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ: يُقْطَعُ فِي دِرْهَمَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ) . وَقَالَ مَالِكٌ يُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا؛ لِرِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: يُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، وَلَعَلَّهُمَا قَوَّمَا الْمِجَنَّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُقْطَعُ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا؛ لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ مِجَنًّا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُوِّمَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَقَطَعَهُ؛ وَلِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا في خمس) . وقال أبو حنيفة، وأصحابه: تقطع فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهَا قُوِّمَ بِهَا فَصَارَ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْقَدْرِ. وَالثَّانِي: فِي جِنْسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّقْوِيمُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَطْعَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ عَنْ أَيْمَنَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدْنَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ ثمن مجن وَكَانَ يُقَوَّمُ دِينَارًا) . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَقَدَّرَ بِرُبُعِ دِينَارٍ كَالْمَهْرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِرُبُعِ دِينَارٍ كَالزَّكَاةِ. ودليلنا عموم قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] إلا ما خصه الدليل والإجماع. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) وَهَذَا أَوْكَدُ؛ لِأَنَّهَا إِضَافَةٌ إِلَى سَمَاعِهَا مِنْهُ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ تُرْسًا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَالتُّرْسُ: الْمِجَنُّ. وَمِنَ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا رُبُعُ دِينَارٍ قُطِعَ فِيهَا فَنَقُولُ: إِنَّهَا فَرِيضَةٌ تجب في نصاب الزكاة فجاز أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 تقطع بِسَرِقَتِهَا كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَرَاوِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ مَطْعُونٌ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثِهِ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يحضر الجمعة يقول: يزاحمني فيها الطوافون والنقالون، وَكَانَ يَقُولُ لَا يَنْسَلُّ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِتَرْكِ الجماعة، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَوْ صح كانت أخبارها أَصَحَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا رُبُعُ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ كَانَتْ مُخْتَلَفَةً وَأَوْزَانُهَا مُخْتَلَفَةً. وَأَمَّا حَدِيثُ أَيْمَنَ فَهُمَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ صَحَابِيٌّ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَلَمْ يَلْقَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: هو أيمن الحبشي مولى لبني الزُّبَيْرِ، تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ لَقِيَهُ مُجَاهِدٌ فَكَانَ الْحَدِيثُ فِي الْحَالَيْنِ مُرْسَلًا، وَلَوْ صح لكان جوابه ما ذكرنا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَهْرِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ وَصْفَهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لِأَنَّ الْعُضْوَ فِي السَّرِقَةِ يُسْتَبَاحُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ، وَفِي النِّكَاحِ يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يُسْتَبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْجَسَدِ كُلِّهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْبُضْعِ وَحْدَهُ، والقطع في السرقة يستباح به نقص الْأَعْضَاءِ فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ معنى المهر عوض في عقد فلم يتقدر إلا برضى الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَخَالَفَ قَطْعَ السَّرِقَةِ لِتَقَدُّرِ الْمَسْرُوقِ بِهِ شَرْعًا وَعَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ المقادير قِيَاسًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ فهو أن نقول: أن لا تتقدر بعشرة دراهم كالزكاة. فأما اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْضَةِ الحرب وحبل المتاع. والثالث: أن يبقى مِنْ نِصَابِ الْقَطْعِ ثَمَنَ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ مَدْفُوعًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا كَانَتِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ، فَإِنْ سَرَقَهُ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ فِيهِ، وَإِنْ سَرَقَهُ مُتَفَرِّقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْرَازٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ ثُمُنَ دِينَارٍ، وَمِنْ حِرْزٍ آخَرَ ثُمُنَ دِينَارٍ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِانْفِرَادِ كُلِّ حِرْزٍ بِحُكْمِهِ، وَلَمْ يَسْرِقْ مِنْ أَحَدِهِمَا رُبُعَ دِينَارٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ حِرْزٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَهْتِكَ الْحِرْزَ ويأخذ منه ثمن دينار ثم يعدوا إليه فيأخذ ثَمَنَ دِينَارٍ تَمَامَ النِّصَابِ الْمُقَدَّرِ فِي الْقَطْعِ، فَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يُقْطَعُ، سَوَاءٌ عَادَ إِلَيْهِ لِوَقْتِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ سَرِقَةَ نِصَابٍ مِنْ حِرْزٍ فَصَارَ كَسَرِقَتِهِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ، سَوَاءٌ عَادَ لِوَقْتِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ فِي الْعَوْدِ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ إِنْ عَادَ لِوَقْتِهِ فَاسْتَكْمَلَ النِّصَابَ قَبْلَ إشهار هَتْكِهِ قُطِعَ، وَإِنْ عَادَ مِنْ غَدِهِ بَعْدَ اشْتِهَارِ هَتْكِهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِاسْتِقْرَارِ هَتْكِ الْحِرْزِ بالإشتهار، وهذا أصح والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقًا فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صِرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ قَالَ مَالِكٌ هِيَ الْأُتْرُجَّةُ الَّتِي تُؤْكَلُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وفي ذلك دلالة على قطع من سرق الرطب من طعام وغيره إذا بلغت سرقته ربع دينار وأخرجها من حرزها) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْقَطْعُ يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ، أَوْ لَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِيمَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ) وَفِي الْكَثَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْفَسِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جُمَّارُ النَّخْلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ؛ " لَا قَطْعَ فِي طَعَامٍ) . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ما كانت الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَالتَّافِهُ الْحَقِيرُ، وَمَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ حَقِيرٌ. وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْهَلَاكِ وَالتَّلَفِ فَلَمْ تُقْطَعْ فِيهِ الْيَدُ كَالَّذِي لَيْسَ بِمُحْرَزٍ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: " مَنْ سَرَقَ منه بعد أن يؤويه الجرين وبلغ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ) فَنَفَى عَنْهُ الْقَطْعَ قَبْلَ الْجَرِينِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَعَلَّقَ الْقَطْعَ بِهِ فِي الْجَرِينِ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا عُلِّقَ الْقَطْعُ بِهِ فِي الْجَرِينِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِيهِ يَابِسًا مُدَّخَرًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَرِينِ رَطْبًا وَيَابِسًا وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي الْجَرِينِ عَمَّا نَفَاهُ عَنْهُ قَبْلَ الْحِرْزِ وَهُوَ قَبْلَ الْجَرِينِ رَطْبٌ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَرِينِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سرق أترجة على عهد عثمان رضي الله عنه فَقُوِّمَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَطْعَ بِسَرِقَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِذَا سَرَقَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ نَائِمٌ، وَلِأَنَّ مَا قُطِعَ فِي يَابِسَةٍ قُطِعَ فِي رُطَبِهِ كالغز والثياب، وأن أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ رُطَبِ الْفَوَاكِهِ وَيَابِسِهَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَسَوَّى بَيْنَ طَرِيِّ اللَّحْمِ وَقَدِيدِهِ، وَطَرِيِّ السَّمَكِ وَمَمْلُوحِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَلِأَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ أَلَذُّ وَأَشْهَى وَالنُّفُوسَ إِلَى تَنَاوُلِهِ أَدْعَى فَكَانَ بِالْقَطْعِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ) فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، لِأَنَّ ثِمَارَهُمْ كَانَتْ بَارِزَةً وَلِذَلِكَ قَالَ: " فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ) . وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ، وَيُحْمَلُ لَوْ صَحَّ عَلَى الطَّعَامِ الرَّطْبِ إِذَا كَانَ فِي سُنْبُلِهِ غَيْرَ مُحْرَزٍ كَالثَّمَرِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ على القطع في الحنطة إذا كانت مُحْرَزَةً. وَخَبَرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ تَافِهَ الْمِقْدَارِ لِقِلَّتِهِ لَا لِجِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ لَيْسَ بِحَقِيرٍ. وَأَمَّا قولهم: إنه معرض للتلف ففيه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْبَذْلِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الطَّعَامُ الْيَابِسُ وَلَيْسَ قِلَّةُ بَقَائِهِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَقَاؤُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قِيَاسٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْرَزِ وَغَيْرِ المحرز وهما مفترقان في وجوب القطع؛ لأن الحرز شرط وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 (فَصْلٌ) وَيُقْطَعُ فِيمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ كَالصَّيْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، وَالْخَشَبِ مِنَ السَّاجِ وَغَيْرِ السَّاجِ مَعْمُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْمُولٍ، وَمَا أُخِذَ مِنَ الْمَعَادِنِ مَطْبُوعٌ وَغَيْرُ مَطْبُوعٍ، وَمَا عُمِلَ مِنَ الطِّينِ كَالْفَخَّارِ، وَمَا عُمِلَ مِنَ الْحَجَرِ كَالْبِرَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِيمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَلَا فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ، وَلَا فِي الْخَشَبِ إِلَّا فِي السَّاجِ وَالْعُودِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا أَبْوَابًا أَوْ أبنية وَلَا فِي الْمَعْمُولِ مِنَ الطِّينِ وَالْحَجَرِ، وَلَا فِي الْمَأْخُوذِ مِنَ الْمَعَادِنِ كُلِّهَا إِلَّا الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالْيَاقُوتَ وَالْفَيْرُوزَجَ، وَلَا فِي الْحَشَائِشِ كُلِّهَا إِلَّا فِي الصَّنْدَلَةِ، فَإِنْ عُمِلَ مِنَ الْحَشِيشِ حُصْرًا كَالْأَسْلِ وَالسَّامَانِ قُطِعَ، وَإِنْ عَمِلَ مِنَ الْقَصَبِ بَوَارِيَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي عَمَلِ السَّامَانِ كَثِيرَةٌ، وَفِي عَمَلِ الْبَوَارِي قَلِيلَةٌ، وَاحْتُجَّ فِيهِ بِرِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ رَوْحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ وَهَمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَطْعِ رَجُلٍ سَرَقَ دَجَاجَةً فَقَالَ لَهُ أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ فَتَرَكَهُ عُمَرُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا فَجَعَلَهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الصَّيْدِ، ثُمَّ احْتَجَّ بعموم مذهبه بثلاثة معان: أحدهما: أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَسْقُطُ فِيهِ الْقَطْعُ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَافِهُ الْجِنْسِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَتَى أُرِيدَ فَسَقَطَ فِيهِ الْقَطْعُ كَالسِّرْجَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ يَعُمَّ كُلَّ مِقْدَارٍ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي جِنْسٍ مِنَ المال ولا يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ. وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ من الكتاب والسنة أنه جنس مال متمول فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ كَسَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي مَعْمُولِهِ وَجَبَ فِي أَصْلِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ حُكْمَانِ: ضَمَانٌ وَقَطْعٌ، فَلَمَّا كَانَ الضَّمَانُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الَّذِي أَصْلُهُ غَيْرُ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي أَصْلُهُ مُبَاحٌ كَالضَّمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ كَالَّذِي أَصْلُهُ غَيْرُ مُبَاحٍ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْهَا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ عَلَى أَهْلِهَا فَاقْتَضَى أَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 يَكُونُ عَامًّا فِيهَا لِعُمُومِ مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقَطْعِ حَظْرُ الْمَالِ فِي حَالِ السَّرِقَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَوْ تَعَقَّبَهُ مِنَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّعَامَ مُبَاحٌ لِلْمُضْطَرِّ وَيُقْطَعُ فِيهِ بَعْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ، وَمَنْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ فَرَدَّهُ قُطِعَ فِي سَرِقَتِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِبَاحَتِهِ كَذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ السَّرِقَةِ ثُمَّ صَارَ مَحْظُورًا عِنْدَ السَّرِقَةِ وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ عُثْمَانَ فَرَاوِيهِ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ يَلْقَهُ فَكَانَ مُرْسَلًا. وَخَبَرُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَكَانَ مَطْعُونًا فِي دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَطْعَنُ فِيهِ وَلَا يَعْمَلُ عَلَى حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحْمَلُ إِنْ صَحَّ عَلَى مَا كَانَ مُرْسَلًا مِنْ طَيْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ. وَأَمَّا قياسهم عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ تَعْلِيلًا بِإِبَاحَةِ أَصْلِهِ فَمُنْتَقَضٌ بالفضة والذهب، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَطْعِ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ إِذَا كَانَ مُحْرَزًا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، فَعَلَى هَذَا بَطَلَ الْأَصْلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَطْعَ فِيهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَتْبَعُ سَرِقَتَهُ إِلَّا فِي حَالٍ نادرة عند ضرورة تخالف حال الِاخْتِيَارَ فَلَمْ يَسْلَمِ الْأَصْلُ. وَاحْتِجَاجُهُ بِأَنَّهُ تَافِهٌ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ. وَاحْتِجَاجُهُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِمِقْدَارٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِجِنْسٍ مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِهِ بِالْمَهْرِ يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِجِنْسٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ أَنَّهُ قَدْرٌ تَتْبَعُهُ النُّفُوسُ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَجْنَاسِ تتبعها النفوس والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَالدِّينَارُ هُوَ الْمِثْقَالُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) . قال الماوردي: وقد تَقَدَّمَ أَنَّ نِصَابَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ مُقَدَّرٌ بربع دينار يقوم بذلك كل مسروق من دراهم وَغَيْرِهَا وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا الدِّينَارُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: وَزْنُهُ. وَالثَّانِي: نَوْعُهُ. فَأَمَّا وَزْنُهُ فَهُوَ مِثْقَالُ الْإِسْلَامِ الْمُعَادِلُ كُلُّ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ درهم منها ستة دوانيق؛ لأنه كان فيما قَبْلَ الْإِسْلَامِ دِرْهَمَانِ أَكْبَرُهُمَا الْبَغْلِيُّ وَوَزْنُهُ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَأَصْغَرُهُمَا الطَّبَرِيُّ وَوَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 فَجُمِعَ بَيْنِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ وَأُخِذَ نِصْفُهَا فَكَانَ سِتَّةَ دَوَانِيقَ، فَعَادَلَتْ كُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ؛ لِأَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يَخْتَلِفْ، وَمَتَى زِدْتَ على الدراهم ثَلَاثَةَ أَسِبَاعِهِ كَانَ مِثْقَالًا، وَمَتَى نَقَصَتْ مِنَ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارٍ كَانَ دِرْهَمًا فَهَذَا هُوَ المثقال عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإلى وقتنا هذا، فَإِنْ أَحْدَثَ النَّاسُ مِثْقَالًا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ. وَأَمَّا نَوْعُ الدينار فهو الأغلب مما يتعامل به من خير الدنانير وخلاصها سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَاهَا سِعْرًا أَوْ أَدْنَاهَا، وَهُوَ مختلف بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَمَا يُحْدِثُهُ النَّاسُ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ فَيُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ دَنَانِيرِ الْبَلَدِ من زَمَانِ السَّرِقَةِ، فَلَوْ كَانَ لِلْبَلَدِ دِينَارَانِ أَعْلَى وأدنى وكلاهما خلاص جاز وفيما تُقَوَّمُ بِهِ السَّرِقَةُ مِنْهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْأَدْنَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: بِالْأَعْلَى إِدْرَاءً لِلْقَطْعِ بِالشُّبْهَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وَزْنِهِ وَنَوْعِهِ لَمْ يَخْلُ الْمَسْرُوقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا، أَوْ غَيْرَ ذَهَبٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَهَبٍ قُوِّمَ بِالذَّهَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فإن كَانَ ذَهَبًا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يكون مَطْبُوعَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ فِي الْأَغْلَبِ فَيُقْطَعُ فِي رُبُعِ مِثْقَالٍ مِنْهَا. وَالْقِسْمُ الثاني: أن يكون تمراً مَعْدِنِيًّا لَا يَخْلُصُ ذَهَبُهُ إِلَّا بِالتَّصْفِيَةِ وَالسَّبْكِ، فَيُعْتَبَرُ فِي سَرِقَتِهِ مَا عَادَلَ رُبُعَ دِينَارٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ الْمَطْبُوعَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُبُعُ مِثْقَالٍ مِنْهُ لِنُقْصَانِهِ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ عَنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَهَبًا خَالِصًا أَوْ مَطْبُوعًا لَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ أَوْ كَسْرًا يَنْقُصُ عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي رُبُعِ مِثْقَالٍ منه وإن نقص عن قِيمَةُ الْمَطْبُوعِ اعْتِبَارًا بِجِنْسِهِ وَوَزْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِيمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ مِنْ مَطْبُوعِ الذَّهَبِ اعْتِبَارًا بِمَا يُرَاعَى من الأثمان والقيم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ بَلَغَ الِاحْتِلَامَ مِنَ الرجال والحيض مِنَ النِّسَاءِ أَوْ أَيُّهُمَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ أَوْ لَمْ تَحِضْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَجِبُ الْقَطَعُ إِلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُقْطَعْ في الحال ولا إذا بلغ وأفاق فِي ثَانِي حَالٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ) وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِجَارِيَةٍ قَدْ سَرَقَتْ فَوَجَدَهَا لَمْ تَحِضْ فَلَمْ يَقْطَعْهَا. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُدُودِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَقَّ بُطُونَ أَصَابِعِ صَبِيٍّ سَرَقَ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ حَدًّا، وَإِنَّمَا ضَرَبَهُ عَلَى كَفِّهِ تَأْدِيبًا فانشقت بطون أصابعه لرقها، فقد رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِصَبِيٍّ سَرَقَ فَقَالَ: أَشْبِرُوهُ فَكَانَ دُونَ خَمْسَةِ أَشْبَارٍ فَلَمْ يَقْطَعْهُ. وَأُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَارِقٍ فَقَالَ أَشْبِرُوهُ فَكَانَ سِتَّةَ أَشْبَارٍ إِلَّا أُنْمُلَةً فَلَمْ يقطعه وسمى أنملة وليس هذا معتبر فِي الْبُلُوغِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ اسْتِظْهَارًا، وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِنَا مِنَ احْتِلَامِ الْغُلَامِ، وَحَيْضِ الْجَارِيَةِ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَا قَبْلَ الِاحْتِلَامِ وَالْحَيْضِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَانَا بَالِغَيْنِ. فَأَمَّا إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فيحكم به في بلوغ المشركين؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْضَى حُكْمَ سَعْدٍ فِي سَبِّي بَنِي قُرَيْظَةَ بأن من جرت عليه المواس قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ، فَعَلَى هذا يَكُونُ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ من وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 أحدهما: أن الرجل المسلم يقبل قوله في سنه فلم يحتج إلى الاستدلال بغيره، وأهل الشرك لا يقبل قولهم في سنهم فَاحْتَجْنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِنْبَاتِ عَلَى بُلُوغِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ تَخِفُّ أَحْكَامُهُ بِالْبُلُوغِ فَاتُّهِمَ فِي مُعَالَجَةِ الْإِنْبَاتِ وَالْمُشْرِكُ تَتَغَلَّظُ أَحْكَامُهُ بِالْبُلُوغِ فَلَمْ يتهم في معالجة الإنبات. (مسألة) قال الشافعي: " وَجُمْلَةُ الْحِرْزِ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْمَسْرُوقِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ يَنْسُبُهُ الْعَامَّةُ إلى أنه حرز في مثل ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُطِعَ إِذَا أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ حِرْزٌ لَمْ يُقْطَعْ وَرِدَاءُ صَفْوَانَ كَانَ مُحْرَزًا بِاضْطِجَاعِهِ عليه فقطع عليه السلام سَارِقَ رِدَائِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعِ إِلَّا فِي السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ، وَالسَّرِقَةُ أخذ الشيء على سبيل الاستخفاء، فإن جاهر بأخذه غصباً أو نهباً واختلاساً فَلَيْسَ بِسَارِقٍ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحِرْزُ فَهُوَ مَا يَصِيرُ الْمَالُ بِهِ مَحْفُوظًا عَلَى مَا سَنَصِفُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا قَطْعَ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَدْرِ النِّصَابِ وَجَبَ الْقَطْعُ حِينَئِذٍ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا اعْتِبَارَ بِالْحِرْزِ وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ بِالسَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ وَغَيْرِ حِرْزٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا اعْتِبَارَ بِالسَّرِقَةِ وَالِاسْتِخْفَاءِ وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِأَخْذِ الْمَالِ بِغَصْبٍ أَوِ انْتِهَابٍ أَوِ اخْتِلَاسٍ حَتَّى لَوْ خَانَ أَوْ جَحَدَ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ واستدل أحمد برواية ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ وَتَجْحَدُ فَقَطَعَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا قطع في ثمر ولا كَثَرٍ) فَأَسْقَطَ الْقَطْعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ) لأنه قد صار حرزاً بِهِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن حريسة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 الْجَبَلَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ إِلَّا أن يأويها الْمُرَاحُ، وَلَا فِي الثَّمَرِ قَطْعٌ إِلَّا أَنْ يأويه الْجَرِينُ) وَفِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مَحْرُوسَةَ الْجَبَلِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْمَحْرُوسَةِ بِالْحَرِيسَةِ كَمَا يُقَالُ مَقْتُولَةٌ وَقَتِيلَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ سَرِقَةَ الجبل يقال: حرس إِذَا سَرَقَ فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا قَطْعَ إِلَّا مِنْ حِرْزٍ) وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ أَبَدًا، فَأُقِيمَتِ الْأَحْرَازُ مَقَامَ الْأَنْفُسِ فِي الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحْمَدَ مَا رَوَاهُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ وَلَا الْمُخْتَلِسِ وَلَا المنتسب قَطْعٌ) وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُسَارَقَةِ وَهُوَ الِاسْتِخْفَاءُ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمُجَاهِرُ وَالْجَاحِدُ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةُ الْعُمُومِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا خَبَرُ الْمَخْزُومِيَّةِ فَإِنَّمَا قَطَعَهَا؛ لِأَنَّهَا سَرَقَتْ. وَقَوْلُهُمْ: كانت تستعير الحلي فتجحد ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ، كَمَا قِيلَ مَخْزُومِيَّةٌ ولم يَكُنْ قَطْعُهَا بِجُحُودِ الْعَارِيَّةِ كَمَا لَمْ يَقْطَعْهَا لِأَنَّهَا مَخْزُومِيَّةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِرْزَ شرط في قطع السرقة فالإحراز يختلف باختلاف المحرزات اعتباراً بالعرف؛ لأنها لما لم تتقدر بشرع ولا لغة اعتبر فِيهَا الْعُرْفُ، كَمَا اعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي الْقَبْضِ والافتراق في البيع والإحياء في الموات لما لم يتقدر بشرع ولا لغة تقدر بالعرف، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ مَا قَلَّتَ قِيمَتُهُ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 خفت أحرازه، وما كثرت قيمته من الجواهر وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ وَمَا تَوَسَّطَتْ قِيمَتُهُ من الحنطة والزيت توسطت أحرازه. وقال أبو حنيفة: الإحراز لا يختلف باختلاف الأموال، وكان كَانَ حِرْزًا لِأَقَلِّهَا كَانَ حِرْزًا لِأَكْثَرِهَا حَتَّى جعل دكان البقلي حرزاً للجواهر، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ فِي الْعُرْفِ مُحَرَّزَةٌ فِي أخص الْبُيُوتِ بِأَوْثَقِ الْأَبْوَابِ وَأَكْثَرِ الْأَغْلَاقِ، وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ يحرز في الحظائر المرسلة، وشرائح الخشب وَالْبَقْلُ يُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ الْأَسْوَاقِ بِشَرَائِحِ الْقَصَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ مُعْتَبَرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفْرِيطَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ أَحْرَزَ أنفس الأموال وأكثرها في أقلها حرزاً وَأَحْقَرِهَا وَتَوَجُّهُ التَّفْرِيطِ إِلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِكْمَالِ الحرز، والله أعلم. (فصل) فإذا ثبت اعتبار العرف فيه فالاحتراز تختلف من خمسة أوجه: أحدها: اختلاف جِنْسِ الْمَالِ وَنَفَاسَتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعَ الْأَقْطَارِ كثير الدعار غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا قَلِيلَ الْمَارِّ لَا يَخْتَلِطُ بِأَهْلِهِ غَيْرُهُمْ خَفَّتْ أَحْرَازُهُ. وَالثَّالِثُ: باختلاف الزمن فإن كان زمان سلم ودعة خَفَّتْ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ فِتْنَةٍ وَخَوْفٍ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ. وَالرَّابِعُ: بِاخْتِلَافِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ عَادِلًا غَلِيظًا عَلَى أَهْلِ الْفَسَادِ خَفَّتَ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِرًا مُهْمَلًا لِأَهْلِ الْفَسَادِ غَلُظَتْ أحرازه. والخامس: باختلاف الليل والنهار، فيكون الْأَحْرَازُ فِي اللَّيْلِ أَغْلَظَ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَهْلِ الْعَبَثِ والفساد، فلا يمتنع فيه بكثرة الأغلاق وغلق الأبواب حتى يكون لها حارس يحرسها، وهي بالنهار أَخَفُّ لِانْتِشَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيهِ، وَمُرَاعَاةِ بَعْضِهِمْ بعضاً، فلا تفتقر إلى حراس، وإذا جَلَسَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فِي دَكَاكِينِهِمْ وَأَمْتِعَتُهُمْ بَارِزَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا وَإِنْ لم يكن في الليل حرزاً. وجعله ذَلِكَ اعْتِبَارَ شَرْطَيْنِ الْعُرْفُ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ. وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيُّ الْأَحْرَازَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَسَبِ زَمَانِهِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ، فَيَصِيرُ مَا جَعَلَهُ حِرْزًا لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْهُ حِرْزًا يَصِيرُ حِرْزًا؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَبْقَى عَلَى حَالٍ، وربما انتقل من صلاح إلى فساد، ومن فساد إلى صلاح؛ فلذلك تتغير أحوال الأحراز لكثرتها ما يَكُونَ مُعْتَبَرًا مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِهِ وَظُهُورِ عُرْفِهِ والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 (مسألة) قال الشافعي رحمه الله: " وإذا ضم متاع السوق إلى بعض في موضع تبايعاه وربط بحبل أو جعل الطعام في حبس وَخِيطَ عَلَيْهِ قُطِعَ وَهَكَذَا يُحْرَزُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هذا المتاع في شوارع الأسواق يكون لها حِرْزًا عَلَى سِتَّةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ من الأمتعة الجافة التي لا تستثقل بِالْيَدِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ خَفِيفِهَا الَّذِي يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَالثَّوْبِ وَالْإِنَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُضَمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ وَلَا يَفْتَرِقَ، فَإِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ حَفِظَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنِ افْتَرَقَ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا. وَالثَّالِثُ: أن يدرأ عَلَيْهِ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ جَمِيعُهُ إِنْ كَانَ خَشَبًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلا بحل الحبل، ويخاط فِي أَعْدَالٍ إِنْ كَانَ حِنْطَةً أَوْ دَقِيقًا حَتَّى لَا يُوصَلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِفَتْقِ خِيَاطَتِهِ وَحَلِّ أَعْدَالِهِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي سُوقٍ تُغْلِقُ دُرُوبَهَا، أَوْ فِي قَرْيَةٍ يَقِلُّ أَهْلُهَا، فإن كان في بلد واسع وليس عَلَيْهِ دُرُوبٌ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ أَنِيسًا إِمَّا بِمَسَاكِنَ فِيهَا أَهْلُهَا أَوْ بِحَارِسٍ يَكُونُ مُرَاعِيًا لَهَا، فَإِنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أُنْسَةُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا. وَالسَّادِسُ: أن يكون الوقت ساكناً وَالْفَسَادُ قَلِيلًا، فَإِنْ تَحَرَّكَتْ فِتْنَةٌ أَوِ انْتَشَرَ فَسَادٌ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا، فَهَذَا أَوَّلُ نَوْعٍ ذكره الشافعي من الأحراز، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وإذا كَانَ يَقُودُ قِطَارَ إِبِلٍ أَوْ يَسُوقُهَا وَقُطِرَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَسَرَقَ مِنْهَا أَوْ مِمَّا عليها شيئاً قُطِعَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ ثَانٍ مِنَ الْأَحْرَازِ، لِأَنَّهَا فِي السَّيْرِ فِي الْأَسْفَارِ مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي الْمُقَامِ وَالْأَمْصَارِ، فَإِذَا قُطِرَتِ الْإِبِلُ سَائِرَةً وَعَلَيْهَا الْحُمُولَةُ كَانَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الْقِطَارِ حِرْزًا لِمَا رَآهُ مِنْهَا وَقَدَرَ عَلَى زَجْرِهَا فِي مَسِيرِهَا، فَيَصِيرُ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الرُّؤْيَةِ والزجر حرزاً دون إحداهما، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فإن تجاوزت إلى أَرْبَعَةٍ وَغَايَتُهُ خَمْسَةٌ إِنْ كَانَ فِي الْجَمَالِ فضل جلد وشهامة سواء كان قائداً أو سائقا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ سَائِقًا كَانَ حِرْزًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَائِدًا كَانَ حِرْزًا لِلْأَوَّلِ الَّذِي يَقُودُهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ السَّائِقُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَائِدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بُعْدَ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَائِدِ كَبُعْدِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّائِقِ، ولم يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 حِرْزًا لَهُ مَعَ بُعْدِهِ كَذَلِكَ بُعْدُ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَائِدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ جَمَالُهَا مَاشِيًا أَوْ راكباً، ويكون حرزاً لها ما كان مُسْتَيْقِظًا، فَإِنْ نَامَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لها. (فصل) وإذا جَعَلْنَاهُ حِرْزًا لَهَا صَارَ حِرْزًا لِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُمُولَةِ، فَإِنْ سُرِقَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَحَلَّ مِنْ قِطَارِهِ قُطِعَ سَارِقُهُ إِذَا بَعُدَ بِالْجَمَلِ عَنْ بَصَرِ جَمَّالِهِ وَمَوْضِعِ زَجْرِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ قبل بعده عن نظره وَزَجْرِهِ كَبَقَائِهِ فِي حِرْزِهِ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ صَارَ كَالْخَارِجِ مِنْ حِرْزِهِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ قَطْعُهُ، وَلَوْ أَنَّهُ تَرَكَ الْجَمَلَ فِي قِطَارِهِ وَسَرَقَ من حمولته والمتاع الذي على ظهره قطع بتناول المتاع وحله عن شداده ووعائه سَوَاءٌ بَعُدَ الْمَتَاعُ عَنْ بَصَرِ الْجَمَّالِ أَوْ لم يبعد، بخلاف البعير؛ لأن تحرز الْبَعِيرِ رُؤْيَةُ الْجَمَّالِ، وَحِرْزُ الْمَتَاعِ شِدَادُهُ فِي وِعَائِهِ، وَسَوَاءٌ أَخَذَ جَمِيعَ الْوِعَاءِ أَوْ أَخَذَ مِمَّا فِي الْوِعَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ جَمِيعَ الْوِعَاءِ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَخَذَ مِمَّا فِي الْوِعَاءِ قُطِعَ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ يَصِيرُ بِأَخْذِ مَا فِيهِ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ، وَبِأَخْذِ جَمِيعِهِ غَيْرِ هَاتِكٍ لِلْحِرْزِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْوِعَاءَ محرز بشداده على الجملة كَمَا أَنَّ مَا فِي الْوِعَاءِ مُحْرَزًا بِالْوِعَاءِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِمَا فِي الْوِعَاءِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ بِجَمِيعِ الْوِعَاءِ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ، وَلَكِنْ لَوْ حَلَّ الْجَمَلَ مِنْ قِطَارِهِ وَسَرَقَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ؛ لِبَقَائِهِ مَعَ حِرْزِهِ فَصَارَ سَارِقًا لِلْحِرْزِ وَالْمُحْرِزِ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَطْعُ لِبَقَاءِ يَدِ الْحَافِظِ عَلَيْهِ، فَإِنْ دَفْعَهُ عَنْهُ بَعْدَ بُعْدِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ صَارَ كَالْغَاصِبِ وَلَا قَطْعَ عَلَى غَاصِبٍ. (فَصْلٌ) وَلَوْ طَالَ الْقِطَارُ وَكَثُرَ عَدَدُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ الْوَاحِدِ كَانَ الْوَاحِدُ فِيهَا حِرْزًا لِمَا أَمْكَنَ أَنْ تَرَى عَيْنُهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ دُونَ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَائِدًا كَانَ حِرْزًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا كَانَ حِرْزًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا كَانَ حرزاً لواحد مما قادوا بقية العدد مما يساق؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَزَّعَتْ مُرَاعَاتُهُ مِنْ أَمَامِهِ وَوَرَائِهِ كَانَ بِأَمَامِهِ أَحْرَزَ، وَيَكُونُ مَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ مِنَ الْقِطَارِ غَيْرَ مَحْرُوزٍ، فَإِنْ سَرَقَ مِمَّا جَعَلْنَاهُ حِرْزًا لَهُ قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ مِمَّا لَمْ نَجْعَلْهُ حِرْزًا لَهُ لَمْ يُقْطَعْ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ فِي سَيْرِهَا كَانَ الْوَاحِدُ حِرْزًا لِمَا يَنَالُهُ سَوْطُهُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ بِالسَّوْطِ يسوقها ويؤجرها، وَلَا يَكُونُ حِرْزًا لِمَا لَا يَنَالُهُ سَوْطُهُ وإن كان يراه. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ أَنَاخَهَا حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي صَحْرَاءَ أَوْ كَانَتْ غَنَمًا فَآوَاهَا إِلَى مُرَاحٍ فَاضْطَجَعَ حيث ينظر إليها فهذا حرزها) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنَ الْإِحْرَازِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْبَهَائِمِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ. فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ إِذَا حَطَّتْ حُمُولَتَهَا فنزلت فِي مَنْزِلِ الِاسْتِرَاحَةِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 فَحِرْزُهَا فِي مَنْزِلِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُضَمَّ الْبَهَائِمُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا تَفْتَرِقَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْبُطَهَا إِلَى حبل قد مده بجميعها. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُنِيخَهَا إِنْ كَانَتْ إِبِلًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنَامُ إِلَّا بَارِكَةً، فَأَمَّا الدَّوَابُّ وَالْبِغَالُ فَتَنَامُ قِيَامًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِنَاخَتِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْقِلَهَا إِنْ كَانَتْ إِبِلًا، وَيُشْكِلَهَا إِنْ كَانَتْ دَوَابًّا. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَنْ يحفظها مثل عددها إما نائماً وإما مستيقظاً؛ لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِرَاحَةِ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنِ النَّوْمِ وَهُوَ يَسْتَيْقِظُ بِحَرَكَتِهَا إِنْ سُرِقَتْ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا، لَكِنَّهُ إِنْ نَامَ لَزِمَهُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ فِي عقلها وشكلها، وَإِنِ اسْتَيْقَظَ لَمْ يَلْزَمْ هَذَا، فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَارَتْ مُحْرَزَةً وَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهَا، وَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يُقْطَعْ. (فصل) والفصل الثَّانِي فِي الْبَهَائِمِ الرَّاعِيَةِ فِي مَسَارِحِهَا مِنَ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ فَحِرْزُهَا فِي الْمَرَاعِي مُعْتَبِرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى مَاءٍ وَاحِدٍ وَفِي مَسْرَحٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ لَهَا مَاءٌ وَلَا مَسْرَحٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْعُدَ مَا بين أوائلها وأواخرها حتى لا يخرج عَنِ الْعُرْفِ فِي الْمَسْرَحِ، وَالْعُرْفُ فِي الْإِبِلِ أَنَّهَا أَكْثَرُ تَبَاعُدًا فِي الْمَسْرَحِ مِنَ الْغَنَمِ، فَيُرَاعَى فِي تَبَاعُدِ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا عُرْفُهُ الْمَعْهُودُ. وَالثَّالِثُ: الرَّاعِي، وَفِي الرَّاعِي ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرَى جَمِيعَهَا، فَإِنْ رَأَى بَعْضَهَا كَانَ حِرْزًا لِمَا رَآهُ مِنْهَا دُونَ ما لم يره. والثاني: أن لا يخرج عن مدى صوته؛ لأنها تجتمع وتفترق في المراعي بِصَوْتِهِ، فَإِنْ بَعُدَتْ عَنْ مَدَى صَوْتِهِ كَانَ حرزاً لما انتهى إليه صوته، وَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمَا لَمْ يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِظًا. لِأَنَّهَا تَرْعَى نَهَارًا فِي زَمَانِ التَّصَرُّفِ وَالْيَقَظَةِ، فَإِنْ نَامَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِشَيْءٍ مِنْهَا. (فَصْلٌ) وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْبَهَائِمِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي مُرَاحِهَا، فَالْمُرَاحُ حِرْزٌ لَهَا، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُرَاحُهَا فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَإِذَا كَانَ لِلْمُرَاحِ حَظِيرَةٌ تَحُوطُهُ، وَبَابٌ يُغْلَقُ عَلَيْهِ كَانَ حِرْزًا سَوَاءٌ كان معها راعيها أو لم يكن، فإن سرقت منه قطع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 والثاني: أن يكون مراحها في أقبية أَهْلِهَا بِالْبَادِيَةِ بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الصَّوْتُ فَاجْتِمَاعُهَا فِيهِ حِرْزٌ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُرَاحُهَا فِي الصَّحْرَاءِ عَلَى بُعْدٍ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِهَا، فَحِرْزُهَا فِيهِ مُعْتَبَرٌ بشرطين: أحدهما: اجتماعهما فِيهِ بِحَيْثُ يَحُثُّ بَعْضُهَا بِحَرَكَةِ بَعْضٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ يَحْفَظُهَا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا لَمْ يَحْتَجْ مَعَ الِاسْتِيقَاظِ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ نَامَ احْتَاجَ مَعَ نَوْمِهِ إِلَى شَرْطٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مَا يُوقِظُهُ إِنْ سُرِقَتْ مِنْ كِلَابٍ تَنْبَحُ، أَوْ أَجْرَاسٍ تَتَحَرَّكُ، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَذَا عِنْدَ نَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا وَلَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهَا. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَلْبَانُ الْمَوَاشِي إِذَا احْتَلَبَهَا مِنْ ضُرُوعِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَوَاشِي فِي حِرْزٍ فَلَا قَطْعَ فِي أَلْبَانِهَا كَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَوْ سُرِقَتْ قَطْعٌ، وَإِنْ كانت في حرز من مراح أو مرعى فضروع المواشي حرز ألبانها، فَيُنْظَرُ فَإِنْ بَلَغَ لَبَنُ الْبَهِيمَةِ الْوَاحِدَةِ نِصَابًا قُطِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلِ النِّصَابُ إِلَّا بِاحْتِلَابِ جَمَاعَةٍ مِنْهَا فَفِي قَطْعِهِ إِذَا احْتَلَبَهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَاتٌ مِنْ أَحْرَازٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ضَرْعٍ حِرْزُ لَبَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاحَ حِرْزٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهَا، وَهُوَ لو سرق جماعة تبلغ نصاباً قطع، وكذلك إِذَا احْتَلَبَ أَلْبَانَ جَمَاعَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا قُطِعَ. (مسألة) قال الشافعي: " ولو ضرب فسطاطاً وآوى فيه متاعه فاضطجع فسرق الفسطاط والمتاع مِنْ جَوْفِهِ قُطِعَ لِأَنَّ اضْطِجَاعَهُ حِرْزٌ لَهُ ولما فيه إلا أن الْأَحْرَازَ تَخْتَلِفُ فَيُحْرَزُ كُلٌّ بِمَا تَكُونُ الْعَامَّةُ تحرز مثله) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنَ الْأَحْرَازِ وَهُوَ إِذَا حَطَّ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ فِي سَفَرِهِ فِي مَنْزِلِ اسْتِرَاحَةٍ فَضَرَبَ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً مِنْ جُلُودٍ أَوْ شِعْرٍ أَوْ خَرْقٍ فَشَدَّ أَطْنَابَهُ وَأَرْسَى أَوْتَادَهُ كَانَ هَذَا حِرْزًا لِلْفُسْطَاطِ، إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ يَرَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ، فَإِنْ سُرِقَ هَذَا الْفُسْطَاطُ قُطِعَ سَارِقُهُ، فَإِنْ أَحْرَزَ فِي الْفُسْطَاطِ مَتَاعَهُ لم يكن المتاع محرزاً إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ فِي الْفُسْطَاطِ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ نَائِمًا، أَوْ نَاظِرًا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فَإِنْ سُرِقَ مِنَ المتاع وهو على هذه الصفة والفسطاط قُطِعَ سَارِقُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِغَيْرِهِ كان حرزاً لنفسه. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوِ اضْطَجَعَ فِي صَحْرَاءَ وَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ خَامِسٌ مِنَ الْأَحْرَازِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي صَحْرَاءَ فَيَكُونُ حِرْزًا لِثِيَابِهِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا، فَأَمَّا ثِيَابُهُ الَّتِي لَمْ يلبسها، فإن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 كَانَ مُسْتَيْقِظًا فَحِرْزُ ثِيَابِهِ أَنْ تَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَرَاهَا، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَحِرْزُهَا أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَيْهَا أَوْ يَضَعَهَا تَحْتَ رَأْسِهِ وَيَنَامَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسُرِقَ مِنْهُ فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَارِقَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ حِرْزٌ لِثَوْبِ النَّائِمِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ هِمْيَانٌ فِيهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لَمْ يَكُنْ وَضْعُهُ تَحْتَ رأسه إذا نام حرزاً له حَتَّى يَشُدَّهُ فِي وَسَطِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحْرَازَ تَخْتَلِفُ باختلاف المحرزات. (مسألة) قال الشافعي: " أو ترك أهل الأسواق متاعهم في مقاعد ليس عليها حرز لم يضم ولم يربط أو أرسل رجل إبله ترعى أو تمضي على الطريق غير مقطورة أو أباتها بصحراء ولم يضطجع عندها أو ضرب فسطاطا فلم يضطجع فيه فسرق من هذا شيء لم يقطع لأن العامة لا ترى هذا حرزاً) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ نَوْعٌ سَادِسٌ مِنَ الْأَحْرَازِ وهو متعة أَهْلِ الْأَسْوَاقِ إِذَا وَضَعُوهَا لِلْبَيْعِ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي حَوَانِيتِهِمْ، فَإِذَا فتح حانوته وجلس على بابه كان حرزاً لِجَمِيعِ مَا فِيهِ، فَإِنِ انْصَرَفَ عَنْهُ أَوْ نَامَ صَارَ مَا فِيهِ غَيْرَ مُحَرَّزٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَمْتِعَتُهُمْ فِي أَفْنِيَةِ أَسْوَاقِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ فَالْحِرْزُ فِيهَا أَغْلَظُ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ إِلَى تَنَاوُلِهَا أَسْرَعُ، فَحِرْزُهَا مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أن يكون بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ وَرَاءَهُ فَلَيْسَتْ فِي حِرْزٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرَى جَمِيعَهَا، فَإِنْ لَمْ ير منها شيئاً فليس فِي حِرْزٍ لِمَا لَا يَرَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يكون مجتمعاً لا تمشي بينه مارة في الطَّرِيقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَ وَمَشَى فِيهِ مَارَّةُ الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَمَّا حَالَ الْمَاشِيَةُ بَيْنَهُ وبينه. (مسألة) قال الشافعي: " وَالْبُيُوتُ الْمُغْلَقَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَوْعٌ سَابِعٌ مِنَ الْأَحْرَازِ وَهِيَ الْبُيُوتُ والأبنية في الأمصار والقرى، وينقسم ثلاثة أقسام: حوانيت متاجر، وَدُورُ مَسَاكِنَ، وَبُيُوتُ خَانَاتٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ حَوَانِيتُ الْمُتَاجِرِ فِي الْأَسْوَاقِ فَلَهَا حَالَتَانِ. لَيْلٌ وَنَهَارٌ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَأَمْرُهَا أَخَفُّ لِانْتِشَارِ الناس فيها، فيكون حرزاً في نَفِيسِ الْمَتَاعِ لِمَا لَا يَكُونُ حِرْزًا لَهُ في الليل، أو يكون الْحَانُوتُ فِيهِ مُحْرَزًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يغلق بابه بإقفاله، وإما أن يَكُونَ مَفْتُوحًا وَفِيهِ صَاحِبُهُ. وَأَمَّا اللَّيْلُ فَالْإِحْرَازُ فِيهِ أَغْلَظُ، فَتَكُونُ حَوَانِيتُ كُلِّ سُوقٍ حِرْزًا لِجِنْسِ أَمْتِعَةِ تِلْكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 السُّوقِ، فَتَكُونُ حَوَانِيتُ سُوقِ الدَّقِيقِ حِرْزًا لِلدَّقِيقِ وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلصَّيْدَلَةِ؛ لِأَنَّ أَبْوَابَهَا فِي العرف أضعف وأغلاقها أسهل، وحوانيت سوق الصَّيْدَلَةِ حِرْزًا لِلصَّيْدَلَةِ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلْعِطْرِ؛ لِأَنَّ أَحْرَازَ الْعِطْرِ أَغْلَظُ وَأَصْعَبُ، وَأَغْلَاقَهَا أَشَدُّ، وَحَوَانِيتُ سُوقِ الْعِطْرِ حِرْزٌ لِلْعِطْرِ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا لِلْبَزِّ؛ لِأَنَّ أَحْرَازَ الْبَزِّ أَغْلَظُ، وَحَوَانِيتُ سُوقِ الْبَزِّ حِرْزٌ لِلْبَزِّ، وَلَا تَكُونُ حِرْزًا للصيارف في الفضة والذهب؛ لِأَنَّ حِرْزَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَغْلَظُ، وَقَلَّ مَا أحرز الصيارف الفضة والذهب فِي حَوَانِيتِهِمْ إِلَّا مَعَ الْغَايَةِ فِي عَدْلِ السُّلْطَانِ وَأَمْنِ الزَّمَانِ، فَإِنِ انْتَهَى الزَّمَانُ إِلَى هذا الحال في عدله وأمته كانت حوانيتهم حرزاً لأموالهم والدراهم وَالدَّنَانِيرِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِنَاؤُهَا مُحْكَمًا وَأَبْوَابُهَا وَثِيقَةً وَأَقْفَالُهَا صَعْبَةً، وَيَكُونُ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ دُرُوبٌ، وَكَذَلِكَ أَسْوَاقُ الْبَزَّازِينَ إِذَا أَحْرَزُوا الْبَزَّ فِي حَوَانِيتِهِمْ، وَيَكُونُ فِيهَا مَعَ الدُّرُوبِ حُرَّاسٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبِيتَ فِي الْحَوَانِيتِ أَرْبَابُهَا لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُنْتَشِرَ الْفَسَادِ قليل الأمن لم تكن حوانيت الصيارف والبزارين حِرْزًا لِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالْبَزِّ حَتَّى يَنْقُلُوهَا فِي اللَّيْلِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ أَوْ خَانَاتِهِمْ فَهَذَا حُكْمُ الْحَوَانِيتِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وهو المساكن المستوطنة فتختلف في أحرازها بحسب اختلاف سكانها من الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَأَمَّا مَسَاكِنُ ذَوِي الْإِعْسَارِ فَأَخَفُّ أحرازاً؛ لأن متاع بيوتهم زهيد لَا يُرْغَبُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ أَبْنِيَتُهُمْ قَصِيرَةً وَأَبْوَابُهُمْ خَفِيفَةً وَأَغْلَاقُهُمْ سَهْلَةً كَانَتْ حِرْزًا لِأَمْثَالِهِمْ، فَإِنْ سَكَنَهَا أَهْلُ الْيَسَارِ لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ مَسَاكِنَ ذَوِي الْيَسَارِ مَحْكَمَةُ الْأَبْنِيَةِ، عَالِيَةُ الْجُدْرَانِ وَثِيقَةُ الْأَبْوَابِ صَعْبَةُ الْأَغْلَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ جُدْرَانُهَا قِصَارًا وَهِيَ مُسَقَّفَةٌ بِسَقْفِ وَثِيقَةٍ كَانَتْ حِرْزًا لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَقَّفَةً لَمْ تَكُنْ حِرْزًا لِذَوِي الْيَسَارِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الصُّعُودُ إِلَيْهَا إِذَا قَصُرَتْ وَلَا يُمْكِنُ الصُّعُودُ إِلَيْهَا إِذَا عَلَتْ، فَإِذَا سَكَنَ أَهْلُ الْيَسَارِ فِي مَسَاكِنِ أَمْثَالِهِمْ فَلَهُمْ حَالَتَانِ: لَيْلٌ، وَنَهَارٌ. فَأَمَّا النَّهَارُ فَيَجُوزُ أَنْ يكون أَبْوَابُهُمْ مَفْتُوحَةً إِذَا كَانُوا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَرَى الدَّاخِلَ إِلَيْهَا وَالْخَارِجَ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يروه لم يكن حِرْزًا إِلَّا بِغَلْقِ الْبَابِ، وَإِغْلَاقُهُ فِي النَّهَارِ أخف من أغلاقه في الليل، فلا تَكُونُ فِي اللَّيْلِ حِرْزًا إِلَّا بَعْدَ غَلْقِ أَبْوَابِهَا وَإِحْكَامِ إِغْلَاقِهَا، ثُمَّ لِأَمْتِعَةِ بُيُوتِهِمْ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَا كَانَ جَافِيًا لِلْبِذْلَةِ كَالْبُسُطِ وَالْأَوَانِي فَصُحُونُ مَسَاكِنِهِمْ حِرْزٌ لَهَا. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ ذَخَائِرِهِمْ وَنَفِيسِ أَمْوَالِهِمْ فَالْبُيُوتُ الْمُغْلِقَةُ فِي الْمَسَاكِنِ حِرْزٌ لَهَا، وَلَا يَكُونُ تَرْكُهَا فِي صُحُونِ الْمَسَاكِنِ حِرْزًا لِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا تُحْفَظُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْكَنِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْمَسْكَنِ، فَإِنْ سَرَقَهَا غَرِيبٌ مِنْهُمْ وَخَارِجٌ عَنْهُمْ قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَهَا أحدهم لم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 يقطع؛ لما تُرِكَ فِي صُحُونِ الْمَسَاكِنِ الَّتِي يُدْخَلُ إِلَيْهَا وَيُخْرَجُ مِنْهَا وَقُطِعَ بِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمُقْفَلَةِ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ فِي جِدَارِ الدَّارِ فَتْحَةٌ طويلة، وكانت عَالِيَةً لَا تُنَالُ فَالْحِرْزُ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً نُظِرَ: فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا يُمْكِنُ وُلُوجُهَا إِلَّا بِهَدْمِ بُنْيَانٍ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً يُمْكِنُ وُلُوجُهَا مُنِعَتْ مِنَ الْحِرْزِ. وَصَارَتْ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا بَابٌ كَبَابِ الدَّارِ فِي الْوِثَاقَةِ جَرَى مَجْرَاهُ، وَجَازَ فَتْحُهُ نَهَارًا وَغَلْقُهُ لَيْلًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا شُبَّاكٌ فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يُرَدُّ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ كَانَ حِرْزًا فَهَذَا حُكْمُ الْمَسَاكِنِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ بُيُوتُ الْخَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ إِلَى صُحُونِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا بِبَيْتٍ فلها حكمان: أحدهما: حكم صحوتها. وَالثَّانِي: حُكْمُ بُيُوتِهَا. فَأَمَّا حُكْمُ صُحُونِهَا إِذَا تُرِكَ فِيهِ مَتَاعٌ فَهُوَ غَيْرُ حِرْزٍ فِي النَّهَارِ مِنْ أَهْلِ الْخَانِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ؛ لِاسْتِبْذَالِهِ بالدخول مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَتَاعِ حَافِظٌ يَرَاهُ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِزًا. فَأَمَّا الليل إذا غلق عَلَى الْخَانِ بَابَهُ فَهُوَ حِرْزٌ لِمَا فِي صَحْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلَا يَكُونُ حِرْزًا مَعَ أَهْلِهِ، فَإِنْ سَرَقَهُ غَيْرُهُمْ قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يُقْطَعْ. وَأَمَّا حُكْمُ بُيُوتِهَا فَكُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا حِرْزٌ لِصَاحِبِهِ مِنْ أَهْلِ الخان وغير أهله فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعًا، وَكَمَالُ حِرْزِهِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَابُهُ مُغْلَقًا مُقْفَلًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ بُيُوتِ الْخَانِ حَافِظٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ كُلِّ بَيْتٍ هَلْ قَصَدَهُ صَاحِبُهُ أَوْ غَيْرُ صَاحِبِهِ؟ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ بَيْتٍ حَافِظٌ، وَلَا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا بُيُوتٌ وُضِعَتْ فِي الأغلب لإحراز الأمتعة دون السكنى، فَإِنْ سَكَنَهَا قَوْمٌ صَارَ كُلُّ بَيْتٍ بِسُكْنَى صاحبه حرزاً فصار مَا لَا سَاكِنَ فِيهِ مِنْهَا أَخْطَرَ يَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ مُرَاعَاةٍ فِي لَيْلِهِ دُونَ نَهَارِهِ. فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَمْثِلَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْرَازِ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ ذِكْرَهَا فَاسْتَوْفَيْنَا شَرْحَهَا وَشُرُوطَهَا لِيَعْتَبِرَ بِهَا نظائرها، وهناك نوع ثَامِنٌ لَمْ نَذْكُرْهُ وَهُوَ حِرْزُ الثِّمَارِ. (فَصْلٌ) وَالْأَصْلُ فِي حِرْزِ الثِّمَارِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 الثمر المعلق فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيهِ قَطْعٌ إِلَّا مَا آوَاهُ الْجَرِينُ وَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فِفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلد ثم نكال وهذا خارج على عرف الحجارة، وَلَهُ تَفْصِيلٌ يَعُمُّ وَلِلثِّمَارِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يكون على رؤوس نخلها وشجرها فتكون حرزها بأحد أمرين. إما أن يكون فيها حافظ ينظر إلى جميعها فيصير به محرزاً يقطع سارقها. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا حَظَائِرُ تُغْلَقُ، أَوْ باب مغلق فَتَصِيرُ بِهِ مُحْرَزَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْظُورَةٍ وَلَا مَحْفُوظَةٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا وَهُوَ الأغلب من ثمار الحجاز، وإليه توجه قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ صُرِمَتْ مِنْ نَخْلِهَا وَقُطِعَتْ مِنْ شَجَرِهَا وَوُضِعَتْ فِي جَرِينِهَا وبيدرها إما للبيع إما لِلتَّجْفِيفِ وَالْيُبْسِ، فَالْجَرِينُ لِلثَّمَرَةِ كَالْمَرَاحِ لِلْمَاشِيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سُطُوحِ أَهْلِهَا أَوْ فِي مَسَاكِنِهِمْ وأفنيتهم فهي محرزة بقطع سَارِقُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَسَاتِينِهِمْ وَضَيَاعِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ أَنِيسًا لِاتِّصَالِ الْبَسَاتِينَ وَانْتِشَارِ أَهْلِهَا لم يحتج إِلَى حَافِظٍ بِالنَّهَارِ وَاحْتَاجَتْ إِلَى حَافِظٍ بِاللَّيْلِ، فَإِنْ سُرِقَتْ نَهَارًا قُطِعَ سَارِقُهَا، وَإِنْ سُرِقَتْ ليلاً قطع إن كان لها حافظ له، وَلَمْ يُقْطَعْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَافِظٌ وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ غَيْرَ أَنِيسٍ احْتَاجَتْ إِلَى حافظ بالليل والنهار فيقطع سَارِقُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَافِظٌ لَمْ يقطع. فأما إذا سرقت الْأَشْجَارُ وَفَسِيلُ النَّخْلِ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ سَارِقُ ثِمَارِهَا قُطِعَ سَارِقُ أَشْجَارِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مما لا يقطع في ثمارها لم يقطع من أشجارها والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ سُرِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَأُخْرِجَ بِنَقْبٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ قَلْعِهِ قُطِعَ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مَفْتُوحًا لَمْ يُقْطَعْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُغْلَقَةَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، فإذا هتك حرزها وأخرج نصاب السرقة منه قُطِعَ، وَهَتْكُ الْحِرْزِ يَكُونُ بِأَحَدِ وُجُوهٍ. إِمَّا بِأَنْ يَفْتَحَ أَغْلَاقَهُ وَيَدْخُلَ إِلَيْهِ مِنْ بَابِهِ، سواء كانت أغلاقه خارجة أو داخلة. وَفَتْحُ أَغْلَاقِهِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِكَسْرِهَا، وَتَارَةً بِأَنْ يَتَوَصَّلَ بِالْحِيلَةِ إِلَى فَتْحِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى قَلْعِ الْبَابِ أَوْ كَسْرِهِ، أَوْ إِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَنْقُبَ فِي جِدَارِ الحرز أو سطحه حَتَّى يَدْخُلَ مِنْهُ إِلَى الْحِرْزِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلُوَ عَلَى جِدَارِهِ إِمَّا بِسُلَّمٍ يَصْعَدُ عَلَيْهِ أو آلة ينصبها حتى يتسور إليه نَظَائِرِ هَذَا فَيَصِيرُ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ بِهَتْكِهِ وَأَخْذِهِ، فَإِنْ نَقَضَ جِدَارَ الْحِرْزِ وَسَرَقَ آلَتَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 قُطِعَ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا؛ لِأَنَّ الْبَنَّاءَ حِرْزٌ لآلته، وهكذا لو سرق باب الحرز بقلع إِذَا كَانَ وَثِيقًا فِي نَصْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّ غَلْقَ الْبَابِ حرز لما ورائه وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حِرْزِهِ، فَإِنْ سَرَقَ مَا في البيت وبابه مفتوح ولم يقطع، فإن سَرَقَ بَابَهُ قُطِعَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْبَابِ مَفْتُوحًا كَانَ أَوْ مُغْلَقًا، وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَهُ مِنْ بِنَاءِ الْحِرْزِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ سَرَقَ الْحِرْزَ وَلَمْ يَهْتِكْهُ، وَهَذَا فاسد؛ لأمرين: أحدهما: ما كان حرزاً لغيره أولى أَنْ يَكُونَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْرَازَ معتبرة بالعرف المعهود وأبواب الجدر وَآلَةُ بِنَائِهِ لَا تُحْفَظُ عُرْفًا إِلَّا بِنَصْبِ الْأَبْوَابِ وَبِنَاءِ الْآلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حرزاً كَسَائِرِ الْأَحْرَازِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَلَّعَ حَلْقَةَ الباب أو مساميره أو أقفاله قطع، لأنه فِي مَحَلِّ حِرْزِهَا، وَكَذَا لَوْ قَلَعَ عَتَبَةَ الْبَابِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا حِرْزٌ لَهَا، وَلَوْ نَقَضَ آلَةً مِنْ بِنَاءٍ قَدْ خَلَا مِنْ أهله حتى خرب نظر: فإن كان بناؤه وثيقاً لم يستهدم قطع، وإن كان متهدماً مُتَخَلْخِلًا لَمْ يُقْطَعْ، فَإِنْ كَانَ عَلَى خَرَابِ الْبِنَاءِ أَبْوَابٌ لَمْ يُقْطَعْ فِي أَخْذِهَا وَإِنْ قُطِعَ فِي آلَةِ بِنَائِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَبْوَابَ مُحْرَزَةٌ بِالسُّكْنَى وَالْآلَةُ مُحْرَزَةٌ بِالْبِنَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْبَيْتِ وَالْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ وَالدَّارُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَحْدَهُ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ لِأَنَّهَا حِرْزٌ لِمَا فِيهَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَتَاعُ مُحْرَزًا فِي حُجْرَةٍ فِي دَارٍ خَاصَّةٍ أَوْ فِي بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَأَخْرَجَهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ فَالْحُكْمُ فِي الْحُجْرَةِ وَالْبَيْتِ سَوَاءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ بَابُ الْحُجْرَةِ وَالدَّارِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَفْتُوحَيْنِ فَلَا قطع عليه؛ لأنه يفتح الباب غير محرز. والقسم الثاني: أن يَكُونُ بَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا وَبَابُ الْحُجْرَةِ مَفْتُوحًا، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ حِرْزٌ فَصَارَ نَاقِلًا لَهُ فِي الْحِرْزِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ عُدْوَانٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا وَبَابُ الْحُجْرَةِ مُغْلَقًا، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُوَ الْحُجْرَةُ دُونَ الدَّارِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ بَابُ الْحُجْرَةِ مُغْلَقًا وَبَابُ الدَّارِ مُغْلَقًا، فَفِي قَطْعِهِ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْحُجْرَةِ أو الْبَيْتِ الْمُغْلَقِ إِلَى الدَّارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا بِالْغَلْقِ تَصِيرُ هِيَ الْحِرْزُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ الْمُفْرَدَةَ حِرْزٌ لِجَمِيعِ مَا فِيهَا، وَغَلْقُ الحجرة يجري مجرى غلق الصندوق، ولا يُقْطَعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الصُّنْدُوقِ إِلَى الْحُجْرَةِ، كَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ رَفَعَ السَّرِقَةَ مِنْ قَرَارِ الدَّارِ إِلَى غُرَفِهَا أَوْ حَطَّهَا مِنْ غُرَفِهَا إِلَى قَرَارِهَا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ حِرْزٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَصْعَدَ بِالسَّرِقَةِ مِنَ الدَّارِ إِلَى سَطْحِهَا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ عَلَى السطح ممرق يعلق على السفل قطع؛ لأن خروجه من الممرق كخروجه من الباب؛ لأن الممرق أَحَدُ الْبَابَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّطْحِ سرق يعلق نظر، فإن كان السطح عالياً عليه سترة مبينة تَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ قطع. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحُجْرَةِ إِلَى الدار فليست الدار بحرز لأحد من السكان فيقطع) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَانَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُشْتَرِكَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا حُجْرَةٌ يَخْتَصُّ بِسُكَّانِهَا فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ سَارِقٌ وَأَخْرَجَ مِنْهَا السَّرِقَةَ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ حِرْزِهَا، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذِهِ الدَّارِ كَالزُّقَاقِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ أَهْلِهِ إِذَا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ بِدَارٍ كَانَ إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ مِنْهَا إلى الزقاق موجباً للقطع. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ فَوَضَعَهَا فِي بَعْضِ النَّقْبِ وَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْ خَارِجٍ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ اجْتَمَعَا على سَرِقَةٍ فَنَقَبَ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَ الْآخَرُ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّقْبِ وَيَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذُ السَّرِقَةَ وَيَضَعَهَا فِي النَّقْبِ ولا يخرجها منه، ويأتي وَهُوَ خَارِجُ النَّقْبِ فَلْيَأْخُذْهَا وَلَا يَدْخُلِ الْبَيْتَ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُمَا يُقْطَعَانِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِالتَّعَاوُنِ كَالْوَاحِدِ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِسْقَاطِ الْحُدُودِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجِ بن هلال النَّقَّالِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أن لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ فِي وجوب قطعها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَضْعَفُ: أَنَّهُمَا يُقْطَعَانِ لِلْمَعْنَيَيْنِ المتقدمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُمَا لَا يُقْطَعَانِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْحِرْزِ مَا أَخْرَجَهَا من جميعه، والآخذ بها من النقب لم يأخذها من حرز فَلَمْ يُوجَدْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرُوطُ الْقَطْعِ فَسَقَطَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: اللِّصُّ الظَّرِيفُ لَا يُقْطَعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْمُعَاوِنِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَهَا الْمُعَاوِنُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ بِالْمُعَاوَنَةِ وَإِنَّمَا يجب بالأخذ. والضرب الثاني: يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالنَّقْبِ وَلَا يَدْخُلُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلُ الْآخَرُ فَيُخْرِجَهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي النَّقْبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَأَجْرَاهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَجْرَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَخَرَجَ وُجُوبُ قَطْعِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قولاً واحداً؛ لأن كل واحد منهما تفرد بِأَحَدِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَا في النقب فيدخل أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذُ السَّرِقَةَ وَيُخْرِجُهَا، فَيَقْطَعُ مَخْرَجَهَا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَتْكِ الْحِرْزِ وَالْإِخْرَاجِ، وَلَا يُقْطَعُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالنَّقْبِ دُونَ الْإِخْرَاجِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْضُرَ وَاحِدٌ فَيُنَقِّبُ الْحِرْزَ وَيَخَافُ الطَّلَبَ فَيَهْرُبُ وَيَأْتِي آخَرُ لَمْ يَشْهَدِ النَّقْبَ فيدخله حين زاع وَيُخْرِجُ السَّرِقَةَ مِنْهُ، فَلَا قَطْعَ عَلَى نَاقِبِ الحرز لا يختلف؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَّا النَّقْبُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَأَمَّا الْأَخْذُ لَهَا فَإِنْ كَانَ النَّقْبُ قَدِ اشْتُهِرَ وَظَهَرَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ وَلَمْ يَظْهَرْ فَفِي وُجُوبِ قطعه وجهان: أحدهما: لا قطع لما ذكرنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الْحِرْزِ، وَهَكَذَا لَوْ عَادَ الَّذِي نَقَّبَ بَعْدَ هَرَبِهِ مِنَ الطَّلَبِ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى فَدَخَلَ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ السرقة، فإن كان بعد ظهور النقب وانتشاره لم يقطع، وإن كان قبل ظهوره وانتشاره فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أْحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِيهِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي غَيْرِهِ: أَنَّهُ لا يقطع. (مسألة) قال الشافعي: " وإن رَمَى بِهَا فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ قُطِعَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يَخْلُو حَالُهُ في إخراج السرقة بعد هتكه حِرْزِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزُ فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ وَيُخْرِجَهَا معه من الحرز، فهذا يقطع بإجماع. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ وَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ وَيَرْمِي بها خراج الْحِرْزِ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ خَارِجَ الْحِرْزِ، فَهَذَا يُقْطَعُ، سَوَاءٌ ظَفِرَ بِهَا بَعْدَ خروجها مِنَ الْحِرْزِ أَوْ لَمْ يَظْفَرْ، حَتَّى بَالَغَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا فَقَالُوا: لَوْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْحِرْزِ وَالسَّرِقَةُ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا إلى حرزها قطع. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ وَيَمُدَّ يَدَهُ فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ أَوْ يَمُدَّ خَشَبَةً فَيَجْذِبَ بِهَا السَّرِقَةَ حَتَّى يُخْرِجَهَا، أَوْ يُدْخِلَ مِحْجَنًا يَمُدُّ بِهِ السَّرِقَةَ حَتَّى يُخْرِجَهَا قُطِعَ، وَالْمِحْجَنُ خَشَبَةٌ فِي رَأْسِهَا حَدِيدَةٌ مَعْقُوفَةٌ، حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كان يسرق متاع الحاج بمحجنة فَقِيلَ لَهُ: تَسْرِقُ مَتَاعَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ لَسْتُ أَسْرِقُ وَإِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ، فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رَأَيْتُهُ يُجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ) يَعْنِي أَمْعَاءَهُ لِمَا كَانَ يَتَنَاوَلُ مِنْ مَالِ الْحَاجِّ. فَيَجِبُ قَطْعُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا اعْتِبَارًا بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحِرْزِ بِفِعْلِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ قَطْعُهُ إِلَّا فِي أحدها وهو: إذا أخرجها معه بنفسه، فأما إن رمى بها خَارِجَ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ احْتِجَاجًا بِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَتْكُ الْحِرْزِ. وَالثَّانِي: إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ وَالْآخِذِ لَهَا مِنْ خَارِجِ الْحِرْزِ لَمْ يَهْتِكْهُ، وَالرَّامِي بِهَا مِنْ دَاخِلِ الْحِرْزِ لَمْ يُخْرِجْهَا، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قطع حتى يجتمع فيه الشرطان: هتك الحرز بالدخول، وتناول السَّرِقَةِ بِالْإِخْرَاجِ، فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَانَ مستلباً، أو مختلساً ولا قطع على مختلس ولا مستلب بِنَصِّ السُّنَّةِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجْرَى عَلَى السَّارِقِ بِمِحْجَنِهِ حُكْمَ السَّرِقَةِ اسْمًا وَوَعِيدًا؛ لِأَنَّ شَرْطَيِ الْقَطْعِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ. أَمَّا هَتْكُ الْحِرْزِ فَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا فيه بَعْدَ امْتِنَاعِهِ، وَهَذَا قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ نَقَّبَ حِرْزَهُ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ، وَإِنْ دَخَلَهُ لِهَتْكِ الْحِرْزِ قَبْلَ دُخُولِهِ. وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى كُمِّ رَجُلٍ وَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ، فَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ شَرْطًا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ. وَأَمَّا إِخْرَاجُ السَّرِقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا مِنْهُ بِفِعْلِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا إِذَا رَمَاهُ مِنْ دَاخِلِهِ، أَوْ جَذَبَهُ مِنْ خَارِجِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُخْرِجًا لَهَا بِفِعْلِهِ وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ، إِلَّا أَنْ يُبَاشِرَ حَمْلَهَا من حرزه لَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى انْتِهَاكِ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ زَاجِرٍ عَنْهَا وَلَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 مَانِعٍ مِنْهَا، وَهَذَا فَسَادٌ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَتَفَرَّعُ جَمِيعُ مَا نَذْكُرُهُ. فَمِنْ فُرُوعِهِ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَقْبِ حِرْزٍ وَيَدْخُلُهُ أَحَدُهُمَا فَيَأْخُذَ السَّرِقَةَ بِيَدِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحِرْزِ، وَيَأْخُذُهَا الْآخَرُ مِنْهُ وَلَا يَدْخُلُ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ يَدُ الدَّاخِلِ قَدْ خَرَجَتْ بِالسَّرِقَةِ مِنَ الْحِرْزِ قُطِعَ الدَّاخِلُ دُونَ الْخَارِجِ؛ لأنه المخرج مِنَ الْحِرْزِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مِنَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْحِرْزِ، وَأَخَذَهَا مِنْهُ قُطِعَ الْخَارِجُ دُونَ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنَ الْحِرْزِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى الْحِرْزِ فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في الحالين. وعندنا يجب القطع في الحالين عَلَى الدَّاخِلِ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ، وَعَلَى الْخَارِجِ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ. (فَصْلٌ) إِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ بَعْدَ هَتْكِهِ وَفِيهِ مَاءٌ جَارٍ فَوَضَعَ السَّرِقَةَ عَلَى الْمَاءِ فَخَرَجَتْ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ الماء يجري بطبع لا اختيار، ولو كان كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا فَحَرَّكَهُ حَتَّى جَرَى وَجَرَى بالسرقة قُطِعَ، وَلَوْ حَرَّكَهُ غَيْرُهُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ بِحَرَكَتِهِ نُسِبَتْ إِلَى فِعْلِهِ، وَإِذَا خَرَجَتْ بِحَرَكَةِ غَيْرِهِ نُسِبَتْ إِلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْفَجَرَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ فِي الْحِرْزِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ حَتَّى جَرَى فَخَرَجَتْ بِهِ السَّرِقَةُ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ سبب خروجها. والوجه الثاني: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا بِالِانْفِجَارِ الْحَادِثِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ وَضَعَ السَّرِقَةَ فِي النقب فأطارتها الريح حتى خرجت فإن كانت الرِّيحُ عَلَى هُبُوبِهَا عِنْدَ وَضْعِ السَّرِقَةِ قُطِعَ كَالْمَاءِ الْجَارِي، وَإِنْ حَدَثَ هُبُوبِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ كَانْفِجَارِ الْمَاءِ بَعْدَ رُكُودِهِ، وَمِثْلُهُ رَمْيُ الْهَدَفِ إِذَا أَصَابَهُ السَّهْمُ بِقُوَّةِ الرِّيحِ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ احتسب له بإصابته، وإن حدث بَعْدَ إِرْسَالِهِ فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ. (فَصْلٌ) ولو وَضَعَ السَّرِقَةَ فِي الْحِرْزِ عَلَى حِمَارٍ فَخَرَجَ بِهَا الْحِمَارُ فَإِنْ سَاقَهُ أَوْ قَادَهُ قُطِعَ، وَإِنْ سَاقَهُ أَوْ قَادَهُ غَيْرُهُ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ خَرَجَ الْحِمَارُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ سَوْقٍ، وَلَا قَوَدٍ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ السارق، ولأن مِنْ عَادَةِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَسِيرَ إِذَا أَثْقَلَهَا الْحِمْلُ، فَصَارَ خُرُوجُهَا عَلَيْهِ كَوَضْعِهَا فِي الْمَاءِ الجاري. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ لِلْحِمَارِ اخْتِيَارًا يَتَصَرَّفُ بِهِ إِذَا لَمْ يُقْهَرْ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي وَذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَمِثْلُهُ: إِذَا فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ عَقِيبَ فَتْحِهِ، فَإِنْ نَفَّرَهُ حَتَّى طَارَ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّرْهُ حَتَّى طَارَ عَقِيبَ فَتْحِهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحِمَارِ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهُ إِنْ سَارَ عَقِيبَ حَمْلِهِ قُطِعَ، وَإِنْ سَارَ بَعْدَ وُقُوفِهِ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا لَوْ وَقَفَ الطَّائِرُ بَعْدَ فَتْحِ الْقَفَصِ ثُمَّ طَارَ لَمْ يُضَمَّنْ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ وَجْهٌ. (فَصْلٌ) وَلَوْ دَفَعَ السَّرِقَةَ فِي الْحِرْزِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَخَرَجَ بِهَا فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ أَوْ بِإِشَارَتِهِ قُطِعَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَمْ يُشِرْ إليه حتى خرج بها فقد اختلف أصحاب الشَّافِعِيِّ فِي جِنَايَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَمْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: يجري عليها حُكْمُ الْعُمَدِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ. وَالْقَوْلُ الثاني: يكون خطأ لا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْعَمْدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوَضْعِهَا عَلَى الْحِمَارِ فَيَكُونُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وجهان. (فصل) ولو دخل الحرز فأخذ جَوْهَرَةً فَابْتَلَعَهَا وَخَرَجَ بِهَا فِي جَوْفِهِ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ استهلكها في حرزها وصار كَالطَّعَامِ إِذَا أَكَلَهُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ لبقاء عينها عند خروجه بها ووصوله إِلَى أَخْذِهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَجْهًا ثَالِثًا: أنها إن خرجت بدواء وعلاج لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ خَرَجَتْ عَفْوًا بِغَيْرِ عِلَاجٍ ولا دواء قطع. (فصل) وإذا نقب سُفْلَ غُرْفَةٍ فِيهَا حِنْطَةٌ فَانْثَالَتْ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ حِرْزِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْثَالَ مِنْهَا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا فَيَقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنَ الْحِرْزِ بِفِعْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْثَالَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ نِصَابًا فِي دُفُعَاتٍ فَفِي قطعه وجهان: أحدهما: لا يقطع؛ لأنه المتفرقة من السرقة لا ينبني بعضه عَلَى بَعْضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ انْثِيَالَهُ عن فعل واحد وكان مجموعاً عن سرقة واحداً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 فَلِذَلِكَ قُطِعَ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا أَوْ تَرَكَهَا، وَهَكَذَا لو نزل زِقًّا فِيهِ دُهْنٌ أَوْ عَسَلٌ فَجَرَى مِنْهُ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ قُطِعَ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ قِيمَةَ النِّصَابِ، وَإِنْ تمحق عند خروجه حتى لا يُمْكِنْ أَخْذُهُ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُسْتَهْلِكِ فِي الْحِرْزِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِإِخْرَاجِ السَّرِقَةِ فأعادها إِلَى حِرْزِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَا الضمان. ويجيء عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَلَا يَسْقُطَ الْقَطْعُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ كَفَّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّرِقَةِ إِذَا وُهِبَتْ لَهُ بَعْدَ وجوب القطع. (مسألة) قال الشافعي: " وإن كانوا ثلاثة فحملوه متاعاً فأخرجوه معاً يبلغ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ قُطِعُوا وَإِنْ نَقَصَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعُوا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي نَقْبِ حِرْزٍ وَحَمَلُوا بَيْنَهُمْ مَا سَرَقُوهُ مُشْتَرِكِينَ فِي حَمْلِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ، وَكَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا قُطِعُوا إِجْمَاعًا، سَوَاءٌ خَفَّ أَوْ ثَقُلَ، وإن كانت قيمته نصاباً وحصة كل واحد منهم أقل من نصاب لم يقطعوا، سَوَاءٌ خَفَّ أَوْ ثَقُلَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ ثَقِيلًا لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى حَمْلِهِ قُطِعُوا، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى حَمْلِهِ لَمِ يُقْطَعُوا في إحدى الروايتين عنه كقولنا، وقطعوا في الرواية الثانية عنه كالثقل؛ اسْتِدْلَالًا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ هَتْكُ الْحِرْزِ، وَسَرِقَةُ النِّصَابِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَوِ اشْتَرَكُوا في هتك الحرز جرى عل كل واحد منهم حكم المنفرد بهتكه، كذلك إِذَا اشْتَرَكُوا فِي سَرِقَةِ النِّصَابِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ بِسَرِقَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ سَرَقَ نِصَابًا مشتركاً بين جماعة قطع، وإن سرق الجماعة من الواحد نصاباً لم يَقْطَعُوا وَإِنْ سَرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ اعْتِبَارًا بِالْقَدْرِ الْمَسْرُوقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَمَاعَةِ كَسَرِقَةِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْوَاحِدِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سَرِقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ لم يبلغ نِصَابًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْطَعَ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ السَّرِقَةِ شَيْئَانِ: غُرْمٌ وَقَطْعٌ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ غُرْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ إِذَا سَرَقَ الْوَاحِدُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرَازٍ نِصَابًا أَنْ يُقْطَعَ وَلَا يُبْنَى بَعْضُ فعله على بعض كان امتناع قطع الثلاثة وإذا سرقوا من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 حرز نصاباً أولى، ولا يبنى فعل بعضهم عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ بِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَخَصُّ مِنْهُ بأفعال غيره. فأما الجواب عن استدلالهم بِهَتْكِ الْحِرْزِ فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَتْكِهِ الْوُصُولُ إِلَى السَّرِقَةِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْمُشَارِكَةِ كَحُصُولِهِ بِالِانْفِرَادِ فَاسْتَوَيَا، وَالْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ تَمَلُّكُ الْمَالِ المسروق والاشتراك في النصاب فخالف لِلتَّفَرُّدِ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُوا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السَّرِقَةِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَهُوَ أَنَّ سَرِقَتَهُ مِنْهُمْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَلِذَلِكَ قُطِعَ، وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ لَمْ تَبْلُغْ سَرِقَةُ أَحَدِهِمْ نِصَابًا فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُوا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وإن أخرجوه متفرقاً فمن أخرج ما يساوي ربع دينار قطع وإن لم يسو رُبُعَ دِينَارٍ لَمْ يُقْطَعْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي النَّقْبِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَخْذِ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وِفَاقًا مَعَ مَالِكٍ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْأَخْذِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمُ الْقَطْعُ جَمِيعًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَ بَعْضُهُمْ نِصَابًا وَبَعْضُهُمْ اقل من نصاب فمذهب الشافعي رضي الله عنه أَنَّهُ يُقْطَعُ مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ نِصَابًا وَلَا يُقْطَعُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ سَرِقَتُهُ نِصَابًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَجْمَعُ مَا أَخَذُوهُ فَإِنْ بَلَغَ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ قَطَعْتُهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا أَخَذُوهُ ثَلَاثَةَ نُصُبٍ لَمْ أَقَطَعْهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَخَذَ نصاباً؛ احتجاجاً بأن اشتراكهم في النقب موجب بِنَاءَ أَفْعَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَطْعَ تَابِعٌ لِلضَّمَانِ، فَلَمَّا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِضَمَانِ مَا تَفَرَّدَ بِأَخْذِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِقَطْعِ مَا تَفَرَّدَ بِأَخْذِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ عَلَى أَخْذِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ عَمَّنْ أخذ نصاباً مع وجود شرطه فيه، ويجب على من أخذ اقل من نصاب مع عدم شرطه فيه. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ نَقَّبُوا مَعًا ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُخْرِجْ بَعْضٌ قُطِعَ الْمُخْرِجُ خَاصَّةً) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمْ بِالْأَخْذِ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى من تفرد بِالْأَخْذِ دُونَ مَنْ شَارَكَ فِي النَّقْبِ وَلَمْ يأخذ، سواء دخلوا الحرز أو لم يدخلوه، تقاسموا بالسرقة أَوْ لَمْ يَقْتَسِمُوا بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: القطع واجب على جميعهم ليستوي فِيهِ مَنْ أَخَذَ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ لَوْ فُضَّتْ عَلَيْهِمْ بَلَغَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَلَوْ نَقُصَتْ حِصَّتُهُ عن النصاب لم يقطع واحد منهم، وكذلك القول فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ إِذَا كَانَ رَدًّا احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاضِرَ معين على الأخذ بِحِرَاسَتِهِ، فَصَارَ بِالْمَعُونَةِ كَالْمُبَاشِرِ لِأَخْذِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّهُ بِالْحُضُورِ كَالْمُبَاشِرِ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الْقَطْعِ مَنْ بَاشَرَ السَّرِقَةَ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْ؛ لِأَنَّهُ بِالْحُضُورِ كَالْمُبَاشِرِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجَازَى غَيْرُ الْآخِذِ بِمَا يُجَازَى بِهِ الْآخِذُ، وَلِأَنَّ الْمُعِينَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةَ فَاعِلِ الْمَعْصِيَةِ، كَالْمُعِينِ عَلَى الْقَتْلِ لَا يَسْتَوْجِبُ قِصَاصَ الْقَاتِلِ، وَالْمُعِينُ عَلَى الزِّنَا لَا يَسْتَوْجِبُ حَدَّ الزَّانِي، كَذَلِكَ الْمُعِينُ عَلَى السَّرِقَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ قَطْعَ السَّارِقِ، وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنِ احْتِجَاجِهِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: هَتْكُ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجُ السَّرِقَةِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ شَارَكَ فِي إِخْرَاجِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي هَتْكِ حِرْزِهَا لَمْ يُقْطَعْ، فَأَوْلَى إِذَا شَارَكَ فِي هَتْكِ حِرْزِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِي إِخْرَاجِهَا أَنْ لَا يُقْطَعَ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا أَخَصُّ بِالْقَطْعِ مِنْ هَتْكِ حِرْزِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لَمْ يُقْطَعْ وَإِنْ كَانَ عَوْنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا كَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ دَخَلَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا مَالُ الْغَنِيمَةِ فَلَمَّا كَانَ فيها خمس يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ عَلَى مَنْ شَهِدَهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ أَخْذَهَا، وَخَالَفَ قَطْعُ السَّرِقَةِ فِي سُقُوطِهِ عَمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ فَسَقَطَ عَمَّنْ شَهِدَ إِذَا لَمْ يُبَاشِرْ. (مسألة) قال الشافعي: " وإن سرق سارق ثَوْبًا فَشَقَّهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا فِي حِرْزِهَا ثُمَّ أَخْرَجَ مَا سَرَقَ فَإِنْ بَلَغَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الثَّوْبُ إِذَا شَقَّهُ فِي الْحِرْزِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ شِقِّهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ فَإِنْ بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ قطع وإن كانت أقل من ربع دينار وتبلغ مَعَ أَرْشِ الشَّقِّ رُبُعَ دِينَارٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الشَّقِّ مُسْتَهْلَكٌ فِي الْحِرْزِ فَصَارَ كَالدَّاخِلِ إِلَى الْحِرْزِ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا فِيهِ ضَمَّنَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ بِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الثَّوْبِ إِذَا شَقَّهُ: إِنَّ مَالِكَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَرْكِهِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ قيمته منه، وبين أخذه وَأَخْذِ أَرْشِهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْغَاصِبِ، فَإِنْ أَخَذَهُ وَأَرَشَهُ قُطِعَ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَشْقُوقًا نصاباً كما قلنا، وَإِنْ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ لَمْ يقطع؛ لأنه بجعله مالكاً له عند شقه وقبل أخرجه فَلَمْ يُقْطَعْ فِي مِلْكِهِ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي أصلها قد مضى. (فصل) فأما الشَّاةُ إِذَا ذَبَحَهَا فِي الْحِرْزِ وَأَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً قيمتها رُبُعُ دِينَارٍ قُطِعَ، وَضَمِنَ أَرْشَ ذَبْحِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ طَعَامًا رَطْبًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الطَّعَامِ الرَّطْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ فَزَادَتْ بِالذَّبْحِ حَتَّى بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَالِكِ دُونَ الذَّابِحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ لِحُدُوثِهَا بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمَالِكِ عَلَيْهَا يَدٌ، وَهَكَذَا لَوْ سَرَقَ لَحْمًا فَطَبَخَهُ أَوْ دقيقاً فخبزه، أو دبساً فعقده وَأَخْرَجَهُ وَقَدْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّنْعَةِ نِصَابًا وَكَانَ قَبْلَ الصَّنْعَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ كَانَ قَطْعُهُ على ما ذكرناه مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ أَخَذَ جِلْدَ ميتة من الْحِرْزِ وَدَبَغَهُ فِيهِ وَأَخْرَجَهُ مَدْبُوغًا وَقِيَمُتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيِع جِلْدِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ دِبَاغَتِهِ فَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْقَدِيمِ، وَأَسْقَطَ الْغُرْمَ عَنْ مُسْتَهْلِكِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ قَبْلَ دِبَاغَتِهِ، وَأَجَازَ بَيْعَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَأَوْجَبَ غُرْمَ قِيمَتِهِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ دَبَغَهُ مَالِكُهُ قُطِعَ فِيهِ وَإِنْ دَبْغَهُ السَّارِقَ بِنَفْسِهِ فَفِي قَطْعِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ) وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ مَجُوسِيًّا فَذَبَحَ الشَّاةَ فِي حِرْزِهَا وَأَخْرَجَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ لَا يُسْتَبَاحُ أَكْلُهَا، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ فَإِنْ صَحَّ مَا حَكَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ قَطَعَ فِيهِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مَا حَكَاهُ فَلَا قَطْعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ لا قيمة له. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ ثُمَّ نَقُصَتِ الْقِيمَةُ فَصَارَتْ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ ثُمَّ زَادَتِ الْقِيمَةُ فَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَالِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا مِنَ الْحِرْزِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قِيمَةُ السَّرِقَةِ فِي الْقَطْعِ مُعْتَبِرَةٌ بِوَقْتِ إِخْرَاجِهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثُمَّ نَقُصَتْ عَنِ النِّصَابِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا قُطِعَ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 بنقصان القيمة، سواء نقصت قيمتها بنقصان عَيْنِهَا أَوْ لِنُقْصَانِ سِعْرِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ لِنُقْصَانِ عَيْنِهَا قُطِعَ وَإِنْ كَانَ لِنُقْصَانِ سِعْرِهَا لَمْ يُقْطَعْ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا مَنَعَ من حُدُوثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهَا مِلْكٌ لِسَارِقِهَا، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ لَا يُضْمَنُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَمَا لَمْ يَضْمَنْهُ لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ كَنُقْصَانِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ، وَلِأَنَّ مَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهِ يَجْرِي فِي سُقُوطِ الْحَدِّ مَجْرَى وجوده عند وجوبه كالقذف إذا زنا بعده الْمَقْذُوفُ سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ كَمَا لَوْ زَنَا عِنْدَ قَذْفِهِ. وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّهُ نُقْصَانٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ الْقَطْعُ لنقصان العين. فإن قيل: نقصان عينه مضمون فقطع فِيهِ وَنُقْصَانُ سِعْرِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يُقْطَعْ فِيهِ. قِيلَ: نُقْصَانُ السِّعْرِ مَضْمُونٌ مَعَ التَّلَفِ فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ عَيْنِهِ الْمَضْمُونَةِ بِالتَّلَفِ فَاسْتَوَيَا وَلِأَنَّ الْقَدْرَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ في إسقاطه قياساً على خراب الحرز؛ لأن قَدْرَ النِّصَابِ إِذَا اخْتَلَفَ فِي حَالِ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَحَالِ اسْتِيفَائِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ وُجُوبِهِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ نَاقِصًا عِنْدَ الْإِخْرَاجِ وَزَائِدًا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْبِكْرِ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُحْصِنَ، وَالْعَبْدِ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ، كَذَلِكَ السَّرِقَةُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ حَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يعتبر فيه بِحَالِ وُجُوبِهِ دُونَ اسْتِيفَائِهِ كَالزِّنَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ القطع عند إخراجها منع منه حدوثه بعد إخراجها فهو أنه منقض بِخَرَابِ الْحِرْزِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ إِذَا كَانَ خَرَابًا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ إِذَا حَدَثَ خَرَابُهُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلسَّرِقَةِ هو أن يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ لَهَا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِذَا حَدَثَ نَقْصُهَا لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَقْصِهَا عِنْدَ إِخْرَاجِهَا فَلِذَلِكَ قُطِعَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ لَا يُضْمَنُ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَعَ تَلَفِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا يَطْرَأُ بَعْدَ الْحِرْزِ كَالْمَوْجُودِ فِي الْحِرْزِ فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِخَرَابِ الْحِرْزِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي زِنَا الْمَقْذُوفِ بَعْدَ قَذْفِهِ أَنَّهُ دَلَّ حُدُوثُهُ عَلَى انْتِفَاءِ عِفَّتِهِ وَتَقَدُّمِ نَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ وُهِبَتْ لَهُ لَمْ أَدْرَأْ بِذَلِكَ عَنْهُ الْحَدُّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَلَكَ السَّارِقُ السَّرِقَةَ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ حِرْزِهَا ووجوب القطع فيها أَمَّا بِهِبَةٍ أَوِ ابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يسقط عنه القطع اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِلْكُهُ لِلسَّرِقَةِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ حُدُوثُ مِلْكِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْطُوعًا بِمِلْكِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ أَحَدٌ فِي مِلْكِهِ، وَلِأَنَّ مَا طَرَأَ عند اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ بِمَثَابَةِ وُجُودِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ كالجحود، وفسق الشهود، ولأن مطالبته الْخَصْمِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَقَدْ زَالَتْ مُطَالَبَتُهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَسَقَطَ شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَدَلِيلُنَا مع عموم الكتاب والسنة مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ صَفْوَانَ بن أمية قيل له: إنه مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ، فَقَدِمَ صَفْوَانُ الْمَدِينَةَ فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ، فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هو عليه صدقة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ) فَلَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ عَنْهُ مَعَ الصَّدَقَةِ بِهَا عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا قَطَعَهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْقَبُولِ. قِيلَ: لَوْ كَانَ لِهَذَا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمَا قَالَ: " هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ) . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَا تَقُولُونَ بِهِ فَصَارَ دَلِيلًا عَلَيْكُمْ. قِيلَ: مَعْنَاهُ هَلَّا سَتَرْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ وَلَمْ تُخْبِرْنِي بِهِ، فَإِنَّ مَا لم يعلم به لم يجب عليه اسْتِيفَاؤُهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ) . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا حَدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ بَعْدَ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِنَقْصِهِ أَوْ تَلَفِهِ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تُوجِبُ سُقُوطَ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ فِيهِ مِنَ الْقَطْعِ قِيَاسًا عَلَى رَدِّهِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ وَجَبَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْهِبَةِ كَالسَّرِقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ حَدَثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ زَنَا بِأَمَةٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوْ بحرة ثم تزوجها. فأما الجواب عن قياسه عليه ولو مكلها قَبْلَ إِخْرَاجِهَا فَهُوَ أَنَّهُ مَلَكَهَا قَبْلَ وُجُوبِ الْقَطْعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْأَمَةَ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَدِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ ما طرأ وتقدم فهو انتفاضة بِخَرَابِ الْحِرْزِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْقَطْعِ فَيَسْقُطُ مَعَهُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا شَرْطٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ بِهَا اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ وُجُوبِهِ كَالْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مُطَالِبٌ بها. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِنْ سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ أَعْجَمِيًّا مِنْ حِرْزٍ قُطِعَ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ لم يقطع) . قال الماوردي: وهذا صحيح، وليس يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ إِذَا سُرِقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِرْزٍ أَوْ فِي غَيْرِ حِرْزٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ فِي حِرْزٍ وَحِرْزُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ داراً مُغْلَقَةِ الْبَابِ أَوْ مَعَ سَيِّدِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا، يُفَرِّقُ بَيْنَ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَغَيْرِ سَيِّدِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ، لِأَنَّ هَذَا يكون مخادعاً وَلَا يَكُونُ مَسْرُوقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْقِلُ عَقْلَ الْمُمَيِّزِ، وَلَا يفرق بين أمر سيده وغيره فَالْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهِ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ إذا كان كبيراً لم يقطع بها إِذَا كَانَ صَغِيرًا كَالْحُرِّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَمْلُوكٌ لَا تَمْيِيزَ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِسَرِقَتِهِ كَالْبَهِيمَةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحُرُّ إِذَا سُرِقَ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُمَيِّزُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُهُ كَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ بسرقة نفسه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ) وَمَعْنَاهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَلَيْسَ الْحُرُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ كَالْكَبِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يُقْطَعْ فِيهِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَبِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ خَصَّصْنَا عُمُومَ الْآيَةِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعَبْدِ مُنْتَقَضٌ بِالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ مَالٌ وَلَيْسَ الحر مالاً والله أعلم. (فَصْلٌ) فَإِنْ سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ وَثِيَابٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ والثياب للصبي من ملابسه، ففي وجوب قطعه لأجل الْحُلِيُّ وَالثِّيَابُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقْطَعُ إِذَا تَنَاوَلَهُ مِنْ حِرْزِ الصَّبِيِّ، وَحِرْزُ الصَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ أَوْ عَلَى بَابِهَا بِحَيْثُ يُرَى، أَوْ يَكُونَ مَعَ حَافِظٍ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا يَسْقُطُ إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لا يوجب القطع. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ حِرْزٌ لَهُ فَصَارَ سَارِقًا لِلْحِرْزِ وَالْمُحْرِزِ فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الصَّبِيِّ مُسْتَخْفِيًا قطع لأخذه من حرزه، وَإِنْ أَخَذَهُ مُجَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزٌ ينكر بِهِ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَمْيِيزٌ ينكر بِهِ أَخْذَهُ مِنْهُ قُطِعَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الحلي والثياب لغير الصبي ومن غير ملابسه، فلا يخلو أن يأخذ مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَحِرْزُهُ هو حرز الحلي والثياب لا حرز الصبي فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ حِرْزِهِ قُطِعَ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ يَدَ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ يَدَ مَالِكٍ وَلَا حَافِظٍ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لم يقطع وجهاً واحداً؛ لما عللنا من أنه لا يدل عليه لمالك ولا ولا في حرز لمالك، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وإن سرق مصحفاً أو سيفاً مِمَّا يَحِلُّ ثَمَنُهُ قُطِعَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا سَرَقَ مُصْحَفَ الْقُرْآنِ أَوْ كُتُبَ الفقه أو الشعر والنحو ... وَجَمِيعَ الْكُتُبِ قُطِعَ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي المصحف، ولا في جميع الكتب المكتوبة أو غير الْمَكْتُوبَةِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَغَيْرِ الدِّينِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنْ يكون وَرَقًا بَيَاضًا لَا كِتَابَةَ فِيهِ أَوْ جِلْدًا مُفْرَدًا عَلَى غَيْرِ كِتَابٍ فَيُقْطَعُ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بثلاثة أشياء: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ مَا فِيهَا، وَالْوَرَقُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لِلْمَقْصُودِ وَلَيْسَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَكْتُوبِ مَالًا فَسَقَطَ الْقَطْعُ فِيهِ وَفِي تَبَعِهِ مِنَ الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ، وَإِنْ كَانَ مَالًا؛ لِأَنَّ التَّبَعَ مُلْحَقٌ بِالْمَتْبُوعِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ خَاصٌّ فِي الْمُصْحَفِ لِيَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ ملحقاً به: أن المصحف مشترك يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ إِعَارَتِهِ لمن التمس أن يقرأ فِيهِ وَأَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْقُرْآنَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ) وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ كَمَالِ بَيْتِ المال. والثالث: أن بيعه مختلف فيه؛ لأنه ابْنَ عُمَرَ يَكْرَهُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ، وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَمَا اخْتُلِفَ فِي بَيْعِهِ لَمْ يُقْطَعْ في سرقته كالكلب [والخمر] وَالْخِنْزِيرِ مَعَ الذِّمِّيِّ. وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ نَوْعُ مَالٍ فَجَازَ الْقَطْعُ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ مَالًا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَإِبَاحَةِ ثَمَنِهِ، وَضَمَانِهِ بِالْيَدِ، وَغُرْمِ قِيمَتِهِ بِالْإِتْلَافِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهَا كَمَا يَخْتَصُّ كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِسُوقٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ فِي وَرَقِ الْمُصْحَفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا كَانَ الْقَطْعُ فِيهِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَزْيَدُ وَالرَّغْبَةُ فيه أكثر فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، وَيَسْقُطَ الْقَطْعُ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا أَلْزَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْخَشَبِ وَالْعَاجِ قَبْلَ الْعَمَلِ فِيهِ، وَيَقْطَعُ فِيهِ بَعْدَ عَمَلِهِ وَإِحْدَاثِ صَنْعَةٍ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا لِيُزْجَرَ عَنْ سَرِقَتِهَا فَتُحْفَظَ عَلَى مَالِكِهَا، وَقَدْ تَكُونُ الرَّغْبَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ أَكْثَرَ فَكَانَتْ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ أَحَقَّ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا قَطْعَ فِيهَا، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الثِّيَابِ لِبَاسُهَا، وَمَنْفَعَةَ الدَّوَابِّ رُكُوبُهَا، وَالْقَطْعُ يَجِبُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ تَلْزَمُ إِعَارَتُهُ فَدَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَاصٌّ لَا تلزم إِعَارَتُهُ وَلَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ ما يلزم الصلاة من الفاتحة عندنا وآية من جميع القرآن عندهم، لا يَتَعَيَّنُ الْفَرْضُ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا مِنْ مُصْحَفٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 الْمُعَلِّمِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ لَكَانَ تَلْقِينُهُ مِنْ لَفْظِ الْقَارِئِ كَافِيًا، وَعَنِ الْمُصْحَفِ مُغْنِيًا، وَخَالَفَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعَدَّ لمصالحهم، والخير مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالنَّدْبِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، وَكَالْعَاجِ عِنْدَهُمْ إِذَا حَدَثَتْ فِيهِ صَنْعَةٌ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ مَخِيطَةٌ عَلَيْهَا مَحْفُوظَةٌ بِهَا قُطِعَ بِهَا، نَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَدِيدِ مَا يُخَالِفُهُ، وَكَذَلِكَ آلَةُ الْمَسَاجِدِ الْمُحْرَزَةُ فِيهَا إما بأبوابها أو بقوامها أو بكثرة الْغَاشِيَةِ وَالْمُصَلِّينَ فِيهَا يُقْطَعُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ معدة للزينة كالستور والقبل، أو للأحراز كالصناديق والأبواب، فأما إن كَانَتْ مُعَدَّةً لِانْتِفَاعِ الْمُصَلِّينَ بِهَا كَالْحُصْرِ والْبَوَارِي وَالْقنَادِيلِ فَفِي قَطْعِ سَارِقِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنه لَا يقطع لاشتراك الكافة فيها فَأَشْبَهَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ يُقْطَعُ كَأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَمَا أُعِدَّ لِلزِّينَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لاشتراك الْكَافَّةِ فِيهَا كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ خَصْمٌ مُطَالِبٌ. وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ من بني عامر بن لؤي سرق كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَصَلَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِمَّنْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. وَرُوِيَ ابن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سارقا سرق من أستار الكعبة وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ سَارِقًا سَرَقَ قَطِيفَةً مِنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُضْمَنُ بِالْيَدِ وَيُغْرَمُ بِالْإِتْلَافِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْقَطْعُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا أَغْلَظُ وَتَمَلُّكَهَا مُحَرَّمٌ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عنه، وأما استدلالهم بالخصم فِيهِ فَهُوَ حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ يَنُوبُ عنهم فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 (فَصْلٌ) وَإِذَا سَرَقَ مَا يُتَّخَذُ لِلْمَعَاصِي كَصَلِيبٍ أو صنم، أو طنبور، أَوْ مِزْمَارٍ فَإِنْ كَانَ لَوْ فُصِلَ مَا صلح لِغَيْرِ مَا اتُّخِذَ لَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَالِكِهِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى مُتْلِفِهِ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كان لو فصل صلح لغير الْمَعْصِيَةِ أَوْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَفِي قَطْعِ سَارِقِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْطَعُ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزٍ مُفَصَّلًا أَوْ غَيْرَ مُفَصَّلٍ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يُقِرُّ عَلَى مَالِكِهِ وَيَقُومُ عَلَى مُتْلِفِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فيه، سواء أخرج مُفَصَّلًا أَوْ غَيْرَ مُفَصَّلٍ؛ لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً في هتك حرز لإزالة معصيته لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الملاهي، وروي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " تُمْسَخُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَّتِي) قِيلَ لَهُ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فقال: " لشربهم الخمر وَضَرْبِهِمْ بِالْكُوبَةِ وَالْمَعَازِفِ) وَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] أَنَّهَا الْمَلَاهِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَهُ مُفَصَّلًا قُطِعَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرَ مُفَصَّلٍ لَمْ يُقْطَعْ لِزَوَالِ الْمَعْصِيَةِ عَمَّا فُصِلَ وَبَقَائِهَا فِيمَا لَمْ يُفْصَلْ. فَأَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهَا الْقَطْعُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا صُوَرُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ لَا لِلْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا مَعْصِيَةً. (فَصْلٌ) وَإِذَا سَرَقَ وَقْفًا مُسْبَلًا مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَإِنْ كَانَ عَامًّا في وجوه الخيرات وعموم الْمَصَالِحِ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، الَّذِي يَعُمُّ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَدُهُمْ، وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ ذِمِّيًّا لم يقطع، لأنه تبع للمسلمين، فإن كَانَ خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شِرْكًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَفِي قَطْعِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُقْطَعُ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ كَمَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَآلَةِ الْمَسَاجِدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ، سَوَاءً قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ قُوَّةٌ لِمِلْكِهِ، وَخَالَفَ آلَةَ الْمَسْجِدِ وَأَسْتَارَ الْكَعْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُغَلَّظَةِ وَالْوَقْفُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ المحرمة فلهذا الفرق ما افْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسَوِّيًا بينهما. والوجه الثالث: أن يُقْطَعَ فِيهِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ قِيلَ إِنَّهَا لَا تُمْلَكُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ، فَأَمَّا نَمَاءُ الْوَقْفِ كَالثِّمَارِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 والنتاج فيقطع فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حكمها في جواز البيع والتصرف. (فصل) وإذا سَرَقَ إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ قُطِعَ فيها. وقال أبو حنيفة: لا يقطع فيها حَتَّى قَالَ: " لَوْ هَتَكَ حِرْزًا وَسَرَقَ مِنْهُ كوز ذَهَبٍ وَصَبَّ فِيهِ مَاءً وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حِرْزِهِ لَمْ يُقْطَعْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَا قَطْعَ فِيهِمَا، وَإِنْ ضَمَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَى مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ سَقَطَ الْقَطْعُ كَالْمَالِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ، وَكَالصَّبِيِّ إِذَا سُرِقَ وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ لَا يُقْطَعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يقطع في الصبي لو انْفَرَدَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِ الْمَسْرُوقَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى انْفِرَادِهِمَا، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ فِيهِ الْقَطْعُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَسْقُطُ بِضَمِّهِ إِلَى غيره كالعاج إذا كان معيناً بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْقَطْعِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فَلِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا، وَأَمَّا الْحُلِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ فَسُقُوطُ الْقَطْعِ فِيهِ لِبَقَاءِ يَدِ مَالِكِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى ما مضى. (فصل) وإذا سَرَقَ إِنَاءً فِيهِ خَمْرٌ لَمْ يُقْطَعْ فِي الْخَمْرِ، وَفِي قَطْعِهِ فِي الْإِنَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِ الْمَسْرُوقَيْنِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْآخَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الخمر يلزم إراقته ولا يجوز أن يقر في إنائه، فصار ذلك شبهة في إِخْرَاجِهِ مِنْ حِرْزِهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بَدَلَ الْخَمْرِ مَاءٌ نَجِسٌ أَوْ بَوْلٌ قُطِعَ فِيهِ، وإن لم يقطع في الماء النجس وفي البول؛ لأن استيفاء البول والماء النجس يجوز، واستبقاء الخمر لا يجوز. (مسألة) قال الشافعي: " وإن أَعَارَ رَجُلًا بَيْتًا فَكَانَ يُغْلِقُهُ دُونَهُ فَسَرَقَ مِنْهُ رَبُّ الْبَيْتِ قُطِعَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَعَارَهُ بَيْتًا فَأَحْرَزَ الْمُسْتَعِيرُ فِيهِ مَتَاعًا وَتَفَرَّدَ بِغَلْقِهِ فَنَقَبَ الْمُعِيرُ الْبَيْتَ وَسَرَقَ مِنَ الْمَتَاعِ قُطِعَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْأَقْسَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ بِحَالٍ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي عَارِيَتِهِ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ هَدْمَ البيت ونقبه، فصال الْمَالُ فِي غَيْرِ حِرْزٍ مِنْهُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَ الْحِرْزِ بِحَقٍّ فَلَمْ يَكُنْ مِلْكُ الرَّقَبَةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كالإجارة، ولأنه لما حرم عليك هَتْكُ الْحِرْزِ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ اقْتَضَى أَنْ يجب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 عَلَيْهِ الْقَطْعُ كَوُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرجوع بهتك الحرز بأن يرجع به قَوْلًا فَصَارَ الْحِرْزُ مَعَهُ بَاقِيًا فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ. (فصل) فإذا ثبت بما ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعِيرِ عِنْدَ هَتْكِ الْحِرْزِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَةِ قَوْلًا فَمَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ رَدِّهِ مَعَ الْمُكْنَةِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُعِيرِ إِذَا نَقَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ. والقسم الثاني: أن لا يقدم الرجوع فيه ولا يرد بِهَتْكِهِ الرُّجُوعَ فِيهِ، فَهَذَا يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْهُ، وَفِيهِ يَتَعَيَّنُ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقِسْمُ الثالث: أن لا يقدم الرجوع قَوْلًا وَيَنْوِي بِهَتْكِهِ الرُّجُوعَ فِيهِ، فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: يقطع؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ إِلَّا بِالْقَوْلِ فَكَانَ ما عداه عدواناً منه. (فصل) وإذا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَنَقَبَ الْمُؤَجِّرُ عَلَيْهِ وَسَرَقَ مِنْهُ قُطِعَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ مُعْتَبَرٌ بِهَتْكِ حِرْزٍ وَسَرِقَةِ مَالٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْحِرْزِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَنَافِعَ الْحِرْزِ بِالْإِجَارَةِ كَمَا مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ، فَاقْتَضَى أن ينتفي الشُّبْهَةُ فِي هَتْكِهِ، وَأَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ إِذَا أَجَّرَهَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَعْضِ أهل الْمَسْجِدِ قُطِعَ، فَإِذَا سَرَقَ مِمَّا أَجَّرَ فَأَوْلَى أَنْ يُقْطَعَ. (فَصْلٌ) وَإِذَا غَصَبَ بَيْتَا وَأَحْرَزَ فِيهِ مَتَاعًا فَسَرَقَ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ، سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْهُ مَالِكُ الْحِرْزِ أَوْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِحْرَازِ مَالِهِ فِي الْغَصْبِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمُحْرِزِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ قَطْعٌ، وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَهَنَ دَارًا فَأَحْرَزَ فِيهَا مَتَاعًا لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ، سَوَاءٌ سَرَقَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كالغاصب. (فصل) وإذا سَرَقَ ثِيَابًا مِنْ حَمَّامٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الثِّيَابِ خَلَعَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحَمَّامِ وَلَمْ يُودِعْهَا حَافِظًا فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ وَيَضْمَنُهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ الْحَمَّامِيِّ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْتَحْفَظِينَ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْ حِفْظِهَا حَتَّى سُرِقَتْ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ، وَلَا قَطْعَ عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 السَّارِقِ، وَإِنْ لَمْ يَغْفَلْ عَنِ الْحِفْظِ وَلَا فَرَّطَ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ يَحْفَظُهَا، وَيُقْطَعُ سَارِقُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يقطع احْتِجَاجًا بِأَنَّ الدُّخُولَ إِلَى الْحَمَّامِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْرَازَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْحَمَّامَ حِرْزٌ لِثِيَابٍ دَاخِلِيَّةٍ، وَلَيْسَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بِمَانِعٍ من أن يكو حرزاً، فإن المسجد أعم دخولاً وأكثر غَاشِيَةً وَهُوَ حِرْزٌ لِمَنْ نَامَ فِيهِ وَوَضَعَ ثَوْبَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَقَدْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَوْقُوفٌ عَلَى صَاحِبِهِ فَجَرَى مجرى البيوت إذا أذن ربها بالدخول إِلَيْهَا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمَنْ دَخَلَهَا وَالْمَسَاجِدُ لَا يَقِفُ الْإِذْنُ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فَجَرَى مَجْرَى الطُّرُقَاتِ الَّتِي تَكُونُ حِرْزًا لِلْأَمْتِعَةِ الَّتِي فِيهَا مَعَ أَرْبَابِهَا. قِيلَ: صِحَّةُ هَذَا الْفَرْقِ يُوجِبُ عَكْسَ الْحُكْمِ فِي أَنْ يَكُونَ الْحَمَّامُ حِرْزًا وَالْمَسْجِدُ غَيْرَ حِرْزٍ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ حَقٌّ لِدَاخِلِهِ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ حَقٌّ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا يدخل إلى الحمام إلا بإذن، وعكس الحكم مَدْفُوعٌ فَصَارَ الْفَرْقُ مُطَّرَحًا، فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِوَاءُ الْمَسْجِدِ وَالْحَمَّامِ فِي الْحِرْزِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ كَانَ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ مُعْتَبَرًا بِأَخْذِهِ مِنْ تَحْتِ صَاحِبِهِ إِنْ كَانَ نائماً، فإن لم يكن تحته فليس بمحرز إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِظًا فَيَكُونُ حِرْزًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا يَمْتَدُّ إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِمَّا قَارَبَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ. فَأَمَّا الْحَمَّامُ فَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قطع السارق منه خروجه مِنَ الْحَمَّامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ كَالْمَسْجِدِ، وَيُقْطَعُ إِذَا أَخَذَ الثِّيَابَ من موضعها. والوجه الثاني: أن يعتبر فيه خروجه من الحمام ولا قَطْعَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ حرز خاص والمسجد عام. (فصل) فأما الضيف إذا سرق من دار مَنْ أَضَافَهُ فَإِنْ سَرَقَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَضَافَهُ فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوتِ الْمُغَلَّقَةِ عَلَيْهِ قُطِعَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ بِحَالٍ لِارْتِفَاعِ الْحِرْزِ مع الإذن بالدخول ودليلنا: ما أخبر به أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَقْطَعَ نَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فكان يصلي الليل فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ من قطعك؟ قال يعلى بن أمية ظالماً، فقال أبو بكر: لأكتبن وأتوعده فبينا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ فَقَدُوا حُلِيًّا لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى صَاحِبِهِ، قال فوجد عند صائغ فألجئ حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 ألجئ إِلَى الْأَقْطَعِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَغِرَّتُهُ بِاللَّهِ أشد على مما صنع اقطعوه، فقطعه، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلِأَنَّ الْبُيُوتَ الْمُغَلَّقَةَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا لَوْ كَانَتْ إِلَى الطَّرِيقِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ حِرْزًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الدَّارِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَهُ متاع في حرز فنقب صاحب الدين على الْحِرْزَ وَسَرَقَ مِنْهُ مَتَاعَ الْغَرِيمِ فَهَذَا عَلَى ضربين: أحدهما: أن يمطله صاحب الدين بدينه ويمنع من دفعه فينظر فيما أخذ صاحب الدين من الحرز فإن كان يقدر دَيْنِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّوَصُّلَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهُ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دينه فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قِيمَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قَدْرًا لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْطَعُ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِلشُّبْهَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هريرة لتميز الحق من الباطل. والضرب الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْطُلَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ وَيَقْدِرَ عَلَى أَخْذِهِ بِالْمُطَالَبَةِ فَفِي قَطْعِهِ بِمَا أَخَذَهُ عَنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا يُقْطَعُ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ. والوجه الثاني: وهو قياس أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقْطَعُ لِوُصُولِهِ إلى حقه من غريمه. والله أعلم. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ وَدِيعَةً فَأَحْرَزَهَا الْمُودِعُ فِي حِرْزِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ كَانَ حِرْزًا لِمَالِه وَلِلْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالِائْتِمَانِ عَلَيْهَا نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهَا فِي إِحْرَازِهَا، فَإِنْ سُرِقَتْ قُطِعَ سَارِقُهَا، وَلَوْ نَقَبَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهَا فَأَخَذَهَا وَسَرَقَ مَعَهَا غَيْرَهَا مِنْ حِرْزِهَا، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ وَدِيعَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَتْكِ حِرْزِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ مِنْهَا فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَهَا بِوَدِيعَتِهِ شُبْهَةٌ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ متعد بهتك الحرز وأخذ لِمَا لَا يَسْتَحِقُّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 (فَصْلٌ) وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مَالًا أَوْ سَرَقَهُ وَأَحْرَزَهُ فِي حِرْزٍ لِنَفْسِهِ فَسُرِقَ مِنْهُ فَفِي قطع سارقه وجهان: أحدهما: يُقْطَعُ بَعْدَ قَطْعِ السَّارِقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مُسْتَحِقٍّ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمُحْرَزِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ الْغَاصِبِ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَ مِنَ السَّارِقِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الْخَصْمُ فِي قَطْعِ هَذَا السَّارِقِ هُوَ الْمَالِكُ دُونَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ، هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أن على كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ خَصْمٌ فيه؛ أما المالك فلأجل ملكه، وأما الغصب وَالسَّارِقُ فَلِأَجْلِ ضَمَانِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَصْمُ فِي السَّرِقَةِ الْمَالِكُ، وَفِي الْغَصْبِ الْغَاصِبُ، وَلَيْسَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ إِلَّا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُغَرَّمُ السَّرِقَةَ إِذَا قُطِعَ وَهُوَ بناء خلاف على خلاف والله اعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ آبِقًا وَغَيْرَ آبِقٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وإما إِذَا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ آبِقٍ فَقَطْعُهُ إِذَا سَرَقَ وَاجِبٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ آبِقًا فَسَرَقَ فِي إِبَاقِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: يُقْطَعُ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: لَا يُقْطَعُ، سَوَاءٌ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ أَوْ بَعْدَ مَقْدِمِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِبَاقِ مُضْطَرٌّ، وَلَا قَطْعَ عَلَى مُضْطَرٍّ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ طُولِبَ فِي إِبَاقِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ قَضَاءً عَلَى سَيِّدِهِ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِهِ فِي الْحَالَيْنِ عُمُومُ الآية، ولم يفضل بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ. وَرَوَى نَافِعٌ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ، فَبُعِثَ بِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لِيَقْطَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: كَيْفَ أَقْطَعُ آبِقًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فِي أَيِّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا؟ وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُقَامُ عَلَى غَيْرِ الْآبِقِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ عَلَى الْآبِقِ كَحَدِّ الزِّنَا، وِلْأَنَّ الْإِبَاقَ مَعْصِيَةٌ إن لم يزده تغليظاً لم يتغلظ عَنْهُ حَدًّا، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَلَوْ كَانَ عِلَّةً لِفَرْقٍ بَيْنَ الْمُضْطَرِّ وَغَيْرِهِ وَلِفَرْقٍ بَيْنَ مَا تدعو الضرورة إليه ولا تدعو. أما قوله إنه قضاء على السيد، فليس صحيح؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَزِمَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 (فصل) [حكم السرقة في المجاعة والقحط] وَإِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ وَالْقحْطِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِغَلَاءِ السِّعْرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْوَاتِ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ عَلَى السَّارِقِ، وَلَا تَكُونُ زِيَادَةُ الْأَسْعَارِ مُبِيحَةً لِلسَّرِقَةِ وَلَا مُسْقِطَةً لِلْقَطْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِتَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ وَعَدَمِهَا، فَإِنْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِقُوتٍ قُطِعَ، وَإِنْ سَرَقَ قُوتًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مثله لَمْ يُقْطَعْ، وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ كَمَا كَانَتْ شُبْهَةً فِي اسْتِبَاحَةِ الْأَخْذِ، روي عن ابن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا قَطْعَ فِي عَامِ المجاعة ولا قطع في عام سنة) . روي عن مروان بن الحكم أنه أتى سارق سَرَقَ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَقَالَ: أراه مضطراً، فلم ينكر ذلك منه أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ الْعَصْرِ. [حُكْمُ نَبَّاشِ القبور] (مسألة) قال الشافعي: " وَيُقْطَعُ النَّبَّاشُ إِذَا أَخْرَجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ لِأَنَّ هَذَا حِرْزُ مِثْلِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النَّبَّاشُ هُوَ الَّذِي يَنْبُشُ الْقُبُورَ وَيَسْرِقُ أَكْفَانَ مَوْتَاهَا، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَطْعِهِ فَذَهَبَ الشافعي إِلَى وُجُوبِ قَطْعِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ. وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ: لَا يُقْطَعُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ؛ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ نَبَّاشًا رُفِعَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَعَزَّرَهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَ الْمَيِّتِ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ كَفَنِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ الْقَطْعُ فِي أَكْفَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنَ الْقَبْرِ غَيْرَ الْكَفَنِ لَمْ يُقْطَعْ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَرَقَ الْكَفَنَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ حِرْزًا لشيء كان حرزاً لأمثاله، وليس القبر حرز لِمِثْلِ الْكَفَنِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حِرْزًا لِلْكَفَنِ، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ مُعَرَّضٌ لِلْبِلَى وَالتَّلَفِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَحْفُوظِ الْمُسْتَبْقَى فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ الْمُخْتَصُّ بما يحفظ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 وَيُسْتَبْقَى، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالِكَ لَهُ وَمَا لَا مَالِكَ لَهُ لَا قَطْعَ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ بِهِ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ لَمْ يُقْطَعْ فِي الزِّيَادَةِ كَذَلِكَ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّ قَبْرَ الْمَيِّتِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَفَنِهِ وَطِيبِهِ ثُمَّ لَمْ يُقْطَعْ فِي طِيبِهِ فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ فِي النَّبَّاشِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبَّاشُ لَيْسَ بِسَارِقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ النَّبَّاشِ دُونَ السَّارِقِ. قِيلَ: عنه جوابان: أحدهما: أن السارق هو المستسر بِأَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ حِرْزِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النَّبَّاشِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: يُقْطَعُ سارق أحيائنا وسارق موتانا، فسمياه سَارِقًا وَقَوْلُهُمَا حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25] أَيْ نَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَنَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا، فَجَعَلَ بَطْنَهَا حِرْزًا لِلْمَيِّتِ كَمَا جَعَلَ ظَهْرَهَا حِرْزًا لِلْحَيِّ فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ الْمُخْتَفِي، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ: يُسَمُّونَ النَّبَّاشَ الْمُخْتَفِي وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِاخْتِفَائِهِ بِأَخْذِ الْكَفَنِ. وَالثَّانِي: لِإِظْهَارِهِ الْمَيِّتَ فِي أَخْذِ كَفَنِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُظْهِرُ الْمُخْتَفِي، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَطَعَ نَبَّاشًا بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ مَجْمَعُ الحجيج، ولا يخفي ما يجري فِيهِ عَلَى عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا سِتْرُهَا كَالْحَيِّ. وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْحَيِّ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِسَرِقَةِ كَفَنِ الْمَيِّتِ كَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَا وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ فَكَانَ كَفَنُ الْمَيِّتِ بِالْقَطْعِ أَحَقَّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ على نفسه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ أَنَّهُ عزر النباش فلم يقطعه فعنه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ وَقَدْ عارضه فعل من قوله أحج وَفِعْلُهُ أَوْكَدُ، وَهُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْقَطْعِ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ عَنْ مِقْدَارِ الْقَطْعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبَّاشُ لَمْ يُخْرِجِ الْكَفَنَ مِنَ الْقَبْرِ، وَالْقَطْعُ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْقَبْرِ حِرْزٌ لَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ فِي أَطْرَافِهِ فَكَذَلِكَ فِي أَكْفَانِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْتِقَاضُهُ بِالْمُرْتَدِّ يَسْقُطُ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ وَلَا يَسْقُطُ فِي مَالِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لما افترقت أطرافه وأكفانه في الضمان وضمن أَكْفَانَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ قَطْعَ أَطْرَافِهِ كَانَ الْقَطْعُ تَبَعًا لِضَمَانِهَا فِي الْوُجُوبِ كَمَا كَانَ الْقَوَدُ فِي الْأَعْضَاءِ تَبَعًا لِضَمَانِهَا فِي السُّقُوطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الْكَفَنِ فَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِلْكَفَنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي حِرْزٍ وَدُفِنَ فِيهِ مَعَ الْمَيِّتِ مَالٌ قُطِعَ فِي الْمَالِ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُقْطَعْ فِي الْكَفَنِ وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لِسُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الْكَفَنِ ثَلَاثُ عِلَلٍ: أحدها: أن القبر ليس بحرز. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْبِلَى. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ، فَإِنْ كَمَلَتْ سَقَطَ الْقَطْعُ بِجَمِيعِهَا، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ سَقَطَ الْقَطْعُ بِمَا وُجِدَ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْحِرْزَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَادَةِ الَّتِي لَا يَقْتَرِنُ بِهَا تَفْرِيطٌ، وَالْعَادَةُ فِي الْأَكْفَانِ إِحْرَازُهَا فِي الْقُبُورِ وَلَا يُنْسَبُ فَاعِلُهَا إِلَى تفريط فصار إحرازاً، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ حِرْزًا لَهَا صَارَ حِرْزًا لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحْرَزَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ فِي اعْتِبَارِ الْعَادَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ سُقُوطِ الْقَطْعِ كَبَذْرِ الزَّرْعِ قد جرت العادة في إحراز بِبَذْرِهِ فِيهَا وَلَا يُنْسَبُ فَاعِلُهُ إِلَى تَفْرِيطٍ، ولو سَرَقَهُ سَارِقٌ لَمْ يُقْطَعْ، فَكَذَلِكَ الْكَفَنُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فِي إِحْرَازِ مِثْلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَنِ أَنَّ الْكَفَنَ يُؤْخَذُ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ حِرْزِهِ وَقَدْ كَمَلَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا الْبَذْرُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ حَبَّةً بَعْدَ حَبَّةٍ وَكُلُّ حَبَّةٍ منها تُحْرَزُ فِي مَوْضِعِهَا لَا فِي مَوْضِعِ غَيْرِهَا، وَإِذَا افْتَرَقَتِ السَّرِقَةُ لَمْ يُضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكَفَنَ مُعَرَّضٌ لِلْبِلَى وَالتَّلَفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن الاعتبار بحاله عِنْدَ أَخْذِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرِيضَةِ إِذَا شَارَفَتِ الْمَوْتَ. وَالثَّانِي: أن تعريضه للبلى لا يمنع وُجُوبِ الْقَطْعِ فِيهِ كَدَفْنِ الثِّيَابِ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى أَنَّ ثِيَابَ الْحَيِّ مُعَرَّضَةٌ لِلْبِلَى بِاللِّبَاسِ وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَطْعِ فِيهَا كَذَلِكَ الْأَكْفَانُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا مَالِكَ لِلْكَفَنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالدَّيْنِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَفِي حُكْمِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَكَلَهُ السَّبُعُ وَبَقِيَ كَفَنُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ لِبَيْتِ مَالِ المسلمين، وعلى هذا في الْخَصْمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْمُطَالَبَةِ بِقَطْعِ سَارِقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْوَرَثَةُ إِنْ جَعَلْنَاهُ مَوْرُوثًا. وَالثَّانِي: الْإِمَامُ إِنْ جَعَلْنَاهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَنَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ وَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمَيِّتُ مَنَافِعَهُ كَالتَّرِكَةِ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مَلَكَهَا الْوَرَثَةُ وَاسْتَحَقَّ الْمَيِّتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ دَيْنِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَكَلَهُ السَّبُعُ عَادَ الْكَفَنُ إِلَى الْوَرَثَةِ وَجْهًا وَاحِدًا وَهُمُ الْخُصُومُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا مالك للكفن، ولأن الميت لا يملك وَالْوَارِثَ لَا حَقَّ لَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 فِيهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْطَعَ فِيمَا لَا مَالِكَ لَهُ كَمَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَآلَاتِ الْمَسَاجِدِ، وَيُخَالِفُ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لم يتعين في حق إنسان بعينه، والكفن يتعين فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَيَعُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنْ أَكَلَهُ السَّبُعُ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ هُوَ الْخَصْمُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي زِيَادَةِ الْكَفَنِ فَهُوَ أَنَّ الْغَرَضَ ثَوْبٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَةِ أثواب ندب، وما زاد عليه خارج حُكْمِهِ فَيُقْطَعُ فِي الْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ، وَلَا يُقْطَعُ في الزيادة عليها بخروجها عَنْ حُكْمِ الْكَفَنِ فَرْضًا وَنَدْبًا، وَلَيْسَ الْقَبْرُ حِرْزًا لِغَيْرِ الْكَفَنِ وَإِنْ كَانَ حِرْزًا لِلْكَفَنِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالطِّيبِ فَفِي قَطْعِ سَارِقِهِ مِنْ أَكْفَانِ الْمَيِّتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ وَيَسْقُطُ؛ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ مُسْتَهْلَكٌ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ وَالْأَكْفَانُ بَاقِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي الْقَطْعِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. فَأَمَّا سَرِقَةُ التَّابُوتِ فَلَا قَطْعَ فيه؛ لأن التابوت منهي عن الدفع فِيهِ فَلَمْ يَصِرِ الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ فَسَقَطَ فِيهِ الْقَطْعُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ النَّبَّاشِ فَقَطْعُهُ فِي الْكَفَنِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ فِي مَقَابِرِ الْبَلَدِ الْأَنِيسَةِ، سواء كانت في وسط البلد أو ظاهره، فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ مُنْقَطِعًا عَنِ الْأَمْصَارِ مُفْرَدًا فِي الْفَلَوَاتِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ عَمِيقًا عَلَى مَعْهُودِ الْقُبُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمِيقًا وَكَانَ دَفْنُهُ قَرِيبًا مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ فَلَا قَطْعَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَ الكفن من جميع القبر بعد تجريده عن الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُجَرِّدْهُ عَنْهُ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِاسْتِبْقَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقْطَعُ لِإِخْرَاجِ الكفن من حرزه. (فصل) [حكم النشالين] فَأَمَّا الطَّرَّارُ فَإِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْكُمِّ فَأَخَذَ مَا فِيهِ، أَوْ أَدْخَلَهَا إِلَى الْجَيْبِ وَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ بَطَّ الْكُمَّ أَوِ الْجَيْبَ، أَوْ فَتَقَهُمَا حَتَّى خَرَجَ مَا فِيهِمَا قُطِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَصْلِهِ فِي السَّارِقِ إِذَا سَرَقَ مِنَ الْحِرْزِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ لَمْ يُقْطَعْ. وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ وَاهِيًا؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى كُمِّهِ، وَلَا يَقْطَعُهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ إِلَى الْحِرْزِ. فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ دُخُولَهُ إِلَى الْكُمِّ مُمْتَنِعٌ وَدُخُولَهُ إِلَى الْحِرْزِ مُمْكِنٌ، كان هذا الفرق موجباً لافتراق الحكم فيهما وَالْحُكْمُ فِيهِمَا لَا يَفْتَرِقُ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالدُّخُولِ وثبت التعليل بما قلناه مِنْ خُرُوجِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزِهَا بِفِعْلِهِ لِاسْتِمْرَارِهِ وَاطِّرَادِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الطَّرَّارِ كَوُجُودِهِ فِي النَّقَّابِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا سَرَقَ مِنْ حِلْيَةِ فَرَسٍ عَلَيْهِ رَاكِبُهُ قُطِعَ سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ لِجَامٍ على رأسها أو من ثغر عَلَى كَفَلِهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ لِجَامِ رَأْسِهَا وَلَا يُقْطَعُ إذا سرق من ثغر كَفَلِهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِمُقَدَّمِهَا، وَلَا يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِمُؤَخَّرِهَا وَعِنْدَنَا يُضْمَنُ مَا أَفْسَدَتْ بِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 (باب قطع اليد والرجل في السرقة) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرحمن عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي السَّارِقِ " إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثم إن سرق فاقطعوا رجله) واحتج بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قطع يد السارق اليسرى وقد كان أقطع اليد والرجل (قال الشافعي) رحمه الله فَإِذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ م ِفْصَلِ الكف وحسمت بِالنَّارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ العمل المستحق من قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى، لِرِوَايَةِ النَّخَعِيِّ أَنَّ ابْنَ مسعود كان يقرأ " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَإِنْ شَذَّتْ فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى خبر الواحد في وجوب العمل بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ) . وَرُوِيَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَطَعُوا يَمِينَ السَّارِقِ، وَلِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّرِقَةَ فِي الْأَغْلَبِ بِيَمِينِهِ فَصَارَتْ بِالْقَطْعِ أَخَصَّ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَيْسَرُ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرُ الْأَيْسَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ قطع يمينه فقد اختلف في حد قطعهما فَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّهَا تُقْطَعُ مِنَ الْمَنْكِبِ اسْتِيعَابًا لِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَدِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ أَصَابِعُ كَفِّهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شاذة. وذهب جمهور الفقهاء إلى قطعها مِنْ مِفْصَلِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ كَفِّهِ، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ عَمِلُوا وَهُوَ نَقْلٌ مَوْرُوثٌ إِلَى عِنْدِنَا وَلِأَنَّ دِيَةَ اليد تكمل فِي قَطْعِهَا مِنَ الْكُوعِ وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 (فصل) فإذا تقرر الْمُسْتَحَقَّ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى قُطِعَ كَفُّهُ الْيُمْنَى ولا فضل بين أن تكون لَهُ يُسْرَى أَوْ لَا يَكُونَ لِذَهَابِهَا بِجِنَايَةٍ أَوْ عِلَّةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتِ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً، أَوْ قَدْ قُطِعَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا، أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهَا لَمْ تُقْطَعِ الْيُمْنَى، وإن قطع منها إصبع واحد، أو ذهبت أَقَلُّ مَنَافِعِهَا قُطِعَتِ الْيُمْنَى. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِهِمَا فِي السرقة، وكذلك إذا ذهبت إحداهما لم يقطع الْأُخْرَى فِي السَّرِقَةِ. وَنَحْنُ نَبْنِيهِ عَلَى أَصْلِنَا في جواز قطعها فِي السَّرِقَةِ، وَغَيْرِ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ كَفِّهِ الْيُمْنَى مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً سَالِمَةً فَتُقْطَعُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ حال القطع، فلو لَمْ تُقْطَعْ حَتَّى ذَهَبَتْ سَقَطَ بِذَهَابِهَا قَطْعُ السَّرِقَةِ لِذَهَابِ مَا اسْتَحَقَّ قَطْعَهُ، كَمَا لَوْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ فَمَاتَ سَقَطَ قَتْلُ الرِّدَّةِ، ولو كان ذهابها لجناية اسْتَحَقَّ بِهَا قَوَدًا أَوْ دِيَةً كَانَ لِلسَّارِقِ أَنْ يَقْتَصَّ بِهَا مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ ديتها، وهو أحق بالدية ولا يؤخذ مِنْهُ بَدَلًا مِنْ قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي السَّرِقَةِ الْقَطْعُ دُونَ الدِّيَةِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْفَوَاتِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَتُقْطَعُ وَيُجْزِئُ قَطْعُهَا وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا إِصْبَعًا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِهَا كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ زَائِدَةَ الْأَصَابِعِ قُطِعَتْ كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الذي تعتبر فِيهِ الْمُمَاثِلَةُ وَيُعْتَبَرُ فِي السَّرِقَةِ مُطْلَقُ الِاسْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ ذَاهِبَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا كَفُّهَا فَفِي قطعها في السرقة وجهان: أحدهما: قد حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُقْطَعُ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا تقطع ويصير كَالَّذِي لَا يُمْنَى لَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ؛ لأن المقصود بقطعها أن يسلب به منفعتها وهذه لا منفعة ولا جمال بِهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ يُمْنَاهُ شَلَّاءَ لا يبطش بها فيسأل أهل الخبرة بها إِذَا قُطِعَتْ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ عُرُوقَهَا بَعْدَ الْقَطْعِ تَلْتَحِمُ وَتَنْسَدُّ قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ. وَإِنْ قَالُوا: لَا تَلْتَحِمُ وَلَا تَنْسَدُّ لَمْ تُقْطَعْ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعُرُوقِ عَلَى انْفِتَاحِ أَفْوَاهِهَا مُفْضٍ إِلَى تَلَفِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَلَفُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 والقسم الخامس: أن لا يكون لَهُ يُمَنَى وَتَكُونُ قَدْ ذَهَبَتْ قَبْلَ سَرِقَتِهِ إِمَّا بِجِنَايَةٍ أَوْ عِلَّةٍ، فَلَا يَسْقُطُ قَطْعُ السَّرِقَةِ بِذَهَابِهَا بِخِلَافِ الذَّاهِبَةِ بَعْدَ سَرِقَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ قَدْ تَعَيَّنَ فِيهَا إِذَا تَأَخَّرَ ذَهَابُهَا فَسَقَطَ بِذَهَابِهَا، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَهَابُهَا تعيين الْقَطْعُ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ يَسْقُطْ بِذَهَابِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى قَطْعِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْيُمْنَى يَجْعَلُ السَّرِقَةَ الْأُولَى في حكم الثانية، والمقطوع في الثانية رجله اليسرى دون اليد الأخرى، والله اعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فإذا سَرَقَ الثَّانِيَةَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ م ِفْصَلِ الْكَعْبِ ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وهو قول الجمهور من الْفُقَهَاءِ وَقَالَ عَطَاءٌ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهَا إِلَى الْيَدِ الْيُمْنَى أَقْرَبُ مِنَ الرِّجْلِ، فَكَانَ الْعُدُولُ مِنْهَا إِلَى مَا قَارَبَهَا أَوْلَى مِنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا بَعُدَ عَنْهَا. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) . وَرُوِيَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ هَلْ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ يَدِ السَّارِقِ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَطَعَ رِجْلَهُ بَعْدَ الْيَدِ. وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ فِي الْحِرَابَةِ الرِّجْلُ بَعْدَ الْيَدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ مِثْلُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ قَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ قُطِعَتْ مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ وَلَمْ تُقْطَعْ إِلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ يَدِهِ؛ لِئَلَّا يَتَوَالَى عليه القطعان فيتلف وإن جمع بين قطعهما فِي الْحِرَابَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَطْعَهُمَا فِي الحرابة حد واحد، والحد واحد يُجْمَعُ وَلَا يُفَرَّقُ، وَقَطْعُهُمَا فِي السَّرِقَةِ حَدَّانِ، والحدان لا يجمع بينهما، ويفرقان. (مسألة) قال الشافعي: " فإذا سَرَقَ الثَّالِثَةَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ مِفْصَلِ الكف ثم حسمت بالنار فإذا سَرَقَ الرَّابِعَةَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَتُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَتَقْطَعُ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْطَعُهُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَيُحْبَسُ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَبِهِ قَالَ الثوري وأحمد بن حنبل؛ استدلالاً بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والإضافة إلى الاثنين بلفظ الجمع تقتضي واحداً من الاثنين كما قال تعالى: {وإن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فكان المراد قلباً من كل واحدة. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لا أدع له يداً يأكل بها ورجلاً يمشي عليها، وأن كُلَّ عُضْوٍ لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُقْطَعْ فِي السَّرِقَةِ بِحَالٍ كَالِّلسَانِ وَالْأَنْفِ، وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فوجب أن لا تقطع فِي السَّرِقَةِ كَالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى أقرب إلى الْيُمْنَى مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَالسَّرِقَةُ الثَّانِيَةُ أَقْرَبُ إلى الأولة مِنَ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ قُرْبِهَا مِنَ الْيُمْنَى وَقُرْبِهَا مِنَ السرقة الأولى كان أولى أن لا تقطع في الثالثة؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ ضَعُفَتْ، وَإِذَا تَقَدَّمَتْ غَلُظَتْ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْجَمْعِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ إِلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ الظَّاهِرَ، وَهَذَا انْفِصَالٌ، ويدل عليه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِيهِ الْقَتْلُ فِي الْخَامِسَةِ وَهُوَ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَصِحَّ الاجتماع بِهِ قِيلَ: نَسْخُ بَعْضِ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي نسخ باقيه. وروى أيوب عن نافع أَنَّ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ بعد يد ورجل يداً، وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ يَدٍ جَازَ قَطْعُهَا قَوَدًا جَازَ قَطْعُهَا حَدًّا كَالْيُمْنَى، وَكُلَّ رِجْلٍ قُطِعَتْ قَوَدًا جَازَ قَطْعُهَا حَدًّا كَالْيُسْرَى، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخْطَأَ فَقَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ سَقَطَ بِهَا قَطْعُ الْيُمْنَى فَتَقُولُ: مَا سَقَطَ الْحَدُّ بِقَطْعِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُسْتَحَقًّا كَالْيُمْنَى. وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ لِلْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى ثَبَتَ لِلْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى. أَصْلُهُ: الدِّيَةُ وَالْقَوَدُ وَالطَّهَارَةُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ عَارَضَهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ مَعَ فَسَادِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لو قطع لم يسقط به الحد ولم يَجُزْ قَطْعُهُ فِي الْحَدِّ بِخِلَافِ الْيَدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يُمْنَعْ فِي الْحَدِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ القتل كان أولى أن لا يمنع ما دُونَ الْقَتْلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا فِي الثَّانِيَةِ أَقْرَبُ، وَإِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ خَفَّتْ فَهُوَ إِثْبَاتُ اعْتِبَارِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ فِي الْحِرَابَةِ من خلاف فكان ذلك اعتلالا يدفع عنه هذا التعليل، كذلك السرقة، وادعاؤهم خفة السرقة إذا تكررت فغير مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ أَغْلَظُ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ مِفْصَلًا وَأَكْثَرُ زَمَانَةً. (فَصْلٌ) وَإِذَا سَرَقَ مِرَارًا قَبْلَ الْقَطْعِ قُطِعَ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا، وَتَدَاخَلَ بَعْضُ الْقَطْعِ فِي بَعْضٍ، كَالزَّانِي إِذَا لَمْ يُحَدَّ حَتَّى تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ حُدَّ فِي جميعه حداً واحداً؛ لأن الحدود لإدرائها بالشبهة يتداخل بعضها في بعض، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُقْطَعُ بِأَخَفِّ مُؤْنَةٍ وَأَقْرَبِ سَلَامَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ إِلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ سوقاً رقيقاً لَا يُعَنَّفُ بِهِ، وَلَا يُقَابَلُ بِسَبٍّ وَلَا شَتْمٍ وَلَا تَعْيِيرٍ، وَلَا يُقْطَعُ قَائِمًا حَتَّى يَجْلِسَ وَيُمْسَكُ عِنْدَ الْقَطْعِ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ، وتمد يده بحبل حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 يتبين مَفْصِلُهَا، وَيَتَوَلَّى قَطْعَهُ مَأْمُونٌ عَارِفٌ بِالْقَطْعِ بِأَحَدِّ سكين وامضاها، ولا يضربها بالسكين فربما يخطئ مَوْضِعِ الْمِفْصَلِ، وَلَكِنْ يَضَعُ السِّكِّينَ عَلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ جَذْبَهَا بِقُوَّتِهِ حَتَّى تَنْفَصِلَ بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُكَرِّرُهَا فَإِنْ لَمْ تَنْفَصِلْ بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَعَادَهَا حَتَّى تَنْفَصِلَ، وَلَا يَدُقُّ السِّكِّينَ بِحَجَرٍ، فَإِذَا انْفَصَلَتْ حَسَمَ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ كان بدوياً حسم بالنار؛ لأنها عَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ حَضَرِيًّا أُغْلِيَ لَهَا الزَّيْتُ وَحُسِمَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَسْمَهَا بِالنَّارِ وَالزَّيْتِ يَسُدُّ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ فَتَنْقَطِعُ مَجَارِي الدَّمِ فَيَقِلُّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَخَالُهُ سَرَقَ) فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به) فقطع وأتي به فقال: " تبت إِلَى اللَّهِ) فَقَالَ قَدْ تُبْتُ إِلَى اللَّهِ قال: " تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ) . فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَقْطُوعُ مِنْ حَسْمِ يَدِهِ فَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا فِي قِصَاصٍ لم يجبر على حسمها لخروجه عن حُدُودِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا فِي سَرِقَةٍ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى حَسْمِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى حَسْمِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّ اللَّهِ تعالى فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مجرى التداوي عن مرض، وكما لا يجوز فِي الْقِصَاصِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ بَعْدَ قَطْعِهِ وَلَا يُشَهَّرُ فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ شُهْرَةٌ كَافِيَةٌ وَيُطْلَقُ لِوَقْتِهِ، وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُشَدَّ كَفُّهُ الْمَقْطُوعَةُ فِي عُنُقِهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، روى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: سَأَلْنَا فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عنقه أمن السنة هو؟ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ في عنقه. (فصل) وأما أجرة القاطع وثمن الزيت لحسم يده ففي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ يَكْثُرُ جَعَلَ لِلْقَاطِعِ وَالْجَلَّادِ رزق، وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ كُلَّمَا قَطَعَ أَوْ جَلَدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يُؤْخَذْ بِثَمَنِ الزَّيْتِ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّوَاءِ الَّذِي لَا يُجْبَرُ عَلَى ثَمَنِهِ، وَأُخِذَ بِأُجْرَةِ الْقَاطِعِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ حد اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَتَوَلَّى قَطْعَ يَدَيَّ بِنَفْسِي فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمَكَّنُ كَمَا لَا يُمَكَّنُ من قطعهما قصاصاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ وَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ مَنْ قَطَعِهَا قِصَاصًا، لِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ وَهُوَ حَاصِلٌ إِذَا تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَقَطْعُ الْقِصَاصِ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي فَكَانَ مُسْتَحِقُّ التَّشَفِّي أَوْلَى بِهِ. (فَصْلٌ) وَلَا يُقْطَعُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَلَا بَرْدٍ شَدِيدٍ خَوْفًا مِنْ تَلَفِهِ فِيهِ، كَمَا لَا يُحَدُّ الزَّانِي فِي شِدَّةِ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُقْطَعُ فِي مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِيهِ أَشَدُّ خَوْفًا، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ لَا تُقْطَعُ فِي حَمْلِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا وَعَلَى حَمْلِهَا، وَلَا في نفاسها خوفاً عليها؛ لئلا لا يجتمع دم النفاس ودم القطع فيفضي إلى تلفها، قد مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قَطْعِ جَارِيَةٍ نُفَسَاءَ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا. (مسألة) قال الشافعي: " وإن سَرَقَ الْخَامِسَةَ عُزِّرَ وَحُبِسَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يُتَجَاوَزُ بِالسَّارِقِ قَطْعُ أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعِةِ فِي أَرْبَعِ سَرِقَاتٍ، فَإِنْ سَرَقَ فِي الْخَامِسَةِ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وحكي عن عثمان بن عفان وعطاء وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) وَهَذَا قَوْلٌ قَصَدَ به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيَانِ، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي الْخَامِسَةِ لَأَبَانَهُ كَمَا أَبَانَ قَطْعَهُ فِي الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ الْبَيَانِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ جَمِيعِهِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عين يجوز أن تحتمل وجوها. وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَعَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ بَعْدَهُ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْقَتْلِ فَدَلَّ عَلَى تَقَدُّمِ نَسْخِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلُوهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ حَدًّا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَلَا يُقْطَعُ الْحَرْبِيُّ إِذَا دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ ويضمن السرقة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُسْلِمٍ، وَذِمِّيٍّ، وَمُسْتَأْمَنٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 فَأَمَّا الْقسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُسْلِمُ فَيَلْزَمُ الْإِمَامَ في حقه ثلاثة أحكام: أحدها: الذب عن ماله ونفسه مِنْ كُلِّ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَتِهِ وَلَا دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْبُغَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذَّمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ) . وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَائِهَا بِنَفْسِهِ، سَوَاءً كانت في مال كالدين أَوْ عَلَى بَدَنٍ كَالْقِصَاصِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ عَلَى مُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرِ مُسْلِمٍ. وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَالٍ أَوْ بدن في حق الله تعالى أو للآدميين لِمُسْلِمٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرِ مُسْلِمٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا القسم الثاني: وهو الذمي فيلزم الْإِمَامَ فِي حَقِّهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ كَالْمُسْلِمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَفْصِيلِهَا: أَحَدُهَا: أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ كُلِّ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّاعَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا كَمَا يَذُبُّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُمْ إِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَنْ عُدْوَانٍ كَالْغُصُوبِ فَيَسْتَوْفِيهَا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ التَّغَالُبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَنْ مُعَامَلَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الإمام أو حاكمه لم يعترض لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ أَوْ إِلَى حَاكِمِهِ كَفَّهُمْ عَنِ التَّظَالُمِ، وَفِي وُجُوبِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ مَضَيَا. وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ منهم وهو عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ حقوق الآدميين المحضة. والثاني: أن تكون من حقوق الله تعالى المحضة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ فَلَا يَخْلُو مُسْتَحِقُّهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهَدًا، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا اسْتُوفِيَتْ حُقُوقُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَدَنٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ فِي مَالٍ كَالدُّيُونِ والْغُصُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا ذِمِّيًّا مِنْهُمْ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ مُرَاضَاةٍ كَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْغُصُوبِ فِي الْأَمْوَالِ لَزِمَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ التَّعَدِّي وَالتَّغَالُبِ. وَإِنْ كَانَتْ عَنْ مُرَاضَاةٍ كَدُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا تُرِكُوا، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَفِي وُجُوبِ اسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ وَلَهُمْ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ مستحقها معاهداً فإن كانت في بدن القصاص وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ نُفُوسِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَاجِبٌ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَالٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ عَلَيْنَا وَجَبَ استيفاؤها لهم، وإن لم يجب لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ لَمْ يَجِبِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ، وَاسْتَرْجَعَهَا الْإِمَامُ مِمَّنْ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنَ الغنائم مستحق للمسلمين دون أهل الذمة. والضرب الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ فَهِيَ حَقَّانِ: قَتْلٌ بِرِدَّةٍ، وَحَدٌّ فِي زِنًا. فَأَمَّا الرِّدَّةُ فَمَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ إِلَى مَا لَا يُقَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدْيَانِ اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَالْمُسْلِمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ؛ لِأَنَّ إِبْلَاغَ الْمَأْمَنِ يَلْزَمُ بِانْتِقَاضِ الذِّمَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ نَقْضًا لِذِمَّتِهِ. وَأَمَّا الزِّنَا فَإِنْ كَانَ بِمُسْلِمَةٍ حُدَّ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا بِالرَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا بِالْجَلْدِ، وَكَانَ نَقْضًا لِذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ ذِمَّتِهِ فَيَبْلُغُ مَأْمَنَهُ ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا وَإِنْ زَنَا بِذِمِّيَّةٍ فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِمَا قَوْلَانِ مِنْ نُفُوذِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِذِمَّتِهِمْ، لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى ارْتِكَابِ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ فَيُسْتَتَابُونَ مِنْهُ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نُبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدُهُمْ، ثُمَّ كَانُوا بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِمْ حَرْبًا. فَأَمَّا إِنْ نَاكَحُوا ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ فَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ فِي دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهِ، وَصَارَ مِنْهُمْ كَالزِّنَا، وَإِنِ اعْتَقَدُوا إِبَاحَتَهُ كَالْمَجُوسِ أُقِرُّوا عَلَيْهِ. فَأَمَّا شُرْبُ الْخُمُورِ فَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِهَا وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ شربها لاستباحتهم لها في دينهم، فلا حَدَّ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا حَدَدْتُمُوهُمْ وَإِنِ اسْتَبَاحُوهَا كَمَا تَحُدُّونَ الْمُسْلِمَ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ وإن عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ مُقَرٌّ عَلَى ما خالفنا فِيهِ مِنْ دِينِهِ فَلَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُ الْإِمَامِ عليه، والمسلم مأخوذ بحقوق الدين نفذ حكم الإمام عليه. وأما الضرب الثالث: فهو أن يكون مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وحقوق الآدميين فهو السرقة، ولا تخلو سرقته أن تكون من مسلم أو من ذمي أو من معاهد، فإن سرق من مسلم غرم وقطع كالمسلم، وإن سرق من ذمي أغرم، لأنه عن تغالب تمنع دار الإسلام منه، وفي قطعه قولان من نفوذ أحكامنا عليهم، وإن كان معاهداً، فإن كان لماله أمان أغرم للمعاهد وقطع في سرقته وإن لم يكن لماله أمان أغرم لبيت المال ولم يقطع فيه. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُعَاهَدُ فالمعاهدون وفي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُخَالِفُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لأن الأمان يقتضيه فلا يلزمه أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ مَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُمْ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُمْ وَلَا يُوجِبُ نُصْرَتَهُمْ وأما إذا تعدى بعضهم على بعض لم يجب نُصْرَتُهُمْ وَلَمْ يُقَرُّوا عَلَى التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ التَّنَاصُفَ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّظَالُمِ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ تَنَاصَفْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ثُمَّ صِرْتُمْ بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِكُمْ حَرْبًا. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ؛ سَوَاءً كَانَتْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، كَمَا لَا يَلْزَمُ نُصْرَتُهُمْ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ نُظِرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَمَانِهِمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ لِوُجُودِهَا فِي حَالٍ لَا يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَمَانِهِمْ فَهِيَ نَوْعَانِ حُقُوقُ أَبْدَانٍ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ. فَأَمَّا حُقُوقُ الْأَبْدَانِ كَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ فَيَلْزَمُ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ، وإن كَانَتْ عَلَى مُسْلِمٍ اسْتَحَقُّوا بِهَا الدِّيَةَ، وَإِنْ كانت على ذمي استحقوا بها القود. فأما حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ لم يلزم استيفاؤها لهم، واسترجعت الذِّمِّيِّ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَأُقِرَّتْ عَلَى الْمُسْلِمِ إِنْ أَخَذَهَا قَهْرًا بَعْدَ أَخْذِ خُمُسِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَنِيمَةٌ وَإِنْ أَخَذَهَا اخْتِلَاسًا انْتُزِعَتْ مِنْهُ لِبَيْتِ المال؛ لأنها فيء به، وَإِنْ كَانَ لِأَمْوَالِهِمْ أَمَانٌ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُمْ كما وجب استيفاء حقوقهم من أَبْدَانِهِمْ لِاشْتِمَالِ أَمَانِهِمْ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَتُسْتَوْفَى مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، فَإِنْ سُرِقَتِ الْأَمْوَالُ مِنْهُمْ قُطِعَ سَارِقُهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ الْأَمَانِ لِمُسْلِمٍ ولا ذمي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْطَعُهُ اسْتِحْسَانًا. وَدَلِيلُنَا مع عموم الظواهر أَنَّ مَنْ ضُمِنَ مَالُهُ جَازَ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُهُ قِيَاسًا عَلَى مَالِ الذِّمِّيِّ، وَلِأَنَّ مَا وجب بسرقة مال الذمي وجب سرقة مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ كَالضَّمَانِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ فَيُنْظَرُ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى أَمَانِهِمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، كَمَا لَا يَلْزَمُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنْ لَزِمَتْهُمْ بَعْدَ أَمَانِهِمْ لَمْ يَخْلُ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حقوق الآدميين المحضة. والثاني: أن تكون حقوق الله تعالى المحضة. والثالث: أن تكون من الحقوق المشتركة. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ نُظِرَ مُسْتَحِقُّهَا فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاؤُهَا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنْ تَنَاصَفْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ثُمَّ صِرْتُمْ بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِكُمْ حَرْبًا لِمَا تُوجِبُهُ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّنَاصُفِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَجَبَ أَنْ يُسْتَوْفَى لَهُ حَقُّهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ في بدن كالقصاص أو في مال كالديون والْغُصُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْأَمَانِ أَنْ نُؤَمِّنَهُمْ وجب أن نأمنهم بما يُوجِبُهُ الْأَمَانُ مِنْ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ فِيهِ. وَأَمَّا حقوق الله المحضة فقتل بردة وحد فِي زِنًا، فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ يَعُمُّ مَنْ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَمَنْ لَا يُقَرُّ بِخِلَافِ الذِّمَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا فِيمَنْ يُقَرُّ على دينه، ويكونون بَعْدَ الرِّدَّةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، لَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا فَإِنَّهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا مُعَاهَدَةٌ، أَوْ ذِمِّيَّةٌ، وَإِمَّا مُسْلِمَةٌ، فإن كانت معاهدة لم يلزم استنابة الزاني، وَقِيلَ لَهُمْ دَارُ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ فَإِنْ كَفَفْتُمْ عَنْهَا وَإِلَّا مُنِعْتُمْ مِنَ الْمُقَامِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا ذِمِّيَّةً وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابُوا مِنْ هَذَا الزِّنَا بِمِثْلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ لِيَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ يَصِيرُوا حَرْبًا، وَإِنْ كَانَ الْمَزْنِيُّ بِهَا مُسْلِمَةً كَانَ الزِّنَا نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ إِنْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ وَبَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ، وَصَارُوا حَرْبًا، وَإِنْ لم يشترط ذلك عليهم في عهدهم استتيبوا منه، فإن تابوا وإلا نبذن إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ يَصِيرُوا حَرْبًا. وَأَمَّا الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الآدميين فهي السرقة وهي المسألة الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا فَرَّعْنَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَيْهَا لِارْتِبَاطِ بعضه ببعض اشتمل عَلَى تَقْسِيمِ مَا اتَّصَلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا سَرَقَ الْمُعَاهَدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَالًا فَإِنْ كَانَ مِنْ مُعَاهَدٍ لم يلزمه أن يأخذه بِغُرْمٍ وَلَا قَطْعٍ، لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ: دَارُ الإسلام توجب التناصف وتمنع التَّغَالُبِ فَإِنْ تَنَاصَفْتُمْ وَإِلَّا نَبَذْنَا إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغُرْمِ مَا سَرَقَ وَفِي وُجُوبِ قطعه قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه ها هنا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ) وَنَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الله تعالى وأشبه حَدَّ الزِّنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَلَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ حِفْظًا لِلْأَعْرَاضِ لَزِمَهُ قَطْعُ السَّرِقَةِ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعرضكم حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) فَجَمَعَ بَيْنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي التَّحْرِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ جَمِيعُهَا فِي الاستيفاء فصار تَحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَطْعِ السَّرِقَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ غَرِمَ، وَقُطِعَ وَالذِّمِّيَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أو معاهد أغرم وقطع، وإذا سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ غُرِّمَ، وَفِي قَطْعِهِ قَوْلَانِ، وَالْمُعَاهَدُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مُعَاهَدٍ لَمْ يُغَرَّمْ وَلَمْ يُقْطَعْ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذمي غرم وَفِي قَطْعِهِ قَوْلَانِ: (فَصْلٌ) إِذَا قُطِعَ فِي سَرِقَةِ مَالٍ ثُمَّ سَرَقَهُ ثَانِيَةً قُطِعَ، وَكَذَلِكَ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً، سَوَاءً كَانَ مِنْ مَالِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قُطِعَ فِي مَالٍ لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ ثَانِيَةً إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ كَالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ، وَالطَّعَامِ إِذَا طُحِنَ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ وَفِعْلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي عَيْنَيْنِ يُوجِبُ قَطْعًا وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلَانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ قَطْعًا وَاحِدًا، ولأن قطع السرقة في حراسة الْأَمْوَالِ مُقَابِلٌ لِحَدِّ الْقَذْفِ فِي صِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ قَطْعُ السَّرِقَةِ فِي الْمَالِ الْوَاحِدِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ حَدٌّ يَقِفُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى مُطَالَبَةِ آدَمِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَالْقَذْفِ. وَدَلِيلُنَا مَعَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: هُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَكَرُّرُهُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ كَتَكَرُّرِهِ فِي الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالزِّنَا يُحَدُّ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الْوَاحِدِ كَمَا يُحَدُّ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الْجَمَاعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَحَلُّ الْحَدِّ فِي الزِّنَا مَوْجُودٌ فَجَازَ أَنْ يَتَكَرَّرَ وَمَحَلُّ الْقَطْعِ مَفْقُودٌ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ. قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ يَبْطُلُ فِي الزِّنَا بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَوْجُودٌ وَلَا يَتَكَرَّرُ، وَيَبْطُلُ فِي السَّرِقَةِ بِالْقَطْعِ فِي الْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ مَفْقُودٌ وَقَطْعُهُ يَتَكَرَّرُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 ثُمَّ يُقَالُ؛ مَحَلُّ الْقَطْعِ فِي الثَّانِيَةِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ الْأَرْبَعَةَ مَحَلٌّ لَهُ فَلَمْ يَسْلَمِ التَّعْلِيلُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا وَضَحَ الْفَرْقُ بِمَا بَيَّنَّاهُ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ إِذَا سَرَقَهَا غَيْرُ سارقها قطع، فوجب إذا سرقها أَنْ يُقْطَعَ كَالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ. فَإِنْ قِيلَ: لأن الثَّوْبَ الْمَنْسُوجَ لَا يُسَمَّى غَزْلًا فَجَازَ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ ثَانِيًا انْتَقَضَ عَلَى أَصْلِهِ بِالْجَدْيِ إِذَا قُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ وَقَدْ صَارَ تَيْسًا لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ جَدْيًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ الْفِعْلَ كَالْعَيْنِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ فَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ فِي الْعَيْنَيْنِ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهَا قَطْعًا وَاحِدًا، وَالْفِعْلَانِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ سَرِقَتَانِ فَلِذَلِكَ قُطِعَ فِيهَا قَطْعَانِ، ويدل عليها الأيمان. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْغَزْلِ إِذَا نُسِجَ فَهُوَ أَنَّ حَدَّهُ فِي الْقَذْفِ قَدْ أَثْبَتَ كَذِبَهُ فَلَمْ يُحَدَّ فِي الثَّانِي مَعَ ثُبُوتِ كَذِبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِصَغِيرَيْنِ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُمَا: قَدْ زَنَيْتُمَا لَمْ يُحَدَّ لَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِصِيَانَةِ الْمَالِ وَحِرَاسَتِهِ فَكَانَ مَعْنَى الْقَطْعِ فِي الْأَوَّلِ مَوْجُودًا فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ فَقُطِعَ فِيهَا ثَانِيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 (باب الإقرار بالسرقة والشهادة عليها) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُقَامُ عَلَى سَارِقٍ حَدٌّ إِلَّا بِأَنْ يَثْبُتَ عَلَى إِقْرَارِهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أو بعدلين يقولان إِنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ سَرَقَ مَتَاعًا لِهَذَا مِنْ حرزه بصفاته يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ وَيُحْضَرُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَيَدَّعِي شَهَادَتَهُمَا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو ثُبُوتُ السَّرِقَةَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تكون عن دعوى المالك أو يغير دَعْوَاهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ دَعْوَى الْمَالِكِ فَثُبُوتُهَا على السارق، ويكون إِمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِنْ خَالَفَا فِي الزِّنَا فَلَمْ يَحُدَّاهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَوَافَقَا فِي السَّرِقَةِ أنها تلزمه بإقرار مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الشَّهَادَةِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَا تَثْبُتُ السَّرِقَةُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهَا مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الشَّهَادَةِ فِيهِ كَالزِّنَا؛ لِأَنَّهَا حَدٌّ لِلَّهِ تعالى، واحتجاجاً بأن سارقاً أقر عند علي عليه السلام بالسرقة فانتهره، فأقر ثانية فقال الآن أَقْرَرْتَ مَرَّتَيْنِ، وَقَطَعَهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أتى من هذه القاذروات شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّكْرَارِ كسائر الحقوق. فأما انتهار علي المقر فَالظَّاهِرُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْهُ فَلَمْ يجز أن يعدل به عن ظاهره. (فَصْلٌ) فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فِي الْغُرْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَفِي قَبُولِ رُجُوعِهِ فِي سُقُوطِ الْقَطَعِ قَوْلَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ كَالزِّنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيُقْطَعُ كَمَا لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنِ الْقَذْفِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيهِ فَكَانَ حَقُّ الله تعالى فِي الْقَطْعِ تَبَعًا لَهُ، بِخِلَافِ الزِّنَا الْمُخْتَصِّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ قَوْلًا واحداً كالزنا؛ لاختصاصه بحق الله تعالى وَحْدَهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ رُجُوعَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ قُطِعَ، فَإِنْ هَرَبَ لَمْ يُطْلَبْ. رَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَأُمُّهُ إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام فقالت الأم: إن ابني هذا قَتَلَ زَوْجِي، فَقَالَ الِابْنُ، إِنَّ عَبْدِي وَقَعَ عَلَى أُمِّي فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً يُقْتَلُ ابْنُكِ، وَإِنْ يَكُنِ ابْنُكِ صَادِقًا نَرْجُمُكِ ثم قام علي عليه السلام لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ الْغُلَامُ لِأُمِّهِ: مَا تَنْتَظِرِينَ أَنْ يقتلني أو يرجمك فانصرفا، فلما صلى سَأَلَ عَنْهُمَا فَقِيلَ انْطَلَقَا فَلَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رُجُوعَهُ مَقْبُولٌ لَمْ يَخْلُ السَّارِقُ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قُطِعَ، فَلَا يَكُونُ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا لَمْ يُقْطَعْ، فَسَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْ قَاطِعِهِ يُؤْخَذُ بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقَطْعِ وَحَزِّ السِّكِّينِ فِي يَدِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ بَقَاؤُهَا عَلَى زَنْدِهِ بعد عمل السكين فيها فالواجب أن تستبقا وَلَا تُفْصَلَ مِنْ زَنْدِهِ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ إِذَا لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ بَقَاؤُهَا عَلَى زنده لانفصال أكثرها فلا تلزم إِبَانَتُهَا فِي حَقِّ السَّرِقَةِ لِسُقُوطِهِ عَنْهُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِكَ وَمَصْلَحَةِ جَسَدِكَ فَافْعَلْ، وَإِنْ تَرَكْتَهَا عَلَى حَالِهَا لَمْ تُمْنَعْ. فَإِنْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ نَفْسَانِ عَنِ اشْتِرَاكٍ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الرَّاجِعِ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ وَإِنِ اشْتَرَكَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَتَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَخْلُو الْحَدُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقِصَاصِ وحد القذف لزمه الإقرار به ولم يصح كتمه؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَجَلْدِ الْخَمْرِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا كَانَ مَشْهُورًا بِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ على نفسه ولا يقر به فإن تَكَرَّرَ مِنْهُ وَكَانَ مَشْهُورًا بِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ وَلَا يَكْتُمَهُ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ تاب منه فأستحب لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَلَا يُقِرَّ بِهِ؛ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) . وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ تَكْفِيرًا وَتَطْهِيرًا. رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عن الزهرية عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مجلس فقال: " تبايعون عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) وَقَرَأَ عَلَيْنَا الْآيَةَ وَقَالَ: " فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ اخْتَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ فِي الْحُدُودِ حَدِيثًا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا. وَرَوَى خُزَيْمَةُ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ) . (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ عِنْدَ الْإِمَامِ لِيُقِرَّ بِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الْإِمَامُ بِالْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى مِنْهُ آثَارَ النَّدَمِ وَأَمَارَاتِ الِاسْتِرْسَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا: " لَعَلَّكَ قبلت، لعلك لمست) . واتى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَارِقٍ مُعْتَرِفٍ فَقَالَ لَهُ: " مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ) فَقَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا وَهُوَ يَعْتَرِفُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ " اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وتب) فَقَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَهُ) فَهَذَا حُكْمُ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَ السَّرِقَةَ بَعْدَ دَعْوَاهَا عليه فلا يخلو أن يكون لمدعيها بَيِّنَةٌ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ سَمِعْنَاهَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ مَا أَوْجَبَتِ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ، وَالْخَاصَّةُ مَا أَوْجَبَتِ الْغُرْمَ وَلَمْ تُوجِبِ الْقَطْعَ. فَأَمَّا الْعَامَّةُ الْجَامِعَةُ للأمرين فهي شاهدان عدلان، وكمال شهادتهما معتبر بخمسة شروط: أحدهما: ذِكْرُ السَّارِقِ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ // الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ الْحِرْزِ. وَالرَّابِعُ: ذِكْرُ الْمَالِ. وَالْخَامِسُ: صِفَةُ السرقة. لأن الْحُكْمَ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا فِي الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يخل حَالُ الْأَعْيَانِ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَائِبَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا حَاضِرًا وَبَعْضُهَا غَائِبًا. فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يُعَيِّنَا الشَّهَادَةَ بِالْإِشَارَةِ فَيَقُولَانِ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ سَرَقَ مِنْ مَالِ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ مِنْ هَذَا الْحِرْزِ بِعَيْنِهِ هَذَا الْمَالَ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ يَصِفَانِ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّهَا فِعْلٌ ماض لا تمكن الإشارة إليه فيه فيقولان؛ نقب الحرز ودخله، وأخرج من هَذِهِ السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ غَائِبًا، فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَصِفَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ فَيَقُولَانِ: نَشْهَدُ أَنَّ فلان ابن فلان الفلاني سرق من مال فلان ابن فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ مِنْ حِرْزٍ يَصِفَانِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَاهُ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْحِرْزِ الَّذِي يقطع منه، وَيَصِفَا الْمَالَ بِمَا تَزُولُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ، فَإِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ لَمْ يَحْتَاجَا فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْقِيمَةِ فِي الشَّهَادَةِ لَكِنْ يَعْتَبِرُهَا الْحَاكِمُ في القطع، فإن لَمْ يَكُنْ ذَا مِثْلٍ ذَكَرَا قِيمَتَهُ، فَإِنْ شَهِدَا بِسَرِقَةِ نِصَابٍ لَمْ تُسْمَعْ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ، ثُمَّ يَصِفَانِ السَّرِقَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَا الشَّهَادَةَ عَلَى ما بيناه حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ حَاضِرًا وَبَعْضُهُ غَائِبًا اعْتُبِرَ فِي الْحَاضِرِ الْإِشَارَةُ وَفِي الْغَائِبِ الصِّفَةُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي صِفَةِ الْمَسْرُوقِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا مَرْوِيًّا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا لَمْ تَكْمُلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 وقال أبو حنيفة: هذه الشهادة كَامِلَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقَطْعُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْجِنْسِ فَلَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّفَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الصِّفَةِ يَمْنَعُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَيْنِ فَصَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ الْمَانِعِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ فِيهِمَا سَاقِطًا. وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوجِبَةُ للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ وَلَا تُوجِبُ الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بَيِّنَةُ الْحُدُودِ جُمِعَ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ، وَإِنْ قام بَيِّنَةُ الْأَمْوَالِ وَجَبَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الْحِرْزِ وَصِفَةُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرْطَانِ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْغُرْمِ، وَإِنْ عَدِمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا عَلَى حَدٍّ وَلَا مَالٍ أُحْلِفَ السَّارِقُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ إِذَا حَلَفَ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالْغُرْمِ، فَأَمَّا الْقَطْعُ فَلَا يجب لأنه من حدود الله تعالى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْأَيْمَانُ فِي إِثْبَاتٍ وَلَا إِنْكَارٍ فَصَارَتِ الْيَمِينُ فِيهِ مَقْصُورَةً عَلَى الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ مُدَّعِي السَّرِقَةِ وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّارِقِ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ لَمْ يُعْتَرَضْ فِيهَا لِلسَّارِقِ بِقَطْعٍ وَلَا غُرْمٍ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالتُّهْمَةِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ أصحاب الريب مِنْ زَوَاجِرِ التَّأْدِيبِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْمُعَاوِنِ دون الحكام، وإن ثبتت السَّرِقَةُ فَلِثُبُوتِهَا وَجْهَانِ: بَيِّنَةٌ، وَإِقْرَارٌ، فَإِنْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٌ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَالَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيَدَّعِيَهَا، وَقَالَ فِي الْأُمِّ: إِذَا قَامَتْ عَلَى رَجُلٍ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ زَنَا بِهَا وَسَيِّدُهَا غَائِبٌ أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُوقَفُ عَلَى حُضُورِ سَيِّدِهَا، فَخَالَفَ بَيْنَ قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا في الأمة، فاختلف أصحابنا باختلاف هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الزِّنَا وَاحِدٌ يُوقَفَانِ مَعًا عَلَى حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَحُضُورِ سَيِّدِ الْأَمَةِ، فَإِنِ ادَّعَيَا ذَلِكَ قُطِعَ السَّارِقُ وَحُدَّ الزَّانِي، وَإِنْ أَنْكَرَاهُ أَوْ ذَكَرَا شُبْهَةً لَهُ فِي الْمِلْكِ أو الْفِعْلِ لَمْ يُقْطَعِ السَّارِقُ وَلَمْ يُحَدَّ الزَّانِي، وَزَعَمَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الزَّانِي بِالْأَمَةِ سَهْوٌ مِنْ نَاقِلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: هو قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْقُولٌ إِلَى الْآخَرِ وَيَكُونَانِ على قولان: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ السَّارِقُ وَيُحَدُّ الزَّانِي عَلَى مَا نص عليه في حد الزنا لما فيها من حقوق الله تعالى الَّتِي لَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ وَلَا يُحَدُّ الزَّانِي عَلَى مَا نص عليه في قطع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 السارق لما تحملهما من الشبهة التي يدرأ بِهَا الْحُدُودُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أن الجواب على ظاهر نصه فيه، فَيُحَدُّ الزَّانِي قَبْلَ حُضُورِ السَّيِّدِ، وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالَ يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ والوطء لا يستباح وكانت الشُّبْهَةُ فِي السَّرِقَةِ أَقْوَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ تَابِعٌ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ فَكَانَ مَوْقُوفًا على حضوره، وحق الزِّنَا خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُوقَفْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَى حُضُورِ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَإِنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ وَالزِّنَا بِإِقْرَارِ السَّارِقِ وَالزَّانِي فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ كَثُبُوتِهِ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الثلاثة؛ لأن الحدود تستوفى بكل وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّهُمَا يُسْتَوْفَيَانِ فَيُقْطَعُ السَّارِقُ وَيُحَدُّ الزَّانِي وَجْهًا وَاحِدًا، ولا يوقف عَلَى حُضُورِ السَّيِّدِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قُوَّةُ الشُّبْهَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَضَعْفُهَا فِي الْإِقْرَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ قَبْلَ حُضُورِ الْغَائِبِ، فَإِنْ قُلْنَا يُعَجَّلُ قَطْعُهُ وَلَا يُؤَخَّرُ انْتُزِعَتْ مِنْهُ السَّرِقَةُ إِنْ كَانَتْ عَيْنًا؛ وَأُغْرِمَ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً، وَوُقِفَتْ عَلَى حُضُورِ الْغَائِبِ، وإن ادعاها سلمت إليه، وإن أنكر نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِشَهَادَةٍ رُدَّتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهَا بِإِقْرَارٍ لَمْ تُرَدَّ، وكانت في بيت المال حتى يثبت بها مُسْتَحِقٌّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ مُنْكِرٌ لِاسْتِحْقَاقِهَا، وَفِي الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهَا، وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بَدَيْنٌ لِغَائِبٍ تُرِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ رَاضٍ بِذِمَّتِهِ وَصَاحِبَ السَّرِقَةِ غَيْرُ رَاضٍ بِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَخَّرُ قَطْعُهُ وَلَا يُعَجَّلُ لَمْ تَخْلُ السَّرِقَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً، فَإِنْ كَانَتِ مُسْتَهْلَكَةً اسْتَقَرَّ غُرْمُهَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ تقبض مِنْهُ لِتَكُونَ ذِمَّتُهُ مُرْتَهَنَةً بِهَا، وَيُحْبَسَ عَلَى حضور الغائب بحقه وحق الله تعالى فِي قَطْعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ حجر عليه فيها حفظاً لها ولم تنتزع مِنْهُ لِتَكُونَ بَاقِيَةً فِي ضَمَانِهِ، وَهَلْ يُحْبَسُ عَلَى حُضُورِ الْغَائِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 أَحَدُهُمَا: لَا يُحْبَسُ لِبَقَاءِ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ. وَالْوَجْهُ الثاني: أنه يحبس لحق الله تعالى في قطعه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا مَتَاعُهُ غَلَبَهُ عَلَيْهِ وابتاعه مِنْهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ لَمْ أقطعه لأني أجعله خَصْمًا لَوْ نَكَلَ صَاحِبُهُ أَحْلَفْتُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ حِرْزٍ بَعْدَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِإِكْذَابِهِ تَأْثِيرٌ لِمَا فِي إِكْذَابِهِ مَنْ جَرْحِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ وَالْقَطْعِ، فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي بَعْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَحْلِفْ لِمَا فِي يَمِينِهِ مِنْ جَرْحِ الشُّهُودِ، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُمَا وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ الذي أخذه من حرزه هو ماله غصب عَلَيْهِ صَاحِبُ الْحِرْزِ أَوْ كَانَ وَدِيعَةً لَهُ عنده أو عارية أو وهبة لَهُ وَأُذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ مِنَ الْحِرْزِ عَنْ إِذْنِهِ فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ مُجَوَّزَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ فِعْلِهِ، وَهَذَا بَاطِنٌ مُحْتَمَلٌ، فَصَارَ كَشَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ فَادَّعَى دَفْعَهُ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يُقْدَحْ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سُئِلَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَمَّا ادَّعَاهُ السَّارِقُ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِلسَّارِقِ بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا وَبَيِّنَتُهُ: شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِإِثْبَاتِ مَالٍ مَحْضٍ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلَا قَطْعَ، وَمَا بِيَدِهِ مِلْكٌ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ عَدِمَ الْبَيِّنَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ الْمَالَ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا انْتَزَعَهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِغُرْمِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِاحْتِمَالِ صدقه فيها. والثاني: أنه لو تلف بَعْدَ نُكُولِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِهَا وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يُقْطَعَ مَعَهَا سَارِقٌ فتفضي إلى إسقاط حدود الله تعالى، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِثْبَاتُ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ، وَالْحُدُودُ تُسْقَطُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تُثْبَتُ بها. والثاني: اتفاقهم أنه لو ثبت عليه الزنا فادعى زوجته الْمَزْنِيِّ بِهَا سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى إِسْقَاطِ الحدود وكذلك الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ، فَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَنِ الْيَمِينِ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 دَعْوَى السَّارِقِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى السَّارِقِ فَإِذَا حلف حكم له بملك ما سرق ولم يجب عليه قطعه كالزوج القاذف إذا لاعن سقط الحد عنه بإبهامه. وَلَوْ كَانَا سَارِقَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْ مُدَّعِيهَا وَلَمْ تسقط عَنِ الْآخَرِ سَوَاءٌ تَصَادَقَ السَّارِقَانِ عَلَيْهَا أَوْ تَكَاذَبَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ أَحَدِهِمَا لَا تَقِفُ عَلَى شبهة الآخر. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ رَبُّ الْمَتَاعِ حُبِسَ السَّارِقُ حَتَّى يَحْضُرَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي حَبْسِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ منه غائباً لم يعجل قطعه وهو مذهب الشافعي فإنه يُحْبَسُ مَا لَمْ تَطُلْ غَيْبَةُ رَبِّهَا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مُسْتَهْلَكَةً، وَفِي حَبْسِهِ إِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً وَجْهَانِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَةُ رَبِّهَا بَعِيدَةً لم يحبس، لأنه لا تعلم عودته ثم ينظر فَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ مُسْتَحَقًّا لِغُرْمِ السَّرِقَةِ طُولِبَ بِكَفِيلٍ وَأُطْلِقَ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ وُضِعَتِ السَّرِقَةُ فِي يَدِ أَمِينٍ ولم يطالب بكفيل؛ لأن حدود الله تعالى لا تصح فيها الكفالات، فلو امتنع رب السَّرِقَةِ مِنْ إِقَامَةِ كَفِيلٍ حُبِسَ عَلَى إِقَامَةِ الْكَفِيلِ لَا عَلَى قُدُومِ الْغَائِبِ، فَإِنْ بَذَلَ غرم السرقة لم يحبس ولا يُكْفَلْ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْغُرْمِ أَقْوَى مِنَ الْكَفَالَةِ وَأُطْلِقَ، وَوُضِعَ الْغُرْمُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ عَلَى سَرِقَةٍ أَوْجَبْتُ الْغُرْمَ فِي الْمَالِ وَلَمْ أوجبه في الْحَدَّ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ فِي السَّرِقَةِ حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِآدَمِيٍّ وَهُوَ الْمَالُ. وَالثَّانِي: لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقَطْعُ. وَالْأَمْوَالُ تُسْتَحَقُّ بِشَاهِدٍ وامرأتين، وشاهد وَيَمِينٍ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَإِذَا شهد على السارق شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، وَجَبَ الْغُرْمُ وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَتْلُ الْعَمْدِ يوجب القود والدية فهلا إذا شهد به رجل وامرأتان يحكم عليه بالدية لأنها مال، ولا يحكم بالقود لأنه حد؟ قيل: لا يحكم ذلك إلا في قتل العمد لوقوع الفرق بينهما؛ لأن الدِّيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَمْ تَثْبُتِ الدِّيَةُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْقَوَدِ، وَلَيْسَ الْغُرْمُ بَدَلًا مِنَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْغُرْمُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْقَطْعُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 فَإِنْ قِيلَ فَالْهَاشِمَةُ فِيهَا قِصَاصٌ فِي مُوضِحَتِهَا وَدِيَةٌ فِي هَشْمِهَا أَفَتَحْكُمُونَ بِدِيَةِ الْهَشْمِ إِذَا شهد به رجل وامرأتان؟ . قيل: لا تحكم ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْهَاشِمَةِ اسْتِحْقَاقُ الْقِصَاصِ فِي مُوضِحَتِهَا، وَالدِّيَةِ فِي هَشْمِهَا وَلَا يَنْفَرِدُ اسْتِحْقَاقُ أَحَدِهِمَا: عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُ الْقَوَدِ امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِقْرَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِوَارِثٍ إِذَا مَنَعَ مِنْ ثبوت النسب منع اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِثُبُوتِهِ، وَلَيْسَتِ السَّرِقَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ فِيهَا قَدْ يُسْتَحَقُّ وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهَا الْقَطْعُ كَالْوَالِدِ إِذَا سَرَقَ مِنْ وَلَدِهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الغرم بها ولا يثبت به القطع، وكذلك قُلْنَا: فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عليه، فيشهد عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِرَجُلِ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَمْ نَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ بِالدَّيْنِ شَاهِدَانِ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ والطلاق هذا أصلا مستمراً. (مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ فِي بَدَنِهِ فَأَقْطَعُهُ وَالْآخَرُ فِي مَالِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مَالًا فَإِذَا أُعْتِقَ وَمَلَكَ أَغْرَمْتُهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَأَصْلُهَا أَنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ فِيمَا اخْتَصَّ بِبَدَنِهِ مَقْبُولٌ، وَفِيمَا اخْتَصَّ بِالْمَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَدَاوُدُ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي البدن ولا في المال وهذا فاسد لأمرين: أحدهما: أن إقراره أنه لَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَصُمْ، نَافِذٌ فِيمَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ من الصلاة قتل بإقراره أنه لَمْ يُصَلِّ فَكَذَلِكَ فِيمَا عَدَاهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَالِ وَالْبَدَنِ بِأَنَّ التُّهْمَةَ مُرْتَفِعَةٌ عنه فيما تعلق ببدنه، ومتوجهة إليه فيما تعلق بِالْمَالِ، فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ فِي بَدَنِهِ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَأَقَرَّ بِسَرِقَةٍ قُطِعَ بِإِقْرَارِهِ. وَأَمَّا الْمَالُ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ فاختلف أصحابنا في محلها عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ هَلْ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ لِاتِّصَالِهِ بِالْقَطْعِ الَّذِي لَا يُتَّهَمُ فِيهِ، فَأَمَّا مَعَ استهلاك المال فلا يقبل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 في تعلقه بِرَقَبَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ لِغُرْمِهِ مَحَلًّا يَثْبُتُ فيه ويفرد منه لِيُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا كَانَ تَالِفًا هَلْ يَتَعَلَّقُ برقبته فيباع فيه أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ يده يد السيد فصار كإقراره بسرقته مَا فِي يَدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ أَوْ تَالِفًا هَلْ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ وَمَا فِي يَدِهِ جَمِيعًا فِي حُكْمِ مَا فِي يَدِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ نَفَذَ إِقْرَارُهُ فِي أحدهما نفذ في الآخر وليس للفرق بينهما وجه والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 (باب غرم السارق ما سرق) (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أُغَرِّمُ السَّارِقَ مَا سَرَقَ قُطِعَ أَوْ لَمْ يقطع وكذلك قاطع الطريق والحد لله فلا يُسْقَطُ حَدُّ اللَّهِ غُرْمَ مَا أُتْلِفَ لِلْعِبَادِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ بَاقِيَةً فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى مَالِكِهَا، وَيُقْطَعُ سَارِقُهَا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَغْرَمُهَا السَّارِقُ وَيُقْطَعُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْغُرْمُ عَلَى الْقَطْعِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ، فَإِنْ قُطِعَ لَمْ يُغَرَّمْ وَإِنْ أُغْرِمَ لَمْ يُقْطَعْ وَرَبُّهَا قَبْلَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالْغُرْمِ فَلَا يُقْطَعُ وبين أن يمسك عَنْهُ فَيُقْطَعُ، وَلَوْ قُطِعَ وَالسَّرِقَةُ بَاقِيَةٌ فَأَتْلَفَهَا أجنبي لم يضمنها للسارق؛ لأنه غير مالك ولا لربها؛ لأن لا يُجْمَعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ وَقَالَ: لَوْ سَرَقَ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ كُوزًا فَقُطِعَ لَمْ يَرُدَّ الْكُوزَ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَسْوَدَ لَمْ يَرُدَّهُ إِذَا قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ صار بالسواد كالمستهلك، ولو صبغه أحمر رده لا يجعله كَالْمُسْتَهْلَكِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا قُطِعَ وَأُغْرِمَ كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُطِعَ وَلَمْ يُغْرَمْ إِذَا أَيْسَرَ كقول أبي حنيفة، واحتج من منع الْجَمْعِ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فَجُعِلَ جَزَاءَ سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ) وهذا نص. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْمَالِ كَالزِّنَا بِمُطَاوَعَةٍ لَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْمَهْرِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَجِنَايَةِ الْعَمْدِ لا يجمع بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ اسْتِهْلَاكَ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ كَالْغَصْبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ قَطْعَهُ وَإِنْ أُغْرِمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْ قَطْعِهِ إِذَا أُغْرِمَ وَيَجْعَلُهُ مُخَيَّرًا، وقد جعله الله تعالى حتماً، وقوله: {جزاء بما كسبا} يَعُودُ إِلَى الْفِعْلِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لا يدخل في كسبهما، وَلِأَنَّ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَا بِهَا وَجَبَ عليه الحد ويردها إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَيَرُدُّ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْغُرْمِ كَذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تعالى لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْغُرْمِ كَالزِّنَا بِالْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ وَجَبَ الْقَطْعُ مَعَ رَدِّهَا الْقَطْعُ مَعَ رَدِّ بَدَلِهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا السَّارِقُ وَاسْتَهْلَكَ ثَمَنَهَا قُطِعَ مَعَ رَدِّ بَدَلِ الثمن كما يقطع مع رد الثمن، كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ وَالْغُرْمُ وَجَبَ بِاسْتِهْلَاكِهَا، وَكُلُّ حَقَّيْنِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَقَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فهو أنه ضعيف ذكر الساجي أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إما أنه لا غرم عليه لأجرة قَاطِعِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ الْحُدُودِ كَانَتْ بِالْغَرَامَاتِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الْحُدُودُ سَقَطَ الْغُرْمُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: " إِذَا قُطِعَ السارق فلا غرم عليه) إشارة إلى إِلَى الْغُرْمِ الَّذِي كَانَ حَدًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الزِّنَا بِالْمُطَاوَعَةِ فَهُوَ أَنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَأَسْقَطَتْ مَهْرَهَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْجِنَايَاتِ فَهُوَ أَنَّهُمَا وَجَبَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَلَمْ يَجْتَمِعَا وَالْقَطْعُ وَالْغُرْمُ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا كَمَا يَجْتَمِعُ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْقِيمَةُ وَالْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَمَدْخُولُ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ إِنْ وجب لم يَسْقُطَ عَنْهُ بِالْإِعْسَارِ إِذَا أَيْسَرَ، وَإِنْ لَمْ يجب لم يستحق عليه بوجود الْيَسَارِ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ وَجْهٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 (باب ما لا قطع فيه) قال الشافعي رحمه الله: " ولا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَا فِي خِلْسَةٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِي النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحِرْزُ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَمْ يُقْطَعْ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُقْطَعُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الاستخفاء بأخذه، فإن أخذه نهباً أو جناية لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُقْطَعُ، فَأَمَّا الْمُخْتَلِسُ فَإِنْ سَرَقَ مَا اخْتَلَسَهُ مِنْ حِرْزٍ قُطِعَ، وَإِنِ اخْتَلَسَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَمْ يُقْطَعْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حديث أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس على الجاني ولا على المختلس ولا على الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ) وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُسَارَقَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا وَيُمْكِنُ استدراك المنتهب والجاني بِاسْتِنْفَارِ النَّاسِ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الجاني. فإن قيل: فقاطع الطريق مجاهر ويقطع قِيلَ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مَا أَخَذَهُ لِعَدَمِ مَنْ يُسْتَنْفَرُ عَلَيْهِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَا عَلَى عَبْدٍ سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ) . قال الماوردي: وأما إذا سرق العبد من مال غير سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ آبِقًا وَغَيْرَ آبِقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْطَعُ إِنْ كَانَ آبِقًا، وَقَدْ مضى الكلام مَعَهُ فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَإِنْ هَتَكَ بِهِ حِرْزًا. وَقَالَ دَاوُدُ: يُقْطَعُ احْتِجَاجًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَكَمَا يُحَدُّ إِذَا زَنَا بِأَمَةِ سَيِّدِهِ كَمَا يُحَدُّ إذا زنا بأمة غيره، وخالف الْفُقَهَاءُ فِيهِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 قَالَ: إِذَا سَرَقَ الْمَمْلُوكُ فَبِعْهُ وَلَوْ بِنَشٍّ) وَالَنَّشُّ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَأَمَرَ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِهِ. وَرَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ جَاءَ بِغُلَامٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ، فَقَالَ مَا الَّذِي سَرَقَ؟ فَقَالَ مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا مَنَعَا مِنْ قَطْعِ عَبْدٍ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ وَقَالَا: مَالُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ فَصَارَ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَالَفَهُمْ سَيِّدُ الْعَبْدِ حِينَ سَأَلَ قَطْعَهُ. قِيلَ: إِنَّمَا يُؤَثِّرُ خِلَافُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَكُنْ سَيِّدُهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعُدْ قَوْلُهُ خِلَافًا. وَلِأَنَّ نَفَقَةَ العبد لما كانت مستحقة في مَالِ سَيِّدِهِ كَانَتْ شُبْهَةً لَهُ فِي سُقُوطِ قَطْعِهِ كَالْوَالِدِ فِي مَالِ الْوَلَدِ. وَلِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ مَا سَرَقَهُ غَيْرَ خَارِجٍ مِنْ يَدِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ. وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ لِحِفْظِ مَالِ الْمَالِكِ وَفِي قَطْعِ عَبْدِهِ في ماله استهلاك لماله، فأما زناؤه بِأَمَةِ سَيِّدِهِ فَلَا يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَثُبُوتُ الْيَدِ فِيهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فَخَالَفَ بِذَلِكَ قَطْعَ السَّرِقَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَبْدِ والمدبر، والمكاتب، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ وَعَبْدُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْ جميعهم لثبوت رقه عليهم. (مسألة) قال الشافعي: " ولا عَلَى زَوْجٍ سَرَقَ مِنْ مَتَاعِ زَوْجَتِهِ وَلَا عَلَى امْرَأَةٍ سَرَقَتْ مِنْ مَتَاعِ زَوْجِهَا وَلَا على عبد واحد منهما سرق من متاع صاحبه للأثر والشبهة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 345 ولخلطة كل واحدة مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حنيفة والأوزاعي إذا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا الَّذِي لَمْ يَأْتَمِنْهَا عليه وفي حرز منها قطعت (قال المزني) رحمه الله هذا أقيس عندي) . قال الماوردي: وكان وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ فَلَا قطع على واحد منهما إذا سرق من الآخر، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، لِأَنَّ الْحِرْزَ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ كَانَ حِرْزًا مِنْ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ حِرْزًا مِنْهُمَا فَصَارَ سَارِقًا لِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَلَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ مِنْ حِرْزٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المال من حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ فَفِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ صَاحِبِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ها هنا أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سرق من مال صَاحِبِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ والْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ يُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ: أَنَّهُ يُقْطَعُ الزَّوْجُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، فَإِذَا قِيلَ بالأول لأنه لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ غَالِبًا فِي مَالِ صَاحِبِهِ، فَحَقُّهَا فِي مَالِهِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرًّا، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) فَأَمَّا حَقُّهُ فِي مَالِهَا فَقَدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 346 اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: هُوَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَنَّ لَهُ الْحَجْرَ عليها في مالها ومنعها عن التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِهِ، فَصَارَ هَذَا الاختلاف شُبْهَةً لَهُ فِي مَالِهَا. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَنْعِهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِإِحْرَازِ مالها فصار الحرز معه واهياً، وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي أَنَّهُ يُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ كَالْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَتَهَا مُعَاوَضَةٌ كَالْأَثْمَانِ وَدُيُونُ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَطْعِ كَسَائِرِ الديون، وخالفت نفقات الوالدين والمولدين لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ أَنَّهُ يُقْطَعُ الزَّوْجُ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ فَوَجْهُهُ شيئان: أحدهما: أن نفقة الزوجية تستحقها الزوجة عَلَى الزَّوْجِ فَصَارَتْ شُبْهَةً لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي قَبْضَةِ الزَّوْجِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فَصَارَ مَا في يدها مِنْ سَرِقَةِ الزَّوْجِ كَالْبَاقِي فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَمْ تُقْطَعْ فِيهِ، وَقُطِعَ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ بِخِلَافِهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا في قطعهما من الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فَإِذَا سَرَقَ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ كَانَ وُجُوبُ قَطْعِهِ فِيهِ خَارِجًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَا يُقْطَعُ الزَّوْجُ فِي مَالِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ يد العبد كيد سيده، ولذلك لم يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَيُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزوج. والوجه الثَّانِي: يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سرق من مال الزوج. والوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدُ الزَّوْجَةِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ إِذَا قِيلَ: يقطع الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَلَا تقطع الزوجة إذا سرق من مال الزوج وهكذا إذا سرقت والد كل واحد منهما أو ولده مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ كَانَ وُجُوبُ قَطْعِهِمَا مِثْلَهُمَا على الأقاويل الثلاثة والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ أَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِ أَيِّهِمَا كَانَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سرق من مال أحد والديه وإن علو مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَلَا مِنْ مَالِ أَحَدٍ مِنْ مَوْلُودِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 347 مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَبَنِي الْبَنِينِ وَبَنِي الْبَنَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ دَاوُدُ: يُقْطَعُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ وَالِابْنُ فِي مَالِ أبيه تمسكاً بعموم الظاهر، وَقَالَ قَوْمٌ يُقْطَعُ الِابْنُ فِي مَالِ أَبِيهِ كَمَا يُقْتَلُ بِهِ وَيُحَدُّ بِقَذْفِهِ وَلَا يُقْطَعُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {ولا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فَكَانَ بالقطع أَغْلَظَ وَبِالنَّهْي أَحَقَّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طيبات كَسْبِكُمْ) . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ الِابْنُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبِي يَأْخُذُ مَالِي فَيُتْلِفُهُ بِغَيْرِ إذني، فقال الرجل سله يا رسول الله هَلْ أُنْفِقُهُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خالاته، ثم هبط جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: سَلْهُ عَنْ شِعْرِهِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، والله ما سمعته أذناي، وإن الله ليزيد نابك بياناً ثم أنشده شعره في ابنه فقال: (عذوتك مولوداً وعلنتك يافعا ... تعل بما أدني عليك وتنهل) (إذا ليلة نابتك بالشَكْوِ لَمْ أَبِتْ ... لِشَكْوَاكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ) (كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ... طُرِقْتَ بِهِ دوني وعيني تهمل) (تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُؤَجَّلُ) (فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي ... إِلَيْهَا مَدَى مَا كُنْتُ فيك أؤمل) (جعلت جزائي منك جبها وغلظة ... كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ) (فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ) قَالَ: فَعَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَلَابِيبِ الْغُلَامِ وَقَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ شُبْهَةً فِي مَالِ الْآخَرِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ فِيهِ وَلِوِلَايَةِ الْأَبِ عَلَى مَالِ وَلَدِهِ فسقط القطع بينهما، ولأن بوجود البعضية بينهما يجري الجزء: 13 ¦ الصفحة: 348 مَجْرَى نَفْسِهِ فَلَمْ يُقْطَعْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَالِ يَجِبُ عِنْدَ الْأَخْذِ لَهُ وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَوَلَدُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَعَدَمَ فِيهِ مَعْنَى الْقَطْعِ فَسَقَطَ عَنْهُ. فَأَمَّا الِاقْتِصَاصُ مِنَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ وَلَا يُقْطَعُ فِي مَالِ الْوَالِدِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ شُبْهَةٌ فِي الْقَطْعِ، وَلَيْسَ بوجوبها شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ فَافْتَرَقَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْوَالِدِ بِالْوَلَدِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَاقْتُصَّ مِنَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مال الآخر كما ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ يَدَ عَبْدِهِ كَيَدِهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مَنْ عَدَا الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنِيهِمْ فَيُقْطَعُونَ إِذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، سَوَاءٌ تَوَارَثُوا أَوْ كَانُوا مَحَارِمَ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَالْأَجَانِبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ إِذَا كان ذا رحم حرم احتجاجاً بأنها قرابة تتعلق بِهَا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ الْقَطْعُ بِهَا كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهَا قَرَابَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا سُقُوطُ الْقَطْعِ كَغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَسَادُهُ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ النَّسَبِ فِي حَظْرِ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ بَعْضِيَّةً فارقت ما عداهما من الأنساب فافترقا في د حكم القطع كما افترقا في رد الشهادة، وافترقا فِي الْقِصَاصِ، وَافْتَرَقَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ وَاخْتِلَافِهِ وَعِنْدَهُمْ يفترقان مع اختلاف الدين فإنهم أوجبوا نفقة الآباء وَالْأَبْنَاءِ مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ وَمَعَ اخْتِلَافِهِ وَلَمْ يُوجِبُوا نَفَقَةَ مَنْ عَدَاهُمَا مِنْ مَحَارِمِ الْأَقَارِبِ إِلَّا مَعَ اتِّفَاقِ الدِّينِ وَأَسْقَطُوهَا مَعَ اخْتِلَافِهِ فَكَانَ هَذَا الْفَرْقُ فِي النَّفَقَةِ وَالْقِصَاصِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ مَانِعًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الشَّرِيكُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْرِقَ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ شُبْهَةٌ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَوْ مُخْتَصًّا بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْرِقَ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ يَخْتَصُّ بِالشَّرِيكِ دُونَهُ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي حِرْزٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُمَا فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْرَزٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حرز الجزء: 13 ¦ الصفحة: 349 مفرد يختص به مالكه قُطِعَ فِيهِ الشَّرِيكُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِيهِ وَإِنْ وجدت الشبهة في غيره. (فصل) فأما الْأَجِيرُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ مُسْتَأْجِرِهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْرِقَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ فيه أو من مال غير محرز فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَسْرِقَ مِنْ مَالٍ لَا يَدَ لَهُ فِيهِ وَهُوَ فِي حِرْزٍ مِنْهُ فَيُقْطَعُ وَلَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ شُبْهَةً. (فَصْلٌ) وَإِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ المعد لوجوه المصالح لم يقطعوا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: أَرْسِلْهُ وَلَا تقطعه، فلا أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رجلاً سرق من خُمْسَ الْخُمْسِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَامَّةٌ فَدَخَلَ السَّارِقُ فِيهَا فَسَقَطَ الْقَطْعُ فِيهَا. وأما إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْ ذِي سَهْمٍ أَوْ رَضْخٍ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنْ وَالِدِيهِ أَوْ مَوْلُودِيهِ لَمْ يُقْطَعْ لِلشُّبْهَةِ فيه، وإن لم يشهدوا ولا أحد من أنسابه الَّذِينَ لَا يُقْطَعُ فِي أَمْوَالِهِمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْخُمْسُ بَاقِيًا فِي الْغَنِيمَةِ لَمْ يُقْطَعْ لشبهته في خمس الخمس، فإن أَخْرَجَ الْخُمْسَ مِنْهُ قُطِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُعَيَّنِينَ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ كَالْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: لا يقطع بخلاف الغنيمة للفرق بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِلْكَ الْغَنِيمَةِ لِمُعَيَّنِينَ وَمِلْكُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يجوز أن يصير من مستحقي تلك الزَّكَاةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ مُسْتَحِقِّي تلك الغنيمة. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْطَعُ فِي طُنْبُورٍ وَلَا مِزْمَارٍ وَلَا خمر ولا خنزير) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثمنه) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 350 فَأَمَّا الطُّنْبُورُ وَالْمِزْمَارُ وَسَائِرُ الْمَلَاهِي فَاسْتِعْمَالُهَا مَحْظُورٌ، وكذلك اقتناؤها، فإن سرقها مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تكون مفصلة أو غير مفصلة، فإن كان مُفَصَّلَةً قَدْ زَالَ عَنْهَا اسْمُ الْمَلَاهِي وَبَطَلَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهْوِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهَا إِذَا بَلَغَ قِيمَتُهَا نِصَابًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ؛ لأنها آلة لما قَطْعَ فِيهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَعْصِيَةُ زَالَ عَنْهُ حُكْمُهَا كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَ خَلًّا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ وَهِيَ على حال ما يستعمل في اللهو من سائر الملاهي ولم يخل أن يكون عليه ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ قُطِعَ سَارِقُهَا؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ زِينَةٌ لِلْمَلَاهِي فَصَارَ مَقْصُودًا وَمَتْبُوعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي سَرِقَةِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ إِذَا ضُمَّ إليه مالاً يجب فيه القطع سقط الْقَطْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ إِذَا سَرَقَ إِنَاءً مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ خَمْرٌ قُطِعَ عِنْدَنَا، وَلَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَلَاهِي ذَهَبٌ ولا فضة فضربان: أحدهما: أن لا يصلح به بَعْدَ تَفْصِيلِهِ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصْلُحَ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي فَعَلَى مُتْلِفِهِ قِيمَتُهُ مُفَصَّلًا، وَفِي وُجُوبِ قَطْعِ سَارِقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَصَارَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يَجِبُ فِيهِ القطع اعتباراً بقيمته بعد التفصيل والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 351 (باب قطاع الطريق) (مسألة) قال الشافعي: " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَنَفْيُهُمْ إِذَا هَرَبُوا أَنْ يُطْلَبُوا حَتَّى يُؤْخَذُوا فَيُقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) فبهذا أقول) . قال الماوردي: والأصل في الحرابة وقطاع الطرق مُجَاهَرَةً قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأُرِيدَ بِهَا عَلَى أربعة أقاويل: أحدها: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِيهِمْ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى نَاقِضِي الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَخْرَجَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى لِقَاحٍ لَهُ عِنْدَ اجْتِوَائِهِمُ الْمَدِينَةَ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا شَرِبُوا وَصَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَاقُوا إِبِلَهُ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِيهِمْ فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَفْسَدُوا، وَهَذَا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَتَادَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حَكَمَ اللَّهُ فِيهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ فَيَكُونُ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وهو قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تعالى بحكم من حارب الله ورسوله وسعى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سِيَاقِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 352 الْآيَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يقدروا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] وهذا من حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ففي قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهَذَا قَوْلُ جُوَيْبِرٍ. وَالثَّانِي: يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. وَالثَّالِثُ: يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] قولان: أحدهما: أن هذا الفساد فِعْلُ الْمَعَاصِي الَّذِي يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى غَيْرِ فاعلها كالزنا والقتل والسرقة هذا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَذَا الْفَسَادَ خَاصٌّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَعَاصِي. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحَارِبِينَ مِنْ قطاع الطريق ومخيفي السبل الذين يَعْتَرِضُونَ السَّابِلَةَ مُجَاهَرَةً وَمُحَارَبَةً فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ ذَكَرَهَا فِي الْآيَةِ فَقَالَ: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ التيِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةً لَهُمْ هَلْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا ما رآه صَلَاحًا أَوْ وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ فَتَكُونُ كُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، ومالك وداود في أَهْلِ الظَّاهِرِ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ مِنْهَا مَا شَاءَ لِقَوْلِهِ: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] وَ " أَوْ) تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْأَوَامِرِ وَالشَّكِّ فِي الْأَخْبَارِ، وَهَذَا أَمْرٌ فَكَانَتْ لِلتَّخْيِيرِ كهي في كفارة الْيَمِينِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أن اختلاف العقوبات توجب اخْتِلَافَ أَسْبَابِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ مُفْضٍ إِلَى أَنْ يُعَاقَبَ مَنْ قَلَّ جُرْمُهُ بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ وَمَنْ كَثُرَ جُرْمُهُ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ، وَالتَّرْتِيبُ يَمْنَعُ من هذا التناقض؛ لأنه يعاقب في أقل الْجُرْمِ بِأَخَفِّ الْعُقُوبَاتِ، وَفِي كَثْرَةِ الْجُرْمِ بِأَغْلَظِهَا فكان أولى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 353 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ وَجَبَ أن يكون على ترتيب مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التخيير لبدئ فيها بالأخف من كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَرْتِيبِهَا فِي صِفَةِ التَّرْتِيبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قتل قتل، وإن أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وإذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُحْبَسُوا فِي بَلَدِهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفُّ عَنِ التَّدْبِيرِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَتُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ دُونَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ؛ لأنه يتعطل، وإن كان مكثراً لَا تَدْبِيرَ فِيهِ وَلَا قِتَالَ نُفِيَ وَنَفْيُهُ أَنْ يُخْرَجَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يُحْبَسُ فِيهِ فَاعْتَبَرَ الْحَدَّ بِصِفَةِ الْفَاعِلِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ وَهُوَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ لَهُ الْحُدُودُ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ قَتَلَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَلَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتِلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ عُزِّرَ، وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُوا. فَأَمَّا أَبُو حنيفة فمخالف فِيهِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَقْتُلُهُ بِالْقَتْلِ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِي أَخْذِ الْمَالِ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، بين أن يقطع يده ورجله ولا يصلب، وَبَيْنَ أَنْ يَصْلِبَهُ وَلَا يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَيَصْلِبَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُدُودَ إِذَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ جَمِيعِهَا كَالزِّنَا والسرقة يجمع فيه بين الحد وَالْقَطْعِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْسٌ يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك الْعُرَنِيِّينَ وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ حَارَبَ فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَاقْطَعْ يَدَهُ لِسَرِقَتِهِ وَرِجْلَهُ لِإِخَافَتِهِ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ فَجَاءَ نَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فقطع عليهم أصحابه، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 354 مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خِلَافٍ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ مَا نَزَلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لا يعلم إلا منه، وقد روي عن الشَّافِعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَنَفْيُهُمْ إِذَا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا فيقام عليهم الحد ولم يروا عنه نزول جبريل وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَكَانَ حُجَّةً وَابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ التَّنْزِيلِ، وَحَبْرُ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تعالى بِهِ مِنَ الصَّلْبِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْقَتْلِ وَحْدَهُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِوِفَاقِهِ. أَوْ يَكُونَ لِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ، وهو مدفوع بوفاقه. أو يكون بهما جَمِيعًا وَهُوَ مُسَلَّمٌ بِوِفَاقِهِ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِيهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهِ يُخْرِجُهُ عَنِ الحدود الواجبة. فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا يُوجِبُ تَدَاخُلَهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقُولُ فِي الزَّانِي الثَّيِّبِ إِذَا سَرَقَ رُجِمَ وَلَمْ يُقْطَعْ، فَبَطَلَ بِهِ اسْتِدْلَالُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَا يَتَدَاخَلُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَخْيِيرٌ، وقد أثبت التخيير ها هنا فَبَطَلَ بِهِ اسْتِدْلَالُهُ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا النَّفْيُ الْمُرَادُ بقول تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ نَفْيَهُمْ إِبْعَادُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِ الشِّرْكِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ حَبْسُ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ أنه طلبهم لإقامة الحدود عليهم فيبعدوا. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ نَفْيَهُمْ هُوَ الحبس بأمرين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 355 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَفُّهُمْ عَنِ الْأَذَى، وَإِبْعَادُهُمْ لَا يَكُفُّهُمْ عَنِ الْأَذَى، وَالْحَبْسُ يَكُفُّهُمْ عَنْهُ فَكَانَ هُوَ الْمُرَادَ بِهِ. حَكَى مَكْحُولٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ وَقَالَ أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ وَلَا أَنْفِيهِ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّفْيَ حَدًّا فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ أَصْحَابِ الْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمْ فَخَالَفَ الظَّاهِرَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ قتيبة بأن العرب تجعل الحبس نفياً لقول بَعْضِ الْمَسْجُونِينَ مِنْ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ: (خَرَجْنَا مِنَ الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى) (إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا) وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تعالى {أو ينفوا من الأرض} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَلَا يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهِمْ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُوا، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أمر بِنَفْيِهِمْ وَمَذْهَبُكُمْ يَبْعَثُ عَلَى أَنْ يَنْفُوا أَنْفُسَهُمْ. قِيلَ: إِذَا نَفَوْا أَنْفُسَهُمْ لِطَلَبِ الْإِمَامِ لَهُمْ صَارَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي نَفَاهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنْ هَرَبَ فَذَلِكَ نَفْيُهُ وقوله مع عدم المخالف حُجَّةٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُسَمَّى نَفْيًا؛ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ وَالنَّفْيُ إِبْعَادٌ فَصَارَا ضِدَّيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ بأن الْمَقْصُودَ بِالنَّفْيِ الْكَفُّ، وَالْحَبْسُ كَفٌّ، قُلْنَا: الطَّلَبُ لإقامة الحد أبلغ من الكف، وأما الجواب عن قولهم: إنه حد فوجب حمله على مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ حَدٌّ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا حَدٌّ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَبْسَ نَفْيًا مِنَ الدُّنْيَا وَلُحُوقًا بِالْمَوْتَى وَهُوَ بخلاف ما قال فبطل الاستدلال. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الأحكام المختلفة على ما بيناه مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَشَرْحُ الْمَذْهَبِ فِي كُلِّ فعل وحكمه أن يعتبر ما فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ، فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ رُوعِيَ حَالُ المقتول، فإن كان مكافئاً للقاتل قتل به القاتل، وكان قتله منحتما لَا يَقِفُ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ فَيَتَغَلَّظُ فِي الْحِرَابَةِ بِانْحِتَامِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ فِي أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يعفو أو يأخذ الدِّيَةَ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهَا إِلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إلى القتل أخذ المال فينحتم قتله ولا يقف وعلى خِيَارِ الْوَلِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لوليه سلطان} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 356 [الإسراء: 33] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ) . ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] فَكَانَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُرْمٍ أَوْجَبَ عُقُوبَةً فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ تَغَلَّظَتْ عُقُوبَتُهُ فِي المحاربة كالمال تغلظت عقوبته في المحاربة كالأمر بقطع الرجل فاقتضى أن تتغلظ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ بِانْحِتَامِهِ فَصَارَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ من الظاهر مخصوصاً وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ فَيَ الْحِرَابَةِ غَيْرَ مُكَافِئٍ لِلْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ قَتَلَ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ قَتَلَ مُعَاهَدًا، أَوْ وَالِدٌ قَتَلَ وَلَدًا فَفِيهِ قولان: أحدهما: أن التكافؤ معتبر في غير الْحِرَابَةِ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْقَاتِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كُفْؤًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّكَافُؤَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَيُقْتَلُ بِهِ الْقَاتِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْؤًا لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ خيار الولي سقط فيما كفاه الْمَقْتُولِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُرْتَدًّا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاتِلُ بِرِدَّتِهِ قُتِلَ بِهِ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِرِدَّتِهِ لَمْ يُقْتَلْ به؛ لأن دمه مُبَاحٌ. (فَصْلٌ) وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ فَكَانَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّلْبَ حَدًّا وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي جُرْمَيْنِ مَقْصُودَيْنِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَلَا يُقْصَدُ في الأغلب بهما إِلَّا الْمَالُ وَالْقَتْلُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ مَقْصُودَ الْحِرَابَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُبْعَجُ بَطْنُهُ بالرماح أو يرمى بالسهام حَتَّى يُقْتَلَ، وَحَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ إِذَا كَانَ حَدًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ عَلَى مَيِّتٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا وَيُتْرَكُ عَلَى حاله مصلوباً حتى يموت، وليس هذا صحيحاً لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْإِحْسَانَ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى أن يجعل الروح غرضاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 357 وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ حَدٌّ لَا يُقَامُ عَلَى مَيِّتٍ فيقال لهم: هو وإن كان حداً فَالْمَقْصُودُ بِهِ رَدْعُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَا يردع وإنما ردع بِهِ الْأَحْيَاءُ وَالرَّدْعُ بِالصَّلْبِ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْيَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَتْلِ، فَإِذَا صُلِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَبْلَهَا فَيُحَطُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُدَّةَ صَلْبِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَنْ يَسِيلَ صَدِيدُهُ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِزَمَانٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ لا يوجب سقوط حرمته وغسله وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ لِحُرْمَةِ إِسْلَامِهِ، وَانْتِهَاؤُهُ إلى سَيَلَانِ صَدِيدِهِ يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، فَلَوْ مَاتَ هَذَا الْمُحَارِبُ حَتْفَ أَنْفِهِ لَمْ يُصْلَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ صُلِبَ بَعْدَ قَتْلِهِ، نَقَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ نصاً. والفرق بينهما: أن قتله حد مستوفى فَيَكْمُلُ بِصَلْبِهِ وَمَوْتُهُ مُسْقِطٌ لِحَدِّهِ فَسَقَطَ تَأْثِيرُهُ. (فَصْلٌ) وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يده اليمنى ورجله اليسرى لقول الله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَطَعَ يَمِينَ السَّارِقِ فَلِذَلِكَ قَطَعَ فِي الحرابة يمين يديه ويسرى رجليه، فإن فقدتا منه معاً وكانت يمنى يديه ويسرى رجليه معاً قد ذَهَبَتَا عَدَلْنَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى كَالسَّارِقِ إِذَا عَدِمْنَا يُمْنَى يَدَيْهِ عَدَلْنَا إِلَى يُسْرَى رِجْلَيْهِ، وَلَوْ فَقَدَ هَذَا الْمُحَارِبُ يَدَهُ الْيُمْنَى وَبَقِيَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى أَوْ فَقَدَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَبَقِيَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يُؤْخَذُ العضو الباقي وحده ويكون المفقود لبقاء هذا الْمَأْخُوذِ كَمَا لَوْ ذَهَبَ مِنْ يَدَيِ السَّارِقِ بَعْضُ أَصَابِعِهِ قُطِعَ الْبَاقِي وَكَانَ الذَّاهِبُ مِنْهَا تَبَعًا لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ: أَنَّهُ يَكُونُ الْمَوْجُودُ تَبَعًا لِلْمَفْقُودِ وَيَصِيرَانِ مَعًا كَالْمَفْقُودَيْنِ، فَيَعْدِلُ إِلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى؛ لأن قطع كل طرف منهما مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الخلقة مِنَ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ الَّتِي هِيَ مِنْ خلقة الكف فَافْتَرَقَا، ثُمَّ يُقْطَعَانِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَنِ الثَّانِي حَتَّى يَنْدَمِلَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ وَالْحَدُّ الْوَاحِدُ لَا يُفَرَّقُ ويستوفي جميعه في وقت واحد، لكن يُنْظَرُ فِي حَسْمِهَا بِالنَّارِ، فَإِنْ خِيفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ تُحْسَمْ حُسِمَتْ قَبْلَ الْقَطْعِ الثَّانِي، وَإِنْ أَمِنَ ذَلِكَ قُطِعَ الثَّانِي ثُمَّ حُسِمَا مَعًا. وَأَمَّا اعْتِبَارُ نِصَابِ السَّرِقَةِ فِي هَذَا الْقَطْعِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مذهب الشافعي رضي الله عنه وَقَدْ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْهُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فَلَا يُقْطَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَيُقْطَعُ فِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 358 قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا كَانَ اعْتِبَارُ التَّكَافُؤِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَوَجَدْتُ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَمَا كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِأَخْذِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْحِرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي السَّرِقَةِ. وَعِنْدِي: أَنَّ النِّصَابَ فِي الْمَالِ مُعْتَبَرٌ إِذَا انْفَرَدَ الْمُحَارِبُ بِأَخْذِهِ فَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَأْخُذَ رُبُعَ دِينَارٍ، ولا يعتبر إذا اقترن بالقتل والصلب، فإن أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ بِأَخْذِ الْمَالِ صَارَ مَقْصُودًا فَاعْتُبِرَ فِيهِ شَرْطُ الْقَطْعِ مِنْ أَخْذِ النِّصَابِ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْقَتْلِ صَارَ تَبَعًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ أَخْذُ فيه النصاب؛ لأنه لا يستحق في القطع، ولأن القطع في الحرابة قد يغلظ بزيادة الرجل فلم يتغلظ بإسقاط النصاب فلم يتغلظ مع القتل بمثله فتغلظ بِإِسْقَاطِ النِّصَابِ. فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَعَ مَالِكِهِ أَوْ بِحَيْثُ يَرَاهُ الْمَالِكُ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ مَنْ لَيْسَ بِمُكَابِرٍ وَلَا مغالب كان في حكم المحرز فيه وجرى عَلَيْهِ فِي الْحِرَابَةِ حُكْمُ الصَّلْبِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْقَتْلِ، وَفِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْقَتْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْطَعُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحِرْزُ؛ لِأَنَّ الْأَحْرَازَ لَا تُؤَثِّرُ مَعَ الْقَاهِرِ الْمُغَالِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يقطع ولا يعتبر فِيهِ الْحِرْزُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْرَزِ مَبْذُولٌ، وَلِأَنَّ قَطْعَ الْحِرَابَةِ قَدْ تَغَلَّظَ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ تغلظ بِغَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ، وَعُزِّرَ لِخُرُوجِهِ فِي الْحِرَابَةِ كَمَا يُعَزَّرُ الْمُتَعَرِّضُ لِلزِّنَا بِالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُتَعَرِّضُ لِلسَّرِقَةِ بِفَتْحِ الْبَابِ وَهَتْكِ الْحِرْزِ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ تَعْزِيرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَيَّنُ، ويعزر الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَفْيٍ كَسَائِرِ مَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَعَلَى هذا رَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ تَعْزِيرِهِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ جَازَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعْزِيرَهُ مُتَعَيَّنٌ بِالْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَكُفُّ لَهُ عَنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ تَعْزِيرِهِ لَمْ يَجُزْ إلا أن تظهر توبته، واختلف من قال بهذا من أصحابا هل يحبس في بلده أو غيره بلده؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ مَانِعٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يُحْبَسُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ فِي الْحِرَابَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَدِّ الزِّنَا لِمَا فِيهِ مِنْ ذُلِّ الْغُرْبَةِ بِالْبُعْدِ عن أهله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 359 وَالْوَطَنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحَبْسِ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه غير مقدر بمدة، ويعتبر فِيهِ الْإِنَابَةُ وَظُهُورُ التَّوْبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُقِيمَ فِي الْحِرَابَةِ مَقَامَ الْحَدِّ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِيِّ، أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يُنْقَصُ منها ولا يزاد عليها؛ لئلا لا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الزِّنَا فِي حَدِّ الْعَبْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسَنَةٍ يُنْقَصُ فيها وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الحد فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُنْقَصُ مِنْهُ وَلَوْ بِيَوْمٍ؛ لِئَلَّا يَبْلُغَ بِمَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا كَمَا لَا يَبْلُغُ بِالضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ أَدْنَى الْحُدُودِ. (فصل) ومن فعل الْحِرَابَةِ مِنَ الْمَعَاصِي مَا سِوَى الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَحَدُّهُ فِي الْحِرَابَةِ كَحَدِّهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ، وَلَا يَتَغَلَّظُ حَدُّهُ في الحرابة بخلاف القتل حين يغلظ في الحرابة بانحتامه وأخذ المال حين يغلظ بِزِيَادَةِ قَطْعِ الرِّجْلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَقْصُودَ الْحِرَابَةِ هُوَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ دُونَ مَا عداهما من سائر المعاصي، فتغلظ فيها ما كان مقصوداً بها ولم يتغلظ منها ما لم يكن مقصوداً بها والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وقطاع الطريق هم الذين يعترضون بالسلام القوم حَتَّى يَغْصِبُوهُمُ الْمَالَ فِي الصَّحَارِي مُجَاهَرَةً وَأَرَاهُمْ فِي الْمِصْرِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْظَمَ ذَنْبًا فحدودهم واحدة) . قال الماوردي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَارِبِينَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ النَّاسَ بِالسِّلَاحِ جَهْرًا وَيَأْخُذُونَ أموالهم مغالبة وقهراً، وسواء كانوا في صحراء أو مصر يجري عليه فِي الْمَوْضِعَيْنِ حُكْمُ الْحِرَابَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ فَصَاعِدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ فِي الْمِصْرِ وَلَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنْ خَارِجِ المصر إذا كانا بِحَيْثُ يُدْرِكُهُمْ فِي الْوَقْتِ غَوْثُ أَهْلِ الْمِصْرِ وَيَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهَا إِذَا كَانُوا فِي صَحْرَاءَ لَا يُدْرِكُهُمْ غَوْثُ الْمِصْرِ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِدْرَاكَ الْغَوْثِ يَنْفِي حُكْمَ الْحِرَابَةِ كَمَنْ كَبَسَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَنَهَبَهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 360 وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] وَلَمْ يَخُصَّ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ وَجَبَ بِهِ ذَلِكَ الْحَدُّ فِي الْمِصْرِ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وشرب الخمر، ولأنهم في المصر أغلظ جُرْمًا مِنَ الصَّحْرَاءِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَغْلَبَ أَمْنُ الْمِصْرِ وَخَوْفُ الصَّحْرَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمِصْرَ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَانِ دُونَ الصَّحْرَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِصْرَ يَجْمَعُ فِي الْأَغْلَبِ مُلْكَ الْإِنْسَانِ وَلَا تَجْمَعُهُ الصَّحْرَاءُ فَكَانَ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ كَأَخَفِّهِمَا. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بكبس الدار في المصر فسنذكر من حُكْمِ الْمِصْرِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ. (فَصْلٌ) أما الصَّحْرَاءُ فَلَا فَرْقَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ، وَأَمَّا الْقُرَى الَّتِي يَقِلُّ جَمْعُهَا فَهِيَ كَالصَّحْرَاءِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْحِرَابَةِ فِيهَا، وَأَمَّا الْأَمْصَارُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُقَاوِمُونَ جَمِيعَ أَهْلِهَا فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي أَطْرَافِهَا حُكْمُ الْحِرَابَةِ كَالْقُرَى، وَأَمَّا وَسَطُ الْمَصْرِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَكَاثَرُ النَّاسُ فِيهَا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَدُورِهِمْ إِذَا كَبَسُوا سُوقًا مِنْهَا فَنَهَبُوهَا أَوْ دَارًا فَأَخَذُوا مَا فِيهَا فَفِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حكم الحرابة؛ لأنهم يعلنوا بالسلاح جهراً كَالصَّحْرَاءِ، وَحَدُّ الْحِرَابَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِ الْمُحَارِبِ وَهَذَا مَوْجُودٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قول الأقلين واختيار أبي حامد الإسفراييني: أنه لا تجري عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ لِوُجُودِ الْغَوْثِ فِيهِ غَالِبًا فسقط حكم نادره. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ أَخَذَ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ فِي السَّارِقِ) . قال الماوردي: قد ذكرنا اعْتِبَارَ النِّصَابِ فِي قَطْعِ الْحِرَابَةِ كَاعْتِبَارِهِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، وَقِيمَةُ الْمَأْخُوذِ مُعْتَبَرَةٌ فِي زَمَانِ الْأَخْذِ وَفِي مَكَانِهِ إِنْ كَانَ مَوْضِعًا جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَيُوجَدُ فِيهِ مَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يوجد فيها بيع ذلك وشراؤه من القيم لا يعرف إِلَّا بِوُجُودِ مُشْتَرِيهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِسْلَامِ النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لأمرين: أحدهما: أنه لا قيمة لمال فِي تِلْكَ الْحَالِ الْمُتْلِفَةِ لِلْأَمْوَالِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 361 والثاني: أنه نقض حدث وتجدد لمعصيتهم فلم يتحقق بِهِ غُرْمُهُمْ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْقِيمَةِ فِي اعْتِبَارِ النصاب وفي غرم المستهلك. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُحَدُّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ قَتَلَهُ قَبْلَ صَلْبِهِ كَرَاهِيَةَ تَعْذِيبِهِ وَقَالَ فِي كِتَابِ قَتْلِ الْعَمْدِ يصلب ثلاثا ثم يترك) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَحْكَامِ الْمُقَدِّمَةِ وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ المحاربين يعاقب بحسب دينه وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِمْ طَوْعًا أَوْ قِيَامِ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِمْ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وَجَبَ الْغُرْمُ دُونَ الْحَدِّ. فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلٍ وَصَلْبٍ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي حَارَبُوا فِيهِ وَقَتَلُوا إِذَا شَاهَدَهُمْ فِيهِ مَنْ يَرْتَدِعُ بِهِمْ من غواة الناس، فإن كَانَتْ حِرَابَتُهُمْ فِي مَفَازَةٍ نُقِلُوا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْفَسَادِ، وَلَا يُؤَخَّرُ قَتْلُهُمْ إِلَّا قَدْرَ استبراء أحوالهم. (مسألة) قال الشافعي: " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ دُونَ الصَّلْبِ قُتِلَ وَدُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ يُكَفِّنُونَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يُسْقِطُ قَتْلُهُمْ فِي الْحِرَابَةِ فَرْضَ الله فيهم في غُسْلِهِمْ وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وجبت لحرمه إسلامهم، فإن التمسوهم أَهْلُهُمْ سُلِّمُوا إِلَيْهِمْ لِيَقُومُوا بِذَلِكَ فِيهِمْ وَإِنْ بقوا ضيعة قام بهم الإمام من بيت المال، وكان له لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَكَرِهَ لَهُ مَالِكٌ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِقَتْلِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ لا تسقط الحقوق، ولأن يتولى الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ أَحَدِهِمَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ دُونَ الْقَتْلِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ حُسِمَتْ بِالنَّارِ ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ حُسِمَتْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ثُمَّ خلي) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَحْكَامِ الْأَقْسَامِ حُكْمَ الْقَطْعِ فِي أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] فإن قطع متولي الْأَمْرِ يُمْنَى يَدَيْهِ وَيُمْنَى رِجْلَيْهِ تَعَدَّى، وَلَزِمَهُ الْقَوَدُ فِي يُمْنَى رِجْلَيْهِ إِنْ عَمَدَ وَدِيَتُهَا إن أخطأ ولم يسقط بذلك قطع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 362 رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَطْعَهُمَا مِنْ خِلَافٍ نص يوجب مُخَالَفِهِ الضَّمَانَ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الحرابة اجتهاد فسقط لمخالفه الضَّمَانُ، وَإِذَا قَطَعَ حُسِمَ بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ أَوْ بِالنَّارِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِيهِمَا، فَإِنْ أَحَبَّ الْمَقْطُوعُ أن يترك حسمه بالنار أو بالزيت فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يُحْسَمُ؛ لِأَنَّهُ عِلَاجٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَالدَّوَاءِ. وَالثَّانِي: لَا يُجَابُ إِلَيْهِ وَيُحْسَمُ جَبْرًا حِرَاسَةً لِنَفْسِهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى إِذْنِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ وَلَا يُشَهَّرُ بَعْدَ قَطْعِهِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ نَكَالٍ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إِلَّا أَنْ يَرَى الإمام أن قطعه لم يشتهر فِي أَهْلِ الْفَسَادِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشَهِّرَ قدر ما يشتهر فيهم حاله ويخليه ليتصرف لنفسه أَيْنَ شَاءَ. فَأَمَّا الْمَقْطُوعُ مِنْ أَطْرَافِهِ فَيُدْفَنُ وَلَا يُسْتَبْقَى إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ إِشْهَارَ أطرافه لِيَرْتَدِعَ بِهَا النَّاسُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنِ الْتَمَسَ الْمَقْطُوعُ أَطْرَافَ نَفْسِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهَا ليتولى دفنها، فإن أراد استبقائها لِتُدْفَنَ مَعَهُ إِذَا مَاتَ مُنِعَ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَمَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَكَثُرَ أَوْ هِيبَ أَوْ كَانَ رِدْءًا عُزِّرَ وَحُبِسَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، حدود الله تعالى عَلَى مَنْ بَاشَرَهَا دُونَ الرِّدْءِ الْمُعَاوِنِ عَلَيْهَا تيكيثر أو تهييب أَوْ نُصْرَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرِّدْءُ الْمُكْثِرُ فِيهَا، وَالْمُهِيبُ كَالْمُبَاشِرِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلُوا، وَإِنْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْمَالَ قُطِعُوا؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فساداً} [المائدة: 33] الآية فعم ولم يخص. وَبِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا فِي ثلاث خصال زان محصن فيرجم، ورجل قتل مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ بِهِ، وَرَجُلٌ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ فحارب اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ) فَعَمَّ فِي الْمُحَارِبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُبَاشِرٍ وَمُكْثِرٍ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الرِّدْءُ والمباشر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 363 كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْمُقَاتِلُ وَالْحَاضِرُ؛ لأنها ترغيب كذلك الحدود في المحاربة لأنها ترهيب، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَخْذِ إِلَّا بدفع الردء المكثر فصار الأخذ مضافاً إليه فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَعَبْدِ الله بن عامر بن ربيعة قال: كنا مع عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ فَسَمِعَ النَّاسَ فَتَغَيَّرَ لونه وقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل، فقلنا يكفيهم الله يا أمير المؤمنين قال: وبم يَقْتُلُونِي وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه أو زنا بعد إحصانه أو قتل نفسا بِغَيْرِ نَفْسٍ) وَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَلَا أَحْبَبُتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا منذ هداني الله له فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ . وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَقَامِي هَذَا فَقَالَ: وَالَذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَرَجُلٌ قَتَلَ فَأُقِيدَ وَالتَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُفَارِقُ لِلْإِسْلَامِ) . فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ على أن الردء لا يحل قبله؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِحْدَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثلاث. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ حَدٌّ يَجِبُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُعِينِ عَلَيْهَا كحد الزنا، والقذف، والسرقة، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّ الرِّدْءَ لَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ امْرَأَةً فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ رَجُلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْقَتْلَ وَالْأَخْذَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّهُمَا كَالْمَرْأَةِ إِذَا بَاشَرَتْ، فَإِنْ قَالَ: الْمَرْأَةُ لَا يجري عليها حكم الحرابة. قلنا: تجري عَلَيْهَا عِنْدَنَا حُكْمُ الْحِرَابَةِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ وَالْمُبَاشَرَةَ إذا اجتمعا وتعلق الضمان بالمباشرة سقط حُكْمُ السَّبَبِ كَالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ وَحَافِرِ الْبِئْرِ وَالدَّافِعِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الذَّابِحِ دُونَ الْمُمْسِكِ، وَعَلَى الدَّافِعِ فِي الْبِئْرِ دُونَ الْحَافِرِ، كَذَلِكَ اجْتِمَاعُ الرِّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ فِي الْحِرَابَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ مُضْمَرَانِ فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ يَقْتُلُوا إِنْ قَتَلُوا فإن قيل: فيكون المضمر فيها أو قتل بعضهم لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ زِيَادَةُ إِضْمَارٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِضْمَارَ مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 364 وأما الجواب عن استدلاله بحديث عائشة رضي الله عنها فمن وجهين: أحدهما: أنه رَاوِيِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ طَهْمَانَ وَقَدْ حَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى: إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ قَالَ: لَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحِرَابَةِ مُضْمَرٌ فِي الْخَبَرِ كَمَا كَانَ مُضْمَرًا فِي الآية. وأما الجواب عن قياسهم على الْغَنِيمَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّا لَا نُسَلِّمُ لهم أن القتل والقطع يَجِبُ بِالْمُحَارَبَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُشَارِكَ فِيهَا مَنْ شَهِدَهَا، وَالْحِرَابَةُ لَا يُشَارِكُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَلَمْ يُشَارِكْ فِيهَا مَنْ لَمْ يُبَاشِرْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأْثِيرِ النُّصْرَةِ والتكثير فهو فاسد بِالْمُمْسِكِ وَالذَّابِحِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَى الرِّدْءِ الْمُكْثِرِ وَالْمُهِيبِ فَعَلَيْهِمُ التَّعْزِيرُ أَدَبًا وَحَبْسًا وَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ أَصْحَابِهِ فِيهِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَمَنْ قَتَلَ وَجَرَحَ أُقِصَّ لِصَاحِبِ الْجَرْحِ ثُمَّ قطع لا يمنع حق الله حتى الآدميين في الجراح وغيرها) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَرَحَ الْمُحَارِبُ فِي الْحِرَابَةِ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {والجروح قصاص} [المائدة: 45] وفي انحتامه كالقتل قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَنْحَتِمُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى أغفل الْجِرَاحَ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجْرُوحُ بِالْخِيَارِ فِي الْقِصَاصِ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ مُنْحَتِمٌ كَانْحِتَامِهِ فِي الْقَتْلِ؛ لأنها وجميع الْأَطْرَافِ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَسُقُوطِهِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهَا فِي انْحِتَامِهِ فَعَلَى هَذَا يستوفيه الإمام حتما ولا تخيير فيه للمجروح. (فَصْلٌ) فَإِنْ قَتَلَ الْمُحَارِبُ وَجَرَحَ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِمَا فَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَيَكُونُ الْقَتْلُ مُنْحَتِمًا. وَفِي انْحِتَامِ الْجِرَاحِ قَوْلَانِ: وَلَا تدخل الجراح في النفس سواء انحتم الجراح، أَوْ لَمْ يَنْحَتِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَدْخُلُ الْجِرَاحُ فِي النَّفْسِ إِذَا اجْتَمَعَا فَيُقْتَلُ وَلَا يجرح استدلالا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 365 بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويسعون} [المائدة: 33] الآية إلى أن قال: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33] فاقتصر بحدوده عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا قَالَ: وَلِأَنَّ الْحُدُودَ فِي الْحِرَابَةِ من حقوق الله تعالى الْمَحْضَةِ وَلَيْسَتْ قِصَاصًا لِانْحِتَامِهَا وَسُقُوطِ الْخِيَارِ فِيهَا متداخل الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ جِنْسِهِ كَمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا دَخَلَ جَلْدُهُ فِي رَجْمِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَا يُسْتَوْفَى عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ جَرْحٍ وَقَطْعٍ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَمَعَ اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ يَزُولُ مَقْصُودُ الرَّدْعِ بِغَيْرِهِ فَسَقَطَ. وَدَلِيلُنَا قول الله تعالى: {الجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُحَارِبِ وغيره؛ ولأن كُلَّ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لَمْ تَسْقُطْ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا قِصَاصٍ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْحِرَابَةِ؛ وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ لِانْحِتَامِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مِنَ العقوبة المظهرة ما تضمنتها من الأسباب المضمرة، ولم تضمر فيها الجراح، فلم يظهر فيها حكمه. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ من حقوق الله تعالى، فَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ فِيهِ هُوَ قِصَاصٌ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِدَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُحَارِبَ لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا انْحِتَامُهُ وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ فِي اسْتِيفَائِهِ، فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ رَدْعٌ، فَسَقَطَ بِالْقَتْلِ يَبْطُلُ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ، وَالْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ رَدْعًا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجَرْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ كَالْجَائِفَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا لِلْمَجْرُوحِ، وَكَانَ حُكْمُهَا فِي الْحِرَابَةِ كَحُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قِصَاصٌ كالْمُوضِحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: بِانْحِتَامِهِ قُدِّمَ الْقِصَاصُ مِنْهَا عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ. وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِمُنْحَتِمٍ وُقِفَ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ قُدِّمَ عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الْمَالِ طُولِبَ بِهِ المحارب قبل قتله، فإذا أداه وعرف وَجْهَهُ قُتِلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا عَرَّفَ وَجْهَهُ اسْتُبْقِيَ حَتَّى يُسْتَكْشَفَ عَنْ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنَ الْمَالِ ثُمَّ قُتِلَ إِنْ ظَهَرَ مَالٌ أَوْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا جَمَعَ الْمُحَارِبُ فِي الْحِرَابَةِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ بِجِنَايَةٍ جُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ قَطْعِهِ فِي الْمَالِ وَقَطْعِهِ فِي القصاص، ومنع أبو حنيفة من الجمع بينهما، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 366 وَقَالَ: إِذَا قُطِعَ بِجِنَايَةٍ يُسْرَى يَدٍ، وَأَخَذَ الْمَالَ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَقُطِعَتْ يُمْنَاهُ فِي الْمَالِ مَعَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ خِلَافِهِ فِي الجراح، ونحن نجمع عليه بينهما، فتقطع يسرى يديه قصاصاً، ثم تقطع يُمْنَى يَدَيْهِ مَعَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى؛ لِأَخْذِ الْمَالِ ولا يوالي بين القطعين؛ لأنهما حدان ويمهل بَعْدَ قَطْعِ يُسْرَاهُ قَوَدًا حَتَّى تَنْدَمِلَ، ثُمَّ تقطع يُمْنَاهُ فِي الْمَالِ، وَيُقَدَّمُ قَطْعُهُ فِي الْقِصَاصِ عَلَى قَطْعِهِ فِي الْمَالِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اللَّهِ وعباده إِنْ قِيلَ بِانْحِتَامِهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ. وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ في الدنيا مقدمة على حقوق الله تعالى فِيهَا، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِرِدَّةٍ وَقِصَاصٍ أَوْ قَطْعِ يَدٍ بِسَرِقَةٍ وَقِصَاصٍ قُدِّمَ الْقِصَاصُ والقطع على حق الله تعالى فيها، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الدِّمَاءِ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ فِي الْمَالِ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حَقِّ الله تعالى كالدماء. والثاني: يقدم حق الله تعالى عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ بِخِلَافِ الدِّمَاءِ. وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَكُ بينهما، قيل: لأن الْمَقْصُودَ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الدِّمَاءِ يُوجَدُ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْآدَمِيِّينَ وَهُوَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ وَالْمَقْصُودُ بِحَقِّ الله تعالى فِي الْأَمْوَالِ لَا يُوجَدُ فِي اسْتِيفَائِهِ لِلْآدَمِيِّينَ وهو وصوله إلى الفقراء المساكين فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) وَإِذَا تَمَاثَلَ قَطْعُ الْقِصَاصِ وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ فِي الْأَطْرَافِ فَقُطِعَ الْمُحَارِبُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى وَأَخَذَ الْمَالَ فَوَجَبَ بِهِ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَطْعَهُ فِي الْقِصَاصِ مُنْحَتِمٌ رُوعِيَ أَسْبَقُ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ قَطْعُ الْمَالِ عَلَى قَطْعِ الْقِصَاصِ قطع قصاصاً وسقط قطع المال لتقدم حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي الدَّمِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ قَطْعُ الْقِصَاصِ عَلَى قطع المال، فقطع قصاصاً ولم يسقط قطع المال فلم يُعْدَلُ فِيهِ إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ الْيُمْنَى، كَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ يمنى ولا رجل يسرى؛ لأن اسْتِحْقَاقُ قَطْعِهِمَا لِلْمَالِ لَمْ يُعْدَلْ فِيهِ إِلَى فَعَدَلَ فِي قَطْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَلَوْ تقدم استحقاق القصاص فيها حَتْمٌ، فَصَارَ كَعَدَمِهِمَا، فَعَدَلَ فِي قَطْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَلَوْ تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُ قَطْعِهِمَا لِلْمَالِ لم يعدل فيه إلى غيرهما؛ لأن مَا وَجَبَ ابْتِدَاءً إِلَّا فِيهِمَا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَطْعَ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ خُيِّرَ وَلِيُّهُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ قُطِعَ لِلْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ قُطِعَ قِصَاصًا، وَسَقَطَ قَطْعُ الْمَالِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُهُ أَوْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَالِ وَرَدَ عَلَى طَرَفٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَنْحَتِمْ أَخْذُهُ فِي غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا انْحَتَمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ، فَجَازَ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قُطِعَ الْمُحَارِبُ الْيَدَ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يُمْنَاهُ قِصَاصًا وَصَارَ بَعْدَ قَطْعِهَا فيه كمن ذهبت يمناه بأكله فهل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 367 يجزئ فِي قَطْعِ الْمَالِ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى قَطْعِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني يجزئ أن يقتصر عليهما وَحْدَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يجزئ وَيُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَرِجْلِهِ اليمنى كمن ذهب يده اليمنى ورجله اليسرى والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَمَنْ عَفَا الْجِرَاحَ كَانَ لَهُ وَمَنْ عَفَا النَّفْسَ لَمْ يُحْقَنْ بِذَلِكَ دَمُهُ وَكَانَ عَلَى الْإِمَامِ قَتْلُهُ إِذَا بَلَغَتْ جِنَايَتُهُ الْقَتْلَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ مُنْحَتِمٌ، وَفِي انْحِتَامِهِ فِي جِرَاحِ الْحِرَابَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَنْحَتِمُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يراعى فيه المكافأة من الْمَجْرُوحِ لِلْجَارِحِ؟ فَإِنْ كَافَأَهُ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ تَفَرَّدَ بِأَخْذِ الْأَرْشِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنه منحتم، فعلى هذا هل تراعى فِيهِ الْكَفَاءَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُرَاعَى، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ فيه عَلَى انْحِتَامِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُرَاعَى فِيهِ الْكَفَاءَةُ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَافَأَهُ انْحَتَمَ الْقِصَاصُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ للجروح، وَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي اسْتِيفَائِهِ وَعَفْوِهِ؛ لأنه يصير سقوط الْقِصَاصِ جَارِيًا مَجْرَى الْأَمْوَالِ، فَلَوْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي بَعْضِهِ وَلَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ كَالْهَاشِمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِصَاصَ في الجراح غير منحتمة كَانَ الْمَجْرُوحُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ؛ بَيْنَ أن يقتص من الْإِيضَاحِ وَيَأْخُذَ أَرْشَ الْهَشْمِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ. وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْأَرْشِ فَيَأْخُذَ دِيَةَ الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ. وَبَيْنَ أن يعفو عن الأمرين، فإن قِيلَ: إِنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ مُنْحَتِمٌ انْحَتَمَ الْقِصَاصُ فِي إِيضَاحِ الْهَاشِمَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تعالى وحتى الْمَجْرُوحِ، وَكَانَ أَرْشُ هَشْمِهَا خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ مُسْتَحَقًّا لِلْمَجْرُوحِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهِ، فَلَمْ يُهْدِرْ بغير قصاص ولا أرش. (مسألة) قال الشافعي: " ومن تاب منهم من قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ولا تسقط حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَبِهِ أقول) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 368 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إلا الذين تابوا من قبل أن يقدروا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فَعَطَفَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُدُودِ الْمُحَارَبَةِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ التَّوْبَةِ، فَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ إلى أنها التوبة من قصاص الْحُدُودِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي أَمَانِ الْإِمَامِ لَهُمْ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ شَرْطٌ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنْهُ الْإِمَامُ لَمْ تُسْقِطِ التَّوْبَةُ عَنْهُ حَدًّا، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِتَأْثِيرِهَا فِي الحدود أن يكون قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا من صِفَةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لُحُوقِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَوْدِهِمْ مِنْهَا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ تُؤَثِّرِ التَّوْبَةُ فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِئَةٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهَا وَيَمْتَنِعُونَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا بِفِئَةٍ لَمْ تُؤَثِّرْ تَوْبَتُهُمْ فِي سُقُوطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ، وهذا قول عبد الله بن عمر، وعمرو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ والحكم بن عيينة. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ لَا تَمْتَدَّ إِلَيْهِمْ يَدُ الْإِمَامِ بِهَرَبٍ أَوِ اسْتِخْفَاءٍ أَوِ امْتِنَاعٍ، فَيَخْرُجُوا عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَتُؤَثِّرُ توبتهم فيما سقط عَنْهُمْ، وَمَنِ امْتَدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ الْإِمَامِ فَهُوَ تحت القدرة عليه، واختلف من قال هذا فِي رَفْعِهِ إِلَى الْإِمَامِ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ: " هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ، لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إن عفوت) واختلفوا فيما يسقط التَّوْبَةُ عَنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أحدها: وهو قول علي عليه السلام أنها تسقط عنهم جميع الحقوق لله عز وجل وَلِلْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، رُوِيَ أَنَّ حارثة بن زيد خَرَجَ مُحَارِبًا فَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَجَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَقَبِلَ علي عليه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 369 السلام تَوْبَتَهُ وَجَعَلَ لَهُ أَمَانًا مَنْشُورًا عَلَى مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إِلَّا الدِّمَاءَ لِتَغْلِيظِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ لِاخْتِصَاصِ التَّوْبَةِ بِتَكْفِيرِ الْإِمَامِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْحُدُودُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ فِيهَا وَلِأَنَّ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ أَبْلَغُ فِي خُلُوصِ الطَّاعَةِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ فَقَوِيَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ وَتَوْبَةَ غَيْرِ الْمُحَارِبِ تَضْعُفُ عَنْ هذه الحال؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا عَنْ خَوْفٍ فَضَعُفَ حُكْمُهَا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحِرَابَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزِّنَا: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء: 16] وفي قطع السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم} ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا) ، وَلِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ مِنْ حُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ أَغْلَظُهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ أَخَفُّهُمَا، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّكَالِ وَالرَّدْعِ، وَالتَّائِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فَسَقَطَ عَنْهُ مُوجِبُهَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلتَّوْبَةِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ فِي الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ فَالتَّوْبَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِيهَا فتكون في الحرابة بإظهارها قولاً حتى يقترن بها الْكَفّ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ، وَلَا تَكُونُ التَّوْبَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ بِإِظْهَارِهَا قَوْلًا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا إِصْلَاحُ الْعَمَلِ فِي زَمَانٍ يُوثَقُ بِصَلَاحِهِ فِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين: أحدهما: نص. والثاني: معنى. فأما النَّصّ فَقَوْلُهُ فِي الْحِرَابَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] وَلَمْ يُشْتَرَطِ الْإِصْلَاحُ فِيهَا، وَقَالَ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] وَفِي آيَةِ الزِّنَا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] بشرط الإصلاح فيها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 370 وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحَارِبَ مُجَاهِرٌ فَقَوِيَتْ تَوْبَتُهُ، وَغَيْرُ المحارب مساير فَضَعُفَتْ تَوْبَتُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقِيَّةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عنه إن تظاهر بها بخوف وحذر والتقية متوجه إِلَى غَيْرِ الْمُحَارِبِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْقُدْرَةِ فَلَحِقَتْهُ التهمة في الظاهر بِهَا مِنْ خَوْفٍ وَحَذَرٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ مَا تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ. (فصل) فإذا تقرر ما ذكرنا من فرق ما بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ وسقوط الحدود بها في الحالين وجب تفصيلها وشرح الحكم فيها. فَنَقُولُ: أَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لها فيها فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَهْلِهَا بقوله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي سُقُوطِ حُدُودِ الْحِرَابَةِ، وَفِي إِسْقَاطِهَا لِحُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ قَوْلَانِ، فَأَمَّا حُدُودُ الْحِرَابَةِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اخْتَصَّ بِالْحِرَابَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: انْحِتَامُ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَقَطْعُ الرِّجْلِ، فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ انْحِتَامُ قَتْلِهِ وَيَصِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ، وَيَسْقُطُ صَلْبُهُ وَقَطْعُ رِجْلِهِ فِي أَخْذِ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَخْتَصُّ بِالْحِرَابَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا سَوَاءً وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا، وشرب الخمر، وقطع السرقة، ففي سقوطه بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ قَوْلَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اختلف فيه وهو قطع اليد وأخذ الْمَالِ فِي الْحِرَابَةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحِرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي غَيْرِهَا. فعلى هذا يعتبر فِيهَا التَّوْبَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ، وَفِي سُقُوطِهِ بِهَا قَوْلَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ قَطْعَهَا مُخْتَصٌّ بِحُدُودِ الْحِرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لِلْمُجَاهَرَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ وتقطع في غير المحاربة للإسرار بأخذ المال فاختلف موجبهما، فعلى هذا يعتبر فِيهَا تَوْبَةُ الْحِرَابَةِ وَيَسْقُطُ قَطْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا يَسْقُطُ بِهَا قَطْعُ الرِّجْلِ، فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يسقط بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَأَسْقَطَ بِهَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى بَدَلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَتَنَوَّعُ وَجَمِيعُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ مُتَمَاثِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 371 (مسألة) قال الشافعي: " ولو شهد شاهدان من الرفقة أن هؤلاء عرضوا لنا فنالونا وَأَخَذُوا مَتَاعَنَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ وَيَسَعُهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَضُوا لِهَؤُلَاءِ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا وَنَحْنُ نَنْظُرُ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَكْشِفَهُمَا عن غيره ذلك ". قال الماوردي: وهذا صحيح، إذا اخبر جماعة ادعوا عَلَى قَوْمٍ أَحْضَرُوهُمْ أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا وَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَإِنِ اعترفوا لهم طوعاً بما ادعوا أُخِذُوا بِإِقْرَارِهِمْ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُمْ أحلفوهم إِنْ عَدِمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بَعْضُهُمْ وأنكر بعضهم حد الْمُعْتَرِفُ مِنْهُمْ بِإِقْرَارِهِ، وَأُحْلِفَ الْمُنْكِرُ، وَلَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْمُعْتَرِفِ عَلَى الْمُنْكِرِ لِفِسْقِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فإن شهد للمدعين شَاهِدَانِ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَنَا، وَقَتَلُوا مِنَّا نُفُوسًا لَمْ تقبل شهادتهم؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا خَصْمَيْنِ مِنْ جملة المدعين لم يَتَمَيَّزُوا عَنْهُمْ فِي الشَّهَادَةِ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى تُرَدُّ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِهَذَا الْقَوْلِ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَرْدُودَةٌ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُمَا وَقَذَفَ زَيْدًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَذْفِ أُمِّهِمَا، وَهَلْ تُرَدُّ فِي قَذْفِ زَيْدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ فِي الشهادة على قطاع الطريق تُرَدّ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَتَكُونُ فِي حُقُوقِ غيرهما على قولين. قيل: إذا استعملت الشَّهَادَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ تُرَدُّ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا تُرَدُّ فِي الْآخَرِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِيمَا رُدَّتْ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ تُرَدَّ بِعَدَاوَةٍ أَوْ تُهْمَةٍ، فَإِنْ رُدَّتْ لِعَدَاوَةٍ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ رُدَّتْ لِتُهْمَةٍ سُمِعَتْ فِي الْآخَرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعَدَاوَةَ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَالتُّهْمَةُ تُوجَدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا تُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَلِذَلِكَ رُدَّتْ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِي الْقَذْفِ. (فَصْلٌ) وَلَوِ ابْتَدَأَ الشَّاهِدَانِ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَطَعُوا عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 372 هَؤُلَاءِ الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ كَذَا، وَقَتَلُوا مِنَ النُّفُوسِ كَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يكونان بمعزل على المدعين فيشاهدوا قطع الطريق، وَلَا يَسْأَلُهُمُ الْحَاكِمُ هَلْ كَانَا مَعَهُمْ أَمْ لا؟ وقال بعض العراقيين: لا يحكم بشاهدتهما حَتَّى يَسْأَلَهُمَا هَلْ كَانَا مَعَ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَا: لَا حُكِمَ لَهَا، وَإِنْ قَالَا: نَعَمْ لَمْ يُحْكَمْ؛ لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تَصْرِفُ الشَّهَادَةَ إِلَى الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُمَا وَإِنْ جَازَ كَذِبُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الِاحْتِمَالُ طَرِيقًا إِلَى رَدِّهَا إِذَا أوجب الظاهر قبولهما. (مسألة) قال الشافعي: " وإذا اجتمعت على رجل حدود وقذف بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ثُمَّ حُبِسَ فإذا برأ حد في الزنا مائة جلدة فإذا برأ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِلسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطريق معاً ورجله لِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ يَدِهِ ثُمَّ قُتِلَ قَوَدًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى رَجُلٍ حُدُودٌ مِنْ جَلْدٍ، وَقَطْعٍ، وَقَتْلٍ، بُدِئَ بِالْجَلْدِ، ثُمَّ بالقطع، ثم يالقتل، ولا يسقط بالقتل ما عداه. وقال أبة حَنِيفَةَ: إِذَا اجْتَمَعَ مَعَهَا قَتْلٌ سَقَطَ بِالْقَتْلِ مَا عَدَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا قَتْلٌ كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَلْدِ أَوِ الْقَطْعِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَتْلَ أَعَمُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ، وَيَتَسَاوَى مَا عداه فلم يتعين تقديم بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ. وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ الظَّوَاهِرِ فِي الْحُدُودِ الْمُوجِبِ لِاسْتِيفَائِهَا، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لَا تَتَدَاخَلُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ فِي الْقَتْلِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ، فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجَلْدِ عَلَى الْقَطْعِ فَلِأَنَّهُ أَخَفُّ وَأَسْلَمُ مِنَ الْقَطْعِ الَّذِي فِيهِ إِرَاقَةُ دم واستهلاك؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ ما وصفنا مِنْ سُقُوطِ التَّدَاخُلِ وَوُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِالْأَخَفِّ فَالْحُدُودُ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: جَلْدٌ، وَقَطْعٌ، وَقَتْلٌ، فَيُقَدَّمُ الْجَلْدُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ؛ لمَا ذكرنا، والجلد يستحق بِأَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ تَعْزِيرٍ، وَقَذْفٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَزِنَا بِكْرٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قُدِّمَ التَّعْزِيرُ عَلَى جَمِيعِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخَفُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَغْلَبِ ثُمَّ فِيمَا يُبْدَأُ به بَعْد التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة، يُقَدَّمُ حَدُّ الْخَمْرِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 373 لأنه أخف، ثم حد الزنا آخرها؛ لأنه أغلظ جلد في حق الله تعالى فَصَارَ آخِرَهَا، وَيُمْهَلُ بَيْنَ كُلِّ حَدَّيْنِ حَتَّى يَبْرَأَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُنْحَتِمٍ كَالْقَتْلِ في غير الحرابة؛ لأن لا يُوَالى عَلَيْهِ بَيْنَ الْحُدُودِ فَيَتْلَفَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِهَا، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مُنْحَتِمًا كَالْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ وَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا فَفِي الْمُوَالَاةِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُوَالَى؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا لِلْبُرْءِ مَعَ انْحِتَامِ الْقَتْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَالْوَجْهُ الثاني: يهمل بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَتَّى يَبْرَأَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُنْحَتِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلَفَ بِالْمُوَالَاةِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا. (فَصْلٌ) ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْجَلْدِ إِلَى قَطْعِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى الْقَتْلِ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: قَوَدٌ فِي جِنَايَةٍ، وَقَطْعُ يَدٍ فِي سَرِقَةٍ، وَقَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ فِي حِرَابَةٍ، فَيَكُونُ قَوَدُ الْجِنَايَةِ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ سَقَطَ حُكْمُهُ وَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لسرقته وحرابته، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى لِحِرَابَتِهِ، وَجُمِعَ بَيْنَ قَطْعِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا فِي الْحِرَابَةِ فَلَا تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ حَدَّهُ الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَإِنِ اخْتَارَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ الْقِصَاصَ قَدَّمَهُ عَلَى قَطْعِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ، لأن مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، ثَمَّ رِجْلُهُ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ كَالْمُوضِحَةِ في الرأس واللسان والذكر، ويسرى اليد ويمنى الرجل أمهل بعد القصاص حتى يبرأ مما قطع بالسرقة وَالْحِرَابَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي أَعْضَاءِ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ كَالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى قُطِعَتْ قِصَاصًا، فإن كان اليد اليمنى دخل في الاقتصاص مِنْهَا قَطْعُ السَّرِقَةِ وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ، وَقُطِعَتِ الرِّجْلُ الْيُسْرَى لِلْحِرَابَةِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْقِصَاصِ فِي الرِّجْلِ الْيُسْرَى دَخَلَ فِيهَا قَطْعُ الْحِرَابَةِ وَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِلسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى دَخَلَ فيها قَطْعُ السَّرِقَةِ وَقَطْعُ الْحِرَابَةِ. (فَصْلٌ) ثُمَّ يُعْدَلُ بَعْدَ الْقَطْعِ إِلَى الْقَتْلِ وَلَا يُمْهَلُ إِلَى الِانْدِمَالِ، وَالْقَتْلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ قَوَدٌ مُنْحَتِمٌ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ، وَقَوَدٌ غَيْرُ مُنْحَتِمٍ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ، وَرَجْمٌ فِي زِنَا ثَيِّبٍ، وَقَتْلٌ بِرِدَّةٍ، أَوْ تَرْكُ صَلَاةٍ، فَيُقَدَّمُ قَتْلُ الْقَوَدِ فِي الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ عَلَى الرَّجْمِ فِي الزِّنَا وَالْقَتْلِ بالردة، سواء تقدم أو تأخر؛ لما تضمنهما مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي قَتْلِ القود في الحرابة والقود في غير الحرابة أيهما يقدم، فإن، قَتْلُ الْحِرَابَةِ انْحَتَمَ قَتْلُهُ قَوَدًا فِي الْحِرَابَةِ وصلب وبعد قَتْلِهِ إِنْ أَخَذَ الْمَالَ فِي الْحِرَابَةِ، وَكَانَ لِوَلِيِّ الْقَوَدِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِالدِّيَةِ وَيَسْقُطُ رَجْمُ الزِّنَا وَقَتْلُ الرِّدَّةِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ على الْقَتْلِ فِي الْحِرَابَةِ قُدِّمَ الْقَوَدُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لتقدمه على القود في الحرابة لتأخره، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ حُكِمَ بِهِ فِي مَالِ الْمُحَارِبِ وَقُتِلَ لِلْحِرَابَةِ قَوَدًا مُسْتَحَقًّا، وَإِنْ طَلَبَ الولي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 374 الْقَوَدَ اقْتَصَّ مِنْهُ وَلَمْ يُصْلَبْ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ من حدود الحرابة فيسقط حُكْمُ صَلْبِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَكَانَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحِرَابَةِ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّهِ مُنْحَتِمًا؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي انْحِتَامِ الْقَتْلِ ولا يسقط حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ رجم الزنا وقتل الردة رجم للزنا، وَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ أَزْيَدُ نكالاً فدخل فيه الأقل. (مسألة) قال الشافعي: " فإن مَاتَ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْحُدُودُ كلها وفي مَالِهِ دِيَةُ النَّفْسِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَاتَ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ صَارَ فِي الْبَاقِي مِنَ الْحُدُودِ كَالْمَيِّتِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ من الحدود، فينظر فِي الْبَاقِي مِنَ الْحُدُودِ فَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا، وَقَتْلِ الرِّدَّةِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي تَبِعَاتِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مَوْكُولًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَدَلٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَدَلٍ كَالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ رَجَعَ مُسْتَحِقُّهُ بِدِيَتِهِ فِي مَالِ الْمُحَارِبِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ. (فَصْلٌ) إِذَا كَانَ في قطاع الطريق امرأة أقيم عليها الحدود في الحرابة كالرجل في قطعها وصلبها. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَسْقُطُ عَنْهَا حُدُودُ الْحِرَابَةِ وتقتل قوداً لا تنحتم، وتغرم المال، ولا تصلب احتجاجاً بأن امرأة لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ فَسَقَطَتْ عَنْهَا حُدُودُ الحرابة كالصبي والمجنون. ودليلنا: عُمُوم الْآيَةِ فِي الْحِرَابَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أن من وجب عليه الحد في غير الحرابة وجب عليه حد الحرابة كالرجل، وَلِأَنَّ كُلَّ حَدٍّ وَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ جَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ كَالْحَدِّ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّبِيِّ والمجنون فالمعنى فيها سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ؛ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، فَسَقَطَ فِي الْحِرَابَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ فِي الْحِرَابَةِ لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 375 (كتاب الأشربة والحد فيها) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَصْلُ الْمُسْكِرَاتِ كلها الْخَمْرُ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ تَابِعٌ لَهُ وَمُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ. وَالْخَمْرُ هُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذا صار مسكراً بحدوث الشدة المطرية فِيهِ فَيَصِيرُ خَمْرًا بِشَرْطَيْنِ: الشِّدَّةُ والسُّكْرُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يصير خمراً بها حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا شَرْطٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يقذف زبده. وَلَيْسَ قَذْفُ الزَّبَدِ عِنْدَنَا شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي شُرْبِهَا. وَفِي تَسْمِيَتِهَا خَمْرًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ يُخَمَّرُ عَصِيرُهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَصِيرَ خَمْرًا أَيْ يغطّى وَلَوْ لَمْ يُغَطَّ لَمْ يَصِرْ خَمْرًا وَالتَّخْمِيرُ التَّغْطِيَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَ خِمَارُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّيهَا وَيَسْتُرُهَا. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ بِالسُّكْرِ أَيْ: يُغَطِّيهِ وَيُخْفِيهِ. وَقَدْ كَانَ الْخَمْرُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَشْرَبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَتَنَاكَرُونَهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِبَاحَتِهِمْ لِشُرْبِهَا هَلْ كَانَ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ بِشَرْعٍ وَرَدَ فِي إِبَاحَتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: انهم استصحبوا إباحتها في الجاهلية؛ لأنه لا تقدم منع منها ولا تحريم لها، هذا أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا شُرْبَهَا بِشَرْعٍ وَرَدَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حسناً} [النحل: 67] . وفيه ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّكَرَ مَا أَسْكَرَ مِنَ الخمر والنبيذ، والرزق الحسن وهو مَا أَثْمَرَ مِنَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 376 التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ثُمَّ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَشَاهِدُهُ مِنَ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: (بِئْسَ الصحاة وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمُ ... إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ) وَالسَّكَرُ: الْخَمْرُ، وَالْمُزَّاءُ: نَوْعٌ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الحبشة. وقيل بلغة أزدعمان. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّكَرَ الطَّعَامُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: الاثنان، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (وَجَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرًا ... ) أَيْ طَعَامًا حَلَالًا ثُمَّ نزلت تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَمِلُوا مِنَ الشَّرَابِ، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. وَالثَّانِي: مَا حَكَاهُ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ سعد بن أبي وقاص لاحا رَجُلًا عَلَى شَرَابٍ. فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ بِلِحَى جَمَلٍ ففرز أَنْفَهُ، قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَوَى لَهُمْ رَأْسَ بَعِيرٍ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَغَضِبَ مِنْ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ سَعْدٌ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ بَلِحَى الْبَعِيرِ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. والثالث: ما رواه عوف عن أبي القلوص، أَنَّ رَجُلًا سَكِرَ مِنَ الْخَمْرِ، فَجَعَلَ يَنُوحُ على قتلى بدر ويقول: (تحيى بالسلامة أم بكر ... وهل لي بَعْدَ رهْطِكِ مِنْ سَلَامِ) (ذَرِينِي أَصْطَبِحْ بكْرًا فإني ... رأيت الموت نبث عن هشام) (ووديني الْمُغِيرَة لَوْ فَدَوْهُ ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سوام) (وكائن بالطوي طوي بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام) (وكائن بالطوي طوي بدر ... من القينات والحلل الكرام) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 377 فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فغضب وأقبل الرَّجُلُ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً كان معه بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ. وَالرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا وَشَرَابًا وَدَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا فَقَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فصلى بِهِمُ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ ديني) فنسي قول اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} [سورة النساء: 43] ثم حرمت. والخامس: ما رواه محمد بن إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بياناً شافياً فنزل في سورة البقرة قوله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] الْآيَةَ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنزل في سورة النساء قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} [النساء: 43] فدعى عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم من لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء} . الآية إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90] فَحِينَ سَمِعَهَا عُمَرُ قَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ، وَنَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ رَابِعَةٌ فَيَ سورة الأعراف وهي قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] . والإثم ها هنا الخمر في قول الأكثر لِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 378 فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ. نَحْنُ نَبْدَأُ بِتَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَنَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا حُرِّمَتْ بِهِ الْخَمْرُ فيها. أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] فَقَدْ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ فِي الْخَمْرِ مَا قَالَ، وَاسْمُ الْخَمْرِ يَنْطَلِقُ حَقِيقَةً عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْطِلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يطلق اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ والوجه الثاني: أنه يطلق اسْمُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْخَمْرِ مُخْتَصٌّ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي صِفَةٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أُخْرَى وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، فَافْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ الْقِمَارُ وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْمَيْسِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَالثَّانِي: لأنه موضوع على ما ينزله مِنْ غُنْمٍ أَوْ غُرْمٍ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ أَنَّ شَارِبَهُ يُؤْذِي النَّاسَ إِذَا سَكِرَ واسم الميسر أن صاحبه يظلم الناس إذا عومل وهذا قول السدي. والثاني: أن اسم الْخَمْرِ أَنْ يَزُولَ عَقْلُ شَارِبِهِ فَتَغْرُبُ عَنْهُ معرفة خالقه، واسم الميسر أن يوقع العداوة والبغضاء ويصدر عن ذكر الله والصلاة، وهذا قول ابن عباس {ومنافع الناس} وَفِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وُفُورُ ثَمَنِهَا وربح تجارها. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَذَّةُ شُرْبِهَا وَمَا يَحْصُلُ فِي النفس من الطرب كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 379 (وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهنِهُنَا اللِّقَاءُ) وكقول آخر: (وَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ) (وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي ... رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ) وَفِي مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حل. والثاني: ما يحصل الحاضر به مِنْ نَصِيبِ الْقَامِرِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجْهًا ثالثاً: وهو أن منفعة الخمر والميسر بشأن اجتنابهما ثم قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} فيه وجهان: أحدهما: أن الإثم الحادث عنه أكثر من النفع العائد منها قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِثْمَهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ قاله ابن عباس. {ويسألونك ماذا ينفقون} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْجِهَادِ. وَالثَّانِي: فِي الصدقات {قل العفو} فيه أربعة أوجه: أحدها: ما طالبت به النفس عفواً ولم يسأل عليها قاله طاوس. والثاني: أنهما لا طرف فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: أنَّهُ ما فضل عن الأهل والعيال، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: أنَّهُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ {كذلك يبين الله لكم الآيات} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الصَّدَقَاتُ. وَالثَّانِي: الْأَحْكَامُ. والثالث: الدلائل والحجج {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} فيه وجهان: أحدهما: تتفكرون في الدنيا أنها دار فناء فتزهدون فيها، وفي الآخرة أنها دار بقاء فتعملون لها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 380 والثاني: تتفكرون في أوامر الله ونواهيه فتستذكرون طَاعَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَفِي قَوْلِهِ: {لا تقربوا الصلاة} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهى عَنِ الصَّلَاةِ فِي حالة سكر. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهى عَنِ الشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصلاة، وفي قوله تعالى: {وأنتم سكارى} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الشَّرَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: مِنَ النَّوْمِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَأَصْلُ السُّكْرِ مِنَ الشَّرَابِ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يسد مجرى الماء، فالسكر مِنَ الشَّرَابِ أَنْ يَسُدَّ طَرِيقَ الْعَقْلِ وَفِي قوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى تُمَيِّزُوا مَا تَقُولُونَ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: حَتَّى تَحْفَظُوا مَا تَتْلُونَ مِنَ القرآن لأجل ما كان فيمن أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي سُكْرِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِسُورَةِ {قل يا أيها الكافرون} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِهَا فِي زَمَانِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِفِعْلِ الصلاة إذا حضر فعلها، فإذا صلى صلت له، وإن كان وقتها باقياً. روى ابن إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: كَانَ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: " لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سكران) . والثاني: أنه معتبر بوقت الصلاة، يحرم فِيهِ عَلَى مَنْ صَلَّى وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ وفيما توجيه التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَالثَّانِي: إِلَى الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ جَمِيعًا. رَوَى أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتِ الْخَمْرُ حلالاً لهم، يشربونها من صلاة الغداء حَتَّى يَنْتَصِفَ النَّهَارُ فَيَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وهم مصحون، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 381 ثُمَّ لَا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا الْعَصْرَ، ثُمَّ يَشْرَبُونَهَا حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ وَيَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُمْ مُصِحُّونَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إنما الخمر والميسر} وقد مضى الكلام فيها، والأنصاب والأزلام فيها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَنْصَابَ الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ وَالْأَزْلَامَ قِدَاحٌ مِنْ خَشَبٍ يُسْتَقْسَمُ بِهَا. وَالثَّانِي: الْأَنْصَاب حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، وَالْأَزْلَام تِسْعُ قِدَاحٍ ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، حَكَاهَا الْكَلْبِيُّ، يستقسمون بها في أمورهم ويجعلون لكل واحد منهما حكما ثم قال؛ {رجس من عمل الشيطان} وفيها أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: سُخْطٌ. وَالثَّانِي: شَرٌّ. وَالثَّالِثُ: إِثْمٌ. وَالرَّابِعُ: حرام {من عمل الشيطان} أَيْ: مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعَاصِي، وَلَا يَنْهَى إلا عن الطاعات، وأصل الرجس المستقذر الممنوع مِنْهُ، فَعَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا منه، ثم قال {فاجتنبوه} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أَنْ تَفْعَلُوهُ. وَالثَّانِي: فَاجْتَنِبُوا الشَّيْطَانَ أَنْ تُطِيعُوهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَهْتَدُونَ. وَالثَّانِي: تَسْلَمُونَ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر} بِحُصُولِ الشَرِّ وَالتَنَافُرِ لِحُدُوثِ السُّكْرِ وَغَلَبَةِ الْقِمَارِ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّكُمْ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُكْرَ الْخَمْرِ يَصُدُّكُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَطَلَبُ الْغَلَبَةِ فِي الْقِمَارِ يَشْغَلُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ {فَهَلْ انتم منتهون} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُنْتَهُونَ عَمَّا نهى عَنْهُ من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وأخرجه مخرج الاستفهام وعيداً وتغليظاً [الأعراف: 33] . وَالثَّانِي: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} عَنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِيمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي وأما الآية الرابعة في سورة الأعراف وفي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن} فيه وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 382 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَوَاحِشَ الزِّنَا خَاصَّةً، وَمَا ظَهَرَ منها الأنكحة الْفَاسِدَةُ، وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَوَاحِشَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَمَا بَطَنَ اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بغير الحق} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ الْجِنَايَةُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْبَغْيَ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ الْخَمْرُ، وَالْبَغْيَ السُّكْرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَاهِدَهُمَا، فَسَمَّاهُمَا بِمَا يَحْدُثُ عَنْهُمَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الخمر فقد اختلف أهل العلم بأيهما وقع التحريم على ثلاثة أقاويل: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كان بالآية الأولى في سورة البقرة، في قوله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كبير} [البقرة: 219] وقرأ حمزة والكسائي كثير لأنه ما كثر إثمه لم يجز اسْتِبَاحَتُهُ، فَوَقَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَكِّدًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ اسْتَقَرَّ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الأعراف من قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ لِمَا فِيهَا مِنْ صَرِيحِ التَّحْرِيمِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: وعليه اكثر العلماء، أن تحريم الخمر استقر بآية المائدة من قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} إلى قوله: {فهل انتم منتهون} . روى عبد الوهاب عن عوف بن أبي القموص عن زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فَشَرِبَهَا قَوْمٌ وَامْتَنَعَ عنها قَوْمٌ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فامتنعوا عنها، فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصلاة، ثم أنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا، فَاسْتَقَرَّ بِهَا التَّحْرِيمُ فَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا عِنْدَ تَحْرِيمِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ شربوها، وماتوا قبل تحريمها، فأنزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 383 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالثَّانِي: مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ {إِذَا مَا اتَّقَوْا} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بالقبول. والثاني: في أداء الفرائض، {وآمنوا} يعني بالله ورسوله {وعملوا الصالحات} يعني البر والمعروف، {ثم اتقوا وآمنوا} فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا غَيْرُ مَنْ خُوطِبَ بِالتَّقْوَى فِي الْأُولَى وَأَنَّ الْأُولَى لِمَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَالثَّانِيَةَ لِمَنْ شَرِبَهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ ذكرها لاختلاف المخاطب بها. والوجه الثاني: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لاختلاف المراد بها فعلى هذا في الْمُرَادِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى، فعل الطاعات. والثانية: اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى عَمَلُ الْفَرَائِضِ، وَبِالثَّانِيَةِ عَمَلُ النَّوَافِلِ {ثُمَّ اتَّقَوْا وأحسنوا} فِي هَذِهِ التَّقْوَى الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْإِقَامَةُ عَلَى التَّقْوَى. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَقْوَى الشبهات. والثالث: أنها إثابة المحسن، والعفو عن المسيئ. وَحُكِيَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ الخمر بهذه الآية [المائدة: 93] وَقَالَ: قَدِ اتَّقَيْنَا وَآمَنَّا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فيما طعمنا، وأن عمرو بن معد كرب استباحها؛ لأن الله تعالى قال: {فهل انتم منتهون} ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا فَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا لِفَسَادِ تَأْوِيلِهِمَا فَرَجَعَا، وَلَمْ يَكُنْ لِخِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى تَحْرِيمِهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ ثُمَّ أكده نص السنة. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن البتع فقال: " كل شراب أسكر فهو حَرَامٌ) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 384 قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " شرب الخمر أم الخبائث، وَإِنَّ خَطِيئَةَ شُرْبِهَا لَتَعْلُو الْخَطَايَا، كَمَا أَنَّ شجرها يعلوا الشجر) . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا) . (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مَعًا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهَا تَحْرُمُ إِذَا كَانَتْ صِرْفًا وَلَا تَحْرُمُ إِذَا مُزِجَتْ بِغَيْرِهَا. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كل شراب) . قالوا: وليست الممزوجة بِعَيْنِهَا، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا التَّحْرِيمُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ حَلَّتْ بِالْمَزْجِ لَبَطَلَ مَقْصُودُ التَّحْرِيمِ، وَلَجَازَ إِذَا أُلْقِيَ فِيهَا حصاة أو عود أن تحل، ولتوصل إِلَى مُرَادِ شُرْبِهَا إِلَى الِاسْتِبَاحَةِ، وَلَمْ يَكُنْ للنصوص فيها تأثير، وسنذكر معنى الْحَدِيثِ مِنْ بَعْدُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ شَارِبِهَا مِنْ أَنْ يَسْتَحِلَّ شُرْبَهَا أولا. فَإِنْ شَرِبَهَا مُسْتَحِلًّا كَانَ كَافِرًا بِاسْتِحْلَالِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ المرتد في الْقِتَالِ إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَإِنْ شَرِبَهَا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَمْ يَكْفُرْ. وَتَعَلَّقَ بِشُرْبِهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 385 أَحَدُهَا: مَأْثَمُ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: الْفِسْقُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْعَدَالَةِ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وزعم قوم أن الحد فيها تعزير ويجوز أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ هُوَ حَدٌّ، رَوَى شعبة عن قتادة عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ) . فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ قَبْلَ الْحَدِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌ وَاحِدٌ فإن تَكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ بَعْدَ الْحَدِّ كُرِّرَ عَلَيْهِ الحد ولم يقتل. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمِّ إن شرب فَاجْلِدُوهُ، ثُمِّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شرب فاقتلوه) قالوا: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فَجَلَدَهُ وَوضعَ الْقَتْل فَكَانَتْ رُخْصَةٌ. ثُمَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لِمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَمِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ: كُونَا وَافِدَيِ الْعِرَاقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالْقَتْلُ مَنْسُوخٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَرَادَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى وجهين: أحدهما: حديث عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) . وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَرَادَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شرب فَاجْلِدُوهُ، ثُمِّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إِنْ شرب فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي بِهِ الثَّالِثَةَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ فجلده، ووضع القتل. وقد روى ذكريا الساجي هذا الحديث. وسمى الرجل بنعمان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 386 وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ، وَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ، فَهَذَا حُكْمُ الْخَمْرِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْأَنْبِذَةُ الْمُسْكِرَةُ سِوَى الْخَمْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَيْهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ جَمِيعِ الأنبذة قليله حَرَامٌ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ والنجاسة والحد، سواء كان نيئاً أَوْ مَطْبُوخًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَبَاحَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الْأَنْبِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا لَمْ يمسه طبخ فَهُوَ الْخَمْرُ الَّذِي يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِهِ، فَإِنْ طُبِخَ فذهب ثلثاه حل، ولا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ من ثلثه فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ. وَمَا عُمِلَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، فَجَمِيعُهُ حَلَالٌ، طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ، أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ حَرُمَتْ سِوَى الْخَمْرِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ معه مشتملاً على خمسة فصول: أحدهما: هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ اسْمُ الْخَمْرِ؟ . عِنْدَنَا يَنْطَلِقُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْطَلِقُ. وَالثَّانِي: هَلْ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا؟ عِنْدَنَا يَحْرُمُ وَعِنْدَهُ لَا يحرم. والثالث: هل تنجس كالخمر؟ عندنا تنجس وعنده لا تنجس. وَالرَّابِعُ: هَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالسُّكْرِ؟ عِنْدَنَا بالشُّرْبِ وَعِنْدَهُ بِالسُّكْرِ. وَالْخَامِسُ: هَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟ عِنْدَنَا مُعَلَّلٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِبَاحَةِ النَّبِيذِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] . والسَّكَرُ هُوَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَتِهِ. وَبِمَا رَوَى أَبُو عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أحكام: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 387 إِبَاحَةُ النَّبِيذِ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ السُّكْرَ دُونَ الْمُسْكِرِ. ولأنه لا ينطلق عليه اسم الخمر وأن تحريم الخمر غير معلل؛ ولأنه حَرَّمَهَا بِعَيْنِهَا لَا لِعِلَّةٍ وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ عن مخلد عن سَعْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يطوف بالبيت فاستسقى، فأوتي بنبيذ من السقاية فشمه وقطب وجهه، ودعا بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب منه وقال: " إذا غلت عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ فَاكْسِرُوهَا بِالْمَاءِ) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النبيذ فيشربه اليوم والغد وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ به فيستقى الْخَدَمُ، أَوْ يُهْرَاقَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ الْخَدَمَ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يكن فثور مِنْ حِجَارَةٍ. وَرَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن النبيذ أحلال أَمْ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: " حَلَالٌ) . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌ وَفِعْلٌ فِي إِبَاحَةِ النَّبِيذِ. وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لَنَا أَعْنَابًا فما نَصْنَعُ بِهَا؟ فَقَالَ: " زَبِّبُوهَا فَقُلْنَا: مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ قَالَ: أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ، وَأَنْبِذُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ، وانبذوه في الشنان، يريد الجلد ولا تنبذوا في القلل، فإنه إن تَأَخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ صَارَ خَلًّا) . وَاسْتَدَلَّ بِمَا روي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الظُّرُوفُ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَاشْرَبُوا ولا تسكروا) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 388 وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " انظروا هذه الأسقية إذا اعتلمت عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ) . وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنشوان فقال له: " أشربت خمراً) فقال له لا وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: " فَمَاذَا شَرِبْتَ) ؟ قَالَ: الْخَلِيطَيْنِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النَّبِيذِ اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا فَإِنِ اشْتَدَّ عَلَيْكُمْ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ) وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ثُمَّ شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم) . فمن ذلك ما روى قيس بن أبي حَازِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ: أَنَّهُ قَدِمَ على عمر بن الخطاب، فدعا بعشر مِنْ نَبِيذٍ شَدِيدٍ فَقَالَ: اشْرَبْ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ فما كدت أسبقه، ثُمَّ أَخَذَ فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: يَا عُتْبَةُ إننا ننحر كل يوم جزوراً ودكها وأطايبها فلمن حضر من آفاق المسلمين عُنُقُهَا فَلِآلِ عُمَرَ نَأْكُلُ هَذَا اللَّحْمَ الْغَلِيظَ، وَنَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، يَقْطَعُهُ فِي بُطُونِنَا أن يؤذيننا وَهَذَا فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ فَجَلَدَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا شَرِبْتُ من ادواتك فَقَالَ: إِنَّمَا أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهَا، وَلَا أَضْرِبُكَ عَلَى الشُّرْبِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَضَافَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، وَسَقَاهُ نَبِيذًا، فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ دَفَعَهُ إِلَى خَادِمِهِ قَنْبَرٍ، وَمَعَهُ مِزْهَرٌ ليهديه إلى بيته، والمزهر السراج وقال لَهُ أهْدِهِ يَعْنِي إِلَى مَنْزِلِهِ لِسُكْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْلِسُونَ عَلَى شَرَابٍ إِلَّا وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ وَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ حَتَّى يَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا يُسْكِرُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ فَلَمْ يَسْكَرْ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَسَكِرَ فهو حرام، فهذا ما عاضد السُّنَّةَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا. فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَمِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لِأَمْرَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ يَنْتَفِي عَنِ الْآخَرِ، فَيُقَالُ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ وَلَيْسَ بِنَبِيذٍ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ نَبِيذٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي شِعْرِهِ: (دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِيًا لِمَكَانِهَا) (فَإِنْ لَمْ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا) فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ الْخَمْرِ، وَهُوَ مِنْ فصحاء العرب المحتج بقوله فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى حُكْمُ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ مِنْ تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، وَتَفْسِيقِ شَارِبِهِ، انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مَا علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الِاسْمِ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِعِلَّةٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ تحريم الأنبذة ما يعم بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَجَبَ أن يكون ثباته عاماً وما لم يكن ثباته كَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا. وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ، قَدْ كَانَتْ حَلَالًا وَتَحْرِيمُهَا نُسِخَ وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ والنَّصُّ مُخْتَصٌّ بِالْخَمْرِ دُونَ النَّبِيذِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيذِ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ عَامٌّ وَالْخَمْرُ فِيهَا نَادِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ يُعْمَلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَالْخَمْرُ يُجْلَبُ إِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ وَالطَّائِفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ. فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ نَصًّا أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَمَّا عَدَلَ بِالنَّصِّ عَنِ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ النَّبِيذِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا وَأَبَاحَ النِّكَاحَ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَأَبَاحَ لَحْمَ الْجَمَلِ، وَحَرَّمَ الْحَرِيرَ وَأَبَاحَ الْقُطْنَ وَالْكِتَّانَ، وَحَرَّمَ الْغَارَةَ وَأَبَاحَ الْغَنِيمَةَ، وَحَرَّمَ التَّعَدِّيَ وَالْغَلَبَةَ وَأَبَاحَ الْجِهَادَ، وَقَدْ حَرَّمَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 390 اللَّهُ الْخَمْرَ فَوَجَبَ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهَا بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا سِوَى النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا اعتباراً بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: قَدْ وَعَدَنَا بِالْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ وَرَغَّبَ فِيهَا أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَمَا لَا تُعْرَفُ لَذَّتُهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّرْغِيبُ فِيهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَبِيحُوا مَا تستدل بِهِ عَلَى لَذَّتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النبيذ، فاقتضى أن يحل له النَّبِيذُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ التَّرْغِيبَاتِ، فَهَذِهِ دَلَائِلُ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ مِنْ نُصُوصٍ وَمَعَانٍ. (فَصْلٌ) وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ؛ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحْرِيمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ. وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كل مسكر خمر وكل خمر حَرَامٌ) . فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ كَالْخَمْرِ. وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل خمر حرام وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) . فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ) " وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ) " ومن مس ذكره فليتوضأ) ففيه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَثْبَتُ وَأَعْلَمُ بِطَرِيقِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ مِنْ يَحْيَى، وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِنْكَارُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا رَوَاهُ الثِّقَةُ، حَتَّى يُبَيِّنَ وجه فساده، وقد رواه من ذكرنا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَالْعَمَلَ عَلَيْهِ قَدْ سبق يحيى، فلم يكن حدوث قدحه مؤشراً. فَإِنْ قِيلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يعلمنا الأسماء، وإنما يعلمنا الأحكام، لأنه أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ شَارَكُوهُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِتَقَدُّمِ اللسان العربي على مجيء الشرع. ففيه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْهُ الأسماء شرعاً، إذا تعلقت عليها أحكام كما تؤخذ الأَحْكَام؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءَ فَنَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى أَفْعَالِهَا، وَكَذَلِكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 391 الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَنْقُلَ اسْمَ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيذَ نَوْعٌ من الخمر، واسم الخمر أعم، ودخل فِي اسْمِ الْأَعَمِّ، وَهُوَ الْخَمْرُ عُمُومًا وَانْفَرَدَ بِاسْمِ النَّبِيذِ خُصُوصًا، فَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن خفي عليه. وقد روى عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ وَهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ سَبَقَ ورود الشرع: (وقالوا هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة) والطلاء: اسم نوع منه يختص بالمطبوخ دون النيء. روى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بغير اسمها) . وسنذكر ما أَنْوَاعِ أَسْمَائِهَا مَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حَرَامٌ) . فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي أَسْكَرَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ السُّكْرُ وَهُوَ حَرَامٌ وما قبله غير مسكر، فكان حلالاً، ففيه سِتَّةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ صِفَةُ جنسه فانطلق عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي الطَّعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْرِيمِ بِالْأَخِيرِ يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَخِيرِ لَا يُسْكِرُ كَأَوَّلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ الْأَخِيرِ حَرَامًا كَآخِرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا كَالْأَخِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الخمر الأول، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَخِيرَ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَرَامًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ مِنَ الْخَمْرِ يَجُوزُ أن يسكر؛ لأن الصغير يسكر بقليله كما يسكر الكبير بِكَثِيرِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَسْكَرُ بِقَلِيلِهِ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَسْكَرُ بِكَثِيرِهِ، فَصَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْكِرًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا. وَالْخَامِسُ: أَنَّ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْخَمْرِ تَأْثِيرًا فِي السكر، والقدح الأول مبدأه، وَالْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُنْتَهَاهُ، فَصَارَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ مُسْكِرًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، كَالضَّرْبِ الْقَاتِلِ يَكُونُ بالسوط الأول مبدأ الْأَلَمِ، وَالْأَخِيرِ غَايَتُهُ، وَالْجَمِيعُ قَاتِلٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 392 وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْكِرُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ إِلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تعليق التحريم به. وقد روى هاشم بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ) . وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها وقالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " ما أسكر الفرق منه فاللحسة مِنْهُ حَرَامٌ) . وَالْفَرْقُ: أَحَدُ مَكَايِيلِ الْعَرَبِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَعَةُ مَكَايِيلَ الْمُدُّ: وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ. وَالْقِسْطُ: وَهُوَ ضِعْفُ الْمُدِّ، رِطْلَانِ وَثُلُثَانِ. وَالصَّاعُ: وَهُوَ ضِعْفُ الْقِسْطِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَالْفَرْقُ: وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِ الصَّاعِ، سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَخَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ) . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ الْأَخِيرَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ السُّكْرُ فَصَارَ هُوَ الْمُحَرَّمَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي لَمْ يسكر ففيه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أَنَّ هَذَا تَكَلُّفُ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَكَانَ مُطَّرَحًا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَعُمُّ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ فَلَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْخَمْرِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي النبيذ. والثالث: أنه إذا حرم القليل كالتحريم الْكَثِيرِ أَغْلَظَ كَالْخَمْرِ إِذَا حُرِّمَتْ بِغَيْرِ سُكْرٍ كان تحريمها بالسكر أغلظ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ خَمْرًا لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعَة أَيَّامٍ وَمَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 393 سكر منها لم تقبل صلاته أَرْبَعِينَ يَوْمًا) . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عن أبي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى عُمُومَةٍ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْقِيهِمْ فَضِيخًا لَهُمْ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مَذْعُورٌ، فَقُلْنَا: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: حُرِّمَتِ الخمر فقالوا لي: أكفها فكفأتها قال: وَهُوَ كَانَ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي عُمُومَتِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ، وَأَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، شَرَابًا لهم مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ وَالْفَضِيخُ مِنَ الْبُسْرِ. فَجَعَلُوهُ خَمْرًا مُحَرَّمًا وَالْمِهْرَاسُ الْفَأْسُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن شراب من العسل فقال: " ذلك البتع) قلت: وينبذون من الشعير والذرة فقال: " ذلك المذر ثُمَّ قَالَ أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) . وَرَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنا ومعاذ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تعاصيا فقال معاذاً يا رسول الله إنك تبعثنا إِلَى بِلَادٍ كَثِيرٍ شَرَابُ أَهْلِهَا فَمَا نَشْرَبُ؟ قَالَ: اشْرَبُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) . وَرَوَى أَحْمَدُ بن حنبل والحميدي في كِتَابِهِمَا فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ دَيْلَمٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت؛ يا رسول الله، إنا بأرض بارة نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا من هذا الفضيخ فنقوى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هل يسكر؟ قلت نعم: قال: فاجتنبوه فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 394 وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ حُبْشَانِ أَهْلِ اليمن قالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض بَارِدَةٌ وَإِنَّا نَعْمَلُ بِأَنْفُسِنَا، وَلَيْسَ لَنَا منْ ممتهن دُونَ أَنْفُسِنَا وَلَنَا شَرَابٌ نَشْرَبُهُ بِأَرْضِنَا، يُقَالُ له المذر فَإِذَا شَرِبْنَاهُ نَفَى عَنَّا الْبَرْدَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) . رَوَى أَبُو سعيد السحيتي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الخمر مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ) ، فَإِنْ قَالُوا: يُسَمَّى مَا يُعْمَلُ مِنَ النَّخْلَةِ، خَمْرًا عَلَى طريق المجاز: لا يصح هذا، لأنه جمع بين العنبة والنخلة وَهُوَ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَذَلِكَ من النخلة. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْمِلُهُ فِي الْعِنَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِي النَّخْلِ عَلَى الْمَجَازِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ والمجاز على قوله: فلم يجز تأويله عليه عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ إِذَا وَافَقَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ صار حقيقة تقدم على حقيقة اللغة إذا خالفها. وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هِيَ الْخَمْرُ) وَهَذَا نَصٌّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْمِ دُونَ مَجَازِهِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وإن من البسر خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا) . وَهَذَا نَصٌّ لَا يَعْتَرِضُهُ تَأْوِيلٌ فَهَذِهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مَا يُعَاضِدُهَا فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَة من العنب والتمر والعسل والحنظة وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 395 فَدَلَّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ على النبيذ والثاني: تعليل الخمر لأنه مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ ما رواه صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ خَمْرَ الْمَدِينَةِ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، وَخَمْرُ أَهْلِ فَارِسَ الْعِنَبُ، وَخَمْرُ أَهْلِ الْيَمَنِ الْبِتْعُ، وَخَمْرُ الْحَبَشَةِ السُّكْرُكَةُ: وَهِيَ الْأُرْزُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن السائب بن زيد أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ، فَشَمَّ مِنَ ابْنِهِ عبيد الله رائحة شارب، فسأله، فقال: إني شربت الطلا فَقَالَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ ابْنِي شَرِبَ شَرَابًا، وَإِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا حَدَدْتُهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَكَانَ مُسْكِرًا فَحَدَّهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لما سأل عنه، أنشد قول أبي عبيدة بن الأبرص: (هي الخمر لا شك تكنى الطِّلَا ... كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةِ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا مُسْكِرًا إِلَّا حَدَدْتُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " خَمْرُ الْبِتْعِ مِنَ الْعَسَلِ وَخَمْرُ المذر مِنَ الذُّرَةِ) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عن ابن عمر ورجل سأله عن الفضيخ فقال: وما الفضيخ؟ قال: بُسْرٌ وَتَمْرٌ قَالَ: ذَاكَ الْفَضُوخُ، لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَهِيَ شَرَابُنَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْجُوَيْرِيَةِ الْجَرْمِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ الْعَرَبِ سألته عن الباذق فقال: سبق محمد الباذق فما أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ. والْبَاذِقُ الْمَطْبُوخُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ عُرِّبَتْ. فَهَذَا قَوْلُ: من ذكرنا من الصحابة وغيرهم، وليس له مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، ثُمَّ نُتْبِعُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من النهي عن أوانيها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 396 وذلك ما روى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شريك عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ) ، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَوَانِي مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: أَمَّا الدُّبَّاءُ فَإِنَّا مَعَاشِرَ ثَقِيفٍ كُنَّا بِالطَّائِفِ نَأْخُذُ الدُّبَّاءَ يَعْنِي الْيَقْطِينَةَ مِنَ الْقَرْعِ فَنَخْرُطُ فِيهَا عَنَاقِيدَ الْعِنَبِ، ثُمَّ نَدْفِنُهَا حَتَّى تَهْدِرَ، ثُمَّ تَمُوتَ. وَأَمَّا النَّقِيرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ كانوا ينقرون أصل النخلة ثم يشرفون فيها الرطب أو البسر حتى تهدر أو تموت. وأما المزفت فالأوعية التي تُطْلَى بِالزِّفْتِ. وَأَمَّا الْحَنْتَمُ فَجِرَارٌ حُمْرٌ كَانَتْ تحمل إلينا فيها الخمر. وقال الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الْجِرَارُ الْخُضْرُ خَاصَّةً وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ نَوْعٍ مِنَ الْجِرَارِ حَنْتَمٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ألوانها. وهو الأصح لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ: عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عن نبيذ الجر الْأَخْضَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ) ؛ وَفِي نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَإِنْ كَانَ حكم جميعها واحد تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَجُعِلَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَوَانِي مُقَدَّمَةً ينوطون بِهَا عَلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ تَحْرِيمِ الخمر؛ لأنهم قد كانوا ألغوها فواطأهم لِتَحْرِيمِهَا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التحريم؛ لأنه حرم عليهم المسكر وأباحهم غير المسكر، وهذه الأواني يتعجل إسكار شاربها فَنَهَى عَنْهَا لِيَطُولَ مُكْثُ مَا لَا يُسْكِرُ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِرَاقَةِ مَا نَشَّ مِنَ الشَرَابِ وَأُتِيَ بِشَرَابٍ قَدْ نَشَّ فَضَرَبَ بِهِ عُرْضَ الْحَائِطِ وَقَالَ: " إِنَّمَا يَشْرَبُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تجمعوا بين الرطب والبسر وبين الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذًا) وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا فِي الِانْفِرَادِ وَالْجَمْعِ سَوَاءً. أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ: أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ تَوْطِئَةً لَهُمْ فِي التحريم؛ لأنهم كانوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 397 يجمعون بينها لقوة شدتها وكثرة لذتها وَيُسَمُّونَهُ نَبِيذَ الْخَلِيطَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ جَمْعَهَا يُعَجِّلُ حُدُوثَ السُّكْرِ مِنْهَا لِيَدُومَ عليهم مكث ما لا يسكر إن انْفَرَدَ، وَلَا يُتَعَجَّلُ إِسْكَارُهُ إِذَا اجْتَمَعَ. فَهَذِهِ دَلَائِلُ النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مِنَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ فَأَمَّا دَلَائِلُ مَا يُوجِبُهُ الِاعْتِبَارُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ فَمِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ: أَنَّ الْخَمْرَ سُمِّيَ خَمْرًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ. إِمَّا لِأَنَّهُ خَامَرَ العقل أي غطاه. وهو قول عمر. أو لِأَنَّهُ يُخَمّرُ أَيْ يُغَطّى، وَمِنْ أَيِّهِمَا اشْتُقَّ فهو فِي النَّبِيذِ، كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يشترك فِي الِاسْمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا لِمَنْ بَقِيَتْ فِيهِ نَشْوَةُ السُّكْرِ: مَخْمُورًا، اشْتِقَاقًا مِنَ اسْمِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ نَبِيذٍ أَوْ خَمْرٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ لافترقا في الصفة فقيل له في نشوة النبيذ: منبوذاً، كما قيل له في نشوة الخمر: مخموراً. فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فِي خَلِّ الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي خَلِّ التَّمْرَ: خَلَّ الْخَمْرِ. فَإِنْ دَلَّ مَا نُصَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ دَلَّ هَذَا عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ. قِيلَ: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازٌ، وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ يَسْتَمِرُّ فِيهَا قِيَاسٌ، وَيَصِحُّ فيها اشتقاق؛ ولأن خَلَّ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا، وَإِنْ حَدَثَ عن العنب، كما لا يسمى التَّمْرُ نَبِيذًا، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ التَّمْرِ، وَلَوْ كان لهذه العلة سمي خمر الْعِنَبِ: خَلَّ الْخَمْرِ لَوَجَبَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يُسَمَّى خَلُّ التَّمْرِ خَلَّ النَّبِيذِ، وَفِي فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعَارُضِ. وَمِنْهَا الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنَّ الْخَمْرَ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ، صِفَةٍ بِخَلِّهِ وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَتَأْثِيرٍ يَحْدُثُ عَنْهُ وَهُوَ السكر يثبت بها اسم الخمر وتحريمه ويزول بارتفاعها اسْمُ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَصِيرًا لَيْسَ فِيهِ شِدَّةٌ، وَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ إِسْكَارٌ، ولم يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ وَإِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَصَارَ مُسْكِرًا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، وجرى عليه حكمه في التحريم. فإذا ارْتَفَعَتِ الشِّدَّةُ وَزَالَ عَنْهُ الْإِسْكَارُ، ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ بِالصِّفَةِ وَالتَّأْثِيرِ دُونَ الْجِنْسِ، وَقَدْ وُجِدَتْ صِفَةُ الشِّدَّةِ وَتَأْثِيرُ السُّكْرِ فِي النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَحُكْمُهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ، كَذَلِكَ ما جلبته الشِّدَّةُ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا؛ لِأَنَّا نَرَاهُ خَلَّا إِذَا حَدَثَتْ فِيهِ الْحُمُوضَةُ، وَغَيْرَ خَلٍّ إِذَا ارتفعت عنه الحموضة. فإن لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَامِضٍ خَلًّا لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرًا قِيلَ: صِحَّةُ التَّعْلِيلِ مَوْقُوفٌ عَلَى اطِّرَادِهِ، وَهُوَ فِي الْخَمْرِ مُطَّرِدٌ فَصَحَّ وَفِي الْخَلِّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَبَطَلَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَلِيلُ الْخَمْرِ مِثْلَ كَثِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ النَّبِيذِ مِثْلَ كَثِيرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا قد اجتمعا فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره كَالْخَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ كَثِيرَ السَّقَمُونِيَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ حَرَامٌ، وَقَلِيلُهُ غَيْرُ حَرَامٍ. قيل لأن تحريم السقمونيا لضرر هو مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِشِدَّتِهِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ التَّعْلِيلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ ثُمَّ يقال: لما لم يمنع هذا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ دَوَاعِيَ الْحَرَامِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسَبَّبِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السَّبَبِ، وَشُرْبَ الْمُسْكِرِ يَدْعُو إِلَى السُّكْرِ، وَشُرْبُ الْقَلِيلِ يدعو إلى شرب الكثر فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الْمُسْكِرُ لِتَحْرِيمِ السُّكْرِ وَيُحَرَّمَ الْقَلِيلُ لِتَحْرِيمِ الْكَثِيرِ. فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ هَذَا بِقُبْلَةِ الصَّائِمِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ. قِيلَ: إِذَا دَعَتْ إِلَى الْوَطْءِ حَرُمَتْ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ مِنْهَا مَا لَمْ يَدْعُ إِلَى الْوَطْءِ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَّقَ عَلَى طَبْخِ الْأَشْرِبَةِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَجَعَلَهُ مُحِلًّا لِلْحَرَامِ، وَمُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا طُبِخَ الْخَمْرُ حَلَّ، وَإِذَا طُبِخَ النَّبِيذُ حَرُمَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَلَّ مِنْ لَحْمِ الْجَمَلِ لَمْ يَحْرُمْ بِالطَّبْخِ، وَمَا حَرُمَ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَحِلَّ بِالطَّبْخِ، فَوَجَبَ إِسْقَاطُ تَأْثِيرِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ نيء الْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ مَطْبُوخُهُ، وَأَنَّ مَطْبُوخَ النَّبِيذِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ نَيِّئُهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 399 وَمِنْهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَشْرِبَةِ كَتَأْثِيرِ الطَّبْخِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْطَأَ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشَّمْسِ حُدُوثُ الشِّدَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِالطَّبْخِ حُدُوثَ الشِّدَّةِ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي التَّأْثِيرِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُكْمِ. وَمِنْهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ " الْأُمِّ) ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ إِذَا شَرِبَ أَقْدَاحًا، فَلَمْ يَسْكَرْ قَالُوا: حَلَالٌ، قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْهَوَاءِ فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ فَسَكِرَ قَالُوا: يَكُونُ حَرَامًا قَالَ: يَا عجبا ينزل الشراب إلى جوفه حلالاً ويصير بالريح حراماً. قالوا: يكون التحريم مراعاً، قِيلَ لَهُمْ: إِنَّمَا يَكُونُ مُرَاعًى مَعَ بَقَائِهِ، لأن المراعى موقوف والمقوف مَمْنُوعٌ وَالْمَمْنُوعُ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّ مَا رَاعَيْتُمُوهُ بَعْدَ شُرْبِهِ أَبَحْتُمُوهُ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالشَّكُّ يَمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَغُرِّرْتُمْ بِهِ فِي إِبَاحَةِ مَا تُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ حَرَامًا. وَمِنْهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِمْ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ إِذَا كَانَتْ حُلْوَةً فَهِيَ حَلَالٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، فَإِذَا حَمُضَتْ وَصَارَتْ خَلَّا فَهِيَ حَلَالٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَجَبَ إِذَا اشْتَدَّتْ وَأَسْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ جَمِيعُهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ جَمِيعُهَا. وَلَمَّا لَمْ يُحِلَّ قَلِيلُهَا وكَثِيرَهَا وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَمْرَ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا، وَالنَّبِيذُ قَدِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فَمِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ: الْعُقَارُ سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُعَاقِرُ الْإِنَاءَ أَيْ تُقِيمُ فِيهِ. وَمِنْ أَسْمَائِهَا: الْمُدَامُ؛ لِأَنَّهَا تَدُومُ فِي الْإِنَاءِ. وَمِنْ أَسْمَائِهَا: القهوة وسميت به؛ لأنها تقهي عن الطعام. أي يقطع شَهْوَتُهُ. وَمِنْ أَسْمَائِهَا السُّلَافُ: وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ من عينه بغير اعتصار، ولها خير ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيذِ: السَّكَرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْكِرُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يطبخ. ومن أسمائه: البازق، وَهُوَ الْمَطْبُوخُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْفَضِيخُ، وَهُوَ مِنَ البسر، سمي بذلك؛ لافتضاخ البسر منه. ويسميه أهل البصرة العري. ومنه البتع مِنَ الْعَسَلِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَمِنْهُ الْمِزْرُ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 400 ومنه: المزاء وهو من أشربة أهل الشَّامِ، وَمِنْهُ: السَّكَرُ، وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ وَمِنْهُ: السُّكْرُكَةُ وَهُوَ مِنَ الْأُرْزِ لِأَهْلِ الْحَبَشَةِ. وَمِنْهُ: الْجِعَةُ وَهُوَ مِنَ الشعير ومنه الضعف وهو من عنب شرخ كَالْفَضِيخِ مِنَ الْبُسْرِ يُتْرَكُ فِي أَوْعِيَتِهِ حَتَّى يَغْلِيَ. وَمِنْهُ الْخَلِيطَانِ وَهُوَ مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ بُسْرٍ وَعِنَبٍ أَوْ بَيْنَ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ. ومنه المغذي اسْتُخْرِجَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ مِنْ ماء الرمان وماء العنب. وَمِنْهُ مَا يَتَغَيَّرُ بِالطَّبْخِ، فَمِنْهُ: الْمُنَصَّفُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِالنَّارِ نِصْفُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ، وَمِنْهُ: الْمُثَلَّثُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثُهُ وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ، ومنه: الكلا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَمِنْهُ الْجَهْوَرِيُّ وَهُوَ مَا يَجْمُدُ، فَإِذَا أُرِيدَ شُرْبُهُ حل بالماء والنار وعليه يسميه أهل فارس البحتح إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تحصى فلما اختلفت أسماء الخمر واتفقت أحكامها لِلِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنَى الشِّدَّةَ، وَاخْتَلَفَتْ أَسْمَاءُ النَّبِيذِ، وَاتَّفَقَتْ أَحْكَامُهُ مَعَ الشِّدَّةِ، وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَ اسم الخمر والنبيذ أن تتفق أحكامها لأجل الشدة، وهذا الاستدلال فِي سَائِرِ اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى النَّبِيذِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالنَّصِّ، وَمَنْ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ اسْمَ الْخَمْرِ حَرَّمَهُ بِالْقِيَاسِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا الْجَوَابُ، عَنْ قَوْله تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ السَكَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ، بِبَعْضِهِ لِأَنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْخَمْرُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ النَّبِيذُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا طَابَ وَلَمْ يُسْكِرْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمُسْكِرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْحَرَامُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ الطَّعَامُ، قَالَهُ أبو عبيدة. والسابع: أنه الخل. ومع اختلاف هذا التأويل لن يَصِحَّ فِي أَحَدِهَا دَلِيلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَسْمَاءِ السُّكْرِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 401 إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أحدهم، هَلْ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي اسْمِ اللَّوْنِ وَالْعَيْنِ، كَمَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على عموم الأجناس المتماثلة في قوله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فِي حَمْلِهِ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَسَارِقٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَجْنَاسِ؛ لِتَغَايُرِ الْأَعْيَانِ: وَتَمَاثُلِ الْأَجْنَاسِ. وقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الْأَعْيَانِ وَالْأَجْنَاسِ إِذَا دَخَلَهُمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعَيْنِ وَاللَّوْنِ، وَفِي الزَّانِي والسارق لا يجوز حملها عَلَى الْعُمُومِ مَعَ حَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، إِذَا قيل: اقطع سارقاً، واجلد زانياً فهذا واجب. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ استعمالاً للنصيين فيه. والثالث: أنها إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِهِ دُونَ إِبَاحَتِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حسناً} فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ: فَكَانَ مُنْقَطِعًا لَا يُلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَوَاهُ موقوفاً على ابن عباس غير مسند عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ: " والمسكر من كل شراب) فمنها الراوي، فأسقط المسكر منها فَرُوي: " وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ السُّكْرُ، لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرَ، لَأَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ، فينهي عنه وإنما شرب المسكر فعله، فصار النهي متوجهاً إليه. الخامس: أَنَّ تَحْرِيمَ السُّكْرِ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَيَحْرُمُ السُّكْرُ وَالْمُسْكِرُ جَمِيعًا، وَتَكُونُ أَخْبَارُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَعَمُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ السُّكْرِ، وَتَحْرِيمُ السُّكْرِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السكر محرم بالعقل؛ لاستقباحه فيه، والمسكر محرم بالشر؛ لِزِيَادَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 402 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِبَ فِي طَوَافِهِ مِنَ السِّقَايَةِ نَبِيذًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ، وقد سئل سفيان عن المذر فَقَالَ: ذَلِكَ شَرَابُ الْفَاسِقِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَسْتَحِلُّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) . وَالثَّانِي: أَنَّ نَبِيذَ السِّقَايَةِ كَانَ غَيْرَ مُسْكِرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصْنَعُ لِلْحُجَّاجِ إِذَا صَدَرُوا مِنْ مِنًى لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، لِيَسْتَطِيبُوا به شرب ماء زمزم وكان ثقيلاً، لا يستسقى أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْكِرٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَطَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين شربه فدعى بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نبيذاً مشتداً قيل الجواب يجوز أن يكون قد قطب لحموضته وصب عليه الماء لغلظته. وأما الجواب الثالث: أن نبيذ السقاية كان نقع الزَّبِيبِ، غَيْرَ مَطْبُوخٍ، وَهُوَ إِذَا أَسْكَرَ حَرُمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ حَمْلُهُ عليه وبطل اسْتِدْلَالُهُ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: كان ينبذ لَهُ إِلَى ثَلَاثٍ فَيَشْرَبُهُ ثُمَّ يَسْقِيهِ الْخَدَمَ ثم يهراق هو أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُهُ وَيَسْقِيهِ الْخَدَمَ إِذَا لِمَ يَشْتَدَّ ثُمَّ يُهْرَاقُ إِذَا اشْتَدَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ لَا يَشْتَدُّ لِثَلَاثٍ حَتَّى تَطُولَ مُدَّتُهُ وَلِذَلِكَ كان يأمر بإراقة ما نش. كذلك الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أباح النبيذ مَعَ ضَعْفِهِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ) . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ به أبو الأحوص، ووهن فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " اشْرَبُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) . وَالثَّانِي: أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الشَّارِبِ، فَيَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ حمله عليه، وأما الجواب عن حديث عمر " إذا اغتلصت عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه ضعيف؛ لأن رواية عبد الملك ابن أَخِي الْقَعْقَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 403 وَالثَّانِي: أَنَّ اغْتِلَامَهَا هُوَ تَغَيُّرُهَا، إِمَّا إِلَى حموضة أو قوة، وليس في واحد منها سُكْرٌ وَلِذَلِكَ كُسِرَتْ بِالْمَاءِ لِتَزُولَ حُمُوضَتُهَا أَوْ قُوَّتُهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَأَلَ السَّكْرَانَ أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ قَالَ: لَا شَرِبْتُ الْخَلِيطَيْنِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُعُرَفُ إِسْنَادُهُ، وَلَا يُحْفَظُ لَفْظُهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ. والثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ جَوَابٌ مِنْ إِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ قَوْلِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَهُ فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ) . فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَحَلَّ النَّبِيذَ لَمْ يَعْتَرِفْ بِتَحْرِيمِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ حَرَّمَهُ لَمْ يَدَعْ إِحْلَالَهُ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الأوعية، قد رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نهى عن الأوعية إلا وعاء بوكاء) . وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ والنقير وَالْمُزَّفَتِ وَأَبَاحَ مَا يُوكَأُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْأَدِيمِ، ثم اختلف أصحابه عن النهي في هَذِهِ الظُّرُوفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ هَلْ نُسِخَ أم لا؟ فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى بَقَائِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ فِيمَا لَمْ يُسْكِرْ وقال عُمَرُ: لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي جَوْفِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَشْرَبَ نَبِيذَ الْجَرِّ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " اجْتَنِبُوا الْحَنَاتِمَ وَالنَّقِيرَ) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أشرب في سقا ثلاث على خمسة أَيْ يُشَدُّ وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَى إِبَاحَتِهَا فِيمَا لَمْ يُسْكِرْ وَنَسْخِ تَحْرِيمِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِن الظُّرُوفَ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) . وقد روى محارب بن دثار عن أبي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ وَأَنَا آمُرُكُمْ بِهِنَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ زِيَارَتَهَا تَذْكِرَةٌ. وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ أَنْ تَشْرَبُوا إِلَّا فِي ظَرْفِ الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غير ألا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي أَنْ تَأْكُلُوهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَاسْتَمْتِعُوا) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 404 وَتَأْثِيرُ نَسْخِ الشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ فِي الكراهة دون التحريم، فمن ذهب إلى أنها مَنْسُوخَة كَرِهَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهَا إِلَّا مَا يُسْكِرُ وَمَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ لَمْ يَكْرَهْ شُرْبَ مَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ. وأما الجواب عن آثار الصحابة رضي الله عنهم فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مَا يُخَالِفُهُ. وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَشْبَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَتَشَدُّدِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ، وَشَرِبَ عُمَرُ مِنْ إِدَاوَةٍ حَدَّ شَارِبَهَا فَلِأَنَّ عُمَرَ شَرِبَ قَبْلَ إِسْكَارِهَا، وَشَرِبَ الرَّجُلُ بَعْدَ إِسْكَارِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرْبِ ابن أبي ليلى عند علي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بالمعاني: بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنِ النَّبِيذِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي الِاسْمِ وَالتَّحْرِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمٍ يَجِبُ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي كُلِّ حُكْمٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ وَافْتَرَقَا عِنْدَهُ فِي تَحْرِيمِ الْيَسِيرِ، وَلَمْ يَكُنِ الفرق في الْيَسِيرِ مَانِعًا مِنَ التَّسَاوِي فِي الْكَثِيرِ. كَذَلِكَ لَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِي التَّكْفِيرِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّسَاوِي فِي التَّحْرِيمِ مَعَ الِافْتِرَاقِ فِي التَّكْفِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّكْفِيرِ فَيُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الْكَبَائِرِ وَلَا يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِ الصَّغَائِرِ، كَذَلِكَ الْخَمْرُ والنبيذ لا يمنع افتراقهما في التكفير استواءهما فِي التَّحْرِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ التَّكْفِيرُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِزَوَالِ التَّكْفِيرِ فِي اسْتِحْلَالِ النَّبِيذِ عَلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا دَلَّ التَّكْفِيرُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْخَمْرِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي التَّكْفِيرِ ارْتِفَاعُ الشُّبْهَةِ عَمَّا اسْتُحِلَّ مِنَ الْحَرَامِ وهذا موجود في الخمر، معدوم فِي النَّبِيذِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ النبيذ النيء محرم، ولا يكفر مستحلة. والجواب على أن مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَيَانِ لَا فِي النَّقْلِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ الْبَيَانُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو طلحة بالنداء وهو على شراب، فَأَمَرَ أَنَسًا بِإِرَاقَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ وَالْبَيَانَ مَعًا مُسْتَفِيضَانِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ فِي الْبَيَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نص الكتاب في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 405 فأخر بَيَانُ الْكِتَابِ عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ فِي بَيَانِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ، بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا ثَبَتَ تَحْلِيلُهُ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنَّصِّ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ ابْتِدَاء شَرْع، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لأنهم كانوا في صدر الإسلام مستدرجين لِاسْتِبَاحَتِهَا مِنْ قَبْلُ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَمَا هذه سبيله يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُكْمِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. كَمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَيَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا جَازَ إِثْبَاتُ الرِّبَا فِي الْأُرْزِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَسْخًا، لَكَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ نَصٌّ مُسْتَفِيضٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ الْخَمْرِ، أَنْ يُنْسَخَ بِمَا يَسْتَفِيضُ بَيَانُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِضْ نَقْلُهُ، كَمَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ قُبَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَأَتَاهُمْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِنَسْخِهَا وَتَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فاستداروا إليها وعملوا على قوله وَاحِد. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ، بِأَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَعُمَّ بَيَانُهُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَا نُسَلِّمُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خاصاً مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ في الصلاة ما يعم بِهِ الْبَلْوَى، وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْخَمْرِ صَارَ إِمَّا دَاخِلًا فِي اسْمِهِ فَهُوَ نَصٌّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ فَرْعٌ، لِأَصْلٍ عَمَّ بَيَانُهُ فَصَارَ بَيَانُ الْفَرْعِ عَامًّا كأصله. والثالث: أنه لما كان يمنع هذا من تحريم النبيذ التي عِنْدَهُ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَطْبُوخِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ أكثر، وهم إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِهِ أَحْوَجُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَعَلَ النَّبِيذَ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْخَمْرِ فَقَدْ جَعَلَ الْعُمُومَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فَزَالَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. وَلَئِنْ كَانَ النَّبِيذُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ بِالشَّامِ وَفَارِسَ أَكْثَرُ مِنَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 406 النَّبِيذِ. وَالْبَعِيدُ أَحْوَجُ إِلَى عُمُومِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَرِيبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَثِيرِ فَجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ. بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ السُّكْرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُسْكِرُ فَأَغْنَى عَنِ الْمُسْكِرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم، بالترغيب بها فِي الْجَنَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ عرفوا لذتها قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُسْكِرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَهَا بِأَنْ لَا غَوْلَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ. أَيْ: لَا تَغْتَالُ عقولهم بالسكر، ولا يأثمون بارتكاب الحظر، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: رضي الله عنه " وَفِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا شَارِبُ النَّبِيذِ فَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ مَنْ حَرَّمَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ مَنْ أَحَلَّهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْخَمْرِ، وَهُمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا كَمَا أَنَّ الْحَد فِي الْخَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سَكِرَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَسْكَرْ، وَإِنْ كَانَ السُّكْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا، فَهَذَا حُكْمُ الْحَدِّ، فَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ النَّبِيذِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ. وَقَدْ مَضَى وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا التَّفْسِيقُ: فَيَفْسُقُ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَأَمَّا شَاربُ النَّبِيذِ فَيَفْسُقُ فِي كَثِيرهِ الْمُسْكِرِ والتفسيق في قليله معتبر بحال شاربه. فإن تأوله فِي شُرْبِهِ، إِمَّا بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ بِفُتْيَا فَقِيهٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَفْسُقْ، وَإِنْ حُدَّ. وَإِنْ شَرِبَهُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فُسِّقَ وَحُدَّ، فَاسْتَوَى حَدُّهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنِ افْتَرَقَ بِفِسْقِهِ فِيهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْسُقُ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا يُحَدُّ فِيهِمَا، ولا تبقى مَعَ وُجُوبِ حَدِّهِ عَدَالَةٌ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 407 وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ شُرْبَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ إِذَا تَأَوَّلَهُ، كَشَارِبِ لَبَنِ الْأُتُنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا تَابَ بَعْدَ شُرْبِهِ وَقَبْلَ حَدِّهِ. فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهُوَ عَدْلٌ كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أن يجب الحد عليه وهو عدل؛ لتسوية بَيْنَ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِّ والتفسيق في التأويل، لأن الْحَدَّ مَوْضُوعٌ لِلزَّجْرِ فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِ الْمُتَأَوِّلِ وَالتَّفْسِيقُ مُخْتَصٌّ بِالْحَظْرِ فَافْتَرَقَ فِيهِ حكم المتأول وغير المتأول. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ شَرِبْتُ الْخَمْرَ أَوْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ يَقُولَ شَرِبْتُ ما يسكر أو يشرب من إناء هُوَ وَنَفَرٌ فَيَسْكَرُ بَعْضُهُمْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ وَاحْتُجَّ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ شَرِبَ خَمْرًا أو نبيذا مسكراً إلا جلدته الجد) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي شُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ، فَثُبُوتُ شُرْبِهِ لِلْمُسْكِرِ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أوجه، ذكرها الشافعي ها هنا: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعترافه. والثاني: يشهد عليه شاهدان أنه شرب الْمُسْكِرَ. فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ سُؤَالُ الشاهدين عن وصفهما للشهادة فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَإِنْ لَزِمَ شُهُودَ الزِّنَا سؤالهم عن صفة الزنا، للفرق بينهما بأن الزِّنَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لا يوجبه والشرب المسكر لا ينطلق على ما لا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا يَسْكَرُ مِنْهُ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْرَبَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شَرَابٍ يَسْكَرُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ، فَيُعْلَمُ بِسُكْرِ بَعْضِهِمْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ شَرِبَ مُسْكِرًا، فَإِذَا ثَبَتَ شُرْبُهُ لِلْمُسْكِرِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، كَانَ وُجُوبُ حَدِّهِ بَعْدَ شُرْبِهِ مُعْتَبَرًا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّرَابَ مُسْكِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْرَبَهُ مُخْتَارًا، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهِ فَلَا حدَّ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لْقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. والرابع: ألا تَدْعُوَهُ ضَرُورَةٌ إِلَى شُرْبِهِ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، لشدة عطش، أو تداوي مرض، لا يوجد الطِّبُّ مِنْ شُرْبِهِ بُدًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شُرْبُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. (فَصْلٌ) وَلَا يُحَدُّ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ مِنْ فَمِهِ وَلَا إِذَا تَقَيَّأَ مُسْكِرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: أَحُدُّهُ بِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ وَبِقَيْءِ الْمُسْكِرِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مَاعِزٍ: اسَتَنْكِهُوهُ، فَجَعَلَ لِلرَّائِحَةِ حُكْمًا، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَدَّ ابْنَهُ عُبَيْدَ الله بالرائحة. وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي الْخَمْرِ بِشَاهِدَيْنِ، شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ، مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يستدرك بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا فَيُعْلَمُ بِالرَّائِحَةِ أَنَّهَا خمر جاز أن تستدرك بالرائحة بعد شربها. ودليلنا قول الله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 34] وَلَيْسَ لَهُ بِالرَّائِحَةِ عِلْمٌ مُتَحَقِّقٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أن يكون قد تَمَضْمَضَ بِالْخَمْرِ ثُمَّ مَجَّهَا، وَلَمْ يَشْرَبْهَا فَلَمْ تدرك رَائِحَتُهَا مِنْ فَمِهِ عَلَى شُرْبِهَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا، وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مُشْتَرَكَةٌ، يجوز أن يوجد مِثْلُهَا فِي أَكْلِ النَّبْقِ، وَبَعْضِ الْفَوَاكِهِ. فَلَمْ يُقْطَعْ بِهِ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ قَدْ تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ كَشَرَابِ التُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَرُبُوبِ الْفَوَاكِهِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يقطع بالرائحة عليها إذا شُوهِدَتْ. لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ جِسْمِهَا يَنْفِي عَنْهَا ظُنُونَ الِاشْتِبَاهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ. فَأَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ، فَلِأَنَّهُ رَآهُ ثَائِرَ الشَّعْرِ، مُتَغَيِّرَ اللون، مقراً بالزنا. فاشتبهت عليه حالته فِي ثَبَاتِ عَقْلِهِ أَوْ زَوَالِهِ، فَأَرَادَ اخْتِبَارَ حَالِهِ بِاسْتِنْكَاهِهِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ بِالِاسْتِنْكَاهِ حُكْمًا، وَأَمَّا عمر رضي الله عنه: فَإِنَّهُ سَأَلَ ابْنَهُ حِينَ شَمِّ مِنْهُ الرَّائِحَةَ، فاعترف بشرب الطلا، فحده باعترافه. وأما عثمان: فلأنه لَمَّا اقْتَرَنَ بِشَهَادَةِ الْقَيْءِ شَهَادَةُ الشُّرْبِ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 409 (فَصْلٌ) وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ سُكْرِهِ فَيَعْتَرِفَ بِشُرْبِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحُدُّهُ بِالسُّكْرِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ مُخْتَارًا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا. وَالثَّانِي: غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وهو أن يشربها غير عالم بها، أو مكرهاً عليها، فَكَانَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ بِهَا. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ادرؤوا الحدود بالشبهة) والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 410 (بَابُ عَدَدِ حَدِّ الْخَمْرِ) (وَمَنْ يَمُوتُ مِنْ ضرب الإمام وخطأ السلطان) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ قَالَ أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَارِبٍ فَقَالَ " اضْرِبُوهُ) فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال " نكبوه) فنكبوه ثُمَّ أَرْسَلَهُ قَالَ فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ ثم عمر ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثمانين وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ استشار فقال علي نرى أن يجلد ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وإذا هذي افترى أو كما قال فجلده عمر ثمانين في الخمر وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ليس أحد نقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي شيئاً الحق قتله إلا حد الخمر فإنه شيء رأيناه بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمن مات منه فديته إما قال في بيت المال وإما قال على عاقلة الإمام " الشك من الشافعي)) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الْحَدِّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَشُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ. سَكِرَ الشَّارِبُ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ. فَأَمَّا صِفَةُ الْحَدِّ فَأَصْلُهُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ: عِنْ عَبْدِ الرحمن بن أزهر قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سأل عَنْ رَحْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَجَرَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَسْأَلُ عَنْ رَحْلِ خَالِدٍ حَتَّى أَتَاهُ، وقد خرج فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَارِبٍ فَقَالَ: " اضْرِبُوهُ) فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي، وَالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَحَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نكبوه فنكبوه ثُمَّ أَرْسَلَهُ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ. فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ حَيَاتَهُ، ثم عمر رضي الله عنه ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْخَمْرِ فَاسْتَشَارَ فَضَرَبَ ثمانين، وروي أن عمر لما اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 411 فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ، وَجَلَدَ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِ ثمانين. وجلد عثمان في أيامه أربعين وثمانين. وجلد عثمان ثمانين، فروى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى إِنْسَانٍ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ فَأَجِدَ فِي نفسي منه شيئاً، إلا الخمر، فإني كانت أَدِيهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يسنه فكان عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. وَأَوَّلُ مَنْ حَدَّهُ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ ثُمَّ حَدَّ عُمَرُ بَعْدَهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. وَحَدَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ بْنَ عقبة في الخمر، وقد صلى بالناس بالكوفة، فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ فَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ، فَرَوَى عَنْهُ قَوْمٌ أَنَّهُ حَدَّهُ أَرْبَعِينَ. وَرَوَى آخَرُونَ: أَنَّهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ. وَحَدَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب النجاشي الحادي بالكوفة، وقد شرب الخمر في رَمَضَانَ فَحَدَّهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ عِشْرِينَ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أما الثمانون قد عرفتها فما هذه العلاوة؟ فقال: على تجرئك عَلَى اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ حَدِّهِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَربَعُونَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهَا وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِيرٌ، يَقِفُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وسفيان الثوري: حد الخمر ثمانون كالقذف، ولا يجوز الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سعيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ. وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. فَأَخَذَ بِهَا عُمَرُ. فصار اجتهاد الصحابة موافقاً لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ بِالْجَرِيدَتَيْنِ ثَمَانُونَ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد في الخمر بنعلين أربعين فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ جَلَدَ بَدَلَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ كَانَ فِي صِفَةِ الْحَدِّ لَا فِي عَدَدِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَهَذَا نَصٌّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 412 ومن الاعتبار أنه حد يجب على الحر، فلم يتقدر بالأربعين كالقذف ولأن حَدَّ الْقَذْفِ أَخَفُّ، وَحَدَّ الشُّرْبِ أَغْلَظُ لِمَا في النفوس من الداعي إِلَيْهِ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِنْ لَمْ يزد عليه فأولى أن لا ينقص عنه، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَوْ كَانَتْ تَعْزِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، لَأَنَّ التَّعْزِيرَ لا يجوز أن يكون مساوياً للحد. وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ مَا رَوَاهُ حُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ الرَّقَاشِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ. شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ لَعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ. فقال علي للحسن: أقم عليه فقال الحسن: ولي حارها من تولى قارها أي: ولي صَعْبَهَا مَنْ تَوَلَّى سَهْلَهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ الله بن جعفر: أقم عليه الحد فجلده عَبْدُ اللَّهِ بِالسَّوْطِ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: حَسْبُكَ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثمانين: وكل سنة أَحَبُّ إِلَيَّ وَهَذَا نَصٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. وَالثَّانِي: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ كِلَا الْعَدَدَيْنِ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعَدَدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ، كالزنا والقذف. فإن قيل: فوجب ألا يُقَدَّرَ بِأَرْبَعِينَ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، قِيلَ: الْحُدُودُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِقْدَارِ، لِاخْتِلَافِهَا فِي الْأَسْبَابِ، فَجَازَ لَنَا اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّفَاضُلِ، ولم يجز اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّمَاثُلِ. وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأجْرَامِ، فَمَا كَانَ جُرْمُهُ أغلظ كان حده أكثر. ولأن الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ جُرْمُهُ لِلِاشْتِرَاكِ فِيهِ غَلُظَ حده. والقذف لما اختص كان حده اكثر بِالتَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الزِّنَا. وَالْخَمْرُ لَمَّا اخْتَصَّ بِوَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ عَنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنَ الْقَذْفِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ فَمِنْ وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 413 أَحَدُهُمَا: اضْطِرَابُ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ نَصٌّ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الصَّحَابَةُ، ولعملوا فيه على الثقل. والثاني: تحمل الرواية بجريدتين، والنعلين عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَقَطَّعَتْ فَأَخَذَ الثَّانِيَةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَهُوَ مُرْسَلٌ، لَا يَلْزَمُ وَفِيهِ نَصٌّ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَصَارَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَضْعَفُ فَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ مُتَعَدٍّ وَالشُّرْبَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَحَدَّ الشُّرْبِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادِ أَغْلَظُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرًا ما جاز أن يساوي حَدًّا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بالتعزير إِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَاحِدًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الأسباب مختلفة جاز؛ لأن لكل حُكْمًا وَتَعْزِيرُهُ فِي الْخَمْرِ لِأَسْبَابٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افترى. والثاني: أن هذا تعزير، بعقد إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ، فَصَارَ مَخْصُوصًا من غَيْرِهِ. ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَلَا يَجُوزُ إن يبلغ به الأربعين؛ لأنه لا يساوي أقل الحدود؟ فلذلك وجب أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُونَ حَدًّا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ ما وصفنا، من أن الثمانين في الخمر حَدٌّ وَتَعْزِيرٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَانِينَ. ويجوز أن يقتصر على الأربعين. وهو بما زَادَ عَلَيْهَا إِلَى الثَّمَانِينَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الإمام. فإن رآه عمل به وَإِنْ لَمْ يَرَهُ كَفَّ عَنْهُ. فَأَمَّا صِفَةُ حَدِّهِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ، وَالنِّعَالِ، وَأَمَرَ بِتَبْكِيتِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 414 وَحَثْوِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ حَدُّوهُ بِالسِّيَاطِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالثياب والنعال هل كان بعذر أو شرع؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ كَانَ لعذر في الشارب مِنْ مَرَضٍ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ نِضْوًا، كَمَا حَدَّ مُقْعَدًا بَأَثْكَالِ النَّخْلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حد الصحابة بالسياط نصاً في غير المعذور لأنه جنس ما يستوفى بِهِ الْحُدُودُ. فَيُحَدُّ بِالسِّيَاطِ، وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مِقْدَارُ الْعَدَدِ دُونَ صِفَةِ الْحَدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ حَدَّهُ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ كَانَ شَرْعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَفَّفَ بِهِ حَدَّ الْخَمْرِ كَمَا خَفَّفَهُ فِي الْعَدَدِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عُدُولُ الصَّحَابَةِ عَنْهُ إِلَى السِّيَاطِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فِيهِ حِينَ تهافتوا فِي الْخَمْرِ، وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ إِلَى الثَّمَانِينَ. وَيَكُونُ حَدُّ الْخَمْرِ مُخَفَّفًا مِنْ وَجْهَيْنِ: فِي مِقْدَارِ الْعَدَدِ، وَصِفَةِ الْحَدِّ، وَيَكُونُ الْعُدُولُ إِلَى السِّيَاطِ اجْتِهَادًا. كَمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الثَّمَانِينَ اجْتِهَادًا. فَأَمَّا التَّبْكِيتُ وَحَثْوُ التُّرَابِ، فَزِيَادَةٌ فِي التَّعْزِيرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي: " وَإِذَا ضَرَبَ الْإِمَامُ فِي خَمْرٍ أَوْ مَا يسكر من شراب بِنَعْلَيْنِ أَوْ طَرَفِ ثَوْبٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ضَرْبًا يُحِيطُ الْعِلْمُ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ أَرْبَعِينَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْحَقُّ قَتَلَهُ) . قال الماوردي: إِذَا جَلَدَ الْإِمَامُ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ اقْتِصَارًا على الحدود دُونَ التَّعْزِيرِ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ بِالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ فِي مَوْتِهِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِجَلْدِ ابْنِهِ فِي الشَّرَابِ قال له ابنه: با أَبَتِي قَتَلْتَنِي. فَقَالَ لَهُ: الْحَقُّ قَتَلَكَ. وَمَعْلُومٌ أن قتل الْحَقِّ غَيْرُ مَضْمُونٍ. وَلِأَنَّ حُدُوثَ التَّلَفِ عَنِ الحدود الواجبة هدر لا تضمن كَجَلْدِ الزَّانِي، وَحَدِّ الْقَاذِفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحُدَّهُ الْأَرْبَعِينَ بِالسِّيَاطِ فَيَمُوتُ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِّهِ بِالنِّعَالِ وَالثِّيَابِ، (قيل) هل كان لعذر أو شرع؟ : الجزء: 13 ¦ الصفحة: 415 أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ هَدْرًا إِذَا قيل: إن حده بالثياب كان شرعا، وإن السياط فيه اجْتِهَادٌ، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ دِيَتِهِ، وَلَا يَضْمَنُ بَعْضَهَا؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ جِنْسِ الْحَدِّ إِلَى غَيْرِهِ يَجْعَلُ الْكُلَّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ لِتَلَفِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ. (مسألة) قال الشافعي: وإن ضرب أكثر من أربعين بالنعال وغير ذَلِكَ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بيت المال لأن عمر أرسل إلى امرأة ففزعت فأجهضت ذا بطنها فاستشار عليا فأشار عليه أن يديه فأمر عمر علياً فقال عمر عزمت عليك لتقسمنها على قومك (قال المزني) رحمه الله هذا غلط في قوله إذا ضرب أكثر من أربعين فمات فلم يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْإِمَامِ كلها وإنما مات المضروب من مباح وغير مباح ألا ترى أن الشافعي يقول لو ضرب الإمام رجلا في القذف إحدى وثمانين فمات أن فيها قولين أحدهما أن عليه نصف الدية والآخر أن عليه جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية (قال المزني) ألا ترى أنه يقول لو جرح رجلاً جرحاً فخاطه المجروح فمات فإن كان خاطه في لحم حي فعلى الجارح نصف الدية لأنه مات من جرحه والجرح الذي أحدثه في نفسه فكل هذا يدلك إذا مات المضروب من أكثر من أربعين فمات أنه بهما مات فلا تكون الدية كلها على الإمام لأنه لم يقتله بالزيادة وحدها حتى كان معها مباح ألا ترى أنه يقول فيمن جرح مرتداً ثم اسلم ثم جرح جرحاً آخر فمات أن عليه نصف الدية لأنه مات من مباح وغير مباح (قال المزني) رحمه الله وكذلك إن مات المضروب بأكثر من أربعين من مباح وغير مباح) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ لم تخل حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَكْمِلَ فِيهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ فَيَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مات من حد واجب وتعزير مباح يسقط مِنْ دِيَتِهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَدِّ الواجب. ولزم من ديته النصف؛ لأنه من مُقَابَلَةِ التَّعْزِيرِ الْمُبَاحِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ضَمِنَ مَا قَابَلَ التَّعْزِيرَ مَعَ إِبَاحَتِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْهُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ، فَضَرْبُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ مُبَاحٌ لَهُ مَا لَمْ يُفْضِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 416 الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا. فَإِنْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْحَدَّ وَبَعْضَ التَّعْزِيرِ، فَيَجْلِدُهُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ وَدُونَ الثَّمَانِينَ، فإن جَلَدَهُ خَمْسِينَ فَمَاتَ. فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعتباراً بالنوع لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِرَاحِ. فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جُرْحًا وَجَرَحَهُ الآخر عشراً كان في الدية سواء، ولا يقسط على أعداد الْجِرَاحِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْجُنَاةِ كَذَلِكَ فِي الضَّرْبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ خُمْسَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الضَّرْبِ، لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِعَشَرَةٍ مِنْ خَمْسِينَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي تَلَفِهِ، والضرب متشابه فسقطت الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَى عَدَدِ الجراح؛ لأن للجراح موراً في اللحم يختلف ولا يتشابه، ولذلك ما جَازَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِرَاحِة وَيَعِيشَ مِنْ عشرة وليس للضرب موراً في اللحم فصار متشابها، وامتنع أن يموت من سوط ويعيش من عشرة فافترق لذلك ضمان الضرب وضمان الجراح. فَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَهُ سِتِّينَ فَمَاتَ ضَمِنَ نِصْفَ دِيَتِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ، وَضَمِنَ ثُلُثَ دِيَتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ، وَعَلَى هَذَا القياس في السبعين إذا مات الثمانين ضَمِنَ نِصْفِ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَثَلَاثَةَ أسباعها على القول الثاني. أما إِذَا مَاتَ مِنَ الثَّمَانِينَ فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدْ تَسَاوَى فِيهِ ضمان النوع وضمان العدد. القسم الثالث: أن يزيد في جلده، على الاستكمال للحد وَالتَّعْزِيرِ، فَيَجْلِدُهُ تِسْعِينَ فَيَمُوتُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ دِيَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ النَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ ما أبيح من ضَرْبِ التَّعْزِيرِ، وَمَا لَمْ يبح مِنَ الزِّيَادَةِ عليه. القول الثَّانِي: أنَّهُ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَتْسَاعِ دِيَتِهِ اعْتِبَارًا بعدد الضرب، ثم على هذا المصير فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَلَا يَضْمَنُ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ دِيَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، تَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ فَقَالَ: لَمْ يَمُتْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ تَكُونُ الدِّيَةُ على الإمام كلها. (فصل) وَهَذَا مِنَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ فِي الْحُكْمِ وَخَطَأٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ جميع الدية إنما أراد القدر الذي يوفي وَأَطْلَقَهُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْضَحَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 417 وَقَدَّمَهُ مِنْ أُصُولِهِ وَقَالَ: أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ أَرَادَ جَمِيعَ الدِّيَةِ إِذَا عَدَلَ عَنْ ضَرْبِهِ بِالثِّيَابِ إِلَى السِّيَاطِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنَ الدِّيَةِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهَا من ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ أَمَرَ بِهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ، وأين يكون ضمانه؟ على قولين: أحدهما: يكون ضمانه على عاقلته؛ لأنه من خطئه قد أمر عمر علياً رضي الله عنهما في التي أجهضت بإرهابها جنينها أن يقسم دِيَةَ جَنِينِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ عُمَرَ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ حملت الدية. القول الثَّانِي: أَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ، كَالْوَكِيلِ الَّذِي يُضْمَنُ مَا فَعَلَهُ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي مَالِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ عُمَرُ جَنِينَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْهَبَهَا فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ، فَعَدَلَ بِالضَّمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى عَاقِلَتِهِ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ المال، تعليلا بما ذكرنا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تحتمل، وَكَذَلِكَ إِذَا تَحَمَّلَتِ الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ لَمْ تَتَحَمَّلِ الْكَفَّارَةَ وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي ضَمَانِ الْإِمَامِ وَجْهًا ثَالِثًا: أنه يضمن فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ، كَتَعْزِيرِ مَنْ عَزَّرَ نَفْسَهُ أَوْ قَدَحَ فِي عِرْضِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ فَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِهِ، وَوَكَّلَهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَيَكُونُ خَطَؤُهُ فِيهِ كَخَطَأِ الْإِمَامِ، فَيَكُونُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّفْوِيضِ فِي حُكْمِ الْإِمَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون الإمام قد أمره بالحد وحدده، فَزَادَ الْجَلَّادُ عَلَيْهِ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 418 فَيَضْمَنُهُ الْجَلَّادُ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِحُدُوثِهَا عَنْ تَعَدِّيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مشتركة بين الإمام والجلاد، كأن أمره بأن يَحُدَّهُ ثَمَانِينَ فَحَدَّهُ مِائَةً فَمَاتَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى أَعْدَادِ الضَّرْبِ ضَمِنَ الإمام خمس الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِمَامِ تَعَلَّقَ بِأَرْبَعِينَ مِنْ جُمْلَةِ مِائَةٍ وَضَمِنَ الْجَلَّادُ خُمُسَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ضمانه بعشرين من مائة، فإن قِيلَ: إِنَّ الضَّمَانَ مُقَسَّطٌ عَلَى النَّوْعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زِيَادَةِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ هَلْ تَتَنَوَّعُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَتَنَوَّعُ، فَيَكُونُ الْحَدُّ نَوْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ، وَزِيَادَةُ الْإِمَامِ نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ، وَزِيَادَةُ الجلاد نوعاً يتعلق به الضمان، فتسقط ثُلُثَ الدِّيَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ثُلُثُهَا، وَعَلَى الْجَلَّادِ ثُلُثُهَا لِاخْتِلَافِ الْإِمَامِ وَالْجَلَّادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا تتنوع الزيادة، وإن اختلف فاعلها لِتَسَاوِيهَا فِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا فَتُسْقِطُ نِصْفُ الدية ويضمن الإمام ربعها، والجلاد ربعها والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَةً حَدًّا فَأُجْهِضَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَضَمِنَ مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّهُ قَتَلَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَيَسْكُنَ أَلَمُ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ، حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا، وَكَانَتْ حَامِلًا " اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَكِ) ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَدَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهَا وَإِجْهَاضِ حَمْلِهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَحْظُورٌ. وَالْإِجْهَاضُ أَنْ تلقى جنينها مَيْتًا. فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لَمْ يُسَمَّ إِجْهَاضًا فَإِنْ حَدَّهَا فِي حَمْلِهَا فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ تَبْقَى عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ فِي نَفْسِهَا وَحَمْلِهَا. فَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِمَامِ فِي حَدِّهَا وهو مسيء إن علم بحملها وغيره مسيئ إن لم يعلم. والحال الثانية: أن يجهض مَا فِي بَطْنِهَا وَتَسْلَمَ مِنَ التَّلَفِ، فَيَضْمَنُ جنينها بغرة عبداً أَوْ أَمَةٍ لِأَنَّ عُمَرَ ضَمِنَ جَنِينَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْهَبَهَا فَإِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا ضَمِنَ جَنِينَهَا فِي مَالِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ عَمْدِهِ وَإِنْ لَمْ يعمل بِحَمْلِهَا فَهُوَ مِنْ خَطَئِهِ وَفِي دِيَةِ جَنِينِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ إِجْهَاضٍ فَيُنْظَرُ فِي سَبَبِ مَوْتِهَا، فَإِنْ كَانَ من إقامة الحد عليها لَوْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا لَمْ يَضْمَنْهَا. وَإِنْ كان من الحمل الذي يتلف به الجزء: 13 ¦ الصفحة: 419 الحدود ضَمِنَ دِيَتَهَا كَمَا يَضْمَنُهَا إِذَا جَلَدَهَا فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. ثُمَّ إِنْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا فَدِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي بيت المال. والحال الرابعة: أن يجهض جنينها وتموت، فيضمن دية جنينها. فأما دية نفسها فمعتبر بسبب موتها فإنه لا يخلو من ثلاث أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْحَدِّ، فَلَا يَضْمَنُ دِيَتَهَا؛ لِحُدُوثِ تَلَفِهَا عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهَا. الحال الثانية: أن يكون مِنْ إِجْهَاضِهَا فَيَضْمَنُ دِيَتَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عُدْوَانٍ عليها. الحال الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا مِنَ الْحَدِّ وَالْإِجْهَاضِ مَعًا، فَيَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهَا لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ سَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ وَالْآخَرُ: عُدْوَانٌ. (فَصْلٌ) وَإِذَا ذُكِرَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ بِسُوءٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فأرهبها، فأجهضت ذا بطنها فمن دِيَةِ جَنِينِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْهَا. لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُؤَثِّرٌ فِي إِجْهَاضِهَا، وَغَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي تَلَفِهَا وَلَوْ أَرْهَبَهَا الرَّسُولُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ كَانَ الرَّسُولُ ضَامِنًا دُونَ الْإِمَامِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ حَدَّهُ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمَا فَمَاتَ ضَمِنَتْهُ عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ عَلَى الجاني شَيْءٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ حَدًّا بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَتَهُ دُونَ الشُّهُودِ وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِزُورٍ ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ دِيَتَهُ دُونَ الْإِمَامِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَشْفَ الْعَدَالَةِ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الشُّهُودِ فَصَارَ الْإِمَامُ ضَامِنًا لِتَقْصِيرِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشُّهُودِ، دُونَ الْإِمَامِ فَضَمِنَ الشُّهُودَ لِكَذِبِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَيْسَ بِمُعْتَرِفٍ بِالتَّعَدِّي فَلَمْ يَضْمَنْ، وَشَاهِدَ الزُّورِ مُعْتَرِفٌ بِالتَّعَدِّي فضمن. فأما الجالد فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِرِقِّ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ فِسْقِهِمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بحكم الإمام. والإمام آمره. (مسألة) قال الشافعي: " ولو قال الإمام للجالد إنما أضرب هذا ظلما ضمن الجالد والإمام مَعًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِ اسْتُوفِيَتْ في كتاب الجنايات. فإذا أمر الإمام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 بِضَرْبِ رَجُلٍ أَوْ بِقَتْلِهِ ظُلْمًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: أحدها: ألا يعلم الجلاد بظلم الإمام، أو يعتقد فِيهِ أَنَّهُ بِحَقٍّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِحَقٍّ. فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلطَّاعَةِ، فَقَامَ أَمْرُهُ مَقَامَ فِعْلِهِ لِنُفُوذِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ. إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ له الإمام أن اضرب هذا ظلماً بغير حد أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلَا يكون من الإمام إكراه للجلاد، فالضمان هنا عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ فِي الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ، لأنه مختار. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ الْجَلَّادُ بِظُلْمِ الْإِمَامِ، والإمام مكره له عليه، فلا قود على الإمام إلا من وَاجِبٌ وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْجَلَّادِ الْمُبَاشِرِ قَوْلَانِ: فَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ وجب كان عليه مع سقوط القود عنهما. وإن قيل لَوْ وَجَبَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ. فَفِي الدِّيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْإِمَامِ وَحْدَهُ، اعتباراً بالقود. والوجه الثاني: أنها عليهما نصفين، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنِ الْجَلَّادِ بِأَيِّ عِلَّةٍ سَقَطَ. فَعَلَى تعليل البغداديين أن سقوط القود لشبهة الْإِكْرَاهِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعَلَى تَعْلِيلِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ نَقْلُ حُكْمِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُكْرَهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ كُلُّهَا عَلَى الْإِمَامِ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " ولو قال الجالد قد ضَرَبْتُهُ وَأَنَا أَرَى الْإِمَامَ مُخْطِئًا وَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ رَأْيُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ ضَمِنَ إِلَّا مَا غاب عَنْهُ بِسَبَبِ ضَرْبِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَرَ الْجَلَّادَ بِقَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وحد الزنا بشهادة الراويان وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي التَّعْرِيضِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فيه من أربعة أقسام: أحدهما: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وَالْجَلَّادُ وُجُوبَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوَدًا وَلَا دِيَةً، وَلَا تكون مخالفة غيرها مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ، فَالضَّمَانُ فِيهِ وَاجِبٌ ولا تكون مخالفة غيرها مُسْقِطَةٌ لِلضَّمَانِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ أَبَاحَهُ وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ دُونَ الْإِمَامِ. وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ لَمْ يَخْلُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ أَوْ لَا نَصَّ فِيهِ فَإِنْ لم يكن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 421 فيه نص كحد الزنا بشهادة الراويان وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ فَالضَّمَانُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الْقَوَدَ فِيهِ وَاجِبٌ لِأَجْلِ النَّصِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ فِيهِ؛ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ وُجُوبَهُ وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ حَظْرَهُ فَإِنْ أُكْرِهَ الْجَلَّادُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ لِاجْتِهَادِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ لِإِكْرَاهِهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهِ الْجَلَّادُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الإمام، وفي ضمانه عَلَى الْجَلَّادِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِحُكْمٍ نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِإِقْدَامِهِ مُخْتَارًا عَلَى اسْتِهْلَاكِ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ضَمَانِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِمَامُ حَظْرَهُ وَيَعْتَقِدَ الْجَلَّادُ وُجُوبَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرُدَّهُ الْإِمَامُ إِلَى اجْتِهَادِ الْجَلَّادِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. أَمَّا الْإِمَامُ فَلِعَدَمِ فِعْلِهِ وَأَمَّا الْجَلَّادُ: فَلِنُفُوذِ اجْتِهَادِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ بِهِ، وَلَا يَرُدَّهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَلَّادِ، سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ بِإِذْنٍ مُطَاعٍ مَا يَرَاهُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنْ لَمْ يُكْرِهِ الْجَلَّادَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ ضَمِنَ. لِأَنَّهُ اتجاه إِلَى مَا لَا يُسَوَّغُ فِي اجْتِهَادِهِ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) قال الشافعي: وَلَوْ قَالَ اضْرِبْهُ ثَمَانِينَ فَزَادَ سَوْطًا فَمَاتَ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أن عليهما نصفين كَمَا لَوْ جَنَى رَجُلَانِ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِضَرْبَه وَالْآخَرُ بِثَمَانِينَ ضَمِنَا الدِّيَةَ نِصْفَيْنِ أَوْ سَهْمًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ سَهْمًا) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَظَائِرِهَا وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ فيضربه الجلاد أحداً وَثَمَانِينَ فَيَمُوتُ فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مات من نوعي إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْجِنَايَاتِ. وَالْقَوْلُ الثاني: أن يَضْمَنَ جُزْءًا مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ جُزْءًا مِنَ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 422 الضَّرْبِ وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ لَمْ يخل حالها من ثلاثة أقسام: القسم الأول: أَنْ يَكُونَ عَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْجَلَّادِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْجَلَّادِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دون الإمام. والقسم الثالث: أن يضرب الجلاد وَالْإِمَامُ يَعُدُّ فَأَخْطَأَ الْإِمَامُ فِي عَدَدِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَنْسُوبَةٌ إلى العدد، فصار الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِّ دُونَ الْجَلَّادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِذَا خَافَ رَجُلٌ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ فَضَرَبَهَا فَمَاتَتْ فَالْعَقْلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِبَاحَةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِذَا خَافَ نُشُوزَ امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المضاجع واضربوهن} . وَهَذَا الضَّرْبُ مُبَاحٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ. وَالِاسْتِصْلَاحِ. لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ، وَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحَدِّ، فَصَارَ أَكْثَرُهُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ كَالتَّعْزِيرِ. فَأَمَّا جِنْسُ مَا يُضْرَبُ بِهِ فَهُوَ الثَّوْبُ وَالنَّعْلُ، وَأَكْثَرُهُ الْعَصَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّوْطِ؛ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ وَلِنَقْصِهِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ. فَإِنْ ضَرْبَهَا فَأَفْضَى الضَّرْبُ إِلَى تَلَفِهَا. . رُوعِيَ الضَّرْبُ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُرْفِ مُتْلِفًا مِثْلُهُ فِي الْغَالِبِ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْعُرْفِ غَيْرَ مُتْلِفٍ فِي الْغَالِبِ، كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، تتحملها عنه الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ أُبِيحَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِصْلَاحِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ به مضموناً، كما ضمن عمر جنين المجهضة؛ لأن الاستصلاح يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ، فَإِذَا صَارَ مُتْلِفًا لم يكن استصلاحاً. فإن قيل: فيقتصر عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ شِقَّ بَابٍ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ الرَّمْيَ اسْتِصْلَاحًا قِيلَ لَا يَضْمَنُ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الرَّمْيِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا وَلَيْسَ كَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْ دَفَعَ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ بِضَرْبٍ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ أَنْ يَكُونَ ضامناً لنفسه لأن ضربه يَتَعَيَّنُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ، قِيلَ: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ لَهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَلَمْ يَكُنْ كَغَيْرِهِ مِنْ ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَقْصُورِ عَلَى الِاسْتِصْلَاحِ، وهكذا ضرب المعلم والأب للصبي؛ لأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 423 الْمَقْصُودَ بِهِ الِاسْتِصْلَاحُ وَالتَّأْدِيبُ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ كَانَ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَقْتَضِي عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الضارب إِذَا أَفْضَى إِلَى تَلَفِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْمَنَهَا قِيلَ لَا يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ لَا يسْتَغْني عَنْ ضَرْبِهَا بِغَيْرِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ زَجْرٍ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ضَرْبِ الصَّبِيِّ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ، فَتَعَيَّنَ ضَرْبُ الدَّابَّةِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ضَرْبُ الصبي فضمنه. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التعزير فتأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، وَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي حُكْمِهِ. فَأَمَّا صِفَتُهُ: فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ وَاخْتِلَافِ فَاعِلِهِ فَيُوَافِقُ الْحُدُودَ فِي اخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ. وَيُخَالِفُ الْحُدُودَ فِي الْفَاعِلِ فَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ تَعْزِيرُ ذِي الْهَيْئَةِ أَخَفَّ مِنْ تَعْزِيرِ ذِي السَّفَاهَةِ. وَيَسْتَوِي فِي الْحُدُودِ ذُو الْهَيْئَةِ وَذُو السَّفَاهَةِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ نُصُوصٌ فَاسْتَوَى الْكَافَّةُ فِيهَا. وَالتَّعْزِيرُ اجْتِهَادٌ فِي الِاسْتِصْلَاحِ، فَاخْتَلَفَ الناس فيه باختلاف أحوالهم. رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّه قَالَ: " تَجَافَوْا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ)) . وإذا كان كذلك نزل التَّعْزِيرُ بِاخْتِلَافِ الذُّنُوبِ وَاخْتِلَافِ فَاعِلِيهَا عَلَى أَرْبَعِ مراتب: فالمرتبة الأولى: التعزير بالكلام. والمرتبة الثانية: التعزير بالحبس. والمرتبة الثالثة: التعزير بالنفي. ثم المرتبة الرَّابِعَةُ: التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ حَسَبَ مَنَازِلِهِمْ. فَيَكُونُ تَعْزِيرُ مَنْ جَلَّ قَدْرُهُ بالإعراض عنه. وتعزير من دونه بالتعنيف له. وتعزير من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 424 دُونَهُ بِزَوَاجِرِ الْكَلَامِ. وَغَايَتُهُ الِاسْتِخْفَافُ الَّذِي لَا قَذْفَ فِيهِ وَلَا سَبَّ. ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْ ذلك إلى المرتبة الثانية، وهو الْحَبْسُ يُنْزَلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَنَازِلِهِمْ، وَبِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرَ مِنْهُ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ بقدر ما يؤدي الاجتهاد إليها، ويرى الْمَصْلَحَةَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَتَقَدَّرُ غَايَتُهُ بِشَهْرٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ، وَبِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّقْوِيمِ. ثُمَّ يَعْدِلُ بمن دون ذَلِكَ إِلَى الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ النَّفْيُ وَالْإِبْعَادُ. وَهَذَا وَالْحَبْسُ فِيمَنْ تَعَدَّتْ ذُنُوبُهُ إِلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِ إِلَيْهَا وَاسْتِضْرَارِهِ بِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي غَايَةِ نَفْيِهِ وَإِبْعَادِهِ. فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُقَدَّرُ الْأَكْثَرُ بِمَا دُونَ السَّنَةِ وَلَوْ بِيَوْمٍ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسَاوِيًا لِتَغْرِيبِ السَّنَةِ فِي الزِّنَا. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ على السنة، بما يرى أسباب الاستقامة ثم يعدل عن دُونِ ذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ يَنْزِلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ ذُنُوبِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي أَكْثَرِ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْحُرِّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَفِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عشرة ينتقص لِيَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ الْحُدُودِ فِي الْخَمْرِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ فِي الْحُرِّ، وَعِشْرُونَ فِي الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: تَعْزِيرُ كُلِّ ذَنْبٍ مُسْتَنْبَطٌ من الْمَشْرُوعِ فِي جِنْسِهِ، فَأَعْلَاهُ فِيمَنْ تَعَرَّضَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ، وأعلاه فيمن يعرض بِالزِّنَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، ثُمَّ جَعَلَهُ مُعْتَبَرًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا فَإِنْ وَجَدَهُ يَنَالُ مِنْهَا مَا دُونَ الفرج ضربه أكثر للتعزير وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ في إزار قد تضاما أنهما لا حَائِلَ بَيْنَهُمَا، ضُرِبَا سِتِّينَ سَوْطًا. فَإِنْ وُجِدَا عُرْيَانَيْنِ فِي إِزَارٍ غَيْرَ مُتَضَامَّيْنِ؛ ضُرِبَا خَمْسِينَ سَوْطًا وَإِنْ وُجِدَا فِي بَيْتٍ مُبْتَذَلَيْنِ قَدْ كشفا سؤاتهما ضُرِبَا أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ مَسْتُورَيِ السَّوْءَةِ ضُرِبَا ثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِي طريق متحادثين بِفُجُورِهِمَا ضُرِبَا عِشْرِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالرِّيبَةِ ضُرِبَا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ. وَإِنْ وُجِدَا فِيهِ وَكُلُّ واحد منهما يتبع صاحبه ضربا خفقات عَلَى غَيْرِ هَذَا فِيمَا عَدَاهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 425 وقال أبو يوسف: اكثر التعزير خمسة وسبعون من غير تفصيل. ولا استنباط مِنْ ذُنُوبِ الْحُدُودِ. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: أَظْهَرُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَلَغَ بِمَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ) . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى) . وَأَمَّا إِشْهَارُ الْمُعَزَّرِ فِي الناس فجائز إذا أدى الاجتهاد إليه ليكون زيادة في نكال التَّعْزِيرِ، وَأَنْ يُجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ إِلَّا قَدْرَ ما يستر عَوْرَتَهُ وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ رَأْسِهِ. وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ لِحْيَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: يجوز أَحَدُهُمَا: وَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يصلب في التعزير حياً؛ قد صَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلاً على جبل يقال له أبو ناب، وَلَا يُمْنَعُ إِذَا صُلِبَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي مُومِئًا، وَيُعِيدُ إِذَا أَرْسَلَ. وَلَا يَتَجَاوَزُ صَلْبُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْزِيرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحُدُودِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ. وَالثَّانِي: فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فَالتَّعْزِيرُ مُبَاحٌ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْحُدُودُ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ لَا يَرْتَدِعُ بِغَيْرِ التَّعْزِيرِ، وَجَبَ تَعْزِيرُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدِعُ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى خِيَارِ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " لْقَدْ شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) . وَلَمْ يُعَزِّرْهُ. وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ، وَحَكَمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرْبٍ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: اسق أنت ثم أرسل الماء إليه. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إنه ابن عمتك، أي قدمته لقرابته لا بحقه فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: " احْبِسِ الْمَاءَ فِي أَرْضِكَ إِلَى الكعبين) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 426 وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ. وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ فَأَشْبَهَ تَأْدِيبَ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرحمن لعمر رضي الله عنهم فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أنت معلم. فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْعَفْوِ عَنْهُ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَعَلَّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَالتَّعْزِيرِ بِأَسْبَابِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهُ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي الصُّلْحِ. وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمُوَاثَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ. فَفِيهِ حَقٌّ للمشتوم والمضروب وحق الإمام فِي التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ. فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَفَا الْإِمَامُ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَضْرُوبِ مِنْهُ، وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ نُظِرَ فِي عَفْوِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الإمام فيه، وإن كان لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَعْزِيرِهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ فَفِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وهو قول أبي عبيد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْزِيرُ فِيهِ، كَالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ يَمْنَعُ الْإِمَامَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التقويم فيه من حقوق المصالح العامة، فلو تشاتما، وَتَوَاثَبَ وَالِدٌ مَعَ وَلَدِهِ، سَقَطَ تَعْزِيرُ الْوَالِدِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ تَعْزِيرُ الْوَلَدِ فِي حَقِّ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُحَدُّ لِوَلَدِهِ وَيُحَدُّ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ. وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ تعزير الوالد مختصاً بالإمام مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْإِمَامِ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ أَوْجَبَهُ، أَوْ أَبَاحَهُ كَالْحُدُودِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ تَأْدِيبٍ مُسْتَحَقٍّ. ودليلنا قضية عمر رضي الله عنه فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ جَنِينَهَا حِينَ بَعَثَ إِلَيْهَا رسولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 427 أَرْهَبَهَا، فَشَاوَرَ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ، فَشَاوَرَ عَلِيًّا عليه السلام وقال: إِنْ كَانَ صَاحِبَاكَ مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا، وإن كان قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ، عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عمر لعلي: عزمت عليك ألا تَبْرَحَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ. فَكَانَ سُكُوتُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْجَوَابِ رُجُوعًا مِنْهُمَا إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَا أَحَدٌ يَمُوتُ فِي حَدٍّ يُقَامُ عليه فأجد فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ فَإِنْ مَاتَ فَدِيَتُهُ في بيت مال المسلمين، أَوْ قَالَ: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَضْمُونٌ؛ وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَمَّا نَقَصَ عَنْ قَدْرِ الْحُدُودِ خَالَفَ حُكْمَهَا فِي الضَّمَانِ كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِذَا ضَمِنَ الْإِمَامُ دِيَةَ التَّالِفِ بِالتَّعْزِيرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَحَلِّهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ، وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَالِهِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ المال. (مسألة) قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَتْ بِرَجُلٍ سِلْعَةٌ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَطْعِهَا أَوْ أَكَلَةٌ فَأَمَرَ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَمَاتَ فَعَلَى السُّلْطَانِ الْقَوَدُ فِي الْمُكْرَهِ وَقَدْ قِيلَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَقِيلَ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَأَمَّا غَيْرُ السُّلْطَانِ يَفْعَلُ هَذَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السِّلْعَةُ بِكَسْرِ السِّينِ فَهِيَ الْعُقْدَةُ الْبَارِزَةُ مِنَ الْبَدَنِ. وَأَمَّا السَّلْعَةُ بِفَتْحِ السِّينِ فَهِيَ الشَّجَّةُ الدَّاخِلَةُ فِي الرَّأْسِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي إِنْسَانٍ بِهِ سِلْعَةٌ، أَوْ أَكَلَةٌ، فَقُطِعَتْ مِنْهُ السِّلْعَةُ، أَوْ عُضْوُ الْأَكَلَةِ فَمَاتَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْأَمْرِ أَوْ مُوَلًّى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ جَائِزَ الأمر بالبلوغ والعقل لم يخل أن تقطع بِإِذْنِهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ قُطِعَتْ بِإِذْنِهِ، فَلَا قَوَدَ عَلَى قَاطِعِهَا سَوَاءٌ كَانَ قَطْعُهَا مُخَوِّفًا، أَوْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ؛ لِأَنَّ فِي الْإِذْنِ إِبْرَاءً. وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ الْقَتِيلِ، هَلْ تَجِبُ لَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ تَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: تجب فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ لِإِبْرَائِهِ مِنْهَا بِالْإِذْنِ. وَإِنْ قِيلَ: تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ بعد موته فعلى القاطع الدية، لأن المستبرئ منها غير الجزء: 13 ¦ الصفحة: 428 الْمُسْتَحِقِّ لَهَا. وَإِنْ قَطَعَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاطِعُ لَهَا سُلْطَانًا أَوْ نَائِبًا، كَانَ فِي قَطْعِهَا صَلَاحٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ جَوَازَ أَمْرِهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَصَارَ قَطْعُهَا مِنْهُ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً في مال القاطع؛ لأنها دية عند محصن. (فَصْلٌ) فَإِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِصِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِ؛ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهِ وَلِلْقَاطِعِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ وَلَا حُكْمٍ، فَالْقَوَدُ عَلَيْهِ واجب لتعديه، سواء كانت في قطعها صلاح، أو لم يكن. وإن عَفَا عَنِ الْقَوَدِ كَانَتِ الدِّيَةُ حَالَّةً فِي ماله. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلْقَاطِعِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، فلا يخلوا حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِسَلْطَنَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِنَسَبٍ. والثالث: بِاسْتِنَابَةٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الوالي سُلْطَانًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا، فَالْقَوَدُ فِيهَا عَلَى السُّلْطَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لأنها من مصالحه، وعليه الدية؛ لأنها من خطئه. والقول الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ مِنْ تَلَفِهِ ما كان مؤخراً، فَهَذَا حُكْمُ السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا كالأمير والقاضي. وإن كَانَ إِمَامًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ كغيره، من أمير وقاض؛ لِعُمُومِ وِلَايَةِ جَمِيعِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أبعد. والثاني: أن ولايته أعم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 429 وَإِذَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قِيلَ: بِاسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ، كَانَتْ دِيَةَ عَمْدٍ تَجِبُ فِي مَالِهِ حَالَّةً، وَلَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَوَدَ لَا يستحق كان دِيَةَ عَمْدٍ شِبْهَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ عَامِدٌ فِي فِعْلِهِ مُخْطِئٌ فِي قَصْدِهِ، وَأَيْنَ تَكُونُ الدِّيَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي بيت المال. وأما القسم الثاني: أن يكون الوالي عَلَيْهِ مُنَاسِبًا لَهُ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَيُنْظَرُ فِي قَطْعِهَا فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَخْوَفَ مِنْ قَطْعِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَبْعَدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لمصالحه أَخَصُّ. وَإِنْ كَانَ قَطْعُهَا أَخْوَفَ مِنْ تَرْكِهَا، ففي ضمانه للدية وجهان: أحدهما: يَضْمَنُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهَا لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِهَا. وَهَلْ تَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ تُتَعَجَّلُ فِي مَالِهِ، أَوْ دِيَةَ خَطَأٍ شِبْهِ الْعَمْدِ تُؤَجَّلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وأما القسم الثالث: أن يكون الوالي عَلَيْهِ مُسْتَنَابًا، وَهُمْ صِنْفَانِ وَصِيُّ أَبٍ، وَأَمِينُ حَاكِمٍ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ عَلَيْهِمَا فِي الْأَحْوَالِ وَاجِبٌ لِاخْتِصَاصِ وِلَايَتِهِمَا بِمَالِهِ دُونَ بدنه. والوجه الثاني: أنه يجري عليه حُكْمُ مَنِ اسْتَنَابَهُمَا لِقِيَامِهِمَا بِالِاسْتِنَابَةِ مَقَامَهُ فَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ أُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَبِ إِذَا قَطَعَهَا، وَإِنْ كَانَ أَمِينَ حَاكِمٍ أُجْرِي عليه حكم الحاكم إذا قطعها. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ أَغْلَفُ أَوِ امْرَأَةٌ لَمْ تخفض فأمر السلطان فعزرا فماتا لَمْ يَضْمَنِ السُّلْطَانُ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يفعلا إلا أن يعزرهما في حر أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَنْ عُزِّرَ فِي مِثْلِهِ فَيَضْمَنُ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ) . قال الماوردي: أما الختان فرض وَاجِبٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 430 وقال أبو حنيفة: هو سنة يأثم عَلَى قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنْهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ كَمَا قَالُوهُ فِي الْوِتْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ. وَاسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَالْخِتَانُ) . فَلَمَّا جعله من الفطرة، والظاهر من الفطرة أنه السنة، وَقَرَنَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غير واجب قال: ولأنه قطع الشيء مِنَ الْجَسَدِ يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفُ، فَوَجَبَ أَنْ يكون مستحباً كتقليم الأظفار وحلق الشعر. وقال: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِتَانِ إِزَالَةُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ، لِيُمْكِنَ إِزَالَةُ الْبَوْلِ عَنْهَا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. ودليلنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، رُوِيَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَمَنْ رَوَاهُ مُخَفَّفًا جَعَلَهُ اسْمَ الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَتَنَ فِيهِ، وَمَنْ رواه مشدداً جعله اسم الفأس الذي اختتن به. وقيل: اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سنة، ولا يفعل ذلك بهذه السِّنِّ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: وَوَحْيِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَسْلَمَ: " أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الكفر واختتن) فهذا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يَخْتَتِنَ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ) قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ تَأْكِيدًا لِإِيجَابِهِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 431 وَمِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّهُ قَطْعُ تَعَبُّدٍ مِنْ جَسَدِهِ مَا لَا يُسْتَخْلَفُ بَعْدَ قَطْعِهِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَقَوْلُنَا تَعَبُّدًا احترازاً عن قطع الأكل من الجسد، فَإِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَقَوْلُنَا: مَا لَا يُسْتَخْلَفُ احْتِرَازًا مِنَ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْخِتَانِ قَطْعَ عُضْوٍ وَإِدْخَالَ أَلَمٍ عَلَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إما المصلحة، أَوْ عُقُوبَةٌ، أَوْ وَاجِبٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخِتَانِ مَصْلَحَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ دَلَّ عَلَى أنه واجب. وأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْخِتَانُ سُنَّةٌ مَعَ ضَعْفِ طَرِيقِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطريقة المتبعة قد يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي) . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشَارَ بِالسُّنَّةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) ، فَهُوَ أن الفطرة الدين، قال الله تعالى: {فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] يَعْنِي دينهم الَّذِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَمَا قَرَنَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي حكمها؛ لأنه قد يقترن الواجب بغير واجب كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَأَمَّا الجواب عن قياسهم عن الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ تَأْدِيَةُ الْفَرْضِ دُونَ التَّنْظِيفِ؛ لِأَنَّ مقصود التَّنْظِيفِ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ الْبَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّنْظِيفَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِ الشَّعْرِ وَأَثِمَ بِتَرْكِ الْخِتَانِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَفِي هذا جواب اسْتِدْلَالِهِمْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخِتَانِ فِي الرجال والنساء فهو من الرِّجَالِ يُسَمَّى إعْذَارًا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 432 وَفِي النِّسَاءِ يُسَمَّى خَفْضًا، وَيُسَمَّى غَيْرُ الْمَعْذُورِ مِنَ الرِّجَالِ أَغْلَفَ وَأَقْلَفَ. وَإِعْذَارُ الرَّجُلِ هُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ الَّتِي تَغْشَى الْحَشَفَةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تستوعب من أصلها وأقل ما يجزي فيه ألا يتغير بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَشَفَةِ. وَأَمَّا خَفْضُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ قَطْعُ جِلْدَةٍ تَكُونُ فِي الْفَرْجِ فَوْقَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى أَصْلٍ كَالنَّوَاةِ تؤخذ منه الْجِلْدَةُ الْمُسْتَعْلِيَةُ دُونَ أَصْلِهَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أُمَّ عَطِيَّةَ إِذَا خَفَضْتِ فَأَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَسْرَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ) . وَقَوْلُهُ: " أَشِمِّي) أَيْ لَا تُبَالِغِي. وَفِي قوله: " أسرى للوجه وأحظى عند الزوج) تأويلان: أحدهما: أصفى للون. وَالثَّانِي: مَا يَحْصُلُ لَهَا فِي نَفْسِ الزَّوْجِ من الحظوة بها. وَلِلْخِتَانِ وَقْتَانِ: وَقْتُ اسْتِحْبَابٍ وَوَقْتُ وُجُوبٍ فَأَمَّا وقت الاستحباب فما قبل البلوغ. والأختتان: أن يختتن فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سن اختتان الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَفِيهِ يَعِقُّ عَنْهُ، وختن الحسن والحسين عليهما السلام فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْتَسِبُ فيها يوم الْوِلَادَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَسِبُ يوم الولادة، ويختتن في السَّابِعِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لا يحتسب به، ويختتن في السابع بعد يوم الولادة. وهكذا روي ختان الحسن والحسين أنه كان فِي اليوم السَّابِعِ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ فَإِنِ اختتن قَبْلَ السَّابِعِ كَرِهْنَاهُ، وَإِنْ أَجْزَأَ لِضَعْفِ الْمَوْلُودِ عن احتماله سواء فِي ذَلِكَ الْغُلَامُ أَوِ الْجَارِيَةُ. فَإِنْ أَخَّرَ عن اليوم السابع المستحب بعده أن يختتن فِي الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَثَرًا. فَإِنْ أخر عنه فالمستحب بعده أن يختتن فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْمَرُ فيه بالطهارة والصلاة، ويميز بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَتِنْ حَتَّى بَلَغَ، صَارَ وَقْتُ الْخِتَانِ فَرْضًا، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي أَوَّلِ أوقات إمكانه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 433 وَلَا يُؤَخِّرُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ وَقْتِ الْإِيجَابِ إِلَّا لِعُذْرٍ فِي الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ لِعُذْرٍ في بدنه من شدة مرض يخاف عَلَى نَفْسِهِ إِنْ خُتِنَ، فَيُؤَخِّرُ إِلَى زَوَالِ العذر، فلو كان نضو الخلق وعلم مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنْ خُتِنَ تَلِفَ سَقَطَ فَرْضُ الْخِتَانِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى خِتَانَ الْمَوْلُودِ إِلَّا مَنْ كَانَ ذَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ بِأُبُوَّةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ حُكْمٍ، فَإِنْ خَتَنَهُ مَنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَأَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ ضَمِنَ نَفْسَهُ، وَإِنْ خَتَنَهُ ذُو وِلَايَةٍ عَلَيْهِ كَالْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ أَوِ السُّلْطَانِ فَتَلِفَ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ لَمْ يَضْمَنْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ مِنْ فِعْلٍ وَاجِبٍ. وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شَدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ضَمِنَ نَفْسَهُ. وَقَالَ فِي الْمَحْدُودِ فِي حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ: إِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَضْمَنْهُ. اختلف أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الجوابين في الموضعين، ونخرجهما عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُضْمَنُ فِي الْمَحْدُودِ وَالْمَخْتُونِ على ما نص عليه في المختون للتقدير بِالزَّمَانِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ فِي الْمَخْتُونِ وَالْمَحْدُودِ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَحْدُودِ. والطريقة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيُضْمَنُ الْمَخْتُونُ وَلَا يُضْمَنُ الْمَحْدُودُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِتَانَ أَخْوَفُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ عُضْوٍ وَإِرَاقَةِ دَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ الْخِتَانِ مُتَّسِعٌ، وَوَقْتَ الْحَدِّ يضيق. فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ، مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ جَمِيعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: يَضْمَنُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِحُدُوثِ التَّلَفِ عَنْ وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ، فَإِنْ ضَمِنَ ذَلِكَ غَيْرُ السُّلْطَانِ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وإن ضمن السُّلْطَانُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ ضَمِنَ جَمِيعَ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ تَلَفَ نفس وإن تبعضت فيه الدية، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 434 (باب صفة السوط) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يُضْرَبُ الْمَحْدُودُ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدٍ وَلَا خَلَقٍ) . قَالَ الماوردي: وأما الضرب المشروع فيستحق من وجهين: حد وتعزير. فأما الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ فَثَلَاثَةُ حُدُودٍ، حَدُّ الزِّنَا مِائَةُ جَلْدَةٍ، وَحَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَحَدُّ الْخَمْرِ أربعون. وأما حد الزنا والقذف فيستوفى بِالسَّوْطِ، وَبِهِ وَرَدَ الشَّرْعُ. وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالسَّوْطِ. وَالثَّانِي: بالثياب والنعال والأيدي. وأما ضَرْبُ التَّعْزِيرِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ تعزيره عن اجتهاد، فيجوز أن يضرب بالثياب والنعال، ويجوز أن يضرب بالسوط. فأما صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي تُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ فَهُوَ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ فَيُتْلِفُ، وَلَا خَلَقَ لا يُؤْلِمُ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِزَانٍ فَدَعَا بالسَّوْطِ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ: دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ لَانَ وَانْكَسَرَ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ لَا جَدِيدَ وَلَا خَلَقَ، فَحَدَّهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَمَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حد الله عليه) . رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ. فَأَمَّا صِفَةُ الضَّرْبِ، فَلَا يَكُونُ شَدِيدًا قَاتِلًا، وَلَا ضَعِيفًا لَا يَرْدَعُ، فَلَا يَرْفَعُ بَاعَهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 435 فَيَنْزِلُ مِنْ عَلٍ، وَلَا يَخْفِضُ ذِرَاعَهُ فَيَقَعُ من أسفل، فَيَمُدُّ عَضُدَهُ وَيَرْفَعُ ذِرَاعَهُ؛ لِيَقَعَ الضَّرْبُ مُعْتَدِلًا. قال ابن مسعود: لا يرفع ذراعه فِي الضَّرْبِ فَيُرَى بَيَاضُ إِبْطِهِ. فَأَمَّا السَّوْطُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُونَ سَوْطِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَوْطٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ فَوْقَ سَوْطِ الحد، ويكون صِفَةُ الضَّرْبِ فِيهِ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ فِي الحد؛ لأن ذنوب التعزير مختلفة، فجاز أن يكون الضرب مُخْتَلِفًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحُدُودَ أَغْلَظُ، فَلَمَّا كَانَ التَّعْزِيرُ دُونَهَا فِي الْقَدْرِ لَمْ يَجُزْ أن يكون فوقها في الصفة. (مسألة) قال الشافعي: " وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ قَائِمًا وَتُتْرَكُ له يده يتقي بِهَا وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُمَدُّ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَتُضَمُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا وَتُرْبَطُ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي صِفَةِ السَّوْطِ وَالضَّرْبِ. فَأَمَّا صِفَةُ المضروب فلا يخلوا إما أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا ضُرِبَ قَائِمًا وَلَمْ يُصْرَعْ إِلَى الْأَرْضِ، ووقف مُرْسَلًا غَيْرَ مَشْدُودٍ وَلَا مَرْبُوطٍ، وَتُرْسَلُ يَدُهُ لِيَتَوَقَّى بِهَا أَلَمَ الضَّرْبِ إِنِ اشْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَدَ مَنْ حَدَّهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. فَأَمَّا ثِيَابُهُ فَلَا يُجَرَّدُ مِنْهَا، وَتُتْرَكُ عَلَيْهِ؛ لِتُوَارِيَ جَسَدَهُ، وَتَسْتُرَ عَوْرَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا ما يمنع من ألم الضرب كالفراء والجياب الحشوة، فَتُنْزَعُ عَنْهُ وَيُتْرَكُ مَا عَدَاهَا مِمَّا لَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غَلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُضْرَبُ جَالِسَةً؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَجُلُوسُهَا أَسْتَرُ لَهَا، وَتُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا؛ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ فتبدوا عَوْرَتُهَا، وَتَقِفُ عِنْدَهَا امْرَأَةٌ تَتَوَلَّى رَبْطَ ثِيَابِهَا، وتستر مَا بَدَا ظُهُورُهُ مِنْ جَسَدِهَا، وَيَتَوَلَّى الرِّجَالُ ضَرْبَهَا دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ له هتكه. قد أَحْدَثَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ وُلَاةِ الْعِرَاقِ ضَرْبَ النِّسَاءِ في صفة مِنْ خُوصٍ أَوْ غِرَارَةٍ مِنْ شَعْرٍ لِيَسْتُرَهَا، وذلك حسن والغرارة احب إلينا من الصفة لأن الصفة تدفع مِنْ أَلَمِ الضَّرْبِ مَا لَا تَدْفَعُهُ الْغِرَارَةُ، فَلَوْ خَالَفَ الْجَلَّادُ مَا وَصَفْنَا، وَضَرَبَ الرَّجُلَ جالساً أو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 436 مَبْطُوحًا، وَضَرَبَ الْمَرْأَةَ قَائِمَةً أَوْ نَائِمَةً أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ الضَّرْبُ وَلَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ؛ لِأَنَّهَا تَغْيِيرُ حَالٍ لَا زِيَادَةُ ضَرْبٍ. (مسألة) قال الشافعي: " ولا يبلغ في الحد أن ينهر الدم لأنه سبب التلف وإنما يراد بالحد النكال أو الكفارة) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ في العدول به عن الحديد إِلَى السَّوْطِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَثَرِ الحديد. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَرْبِهِ أَلَمُهُ الَّذِي يَرْتَدِعُ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَلَمِهِ بِإِنْهَارِ دَمِهِ الْمُفْضِي إِلَى تَلَفِهِ، فَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَتْلَفْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْهَرَ دَمَهُ فَتَلِفَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ لِاسْتِكْمَالِ حَدِّهِ قَبْلَ إِنْهَارِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِنْهَارَ دَمِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ رِقَّةِ لَحْمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضْرِبَهُ بَعْدَ إِنْهَارِ دَمِهِ اسْتِكْمَالًا لِحَدِّهِ، فَإِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إِنْهَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ. وَإِنْ ضَرَبَهُ فِي موضع إنهاره ففي ضمانه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأن إنهاره من غير واجب. ثانيهما: يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ بِإِعَادَةِ الضَّرْبِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا في قدر ضمانه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: نِصْفُهَا، عَلَى مَا مَضَى فِي ضَمَانِ الْمَخْتُونِ. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ " وَيَتَّقِي الْجَلَّادُ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وروي ذلك عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجِبُ فِي جَلْدِ الْحُدُودِ أَنْ يُفَرِّقَ الضَّرْبُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنَ الْأَلَمِ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فيفضي إلى تلفه إلا في موضعين عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ ضَرْبَهُمَا: أَحَدُهُمَا: الْمَوَاضِعُ الْقَاتِلَةُ كالرأس والخاصرة والقواد، وَالنَّحْرِ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 437 وَالثَّانِي: مَا شَأنَهُ الضَّرْبُ وَقَبَّحَهُ كَالْوَجْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَلَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ) . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ وَأَوْجِعْ وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْفَرْجَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ، وَعَنْ ضَرْبِهِ وعن الوشم فِيهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَسُبُّوا الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) يَعْنِي عَلَى صُورَةِ هَذَا الرَّجُلِ، فَلَمَّا نَهَى عَنْ سَبِّ الْوَجْهِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ كَالْجَلدِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَفَرَّقَ بينه وبين الجلد بأنه لما يَجُزِ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عن بَعْضِ الْجَسَدِ، وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ جَازَ الْعَفْوُ عَنْ ضَرْبِ بَعْضِ الْجَسَدِ، وَهَذَا ليس بصحيح؛ لأن جميع الضَّرْبِ مُفْضٍ إِلَى التَّلَفِ فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ كَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي التعزير المباح أولى. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله: " ولا يبلغ بعقوبة أربعين تقصيراً عن مساواة عقوبة الله تعالى في حدوده) . قال الماوردي: فقد ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْزِيرَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْلَغَ بِأَكْثَرِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ وَغَايَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْحُدُودِ حَدُّ الْخَمْرِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ. رَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ضَرَبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ) . فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى أكثر الحدود: ليس مع هذا الخبر من مساواة التعزير في الحدود. روى أبو بُردَةَ بن نيار عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا جلد فوقع عشر جلدات إلا في حدود الله) فهلا منعكم هذا الْخَبَرُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي التَّعْزِيرِ، وأنتم لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 438 تَمْنَعُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا رُوِيَ فِيهَا. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ وَثَبَتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلْدَاتٍ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول كثير من أصحابه: أنه لا يجوز الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ صَحَّ لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ فِي ذَنْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فلا يجب حمله في عُمُومِ الذُّنُوبِ وَلَا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ. (فَصْلٌ) لا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنِ الْحُدُودِ إِذَا وَجَبَتْ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنْ جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَجَازَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِ. رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لعن الله الشافع والمشفع) . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد رجلاً في شراب فقال شعراً. (أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... بِحَقٍّ مَا سرقت ولا زنيت) (شربت شربة لَا عِرْضَ أَبْقَتْ ... وَلَا مَا لَذَّةٌ فِيهَا قَضَيْتُ) فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَوْ بَلَغَنِي قَبْلَ أَنْ أَجْلِدَهُ لَمْ أَجْلِدْهُ) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ. قِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ ما كان متصلاً ثابتاً، وَلَوْ ثَبَتَ وَصَحَّ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِشِعْرِهِ على تقدم توبته. وإما أن حَدَّ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، وَكَانَ تَعْزِيرًا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 439 ثم استقر حده من بعده فَلَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّه قَالَ: " تَجَافَوْا لِذَوِي الْهَيْئَاتِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ) . وَرُوِيَ " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ) . وَفِي ذَوِي الهيئات ها هنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَلَمُّوا بِالذَّنْبِ نَدِمُوا عليه، وتابوا منه. وفي عثراتهم ها هنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا صَغَائِرُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا توجب الحدود. والثاني: أنها أول معصية ذل فيها مطيع، فأما قول الله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] . ففي كبائر الإثم ثلاث تأويلات: أحدها: أنها الشرك بالله. وَالثَّانِي: مَا لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْحَدِّ. وَفِي الفواحش ها هنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الزِّنَا خَاصَّةً. وَالثَّانِي: جَمِيعُ الْمَعَاصِي. وَفِي اللَّمَمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا هَمَّ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. والثاني: أنه ما يأت مِنْهُ وَلَمْ يُعَاوِدْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُوجِبُ حَدًّا وَلَا وَعِيدًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا النَّظْرَةُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. وَالْخَامِسُ: أنه النكاح. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 440 فيها اسمه} [النور: 36] يريد بالبيوت: المساجد. في قوله تعالى: {أذن الله أن ترفع} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُعَظَّمَ. وَالثَّانِي: تُصَانَ وَفِي قَوْلِهِ: " ويذكر فيها اسمه) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّعَبُّدُ لَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا. وَالثَّانِي: طَاعَتُهُ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنَ السُّنَّةِ نَصٌّ لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يقتل بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ) . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " يا أيها الناشد، غيرك الواجد إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا إِنَّمَا بُنِيَتْ لذكر الله وللصلاة) . وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يستقاد في المساجد وأن تنشد فِيهَا الْأَشْعَارُ، وَأَنْ تُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ) . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَشْعَارِ مَا كَانَ هِجَاءً، أَوْ عزلا، أو مدحاً كاذباً؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْهُ. فَأَمَّا مَا تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْعَارِ فَغَيْرُ ممنوع من إنشادها فيه. وقد أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَهُ الَّتِي مَدَحَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المسجد فلم ينكر عليه، وَكَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ. وَلِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ مُؤْذٍ لِلْمُصَلِّينَ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَحْدُودَ ربما نجس المسجد بدمه، أو حدثه. فإن ثَبَتَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ نُظِرَ فِي الْمَحْدُودِ، فَإِنْ كَانَ مُتَهَافِتًا فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي أُظْهِرَ حَدُّهُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ؛ لِيَزْدَادَ بِهِ نَكَالًا وَارْتِدَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ حُدَّ فِي الْخَلَوَاتِ حِفْظًا لصيانته. وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 441 (باب قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَيْدِيهِمْ من متاع المسلمين) (من كتاب قتل الخطأ) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أَسْلَمَ الْقَوْمُ ثُمَّ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ كُفْرٍ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ دَارِ الْحَرْبِ وَهُمْ مَقْهُورُونَ أَوْ قَاهِرُونَ فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي ارتدوا فيه فعلى المسلمين أن يبدؤوا بِجِهَادِهِمْ قَبْلَ جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَمْ يسلموا قط) . قال الماوردي: قد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى دِينِهِ، سَوَاءٌ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ، أَوْ أَسَلَمَ عَنْ كُفْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَسَوَاءٌ ارتد إلى دين يقر عليه أهله أَمْ لَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وقال تعالى: {ومن يرتد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابن عباس أن علياً - عليه السلام أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إنا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَقْهُورًا فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ في وجوب قتله إن لم يتب وإما أن يكونوا جماعة قاهرين فالواجب أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ قَبْلَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فَكَانَ مَنْ عَدَلَ عَنْ دِينِنَا أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى الِابْتِدَاءِ بقتالهم حين ارتدوا بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنِ ارْتَدَّ وَكَانَ قَدْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ بن زيد إلى الروم فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ: لَوْ صَرَفْتَ الْجَيْشَ إِلَى قتال أهل الردة فقال: والله لو انثالت المدينة سباعاً علي مَا رَدَدْتُ جَيْشًا جَهَّزَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَلَّ احْتِجَاجُ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 442 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جهزهم على إجماعهم أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ وَإِنْ أقر الكافر على كفره. والثاني: أنه يتقدم إِسْلَامِهِ قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَافِرِ إِقْرَارٌ بِبُطْلَانِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُفْسِدُ قُلُوبَ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَوِّي نُفُوسَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَجَبَ لِغِلَظِ حَالِهِ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِهِ، فَإِذَا أَرَادَ قِتَالَهُمْ لَمْ يَبْدَأْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً رَفَعَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرِّدَّةِ قَاتَلَهُمْ، وَأَجْرَى عَلَى قِتَالِهِمْ حُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ وَجْهٍ، وَحُكْمَ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ وَجْهٍ. فَأَمَّا مَا يُسَاوُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِهِمْ وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يجوز أن يقاتلوا مدبرين ومقبلين، وَلَا يُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ إِلَّا مُقْبِلِينَ. وَالثَّانِي: يجوز أن يوضع عليهم البيان والتحريق، ويرموا بالقرادة وَالْمَنْجَنِيقِ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّالِثُ: إِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى وَمُمْتَنِعِينَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالرَّابِعُ: مَصِيرُ أَمْوَالِهِمْ فَيْئًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَأَمَّا مَا يُوَافِقُونَ فِيهِ أَهْلَ الْبَغْيِ وَيُخَالِفُونَ فِيهِ أَهْلَ الْحَرْبِ فَمِنْ أربعة أوجه: أحدها: انهم لا يهادنوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ إِقْرَارًا عَلَى الرِّدَّةِ وَإِنْ جَازَ مُهَادَنَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالثَّانِي: أنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَلَا أَنْ يُصَالَحُوا على مال يقروا بِهِ عَلَى الرِّدَّةِ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقُّوا وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَلَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الحرب والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فَإِذَا ظَفِرُوا بِهِمُ اسْتَتَابُوهُمْ فَمَنْ تَابَ حُقِنَ دَمُهُ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 443 قَالَ: الْمَاوَرْدِي: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ظُفِرَ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِمْ، فإن تابوا حقنوا دمائهم بِالتَّوْبَةِ، وَوَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَجَبَ قَتْلُهُمْ بِالسَّيْفِ صَبْرًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فاقتلوه) وفي الثاني بِهِمْ ثَلَاثا قَوْلَانِ مَضَيَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى الرِّدَّةِ بِجِزْيَةٍ وَلَا بِعَهْدٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى دِينِهِمْ بِجِزْيَةٍ وَعَهْدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ تَقَدَّمَ إِقْرَارُهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ بِبُطْلَانِ مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِقْرَارُ الْحَرْبِيِّ بِبُطْلَانِ دِينِهِ فَجَازَ أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَمْوَالُ الْمُرْتَدِّ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَقْهُورًا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا وَمُنِعَ مِنَ التصرف فيها ما كان حياً، ولم يملك عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا صَارَتْ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ لَا حق فيها لورثته، وقد قدمت ذِكْرَ الْخِلَافِ فِيهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً مُمْتَنِعِينَ وَظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُحَارَبَتِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ لم يجز أن يمتلكها الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مَا بَقُوا أَحْيَاءً عَلَى رِدَّتِهِمْ؛ لِجَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا إِنْ أَسْلَمُوا وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِمْ، فَإِنْ مَاتُوا عَلَى رِدَّتِهِمْ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا، فَإِنْ طَلَبَهُ الْغَانِمُونَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسَّمَ فِيهِمْ مَا مَلَكَهُ الْمُرْتَدُّونَ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ، وَفِي قَسْمِ مَا مَلَكُوهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَجْهَانِ مخرجان من اختلاف القولين في استرقاق المولدين مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا وَقْتَ الرِّدَّةِ لَمْ يَصِرْ مُرْتَدًّا بِرِدَّةِ أَبِيهِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ بَالِغٍ نُظِرَ فِي أُمِّهِ فَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا؛ لِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مُرْتَدَّةً كَأَبِيه جَرَى عَلَى الْوَلَدِ حُكْمُ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ مُلْحَقٌ بِأَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ. فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَإِنْ وُلِدَ فِي حَالِ إِسْلَامِهِمَا أَوْ إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقَّ كَمَا لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُ أَبَوَيْهِ؛ لِمَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ وُلِدَ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يجوز استرقاقه؛ لأنه كافر وولده كافر كالحربي. والقول الثاني: لا يجوز استرقاقهما لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمَا فَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ وِلَادَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 444 وُلِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ جَارٍ عَلَى أَهْلِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشرك مَا فِيهَا) وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الدَّارَ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا وَلَا تَحْظُرُ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يُسْتَبَحِ اسْتِرْقَاقُهُ وقتله، ولو دخل حربي دار الإسلام لم يحرم اسْتِرْقَاقُهُ وَقَتْلُهُ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْحَرْبِيِّ، وَكُلُّ مَنْ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ، فَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَيَدُلُّ الْقِيَاسُ الثَّانِي عَلَى الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَبَطَلَ بِهِمَا فُرْقَةُ بين الدارين. (فصل) ويجبر ولد المرتدة عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقَرُّ عَلَى الْكُفْرِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً، وَكَذَلِكَ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْبَرُ الْغُلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ إِلَّا أَنْ يُولَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُجْبَرُ الْوَلَدُ وَلَا وَلَدُ الولد غلاماً كان أو جارية، وفرق بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا وَالْغُلَامَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ في عبدة الأوثان. وفرق بين الولد وولد الولد بأن الولد تبع أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَوَلَدُ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ جَدَّهُ فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ مُبِيحَةٌ ودار الإسلام حاظرة، وكل هذا الْفُرُوقِ بَنَاهَا عَلَى أُصُولٍ يُخَالَفُ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي بَعْضِهَا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ في باقيها. (مسألة) قال الشافعي: " وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ كَالرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بالردة، وقد مضى الكلام فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا بِالرِّدَّةِ وَتُؤْخَذُ بِالْإِسْلَامِ جَبْرًا، سَوَاءٌ أَقَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا، ولأن مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ حَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُ بالردة كالرجل. (مسألة) قال الشافعي: " وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الرِّدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَبَعْدَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ فِي قِتَالٍ وهم ممتنعون أو غير قتال أو على نائرة أو غيرها سواء والحكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 445 عَلَيْهِمْ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْقَوَدِ وَالْعَقْلِ وَضَمَانِ مَا يُصِيبُونَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي بَابِ قِتَالِ أَهْلِ البغي (قال الشافعي) فإن قيل فما صنع أبو بكر في أهل الردة؟ قيل قال لقوم جاؤوه تائبين تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ فَقَالَ عُمَرُ لا نأخذ لقتلانا دية فإن قيل فما قوله تدون؟ قيل إن كانوا يصيبون غير متعمدين ودوا وإذا ضمنوا الدية في قتل غير عمد كان عليهم القصاص في قتلهم متعمدين وهذا خلاف حكم أهل الحرب عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن قيل فلا نعلم منهم أحداً أقيد بأحد قيل ولا يثبت عليه قتل أحد بشهادة ولو ثبت لم نعلم حاكماً أبطل لولي دما طلبه والردة لا تدفع عنهم قوداً ولا عقلا ولا تزيدهم خيراً إن لم تزدهم شراً (قال المزني) هذا عندي أقيس من قوله في كتاب قتال أهل البغي يطرح ذلك كله لأن حكم أهل الردة أن نردهم إلى حكم الإسلام ولا يرقون ولا يغنمون كأهل الحرب فكذلك يقاد منهم ويضمنون) . قال الماوردي: أما مَا أَتْلَفَهُ الْمُرْتَدُّونَ وَأَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ وَهُمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ فَمَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ بِالْقَوَدِ فِي الدِّمَاءِ وَالْغُرْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ وَهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَالْمَنَعَةُ أن لا يقدر الإمام عليه حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِقِتَالِهِمْ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ. فَأَمَّا ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ عليهم قولين كأهل البغي سواء. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ، وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عليه قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى قولين الفرق بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ تأويلاً محتملاً، وليس لأهل الردة تأويلاً مُحْتَمِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِأَهْلِ الْبَغْيِ إِمَامًا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ إِمَامٌ تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ. فَإِنْ قِيلَ: بِسُقُوطِ ضَمَانِهِ عَنْهُمْ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عن الشافعي في سير الأوزاعي فوجهه قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ رِضًا بِقَوْلِهِ وَرُجُوعًا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ فِي رِدَّتِهِ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَفِيهِمَا يَقُولُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ حِينَ قَتَلَهُمَا: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 446 (عشية غادرت ابن اقرم ثاوياً ... وعكاشة الغنمي تحت مجال) (أقمت له صدر الجمالة إنها ... معودة قبل الكماة نزال) (فيوم نراها في الجلال مصونة ... ويوم تراها في ظلال عوال) ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِدَمِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ولأنه إسلام عَنْ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَ فِي الْكُفْرِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ فِي تَضْمِينِهِمْ مَا اسْتَهْلَكُوهُ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وهم مرغبون فيه فوجب أن لا يؤخذوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في أكثر الكتب فوجهه قول أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ: تَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَارَضَهُ عُمَرُ فَقَالَ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دِيَةً قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عمر رضي الله عنه قَالَ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَعَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَمْ يكن فيه مخالفاً لِحُكْمِ أَبِي بَكْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُمْ وَلَمْ يُغَرِّمْهُمْ. قِيلَ: الْقِصَاصُ وَالْغُرْمُ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مُطَالِبٌ بِحَقِّهِ مِنْهُ فَمَنَعَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الشرك إِسْقَاطٌ لِلْوُجُوبِ، وَمِنَ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ فِي مَنَعَةٍ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَالْحَرْبِيِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا وَهُوَ يَضْمَنُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَكَانَ ضَمَانُهُ بَعْدَهَا أَوْلَى. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا قَامَتْ لِمُرْتَدٍّ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ يَعْلَمُ تَوْبَتَهُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَهُ إِلَّا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُدُودِ التي تختص الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مُحَارِبًا فِي مَنَعَةٍ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ. فَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا فادعى وليه أنه قد كان أسلم وأنكر القاتل إسلامه فإن لم يكن لِوَلِيِّهِ بَيِّنَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ فِي بَقَاءِ رِدَّتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ أَوْ غَيْرِ مَنَعَةٍ، فَإِنْ أَقَامَ وَلِيُّهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاتِلُ بِإِسْلَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بإسلامه قال الشافعي ها هنا؛ وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ) أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ، وَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 447 أَحَدُهُمَا: لَا قَوْدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الرِّدَّةِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَتَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ كَذَلِكَ إِسْلَامُ الْمُرْتَدِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ؛ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي الطَّرَفَيْنِ مَحْظُورَةٌ وَإِبَاحَتُهَا مَخْصُوصَةٌ فَاقْتَضَى عُمُومُ الْحَظْرِ وُجُوبَ الْقَوَدِ، وَلَا يَسْقُطُ بِخُصُوصِ الْإِبَاحَةِ، وَبِذَلِكَ خَالَفَ حُكْمَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي هُوَ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ نَصِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَسْقَطَ فِيهِ الْقَوَدَ إِذَا كَانَتْ آثَارُ الرِّدَّةِ عَلَيْهِ بَاقِيَةً مِنْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْقَوَدَ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ آثَارُ الرِّدَّةِ فَلَمْ يبق فيه قيد ولا حبس ولا اعتبار بِشَاهِدِ حَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي: أن الموضع الذي أسقط فيه القود إذا كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي أُوجِبَ فِيهِ الْقَوَدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِ غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قَتْلِ الْمُمْتَنِعِ فَأجْرى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمْكِينٍ وَمَنْعٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ أَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قَدْ أُعْتِقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهِ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ وتكمل الدِّيَةُ حَالَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ الْقَوَدُ لِمُصَادَفَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ شُرُوطَ الْقَوَدِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ بِهَا كَافِرًا، وَكَانَ عَلَى إِسْلَامِهِ بَاقِيًا، وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَخَالَفَ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ فَأَبْطَلَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] الآية وفي الآية تقديم وتأخير فترتيبها: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَشَرَحَ بالكفر صدره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فاستثناء الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى إِيمَانِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَكْرَهَتْهُ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ مَعَ أبويه على الكفر، فامتنع أبواه فقتلا، وأجاب إليه عمار فأطلق والدليل على بقاء نكاحه على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 448 الصِّحَّةِ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْإِكْرَاهُ فِي إِيمَانِهِ وَهُوَ أَصْلٌ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نِكَاحِهِ وَهُوَ فَرْعٌ، فَأَمَّا إِذَا أَظْهَرَ المسلم كلمة الكفر ولم يعلم إكراهه عليها ولا اعتقاده لها فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَرِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا إِكْرَاهَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَتْ حَالُهُ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهَا وَهُوَ عَلَى صِفَةِ الْإِكْرَاهِ فِي قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا، فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ اعْتِقَادُهُ لِلْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الِاخْتِيَارِ مُخْلَى السَّبِيلِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُخْتَارًا فَيُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَالَهَا مُكْرَهًا. (فَصْلٌ) وَإِذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُكْرَهًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَذَلِكَ فِيمَنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَصْحَابِ الْعَهْدِ، فَلَا يَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّعَدِّي بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقٍ كَإِكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ وَإِكْرَاهِ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ بِالْإِكْرَاهِ مُسْلِمًا لِخُرُوجِهِ عَنِ التَّعَدِّي. وَمِثَالُهُ الْإِكْرَاهُ على الطلاق وإن كَانَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كان باستحقاق في المولى وقع الطلاق، والله أعلم. (فَصْلٌ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ وَكَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَوِ ارْتَدَّ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الثَّالِثَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كفروا ثم ازدادو كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] يُرِيدُ بِهَ الكفر الثالث. ودليلنا قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ) وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ كَقَبُولِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فأما الآية فهي فيمن أراد كُفْرًا وَلَمْ يُحْدِثْ إِيمَانًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَهُ مَقْبُولٌ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بَعْدَ الرِّدَّةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنْ كُلِّ رِدَّةٍ وَلَا يُحْبَسُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 449 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أُعَزِّرُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَأَحْبِسُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَكُفُّهُ عَنِ الرِّدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ مُتَهَاوِنٌ بِالدِّينِ كَهُوَ فِي الثالثة فاقتضى التعزير فيها كما يعزر في الثالثة والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 450 (كِتَابُ صَوْلِ الْفَحْلِ) (بَابُ دَفْعِ الرَّجُلِ عَنْ نفسه وحريمه ومن يتطلع في بيته) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا طَلَبَ الْفَحْلُ رجلاً ولم يقدر على دفعه إلا بقتله فقتله لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ كَمَا لَوْ حَمَلَ عليه مسلم بالسيف فلم يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِضَرْبِهِ فَقَتَلَهُ بِالضَّرْبِ أنه هدر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَكْثَرُ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بما يَجُوزُ لَهُ كَانَ الْأَقَلُّ أَسْقَطَ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خَافَ الإنسان عل نفسه من طالب لقتله أو قاطع لطرقه أَوْ جَارِحٍ لِبَدَنِهِ أَوْ خَافَهُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ فَلَهُ دَفْعُ الطَّالِبِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ وَإِنْ أَفْضَى الدَّفْعُ إِلَى قَتْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّالِبُ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ كَانَ بَهِيمَةً كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ وَالْبَعِيرِ الْهَائِجِ لِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ) . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ جَارِيَةً خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ تَحْتَطِبُ فَتَبِعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بفهر فقتلته فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: هذا قتيل الله والله لا يؤدي أبداً، ومعنى " قَتِيلُ اللَّهِ) : أَيْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ، وَفِي قوله: " والله لا يؤدي أَبَدًا) تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْقَسَمِ بالله أنه لا يغرم دِيَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أن من أباح قتله لم يغرم دِيَتُهُ، وَلِأَنَّ الطَّلَبَ جِنَايَةٌ وَعُقُوبَةُ الْجَانِي مُبَاحَةٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَهُوَ متفق عليه كانت نفسه هدراً مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 451 وقال أبو حنيفة: إن كان آدمياً كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدَرًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ كَانَ بَهِيمَةً كَالْفَحْلِ الصَّائِلِ كَانَتْ نفسه مع إباحة قتله مضمونة بدية الأذى وَقِيمَةِ الْبَهِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفس منه) . وهذا المال مستهلك على مالكه بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مضموناً على مستهلكة قال: ولأنه استهلك ملك غَيْرِهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِضَمَانِهِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ، وَهَذَا أَوْلَى بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَعَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهَذَا الْقَتْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ بِغَيْرِ قَتْلٍ، فَلَمَّا ضَمِنَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ كَانَ أولى أن يضمن مالا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْحَيَاةَ قَالَ: وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ لَا قَصْدَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَلَيْسَ صاحبها معها كَانَ هَدَرًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) فَإِذَا بَطَلَ قَصْدُهَا سَقَطَ حكم الصول فَصَارَ كَالْقَاتِلِ لَهَا بِغَيْرِ صَوْلٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] وَهَذَا بِالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ مُحْسِنٌ فَوَجَبَ أَنْ لا يكون عليه سبيل في الغرم وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . فَإِنْ قِيلَ: لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ ظُلْمٌ. قِيلَ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَصَارَ الدَّافِعُ مَظْلُومًا وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى الْمَدْفُوعِ يرفع الْقَلَمِ عَنْهُ ظُلِمَ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يحل ما امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ غُرْمٌ مَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّهُ إِتْلَافٌ بِدَفْعٍ مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الضَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ قَتْلَ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ إِبَاحَةُ نَفْسِهِ بِالطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حكم لقصده. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 452 قِيلَ: افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي إِبَاحَةِ الْقَتْلِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ قتل مباح بسبب كان من الصول فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَدْرًا كَالْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ وَالزِّنَا، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ سَقَطَ بِهِ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يُضْمَنْ بِالْجَزَاءِ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَتْلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ مَضْمُونٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنَ الْمَضْمُونِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إذا اضطر إلى إتلافها لِشِدَّةِ جُوعِهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سقوط الضمان إذا قتلها لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الْبَهِيمَةِ لِضَمَانِ نَفْسِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَانْفِرَادِ ضَمَانِ الْبَهِيمَةِ بِالْقِيمَةِ، فَلَمَّا سَقَطَ بِالدَّفْعِ ضَمَانُ الْأَغْلَظِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِهِ ضَمَانُ الْأَخَفِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أكل المضطر فمن وجهين: أحدهما: انتفاضه بالعبد إذا قتله دفاعاً عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ بِقَتْلِ مَالِ غَيْرِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ سلم من هذا النقص لكان لهذا الْمَعْنَى فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهُوَ ضَرُورَةُ جُوعِهِ. وَالْمَعْنَى فِي صَوْلِ الْفَحْلِ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِمَعْنًى فِي الْفَحْلِ وَهُوَ مخافة صوله فافترقا في المعنى من هذا الوجه، فوجب افْتِرَاقهُمَا فِي الضَّمَانِ كَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَهُ لِلْجُوعِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَكَالصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِجُوعِهِ ضَمِنَهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ قَصْدَ الْبَهِيمَةِ لَا حُكْمَ له فمن وجهين: أحدهما: انتفاضة بِصَوْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِهِ الْجَزَاءُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَصُلْ. وَالثَّانِي: أنه لما حل قتله بصوله وَلَمْ يَحِلَّ إِذَا لَمْ يَصُلْ دَلَّ عَلَى سقوط الضمان بصوله إِذَا لَمْ يَصُلْ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الضمان في تلف المدفوع من آدمي وبهيمة فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أحدها: صفة الحال التي يجوز فيها الدفع، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ قَادِرًا عَلَى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 453 المطلوب يصل إليه إذا أراده، فأما أن كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَبِ وَالْعَجْزُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: خَوْفُ السُّلْطَانِ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّلَبِ فَيَسْتَخْفِي تَوَقُّعًا لِاخْتِلَاسِهِ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ الدَّفْعُ، وَيَكِلُهُ إِلَى السُّلْطَانِ فِيمَا يَخَافُهُ مِنَ اخْتِلَاسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْجَزَ عَنْهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِحِصْنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ أَوْ جَبَلٍ يَرْقَاهُ أَوْ عَشِيرَةٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَانِعٌ نُظِرَ فِيهِ، فإن كان واسعاً لاتصل إِلَيْهِ سِهَامُهُ إِلَّا بِالْعُبُورِ إِلَيْهِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَفْعِهِ مَا لَمْ يَعْبُرْ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ سهام الطالب، فإن قدر على البعد منها مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ كَفَّ عَنْهُ وَبَعُدَ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَالْحُكْمُ الثَّانِي: فِي الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِذَا أَرَادَ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ لِقَتْلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ أَوْ أَذًى أَوْ أَرَادَ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ أَوْ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، فيكون حُكْمُ دَفْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحُكْمُ دَفْعِهِ عَنِ الْمَالِ وَالْحَرِيمِ كَحُكْمِ دَفْعِهِ عَنِ النُّفُوسِ؛ لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . والشهيد: من كان له القتال وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي حُكْمِ الدَّفْعِ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ يَقْصِدُهُ بِالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ بجرح ولا ضرب، ولا مقاتلته عَلَيْهِ بِقَذْفٍ وَلَا سَبٍّ؛ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ عَنِ الْقَذْفِ بِالْحَدِّ، وَعَنِ السَّبِّ بِالتَّعْزِيرِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يَقُومُ السُّلْطَانُ بِهِمَا، فَإِنْ بَعُدَا عَنِ السُّلْطَانِ فِي بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ فَقَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ فِيهِ جَازَ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَالدَّيْنِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ إِذَا مُنِعَ مِنْهُ. (فَصْلٌ) وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ الدَّفْعِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَقَلِّ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَأَقَلُّهُ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ بِالْكَلَامِ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ ولم يَتَجَاوَزْهُ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا جِرَاحٍ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْكَلَامِ، فإن له أن يتجاوزه إِلَى الضَّرْبِ دُونَ الْجِرَاحِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ عَدَدِ الضَّرْبِ وَصِفَتِهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ، فَإِنْ تجاوزه إلى زيادة أو الجراح الجزء: 13 ¦ الصفحة: 454 بِالْحَدِيدِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْجِرَاحِ أَوْ إِلَى الْقَتْلِ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِالْقَتْلِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَرَحَهُ جراحتين فمات منها فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُبَاحَةٌ لَا تُضْمَنُ، وَالثَّانِيَةُ مَحْظُورَةٌ تُضْمَنُ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحِة فَجَرَحَهُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ انْدَفَعَ بِجِرَاحَتَيْنِ فَجَرَحَهُ ثَلَاثًا ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَلَا تَتَقَسَّطُ الدِّيَةُ عَلَى أعداد الجراح، إنما تَتَقَسَّطُ عَلَى أَحْكَامِهَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَالْمُرْتَدِّ إِذَا جُرِحَ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْجِرَاحِ إِذَا جُرِحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَجُرِحَ الْآخَرُ عَشْرًا، كَانَا فِي الدِّيَةِ سَوَاءً، وَهَكَذَا لَوِ انْدَفَعَ بِقَطْعِ إِحْدَى يَدَيْهِ فَعَادَ بعد قطعهما وَقَطَعَ الْيَدَ الْأُخْرَى ضَمِنَهَا، فَإِنْ سَرَى الْقَطْعُ إِلَى نَفْسِهِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وإن انْدَمَلَ الْقَطْعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الْيَدِ الثَّانِيَةِ أَوْ دِيَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِذَا وَلَّى الطَّالِبُ مُدْبِرًا أَنْ يُتْبَعَ بِجِرَاحٍ وَلَا قَتْلٍ، ويكون ما فعله المطلوب بعد إدلائه عَنْهُ الطَّالِبَ مِنْ جِرَاحٍ وَقَتْلٍ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا وَلَّوْا عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْبُغَاةِ إِذَا أَدْبَرُوا عَنِ الْقِتَالِ. (فَصْلٌ) وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ وَوُجُوبِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطْلُوبِ، وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا جَازَ وَلَمْ يَجِبْ وَهُوَ طَلَبُ الْمَالِ، فَالْمَطْلُوبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْهُ وَلَا يَدْفَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ مُبَاحٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْ أُرِيدَ مِنْهُ قَتْلُ غَيْرِهِ مِنْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ أُرِيدَ مِنْ أَحَدِهِمُ الْفَاحِشَةُ فَالدَّفْعُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَفِي الْإِمْسَاكِ عَنْهُ مَأْثَمٌ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ مَحْظُورٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَجَوَازِهِ، وَهُوَ إِذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِالطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَجْنُونِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ فِي الْكَفِّ كَالْإذُنِ في قتل نفسه، وإن كان الطالب من يَزْجُرُهُ عَنِ الْقَتْلِ عَقْلٌ وَدِينٌ كَالْمُكَلَّفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَفِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَكُونُ آثِمًا بِالْكَفِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةُ قَتْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَفَّ لَمْ يَأْثَمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْنَيْ آدَمَ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 455 الله رب العالمين} [المائدة: 28] ولأن للطالب زاجر مِنْ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه من الدفع عن نفسه والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ عَضَّ يَدَهُ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ يَدَهُ فَنَدَرَتْ ثنيتا العاض كان ذلك هدرا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيدع يده في فيك تقضهما كأنها في في فحل) وأهدر ثنيته) . قال الماوردي: وهذا صحيح، وحكم الدَّفْعِ عَنِ الْأَطْرَافِ كَحُكْمِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ، فَإِذَا عَضَّ يَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ فيه، وإن سَقَطَ بِنَزْعِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ كَانَتْ هَدَرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ زَجْرُهُ بِالْقَوْلِ قَبْلَ النَّزْعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَلَاصِهَا بِالنَّزْعِ تَجَاوَزَهُ إِلَى أَقَلِّ ما يمكن، ولا يتجاوزه مِنَ الْأَقَلِّ إِلَى الْأَكْثَرِ، وَتَنْهَدِرُ بِالْجَذْبِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ، وَيُقَالُ لِلْعَضِّ بِالْأَسْنَانِ الْقَضْمُ، وَلِلْعَضِّ بِالْأَضْرَاسِ الْخَضْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ البصري: يا ابن آدم تخضم وتقضم، والحساب في البيدر. فإن سَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْمَعْضُوضِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَضْمَنُهَا الْمَعْضُوضُ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْأَسْنَانِ وَالْأَطْرَافِ كَسُقُوطِهِ فِي النَّفْسِ مَا رَوَاهُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عن عميه يعلى بن أمية وسلمة بْنِ أُمَيَّةَ قَالَا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَعَنَا صَاحِبٌ لَنَا فَقَاتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَضَّ الرَّجُلُ ذِرَاعَهُ فَجَذَبَهَا مِنْ فِيهِ، فَطَرَحَ ثَنِيَّتَهُ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلتمس العقل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ينطلق أحدكم لأخيه فيعضه عضيض الفحل، ثم يأتي يطب الْعَقْلَ لَا عَقْلَ لَهُ) فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ لَمْ يَضْمَنْ، فَكَانَ بِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَا دُونَهَا أَجْدَرُ، وَلِأَنَّ تَرْكَ يَدِهِ فِي فِيهِ حَتَّى يَزْجُرَهُ بِالْقَوْلِ اسْتِصْحَابُ أَلَمٍ وَزِيَادَةُ ضَرَرٍ فَلَمْ يَلْزَمِ الصَّبْرُ عَلَيْهِ رِفْقًا بِالْعَاضِّ في زجره ووعظه. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ عَضَّهُ كَانَ لَهُ فَكُّ لَحْيَيْهِ بِيَدِهِ الأخرى فإن عض قفاه فلم تنله يداه كان له أن ينزع رَأْسَهُ مِنْ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَهُ التحامل عليه برأسه إلى ورائه ومصعداً ومنحدراً وإن غلبه ضبطاً بِفِيهِ كَانَ لَهُ ضَرْبُ فِيهِ بِيَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ فَإِنْ بَعَجَ بَطْنَهُ بِسِكِّينٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ بِيَدِهِ أَوْ ضَرَبَهُ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ ضمن ورفع إِلَى عُمَرَ بْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 456 الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَحْتَطِبُ فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَرَمَتْهُ بِفِهْرٍ أَوْ صخر فَقَتَلَتْهُ فَقَالَ عُمَرُ هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ وَاللَّهِ لا يودي أبداً) . قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ إِذَا عَضَّ قَفَاهُ فَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى خَلَاصِهِ مِنْهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا وصفه الشافعي في الترتيب أن يبدأ ببدنه فِي فَكِّ لَحْيَيْهِ، فَإِنْ تَخَلَّص بِذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهُ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ بِيَدِهِ فَلَهُ التَّحَامُلُ عَلَيْهِ بِرَأْسِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ لَمْ يتجاوزه، فإن تجاوز ضمن، فإن لم يتخلص منه نتر قفاه ولم يضمن أسنانه إن ذهبت، فإن تجاوزه ضمن، وإن لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ بَعْجِ بَطْنِهِ أَوْ فَقْءِ عَيْنِهِ، وَلَا يَضْمَنُ أَقْرَبَهُمَا وَيَضْمَنُ أَبْعَدَهُمَا: إِلَّا أَنْ لَا يَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَبْعَدِهِمَا وَأَغْلَظِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ قَتْلَهُ، وَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ها هنا أنه إن بعج بطنه أو فقء عَيْنَهُ ضَمِنَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الترتيب في القدرة على خلاصة بغير فقء ولا بعج، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ إِلَّا بِالْبَعْجِ وَالْفَقْءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَصْلٌ مستمر فلو قتله واختلف ولي القاتل والمقتول فَقَالَ الْقَاتِلُ: قَتَلْتُهُ دَفْعًا عَنِّي لِأَنِّي لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَقَالَ وَلِيُّهُ: بَلْ كُنْتَ قَادِرًا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فَتَعَدَّيْتَ بِقَتْلِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِمَا ادَّعَاهُ سُمِعَتْ وَلَمْ يَضْمَنِ النَّفْسَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الولي والقاتل ضامن للنفس وكذلك الرَّجُلُ إِذَا رَاوَدَ جَارِيَةً عَلَى نَفْسِهَا أَوْ راود غلاما على نفسه فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يَضْمَنَاهُ لِحَدِيثِ عُمَرَ، وَلَوْ قَدَرَا عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ ضَمِنَاهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ وَجَدْتُهُ عَلَى امرأتي فقد أقر بالقود وادعى فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً قُتِلَ قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فقال عليه الصلاة والسلام " نعم) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ مَعَ امرأته رجلاً يزني بها أو مع بنته أَوْ أُخْتِهِ أَوْ مَعَ ابْنِهِ يَلُوطُ بِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ الرَّكَانَةَ وَهُوَ الَّذِي لَا يَغَارُ عَلَى أَهْلِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ فليغر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 457 وَلِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله تعالى وحق نفسه في أهله وحق امْرَأَتِهِ إِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَمْ يَسَعْهُ إِضَاعَةُ هذه الحقوق بالكف والإمساك، فأما إن كان وَجَدَهُ يَزْنِي بِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا وَيَكُفَّهُ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً تَفَرَّدَ الْمَنْعُ بِهِ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مطاوعة توجه المنع إليهما وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ مَحَارِمِ الله تعالى وَحِفْظِ حُقُوقِهِ وَالْكَفِّ عَنْ مَعَاصِيهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَاهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ أَنَّ فَرْضَهُ فِي أَهْلِهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَفِي غَيْرِ أَهْلِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الدفع نظر حال الرجل الزَّانِي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قد أَوْلَجَ فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَمَا قُلْنَا فِي دَفْعِهِ عَنْ طَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وينظر فإن لم يكن قد وقع عليهما فَفِي الدَّفْعِ أَنَاةٌ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا تَعَجَّلَ الدَّفْعُ وَتَغَلَّظَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْلَجَ جَازَ أن يبدأ في دفعه بالقتل ولا يترتب عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهِ مُوَاقِعًا لَهُ بِالزِّنَا لَا يَسْتَدْرِكُ بالأناة فجاز لأجلها أن يعجل القتل. روي أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنني وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا فَلَمْ أَقْتُلْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَتَلْتُهُ يَعْنِي الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَتْلُ دَفْعٍ فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ حَدٍّ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ دُونَ السُّلْطَانِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَفَرُّدِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ. وَالثَّانِي: لِاخْتِصَاصِهِ فِيهِ بِحَقِّ نَفْسِهِ فِي إِفْسَادِ فِرَاشِهِ عَلَيْهِ فِي الزِّنَا بِزَوْجَتِهِ. فَعَلَى هذا يجوز فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَتُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَتُجْلَدُ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ؛ لِأَنَّهُ حد زنا كَالْمَرْأَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَيُقْتَلُ فِي الْحَالَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَتْلَهُ حَدًّا أَغْلَظُ مِنْ قَتْلِهِ دَفْعًا، وَيَجُوزُ لِتَغْلِيظِ حَالِهِ أَنْ يُقْتَلَ دَفْعًا فَجَازَ أَنْ يُقْتَلَ حَدًّا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 458 وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي إِبَاحَتِهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْفِي. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ وأنكر وليه ذلك وادعى قتله لغير سَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا بَرِئَ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا أُحْلِفَ الْوَلِيُّ وأقيد من القاتل؛ لأنه مقر بالقتل ومدع سقوط القود. وروي أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أو لَا حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَالَ: " لَا حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَا) ، يَعْنِي شَاهِدًا عَلَيْكَ، وَمَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ سُقُوطِ الْقَوَدِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ له ابن خيري، وجد مع امرأته رجلاً فقتله وقتلها، فَرُفِعَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأُشْكِلَ عَلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لِيَسْأَلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ هَذَا بِأَرْضِنَا، عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرْنِي، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عَلِىٌّ: يَرْضَوْنَ بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُونَ عَلَيْنَا إِنْ لم ما يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ فَلْيُضْرَبْ عَلَى رُمَّتِهِ قَوَدًا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ فَلْتُبْذَلْ رُمَّتُهُ لِلْقَوَدِ اسْتِسْلَامًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُكَلِّفْ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَيِّنَةِ وَأَهْدَرَ الدَّمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خرج في الجهاد وَخَلَفَ زَوْجَتَهُ وَأَخَاهُ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يَهُودِيٌّ فَمَرَّ الْأَخُ بِبَابِ أَخِيهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَسَمِعَ منها كلام اليهودي وهو ينشد: (وأشعث الْإِسْلَامُ مِنِّي ... خَلَوْتُ بِعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ) (أَبِيتُ على ترائبها وتمسي ... على جرداء لاحقة الخزام) (كَأَنَّ مَوَاضِعَ الرَّبَلَاتِ مِنْهَا ... فِئَامٌ يَنْهَضُونَ إِلَى فئام) فدخل الدار فوجده معها فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَأَهْدَرَ دَمَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اشْتِهَارَ الْحَالِ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَغْنَى عَنِ الْبَيِّنَةِ الْخَاصَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى طَلَبِ الْوَلِيِّ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ سَقَطَ لُزُومُهَا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 459 (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ تَطَلَّعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ ثُقْبٍ فَطَعَنَهُ بِعُودٍ أَوْ رَمَاهُ بِحَصَاةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهَا فذهبت عينه فهي هدر وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَنْظُرُ إِلَى بَيْتِهِ مِنْ جحر وبيده مدرى يحك به رأسه فقال عليه الصلاة والسلام " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لِي أَوْ تَنْظُرُنِي لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل الْبَصَرِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنَازِلَ سَاتِرَةٌ لعورات أهلها يحرم انتهاكها بالنظر إلى من فيها، فإذا تطلع رجل على مَنْزِلِ رَجُلٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا تَطَلَّعَ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ أَوْ غَيْرَ سَاتِرٍ لَهَا، فَإِنْ كَانَ سَاتِرًا لِأَبْصَارِ الْمَارَّةِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِنْ ثُقْبٍ فِي بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَائِطٍ أَوْ شُبَّاكٍ ضَيِّقِ الْأَعْيُنِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَرْمِيَ عَيْنَ الْمُتَطَلِّعِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَلَا يُفْضِيَ إِلَى تَلَفِ نَفْسِهِ كَالْحَصَاةِ وَالْعُودِ اللَّطِيفِ وَالْمِدْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِسَهْمٍ وَلَا أَنْ يَطْعَنَهُ بِرُمْحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى الدِّمَاغِ فَتَتْلَفُ بِهِ النَّفْسُ، وَالْمَقْصُودُ كف العين من النَّظَرِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَلَفَ النَّفْسِ، فَإِنْ فَعَلَ ذلك ضمن نفسه ولا يضمن بإفقاء عَيْنه، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ اسْتَبَاحَ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ أَوْ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَجُمْهُورِ البصريين أن يَسْتَبِيحَهُ بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَإِنِ ابْتَدَأَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ ضَمِنَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي تَرْتِيبِ الدَّفْعِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ بِابْتِدَاءِ التَّطَلُّعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فِي صَوْلِ الْفَحْلِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَمُوَافِقًا لِنَزْعِ الْيَدِ الْمَعْضُوضَةِ إِذَا سَقَطَ بِهَا أَسْنَانُ الْعَاضِّ ابْتِدَاءً واختلف في مذهب أبي حنيفة من الْوَجْهَيْنِ فَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْوَجْهَ الأول أنه لا يجوز أن يبدأ بفقء إِلَّا بَعْدَ زَجْرِهِ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنِ ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ احْتِجَاجًا بِأَنَّ دخول الدار أَغْلَظُ مِنَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ، فَلَوْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْتَبِحْ أَنْ يَبْتَدِئَ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فكان بأن لا يستبيحه بالتطلع أولى وحكى عنه الطحاوي. والوجه الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالتَّطَلُّعِ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ العين وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَيَجْعَلُونَهُ خِلَافًا مَعَ أَبي حَنِيفَةَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 460 فِي الْمُتَطَلِّعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله للرجل: " لو أعلم أنك تنظرني لطعنت بها فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ لِتَغْلِيظِ حرمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى حُرْمَةِ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِشَرْعٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بتعليله كقوله: " إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) وَقَدْ رُوِيَ بِمَا هُوَ عَامُّ الْحُكْمِ لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: لو أن امرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ) وَهَذَا نَصٌّ، فَإِنْ قيل: فهذا خبر واحد مخالف الْأُصُولَ، فَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهِ. قِيلَ: الْأُصُولُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النُّصُوصِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِهَا النَّصُّ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُلْحَقُ بِأَصْلٍ فِي هَدْرِ أَسْنَانِ الْعَاضِّ بِابْتِدَاءِ نَزْعِ الْيَدِ مِنْ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من اطلع من صيرة بَابٍ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ هَدَرٌ) . قَالَ أَبُو عبيد: الصير الشق. فأما توجيه الْأَوَّلِ بِأَنَّ دَاخِلَ الدَّارِ لَا يُبْتَدَأُ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِفَقْئِهَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْمُتَطَلِّعِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ سَقَطَ الْحُكْمُ في تفضيل الأعضاء كالجنايات يلزم فيها دية لأعضاء إذا فضلت وَلَا يَلْزَمُ فِي الْقَتْلِ دِيَاتُهَا وَإِنْ بَطَلَتْ. (فَصْلٌ) وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ وَالْكُوَّةِ الْوَاسِعَةِ وَالشُّبَّاكِ الْوَاسِعِ الْأَعْيُنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى اجْتِيَازِهِ مَارًّا، لَا يقف عليه، فلا إنكار عليه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 461 وَلَوْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِتَارَ عَنِ الْأَبْصَارِ لغلق بَابَهُ، وَسَدَّ كُوَّتَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقِفَ الْمُتَطَلِّعُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَدِيمَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَهُ رَمْيُهُ وَفَقْءُ عَيْنِهِ كَالْمُتَطَلِّعِ مِمَّا يَسْتُرُ أَبْصَارَ الْمَارَّةِ لِلتَّعَدِّي بِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُ وَلَا فَقْءُ عَيْنِهِ، وَهُوَ ضَامِنٌ إِنْ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إِلَيْهِ بِفَتْحِ بَابِهِ، وَلَوْ أراد أن يستتر لغلقه، وَيَصِيرُ كَالْوَاقِفِ عَلَيْهِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ وَقَفَ الْمُتَطَلِّعُ فِي حَرِيمِ الدَّارِ كَانَ لِصَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ في باحة الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْوُقُوفِ، ويمنعه من النظر وباحة الطريق وسطه، وفي حيث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ بَاحَةُ الطَّرِيقِ وَلَكِنْ لَهُنَّ حُجْرَتَاهُ، وَبَاحَتُهُ وَسَطُهُ، وَحُجْرَتَاهُ جَانِبَاهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَظْرِ التَّطَلُّعِ وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ فَالْحَظْرُ عَامٌّ وَالرَّمْيُ خَاصٌّ فَيَحْرُمُ التطلع على المناسبين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَجَانِبِ،؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، أَوْ كَانَ مَعَ حُرْمَتِهِ عَلَى حَلَالِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِذِي بَصَرٍ أَنْ يَرَاهُ وَأَمَّا الرَّمْيُ فَخَاصٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَطَلِّعِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِنْ وَالِدَيْهِ الَّذَيْن لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِمْ قِصَاصٌ فِي جِنَايَةٍ وَلَا حَدٌّ فِي قَذْفٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهُمْ، وَلَا فقؤهم، لأنه نوع حد فسقط عنه كَالْقَذْفِ، فَإِنْ رَمَاهُمْ وَفَقَأَهُمْ ضَمِنَ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرًا بِحَالِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّطَلُّعِ عَلَيْهِ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ فَهِيَ شُبْهَةٌ لَهُ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مناسبية وَذَوِي رَحِمِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ، وَبَنِي الْأَخْوَالِ. فَهُمْ فِي حَظْرِ التطلع كَالْأَجَانِبِ فِي إِبَاحَةِ رَمْيِهِمْ، وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ رَجُلًا، أَوِ امْرَأَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِي تَحْرِيمِ التَّطَلُّعِ، وَرَمْيِ الْمُتَطَلِّعِ، وَإِنْ كَانَ تَطَلُّعُ الرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ، وَتَطَلُّعُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَخَفَّ حَظْرًا مِنْ تَطَلُّعِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَتَطَلُّعِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَكِنْ لو كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 462 التَّطَلُّعُ عَلَى دَارٍ لَا سَاكِنَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْمَى الْمُتَطَلِّعُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا مَتَاعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِارْتِفَاعِ الْعَوْرَةِ. فَإِنْ رُمِيَ الْمُتَطَلِّعُ ضَمِنَهُ رَامِيهِ وَهَكَذَا الْأَعْمَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَى إِذَا تَطَلَّعَ عَلَى الْمَنَازِلِ المسكونة، لأنه لا ينهتك بِتَطَلُّعِهِ عَوْرَةٌ فَإِنْ رُمِيَ ضَمِنَهُ الرَّامِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَطَلِّعُ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ الذين يجري بينهم الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ، وَالْحَدُّ فِي الْقَذْفِ، كَالْأَبْنَاءِ، وَالْبَنَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ، وَالْخَالَاتِ، فَفِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ وَفَقْءِ أَعْيُنِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: لَهُ رَمْيُهُمْ كَالْأَجَانِبِ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ، وَالْحُدُودِ، بَيْنَهُمْ. روَى صَفْوَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ إِنِّي أَخْدُمُهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً قَالَ لَا، قَالَ فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لَهُ رَمْيُهُمْ، ويضمن إن رماهم كالآباء لقول الله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ فَشَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الزِّينَةِ الباطنة؛ لأن الزينة الظاهرة لا تحرم عَلَى الْأَجَانِبِ فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِيهَا وَإِنْ خَالَفَهُمْ فِي التَّلَذُّذِ بِهَا دونهم. (مسألة) قال الشافعي: " وَلَوْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ ضَرْبُهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ (قَالَ المزني) رحمه الله الَّذِي عُضَّ رَأْسُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ الْعَاضِّ أَوْلَى بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَسَاكِنَ حِمَى سَاكِنِيهَا سَوَاءٌ مَلَكُوهَا، أَوِ اسْتَأْجَرُوهَا وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا سَاتِرَةٌ لِعَوْرَاتِهِمْ وَلِحُرَمِهِمْ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَجْنَبِيٌّ، أَوْ مُنَاسِبٌ، لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا، أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وَقَرَأَ ابْنُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 463 عَبَّاسٍ " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا) فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا مَعَ مَالِكِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ الاستئذان، ولكن عليه إذا أَرَادَ الدُّخُولَ أَنْ يُشْعِرَ بِدُخُولِهِ، بِالنَّحْنَحَةِ، وَشِدَّةِ الوطئ، وَتَثْقِيلِ الْخُطُوَاتِ لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ، وَيَفْتَرِقَ الْمُجْتَمِعَانِ. وَالْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ ذُو الْمَحْرَمِ سَاكِنًا فِيهَا، فَيَنْظُرُ فِي الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ مُغَلَّقًا، لَمْ يَجُزِ الدُّخُولُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ وَانْتِظَارِ الْإِذْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِئْذَانُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذنٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى عَوْرَةٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يلتزم الِاسْتِئْذَانُ وَيَلْزَمُ الْإِشْعَارُ بِالدُّخُولِ بِالنَّحْنَحَةِ وَالْحَرَكَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيت أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم} [النور: 61] الآية ففرق الله تعالى بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْإِبَاحَةِ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الدُّخُولِ بِإِذْنٍ، وَغَيْرِ إِذْنٍ، فَدَخَلَهَا مَنْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِفَقْءِ الْعَيْنِ أَمْ لَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَيَسْتَحِقُّ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِنْ خَرَجَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَوْلِ تَجَاوَزَهُ إِلَى الدَّفْعِ، وَالْجَرِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الضَّرْبِ بِالْعَصَا، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ تَجَاوَزَهُ إِلَى الْجَرْحِ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِالْقَتْلِ فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَطَالِبِ النَّفْسِ وَالْمَالِ يَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِأَقْرَبِ ما يمكن إلى أن تنتهي غايته إلى القتل، فإن وُجِدَ هَذَا الدَّاخِلُ قَتِيلًا فِي الدَّارِ فَادَّعَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ دَارِهِ، وَتَوَصُلًا إِلَى إِخْرَاجِهِ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ وجده مع امْرَأَتِهِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ. وأُقِيدَ مِنْهُ، فَلَوْ أقام صاحب الدار بينته أنه دخل عليه بسيف مشهور، أو قوس موتور، أو رهب مَخْرُوط، نُظِرَ فِي الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أُكْمِلَتِ الشَّهَادَةُ بِأَنْ قَالُوا: وَأَرَادَهُ بِذَلِكَ: سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ. وإن لم يقولوا له ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَوَدُ والدية؛ لأن الظاهر من هذه الحال تشهد بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، فَقُبِلَ بِهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ فِيهِ، وَلَا تُوجِبُ سُقُوطَ الدِّيَةِ، لِاحْتِمَالِ دُخُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَرَبٍ مِنْ طَلَبٍ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 464 بِسَيْفٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، وَقَوْسٍ غَيْرِ مَوْتُورٍ، لَمْ يسقط بها قود، ولا دية. والله أعلم. (فَصْلٌ) وَإِذَا الْتَقَى رَجُلَانِ أَوْ زَحِفَانِ فَتَقَاتَلَا ظُلْمًا عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نفس الآخر وماله فَكُلُّ قَاتِلٍ مِنْهُمَا ظَالِمٌ، وَكُلُّ مَقْتُولٍ مِنْهُمَا مَظْلُومٌ يُقَادُ مِنْ قَاتِلِهِ وَيَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الظُّلْمِ قَبْلَ الْقَتْلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَدِّي بِالْقِتَالِ وَمُخْتَلِفَيْنِ بَعْدَ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ الْقَاتِلُ ظَالِمًا وَالْمَقْتُولُ مَظْلُومًا؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ صَارَ بِالْقَتْلِ مُتَعَيِّنًا فِي الْقَاتِلِ دُونَ الْمَقْتُولِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُحْمَلُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا التقى المسلمان بسيفهما فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) يَعْنِي لِظُلْمِهِمَا بِالْقِتَالِ ثُمَّ صَارَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ ظُلْمًا بَالْقَتْلِ فَصَارَ وَعِيدُهُ أَغْلَظَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا كَلَامُ الْمُزَنِيِّ فَقَدْ أَصَابَ فِي جَوَابِهِ وَوَهِمَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَأْوِيلِهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 465 (باب الضمان على البهائم) قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى عليه السلام أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَمَا افسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها (قال الشافعي) رحمه الله: والضمان عَلَى الْبَهَائِمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أَفْسَدَتْ مِنَ الزَّرْعِ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ أَهْلُهَا وَمَا أَفْسَدَتْ بِالنَّهَارِ لَمْ يَضْمَنُوهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ على جنايات البهائم المضمونة على أربابها بعد ما تَقَدَّمَ مِنْ جِنَايَاتِ الْآدَمِيِّينَ الْمَضْمُونَةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا، وهي مسألة الكتاب، فتعدل من مراعيها إلى زروع ترعاها، وأشجار تفسدها، أو تفسد ثمرها، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَرْبَابُهَا فَيَضْمَنُوا مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ إِذَا كَانَتْ مَعَ صَاحِبِهَا مَنْسُوبٌ إليه، وإذا لم يكن معها منصوب إِلَيْهَا، كَالْكَلْبِ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أَكَلَ مَا صَادَهُ، وَإِذَا اسْتُرْسِلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَنْفَرِدَ الْبَهَائِمُ عَنْ أَرْبَابِهَا، وَلَا يَكُونُوا مَعَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا فِيمَا لَا يَسْتَبِيحُونَ رَعْيَهُ، أَوْ فِيمَا يَضِيقُ عَنْ كفاياتهم، كحريم الأنهار وطرق الضباع فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْسَبَ أَرْبَابُهَا إِلَى التَّفْرِيطِ لِإِرْسَالِهِمْ لَهَا نَهَارًا فِي مَوَاتٍ يَتَّسِعُ لَهَا وَحَبْسِهَا لَيْلًا في مراحها، وعطنها فذهب الشافعي أنه لا ضمان عليهم في مارعته نَهَارًا، وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا رَعَتْهُ لَيْلًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 466 وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ الَّذِي سَوَّى فِيهِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ عَنْهُ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْهُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِيهِمَا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) . وَرُوِيَ " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) . وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، وَالْجُبَارُ: الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُضْمَنُ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ ضَمَانُهُ نَهَارًا سَقَطَ ضَمَانُهُ لَيْلًا كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ لَيْلًا وَجَبَ ضَمَانُهُ نَهَارًا، كالْغُصُوبِ طَرْدًا وَالْوَدَائِعِ عَكْسًا. وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَيْلًا وَسُقُوطِهِ نَهَارًا، سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79] وَفِي الْحَرْثِ الَّذِي حَكَمَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلاً قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِلَفْظِ الْحَرْثِ. وَالثَّانِي: أنه كرم وقعت فيه الْغَنَمُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي النقل. {إذا نفشت فيه غنم القوم} [الأنبياء: 78] والنفش رَعْيُ اللَّيْلِ وَالْهَمْلُ: رَعْيُ النَّهَارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي رَعْيِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يَعْنِي: حُكْمَ دَاوُدَ وَحُكْمَ سُلَيْمَانَ، وَالَّذِي حَكَمَ به داود على ما ورد به النَّقْلُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَنَمَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عِوَضًا عَنْ فساده وكان سليمان عليه السلام حاضر الحكمة فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهَا وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، لِيُعَمِّرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاسْتَرْجَعَ غَنَمَهُ، فَصَوَّبَ الله تعالى حُكْمَ سُلَيْمَانَ وَبَيَّنَ خَطَأَ دَاوُدَ فَقَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] فَرَدَّ دَاوُدُ حُكْمَهُ، وَأَمْضَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِي وُجُوبِ ذلك الضمان لَيْلًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 467 والثاني: معناه إن خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعِلْمٍ أَفْرَدَهُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا، وَعِلْمًا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ نَقَضَ دَاوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُمْضِهِ، حَتَّى بَانَ لَهُ صَوَابُ مَا حَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ فَعَدَلَ إِلَيْهِ، وَحَكَمَ بِهِ وَهَذَا جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّبَ قَضَاءَ سُلَيْمَانَ فَصَارَ نَصًّا وَحُكْمُ مَا خَالَفَ النَّصَّ مَرْدُودٌ. وَالدَّلِيلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ والنهار وفي سُقُوطِ الضَّمَانِ، نَصٌّ صَرِيحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَهُ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى صِفَةٍ تقتضي انتفاء عِنْدَ عَدَمِهَا، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ، بِنَصٍّ صَرِيحٍ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ المتقدم في صدر الكتاب رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فَإِنْ قِيلَ: حَرَامُ بْنُ سَعْدٍ لَا صُحْبَةَ لَهُ فَكَانَ مُرْسَلًا. قِيلَ: قَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُسْنَدًا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، فَأَفْسَدَتْ فيه فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَمَا أفسدت المواشي بالليل فهو ضمان على أهلها " فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُسْنَدًا فَتَأَكَّدَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِاللَّيْلِ، وَسُقُوطِهِ بِالنَّهَارِ لَا تأويل فيه بصرفه عَنْ ظَاهِرِ نَصِّهِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوَاشِيَ وَالزُّرُوعَ مَرْصَدَانِ لِطَلَبِ الْفَضْلِ فِيهِمَا، وَاسْتِمْدَادِ الرِّزْقِ مِنْهُمَا، وَالْفَضْلُ فِي الْمَوَاشِي بِإِرْسَالِهَا نَهَارًا، فِي مَرَاعِيهَا فَسَقَطَ حِفْظُهَا فِيهِ، وَالْفَضْلُ فِي الزُّرُوعِ، بِعَمَلِ أَهْلِهَا نَهَارًا، فِيهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ، فَلَزِمَ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فِيهِ حِفْظُهَا فِي أَفْنِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَسَقَطَ فِيهِ عَنْ أَرْبَابِ الزروع حفظها لا يوائهما فِيهِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَهْلِهَا فِي النَّهَارِ، دُونَ اللَّيْلِ، وَحِفْظُ الْمَوَاشِي عَلَى أَهْلِهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 468 بِاللَّيْلِ، دُونَ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ صَارَ رَعْيُ النَّهَارِ هَدَرًا لِوُجُوبِ الْحِفْظِ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الزُّرُوعِ، ورعي الليل مضموناً بالوجوب، للحفظ فِيهِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ أَنَّ النَّهَارَ زَمَانٌ لَا يُنْسَبُ أرباب المواشي فيه إِلَى التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُمْ ضَمَانُ ما أفسدته قياساً على غير الزروع. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، أَنَّ اللَّيْلَ زَمَانٌ، يُنْسَبُ أرباب المواشي فيه إلى التفريط؛ فوجب أن يلزمهم الضمان مَا أَفْسَدَتْ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهَا بَهَائِمُ أَفْسَدَتْ مَالًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ مُعْتَبَرًا بِجِهَةِ التَّفْرِيطِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الزُّرُوعِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَأَمَّا جَوَابُ مَنْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ لِقَوْلِهِ " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ " جرح العجماء) ، وَالْجَرْحُ لَا يَكُونُ فِي رَعْيِ الزُّرُوعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ النَّهَارِ فَالْمَعْنَى فِي النَّهَارِ عَدَمُ التَّفْرِيطِ، وَفِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ، فَافْتَرَقَا، وأما جواب من أوجب الضمان لقوله: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ بِأَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَعْيِ اللَّيْلِ، فَالْمَعْنَى فِي اللَّيْلِ وُجُودُ التَّفْرِيطِ وَفِي النَّهَارِ عَدَمُهُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذكرنَا مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي النَّهَارِ، وَوُجُوبِهِ فِي اللَّيْلِ فَتَكَاثَرَتِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ، حَتَّى عَجَزَ أَرْبَابُ الزُّرُوعِ عَنْ حِفْظِهَا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الزُّرُوعِ تَقْصِيرٌ فِي الْحِفْظِ. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي؛ تَفْرِيطٌ فِي الْحِفْظِ. وَعَلَى هَذَا لو أحرز أرباب المواشي مواشيهم في الليل، فَغَلَبَتْهُمْ، وَنَفَرَتْ فَرَعَتْ فِي اللَّيْلِ زَرْعًا، فَفِي وجوب الضمان وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي تَفْرِيطٌ. وَالثَّانِي: يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أرباب الزروع تقصير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 469 (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ هِرٌّ فَأَكَلَتْ حَمَامَ قَوْمٍ، أَوْ أَفْسَدَتْ طَعَامَهُمْ، أَوْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضربين: أحدهما: أن يكون الكلب والهر ضَعِيفَيْنِ غَيْرَ ضَارِيَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَهُمَا حِفْظُهُمَا ليلاً ولا نهاراً، فلا يجب عليهم ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. والضرب الثاني: أن يكون الهر قوياً ضارباً، وَالْكَلْبُ شَدِيدًا عَقُورًا، فَعَلَى أَرْبَابِهِمَا حِفْظُهُمَا فِي اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَفْسَدَاهُ لَيْلًا، وَنَهَارًا، فَيَسْتَوِي فِيهِمَا حُكْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ الْمَوَاشِي فِي ضَمَانِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السُّنَّةُ الَّتِي فَرَّقَتْ فِي الْمَوَاشِي بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَطْلَقَتْ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي حُكْمَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالثَّانِي: الْعُرْفُ، وَالْعَادَةُ، فِي رَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ، وَحَبْسِهَا فِي اللَّيْلِ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْهِرِّ وَالْكَلْبِ، بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " وَالْوَجْهُ الثَّانِي إِنْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا فَمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ فِيهَا أَوْ ذَنَبِهَا مِنْ نَفْسٍ أَوْ جُرْحٍ فَهُوَ ضَامِنٌ له لأن عليه منعها في تلك الحال من كل ما أتلفت به أحداً وكذلك إن كان سائقا أو قائداً وكذلك الإبل المقطورة بالبعير الذي هو عليه لأنه قائد لها وكذلك الإبل يسوقها ولا يجوز إلا ضمان ما أصابت الدابة تحت الرجل ولا يضمن إلا ما حملها عليه فوطئته فأما من ضمن عن يدها ولم يضمن عن رجلها فهذا تحكم وأما مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أن " الرجل جبار) فهو خطأ لأن الحفاظ لم يحفظوه هكذا) . قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَمَانِ الْبَهَائِمِ أَنْ تَكُونَ سَائِرَةً وَلَا تَكُونُ رَاعِيَةً وَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا صَاحِبُهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا. فَإِنْ كَانَ مَعَهَا صاحبها ضمن جميع ما أتلفته برأسها ويدها ورجلها وذنبها سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا. أَوْ قَائِدًا، أَوْ سَائِقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ سَائِقًا ضَمِنَ جميع ذلك كله، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ قَائِدًا، أَوْ رَاكِبًا ضَمِنَ ما أتلفته برأسها، ويدها، ولم يضمن ما أتلفته برجلها، وذنبها، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 470 اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، أَوْ قَائِدًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا إلا رأسها ويدها فضمن مَا تَلِفَ بِهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا رِجْلَهَا، وَذَنَبَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ السَّائِقُ حِفْظَ جَمِيعِهِ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِجَمِيعِهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا بَهِيمَةٌ مَعَهَا صَاحِبُهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِجِنَايَتِهَا كَالسَّائِقِ؛ وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يَضْمَنُهَا سَائِقُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا راكبها، وقائدها، كالجناية برأسها ويده. فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه ضعيف عنه أصحاب الحديث قد أَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: " الرِّجْلُ جُبَارٌ) عَلَى مَعْنَى " ذِي الرِّجْلِ جُبَارٌ) كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ) مَعْنَاهُ فِي ذِي خُفٍّ، وَذِي حَافِرٍ، وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: " الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ) وَهُوَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا. وَأَمَّا الجواب عن قولهم: إن راكبها وقائدها لا يقدر على حفظ يدها وَذَنَبِهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاكِبَهَا وَقَائِدَهَا أضبط بها وَأَقْدَرُ عَلَى تَصَرُّفِهَا بِاخْتِيَارٍ مِنْ سَائِقِهَا؛ فَكَانَ أَوْلَى بِالضَّمَانِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَأْسَهَا وَيَدَهَا فِي حَقِّ سَائِقِهَا كَرِجْلِهَا وَذَنَبِهَا فِي حَقِّ قَائِدِهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً. (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي رَبْطِهَا وَحِفْظِهَا فَاسْتَرْسَلَتْ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتَلَفَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا، لِأَنَّ مَا حَدَثَ بِتَفْرِيطِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يقصر صاحبها بعد ربطها وضبطها، ويسترسل فتتلف مالاً، أو إنساناً فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنْ لَا ضَمَانَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الْحِفْظِ فَكَانَ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 471 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ خَفِيٍّ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اصْطِدَامِ السَّفِينَتَيْنِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَفِي وجوب الضمان قولان. (مسألة) قال الشافعي: " ولو أنه اوقفها فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِفَهَا فِيهِ ضَمِنَ وَلَوْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ وُقُوفَ الدَّابَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِنْ وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ التَّعَدِّي، وَإِنْ وَقَفَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ بِوَقْفِهَا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنِ الْمَالِكِ، فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا لَا يَضْمَنُ إِذَا وَقَفَهَا فِي مِلْكِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقِفَهَا فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْسَبَ إِلَى التَّفْرِيطِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ شَغِبَةً. وَإِمَّا أَنْ يَقِفَهَا فِي وَسَطِ طَرِيقٍ فَسِيحَةٍ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَتْ لِتَعَدِّيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَى تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَهَا بِفِنَاءِ دَارِهِ فِي طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ وَالدَّابَّةُ غَيْرُ شَغِبَةٍ، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ بِفِنَاءِ داره هل يضمن ما تلف بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَلَوْ مَرَّ بِهَذِهِ الدَّابَّةِ الواقفة من تحتها وبعج بطنها حتى نفرت، وأتلفت، ضمن الذي بعجها مَا أَتْلَفَتْهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَضْمَنْهُ وَاقِفُهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ بِمُبَاشَرَةٍ يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ السَّبَبِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا مَرَّتْ بَهِيمَةٌ لِرَجُلٍ بِجَوْهَرَةٍ لِآخَرَ، فَابْتَلَعَتْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا فَيَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ، لِأَنَّ فِعْلَ البهيمة مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شَاةً أَوْ بَعِيرًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ شاة يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيرًا ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ العادة في البعير أن تضبط، وَفِي الشَّاةِ أَنْ تُرْسَلَ وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ضَمَانِ الزَّرْعِ وَسُقُوطِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ صَاحِبُهَا فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 472 لَا يَضْمَنُ الْجَوْهَرَةَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَهَارًا، ويضمنها أن كان ليلاً كالزروع، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِخِلَافِ الزَّرْعِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رَعْيَ الزَّرْعِ مَأْلُوفٌ، فَلَزِمَ حِفْظُهُ مِنْهَا، وَابْتِلَاعَ الْجَوْهَرَةِ غَيْرُ مَأْلُوفٍ فَلَمْ يَلْزَمْ حِفْظُهَا مِنْهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضامنها؛ فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ ذَبْحَ الْبَهِيمَةِ لِيَسْتَرْجِعَ جَوْهَرَتَهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبَهِيمَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَأْكُولَةً، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غير مأكولة؛ لم تذبح، وغرم صَاحِبُهَا، قِيمَةَ الْجَوْهَرَةِ، فَإِنْ دُفِعَتِ الْقِيمَةُ، ثُمَّ مَاتْتِ الْبَهِيمَةُ، وَأُخْرِجَتِ الْجَوْهَرَةُ مِنْ جَوْفِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْلِكُهَا صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعَادُ إِلَى صاحبها وتسترجع قيمة البهمية، لِأَنَّهَا عَيْنُ مَالِهِ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِالِابْتِلَاعِ ضمن صاحب البهيمة قدر نقصها، فإن كَانَتِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً فَفِي ذَبْحِهَا لِاسْتِرْجَاعِ الْجَوْهَرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ لِأَجْلِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَصَّلُ إِلَى رَدِّهَا بِوَجْهٍ مُبَاحٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُذْبَحُ وَتَكُونُ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَدْخَلَتِ الْبَهِيمَةُ رَأْسَهَا فِي إِنَاءٍ لِرَجُلٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ خَلَاصُهَا إِلَّا بِذَبْحِهَا، أَوْ كَسْرِ الْإِنَاءِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يكون صاحب البهيمة غير متعد لوضعها في حقه وصاحب الإناء متعد لوضعه فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَالْإِنَاءُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِتَعَدِّي صَاحِبِهِ؛ فَيُكْسَرُ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ، وَيَكُونُ مَا لَا يُمْكِنُ خَلَاصُ الْبَهِيمَةِ، إِلَّا بِكَسْرِهِ فَكَسْرُهُ هَدَرٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَضْمُونًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ مُتَعَدِّيًا وَصَاحِبُ الْإِنَاءِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ؛ فَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ لِتَعَدِّيهِ بِهَا وَيُنْظَرُ فِي الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كُسِرَ الْإِنَاءُ لِاسْتِخْلَاصِهَا، وَضَمِنَهُ صَاحِبُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَيُسْتَخْلَصُ الْإِنَاءُ. وَالثَّانِي: يُكْسَرُ الْإِنَاءُ وَيُضْمَنُ لِصَاحِبِهِ كَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدِّيًا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ البهيمة أخص؛ لأن لها فعلاً اختص بزيادة التعدي، فيكون كَمَا لَوْ تَعَدَّى صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ صَاحِبُ الْإِنَاءِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أضرب: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 473 أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْإِنَاءِ، وَيَكُونُ إِنَاؤُهُ هَدَرًا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِالْإِنَاءِ، وَلَا يَعْلَمَ صَاحِبُ الْإِنَاءِ بِالْبَهِيمَةِ، فَيَخْتَصُّ الْحِفْظُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، وَيَكُونُ الْإِنَاءُ مَضْمُونًا كَالْقِسْمِ الثَّانِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ؛ فَيَصِيرُ الْحِفْظُ عَلَيْهِمَا، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ أَخَصَّ لِزِيَادَةِ فِعْلِهَا كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْآخَرِ، فَفِي ضَمَانِ الْإِنَاءِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اختلاف الوجهين من ضمان البهيمة إذا وقفت بفناء داره، فأتلفت. أحد الوجهين: أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ، فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَسْرِهِ لِخَلَاصِ الْبَهِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْبَهِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ؛ لَمْ تُذْبَحْ وَكُسِرَ الْإِنَاءُ لِخَلَاصِهَا وَضُمِنَ، وَإِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَفِي ذَبْحِهَا وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى. (مسألة) قال الشافعي: " ولو جعل في داره كلبا عقوراً أو حبالة فَدَخَلَ إِنْسَانٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (قال المزني) وسواء عندي أذن له في الدخول أو لم يأذن له) . قال الماوردي: فقد مضت مثل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي دَارِهِ، فَإِذَا رَبَطَ فِي دَارِهِ سَبُعًا، أَوْ كَلْبًا عَقُورًا، أَوْ نَصَبَ فِيهَا أُحْبُولَةً، أَوْ شَرَكًا فَدَخَلَ إِلَيْهَا مَنْ هَلَكَ بِهَا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، فَنَفْسُهُ هَدَرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالدُّخُولِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يكرهه رب الدار على الدخول فيها فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِتَعَدِّيهِ بِالْإِكْرَاهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّصِلَ الْإِكْرَاهُ بِالتَّلَفِ، فَفِي اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مستصحب الحكم إلى التَّلَفِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُكْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِهِ فَيَكُونُ كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ وَلَا يكره فإن علم الدَّاخِلُ بِالْحَالِ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُضِيئًا وَالدَّاخِلُ بصيراً، أو كان التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، ونفس الداخل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 474 هدر، وإن لم يعلمه بالحال، وكان الموضع مظلماً، أو كانت الدَّاخِلُ ضَرِيرًا، فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالسَّبَبِ، وَلَا مُبَاشِرٍ لِلتَّلَفِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَخَرَجَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ سَمَّ طَعَامًا، وَأُذِنَ فِي أَكْلِهِ، لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ؛ لِمَا يَخْفَى تَلَفُهُ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي دَارِهِ، أَوْ سَجَّرَ بِهَا تَنُّورًا، فَطَارَ مِنْ شَرَرِ النَّارِ مَا أَتْلَفَ، وَأَحْرَقَ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غير متعد، وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ قَالَ: " النَّارُ جُبَارٌ) وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِبَاحَةُ النَّارِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَبَسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ له قِيمَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَدَهَا فِي حَقِّهِ، فَتَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَغْرَمْ مُوقِدُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ، وَأَمَّا إِذَا أَحْرَقَ بِهَا حَشِيشًا فِي أَرْضِهِ، فَتَعَدَّتِ النَّارُ إِلَى زَرْعِ جَارِهِ، فَأَحْرَقَتْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَرْعُ الْجَارِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِحَشِيشِ صَاحِبِ النَّارِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ التَّنُّورِ مَا أَطَارَتْهُ الرِّيحُ مِنْ شَرَرِ نَارِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ النَّابِتُ مُتَّصِلًا بِالْحَشِيشِ الْمَحْرُوقِ فَيَنْظُرُ فِي صِفَةِ الرِّيحِ وَقْتَ إِلْقَاءِ النَّارِ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ جِهَةِ الزَّرْعِ بِهُبُوبِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ هُبُوبُهَا إِلَى جِهَةِ الزَّرْعِ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يجب؛ لأن من طبع النار أن تسري إِلَى جِهَةِ الرِّيحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ هُبُوبَ الرِّيحِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ) وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَأَفْسَدَهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَرْسَلَهُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ حَبْسِ الزِّيَادَةِ لِطُغْيَانِ الْمَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَبْسِهِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 475 أَحَدُهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ الْمَاءِ أَنْ يَجْرِيَ وَيَفِيضَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْجَارَ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بحظيرة تصد عنه، والله أعلم بالصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 476 بسم الله الرحمن الرحيم ( كتاب السير من خمسة كتب: الجزية، والحكم في أهل الكتاب، وإملاء على كتاب الواقدي وإملاء على غزوة بدر، وإملاء على كتاب اختلاف أبي حنيفة والأوزاعي) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَى لِنُبُوَّتِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَبَعَثَهُ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، حِينَ وَهَتِ الْأَدْيَانُ، وَعُبِدَتِ الْأَوْثَانُ، وَغَلَبَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ، وَعَمَّ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ؛ لِيَخْتِمَ بِهِ رُسُلَهُ، وَيُوَضِّحَ بِهِ سُبُلَهُ، وَيَسْتَكْمِلَ بِهِ دِينَهُ، وَيَحْسِمَ بِهِ مِنَ الْفَسَادِ، مَا عَمَّ، وَمِنَ الْبَاطِلِ مَا تم، فاختاره من بيت اشتهر فِيهِمْ مَبَادِئُ طَاعَتِهِ، وَقَوَاعِدُ عِبَادَتِهِ، بِالْبَيْتِ الَّذِي جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَالْحَجِّ الَّذِي جَعَلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ رُكْنًا، لِيَكُونُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِتَدَيُّنٍ سَهْلٍ تَسْهُلُ بِهِ إِجَابَتُهُمْ، وَلَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَلِكٍ قَدِ اسْتَحْكَمَ مُعْتَقَدَهُمْ، فَتَصْعُبَ إِجَابَتُهُمْ لُطْفًا، تَسْهُلُ بِهِ الْمَبَادِئُ، وَأَحْكَمَ بِهِ الْعَوَاقِبَ، فَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ التَّأْسِيسِ لِنُبُوَّتِهِ أَنْ كَثَّرَ اللَّهُ قُرَيْشًا بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأَعَزَّهُمْ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَجَعَلَهُمْ دَيَّانِينَ الْعَرَبِ، وَوُلَاةَ الْحَرَمِ، فَكَانَ أَوَّلَ من هجس في نفسه بظهور النُّبُوَّةِ مِنْهُمْ " كَعْبُ بْنُ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ " فَكَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَهُوَ سَمَّاهُ لِجَمْعِ النَّاسِ فِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ يُسَمَّى عُرُوبَةَ، وَكَانَ يَخْطُبُ فِيهِ عَلَى قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ بَعْدَ خُطْبَتِهِ حَرَمُكُمْ عَظِّمُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ بِنَاءٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ بِهِ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ فِيهِ ذَا سَمْعٍ، وبصر، ويد، ورجل، لتنصبت تنصب الجمل، ول رقلت إِرْقَالَ الْفَحْلِ، ثُمَّ يَقُولُ: (يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فحواء دعوته ... إذا قريش تبقي الحق خذلانا) وَهَذَا مِنْ فِطَرِ الْإِلْهَامِ، وَمَخَائِلِ الْعُقُولِ. ثُمَّ انْتَقَلَتِ الرِّئَاسَةُ بَعْدَهُ إِلَى " قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ " فَجَدَّدَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا بعد إبراهيم، وإسماعيل، وبن دَارَ النَّدْوَةِ لِلتَّحَاكُمِ، وَالتَّشَاجُرِ، وَالتَّشَاوُرِ، وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا يُخَيِّمُونَ فِي جِبَالِهَا ثُمَّ بَنَى الْقَوْمُ دُورَهُمْ بِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 فَزَادَتِ الرِّئَاسَةُ، وَقَوِيَ تَأْسِيسُ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أُمِّرَتْ قُرَيْشٌ وَكَثُرَتْ حَتَّى قَصَدَهُمْ صَاحِبُ الْفِيلِ، لِهَتْكِ الْحَرَمِ، وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَسَبْيِ قُرَيْشٍ، فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَقَالَ: (يَا رَبِّ لَا نَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... ) (يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا ... ) (إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... ) (امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا ... ) فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا حكاه في كتابه العزيز {طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول} فَهَلَكُوا جَمِيعًا فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: (أَنْتِ مَنَعْتَ الحبش والأقيالا ... ) (وَقَدْ رَعَوْا بِمَكَّةَ الْأَجْبَالَا ... ) (وَقَدْ خَشِينَا مِنْهُمُ الْقَتَالَا ... ) (وَكُلَّ أَمْرٍ لَهُمْ مِعْضَالَا ... ) 0 - (حَمْدًا وَشُكْرًا، لك ذا الجلالا ... ) قد شهد بِذَلِكَ تَأْسِيسُ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَبَقِيَ تَعْيِينُهَا فِي الْمَخْصُوصِ بِهَا مِنْهُمْ. (فَصْلٌ) : وَكَانَ مِنْ مَبَادِئِ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِجَابَةُ دَعْوَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى هَلَكَ أَصْحَابُ الْفِيلِ، تَخْصِيصًا لَهُ بِالْكَرَامَةِ حِينَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ، فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، حَتَّى مَرَّ بِكَاهِنَةٍ مَنْ كَوَاهِنِ الْعَرَبِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ " فَرَأَتِ الْكَاهِنَةُ نُورَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ، وَلَكَ مِائَةُ نَاقَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَقَالَ: (أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهُ ... وَالْحِلُّ لَا حِلَّ فَاسْتَبِينُهُ) (فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ ... يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهْ) وَمَضَى لِشَأْنِهِ، وَنَكَحَ آمِنَةَ، فَعَلَقَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَادَ فَمَرَّ بِالْكَاهِنَةِ فَعَرَضَ لَهَا، فَلَمْ تَرَ ذَلِكَ النُّورَ، فَقَالَتْ: قَدْ كَانَ هَذَا مَرَّةً فَالْيَوْمَ لَا، فَأُرْسِلَتْ مَثَلًا قَالَ: ثُمَّ وُلِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْفِيلِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ، فِي جِوَاءِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكُوا عَلَيْهِ لَيْلَةَ وِلَادَتِهِ، جَفْنَةً كَبِيرَةً، فَانْفَلَقَتْ عَنْهُ فَلْقَتَيْنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مَبَادِئِ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ، فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأُمُّهُ حَامِلٌ بِهِ فَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَكَانَ يَرَى مِنْ شَأْنِهِ مَا يَسُرُّهُ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ مِنْ وِلَادَتِهِ، فَوَصَّى بِهِ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ لِأُمِّهِ، فَخَرَجَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ بِتِجَارَةٍ له، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ؛ فَنَزَلَ تَحْتَ صَوْمَعَةٍ بِالشَّامِ عِنْدَ بُصْرَى وَكَانَ في الصومعة راهب يقال له " بحيرا " قَدْ قَرَأَ كُتُبَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَرَفَ مَا فيها من الأنباء والإمارات، فرأى بحيرا مِنْ صَوْمَعَتِهِ غَمَامَةً قَدْ أَظَلَّتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الشَّمْسِ فَنَزَلَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ جَسَدَهُ، حَتَّى رَأَى خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فِي مَنَامِهِ، وَيَقَظَتِهِ فَأَخْبَرَهُ، بِهَا، فَوَافَقَتْ مَا عِنْدَهُ فِي الْكُتُبِ وَسَأَلَ أَبَا طَالِبٍ عَنْهُ فَقَالَ: ابْنِي فَقَالَ: كَلَّا، قَالَ ابْنُ أَخِي: مَاتَ أَبُوهُ، وَهُوَ حَمْلٌ قَالَ: صَدَقْتَ، وَعَمِلَ لَهُمْ، وَلِمَنْ مَعَهُمْ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ طَعَامًا لَمْ يَكُنْ يَعْمَلُهُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ: احْفَظُوا هَذَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، وَسَيُبْعَثُ إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَإِنْ عَرَفُوهُ مَعَكُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا كَيْفَ عَرَفْتَ هَذَا قَالَ بِالسَّحَابَةِ الَّتِي أَظَلَّتْهُ، وَرَأَيْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ، مِثْلَ التُّفَّاحَةِ عَلَى النَّعْتِ الْمَذْكُورِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ بُشْرَى نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ لِصِغَرِهِ غَيْرُ دَاعٍ إِلَيْهَا وَلَا مُتَأَهِّبٌ لَهَا (فَصْلٌ) ثُمَّ نَشَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قُرَيْشٍ عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَطَرِيقَةٍ وَأَشْرَفِ خُلُقٍ وَطَبِيعَةٍ وَأَصْدَقِ لِسَانٍ وَلَهْجَةٍ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ذَاتَ شَرَفٍ وَيَسَارٍ وَكَانَتْ لَهَا مَتَاجِرُ وَمُضَارِبَاتٌ فَلَمَّا عَرَفَتْ أَمَانَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصِدْقَ لَهْجَتِهِ أَبَضْعَتْهُ مَالًا يَتَّجِرُ لَهَا بِهِ إِلَى الشَّامِ مُضَارِبًا وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ مَوْلَاهَا " مَيْسَرَةَ " لِيَخْدِمَهُ فِي طَرِيقِهِ، فَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ تَحْتَ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، فَرَأَى الرَّاهِبُ مِنْ ظُهُورِ كَرَامَاتِ اللَّهِ مَا عَلِمَ، أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِنَبِيٍّ مُنْزَلٍ، وَقَالَ لِمَيْسَرَةَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فقال الرجل: مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ: وَكَانَ مَيْسَرَةُ يَرَاهُ إِذَا رَكِبَ تُظِلُّهُ غَمَامَةٌ تَقِيهِ حَرَّ الشَّمْسِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى " خَدِيجَةَ " قَصَّ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا حَدِيثَ الرَّاهِبِ، وَمَا شَاهَدَهُ مِنْ ظِلِّ الْغَمَامَةِ وَتَضَاعَفَ لَهَا رِبْحُ التجارة، فكانت هذه بشرى ثانية بِنُبُوَّتِهِ، فَرَغِبَتْ خَدِيجَةُ فِي نِكَاحِهِ وَكَانَ قَدْ خَطَبَهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ، فَامْتَنَعَتْ، وَسَفَرَ بَيْنَهُمَا فِي النكاح " ميسرة " وقيل مولاة مولدة [من مولدات مكة] وَخَافَتِ امْتِنَاعَ أَبِيهَا عَلَيْهِ؛ لِفَقْرِهِ، فَعَقَرَتْ لَهُ ذبيحة وألبسته حبرة، بطيب وعقير، وَعَقِيرٍ وَسَقَتْهُ خَمْرًا، حَتَّى سَكِرَ، وَحَضَرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ عَمُّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُضُورِ أَبِي طَالِبٍ مَعَهُ وَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا فَأَجَابَهُ، وَزَوَّجَهُ بِهَا، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَخَدِيجَةُ ابْنَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدَخَلَ بِهَا مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ خُوَيْلِدٌ وَصَحَا، رَأَى آثَارَ مَا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْعَقِيرُ، وَالْعَبِيرُ، وَالْحَبِيرُ؟ قِيلَ لَهُ: زَوَّجْتَ خَدِيجَةَ بِمُحَمَّدٍ قَالَ: مَا فَعَلْتُ: قِيلَ لَهُ قَبُحَ بِكَ هَذَا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، فَرَضِيَ، وَلِأَجْلِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ظهور الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 الْإِسْلَامِ " لَا يُرْفَعُ إِلَيَّ نِكَاحُ نَشْوَانَ إِلَّا أَجَزْتُهُ ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ كَفَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمُورَ دُنْيَاهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ اللُّطْفِ، وَوَلَدَتْ لَهُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ إِلَّا " إِبْرَاهِيمَ " فَكَانَ لَهُ مِنْهَا مِنَ الْبَنِينَ " الْقَاسِمُ " وَبِهِ كَانَ يُكْنَى، وَالظَّاهِرُ، وَالطَّيِّبُ، وَمِنَ الْبَنَاتِ " زَيْنَبُ " وَ " رُقَيَّةُ " وَ " أُمُّ كُلْثُومٍ " وَ " فَاطِمَةُ "، فَمَاتَ الْبَنُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَعَاشَ الْبَنَاتُ بَعْدَهَا، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَشَاوَرَتْ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَبِنَائِهَا، لِقِصَرِ سُمْكِهَا وَكَانَ فَوْقَ الْقَامَةِ، وَسِعَةِ حِيطَانِهَا وَأَرَادُوا تَعْلِيَتَهَا وَخَافُوا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَدْمِهَا وَكَانَ يَظْهَرُ فِيهَا حَيَّةٌ يَخَافُ النَّاسُ مِنْهَا، فَعَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ؛ فَسَقَطَ طائر فاختطفها فقالت قريش: إنا لنرجوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ أَلْقَى سَفِينَةً عَلَى سَاحِلِ " جُدَّةَ " لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ، فَهَدَمُوا الْكَعْبَةَ، وَبَنَوْهَا وَأَسْقَفُوهَا بِخَشَبِ السَّفِينَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ عَامِ الْفُجَّارِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الْحَجَرَ فِي الرُّكْنِ، تَنَازَعَتْ فِيهِ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ وَطَلَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ أَنْ تَتَوَلَّى وَضْعَهُ فَقَالَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ: وَكَانَ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا حِينَ خَافَ أَنْ يَقْتَتِلُوا عَلَيْهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ تَقَاضُوا إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: هَذَا " مُحَمَّدٌ " وَهُوَ الْأَمِينُ وَكَانَ يُسَمَّى قَبْلَ النُّبُوَّةِ " الْأَمِينَ " لِأَمَانَتِهِ وَعِفَّتِهِ، وَصِدْقِهِ، وَقَالُوا: قَدْ رَضِينَا بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ: ائْتُونِي ثَوْبًا فَأَتَوْهُ بِثَوْبٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَ وَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، وَقَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ وَارْفَعُوهُ جَمِيعًا فَفَعَلُوا فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَرُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، فَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ وَوُقُوعُ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنَ الْأَمَارَاتِ مَا يُحَدِّدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ دِينِهِ وَشَوَاهِدَ مَا يُؤْتِيهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ (فَصْلٌ) : ثُمَّ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُ نُبُوَّتِهِ انْتَشَرَ فِي الْأُمَمِ أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ نبيا في هذا الزمان، أن ظُهُورَهُ قَدْ آنَ فَكَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ لَهَا كِتَابٌ تَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهَا، وَكُلُّ أُمَّةٍ لَا كِتَابَ لَهَا تَرَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُنْذِرَةِ مَا تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِعُقُولِهَا. فَحُكِيَ أَنَّهُ كَانَ لِقُرَيْشٍ عِيدٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْفَرِدُ فِيهِ النِّسَاءُ عَنِ الرِّجَالِ فَاجْتَمَعْنَ فِيهِ فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ يَهُودِيٌّ وَفِيهِنَّ " خَدِيجَةُ " فَقَالَ لَهُنَّ: يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ يُوشِكُ أَنْ يُبْعَثَ فِيكُنَّ نَبِيٌّ، فَأَيَّتُكُنَّ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْضًا فَلْتَفْعَلْ. فَوَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ خَدِيجَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ عِجْلًا، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُقَسِّمَ لَنَا مِنْهُ إِذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا، مَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَنْفَذَ مِنْهُ، وذلك قبل الإسلام بشهر، وشيعه، يَقُولُ: يَا آلَ ذَرِيحٍ، أَمْرٌ نَجِيحٌ؛ وَرَجُلٌ يَصِيحُ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 وَرُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ صَنَمٍ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَهْرٍ فَنَحَرْنَا جَزُورًا فَسَمِعْنَا صَائِحًا يَصِيحُ: اسْمَعُوا إِلَى الْعَجَبِ ذَهَبَ اسْتِرَاقُ الْوَحْيِ لِنَبِيٍّ بِمَكَّةَ اسْمُهُ " أَحْمَدُ " مُهَاجِرٌ إِلَى يَثْرِبَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْخَارِجَةَ عَنِ الْعَادَاتِ تَوْطِئَةً لِلنُّبُوَّةِ، وَقَبُولِ رِسَالَتِهِ (فَصْلٌ) : وَلَمَّا دَنَا مَبْعَثُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلْوَةُ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَكَانَ يُؤْتَى بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ نُبُوَّتِهِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا، فَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَدَاوُدَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ إِسْرَافِيلَ بِنُبُوَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ سِنِينَ يَسْمَعُ حِسَّهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، وَيُعَلِّمُهُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثَةُ سِنِينَ، قَرَنَ لِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَوَّلِ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ " يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَرْضِ وَالْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَصَاحِبِهِ أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ هُوَ هُوَ، قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ فَوُزِنْتُ بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ، فَوَزَنَنِي بِمِائَةِ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ فَوَزَنَنِي فَرُجَحَتْهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْتَشِرُونَ عَلَيَّ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ قَالَ: فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَرَجَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شُقَّ بَطْنَهُ، فَشَقَّ بَطْنِي، ثُمَّ قَالَ: شُقَّ قَلْبَهُ فَشَقَّ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ، وَعَلَقَ الدَّمِ، ثُمَّ قَالَ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غسل الملاءة ثم دعى بِالسَّكِينَةِ كَأَنَّهَا وَجْهُ هِرَّةٍ فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي ثُمَّ قَالَ: خِط بَطْنَهُ، فَخَاطَا بَطْنِي وَجَعْلَا الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَيَّا عَنِّي، فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً " فَكَانَ هَذَا مُقَدِّمَةَ نُبُوَّتِهِ وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ تَجِيءُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ " حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنَّهُ قَالَ فَغَتَّنِي غَتَّةً وَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ فَغَتَّنِي ثَانِيَةً، وَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1، 2] وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ تَعَارُضٌ يَمْنَعُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ فِي اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ حِرَاءٍ، وَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَحَدَّثَهَا مَا كَانَ، وَقَالَ لَهَا: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِي فَقَالَتْ: كَلَّا مَا كَانَ رَبُّكَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ، وَأَتَتْ خَدِيجَةُ إِلَى " وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ " وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا، وَخَرَجَ فِي طَلَبِ الدِّينِ وَتَنَصَّرَ وَقَرَأَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَسَمِعَ مَا فِي الْكُتُبِ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى موسى ولئن كنت صادقة فإن زوجك محمد نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيَلْقَيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً فَإِنَّهُ مَا بُعِثَ نَبِيٌّ، إِلَّا عُودِيَ، وَلَئِنْ عِشْتُ لَهُ لَأُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَأَنْصُرَنَّهُ نَصْرًا مُؤَزَّرًا فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَ الثَّانِيَةَ مِنْ أَحْوَالِ نُبُوَّتِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ فِيهَا بِإِنْذَارٍ، وَلَا رِسَالَةٍ ثُمَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ لِخَدِيجَةَ: دَثِّرُونِي وصبوا علي ماء بارد، فَدَثَّرُوهُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وأنزل عليه: {يا أيها المدثر قم فأنذر} إِلَى قَوْلِهِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر] فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَ الثَّالِثَةَ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ، وَتَحَقَّقَتْ بِهَا رِسَالَتُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً في قول الأكثرين، وفي قول فريق ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ. قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَّلُ مَا تَلَقَّاهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: " ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ النُّبُوَّةُ " وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ اثْنَيْنٍ كَانَ، مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: كَانَ فِي الثَّانِي عَشَرَ من شهر رمضان، وقال أبو الخلد: كَانَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَدِيجَةَ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: لَهُ يَا ابْنَ عَمِّ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي أَتَاكَ إِذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قالت: فأخبرني به وإذا جاءك؛ فجاء لها جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهَا: يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي قَالَتْ: قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخْذِي الْيُسْرَى، فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: تَحَوَّلْ إِلَى فَخْذِي الْيُمْنَى فَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فِي حِجْرِي فَتَحَوَّلَ فِي حِجْرِهَا فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ، قَالَ: نَعَمْ فَتَحَسَّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ لَا فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ اثْبُتْ، وَأَبْشِرْ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ، وَآمَنَتْ بِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ (فَصْلٌ) : ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ مِنْهَا لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطُّهُورُ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَا تَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاتِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ عِبَادَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى خَدِيجَةَ فَتَوَضَّأَ لَهَا حَتَّى تَوَضَّأَتْ وَصَلَّى بِهَا كَمَا صَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ تَوَضَّأَ، وَصَلَّى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِنْذَارِ مَنْ يَأْمَنُهُ فَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ وَصَلَّى، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ وَقِيلَ: ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: (إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا) (خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا، وَأَعْدَلَهَا ... بعد النبي، وأوفاها بما حلا) (الثاني اثنين المحمود مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُسُلَا) وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يدعوا إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ تاجرا ذا خلق معروف وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حَسَنَ التَّآلُفِ لَهُمْ، وَكَانُوا يُكْثِرُونَ غِشْيَانَهُ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمَانُ بن عفان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف، وطلحة بن عبد اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَصَلَّوْا، فَصَارُوا مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ ثَمَانِيَةً أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَصَلَّى، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَصْلٌ) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الِاسْتِسْرَارِ بِدُعَائِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ وَقَدِ انْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ فِي قُرَيْشٍ، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ جَهْرًا، وَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] فَلَزِمَهُ الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَبْدَأَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214، 215] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّفَا فَهَتَفَ: يَا صَاحِبَاهُ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ حَتَّى ذَكَرَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ ثُمَّ قَامَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دُعَائِهِ لَهُمْ مُبَاعَدَةٌ لَهُ وَلَكِنْ رَدُّوا عَلَيْهِ بَعْضَ الرَّدِّ، حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ، وَتَظَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَمَنَعَ مِنْهُ وَقَامَ دُونَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ فَلَمَّا طَالَ هَذَا عَلَيْهِمُ، اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ عَابَ عَلَيْنَا دِينَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدَّا جَمِيلًا وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى دُعَائِهِ فَلَمَّا كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَاشْتَدَّ بِهِمْ عَادُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ ثَانِيَةً، وَقَالُوا: قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ ابْنَ أَخِيكَ، وَلَمْ تَنْهَهُ وَاسْتَكْفَفْنَاكَ فَلَمْ تَكُفَّهُ، وَأَنْتَ كَبِيرُنَا فَأَنْصِفْنَا مِنْهُ، وَمُرْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، حَتَّى نَدَعَهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النِّصْفَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ فَقَالَ: أَو عَمِّ أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا؟ قَالَ وَإِلَى مَا تَدْعُوهُمْ قَالَ: أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا هِيَ وأبيك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 لَنُعْطِيَنَّكَهَا، وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، قَالَ: تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَفَرُوا وَقَالُوا: لَا سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ فَقَالَ: لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدَيَّ مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا فَغَضِبُوا وَقَالُوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عجاب ثُمَّ قَالُوا وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6: 7] (فصل: [الهجرة إلى الحبشة] ) وَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يَنَالُ أَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دِفَاعِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا عَادِلًا إِلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا " فَهَاجَرَ إِلَيْهَا مَنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ، وَهِيَ أَوَّلُ هِجْرَةٍ هَاجَرَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْمَبْعَثِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ " رُقَيَّةُ " بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي جَمَاعَةٍ صَارُوا مَعَ الْمُتَقَدِّمِينَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ نَفْسًا، وَصَادَفُوا مِنَ النَّجَاشِيِّ مَا حَمِدُوهُ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقُرْآنِ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَقَوِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وقرأ عبد الله ين مَسْعُودٍ سُورَةَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْمَقَامِ جَهْرًا حَتَّى سَمِعَتْهَا قُرَيْشٌ، فَنَالُوهُ بِالْأَيْدِي، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ مَنْ يَدْخُلُ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَعَدُوا رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا، وَيُزَوِّجُوهُ مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيَكُونُوا تَحْتَ عَقِبِهِ وَيَكُفَّ عَنْ ذِكْرِ آلهتهم قالوا: فإنا لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً لَنَا وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ، أَنْ تَعْبُدَ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَنَعْبُدَ إِلَهَكَ سَنَةً فَقَالَ: " حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي بِهِ رَبِّي " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَكَفَّ عَنْ ذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 وَكَانَ يَتَمَنَّى مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُقَارِبَ قَوْمَهُ، وَيَحْرِصُ عَلَى صَلَاحِهِمْ، بِمَا وَجَدَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سُورَةَ " النَّجْمِ " فَقَرَأَهَا عَلَى قُرَيْشٍ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 1، 2] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَانْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا سَمِعُوهُ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِهِمْ، وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يستطيع السجود فأخذ بيده الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَسَجَدَ عَلَيْهَا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ مُتَقَارِبِينَ قَدْ سَرَّ الْمُشْرِكُونَ وَسَكَنَ الْمُسْلِمُونَ، وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ، مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَأَخَّرَ آخَرُونَ، وَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا صَنَعْتَ؟ لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ، فَحَزِنَ حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا كثيرا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا عَذَرَهُ فِيهِ فَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ بقوله: {ألكم الذكر وله الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعُوا النَّسْخَ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِنَا وَجَاءَ بِغَيْرِهِ فَازْدَادُوا شَرًّا وَشِدَّةً عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَقَدِمَ مَنْ عَادَ مَنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَعَرَفُوا قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ مَا نُسِخَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُسْتَخْفِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَهَا فِي جِوَارٍ، فَدَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جِوَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَدَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ جَعْفَرِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سِرًّا وَكَانَ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ نَفْسًا، ثُمَّ عَادُوا وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَّا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَإِنَّهُ أَقَامَ حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهَذِهِ هِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ (فَصْلٌ) : وَلَمَّا اسْتَقَرَّ نُفُورُ قُرَيْشٍ بَعْدَ سُورَةِ النَّجْمِ عَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه بأمرين: أحدهما: مراسلة النجاشي في من هاجر إليه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 وَالثَّانِي: تَحَالُفُهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا مُرَاسَلَةُ النَّجَاشِيِّ فَأَنْفَذُوا فِيهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَعَ هَدَايَا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ لِيُعْلِمُوهُ أَنَّ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَفْسَدُوا الْأَدْيَانَ وَرُبَّمَا أَفْسَدُوا دِينَكَ وَدِينَ قَوْمِكَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ وَفَلَحَتْ حُجَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ وَعَادَ عَمْرٌو وَهَلَكَ عُمَارَةُ وَأَمَّا تَحَالُفُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ قُرَيْشًا أَجْمَعَتْ رَأْيَهَا، وَتَعَاقَدَتْ عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَأَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ حِينَ أَقَامَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى نُصْرَةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَتَبُوا مَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَعَلَّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ جَمِيعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَعَاهَدَهُمْ عَلَى إِجْمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَدُخُولِ الشِّعْبِ، فَأَجَابُوا إِلَّا أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدُهُ فَإِنَّهُمُ انْحَازُوا عَنْهُمْ إِلَى قُرَيْشٍ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشِّعْبِ مَعَ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرِ بَنِي هاشم وبني المطلب مدة ثلاثة سِنِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ إِلَّا سِرًّا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَّا مُسْتَخْفِيًا إِلَى أَنْ بَدَأَ مِنْ قُرَيْشٍ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَكَلَمَّ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ ثُمَّ كَلَّمَ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ، ثُمَّ كَلَّمَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يُقَبِّحُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ قَبِيحَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَوَافَقُوهُ وَاجْتَمَعُوا مِنْ غَدٍ فِي نَادِي قُرَيْشٍ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ وَبَدَأَ بِالْكَلَامِ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ: فَتَكَلَّمَ زُهَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بِمِثْلِ كَلَامِ هُشَامٍ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ أُبْرِمَ بِلَيْلٍ، وَأُحْضِرَتِ الصَّحِيفَةُ مِنْ سَقْفِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ إِلَّا قَوْلَهُمْ: " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ " فَإِنَّهُ بَقِيَ وَشُلَّتْ يَدُ كَاتِبِهَا، وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ وَخَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى مَكَّةَ مُنْتَشِرِينَ فِيهَا كَمَا كَانُوا. (فَصْلٌ) : ثُمَّ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الشِّعْبِ عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَكْرُوهٌ حَتَّى مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَنَالَهُ الْأَذَى بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى نَثَرَ بَعْضُ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَرَأَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَبَكَتْ فَقَالَ: " لَا تَبْكِي فَإِنَّ اللَّهَ يَمْنَعُ أَبَاكِ " وَخَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ لِيَمْتَنِعَ، وَيَسْتَنْصِرَ ثقيف، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا عَمَدَ إِلَى سَادَاتِهَا وَهُمْ ثَلَاثَةُ أُخْوَةٍ عَبْدُ يَالِيلَ، وَمَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ فَكَلَّمَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 الْإِسْلَامِ وَإِلَى نُصْرَتِهِ فَرَدُّوهُ رَدًّا قَبِيحًا، وَأَغْرَوْا بِهِ عَبِيدَهُمْ، وَسُفَهَاءَهُمْ فَاتَّبَعُوهُ يَرْمُونَهُ بِالْأَحْجَارِ، حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ فَرَجَعُوا عَنْهُ وَمَالَ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، لِيَسْتَرْوِحَ مِمَّا نَالَهُ، فَرَآهُ عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، فَرَقَّا لَهُ بِالرَّحِمِ مِمَّا لَقِيَ، وَأَنْفَذَا إِلَيْهِ طَبَقَ عِنَبٍ مَعَ غُلَامٍ لَهُمَا نَصْرَانِيٍّ، يُقَالُ لَهُ " عَدَّاسٌ " فَلَمَّا مَدَّ يَدَهُ لِيَأْكُلَ مِنْهُ سَمَّى اللَّهَ فَاسْتَخْبَرَهُ " عَدَّاسٌ " عَنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ وَعَرَفَ نُبُوَّتَهُ، فَقَبَّلَ يَدَيْهِ، وَقَدَمَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ " عَدَّاسٌ " إِلَى عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، فَقَالَا لَهُ: رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ مَعَهُ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ مَعَنَا، قَالَ: لِأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَقَالَا: فَتَنَكَ عَنْ دِينِكَ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا صَارَ بِنَخْلَةِ الْيَمَامَةِ فَقَامَ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ، فَمَرَّ بِهِ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ قِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ الْيَمَنِ فَاسْتَمَعُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سَمِعُوا، فَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] . وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ وَقُرَيْشٌ عَلَى أَشَدِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، وَفِرَاقِ دِينِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ (فَصْلٌ) : فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَذَى بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَادَ مِنَ الطَّائِفِ غَيْرَ ظَافِرٍ مِنْهُمْ بِإِجَابَةٍ عَرَضَ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوهُ، ثُمَّ أَتَى كَلْبًا، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوهُ، ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ، فَكَانُوا أَقْبَحَ الْعَرَبِ رَدًّا لَهُ ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، فَقَالَ زَعِيمُهُمْ: إِنْ شَارَكَتْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ قَبِلْنَاكَ فَتَرَكَهُمْ، وَقَالَ: " الْأَمْرُ لِلَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْسِمَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابُوا إِلَيْهِ وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا يَهُودَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ، إِذَا قَاتَلُوهُمْ: لَنَا نَبِيٌّ يُبْعَثُ، وَنَحْنُ نَنْتَصِرُ بِهِ عَلَيْكُمْ فَوَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَلِذَلِكَ سَارَعُوا إِلَى الْإِجَابَةِ في دُعَائِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالُوا: نَقْدَمُ عَلَى قَوْمِنَا، وَنُخْبِرُهُمْ بِمَا دَخَلْنَا فِيهِ فَلَمَّا عَادُوا وَذَكَرُوا لَهُمْ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَافَى إِلَى الْمَوْسِمِ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ تسعة من الخزرج، وهو أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ، ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَلَقَوْا رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَيْعَةَ النِّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْحَرْبُ، قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ، أولادنا، ولا نأتي بهتان، نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيهِ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأُخِذْتُمْ بَعْدَهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَإِنْ سَتَرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا بَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، فَقَدِمَ مَعَهُمْ وَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَدَعَا الْأَنْصَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَ يُسْلِمُ عَلَى يَدِهِ قَوْمٌ بَعْدَ قَوْمٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُمَّا سَيِّدَا قَوْمِهِمَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَنْكَرَا ذَلِكَ حَتَّى قَرَأَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَيْهِمَا سُورَةَ الزُّخْرُفِ فَلَمَّا سَمِعَاهَا أَسْلَمَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَجَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَسْلَمَ جَمِيعُهُمْ، وَصَلَّى مُصْعَبٌ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَعَادَ مُصْعَبٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ لَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَسَرَّهُ وَحَكَى أَبُو عِيسَى قَالَ: سَمِعَتْ قُرَيْشٌ فِي اللَّيْلِ قَائِلًا عَلَى أَبِي قبيس يقول: (فإن يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحُ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ) فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنِ السَعْدَانِ؟ سَعْدُ بَكْرٍ، وَسَعْدُ تَمِيمٍ. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ سَمِعُوهُ يَقُولُ: (أَيَا سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجِينَ الْغَطَارِفِ) (أَجِيبَا عَلَى دَاعِي الْهُدَى، وَتَمَنَّيَا ... عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ) (فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلطَالِبِ الْهُدَى ... جِنَانٌ مِنَ الفردوس ذات رفارف) فلما أصبحوا قال سُفْيَانُ: هُمَا وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ (فَصْلٌ) : وَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَكَانَ فِيهِمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: لَا أَتْرُكُهَا وَرَاءَ ظَهْرِي. ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا فَعَادَ وَاسْتَقْبَلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَوَاعَدُوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العقبة في أوسط أيام التشريق فيأتوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي رِحَالِهِمْ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، لِمَوْعِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَضَرُوا شِعْبَ الْعَقَبَةِ وَوَافَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ فَأَوْقَفَ الْعَبَّاسَ عَلَى فَمِ الشِّعْبِ عَيْنًا لَهُ، وَأَوْقَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى فَمِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ عَيْنًا لَهُ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقُرْآنَ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ قَالَ لِلْعَبَّاسِ وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ: " خُذْ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ " وَكَانُوا أَخْوَالَهُ، لِأَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مِنَ الْخَزْرَجِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ وَقَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ مِمَّا تَمْنَعُوا مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَإِلَّا فَدَعُوهُ بَيْنَ قَوْمِهِ، وَفِي بَلَدِهِ، فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بَلْ نَمْنَعُهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا يَعْنِي الْيَهُودَ وَإِنَّا قَاطُعُوهَا فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم قال: " بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنْتُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْكُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ " فَأَقْبَلَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَقًّا وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُ الْيَوْمَ لَفِي حَرَمِ اللَّهِ، وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ تُخْرِجُوهُ إِلَيْكُمْ تَرْمِيكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَنْفُسُكُمْ قَدْ طَابَتْ بِالْقِتَالِ وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ فَادْعُوهُ وَإِلَّا فَمِنَ الْآنَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ عَلَيْنَا لِرَبِّكَ، وَلِنَفْسِكَ مَا تُرِيدُ: فَقَالَ: " أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي عَمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ " فَأَجَابُوهُ وَأَحْسَنُوا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِ اشْتَرَطْتَ لِرَبِّكِ، وَلِنَفْسِكَ، فَمَاذَا لَنَا إِذَا أَوْفَيْنَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَكُمْ عَلَى اللَّهِ الْوَفَاءُ بِالْجَنَّةِ " فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَدْ قَبِلْنَا مِنَ اللَّهِ مَا أَعْطَانَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا كَمَا اخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ لِلنُّقَبَاءِ: أَنْتُمْ عَلَى قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين، يعني ابْنَ مَرْيَمَ " قَالُوا نَعَمْ: فَبَايَعُوهُ عَلَى هَذَا وَكَانَ أَصْغَرَ مَنْ حَضَرَ سِنًّا أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ بَايَعَهُ، فَقَالَ قَوْمٌ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 وَقَالَ آخَرُونَ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَكَانَتْ هَذِهِ البيعة على حرب الأحمر والأسود والبيعة الأولة، بَيْعَةُ النِّسَاءِ عَلَى غَيْرِ حَرْبٍ، وَعَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى هَذَا (فَصْلٌ) : وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَيْعَةِ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَادَتِ الْفِتْنَةُ أَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ فِي فِتْنَةِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَاشْتَدَّ الْأَذَى بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا " فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَبَعْدَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ أَرْسَالًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ إِذْنَ رَبِّهِ، وَاسْتَأْذَنَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ فَاسْتَوْقَفَهُ وَأُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَيْنَ بَيْعَتَيِ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ قَالَ الزُّهْرِيُّ قَبْلَ هِجْرَتِهِ بِسَنَةٍ فَأَصْبَحَ وَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ فَازْدَادَ الْمُشْرِكُونَ تَكْذِيبًا وَأَسْرَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ: إِنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ صَادِقٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ وَوَصَفَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا رَأَى فِي طَرِيقِهِ فَكَانَ عَلَى مَا وَصَفَهُ وَاخْتُلِفَ فِي إِسْرَائِهِ هَلْ كَانَ بِجِسْمِهِ، أَوْ بِرُوحِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُسْرِيَ بِجِسْمِهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَمَا زَالَ جِسْمُهُ عِنْدِي، وَلَمَّا صَارَتِ الْمَدِينَةُ دَارَ هِجْرَةٍ وَصَارَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْصَارًا امْتَنَعَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَنْصُرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليهم فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا فِي أَمْرِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ لِكَثْرَةِ زِحَامِهِمْ فِيهِ يَوْمُ " الزَّحْمَةِ " فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، وَتَرَبَّصُوا بِهِ وَقَالَ آخَرُ: أَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَلَا عَلَيْكُمْ مَا أَصَابَهُ بَعْدَكُمْ وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَسْتُ أَرَى مَا ذَكَرْتُمْ رَأْيَ كَرِيمٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا، نَسِيبًا ويجتمعون عليه بأسيافهم، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه وَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ فِي قَبَائِلِهِمْ فَلَا يَقْدِرُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ جَمِيعِهِمْ، وَيَرْضَوْا بِالْعَقْلِ فَنَعْقِلُهُ لَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ لِيُثْبِتُوهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَتَفَرَّقُوا لِيَجْتَمِعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] فَعَلِمَ رَسُولُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَأَعْلَمَ أَبَا بَكْرٍ بِالْهِجْرَةِ وَقَدْ كَانَ أَعَدَّ لِلْهِجْرَةِ رَاحِلَتَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِي مَنَامِهِ، وَأَنْ يَتَّشِحَ بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا تَرَى مَنَامَهُ فِيهِ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّ وَدَائِعَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ فِي الظَّلَامِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لِخِدْمَتِهِمَا وَلِيَرُوحَ عَلَيْهِمَا بِغَنَمٍ يَرْعَاهَا لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ أَخْبَارِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَتَأْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِطَعَامٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ: " ارْتَدْ لَنَا دَلِيلًا مِنَ الْأَزْدِ فَإِنَّهُمْ أَوْفَى بِالْعَهْدِ " فَاسْتَأْجَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ، وَكَانَ مُشْرِكًا وَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَانَ خُرُوجُهُمَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فِي صَفَرٍ وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِ وَجَعَلُوا لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَمْرَاءَ فَفَاتَهُمْ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ بَكَى وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ " وَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَانَ قُدُومُهُ قَبْلَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ، فَنَزَلَ بِقُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي دَارِ كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ وَقِيلَ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ فَأَقَامَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَبَنَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ، وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، أَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِدَارٍ إِلَّا سَأَلَهُ أَهْلُهَا النُّزُولَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يَقُولُ: " خَلُّوا زِمَامَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ فَبَرَكَتْ على باب مسجده وهي يومئذ مريد لِيَتِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو وَكَانَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ فَنَزَلَ عَنْهَا وَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: " الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ " وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: ثَامِنُونِي بِهَذَا الْمِرْبَدِ؟ فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُ لَهُ ثَمَنًا فَبَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفْسِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مَسْجِدًا وَهُوَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة) وَأَقَامَ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ، وَهَاجَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَامَ فِيهَا بِرَدِّ الْوَدَائِعِ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ آخِرَ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ قَدْ تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاثة سِنِينَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ وَقِيلَ: ابْنَةُ سَبْعٍ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَهَا بَعْدَ خَدِيجَةَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ النَّقْلِ فِي مُدَّةِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمكة بعد النبوة فقال الأكثرون: ثلاث عشر سنة وقال آخرون عشرة سِنِينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قُرِنَ بِإِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ قُرِنَ بِجِبْرِيلَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ (فَصْلٌ) : وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَارُ هِجْرَتِهِ وَنَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ، لِيَزِيدَهُمْ أُلْفَةً، وَتَنَاصُرًا، ثُمَّ وَادَعَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْيَهُودِ لِتَسْتَقِرَّ بِهِمُ الدَّارُ، وإنهم أهل كتاب يرجوا مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَةَ بِإِظْهَارِ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ نُبُوَّتِهِ، فَخَانُوا الْأَمَانَةَ وَجَحَدُوا الصِّفَةَ، وَظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ، يُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي السِّرِّ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَكَانَ النِّفَاقُ فِي الشُّيُوخِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَحْدَاثِ إِلَّا وَاحِدٌ وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَصَارَ فِيهِمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَبُولِ الظَّاهِرِ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَإِنْكَارِ الْبَاطِنِ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَقَصَدَتْهُ الْيَهُودُ بِالْمَكْرِ، فَحَرَّضُوا بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَكَّرُوهُمْ تُرَاثَ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَخْتَلِفُوا فَيُنْقَضُ بِهِمْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَقَطَعَ اخْتِلَافَهُمْ وَعَادَتْ أُلْفَتُهُمْ وَهُوَ مع ذلك يدعوا إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ، فَكَانَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ فِي سَنَةِ مَقْدَمِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ هِجْرَتِهِ لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ فَبَلَغُوا سَيْفَ الْبَحْرِ وَاصْطَفَّوْا لِلْقِتَالِ، حَتَّى حَجَرَ بَيْنَهُمْ، مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ فَافْتَرَقُوا وَعَادَ حَمْزَةُ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ثُمَّ سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَقَدَ لَهُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِوَاءً فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَى سِتِّينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْجُحْفَةِ فَتَنَاوَشُوا، وَلَمْ يُسِلُّوا السُّيُوفَ وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ فِي الْإِسْلَامِ، وَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ثُمَّ سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مَنْ هِجْرَتِهِ عَقَدَ لَهُ لِوَاءً عَلَى عِشْرِينَ رَجُلًا، لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَفَاتَتْهُ فَكَانَتْ لَهُ فِي السَّنَةِ الأولة من هجرته هذه السرايا الثلاث الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 (فصل: [غزوة الابواء] ) ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَغَزَا فِيهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ، وَيُقَالُ وَدَّانُ وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ فِي صَفَرٍ لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ أَبْيَضَ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ، وَهُوَ صَفَرٌ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْهُ، زَوَّجَ عَلِيًّا بِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ هِجْرَتِهِ. [غَزْوَةُ بُوَاطٍ] ثُمَّ غَزَا الثَّانِيَةَ فِي رَبِيعٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ بُوَاطٍ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَعَهُ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَعَادَ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ( [غَزْوَةُ كُرْزِينٍ] ) ثُمَّ غَزَا غَزْوَتَهُ الثَّالِثَةَ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لِطَلَبِ كُرْزِينِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ قَدِ اسْتَاقَ سَرْحَ الْمَدِينَةِ فَطَلَبَهُ حَتَّى بَلَغَ بَدْرًا فَلَمْ يَلْقَهُ وَهِيَ بَدْرٌ الْأُولَى وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ( [غَزْوَةُ ذَاتِ الْعُشَيْرَةِ] ) وَغَزَا غَزْوَتَهُ الرَّابِعَةَ إِلَى ذَاتِ الْعُشَيْرَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رجلا يعتقبون ثلاثون بَعِيرًا، لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الشَّامِ فَبَلَغَ يَنْبُعَ وَقَدْ فَاتَتْهُ وَهِيَ الْعِيرُ الَّتِي عَادَتْ مِنَ الشَّامِ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَدْرٍ، وَكَانَتْ فِيهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 الْكُبْرَى، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَنَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيًّا أَبَا تُرَابٍ مَرَّ بِهِ وَقَدْ نَامَ وَسَفَّتِ الرِّيحُ عَلَيْهِ التُّرَابُ فَقَالَ: " قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَشْقَى النَاسِ أُحَيْمِرِ ثَمُودَ عَاقِرِ النَّاقَةِ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا فَخَضَبَ هَذِهِ يَعْنِي عَلَى رَأْسِكَ فَيَخْضِبُ لِحْيَتَهُ " ( [سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ] ) ثُمَّ سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جمادى الآخرة في اثني عشرة رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أن لا يقرأه إلا ببطن مكة وتعمل بِمَا فِيهِ فَلَمَّا حَصَلَ بِالْمَكَانِ قَرَأَهُ، وَإِذَا فِيهِ سِرْ إِلَى نَخْلَةٍ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ وَأَرْضٍ لِقُرَيْشٍ لِتَعْرِفَ أَخْبَارَهُمْ، وَتَأْتِيَنَا بِهَا وَلَا تَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَطَاعُوا وَرَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَارُوا، وَأَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا فَعَدَلَا فِي طَلَبِهِ، حَتَّى بَلَغَا بَنِي سُلَيْمٍ وَمَرَّتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ عَائِدَةً مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ خَمْرًا وَأُدُمًا، وَزَبِيبًا، وَمَعَهُ فِيهَا عَدَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَخْذُ الْعِيرِ وَكَانَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَهُمْ فِيهِ عَلَى شَكٍّ، ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَيْهَا، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ وَأُسِرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ وَغَنِمُوا الْعِيرَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَقِيلَ إِنَّهُمُ اقْتَسَمُوهَا، وَعَزَلُوا خُمْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَسْأَلُوا عَنْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْكَرُوا فِعْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ قَتْلٍ وَغَنِيمَةٍ فِي رَجَبٍ وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] . وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْكَعْبَةَ وَتَحَوَّلَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِهَا فَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا صَلَّى فِيهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: حُوِّلَتْ لِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي رَجَبٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ وَفِي هَذِهِ السنة فرضت زكاة االفطر. وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَفِيهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَهُوَ أَوَّلُ عِيدٍ صَلَّى فِيهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، لأنها كانت ركعتين فجعلت أربعا. (فصل) (غزوة بدر الكبرى) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غزوة بد ر الْكُبْرَى وَسَبَبُهَا: أَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ الَّتِي خَرَجَ بسببها إِلَى ذِي الْعُشَيْرَةِ فَفَاتَتْهُ، أَقْبَلَتْ عَائِدَةً مِنَ الشَّامِ، فِيهَا أَمْوَالُ قُرَيْشٍ وَعَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَأَنْفَذَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وسعيد بن زيد، ليعودوا بخبرها، فلما تأخر عَنْهُ، خَرَجَ بَعْدَهَا بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مَنْ هِجْرَتِهِ، وَعَسْكَرَ فِي بِئْرِ أَبِي عُتْبَةَ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى عَرَضَ أَصْحَابَهُ، وَكَانُوا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ حِينَ عَبَرَ النَّهْرَ لِقِتَالِ جَالُوتَ وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ ضَمَّ إِلَيْهِمْ فِي الْقَسْمِ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَصَارَتِ الرِّوَايَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ، لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ عَدَّ الثَّمَانِيَةَ فِيهِمْ، وَالْوَاقِدِيَّ لَمْ يَعُدَّهَا فِيهِمْ، وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. أَقَامَ لِمَرَضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، حَتَّى قُبِضَتْ قَبْلَ مَقْدَمِهِ مِنْ بَدْرٍ، وَطَلْحَةُ، وَسَعِيدٌ، أَنْفَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِاسْتِعْلَامِ حَالِ الْعِيرِ، وَخَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ خَلَّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ خَلَّفَهُ عَلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ رَدَّهُ مِنَ الرَّوْحَاءِ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عنهم، والحارث بْنُ الصِّمَّةِ أُسِرَ بِالرَّوْحَاءِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ كُسِرَ وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ اسْتَعْرَضَ أَصْحَابَهُ خَمْسَةً لِصِغَرِهِمْ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَكَانَ عِدَّةُ الْمُهَاجِرِينَ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا وعدة الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، ومنهم من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 الْأَوْسِ أَحَدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا وَالْبَاقُونَ مَنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ غَزَا فِيهَا الْأَنْصَارُ وَكَانَتْ إِبِلُهُمْ سَبْعِينَ بَعِيرًا، يَتَعَقَّبُ الثَّلَاثَةُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ، عَلَى بَعِيرٍ وَكَانَتِ الْخَيْلُ فَرَسَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو وَالْآخَرُ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصَاحِبَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ خُرُوجَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَخْذِ الْعِيرِ فَاسْتَنْفَرَ قُرَيْشًا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ فَخَرَجَتْ قَبَائِلُ قُرَيْشٍ كُلُّهَا إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَبَنُو زُهْرَةَ حُرِّضُوا فَلَمَّا نَجَتِ الْعِيرُ عَادُوا مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَكَانُوا مِائَةَ رَجُلٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ، وَلَمَّا فَاتَتِ الْعِيرُ، وَكَانَ خروج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَجْلِهَا، لَا لِلْقِتَالِ لِيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِمَالِهَا عَلَى الجهاد، ودعا رسول الله حِينَ خَرَجَ بِهِمْ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ، فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ " فَسَمِعَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ، فَمَا رَجَعَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا بِحِمْلٍ، أَوْ حِمْلَيْنِ وَاكْتَسَوْا، وَشَبِعُوا وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ قَدْ تَأَهَّبُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَعَادَ مَنْ كَانَ عَيْنًا عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرَ بِمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فِيهِمْ مِائَةُ فَارِسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَصْحَابِهِ: " هَذِهِ مَكَةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَانِي مَصَارِعَ الْقَوْمِ فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَا رَسُولَ اللَّهَ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بنو إسرائيل لموسى {اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ فَأَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الِاسْتِشَارَةَ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ الْأَنْصَارَ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ فَصَدَّقْنَاكَ، وَبَايَعْنَاكَ، عَلَى السَمْعِ وَالطَاعَةِ، فامضي لِمَ أَرَدْتَ فَوَاللَّهِ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ وَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى لَقِيَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ " وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: فَيَ الثَّامِنَ عَشَرَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ أَشْرَافُهُمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثَمَانِيَةٌ، وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَجَعَلَهَا الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 خَالِصَةً لِرَسُولِهِ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] . قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنَّا، وَجَعَلَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ، وَنَفَلَ بِالنَّفْلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَضِيقٍ، وَنَزَلَ عَلَى سِيرٍ فَقَسَمَهُ بِهَا، وَأُنْفِلَ فِيهَا سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَجَمَلَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ مُهْرِيًّا، يَغْزُو عَلَيْهِ، وَقُتِلَ بِهَا مِنَ الْأَسْرَى النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمَّا بَلَغَ عِرْقَ الظَّبْيَةِ، أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَقَالَ: مَنْ لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ قَالَ: النَّارُ، فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بن ثابت بن أبي الافقلح، وَسَارَ بِالْأَسْرَى، حَتَّى وَصَلَ الْمَدِينَةَ فَخَرَجَ أَهْلُهَا يُهَنِّئُونَهُ بِقُدُومِهِ وَدَخَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَتَلَقَّاهُ الْوَلَائِدُ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: (طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ ... وَجَبَ الشُكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ) وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:: " اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا " ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ، وَعَشِيرَتُكَ، فَاسْتَبْقِهِمْ، وَخُذِ الْفِدَاءَ مِنْهُمْ قُوَّةً، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُوا عَضُدًا، وَقَالَ عُمَرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ، وَهُمْ قَادَتُهُمْ، وَصَنَادِيدُهُمْ قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْكُفَّارِ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَخَلَ فَقَالَ أُنَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ أُنَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ الرِّجَالِ، حتى تكون ألين من اللين، وَلَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ، حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وَمِثْلَكَ مِثْلُ عِيسَى، قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَمِثْلَكَ يَا عُمَرُ، مِثْلُ نُوحٍ، قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] وَمِثْلَكَ مِثْلُ مُوسَى، قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88] ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَخُذُوا الْفِدَاءَ، فَفُودِيَ كُلُّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، إِلَى أَلْفَيْنِ، إِلَى أَلْفٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَكَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ كَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ فِدَاؤُهُ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ غِلْمَانِ الْمَدِينَةِ الْخَطَّ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِيمَنْ عُلِّمَ، وَمَنَّ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَفِيهِمْ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ نَوْفَلًا وَعَقِيلًا فَقَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ وَأُخْرِجْتُ كَرْهًا، وَلَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 مَالَ لِي، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا فَأَجْرُكَ عَلَى اللَّهِ، وَمَالُكَ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ دَفَعْتَهُ لَهَا يَوْمَ خُرُوجِكَ، وَوَصَّيْتَ بِهِ لِأَوْلَادِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُنَا بِكَ بَيَانًا " وَفَدَا نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخِيهِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً وَرِقًا، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ خَدِيجَةَ فَلِذَلِكَ تَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ رُقَيَّةُ زَوْجَةَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَهُمَا: انْزِلَا عَنِ ابْنَتَيْ مُحَمَّدٍ نُزَوِّجْكُمَا بِمَنْ أَحْبَبْتُمَا مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ عَنْ رُقَيَّةَ وَتَزَوَّجَتْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَامْتَنَعَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ مِنَ النُّزُولِ عَنْ زَيْنَبَ، فَلَمَّا أُسِرَ أَنْفَذَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ قِلَادَةً لَهَا جَهَّزَتْهَا خَدِيجَةُ بِهَا فَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَرَفَهَا فَرَقَّ لَهَا، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَمُنُّوا عَلَى أَسِيرِهَا فَمُنُّوا عَلَيْهِ " وَشَرَطَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا، وَأَنْفَذَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى حَمَلَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَسْلَمَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ زَيْنَبَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنْ صَحَّتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ كَانَ الْإِسْلَامُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: " بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ " أَيْ لِأَجْلِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَوْلُهُ: " وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا " أَيْ لَمْ يُحْدِثْ، صَدَاقًا زَائِدًا فَلَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ، عَلَيْهِ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن في الأرض} [الآية الأنفال: 67] وَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ بِمَكَّةَ، لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْ بَدْرٍ بَعْدَ سَبْعِ لَيَالٍ مِنْ نَعْيِ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْغَرْسَةِ وَتُرِكَ لَيْلَتَيْنِ حَتَّى أُنْتِنَ هَرَبًا مَنْ عَدُوَّاهَا، وَخَضَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد بدر جميع المنافقين واليهود. (فصل: [غزوة بني قينقاع] ) وغزا غَزْوَةَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ سَبَبُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ وَادَعَهُمْ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَادَعَهُ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَنَبَذُوهُ، وَأَظْهَرُوا الْبُغْضَ، وَالْحَسَدَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] فَصَارَ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ النِّصْفِ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ بَدْرٍ بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 وَسَارَ إِلَيْهِمْ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ، وَكَانُوا أَشْجَعَ الْيَهُودِ، فَحَاصَرَهُمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَى أَنَّ لَهُ أَمْوَالَهُمْ وَلَهُمُ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ، فَكُتِّفُوا وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، فَكَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بن سَلُولَ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، وَقَالَ: أَحْسِنْ فِيهِمْ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَرَاجَعَهُ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَوَالِيَّ أَرْبَعُمِائَةِ حاسرا، وَثَلَاثُمِائَةِ دَارِعٍ، قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ، وَمِنَ الْأُسُودِ نَحْصُدُهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا آمَنُ وَأَخَافُ الدَّوَائِرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَلُّوهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وسلاحهم، وكانوا صاغة ولم يكن لهم حرب وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ إِلَى " أَذَرِعَاتِ " الشَّامِ فَسَارَ بِهِمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، حَتَّى بَلَغَ " دِبَابَ " وَأَخَذَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُمْسَ غَنَائِمِهِمْ وَصَفِيَّةَ، وَسَهْمَهُ وَقَسَّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خَمَّسَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد بدر. (فصل: [غزوة السويق] ) ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ السَّوِيقِ، وَسَبَبُهَا: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، لِمَصْرَعِ بَدْرٍ الرَّهْنَ وَالنِّسَاءَ، حَتَّى يَثْأَرَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَخَرَجَ فِي مِائَةِ رَجُلٍ، وَقَالَ شِعْرًا يُحَرِّضُ فِيهِ قُرَيْشًا (كُرُّوا عَلَى يَثْرِبَ وَجَمْعِهِمْ ... فَإِنَّ مَا جَمَعُوا لَكُمْ نَفَلُ ... ) (إِنْ يَكُ يَوْمُ الْقَلِيبِ كَانَ لَهُمْ ... فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ لَكُمْ دُوَلُ ... ) (آلَيْتُ لَا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَلَا ... يَمَسُّ رَأْسِي وَجِسْمِيَ الْغُسُلُ ... ) (حَتَّى تُبِيرُوا قَبَائِلَ الْأَوْسِ وَالْ ... خَزْرَجِ إِنَّ الْفُؤَادَ مُشْتَعِلُ ... ) وَسَارَ بِهِمْ حَتَّى جَاءَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ لَيْلًا لِيَسْأَلَهُمْ عَنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَفَتَحَ لَهُ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ فَفَتَحَ لَهُمْ فَقَرَاهُمْ وَسَقَاهُمْ خَمْرًا، وَعَرَّفَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سَأَلُوهُ، وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ فِي السَّحَرِ وَمَرَّ بِالْعُرَيْضِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَقَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَجِيرًا لَهُ وَرَأَى أَنَّ يَمِينَهُ قَدْ حُلَّتْ، وَعَادَ هَارِبًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَأَصْحَابُهُ، وَوَجَدُوهُمْ قَدْ أَلْقَوْا جُرَبَ السَّوِيقِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَكَانَتْ أَزْوَادَهُمْ، فَسُمِّيَتْ " غَزْوَةُ السَّوِيقِ " وعاد رسول لاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابِهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَخْرَجِهِ، فَصَلَّى عِيدَ الْأَضْحَى وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى وَضَحَّى بِشَاةٍ وَقِيلَ: بِشَاتَيْنِ، وَضَحَّى مَعَهُ ذَوُو الْيَسَارِ قَالَ جَابِرٌ: ضَحَّيْنَا فِي بَنِي سَلِمَةَ بِسَبْعَ عَشْرَةَ أُضْحِيَّةً، وَهُوَ أَوَّلُ عِيدٍ ضَحَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَرَجَ فِيهِ إِلَى الْمُصَلَّى لِلصَّلَاةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَعَاقِلَ، وَالدِّيَاتِ، فَكَانَ مُعَلِّقًا بِسَيْفِهِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَقَائِعِهَا فَكَانَتْ غزوات الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيها بنفسه سبعا وأسرى سرية واحدة (فصل: [غزوة قرقرة الكدر] ) ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَغَزَا فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ " قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ " خَرَجَ فِيهَا إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَغَطَفَانَ، لِيَجْمَعَهُمْ هُنَاكَ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَلَمْ يَرَهُمْ، وَظَفَرَ بِنَعَمِهِمْ، فَسَاقَهَا، كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَ خُمُسَهَا وَقَسَمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِضِرَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا مِائَتَيْ رَجُلٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعِيرَيْنِ، وَحَصَلَ فِي سَهْمِهِ يَسَارٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي النَّعَمِ فَأَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ يُصَلِّي وَعَادَ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ( [مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ] ) ثُمَّ أَسْرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأَبُو عَبْسٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ بَعْدَ مَشُورَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَخَرَجَ يشيعهم إلى بقيع الغرقد وقال: امضوا على بَرَكَةِ اللَّهِ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَخَدَعُوهُ، حَتَّى أَخْرَجُوهُ، وَقَتَلُوهُ، فِي شِعْبِ الْعَجُوزِ وَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَأْسِهِ، وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَلِّبُ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَهْجُوهُ بِشِعْرِهِ، وَتَشَبَّبَ بِنِسَاءِ أَهْلِهِ. وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَخَلَ بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ( [غَزْوَةُ ذِي أَمَّرَّ] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ ذِي أَمَرَّ إِلَى بَنِي أَنْمَارٍ حِينَ بَلَغَهُ جَمْعُ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَمُحَارِبٍ، فَخَرَجَ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بن عفان، فهربوا منه على رؤوس الْجِبَالِ فَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 وَهُوَ مُضْطَجِعٌ وَحْدَهُ، فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: " اللَّهُ " فَسَقَطَ السَّيْفُ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال لَهُ: " مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي " قَالَ: لَا أَحَدَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11] . ( [غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ] ) وَفِي السَّادِسِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي سُلَيْمٍ وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ بَحْرَانَ قَرِيبًا مِنَ الْفَرْعِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِمَسِيرِهِ تَفَرَّقُوا، فَعَادَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ( [سَرِيَّةُ قَرْدَةَ] ) ثُمَّ سَيَّرَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى قَرْدَةَ وَهِيَ بَيْنَ الرَّبَذَةِ وَغَمْرَةَ، نَاحِيَةَ ذَاتِ عِرْقٍ أَنْفَذَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَهِيَ أَوَّلُ سَرِيَّةٍ خَرَجَ زَيْدٌ فِيهَا أَمِيرًا؛ لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَغَنِمَهَا وَهَرَبَ مَنْ فِيهَا، وَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخَذَ خُمُسَهَا قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَسَمَ بَاقِيَهَا عَلَى أَهْلِ السَّرِيَّةِ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام. (فصل: [غزوة أحد وحمراء الأسد] ) ثُمَّ غَزْوَةُ أُحُدٍ، وَسَبَبُهَا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمَّا عَادُوا مِنْ بَدْرٍ إِلَى مَكَّةَ، وَجَدُوا العير التي قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِهَا مِنَ الشَّامِ، بِأَمْوَالِهِمْ، مَوْقُوفَةٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، فَمَشَى أَشْرَافُهُمْ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَقَالُوا لَهُ قَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا أَنْ نُجَهِّزَ بِرِبْحِ هَذِهِ الْعِيرِ جَيْشًا إِلَى مُحَمَّدٍ؛ لِنَثْأَرَ مِنْهُ بِقَتْلَانَا فَقَالَ: أَنَا وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَوَّلُ مَنْ يُجِيبُ إِلَى هَذَا، وَكَانَتْ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَالْمَالُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ وَكَانُوا يَرْبَحُونَ لِلدِّينَارِ دِينَارًا، فَأَخْرَجُوا مِنْهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 أَرْبَاحَهُمْ، وَأَنْفَذُوا رُسُلَهُمْ؛ يَسْتَنْفِرُونَ قَبَائِلَ الْعَرَبِ لِنُصْرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابِهِ وَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ الظُّعُنِ مِنْ نِسَائِهِمْ مَعَهُمْ؛ لِتَحْرِيضِهِمْ لَهُمْ وَتَذْكِيرِهِمْ، بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَدْ مَضَى إِلَى مَكَّةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي قَوْمِهِ، فَحَرَّضَ قُرَيْشًا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْأَنْصَارَ إِذَا رَأَوْهُ أَطَاعُوهُ، فَكَتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخبرهم، وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ بِهِمْ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَظُعُنُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَشْرَافِهِمْ، وَفِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَمِائَةُ رَامٍ، وَمِائَتَا فَرَسٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ، حَتَّى نَزَلَ بِأُحُدٍ وَكَانَ وَحْشِيٌّ غُلَامًا حَبَشِيًّا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطىء؛ فَأَخْرَجَهُ مَعَ النَّاسِ وَقَالَ؛ إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ وَجَعَلَتْ لَهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي قَتْلِهِ مَا اقْتَرَحَ وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِهَا قَالَتْ إِيهٍ أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا دَسْمَةَ، وَلَمَّا نَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِأُحُدٍ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ مِنْ شَوَّالٍ، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابَهُ وَكَانَ رَأْيُهُ أَلَّا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَيُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يُقَاتِلَهُمْ فِيهَا، وَوَافَقَهُ عَلَى رَأْيِهِ شُيُوخُ الْأَنْصَارِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَا وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ عَلَيْنَا أَحَدٌ إِلَّا ظَفِرْنَا بِهِ، وَلَا خَرَجْنَا إِلَيْهِ إِلَّا ظَفِرَ بِنَا، وَكَانَ رَأْيُ أَحْدَاثِ الْأَنْصَارِ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ؛ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنْ بَدْرٍ فَغَلَبَ رَأْيُ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ بِأُحُدٍ بَقِيَّةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ نَدِمُوا عَلَى مَا أَشَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ وَقَالَ لَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَالْوَحْيُ ينزل عليه، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعْ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ لَبِسَ لَأْمَةَ سِلَاحِهِ أَنْ يَنْزِعَهَا، حَتَّى يُقَاتِلَ " وَسَارَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيهِمْ مِائَةُ دَارِعٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِلَّا فَرَسَانِ: أَحَدُهُمَا: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْآَخرُ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إِلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلى خباب بْنِ الْمُنْذِرِ. وَقِيلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَنَزَلَ بِالشَّيْخَيْنِ وَهُمَا أُطُمَانِ، كَانَ يَهُودِيٌّ، وَيَهُودِيَّة أعميان يَقُومَانِ عَلَيْهِمَا، فَيَتَحَدَّثَانِ فَنُسِبَا إِلَيْهِمَا وَهُمَا فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ أَصْحَابَهُ، فَرَدَّ مِنْهُمْ لِصِغَرِهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسٍ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّمَّاخُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 (رَأَيْتُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَنْمِي ... إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ القرين) ورد نافع بْنَ خَدِيجٍ، وَسَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، ثُمَّ أَجَازَهُمَا، وَأَقَامَ بِمَكَانِهِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ ثُمَّ سَارَ إِلَى أُحُدٍ، فَانْخَذَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مَعَ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ: عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا؟ وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ السَّابِعِ مِنْ شَوَّالٍ، بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ وَأَمَرَ الرُّمَاةَ وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا أَنْ يَقِفُوا عِنْدَ الْجَبَلِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَنْ يَرْمُوا الْجَبَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: " لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا "، وَجَعَلَ عَلَى الْخَيْلِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَصَافُّوا الْعَدُوَّ، وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ فِي الْأَحَابِيشِ، وَالْعَبِيدِ وَنَادَى الْأَوْسَ فَقَالُوا: لَا مَرْحَبًا بِكَ، وَلَا أَهْلًا، وَصَدَقُوا الْقِتَالَ: فَانْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ، وَتَشَاغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنِيمَةِ، وَزَالَ الرُّمَاةُ عَنْ مَوَاقِعِهِمْ، طَلَبًا، لِلْغَنِيمَةِ فَبَدَرَ النِّسَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ، وَيُحَرِّضْنَ الرِّجَالَ وَيَعُلْنَ: (نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَمَارِقْ) (إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ) (فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ ... ) فَعَادَتْ قُرَيْشٌ، وَعَطَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي الْجَبَلِ إِلَى مَوْقِفِ الرُّمَاةِ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمُوا وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فِيهِمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ، وَمَثَّلَ بِهِ وَبَقَرَتْ هِنْدٌ بَطْنَهُ، وَأَخَذَتْ كَبِدَهُ، فَلَاكَتْهَا بِفَمِهَا، ثُمَّ لَفَظَتْهَا وَمُثِّلَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وكسرت رباعية رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصَابَهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَشَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ وَضَرَبَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ بِالسَّيْفِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ وَادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضِرِ: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلُّهُمْ يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْوَفَاءُ وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ وَعَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ، غَيْرَ مودع وقتل من المشركين أربعة وعشرين رَجُلًا مَنْهُمْ أَصْحَابُ اللِّوَاءِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الدار الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ في مَنَامِهِ كَأَنَّهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَكَأَنَّ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ، قَدِ انْثَلَمَ وَكَأَنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ وَكَأَنَّهُ مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَأَخْبَرَ بِهَا أَصْحَابَهُ، وَتَأَوَّلَهَا أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ هِيَ الْمَدِينَةُ، وَأَنَّ انْثِلَامِ سَيْفِهِ هِيَ مُصِيبَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ ذَبْحَ الْبَقَرِ هُوَ قَتْلٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ إِرْدَافَ الْكَبْشِ هُوَ كَبْشٌ الْكَتِيبَةِ، يَقْتُلُهُ اللَّهُ، فَصَحَّ تَأْوِيلُهَا، وَكَانَ الْكَبْشُ قِيلَ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِخْوَتَهَ بعده يَأْخُذُونَ اللواء فيقتلون وكان أبي بن خلف الجمحي بَرَزَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فرس له بأحد حلف أن يقتل عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنا يقتله عليها إن شاء الله، وبرز إليه فرماه بحربة كسر بها أحد أضلاعه بجرح كالخدش، فَاحْتَمَلَ، وَهُوَ يَخُورُ كَالثَّوْرِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي، وَمَاتَ بِسَرِفَ، ثُمَّ بَرَزَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ فَنَادَى: أَيْنَ مُحَمَّدٌ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ،؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: الْآنَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ. وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَأُجِبْتُ فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْمَعُ كَلَامَكَ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: أَلَا إِنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَالْحَرْبَ سِجَالٌ، يَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَحَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، يَعْنِي حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ الْمُقْتُولَ بِأُحُدٍ بِحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُقْتُولِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ قُلْ لَهُ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، فَقَالَ أبو سفيان: لنا عزى، ولا عزى لكم؛ فقال النبي لِعُمَرَ: قُلْ لَهُ: " اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ مَا أَمَرْتُ بِهَا، وَلَا نَهَيْتُ عَنْهَا، وَلَا سَرَّتْنِي، وَلَا سَاءَتْنِي، ثُمَّ وَلَّى وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ يَوْمِهِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَلَمْ يُغَسِّلْ قَتْلَى أُحُدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي مَصَارِعِهِمْ، فَدُفِنُوا فِيهَا إِلَّا مَنْ سَبَقَ حَمْلُهُ، وَدَفْنُهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنْ شَوَّالٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّبْحَ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ لِطَلَبِ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ أُحُدًا وَسَارَ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَخَلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَسَارَ وَهُوَ مَكْلُومٌ إِرْهَابًا لِقُرَيْشٍ، حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، وَبِهَا قُرَيْشٌ يَتَآمَرُونَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يَنْهَاهُمْ إِلَى أَنْ سَارُوا إِلَى مَكَّةَ، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ أُحُدٍ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَقَائِعِهَا، وَكَانَ فِيهَا خَمْسُ غزوات، وسرية واحدة (فصل: [سرية قطن] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ فَأَسْرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ الْمُحَرَّمِ وَأَسْرَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ إِلَى " قَطَنٍ " وَهُوَ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ فَيْدٍ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لِيَلْقَى بَنِي أَسَدٍ؛ لِأَنَّهُمْ هَمُّوا بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِمْ وَسَاقَ نَعَمَهُمْ، وَقَدِمَ بها المدينة، ولم يقاتل أحداً (فصل: [سرية عرنة] ) . ثُمَّ أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً إِلَى سُفْيَانَ بن نبيح الهذلي بعرنة فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَكَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِمُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسار إليه وقتلهغيلة، واحتز رأسه وأتى رسول الله فِي يَوْمِ الْجَمْعِ بَعْدَ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: " أَفْلَحَ الْوَجْهُ مَا صَنَعْتَ قَالَ: قَتَلْتُهُ وَهَذَا رَأْسُهُ. قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ عَصًا وَقَالَ تَحَصَّنْ بِهَذِهِ فِي الْجَنَّةِ " فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي كَفَنِهِ؛ فَفَعَلُوا. ( [ذِكْرُ خَبَرِ بِئْرِ مَعُونَةَ] ) ثُمَّ سَرِيَّتُهُ إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ في صفر أخرج فيها الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْقُرَّاءِ خَرَجُوا فِي جِوَارِ مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ لِيَدْعُوا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَبَائِلَ بَنِي سُلَيْمٍ وَقَتَلَ جَمِيعَهُمْ، إِلَّا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فَإِنَّهُ أَعْتَقَهُ عن أُمِّهِ فَعَادَ وَحْدَهُ، وَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ، لَهُمَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ للاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقتلهما وهو لا يعلم بأمانه لهما فَوَدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَخْبَرَهُ وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجْدًا عَظِيمًا، وَكَان فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْ جُثَّتَهُ، وَأُنْزِلَ عِلِّيِّينَ، ونزل فيهم قرآن قرىء ثُمَّ نُسِخَ أَوْ نُسِيَ " بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا، أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَا وَرَضِينَا عَنْهُ " وَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهْرًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ، وَعَصِيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 يُوسُفَ " إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] فَتَرَكَ. ( [غَزْوَةُ الرَّجِيعِ] ) ثُمَّ سَرِيَّةُ الرَّجِيعِ فِي صَفَرٍ وَسَبَبُهَا أَنَّ رَهْطًا مِنْ عَضَلَ، وَالْقَارَّةِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالُوا إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا يقرؤوننا الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُونَنَا فِي الدِّينِ، فَأَنْفَذَ مَعَهُمْ عَشَرَةً، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، وَقِيلَ: مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ وَالرَّجِيعُ. مَاءٌ بِالْهَدَاةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ، فَغَدَرُوا بِالْقَوْمِ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَبَاعُوا بَعْضَهُمْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى قتلوا بقتلاهم. فقتلوا جميعا (فصل: [غزوة بني النضير] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَسَبَبُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ يَسْتَعِينُ بهم في الديتين على القتيلين الذين قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَهَمُّوا بِقَتْلِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِلْقَاءِ حَجَرٍ عَلَيْهِ، فَعَلِمَ بِهِ، وَعَادِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سَبَبَ عَوْدِهِ وَرَاسَلَ بَنِي النَّضِيرِ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ بِلَادِهِ، فَهَمُّوا بِذَلِكَ، حَتَّى رَاسَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ خُلَطَائِهِ، فَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ، وَامْتَنَعُوا عَنِ الْخُرُوجِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ فَصَلَّى الْعَصْرَ بِفِنَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَمَلَ رَايَتَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَحَاصَرَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ نخلهم بالنويرة فَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ عَنْ بِلَادِكَ فَقَالَ: لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ مِنْكُمْ، وَخَذَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ دمائهم، وَمَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا الْحَلْقَةَ يَعْنِي السِّلَاحَ وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، إِخْرَاجَهُمْ فَخَرَجُوا بِنِسَائِهِمْ، وَصِبْيَانِهِمْ، وَتَحَمَّلُوا سِتَّمِائَةِ بَعِيرٍ حَتَّى نَزَلُوا خَيْبَرَ وَقَبَضَ الْأَرْضِينَ وَالْحَلْقَةَ فَوَجَدَ فِيهَا خمس وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَاصْطَفَى أَمْوَالَهُمْ خَالِصَةً لَهُ؛ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ وَلَمْ يُخَمِّسْهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَوَسَّعَ فِي النَّاسِ، فَأَعْطَى مِنْهَا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَعْطَى أَبَا بَكْرٍ بِئْرَ حَجَرٍ، وَأَعْطَى عُمَرَ بِئْرَ خُمٍّ وأعطى عبد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سُؤَالَهُ وَأَعْطَى صُهَيْبَ بْنَ سنان السراطة، وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْبُوَيْرَةَ. وَأَعْطَى سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ مَالَ ابْنِ خَرَشَةَ ( [غَزْوَةُ بَدْرٍ الصغرى] ) . ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ بَدْرٍ الصُّغْرَى لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ: يَا مُحَمَّدُ الْمَوْعِدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ " بَدْرٌ " وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَجْتَمِعُونَ فِيهَا فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى الثَّامِنِ مِنْهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا عَلَى مَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ وَتِجَارَاتٍ فَقَدِمُوا سُوقَ بَدْرٍ، وَهِيَ الصَّفْرَاءُ لَيْلَةَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَحُلَفَائِهِمْ حَتَّى بَلَغَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَهُوَ نَادِمٌ عَلَى الْمَوْعِدِ، ثُمَّ رَجَعَ لِجَدْبِ الْعَامِ فَعَادُوا لِيَتَأَهَّبُوا لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَرَبِحَ الْمُسْلِمُونَ فِي تِجَارَاتِهِمْ، لِلدِّرْهَمِ دِرْهَمًا، فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُ الله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] . وَفِي هَذِهِ السنة ولد الحسن بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ. وَفِيهَا: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ فِي شَوَّالٍ، وَدَخَلَ بِهَا. وَفِيهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: لَا آمَنُ أَنْ يُبَدِّلُوا كِتَابِي. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ بَنِي النَّضِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مَا كَانَ فِيهَا، فَكَانَ لَهُ فِيهَا غَزْوَتَانِ وأربع سرايا. (فصل: [غزوة ذات الرقاع] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَسَبَبُهَا: أَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 الْخَبَرَ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَنَّ بَنِي أَنْمَارٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ قَدْ تَجَمَّعُوا لِحَرْبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: فِي سَبْعِمِائَةٍ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ ذَاتَ الرِّقَاعِ وَهُوَ جَبَلٌ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَسَوَادٌ، وَبَيَاضٌ، سُمِّيَ بِهِ ذَاتُ الرِّقَاعِ فَوَجَدَ الْقَوْمَ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْجِبَالِ، وَظَفِرَ بِنِسْوَةٍ أَخَذَهُنَّ، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي الْخَوْفِ، وَعَادَ، وَابْتَاعَ مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَمَلَهُ بِأُوقِيَّةٍ وَشَرَطَ لَهُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ( [غَزْوَةُ دَوْمَةِ الجندل] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَهِيَ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَسَبَبُهَا وُرُودُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بِهَا جَمْعٌ كَبِيرٌ يُرِيدُونَ طُرُقَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ، وَوَصَلَ إِلَيْهَا وَقَدْ هَرَبَ الْقَوْمُ، عَنْهَا وَاسْتَاقَ بَعْضَ نَعَمِهِمْ، وَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا يَبُثُّ السَّرَايَا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَعَادَ وَوَادَعَ فِي طَرِيقِهِ عُيَيْنَةَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ. ( [غَزْوَةُ المريسيع] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلَقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَالْمُرَيْسِيعُ مَا كَانُوا نُزُولًا عَلَيْهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 وَسَبَبُهَا وُرُودُ الْخَبَرِ أَنَّ سَيِّدَهُمُ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ يَجْمَعُ قَوْمَهُ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَرَبِ، لِقَصْدِ الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في يوم الإثنين الثاني في شَعْبَانَ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَخَرَجَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَبْلَهَا، وَكَانَ مَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا عَشرة مِنْهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعِشْرُونَ لِلْأَنْصَارِ وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَوَصَلَ إِلَى الْمُرَيْسِيعِ وَظَفِرَ بِالْقَوْمِ، قِيلَ: إِنَّهُ شَنَّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بَيَاتًا وَقِيلَ: بِقِتَالٍ وَمُحَارَبَةٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً وَأَسَرَ بِاقِيَهُمْ، فَلَمْ يُفْلَتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَكَانُوا مِائَتَيْ ثَيِّبٍ، وَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ فَكَانَتِ الْإِبِلُ أَلْفَيْ بعير والشاة خمسة آلَافِ شَاةٍ، فَجَعَلَ الْبَعِيرَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ، وَقَسَمَهُمْ بَعْدَ أَخْذِ الْخُمُسِ، وَأَسْهَمَ فِيهَا لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَاحِدًا وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرسان: لزاز والظرب فلم يرو أَنَّهُ أَخَذَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ فِي السَّبْيِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ وَحَصَلَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بن شماس أو لابن هم لَهُ، فَكَاتَبَاهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كِتَابَتِهَا فَأَدَّاهَا عَنْهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلِّ أَسِيرٍ مِنْ قَوْمِهَا وَقِيلَ: عَتَقَ أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ، وَمَنَّ عَلَى أَكْثَرِ السَّبْيِ، وَقَدِمَ بِبَاقِيهِمُ الْمَدِينَةَ، فَفَدَاهُمْ أَهْلُوهُمْ حَتَّى خَلَصُوا جَمِيعًا وَفِيهَا تَنَازَعَ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَسِنَانُ بْنُ وَبْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى مَاءٍ، فَضَرَبَهُ جَهْجَاهُ فَتَنَافَرَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَشَهَرُوا السِّلَاحَ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، إِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَارَ لِوَقْتِهِ، وَوَقَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِأَبِيهِ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى تَزْعُمَ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَمُحَمَّدٌ الْعَزِيزُ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " دَعْهُ، فَلْنُحْسِنْ صُحْبَتَهُ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ". وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ضَاعَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى طَلَبِهِ حَتَّى أَصْبَحُوا عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لَيْسَتْ هَذِهِ أَوَّلَ بَرَكَاتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ؛ فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مَخْرَجًا وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَا أَنْزَلَ وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي هِلَالِ شهر رمضان بعد اثنين وعشرين يوما. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 (فصل: [غزوة الخندق] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ. وَسَبَبُهَا: أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا إِلَى خَيْبَرَ فَقَصَدَ أَشْرَافُهُمْ مَكَّةَ، وَحَرَّضُوا قُرَيْشًا عَلَى حَرْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَاهَدُوهُمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَرَسٍ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَاسْتَعْدَوُا الْعَرَبَ، فَجَاءَهُمُ الْأَحْزَابُ مِنَ الْقَبَائِلِ حَتَّى اسْتَكْمَلُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، وَبَلَغَ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُرُوجُهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَشَاوَرَهُمْ فِيهِ، فَأَشَارَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فَأَجْمَعَتِ الْمُسْلِمُونَ، وَحَفَرُوهُ، وَعَمِلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفْسِهِ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ: (نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا) قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) وَرَوَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا) (فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا) (إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) وَفَرَغُوا مِنَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَجَعَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي الْآطَامِ، وَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَحْزَابُ، وَعَلَى جَمِيعِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَعَسْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَفْحِ " سَلَعٍ " وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ هُمْ عَلَى أَشَدِّ خَوْفٍ وَوَجَلٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلِوَاءَ الْأَنْصَارِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ بأن أبدى أُمِّ مَكْتُومٍ، وَدَعَا أَبُو سُفْيَانَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَجَابُوهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "؛ لِأَنَّهُ خَافَهُمُ عَلَى الذَّرَارِيِّ، وَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ الله تعالى: {إذ جاؤوكم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} [الآية - الأحزاب: 10] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَنَاوَبُونَ الْقِتَالَ، فَيُقَاتِلُ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَيُقَاتِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمًا، وَيُقَاتِلُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمًا وَيُقَاتِلُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا وَيُقَاتِلُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَوْمًا وَالْخَنْدَقُ: حَاجِزٌ، وَالْمُسْلِمُونَ يَحْفَظُونَ أَقْطَارَهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَصْنَعُهَا فَأَنَّى لَهُمْ هَذَا فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ مَعَهُمْ رَجُلًا فَارِسِيًّا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ، وَقَصَدُوا أَضْيَقَ مَوْضِعٍ فِي الْخَنْدَقِ أَغْفَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَبَرَ مِنْهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وعمرو بن عبدود، وطلب عمرو بن البزار وَكَانَ ابْنَ تِسْعِينَ سَنَةً فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ نَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهُ اثْنَيْنِ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَقَصَدَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَشَاغَلَ بِحَرْبِهِ حَتَّى أَخَّرَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، والمغرب، وعشاء الآخرة حتى انكفأوا رَاجِعِينَ مُتَوَاعِدِينَ لِلْغَدِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِلظَّهْرِ، وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَقَالَ: " شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا " وَصَلَّاهَا جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى تَرْتِيبِ قِتَالِهِمْ مِنَ الْغَدِ سَعَى بَيْنَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَخَذَّلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى اخْتَلَفُوا وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ وَزَلْزِلْهُمْ " فَعَصَفَتِ بِهِمُ الرِّيحُ حَتَّى زَلْزَلَتْهُمْ، فَانْهَزَمُوا وَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فِي أَكْحَلِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ بَذَلَ لِعُيَيْنَةَ الثُّلُثَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ؛ لِيَرْجِعَ عَنِ الْأَحْزَابِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ فَامْتَنَعَ، أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا الشَّطْرَ، فَشَاوَرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عِبَادَةٍ، فَقَالَا: إِنْ كُنْتَ قَدْ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمَرْ فَمَا تُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ شَاوَرْتُكُمَا فِيهِ ثُمَّ هَزَمَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ صَبِيحَةَ اخْتِلَافِهِمْ بَعْدَ حِصَارِ الْمَدِينَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَةِ مَسْرُورًا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّالِثِ والعشرين من ذي القعدة (فصل: [غزوة بني قريظة] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي قُرَيْظَةَ؛ لِنَقْضِهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَطَاعَتِهِمْ لِأَبِي سُفْيَانَ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا عَادَ مِنَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ انْهِزَامِ الْأَحْزَابِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ حِينَ دَخَلَ مَنْزِلَ عَائِشَةَ يُؤْمَرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَنَادَى فِي النَّاسِ: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " وَكَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّالِثَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ الَّذِي انْهَزَمَتْ فِيهِ الْأَحْزَابُ فَتَخَوَّفَ قَوْمٌ فَوَاتَ الصَّلَاةِ، فَصَلَّوْا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أُمِرْنَا وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، فَمَا عَنَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَسَارَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ، وَغَزَا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَالْخَيْلُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَحَاصَرَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ أَشَدَّ الْحِصَارِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانُوا سَأَلُوا إِنْفَاذَ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَيْهِمْ، فلما تقدم شاوروه فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ نَدِمَ فَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: حَنِثَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَانْصَرَفَ وَارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَأْتِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أنزل الله توبته ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَكُتِّفُوا، وَعُزِلُوا عَنِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَغَنَمَ مَا فِي حُصُونِهِمْ فَوَجَدَ فِيهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ سَيْفٍ، وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْعٍ وَأَلْفَيْ رُمْحٍ وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ تُرْسٍ فَخَمَّسَ وَوَجَدَ خَمْرًا فَأُهْرِيقَ، وَلَمْ يُخَمّسْ وَوَجَدَ لَهُمْ مَوَاشِيَ كَثِيرَةً وَبِيعَتِ الْأَمْتِعَةُ فِيمَنْ يُرِيدُ وَقُسِّمَتِ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَاحِدًا، وَقَسَمَ السَّبْيَ، وَاصْطَفَى مِنْهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرٍو لِنَفْسِهِ، وَاجْتَمَعَ الْأَوْسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْأَلُونَهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِحِلْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ فَحَكَّمَ فِيهِمْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَكَانَ بِهِ الْجُرْحُ الَّذِي رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ فَحَكَمَ سَعْدٌ أن مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تجر عَلَيْهِ الْمَوَاسِي اسْتُرِقَّ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ " يعني: سبع سموات، وَحَكَى حُمَيْدٌ أَنَّ مُعَاذًا حَكَمَ أَنْ يَكُونَ الدِّيَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِخْوَانُنَا كُنَّا مَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَغْنَوْا عَنْكُمْ، فَلَمَّا حَكَمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 سَعْدٌ بِمَا حَكَمَ، وَكَانَ قَدْ رَمَاهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ فِي أَكْحَلِهِ دَعَا أَنْ لَا يَمُوتَ حَتَّى يَشْفِيَهُ اللَّهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَمُرَّ بِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فَأَصَابَتِ الْجُرْحَ بِظِلْفِهَا فَمَا رَقَأَ حَتَّى مَاتَ وَانْصَرَفَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى المدينة في يوم الخميس كسابع مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأُدْخِلُوا المدينة، وحفر لهم أخدود فِي السُّوقِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَأُحْضِرُوا إليه رَسَلًا فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْخَنْدَقِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ حِينَ نَزَلَ عَنْهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَنَزَلَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا نزل، وكانت غزواته فيها خمسا. (فصل: [ذكر أحداث سنة ست من الهجرة سرية ابن مسلمة] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ فَابْتَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا بِسَرِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا إِلَى الْقَرْطَاءِ فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ، وَهَرَبَ بَاقُوهُمْ وَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلسَّبْيِ، وَقَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَعِيرًا وَبِأَلْفِ شَاةٍ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ( [غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ بِنَاحِيَةِ عُسْفَانَ لِأَجْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، وَخَرَجَ في هلال شهر ربيع الأول مِائَتَيْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا في رؤوس الْجِبَالِ، وَنَزَلَ عُسْفَانَ، وَبَثَّ مِنْهَا السَّرَايَا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَصَلَّى بِهِمْ بِهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَخَرَّ رَاكِعًا وَهُوَ يَقُولُ: " آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ " وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. ( [غَزْوَةُ الْغَابَةِ] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ الْغَابَةِ وَهِيَ طَرِيقُ الشَّامِ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَبَبُهَا: أَنَّ عِشْرِينَ لِقْحَةً كَانَتْ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْغَابَةِ فِيهَا أَبُو ذَرٍّ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، وَقَتَلُوا ابْنَ أَبِي ذَرٍّ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَنُودِيَ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَكَانَ أَوَّلَ مَا نُودِيَ بِهَا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي وَقْتِهِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ مُقَنَّعًا بِالْحَدِيدِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عمرو، فعقد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 لَهُ اللِّوَاءَ فِي رُمْحِهِ، وَقَدَّمَهُ أَمَامَهُ، فَتَلْحَقُهُ الْخُيُولُ، وَسَارَ فِي أَثَرِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَسَرَّعَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ رَاجِلًا، فَبَكَى، وَأَبْلَى وَهُوَ يَقُولُ: (أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ) وَاسْتَرْجَعُوا مِنْهُمْ عَشْرَ لَقَائِحَ، وَهَرَبُوا بِعَشْرٍ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِكُلِّ مِائَةٍ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا، وَقَالَ: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ " وَنَزَلَ بِذِي قَرَدٍ، فَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَأَرْدَفَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ فِي طَرِيقِهِ ( [سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ محصن] ) تم سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إِلَى الْغَمْرِ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ فَيْدَ أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إِلَى بَنِي أَسَدٍ، فَهَرَبُوا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَاسْتَاقَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ وَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ ( [سَرِيَّةُ ذِي الْقَصَّةِ] ) ثُمَّ أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ سَرِيَّة إِلَى ذِي الْقَصَّةِ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا طَرِيقَ الرَّبَذَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ عَشَرَةَ نَفَرٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَحَاطَ الْقَوْمُ بِهِمْ وَكَانُوا مِائَةً فَقَتَلُوهُمْ وَوَقَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَجَرَّدُوهُمْ مِنَ الثِّيَابِ، وَمَرَّ بِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ لِطَلَبِ الْقَوْمِ فِي أَرْبَعِينَ، فَهَرَبُوا فِي الْجِبَالِ وَاسْتَاقَ مِنْ نَعَمِهِمْ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَخَمَّسَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ فِيهِمْ. ( [سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْعِيصِ] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى فِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ رَاكِبًا؛ لِيَعْتَرِضُوا عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَرَدَتْ مِنَ الشَّامِ فِيهَا فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَمْوَالٌ، فَظَفِرَ بِهَا وَأَسَرَ نَاسًا فِيهَا مِنْهُمْ: أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ فَاسْتَجَارَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَتْ زَوْجَتَهُ، فَخَرَجَتْ بَعْدَ إِجَارَتِهِ، وَنَادَتْ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ "، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى رَدَّ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْلِمًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 ( [سَرِيَّةُ الطَّرَفِ] ) ثُمَّ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى الطَّرَفِ، وَهُوَ مَا دُونَ النَّخِيلِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ طَرِيقَ النَّقْرَةِ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابَ نَعَمًا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَعَادَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. ( [سَرِيَّةُ ابْنِ ثَابِتٍ إِلَى حِسْمَى] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ الله بن حَارِثَةَ إِلَى حِسْمَى، وَهِيَ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ. وَسَبَبُهُ: أَنَّ نَاسًا مِنْ جُذَامَ قَطَعُوا عَلَى دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ عَادَ مِنْ قَيْصَرَ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِجَائِزَةٍ وَكُسْوَةٍ، فَصَارَ إِلَيْهِمْ زَيْدٌ، فَقَتَلَ فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا وَأَغَارَ عَلَى نَعَمِهِمْ، فَأَخَذَ مِنَ الْإِبِلِ أَلْفَ بَعِيرٍ وَمِنَ الشَّاةِ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَمِنَ السَّبْيِ مِائَةً مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَرَدَّ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ الْجُذَامِيُّ بِالْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له ولقومه من جذام ليال قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُحَرِّمْ عَلَيْنَا حَلَالًا، وَلَا تُحِلَّ لَنَا حَرَامًا فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ حَرَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَقِيَهُ بِالْفَحْلَتَيْنِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْمَرْوَةِ، فَأَبْلَغَهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّ النَّاسَ وَالنَّعَمَ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيِهِمْ. ( [سَرِيَّةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ لِدُعَاءِ مَنْ بِهَا مِنْ بَنِي كَلْبٍ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي شَعْبَانَ، فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ: " اغْزُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَا تُعَذِّبْ وَلَا تَقْتُلْ وَلِيدًا، فَإِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ فَتَزَوَّجْ بِنْتَ مَلِكِهِمْ " فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَدِمَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ، وَمَكَثَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ رَأْسُهُمُ الْأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَتَزَوَّجَ بِنْتَهُ تماضر بنت الأصبع، وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَسْلَمَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَدَفَعَ الْبَاقُونَ الْجِزْيَةَ. ( [سَرِيَّةُ بَنِي سَعْدٍ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِائَةِ رَجُلٍ إِلَى بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فِي الْهَمَجِ مَا بَيْنَ فَدَكَ وَخَيْبَرَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَمُدُّوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 فِي شَعْبَانَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ وَأَلْفَيْ شَاةٍ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا وَأَخَذَ مِنْهُ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقُوحًا تُدْعَى الْجَعْدَةَ ثُمَّ عَزَلَ الْخُمُسَ، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ( [سَرِيَّةُ أُمِّ قِرْفَةَ] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ بِنَاحِيَةِ وَادِي الْقُرَى عَلَى سَبْعِ لَيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَسَبَبُهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَخَرَجَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ فَزَارَةَ، فَضَرَبُوهُ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَأَحَاطَ بِالْحَاضِرِ، وَأَخَذُوا أُمَّ قِرْفَةَ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ، وَبِنْتَهَا جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ وَأَمَّا أُمُّ قِرْفَةَ فَقَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُسَحَّرِ قَتْلًا عَنِيفًا، رَبَطَ رِجْلَيْهَا بِحَبْلٍ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ حَتَّى قَطَعَاهَا، وَأَمَّا جَارِيَةُ فَأَخَذَهَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، فَوَهَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، وَقَدِمَ زَيْدٌ فَقَرَعَ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ إِلَيْهِ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى اعْتَنَقَهُ، وَقَبَّلَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِظَفَرِهِ ( [مَقْتَلُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً إِلَى قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيِّ بِخَيْبَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ عَلَى حَرْبِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ وَأَبَا قَتَادَةَ وَخُزَاعِيَّ بْنَ الْأَسْوَدِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَقَتَلُوهُ فِي الظُّلْمَةِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتْلَهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَخْبَرُوهُ بِقَتْلِهِ وَتَنَازُعِهِمْ فِي قَاتِلِهِ أَخَذَ أَسْيَافَهُمْ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَرَأَى أَثَرَ الدَّمِ فِي ذُبَابِ سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَقَالَ: " هَذَا قَاتِلُهُ ". ( [سَرِيَّةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إِلَى أَسِيرِ بْنِ رَقْرَامٍ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى أَسِيرِ بْنِ رَقْرَامٍ الْيَهُودِيِّ بِخَيْبَرَ فِي شَوَّالٍ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ أَمَّرُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَسَارَ إِلَى غَطَفَانَ وَبَعَثَهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا أُمِدَّ بِهِمْ فَاسْتَأْمَنُوهُ وَاسْتَأْمَنَهُمْ؛ لِيَأْتِيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ؛ فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا قَدِ ارْتَدَفَ كُلُّ يَهُودِيٍّ مَعَ مُسْلِمٍ، ثُمَّ نَدِمَ أَسِيرٌ وَأَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْقَوْمِ، فَقَتَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ أَسِيرًا، ضَرَبَهُ فَقَدَّ فَخِذَهُ، وَضَرَبَهُ أَسِيد فَشَجَّهُ مَأْمُومَةً وَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَلَمْ يُفْلَتْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَسَلِمَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 ( [سَرِيَّةُ كُرْزٍ لِلْعُرَنِيِّينَ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْعُرَنِيِّينَ سَرِيَّةَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ فِي شَوَّالٍ وَسَبَبُهَا: أَنَّ ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْلَمُوا وَاسْتَوْبَئُوا الْمَدِينَةَ، فَأَنْفَذَهُمْ إِلَى لِقَاحَةٍ بِذِي الْجَدْرِ نَاحِيَةَ قُبَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا فِيهَا يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، فَغَدَوْا عَلَى اللِّقَاحِ، فَاسْتَاقُوهَا، وَأَدْرَكَهُمْ يَسَارٌ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَفَرٍ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَغَرَسُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا مَعَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ: فَأَدْرَكَهُمْ وَرَبَطَهُمْ وَأَرْدَفَهُمْ عَلَى الْخَيْلِ، وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بِالْغَابَةِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَصُلِبُوا هُنَاكَ فَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فسادا أن يقتلوا} [الآية المائدة: 33] ، فَمَا سَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنًا، وَكَانَ اللِّقَاحُ خمس عشرة لقحة، فاستردت الألقحة وَاحِدَةٌ نَحَرُوهَا. ( [سَرِيَّةُ عَمْرٍو وَسَلَمَةَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ بِمَكَّةَ. وَسَبَبُهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَالَ لِقُرَيْشٍ: أَلَا رَجُلٌ يَغْتَالُ مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ رَاحِلَةً وَنَفَقَةً وَبَذَلَ لَهُ جُعْلًا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ خَامِسَةٍ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ هَذَا لَيُرِيدُ غَدْرًا " فَذَهَبَ الْأَعْرَابِيُّ، لِيَجْنِيَ عَلَيْهِ فَجَذَبَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَوَجَدَ فِي إِزَارِهِ خِنْجَرًا، فَقَالٍ: دَمِي دَمِي، فَسَأَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ حَالِهِ: وَقَالَ: اصْدُقْنِي. قَالَ: وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ وَمَا جَعَلَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي قَتْلِهِ فَخَلَّاهُ فَأَسْلَمَ وَبَعَثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَانَ مِنْ فُتَّاكِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ؛ لِيُصَادِفَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ غِرَّةً، فَيَقْتُلَاهُ فَقَدِمَا مَكَّةَ وَطَافَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بِالْبَيْتِ فَرَآهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَعَرَفَهُ فَأَنْذَرَ بِهِ، وَقَالَ: مَا قَدِمَ هَذَا لِخَيْرٍ، فَطُلِبَ فَهَرَبَا؛ وَقَتَلَ عَمْرٌو نَفَسَيْنِ سَمِعَ أَحَدَهُمَا يَتَغَنَّى وَيَقُولُ: (وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا) فَقَتَلَهُمَا عَمْرٌو، ثُمَّ وَجَدَ فِي طَرِيقِهِ رَسُولَيْنِ لِقُرَيْشٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَأَسَرَ الْآخَرَ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، وَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بحاله، وهو يضحك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 (فصل: [غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا أَصْحَابَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ فَتَهَيَّئُوا وَأَسْرَعُوا، فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَاغْتَسَلَ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَى وَخَرَجَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ هِلَالَ ذِي الْقَعْدَةِ فِي أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ. وَقِيلَ: أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَسَاقَ سَبْعِينَ بَدَنَةً مِنْهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَحَلَّلَهَا وَأَشْعَرَهَا فِي الشِّقِّ الْأَيْمَنِ وَقَلَّدَهَا، وَهُنَّ مُوَجَّهَاتٌ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَلَبَّى وَقَدَّمَ أَمَامَهُ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ طَلِيعَةً، وَبَلَغَ قُرَيْشًا مَسِيرُهُ فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحَ، وَقَدَّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَوَقَفَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي خَيْلِهِ بِإِزَائِهِ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ فِي عُسْفَانَ، صَلَاةَ الْأَمْنِ وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقَرُبَتْ خَيْلُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى دَنَا مِنْهَا وَهِيَ طَرَفُ الْحَرَمِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، فَبَرَكَتْ نَاقَتُهُ الْقَصْوَاءُ فَزَجَرُوهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَنْبَعِثَ فَقَالُوا: خَلَأَتْ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيْ: رَجَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا خَلَأَتْ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، أَمَا وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً فِيهَا تَعْظِيمُ حرمة لله إلا أعطيتم إِيَّاهَا " ثُمَّ زَجَرَهَا، فَقَامَتْ، فَوَلَّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ حَتَّى نَزَلَ بِالنَّاسِ عَلَى ثَمَدٍ من ثماد الحديبية قليل الماء، فانتزع منها مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَغُرِسَ فِيهَا فَجَاشَتْ لَهُمْ بِالرِّوَاءِ حَتَّى اغْتَرَفُوا بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ، وَمُطِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَثُرَتِ الْمِيَاهُ، وَجَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي رَكْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَقَالَ: قَدْ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمِكَ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا لَكَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُخَلُّونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتَّى تبيد ضفراءهم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا جِئْنَا لِقِتَالٍ وَإِنَّمَا جِئْنَا لِلطَّوَافِ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ " وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَصْحَابِهِ سِلَاحٌ إِلَّا سُيُوفُ الْمُسَافِرِينَ فِي أَغْمَادِهَا، فَعَادَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فَبَعَثُوا عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 الثَّقَفِيَّ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَ قَبْلَهُ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْكَعْبِيَّ، وأمره أن ينبىء قُرَيْشًا أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا زُوَّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمَعَنَا هَدْيٌ نَنْحَرُهُ، وَنَنْصَرِفُ، فَأَتَاهُمْ عُثْمَانُ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، وَلَا يَدْخُلُهَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فَبَايَعَ أَصْحَابَهُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَبَايَعَ لِعُثْمَانَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَجَعَلَتِ الرُّسُلُ تَخْتَلِفُ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى الصُّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ، فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي عِدَّةٍ مِنْ رِجَالِهِمْ لِعَقْدِ الصُّلْحِ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى أَنَّهُ لَا أَسْلَالَ وَلَا أَغْلَالَ، وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ وَعَقْدِهِ دَخَلَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهَا دَخَلَ، وَأَنَّهُ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ مُحَمَّدًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا يَرْجِعُ فِي عَامِهِ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلَ فِي أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلَاثًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا إلا بسلاح سِلَاحَ الْمُسَافِرِ السُّيُوفَ فِي الْقُرُبِ. شَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَدْرَ هَذَا الْكِتَابِ وَكَتَبَ عَلِيٌّ نُسْخَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأُخْرَى مَعَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ وَعَقْدِهِ وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَخَرَجَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ مَكَّةَ يُجْعَلُ فِي قَيْدِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ: " قَدْ تَمَّ الصلح بيننا وبين القوم فاصبر حتى يجعل اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا " وَانْطَلَقَ سُهَيْلٌ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَدْيَهُ، وَحَلَقَ شَعْرَهُ، حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ الْكَعْبِيُّ وَحَلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَصَرَّ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهْمَ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا "، فَقِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: " وَالْمُقَصِّرِينَ "، وَأَقَامَ بالحديبية بضع عشرة يَوْمًا. وَقِيلَ: عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ نَزَلَ عَلَيْهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أو فتح هُوَ؟ قَالَ " إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ " فَهَنَّأَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَنَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَكَرَ جَابِرٌ أَنَّ عَطَشًا أَصَابَهُمْ، فَأَتَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَوْرٍ فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، كَأَنَّهَا الْعُيُونُ حَتَّى ارْتَوَى جَمِيعُ النَّاسِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا، وَكَانَ أَبْرَكَ عَامٍ وَأَيْمَنَ صُلْحٍ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أسلم من قبل، وقرىء فِي عَقْدِ هَذَا الصُّلْحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَرِهُوهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَسْتَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ " فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّحِيفَةُ ابْتَدَأَتْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو نَعْرِفُ اللَّهَ، وَمَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، فَكَتَبَ سُهَيْلٌ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَتَبَ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا نَازَعْنَاكَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: " اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْحُوَ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: " إِنَّكَ سَتُسَامُ إِلَى مِثْلِهَا فَتُجِيبُ "، فَكَانَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ فِي التَّحْكِيمِ فِي مَحْوِ اسْمِهِ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، تَوَقَّفُوا، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَشَكَى ذَلِكَ إِلَيْهَا، فقالت: ابتدئي أَنْتَ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، فَإِنَّهُمْ سَيَتْبَعُونَكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَفَعَلُوا. ( [خُرُوجُ رُسُلِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُلُوكِ] ) وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ وَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ إِلَى قَيْصَرَ مِلْكِ الرُّومِ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ. وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 وَبَعَثَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى صَاحِبِ الْبَحْرَيْنِ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيَفْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ الْجَلَنْدِيِّ صَاحِبَيْ عُمَانَ، فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزْوَةٌ وَاحِدَةٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَرِيَّةً. (فصل: [غزوة خيبر] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةَ خَيْبَرَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ بُرُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ غَزَاهَا فِي الْمُحَرَّمِ، نَادَى فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى جِهَادِ خَيْبَرَ فَتَجَهَّزُوا، وَخَرَجُوا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ وَأَخْرَجَ مَعَهُ أُمَّ سَلَمَةَ، وَفَرَّقَ الرَّايَاتِ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ خَيْبَرَ رَايَاتٌ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَلْوِيَةُ وَكَانَتْ رَايَاتُهُ سَوْدَاءَ اتَّخَذَهَا مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَفَعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَايَةً، وَإِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَايَةً، وَإِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ رَايَةً، وَسَارَ إِلَى خَيْبَرَ فَنَزَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَطَفَانَ لِئَلَّا يُظَاهِرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ حِينَ رَأَى خَيْبَرَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ " وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَمْوَالِ فَأَخَذَهَا ثُمَّ فَتَحَهَا حِصْنًا حِصْنًا، فَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ حِصْنُ نَاعِمٍ وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ، بِرَحًّا أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِصْنِ، ثُمَّ فَتَحَ بَعْدَهُ الْقَمُوصَ حِصْنَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَاصْطَفَى مِنْ سَبَايَاهُ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَرَأَى فِي وَجْهِهَا أَثَرًا، فَقَالَ: " مَا هَذَا الْأَثَرُ؟ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ، وَهِيَ عَرُوسٌ بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا أَنَّكِ تُرِيدِينَ مَلِكَ الْحِجَازِ مُحَمَّدًا، وَلَطَمَ وَجْهَهَا فَاخْضَرَّ مِنْ لَطْمَتِهِ، وَهَذَا أَثَرُهُ وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ عِنْدَهُ كَنْزٌ لِبَنِي النَّضِيرِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ، فَأَتَاهُ يَهُودِيٌّ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَقَالَ لِكِنَانَةَ: " إِنْ وَجَدْتُ هَذَا الْكَنْزَ عِنْدَكَ أَقْتُلْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِالْخَرِبَةِ، فَحُفِرَتْ فَخَرَجَ مِنْهَا بَعْضُ الْكَنْزِ، وَسَأَلَهُ عَنْ بَاقِيهِ، فَأَنْكَرَهُ، فَسَلَّمَهُ إِلَى الزُّبَيْرِ فَعَذَّبَهُ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُ الْبَاقِيَ ثُمَّ سَلَّمَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ حَتَّى قَتَلَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ إِلَّا آلُ أَبِي الْحُقَيْقِ لأجل هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 ثم فتح حصن الشق وحصن النطاة وحصن الصعب بن معاذ وَكَانَ أَكْبَرَ الْحُصُونِ وَأَكْثَرَهَا مَالًا، وَحِصْنَ الْكُتَيْبَةِ وَبَقِيَ حِصْنُ الْوَطِيحِ، وَحِصْنُ السَّلَالِمِ، فَحَاصَرَهُمَا بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَعِنْدَهُمَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَبَرَزَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: (قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ) (أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ ... أَكْفَى إِذَا أَشْهَدُ مَنْ تَغَيَّبَ) (فَإِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبُ ... كَأَنَ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ) فَبَرَزَ إِلَيْهِ مِنْ مَثَّلَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ، فَحَكَى جَبَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَتَلَهُ. وَحَكَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَيَلْبَثُ فِيهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ، فَأَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ بِخَيْبَرَ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو بَكْرٍ وَنَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَجَعَ ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عُمَرُ فَنَهَضَ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى عَلِيٍّ، وَكَانَ بِعَيْنِهِ رَمَدٌ، فَتَفَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ رِيقِهِ وَخَرَجَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَرْحَبٌ مُرْتَجِزًا بِمَا قَالَ مِنْ رَجَزِهِ: (أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السَّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ) فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، وَهُوَ يَقُولُ: (أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَة ... أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَة) (لَيْثُ غابات شديد قسوره ... ) . فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ فَتَحَ الْحِصْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، وَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهَدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْحَبٍ وَامْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً مَسْمُومَةً، وَأَكْثَرَتْ مِنْ سُمِّهَا فِي الذِّرَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخَذَ الذِّرَاعَ وَمَضَغَهُ، وَلَمْ يَسُغْهُ وَأَكَلَ مَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، فَأَمَّا بِشْرٌ فَمَاتَ، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْعَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أَنَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 مَسْمُومٌ " وَدَعَى بِالْمَرْأَةِ، وَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَتْ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا بَلَغْتَ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ قَتَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ فَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ قَتَلَهَا، وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْهَا، وَأَنَّ أُمَّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ لَهَا: " يَا أُمَّ بِشْرٍ إِنَّ هَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُهَا مَعَ ابْنِكِ بِخَيْبَرَ " وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ، فَكَانَ قَوْمٌ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَاتَ مَعَ كَرَامَةِ اللَّهِ [له بالنبوة] شَهِيدًا وَلَمَّا جُمِعَتِ الْغَنَائِمُ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا فَرْوَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَيَاضِيَّ وَأَمَّرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ إِحْصَاءَ النَّاسِ فَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَا فَرَسٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، فَقَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، جَعَلَ نِصْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِنَوَائِبِهِ، وَنَصْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلْغَانِمِينَ، فَأَعْطَى كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا، وَعَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بَعْدَ زَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عِنْدَ مُسَاقَاتِهِمْ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " وَكَانَتْ حُصُونُهُمْ ثَمَانِيَةً أَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ الْكُتَيْبَةُ وَالْوَطِيحُ وَالسَّلَالِمُ، وَدَفَعَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِالنِّصْفِ خَمْسَةَ حُصُونٍ ناعم والقموص وشق والنطاة وَحِصْنُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَفِي خَيْبَرَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ الْمُتْعَةِ وَأَكْلَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَفِي خَيْبَرَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدَّوْسِيُّونَ وَفِيهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّونَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَنْ تَخَلَّفَ بِهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ نَفَسًا، فِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي سَفِينَتَيْنِ حَمَلَهُمُ النَّجَاشِيُّ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ فِي حَمْلِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما أدري أيهما أُسَرُّ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ " وَقَدِمَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ أَنْ تزوجها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَسَاقَ النَّجَاشِيُّ صَدَاقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنَ الْيَهُودِ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ فَدَكَ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ خَيْبَرَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، وَيُسَيِّرَهُمْ وَيُخَلُّوَا لَهُ أَمْوَالَهُمْ، ومشى وبينه وَبَيْنَهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَى هَذَا، وَصَارَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ فَيْئًا لَهُ، وَكَانَتْ خَيْرَ غَنِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الثَّمَرِ صَالَحَ أَهْلَ فَدَكَ عَلَى مِثْلِهِ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ بِعَمَلِهِمْ وَنِصْفُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْفَيْءِ. وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي سَفَرِهِ هَذَا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: " إِذَا نَسِيتُمُ الصَّلَاةَ فَصَلُّوهَا إِذَا ذكرتموها، فإن الله تعالى يقول: {أقم الصَّلاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14] . وَلَمَّا عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ اتَّخَذَ مِنْبَرَهُ دَرَجَتَيْنِ وَالْمُسْتَرَاحَ، وَصَارَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا عدل عنه إلى المنبر حن إليه (فصل: [سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد خيبر] ) ( [سرية عجز هوازن] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ خَيْبَرَ خَمْسَ سَرَايَا فَأَوَّلُهَا سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَعْبَانَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلى عجز هوازن، وهم في متربة عَلَى أَرْبَعِ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ طَرِيقًا صَعْبًا فَهَرَبُوا، وَعَادَ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. [سَرِيَّةُ بَنِي فَزَارَةَ] ) ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي شَعْبَانَ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ بِنَجْدٍ، فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَسَبَى، وَقَتَلَ. ( [سَرِيَّةُ بَنِي مُرَّةَ] ) ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فِي شَعْبَانَ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِنَاحِيَةِ فَدَكَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا فَاسْتَاقُوا أَنْعُمَ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَدْرَكُوهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا إِلَّا بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ نَجَا وَحْدَهُ وَاسْتَرْجَعُوا النَّعَمَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 ( [سَرِيَّةُ بَنِي عِمْرَانَ] ) ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ سَرِيَّةَ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى بَنِي عِمْرَانَ وَهُمْ بِالْمِيفَعَةِ وَرَاءَ بَطْنِ نَخْلٍ بِنَجْدٍ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَاسْتَاقُوا نَعَمَهُمْ إِبِلًا وَشِيَاهًا فَقَدِمُوا بِهَا الْمَدِينَةَ، وَلَمْ يَأْسِرُوا أَحَدًا وَفِيهَا: قَتَلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أُسَامَةُ: إِنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ ( [سَرِيَّةُ غَطَفَانَ] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ فِي شَوَّالٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى غَطَفَانَ، وَكَانُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ مَعَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَدْرَكَ نَعَمَهُمْ. فَسَاقَهَا، وَهَرَبُوا فَأَسَرَ مِنْهُمْ نَفْسَيْنِ قَدِمَ بهما المدينة فأسلما فأرسلهما. (فصل: [عمرة القضاء] ) ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عن عمرته أن يقضيها مده العام المقبل، فنادى في أصحابه أن لايتخلف أَحَدٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَخَرَجُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ من المسلمين عمار لم يشهد الْحُدَيْبِيَةَ، حَتَّى صَارُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ أَلْفَيْنِ وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ، وَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيَّ وَسَاقَ مَعَهُ سِتِّينَ بَدَنَةً، وَخَرَجَ فِي مِثْلِ الشَّهْرِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ وَسَارَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَلَبَّى وَأَحْرَمَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَبَّوْا وَقَدَّمَ أَمَامَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي الْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَوَشِّحُونَ بِالسُّيُوفِ يَمْشُونَ حَوْلَهُ مُلَبِّينَ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 (خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهْ ... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهْ) (فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رسوله ... إني شَهِيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهْ) (يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بقبله ... أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهْ) (فَالْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ ... كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ) (ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِيهًا ابْنَ رَوَاحَةَ. قُلْ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " فَقَالَهَا: وَقَالَهَا النَّاسُ، وَدَخَلَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ وَطَافٍ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُضْطَجِعًا بِثَوْبِهِ مِنْ فَوْقِ مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَتَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَسَعَى فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ، وَمَشَى فِي الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا حِينَ رَأَوُا المسلمين وقد هربوا منهم إلى رؤوس الْجِبَالِ: أَمَا تَرَوْهُمْ قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رحم الله امرءا أَظْهَرَ نَشَاطًا، وَجَلَدًا، وَأَضْطَبَعَ وَرَمَلَ فَاضْطَبَعُوا، وَرَمَلُوا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّعْيِ فِي الثَّلَاثِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَرْبَعَةِ بَقْيًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، وَقَالَ: " كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ " وَفَعَلَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَكَانَ قَدِ اسْتُوْقِفَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِبَطْن يَأْجِحَ فَمَرَّ مَنْ طَافَ وَسَعَى، فَوَقَفَ مَوْقِفَهُمْ، وَجَاءَ مَنْ تَخَلَّفَ هُنَاكَ فَطَافُوا وَسَعَوْا، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الكعبة فلم ينزل فِيهَا إِلَى الظُّهْرِ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا وَتَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةَ زَوَّجَهُ بِهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحَاطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَا لَهُ: قَدِ انْقَضَى أَجْلُكَ، فَاخْرُجْ عَنَّا، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ بِالْأَبْطَحِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ، وَأَنْ لَا يُمْسِيَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَكِبَ حَتَّى نَزَلَ سَرِفَ، وَأَقَامَ أَبُو رَافِعٍ بِمَكَّةَ حَتَّى أَمْسَى، ثُمَّ حَمَلَ مَيْمُونَةَ، فَبَنَى بِهَا بِسَرِف وَحَمَلَ مَعَهُ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 حَارِثَةَ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِجَعْفَرٍ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ: " الْخَالَةُ وَالِدَةٌ " ثُمَّ أَدْلَجَ حَتَّى قدم المدينة. (فصل: [سرية ابن أبي العوجاء] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ السَّنَةِ سَرِيَّةَ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ فِي ذِي الْحِجَّةِ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ عَيْنٌ لَهُمْ تَقْدُمُهُ بِإِنْذَارِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ أَحَاطُوا بِجَمِيعِ مَنْ مَعَهُ وَقَتَلُوهُمْ بِأُسَرِهِمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا فَتَمَاثَلَ وَوَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنْتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كِسْرَى أَبْرَوَيْزَ وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مِنْ مَكَّةَ. سُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا كَانَ فِيهَا فَكَانَ له فيها غزوة وست سرايا. (فصل: [ذِكْرُ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ] ) ( [غَزْوَةُ غَالِبٍ الليثي بني الملوح] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ، بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَنِي الْمُلَوَّحِ بِالْكَدِيدِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَاقُوا نَعَمَهُمْ، وَأَدْرَكَهُمُ الطَّلَبُ، فَجَاءَتْ سَحَابَةُ مَطَرٍ مَلَأَتِ الْوَادِي مَاءً فَحَالَ بَيْنَهُمْ، وَقَدِمُوا بِالنَّعَمِ الْمَدِينَةَ. ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهَا فِي بَقِيَّةِ صَفَرٍ إِلَى حِصَارِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ في مائتي رجل فيهم أمامة بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَقَالَ: مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي، فَقَدْ عَصَانِي وَأَمَرَهُمْ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ قَتْلَى، وَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا. ( [سَرِيَّةُ شُجَاعٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ بِالسِّيِّ] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، إِلَى جَمْعِ هَوَازِنَ بالسي بِنَاحِيَةِ رُكْبَةَ مِنْ وَرَاءِ الْمَعْدِنِ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 0 - رَجُلًا، فَاسْتَاقُوا نَعَمًا كَثِيرًا، وَشَاءً أَصَابَ السَّهْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَعَدَلَ الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَغَابَتِ السَّرِيَّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ، وَهِيَ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَوَجَدُوا بِهَا جَمْعًا كَثِيرًا فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ، حَتَّى قُتِلُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ جَرِيحٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُتَحَامِلًا، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَبَرِهِمْ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَهَمَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ بَعُدُوا فَكَفَّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْلِمًا وَقَدِمَ مَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَلَا أَذْكُرُ مَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يا عمر بايع، فإن الإسلام يجب ما قبله " (فصل: [غزوة مؤتة] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِجَيْشِ مُؤْتَةَ وَهِيَ بِأَرْضِ الشَّامِ بِأَدْنَى الْبَلْقَاءِ وَالْبَلْقَاءُ دُونَ دِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَسَبَبُهَا أَنَّهُ بَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيَّ رَسُولًا بِكِتَابٍ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى، فَلَمَّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ، فَقَتَلَهُ فلم يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَسُولٌ غَيْرُهُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَنَدَبَ النَّاسَ، فَأَسْرَعُوا وَعَسْكَرُوا بِالْجُرْفِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمِيرُ النَّاسِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ قُتِلَ، فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ، فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ منهم رجلا " وأوصاهم أن يأتوا مقتل الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَيَدْعُوا مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنِ اسْتَجَابُوا وَإِلَّا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ وَقَاتَلُوهُمْ، وَخَرَجَ مُشَيِّعًا لَهُمْ حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ أُمَرَاؤُهُ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مُوَدِّعًا فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَاللَّهِ مَا بِي حُبٌّ لِلدُّنْيَا وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْرَأُ وَذَكَرَ النَّارَ فَقَالَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ فَقَالَ. الْمُسْلِمُونَ " صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ، وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 (لَكِنِّي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا) (أَوْ طَعْنَةً بِيَدِي حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بَحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا) (حَتَى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا) ثُمَّ سَارُوا فَسَمِعَ الْعَدُوُّ بِمَسِيرِهِمْ، فَجَمَعَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ، وَأَقْبَلَ هِرَقْلُ فِي الرُّومِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَنَزَلَ المسلمون مكان مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَبَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْجُمُوعِ عَلَيْهِمْ، فَعَزَمُوا عَلَى الْمَقَامِ بِمَكَانِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْمِرُوا رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا يَأْتُونَهُ فَحَثَّهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا مُؤْتَةَ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ، وَالْعُرُوبَةِ حَتَّى نَزَلُوا شَارِقَ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ وَالْتَحَمَتِ الْحَرْبُ فِي مُؤْتَةَ، وَقَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَتَقَدَّمَ بِالرَّايَةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى طَاشَتْ بِهِ الرِّمَاحُ، فَقُتِلَ به حتى أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَنَزَلَ عن فرس له شفراء عَقَرَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ فَرَسٍ عَقَرَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلَ وَالْجِرَاحُ تَأْخُذُهُ حَتَّى ضَرَبَهُ رُومِيٌّ، فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، فَوُجِدَ فِي أَحَدِ نِصْفَيْهِ بِضْعَةٌ وَثَلَاثِينَ جُرْحًا وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْهُ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي بَدَنِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ جِرَاحَةً مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَأَى فِي نفسه ما استبشر لها فقال: (أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو فلتكرهنه) (إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّة) (قَدْ طَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّة ... هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّة) ثم نزل عن فرسه؛ لأن زيدا وجعفر قَاتِلَا رَجَّالَةً وَسَارَ بِالرَّايَةِ وَهُوَ يَقُولُ: (يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قد صليت) (وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ) وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيَّ إِلَيَّ، وَرَكَزَ الرَّايَةَ حَتَّى اجْتَمَعُوا إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ فَقَالُوا: أَنْتَ لَهَا، فَقَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ الرَّايَةَ، وَدَافَعَ الْقَوْمُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى انْصَرَفَ النَّاسُ، وَرُفِعَتِ الْأَرْضُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نَظَرَ مُعْتَرَكَ الْقَوْمِ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: " أَيُّهَا النَاسُ بَابُ خَيْرٍ بَابُ خَيْرٍ أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقَوُا الْعَدُوَّ فَقُتِلَ زَيْدٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 شَهِيدًا وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَهُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ " وَلَكِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَبَاءَ بِنَصْرٍ، فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ سَيْفَ اللَّهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْغَدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ فَقَالَ لَهُ الناس: قد علم الله ما كان مِنَ الْوَجْدِ فَلِمَاذَا تَبْتَسِمُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَحْزَنَنِي قَتْلُ أَصْحَابِي حَتَّى رَأَيْتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِهِمْ إعراضا كأنه كره السيف، ورأيت جعفر مَلَكَا ذَا جَنَاحَيْنِ مُضَرَّجًا بِالدِّمَاءِ مَصْبُوغَ الْقَوَادِمِ. فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ الطَّيَّارَ، وَلَمَّا قَدِمَ النَّاسُ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالْجُرْفِ، وَجَعَلَ قَوْمٌ يَحْثُونَ التُّرَابَ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " (فصل: [سرية ذات السلاسل] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ جَيْشِ مُؤْتَةَ، وَقَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَرْبَعَ سَرَايَا أَوَّلَهُنَّ سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَسَبَبُهَا: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ أَطْرَافَ الْمَدِينَةِ، فَأَنْفَذَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَبَلَغَهُ كَثْرَةُ جَمْعِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَمِدُّهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِعَمْرٍو وَلَا يَخْتَلِفَانِ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ اجْتَمَعَا أَنْ يَؤُمَّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا وَرَدْتَ مَدَدًا وَأَنَا الْأَمِيرُ، فَأَطَاعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَصَلَّى عمرو بالناس، ووطىء بِلَادَهُمْ، وَقَلَّلَ جَمْعَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا مُتَفَرِّقِينَ. ( [سَرِيَّةُ الْخَبَطِ] ) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةَ الْخَبَطِ فِي رَجَبٍ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقِبْلِيَّةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خُمْسُ لِيَالِ، فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ جُوعٌ شَدِيدٌ، فَأَكَلُوا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَتْ سَرِيَّةَ الْخَبَطِ، وَابْتَاعَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ جَزُورًا نَحَرَهَا لَهُمْ وَأَلْقَى الْبَحْرُ إِلَيْهِمْ حُوتًا عَظِيمًا، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلُوا منه وانصرفوا، ولم يلقوا كيدا. ( [سرية أبي قتادة الأنصاري إلى حضرموت] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى حَضْرَمَوْتَ وَهِيَ أَرْضُ مُحَارِبٍ بِنَجْدٍ فِي شَعْبَانَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا إِلَى غَطَفَانَ، فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ وَسَبَى كَثِيرًا، وَغَنَمَ مِائَتَيْ بَعِيرٍ وَأَلْفَيْ شَاةٍ وَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ بَعْدَ الْخُمُسِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَعَادُوا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. ( [سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ] ) ثُمَّ بَعَثَ سَرِيَّةَ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رَبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى بَطْنِ إِضَمَ، وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ ذِي خَشَبٍ وَذِي الْمَرْوَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ بُرُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي ثَمَانِيَةِ أَنْفُسٍ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِغَزْوَةِ مَكَّةَ؛ حَتَّى لَا يَظُنَّ ظَانٌّ إِنْ خَرَجَ إِلَّا أَنَّهُ إِلَى جِهَةِ أَبِي قَتَادَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ بِعِيرَهُ وَسَلَبَهُ ثُمَّ لَحِقُوا بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا عَلِمُوا مُسِيرَهُ إِلَى مَكَّةَ فَلَحِقُوهُ بِالسُّقْيَا وَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء: 94] . (فصل: [فتح مكة] ) ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَسَبَبُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا عَقَدَ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَقْدِهِ وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ مِنْ هُذَيْلٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَشَجَرَ نِفَارٌ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ، فَاسْتَعَانَ بَنُو بَكْرٍ بِقُرَيْشٍ فَأَعَانُوهُمْ على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 خُزَاعَةَ، وَحَضَرَ مَعَهُمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مُتَنَكِّرِينَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَحَاطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَكُرْزُ بْنُ حَفْصٍ وَبَيَّتُوا خُزَاعَةَ لَيْلًا بِالْوَتِيرِ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: (لَا هُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا) (فَوَالِدًا كُنَّا وَكُنْتَ وَلَدَا ... ثَمَّتْ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا) (فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا) (فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يَنْمِي صُعُدَا) (إِنْ سِيمَ خَسَفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا) (إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا) (وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أن لست أدعوا أحدا) (وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا) (فقتلونا ركعا سجدا ... ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ " ثُمَّ قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: " لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمَّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا السَّحَابَ لَيَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ ". لِأَنَّ الْحَرْبَ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَيْنَ بَنِي نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ قَدْ جَاءَ لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ فَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جَدِّدِ الْعَهْدَ وَزِدْ فِي الْمُدَّةِ، فَقَالَ لَهُ: " هَلْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ حَدَثٍ؟ " قَالَ: لَا قَالَ: فَنَحْنُ عَلَى صُلْحِنَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ، وَلَقِيَ عُمَرَ، وَلَقِيَ عَلِيًّا، فَلَمْ يَرَ عِنْدَهُمْ خَيْرًا، وَكَانَ أَغْلَظَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَأَرَقَّهُمْ عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ أَبُو سُفْيَانَ مَا أَحَبَّ قَامَ، فقال: إني قد أجرت بين الناس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا سُفْيَانَ؟ " وَعَادَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَخْفَى أَمْرَهُ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ؛ حَتَّى لَا يَرَوْنِي إِلَّا بَغْتَةً ". فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِهِمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ وَأَنَفْذَهُ إِلَيْهِمْ مَعَ امْرَأَةٍ شَدَّتْهُ فِي عِقَاصِ شَعْرِهَا، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَثَرِهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَأَخَذَا الْكِتَابَ مِنْهَا، وَأَحْضَرَ حَاطِبًا، وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَاعْتَذَرَ فَعَفَا عَنْهُ وَاسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ العرب وسار إلى مكة في عشر آلَافِ دِرْعٍ وَحَاسِرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ مَنْ جُهَيْنَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَمَنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ، وَمِنْ سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَمِنْ غِفَارَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَطَوَائِفُ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ وَخَرَجَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيَّ، وَصَارَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ مَا بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ فَأَفْطَرَ، وَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَحَبَّ فَلْيُفْطِرْ " ولما وصل قُدَيْدَ عَقَدَ الْأَلْوِيَةَ، وَالرَّايَاتِ لِلْقَبَائِلِ، وَلَقِيَهُ فِي طَرِيقِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي بَنِيقِ الْعُقَابِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعه عبد بن اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأرادا الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَكَرِهَ دُخُولَهُمَا، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ حَتَّى رَقَّ عَلَيْهِمَا فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ (لَعَمْرِي إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ راية ... لتغلب خيل الللات خَيْلُ مُحَمَّدِ) (لَكَالْمُدْلِجِ الْخَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي) (وَهَادٍ هَدَانِي غَيْرَ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مطرد) (أصد وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى ولو لم أنتسب من محمد) (هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يلم ويفند) (أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد) (فقل لثقيف لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك غيري أوعدي) (وما كنت في الجيش الذي نال عامرا ... وما كان عن جرى لساني ولا يدي) (قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سهام وسردد) وَلَمَّا سَارَ بِالسُّقْيَا لَقِيَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ عِشَاءً فَأَمَرَ أَنْ يُوقِدَ كُلُّ رَجُلٍ نَارًا، فَأُوقِدَتْ عَشَرَةُ آلَافِ نَارٍ، فَهَالَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَلَمْ يَعْرِفُوا الْخَبَرَ فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا صَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ عَنْوَةً إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ فركب بغلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْضَاءَ، وَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ لِيَرَى مَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 يُعْلِمُ قُرَيْشًا بِنُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بَيْنَ الْأَرْكَانِ إِذْ سَمِعَ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَرَفَ صَوْتَهُ فَأَرْدَفَهُ عَلَى الْبَغْلَةِ فِي جِوَارِهِ، وَعَادَ مَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، قِيلَ: وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ حَتَّى أَدْخَلَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَرَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يا رسول الله هذا أبوسفيان عدو الله وعدو لرسوله، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ: لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قُلْتَ هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْعَبَّاسِ: " اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ أَمَّنَّاهُ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ مِنَ الْغَدِ " فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَهُ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأَنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلُمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ! أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: اشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَكَ فَشَهِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " انْصَرِفْ وَاحْبِسْهُ عِنْدَ حَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ " فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ مَا يَكُونُ فِي قَوْمِهِ فَخْرًا، فَقَالَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ومن دخل دار حكيم بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن " واستثنى قتل سنة رِجَالٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَقَالَ يُقْتَلُونَ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَالرِّجَالُ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بن أبي سرح ومقيس بن صبابة، وَحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ وَالنِّسْوَةُ: هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَسَارَةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بن هاشم وقينتا بَنْتِ خَطَلٍ وَفَرْتَنَى وَقُرَيْبَة فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُخُولَ مَكَّةَ دَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَلَمَّا سَارَ بِهَا سَمِعَهُ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ يَقُولُ: (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَة ... الْيَوْمَ تُسْبَى الْحُرْمَةْ) فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ وَأَخَذَ الرَايَةَ مِنْهُ وَسَلَّمَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَأَنْفَذَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمَعَهُ رَايَتُهُ لِيَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ وَدَارُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَاهَا، وَأَنْفَذَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنَ اللَّيْطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَدَارُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِأَسْفَلِهَا، وَوَصَّاهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَهُوَ يَسِيرُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي مَعَ الْعَبَّاسِ تَمُرُّ بِهِ الْقَبَائِلُ، فَيَرَاهَا، فَيَقُولُ لِلْعَبَّاسِ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيَقُولُ لَهُ سليم فيقول: ما لي وتسليم، ثم تمر به أخرى فيقول: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيَقُولُ لَهُ أَسْلَمُ فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِأَسْلَمَ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ أُخْرَى فَيَقُولُ: مَنْ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: مُزَيْنَةُ فَيَقُولُ مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ، وَتَمُرُّ بِهِ أُخْرَى فَيَقُولُ: مَنْ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ لَهُ: جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ، كَذَلِكَ حَتَّى جَازَتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخَضْرَاءُ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَالَ: نَعَمْ إِذًا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ الْحَقِ الْآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ فَأَسْرَعَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ قَالُوا: فَمَهْ فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا: وَيْحَكَ {تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ} قَالَ مَنْ دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فَهُوَ آمِنٌ وَدَخَلَ الزُّبَيْرُ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ، فَغَرَسَ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجُونِ حَتَّى أَتَاهَا، وَدَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ بِالْخَنْدَمَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي جَمْعٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَحَابِيشِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي نُفَاثَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ فَانْهَزَمُوا أَعْظَمَ هَزِيمَةٍ فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البارقة على رؤوس الْجِبَالِ قَالَ: مَا هَذَا وَقَدْ نَهَيْتُ عَنِ القتال؟ فقيل له إن خالد قُوبِلَ، فَقَاتَلَ فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ، وَكَانَ فِيمَنْ قَاتَلَ خَالِدًا حَمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ قَدْ أَعَدَّ سِلَاحًا لِلْقِتَالِ، فَلَمَّا أَخَذَهُ لِيُقَاتِلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنَّهُ يَعْتَرِضُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ لَهَا: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (إِنْ تَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَا بي عِلَّة ... هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّه) (وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السِّلَّة ... ) فَلَمَّا لَحِقَ بِعِكْرِمَةَ صَفْوَان عَادَ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: اغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: فَأَيْنَ مَا كنت تقول فقال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 (إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه) (وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه) (يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلَا تُسْمَعُ إلا غمغمه) (لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ) وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ ضُرِبَتْ لَهُ بِالْحَجُونِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ؛ لِيَنْزِلَ فِيهَا عِنْدَ رَايَتِهِ الَّتِي غَرَسَهَا الزُّبَيْرُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْزِلَ مَنْزِلَكَ؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي ... أَرْضٌ بِهَا أَهْلِي وَعَوَّادِي) (أَرْضٌ بِهَا أَمْشِي بِلَا هادي ... أرض بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي) وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَى، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِصَنَمٍ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] فَيَقَعُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ، وَكَانَ أَعْظَمُهَا هُبَلَ وَهُوَ وِجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَجَاءَ إِلَى الْمَقَامِ، وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْكَعْبَةِ، فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ نَاحِيَتَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَأَسْلَمُوا طَوْعًا وكرها، وقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعْ بِنَا صُنْعَ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، ثُمَ قَالَ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] . ثُمَّ أَجْمَعُوا الْمُبَايَعَةَ، فَجَلَسَ عَلَى الصَّفَا، وَجَلَسَ عُمَرُ أَسْفَلَ مَجْلِسِهِ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ، فَبَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا فَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " وَجَاءَ النِّسَاءُ لِمُبَايَعَتِهِ وَكَانَ فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ مُتَنَكِّرَةً لِأَجْلِ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ عَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّكِ لَهِنْدُ فَقَالَتْ: أَنَا هِنْدُ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ: تُبَايِعِينَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا، فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيَّ مَا لَمْ تَأْخُذْهُ عَلَى الرِّجَالِ وَسَنُؤْتِيكَهُ قَالَ: وَلَا تَسْرِقْنَ، فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنِّي كُنْتُ أُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَّةَ وَالْهَنَّةَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 أَنْتِ فِي حَلٍّ مِمَّا مَضَى، فَقَالَ: وَلَا تزنين، فقالت: يا رسول الله وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ قَالَ وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ، قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ فَضَحِكَ عُمَرُ حَتَّى اسْتَغْرَبَ. قَالَ: وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ؛ وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ. قَالَ: وَلَا تَعْصِينَ في معروف، قالت: ما جلسنا هذه الْمَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ لِعُمَرَ: بَايِعْهُنَّ فَبَايَعْهُنَّ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُنَّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ أَرْسَلَ بِلَالًا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لِيَأْتِيَهُ بِمَفَاتِيحِ الْكَعْبَةِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَدَخَلَهَا فَصَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ وَالنَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَخَطَبَهُمْ وَدَعَا، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَاسُ كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ فَأَذْهِبُوا عَنْكُمْ فَخْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ تَحِلَّ لِيَ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلَمْ يَحِلَّ لَنَا مِنْ غَنَائِمِهَا شَيْءٌ فَلْيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ " وَذَلِكَ مِنْ غَدِ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمَفَاتِيحَ، وَقَالَ: خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا ظُلْمًا وَدَفَعَ السِّقَايَةَ إِلَى الْعَبَّاسِ بن عبد المطلب وقال: أعطيكم ما ترزءكم وَلَا تَرْزَؤُونَهَا ثُمَّ بَعَثَ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، وَحَانَ الظُّهْرُ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ صَلَّى مُدَّةَ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ ثُمَّ بَثَّ السَّرَايَا إِلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ الْعُزَّى، وَسُوَاعٍ، وَمَنَاةَ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ فَكَسَرَهُ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى رُهَاطٍ وَفِيهِ سُوَاعٌ وَهُوَ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ فَكَسَرَهُ وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيَّ إِلَى مَنَاةَ وَكَانَ صَنَمًا بِالْمُشَلَّلِ لِلْأَوْسِ وَالْخْزْرَجِ وَغَسَّانَ فَكَسَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعُ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إِلَّا كَسَرَهُ " [مَسِيرُ خَالِدٍ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ] وَلَمَّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْعُزَّى بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ سَرِيَّةً إِلَى بني جذيمة من كنانة وكانوا أسفل من مَكَّةَ عَلَى لَيْلَةٍ مِنْهَا نَاحِيَةَ يَلَمْلَمَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ دَاعِيًا إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مُسْلِمُونَ قَدْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَصَلَّيْنَا وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ فِي سَاحَاتِنَا وَأَذَّنَّا فِيهَا، فَقَالَ: مَا بَالِكُمْ بِالسِّلَاحِ؟ قَالُوا: خِفْنَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 أَنْ تَكُونُوا عَدُوًّا قَالَ: اسْتَأْسِرُوا، فَاسْتَأْسَرُوا وَفَرَّقَهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ، فَأَمَّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ كان في أيديهم وأما المهاجرون وال؟ أنصار فَأَرْسَلُوا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: اللهم إني أبرأ إليكم مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، وَأَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِدِيَاتِ الْقَتْلَى وَيُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ الْغُمَيْصَاءِ فَأَمَّا مَنْ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَتْلَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَابْنُ خَطَلٍ، تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " اقُتُلُوهُ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُ " فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صبابة قتله نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي قَوْمِهِ وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب أما ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَفَعَ لَهُ فَصَمَتَ طَوِيلًا، ثُمَّ شَفَّعَهُ فِيهِ وَكَانَ أَحَدَ الْأَنْصَارِ قَدْ نَذَرَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَأَخَذَ قَائِمَ سَيْفِهِ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: " هَلَّا وفيت بنذرك، قال: انتظرت أن تومىء إِلَيَّ بِعَيْنِكَ فَقَالَ الْإِيمَاءُ خِيَانَةٌ، وَلَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ "، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهُ هَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّنَهُ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ، فَقَدِمَتْ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا هِنْدٌ فَأَمَّنَهَا وَبَايَعَهَا وَأَمَّا سَارَةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمَّنَهَا وَأَمَّا بِنْتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا وَهَرَبَتِ الْأُخْرَى حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا، فَأَمَنَّهَا وَبَقِيَتْ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسًا بِالْأَبْطَحِ فِي زَمَانِ عُمَرَ فَقَتَلَهَا وَهَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى جُدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّنَهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَنَّتْنِي قَالَ: " نَعَمْ قَالَ: فَاجْعَلْنِي فِي أَمْرِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ: أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ "، وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ زوج أم هانىء بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ، وَهَرَبَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرِي فَأَمَّا هُبَيْرَةُ فَأَقَامَ بِهَا كَافِرًا حَتَّى مَاتَ وَأَمَّا ابْنُ الزِّبَعْرِي فَإِنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَمَاهُ إِلَى نَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَا زَادَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 (لا تعدمن رجل أَحَلَّكَ بُغْضَهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ) فجاء مسلما قال: (يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ) (إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ في سنن الرد ... ح وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ) (آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لربي ... ثم نفسي الشهيد أنت النذير) (إنني عنك زاجر ثم حي ... من لؤي فكلهم مغرور) وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ لِلصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ، وَخَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِحَرْبِ هَوَازِنَ فَكَانَتْ هَذِهِ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَعَ نَقْلِ هَذِهِ السِّيرَةِ هَلْ فَتَحَهَا عَنْوَةً، أَوْ صُلْحًا؟ فَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً بِالسَّيْفِ ثُمَّ أَمَّنَ أَهْلَهَا وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا بِأَمَانٍ عَقَدَهُ بِشَرْطٍ فَلَمَّا وَجَدَ الْكَفَّ لَزِمَ الْأَمَانُ وَالْعَقْدُ الصُّلْحُ وَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ هَذِهِ السِّيرَةِ أَنَّ أَسْفَلَ مَكَّةَ دَخَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْوَةً، لِأَنَّهُ قُوتِلَ فَقَاتَلَ وَقَتَلَ، وَأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ صُلْحًا؛ لِأَنَّهُمْ كَفُّوا وَالْتَزَمُوا شَرْطَ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَفَّ عَنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَقَرَّ بِمَكَّةَ الْتَزَمَ أَمَانَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَاسْتَأْنَفَ أَمَانَ مَنْ قَاتَلَ؛ فَلِذَلِكَ اسْتَجَارَ بِأُمِّ هانىء بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْتُلَهُمَا، فَمَنَعَتْهُ وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أم هانىء " وَلَوْ كَانَ الْأَمَانُ عَامًّا لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَانٌ لَكَانَ كُلُّ الناس كذلك فصل: [غزوة حنين] ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غزوة حنين إلى هوازن، وخرج إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ مَقَامِهِ بِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ مِنْ شَوَّالٍ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ آلَافٍ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ، وَأَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَحُنَيْنٌ وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعرنا سلاحك " فقال: أغصبيا مُحَمَّدُ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ " فَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنَ السِّلَاحِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ حَمْلَهَا فَفَعَلَ وَسَبَبُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ: أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَتَحَ مَكَّةَ، اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ وَأَشْرَافُ ثَقِيفٍ عَلَى جَمْعِ النَّاسِ لِمُحَارَبَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفَ ذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعُوا " بِأَوْطَاسٍ " سَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِحُنَيْنٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، الْعَاشِرِ من شوال عشاء فعبأ أصحا؟ فِي السَّحَرِ وَعَقَدَ الرَّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةَ فِي أَهْلِهَا، فَدَفَعَ أَلْوِيَةَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى ثَلَاثَةٍ، دَفَعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِوَاءً، وَإِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِوَاءً وَإِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِوَاءً، وَدَفَعَ أَلْوِيَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَدَفَعَ إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ لِوَاءً، وَدَفَعَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لِوَاءً، وَإِلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لِوَاءً، وَفَرَّقَ فِي الْقَبَائِلِ الْأَلْوِيَةَ يَحْمِلُهَا زُعَمَاؤُهُمْ وَعَبَّأَ النَّاسَ صُفُوفًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَظَاهَرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَلَبِسَ الْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ، وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ دُلْدُلَ وَالشَّهْبَاءَ فَأَمَّا هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ فَاجْتَمَعُوا بِأَوْطَاسٍ، وَعَلَى جَمِيعِهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضِيرِيُّ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِحَمْلِ ذَرَّارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لِيَحْتَمُوا بِهَا وَيُقَاتِلُوا عَنْهَا، وَكَانَ فِي النَّاسِ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ، شَيْخًا كَبِيرًا، لَا فَضْلَ فِيهِ إِلَّا التَّيَمُّنُ بِرَأْيِهِ وَكَانَ يُقَادُ فِي شِجَارٍ وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي جُشَمَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: فِي أَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ قال: نعم مجال الخيل: لا حزنه ضَرِسٌ وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ؛ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ بِنِسَائِهِمْ؟ وأبناءهم وَأَمْوَالِهِمْ فَدَعَى مَالِكًا، وَقَالَ لَهُ: سُقْتَ مَعَ الناس بنسائهم وأبنائهم واموالهم ووأنه لَا يَنْفَعُكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ فَارْفَعْهُمْ إِلَى عَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ، ثُمَّ ألْقَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 الْحَرْبَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لحق بك من وراك، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ، وَلَمْ تَفْضَحْ قَوْمَكَ، فَلَمْ يُطِعْهُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ؛ وَلَمْ يَفُتْنِي: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ) ثُمَّ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي وَخَرَجَ كَمِينُ هَوَازِنَ مِنْ شِعَابِهِ، فَانْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ اللِّقَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي الْهَزِيمَةِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهُمُ النَّاسُ فِي الْهَزِيمَةِ أَفْوَاجًا حَتَّى بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ أَخُو أُسَامَةَ مِنْ أُمِّهِ، وَتَكَلَّمَ جُفَاةُ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوُا الْهَزِيمَةَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ من الضغين وَضَرَبَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِأَزْلَامٍ كَانَتْ فِي كِنَانَتِهِ، وَقَالَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ وَغُلِبَتْ هَوَازِنُ، وَقَالَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ كَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ قَالَ: فوالله لأن ير بني رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ، وَصَفْوَانُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فِي شُهُورِ خِيَارِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ انْحَازَ ذَاتَ الْيَمِينِ فَنَادَى إِلَيَّ عِبَادِ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ " فَمَا رُئِيَ فِي النَّاسِ أَشْجَعُ مِنْهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، وَهُوَ رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ؛ يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَجَابَهُ مَنْ سَمِعَهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَتَبِعُوا الصَّوْتَ فَلَمَّا اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ، فَاقْتَتَلُوا وَتَلَاحَقَ بِهِمُ النَّاسُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَفَّ تُرَابٍ أَلْقَاهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ حاميم لَا يُبْصِرُونَ وَاجْتَلَدَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مُجْتَلَدِهِمْ قَالَ: الْآنَ حَمَى الْوَطِيسُ فَوَلَّتْ هَوَازِنُ مُنْهَزِمَةً وَثَبَتَ بَعْدَهُمْ ثَقِيفٌ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةَ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقَتَلَ أَبُو طلحة عشرين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 قَتِيلًا أَعْطَاهُ أَسْلَابَهُمْ، حَكَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَسْكَرَ نَاسٌ بِأَوْطَاسٍ، فَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِمْ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فِي جَيْشٍ فَهَزَمَهُمْ وَأَدْرَكَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فِي شِجَارِهِ فَقَتَلَهُ فَبَرَزَ ابْنُهُ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ مُرْتَجِزًا يَقُولُ: ... 0 إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لمن توسمه) (أضرب بالسيف رؤوس الْمُسْلِمَهْ ... ) وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَدْرَكَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ حِينَ رُمِيَ بِالسَّهْمِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْجَيْشِ أَبَا مُوسَى وَوَصَّاهُ إِذَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْرِئَهُ مِنْهُ السَّلَامَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمَّتِي فِي الْجَنَّةِ " وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ قَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ بِنَفْسِهِ تِسْعَةً مُبَارَزَةً حَتَّى قَتَلَهُ الْعَاشِرُ وَلَمَّا انْهَزَمُوا لَحِقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ رَئِيسُ الْقَوْمِ بِالطَّائِفِ فَتَحَصَّنَ بِهَا وَحَازَ الْمُسْلِمُونَ السَّبَايَا وَالْأَمْوَالَ فَكَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ رَأْسِ وَالْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرِ، وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيَّةٍ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحُمِلَ السَّبْيُ وَالْأَمْوَالُ إِلَى الْجِعْرَانَةَ وَوَلَّى عَلَيْهِ مسعود بن عمرو القارىء [غَزْوَةُ الطَّائِفِ] وَسَارَ إِلَى الطَّائِفِ لِقِتَالِ مَنْ بِهَا مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ هوازن فاغلقوا حصنم، وَقَاتَلُوا فِيهِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَنَادَى فِي حِصَارِهَا: أَيُّمَا عَبْدٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ، فَنَزَلَ مِنَ الْحِصْنِ فِي بَكْرَةٍ فَقِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرَةَ فَأَعْتَقَهُمْ، وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُؤْنَتِهِ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِف، وَنَاشَدُوهُ بِالرَّحِمِ، أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فِي قَطْعٍ كُرُومِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِمْ، فَأَزْمَعَ عَلَى الرُّجُوعِ، وَكَانَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: رَأَيْتُ أَنَّهُ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ، فَأَهْرَاقَ مَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَظُنُّكَ تُدْرِكُ مِنْهُمْ فِي وَقْتِكَ هَذَا مَا تُرِيدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَذَلِكَ أَقُولُ، فَاسْتَشَارَ فِيهِمْ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ نَصَبَ عَلَيْهِمْ مَنْجَنِيقًا، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ كُرُومًا لِيَقْسِمَ مَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 بالجعرانة من غنائم هوازن، فقدم الجعرانة يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ؛ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ وَقَدْ أَسْلَمُوا، وَفِيهِمْ أَبُو مُبَرِّدٍ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكُ وَخَالَاتُكَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ رَضِيعًا فِيهِمْ؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِ حَلِيمَةَ، وَكَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ ولو كنا ملحنا لِلْحَارِثِ بْنَ أَبِي شِمْرٍ أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ أَيْ: أَرْضَعْنَا ثُمَّ نَزَلْنَا مِنْهُ مَنْزِلَكَ مِنَّا لَرَعَى ذَاكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلَيْنِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ) (امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ) (إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمْ نَعْمَاءُ نَنْثُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ) (إِنَّا لنشكر آلاء وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ) (فَالْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ ... مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ) (إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تغفو وتنتصر) (فأغفر عَفَا اللَّهُ عَمًّا أَنْتَ وَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ مَنْ مَعِي فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ " فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أما مالي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَسْأَلُ النَاسَ " فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمِ فَلَا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا، فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَهَّنْتُمُونِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للناس إن هؤلاء القوم قد جاؤوا مُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ سَبْيَهُمْ وَقَدْ خَيَّرَتْهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَبْنَاءِ وَالنِّسَاءِ شَيْئًا، فَمَنْ كَانَ عنده من مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَرُدَّهُ فَسَبِيلُ ذَلِكَ وَمَنْ أَبَى فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ سِتُّ قَلَائِصَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ فَرْضًا عَلَيْنَا مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَرَدُّوا إِلَّا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَبَى أَنْ يَرُدَّ عَجُوزًا مَعَهُ طَلَبًا لِفِدَائِهَا، ثُمَّ رَدَّهَا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ رَدِّ السَّبَايَا رَكِبَ فَاتَّبَعُوهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا حتى ألجؤوه إِلَى شَجَرَةٍ اخْتَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهَا عَلَيْكُمْ، وَمَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا، ثُمَّ أَخَذَ وَبَرَةً، وَقَالَ: مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةُ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَرُدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغَلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ، فَبَدَأَ بِإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةَ بَعِيرٍ، فَقَالَ: ابْنِي مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: أَعْطُوهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ثُمَّ سَأَلَهُ مِائَةً أُخْرَى فَأَعْطَاهُ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حويطب بن عبد العزى مِائَةَ بَعِيرٍ، وَقَدْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنَ الطَّائِفِ، وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة ماثة بَعِيرٍ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّضْرِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِائَةِ وَأَعْطَى غَيْرَهُمَ دُونَهُمْ؛ وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَبَاعِرَ، فَسَخِطَهَا وَاسْتَعْتَبَ بِشِعْرٍ فَقَالَ: (كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ) (وَإِيقَاظِي الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ) (فأصبح نهبي ونهب العبيد ... د بين عيينة والأقرع) (وقد كنت في الحرب ذا تدراء ... فلم أعط شيئا ولم امنع) (إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع) (وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في المجمع) (وما كنت دون امرىء مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ " فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ وَاخْتُلِفَ فِيمَا أَعْطَاهُ الْمُؤَلَّفَةَ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ أَثْبَتُ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ، ثُمَّ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النَّاسِ وَالْغَنَائِمِ، وَفَضَّهَا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ سَهْمُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعِينَ شَاةً وَكَانَ سَهْمُ كُلِّ فَارِسٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَمِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ فَرَسٍ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ وَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُؤَلَّفَةَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ، مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَدَخَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ أَعْطَيْتَ غَيْرَهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 وَحَرَمْتَهُمْ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " يَا معشر الأنصار ما قالة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَمَوْجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؛ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ " قَالُوا: لِلَّهِ ولرسوله المن والفضل، فقال: " ألا تجيئونني يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَمَا وَاللَّهِ، لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ وَجَدْتُمْ فِي أَنْفَسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَيَ إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحَاهُمْ، وَقَالُوا رَضِينَا بِاللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا وَتَفَرَّقُوا وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالجعرانية ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إِلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَدَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ رَأَسَهُ، وَرَجَعَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ مِنْ لَيْلَتِهِ، ثُمَّ غَدَا يَوْمَ الْخَمِيسِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَفِيهَا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، وَخَيَّرَهَا مَعَ نِسَائِهِ فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتْ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَارَ نِسَاؤُهُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَتْ مِنْهُ الْوَلَدَ، فَبَشَّرَهُ أَبُو رَافِعٍ بِهِ فَوَهَبَ لَهُ مَمْلُوكًا وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ عَامَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَا كَانَ فِيهَا فَتْحُ مَكَّةَ فَكَانَ فيها غزوتان وثلاث عشرة سرية فصل: [ذكر حوادث سنة تسع] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَبَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُصَدِّقِينَ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ؛ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَرَدِّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ، فَبَعَثَ سَرِيَّةَ ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ إِلَى أَسْلَمَ وغفار الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 وَبَعَثَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ إِلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ إِلَى جُهَيْنَةَ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ وَبَعَثَ إلى جيفر وَعَمْرٍو ابْنَيِ الْجَلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزِدِ مُصَدِّقًا فَخَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ فَأَخَذَهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِهِمْ وَبَعَثَ الضَّحَّاكَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيَّ إِلَى بَنِي كِلَابٍ وَبَعَثَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ الْكَلْبِيَّ إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَبَعَثَ ابْنَ الدَّثِنَةِ الْأَزْدِيَّ إِلَى بَنِي ذيبان، وَأَمَرَ مُصَدِّقِيهِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ، وَيَتَوَقَّوْا كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ بَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرٌ وَلَا أَنْصَارِيٌّ فَلَمَّا رَأَوْهُ وَلَّوْا عَنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا، وَقَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحُبِسُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَدِمَ فِيهِمْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ فَنَادَوْا: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَتَعَلَّقُوا بِهِ يُكَلِّمُونَهُ فِيهِمْ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ جَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَقَدَّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ فَتَكَلَّمَ وَخَطَبَ، وَأَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَأَجَابَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: يا محمد ائذن لشاعرنا فأذن وفقام الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَأَنْشَدَ: (نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيَّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ) (وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... عِنْدَ النِّهَابِ وفضل العز يتبع) (ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع) (ثم ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويا ثم نطلع) (فننحر الكوم عبطا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا) (فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَقَادُوا وكاد الرأس يقتطع) (إنا أبينا ولده يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ) (فَمَنْ يُقَادِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا ... فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: أَجِبْهُ فَقَامَ حَسَّانُ فَأَنْشَدَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 (إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ) (يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ) (قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا) (سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهًا الْبِدَعُ) (إِنْ كَانَ فِي النَاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ) ( ... لَا يَرْفَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ ما رقعوا) ( ... إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ ... أَوْ وازنوا أهل نجد بِالنَّدَى مَتَعُوا) (أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لَا يَطْبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ) (لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمُ ... وَلَا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طبع) (إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع) (نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا) (لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع) (كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية في أرساغها فدع) (خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتُوا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا) (فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... شرا يخاض عليه السم والسلع) (أكرم بقول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع) (أهدي لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع) (فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ مجد القول أو شمعوا) فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ مِنْ شِعْرِهِ، قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤْتَى الْحِكْمَةَ، لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَكَانَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ قَدْ أَسْلَمَا مِنْ قَبْلُ وَشَهِدَا حُنَيْنًا، فَأَجَارَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَسْرَى وَالسَّبْيَ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] ثُمَّ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ مُصَدِّقًا وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ تَلَقَّوْهُ بِالْجَزُورِ وَالنَّعَمِ فَرَحًا بِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ بِالسِّلَاحِ، وَمَنَعُوهُ الصَّدَقَةَ فَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ وَفْدُهُمْ، فَذَكَرُوا لَهُ مَا كَانَ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ وَأَنْفَذَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ مَعَهُمْ؛ لِيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ وَيُعَلِّمَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فأقام فيهم عشرا، وعاد وَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُؤَلَّفَةَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ في الأنصار راضياً الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 فَصْلٌ: وَفِيهَا قَدِمَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدِمَ وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ وَقَالُوا: قَدِمْنَا قَبْلَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات: 17] وَقَدِمَ وَفْدُ الدَّارِيِّينَ مِنْ لَخْمٍ وَهُمْ عَشَرَةٌ وَقَدِمَ وَفْدُ بَلِيٍّ فَنَزَلُوا عَلَى رُوَيْفِعٍ الْبَلَوِيِّ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ حِينَ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْجِعْرَانَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَدْرَكَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ وَاسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالطَّائِفِ. يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِطَاعَتِهِمْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَشْرَفُوا عَلَيْهِ مِنْ حَصَّنَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِإِسْلَامِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فرموه بالنبل من كل جهة وحتى أَصَابَهُ سَهْمُ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ فَقَتَلَهُ فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا تَرَى مِنْ دَمِكَ؟ فَقَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ، فَلَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا مَا لِلشُّهَدَاءِ، فَادْفِنُونِي معهم وفلما بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ لَيْسَ فِي قَوْمِهِ " فَلَمَّا رَأَتْ ثَقِيفٌ إِسْلَامَ جَمِيعِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِمْ لَا يَأْمَنُ لَهُمْ بَهِيمَةٌ وَلَا يَأْمَنُ لَهُمْ سِرْبٌ، وَلَا يَطْلُعُ مِنْهُمْ ركب ائتمروا بينهم وحتى اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى إِنْفَاذِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَشُرَحَبِيلُ بْنُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ، وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ فَخَرَجَ بِهِمْ، وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ رَآهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَرْعَوْنَهَا نَوْبًا، وَكَانَتْ نَوْبَةُ الْمُغِيرَةِ، فَأَسْرَعَ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقُدُومِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْبَيْعَةِ، فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ مِنْهُ، فَبَشَّرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقُدُومِهِمْ، وَعَادَ الْمُغِيرَةُ إِلَيْهِمْ، وَرَاحَ بِالرِّكَابِ مَعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ تَحِيَّةَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحَيُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ وَمَشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، حَتَّى أَسْلَمُوا، وَشَرَطُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدَعَ لَهُمُ الطَّاغِيَةَ، وَهِيَ اللَّاتُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَالثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّوْا كَسْرَ أَوْثَانِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَمَّا الطَّاغِيَةُ فَلَا أُقِرُّهَا فَاسْتَنْزَلُوهُ عَنْهَا إِلَى شَهْرٍ فَأَبَى، وَأَنْفَذَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لِهَدْمِهَا، وَأَنْ يَقْضِيَ أَبُو سُفْيَانَ دَيْنَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ مَالِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 فَهَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ، وَقَضَى أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَالِهَا دَيْنَ عُرْوَةَ قَالَ: وَأَمَّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَشَأْنُكُمْ وَإِيَّاهَا وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ، فَقَالُوا: أَمَّا هَذِهِ فَسَنُؤْتِيكَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا دَنَاءَةٌ وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا بِخَطِّ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ وَأَمَرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ أَحْرَصَهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصْلٌ: وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علي بن أبي طالب سرية إلى طيء لَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ وَلِوَاءٌ أَبْيَضُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْفُلْسَ صَنَمًا لَهُمْ، وَيَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، فَشَنَّهَا عَلَيْهِمْ مَعَ الْفَجْرِ وَسَبَى إِبِلَ حَاتِمٍ، وَسَبَى بِنْتَهُ أُخْتَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهَرَبَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَاقَ النَّعَمَ، وهدم الفلس وكان في بيت الصنم سفيان لَهُمَا ذِكْرٌ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا رَسُوبٌ، وَلِلْآخَرِ الْمِخْدَمُ كَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ نَذَرَهُمَا لَهُ فصار إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالصَّفِيِّ وَقَسَمَ النَّعَمَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا وَعَزَلَ آلَ حَاتِمٍ حَتَّى قَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، فَعَزَلَهُمْ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَتْ إِلَيْهِ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَكَانَتِ امرأة جزلة فقالت: يا رسول هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَنْتِ، فَقَالَتْ: بِنْتُ الرَّجُلِ الْجَوَّادِ حَاتِمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ارْحَمُوا غَنِيًّا افْتَقَرَ ارْحَمُوا عَالِمًا ضَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: قَدْ مَنَنْتُ عَلَيْكِ فَلَا تَعْجَلِي بِالْخُرُوجِ حَتَّى تَجِدِي مِنْ ثِقَاتِ قَوْمِكِ مَنْ يُبَلِّغُكِ إِلَى بِلَادِكِ " فَأَقَامَتْ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ قُضَاعَةَ تَأْمَنُهُمْ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَسَاهَا وَزَوَّدَهَا وَحَمَلَهَا حَتَّى قَدِمَتِ الشَّامَ عَلَى أَخِيهَا عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَاسْتَشَارَهَا فِي أَمْرِهِ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَنْتَ فَقَالَ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَقَامَ وَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ عَدِيٌّ: فَعَلِمْتُ حِينَ فَعَلَ هَذَا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِمَلِكٍ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ إِنَمَا مَنَعَكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاللَّهِ لَيُوشَكَنَّ الْمَالُ يَفِيضُ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ؛ وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَرَى مِنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهُمْ؛ فَوَاللَّهِ لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَى تَزُورَ الْبَيْتَ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنَ الدُّخُولِ أَنَّكَ تَرَى الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فتحت " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 فَأَسْلَمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَكَانَ يَقُولُ: مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ قَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ شَيْئًا حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ، وايم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه فصل: [غزوة تبوك] ثُمَّ غَزْوَةُ تَبُوكَ إِلَى الرُّومِ فِي رَجَبٍ وَسَبَبُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَلَغَهُ أَنَّ الرُّومَ قَدِ اجْتَمَعَتْ مَعَ هِرَقْلَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ الْعَرَبِ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَعَزَمُوا عَلَى الْمَسِيرَةِ، وَقَدَّمُوا مُقَدَّمَاتِهِمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ لِحَرْبِ الرُّومِ، وَكَانَ عَادَتُهُ أَنْ يُوَرِّيَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى وَجْهٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِحَالِهِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِيهَا مَالًا عَظِيمًا وَكَانَ النَّاسُ فِي عِزَّةٍ مِنَ الْمَالِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ وَالْمَيْلُ إِلَى الظِّلَالِ، فَشَقَّ عَلَى النَّاسِ الْخُرُوجُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَعَصَمَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ حَتَّى أَجَابُوا وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَكَانَ يُحِبُّ الْخُرُوجَ فِيهِ فَعَسْكَرَ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَفِي أَحْلَافِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَعَسْكَرُوا بِنُفَيْلٍ بِثَنِّيَةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ عَسْكَرُهُ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، وَتَأَخَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْنَافٌ: مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَكَانُوا بِضْعًا وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَكَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ وَقَالُوا: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] واستأذنوا في العقود؟ ، فَأَذِنَ لَهُمْ؛ مِنْهُمُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَلَّكَ تَحْتَقِبُ بَعْضَ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ " فَقَالَ: لَا تَفْتِنِّي بِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفتنة سقطوا} [التوبة: 29] وصنف منهم المعذورون وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، ذَكَرُوا أَعْذَارًا وَاسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 وصنف منهم البكاؤون: وَهُمْ سَبْعَةٌ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَمْرُو بْنُ حَمَامٍ آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَحْمِلُونَهُ فَقَالَ: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَصِنْفٌ مِنْهُمْ مُتَخَلِّفُونَ بِغَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارتياب وهم ثلاثة: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قَدِمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا وَاقْتَرَنَ بِهِمُ اثْنَانِ تَأَخَّرَا فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ لَحِقَا بِهِ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ السَّالِمِيُّ فَأَمَّا أَبُو خَيْثَمَةَ فَإِنَّهُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ، قَدْ صَنَعَتَا لَهُ طَعَامًا وَرَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، فَذَكَرَ مَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْحَرِّ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَنِّ فَحَلَفَ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ فَأَدْرَكَهُ، وَقَدْ سَارَ إِلَى تَبُوكَ، وَهُوَ نَازِلٌ بِهَا فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَالَ: " كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ " فَقَالُوا: هو والله أبو خيثمة فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ فَدَعَا لَهُ وَقَالَ فِيهِ خَيْرًا وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ: فَإِنَّ بَعِيرَهُ بَعْدَ السَّيْرِ أَبْطَأَ بِهِ، فَتَأَخَّرَ عَنِ النَّاسِ، فَذُكِرَ تَأْخِيرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ " فَلَمَّا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ الْبَعِيرُ حَمَلَ متاعه على ظهره وسار تبع الْآثَارِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ النَّاسِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي وَحْدَهُ، فَقَالَ: كُنْ أَبَا ذَرٍّ، فَقَالُوا: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: " يَرْحُمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ " فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ وَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ وَصَّاهُمَا أَنْ يُغَسِّلَاهُ وَيُكَفِّنَاهُ، وَيَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ، قُولَا لَهُ، هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ وَوَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا فَقَامَ إِلَيْهِمُ الْغُلَامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بَاكِيًا وَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ " فَكَانَ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ أَبِي خَيْثَمَةَ من معجزاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمَّا أَزْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَسِيرَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَخْلَفَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ على الصلاة بالناس في معسكره، وصار فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَفِيهِمْ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ ورجع عبد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَسَارَ فِي عُسْرَةٍ مِنَ الظَّهْرِ كَانَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةِ عَلَى بَعِيرٍ، وَفِي عُسْرَةٍ مِنَ النَّفَقَةِ، وَفِي عُسْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ فَظَهَرَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ فِي هَذَا الْمَسِيرِ أَنَّهُ مَرَّ بِالْحِجْرِ فَنَزَلَهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ مَائِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تشربوه ولا تتوضأوا مِنْهُ، وَمَنْ عَجَنَ بِهِ عَجِينًا فَلَا يَأْكُلْهُ، وَيَعْلِفْهُ بَعِيرَهُ وَلَا يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَّا مَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ "، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِلَّا رَجُلَيْنِ خَرَجَ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ لِطَلَبِ بِعِيرِهِ، فَأَمَّا الْخَارِجُ لِحَاجَتِهِ فخنق على مذهبه، وَأَمَّا الْخَارِجُ لِطَلَبِ بَعِيرِهِ، فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى طرحته على جبلي طيء فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَقَالَ: " أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ " وَدَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الْوَاقِعُ عَلَى جَبَلٍ طيء فَإِنَّ طَيِّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَسَارُوا وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ عَطِشُوا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ سَحَابَةً أَمْطَرَتْ، فَارْتَوَى النَّاسُ وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ، وَضَلَّتْ رَاحِلَةُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْبِ أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا إِنْ أَعْلَمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي الشِّعْبِ الْفُلَانِيِّ قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزَمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَى تَأْتُوا بِهَا " فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ فَأَتَوْهُ بِهَا وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ تَبُوكَ فَلَمَّا اسْتَقَرَ بِهَا أَتَاهُ ابْنُ رُؤْبَةَ صاحب أبلة، فصالحه على أيله ووأعطاه الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدَرَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ كِنْدَةَ وَهُوَ مَلِكٌ عَلَيْهَا نصراني، فصار إِلَيْهِ خَالِدٌ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا. وَقَالَ لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ فَلَّمَا دَنَا خَالِدٌ أَقْبَلَتِ الْبَقَرُ تَطِيفُ بِحِصْنِ أُكَيْدَرَ فَلَمَّا رَآهَا فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ نَزَلَ إِلَيْهَا مَعَ أَخِيهِ حَسَّانَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِهَا لِيَصِيدَهَا فأدركته خيل خالد، فقتل حسانا، وَأَسَرَ أُكَيْدِرَ، وَأَجَارَهُ عَلَى دَمِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا أَتَاهُ حَقَنَ دَمَهُ، وَكَانَ خَالِدٌ قَدْ أَجَارَهُ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ، وَصَالَحَهُ عَلَى عَمَلِهِ بِأَلْفَيْ بَعِيرٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْعٍ عَزَلَ مِنْهُ الْخُمُسَ وَالصَّفِيَّ، وَقَسَمَ بَاقِيَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَكَانَ السَّهْمُ خَمْسَ فَرَائِضَ وَبَذَلَ الْجِزْيَةَ فَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهَا وَرَدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَهِرَقْلُ بِحِمْصَ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ تَبُوكَ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَمَّا نَزَلَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ بِذِي أَوَانٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ أَهْلُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ حِينَ مَرَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى تَبُوكَ سَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: " حَتَّى نَرْجِعَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ فَأَنْفَذَ مِنْ ذِي أَوَانٍ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ، وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ حَتَّى أَضْرَمَا فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ نَارًا، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ المنافقون يحلقون وَيَعْتَذِرُونَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَعْذُرْهُمْ، وَنَهَى عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا، وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كَلَامِهِمْ، حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَلَهُمُ النَّاسُ، وَاعْتَزَلُوا النَّاسَ، وَقَبِلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَنَفْيِ الِارْتِيَابِ. وَكَانَتْ هَذِهِ غَزَوَاتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُدُومِهِمْ مِنْهَا فِي بَيْعِ أَسْلِحَتِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ آنَ قَطْعُ الْجِهَادِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُجَاهِدُونَ على الحق حتى يخرج الدجال " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 بسم الله الرحمن الرحيم فَصْلٌ: ثُمَّ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ بِالنَّاسِ فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ عِشْرِينَ بَدَنَةً قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ، وَعَلَيْهَا نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، وَحَجَّ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَاقَ هَدْيًا، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيًّا عَلَى أَثَرِهِ، لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، فَأَدْرَكَهُ بِالْعَرَجِ وَأَخَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَعْمَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ بَعَثَنِي لِأَقْرَأَ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَحَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَاءَةٌ إِلَى أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَقَالَ: لَا يَحُجَنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَعَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّجَاشِيَّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ فِي رَجَبٍ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ بَعْدَ أَنْ مَرِضَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزْوَةٌ وَسَرِيَّتَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ وأحكم فصل: [ذِكْرُ حَوَادِثِ سَنَةَ عَشْرٍ سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الوليد إلى بني عبد المدان] ثم دخلت سنة عشر فيها بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ بِنَجْرَانَ فَأَسْلَمُوا وَأَقْبَلَتْ وُفُودُهُمْ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعُوهُ، وَعَادُوا فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ، لِيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا لِيَحْمِلَهُمْ على ما فيه، وبي 5 ن فِيهِ الْأَحْكَامَ وَنُصُبَ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرَ الدِّيَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقِيلَ فِي جُمَادَى الْأُولَى [سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ] ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، فَكَانَتْ أَوَّلَ خَيْلٍ دَخَلَتْ تِلْكَ الْبِلَادَ فَنَاوَشُوهُ مِنْ أَوَائِلِهِمْ قَوْمٌ فَقَتَلَ مِنْهُمْ وَسَبَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 وَغَنِمَ، ثُمَّ تَسَارَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا، وَأَدَّوْا صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَسْلَمَتْ هَمَذَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِسْلَامُهُمْ خَرَّ سَاجِدًا، وَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَى هَمَذَانَ " وَتَتَابَعَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي الْإِسْلَامِ [قُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَفْدُ زُبَيْدٍ] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَتْ وُفُودُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُبَايِعُونَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ وَفْدُ زُبَيْدٍ، وعَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ مَعْد يكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فِيمَنِ ارْتَدَّ [وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ] وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكَذَّابُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَجَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ أَعْطَاهُمْ وَاخْتُلِفَ فِي مُسَيْلِمَةَ، هَلْ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ؟ ثُمَّ رَجَعَ مَعَ قَوْمِهِ إِلَى الْيَمَامَةِ فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَنَّهُ شَرِيكُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا، وَوَضَعَ عَنْهُمُ الصَّلَاةَ، وَأَحَلَّ الْخَمْرَ وَالزِّنَا [وَفْدُ كِنْدَةَ] وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ كِنْدَةَ، عَلَيْهِمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مُسْلِمِينَ وَفِيهَا قَدِمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ مُسْلِمًا، فِي شعبان وأنفذه عاملا على صدقات طيء وَأَسَدٍ وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَامِلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ وَبَعَثَ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي مَعْنٍ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ عَامِلًا عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ وَجِزْيَتِهِمْ، وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ وَأَحَرْمَ كَإِحْرَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ قَدْ أَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ سَاقَ هَدْيًا فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَمَعَكَ هَدْيٌ؟ قَالَ: لَا، فَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، وَكَانَ إِحْرَامُهُمَا بحج الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 (فصل: [حَجَّةُ الْوَدَاعِ] ) ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجة الوداع؛ وسيمت بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَدَّعَ فِيهَا النَّاسَ. وَسُمِّيَتْ حَجَّةُ الْبَلَاغِ؛ لِأَنَّهُ بَلَّغَ أُمَّتَهُ فِيهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ خُطْبَتُهُ. وَسُمِّيَتْ حَجَّةُ التَّمَامِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ تَمَامَهَا وَأَرَاهُمْ مَنَاسِكَهَا. وَسُمِّيَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ غَيْرَهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ غَيْرَهَا. وَحَكَى مُجَاهِدٌ أَنَّهُ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَيْنِ، وَرَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَصَارَتْ حِجَجُهُ ثَلَاثًا فِي رِوَايَتِهِمَا، فَخَرَجَ لَهَا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَصَلَّى فِيهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ الظُّهْرَ مَقْصُورَةً رَكْعَتَيْنِ، وَأَحْرَمَ مِنْهَا وَخَرَجَ بِجَمِيعِ نِسَائِهِ فِي الْهَوَادِجِ فَاخْتُلِفَ فِي إِحْرَامِهِ فَرَوَى خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَرَوَى عَنْهُ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ قَرَنَ وَرَوَى عَنْهُ ثَلَاثَةٌ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَسَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ هَدْيًا مُقَلَّدًا مُشْعَرًا وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ مِنْ أَعْلَى كَدَاءٍ، وَقِيلَ: بَلْ دَخَلَهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ نَهَارًا وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بني شيبة وطاف بالبيت سبعا مبتدءا مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَرَمَلَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ مِنْهَا وَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ فِي جَمِيعِهَا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَكَانَ قَدِ اضْطَرَبَ بِالْأَبْطُحِ، فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ وَبَاتَ بِهَا، وَخَرَجَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى وَبَاتَ بِهَا وَغَدَا مِنَ الْغَدِ إِلَى عَرَفَاتٍ وَصَلَّى فِي مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَقَفَ بِالْهِضَابِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَقَالَ: " كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ " فَوَقَفَ بِهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ مِنْهَا إِلَى مُزْدَلِفَةَ، يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ وَجَمَعَ بِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَبَاتَ بِهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا حَصَى جِمَارِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 وسار منها إلى منى ليصل صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَقَدَّمَ الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَوَقَفَ عَلَى قُزَحَ رَاكِبًا، وَأَوْضَعَ السَّيْرَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَدَخَلَ مِنًى فَرَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَحَرَ وَحَلَقَ وَأَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ وَعَارِضَيْهِ وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَاقْتَسَمَ شَعْرَهُ أَصْحَابُهُ وَأَمَرَ بِدَفْنِ مَا بَقِيَ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ قَمِيصًا وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِمِنًى " إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ فَلَا تَصُومُوا " وَقَالَ لِلنَّاسِ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ: وَنَحَرَ بِيَدِهِ مِنْ هَدْيِهِ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَدَفَعَ الْحَرْبَةَ إِلَى عَلِيٍّ فَنَحَرَ بَاقِيَهَا، وَقَالَ: " ائْتُونِي مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ " فَطُبِخَتْ فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ مَعَهُ عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ قَالَ طَاوُسٌ: وَطَافَ رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَتِهِ وَدَخَلَ الْبَيْتَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَأَتَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا وَنَفَلَ وَشَرِبَ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ وَسَعَى وَعَادَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَجَمِيعَ الصَّلَوَاتِ وَخَطَبَ بِمِنًى بَعْدَ الظُّهْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَى بَيْنَ الحجرات وَتَدَاوَلَهَا الرُّوَاةُ وَذَكَرَهَا الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَوْرَدَهَا الجاحظ في كتاب البيان وقال: " الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقَوْى اللَّهِ وَأَحُثُّكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَأَسْتَفْتِحُ اللَّهَ بِالَذِي هُوَ خَيْرٌ " أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فِي مَوْقِفِي هَذَا، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقُونَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ ربا موضوع، ولكم رؤوس أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لَا رِبًا، وَأَوَّلُ رِبًا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ دَمُ عَامِرِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَإِنَّ مَآثِرَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ غَيْرَ السِّدَانَةِ، وَالسِّقَايَةِ، وَالْعَمْدُ قَوَدٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا قُتِلَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ، وَفِيهِ مِائَةُ بَعِيرٍ فَمَنِ ازْدَادَ فَهُوَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بَأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 خلق الله السموات والأرض {وإن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كتاب الله يوم خلق السموات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ فَهُوَ الَذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا، أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يُدْخِلْنَ بُيُوتَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ إِلَّا بِإِذْنِكُمْ وَلَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ، وَتَهْجُرُوهُنَّ فِيَ الْمَضَاجِعِ، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِذَا انْتَهَيْنَ وَأَطَعْنَكُمْ فَعَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكُسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا النِّسَاءُ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ وَاسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْرًا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مَالُ أَخِيهِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ اللهم فاشهد أَيُّهَا النَاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ كُلُّكُمْ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالْوَا: نَعَمْ، قَالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُلُثِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يقبل الله منه صرفا ولا عَدْلًا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مما تلبسون، فإن جاؤوا بِذَنْبٍ لَا تُرِيدُونَ أَنْ تَغْفِرُوهُ فَبِيعُوا عِبَادَ اللَّهِ، وَلَا تُعَذِّبُوهُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا يُبَلِغُ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِمَّنْ سَمِعَهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ بِعَرَفَةَ، وَكَانَ الْمُبَلِّغُ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَطَبَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ زِيَادَةً فِي الْإِبْلَاغِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْدَفَ فِي حَجِّهِ هَذَا ثَلَاثَةً، أَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى ووأردف مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ مِنًى إِلَى مكة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَنَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ حِينَ وَقَفَ مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ، وَاضْمَحَلَّ الشِّرْكُ، وَهُدِمَتْ مَنَابِرُ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ الْمَدِينَةَ مُسْلِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَمَّا مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَرْبَعُ عُمَرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أسلم من باليمن فيروز الدليمي، وَبَاذَانُ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَكَانَ فِي هَذِهِ السنة سريتان (فصل: [ذِكْرُ حَوَادِثِ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ تَجْهِيزُ جَيْشِ أسامة] ) ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ فِيهَا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِلَى أَهْلِ أُبْنَى وَهِيَ أَرْضُ السَّرَاةِ نَاحِيَةَ الْبَلْقَانِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ قَالَ أَصْحَابُ السِّيَرِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالتَّأَهُّبِ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَعَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَقَالَ: سِرْ إِلَى مَوْضِعِ مَقْتَلِ أَبِيكَ، فَأَوْطِئْهُمُ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجَيْشَ، فَأَسْرِعِ السَّيْرَ وَاسْبِقِ الْأَخْبَارَ، وَخُذْ مَعَكَ الْأَدِلَّاءَ وَقَدِّمِ الْعُيُونَ وَاغْزُ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى فَأَوْطِئْهُمُ الْخَيْلَ فَإِنْ ظَفَّرَكَ اللَّهُ بِهِمْ فَأَقْلِلِ اللُّبْثَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحُمَّ وَصُدِعَ فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَقَدَ لِأُسَامَةَ لِوَاءً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: " اغْزُ بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فَخَرَجَ بِلِوَائِهِ مَعْقُودًا وَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ وَانْتَدَبَ مَعَهُ وُجُوهَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ تَأْمِيرِ أُسَامَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذَلِكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُعَصَّبٌ قَدْ شَدَّ رَأْسَهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ فِي تَأْمِيرِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَلَئِنْ طَعَنْتُمُ فِيهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي تَأْمِيرِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِلْإِمَارَةِ لَخَلِيقًا، وَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخَلِيقٌ بِالْإِمَارَةِ، وَإِنَّهُمَا أَهْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، فَاسْتَوْصُوا بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ مِنْ خِيَارِكُمْ " وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَجَاءَ مَنِ انْتَدَبَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَدِّعُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَمْضُونَ إِلَى الْمُعَسْكَرِ بِالْجُرْفِ، فَثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَدَخَلَ أُسَامَةُ فَوَجَدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَغْمُورًا، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَدُّوهُ فِيهِ، فَقَبَّلَ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَعَادَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ودخل عليه فوجده مغيبا، فَقَالَ لَهُ: اغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَوَدَّعَهُ أُسَامَةُ وَخَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَأَنْفَذَتْ إِلَيْهِ أُمُّ أَيْمَنَ رَسُولًا تَقُولُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمُوتُ فَعُدْ فَأَقْبَلَ وَمَعَهُ عُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ فوجدوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَتُوُفِّيَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الْأَوَّلِ فَدَخَلَ جَيْشُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ بِالْخِلَافَةِ أَمَرَ جَيْشَ أُسَامَةَ بِالْخُرُوجِ، وَأَمَرَ أُسَامَةَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَلَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي حَبْسِهِمْ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أَسْتَوْقِفُ جَيْشًا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَسِيرِ، وَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ أُسَامَةَ أَنْ يَأْذَنَ لِعُمَرَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ فَفَعَلَ. وَسَارَ بِهِمْ أُسَامَةُ فِي هِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ إِلَى أَهْلِ أُبْنَى فِي عِشْرِينَ يَوْمًا فَشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِيهِ، وَسَبَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَحَرَّقَ عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَعَادَ مَوْفُورًا، وَمَا أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُسْتَقْبِلِينَ لهم سرورا بسلامتهم فصل: [وَفَاةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] فِي مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَنْذَرَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَوْتِهِ حِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} فَقَالَ: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَقَالَ فِيهَا مَا قَالَ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ مَوْتِهِ عَرَضَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: لَا أَظُنُّ إِلَّا قَدْ حَضَرَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ وَالْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَكَانَ هَذَا نَذِيرًا بِمَوْتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ لِيَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِهِ وَلِلشُّهَدَاءِ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ تَوْدِيعًا لِلْأَمْوَاتِ قَبْلَ الْأَحْيَاءِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، أَتَانَا وَإِيَّاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، وَإِنَّا بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَا بَعْدَهُمْ، فَكَانَ هَذَا نذيرا آخر بموته ثُمَّ بَدَأَ بِهِ مَرَضُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَحُمَّ وصدع قال أبو سعيد الخضري: وَكَانَ عَلَيْهِ صَالِبُ الْحُمَّى، مَا تَكَادُ تَقَرُّ يَدُ أَحَدِنَا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّتِهَا، فَجَعَلْنَا نُسَبِّحُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ بَلَاءً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا يشتد علينا البخلاء كَذَلِكَ يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ " وَرَوَى سَعْدٌ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً قَالَ: " النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ " وَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ صَاحَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَ: مَهْ، إِنَّهُ لَا يَصِيحُ إِلَّا كَافِرٌ، وَكَانَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ مرض هو مسح جيده عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: " أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ وشفاء لَا يُغَادِرُ سَقَمًا " فَلَمَّا كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ تَسَانَدَ إِلَى عَائِشَةَ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ وَجَعَلَتْ تَمْسَحُهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْهَا وَقَالَ: " ارْفَعِي عَنِّي فَإِنَهَا إِنَّمَا كَانَتْ تَنْفَعُ فِي الْمِرَّةِ أَسْأَلُ اللَّهَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي جَنَّةَ الْخُلْدِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا مرض قبل مرض موته فيقول: بسم اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَعَيْنُ اللَّهِ تَشْفِيكَ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُسَدَّ كُلُّ بَابٍ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: مَا بَالُكَ فَتَحْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ وَسَدَدْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " يَا عَبَّاسُ مَا فَتَحْتُ عَنْ أَمْرِي وَمَا سَدَدْتُ عَنْ أَمْرِي " وَاسْتَأْذَنَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلِلْنَهُ مِنَ الْقَسْمِ لِيُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ، وَحَلَلْنَهُ، فَانْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ مَيْمُونَةَ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ فَلَدُّوهُ، فَأَفَاقَ، وَأَحَسَّ بِخُشُونَةِ اللَّدُودِ، فَقَالَ: " مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا لَدَدْنَاكَ، قَالَ بِمَاذَا: قَالُوا: بِالْعُودِ الْهِنْدِيِّ وَشَيْءٍ مِنْ وَرْسٍ، وَقَطَرَاتٍ مِنْ زَيْتٍ، فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَ هَذَا رَطْبٌ أَصَابَتْهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ: لَا يَبَقِيَنَّ أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ إِلَّا عَمِّي الْعَبَّاسَ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلُدُّ بَعْضًا وَالْتَدَّتْ مَيْمُونَةُ، وَكَانَتْ صَائِمَةً لِقَسَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عُقُوبَةً لَهُمْ [ذِكْرُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] وَكَانَ قَدْ بَقِيَ عِنْدَهُ مَالٌ أَصَابَهُ سِتَّةُ دَنَانِيرَ، تَرَكَهَا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَاسْتَدْعَاهَا وَفَرَّقَهَا وَقَالَ: مَا ظَنَّ مُحَمَّدٌ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهِيَ عِنْدَهُ فَلَمَّا جَدَّ بِهِ الْمَوْتُ أَرْسَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمِصْبَاحِهَا إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَالَتْ: اقْطُرِي فِيهِ مِنْ سَمْنِ عُكَّتِكِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمسى في شديد الموت [ذكر ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مرضه قبل الوفاة] وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِدَوَاةٍ وَصَحِيفَةٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يَهْجُرُ اسْتَفْهِمُوهُ فَأَعَادُوهُ فَقَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَأَوْصَى بِثَلَاثٍ فَقَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العرب، فأجيزرا الْوَفْدَ بِنَحْوٍ مِمَّا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ " وَسَكَتَ عَنِ الثالثة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا فَاطِمَةَ فِي مَرَضِهِ هَذَا فَنَاجَاهَا فَبَكَتْ، ثُمَّ نَاجَاهَا فَضَحِكَتْ فَلَمَّا مَاتَ سَأَلَتْهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي مَرَضِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ وَأَنَّنِي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَضَحِكْتُ وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجتماع الأنصار في مسجده رجالهم ونساءهم وَصِبْيَانُهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ فَاغْتَسَلَ وَوَجَدَ رَاحَةً فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّكُمْ أَصْبَحْتُمْ تَزِيدُونَ وَأَصْبَحَتِ الْأَنْصَارُ لَا تَزِيدُ عَلَى هَيْأَتِهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَهُمْ عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا وَكَرِشِي الَّتِي آكُلُ فِيهَا فَاحْفَظُونِي فِيهِمْ، أَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مُحْسِنِهِمْ لِكُلِّ نَبِيٍّ تَرِكَةٌ وَإِنَّ الْأَنْصَارَ تَرِكَتِي، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَا تَأَمُرُنَا؟ قَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تصيروا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ حَتَّى قُبِضَ وَلَمَّا ضَعُفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْخُرُوجِ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ قَالَ؛ " أَصَلَّى النَاسُ؟ فَقَيِلَ لَا. هُمْ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَكَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا وَقَفَ مَوْقِفَكَ بَكَى، وَلَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقَالَ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَاسِ، فَحَضَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَكَانَتْ صَلَاةَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَتَأَخَّرَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ، فَتَقَدَّمَ عُمَرُ، فَصَلَّى فَسَمِعَ تَكْبِيرَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: عُمَرُ، قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ في يوم االاثنين وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُكُونًا مِنْ وَجَعِهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جعلني قُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَخَرَجَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَثَوْبَانَ مَوْلَاهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَهُمْ قِيَامٌ فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ، فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعَادَهُ إِلَى مَوْقِفِهِ وَجَلَسَ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ حَتَّى تَمَّتْ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَتَمَّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَقَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: " لَمْ يُقْبَضْ نبي قط حتى يأمه رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَمَاتَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَدَدُ مَا صَلَى أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلَاةً وَقِيلَ لِعَائِشَةَ: لِمَ رَاجَعْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَعْدِلَ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَبِيكِ إِلَى عُمَرَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 [وَصَايَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] أَمَّا وَصَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَوَى ابْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَعَى لَنَا نَبِيُّنَا نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَقَالَ: " مَرْحَبًا بِكُمْ حَيَّاكُمُ اللَّهُ بِالسَّلَامِ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ، جَبَرَكُمُ اللَّهُ رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَقَاكُمُ اللَّهُ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُوصِي اللَّهَ بِكُمْ وَأَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ، وَأُحَذِّرُكُمُ اللَّهَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ " فَإِنَّهُ قَالَ لِي وَلَكُمْ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وَقَالَ: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مثوى للمتكبرين} [العنكبوت: 68] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى أَجَلُكَ؟ قَالَ: " دَنَا الْفِرَاقُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ يُغَسِّلُكَ؟ قَالَ: " رِجَالٌ مِنْ أَهْلِي الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى " قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ نُكَفِّنُكَ؟ قَالَ فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ، أَوْ ثِيَابِ حَضَرٍ أَوْ حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَبَكَيْنَا وَبَكَى فَقَالَ: " مَهْلًا رَحِمَكُمُ اللَّهُ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا، إِذَا أَنْتُمْ غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي، فِي بَيْتِي هَذَا، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ حَبِيبِي وَخَلِيلِي جِبْرِيلُ، ثُمَّ مِيكَائِيَلُ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَهُ جُنُودٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا. فَصَلُّوا عَلَيَّ وسلموا تسليما، ولا تؤذونني بباكية واقرأوا السلام على من غاب من أصحابي واقرأوا السلام على من تبعني على دِينِي مِنْ قَوْمِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ " وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَهُوَ يَقُولُ: " أَلَا لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 وَدَخَلَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: يَا فَضْلُ؛ شُدَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِي وَنَهَضَ عَلَى يَدِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَمَّ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ شَيْئًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَقْتَصَّ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَبْتُ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا فَهَذَا بَشَرِي فَلْيَقْتَصَّ وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلَاكُمْ بِي رَجُلٌ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَخَذَهُ أَوْ حَلَّلَنِي، فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا مُحَلَّلٌ، وَلَا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: إِنِّي أَخَافُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ طَبِيعَتِي وَلَا خُلُقِي، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي عِنْدَكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أُكَذِّبُ قائلا ولا مستخلفه عَلَى يَمِينٍ، فِيمَ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي؟ قَالَ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّهُ مَرَّ بِكَ سَائِلٌ فَأَمَرْتَنِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. قَالَ صَدَقَ، أَعْطِهَا إِيَّاهُ يَا فَضْلُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مَرَضِهِ هَذَا: يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ إِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مَا شِئْتُمْ فَلَمَّا حَلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَوْتُ قَالَ: يَا نَفْسُ مَا لَكِ تَلُوذِينَ كُلَّ مَلَاذٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ فَكَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ وَيَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ " ثم مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَفِي بَيْتِي وَدَوْلَتِي وَلَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَقَدْ أَسْنَدْتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَقَالَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، قَالَ كَعْبٌ: كَذَلِكَ آخِرُ عَهْدِ الْأَنْبِيَاءِ وَبِهِ أُمِرُوا وَعَلَيْهِ يُبْعَثُونَ، ثُمَّ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حَبِرَةٍ، وَكَانَ بَدْءُ مَرَضِهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ، وَقِيلَ: لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ مِثْلُ الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا، لِأَنَّهُ دَخَلَهَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم الاثنين ونبىء يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. فَكَانَ مُدَّةُ مَرَضِهِ ثَلَاثَةَ عشرة يَوْمًا، وَنَزَلَ عَلَى حَالِهِ مُسَجًّى لَمْ يُدْفَنْ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ فِي آخِرِهِ، وَقِيلَ: فِي اللَّيْلِ بَعْدَ أَنْ رَبَا قَمِيصُهُ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَاخْضَرَّتْ أَظْفَارُهُ وَكَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ فِي رِوَايَةِ الجمهور ثلاثة وَسِتُّونَ سَنَةً. أَقَامَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا عَشْرَ سِنِينَ يَخْرُجُ فِيهَا إِلَى غَزَوَاتِهِ ويعود الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 إِلَيْهَا، وَحَضَرَ غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَةٌ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَفَرَّدَ عَلِيٌّ بِغَسْلِهِ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَسْتُرُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ وَكَانَ الْفَضْلُ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ وَكَانَ أُسَامَةُ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِمْ بِالْمَاءِ، وَلَمَّا أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ لِغَسْلِهِ سَمِعُوا هَاتِفًا يَقُولُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: غَسِّلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَلَا تَنْزِعُوهُ عَنْهُ، فَغُسِّلَ فِيهِ وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ غِلَاظٍ يَمَانِيَّةٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَحُنِّطَ وَكَانَ فِي حَنُوطِهِ مِسْكٌ وَلَمَّا فُرِغَ مِنْ إِكْفَانِهِ وَوُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَدَخَلَ النَّاسُ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ أَفْوَاجًا، لَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامَ الْأُمَّةِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَنُو هَاشِمٍ ثُمَّ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ ثُمَّ النِّسَاءُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ. وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَسَلَّمَ النَّاسُ كَمَا سَلَّمَا، ثُمَّ قَالَا: إِنَّا نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ جُمْلَةً إِلَيْهِ. وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّهِ فَاجْعَلْنَا يَا إِلَهَنَا مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى يعرفنا ونعرفه فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رَحِيمًا لَا نَبْتَغِي بِالْإِيمَانِ بَدَلًا، وَلَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا أَبَدًا فَقَالَ النَّاسُ آمِينَ آمِينَ وَتَفَرَّقُوا ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمْ فَوْجٌ بَعْدَ فَوْجٍ، وَابْتَدَأَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إِلَى أَنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ فَقَالَ قَائِلٌ: عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَقَالَ قَائِلٌ: حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَقَالَ قَائِلٌ: يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ بِالْبَقِيعِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ادْفِنُوهُ حَيْثُ قَبَضَهُ اللَّهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ فَرُفِعَ فَرَاشُهُ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ فَدُفِنَ تحته وكانت عائشة تقول لِأَبِي بَكْرٍ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ ثلاثة أقمار سقطن في حجري، فَلَمَّا دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حُجْرَتِهَا قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَحَدُ أَقْمَارِكِ وَهُوَ خَيْرُهَا وَاخْتَلَفُوا فِي حَفْرِ قَبْرِهِ لَحْدًا كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ ضَرِيحًا كَأَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يُلْحِدُ، وَأَبُو عُبَيْدَة بْنُ الْجَرَّاحِ يُضْرِحُ، فَأَنْفَذَ الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ أَحَدَهُمَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَالْآخَرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ فَسَبَقَ مَجِيءُ أَبِي طَلْحَةَ، فَحَفَرَ لَهُ لَحْدًا فَأَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الِاخْتِيَارِ وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّحْدُ لَنَا، وَالشِّقُّ لِغَيْرِنَا " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 وَنَزَلَ إِلَى قَبْرِهِ أَرْبَعَةٌ، اثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا فَرُوِيَ أَنَّهُمَا الْعَبَّاسُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَرُوِيَ أَنَّهُمَا: قَثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَنُصِبَ اللَّبِنُ عَلَى لَحْدِهِ، وَبُسِطَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ كَانَ يَلْبَسُهَا وَقِيلَ: بَلْ أُلْقِيَتْ فِي قَبْرِهِ فَوْقَ لَحْدِهِ أَلْقَاهَا غُلَامٌ كَانَ يَخْدِمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يَلْبَسُهَا بَعْدِي أَحَدٌ أَبَدًا فَتُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الْقَبْرِ، وَلَمْ تُخْرَجْ مِنْهُ وَجُعِلَ بَيْنَ قَبْرِهِ وَبَيْنَ حَائِطِ الْقِبْلَةِ نَحْوُ سَوْطٍ فَصْلٌ: وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان أبو بكر في مسكنه بالسنح، ولم يَشْهَدْ مَوْتَهُ فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ عَلَى شَكٍّ فِي مَوْتِهِ وَهُمْ يَبْكُونَ وَعُمَرُ قَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيبًا يَتَوَعَّدُ النَّاسَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى وَغَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُقْطَعَ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْسَنُ كَمَا يَأْسَنُ الْبَشَرُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَاتَ فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ أَيُمِيتُ اللَّهُ أَحَدَكُمْ إِمَاتَةً وَيُمِيتُ رَسُولَهُ إِمَاتَتَيْنِ، وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ فَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ التُّرَابَ فَيُخْرِجَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مَا مَاتَ حَتَّى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهْجًا وَاضِحًا أَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ، وَنَكَحَ وَطَلَّقَ وَحَارَبَ وَسَالَمَ فَأَنْتُمْ أصحابه، وقالوا تربصوا نبيكم لعله علج بِرُوحِهِ، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى رَبَا بَطْنُهُ فَابْتَدَأَ أَبُو بَكْرٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: مَاتَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَقَالَ: وَانَبِيَّاهْ ثُمَّ قَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَقَالَ وَاخَلِيلَاهْ، ثُمَّ قَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَرَفَعَ رَأَسَهُ وَقَالَ: وَاصَفِيَّاهْ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ وَبَكَى وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَطْيَبَ حَيَاتَكَ وَأَطْيَبَ مِيتَتَكَ لَأَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، فَأَمَّا الموتة التي كتبت عليها فقدمتها ثُمَّ سَجَّاهُ بِثَوْبِهِ وَخَرَجَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ فِي كَلَامِهِ، وَتَوَعُّدِهِ لِلنَّاسِ فَسَكَّتَهُ أَبُو بَكْرٍ فَسَكَتَ ثُمَّ صَعِدَ أَبُو بَكْرٍ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] . ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا حِينَ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ عُمَرُ: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، فَتَلَقَّاهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا سُمِعَ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا، وقال عمر ما حملني على مقالتي إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . فَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسْتَبْقَى فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِآخِرِ أَعْمَالِهَا، ثُمَّ أَخَذُوا فِي جَهَازِهِ وَكَانُوا مُمْسِكِينَ عَنِ التَّعْزِيَةِ بِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمُ التَّعْزِيَةُ مِنْ شَخْصٍ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] . إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَحِينَئِذٍ عَزَّا الناس بعضهم بعضا فصل: [سقيفة بني ساعدة] وَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ وَأَخْرَجُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَكَانَ وَجِعًا مِنْ مَرَضٍ بِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِنَّ لَكُمْ سَابِقَةً فِي الدِّينِ أَرَادَ بِكُمْ رَبُّكُمُ الْفَضِيلَةَ، وَسَاقَ إِلَيْكُمُ الْكَرَامَةَ، بِإِعْزَازِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ حَتَّى " أَثْخَنَ " اللَّهُ لِرَسُولِهِ بِكُمُ الْأَرْضَ، وَدَانَتْ لَهُ بِأَسْيَافِكُمُ الْعَرَبُ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ فَاشْتَدُّوا بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَكُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ، فَأَجَابُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ، قَدْ وُفِّقْتَ فِي الرَّأْيِ وَأَصَبْتَ فِي الْقَوْلِ وَنَحْنُ نُوَلِّيكَ هَذَا الْأَمْرَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَرْسَلَ إِلَى أبو بَكْرٍ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي جَهَازِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَشْعَرَهُ بِالْأَمْرِ، فَخَرَجَ وَمَضَى مَعَ عُمَرَ وَلَقِيَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَصَحِبَهُمَا وَلَقِيَهُمَا رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} [التوبة: 108] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نِعْمَ الْمَرْءُ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ " وَالْآخَرُ مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ سَمِعَ النَّاسَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَدِدْنَا لَوْ مُتْنَا قَبْلَهُ فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي مِتُّ قَبْلَهُ حَتَّى أُصَدِّقَهُ مَيِّتًا كَمَا صَدَّقْتُهُ حَيًّا فَلَمَّا رأى أبو بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا معشر المهاجرين؟ فقالوا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا الْأَنْصَارَ فَقَالَ: ارْجِعُوا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا وَمَشَى إِلَيْهِمُ الثَّلَاثَةُ فجاؤوا وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: رُوَيْدًا فَسَكَتَ، وَكَانَ قَدْ زَوَّرَ فِي نَفْسِهِ كَلَامًا وَابْتَدَأَ أَبُو بكر فحمد الله واثنا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ وَشَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دون آلِهَةً شَتَّى يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لَهُمْ عِنْدَهُ شَافِعَةٌ وَلَهُمْ نَافِعَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ حَجَرٌ مَنْحُوتٌ وَخَشَبٌ مَنْجُورٌ، فَصَدَّقَهُ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ خَالَفَ جَمِيعَ الْعَرَبِ وَلَمْ يَسْتَوْحِشْ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ، فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَشِيرَتُهُ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَلَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ إِلَّا ظَالِمٌ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ فِي الدِّينِ وَلَا سَابِقَتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، رَضِيَكُمُ اللَّهُ أَنْصَارًا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 لِدِينِهِ وَلِرَسُولِهِ وَجَعَلَ إِلَيْكُمْ هِجْرَتَهُ فَلَيْسَ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَتِكُمْ، فَنَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ فَقَامَ الْمُنْذِرُ بْنُ حُبَابِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ امْلِكُوا عَلَى أَيْدِيكُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ فيكم ولن يجترىء عَلَى خِلَافِكُمْ وَلَنْ يُصْدِرَ النَّاسُ إِلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ فَإِنْ أَبَى هَؤُلَاءِ إِلَّا مَا سَمِعْتُمْ فَمِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْهُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ: لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ فِي قَرْنٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَرْضَى الْعَرَبُ أَنْ تُؤَمِّرَكُمْ وَنَبِيُّهَا مِنْ غَيْرِكُمْ، وَأَوْلَاهُمْ بِهَا مَنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ، لَنَا بِهِ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ وَالسُّلْطَانُ الْبَيِّنُ، لَا يُنَازِعُنَا سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا مُدْلٍ بِبَاطِلٍ أَوْ مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ أَوْ مُتَوَرِّطٌ فِي هَلَكَةٍ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَا تَسْتَمِعُوا مُقَالَةَ هَذَا وَأَصْحَابِهِ فَيَذْهَبُوا بِنَصِيبِكُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْكُمْ فَاجْلُوهُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتُمْ لَنُعِيدَنَّهَا جَذَعَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ يَقْتُلُكَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَلْ إِيَّاكَ يَقْتُلُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ نَصَرَ وَآوَى فَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ فَقَامَ بِشْرُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو النُّعْمَانِ بْنُ بَشِيرٍ فَقَالَ: يَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ إِنَّا وَإِنْ كُنَّا أَوَّلَ سَابِقَةٍ فِي الدِّينِ وَجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ فَمَا أَرَدْنَا بِهِ إِلَّا رِضَى رَبِّنَا وَطَاعَةَ نَبِيِّنَا أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ وَقَوْمُهُ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى وَايْمُ اللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ أُنَازِعُهُمْ هَذَا الْأَمْرَ أَبَدًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَتَوَلَّى هَذَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ أَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ، وَثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وَخَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ ذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَكَ، ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، فَمَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَهُمَا إِلَى الْبَيْعَةِ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، وَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي الْأَوْسِ فَبَايَعُوهُ، وَتَتَابَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَأَقْبَلَتْ أَسْلَمُ بِجَمَاعَتِهَا حَتَّى تَضَايَقَتْ بِهِمُ السِّكَكُ فَبَايَعُوهُ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَسْلَمَ فَأَيْقَنْتُ بِالنَّصْرِ، وَقِيلَ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ لِلْبَيْعَةِ، فَخَرَجَ بِقَمِيصٍ مَا عَلَيْهِ إِزَارٌ حتى بايعه مخافة أن يبطىء عَنِ الْبَيْعَةِ، حَكَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وروى ابن حجر أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ: مَا بَالُ هَذَا الْأَمْرِ فِي أَقَلِّ حَيٍّ مِنْ قُرَيْش {وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتَ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْهِ خَيْلًا وَرِجَالًا} فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَبَا سُفْيَانَ طَالَمَا عَادَيْتَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فَلَمْ تَضُرَّهُ بِذَلِكَ شيئا! إنا وجدنا أبا بكر لهما أَهْلًا فَتَمَّتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ جَهَازِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ أَخَذَ بَعْدَهَا فِي جَهَازِهِ، لِئَلَّا يَكُونُوا فوضى على غير جماعة لتنطفىء بِهَا فِتْنَةُ الِاخْتِلَافِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 الْبَيْعَةَ الْعَامَّةَ بَعْدَ الْبَيْعَةِ الْخَاصَّةِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي هَدَى بِهِ رَسُولَهُ، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هُدَاكُمُ اللَّهُ لِمَا هَدَاهُ لَهُ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، فَقُومُوا فَبَايِعُوا، فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ الْبَيْعَةَ الْعَامَّةَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أَدْفَعَ إِلَيْهِ حَقَّهُ وَالْقَوِيُّ مِنْكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ وَدُعِيَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَأَبَى فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعَنِّفَ بِهِ، فَأَشَارَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ بِتَرْكِهِ فَتُرِكَ وَخَرَجَ مِنَ الْغَدِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا مِثْلُكُمْ إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ سَتُكَلِّفُونِي مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُطِيقُ وَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْعَالَمِينَ وَعَصَمَهُ من الآفات وإنما أنا منيع وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ زِغْتُ فَقَوِّمُونِي، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُبِضَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ أَلَا وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا أَتَانِي فَاجْتَنِبُونِي لَا أُؤَثِّرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ وَإِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا يَمْضِيَ هَذَا الأجل إلا في عمل صالح فافعلوا [ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله] وَسَابِقُوا فِي مَهَلٍ آجَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَكُمْ آجَالُكُمْ إِلَى انْقِطَاعِ الْأَعْمَالِ الْجِدَّ الْجِدَّ، الْوَحَا الْوَحَا النَّجَا النَّجَا، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا، [أجلا مره سريع] احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء [والأخوات] وَلَا تَغْبِطُوا الْأَحْيَاءَ إِلَّا بِمَا تَغْبِطُونَ بِهِ الْأَمْوَاتَ اعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَذَكَّرُوا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَيْنَ كَانُوا أَمْسُ، وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] أَلَا إِنَّ اللَّهَ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالْأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ نجونا وإن اغتررنا كنا منا مِثْلَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، أو ويصرف عَنْهُ بِهِ شَرًّا إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ ثُمَّ جَمَعَ الْأَنْصَارَ وَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ بَعْثُ أُسَامَةَ فَاسْتَنْظَرُوهُ لِأَجْلِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ فَأَبَى وَخَرَجَ إِلَى الْجُرْفِ يُشَيِّعُهُمْ وَهُوَ مَاشٍ وَأُسَامَةُ رَاكِبٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ دَابَّةَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أُسَامَةُ: يَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاللَّهِ لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لَأَنْزِلَنَّ، فَقَالَ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 وَاللَّهِ لَا تَنْزِلُ وَوَاللَّهِ لَا أَرْكَبُ وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قِفُوا وَأُوصِيكُمْ بِعَشْرٍ فَاحْفَظُوهَا عَنِّي، لَا تَخُونُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَقْطَعُوا نَخْلًا وَلَا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلَا تَذْبَحُوا شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَتَقْدَمُونَ عَلَى أَقْوَامٍ يَأْتُونَكُمْ بَآنِيَةٍ فِيهَا الطَّعَامُ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَسَوْفَ تَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أوساط رؤوسهم وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا امْضُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَشَرَعَ فِي قِتَالِ أهل الردة ومن اتبع من تنبأ من مسيلمة العنسي، وَطُلَيْحَةَ وَسَجَاحِ فَأَمَّا الْعَنْسِيُّ فَقُتِلَ غِيلَةً، وَكَانَ ظُهُورُ أَمْرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقُتِلَ بَعْدَهُ مُسَيْلِمَةُ وَأَسْلَمَ طُلَيْحَةُ وَأَسْلَمَتْ سَجَاحِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا، وَنَصَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَحَقَّقَ صِدْقَ رَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ هَذَا آخِرُ مَا نُقِلَ مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي غَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بصحة ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 باب أصل فرض الجهاد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَمَا مَضَتْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُدَّةٌ مِنْ هِجْرَتِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ فِيهَا عَلَى جَمَاعَاتٍ بِاتِّبَاعِهِ حَدَثَتْ لَهَا مَعَ عَوْنِ اللَّهَ قُوَّةٌ بِالْعَدَدِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهَا فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادَ فَقَالَ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهو كره لكم} وقال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله} مَعَ مَا ذَكَرْتُهُ فُرِضَ الْجِهَادُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وإذ قد مضت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أعلام نُبُوَّتِهِ، وَتَرْتِيبِ شَرِيعَتِهِ وَمَا سَارَ بِأُمَّتِهِ فِي حَرْبِهِ وَغَزَوَاتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَوْضِحُ الْعُلَمَاءُ طَرِيقَ الشَّرْعِ إِلَّا بِهَا فَهَذَا الْبَابُ يَشْمَلُ مِنْهَا عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْهِجْرَةِ وَالثَّانِي: فَرْضُ الْجِهَادِ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْمَلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالثَّانِي: حُكْمُهَا بَعْدَهُ. فَأَمَّا حُكْمُهَا فِي زَمَانِهِ فَلَهَا حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالثَّانِيَةُ: بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا فَأَمَّا حُكْمُهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهَا هِجْرَةٌ عَنِ الرَّسُولِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اشْتَدَّ بِهِمُ الْأَذَى وَتَتَبَّعَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْمَكَارِهِ، رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْهُمْ فَقَالُوا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] يَعْنِي مَكَّةَ {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء " 75] فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلُوا مِنَ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَاغِمَ الْمُتَحَوِّلُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَالسَّعَةُ: الْمَالُ وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَاغَمَ طَلَبُ الْمَعَاشِ وَالسَّعَةُ: طِيبٌ الْعَيْشِ، فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ مُبَاحَةً لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَذَى أَوْ عَلَى دِينِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَأَمَّا الْآمِنُ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ فَهِجْرَتُهُ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصِيَةٌ إِلَّا لِحَاجَةٍ لِمَا فِي مَقَامِهِ مِنْ ظُهُورِ الْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهِيَ مُبَاحٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَفَى هَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [النحل: 41] يَعْنِي: هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: نُزُولُ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ، قاله الضحاك وأما حكمهما بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى الرَّسُولِ، فَقَدْ كَانَتْ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ إِلَيْهِ وَهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي سَعَةِ مَالٍ وَعَشِيرَةٍ، لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى دِينِهِ كَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمِثْلُ هَذَا قَدْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْهِجْرَةِ نَدْبًا، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ حَتْمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ فَهَذَا قَدْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً، وَهُوَ بِالتَّأَخُّرِ عَنْهَا عَاصٍ لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِالْمَقَامِ لِلْأَذَى وَيَمْتَنِعُ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ النُّصْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى {والذين تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، إِمَّا لِضَعْفِ حَالٍ أَوْ عَجْزِ بَدَنٍ، فَهَذَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْمَقَامِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَهُوَ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعْذُورًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرجال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] يَعْنِي: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً بِالْخَلَاصِ مِنْ مَكَّةَ وَلَا يَجِدُونَ سَبِيلًا فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَكُونُ فِي التَّوْرِيَةِ عَنْ دِينِهِ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ وَاسْتِبْطَانِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرًا كَالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبَوَيْهِ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ فَامْتَنَعَ أَبَوَاهُ مِنْ إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَقُتِلَا، وَتَظَاهَرَ بِهِ عَمَّارٌ فَاسْتُبْقِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالِإيمان} [النحل: 106] الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصْلٌ: فَأَمَّا الْهِجْرَةُ فِي زَمَانِنَا فَتَخْتَصُّ بِمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْهَا إِلَى دَارِ إِسْلَامٍ، وَلَا تَخْتَصُّ بِدَارِ الْإِمَامِ وَحَالُهُ يَنْقَسِمُ فِيهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالِاعْتِزَالِ وَيَقْدِرَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِإِسْلَامِهِ وَاعْتِزَالِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ دُعَاءُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ نُصْرَتِهِ بِجِدَالٍ أَوْ قِتَالٍ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ وَلَا يُهَاجِرَ، لِأَنَّ دَارَهُ قَدْ صَارَتْ بِاعْتِزَالِهِ دَارَ إِسْلَامٍ، وَإِنْ هَاجَرَ عَنْهَا عَادَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّعَاءُ وَالْقِتَالُ لِعَجْزِهِ عَنْهَا وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ وَلَا عَلَى الدُّعَاءِ وَالْقِتَالِ، فَهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، لِأَنَّهُ لَمْ تَصِرْ دَارُهُ دَارَ إِسْلَامٍ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجُوَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمَقَامِهِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُقِيمَ وَلَا يُهَاجِرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُهَاجِرَ وَلَا يُقِيمَ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَتَسَاوَى أَحْوَالُهُ فِي الْمَقَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالْهِجْرَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ وَهُوَ عَاصٍ إِنْ أَقَامَ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تُرَاءَى نَارَاهُمَا وَمَعْنَاهُ: لَا يَتَّفِقُ رَأْيَاهُمَا، فَعَبَّرَ عَنِ الرَّأْيِ بالنار، لأن الإنسان يستضئ بالرأي كما يستضئ بالنار الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ " أَيْ لَا تَقْتَدُوا بِآرَائِهِمْ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَيَضْعُفَ عَنِ الْهِجْرَةِ فَتَسْقُطَ عَنْهُ الْهِجْرَةِ، لِعَجْزِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ، وَيَكُونَ مُسْلِمًا بِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ وَالْعَاجِزُ عَنِ الْهِجْرَةِ مُضْطَرٌّ، وَيَكُونُ فَرْضُ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ آمَنَ فِيهَا بَاقِيًا مَا بَقِيَ لِلشِّرْكِ دَارٌ. رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تَنَقطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنَقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ". قِيلَ: فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ. الثَّانِي: لَا فَضِيلَةَ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْيَوْمِ كَفَضِيلَتِهَا قَبْلَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَشَقَّ مِنْهَا بَعْدَهُ فَكَانَ فَضْلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَضْلِهَا بَعْدَهُ. وَفِي تَسْمِيَتِهَا هِجْرَةً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ يَهْجُرُ فِيهَا مَا أَلِفَ مِنْ وَطَنٍ وَأَهْلٍ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَهْجُرُ فِيهَا الْعَادَةَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ كَسْبٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهِيَ أَوَّلُ أَحْوَالِهِ، أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُدَّةَ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ مَنْهِيًّا عَنِ الْقِتَالِ، مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَظْهِرِ الْإِنْذَارَ بِالْوَحْيِ. وَالثَّانِي: فَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى. وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَعْرِضْ عَنْ قِتَالِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 والثاني: أعرض عن استهزائهم. والمستهزؤون خَمْسَةٌ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، وَأَبُو زَمْعَةَ وَالْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْحَارِثُ بْنُ الطُّلَاطِلَةِ، أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا قَبْلَ بَدْرٍ، لِاسْتِهْزَائِهِمْ بِرَسُولِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] . وَفِي خَوْضِهِمْ فِي آيَاتِهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكْذِيبُهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: تَكْذِيبُهُمْ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال تعالى: {ادع إلى رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] . يَعْنِي إِلَى دِينِ رَبِّكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. {بِالْحِكْمَةِ} فِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَالثَّانِي: بِالرِّسَالَةِ وَهُوَ محتمل. {والموعظة الحسنة} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُرْآنِ، مَنْ لَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَالثَّانِي: بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: بِالْعَفْوِ. وَالثَّانِي: بِأَنْ تُوقِظَ الْقُلُوبَ وَلَا تُسَفِّهَ الْعُقُولَ. وَالثَّالِثُ: بِأَنْ تُرْشِدَ الْخَلَفَ وَلَا تَذُمَّ السَّلَفَ. وَالرَّابِعُ: عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُونَ. رَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْنَا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُعَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ " وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني} [آل عمران: 2] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ: أَسْلَمْتُ نَفَسِي لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ أَخْلَصْتُ قَصْدِي لِطَاعَةِ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي أَمْرِهِ عِنْدَ حِجَاجِهِمْ بِأَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ عُدُولٌ عَنْ جَوَابِهِمْ وَتَسْلِيمٌ بِحِجَاجِهِمْ. قِيلَ: فِيهِ جوابان: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 أَحَدُهُمَا: إنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ إِخْبَارًا لَهُمْ بِمُعْتَقَدِهِ ثُمَّ هُوَ فِي الْجَوَابِ لَهُمْ، وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ وَالثَّانِي: إنَّهُمْ مَا حَاجُّوهُ طَلَبًا لِلْحَقِّ، فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ، وَإِنَّمَا حَاجُّوهُ إِظْهَارًا لِلْعِنَادِ، فَجَازَ لَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هذا مرة مُقَامِهِ بِمَكَّةَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَضْعُفُ عَنْهُ وَكَانَتْ رِسَالَتُهُ مُخْتَصَّةً بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: مَا يَشْرَعُهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، ظَهَرَتْ لَهُ بِهَا قُوَّةٌ، فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَيَكُفَّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ: أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَالْكَفِّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُمْ وفي قوله تعالى: {ولا تعتدوا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَعْتَدُوا بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْكُمْ. وَالثَّانِي: لَا تَعْتَدُوا بِالْقِتَالِ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ فَكَانَ هَذَا قِتَالُ دَفْعٍ، وَهِيَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يجازي ولا يبتدىء، فَلَمَّا مَضَتْ بِهِ مُدَّةٌ ازْدَادَتْ فِيهَا قُوَّتُهُ وَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُهُ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى حَالَةٍ ثَالِثَةٍ أَذِنَ لَهُ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ رَأَى إِذْنًا خَيَّرَهُ فِيهِ وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . فَلَمْ يَقْطَعِ الْإِخْبَارَ بِنَصْرِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحَتِّمْ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمَّا فَرَضَ الْجِهَادَ قَطَعَ بِنَصْرِهِمْ، فَقَالَ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخَيَّرًا بَيْنَ الْكَفِّ وَالْقِتَالِ، فَأَسْرَى سَرَايَا وَغَزَا بَدْرًا وَهُوَ فِي الْجِهَادِ مُخَيَّرٌ، وَلِذَلِكَ خَرَجَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ مَنْ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ مَعَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ، لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ فِي أَوَامِرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِهَادُ فَرْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا يُصْلِحُكُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاحِ بِالْحَيَاةِ. وَالثَّانِي: لِمَا تَدُومُ بِهِ حَيَاتُكُمْ فِي الْجَنَّةِ بِالْخُلُودِ فِيهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ حَتَّى قَوِيَ أَمْرُهُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، وَقَوِيَتْ نُفُوسُ أَصْحَابِهِ بِمَا شاهدوه من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَلَهُمْ وَحُدُوثِ الْقُوَّةِ بَعْدَ ضَعْفِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} فَنَقَلَهُ إِلَى الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ أَحْوَالِهِ، فَحِينَئِذٍ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِهَادَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَقَالَ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] . وَجِهَادُ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَعْظِ إِنْ كَتَمُوا، وَبِالسَّيْفِ إن أعلنوا. وفي قوله: {واغلظ عليهم} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبَرَّ لَهُمْ قَسَمًا. وَالثَّانِي: لَا تَقْبَلْ لَهُمْ عُذْرًا. وَقَالَ لِلْكَافَّةِ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ الصَّبْرُ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ طَلَبُ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ دُونَ الْغَنِيمَةِ. وَرَوَى أَبُو مُرَاوِحٍ الْغِفَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلَاهَا ثَمَنًا وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا " ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كره لكم} [البقرة: 216] . وكتب: فمعنى: فُرِضَ، كَمَا قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] . أَيْ: فُرِضَ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ كُرْهٌ لكم} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي نُفُوسِكُمْ. وَالثَّانِي: وَهُوَ شَاقٌّ عَلَى أَبْدَانِكُمْ، وَهَلْ ذَلِكَ قَبْلَ التَّعَبُّدِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعسى أن تحبوا شيئا وهو كره لَكُمْ} [البقرة: 216] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ، قَدْ تَكْرَهُونَ مَا تَكُونُ عَوَاقِبُهُ خَيْرًا لكم وتحبون ما تكن عَوَاقِبُهُ شَرًّا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَالثَّانِي: إنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي الْقِتَالِ عَلَى أَنْ تَكْرَهُوهُ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا الْمُوَادَعَةَ وَالْكَفَّ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالظُّهُورِ عَلَيْكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنُقْصَانِ أُجُورِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرْضُ الْجِهَادِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ تَرَتَّبَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ كَانَ فِي بتداء فَرْضِهِ مَخْصُوصَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَأَمَّا مَخْصُوصُ زَمَانِهِ ففيما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 عَدَا الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِيَنْتَشِرُوا فِيهَا آمِنِينَ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ " وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ في الحرم فقال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَتَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِتَالَ فِيهَا عَلَى الْعُمُومِ ابْتِدَاءً وَمُقَابَلَةً، ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُبِحْ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَقَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. إنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ قِتَالِنَا فِي الشَهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بالشهر الحرام} أَيْ: إِنِ اسْتَحَلُّوا قِتَالَكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَحِلُّوا مِنْهُمْ مِثْلَ مَا اسْتَحَلُّوا مِنْكُمْ وَفِي قوله تعالى: {والحرمات قصاص} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ حِفْظُ الْحُرُمَاتِ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ وَقِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ حُرْمَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَعْصِيَةَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ مَعْصِيَةِ الْقِتَالِ، فَصَارَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأُولَى: تَحْرِيمُهُ فِيهَا لِمَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُقَاتِلْ. وَالثَّانِيَةُ: إنَّهُ أُبِيحَ فِيهَا قِتَالُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَالثَّالِثَةُ: إنَّهُ أُبِيحَ فِيهَا قِتَالُ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذِهِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ غَيْرُ مُبَاحَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ فِيهَا إِلَّا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَعْلِيلِ الْإِبَاحَة بقوله: {والفتنة أكبر من القتل} وَهَذَا تَعْلِيلٌ عَامٌّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ فِي ذي القعدة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَمَّا الْحَرَمُ فَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ فِيهِ حَرَامًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَقَالَ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ} [البقرة: 191] ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَالَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191] . فَصَارَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. الْأُولَى: تَحْرِيمُهُ فِيهِ لِمَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. والثانية: إِبَاحَتُهُ لِمَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَالثَّالِثَةُ: إِبَاحَتُهُ لِمَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْحَالُ الثَّالِثَةُ غَيْرُ مُبَاحَةٍ، وَلَا يَسْتَبِيحُ فِيهِ إِلَّا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قاتل أهل مكة عام الفتح مبتدءا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَاتَلَ فِيهِ أَهْلَ الْمَعَاصِي فَكَانَ تَطْهِيرُ الْحَرَمِ مِنْهُمْ أَوْلَى. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا صَارَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَامًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِهِ، هَلْ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكِفَايَةِ؟ أَوْ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْكِفَايَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] . وَفِيهِ سَبْعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ. وَالثَّالِثُ: أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى، وَهَذَا قَوْلُ جُوَيْبِرٍ. وَالرَّابِعُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَهَذَا قَوْلُ جُوَيْبِرٍ. وَالْخَامِسُ: نَشَاطًا وَكَسَالَى، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسَّادِسُ: على خفة النفير وثقله، وهذا ابْنِ جَرِيرٍ وَالسَّابِعُ: خِفَافًا إِلَى الطَّاعَةِ، وَثِقَالًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ، وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا ثَامِنًا: خِفَافًا إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَثِقَالًا فِي الْمُصَابَرَةِ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 [التوبة: 41] وَفِي الْجِهَادِ بِالْمَالِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ. وَالثَّانِي: بِبَذْلِ الْمَالِ لِمَنْ يُجَاهِدُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ. وَفِي الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَالثَّانِي: الْقِتَالُ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ: {ذَلِكُمْ خير لكم} فيه تأويلان: أحدهما: أن الجهاد خيرا مِنْ تَرْكِهِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْخَيْرَ فِي الْجِهَادِ لا في تركه. {إن كنتم تعلمون} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَالثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ لَكُمُ الْخَيْرَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ، ثُمَّ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] . يَعْنِي: تَابَ اللَّهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي قَوْلِهِ: {خُلِّفُوا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: خُلِّفُوا عَنِ السَّرِيَّةِ. وَالثَّانِي: خُلِّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] . لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمين هجروهم {وضاقت عليهم أنفسهم} يَعْنِي: مِمَّا لَقُوهُ مِنْ جَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ: {وظنوا ألا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] أَيْ: تيقنوا أنهم لا يجدون ملجأ يلجأون إِلَيْهِ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] . أَيْ: قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ لِيَسْتَقِيمُوا، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: وَذَلِكَ بَعْدَ خَمْسِينَ لَيْلَةً مِنْ مَقْدَمِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ تَبُوكَ، فَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَخْرُجْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَقَدْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، لَا يُؤَثِّرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ فِيهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ الْأَعْيَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجَاهِدُوا جَمِيعًا لِأَنَّ فَرْضَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ لَهُمْ إِذَا جَاهَدُوا قَوْمًا أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ، حَتَّى يتخلفوا لحفظ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 الذَّرَارِيِّ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ، إِمَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِهَادِهِ، وَإِمَّا مُهَاجَرَةً إِلَيْهِ فِي إِقَامَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: لِيَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ النُّفُورِ فِي سَرَايَاهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وفي المراد بقوله: {وليتفقهوا في الدين} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَفَقَّهُوا فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لِدِينِهِ وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ وَمُشَاهَدَةِ معجزاته ليقوي إيمانهم، ويخيروا به قومهم إذا رجعوا إليهم. والثاني: يتفقهوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَمَعَالِمِ الشَّرْعِ، وَيَتَحَمَّلُوا عَنِ الرَّسُولِ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَلَاغُ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ فَرَضَ الْجِهَاد عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أو انفروا جميعاً} وفي قوله: {خذوا حذركم} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ. وَالثَّانِي: خُذُوا سِلَاحَكُمْ، وقوله تعالى: (فانفروا ثبات) يعني: فرقاً وعصباً، (أو انفروا جميعاً) أَيْ: بِأَجْمَعِكُمْ. فَخَيَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْكَافَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَتَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ حِينَ عَيَّنَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَعَلَى الْكِفَايَةِ فِي غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ انْقَطَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِنُصْرَتِهِ فَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ بَدْرٍ بِالْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَمَا جَاهَدَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ بَدْرٍ، فَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ عَلَى مَنِ ابتدىء به، ولم يتعين على من لم يبتدأ بِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى أَهْلَ الْفَيْءِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ مُهَاجِرِينَ، وَجَعَلَ فَرْضَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ وَسَمَّى غَيْرَهُمْ وَإِنْ جَاهَدُوا أَعْرَابًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ: (قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّارِيِّ) (مُهَاجِرًا لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ ... ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ الْآنَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ الْأَعْيَانِ فَالَّذِي يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: كَفُّ الْعَدُوِّ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَخَطَّفَهَا لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا آمِنِينَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ أَظَلَّ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَخَافُوهُ عَلَى بِلَادِهِمْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي أَظَلَّهَا الْعَدُوُّ، وَكَانَ فَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ بَاقِيًا عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الْمُشْرِكِينَ لِيُقَاتِلُوهُمْ عَلَى الدِّينِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْجِهَادَ لِنُصْرَةِ دِينِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويكون الدين كله لله} [البقرة: 193] . وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْجِهَادِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَكَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي الْجِهَادِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَتَّى يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَذُبُّوا عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيُقَاتِلُوا عَلَى بِلَادِ الشِّرْكِ، فإن وقع الاقتصار على أحدهما: حرج أَهْلُ الْجِهَادِ لِإِخْلَالِهِمْ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةُ مَا إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ مَا لَا يَسْقُطُ فَرْضُهُ إِلَّا عَنْ فَاعِلِهِ وَالْكِفَايَةُ فِي الْجِهَادِ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ وَيَقُومَ فِيهِ بِحَقِّهِ فَيَسْقُطَ فَرْضُهُ عَنِ الْكَافَّةِ لِمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ لَهُ بِأَعْوَانِهِ وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ثُغُورُ الْمُسْلِمِينَ مَشْحُونَةً مِنَ الْمُقَاتِلَةِ بِمَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيُقَاتِلُ مَنْ يَتَّصِلُ بِهَا فَيَسْقُطَ بِهِمْ فَرْضُ الْجِهَادِ عَمَّنْ خَلْفَهُمْ، فَإِنْ ضَعُفُوا وَاسْتَنْفَرُوا وَجَبَ عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمُدُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَنْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهُمْ، وَيَصِيرُ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِمْدَادِهِمْ دَاخِلًا فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ حَتَّى يَمُدُّوهُمْ بِأَهْلِ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَؤُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " وَفِي تَسْمِيَتِهِ جِهَادًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ يَجْهَدُ فِي قَهْرِ عَدُوِّهِ وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَبْذُلُ فِيهِ جَهْدَ نَفْسِهِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: " رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ " يعني: جهاد النفس. (مسألة) قال الشافعي: " وَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضِ الْجِهَادُ عَلَى مُمْلِوكٍ وَلَا أُنْثَى وَلَا عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} فَحَكَمَ أَنْ لَا مَالَ لِلْمُلُوكِ وَقَالَ {حَرِّضِ المؤمنين على القتال} فدل على أنهم الذكور وعرض ابن عمر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فرده وعرض عليه عام الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه وحضر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزوة عبيد ونساء غير بالغين فرضخ لهم وأسهم لضعفاء أحرار وجرحى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 بالغين فدل على أن السهمان إنما تكون إن شهد القتال من الرجال الأحرار فدل بذلك أن لا فرض على غيرهم في الجهاد " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجِهَادِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِعُذْرٍ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ وَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي الْبَابِ الْآتِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهِلْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ أَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ بِعُذْرٍ أُسْهِمَ لَهُ إِذَا حَضَرَ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ إِذَا حَضَرَ اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَنَّ مَنْ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ بِعُذْرٍ لَزِمَتْهُ إِذَا حَضَرَهَا، وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَلْزَمْهُ إِذَا حَضَرَهَا اعْتِبَارًا بِالْحَجِّ أَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلِهِ لَمْ يُجْزِ إِذَا حَجَّ عَنْ فَرْضِهِ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ إِذَا حَجَّ عَنْ فَرْضِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَفَرْضُ الْجِهَادِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ تَكَامَلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَرْضُ الْكِفَايَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] وَهَذَا خِطَابٌ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَمْلُوكَ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، فَصَارَ دَاخِلًا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَرَرْنَا بِقَوْمٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَتَبِعَنَا مَمْلُوكٌ لِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استَأَذَنْتَ مَوْلَاتَكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: لَوْ مُتَّ لم أصل عليك ارجع واستأذنها، وأقرءها مِنِّي السَّلَامَ، فَرَجَعَ فَاسْتَأْذَنَهَا فَأَذِنَتْ لَهُ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كان إذ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ سَأَلَ: أَحُرٌّ هُوَ أَمْ مَمْلُوكٌ فَإِنْ قَالَ: أَنَا حُرٌّ بَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا مَمْلُوكٌ بَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلَى الْجِهَادِ " وَلِأَنَّهُ لَا يُسْهِمُ لَهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَسْهَمَ لَهُ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ خَرَجَ الْعَبْدُ مَنْ فَرَّ مِنْهَا كَالْحَجِّ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالْهِجْرَةِ، لِأَنَّ الْمَسَافَةَ فِيهَا هِيَ الْعِبَادَةُ، وَالْمَسَافَةُ في الحج والجهاد يتعلق بها فَرَّ مِنَ الْعِبَادَةِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الذُّكُورِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَوْ خُنْثَى مُشْكَلًا فَلَا جِهَادَ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَيْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 [الأنفال: 65] وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَا يَدْخُلْنَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْجِهَادِ قَالَ: " جِهَادُكِ: الْحَجُّ " وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جِهَادُ الْكَبِيرِ الضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ "، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْجِهَادِ الْقِتَالُ وَالنِّسَاءُ يَضْعُفْنَ عَنْهُ. رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: " مَا بَالُ هَذِهِ تُقْتَلُ وَلَا تُقَاتِلُ " وَلِاسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَقَدْ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ: (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدِي ... قَتْلَ بَيْضَاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ) (كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ) وَلِأَنَّهُنَّ عَوْرَةٌ يَجِبُ صَوْنُهُنَّ عَنْ بِذْلَةِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُنَّ لَا يُسْهَمُ لَهُنَّ لَوْ حَضَرْنَ وَلَوْ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ إِلَيْهِنَّ لَأُسْهِمَ لَهُنَّ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: البلوغ، فإ، كان صبياً قلا جِهَادَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] وَفِي الضُّعَفَاءِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الصِّبْيَانُ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَالثَّانِي: الْمَجَانِينُ، وَلَمْ يُرِدْ بِالضَّعْفِ الْفَقْرَ، لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يتنبه " ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ لِصِغَرِهِمْ. وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَدَّنِي وَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يوم الخندق، وأنا ابن خمسة عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ تَكْلِيفٌ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلِأَنَّهُ ذُرِّيَّةٌ يُقَاتَلُ عَنْهُ، وَلَا يُقَاتِلُ، وَلِأَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِتَالِ وَمُقَاوَمَةِ الرِّجَالِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ لَوْ حَضَرَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ الْعَقْلُ، فَلَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَى مَجْنُونٍ وَمَنْ لَا يَصِحُّ تَمْيِيزُهُ وَتَحْرِيرُهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّ حُضُورَهُ مُفْضٍ لِقِلَّةِ تَمْيِيزِهِ إِمَّا إِلَى الْهَزِيمَةِ. وَإِمَّا إِلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ. فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُسْلِمٍ كَانَ مَنِ اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَتَوَجَّهَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِ سَوَاءً كَانَ يُحْسِنُ الْقِتَالَ أَوْ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْقِتَالَ حَارَبَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ كَثَّرَ وَهِيبَ أَوْ تَخَلَّفَ عَنِ الْوَقْعَةِ لِحِفْظِ رِحَالِ الْمُحَارِبِينَ، فَكَانَ لِخُرُوجِهِ مَعَهُمْ تَأْثِيرٌ. وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْعَبِيدِ فِي الْجِهَادِ إِذَا خَرَجُوا مَعَ سَادَاتِهِمْ أو بإذنهم. ويأذن في خروج ذوات غير الْهَيْئَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، لِمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى وَتَعْلِيلِ الْمَرْضَى وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ، فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِهِ، وَيَأْذَنُ فِي خُرُوجِ مَنِ اشْتَدَّ مِنَ الصِّبْيَانِ، لِأَنَّهُمْ أَعْوَانٌ، وَلَا يَأْذَنُ فِي خُرُوجِ الْمَجَانِينِ لِأَنَّ خُرُوجَهُمْ ضَارٌّ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَرْحَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ وَغَيْرِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 بَابٌ مَنْ لَهُ عُذْرٌ بِالضَّعْفِ وَالضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ والعذر بترك الجهاد من كتاب الجزية (مسألة) : قال الشافعي: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا على المرضى} الآية قال {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} وَقَالَ {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعرج حرج ولا على المريض حرج} فَقِيلَ: الْأَعْرَجُ الْمُقْعَدُ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ عَرَجُ الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي وَضْعِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ (قال) ولا يحتمل غيره فإن كان سالم البدن قويه لا يجد أهبة الخروج ونفقة من تلزمه نفقته إلى قدر ما يرى لمدته في غزوة فهو ممن لا يجد ما ينفق فليس له أن يتطوع بالخروج ويدع الفرض " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَعْذَارُ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ عَنْ أَهْلِهِ فَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ أَرْبَعَةَ أَعْذَارٍ، الْعَمَى وَالْعَرَجُ، وَالْمَرَضُ، وَالْعُسْرَةُ. وَقَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {لَيْسَ على الضعفاء} [91] وَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُمُ الصِّغَارُ لِضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ. وَالثَّانِي: الْمَجَانِينُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمُ الْعُمْيَانُ لِضَعْفِ تَصَرُّفِهِمْ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى في شعيب: {إنا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] . أَيْ: ضَرِيرًا. ثُمَّ قَالَ: {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] يُرِيدُ بِهِ مَرْضَى الْبَدَنِ إِذَا عَجَزَ بِهِ تَصَرُّفُهُ الصَّحِيحُ، {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نَفَقَةَ جِهَادِهِمْ {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] فيه تأويلان: أحدهما: أن يبرؤوا مِنَ النِّفَاقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُومُوا بِحِفْظِ الْمُخَلَّفِينَ. فَإِنْ قِيلَ بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 وَالْمَرْضَى وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ. وَإِنْ قِيلَ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي كَانَ رَاجِعًا إِلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ خَاصَّةً وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُمْ زَادًا لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مَا يَتَزَوَّدُونَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَنَسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُمْ نِعَالًا لأنهم طلبوا النعال، وهذا قول الحسن بْنِ صَالِحٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ: " أَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا زَالَ رَاكِبًا مَا كَانَ مُنْتَعِلًا " وَفِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْمُطَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى وَأَصْحَابِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 93] فِيهِمْ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الذَّرَارِيُّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ بِالنِّفَاقِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْجِهَادِ فِي ذَوِي الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي ذَوِي الْأَعْذَارِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حرج} ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ. إِحْدَاهُمَا: سُورَةُ النُّورِ [النُّورِ: 61] وَالْأُخْرَى: سُورَةُ الْفَتْحِ [الْفَتْحِ: 17] فِلْم يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَارِدَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 فَذَهَب الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا كَرَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيْنِ تَأْكِيدًا. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا فِي النُّورِ وَارِدَةٌ فِي الْمُؤَاكَلَةِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْمُرَادِ بِالْمُؤَاكَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ إِذَا دُعُوا إِلَى طَعَامٍ، لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ، وَالْأَعْرَجَ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ مُؤَاكَلَتِهِم، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَهَلِّ الزَّمَانَةِ يَخْلُفُونَ الْأَنْصَارَ فِي مَنَازِلِهِمْ إِذَا خَرَجُوا لِلْجِهَادِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ مَنِ اسْتَخْلَفُوهُمْ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانَةِ حَرَجٌ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ قَائِدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْكَرِيمِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَفْسِيرُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْآيَاتِ فَأَوَّلُ الْمَذْكُورِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْأَعْمَى، وَهُوَ الذَّاهِبُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْبَصَرِ لِعِلَّةٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يرى الأشخاص، وإن لم يعرف صورها وويمكنه أَنْ يَتَّقِيَ أَخْفَى السِّلَاحَ وَهُوَ السِّهَامُ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فَرْضُهُ. فَأَمَّا الْأَعْوَرُ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ مَا كَانَ يُدْرِكُهُ بِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْأَعْشَى الَّذِي يُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا يُبْصِرُ لَيْلًا، وَالْأَحْوَلُ وَالْأَعْمَشُ يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَهَكَذَا الْأَصَمُّ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ النَّظَرُ دُونَ السَّمْعِ. وَرَوَى زَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} الْآيَةَ. فَكَتَبْتُهَا فِي كَتِفٍ، فَقَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - وَكَانَ أَعْمَى _: فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَستَطيعُ قَالَ: فَأَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّكِينَةُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ يَا زَيْدُ مَا كَتَبْتَ فَقَرَأْتُ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النساء: 95] فَقَالَ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] فَكَتَبْتُهَا. وَالثَّانِي: من أهل الأعذار الأعرج، وفي المراد في من الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُقْعَدُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 وَالثَّانِي: وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ الْأَعْرَجُ مِنْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لِقُصُورِهَا عَنِ الْأُخْرَى، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْعُفَ بِهِ عَنِ الرُّكُوبِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْمَشْيِ فَلَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنِ الطَّلَبِ، وَيَضْعُفُ عَنِ الْهَرَبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ وَيَضْعُفَ عَنِ السَّعْيِ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ. وَأَمَّا الْأَقْطَعُ الْيَدِ أَوْ أَشَلُّهَا فَلَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْجِهَادِ إِلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِتَالِ، سَوَاءٌ قُطِعَتْ يُمْنَاهُ أَوْ يسراه لأنه يقاتل باليمنى وتبقى بِالْيُسْرَى. ، وَإِنْ ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ بِقَطْعٍ أَوْ شَلَلٍ نُظِرَ. فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ بَطْشِهِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ إِلَيْهِ. وَإِنَّ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ الْمَرِيضُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْجِزَ بِهِ عَنِ النُّهُوضِ فَيَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى النُّهُوضِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا بِالزِّيَادَةِ الَّتِي تَعْجِزُ عَنِ النُّهُوضِ فَيَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعْذَرَ بِهِ فَيَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو حَيٌّ مِنْ مَرَضٍ وَإِنْ خَفِيَ. وَالرَّابِعُ: مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، الْمُعْسِرُ الَّذِي لَا يَجِدُ نَفَقَةَ جِهَادِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] وَالَّذِي يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَالِ فِي اسْتِطَاعَتِهِ لِلْجِهَادِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَغْزَى فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْمَسَافَةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِحَيْثُ لَا تُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي اسْتِطَاعَتِهِ الْحَجَّ، وَاعْتُبِرَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. نَفَقَةُ سفرة. ونفقة من تخلفه مِنْ أَهْلِهِ. وَثَمَنُ سِلَاحِهِ. وَإِنْ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ إِلَى حَيْثُ تُقْصَرُ بِهَا الصَّلَاةُ، اعْتُبِرَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ مَعَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ ضَعُفَ عَنْهُ كَالْحَجِّ، فَإِنَّ عَجَزَ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْجِهَادِ مَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى عَجْزِهِ، فَلَوْ بُذِلَ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ الْمَالِ، نُظِرَ فِي الْبَاذِلِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ بَذَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَزِمَهُ قَبُولُهُ، إِذَا تَكَامَلَتْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 فِيهِ شُرُوطُ الْجِهَادِ، وَلَزِمَهُ فَرْضُهُ لِأَنَّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقًّا. وَإِنْ بَذَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْمَالِ لِالْتِزَامِ الْفَرْضِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ فِي الْحَجِّ، فَإِنْ قَبِلَهُ لَزِمَهُ فَرْضُ الْجِهَادِ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِ الدَّيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دَيْنٌ لَمْ يَخُلْ دَيْنُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا. فَإِنْ كَانَ حَالًّا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِهِ أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَمْ يَسْتَنِبْ فِي قَضَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى ". وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: " لَا، إِلَّا الدَّيْنُ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَا، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: " إِلَّا الدَّيْنَ " فَقَالَ لَهُ: " إِلَّا الدَّيْنَ " وَمَا حُجِزَ عَنِ الْجَنَّةِ لَمْ يُتَوَصَّلْ بِالْجِهَادِ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ فَرْضَ الدَّيْنِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَفَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، هِيَ أَوْسَعُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهِيَ أَضْيَقُ فَقَدَّمَ الْأَضْيَقَ عَلَى الْأَوْسَعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالْجِهَادِ عَنِ الْكَسْبِ وَيَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ. وَإِنِ اسْتَنَابَ الْمُوسِرُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِئْذَانُ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَنِ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ كَالْمُؤَدِّي. وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَائِبًا لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُتْلِفَ الْمَالَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَفِي جَوَازِ جِهَادِهِ، بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُجَاهِدَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 مَقْصُودَ الْجِهَادِ التَّعَرُّضُ لِلشَّهَادَةِ، فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يُتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ فِيهَا، فَصَارَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَيْرَ مَوْصُوفٍ بِفَرْضِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ وَلَا بِسُقُوطِهِ عَنْهُ لِوُقُوفِهِ عَلَى إِذْنِ رَبِّهِ، فَإِنْ أَذِنَ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ، وَإِذَا جَاهَدَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ أَمَامَ الصُّفُوفِ وَوَقَفَ فِي وَسَطِهَا أَوْ حَوَاشِيهَا لِيُتَحَفَّظَ الدَّيْنُ بِحِفْظِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَنْ إِذْنِهِ كَانَ كَالَّذِي مَضَى فِي حُدُوثِ الْأَعْذَارِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَبِإِذْنِ أَبَوَيْهِ لِشَفَقَتِهِما وَرِقَّتِهِمَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَإِنْ كَانَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِ فَإنَمَا يُجَاهِدُ أَهْلَ دِينِهِمَا فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبوه متخلف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ب " أحد " يخذل من أطاعه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لِلْمُجَاهِدِ أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] فَجَمَعَ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا: أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . يَعْنِي: حِينَ تَرَى مِنْهُمَا الْأَذَى وَتُمِيطُ عَنْهُمَا الْقَذَى، فَلَا تَضْجَرْ كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْك صَغِيرًا مِنْ غَيْرِ ضَجَرٍ، وَفِي هَذَا الْأُفِّ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُلُّ مَا غَلُظَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَبُحَ، قاله مقاتل. والثاني: أنهما كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّبَرُّمِ وَالضَّجَرِ، خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْأَصْوَاتِ الْمَحْكِيَّةِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُفٍّ وَتَفٍّ، وَالْأُفُّ فِي اللُّغَةِ وَسَخُ الْأُذُنِ، وَالْتَفُّ وَسَخُ الْأَظْفَارِ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَرُدَّ عَلَيْهِمَا قَوْلًا. وَالثَّانِي: لَا تُنْكِرْ مِنْهُمَا فعلا، {وقل لهما قولا كريما} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيِّنًا. وَالثَّانِي: حَسَنًا، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْخُضُوعُ لَهُمَا. وَالثَّانِي: تَرْكُ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ عُلُوِّ الطَّائِرِ بِجَنَاحِهِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ الْحُنُوُّ وَالشَّفَقَةُ، فَدَلَّ عُمُومُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمَا عَلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي الْجِهَادِ إِلَيْهِمَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 ثُمَّ مِنْ نَصِّ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: " قَدْ هَجَرْتَ الشِّرْكَ وَبَقِيَتْ هِجْرَةُ الْجِهَادِ، فَهَلْ لَكَ بِالْيَمَنِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نعم: أبواي قال: استأذنتهما فَإِنْ أَذِنَاكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبَرَّهُمَا " وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " جِئْتُ أُبَايِعُكَ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَهُ " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ بَعْلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَجَاهِدْ، فَإِنَّ لَكَ فِيهِ مُجَاهِدًا حَثِيثًا، يُرِيدُ بِالْبَعْلِ مَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعْلُ الدَّارِ، أَيْ مَالِكُهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الزَّوْجُ بَعْلًا. وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَطَاعَةَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فَكَانَ أَوْكَدَ فَأَمَّا إذاْ كَانَ أَبَوَاهُ مَشركَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُمَا، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِهِ تَدَيُّنًا وَقَدْ جَاهَدَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُوهُ عُتْبَةُ يُقَاتِلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُتِلَ وَكَانَ سَيِّدَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَاتَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ يُخَذِلُ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَصُدُّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَيَقُولُ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ ورسوله إلا غرورا. وَقِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ لِهَذَا قُشَيْرُ بْنُ مُعَتِّبٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِ مَنْ أَشْرَكَ أَوْ نَافَقَ لِأَنَّ النِّفَاقَ هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْأَبَوَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمَا وَلَهُمَا فِي الإذن ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَأْذَنَا لَهُ مَعًا فَلَهُ الْجِهَادُ، فَإِنْ رَجَعَا عَنِ الْإِذْنِ رُدَّ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يتلق الزَّحْفَانِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْتَنِعَا مِنَ الْإِذْنِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْجِهَادِ فَإِنْ أَذِنَا بَعْدَ الْمَنْعِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَنْعِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَيَمْنَعَهُ الْآخَرُ فَيُغَلَّبُ حُكْمُ الْمَنْعِ على الإذن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ أَبًا أَوْ أُمًّا لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا ". وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمَا، فَإِنْ أَسْلَمَا بَعْدَ كُفْرِهِمَا لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُمَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَلْتَقِ الزَّحْفَانِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ مُنَافِقَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُمَا، فَإِنْ تَابَا مِنَ النِّفَاقِ اسْتَأْذَنَهُمَا قَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا: مُسْلِمًا وَالْآخَرُ مُشْرِكًا أَوْ مُنَافِقًا فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُشْرِكِ وَالْمُنَافِقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ شِرْكُ الْأَبَوَيْنِ كَشِرْكِ صَاحِبِ الدَّيْنِ، فِي أَنْ يَلْزَمَ اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ مَعَ شِرْكِهِمَا كَمَا يلزم استئذان صاحب الدين، أولا يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ صَاحِبِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا كَمَا لَا يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فِي الدَّيْنِ لِحِفْظِهِ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ، وَاسْتِئْذَانَ الْأَبَوَيْنِ لِأَجْلِ التَّدَيُّنِ، فَافْتَرَقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا اسْتِئْذَانُ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَعْدُومَيْنِ أَوْ مُشْرِكَيْنِ أَوْ مُنَافِقَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ فِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ بَاقِيَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُمَا لِحَجْبِهِمَا عَنِ الْوِلَايَةِ وَالْحَضَانَةِ بِالْأَبَوَيْنِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُمَا لِوُجُودِ إِشْفَاقِ الْأَبَوَيْنِ فِيهِمَا. (فَصْلٌ) : وَلَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَمْلُوكَيْنِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِئْذَانُهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَا إِذْنَ لَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا فَلَمْ يُعْتَبَرْ إِذْنُهُمَا فِي غَيْرِهِمَا. وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا وَلَهُ أَبَوَانِ حُرَّانِ، فَأَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْأَبَوَانِ كَانَ إِذْنُ السَّيِّدِ مُغَلَّبًا عَلَى مَنْعِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْوَلَدِ حُرًّا وَبَعْضُهُ مَمْلُوكًا لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنْ حُرِّيَّةٍ، وَاسْتِئْذَانُ السَّيِّدِ بِمَا فِيهِ مِنْ رِقٍّ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِذْنِ جَاهَدَ، وَإِنِ افْتَرَقُوا فِيهِ مُنِعَ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ أَنْ يُسَافِرَ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ لِتِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، لَمْ يَخْلُ حَالُ أَبَوَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا غَنِيَّيْنِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمَا فِي سَفَرِهِ، وَإِنْ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُمَا لِلْجِهَادِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْصُودِ بِهِمَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْجِهَادِ التَّعَرُّضُ لِلشَّهَادَةِ، وَالْمَقْصُودَ بِغَيْرِهِ طَلَبُ السَّلَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَبَوَانِ فَقِيرَيْنِ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا، أَوْ نَفَقَةُ أَحَدِهِمَا، فَيَكُونُ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِمَا كَالدَّيْنِ لَهُمَا فَيَجِبُ اسْتِئْذَانُهُمَا أَوِ اسْتِئْذَانُ مَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ مِنْهُمَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، إِلَّا أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ فَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَمَنْ غَزَا مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ أَوْ حَدَثَ لَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ عُذْرٌ كَانَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يَلْتَقِ الزَّحْفَانِ أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ يَخَافُ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَتْلَفَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا غَزَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَحَدَثَتْ لَهُمْ أَعْذَارٌ وَأَرَادُوا الرُّجُوعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ. وَالثَّانِي: بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الرُّجُوعِ مِنَ الطَّرِيقِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَجُّهِ لِشِدَّةِ زَمَانَتِهِ أَوْ تَزَايُدِ مَرَضِهِ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَتِهِ أَوْ تَلَفِ مَرْكُوبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّوَجُّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّوَجُّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ بِخَوْفِ الطَّرِيقِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ حَدَثٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوَجُّهِ وَيُمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنَ التَّوَجُّهِ وَالرُّجُوعِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ متطوعا بالغزو. والثانية: أن يكون مستعجلا عَلَيْهِ مِنَ السُّلْطَانِ، فَانْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا يَخْلُو عُذْرُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. أَوْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالزَّمَانَةِ وَذَهَابِ النَّفَقَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّوَجُّهِ وَالرُّجُوعِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعَارِضَهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَرُجُوعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي إِذْنِهِ، أَوْ رُجُوعِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ بِهِ جَبْرًا، وَإِنْ كَانَ مستعجلا عَلَى غَزْوَةٍ مِنَ السُّلْطَانِ نُظِرَ فِي عُذْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ، لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الْجَعَالَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِمَّا انْفَرَدَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْجَعَالَةِ فَيُمْنَعُ مِنَ الرجوع، لأنه دخل في الجعالة متلزما لَهَا مَعَ عُذْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ حَادِثًا بَعْدَ الْجَعَالَةِ لِحُدُوثِ زَمَانَةٍ أَوْ تَلَفِ نَفَقَةٍ، فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلَا يَمْنَعُ السُّلْطَانُ مِنْهُ لِظُهُورِ عَجْزِهِ وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ وَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 أَخَذَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ تعالى. أَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ أَصْلَحَ مِنْ مَقَامِهِ لِتَشَاغُلِ الْمُجَاهِدِينَ بِهِ فَيَرْجِعُ وَلَا يُقِيمُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُ أَصْلْحَ مِنْ رُجُوعِهِ لِاضْطِرَابِ الْمُجَاهِدِينَ بِرُجُوعِهِ فَيُقِيمُ وَلَا يَرْجِعُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَى مَقَامُهُ وَرُجُوعُهُ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عُذْرُهُ حَادِثًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِهِ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عُذْرُهُ مُتَقَدِّمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ لِتَوَجُّهِ الْفَرْضِ إِلَيْهِ بِالْحُضُورِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عُذْرُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَرُجُوعِ الْأَبَوَيْنِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِيمَ وَلَا يَرْجِعَ كَعُذْرِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ وَلَا يُقِيمُ لِتَعَيُّنِ الْحَقَّيْنِ فَقُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا ذَهَبَتْ دَابَّتُهُ أَوْ نفقته فرجع ثم أفاد مثل ذَهَبَ مِنْهُ نُظِرَ. فَإِنْ أَفَادَهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَى الْجِهَادِ لِبَقَائِهِ فِيهَا عَلَى حُكْمِ الْجِهَادِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْعَوْدِ، وَالْعَوْدُ أَفْضَلُ، وَلَوْ أَعْطَاهُ السُّلْطَانُ بَدَلَ مَا تَلَفَ مِنْهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ لَزِمَهُ قَبُولُهُ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجِهَادِ، فَإِنْ عَادَ وَلَمْ يَقْبَلْهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ لِيُؤْخَذَ بِالْعَوْدِ جَبْرًا. وَإِنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إِلَى الْجِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْعَوْدِ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ وَلَا عَوْدَ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا غَزَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ أَعْذَارُهُمْ، فَأَبْصَرَ الْأَعْمَى وَصَحَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَقَامَ الْأَعْرَجُ، وَأَيْسَرَ الْمُعْسِرُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُوا فِيهِ عَلَى خِيَارِهِمْ فِي التوجه والعود. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَقَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ فَيُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَظْهَرَ مُنِعُوا مِنَ الْعَوْدِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَظْهَرَ كَانُوا عَلَى خِيَارِهِمْ فِي الْمَقَامِ وَالْعَوْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْدُثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، يُتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ الْمَقَامُ، وَيُمْنَعُوا مِنَ الْعَوْدِ إِلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَيَتَوَقَّى فِي الْحَرْبِ قَتْلَ أَبِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] . فَكَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي حَقِّهِمَا الْكَفُّ عَنْ قَتْلِهِمَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَلَوْ بِالسَّلَامِ " وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ هَمَّ بِمُبَارَزَةِ أَبِيهِ، وَقَتْلِهِ فَكَفَّهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " دَعْهُ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُكَ " فَبَرَزَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ، فَقَتَلَهُ، وَكَفَّ أَبَا بَكْرٍ عَنْ قَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَفَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَعْمَدَ فِي الْحَرْبِ قَتْلَ أَحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ، وَإِنَّ تعدو، وَقَتْلَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَفِيمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْعَصَبَاتِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُهُمْ كَالْأَجَانِبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُهُمْ حَتَّى يَتَرَاخَى نَسَبُهُمْ وَيَبْعُدَ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ حَالُهُمْ بَعْدَ ذَوِي الْمَحَارِمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُ بِنَسَبِهِ وَيُورَثُ كُرِهَ لَهُ قَتْلُهُمْ لِقُوَّةِ النَّسَبِ، وَتَأْكِيدِ حُرْمَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ لَمْ يُكْرَهْ، فَإِنْ عَمِدَ قَتْلَ أَحَدِهِمْ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَيُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ لِشِدَّةِ عِنَادِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِسَبِّهِمَا فَلَيْسَ بِمُسِيءٍ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ أَسَاءَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ وَأَتَى بِرَأْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَثَقُلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِهِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ وَوَجَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] فَأَقَرَّهُ عَلَى قَتْلِهِ وَعَذَرَهُ فِيهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 (مسألة) : قال الشافعي:: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِجُعْلٍ مِنْ مَالِ رجل ويوده إِنْ غَزَا بِهِ وَإِنَّمَا أُجْرَتُهُ مِنَ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ يَغْزُو بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْزُوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِ جُعْلٍ، لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ تَعَيَّنَ فَرْضُ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْحَجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ إِذَا حَضَرَ الزَّحْفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقْصِدُ حَقْنَ دَمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِعِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ لِحُضُورِ الْوَقْعَةِ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ صَحَّتِ الْجَعَالَةُ لَمَلَكَهُ صَاحِبُهَا دُونَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِجُعْلٍ وَغَيْرِ جُعْلٍ فَهَلَّا جَازَ إِذَا غَزَا عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَغْزُوَ عَنْ غَيْرِهِ بِجُعْلٍ أَوْ غَيْرِ جُعْلٍ. قِيلَ: لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَا يَتَكَرَّرُ فَصَحَّتْ فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَوْ تَكَرَّرَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ بِأَنْ قَالَ: إن شفى الله مرضي فلله عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ النِّيَابَةُ لِبَقَاءِ فَرْضِهِ عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ، فَإِذَا صَحَّ فَسَادُ النِّيَابَةِ فِي الْجِهَادِ وَجَبَ عَلَى الْغَازِي رَدُّ الْجَعَالَةِ، وَكَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهَا. فَأَمَّا جَعَالَةُ السُّلْطَانِ إِذَا بَذَلَهَا لِلْغُزَاةِ، مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَجَائِزٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَذَلَهَا لِلْجِهَادِ عَنِ الْكَافَّةِ دُونَهُ، وَلَوْ بَذَلَهَا لِلنِّيَابَةِ عَنْهُ لَمْ تَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَذَلَهَا لَهُمْ مِنْ مَالٍ هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ مُرْتَزِقَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ كَانَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ مُتَطَوِّعَةِ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الصَّدَقَاتِ كَانَ لَهُمْ حَقٌّ فِي سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَلِذَلِكَ إِذَا رَجَعُوا عَنِ الْحَرْبِ لِمَانِعٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ لِحَقِّهِمْ فِيهِ. وَلَكِنْ لَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلَ الْإِنْسَانُ مَالًا يَبَرُّ بِهِ الْغَازِي وَالْحَاجَّ. وَفَاعِلُ الْبِرِّ مَعُونَةً لَهُ لِيَكُونَ لِلْبَاذِلِ ثَوَابُ بَذْلِهِ، وَلِلْعَامِلِ ثَوَابُ عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ بَاذِلِ الْمَالِ. رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الغازي ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 (مسألة) قال الشافعي: " وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَخْذِيلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْجَافٌ بِهِمْ أَوْ عَوْنٌ عَلَيْهِمْ مَنَعَهُ الْإِمَامُ الْغَزْوَ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ غَزَا لَمْ يُسْهِمْ لَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْغُزَاةَ إِذَا خَرَجُوا حَتَّى يَغْزُوَ مَنْ يُرْجَى نَفْعُهُ، وَيُرَدَّ مَنْ يُخَافُ ضَرَرُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادوكم إلا خبالا} [التوبة: 47] فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي: فَسَادًا. وَالثَّانِي: اضْطِرَابًا: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 48] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَأَوْقَعُوا بَيْنَكُمُ الِاخْتِلَافَ. وَالثَّانِي: لَأَسْرَعُوا فِي تَفْرِيقِ جَمْعِكُمْ. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْهَزِيمَةُ. وَالثَّانِي: التَّكْذِيبُ بِوَعْدِ الرَّسُولِ. {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ. وَالثَّانِي: وَفِيكُمْ عُيُونٌ مِنْكُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَكُمْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنْ ذَوِي الْأَضْرَارِ الْمَرْدُودِينَ مِنَ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَخْذِيلُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَضْعُفُ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَكْثِيرِ الْمُشْرِكِينَ وَقُوَّتِهِمْ، وَتَقْلِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَضَعْفِهِمْ وَالْإِخْبَارِ بِمَا يُخَافُ مِنْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ جَدْبٍ، وَبِمَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَضْعُفُ بِهَا الْقُلُوبُ وتفضي إلى الهزيمة. والصنف الثاني: من يرحف بالمؤمنين فينجو بِهَزِيمَتِهِمْ أَوْ بِمَدَدٍ يَرِدُ بِعَدُوِّهِمْ أَوْ بِكَمِينٍ لَهُمْ وَرَاءَهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِأَسْرَى أَوْ سَبَوْا ذَرَارِيَّ أَوْ قَطَعُوا مِيرَةً وَمَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْأَرَاجِيفِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْفَشَلِ وَالْوَجَلِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ عَوْنًا لِلْمُشْرِكِينَ بِإطْلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى أَسْبَابِ الظَّفَرِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ وُقُوعِ الضَّرَرِ وَإِيوَاءِ عيونهم إذا وردوا والذي عَنْهُمْ إِذَا ظَفِرُوا إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى هَذِهِ الْمَعُونَةِ لَهُمُ الْقَوِيَّةِ لِأَمْرِهِمْ فَتُرَدُّ هَذِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 الْأَصْنَافُ وَمَنْ شَاكَلَهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ مَعْدُومٌ، وَالْمَخُوفَ مِنَ الضَّرَرِ بِهِمْ مَوْجُودٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يَغْزُو أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُقِرُّهُمْ وَلَا يَرُدُّهُمْ فَهَلَّا وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِمْ. قِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ عُدِمَا فِيمَنْ بَعْدَهُ من الولاة: أحدها: مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ فَيَحْتَرِزُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: اخْتِيَارُ أَصْحَابِهِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ الْوَعْدِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْوَقْعَةَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ وَلَمْ يُرْضَخْ لِمَعْصِيَتِهِ بِالْحُضُورِ وَخُرُوجِهِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ أَبَوَيْهِ وَإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَاصٍ وَيُسْهَمُ لَهُ والصَّبِيُّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ وَيُرْضَخُ لَهُ فَهَلَّا كَانَ هَؤُلَاءِ بِمَثَابَتِهِمْ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْعَ ذَوِي الضَّرَرِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِمَقْصُودِ الْجِهَادِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ، فَبَطَلَ حَقُّهُمْ مِنْهُ، وَمَنْعَ ذِي الْأَبَوَيْنِ وَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُمْ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ كَمَنْعِ الْمُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِصَاصِ الْمَنْعِ، بِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَبْطُلُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لِاخْتِصَاصِ الْمَنْعِ بِمَا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهَا مُصَلٍّ وَغَيْرُ مُصَلٍّ. فَإِنْ تَظَاهَرَ هَؤُلَاءِ بِالتَّوْبَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ تَوَجُّهِ الظَّفَرِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ تَوَجُّهِ الظَّفَرِ كُشِفَ عَنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ لِتَقِيَّةٍ وَحَذَرٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ لِرَغْبَةٍ فِي الْمَغْنَمِ، فَإِنْ كَانَتْ لَتَدَيُّنٍ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ أُسْهِمَ لَهُمْ، وَإِنْ أَشْكَلَتْ أَحْوَالُهُمْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ إِسْقَاطِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ، وَلَوْ غَزَا مِنْ ذَوِي النِّفَاقِ مَنْ أَضْمَرَهُ وَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِالضَّرَرِ أُسْهِمَ لَهُ، وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ بَاطِنِ مُعْتَقَدِهِ. قَدْ أَسْهَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَنْ شَهِدَ غَزَوَاتِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: وَوَاسِعٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُشْرِكِ أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُ إِذَا كَانَتْ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةٌ وَقَدْ غَزَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَهُودٍ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ وَشَهِدَ مَعَهُ صَفْوَانُ حُنَيْنًا بَعْدَ الْفَتْحِ وَصَفْوَانُ مُشْرِكٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ غَزَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ وَشَهِدَ مَعَهُ صفوان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 حنينا بعد الفتح وصفوان مشرك. حكي عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] وَبقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] وَبِمَا رَوَى حَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةٍ فَأَتَيْتُهُ وَرَجُلٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ نُسْلِمَ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا نستَحْي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُمَا؟ قُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمْنَا وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَشَهِدْتُ، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ ضَرَبَنِي فَقَتَلْتُهُ، وَتَزَوَّجْتُ بِنْتَهُ، فَقَالَتِ لِي: لَا عُدِمْتَ مَنْ وَشَّحَكَ هَذَا الْوِشَاحَ؟ فَقُلْتُ: لَا عُدِمْتِ مَنْ أَلْحَقَ أَبَاكِ بَالنَّارِ؟ وَهَذَا نَصٌّ. قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْتَعِنْ بِمُشْرِكٍ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِهِمْ مَعَ الْكَثْرَةِ وَظُهُورِ الْقُوَّةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 6] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَغْزَى بَعْدَ بَدْرٍ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَغَزَوْا مَعَهُ وَشَهِدَ مَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ حُنَيْنًا فِي شِرْكِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي حَرْبِ هَوَازِنَ، وَاسْتَعَارَ مِنْهُ سَبْعِينَ دِرْعًا فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ " وَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: غَلَبَتْ هَوَازِنُ وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: " بِفِيكَ الَحَجَرُ، لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ "؛ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَوَلٌ كَالْعَبِيدِ، فَجَازَتِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ وَالِاسْتِخْدَامُ لَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ إِنْ قُتِلُوا فَعَلَى شِرْكٍ وَإِنْ قَتَلُوا فَلِلْمُشْرِكِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَنْعِ وَجْهٌ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَضُدًا فَنَمْتَنِعُ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا اتَّخَذْنَاهُمْ خَدَمًا وَلَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَوْلِيَاءَ، فَنَمْتَنِعُ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وإنما اتخذناهم أعوانا فأما الخبر محمول عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنِ امْتَنَعَ مِنْ ذلك تجوزا تَحْرِيضًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَهَكَذَا كَانَ، وَإِمَّا لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُمْ وَهَكَذَا يَكُونُ. وَأَمَّا تَرْكُ إِخْرَاجِهِمْ إِلَى بَدْرٍ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْهُمْ وَهَكَذَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُؤْمَنْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا ابْتَدَأَ بِالْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَخْذَ الْعِيرِ، وَصَادَفَ فَوَاتُهَا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدِ اسْتَعَانَ بِهِمْ بَعْدَ بَدْرٍ فَكَانَ مَا تَأَخَّرَ قَاضِيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فَعَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ، فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُمْ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَأْمَنَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِحُسْنِ نِيَّاتِهِمْ فَإِنْ خَافُوا لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْمُشْرِكِينَ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنْ وَافَقُوهُمْ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا خَرَجُوا مَعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ اجْتَهَدَ وَالِي الْجَيْشِ رَأْيَهُ فِيهِمْ فَإِنْ كَانَ أَفْرَادُهُمْ مُتَمَيِّزِينَ أَصْلَحَ لِتَعَلُّمِ نِكَايَتِهِمْ، أَفْرَدَهُمْ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّهُ أَصْلَحُ، إِمَّا فِي حَاشِيَةِ الْعَسْكَرِ، أَوْ مِنْ أَمَامِهِ، أَوْ مِنْ وَرَائِهِ، إِنْ كَانَ اخْتِلَاطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى؛ لِئَلَّا تَقْوَى شَوْكَتُهُمْ خَلَطَهُمْ بِهِمْ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ أَوْلَى مِنَ الْقَطْعِ بِأَحَدِهَا. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُعْطَى الْمُشْرِكُ مِنَ الْفَيْءِ شَيْئًا وَيُسْتَأْجَرَ إِجَارَةً مِنْ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ الِإمَامُ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَالُهُ مَعَهُمْ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوْلَاهَا بِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُمْ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَعْقِدُهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مَعَ أَحَدِهِمْ نِيَابَةً عَنْ جَمِيعِهِمْ، فَتَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ لَزِمَهُ الثَّبَاتُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ وَالْمُشْرِكَ إِذَا شَهِدَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّبَاتُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ الْأُجْرَةُ عَلَى سَهْمِ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الْجِهَادِ كَمَا لَا يَبْلُغُ بِرُضْخٍ صَبِيٌّ وَلَا عَبْدٌ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أُجْرَةٌ فِي عَقْدِ إِجَارَةٍ فَلَمْ تَتَقَدَّرْ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِحَمْلِ الْغَنِيمَةِ أَكْبَرَ مِنْ سَهْمِ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مَعَهُمْ قَبْلَ الْمَغْنَمِ، وَسِهَامُ الْغَانِمِينَ الْمُسْتَحَقَّةُ مِنْ بَعْدُ مَجْهُولَةٌ تَزِيدُ بِكَثْرَةِ الْغَنَائِمِ وَتَنْقُصُ بِقِلَّتِهَا فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي عَقْدٍ تَقَدَّمَهَا فَإِذَا شَهِدُوا الْوَقْعَةَ أَخَذُوا بِالْقِتَالِ جَبْرًا، وَإِنْ لَمْ يُجْبَرِ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ إلا عند ظهور لعدو وَاسْتِيلَائِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اسْتِيفَاؤُهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 مِنْهُ جَبْرًا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ. وَقِتَالَ الْمُسْلِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْقِتَالِ وَجَهَالَةُ مُدَّتِهِ مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ فَجَازَ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ مَا لَمْ يَجُزْ فِي الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ. فَإِنْ حَضَرُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِتَالُ لِانْهِزَامِ الْعَدُوِّ اسْتَحَقُّوا الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِمَا اسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ فَصَارُوا كَمَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ فَلَمْ يُسْتَخْدَمْ أَوْ أَجَّرَ دَارًا فَسَلَّمَهَا وَلَمْ تُسْكَنْ. وَإِنْ أَمْكَنَ الْقِتَالُ فَلَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى قِتَالِهِمْ رُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ بِالْقِسْطِ مِمَّا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَسَافَةِ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إِلَى مَوْضِعِ الوُقْعَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَعَلَى الْقِتَالِ فِيهَا لِأَنَّهَا إِجَارَةٌ عَلَى مَسَافَةٍ وَعَمَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَتَقَسَّطُ عَلَى مَسَافَةِ مَسِيرِهِ مِنْ بِلَادِ الْحَرْبِ إِلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ وَعَلَى الْقِتَالِ فِيهَا، وَلَا تَتَقَسَّطُ عَلَى مَسَافَةِ مَسِيرِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسَافَتَيْنِ أَنَّ مَسِيرَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ سَبَبٌ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ تَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، وَمَسِيرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شُرُوعٌ في العمل المستحق عليه، لأنه كُلُّ مَوْضِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَحَلٌّ لِقِتَالِ أَهْلِهِ، فَتُقَسَّطُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَسَافَةِ الْحَجِّ هَلْ تَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمُعَلِّمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ الثَّغْرِ الَّذِينَ اسْتَأْجَرَهُمْ لِلْغَزْوِ إِلَيْهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهِمْ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُمُ الْأُجْرَةَ لِأَنَّ مَسِيرَهُمْ قَدْ أَثَّرَ فِي الرَّهْبَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الصُّلْحِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ قَبْلَ مَسِيرِهِ بِهِمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ اسْتَرْجَعَ مِنْهُمْ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ، وَكَانَ هَذَا عُذْرًا بِجَوَازِ أَنْ يَفْسَخَ بِهِ مَا تَعَلَّقَ بِعُمُومِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ سُلِّمَ تُفْسَخُ بِمِثْلِهِ الْعُقُودُ الْخَاصَّةُ. وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بَعْدَ مَسِيرِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمَسَافَةِ وَجْهَانِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ بِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْأُجْرَةَ تَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُمْ لِلْغَزْوِ إِلَى ثَغْرٍ فَأَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ بِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةُ الثَّغْرِ الثَّانِيِ أَبْعَدَ، وَكَانَ طَرِيقُهُ أَوْعَرَ، وَكَانَ أَهْلُهُ أَشْجَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ أَسْهَلَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا برا فليس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يَضُرُّ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ضَرَرِ الْبُرِّ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا يَضُرُّ بِهَا مِثْلَ ضَرَرِ الْبُرِّ وَمَا هُوَ أَقَلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ بِجَعَالَةٍ يَبْذُلُهَا، فَيَقُولُ: مَنْ غَزَا مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ. قِيلَ: يَجُوزُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي خُصُوصِ الْحُقُوقِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ، وَلِلْإِمَامِ فِي بَذْلِ الْجَعَالَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَخْتَصُّ بِهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ غَزَا مَعَهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ دُونَ نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَهْلِهِ وَهُمُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَنْ قَاتَلَ مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ اسْتَحَقَّهُ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ حُكْمٌ فَتَوَجَّهَ إِلَى أَهْلِهِ، وَالْقِتَالَ فِعْلٌ فَتَوَجَّهَ إِلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ الصِّبْيَانُ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ عَقْدٌ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا مَعَ أَهْلِ الْعُقُودِ. فَأَمَّا عَبِيدُهُمْ فَإِنْ أُذِنَ لَهُمْ دَخَلُوا فِي الْجَعَالَةِ وَاسْتَحَقُّوهَا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْذُلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَخْتَصَّ بِهِمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ غَزَا مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا أَهْلُ الْفَيْءِ لِأَنَّ غَزْوَ أَهِلِ الْفَيْءِ مَعَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْجَعَالَةِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ دِيوَانِ الْعَطَاءِ فَلَمْ يَجْمَعُوا فِيهِ بَيْنَ حَقَّيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي دُخُولِ النساء والعبيد على ما معنى. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَعُمَّ الْجَعَالَةُ وَلَا تَخُصَّ فَيَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ الْفَيْءِ وَيَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ تَجْرِي عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُعَاهَدِينَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فإذا استقر حكمها على ما معنى ملاحق فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ سَوَاءٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ تُسْتَحَقُّ عَلَى كَمَالِ الْعَمَلِ وَالْإِجَارَةَ تَتَقَسَّطُ عَلَى أَجْزَائه فَإِنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ نُظِرَ فِي لَفْظِ الْجَعَالَةِ، فَإِنْ قَالَ: مَنْ غَزَا مَعِي، فَلَهُ دِينَارٌ اسْتَحَقَّهُ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَإِنْ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ، فَلَهُ دِينَارٌ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُسْتَحِقِّهِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا جَازَ أَنْ تَزِيدَ الْجَعَالَةُ عَلَى سِهَامِ الْغَانِمِينَ، وَيُسْهَمَ لِمُسْتَحَقِّهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسْتَحِقُّهَا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ عَلَى الوجه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 الَّذِي اخْتَرْتُهُ يَسْتَحِقُّهَا، وَإِنْ بَلَغَ، ذَلِكَ وَزَادَ عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْرِكُ مِنَ الْغُنْمِ سَهْمًا، وَلَا رَضْخًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِغَيْرِ جَعَالَةٍ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ مَعَ الْجَعَالَةِ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْعَلَ لِجَمِيعِ مَنْ غَزَا مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ فَيَدْخُلُ فِي الْجَعَالَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ غَزَا مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ دُونَ مُرْتَزِقَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَيَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلُ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُعَاهَدِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْجَعَالَةِ الْمُفْرَدَةِ ثُمَّ يُقْسَمُ ذلك بين جمعيهم من المسلمين وأهل الذمة على أعداد رؤوسهم، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَلَا يُفَضَّلُ مُسْلِمٌ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَا مَنْ يُسْهَمُ لَهُ عَلَى مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْعَبِيدِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يَدْخُلُ فِيهَا سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى سَيِّدِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَيَصِيرُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ مُفَضَّلًا عَلَى غَيْرِهِ وَوُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ تَمْنَعُ مِنَ التَّفْضِيلِ، بِخِلَافِ الْجَعَالَةِ الْمُفْرَدَةِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِنْ جُعِلَتْ عَلَى الْقِتَالِ دَخَلْنَ، وَإِنْ جُعِلَتْ عَلَى الْغَزْوِ لَمْ يَدْخُلْنَ كَالْجَعَالَةِ الْمُفْرَدَةِ. فَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا كَالْجَعَالَةِ الْمُفْرَدَةِ وَإِنْ دَخَلَ فِيهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ دَخَلُوا بِخِلَافِ الْجَعَالَةِ الْمُفْرَدَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْجَعَالَةِ الْجَامِعَةِ وَاحِدٌ فَدَخَلُوا فِيهِ تَبَعًا، وَفِي الْمُفْرَدَةِ عُقُودٌ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ تَبَعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالُ هَذِهِ الْجَعَالَةِ مُعَيَّنًا فَيَقُولُ: قَدْ حَصَلَتْ لِجَمِيعِ مَنْ غَزَا مَعِي هَذَا الْمَالُ الْحَاضِرُ فَيَصِحُّ هَذَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بِالْمَعْلُومِ لِعَدَدٍ مَجْهُولٍ صَحَّ بِالْمَجْهُولِ. وَيَكُونُ الدَّاخِلُ فِي هَذِهِ الْجَعَالَةِ مُعْتَبَرًا بِحُكْمِ الْمَالِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ فَيَخْرُجُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ هَذِهِ الْجَعَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْمُتَطَوِّعَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ مُرْتَزِقَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ، وَلَا يجوز أن يسترجع منهم إن لم يغزو لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِغَيْرِ جَعَالَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا مُتَطَوِّعَةُ المسلمين وأهل الذمة من المشركين؛ لأنه ما ل يصح مصرفه إلى الفريقين فإن لم يغزو اسْتُرْجِعَ مَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي هَذِهِ الْجَعَالَةِ الْمَعْقُودَةِ بِهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي وجوب مصرفه: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنْ مَصْرِفَهُ فِي الْجَيْشِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ، فَإِذَا اسْتَوْفَوْهَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا غَيْرَهَا وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ غَيْرُهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَصْرِفَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَدَخَلَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ عَدَا مُرْتَزِقَةَ أَهْلِ الْفَيْءِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ لَا؟ . فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ مَمْنُوعِينَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ. قِيلَ: إِنَّمَا مُنِعُوا مِنْ أَخْذِهِ بالفقر والمسكنة الذي يَسْتَحِقُّونَ بِهِمَا الصَّدَقَةَ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ أَخْذِهِ عَلَى عَمَلٍ كَمَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَيْهِمْ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْحُصُونِ؛ وَلِذَلِكَ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجَعَالَةِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهَا دُونَ الْمُعَاهَدِينَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الدَّاخِلِينَ فِي هَذِهِ الْجَعَالَةِ فَغَزَا بِهَا مَنْ أَخْرَجَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ أَوْ جَاهِلًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا ولَا شَيْءَ لَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَإِنَّ جَهِلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَحِقَّ جَعَالَةَ مِثْلِهِ، وَلَا يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي جَعَالَةٍ فَاسِدَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجَعَالَةِ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ حُكْمُ فَسَادِهَا وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهَا فَكَانَ مُفْرِطًا وَبِغَزْوِهِ مُتَبَرِّعًا. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ إِجَارَةٍ وَلَا جَعَالَةٍ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكْرِهَهُمُ الْإِمَامُ فَيَخْرُجُوا مَعَهُمْ مُكْرَهِينَ، فَيَسْتَحِقُّوا عَلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ أُجُورَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ سَهْمٍ وَلَا رَضْخٍ لِاسْتِهْلَاكِ عَمَلِهِمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوِ اسْتَكْرَهَهُمْ فِي حُمُولَةٍ أَوْ بِنَاءٍ وَسَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ أَوْ مُعَاهَدِينَ، وَلَيْسَ يُرَاعَى فِي هَذَا الْإِكْرَاهِ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ الْمُرَاعَى فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى أَنْ لَا يُفْسِحَ لَهُمْ فِي التَّأَخُّرِ وَيُجْبِرَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ حِجْرِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ الْقَوْلِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فَيَخْرُجُوا مَعَهُ مُخْتَارِينَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُمْ وَيَسْتَحِقُّوا بِالْحُضُورِ رَضْخًا، وَلَا يَسْتَحِقُّوا بِهِ سَهْمًا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَيَسْتَحِقُّهُ بِالْحُضُورِ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنْ يُفَضَّلُ رَضْخُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، كَالْمُسْلِمِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ رَاجِلًا لَمْ يَبْلُغْ بِرَضْخِهِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا لَمْ يَبْلُغْ بِرَضْخِهِ سَهْمَ فَارِسٍ وَفِي جَوَازِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ سَهْمَ رَاجِلٍ وَجْهَانِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي بِهِ مُسْلِمًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَرُ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ سَهْمَ رَاجِلٍ، لِأَنَّ الرَّضْخَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرَسِهِ، وَإِنْ مَلَكَهَا فَصَارَ فِي رَضْخِ نَفْسِهِ مُقَصِّرًا عَنْ سَهْمِ الرَّاجِلِ وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَدِئُوا بِالْخُرُوجِ مُتَبَرِّعِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَلَا إِذْنٍ فَلَا أُجْرَةَ لَهُمْ وَلَا سَهْمَ، فَأَمَّا الرَّضْخُ، فَإِنْ قَاتَلُوا رُضِخَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَمْ يُرْضَخْ لَهُمْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْذُونِ لَهُمْ لِأَنَّ الْإِذْنَ اسْتِعَانَةٌ؛ فَقُوبِلُوا عَلَيْهَا بِالرَّضْخِ وَحُضُورِهِمْ مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَلَمْ يُقَابَلُوا عَلَيْهِ بِالرَّضْخِ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ خَالَفُوا فِيهِ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدَّفْعِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ جَعَالَةٍ أَوْ رَضْخٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ أُجْرَةً دُفِعَتْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، الْحَاصِلِ قَبْلَ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْوَاقِعِ قَبْلَهَا فَوَجَبَتْ فِي الْمَالِ الْحَاصِلِ قَبْلَهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ الْمُعَدُّ لِعُمُومِ الْمَصَالِحِ وَفِي جَوَازِ دَفْعِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي مَصْرِفِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ دَفْعُ أُجُورِهِمْ مِنْهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ جَازَ دَفْعُ أُجُورِهِمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جَعَالَةً دُفِعَتْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلِ مِنْ مَالِ الْمَغْنَمِ؛ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْجَعَالَةَ تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْعَمَلِ فَوَجَبَتْ فِي الْمَالِ الْحَاصِلِ بِالْعَمَلِ، الْأُجْرَةُ مُسْتَحَقَّةٌ قَبْلَ الْعَمَلِ فَكَانَتْ مِنَ الْمَالِ الْحَاصِلِ قَبْلَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ رَضْخًا فَفِيمَا يُدْفَعُ مِنْهُ رَضْخُهُمْ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَنَائِمِ مَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ. فَأَمَّا رَضْخُ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ من بعد. والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَبِالْأَخْوَفِ فَإِنْ كَانَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 الْأَبْعَدُ الْأَخْوَفَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ عَلَى مَعْنَى الضَّرُورَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ فِي جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْصِينُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: قِتَالُهُمْ فِي دِيَارِهِمْ. فَيَبْدَأُ الْإِمَامُ قَبْلَ قِتَالِهِمْ بِتَحْصِينِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ؛ لِيَأْمَنُوا فِيهَا عَلَى نُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ. وَتَحْصِينُهَا يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْحَنَ ثُغُورَهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ بِمَنْ يَقُومُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُومَ بِمَوَارِدِهِمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى الْقِتَالِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّكَسُّبِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْنِيَ حُصُونَهُمْ حَتَّى يَمْتَنِعُوا إِلَيْهَا مِنَ الْعَدُوِّ إِنْ طَرَقَهُمْ أَوْ طَلَبَ غَرَّتَهُمْ لِتَكُونَ لَهُمْ وَلِذَرَارِيِّهِمْ مَلْجَأً يَسْتَدْفِعُونَ بِهِ عَدُوَّهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَلِّدَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا يَحْمِيهِمْ فِي الْمَقَامِ، وَيُدَرِّبُهُمْ فِي الجهاد ولا يجعلهم فوضى فيختلفوا ويضعفوا، وَتَقْلِيدُ هَذَا الْأَمْرِ يَصِحُّ إِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ يُقَاتِلُ عَلَى دِينٍ إِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا عَلَى مَنْ يليه من الجيش أن يَخُونَهُمْ وَعَلَى مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يُعِينَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحْفِظٌ عَلَيْهِمْ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْأَمَانَةُ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ شُجَاعًا فِي الْحَرْبِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْهَرَبِ وَيُقْدِمُ عِنْدَ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ آلَتَهُمَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَا رَأْيٍ فِي السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، يَسُوسُ الْجَيْشَ عَلَى اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَيُدِيرُ الْحَرْبَ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، وَأَمْنِ الْغِرَّةِ، لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لَهُمَا فَاعْتُبِرَ فِيهِ موجبهما. فإذ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: وِلَايَةُ تَنْفِيذٍ وَوِلَايَةُ تَفْوِيضٍ. فَأَمَّا وِلَايَةُ التَّنْفِيذِ فَهِيَ مَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ فَتَصِحُّ وِلَايَتُهُ بِتَكَامُلِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 وَأَمَّا وِلَايَةُ التَّفْوِيضِ فَهِيَ مَا فُوِّضَتْ إِلَى رَأْيِ الْأَمِيرِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ فَيُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِهَا مَعَ تَكَامُلِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ وِلَايَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ الرِّقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ عِلْمُهُ بِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أحكام جيشه إذ كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِهِمْ وَيَكُونُ الْقَاضِي أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهَا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} وَلِأَنَّ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قِتَالِهِمْ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَخْوَفُ، وَهُوَ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْهُمْ أَحْذَرُ؛ وَلِأَنَّ قِتَالَ الْأَقْرَبِ أَسْهَلُ وَالْخِبْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ، وَهَذَا أَصْلٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ تَكَافُؤُ الْأَحْوَالِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ أَخْوَفَ جَانِبًا وَأَقْوَى عُدَّةً فَوَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ وَلَا يُقَاتِلَ الْأَبْعَدَ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قِتَالِ الْأَقْرَبِ؛ إِمَّا بِظَفَرٍ أَوْ صُلْحٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْأَبْعَدُ أَخْوَفَ مِنَ الْأَقْرَبِ فَيَبْدَأُ بِقِتَالِ الْأَبْعَدِ لِقُوَّتِهِ، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَأْمَنُ بِهِ الْأَقْرَبَ مِنْ مُهَادَنَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ بِإِزَائِهِ مَنْ يَرُدُّهُ إِنْ قَصَدَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الْأَبْعَدُ وَالْأَقْرَبُ فِي الْقُوَّةِ وَالْخَوْفِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبُعْدَى وَرَاءَ الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ تفريق الجيش مضيعة. والضرب الثاني: أن يكون الْقُرْبَى فِي جِهَةٍ، والْبُعْدَى فِي أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ إِذَا تَفَرَّقَ الْجَيْشُ عَلَيْهِمَا قَدَرُوا عَلَى قِتَالِهِمَا جَازَ أَنْ يُقَاتِلَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ وَيَسْتَبْقِيَ لِلْأُخْرَى مَنْ يَقُومُ بِقِتَالِهَا إِنْ نَفَرَتْ أَوْ يَجْمَعَ قِتَالَهُمَا مَعًا، وَإِنْ كَانَ إِذَا تَفَرَّقَ الْجَيْشُ ضَعُفُوا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ الْقُرْبَى قَبِلَ الْبُعْدَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَامٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ غَزْوٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِسَرَايَاهُ عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ الْجِهَادُ مُعَطَّلًا فِي عَامٍ إِلَّا مِنْ عذر " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ بعد تحصين الثغور، بما قدمناه شيئان: أَحَدُهُمَا: مُرَاعَاةُ كُلِّ ثَغْرٍ فِي مُقَاوَمَةِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا أَكْفَاءَهُمْ فِي الْمُقَاوَمَةِ وَالْمُطَاوَلَةِ، فَيُقِرُّهُمْ عَلَى حَالِهِمْ، فَلَا يَمُدُّهُمْ وَلَا يَسْتَمِدُّهُمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَكْفَاءِ عَدُوِّهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِدَّهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِمَنْ يَصِيرُوا مَعَهُ أَكْفَاءَ أَعْدَائِهِمْ، إِنْ طَلَبَهُمُ الْعَدُوُّ امْتَنَعُوا مِنْهُ وَإِنْ طلبوا العدو وقدروا عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الْمَقْصُودُ فِي تَدْبِيرِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَكْفَاءِ، عَدُوِّهُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمِدَّهُمْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَمِدَّهُمْ إِذَا احْتَاجَ، وَلَهُمْ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَحْتَمِلَهُمُ الثَّغْرُ لِكَثْرَتِهِمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْتَمِلَهُمُ الثَّغْرُ فَيُقِرُّهُمْ فِيهِ عُدَّةً لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَ كُلِّ عَامٍ، لِأَنَّ أُمُورَ الثُّغُورِ قَدْ تَنْتَقِلُ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى ضَعْفٍ وَمِنْ ضَعْفٍ إِلَى قُوَّةٍ لِيَكُونُوا أَبَدًا قَادِرِينَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالطَّلَبِ. (فَصْلٌ) : وَالثَّانِي: أَنْ يَغْزُوَ كُلَّ عَامٍ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِسَرَايَاهُ وَلَا يُعَطِّلَ الْجِهَادَ إدا قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ عَلَى الْأَبَدِ مَا بَقِيَ لِلْكُفَّارِ دَارٌ، وَالَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَرْبَعُ غَزَوَاتٍ، صَيْفِيَّةٌ فِي الصَّيْفِ، وَشَتْوِيَّةٌ فِي الشِّتَاءِ، وَرَبِيعِيَّةٌ فِي الرَّبِيعِ، وَخَرِيفِيَّةٌ فِي الْخَرِيفِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا وَأَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي تِسْعِ سِنِينَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً بِنَفْسِهِ قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ، وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَرِيَّةً بِأَصْحَابِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ غَزْوَةٍ مِنْهَا إِلَى ثَغْرٍ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدُ الثُّغُورِ مُعَطَّلًا، وَلَا يَجْمَعُهُمَا عَلَى ثَغْرٍ وَاحِدٍ فَيَتَعَطَّلُ مَا عَدَاهُ، إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ إِنْ وَالَى غَزْوَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَالِيَهُ حَتَّى يَفْتَحَهُ فَيَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ عَجَزَ الْإِمَامُ عَنْ أَرْبَعِ غَزَوَاتٍ فِي كُلِّ عَامٍ اقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْجِهَادِ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ مُتَكَرِّرٌ وَأَقَلُّ الْفُرُوضِ الْمُتَكَرِّرَةِ مَا وَجَبَ في كل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 عَامٍ مَرَّةً كَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْغُزَاةِ سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الزَّكَاةِ، وَفَرْضُهَا يَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فَكَذَلِكَ الجهاد. (مسألة) : قال الشافعي:: وَيُغْزِي أَهْلُ الْفَيْءِ كُلَّ قَوْمٍ إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُوجِبُهُ الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ وَتَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ وَأَسْكَنَهَا أَهْلَ الْفَيْءِ لِيُقَاتِلُوا مَنْ يَلِيهِمْ، وَمَصَّرَ الْكُوفَةَ وَأَسْكَنَهَا أَهْلَ الْفَيْءِ لِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ أَخْبَرُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلِأَنَّهُمْ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ أَقْدَرُ؛ وَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ والمؤونة أَقَلُّ وَهَكَذَا يُكَلِّفُ أَهْلَ الْبَحْرِ الْقِتَالَ فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِهِ وَأَعْرَفُ، وَلَا يُكَلِّفُهُمُ الْقِتَالَ فِي الْبَرِّ فَيَضْعُفُوا عَنْهُ وَيُكَلِّفُ أَهْلَ الْبَرِّ الْقِتَالَ فِي الْبَرِّ لِأَنَّهُمْ بِهِ أَعْرَفُ وَلَا يُكَلِّفُهُمُ الْقِتَالَ فِي الْبَحْرِ فَيَضْعُفُوا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَغْزَى فِي الْبَحْرِ جَيْشًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعاصِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ سَأَلَ عَمْرَو بْنَ الْعاصِ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ: " دُودٌ عَلَى عُودٍ بَيْنَ غَرَقٍ أَوْ فَرَقٍ فَآلَى أَنْ لَا يُغْزِيَ فِي الْبَحْرِ أَحَدًا مِنْهُمْ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي غَزْوِ الْبَحْرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي لَا أَحْمِلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْوَادٍ نَجَرَهَا النَّجَّارُ وجَلْفَظَهَا الْجِلْفَاظُ، يَحْمِلُهُمْ عَدُوُّهُمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ، والْجِلْفَاظُ: الَّذِي يُشَيِّدُ أَعْوَادَ السُّفُنِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَحْمِلُهُمْ عَدُوُّهُمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَّاحِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ كُفَّارًا يَحْمِلُونَهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ عَدُوُّ رَاكِبِهِ يَحْمِلُهُمْ إِلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 (باب النفير من كتاب الجزية والرسالة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} وَقَالَ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أولي الضرر والمجاهدون} إلى قوله {وكلا وعد الله الحسنى} فَلَمَّا وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى دَلَّ أَنَّ فَرْضَ النَّفِيرِ عَلَى الْكِفَايَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذُكِرَ. جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْمُكَافَئُونَ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] وَبِقَوْلِهِ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] وَبِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَرْضَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ قَوْلُ الله تعالى: {فضل الله المجاهدين عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] فَلَمَّا وَعَدَ الْقَاعِدِينَ بِالْحُسْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ فَرْضٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا غَزَا لَمْ يَخْرُجْ بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ مِنْهُمْ قَوْمٌ، فَلَوْ كَانَ فَرْضُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ لَخَرَجَ جَمِيعُهُمْ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ عَادُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَوْدَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ إِجَابَتِهِ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزَا بِنَفْسِهِ تَارَةً وَبِسَرَايَاهُ أُخْرَى، وَلَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ إِلَى بَنِي لِحْيَانَ لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَكُونُ خَلَفَ الْخَارِجِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ لَخَلَتِ الْبِلَادُ مِنْ أَهْلِهَا وَضَاعَتِ الذَّرَارِيُّ وَتَعَطَّلَتْ مَوَادُّ الزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَهَذَا فَسَادٌ يَعُمُّ فَكَانَ بِالْمَنْعِ أَحَقَّ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا تَقَدَّمَ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْيِينِ فَرْضِهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نَسْخِهِ بِمَا بَيَّنَّاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عَيْنِهِ فَتَأَخَّرَ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فيما لم تقع به الكفاية. (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِذَا لَمَّ يَقُمْ بِالنَّفِيرِ كِفَايَةٌ خَرَجَ مَنْ تَخَلَّفَ وَاسْتَوْجَبُوا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ كِفَايَةٌ حَتَّى لَا يَكُونَ النَّفِيرُ مُعَطَّلًا لَمْ يَأْثَمْ مِنْ تَخَلَّفَ لِأَنَّ اللَهَ تَعَالَى وَعَدَ جَمِيعَهُمُ الْحُسْنَى " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قِتَالَ الْعَدُوِّ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُتَشَاغِلِينَ بِأُمُورِهِمْ مِنْ مَزَارِعَ وَصَنَائِعَ وَمَتَاجِرَ، فَفَرْضُ جِهَادِهِمْ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُقَاتِلُوا فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَإِنْ كَانَ فِي ثَغْرِهِمْ أَمِيرٌ مُقَلَّدًا عَلَى غَزْوِهِمْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ تَجْهِيزِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَتَدْبِيرِهِمْ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ عَلَى مَا يَأْمَنُونَ ضَرَرَهُ مِنَ اشْتِدَادِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَيَسْلُكُ بِهِمْ أَسْهَلَ الطُّرُقِ وَأَوْطَأَهَا وَأَكْثَرَهَا مَاءً وَمَرْعَى، وَأَقَلُّ مَا يُخْرِجُهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ عَدُوِّهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {إن يكن مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] وَأَكْثَرُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّغْرِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلًا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ ذَلِكَ الثَّغْرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَامَ بِهِمْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَسَقَطَ عَنْ كَافَّةِ الْأُمَّةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ فَيَتَغَيَّرُ هَذَا التَّقْدِيرُ بِحَسَبِ الْحَادِثَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّ يَسِيرَ الْعَدُوُّ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى نَحْوِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْقِتَالِ فَيَكُونُ حُكْمُ قِتَالِهِ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ مُقِيمًا لَمْ يَسِرْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي وَقْتِ غَزْوِهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ مَكْرِهٍ فِي طَلَبِ غِرَّةٍ وَانْتِهَازِ فُرْصَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون بأهبة القتال مستعدا لحرب فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ففرض جهاده الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 عَلَى الْكِفَايَةِ، غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عَلَى الْكَافَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِهِ، لِأَنَّهُ مَا تَعَدَّاهَا، لَكِنْ يَجِبُ التَّأَهُّبُ لِقِتَالِهِ، وَفَرْضُ هَذَا التَّأَهُّبِ عَلَى أَعْيَانِ أَهْلِ ذَلِكَ الثَّغْرِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنَّ يَسِيرَ إِلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ قَدْ أَظَلَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَوَصَلَ إِلَيْهَا لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ التي لا تقصد فِيهَا الصَّلَاةُ فَتَعَيَّنَ فَرْضُ قِتَالِهِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الثَّغْرِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْقِتَالِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ لَا يَأْذَنَانِ لَهُ لِأَنَّهُ قِتَالُ دِفَاعٍ، وَلَيْسَ بِقِتَالِ غَزْوٍ، فَتَعَيَّنَ فَرْضُهُ عَلَى كُلِّ مُطِيقٍ، ثُمَّ يُنْظَرُ عَدَدُ الْعَدُوِّ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ أَهْلِ الثَّغْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِأَهْلِ الثَّغْرِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِمْدَادُهُمْ بِمَنْ يَقُومُ بِهِ الْكِفَايَةُ فِي دَفْعِ عَدُوِّهِمْ، وَإِنْ كَانُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الثَّغْرِ فَمَا دُونَ، فَهَلْ يَسْقُطُ بِهِمْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ بِهِمَا فَرْضُ الكفاية عن من عَدَاهُمْ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ قِتَالِ مِثْلَيْهِمْ فَيَصِيرُ فَرْضُ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ مُتَعَيِّنًا، وَعَنْ غَيْرِهِمْ سَاقِطًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ خَوْفًا مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ، فَيَصِيرُ فَرْضُ الْقِتَالِ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِمْ وَبَاقِيًا عَلَى الْكِفَايَةِ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يدخل العدو بلاد الإسلام ويطؤها، فَيَتَعَيَّنُ فَرْضُ قِتَالِهِ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الَّتِي وَطِئَهَا وَدَخَلَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْقِتَالِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْعَدُوُّ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِ، وَإِنْ كَانَ بِهِمْ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ لَمْ يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين مَا كَانَ الْعَدُوُّ بَاقِيًا فِي دَارِهِمْ، وَهَلْ يَصِيرُ فَرْضُ قِتَالِهِ مُتَعَيِّنًا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَيَّنُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَيَصِيرُ فَرْضُ قِتَالِهِمْ مُتَعَيِّنًا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْكِفَايَةِ لِقُدْرَةِ أَهْلِ الثَّغْرِ عَلَى دَفْعِهِمْ، فَيَصِيرُ فَرْضُ قِتَالِهِ عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ مُتَعَيِّنًا وَعَلَى الْكَافَّةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَلَا يُرَاعَى بَعْدَ دُخُولِ الْعَدُوِّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَيْنِ كَمَا يُرَاعَى قَبْلَ دُخُولِهِ بَلْ يُرَاعَى الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِهِمْ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ بَعْدَ الدُّخُولِ ظَافِرٌ وَقَبَلَهُ مُتَعَرِّضٌ، فَإِنِ انْهَزَمَ أَهْلُ ذَلِكَ الثَّغْرِ عَنْهُمْ صَارَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ مُتَعَيِّنًا عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ وَجْهًا وَاحِدًا حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى بِلَادِهِ، فَإِذَا رَدُّوهُ إِلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أمرين: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودَ خَالِيًا مِنْ سَبْيٍ وَأَسْرَى، فَقَدْ سَقَطَ مَا تَعَيَّنَ مِنْ فَرْضِ قِتَالِهِ بِرَدِّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ بِسَبْيٍ وَأَسْرَى، فَيَكُونُ فَرْضُ قِتَالِهِ بَاقِيًا حَتَّى يُسْتَرْجَعَ مَنْ فِي يده من السبي والأسرى. (مسألة) : قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ رَدُّ السَّلَامِ وَدَفْنُ الْمَوْتَى وَالْقِيَامُ بِالْعِلْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ مَنْ فِيهِ الْكِفَايَةُ لَمْ يُحَرَّجِ الْبَاقُونَ وَإِلَّا حُرِّجُوا أَجْمَعُونَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ بِالْجِهَادِ فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: رَدُّ السَّلَامِ، وَدَفْنُ الْمَوْتَى، وَطَلَبُ الْعِلْمِ. فَأَمَّا السَّلَامُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي ابْتِدَائِهِ. وَالثَّانِي: فِي رَدِّهِ. فَأَمَّا ابْتِدَاؤُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَدَبٌ وَسُنَّةٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَدَبُ، فَسَلَامُ الْمُتَلَاقِيَيْنِ، وَهُوَ خَاصٌّ، وَلَيْسَ بِعَامٍّ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَ لتشاغل به كل مهم، وَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكْسِبَ بِهِ وُدًّا، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَدْفِعَ بِهِ بَذْءًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] . فَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: ادْفَعْ بِالسَّلَامِ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ فَصَارَ هَذَا السَّلَامُ خَاصًّا وَلَيْسَ بِعَامٍّ، وَكَانَ مِنْ آداب الشرع لا من سننه لأن يَفْعَلُهُ لِاجْتِلَابِ تَآلُفٍ، وَالْأَوْلَى فِي ابْتِدَاءِ هَذَا السَّلَامِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإيهما اسْتَوَيَا فَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِهِ كَانَ لَهُ فَضْلُ التَّحِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ سَلَامُ السُّنَّةِ، فَهُوَ سَلَامُ الْقَاصِدِ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ عَامٌّ يَبْتَدِئُ بِهِ كُلُّ قَاصِدٍ عَلَى كُلِّ مَقْصُودٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَرَاكِبٍ وَمَاشٍ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ إِذَا قَصَدَ وَيَبْتَدِئُ بِهِ إِذَا لُقِيَ وَقُصِدَ وَهُوَ مِنْ سُنَنِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِغَيْرِ سَبَبٍ مُجْتَلَبٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سَلَامِ الْأَدَبِ فَرْقَانِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ هَذَا وَخُصُوصُ ذَاكَ. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الْمُبْتَدِئِ بِهَذَا وَتَكَافُؤُ ذَاكَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَاصِدِ، وَيَتَعَيَّنُ الرَّدُّ فِيهِ عَلَى الْمَقْصُودِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ جَمَاعَةً، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْجَمَاعَةِ قَلِيلًا يَعُمُّهُمُ السَّلَامُ الْوَاحِدُ فَلَيْسَ يَحْتَاجُ فِي قَصْدِهِمْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ سَلَامٍ وَاحِدٍ يُقِيمُ بِهِ سُنَّةَ السَّلَامِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ فَهُوَ أَدَبٌ وَلَيْسَ يَلْزَمُ رَدُّ السَّلَامِ إِلَّا مِنْ وَاحِدٍ وَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَدَبٍ وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ سَلَامُ الْوَاحِدِ كَالْجَامِعِ وَالْمَسْجِدِ الحافل بأهله، فسنة السلام أن يبتدىء بِهِ الدَّاخِلُ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ إِذَا شَاهَدَ أوائلهم ويؤدي سنة السلام من جميع سَمِعَهُ، وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الرَّدِّ جَمِيعُ مَنْ سَمِعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْجُلُوسَ فِيهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَمَّ يَسْمَعُوا سَلَامَهُ الْمُتَقَدِّمَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ قَدْ سَقَطَتْ بِالسَّلَامِ عَلَى أَوَائِلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ جَمْعٌ وَاحِدٌ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ كَانَ أَدَبًا، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحَدُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ رَدَّ عَلَيْهِ سَقَطَ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ فِيمَنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهِمْ سَلَامُهُ إِذَا أَرَادَ الْجُلُوسَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ بِسَلَامِهِ أَخَصُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ عَنِ الْأَوَائِلِ بِرَدِّ الْأَوَاخِرِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَسَلَامُ الْقَاصِدِ إِذَا لَزِمَهُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَيُؤْمَرُ الْقَاصِدُ بِالِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] . وَفِي قَوْلِهِ: {حتى تستأنسوا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ فِيهَا مَنْ يَأْذَنُ لَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] أَيْ: عَلِمَ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَفِيمَا يَبْتَدِئُ بِهِ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْدَأُ بِالِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ السَّلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبًا وَالسَّلَامُ سُنَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرَجُلٍ: " قُمْ " فَعَلِّمْ هَذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ، فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، وَالْأُولَى عِنْدِي مِنِ اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ محمولا على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، لَا يَتَعَارَضُ فِيهِمَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَهُوَ إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْقَاصِدِ عَلَى الْمَقْصُودِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى السَّلَامِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أُمِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالسَّلَامِ فَسَلَّمَ، فَهَلْ يَكُونُ سَلَامُهُ اسْتِئْذَانًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ اسْتِئْذَانًا، وَيَكُونُ رَدُّهُ إِذْنًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ وَاجِبًا وَإِعَادَتُهُ بَعْدَ الوجوب أدب وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ اسْتِئْذَانًا، وَلَا يَكُونُ رَدُّهُ إِذْنًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ مَسْنُونًا، قَدْ سَقَطَتْ بِهِ سُنَّةُ السَّلَامِ بَعْدَ الْإِذْنِ: (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ، وَيَكُونَ رَدُّهُ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا عَلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّلَامُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْكَافِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الرَّدِّ عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَفِي هَذِهِ التَّحِيَّةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الدُّعَاءُ. وَالثَّانِي: السَّلَامُ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدُّوهَا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِ أَوْ رُدُّوا مِثْلَهَا عَلَى الْكَافِرِ. وَالثَّانِي: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الدُّعَاءِ أَوْ رُدُّوهَا بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ عَلَى جَمَاعَةٍ فَرَدُّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ عَلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَأَيُّهُمْ تَفَرَّدَ بِالرَّدِّ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِثَوَابِ رَدِّهِ دُونَهُمْ، وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنْهُ حَرِجُوا أَجْمَعِينَ، وَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِرَدِّ غَيْرِهِمْ. فَأَمَّا صِفَةُ السَّلَامِ وَصِفَةُ الرَّدِّ، فَهُوَ مُخْتَلَفٌ بِاخْتِلَافِ المسلم والمراد، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ بَيْنَ مسلمين وفصفته مِنَ الْمُبْتَدِئِ بِالسَّلَامِ، أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، سواء كان السلام على واحدا أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَتَوَجَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 إِلَيْهِ وَإِلَى حَافِظِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا زَادَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) فَهُوَ زِيَادَةُ فَضْلٍ. فَأَمَّا رَدُّهُ فَأَقَلُّهُ أَنْ يُقَابَلَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُغَارُّ التَّحِيَّةُ) وَالْغِرَارُ: النُّقْصَانُ. أَيْ: لَا تُنْقِصْ مِنَ السَّلَامِ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْكَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تُزَادَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ جَاءَ آخر فقال: عليكم السلام وَرَحْمَةُ اللَهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْكُمْ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: زِدْتَ الأول والثاني، وقلت للثالثة: وَعَلَيْكُمْ فَقَالَ: إِنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ أَبْقَيَا مِنَ التَّحِيَّةِ شَيْئًا، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمَا أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمَا، وَإِنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ فضربان: أحدهما: أن يكون الكافر مبتدءاً بِالسَّلَامِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ رَدُّ سَلَامِهِ، وَفِي صِفَةِ رَدِّهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وبرحمة اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَصِرَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَوَى سوءا بسلامه وإن كان المسلم مبتدءا بِالسَّلَامِ، فَفِي جَوَازِ ابْتِدَائِهِ بِالسَّلَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالسَّلَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ السَّلَامُ أَدَبًا وَسُنَّةً كَانَ الْمُسْلِمُ بِفِعْلِهِ أَحَقَّ، فَعَلَى هَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُسْلِمُ: (السَّلَامُ عَلَيْكَ) عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَذْكُرُهُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ كَالْمُسْلِمِ لِيَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْدَأُ بالسلام حتى يبتدئ بِهِ، فَيُجَابُ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبْتَدِئُوا الْيَهُودَ بالسَّلَامِ، فَإِنْ بدؤوكم فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَنِ الْجِهَادِ فَهُوَ مِنَ الْسُنَنِ وَالْآدَابِ، فَلَمْ أَسْتَجِزْ ذِكْرَهُ، مَعَ ذِكْرِ الشَّافِعِيِّ لَهُ إنْ أُخِلَّ بِاسْتِيفَائِهِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا دفن الموتى فحكمه وحكم نسلهم والصلاة عليهم واحد، فهو مفروض الْكِفَايَاتِ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ، حَتَّى يَقُومَ بِهِ أَحَدُهُمْ، وَهَلْ يَكُونُ أَوْلِيَاؤُهُ فِيهِ أُسْوَةَ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ أُسْوَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ، فَمَأْثَمُ تَرْكِهِ فِيهِمْ أَغْلَظُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ حَتَّى يَقُومَ بِهِ أَحَدُهُمْ، فَيَسْقُطُ فَرْضُهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَجُوزُ لِلْأَجَانِبِ أَنْ يُفَوِّضُوا أَمْرَهُ إِلَى الْأَقَارِبِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَنْهُ الْأَقَارِبُ شَارَكَهُمْ فِي فَرْضِهِ الْأَجَانِبُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْمَيِّتِ إِلَّا وَاحِدٌ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقِيَامِ بِهِ فِي الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِمُوَارَاتِهِ فَيَكُونُ فِيمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ فرضه بين خيارين: إما أن تنفرد بِمُوَارَاتِهِ وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِمُوَارَاتِهِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ التَّعْيِينِ، وَيَبْقَى فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَلَى الْمُخْبِرِ وَالْمُخْبَرِ حَتَّى يُوَارِيَهُ أَحَدُهُمْ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمُوَارَاةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فِي الْعُمُومِ، وَمِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فِي الْخُصُوصِ. (فَصْلٌ) : أَمَّا طلب العلم فعلى أربعة أقسام: أحدهما: مَا تَعَيَّنَ فَرْضُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهُوَ مَا لَا يَخْلُو مُكَلَّفٌ مِنْ وُجُوبِ فَرْضِهِ عليه، كالطهارة والصلاة الصيام، فَيَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ وَصِفَةِ أَدَائِهِ عَلَى تَفْصِيلِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " عَلِّمُوهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ " فَلَمَّا أَمَرَ بِتَعْلِيمِ مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْفَرْضُ كَانَ تَعْلِيمُ مَنْ لَزِمَهُ أَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ فِيهَا، لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الرَّاتِبَ مِنْ شُرُوطِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَيَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِهِ عَلَى بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ جَمِيعِهِمْ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، لِأَنَّ فَرْضَهُمَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْحُكْمِ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَرْضُ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ عَامًّا، وَفَرْضُ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِهِ خَاصًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الزِّنَا، وَالرِّبَا وَالْقَتْلِ، وَالْغَصْبِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِهِ، لِيَنْتَهُوا عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُمُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهِ إِذَا فُعِلَ، لِأَنَّهُمْ مُنْتَهُونَ عَنْهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ فَرْضُ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ مِنْ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ وَنَوَازِلَ، لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 أَحَدُهُمَا: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فِي الْجِهَادِ، لِتُفَقِّهَ الطَّائِفَةَ الْمُقِيمَةَ. وَالثَّانِي: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فِي طَلَبِ الْفِقْهِ لِتُجَاهِدَ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ عِلْمَ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ جُمْلَةَ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ تَوَجَّهَ فَرْضُهُ إِلَى مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي فَرْضِ الكفاية تكليف. والثاني: أنه يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورِيَّةِ، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْقَضَاءِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ امْرَأَةٌ وَلَا عَبْدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاءِ وَالتَّصَوُّرِ لِيَكُونَ قَابِلًا لِلْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ بَلِيدًا لَا يَتَصَوَّرُ خَرَجَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِفَقْدِ آلَةِ التَّعَلُّمِ، كَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْجِهَادِ عَنِ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَقْتَدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ بِمَا يَمُدُّهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بِعُسْرِهِ خَرَجَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ " فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي عَدْلٍ أَوْ فَاسْقٍ تَوَجَّهَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ مَأْمُورٌ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ فِسْقِهِ فَصَارَ مِمَّنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ فِسْقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ، خَرَجَ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ، وَإِنْ أَقَامَ بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ انْقَسَمَتْ حَالُهُ، وَحَالُ مَنْ دَخَلَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَيَسْقُطُ بِهِ فَرْضُهَا إِذَا عُلِمَ وَهُوَ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ إِذَا كَانَ عَدْلًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَدْخُلُ فِيهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُهَا إِذَا عُلِمَ وَهُوَ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ إِذَا كَانَ فَاسِقًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَا يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَيَسْقُطُ بِهِ فَرْضُهَا إِذَا عُلِمَ، وهو من أعسر بما يستمده، وقد كمل مَا عَدَاهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لعسرته، وَيَسْقُطُ فَرْضُهَا لِكِفَايَتِهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ لَا يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفِي سُقُوطِ فَرْضِهَا بِهِ وَجْهَانِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ. أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ بِهَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْفَتَاوَى مَقْبُولٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ بِهِمَا فَرْضُهُمَا لِقُصُورِهِمَا عَنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الدَّاخِلِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 (باب جامع السير) قال الشافعي: " الْحُكْمُ فِي الْمُشْرِكِينَ حُكْمَانِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهْلَ أَوْثَانٍ أَوْ مَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَقُوتِلُوا حَتَّى يُقتَلُوا أَوْ يُسْلِمُوا لِقَوْلِ الله تبارك وتعالى {وقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ ال ْمَسْأَلَةُ مِنْ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا الْمُزَنِيُّ فِي الجهاد لتعلقها بأحكامه، والمشركون ثلاثة أصناف: أحدهما: أَهْلُ كِتَابٍ وَالثَّانِي: مَنْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ. وَالثَّالِثُ: مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَعَلَهُمُ الشَّافِعِيُّ صِنْفَيْنِ وَهُمْ أَكْثَرُ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ صِنْفَانِ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ أَكْثَرَ وَالثَّانِي: لِأَنَّ الَّذِينَ جَاهَدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ صِنْفَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَدْخَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الشِّرْكِ وَقَدْ مَنَعَ غَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَ اسْمِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا مَعْبُودًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا وَفِيهِمْ مَنْ جَعَلَهُ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَضَافُوهَا إِلَى غَيْرِهِ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِيهَا، فَلَمْ يَمْتَنِعْ لِهَذَيْنَ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشِّرْكِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَصِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: الْيَهُودُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ السَّامِرَةِ وَكِتَابُهُمُ التَّوْرَاةُ. وَالثَّانِي: النَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الصَّابِئِينَ وَكِتَابُهُمُ الْإِنْجِيلُ، فَهُوَ لَا يُجَوِّزُ أَخْذَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إِنْ بَذَلُوهَا مَعَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمُ الْمَجُوسُ، لِأَنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ فِي كِتَابِهِمْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، ولا يجوز أكل ذبائحهم لأن وقع الشَّكِّ فِي كِتَابِهِمْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ على الصحيح من الْمَذْهَبِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ مِنَ الشَّمْسِ وَالنَّارِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ جِزْيَتُهُمْ وَلَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا، وَيُقَاتَلُوا حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقْتَلُوا. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ إِلَّا إِنْ كَانُوا عَجَمًا وَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ إِنْ كَانُوا عَرَبًا حَتَّى يُسْلِمُوا، احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي الْجِزْيَةَ إِلَيْكُمْ بِهَا الْعَجَمُ؟ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَعَمَّ بِالْجِزْيَةِ جَمِيعَ الْعَجَمِ مَا عَمَّ بِالدِّينِ جَمِيعَ الْعَرَبِ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَقَالَ: " إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى خِصِالٍ ثَلَاثٍ، فَإِلَى أَيَّتِهِنَّ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلَ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ " وَهَذَا نَصٌّ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ نِسَائِهِمْ جَازَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ رِجَالِهِمْ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ ذُلٌّ وَصَغَارٌ، فَإِذَا جَرَتْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ أَفْضَلُ، كَانَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى مَنْ دُونَهُمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَكَانَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا عَامًّا، وَخَصَّ مِنْهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِثْنَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ يَقْتَضِي خُرُوجَ غَيْرِهِمْ مِنَ اسْتِثْنَائِهِمْ، وَدُخُولَهُمْ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مَشْرُوطًا بِالْكِتَابِ، فَاقْتَضَى انْتِفَاؤُهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ. وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ لِشَكِّهِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَقَالَ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَقَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَجِبْتُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَيْفَ تَعْجَبُ وَقَدْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَبَدَّلُوا، فَأُسْرَى بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُشْرِكٍ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ حُرْمَةُ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ جِزْيَتِهِ كَالْعَرَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ الشِّرْكُ مِنْهُ فِي الْعَرَبِ مُنِعَ مِنْهُ الْعَجَمُ كَالْمَنَاكِحِ وَالذَّبَائِحِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ، نَقَلَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِدَلِيلِنَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَ السَّرَايَا كَانَتْ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُ بِأَدِلَّتِنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَالْمَعْنِيُّ فِيهِمْ مَا ثَبَتَ لَهُمْ مِنْ حُرْمَةِ كِتَابِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ فِي اتِّبَاعِهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهَا صَغَارٌ فَكَانَتْ بِعَبَدَةِ الأوثان أحق. (مسألة) : قال الشافعي: " وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهْلَ كِتَابٍ قُوتِلُوا حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَإِنْ لَمْ يُعْطُوا قُوتِلُوا وَقُتِلُوا وَسُبِيَتْ ذَرَارِيهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَمَوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُوَافِقُونَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فِي حُكْمَيْنِ وَيُفَارِقُونَهُمْ فِي حُكْمَيْنِ فَأَمَّا الْحُكْمَانِ فِي الِاتِّفَاقِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ سَبْيُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَجُوزُ سَبْيُ عَبَدَةِ الأوثان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 وَأَمَّا الْحُكْمَانِ فِي الِافْتِرَاقِ فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تُسْتَبَاحُ مَنَاكِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحُهُمْ وَلَا يُسْتَبَاحُ ذَلِكَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ اسْتِوَاءُ الْفَرِيقَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَسْلَمُوا أَوْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا. وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَيَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، وَالْفَرِيقَانِ فِي الْمُهَادَنَةِ سَوَاءٌ، إِنْ دَعَتْ إِلَيْهَا حَاجَةٌ هُودِنُوا، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ لَمْ يُهَادَنُوا. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَيْئًا بَعْدَ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ في الأنفال قال ذلك الإمام أو لم يقله لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نفل أبا قتادة يوم حنين سلب قتيله وما نفله إياه إلا بعد تقضي الحرب ونفل محمد بن مسلمة سلب مرحب يوم خيبر ونفل يوم بدر عددا ويوم أحد رجلا أو رجلين أسلاب قتلاهم وما علمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حضر محضرا قط فقتل رجل قتيلا في الأقتال إلا نفله سلبه وقد فعل ذلك بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو بكر وعمر رضي الله عنهما " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُرِيدُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا مَا غَنِمَ مِنْ أَهْلِ أَمْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ يَكُونُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ لِلْغَانِمِينَ، وَسَمَّاهُ فَيْئًا، وَإِنْ كَانَ بِاسْمِ الْغَنِيمَةِ أَخَصُّ لِرُجُوعِهِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. فَيَبْدَأُ الْإِمَامُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِأَسْلَابِ الْقَتْلَى فَيَدْفَعُ سَلَبَ كُلِّ قَتِيلٍ إِلَى قَاتِلِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ يَشْرُطْهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ كَانَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ كَانُوا فِيهِ أُسْوَةَ الْغَانِمِينَ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ " وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سلبه " وروى عمرو بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ " وَرُوِيَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَتِيلًا فَسَأَلَ عَنْ قَاتِلِهِ فَقَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ " فَقَالَ: " لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ " وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي كِتَابِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ عَطَاءُ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ اسْتَحَقَّهُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتُلَهُ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ليكف كيده، فإن قتله قتل اشْتِبَاكِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ انْكِشَافِهَا فَلَا سَلَبَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْقِتَالِ ليكف شره وفإن قَتَلَهُ مُدْبِرًا عَنِ الْقِتَالِ أَوْ مُعْتَزِلًا لَهُ فَلَا سَلَبَ لَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَا بَطْشٍ فِي الْقِتَالِ وَقُوَّةٍ فَإِنْ قَتَلَ زَمِنًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا هَرِمًا أَوْ صَبِيًّا لَا يُقَاتَلُ مِثْلُهُ أَوِ امْرَأَةً تَضْعُفُ عَنِ الْقِتَالِ فَلَا سَلَبَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُقَاتِلَانِ عَنْ قُوَّةٍ وَبَطْشٍ كَانَ لَهُ سَلَبُهُمَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ، بِأَنْ يُبَارِزَهُ فَيَقْتُلَهُ أَوْ يَقْتَحِمَ الْمَعْرَكَةَ فَيَقْتُلَهُ فَأَمَّا إِنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ مِنْ بُعْدٍ بِحَيْثُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا سَلَبَ لَهُ فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْقَتْلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَاتِلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُسْهَمُ لَهُ كَالرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَيَسْتَحِقُّ السَّلَبَ وَلَا يُخَمِّسُهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ خُمْسَهُ لِأَهْلِ الْخُمْسِ وليس بصحيح لما قدمناه مِنْ إِعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا قَتَادَةَ سَلَبَ قَتِيلِهِ، وَلَمْ يُخَمِّسْهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مَعَ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ السَّلَبَ زِيَادَةٌ اسْتَحَقَّهَا بِالتَّغْرِيرِ كَالنَّفْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا وَيُنْظَرُ فِي السَّلَبِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ سَهْمِهِ فَأَكْثَرَ أَخَذَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ سَهْمِهِ أُعْطِيَ تَمَامَ سَهْمِهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا يُرْضَخُ لَهُ كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّلِ وَالْكَافِرِ إِذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ، لأن لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَغْنَمِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُرْضَخُ لَهُ وَلَا يُسْهَمُ كالصبي والعبد والمرأة والكافر والمأذون لَهُ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّلَبِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي إِعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُ أو بيان لقول الله تعالى: {واعلموا أن ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . الآية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ سَهْمًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ إِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ فِي الْغَنِيمَةِ سَهْمًا فَإِذَا قِيلَ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّلَبِ لَمْ يُرْضَخْ لَهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ وَإِنْ قِيلَ: لَا يَسْتَحِقُّهُ كَانَ السَّلَبُ مَغْنَمًا، وَزِيدَ الْقَاتِلُ فِي رَضْخِهِ لِأَجْلِ بَلَائِهِ فِي قَتْلِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَكِنْ قَطَعَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ مَا لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُضُورِ وَلَا مِنَ الْقِتَالِ، كَقَطْعِ أَسْنَانِهِ، أَوْ جَدْعِ أَنْفِهِ أَوْ سَمَلِ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُفَّ كَيْدَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُضُورِ وَالْقِتَالِ جَمِيعًا، كَقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَطَّلَهُ، فَصَارَ كَقَتْلِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُضُورِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ كَقَطْعِ الرِّجْلَيْنِ، أَوْ يَقْطَعَ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُضُورِ، كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ، فَعَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِسَلَبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنْ كَمَالِ الْكَيْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهُ، لِأَنَّهُ إِنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ قَدَرَ عَلَى الْقِتَالِ بِيَدَيْهِ إِذَا رَكِبَ وَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ قَدَرَ عَلَى الْحُضُورِ بِرِجْلَيْهِ مُكَثِّرًا وَمُهَيِّبًا، وَلَوْ أَخَذَهُ أَسِيرًا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِسَلَبِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى أَسْرِهِ كَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَقْدَرَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا سَلَبَ لَهُ لِأَنَّهُ مَا كَفَّ كَيْدَهُ وَلَا كَفَّ شَرَّهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا السَّلَبُ مِنْ مال المقتول ينقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ كُلُّهُ سَلَبًا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ، وَهُوَ مَا كَانَ مُقَاتَلًا فِيهِ مِنْ ثِيَابٍ وَجُبَّةٍ أَوْ مُقَاتَلًا عَلَيْهِ مِنْ فَرَسٍ أَوْ مَطِيَّةٍ أَوْ مُقَاتَلًا بِهِ مِنْ سِلَاحٍ وَآلَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مَغْنَمًا وَلَا يَكُونُ سَلَبًا، وَهُوَ مَا لَهُ فِي الْعَسْكَرِ مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ وَخِيَمٍ وَآلَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَعَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ لَا يُقَاتِلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ قُوَّةٌ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ كَفَرَسٍ يُجَنِّبُهُ مَعَهُ، أَوْ مَالٍ فِي وَسَطِهِ أَوْ حُلِيٍّ عَلَى بَدَنِهِ، فَفِي كَوْنِهِ سَلَبًا وَجْهَانِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ سَلَبًا لِقُوَّتِهِ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ سَلَبًا لِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ بِهِ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " ثم يرفع بَعْدَ السَّلَبِ خُمْسَهُ لِأَهْلِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّلَبَ مُقَدَّمٌ فِي الْمَغَانِمِ لِلْقَاتِلِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا بَعْدَ السَّلَبِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا، أَنَّهُ يُخْرِجُ خُمْسَ الْمَغَانِمِ بَعْدَ السَّلَبِ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّضْخِ يَصْرِفُهُ فِي أَهْلِ الْخُمْسِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {واعلموا أن ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ السُّنَّةُ مِنَ السَّلَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ إِعْطَاءُ الرَّضْخِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمْسِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالسَّلَبِ، وَيَسْتَوِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ قَلِيلُ الْغَنِيمَةِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ أُخِذَتْ قَهْرًا بِقُوَّةٍ أَوْ أُخِذَتْ خِلْسَةً بِضَعْفٍ فِي إِخْرَاجِ خُمْسِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذُوهَا قَهْرًا وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ بقوَةٍ خُمِّسَتْ وَإِنْ أَخَذُوهَا خِلْسَةً وَهُمْ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ لَمْ تُخَمَّسْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، الْمَنَعَةُ عَشَرَةٌ فَأَكْثَرُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ أَحْكَامِ الظَّفَرِ الَّذِي يُعَزُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَيُذَلُّ بِهِ الشِّرْكُ وَهَذَا فِي الْمَأْخُوذِ خِلْسَةً وَتَلَصُّصًا. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِ الله تعالى: {واعلموا أن ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا غُلِبَ الْمُشْرِكُ عَلَيْهِ وَأُخِذَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْمَأْخُوذِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُ خُمْسِهِ إِذَا وَصَلَ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَجَبَ إِخْرَاجُ خُمْسِهِ إِذَا وَصَلَ بِالْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالرِّكَازِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ خُمِّسَتْ غَنِيمَتُهُ إِذَا كَانَ فِي مَنَعَةٍ خُمِّسَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ خُمِّسَتْ غَنِيمَتُهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ خُمِّسَتْ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي مَنَعَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التِّسْعَةِ وَالْعَشَرَةَ فِي الْعِزِّ وَالذُّلِّ، فَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْغَنِيمَةِ وَالتَّلَصُّصِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إخراج خمسه ملكا لغانمه. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِبَيْتِ الْمَالِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَيُعَزَّرُوا عَلَيْهِ لِتَغْرِيرِهِم بِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ التَّغْرِيرُ مَعَ الْعَدُوِّ مَحْظُورًا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّضَ عَلَى الْجِهَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَفَلَ كُلَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 امرء مَا أَصَابَ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " فَقَالَ عُمَيْرُ بن حمام، وفي يده ثمرات يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ، مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، ثم قذف الثمرات مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ: (رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ ... إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ) (وَالصَّبرِ فِي الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النقاد) (غير التقى والبر والرشاد ... ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَنِيمَةِ خُمْسُهَا، وَرَضَخَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِيهَا كَانَ بَاقِيهَا لِلْغَانِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْوَقْعَةَ يَشْتَرِكُ فِيهَا مَنْ قَاتَلَ وَمِنْ لَمِ يُقَاتِلْ، لِأَنَّهُ كَانَ رَدًّا لِلْمُقَاتِلِ قال الله تعالى: {واعلموا أن ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَلَمَّا أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَثْنَى خُمْسَهَا مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ بَاقِيهَا لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ لِلْأَبِ، فَإِنْ لَحِقَ بِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مَدَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَوْنًا لَهُمْ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَانْكِشَافِهَا، فَالْمَدَدُ يُشْرِكُهُمْ فِي غَنِيمَتِهَا إِذَا شَهِدُوا بَقِيَّةَ حَرْبِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَإِجَازَةِ غَنَائِمِهَا فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي غَنِيمَتِهَا سَوَاءٌ أَدْرَكُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَإِجَازَةِ غَنَائِمِهَا، فَشَهِدُوا مَعَهُمْ إِجَازَتَهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا. وَالثَّانِي: لَا يُشَارِكُونَهُمْ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا تُمَلَّكُ بِهِ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ إِجَازَتِهَا، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: إِنَّهَا تُمَلَّكُ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ فَعَلَى هَذَا لَا حَقَّ لِلْمَدَدِ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الثاني: إنهم ملكوا بِالْحُضُورِ أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا بِالْإِجَازَةِ، فَعَلَى هَذَا يُشَارِكُهُمُ الْمَدَدُ فِيهَا وَيَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَدَدُ اللَّاحِقُ بِهِمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَإِجَازَةِ الْغَنَائِمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَحِقَ بِهِمُ الْمَدَدُ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ منها وقيل قِسْمَتِهَا شَارَكُوهُمْ فِيهَا، وَإِنْ لَحِقُوا بِهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَبَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُشْرِكُوهُمُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسَ، فَعَادَ وَقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُنَيْنًا فَأَشْرَكَهُمْ فِي غَنَائِمِهَا. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجناد أن من جاءكم من الأمدادا قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّأَ الْقَتْلَى فَأَعْطُوهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلِأَنَّ الْقُوَّةَ بِالْمَدَدِ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الظَّفَرِ فَصَارُوا فِيهَا كَالْمُكْثِرِ وَالْمَهِيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِمَثَابَتِهِمْ فِي الْمَغْنَمِ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمَلَّكُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْعُ سَهْمِهِ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَرْيَةٍ مِنْ بِلَادِهِمْ دَفَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، وَفَتَحَهَا آخَرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ غَنِيمَةً لِلْآخَرِينَ دُونَ الْأَوَّلِينَ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَأَضَافَهَا إِلَى الْغَانِمِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعيِدِ بِنِ الْعَاصِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحُنَيْنٍ وَقَدْ فَتَحَهَا فَقَالَ أَبَانٌ اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " اجْلِسْ يَا أَبَانُ ولم يقسم له " وروى أبو بكر - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ أَثْبَتُ، وَوُقُوفُهُ عَلَيْهِمَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يظهر لهما مخالف؛ ولأن أبا حنيفة وافقها فِي الْمَدَدِ لَوْ كَانُوا أَسْرَى فِي أَيْدِيهِمْ فَأَفْلَتُوا مِنْهُمْ وَلَحِقُوا بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، فكذلك غير الأسرى ولو لحقوا بهم في الوقعة شاركوهم فَكَذَلِكَ غَيَرُ الْأَسْرَى، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وُصُولٌ بَعْدَ الْقُفُولِ فَلَمْ يُشْرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ كَالْأَسْرَى. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيهِ الْأَسْرَى لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيهِ الْمَدَدُ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَيْشِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحُنَيْنٍ وَأَنْفَذَهُ إِلَى أَوْطَاسَ - وَهُوَ وَادٍ بِقُرْبِ حُنَيْنٍ - حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ فِيهِ قَوْمًا مِنْ هوازن فكن مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ، وَمُسْتَحِقِّ الْغَنِيمَةِ فَلِذَلِكَ قَسَمَ لَهُ وَخَالَفَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ: إِنْ صَحَّ مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ معتبرا بفقوء القتلى وفقؤهم غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَدَدِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُهُ بِالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بَعْدَ الْقَسْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَسْبَابَ الظَّفَرِ مَا تَقَدَّمَتْ أَوْ قَارَبَتْ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا تَأَخَّرَتْ لَكَانَتْ بِمَنْ أَقَامَ وَلَمْ يَنْفِرْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ: فَهُوَ أَنَّهُ أَصْلٌ لَهُمْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي قُرْعَةٍ، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِيهِ بِأَنَّ الْقَرْيَةَ لِلْآخَرِينَ فَنَحْنُ نَجْعَلُهَا لِلْأَوَّلِينَ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ بَيْعَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ، فَنَحْنُ نُجَوِّزُهُ إِذَا اخْتَارَ الْغَانِمُ تَمَلُّكَهَا وَنَجْعَلُ بَيْعَهَا اخْتِيَارًا لِتَمَلُّكِهَا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ بِنَاءً عَلَى أصل ولا استشهاد. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ أَنَّ الْفَارِسَ يُفَضَّلُ فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى الرَّاجِلِ، لِفَضْلِ عَنَائِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ تَفْضِيلِهِ، فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَمَالِكٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَهْلِ مِصْرَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ دُونَ أَصْحَابِهِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ، أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِفَرَسِهِ لِئَلَّا يُفَضَّلَ فَرَسُهُ عَلَيْهِ، وَلِلرَّاجِلِ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهَا فِي كِتَابِ " قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ " بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدْ رَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ. وَرَوَى يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى. (فَصْلٌ) : وَلَا فَرْقَ فِي الْخَيْلِ بَيْنَ عِتَاقِهَا وَهِجَانِهَا وَبَيْنَ سَوَابِقِهَا وَبَرَاذِينِهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، سَهْمَيْنِ لَهُمَا، وَسَهْمًا لِفَارِسِهِمَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ الْعِتَاقِ وَلَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ الْهِجَانِ وَيُعْطَى فَارِسُهَا سَهْمُ رَاجِلٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ الْهَجِينِ نِصْفُ سَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْعَتِيقِ، فَيُعْطَى فَارِسُ الْبِرْذَوْنِ سَهْمَيْنِ وَيُعْطَى فَارِسُ الْعَرَبِيِّ الْعَتِيقِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَرَاذِينِ وَالْعِتَاقِ بِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ يَثْنِي يَدَهُ إِذَا شَرِبَ وَلَا يَثْنِيهَا الْعَتِيقُ؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْبَرَاذِينَ لَا تُعْنَى عَنَاءَ الْعِتَاقِ وَالسَّوَابِقِ فِي طَلَبٍ وَلَا هَرَبٍ فَشَابَهَتِ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَعَمَّ الْحُكْمُ فِي ارْتِبَاطِ الْخَيْلِ بِمَا يَجْعَلُ مِنْ رَهْبَةِ الْعَدُوِّ بِهَا وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عُمُومِ الْخَيْلِ وَفِي قَوْلِهِ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُوَّةَ التَّصَافِي وَاتِّفَاقُ الْكَلِمَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُوَّةَ الثِّقَةُ بِالنَّصْرِ وَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقُوَّةَ السِّلَاحُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْقُوَّةَ فِي الرَّمْيِ. وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] " أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلَاثًا ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْبُطُوا الْخَيْلَ فَإنَ ظُهُورَهَا عِزٌّ وَبَطُونَهَا لَكُمْ كَنْزٌ " فَعَمَّ بِالْخَيْلِ جَمِيعَ الْجِنْسِ؛ وَلِأَنَّ عِتَاقَ الْخَيْلِ أَجْرَى وَأَسْبَقُ، وَبَرَاذِينَهَا أَكَرُّ وَأَصْبَرُ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ فَتَقَابَلَا وَلِأَنَّ عِتَاقَ الْخَيْلِ عِرَابٌ، وَبَرَاذِينَهَا أَعَاجِمُ، وَلَيْسَ يُفَرَّقُ فِي الْفُرْسَانِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكَذَلِكَ الْخَيْلُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ شَدِيدِ الْخَيْلِ وَضَعِيفِهِ فَكَذَلِكَ فِي السَّابِقِ وَالْمُتَأَخِّرِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُعْطَى إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْطَبُ الْوَاحِدُ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثَانٍ، فَصَارَ مُعَدًّا لِلْحَاجَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَوْجُودٌ فِي الثَّالِثِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَعْطَبُ الثَّانِي، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يُسْهَمَ لِثَالِثٍ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ حَضَرَ بِأَفْرَاسٍ فَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ حَضَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُعْطُوا إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ سِيرَةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَمَا عَدَاهُ زِينَةٌ أَوْ عُدَّةٌ، فَلَمْ يَقَعِ الِاسْتِحْقَاقُ إِلَّا فِي الْمُبَاشِرِ بِالْعَمَلِ كَخِدْمَةِ الزَّوْجَةِ لَمَّا بَاشَرَهَا الْوَاحِدُ، وَكَانَ مَنْ عَدَاهُ زِينَةً، أَوْ عُدَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلَّا نَفَقَةَ خَادِمٍ وَاحِدٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 (فَصْلٌ) : فَإِذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ أَخَذَ بِهِ سَهْمَ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ نَظَرَ فِي مَالِكِهِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا حَاضِرًا كَانَ سَهْمُ الْفَرْسِ، وَهُوَ سَهْمَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ مِلْكًا لِرَبِّ الْفَرَسِ، دُونَ غَاصِبِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُ الْفَرَسِ غَيْرَ حَاضِرٍ كَانَ سَهْمُهُ لِغَاصِبِهِ دُونَ مَالِكِهِ، وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالِكُهُ ذِمِّيًّا حَاضِرًا؛ لَأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْغَاصِبِ دُونَ المالك. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيُرْضَخُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَالْمَرَأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْمُشْرِكِ إِذَا قَاتَلَ وَلِمَنِ اسْتُعِينَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ رُضِخَ لَهُ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَهُوَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُسْهَمُ لِجَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَإِنْ كَانُوا صِبْيَانًا وَنِسَاءً وَعَبِيدًا، احْتِجَاجًا بِمَا رَوَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْهَمَ لَهُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ النِّسَاءِ هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ وَهَلْ كَانَ يُضْرَبُ لَهُنَّ سَهْمٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ، وَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، فَكَانَ يُرْضَخُ لَهُنَّ وَلَا يُسْهَمُ، وَلِأَنَّ السَّهْمَ حَقٌّ يُقَابِلُ فَرْضَ الْجِهَادِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَقِّ مَنْ لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَخَالَفَ أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَرْضَى الَّذِينَ يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا حَضَرُوا، لِأَنَّ فَرْضَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالْحُضُورِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ أَنْ يُوَلُّوا عَنِ الْوَقْعَةِ وَجَازَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ أَنْ يولى عنها، وما رواه الأوزاعي من االسهم لَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّضْخِ، لِأَنَّ السَّهْمَ النَّصِيبُ، وَهَكَذَا مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رُضِخَ لَهُمْ، وَلَمْ يُسْهَمْ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعَانَ بِقَوْمٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهَمُ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الرَّضْخِ مُسْلِمًا، كَانَ رَضْخُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْلِهَا؟ أَوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ، سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ عَلَى قولين كالمسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 (مسألة) قال الشافعي: " وَيُسْهَمُ لِلتَّاجِرِ إِذَا قَاتَلَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِلتَّاجِرِ إِذَا خَرَجَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْجِهَادَ بِخُرُوجِهِ، وَتَكُونَ التِّجَارَةُ تَبَعًا لِجِهَادِهِ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ، وسواء قاتل أولم يُقَاتِلْ، يَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّجِرُوا، كَمَا لَوْ قَصَدَ الْحَجَّ فَاتَّجَرَ كَانَ لَهُ حَجَّةٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ تِجَارَتُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْصِدَ التِّجَارَةَ، وَيَتَخَلَّفَ فِي الْمُعَسْكَرِ تَشَاغُلًا بِهَا، فَهَذَا لَا يُسْهَمُ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ وَعَدَمِ أَثَرِهِ فِي الْوَقْعَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصِدَ التِّجَارَةَ وَيَشْهَدَ الْوَقْعَةَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَاتِلَ فَيُسْهَمَ لَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِبَلَائِهِ فِي الْحَرْبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُقَاتِلَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْهَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَلِأَنَّهُ قَدْ كَثَّرَ وَهَيَّبَ وَتِجَارَتُهُ مَنْفَعَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، فَلَمْ يُحْرَمْ بِهَا سَهْمُهُ مَعَهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لا يسهم له ولا يعطى رضخ كَالْأَتْبَاعِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ " مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " وَلِأَنَّ مَا قَصَدَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ فَضْلِ التِّجَارَةِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ بِهِ مُفَضَّلًا عَلَى ذَوِي النِّيَّاتِ فِي الْجِهَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَتُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، قَسَّمَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ غَنِمَهَا وَهِيَ دَارُ حَرْبِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وحنين وأما ما احتج به أبو يوسف بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم غنائم بدر بعد قدومه المدينة وقوله: الدليل على ذلك أنه أسهم لعثمان وطلحة ولم يشهدا بدراً فإن كان كما قال فقد خَالَفَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يعطي أحدا لم يشهد الوقعة ولم يقدم مددا عليهم في دار الحرب وليس كما قال (قال الشافعي) ما قسم عليه السلام غنائم بدر إلا بسير شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر فلما تشاح أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غنيمتها أنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها بينهم وهي له تفضلا وأدخل معهم ثمانية أنفار من المهاجرين والأنصار بالمدينة وإنما نزلت {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه وللرسول} بعد بدر ولم نعلمه أسهم لأحد لم يشهد الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى من المؤلفة وغيرهم فمن ماله أعطاهم لا من الأربعة الأخماس وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي فذلك قبل بدر ولذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 كانت وقعتهم في آخر الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} وليس مما خالف فيه الأوزاعي في شيء " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ، الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، فَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عذر. وقال أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤَخِّرُ قَسْمَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقَسِّمْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعَجِّلُ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيُؤَخِّرُ قَسْمَ السَّبْيِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ قَسْمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ مُقْدَمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعْطَى عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهَا، وَلِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ حِينَ غَنِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ قَتْلِهِ لَمْ يُقَسِّمْ غَنِيمَتَهُ حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَالٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ قَالَ: مَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَنِيمَتَهُ قَطُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَقُولُ مَكْحُولٌ هَذَا قَطْعًا وَهُوَ تَابِعِيٌّ إِلَّا عَنِ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ: قَالُوا: وَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتِدَامَةِ قَبْضَتِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ قَسْمِهَا كَمَا مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مُعَرَّضَةٌ لِلِاسْتِرْجَاعِ فَلَمْ يَجُزْ قَسْمُهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ بِبَدْرٍ، وَالنَّفْلُ مِنَ الْقَسْمِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا حُفَاةً عُرَاةً جِيَاعًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ وَعُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ وَجِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ " فَانْقَلَبَ الْقَوْمُ حَيْثُ انْقَلَبُوا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحِمْلُ وَالْحِمْلَانِ، وَقَدْ كَسَاهُمْ، وَأَطْعَمَهُمْ، وَانْقِلَابُهُمْ مِنْ بَدْرٍ بِهَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِبَدْرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَوَقَفَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ لَهَا، وَعَامَلَ عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ مَعَ السَّبْيِ بِأَوْطَاسَ، وَهُوَ وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَعْطَى مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا غَنِمَ غَنِيمَةً قَطُّ إِلَّا قَسَّمَهَا حَيْثُ غَنِمَهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صَحَّتْ فِيهِ الْغَنِيمَةُ لَمْ يُمْنَعْ فِيهِ مِنَ الْقِسْمَةِ كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ صَحَّ قَسْمُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُكْرَهْ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالثِّيَابِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَى تَعْجِيلِ قِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ قِسْمَتِهَا فَي دَارِ الْحَرْبِ تَعْجِيلَ الْحُقُوقِ إِلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 مُسْتَحِقِّيهَا، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهَا، وَلِأَنَّ حِفْظَ مَا قُسِّمَ أَسْهَلُ وَالْمَؤُونَةَ فِي نَقْلِهِ أَخَفُّ فَكَانَ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا رَوَيْنَا خِلَافَهُ، فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ تَشَاجَرُوا فِيهَا، فَأَخَّرَهَا لِتَشَاجُرِهِمْ، حَتَّى جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] فَحِينَئِذٍ قَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى رَأْيِهِ، وَأَدْخَلَ فِيهِمْ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، ثَلَاثَةً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَخَمْسَةً مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ مُرْسَلٌ، وَالنَّقْلُ الْمَشْهُورُ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَأْخِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ غَنِيمَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمُ فَشَكُّوا فِي اسْتِبَاحَتِهَا، فَأَخَّرُوهَا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] . الْآيَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ لَمْ يَعْلَمْ مُسْتَحِقَّ الْغَنِيمَةِ وَكَيْفَ تُقَسَّمُ، فَأَخَّرَهَا حَتَّى اسْتَعْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ، فَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا غير مضمون فافتقرا. وَالثَّانِي: أَنَّ يَدَ الْغَانِمِينَ أَثْبَتُ لِأَنَّ يَدَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الدَّارِ وَيَدَ الْغَانِمِينَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَصَارَ كَرَجُلٍ فِي دَارِ رَجُلٍ وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ، فَادَّعَاهُ صَاحِبُ الدَّارِ لِأَنَّ صاحب اليد أحق من صاحب الدار، ولأن صَاحِبَ الدَّارِ يَدُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَيَدُ الْقَابِضِ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهِدَةِ فَكَانَتْ أَقْوَى وَكَانَ بِالْمِلْكِ أَحَقَّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلِاسْتِرْجَاعِ فَهُوَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِيمَا اتَّصَلَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ قِسْمَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الظَّفَرُ فَيَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ أَوْ يد. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ صَيَّرَهُ إِلَى الْإِمَامِ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ لِأَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ أَنْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُمْ، وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ مَا أَقَامُوا فِي دَارِهِمْ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمِ يَوْمِ خَيْبَرَ، قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَالْتَزَمْتُهُ، وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ مِنْهُ أَحَدًا شَيْئًا ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبْتَسِمُ، فَدَلَّ تَبَسُّمُهُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ عَلَيْهِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ وَيَنْصَرِفُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَلِأَنَّ أزواد المجاهدين تنفذ وَيَصْعُبُ نَقْلُهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَظْفَرُونَ بِمَنْ يَبِيعُهَا عَلَيْهِمْ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِبَاحَتِهَا لَهُمْ. فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا لَهُمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُعْتَبَرُ الْحَاجَةُ فِي اسْتِبَاحَتِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي اسْتِبَاحَتِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ، مَعَ الْحَاجَةِ وَالْغِنَى وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَاعْتِبَارًا بِطَعَامِ الْوَلَائِمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إِنَّهُمْ لَا يَسْتَبِيحُونَهُ إِلَّا مَعَ الْحَاجَةِ اعْتِبَارًا بِأَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ غَيْرِهِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالْمُضْطَرِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَسْتَبِيحُ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ وَهَذَا مُبَاحٌ، وَإِنْ لَمْ يَخَفِ التَّلَفَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُضْطَرَّ ضَامِنٌ، وَهَذَا غَيْرُ ضَامِنٍ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَقْتَاتُهُ وَمَا يَتَأَدَّمُ بِهِ وَيَتَفَكَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَصِدُ عَلَى الْأَقْوَاتِ وَحْدَهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ حُجَّةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّخِرَ مِنْهُ إِذَا اتَّسَعَ قَدْرُ مَا يَقْتَاتُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ، فَإِنْ ضَاقَ كَانَ أُسْوَةَ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ الْمَوَاشِيَ لِيَأْكُلَهَا، وَلَا يَذْبَحْهَا لِغَيْرِ الْأَكْلِ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ جُلُودَهَا حِذَاءً وَلَا سِقَاءً لِاخْتِصَاصِ الْإِبَاحَةِ بِالْأَكْلِ، فَأَشْبَهَ طَعَامَ الْوَلَائِمِ، ولا يجوز أن يعدل عن المأكول وَالْمَشْرُوبِ إِلَى مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ، فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ فَضَرْبَانِ: طلاء ومأكول. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 فَأَمَّا الطِّلَاءُ مِنَ الدُّهْنِ وَالضِّمَادِ فَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا بِقِيمَةٍ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْمَأْكُولِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ وَغَيْرُ مَحْسُوبَةٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ ضَرُورَتَهُ إِلَيْهَا أَدْعَى، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَا تُؤْكَلُ إِلَّا تَدَاوِيًا، حُسِبَتْ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ وإن أكلت لدواء غير دَوَاءٍ لَمْ تُحْسَبْ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا عُلُوفَةُ دَوَابِّهِمْ وَبَهَائِمهِمْ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي جِهَادِهِ، مِنْ فَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَبَهِيمَةٍ يَحْمِلُ عَلَيْهَا رَحْلَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا تَعْتَلِفُهُ الْبَهَائِمُ مِنْ شَعِيرٍ وَتِبْنٍ وَقَتٍّ، وَلَا يَتَعَدَّى الْعُرْفَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ ضَرُورَتَهَا فِيهِ كَضَرُورَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اسْتُصْحِبَ لِلزِّينَةِ وَالْفُرْجَةِ كَالْفُهُودِ وَالنُّمُورِ وَالْبُزَاةِ الْمُعَدَّةِ لِلِاصْطِيَادِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْجِهَادِ، فَإِنْ أُطْعِمْهَا كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهَا وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا حَمَلَهُ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ لِحَاجَةٍ رُبَّمَا دَعَتْ إِلَيْهِ كَالْجَنِيبَةِ الَّتِي يَسْتَظْهِرُ بِهَا لِرُكُوبِهِ، أَوْ بِهَائِمَ يَسْتَظْهِرُ بِهَا لِحُمُولَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لِأَنَّهَا عُدَّةٌ يَقْوَى بِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يتعدى بها مال لنفسه، وإن علفها من أموالهم كان محسوبا عليها مِنْ سَهْمِهِ اعْتِبَارًا لِحَاجَتِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَكَمَا لَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اسْتَظْهَرَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْعُلُوفَةَ إِلَى إِنْعَالِ دَوَابِّهِ، وَلَا أَنْ يُوقِحَ حَوَافِرَهَا وَيَدْهِنَ أَشَاعِرَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَا عَدَا الطَّعَامَ وَالْعُلُوفَةَ مِنَ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْآلَةِ وَالْمَتَاعِ فَجَمِيعُهُ غَنِيمَةٌ مُشْتَرَكَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مِنْهَا فَأَخْلَقَهُ، أَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَهَزَلَهَا اسْتَرْجَعَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَغَرِمَ نَقْصَهُ كَالْغَاصِبِ. رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا خَلِقَ رَدَّهُ فِيهِ " وَلِأَنَّ الْمُضْطَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَسْتَبِيحُ أَكْلَ الطَّعَامِ دُونَ الثِّيَابِ، فَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي دَارِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 الْحَرْبِ فَإِنِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَةُ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَى ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ اسْتَأْذَنَ فِيهِ الْإِمَامَ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ، وَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ، وَإِذَا نُفِقَتْ دَابَّتُهُ أَوْ قُتِلَتْ فِي الْمَعْرَكَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا مِنَ الْمَغْنَمِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُجَاهِدُ أَوْ قُتِلَ لَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ دِيَتِهِ، فَإِنِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَتُهُ إِلَى مَا يَرْكَبُهُ لِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، اسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ حَتَّى يُعْطِيَهُ إِمَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ نَفْلًا، وَإِمَّا مِنَ الْغَنِيمَةِ سَلَفًا مِنْ سَهْمِهِ، يَفْعَلُ مِنْهَا مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُمُ الْإِمَامُ أَنَّ مَنْ قُتِلَ فَرَسُهُ فِي الْمَعْرَكَةِ كَانَ لَهُ مِثْلُهَا أَوْ ثَمَنُهَا، جَازَ لِيُحَرِّضَهُمْ عَلَى الْإِقْدَامِ، وَوَفَّى بِشَرْطِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِثْلَهَا أَوْ ثَمَنَهَا بِحَسَبِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى حُكْمِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلِكِ فِي غُرْمِ قِيمَةِ الدَّابَّةِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا وَيَكُونُ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. (فَصْلٌ) وَيَجُوزُ أَنْ يُتَابِعَ الْمُجَاهِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ طَعَامِهِمْ رِطْلًا بِرِطْلَيْنِ، وَلَا يَكُونُ رِبًا إِذَا بَاعَهُ مُجَاهِدٌ عَلَى مُجَاهِدٍ، لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ بَيْنَهُمْ فَسَقَطَ فِيهِ حُكْمُ الرِّبَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ الرِّبَا عِنْدَهُ فِي دَارِ الْمُشْرِكِينَ كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ بِذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ، وَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى بَيْعِ الْمَأْكُولِ بِمَأْكُولٍ كَمَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى إِبَاحَةِ الْمَأْكُولِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِيهِ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِإِبَاحَةِ أَصْلِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُجَاهِدُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُجَاهِدٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَلَا بِثَمَنِهِ وَلَا بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ وَيَكُونُ مَبِيعًا بَاطِلًا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَإِنْ عُقِدَ عَلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْأَكْلِ دُونَ الْبَيْعِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ، وَهَكَذَا لَوْ دَفَعَهُ الْمُجَاهِدُ قَرْضًا لِغَيْرِهِ مُنِعَ إِنْ كَانَ مُقْتَرِضُهُ غَيْرَ مُجَاهِدٍ وَلَمْ يُمْنَعْ إِنْ كَانَ مُقْتَرِضُهُ مُجَاهِدًا وَيَصِيرُ مُقْتَرِضُهُ أَحَقَّ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ بَدَلِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُجَاهِدُ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا لَهُ حَمَلَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُجَاهِدٍ أَوْ غَيْرِ مُجَاهِدٍ جَازَ وَحُرِّمَ لَهُ فِيهِ الرِّبَا، وَإِنْ أَقْرَضَهُ اسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعَ بَدَلِهِ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِإِبَاحَةِ هَذَا وَحَظْرِ ذَاكَ (فَصْلٌ) وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَهُمْ مِنْ بَقَايَا مَا أَخَذُوهُ مِنْ طَعَامِهِمْ فَفِي وُجُوبِ رَدِّهِ إِلَى الْمَغْنَمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنَّ عَلَيْهِمْ رَدَّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ لِارْتِفَاعِ الْحَاجَةِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكُوهُ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سِهَامِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْأَوْزَاعِيِّ، لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طَعَامًا وَعَسَلًا، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمْسُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَا بَقِيَ معهم من الطعام قبل قسم الغنيمة رده فِي الْغَنَائِمِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ قِسْمَتِهَا بَاعُوهُ وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ كَانُوا أَحَقَّ به قبل الغنم وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا، وَتَكُونُ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَدَ اسْتِبَاحَةٍ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَدَ مِلْكٍ، وَإِنْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي رَدُّوهُ إِلَى الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقَسْمِ، وَعَلَى الْإِمَامِ بَعْدَ الْقَسْمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْغَانِمِينَ وَتَكُونُ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَدَ اسْتِبَاحَةٍ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَدَ حَظْرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَأْكُلُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَأْكُلُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَمَا كَانَ مِنْ كُتُبِهِمْ فِيهِ طِبٌّ أَوْ مَا لَا مَكْرُوهَ فِيهِ بِيعَ وَمَا كَانَ فِيهِ شِرْكٌ أُبْطِلَ وَانْتُفِعَ بِأَوْعِيَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كُتُبُهُمْ مَغْنُومَةٌ عَنْهُمْ، لِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا فِيهِ طِبٌّ، أَوْ حِسَابٌ، أَوْ شِعْرٌ، أَوْ أَدَبٌ فَتُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا وَتُقَسَّمُ فِي الْمَغْنَمِ مَعَ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُتُبِ شِرْكِهِمْ وَشُبَهِ كُفْرِهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتْرَكَ عَلَى حَالِهَا، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لِأَنَّهُمَا قَدْ بُدِّلَا وَغُيِّرَا عَمَّا أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَجَرَتْ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا مَجْرَى كُتُبِ شِرْكِهِمْ، فَتُغْسَلُ وَلَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَإِنِ اخْتَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِحْرَاقَهَا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُصَانُ عَنِ الْإِحْرَاقِ، وَلِأَنَّ فِي أَوْعِيَتِهَا إِذَا غُسِلَتْ مَنْفَعَةً لَا يَجُوزُ اسْتِهْلَاكُهَا، عَلَى الْغَانِمِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَسْلُهَا مُزِّقَتْ، حَتَّى يَخْفَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ بِيعَتْ فِي الْمَغْنَمِ إِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا خُمُورُهُمْ فَتُرَاقُ وَلَا تُبَاعُ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَلَى غيرهم لتحريها، وَتَحْرِيمِ أَثْمَانِهَا، فَأَمَّا أَوَانِيهَا فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِنَفَاسَتِهَا وَكَثْرَةِ أَثْمَانِهَا ضُمَّتْ إِلَى الْغَنَائِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهَا فَإِنْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِهِمْ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَغْسِلُوا عَلَى دَارِهِمْ كُسِّرَتْ وَلَمْ تُتْرَكْ عَلَيْهِمْ صِحَاحًا لِئَلَّا يعاود الانتفاع بها في حظور وَأَمَّا خَنَازِيرُهُمْ فَتُقْتَلُ سَوَاءً كَانَتْ مُؤْذِيَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْذِيَةٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ: تُقْتَلُ إِنْ كَانَ فِيهَا عَدْوَى وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَرْكَهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَدْوَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعْجِيلَ قَتْلِهَا خَوْفَ ضَرَرِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَادِيَةً وَإِنْ وَجَبَ قَتْلُهَا عَادِيَّةً وغير عادية الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 لِأَنَّ الْخَمْرَ تُرَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَدْوَى، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ قَتْلُهَا تَرَكَهَا كَمَا يَتْرُكُهُمْ إِذَا تَعَذَّرَ قَتْلُهُمْ وَأَمَّا جَوَارِحُ الصَّيْدِ فَمَا كَانَ مُبَاحَ الْأَثْمَانِ مِنَ الْفُهُودِ وَالنُّمُورِ وَالْبُزَاةِ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ مَعَ الْغَنَائِمِ، فَأَمَّا الْكِلَابُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِأَخْذِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا عَقُورًا مُؤْذِيًا قُتِلَ، وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهَا إِمَّا فِي صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ فَيَجُوزُ أَخْذُهَا لِيَخْتَصَّ بِهَا مِنَ الْغَانِمِينَ أَهْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، فَيُدْفَعُ كِلَابُ الصَّيْدِ إِلَى أَهْلِ الصَّيْدِ خَاصَّةً، وَتُدْفَعُ كِلَابُ الْمَاشِيَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ، وَكِلَابُ الْحَرْثِ إِلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، وَلَا يُعَوَّضُ بَقِيَّةُ الْغَانِمِينَ عَنْهَا، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغَانِمِينَ مَنْ يَنْتَفِعُ بها أعدها لِأَهْلِ الْخُمْسِ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا. (مسألة) : قال الشافعي: " وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مُبَاحًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ صَيْدٍ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا وَجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا يَكُونُ مِثْلَهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ صَيْدٌ، وَأَشْجَارٌ، وَأَحْجَارٌ، وَثِمَارٌ، وَنَبَاتٌ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ آثَارُ الْمِلْكِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مَوْسُومًا أَوْ مُقَرَّطًا، أَوْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ مَقْطُوعَةً، وَأَنْ تَكُونَ الْأَحْجَارُ مَصْنُوعَةً، وَأَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ مَقْطُوفَةً، وَأَنْ يَكُونَ النَّبَاتُ مَجْذُوذًا فَهَذِهِ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، فَتَكُونُ غَنِيمَةً لَا يَنْفَرِدُ بِهَا وَاجِدُهَا لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ تَمْنَعُ مِنَ اسْتِبَاحَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ فِي دَارِ الشِّرْكِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى خَلْقِهِ الْأَصْلِيِّ لَيْسَ فِيهَا آثَارُ يَدٍ وَلَا صَنْعَةٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي أَمْلَاكِهِمْ، فَهِيَ غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهَا وَاجِدُهَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا إِلَّا الصَّيْدَ، فَإِنْ كَانَ مَرْبُوطًا فَهُوَ فِي حُكْمِهَا غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَحْجَارٍ وَأَشْجَارٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ وَعَسَلِ نَحْلٍ وَصَيْدٍ مُبَاحٍ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ، يَأْخُذُهُ وَاجِدُهُ وَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ جَمِيعُهُ غَنِيمَةً يُمْنَعُ وَاجِدُهُ مِنْهُ إِلَّا الْحَشِيشَ وَحْدَهُ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المسلمون شركاء في ثلاث الماء والنار والكلاء " وَمَا عَدَاهُ غَنِيمَةٌ تُقَسَّمُ بَيْن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 الْغَانِمِينَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ ذُو قِيمَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْنُومًا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْحَشِيشِ، وَلِأَنَّهَا دَارٌ يُسْتَبَاحُ حَشِيشُهَا فَاسْتَبَاحَ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ مُبَاحِهَا كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ أَغْلَظُ حَظْرًا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مَا اسْتُبِيحَ فِيهَا أَوْلَى أَنْ يُسْتَبَاحَ فِي دَارِ الشِّرْكِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْحَشِيشِ أَنَّ مَعْنَى أَصْلِهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ. (فَصْلٌ) فَأَمَّا مَعَادِنُ بِلَادِهِمْ: فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَهِيَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوَاتٍ مُبَاحٍ فَهِيَ كَمَعَادِنِ مَوَاتِنَا، وَنُظِرَ مَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ ظَهَرَ بِعَمَلٍ تَقَدَّمَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهُ آخِذُهُ، وَإِنْ كَانَ كَامِنًا فَهُوَ مِلْكُهُ أَخَذَهُ. وَأَمَّا الرِّكَازُ فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوَاتٍ مُبَاحٍ أَوْ طَرِيقٍ سَابِلٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ طَابِعٌ قَرِيبُ الْعَهْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَابُهُ أَحْيَاءً فَهَذَا غَنِيمَةٌ لَا يَمْلِكُهَا وَاجِدُهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ طَابِعٌ قَدِيمٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَابُهُ أَحْيَاءً، فَهَذَا رِكَازٌ يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ، وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمْسِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اسْتُشْكِلَ وَاحْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ غَنِيمَةً اعْتِبَارًا بِالدَّارِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ رِكَازًا اعْتِبَارًا بِالْمَالِ. وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ عِدَّةِ الْمُحَارِبِينَ، وَآلَةِ الْقِتَالِ، مِنْ خِيَمٍ وَسِلَاحٍ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ لُقَطَةً. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَيُنْظَرَ فَإِنْ وُجِدَ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ غَنِيمَةً، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لُقَطَةً اعتبارا باليد. (مسألة) : قال الشافعي: " وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ فَإِنْ أُشْكِلَ بُلُوغُهُمْ فَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ طِفْلٍ وَمَنْ أَنْبَتَ فهو بالغ والإمام في البالغين بالخيار بين أن يقتلهم بلا قطع يد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 ولا عضو أو يسلم أهل الأوثان ويؤدي الجزية أهل الكتاب أو يمن عليهم أو يفاديهم بمال أو بأسرى من المسلمين أو يسترقهم فإن استرقهم أو أخذ منهم فسبيله سبيل الغنيمة أسر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بدر فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ومن على أبي عزة الجحمي على أن لا يقاتله فأخفره وقاتله يوم أحد فدعا عليه أن لا يفلت فما أسر غيره ثم أسر ثمامة بن أثال الحنفي فمن عليه ثم أسلم وحسن إسلامه وفدى النبي عليه السلام رجلا من المسلمين برجلين من المشركين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَسْرَى ضَرْبَانِ: ذُرِّيَّةٌ، وَمُقَاتِلَةٌ. فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَيُسْتَرَقُّونَ عَلَى مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ، وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَهُمُ الرِّجَالُ، وَكُلُّ مَنْ بَلَغَ مِنَ الذُّكُورِ فَهُوَ رَجُلٌ، سَوَاءٌ اشْتَدَّ وَقَاتَلَ أَمْ لَا وَيَكُونُ الْإِنْبَاتُ فِيهِمْ بُلُوغًا، أَوْ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ، عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ أن مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ " يعني سبع سموات، وَالْإِمَامُ فِي رِجَالِهِمْ إِذَا أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ - يَجْتَهِدُ فِيهَا رَأْيَهُ - لِيَفْعَلَ أَصْلَحَهَا، فَيَكُونُ خِيَارَ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ لَا خِيَارَ شَهْوَةٍ وَتَحَكُّمٍ. وَخِيَارُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ بَيْنَ أن يقتل، أو يستوق أَوْ يُفَادَى عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى، أَوْ يَمُنَّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْتَلَ: أَوْ يسترق أو يفادى على مال أو أسرى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمُنَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْتَلَ، أَوْ يُسْتَرَقَّ، أَوْ يُفَادَى عَلَى مَالٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى بِأَسْرَى، وَلَا أَنْ يَمُنَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَنْ يُقْتَلَ، أَوْ يُسْتَرَقَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى، وَلَا أَنْ يَمُنَّ، فَصَارَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِمَا، أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: مَنْ لِلصَّبِيَّةِ: فَقَالَ النَّارُ، وَقَتَلَ النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَرَقَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةِ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ، فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 الدنيا} [الأنفال: 67] يعني المال و {الله يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67] ، يَعْنِي الْعَمَلَ بِمَا يُفْضِي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ فِيهِمْ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِاسْتِبْقَائِهِمْ، وَأَخْذِ فِدَائِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِقَتْلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَأَعْدَاءُ رَسُولِهِ، فَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَفَادَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا فَعَلَهُ مِنَ الْفِدَاءِ، وَقَالَ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عظيم} [الأنفال: 68] . وفيه تأويلان: أحدهما: {ولولا كتاب من الله سبق} أَنَّهُ سَيَحِلُّ الْمَغَانِمَ لَكُمْ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى عذاب عظيم قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: " لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سبق " أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِعَمَلٍ أَتَاهُ عَلَى جهالة {لمسكم فيما أخذتم} من الفداء {عذاب عظيم} قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ: وَإِذَا مَنَعَ مِنَ الفداء كالمنع مِنَ الْمَنِّ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرَبَ رِقَابَهُمْ صَبْرًا بَعْدَ الْقُدْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قِتَالُهُمُ الْمُفْضِي إِلَى ضَرْبِ رِقَابِهِمْ فِي المعركة: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} يَعْنِي بِالْإِثْخَانِ الْجِرَاحَ، وَبِشَدِّ الْوَثَاقِ الْأَسْرَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْأَسْرِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء} والمن والعفو، وَالْفِدَاءُ مَا فُودِيَ بِهِ الْأَسِيرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ أَسِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أوزارها} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَوْزَارُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَثْقَالُ السِّلَاحِ بِالظَّفَرِ فَوَرَدَ بِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ نَصُّ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ بَعْدَ أَنْ رَبَطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ أَسْرًا، فَمَضَى وَأَسْلَمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ لِقِتَالِهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ: سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَعَادَ إلى قتاله في أحد فدعى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا يُفْلِتَ فَمَا أُسِرَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ، فَقَالَ: امْنُنْ عَلَيَّ فَقَالَ: " هَيْهَاتَ، تَرْجِعُ إِلَى قَوْمِكَ فَتَقُولُ سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَينِ " وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى طَرِيقِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْذِيرِ. وَيَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ بِالْأَسْرَى، مَا رَوَاهُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَادَى يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، وَعَلَى الْفِدَاءِ بِالْمَالِ مَا فَادَى بِهِ أَسْرَى بَدْرٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ إِبَاحَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ فَزَالَ الْإِنْكَارُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَيَّدَ إِنْكَارَهُ بِشَرْطٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ {حتى يثخن في الأرض} وَفِي إِثْخَانِهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَثْرَةُ الْقَتْلِ. وَالثَّانِي: الِاسْتِيلَاءُ وَالظَّفَرُ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، فَزَالَ الْإِنْكَارُ وَارْتَفَعَ الْمَنْعُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ أَمِيرَ الْجَيْشِ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، يَفْعَلُ مِنْهُمَا أَصْلَحَهَا فِي كُلِّ أَسِيرٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ عَرْضَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا نَظَرَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَظِيمَ الْعَدَاوَةِ شَدِيدَ النِّكَايَةِ، فَهُوَ الْمَنْدُوبُ إِلَى قَتْلِهِ فَيَقْتُلُهُ صَبْرًا، يَضْرِبُ الْعُنُقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] . وَقَوْلِهِ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] . وَلَا يُمَثِّلُ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الْقَتْلِ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالعرنيين، فقطع أيدين، وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي حَرِّ الرَّمْضَاءِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مُتَقَدَّمِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُهى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وَقِصَاصًا، لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَثَّلُوا بِهِ فَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَمَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حِينَ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْيَمَامَةِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَسْرَى وَأَلْقَاهُمْ فِي حُفَيْرَةٍ وَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، وَأَخَذَ رَأْسَ زَعِيمِهِمْ فَأَوْقَدَهُ تَحْتَ قِدْرِهِ، قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أحدهما: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْكَرَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَبَرِئَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ حَالًا لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهَا حُكْمُ النَّهْيِ، فَفَعَلَ خَالِدٌ مِنْ ذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ السِّيَاسَةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي مُتَقَدَّمِ الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ تظاهروا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 بِالرِّدَّةِ بَعْدَ قَبْضِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَآمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَأَظْهَرَ بِمَا فَعَلَ مِنْ إِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ، أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِارْتِكَابِهِمْ أَعْظَمَ الْكُفْرِ ثُمَّ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَكَفَّ وَامْتَنَعَ، فَإِنِ ادَّعَى وَاحِدٌ مِمَّنْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ شَعْرُ عَانَتِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ نَبَتَ شَعْرُ عَانَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِنْبَاتِ هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا أَوْ دَلَالَةً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ بُلُوغٌ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَقُتِلَ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يُقْتَلْ فَهَذَا حُكْمُ الْقَتْلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَوِيُّ الْبَطْشِ ذَلِيلُ النَّفْسِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِرْقَاقِ وَلَهُ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْجِزْيَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَيُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِالرِّقِّ كَمَا يُقَرُّ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ بِالْجِزْيَةِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَفِي جَوَازِ إِقْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وسنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَيُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِالرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ إِقْرَارُهُ بِالْأَمَانِ جَازَ إِقْرَارُهُ بِالِاسْتِرْقَاقِ، كَالْكِتَابِيِّ طَرْدًا وَكَالْمُرْتَدِّ عَكْسًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْجِزْيَةِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْإِمَامِ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ، وَلَا فَرْقَ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْهُمْ وَالْعَجَمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ كَانُوا عَجَمًا جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَرَبًا وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِمُبَالَغَةِ الْعَرَبِ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَلَدِهِ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أَغْلَظَ جُرْمًا وَصَارَ قَتْلُهُمْ مُحَتَّمًا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحْدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ كَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ إِذَا كَانَ عَرَبِيًّا كَأَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ. (فَصْلٌ) " وَأَمَّا الْفِدَاءُ بِالْمَالِ، فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْمَالِ، مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ، وَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ، قُبِلَ مِنْهُ الْفِدَاءُ، وَأَطْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَنِيمَةً تُقَسَّمُ بين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 الْغَانِمِينَ، وَيَكُونُ الَّذِي اسْتَأْسَرَهُ فِي فِدَائِهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْغَانِمِينَ سَوَاءً كَمَا يَكُونُ الْغَانِمُ لِلْمَالِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءً. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ فِدَاءُ أَسْرَى بَدْرٍ بِأَخْذِهِ مَنِ اسْتَأْسَرَهُمْ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَنْفَذَتْ فِي جُمْلَةِ فِدَائِهِ قِلَادَةً كَانَتْ لَهَا جَهَّزَتْهَا بِهَا خَدِيجَةُ، فَلَمَّا أَبْصَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَفَهَا وَرَقَّ لَهَا، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا مَالَهَا فَافْعَلُوا فَلَوْلَا حَقُّهُمْ فِيهِ لَتَفَرَّدَ بِالرَّدِّ وَلَمَا سَأَلَهُمْ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ اسْتِطَابَةً لِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِيهِ نَافِذًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الْأَسْرَى وَالْغَنَائِمِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَقٌّ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَاسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ فِيهِ. وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْأَسْرَى: فَهُوَ لِمَنْ كَانَ فِي أَيْدِي قَوْمِهِ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْرَى وَمُفْتَدُونَ لَهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ فَيُفَادِي بِهِ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَادَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُفَادِيَ كُلَّ رَجُلٍ إِلَّا بِرَجُلٍ جَازَ وَلَوْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ أَنْ يُفَادِيَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ، فَهَذَا حُكْمُ الْفِدَاءِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَنُّ بِغَيْرِ الْفِدَاءِ، فَهُوَ فِيمَنْ عُلِمَ مِنْهُ ميلا إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ طَاعَةٌ فِي قَوْمِهِ يَتَأَلَّفُهُمْ بِهِ فَهُوَ الَّذِي يُمَنُّ عَلَيْهِ كَمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ فَعَادَ مُسْلِمًا فِي عَدَدٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ، كَمَا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي عزة الجحمي، فَلَمْ يَفِ بِهِ وَعَادَ لِقِتَالِهِ، وَظَفِرَ بِهِ فَضَرَبَ رَقَبَتَهُ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْأَسْرَى عَبْدٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَالٌ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ غَنَائِمُهُمْ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى اسْتِرْقَاقِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَرَقٌّ، وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الْغَنَائِمِ مَعَ الْأَمْوَالِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ خَالَفَ عَاقِبَتَهُ، وَيُعَوِّضَ الْغَانِمِينَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَالٌ بِخِلَافِ مَنْ قَتَلَهُ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِهِ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَوِّضَ عَنْهُ الْغَانِمِينَ وَسَنَذْكُرُ مَنْ أَسْلَمَ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ هَذَا الْأَسِيرَ فَلَا يَخْلُو حَالُ قَتْلِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِ الْإِمَامِ فِيهِ أَوْ يَكُونَ قَبْلَهُ. فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِ الْإِمَامِ فِيهِ، فَلَا يَخْلُ حُكْمُهُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أحكام: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَمَ بِقَتْلِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ، لَكِنْ يُعَزَّرُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ فِي قَتْلِ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ مُبَاحًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدِ اسْتَرَقَّهُ فَيَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ بِقِيمَتِهِ عَبْدًا، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ فَادَى بِهِ عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ فرض الإمام فدا، فَيَضْمَنَ دِيَتَهُ، مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ له بالفداء أمان فضمن دِيَتَهُ وَصَارَ بَقَاءُ الْفِدَاءِ مُوجِبًا لِصَرْفِ الدِّيَةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ فَرْضِ الْإِمَامِ فِدَاءً وَقَبْلَ إِطْلَاقِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ دُونَ الْغَانِمِينَ لِاسْتِيفَاءِ فِدَائِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ قَبْضِ فِدَائِهِ، وَإِطْلَاقِهِ إِلَى مَأْمَنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَسْرِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الْمَنِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ فِي مَأْمَنِهِ فَيَضْمَنَهُ بِالدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَأْمَنِهِ فَلَا يَضْمَنَهُ وَيَكُونَ دَمُهُ هَدْرًا. وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ أَدَبًا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، يَضْمَنُهُ بِالدِّيَةِ لِلْغَانِمِينَ لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا خَطَأٌ خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ حَظْرٌ فَأَشْبَهَ الْمُرْتَدَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَتْلَ الْإِمَامِ لَهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا لَمْ يُوجِبْ قَتْلَ غَيْرِهِ كَالْحَرْبِيِّ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ رُقُّوا وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَسْرِ فَهُمْ أَحْرَارٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ إِسْلَامِهِمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَسْرِهِمْ، فَيَسْقُطَ خِيَارُ الْإِمَامِ فِيهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ، وَلَا يُسْتَرَقَّ، وَلَا يُفَادَى، وَهُمْ كَمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ أَسْلَمُوا وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ أَوْ كَانُوا فِي حِصَارٍ، أَوْ مَضِيقٍ قَدْ أُحِيطَ بِهِمْ، وَلَوْ فِي بِئْرٍ، لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْإِسَارِ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا فَجَرَى عَلَى إِسْلَامِهِمْ حُكْمُ الاختيار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنَا شُعْبَةَ الْيَهُودِيَّانِ فِي حِصَارٍ فَأَحْرَزَا بِإِسْلَامِهِمَا دِمَاءَهُمَا وَأَمْوَالَهُمَا، وَهَكَذَا مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ قَبْلَ الْإِسَارِ حُقِنَ بِهَا دَمُهُ، وَحَرُمَ بِهَا اسْتِرْقَاقُهُ، وَصَارَتْ لَهُ بِهَا ذِمَّةٌ كَسَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَنَعْنَا عَنْهُ نُفُوسَنَا وَغَيْرَنَا، وَإِنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنَعْنَا عَنْهُ نُفُوسَنَا، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ نَمْنَعَ مِنْهُ غَيْرَنَا. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْلِمُوا بَعْدَ الْإِسَارِ وَحُصُولِهِمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَيَسْقُطُ الْقَتْلُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَحْقِنُوا بِهِ دِمَاءَهُمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمَوَالَهُمْ " فَثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُوجِبٌ لِحَقْنِ دمائهم، فإن بذلوا الجزية بعد الإسراء وَلَمْ يُسْلِمُوا نُظِرِ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تُقْبَلْ جِزْيَتُهُمْ، وَلَمْ تُحْقَنْ بها دماؤهم ووإن كان مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْإِسَارِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَحَدُهُمَا: تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ كَمَا تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ قَبْلَ الْإِسَارِ كَالْإِسْلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُحْقَنُ بِهَا دِمَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ وَإِنْ حُقِنَتْ بِهَا قَبْلَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ يَدٌ. (فَصْلٌ) فَإِذَا سَقَطَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ الْإِسَارِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا، فَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْإِسَارِ رُقُّوا، وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِسَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا رَقِيقًا بِالْإِسْلَامِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِرْقَاقٍ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ رَقِيقًا حَتَّى يُسْتَرَقُّوا، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ رُقُّوا بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ كُلَّ أَسِيرٍ حَرُمَ قَتْلُهُ رُقَّ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْفِدَاءِ وَالْمَنِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إنهم لا يرقوا إِلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ مِنَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ فِي الْبَاقِي، كَالْكَفَّارَةِ إِذَا سَقَطَ خِيَارُهُ فِي الْعِتْقِ لِعَدَمِهِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ فِيمَا عَدَاهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِمَامُ عَلَى خِيَارِهِ فِيهِ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْعُقَيْلِيَّ أُسِرَ وَأُوثِقَ فِي الْحَرَّةِ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ أُخِذْتُ وَأُخِذَتْ سَابِقَةُ الْحَاجِّ، فَقَالَ: بِجَرِيرَتِكَ وَجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَعَطْشَانُ فَأَسْقِنِي، فَأَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ، فَقَالَ: لَهُ أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ فَقَالَ: لَوْ قُلْتَهَا قَبْلَ هَذَا لَأَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ، وَفَادَاهُ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَقُّ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى يُسْتَرَقَّ وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْفِدَاءِ وَالْمَنِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 وَقَوْلُهُ: وَأُخِذَتْ سَابِقَةُ الْحَاجِّ يَعْنِي بِهَا نَاقَةً كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَابِقَةَ الْحَاجِّ، أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ وَصَارَتْ إِلَى الْعُقَيْلِيِّ، فَأُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ سَابِقَةَ الْحَاجِّ قَدْ أُخِذَتْ مِنِّي فَفِيمَ أُوخَذُ بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ: " بِجَرِيرَتِكَ وَجَرِيرَةِ قَوْمِكَ " يَعْنِي بجنايتك وجناية قومك، لأنهم نقصوا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، مِنْ قومه. قيل: لما كان منهم ومشاركا لهم فِي أَفْعَالِهِمْ صَارَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْأَخْذِ بجنايتهم، فأما إن سقط عنه القتل به الْإِسَارُ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُرَقَّ بِبَذْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، حَتَّى يُسْتَرَقَّ وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَمُفَادَاتِهِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ بَقَاءَ كُفْرِهِ يُوجِبُ إِبْقَاءَ أحكامه. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا الْتَقَوْا وَالْعَدُوَّ فَلَا يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ " (قال الشافعي) هذا على معنى التنزيل فإذا فر الواحد من الاثنين فأقل إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ من المسلمين قلت أو كثرت بحضرته أو مبينة عنه فسواء ونيته في التحريف والتحيز ليعود للقتال المستثنى المخرج من سخط الله فإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه إلا أن يعفو الله أن يكون قد باء بسخط من الله " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قَبْلَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، وَمِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] فَأَمَرَ بِمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ بَعْدَ لِقَائِهِ، وَالثَّبَاتِ لِقِتَالِهِ، وقال تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] . الْآيَةَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَكُمْ، وَ " رَابِطُوا " عَدُوِّي وَعَدُّوَكُمْ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . أَيْ لِتُفْلِحُوا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِتُؤَدُّوا فَرْضَكُمْ. وَالثَّانِي: لِتُنْصَرُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَابِرَ فِي الْقِتَالِ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تعالى: {يأيها النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَعْلَمُونَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: لَا يَعْلَمُونَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ، وَاشْتِدَادِ شوكتهم لعلمه لدخول الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لَاقَى الْمُشْرِكِينَ مُحَارِبًا أَنْ يَقِفَ بِإِزَاءِ رَجُلَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِإِزَاءِ عَشَرَةٍ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ منكم ألف يغلبون أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعُونَةِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: بِمَشِيئَةِ الله، {والله مع الصابرين} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ فِي مَعُونَتِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَالثَّانِي: مَعَ الصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَةِ فِي قَبُولِ عَمَلِهِمْ وَإِجْزَالِ ثَوَابِهِمْ، فَصَارَ فَرْضًا عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لَاقَى عَدُوَّهُ زَحْفًا فِي الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مُصَابِرًا لِقِتَالِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ مُصَابَرَةَ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يُصَابِرَ قِتَالَ رَجُلَيْنِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَاقَوْا عَدُوَّهُمْ أَنْ يُصَابِرُوا قِتَالَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ، وَمَوْعِدٌ مِنْهُ إِذَا صَابَرُوا مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَفْرُوضٍ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَقَتَادَةُ: هُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، لَكِنَّهُ خَاصٌّ فِي أَهْلِ بَدْرٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَقَدْ يُوجَدُ أَحْيَانًا خِلَافُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِأَهْلِ بَدْرٍ لِنُزُولِ الْآيَةِ، بَعْدَ بَدْرٍ، وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَ بِبَدْرٍ إِنْ لم نخفف عَنْهُمْ لَمْ يُغْلَظْ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الْمُصَابَرَةِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقِفُوا مُصَابِرِينَ لِقِتَالِهِمْ مِثْلَيْهِمْ، وَلَا يَلْزَمَهُمْ مُصَابَرَةُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ فَلَهُمْ فِي القتال حالتان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 إحداهما: أن يرجو الظَّفَرَ بِهِمْ إِنْ صَابَرُوهُمْ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مُصَابَرَةُ عَدُوِّهُمْ حَتَّى يَظْفَرُوا بِهِمْ، سَوَاءٌ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَهَذَا أَكْثَرُ مُرَادِ الْآيَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أن لا يرجو الظَّفَرَ بِهِمْ، فَهَاهُنَا يُعْتَبَرُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ أَنْ يُوَلُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ، وَيَرْجِعُوا عَنْ قِتَالِهِمْ فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الْمُصَابَرَةِ وَالْقِتَالِ كَانَ مُقَامُهُمْ أَفْضَلَ إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا التَّلَفَ وَفِي جَوَازِهِ إِنْ تُحُقِّقَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَابِرُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَابِرُوا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا، وهذان الوجهان بناء على الاختلاف الوجهين فِيمَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ عَنْهُمَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَلُّ حرم عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَلُّوا عَنْهَا وَيَنْهَزِمُوا مِنْهُمْ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَيَّزُوا إلى فئة لقول الله تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فلا تولوهم الأدبار وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 15، 16] الْآيَةَ، فَدَلَّ هَذَا الْوَعِيدُ عَلَى أَنَّ الْهَزِيمَةَ لِغَيْرِ هَذَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْكَبَائِرَ، فَذَكَرَ فِيهَا الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ ". فَأَمَّا التَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ فَهُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِتَالِ إِلَى مَوْضِعٍ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقِتَالِ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ، وَمِنْ حَزْنٍ إِلَى سُهُولَةٍ، وَمِنْ مَعْطَشَةٍ إِلَى مَاءٍ، وَمِنَ اسْتِقْبَالِ الرِّيحِ وَالشَّمْسِ إِلَى اسْتِدْبَارِهِمَا، وَمِنْ مَوْضِعِ كَمِينٍ إِلَى حِرْزٍ أَوْ يُوَلِّيَ هَارِبًا لِيَعُودَ طَالِبًا، لِأَنَّ الْحَرْبَ هَرَبٌ وَطَلَبٌ وَكَرٌّ وَفَرٌّ فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ التَّحَرُّفُ لِقِتَالٍ. وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ فَهُوَ أَنْ يُوَلِّيَ لِيَنْضَمَّ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَعُودَ مَعَهُمْ مُحَارِبًا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّائِفَةُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ:: " قَرِيبَةً أَوْ مُبِينَةً " يَعْنِي مُتَأَخِّرَةً، حَتَّى لَوِ انْهَزَمَ مِنَ الرُّومِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْحِجَازِ، كَانَ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ: أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنِ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَسَقَةٌ فِي دِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 وَهَلْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ مُعَاوَدَةُ الْقِتَالِ اسْتِدْرَاكًا لِتَفْرِيطِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن من شرط صحتها ومعاودة الْقِتَالِ اسْتِدْرَاكًا لِتَفْرِيطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ مِنْ صِحَّتِهَا الْعَوْدُ وَلَكِنْ يَنْوِي أَنَّهُ مَتَى عَادَ لَمْ يَنْهَزِمْ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فُرْسَانًا وَالْمُشْرِكُونَ رَجَّالَةً، فِي جَوَازِ انْهِزَامِهِمْ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَجَّالَةً وَالْمُشْرِكُونَ فُرْسَانًا فِي تَحْرِيمِ انْهِزَامِهِمْ مِنْ مِثْلِ عَدَدِهِمْ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ طَلَبَاهُ وَلَمْ يَطْلُبْهُمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَهِّبٍ لِقِتَالِهِمَا، وَإِنْ طَلَبَهُمَا وَلَمْ يَطْلُبَاهُ فَفِي جَوَازِ انْهِزَامِهِ عَنْهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَزِمَ عَنْهُمَا إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ كَالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ طَلَبَهُ لَهُمَا قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ تَحَقَّقَتِ الْجَمَاعَةُ الْمُقَاتِلَةُ لِمِثْلَيْ عَدُوِّهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَابَرُوهُمْ هَلَكُوا، فَفِي جَوَازِ هَزِيمَتِهِمْ مِنْهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْهَزِمُوا، لِأَنَّ فِي التَّعَرُّضِ لِلْجِهَادِ أَنْ يكون قاتلا أو مقتولا، ولأنهم يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِدْرَاكِ الْمَأْثَمِ فِي هَزِيمَتِهِمْ أَنْ ينووا التحرف لقتال، أوالتحيز إلى فئة، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَنَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ مَنْجَنِيقًا أَوْ عَرَادَةً وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمُ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ وَقَطَعَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَهَا وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينَ وَأَمَرَ بِالْبَيَاتِ وَالتَّحْرِيقِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ مِنْ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ وَالْعَرَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الطَّائِفِ حِينَ حَاصَرَهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْجَنِيقًا أَوْ عَرَادَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَهُمْ غَارُّونَ لَا يَعْلَمُونَ، قَدْ شَنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ غَارِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِمُ الْبَيَاتَ لَيْلًا، وَيَحْرِقَ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ ويلقي عليهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 النِّيرَانَ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ، وَيَهْدِمَ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ، وَيُجْرِيَ عليهم السيل وبقطع عَنْهُمُ الْمَاءَ، وَيَفْعَلَ بِهِمْ جَمِيعَ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِمْ، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ فِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَإِنْ أفضى إلى هلاك نسائهم وأطفالهم، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْ فِي بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْهُمْ مِنْ شَنِّ الْغَارَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَا مِنْ ثَقِيفٍ مِنْ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّبْيِ الْمَغْنُومِ أَنْ يُقْتَلُوا صَبْرًا، وَلِأَنَّهُمْ غَنِيمَةٌ فَأَمَّا وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ دَارُ إِبَاحَةٍ يَصِيرُونَ فِيهَا تَبَعًا لِرِجَالِهِمْ. رَوَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ دَارِ الشِّرْكِ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَقَالَ: " هُمْ مِنْهُمْ " يَعْنِي فِي حُكْمِهِمْ، فأما إن كان فيهم أساري مسلمين، فَلَا يَخْلُو جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَخَافُوا اصْطِدَامَ الْعَدُوِّ، أَوْ يَأْمَنُوهُ، فَإِنْ خَافُوا اصْطِدَامَهُ جَازَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِمْ، وَإِنْ هَلَكَ مَعَهُمْ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَكْثَرِ مَعَ تَلَفِ الْأَقَلِّ أَوْلَى. وَإِنْ أَمِنُوا اصْطِدَامَهُمْ نُظِرَ فِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَسْرَى، فَإِنْ كَثُرَ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ إِنْ رَمَوْا كُفَّ عَنْ رَمْيِهِمْ وَتَحْرِيقِهِمْ، وَإِنْ قَلُّوا وَأَمْكَنَ أَنْ يُسَلِّمُوا إِنْ رَمَوْا جَازَ رَمْيُهُمْ، وَقَدْ تَوَقَّى الْمُسْلِمينَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الدَّارِ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَظْرٌ كَمَا أَنَّ حَظْرَ دَارِ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَظْرِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُبَاحُ الدَّمِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا ". (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَقَطَعَ بِخَيْبَرَ وَهِيَ بَعْدَ النَّضِيرِ وَالطَّائِفِ وَهِيَ آخر غزوة غزاها قط عليه السلام لقي فيها قتالا فبهذا كله أقول وما أصيب بذلك من النساء والولدان فلا بأس لأنه على غير عمد فإن كان في دارهم أساري مسلمون أو مستأمنون كرهت النصب عليهم بما يعم من التحريق والتغريق احتياطا غير محرم له تحريما بينا وذلك أن الدار إذا كانت مباحة فلا يبين أن يحرم بأن يكون فيها مسلم يحرم دمه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ نَخْلَهُمْ وَشَجَرَهُمْ، وَيَسْتَهْلِكَ عَلَيْهِمْ زَرْعَهُمْ وَثَمَرَهُمْ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] وَهَذَا فَسَادٌ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى الشَّامِ وَنَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ شَجَرِهَا وَلِأَنَّهَا قَدْ تَصِيرُ دَارَ إِسْلَامٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ بِالْبُوَيْرَةِ حِينَ نقضوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 عَهْدَهُمْ فَقَطَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ عَدَدًا مِنْ نَخْلِهِمْ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرَاهُمْ إِمَّا بِأَمْرِهِ وَإِمَّا لِإِقْرَارِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ قَطْعِهَا فَقِيلَ لِإِضْرَارِهِمْ بِهَا، وَقِيلَ: لِتَوْسِعَةِ مَوْضِعِهَا لِقِتَالِهِمْ فِيهِ، فَقَالُوا وَهُمْ يَهُودُ أَهْلِ الْكِتَابِ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ، فَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخْلِ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ: (أَلَسْنَا وَرِثْنَا كِتَابَ الْحَكِيمِ ... عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَلَمْ يَصْدِفِ) (وَأَنْتُمْ رِعَاءٌ لِشَاءٍ عِجَافٍ ... بِسَهْلِ تِهَامَةَ وَالْأَخْيَفِ) (تَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ ... لَدَى كُلِّ دَهْرٍ لَكُمْ مُجْحِفِ) (فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ انْتَهُوا ... عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤْنِفِ) (لَعَلَّ اللَّيَالِيَ وَصَرْفَ الدُّهُورِ ... يُدْرِكْنَ عَنِ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ) (بِقَتْلٍ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا ... وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُخْطَفِ) فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: (هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ عن التوراة نور) (كفرتم بالقرآن وقد أوتيتم ... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ) (فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ) فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ؟ أَوْ هَلْ عَلَيْنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ وِزْرٍ؟ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] وَفِي اللِّينَةِ ثَلَاثَةُ أقاويل: أحدهما: أَنَّهَا الْعَجْوَةُ مِنَ النَّخْلِ، لِأَنَّهَا أُمُّ الْإِنَاثِ، كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ أُمُّ الْفُحُولِ، وَكَانَتَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَلِذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ قَطْعُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْفَسِيلَةُ، لِأَنَّهَا أَلْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَمِيعُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56] فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِالْمُشْرِكِينَ وَقُوَّةُ الدِّينِ كَانَ صَلَاحًا، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادًا، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأرض بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْجَوْرِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْعَدْلِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ بَعْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِمْ، فَقَطَعَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ نَخْلًا، وَقَطَعَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا لُزُومًا عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ فِي قَطْعِهَا وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النُّفُوسِ أَعْظَمُ وَقَتْلَهَا أَغْلَظُ، فَلَمَّا جَازَ قَتْلُ نُفُوسِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، كَانَ قَطْعُ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَابِهِ مَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ فِي مُحَارَبَتِهِمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ نَعْلَمَ أَنْ لَا نَصِلَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِهَا، فَقَطْعُهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّ مَا أَدَّى إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَاجِبٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَبِهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعِهَا، فَقَطْعُهَا مَحْظُورٌ، لِأَنَّهَا مَغْنَمٌ، وَاسْتِهْلَاكُ الْغَنَائِمِ مَحْظُورٌ، وَعَلَى هَذَا حَمْلُ نهي أبي بكر - رضي الله عنه - عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ بِالشَّامِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَنْفَعَهُمْ قَطْعُهَا وَيَنْفَعَنَا قَطْعُهَا فَقَطْعُهَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: لَا يَنْفَعُهُمْ قَطْعُهَا وَلَا يَنْفَعُنَا قَطْعُهَا فَقَطْعُهَا مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي هَدْمِ مَنَازِلِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر: 2] وفيه ثلاث تَأْوِيلَاتِ: أَحَدُهَا: بِأَيْدِيهِمْ فِي نَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَابَلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. وَالثَّانِي: بِأَيْدِيهِمْ فِي إِخْرَابِ دَوَاخِلِهَا، حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْرَابِ ظَوَاهِرِهَا، حَتَّى يَصِلُوا إِلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَالثَّالِثُ: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِإِجْلَائِهِمْ عَنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَكِنْ لَوِ الْتَحَمُوا فَكَانَ يَتَكَامَلُ الْتِحَامُهُمْ أَنْ يفعلوا ذلك رأيت لهم أن يفعلوا وكانوا مأجورين لأمرين أحدهما: الدفع عن أنفسهم والآخر نكاية عدوهم ولو كانوا غير ملتحمين فترسوا بأطفالهم فقد قيل يضرب المتترس منهم ولا يعمد الطفل وقد قيل يكف " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِذَا تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِهِمْ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ شَرْعَنَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَمُّدِ قَتْلِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْتِحَامِ الْقِتَالِ مَعَ إِقْبَالِهِمْ عَلَى حَرْبِنَا فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَا حَرَجَ فِيمَا أَفْضَى مِنْهُ إِلَى قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَرْكَ قِتَالِهِمْ بِهَذَا مُفْضٍ إِلَى تَرْكِ جِهَادِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى حَرْبِنَا فَحَرُمَ أَنْ نُوَلِّيَ عَنْهُمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِهِمْ فِي غَيْرِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ عِنْدَ مُتَارِكَتِهِمْ لَنَا، وَقَدْ بَدَأْنَا بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ فِي حِصَارِنَا، فَخَافُونَا فِيهِ ففعلوا ذلك، لتمتنع من رَمْيِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَكْرًا مِنْهُمْ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ حِصَارِهِمْ، وَلَا الِامْتِنَاعُ مِنْ رَمْيِهِمْ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلُوهُ دَفْعًا عَنْهُمْ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ حِصَارِهِمْ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ رَمْيِهِمْ وَضَرْبِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَمْيِهِمْ كَالْمُقَاتِلِينَ تَغْلِيبًا لِفَرْضِ الْجِهَادِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَ مِنْ رَمْيِهِمْ، وَيُؤَخَّرَ الْكَفُّ عَنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُقَاتِلِينَ لِأَنَّ جِهَادَهُمْ نَدْبٌ وَجِهَادُ الْمُقَاتِلِينَ فَرْضٌ، وَإِذَا قَابَلَ النَّدْبَ حَظْرٌ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ أَغْلَبَ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ رَأَيْتُ أَنْ يَكُفَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مُلْتَحِمِينَ فَيُضْرَبُ الْمُشْرِكَ وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمَ جَهْدَهُ فَإِنْ أَصَابَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْلِمًا قَالَ فِي كِتَابِ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ كَانَ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَالدِّيَّةُ مَعَ الرقبة (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بمختلف ولكنه يقول إن كان قتله مع العلم بأنه محرم الدم مع الرقبة فإذا ارتفع العلم فالرقبة دون الدية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَتَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِمَّا لِيَدْفَعُونَا عَنْهُمْ، وَإِمَّا لِيَفْتَدُوا بِهِمْ نُفُوسَهُمْ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: فِي ضَمَانِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُفَّ عَنْ رَمْيِهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافٍ مَا لَوْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِهِمْ فِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ مَحْظُورَةٌ لِحُرْمَةِ دِينِهِ، وَنُفُوسَ أَطْفَالِهِمْ مَحْظُورَةٌ لِحُرْمَةِ الْمَغْنَمِ، وَلَوْ كَانَ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 دَارِهِمْ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَتَتَرَّسُوا بِهِ جَازَ رَمْيُهُمْ بِخِلَافِ لَوْ تَتَرَّسُوا بِهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تَتَرَّسُوا بِهِ كَانَ مَقْصُودًا، وَإِذَا لَمْ يَتَتَرَّسُوا بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَهَذَا حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ رَمْيِهِمْ، فَأَمَّا الْكَفُّ عَنْ حِصَارِهِمْ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمَنَ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَيَجُوزُ حِصَارُهُمْ وَالْمُقَامُ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَأْمَنَ عَلَيْهِمْ، وَيَغْلِبَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ، إِنْ أَقَمْنَا عَلَى قِتَالِهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْنَا فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ ضَرَرٌ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُفَّ عن حصارهم استبقاءا لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَتَعَجَّلَ بِقَتْلِهِمْ ضَرَرًا وَلَيْسَ فِي مُتَارَكَتِهِمْ ضَرَرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَيْنَا فِي الْكَفِّ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ضَرَرٌ لِخَوْفِنَا مِنْهُمْ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَمِهِمْ، فَلَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَلَا الِامْتِنَاعُ عَنْ قِتَالِهِمْ فَإِنْ قَتَلُوهُمُ اسْتِدْفَاعًا لِأَكْثَرِ الضَّرَرَيْنِ بِأَقَلِّهِمَا وَكَانَ وُجُوبُ الْمُقَامِ عَلَى قِتَالِهِمْ مُعْتَبَرًا بِالضَّرَرِ الْمُخَوِّفِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ مُعَجَّلًا وَجَبَ الْمُقَامُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَجُزِ الْمُقَامُ إِلَّا عِنْدَ تَجَدُّدِهِ وَحُدُوثِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِهِمْ قَبْلَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِهِمْ بَعْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ لِأَجْلِ الأسرى، فإن فَرْضَ قِتَالِهِمْ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا أَقَامُوا عَلَى حَرْبِهِمْ، ويتعمدون بِالرَّمْيِ وَيَتَوَقَّوْا رَمْيَ مَنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ وَلَّوْا عَنِ الْحَرْبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ اسْتِنْقَاذُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ إِنِ اتَّبَعُوا، فَوَاجِبٌ أَنْ يَتَّبِعُوا حَتَّى يَسْتَنْقِذَ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يمكن اسنتقاذ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ إِذَا انْهَزَمُوا لِتَحْرِيمِ التَّغْرِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَخَافَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا كَخَوْفِهِمْ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ وَلَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ، وَأَمِيرُ الْجَيْشِ فِيهِمْ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ فِي اعْتِمَادِ الأصلح من اتباعه، أَوِ الْكَفِّ عَنْهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي ضَمَانِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتُلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَعَتْهُ إِلَى قَتْلِهِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَأَنَّ دَارَ الشِّرْكِ لَا تُبِيحُ دَمَ مُسْلِمٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَدْعُوَهُ الضَّرُورَةُ إِلَى قَتْلِهِ، لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى دَفْعِ الشِّرْكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرَهِ إِذَا قَتَلَ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَد إِذَا قَتَلَ كَوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الضَّرُورَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إِذَا قَتَلَ، لِأَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَتَكُونُ هَذِهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا دِيَةُ عَمْدٍ سَقَطَ الْقَوَدُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . فَاقْتَصَرَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دَارَ الْكُفْرِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَهُ، وَلَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَجْهَلُ بِحَالِهِ مَعَ الْغَالِبِ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ شُبْهَةٌ فِي سقوط القود، وعليه الداية وَالْكَفَّارَةُ، وَتَكُونُ دِيَةَ عَمْدٍ يَتَحَمَّلُهَا فِي مَالِهِ. وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ لِجَهْلِهِ بِإِسْلَامِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَعْمِدَ قَتْلَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا دِيَةَ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِإِبَاحَةِ الدَّارِ. والقول الثاني: عليه الداية تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَتَكُونُ دِيَةَ خَطَأٍ تَتَحَمَّلُهَا العاقلة. (مسألة) : قال الشافعي: " لَوْ رَمَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مُسْتَأْمَنًا وَلَمْ يَقْصِدْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا رَقَبَةٌ وَلَوْ كان عالما بِمَكَانِهِ ثُمَّ رَمَاهُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ رَقَبَةٌ وَدِيَةٌ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي تَحْرِيمِ دِمَائِهِمَا كَالْمُسْلِمِ إِنْ تَتَرَّسُوا بِهِمْ يَجِبُ تَوَقِّيهِمْ، كَمَا يَجِبُ تَوَقِّي الْمُسْلِمِ فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا كَانَ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَيَسْتَوِي أَحْكَامُهَا إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوَدُ لِسُقُوطِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَالثَّانِي: قَدْرُ الدِّيَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا بالإسلام والكفر، وهما في ما عَدَاهُنَّ سَوَاءٌ، فَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَا فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ، وَجَبَ فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، فَإِنْ وَجَبَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الدِّيَةِ كَانَ الذِّمِّيُّ بِمَثَابَتِهِ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْكَفَّارَةُ، دُونَ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ فِي ضَمَانِهِمَا بِالدِّيَةِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يَلْزَمُنَا دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُ، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَلْزَمُنَا دَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُ، وبالله التوفيق. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَوْ أَدْرَكُونَا وَفِي أَيْدِينَا خَيْلُهُمْ أَوْ مَاشِيَتُهُمْ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا عَقْرُهُ إلا أن يذبح لمأكله ولو جاز ذلك لغيظهم بقتلهم طلبنا غيظهم بقتل أطفالهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا غَنِمْنَا خَيْلَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمِ ثُمَّ أَدْرَكُونَا وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِمْ عَنْهَا جَازَ تَرْكُهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا وَعَقْرُهَا طَلَبًا لِغَيْظِهِمْ، أَوْ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ قَتْلُهَا وَعَقْرُهَا لِإِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا لِغَيْظِهِمْ، وَإِمَّا لِإِضْعَافِهِمُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى إِضْعَافِهِمْ جَازَ اسْتِهْلَاكُهُ عَلَيْهِمْ كَالْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ الْحَيَوَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِتْلَافِهِ عَلَيْهِمْ كَالْأَشْجَارِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأكَلِهِ " وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ أَوْ تُتَّخَذَ غَرَضًا ". وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهَا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهَا " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا: قَالَ: " أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهَا وَيَرْمِيَ بِهَا " وَهَذِهِ أَخْبَارٌ تَمْنَعُ مِنْ عَقْرِهَا وَقَتْلِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إِذَا قُدِرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ، إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِنْقَاذِهِ كَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَلِأَنَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 لَوْ جَازَ قَتْلُهَا لِغَيْظِهِمْ بِهَا كَانَ غَيْظُهُمْ بِقَتْلِ نِسَائِهِمْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ وَلَوْ قَتَلَهُ لِإِضْعَافِهِمْ كَانَ إِضْعَافُهُمْ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فَبَطَلَ الْمَعْنَيَانِ فِي قَتْلِ الْبَهَائِمِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ، وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ وَيُبِيحُ قَتْلَ الْحَيَوَانِ، وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ قَطْعَ الْأَشْجَارِ وَيَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ، فَصَارَا مُجْمِعَيْنِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمُبَاحِ مِنْهُمَا وَالْمَحْظُورِ، فَصَارَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعًا وَإِبَاحَةُ الْأَشْجَارِ، وَحَظْرُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: لِمَالِكِهِ، وَالْأُخْرَى لِخَالِقِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَةُ الْمَالِكِ لِكُفْرِهِ، بَقِيَتْ حُرْمَةُ الْخَالِقِ فِي بَقَائِهِ عَلَى حَظْرِهِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ مَالِكُ الْحَيَوَانِ مِنْ تَعْطِيشِهِ وَإِجَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ أَسْقَطَ حُرْمَةَ ملكه بَقِيَتْ حُرْمَةُ خَالِقِهِ، وَحُرْمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ مِنْ حَقِّ الْمَالِكِ وَحْدَهُ فَإِذَا سَقَطَ حُرْمَةُ مَالِكِهِ لِكُفْرِهِ جَازَ اسْتِهْلَاكُهُ لِزَوَالِ حُرْمَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ وَالشَّجَرِ اسْتِهْلَاكُهُ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِهْلَاكُ حَيَوَانِهِ. (مسألة) : قال الشافعي: " لَوْ قَاتَلُونَا عَلَى خَيْلِهِمْ فَوَجَدْنَا السَّبِيلَ إِلَى قَتْلِهِمْ بِأَنْ نَعْقِرَ بِهِمْ فَعَلْنَا لِأَنَّهَا تَحْتَهُمْ أَدَاةٌ لِقَتْلِنَا وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ بأبي سفيان بن حرب يوم أحد فانعكست بِهِ فَرَسُهُ فَسَقَطَ عَنْهَا فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ تَحْتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِذَا قَاتَلُونَا عَلَى خَيْلِهِمْ جَازَ لَنَا أَنْ نَعْقِرَهَا عَلَيْهِمْ، لِنَصِلَ بِعُقْرِهَا إِلَى قَتْلِهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ بِهَا فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَكْثَرَ مِنَ امْتِنَاعِهِمْ بِحُصُونِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، فَصَارَتْ أَذًى لَنَا فَجَازَ اسْتِهْلَاكُهَا لِأَجْلِ الْأَذَى، كَمَا جَازَ اسْتِهْلَاكُ مَا صَالَ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِهْلَاكُ مَا لَمْ يَصِلْ، وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَبَدَرَ إِلَى حَنْظَلَةَ وَهُوَ يَقُولُ: (لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ... بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ) ثُمَّ طَعَنَ حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْهُ فَخَلَصَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: (فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلَبِ مِنْهُمْ ... لَدَى غُدْوَةٍ حَتَّى دَانَتْ لِغُرُوبِ 9 ... (أُقَاتِلُهُمْ وادعي يال غالب ... وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بُرِكُنِ صَلِيبِ) (وَلَوْ شِئْتُ نَحَّتْنِي كُمَيْتٌ لِحَمْرَةٍ ... وَلَمْ أَحْمِلِ النَّغْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ) فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ شَعُوبٍ فَقَالَ مُجِيبًا لَهُ حِينَ لَمْ يَشْكُرْهُ: (وَلَوْلَا دِفَاعِي يَا ابْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي ... لَأَلْفَيْتَ يَوْمَ النَّعْفِ غَيْرَ مُجِيبِ) (وَلَوْلَا مَكَرِّي الْمُهْرَ بِالنَّعْفِ قَرْقَرَتْ ... ضِبَاعٌ عَلَيْهِ أَوْ ضِرَاءُ كَلِيبِ) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى حَنْظَلَةَ وَقَدْ عَقَرَ فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ رَاكِبُ الْفَرَسِ مِنْهُمُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا كَانَا يُقَاتِلَانِ عَلَيْهَا، جَازَ عَقْرُهَا مِنْ تَحْتِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبُهَا رَجُلًا مُقَاتِلًا، وَإِنْ كَانَا لَا يُقَاتِلَانِ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْكُوبَةٍ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ أَدْرَكُونَا وَمَعَنَا خَيْلُهُمْ وَهُمْ رَجَّالَةٌ إِنْ أُطْلِقَتْ عَلَيْهِمْ وَرَكِبُوهَا قَهَرُونَا بِهَا جَازَ عَقْرُهَا لِاسْتِدْفَاعِ الْأَذَى بِهَا، كَمَا لَوْ كَانُوا رُكْبَانًا عَلَيْهَا. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " فِي كِتَابِ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا قتل الرهبان اتباعا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وَقَالَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَيُقْتَلُ الشُّيُوخُ وَالْأُجَرَاءُ والرهبان قتل دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلم ينكر قتله (قال) ورهبان الديات والصوامع والمساكن سواء ولو ثبت عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خلاف هذا لأشبه أن يكون أمرهم بالجد على قتال من يقاتلهم ولا يتشاغلون بالمقام على الصوامع عن الحرب كالحصون لا يشغلون بالمقام بها عما يستحق النكاية بالعدو وليس أن قتال أهل الحصون حرام وكما روي عنه أنه نهى عن قطع الشجر المثمر ولعله لأنه قد حظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقطع على بني النضير وحضره يترك وعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعدهم بفتح الشام فترك قطعه لتبقى لهم منفعته إذا كان واسعا لهم ترك قطعه (قال المزني) رحمه الله: هذا أولى القولين عندي بالحق لأن كفر جميعهم واحد وكذلك سفك دمائهم بالكفر في القياس واحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْمُقَاتِلَةُ أَوْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِيَارِ الْإِمَامِ فِيهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْقِتَالِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ أَيْضًا شُبَّانًا كَانُوا أَوْ شُيُوخًا، قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَقْدِرُوا، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِلْمٌ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالُ عَمَلٌ وَالْعِلْمُ أَصْلٌ لِلْعَمَلِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُتَنَبِّي حَيْثُ قَالَ: (الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي) وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ أَنْكَى وَأَضَرُّ وَهُوَ مِنَ الشَّيْخِ أَقْوَى وَأَصَحُّ، هَذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ أَشَارَ عَلَى هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنْ يَتَجَرَّدُوا لِلْقِتَالِ، وَلَا يُخْرِجُوا مَعَهُمُ الذَّرَارِيَ، فَخَالَفَهُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ وَخَرَجَ بِهِمْ فَهُزِمُوا فَقَالَ دريد في ذلك: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 196 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 سقط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 وَرَايَاتُهُ مَنْشُورَةٌ، وَسُيُوفُهُ مَشْهُورَةٌ، قَالُوا: وَهَذِهِ صِفَةُ الْعَنْوَةِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنْ يَغْزُوَهُمْ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْوَةً، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ لِي يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ادْعُ الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَتَوْهُ مُهَرْوِلِينَ فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَوْبَشَتْ أَوْبَاشَهَا، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا، حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا " فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْقَتْلِ نَافِيًا لِعَقْدِ الصُّلْحِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ " وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ عَنْ صُلْحٍ لكَانَ جَمِيعُ النَّاسِ آمِنِينَ بِالْعَقْدِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا تَرَوْنِي صَانِعًا بِكُمْ قَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَاصْنَعْ بِنَا صُنْعَ أَخٍ كَرِيمٍ " فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، وَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، واليوم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْعَفْوِ آمَنُوا لَا بالصلح قالوا: ولأن أم هانىء أَمَّنَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ رَجُلَيْنِ فَهَمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِهِمَا، فَمَنَعَتْهُ، وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أم هانىء " وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَاسْتَحَقَّا الْأَمَانَ لَا بِالْإِجَارَةِ، وَلَمَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَهُمَّ بِقَتْلِهِمَا قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ، أَوْ قَالَتْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَدَلَّ تَسْلِيطُهُ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا فِيهَا، غَيْرَ مُصَالِحٍ. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حِمَاسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَعَدَّ سِلَاحًا لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنَّكَ تَقُومُ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فقال: لها إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، وَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يَقُولُ: (إِنْ تُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لي علة ... هذا سلاح كامل وأله) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 (وَذُو غِزَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ ... ) . وَلَحِقَ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فِيمَنْ يُقَاتِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي قُرَيْشٍ وَعَادَ مُنْهَزِمًا، فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ الْبَابَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا فَقَالَ (إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يوم الخندمه ... إذا فر صفوان وفر عكرمه) (وأبو يزيد قائم كالمؤتمة ... واستقبلتهم بالسيوف المسامه) (يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلَا تُسْمَعُ إلا غمغمه) (لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه) فدل على دخولها بالقتال. قالوا: ولأنه صَالَحَهُمْ عَلَى دُخُولِهَا لَتَرَدَّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الرُّسُلُ، وَلَكَتَبَ فِيهِ الصُّحُفَ، كَمَا فَعَلَ مَعَهُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ لَمْ يَلْبَثْ حَتَّى دُخُولِهَا بِعَسْكَرِهِ قَهْرًا، فَكَيْفَ يَكُونُ صُلْحًا. وَدَلِيلُنَا عَلَى دُخُولِهَا صُلْحًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ولا نصيرا} [الفتح: 22] يعني، والله أعلم، أَهْلَ مَكَّةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا وَلَوْ قَاتَلُوا لَمْ يُنْصَرُوا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] فَأَخْبَرَ بِكَفِّ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْكَفُّ يَمْنَعُ من العنوة وقوله تعالى {من بعد أن أظفركم عليهم} يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِعْلَاءَ وَالدُّخُولَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَعْلِيًا فِي دُخُولِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَالْمُحَارِبُ لَا يَكُونُ آمِنًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ دُخُولُهَا صُلْحًا لَا عَنْوَةً، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرعد {ولا يزال الذين كفروا يصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] الْآيَةَ فأخبر بإصابة القوارع ولهم إِلَى أَنْ يَحُلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرِيبًا مِنْهُمْ فَصَارَ غَايَةَ قَوَارِعَهُمْ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى أَنْ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَانْتَهَتِ الْقَوَارِعُ، فَصَارَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ قَارِعَةٍ، وَالْمُخَالِفُ يَجْعَلُ مَا بَعْدُ بَحْلُولِهِ أَعْظَمَ الْقَوَارِعِ، وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِ، وَفِيهَا مُعْجِزَةٌ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ، لِأَنَّ سُورَةَ الرَّعْدِ مَكِّيَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلُ السِّيرَةِ فِي الدُّخُولِ إِلَيْهَا وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ تَأَهَّبَ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهَا أَخْفَى أَمْرَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَرَوْنِي إِلَّا بَغْتَةً " وَسَارَ مُحِثًّا حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَهِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ لَقِيَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّقْيَا، فَسَارَ مَعَهُ وَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَنْ يُوقِدَ نَارًا، فَأُوقِدَتْ عَشَرَةُ آلَافِ نَارٍ أَضَاءَتْ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ، وفعل ذلك؟ ؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 إِرْهَابًا لَهُمْ وَإِيثَارًا لِلْبُقْيَا عَلَيْهِمْ، لِيَنْقَادُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالطَّاعَةِ، وَلَوْ أَرَادَ اصْطِلَامَهُمْ لَفَاجَأَهُمْ بِالدُّخُولِ، وَلَكِنَّهُ أَنْذَرَ وَحَذَّرَ فَلَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَنْ نَزَلَ بِهِمْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ وَأَشْيَاخُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فركب بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشهباء وتوجه إلى مكة؛ ليعلم قريش حَتَّى يَسْتَأْمِنُوهُ فَبَيْنَمَا هُوَ بَيْنَ الْأَرَاكِ لَيْلًا وإذا سَمِعَ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ فَعَرَفَ صَوْتَهُ، فَتَعَارَفَا وَاسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْحَالِ، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عَشَرَةِ آلَافٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا فَاسْتَشَارَهُ، فَقَالَ تَأْتِيهِ فِي جِوَارِي فَتُسْلِمُ، وَتَسْتَأْمِنُهُ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ، وَأَرْدَفَهُ عَلَى عَجُزِ الْبَغْلَةِ، وَعَادَ مُسْرِعًا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ بِحَالِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ أَمَّنَاهُ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِهِ مِنَ الْغَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أتاه به وفأسلم وَعَقَدَ مَعَهُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، من دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ من ألقى سلاحه فهو آمن من أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " فَكَانَ عَقْدُ الْأَمَانِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الشَّرْطِ. وَهَذَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْعَنْوَةِ فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أَمَّنَ أَبَا سُفْيَانَ، وَعَقَدَ مَعَهُ أَمَانَ قُرَيْشٍ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُقَدَّمَةِ، أَنْفَذَهُ؟ إِلَى مَكَّةَ مَعَ الْعَبَّاسِ ثُمَّ اسْتَدْرَكَ مَكْرَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَنْفَذَ إِلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَسْتَوْقِفَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي: لِيَرَى جُنُودَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بَلْ أَنْتَ أَغْدَرُ وَأَفْجَرُ، وَلَكِنْ لِتَرَى جُنُودَ اللَّهِ فِي إِعْزَازِ دِينِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ عَنْوَةً لَمْ يَقُلْ أَبُو سُفْيَانَ: أَغَدْرًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اسْتِيقَافَهُ غَدْرًا، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ كَتَائِبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ: لَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُلْكًا عَظِيمًا: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَالَ: نَعَمْ إِذًا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ الْعَبَّاسُ إِلَى مَكَّةَ مُنْذِرًا لِقَوْمِهِ؟ بِالْأَمَانِ، فَأَسْرَعَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ: فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، قَالُوا: فَمَهْ، قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، قَالُوا: وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ، قال: من دخل المسجد فهو آمن من أغلق بابه فهو آمن من أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَحِينَئِذٍ كَفُّوا وَاسْتَسْلَمُوا، وَهَذَا مِنْ شَوَاهِدِ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَايَةَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ دُخُولِهِ مَكَّةَ، فَقَالَ سَعْدٌ وَهُوَ يُرِيدُ دُخُولَهَا: (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَة ... الْيَوْمَ تُسْبَى الْحُرْمَة) الْيَوْمَ يَوْمٌ يُذِلُّ اللَّهُ قُرَيْشًا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَزَلَهُ عَنِ الرَّايَةِ وَسَلَّمَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَهْ ... الْيَوْمَ تُسْتَرُ فِيهِ الْحُرْمَهْ) الْيَوْمَ يُعِزُّ اللَّهُ قُرَيْشًا. فَجَعلَهُ يَوْمَ مَرْحَمَةٍ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَلْحَمَةٍ، فَدَلَّ عَلَى الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ أَمَامَهُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمَعَهُ رَايَتُهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ الْعُلْيَا، وَهِيَ أَعْلَى مَكَّةَ، وَفِيهَا دَارُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَنْفَذَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ؛ لِيَدْخُلَ مِنَ اللَّيْطِ، وَهِيَ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَفِيهَا دَارُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَوَصَّاهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْطِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَّا الزُّبَيْرُ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ، وَدَخَلَ حَتَّى غَرَسَ الرَّايَةَ بِالْحَجُونِ، وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ لَقِيَهُ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ، فِيهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو وَقَاتَلُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا، وَمِنْ هُذَيْلَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ، وَلُّوا مُنْهَزِمِينَ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البارقة على رؤوس الْجِبَالِ، قَالَ مَا هَذَا، وَقَدْ نَهَيْتُ خَالِدًا عَنِ الْقِتَالِ " فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ خَالِدًا قُوتِلَ فَقَاتَلَ: فَقَالَ: " قَضَى اللَّهُ خَيْرًا " وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ أن يرفع السَّيْفَ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْوَةً لَمْ يَذْكُرِ الْقِتَالَ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يَوْمِ الْفَتْحِ حِينَ سَارَ لِدُخُولِ مَكَّةَ كان يسير أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عَلَى نَاقَتِهِ لقصوى، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَلَوْ دَخَلَهَا مُحَارِبًا لَرَكِبَ فَرَسًا، ثُمَّ قَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ كَلْبَةً أَقْبَلَتْ مِنْ مَكَّةَ فَاسْتَلْقَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَانْفَتَحَ فَرْجُهَا، وَدُرَّ لَبَنُهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ كَلْبُهُمْ، وأقبل خيرهم وسيتضرعون إليك بالرحم، ثم خرج نِسَاءُ مَكَّةَ فَلَطَّخْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخَلُوقِ، وَفِيهِمْ قتيلة بنت النضير بْنِ الْحَارِثِ، فَاسْتَوْقَفَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَقَفَ لَهَا، وَكَانَ قَتَلَ أَبَاهَا النَّضْرَ بْنَ الحارث صبرا فأنشدته: (يا راكبا إن الأثيا مَظِنَّةٌ ... عَنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ) (بَلِّغْ بِهِ مَيْتًا فَإْنَّ تَحِيَّةً ... مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفُقُ) (مِنِّي إِلَيْهِ وَغَيْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ ... جادت لمانحها وأخرى تخنق) (أمحمد ها أنت صنو نجيبة ... من فوقها وَالْفَحْلُ فَحُلٌ مُعْرِقُ) (فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقًا يُعْتَقُ) (مَا كان ضرك لو منت ... وربما من الفتى وهو المغيظ المخنق) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ وَلَمَّا رَأَى الْخَلُوقَ عَلَى خَيْلِهِ، وَالنِّسَاءُ يَمْسَحُونَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِخُمُورِهِنَّ، قَالَ: " لِلَّهِ دَرُّ حَسَّانَ، كَأَنَّمَا ينطق عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 رُوحِ الْقُدُسِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ، كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تريد قوله: (عدمنا خيلنا إن لم نروها ... تنير النقع موعدها كَدَاءُ) (تُنَازِعُنَا الْأَعِنَّةُ مُسْرِعَاتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ) (فإن أعرضتم عنا اعتمرنا وكان ... الفتح وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ) (وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجَلَادِ يَوْمٍ ... يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ) فَقَالَ: نَعَمْ، وَدَخَلَ مَكَّةَ وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَهُوَ ضَرِيرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي ... أَرْضٌ بِهَا أَهْلِي وَعُوَّادِي) (بِهَا أَمْشِي بِلَا هَادِي ... أرض بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي) فَدَلَّتْ هَذِهِ الْحَالُ فِي اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ وَسُكُونِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ وَالرُّؤْيَا الَّتِي قَصَّهَا عَلَى الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى يَوْمَ الْفَتْحِ قَتْلَ سِتَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَأَمَّا الرِّجَالُ: فَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ. وَأَمَّا النِّسْوَةُ، فَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَسَارَّةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، وَبِنْتَانِ لِابْنِ خَطَلٍ، فَقُتِلَ مِنَ الرِّجَالِ ثَلَاثَةٌ ابْنُ خَطَلٍ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بن أبي طالب وَقُتِلَتْ إِحْدَى بِنْتَيِ ابْنِ خَطَلٍ، وَاسْتُؤْمِنَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَدَلَّ اسْتِثْنَاءُ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ عَلَى عموم الأمان، ولو لم يكن أمان لم يحتج إلى استثناء، وَقَدْ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي هَذَا الصُّلْحِ ما عير به قريش فَقَالَ (وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا ... مَوَاثِيقًا عَلَى حسن التصادف) (وأعطينا المقادة حين قلنا ... تعالوا بارزونا بالتقاف) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ بِالْحَجُونِ قُبَّةٌ أَدَمٌ عِنْدَ رَايَتِهِ الَّتِي رَكَزَهَا الزُّبَيْرُ، فَقِيلَ لَهُ هَلَّا نَزَلْتَ فِي دُورِكَ، فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ " وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ مَكَّةَ عَنْوَةً لَكَانَ، رِبَاعُ مَكَّةَ كُلُّهَا لَهُ، ثُمَّ بَدَأَ بِالطَّوَافِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقصْوَى، وَكَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، وَكَانَ أَعْظَمَهَا هُبَلُ، وَهُوَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِصَنَمٍ مِنْهَا أَشَارَ إِلَيْهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَيَسْقُطُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَأَسْلَمُوا طَوْعًا وَكَرْهًا، وَبَايَعُوهُ، وَلَيْسَ هَذِهِ حَالَ مَنْ قَاتَلَ وَقُوتِلَ فَدَلَّتْ عَلَى الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 قَالَ: " لَمْ تَحِلَّ لِي غَنَائِمُ مَكَّةَ " وَالْعَنْوَةُ تُوجِبُ إِحْلَالَ غَنَائِمِهَا، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهَا صُلْحًا، وَفَقَدَتْ أُخْتُ أَبِي بَكْرٍ عُقْدًا لَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ، وَلَوْ حَلَّتِ الْغَنَائِمُ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ خِيَانَةً، تَذْهَبُ بِهَا الْأَمَانَةُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ تَحِلَّ غِنَائِمُهَا؛ لِأَنَّهَا حَرَمُ اللَّهِ الَّذِي يُمْنَعُ مَا فِيهِ، فَعَنْهُ ثَلَاثُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ قَوْلِ الله تعالى: {واعلموا أنما ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْحَرَمُ مِنَ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى قَتَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَتَلَ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ غَنَائِمِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ مَنَعَهُمُ الْحَرَمُ مِنْ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَمَانٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَالِ أَعْظَمُ حُرْمَةً، مِمَّا فِي مَنَازِلِ الرِّجَالِ وَقَدْ رَوَى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ وَجَدَ فِي الْكَعْبَةِ مَالًا كَانَتِ الْعَرَبُ تُهْدِيهِ، فَقَسَّمَهُ فِي قُرَيْشٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُ لِلْعَطَاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، ثُمَّ دعى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ: خُذْ كَمَا أَخَذَ قَوْمُكَ، فَقَالَ حَكِيمٌ: آخُذُ خَيْرًا أَوْ أَدَعُ قال: بل تدع قال: ومنك؟ قَالَ: وَمِنِّي " الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى " فَقَالَ: حَكِيمٌ لَا آخُذُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَبَدًا، فَلَمَّا لَمْ تَمَنَعِ الْكَعْبَةُ مَا فِيهَا وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ بِهَا كَانَ الْحَرَمُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مَا فِيهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا فِي الْحَرَمِ أَمْوَالٌ لِمَنْ قَدِ اسْتَأْمَنُوهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَمَانِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا فِي الْكَعْبَةِ مَالٌ لِمُسْتَأْمَنٍ لَمْ يَحْرُمْ عليه بالأمان. فإن قيل: إنما لم يغنمها، وإن ملك غنائمها؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهَا كَمَا عَفَا عَنْ قَتْلِ النفوس، فهل يجوز له وللأمة بعده أن يعفو عَنِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الغانمين؛ لأن مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَلَّا تَرَاهُ لَمَّا أَرَادَ الْعَفْوَ عن سبي هوازن استطاب نفوس الغانمين، حتى ضمن لمن لم تطب نفسه بِحَقِّهِ سِتَّ قَلَائِصَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، وَمَا اسْتَطَابَ فِي غَنَائِمِ مَكَّةَ نَفْسَ أَحَدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُمْلَكْ لِأَجْلِ الْأَمَانِ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الصُّلْحُ، فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى اسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْفُذُ السَّرَايَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ عَرَفَاتٍ وَغَيْرِهَا، فَيَأْتُوهُ بِغَنَائِمِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يَعْتَمِدُهُ أَنَّ نَقْلَ الْمُوجِبِ يُغْنِي عَنْ نَقْلِ الْمُوجَبِ وَمُوجِبُ الْعَنْوَةِ الْقَتْلُ وَالْغَنِيمَةُ، وَمُوجِبُ الصُّلْحِ الْعَفْوُ وَالْمَنُّ، فَلَمَّا عَفَا وَمَنَّ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَغْنَمْ، وَأَنْكَرَ حِينَ رَأَى خَالِدًا قَدْ قُتِلَ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى الصُّلْحِ، وَمَانِعًا مِنَ الْعَنْوَةِ وَصَارَ الصُّلْحُ كَالْمَنْقُولِ لِنَقْلِ مُوجِبِهِ مِنَ الْعَفْوِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَتْحَ يَنْطَلِقُ عَلَى الصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: فُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا، وَفُتِحَتْ عَنْوَةً؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ هُوَ الظَّفَرُ بِالْبَلَدِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ ظَفَرٌ بِمُمْتَنَعٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فُتُوحِهِ كُلِّهَا، فَكَانَتْ خَبَرًا عَنْ مَاضِيهَا قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ، وَالطَّائِفُ آخِرُ فُتُوحِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ " يَعْنِي آخَرَ مَا أَظْفَرَ اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ بِوَجٍّ وَوَجٌّ هِيَ الطَّائِفُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَرِحَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَكَى الْعَبَّاسُ لَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا يُبْكِيكَ يَا عَمِّ قَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ قَالَ: إِنَّهُ لَكمَا تَقُولُ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ التَّوْدِيعِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ الشَّعْبِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ فِيهَا مَا لَمْ يُصِبْ فِي غَيْرِهَا بُويِعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، تَصْدِيقًا لِخَبَرِهِ وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَالْفَتْحُ يَكُونُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّ يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ، وَقَوْلُهُ {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ أَظْفَرَهُ بِهِمْ حِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُ وَاسْتَسْلَمُوا عَفْوًا، فَكَانَ أَبْلَغَ الظَّفَرِ بَعْدَ الْمُحَارَبَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {بِبَطْنِ مكة} يَعْنِي الْحَرَمَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَضْرِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ كَانَ فِي الْحِلِّ، وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِمَكَّةَ عَنِ الْحَرَمِ، وهذا تكلف فِي الْجَوَابِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم} [التوبة: 14] فَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنِ امْتَنَعُوا، وَبِالْكَفِّ عَنْهُمْ إِنِ اسْتَسْلَمُوا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وَهُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ اسْتَسْلَمُوا وَلَمْ يَمْتَنِعُوا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] فَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى أَنْ يَدْعُوَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصُّلْحِ، وَهُمْ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَخَرَجَ عَنِ النَّهْيِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِصِفَةِ مَسِيرِهِ وَقَسَمِهِ بِاللَّهِ أن يغزوهم ودخوله إليه بِسُيُوفٍ مَشْهُورَةٍ وَرَايَاتٍ مَنْشُورَةٍ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ تَحَدَّدَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَقَسَمُهُ أَنْ يغزوهم فقد قال فيه " إنشاء اللَّهُ فَاسْتَثْنَى عَلَى أَنَّهُ قَدْ غَزَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَهُمْ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ غَالِبًا " وَالثَّانِي: أَنَّ نَشْرَ الرَّايَاتِ وَسَلَّ السُّيُوفِ مِنْ عَادَاتِ الْجُيُوشِ فِي الصلح والعنوة، وإنما يقع بين الفرق الْحَالَتَيْنِ بِالْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ وَظُهُورٍ عَلَيْهِمْ صَارَ مَوْصُوفًا بِالْعَنْوَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَنْوَةَ الْخُضُوعُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] أَيْ: خَضَعَتْ، وَهُمْ قَدْ خَضَعُوا حِينَ اسْتَسْلَمُوا لِأَمَانِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ نُزُولِهِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَعَقْدِ الْأَمَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرِ ابن الْمُنْذِرِ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: " احْصُدُوهُمْ غَدًا حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا " وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ قَاتَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَسْفَلَ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَبُنِيَ نُفَاثَةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ عَقْدَ الْأَمَانِ مُعَلَّقًا بِهَذَا الشَّرْطِ، فَصَارَ خَاصًّا فِي اللَّفْظِ عَامًّا فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ، لِقُرَيْشٍ " أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " فَهُوَ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ إِسَاءَتِهِمْ، وَصَفَحَ عَنْهُمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ، طُلَقَاءَ وَبِالْإِحْسَانِ عُتَقَاءَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أَمَّ هَانِئٍ " فَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا شَرْطُ الْأَمَانِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا شَاكَّيْنِ فِي سِلَاحِهِمَا، وَقَدْ عَلَّقَ شَرْطَ الْأَمَانِ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ وَغَلْقِ الْأَبْوَابِ فَبَقِيَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ؛ فَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَقْتُلَهُمَا حَتَّى اسْتَجَارَا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَأَمَّنَهُمَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " كُلُّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ وَلَمْ تَرِدِ به الْعَنْوَةُ وَالصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ بَعْضَ الْبِلَادِ صُلْحًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رسوله " فهو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْفِيلَ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَلَا دَخَلَهَا، وَأَظْفَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا حَتَّى دَخَلَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حِمَاسِ بْنِ قَيْسٍ، وَمَا أَنْشَدَهُ مِنْ شِعْرِهِ: فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيفَ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا خَالِدًا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ الْقَابِلِينَ لِأَمَانِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَدْ أمَّنَ مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ، فَلَئِنْ دَلَّ أَوَّلُ أَمْرِهِ عَلَى الْعَنْوَةِ، فَلَقَدْ دَلَّ آخِرُهُ عَلَى الصُّلْحِ، وَابْتَدَأَ بِالْقِتَالِ بِجَهْلِهِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى شَرْطِ الْأَمَانِ حِينَ عَلِمَ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ مَا تَرَدَّدَتْ فِيهِ الرُّسُلُ وَكُتِبَ فِيهِ الصُّحُفَ كَالْحُدَيْبِيَةِ، فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ عَلَى الْمُوَادَعَةِ وَالْكَفِّ، فَاحْتَاجَ إِلَى الرُّسُلِ وَكَتْبِ الصُّحُفِ وَهَذَا أَمَانُ اسْتِسْلَامٍ وَتَمْكِينٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ، فَاسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرَدُّدِ الرُّسُلِ وَكَتْبِ الصُّحُفِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى أَخْبَارِ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِحَالِهِ، وَذِكْرِهِ لِقُرَيْشٍ مَا تَعَلَّقَ بِشَرْطِهِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ قَبُولِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ دُونَ الرِّضَا وَالِاخْتِبَارِ. (فَصْلٌ) : وَإِذْ قَدْ مَضَتْ دَلَائِلُ الْفَتْحِ فِي الْعَنْوَةِ وَالصُّلْحِ، فَالَّذِي أَرَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَقْلُ هَذِهِ السِّيرَةِ وَشُرُوطِ الْأَمَانِ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ قَاتَلَ: أَنَّ أَسْفَلَ مَكَّةَ دَخْلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْوَةً، وَأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ صُلْحًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ عَقْدِ الْأَمَانِ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَبَعَثَ الزُّبَيْرَ مِنْ أَعْلَاهَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ لَا يُقَاتِلَا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمَا، فَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَقُوتِلَ فَقَاتَلَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ قَبُولُ الشَّرْطَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا قَاتَلَهُ بَنُو بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِمَكَّةَ دَارٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي مُقَاتَلَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عَمْرٍو، وَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ قُرَيْشٍ وَأَعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ دَارُهُمْ، وَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَإِنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ، وَلَا قَاتَلَ أَحَدًا، فَوَجَدَ شَرْطَ الْأَمَانِ مِنْهُمْ فَانْعَقَدَ الصُّلْحُ لَهُمْ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجميع جيشه من جهة الزبير ابن الْعَوَّامِ، فَصَارَ حُكْمُ جَبْهَتِهِ هُوَ الْأَغْلَبُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّةَ الْتَزَمَ أَمَانَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَاسْتَأْنَفَ أَمَانَ مَنْ قَاتَلَ، وَلِذَلِكَ اسْتَجَدَّ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهل وصفوان ابن أُمَيَّةَ أَمَانًا، وَأَمَّنَ مَنْ أَجَارَتْهُ أُمُّ هَانِئٍ، وَلَمْ يَغْنَمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ عَلَى جِبَالِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ نَقْلُ السِّيرَةِ وَشَوَاهِدُ حَالِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَاتَلَ خَالِدٌ وَقَتَلَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خَالِدًا قَاتَلَ وَقَتَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ففِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا، قَالَهُ لِخَالِدٍ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَتْحِ سَرِيَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَنِي جذيمة من كنانة، وكانوا أسفل من مكة عَلَى لَيْلَةٍ مِنْهَا نَاحِيَةَ يَلَمْلَمَ لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَقَتَلَ مَنْ ظَفَرَ بِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، وَأَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِدِيَاتِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ قَاتَلُوهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 (بَابُ وُقُوعِ الرَّجُلِ عَلَى الْجَارِيَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ يَكُونُ لَهُ فِيهِمْ أَبٌ أَوِ ابْنٌ وحكم السبي) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إن وقع على جَارِيَةٍ مِنَ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقَسْمِ فَعَلْيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا يُؤَدِّيهِ فِي الْمَغْنَمِ وَيُنْهَى إِنْ جَهِلَ وَيُعَزَّرُ إِنْ عَلِمَ وَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا شَيْئًا قَالَ وَإِنْ أَحْصَوُا الْمَغْنَمَ فَعُلِمَ كَمْ حَقُّهُ فِيهَا مَعَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْمَغْنَمِ سَقَطَ عَنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغَنَائِمُ قَبْلَ إِحَازَتِهَا وَاسْتِقْرَارِ الظَّفَرِ بِهَزِيمَةِ أَهْلِهَا فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا، فإن وطىء منهم جارية كان الواطىء زَانِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَقَرَّ الظَّفَرُ بِالْهَزِيمَةِ وَأُحِيزَتِ الْأَمْوَالُ وَالسَّبْيُ فَقَدْ مَلَكَهَا جَمِيعُ الْغَانِمِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْقَاقِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السَّهْمَانِ الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهَا، فَأَمَّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ فإنما يملك بالحضور أن يتملك بِالْقَسْمِ كَالشُّفْعَةِ مِلْكُ الْخَلِيطِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بالأخذ، وإنما ملك الغانم، أَنْ يَتَمَلَّكْ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْمِلْكُ لِمَعْنَيَيْنِ: أحدهما: أن حقه فيها يزول بتركه ويعود إلى غيره كالشفعة، ولو ملكه لم يزل بِتَرْكِهِ كَالْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي: لَوْ تَأَخَّرَ قَسْمُهَا حِينَ حَالَ حَوْلُهَا لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا، وَلَوْ مُلِكَتْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَة ُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رجل من الغانمين وطىء جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ الْمَغْنُومِ فَهُوَ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. وَقَالَ مَالِكُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ فِي غَيْرِ مَلِكٍ، فَوَجَبَ بِهِ الْحَدُّ كَالزِّنَا، وَدَلِيلُنَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ادرؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " وَشُبْهَةُ الْوَطْءِ فِيهَا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ الَّتِي مَا مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَلَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ كَانَ سُقُوطُهُ عَنْ هَذَا أَوْلَى، وَبِهِ خَالَفَ مَحْضَ الزِّنَا، وَصَارَ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشُبْهَةٍ. فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْحَدِّ نُظِرَ، فَإِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ عُزِّرَ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَإِنْ مَنَعَتِ الْحَدَّ لِحَظْرِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ وَجَهْلِهِ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي عَدَدِ الْغَانِمِينَ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ لِكَثْرَتِهِمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 دَفَعَ جَمِيعَ الْمَهْرِ، وَضُمَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُقَسَّمَ مَعَهَا فِي جَمِيعِ الْغَانِمِينَ، فَلَوْ صَارَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي وَطِئَهَا فِي سَهْمِهِ وَمَلَكَهَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ وَطْئِهِ لَمْ يَسْتَرْجِعِ الْمَهْرَ بَعْدَ دَفْعِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا بَعْدَ وُجُوبِ مَهْرِهَا، فَصَارَتْ كَأَمَةٍ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ ابْتَاعَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ سَيِّدِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَهْرُهَا، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ مَحْصُورًا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَهْرِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فِيهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَحَلِّ سُقُوطِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهَا إِذَا كَانَ قَدْ تَمَلَّكَهَا بِالْقِسْمَةِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْغَانِمِينَ مَحْصُورِينَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَهْرِهَا، وَإِنْ كَانَ عَدَدُهُمْ مَحْصُورًا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي حَالٍ لَيْسَ بِمَالِكٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فِي الْحَالَيْنِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَ وَطْؤُهُ قَبْلَ التَّمَلُّكِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا حَقَّ فيها لغيرهم، والأول أشبه. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ حَمَلَتْ فَهَكَذَا وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ وَكَانَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ". قَالَ الماوردي: وصورتها أن تحمل مِنْهُ الْجَارِيَةَ الَّتِي وَطِئَهَا مِنَ الْمَغْنَمِ، فَيَتَعَلَّقَ بِحَمْلِهَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْوَطْءِ: أَحَدُهَا: سُقُوطُ الْحَدِّ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ التَّعْزِيرِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّالِثُ: اسْتِحْقَاقُ الْمَهْرِ، فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِحْبَالِهَا: فَأَحَدُهَا: لُحُوقُ الْوَلَدِ بِهِ. وَالثَّانِي: حُرِّيَّتُهُ. وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ قِيمَتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَصِيرَ الْجَارِيَةُ بِهِ أُمَّ ولد. فأما لحوق الولد فهو لا حق بِهِ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ، إِذَا وَضَعَتْهُ لِزَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لَا يُلْحَقُ بِسَيِّدِهَا إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ، وَعِنْدَنَا يُلْحَقُ بِالْفِرَاشِ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِهَذَا الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحُرَّةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ بِهِ عَنْ شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مَمْلُوكًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهِ. وَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ فَتُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأُمِّ فِيمَا يَسْتَقِرُّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ، وَالْأُمُّ قَدْ أَحْبَلَهَا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَوَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ: أَحَدُهَا: مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَمْلُوكَةُ أُمَّ وَلَدٍ، هُوَ أَنْ تَلِدَ حُرًّا مِنْ مَالِكٍ كَالسَّيِّدِ. وَالثَّانِي: مَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَ مَمْلُوكًا مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَالزَّوْجِ وَالثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ تَلِدَ حُرًّا مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كالحر إذا وطىء أَمَةَ غَيْرِهِ بِشُبْهَةٍ فَلَا تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يملكها الواطىء أُمَّ وَلَدٍ، وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ بَعْدَ مِلْكِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، قَالَهُ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، قَالَهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ المسبِيَّةُ قَدْ وَلَدَتْ حُرًّا فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ بَعْدَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى فَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا فِي الْغَانِمِينَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ السَّبْيِ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهَا حَقُّ أَحَدٍ مِنَ الْغَانِمِينَ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْثُرَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ حَتَّى لَا يَنْحَصِرَ حَقُّ الواطىء مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَيَكُونَ وَاطِئًا لِجَارِيَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَا مَلَكَ شَيْئًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْهَا فِي الْحَالِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَبْلِهَا إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِأَجْلِ عُلُوقِهَا مِنْهُ بِحُرٍّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا؟ كَمَا لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ أَمَةُ غَيْرِهِ إِذَا أَحْبَلَهَا بِشُبْهَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهَا إِذَا وَضَعَتْهُ، فَإِنْ قُسِّمَتْ فَصَارَتْ فِي سَهْمِهِ، فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُقَوَّمُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا أَمْ لَا؟ لِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْهُ بِحُرٍّ، وَفِي قَسْمِهَا قَبْلَ وِلَادَتِهِ ضَرَرٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْوِلَادَةِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَانِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْحَادِثِ عَنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 كَانَتْ قِيمَتُهَا بِقَدْرِ سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ حَصَلَتْ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ رَدَّ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ دَفَعَ الْبَاقِيَ، فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا، وَهَلْ لَهُ بَيْعُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي أَحَدِهِمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا، وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا، اعْتِبَارًا بِمَا يَتَعَدَّى إِلَيْهَا مِنْ حُكْمِ إِيلَادِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا، وَإِنْ لَمْ تُقَوَّمْ عَلَيْهِ لَزِمَهُ قِيمَةُ وَلَدِهَا. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقِلَّ عَدَدُ الْغَانِمِينَ حَتَّى يَنْحَصِرَ سَهْمُهُ مِنْهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا عَشَرَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا، وَهِيَ جَمِيعُ الْمَغْنُومِ، فَيَصِيرَ حَقُّهُ فِيهَا مُمْتَنِعًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَيَصِيرَ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي قِسْمَةِ الْقَبَائِلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ غَيْرُهَا من خيل ومواشي، فَلِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَسِّمَ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ لَا قِسْمَةَ مُرَاضَاةٍ، فَيَجْعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي سَهْمِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْغَانِمِينَ، وَرُبَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فِي سَهْمِهِ، وَرُبَّمَا جَعَلَهَا فِي سَهْمِ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا هل يصير قدر سهمه المحصور أو وَلَدٍ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي سُقُوطِ قَدْرِ سَهْمِهِ مِنْ مَهْرِهَا إِذَا حَصَرَ عَدَدَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا هَلْ يَصِيرُ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنْهَا إِذَا انْحَصَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى إِذَا لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ، وَيَكُونُ حُكْمُ بَاقِيهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي وَطْئِهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْقَبَائِلِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْقُطُ خِيَارُ الْإِمَامِ فِي قسمها لِمَنْ شَاءَ وَيَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ؟ أَوْ يَكُونُ عَلَى خِيَارِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ؛ لِاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِحْبَالُهُ لَهَا بَعْدَ قَسْمِهَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ بِأَنْ حَصَلَتْ مِلْكًا لِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إِذَا قَلَّتِ الْغَنِيمَةُ وَكَثُرَ الْعَدَدُ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّأْسِ الْوَاحِدِ، فَيُعْطِيَ لِعَشَرَةٍ فَرَسًا وَلِعَشَرَةٍ جَارِيَةً وَلِعَشَرَةٍ بَعِيرًا، فَإِذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ وَقَبِلُوهُ صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمْ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بَعْدَ إِحْبَالِهَا كَحُكْمِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا أَحْبَلَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ مِلْكِهِ فِيهَا شُبْهَةٌ فِي بَاقِيهَا، وَعَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 بِقَدْرِ حِصَصِ شُرَكَائِهِ فِيهَا، وَيَصِيرُ مِلْكُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ في ملك ولا يخلوا فِي بَاقِيهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِقِيمَتِهِ أَوْ مُعْسِرًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِبَاقِيهَا قُوِّمَ عَلَيْهِ، كَمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَصُ شُرَكَائِهِ لَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ سَهْمِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ وَلَدِهِ حُرًّا؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ وَفِي شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ للولد؛ لأنها ولدتها فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ صَارَ جَمِيعُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ مِنْهُ بِحَرٍّ فِي مِلْكٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِحِصَصِ شُرَكَائِهِ مِنْهَا لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ بَاقِيهَا، وَكَانَ مِلْكًا لِشُرَكَائِهِ فِيهَا، وَكَانَ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ الْعُشْرُ، لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ الْعَشَرَةِ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ، كَمَا قَدْ صَارَ عُشْرُ الأم أم ولد في تَقْوِيمِ بَاقِي الْوَلَدِ عَلَيْهِ مَعَ إِعْسَارِهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لا يقوم عليه مع الإعسار، كما لا يقم عَلَيْهِ بَاقِي الْأُمِّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عُشْرُ الْوَلَدِ حُرًّا، وَبَاقِيهِ مَمْلُوكًا، وَعُشْرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ وَبَاقِيهَا مَمْلُوكًا، وَإِنْ مَلَكَ بَاقِيَهَا مِنْ بَعْدُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ كَانَ بَاقِيهَا عَلَى رِقِّهِ، وَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِرِقِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهَا عُلِّقَتْ بِمَمْلُوكٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَعَ إِعْسَارِهِ، وَإِنْ لم تقوم عليه بقية الْأُمِّ بِإِعْسَارِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي الْوَلَدِ أَصْلٌ مُتَقَدِّمٌ، وَهِيَ فِي الْأُمِّ فَرْعٌ طَارِئٌ فَلَمْ تَتَبَعَّضْ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَطْرَأُ عَلَى حُرِّيَّةٍ ثَابِتَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَجُوزُ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى رِقٍّ ثَابِتٍ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ جَمِيعُ الْوَلَدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عُشْرُ الْأُمِّ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِنْ مَلَكَ بَاقِيَهَا مِنْ بَعْدُ، فَهَلْ تصير أم ولد له عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْلَدَهَا حُرًّا فِي غير ملك، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ فِي السَّبْيِ ابْنٌ وَأَبٌ لِرَجُلٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَسِّمَهُ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَنِ اجْتَلَبَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَهُوَ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ مِنْ مَغْنَمِهِ لَمْ يُعْتَقْ عليه حتى يقسم (قال المزني رحمه الله) وإذا كان فيهم ابنه فلم يعتق منه عليه نصيبه قبل القسم كانت الأمة تحمل منه من أن تكون له أم ولد أبعد " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي السَّبْيِ الْمُسْتَرَقِّ أَحَدُ مَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عَلَى الْغَانِمِينَ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ، كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَلَهُ فِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَحَالٌ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. فَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا تعتق عَلَيْهِ فِيهَا فَهُوَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَالْغَانِمُونَ عَدَدٌ كَثِيرٌ لَا يَنْحَصِرُونَ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ قَدْرُ سَهْمِهِ مِنْهُ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنْ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي سَهْمِ غيره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ فِيهَا قَدْرَ سَهْمِهِ مِنْهُ، فَهُوَ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ فَيَجْعَلَ فِي سَهْمٍ عشره هُوَ أَحَدُهُمْ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ قَدْرُ حَقِّهِ وَهُوَ عشرة؛ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَى عُشْرِهِ وَيُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهُوَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْغَانِمِينَ مَحْصُورًا، فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حكم أو الْوَلَدِ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ غَيْرُهُ، فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ، وَلَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ غَيْرُهُ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يقسم فيها الغنيمة بحكمه على اختياره، لايعتبر فِيهَا الْمُرَاضَاةُ. فَفِي نُفُوذِ عِتْقِ حَقِّهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُجْعَلَ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَقُ عَلَيْهِ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ جميع الغانمين، فغلب فيه حكم الإشاعة، فإذا أَعْتَقَ قَدْرَ حَقِّهِ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ سهمه، ولم يقوم عَلَيْهِ بَاقِيه؛ لِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ بِلَا اخْتِيَارِهِ. فَأَمَّا إِذَا بَدَأَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَعْتَقَ أَحَدَ السَّبْيِ لَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِحَالٍ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَعِتْقِ بَعْضِ الْمُنَاسِبِينَ؛ لأن ما يُعْتَقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ أَقْوَى، وَمَا يُعْتَقُ بِالِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ وَلِذَلِكَ نَفَذَ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عتق ما ملكه من ما سبيه، وَأَنْ تَصِيرَ أَمَتُهُ إِذَا أَحْبَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَلَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَنْ تَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ. فَأَمَّا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ أَبِيهِ، فَكَذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يُخَالِفَانِ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ؛ لِلْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرْنَا. (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَرَائِرِ فَقَدْ رُقَّتْ وَبَانَتْ مِنَ الزَّوْجِ كَانَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِسَاءَ أَوْطَاسٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَرِجَالَهَمْ جَمِيعًا فَقَسَّمَ السَّبْيَ وَأَمَرَ أَنْ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَاتِ زَوْجٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَيْسَ قَطْعُ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ بِأَكثَرَ مِنَ اسْتِبَائِهِنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سَبْيَ الذُّرِّيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّهِمْ، وَالذُّرِّيَّةُ هُمُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، فَإِذَا أُحِيزُوا بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ رُقُّوا، فَأَمَّا سَبْيُ الْمُقَاتِلَةِ فَلَا يُرَقُّونَ بِالسَّبْيِ، حَتَّى يُسْتَرَقُّوا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ خِيَارًا فِي الرِّجَالِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 وَالِاسْتِرْقَاقِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الِاسْتِرْقَاقُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الذَّرَّارِي فَرُقُّوا بِالسَّبْيِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُكْمِ الرِّقِّ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حُدُوثُ السَّبْيِ فِي الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُسْبَى الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ، فَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُهَا بِالسَّبْيِ بِوِفَاقٍ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، فَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُسْبَى الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَرَقَّ وَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فُودِيَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ. والْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفِ الدَّارُ بِهِمَا؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمَّا اسْتَرَقَّ سَبْيَ هَوَازِنَ بِأَوْطَاسَ جَاءَتْهُ هوازن بعد إسلامهم ليستعطفونه وَيَسْتَنْزِلُونَهُ مِنْ عَلَى سَبْيِهِمْ وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ، وَلَوْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الرِّقِّ لَأَعْلَمَهُمْ، وَلَأَمَرَهُمْ بِاسْتِئْنَافِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمْ، وَفِي تَرْكٍ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَصِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ كَالصِّغَرِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، كَمَا تَطْرَأُ الْحَرِيَّةُ عَلَى الرِّقِّ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ، وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إِلَى قَوْلِهِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 22 - 23] وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، فَحَرَّمَهُنَ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا بِحُدُوثِ السَّبْيِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْإِبَاحَةِ فِيمَنْ كَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا لَمَا جَازَتِ الْإِبَاحَةُ، وَلَكَانَ التَّحْرِيمُ بَاقِيًا. وَالْقِيَاسُ: هُوَ أَنَّهُ رِقٌّ طَرَأَ عَلَى نِكَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ، كَمَا لَوِ اسْتُرِقَّ أَحَدُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِاسْتِرْقَاقِ أَحَدِهِمَا؛ لِاخْتِلَافِ الدَّارِينَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ مُوجِبُ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ يَتَنَافَيَا، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعَارُضُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْلَمَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَزَوْجَاتُهُمَا بِمَكَّةَ، فَأَقَرَّهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بينهما، أو لا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فنكح زوجة، وله دَارِ الْإِسْلَامِ أُخْرَى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ عَادَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. وَقِيَاسٌ آخَرُ: أَنَّ النِّكَاحَ مِلْكٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ، كَالْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْأَمْوَالِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالنِّكَاحُ مُخْتَصٌّ بِالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي هُوَ منفعة ولك من هَذَا التَّعْلِيلِ قِيَاسٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ، كَمَا لَوْ آجَرَهُ الْحَرْبِيُّ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتُرِقَّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِسَبْيِ هَوَازِنَ: هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ إِسْلَامُ وَافِدِهِمْ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيَانُ مَنَاكِحِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرِّقُّ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يمنع من استدامته فمن وجهين: أحدهما: انْتِقَاضهُ بِالْخُلْعِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَيُتَصَوَّرُ فِي أثنائه فلم يصح الجمع بين بَيْنَ مُمْكِنٍ وَمُمْتَنِعٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي النِّكَاحِ حُدُوثُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ، كَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ حُدُوثُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، فَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الْحُرِّيَّةِ كَمَالٌ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي النِّكَاحِ وَحُدُوثُ الرِّقِّ نَقْصٌ، فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي النِّكَاحِ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ الْحَرْبِيَّانِ مَمْلُوكَيْنِ فَسُبِيَا، أَوْ أَحَدُهُمَا فَفِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَبْطُلُ، وَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ رِقَّهُمَا مُتَقَدِّمٌ، وَلَيْسَ بِحَادِثٍ فَصَارَ انْتِقَالُ مِلْكِهِمَا بِالسَّبْيِ، كَانْتِقَالِهِ بِالْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الثَّانِيَ أَثْبَتُ مِنَ الرِّقِّ الْأَوَّلِ لِثُبُوتٍ الْحَادِثِ بِالْإِسْلَامِ، وَثُبُوتِ الْأَوَّلِ بِالشِّرْكِ فَتَعَلَّقَ حُكْمُ الرِّقِّ بِأَثْبَتِهِمَا، وَكَانَ الْأَوَّلُ دَاخِلًا فيه. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا حَتَّى يَبْلُغَ سَبْعَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ وَهُوَ عِنْدَنَا اسْتِغْنَاءُ الْوَلَدِ عَنْهَا وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْقِسْمَةِ إِذَا سَبَوْا وَلَا فِي الْبِيَعِ إِذَا مَلَكُوا لِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ وَلَدِهَا ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ امْرَأَةً تَبْكِي فَقَالَ: مَا لِهَذِهِ تَبْكِي فَقِيلَ لَهُ: فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا فَقَالَ: " لَا تُوَلَّهْ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا ". أَيْ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ فَتُوَلِّهُ عَلَيْهِ بِالْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلَهِ، وَلِأَنَّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا بِحُزْنِ الْأُمِّ وَضَيَاعِ الْوَلَدِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي تَحْرُمُ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى اسْتِكْمَالِ سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِأَنَّهُ حَدُّ التَّفْرِقَةِ فِي تَخْيِيرِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِيهَا بِنَفْسِهِ فِي لِبَاسِهِ وَمَطْعَمِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا " قِيلِ: إِلَى مَتَى؟ قَالَ: " حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ " وَلَوْلَا أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفًا لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَقَدْ طَعَنَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ، لَمَّا اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَلَمَّا شَاعَ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّتِ الْكَفَالَةُ، عَلَى الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْبُلُوغِ، ثُمَّ يُفَارِقُهُمَا الْوَلَدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَانَ الْبُلُوغُ حَدًّا فِي التَّفْرِقَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَبَدِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الظَّاهِرِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ إِنْ صَحَّ، ثُمَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ مَفْقُودٌ فِي الْكِبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُضِرٌّ فِي الصِّغَرِ، وَغَيْرُ مُضِرٍّ فِي الْكِبَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْكِبَرِ، وَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الصِّغَرِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَالْأُمِّ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْضِيَّةِ الْمُفْضِيَةِ لِلشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْأُمِّ لِعَدَمِ التَّرْبِيَةِ فِي الْأَبِ، وَوُجُودِهَا فِي الْأُمِّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 فَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلْحَضَانَةِ، كَالْجَدِّ أَبَى الْأُمِّ وَأُمَّهَاتِهِ لَمْ تَحْرُمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا، لِضَعْفِ سَبَبِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْتَحِقًّا لِلْحَضَانَةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُجْتَمِعًا مَعَ الْأُمِّ، فَحُكْمُ الْجَمْعِ مُخْتَصًّا بِهَا، وَلَا تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَدَاهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ الْأُمِّ، إِمَّا لِمَوْتِ الْأُمِّ أَوْ بُعْدِهَا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ جَدَّاتِهِ الْمُدْلِيَاتِ بِأُمِّهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ أُمِّهِ، لقيامها فِي الْحَضَانَةِ مَقَامَ أُمِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا مَعَ جَدَّاتِهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِهِمْ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، إِذَا قِيلَ: تَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي أَدْلَوْا بِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْرَبِهِمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، إِذَا قِيلَ بِتَحْرِيمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ ذَكَرًا كَالْجَدِّ أَبِي الْأَبِ جَازَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ لَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ فِي الْجَدَّةِ تَرْبِيَةٌ لَيْسَتْ فِي الْجَدِّ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ مَعَ الْأُمِّ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهَا فِي تَحْرِيمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، فَرَضِيَتْ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ حَقَّ الْجَمْعِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ، وَتُؤْخَذْ بِحَضَانَتِهِ فِي زَمَانِهَا، فَإِنْ عُتِقَ أَحَدُهُمَا جَازَ بَعْدَ عِتْقِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ أُعْتِقَتِ الْأُمُّ أَوِ الْوَلَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَدَ عَلَى الْحُرِّ، وَالْيَدُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَمْلُوكِ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا حَرَّمَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِبَيْعٍ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْ مَيْمُونِ بن أبي شبيب عن علي - عليه السلام - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَبَيْنَ وَلَدِهَا، فَنَهَاهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَرَدَّ الْبَيْعَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو أُسَيْدٍ بِسَبْيٍ مِنَ الْبَحْرِينِ، فَصَفُّوا لِيَنْظُرَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرأى امرأة تبكي، فقال: مالك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: بِيعَ وَلَدِي فِي بَنِي عَبْسٍ فَقَالَ لِأَبِي أُسَيْدٍ: لَتَرْكَبَنَّ وَلَتَجِئَنَّ بِهِ كَمَا بِعْتَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ - أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، لَكِنْ لَا يُقِرُّ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ: إِنْ تَرَاضَيْتُمَا بِبَيْعِ الْآخَرِ لِتَجْتَمِعَا فِي الْمِلْكِ كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ مَاضِيًا، وَإِنْ تَمَانَعْتُمَا فُسِخَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَيْنَكُمَا، لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَسَخَ الْبَيْعَ، لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ دُونَ فَسَادِ العقد والله أعلم. (مسألة) قال الشافعي: " فَأَمَّا الْأَخَوَانِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ فِي الْمِلْكِ بَيْنَ مَا عَدَا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ، وَالْخَالَاتِ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، وَلَا بين والد وولده ولا يبن أَخٍ وَأَخِيهِ " وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: قَدِمَ سَبْيٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَنِي بِبَيْعِ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا وَبِعْهُمَا مَعًا وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا " وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ ذُو رَحِمٍ مُحَرَّمٌ بِنَسَبٍ، فَلَمْ تَجُزِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ كَالْوَالِدينَ وَالْمَوْلُودِينَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ نَسَبٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الزَّوْجِيَّةِ كَغَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ طَرْدًا، وَكَالْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْأَنْسَابِ إِذَا وَقَفَتْ عَلَى بَعْضِ الْمُنَاسِبِينَ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْوَالِدِينَ مَعَ الْمَوْلُودِينَ، كَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ وَافَقُوا عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ خَالَفُوا فِيهَا، وَهِيَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ، وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ فِي الْبَيْعِ، فَأَمَّا الْخَبَرَانِ فَضَعِيفَانِ، وَلَوْ صَحَّا حُمِلَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِنَا، وَقِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُودُ الْبَعْضِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قبول الشهادة. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنَّمَا نَبِيعُ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَوْتِ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَّا أَنْ يَبْلُغُوا فَيَصِفُوا الْإِسْلَامَ (قال المزني رحمه الله) ومن قوله: إ ذا سبي الطفل وليس معه أبواه ولا أحدهما أنه مسلم وإذا سبي ومعه أحدهما فعلى دينهما فمعنى هذه المسألة في قوله أن يكون سبي الأطفال مع أمهاتهم فيثبت في الإسلام حكم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 أمهاتهم ولا يوجب إسلامهم موت أمهاتهم " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْبي مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَخْلُو حَالُ سَبْيِهِ، أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ مُفْرَدًا، فَإِنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ بَعْدَ السَّبْيِ كَحُكْمِ الْمُسبي مَعَ أَبَوَيْهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ إِسْلَامًا لَهُ وَلِصِغَارِ أَوْلَادِهِمَا، سَوَاءٌ اجْتَمَعَ الْأَبَوَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُكْمِ السَّابِي، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ كَانَ مُشْرِكًا بِشِرْكِهِمَا، وَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيهِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ سَابِيهِ لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ السَّابِي وَإِنْ كَانَ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ". وَقَالَ مَالِكٌ يَصِيرُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ، وَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ، وَيَكُونُ فِي الدِّينِ تَابِعًا لِسَابِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " فَاعْتَبَرَ حُكْمَهُ بِأَبَوَيْهِ دُونَ سَابِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أُمِّهِ يَقِينًا، وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا، فَلَمَّا صَارَ مُعْتَبَرًا بِأَبِيهِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ، (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا سُبِيَ الصَّغِيرُ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَابِيهِ، وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ أَنْ يُعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالسَّابِي فِي جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، قَطْعًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَمَا يَصِيرُ بِأَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الشِّرْكَ لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ السَّابِي، فَإِنْ بَلَغَ وَصَفَ الشِّرْكَ أُقِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ إِرْهَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، كَمَا يُعْتَبَرُ إِسْلَامُ اللَّقِيطِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِحُكْمِ الدَّارِ، فَيَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الدَّارِ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الشِّرْكَ أُقِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ إِرْهَابِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا سُبُوا صِغَارًا، فمتى أجرينا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بِالسَّابِي جَازَ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ جَازَ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُكْرَهْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عَلَى المشركين حال احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي بَيْعِهِمْ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى دِينِ سَادَتِهِمْ إِذَا بَلَغُوا. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبَى بَنِي قُرَيْظَةَ سَنَةَ خَمْسٍ، فَفَرَّقَ سَبْيَهُمْ أَثْلَاثًا فَبَعَثَ ثُلُثًا بِيعُوا بِتِهَامَةَ، وَثُلُثًا بِيعُوا بِنَجْدِ، وَثُلُثًا بِيعُوا بِالشَّامِ، وَكَانَتْ مَكَّةُ وَالشَّامُ دَارَ شِرْكٍ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ بِلَادِ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَّ عَلَى سَبْيِ هَوَازِنَ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَهْلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ، وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ إِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ دِينٍ جَازَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، كَالْعَبْدِ الْبَالِغِ وَيَبْطُلُ بِهِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِهِ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا بَيْعُ الطَّعَامِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ بِهِ، وَبِهِ يَبْطُلُ احْتِجَاجُهُمْ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى دين سادتهم. (مسألة) قال الشافعي: " ومن أعتق منهم فلا يورث كمثل أن لا تقوم بنسبه بينة ". قال الماوردي: إما لحميل فِي النَّسَبِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ مُسْلِمٌ بِالسَّبْيِ مُشْرِكًا فَيُعْتِقَهُ وَيَسْتَلْحِقَ بِهِ، وَيَجْعَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلَدًا، فَيَصِيرَ مَحْمُولَ النَّسَبِ عَنْ أَبِيهِ إِلَى سَابِيهِ، وَيَكُونَ الْحَمِيلُ بِمَعْنَى: الْمَحْمُولِ، كَمَا يُقَالُ: قَتِيلٌ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، فَهَذَا لَا يَلْحَقُ النَّسَبَ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الْمُسْتَلْحِقِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " فَنَقَلَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنَ اسْتِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ إِلْحَاقِهَا بِالْفِرَاشِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ الْمُسْبي بَعْدَ عِتْقِهِ بِنَسَبٍ وَارِدٍ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونَ الْحَمِيلُ بِمَعْنَى الْحَامِلِ فَيُقَسَّمَ النَّسَبُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَرْدُودٌ، وَمَقْبُولٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَرْدُودُ: فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ، كَالْمُقِرِّ بِأَبٍ أَوْ بِأَخٍ، أَوْ عَمٍّ، فَيَرِدُ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 بِنَسَبِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ كَالْأَبِ أَوْ بَعْضَهُ كَالْأُمِّ، لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ أَنْ لَا يُوَرِّثَ حَمِيلًا حَتَّى تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ: جَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْحَمِيلِ، فَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلِأَنَّ مُعْتِقَهُ قَدْ مَلَكَ وَلَاءَهُ عَنِ الرِّقِّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِزَالَةَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ إِذَا أُعْتِقَ لَا يَمْلِكُ إِزَالَةَ مَا اسْتَحَقَّهُ مُعْتِقُهُ بِوَلَائِهِ مِنَ الْإِرْثِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ بِأَخٍ، وَلَهُ عَمٌّ قُبِلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ حَجَبَ الْأَخُ الْعَمَّ فَهَلَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ مَعَ الْوَلَاءِ مَقْبُولًا كَذَلِكَ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسَبَ يَرِثُ بِهِ وَيُوَرَّثُ، فَزَالَتِ التُّهْمَةُ، وَالْوَلَاءُ لَا يَرِثُ بِهِ وَلَا يُوَرَّثُ، فَلَحِقَتِ التُّهْمَةُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَقْبُولُ: فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ، كَالْخَالِ وَالْجَدِّ مِنَ الْأُمِّ فَمَقْبُولٌ مِنْهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ مُعْتِقِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمِيرَاثَ، وَيَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ كَإِقْرَارِهِ بِابْنٍ أَوْ بِنْتٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِنَسَبِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، تَشْهَدُ بِهِ، كَالنَّسَبِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ لِعُمُومِ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَوْرِيثِ الْحَمِيلِ، وَلِمَا جَمَعَهُمَا التَّعْلِيلُ مِنْ إِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافٍ مَا لَا يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ مَلَكَ اسْتِحْدَاثَهُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِقْرَارَ بِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَهُ يَدْخُلُ فِي وَلَاءِ مُعْتِقِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ فَافْتَرَقَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِمَنْ وُلِدَ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَلَا يَقْبَلُ إِقْرَارَهُ بِمَنْ وُلِدَ قَبْلَ عِتْقِهِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ يَمْلِكُ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَا يَمْلِكُ قَبْلَ الْعِتْقِ اسْتِحْدَاثَ مِثْلِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ فَافْتَرَقَا، والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 (باب المبارزة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا بَأْسَ بِالْمُبَارَزَةِ وَقَدْ بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بإذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَارَزَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَاسِرًا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُبَارَزَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ: إِجَابَةٌ وَدُعَاءٌ. فأما الإجابة: فهو أن يبتدىء الْمُشْرِكُ وَيَدْعُوَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَيُجِيبَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَوَّلَ حَرْبٍ شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ بَدْرٍ، دُعي إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وأخوه شبيبة بْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ بِنُ عُتْبَةَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: لِيَبْرُزْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا فَمَا نَعْرِفُكُمْ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَمَالَ حَمْزَةُ عَلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ، وَمَالَ عَلِيٌّ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِهَا، فَمَاتَ شَيْبَةُ لِوَقْتِهِ، وَقُدَّتْ رِجْلُ عُبْيَدَةَ وَاحْتُمِلَ حَيًّا فَمَاتَ بالصفراء، فقال فيه كعب بن مالك: (أيا عَيْنُ جُودِي وَلَا تَبْخَلِي ... بِدَمْعِكِ حَقًّا وَلَا تنزري) (على سيد هدنا هَلْكُهُ ... كَرِيمِ الْمَشَاهِدِ وَالْعُنْصُرِ) (عُبَيْدَةُ أَمْسَى وَلَا نَرْتَجِيهِ ... لِعُرْفٍ عَرَانَا وَلَا مُنْكَرِ) (وَقَدْ كَانَ يَحْمِي غَدَاةَ الَقِتَالِ ... لِحَامِيَةِ الْجَيْشَ بِالْمُبْتِرِ) ثُمَّ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهَا أُحُدًا، فَدَعَاهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الجمحي إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وبرز إليه فرماه بحربة كسر بها أحد أضلاعه بجرح كالخدش، فاحتمل وهو يخور كالثور فَقِيلَ لَهُ مَا بِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِي حَرْبِ الْخَنْدَقِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 الثَّانِي: فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَى الْإِحْجَامَ عَنْهُ قَالَ: يَا مُحَمَدُ أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وَقَتْلَانَا فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ، فَمَا يُبَالِي أَحَدُكُمْ أَيَقْدُمُ عَلَى كَرَامَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوْ يُقْدِمُ عَدْوًا إِلَى النَّارِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (ولقد دنوت من النداء ... ء بجمعكم هَلْ مِنْ مُبَارِزْ) (وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الشُّجَا ... عُ بَمَوقِفِ الْقَرْنِ الْمُنَاجِزْ) (إِنِّي كَذَلِكَ لَمْ أَزَلْ ... مُتَشَوِّقًا نَحْوَ الْهَزَاهِزْ) 5 - (إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ) فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُبَارَزَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: " اخْرُجْ يَا عَلِيُّ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَعِيَاذِهِ " فَخَرَجَ وَهُوَ يقول: (يا عمرو ويحك قد أتاك ... مجيب صوتك غَيْرَ عَاجِزْ) (ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... وَالصَّدْقُ مُنْجِي كل فائز) (إني لأرجو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز) (من ضربة نجلاء يَبْقَى ... صِيتُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ) فَتَجَاوَلَا، وَثَارَتْ عَجَاجَةٌ أَخْفَتْهُمَا عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ أَجْلَتْ عَنْهُمَا، وَعَلِيٌّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثَوْبِ عَمْرٍو وَهُوَ قَتِيلٌ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ، فَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يقول: (قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بطل مجرب) (أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهب) (إذا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبُ ... كَأَنَ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ) فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ، فَحَكَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ إلي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَحَكَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ الَّذِي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب، خرج إليه مرتجزا يقول: (أَنَّا الَذي سَمَتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... لَيْثُ غَابَاتٍ شديد القصورة) (أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَة ... ) . وَدَعَا يَاسِرٌ إِلَى الْمُبَارَزَةِ بِخَيْبَرَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ: يُقْتَلُ ابْنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلِ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ " فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ، فَهَذِهِ مَوَاقِفُ قَدْ أَجَابَ إِلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 الْمُبَارَزَةِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ومن ذكرنا من أهله وأصحابه فدل إلى استحبابه. (فصل) فأما الدعاء على الْمُبَارَزَةِ فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ بِدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافة} وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ نَهَى بِصِفِّينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُبَارَزَةِ، وَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى الْبِرَازِ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ وَالْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: خِفَافًا فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَثِقَالًا فِي الثَّبَاتِ لِلْمُصَابَرَةِ. وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْمُبَارَزَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَالَ: " لَا بَأْسَ بِهِ " وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ مُؤْتَةَ، وَقَالَ: الْأَمِيرُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فإن أصيب فليرتضي الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا، فَتَقَدَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَ وَحَمَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَاضُوا وَعَادُوا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ بِعِظَمِ ثَوَابِهِمْ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَأَخَذَ سَيْفًا فَهَزَّهُ وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ " فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ هَزَّهُ ثَانِيَةً، وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا آخُذُهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ هَزَّهُ ثَالِثَةً وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ " فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتْيَ يَنْحَنِيَ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَتَعَمَّمَ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ وَمَشَى إِلَى الْحَرْبِ مُتَبَخْتِرًا، وَهُوَ يَقُولُ (أَنَا أَخَذْتُهُ فِي رِقِّهِ ... إِذْ قِيلَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ) (قَبِلْتُهُ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ ... لِلْقَادِرِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ خَلْقِهِ) (الْمُدْرِكِ الْقَابِضِ فَضْلَ رِزْقِهِ ... مَنْ كَانَ فِي مَغْرِبِهِ وشرقه) فعاد وقد تكأ وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ فِي مَشْيِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ " فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُبَارَزَةِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْرَهَ لَهُمْ مُبَارَزَةَ أَحَدِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنَ الْآيَةِ: فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ كَافَّةً إِذَا قَاتَلُوا كَافَّةً جَازَ أَنْ يُقَاتَلُوا آحَادًا وَكَافَّةً؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ بَعْضُ الْكَافَّةِ، وَأَمَّا نَهْيُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ فَلِمَصْلَحَةٍ رَآهَا، خَافَ مِنْهَا عَلَى وَلَدِهِ وَابْنِ عَمِّهِ، خُصُوصًا فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ وَقَدْ لَبِسَ دِرْعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَرَزَ عَنْهُ حَتَّى قَتَلَ اللَّخْمِيَّ الَّذِي بَارَزَهُ، وَفِعْلُهُ أَوْكَدُ مِنْ نَهْيِهِ: (فَصْلٌ) : فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْمُبَارِزَةِ، إِمَّا اسْتِحْبَابًا إِنْ أَجَابَ أَوْ إِبَاحَةً إِنْ دَعَا فَلِجَوَازِهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مُقَاوَمَةِ مَنْ بَرَزَ إِلَيْهِ بِقُوَّةِ جِسْمِهِ، وَفَضْلِ شَجَاعَتِهِ، وَظُهُورِ عُدَّتِهِ، فَإِنْ ضَعُفَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْهُ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لِلشَّهَادَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهَلَّا كَانَ الْمُبَارِزُ كَذَلِكَ، قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُبَارَزَةِ ظُهُورُ الْغَلَبَةِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا إِلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَةِ فَضْلُ الثَّوَابِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا مَنْ شَاءَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَدْخُلَ بِقَتْلِ الْمُبَارِزَةِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِهَزِيمَةٍ تَنْكَأُهُمْ أَوْ لِأَنَّهُ أَمِيرُهُمُ الَّذِي تَخْتَلُّ بِفَقْدِهِ أُمُورُهُمْ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَارِزَ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي بِرَازِهِ، لِيَكُونَ رَدْءًا لَهُ وَعَوْنًا؛ وَلِفَضْلِ عِلْمِهِ بِالْمُبَارَزَةِ، وَمَنْ بَرَزَ إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ كَفَّ، وَإِن أَذِنَ لَهُ أَقْدَمَ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا أَوْ مُشْرِكٌ مُسْلِمًا عَلَى أَن لَا يُقَاتِلَهُ غَيْرُهُ وَفَى بِذَلِكَ لَهُ فَإِنْ وَلَّى عَنْهُ الْمُسْلِمُ أَوْ جَرَحَهُ فَأَثْخَنَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِ وَيَقْتُلُوهُ لِأَنَّ قِتَالَهُمَا قَدِ انْقَضَى وَلَا أَمَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ أَنَّهُ آمِنٌ حَتَى يَرْجِعَ إِلَى مَخْرَجِهِ مِنَ الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ قَتْلُهُ وَلَهُمْ دَفْعُهُ وَاسْتِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ مِنْهُ فإن امتنع وعرض دونه ليقاتلهم قاتلوه لأنه نقض أمان نفسه، أعان حمزة علي على عتبة بعد أن لم يكن في عبيدة قتال، ولم يكن لعتبة أمان يكفون به عنه ولو أعان المشركون صاحبهم كان حقا على المسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقتلوا من أعان عليه ولا يقتلون المبارز ما لم يكن استنجدهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا إِمَّا دَاعِيًا أَوْ مُجِيبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُشْرِكِ الْمُبَارِزِ شَرْطٌ فَيَجُوزَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُ مَعَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 الْمُبَارِزِ مِنْهُمْ وَيَقْتُلُوهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِالْمُبَارَزَةِ الْوَاحِدُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّهُمَّ إلا أن العادة جارة أَنَّ مَنْ بَارَزَ لَا يُعْرَضُ لَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى صَفِّهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَتَصِيرُ الْعَادَةُ كَالشَّرْطِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرْطٌ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ غَيْرُ مَنْ بَرَزَ إِلَيْهِ، فَيَجِبَ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ^) [المائدة: 1] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكَ مَا كَانَ الْمُسْلِمُ عَلَى قِتَالِهِ، فَإِذَا انْقَضَى الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِأَنْ وَلَّى الْمُسْلِمُ أَوْ جُرِحَ فَكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ وَلَّى الْمُشْرِكُ أَوْ جُرِحَ فَكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ كَانَ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْمُشْرِكَ وَنَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ كَانَ مَشْرُوطًا بِمُدَّةِ الْمُقَاتَلَةِ فَانْقَضَى بِزَوَالِ الْمُقَاتَلَةِ؛ وَلِأَنَّ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا أَثْخَنَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ قِتَالٌ، مَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ بن عبد المطلب على شيبة حتى أجازا عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي إِشْرَاطِ الْأَمَانِ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ آمِنًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى صَفِّهِ، فَيُحْمَلَ عَلَى شَرْطِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتَلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُبَارَزَةِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى صَفِّهِ، وَفَاءً بِالشَّرْطِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، يَبْطُلُ بِهَا أَمَانُهُ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُ الْمُسْلِمُ، فَيَتْبَعَهُ، فيبطل أمانه، ويجوز لنا أنا نُقَاتِلَهُ وَنَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَزَةَ قَدِ انْقَضَتْ، وَأَمَانَهُ مِنَّا مُسْتَحَقٌّ عِنْدَ أَمَانِنَا مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ نأمنه لم نؤمنه. والخصلة الثاني: أَنْ يَظْهَرَ الْمُشْرِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيَعْزِمَ عَلَى قَتْلِهِ، فَيَجِبَ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَنْقِذَ مِنْهُ الْمُسْلِمَ لما يَلْزَمُ مِنْ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ، لِأَنَّهُ لا أمان على قتل مسلم. والخصلة الثالث: أَنْ يَسْتَنْجِدَ الْمُشْرِكُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَعُونَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فيَبْطُلُ أَمَانُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْمُبَارَزَةِ، وَقَدْ زَالَ حُكْمُهَا بِالِاسْتِنْجَادِ، فَإِنْ أَعَانُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنْجِدَهُمْ نُظِرَ، فَإِنْ نَهَاهُمْ عَنْ مَعُونَتِهِ فَلَمْ يَنْتَهُوا كَانَ عَلَى أَمَانِهِ، وَكَانَ لَنَا قِتَالُ مَنْ أَعَانَهُ دُونَهُ، وإن لم ينهم كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُمْ رِضًا مِنْهُ بِمَعُونَتِهِمْ لَهُ، فَصَارَ كَاسْتِنْجَادِهِ لَهُمْ فِي نَقْضِ أَمَانِهِ وَجَوَازِ قتاله وقتله. (فصل) : وإذا أخذت رؤوس الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ؛ لِتُحْمَلَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَرِهَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِقَتْلَى بَدْرٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ حَمَلَ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه رؤوس مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي فَتْحِ دِمَشْقَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَحْمِلُ جِيَفَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَجَازَ آخَرُونَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِي إِلَى كَرَاهِيَتِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ غَيْرُ صَوَابٍ. وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي نَقْلِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَهَنٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أو قوة للمسلمين فنقلها مستحب؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكْرَهْ نَقْلُهُمْ إِلَى بِلَادِ الإسلام أحياء ليقتلوا بها كان نقل رؤوسهم أَقْرَبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهَا وَهَنٌ لِمُشْرِكٍ وَلَا قُوَّةٌ لِمُسْلِمٍ كَانَ نَقْلُهَا مَكْرُوهًا، على هَذَا يُحْمَلُ نَهْيُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 (بَابُ فَتْحِ السَّوَادِ وَحُكْمُ مَا يُوقِفُهُ الْإِمَامُ من الأرض للمسلمين) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْتُ أَصَحَّ حَدِيثٍ يَرْوِيهِ الْكُوفِيُّونَ عِنْدَهُمْ فِي السَّوَادِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ وَوَجَدْتُ أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ تُخَالِفُهُ مِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ السَّوَادَ صُلْحٌ وَيَقُولُونَ إِنَّ السَّوَادَ عَنْوَةٌ وَيَقُولُونَ بَعْضُ السَّوَادِ صُلْحٌ وَبَعْضُهُ عَنْوَةٌ وَيَقُولُونَ إِنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ البجلي وهذا أثبت حديث عندهم فيه (قال الشافعي) أخبرنا الثقة عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي حازم عن جرير قَالَ كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ فَقُسِّمَ لَهُمْ ربع السواد فاستغلوه ثلاث أو أربع سنين شك الشافعي ثم قدمت عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومعي بِنْتُ فُلَانٍ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَدْ سَمَّاهَا وَلَمْ يحضرني ذكر اسمها قال عمر لولا أني قاسم مسؤول لتركتكم على ما قسم لكم ولكني أَرَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَى النَّاسِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وكان في حديثه وعاضني من حقي فيه نيفا وثمانين دينارا وكان في حديثه فَقَالَتْ فُلَانَةُ قَدْ شَهِدَ أَبِي الْقَادِسِيَّةَ وَثَبَتَ سَهْمُهُ وَلَا أُسْلِمُ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا فأعطاها إياه (قال الشافعي) رحمه الله ففي هذا الحديث دلالة إذ أعطى جريرا عوضا من سهمه والمرأة عوضا من سهم أبيها على أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه فتركوا حقوقهم منه فجعله وقفا للمسلمين وقد سبى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هوازن وقسم الأربعة الأخماس بين الموجفين ثم جاءته وفود هوازن مسلمين فسألوه أن يمن عليهم وأن يرد عليهم ما أخذ منهم فخيرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الأموال والسبي فقالوا خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا فنختار أحسابنا فترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حقه وحق أهل بيته فسمع بذلك المهاجرون فتركوا له حقوقهم وسمع بذلك الأنصار فتركوا له حقوقهم ثم بقي قوم من المهاجرين والأنصار فأمر فعرف على كل عشرة واحدا ثم قال ائتوني بطيب أنفس من بقي فمن كره فله علي كذا وكذا من الإبل إلى وقت ذكره قال فجاءوه بطيب أنفسهم إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر فإنهما أتيا ليعيرا هوازن فلم يكرههما صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى كانا هما تركا بعد أن خدع عيينة عن حقه وسلم لهم عليه السلام حق من طاب نفسا عن حقه قال وهذا أولى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 الأمرين بعمر عندنا في السواد وفتوحه إن كان عنوة لا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر عمر لكبر قدره ولو يفوت عليه من بغى أن يغيب عنه قسمه ثلاث سنين ولو كان القسم ليس لمن قسم له ما كان له منه عوض ولكان عليهم أن يردوا الغلة والله أعلم كيف كان وهكذا صنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في خيبر وبني قريظة لمن أوجف عليها أربعة أخماس والخمس لأهله فمن طاب نفسا عن حقه فجائز للإمام نظرا للمسلمين أن يجعلها وقفا عليهم تقسم غلته على أهل الفيء والصدقة وحيث يرى الإمام ومن يطب نفسا فهو أحق بماله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ، فَهُوَ سَوَادُ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ أَطْرَافُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَدُّهُ طُولًا مِنْ حُرَيْثَةِ الْمَوْصِلِ إِلَى عَبَّادَانَ، وَعَرْضًا مِنْ عُذَيْبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ، يَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا، وَعَرْضُهُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، وَلَيْسَتِ الْبَصْرَةُ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ،؛ لِأَنَّهَا مِمَّا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَوَاتِ إِلَّا مَوَاضِعَ مِنْ شَرْقِيِّ دَجْلَتِهَا يُسَمِّيهِ أهل البصرة الفرات. ومن غربي دجلتها لنهر معروف بنهر المرات، وَيُسَمَّى بِالْفَهْرَجِ. وَحَضَرْتُ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِي وَهُوَ يُدَرِّسُ تَحْدِيدَ السَّوَادِ فِي كِتَابِ " الرَّهْنِ " وَأَدْخَلَ فِيهِ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، وَقَالَ: هَكَذَا تَقُولُ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ عَلِّقُوا مَا يَقُولُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَعْرَفُ بِالْبَصْرَةِ. وَفِي تَسْمِيَتِهِ سَوَادًا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: لِكَثْرَتِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَوَادِ الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ. وَالثَّانِي: لِسَوَادِهِ بِالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّ الْخُضْرَةَ تُرَى مِنَ الْبُعْدِ سَوَادًا، ثُمَّ تَظْهَرُ الْخُضْرَةُ بِالدُّنُوِّ مِنْهَا فَقَالُوا المسلمون حين اقبلوا من بياض الفلات: مَا هَذَا السَّوَادُ، فَسَمَّوْهُ: سَوَادًا. وَالثَّالِثُ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الِاسْمِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (وَرَاحَتْ رواحا مِنْ زُرُودٍ فَصَادَفَتْ ... زُبَالَةَ جِلْبَابًا مِنَ اللَّيْلِ أَخْضَرَا) يَعْنِي أَسْوَدَ، وَسَوَادُ كِسْرَى أَزْيَدُ مِنَ الْعِرَاقِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا، فَيَكُونُ الْعِرَاقُ أَقْصَرَ مِنَ السَّوَادِ بِخُمْسِهِ وَالسَّوَادُ أَطْوَلَ مِنَ الْعِرَاقِ بِرُبْعِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْعِرَاقِ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 شَرْقِيِّ دِجْلَةَ الْعَلْثُ، وَمِنْ غَرْبِيِّهَا جَرْبَى، وَطُولُهُ مائة وخمسة وعشرين فَرْسَخًا، وَعَرْضُهُ مُسْتَوْعِبٌ لِعَرْضِ السَّوَادِ. وَسُمِّيَ عِرَاقًا لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو، وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ، وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الِاسْتِوَاءُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (سُقْتُمْ إِلَى الْحَقِّ مَعًا وَسَاقُوا ... سِيَاقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِرَاقُ) أَيْ لَيْسَ لَهُ اسْتِوَاءٌ. وَقَالَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ: تَكُونُ مِسَاحَةُ الْعِرَاقِ مُكَسَّرًا مِنْ ضَرْبِ طُولِهِ فِي عُرْضِهِ عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ، يَصِيرُ تَكْسِيرُ مساحة مِسَاحَةِ السَّوَادِ مُكَسَّرًا بِزِيَادَةِ الرُّبْعِ مِسَاحَةُ الْعِرَاقِ اثنا عشر أَلْفَ فَرْسَخٍ وَخَمْسُمِائَةِ فَرْسَخٍ وَمِسَاحَةُ تَكْسِيرِ فَرْسَخٍ في فَرْسَخٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسُمِائَةِ جَرِيبٍ؛ لِأَنَّ طُولَ الْفَرْسَخِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ بِالْمُرْسَلَةِ، وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ، وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَيَكُونُ مِسَاحَةُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وهي عشرة آلاف فرسخ مكسرة مائتا أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي مِسَاحَةِ السَّوَادِ رُبْعُهَا، فيصير مساحة السواد مائتا أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا مَجَارِي الْأَنْهَارِ، وَالْآجَامُ وَالسِّبَاخُ وَالْآكَامُ وَمَوَاضِعُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَمَدَارِسُ الطُّرُقِ نَحْوَ ثُلْثِهَا، وَيَبْقَى مِائَتَا أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ نِصْفُهَا، ويزرع نصفها، إذا تكاملت مصالحنا، وَعِمَارَتُهَا، وَذَلِكَ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَنْقُصُ عَنْهَا فِي مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ خُمْسُهَا، وَقَدْ كَانَتْ مِسَاحَةُ الْمَزْرُوعِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جريب؛ لأن البطائح تعطلت بالماء ونواحي تعطلت بالبتوق وَفِي الْمُتَقَدِّرَاتِ تَتَكَامَلُ جَمِيعُ الْعِبَارَاتِ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ مَنْ زَرَعَهَا؛ لِأَنَّ الْعَوَارِضَ وَالْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو الزَّمَانُ مِنْهَا خُصُوصًا وَعُمُومًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَقَرَّ ما ذكرنا من حدود السواد، ومساحة أراضيه وَقَدْرِ مزدرعة وَفَضْلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَتْحِهِ هَلْ كَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؛ فَقَدِمَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحِجَازِ إلى العراق، وأهل الْعِرَاقِ أَعْلَمُ بِفُتُوحِ سَوَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَسَأَلَهُمُ عَنْهُ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَرَوَى بَعْضُهُمْ إنَّ السَّوَادَ فُتِحَ صُلْحًا. وَرَوَى لَهُ بَعْضُهُمْ إنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً. وَرَوَى لَهُ آخَرُونَ إنَّ بَعْضَ السَّوَادِ فُتِحَ صُلْحًا، وَبَعْضَهُ فُتِحَ عَنْوَةً. فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ نَظَرَ أَثْبَتَ مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَصَحَّهَا، فَكَانَ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَعْنِي: أَبَا أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي حازم، عم جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ؛ كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ، فَقُسِّمَ لَهُمْ رُبْعُ السَّوَادِ، فَاسْتَغَلُّوهُ ثَلَاثًا، أَرْبَعَ سِنِينَ شَكَّ الشَّافِعِيُّ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ، وَمَعِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَدْ سَمَّاهَا، وَلَمْ يَحْضُرْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا، فقال عمر: " لولا أني قاسم مسؤول لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَى النَّاسِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ وَعَافِنِي مِنْ حَقِّي نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا، وَفِي الْحَدِيثِ: فَقَالَتْ فُلَانَةُ: قَدْ شَهِدَ أَبِي الْقَادِسِيَّةَ، وَثَبَتَ سَهْمُهُ، وَلَا أُسْلِمُ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ. وَرَوَى غَيْرُ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَتْ أُمُّ كُرْزٍ: لَا أَنْزِلُ عَنْ حَقِّي حَتَّى تَحْمِلَنِي عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ، وَتَمْلَأَ كَفِّي ذَهَبًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهَا، فَكَانَ مَا أَعْطَاهَا مِنَ الْعَيْنِ ثَمَانِينَ دِينَارًا فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ صُلْحًا، فَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ انْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الْغَانِمِينَ حِينَ عَلِمَ بِحُصُولِهِ مَعَهُمْ، وَلَوْ كَانَ عَنْوَةً لَكَانَ غَنِيمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يَجُزِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُمْ. والثاني: قول عمر: لولا أني قاسم مسؤول لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْهُمْ بِحَقٍّ لَمْ يَسْتَجِزْ تَرْكُهُ مَعَهُمْ، وَهَذَا حُكْمُ الصُّلْحِ دُونَ الْعَنْوَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ فَتْحَ السَّوَادِ عَنْوَةٌ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَقَرَّ السَّوَادَ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ، أَوْ أَرْبَعَ يَسْتَغِلُّونَهُ، وَلَمْ يَنْتَزِعْهُ مِنْهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقُّ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَسْتَجِزْ تَرْكَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوهُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ حَتَّى صَارَ لِبَجِيلَةَ، وَهُمْ رُبْعُ النَّاسِ رُبْعُ السَّوَادِ، وَمَا اقْتَسَمُوهُ إِلَّا بِأَمْرِ عُمَرَ، وَعَنْ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالْفُتُوحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَسْتَبِدُّ الْجَيْشُ فِيهَا بآرائهم إلا بمطالعته، وأمره. والثاني؟ : أَنَّهُمْ لَوْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ مَا اسْتَغَلُّوهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ عَاوَضَ مَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِالنُّزُولِ عَنْ سَهْمِهِ بِعِوَضٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الثَّمَنِ حَتَّى أَعْطَى جَرِيرًا، وَأُمَّ كُرْزٍ مَا أَعْطَى، وَهُوَ لَا يَبْذُلُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي حَقٍّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَأَخَذَهُ مِنْهُمْ جَبْرًا. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَنْوَةً مَغْنُومًا اقْتِدَاءً فِي اسْتِطَابَةِ نُفُوسِهِمْ عَنْهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبْيِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمُ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَاخْتَارُوا الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ، وَعَرَّفَ الْعُرَفَاءَ عَنِ اسْتِنْزَالِ النَّاسِ عَنْوًا، وَجَعَلَ لِمَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِالنُّزُولِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ ست قلائص حَتَّى نَزَلَ جَمِيعُهُمْ، إِلَّا عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ إِلَى أَنْ جُدِعَ عُيَيْنَةُ، وَنَزَلَ الْأَقْرَعُ، فَلَمَّا اسْتَنْزَلَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْمَنّ وَالتَّكْرِيم كَانَ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لِلْغَانِمِينَ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَأَوْكَدَ، وَاخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي اسْتَنْزَلَهُمْ عُمَرُ لِأَجْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَأَى إِنْ أَقَامُوا فِيهِ عَلَى عِمَارَتِهِ، وَاسْتِغْلَالِهِ، وَأَلِفُوا رِيفَ الْعِرَاقِ، وَخِصْبَهُ تَعَطَّلَ الجهاد، وإن انهضم عَنْهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِمْ خَرِبَ مَعَ جلالة قدره، وكثرة استغلاله، فعلى أن الأصلح إقرار فِي أَيْدِي الدَّهَاقِينِ وَالْأُكْرَةِ الَّذِينَ هُمْ بِعِمَارَتِهِ أَعْرَفُ وَزِرَاعَتِهِ أَقْوَمُ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهِمْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَوَفَّرُوا بِهِ عَلَى جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِنَظَرِهِ فِي الْمُتَعَقِّبِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَصْرَيِ الْعِرَاقِ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ وَطَنًا لِلْمُجَاهِدِينَ؛ لِيَخُصُّوا بِجِهَادِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَسْتَمِدُّوا بِسَوَادِ عِرَاقِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَنَفَقَاتِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّهُ عَلَى مِلْكِهِمْ مَعَ سِعَتِهِ وَكَثْرَةِ ارْتِفَاعِهِ بَقِيَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَجِدُونَ مَا يَسْتَمِدُّونَهُ، وَقَدْ قَامُوا مَقَامَهُمْ، وَسَدُّوا مَسَدَّهُمْ فَرَأَى أَنَّ الْأَعَمَّ فِي صَلَاحِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَامًّا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَكُونَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فِيهِ حَظٌّ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ فَاسْتَنْزَلَهُمْ عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ، وَأَمَدَّهُمْ بِارْتِفَاعِهِ؛ لِيَكُونَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ فِيهِ بِمَثَابَتِهِمْ. وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَخْشَى أَنْ يَبْقَى آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ لَتَرَكْتُكُمْ، وَمَا قُسِّمَ لَكُمْ، لَكِنْ أُحِبُّ أَنْ يَلْحَقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ، وتلا قوله تعالى: {والذين جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَتْحَ أَرْضِ السَّوَادِ عَنْوَةٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ. وَالثَّانِي: مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِ السَّوَادِ بَعْدَ الِاسْتِنْزَالِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ كُلِّ أَرْضٍ إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، يُخْرَجُ خُمْسُهَا لِأَهْلٍ الْخُمْسِ، وَتُقَسَّمُ بَاقِيهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَقِسْمَةِ الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ إِلَّا أَنْ يَرَى إِمَامُ الْعَصْرِ أَنْ يَسْتَنْزِلَهُمْ عَنْهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِعِوَضٍ يَبْذُلُهُ لَهُمْ لِيَفُضَّهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَمْضِي، وَإِلَّا فَهِيَ غَنِيمَةٌ مَقْسُومَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخُمْسِ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الثُّلُثِ لِلْأَبِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْأَرْضُ غَيْرُ مَغْنُومَةٍ، وَتَصِيرُ بِالْفَتْحِ وَقْفًا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ الْإِمَامُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْغَانِمِينَ كَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جزيتين: إحداهما: على رؤوسهم، وَالْأُخْرَى عَلَى أَرْضِهِمْ. فَإِذَا أَسْلَمُوا سَقَطَتْ جِزْيَةُ رؤوسهم، وَبَقِيَتْ جِزْيَةُ أَرْضِهِمْ تُؤْخَذُ بِاسْمِ الْخَرَاجِ؛ وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا. وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِ السَّوَادِ بَعْدَ الِاسْتِنْزَالِ عَنْهَا فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عُمَرَ وَقَفَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُوَرَّثُ كَسَائِرِ الْوُقُوفِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ مِنْ كِتَابِ الرَّهْنِ: إِنَّهُ لَوْ رَهَنَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ كَانَ الرَّهْنُ بَاطِلًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بَعْدَ وَقْفِهَا أَجَّرَهَا لِلدَّهَاقِينِ وَالْأُكَرَةِ بِالْخَرَاجِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهَا يُؤَدِّيهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُجْرَةً عَنْ رِقَابِهَا، فَيَكُونُوا أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لِأَصْلِ الْإِجَازَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُمْ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمُ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ يَدًا لَا مِلْكًا كَالْمَوْرُوثِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِيمَا تُوُجَّهَ الْوَقْفُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ مِنْ مَزَارِعَ وَمَنَازِلَ. وَالثَّانِي: إِلَى الْمَزَارِعِ دُونَ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ وَقْفَ الْمَنَازِلِ مُفْضٍ إِلَى خَرَابِهَا، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا وَقْفًا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَمْ يَقِفْهَا عُمَرُ، وَإِنَّمَا بَاعَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا بِثَمَنٍ يُؤَدَّى فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى الْأَبَدِ بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 الْآخَرُونَ كَمَا انْتَفَعَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَيَكُونَ الْخَرَاجُ ثَمَنًا وَيَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ، وَتُوهَبَ، وَتُوَرَّثَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَتْ مَبِيعَةً، وَلَمْ تَكُنْ وَقْفًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ قَصَدَ بِمَا فَعَلَهُ فِيهَا حِفْظَ عِمَارَتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَقْفًا لَا يَمْلِكُهَا الْمُتَصَرِّفُ، وَيَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا مَبِيعًا مَوْرُوثًا لَمْ يَشْرَعْ أَهْلُهَا فِي تَأْبِيدِ عِمَارَتِهَا وَرَاعَوْا مَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ اسْتِغْلَالَهَا، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خَرَابِهَا، وَزَوَالِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَزُلْ أَهْلُهَا عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ، يَتَبَايَعُونَهَا وَيَتَوَارَثُونَهَا، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، وَلَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ أَنْ يَتَبَايَعُوهَا، وَيَتَوَارَثُوهَا، دَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَقْفِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ عُمَرُ بَيْعَهَا بِهَذَا الثَّمَنِ الْمَجْهُولِ الْمُؤَبَّدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِوُصُولِهَا مِنْ جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ الْمَعْفُوِّ عَنِ الْجَهَالَةِ فِيمَا صَارَ مِنْهُمْ، كَمَا بَذَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ، الثُّلُثَ وَالرُّبْعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرُهَا مَجْهُولًا، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبْذُلَ لِمَنْ دَلَّ عَلَى الْقَلْعَةِ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ جَارِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنْ جُهِلَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُخَفَّفُ حُكْمُ الْجَهَالَةِ فِيهِ، لِلْجَهَالَةِ بِأَحْكَامِ الْعُمُومِ. وَإِطْلَاقُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي وَقْفِهَا وَبَيْعِهَا عِنْدِي مَعْلُولٌ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِيهَا لَا يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يَكُونَ نَقْلًا مَرْوِيًّا، وَقَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْ عَقْدٍ صَرِيحٍ يَسْتَوْثِقُ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالشَّهَادَاتِ فِي الْأَغْلَبِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِوَقْفِهَا لِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ تَبَايُعِهَا، وَلَا الْقَطْعُ بِبَيْعِهَا بِالْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَرَاجَ مُخَالِفٌ لِلْأَثْمَانِ بِالْجَهَالَةِ، وَأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزِّرَاعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُشْتَرِيَهَا يَدْفَعُ خَرَاجَهَا دُونَ بَائِعِهَا، فَيَصِيرُ دَافِعًا لِثَمَنَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْمَبِيعِ إِلَّا ثُمُنٌ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ مَا قِيلَ مِنْ وَقْفِهَا مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى قِسْمَةِ الْغَانِمِينَ، وَوَقَفَ خَرَاجَهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ مِلْكُهَا مُطْلَقًا لِمَنْ أَقَرَّتْ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِقَدِيمِ مِلْكِهِمْ، لِمَا عُلِمَ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَدَوَامِ الانتفاع به، فتصير مخالفا للأرض الصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُوَافِقَةً لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 فَأَمَّا الْوَجْهَانِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ أَرْضَ الصُّلْحِ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي رِقَابِهَا، فَيُمْنَعُونَ مِنْهَا جَبْرًا، وَأَرْضَ السَّوَادِ كَانَتْ رِقَابُهَا لِلْغَانِمِينَ، فَاسْتُنْزِلُوا عَنْهَا عَفْوًا، وَعُوِّضَ مِنْهُن مَنْ أَبَى. وَالثَّانِي أَنَّ خَرَاجَ أَرْضِ الصُّلْحِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ خَاصَّةً، وَفِيهِ الْخُمْسُ لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَخَرَاجَ أَرْضِ السَّوَادِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ لِأَهْلِ الْخُمْسِ لِأَنَّ الْخُمْسَ أُخْرِجَ عَنْهُ عِنْدَ قَسْمِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ، فَأَحَدُهُمَا: وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى رِقَابِهَا. وَالثَّانِي: جَوَازُ بَيْعِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ فَرْقَدٍ السَّبْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ فَأَتَيْتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مِمَّنِ اشْتَرَيْتَهَا؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَرْبَابِهَا، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَرْبَابُهَا يَعْنِي الصَّحَابَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ. فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْكَرَ الْبَائِعَ، وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَيْعَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْهَا أَنَّ ابْتِيَاعَهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مِنَ الْغَانِمِينَ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا بَيْعُ الْعِمَارَةِ وَالْيَدِ الْمُتَصَرِّفَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا إِثَارَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِيهَا إِثَارَةٌ جَازَ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ بيعها. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ فِيهَا أَعْيَانٌ كَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ جَازَ بَيْعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا كَالْأثَارَةِ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، لِأَنَّهَا مَنَافِعُ، وَالْبَيْعُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ كَمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَصِحُّ فِي الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ حُكْمًا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْأَرْضِ السَّوَادِ، فَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الشعير درهمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 وَحَكَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ مَسَحَ السَّوَادَ، فَوَجَدَهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهُوَ الْمَخْتُومُ الْحَجَّاجِيُّ: وقِيلَ: إِنَّ وَزَنَهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، فَكَانَ خَرَاجُهَا سِوَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مُتَّفَقًا عَلَى قَدْرِهِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا. وَاخْتُلِفَ فِي خَرَاجِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِقَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ، وَهَو الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْعَادِلَةِ مِنْ مَمَالِكِ الْفُرْسِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ زُهَيْرٌ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ: (فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا ... قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ) وَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْبُرِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَخَرَاجَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَانِ، تَعْوِيلًا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مِجْلَزٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَعْلُولٌ عِنْدِي، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسقاط للآخر، والصحيح أن كلا الروايتين صحيحتين، وإنما اختلفا لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي، فَوُضِعَ عَلَى بَعْضِهَا قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَعَلَى بَعْضِهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ عَلَى الْبُرِّ وَدِرْهَمَانِ عَلَى الشَّعِيرِ، فَأَخَذَ الدِّرْهَمَ وَالْقَفِيزَ فَمَا كَانَ غالب زرعه برا وشعيرا، وأخذ الأربعة دراهم عن الْبُرِّ، وَالدِّرْهَمَيْنِ عَلَى الشَّعِيرِ مِمَّا كَانَ أَقَلُّ مُنْزَرَعِهِ بُرًّا وَشَعِيرًا، لِأَنَّ مَا قَلَّ مَنْ نَاحِيَتِهِ غَلَا، وَمَا كَثُرَ فِيهَا رَخُصَ، فَزِيدَ مِنْ خَرَاجِ الْمَالِ، وَنُقِصَ مِنْ خَرَاجِ الرَّخِيصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَانَتْ ذِرَاعُ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فِي مِسَاحَتِهِ ذِرَاعَ الْيَدِ وَقَبْضَةً وَإِبْهَامًا مَمْدُودَةً، وَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعِ السَّوَادِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بن الخطاب مائة ألف ألف، وحياة عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ درهم، وعشرين ألف ألف درهم، وحياة زيادة مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف وحياة عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، وخمسة وثلاثين ألف ألف، وحياة الحجاج الله ثمانية عشر ألف ألف، لغشمه وإخرابه، وَحَيَاة عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، لِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ. (فَصْلٌ) : وَلَا يَسْقُطُ عُشْرُ الزُّرُوعِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْخَرَاجَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً عَلَى قَوْلِهِ، أَوْ ثَمَنًا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالْعُشْرُ يَسْقُطُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ بِالْخَرَاجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. فَأَمَّا عُشْرُ زُرُوعِهِ فَمَصْرُوفٌ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَجَعَلَ مَصْرِفَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ مُشْتَرَكًا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. وَأَمَّا خَرَاجُ السَّوَادِ، فَمَصْرِفُهُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ عَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفْعُهَا مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَتَحْصِينِ الثُّغُورِ، وَابْتِيَاعِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَمَنِ انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ. (فَصْلٌ) : وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ، وَلَا لِوَالٍ مِنْ قِبَلِهِ يَضْمَنُ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُمَّالِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانًا كَانَ عَقْدُهُ بَاطِلًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ، لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ، وَيُؤَدِّي مَا حَصَّلَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانًا، وَلَا يَمْلِكُ زِيَادَةً، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِمُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مَا زَادَ، وَيَغْرَمُ مَا نَقَصَ، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الْأَمَانَةِ فَبَطَلَ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ يَتَقَبَّلُ مِنْهُ الْأُبُلَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فضربه مائة سوط وصلبه حيا تعزيرا وأدبا. وَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الْأَرْضِ لِأَرْبَابِهَا فِي عُشْرٍ وَلَا خَرَاجٍ، لِأَنَّ الْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ إِنْ زُرِعَ، وَسَاقِطٌ إِنْ قُطِعَ، وَالْخَرَاجُ مُقَدَّرٌ عَلَى الْمِسَاحَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ، وَمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ لَا يَصِحُّ تَضْمِينُهُ. فَأَمَّا إِجَارَتُهَا، فَيَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّرَهَا أَرْبَابُهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّرَهَا غَيْرُهَا، لِأَنَّ حَقَّ السُّلْطَانِ فِيهَا قَدْ سَقَطَ بِخَرَاجِهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا تَفْسِيرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " فَقَدْ أَُنكر هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ، مَا أَحَدٌ بَدَأَ فِي كِتَابٍ فِي عِلْمٍ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ، وَالظَّنُّ شَكٌّ وَالْعِلْمُ يَقِينٌ، وَهُمَا ضِدَّانِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؟ قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أرض السواد، فلأن الطريق إلى العلم يفتحها النَّقْلُ الْمَرْوِيُّ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ صُلْحًا، وَبَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي النَّقْلِ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِأَحَدِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَحَسُنَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْرِفُ إِثْبَاتَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كُنْتُ أَعْرِفُ نَقْلَ جَمِيعِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى فَتْحِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى فَتْحِهَا أَنَّهُ عَنْوَةٌ لَا صُلْحًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِهَا أَنَّهَا وَقْفٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ فَتْحُهَا، فَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ " وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّنِّ هُنَا الِاجْتِهَادَ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَأَرَادَ بِالْعِلْمِ الْخَبَرَ، لِأَنَّ جِنْسَ الْأَخْبَارِ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ تَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ وَغَلَبَةِ ظَنِّهِ إِلَى إِثْبَاتِ خَبَرِ جَرِيرٍ، وَعَلِمَ مِنْ خَبَرِ جَرِيرٍ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ هُوَ فِيمَا خَفِيَ وَاشْتَبَهَ مَنْ سَبَبِ فَتْحِهَا وَالْعِلْمُ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ مِنْ قَسْمِهَا، فَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْقِسْمَةِ عَلَى بَاطِنِ الْعَنْوَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُهَا، لِأَنَّهَا وَقْفٌ، فَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنَ اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْهَا، وَغَلَبَةَ الظَّنِّ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ وَقْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَغَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهَا. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَأَيُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى أَنَّ أَرْضَهَا لأهلها يودون فِيهَا خَرَاجًا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذُهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ وَمَا أُخِذَ مِنْ خَرَاجِهَا فَهُوَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ دون أهل الصدقات لأنه فيء من مال مشرك وإنما فرق بين هذه المسألة والمسألة قبلها أن ذلك وإن كان من مشرك فقد ملك المسلمون رقبة الأرض أفليس بحرام أن يأخذ منه صاحب صدقة ولا صاحب فيء ولا غني ولا فقير لأنه كالصدقة الموقوفة يأخذها من وقفت عليه " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتُولِيَ عَلَيْهِ من أرض بلاد الترك يَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 أَحَدُهَا: مَا فَتَحُوهُ عَنْوَةً، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ قَهْرًا، فَهِيَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ بَعْدَ أَخْذِ خُمْسِهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ، وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيمَا قُسِّمَ لَهُمْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ بِالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا قَدَّمْنَاهُ، وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا كَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَيَكُونَ حُكْمًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا دَارَ إِسْلَامٍ، وَأَرْضُهَا مَعْشُورَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُشْرًا أَوْ خَرَاجًا، فَإِنْ جَعْلَهَا خَرَاجًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْعُشْرِ، وَإِنْ جَعَلَهَا عُشْرًا جَازَ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْخَرَاجِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: نَصٌّ وَتَعْلِيلٌ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ فَكَانَتْ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا خَرَاجًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَرَاجَ أحد الجزيتين، فلم يجز أن يؤحذ من مسلم كالجزية على الرؤوس. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا جَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ خَوْفًا حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَرْضُهُمْ فِي مَخْمُوسٍ تُوقَفُ رِقَابُهَا وَيُصْرَفُ ارْتِفَاعُهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ، فَإِنْ ضَرَبَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا خَرَاجًا جَازَ، وَكَانَ الْخَرَاجُ أُجْرَةً يُصْرَفُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ، فَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخُمْسِ مَصْرُوفًا إِلَى الْجَيْشِ خَاصَّةً، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ، وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ وَقْفًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ وَقْفًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَلَا يُرَاعَى فِيهَا لَفْظُ الْإِمَامِ بِوَقْفِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ الْإِمَامُ بِوَقْفِهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ يُؤَدِّيهِ أَهْلُهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَهَذِهِ الْأَرْضُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ صَارَتْ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ الصُّلْحِ. وَالثَّانِي: بِأَنْ يَتَلَفَّظَ الْإِمَامُ أَوْ مَنِ اسْتَنَابَهُ فِيهَا بِوَقْفِهَا، وَتَصِيرُ الْأَرْضُ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَسَائِرِ الْوُقُوفِ، وَلَا يَقَرُّ فِيهَا أَهْلُهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلا بالجزية المؤداة عن رؤوسهم، وَلَا تَسْقُطُ جِزْيَتُهُمْ بِخَرَاجِ أَرْضِهِمْ، لِأَنَّ خَرَاجَهَا أُجْرَةٌ لَا جِزْيَةٌ. فَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى يَدِ مُسْلِمٍ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ خَرَاجُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أسلم أهلها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى الْأَرَضِينَ لَهُمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، فَيَجُوزُ ويكون هذا الخراج جزية، والأملاك طلق يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيُنْظَرُ فِي بِلَادِهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْطِنْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَهِيَ دَارُ عَهْدٍ، وَلَيْسَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَلَا دَارَ حَرْبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ أهلها بالخراج من غير جزية رؤوسهم، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِنَا إِلَّا مَا يَجْرِي عَلَى الْمُعَاهِدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنِ اسْتَوْطَنَهَا الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَصَارَ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ يَجِبُ عليهم جزية رؤوسهم فإن جمع عليهم بين جزية رؤوسهم وبين جزية أرضهم جَازَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ مِنْهُمْ عَلَى جِزْيَةِ أَرْضِهِمْ وَحْدَهَا جَازَ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا دِينَارًا فَصَاعِدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جزية روؤسهم وَجِزْيَةِ أَرْضِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى جِزْيَةِ الْأَرْضِ وَحْدَهَا، وَهَذَا فَسَادٌ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَاحِدَةٌ لَا يَجُوزُ مُضَاعَفَتُهَا عَلَى ذِي مَالٍ وَلَا غَيْرِهِ كَسَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَتْ عنهم جزية رؤوسهم وَجِزْيَةُ أَرْضِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ أَرْضِهِمْ بِالْإِسْلَامِ احْتِجَاجًا لَا خَرَاجَ عَنْ أَرْضٍ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ، وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ "، وَلِأَنَّهُ مَالٌ حُقِنَتْ بِهِ دِمَاؤُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يسقط بإسلامهم كالجزية على الرؤوس. فَأَمَّا خَرَاجُ أَرْضِ السَّوَادِ فَلَيْسَ بِجِزْيَةٍ، وَهُوَ أجرة أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَثَمَنٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ، فَافْتَرَقَا، وَهَكَذَا لَوْ بَاعُوا أَرْضَهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ خَرَاجُهَا عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِمْ. (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَرِيَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَرْضِ الصُّلْحِ كَمَا يَكْتَرِي دَوَابَّهُمْ وَالْحَدِيثُ الَذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجِزْيَةِ وَهَذَا كِرَاءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَتْ أَرْضُ الصُّلْحِ مِلْكًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَعَلَيْهَا خَرَاجٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا مِنْهُمِ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَرِهَهُ الإسلام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ، وَلَا لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 وَدَلِيلُنَا عَلَى إِبَاحَتِهِ وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ: مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - اسْتَأْجَرَ قِطْعَةً كَبِيرَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن ابن مسعود ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْأَرْضِينَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُمُ الْأَرْضِينَ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ مِنْ مُؤَجِّرِهَا، وَالْأُجْرَةَ تُؤْخَذُ مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا، فَإِنْ شَرَطَ الْخَرَاجَ عَلَى مُسْتَأْجِرِهَا صَحَّ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا، وَكَانَ أُجْرَةً فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَخَرَاجًا فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ بَاعَ الْمُشْرِكُ أَرْضَهُ هَذِهِ عَلَى مُشْرِكٍ صَحَّ، وَكَانَ خَرَاجُهَا بَاقِيًا، وَإِنْ بَاعَهَا عَلَى مُسْلِمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، وَسَقَطَ الْخَرَاجُ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ كَانَ مَالِكُهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَسْلَمَ. وَقَالَ: بَيْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى سُقُوطِهِ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَرَاجِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِأَنَّ كُلَّ ما صح بيعه من مشرك صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ مُشْرِكٍ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ بَاعَ أَرْضَهُ عَلَى مُسْلِمٍ صَحَّ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ أَرْضِ الْمُشْرِكِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ أَوْلَى، وَفِيهِ انْفِصَالٌ، فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَسُقُوطُ الْخَرَاجِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَرْجِعُ الْإِمَامُ بِمَا سَقَطَ مِنْ خَرَاجِهَا عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ، فَإِنْ بَذَلُوهُ وَإِلَّا نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ خَرَاجُ أَمْلَاكِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ خَرَاجُ مَا خَرَجَ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُقُوطُ خَرَاجِهَا بِإِسْلَامِ مَالِكِهَا لَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِخَرَاجِهَا كَانَ بِإِسْلَامِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 (بَابُ الْأَسِيرِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الْعَهْدُ أَنْ لَا يهرب، أو على الفداء) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أُسِرَ الْمُسْلِمُ فَأَحْلَفَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا أَنْ يُخْلُوهُ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ وَيَمِينُهُ يَمِينُ مُكْرَهٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُمْتَنِعًا، أَوْ مُسْتَضْعَفًا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْتَضْعَفًا لَا يَأْمَنُ أَهْلَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فيها} . الآية [النساء: 97] . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا " يَعْنِي تُنْظَرُ نَارُهُ إِلَى نَارِهِ فَيَكْثُرُ سَوَادُ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ "، وَلِأَنَّهُ لَا يَأَمَنُ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ تُسْبَى الدَّارُ فَيُسْتَرَقُّ وَلَدُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْهِجْرَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 98 - 99] . فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُمْتَنِعًا فِي أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ الِافْتِتَانَ عَنْ دِينِهِ كَانَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ. وَإِنْ أَمِنَ الِافْتِتَانَ فِي دِينِهِ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ عَنْهُ، لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا نَصًّا بِالْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَ مُقَامُهُ بَيْنَهُمْ مكروها، لأن المقام على مشاهدة المنكرات منكرا، وَالْإِقْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ مَعْصِيَةٌ، لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا، وَتُفْضِي إِلَى الْوَلَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [المائدة: 51] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، فَالْأَسِيرُ مُسْتَضْعَفٌ تَكُونُ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا فَرْضًا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَيُقَاتِلَهُمْ إِنْ أَدْرَكُوهُ هَارِبًا، فَإِنْ أَطْلَقُوهُ، وَأَحْلَفُوهُ أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْهُمْ مُهَاجِرًا، وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْيَمِينُ مِنَ الْخُرُوجِ الْمَفْرُوضِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فَأَمَّا حِنْثُهُ فِي يَمِينِهِ إِذَا خَرَجَ، فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ إِحْلَافِهِ، وَلَهُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أن يبدؤا بِهِ، فَيُحَلِّفُوهُ فِي حَبْسِهِ قَبْلَ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُمْ إِذَا أَطْلَقُوهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ يَمِينُ مُكْرَهٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِيهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطْلِقُوهُ عَلَى غَيْرِ يَمِينٍ، فَيَحْلِفَ لَهُمْ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ فَهَذِهِ يَمِينُ مُخْتَارٍ يَحْنَثُ فِيهَا إِذَا خَرَجَ، وَكَانَ الْتِزَامُهُ لِلْحِنْثِ مُسْتَحَقًّا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْتَدِئَ قَبْلَ إِطْلَاقِهِ، فَيَتَبَرَّعَ بِالْيَمِينِ، أَنَّهُمْ إِنْ أَطْلَقُوهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ. فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا يَمِينُ اخْتِيَارٍ يَحْنَثُ فِيهَا لِابْتِدَائِهِ بِهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ مُطْلَقًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا يَمِينُ إِكْرَاهٍ لَا يَحْنَثُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْحَبْسِ إِلَّا بِهَا كما لو أحلفوه محبوسا. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَمَّنُوهُ فَهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْهُ وَلَوْ حَلَفَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَفَّرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأَسِيرِ إِذَا أُطْلِقَ فِي دَارِ الحرب أربعة أحوال: أحدها: أن يأمنوه وَيَسْتَأْمِنُوهُ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِئْمَانِهِمْ لَهُ أَنْ يغتالهم في أنفسهم وأموالهم، لقوله تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . إِلَّا أَنْ يَنْقُضُوا أَمَانَهُمْ لَهُ، فَيَنْتَقِدَ بِهِ أَمَانُهُ لَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . وَلَوِ اسْتَرَقُّوهُ بَعْدَ أَمَانِهِمْ كَانَ الِاسْتِرْقَاقُ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ وَاسْتِئْمَانِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُؤَمِّنُوهُ، وَلَا يَسْتَأْمِنُوهُ، فَلَا يَكُونُ الْإِطْلَاقُ اسْتِئْمَانًا كَمَا لَمْ يَكُنْ أَمَانًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَرَقُّوهُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِرْقَاقُ أَمَانًا فِيهِمْ وَلَا أَمَانًا لَهُمْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَأْمِنُوهُ، وَلَا يُؤَمِّنُوهُ، فَيُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُهُمْ إِمَّا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَإِمَّا لِثِقَتِهِ بِكَفِّهِمْ عَنْهُ، فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نَفْسٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 وَلَا مَالَ وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْهُمْ، فَلَا أَمَانَ لهم، ويحوز لَهُ اغْتِيَالُهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُؤَمِّنُوهُ، وَلَا يَسْتَأْمِنُوهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إِنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ عَقَدُوا لَهُ أَمَانًا مِنْهُمْ، لِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِاسْتِئْمَانِهِ قِلَّةُ رَغْبَةٍ فِي أَمَانِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ - إِنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُمْ بِأَمَانِهِمْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ، لِمَا يُوجِبْهُ عَقْدُ الْأَمَانِ مِنَ التَّكَافُؤِ فِيهِ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَوْ خَلَّوْهُ عَلَى فِدَاءٍ إِلَى وَقْتٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَادَ إِلَى أَسْرِهِمْ فَلَا يَعُودُ ولايدعه الْإِمَامُ أَنْ يَعُودَ وَلَوِ امْتَنَعُوا مِنْ تَخْلِيَتِهِ إِلَّا عَلَى مَالٍ يُعْطِيهِمُوهُ فَلَا يُعْطِيهِمْ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ مَالٌ أَكْرَهُوهُ عَلَى دَفْعِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَسِيرًا عَلَى اشْتِرَاطِ فِدَاءٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ حَمَلَهُ، وَإِلَّا عَادَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَمْلُ الْفِدَاءِ، وَلَا الْعَوْدُ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونُ الشَّرْطَانِ بَاطِلَيْنِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ الشَّرْطَانِ وَاجِبَانِ، فَيُؤْخَذُ بِحَمْلِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ حَمَلَهُ، وَإِلَّا أَخَذَ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري: اشتراط الفداء لا زم، وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ بَاطِلٌ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَدَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ قُرَيْشٍ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو مُسْلِمًا، فَرَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ مُسْلِمًا فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ مَعَ رَسُولٍ لَهُمْ، فَقَتَلَ الرَّسُولَ، وَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَفَّيْتُ لَهُمْ، وَنَجَّانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد صلح الحديبية مسلمة، وجاء أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . وَلِأَنَّ المعارضة عَنْ رَقَبَةِ الْحُرِّ لَا تَصِحُّ، فَبَطَلَ الْفِدَاءُ، وَسَقَطَ الْمَالُ. وَالْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاجِبَةٌ، وَالْعَوْدُ إِلَيْهَا مَعْصِيَةٌ، فَلَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ، وَأَبِي بَصِيرٍ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَعَلَى أَنَّهُمَا كَانَا ذَوِي عِشْرَةٍ طُلِبَا رَغْبَةً فِيهِمَا، وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِمَا، فَخَالَفَا مَنْ عَدَاهُمَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْفِدَاءِ، وَتَحْرِيمُ الْعَوْدِ، فَالْوَفَاءُ لَهُمْ بِالْفِدَاءِ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ، لِيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى إِطْلَاقِ الأسرى. والوفاء بالعود محظور، يَجِبُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ. فَإِنِ افْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالِ سَاقَهُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بَذْلُهُ لَهُمْ مُبْتَدِئًا كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ مَغْنُومًا، وَإِنْ شَرَطُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغَانِمِينَ بِهِ. وَهَكَذَا إِذَا افْتَدَى الْإِمَامُ أَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَال سَاقَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ غَنِمَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُمْ، لَمْ يَمْلِكْهُ الْغَانِمُونَ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ صَارَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَى حَقِّهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَوْ أَعْطَاهُمُوهُ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ مِنْهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إِلَّا أَدَاؤُهُ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا أَطْرَحُ عَنْهُ مَا اسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ابْتَاعَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مَالًا بِثَمَنٍ أَطْلَقُوهُ عَلَيْهِ، لِيَحْمِلَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَخْلُ ابْتِيَاعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُرَاضَاةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ. فَإِنْ كَانَ عَنْ مُرَاضَاةٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَحَمَلَ الثَّمَنَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْعُقُودَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَازِمَةٌ، كَلُزُومِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الدَّارَيْنِ سَوَاءً وَإِنْ كَانَ عَنْ إِكْرَاهٍ، فَعَقْدُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عِنْدَ اسْتِئْمَانٍ، وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ رَدِّهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا ابْتَاعَهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَضَمَانِهِ الرَّدَّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ رد ما ابتاعه منهم، لأن عَيْنُ مَالِهِمْ، وَبَيْنَ دَفْعِ ثَمَنِهِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ امْتَنَعُوا بِهِ، فَلَوْ تَلِفَ مِنْهُ مَا ابْتَاعَهُ نُظِرَ فِي تَلَفِهِ. فَإِنْ كَانَ بِفِعْلِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ اعْتُبِرَ حَالُ قَبْضِهِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ. وَفِي ضَمَانِهِ إِذَا لَزِمَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الوجهين: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 أَحَدُهُمَا: قِيمَتُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ عَيْنِهِ. وَالثَّانِي: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ إِذَا قِيلَ مَعَ بَقَائِهِ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا الثُّلُثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، إِذَا وَهَبَا مَالًا وَأَعْطَيَا عَطَايَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ هِبَاتُهُمَا وَعَطَايَاهُمَا قَبْلَ تقديمهما للقتل والقصاص، فيكون ذلك من رؤوس أَمْوَالِهِمْ دُونَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَغْلَبُ مِنَ الْخَوْفِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَطَايَاهُمَا بَعْدَ تَقْدِيمِهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ وَوُقُوعِ الْجُرْحِ بِهِمَا، وَإِنْهَارِ دَمِهِمَا، فَيَكُونَ مِنَ الثُّلُثِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْجُرْحِ أَغْلَبُ، وَالسَّلَامَةَ فِيهَا نَادِرَةٌ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمَا فِي الْحَيَاةِ حُكْمَ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . فَأَجْرَى عَلَيْهِمَا عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ حُكْمَ الْمَوْتِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَطَايَاهُمَا بَعْدَ تَقْدِيمِهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الْجُرْحِ بِهِمَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَسِيرِ: تَكُونُ عَطَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَجَعَلَ الْخَوْفَ عَلَيْهِ أَغْلَبَ، وَقَالَ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ: تَكُونُ عَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثُّلُثِ، فَجَعَلَ السَّلَامَةَ عَلَيْهِ أَغْلَبَ، فَخَالَفَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصُّورَةِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق المروزي - إن جَمع بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجَمع اخْتِلَاف الْجَوَابَيْنِ وَخَرَّجَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ عَطَايَاهُمَا مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسِيرِ لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهِمَا أَرْجَى مِنَ الْخَوْفِ عَلَى الْمَرِيضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَكُونُ عَطَايَاهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ جُرْحٌ، لِأَنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ حَالٌ فِي بَدَنِ الْمَرِيضِ، وَلَيْسَ بِحَالٍ فِي بَدَنِ الْأَسِيرِ وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيهِمَا، فَتَكُونُ عَطَايَا الْأَسِيرِ مِنَ الثُّلُثِ، وَعَطَايَا الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَيَكُونُ الْأَسِيرُ أَخْوَفَ حَالًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَعَ أَعْدَائِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 فِي الدِّينِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ تَدَيُّنًا وَقُرْبَةً، وَالْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَعَ مُوَافِقِينَ فِيهِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ مَعَ الْمَقْدِرَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَغْلِبَ شَوَاهِدُ الْحَالِ فِيهِمَا، فَإِنْ شُوهِدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَسِيرِ رِقَّةٌ، وَلِينٌ كَانَتْ عَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ. وَإِنْ شُوهِدَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ غِلْظَةٌ وَحَنَقٌ، كَانَتْ عَطَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ، وَالرَّجْمُ فِي الزِّنَا، وَالْحَامِلُ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، وَرَاكِبُ الْبَحْرِ إِذَا اشْتَدَّ بِهِ الرِّيحُ، وَالْمُلْتَحِمُ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ مَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ، وَبِاللَّهِ التوفيق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 (بَابُ إِظْهَارِ دِينِ النَّبِيِّ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا من كتاب الجزية) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تعالى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وَرُوِيَ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " (وقال) ولما أتى كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى كسرى مزقه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يمزق ملكه " قال وحفظنا أن قيصر أكرم كتابه ووضعه في مسك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يثبت ملكه (قال الشافعي) رحمه الله ووعد رسول الله الناس فتح فارس والشام فأغزى أبو بكر الشام على ثقة من فتحها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ففتح بعضها وتم فتحها في زمن عمر وفتح عمر رضي الله عنه العراق وفارس (قال الشافعي) رحمه الله تعالى فقد أظهر الله دين نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على سائر الأديان بأن أبان لكل من تبعه أنه الحق وما خالفه من الأديان فباطل وأظهره بأن جماع الشرك دينان دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعض الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال فهذا ظهوره على الدين كله قال ويقال ويظهر دينه على سائر الأديان حتى لا يدان لله إلا به وذلك متى شاء الله (قال) وكانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا وكان كثير من معاشهم منه وتأتي العراق فلما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده " فلم يكن بأرض العراق كسرى ثبت له أمر بعده وقال إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده وأجابهم عليه الصلاة والسلام على نحو ما قالوا وكان كما قال عليه السلام وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس وقيصر ومن قام بعده بالشام وقال في قيصر يثبت ملكه فثبت له ملكه ببلاد الروم وتنحى ملكه عن الشام وكل هذا متفق يصدق بعضه بعضا ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْبَابُ أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ مِنَ الْفِقْهِ، لِيُوَضِّحَ بِهِ صِدْقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَعْدِهِ، وَصِدْقَ رَسُولِهِ فِي خَبَرِهِ، لِيَرُدَّ بِهِ عَلَى مَنِ ارْتَابَ بِهِمَا، فَصَارَ تَالِيًا لِلسِّيَرِ. فَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . أما قوله {بالهدى ودين الحق} فَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْهُدَى هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَغَايُرِ لَفْظَيْهِمَا، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْسِيرًا لِلْآخَرِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى إِلَى دِينِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ، وَالْقُرْآنَ هِدَايَةٌ، وَالْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهُدَى هُوَ الدَّلِيلُ، وَدِينَ الْحَقِّ هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُتَشَكِّكُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ بَقِيَتْ أَطْرَافُ الْأَرْضِ مِنَ الرُّومِ، وَالتُّرْكِ، وَالْهِنْدِ، وَالزِّنْجِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَاصِيَةِ، مَا أَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَوْعِدُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْقَدْحِ أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كله} إِلَى مَاذَا تَعُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعُودَ إِلَى الْهُدَى. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى دِينِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. فَأَمَّا الْهُدَى فَفِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِظْهَارُ دَلَائِلِهِ، وَحُجَجِهِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ فِعْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُجَجَ الْإِسْلَامِ أَظْهَرُ وَدَلَائِلَهُ أَقْهَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِظْهَارُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَا حَارَبَ قَوْمًا إِلَّا انْتَصَفَ مِنْهُمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَقَاءُ إِعْجَازِهِ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، فَإِنَّ مُعْجَزَ الْقُرْآنِ بَاقِ عَلَى مُرُورِ الْأَعْصَارِ، وَمُعْجَزَ مُوسَى فَلْقُ الْبَحْرِ، وَعِيسَى فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، مُنْقَطِعٌ لَمْ يَبْقَ. وَأَمَّا الدِّينُ، فَفِي إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 أَحَدُهَا: أَنَّ إِظْهَارَهُ هُوَ انْتِشَارُ ذِكْرِهِ فِي الْعَالَمِينَ وَمَعْرِفَةُ الْخَلْقِ بِهِ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ أُمَّةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ، وَهُوَ بِالْحِجَازِ، وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِظْهَارَهُ هُوَ عُلُوُّهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَهُوَ طَالِبٌ وَغَيْرُهُ مَطْلُوبٌ، وَقَاهِرٌ وَغَيْرُهُ مَقْهُورٌ، وَغَانِمٌ وَغَيْرُهُ مَغْنُومٌ، وَزَائِدٌ وَغَيْرُهُ مَنْقُوصٌ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الإسلام يعلوا وَلَا يُعْلَى، وَيَزِيدُ وَلَا يَنْقَصُ ". وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِظْهَارَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سَيَكُونُ عِنْدَ ظُهُورِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَنُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى لَا يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زُوِيَتْ لِيَ الْأَرْضُ، فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا " وَمَعْنَى زُوِيَتْ أَيْ جُمِعَتْ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّهِ ". وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِ مَزَّقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " تَمَزَّقَ مُلْكُهُ ". وَكَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا إِلَى الْإِسْلَامِ، لَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِ قَبَّلَهُ، وَأَكْرَمَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " ثَبَّتَ مُلْكَهُ ". وَالْأَكَاسِرَةُ هُمْ مُلُوكُ الْفُرْسِ، وَدِينُهُمُ الْمَجُوسِيَّةُ، وَالْقَيَاصِرَةُ هُمْ مُلُوكُ الرُّومِ، وَدِينُهُمُ النَّصْرَانِيَّةُ. فَكَانَ الْخَبَرَانِ فِي الْأَكَاسِرَةِ مُتَّفِقَيْنِ. وَقَدْ وُجِدَ الْخَبَرُ فِيهِمَا عَلَى مُخْبَرِهِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ " وَقَالَ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي: " تَمَزَّقَ مُلْكُهُ "، وَكَانَ ظَاهِرُ الْخَبَرَيْنِ فِي الْقَيَاصِرَةِ مُخْتَلِفًا، وَالْمُخْبَرُ فِيهِمَا مُتَنَافِيًا لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: " وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ " وَقَالَ فِي الثَّانِي: " ثَبَّتَ مُلْكَهُ " وَهَذَا مُتَنَافٍ، وَقَدْ نَرَى مُلْكَ الرُّومِ ثَابِتًا فَكَانَ ثَبَاتُهُ مُوَافِقًا لِلْخَبَرِ الثَّانِي مُنَافِيًا لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ يَمْنَعَانِ مِنَ التَّنَافِي: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ " يَعْنِي بِهِ زَوَالَ هَذَا الِاسْمِ عَنْ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ اسْمًا لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا هَلَكَ قَيْصَرُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ الْآنَ فِي بِلَادِهِمْ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبًا، وَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَنْتَابُ الْيَمَنَ فِي الشِّتَاءِ، وَالشَّامَ وَالْعِرَاقَ فِي الصَّيْفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2] . فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَبِلَادُ الرِّحْلَتَيْنِ عَلَى شِرْكِهِمْ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِانْقِطَاعِ الرِّحْلَتَيْنِ عَنْهُمْ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا طَيَّبَ بِهِ نُفُوسَهُمْ " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ " يَعْنِي بِالْعِرَاقِ، فَهَلَكَ، فَلَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ يَعْنِي بِالشَّامِ، فَهَلَكَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُلْكٌ بِالشَّامِ، وَإِنْ بَقِيَ فِي غَيْرِهَا فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَصَدَقَ خَبَرُهُ، وَصَحَّ مَوْعِدُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (فَصْلٌ: يَشْتَمِلُ على فروع من كتاب الأسارى والغلول) وَإِذَا سَبَى الْحَرْبِيُّ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ، فَأَوْلَدَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوَّلًا ثُمَّ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَمْلِكُوهَا، وَكَانَ مَالِكُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَقَّ بِهَا وَبِأَوْلَادِهَا. وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَهِيَ مَعَهُ وَأَوْلَادُهَا لَمْ يَمْلِكْهَا، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ غَلَبَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ. فَأَمَّا قِيمَةُ أَوْلَادِهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا، فَمُعْتَبِرٌ بِحَالِ إِيلَادِهِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِأَوْلَادِهَا، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَدْرٌ. وَإِنْ أَوَلَدَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ أَوْلَدَهَا بِشُبْهَةِ مِلْكٍ، فَلَحِقُوا بِهِ، وَعُتِقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَلَا يَنْهَدِرُ مَا اسْتَهْلَكَهُ كَالْمُسْلِمِ. (فَرْعٌ) : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا مَالًا لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهِ مَتَاعًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلِلْمَالِ أَمَانٌ إِذَا دَخَلَ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِهِ أَمَانٌ، لِأَنَّ اسْتِئْمَانَهُمْ لَهُ أَمَانٌ مِنْهُ، وَلَوْ خَرَجَ بِالْمَالِ ذِمِّيٌّ كَانَ أَمَانُهُ فَاسِدًا فَإِنْ عَلِمَ مَالِكُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَادَ أَمَانِهِ كَانَ الْمَالُ مَغْنُومًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَسَادَ أَمَانِهِ كَانَ مَحْرُوسًا عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَحَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، إِذَا أَمَّنَ أَحَدُهُمَا حَرْبِيًّا كَانَ الْأَمَانُ فَاسِدًا، وَكَانَ مُسْتَأْمَنُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَحْقُونَ الدَّمِ، حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَأْمَنِهِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمَانِ، فَإِنْ عُلِمَ بِهِ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ اسْتِئْمَانَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا التفصيل أصح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 (فَرْعٌ) : وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَخَرَجَ إِلَيْنَا عُتِقَ، وَلَوْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عَلَى رِقِّهِ، فَإِنْ سُبِيَ الْعَبْدُ مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُعْتَقَ إِذَا خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يُعْتَقَ إِنْ أَقَامَ فَيَ دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ، فَقَدْ قَهَرَ سَيِّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَعُتِقَ، وَإِذَا أَقَامَ لَمْ يَقْهَرْهُ عَلَيْهَا فَرُقَّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَسْلَمَ، وَغَلَبَ عَلَى سَيِّدِهِ الْحَرْبِيِّ وَأَوْلَادِهِ، وَأَزْوَاجِهِ، وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عُتِقَ، وَصَارُوا لَهُ رَقِيقًا. فَرْعٌ: وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، وَدَخَلَ بِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَسُبِيَ الْعَبْدُ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ غَانِمُوهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِ الْكَافِرِ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ مِلْكِهِ مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ الْمُسْلِمِ فَرْعٌ: وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مَقَامَ حَوْلٍ إِلَّا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ وَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ أَنَّهُ إِنْ أَقَامَ حَوْلًا أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، فَأَقَامَ حَوْلًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ أَقَامَ حَوْلًا جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَاسْتَكْمَلَ حَوْلًا لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأُولَى لِلْإِمَامِ فَالْتَزَمَهُ الْحَرْبِيُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلذِّمِّيِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ. وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فِي اللُّزُومِ، وَالْفَرْقُ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا. فَرْعٌ: وَإِذَا غَزَا صِبْيَانٌ لَا بَالِغَ فِيهِمْ أَوْ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ بَيْنَهُنَّ أَوْ عَبِيدٌ لَا حُرَّ مَعَهُمْ، وَغَنِمُوا أَخَذَ الْإِمَامُ خُمْسَ غَنِيمَتِهِمْ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا وَجْهَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَسِّمَ جَمِيعَهُ بَيْنَهُمْ بِاسْمِ الرَّضْخِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ السِّهَامِ، وَلِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِيهِ كَأَهْلِ السِّهَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْبِسُ بَعْضَهُ عَنْهُمْ بِحَسْبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، لِئَلَّا يُسَاوُوا فِيهِ أَهْلَ السِّهَامِ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِحَسْبَ مَا يَرَاهُ مِنْ مُسَاوَاةٍ وَتَفْضِيلٍ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ بَلَدًا أَوْ قَلْعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِيُحَكِّمَ فِيهِمْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِ الْحُكَّامِ، وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْعِلْمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ السَّبْعَةَ صَحَّ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ بِرَأْيِهِ كَمَا حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ أن مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وهذا حُكْمُ اللَّهِ مَنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقُعَةٍ " وَهِيَ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ " وَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يجز أن يحكم فيها، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَكَّمُ فِيهِمْ أَعْمَى جَازَ تَحْكِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهُ يَحْكمُ بِمَا اشْتَهَرَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَخْبَارُهُمْ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا تُعَلَّقُ بِاسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى تَحْكِيمِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، لِيَقَعَ الِاخْتِيَارُ لَهُ، أَوِ التَّعْيِينُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ، فَيَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، فَلَا يَصِحَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَيَصِحَّ، لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحْكِيمَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى اخْتِيَارِهِ انْعَقَدَ تَحْكِيمُهُ وَنَفَذَ فِيهِمْ حُكْمُهُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا لَمْ يَنْعَقِدْ تَحْكِيمُهُ وَأُعِيدُوا إِلَى مَأْمَنِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا اخْتِيَارًا أَوْ صُلْحًا، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَسِيرٍ فِي أَيْدِيهِمْ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ اخْتِيَارِهِ لِلتَّحْكِيمِ أَسِيرًا لَمْ يَصِحَّ تَحْكِيمُهُ، لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ لَا يَنْفَذُ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أطلق قبل تحكيمه كرهناه حذرا للممايلة وَصَحَّ تَحْكِيمُهُ لِأَنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُمَايَلَةِ، وَهَكَذَا لَوْ عُقِدَ التَّحْكِيمُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّحْكِيمِ جَازَ وَإِنْ كُرِهَ. وَإِذَا انْعَقَدَ الصُّلْحُ عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمَا أَقْوَى وَنَفَذَ حُكْمُهُمَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْفُذْ إِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ، وَإِذَا مَاتَ الْحَكَمُ قَبْلَ حُكْمِهِ، أَوِ اسْتَعْفَى وَاعْتَزَلَ أُعِيدُوا إِلَى مَأْمَنِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا صُلْحًا عَلَى تَحْكِيمِ غَيْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَانْعَقَدَ التَّحْكِيمُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي الْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ لِعُلُوِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى قَتْلِ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ جَازَ وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهُ كَالَّذِي حَكَمَ لَهُ سَعْدٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَنَّ عَلَى مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ مِنْ رِجَالِهِمْ جَازَ، وَإِنْ رَأَى الْمَنَّ عَلَى مَنْ حُكِمَ بِسَبْيِهِ مِنْ ذَرَارِيهِمْ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِمْ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمُرَاضَاةِ الْغَانِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبْيِ هَوَازِنَ حِينَ مَنَّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ جَازَ، لِأَنَّ سَعْدًا لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، جَاءَ ثَابِتٌ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ بَاطَأَ الْيَهُودِيَّ عِنْدِي، وَقَدْ سَأَلَ أَنْ نَهَبَ لَهُ دَمَهُ، وَمَالَهُ، فَفَعَلَ، وَوَهَبَ لَهُ دَمَهُ وَمَالَهُ. وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ أَوْ يَأْخُذَ فِدَاهُمَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِمْ لِأَنَّهُ نَقْضُ حُكْمٍ نَفَذَ بِالِاسْتِئْنَافِ لِحُكْمٍ مُجَدَّدٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَكَّمُ فِيهِمْ قَدْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى رِجَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَلْزَمُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ بِغَنِيمَةِ ذَلِكَ الْمَالِ، فَنَفَذَ حُكْمُهُ بِهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِاسْتِرْقَاقِهِمْ صَارُوا بِحُكْمِهِ رَقِيقًا وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَلَوْ حَكَمَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَوْ حَكَمَ اسْتِرْقَاقَهُمْ، فَأَسْلَمُوا لَمْ يَسْقُطِ اسْتِرْقَاقُهُمْ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ قتلهم بعد إسلامهم وبالله التوفيق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 ( كتاب مختصر الجامع من كتاب الجزية وما دخل فيه من اختلاف الأحاديث ومن كتاب الواقدي واختلاف الأوزاعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهم باب من يلحق بأهل الكتاب) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدَرِ دَوْمَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ إِنَّهُ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ وَمِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْيَمَنِ وَعَامَّتُهُمْ عَرَبٌ وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَفِيهِمْ عَرَبٌ، فَدَلَّ مَا وَصَفْتُ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْأَحْسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَدْيَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: والأصل في أخذ الجزية وأن يَصِيرَ الْمُشْرِكُونَ بِهَا أَهْلَ ذِمَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} إِلَى أَنْ قَالَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . أَمَّا قَوْلُهُ هَاهُنَا: {قَاتِلُوا} فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي جَاهِدُوا. وَالثَّانِي: اقْتُلُوا، فَعَبَّرَ عَنِ الْقَتْلِ بِالْمُقَاتَلَةِ لِحُدُوثِهِ فِي الأغلب عن القتال، وفي قوله: {الذين لا يؤمنون بالله} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْمِنُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ إِيمَانٌ بِالرُّسُلِ وَإِلَّا فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْبُودٌ. وَفِي قوله: {ولا باليوم الآخر} وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوجِبُ الْإِقْرَارَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، فَصَارُوا بِتَرْكِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِهِ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، فَذَمَّهُمْ ذَمَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ باليوم الآخر. وقوله: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ^) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِنَسْخِهِ من شرائعهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَحَلَّهُ لَهُمْ، وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ. وقوله: {ولا يدينون دين الحق} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَالثَّانِي: الدُّخُولُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، والحق هاهنا هو الله تعالى. وقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مِنْ آبَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَالثَّانِي: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لأنهم في اتباعه كآبائهم وقوله: {حتى يعطوا الجزية} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى يَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ يُوجِبُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ. وَالثَّانِي: حَتَّى يَضْمَنُوا الْجِزْيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ يُوجِبُهَا بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَالْجِزْيَةُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَزَاءِ، إِمَّا عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِمَّا عَلَى مُقَامِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِزْيَةُ هُوَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ عَنْ رِقَابِهِمْ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي يَعْمَلُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وكثير ما لم يخصه دليل. وقوله: {عن يد} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ غِنًى وَقُدْرَةٍ. وَالثَّانِي: أن يروا لنا أخذها منهم يدا عليهم. وقوله: {وهم صاغرون ^) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ جِهَادِهِمْ. وَالثَّانِي: جَوَازُ قَتْلِهِمْ. وَالثَّالِثُ: حَقْنُ دِمَائِهِمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بتقوى الله تعالى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: " إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ " وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَمِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وأخذها من أهل أيلة، وهم ثلاث مائة رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنَاةً بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَوَقُّعِ اسْتِنْصَارِهِمْ، وَذِلَّةً لَهُمْ رُبَّمَا تَبْعَثُهُمْ على الإسلام، فجور النَّصُّ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَخْذَهَا مِنْهُمْ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فهي مَأْخُوذَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا وَلَا عَجَمًا، فَاعْتَبَرَهَا بِالْأَدْيَانِ دُونَ الْأَنْسَابِ. وَالثَّانِي: - عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - بِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، إِذَا كَانُوا عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا عَرَبًا. وَالثَّالِثُ: - مَا قَالَهُ مَالِكٌ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ كِتَابِيٍّ، وَوَثَنِيٍّ، وَعَجَمِيٍّ، وَعَرَبِيٍّ، إِلَّا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: - مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَجَمِ سَوَاءً كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَدْيَانِ، فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ تُقْبَلُ. وَالثَّانِي: فِي الْعَرَبِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى جَيْشٍ قَالَ لَهُ " ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ الجزية من المجوس وليس لهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 كِتَابٌ فَكَذَلِكَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِذْلَالٌ يَجُوزُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَازَ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ كَالْقَتْلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] . فَجَعَلَ الْكِتَابَ شَرْطًا فِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ أَنْ تُقْبَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَرَوَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْمَجُوسِ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْجِزْيَةِ بِهِمْ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - عَنْ أَبِيهِ - عَنْ جَدِّهِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ وَثَنِيٌّ فَلَمْ يُقَرَّ عَلَى حُكْمِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْعَرَبِيِّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يُقَرَّ بِهَا مِنَ الْعَجَمِ كَالْمُرْتَدِّ، ولأن لأهل الكتاب حرمتين. إحداها: حُرْمَةُ الْكِتَابِ الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: حُرْمَةُ دِينِ الْحَقِّ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. وَهَاتَانِ الْحُرْمَتَانِ مَعْدُومَتَانِ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَافْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِالْجِزْيَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِأَدِلَّتِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهِ حَتَّى يقترن بِهِ إِضْمَارٌ، فَهُمْ يُضْمِرُونَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا عَجَمًا، وَنَحْنُ نُضْمِرُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَلَوْ تَكَافَأَ الإضمار إن سَقَطَ الدَّلِيلُ، وَاخْتِيَارُنَا أَوْلَى لِثُبُوتِ حُكْمِهِ عَنْ إِجْمَاعٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِهَا مِنَ الْمَجُوسِ، فَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ فِي أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَبْقَى مَعَهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِي الْجِزْيَةِ إِقْرَارٌ عَلَى الْكُفْرِ فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ أَغْلَظُ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّغْلِيظِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: فَيَ الْعَرَبِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ جِزْيَتهمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَرَضَ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ عَلَى الْقَبَائِلِ قَالَ لَهُمْ " هَلْ لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ إِذَا قُلْتُمُوهَا دَانَتْ لَكُمُ الْعَرَبُ، وَأَدَّتْ إِلَيْكُمُ الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ " فَأَضَافَ الْجِزْيَةَ إِلَى الْعَجَمِ وَنَفَاهَا عَنِ الْعَرَبِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ". وَالْجِزْيَةُ صَغَارٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ نَفَاهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُجِزْهُ أَخْذُهَا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْإِسْلَامِ مَنَعَتْ مِنْ قَبُول الْجِزْيَةَ كَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ لَمْ تُؤْخَذْ جِزْيَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ كُلِّ كِتَابِيٍّ مِنْ عَجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَخَذَهَا مِنْ أُكَيْدَرِ دَوْمَةَ بَعْدَ أَسْرِهِ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ، وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَرَبٌ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَفِيهِمْ عَرَبٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ جَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ كَالْعَجَمِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ أَغْلَظُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ النَّسَبُ مِنَ الْقَتْلِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُحْقَنَ بِالْجِزْيَةِ دَمٌ ضَعُفَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَجَمِ، فَلِأَنْ يُحْقَنَ بِهَا دَمُ مَنْ قَوِيَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سُرْعَةُ إِجَابَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِبْطَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْهُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ وَمَعْهُودٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ " فَالْقَتْلُ أَغْلَظُ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَكَانَتِ الْجِزْيَةُ أَقْرَبَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا صَغَارُ الِاسْتِرْقَاقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ أَنَّهُمْ لَا يُغْزَوْنَ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ، فَنَحْنُ كُنَّا عَلَى هَذَا أَحْرَصَ، وَلَوْلَا أَنْ نَأْثَمَ بِثَمَنٍ بَاطِلٍ لَرَدَدْنَاهُ كَمَا قَالَ، وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ، ولكن الله أجل في أعيينا مِنْ أَنْ نُحِبَّ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَالْمُرْتَدُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ جِزْيَتِهِ، وَالْعَرَبِيُّ يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ، فَجَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ. فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ قَرُبَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: اخْتَلَطَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 مِنْ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ، فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنَ الْعَرَبِ كَمَا جَازَ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ العرب. (مسألة) قال الشافعي: " وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ النَّصَارَى وَكَانُوا من بني إسرائيل وأحطنا بأن الله تعالى أنزل كتبا من التوراة والإنجيل والفرقان بقوله تَعَالَى {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وإبراهيم الذي وفى} وقال تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين} فأخبر أن له كتابا سوى هذا المشهور قال فأما قول أبي يوسف لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ فَنَحْنُ كُنَّا على هذا أحرص ولولا أن نأثم بتمني باطل لوددناه كَمَا قَالَ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صغار ولكن الله أجل في أعيينا من أن نحب غير ما حكم الله به تعالى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَالْكِتَابُ الْمَشْهُورُ كِتَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَدَانَ بِهَا الْيَهُودُ، وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى، وَدَانَ بِهِ النَّصَارَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . فَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَهْلَ كِتَابٍ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ، فَأَمَّا غَيْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ دَانَ بِهَا. قَالَ الله تعالى: {أولم ينبأ بما في صحف موسى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} النجم: 36، 37] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هذا لفي الصحف الأولى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19] . وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] . فَإِنْ عَرَفْنَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَرَفْنَا مَنْ دَانَ بِهَا غَيْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا هل يكونوا أهل كتاب يقرون عليهم بِالْجِزْيَةِ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يُقَرُّونَ عَلَى التَّدَيُّنِ بِهِ، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكِتَابِ لِنُزُولِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُرْمَة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 مَنْ دَانَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى حَقٍّ، فَكَانَ كِتَابُهُمْ مُسَاوِيًا لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَكَانُوا هُمْ مُسَاوِينَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي أَيَّامِ مُوسَى وَعِيسَى مُسَاوِيَيْنِ لِلْقُرْآنِ فِي نُزُولِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَيَّامِهَا مُسَاوِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِمَانِعٍ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْحَقِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى كِتَابِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، فَيَكُونُونَ مُخَالِفِينَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا رَفَعَهَا بَعْدَ نُزُولِهَا دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِهَا، فَزَوَالُ حُرْمَتِهَا، وَلَمَّا بَقي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِمَا وَثُبُوتِ حُرْمَتِهِمَا، وَإِطْلَاقُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ، فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ تَعَبُّدًا وَأَحْكَامًا يَكْتَفِي أَهْلُهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهِ، وَإِقْرَارِ أَهْلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَعَبُّدًا وَأَحْكَامًا، وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَوَاعِظَ وَأَمْثَالٍ يَفْتَقِرُ أَهْلُهُ فِي التَّعَبُّدِ وَالْأَحْكَامِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِحُرْمَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى مَا تَدَيَّنُوا بِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، فَالْكَلَامُ فِي تَعْيِينِهِمْ، وَحُكْمِ مَنْ دَخَلَ فِي أَدْيَانِهِمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ عَرَفَ كِتَابَهُ وَدِينَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ. فَأَمَّا الْمَعْرُوفُونَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُتَدَيِّنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى الْمُتَدَيِّنُونَ بِالْإِنْجِيلِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ عَايَنَهُ وَآمَنَ بِهِ وَتَدَيَّنَ بِكِتَابِهِ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ مُوسَى، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ عِيسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبْنَاءُ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ مَنْ عَاصَرَ مُوسَى وَعِيسَى، فَإِنْ لَمْ يُبَدِّلُوا كَانَتْ لَهُمْ حُرْمَتَانِ: حُرْمَةُ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ، وَحُرْمَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ، وَإِنْ بَدَّلُوا أَقَرُّوا مَعَ التَّبْدِيلِ لِإِحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ، وَهِيَ حُرْمَةُ آبَائِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ حُرْمَةُ أَنْفُسِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِمْ، لِأَنَّ الْمُبَدِّلَ لَا حُرْمَةَ لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا، بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ نُبُوَّتِهِمَا، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ مُوسَى، وَفِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ عِيسَى، فهذا على ثلاثة أقسام: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 أحدهما: أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ تَبْدِيلِهِ وَقَبْلَ نَسْخِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِ: فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ كَالدَّاخِلِ فِيهِ عَلَى عَصْرِ نَبِيِّهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَبْنَاؤُهُمُ الْآنَ مُبدلِينَ أَوْ غَيْرَ مُبَدِّلِينَ، لِأَنَّ لَهُمْ حُرْمَتَيْنِ إِنْ لم يبدلوا وحرمة واحدة عن بَدَّلُوا، لِأَنَّ دِينَهُمْ عَلَى حَقٍّ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ كَمَا كَانَ عَلَى حَقٍّ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَاسْتَوَتْ حُرْمَةُ الدُّخُولِ فِيهِ مِنَ الْحَالَيْنِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ، وَبَعْدَ نَسْخِ شَرِيعَةِ عِيسَى فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا نَسْخُ شَرِيعَةِ مُوسَى فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَكُونُ مَنْسُوخَةً بِالنَّصْرَانِيَّةِ - شَرِيعَةِ عِيسَى - وَهُوَ أَظْهَرُهَا، لِاخْتِلَافِهِمَا وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنها منسوخة بشريعة الإسلام دون النصرانية ولأن عِيسَى نَسَخَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى مَا خَالَفَهَا، وَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا مَا وَافَقَهَا، وَإِنَّمَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا نَسَخَ بِهِ كُلَّ شَرِيعَةٍ، فَمَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ بَعْدَ نَسْخِهِ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِيهِ، فَصَارَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي عَدَمِ الْحُرْمَةِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يُقَرُّ الدَّاخِلُ فِيهِ بَعْدَ نَسْخِهِ كَمَا يُقَرُّ الدَّاخِلُ فِيهِ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَبْدِيلِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا عَلَّلْنَا بِهِ مِنْ عَدَمِ الْحُرْمَةِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فإنه منهم} يَعْنِي فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ مِنَّا مُرْتَدٌّ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ بَعْدَ التنزيل وقبل النسخ، فعلى ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلَ الروم، فيكونوا كَالدَّاخِلِ فِيهِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، لِأَنَّ حُرْمَتَهُ فِي غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ ثَابِتَةٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ كَطَوَائِفَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَيَكُونُوا كَالدَّاخِلِ فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشْكِلَ حَالُ دُخُولِهِمْ فِيهِ هَلْ كَانَ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ؟ أَوْ يُشْكِلَ هَلْ دَخَلُوا قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ كَتَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ وَقَفَهُمُ الْإِشْكَالُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ حَقْنَ دِمَائِهِمْ وَاسْتِبَاحَةَ نِكَاحِهِمْ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ. وَالثَّانِي: يُوجِبُ إِبَاحَةَ دِمَائِهِمْ، وَحَظْرَ مَنَاكِحِهِمْ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ فِي الْأَصْلَيْنِ مَعًا حُكْمُ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، فَيُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، لِأَنَّ أَصْلَ الدِّمَاءِ عَلَى الْحَظْرِ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرُوجِ عَلَى الْحَظْرِ، وَالْحَظْرُ تَعْيِينٌ، وَالْإِبَاحَةُ شَكٌّ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْيَقِينِ عَلَى الشَّكِّ، وَصَارُوا فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِ فَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابِ الْمَشْهُورِ، وَالدِّينِ الْمَعْرُوفِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنِ ادَّعَى كِتَابًا غَيْرَ مَشْهُورٍ، وَدِينًا غَيْرَ مَعْرُوفٍ كَالزُّبُرِ الْأُولَى، وَالصُّحُفِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ وَإِنْ تَحَقَّقْنَا كِتَابَهُمْ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ وَتُحْفَظُ حُرْمَةُ كِتَابِهِمْ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدهما: أن يتحقق صدقهم، يعرف كِتَابُهُمْ، فَيَكُونُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَاسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَحَققوا كَذِب قَوْلِهِمْ، وَأَنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَيَكُونُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي اسْتِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ، وَحَظْرِ مَنَاكِحِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِلَ مَا قَالُوهُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلِيلٌ يُقْطَعُ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِمْ قَوْلُ كُفَّارِهِمْ. فَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَدَدٌ يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُسْتَفِيضًا حُكِمَ بِقَوْلِهِمْ فِي ثُبُوتِ كِتَابِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ عَلَى دِينِهِمْ، وَاسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ خَبَرُهُ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا، وَلَمْ يُعْلَمْ قَوْلُهُمْ إِلَّا مِنْهُمْ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، فَيُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّهَا مَالٌ بَذَلُوهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَخْذُهُ، وَأَصْلُ الدِّمَاءِ عَلَى الْحَظْرِ، فَلَا يَحِلُّ لنا قتلهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 فَأَمَّا اسْتِبَاحَةُ مَنَاكِحِهِمْ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ، فَلَا تُسْتَبَاحُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِصِدْقِهِ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي: " وَالْمَجُوسُ أَهْلُ كِتَابٍ دَانُوا بِغَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَخَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ دِينِهِمْ كَمَا خَالَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ دِينِهِمْ وكانت المجوس في طرف من الأرض لا يعرف السلف من أهل الحجاز من دينهم ما يعرفون من دين اليهود والنصارى حتى عرفوه وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذها من مجوس هجر وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه هم أهل كتاب بدلوا فأصبحوا وقد أسري بكتابهم وأخذها منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمُ الْعِرَاقَ وَفَارِسَ، وهم يتديون بِنُبُوَّةِ زَرَادُشْتَ وَإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ " وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَجُوسِ حِينَ افْتَتَحَ بِلَادَهُمْ بالْعِرَاقِ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِالْعِرَاقِ وَفَارِسَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَخَذَهَا مِنْهُمْ فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ، وَأَخَذَهَا بَعْدَهُمَا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، فَكَانَ أَخْذُهَا مِنْهُمْ سُنَّةً عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَثَرًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا كِتَابُ الْمَجُوسِ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كِتَابٌ، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ لَهُمْ، فَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَقَدْ عَلَّقَ الْقَوْلَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ، فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ. وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِمْ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ خَاصَّةً، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا تُسْتَبَاحُ مَنَاكِحِهِمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتْلُونَ كِتَابًا لَهُمْ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَا قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دُونَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِمَنْ عَدَاهُمَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ كَاتَبَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم أن لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} ^ [آل عمران: 64] . فَجَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكْتُبْ إِلَى كِسْرَى بِهَذَا، وَكَتَبَ " أَسْلِمِ تَسْلَمْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلَمَّا غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ سُرَّ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَتَغْلِبُونَا، لِأَنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ، وَالرُّومُ أَهْلُ كِتَابٍ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَسَاءَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم بعد غلبهم سيغلبون فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: 1 - 5] . فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَبَادَرَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسًا، وَتَقَامَرَ أَبُو بَكْرٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى هَذَا بِأَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ الْقِمَارُ يَوْمَئِذٍ حَلَالًا، فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدَّرَ لَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، أَنْكَرَهَا، وَقَالَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ " قَالَ: ثِقَةٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَكَمِ الْبِضْعُ؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ. فَقَالَ لَهُ: زِدْهُمْ فِي الْخَطَرِ، وَازْدَدْ فَيَ الْأَجَلِ فَزَادَهُمْ قَلُوصَيْنِ وَازْدَادَ مِنْهُمْ فِي الْأَجَلِ سَنَتَيْنِ، فَصَارَتِ الْقَلَائِصُ سِتًّا، وَالْأَجَلُ خَمْسًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الْهِجْرَةَ عَلِقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غَلَبْتُ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ فِي غَلَبَةِ الرُّومِ لِفَارِسَ فِي عَامِ بَدْرٍ، وَنَصَرَ رَسُولَهُ عَلَى قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ النَّصْرَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَعُلِمَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْفُرْسَ، وَهُمُ الْمَجُوسُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَنَّ الرُّومَ مِنَ النَّصَارَى هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَجَرَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ اسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَدَلِيلُنَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 عَلَى مَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ، فَأَخَذَ بِلَبَّتِهِ وَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ تَطْعَنُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنِي عَلِيًّا - وَقَدْ أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى القصر فخرج علي - عليه السلام - فَقَالَ: اتَّئِدَا فَجَلَسْنَا فِي ظِلِّ الْقَصْرِ، فَقَالَ:؟ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يُعَلِّمُونَهُ، وَكِتَابٌ يُدَرِّسُونَهُ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ، فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ فَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ: أَتَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ، وَقَدْ كَانَ يُنْكِحُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ، وَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ مَا نَزَعْتُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَبَايَعُوهُ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَانْتِشَارُ هَذَا مَعَ عَدَمِ الْمُخَالِفِ فِيهِ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ، وَلِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ تَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الدَّاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] . وَلِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إِلَى نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ، وَيَتَعَبَّدُونَ بِدِينٍ مَشْرُوعٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ كِتَابٍ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَهُ، وَيَعْتَقِدُونَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَنَاكِحِهِمْ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَفِي اسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ لِثُبُوتِ كِتَابِهِمْ، وَلِأَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ نَكَحَ مَجُوسِيَّةً بِالْعِرَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. والوجه الثاني: وهو أظهر أنه لا يحل نِسَاؤُهُمْ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، لِأَنَّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ، فَارْتَفَعَ حُكْمُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، مَعَ مَا انْعَقَدَ عليه إجماع الأعصار أنه قول بضعة عشرة مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا عَلِمْنَا مُخَالِفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بُعِثَ نَبِيٌّ مِنَ الْكَرْخِ يَعْنِي أَبَا ثَوْرٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَفَرَّدَ بِقَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ صَارَ كَنَبِيٍّ يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 (مسألة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ مِثْلُهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِهِمُ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مَنْ أَهِلِ الْأَوْثَانِ وَلَا مِمَنْ عَبَدَ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّابِئَةُ، فَطَائِفَةٌ تَنْضَمُّ إِلَى النَّصَارَى، وَالسَّامِرَةُ طَائِفَةٌ تَنْضَمُّ إِلَى الْيَهُودِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ انْضِمَامِهَمَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ أحدها: أن نَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، وَفُرُوعِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ، وَتُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، وَتُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ، فَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَلَا تُسْتَبَاحُ مَنَاكِحُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوَافِقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، وَيُخَالِفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَتُسْتَبَاحُ مَنَاكِحُهُمْ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى أُصُولِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يُؤَثِّرُ الِاخْتِلَافُ فِي فُرُوعِهَا كَمَا لَمْ يُؤَثِّرِ اخْتِلَافُ الْمُسْلِمِينَ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُوَافِقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ، وَيُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُولِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلَا تُسْتَبَاحَ مَنَاكِحُهُمْ، وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ تَعْلِيلًا بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ فِي الدِّينِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يُشْكِلَ أَمْرُهُمْ: وَلَا يعلم ما خلفوهم فِيهِ، وَوَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ، فَيُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ كَالَّذِي قُلْنَاهُ فِيمَنْ أُشْكِلَ دُخُولُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، هَلْ كَانَ مِنَ الْمُبَدِّلِينَ. فَإِنْ أَسْلَمَ اثْنَانِ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ، فَشَهِدَا بِمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهَا، وَلَا يُرَاعَى فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَيُرَاعَى عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيمَنِ ادَّعَوْا أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَصْلِ دِينٍ مَجْهُولٍ، فراعينا فيه خبر التواتر والاستفاضة وومعتقد الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ دِينٌ مَعْرُوفٌ يُعَوَّلُ فِي صِفَتِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَافْتَرَقَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ السَّامِرَةَ مِنْ نَسْلِ السَّامِرِيِّ، وَإِنَّهُمُ اعْتَزَلُوا عَنِ الْيَهُودِ بِأَنْ يَقُولُوا لَا مِسَاسَ فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي الصَّابِئِينَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلِكَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ وَاسْتُفْتِيَ فِيهِمْ فِي أَيَّامِ الْقَاهِرِ فَأَفْتَى فهمّ القاهر بقتلهم، وإن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 لَمْ يُسْلِمُوا، فَاسْتَدْفَعُوا الْقَتْلَ بِبَذْلِ مَالٍ جَزِيلٍ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ، وَلَا تُسْتَبَاحَ مَنَاكِحُهُمْ، وَلَا يَحِلَّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 (بَابُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالضِّيَافَةِ وَمَا لهم وعليهم) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ وَالصَّغَارُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ وَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تُحْقَنُ بِهِ دِمَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: هُدْنَةٌ، وَعَهْدٌ، وَأَمَانٌ، وَذِمَّةٌ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْهُدْنَةُ: فَهُوَ أَنْ يُوَادَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِي دَارِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ، كَمَا هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَهَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِذَا أَمْكَنَ وَعَلَى غَيْرِ مَالٍ إِذَا تَعَذَّرَ، وَعَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْخَنْدَقِ حِينَ تَمَالَأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانُ وَالْأَحَابِيشُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، لِيَنْصَرِفُوا عَنْهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ هَذَا بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْتَهُ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْرَةً إِلَّا قِرًى أَوْ شَرًّا فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؟ فَلَمَّا عَرَفَ قُوَّةَ أَنْفُسِهِمْ كَفَّ، وَصَابَرَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ حَتَّى انْصَرَفُوا، فَكَانَ فِيمَا هَمَّ بِفِعْلِهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعَهْدُ: فَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِمَنْ دَخَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَانٌ إِلَى مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ سَنَةً، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ أن يعقد على مال ويدفع إِلَيْهِمْ، وَلَا أَنْ يَتَوَلَّى عَهْدَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ، فَيَكُونَ الْعَهْدُ مُوَافِقًا لِلْهُدْنَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفًا لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 فَأَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَوَلَّاهُمَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُجِيبَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهُدْنَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْعَهْدُ عَلَى مَالٍ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ مُقَدَّرَةٌ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَانْتِهَاءَ مُدَّةِ الْمُقَامِ فِي الْعَهْدِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي مُدَّةِ الْعَهْدِ أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ بِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَنْ تَتَكَرَّرَ مُوَادَعَتُهُمْ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَمَانُ: فَهُوَ مَا بَذَلَهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْعَهْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ: فَأَحَدُهُمَا: فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: الْتِزَامُ حُكْمِهِمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْزَمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا مِنَ الْمُحَارِبِينَ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُخَالَفَةِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَهْدَ عَامٌّ لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ، وَالْأَمَانَ خَاصٌّ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَهْدَ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَنَأْمَنُهُمْ إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا نُؤَمِّنُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا. وَالْأَمَانُ الْخَاصُّ لَا تَلْزَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ آحَادُهُمْ إِذَا دَخَلُوا إِلَيْنَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوا آحَادَنَا إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ: فَهُوَ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا عَنْ رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ، وَهُوَ أَوْكَدُ الْعُقُودِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْمُوَافَقَةِ: فَأَحَدُهُمَا: الْأَمَانُ. وَالثَّانِي: كَفُّهُمْ عَنْ مُطَاوَلَةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ. فَأَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الذِّمَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَعُمُومُ مَا عَدَاهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَسُقُوطُهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الزِّيَادَةِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ، وَمَا عَدَاهُ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ قَدَرَهَا بِمُدَّةٍ فَهِيَ نَاقِصَةٌ عَنْ حُكْمِ الْكَمَالِ، وَيَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا بِسَنَةٍ يَسْتَحِقُّ فِيهَا الْجِزْيَةَ، وَلَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهَا بِالشَّرْعِ، وَتَتَقَدَّرُ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى مُدَّةِ الْهُدْنَةِ أَضْعَافًا لِأَنَّهَا لَمَّا انْعَقَدَتْ عَلَى الْأَبَدِ جَازَ أَنْ تُعْقَدَ مُقَدَّرَةً بِأَكْثَرِ الْأَبَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ الذَّبَّ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَمَا عَدَاهُ يُوجِبُ ذَبَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ عَقَدَهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ نُظِرَ. فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْحَرْبِ جَازَ، لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ تَسْلِيطٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ عُقِدَ الْعَهْدُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْمَنْعِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مَالٍ يَبْذُلُونَهُ. فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَجُزْ. فَأَمَّا جَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . إِنَّ الصَّغَارَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَلَهُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّحَكُّمُ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَالَةِ. وَالثَّانِي: الْأَحْكَامُ الشرعية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا نلْزمُهُمْ أَحْكَامُنَا. وَعَلَى الثَّانِي نلزمُهُمْ أَحْكَامُنَا، وَلَا تَلْزَمُ مَنْ عَدَاهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَتَوَلَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ إِلَّا الْإِمَامُ وَإِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يعقد لهم الذمة. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا نَعْلَمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أَحَدًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فَمَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ دِينَارًا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا فِي كُلِّ سَنَةٍ قُبِلَ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ أقَلُّ مِنْ دِينَارٍ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ فَإِنْ زَادُوا قُبِلَ مِنْهُمْ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَأَكْثَرِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهَا مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ مَنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ، وَأَكْثَرُهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مُوَكَلٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الدِّينَارِ مِنْ غَنِيٍّ وَلَا فَقِيرٍ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إليه وإن طبقوا أنفسهم بالغنى والتوسط، والذي عاقدهم عليه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ بِحَسَبِ طَبَقَاتِهِمْ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ درهما مصارفة اثنا عشر بدينار، ومن المتوسط أربعة وعشرين دِرْهَمًا، وَمِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا، وَلَا أَكْثَرُهَا، وَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي أقلها وأكثرها، فإن رأى الإقصار عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ جَازَ، وَإِنْ رَأَى الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فَعَلَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلِ سُفْيَانَ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فَتَحَهُ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ، عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَنْ رَأْيٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ، فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ بِالْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِزِيَادَةِ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالشِّرْكِ صَارَ جِزْيَةً وَخَرَاجًا، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَرَاجُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجِزْيَةُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ بِأَنْ قَالَ: الْهُدْنَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ بِمَثَابَتِهَا لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَعِدْلَهُ مِنَ الْمُعَافِرِ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُفَاضِلْ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بعددهم، وليس يَعْتَبِرهَا بِيَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ جِزْيَةَ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبٍ دِينَارًا، وَلَمْ يَذْكُرْ يَسَارَهُ وَلَا إِعْسَارَهُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَلَمْ يُفَضِّلْ فَدَلَّ عَلَى التَّسَاوِي. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالدِّينَارِ كَالْمُقِلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أنَ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُقِلِّ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُكْثِرِ كَالْأَرْبَعَةِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِمَا وَاحِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جِزْيَتُهُمَا وَاحِدَةً. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَهَذَا أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ عَنْ مُرَاضَاةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا يُنْكِرُ مِثْلَهَا إِذَا فعلوه. وقياسهم عَلَى الزَّكَاةِ مُنْتَقصٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي لَا تَزِيدُ زِيَادَةَ الْمَالِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الزَّكَاةِ وجوبها في عين المال، فجاز أن تختلف بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْجِزْيَةُ فِي الذِّمَّةِ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ كَالْأُجْرَةِ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ كَالْإِجَارَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، فَهُوَ أَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ عَنْ أَرْضٍ ذَاتِ مَنْفَعَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَالْجِزْيَةُ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ، فَلَمْ يَتَفَاضَلْ بِتَفَاضُلِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْهُدْنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْهُدْنَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي عَقْدِهَا بِمَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ جَازَ عَقْدُهَا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَقْدِهَا بِغَيْرِ مَالٍ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى رَأْيِهِ في تقدير المال (مسألة) : قال الشافعي: " فِي كِتَابِ السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْدِي فِي أَصْلِهِ وَأَوْلَى عِنْدِي بِقَوْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمُقِلُّ الَّذِي يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا سِوَاهَا، فَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا، فَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، فَضَرْبَانِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 أَحَدُهُمَا:: أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِلًا يَكْسِبُ بِعَمَلِهِ فِي السُّنَّةِ قَدْرَ جِزْيَتِهِ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَتِهِ، فَالْجِزْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ إِلَّا بِالْمَسْأَلَةِ لِقَدْرِ قُوتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، فَفِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ، وَعَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ إِلَّا بِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ طَبَّقَ فِي الْجِزْيَةِ أَهْلَ الْعِرَاقِ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ، جَعَلَ أَدْنَاهَا الْفَقِيرَ الْمُعْتَمِلَ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَقِيرِ كالزكاة، ولأن الجزية ضربان على الرؤوس وَالْأَرَضِينَ، فَلَمَّا سَقَطَتْ عَنِ الْأَرْضِ إِذَا أَعْوَزَ نفقتها، سقطت عن الرؤوس إِذَا أَعْوَزَ وُجُودُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلا باليوم الآخر} إِلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فَلَمَّا كَانَ قِتَالُهُمْ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ _ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " " خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا "، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ فَقِيرًا، وَلَمْ يُمَيِّزْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَمْرُ بِالْأَخْذِ في الكتاب والسنة مشروطة بِالْقُدْرَةِ، وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيمَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ. قِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الضَّمَانِ دُونَ الدَّفْعِ، لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، وَالدَّفْعُ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُعْسِرِ لِيَدْفَعَهُ إِذَا أَيْسَرَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ، فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ كَالْمُوسِرِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِالْأَسْرِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِالْفَقْرِ كَالْغَنِيِّ إِذَا افْتَقَرَ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَقْنُ الدَّمِ. وَالْآخَرُ: الْإِقْرَارُ فِي دَارِنَا عَلَى الْكُفْرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 وَمَا حُقِنَ بِهِ الدَّمُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ، كَالدِّيَةِ. وَمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْمُقَامُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالْأُجْرَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَمِلَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِالْعَمَلِ - وَغَيْرُ الْمُعْتَمِلِ قَدْ يَتَكَسَّبُ بِال ْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ عَمَلٌ فَصَارَ كَالْمُعْتَمِلِ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الزَّكَاةِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ، فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْوُجُوبِ، وَالْجِزْيَةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْمَالُ فِي الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا بِالزَّكَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مَعَ اخْتِلَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَقْرِ، فَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِزْيَةِ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي حق الفقير لم يسقط الْجِزْيَةُ، وَلَمَّا سَقَطَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ بِهِ الْخَرَاجُ. (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْفَقِيرِ، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِوُجُوبِهَا مَعَ الْفَقْرِ، إِذَا أَيْسَرَ بِهَا اسْتُوقِفَ حَوْلَهُ، وَأُخِذَتْ منه انقضائه. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَقِيرِ، لَمْ تَكُنِ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ دَلَّ كَلَامُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ مَعَ إِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الَّتِي يَجِبُ الْإِنْظَارُ بِهَا إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْظَرَ بِهَا لِإِعْسَارِهِ، لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا فِي حَقْنِ دَمِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ إِنْظَارُهُ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تُسْلِمْ، وَلَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى تَحْصِيلِ الْجِزْيَةِ بِالطَّلَبِ وَالْمَسْأَلَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأُبْلِغْتَ مَأْمَنَكَ، ثُمَّ كُنْتَ حَرْبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ، لَمَّا كَانَ الصَّوْمُ فِيهَا بَدَلًا لَمْ تَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ؟ وَلَمْ يَجِبْ فِيهَا إِنْظَارٌ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ؟ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى ضِيَافَةِ مَا ضِفْتَ ثَلَاثًا قَالَ وَيُضِيفُ الْمُوسِرُ كَذَا وَالْوَسَطُ كَذَا وَيُسَمَّى مَا يُطْعِمُونَهُمْ خُبْزُ كَذَا وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ مِنَ التِّبْنِ وَالشَعِيرِ كَذَا وَيُضِيفُ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى كَذَا وَأَيْنَ يُنْزِلُونَهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ أَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ أَوْ فِيمَا يُكِنُّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى عَقْدِ الْجِزْيَةِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ عَنْ نَصَارَى أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَا مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَغُشُّوا مُسْلِمًا. وَصَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَارَى الشَّامِ عَلَى أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِرْفَقٌ يُسْتَزَادُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ سَابِلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: حُكْمُهَا فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِيمَنْ تُشْتَرَطُ لَهُ. وَالثَّالِثُ: حُكْمُ بَيَانِهَا. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ، فَمُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْذُلُوهَا طَوْعًا لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا عَقْدُ مُرَاضَاةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا عَنِ اخْتِيَارٍ كَالْجِزْيَةِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الضِّيَافَةِ، وَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى غَيْرِ الدِّينَارِ قُبِلَ مِنْهُمْ، وَأُسْقِطَتِ الضِّيَافَةُ عَنْهُمْ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُهُمْ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَتْ عَمَّنِ امْتَنَعَ وَلَزِمَتْ مَنْ أَجَابَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهَا لَا يَضْعُفُونَ عَنْهَا إِمَّا لِخِصْبِ بِلَادِهِمْ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهَا، وَاخْتَصَّ وَجُوبُهَا بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ دُونَ الْمُقِلِّينَ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تَتَكَرَّرُ فِي السُّنَّةِ، وَالْجِزْيَةَ لَا تَتَكَرَّرُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ جزية رؤوسهم وَهُوَ الدِّينَارُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، لِيَكُونَ زِيَادَةَ مَعُونَةٍ وَمِرْفَقٍ، فَإِنْ جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ هِيَ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ دِينَارُ الْجِزْيَةِ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجُمْهُورِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الدِّينَارِ - لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ فِي صُلْحِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْلُومٌ يَعُمُّ نَفْعُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِالضَّيَافَةِ الَّتِي يَخُصُّ نَفْعُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ - يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يبدلوا الدِّينَارَ مَعَهَا، إِذَا كَانَ مَبْلَغُهَا فِي السُّنَّةِ مَعْلُومًا قَدْرُ الدِّينَارِ فَمَا زَادَ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جزيئين، كما يلزم في نصارى بني تغلب حين وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الدِّينَارِ دُونَ الضِّيَافَةِ جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الضِّيَافَةِ دُونَ الدِّينَارِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ ثَمَنُ الضِّيَافَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُ الْأَضْيَافِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ، أَوْ مَرَّ بِهِمْ بَعْضُ الْعَدَدِ حُوسِبُوا، وَأُخِذَ مِنْهُمْ ثَمَنُ ضِيَافَةِ مَنْ بَقِيَ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيمَةُ الضِّيَافَةِ إِنْ تَأَخَّرَ الْأَضْيَافُ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قِيمَتُهَا إِنْ تَأَخَّرُوا. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ مِنَ الْأَضْيَافِ، فَهُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ مِنَ الْمُجْتَازِينَ بِهِمْ دُونَ الْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ، وَالْجِزْيَةَ لِأَهْلِ القيء خاصة، فعلى هذا تكون مقصورة على الجيش الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً أَوْ تَكُونُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ مَصْرِفِ مَالِ الْفَيْءِ، هَلْ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ أَوْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ؟ فَإِنْ شُرِطَتِ الضِّيَافَةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَمِيعِ السابَلَةِ جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا تُشْتَرَطُ بَعْدَ الدِّينَارِ، وَلَمْ تَجُزْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ: إنه يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، فَإِنْ أَرَادَ الضَّيْفُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَدْرَ ضِيَافَتِهِ، وَلَا يَأْكُلَ مِنْ عِنْدِهِمْ نُظِرَ. فَإِنْ طَالَبَهُمْ بِثَمَنِ الضِّيَافَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ دَفْعُهُ، وَإِنْ طَالَبَهُمْ بِطَعَامِ الضِّيَافَةِ لَزِمَهُمْ دَفْعُهُ، وَفَارَقَ مَا أُبِيحُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِ الْوَلَائِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَالْوَلِيمَةُ مَكْرُمَةٌ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِطَعَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَوَّلِ منها، لأنه مؤجل فيها، فلا يطالبوا بِهِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَيُطَالِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِضِيَافَةِ الْيَوْمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 حَتَّى مَضَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ تَبَعًا لِلدِّينَارِ، وَجَازَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا جُعِلَ مَقْصُودًا كَالدِّينَارِ. وَلَوْ تَكَاثَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى ضَيْفٍ تَنَازَعُوهُ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الضَّيْفِ دُونَ الْمُضِيفِ فِي نُزُولِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، وَلَوْ تَكَاثَرَ الْأَضْيَافُ عَلَى الْمُضِيفِ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الْمُضِيفِ دُونَ الأضياف إلى أن يقصد عَدَدُ أَهْلِ النَّاحِيَةِ عَنْ إِضَافَةِ جَمِيعِهِمْ، فَيُقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَيُضِيفُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ مَنْ قَرَعَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأَضْيَافِ عَرِّيفٌ يَكُونُ هُوَ الْمُرَتِّبَ لَهُمْ، لِيَنْقَطِعَ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ الضِّيَافَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: عَدَدُ الْأَضْيَافِ. وَالثَّانِي: أَيَّامُ الضِّيَافَةِ. وَالثَّالِثُ: قَدْرُ الضِّيَافَةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ، فَهُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُوسِرِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنْ خَمْسَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي، لِيُضِيفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ سَوَّى بَيْنِ الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ جَازَ مَعَ الْمُرَاضَاةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى جَمِيعِ النَّاحِيَةِ عَدَدًا مِنَ الْأَضْيَافِ كَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى النَّاحِيَةِ ضِيَافَةَ أَلْفِ رَجُلٍ جَازَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى تَقْسِيطِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ تُفَاضِلٍ أَوْ تَسَاوٍ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا، وَتَنَازَعُوا إِلَيْنَا قُسِّطَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى التَّسَاوِي دُونَ التَّفَاضُلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ جِزْيَةُ رؤوس تَفَاضَلُوا فِيهَا، فَفِي اعْتِبَارِ الضِّيَافَةِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَفَاضَلُونَ فِي الضِّيَافَةِ، بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي جزية الرؤوس إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ تَبَعًا. وَالثَّانِي: يَتَسَاوَوْنَ فِي الضِّيَافَةِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْجِزْيَةِ إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ أَصْلًا. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فِي أَيَّامِ الضِّيَافَةِ: فَالْعُرْفُ وَالشَّرْعُ فِيهَا لِكُلِّ ضَيْفٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَمَّا الْعُرْفُ فَمَشْهُورٌ فِي النَّاسِ تَقْدِيرُهَا بِالثَّلَاثِ وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مَكْرُمَةٌ. وَرُوِيَ " صَدَقَةٌ "، وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسَافِرِ وَمُقَامُهُ فِي سَفَرِهِ ثَلَاثٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُغَيِّرٌ لحكم السفر إلى الإقاة، وَالضِّيَافَةُ لَا يَسْتَحِقُّهَا مُقِيمٌ، فَإِنْ زَادَ فِي الشرط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 عَلَى ثَلَاثٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا كَانَ الشَّرْطُ أَحَقَّ مِنْ مُطْلَقِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَيَذْكَرُ عَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ فِي السَّنَةِ أَنَّهَا مِائَةُ يَوْمٍ أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ لِيَكُونَ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الضِّيَافَةِ، وَأَيَّامَهَا فِي السَّنَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ قُدُومِ كُلِّ قَوْمٍ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الضِّيَافَةِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ تَبَعًا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ أَصْلًا. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: فَهُوَ قَدْرُ الضِّيَافَةِ، فَمُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: جِنْسُ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ، فَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الْحِنْطَةَ، ويتأدمون باللحم، فإن عليهم يُضِيفُوهُمْ بِخُبْزِ الْحِنْطَةِ وَأُدْمِ اللَّحْمِ. وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ، وَيَتَأَدَّمُونَ بِالْأَلْبَانِ أَضَافُوهُمْ مِنْهُ أَوْ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَالِبُ قُوتِهِمْ وَإِدَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ وَفَوَاكِهُ يَأْكُلُونَهَا غَالِبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ فِي زَمَانِهَا وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، وَإِدَامِهِمْ، وَلَا ذَبْحَ حُمْلَانِهِمْ وَدَجَاجِهِمْ، وَلَا الْفَوَاكِهَ النَّادِرَةَ وَالْحَلْوَى الَّتِي لَا تُؤْكَلُ فِي يَوْمٍ غَالِبًا، وَلَا مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ شَرْطُ صُلْحِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِقْدَارُ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَلِلطَّعَامِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ أَكْثَرُهُ " مُدَّانِ " مِنْ حَبٍّ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى، وَأَقَلُّهُ " مُدٌّ " فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْتَاجُ أَحَدٌ فِي الْأَغْلَبِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ " مُدَّيْنِ " وَلَا يَقْتَنِعُ فِي الْأَغْلَبِ بِأَقَلَّ مِنْ " مُدٍّ " و " الْمُدُّ " رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَيَكُونُ خُبْزُهُ رَطْلَيْنِ، وَالْمُدَّانِ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ خُبْزًا. فَأَمَّا الْإدَامُ، فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَيَكُونُ مِقْدَارُهُ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ الْغَالِبِ يَشْرِطُ لِكُلِّ ضَيْفٍ مِنَ الْخُبْزِ كَذَا، فَإِنْ ذَكَرَ أَقَلَّ مِنْ رِطْلَيْنِ لَمْ يَقْتَنِعْ، وَإِنْ ذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا، وَلَوْ شَرَطَ ثَلَاثَةً كَانَ وَسَطًا، وَيَذْكُرُ جِنْسَ الْإِدَامِ، وَمِقْدَارَهُ لِلضَّيْفِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وإن كانت له دواب ذكر ما يعلقه الْوَاحِدُ مِنْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْقَتِّ وَالشَّعِيرِ بِمِقْدَارٍ كَافٍ، لَا سَرَفَ فِيهِ ولا تقتير، فإن شرط علفها، وأطلقه علقت التِّبْنَ وَالْقَتَّ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ لِلْأَضْيَافِ أُجْرَةُ حَمَّامٍ، وَلَا طَبِيبٍ، وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ مَرْكُوبُهُ حَمَلُوهُ إِلَى أَقْرَبِ بِلَادِ الضِّيَافَةِ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثالث: السكن لحاجتهم إليه ب فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُسَكِّنُوهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ، وَكَنَائِسِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ، لِيَكِنُّوا فِيهَا مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ، وَكَذَلِكَ لِدَوَابِّهِمْ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الشَّامِ أَنْ يُؤْخَذَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 بِتَوْسِيعِ أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، لِيَدْخُلَهَا الرَّاكِبُ إِذَا نَزَلَهَا، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ إِذَا نَزَلُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ ضَاقَتْ بِهِمْ. وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ صُلْحِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ فِي دِيوَانِ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الضِّيَافَةِ، لِيَأْخُذَهُمْ عَامِلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمُوجِبِهِ ثُمَّ يُثْبِتُهُ فِي الدِّيوَانِ الْعَامِّ لِثُبُوتِ الْأَمْوَالِ، كُلِّهَا لِيُرْفَعَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ فُقِدَ الدِّيوَانُ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ عَمِلَ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِقْرَارًا لَا خَبَرًا وَلَا شَهَادَةً، فَإِنْ عَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ زِيَادَةٌ رَجَعَ عليهم بها. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُؤْخَذُ مِنِ امْرَأَةٍ وَلَا مَجْنُونٍ حَتَّى يَفِيقَ وَلَا مَمْلُوكٍ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَا صَبِيٍّ حَتَّى يَنْبُتَ الشَعْرُ تَحْتَ ثِيَابِهِ أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ كَأَصْحَابِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ النِّسَاءَ وَالْمَجَانِينَ، وَالْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ. فَأَمَّا النِّسَاءُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهِنَّ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِهِنَّ عِنْدَ السَّبْيِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] . وَهُنَّ غَيْرُ مُقَاتِلَاتٍ. وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: " مَا بَالُ هَذِهِ تُقْتَلُ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ " فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ أَوْ كَانَتْ خَالِيَةً لَا تَتْبَعُ رَجُلًا، وَهَكَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، فَلَوْ بَذَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ عَنْ نَفْسِهَا لَمْ يَلْزَمْ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَهْلَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ دَفَعَتْهَا مُخْتَارَةً جَازَ قَبُولُهَا مِنْهَا، وَتَكُونُ هَدِيَّةً لَا جِزْيَةً، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ إِقْبَاضِهَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى دَفْعِهَا، لِأَنَّ الْهَدَايَا لَا إِجْبَارَ فِيهَا وَإِذَا نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ حِصْنًا، فَبَذَلَ نِسَاؤُهُ الْجِزْيَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رِجَالٌ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ، سَوَاءٌ بَذَلْنَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ إِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، فَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تَلْزَمُهُنَّ، وَإِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ لَمْ يُلْزَمِ الرِّجَالُ بِعَقْدِ غَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدَ النِّسَاءُ فِي الْحِصْنِ عَنْ رَجُلٍ مُخْتَلِطٍ بِهِنَّ، فَفِي انْعِقَادِ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَوْجِيهًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا الذِّمَّةُ لَهُنَّ لِخُرُوجِهِنَّ من أهل الجزية، فلم تنعقد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 معهم الْجِزْيَةُ، فَعَلَى هَذَا يُصَمِّمُ أَمِيرُ الْجَيْشِ عَلَى حِصَارِهِنَّ حَتَّى يُسْبَيْنَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَنْعَقِدُ مَعَهُنَّ الذِّمَّةُ بِمَا بَذَلْنَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَيَحْرُمُ سَبْيُهُنَّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِالْجِزْيَةِ تَبَعًا كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِمَا بَذَلْنَهُ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَلْزَمُهُنَّ الْجِزْيَةُ بِبَذْلِهِنَّ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِنَّ عِنْدَ عَقْدِهَا أَنَّهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَإِنِ امْتَنَعْنَ مِنْ بَذْلِهَا بَعْدَ لُزُومِهَا خَرَجْنَ عَنِ الذِّمَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا وَتَكُونُ كَالْهَدِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُنَّ إِذَا أَجَبْنَ إِلَيْهَا، وَلَا تُؤْخَذُ إِذَا امْتَنَعْنَ مِنْهَا، وَهَلْ عَلَى ذِمَّتِهِنَّ فِي حَالَتَيِ الْإِجَابَةِ وَالْمَنْعِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَبَذَلَ الرجال الجزية عن أنفسهم ونساءهم نُظِرَ. فَإِنْ بَذَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جَازَ، وَلَزِمَهُمْ مَا بَذَلُوهُ، وَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةٍ بَذَلُوهَا مِنْ جِزْيَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ الرِّجَالُ إِلَّا بِجِزْيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نِسَائِهِمْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَجَانِينُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ فِي جُمْلَةِ الذَّرَارِي وَلَا يُقْتَلُ الْمَجْنُونُ إِذَا سُبِيَ، هَذَا إِذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا، فَأَمَّا إِذَا جُنَّ فِي زَمَانٍ، وَأَفَاقَ فِي زَمَانٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرَاعَى فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ. فَإِنْ كان المجنون أَكْثَرَ، فَلَا جِزْيَةَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُلَفَّقُ زَمَانُ الْإِفَاقَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حَوْلًا، فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمَيْنِ وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا، وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِفَاقَةِ، وَحُكْمُ الْجُنُونِ كَانَ تَمَيُّزُهَا أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ فِي التَّمْيِيزِ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَفِي تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْعَبِيدُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبِيدِ. وَقَالَ عُمَرُ: لَا جِزْيَةَ عَلَى مَمْلُوكٍ. وَلِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لساداتهم، لوأنهم لَا يَمْلِكُونَ، فَكَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ، فَكَانُوا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَى مُدَبَّرٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ، لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَدِّي مِنَ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُ يُمْلَكُ بِهَا، فَإِذَا عَتَقَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 الْعَبْدُ عَلَى كُفْرِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِحُرْمَةِ وَلَائِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسَبِ أَغْلَظُ، وَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِ الْأَبِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْقُطَ بِإِسْلَامِ الْمُعْتِقِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتِقُهُ ذِمِّيًّا، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ مُعْتِقِهِ، لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِعِتْقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ عَصَبَتِهِ، لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِمِيرَاثِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا اسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ عَلَيْهِ بِمُرَاضَاتِهِ، لِيُفْرِدَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنِ امتنع منها بنذر إِلَيْهِ عَهْدُهُ ثُمَّ صَارَ حُرًّا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُ جَبْرًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصِّبْيَانُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ: " خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا " فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْحَالِمِ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ إِذَا سُبُوا، فَصَارُوا أَمْوَالًا، فَإِذَا بَلَغُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ جِزْيَةَ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ خَلَفٌ لِسَلَفِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا تَلْزَمُهُمْ جِزْيَةُ آبَائِهِمْ، وَيُسْتَأْنَفُ مَعَهُمْ عَقْدُهَا عَنْ مُرَاضَاتِهِمْ، إِمَّا بِمِثْلِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ إِذَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الدِّينَارِ، وَهَذَا وَهَمٌ فِيهِ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مَذْهَبٍ، وَحِجَاجٍ. أَمَّا الْمَذْهَبُ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ جَعَلَ جِزْيَةَ الْوَلَدِ إِذَا اخْتَلَفَتْ جِزْيَةُ أَبَوَيْهِ أَنَّ جِزْيَتَهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ. وَأَمَّا الْحِجَاجُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فِي أَمَانِ الذِّمَّةِ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ. وَهَذَا يَجْعَلُهُ مُؤَقَّتًا يَلْزَمُ اسْتِئْنَافُهُ مَعَ بُلُوغِ كُلِّ وَلَدٍ، وَفِيهِ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ، وَمَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَيَكُونُ بِالِاحْتِلَامِ، وَبِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِإِنْبَاتِ الشَّعْرِ، لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ ". وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ، أَوْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى بُلُوغِهِمْ، فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ: فَقَدْ سَاوَوْا أَهْلَ دِينِهِمْ فِي حَوْلِ جِزْيَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ قِيلَ لَهُمْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَكُمْ حَوْلٌ غَيْرُ حَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ لِأَنَّهُ شَاقٌّ، وَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ إِذَا حَالَ حَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ مَضَى لَكُمْ مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ بَيْنَ أَنْ تُعْطُوا جِزْيَةَ نِصْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ لَكُمُ الْحَوْلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلُوا جِزْيَةَ سَنَةٍ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ جِزْيَةُ نِصْفِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَنْظِرُوا بِجِزْيَةِ نِصْفِ هَذِهِ السَّنَةِ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ مَعَ جِزْيَةِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا تَمَّتْ جِزْيَةُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَأَيُّ هذه الثلاثة سألوها أجيبوا إليها. (مسألة) : قال الشافعي: " وَتُؤْخَذُ مِنَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِ الرُّهْبَانِ، وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَالْأَعْمَى وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ إِمَّا لِتَعَبُّدٍ كَالرُّهْبَانِ أَوْ لِعَجْزٍ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ مُبَاحِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانَ رَأْيُهُمْ، وَتَدْبِيرُهُمْ أَضَرَّ عَلَيْنَا مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ، وَقَدْ كَفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ، فَلَمْ يُقْتَلُوا، فَعَلَى هَذَا يُقَرُّونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَصَارَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ قَوْلَانِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ أُخِذَ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَظَاهَرُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِأَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ أَسْقَطُوا بِهِ الْجِزْيَةَ عَنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْأَخْبَارِ، وَلَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ قَوْلًا غَيْرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - فَإِنَّهُ - جَعَلَ مُسَاقَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَخْلِ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا، وَقَوْلُهُ لَهُمْ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " أَمَانًا، وَجَعْلَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ خَوَلًا، وَأَنَّ بِهَذَيْنِ سَقَطَتِ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ لَا أَعْرِفُ لَهُ مُوَافِقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمَانُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْأَمَانِ، فَلَمْ تَسْقُطْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 بِهِ وَلَا تَسْقُطُ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا لَا تَسْقُطُ بِهَا جِزْيَةُ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِيهِمْ لَكَانَ فِي أَهْلِ فَدَكَ أَجْوَزَ، لِأَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا، وَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً، وَأَحْسَبُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا رَأَى الْوُلَاةَ عَلَى هَذَا أَخْرَجَ لِفِعْلِهِمْ وَجْهًا، وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْفُقَهَاءُ لِنَقْلٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ فَحُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ أمضى. والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي:: " وَمَنْ بَلَغَ وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبُوهُ نَصْرَانِيٌّ فَجِزْيَتُهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَذِي عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ أَبَوَيِ الْكَافِرِ فِي حُكْمِ كُفْرِهِمَا الْمُتَعَدِّي عَنْهُمَا إِلَى وَلَدِهِمَا تَعَلَّقَ بِاخْتِلَافِهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: الْجِزْيَةُ. وَالثَّانِي: النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ. وَالثَّالِثُ: عَقْدُ الذِّمَّةِ. وَالرَّابِعُ: الدِّيَةُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْجِزْيَةُ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا لَهُ جِزْيَةٌ، وَأُمُّهُ يَهُودِيَّةً لِقَوْمِهَا جِزْيَةٌ أُخْرَى، فَجِزْيَةُ الْوَلَدِ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ سَوَاءٌ قَلَّتْ جِزْيَةُ أَبِيهِ أَوْ كَثُرَتْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي نَسَبِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَتِهِ دُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ دُونَ مَنْ لَا تَجِبْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يَهُودِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْوَلَدِ وَلَمْ يُنْكَحْ إِنْ كَانَ امْرَأَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ، وَاعْتِبَارًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ. وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا وَأُمُّهُ مَجُوسِيَّةً، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِأَبِيهِ وَاسْتِبَاحَةِ نِكَاحِهِ، وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ، تَعْلِيلًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ بِأُمِّهِ فِي حَظْرِ نِكَاحِهِ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَتِهِ تَعْلِيلًا لِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِيهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِهِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ عَطْفًا مُرْسَلًا، فَخَرَجَ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ وَدِينِهِ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ اعْتِبَارًا بِنَسَبِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا، فَهُوَ كِتَابِيٌ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِ مُلْحَقًا بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ اعْتِبَارًا بِجِزْيَتِهِ وَرِقِّهِ فِي لُحُوقِهِ بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَلِحُدُوثِهِ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً، فَهُوَ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُلْحَقَ بِأَثْبَتِهِمَا دِينًا كَمَا يُلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا دُونَ الْكَافِرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أُلْحِقَ بِأَبِيهِ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً، وَأَبُوهُ وَثَنِيًّا أُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُلْحَقَ بِأَغْلَظِهِمَا كُفْرًا، لِأَنَّ التَّخْفِيفَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ، فَعَلَى هَذَا أَيُّهُمَا كَانَ فِي دِينِهِ وَثَنِيًّا، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَثَنِيُّ مِنْهُمَا أَبًا أَوْ أُمًّا، وَهُوَ ضِدُّ الْوَجْهِ الثَّالِثِ كَمَا أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ ضِدُّ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الدِّيَةُ: إِذَا قُتِلَ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَهُوَ مُلْحَقٌ فِي الدِّيَةِ بِأَكْثَرِ أَبَوَيْهِ دِيَةً سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ". وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ النِّسَبِ، وَكَانَ فِي الدِّينِ مُلْحَقًا بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا تَغْلِيظًا كَانَ فِي الدِّيَةِ مُلْحَقًا بِأَغْلَظِهِمَا دِيَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ النُّفُوسِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِأَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ مَا تَوَلَّدُ مِنْ بين وحشي وأهلي ومأكول، ومحظور لزمه الجزاء تغليظا. (مسألة) : قال الشافعي: " فَأَيُّهُمْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَالْإِمَامُ غَرِيمٌ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَائِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ أَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِمَوْتِهِ وَفَلَسِهِ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمَوْتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ كَالْحُدُودِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْجِزْيَةُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ قَبُولُهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَالدُّيُونِ، ولأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ، وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِمَوْتِهِ كَالْأُجُورِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْحُدُودِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ، فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ كَالْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدِّيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ عَلَى مَا مَضَى فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، كَانَتْ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا، وَالْوَرَثَةِ، وَيُسَاهِمُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ بِالْحِصَصِ، وَيَكُونُ مَا عَجَزَ الْمَالُ عَنْهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَثَابِتًا عَلَى الْمَيِّتِ. وَهَكَذَا لَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ، وَدَلِيلُهُ ما قدمناه. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَقَدِ انْتَهَى بِالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَبِمَا رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَهَذَا نَصٌّ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْقِتَالِ. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ صَغَارًا وَذِلَّةً، وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ سُقُوطُهَا عَنْهُ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزَّعِيمُ غَارِمٌ وَقَدْ ضَمِنَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غرمها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْلَامِهِ كَالدُّيُونِ فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِالزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ صَدَاقُهَا بِإِسْلَامِهِ. قِيلَ: صَدَاقُهَا إِنَّمَا بَطَلَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا يَبْطُلُ صَدَاقُهَا بِالرِّدَّةِ، لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ، فَبَطَلَتْ بِكَلَامِهِ حَلَّ لَهُ الْكَلَامُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ لَا بِالْكَلَامِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهُ فِي إِسْلَامِهِ، وَسَقَطَتِ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهَا فِي إِسْلَامِهِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَبْطُلُ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الدِّينِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَتُبْطُلُ عِلَّةُ الْفَرْعِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنِ ابْتِدَائِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَلِأَنَّ الجزية والخراج مستحقان بالكفر، لما لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ مَا وَجَبَ مِنَ الْخَرَاجِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا، أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ بِالِالْتِزَامِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ كَالْأُجْرَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة 29] . فَهُوَ أَنَّ الصَّغَارَ عِلَّةٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُهَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَدَاؤُهَا لَا يَسْقُطُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُخْتَصٌّ بِالْآثَامِ دُونَ الْحُقُوقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ أَنَّهُ يَقْطَعُ وُجُوبَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَرْفَعُ مَا وَجَبَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ، فَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَتْ عُقُوبَةً، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ وَجَبَ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ أَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ زَالَ الْإِصْرَارُ بِالْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ، وَالْجِزْيَةُ وَجَبَتْ مفاوضة عَنِ الْمُسَاكَنَةِ، وَتِلْكَ الْمُسَاكَنَةُ لَمْ تَنْزِلْ، فَلَمْ تسقط بالإسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ، إِنَّهُمْ صَغَارٌ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَبِالْخَرَاجِ، وَيَفْسُدُ بِالْحُدُودِ، وَهِيَ عقوبة وإزلال، وَلَا تَسْقُطُ بِالْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الصَّغَارَ عَلَيْهِ، فِي الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ يمنع الإسلام من وجوب ما ل ايمنع مِنِ اسْتِيفَائِهِ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنَ الجزية، لم يخل إسلامه مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ أَوْ مِنْ تَضَاعِيفِهِ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُ جَبْرًا وَحُبِسَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ. وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ جِزْيَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الحول، وهل تؤخذ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ: هَلْ هُوَ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لَا. فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْرُوبٌ لِلْأَدَاءِ كَالْحَوْلِ فِي عَقْلِ الدِّيَةِ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ جِزْيَةُ مَا مَضَى قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَقَالَ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ، وَتُؤْخَذُ فِي أَوَّلِهِ، وَلَيْسَ الْحَوْلُ فِيهَا مَضْرُوبًا لِلْوُجُوبِ، وَلَا لِلْأَدَاءِ، وِإِنَّمَا هُوَ مَضْرُوبٌ لِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ بإعطاء الجزية، فدل على استحقاقها بالكف عنه دُونَ الْحَوْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وُجُوبُهَا، وَلَا أَدَاؤُهَا، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ تُؤْخَذَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ، دِينَارًا فِي كُلِّ سَنَةٍ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى. الْعَاقِلَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ضَمَانُهَا دُونَ دَفْعِهَا، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا ضَمِنُوا الْجِزْيَةَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ دَفْعِهَا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَوَاتٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ مَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ كُلِّهَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَتَدَاخَلُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا جِزْيَةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا مَالٌ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ كَالْأُجْرَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحُدُودِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِمَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ فِي يَوْمٍ ثَانٍ، لَمْ تَتَدَاخَلِ الْكَفَّارَتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ أَنْ لَا مَالَ فِيهَا، فَجَازَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالْجِزْيَةُ مَالٌ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالْمَالِ فِيهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَغَابَ الذِّمِّيُّ سِنِينَ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ، وَسُقُوطَ جِزْيَتِهِ فِي جَمِيعِ مُدَّتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُبِلَ قَوْلُهُ فِي سُقُوطِهَا عَنْهَا، وَأُحْلِفَ إِنِ اتُّهِمَ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو دين الله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه الطريق أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله عليه الصلاة والسلام ويشترط عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في عزير والمسيح ولا يسمعونهم ضرب ناقوس وإن فعلوا عزروا ولا يبلغ بهم الحد ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ تَقْوِيَةُ الْإِسْلَامِ، وَإِعْزَازُهُ وَإِضْعَافُ الْكُفْرِ وَإِذْلَالُهُ لِيَكُونَ الْإِسْلَامُ أَعْلَى وَالْكُفْرُ أَخْفَضَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَكُلُّ مَا دَعَا إِلَى هَذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْمُورًا بِاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا يُؤْخَذُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ جِزْيَتِهِمْ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَوَجَبَ بِالشَّرْطِ. وَالرَّابِعُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 وَالْخَامِسُ: مَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدٍ وَلَا شَرْطٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ مُؤَكَّدًا لَا مُوجَبًا فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أي يضمنوها. وَالثَّانِي: الْتِزَامُ أَحْكَامِهَا بِالْإِسْلَامِ فِيمَا أَجَابُوهُ مِنَ المسلمين، لقوله تعالى: {وهم صاغرون} والصغار: أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونُوا آمِنِينَ مِنْهُمْ كَمَا أَمِنُوهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، فَلَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ، وَقَعَدَ عَنْهُمْ بَعْضُهُمُ انْتَقَضَ عَقْدُ الْمُقَاتِلِ، وَنُظِرَ فِي الْقَاعِدِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الرِّضَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَوِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ سَوَاءٌ امْتَنَعُوا جَمِيعًا مِنِ الْتِزَامِهَا أَوْ مِنْ أَدَائِهَا وَإِنِ امْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ بَذْلِهَا نُظِرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنِ الْتِزَامِهَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ كَالْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْتِزَامِهَا لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ إِجْبَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرٌ، وَإِجْبَارَ الْوَاحِدِ عَلَيْهَا مُمْكِنٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا، وَيَنْتَقِضُ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِهَا كَالْآحَادِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ لِتَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ بِطَعْنٍ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَكْذِيبٍ لَهُ، وَلَا إِزْرَاءٍ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ اللَّهِ بِذَمٍّ لَهُ، وَلَا قَدْحٍ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِدَمِهِ أَوْ مَالِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا، وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الحرب، ولا يؤوا عَيْنًا لَهُمْ، وَلَا يَنْقُلُوا أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ تَجِبُ بِالشَّرْطِ، وَفِي وُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ تَأْكِيدًا، تَعْلِيلًا بِدُخُولِ الضَّرَرِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، تَعْلِيلًا بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْجِزْيَةِ، لَكِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، لِتَحْرِيمِهَا وَظُهُورِ الضَّرَرِ بِهَا، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا، فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ لِلُزُومِهَا بِالشَّرْطِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ بِهَا عَهْدُهُمْ، لِخُرُوجِهَا عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَيَجِبُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا مَنَعُوا مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، فَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ، وَيَكُونُوا إِنْ لَمْ يَنْخَفِضُوا عَنْهُمْ مُسَاوِينَ لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً، وَلَا كَنِيسَةً، وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُجَاهِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ، وَخَنَازِيرِهِمْ، وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا، وَلَا يُطْعِمُونَهُمْ خِنْزِيرًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَظَاهَرُوا بِمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمَسِيحُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُظْهِرُوا بِتِلَاوَةِ مَا نُسِخَ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَلَا يُظْهِرُوا فِعْلَ مَا نُسِخَ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِ نَوَاقِيسِهِمْ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهَا مَنَاكِيرُ لَزِمَ الْمَنْعُ مِنْهَا بِالشَّرْعِ، فَإِنْ خَالَفُوهَا، فَفِي بُطْلَانٍ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا مُنِعُوا مِنْهُ، لِتَطَاوُلِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِتَاقًا، وَهِجَانًا، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَالثَّانِي: تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ، بِلُبْسِ الْغُبَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ، لِيَتَمَيَّزُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلَافِ الهيئة، ولواحدة نِسَائِهِمْ إِذَا بَرَزَتْ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخُفَّيْنِ أَحْمَرَ، وَالَآخَرُ أَسْوَدَ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ نِسَاؤُهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ أَثَرٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا دُورُهُمْ، فَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى، وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ، وَلَا يُظْهِرُوا إِخْرَاجَ جَنَائِزِهِمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُظْهِرُوا عَلَى مَوْتَاهُمْ لَطْمًا، وَلَا نَدْبًا، وَلَا نَوْحًا. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا صِيَانَةً لَهَا مِنْهُمْ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوا مِنْ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، لِئَلَّا يُذِلُّوهُمْ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيَحْمِلُوهُمْ عَلَى الِارْتِدَادِ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ إِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ، وَفِي لُزُومِهَا إِذَا شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَلْزَمُ لِخُرُوجِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ وَمُنْكَرٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَالَفُوهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِهَا غزروا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ " فَعَلَى هَذَا إذا خالفوها بعد بالشرط، فَعَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ بِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى. فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ بِعَقْدٍ، وَلَا شَرْطٍ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى إِذْلَالِهِمْ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُعْلُوا أَصْوَاتهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ فِي الْمَجَالِسِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُضَايِقُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا يَمْشُوا فِيهَا إِلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَا يُسَاوُوهُمْ فِي الرَّدِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُرُقِ، وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ " وَالْخَامِسُ: إِذَا اسْتَعَانَ بِهِمْ مُسْلِمٌ فيما لا يستضروا بِهِ أَعَانُوهُ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يَسْتَبْذِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِهَنِ الْأَعْمَالِ بِأَجْرٍ وَلَا تَبَرُّعٍ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ تُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ إِذْلَالًا لَهُمْ، فَإِنْ خَالَفُوهَا لَمْ يَنْتَقِضْ بِهَا عَهْدُهُمْ، وَجبِرُوا عَلَيْهَا، إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ عُزِّرُوا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ، وَلَا يَنْتَقِضُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ عَهْدُهُمْ، أُخِذُوا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلٍ، وَلَزِمَهُ مِنْ حَدٍّ، وَقُوِّمُوا بِهِ مِنْ تَأْدِيبٍ وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، نُظِرَ حَالُهُمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ، فَإِنْ قَاتَلُوا بَطَلَ أَمَانُهُمْ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 وَكَانُوا حَرْبًا يُقْتَلُونَ، وَيُسْتَرَقُّونَ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُونَا فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ بِانْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي عَقْدٍ، فَالْتَزَمْنَا حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ. وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَزِمَ أَنْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُوا بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِمْ حَرْبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنَ الْأُمِّ أَنَّ أَمَانَهُمْ قَدْ بَطَلَ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَهْدِ، فَبَطَلَ بِانْتِقَاضِهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ صَارُوا بِبُطْلَانِ الْأَمَانِ حَرْبًا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْأَسْرَى إِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْمَنُّ، أَوِ الْفِدَاءُ، فَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَهَا سَقَطَتْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرَقُّوا، وَيُفَادَوْا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُ الْأَسِيرِ الْمُحَارِبِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ أَمَانًا مُتَقَدِّمًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسِيرِ، فَصَارَ حُكْمُهُمْ بِهِ أَضْعَفَ وَأَخَفَّ مِنَ الْأَسِيرِ. فَأَمَّا أَمَانُ ذَرَارِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَفِي بُطْلَانِ أَمَانِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ، لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ فِي لُزُومِهِ، فَكَانُوا تَبَعًا فِي بُطْلَانِهِ، فَيَصِيرُوا سَبْيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّ أَمَانَهُمْ لَا يَبْطُلُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِيهِمْ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِبُطْلَانِهِ فِي غَيْرِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْبَوْا، وَيَجُوزَ إِقْرَارُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَأَلُوا الرُّجُوعَ لِدَارِ الْحَرْبِ أُعِيدَ الصِّبْيَانُ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِاخْتِيَارِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَأَقَامَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَبْلُغُوا، ثُمَّ يُخَاطَبُوا بِالْجِزْيَةِ، فَإِنِ الْتَزَمُوهَا اسْتُؤْنِفَ عَهْدُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهَا بَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ، ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الصغار مطلبهم أهلوهم مِنْ دَارِ الْحَرْبِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ طَالِبُهُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِحَضَانَتِهِمْ أُجِيبَ إِلَى رَدِّهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِحَضَانَتِهِمْ مُنِعَ مِنْهُمْ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ كَنِيسَةً وَلَا مَجْمَعًا لِصَلَاتِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا فِيهَا حَمْلَ خَمْرٍ وَلَا إِدْخَالَ خِنْزِيرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ، فيمنعوا مِنْ إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: لَمَّا صَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، فَذَكَرَ فِيهِ إنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دِيرًا وَلَا كَنِيسَةً، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَأَنْ لَا يَمْنَعُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 الْمَارَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا - ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُخَرَّجِ عَلَى كِتَابِ الْمُزَنِيِّ، وَلِأَنَّ إِحْدَاثَهَا مَعْصِيَةٌ، لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا الْوُقُوفَ عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَعَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلِأَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ مَا بَنَوْهُ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مُنِعُوا. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ. وَالثَّانِي: مَا فَتَحُوهُ عَنْوَةً. وَالثَّالِثُ: مَا فَتَحُوهُ صُلْحًا. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُونَ إِنْشَاءَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي نُزُولِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَيَكُونُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ صُلْحِهِمْ، وَإِنْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ رَضِيتُمْ بِإِبْطَالِ هَذَا مِنْهُ، وَإِلَّا نَقَضْنَا عَهْدَكُمْ، وَبَلَّغْنَاكُمْ مَآمِنَكُمْ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُهُمْ بِنَقْضِنَا بِعَهْدِهِمْ لِأَنَّنَا نَحْنُ نَقَضْنَاهُ بِمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَرَى فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ بِيَعًا وَكَنَائِسَ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَهُوَ مِصْرٌ إِسْلَامِيٌّ بَنَاهُ الْمَنْصُورُ. قُلْنَا: إِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَجَبَ هَدْمُهَا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ قَدِيمَةً فِي الْمِصْرِ قَبْلَ إِنْشَائِهِ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ كَانُوا يَبْنُونَ صَوَامِعَ، وَدِيَارَاتٍ، وَبِيَعًا فِي الصَّحَارِي يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا، فَتُقَرُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُهْدَمُ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهَا، أُقِرَّتِ اسْتِصْحَابًا، لِظَاهِرِ حَالِهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى اسْتِئْنَافِ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ فِيهَا، فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَمَا كَانَ مِنْهَا خَرَابًا عِنْدَ فَتْحِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَمِّرُوهُ، لِدُرُوسِهَا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَصَارَتْ كَالْمَوَاتِ. فَأَمَّا الْعَامِرُ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عِنْدَ فَتْحِهَا، فَفِي جَوَازِ إِقْرَارِهَا عَلَيْهِمْ إِذَا صُولِحُوا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهَا عَنْ أَمْلَاكِهِمُ الْمَغْنُومَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 وَلِذَلِكَ أُقِرَّتِ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَزُولُ عَنْهَا حُكْمُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَتَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ مَغْنُومًا لَا حَقَّ فِيهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا ابْتَنَوْهُ مِنْهَا حُرْمَةٌ فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْمَغَانِمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ، لِتَكُونَ عَلَى حَالِهَا بِيَعًا وَكَنَائِسَ لَهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِزَوَالِهَا عَنْهُمْ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، فَصَارَتْ كَالْبِنَاءِ الْمُبْتَدَأِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أن نصالحهم على أن يكون ملك الدار لَنَا دُونَهُمْ، وَيَسْكُنُونَ مَعَنَا فِيهَا بِالْجِزْيَةِ، فَيُنْظَرُ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَثْنَوْهَا فِي صُلْحِهِمْ أُقِرَّتْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَرْضِهِمْ، وَخَاصًّا فِي بَعْضِهِمْ، فَيُقَرُّوا عَلَيْهَا بِالصُّلْحِ، وَيُمْنَعُوا مِنِ اسْتِحْدَاثِ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنُوهَا فِي صُلْحٍ صَارَتْ كَأَرْضِ الْعَنْوَةِ هَلْ يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ إِذَا فَتَحُوهَا؟ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْبَلَدِ فِي مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ نُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الدَّارِ لَهُمْ دُونَنَا عَلَى جِزْيَةٍ يؤدونها إلينا، عن رؤوسهم أَوْ عَنْ أَرْضِهِمْ أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا فِيهَا إِحْدَاثَ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ. فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيُؤْخَذُ هَؤُلَاءِ فِي بَلَدِهِمْ بِقِسْمَيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ. وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي: وَهِيَ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَاتٌ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا. فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ منكراتهم واستعلائهم، فلا يؤخذ بِهَا، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْهَا، لِأَنَّهَا دَارُهُمْ، وَهِيَ دَارُ مُنْكَرٍ فِي مُعْتَقَدٍ وَفِعْلٍ، فَكَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مُقَرِّينَ عَلَى مَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحْدَثَ، فَهِيَ مَا كَانَتْ مَجْمَعًا لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَا اخْتُصَّ بِعِبَادَاتِهِمْ، وَتِلَاوَةِ كُتُبِهِمْ، وَدِرَاسَةِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 كُفْرِهِمْ، فَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، فَأَمَّا بِنَاءُ مَا سِوَاهَا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَمْلَاكًا خاصة، يسكنها أربابها، فلا يمنعوا بنائها، وَلَا أَنْ يَبِيعَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَشْتَرُونَهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّهَا مَنَازِلُ سُكْنَى، وَلَيْسَتْ بُيُوتَ صَلَاةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْنُوا مَا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْهُمْ لِكُلِّ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمِلْكِهِ، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ شَارَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي سُكْنَاهُ فَجَعَلُوهُ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ جَازَ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ بَقَائِهِ، وَإِنْ جَعَلُوهُ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي جَوَازِ تَمْلِيكِهِمْ مِنْ بِنَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَنْزِلُ سَكَنٍ، فَصَارَ كَالْمَنْزِلِ الْخَاصِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ عُمُومًا، لِيَتَعَبَّدَ فِيهِ سَابِلَتُهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البيع والكنائس فرق، وقد يؤول بِهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَهُمْ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمِ الَّتِي يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَعَ عِمَارَتِهَا، فَفِي جَوَازِ إِعَادَتِهِمْ لِبِنَائِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِنَائِهَا، وَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عِمَارَتِهَا، لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ أَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ إِعَادَةُ بِنَائِهَا اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِهَا، وَأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا بَطَلَتْ عَلَيْهِمْ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي خَرَابِهَا، فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَفَةً كَالْمَوَاتِ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا، لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَعِثَةً بَاقِيَةَ الْآثَارِ وَالْجُدْرَانِ جَازَ لَهُمْ بِنَاؤُهَا، وَلَوْ هَدَمُوهَا لِاسْتِئْنَافِهَا لَمْ يُمْنَعُوا، لِأَنَّ عِمَارَةَ الْمُسْتَهْدَمِ اسْتِصْلَاحٌ وَإِنْشَاءَ الدارس استئناف. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُحْدِثُونَ بِنَاءً يَتَطَوَّلُونَ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَخْلُو مَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمُوا سُكْنَاهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعِيدُوا بِنَاءَهَا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا بَعْدَ الْعَهْدِ، فَلَا يَخْلُو مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مِنْ غَيْرِ دِينِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ مُسْلِمِينَ، لَمْ يكن لهم أن يعلو بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَطَّوَّلُوا عَلَى أَبْنِيَتِهِمْ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإسلام يعلو ولا يعلى فإن علو بِأَبْنِيَتِهِمْ هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يُمَكَّنُونَ مِنْ مُسَاوَاتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِنَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالِاسْتِشْرَافُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ حَتَّى تُنْقَصَ أَبْنِيَتُهُمْ عَنْ أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي اللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإسلام يعلو، ولا يعلى. وهل يراعى المنع مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ جِيرَةٍ، لِأَنَّ مَا بَعُدَ عَنْهُمْ، فَقَدْ أَمِنَ إِشْرَافَهُمْ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُمْنَعُونَ فِي جَمِيعِ الْمِصْرِ أَنْ يَتَطَاوَلُوا بِالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَطَاوَلُوا فِيهَا بِأَبْنِيَتِهِمْ، فَيَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَعْلُو بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ يُمْنَعُ جميعهم أن يعلو بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ مَنْ لَا يُجَاوِرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمِصْرِ أَوْ لَا؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَبْنِيَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا اسْتَعْدَوْنَا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مِمَّا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ مَسَاكِنِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَبْنِيَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَكَنُوهَا قَبْلَ صُلْحِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَوْهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ الصُّلْحِ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 عَلَيْهِمَا، وَإِنِ اسْتَعْلَوْا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا نُقِرُّهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَإِنْ مُنَعُوا مِنَ اسْتِحْدَاثِهَا، لَكِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى سُطُوحِهَا إِلَّا بَعْدَ تَحْجِيرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُ بِتَحْجِيرِ سَطْحِهِ مِنْ جَارِهِ، وَيُمْنَعُ صِبْيَانُهُمْ مِنَ الْإِشْرَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ صِبْيَانُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِشْرَافِ، فَيَصِيرُوا مَأْخُوذِينَ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُسْلِمُ بِالْمَنْعِ منْ إِشْرَافِهِ عَلَى جَارِهِ الْمُسْلِمِ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّحْجِيرِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْمُسْلِمُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُونٌ وَهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعِيدُوا أَبْنِيَةَ مَسَاكِنِهِمْ بَعْدَ اسْتِهْدَامِهَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ كَالْمُسْتَأْنِفِينَ لِبِنَائِهَا، فَيُمْنَعُوا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً قَبْلَ هَدْمِهَا، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ إِذَا اسْتُهْدِمَتْ فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِقُوا فِي أَبْنِيَتِهِمْ بِإِخْرَاجِ الرَّوَاشِينَ وَالْأَجْنِحَةِ إِلَى طُرُقِ السَّابِلَةِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُونَ ارْتِفَاقَهُمْ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي اسْتِطْرَاقِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ كمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ الَّذِي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي آثَارِ حُشُوشِهِمْ إِذَا أَرَادُوا حَفْرَهَا فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين: (مسألة) : قال الشافعي: " وَأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَتِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وبين هيآت الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَعْقِدُوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَيْئَاتِ الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ، فَيُؤْخَذُونَ بِهِ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ، لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ، فَيُعْرَفُوا، ولا يشتبهوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَيَخْفَوْا، لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنِ افْتِرَاقِ الْأَحْكَامِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَيْئَاتِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: فِي مَلَابِسِهِمْ. وَالثَّانِي: فِي أَبْدَانِهِمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 وَالثَّالِثُ: فِي مَوَاكِبِهِمْ. فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي مَلَابِسِهِمْ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُبْسُ الْغِيَارِ. وَالثَّانِي: شَدُّ الزُّنَّارِ. فَأَمَّا الْغِيَارُ، فَهُوَ أَنْ يُغَيِّرُوا لَوْنَ ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ لَا يَلْبَسُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ لَوْنِهِ، إِمَّا في عمائهم، وَإِمَّا فِي قُمُصِهِمْ، وَيَكُونُوا فِيمَا سِوَاهُ مِثْلَ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ غِيَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِيَتَمَيَّزُوا، وَعَادَةُ الْيَهُودِ أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمِ الْعَسَلِيَّ، وهو الماثل إِلَى الصُّفْرَةِ كَالْعَسَلِ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الأزرق يخالف معهود الأزرق، وغيار النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمُ الْأَدْكَنَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفَاخِتِيِّ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الصُّوفِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ شَرْطًا لَا يُتَجَاوَزُ إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِلَوْنٍ مُتَمَيِّزٍ فَإِذَا صَارَ مَأْلُوفًا مُنِعُوا مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالْإِشْكَالُ، فَإِنْ تَشَابَهَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي لَوْنِ الْغِيَارِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ تَمَيُّزُهُمْ فِيهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الزُّنَّارُ فَهُوَ كَالْخَيْطِ الْمُسْتَغْلِظِ يَشُدُّونَهُ في أوساطهم فوق ثيابهم، وأرديتهم، ويمنعوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِشَدِّ الْمَنَاطِقِ وَالْمِنْدِيلِ، لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ مِنْ لُبْسِ الْمُتَخَصِّصِينَ بِالرُّتَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَنَادِيلِ فِي الْأَوْسَاطِ مِنْ لُبْسِ ذَوِي الصَّنَائِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَمَيَّزْ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَجَمِيعُ الْأَلْوَانِ مِنَ الزَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغِيَارِ، لِأَنَّ أَصْلَ الزُّنَّارِ كَالْغِيَارِ. فَإِنْ شُرِطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي غِيَارٍ أَوْ زُنَّارٍ جَازَ، لِأَنَّهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ أَخَذُوا بِهِمَا مَعًا، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّمَيُّزِ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَأَمَّا نساء أهل الذمة، فيؤخذون بِلُبْسِ الْغِيَارِ فِي الْخِمَارِ الظَّاهِرِ الَّذِي يُشَاهَدُ، ويلبسوا خُفَّيْنِ مِنْ لَوْنَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَسْوَدُ، وَالْآخَرُ: أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ، لِيَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ويؤخذوا بِشَدِّ الزُّنَّارِ دُونَ الْخِمَارِ، لِئَلَّا تَصِفَهَا بِثِيَابِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا، فَإِنِ اقْتَصَرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى التَّمَيُّزِ بِأَحَدِهِمَا جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى، فَإِنْ لَبِسَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ وَالطَّيَالِسَةَ، لَمْ يُمْنَعُوا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالطَّيَالِسَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَجْمَلِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمَيُّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَمَيَّزُوا بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ جَازَ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي صِفَاتِ مَلَابِسِهِمْ كَمَا يُسَاوُوهُمْ فِي أنواع مأكلهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 وَأَمَّا لُبْسُ فَاخِرِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ ظَاهِرًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطَاوُلِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَمَيِّزِينَ بِلُبْسِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي أَبْدَانِهِمْ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي شُعُورِهِمْ. وَالثَّانِي: فِي أَجْسَادِهِمْ. فَأَمَّا الشُّعُورُ فَيُمَيَّزُونَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْحَذِفُوا في مقدم رؤوسهم عراضا تخالف شوابير الأشراف. والثاني: لا يفرقوا شعورهم في رؤوسهم، وَيُرْسِلُونَهَا ذَوَائِبَ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا فِي أَجْسَادِهِمْ، فَهُوَ أَنْ تُطْبَعَ خَوَاتِيمُ الرَّصَاصِ مَشْدُودَةً، فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ رِقَابِهِمْ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَذَلُّ، وَإِنَّمَا أُخِذُوا بِالتَّمَيُّزِ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِنْدَ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، فَإِذَا تَجَرَّدُوا فِيهَا مِنْ ثِيَابِهِمْ، وَقَدِ اخْتِيرَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَفِي أَيْدِيهِمْ جَلْجَلٌ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا وُجِدُوا مَوْتَى، لِيُعْرَفُوا، فَيُدْفَعُوا إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، فَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَيُصَلُّوا عَلَيْهِمْ، وَيَدْفِنُونَهُمْ فِي مَقَابِرِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيَّزُوا بِمِيسَمٍ وَلَا وَسْمٍ، لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَغَيْرُ مَأْثُورٍ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي أَبْدَانِهِمْ إِمَّا بِالشُّعُورِ أَوْ بِخَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ الْمَطْبُوعَةِ جَازَ، لِوُقُوعِ التَّمْيِيزِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أظهر. فأما النساء فلا يعرض لتحذيف شعورهم، ويمنعوا مِنَ الْفَرْقِ وَالذَّوَائِبِ فِي الْحَمَّامَاتِ دُونَ مَنَازِلِهِنَّ، وَهُنَّ فِي طَابَعِ خَوَاتِيمِ الرَّصَاصِ إِذَا خَرَجْنَ كَالرِّجَالِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَرَاكِبِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي جِنْسِ الْمَرْكُوبِ. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْمَرْكُوبِ. فَأَمَّا جِنْسُ الْمَرْكُوبِ، فَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 عِتَاقًا، وَهِجَانًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . فَأَخْبَرَ بِإِعْدَادِهَا لِأَوْلِيَائِهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْغَنِيمَةَ، وَهُمُ الْمَغْنُومُونَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرُوا بِهَا غَانِمِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ الْخَيْلُ ظُهُورُهَا عِزٌّ وَبُطُونُهَا كَنْزٌ. وَأَمَّا صِفَةُ الْمَرْكُوبِ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَرْكَبُوا عَلَى الْأُكُفِ عُرْضًا لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَخْتِمُوا فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالرَّصَاصِ، وَأَنْ يُظْهِرُوا مَنَاطِقَهُمْ، وَيَجُزُّوا نَوَاصِيَهُمْ، وَيَرْكَبُوا الْأُكُفِ عُرْضًا، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي لَبُوسِهِمْ. فَأَمَّا الْخَتْمُ بِالرَّصَاصِ فِي رِقَابِهِمْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إِظْهَارُ مَنَاطِقِهِمْ، فَهُوَ شَدُّ الزُّنَّارِ فِي أَوْسَاطِهِمْ، فَوْقَ ثِيَابِهِمْ، وَأَمَّا جَزُّ نَوَاصِيهِمْ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تحذيفهم في مقدم رؤوسهم. وَأَمَّا رُكُوبُ الْأُكُفِ عُرْضًا فَهُوَ أَنْ تَكُونَ رِجْلَا الرَّاكِبِ إِلَى جَانِبٍ، وَظَهْرُهُ إِلَى جَانِبٍ، فَإِنَّ تَجَاوُزَ الْأُكُفَ إِلَى ضِدِّهِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ إِلَى السُّرُوجِ بِمَا تَمَيَّزَ مِنْ سُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ رُكُبُهُمْ فِيهَا خَشَبًا، وَلَمْ تَكُنْ حَدِيدًا وَيُمْنَعُونَ مَنْ تَخَتُّمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّطَاوُلِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَلَوْ وُسِمَتْ بِغَالُهُمْ بِمَا يتميز به عما للمسلمين كان أولى. (مسألة ) : قال الشافعي: " وَلَا يَدْخُلُوا مَسْجِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَهُمْ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسْجِدَ الْمُسْلِمِينَ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ، وَإِنْ أُغْفِلَ شَرْطُهُ عَلَيْهِمْ مُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ لِأَكْلٍ وَمَنَامٍ، لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْذَالِهِمْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُسْلِمُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ دِينًا، وَالْمُشْرِكَ يَرَى اسْتِبْذَالَهُ دِينًا. وَأَمَّا دُخُولُهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى مُسْلِمٍ، فَيَجُوزُ بِإِذْنٍ وَيُمْنَعُونَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذَنٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَةِ الدُّخُولِ بَعْدَ الْإِذْنِ. فَإِنْ قَدِمَتْ وُفُودُ الْمُشْرِكِينَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ الْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ أَرَادَ إِنْزَالَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ. فَإِنْ خِيفَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ، وَإِنْ أُمِنَ مِنْهُمْ تَنْجِيسُهُ نُظِرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 فيه، إن لم يرج إِسْلَامَهُمْ مُنِعُوا مِنْ نُزُولِهِ صِيَانَةً لَهُ مِنَ الِاسْتِبْذَالِ، وَإِنْ رُجي إِسْلَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ جَازَ إِنْزَالُهُمْ فِيهِ. قَدْ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِسْلَامِ قَوْمِهِمْ. وَلَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيمَنْ لَمْ يَرْجُ إِسْلَامَهُمْ إِلَى إِنْزَالِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِتَعَذُّرِ مَا يَنْزِلُونَ فِيهِ، مُسْتَكِنِّينَ فِيهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ جَازَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَنْ يَنْزِلُوا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْزَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِيَ النَّضِيرِ مِنْ ضَرُورَةٍ حَتَّى أَمَرَ بِهِمْ، فَبِيعُوا وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ إِلَى سَارِيَةٍ فِي مَسْجِدِهِ. فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِذْنُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُقَامٍ أَوِ اجْتِيَازٍ، فَإِنْ كَانَ لِمُقَامٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَزِيدُ عَلَى مُقَامِ السَّفَرِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِيهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي الدِّينِ أَوْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِاجْتِيَازٍ أَوْ لُبْثٍ يَسِيرٍ نُظِرَ فِي الْمَسْجِدِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَمْ يَصِحَّ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِذْنُهُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا أُبِيحَ مِنْ دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مِنْ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ فِيهَا أَئِمَّتُهَا بِغَيْرِ إِذَنِ السُّلْطَانِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِذَنُ السُّلْطَانِ فِي دُخُولِهِ. وَفِيمَنْ يَصِحُّ إِذْنُهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كُلٌّ مَنْ صَحَّ أَمَانُهُ لِمُشْرِكٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، صَحَّ إِذْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ أَغْلَظُ. والْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذْنُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْقُرْآنَ، فَيَجُوزُ بِهِ إِذَا رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ وَلَا يَجُوزُ إِذَا خِيفَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِ. قَدْ سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - أُخْتَهُ تَقْرَأُ سُورَةَ " طه " - فَأَسْلَمَ. وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِذَا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ كَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَلْبِي. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّمِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَأَخْبَارِ الرَّسُولِ إِنْ رُجِيَ بِهِ إِسْلَامُهُمْ لَمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 يُمْنَعُوا مِنْهُ، وَإِنْ خِيفَ اعْتِرَاضُهُمْ وَجَرْحُهُمْ فِيهِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالنَّحْوِ، وَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ تَعَلُّمِهِ، لِأَنَّهُ فِي اسْتِقَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ بِهِ تَطَاوُلًا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَعَانُوا بِهِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لأنه ليس من حلوم الدِّينِ، وَأَشْبَهَ عِلْمَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تعالى. قد صان كتابه عن قدم بدليل، واعتراض بحجة. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا وَلَا يُطْعِمُوهُ خِنْزِيرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكْرِهُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ التَّبَعَةَ فِيهِ عليهم لا على المسلم، فيعزروا سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِمْ، أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَلَا يَنْتَقِضْ بِهِ الْعَهْدُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَفِي انْتِقَاضِهِ بِهِ إِنْ شُرِطَ وَجْهَانِ: وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْلِبَهُمُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ كَرْهًا، فَيَشْرَبَ خَمْرَهُمْ، وَيَأْكُلَ خِنْزِيرَهُمْ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ، وَيُعَزَّرُ لِأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، وَيُعَزَّرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، فِيمَا شَرِبَهُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلَهُ مِنَ الخنزير. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْرِضُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَيَقْبَلُهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيبٍ، فَيُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَدُّ الْخَمْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُعَزَّرُ فِي حَقِّهِمْ، وَيُعَزَّرُ الذِّمِّيُّ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَهْدِهِمْ، وَلَا يُعَزَّرُ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُ بِطَلَبِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَّا أَنَّ تَعْزِيرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِعَرْضِهِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ فِي إِجَابَتِهِمْ، وَإِنِ اسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي حَدِّ الْمُسْلِمِ وتعزيره. (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ كَانُوا فِي قَرْيَةٍ يَمْلِكُونَهَا مُنْفَرِدِينَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ فِي خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَرَفْعِ بُنْيَانِهِمْ وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طائل لبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك وتركوا على ما وجدوا ومنعوا إحداث مثله وهذا إن كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة وشرط هذا على أهل الذمة وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلح منهم على تركهم ذلك خلو وإياه ولا يجوز أن يصالحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثوا فيه ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ إِنْ تَفَرَّدُوا بِمِلْكِهِ وَسُكْنَاهُ مِنَ الْقُرَى وَالْبِلَادِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِي إِظْهَارِ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ فِيهِ، وَضَرْبِ نَوَاقِيسِهِمْ، وَابْتِنَاءِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَتَعْلِيَةِ مَنَازِلِهِمْ، وَتَرْكِ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ وَلِأَنَّهَا زَادُهُمْ، فَأَشْبَهَتْ دَوَاخِلَ مَنَازِلِهِمْ. فَأَمَّا رُكُوبُهُمُ الْخَيْلَ فِيهَا فيحتمل وجهين: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا كَمَا لَمْ يُمْنَعُوا مِمَّا سِوَاهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِهَا، لِأَنَّهَا رُبَّمَا صَارَتْ قُوَّةً لَهُمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، فَخَالَفَتْ بِذَلِكَ مَا سِوَاهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَصُلْحًا ما قد مضى شرحه. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ أَسْمَاءَهُمْ وَحُلَاهُمْ فِي دِيوَانٍ وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ عُرَفَاءَ لَا يَبْلُغُ مَوْلُودٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا رَفَعَهُ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَوْضُوعٌ لِلتَّأْبِيدِ، فَاحْتَاجَ إِلَى دِيوَانٍ يُفْرَدُ لَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ دِيوَانَ الْجَوَالِي، لِأَنَّهُمْ أُجْلُوا عَنِ الْحِجَازِ، فَسُمُّوا جَوَالِيَ، وَهَذَا الدِّيوَانُ مَوْضُوعٌ فِيهِمْ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ عَقْدُ ذِمَّتِهِمْ، وَمَبْلَغُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ، وَمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِيُحْمَلُوا عَلَيْهَا فِيمَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَذِكْرُ الْإِمَامِ احْتِيَاطٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ فِي نَسَبِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَصِنَاعَتِهِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَذْكُرَ حِلْيَةَ بَدَنِهِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْكِبَرِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ، وَالسُّمْرَةِ، وَالسَّوَادِ، وَحِلْيَةَ الْوَجْهِ وَالْأَعْضَاءِ، لِيَتَمَيَّزَ إِنْ وَافَقَ اسْمٌ اسْمًا، وَيَذْكُرَ فِيهِ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ دُونَ الْإِنَاثِ، لِاعْتِبَارِ الْجِزْيَةِ بِبُلُوغِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَإِنْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ مَوْلُودٌ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ أَسْقَطَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ مَا أَدَّوْهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، لِيُعْلَمَ بِهِ مَا بَقِيَ وَمَا اسْتُوْفِيَ، وَيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْأَدَاءِ بَرَاءَةً يَكْتُبُ اسْمَ الْمُؤَدِّي، وَنَسَبَهُ، وَحِلْيَتَهُ، لِيَكُونَ حُجَّةً لَهُ تَمْنَعُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الْجِزْيَةِ مُعْتَبَرًا بِالْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ السَّنَةُ الْهِلَالِيَّةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ دِيوَانِهِمْ عَرَّفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمُ العرفاء وضم إلى كل عريف قوما معينين أَثْبَتَ مَعَهُمُ اسْمَ عَرِّيفِهِمْ فِي الدِّيوَانِ وَيَكُونُوا عَدَدًا يَضْبُطُهُمُ الْعَرِّيفُ الْوَاحِدُ فِيمَا نُدِبَ لَهُ. وَالْعَرِّيفُ مَنْدُوبٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ وُلِدَ فِيهِمْ، فَيُثْبِتَهُ، وَحَالَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، فَيُسْقِطَهُ، وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَرِيبٍ وَمِنْ مُسَافِرٍ عَنْهُمْ، وَمُقِيمٍ، وَيُثْبِتُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمًا يقبل خبره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ مَنْ دَخَلَ فِي جِزْيَتِهِمْ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا فَيُثْبِتَهُ، وَالدَّاخِلُ فِيهَا: الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ، وَالْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ، وَالْعَبْدُ إِذَا عَتَقَ. وَالْخَارِجُ مِنْهَا: مَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، أَوِ افْتَقَرَ بَعْدَ غِنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ، وَيَعْرِفَ حَالَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْضِرَهُمْ إِذَا أريدوا لأداء الجزيرة، وَلِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَشْكُوا إِلَيْهِ، مَا يُنْهِيهِ عنهم إلى الإمام من حَقٍّ لَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ، أَوْ مِنْ تَعَدِّي مُسْلِمٍ عَلَيْهِمْ يَكُفُّ عَنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَامَ بِهَذَا مِنَ الْعُرَفَاءِ ذِمِّيًّا مِنْهُمْ، لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْهُمْ، لَا يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِهِ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ صُلْحُهُمْ بَعَثَ فِي كُلِّ بِلَادٍ فَجُمِعَ الْبَالِغُونَ مِنْهُمْ ثُمَّ يُسْأَلُونَ عَنْ صُلْحِهِمْ فَمَنْ أَقَرَّ بِأَقَلِّ الْجِزْيَةِ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى جِزْيَةٍ وَشُرُوطٍ يَجُوزُ مِثْلُهَا، وَجَبَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاءُ عَهْدِهِ، وَأَجْرَى أَهْلَ الذِّمَّةِ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ. فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِهِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ شُرُوطًا يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا أَبْطَلَ الْإِمَامُ بَعْدَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ مَعَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إِلَيْهِ غَيَّرَ فِي الديوان ما تقدم من الصلح الفاسد، وأثبتت فِيهِ مَا اسْتَأْنَفَهُ مِنَ الصُّلْحِ الْجَائِزِ. وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَيْهِ نَقَضَ عَهْدَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ منهم، وَعَادُوا حرمًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ، وَأَشْكَلَ عَلَى إِمَامِ الْوَقْتِ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ، فَإِنِ اسْتَفَاضَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَانْتَشَرَ ذِكْرُهَا فِي الْأَمْصَارِ، عَمِلَ فِيهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ. وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتِفَاضَتُهَا رَجَعَ إِلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْجِزْيَةِ يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مِثْلِهِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عَدْلَانِ، وَكَانَ فِي دِيوَانِهِمُ الْمَوْضُوعِ بِجِزْيَتِهِمْ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ، وَشُرُوطِ صُلْحِهِمْ، فَإِنِ ارْتَابَ بِهِ وَلَمْ تَقَعْ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهُ، لِخُطُوطٍ مُشْتَبِهَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 وَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ، وَكَانَ تَحْتَ خَتْمِ أُمَنَاءِ الْكِتَابِ فَفِي جَوَازِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ بِبَرَاءَةٍ أَحْضَرَهَا لَمْ يَبْرَأْ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدِّيوَانَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَكَمَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّاوِي عَلَى خَطِّهِ إِذَا تَحَقَّقَهُ، وَخَالَفَ مَا عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي دَوَاوِينِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ عَامَّةٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَوْسَعَ، وَأَحْكَامَ الْقُضَاةِ خَاصَّةٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَضْيَقَ. وَالثَّانِي: إِنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَيَتَعَذَّرُ مَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا، وَحُقُوقَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْقُضَاةِ، يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ ببراءة أحضرها تقع في النفس صحتها برىء منها. (فَصْلٌ) : فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مِنْ خَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ، ولا شهادة خاصة، ولا ديوان موثوق، وبصحته أَوْ وَجَدَهُ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَيَسْأَلَهُمْ عَنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ أَفْرَادًا غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ عَلَى مَا مَضَى، لَوْ صُولِحُوا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً قَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ فِيهِ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى الْقَدْرِ، فَيَعْمَلَ عَلَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ بَعْدَ إِحْلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِدِينَارٍ، وَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِأَكْثَرَ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ فِي دِيوَانِ الْجِزْيَةِ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ حِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ صُلْحُهُمْ، فَاعْتَرَفُوا بِكَذَا وَكَذَا. وَإِنِ اخْتَلَفُوا أَثْبَتَ أَسْمَاءَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِقْرَارِهِ، وَأَنَّهُ أَمْضَاهُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ، لِجَوَازِ أَنْ تَتَجَدَّدَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، يُخَالِفُهَا، فَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَكْثَرِهِمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 أَقَرُّوا بِهِ عَمِلَ عَلَيْهَا، وَاسْتَوْفَى مَا لَمْ يَأْخُذْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَعَادَ إِلَى دِيوَانِهِ، فَأَثْبَتَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَمَا أَخَذَ مِنَ الْإِقْرَارِ، وَصَارَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَبَّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ وَلَا يَبِينُ أَنْ يَحْرُمَ أَنْ يَمُرَّ ذِمِّيٌّ بِالْحِجَازِ مَارًّا لَا يُقِيمُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَذَلِكَ مقام مسافر، لاحتمال أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإجلائهم عنها أن لا يسكنوها ولا بأس أن يدخلها الرسل لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين أستجارك} الآية ولولا أن عمر رضي الله عنه أجل من قدم المدينة منهم تاجرا ثلاثة أيام لا يقيم فيها بعد ثلاث لرأيت أن لا يصالحوا على أن لا يدخلوها بحال ولا يتركوا يدخلونها إلا بصلح كما كان عمر رضي الله عنه يأخذ من أموالهم إذا دخلوا المدينة ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: حَرَمٌ، وَحِجَازٌ، وَمَا عَدَاهُمَا. فَأَمَّا الْحَرَمُ، فَهُوَ أَشْرَفُهَا، لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ، وَشَرَّفَهُ بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ مَا مَيَّزَهُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِحُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَدْخُلَهُ قَادِمٌ إِلَّا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ أَنْ يُصَادَ، وَشَجَرِهِ أَنْ يُعْضَدَ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ مُشْرِكٌ مِنْ كِتَابِيٍّ، وَلَا وَثَنِيٍّ لِمَقَامٍ، وَلَا اجْتِيَازٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ دُخُولُهُمْ إِلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ وَحَمْلِ الْمِيرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ شَرَفَ الْبِقَاعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا كَالْمَسَاجِدِ، وَلَمَّا لَمْ تَمْنَعِ الْجَنَابَةُ مِنْ دُخُولِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُشْرِكُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَتَادَةُ يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الذِّمِّيُ دُونَ الْوَثَنِيِّ، وَالْعَبْدُ الْمُشْرِكُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ "، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ مُسْتَوْطِنٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . وفي قوله: {نجس} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ، كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، حَتَّى أَوْجَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ ضَاجَعَهُمْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ سَمَّاهُمْ أَنْجَاسًا لِأَنَّهُمْ يَجْنُبُونَ، فَلَا يَغْتَسِلُونَ، فَصَارُوا لِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمْ كَالْأَنْجَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَنْجَاسًا، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَنِبَهُمْ كَالْأَنْجَاسِ صَارُوا بِالِاجْتِنَابِ فِي حُكْمِ الْأَنْجَاسِ، وَهَذَا قول جمهور أهل العلم. وقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . يُرِيدُ بِهِ الْحَرَمَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ، لِحُلُولِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 71] . يُرِيدُ بِهِ مَكَّةَ، لِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ أُمِّ هَانِئٍ وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] . يُرِيدُ بِهِ الْكَعْبَةَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يَقْرَبَهُ مُشْرِكٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّخُولِ وَالِاسْتِيطَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} ^ [البقرة: 126] يَعْنِي مَكَّةَ، وَحَرَمَهَا، {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} ^ [البقرة: 126] . يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَبْلَ فَتْحِهَا، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى الْكَافِرِ بَعْدَ فَتْحِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ " وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ الْحَرَمُ بِمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُصَانَ مِمَّنْ عَانَدَهُ، وَطَاعَنَهُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ فِي الْبِقَاعِ، فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا . وَهَذَا التَّفْضِيلُ يُوجِبُ فَضْلَ الْعِبَادَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَوْهَبٍ النَّصْرَانِيِّ بِمَكَّةَ، فَهُوَ أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّها نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ، لِتَقَدُّمِ تَحْرِيمِهِ، وَلِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ فِي دُخُولِهِ، وَلِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ صَيْدِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُسْلِمِ الْجُنُبِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الدُّخُولِ وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِيطَانِ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ، وَوَرَدَ الْمُشْرِكُ رَسُولًا إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ، خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ، فَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقْتَلْ، وَعُزِّرَ إِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُعَزَّرْ إِنْ جَهِلَ، وَأُخْرِجَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَلَوْ دُفِنَ فِيهِ نُبِشَ، وَنُقِلَ إِلَى الْحِلِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ، فَيُتْرَكَ كَسَائِرِ الْأَمْوَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 وَلَوْ أَرَادَ مُشْرِكٌ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ، لِيُسْلِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْ دُخُولِهِ، حَتَّى يُسْلِمَ، ثُمَّ يَدْخُلَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ مُشْرِكًا عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ بِمَالٍ بَذَلَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُ مِنَ الدُّخُولِ، فَإِنْ دَخَلَ إِلَيْهِ أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ مَعَ فَسَادِ الصُّلْحِ، لِحُصُولِ مَا أَرَادَ مِنَ الدُّخُولِ، وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِنْ فَسَدَ، لِأَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ لِتَحْرِيمِهِ. وَحَدُّ الْحَرَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ نِفَارٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى بنية خَلٍّ بِالْمُقَطِّعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعِرَّانَةِ مِنْ شِعْبِ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَةَ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ جَدَّةَ مُنْقَطَعُ الْأَعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحِجَازُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ مُشْرِكٌ، مِنْ كِتَابِيٍّ وَلَا وَثَنِيٍّ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَسَائِرِ الْأَمْصَارِ احْتِجَاجًا بِإِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمْ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَاَلَى إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ حَلَّ صَيْدُهَا حَلَّ لَهُمُ اسْتِيطَانُهَا كَغَيْرِ الْحِجَازِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتْ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ قَالَ لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَهَذَا نَصٌّ. وَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ عَمَلِهِ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ قَوْلِهِ، وَتَشَاغَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي أَيَّامِهِ مَعَ قِصَرِهَا بِأَهْلِ الرِّدَّةِ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَتَطَاوَلَتِ الْأَيَّامُ بِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَكَامَلَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَفَتَحَ مَا جَاوَرَهَا - نَفَّذَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمْ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ، وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى إِجْلَائِهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ تُجَّارٌ وَأَطِبَّاءُ، وَصُنَّاعٌ، يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا، وَصَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُنَادَى فِيهِمْ، بَعْدَهَا اخْرُجُوا، وَهُنَا إِجْمَاعٌ بَعْدَ نَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُمَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ سَاقَاهُمْ عَلَى نَخْلِهَا: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقَامَهُمْ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ، وَأَنَّ لِحَظْرِهِ فِيهِمْ حُكْمًا مُسْتَجَدًّا. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَنْفِيَنَّ الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَمَاتَ قَبْلَ نَفْيِهِمْ، وَلِأَنَّ الْحِجَازَ لَمَّا اخْتُصَّ بِحَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْعَثِ رِسَالَتِهِ وَمُسْتَقَرِّ دِينِهِ، وَمُهَاجَرَةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَارَ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ أَغْلَظَ، فَجَازَ أَنْ يُصَانَ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْحَرَمِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ اسْتِيطَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهُ دُخُولَ الْمُسَافِرِينَ لَا يُقِيمُوا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ أَجْلَاهُمْ ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَوْ صَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَظْرِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يجتمع دينان في جزيرة العرب محمول عَلَى الِاسْتِيطَانِ دُونَ الِاجْتِيَازِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] وَيَكْفِيهِ أَنْ يَهْتَدِيَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْخَفَضَتْ حُرْمَةُ الْحِجَازِ عَنِ الْحَرَمِ، وَفُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهِ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ مُقَامِ مَا لَمْ يَسْتَبِيحُوهُ فِي الْحَرَمِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ مَا اسْتَبَاحُوهُ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتُصَّتِ الْإِبَاحَةُ بِمُقَامِ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ التَّصَرُّفُ دُونَ الْأَمَانِ. فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلُوا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَذِنَ لِحَرْبِيٍّ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِذْنِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلْحَرْبِيِّ أَمَانُهُ، وَأَمَانُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ، وَالْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلذِّمِّيِّ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُورُ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ فَلَوْ دَخَلَ ذِمِّيٌّ الْحِجَازَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ وَلَا يُغْنَمُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ بِالذِّمَّةِ أَمَانًا وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذْنٍ غُنِمَ مَالُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ، وَيَجُوزُ إِذَا أَقَامُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْحِجَازِ ثَلَاثًا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُقِيمُوا فِيهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي بَلَدٍ بَعْدَ بَلَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فِي الثَّلَاثِ، وَاحْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ مَقَامٍ؛ لِاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مُنِحَ، وَقِيلَ لَهُ: وَكِّلْ مَنْ يَقْبِضُهَا لَكَ، وَلَوْ مَرِضَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ مُكِّنَ مِنَ الْمُقَامِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، فَيَخْرُجَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَبْضِهِ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْنَ مَقَامُ تَأْبِيدٍ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ، وَيَتَغَيَّرَ إِنِ اسْتُبْقَى مِنْ غَيْرِ دَفْنٍ فَيُدْفَنُ فِي الْحِجَازِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُقِيمُ فِيهِ مَرِيضًا. فَأَمَّا الْحِجَازُ، فَهُوَ بَعْضُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَهِيَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إِلَى أَقْصَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ فِي الْعَرْضِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ فِي الطُّولِ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَفِي الْعَرْضِ مَا بَيْنَ رَمْلَ إِلَى يَبْرِينَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ، وَفِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَرْضُ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، وَحَدُّ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِذَا خَلَّفْتَ عَجَازَ مُصْعِدًا، فَقَدْ أَنْجَدْتَ، فَلَا تَزَالُ مُنْجِدًا حَتَّى تَنْحَدِرَ فِي ثَنَايَا ذَاتِ عِرْقٍ، فَإِذَا فَعَلْتَ فَقَدْ أَتْهَمْتَ، وَلَا تَزَالُ مُتْهِمًا فِي ثَنَايَا الْعَرْجِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَكَ الْأَرَاكُ وَالْمَدَارِجُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 وَقَالَ غَيْرُهُ، جَبَلُ السُّرَاةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِهَا يُقْبِلُ مِنْ ثُغْرَةِ الْيَمَنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَادِي الشَّامِ فَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي غَرْسِيَّةَ مِنْ أَسْيَافِ الْبَحْرِ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، وَالْجُحْفَةِ هُوَ تِهَامَةُ، وَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّ مَا بَيْنَ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ إِلَى السَّمَاوَةِ، فَهُوَ نَجْدٌ. وَأَمَّا الْحِجَازُ فَهُوَ حَاجِزٌ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَهُوَ مِنْهُمَا، وَحَدُّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَا احْتَجَزَ بِالْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّهِ وَغَرْبِيِّهِ عَنْ بِلَادِ مَذْحِجَ إِلَى فَيْدَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اثنا عَشْرَةَ دَارًا لِلْعَرَبِ. فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ: بَطْنُ مَكَّةَ، وأعلا رُمَّةَ، وَظَهْرُهُ وَحَرَّةُ لَيْلَى. وَالْحَدُّ الثَّانِي: يَلِي الشَّامَ شَفْى وَبَدَا، وَهُمَا جَبَلَانِ. وَالْحَدُّ الثَّالِثُ: يَلِي تِهَامَةَ بَدْرٌ، وَالسُّقْيَا، وَرِهَاطُ، وَعُكَاظُ. وَالْحَدُّ الرَّابِعُ: سَاكَةُ وَوَدَّانُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالْحِجَازِ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: سُمِّيَ حِجَازًا لِمَا أَحْجَزَ مِنَ الْجِبَالِ وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَضْلٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا عَهْدٍ فَهُوَ حَرْبٌ كَالْأَسْرَى يُغْنَمُ وَيُسْبَى، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ مُخَيَّرًا كَتَخْيِيرِهِ فِي الْأَسِيرِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْأَسْرِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ مِنْ سَبْيِ ذُرِّيَّتِهِ بِخِلَافِ السَّبَايَا فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ مَلَكُوهُمْ؛ فَلَا يَصِحُّ العفو عنهم إلا بإذنهم، وَذُرِّيَّةُ هَذَا الدَّاخِلِ بِغَيْرِ عَهْدٍ لَمْ يَمْلِكْهُمْ أحد، فجاز فوق الْإِمَامِ. فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَضَرْبَانِ: أَهْلُ ذِمَّةِ، وَأَهْلُ عَهْدٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَهُوَ الْمُسْتَوْطِنُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيطَانُهُمْ إِلَّا بِجِزْيَةٍ إِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ شُبْهَةِ كِتَابٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ، فَهُوَ الدَّاخِلُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ اسْتِيطَانٍ، فَيَكُونُ مَقَامُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مُدَّةٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . فَأَمَّا مُدَّةُ سَنَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوهَا إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ سَنَةٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا دُونَ السَّنَةِ كالأربعة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ كَالسَّنَةِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لم يكونوا. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُتْرَكْ أَهْلُ الْحَرْبِ يَدْخُلُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ تُجَّارًا فَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا رِسَالَةٍ غُنِمُوا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّصِلَةَ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُونَ بِهَا أَوْ مَكِيدَةٍ يُوقِعُونَهَا، وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْهُمْ، فَهُوَ حَرْبٌ مَغْنُومٌ يَتَحَكَّمُ الْإِمَامُ فِيهِ بِخِيَارِهِ مِنْ قَتْلِهِ أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ أَوْ فِدَائِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُلْحٍ يُجَدَّدُ أَوْ هُدْنَةٍ تُعْقَدُ أَوْ فِدَاءِ أَسْرَى؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . قِيلَ: إِنَّهَا فِي الْمُرْسَلِ فَيَكُونُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ أَمَانٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمَانٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلَا يَكُونُ أَمَانٌ، وَيَكُونُ حَرْبًا يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مَضَرَّةً، وَفِي الْأُولَى مَنْفَعَةً فَصَارَ بِالْمَنْفَعَةِ مُوَالِيًا، فَأَمِنَ وَبِالْمَضَرَّةِ مُعَادِيًا، فَغُنِمَ. فَلَوِ ادَّعَى وَقَدْ دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ رَسُولٌ نُظِرَ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ فِيهَا كَانَ آمِنًا، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهُ فِيهَا كَانَ مَغْنُومًا، وَإِنْ أَشْبَهَتْ حَالُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَكَانَ آمِنًا، وَلَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] . وَلَا يَجُوزُ إِذَا دَخَلَ الرُّسُلُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرُوا فِيهَا مُنْكَرًا مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَخُمُورِهِمْ، وَخَنَازِيرِهِمْ، وَجَوَّزَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إِظْهَارَ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ؟ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الإسلام يعلوا وَلَا يُعْلَى. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الدَّاخِلِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَمَانٌ يَدْخُلُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ نَابَ عَنْهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ؛، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ أَشْذَاذٍ وَأَقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ كَيْدِهِ، فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ الْإِمَامُ مُدَّةَ الْأَمَانِ أُقِرَّ عَلَيْهَا إِلَى انْقِضَائِهَا مَا انْتَهَتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 وَلَا تُنْقَضُ عَلَيْهِ مُدَّةُ أَمَانِهِ، وَلَا يَخْرُجُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَّا بِمُوجِبٍ لِنَقْضِ الْأَمَانِ؛ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَمَّنَهُ فِي دُخُولِهِ رَجُلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ وَمَالِهِ دُونَ مُقَامِهِ، وونظر الْإِمَامُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ أَقَرَّهُ عَلَى الْأَمَانِ، وَقَرَّرَ لَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ أَمَّنَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْدِيرُ مُدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا آمِنًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَأْمَنِهِ ثُمَّ يَصِيرُ حَرْبًا، فَيَكُونُ أَمَانُ الْمُسْلِمِ لَهُ مُوجِبًا لِحَقْنِ دَمِهِ وَلِمُقَامِهِ، وَإِقْرَارِهِ، فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ، وَاجْتَمَعَا فِيهِ مِنْ وَجْهٍ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانِ الْإِمَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ انْقَضَى حُكْمُ أَمَانِهِ فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً بِغَيْرِ أَمَانٍ غُنِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَمَانًا، لِأَنَّهُ خَاصٌّ، فَلَمْ يَتَكَرَّرْ، فَلَوْ عَقَدَ لَهُ الْأَمَانَ عَلَى تَكْرَارِ الدُّخُولِ صَحَّ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ الْعَقْدِ، وَكَانَ فِي عَوْدِهِ وَتَرَدُّدِهِ آمِنًا يُقِيمُ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ مَا شُرِطَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ وَإِذَا كَانَ 0 أَمَانُ الْحَرْبِيِّ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَصِيرُ آمِنًا فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِمَّنِ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ كَانَ عَامًّا فِي بِلَادِ وِلَايَتِهِ وَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ، وَوِلَايَةَ النَّائِبِ عَنْهُ خَاصَّةٌ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِنْ جِهَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدِهِ خَاصَّةً وَفِيمَا كَانَ طَرِيقًا لَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ يَقْتَضِي عَوْدَهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَمَانٌ إِنْ يتجاوز ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَادَّعَى أَنَّهُ دَخَلَهَا بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ حَاضِرًا رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْأَمَانِ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَّنَهُ فِي حَالِ تَصْدِيقِهِ صَحَّ أَمَانُهُ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ عَلَى الْأَمَانِ كَانَ الْحَرْبِيُّ مَغْنُومًا، وَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ غَائِبًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِ الْحَرْبِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ آمِنًا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قُبِلَ فِي الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ إقامة البينة على الرسالة متعذر قبل قَوْلُهُ فِيهَا، وَإِقَامَتُهَا عَلَى الْأَمَانِ مُمْكِنَةٌ، فَلَمْ يقبل قوله فيه. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشُرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عُشْرٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَتَاجِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ لِمَنَافِعِهِمْ، وَكَانَ انْقِطَاعُهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ ضَارٍّ بِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْإِمَامُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ يَكُونُ عِبْئًا مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي حَمْلِ مَتَاجِرِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعُشْرِ، وَصَالَحَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي حَمْلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْمُسْلِمِ مِنْ رُبْعِ العشر؛ ولأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى تَوْفِيرِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِمَّا بِغَنِيمَةٍ إِنْ قُهِرُوا، وَإِمَّا بِجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ إِنْ صُولِحُوا، فَكَذَلِكَ عُشْرُ أَمْوَالِهِمْ إِذَا اتَّجَرُوا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ الْعُرْفُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُشْرَ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي كَثْرَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وقلتها، فإن كثرت الحاجة إليه كالأموات كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَقَلَّ، وَإِنْ قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالطَّرَفِ وَالدَّقِيقِ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَكْثَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ، وَأَخَذَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَالثَّانِي: الرُّخْصُ وَالْغَلَاءُ، فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَمِلَ الْإِمَامُ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ اشْتِرَاطَ الْعُشْرِ فِي جَمِيعِهَا فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ نِصْفِ الْعُشْرِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ الْخُمُسِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَوِّعَهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَيَشْرِطَ فِي نَوْعٍ مِنْهَا الْخُمُسَ، وَفِي نَوْعٍ الْعُشْرَ، وَفِي نَوْعٍ نِصْفَ الْعُشْرِ فَعَلَ، وَصَارَ مَا انْعَقَدَ شَرْطُهُ عَلَيْهِ حَقًّا وَاجِبًا فِي مَتَاجِرِهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ، كَالْجِزْيَةِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَنْقُضَهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ نَقَضُوا شَرْطَهُمْ بطل حكم الشرط بنقضهم، وجار اسْتِئْنَافٌ وَصُلْحٌ مَعَهُمْ يَبْتَدِئُهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعُشْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي عَيْنِ الْمَالِ أَوْ يَكُونَ فِي ذِمَمِهِمْ عَنِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْمَالِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَلَهُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَرْبِيٍّ وَذِمِّيٍّ وَمُسَالِمٍ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْعُشْرُ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَخْذِهِ، وَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ جِزْيَةً، إِنَّمَا يَكُونُ ثَمَنًا يُضَافُ إِلَى الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَيَكُونُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ ثَمَنِهِ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَى الْإِمَامِ عُشْرُ الثَّمَنِ أَوْ عُشْرُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي ذِمَمِهِمْ لِأَجْلِ الْمَالِ وَعَنْهُ أُخِذَ عُشْرَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ إِذَا حَمَلَهُ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي أَخْذِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ مِنْهُ لِشِرْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ تَاجِرًا إِلَى الْحِجَازِ فَيُمْنَعَ مِنْ دُخُولِهِ إِلَّا بِمَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مِنْ عُشْرِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسِتِيطَانِ الْحِجَازِ فَمُنِعَ مِنَ التِّجَارَةِ فِيهِ إِلَّا مَعْشُورًا، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِيطَانِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُعْشَرْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 341 (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ وَسَوَاءٌ كَانُوا يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ أَوْ لَا يَعْرِضُونَ لَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ عُشُورُ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِذَا حَمَلُوهَا عهم، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُمْ يَعْشِرُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْعَلُ مَعَهُمْ مَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ تُجَّارِنَا إِذَا دَخَلُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يَعْشِرُونَهُمْ عُشِرُوا، وَإِنْ كَانُوا يَخْمِسُونَهُمْ خُمِسُوا، وَإِنْ كَانُوا يَتْرُكُونَهُمْ تُرِكُوا؛ لِأَنَّها عُقُوبَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 26] وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُطِهِمْ وَلِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ عُشْرَهُمْ إِلَّا بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ عَنْ أَمَانٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ كالجزية؛ لوأن عُلُوَّ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَمَا يقتضى بِهِمْ فِي الْغَدْرِ إِنْ غَدَرُوا، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الِاقْتِصَاصِ مِمَّنْ مُثِّلَ بِهِ مِنْ قتلى أحد، ثم قال {ولئن صبرتم له خير للصابرين} [النحل: 126] . (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اتَّجَرُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إلا مرة كالجزية وقد ذكر عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أن يؤخذ مما ظهر من أموالهم أموال المسلمين وأن يكتب لهم براءة إلى مثله من الحول ولولا أن عمر رضي الله عنه أخذه منهم ما أخذناه ولم يبلغنا أنه أخذ من أحد في سنة إلا مرة (قال) ويؤخذ منهم ما أخذ عمر من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر اتباعا له على ما أخذ (قال المزني) رحمه الله: قد روى الشافعي رحمه الله عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من حديث صحيح الإسناد أنه أخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ومن القطنية العشر (قال الشافعي) ولا أحسبه أخذ ذلك منهم إلا بشرط ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَخَذَ مِنَ الْحَرْبِيِّ عُشْرَ مَالِهِ فِي دُخُولِهِ ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُعْشَرْ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ بَاعَ مَالَهُ وَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَادَ حَمْلَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَ شَرْطُ صُلْحِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ تَعْشِيرُ أَمْوَالِهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عُشِرُوا خَارِجِينَ كَمَا عُشِرُوا دَاخِلِينَ. وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعْشَرُوا فِي الْخُرُوجِ وَعُشِرُوا فِي الدُّخُولِ، وَإِذَا اتَّجَرُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 342 فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: عُشِرُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ ثَانِيَةً وَاعْتَبَرَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ فِي كل حول، وهذا عند مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْطِ الْمَعْقُودِ مَعَهُمْ، فَإِنْ تَضَمُّنَ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ حَوْلٍ عُشِرُوا، وَإِنْ تَضَمَّنَ تَعْشِيرَهَا مَا حَمَّلُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْشَرُوا اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الشَّرْطِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي الْحِجَازِ بَعْدَ تَعْشِيرِ مَالِهِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عُشِرَ ثَانِيَةً فِي كُلِّ حَوْلٍ؛ لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ فِي الْجِزْيَةِ حَوْلًا مُقَيَّدًا تَتَكَرَّرُ جِزْيَتُهُ فِيهِ، فَجُعِلَ أَصْلًا لِعَشْرِ مَالِهِ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ حَوْلٍ، صَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَعْشِيرِ مَالِ الذِّمِّيِّ فِي الْحِجَازِ فِي كُلِّ حَوْلٍ. فَأَمَّا إِذَا اتَّجَرَ الذِّمِّيُّ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِيطَانِهِ لَهَا بِخِلَافِ بِلَادِ الْحِجَازِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهَا، فَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حُمِلُوا عَلَى شُرُوطِهِ، وَكَانَ زِيَادَةً فِي جزيتهم. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُحَدِّدُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ مَا يَبِينُ لَهُ وَلَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ لِيَأْخُذَهُمْ بِهِ الْوُلَاةُ وَأَمَّا الْحَرَمُ فَلَا يَدْخُلَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِحَالٍ كان له بها مال أو لم يكن ويخرج الإمام منه إلى الرسل ومن كان بها منهم مريضا أو مات أخرج ميتا ولم يدفن بها، وروي أنه سمع عددا من أهل المغازي يرون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ، يَزُولُ الْخِلَافُ مَعَهُمْ، فَإِذَا انْتَشَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ اكْتَفَى بِانْتِشَارِهِ عَنْ تَجْدِيدِهِ، فَإِنْ خِيفَ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنْ يُخْفَى جَدَّدَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْحُكَّامُ فِي الْوُقُوفِ إِذَا خِيفَ دُرُوسُهَا جَدَّدُوا الْإِسْجَالَ بِهَا؛ لِتَكُونَ حُجَجُ سَبِيلِهَا دَائِمَةَ الثُّبُوتِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ بِحَادِثٍ اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنْ جَدَبٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ لِخَوْفٍ مِنْ قُوَّةٍ تَجَدَّدَتْ لَهُمْ جَازَ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ رَأَى إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهَا؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ وَالْعُشْرَ اجْتِهَادٌ. وَإِذَا زَالَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَّكَهُ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِعُشْرِ مَا كَانُوا حَمَلُوهُ، وَنَظَرَ فِي التَّرْكِ؛ فَإِنْ كَانَ مُسَامَحَةً لَهُمْ أَخَذَ عُشْرَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَإِذَا دَعَتِ الْإِمَامَ الضَّرُورَةُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 343 يَتْرُكَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْأَوْلَى قَبْضُهَا مِنْهُمْ، وَرَدُّهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَرْفَقَهُمْ بِتَرْكِهَا عَلَيْهِمْ جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ إِبْرَاءً مِنْهَا فِي وَقْتِهَا، وَلَمْ يَكُ إِسْقَاطًا لَهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَإِذَا زَالَ السَّبَبُ عَادَ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا عُقِدَتِ الذِّمَّةُ مَعَ قَوْمٍ وَجَبَ الذَّبُّ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ آذَاهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ سَوَاءٌ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ اعْتَزَلُوهُمْ، فَلَوْ عَجَّلَ الْإِمَامُ بِجِزْيَتِهِمْ، وَقَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ، فَلَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مَا قَابَلَ زَمَانَ مُتَارَكَتِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ دُونَ مَا عَدَاهُ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا فِي عَقْدِ صُلْحِهِمْ أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ إِنْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنِ اعْتَزَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِقَرْيَةٍ انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ أَوْ مَالُ مُسْلِمٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ قَرْيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحِّ هَذَا الشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْلِمٌ حُمِلُوا عَلَى الشَّرْطِ فِي مُتَارِكَتِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الذَّبُّ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهِمُ الِاصْطِلَامَ، فَيَلْزَمُ اسْتِنْقَاذُ نُفُوسِهِمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ، لِأَنَّ لِلذِّمَّةِ حَقًّا فِي حِفْظِهَا، وَسَقَطَ حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ بِالشَّرْطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 344 (بَابٌ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ تُضَعَّفُ عَلَيْهُمِ الصَّدَقَةُ ومسلك الجزية) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " اخْتَلَفَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهُمُ الْجِزْيَةَ وَلَا يُكْرَهُوا على غير دينهم وهكذا حفظ أهل المغازي قالوا رامهم عمر على الجزية فقالوا نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بعض يعنون الصدقة فقال عمر رضي الله عنه لا، هذا فرض على المسلمين فقالوا فزد مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة (قال) فإذا ضعفها عليهم فانظر إلى مواشيهم وذهبهم وورقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادن بلادهم وركازها وكل أمر أخذ فيه من مسلم خمس فخذ خمسين أو عشر فخذ عشرين أو نصف عشر فخذ عشرا أو ربع عشر فخذ نصف عشر وكذلك ماشيتهم خذ الضعف منها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دِينُ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، فَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْيَهُودَ، فَتَهَوَّدُوا وَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ النَّصَارَى، فَتَنَصَّرُوا، فَكَانَ فِي قَحْطَانَ بِالشَّامِ تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ وَبَنُو تَغْلِبَ مُجَاوِرِينَ لِلنَّصَارَى، فَتَنَصَّرُوا وَأَشْكَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ فَتْحِ الشَّامِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فَيُقَرُّونَ أَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ، فَلَا يُقَرُّونَ، فَغَلَّبَ فِيهِمْ حُكْمَ الْحَظْرِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَتَحْرِيمِ مَنَاكِحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ بِالْجِزْيَةِ حِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَبَوْا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الْجِزْيَةِ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طُهْرَةً فَنَفَرَ بَعْضُهُمْ وَلَحِقَ بِالرُّومِ، وَكَادَ الْبَاقُونَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن للقوم بأسا وشدة، فلا تعز عَدُوَّكَ بِهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَأَعَادَ مَنْ رَحَلَ إِلَى مَنْ أَقَامَ، وَقَالُوا: زِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَرَاضَاهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ أَضْعَفَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَجَعَلُوهَا جِزْيَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 345 تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ دُونَ النِّصَابِ، وَلَا فِي الدُّورِ وَالْعَقَارِ، وَلَا فِي الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ كل خمس من الإبل شاتان، عن كل ثلاثين بقرة تسعين، وَعَلَى كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاتَانِ، وَعَمَّا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا العشر الخمس، وعما سقي بنضج أَوْ غَرْبٍ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ الْعُشْرُ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ نِصْفُ الْعُشْرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا من الذهب، وَمِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ مِنَ الرِّكَازِ وَالْمَعَادِنِ الخمسين، فكان لعقد صُلْحِهِمْ مَعَ عُمَرَ مُسْتَقِرًّا عَلَى هَذَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عُمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ أَنْ يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ إِرْهَابًا وَلَمْ يَكُنْ إِلْزَامًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ، فَهُوَ شَيْءٌ يَزِيدُ، وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، وَيَجِبُ ولا يَجِبُ بِوُجُودِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ، وَيُعْلَمُ وَلَا يُعْلَمُ بظهور المال واستبطانه، فصار مجهولا لتبرزه بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ، وَمَكْتُومٍ وَمَشْهُورٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ دِينَارَ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ بذل الجزية لئلا يجري عليه صَغَارٌ، فَصَارَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ هِيَ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حَمْقَى، أَبَوْا الِاسْمَ وَرَضُوا بِالْمَعْنَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَالًا مُزَكًّى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِمْضَاؤُهُ عَلَى هَذَا، وَإِنْ نَقَصَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَلَى الدِّينَارِ لِمَا يَسْتَفِيدُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ، فَيُؤَدَّى، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهَا لَا بِالدِّينَارِ وَيَكُونُ مَا يُخَافُ مِنْ نُقْصَانِ الدِّينَارِ فِي وَقْتٍ مَجْبُورًا بِمَا يُرْجَى مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى هَذَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ يَفِي بِدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدِّينَارِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ لَمْ يَجُزْ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونُوا أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ أَلْفُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا جَازَ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ إِذَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ، ولا شيء على من لا ماله لَهُ مِنْ مُزَكًّى؛ لِأَنَّهُ قَدْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 346 أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا جَبَرَهُ، فَصَارَ بَدَلًا مِنْهُ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ صُلْحَ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ يَفِي بِجِزْيَةِ جَمِيعِهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا فَصَاعِدًا، فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الدِّينَارِ أُخِذَ مِنْهُ تَمَامُ الدِّينَارِ، وَلَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ غَيْرِهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا مُزَكًّى، أُخِذَ مِنْهُ دِينَارُ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِأَخْذِهَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، وَحَمْلُ صُلْحِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ أَغْنِيَاءُ؛ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ عَنْ دِينَارٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَقْيَسُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِصُلْحِ عُمَرَ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخُذُهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُونَ الصِّبْيَانِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ النِّصَابُ فِيهِ وَالْحَوْلُ فِيهِ مُعْتَبَرَيْنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْهُ الصِّبْيَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ جِزْيَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ كَالدِّينَارِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ مَحْقُونَاتُ الدِّمَاءِ، فَلَمْ تُضَاعَفْ صَدَقَةُ الْجِزْيَةِ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا جِزْيَةٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُهَا بِالْجِزْيَةِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِالزَّكَاةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ عَنِ الزَّكَاةِ قَدْرًا وَمَصْرِفًا خَرَجَتْ عَنْهَا حُكْمًا وَالْتِزَامًا (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ فِي مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ مُعْتَبَرًا، فَفِي زَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِوُجُودِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ كَالزَّكَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ الْيَسَارُ بِدِينَارِ الْجِزْيَةِ، فِي رَأْسِ الْحَوْلِ كَذَلِكَ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ جِزْيَةٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْلُ النِّصَابُ من أربعة أحوال: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فيؤخذ منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 347 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي آخِرِهِ مَعْدُومًا فِي أَوَّلِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَجِبُ فِيهِ ضِعْفُ الصَّدَقَةِ اعْتِبَارًا بِالْجِزْيَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي اول الحول معدوما في آخره فينتظر فِيهِ فَإِنْ عُدِمَ بِالتَّلَفِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وإن عدم بنقله إلى مال غيره مُزَكًّى أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا، فَأُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُتَّهَمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا، فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا بَذَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْإِمَامِ فِي وَقْتِنَا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصدقة كالذي فعله عمر جاز اقتداء به، واتباعا، وَلَوْ سَأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ جَازَ إِذَا لَمْ تَنْقُصْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهُ لَمْ يجز أن بعقدها مَعَهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، إِنَّمَا هِيَ فِي عَقْدٍ أَمْضَاهُ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ، فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَا يَمْضِي بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ بَلَغَ أَخْذَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دِينَارًا عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤَدِّي دِينَارًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَخْذُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ وَقَدْ أُخِذَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقَدَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ يُؤَدُّونَهَا مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي مَوْضُوعِهَا، فإن أوجبها عليهم وتحملها عنهم جاز؛ لأن تَبَرَّعَ بِهَا وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، وَإِنْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِتَكُونَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أحدهما: هو قول أبو إِسْحَاقَ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تلزمهم والثاني: وهو قول أبو عَلِيٍّ، يَجُوزُ لِحُصُولِ الْفَرْضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ. (فَصْلٌ) : إِذَا قَالَ: مَنْ بَذَلَ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ أَنَفَةً مِنَ اسْمِ الْجِزْيَةِ قَدْ أَسْقَطْتُ اسْمَ الصَّدَقَةِ عَنِّي، وَرَضِيتُ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى دِينَارِ الْجِزْيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِزْيَةِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرٌ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 348 (مسألة) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ عَرَبِيٍّ فَمَسْلَكُهُ الْفَيْءُ وَمَا اتَّجَرَ بِهِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَأَهْلُ دينهم ". قال الماوردي: وهذا صحيح الْمَأْخُوذَ مِنْ ذِمَّةِ الْعَرَبِيِّ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةٌ، وَلَيْسَتْ زَكَاةً، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيجَابِهَا عَلَى النِّسَاءِ زَكَاةً وَالدَّلِيلُ: عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ زَكَاةً قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الْآيَةَ. وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِمَا يُؤَدِّيهِ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عُمَرُ: النَّاسُ رَجُلَانِ مُسْلِمٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ، وَكَافِرٌ فَرْضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا زَكَاةَ عَلَى مُشْرِكٍ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ دُونَ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانُوا يَهُودًا تُضَاعَفْ عَلَيْهِمِ فِيهِ الصَدَقَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي جَوَازِ صُلْحِهِمْ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ صُلْحُ عُمَرَ مَعْقُودًا عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْقَدَ مَعَ الْيَهُودِ، ومع نصار الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ سَوَاءٌ، فَإِذَا اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ضِعْفُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ التِّجَارَةِ مُزَكَّاةٌ، فَلَوْ تَجِرَ بَعْضُ نَصَارَى الْعَرَبِ إِلَى الْحِجَازِ أخذ من الْعُشْرُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ، وَضِعْفُ الصَّدَقَةِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَجُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ كَمَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالْعُشْرِ، والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 349 (بَابُ الْمُهَادَنَةِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَقْضِ مَا لا يجوز من الصلح) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ بِقُوَّةِ عَدُوٍّ عَلَيْهِمْ وَأَرْجُو أَنْ لَا يُنْزِلَهَا اللَّهُ بِهِمْ هَادَنَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى مُدَّةٍ يَرْجُو إِلَيْهَا الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ مُدَّةَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي هَادَنَهُمْ عَلَيْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُهَادَنَةُ، فَهِيَ الْمُسَالَمَةُ وَالْمُوَادَعَةُ عَنْ عَهْدٍ يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ وَالْمُنَافَرَةِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ مَنَعَ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 51] وَجَعَلَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ فِي قَتْلِهِمْ أَنْ يسلموا، فقال {فإن تابوا} الْآيَةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَقَالَ تَعَالَى: {قاتلوا الذين} إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَكَانَ هَذَا بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِهَا تُؤْخَذُ جِزْيَتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي مُهَادَنَتِهِمْ وَمُسَالَمَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وَقَالَ تَعَالَى: {إلا الذين عاهدتم} إِلَى قَوْلِهِ {عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، فَوَادَعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ بِالْمَدِينَةِ لِيَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ عُهُودِهِ حَتَّى نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعَ فِي مَعُونَةِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَأَرَادَ قتلهم، فسأله أبي بن سَلُولَ فِيهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ دَارِعٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ حَاسِرٍ فَنَفَاهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتَ مِنَ الشَّامِ. ثُمَّ نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ عُهُودَهُمْ بَعْدَ أُحُدٍ؛ لِأَنَّهُمْ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، فَأَجْلَاهُمْ إِلَى أَرْضِ خَيْبَرَ. ثُمَّ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عُهُودَهُمْ بِمَعُونَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْخَنْدَقِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ وَحَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ بِسَبْيِ الذَّرَارِيِّ، وَقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، فَقَتَلَهُمْ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ. ثُمَّ هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا الذين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 350 عاهدتم عند المسجد الحرام بما اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ بِمَعُونَةِ أَحْلَافِهِمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خُزَاعَةَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ ثَمَانٍ حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ، وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ عَظِيمَ الْبَرَكَةِ أَسْلَمَ بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْهُدْنَةِ مِنْ ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ تَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جِهَادَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:] . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ لَكِنَّ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجُو بِالْمُوَادَعَةِ إِسْلَامَهُمْ، وَإِجَابَتَهُمْ إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ أَوْ يُعِينُوهُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَمَا دُونَهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1] وَأَعْطَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَبْلُغَ بِمُدَّةِ مُوَادَعَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَنَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا مُشْرِكٌ إِلَّا بِهَا، فَأَمَّا مَا دُونَ السَّنَةِ وَفَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَفِي جَوَازِ مُوَادِعَتِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نص عليه هاهنا، وَفِي الْجِزْيَةِ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فجعلها حدا لغاية الموادعة. والقول الثانية: نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، يَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مَا دُونُ السَّنَةِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهَا دُونَ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ كَالْأَرْبَعَةِ مَعَ عُمُومِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ، وَهُمْ عَلَى ضَعْفٍ يَعْجِزُونَ مَعَهُ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَهُمُ الْإِمَامُ إِلَى مُدَّةٍ تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَا أَغْلَالَ فِيهَا، وَلَا أَسْلَالَ، وَدَامَتْ هَذِهِ الْمُهَادَنَةُ سَنَتَيْنِ حَتَّى نَقَضُوهَا فَبَطَلَتْ فَإِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالتَّخْصِيصِ، وَقِيلَ لِلْإِمَامِ: اعْقِدِ الْهُدْنَةَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ اسْتَأْنَفْتَهَا عَشْرًا ثَانِيَةً، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ بَطَلَتِ الْهُدْنَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَشْرِ، وَفِي بُطْلَانِهَا فِي الْعَشْرِ قَوْلَانِ، مِنْ تَفْرِيقِ الصفقة: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 351 أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ إِذَا مُنِعَ تَفْرِيقُهَا. وَالثَّانِي: تَصِحُّ إِذَا أُجِيزَ تَفْرِيقُهَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَهَكَذَا إِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ خَمْسَ سِنِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ بَاطِلًا، وَفِي بُطْلَانِ الْهُدْنَةِ فِي الْخَمْسِ قَوْلَانِ. وَلَوْ هَادَنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ لِحَاجَةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْحَاجَةُ كَانَتِ الْهُدْنَةُ بَاقِيَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أن يبتدىء بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ الْتِزَامًا لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُهَادِنَ إِلَى غَيْرِ مُدَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى بَدَا لَهُ نَقْضُ الْهُدْنَةِ فجائز وإن كان قويا على العدو كم يُهَادِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الذين عاهدتم من المشركين} الْآيَةَ وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِصَفْوَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسِنِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لا أعلمه زاد أحد بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةِ الْمُدَّةِ: إِذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى صِفَةٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ وَادَعَ يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَ: " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " وَيَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهَا إِذَا أراد نقضها وليست من عقود المعاوضات الَّتِي تُمْنَعُ الْجَهَالَةُ فِيهَا، وَإِذَا جَازَ إِطْلَاقُهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنْ قَالَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ مُرَادَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أُقِرُّكُمْ مَا شِئْتُ فَيَجُوزُ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مشيئته، فيما يراه صلاحا كم استدامة الْهُدْنَةِ أَوْ نَقْضِهَا، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى مَشِيئَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَحَكِّمِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ": وَإِنْ عَقَدَهَا الْإِمَامُ عَلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَازَ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْأَمَانَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. فَإِنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ صَحَّ وُقُوفُ الْهُدْنَةِ عَلَى مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ فَإِذَا انعقدت نظر: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 352 فَإِنْ كَانَ مِنْ وُلَاةِ الْجِهَادِ عَمِلَ عَلَى رَأْيِهِ فِي اسْتِدَامَةِ الْهُدْنَةِ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ نَقْضِهَا بِالْقِتَالِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وُلَاةِ الْجِهَادِ جَازَ لَهُ اسْتَدَامَتُهَا بِغَيْرِ إِذَنِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ فِي الِاسْتِدَامَةِ، وَمُخَالِفٌ فِي النَّقْضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ وَحَالُ الْإِمَامِ مِنْ أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى اسْتَدَامَتِهَا فَتَلْزَمَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى نَقْضِهَا فَتَنْحَلَّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَرَى الْمُحَكَّمُ نَقْضَهَا، وَيَرَى الْإِمَامُ اسْتَدَامَتَهَا، فَتَغْلِبُ اسْتِدَامَةُ الْإِمَامِ، وَيَصِيرُ كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرَى الْمُحَكَّمُ اسْتَدَامَتَهَا، وَيَرَى الْإِمَامُ نَقْضَهَا، فَيُنْظَرُ فَإِنْ كان لعذر يقلب نَقْضُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ غُلِّبَ اسْتِدَامَةُ الْمُحَكَّمِ كَالْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ. وَلَوْ أَطْلَقَ الْهُدْنَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، أَوْ عَلَى غَيْرِ صِفَةٍ، فَقَالَ: قَدْ هَادَنْتُكُمْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَهُوَ لَوْ أَبَّدَهَا بَطَلَتْ كَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَهَا، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْعَهْدِ لَمْ يَبْدَأْ بِقِتَالِهِمِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يحب الخائنين) [آل عمران: 58] . (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُؤَمَّنَ الرَسُولُ وَالْمُسْتَأَمَنُ إِلَّا بَقَدْرِ مَا يَبْلُغَانِ حَاجَتَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا سَنَةً بَغَيْرِ جِزْيَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ، وَأَنَّ لِلرَّسُولِ أَمَانًا يُبَلِّغُ فِيهِ رِسَالَتَهُ وَأَنَّهُ لَا يُعْشَرُ مَا دَخَلَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ، وَإِنْ كَانَ الْعُشْرُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ فِي أَمَانِ الرِّسَالَةِ تَمَيَّزَ عَنْهُمْ فِي تَعْشِيرِ الْمَالِ تَغْلِيبًا لِنَفْعِ الْإِسْلَامِ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِ انْقَضَتْ رِسَالَتُهُ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ جَازَ أَنْ يَسْتَكْمِلَهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِيمَ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَإِنْ لَمْ تُنْقَضْ رِسَالَتُهُ إِلَّا فِي سَنَةٍ جَازَ أَنْ يُقِيمَهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّسَالَةِ مَخْصُوصٌ فِي أَحْكَامِ جَمَاعَتِهِمْ وَهَكَذَا الْأَسِيرُ إِذَا حُبِسَ فِي الْأَسْرِ مُدَّةً لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا الْإِمَامُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَصَارَ مُسَاوِيًا لِلرَّسُولِ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ ومخالفا في العلة. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا بِحَالٍ لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْمُسْلِمِينَ شَهَادَةٌ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى مُشْرِكٌ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّ أَهْلَهُ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا فِي حال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 353 يَخَافُونَ الِاصْطِلَامَ فَيُعْطُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ يَفْتَدِي مَأْسُورًا فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْأَوْلَى مِنَ الْهُدْنَةِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ الْمُشْرِكُونَ لَنَا إِذَا أَجَابُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ، فَأَمَّا عَقْدُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذُلِّ الْبَذْلِ وَصَغَارِ الدَّفْعِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَذَلِكَ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ. إِمَّا أَنْ يُحَاطَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ أَوْ وَطْءٍ يَخَافُونَ مَعَهُ الِاصْطِلَامَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلُوا فِي الدفع عن اصطلامهم مالا، يحقنون به دمائهم، قَدْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْخَنْدَقِ أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرِ اللَّهِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ نَقْبَلْهُ. وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ رَئِيسَ غَطَفَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ جَعَلْتَ لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَإِلَّا مَلَأْتُهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرَجُلًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَتَّى أَسْتَأْذِنَ السُّعُودَ " يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَاسْتَأْمَرَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِكَ، فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا بِرَأْيِكَ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَرَةً إِلَّا بِشِرًى أَوْ قِرًى، فَكَيْفَ، وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِكَ فَقَالَ لَهُ: هوذا تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ فَقَدْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَنْصَارِ عَلَى جَوَازِ عَطَائِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نِكَايَةِ الِاصْطِلَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ ذِلَّةِ الْبَذْلِ، فَافْتَدَى بِهِ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: افْتِدَاءُ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى إِذَا خِيفَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَكَانُوا يَسْتَذِلُّونَهُمْ بِعَذَابٍ أَوِ امْتِهَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمُ الْإِمَامُ فِي افْتِكَاكِهِمْ مَالًا لِيَسْتَنْقِذَهُمْ بِهِ من الذل والخطر، وافتداهم بِأَسْرَى كَانَ أَوْلَى، وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ". وَمَا بَذَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالٍ فِي اصْطِلَامٍ أَوْ فِدَاءٍ فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ لِأَخْذِهِ مِنْهُمْ جَبْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً لَمْ يَغْنَمُوهُ وَأُعِيدَ إِلَى مستحقه الذي خرج منه من مال المسلم، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ وَجَدُوهُ مَعَ مُسْتَأْمَنٍ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 354 بَذْلِهِ بَاقِيًا لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ؟ لِمَا فِي اسْتِرْجَاعِهِ مِنْ عَوْدِ الضَّرَرِ، وَإِنْ زَالَ سَبَبُ بَذْلِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَأُعِيدَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ لِأَمَانِهِ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَالَحَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فالطاعة نفضه كَمَا صَنَعَ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في النساء وقد أعطى المشركين فيهن ما أعطاهم في الرجال ولم يستثن فجاءته أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مسلمة مهاجرة فجاء أخواها يطلبانها فمنعها منهما وأخبر أن الله منع الصلح في النساء وحكم فيهن غير حكمه في الرجال وبهذا قلنا لو أعطى الإمام قوما من المشركين الأمان على أسير في أيديهم من المسلمين أو مال ثم جاؤوه لم يحل له إلا نزعه منهم بلا عوض وإن ذهب ذاهب إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد أبا جندل بن سهيل إلى أبيه وعياش بن أبي ربيعة إلى أهله قيل أهلوهم أشفق الناس عليهم وأحرصهم على سلامتهم ولعلهم يقونهم بأنفسهم مما يؤذيهم فضلا عن أن يكونوا متهمين على أن ينالوا بتلف أو عذاب وإنما نقموا منهم دينهم فكانوا يشددون عليهم بترك دينهم كرها وقد وضع الله المأثم في إكراههم أو لا ترى أن النساء إذا أريد بهن الفتنة ضعفن ولم يفهمن فهم الرجال وكان التقية تسعهن وكان فيهن أن يصيبهن أزواجهن وهن حرام عليهن قال وإن جاءتنا امرأة مهادنة أو مسلمة من دار الحرب إلى موضع الإمام فجاء سوى زوجها في طلبها منع منها بلا عوض، وإن جاء زوجها ففيها قولان: أحدهما: يعطى ما أنفق وهو ما دفع إليها من المهر، والآخر لا يعطى وقال في آخر الجواب واشبههما أن لا يعطوا عوضا (قال المزني) هذا أشبه بالحق عندي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عَلَى شُرُوطٍ مَحْظُورَةٍ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا. فَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ مَحْظُورٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى خَرَاجٍ يَضْرِبُونَهُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى رَدِّ مَا غَنِمَ مِنْ سَبْيِ ذَرَارِيهِمْ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مَغْنُومَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْيَ هَوَازِنَ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: إِنَّمَا رَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ، فَخَالَفَ الْتِزَامَهُ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ عَقْدٍ. وَمِنْهَا أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ أَوِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ، فَلَا يَجُوزُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 355 وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ عَلَى الْأَبَدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْجِهَادِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ، وَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ؛ لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ النَّفْعِ بِمُهَادَنَتِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ مَنَاكِيرِهِمْ فِي بِلَادِنَا مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَخُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى إِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى تَعْشِيرِ أَمْوَالِنَا إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَلَّا نَسْتَنْقِذَ أَسْرَانَا مِنْهُمْ، فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا مَحْظُورَةٌ، قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، فَإِنْ شُرِطَتْ بَطَلَتْ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ نَقْضُهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إِلَى السُّنَنِ، وَلَا تَبْطُلُ الْهُدْنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْبُيُوعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ؛ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَلَيْسَتْ بِأَوْكَدَ فِي عُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ الَّتِي لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بُطْلَانَ الشُّرُوطِ قَبْلَ مُطَالَبَتِهِمْ بِهَا، فَإِنْ طَالَبُوهُ بِالْتِزَامِهَا أَعْلَمَهُمْ حِينَئِذٍ بُطْلَانَهَا فِي شَرْعِنَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا الْعَمَلُ بِهَا. فَإِنْ دَعَوْهُ إِلَى نَقْضِ الْهُدْنَةِ نَقَضَهَا، إِلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْهُمُ الِاصْطِلَامَ، فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ، أَنْ يَلْتَزِمَهَا مَا كَانَ عَلَى ضَرُورَتِهِ كَمَا قُلْنَا فِي بَذْلِ الْمَالِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا: أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى هَذَا، فَنَذْكُرُ حُكْمَهَا فِي صُلْحِهِ ثُمَّ نَذْكُرُهُ فِي صُلْحِنَا. أَمَّا حُكْمُهَا فِي صُلْحِهِ، فَقَدْ كَانَتْ هُدْنَتُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعْقُودَةً عَلَى هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا مِنْهُمْ، فَجَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مُسْلِمًا، فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ: هَذَا ابْنِي أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ، فرد إليه، وقال لأبي جندل: قد تم الصلح بَيْنَنَا، وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَاصْبِرْ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ثُمَّ رَدَّ بَعْدَهُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَبَا بَصِيرٍ، فَرَدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ مِنَ الرِّجَالِ، ثُمَّ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً، فَجَاءَ أَخَوَاهَا فِي طَلَبِهَا، عِمَارَةُ وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ، وجاءت سعيدة زوجة صيفي بن الراهب مُسْلِمَةً، فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا، وَجَاءَتْ سَبِيعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً، فَجَاءَ زَوْجُهَا وَاسْمُهُ مُسَافِرٌ مِنْ قَوْمِهَا فِي طَلَبِهَا، وَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا رَدَّ النِّسَاءِ وَطِينُ الْكِتَابِ لَمْ يَجِفَّ، فَارْدُدْ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا، فَتَوَقَّفَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 356 رَدِّهِنَّ تَوَقُّعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِنَّ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ. وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ردهن، ومن رد النساء كلهن وولم يَمْتَنِعْ مِنْ رَدِّ الرِّجَالِ؛ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الرِّجَالَ أَثْبَتُ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّوْبَةِ إِنْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ يَحْرُمْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ، ولا يقدرون عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُمْ وَالرِّجَالُ بِخِلَافِهِنَّ، فَلِهَذَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي الرَّدِّ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَرَّدَ الرِّجَالَ، وَلَمْ يَرُدَّ النِّسَاءَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِشَرْحِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ تَفْسِيرٍ وَفِقْهٍ. أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَفِيمَا يُمْتَحَنُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنْ يَشْهَدْنَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ.، ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي بِمَا فِي قُلُوبِهِنَّ؛ لِأَنَّ الِامْتِحَانَ يُعْلَمُ بِهِ ظَاهِرُ إِيمَانِهِنَّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، ثُمَّ قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} يَعْنِي بِالِامْتِحَانِ، {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِيهِنَّ وَأَزْوَاجِهِنَّ {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ بِحَالٍ {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَحِلُّونَ لِلْمُسْلِمَاتِ بِحَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ كَافِرَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَلَا مُرْتَدَّةٍ، ثم قال تعالى {وآتوهم ما أنفقوا} يعني مهورهن، وفيمن تُدْفَعُ إِلَيْهِ مُهُورُهُنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَزْوَاجُهُنَّ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِيهِنَّ، فَعَلَى هَذَا يُدْفَعُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِنْ كُنَّ قَدْ أخذنه منهم، ولم يُدْفَعُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْنَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِلَى كُلِّ طَالِبٍ لَهُنَّ مِنْ زَوْجٍ وَأَهْلٍ وَهُوَ شَاذٌّ. فَعَلَى هَذَا يُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِطَلَبِهِنَّ مِنْ زَوْجٍ وَأَهْلٍ، سَوَاءٌ أَخَذْنَهُ أَوْ لَمْ يَأْخُذْنَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فَلَا يَأْخُذُ مَنْ لَمْ يُنْفِقْ ثُمَّ قَالَ ^ 0 وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي جِئْنَ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ مُسْلِمَاتٍ عَنْ أَزْوَاجٍ مُشْرِكِينَ أَبَاحَ الله تعالى نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عددهن، أَوْ كُنَّ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ: {إِذَا آتيتموهن أجورهن} يَعْنِي مُهُورَهُنَّ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِالْإِيتَاءِ الدَّفْعَ إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ فَيَصِيرُ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ قَالَ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ عَنْ زَوْجَةٍ وَثَنِيَّةٍ لَمْ يُقِمْ عَلَى نِكَاحِهَا تَمَسُّكًا بِعِصْمَتِهَا إِلَّا أَنْ يسلم في عدتها، وفي العصمة هاهنا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَمَالُ. وَالثَّانِي: الْعَقْدُ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ارْتَدَّتْ زَوْجَتُهُ، فَلَحِقَتْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ رَجَعَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا، كَمَا يَرْجِعُ أَهْلُ الْعَهْدِ عَلَيْنَا بِمَهْرِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ من أزواجكم} يَعْنِي مَنِ ارْتَدَّتْ إِلَى الْكُفَّارِ، وَهِيَ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ إِذَا ارْتَدَّتْ فَلَحِقَتْ بِأَهْلِ الْعَهْدِ، وَفَوَاتُهَا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ قَالَ: {فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: فَعَاقَبْتُمُ الْمُرْتَدَّةَ بِالْقَتْلِ، فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَرْجِعَ بِمَهْرِهَا فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَعْنِي: فَعَاقَبْتُمُ الَّذِينَ لَحِقَتِ الْمُرْتَدَّةُ بِهِمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِصَابَةُ الْعَاقِبَةِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْغَنِيمَةِ فَيُدْفَعُ مِنْ غَنَائِمِهِمْ مَهْرُ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ مَهْرَ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ، وَوَجَبَ لَهُمْ مَهْرُ مَنْ أَسْلَمَ أَيْضًا جَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا تَسَاوِيًا وَرَدَّ فِعْلٍ إِنْ زَادَ فَيَكُونُ مَعْنَى " فعاقبتم " أَيْ تَقَاصَصْتُمْ، وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعَقِبِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَعَ رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ رَدِّ النِّسَاءِ إِذَا أَسْلَمْنَ دُونَ الرِّجَالِ، وَأَوْجَبَ لِأَزْوَاجِهِنَّ مُهُورَهُنَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ: هَلِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ هُدْنَتِهِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرجال والنساء أو جعله منصورا عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ خَرَجَ فِي شَرْطِهِ أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ مَا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ سَأَلُوهُ لَمَّا أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 358 يُجْرِيَهُنَّ فِي الرَّدِّ مُجْرَى الرِّجَالِ؛ لِيَمُنَّ عَلَيْهِنَّ بِرَدِّهِنَّ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ رَدَّهُنَّ جَائِزٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَنْعَ مِنْ رَدِّهِنَّ؛ لِيَكُونَ حُجَّةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ، وَجَعَلَ رَدَّ الْمَهْرِ عَلَى الْأَزْوَاجِ تَوْكِيدًا لِعَقْدِ الْهُدْنَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلَقَ فِي شَرْطِ الْعَقْدِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ؛ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ فِي رَدٍّ وَلَا مَنْعٍ، فَكَانَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ مِنَ الشَّرْطِ اشْتِمَالَهُ عَلَيْهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ تَخْصِيصُهُ مُحْتَمِلًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى خُرُوجَهُنَّ مِنْ عُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُرَادُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَتَمَسَّكَتْ قُرَيْشٌ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ فِي رَدِّ النِّسَاءِ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خروجهن من العموم بما نزل عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَرَّحَ بِرَدِّهِنَّ فِي شَرْطِ هُدْنَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ حَتَّى مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَدِّهِنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيوجه اشْتِرَاطِهِ لِرَدِّهِنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، وَلَوْلَا سَهْوُهُ عَنْهُ، لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَسْهُو كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَأٍ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي السَّهْوِ مُبَايِنًا لَهُمْ فِي الْإِقْرَارِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكًا لِسَهْوِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِحَظْرِهِ لَكِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ وَقْتِهِ فِي حَسْمِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَدْ يُفْعَلُ فِي الِاضْطِرَارِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ فِي الِاخْتِيَارِ، فَلَمَّا زَالَتْ ضَرُورَتُهُ مَنَعَ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُقَرَّ الْمُسْلِمَةُ عَلَى نِكَاحِ كَافِرٍ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى نِكَاحِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى أَنِ انْتَزَعَهَا مِنْهُ حَتَّى أَسْلَمَ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ شَرَطَ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَنَسَخَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْهُ وَأَبْطَلَ شَرْطَهُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَذْهَبُكُمْ أنه لا يجوز أن ننسخ السُّنَّةَ إِلَّا السُّنَّةُ، وَالْقُرْآنَ إِلَّا الْقُرْآنُ فَكَيْفَ نَسَخَ السُّنَّةَ هَا هُنَا بِالْقُرْآنِ. قِيلَ: أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 359 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَعَلَى هَذَا عَنْ هَذَا النَّسْخِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مُسْتَبَاحًا بِعُمُومِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي إِبَاحَةِ النِّكَاحِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، فَكَانَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مُسْتَبَاحًا بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نَسَخَتْهُ السُّنَّةُ بِمَا رُوِيَ مِنْ إِبْطَالِ الشَّرْطِ فِي هُدْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا حُكْمُ الشَّرْطِ فِي هُدْنَةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَعْصَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِحَالٍ، وَلَئِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي هُدْنَتِهِ، فَقَدْ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْطِ فِي حَظْرِ الرد، وقد استقر منه ما لا جوز خِلَافُهُ. فَأَمَّا اشْتِرَاطُ رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، فَمُعْتَبَرٌ بِأَحْوَالِهِمْ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَفِي عَشَائِرِهِمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَذَلِّينَ فِيهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عَشِيرَةٌ تَكُفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَطَلَبُوهُمْ لِيُعَذِّبُوهُمْ، وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَذِّبُ بِلَالًا. . وَعَمَّارًا وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، لَمْ يَجُزْ رَدُّهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الشَّرْطُ فِي رَدِّهِمْ بَاطِلًا، كَمَا بَطَلَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَكَفًّا عَنْ تَعْذِيبِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا " وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ فَكُّ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَوْنًا عَلَى أَسْرِ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ، قَدْ أَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَسْتَذِلَّهُ مُسْتَطِيلٌ عَلَيْهِ، جَازَ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَصَحَّتِ الْهُدْنَةُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِ. قَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ، وَرَدَّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى أَهْلِهِ، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عَلَى أَبِيهِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي عَشِيرَةٍ، وَطَلَبَهُمْ أَهْلُوهُمْ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ، وَفَادَى الْعَقِيلِيَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَا أَسِيرَيْنِ فِي قَوْمِهِ، لِقُوَّةِ عَشِيرَتِهِ فِيهِمْ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ مُرَاسَلَةَ قُرَيْشٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَعَرَضَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ إِنِّي قَلِيلُ الْعَشِيرَةِ بِمَكَّةَ، وَلَا آمَنُهُمْ عَلَى نَفْسِي. فَعَرَضَ على عمر فقال مثل (ذلك) فَقَالَ لِعُثْمَانَ: " أَنْتَ كَثِيرُ الْعَشِيرَةِ بِمَكَّةَ " فَوَجَّهَهُ إليهم، فلما توجه فلقوه الإكرام وَقَالُوا لَهُ: طُفْ بِالْبَيْتِ وَتَحَلَّلْ مِنْ إِحْرَامِكَ، فَقَالَ: لَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَحْصُورٌ عَنِ الطَّوَافِ، فَانْقَلَبُوا عَلَيْهِ، حَتَّى بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قتل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 360 فَبَايَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَجْلِهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذِي الْعَشِيرَةِ الْمَانِعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الرَّدِّ. وَمِثْلُهُ مَا قُلْنَاهُ: فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِعَشِيرَتِهِ إِذَا أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، فَصَارَ الرَّدُّ مَقْصُورًا عَلَى طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الممتنعة بيوتها لقوتها والمنع الرَّدِّ مُشْتَمِلًا عَلَى طَائِفَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ النِّسَاءِ مِنَ الْمُمْتَنِعَاتِ، وَالْمُسْتَضْعَفَاتِ. وَالثَّانِي: الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ إِذَا وَصَفُوا الْإِسْلَامَ عِنْدَ الْمُرَاهَقَةِ مَمْنُوعُونَ مِنَ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَجَعَلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَذَهَبَ جَمِيعُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، وَمَنْصُوصِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّ إِسْلَامَهُ لَا يَصِحُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ رَدِّهِ اسْتِظْهَارًا لِدِينِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَا هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ. فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ رُدَّ إِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا، وَلَمْ يُرَدَّ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ حُمِلَ عَلَى هُدْنَةِ قَوْمِهِ. فَلَوْ شَرَطَ فِي الْهُدْنَةِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَقْتَضِي عُمُومَ الرَّدِّ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ، وَمِمَّنْ لا يجز أَنْ يُخَصَّ عُمُومُهُ بِالْعُرْفِ فِيمَنْ يَجُوزُ رَدُّهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا التَّفْصِيلُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي النِّسَاءِ. وَالثَّانِي: فِي الرِّجَالِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي النِّسَاءِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إِلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ رَدِّهِنَّ، فَإِذَا مَنَعَ الْإِمَامُ مِنْهُ نُظِرَ فِي الطَّالِبِ لَهُنَّ: فَإِنْ كَانَ غَيْرَ زَوْجٍ مِنِ ابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إِذَا امْتَنَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَنْ بُضْعِهَا بَدَلًا. وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ لَهَا زَوْجَهَا قِيلَ لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ فِي عِدَّتِهَا كُنْتَ عَلَى نِكَاحِكَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ مُنِعْتَ مِنْهَا، وَنُظِرَ فِي مَهْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ به، وإن دفعه إليها، فعنى رُجُوعِهِ بِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي امْتِنَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ رَدِّهِنَّ، هَلْ كَانَ لِنَسْخٍ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَوْ كَانَ مَعَ تَقَدُّمِ الْحَظْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ رَدَّ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ هُدْنَتِهِ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا فِي مَنْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ لم يطالب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 361 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ اشْتَرَطَ رَدَّهُنَّ مَعَ إِبَاحَتِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هُدْنَتِهِ، فَلَا مَهْرَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدِّهَا عَلَيْهِ؛ لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حَظْرَهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَشْتَرِطْ رَدَّهُنَّ أَوْ شَرَطَهُ سَهْوًا أَوْ مُضْطَرًّا وَجَبَ لِزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ فِي هُدْنَةِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّ رَدَّهُنَّ فِي الْحَالَيْنِ مَحْظُورٌ، وَالشَّرْطَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ، فَصَارَ الْقَوْلَانِ فِي رَدِّ الْمَهْرِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى هَذَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا مَهْرَ لَهُ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ غَيْرُ زَوْجِهَا أهلها لَمْ يَرْجِعْ بِهِ زَوْجُهَا كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا لَمْ تَرْجِعْ زَوْجَةُ مَنْ أَسْلَمَ بِمَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنَ الْمَهْرِ وَجَبَ أَنْ لَا يرجع زوج من أسلمت بما دفعه المهر، لتكافؤهما فِي النِّكَاحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْمَهْرِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ قَدْ أَوْجَبَ الْأَمَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَيَضَعُ الزَّوْجَةَ فِي حُكْمِ الْمَالِ؛ لِصِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ نِكَاحًا وَخُلْعًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ مَهْرِهَا مُعْتَبَرًا بِتِسْعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ لَهَا زَوْجُهَا، فَإِنْ طَلَبَهَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا، فإن ادعى زوجتها فَصَدَّقَتْهُ قُبِلَ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ مِنْ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدَانِ بِنِكَاحِهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى عَقْدِ نِكَاحٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَاقَ إِلَيْهَا مَهْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ لَمْ يَسْتَحِقُّهُ، وَقَوْلُهَا فِي قَبْضِهِ مَقْبُولٌ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا، وَطُولِبَ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَهْرِ حَرَامًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ مِثْلٌ، وَلَا قِيمَةٌ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ هَاجَرَتْ بِإِسْلَامِهَا إِلَى بَلَدِ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ وَفِي هَذَا النَّائِبِ عَنْهُ وَجْهَانِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 362 أَحَدُهُمَا: هُوَ النَّائِبُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: النَّائِبُ عَنْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يُسْتَحَقُّ فِيهِ، فَإِنْ هَاجَرَتْ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يُسْتَحَقَّ مَهْرُهَا لِعَدَمِ مَنْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَقِرَّ إِسْلَامُهَا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً، وُقِفَ أَمْرُهَا على البلوغ والإقامة، وَمُنِعَ مِنْهَا؛ لِئَلَّا تُفْتَنَ عَنْ دِينِهَا إِذَا بَلَغَتْ أَوْ أَفَاقَتْ، فَإِنْ صَبَرَ الزَّوْجُ مُنْتَظِرًا يُمْنَعُ مِنَ الْمَهْرِ، فَإِنْ بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ، وَأَفَاقَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ دُفِعَ إِلَيْهَا مَهْرُهَا، وَإِنْ وَصَفَتِ الْكُفْرَ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهَا مَهْرُهَا، وَيُمَكَّنْ مِنْهَا. وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّبْرِ وَالِانْتِظَارِ، وَقَالَ: إِمَّا التَّمْكِينُ مِنْهَا أَوْ دَفْعُ مَهْرِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى الصَّبْرِ انْتِظَارًا لَهَا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا؛ لِجَوَازِ إِسْلَامِهَا، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَهْرُهَا؛ لِجَوَازِ كُفْرِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَا يُعَجَّلُ لَهُ أَيْسَرُهُمَا، وَرُوعِيَ حَالُهَا إِذَا بَلَغَتْ، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْمَهْرِ وَمَنَعَهُ مِنْهَا. وَإِنْ وَصَفَتِ الْكُفْرَ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَهْرَهَا، وَمُكِّنَ مِنْهَا. فَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَصَفَتِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ جُنُونِهَا دُفِعَ إِلَيْهِ مَهْرُهَا، وَإِنْ وَصَفَتْهُ فِي جُنُونِهَا كَانَتْ كَالصَّغِيرَةِ فِي انْتِظَارِ إقامتها. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةَ الْحَيَاةِ لَمْ تَمُتْ؛ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْهَا، فَإِنْ مَاتَتْ نُظِرَ فِي مَوْتِهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ لَهَا اسْتَحَقَّ مَهْرَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْجَبَهُ بِالطَّلَبِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ طَلَبِهِ، فَلَا مَهْرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَنْعٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَهْرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ دُونَهَا، وَكَانَ قَبْلَ طَلَبِهِ، فَلَا مَهْرَ لِوَارِثِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ طَلَبِهِ اسْتَحَقَّ وَارِثُهُ الْمَهْرَ لِوُجُوبِهِ بِالْمَنْعِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ طَلَبَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا مَنْزِلَةَ لِوُقُوعِ الْفِرْقَةِ بِانْقِضَائِهَا إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى انْقِضَائِهَا كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. وَالشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مُقِيمَةً عَلَى إِسْلَامِهَا، فَإِنِ ارْتَدَّتْ عَنْهُ مُنِعَ مِنْهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا لِهَذَا الْمَنْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ لِمَنْعِهِ مِنْهَا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَيْسَ يُمْنَعُ لِثُبُوتِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ مَحْظُورٌ عَلَى الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمَةِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 363 وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى كُفْرِهِ؛ لِيَكُونَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَيَكُونَانِ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا مَهْرَ لَهُ لِتَمْكِينِهِ مِنْهَا، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَهْرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ اسْتَرْجَعَ مِنْهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مَالِكًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَقَدْ بَطَلَ النِّكَاحُ، بِانْقِضَائِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَهْرِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ أُخِذَ بِالطَّلَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ، وَصَارَ بِالْقَبْضِ مُسْتَهْلَكًا فِي الشِّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمَهْرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ نُظِرَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَبَهَا حَتَّى أَسْلَمَ، فَلَا مَهْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا، وَإِنْ قَدَّمَ الطَّلَبَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا حَتَّى أَسْلَمَ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ لِوُجُوبِهِ بِالطَّلَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ نِكَاحِهَا إِنْ أَحَبَّ. وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُقِيمًا عَلَى نِكَاحِهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بِعَدَمِ الْمُطَالَبَةِ لَهَا، فَلَهُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْمَنْعِ، وَلَا يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَائِنًا بِثَلَاثٍ أَوْ خُلْعٍ، فلا مهرله؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِتَرْكِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رَجْعَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ، فَلَا مَهْرَ لَهُ؛ لِتَرْكِهَا عَنْ رِضًى، وَإِنْ رَاجَعَهَا، فَلَهُ الْمَهْرُ لِارْتِفَاعِ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ، فَصَارَ بَاقِيًا عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَهْرُهَا بِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الشُّرُوطِ التِّسْعَةِ، وَكَانَتِ الْمُطَالَبَةُ بِزَوْجَةٍ أَوْ زَوْجَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، حُكِمَ لَهُ بِمُهُورِهِنَّ كُلِّهِنَّ، وَلَوْ طَالَبَ بِعَشْرِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ عَنْهُ وَقَدْ نَكَحَهُنَّ فِي الشِّرْكِ قِيلَ لَهُ: اخْتَرْ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ أَرْبَعًا، وَلَكَ مُهُورُهُنَّ، وَلَا مَهْرَ لَكَ فِيمَا عَدَاهُنَّ، لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِذَا كَانَ الْمَهْرُ مُسْتَحَقًّا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي دَفَعَهُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ مَا دُفِعَ، فَإِنْ كَانَ أَقَلُّهَا مَهْرَ مِثْلِهَا رَجَعَ بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْبُضْعِ الْفَائِتِ عَلَيْهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 364 وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهَا مَا غَرِمَهُ رَجَعَ بِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْهَا، وَسَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَهْرَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ رَدَّهُنَّ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَوْ لَا يَشْتَرِطَ، إِلَّا أَنَّ الْهُدْنَةَ تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ رَدِّهِنَّ وَلَا تبطل إن لم يتشرط. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الرِّجَالِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي اسْتِحْقَاقِ رَدِّ الْأَقْوِيَاءِ، فَصِفَةُ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ إِذْنًا مِنْهُ بِالْعَوْدِ، وَتَمْكِينًا لَهُمْ مِنَ الرَّدِّ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ جَبْرًا إِنْ تَمَانَعَ الْمَرْدُودُ، وَكَذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ فِي الْعَوْدِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمَطْلُوبَ عَلَى تَمَانُعِهِ مِنَ الْعَوْدِ قِيلَ: لِلطَّالِبِ: أَنْتَ مُمَكَّنٌ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ، فَإِذَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ لَمْ تُمْنَعْ مِنْهُ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ لَمْ تُعَنْ عَلَيْهِ، وَرُوعِيَ حُكْمُ الْوَقْتِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي حَثِّهِ عَلَى الْعَوْدِ لِتَأَلُّفِ قَوْمِهِ أَشَارَ بِهِ الْإِمَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَعْدِهِ بِنَصْرِ اللَّهِ، وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ؛ لِيَزْدَادَ ثَبَاتًا عَلَى دِينِهِ، وَقُوَّةً فِي اسْتِنْصَارِهِ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَثْبِيطِهِ عَنِ الْعَوْدِ أَشَارَ بِهِ سِرًّا وَأَمْسَكَ عَنْ خِطَابِهِ جَهْرًا، فَإِنْ ظَهَرَ مِنَ الطَّالِبِ عُنْفٌ بِالْمَطْلُوبِ واعده الإمام، فإن كان لفرط إسفاق تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ لِشِدَّةِ مَنْعِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَطْلُوبِ مَالٌ أَخَذَهُ مِنَ الطَّالِبِ الَّذِي نَظَرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ قَبْلَ الْهُدْنَةِ كَانَ الْمَطْلُوبُ أَحَقَّ بِهِ. وَإِنْ أَخَذَهُ بَعْدَ الْهُدْنَةِ كَانَ الطَّلَبُ أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُ قَبْلَ الْهُدْنَةِ مُبَاحَةٌ، وَبَعْدَهَا مَحْظُورَةٌ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَّا مُقِيمًا عَلَى شِرْكِهِ بَعْدُ لَمْ يُسْلِمْ مُكِّنَ طَالِبُهُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً خِيفَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُخَفْ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ قَدْ أَوْجَبَتْ أَمَانَهُ مِنَّا، وَلَمْ تُوجِبْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْهُمْ، وَاسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْهُدْنَةِ تَمْكِينَهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا أَنْ نَقُومَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ عَلَيْنَا، فَيَلْزَمُنَا بِالشَّرْطِ أَنْ نَرُدَّهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ، وَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ نُعَاوِضَهُمْ عَنْهُ. فَإِنْ شَرَطَهَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، أَنْ نُعَاوِضَهُمْ عَمَّنْ لَحِقَ بِنَا مِنْ كُفَّارِهِمْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبْذُلَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُشْرِكِينَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضرب الثاني: والضعفاء فَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُعَاوَضَةُ الطَّالِبِ فِي دَفْعِهِ عَنِ الْمَطْلُوبِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فِي حُقُوقِ الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ يَصِحُّ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ بِخِلَافِ بُضْعِ الْحُرَّةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ عَبْدًا غَلَبَ عَلَى سَيِّدِهِ، وَهَاجَرَ مُسْلِمًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَيَعْتِقَ بِهِجْرَتِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ تُوجِبُ أَمَانَهُمْ مِنَّا، وَلَا تُوجِبُ أَمَانَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 365 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ فَيْعَتِقَ بِهِجْرَتِهِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ. فَإِذَا أُعْتِقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِسَيِّدِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالزَّوْجَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ، فَلَا يُعْتَقُ لِحَظْرِهِ أَمْوَالَهُمْ بَعْدَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْهَا مُسْلِمٌ بِالْغَلَبَةِ، وَيَكُونُ عَلَى رِقِّهِ لِسَيِّدِهِ، وَيُمْنَعُ مِنْ دَفْعِهِ إِلَيْهِ، اسْتِيفَاءَ رِقِّهِ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُسْتَذَلَّ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيُقَالُ لِسَيِّدِهِ إِنْ أَعْتَقْتَهُ كَانَ لَكَ وَلَاؤُهُ، وَلَا قِيمَةَ لَكَ عَنْهُ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَإِنِ امْتَنَعْتَ مِنْ عِتْقِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْكَ جَبْرًا؛ لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْهُدْنَةُ مِنْ حِفْظِ مَالِكَ، وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهِ مُجْتَهِدًا فِي خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ يَدْفَعَ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَيَعْتِقَهُ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ وَلَاؤُهُ. فَلَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَهَاجَرَتْ مُسْلِمَةً، فَحَضَرَ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا فِي طَلَبِهَا، كَانَ حُكْمُهَا مَعَ السَّيِّدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حكم العبد في العتق والرد، وعزم الْقِيمَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمُقَدَّمِ. وَأَمَّا حُكْمُهَا مَعَ الزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَوْلَانِ كَالْحُرَّةِ، وَلَا يَكُونُ غُرْمُ قِيمَتِهَا لَوْ أَخَذَهَا السَّيِّدُ مَانِعًا مِنْ غُرْمِ مَهْرِهَا لِلزَّوْجِ. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ فَلَا يُسَلَّمُ إِذَا اسْتَحَقَّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الزَّوْجِ مَعَ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ البضع للعبد. وملك المهر لسيد، فَإِنْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِطَلَبِهِ مُنِعَ، وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُفِعَ بِاجْتِمَاعِهِمَا إِلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، وَلَمْ يَنْفَرْدِ بِقَبْضِهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعٍ مَعَ عَبْدِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمَطْلُوبَةُ أُمَّ وَلَدٍ فَجَاءَ سَيِّدُهُمَا فِي طَلَبِهَا كَانَتْ فِي الْعِتْقِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْقِيمَةِ كَالْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً، فَإِنْ حُكِمَ بِعِتْقِهَا عَلَى مَا قسمناه في الأمة بطلب كتابتها، وفي استحقاقه في لِقِيمَتِهَا قَوْلَانِ. وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهَا، كَانَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تُبَعْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّتْ مَالَ كِتَابَتِهَا عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ، وَكَانَ لَهُ وَلَاؤُهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَدَّتْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ حُسِبَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مَأْخَذُهُ منها قبل الإسلام، فإن بلغ قدر والقيمة، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَعَتَقَتْ وَكَانَ وَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 366 أَحَدُهُمَا: لَا يُرَدُّ إِذَا قِيلَ: إِنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُرَدُّ إِذَا قِيلَ إِنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ يَسْتَحِقُّهُ، فَإِنْ كَانَ مَا أَدَّتْهُ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، لَمْ يَسْتَرْجِعْ فَاضِلَ الْقِيمَةِ مِنْ سَيِّدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّتْهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا اسْتَحَقَّ سَيِّدُهَا تَمَامَ قِيمَتِهَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الرَّدِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَحِقَ بِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِمَامِ فِي عقد هدنته من ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَطَ فِيهَا رَدَّ مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ لِيُؤْخَذُوا بِرَدِّهِ وَتَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّهِ كَانَ نَقْضًا لِهُدْنَتِهِمْ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَرُدُّوا مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسِلْمِينَ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرَطَ ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَأَمَّا الْآنَ فَفِي جَوَازِ اشْتِرَاطِهِ الْهُدْنَةَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يجوز الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هُدْنَةِ الْحُدْيَبِيَةِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَبَاحَتْ دِمَاءَهُمْ فَسَقَطَ عَنَّا حِفْظُهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هُدْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا بَطَلَتْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ بَطَلَتْ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهَا تَبْطُلُ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَبْطُلُ فِي تَرْكِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ كَمَا بَطَلَتْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ ذَوَاتِ فُرُوجٍ يَحْرُمُ عَلَى الْكَافِرِ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ مِثْلُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمَةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ الْقَوْلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الرَّدِّ كَانَ عَلَيْهِمْ لِتَمْكِينٍ مِنْهُمْ، وَأَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ فَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُمْ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الرَّدَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُمْ، وَلَا يُمَكَّنُوا مِنْهُمْ، وَكَانُوا فِيهِ عَلَى عَهْدِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَهْدُ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رَدُّ مَنِ ارتد إليهم، ولإقراره مَعَهُمْ، فَإِطْلَاقُهُ يُوجِبُ رَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَّا، وَلَا يُوجِبُ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مُوجِبٌ لِإِمْضَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَعْلَى، فَكَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى، فَيَلْزَمُهُمُ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ تَسْلِيمُهُمْ، فَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُمَكَّنُوا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، فَصَارَتْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ثَلَاثَةً تَنْقَسِمُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 367 أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُ الْمُرْتَدِّينَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّمْكِينُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ. وَالثَّالِثُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ، وَلَا التَّمْكِينُ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ وَلَا التَّمْكِينُ مِنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَغْرَمُوا مُهُورَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ نِسَائِنَا وَقِيمَةَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ عَمَّنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ غُرْمٌ كَمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْرَارِهِمْ غُرْمٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَا تُضْمَنُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ، فَلَوْ عَادَ الْمُرْتَدُّونَ إِلَيْنَا لَمْ نَرُدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا أَخَذْنَاهُ مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ، وَرَدَدْنَا مَا أَخَذْنَاهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا لَهُمْ بِدَفْعِ القيمة ملكا، فلم يصر لنسائهم لدفع الْمُهُورِ أَزْوَاجًا. وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّمْكِينُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ غُرْمُ مَهْرٍ، وَلَا قِيمَةُ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّنَا إِنْ وَصَلْنَا إِلَيْهِمْ بِالتَّمْكِينِ، فَقَدْ وَصَلْنَا إِلَى حَقِّنَا وَإِنْ لَمْ نَصِلْ إِلَيْهِمْ مَعَ التَّمْكِينِ فَلِعَجْزِنَا. وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَسْلِيمُهُمْ أُخِذُوا بِهِ جَبْرًا إِذَا كَانَ تَسْلِيمُهُمْ مُمْكِنًا، وَلَا غُرْمَ إِذَا سَلَّمُوهُمْ. فَإِنْ فَاتَ تَسْلِيمُهُمْ بِالْمَوْتِ أُغْرِمُوا مُهُورَ النِّسَاءِ، وَقِيمَةَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُمْ بِالْهَرَبِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهِمْ لَمْ يَغْرَمُوا مَهْرًا، وَلَا قِيمَةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَدِّهِمْ غَرِمُوا مُهُورَ النِّسَاءِ وَقِيَمَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَوَجَبَ لنا عليهم مهور من ارتد من نساءنا، وَقِيَمُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا، وَوَجَبَ لَهُمْ عَلَيْنَا مُهُورُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَقِيَمُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا قَوْلًا وَاحِدًا، لِمَا فِي الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ مِنَ الْخَطَرِ الشَّاقِّ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّتَانِ، وَإِنْ فَضَلَ لَنَا رَجَعَتْ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ فَضَلَ لَهُمْ دَفَعْنَا الْفَضْلَ إِلَيْهِمْ، وَدَفَعَ الْإِمَامُ مَا قَاصَصَهُمْ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَدْفَعُوا مَا قُصِّصُوا بِهِ، إِلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ هَذَا الْعَقْدَ إِلَّا الْخَلِيفَةُ أَوْ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَلِي الْأَمْوَالَ كُلَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ الْهُدْنَةِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ إِلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْ مَنِ اسْتَنَابَهُ بِهِ، فِيهَا الْخَلِيفَةُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاهَدَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ بِنَفْسِهِ، وَهَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ، لِإِشْرَافِهِ على جميع الأمور أعرف بمصالحها من أشذاذ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْوِلَايَةِ أَنْفَذُ، وَهُوَ عَلَى التَّدْبِيرِ وَالْحِرَاسَةِ أَقْدَرُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 368 فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ أَمَرَهُ بِعَقْدِهَا صَحَّ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامُّ النَّظَرِ، فَلَمْ يَفْرُغْ لِمُبَاشَرَةِ كُلِّ عَمَلٍ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ فوض عَقْدَهَا إِلَى رَأْيِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَكَانَ عَقْدُهَا فِي هَذَا منسوبا إلى المستناب المباشر، وفي قَبْلَهُ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنِيبِ الْآمِرِ، وَهُمَا فِي اللُّزُومِ عَلَى سَوَاءٍ. وَأَمَّا وُلَاةُ الثُّغُورِ، فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ تَضَمَّنَ الْجِهَادَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ إِلَّا قَدْرَ فَتْرَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ هُدْنَةٍ جَازَ، فَكَانَ مَعَ الْهُدْنَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَإِنْ تَضَمَّنَ تَقْلِيدَ وَالِي الثُّغُورِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُوَادَعَةِ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ لِدُخُولِهَا فِي وِلَايَتِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِيهَا الْخَلِيفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ انْعَقَدَتْ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِنْفَاذُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اجْتَهَدَ الْإِمَامُ فِي الْهُدْنَةِ حَتَّى عَقَدَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاؤُهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهَا، وَإِنِ اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ أَتَوْا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وِلَايَتِهِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْكِتَابَ بِيَدِكَ وَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إِلَيْكَ، وَإِنَّ عُمَرَ أَجْلَانَا مِنْ أَرْضِنَا، فَرُدَّنَا إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَإِنِّي لَا أُغَيِّرُ أَمْرًا فَعَلَهُ وَلِأَنَّ مَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْسَخَ بِالِاجْتِهَادِ كَالْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ تُفْسَخْ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِمْضَائِهَا وَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فُسِخَتْ. وَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى حَرْبِهِمْ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِفَسَادِ الْهُدْنَةِ، وَقَدْ تَظَاهَرَ يَهُودُ خَيْبَرَ بِكِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُمْ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ، ثُمَّ سَقَطَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يَعْدِلُ فِيهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلِهُ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ^) [التوبة: 29] وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَأَوْجَبُوهَا عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَتَفَرَّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاملهم على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 369 نَخِيلِ خَيْبَرَ حِينَ فَتَحَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لَا تَقْتَضِي سُقُوطَ الْجِزْيَةِ. وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا هَادَنَ قَوْمًا أَنْ يَكْتُبَ عَقْدَ الْهُدْنَةِ فِي كِتَابٍ يَشْهَدُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، لِيَشْمَلَ بِهِ الْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: لَكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّتِي، وَكَذَا فِي الْأَمَانِ: لَكُمْ أَمَانُ اللَّهِ، وَأَمَانُ رَسُولِهِ وَأَمَانِي، وَحَرَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُخْفَرَ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ لَكُمْ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ، فَلَمْ يَنْسُبْ إِلَيْهِمَا مَا تُخْفَرُ بِهِ ذِمَّتُهُمَا. (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى خَرْجٍ عَلَى أَرَاضِيهِمْ يَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ مَضْمُونًا كَالْجِزْيَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُصَالِحَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى خَرَاجٍ يَضَعُهُ عَلَى أَرْضِهِمْ، يَسْتَوْفِيهِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْعَقِدَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرْضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ صَارَتْ بِهَذَا الصُّلْحِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَصَارُوا بِإِقْرَارِهِمْ فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَا يُقَرُّونَ إِلَا بِجِزْيَةٍ، وَلَا يُجْزِئُ الْخَرَاجُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَرْضِهِمْ عَنْ جِزْيَةِ رؤوسهم؛ لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ حَتَّى يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَجِزْيَةِ الرُّؤُوسِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَتْ عَنْهُمْ جِزْيَةُ رُؤُوسِهِمْ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْعَقِدَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَاقِيَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا مَأْخُوذًا مِنْهُمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْعَقِدَ الشَّرْطُ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنَّا، وَلَا يَنْعَقِدَ عَلَى ذَبِّنَا عَنْهُمْ، فَتَكُونُ أَرْضُهُمْ مَعَ هذا الشرط من جملة دار الحرب، ويكونوا فيها أهل عهد، ولا يكونوا أهل ذمة، ولا تؤخذ منهم جزية رؤوسهم؛ لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيْقَتْصِرُ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ كَالصُّلْحِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْجِزْيَةِ، وَلَيْسَ بِجِزْيَةٍ. فَإِنْ أَسْلَمُوا أَسْقَطَ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ، وَصَارَتْ أَرْضُهُمْ أَرْضَ عُشْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ خَرَاجُ الْأَرْضِ بِإِسْلَامِهِمْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالصُّلْحِ أَرْضَ خَرَاجٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْعُشْرِ؛ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْكُفْرِ سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْجِزْيَةِ. وَاحْتِجَاجُهُ بِنُفُوذِ الْحُكْمِ فَنُفُوذُهُ مَقْصُورٌ عَلَى مُدَّةِ الْكُفْرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْعَقِدَ الشَّرْطُ عَلَى أَمَانِهِمْ مِنَّا، وَذَبِّنَا عَنْهُمْ، فَقَدْ صَارَتْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 370 أرضهم بهذا الشرط دار الْإِسْلَامِ، وَصَارُوا فِيهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ لَا يُقَرُّونَ إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَيَكُونُ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ مَعَ بَقَائِهَا على ملكهم جزية عن رؤوسهم، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ خَرَاجِ الأرض وجزية الرؤوس. وقال ابو حنيفة: لا تسقط جزية رؤوسهم بِخَرَاجِ الْأَرْضِ، وَأَجْمَعُ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ عِوَضٌ عَنْ إِقْرَارِهَا عَلَيْهِمْ، وَالْجِزْيَةَ عَنْ حِرَاسَةِ نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ دُونَ الْخَرَاجِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْهُمَا جَازَ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِالْخَرَاجِ دُونَ الْجِزْيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْهُمَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ الِاقْتِصَارُ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ كَانَتْ صِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَا يَنْقُصُ عَنْ جِزْيَتِهِ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا أُخِذَ بِتَمَامِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا أَرْضَ لَهُ مِنْهُمْ لَا يُقَرُّ مَعَهُمْ إِلَّا بِجِزْيَةِ رَأْسِهِ، وَيُؤْخَذُ هَذَا الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهِمْ زُرِعَتْ أَوْ لَمْ تُزْرَعْ؛ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ. فَإِنْ شَرَطَ أَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْهَا إِذَا زُرِعَتْ وَإِسْقَاطَهُ إِذَا لَمْ تُزْرَعْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعَطِّلُونَهَا فَتَسْقُطُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاشٌ غَيْرُ الزرع جاز؛ لأنهم لا يعطونها إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَعَاشٌ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ. وَيُؤْخَذُ هَذَا الْخَرَاجُ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَتْ جزية الرؤوس مَأْخُوذَةً مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُهُمْ، فَصَارَ الْخَرَاجُ أَعَمَّ نَفْعًا مِنَ الْجِزْيَةِ، فَلِذَلِكَ صَارَ أَعَمَّ وُجُوبًا. فَإِنْ جَمَعَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ في شرط بين خارج الأرض وجزية الرؤوس جَازَ، وَصَارَ خَرَاجُ الْأَرْضِ زِيَادَةً عَلَى الْجِزْيَةِ، فَيُؤْخَذُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ والنساء وتؤخذ جزية الرؤوس مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ، وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجِزْيَةَ دون الخراج. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ عُشُورُ مَا زَرَعُوا لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَما: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 371 فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ يَلْزَمُهُمْ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَجِزْيَةُ الرُّؤُوسِ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُمْ عَلَى عُشُورِ مَا زَرَعُوا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ حَقَّيْنِ الْخَرَاجَ، وَالْجِزْيَةَ، فَإِنْ جُعِلَ الْعُشْرُ خَرَاجًا بَقِيَتِ الْجِزْيَةُ، وَكَانَ الْخَرَاجُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعْلُومَةً، وَهَذِهِ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَزْرَعُونَ وَلَا يَزْرَعُونَ، وَيَكُونُ زَرْعُهُمْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَإِنْ جُعِلَ الْعُشْرُ جِزْيَةً بَقِيَ الْخَرَاجُ، وَكَانَتِ الْجِزْيَةُ فَاسِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهَالَةِ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ، وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، وَهُمْ فِيهَا أَهْلُ عَهْدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى عُشُورِ مَا زَرَعُوا؛ لِأَنَّهُ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ. وَلَا جِزْيَةَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ لِمَقَامِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَيَصِيرُ عُشْرُ زَرْعِهِمْ مَالَ صُلْحٍ لَيْسَ بِخَرَاجٍ، وَلَا جِزْيَةٍ، فَجَازَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ تَطَوُّعٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ تَلْزَمُهُمْ جِزْيَةُ رُؤُوسِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ خَرَاجُ أَرْضِهِمْ، فَيَكُونُ صلحهم على عشور ما زرعوا الجزية عَنِ الرُّؤُوسِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِ فَسَادِهِ على ثلاثة أوجه: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ يَفِي أَقَلُّهُ بِقَدْرِ الْجِزْيَةِ أَوْ لَا يَفِي، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَفِي بِقَدْرِ الْجِزْيَةِ جَازَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَكْسَبٌ غَيْرُ الزَّرْعِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَزْرَعُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَسْبٌ غَيْرُ الزَّرْعِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَعُونَهُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضْمَنُوا تَمَامَ الْجِزْيَةِ عِنْدَ قُصُورِهِ أَوْ فَوَاتِهِ. وَيَجُوزُ إِنْ ضَمِنُوا تَمَامَ مَا قَصَّرَ أَوْ فَاتَ؛ لِأَنَّ قَدَرَ الْجِزْيَةِ إِذَا تَحَقَّقَ حُصُولُهُ لَمْ تُؤَثِّرِ الْجَهَالَةُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الطَّوْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 372 (باب تبديل أهل الذمة دينهم) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَصْلُ مَا أَبْنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دَانَ دِينَ كِتَابِيٍّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ آبَاؤُهُ دَانُوا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَتُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ. وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، فَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَمَالُ الْحُرْمَةِ فِيهِمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ، فَآمَنَ بِهِ جَمِيعُهُمْ، وَدَعَا غَيْرَهُمْ، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ فِي دِينِهِ قَوْمٌ ثُمَّ بَدَّلُوا دِينَهُمْ حَتَّى عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ فِيهِ، وَسُمِّيَ مَنْ دَخْلَ فِي دِينِهِ الْيَهُودَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بِالْإِنْجِيلِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ، وَآمَنَ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ بَدَّلُوا دِينَهُمْ حَتَّى عَدَلُوا عن الحق فيه، وسمي من دخل في دِينِهِ النَّصَارَى، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعلى جميع الأنبياء المرسلين، فَدَعَا جَمِيعَ الْخَلْقِ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ بِقُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ، ثُمَّ بِالْعَرَبِ، ثُمَّ بِمَنْ عَدَاهُمْ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كَافَّةِ الْخَلْقِ، فَصَارَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةً لِكُلِّ شَرِيعَةٍ تَقَدَّمَتْهَا فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ نَسْخِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 373 النَّصْرَانِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ، بِمَاذَا نُسِخَتْ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ نُسِخَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ؛ لِعِلْمِنَا بِدُخُولِهِمْ فِي هَذَيْنِ الدِّينَيْنِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِمْ، فَثَبَتَتْ لَهُمَا حُرْمَةُ الْحَقِّ، فَلَمَّا خَرَجَ أَبْنَاؤُهُمْ عَنِ الْحَقِّ بِالتَّنْزِيلِ حَفِظَ اللَّهُ فِيهِمْ حُرْمَةَ إِسْلَامِهِمْ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ تَبْدِيلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْجِدَارِ: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] الْآيَةَ، فَحَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا صَلَاحَ أَبِيهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ حَتَّى أَوْصَلَهُمَا إِلَى كَنْزِهِمَا. وَأَمَّا غَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَيَنْقَسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ تَبْدِيلِهِمْ فَيَكُونُوا كَبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَاسْتِبَاحَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وذبائحهم؛ لدخول سلفهم في دين الحق. والقسم الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِيهَا بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ، فَهُمْ كَالدَّاخِلِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فِي قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ، وَإِبَاحَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ. وَالْقِسْمُ الثالث: أن يكونا قَدْ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ فَيَكُونُوا عَنْ حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي حَقٍّ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ بَاطِلٌ، فَلَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ وَلَا تُسْتَبَاحُ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَلَا ذَبَائِحُهُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ مَا يُقَالُ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؛ إِمَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِمْ: دَخَلُوا قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَلْ دَخَلُوا مَعَ الْمُبَدَّلِينَ أَوْ مَعَ غَيْرِ الْمُبَدِّلِينَ، فَهَؤُلَاءِ يَغْلِبُ مِنْهُمْ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، فَتُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ بِالْجِزْيَةِ تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِهَا، ولا تستباح مناكحهم، وَلَا ذَبَائِحُهُمْ تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِهَا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ، حِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ هَلْ دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ، قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِزْيَةِ حَقْنًا لِدِمَائِهِمْ، وَحَرَّمَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ في ذلك كالمجوس. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَلَا تَقْبَلُ مِمَّنْ بَدَّلَ يَهُودِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةً بِمَجُوسِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ الإسلام وإنما أذن الله بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قيل محمد عليه الصلاة والسلام وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده الجزء: 14 ¦ الصفحة: 374 فإن أقام على ما كان عليه ولإا نبذ إليه عهده وأخرج من بلاد الإسلام بماله وصار حربا ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ قَالَ فِي كتاب النكاح وقال في كتاب الصيد والذبائح إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهي حلال وهذا عندي أشبه وقال ابن عباس: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " (قال المزني) فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَنْتَقِلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ. وَالثَّانِي: إِلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ كَمَنْ بَدَّلَ يَهُودِيَّةً بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ بِمَجُوسِيَّةٍ أَوْ بَدَّلَ نَصْرَانِيَّةً بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ، أَوْ بَدَّلَ مَجُوسِيَّةً بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ، فَفِي إِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ يَتَوَارَثُونَ بِهَا مَعَ اخْتِلَافِ مُعْتَقَدِهِمْ، فَصَارُوا فِي انْتِقَالِهِ فِيهِ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، كَانْتِقَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَثَنِيُّ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ، وَالنَّصْرَانِيُّ إِذَا انْتَقَلَ إِلَى وَثَنِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ، وَجَبَ إِذَا انْتَقَلَ النَّصْرَانِيُّ إِلَى يَهُودِيَّةٍ أَنْ لَا يُقَرَّ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُنْتَقِلٌ إِلَى دِينٍ لَيْسَ بِحَقٍّ. فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ مُقَرٌّ فِي انْتِقَالِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيمَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنْ ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مُكَافِئًا لِدِينِهِ كَيَهُودِيٍّ، تَنَصَّرَ أَوْ نَصَرَانِيٍّ تَهَوَّدَ، فَأَصْلُ هَذَيْنِ الدِّينَيْنِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ أَحَدِ الدِّينَيْنِ إِلَى الْآخَرِ إِلَّا فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ، فَتَصِيرُ جِزْيَتُهُ جِزْيَةَ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إليه دون جزية الدين الذين انْتَقَلَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكَثَرَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ أَخَفَّ حُكْمًا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، كَنَصْرَانِيٍّ تَمَجَّسَ، فَيَنْتَقِلُ عَنْ أَحْكَامِهِ فِي الْجِزْيَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبِيحَةِ وَالدِّيَةِ إِلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، فَتُقْبَلُ جِزْيَتُهُ، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَتَكُونُ دِيَتُهُ ثُلُثَيْ عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نِصْفَهَا كَالْمَجُوسِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 375 فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُنْتَقِلًا مِنْ أَخَفِّ الْأَحْكَامِ إِلَى أَغْلَظِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الَّذِي انتقل إليه أغلى حُكْمًا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ كَمَجُوسِيٍّ تَنَصَّرَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ الْمُنَاكَحَةِ وَالذَّبِيحَةِ، وَقَدْرِ الدِّيَةِ، فَيَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ أَغْلَظِ الْأَحْكَامِ إِلَى أَخَفِّهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمِ مُنَاكَحَتِهِ وَذَبِيحَتِهِ وَقَدْرِ دِيَتِهِ تَغْلِيبًا لِأَحْكَامِ التَّغْلِيظِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُرُمَاتِهَا عَلَيْهِ، كَالْمَشْكُوكِ فِي دِينِهِ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَإِنْ قِيلَ: بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ جَبْرًا بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى دِينٍ يُؤْمَرُ بِهِ، وَفِي الدِّينِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: دِينُ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى دِينٍ قَدْ كَانَ مُقِرًّا بِبُطْلَانِهِ، وَانْتَقَلَ عَنْ دِينٍ هُوَ الْآنَ مُقَرٌّ بِبُطْلَانِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ، لِإِقْرَارِهِ بِبُطْلَانِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِالرُّجُوعِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهُ إِنِ انْتَقَلَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أُقِرَّ عليه، فنزل؛ لأننا قد كُنَّا قَدْ صَالَحْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا بَاطِلًا فَجَازَ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَاطِلًا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ دُعَائِهِ إِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّنَا نَدْعُوهُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى دِينِهِ فِي الْكُفْرِ أُقِرَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى الْكُفْرِ مَعْصِيَةٌ، وَيَجُوزُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: نَحْنُ نَدْعُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عُدْتَ إِلَى دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ أَقْرَرْنَاكَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّنَا نَدْعُوهُ ابْتِدَاءً إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا بِالْكُفْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَاهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ أَوِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِالْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِمْ فَإِذَا تَوَجَّهَ الْقَوْلَانِ فِيمَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورِ بِهِ أُقِرَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنْ حُكْمِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا إِنَّهُ يُنْبَذُ إِلَيْهِ عَهْدُهُ، وَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا؛ لِأَنَّ لَهُ أَمَانًا عَلَى الْكُفْرِ، فَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَرْكُهُ؛ ليقضي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 376 أَشْغَالَهُ وَنَقْلَ مَالِهِ، وَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا بَلَغَ أَدْنَى مَأْمَنِهِ بِذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ صَارَ حَرْبًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَيْسَتْ بِأَوْكَدَ مِنْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَعَلَى هَذَا يُسْتَتَابُ، فإن تاب، وإلا قتل صبرا بالصيف؟ ، وَفِي الِانْتِظَارِ بِقَتْلِهِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ: وَيَكُونُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ بَاقِيًا، وَأَمَّا مَالُهُ، فَيَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ لَمْ يُورَثْ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: فِي انْتِقَالِهِ إِلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ، كَانْتِقَالِهِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ إِلَى وَثَنِيَّةٍ أَوْ زَنْدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِقْرَارُ غَيْرِ أَهْلِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي الَّذِي يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْحَقِّ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ. والْقَوْلُ الثَّانِي: الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صُلْحِهِ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَوْ دِينٌ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، فَفِيمَا عَلَا كَالْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، أَوِ انْخَفَضَ كَالْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي صِفَةِ دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ الْوَجْهَيْنِ: فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الدِّينِ أُقِرَّ عَلَيْهِ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ انْتِقَالِهِ وَعَوْدِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدَّةِ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مُرْتَدٍّ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الدِّينِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَفِيمَا يَلْزَمُ مِنْ حُكْمِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: يُنْبَذُ إِلَيْهِ عَهْدُهُ، وَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ بِمَالِهِ وَبِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ حَرْبًا. فَأَمَّا مَنْ تَمَانَعَ عَلَيْهِ مِنِ ذُرِّيَّتِهِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا مِنْ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ، كَانَ أَمَلَكَ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا رُوعِيَ مُسْتَحِقُّ حَضَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا، كَانَ لَهُ إِخْرَاجُهُمْ جَبْرًا، وَعَاوَنَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَحَقَّ بِحَضَانَتِهِ مُنِعَ مِنْهُمْ، وَأُقِرَّ مَعَ الْمُقِيمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ. فَأَمَّا ذُرِّيَّتُهُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا، فَلَهُ حُكْمُ مُعْتَقَدِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى دِينِهِ أُقِرَّ عَلَيْهِ، وَإِنِ انْتَقَلَ عَنْهُ مَعَ وَلِيِّهِ صَارَ عَلَى حكمه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 377 فَأَمَّا مِنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَهُوَ عَلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ لَا يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُهُ بِانْتِقَالِ أَبِيهِ كَمَا لَا يَصِيرُ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ مُرْتَدًّا، فَإِنْ كَانَ لِصِغَارِ أَوْلَادِهِ أُمٌّ وَعَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أُمِّهِمْ، وَفِي جِزْيَةِ عَصَبَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أُمٌّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أُمِّهِمْ، وَفِي جِزْيَةِ قَوْمِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عَصَبَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمٌّ كَانُوا فِي كَفَالَةِ عَصَبَتِهِمْ. وَفِي جِزْيَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أُمٌّ وَلَا عَصَبَةٌ كَانُوا فِي كَفَالَةِ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَفِي جِزْيَتِهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} ، فَكَانُوا أَلْحَقَ بِكَفَالَتِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ تَمَانَعُوا مِنْ كَفَالَتِهِمْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا مَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ. فَأَمَّا نَفَقَاتُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ، وَلَا ذُو قَرَابَةٍ يَلْتَزِمُهَا، وَلَا وُجِدَ فِي قَوْمِهِمْ مُتَطَوِّعٌ بِهَا، فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لمن تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهَا؛ وَإِنْ كَانَتْ تَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعْدَ فَوَاضِلِ الْحُقُوقِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا فِي سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ كَانَ مَذْهَبًا والله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 378 (باب نقض العهد) (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا نَقَضَ الَّذِينَ عَقَدُوا الصُلْحَ عَلَيْهِمْ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا النَّاقِضَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ أَوِ اعْتِزَالِ بِلَادِهِمْ أَوْ يُرْسِلُونَ إِلَى الْإِمَامِ أَنَّهُمْ عَلَى صُلْحِهِمْ فَلِلْإِمَامِ غَزْوُهُمْ وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وهكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ببني قريظة عقد عليهم صاحبهم فنقض ولم يفارقوه وليس كلهم أشرك في المعونة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه ولكن كلهم لزم حصنه فلم يفارق الناقض إلا نفر منهم وأعان على خزاعة وهم في عقد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثلاثة أنفار من قريش فشهدوا قتالهم فغزا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قريشا عام الفتح بغدر ثلاثة نفر منهم وتركهم معونة خزاعة وإيوائهم من قاتلها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلْمُوَادَعَةِ، وَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْمُحَارَبَةِ جَهْرًا، وَعَنِ الْخِيَانَةِ سِرًّا، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ، فَيَلْتَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُمَا، وَلَا يَخْتَصَّ بِأَحَدِهِمَا؛ لِيَأْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] . فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا، وَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ " فَإِنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَبَطَلَ أَمَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَصَارُوا بِنَقْضِهِ حَرْبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: 12] . (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 379 إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، صَارَ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَانٌ عَلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَإِنْ نَقَضَهُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّاقِضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الرِّضَا بِنَقْضِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِالرِّضَا كَمَا انْتَقَضَ بِهِ عَهْدُ الْمُبَاشَرَةِ، وَيَصِيرُ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الْكَرَاهَةُ لِنَقْضِهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَيَكُونُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَلَا يَنْتَقِضُ فِيهِمْ بِنَقْضِ غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ، فَلَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمْ رِضًا بِهِ، وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ، فَيَكُونُ إِمْسَاكُهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ بَاشَرَ عَقْرَهَا أُحَيْمِرٌ وَهُوَ الْقُدَارُ بْنُ سَالِفٍ وَأَمْسَكَ قَوْمُهُ عَنْهُ فَأَخَذَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِذَنْبِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فسواها، ولا يخاف عقباها} [الشمس: 14 و 15] ، وفي قوله: {فسواها} ثلاثة تأويلاتل: أَحَدُهَا: فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْهَلَاكِ. وَالثَّانِي: فَسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضَ. وَالثَّالِثُ: فَسَوَّى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: وَلَا يَخَافُ اللَّهُ عُقْبَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ. وَالثَّانِي: وَلَا يَخَافُ الَّذِي عَقَرَهَا عُقْبَى مَا صَنَعَ مِنْ عَقْرِهَا. وَالثَّالِثُ: وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى عَقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ حِينَ أَهْلَكَهُمْ، وَقَدْ وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِهِ، فَجَعَلَهُ نَقْضًا مِنْهُمْ، لِعَهْدِهِ، فَغَزَاهُمْ، وَأَجْلَاهُمْ. وَوَادَعَ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَعَانَ بَعْضُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَنْدَقِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَعَانَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ: حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَخُوهُ، وَآخَرُ فَنَقَضَ بِهِ عَهْدَهُمْ، وَغَزَاهُمْ، حَتَّى قَتَلَ رُمَاتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ. وَهَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَخُزَاعَةُ فِي حِلْفِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَارَبَ بَنُو بَكْرٍ خُزَاعَةَ، وَأَعَانَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ سَائِرُ قُرَيْشٍ، فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نقضا لعهد جميعهم، فسار إليهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 380 محاربا ووأخفى عَنْهُمْ أَثَرَهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ، وَفَتَحَ مَكَّةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عقد بعضهم للهدنة موجب لِأَمَانِ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ أَمْسَكُوا كَانَ نَقْضُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِحَرْبِ جَمِيعِهِمْ إِذَا أَمْسَكُوا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِ جَمِيعِهِمْ، جَازَ أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِقِتَالِهِمْ بِإِنْذَارٍ وَغَيْرِ إِنْذَارٍ، كَمَا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى نَاقِضِ عَهْدِهِ فُجَاءَةً بِغَيْرِ إِنْذَارٍ وَجَازَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا فَيَقْتُلَ رِجَالَهُمْ، وَيَسْبِيَ ذَرَارِيَهُمْ، وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَنِي قُرَيْظَةَ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ نَقْضًا لِعَهْدِ مَنْ بَاشَرَ، وَلَمْ نَجْعَلْهُ نَقَضًا لِعَهْدِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ أَوْ مُخْتَلِطِينَ بِهِمْ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ انْحَازُوا عَنْهُ أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُكْمَهُ، فَقُوتِلَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ، وقتلوا، وكف عن غير غَيْرِ النَّاقِضِينَ وَأُمِّنُوا، وَإِنِ اخْتَلَطُوا بِهِمْ فِي مَوَاضِعِهِمْ غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، لَمْ يُجُزْ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَلَا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَيَقُولَ لَهُمْ: يَتَمَيَّزُ مِنْكُمْ نَاقِضُ الْعَهْدِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضْهُ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَمِلَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُونَ عَلَى الْعَهْدِ أَكْثَرَ أَوْ أَظْهَرَ لَمْ ينذروا بالقتال، وقيل لهم: ميزوا عنكم ناقضوا الْعَهْدِ مِنْكُمْ، إِمَّا بِتَسْلِيمِهِمْ إِلَيْنَا، وَإِمَّا بِإِبْعَادِهِمْ عَنْكُمْ. فَإِذَا فَعَلُوهُ، فَقَدْ تَمَيَّزُوا بِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَأَقَامُوا عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ بَعْدَ الْمُرَاسَلَةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ صَارُوا مُمَاثِلِينَ لَهُمْ، فَصَارَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ، فَجَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ حُكْمُ النَّقْضِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَنْ لَا يُمَايِلُوا عَلَيْنَا عَدُوًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] الْآيَةَ وَقَدْ ظَاهَرُوهُمْ بِالْمُمَايَلَةِ، فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ أَكْثَرَ وَأَظْهَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَلَا يُقْتَلُوا فِي غِرَّةٍ وَبَيَاتٍ وَحُورِبُوا جَهْرًا، وَلَمْ يَجِبِ الْكَفُّ عَنْ قِتَالِهِمْ؛ لِأَجْلِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُسَرَاءِ فِيهِمْ، فَإِنْ أُسِرُوا لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الْأَسْرَى إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ: هَلْ هُمْ مِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُمْ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي ذَرَارِيهِمْ إِنْ سُبُوا، وَأَمْوَالِهِمْ إِنْ غُنِمَتْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنِ ادَّعَوْا مِنَ الذَّرَارِي وَالْأَمْوَالِ مَا أَنْكَرَهُ الْغَانِمُونَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِيهِ إِلَّا ببينة فشهد لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحْلِفُ الْغَانِمُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَكَانَ مَغْنُومًا مع عدم البينة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 381 (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَتَى ظَهَرَ مِنْ مُهَادِنِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَبْلَغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ هُمْ حَرْبٌ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الْآيَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مُوجِبٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: تَرْكُ الْخِيَانَةِ فِي الْبَاطِنِ. وَالثَّالِثُ: الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَلَا يَتَفَاضَلَانِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ إِلَّا أَنْ يُدْخِلُوهَا فِي عَقْدِ مُهَادَنَتِهِمْ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الذِّمَّتَيْنِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمُوَادَعَتَيْنِ، فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْمُوَادَعَةِ إِلَى ضِدِّهَا، فَقَاتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَذُوا مَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَتْ هُدْنَتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَلَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى حُكْمِ الْإِمَامِ لِنَقْضِهَا، وَجَازَ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ وَيُشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَيُهْجَمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَجَرَى ذَلِكَ فِي نَقْضِ الْهُدْنَةِ مَجْرَى تَصْرِيحِهِمْ بِالْقَوْلِ أنهم قَدْ نَقَضُوا الْهُدْنَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَرْكُ الْخِيَانَةِ، فَهُوَ أَنْ لَا يَسْتَسِرُّوا بِفِعْلِ مَا يَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لَوْ أَظْهَرُوهُ مِثْلَ أَنْ يُمَايِلُوا فِي السِّرِّ عَدُوًّا أَوْ يَقْتُلُوا فِي السِّرِّ مُسْلِمًا أَوْ يَأْخُذُوا لَهُ مَالًا أَوْ يَزْنُوا بِمُسْلِمَةٍ وَهَذَا مِمَّا يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي الْتِزَامِهِ، فَإِنْ خَانُوا بِذَلِكَ حُكْمَ الْإِمَامِ تَنْتَقِضْ هُدْنَتُهُمْ، وَلَمْ تَنْتَقِضْ بِمُجَرَّدِ خِيَانَتِهِمْ، وَيَكُونُوا عَلَى الْهُدْنَةِ، مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِنَقْضِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . وَقَدْ نَقَضَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُدْنَةَ قُرَيْشٍ بِمَا أَسَرُّوهُ مِنْ مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مُجَاهَرَةً وَلَا يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَالْبَيَاتَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُخَالِفًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْهُدْنَةَ تَنْتَقِضُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ، وَتَنْتَقِضُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِالْحُكْمِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ فِي الْأَوَّلِ بِشَنِّ الْبَيَاتِ وَالْغَارَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي هَذَا بِقِتَالِ المجاهرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 382 وَإِذَا خَافَ خِيَانَةَ أَهْلِ الْهُدْنَةِ جَازَ أَنْ يَنْقُضَ هُدْنَتَهُمْ، وَلَوْ خَافَ خِيَانَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ بِهَا ذِمَّتَهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّظَرَ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لَنَا، وَالنَّظَرَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا إِجَابَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا سَأَلُوهَا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا إِجَابَةُ أَهْلِ الْهُدْنَةِ إِذَا سَأَلُوهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ تَحْتَ الْقُدْرَةِ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ خِيَانَتِهِمْ، وَأَهْلَ الْهُدْنَةِ خَارِجُونَ عَنِ الْقُدْرَةِ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ خِيَانَتِهِمْ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهِيَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي حُقُوقِهِمْ، فَيَلْزَمُهُمْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَيَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكَفُّوا عَنِ الْقَبِيحِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْذُلُوا لَهُمُ الْجَمِيلَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْجَمِيلِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَكَانُوا يُكْرِمُونَ الْمُسْلَمِينَ فَصَارُوا يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ، وَكَانُوا يُضَيِّفُونَ الرُّسُلَ، وَيَصِلُونَهُمْ، فَصَارُوا يَقْطَعُونَهُمْ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ كِتَابَ الْإِمَامِ، فَصَارُوا يَطْرَحُونَهُ، وَكَانُوا يَزِيدُونَهُ فِي الْخِطَابِ، فَصَارُوا يَنْقُصُونَهُ، فَهَذِهِ ريبة؛ لوقوفها بَيْنَ شَكَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَ الْهُدْنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهَا نَقْضَهَا، فَيَسْأَلُهُمُ الْإِمَامُ عَنْهَا، وَعَنِ السَّبَبِ فِيهَا، فَإِنْ ذَكَرُوا عُذْرًا يَجُوزُ مِثْلُهُ قَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا عَلَى هُدْنَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا عُذْرًا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى عَادَتِهِمْ مِنَ الْمُجَامَلَةِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَإِنْ عَادُوا أَقَامَ عَلَى هُدْنَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا نَقَضَهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِنَقْضِهَا، فَصَارَتْ مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ إِلَّا بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمْ، وَلَا يَحْكُمُ بِنَقْضِهَا إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ. فَأَمَّا سَبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ مِمَّا يَنْتَقِضُ بِهِ عَقْدُ الْهُدْنَةِ، وَعَقْدُ الذِّمَّةِ وَكَذَلِكَ سَبُّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ جَهْرًا، فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ سِرًّا فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْتَقِضُ بِهِمَا عَقْدُ الْهُدْنَةِ، وَلَا عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ احْتِجَاجًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالُوا: " السَّامُ عَلَيْكَ "، فَقَالَ: " وَعَلَيْكُمْ "، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يجب الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ". الجزء: 14 ¦ الصفحة: 383 فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، وَإِنْ كَانَ سَبًّا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَعْظَمُ مِنْ شَتْمِهِمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَاهِبًا يَشْتُمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ سَمِعْتُهُ أَنَا لَقَتَلْتُهُ، إِنَّا لَمْ نُعْطِهِ الْأَمَانَ عَلَى هَذَا " وَلَيْسَ يعرف له من الصحابة يخالف، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ كَانَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْأَمَانِ؛ قِيَاسًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ؛ وَلِأَنَّ مَا حُقِنَ بِهِ دَمُ الْكَافِرِ انْتَقَضَ بِشَتْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ قَالُوهُ ذَمًّا، وَلَمْ يَقُولُوهُ شَتْمًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ فِي ضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُوَّتِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنِ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ قَالُوهُ اعْتِقَادًا لِلتَّعْظِيمِ، وَهَذَا الشَّتْمُ اعْتِقَادًا لِلتَّحْقِيرِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَلَمْ يَنْتَقِضْ بِهِ عَهْدُهُمْ، وَغَيْرُ مُقَرِّينَ عَلَى شَتْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَانْتَقَضَ بِهِ عَهْدُهُمْ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 384 (بَابُ الْحُكْمِ فِي الْمُهَادَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يرد) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غير جزية وأن قول الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إنما نزلت فيهم ولم يقروا أن يجري عليهم الحكم وقال بعضهم نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وهذا أشبه بقول الله عز وجل {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة} الآية (قال) وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم إذا جاؤوه في حد لله تعالى وعليه أَنْ يُقِيمَهُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى {وهم صاغرون) {قال المزني) رحمه الله هذا أشبه من قوله في كتاب الحدود لا يحدون وأرفعهم إلى أهل دينهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ صِنْفَانِ: أَهْلُ ذِمَّةٍ وَأَهْلُ عَهْدٍ، فَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، فَحَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَادْعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةَ قَبْلَ فَرْضِ الْجِزْيَةِ، فَكَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ نَزَلَتْ عَامَّةً أَوْ عَلَى سَبَبٍ، فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَّةً؛ لِغَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، فَكَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا وَحُكْمُهَا عَامًّا، فَإِنْ حَكَّمَا حَاكِمَنَا بَيْنَهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْتِزَامِهِ، وَبَيْنَ رَدِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَنْكَرَا الرَّجْمَ. قِيلَ: لَهُمْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فِي الشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ امْتِنَاعًا مِنَ الْتِزَامِ حُكْمِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ كَأَهْلِ الْعَهْدِ يَكُونُ حَاكِمُنَا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرًا، وهم في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 385 الْتِزَامِهِ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرِينَ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، لِاشْتِرَاكِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُخَالَفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيَجِبُ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ. فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَاعُ. وَلَوْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أبي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُهُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ مُعْتَقَدِهِمَا يُوجِبُ قَطْعَ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ مِنْ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَذْهَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَسْطُورِيٌّ، وَالْآخَرُ يَعْقُوبِيٌّ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَصَارَا فِيهِ كَالْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ دِينَهُمَا وَاحِدٌ. فَلَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَاكِمًا مِنْهُمْ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُمْ، وَكَانَ فِيهِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ شَرْعِهِمْ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ صِحَّةَ الْمُعْتَقَدِ شَرْطٌ في نفوذ الحكم، ومعتقده باطل. والثاني أنه صِحَّةَ الْحُكْمِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِهِ، وَحُكْمُهُمْ بَاطِلٌ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانُوا يَدِينُونَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ حُكْمُنَا عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِهِ وَمَا أَحْدَثُوا مِمَّا لَيَسَ بِجَائِزٍ فِي دِينِهِمْ وَلَهُ حُكْمٌ عِنْدَنَا أُمْضِيَ عَلَيْهِمْ قَالَ وَلَا يَكْشِفُونَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَحَلُّوهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ مُسْتَأَمَنٍ غَيْرِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي بِلَادِنَا مِنْ عَقْدٍ وَأَحْكَامٍ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 386 أَحَدُهَا: مَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ وَشَرْعِنَا، فَهُمْ مُقَرُّونَ عَلَيْهِ فِي دِينِهِمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ بَاطِلًا فِي شَرْعِهِمْ وَشَرْعِنَا، فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهُ، إِذَا ظَهَرَ لَنَا؛ لِأَنَّهُمْ أُقِرُّوا فِي دَارِنَا عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِمْ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِنَا بَاطِلًا فِي شَرْعِهِمْ، فَيُقَرُّونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِيهِ عَلَى حَقٍّ، وَفِيمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ بَاطِلًا فِي شَرْعِنَا جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ فَإِنْ تَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا أَبْطَلْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَيْنَا تَرَكْنَاهُ إِنْ أَخْفَوْهُ فَإِنْ أَظْهَرُوهُ لَنَا فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ، كَالْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ، وَالْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ، فَيُقَرُّونَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ، كَالتَّظَاهُرِ بِنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِابْتِيَاعِ الْخُمُورِ، وَالْخَنَازِيرِ، فَيُمْنَعُونَ، وَيُعَزَّرُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمُنْكَرَاتِ. وَفِي نَسْخِ عُقُودِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا فِيهَا إِلَيْنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُفْسَخُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهَرَةَ ظُهُورُ مُنْكَرٍ مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تُفْسَخُ عَلَيْهِمْ، وَيُتْرَكُونَ فِي عَقْدِهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ تَجَاهُرَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يُقَرُّونَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ. فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِهِمْ مِنْ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَةَ دِمَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا فَكَذَا كُلُّ مَضَرَّةٍ. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ جَاءَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَسْتَعِدِي بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا حَكَمْتُ عَلَيْهِ حُكْمِي على المسلمين وأمرته في الظهار أن لا يقربها حتى يكفر رقبة مؤمنة كما يؤدي الواجب من حد وجرح وأرش وإن لم يكفر عنه وأنفذ عتقه ولا أفسخ نكاحه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عفا عن عقد ما يجوز أن يستأنف ورد ما جاوز العدد إلا أن يتحاكموا وهي في عدة فنفسخه وهكذا كل ما قبض من ربى أو ثمن خمر أو خنزير ثم اسلما أو أحدهما عفي عنه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ إِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَا اسْتَعْدَتْ فِيهِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِمْ أَوْ مِنْ مباحاته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 387 فَإِنْ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِمِ الْمُنْكَرَةِ وَجَبَ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يُعَدِّيَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَمْنَعُ مِنْ إِقْرَارِ مَا يُتَّفَقُ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُبَاحَاتِ دِينِهِمْ، فَفِي وُجُوبِ إِعْدَائِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَجُوزُ، وَلَا يَجِبُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ. فَإِنْ أَعْدَاهَا عَلَيْهِ وُجُوبًا أَوْ جَوَازًا لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِأَحْكَامِهِمْ فِي دِينِهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {و؟ أن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة 42] . فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَمْ تَجُزْ لَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ إذا كان أقل من ثلاثة، وحرمها عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي إِيلَاءٍ أَصِلُهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُلْزِمُهُ الْفَيْءَ أَوِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَ في ظهار حرمها عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَوْدِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَ فِيهَا حَتَّى يُسْلِمَ، وَفِي جَوَازِ إِطْعَامِهِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِطْعَامٌ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ. وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ رَاعَاهُ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أُبْطِلُ نِكَاحَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكْشِفْ عَنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَحُكِمَ بَيْنَهُمَا بِإِمْضَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، كَمَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ إِذَا أَسْلَمُوا. وَإِنْ كَانَ فِي مَهْرٍ تَقَابَضَاهُ. أَمْضَاهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَإِنْ لم يتقابضا لَمْ يُحْكَمْ بِقَبْضِهِ، وَلَا بِقِيمَتِهِ وَحُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ فِي استعداء غير الزوجين. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى " وَمَنْ أَرَاقَ لَهُمْ خَمْرًا أَوْ قَتَلَ لَهُمْ خِنْزِيرًا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَلَا ثمن لمحرم فإن قيل فأنت تُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ نَعَمْ وَعَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ لَا ثَمَنَ لَهُ وَإِنِ اسْتَحَلُّوهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْغَصْبِ " وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَرَاقَ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ قَتَلَ لَهُ خِنْزِيرًا لَمْ يَضْمَنْ سَوَاءٌ كَانَ مُتْلِفُهُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا. وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ ضَمَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَأَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 388 مَا لَمْ يَضْمَنْهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ كَالْمَيْتَةِ. وَهَكَذَا لَوْ أَرَاقَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ نَبِيذًا لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلنَّبِيذِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَمْرِ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا كُسِرَ لَهُمْ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غُرْمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُودٍ وَكَانَ إِذَا فُرِّقَ صَلُحَ لِغَيْرِ الصَلِيبِ فَمَا نَقَصَ الْكَسْرُ الْعُودَ، وَكَذَلِكَ الطُّنْبُورُ وَالْمِزْمَارُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ شَكْلَ الصَّلِيبِ مَوْضُوعٌ عَلَى زُورٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ شَبَهًا بِمَا ادَّعَوْهُ مَنْ صَلْبِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا كُسِرَ صَلِيبُهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مَا لَا يُؤَثِّرُ كَسْرُهُ في قيمة جنسه لم يضمنه بالكسر؛ لأنه تَأْثِيرُ الْكَسْرِ فِيهِ إِزَالَةُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ كَاسِرُهُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَإِنْ كَانَ الصَّلِيبُ مِنْ عُودٍ أَوْ خَشَبٍ يُؤَثِّرُ كَسْرُهُ فِي قِيمَتِهِ، فَإِنْ فَصَّلَهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّ تَفْصِيلَهُ إِلَى الْكَسْرِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَعَدَّى تَفْصِيلَهُ إِلَى الْكَسْرِ نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ فِي شَبَهِهِ لَوْ فُصِّلَ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الصَّلِيبِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ مُفَصَّلًا لِغَيْرِ الصَّلِيبِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا، وَمَكْسُورًا. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّنَابِيرِ وَالْمَزَامِيرِ إِذَا فُصِلَتْ، وَلَمْ تُكْسَرْ، فَلَا ضَمَانَ فِيهَا، وَإِنْ كُسِرَتْ فَإِنْ كَانَ خَشَبُهَا لَا يَصْلُحُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِغَيْرِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِهَا، ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا مُفَصَّلَةً وَمَكْسُورَةً. فَأَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا كَسَرَهَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ، فَفِي غُرْمِ مَا نَقَصَ بِكَسْرِهَا مِنَ الْعَمَلِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ اقْتِنَائِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ. فَإِنْ قِيلَ بِإِبَاحَتِهِ ضَمِنَ نَقْصَ الْعَمَلِ، وَإِنْ قِيلَ بِحَظْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يُخْرِجُ كَسْرَ الصَّلِيبِ مِنَ الذَّهَبِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ ادِّخَارَ الصَّلِيبِ مَحْظُورٌ بِاتِّفَاقٍ وَادِّخَارَ الْأَوَانِي عَلَى اخْتِلَافٍ، فَلَمْ يجز الجمع بينهما مع اختلاف حكمهما. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يُقَارِضَ الْمُسْلِمَ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَارِضَ النَّصْرَانِيَّ أَوْ يُشَارِكَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ مَالًا قِرَاضًا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 389 وَلَا يُكْرَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُبَاحِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا قِرَاضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا صَرَفَهُ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِسْلَامِ مِنَ الزِّنَا وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وولا يَبْطُلُ الْقِرَاضُ تَغْلِيبًا لِحَمْلِهِ عَلَى الْمُبَاحِ، فَإِنْ صَرَفَهُ النَّصْرَانِيُّ فِي مَحْظُورٍ مِنْ أَثْمَانِ خُمُورٍ وَخَنَازِيرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَدْ صَرَّحَ لَهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، كَانَ النَّصْرَانِيُّ ضَامِنًا لِمَا صَرَفَهُ فِي ثَمَنِهِ؛ لِحَظْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَفِي ضَمَانِهِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ لِمَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ الْمُسْلِمِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى شَرْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِجَوَازِهِ فِي دِينِ عَاقِدِهِ، فَإِنْ رَبِحَ فِي الْخُمُورِ وَالْخِنْزِيرِ حَرُمَ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَصْلِ مَالِهِ حَلَّ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَالِهِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ رِبْحِهِ وَإِنِ اخْتَلَطَ رِبْحُهُ بِمَالِهِ حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ اسْتِرْجَاعُهُ، وَفِي رُجُوعِهِ بِغُرْمِهِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَجْهَانِ، وَاخْتِلَافُ الْوَجْهَيْنِ فِي ضَمَانِهِ إِذَا صَرَفَهُ فِي ثَمَنِهِ. وَهَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ النَّصْرَانِيَّ فِي مَالٍ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جميعه، ولا يكره اشتراكهن فِي مَالٍ لَا يَتَصَرَّفُ أَحَدُهُمَا فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِذَا تَفَرَّدَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ صَرَفَهُ فِي أَثْمَانِ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْمُسْلِمِ فِيهِ صَارَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فَإِنْ تَفَرَّدَ النَّصْرَانِيُّ بِالتَّصَرُّفِ وَظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْمَالِ، فَأَرَادَ المسلم أن يقاسمه عليه، لم يخلو مَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ حُصُولَهُ مِنْ حَلَالٍ، فَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنَ الْمَالِ وَرِبْحِهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ حُصُولَهُ مِنْ حَرَامٍ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَذُهُ، فَأَمَّا الْمَالُ فَإِنْ لَمْ يَمْتَزِجْ رِبْحُهُ، وَلَا عَادَ أَصْلُهُ مِنْ ثَمَنِهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُ حَقِّهِ مِنْهُ، وَإِنِ امْتَزَجَ بِرِبْحِهِ أَوْ عَادَ أَصْلُهُ مِنْ ثَمَنِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَفِي رُجُوعِهِ بِغُرْمِهِ عَلَى شَرِيكِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِي حُصُولِهِ هَلْ هُوَ من مُبَاحٌ أَوْ مِنْ مَحْظُورٍ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ حُكْمًا، وَيُكْرَهُ لَهُ مَعَ الشَّكِّ وَرَعًا. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُكْرِيَ نَفْسَهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَلَا أَفْسَخُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا آجَرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ نَصَرَانِيٍّ بِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ لَهُ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مَعْقُودَةً فِي ذِمَّتِهِ عَلَى عَمَلٍ مَوْصُوفٍ فِيهَا، فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، وَحُصُولُ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ كَحُصُولِ الْأَثْمَانِ وَالْقُرُوضِ فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ مَعْقُودَةً عَلَى عَيْنِهِ، فَقَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 390 قَوْلَيْنِ، كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى نَصْرَانِيٍّ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ. وَالصَّحِيحُ - عِنْدِي أَنْ يعتبر حال الإجازة، فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْأَجِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مُوجَبِ عَقْدِهِ لَا عَلَى رأي مستأجره كالخياطة والنساجة والصياغة، صحت الإجازة، وَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى تَصَرُّفِ الْأَجِيرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ أَمْرِهِ كَالْخِدْمَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا مُسْتَذَلٌّ وَفِي الْأَوَّلِ مُصَانٌ. فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا عَمِلَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ مَا بقي. وإن قيل: بصحة الإجازة، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْمَلُهُ الْأَجِيرُ فِي يَدِ نَفْسِهِ أَخَذَ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُهُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ، وَبِأَمْرِهِ مُنِعَ مِنِ اسْتِذْلَالِهِ بِالْعَمَلِ، وَأُوجِرَ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَدُفِعَتْ أُجْرَتُهُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِيَسْتَأْجِرَ بِهَا إِنْ شَاءَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لَهُ، كَمَا يُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إِذَا ابْتَاعَهُ، إِذَا صَحَّ بيعه. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اشْتَرَى النَّصْرَانِيُّ مُصْحَفًا أَوْ دَفْتَرًا فِيهِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَخْتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُصْحَفُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ " فَإِذَا مُنِعُوا مِنْ مَسِّهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ كَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ تَمَلَّكِهِ وَاسْتِبْذَالِهِ أَوْلَى. فَإِنْ بِيعَ عَلَى مُشْرِكٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لِتَحْرِيمِ مَسَّهِ أَغْلَظُ حرمة منه لعبد الَّذِي لَا يَحْرُمُ مَسُّهُ. فَأَمَّا أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَنْعِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنِ ابْتِيَاعِ كُتِبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صِيَانَةً لَهَا مِنْ تَعَرُّضِهِمْ لِاسْتِبْذَالِهَا، وَإِنْ جَازَ لَهُمْ مَسُّهَا، فَإِنِ ابْتَاعُوهَا فَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا سِيرَتُهُ وَصِفَتُهُ فَابْتِيَاعُهُمْ لَهَا جَائِزٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَلَامُهُ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَحْكَامِهِ، فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 391 أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَالْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُمَا شَرْعٌ مُصَانٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ لِقُصُورِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنِ ابْتِيَاعِهِ كَالْقُرْآنِ، لِاسْتِبْدَاعِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوهُ طَرِيقًا إِلَى الْقَدْحِ فِيهِ، فَإِنِ ابْتَاعُوهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَأَمَّا كُتُبُ الْفِقْهِ، فَإِنْ صِينَتْ عَنْهُمْ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا. وَأَمَّا كُتُبُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا، وَلَا تُصَانُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ لا يتميز بحرمة. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ لِصَلَاةِ النَّصَارَى فَمَفْسُوخٌ وَلَوْ قَالَ يَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ أَجَزْتُهُ وَلَيْسَ فِي بِنَائِهَا مَعْصِيَةٌ إِلَّا بَأَنْ تُبْنَى لِصَلَاةِ النَّصَارَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ لِصَلَاةِ النَّصَارَى أَوْ بَيْعَةٍ لِصَلَاةِ الْيَهُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مَجْمَعٌ لِمَا أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِظْهَارِ كُفْرِهِمْ. وَالثَّانِي: لِتَحْرِيمِ مَا يُسْتَأْنَفُ إِحْدَاثُهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ. فَإِنْ أَحَدٌ من أهل الذمة أوصى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَمْ يَجُزْ، وَسَوَاءٌ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ إِلَى حَاكِمِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ وَمَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا مَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَلَمْ نَعْتَرِضْ لِلْوَصِيَّةِ. فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِمَارَةِ بَيْعَةٍ قَدِ اسْتُهْدِمَتْ أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ إِنْ تَرَافَعُوا إِلَيْنَا، وَمَنَعْنَا مِنَ الْبِنَاءِ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا لَمْ نَعْتَرِضْ لِلْوَصِيَّةِ، فَإِنْ بَنَوْهَا لَمْ يُمْنَعُوا لِاسْتِحْقَاقِ إِقْرَارِهِمُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَلَوْ أَوْصَى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْعَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَنَا لَا تَجْرِي عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ تَرَافَعُوا فِي الْوَصِيَّةِ إِلَيْنَا حَكَمْنَا بِإِبْطَالِهَا، وَلَمْ نَمْنَعْ مِنْ بِنَائِهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ دَارٍ يَسْكُنُهَا الْمَارَّةُ مِنَ النَّصَارَى فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ لِمَارَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِسُكْنَاهَا مَعَهُمْ، فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ جَائِزَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا خَاصَّةً لِمَارَّةِ النَّصَارَى، ففيها وجهان: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 392 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لِلسُّكْنَى كَالْمَنَازِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُمْ بِهَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] . فَأَمَّا إِنْ أَوْصَى بِالصَّدَقَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَازَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [النساء: 8] ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. (فَصْلٌ) : وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ أَوْ مُشْرِكٌ بِعَبْدٍ مُسْلِمٍ لِمُشْرِكٍ، فَفِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَيْهَا، فَلَا يَمْلِكُ بِهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَبُولِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا صَحِيحَةٌ يَمْلِكُهُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شِرْكِهِ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنْ أَسْلَمْت أُقِرَّ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِكَ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَبِعْهُ أَوْ أَعْتِقْهُ، وَإِلَّا بِيعَ عَلَيْكَ، فَإِنْ كَاتَبَهُ أُقِرَّ عَلَى كِتَابَتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ، فَيَعْتِقَ أَوْ يَعْجِزَ، فَيَرِقَّ، وَيُبَاعَ عَلَيْهِ قَدْ بِيعَ سَلْمَانُ فِي رِقِّهِ، فَاشْتَرَاهُ يَهُودِيٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَكَاتَبَ الْيَهُودِيَّ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُ وَادِيًا، فَفَعَلَ وَعَتَقَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ مُرَاعَاةً، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قَبُولِهَا مَلَكَهَا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لِأَنَّ وَقَفَ الوصية جائز. (مسألة) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ اكْتُبُوا بِثُلُثِي التَوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَسَخْتُهُ لِتَبْدِيلِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بأيديهم} الآية ". قال المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ. الْوَصِيَّةُ بِكَتْبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي بِهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَصِحُّ عِنْدَ قَوْمٍ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمَنْقُولَةِ، بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَاسْتَحَالَ فِيهِ التَّبْدِيلُ كَالْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: إِنَّ التَّبْدِيلَ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ، فَقَدْ كَانَ فِي حُكْمِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ التَّنْزِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ، وَخَبَرُهُ أَصْدَقُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 79] وَقَالَ تَعَالَى {يُحَرِّفُونَ؟ (الْكَلِمَ) عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 48] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ نَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَحَرَّفُوا عَنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَبْدِيلِ المعنى واللفظ، وإن كَانَ مُبَدَّلًا كَانَتْ تِلَاوَتُهُ مَعْصِيَةً لِتَبْدِيلِهِ، لَا لِنَسْخِهِ، فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يُتْلَى كَتِلَاوَةِ النَّاسِخِ، وَإِذَا كَانَتْ تِلَاوَتُهُ مَعْصِيَةً كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بالمعصية باطلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 393 فَأَمَّا قَوْلُهُمْ، إِنَّهُ مُسْتَفِيضُ النَّقْلِ، فَاسْتَحَالَ فِيهِ التَّبْدِيلُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَهُ جَمٌّ غَفِيرٌ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ يَنْتَفِي عَنْهُمُ التَّوَاطُؤُ، وَالتَّسَاعُدُ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّغْيِيرِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَسْتَوِي حُكْمُ طَرَفِي النَّقْلِ وَوَسَطِهِ. وَهَذَا، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ حِينَ أَحْرَقَهَا بُخْتَنَصَّرُ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَفَّقُوهَا مِنْ حِفْظِهِمْ، ثُمَّ اسْتَفَاضَتْ عَنْهُمْ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِفَاضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ فِي اسْتِفَاضَةِ نَقْلِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ سِتَّةٌ، فَلَمْ تُوجَدْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي طَرَفَيْهِ وَوَسَطِهِ. قِيلَ: لَئِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفَظُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سِتَّةً، فَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَحْفَظُونَ مِنْهُ سُوَرًا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهَا فَوُجِدَتِ الِاسْتِفَاضَةُ فِيهِمْ بِانْضِمَامِهِمْ إِلَى السِّتَّةِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ غَيَّرُوا التَّأْوِيلَ دُونَ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّأْوِيلِ كَمَا أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوهُ، فَاقْتَضَى حمله على عموم الأمرين غير تخصيص (فصل) : وإن أوصى أَنْ تُكْتَبَ شَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى نُظِرَ: فَإِنْ أَرَادَ كَتْبَ شَرِيعَتِهِمْ، وَأَخْبَارَ قِصَصِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِصِحَّتِهَا جاز؛ لأن الله تعالى: قصها عليها فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَإِنْ أَرَادَ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي فِقْهِ دِينِهِمْ لَمْ يَجُزْ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وهكذا لو أوصى بِكُتُبِ النُّجُومِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَصِيَّةً بَاطِلَةً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَوْ وَصَّى بِكُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا مَعَ ظُهُورِهِمَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالِانْتِفَاعِ بها، والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 394 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصيد والذبائح إملاء من كتاب أشهب ومن اختلاف أبي حنيفة وأهل المدينة بَابُ صِفَةِ الصَّائِدِ مِنْ كلبٍ وَغَيْرِهِ وَمَا يحل من الصيد وما يحرم قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مُعَلَّمٍ مِنْ كلبٍ وفهدٍ ونمرٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوَحْشِ وَكَانَ إِذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى وَإِذَا أَخَذَ حَبَسَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا مَرَةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ وَإِذَا قَتَلَ فَكُلْ مَا لَمْ يَأْكُلْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الصَّيْدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) {المائدة: 1) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ يَعْقِدُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نذرٍ أَوْ يمين [وهذا قول ابن زيد] . وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْعُقُودُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وأمرهم به، ونهاهم عنه [وهذا قول ابن عباس] . وَالْعَقْدُ أَوْكَدُ مِنَ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْعَهْدَ قَدْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ نَفْسِهِ. وَفِي {بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تُوجَدُ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا إِذَا ذُبِحَتْ، وَهَذَا قول ابن عباس [وابن عمر] . وَالثَّانِي: إِنَّهَا وَحْشِيُّ الْأَنْعَامِ مِنَ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَجَمِيعِ الصَّيْدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ. وفي تسميتها " بهيمة " تأويلان: أحدهما: لأنها أُبْهِمَتْ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا أُبْهِمَتْ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرُ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرٌمٌ) {المائدة: 1) يُرِيدُ به جميع الوحشي مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يَحْرُمُ فِي الْحُرُمِ، وَالْإِحْرَامِ، وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حَرُمٌ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صالح {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تأويلان: أحدهما: يقضي ما يريد عَفْو وَانْتِقَام. وَالثَّانِي: يَأْمُرُ بِمَا يُرِيدُ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَهَذِهِ أَعَمُّ آيَةٍ فِي إِبَاحَةِ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ فِي حَالَيْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ. وَقَالَ الله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ) {المائدة: 96) يَعْنِي مَا عَاشَ فِيهِ من سمكه وحيتانه وطعامه {مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَمْلُوحه. وَالثَّانِي: طَافِيه. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) {المائدة: 96) فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) {المائدة: 2) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا، وَهُوَ بَعْدَ حَظْرٍ فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) {المائدة: 4) وَفِي مُرَادِهِ بِالطَّيِّبَاتِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ مِنَ اللُّحْمَانِ سِوَى مَا خُصَّ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ أَرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالَ، سَمَّاهُ طَيِّبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلَذًّا تَشْبِيهًا بِمَا يُسْتَلَذُّ لِأَنَّهُ فِي الدِّينِ مُسْتَلَذٌّ. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) {المائدة: 4) يَعْنِي: وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ، فَأَضْمَرَهُ؛ لِدَلَالَةِ الْمَظْهَرِ عَلَيْهِ. وَالْجَوَارِحُ: مَا صِيدَ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَالطَّيْرِ، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْجَوَارِحِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهَا تَجْرَحُ مَا صَادَتْ فِي الْغَالِبِ. وَالثَّانِي: لِكَسْبِ أَهْلِهَا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: ": فُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ " أَيْ: كَاسِبُهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) {الأنعام: 60) أَيْ كسبتم. وفي قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} تأويلان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا الْكِلَابُ وَحْدَهَا، وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّ التَّكْلِيبَ مِنْ صِفَاتِ الْجَوَارِحِ مِنْ كلب وغيره، وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الضرواة عَلَى الصَّيْدِ، وَمَعْنَاهُ: مُضْرِينَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ التَّعْلِيمُ، وَهُوَ أَنْ يمسك، ولا يأكل. ثم قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) {المائدة: 4) فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُرْسِلُوهُنَّ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ دُونَ ما حرمه عليكم. والثاني: تعلمونهم مِنْ طَلَبِ الصَّيْدِ لَكُمْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ التَّأْدِيبِ الَّذِي عَلَّمَكُمْ، وَهُوَ تَعْلِيمُهُ أَنْ يَسْتَشْلِيَ إِذَا أُشْلِيَ، وَيُجِيبَ إِذَا دُعِيَ وَيُمْسِكَ إِذَا أَخَذَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مَمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي الْإِبَاحَةِ وَفِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ أَبُو رَافِعٍ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَأَى كَلْبًا، فَرَجَعَ، وَقَالَ: " إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كلبٌ ". قَالَ أَبُو رَافِعٍ، " فَأَمَرَنِي بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَقَتَلْتُهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَسَكَتَ حَتَى نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ ". وَالثَّانِي: إِنَّ زَيْدَ الْخَيْلِ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ لَهُ: " فِينَا رَجُلَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا دُرَيْعٌ، وَالْآخَرُ يُكَنَّى أَبَا دُجَانَةَ، وَلَهُمَا أَكْلُبٌ خَمْسَةٌ تَصِيدُ الظِّبَاءَ فَمَا تَرَى فِي صَيْدِهَا؟ ". وَحَكَى هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْكِلَابِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِدُرَيْعٍ وَأَبِي دُجَانَةَ: الْمُخْتَلِسُ، وَغَلَّابٌ، وَسَهْلَبٌ وَالْغُنَيْمُ وَالْمُتَعَاطَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ ماشيةٍ أو صيدٍ أو زرعٍ انتقض مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قيراطٌ ". وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل ما ردت عليك فرسك وَكَلْبُكَ ". وَرَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: إِنَّا قومٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ، فَقَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَإِنَ قَتَلَ إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُوَنَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَتهَا كلابٌ غَيْرهَا، فَلَا تَأْكُلْ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي، فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَكُلْ. قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّيْدِ إِذَا رَمَيْتُهُ، فَقَالَ: إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلْتَهُ، فَكُلْهُ إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي ماءٍ، فَمَاتَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ. وَقَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ سَهْمِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: ما أصاب بجده فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ، فَهُوَ وقيزٌ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَوْعِبُ إِبَاحَةَ الصَّيْدِ بِجَمِيعِ آلَتِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ ثَبَتَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ جَازَ صَيْدُهُ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ضَوَارِي الْبَهَائِمِ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، وَكَوَاسِرِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ وَالنَّسْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: كل الصيد يجمعها إِلَّا بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر، مجاهد، وَالسُّدِّيُّ: لَا يَحِلُّ إِلَّا صَيْدُ الْكَلْبِ وَحْدَهُ، ويحرم الِاصْطِيَادُ بِمَا عَدَاهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) {المائدة: 4) ، وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أمةٌ مِنَ الْأُمَمِ؛ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنَهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ ". وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّعْلِيمِ جَازَ الِاصْطِيَادُ بِهِ، كَالْكَلْبِ الْأَبْيَضِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاصْطِيَادِ بِجَمِيعِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّيْدِ أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا أَوْ مَيْتًا، فَإِنْ أُدْرِكَ حَيًّا قَوِيَّ الْحَيَاةِ، فَلَا اعتبار بصفة ما صاره مِنْ مُعَلَّمٍ أَوْ غَيْرِ مُعَلَّمٍ عَنْ إِرْسَالٍ وَاسْتِرْسَالٍ، وَهُوَ حَلَالٌ إِذَا ذُكِّيَ، فَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ. حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ أَدْرَكَ الصَّيْدَ مَيْتًا اعْتَبَرَ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ تَكَامُلَ خَمْسَةِ شُرُوطٍ إِذَا تَكَامَلَتْ حَلَّ، وَإِذَا لَمْ تَتَكَامَلْ حَرُمَ. أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْجَارِحُ عَنْ أَمْرِ مُرْسِلِهِ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَلَمْ يُحِلَّ مَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ مِمَّا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ حَرُمَ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَهُ كَالذَّكَاةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ عَيْنِ مُرْسِلِهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْ عَيْنِ مُرْسِلِهِ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ مَغِيبِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُشْرِكَهُ فِي قَتْلِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَإِنْ شَرَكَهُ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يكون الجارح المرسل معلماً: لقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ لَمْ يَحِلَّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 وَتَعْلِيمُهُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَشْلِيَ إذا أشلي، وهو أن يُرْسَلَ، فَيَسْتَرْسِلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يُجِيبَ إِذَا دُعِيَ، وهو أن يَعُودَ إِذَا طُلِبَ، وَيُزْجَرَ إِذَا زَجَرَهُ. وَالثَّالِثُ: أن يحبس ما أمسكه، لا يَأْكُلُهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا حَتَّى تَصِيرَ لَهُ عَادَةً، وَلَا يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ مُعَلَّمًا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلَّمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِيرُ بِالْمَرَّتَيْنِ معلماً؛ لأن الثانية من الإرسال فَتَصِيرُ عَادَةً. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي تَكَامُلِ التَّعْلِيمِ غَيْرَ مَقْنَعٍ فِي الْعُرْفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يمتنع أن يكون بسبب امتناعه في الأولة مَوْجُودًا فِي الثَّانِيةِ، وَإِذَا تَكَرَّرَ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ زَالَ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ التَّعْلِيمِ هُوَ أَنْ ينتقل عن طبعه إلى اختيار مرسله، وهو لا ينتقل عنه إلا بالمرون عَلَيْهِ؛ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِرْسَالِهِ بِإِشْلَائِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُ يقال: أشليت كلبي إذا دعوته، وأشليته إِذَا أَرْسَلْتُهُ، وَاسْتَعْمَلَ الْإِشْلَاءَ فِي ضِدِّ مَعْنَاهُ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يستعمل في الدعاء وحده، لكنه دَعَاهُ إِلَى الصَّيْدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُشْلِيًا لَهُ، كَمَا لَوْ دَعَاهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قال الشاعر: (أشليت غَيْرِي، وَمَسَحْتُ عَقْبِي ... ) وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِشْلَاءَ هُوَ الْإِغْرَاءُ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَغْرَاهُ كَانَ مُشْلِيًا لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ. (صَددت وَلَمْ يَصْدُدْنَ خَوْفًا لريبةٍ ... وَلَكِنْ لِإِتْلَافِ الْمُحَرِّشِ وَالْمُشْلَى) أَيِ الْمُغْرَى والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول " فإن أكل فلا تأكل " (قال) وإذا جمع البازي أو الصقر أو العقاب أو غيرها مما يصيد أن يدعى فيجيب ويشلى فيطير ويأخذ فيحبس مرةً بعد مرةٍ فهو معلمٌ فإن قتل فكل وإذا أكل ففي القياس أنه كالكلب (قال المزني) رحمه الله ليس البازي كالكلب لأن البازي وصفه إنما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 يعلم بالطعم وبه يأخذ الصيد والكلب يؤدب على ترك الطعم والكلب يضرب أدباً ولا يمكن ذلك في الطير فهما مختلفان فيؤكل ما قتل البازي وإن أكل ولا يؤكل ما قتل الكلب إذا أكل لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أُرْسِلَ الْجَارِحُ الْمُعَلَّمُ عَلَى صَيْدٍ، فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَّ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . وَإِنْ أَكَلَ الْجَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَوَاسِبِ الْبَهَائِمِ أَوْ كَوَاسِرِ الطَّيْرِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمُزَنِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيُّ إِنَّ مَا كَانَ مِنْ كَوَاسِبِ الْبَهَائِمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَوَاسِرِ الطَّيْرِ يُعْلَمُ بِالْأَكْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْبَازِيَ يُعَلَّمُ بالأكل من مَبَادِئِ التَّعْلِيمِ، وَبِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ عَن اسْتِكْمَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيمُهُ بِالْأَكْلِ فِي الْحَالَيْنِ، لَمَا صَحَّ تَعْلِيمُهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ، وَلَكَانَ أَكْلُهُ مِنْهُ شَرْطًا فِي إِرَادَةِ أَكْلِهِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ مِنْ يَدِ معلمه، ولا يعلم من أكل ما صاده. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ، فَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ. رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي كِلَابًا مكلبةٌ فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنْ كَانَتِ الْكِلَابُ مكلبةٌ، فَكُلْ مِمَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ. قَالَ: ذكيٌ، وَغَيْرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ ذكيٌّ وَغَيْرُ ذكيٍّ. قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ". وَرَوَى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ". فَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ بِفَوَاتِ نَفْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ بِحُدُوثِ أَكْلِهِ كَالْمُذَكَّى؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ مِنْ صَيْدِهِ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَّ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ صَيْدِهِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَكَلَ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ صَيْدِهِ، وَأَكَلَ غَيْرُهُ مِنْ صَيْدِهِ لَمْ يَحْرُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنْ أَكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ حرام، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَمَا أَكَلَ مِنْهُ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لَا عَلَى مُرْسِلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ قَتَلَ إِلَّا أَنْ يَأَكُلَ مِنْهُ، فَلَا تَأَكُلْ ". وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ، وَإِذَا أَكَلَ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، فَحَرُمَ؛ وَلِأَنَّ أَكْلَهُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نِسْيَانُ التَّعْلِيمِ، فَمُحَرَّمٌ. وَالثَّانِي: لِغَلَبَةِ الْجُوعِ، فَلَا يُحَرَّمُ. وَجَبَ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا أَنْ يُعَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَ مُذَكًّى بِمَيْتَةٍ لَمْ يَحِلَّ الِاجْتِهَادُ فِيهِ؛ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ، فَلَمَّا كَانَ مَا أَكَلَهُ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَذَلِكَ بَاقِيهِ، وَمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَرَامٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَالٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ جَمِيعُ صَيْدِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَكْلِهِ مِنَ الصَّيْدِ الْمُسْتَأْخِرِ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ إِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِلتَّعْلِيمِ دَلَّ حُدُوثُهُ مِنْهُ عَلَى تَقَدُّمِهِ فِيهِ، فَصَارَ صَائِدًا لِجَمِيعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَالشَّاهِدَيْنِ إِذَا شَهِدَا، وَهُمَا عَدْلَانِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَفَسَقَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى فِسْقِهِمَا؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْفِسْقِ فِيهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ التَّعْلِيمَ يَنْقُلُهُ عَنْ طَبْعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ مَعَ الْآخَرِ دل على أنه كان غيره منتقل مَعَ الْأَوَّلِ، وَصَارَ تَرْكُ أَكْلِهِ فِي الْأَوَّلِ اتِّفَاقًا لَا تَعْلِيمًا. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) وَقَدْ أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ بِمَا تَقَدَّمَ فَحَلَّ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ تَقَدُّمُهَا في غيره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 كَإِسْلَامِ مُرْسِلِهِ لَوِ ارْتَدَّ عَنْهُ بِعَدَمِ إِرْسَالِهِ لَمْ يَحْرُمْ مَا صِيدَ قَبْلَ رِدَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِتَعْلِيمِهِ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ تَرْكِ أَكْلِهِ، وَحُدُوثُ الْأَكْلِ مِنْهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ جُوعٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ نِسْيَانٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ لحكم بِتَعْلِيمِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حُدُوثٍ وَقِدَمٍ، كَالشَّاهِدَيْنِ إِذَا نُفِّذَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ حَدَثَ فِسْقُهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ الْحُكْمُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِجَوَازِ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ حُدُوثٍ وَقِدَمٍ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَهُ الْأَكْلَ شَرْطٌ فِي التَّعْلِيمِ كَمَا أَنَّ اسْتِرْسَالَهُ إِذَا أُرْسِلَ شَرْطٌ فِيهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ صَارَ يَسْتَرْسِلُ إِنْ لَمْ يُرْسَلْ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ إِنْ أُرْسِلَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِيهِ، كَذَلِكَ حُدُوثُ الْأَكْلِ. وَبِتَحْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَكُونُ الْأَجْوِبَةُ عَمَّا قَدَّمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَعَارَضَ مَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ، يَغْلِبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَاعْتَبَرَ تَرَجُّحَ أَحَدِهِمَا بِدَلِيلٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الْحَظْرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ يَكُونُ هَذَا فِيمَا امْتَزَجَ فِيهِ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ. فَأَمَّا مَا لَمْ يَمْتَزِجْ فِيهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ، فَلَا يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَالْأَوَانِي إِذَا كان بعضها بخساً، وَبَعْضُهَا طَاهِرًا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الظَّاهِرِ، وَهَاهُنَا قَدْ تَمَيَّزَتِ الْإِبَاحَةُ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْحَظْرِ، فِي الْمُسْتَأْجَرِ، فَلَمْ يَجُزْ تَغْلِيبُ أحدهم عَلَى الْآخَرِ، وَأَثْبَتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ فِي مَحَلِّهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي دَمِ الصَّيْدِ لَمْ يُحَرَّمْ أَكْلُهُ، وَحَرَّمَهُ النَّخَعِيُّ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْأَكْلِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الدَّمَ خَارِجٌ مِنَ الْإِبَاحَةِ، فَلَمْ يعتقد منه التحريم كالغرث. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حُكْمٌ متصل، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَرْسَلَ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى فَإِنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: التَّسْمِيَةُ عَلَى الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، حَلَّ أَكْلُهُ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: التَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ الْأَكْلُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ، تَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ؛ فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا حَرُمَ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا حَلَّ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ) {الأنعام: 121) ، وَهَذَا نَصٌّ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَدِيٍّ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ " فَعَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِشَرْطَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ، فَحَلَّتْ ذَكَاةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَلَمْ تَحِلَّ ذَكَاةُ الْمَجُوسِيِّ، وَالْوَثَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلِهَا، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الذكاة؛ لأنه حرمة أهلها بها. وبعكسه لَمَّا لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي صَيْدِ السَّمَكِ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَرْطِ صَائِدِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ مِنْ مَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيٍّ كَمَا حَلَّ صَيْدُ مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَكِتَابِيٍّ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا زَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ قِيلَ: فَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الذَّكَاةُ كَانَ فَاسِدًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ التَّسْمِيَةَ قَوْلٌ وَالذَّكَاةَ فِعْلٌ، فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الذَّكَاةِ، فَقَالَ: " فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ "، وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُو الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) {المائدة: 5) ، يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ. وَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهَا. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ، وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى، فَقَالَ: " اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مسلمٍ ". وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَ بلحمٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ: " اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، ثَمَّ كُلُوهُ ". وَأَبَاحَ الذَّبِيحَةَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، والتمسية عِنْدَ الْأَكْلِ لَا تَجِبُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مستحبة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 وَرَوَى أَبُو الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُتَرَدِّيَةِ مِنَ الْإِبِلِ فِي بِئْرٍ لَا نَصِلُ إِلَى مَنْحَرِهَا. فَقَالَ: " وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا أَجْزَأَكَ "، فَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ بِالْعُقُودِ دُونَ التَّسْمِيَةِ. فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما أنهر الدم، وفرى اللأوداج فَكُلْ "؛ وَلِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ فِعْلُ الذَّكَاةِ، لم تحرم بترك التسمية كالناس؛ ولأن ما لم يحرم به ذكاة الناس لَمْ تَحْرُمْ بِهِ ذَكَاةُ الْعَامِدِ كَالْأَخْرَسِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلذِّكْرِ شَرْطٌ فِي انْتِهَائِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي ابْتِدَائِهِ كَالطَّهَارَةِ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ مَعَ النِّسْيَانِ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا مَعَ الذِّكْرِ كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْحُوتَ يُسْتَبَاحُ بِتَارِكِهَا كَمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِذَكَاتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْحُوتِ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه حَقِيقَة الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّ ضِدَّهُ النِّسْيَانُ الْمُضَافُ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ لَمْ يُوَحِّدِ اللَّهَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (الأنعام: 121) ، وَالْمُشْرِكُونَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: مَحْمُولٌ عَلَى الْمَيْتَةِ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِفِسْقٌ) {الأنعام: 121) ، وَذَكَاةُ مَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ فِسْقًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ نُطْقَ الْخَبَرِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَدَلِيلُ خِطَابِهِ مَتْرُوكٌ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ وَمَتْرُوكٌ عِنْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ ذَكَاتَهُ، وَلَكِنْ لِتَغْلِيظِ كُفْرِهِ، وَلِذَلِكَ حَرُمَتْ مُنَاكَحَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا صَيْدُ السَّمَكِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ فِعْلٌ آدَمِيٌّ، وَذَلِكَ حَلَّ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَعِنْدَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ، فَلِذَلِكَ حَكَمَ على عموم الأحوال. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَرْسَلَ مسلمٌ ومجوسيٌّ كَلْبَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ أَوْ طَائِرَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ فَقَتَلَا فَلَا يُؤْكَلُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا أُدْرِكَ حَيًّا، فَالِاعْتِبَارُ فِي إِبَاحَتِهِ بِذَابِحِهِ دُونَ صَائِدِهِ، فَإِنْ صَادَهُ مَجُوسِيٌّ، وَذَبَحَهُ مُسْلِمٌ حَلَّ، وَلَوْ صَادَهُ مُسْلِمٌ وَذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ حَرُمَ. فَأَمَّا إِذَا أُدْرِكَ الصَّيْدُ مَيْتًا، فَالِاعْتِبَارُ فِي إِبَاحَتِهِ بِصَائِدِهِ دُونَ مَالِكِ الْآلَةِ، فَإِنْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَ مَجُوسِيٍّ، فَصَادَ كَانَ صَيْدُهُ، حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ مُسْلِمٍ، وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَ مُسْلِمٍ، كَانَ صَيْدُهُ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَجُوسِيٌّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الِاعْتِبَارُ بِمَالِكِ الْكَلْبِ دُونَ مُرْسِلِهِ، فَيَحِلُّ مَا صَادَهُ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَيَحْرُمُ مَا صَادَهُ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ تَفَرَّدَ بِهِ أَنَّ الْكَلْبَ لَوْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ حَلَّ صَيْدُهُ، وَهَذَا فَاسِدُ الْأَصْلِ؛ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ. وَحكي فِي التَّفْرِيعِ؛ لأن الْإِرْسَالَ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الِاسْتِرْسَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ بِسَهْمِ مَجُوسِيٍّ عِنْدَ قَوْسِهِ حَلَّ، وَعَكْسُهُ الْمَجُوسِيُّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالصَّائِدِ لَا بِالْآلَةِ، وَلِهَذَا إِذَا كَانَتِ الْآلَةُ مَغْصُوبَةً كَانَ الصَّيْدُ لِلصَّائِدِ دُونَ صَاحِبِ الْآلَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ ". (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَجْتَمِعَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ عَلَى صَيْدٍ يُرْسِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ عَلَيْهِ أَوْ يُرْسِلُ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ كَلْبًا، وَالْآخَرُ فَهْدًا أَوْ بَازِيًا أَوْ سَهْمًا سَوَاءٌ تَمَاثَلَا فِي آلَةِ الِاصْطِيَادِ أَوِ اخْتَلَفَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُرْسِلَيْنِ فِي الصَّيْدِ مِنْ سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ وَكَلْبُ الْمُسْلِمِ عَلَى إِمْسَاكِ الصَّيْدِ وَقَتْلِهِ، فَيَكُونَ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ تَحْلِيلٌ بِكَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَتَحْرِيمٌ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَاجْتِمَاعُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ، كَالْأَمَةِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِصَابَتُهَا؛ لِاجْتِمَاعِ التَّحْلِيلِ فِي حَقِّهِ وَالتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي إِمْسَاكِهِ ثُمَّ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي قَتْلِهِ، فَيَحْرُمَ؛ [لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ صَارَ قَتْلًا، فَصَارَ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي قَتْلِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي جِرَاحِهِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ، فَيَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلْبُ الْمُسْلِمِ قَدِ ابْتَدَأَ بِجِرَاحِهِ، فَوَجَأهُ بِقَطْعِ حُلْقُومِهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَشْوَتِهِ، ثُمَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 أَدْرَكَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ مُضْطَرِبًا فَجَرَحَهُ فَيَحِلُّ بِتَوْجِيَةِ كَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحْرُمُ لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنْ جِرَاحِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، كَالشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ إِذَا أَكَلَ مِنْهَا سَبُعٌ لَمْ تَحْرُمْ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةَ الْحَرَكَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي إِمْسَاكِهِ، وَيَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِقَتْلِهِ، فَيَحْرُمَ سَوَاءٌ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ كَلْبُ الْمُسْلِمِ لِحُدُوثِ الْقَتْلِ عَنِ الْإِمْسَاكِ الْمُشْتَرَكِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِهِ وَيَشْتَرِكَا فِي قَتْلِهِ، فَيَحْرُمَ سَوَاءٌ انْفَرَدَ بِإِمْسَاكِهِ كَلْبُ الْمُسْلِمِ أَوْ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ مُشْتَرَكٌ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِهِ، وَيَنْفَرِدَ الْآخَرُ بِقَتْلِهِ، فَيَحْرُمَ سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ كَلْبُ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَمْسَكَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ وَقَتَلَهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ حَرُمَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ طلب الْمَجُوسِيِّ، وَقَتَلَهُ كَلْبُ الْمُسْلِمِ حَرُمَ؛ لِأَنَّهُ بِإِمْسَاكِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ لَهُ قَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِقَتْلِ كَلْبِ الْمُسْلِمِ لَهُ، فَاسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ، وَاخْتَلَفَا فِي التَّحْلِيلِ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِمْسَاكِ، وَالْقَتْلِ دُونَ الْآخَرِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ حَرُمَ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ كَلْبُ الْمُسْلِمِ حَلَّ، سَوَاءٌ أَثَّرَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ فِي إِعْيَائِهِ وَرَدِّهِ أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَثَّرَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ فِي إِعْيَائِهِ وَرَدِّهِ حَرُمَ كَمَا لَوْ أَمْسَكَهُ؛ لِتَأْثِيرِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُبَاشَرَةٌ تُخَالِفُ حُكْمَ مَا عَدَاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ مَاتَ بِالْإِعْيَاءِ فِي طَلَبِ الْكَلْبِ حَرُمَ، وَلَوْ مَاتَ بِإِمْسَاكِهِ حَلَّ، وَلَوْ طَلَبَهُ مُحْرِمَانِ، فَأَعْيَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَمْسَكَ الْآخَرُ، فَمَاتَ كَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الْمُمْسِكِ دُونَ الْمُعْيِي، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ كَلْبَانِ: أَحَدُهُمَا مُعَلَّمٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، فَأَرْسَلَهُمَا عَلَى صَيْدٍ كَانَ كَاجْتِمَاعِ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ وَكَلْبِ الْمُسْلِمِ عَلَى صَيْدٍ؛ لِأَنَّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي التَّحْرِيمِ كَالَّذِي صَادَهُ الْكَلْبُ الْمَجُوسِيّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ كَلْبَانِ مُعَلَّمَانِ، فَأَرْسَلَ أَحَدَهُمَا، وَاسْتَرْسَلَ الْآخَرَ، كَانَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْمُرْسَلِ حَلَالٌ، وَصَيْدَ الْمُسْتَرْسِلِ حَرَامٌ. وَلَوْ أُشْكِلُ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، هَلْ هُوَ مُبَاحٌ لِإِبَاحَةِ نَفْسِهِ؟ أوجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ دُونَ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ الأصل في فوات الروح لحظر حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ الْإِبَاحَةُ، فَإِنْ أَدْرَكَ هَذَا الصَّيْدَ بِشَكٍّ أَوْ يَقِينٍ، وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَذَبَحَ نُظِرَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً يَعِيشُ مَعَهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ حَلَّ أَكْلُهُ بِهَذَا الذَّبْحِ وَصَارَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 مُذَكًّى، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ ضَعِيفَةً، كَاضْطِرَابِ الْمَذْبُوحِ لَا يَبْقَى مَعَهَا زَمَانًا مُؤَثِّرًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِذَبْحِهِ، وَكَانَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا رَمَى أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَوَجَدَهُ قَتِيلًا فَالْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قتله غيره وقال ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أنميت وما أصميت وأنت تراه وما أنميت ما غاب عنك فقتله إلا أن يبلغ منه مبلغ الذبح فلا يضره ما حدث بعده ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا بِسَهْمٍ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبًا، فَيَغِيبَ الصَّيْدُ عَنْهُ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيْتًا، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَوِ الْكَلْبُ قَبْلَ مَغِيبِ الصَّيْدِ قَدْ بَلَغَ مِنْهُ مَبْلَغَ الذَّبْحِ، وَهُوَ يَرَاهُ ثُمَّ تَحَامَلَ الصَّيْدُ بِضَعْفِ الْحَيَاةِ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا، فَهَذَا مَأْكُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُذَكًّى عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ، فَلَمْ يُحَرَّمْ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَغِيبَ الصَّيْدُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ السَّهْمُ، وَقَبْلَ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، ثُمَّ يَجِدُهُ بَعْدَ غَيْبَتِهِ مَجْرُوحًا مَيْتًا، فَهُوَ حَرَامٌ لَا يؤكل سواء كان السهم واقعاً فيه، والكلب وَاقِعًا عَلَيْهِ، أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَ عَقْرَ الْكَلْبِ فِي قَتْلِهِ جِرَاحَةُ سبع أو لسعة أفعى، ويغرب فِيهِ سَهْمُ إِنْسَانٍ آخَرَ، فَلَمَّا احْتَمَلَ هَذَا وَغَيْرَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ فِيهِ السَّهْمُ وَيَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، وَهُوَ يَرَاهُ، وَيَغِيبَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوِيُّ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيْتًا، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِلْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقِيَاسِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ، فَيُسْقِطُ حُكْمًا خَالَفَهُ، وَلَا يَقُومُ لَهُ رَأْيٌ، وَلَا قِيَاسٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ قال: " يا رسول الله إني أرمي الصيد، وَأَجِدُهُ مَيْتًا، فَقَالَ؛ كُلْهُ مَا لَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِكَ " وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهَ إِنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ، فَأَقْتَفِي أَثَرَهُ الْيَوْمَ وَالثَّلَاثَةَ، وَأَجِدُهُ مَيْتًا، فَقَالَ: " كُلْهُ مَا لَمْ يَنْتُنْ "، وَرُوِيَ: مَا لَمْ يَصِلَّ: أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ قَدْ وَرَدَا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَإِنْ صَحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَهُوَ مَأْكُولٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا ثَابِتٍ، وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ، وَثَبَتَ، وَأَنَّ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَى صِحَّتِهِ الْخَبَرُ أَنَّهُ مَأْكُولٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى اتِّبَاعِهِ وَطَلَبِهِ حَتَّى وَجَدَهُ مَيْتًا أُكِلَ، وَإِنْ تَرَكَهُ وَتَشَاغَلَ عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ عَلَى طَلَبِهِ يَصِلُ إِلَى ذَكَاتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا مَعَ التَّرْكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَجَدَهُ فِي يَوْمِهِ أُكِلَ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَفِيمَا نَكْرَهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا فِي مُخَالَفَةِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَوَجْهُهُ مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَرْمِي، فَأُصْمِي وَأُنْمِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كُلْ مَا أَصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ " يُرِيدُ بِمَا أَصْمَى مَا قَتَلَهُ، وَهُوَ يَرَاهُ، وَبِمَا أَنْمَى مَا غَابَ عَنْهُ، فَلَمْ يَرَهُ حَتَّى نَمَى إِلَيْهِ، خَبَرُ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ مَعَ الْغَيْبَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ عَقْرِهِ، فَيَحِلَّ، وَأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيَحْرُمَ وَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ. وَإِذَا قُلْنَا فِي الثَّانِي: إِنَّهُ مَأْكُولٌ، فَوِجْهَتُهُ مَعَ الْخِبْرَيْنِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ فَإِذَا هُوَ بِحِمَارٍ وَحْشِيٍّ عَقِيرٍ فِيهِ سهمٌ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعُوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ "، فَجَاءَ رجلٌ مِنْ فِهْرٍ، فَقَالَ: هِيَ رَمْيَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكُلُوهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكَرٍ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا غَابَ لَمْ يَحْرُمْ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ عَقْرِهِ بِالسَّهْمِ، وَالْكَلْبِ ثَابِتٌ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ؛ بِتَجْوِيزِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ حَيَوَانًا فَمَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ جُرْحِهِ، كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ كَانَ مَأْخُوذًا بِالْقَوَدِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ جُرْحِهِ سَبَبٌ يَمُوتُ بِهِ إِثْبَاتًا لِحُكْمِ النَّفْيِ. وَإِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ، كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّيْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى عَقْرِهِ الْمُتَحَقِّقِ دُونَ مَا يَطْرَأُ مِنْ شَكٍّ يَجُوزُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَلَمْ يَبْلُغْ سِلَاحُهُ أَوْ مُعَلَّمُهُ مَا يَبْلُغُ الذَّبْحُ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَأَكُلْ كَانَ مَعَهُ مَا يَذْبَحُ بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ أَنْ تَذْبَحَهُ وَمَعَكَ مَا تُذَكِّيهِ بِهِ وَلَمْ تُفَرِّطْ حَتَى مَاتَ فَكُلْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا رَمَى صَيْدًا، فَجَرَحَهُ أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ، فَعَقَرَهُ، وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاتِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 أحدها: أن يكون العقر قد وحاه، وَبَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ، كَجُرْحِهِ الْمَذْبُوحَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ السَّهْمُ قَدْ فَرَقَ فِي قَلْبِهِ أَوْ يَكُونَ الْكَلْبُ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَبْحُهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ نَفْسِهِ بِذَكَاةِ مِثْلِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْحَرَكَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَيَاةِ كَمَا لَوْ شَقَّ سَبُعٌ بَطْنَ شَاةٍ، فَذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ لِفَوَاتِ الْحَيَاةِ بِغَيْرِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ بَاقِيَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَقْرُ قَدْ أَثْبَتَهُ، وَلَمْ يُوجِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ وُصُولِ الرَّامِي أَوِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَوِّتَهُ إِدْرَاكَ حَيَاتِهِ، تأخره وإبطائه، فَهَذَا حَرَامٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ لَوْ بَادَرَ إِلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفُوتَهُ إِدْرَاكُ حَيَاتِهِ مَعَ مُبَادَرَتِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ؛ لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاتِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَا يُعْتَبَرُ فِي مُبَادَرَتِهِ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هريرة: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ صِفَةُ مَشْيِ مِثْلِهِ عَلَى مَأْلُوفِ سَكِينَتِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّعْيُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّعْيُ الْمَعْهُودُ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ؛ لأنه مخالف لسكينة المشي في عرف أهل، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوْ كَانَ يُدْرِكُهُ بِالسَّعْيِ فَمَشَى إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ مَأْكُولًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَغَيْرَ مَأْكُولٍ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَقْرُ قَدْ أَثْبَتَهُ، وَأَدْرَكَهُ الرَّامِي حَيًّا، فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ذَكَاتِهِ، فَأَخَّرَهَا حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ زَمَانِ حَيَاتِهِ، فَهَذَا حَلَالٌ مَأْكُولٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وهو غَيْرُ مَأْكُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِدْرَاكِ حَيَاتِهِ، كَالْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهَا بِقُصُورِ الزَّمَانِ، كَالْعَجْزِ عَنْهَا لِفَوَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِهِ كَالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِهِ فِي إِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَجْزُ عَنِ الذَّكَاةِ مَعَ إِدْرَاكِهَا كَالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ فَوَاتِهَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى ذَكَاتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْآلَةِ، فَلَا يَجِدُ سِكِّينًا أَوْ وَجَدَهَا وَهِيَ كالةٌ لَا تَقْطَعُ، فَهُوَ حَرَامٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَكَاتِهِ لَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي آلته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 فَلَوْ كَانَتْ مَعَهُ سِكِّينٌ، فَضَاعَتْ أَوْ غَصَبَهُ عَلَيْهَا غَاصِبٌ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكلْ، وَلَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّيْدِ سَبُعٌ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أُكِلَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ غَصْبِ السِّكِّينِ، وَبَيْنَ مَنْعِ السَّبُعِ أَنَّ غَصْبَ السِّكِّينِ وَضَيَاعَهَا عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَمَنْعُ السَّبُعِ عَائِدٌ إِلَى الصَّيْدِ، فَلَوْ كَانَتِ السِّكِّينُ فِي قِرَابٍ قَدْ أَمْسَكَ عَلَيْهَا فَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجُهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ مَأْكُولًا؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ فِي الْأَغْلَبِ تُصَانُ فِي قِرَابِهَا إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا، وَهَذَا عِنْدِي مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقِرَابِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الْإِمْسَاكِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَانَ مَأْكُولًا، وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْمَعْهُودِ فِي الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ. وَلَوْ أَخْرَجَ السِّكِّيَنَ، وَتَشَاغَلَ بِإِحْدَادِهَا حَتَّى مَاتَ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَلَوْ تَشَاغَلَ بِطَلَبِ مَوْضِعِ الذَّبْحِ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ مَأْكُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْ طَلَبِ مَوْضِعِ الذَّبْحِ بُدًّا، وَيَجِدُ مِنْ إِحْدَادِ السِّكِّينِ بُدًّا. فَلَوْ شَكَّ فِي الصَّيْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ: هَلْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ، فَيَحِلُّ لَهُ كَالْمَجْرُوحِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ هُنَاكَ. وَالثَّانِي: يَحِلُّ، وهو الأصح هاهنا. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وِهُوَ يَرَى صَيْدًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ رَأَى صَيْدًا وَنَوَاهُ وَإِنْ أَصَابَ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا رَأَى صَيْدًا، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبًا أَوْ سَهْمًا، فَأَصَابَ غَيْرَهُ، وَقَتَلَهُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّيْدَانِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي جِهَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ الْمُصَابُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِرْسَالِ أَوْ مُعَرَّضًا بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ غَيْرَ ما أرسل عليه، فصار والكلب فِيهِ الْمُسْتَرْسَلُ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّ تَعَيُّنَ الصَّيْدِ فِي الْإِرْسَالِ لَا يَلْزَمُ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ جَازَ، وَأَيُّهَا صَارَ حَلَّ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا سَقَطَ التَّعْيِينُ حَلَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 غَيْرُ الْمُعَيَّنِ؛ وَلِأَنَّ ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ أَغْلَظُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُذَكِّيَ لَوْ أَرَادَ شَاةً، فَذَبَحَ غَيْرَهَا حَلَّتْ، فَكَانَ الصَّيْدُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ، فَصَارَ غَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ يَحِلَّ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ عَلَى صَيْدٍ كَبِيرٍ، فَهَرَبَ، وَكَانَ مَعَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَأَخَذَهُ الْكَلْبُ حَلَّ بِوِفَاقِ مَالِكٍ، فَإِذَا كَانَ كَبِيرًا فَأَوْلَى أَنْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ أَمْنَعُ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ كَانَ الصَّيْدَانِ فِي جِهَتَيْنِ، فَأَرْسَلَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَعَدَلَ إِلَى الْآخَرِ، فَلَهُ فِي اخْتِلَافِ الْجِهَاتِ أَسْمَاءٌ يُقَالُ: صَيْدٌ سَانِحٌ إِذَا كَانَ عَنْ يَسَارِ الرَّامِي، وَهُوَ أَمْكَنُ، وَصِيدٌ بَارِحٌ إِذَا كَانَ عَنْ يَمِينِ الرَّامِي وَهُوَ أَشَقُّ وَصَيْدٌ قَعِيدٌ إِذَا كَانَ مُقَابِلَ الرَّامِي فَإِذَا أُرْسِلَ عَلَى صيد في جهة، فعدل إلى غير مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ سِلَاحًا أَوْ جَارِحًا، فَإِنْ كَانَ سِلَاحًا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ مِنْ سَهْمٍ رَمَاهُ أَوْ سَيْفٍ أَلْقَاهُ، فَعَدَلَ السَّهْمُ أَوِ السَّيْفُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ إِلَى غَيْرِهَا إِمَّا لِرِيحٍ اعْتَرَضَتْهُ أَوْ لِخَطَأٍ كَانَ مِنْهُ، فَالصَّيْدُ مَأْكُولٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي قَصْدِهِ، وَخَطَأُ الْمُذَكِّي لَا يَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَةِ ذَكَاتِهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ شَاةً فَذَبَحَ غَيْرَهَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَارِحًا مِنْ كَلْبٍ أَرْسَلَهُ إِلَى جِهَةٍ، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهَا، فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ كَالسَّهْمِ، وَنَسَبَهُ إِلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ، لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا يَنْصَرِفُ بِهِ، وَأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُرَاعَى مَخْرَجُ الْكَلْبِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَادِلًا عَنْ جِهَةِ إِرْسَالِهِ إِلَى غَيْرِهَا لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ مِنْهَا، وَإِنْ خَرَجَ إِلَى جِهَةِ إِرْسَالِهِ فَفَاتَهُ صَيْدُهَا، فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهَا، وَأَخَذَ صَيْدَهَا أُكِلَ؛ لِأَنَّهُ على الصفة الأولة متخالف، فَصَارَ مُسْتَرْسِلًا وَعَلَى الصِّفَةِ الثَّانِيةِ مُوَافِقٌ، وَكَانَ مُرْسَلًا، وَهَذَا أَدَلُّ عَلَى فَرَاهَتِهِ؛ لِئَلَّا يَرْجِعَ خَلِيًّا إِلَى مُرْسِلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ له عَدَلَ عَنْ جِهَةٍ إِلَى غَيْرِهَا، فَعَدَلَ الْكَلْبُ إِلَيْهَا حَتَّى أَخَذَهُ حَلَّ؛ كَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، فَعَصَفَتِ الرِّيحُ بِالصَّيْدِ وَالسَّهْمِ إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى قَتَلَهُ فِيهِ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ، وَلَمْ يَأْكُلْهُ. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، فَعَدَلَ الصَّيْدُ وَالْكَلْبُ إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى قَتَلَهُ فِيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَحَلَّ لَهُ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَلْبِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ إِرْسَالِهِ، وَحُكْمُ السَّهْمِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ وُقُوعِهِ، وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَأَصَابَ السَّهْمُ الْأَرْضَ، ثُمَّ ازْدَلَفْ فِيهَا إِلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وجهان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 أَحَدُهُمَا: يُؤْكَلُ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ بِفِعْلِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ وُصُولَهُ إِلَى الْأَرْضِ قَاطِعٌ لِفِعْلِهِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي السَّهْمِ الْمُزْدَلِفِ إِذَا أَصَابَ هَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ في الإصابة على قولين. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَرْسَلَهُ وَلَا يَرَى صَيْدًا وَنَوَى فَلَا يُأْكَلُ وَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ إِلَّا مَعَ عينٍ تَرَى وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ الْعِلْمُ يُحِيطُ أَنْ لَوُ أَرْسَلَ سَهْمًا عَلَى مَائَةِ ظبيٍ أَوْ كَلَبًا فَأَصَابَ وَاحِدًا فَالْوَاحِدُ الْمُصَابُ غَيْرُ منويٍّ بِعَيْنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ، وَهُوَ لَا يَرَى صَيْدًا، فَعَنَّ لِلْكَلْبِ صَيْدٌ وَأَخَذَهُ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ، فَصَارَ الْكَلْبُ كَالْمُسْتَرْسِلِ، فَلَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ. وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ وَلَا يَرَى صَيْدًا، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ وَأَصَابَهُ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَالَّذِي صَادَهُ الْكَلْبُ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُؤْكَلُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ الْقَصْدَ فِي ذَكَاتِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعَارِضُهُ اخْتِيَارُ غَيْرِهِ. (فَصْلٌ:) أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَطَعَ خَشَبَةً لَيِّنَةً، فَصَادَفَ حَلْقَ شَاةٍ، فَذَبَحَهَا أُكِلَتْ. وَالْقَصْدُ فِي إِرْسَالِ الْكَلْبِ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ اخْتِيَارُ الْكَلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الْقَصْدُ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَى اخْتِيَارِ الكلب، فافترق. وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي قَطْعِ الْخَشَبَةِ إِلَى ذَبْحِ الشَّاةِ لَمْ تُؤْكَلْ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَقِيَاسٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ تَصِحُّ ذَكَاتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُمَا، وَكَذَلِكَ الْخَاطِئُ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ خَرَجَ الْكَلْبُ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالِ صَاحِبِهِ فَزَجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَأَشْلَاهُ فَاسْتَشْلَى فَأَخَذَ وَقَتَلَ أُكِلَ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ غَيْرُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَا يَأْكُلْ وسواءٌ اسْتَشْلَاهُ صَاحِبُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ تَجُوزُ ذَكَاتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِرْسَالَ الْكَلْبِ شَرْطٌ فِي إِبَاحَةِ صَيْدِهِ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 بِغَيْرِ إِرْسَالٍ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا، فَيُذَكَّى، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَشَذَّ الْأَصَمُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَلَمْ يَعْتَبِرَا الْإِرْسَالَ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْلِيمِ قَدْ صَارَ مُرْسَلًا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ حَتَّى يُرْسِلَ، وَيَنْزَجِرَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ لِنَفْسِهِ، فَلَهُ مَعَ صَاحِبِهِ أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى اسْتِرْسَالِهِ، وَلَا يُشْلِيَهُ، وَلَا يزجره، فلا يؤكل ما صاده. والحالة الثَّانِيةُ: أَنْ يَزْجُرَهُ، فَلَا يَنْزَجِرَ، فَلَا يُؤْكَلَ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْرَاعِ بَعْدَ الزَّجْرِ أَسْوَأُ حَالًا. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَزْجُرَهُ ثُمَّ يُشْلِيَهِ، فَيَسْتَشْلِيَ، فَيُؤْكَلَ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ صَادَهُ بَعْدَ الِانْزِجَارِ عَنْ إِرْسَالِهِ. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُشْلِيَهُ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ، وَيُغْرِيَهُ بِالصَّيْدِ، فَيَمْضِيَ عَلَى إِسْرَاعٍ بَعْدَ إِشْلَائِهِ وَإِغْرَائِهِ، سَوَاءٌ زَادَ إِسْرَاعُهُ بِالْإِغْرَاءِ أَوْ لَمْ يَزِدْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْكَلُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِرْسَالِهِ قَدِ انْقَطَعَ بما حدث من إغوائه كَمَا يَنْقَطِعُ زَجْرُهُ قَبْلَ إِغْرَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِالْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْتِرْسَالٌ وَإِغْرَاءٌ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِغْرَاءِ دُونَ الِاسْتِرْسَالِ كَالصَّيْدِ إِذَا اسْتَرْسَلَ عَلَى طَلَبٍ، فَأَغْرَاهُ بِهِ محرمٌ ضَمِنَهُ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِغْرَاءِ، كَذَلِكَ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ. وَدَلِيلُنَا: إِنَّ الِاسْتِرْسَالَ حَاظِرٌ وَالْإِغْرَاءَ مُبِيحٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى إِرْسَالِهِ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ؛ وَلِأَنَّ الْإِغْرَاءَ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ مُوَافِقٌ لَهُ، فَصَارَ مُقَوِّيًا لِحُكْمِهِ، وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزِدْ حُكْمُهُ بِالْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ وَأَغْرَاهُ مُسْلِمٌ، أَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَأَغْرَاهُ مَجُوسِيٌّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِغْرَاءَ قَدْ قَطَعَ الِاسْتِرْسَالَ كَالزَّجْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْطَعُ الِاسْتِرْسَالُ مَا خَلْفَهُ وَلَا يَقْطَعُ مَا وَافَقَهُ وَالزَّاجِرُ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِرْسَالِ فَصَارَ قَاطِعًا وَالْإِغْرَاءُ مُوَافِقٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اجْتِمَاعَ الِاسْتِرْسَالِ وَالْإِغْرَاءِ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ حُكْمِ الْإِغْرَاءِ كَالْمُحْرِمِ، فهو أنه فيه لأصحابنا وجهين: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِغْرَائِهِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِرْسَالِ، وَيَصِيرُ دَلِيلًا لَنَا لَا عَلَيْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمَّنُ بِالْإِغْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَأْكُولًا بِالْإِغْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الضَّمَانِ إِيجَابٌ وَإِسْقَاطٌ، يُغَلَّبُ حُكْمُ الْإِيجَابِ عَلَى الْإِسْقَاطِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَأْكُولِ حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِيجَابِ، وَلَا يُؤْكَلُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ؟ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَا يَكُونُ إِسْقَاطًا لِحُكْمِ الِاسْتِرْسَالِ بِالْإِغْرَاءِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا ضَرَبَ الصَّيْدَ فَقَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أَكَلَ وَإِنْ كانت إحدى القطعتين أقل من الأخرى ولو قطع منه يداً أو رجلاً أو أذناً أو شيئاً يمكن لو لم يزد على ذلك أن يعيش بعده ساعةً أو مدةً أكثر منها ثم قتله بعد برميته أكل كل ما كان ثابتاً فيه من أعضائه ولم يأكل العضو الذي بان وفيه الحياة لأنه عضوٌ مقطوعٌ من حي وحي بعد قطعه ولو مات من قطع الأول أكلهما معاً لأن ذكاة بعضه ذكاةٌ لكله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا، فَيَقْطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ، فَهَذَا توجيهٌ، فَتُؤْكَلَ الْقِطْعَتَانِ مَعًا، سَوَاءٌ تَفَاضَلَتِ الْقِطْعَتَانِ أَوْ تَمَاثَلَتَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ تَسَاوَتِ الْقِطْعَتَانِ أَوْ كَانَ مَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ أَكَلَ دُونَ الْأَقَلِّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَدَّرَ الْأَقَلَّ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَجَعَلَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَنَقَصَ عَنِ النِّصْفِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الْأَقَلِّ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الرَّأْسِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أُبِينَ مِنْ حيٍّ فَهُوَ ميتٌ "؛ وَلِأَنَّهُ أَبَانَ مِنْهُ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيمَا بَقِيَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ حَيًّا، فَذَبَحَهُ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: " كُل مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ، فَكُلْ " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ كلما كَانَ ذَكَاةً لِبَعْضِ الْبَدَنِ كَانَ ذَكَاةً لِجَمِيعِهِ قياساً على ما اتصل بالرأس؛ ولأن كلما كَانَ ذَكَاةً لِمَا اتَّصَلَ بِالرَّأْسِ كَانَ ذَكَاةً لِمَا انْفَصَلَ عَنْهُ كَالْأَكْثَرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ خَارِجٌ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ قَوْمًا يُحِبُّونَ أَلَايَا الْغَنَمِ، فَيَقْطَعُونَهَا مِنْهَا، فَقَالَ: " مَا أُبِينَ مِنْ حيٍّ فَهُوَ ميتٌ "، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سَبَبِهِ مِنْ حَيَاةِ الْمَقْطُوعِ مِنْهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ قَدْ رَوَى نَصًّا فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أُبِينَ مِنْ بهيمةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهُوَ ميتٌ ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يكن ذكاة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 لِلْمُتَّصِلِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَكَاةً لِلْمُنْفَصِلِ، وَالْقَطْعُ فِي الْفَرْعِ قَدْ كَانَ ذَكَاةً لِلْمُتَّصِلِ، فَكَانَ ذَكَاةً لِلْمُنْفَصِلِ. (فَصْلٌ:) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الصَّيْدِ عُضْوًا كيدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ أُذُنٍ، ويجوز أن يحيى بَعْدَ قَطْعِهِ زَمَانًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَطْعِ إِمَّا بِالذَّبْحِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِرَمْيَةٍ بَائِنَةٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَلُ مَا بَانَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً لَهُ، فَلَمْ تَصِرْ ذكاة لما بان منه، وقد روى عديه [أَبُو الدَّرْدَاءِ] أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنِ الْخَطْفَةِ " وَهُوَ مَا اقْتَطَعَهُ كَلْبٌ أو سيف أو سبع من الصيد، فبات مِنْهُ هَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَتَأَوَّلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْخَطْفَةَ: النُّهْبَةُ، وَمِنْهُ سُمِّي الْخُطَّافُ خُطَّافًا لِاخْتِطَافِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بِهَذَا الْقَطْعِ دُونَ غَيْرِهِ، فَيُنْظَرَ فِيهِ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا، فَقَدَرَ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى مَاتَ فلم يزكه كَانَ الصَّيْدُ مَعَ مَا بَانَ مِنْهُ مَيْتًا لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ حَتَّى مَاتَ أو أدرك مَيْتًا أَكَلَ جَمِيعَهُ الْبَائِنَ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقطعَ كَانَ هُوَ الْمُبِيحَ لِأَكْلِ الصَّيْدِ، فَصَارَ مُبِيحًا لِأَكْلِ الْبَائِنِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهًا آخَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَائِنَ مِنْهُ لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مَأْكُولًا؛ لِأَنَّهُ بَانَ مِنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَتَأَوُّلُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى ذَكَاةِ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ إِذَا تَعَذَّرَ فِيهِ الذَّبْحُ كَمَا يَكُونُ ذَكَاةً إِذَا وَجَأهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِنُ مِنْهُ فِي إِبَاحَتِهِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سواء، ولا يختلفون أنه لو تعلق المتطوع بِجِلْدَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَصْلِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مَا أَلْحَقْنَا به في إباحة أكله. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصِيدَ الْمُسْلِمُ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ بِكَلْبِ مسلمٍ لِأَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ الْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا الْكَلْبُ أداةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ حُكْمَ الْكَلْبِ حُكْمٌ لِمُرْسِلِهِ، كَالْآلَةِ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّامِي دُونَ مَالِكِهَا، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ الْمُرْسِلُ أَوْ غَيْرُهُ. فَإِذَا صَادَ مَجُوسِيٌّ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّ مُرْسِلَهُ مَجُوسِيٌّ، كَمَا لَوْ رَمَى مَجُوسِيٌّ بِسَهْمِ مُسْلِمٍ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ صَادَ مُسْلِمٌ بِكَلْبِ مَجُوسِيٍّ حَلَّ صَيْدُهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلْبَ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ صَادَ بِسِلَاحِ مَجُوسِيٍّ حَلَّ كَذَلِكَ إِذَا صَادَ بِكَلْبِهِ وَالثَّانِي: إِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَلْبِ بِمُرْسِلِهِ دُونَ مُعَلِّمِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ إِذَا صَادَ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ لَمْ يَحِلَّ إِجْمَاعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ إِذَا صَادَ مُسْلِمٌ بِكَلْبِ مَجُوسِيٍّ قِيَاسًا. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ عَلَّمَ كَلْبًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، حَلَّ صَيْدُهُ، لِأَنَّهُ بِإِرْسَالِهِ مُسْلِمٌ، وَإِنْ كَانَ بِتَعْلِيمِ مَجُوسِيٍّ، كَذَلِكَ إِذَا صَادَ به غيره من المسلمين. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَيُّ أَبَوَيْهِ كَانَ مَجُوسِيًّا فَلَا أَرَى تُؤْكَلُ ذبيحته وقال في كتاب النكاح ولا ينكح إن كانت جاريةً وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِمُ أَحَدُ أَبَوَيْهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يَشْرَكُهُ الشِّرْكُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ لَا تَحِلُّ، وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مُبَاحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا تَحِلُّ فِيمَا لَا يُحِلُّونَهُ مِنَ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَبْحِهِ الإتلاف دون الذكاة، وهذا غلظ؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُو الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) {المائدة: 5) يُرِيدُ بِالطَّعَامِ: الذَّبِيحَةَ دُونَ مَا يَسْتَطْعِمُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَطْعِمُونَ الْخِنْزِيرَ، وَلَا يَحِلُّ لَنَا. وَلِأَنَّ مَا حَلَّ بِذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ حَلَّ بِذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ، كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ طَرْدًا، وَكَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عَكْسًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا مُقَرَّرًا، وَقِيَاسًا مُسْتَمِرًّا، فَاخْتَلَفَ أَبَوَا الْكَافِرِ، فَحَلَّتْ ذَبِيحَةُ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْآخَرِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَهُودِيًّا وَالَآخَرُ مَجُوسِيًّا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ يَهُودِيَّةً فلا تحل ذبيحته لوجهين: أحدهما: أنه نَسَبَهُ يَلْحَقُ بِأَبِيهِ، فَكَانَ حَمْلُهُ حَمْلَ أَبِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اجْتَمَعَا يَغْلِبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا وَأُمُّهُ مَجُوسِيَّةً، فَفِي إِبَاحَةِ ذَبِيحَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَبِيهِ فِي نَسَبِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابِيُّ مِنْهُمَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا. وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، وَلَا يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ كَمَا لَمْ يُغَلَّبِ الْحَظْرُ فِي إِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا غُلِّبَ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي وَلَدِ الْكَافِرِ، وَإِنْ لَمْ يُغَلَّبْ حُكْمُ الْحَظْرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَجَبَ حُكُمُ الذَّبِيحَةِ بِمَثَابَتِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكَ يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالشِّرْكَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَرْتَفِعُ الشِّرْكُ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْفَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإسلام يعلوا، وَلَا يُعلى ". وَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ مُشْرِكًا، غَلَّبَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الشرك، ويجتمع الشَّرْطَانِ؛ لِأَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمَا أَحَدِهِمَا وَجَبَ أن يغلب الحظر منهما. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَتْهُ الْأُحْبُولَةُ كَانَ فِيهَا سلاحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهَا ذكاةٌ بِغَيْرِ فَعْلِ أحدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ تُجْعَلُ حِيَلًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْجَوَارِحُ الْمُرْسَلَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِي: السِّلَاحُ الَّذِي يَرْمِي بِهِ، فَإِنْ قَتَلَ بِثِقَلِهِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ، فَهُوَ وَقِيذٌ لَا يُؤْكَلُ وَإِنْ قَطَعَ بِحَدِّهِ أَوْ بَعْدَ تَدْمِيَةٍ، فَهُوَ مَأْكُولٌ، فَأَمَّا الْمِعْرَاضُ. فَهُوَ آلَةٌ تَجْمَعُ خَشَبًا وَحَدِيدًا، فَإِنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا نُصِبَ لَهُ مِنَ الْآلَةِ الَّتِي تُفَارِقُ آلَتَهُ، فَتَضْغَطُهُ، وَتُمْسِكُهُ كَالْفَخِّ وَالشَّرَكِ وَالشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ حَلَّ، وَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْآلَةِ سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدٍّ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سِلَاحٌ، فَمَاتَ بِضَغْطِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِيهَا سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدِّهِ يَحِلُّ اسْتِدْلَالًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ، فَكُلْ ". وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَقْرُهُ بِحَدٍّ، فَحَلَّ أَكْلُهُ كَالْمَرْمِيِّ بِحَدِيدَةٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 وَدَلِيلُنَا: مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا ذَكَاةٌ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الذَّكَاةَ تَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُبَاشِرٍ، وَلَا تَحِلُّ بِغَيْرِ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهَا ذَكَاةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالْمُبَاشِرَةِ دُونَ السَّبَبِ كَمَنْ نَصَبَ سِكِّينًا، فَاحْتَكَّتْ بِهَا شَاةٌ فَانْذَبَحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ. وَعَلَّلَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ بِأَنَّ الصَّيْدَ يَحِلُّ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ مِنْ جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إِلَى عُلُوٍّ فَسَقَطَ عَلَى صَيْدٍ اعْتَرَضَهُ لَمْ يَحِلَّ، وَالْمَقْتُولُ بِسِلَاحِ الْأُحْبُولَةِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا، وَلَا مِنْ جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَخَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لِصَيْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَحِلَّ. وَعَلَّلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بِأَنَّ الذَّكَاةَ تَحِلُّ بِالْفَاعِلِ، وَالْأُحْبُولَةَ لَا فِعْلَ لَهَا، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلصَّيْدِ الْوَاقِعِ فِيهَا، فَلَمْ يَحِلَّ كَمَا لَوِ احْتَكَّ بِحَدِيدَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ انْذَبَحُ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فَيْمَا تَصِحُّ فِيهِ الذَّكَاةُ مِنَ الْآلَةِ إِذَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ بِحَدِّهِ ثُمَّ بِشُرُوطِ الِاسْتِبَاحَةِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشَرَةِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، فَهُوَ مَا مَنَعْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالضَّمَانِ، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ أَعَمُّ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ أَخَصُّ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعُمُومِ والخصوص. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالذَّكَاةُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهُ مِنْ إنسيٍّ أَوْ وحشيٍّ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بَأَنْ يُذَكَّى وَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ وحشيٍّ أَوْ إنسيٍّ فَمَا قَدَرْتَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الرَّمْيِ أَوِ السِّلَاحِ فَهُوَ بِهِ ذكيٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ: مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَمُمْتَنِعٌ. فَأَمَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، فَلَا تَحِلُّ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحَشِيًّا، وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: وَحْشِيٌّ كَالصَّيْدِ، فَعَقْرُهُ ذَكَاتُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَبْتَهُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَهْلِيٌّ، كَالنَّعَمِ إِذَا تَوَحَّشَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَقْرَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَبْتَ مِنْ ذَكَاتِهِ، كَالصَّيْدِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عمر. ومن التابعين: الحسن، وعطاء، وطاووس. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ". وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَهْلِيِّ أَنَّهُ يُذَكَّى، وَلَا يُفْدَى بِالْجَزَاءِ، فَلَوْ جَازَ إِذَا تَوَحَّشَ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ فِي الذَّكَاةِ، فَيَصِيرَ بِعَقْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي حَلْقِهِ وَلَبَّتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُكْمُهُ فِي الْجَزَاءِ، فَيُفْدِيَهِ الْمُحْرِمُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْدِيًّا، أَوْ لَصَارَ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ مَأْكُولًا، فَلَمَّا بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي سُقُوطِ الْجَزَاءِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الذَّكَاةِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عباية بن رفاعة بن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعِيرًا نَدَّ، فَرَمَاهُ رجلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوْ قَالَ: لِلنَّعَمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " فَحَبَسَهُ " أَيْ: قَتَلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: فَحَبَسَهُ اللَّهُ أَيْ: أَمَاتَهُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " فَاصْنَعُوا هَكَذَا " وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ بِالرَّمْيِ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ. لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُمْتَنِعٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْرُهُ ذَكَاتَهُ، كَالْوَحْشِ. وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ ذَكَاةُ الْوَحْشِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ بِهِ ذَكَاةُ الْأَهْلِيِّ كَالذَّبْحِ. وَلِأَنَّهُ اعْتُبِرَ فِي ذكاة الأهل حكم أصله إذا، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ذَكَاةِ الْوَحْشِ حُكْمُ أَصْلِهِ إِذَا تَأَنَّسَ فَيَكُونَ بِعَقْرِهِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَفِي بُطْلَانِ هَذَا فِي الْوَحْشِ إِذَا تَأَنَّسَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي الْإِنْسِيِّ إِذَا تَوَحَّشَ؛ اعْتِبَارًا بِالِامْتِنَاعِ وَالْقُدْرَةِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَوَارِدٌ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ فِي سَبَبِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْجَزَاءِ وَالْأَكْلِ مَعَ فَسَادِهِ بِالْوَحْشِيِّ إِذَا تَأَنَّسَ، فَهُوَ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِ الْقُدْرَةَ وَالِامْتِنَاعَ فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ لَازِمَانِ لَا يَنْتَقِلَانِ، وَالْقُدْرَةُ وَالِامْتِنَاعُ يَتَعَاقَبَانِ، فَيَصِيرُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا، وَمُمْتَنِعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مَأْكُولًا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَلَا غَيْرَ مَأْكُولٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَأْكُولًا، فَافْتَرَقَا. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 عَلَيْهِ فَكُلُوهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظفرٍ " لِأَنَّ السِّنَ عظمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ والظفر مدى الحبش وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه جعل ذكاة الإنسيِّ مثل ذكاة الوحشيِّ إذا امتنع قال ولما كان الوحشي يحل بالعقر ما كان ممتنعاً فإذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسيُّ كان كذلك الإنسي إذا صار كالوحشي ممتنعاً حل بما يحل به الوحشي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذَّكَاةَ تَجُوزُ بِالْحَدِيدِ، وَبِمَا صَارَ فِي اللَّحْمِ مَوْر الْحَدِيدِ، فَذَبَحَ بحده لانتثله مِنْ مُحَدِّدِ الْخَشَبِ، وَالْقَصَبِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحِجَارَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا، فَلَا تَجُوزُ الذَّكَاةُ بِهِ، وَإِنْ قَطَعَ بِحَدِّهِ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ سَبُعٍ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الذَّكَاةَ بِهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا؛ وَلَمْ يُجِزْهَا بِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا؛ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ، فَكُلْ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ آلَةٌ يُمْكِنُ الذَّبْحُ بِهَا، فَحَلَّتْ ذَكَاتُهَا كَالْحَدِيدِ؛ وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ مُنِعَ مِنْهَا لِمَعْنًى فِي الْآلَةِ، فَحَلَّتْ كَالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ بِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يُرَضُّ بِثِقْلِهِ، وَالْمُنْفَصِلَ يُشَقُّ بِحَدِّهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَا لاقوا الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى أَفَنُذَكِّي بِاللَّيْطِ " فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا إِلَّا بِمَا كَانَ مِنْ سنٍّ أَوْ ظفرٍ؛ فَإِنَّ السِّنَّ عظمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالظُّفْرُ مُدَى الْحَبَشَةِ ". فَاسْتَثْنَاهُمَا مِنَ الْإِبَاحَةِ، فَدَخَلَا فِي التَّحْرِيمِ، وَصَارَ عُمُومُ أَوَّلِهِ مَخْصُوصًا بِآخِرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ بِعَظْمٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ كَالْمُتَّصِلِ؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ بِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ بِهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَالشَّعْرِ إِذَا حُرِقَ طَرْدًا وَالْحَدِيدِ إِذَا قُطِعَ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ فِي الِاتِّصَالِ أَقْوَى وَأَمْضَى مِنْهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَلَمَّا لَمْ تَجُزِ الذَّكَاةُ بِهِ فِي أَقْوَى حَالَيْهِ، كَانَ بِأَنْ لَا يَجُوزَ فِي أَضْعَفِهِمَا أَوْلَى. فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَقَدْ يَخُصُّهُ آخِرُهُ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْحَدِيدِ فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُهُ بِالْمُتَّصِلِ. وَالثَّانِي: إِنَّ نَصَّ السُّنَّةِ يَدْفَعُهُ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ السِّنِّ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَصَارَ كَذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ. وَالْمَنْعُ مِنَ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، فَصَارَ كَذَبْحِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الذَّبْحَ بِالسِّنِّ مُخْتَصٌّ بِالذَّكَاةِ؛ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهَا، وَالْمَنْعَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالذَّكَاةِ لِتَحْرِيمِهَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الذَّكَاةُ بِالْعَظْمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهْتُهُ وَلَا سِنٍّ أَنْ يَحْرُمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سِنٍّ، وَلَا ظُفْرٍ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّحْرِيمِ الِاسْمَ، وَأَجَازَهُ بِالْعَظْمِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاسْمِ، وَكَرِهَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَقِسْهُ عَلَيْهِ لِاسْتِثْنَاءِ أَصْلِهِ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنَ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ عَظْمُ الْإِنْسَانِ، فَصَارَ تَعْلِيلُ السِّنِّ بِالْعَظْمِ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ على النص. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قال وَلَوْ وَقَعَ بعيرٌ فِي بئرٍ وَطُعِنَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ، أَوْ دَخَلَتْ فِي غَارٍ، أَوْ حَصَلَتْ تَحْتَ هَدْمٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهَا فِي الْحَيَاةِ لِلذَّكَاةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الذَّبْحِ مِنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ ظَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الذَّبْحِ ظَاهِرًا حَلَّ بِعَقْرِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ عُقِرَ مَنْ جَسَدِهِ مِنْ مَقْتَلٍ وَغَيْرِ مَقْتَلٍ كَالصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ. وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ تَذْكِيَتِهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ إِذَا امْتَنَعَ أَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِذَبْحِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَالَ: " رَأَيْتَكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذه لَأَجْزَأَكَ " وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ أَنَّهُ تَرَدَّى بَعِيرٌ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْحَرُوهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشْرًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ، لِأَنَّهُمْ تَبَايَعُوهُ، وَأَكَلُوهُ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ عَقْرُهَا بِمَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ أَوْ يُثْقَبُ بِوَقْتِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كُلَّهَا، فَعَقَرَهُ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ، فَاسْتُبِيحَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِعَقْرِ الْكَلْبِ، وَإِنْ حَلَّ بِعَقْرِ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُسْتَبَاحُ بِهِ الذَّكَاةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَعَقْرُ الْكَلْبِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَاسْتَوَى عَقْرُ الْحَدِيدِ وَعَقْرُ الْكَلْبِ فِي الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ، وَافْتَرَقَا فِي الْحَيَوَانِ الْمُنْدَفِنِ. فَلَوْ قَطَعَ يَدَ الْبَعِيرِ مِنَ الْبِئْرِ فَمَاتَ مِنْ قَطْعِهَا حَلَّ أَكْلُهُ، وَأَكَلَ يَدَهُ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 مِنْ قِطَعِهَا حَتَّى قَطَعَ يَدًا أُخْرَى حَرُمَتِ الْيَدُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَمْ تَحْصُلْ بِقَطْعِهَا، وَحَلَّتِ الْيَدُ الثَّانِيةُ مَعَ الْبَدَنِ لِحُصُولِ الذَّكَاةِ بقطعها. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَكَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ جَنَاحَهُ وَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ كَانَ حَرَامًا وَكَانَ عَلَى الرَّامِي الْآخَرِ قِيمَتُهُ بِالْحَالِ الَّتِي رَمَاهُ بِهَا مكسوراً أو مقطوعاً (قال المزني) رحمه الله معنى قول الشافعي عندي في ذلك أنه إنما يغرم قيمته مقطوعاً لأنه رماه فقطع رأسه أو بلغ من مقاتله ما يعلم أن قتله دون جرح الجناح ولو كان جرحاً كالجرح الأول ثم أخذه ربه فمات في يديه فقد مات من جرحين فعلى الثاني قيمة جرحه مقطوع الجناح الأول ونصف قيمته مجروحاً جرحين لأن قتله مقطوع الجناحين من فعله وفعل مالكه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلَيْنِ رَمَيَا صَيْدًا، فَأَصَابَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَهَا حالتان: إحداهما: أن يتفقا في إصابته. والثاني: أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهَا. فَإِنِ اتَّفَقَا فِي إِصَابَتِهِ، فَرَمَيَاهُ مَعًا، فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَنْ تَخْلُوَ الْإِصَابَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِيَهُ، فَيَكُونَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَأْكُولٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُوجِيهِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ كَانَ مَأْكُولًا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تكون إحدى الجراحتين موحية، والأخرى غير موحية، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُمَا، وهو مأكول، ويستوي فيه من وحا، ومن لم يوح، لأن غير الموحية قد تسم، وتذكيه كالموحية. والوجه الثاني: أنه يكون ملكاً للموحي خَاصَّةً؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِثْبَاتِهِ، وَتَذْكِيَتِهِ بها، وفي شك من إثابته بغير الموحية، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْيَقِينِ دُونَ شَكٍّ. (فَصْلٌ:) وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ، وَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدها: أن تكون الإصابة الأولة موحية دون الثانية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 والقسم الثاني: أن تكون الإصابة الثانية موحية دُونَ الْأُولَى. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الإصابتين غير موحية، وَلَا حُكْمَ لِرَابِعٍ إِنْ خَرَجَ بِهِ التَّقْسِيمُ أن تكون كل واحدة منهما موحية؛ لأنه لا توحية بعد التوحية. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ الأولة موحية دون الثانية، وهو الأول الموحى، وقد حل بالتوحية سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَيُنْظَرُ فِي إِصَابَةِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَقْصِ قِيمَتِهِ، فَهِيَ هَدَرٌ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ أَثَّرَتْ فِي شَقِّ الْجِلْدِ نَقْصًا ضَمِنَ أَرْشَهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْأَسْبَقُ الْمُوجِي، وَعُدِمَا الْبَيِّنَةَ تَحَالَفَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِالصَّيْدِ لِلْحَالِفِ، وَقُضِيَ بِأَرْشِ النَّقْصِ عَلَى النَّاكِلِ، وَإِنْ حَلَفَا جُعِلَ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا بِأَيْمَانِهِمَا، لِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ، وَسَقَطَ غُرْمُ الْأَرْشِ بِالْإِصَابَةِ الثَّانِيةِ؛ لِلْجَهْلِ بِمُسْتَحَقِّهِ وَالْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَكَلَا انْقَطَعَ التَّخَاصُمُ بينهما، ووقف الصيد، والأرض على اصطلاحها. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِي هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ لَمْ يُثْبِتْهُ بِإِصَابَتِهِ، فَيَكُونَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلثَّانِي الْمُوجِي، وتكون التوحية ذَكَاةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَدْ أَثْبَتَهُ بِإِصَابَتِهِ، فَيَكُونَ مِلْكًا لِلْأول، وينظر في توحية الثاني: فإن كانت في عد مَحَلِّ الذَّكَاةِ مِنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَانَ مَأْكُولًا، وضمن بالتوحية ما بين قيمته مجروحاً ومذبوحاً، وإن كان التوحية فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّكَاةِ بِأَنْ قُطِعَ نِصْفَيْنِ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِذَكَاتِهِ في الحلق واللبة، ويضمن الموحي جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِيهِ هَلْ أَثْبَتَ الْأَوَّلَ بِإِصَابَتِهِ أَمْ لَا، فَيَكُونُ الشَّكُّ مُسْقِطًا لِحُكْمِ الْإِثْبَاتِ فِي حَقِّ الْأول؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الِامْتِنَاعِ، وَيَكُونُ مِلْكًا للثاني، وينظر في توحيته. فَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَكَلَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَوَّلِ قَدْ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَحْظُورٌ؛ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جَوَازٍ فِي مُحْتَمَلَيْنِ مَعَ مَا يَقْضِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنَ الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ مِلْكُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّكِّ حُكْمُ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، وَلَوِ ادَّعَى الْجَارِحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ قَدْ أثبته، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 وَأَنْكَرَ الْمُوجِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوجِي مَعَ يَمِينِهِ، والتوحية كَالتَّذْكِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْتُمْ قُلْتُمْ: إِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى إِصَابَتِهِ أَنَّهُ بَيْنَ الْجَارِحِ وَالْمُوجِي فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ فِي تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَيْدِيَهُمَا فِي الِاتِّفَاقِ مُتَسَاوِيَانِ، وَفِي الِاخْتِلَافِ مُفْتَرِقَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمْ يَمْضِ مَعَ الِاتِّفَاقِ زَمَانُ الْإِثْبَاتِ، فَيُرَاعَى، وَقَدْ مَضَى مَعَ اخْتِلَافٍ فِي زَمَانِ الْإِثْبَاتِ، فَصَارَ مُرَاعًى. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الأول والثاني جارحاً غير موحٍ، فَلَا تَخْلُو جِرَاحُ الْأَوَّلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُثْبِتَ الصَّيْدَ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُثْبِتَهُ بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِي إِثْبَاتِهِ بِهَا. فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَثْبَتَ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَكْسِرَ رِجْلَ مَا يَعْدُو، وَجَنَاحَ مَا يَطِيرُ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِالْإِثْبَاتِ قَدْ صَارَ مَمْلُوكًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِمُثْبِتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى يَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي فَخِّهِ أَوْ شَبَكَتِهِ، وَإِنْ عَلِمْنَا أو الْأَوَّلَ لَمْ يُثْبِتْهُ بِجِرَاحَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَاهُ بعد الجراحة يعدو أو يطير، وهو لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْإِثْبَاتِ بِجِرَاحَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكُلُّ واحدٍ مِنَ الْجُرْحَيْنِ قَدْ أَثَّرَ فِي إِثْبَاتِهِ، فَهَلَّا كَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ جرحا عبداً فمات فكان ضمانه عليها، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا. قِيلَ: لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى فِي الصَّيْدِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْمِلْكِ، فَلَمْ تُوجِبِ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ، وَالْجِرَاحَةُ الْأُولَى فِي الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الضَّمَانِ، فَأَوْجَبَ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ، هَلْ أُثْبِتَ الصَّيْدُ بِهَا أَمْ لَا؟ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُطْرَحًا وَالْيَقِينُ مُعْتَبَرًا فَيَكُونُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الِاقْتِنَاعِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَا عَدَاهُ، وَيَتَيَقَّنَ الْإِثْبَاتَ مَعَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَصَارَ مِلْكُ الصَّيْدِ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي فِي حَالَتَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فِيهِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَإِنْ جَعَلْنَا الصَّيْدَ مِلْكًا لِلثَّانِي؛ فَلَا ضَمَانَ فِي تَلَفِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا عَلَى الثَّانِي؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَهُ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ جَرَحَهُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ في حق نفسه، وإن جعلها الصَّيْدُ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ بِإِثْبَاتِهِ، وَجُرْحِهِ الثَّانِي، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، فَقَدْ صَارَ مَوْتُهُ من جراحتين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 مختلفتي الحكم؛ فالجراحة الأولة مُسْتَجْلِبَةٌ لِلْحُكْمِ، مُبِيحَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ مُسْتَهْلِكَةٌ لِلْمِلْكِ مُحَرِّمَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجِرَاحَتَانِ مَعَ حُصُولِ الِاسْتِهْلَاكَيْنِ وَالتَّحْرِيمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُخْتَصًّا بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ فَيَكُونُ الثَّانِي ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ وَالْقِيمَةُ مقسطة على الجراحتين؟ على أربعة أوجه: أحدهما: وهو الظاهر على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، إِنَّ حُكْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ، وَإِنَّ قِيمَةَ الصَّيْدِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْجَارِحَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ كَانَ لِسَرَايَةِ الْجِرَاحَتَيْنِ، فَلَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا مِنْ تَقْسِيطِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ السَّيِّدُ يَدَ عَبْدِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَهُ فِي جِنَايَةٍ، وَمَاتَ مِنْهُمَا كَانَ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِمَا مُبَاحًا غَيْرَ مُضَمَّنٍ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْجِرَاحَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّ الضَّمَانَ مُخْتَصٌّ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ، وَعَلَى الْجَارِحِ الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ الْأُولَى، قَالَ: لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الأولى لما استجلبت الملك، أباحت الْأَكْلَ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مِنِ اسْتِهْلَاكٍ وَتَحْرِيمٍ. وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ لَمَّا اسْتَهْلَكَتِ الْمِلْكَ، وَحَرَّمَتِ الْأَكْلَ اخْتَصَّ بِهَا حُكْمُ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ؛ لِتَنَافِي الْحُكْمِ فِي الْجِرَاحَتَيْنِ، فَعُلِّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يَنْظُرَ حَالَ الصَّيْدِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَيًّا، فَعَلَى الثَّانِي، قِسْطُهُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى مَعَ إِدْرَاكِ حَيَاتِهِ قَدْ صَارَتْ كَالثَّانِيةِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَتَحْرِيمِهِ، فَتَقَسَّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ إِلَّا مَيْتًا، فَعَلَى الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ كَمَا قِيلَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي اسْتِهْلَاكِهِ، وَلَا تَحْرِيمٌ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ مَضَى فِي الزَّمَانِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ قَدْرُ مَا يُدْرِكُهُ صَاحِبُهُ. فَالْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الثَّانِي قِسْطُهُ مِنْهَا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ زَمَانِ إِدْرَاكِهِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِهِ عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ، فَاسْتَوَتِ الْجَرْحَتَانِ فِي التَّحْرِيمِ فَقُسِّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ زَمَانُ إِدْرَاكِهِ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالتَّحْرِيمِ، فَاخْتُصَّ الثَّانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ كَالْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ قُصُورَ الزَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَوَّلِ فِي التَّحْرِيمِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَتَعْلِيلُ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَبَ بِهَا عَلَى الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِهَا صَارَ الْجُرْحُ الثَّانِي كَالتَّوْجِيَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّكَاةِ، فَيَلْزَمُ الثَّانِي جَمِيعُ قِيمَةِ الصَّيْدِ مَجْرُوحًا، وَزَعَمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ في الثاني أن يكون موحياً؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فِي الثَّانِي أَنْ يكون موجياً؛ لأنه أَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِطْلَاقِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ محمولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُهَا عِنْدَ وُجُوبِ الْكُلِّ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ وُجُوبِ الْقِسْطِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي قِسْطُهُ مِنَ الْقِيمَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا حينئذٍ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْمُوجِبِ لِتَقْسِيطِ الْقِيمَةِ وَالْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ يَتَّضِحُ بَيَانُهَا إِذَا ذُكِرَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ وَأَرْشُ الْجُرْحِ، فَتَصَوَّرَهَا فِي صَيْدِ مملوكٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ جُرْحًا نقص من قيمته درهماً، وجرح الثاني نقص مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمًا، ثُمَّ مَاتَ مِنَ الْجِرَاحَتَيْنِ، فَأَحَدُ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْعَمَلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ إِنَّكَ تُوجِبُ عَلَى كُلِّ واحدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ أَرْشَ جِرَاحَةٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ قِيمَةَ الصَّيْدِ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَتَجْمَعُ عَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَأَرْشِ جِرَاحَتِهِ، فَتَجْعَلُ عَلَى الْأَوَّلِ دِرْهَمًا هُوَ أَرْشُ جِرَاحَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي دِرْهَمًا هُوَ أَرْشُ جِرَاحَةٍ وَقِيمَةُ الصَّيْدِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحَدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ نَصِفُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَتُضَمُّ إِلَى الدِّرْهَمِ الَّذِي لَزِمَهُ بِأَرْشِ الْجِرَاحَةِ، فَيَصِيرُ عَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ أَرْشُهَا دِرْهَمًا، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي أَرْشُهَا دِرْهَمَيْنِ أَوْجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَهُوَ أَرْشُ جِرَاحَتَيْنِ، وَأَوْجَبَ عَلَى الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ. هُمَا أرش جرحته، ثُمَّ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ، وَقِيمَتُهُ سَبْعَةُ دراهم، فيكون على كل واحدٍ منها نَصِفُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَنَصِفٌ، فَيَصِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ مَعَ الدِّرْهَمِ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الثَّانِي مَعَ الدِّرْهَمَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ أَرْشُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي أَرْشُهَا دِرْهَمَانِ أَوْجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ هِيَ أَرْشُ جِرَاحَتِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ هُمَا أَرْشُ جِرَاحَتِهِ، وَمَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ الْجِرَاحَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، يَضُمُّ إِلَى مَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا زَادَ ونقص، وهي إن صحت في العمل فهو تفسد على أصول الشافعي في وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْجِرَاحَةَ إِذَا سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ لَمْ يُعْتَبَرْ أَرْشُهَا، وَإِذَا لَمْ تَسْرِ إِلَى النَّفْسِ اعْتُبِرَ أَرْشُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَمَاتَ مِنَ السِّرَايَةِ ضَمِنَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَدَخَلَ أَرْشُ الْقَطْعِ فِي قِيمَةِ النَّفْسِ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 عَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَهُ لَمْ يَسْرِ، وَكَانَ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؟ وَالْمُزَنِيُّ اعْتَبَرَ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ مَعَ سِرَايَتهَا، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: إِنَّ قِيمَةَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى لَوْ قَطَعَ يَدَ عبدٍ فَمَاتَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ قَطْعِهِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ بَعْدَهُ، وَالْمُزَنِيُّ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ بعد الجراح، فَخَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ، هَلْ قَالَهُ تَخْرِيجًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَكَانَ مُخْطِئًا، أَوْ قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُجْتَهِدًا؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ تَخْرِيجًا. وَالثَّانِي: قَالَهُ مَذْهَبًا غَيْرَ اجتهادٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ. (فَصْلٌ:) وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ فِي شَرْحِهِ، إِنَّ قِيمَتَهُ فِي حَقِّ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ جِنَايَتِهِ وَجِرَاحَةِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، قَدْ سَرَى نِصْفُهَا إِلَى مَا دَخَلَ فِي ضَمَانٍ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَسَرَى نِصْفُهَا إِلَى مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ سَرَتْ فِي حَقِّهِ إِلَى جَمِيعِ النَّفْسِ سَقَطَتْ، وَلَوْ لَمْ تَسْرِ فِي حَقِّهِ إِلَى شيءٍ مِنَ النَّفْسِ وَجَبَتْ، فَوَجَبَ إِذَا سَرَتْ فِي حَقِّهِ إِلَى نِصْفِ النَّفْسِ أَنْ يسقط نصف الأرش ويجب نصف الأرض مَضْمُونًا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ، وَيَتَحَمَّلُ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ نِصْفَ الْأَرْشِ كَمَا تَحَمَّلَ عَنْهُ نِصْفَ النَّفْسِ. وَبَيَانُهُ: أَنْ نَقُولَ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَرْشُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ وَنِصْفُ الْأَرْشِ وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنْهُ الثَّانِي، ثُمَّ جَرَحَهُ الثَّانِي، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْشُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ، وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَصِيرُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الْأول خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَيَصِيرُ هَذَا مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ فِي الْجَوَابِ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي التَّعْلِيلِ؛ لِيَكُونَ سَلِيمًا عَلَى الْأُصُولِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الثَّانِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَجُرْحُهُ الثَّانِي، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، فَعَلَيْهِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ أَرْشِ جِرَاحَتِهِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ تَحَمَّلَهَا عَنِ الْأول، فَصَارَ عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَبَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْأول ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الثَّانِي دِرْهَمًا، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَنِصْفُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، يَصِيرُ عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَجُرْحُهُ الثَّانِي وَقِيمَتُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ عَلَيْهِ نصفها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 ثلاثة دراهم ونصف، ونصف أرش جراحة، وَهِيَ نِصْفُ دِرْهَمٍ يَتَحَمَّلُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَصِيرُ عَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَبَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْوَجْهَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الْجَوَابِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي التَّعْلِيلِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ فِيمَا يَحْمِلُهُ الثاني عن الأول من نصف الأرش: هي يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنَ الثَّانِي؟ ، أَوْ يَكُونُ سَاقِطًا عَنْهُ بِضَمَانِ الثَّانِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَكُونُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنَ الثَّانِي كَالْغَاصِبِ إِذَا غَصَبَ عَبْدًا، فَجَرَحَهُ آخَرُ فِي يَدِهِ كَانَ أَرْشُ الْجِرَاحَ مِنْ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ غَاصِبِهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَالِكُ الْعَبْدِ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِ نِصْفِ أَرْشِ جِرَاحَةِ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الْأَوَّلِ رَجَعَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْأَوَّلِ بِضَمَانِ الثَّانِي كَمَا سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ بِضَمَانِ الثَّانِي، فَلَا يَسْتَحِقُّ مَالِكُ الصَّيْدِ مُطَالَبَةَ الْأَوَّلِ بِهِ، وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَى الثَّانِي مَعَ نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْجَارِحِينَ سَوَاءً، فَتَكُونُ الْقِيمَةُ قَبْلَ الْجِرَاحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، كَالْحُرِّ إِذَا جَرَحَهُ اثْنَانِ، فَمَاتَ كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا عَلَى الثَّانِي مِنْهُمَا أَقَلَّ مِمَّا عَلَى الْأَوَّلِ. قِيلَ: لِأَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ بَعْدَ الْجِنَايَةِ كَدِيَتِهِ قَبْلَهَا، وَقِيمَةَ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ قَبْلَهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَتَلَ حُرًّا مَقْطُوعَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ مَنْ لَيْسَ بِأَقْطَعَ؟ ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدًا مَقْطُوعَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدٍ أَقْطَعَ؟ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي. (فَصْلٌ:) وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ إِنَّهُ كَالْوَجْهِ الثَّانِي فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ الْأَرْشِ، لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ، وَتُقَسَّمُ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا لَزِمَهَا. وَبَيَانُهُ: أَنْ نَقُولَ: إِذَا كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمًا عَلَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ مَجْرُوحًا، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خمسة دراهم بعير عليها ما عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَقِيمَةُ الصَّيْدِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، لَا يَسْتَحِقُّ مَالِكُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الَّتِي هِيَ الْقِيمَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَنِصْفٍ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ من عشرة أسهم ونصف من العشرة، وكان عَلَى الثَّانِي مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ عَشَرَةِ أسهم ونصف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 الْعَشَرَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ مَجْرُوحًا، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فإذا اجتمعت بينهما كانا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا تَجْعَلُهَا سِهَامًا، وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةَ الَّتِي هِيَ الْقِيمَةُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، مِنْهَا عَلَى الْأَوَّلِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْعَشَرَةِ وَعَلَى الثَّانِي خَمْسَةُ أسهم من أحد عشرة سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَنِصْفُ الْجِرَاحَةِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ، يَكُونَانِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفُ جِرَاحَتِهِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ يَكُونَانِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فإذا جمعتهما صار أحد عشر سهماً ونصف وعلى الْأَوَّلِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سهماً ونصف ويكون جِرَاحَتُهُ ثُلُثَ دِرْهَمٍ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ العشرة، وعلى الثاني خمسة أسهم من أحد عَشَرَ سَهْمًا، وَنِصْفُ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَكَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ دِرْهَمًا، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي دِرْهَمَيْنِ، وَجِرَاحَةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَثُلُثُ جراحته ثلاثة دراهم، تصير على ثلاثة دراهم وثلثا دِرْهَمٍ، وَعَلَى الثَّانِي ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجُرْحٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ جِرَاحَتِهِ ثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ، وَهِيَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ يَكُونُ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ وَثُلُثٌ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ جِرَاحَةِ دراهم يَصِيرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَإِذَا جَمَعْتَ مَا عَلَيْهِمْ فَعَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ، وَعَلَى الثَّانِي ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، كَانَتْ عَشَرَةً وَثُلُثَيْنِ تَجْعَلُهَا سِهَامًا، وَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثَا سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي مِثْلُهَا وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثٌ مِنْ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْعِبْرَةِ يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مُخَالِفًا لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْجَوَابِ وَالتَّعْلِيلِ. (فَصْلٌ:) وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّكَ تُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَارِحَيْنِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ عِنْدَ جِنَايَتِهِ، وَتَجْمَعُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَتُقَسِّمُ قِيمَةَ الصَّيْدِ قَبْلَ الْجِرَاحَتَيْنِ عَلَيْهِمَا، وَيَلْزَمُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنْهَا، فَيَصِيرُ مُعْتَبَرًا بِجِرَاحَةِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَلَا يَصِيرُ مُعْتَبَرًا بِجِرَاحَةِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ، وَلَا فِي حَقِّ الأول، مثله: إِذَا جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِرَاحَةً أَرْشُهَا دِرْهَمٌ، فَحَصَّلَ عَلَى الْأَوَّلِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَهِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَحَصَّلَ عَلَى الثَّانِي جَمِيعَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا، وَهِيَ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ تَكُونُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَتَجْعَلُهَا سِهَامًا، وَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَيْهَا، وَتُوجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةَ أسهم من تسعة عشر سهما من العشرة، وَتُوجِبُ عَلَى الثَّانِي تِسْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ تِسْعَةَ شعر سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جِرَاحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِرْهَمَيْنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 جَعَلْتَ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةً، وَعَلَى الثَّانِي ثَمَانِيَةً، وَجَمَعْتَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتُقَسِّمُ الْعَشَرَةَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَعَلَى الثَّانِي ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَكَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الثَّانِي، وَجِرَاحَةُ الثَّانِي مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الثَّالِثِ، وَغَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَجِرَاحَةُ الثَّالِثِ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَلَا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، فَيَجْعَلُ عَلَى الْأَوَّلِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا، وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي جَمِيعَ قِيمَتِهِ بَعْدَ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ وَهِيَ سَبْعَةٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بَعْدَ جِرَاحَةِ الثَّانِي، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْقِيَمِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ وَسَبْعَةٌ وَأَرْبَعَةٌ تَكُونُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَتُقَسَّمُ الْعَشْرَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا يُوجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَعَلَى الثَّانِي سَبْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ، وَعَلَى الثَّالِثِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مَنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنَ الْعَشَرَةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ حُكْمَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْجَوَابِ وَالتَّعْلِيلِ. (فَصْلٌ:) وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهما يضمن نصف قيمته وقت جراحة، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَهَا وَلَا بِمَا تَأَخَّرَ عنها، ولا اعتبار بأرش كل واحدا مِنْهُمَا إِذَا صَارَتْ نَفْسًا لِدُخُولِهَا فِي ضَمَانِ النَّفْسِ، فَإِذَا جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَجَرَحَهُ الثَّانِي، وَقِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ التِّسْعَةِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ، وَسَقَطَ ضَمَانُ نِصْفِ دِرْهَمٍ مِنَ الْعَشَرَةِ دَخَلَ بِهِ النَّقْصُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ مَحَلٌّ. وَلَوْ جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دراهم، وجرحه الثاني، وقيمته ستة دراهم عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ السِّتَّةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَيَسْقُطُ ضَمَانُ دِرْهَمَيْنِ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً جَرَحَهُ الْأَوَّلُ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَجَرَحَهُ الثَّانِي وَقِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ، وَجَرَحَهُ الثَّالِثُ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ، كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَعَلَى الثَّانِي ثُلُثُ الثمانية درهما وثلثان وعلى الثالث ثلث الستة درهما، يَصِيرُ مَجْمُوعُ مَا عَلَيْهِمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْقُطُ ضَمَانُ دِرْهَمَيْنِ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ لِلْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْحُكْمِ وَالْمِقْدَارِ وَالْعَمَلِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَقَرَّرَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ. وَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ حُرًّا سَقَطَ اعْتِبَارُ أَرْشِ الْجِرَاحِ فِيهِ لِكَمَالِ دِيَتِهِ قَبْلَ الْجِرَاحِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَبْدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 جِرَاحِهِ أَرْشٌ مقدرٌ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي جِرَاحِهِ أرش مقدر كالأطراف، فقد خرج فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَصِيرُ بِتَقْدِيرِ أَطْرَافِهِ كَالْحُرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ التَّقْدِيرِ كَالْبَهِيمَةِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعْلُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بَعْدَ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَيَبْطُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدُ تَتَقَدَّرُ أَطْرَافُهُ بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَبَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ، فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ صَارَ حُكْمُهُ فِي الْمُقَدَّرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَحْكَامِ الْحُرِّ فِي التَّقْدِيرِ وَبَيْنَ أَحْكَامِ البهيمة في اعتبار القيمة ثم يخالفها في وجه ثالث: أنك تعتبر في طرق الْعَبْدِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهِ أَوْ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْمُقَدَّرُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَهَا أَوْجَبْتَ أَقَلَّهَا، وَهُوَ نُقْصَانُ الْقَيِّمَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَعَ السِّرَايَة تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ جَمِيعِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنَ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِيَانِ عَلَى الصَّيْدِ وَالْبَهِيمَةِ أَجْنَبِيَّيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَالِكًا فَعَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَالِكًا سَقَطَ عَنْهُ قِسْطُهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ قِسْطُهُ، وَيُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَبْدِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ فِي الْمَضْمُونِ إِلَّا الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ يَطِيرُ إِنْ كَانَ طَائِرًا أَوْ يَعْدُو إِنْ كَانَ دَابَّةً ثَمَّ رَمَاهُ الثَّانِي فَأَثْبَتَهُ كَانَ لِلثَّانِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ، مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ، وَهُوَ مَا بَعُدَ عَنْ طَلَبِهِ بِطَيَرَانِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الطَّيْرِ أَوْ بِعَدْوِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِآلَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِ، وَهُوَ صِغَارُهُ الَّذِي لَمْ يَتَكَامَلْ قُوَّتُهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْهَضَ بِجَنَاحٍ، وإِنْ كَانَ طَائِرًا، وَلَا يَعْدُوَ بِرِجْلٍ إِنْ كان دابة قال الله عز وجل: {ياَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ) {المائدة: 94] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ إِبَاحَةَ مَا أَحَلَّهُ، أَوْ حَظْرَ مَا حَرَّمَهُ. وَالثَّانِي: لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ فِي قَبُولِ أَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ. {تَنَالَهُ أَيْدِيَكُمْ وَرِمَاحَكُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَنَالُهُ أَيْدِينَا الصِّغَارُ، ورماحنا الكبار، قال ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِصِغَرٍ لَمْ يُمْلَكْ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ؛ لِقَوْلِهِ تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} وَلَا تَكُونُ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ رجلٌ وَأَخَذَهُ آخَرُ، كَانَ مِلْكًا لِآخِذِهِ دُونَ الدَّالِ عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ "، فَلَوْ نَبَشَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بَيْتَهُ حَتَّى طَيَّرَهُ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 وَأَخَذَهُ الْآخَرُ كَانَ لِلْآخِذِ دُونَ النَّابِشِ، فَلَوْ وَقَعَتْ أَيْدِيهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لِأَسْبَقِهِمَا يَدًا، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَيْدِيهِمَا مَعًا كَانَ بَيْنَهُمَا يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَخَذَ بِرَأْسِهِ وَمَنْ أَخَذَ بِرِجْلِهِ أَوْ ذَنَبِهِ، وَلَا يُقْسَمُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ أَيْدِيهِمَا عَلَيْهِ، وَمَوَاضِعِهِمَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى بَعْضِهِ يَدٌ عَلَى جَمِيعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا عَلَى دَابَّةٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا رَأْسُهَا وَفِي يَدِ الْآخَرِ ذَنَبُهَا كَانَا فِي الْيَدِ عَلَيْهَا سَوَاءً. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ بِعَدْوِهِ أَوْ طَيَرَانِهِ، فَيُمْلَكُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ بِأَنْ يُظْفَرَ بِهِ فِي بَيْتِهِ، أَوْ يَعْقِلَهُ عَلَى مَائِهِ أَوْ حَضَانَةِ وَلَدِهِ وَبَيْضِهِ، فَيَصِيرُ بِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى امْتِنَاعِهِ لَوْ أُرْسِلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شَرَكِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ، فَيَصِيرُ بِحُصُولِهِ فِيهَا مِلْكًا لِوَاضِعِ الشَّبَكَةِ وَالشَّرَكِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَسَوَاءٌ عَقَرَتْهُ الشَّبَكَةُ أَوْ لَمْ تَعْقِرْهُ، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخَلَاصِ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ وَيَصِيرَ بِوُقُوعِهِ فِيهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ صَارَ الْآخذُ لَهُ أَمْلَكَ بِهِ، كَالْعَبْدِ إِذَا دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ صَارَ الْآخِذُ لَهُ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ، فَإِنْ أَفْضَتِ الشَّبَكَةُ بِاضْطِرَابِ الصَّيْدِ فِيهَا إِلَى عَجْزِهِ عَنِ الْخَلَاصِ مِنْهَا، فَقَدْ مَلَكَهُ حينئذٍ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُهُ، كَانَ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ أَحَقَّ بِهِ، وَلَوْ تَقَطَّعَتِ الشَّبَكَةُ فَأَفْلَتَ الصَّيْدُ مِنْهَا. نُظِرَ فِي قِطَعِ الشَّبَكَةِ، فَإِنْ قَطْعَهَا الصَّيْدُ الْوَاقِعُ فِيهَا عَدَا بَعْدَ انْفِلَاتِهِ إِلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ وَمَلَكَهُ مَنْ صَادَهُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّ الشَّبَكَةَ لَمْ تُثْبِتْهُ، وَلَوْ قَطَعَهَا غَيْرُهُ مِنْ صيودٍ آخَرَ اجْتَمَعَتْ عَلَى قَطْعِهَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، لَا يَزُولُ عَنْهُ بِانْفِلَاتِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَثْبَتَتْهُ، فَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ إِذَا صَادَهُ، وَيَسْتَرْجِعُهُ منه كالعبد الآبق والبعير والشارد، فَإِنْ كَانَتِ الشَّبَكَةُ فَارِغَةً، فَاضْطَرَّ الصَّيْدَ غَيْرَ وَاضِعٍ الشَّبَكَةَ إِلَيْهِ، فَوَقَعَ فِيهَا بِطَرْدِهِ إِلَيْهَا، كَانَ مِلْكًا لِوَاضِعِ الشَّبَكَةِ دُونَ طَارِدِهِ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ بِالشَّبَكَةِ دُونَ الطَّرْدِ فَلَوْ وَضَعَ الشَّبَكَةَ غَيْرُ مَالِكِهَا كَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِوَاضِعِهَا دُونَ مَالِكِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَعِيرًا أَوْ غَاصِبًا، وَعَلَيْهِ إِنْ غَصَبَ أُجْرَةَ مِثْلِهَا، فَلَوْ حَضَرَ مَالِكُ الشَّبَكَةِ، بَعْدَ وَضْعِهَا، فَإِنْ كَانَ مُعِيرًا كَانَ وَاضِعُهَا أَحَقَّ بِالصَّيْدِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَغْصُوبًا كَانَ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ حُضُورِهِ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَمَا وَقَعَ بَعْدَ حُضُورِهِ مَلِكًا لِلْمَغْصُوبِ إِنْ رَفَعَ يَدَ الْغَاصِبِ، وَمِلْكًا لِلْغَاصِبِ إِنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا إِذَا رُفِعَتْ يَدُهُ، فَصَارَ وَضْعُهَا قَبْلَ وَضْعِ يَدِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْغَاصِبِ وَبَعْدَ رَفْعِ يَدِهِ مَنْسُوبًا إِلَى الْمَغْصُوبِ. وَالثَّالِثُ: الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الصَّيْدُ أَنْ يُثْبِتَهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى عدوٍ وَلَا طَيَرَانٍ وَهَذَا الْإِثْبَاتُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مِنْهُ وَصَلَ إِلَى الصَّيْدِ بِالْآلةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِثْبَاتِهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ جَرْحٍ، وَإِنْ سَعَى خَلْفَ الصَّيْدِ فَوَقَفَ بِإِعْيَائِهِ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوُقُوفِ؛ حَتَّى يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ اسْتِرَاحَةٌ مِنْهُ هُوَ بَعْدَهَا عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَحَّلَ الصَّيْدُ عِنْدَ طَلَبِهِ فِي طِينٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ الطِّينَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَوَحَّلَتْ مَلَكَهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْوَحْلِ؛ لِأَنَّ الْوَحْلَ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ بِهِ كَوَضْعِ الشَّبَكَةِ وَلَوِ اعْتَرَضَهُ مِنْهُ سَبُعٌ فَعَقَرَهُ فَأَثْبَتَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ السَّبُعِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي أَغْرَى السَّبُعَ بِاعْتِرَاضِهِ حَتَّى عَقَرَهُ فَأَثْبَتَهُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى السَّبُعِ يَدٌ مَلَكَ الصَّيْدَ بِعَقْرِهِ، وَصَارَ كَإِرْسَالِ كَلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى السَّبُعِ يَدٌ لَمْ يَمْلِكِ الصَّيْدَ بِعَقْرِهِ حَتَّى يَأْخُذَهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ السَّبُعِ أَقْوَى مِنْ إِغْرَائِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ الصَّيْدُ بِمَا وَصَلَ مِنْ فِعْلِهِ عَاجِزًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ امْتِنَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ قَدْ عَقَرَهُ كَالْحَدِيدِ أَوْ لَمْ يَعْقِرْهُ كَالْحَجَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ وصول الآلة إليه من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِرَ بِهَا فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى عدوٍ وَلَا طَيَرَانٍ، فَهَذَا إثبات قد صار به مالكاً لصيد، فَإِنْ عَادَتْ قُوَّةُ الصَّيْدِ فَامْتَنَعَ بِهَا بَعْدَ إِثْبَاتِهِ نُظِرَ؛ فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ أَخْذِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ أَخْذِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ عَوْدِهَا قَرِيبًا لَا تَنْشَأُ فِي مِثْلِهِ قوةٌ مُسْتَفَادَةٌ فَقَدْ عَادَ إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، وَعُلِمَ أَنَّ وُقُوفَهُ لِاسْتِرَاحَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَطُولَ زَمَانُهُ حَتَّى تَنْشَأَ فِي مِثْلِهِ قُوَّةٌ مُسْتَفَادَةٌ، فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا لَوْ قَصَّ جَنَاحَ طَائِرٍ قَدْ صَادَهُ، فَثَبَتَ جَنَاحُهُ، وَطَارَ لَمْ يَزَلْ عَنْ مِلْكِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَفُوتَ الصَّيْدُ بَعْدَ وَصُولِ الْآلةِ إِلَيْهِ عَلَى امْتِنَاعٍ فِي عَدْوِهِ وَطَيَرَانِهِ، فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ بِجِرَاحَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مِمَّا يُسْلَمُ مِنْ مِثْلِهَا أَوْ لَا يُسْلَمُ، وَسَوَاءٌ طَالَ زَمَانُ امْتِنَاعِهِ أَوْ قَصُرَ زَمَانٌ رَمَاهُ آخَرُ، فَأَثْبَتَهُ، كَانَ مِلْكًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ مِنْ فِعْلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يَرْمِهِ آخَرُ حَتَّى ثَبَتَ بِجِرَاحَةِ الْأَوَّلِ صَارَ حينئذٍ مِلْكًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُثْبِتًا لَهُ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالْعَطَشِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عَطَشُهُ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْجَارِحُ، وَإِنْ كَانَ عَطَشُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى الْمَاءِ مَلَكَهُ الْجَارِحُ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْعَجْزِ دُونَ الْمَاءِ. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصُرَ عَنِ امْتِنَاعِهِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ بِمَكَانِهِ، فَيَعْدُوَ دُونَ عَدْوِهِ، وَيَطِيرَ دُونَ طَيَرَانِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الْعَدْوِ وَالطَّيَرَانِ يَمْتَنِعُ بِهِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ الْأَيْدِي، فَلَا يَمْلِكُهُ الْجَارِحُ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ امْتِنَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ لَكَانَ بِهَا مُمْتَنِعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْتَنِعَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْعَدْوِ وَالطَّيَرَانِ عَنِ الْأَيْدِي، وَتَنَالَهُ يدُ مَنْ أَرَادَهُ، فَيَصِيرَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ مُثْبَتًا يَمْلِكُهُ جَارِحُ وَيَكُونَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ آخِذِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِهَا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ ثُمَّ مَرَقَ السَّهْمُ مِنْهُ، فَأَصَابَ صَيْدًا ثَانِيًا، وَمَرَقَ مِنَ الثَّانِي، فَأَصَابَ ثَالِثًا مَلَكَ مِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ دُونَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ، سَوَاءٌ كَانَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا، فَإِنْ أَثْبَتَ جَمِيعَهَا مَلَكَهَا، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَمْلِكْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَاهُ الْأَوَّلُ بِهَذِهِ الْحَالِ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلثَّانِي لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ دُونَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قيمته مجروحاً الجرحين الأولين في قياس قوله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رَمَى صَيْدًا فجرح، وَلَمْ يُثْبِتْهُ، وَرَمَى آخَرُ فَجَرَحَهُ وَأَثْبَتَهُ، وَعَادَ الْأَوَّلُ فَجَرَحَهُ، وَمَاتَ فَقَدْ صَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي بِإِثْبَاتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُهُ لِلثَّانِي بِجِرَاحَتِهِ الثَّانِيةِ، تعليلاً بما قدمناه من الأصول المغررة، وَإِذَا صَارَ فِي ضَمَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ جِرَاحَتِهِ الثَّانِيةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أن تكون موحية في الحلق واللبة، فعليها أَرْشُهَا، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ حَيًّا مَجْرُوحًا، وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَذْبُوحًا. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ تَكُونَ جراحته موحية فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ لَحْمَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أن تكون جراحة غير موحية، فهل يضمن جميع قيمته، أو يضمن قسط مِنْهَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ ضَمَّنَّاهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ صَارَ كَالتَّوْجِيَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ حَيًّا مَجْرُوحًا جُرْحَيْنِ، فَإِنْ ضَمَّنَّاهُ قِسْطَهُ منها كانت الجراحة الأولة هَدَرًا؛ لِأَنَّهَا فِي حَالِ الِامْتِنَاعِ وَالْإِبَاحَةِ، وَهَلْ تُعْتَبَرُ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ وَيُعْتَبَرُ فوات النفس بالجراحة الثانية والثالثة بخروج الأولة عَنْ ضَمَانِهِ فِي مِلْكٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَصَحُّ، أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ بِسِرَايَتِهَا إِلَى النَّفْسِ مَعَ غَيْرِهَا، وَإِنْ خَالَفَتْ حُكْمَ غَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَوْ تَكُونُ مُشَارِكَةً لِلثَّانِيَةِ؟ لِأَنَّهَا مِنْ واحدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا عَنِ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جَارِحٍ واحدٍ اعْتِبَارًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 بِالْجِرَاحِ دُونَ الْجَارِحِ فَيَصِيرُ مَوْتُ الصَّيْدِ مِنْ ثلاثة جراحات، اختصت الثالثة منها بالضمان فأحيت ضَمَانَ ثُلُثِ الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ إِنَّهَا تَكُونُ مُشَارِكَةً لِلْجِرَاحَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كُلِّ واحدٍ اعْتِبَارًا بِالْجَارِحِ دُونَ الْجِرَاحِ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مَوْتُ الصَّيْدِ مِنْ جَارِحَيْنِ أَحَدُهُمَا: غَيْرُ ضَامِنٍ، وَهُوَ الثَّانِي الَّذِي أَثْبَتَ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ، وَصَارَ فِي مِلْكِهِ، وَمِنَ الْجَارِحِ الثَّانِي الذي جرحه في الأول، ولم يثبته الجراحة الثَّانِية بَعْدَ مَا أَثْبَتَهُ الْجَارِحُ الثَّانِي: وَجُرْحُهُ فِي مِلْكِهِ، وَنِصْفُ فِعْلِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ الجراحة الأولة كَانَتْ فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ، وَالِامْتِنَاعُ وَنِصْفُ فِعْلِهِ مضمون، وهو جراحة الثانية للصيد بعدما صَارَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا بِجِرَاحَةِ الْجَارِحِ الثَّانِي، وَصَارَ فِي مِلْكِهِ وَرُوحُ الصَّيْدِ قَدْ خَرَجَتْ بِثَلَاثِ جِرَاحَاتٍ؛ بجراحةٍ مِنْ مَالِكِ الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِهِ، وَبِمِلْكِهِ، وَبِجِرَاحَتِهِ مِنَ الْجَارِحِ الْآخَرِ أَحَدُ جِرَاحَتِهِ غَيْرُ مضمون، وهو الجراحة الأولة، وَجِرَاحَةُ الثَّانِيةِ مَضْمُونَةٌ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الَّتِي وَصَلَتْ بَعْدَمَا مَلَكَ الصَّيْدَ الْجَارِحُ الثَّانِي بِإِثْبَاتِهِ، وَالْجَارِحُ الَّذِي مَلَكَ الصَّيْدَ لَا يَضْمَنُ جِرَاحَتَهُ، وَسَقَطَ نِصْفُ قِيمَةِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجَارِحَيْنِ فَأَمَّا الْجَارِحُ الْآخَرُ فَقَدْ جَرَحَ جِرَاحَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: غَيْرُ مضمونة، وهي الجراحة الأولة فَسَقَطَ عَنْهُ رُبْعُ الْقِيمَةِ؛ وَيَضْمَنُ الْجِرَاحَةَ الثَّانِيةَ الَّتِي بَعْدَ جِرَاحَةِ الْمَالِكِ بِإِثْبَاتِهِ الصَّيْدَ بِجِرَاحَتِهِ، فَيَضْمَنُ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ الْجَارِحُ الْأَوَّلُ رُبُعَ قِيمَتِهِ، فَصَارَ هَذَا الصَّيْدُ مَضْمُونًا بِرُبُعِ قِيمَتِهِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِثَالُهُ: رَجُلَانِ جَرَحَا مُرْتَدًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَمَاتَ مِنْ سَرَايَةِ الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا ضَمِنَ رُبُعَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَارِحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جُرْحُهُ هدرٌ، فَلَمْ يَضْمَنِ الْآخَرُ نِصْفُهُ هدرٌ، وَنِصْفُهُ مَضْمُونٌ، فَضَمِنَ رُبُعَ الدِّيَةِ، فَيَصِيرُ فِيمَا يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ بِجِرَاحَتِهِ الثانية أربعة أوجه: أحدهما: جَمِيعُ الْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: نِصْفُهَا. وَالثَّالِثُ: ثُلُثُهَا. وَالرَّابِعُ: رُبُعُهَا. وَيَجْرِي الْعَمَلُ فِي ضَمَانِ كُلِّ مِقْدَارٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَيَاهُ حَيًّا فَقَتَلَاهُ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَقْسَامِ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِذَا رَمَيَاهُ مَعًا، فَأَصَابَاهُ فِي حَالَةٍ واحدةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَمَاتَ مِنْ إِصَابَتِهِمَا كَانَ مِلْكًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 لَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، سَوَاءٌ تَسَاوَتِ الْجِرَاحَتَانِ أَوْ تَفَاضَلَتَا ما لم يكن أحدهما موحياً، فإن وحاه أَحَدُهُمَا، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحِهِ، وَيَمْتَنِعُ بِرِجْلِهِ كالرواح والفتح، فَكَسَرَ أَحَدُهُمَا جَنَاحَهُ وَكَسَرَ الْآخَرُ رِجْلَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِتَأْثِيرِ كُلِّ واحدٍ منهما في إثباته. والوجه الثاني: أن يَكُونُ لِكَاسِرِ جَنَاحِهِ دُونَ كَاسِرِ رِجْلِهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ بِجَنَاحِهِ أَقْوَى، وَقَدْ يَمْتَنِعُ، وَإِنْ كَانَ مَكْسُورَ الرِّجْلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا على الآخر، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون لكاسر الجناح أولاً أَوْ آخِرًا؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ بِكَسْرِهِ أَقْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِإِثْبَاتِهِ بِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ بِهِ كَمَالَ إِثْبَاتِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَنَازَعَ رَامِيًا الصَّيْدَ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى إِصَابَتِهِ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا، وَادَّعَى الْآخَرُ تَقَدُّمَهُ بِالْإِصَابَةِ لِيَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ لم يخل الصيد من ثلاثة أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَسَاوِيَهُمَا فِي الْمِلْكِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْيَدِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِيَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ مُدَّعِيَ التَّقَدُّمِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ أَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ، فَهَلْ يُحْكَمُ فِيهِ بِالظَّاهِرِ، أَوْ يُحْكَمُ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ دُونَ مُدَّعِي التَّقَدُّمِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّسَاوِي وَالِاشْتِرَاكِ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَيَكُونُ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْكَمَ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِمُدَّعِي التَّقَدُّمِ النِّصْفُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الِاجْتِمَاعِ يَعْتَرِفُ بِهِ لَهُ وَهُمَا مُتَنَازِعَانِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَقَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ جَعَلْنَاهُ لِلْحَالِفِ، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي التَّقَدُّمِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلِمُدَّعِي الِاجْتِمَاعِ رُبُعُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَاهُ الْأَوَّلُ وَرَمَاهُ الثَّانِي وَلَمْ يَدْرِ أَبَلَغَ بِهِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا صَيْدٌ رَمَاهُ اثْنَانِ، فَأَصَابَاهُ، وَوُجِدَ مَيْتًا بَعْدَ إِصَابَتِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ حَالُ الرَّامِيَيْنِ، وَيُعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ، وَالْعِلْمُ بِحَالِ الرَّامِيَيْنِ أَنْ يُعْلَمَ هَلِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، أَوِ افْتَرَقَا، وَيُعْلَمَ إِذَا افْتَرَقَا أَيُّهُمَا كَانَ أَوَّلًا وَآخِرًا. وَالْعِلْمُ بِصِفَةِ الرَّمْيَتَيْنِ، أن يعلم هل كان إثباته بالأولة أَوْ بِالثَّانِيةِ، أَوْ بِهِمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُشْكِلَ حَال الرَّامِيَيْنِ، وَيُشْكِلَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِشْكَالُ فِي الرَّامِيَيْنِ، هَلْ أَصَابَاهُ مَعًا أَوْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِ، وَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ، فَيَكُونُ ذَكِيًّا مُبَاحًا إِلْحَاقًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ حُكْمُ الِافْتِرَاقِ، فَيَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَكْلِهِ الْحَظْرُ، فَلَمْ نُبِحْهُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَحْرُمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ، فَيَحِلَّ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّبَ فِيهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ التَّقَدُّمُ، وَيَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْمُتَقَدِّمِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيِ، وَيُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ، وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ، وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ صِفَةُ الرَّمْيِ، وَيُشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ، فَهَذَا الْإِشْكَالُ فِي الْمِلْكِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ صِفَةُ الرَّمْيِ لَا تُبِيحُ الْأَكْلَ، فَالْإِشْكَالُ فِي الْمَالِكِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الصَّيْدِ مِلْكٌ، فَإِنْ كَانَ صِفَةُ الرَّمْيِ تُبِيحُ الْأَكْلَ صَارَ الْإِشْكَالُ فِي الْمِلْكِ مُؤَثِّرًا، فَإِنْ لَمْ يَتَنَازَعَا فِيهِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجْعَلَ مَعَ الْإِشْكَالِ بَيْنَهُمَا كَالْوَالِدَيْنِ، يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا إِذَا اخْتَلَفَا فِي مِيرَاثِ أَبِيهِمَا، فَادَّعَاهُ الْمُسْلِمُ لِإِسْلَامِ أَبِيهِ، وَادَّعَاهُ الْكَافِرُ لِكُفْرِ أَبِيهِ، وَكَانَ الْأَبُ مَجْهُولَ الدِّينِ يُجْعَلُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أحاظ الْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لأحدهما، لكن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 لَمَّا أُشْكِلَ مُسْتَحِقُّهُ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ جُعِلَ بَيْنِهِمَا كَذَلِكَ الصَّيْدُ، وَإِنْ أَوْجَبَ افْتِرَاقُهُمَا فِي رَمْيِهِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا لَا يَمْتَنِعُ مَعَ الْإِشْكَالِ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيهِ تَحَالَفَا عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ بِالرَّمْيِ وَتُشْكَلَ صِفَةُ الرَّمْيِ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَصُورَتُهَا: أَنْ يُعْرَفَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَيُشْكَلَ هَلْ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي، فَيُرْجَعَ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ فَأَوَّلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وُقُوفِهِ، فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَهُ دُونَ الثَّانِي. وَإِنْ وَقَفَ عَنْ رَمْيَةِ الثَّانِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِبَارِ الْوُقُوفِ بَيَانٌ اعْتُبِرَ بَعْدَهُ صِفَةُ الرمي، فإن كانت الأولة فِي مَقْتَلٍ، وَالثَّانِيةُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَهُ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتِ الأولة فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، وَالثَّانِيةُ فِي مَقْتَلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتِ الأولة فِي مَقْتَلٍ، وَالثَّانِيةُ فِي مَقْتَلٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الأول أثبته دون الثاني، وإن كانت الأولة فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، وَالثَّانِيةُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، فَهِيَ حَالَةُ إِشْكَالٍ؛ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَهُمَا فِي الْجَوَازِ عَلَى سَوَاءٍ، وَقَدِ انْتَفَى الْإِشْكَالُ عَمَّا تَقَدَّمَهُ فِي الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى إِثْبَاتِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ الْمَالِكَ، وَصَارَ الثَّانِي جَارِحًا تُعْتَبَرُ صِفَةُ جِرَاحَتِهِ فِي الْأَكْلِ، وَالْغُرْمِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى إِثْبَاتِ الثَّانِي كَانَ هُوَ الْمَالِكَ، وَتَكُونُ جِرَاحَتُهُ ذَكَاةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الذَّكَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَكَانَتْ جِرَاحَةُ الْأَوَّلِ هَدَرًا؛ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مِلْكِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ تُضَفْ إِلَى إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا؛ لِبَقَاءِ الْإِشْكَالِ تَعَلَّقَ بِإِشْكَالِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ. فَأَمَّا الْمَلِكُ، فقد نص الشافعي هاهنا أن يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ نَصِّهِ، وَتَعْلِيلًا بِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ بِالِاحْتِمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يَكُونُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إِثْبَاتِهِ فِي رَمْيَةِ الثَّانِي، وَفِي شَكٍّ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِرَمْيَةِ الْأَوَّلِ، تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِشْكَالِ فِي الرَّامِيَيْنِ فِي التَّقَدُّمِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَأَمَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ لِلثَّانِي، وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي التَّقَدُّمِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَدْفَعُ هَذَا الْجَوَابَ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَأَمَّا إِبَاحَتُهُ الْأَكْلَ، فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ فَحْوَى كَلَامِهِ مِنْ جَعْلِهِ بَيْنَهُمَا دَلِيلًا عَلَى إِبَاحَتِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أوجهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنه مُبَاحُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الِامْتِنَاعِ، فَصَارَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فِي جَعْلِهِ مِلْكًا لِلثَّانِي، وَلَمْ يَشْتَرِكَا فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة إِنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ الْأَوَّلُ، فَيَحْرُمَ بِرَمْيِ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَهُ الثَّانِي فَيَحِلَّ، فَصَارَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ، وَرَمْيَةِ الثَّانِي حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ تَطَاوَلَ مَا بَيْنَهُمَا حَرُمَ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُدْرَكُ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ، وَتُدْرَكُ فِي طَوِيلِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنْ كَانَتِ الرمية الأولة لَا يَثْبُتُ الصَّيْدُ بِمِثْلِهَا فِي الْغَالِبِ حَلَّ أَكْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ فِي امْتِنَاعِهِ وَإِثْبَاتِهِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَشْكُلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الرَّامِيَيْنِ، فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الْأَوَّلُ وَتَشْكُلَ صِفَةُ الرَّمْيَتَيْنِ، فَلَا يُعْلَمُ بِأَيِّهِمَا ثَبَتَ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمِلْكِ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْأَكْلِ حُكْمُ الضَّرْبِ الثَّانِي، فَيَكُونُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ أَرْبَعَةُ أوجهٍ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْمِلْكِ بِالتَّقَدُّمِ تَحَالَفَا، وَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْإِبَاحَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، فَتَحَالَفَا بها، ولا تدل على الزكاة، فَلَمْ يَتَحَالَفَا فِيهَا، وَيَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى مَنِ ادَّعَى تَحْرِيمَهُ، وَيَحِلُّ لِمَنِ ادَّعَى تَحْلِيلَهُ. فَإِنْ جُعِلَ لِمَنِ ادَّعَى تَحْرِيمَهُ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ دَعْوَى الْإِبَاحَةِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَإِنْ جُعِلَ لِمَنِ ادَّعَى تَحْلِيلَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ دَعْوَى التَّحْرِيمِ، وَكَانَ حَلَالًا كُلُّهُ، وَإِنْ جُعِلَ بَيْنِهِمَا كَانَ لِمُدَّعِي التَّحْلِيلِ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى حَقٍّ مِنْهُ إِلَّا لِلْمُكَذِّبِ لَهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِمُدَّعِي التَّحْرِيمِ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى حَقِّهِ مِنْهُ لِمُصَدِّقٍ ولا لمكذب. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَى طَائِرًا فَجَرَحَهُ ثَمَّ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ فَأَصَبْنَاهُ مَيْتًا لَمْ نَدْرِ أَمَاتَ فِي الْهَوَاءِ أَمْ بَعْدَ مَا صَارَ إِلَى الْأَرْضِ أُكل لأنه لا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 يوصل إلى أن يكون مأخوذاً إلا بالوقوع ولو حرم هذا حرم كل طائرٍ رمي فوقع فمات ولكنه لو وقع على جبلٍ فتردى عنه كان متردياً لا يؤكل ألا أن تكون الرمية قد قطعت رأسه أو ذبحته أو قطعته باثنتين فيعلم أنه لم يترد إلا مذكى ". قال الماوردي: أما الماشي من الصيد أيا رَمَاهُ، فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ، فَمَاتَ أُكِلَ وَلَا يحرم بالسقوط على الأرض إذا عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَّا سَاقِطًا، وَأَمَّا الطَّائِرُ مِنَ الصَّيْدِ إِذَا رَمَاهُ، فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّمْيَةُ قد وحته في الهوار لِوُقُوعِهَا فِي مَقْتَلٍ حَلَّ أَكْلُهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ لم توحه لوقوعها في غير مقتلع فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مأكولٌ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ غَيْرُ مأكولٍ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ فِي الْهَوَاءِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ عَلَى الْأَرْضِ قَاتِلٌ، فَصَارَ مَوْتُهُ بِمُبِيحٍ وَحَاظِرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يحرم كالمتردية، ودلينا عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعُهُ عَلَيْهَا إِبَاحَةَ الْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي فَوَاتِ النَّفْسِ كَسُقُوطِ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الصَّيْدِ كَانَ عَفْوًا، كَالذَّكَاةِ فِي مَحَلِّهَا وَفِيهِ انفصالٌ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِنْ سَقَطَ الطَّائِرُ بَعْدَ رميه إلى الماء، فإن كانت الرمية موحية حل أكله، وإن كانت غير موحية، فله حالتان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْبَرِّ، فَلَا يَحِلُّ أكله إذا مات بعد سقوطه في الماء؛ لِرِوَايَةِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ وَسَأَلَهُ: " إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَهُ، فَكُلْهُ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي ماءٍ فَمَاتَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ؛ أَوْ سَهْمُكَ؟ وَلِأَنَّ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَرْحِ أَبْلَغُ فِي فَوَاتِ نَفْسِهِ مِنَ الْجُرْحِ مَعَ إِمْكَانِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِي الماء. والحالة الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ سُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ فِي الْغَالِبِ يُفَارِقُ الْمَاءَ، فَصَارَ سُقُوطُهُ فِيهِ، كَسُقُوطِ غَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ. فَأَمَّا إِنْ سَقَطَ الصَّيْدُ فِي النَّارِ فَمَاتَ فِيهَا لَمْ يُؤْكَلْ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ طَائِرًا أَوْ مَاشِيًا؛ لِأَنَّ النَّارَ قَاتِلَةٌ، وَيَسْتَغْنِي الصَّيْدُ عَنْ وُقُوعِهِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيهَا فَيَحِلَّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 (فَصْلٌ:) وَإِذَا سَقَطَ الطَّائِرُ بَعْدَ رَمْيِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَسَقَطَ إِلَيْهَا، فَمَاتَ أَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَاشِيًا فَرَمَاهُ عَلَى الْجَبَلِ، فَتَرَدَّى منه إلى الأرض، فمات، فله حالتان: أحدهما: أَنْ يَحْصُلَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَرَدِّيهِ مِنَ الْجَبَلِ والحائط الشجرة فَيَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِتَرَدِّيهِ عَنْ مَوْتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَرَدِّيهِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَرَدِّيَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ} (المائدة: 3) وَلِأَنَّ تَرَدِّيَهُ نَادِرٌ، فَحَرُمَ بِهِ كَسُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ. وَلَوْ رَمَى طَائِرًا، فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ، وَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ حَرُمَ أَكْلُهُ إلا أن يكون الجرح قد وحاه في الهوى، فلا يحرم؛ لأن قطعه بالسيف قبل التوحية لَيْسَ بِذَكَاةٍ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ، فَحَرُمَ بِهِ، وضمنه لمالكه. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَهُ الرَّمْيُ إِلَّا مَا خرق برقته أَوْ قُطِعَ بِحَدِّهِ فَأَمَّا مَا جُرِحَ بِثِقَلِهِ فَهُوَ وَقِيذَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا التَّطَيُّبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مسكٌ ذكيٌ إِذَا كَانَ طَيِّبَ الرَّائِحَةِ، لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ تَطْيِيبُ الذَّبِيحَةِ بِالْإِبَاحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا الْقَطْعُ لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ قَطْعٌ عَلَى صِفَةٍ مُبِيحَةٍ، فَصَارَتْ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا خَاصًّا، وَفِي اللُّغَةِ قَطْعًا عَامًّا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ، إِنَّ الذَّكَاةَ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النُّفُوسِ، لَكِنَّهَا فِي الشَّرْعِ قَتْلٌ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، فَصَارَتْ أَخَصَّ مِنْهَا فِي اللُّغَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجَمِيعُ ما قاله اللَّهُ تَعَالَى: {أَلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) إِلَّا مَا قَتَلْتُمْ، وَلَكِنْ كَانَ مُجَوَّزًا أَنْ يَكُونَ بِبَعْضِ الْقَتْلِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَمَّا قَالَ: {أنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة) {البقرة: 67) دَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا الذَّبْحُ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي مَعْنَى الذَّبْحِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالذَّكَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَمُمْتَنِعٍ. فَإِنْ كَانَتْ فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا ذَبْحًا فِي الْحَلْقِ أَوْ نَحْرًا فِي اللَّبَّةِ بِمَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ دُونَ مَا يُخْرَقُ بِدَقِّهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِحَدِيدٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدِّدِ إِذَا مَارَ فِي اللَّحْمِ مَوْرَ الْحَدِيدِ مِنْ لَيْطِ الْقَصَبِ، وَمَا حُدِّدَ من الزجاج، والحجز، وَالْخَشَبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَا قَطَعَ بِحَدٍّ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا نَجِدُ الصَّيْدَ وَلَا نَجِدُ مَا نُذَكِّي بِهِ إِلَّا الظِّرَارَ وَشِقَّةَ الْعَصَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر الدَّمَ بِمَا شِئْتَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الظِّرَارُ حجارة محددة. وقوله: " أمر الدَّمَ بِمَا شِئْتَ أَيْ سِلْهُ بِمَا شِئْتَ ". فَأَمَّا مَا قُطِعَ مِنْ ذَلِكَ بِشِدَّةِ اعْتِمَادِ الْمُذَكِّي، وَقُوَّةِ ثِقَلِهِ، فَلَا يُؤْكَلُ وَمِثْلُهُ الْحَدِيدُ لَوْ كَانَ كَالًّا لَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ، وَيُقْطَعُ بِشِدَّةِ الِاعْتِمَادِ، وَقُوَّةِ الذَّابِحِ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمُنْهِرُ لِلدَّمِ هُوَ الذَّابِحَ دُونَ الْآلَةِ. وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ مَحَلٌّ لِذَكَاتِهِ مِمَّا قُطِعَ بِحَدِّهِ كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ أَوْ خُرِقَ، وَثُقِبَ بِدَقَّتِهِ كَالسَّهْمِ وَالْحَرْبَةِ، فَمَارَ فِي اللَّحْمِ، وَدَخَلَ، سَوَاءٌ كَانَ حَدِيدًا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْقَصَبِ، وَالْخَشَبِ، وَالْمُحَدَّدِ، وَالْحِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ. فَأَمَّا مَا قُطِعَ بِثِقَلِهِ أَوْ بِقُوَّةِ الرَّامِي كَالْخَشَبِ الْأَصَمِّ، وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ لَا يُؤْكَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ) {المائدة: 3) وَالْمَوْقُوذَةُ: هِيَ الْمَقْتُولَةُ ضَرْبًا، وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هِيَ الْوَاقِعَةُ مِنْ شَاهِقٍ. وَرَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: " مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بَعَرْضِهِ، فَهُوَ وقيذٌ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْجُلَاهِقِ " وَهُوَ قَوْسُ الْبُنْدُقِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ بِقُوَّةِ رَامِيهِ، وَلَيْسَ يَقْتُلُهُ بِحَدِّهِ كَالسِّهَامِ، فَأَبَاحَ السَّهْمَ، وَنَهَى عَنِ الْبُنْدُقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْبُنْدُقِ، فَقَالَ: " إِنْ خَرَقَتْ فَكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَخْرِقْ فَلَا تَأْكُلْ ". قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّ سُفْيَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ عَنْ حَدِيثِ الْبُنْدُقِ يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِكَ، فَقَالَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يقرأون مِنْ أَصْلِ مَا لَيْسَ فِيهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا لَمْ يَقْطَعْ بِحَدِّهِ، وَلَمْ يَخْرِقْ بِدَقَّتِهِ، وَقَطَعَ بِثِقَلِهِ أَوْ بِقُوَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ كَانَ مَيْتَةً مُحَرَّمَةً، وَإِنْ أُدْرِكَتْ حياته، فذبح في حلقه أو نجز فِي لَبَّتِهِ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا لُبْثَ لَهَا كَجَرْحَةِ الْمَذْبُوحِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِالذَّبْحِ، وَكَانَ مَيْتَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ قَوِيَّةً يَلْبَثُ مَعَهَا وَإِنْ لَمْ يَطُلْ زَمَانُ لُبْثِهَا صَحَّتْ ذَكَاتُهُ، وَحَلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) فَأَبَاحَ مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمَحْظُورَاتِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ فَقَتَلَتْهُ وَلَمْ تُدْمِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُؤْكَلَ حَتَّى يُجْرَحَ قَالَ الله تعالى: {مِنَ الجَوَارِحِ} والآخر أنه حلٌّ (قال المزني) الأول أولاهما به قياساً على رامي الصيد أو ضاربه لا يؤكل إلا أن يجرحه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْجَوَارِحِ عَلَى صَيْدٍ، فَمَاتَ الصَّيْدُ بِإِرْسَالِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُتْعِبَهُ الْكَلْبُ بِالسَّعْيِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ الصَّيْدُ مَيْتًا بِالْإِعْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، فَهَذَا مَيْتَةٌ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فِعْلٌ يَكُونُ تَذْكِيَةً. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَنَالَهُ الْكَلْبُ، فَيَعْقِرُهُ، فَيَمُوتَ مِنْ عَقْرِهِ وَجِرَاحَتِهِ، فَيَحِلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ جَرَحَهُ بِأَنْيَابِهِ أَوْ بِمَخَالِبِهِ فِي مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتَلٍ مِنْ رَأْسٍ أَوْ ذَنَبٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ عَقْرِ الْكَلْبِ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ غَسَلَهُ أَوْ لَمْ يَغْسِلْهُ، وَيُأْكَلُ مَا عَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ وَنَجَاسَةَ أَنْيَابِهِ تَسْرِي فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْغَسْلُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ حُكِمَ بِإِبَاحَتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ أَكْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ غَسْلُهُ قِيَاسًا عَلَى مَحَلِّ وُلُوغِهِ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، فصار عفوا كسائر ما يشتق التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْجَاسِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الصَّيْدِ بِصَدْمَةِ الْكَلْبِ أَوْ بِضَغْطَتِهِ أَوْ بِقُوَّةِ إِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِرَهُ بِجُرْحٍ مِنْ نَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَلَالٌ يُؤْكَلُ. فَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلَّبِينَ} (المائدة: 4) فَجَعَلَ الْجُرْحَ نَعْتًا، فَصَارَ فِي الْإِبَاحَةِ شَرْطًا. وَرَوَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْهِرْ لَا يُؤْكَلُ؛ وَلِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ قَدْ أُبِيحَ بِآلَةٍ وَبِجَوَارِحَ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 صَيْدُ الْآلَةِ إِلَّا بِعَقْرِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ صَيْدُ الْجَوَارِحِ إِلَّا بِعَقْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ، فَكَانَ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي الْحَالَيْنِ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي إِبَاحَتِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يُرِيدُ بِهِ الْجَوَارِحَ الْكَوَاسِبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حِسَبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (الجاثية: 21) أَيِ اكْتَسَبُوا ثُمَّ قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إمساكٍ عَقَرَ أَوْ لَمْ يَعْقِرْ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الذَّكَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، فَتَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ فِي مَحَلِّهَا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ مَا يَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ، كَذَلِكَ الْعَقْرُ لَا يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ في الآلة، فكان شرطاً وشق اعْتِبَاره فِي الْجَارِحِ فَلَمْ يَكُنْ عَقْرُهُ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِ الْجَارِحِ، كَانَ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ، كَالْإِمْسَاكِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي التَّعْلِيمِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ، كَالْأَكْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ صَيْدِهِ؛ وَلِأَنَّ عَقْرَهُ مِنْ دَوَاعِي الْأَكْلِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَظْرِ، فَكَانَ تَرْكُ عَقْرِهِ أَصَحَّ في التعليم، وأبعد في الْحَظْرِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْإِبَاحَةِ مِنَ الْعَقْرِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَى شَخْصًا يَحْسَبُهُ حَجَرًا فَأَصَابَ صَيْدًا فَلَوْ أَكَلَهُ مَا رَأَيْتُهُ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ أَخْطَأَ شَاةً فَذَبَحَهَا لَا يُرِيدُهَا وَكَمَا لَوْ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَرَاهَا خَشَبَةً لَيِّنَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَأَى شَخْصًا، فَظَنَّهُ حَجَرًا أَوْ شَجَرَةً، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الشَّخْصَ، وَهُوَ يَظُنُّهُ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ مَأْكُولٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لا يُؤْكَلُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ حَيَوَانٍ مِنْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، فَبَانَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ ظَنَّهُ حَيَوَانًا غَيْرَ مأكولٍ، فَبَانَ مَأْكُولًا حَلَّ أَكْلُهُ، وَعِلَّةُ إِبَاحَتِهِ عِنْدَنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ قَصْدُهُ لِلْفِعْلِ، فَكَانَ مَا حَدَثَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَقْصُودِ مُبَاحًا، كَمَا لَوْ قَصَدَ ذَبْحَ شَاةٍ فَذَبَحَهَا، وَهُوَ يَحْسَبُهَا غَيْرَهَا، حَلَّ أَكْلُهَا كَمَا لَوْ قَبَضَ عَلَى شيءٍ يَحْسَبُهُ خَشَبَةً لَيِّنَةً فَقَطَعَهَا فَبَانَ أَنَّهُ حَلْقُ شَاةٍ قَدْ ذَبَحَهَا حَلَّ أَكْلُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ مُبَاشَرَتُهُ لِلْفِعْلِ دُونَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ ذَكَاةَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قصدٌ، فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُبَاشِرَةِ أَوْلَى مِنَ التعليل بالقصد ولا يعتبر بنية الزكاة عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ جَمِيعًا، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَشَارَ بِالسِّكِّينِ إِلَى حَلْقِ شَاةٍ لِيَعْبَثَ بِهَا وَلَا يَذْبَحَهَا، فَانْذَبَحَتْ بِهَا حَلَّ أَكْلُهَا، وَإِنْ لَمْ يُنَوِّهِ، وَتَأْثِيرُ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ رَمَى إِلَى الْهَوَاءِ، فَسَقَطَ فِي عُلُوِّهِ عَلَى صَيْدٍ، فقتله، ففي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مُبَاحٍ إِذَا عُلِّلَ بِقَصْدِ الْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مُبَاحٌ إِذَا عُلِّلَ بِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ بِيَدِهِ سِكِّينٌ فَسَقَطَتْ عَلَى حَلْقِ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ، فَذَبَحَتْهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَنْ فِعْلٍ غَيْرِ مقصودٍ وَحَلَّ أَكْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى شَخْصٍ يَحْسَبُهُ غَيْرَ صَيْدٍ فَبَانَ صَيْدًا مَأْكُولًا، تَمَيَّزَ حينئذٍ حَالُ الشَّخْصِ فِي إِرْسَالِ الْكَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فِي إِرْسَالِ السَّهْمِ، فَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ حَيَوَانًا ظَنَّهُ إِنْسَانٌ أَسَدًا أَوْ خنزيراًَ؛ فَأَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ، فَبَانَ صَيْدًا مَأْكُولًا حلَّ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ يُشْلَى عَلَى كُلِّ الْحَيَوَانِ فَيَسْتَشْلِي، فَاسْتَوَى فِي اسْتِرْسَالِهِ حَال الْمَأْكُولِ، وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَإِنْ ظَنَّ الْمُرْسِلُ أَنَّ الشَّخْصَ شَجَرَةٌ أَوْ حَجَرٌ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ، فَبَانَ صَيْدًا، فَقَتَلَهُ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُبَاحٌ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَحْظُورٌ لِأَمْرَيْنِ هُمَا تَعْلِيلٌ، وَفَرْقٌ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِرْسَالَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ عَبَثٌ، فَصَارَ كَالْمُسْتَرْسِلِ بِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ تَصَرُّفَ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ، وَنُفُوذَ السَّهْمِ بِاخْتِيَارِ مُرْسِلِهِ. فَأَمَّا إِذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ أَوْ كَلْبَهُ عَلَى غَيْرِ شَخْصٍ يَرَاهُ، فَصَادَفَ صَيْدًا قَتَلَهُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِإِرْسَالِ كَلْبٍ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ كَانَ بِإِرْسَالِ سَهْمٍ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ، وَهُوَ عَكْسُ مَسْأَلَتِنَا فِي الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّخْصِ يُؤْكَلُ مَا أَصَابَهُ سَهْمُهُ، وَفِي أَكْلِ مَا أَصَابَهُ كَلْبُهُ وَجْهَانِ، وَفِي غَيْرِ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ لَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَهُ كَلْبُهُ، وَفِي أَكْلِ مَا أَصَابَهُ سَهْمُهُ وَجْهَانِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَحْرَزَ صَيْدًا فَأَفْلَتَ مِنْهُ فَصَادَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ صَيْدًا بِالِاصْطِيَادِ أَوْ بِابْتِيَاعٍ، وَأَفْلَتَ مِنْهُ لَمْ يَزِدْ مِلْكُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ طَالَ مُكْثُهُ عَنْهُ أَوْ قَصُرَ، وَسَوَاءٌ بَعُدَ عَنْهُ فِي الْبَرِّ أَوْ قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الطَّيْرِ أَوِ الدَّوَابِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ بَعُدَ فِي الْبَرِّ مَعَ قُرْبِ الْمُكْثِ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبُ الْمِلْكِ، فَإِذَا زَالَ بِالِانْفِلَاتِ زَالَ بِهِ الْمِلْكُ، كَمَا لَوْ مَلَكَ مَاءً بِاسْتِقَائِهِ مِنْ نَهْرٍ، فَانْصَبَّ مِنْهُ فِي النَّهْرِ، زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ انْفِلَاتِهِ تَحَرَّمَ صَيْدُ الْبَرِّ لِجَوَازِ اخْتِلَاطِهِ بِمُنْفَلِتٍ فَحَرُمَ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِبَاحَةِ صَيْدِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْفَلِتَ عَائِدٌ فِي الْإِبَاحَةِ إِلَى أَصْلِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالِابْتِيَاعِ، كَمَا يَمْلِكُهُ بِالِاصْطِيَادِ، فَلَمَّا لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكِ عَمَّا ابْتَاعَهُ بِالِانْفِلَاتِ لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ عَمَّا صَادَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَبْدَهُ بِالسَّبْيِ؛ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ؛ كَذَلِكَ الصَّيْدُ إِذَا مَلَكَهُ الِاصْطِيَادُ لم يزد مِلْكُهُ عَنْهُ بِالِانْفِلَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَسَمَ الصَّيْدَ قَبْلَ انْفِلَاتِهِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بَعْدَ وَسْمِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ بِهِ قَبْلَ وَسْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوَسْمَ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي زَوَالِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ زَوَالَ سَبَبِ الْمِلْكِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ كَالْمَاءِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْرِ فَهُوَ بُطْلَانُهُ بِالْعَبْدِ الْمَسْبِيِّ إِذَا عَادَ آبِقًا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ زَالَ سَبَبُ مِلْكِهِ، وَلَمْ نُوجِبْ زَوَالَ مِلْكِهِ، كَذَلِكَ الصَّيْدُ. فَأَمَّا الْمَاءُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُ، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا. وَالثَّانِي: إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِمِثْلِهِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، فَخَالَفَ حُكْمَ الصَّيْدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَعْدَ انْفِلَاتِهِ، فَهُوَ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ يُوجِبُ تَغْلِيبًا الْإِبَاحَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَاءَ النَّهْرِ إِذَا أُرِيقَ فِيهِ خمرٌ أَوْ بولٌ لَمْ يَحْرُمْ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ؛ وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِنِسَاءِ بلدٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ مَنْ شَاءَ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِعَدَدٍ مِنْ نِسَاءِ بَلَدٍ حَرُمْنَ كُلُّهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهَا فِي نِسَاءِ الْبَلَدِ وَيَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهَا فِي الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ مِنْ نِسَاءِ الْبَلَدِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّيْدِ الْمُنْفَلِتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِصَيْدِ الْبَرِّ لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ، فَحَلَّ، وَإِذَا اخْتَلَطَ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنْ عِدَّةِ صَيُودٍ حرم. (فصل:) فأما مالك الصيد إذا قتله بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، هَذَا مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمَالِكِ عَنْهُ كَالْعِتْقِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ إِذَا عُرِفَ عَلَى وجهين: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ صَيْدٌ كَالْمُعْتِقِ، لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عليٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحِلُّ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ؛ وَلِيَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ السَّائِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَزُولُ كَمَا يَزُولُ لَوْ أَرْسَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَعِيرَهُ أَوْ فَرَسَهُ. فَإِنْ قِيلَ: بِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ حَرُمَ صَيْدُهُ إِذَا عُرِفَ، وَإِنْ قِيلَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ حَلَّ صَيْدُهُ، وَإِنْ عُرِفَ، بِخِلَافِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْبَةِ حَقًّا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا أَصَابَهُ حلالٌ فِي غَيْرِ حرمٍ مِمَّا يَكُونَ بِمَكَّةَ مِنْ حَمَامِهَا وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ إِنَّمَا نَمْنَعُ بِحَرَمَهِ بِغَيْرِهِ مِنْ حرمٍ أَوْ إحرامٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ، فَحَرَامٌ كَتَحْرِيمِهِ فِي الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْشَؤُهُ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ خَرَجَ الصَّيْدُ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ حَلَّ صَيْدُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْشَؤُهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ مُعْتَبَرًا بِمَكَانِهِ فِي حَالِ صَيْدِهِ لَا بِمَنْشَئِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ مَنْشَأُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ قَتَلَهُ، وَضَمِنَ بِالْجَزَاءِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِالْمَنْشَأِ؛ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحُرْمَةِ بِهِ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَتِهِ كَمَا تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَأَحْجَارِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ إِنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ حَرَمٍ أَوْ إِحْرَامٍ، فَلَمَّا زَالَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْإِحْرَامِ وَجَبَ زَوَالُ حُرْمَتِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ صَيْدُ الْحِلِّ إِذَا دَخَلَ إِلَى الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ وَجَبَ أَنْ يَحِلَّ صَيْدُ الْحَرَمِ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ فِي طَائِرٍ مَعَ صَبِيٍّ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ، وَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ، فَقَالَ لَهُ: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ " فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أُمُورٍ. مِنْهَا: إِنَّ مَا صِيدَ فِي الْحِلِّ جَازَ إِدْخَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ الَّذِي صِيدَ فِيهِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الْمَزْحِ مَعَ الصِّبْيَانِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ كُنْيَةِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ يتكنى باسمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 وَمِنْهَا: جَوَازُ التَّصْغِيرِ فِي الْأَسْمَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِحِجَارَةِ الْحَرَمِ وَأَشْجَارِهِ، فَهُوَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَرَمِ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الصَّيْدُ مِنَ الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيهِ، فافترقا. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ تَحَوَّلَ مِنْ بُرْجٍ إِلَى برجٍ فَأَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ملك طائراً إنسياً فطار فَطَارَ مِنْ بُرْجِهِ إِلَى برجٍ غَيْرِهِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ مَنْ طَارَ إِلَى بُرْجِهِ بِوِفَاقِ مَالِكٍ، وَلَوْ صَادَ طَائِرًا وَحْشِيًّا، فَطَارَ مِنْ بُرْجِهِ إِلَى بُرْجِ غَيْرِهِ كَانَ عِنْدَنَا بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ سَوَاءٌ أَنِسَ بِبُرْجِهِ أَوْ لَمْ يَأْنَسْ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَنِسَ بِبُرْجِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ بِطُولِ الْمُكْثِ صَارَ مِلْكًا لِمَنِ انْتَقَلَ إِلَى بُرْجِهِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى بُرْجِ الْأَوَّلِ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ طَائِرٌ وَحْشِيٌّ عَلَى بُرْجِ رَجُلٍ لَمْ يَمْلِكْهُ بِسُقُوطِهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَلِفَهُ أَوْ لَمْ يَأْلَفْهُ حَتَّى يَصِيرَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابًا أَوْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ قَفَصًا، فَيَصِيرَ مِلْكًا لَهُ كَمَا يَمْلِكُهُ إِذَا وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ أَفْرَخَ هَذَا الطَّائِرُ فِي بُرْجِهِ كَانَ حُكْمُ فِرَاخِهِ كَحُكْمِهِ إِنْ مَلَكَهُ مَلَكَ فِرَاخَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ يَمْلِكْ فِرَاخَهُ، وَكَذَلِكَ بَيْضُهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِمَا من غيره لملك الموضع، فإن أخذه غير مَلَكَهُ الْآخِذُ لَهُ دُونَهُ، وَإِنْ تَعَدَّى بِدُخُولِهِ إلى ملكه. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَصَابَ ظَبْيًا مُقْرَطًا فَهُوَ لِغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ عَلَى الصَّيْدِ أَثَرُ مِلْكٍ أَوْ يَدِ آدَمِيٍّ مِنْ قرطٍ أَوْ مَيْسِمٍ أَوْ خِضَابٍ أَوْ قِلَادَةٍ لَمْ يَمْلِكْهُ صَائِدُهُ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ صِفَةِ الْخِلْقَةِ إِلَى آثَارِ الْمِلْكِ، فَخَرَجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الإباحة إلى حكم الحظر، وقد روي أو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِظَبْيٍ وَاقِفٍ فِيهِ أَثَرٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَمَنَعَهُمْ وَقَالَ: " حَتَى يَجِيءَ صَاحِبُهُ " وَإِذَا لَمْ يَمْلِكُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ بَعْدَ صَيْدِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ فِي يَدِهِ حَيًّا، فَهُوَ فِي حُكْمِ اللقطة، من ضوال الحيوان يعرفها ولا يضمها، فَإِنْ أَرْسَلَ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ ضَمِنَهُ لِمَالِكِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شَرَكِهِ، فَلَا يَلْزَمَهُ تَعْرِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ، وَإِنْ حَلَّ الشَّبَكَةَ عَنْهُ، فَاسْتَرْسَلَ وَامْتَنَعَ لَمْ يَضُمُّهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَرَى عَلَى مَا فِي الشَّبَكَةِ حُكْمُ يَدِهِ مِنْ مِلْكِ الصَّيْدِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا حُكْمُ يَدِهِ مِنَ الضَّمَانِ وَالتَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا لِهَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ هَذَا الصَّيْدُ بِاصْطِيَادِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا مَاتَ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ فِي شَبَكَةٍ قَدْ وَضَعَهَا فَلَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الشَّبَكَةِ مُبَاحٌ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بِسَهْمٍ رَمَاهُ، فَيَكُونَ ضَامِنًا له؛ لأن تَلِفَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا بِهِ؛ لِأَنَّ الضمان لا يقسط إِلَّا بِالْأَعْذَارِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُضْمَنُهُ كَمَا يُضْمَنُونَهُ بِسَهْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْكَلْبِ منسوبٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَتْلَ السَّهْمِ مَنْسُوبٌ إِلَى رَامِيهِ. (فَصْلٌ:) وَهَكَذَا مَا أَخَذَهُ مِنْ أَحْجَارِ الْجِبَالِ، وَخَشَبِ الْغِيَاضِ إِذَا وَجَدَ فِيهِ صَنْعَةَ آدميٍّ، مِنْ نَقْرٍ أَوْ نَحْتٍ أَوْ تَرْبِيعٍ لَمْ يَمْلِكْهُ كَالصَّيْدِ، فَأَمَّا إِذَا صَادَ سَمَكَةً وَجَدَ فِي جَوْفِهَا جَوْهَرَةً، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَثَرُ صَنْعَةٍ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَلَا يَمْلِكُ الْجَوْهَرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَثَرُ صَنْعَةٍ نُظِرَ، فَإِنْ صَادَهَا مِنْ بَحْرِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، أَوْ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُ فَصَادَهَا مِنْ بَحْرِ بالْعَنْبَرِ وَالْعَنْبَرُ مَلِكُهَا، وَلَمْ يَمْلِكِ الْجَوْهَرَةَ وَالْعَنْبَرَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ فِي جَوْفِهَا ذَهَبًا فَإِنْ كَانَ مَطْبُوعًا لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَطْبُوعٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرُ النَّارِ فَإِنْ كَانَتْ فِي بَحْرٍ هُوَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ مَلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَعَادِنِهِ لم يملكه وكان لقطة. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ شَقَّ السَّبُعُ بَطْنَ شاةٍ فَوَصَلَ إِلَى مِعَاهَا مَا يُسْتَيْقَنُ أَنَّهَا لَمْ تُذَكَّ مَاتَتْ فَذُكِّيَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} والذكاة جائزةٌ بالقرآن (قال المزني) رحمه الله: وأعرف من قوله أنها لا تؤكل إذا بلغ بها ما لا بقاء لحياتها إلا حياة المذكى وهو قول المدنيين وهو عندي أقيس لأني وجدت الشاة تموت عن ذكاةٍ فتحل وعن عقرٍ فتحرم فلما وجدت الذي أوجب الذبح موتها وتحليلها لا يبدلها أكل السبع له ولا يرد بها كان ذلك في القياس إذا أوجب السبع موتها وتحريمها لم يبدلها الذبح لها ولا أعلم خلافاً أن سبعاً لو قطع ما يقطع المذكي من أسفل حلقها أو أعلاه ثم ذبحت من حيث لم يقطع السبع من حلقها أنها ميتةٌ ولو سبق الذابح ثم قطع السبع حيث لم يقطع الذابح من حلقها أنها ذكيةٌ وفي هذا على ما قلت دليلٌ وقد قال الشافعي ولو أَدْرَكَ الصَّيْدَ وَلَمْ يَبْلُغْ سِلَاحُهُ أَوْ مُعَلَّمُهُ ما يبلغ الذابح فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَأَكُلْ (قال المزني) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 رحمه الله: وفي هذا دليلٌ أنه لو بلغ ما يبلغ الذابح أكل (قال المزني) رحمه الله: ودليلٌ آخر من قوله في كتاب الديات لو قطع حلقوم رجلٍ ومريئه أَوْ قَطَعَ حَشْوَتَهُ فَأَبَانَهَا مِنْ جَوْفِهِ أَوْ صيره في حال المذبوح ثم ضرب آخر عنقه فالأول قاتلٌ دون الآخر (قال المزني) رحمه الله: فهذه أدلةٌ على ما وصفت من قوله الذي هو أصح في القياس من قوله الآخر. بالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا افْتَرَسَ سبعٌ أَوْ ذِئْبٌ شَاةً أَوْ بَعِيرًا ثُمَّ أَقْلَعَ وَفِي الشَّاةِ حَيَاةٌ، فَذُبِحَتْ لَمْ تَخْلُ حَيَاتُهَا من ثلاثة أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جُرْحُ الِافْتِرَاسِ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ، وَالْحَيَاةُ الَّتِي فِيهَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى، فَذَبَحَهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ تُبِيحُ أَكْلَهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) . وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى كَقَطْعِ رَأْسِهَا، أَوْ إِخْرَاجِ حَشَوْتِهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا؛ إِلَّا حَرَكَةُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَبْحُهَا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا؛ لِخُرُوجِ أَكْثَرِ الرُّوحِ بِجَرْحِ السَّبُعِ دُونَ الذَّبْحِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ جُرْحُ السَّبُعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ وَالْحَيَاةُ مَعَهُ قليلة البقاء، مثل أن يقطع منها مالا يحيا معه، كالمعا، لَكِنَّ الرُّوحَ فِيهَا بَاقِيَةٌ، تَعِيشُ بِهَا سَاعَةً أَوْ بَعْضَ يومٍ، فَيَكُونُ ذَبْحُهَا عَلَى هَذِهِ الحال ذكاة يحل بها أكلها كالحالة الْأُولَى، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى الْمُزَنِيِّ فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَتَصَوَّرَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ شاةٍ أَخَذَهَا الذِّئْبُ فَأُدْرِكَتْ، وَبِهَا حياةٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَكْلِهَا. وَقَدْ جُرِحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جُرْحَيْنِ قَطَعَا مِعَاهُ، فَسَقَاهُ الطَّبِيبُ لَبَنًا خَرَجَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: اعْهَدْ، فَإِنَّكَ مَيْتٌ فَعَهِدَ وَوَصَّى، وَأَمَرَ وَنَهَى، فَأَجْرَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْحَيَاةِ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا انْتَهَى إِلَى حَالِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ كَانَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ، وَإِبَاحَةِ الذَّكَاةِ فَلَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَبْحِ الشَّاةِ هَلْ كَانَ فِي حَالِ حَظْرِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا، فَفِي صِحَّةِ ذَكَاتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ ذَكِيَّةً تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهَا إِلَى وَقْتِ الذَّبْحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لَا تُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ الْحَظْرُ حَتَّى يُعْلَمَ يَقِينُ الْإِبَاحَةِ. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مِنْ حوتٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 أَوْ غَيْرِهِ فَأَخَذَهُ مَكَانَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، بَرِّيٍّ، وَبَحْرِيٍّ، وَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. فَأَمَّا الْبَرِّيُّ، فَالْمَأْكُولُ مِنْهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا بِالذَّكَاةِ، سِوَى الْجَرَادِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ مَيْتًا سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ. رَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ". وَأَمَّا الْبَحْرِيُّ: فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، مُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ، فَهُوَ السَّمْكُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَيَخْتَصُّ بِحُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الذَّكَاةِ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَيْتًا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ حَيًّا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حَيًّا حَتَّى يَمُوتَ؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِإِحْلَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلْ حَيًّا وَمَيْتًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَالُ تَحْرِيمٍ فَعَمَّتْ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا صَادَ سَمَكَةً، فَانْقَطَعَ بَعْضُهَا فِي يَدِهِ وَأَفْلَتَ بَاقِيهَا حَيًّا، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ مَا انْقَطَعَ مِنْهَا؛ عَلَى وَجْهَيْنِ: ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما أبين من حيٍّ فهد ميتٌ " يعني محرماً؛ لأنه مَوْتَهُ قَدْ عُلِمَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى حُكْمُ مَا أُخِذَ مِنْ حيٍّ وَمَيْتٍ، وَلَوْ وَجَدَ سَمَكَةً فِي جَوْفِ سَمَكَةٍ حَلَّ أَكْلُهُمَا مَعًا، مَا لَمْ تَنْفَصِلِ الدَّاخِلَةُ، فَإِنِ انْفَصَلَتْ حَتَّى تَقَطَّعَتْ وَتَغَيَّرَ لَوْنُ لَحْمِهَا، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ أَكْلُهَا كَمَا يَحِلُّ لَوْ تَقَطَّعَتْ بِغَيْرِ صَيْدِهَا وَتَغَيَّرَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْرُمُ أَكْلُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ فِي حكم الرجيع والفيء، وَهَكَذَا أَكْلُ مَا فِي بُطُونِ السَّمَكِ مِنْ غِذَائِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْحَرَامُ، وهو الضِّفْدِعُ، وَحَيَّاتُ الْمَاءِ، وَعَقَارِبُهُ، وَجَمِيعُ مَا فِيهِ من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 ذَوَاتِ السُّمُومِ الضَّارَّةِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى مَوْتٍ أَوْ سَقَمٍ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُؤْكَلَ بحالٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ "، وَقِيلَ: إِنَّهُ حُرجَ عَلَى سَبَبٍ؛ وَهُوَ أَنَّ طَبِيبًا وَصَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَوَاءً فِيهِ لَحْمُ الضِّفْدِعِ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ " وَقِيلَ: هُوَ سُمٌّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ اتفاقهم على تحريمه، هي يَنْجُسُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ حَيَوَانَ الْمَاءِ مَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ سَوَاءٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ نَجِسٌ إِذَا مَاتَ لِأَنَّهُ لَمَّا شَابَهَ حَيَوَانَ الْبَرِّ فِي التَّحْرِيمِ شَابَهَهُ فِي التَّنْجِيسِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَنَجَّسُ بِهِ كَمَا يَنْجُسُ بِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْجُسُ بِهِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ، فَصَارَ عَفْوًا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَهُوَ مَا أَشْبَهَ حَيَوَانَ الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ مِنَ الْفَأْرِ وَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَرِّ حَيَوَانٌ إِلَّا وَفِي الْبَحْرِ مِثْلُهُ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ جَمِيعَهُ حلالٌ مأكولٌ، يَسْتَوِي فِيهِ مَا أَشْبَهَ مُبَاحَاتِ الْبَرِّ وَمُحَرَّمَاتِهِ مِنْ كِلَابِهِ وَخَنَازِيرِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ السَّلَمِ يُؤْكَلُ فَأْرُ الْمَاءِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَالَ: يُؤْكَلُ، وَلَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ سُئِلَ عَنِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي أكل هذا، وهذا حَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ: أَنَا عَلَى رَأْيِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، يَعْنِي فِي إِبَاحَتِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَفِي الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ أَكَّارًا لَهُ صَادَ لَهُ كَلْبَ مَاءٍ، وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ، فَأَكَلَهُ، وَكَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ لَا يُغَادِرُ مِنْهُ شَيْئًا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا السَّمَكُ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ إِلَّا الْحُوتُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي اسْمِ الْحُوتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا الضِّفْدِعَ، وَمَا قَتَلَ أَكْلُهُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِنَّ اسْمَ الْحُوتِ خَاصٌّ بِالسَّمَكِ دُونَ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا جَعَلُوهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ مَا أَشْبَهَ مُبَاحَاتِ الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ حَلَالٌ، وَمَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ وَخَنَازِيرِهِ حَرَامٌ جَمِيعًا بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَحَيَوَانِ الْبَحْرِ. (فَصْلٌ:) وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ) {المائدة: 3) . وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُحلت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ " وَاسْمُ الْحُوتِ خَاصٌّ فِي السَّمَكِ، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِغَيْرِ اسْمِ الْحُوتِ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ كَالْبَرِّيِّ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِبَاحَتِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ كَالْخِنْزِيرِ الْجَبَلِيِّ وَالسَّهْلِيِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَةِ جَمِيعِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ َطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ) {المائدة: 96) يَعْنِي بِصَيْدِ الْبَحْرِ صَيْدَ الْمَاءِ مِنْ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمِيَاهِ مِنَ الْبَحْرِ، وَفِي طَعَامِهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: طَافِيه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: مَمْلُوحه، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي قَوْلِهِ " مَتَاعًا " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: طَعَامٌ. وَالثَّانِي: مَنْفَعَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: " وللسَّيَّارَةِ " ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ. وَالثَّانِي: الْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ. وَالثَّالِثُ: لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى. وَالدَّلِيلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ} يَعْنِي صَيْدَ الْبَحْرِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جميع حيوانه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 والثاني: قوله: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ} يَعْنِي مَطْعُومَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ مَطْعُومٌ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَعَمَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ دَابَّةٍ تَمُوتُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ ذَكَّاهَا اللَّهُ لَكُمْ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالِفٌ لَهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَعِشْ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي الْمَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ مَيْتًا كَالْحُوتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) {الأنعام: 145) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْخِنْزِيرِ لَا يَنْطَلِقُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَّا عَلَى خِنْزِيرِ الْبَرِّ، فَإِنْ أُرِيدَ به غيره قبل خِنْزِيرُ الْمَاءِ مُقَيَّدًا بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ حُكْمُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ اسْمَهُ لَوِ انْطَلَقَ عَلَيْهَا لَخَصَّ تَحْرِيمَهَا بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ مَيْتَةٍ. وَأَمَّا الجوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ "، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اسْمَ الْحُوتِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهَا، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِبَاحَتِهَا دُونَ حَظْرِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ: " الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " أَعَمُّ مِنْهُ فَصَارَ الْحُوتُ دَاخِلًا فِي عُمُومِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْبَرِّيِّ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ إِبَاحَةَ الْحَيَوَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ، فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مَعَ الْإِجْمَاعِ فِي الِاسْمِ وَالصُّورَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَالْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ، وَيَشْتَبِهَانِ فِي الصُّورَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْإِبَاحَةِ، فَيَحِلُّ الوحشيُّ، وَيَحْرُمُ الْأَهْلِيُّ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ الْبَرُّ يَجْمَعُهُمَا، فَكَانَ مَا افْتَرَقَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَوْلَى أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ وَاشْتَبَهَا فِي الصُّورَةِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى اعْتِبَارِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ بِحَيَوَانِ الْبَرِّ فَأَحَلَّ مِنْهُ مَا أَشْبَهَ مُحَلَّلَاتِ الْبَرِّ وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَيَوَانِ، هو مَا يَجْمَعُ فِي عَيْشِهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ مُسْتَقَرُّهُ فِي الْبَرِّ، وَمَرْعَاهُ مِنَ الْبَحْرِ مِثْلَ: طَيْرِ الْمَاءِ فَهَذَا مِنْ حيوان البر وتجري عَلَيْهِ حُكْمُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مُسْتَقَرُّهُ فِي الْبَحْرِ وَمَرْعَاهُ فِي الْبَرِّ كَالسُّلَحْفَاةِ فَهَذَا مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَرْعَى فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَيُرَاعَى أَغْلَبُ حَالَيْهِ. فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهُمَا الْبَرَّ فِي مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْعَاهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ، وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهَا الْبَحْرَ فِي مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْعَاهُ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، وَإِنِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَلَمْ يُغَلَّبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَرِّ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَحْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ تَغْلِيبًا لِلْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ مستغنٍ عَنِ الْبَرِّ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ شَيْئًا تَطُولُ حَيَاتُهُ فَذَبَحَهُ لِاسْتِعْجَالِ مَوْتِهِ مَا كَرِهْتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السَّمَكُ، فَلَا يَلْزَمُ ذَبْحُهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ صَيْدِهِ جَازَ أَنْ يَنْتَظِرَ بِهِ مَوْتَهُ، وَلَا يُكْرَهُ انْتِظَارُهُ، وَجَازَ أَنْ يُعَجَّلَ ذَبْحُهُ، وَلَا يُكْرَهُ ذَبْحُهُ، وَفِي الِاسْتِحْبَابِ منها وجهان: أحدهما: أن تزكه لِيَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ. وَالثَّانِي: إِنَّ ذَبْحَهُ أَوْلَى لِيَسْتَعْجِلَ الرَّاحَةَ مِنْ أَبْطَأِ الْمَوْتِ. وَأَمَّا غَيْرُ السَّمَكِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ إِذَا قِيلَ بِإِبَاحَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ ذَبْحُهُ حَيًّا بَعْدَ صَيْدِهِ حَتَّى مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَكَاتِهِ بَعْدَ صَيْدِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، فَكَانَ صَيْدُ الْبَحْرِ أَوْلَى، وَإِنْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ بَعْدَ صَيْدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ ذَبْحِهِ وَكَوْنِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ إِنَّ ذَبْحَهُ لَا يَجِبُ، وَإِنَّ مَوْتَهُ ذَكَاةٌ كَالسَّمَكِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ فِي الْإِبَاحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ حَيَوَانَ الْبَحْرِ بِحَيَوَانِ الْبَرِّ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الذَّكَاةِ، وَحَرَّمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا مَاتَ، وَهَذَا الْجَمْعُ فَاسِدٌ في الأمرين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 فَأَمَّا دَمُهُ فَمَنْ جَعَلَ ذَكَاتَهُ شَرْطًا جَعَلَ دَمَهُ نَجِسًا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَكَاتَهُ شَرْطًا وَجَعَلَهُ كَالْحُوتِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ بِمَوْتِهِ، فَفِي دَمِهِ وَدَمِ جَمِيعِ السَّمَكِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدَّمُ} (المائدة: 3) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ دَمَهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ دَمَ الْحَيِّ كَلَحْمِ الْمَيْتِ، فَلَمَّا خَالَفَ حَيَوَانَ الْبَرِّ فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ خَالَفَ فِي طَهَارَةِ دمه، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ مجوسيٍّ أَوْ وثنيٍّ لَا ذَكَاةَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْحُوتُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي إِبَاحَتِهِ كَالذَّكَاةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصْطَادَهُ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ وَثَنِيٌّ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ، وَهُمْ فِي صَيْدِهِ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاتَهُ اسْتَوَى فِيهِ أَهْلُ الذَّكَاةِ وَغَيْرُ أَهْلِ الذَّكَاةِ كَالْجَرَادِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ إِذَا مَاتَ أَوْ أُمِيتَ مِنْ يَدِ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ حَتَّى يُقْطَفَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُحلت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، الْحَوْتُ وَالْجَرَادُ " وَلِأَنَّ قَطْفَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا قَبْلَ مَوْتِهِ كَانَ فِيهِ تَعْذِيبٌ لِذِي رُوحٍ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ صَيْدِهَا مَسْنُونَةً، وَلَا وَرَدَ بِهَا شَرْعٌ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ حَسَنًا. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ وَطَفَا مِنْ مَيْتَتِهِ أَوْ أُخِذَ حَيًّا، أَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ سَمَكًا طَافِيًا وَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُحلت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ والدمان أحسبه قال الكبد والطحال وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وقال الله جل ثناؤه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ} وهذا عمومٌ فمن خص منه شيئاً فالمخصوص لا يجوز عند أهل العلم ألا بسنة أو إجماع الذين لا يجهلون ما أراد الله (قال المزني) رحمه الله ولو جاز أن يحرم الحوت وهو ذكي لأنه طفا لجاز أن يحرم المذكى من الغنم إذا طفا وفي ذلك دليلٌ، وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الْمَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ بَرْدِ الْمَاءِ، أَوْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ أَوْ نَضَبَ عَنْهُ حَتَّى صَارَ عَلَى الْيُبْسِ أَوْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَسَوَاءٌ طَفَا عَلَى الْمَاءِ حَتَّى ظَهَرَ أَوْ رَسَبَ فِي قَرَارٍ فَلَمْ يَظْهَرْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنْ طَفَا حَرُمَ، وَإِنْ رَسَبَ لَمْ يَحْرُمِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ". وَبِرِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُوا مَا حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَى، وَمَا وَجَدْتُمْ مَيْتًا طَافِيًا فَوْقَ الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ ". قَالُوا: وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ نصٌّ فِي التَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَوْتَ ذِي الرُّوحِ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ كَالْبَرِّيِّ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ} (المائدة: 96) وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا، وَأَنَّ طَعَامَهُ طَافِيه عَلَى قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " وَهَذَا كَالنَّصِّ، أَضَافَ الْمَيْتَةَ إِلَى الْبَحْرِ لَا إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " فَالْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. نُرِيدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، ثُمَّ أَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ وَنَحْنُ بِالسَّاحِلِ دَابَّةً تُسَمَّى الْعَنْبَرَ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، واستدمنا منه، وادهنا بودكه حتى باتت أَجْسَامُنَا، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ، وَأَعْظَمِ جملٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ الْجَمَلَ ثُمَّ يَمُرَّ تَحْتَهُ، فَفَعَلَ فَمَرَّ تَحْتَهُ، فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي. وَالثَّانِي: إِبَاحَةُ أَكْلِ دَوَابِّ الْبَحْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُوتًا. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ: " السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ عَلَى الْمَاءِ حلالٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مخالفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَأَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ سَمَكًا طَافِيًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِنْكَارٌ دَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُنْكِرٌ كَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ اسْتَغْنَى عن الذكاة في إباحته استغنى فِي مَوْتِهِ كَالْجَرَادِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ قَبْلَ الظَّفَرِ حَلَّ أَكْلُهُ بَعْدَ الظَّفَرِ كَالْمُذَكَّى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 أَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ إِسْنَادِهِ وَضَعْفُ حَالِهِ. وَالثَّانِي: حَمْلُهُمَا عَلَى التَّنْزِيهِ إِذَا أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على البري فمنقضٌ بِالْجَرَادِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَرِّيِّ افْتِقَارُهُ إِلَى الذَّكَاةِ، وَفِي الْبَحْرِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 كتاب الضحايا من كتاب اختلاف الأحاديث ومن إملاء على كتاب أشهب ومن كتاب أهل المدينة وأبي حنيفة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَقَالَ أنسٌ وَأَنَا أُضَحِّي أيضاً بكبشين وقال أنسٌ في غير هذا الحديث ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكبشين أملحين وذبح أبو بردة بن نيارٍ قبل أن يذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم الأضحى فزعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أن يعود لضحيةٍ أخرى فقال أبو بردة لا أجد إلا جذعاً فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن لم تجد إلا جذعاً فاذبحه " (قال الشافعي) رحمه الله: فاحتمل أمره بالإعادة أنها واجبةٌ واحتمل على معنى أنه إن أراد أن يضحي فلما قال عليه السلام " إذا دخل العشر فأراد أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وبشره شيئاً " دل على أنها غير واجبةٍ وبلغنا إِنَّ أَبَا بكرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كانا لا يضحيان كراهية أن يرى أنها واجبةٌ وعن ابن عباسٍ أنه اشترى بدرهمين لحماً فقال هذه أضحية ابن عباسٍ. القول في مشروعية الأضحية (فَصْلٌ:) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا قَوْله تَعَالَى: {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) {الحج: 36) الْآيَةَ، إِلَى قوله: {القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . أَمَّا الْبُدْنُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا النَّعَمُ كُلُّهَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا بُدْنًا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِكِبَرِ أَبْدَانِهَا، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَهَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا مُبَدَّنَةٌ بِالسِّمَنِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَهَا جَمِيعَ النَّعَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: {مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ فُرُوضِهِ: وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ أَوْجَبَ الضَّحَايَا. وَالثَّانِي: مِنْ مَعَالِمِ دِينِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 وَهُوَ تَأْوِيلُ مَنْ سَنَّ الضَّحَايَا، وَفِي قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَجْرٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّانِي: مَنْفَعَةٌ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ظَهْرِهَا رَكِبَ وَإِنْ حَلَبَ لَبَنَهَا شَرِبَ قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْقُولَةٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: مُصْطَفَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " صَوَافِي " أَيْ: خَالِصَةٌ لِلَّهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " صَوَافِنْ " أَيْ مَصْفُونَةٌ، وَهُوَ أَنْ تُعْقَلَ إِحْدَى يَدَيْهَا حَتَّى تَقِفَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَفَنَ الْفَرَسُ إِذَا أَثْنَى إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى قَامَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ} . قَالَ الشَّاعِرُ: (أَلِفَ الصُّفُونَ فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا) وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ سَقَطَتْ جُنُوبُهَا إِلَى الْأَرْضِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ لِلْغُرُوبِ. وَالثَّانِي: طَفَتْ جُنُوبُهَا بِخُرُوجِ الرُّوحِ، وَمِنْهُ وُجُوبُ الْمَيْتِ إِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ وَاجِبَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ والإطعام واجب، وفي قوله: {القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ الْقَانِعَ: السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرَّ: الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْقَانِعَ: الَّذِي يَقْتَنِعُ وَلَا يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرِي فَيَسْأَلُ قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (لَهُ نِحْلَةُ الْأَوْفَى إِذَا جَاءَ عَانِيًا ... وَإِنْ جَاءَ يَعْرُو لَحْمَنَا لَمْ يُؤَنَّبِ) وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْقَانِعَ الطَّوَّافُ وَالْمُعْتَرَّ: الصَّدِيقُ الزَّائِرُ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) {الحج: 37) . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 أَحَدُهُمَا: لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ الدِّمَاءَ، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ التَّقْوَى. وَالثَّانِي: لَنْ يَصْعَدَ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ التَّقْوَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَحَرُوا بُدْنَهُمُ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ بِهَا وَنَضَحُوا الدِّمَاءَ عَلَيْهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ ذَلِكَ، فنهوا عنه {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَلَّلَهَا حَتَّى أَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا. والثاني: سهلها لكم حتى تقربتم بها. {لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ ذَبْحِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنَ التلبية في الإحرام {وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْقَبُولِ. وَالثَّانِي: بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) {الحج: 28) . أَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَذْكُروا اسْمَ اللهِ} فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَمْرُ اللَّهِ بِذَبْحِهَا فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ. وَالثَّانِي: التَّسْمِيَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيَّامُ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا أيام التشريق وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أَيْ عَلَى نَحْرِ مَا رَزَقَهُمْ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا مَلَّكَهُمْ. وَالثَّانِي: مَا مَكَّنَهُمْ، وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا، وَفِي البائس الفقير: تأويلان: أحدهما: إِنَّهُ الْفَقِيرُ الزَّمِنُ. وَالثَّانِي: الَّذِي بِهِ ضُرُّ الْجُوعِ وَأَثَرُ الْبُؤْسِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الَّذِي يَمُدُّ يَدَهُ بِالسُّؤَالِ وَيَتَكَفَّفُ بِالطَّلَبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) {الكوثر: 1 - 2) . وَفِي الْكَوْثَرِ ستة تأويلات: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 أَحَدُهَا: إِنَّهُ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ الْمُغِيرَةُ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْخَامِسُ: إِنَّهُ كَثْرَةُ أُمَّتِهِ، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ. وَالسَّادِسُ: إِنَّهُ حَوْضٌ فِي الْجَنَّةِ يَكْثُرُ عَلَيْهِ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ الْكَوْثَرِ. وَفِي قَوْلِهِ: {فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه صلاة العبد وَنَحْرُ الضَّحَايَا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا صَلَاةُ الْفَرْضِ وَاسْتِقْبَالُ القبل فِيهَا بِنَحْرٍ، قَالَهُ أَبُو الْأَحْوَصِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الصَّلَاةَ: الدُّعَاءُ وَالنَّحْرَ: الشُّكْرُ، قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُهَا. فَهَذِهِ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. وَفِي الْأَمْلَحَيْنِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْأَبْيَضُ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ وَهَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَبَاقِيهِ بَيَاضٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الَّذِي بَيَاضُهُ أَكْثَرُ مِنْ سَوَادِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَفِي قَصْدِ أُضْحِيَّتِهِ بِالْأَمْلَحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ. وَالثَّانِي: لِشَحْمِهِ وَطِيبِ لَحْمِهِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ جِنْسِهِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الزُّرَقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَحَّى بَكَبْشٍ أَدْغَمَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالْأَدْغَمُ مِنَ الْكِبَاشِ مَا أَرْنَبَتُهُ وَمَا تَحْتَ حَنَكِهِ سوادٌ وَبَاقِيهِ بَيَاضٌ. وَرَوَى أَبُو رَمْلَةَ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: عَلَى كُلِّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 مسلمٍ في كل عامٍ أضحاةٌ عتيرة "، وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ، كَمَا تُذْبَحُ الْأُضْحِيَّةُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَنُسِخَتِ الْعَتِيرَةُ وَبَقِيَتِ الْأُضْحِيَّةُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا فرعة وَلَا عَتِيرَةَ " قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْفَرَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوَّلُ مَا تُنْتَجُ النَّاقَةُ، يَقُولُونَ: لَا يَمْلِكُهَا وَيَذْبَحُهَا رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِي لَبَنِهَا وَكَثْرَةِ نسلها. القول في حكم الأضحية فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّحَايَا مَأْمُورٌ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى مُقِيمٍ وَلَا مُسَافِرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ احْتِجَاجًا فِي الْوُجُوبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) {الكوثر: 2) . وَهَذَا أَمْرٌ، وَبِحَدِيثِ أَبِي رَمْلَةَ عَنْ مِحْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أضحاةٌ وعتيرةٌ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلَا يَشْهَدْ مُصَلَّانَا " وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِرِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نيار ذبح أضحة قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُعِيدَ، فَدَلَّ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا اخْتُصَّتْ بِالْعِيدِ وَجَبَتْ كَالْفِطْرَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ كَانَ لَهُ أَصْلُ وُجُوبٍ فِي الشَّرْعِ كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّ تَوْقِيتَ زَمَانِهَا وَالنَّهْيَ عَنْ مَعِيبِهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا، كَالزَّكَوَاتِ، وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ مِنْدَلٌ عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَضَاحِيُّ عليَّ فريضةٌ وَعَلَيْكُمْ سنةٌ " وَهَذَا نص. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 وَرَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثلاثٌ كُتِبَتْ عليَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَالسِّوَاكُ ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا " فَعَلَّقَ الْأُضْحِيَّةَ بِالْإِرَادَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَحَتَّمَهَا فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ " فَلَمْ يَدُلَّ تَعْلِيقُ الْجُمُعَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ، قُلْنَا إِنَّمَا عَلَّقَ بِالْإِرَادَةِ الْغُسْلَ دُونَ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ. وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أُضَحِّي وَأَنَا موسرٌ لِئَلَّا يُقَدِّرَ جِيرَانِي أَنَّهَا واجبةٌ عليَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَعْطَى عِكْرِمَةَ درهمين، وأمره أن يشري بِهَا لَحْمًا، وَقَالَ: مَنْ سَأَلَكَ عَنْ هَذَا فَقُلْ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ ذَلِكَ لِعُدْمٍ، قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدِي نَفَقَةُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمٍ، لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِ كَالْعَقِيقَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْعَقِيقَةُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْحَاضِرِ، كَالْوَاجِدِ لِأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ وُجُوبُهُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ سَقَطَ وُجُوبُهُ فِي وَقْتِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، كَسَائِرِ السُّنَنِ طَرْدًا، وَجَمِيعِ الْفُرُوضِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ ذَبِيحَةٍ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا ذَبْحُهَا كَالتَّطَوُّعِ طَرْدًا، وَدَمِ الْمَنَاسِكِ عَكْسًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فِيهَا، ثُمَّ لَا يُمْنَعُ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَى كُلِّ مسلمٍ فِي كُلِّ عامٍ أضحاةٌ وعتيرةٌ " فمن وجهين: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 أحدهما: أن رواية أبو رَمْلَةَ عَنْ مِحْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَهُمَا مَجْهُولَانِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَتِيرَةِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَالْعَتِيرَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَشْهَدْ مُصَلَّانَا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ جَمَعَ فِي التَّرْكِ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ سُنَّةٌ، فَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ مَا أَمَرْنَاهُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، فَلْيَتْرُكْ مَا أَمَرْنَاهُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ هَذَا زَجْرٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَ: " مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ شَيْئًا، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا ". فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ، فَالْأَمْرُ بِهَا، وَإِلْزَامُ فِعْلِهَا، أَبْلَغُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ هَذَا الزَّجْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْإِعَادَةِ اسْتِحْبَابًا، وَإِمَّا عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ نَذْرًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ لَمَّا اسْتَوَى فِيهَا، الْحَاضِرُ وَالْمُسَافِرُ، وَلَزِمَ قَضَاؤُهَا مَعَ الْفَوَاتِ، وَخَلَفَ مِنْهَا لِأُضْحِيَّةٍ، جَازَ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَمْ تَجِبِ الْأُضْحِيَّةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنَّ لَهُ في الشرع أصل في دماء الحج، فلم يحتج أن يكون الْأُضْحِيَّةُ لَهُ أَصْلًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوَقْتِهَا، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْعُيُوبِ فِيهَا، فَهُوَ إِنَّ هَذَيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ لا يقتضي وجوبها عليه، والله أعلم. القول في أخذ المضحي من شعره وبشره في عشر ذي الحجة (مسألة:) قال الشافعي: " وَأَمَرَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا اتِّبَاعًا وَاخْتِيَارًا بِدَلَالَةِ السُّنَّةِ وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ يُقَلِّدُهَا هُوَ بِيَدِهِ ثَمَّ يَبْعَثُ بِهَا فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شيءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَى نَحَرَ الْهَدْيَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأُضْحِيَّةُ سُنَّةُ تطوعٍ لَا نُحِبُّ تَرْكَهَا وَإِذْ كَانَتْ غَيْرَ فرضٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَكَمِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ " قَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أنه مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ، وَأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ يَمْتَنِعَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ، فَإِنْ أَخَذَ كُرِهَ لَهُ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَأَخْذُهُ لِشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَتَشْبِيهًا بِالْمُحْرِمِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا يُكْرَهُ أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ مُحِلٌّ، فَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ كَغَيْرِ الْمُضَحِّي، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ حَلْقُ الشَّعْرِ كَالْمُحِلِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: إِنَّهُ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَى نَحَرَ الْهَدْيَ، فَكَانَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَحَايَاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْفَذَهَا مِعْ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَحُكْمُهَا أَغْلَظُ لِسَوْقِهَا إِلَى الْحَرَمِ، فَلَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى إِذَا ضَحَّى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَاسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْنَا وَهُمَا فِي اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهِمَا مَرْفُوعَانِ بِالنَّصِّ، وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرَيْنِ، فَنَحْمِلُ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ، فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُطَّرَحًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سنةٌ فَفِي قَوْلِهِ: " فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا " تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَرَادَ بِالشَّعْرِ شَعْرَ الرَّأْسِ، وَبِالْبَشَرَةِ شَعْرَ الْبَدَنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُكْرَهُ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّهُ أَرَادَ بِالشَّعْرِ شَعْرَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَبِالْبَشَرَةِ تَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 وَتَكُونُ السُّنَّةُ فِي تَرْكِهِ لِأَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ سَوَاءً، وَأَخْذُهُ لَهُمَا مَعًا مَكْرُوهًا، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ، اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْكَرَاهَةِ لِأَخْذِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ بَعْدَ اسْتِهْلَالِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُضَحِّيَ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْ شِعْرِهِ وَبَشَرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا أَوْ يُعَيِّنَهَا مِنْ جُمْلَةِ مَوَاشِيهِ، فَيُكْرَهُ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَالتَّعْيِينِ. أَخْذُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَلَا يُكْرَهُ بِالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " فَإِذَا ضَحَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ فَقَدْ وَقَعَ ثَمَّ اسْمُ أضحيةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُقَالُ ضحيةٌ وَأُضْحِيَّةٌ وأضحاةٌ وَالضَّحَايَا، جَمْعُ ضَحِيَّةٍ، وَالْأَضَاحِيُّ: جَمْعُ أُضْحِيَّةٍ، وَالْأَضْحي جَمْعُ أضحاةٌ، وَقَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا بَيَانَ مَا بَيْنَ الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ فَيَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: فَهُوَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَتَانِ غَيْرُ وَاجِبَتَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَتَصَدَّقَ وَيُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الْفَرْقِ: فَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْهَدَايَا فِي الْحَرَمِ، وَمَوْضِعَ الضَّحَايَا فِي مَوْضِعِ الْمُضَحِّي. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ لُحُومِ الْهَدَايَا مِنَ الْحَرَمِ، وَإِنْ جَازَ لَهُ ادِّخَارُهُ فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ لُحُومِ الضَّحَايَا عَنْ بَلَدِ الْمُضَحِّي. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا جَازَ لِلْمُضَحِّي أن يضحي في بيته تكتب في الوسط غير بيته سراً وجهراً، وَإِذَا ضَحَّى بِشَاةٍ أَقَامَ بِهَا السُّنَّةَ، وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ، وَلَا يُؤْمَرُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِ الْأُضْحِيَّةِ فَعَمَّتْ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ حق فخصت. ما يجزئ في الأضحية من السن وخلاف العلماء في ذلك (مسألة:) قال الشافعي: " (قال) وَيَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ ولَا يَجُوزُ دُونَ هَذَا مِنَ السِّنِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الضَّحَايَا فَلَا تَجُوزُ إِلَّا مِنَ النَّعَمِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) {المائدة: 1) . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ اخْتَصَّتِ الْأُضْحِيَّةُ، لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَالنَّعَمُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمُ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وِمَنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) {الأنعام: 43) . يَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى فَاخْتَصَّ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النَّعَمِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا. وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُ الْأَضَاحِيِّ بِهَا. وَالثَّالِثُ: إِبَاحَتُهَا فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي تَسْمِيَتِهَا نعماً وجهان: أحدهما: لنعومة وطأها إِذَا مَشَتْ حَتَّى لَا يُسْمَعَ لِأَقْدَامِهَا وَقْعٌ. وَالثَّانِي: لِعُمُومِ النِّعْمَةِ فِيهَا فِي كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا وَنِتَاجِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الضَّحَايَا بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَأَسْنَانُ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنْهَا مُعْتَبَرَةٌ وَلَا يُجْزِئُ دُونَهَا، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَا دُونَ الْجِذَاعِ مِنْ جَمِيعِهَا وَلَا يَلْزَمُ مَا فَوْقَ الثَّنَايَا مِنْ جَمِيعِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا عَلَى ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهَا إِلَّا الثَّنَايَا مِنْ جَمِيعِهَا وَلَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ كَمَا لَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ إِنَّهُ يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ جَمِيعِهَا حَتَّى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ كَمَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ - أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ إِلَّا الَّتِي دُونَ الْجَذَعِ وَيُجْزِئُ مِنَ الضَّأْنِ وَحْدَهُ الْجَذَعُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مسنةٌ إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ ". فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُسِنِّ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الِاعْتِبَارِ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: " قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَأَعْطَانِي عَنْزًا ذَا جَذَعٍ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنَّهُ جَذَعٌ فَقَالَ: " ضَحِّ بِهِ فَضَحَّيْتُ بِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ فَقَالَ ضَحِّ بِهِ ". وروى ابن عباس قَالَ: جَلَبْتُ غَنَمًا جِذَاعًا إِلَى الْمَدِينَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 فَكَسَدَتْ عَلَيَّ فَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " نِعْمَ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ قَالَ فَانْتَهَبَهَا النَّاسُ " وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ عَنْ يَزِيدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَطَبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ الْعِيدِ، فَقَالَ: " إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِ يَوْمِكُمْ هَذَا الصَّلَاةُ فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَوْمًا يَشْتَهِرُ فِيهِ اللَّحْمُ، وَإِنَّا عَجَّلْنَا فَذَبَحْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَبْدِلْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا مَاعِزًا جَذَعًا فَقَالَ هِيَ لَكَ وَلَيْسَتْ لأحدٍ بَعْدَكَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ غَيْرَهُ، وَفِي تَخْصِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَائِهَا عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَاسْتثْنى. وَالثَّانِي: إِنَّهُ عُلِمَ مِنْ صِدْقِ طَاعَتِهِ وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ مَا مَيَّزَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ أَوْ عَنْ وَحْيٍ مِنَ الله تعالى؟ على وجهين. ما يذبح من الضَّحَايَا مِنَ النَّعَمِ (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي أَسْنَانِ الضَّحَايَا فَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ سِتًّا، وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ مَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ عَنْهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِخْبَارًا عَنِ ابْتِدَاءِ سِنِّ الثَّنِيِّ، وَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ إِخْبَارًا عَنِ ابْتِدَاءِ سِنِّ الثَّنِيِّ، وَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ إِخْبَارًا عَنِ انتهاء سِنِّ الثَّنِيِّ، وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ فَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ ثَلَاثًا، وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ فَهُوَ: مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيةِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَتَيْنِ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فَهُوَ ما استكمل ستة أشهر ويدخل فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ مَا اسْتَكْمَلَ سنة وتأويله ما ذكرناه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالْإِبِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُضَحَّى بِهَا مِنَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرُ مِنَ الْغَنَمِ وَالضَّأْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمَعْزِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَفْضَلُ الضَّحَايَا الثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ، ثُمَّ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 وَقَالَ مَالِكٌ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ أَفْضَلُهَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الذَّبْحِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا لَفَدَى بِهِ إِسْحَاقَ، وَلِأَنَّهَا أَطْيَبُ لَحْمًا وَأَشْهَى إِلَى النُّفُوسِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ ". وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (الحج: 36) . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَكْرِمُوا الْإِبِلَ فَإِنَّ فِيهَا رَقْوَ الدَّمِ ". وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ "، وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْإِبِلِ عَنْ سَبْعَةٍ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَذَعِ الضَّأْنِ الَّذِي هُوَ عَنْ وَاحِدٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " أَفْضَلُ الذَّبْحِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ "، فَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَعْزِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَحُّونَ بِالْغَنَمِ وَيُهْدُونَ الْإِبِلَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الثَّنِيَّ مِنَ الْإِبِلِ أَفْضَلُ فَهُوَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَحْرِهِ، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ فِيهِ سَبْعَةٌ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُضَحِّيًا بِسُبُعِهَا كَانَتِ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ أفضل من سبعها. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْعَفْرَاءُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ السَّوْدَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَوَّلُ مَا يُضَحَّى بِهِ مِنْ أَلْوَانِ الْغَنَمِ الْبِيضُ، ثُمَّ الْعُفْرُ، ثُمَّ الْحُمْرُ، ثُمَّ الْبُلْقُ، ثُمَّ السَّوَادُ فَتَكُونُ الْبِيضُ وَمَا قَارَبَهَا مِنَ الْأَلْوَانِ أَفْضَلَ مِنَ السَّوَادِ لرِوَايَة يَحْيَى بْنِ أَبِي وَرَقَةَ عَنْ مَوْلَاتِهِ كَبِيرَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَبْرِقُوا فَإِنَّ دَمَ عَفْرَاءَ أَذْكَى عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ ". وَفِي قَوْلِهِ: أَبْرِقُوا أَيْ ضَحُّوا بِالْبَرْقَاءِ وَهِيَ الشَّاةُ الَّتِي يَخْتَلِطُ بِبَيَاضِ صُوفِهَا طَاقَاتٌ سُودٌ وَالْعَفْرَاءُ الَّتِي يَضْرِبُ لَوْنُهَا إِلَى الْبَيَاضِ وَلَيْسَتْ صَافِيَةَ الْبَيَاضِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِلطُّنُبِ الْعُفْرُ. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَا يُبَارَكُ لَهَا فِي غَنَمِهَا فَقَالَ: " مَا أَلْوَانُهَا قَالَتْ: سودٌ فَقَالَ لَهَا عَفِّرِي " أَيِ اخْلِطِيهَا بعفرٍ، وَلِأَنَّ لُحُومَ مَا خَالَفَ السَّوَادَ أَطْيَبُ وَأَصَحُّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَنَّ مُدَاوَمَةَ أَكْلِ لُحُومِ السَّوَادِ تُحْدِثُ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ، وَقَدْ حَكَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَلْوَانِ الْغَنَمِ حُوًّا، وَقَهْبًا، وحلساً، وقمراً، وسفعاً، ورقشاً، وزبداً فالحو هِيَ السُّودُ الَّتِي خَالَطَهَا حُمْرَةٌ. وَالْقَهْبَاءُ: هِيَ الْبَيْضَاءُ الَّتِي خَالَطَهَا حُمْرَةٌ. وَالْحَلْسَاءُ: الَّتِي ظَهْرُهَا أَحْمَرُ وَعُنُقُهَا أَسْوَدُ وَالْقَمَرُ الَّتِي فِي وَجْهِهَا خطط بِيضٌ وَسُودٌ. وَالسَّفْعَاءُ: الَّتِي نَجِدُهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لونها. والرقشاء: المنطقة بِبَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَالزَّبْدَاءُ: الَّتِي اخْتَلَطَ سَوَادُ شَعْرِهَا بِبَيَاضِهِ كَالْبَرْشَاءِ إِلَّا أَنَّ الْبَرْشَاءَ أَكْثَرُ اجْتِمَاعِ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَبَاقِي هَذِهِ الْأَلْوَانِ إِنْ ضَحَّى لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَرَاهِيَةٌ وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْأَلْوَانِ أَفْضَلَ، فَمِنْهَا مَا كَانَ أَفْضَلَ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَمِنْهَا مَا كَانَ أَفْضَلَ لِطِيبِ مَخْبَرِهِ؛ فَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ أَفْضَلَ. وَإِنِ افْتَرَقَا كَانَ طَيِّبُ الْمَخْبَرِ أَفْضَلَ مِنْ حُسْنِ المنظر. (مسألة:) قال الشافعي: " وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤه {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهَ} اسْتِسْمَانُ الْهَدْيِ وَاسْتِحْسَانُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) {الحج: 32) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ. أَحَدُهَا: إِنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ، وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِيفَاؤُهَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الْبُدْنُ الْمُشْعِرَةُ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا، وَاسْتِحْسَانُهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الشافعي وفي قوله {إِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ. أَحَدُهَا: إِنَّهُ إِخْلَاصُ الْقُلُوبِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَصْدُ الثَّوَابِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ مَا أَرْضَى اللَّهَ تَعَالَى. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلَ الرِّقَابِ. فَقَالَ: " أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَبْتَعِ إِلَّا مُسِنَّةً وَلَا تَبْتَعْ إِلَّا سَمِينَةً فَإِنْ أَكَلْتَ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَإِنْ أَطْعَمْتَ أَطْعَمْتَ طَيِّبًا "، فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا أَسْمَنُهَا وَأَحْسَنُهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ غَنَمًا فَأَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَكْثَرُهَا سِمَنًا وَحُسْنًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ لَبَنٍ يَزِيدُ ثَمَنُهَا لِكَثْرَةِ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ مَا نَقَصَ ثَمَنُهُ إِذَا كَانَ أَزْيَدَ سِمَنًا وَلَحْمًا أَفْضَلَ، وَأَمَّا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، فَقَدْ يَزِيدُ ثَمَنُهَا بِالْعَمَلِ تَارَةً وَبِالسِّمَنِ أُخْرَى، فَتَكُونُ سِمَانَهَا أَفْضَلَ مِنْ عَوَامِلِهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَثْمَانِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لُحُومُهَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَكْثَرَ لَحْمًا وَأَقَلَّ شَحْمًا. وَبَعْضُهَا أَكْثَرَ شَحْمًا وَأَقَلَّ لَحْمًا، فَذَاتُ اللَّحْمِ أَفْضَلُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَحْمُهَا خَشِنًا؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ وَالشَّحْمَ تَبَعٌ وَإِنْ كَانَ لَحْمُهَا خَشِنًا فَذَاتُ الشَّحْمِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ لَحْمِهَا أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرِ الْأُخْرَى. الْعُيُوبُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ البَّيِّنُ عَوَرُهَا وَلَا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَلَا الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن ماذا ينتفي مِنَ الضَّحَايَا، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَقَالَ أَرْبَعٌ وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العرجاء البين ضلعها، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى فَهَذِهِ أَرْبَعٌ تَضَمَّنَهَا الْخَبَرُ منعت من جواز الأضحية. القول في التضحية بالعرجاء منها العرجاء البين ضلعها، وَالْعَرَجُ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدٍ، أَوْ رِجْلٍ لِلْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهَا تَقْصُرُ بِالْعَرَجِ عَنْ لُحُوقِ غَيْرِهَا فِي الْمَرْعَى فَتَقِلُّ لَحْمًا؛ وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يُوكِسُ ثَمَنَهَا، وَإِذَا لَمْ تُجْزِئِ الْعَرْجَاءُ فَالْقَطْعَاءُ أَوْلَى فَإِنْ كَانَ عَرَجُهَا يَسِيرًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ قَصَرَتْ بِهِ عَنْ لُحُوقِ الصِّحَاحِ فِي الْمَشْيِ وَالسَّعْيِ كَانَ عَرَجًا بَيِّنًا لَا يُجْزِئُ، وَإِنْ لَمْ تَقْصُرْ به عن الصحاح أجزأت. التضحية بالعوراء (فصل:) ومنها العوراء البين عورها التي لَا يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِلنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أذهب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 عُضْوًا مُسْتَطَابًا مِنْ رَأْسِهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَقْصُرُ بِالْعَوَرِ فِي الرَّعْيِ فَيَقِلُّ لَحْمُهَا، وَلِأَنَّهُ مُوكِسٌ لِثَمَنِهَا وَسَوَاءٌ لَحِقَهَا الْعَوَرُ فَأَذْهَبَ الْعَيْنَ أَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَا تُبْصِرُ بِهَا فَإِنَّهَا الْبَيِّنُ عَوَرُهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ الْعَوَرِ الْبَيَاضُ الَّذِي يُغَطِّي النَّاظِرَ فَإِنْ غَطَّى نَاظِرَهَا بِبَيَاضٍ أَذْهَبَ بَعْضَهُ وبقي بعضه نظر؛ فإن كان الذاهب عن نَاظِرِهَا أَكْثَرَ لَمْ تُجْزِئْ وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ أقل أجزأت. التضحية بالعمياء وَإِذَا لَمْ تُجْزِئِ الْعَوْرَاءُ فَالْعَمْيَاءُ أَوْلَى أَلَّا تُجزِئَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْعَمْيَاءِ لِوُرُودِ النَّصِّ عَلَى الْعَوْرَاءِ وَهَذَا مِنْ زَلَلِ الْمُقَصِّرِينَ؛ لِأَنَّ الْعَمَى مُتَضَعِّفٌ مِنَ الْعَوَرِ فهي عوراوان، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّجْفَاءِ وَهِيَ الْعَمْيَاءُ الَّتِي قَدِ انْتَجَفَتْ عَيْنَاهَا فَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ بِالْحَوْلَاءِ وَالْقَمْتَاءِ فجائز. التضحية بالعشواء فأما الْأُضْحِيَّةُ بِالْعَشْوَاءِ الَّتِي تُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا تُبْصِرُ لَيْلًا، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُبْصِرُ فِي زَمَانِ الرَّعْيِ وَعَيْنُهَا مَعَ الْعَشَاءِ بَاقِيَةٌ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُ النَّظَرِ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ. وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، لِأَنَّهَا فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ غَيْرُ ناظرة فكان نقصاً مؤثراً. التضحية بالمريضة (فَصْلٌ:) وَمِنْهَا الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، لِأَنَّ مَرَضَهَا مَعَ الْخَبَرِ قَدْ أَوْكَسَ ثَمَنَهَا، وَأَفْسَدَ لَحْمَهَا، وأضعف راعيتها. وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ظَهَرَ مِنْ آثَارِهِ فِي اللَّحْمِ كَالْجَرَبِ، وَالْبُثُورِ، وَالْقُرُوحِ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا أَوْ غَيْرَ مَرْجُوٍّ لِوُجُودِهِ فِي حَالِ الذَّبْحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ تَظْهَرْ آثَارُهُ كَالْمَرَضِ الْكَادِّي لِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مَنَعَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، فَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى حَظْرِهِ، وَفِي الْجَدِيدِ إِلَى جَوَازِهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 فصار على قولين، فأما الهيام هو مِنْ دَاءِ الْبَهَائِمِ وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَدَّ عَطَشُهَا حَتَّى لَا تَرْتَوِيَ مِنَ الْمَاءِ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ مانع؛ لأنه داء مؤثر في اللحم. التضحية بالعجفاء (فَصْلٌ:) وَمِنْهَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى وَالْعُجْفَةُ فَرْطُ الْهُزَالِ الْمُذْهِبِ لِلَّحْمِ، وَالَّتِي لَا تُنَقَّى، وَالَّتِي لَا مُخَّ لَهَا لِلْعَجَفِ الَّذِي بِهَا، وَالنِّقَا هُوَ الْمُخُّ. قَالَ الشَّاعِرُ: (أَذَابَ اللَّهُ نِقْيَكِ فِي السُّلَامَى ... عَلَى مَنْ بِالْحَنِينِ تُعَوِّلِينَا) فَإِنْ كَانَ الْعَجَفُ الَّذِي بِهَا قَدْ أَذْهَبَ نِقْيَهَا لَمْ يَجُزِ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَجَفُ خِلْقَةً أَوْ مُزْمِنًا، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ نِقْيَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عَجَفُهَا لِمَرَضٍ لَمْ تُجْزِئْ، وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً أَجْزَأَتْ؛ لِأَنَّهُ فِي المرض داء وفي الخلقة غير داء. التضحية بمعيبة الأذن (فَصْلٌ:) وَقَدْ رُوِيَ فِي النَّوَاهِي غَيْرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُضَحّى بمقابلةٍ وَلَا مدابرةٍ وَلَا شَرَقًا وَلَا خَرَقًا ". فَأَمَّا الْمُقَابَلَةُ: فَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُقَدَّمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ. وَأَمَّا الْمُدَابَرَةُ: فَهِيَ الَّتِي قُطِعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا شَيْءٌ. وَأَمَّا الشَّرْقَاءُ: فَالْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ بِالطُّولِ. وَأَمَّا الْخَرْقَاءُ: فَالَّتِي فِي أُذُنِهَا ثُقْبٌ مُسْتَدْبِرٌ، وَإِنْ كان هذا قد أذهب من الأذن شيء لَمْ يُجْزِئْ فِي الضَّحَايَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مِنْهَا عُضْوًا، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ مِنْ أُذُنِهَا شيء لِاتِّصَالِ الْمَقْطُوعِ بِهَا كَرِهْتُ لِلنَّهْيِ وَإِنْ أَجْزَأَتْ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُجْزِئُ مَعَ اتِّصَالِ الْمَقْطُوعِ بِهَا لِأَنَّهُ بِالْقَطْعِ قَدْ فَسَدَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ فَصَارَ نَقْصُ الْأُذُنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ، وَهُوَ مَا أَذْهَبَ بَعْضَهَا. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَمْ يُذْهِبْ شَيْئًا مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ مَا قَطَعَ فَاتَّصَلَ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ. وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ قُطِعَ جَمِيعُهَا لِأَنَّ الْأُذُنَ غَيْرُ مَأْكُولٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ قَطَعَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ قَطَعَ النِّصْفَ فَمَا زَادَ لَمْ تُجْزِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْخَبَرِ، وَقَدْ رَوَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْجَدْعَاءِ " وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن نستشف العين والأذن أي تكشف، وَرُوِيَ " نَسْتَشْرِفَ " أَيْ نُطَالِعُ وَنَنْظُرُ وَلِأَنَّ الْأُذُنَ عُضْوٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهُ مُؤَثِّرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَخْلَفًا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَأَمَّا الَّتِي خُلِقَتْ لَا أُذُنَ لَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِأَنَّهُ نَقْصُ عُضْوٍ مِنْ خِلْقَتِهَا، وَقَدْ رَوَى حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي صِفَاتِ الْأُذُنِ الصَّمْعَاءِ وَالْمَصْعَاءِ وَالْعَرْقَاءِ، وَالْقَصْوَاءِ، فَالصَّمْعَاءُ، الصَّغِيرَةُ الْأُذُنِ وَالْمَصْعَاءُ الْمُمَايَلَةُ الْأُذُنِ لِكِبَرِهَا، وَالْعَرْقَاءُ الْمُرْتَفِعَةُ الْأُذُنِ إِلَى قَرْنِهَا وَالْقَصْوَاءُ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ بِالْعَرْضِ، فَيَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا بِالْقَصْوَاءِ لِنَقْصِ الْأُذُنِ فِيهَا وَسَلَامَتِهَا فِي غَيْرِهَا. التضحية بمقطوعة الذنب والإلية ثُمَّ هَكَذَا الْمَقْطُوعَةُ الذَّنْبِ لَا يَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا لِنَقْصِ عُضْوٍ مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْبَتْرَاءِ " وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ، وَهَكَذَا الْمَخْلُوقَةُ لَا ذَنَبَ لَهَا لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا. وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقْطُوعَةِ الْإِلْيَةِ وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالَّتِي خُلِقَتْ مِنْ غَيْرِ إِلْيَةٍ لِأَنَّ الْمِعْزَى لَا أَلَايَا لَهَا، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالضَّأْنِ. فَأَمَّا الَّتِي انْقَطَعَ سَاقُهَا وَأَثَّرَ فِي أَكْلِهَا وَرَعْيِهَا فَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ مَا قَطَعَ فِي أَكْلٍ وَلَا رَعْيٍ جَازَ. (فَصْلٌ:) رَوَى يَزِيدُ أبو حَفْصٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ الضَّحَايَا بِالْمُصْفَرَّةِ وَالْمُسْتَأْصَلَةِ الْبَخْقَاءِ وَالْمَشِيقَةِ ". فَأَمَّا الْمُصْفَرَّةُ فَهِيَ الْهَزِيلَةُ الَّتِي قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهَا مِنَ الْهُزَالِ، وَأَمَّا الْمُسْتَأْصَلَةُ فَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ مِنْ أَصْلِهَا، وَأَمَّا الْبَخْقَاءُ فَهِيَ الْعَمْيَاءُ الَّتِي نُجِفَتْ عَيْنُهَا وَأَمَّا الْمَشِيقَةُ فَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ عن الغنم لعجف، أو عرج حتى يشعبها الرَّاعِي بِضَرْبِهَا حَتَّى تَلْحَقَ. وَالضَّحَايَا بِهَذَا كُلِّهِ لَا تَجُوزُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ أَمْرَيْنِ إِمَّا مَا أَفْقَدَ عُضْوًا وَإِمَّا مَا أَفْسَدَ لَحْمًا، وَلَا يُمْنَعُ مَا عَدَاهُمَا، وَإِنْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 التضحية بمعيبة القرن (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله: " وليس فِي الْقَرْنِ نقصٌ فَيُضَحَّى بِالْجَلْحَاءِ وَالْمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ أَكْبَرُ مِنْهَا دَمِيَ قَرْنُهَا أَوْ لَمْ يَدْمَ وَلَا تُجْزِئُ الْجَرْبَاءُ لِأَنَّهُ مرضٌ يُفْسِدُ لَحْمَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ فَقْدُ الْقَرْنِ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الضَّحَايَا خِلْقَةً وَبِحَادِثٍ، فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْجَلْحَاءِ وَهِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي خُلِقَتْ لَا قَرْنَ لَهَا وَبِالْعَضْبَاءِ، وَهِيَ الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ سَوَاءٌ دَمِيَ مَوْضِعُ قَرْنِهَا بِالْكَسْرِ أَوْ لَمْ يَدْمَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: فَقْدُ الْقَرْنِ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْأُضْحِيَّةِ خِلْقَةً وَكَسْرًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِجَلْحَاءَ وَلَا عَضْبَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْجَلْحَاءِ، وَلَا تَجُوزُ بِالْعَضْبَاءِ إِذَا دَمِيَ مَوْضِعُ قَرْنِهَا وَاسْتَدَلَّ النَّخَعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَضْبَاءِ ". وَدَلِيلُنَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ، وَهُوَ مَا أَفْقَدَ عضواً مأكولاً، أو فسد لَحْمًا مَقْصُودًا، وَلَيْسَ فِي فَقْدِ الْقَرْنِ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ فَكَانَ النَّهْيُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَقْصَاءِ " وَهِيَ الْمُلْتَوِيَةُ الْقَرْنِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ بِالْقَرْنَاءِ، أَفْضَلُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ ". وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ الْعَضْبَاءَ إِذَا قُطِعَ مِنْهَا النِّصْفُ فما فوقه، فصار المراد به نصاً قَطْعَ الْأُذُنِ دُونَ الْقَرْنِ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ وَيَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقْطُوعَةِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَالْأُذُنُ مَأْكُولَةٌ. الْقَوْلُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ الأضحية (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ لِلذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى إِلَّا فِي قَدْرِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذَلِكَ حِينَ حَلَّتِ الصَّلَاةُ وَقَدَّرَ خُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ لِكُلِّ أحدٍ حَيْثُ كَانَ فَأَمَّا صَلَاةٌ مَنْ بَعْدَهُ فَلَيْسَ فِيهَا وقتٌ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ لَا بِفِعْلِهَا، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَمَضَى بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ دَخَلَ وَقْتُ النَّحْرِ، وَجَازَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمِصْرِ، أَوْ لَمْ يُصَّلِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَقْدِيرِ زَمَانِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْعِيدِ وَخُطْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوْلَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ " ق " وَفِي الثَّانِيةِ بِسُورَةٍ اقْتَرَبَتْ وَكَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَسْتَوْفِي فِيهَا التَّحْمِيدَ وَالْمَوَاعِظَ وَبَيَانَ الْأَضَاحِيِّ وَالْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِرَاءَةِ آيَةٍ، فَيَكُونُ اعْتِبَارُ وَقْتِ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتَيْهِ هُوَ الْمَشْرُوطُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُعْتَبَرَ بِأَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي خُطْبَتَيْنِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيلُ مَرَّةً، وَيُخَفِّفُ أُخْرَى، وَيُقَدِّمُ تَارَةً وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِتَحْدِيدٍ مَشْرُوعٍ لَا يَخْتَلِفُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ هَذَا، هَلْ كَانَ وَقْتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في اعتبار قدر الصلاة يحكمها فِيمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: على إِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي أنه عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُعْتَبَرٌ بِصَلَاتِهِ، وَفِي عَهْدِ مَنْ بَعْدَهُ مُعْتَبَرٌ بقدر الصلاة، فهذه شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَمْصَارِ بِصَلَاةِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا، وَفِي الْقُرَى، وَالْأَسْفَارِ مُعْتَبَرٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ ضَحَّى أَهْلُ الْأَمْصَارِ قَبْلَ صَلَاةِ الْأَئِمَّةِ كَانَ شَاةَ لَحْمٍ وَلَمْ تكن أضحية والمذهب الثالث: هو قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّهُ فِي الْأَمْصَارِ مُعْتَبَرٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَنَحْرِهِ وَفِي الْقُرَى، وَالْأَسْفَارِ مُعْتَبَرٌ بِصَلَاةِ الْأَئِمَّةِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، فَإِنْ ذَبَحَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ كَانَتْ شَاةَ لَحْمٍ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ إِنَّهُ فِي وَقْتِ جَمِيعِ النَّاسِ مُعْتَبَرٌ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا ذَبْحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ". وَبِرِوَايَةِ جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلِمَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 ذَبِيحَتَهُ وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ". قَالُوا: وَتَقْدِيرُهَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَقِينٌ وَتَقْدِيرُهَا بِزَمَانِ الصَّلَاةِ اجْتِهَادٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُ وَقْتِهَا بِالْيَقِينِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهَا بِالْفِعْلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبِالزَّمَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَخْذُ بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالِاخْتِلَافِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ يَوْمَ النَّحْرِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يُصَلِّيَ " فَقَامَ خَالِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا يومٌ اللَّحْمُ فِيهِ مكروهٌ وَإِنِّي ذَبَحْتُ نَسِيكَتِي فَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدْ فَعَلْتَ فَأَعِدْ ذَبْحًا آخَرَ قَالَ: عِنْدِي عَنَاقُ لبنٍ هِيَ خيرٌ مِنْ شَاتَيْ لحمٍ، فَقَالَ " هُوَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ لَنْ تُجْزِئَ جذعةٌ عَنْ أحدٍ بَعْدَكَ ". فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ فِيهِ: أَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِصَلَاةِ الْمُضَحِّي لَا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمُضَحِّي يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ مُنْفَرِدًا وَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ لِلصَّلَاةِ اتِّفَاقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَقْتَ الصَّلَاةِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى تَعَلَّقَتْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، كَالصَّلَاةِ طَرْدًا وَالْكَفَّارَاتِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَقْتًا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى، كَانَ وَقْتًا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، كَمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ طَرْدًا وَعَكْسُهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ فِي أَهْلِ الْقُرَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِذَبْحِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِذَبْحِ أَهْلِ الْقُرَى، كَمَا قَبْلَ الْفَجْرِ؛ وَلِأَنَّ مَا تَوَقَّتَ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِذَا تَقَدَّرَ آخِرُهُ بِالْوَقْتِ تَقَدَّرَ أَوَّلُهُ بِالْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ طَرْدًا وَالزَّكَاةِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيْ زَمَانِ الذَّبْحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِالْوَقْتِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا ذَبْحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِمَامَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ مَضَى، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ صَلَاتِهِ وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْإِمَامُ كَمَا قَالَ: " مَنْ أَدَّى رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشمس فقعد أَدْرَكَ الْعَصْرَ ". يُرِيدُ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ كَمَا عَدَلُوا بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اعْتِبَارَهَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَقِينٌ وَبِزَمَانِهَا اجْتِهَادٌ فَهُوَ أَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 اعْتِبَارَهَا بِزَمَانِ الصَّلَاةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَمَاثَلُ وَلَا يَخْتَلِفُ وَبِفِعْلِ الصَّلَاةِ يَخْتَلِفُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِنَّ دَلَائِلَ الشَّرْعِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الْمَذَاهِبِ الْمُتَعَدِّدَةِ؛ لِحُدُوثِ الْمَذَاهِبِ عَنِ الْأَدِلَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ الْمَذَاهِبَ أَدِلَّةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِفَوَاتِ فِعْلِهَا دُونَ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ بِمَثَابَتِهَا، وَعَلَى أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ، وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ جَازَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ وَجَازَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَلَوْ تَعَلَّقَا فِي وَقْتِهِمَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِئْ إِذَا لَمْ تَقُمِ الصَّلَاةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَا يُقْطَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الذَّبْحِ (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " (قال) وَالذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَهِيَ مَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ إِذَا قُطِعَ وَكَمَالُهَا بأربعٍ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ وَأَقَلُّ مَا يُجَزِئُ مِنَ الذَّكَاةِ أَنْ يَبِينَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِفَرْيِ الْأَوْدَاجِ لِأَنَّهَا لَا تُفْرَى إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَانِ عِرْقَانِ قَدْ يَنْسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ ثُمَّ يَحْيَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا التَّطَّيْيِبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ أَيْ طَيِّبَةٌ فَسمّي بِهَا ذَبْحَ الْحَيَوَانِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْيِيبِ أَكْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا الْقَطْعُ فَسُمِّيَ بِهَا ذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِقَطْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا الْقَتْلُ فَسُمِّيَ بِهَا ذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِقَتْلِهِ، وَالذَّكَاةُ حَالَتَانِ: كَمَالٌ، وَإِجْزَاءٌ. فَأَمَّا حَالُ الْكَمَالِ فَيَكُونُ بِقَطْعِ أَرْبَعَةٍ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفْسِ فِي مُقَدَّمِ الرَّقَبَةِ وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَلِي الْحُلْقُومَ، وَبِهِمَا تُوجَدُ الْحَيَاةُ، وَبِفَقْدِهِمَا تُفْقَدُ الْحَيَاةُ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَنْبَيِ الْعُنُقِ مِنْ مُقَدَّمِهِ، وَلَا تَفُوتُ الحياة بقواتهما. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّهُمَا قَدْ يَنْسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ ثُمَّ يَحْيَيَانِ، وَالْوَدَجَانِ اسْمٌ لَهُمَا فِي البهيمة ويسميان في الإنسان الوريدان، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَنَحْنُ أًَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ) {ق: 16) وَلَكِنْ لَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ سَمَّاهُ فِيهِمَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ إِفْهَامًا لِلْعَامَّةِ فَهَذَا حَالُ الْكَمَالِ فِي الذَّكَاةِ بِقَطْعِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا حَالُ الْجَوَازِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ إِجْزَاءَ الذَّبْحِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ دُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 الْوَدَجَيْنِ، فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَاسْتَثْنَى الْوَدَجَيْنِ حَلَّ الذَّبْحُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِبْقَاءُ الْوَدَجَيْنِ بَعْدَ قطع الحلقوم متعزراً لَا يَتَكَلَّفُ؛ لِأَنَّهُمَا يَكْتَنِفَانِ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ مِنْ جَانِبِهِمَا، فَإِنْ تَكَلَّفَ وَاسْتَبْقَاهُمَا جَازَ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ الذَّبْحُ إِلَّا بِقَطْعِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا، فَإِنِ اسْتَبْقَى مِنْهَا شَيْئًا لَمْ تَحِلَّ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ الذَّبِيحَةُ إِلَّا بقطع أكثر الأربعة كلها إذا قَطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَكْثَرَهُ وَتَرَكَ أَقَلَّهُ حَلَّ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا وَاحِدًا لَمْ يَقْطَعْ أَكْثَرَهُ لَمْ تَحِلَّ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِقَطْعِ أَكْثَرِهَا عَدَدًا وَهُوَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلُوا مَا لَمْ يكن فرض نَابٍ أَوْ حَزَّ طَعْنٍ " فَجَعَلَ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ؛ وَلِأَنَّ مَخْرَجَ الدَّمِ مِنَ الْأَوْدَاجِ، فَكَانَ قَطْعُهَا أَخَصَّ بِالذَّكَاةِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: " قلنا: يا رسول الله إنا لاقوا العدو وغداً أَفَنُذَكِّي بِاللِّيطَةِ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ فَإِنَّ السِّنَّ عظمٌ مِنَ الْأَسْنَانِ وَالظُّفْرَ مُدَى الْحَبَشَةِ " فَاعْتَبَرَهَا بِمَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءُ مَنْهَرٌ لِلدَّمِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِجْزَاءُ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الذَّكَاةِ فَوَاتُ النَّفْسِ بِأَخَفِّ أَلَمٍ؛ لِرِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ شيءٍ الْإِحْسَانَ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَلِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " وَالْأَسْهَلُ فِي فَوَاتِ الرُّوحِ انْقِطَاعُ النَّفَسِ، وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ أَخَصُّ، وَبِقِطَعِ الْمَرِيءِ، لِأَنَّهُ مَسْلَكُ الْجَوْفِ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَطْعِهِمَا حَيَاةٌ، وَالْوَدَجَانِ قَدْ يُسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ فَيَعِيشَانِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الذَّكَاةِ بِمَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهَا بِمَا تَبْقَى معه حياة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ، فَكُلُوا " فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ غَيْرُ مُبِيحٍ، فَصَارَ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ. قِيلَ: يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْكَمَالِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْإِجْزَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ خُصَّ بِمَخْرَجِ الدَّمِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّكَاةِ خُرُوجُ الرُّوحِ وَخُرُوجُهَا بِانْقِطَاعِ النَّفْسِ مِنَ الْحُلْقُومِ وَخُرُوجُ الدَّمِ تَابِعٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِجْزَاءَ الذَّكَاةِ يَكُونُ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لَمْ تَصِحَّ الذَّكَاةُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَحْسَبُهُ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ فَأَبَاحَ الذَّكَاةَ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا لِفَقْدِ الْحَيَاةِ بِقَطْعِهِ، وَهَذَا زَلَلٌ مِنْهُ خَالَفَ بِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ، وَمَعْنَى الذَّكَاةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا عَجَّلَ التَّوْجِيَةَ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ وَفِي قَطْعِ أَحَدِهِمَا إِبْطَالٌ لِلتَّوْجِيَةِ وَتَعْذِيبٌ لِلنَّفْسِ فَلَمْ تَصِحَّ بِهِ الذَّكَاةُ. وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ بَعْضَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّهُمَا لَمْ تَحِلَّ الذَّكَاةُ وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهُمَا فَفِي إِحْلَالِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقْتَصِرًا عَلَى أَقَلِّ الْأَرْبَعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ قَطْعَ أَكْثَرِهَا يَقُومُ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ مَقَامَ جَمِيعِهَا فَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الْوَدَجَيْنِ دُونَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لَمْ تَحِلَّ وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ " وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ فِي انْهِمَارِ الدَّمِ مَأْخُوذٌ مِنْ شرطه الحجام. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَوْضِعُ النَّحْرِ فِي الِاخْتِيَارِ فِي السُّنَّةِ فِي اللَّبَّةِ وَمَوْضِعُ الذَّبْحِ فِي الِاخْتِيَارِ فِي السُّنَّةِ أَسْفَلُ مَجَامِعِ اللَّحْيَيْنِ فَإِذَا نُحِرَتْ بقرةٌ أَوْ ذُبِحَ بعيرٌ فجائزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ فِي الثُّغْرَةِ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ أَرَقُّ وأوحى، وَالسُّنَّةُ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فِي أَسْفَلِ مجامع اللحيين، وأعلى العنق؛ لأنه أرق وأوحى فَيَكُونُ النَّحْرُ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَسْفَلِ الْعُنُقِ وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَعْلَى الْعُنُقِ، فَصَارَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مُعْتَبَرًا فِيهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَلُّ قَطْعِهِمَا بِالسُّنَّةِ وَتَعْجِيلِ التَّوْجِيَةِ، فَإِنْ خَالَفَ فَذَبَحَ مَا يُنْحَرُ مِنَ الْإِبِلِ، وَنَحَرَ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَجْزَأَ، وأساء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذَبَحَ مَا يُنْحَرُ مِنَ الْإِبِلِ حَلَّ، وَإِنْ نَحَرَ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرُمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) وَلَمْ يَخُصَّ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَعْلَاهُمَا وَالنَّحْرَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا فَاسْتَوَى حُكْمُ قَطْعِهِمَا فِي الْمَحَلَّيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ بِالذَّبْحِ حَلَّ بِالنَّحْرِ كَالْإِبِلِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ حَلَّتْ بِهِ الْبَقَرُ كَالذَّبْحِ، فَأَمَّا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فِي الرَّأْسِ وَمَا دُونَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ من الجوف لم تحل، وإن وحي فصار كقطعهما باثنين. (مسألة:) قال الشافعي: قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عباسٍ الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَزَادَ عُمَرُ وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ وَنَهَى عَنِ النَّخَعِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَمَّا قَوْلُهُ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ فَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا عَنِ الرَّسُولِ، وَمَأْثُورًا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الذَّكَاةِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ ". فَالزَّهَقُ: الْإِسْرَاعُ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِسْرَاعُ خُرُوجِ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) {التوبة: 55) وَفِي الْمُرَادِ بِنَهْيِ عُمَرَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْطَعَ أَعْضَاءَ الذَّبِيحَةِ قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهَا لِيَتَعَجَّلَ أَكْلَهَا كَالَّذِي كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَجِّلَ سَلْخَهَا قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهَا لِيَتَعَجَّلَ أَكْلَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ حَتَّى لَا تَضْطَرِبَ لِيَتَعَجَّلَ خُرُوجَ رُوحِهَا كَالْيَهُودِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لِوُجُودِهَا بَعْدَ الذَّكَاةِ، وَأَغْلَظُهَا فِي الْكَرَاهَةِ قَطْعُهَا ثُمَّ سَلْخُهَا ثُمَّ إِمْسَاكُهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمِ الْأَكْلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَمَّا نَهْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّخْعِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْخَعُوا وَلَا تَفَرَّسُوا " فَأَمَّا النَّخْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَسْرُ الْعُنُقِ فِي قوله الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: كَسْرُ عَظْمِ الرَّأْسِ فِي قَوْلِ أبي هريرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 وَالثَّالِثُ: أَنْ يُبَالِغَ فِي الْقَطْعِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَطْعِ النُّخَاعِ وَهُوَ عِرْقٌ فِي الصُّلْبِ يَمْتَدُّ إِلَى الْقَفَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَمَّا الْفَرَسُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ كَسْرُ الْعَظْمِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَطْعُ الرَّأْسِ مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِرَاسِ السُّبُعِ وَلَيْسَ فِي النَّخْعِ وَلَا الْفَرَسِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ مَانِعٌ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ كَانَا مَكْرُوهَيْنِ لِحُدُوثِهِمَا بَعْدَ كَمَالِ الذَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتِ الرُّوحُ بَاقِيَةً وَأَشَدُّهُمَا كَرَاهَةً أَشَدُّهُمَا تَعْذِيبًا وألماً. (مسألة:) قال الشافعي: " قَالَ وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَذْبَحَ الْمَنَاسِكَ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا مسلمٌ فَإِنْ ذَبَحَ مشركٌ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَجْزَأَ عَلَى كَرَاهِيَتِي لِمَا وَصَفْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَوْلَى بِالْمُضَحِّي وَالْمُهْدِي أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ساق مائة بدنة فنحر بيده منها ثلاث وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَحَرَ مَا بَقِيَ. وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ بِالْمُصَلَّى قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يَلِينَ ذَبْحَ هَدْيَهِنَّ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ فَكَانَ قِيَامُهُ بِهَا أَفْضَلَ مِنِ اسْتِنَابَتِهِ فِيهَا، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَنَابَ عَلِيًّا فِي نَحْرِ مَا تَبَقَّى مِنْ هَدْيِهِ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَحْضُرَ ذَبْحَهَا إِذَا اسْتَنَابَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ قِيلَ: إِنَّهَا فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: " احْضُرِي ذَبْحَ نَسِيكَتِكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قطرةٍ " وَيَخْتَارُ إِذَا اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِهَا أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ قِيَامَهُمْ بِالْقُرْبِ أَفْضَلُ، وَمَنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْزَأَ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِهَا كَافِرًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ مِنَ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لا تؤكل. القول في ذبيحة الكتابي للأضحية وَإِنْ كَانَ مَأْكُولُ الذَّبِيحَةِ كَالْكِتَابِيِّ حَلَّتْ وَكَانَتْ أُضْحِيَّةً وَإِنْ كَانَ قِيَامُ الْكَافِرِ بِهَا مَكْرُوهًا. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ شَاةُ لَحْمٍ يَحِلُّ أَكْلُهَا، وَلَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً؛ احْتِجَاجًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَذْبَحُ ضَحَايَاكُمْ إِلَّا طَاهِرٌ " يُرِيدُ إِلَّا مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَأَشْبَهَ الْمَجُوسِيَّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) {المائدة: 5) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الضَّحَايَا وَغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ أَنْ يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ فَصَحَّ مِنَ الْكِتَابِيِّ كَالذَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ مَعُونَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْقُرْبِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَاسْتِنَابَتِهِ فِي تَفْرِيقِ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَذْبَحُ ضَحَايَاكُمْ إِلَّا طَاهِرٌ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا مُطَهِّرًا لِلضَّحَايَا، وَهُوَ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، فَمَنَعَ بِهِ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ، وَالْمَعْنَى فِي مَنْعِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ. ذَبْحُ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ " وَذَبْحُ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنَ امرأةٍ حائضٍ وصبيٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَبْحِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا ذَبْحُ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ لَيْسَ فِيهِ كَرَاهَةٌ كَالرِّجَالِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَلِينَ ذَبْحَ هَدْيَهِنَّ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَفْحِ الْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَ سُوقِ الْمَدِينَةِ تَرْعَاهَا جَارِيَةٌ لَهُ، وَكَادَتْ شَاةٌ مِنْهَا تَمُوتُ، فَأَخَذَتِ الْجَارِيَةُ حَجَرًا، فَكَسَرَتْهُ، وَذَبَحَتْ بِهِ الشَّاةَ، فَزَعَمَ كَعْبٌ أَنَّهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: " كُلُوا شَاتَكُمْ " فَدَلَّ هَذَا الحديث على أحكام منها: إِبَاحَةُ ذَبَائِحِ النِّسَاءِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذَبَحَهُ غَيْرُ مَالِكِهِ حَلَّ أَكْلُهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَكَاةَ مَا أَشَفَى عَلَى الْمَوْتِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ طَاهِرًا أَوْ حَائِضًا غَيْرَ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُكْرَهُ ذَبِيحَتُهَا بِغَيْرِ الضَّحَايَا وَاخْتُلِفَ فِي كَرَاهَةِ ذَبْحِهَا لِلضَّحَايَا وَإِنْ أَجْزَأَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغُ فَذَبِيحَتُهُ مَكْرُوهَةٌ فِي الضَّحَايَا وَغَيْرِهَا، وَإِنْ أَجْزَأَتْ لِصِغَرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ؛ وَلِقُصُورِهِ عَنِ التَّكَالِيفِ وَذَبِيحَتُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ كَافِرٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ فِي إِبَاحَةِ ذَكَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ إِلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَبْحِ غَيْرِ الْمُرَاهِقِ أَقْوَى، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ فِي ذَكَاتِهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا هَلْ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الْخَطَأِ، فَإِنْ جَعَلَ عَمْدَهُ خَطَأً لَمْ تَحِلَّ ذَكَاتُهُ وَهَذَا زَلَلٌ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي إِبَاحَةِ الذَّكَاةِ سَوَاءٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 ذبح الأخرس والأعمى (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهِيَ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ كَالنَّاطِقِ؛ وَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّسْمِيَةِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ وَإِشَارَتُهُ بِهَا تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِ الصَّحِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ تَارِكًا لَهَا، وَيُجْزِئُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِهِ فِي وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ أَنْ يُبِيحَ ذَكَاتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يُبِيحُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فِي اللُّحُومِ وَالْأَضَاحِيِّ؛ لِأَنَّ إِشَارَتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَفِيمَا قَدْ يَنْفَرِدُ بِهِ لِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ كِفَايَةٌ. فَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْأَعْمَى، فَمَكْرُوهَةٌ وَإِنْ حَلَّتْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَخْطَأَ مَحَلَّ الذَّبْحِ وَلَا تُمْنَعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ كَالْبَصِيرِ إِذَا ذَبَحَ مُغْمِضُ الْعَيْنَيْنِ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ. ذَبْحُ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ (مسألة:) قال الشافعي: " وَأَكْرَهُ ذَبِيحَةَ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَرَامٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهْنَا ذَبِيحَةَ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ لِمَا يُخَافُ مِنْ عُدُولِهِمَا عَنْ مَحَلِّ الذَّبْحِ، وَمُبَالَغَتِهِمَا فِي الْقَطْعِ إِلَى مَحَلِّ الْكَرَاهَةِ وَهِيَ مَعَ الْكَرَاهَةِ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَصْدُ فِي الذَّكَاةِ غَيْرُ معتبر ومن هم مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَكَاةِ الصَّبِيِّ، فَخَرَّجَ بِهَا وَجْهًا آخَرَ، وَهِيَ فِي السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، فَخَرَّجَ فِي ذَكَاتِهِمَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ. أَمَّا الْمَجْنُونُ، فَمِنْ عَمْدِهِ فِي الْقَتْلِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَمِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ وَتَخْرِيجَهُ فِي الْجَمِيعِ فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَكَاتَهُمْ تَكُونُ لَحْمًا، وَلَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْكَافِرِ. ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ عمر رضي الله عنه. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَبِيحَةُ النَّصَارَى عَلَى أَقْسَامٍ، وَكَذَلِكَ اليهود. أحدها: ما كان مباحاً، وهمو بنوا إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ قَبْلَ التَّبْدِيلِ، وَلَمْ يعتقد في العزيز وَالْمَسِيحِ، أَنَّهُمَا ابْنَا اللَّهِ، فَتَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُتُواْ الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) {المائدة: 5) . وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ والنصرانية بعد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 التَّبْدِيلِ كَنَصَارَى الْعَرَبِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، فَذَبَائِحُهُمْ حَرَامٌ لَا تَحِلُّ لِسُقُوطِ حُرْمَتِهِمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وهم بنوا إسرائيل من اليهود والنصارى، إذا قالوا في العزيز والمسيح إنهما ابنا الله ففي إباحة ذبائحهم وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ مَعَ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ إِلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ فَتَوَجَّهَتِ الْإِبَاحَةُ إِلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَرُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا ذَبِيحَةُ النَّصَارَى بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَبَحُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَذْكُرُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْمَسِيحِ، فَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَإِنْ كَرِهْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذِكْرُ الْمَسِيحِ فِيهِ تَبَعًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْبَحُوهُ لِلْمَسِيحِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ كَذَبَائِحِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) {المائدة: 3) . حكم ذبائح الجن وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبَائِحَ الْجِنِّ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَنْ يَشْترِيَ الرَّجُلَ دَارًا أَوْ يَسْتَخْرِجَ عَنْهَا فَيَذْبَحُ خَوْفًا أَنَّ فِيهَا الْجِنَّ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّرْبَيْنِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَسْتَدْفِعَ بِهِ إِصَابَةَ الْجِنِّ حَلَّ أَكْلُهَا، وَإِنْ ذَبَحَهَا للجن لاستدفاعهم حرم أكلها. استحباب توجيه الذبيحة إِلَى الْقِبْلَةِ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَأُحِبُّ أَنْ يُوَجِّهَ الذَّبِيحَةَ إِلَى الْقِبْلَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ تُوَجَّهَ ذَبِيحَتُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي اللَّحْمِ وَالضَّحَايَا لِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ضَحُّوا وَطَيِّبُوا بِهَا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مسلمٍ يَسْتَقْبِلُ بِذَبِيحَتِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ إِلَّا كَانَ دمها وفرثها، وصوفها حسناتٍ محضوراتٍ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " ضَحَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَرَأَ " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ " الْآيَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَبْحِهَا أَنْ يَتَوَجَّهَ بِهَا إِلَى جِهَةٍ فَكَانَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ أَفْضَلَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ " وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ فَكَانَتِ الْقِبْلَةُ أَخَصَّ بِهَا كَالصَّلَاةِ فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ سَفْحُ دَمٍ، وَإِلْقَاءُ فَرْثٍ، وَهِيَ أَنْجَاسٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيهُ الْقِبْلَةِ عَنْهَا أَوْلَى كَالْبُرُوزِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، قِيلَ: لَيْسَ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ طَاعَةٌ فَكَانَ صِيَانَةُ الْقِبْلَةِ عَنْهُ أَوْلَى، وَفِي ذَبْحِ الضَّحَايَا طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهَا أَوْلَى، فَافْتَرَقَا، وَيَخْتَارُ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِذَبْحِ الضَّحَايَا وَبِكُلِّ ذَبِيحَةٍ فِيهَا لِلْفُقَرَاءِ نَصِيبٌ لِيَحْضُرُوا، فَيَنَالُوا مِنْهَا وَيَسْتَسِرُّ بِذَبْحِ مَا يُخْتَصُّ بِأَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَقِلَّ فِيهِ التَّحَاشُدُ. التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَقُولَ الرَّجُلُ عَلَى ذَبِيحَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ فِي الضَّحَايَا وَاللَّحْمِ، وَعِنْدَ إِرْسَالِ الْجَوَارِحِ عَلَى الصَّيْدِ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا ذَاكِرًا أَوْ نَاسِيًا حَلَّتِ الذَّبَائِحُ وَصَيْدُ الْجَوَارِحِ. وَقَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَتْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا حَرُمَتْ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا حَلَّتْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ قَدْ مَضَى، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ إِنَّا نَذْبَحُ، وَنَنْسَى أَنْ نُسَمِّيَ اللَّهَ فَقَالَ: " اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مسلمٍ "؛ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الذَّكَاةِ مَعَ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا مَعَ النِّسْيَانِ كَالصَّلَاةِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً. وَيَخْتَارُ لَهُ فِي الضَّحَايَا خَاصَّةً أَنْ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثًا، لِأَنَّهَا فِي أَيَّامِ التَّكْبِيرِ، فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ خَاتِمًا بِالْحَمْدِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا إيمانٌ بِاللَّهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ الذَّبْحِ، فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً إِجْمَاعًا، وَلَا مَكْرُوهَةً عِنْدَنَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِحْبَابِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَلَا مَكْرُوهَةٍ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالْعُطَاسِ "؛ وَلِأَنَّهُ يَسِيرُ بِذِكْرِهِ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَدَلِيَلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) {الشرح: 4) قِيلِ: مَعْنَاهُ لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرَتْ مَعِيَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: 56) الْآيَةَ فَكَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ بِالذَّبَائِحِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ أَدْخَلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ أَنْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ لِمَوْضِعِ غَفْلَتِهِمْ أَوْ لَا يَرَى لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَبَقَنِي، فَجِئْتُ فَرَأَيْتُهُ سَاجِدًا، فَأَقَمْتُ طَوِيلًا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَبَضَ رُوحَكَ فِي سُجُودِكَ لَمَّا أَطَلْتَ فَقَالَ: لَمَّا فَارَقْتُكَ لَقِيَنِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَنِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْرَهُ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: آمِينَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: رَغِمَ أَنْفُ مَنْ ذُكِرْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ الثَّانِيةَ فَقَالَ: آمِينَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ رَغِمَ أَنْفُ عبدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ رَقِيَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ رَغِمَ أَنْفُ عبدٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرُ لَهُ فَقُلْتُ آمِينَ ". وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّسُولِ إِيمَانٌ بِالْمُرْسَلِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَكْرُوهًا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَوْطِنَانِ " لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ يَنْهَى عَنْ ذِكْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذِكْرِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُذْكَرُ فِيهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الذَّبِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا وَجْهَهُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ رَسُولُهُ، وَذِكْرُهُ فِي الْعُطَاسِ حَمْدٌ لَهُ وَلَيْسَ يُحْمَدُ رَسُولُهُ عِنْدَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، فَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ إِلَيْهَا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ يَصِيرُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَبْحِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِلَّهِ، وَمَتَى فَعَلَ هَذَا كَانَ حراماً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 فأما إذا صلى عنده وعلى رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِلَّهِ، وَلَا يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَ مِنْكَ وَإِلَيْكَ فَتَقَبَّلْ مِنِّي فَلَا بَأْسَ هَذَا دعاءٌ فَلَا أَكْرَهُهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ وجهٍِ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ " اللَّهُمَّ عَنْ محمدٍ وَآلِ محمدٍ " وَفِي الْآخِرِ " اللَّهُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَةِ محمدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ وَجْهَانِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضحى بكبشٍ أقرن فأضجعه وقال: " بسم اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ محمدٍ وَآلِ محمدٍ وَمِنْ أُمَّةِ محمدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ ". وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي اعْتِرَاف بالنعمة وامتثالاً للأمر ورغباً فِي الدُّعَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ مِنْكَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ وَرَزَقَهُ، وَقَوْلُهُ: " وَإِلَيْكَ " إِبَانَةٌ عَنِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَقَوْلُهُ " فَتَقَبَّلْ مِنِّي " دُعَاءٌ يَسْأَلُ فِيهِ الْقَبُولَ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ من هذه الثلاثة مكروهاً وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَقَبُّلَ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ وَمُوسَى كَلِيمِكَ وَعِيسَى رُوحِكَ وَمُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِنْ قَالَهُ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ، لِأَنَّ قُرْبَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُسَاوِيهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَبَّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عِنْدَ الضَّحِيَّةِ اللَّهُمَّ خُذْ هَذَا عَنْ فُلَانٍ، فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ ذِكْرِهِ لَا يَتَضَمَّنُ دُعَاءً، وَلَا اعْتِرَافًا بِالنِّعْمَةِ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَشْتَرِي كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَئَيْنِ، فَيَذْبَحُ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ وَالْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ قَوْلُهُ: عَنْ فُلَانٍ مَكْرُوهًا، وَإِنْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ فِي أَحَدِهِمَا: عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَفِي الثَّانِي عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ الْكَبْشُ الْوَاحِدُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ كَمَا يُجْزِئُ عَنِّي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ مِنْهُمْ كَثَوَابِهِ مِنِّي. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الضَّحَايَا وَالذَّبَائِحِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ الْمُخْتَارَةِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْكَرَاهَةِ فَسَبْعَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: أَنْ تُسَاقَ إِلَى مَذْبَحِهَا سَوْقًا رَفِيقًا وَتُضْجَعَ لِذَبْحِهَا اضْجَاعًا قَرِيبًا وَلَا يُعَنَّفُ بِهَا فِي سَوْقٍ وَلَا اضْجَاعٍ فَيَكْرَهُهَا وَيُنَفِّرُهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا الْمَاءَ قَبْلَ ذَبْحِهَا خَوْفًا مِنْ عَطَشِهَا الْمُعِينِ عَلَى تَلَفِهَا؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ عِنْدَ سَلْخِهَا وَتَقْطِيعِهَا، وَلَا يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْعَلَفَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَسْمِنُ بِهِ إِلَى حِينِ الذَّبْحِ، فَيَكْثُرُ بِهِ الْفَرْثُ إِلَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ زَمَانُ الذَّبْحِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهَا كَالْمَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْفِيَ عَنْهَا إِحْدَادَ الشِّفَارِ فِي وُجُوهِهَا فَرُبَّمَا نَفَّرَهَا وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنْ لَا تُحَدَّ الشِّفَارُ فِي وُجُوهِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَنْحَرَ بَعْضَهَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ فَقَدْ جاء فيه الأثر؛ ولأنه رما نفرها ذلك. والخامس: أن يعقل بعض قوائمهما وَيُرْسِلَ بَعْضَهَا وَلَا يَعْقِلَ جَمِيعَهَا فَتُرْهَقَ، وَلَا يُرْسِلَ جَمِيعَهَا فَتَنْفِرَ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَنْحَرَ الْإِبِلَ قِيَامًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (الحج: 36) أَيْ سَقَطَتْ وَتُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ مَضْجُوعَةً فَإِنْ خَافَ نُفُورَ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ قِيَامًا نَحَرَهَا بَارِكَةً غَيْرَ مَضْجُوعَةٍ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بِأَمْضَى شِفَارٍ وَجَدَهَا وَيُمِرُّهَا ذَهَابًا وَعَوْدَةً فِي قُوَّةِ اعْتِمَادٍ وَسُرْعَةِ تَوْجِيَةٍ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الله كتب عَلَى كُلِّ شيءٍ فَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدَكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " ثُمَّ هَذِهِ السَّبْعَةُ دَلَائِلُ عَلَى نَظَائِرِهَا. الْقَوْلُ فِي قَطْعِ رَأْسِ الذَّبِيحَةِ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا ذَبَحَهَا فَقَطَعَ رَأْسَهَا فَهِيَ ذكيةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُكْرَهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِي الذَّبْحِ لِوُقُوعِ الذَّكَاةِ بِهَا وَإِزْهَاقُ رُوحِهِ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ فَإِنْ زَادَ فِي الذَّبْحِ حَتَّى قَطَعَ رَأْسَهَا لَمْ تَحْرُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَدْ حَرُمَتْ لِأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ مُبِيحٍ وَحَاظِرٍ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ ذَبْحٌ وَاحِدٌ لَا يَتَمَيَّزُ فَكَانَ جَمِيعُهُ مُبِيحًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ تَمَيَّزَ وكان حاظراً طَرَأَ بَعْدَ الذَّكَاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَهَا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ عَلَيْهِ إِذْ هُمْ عَلَى اتِّفَاقٍ فِيهِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَعِيرٍ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ يُؤْكَلُ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ طَيْرًا فَأَبَانَ رَأْسَهُ فَقَالَ يُؤْكَلُ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَلَيْسَ لَهُمْ مخالف. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 الذبح من القفا (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ ذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا فَإِنْ تَحَرَّكَتْ بَعْدَ قَطْعِ الرَّأْسِ أُكِلَتْ وَإِلَّا لَمْ تُؤْكَلْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَبُحُ الشَّاةِ مِنَ الْقَفَا مَكْرُوهٌ وَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهَا وَالثَّانِي: لِمَا يُخَافُ مِنْ مَوْتِهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى ذَكَاتِهَا فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهَا بِقَطْعِ الْقَفَا قَبْلَ وُصُولِ السِّكِّينِ إِلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَتَكُونُ مَيْتَةً لَا تُؤْكَلُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَتْ فِيهَا عِنْدَ وُصُولِ السِّكِّينِ إِلَى قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ لِحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ لَمْ تُؤْكَلْ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَقَطْعُ قَفَاهَا يَجْرِي فِي فَوَاتِ نَفْسِهَا مَجْرَى كَسْرِ صُلْبِهَا وَبَقْرِ بَطْنِهَا وَلَا تَحْصُلُ بِهِ ذكاة وإن وحي. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: إِنْ قَطَعَ حُلْقُومُهَا وَمَرِيئَهَا فَهَذِهِ ذَكِيَّةٌ تُؤْكَلُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هِيَ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا أُكِلَتِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ قَطْعَ الْقَفَا مُوجٍ وَالذَّكَاةَ بَعْدَ التَّوْجِيَةِ لَا تَصِحُّ كَالَّتِي أَخْرَجَ السَّبُعُ حَشَوْتَهَا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مُسْتَقِرَّةً وَإِنْ لَمْ تَدُمْ صَحَّتْ ذَكَاتُهُ كَالْمَقْطُوعَةِ الْأَطْرَافِ وَلِأَنَّهُ لَوِ انْتَهَى بِهَا النَّزْعِ إِلَى حَدِّ الْإِيَاسِ حَلَّتْ ذكاتها مع استقرار الحياة فلذلك قَطَعَ الْقَفَا وَخَالَفَ قَطْعَ الْحَشْوَةِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مَعَهَا مُسْتَقِرَّةً كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُشْكِلَ حَالُهَا عِنْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ هَلْ كَانَتْ حَيَاتُهَا مُسْتَقِرَّةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَظْرُ حَتَّى تُعْلَمَ الْإِبَاحَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا مَأْكُولَةٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الحياة حتى يعلم فواتها. (مسألة:) قال الشافعي: " وإذا أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً وَهُوَ أَنْ يَقُولُ هَذِهِ أضحيةٌ وَلَيْسَ شِرَاؤُهَا وَالنِّيَّةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إِيجَابًا لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ نَاوِيًا بِهَا أُضْحِيَّةً لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً بِالنِّيَّةِ مَعَ الشِّرَاءِ حَتَّى يُوجِبَهَا بَعْدَ الشراء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: قَدْ صَارَتْ أُضْحِيَّةً بِالنِّيَّةِ وَالشِّرَاءِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ ابْتِيَاعَ السِّلْعَةِ لَمَّا صَارَتْ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشِّرَاءِ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ جَارِيَةً فِي دُخُولِ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَنْوِ كَانَتْ قِنْيَةً لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ إِذَا اشْتَرَاهَا إِنْ نَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ صَارَتْ أُضْحِيَّةً وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَكَوْنَهَا أُضْحِيَّةً مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُوجِبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَإِزَالَتِهِ فَلَمَّا أَفَادَ الشِّرَاءُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ امْتَنَعَ أَنْ يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَوْ دَارًا يَنْوِي بِهَا الْوَقْفَ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَمْ يَصِرِ الْعَبْدُ حُرًّا وَلَا الدَّارُ وَقْفًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ شِرَاءِ السِّلْعَةِ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَهُوَ أَنَّ جَرَيَانَهَا فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِاسْتِفَادَةِ الْمِلْكِ وَخَالَفَ الْأُضْحِيَّةَ الْمُزِيلَةَ لِلْمِلْكِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا عَلَّقَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَهَا بِالشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَجْعَلَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: فَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ إِنِ اشْتَرَيْتَ شَاةً فَهِيَ أُضْحِيَّةٌ فَإِذَا اشْتَرَاهَا لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَّةً لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَصُورَتُهُ إِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ أَنْ يَقُولَ: إن اشتريت شاءة فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً فَهَذَا نَذْرٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَلَزِمَ وَانْعَقَدَ، فَإِذَا اشْتَرَى شَاةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً وَلَا تَصِيرُ بِالشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً، لِأَنَّ النُّذُورَ تَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْمِلْكِ. وَإِنْ عَيَّنَ فَقَالَ: إِنِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ التَّعْيِينِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ النَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أُضْحِيَّةً لِتَعْلِيقِهِ بِالذِّمَّةِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْأُضْحِيَّةَ بَعْدَ مِلْكِهَا بِشِرَاءٍ فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ فَقَالَ هَذِهِ أُضْحِيَّةٌ وَجَبَتْ، وَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالنِّيَّةِ فَنَوَى أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ لَا تَصِيرُ بِالنِّيَّةِ أُضْحِيَّةً حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّهَا إِزَالَةُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالْوَقْفَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ أُضْحِيَّةً لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللهُ لُحُومِهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) {الحج: 37) يَعْنِي إِخْلَاصَ الْقُلُوبِ بِالنِّيَّاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ قَدْ وَجَبَتْ وَيُؤْخَذُ بِذَبْحِهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ تَجِبْ وَلَهُ بَيْعُهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا عَلَى نِيَّتِهِ حَتَّى ضَحَّى بِهَا فَهَلْ تَصِيرُ بِالذَّبْحِ بَعْدَ النِّيَّةِ أُضْحِيَّةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِيرُ أُضْحِيَّةً بِالذَّبْحِ مَعَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ. وَالثَّانِي: تَصِيرُ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ صَارَ آكَدَ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَصَارَ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ أُضْحِيَّةً ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا. وَالثَّالِثُ: بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ. فَأَمَّا الْهَدَايَا فَفِيمَا يُوجِبُهَا الشَّافِعِيُّ قَوْلَانِ، وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، فَيَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُ هَذِهِ الْبَدَنَةَ هَدْيًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ إِنَّهَا تَصِيرُ بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ هَدْيًا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ علم ظاهر كالقول. والثالث: هو أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَصِيرُ هَدْيًا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهَا، وَيُشْعِرْهَا كَالْأُضْحِيَّةِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِنَا: أَنَّهَا تَصِيرُ هدياًَ بِالذَّبْحِ مَعَ النِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " فَإِذَا أَوْجَبَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْدِلَهَا بحالٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ وَعَيَّنَهَا خَرَجَتْ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ، وَمَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا وَحِفْظُهَا إِلَى وَقْتِ نَحْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا تَخْرُجُ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَيَكُونُ بِإِيجَابِهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَبْحِهَا أَوْ ذَبْحِ غَيْرِهَا؛ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ عَامَ حَجِّهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ فَأَشْرَكَهُ فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَتْ بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ مَا جَعَلَ فِيهَا شِرْكًا لِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عتق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 عَبْدٍ فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا الْإِيجَابِ عن مِلْكِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ إِيجَابُ الْأُضْحِيَّةِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ احْتِجَاجًا. وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ كَالزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ. وَلِأَنَّ الْقَصْدَ فِي إِيجَابِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْ لَحْمِهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِلَحْمِ غَيْرِهَا كَانْتِفَاعِهِمْ بِلَحْمِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا. وَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ مَمْلُوكَةٌ فَلَمَّا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُضَحِّي. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي بَدَنَةً وَقَدْ طُلِبَتْ مِنِّي بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، فَقَالَ انْحَرْهَا وَلَا تَبِعْهَا وَلَوْ طُلِبَتْ بِمَائَةِ بعيرٍ. فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الثَّمَنِ وَأَمَرَهُ بِالنَّحْرِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ وَوُجُوبِ النَّحْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً فَلَا يَسْتَبْدِلْ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ. وَلِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ بِالْأُضْحِيَّةِ مِنَ النَّعَمِ كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعَبِيدِ فِي الْعِتْقِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ إِجْمَاعًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ مُزِيلَةً لِلْمِلْكِ احْتِجَاجًا. وَلِأَنَّ كُلَّ إِيجَابٍ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ. وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ يَسْرِي إِلَى وَلَدِهَا، وَكُلُّ حُكْمٍ أَوْجَبَ سِرَايَتهُ إِلَى الْوَلَدِ زَالَ بِهِ الْمِلْكُ كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا. وَلِأَنَّ الْمُضَحِّيَ يَضْمَنُ الْأُضْحِيَّةَ لَوْ أَتْلَفَهَا، وَكُلَّ مَا ضَمِنَهُ الْمُتْلِفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ خَرَجَ بِهِ الْمَضْمُونُ عَنْ مِلْكِ ضَامِنِهِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْعَارِيَةِ عَكْسًا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ فِي دَيْنِ نَفْسِهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ وَلَا يَضْمَنُ رَقَبَتَهُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اشْتِرَاكِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْهَدْيِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 أَحَدُهُمَا: إِنَّ عَلِيًّا سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ الْيَمَنِ فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْإِيجَابِ شَرِيكًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي نَحْرِهَا لَا فِي التَّقَرُّبِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ نحر بنفسه منها ثلاث وَسِتِّينَ ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِنَحْرِ بَاقِيهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِيجَابِ عِتْقِ الْعَبْدِ فَمِنْ وجهين: أحدهما: أن العبد إذا أوجب عتق لَمْ يَصِرْ حُرًّا وَالشَّاةَ إِذَا أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً صَارَتْ أُضْحِيَّةً فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعَبْدِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالزَّكَاةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالذِّمَّةِ وَتَعَلُّقُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُضْحِيَّةُ بِمَثَابَتِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ لَحْمَ غَيْرِهَا لَحْمِهَا فَبُطْلَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِتْقِ إِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي عَبْدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فِي الْبَيْعِ إِذَا بَاعَ عَبْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ دَلَّ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ قَبْلَ الذَّبْحِ كَحَقِّهِمْ فِيهَا بَعْدَهُ فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ. وَالثَّانِي: إِنَّ بُطْلَانَهُ بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ. بَيْعُ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ بَاعَهَا فَالْبَيْعُ مفسوخٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ إِيجَابَهَا إِذَا أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْهَا بَطَلَ بَيْعُهَا إِنْ بَاعَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا لِلْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُمْ فِيهَا غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، فَإِنِ اسْتَبْقَى عَيْنَهَا وَبَاعَ نَمَاءَهَا بَطَلَ بَيْعُ النَّمَاءِ كَبُطْلَانِ بَيْعِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِأَصْلِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّمَاءُ نِتَاجًا أَوْ لَبَنًا أَوْ صُوفًا، فَإِنْ وَهَبَ النَّمَاءَ صَحَّتْ هِبَةُ اللَّبَنِ وَالصَّوْفِ وَلَمْ تَصِحَّ هِبَةُ النِّتَاجِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ نَحْرِهِ وَالتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ دمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 وَكَمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَهْنُهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ، فَإِنْ أَجَّرَ ظَهْرَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ معاوضة على منافعها والمنافع تبعاً لِلْأَصْلِ، وَإِنْ أَعَارَ ظَهْرَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ إِرْفَاقٌ يَجُوزُ فِي لَحْمِهَا فَجَازَتْ فِي مَنَافِعِهَا. تَلَفُ الْأُضْحِيَّةِ بِالرُّكُوبِ (فَصْلٌ:) فَلَوْ رَكِبَهَا الْمُسْتَعِيرُ ضَمِنَهَا دُونَ الْمُعِيرِ، وَلَا يَضْمَنُ أُجْرَتَهَا الْمُسْتَعِيرُ وَلَا الْمُعِيرُ، وَلَوْ رَكِبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَتَلِفَتْ ضَمِنَ قِيمَتِهَا لِلْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَضَمِنَ أُجْرَتَهَا الْمُسْتَأْجِرُ دُونَ الْمُؤَجِّرِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ أُجْرَةَ مِثْلِهَا كَضَمَانِهَا عَنْ إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلْمَسَاكِينِ قَدِ الْتَزَمَ لَهُمْ مَا سَمَّاهُ مِنَ الزِّيَادَةِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الضَّحَايَا كَالْأَصْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الضَّحَايَا فِي الْأَعْيَانِ دُونَ النُّذُورِ. فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى شَاةً وَأَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً ثُمَّ وَجَدَ بِهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الرَّدِّ بِالْإِيجَابِ وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ كَالثَّوْبِ، وَفِي هَذَا الْأَرْشِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لِلْمُضَحِّي خَاصَّةً لِأَنَّهُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ عليه والله أعلم بالصواب. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ فَاتَتْ بِالْبَيْعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا مَكَانَهَا فَإِنْ بَلَغَ أُضْحِيَّتَيْنِ اشْتَرَاهُمَا لِأَنَّ ثَمَنَهَا بدلٌ مِنْهَا وَإِنْ بَلَغَ أُضْحِيَّةً وَزَادَ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ أُخْرَى ضَحَّى بأضحيةٍ وَأُسْلِكَ الْفَضْلُ مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ وَأَحَبُّ إِلَيَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ نَقَصَ عَنْ أُضْحِيَّةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ حَتَى يُوَفِيَهُ أضحيةٌ لِأَنَّهُ مستهلكٌ لِلضَّحِيَّةِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ أضحيةٌ مِثْلُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ تَلَفَ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَضْمُونٌ، وغير مضمون. فأما تلفها غير مضمون فَهُوَ أَنْ تَمُوتَ عَطَبًا بِغَيْرِ عُدْوَانٍ فَلَا ضَمَانَ فِيهَا؛ كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا فَاحْتَرَقَتْ أو ندر أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ فَتَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَلِكَ مَوْتُ الْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 مَضْمُونٍ، وَأَمَّا تَلَفُهَا الْمَضْمُونُ فَهُوَ مَا اقْتَرَنَ بِعُدْوَانٍ فَهُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ، وَلَا يَخْلُو ضَامِنُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُضَحِّيَ، أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَإِنْ ضَمِنَهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْمُضَحِّي ضَمِنَهَا الْمُضَحِّي فِي حُقُوقِ أَهْلِ الضَّحَايَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِخُرُوجِهَا بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ لِيَكُونَ الْمُضَحِّي الْمُسْتَحِقَّ لِصَرْفِ ذَلِكَ وَبَدَلِهَا، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى هَذَا الْمُتْلِفِ بِقِيمَتِهَا لَا غَيْرَ وَإِنْ كَانَ الضَّامِنُ هُوَ الْمُضَحِّيَ ضَمِنَهَا بِأَكْثَرَ لِأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَقْتَ التَّلَفِ أَوْ مِثْلَهَا عِنْدَ النَّحْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا لَا غَيْرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهَا الْأَجْنَبِيُّ بِقِيمَتِهَا وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا الْمُضَحِّي بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّالِفِ دُونَ الْمُتْلِفِ، أَلَا تَرَاهُ يَضْمَنُ رَهْنَهُ إِذَا أَتْلَفَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ ذِي مَثَلٍ كَالْأَجْنَبِيِّ وَبِمَثَلِهِ إِذَا كَانَ ذَا مَثَلٍ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِ؟ كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْأُضْحِيَّةَ بِإِيجَابِهَا وَإِنْ تَعَيَّنَتْ فَإِذَا ضَمِنَهَا بِالتَّلَفِ صَارَ ضَامِنًا لَهَا بِأَمْرَيْنِ وَالتَّلَفُّظُ بِالِالْتِزَامِ. وَلِذَلِكَ ضمن أكثر الأمرين من موجب الالتزام بالمثل أو موجب التلف بالقيمة وغيره يضمنها بقيمتها بالتلف دون الالتزام، فلذلك ضمنها بالقيمة دون المثل، وفيه دليل وانفصال. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ ضَمَانُهَا بِالْقِيمَةِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي وَجَبَ عَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَعْرِفَ الْقِيمَةَ فِي شِرَاءِ مِثْلِهَا فِي جِنْسِهَا مِنْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ، وَفِي نَوْعِهَا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعَزٍ وَفِي سِنِّهَا مِنْ جَذَعٍ أَوْ ثَنِيٍّ، فَلَوْ كَانَتِ الْأُضْحِيَّةُ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِيَ جَذَعَة مِنَ الضَّأْنِ، وَإِنْ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ فِي نَوْعِهَا وَسِنِّهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقِيمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا لِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْرِيَ بِهِ مِثْلَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِيجَابُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاجِبٍ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا، وَنُظِرَ فِي الشِّرَاءِ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِعَيْنِ الْقِيمَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ صَارَتْ أُضْحِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا فِي الذِّمَّةِ نَوَى بِالشِّرَاءِ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى إِيجَابٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أُضْحِيَّةً لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ فِي حَقِّ أَهْلِ الضَّحَايَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ أَصْلٍ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ الْقِيمَةَ فِي الْأَضَاحِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَهْلِهَا فَيَشْرِي مِنْهَا وَاحِدَةً مِثْلَهَا، وَفِيمَا يَشْتَرِيهِ بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 أَحَدُهُمَا: فِي أَمْثَالِهَا، وَلَا يَعْدِلُ عَنْ مِثْلِهَا إِلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ جَمِيعِهَا وَاحِدٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا هُوَ الْأَحُظُّ لِأَهْلِ الضَّحَايَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ حُصُولِ الْمِثْلِ كَالِابْتِدَاءِ بِالْأُضْحِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْأُضْحِيَّةِ كَامِلَةً أَوْ أُضْحِيَّتَيْنِ اشْتَرَى بِهَا مَا أَمْكَنَ مِنَ الضَّحَايَا الْكَامِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا، وَإِنْ نَقَصَتِ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَمَنِ أُضْحِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مُرَادِهِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا مِنْ أُضْحِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهَا لَحْمًا لِتَعَذُّرِ الشَّرِكَةِ فِي الْحَيَوَانِ، فَعَدَلَ بِهِ إِلَى اللَّحْمِ الْمَقْصُودِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: تَصَرَّفَ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهَا تُلَافِي التَّصَرُّفَ أَصْلًا، فَجَازَ فِيهِ مِنَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يجز في الأصل، كمن وجبت عليه جزعة فِي الذَّكَاةِ فَأَعْطَى قِيمَتَهَا لَمْ تَجُزْ؛ وَلَوْ أَعْطَى عَنْهَا حِقَّةً وَدَفَعَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا عَنْ نَقْصِ الْحَقِّ أَجْزَأَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي سَهْمٍ مِنْ أُضْحِيَّةٍ كَانَ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ كَأَهْلِ الضَّحَايَا. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا أَوْ يَصْرِفُهُ وَرَقًا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا وَيَكُونُ فِيهِ بِمَثَابَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ كَمَا لَوْ عَطِبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهَدْيِ ذَبَحَهَا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ سَلِمَتْ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا حَسْمًا لِلتهْمَةِ كَذَلِكَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأُضْحِيَّةِ الْمَضْمُونَةِ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ أُضْحِيَّتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُضَحِّي قَدْ ضَمِنَهَا إِمَّا مُنْفَرِدًا بِضَمَانِهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا، وَإِمَّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْقِيمَةِ، وَيَشْرِيَ بِهِ مِثْلَهَا؛ لِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا، فَإِذَا عَجَزَتِ الْقِيمَةُ ضَمِنَ الْمِثْلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ قَدْ تَفَرَّدَ بِضَمَانِهَا أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْمُضَحِّي مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 غَاصِبٍ أَوْ جَانٍ فَلَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ أَكْثَرُ مِنَ الْقِيمَةِ، وَفِي ضَمَانِ الْمُضَحِّي لِمَا زَادَ عَلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَنَ أُضْحِيَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ أُضْحِيَّةً فَلَزِمَهُ إِكْمَالُهَا فَيَصِيرُ بِالِالْتِزَامِ ضَامِنًا لَا بِالتَّلَفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَظْهَرُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَمَامُ الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ فَيَضْمَنُ وَقَدْ قَامَ مِنْ إِيجَابِهَا بِمَا الْتَزَمَ فَلَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ لَمْ يَضْمَنْ بِالْمَوْتِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْلُو الْقِيمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ مِنْ خَمْسةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأُضْحِيَّةِ مَا يَكُونُ أُضْحِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ دُونَ التَّالِفَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتْلَفَ ثَنِيَّةً مِنَ الضَّأْنِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهَا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَذَعًا مِنَ الضَّأْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُتْلِفِ فَكَانَتْ أَحَقَّ. والحال الثانية: أن يكون ثمناً لدون الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الثَّنِيَّةِ مِنَ الْمَعْزِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعْزِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَهِيَ أَوْلَى مِنْ أَقَلَّ مِنَ الْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا لِأَنَّ الثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعْزِ أضحية ودون الجزع ليس بأضحية. والحال الثالثة: أن يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا دُونَ الْجَذَعِ مِمَّا يَكُونُ أُضْحِيَّةً أَوْ سَهْمًا شَائِعًا فِي أُضْحِيَّةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مَا كِيلَ مِنْ دُونِ الْجَذَعِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ شِرَاءِ سَهْمٍ وجذع تام؛ لأنها قَدِ اسْتَوَيَا فِي أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ أُضْحِيَّةً وَاخْتَصَّ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِإِرَاقَةِ دَمٍ كَامِلٍ. والحال الرابعة: أن يُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا شَائِعًا فِي أُضْحِيَّةٍ أَوْ لَحْمًا وَيَشْتَرِيَ بِهَا سَهْمًا فِي أُضْحِيَّةٍ وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ لَحْمًا، لِأَنَّ فِي السَّهْمِ الشَّائِعِ إِرَاقَةَ دَمٍ وَلَيْسَ فِي اللَّحْمِ ذَلِكَ، وَخَالَفَ الزِّيَادَةَ حَيْثُ اشْتَرَى بِهَا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ لَحْمًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَهَذِهِ لَمْ يَحْصُلْ قَبْلَهَا إِرَاقَةُ دَمٍ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ أن يشري بِهَا حَيَوَانًا وَلَا سَهْمًا مِنْهُ، وَيُمْكِنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا لَحْمًا أَوْ يُفَرِّقَهَا وَرَقًا، فَيَجِبُ أَنْ يَشْرِيَ بِهَا لَحْمًا وَلَا يُفَرِّقَهَا وَرَقًا بِخِلَافِ الزَّائِدِ عَلَى الْقِيمَةِ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ هُوَ مَقْصُودُ الْأُضْحِيَّةِ وَقَدْ وَجَدَ فِي الزِّيَادَةِ مَقْصُودَهَا فَجَازَ أَنْ يُفَرِّقَ وَرَقًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي النُّقْصَانِ مَقْصُودُهَا فَوَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ لَحْمًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْقَوْلُ فِي ذَبْحِ ولد الأضحية الواجبة (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِنْ وَلَدَتِ الْأُضْحِيَّةُ ذُبِحَ مَعَهَا وَلَدُهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً حَامِلًا فَوَلَدَتْ أَوْ كَانَتْ حَائِلًا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 فَحَمَلَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ كَانَ وَلَدُهَا تَبَعًا لَهَا في الأضحية، وعليه أن يذبحها مَعًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً مَعَهَا وَلَدُهَا، فَقَالَ: لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَانْحَرْهَا وَوَلَدَهَا عَنْ سَبْعَةٍ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ خُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمُعْتَقَةِ وَالْمَبِيعَةِ وَخَالَفَ وَلَدَ الْمُسْتَأْجَرَةِ والمرهونة، فإذا ذبحها معاًَ وَتَصَدَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَأَكَلَ جَازَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتَصَدَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتَا أُضْحِيَّتَيْنِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ كَالْأُضْحِيَّتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ وَمِنَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ لِأَنَّ وَلَدَهَا بَعْضُهَا وَإِذَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْأُضْحِيَّةِ أَجْزَأَهُ عَنِ الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ مِنَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فَرْعٌ تابع والأم أصل متبوع. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الْفَضْلَ عَنْ وَلَدِهَا وَلَا مَا يُنْهِكُ لَحْمَهَا وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ حِلَابُ الْأُضْحِيَّةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز حلابها وينضج الْمَاءُ عَلَى ضَرْعِهَا حَتَّى يَذْهَبَ لَبَنُهَا كَمَا لا يجوز جواز صُوفِهَا، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّ تَرْكَ لَبَنِهَا مُضِرٌّ بِهَا. وَلِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ إِنْ حَلَبَ فَكَانَ فِي تَرْكِهِ إِضَاعَةٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ وَلَدٍ حَلَبَ جَمِيعَ لَبَنِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ مُضِرٍّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دَعُوا دَاعِيَ اللَّبَنِ " يَعْنِي إِبْقَاء يَسِير يَصِيرُ بِهِ دَاعِيَه كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا حَتَّى يَرْتَوِيَ مِنْ لَبَنِهَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَمْكِينُ الْأُمِّ مِنْ عَلَفِهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ تَمْكِينِهِ مِنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رِيِّهِ مِنْ غَيْرِ فضل ولا نقصان فلا تجوز أَنْ يَحْلِبَ مِنْ لَبَنِهَا شيئاًَ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي رِيِّ الْوَلَدِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رِيِّهِ فَعَلَيْهِ بَعْدَ تَمْكِينِهِ مِنْ لَبَنِهَا أَنْ يَسْقِيَهُ بَعْدَ رِيِّهِ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ رِيِّهِ فَعَلَيْهِ أن يخلي بينه وبين ربه ثُمَّ يَحْتَلِبُ الْفَاضِلُ عَنْ رِيِّهِ، فَإِذَا احْتَلَبَ اللَّبَنُ فَالْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِجَمِيعِهِ فَالْأَفْضَلُ بَعْدَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ اللَّحْمِ فَيَشْرَبُ مِنْهُ وَيَسْقِي غيره، فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 لم يفعل وشرب جمعيه جَازَ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ لَحْمِهَا نُسِخَ وَتَقَدُّمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَكْرُوهٌ. جَزُّ الصُّوفِ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يَجُزُّ صُوفَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُمْنَعُ مِنْ جِزَازِ صُوفِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُضِرًّا بِهَا لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا وَأَكْمَلُ وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ جِزَازُهُ أَنْفَعَ بِهَا فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ نَحْرِهَا تَرَكَهُ عَلَيْهَا حَتَّى يَنْحَرَهَا وَإِنْ بَعُدَ زَمَانُ نَحْرِهَا جَزَّهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ لِبَدَنِهَا، فَإِنْ جَزَّهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِجَزِّهِ كَرِهْنَاهُ وَلَمْ يَضْمَنْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الصُّوفِ بَعْدَ جَزِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أُضْحِيَّتِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا، وَيَسَلُكُ بِهِ مَسْلَكَ اللَّبَنِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَإِنْ أَوْجَبَهَا هَدْيًا وَهُوَ تامٌّ ثَمَّ عَرَضَ لَهُ نقصٌ وَبَلَغَ الْمَنْسَكَ أَجْزَأَ إِنَّمَا أُنْظِرَ فِي هَذَا كُلِّهِ إِلَى يَوْمٍ يُوجِبُهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَالِهِ إِلَى مَا جَعَلَهُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ فَحَدَثَ بِهَا قَبْلَ نَحْرِهَا مَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْأُضْحِيَّةِ بِهَا مِنْ عَوَرٍ أَوْ عَرَجٍ ضَحَّى بِهَا وَأَجْزَأَتْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مُوجِبُهَا مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ الْأُضْحِيَّةَ لِسِفْرٍ أَوْ عُدْمٍ أَجَزْأَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْأُضْحِيَّةُ بِالْمَقَامِ وَالْيَسَارِ لَمْ يَجُزِهِ، لِأَنَّ النَّقْصَ فِي الْوَاجِبِ مَرْدُودٌ كَالْمَعِيبِ فِي الزِّكْوَاتِ وَفِي الْمَشْهُورِ تُجْزِئُ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَقَاتِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَوْجَبْتُ أُضْحِيَّةً وَقَدْ أَصَابَهَا عورٌ فَقَالَ " ضَحِّ بِهَا " فَلَمَّا أَمَرَهُ بِذَبْحِهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهَا. وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى صِفَةِ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَهُ نَقْصٌ يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَّارَةِ كَانَ مُجْزِيًا كَذَلِكَ نَقْصُ الْأُضْحِيَّةِ، وَخَالَفَ عَيْبَ الزَّكَاةِ لِوُجُودِهِ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا أَوْجَبَ فِي ذِمَّتِهِ أُضْحِيَّةً عَنْ نَذْرٍ ثُمَّ أَوْجَبَهَا فِي شَاةٍ عَيَّنَهَا وَحَدَثَ بِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ نَقْصٌ لَمْ يَجُزِهِ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا، لِأَنَّ سَلَامَةَ مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الذِّمَّةِ تَمْنَعُ حُدُوثَ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ. وَسَلَامَةُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ نَقْصِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ وَإِذَا لَمْ تُجْزِهِ الْمَعِيبَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِسَلِيمَةٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَبْحُ الْمَعِيبَةِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا لِيُسْقِطَ بِهَا مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا بَطَلَ إِجْزَاؤُهَا بَطَلَ إِيجَابُهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ أَوْجَبَهُ نَاقِصًا ذَبَحَهُ وَلَمْ يُجْزِهِ ". قَالَ الماوردي: وهذا كما قال، إذ ابْتَدَأَ إِيجَابَ أُضْحِيَّةٍ نَاقِصَةٍ وَجَبَتْ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، لِأَنَّ نَقْصَهَا يَمْنَعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَإِيجَابَهَا يُوجِبُ ذَبْحَهَا وَأَنْ يَسْلُكَ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْإِيجَابِ فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَعِيبًا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا وَلَمْ يَعُدْ إِلَى رِقِّهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَوْ أَوْجَبَهَا نَاقِصَةً فَلَمْ يَذْبَحْهَا حَتَّى زَالَ نَقْصُهَا فَفِي كَوْنِهَا أُضْحِيَّةً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَبَعْضِ الْقَدِيمِ - لَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً اعْتِبَارًا بِحَالِ إِيجَابِهَا، وَإِنْ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا مَعِيبًا فَزَالَ عَيْبُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَإِنْ عَادَ إِلَى سَلَامَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - فِي الْقَدِيمِ: إنَّهَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً مُجْزِيَةً، لِأَنَّهَا مَا وَصَلَتْ إِلَى الْمَسَاكِينِ إِلَّا سَلِيمَةً، وَلَوْ أَوْجَبَهَا وَهِيَ مَعِيبَةٌ عَنْ أُضْحِيَّةٍ فِي الذِّمَّةِ بَطَلَ إِيجَابُهَا لِعَدَمِ إِجْزَائِهَا وَلَمْ يَلْزَمْ ذَبْحُهَا لِبُطْلَانِ إِيجَابِهَا، فَلَوْ عَادَتْ إِلَى حَالِ السَّلَامَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيجَابِهَا حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ بعد السلامة. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ ضَلَّتْ بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا فَلَا بَدَلَ وَلَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ يُوجِبُهُ صَاحِبُهُ فَيَمُوتُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ بدلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً فَضَلَّتْ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَضِلَّ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَإِنْ ضَلَّتْ بِتَفْرِيطٍ منه في حفظها فعليه فَإِنْ مَاتَتْ ضَمِنَهَا، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَا يَجِدُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ بَدَلُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَظِرَهَا بَعْدَ فَوَاتِ زَمَانِهَا، فَإِذَا وَجَدَهَا بَعْدَ فَوَاتِ الزَّمَانِ لَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فَيَصِيرُ بِالتَّفْرِيطِ مُلْتَزِمًا الْأُضْحِيَّتَيْنِ، وَإِنْ ضَلَّتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فِي حِفْظِهَا فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَضِلَّ قَبْلَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَا تُضْمَنُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ ضَلَالُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْتِهَا وَهُوَ لَا يَضْمَنُهَا بِالْمَوْتِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهَا بِالضَّلَال ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ لِطَلَبِهَا مَؤُونَةٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ طَلَبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِهَا مَؤُونَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا فِي حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ، وَإِنْ ضَلَّتْ بِتَفْرِيطٍ كَانَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا بِمَؤُونَةٍ وغير مؤونة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ تَضِلَّ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ نَحْرِهَا تَفْرِيطٌ مِنْهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِعُذْرٍ فَلَا يَضْمَنُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَضِلَّ مِنْهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا وَبَقَاءِ بَعْضِهَا فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ يَلْتَزِمُ بِهِ ضَمَانُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ تَفْرِيطًا لِبَقَاءِ زَمَانِ النَّحْرِ وَجَوَازِ تَأْخِيرِهَا إِلَيْهِ فَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهَا إِنْ كَانَ لَهُ مَؤُوَنَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ تَفْرِيطًا مِنْهُ، لِأَنَّ نَحْرَهَا بِدُخُولِ الزَّمَانِ مُسْتَحَقٌّ وَتَأْخِيرُهُ رُخْصَةٌ كَتَأْخِيرِ الْحَجِّ بَعْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مُبَاحٌ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ كَانَ فَرْضُهُ مُسْتَقِرًّا، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهَا وَيَلْزَمُهُ طَلَبُهَا بمؤونة وغير مؤونة. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ وَجَدَهَا وَقَدْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ كُلُّهَا صَنَعَ بِهَا كَمَا يَصْنَعُ فِي النَّحْرِ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ هَدْيَهَا الْعَامَ وَأَخَّرَهَا إِلَى قابلٍ وَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لوقتٍ فَفَاتَ الْوَقْتُ لَمْ يَبْطُلِ الْإِيجَابُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ الْأُضْحِيَّةَ الضَّالَّةَ لَزِمَهُ نَحْرُهَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِالتَّفْرِيطِ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِخُرُوجِهَا بِالْإِيجَابِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ بَاقِيَةً نَحَرَهَا إِجْمَاعًا وَكَانَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءَ، وَإِنْ نَقَصَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ نَحَرَهَا فِي الْحَالِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهَا إِلَى انْتِظَارِ مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَنْحَرَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً دَفَعَهَا فِي الْحَيَاةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَلَمْ يَنْحَرْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً بَطَلَ إِيجَابُهَا وَعَادَتْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ إِلَى مِلْكِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَنْتَظِرُ بِهَا إِلَى وَقْتِ مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَمَا ينتظر بفوات الحج قضائه فِي مِثْلِ وَقْتِهِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ فِي وَقْتِهِ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُمْ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْنُونِ. وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ عَلَى صِفَةٍ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ كَزَكَاةِ الْمَالِ فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ لِوَقْتٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ كَالنُّذُورِ فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ مَنْ أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ نَحْرِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا فَفِي حُكْمِهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا فِي وَقْتِهَا يَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُهْدِي عَلَى حُكْمِهَا فِي الْأَصْلِ إِذَا ذُبِحَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إنَّهَا تَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَا يَدَّخِرَ لِأَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ بِفَوَاتِ ذَبْحِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ مِنَ الْأَدَاءِ إِلَى الْقَضَاءِ فَصَارَتْ حَقًّا لِغَيْرِهِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالتَّفْرِيطِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فَلَيْسَ بِمُلْتَزِمٍ لِغَيْرِهَا وَقَدْ فَعَلَ فِي نَحْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا مَا لَزِمَهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْبَدَلِ لِتَفْرِيطٍ فِيهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ بَدَلِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي غَيْرِهَا فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الْبَدَلِ بِوُجُودِهَا كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أَبِقَ، وَكَانَ الْغَاصِبُ مَأْخُوذًا بِالْقِيمَةِ فَوَجَدَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الْقِيمَةِ بِوُجُودِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْجَبَ الْبَدَلَ وَعَيْنَهُ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ بَاقٍ وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَقَدْ سَقَطَ إِيجَابُ بَدَلِهَا بِوُجُودِهَا وَعَادَ إِلَى مِلْكِهِ كَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ إِذَا أُخِذَتْ ثُمَّ وُجِدَ رُدَّتْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلُهَا قَدْ ذُبِحَ وَفُرِّقَ فِي أَهْلِ الضَّحَايَا قَبْلَ وُجُودِهَا فَيَصِيرُ ذَبْحُ الْبَدَلِ أُضْحِيَّةَ تَطَوُّعٍ، وَلَا يَعْتَاضُ عَنِ الْبَدَلِ بِاسْتِبْقَاءِ الْأَصْلِ بَلْ يَذْبَحُهُ بَعْدَ الْبَدَلِ فَيَكُونُ أُضْحِيَّتَيْنِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ وَلَحْمُهُ بَاقِيًا عِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَحْمَ الْبَدَلِ قَدْ صَارَ أُضْحِيَّةً بِالذَّبْحِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الضَّحَايَا قَبْلَ تَفْرِقَتِهِ كَمَا زَالَ حُكْمُهَا عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ من بيع وغيره. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ أَنَّ مُضَحِّيَيْنِ ذَبَحَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ ضَمِنَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا مَا بَيْنَ قِيمَةِ مَا ذَبَحَ حَيًّا وَمَذْبُوحًا وَأَجْزَأَ عَنْ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا ضَحِيَّتُهُ وَهَدْيُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَذْبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَبْحَهَا يُجْزِئُ عَنْ قُرْبَةِ صَاحِبِهَا يَسْلُكُ بِهَا بَعْدَهُ مَسْلَكَ الضَّحَايَا، وَيَكُونُ الذَّابِحُ ضَامِنًا لِنُقْصَانِ ذَبْحِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ ذَبْحُ غَيْرِهِ وَيَكُونُ لَحْمًا وَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُهُ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الذَّابِحِ نُقْصَانُ ذَبْحِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِي زَمَانِ الذَّبْحِ فإن كان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 مُتَّسِعًا ضَمِنَ الذَّابِحِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَبْحُهَا فِي وَقْتِهِ بِبَقَائِهِ بَعْدَ ذَبْحِهِ، وَإِنْ ضَاقَ حتى لو يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا زَمَانُ الذَّبْحِ لَمْ يَضْمَنِ الذَّابِحُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ ذَبْحُهَا فِي وَقْتِهِ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الذَّبْحَ قُرْبَةٌ كَالتَّفْرِقَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَهَا غَيْرُهُ لَمْ يجزه كَذَلِكَ إِذَا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ لَمْ تُجْزِهِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ مَقْصُودَ الْأُضْحِيَّةِ إِيجَابُهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ وتفرقتها في حق المساكين والذبح تبعاً لَهُمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ وَجَدَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَذْبَحَ الْغَيْرُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِجْزَاءِ. وَلِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَهَا الْمَالِكُ سَهْوًا أَجْزَأَتْ كَذَلِكَ إِذَا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِهِ وَفِي هَذَيْنِ انفصال. (فصل:) فأما أبو حنيفة - رحمه الله - فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّابِحَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ ذَبْحِهَا، لِأَنَّهُ إِرَاقَةُ دَمٍ مَشْرُوعٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَمَانٌ كَالْخِتَانَةِ وَقَتْلُ الرِّدَّةِ وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَلَمْ يَضْمَنْهَا مَنْ نَابَ عَنْهُ فِيهَا كَسَوْقِ الْهَدْيِ إِلَى مَحَلِّهِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَا ضُمِنَ فِي غَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ ضُمِنَ فِي الْأُضْحِيَّةِ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ لَحْمُهُ ضُمِنَ ذَبْحُهُ كَغَيْرِ الْأُضْحِيَّةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْخِتَانَةِ، فَهُوَ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ نَقْصًا، وَلَوْ أَحْدَثَتْهُ ضَمِنَ كَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةَ لَوْ لَمْ تُحْدِثْ نَقْصًا لَمْ تَضْمَنْ، فإذا أحدثه ضَمِنَ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَضْمَنُ بِغَيْرِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَضْمَنْ بِالْقَتْلِ وَالْأُضْحِيَّةُ تُضَمَّنُ بِغَيْرِ الذَّبْحِ فَضُمِّنَتْ بِالذَّبْحِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ نَقْصًا وَلَوْ عَطَبَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَكَانَ لِلْمُضَحِّيَيْنِ أُضْحِيَّتَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَرِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَحْمَ ذَبِيحَتِهِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا، لِأَنَّهُ مَا قَامَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهَا، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ أُضْحِيَّتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُمَا يَتَقَاسَمَانِ الْقِيمَةَ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِيجَابِ، وَفِي الْقِيمَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ الجمهور - إن يَضْمَنُ قِيمَتَهَا قَبْلَ الذَّبْحِ، وَهِيَ حَيَّةٌ كَالْجَانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة - أنه يضمن أكثر الأمرين من قِيمَتِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ قِيمَةِ لَحْمِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّفْرِقَةِ كَتَعَدِّيهِ بِالذَّبْحِ، وَهُوَ عِنْدِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 أَصَحُّ، فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ أُضْحِيَّتِهِ صَرَفَهَا فِي مِثْلِهَا وَكَانَ فِي فَضْلِهَا وَنُقْصَانِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَكُونُ أَرْشُ الذَّبْحِ دَاخِلًا فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَسَقَطَ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَحْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقِيًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَبَادَلَا بِاللَّحْمِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَّا فِي مَسْلَكِ الضَّحَايَا، وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَرْشِ الذَّبْحِ، وَفِي مَصْرِفِ هَذَا الْأَرْشِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُضَحِّي خَاصَّةً، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فِي عَيْنِ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْأَرْشُ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمَسَاكِينِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضَحِّي مِنْهَا إِلَّا مَا يَأْكُلُهُ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْأَرْشُ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا لِاسْتِفَادَتِهِ منها. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِذَا ذَبَحَ لَيْلًا أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ لَيْلًا مَكْرُوهٌ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الذَّبْحِ لَيْلًا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخْطَأَ مَحَلَّ ذَبْحِهَا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَتِرًا بِهَا وَالْمُظَاهَرَةُ بِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَعْوَذَهُ الْمَسَاكِينُ فِي اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا تَغَيَّرَ اللَّحْمُ إِذَا استبقى إلى النهار وصل فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي كَرِهْنَا ذَبْحَهَا فِي اللَّيْلِ، فَإِنْ ذَبَحَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) {الحج: 28) . فَخَصَّ الْأَيَّامَ بِهَا دُونَ اللَّيَالِي. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (الحج: 36) . ولم يفرق بين الليل النهار فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيهَا. وَلِأَنَّهُ مِنْ زَمَانِ النَّحْرِ فَجَازَتِ الْأُضْحِيَّةُ فِيهِ كَالنَّهَارِ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودِي الْأُضْحِيَّةِ فَجَازَ لَيْلًا كَالتَّفْرِقَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ. وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ كَمَا نَهَى عَنْ جداد الثمار في الليل - ما يصنع بلحم الأضحية من حيث الإدخار والأكل والطعام والإهداء -. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالضَّحِيَّةُ نسكٌ مأذونٌ فِي أَكْلِهِ وَإِطْعَامِهِ وَادِّخَارِهِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَحُكْمُهَا فِي جَمِيعِ مَا قَدَّمْنَاهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمَحِلِّ فَمَحِلُّ الْهَدْيِ الْحَرَمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) {الحج: 33) . وَمَحِلُّ الضَّحَايَا فِي بَلَدِ الْمُضَحِّي، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَبْحُهَا فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمَالِكِ هَلْ يُجْزِئُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ لَا تُجْزِئُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَلَدِهِ فَإِنْ ذَبَحَهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يُجْزِهِ. وَإِنْ قِيلَ تَفْرِيقُهَا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ يُجْزِئُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي بَلَدِهِ، وَكَانَ ذَبْحُهَا فِي بَلَدِهِ أَفْضَلَ، وَفِي غَيْرِ بَلَدِهِ جَائِزٌ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا بَعْدَ الْإِيجَابِ إِيجَابُهَا أَنْ تَكُونَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَهُوَ مَا ابْتَدَأَ إِيجَابَهُ فَقَالَ: قَدْ جَعَلْتُ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أُضْحِيَّةً، فَيَجِبُ أَنْ يَذْبَحَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ ثُمَّ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأُضْحِيَّةِ، وَذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَدَّخِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَر} (الحج: 36) . فَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ عَلَى أَكْلِهِ، وَإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، وَمُهَادَاةِ الأغنياء. القول في ادخار لحوم الأضاحي وَأَمَّا الِادِّخَارُ فَالْأَصْلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " ادَّخِرُوا الثُّلُثَ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ يَحْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَمَا ذَاكَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَهَيْتَ عَنِ اقْتِنَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثلاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا "، فَاشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ ثُمَّ عَلَى إِبَاحَةِ الِادِّخَارِ بَعْدَ الدَّافَّةِ، وَالدَّافَّةُ النَّازِلَةُ يُقَالُ: دَفَّ الْقَوْمُ مَوْضِعَ كَذَا إِذَا نَزَلُوا فِيهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي دَفَّ الْبَادِيَةُ إِلَيْهَا وَفِي غَيْرِهَا حُرِّمَ بِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتِ الدَّافَّةُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ بَعْدَهَا نَسْخًا لِلتَّحْرِيمِ، فَعَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِالنَّسْخِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَنْعِ مِنِ ادِّخَارِهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلَمْ يَحْكُمْ بِالنَّسْخِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ قَالَ: " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا " فَعَلَى هَذَا إِذَا دَفَّ قَوْمٌ إِلَى بَلَدٍ مِنْ فَاقَةٍ لَمْ يُحَرَّمِ ادِّخَارُهُمْ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ لِاسْتِقْرَارِ النَّسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ خَاصٍّ لِمُعَيَّنٍ حَادِثٍ اخْتَصَّ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ لنزول الدافة عليهم، وكانت الدافة علة لتحريم ثُمَّ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ بِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ، وَكَانَتْ إِبَاحَةُ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ وَلَمْ تَكُنْ نَسْخًا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا حَدَثَ مِثْلُهُ فِي زماننا، قذف ناس إلى لفاقة، فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِهِمْ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ كَمَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ بالمدينة في عهد الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد الرسول اللَّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحَرَّمُ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالدَّافَّةِ كَانَ لِزَمَانٍ عَلَى صِفَةٍ فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ مَسْلَكِ الضَّحَايَا فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ الْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ اشْتَمَلَ حُكْمُهَا عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَقَادِيرِهَا، فَلَيْسَ تَتَقَدَّرُ فِي الْجَوَازِ وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ فِي الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ يَسِيرًا مِنْهَا وَتَصَدَّقَ بِبَاقِيهَا جَازَ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِيَسِيرٍ مِنْهَا وَأَكَلَ بَاقِيَهَا جَازَ، فَأَمَّا مَقَادِيرُهَا فِي الِاسْتِحْبَابِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - يَأْكُلُ وَيَدَّخِرُ وَيُهْدِي النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالنِّصْفِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرِ) {الحج: 28) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 فَجَعَلَهَا فِي صِنْفَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - أَنْ يَأْكُلَ، وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ، وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالثُّلُثِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ} فذكر ثلاثة أصناف فاقتضى أن يكون بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وُجُوبُهَا وَاسْتِحْبَابُهَا، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ الِادِّخَارَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالصَّدَقَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا جَازَ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا جَازَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللهُ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) {الحج: 37) . فَجَعَلَ مَقْصُودَهَا التَّقْوَى بَعْدَ الْإِرَاقَةِ دُونَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَكَلَ أَكْثَرَهَا كَانَ جَمِيعُهَا أُضْحِيَّةً كَذَلِكَ إِذَا أَكَلَ جَمِيعَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ -: أَنَّ الْأَكْلَ وَالصَّدَقَةَ وَاجِبَانِ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيرَ} فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَ بِهِمَا فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِمَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ فِي حَجِّهِ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَأْتِيَهُ مَنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَطُبِخَتْ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا، فَلَمَّا أَكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ مَعَ كَثْرَتِهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ أَكْلِهِ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ وَالصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} فَجَعَلَهَا لَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَكْلَنَا مِنْهَا مُبَاحٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْإِنْسَانِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الِاسْتِبْقَاءِ وَالْإِسْقَاطِ. وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْقُرْبِ بِالْأُصُولِ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ. وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى في الضحايا: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . فأما كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا وَالْإِيتَاءُ وَاجِبًا كَذَلِكَ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ مُبَاحٌ وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى أَحَدِهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ مِنْهَا عَلَى الصَّدَقَةِ دُونَ الْأَكْلِ فَأَطْعَمَ وَلَمْ يَأْكُلْ لَمْ يَضْمَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأَكْلِ نَسَبَهُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ إِلَى الْمَأْثَمِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْغُرْمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأَكْلِ رَفَقَ بِهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْغُرْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَكْلِ فَأَكَلَ، وَلَمْ يُطْعِمْ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِطْعَامَ مُسْتَحَبًّا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَضْمَنُ جَمِيعَهَا بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِأَكْلِهَا عَنْ حُكْمِ الضَّحَايَا صَارَتْ لَحْمًا، وَكَانَ إِيجَابُ الْأُضْحِيَّةِ بَاقِيًا، فَلَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَدَلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ مِنْهَا قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا يَضْمَنُ جَمِيعَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَاقَ دَمَهَا عَلَى اسْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعَدَّى بِأَكْلِهِ، فَضَمِنَ قَدْرَ الِاسْتِحْبَابِ احْتِيَاطًا، فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالنِّصْفِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ. وَالثَّانِي: الثُّلُثُ، وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ هَذَا الْبَدَلَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا أَكَلَ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَضْمَنُ قَدْرَ الْإِجْزَاءِ، لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ أَجْزَأَهُ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ مَا يَخْرُجُ عَنْ قَدْرِ التَّافِهِ إِلَى مَا جَرَى الْعُرْفُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مِنْهَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ فَصَارَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْكُلُّ. وَالثَّانِي: النِّصْفُ. وَالثَّالِثُ: الرُّبُعُ. وَالرَّابِعُ: الْمُجْزِئُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْكُلِّ لَزِمَهُ ذَبْحُهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ. فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى ذَبَحَهُ بَعْدَهَا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَيَكُونُ لَحْمًا مَضْمُونًا بِمَثَلٍ ثَانٍ كَمَا لَوْ أَخَّرَ مِثْلَ الْأُضْحِيَّةِ حَتَّى ذَبَحَهَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ، لِأَنَّ إِرَاقَةَ دَمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَدْ حَصَلَ بِمَا أَكَلَ وَإِنَّمَا هَذَا بَدَلٌ مِنَ الْإِطْعَامِ دُونَ الْإِرَاقَةِ فَجَازَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَأَنْ ضَمَّنَّاهُ بَعْضَهَا وَلَمْ نُضَمِّنْهُ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا ضَمِنَهُ وَرَقًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْفُقَرَاءِ فِي الْأَكْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 دُونَ الْقِيمَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ: أَنْ يُفَرِّقَ ثَمَنَ الْأُضْحِيَّةِ وَرَقًا، وَهَلْ يَلْزَمُ صَرْفُ مَا ضَمِنَهُ فِي سَهْمٍ مِنْ أُضْحِيَّةٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ لَحْمًا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَشْتَرِي بِهِ سَهْمًا مِنْ أُضْحِيَّةٍ لِيَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُفَرِّقُهُ لَحْمًا، لِأَنَّهُ أَرْفَقُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنْ ذَبَحَ أَوْ فَرَّقَ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذَبْحَ سَهْمٍ فِي شَاةٍ لَا يَكُونُ أُضْحِيَّةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ زَمَانُ الْأَضَاحِيِّ. الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ المنذورة (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا الْمَنْذُورَةُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِالنَّذْرِ عَنْ حُكْمِ التَّطَوُّعِ إِلَى الْوَاجِبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالنَّذْرِ فَصَارَ كَتَطَوُّعِهِ بِالْفِعْلِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي النَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَضْمَنْ فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الْبَدَنَةِ "، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ " لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ وَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ جَازَ أن يكون فيه كغيره، والله أعلم بالصواب. بيع لحوم الأضاحي (مسألة:) قال الشافعي: " وَأَكْرَهُ بَيْعَ شيءٍ مِنْهُ وَالْمُبَادَلَةَ بِهِ ومعقولٌ مَا أُخْرِجَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مَالِكِهِ إِلَّا مَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ ثُمَّ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ثُمَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنَعْنَا الْبَيْعَ عَلَى أَصْلِ النُّسُكِ أَنَّهُ لِلَّهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيرَ} فَنَصَّ عَلَى أَكْلِهِ وَإِطْعَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ. وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الْقُرْبِ لَا يجوز للمتقرب بيعها الزكوات وَالْكَفَّارَاتُ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الضَّحَايَا بِجَوَازِ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ كَطَعَامِ الْوَلَائِمِ، وَأَكْلُ الْغَانِمِينَ طَعَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْهَا لَحْمًا، وَلَا يَدْعُوَهُمْ لِأَكْلِهِ مَطْبُوخًا، لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي تَمَلُّكِهِ دُونَ أَكْلِهِ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا أَحَبُّوا، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مَطْبُوخًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَأْخُذُوهُ نِيئًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ مَخْبُوزًا، فَإِذَا أخذوه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 لَحْمًا جَازَ لَهُمْ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ بيعه مَا أَخَذُوهُ مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَإِنْ لَمْ يُجْزِ الْمُزَكِّيَ وَالْمُكَفِّرَ بَيْعُهُ. وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ أُجْرَةَ جِزَارَتَهُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَاوِضًا بِهِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَلِيًّا عَنْهُ. وَلِأَنَّ مَؤُونَةَ مَا يَسْتَحِقُّ إِخْرَاجُهُ لَازِمَةٌ لِلْمُتَقَرِّبِ كَمَؤُونَةِ الْجِدَادِ وَالْحَصَادِ، فَإِنْ أَعْطَى الْجَازِرَ أُجْرَتَهُ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَحْمِهَا صَدَقَةً إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ هَدِيَّةً إِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا. الْقَوْلُ فِي بيع الجلد (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْجِلْدُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ عَلَى الْمُضَحِّي، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ بَعْضُ الْأُضْحِيَّةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُشَارِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ اللَّحْمِ فَلَزِمَ الْإِشْرَاكُ فِيهِ كَاللَّحْمِ، فَإِنْ بَاعَهُ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْجِلْدِ، وَتَمَلُّكُ ثَمَنُهُ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأُضْحِيَّةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ وَإِطْعَامُ اللَّحْمِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْجِلْدِ بِآلَةِ الْبَيْتِ الَّتِي تُعَارُ كَالْقِدْرِ وَالْمِيزَانِ وَالسِّكِّينِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْآلَةِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَارَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ بِالْآلَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَارَتُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أَقُومَ عَلَى بَدَنَه فَأَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا، فَقَسَّمَ الْجُلُودَ كَمَا قَسَّمَ اللَّحْمَ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ، وَهَذَا إِنِ انْتَشَرَ إِجْمَاعٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ حُجَّةٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ بَعْضُ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَحْمِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ جِلْدِهِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 حكم تضحية العبيد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ لعبدٍ وَلَا مدبرٍ وَلَا أُمِّ ولدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَلَّكُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُمَلَّكُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبِّرِينَ فَلَا يَمْلِكُونَ إِنْ لَمْ يُمَلَّكُوا، وَلَا هُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّحَايَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا، فَإِنْ ضَحَّى أَحَدَهُمْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ، وَالْأُضْحِيَّةُ عَنِ السَّيِّدِ لَا عَنْهُ، وَإِنْ ضَحَّى بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالذَّبْحِ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ، وَتَكُونُ الذَّبِيحَةُ لَحْمًا لِلسَّيِّدِ، وَلَيْسَ بِأُضْحِيَّةٍ، وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا، فَفِي صِحَّةِ مِلْكِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الضَّحَايَا مَلَكَ أَوْ لَمْ يَمْلِكْ، لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَجْرًا وَإِنْ مَلَكَ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَنْ يُضَحِّيَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ السَّيِّدِ فَيَصِحَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ فِي هَذَا الْإِذْنُ بِذَبْحِهَا عَنِ السَّيِّدِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي تَمْلِيكِ الْعَبْدِ، وَيَصِيرَ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ فِي الذَّبْحِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَنْ يُفَرِّقَ اللَّحْمَ إِلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ الْأَوَّلَ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الذَّبْحِ دُونَ التَّفْرِقَةِ فَاحْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ فِي التَّفْرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ الْأَوَّلُ فِي الذَّبْحِ وَالتَّفْرِقَةِ صَحَّا جَمِيعًا مِنْهُ بِإِذْنٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَرْدُودِينَ إِلَى اجْتِهَادِ الْعَبْدِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ فَفِي جَوَازِهَا عَنْ نَفْسِهِ قَوْلَانِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ جَازَ وَإِنْ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَانَتْ أُضْحِيَّةً عَنِ الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِمَا اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ فِيهَا بِالذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَعَيُّنِهَا صَحَّ رُجُوعُ السَّيِّدِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَعَيُّنِهَا لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ السَّيِّدِ فِيهَا، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ كَالْمَذْبُوحَةِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أُضْحِيَّةَ الْعَبْدِ لَا تَجُوزُ فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ ذَبْحِهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ وَبَعْدَهُ، وَإِذَا ذَبَحَهَا الْعَبْدُ كَانَتْ ذَبِيحَةَ لَحْمٍ وَلَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً لِلْعَبْدِ وَلَا لِلسَّيِّدِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ، فَيَمْلِكُ إِكْسَابَ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ مِلْكَهُ ضَعِيفٌ وَلَا يُمَاثِلُ مِلْكَ الْحُرِّ، لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى أدائه في مال الكتابة ومؤونة نفس وَلِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَجْرٌ بِمَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مال الكتابة، وليس من أهل الضحايا لقصوره مِلْكَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ بحق حجر، فإن أذن له السيد في الأضحية، فَإِنْ مُنِعَ الْعَبْدُ مِنْهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 إِذَا مَلَكَ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَإِنْ جُوِّزَتْ لِلْعَبْدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَمْلِكُ فَفِي جَوَازِهَا مِنَ الْمُكَاتَبِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ مِنْهُ وَتَصِحُّ لَهُ الْأُضْحِيَّةُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَيْسَ فِيهَا بِالسَّوَاءِ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ إِذَا مَلَكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَا يَمْلِكُ مَا بِيَدِهِ وَإِنْ مَلَكَ مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ فَصَحَّ إِذْنُهُ مَعَ عَبْدِهِ وَضَعُفَ مَعَ مُكَاتَبِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ إِذَا مَلَكَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مَالًا صَحَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ رِقَّةُ حَجْرٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَيَكُونُ أَهْلِ الضَّحَايَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِغَيْرِ اعتراض كما لكامل الحرية. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا نَحَرَ سبعةٌ بدنةٌ أَوْ بقرةٌ فِي الضَّحَايَا أَوِ الْهَدْيِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ واحدٍ أو شتى فسواءٌ وذلك يجزي وإن كان بعضهم مضحياً وبعضهم مهدياً أو مفتدياً أجزأ لأن سبع كل واحدٍ منهم يقوم مقام شاةٍ منفردةٍ وكذلك لو كان بعضهم يريد بنصيبه لحماً لا أضحيةً ولا هدياً وقال جابر بن عبد الله نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم الْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ (قَالَ الشافعي) رحمه الله: وهم شتى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْبَدَنَةُ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَهِيَ عَنْ سَبْعَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَيَقُومُ كُلُّ سَبُعٍ مَقَامَ شَاةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ عَشَرَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ عَشَرَةٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَدَنَةُ فِي الْغَنَائِمِ بعشرٍ مِنَ الْغَنَمِ " فَكَذَلِكَ فِي الضَّحَايَا. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ وَمَتْرُوكٌ، وَغَيْرُهُ مَعْمُولٌ بِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْدِيلِهَا فِي الْغَنَائِمِ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ فِي الضَّحَايَا أصلاً، لأنه قد اختلف قتادة جُعِلَ بِعَشْرٍ وَتَارَةً بِأَقَلَّ وَتَارَةً بِأَكْثَرَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 الِاشْتِرَاكُ فِي لَحْمِ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا، وَيَكُونُ كُلُّ سُبْعٍ مِنْهَا ضَحِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ فِي قُرَبٍ مُتَمَاثِلَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ حَقَّهُ لَحْمًا، وَبَعْضُهُمْ يَكُونُ بِهِ مُتَقَرِّبًا، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا، وَإِنْ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ بُيُوتٍ شَتَّى، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْفَرْضِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا مُفْتَرِضِينَ وَمُتَطَوِّعِينَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْقُرَبِ وَاحِدٌ وَمَصْرِفَهَا مَعَ اللَّحْمِ مُخْتَلِفٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: " نَحَرْنَا بِالْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ". وَقَدْ كَانُوا أَشْتَاتًا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَلَوِ اتَّفَقَتْ قَبَائِلُهُمْ لَمْ تَتَّفِقْ بُيُوتُهُمْ، وَلَوِ اتَّفَقَتْ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدون عليهم، ولا ينقصون مِنْهُمْ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الِافْتِرَاضِ وَالِاقْتِرَانِ، وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي بَدَنَةٍ، وَنَحْنُ مُتَمَتِّعُونَ عَامَ الْوَدَاعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْمُفْتَرِضِينَ، لِأَنَّ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ فَرْضٌ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مفترضين كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ. وَلِأَنَّ سَهْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اخْتَلَفَتْ قُرَبُهُمْ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ عَنْ قِرَانٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ تَمَتُّعٍ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ حَلْقٍ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ لِبَاسٍ جَازَ كَذَلِكَ إِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ لَحْمًا، لِأَنَّ نِيَّةَ غَيْرِ الْمُتَقَرِّبِ لَا تُؤَثِّرُ فِي نِيَّةِ الْمُتَقَرِّبِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَصْرِفَ الْقُرْبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْفَرْضِ غَيْرُ مَصْرِفِ التَّطَوُّعِ وَمَحِلُّ الْهَدْيِ غَيْرُ مَحِلِّ الْأَضَاحِيِّ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَنَحَرَ السَّبْعَةُ الْمُشْتَرِكُونَ بَدَنَةً، فَإِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ وَدَفَعُوا لَحْمَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُقْتَسِمِينَ لَهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا يُقَاسِمُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْقِسْمَةِ: إِنَّهَا إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَتِ الْقِسْمَةُ وَكَانَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ قَبْلَ دَفْعِ سِهَامِهِمْ إِلَى الْمَسَاكِينِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 5 - وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعُوهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَيَكُونُ هُمُ الْقَاسِمِينَ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزِ الْقِسْمَةُ فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَقَرِّبُونَ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لَمْ تَجُزْ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُحُومَ الْقُرَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا الْمُتَقَرِّبُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ الرَّطْبَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضِ خَوْفِ الرِّبَا، وَإِنْ أَرَادَ الْمَسَاكِينُ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَاسَمُوهُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ خَوْفُ الرِّبَا، لِأَنَّ بَيْعَهُمْ لَمَّا أَخَذُوهُ مِنَ الْقُرْبِ جَائِزٌ وَإِنْ تَرَكُوهُ حَتَّى يجف ثم اقتسموه جاز. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالْأَضْحَى جائزٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا إلى المغيب لأنها أيام نسكٍ (قال المزني) رحمه الله وهو قول عطاءٍ والحسن أخبرنا عليُّ بن معبدٍ عن هشيمٍ عن يونس عن الحسن أنه قال يضحى أيام التشريق كلها وحدثنا عليُّ بن معبدٍ عن هشيمٍ عن الحجاج عن عطاءٍ أنه كان يقول يضحى في أيام التشريق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَيَّامُ نَحْرِ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَغِيبَ شَمْسُهُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ إنَّهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، بِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بن يسار أنه بلغها أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الضَّحَايَا إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِيَ ذَلِكَ ". وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حنيف يقول: إنه كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْتَرِي أَحَدُهُمُ الْأُضْحِيَّةَ وَيُسَمِّنُهَا، فَيَذْبَحُهَا بَعْدَ الْأَضْحَى فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى:: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) {الحج: 28) . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا، وَلَكِنْ لَمَّا جُعِلَ لِلنَّحْرِ أَيَّامًا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَهْرًا. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا ذبحٌ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنِ اسْتَدَامَهَا إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ، لِاخْتِصَاصِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: " أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أكلٍ وشربٍ ونحرٍ وذكرٍ " فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّحْرِ بِجَمِيعِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ جَازَ فِيهِ الرَّمْيُ جَازَ فِيهِ النَّحْرُ كَالْيَوْمِ الثَّانِي، وَكُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الرَّمْيُ لَمْ يَجُزْ فِيهِ النَّحْرُ كَالْمُحَرَّمِ، وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِتَشْرِيقِ لُحُومِ الْهَدَايَا فِي شَمْسِهَا، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا لَجَازَ انْطِلَاقُ اسْمِ التَّشْرِيقِ عَلَى جَمِيعِهَا، وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، ولا طريقاً إلى الأحكام، ولو صح جاز فَسْخُهُ بِمَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ بِضِدِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصَلَ:) يَخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَحِّيَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْهُمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ بَدَنَةً يَذْبَحُهَا فِي الْمُصَلَّى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) . وَأَقَلُّ مَا يَنْحَرُهُ شَاةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ بَعْدَ صَلَاتِهِ شَاةً عَنْ أُمَّتِهِ، وَيَتَوَلَّى نَحْرَهَا بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَإِنْ ضَحَّى مِنْ مَالِهِ ذَبَحَ حَيْثُ شَاءَ، فَفَرَّقَ عَلَى مَا أَرَادَ، فَأَمَّا غَيْرُ الْإِمَامِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُضَحِّيَ فِي مَنْزِلِهِ بِمَشْهَدِ أَهْلِهِ، لِيَفْرَحُوا بِالذَّبْحِ وَيَسْتَمْتِعُوا بِاللَّحْمِ، فَإِنْ ضَحَّى بِعَدَدٍ مِنَ الضَّحَايَا، فَيَخْتَارُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَيَنْحَرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْضَهَا، لِأَنَّهُ أَطْوَلُ اسْتِمْتَاعًا بِلَحْمِهَا، فَإِنْ ضَحَّى بِرَأْسَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يَذْبَحَ أَحَدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ، وَالثَّانِي فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الِاخْتِيَارِ فَذَبَحَ جَمِيعَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ أَكْبَادِهَا، وَأَسْنِمَتِهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّهُ مِنْ أَطَايِبِهَا. (فَصْلٌ:) وَلَا تَصِحُّ الْأُضْحِيَّةُ عَنِ الْحَمْلِ كَمَا لَا يُزَّكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا وَيَجِبَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ فرض والأضحية سنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 باب العقيقة (مسألة:) قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ سِبَاعِ بْنِ وهبٍ عَنْ أُمِّ كرزٍ قَالَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْأَلُهُ عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ " عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شاةٌ لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَقَرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْعَقِيقَةُ فَهِيَ شَاةٌ تُذْبَحُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ. القول في العقيقة اخْتُلِفَ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَلَا نَدْبٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَسْنُونَةٍ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: " لَا أَحُبُّ الْعُقُوقَ " وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا وُلِدَ أَرَادَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَنْ تَعُقَّ عَنْهُ كَبْشًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَعُقِّي عَنْهُ وَاحْلِقِي شَعْرَهُ وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ " فَلَمَّا وَلَدَتِ الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ عَلَى وُجُوبِ الْعَقِيقَةِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغُلَامُ مرتهنٌ بِعَقِيقَتِهِ، فَاذْبَحُوا عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِيَنَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَهْيَ فَاطِمَةَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عَقَّ عَنْهُمَا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: " لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ وَلَكِنْ مَنْ وُلِدَ لَهُ ولدٌ فَأُحِبُّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ وَنَدَبَ إِلَى الْفِعْلِ. وَلَكِنَّ وَلِيمَةَ النِّكَاحِ مَسْنُونَةٌ، وَمَقْصُودَهَا طَلَبُ الْوَلَدِ فَكَانَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِيهِ مَسْنُونًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ " أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا " رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْكَافِ يَعْنِي بِهِ أَمَاكِنَهَا وَأَوْكَارَهَا، وَرَوَاهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ يَعْنِي: وَقْتَ تَمَلُّكِهَا، وَاسْتِقْرَارِهَا، وَفِي الْمُرَادِ بِهِ تَأْوِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ رَوَاهُ بِكَسْرِ الْكَافِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَاقُ الطَّيْرَ وَتَزْجُرُهَا تَفَاؤُلًا وَتَطَيُّرًا إِذَا أَرَادُوا حَاجَةً أَوْ سَفَرًا فَيَنْفِرُونَ أَوَّلَ طَائِرٍ يَسْفَحُ لَهُمْ، فَإِنْ طَارَ ذَاتَ اليمين قالوا هذا طائر الأيامن فيتيمنوا به، وتوجهوا، وأيقنوا بِالنَّجَاحِ، وَإِنْ طَارَ ذَاتَ الشِّمَالِ قَالُوا هَذَا طير الأشائم فتشائموا بِهِ وَعَادُوا مُعْتَقَدِينَ لِلْخَيْبَةِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ هَذَا، وَقَالَ: " إِنَ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ ". وَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ الْهُزَلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعِيَافَةِ وَالطَّرْقِ ". الْعِيَافَةُ [هي] : زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مِطْرَقَةُ الْحَدَّادِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فِي الْكَافِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ صَيْدِ اللَّيْلِ إِذَا أَوَتِ الطَّيْرُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ اللَّيْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ وَقْتُ الدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: لِأَنَّ أَوْكَارَهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ الْمَخُوفِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي مِقْدَارِ الْعَقِيقَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ شَاةٌ كَالْجَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا، وَقَالَ آخرون: يعق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 عَنِ الْغُلَامِ، وَلَا يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ، لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ السُّرُورُ وَالسُّرُورُ يَخْتَصُّ بِالْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحُدَيْبِيَّةِ أَسْأَلُهُ عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شاةٌ لَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا " وَالْمُكَافِئَتَانِ الْمِثْلَانِ. وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْيَهُودَ يَعُقُّونَ عَنِ الْغُلَامِ وَلَا يَعُقُّونَ عَنِ الْجَارِيَةِ فَعُقُّوا عَنِ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شاةٌ " وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا فُضِّلَ الْغُلَامُ عَلَى الْجَارِيَةِ فِي مِيرَاثِهِ وَأَحْكَامِهِ فُضِّلَ عَلَيْهَا فِي عَقِيقَتِهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنِ الْجَارِيَةِ أَنَّ الْعَقِيقَةَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَقْصِدَ التَّيَمُّنَ وَالتَّبَرُّكَ بِهَا بِالذَّبْحِ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ النَّاسُ فِي النَّاسِ لَمْ يَكُنْ ناسٌ " وَمَعْنَى أَطَاعَ أَيْ: اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يُحِبُّونَ أَنْ يُولَدَ لَهُمُ الذُّكْرَانُ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِنَاثُ ذَهَبَ النَّسْلُ فَلَمْ يَكُنْ نَاسٌ. (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ الْعَقِيقَةِ وَهِيَ مِنَ النَّعَمِ كَالضَّحَايَا وَفِي أَسْنَانِهَا مِنَ الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعْزِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْغَنَمِ إِلَى الْبُدْنِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كَانَ أَزْيَدَ مِنَ الْمَسْنُونِ وَأَفْضَلَ، وَإِنْ عَقَّ دون الجزع مِنَ الضَّأْنِ وَدُونَ الثَّنِيِّ مِنَ الْمَعْزِ فَفِي إقامة لسُّنَّةِ الْعَقِيقَةُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَقُومُ بِهِ سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ اعْتِبَارًا بِالْأُضْحِيَّةِ وَتَكُونُ ذَبِيحَةُ لَحْمٍ لَيْسَتْ بِعَقِيقَةٍ، لِأَنَّهُمَا مَسْنُونَتَانِ، وَقَدْ قَيَّدَ الشَّرْعُ سِنَّ إِحْدَاهُمَا فَتَقَرَّرَ بِهِ السِّنُّ فِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَيَّنَ الْعَقِيقَةَ فِي شَاةٍ وَأَوْجَبَهَا وَجَبَتْ كَالْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِغَيْرِهَا وَيَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ لَحْمًا نِيئًا وَلَا يَخُصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقُومُ بِمَا دَوَّنَ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ سُنَّةَ الْعَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَوْكَدُ مِنْهَا لِتَعَلُّقِهَا بِسَبَبٍ رَاتِبٍ وَاحِدٍ عَامٍّ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ فِي السِّنِّ أَغْلَظَ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ عَيَّنَ الْعَقِيقَةَ فِي شَاةٍ أَوْجَبَهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ بَيْنَ ذَبْحِهَا أَوْ ذَبْحِ غَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ، وَلَا يَلْزَمَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَطْبُوخًا جَازَ. الْقَوْلُ فِي وَقْتِ العقيقة (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ وَوَقْتِ ذَبْحِهَا هُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ فَاذْبَحُوا عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ السَّبْعَةِ على وجهين: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ - إنَّهُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ لِيَكُونَ مَعْدُودًا مِنَ السَّبْعَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ -: أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مَعْدُودًا فِيهَا، فَإِنْ قَدَّمَ ذَبْحَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَقَبْلَ كَمَالِ السَّبْعَةِ جَازَتْ تَعْجِيلًا وَقَامَ بِهَا سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ، وَإِنْ عَجَّلَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لَمْ تَقُمْ بِهَا سُنَّةُ الْعَقِيقَةِ وَكَانَتْ ذَبِيحَةَ لَحْمٍ، وَإِنْ أَخَّرَهَا بَعْدَ السَّبْعَةِ كَانَتْ قَضَاءً مُجْزِيًا عَنْ سُنَّتِهِ، وَيَخْتَارُ أَلَّا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ النِّفَاسِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَيَخْتَارُ بَعْدَهَا أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ الرَّضَاعِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الطُّفُولَةِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَيَجِبُ أَلَّا يَتَجَاوَزَ بِهَا مُدَّةَ الْبُلُوغِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْمُصَغَّرِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا حَتَّى يَبْلُغَ سَقَطَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْوَلَدُ مُجْزِئًا فِي الْعَقِيقَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعُقَّ الْكَبِيرُ عَنْ نَفْسِهِ. رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُثَنَّى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عق عن نفسه بعدما نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ ". (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَنْ يَتَحَمَّلُ الْعَقِيقَةَ وَالَّذِي يَتَحَمَّلُهَا وَيَخْتَصُّ بِذَبْحِهَا هُوَ الْمُلْتَزِمُ لِنَفَقَةِ الْمَوْلُودِ مِنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ أُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَؤُونَةٍ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ كَأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا بِمِيرَاثٍ وَعَطِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ كَمَا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَكَانَ الْأَبُ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ مَنْدُوبًا إِلَى ذَبْحِهَا عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ فَقِيرًا، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُ النَّفَقَةِ عَنْهُ مُسْقِطًا لِسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا بِالْعَقِيقَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ بِهَا نُظِرَ يَسَارُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونِ وَهُوَ السَّابِعُ كَانَتْ سنة ذبحها متوجه إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّابِعِ وَبَعْدَ مُدَّةِ النِّفَاسِ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّابِعِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَاطِبًا بِسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا بِسُنَّتِهَا لِمُجَاوِرَةِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَقْتِهَا. (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا يَصْنَعُ بِالْعَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ يَذْبَحَ قِيلَ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الضَّحَايَا فِي الْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ فَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْأَكْلِ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَتَفْضِيلِ لَحْمِهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَسْرِ عَظْمِهَا وَطَبْخِ لَحْمِهَا بِالْخَلِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَفَاؤُلًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ وَطَيِّبِ العيش. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّهُ طِيَرَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا، وَلِأَنَّ ذَبْحَهَا أَعْظَمُ مَنْ كَسْرِ عَظْمِهَا وَمُلَاقَاةُ النَّارِ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ طَرْحِ الْخَلِّ عَلَى لَحْمِهَا وَيُكْرَهُ أَنْ تُلَطِّخَ جَبْهَةَ الْمَوْلُودِ وَرَأَسَهُ بِدَمِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مَخْرَجَ الدَّمِ مِنْ أَوْدَاجِهَا بِصُوفِة يُلَطِّخُ بِهَا رأس المولود ثم يغسل روى همام عن قتادة عن أنس. (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ السَّادِسُ: فِيمَا يَقْتَرِنُ بِالْعَقِيقَةِ مِنَ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْلُودِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَيَتَصَدَّقَ بِوَزْنِهِ فِضَّةً قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا صَنَعَ بِالْمَوْلُودِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فِي الْإِنَاثِ، لِأَنَّ حَلْقَ شُعُورِهِنَّ مَكْرُوهٌ. وقد روى الشافعي عن إبراهيم بن محمد بْنِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَيْهِمَا وَتَتَصَدِّقَ بِزِنَةِ الشَّعْرِ فِضَّةً فَفَعَلَتْ ذَلِكَ وَفَعَلَتْ فِي سَائِرِ أَوْلَادِهَا مِنَ الْإِنَاثِ ". وَالثَّانِي: أَنْ يُسَمَّى فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيَجِبُ أَنْ يُسَمَّى بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِمَ سَمَّيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: حَرْبًا قَالَ: بَلْ سَمَّوْهُ حَسَنًا، وَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ قَالَ: " سَمَّوْهُ حُسَيْنًا "، وَقَدْ غَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْمَاءً كَثِيرَةً مِنْ أَصْحَابِهِ اخْتَارَهَا لَهُمْ بَعْدَ اشْتِهَارِهِمْ بِهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ كَانَ اسْمُهُ رُوزِيَهْ فَسَمَّاهُ سَلْمَانَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْتَنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ إِنْ قَوِيَ بَدَنُهُ عَلَى الْخِتَانَةِ وَمَنْ أَثْبَتَ رِوَايَةَ هَمَّامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ويدمى في السابع يأولها فِي خِتَانَتِهِ دُونَ تَلْطِيخِهِ بِدَمِ عَقِيقَةٍ. فَإِنْ ضَعُفَ بَدَنُهُ عَنِ الْخِتَانَةِ فِي السَّابِعِ أُخِّرَ حتى يقوى عليها فأما المروزي فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى " فَفِي هَذَا الْأَذَى ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْلِقُ شَعْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ الحسن. والثاني: أنه يغسل رَأْسَهُ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِتَانَتُهُ وَهُوَ أَشْبَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 القول في الفرعة والعتيرة (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْفَرَعَةُ وَالْعَتِيرَةُ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ الْفَرَعَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَوَّلُ مَا تُنْتَجُ النَّاقَةُ يقولون لا تملكها ويذبحوها رَجَاءً لِلْبَرَكَةِ فِي لَبَنِهَا وَنَسْلِهَا وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنَ الْعَرَبِ يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ وَيُسَمُّونَهَا الْعَتِيرَةَ الرَّجَبِيَّةَ وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا فَرَعَةَ وَلَا عَتِيرَةَ " وَهَذَا نَهْيٌ عَنْهُمَا. وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ نُبَيْشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ فَمَا تَأْمُرُنَا فَقَالَ: اذْبَحُوا فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " وَأَطْعِمُوا " قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فَرَعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: " مِنْ كُلِّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ " وَهَذَا أَمْرٌ بِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَفِي اخْتِلَافِهِمَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الْإِيجَابِ وَحَدِيثَ نُبَيْشَةَ فِي الْأَمْرِ بِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ وَالْأَمْرَ بِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُبِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ ما لا تأكل العرب من معاني الرسالة ومعانٍ أعرف له وغير ذلك قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَقَالَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الخَبَائِثَ} وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِذَلِكَ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنْ هَذَا وَنَزَلَتْ فِيهِمُ الْأَحْكَامُ وَكَانُوا يَتْرُكُونَ مِنْ خَبِيثِ الْمَآكِلِ مَا لَا يَتْرُكُ غَيْرُهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَ ضَرْبَانِ: حَيَوَانٌ وَنَبَاتٌ. فَأَمَّا النَّبَاتُ فَيَأْتِي. وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَضَرْبَانِ: بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ، فَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَضَرْبَانِ: دَوَابُّ وَطَائِرٌ، وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا حَلَّ مِنْهَا وَحَرُمَ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْلِيلِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَهُوَ حَلَالٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ غَفْلًا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَصْلًا يعرف به حلاله وحرامه، في آياتين مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةً عَنْ رَسُولِهِ. فَأَمَّا الْآيَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) {المائدة: 4) فَجُعِلَ الطَّيِّبُ حَلَالًا. وَالثَّانِيةُ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) . فَجَعَلَ الطَّيِّبَ حَلَالًا، وَالْخَبَثَ حَرَامًا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَعَمَّ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأُولَى مَقْصُورَةٌ عَلَى إِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ وَهَذِهِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ وَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ حَلَالًا، وَالْخَبَثَ حَرَامًا، وَهَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوهُ عَمَّا يَحِلُّ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَلَا يَخْلُو مُرَادُهُ بِالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَلَالَ والحرام، كما قال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يَعْنِي مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَمَّا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: الْحَلَالُ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ الْحَرَامُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: 43) . أَيْ: طَاهِرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، لِأَنَّ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ مَعْرُوفٌ بِشَرْعٍ آخَرَ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا بَيَانٌ شَرْعِيٌّ يَعْنِي عَنْ غَيْرِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا كَانَ مُسْتَطَابَ الْأَكْلِ فِي التَّحْلِيلِ، وَمُسْتَخْبَثَ الْأَكْلِ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ إِذَا بَطَلَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ بِمَا اسْتَطَابُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْلِيلِهِ، وَبِمَا اسْتَخْبَثُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا وَصَارَ الْمُسْتَطَابُ حَلَالًا وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامًا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيبُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ غَيْرُهُ، فَيَصِيرُ حَلَالًا لَهُ وَحَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ مَا عَمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عُرْفُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ، فَاحْتِيجَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ خُوطِبَ بِهِ مِنَ النَّاسِ وَمَعْرِفَةِ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمُ الْعَرَبَ لِأَنَّهُمُ السَّائِلُونَ الْمُجَابُونَ، وَأَحَقُّ الْأَرْضِ مِنْ بِلَادِهِمْ، لِأَنَّهَا أَوْطَانُهُمْ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَسْتَطِيبُونَ وَيَسْتَخْبِثُونَ بِالضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَيَسْتَطِيبُ أَهْلُ الضَّرُورَةِ مَا اسْتَخْبَثَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ عُرْفُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، دُونَ أَهْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الضَّرُورَةِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَيَسْتَطِيبُ الْفَقِيرُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الْغَنِيُّ. وَالثَّانِي: بِالْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَيَسْتَطِيبُ الْبَادِيَةُ مَا يستخبثه الحاضرة. والثالث: بزمان الجدب وزمان بالخصب، فَيُسْتَطَابَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ مَا يَسْتَخْبِثُ فِي زَمَانِ الْخِصَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ مِنْ جَمْعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ سُكَّانُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى دُونَ الْبَادِيَةِ، وَفِي زَمَانِ الْخِصَبِ دُونَ زَمَانِ الْجَدْبِ، مِنَ الْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، وَبِلَادِهِمْ دُونَ غَيْرِهَا، فَتَصِيرُ الْأَوْصَافُ الْمُعَيَّنَةُ فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَى اسْتَطَابَتِهِ وَاسْتِخْبَاثِهِ خَمْسَةً: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا عَرَبًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا فِي بِلَادِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، دُونَ الْفَلَوَاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ مِنْ أهل السعة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونُوا فِي زَمَانِ الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي قَوْمٍ اسْتَطَابُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَلَالًا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِتَحْلِيلِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتَطَابَتِهِ، فَيَكُونُ حَلَالًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِخْبَاثِهِ فَيَكُونُ حَرَامًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَطِيبَهُ بَعْضُهُمْ وَيَسْتَخْبِثَهُ بَعْضُهُمْ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَابَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَلَالًا، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِخْبَاثِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ. وَإِنِ اسْتَخْبَثَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَرَامًا، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِطَابَةِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ. وَإِنْ تَسَاوَى الْفَرِيقَانِ فِي الِاسْتِطَابَةِ وَالِاسْتِخْبَاثِ، وَلَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتُبِرَتْ قُرَيْشٌ، لِأَنَّهُمْ قُطْبُ الْعَرَبِ وَفِيهِمُ النُّبُوَّةُ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُوطِبَ بِالرِّسَالَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَطِيبِينَ حَلَّ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَخْبِثِينَ حَرُمَ، وَإِنْ تَسَاوَتْ قُرَيْشٌ فِيهِمُ اعْتُبِرَتْ شِبْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَطَابُ أَشْبَهَ حَلَّ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَخْبَثُ أَشْبَهَ حَرُمَ. وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، هَلْ هِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِالْحَظْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعًا تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَلَالًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَرِدَ شَرْعٌ بِالْإِبَاحَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَرَامًا، فَأَمَّا السُّنَّةُ فَتَأْتِي. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الْعَرَبِ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، فَإِنِ اسْتَطَابُوهُ كَانَ حَلَالًا، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوهُ كَانَ حَرَامًا، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اعْتُبِرَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالْإِسْلَامِ، وَهِيَ النَّصْرَانِيَّةُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَعَلَى ما ذكرناه من الوجهين. (مسألة:) قال الشافعي: " وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {قُلْ لاَ أَجِدْ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةَ يَعْنِي مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ وَلَمْ يَكُنِ الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 عَزَّ وَجَلَّ لِيُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فِي الْإِحْرَامِ إِلَّا مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ في الإحلال والله أعلم فلما أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقتل الغراب والحدأة والعقرب والحية والفأرة والكلب العقور دل ذلك على أن هذا مخرجه ودل على معنى آخر أن العرب كانت لا تأكل مما أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتله في الإحرام شيئاً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَصْلِهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِاسْتِطَابَةِ الْعَرَبِ وَاسْتِخْبَاثِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ. وَالثَّانِي: الرَّدُّ عَلَى مُخَالِفِهِ فِيهِ، وَهُوَ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ قَالَ كُلُّ الْحَيَوَانِ حَلَالٌ إِلَّا مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ، فَأَبَاحَ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِعْلَانِ وَالدِّيدَانِ وَهَوَامِّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَسِبَاعِ الدَّوَابِّ، وَبُغَاثِ الطَّيْرِ وَجَوَارِحِهَا، وَحَلَّلَ لُحُومَ الْكِلَابِ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَجَعَلَ أَصْلَهُ إِحْلَالَ جَمِيعِهَا إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُحلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) {الأنعام: 145) . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) {المائدة: 25) . فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ قَالَ: ولئن كان المعتبر باستطابة العرب فهم يستطيعون أَكْلَ جَمِيعِهَا سُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَمَّا يَأْكُلُونَ وَمَا يَذَرُونَ؟ فَقَالَ: نَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ إِلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ فَقِيلَ لَهُ: لِتَهْنَأْ أُمَّ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةَ. وَدَلِيلُنَا مَعَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ الذي حررنا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) {الأعراف: 175) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهَا خَبِيثًا مُحَرَّمًا، وَطَيِّبًا حَلَالًا، وَمَالِكٌ جَعَلَ جَمِيعَهَا حَلَالًا طَيِّبًا. وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مخلبٍ مِنَ الطَّيْرِ " فَجَعَلَ هَذَا فِي التَّحْرِيمِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا، وَمَالِكٌ لَا يَعْتَبِرُهُ، وَيَجْعَلُ الْكُلَّ حَلَالًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خمسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، والغراب وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " وَمَا أُبِيحُ قَتْلُهُ وَلَمْ يَحْرُمْ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ كَانَ حَرَامًا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) {المائدة: 25) . وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَحَلَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ وَحَرَّمَ بَعْضَهُ، وَأَغْفَلَ بَعْضَهُ، فَكَانَ نَصُّهُ مُتَّبَعًا فِي مَا أَحَلَّ وَحَرَمَ، وَبَقِيَ الْمُغْفَلُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ إِلَى التَّحْلِيلِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَحَدُ أَصْلَيْنِ، إِمَّا الْقِيَاسُ وَإِمَّا عُرْفُ الْعَرَبِ، وَمَالِكٌ لَا يَعْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَنَحْنُ نَعْمَلُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ عرف العرب ثم ترجع إِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ فَكُنَّا فِي اعْتِبَارِ الْأَصْلَيْنِ أَرْجَحَ مِنْهُ فِي تَرْكِ الْأَصْلَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) {الأنعام: 145) . فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا أَجِدُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ، وَمَا عَدَاهَا مُحَرَّمٌ بِالسُّنَّةِ. وَالثَّانِي: لَا أَجِدُ فِيمَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَطِيبُ أَكْلَ جَمِيعِهَا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي جُفَاةِ الْبَوَادِي، لِجَدْبِ مَوَاضِعِهِمْ فِي الضَّرُورَاتِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 (مسألة:) قال الشافعي: " ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَأَحَلَّ الضُّبُوعَ وَلَهَا نابٌ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَأْكُلُهَا وتدع الأسد والنمر والذئب تحريماً له بالتقدر وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ أَنَّ مَا عَدَا مِنْهَا عَلَى النَّاسِ لِقُوَّتِهِ بِنَابِهِ حرامٌ وَمَا لَمْ يَعَدُ عَلَيْهِمْ بِنَابِهِ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ وَمَا أَشْبَهَهُمَا حلالٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّحْرِيمِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ مَأْكُولًا، فَاحْتِيجَ إِلَى تَعْلِيلِ مَا حَرَّمَ بِهِ ذَوَاتَ الْأَنْيَابِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى تَعْلِيلِهِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَا قَوِيَتْ أَنْيَابُهُ فَعَدَا بِهَا عَلَى الْحَيَوَانِ طَالِبًا لَهُ غَيْرَ مَطْلُوبٍ، فَكَانَ عَدَاؤُهُ بِأَنْيَابِهِ علة تَحْرِيمِهِ وَقَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ مَا كَانَ عَيْشُهُ بِأَنْيَابِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا يفرس مِنَ الْحَيَوَانِ فَكَانَ عَيْشُهُ بِأَنْيَابِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ، وَاخْتِلَافُ التَّعْلِيلَيْنِ يُبَيَّنُ فِي التَّفْضِيلِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: هو ما فرس بِأَنْيَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئْ بِالْعَدْوَى، وَإِنْ عَاشَ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ، أَعَمُّهَا عِلَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَوْسَطُهَا عِلَّةُ الشَّافِعِيِّ، وَأَخَصُّهَا عِلَّةُ الْمَرْوَزِيِّ، فَالْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَالْفَهْدُ وَالنَّمِرُ حَرَامٌ، لِوُجُودِ الْعِلَلِ الثَّلَاثِ فِيهَا، لِأَنَّهَا تَبْتَدِئُ الْعَدْوَى بِقُوَّةِ أَنْيَابِهَا وَتَعِيشُ بِفْرِيسَةِ أَنْيَابِهَا، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِمَّا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ. فَأَمَّا الضَّبُعُ فَحَلَالٌ عِنْدَنَا، لِعَدَمِ الْعِلَّتَيْنِ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى، وَقَدْ يَعِيشُ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَحْمَقِ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَمُ حَتَّى يُصْطَادَ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَكْرُوهٌ، وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُ مَا يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ، وَلَا يَقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ، احْتِجَاجًا بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَهُوَ ذُو نَابٍ يفرس به، ولأن ما فرس بِأَنْيَابِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ كَالسِّبَاعِ. وَدَلِيلُنَا: مَعَ التَّعْلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: أَرَأَيْتَ الضَّبُعَ أصيدٌ هُوَ؟ قَالَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 نَعَمْ. قُلْتُ: أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: أَسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: نَعَمْ. وَهَذَا نصٌّ وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ مَا صَارَ فِي الْحُجَّةِ كَالْإِجْمَاعِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: الضَّبُعُ حلالٌ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الضَّبُعُ شَاةٌ مِنَ الضَّأْنِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: الضَّبُعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ دجاجةٍ سمينةٍ وَقَدِ انْتَشَرَ هَذَا عَنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ لَهُمْ فَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُنَجَّسُ بِالذَّبْحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ كَالنَّعَمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْخَبَرِ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّبُّ فَهُوَ عِنْدُنَا حَلَالٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ حَرَامٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَكْرُوهٌ، واحتج مالك برواية ابن جريح عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُتِيَ بِالضَّبِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ وَقَالَ: لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ. وَاحْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: مَا تَرَى فِي الضَّبِّ فَقَالَ: " لَسْتُ آكُلُهِ وَلَا أُحَرِّمُهُ ". وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَّبٍّ محنوذٍ، فَأَهْوَى رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ لِمَيْمُونَةَ أَخْبِرِي رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما يريد أن يأكل، فقالوا: هُوَ ضبٌّ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَهُ فَقُلْتُ: أحرامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: " لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ "، قَالَ خَالِدٌ: فَأَجْرَرْتُهُ وَأَكَلْتُ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْظُرُ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْتَ مَيْمُونَةَ وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَإِذَا خبابٌ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا فَقَالَتْ: أَهْدَتْ إِلَيَّ أُخْتِي؟ فَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، ولابن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 عَبَّاسٍ: كُلَا، قَالَا: وَلَا يَأْكُلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي تَحْضُرُنِي مِنَ اللَّهِ حاضرةٌ. وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَصٌّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ لَهُ أَلْزَمُ، وَلَيْسَ فِي الحديثين المتقدمين دليل على التحريم، وإنما فيها امْتِنَاعٌ مِنَ الْأَكْلِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ يَزِيدَ الْأَصَمِّ أَنَّهُ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَقَالَ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مُحَلِّلًا وَمُحَرِّمًا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْأَرْنَبُ فحلالٌ، لِأَنَّهُ لَا عَدْوَى فِيهِ، وَيَعِيشُ بِغَيْرِ أَنْيَابِهِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ حَاضَرَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: أَبُو ذَرٌّ أَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِأَرْنَبِ فَقَالَ لِلَّذِي جَاءَهُ بِهَا: رَأَيْتُهَا كَأَنَّهَا تَدْمَى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْكُلْ وَقَالَ لِلْقَوْمِ كُلُوا. وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: اصْطَدْتُ أَرْنَبَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةَ - يَعْنِي بِحَجَرٍ - وَسَأَلْتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا. فَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَهُوَ حَلَالٌ. وَقَالَ أبو حنيفة مكروه كالضبع، لأنه يفرس بِنَابِهِ، وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ لَا عَدْوَى فِيهِ، وَقَدْ يَعِيشُ بغير أنيابه. وأما ابن آوى ففي إباحته أَكْلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْكَلُ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ يَعِيشُ بِأَنْيَابِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْيَرْبُوعُ فيؤكل، وقد حكم فيه عمر - رضي الله عنه - على المحرم بحفرة، وَقِيلَ: إِنَّهُ فَأْرُ الْبَرِّ فَيُؤْكَلُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ فَأْرُ الْمُدُنِ، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَتْلِ الْفَأْرَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْيَرْبُوعِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 فَأَمَّا السِّنَّوْرُ فَضَرْبَانِ: أَهْلِيٌّ وَوَحْشِيٌّ. فَأَمَّا الْأَهْلِيُّ فَحَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ، لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ أَكْلِ السِّنَّوْرِ، وَعَنْ أَكْلِ ثَمَنِهَا، وَلِأَنَّهَا تَأْكُلُ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ، فَكَانَتْ مِنَ الْخَبَائِثِ. وَأَمَّا السِّنَّوْرُ الْبَرِّيُّ فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ كَابْنِ آوَى: أَحَدُهُمَا: يُؤْكَلُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْعَدْوَى. وَالثَّانِي: لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ يَعِيشُ بِأَنْيَابِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُؤْكَلُ الْوَبْرُ وَالْقُنْفُذُ وَالْوَبْرُ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ أَكْبَرُ مِنِ ابْنِ عِرْسٍ. وَفِي أَكْلِ ابْنِ عِرْسٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْكَلُ، عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْكَلُ، عَلَى مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْقُنْفُذِ وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهَا ذُكِرَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " خبيثةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 قِيلَ: يُحْتَمَلُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا خَبِيثَةُ الْفِعْلِ دُونَ اللَّحْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْفَاءِ رَأْسِهِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِذَبْحِهِ، وَإِبْدَاءِ شَوْكِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ. فَأَمَّا أُمُّ حُبَيْنٍ فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُؤْكَلُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَدْ قَالَ فِيهَا الْبَدَوِيُّ مَا قَالَ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا أَكْلُ الْحَمِيرِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا وَحَشِيًّا فَأَكْلُهُ حَلَالٌ، رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي قبالة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَقَدْ أَحْرَمُ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ أَصْحَابِي، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارٍ وَحْشِيٍّ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي فَصَرَعْتُهُ فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: أَصَبْتُ حِمَارًا وَحَشِيًّا وَعِنْدِي مِنْهُ فَأَكَلَهُ وَقَالَ لِلْقَوْمِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ: " كُلُوا فَأَكَلُوا " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أُصِيبَ مِنْ جَسَدِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ. وَرَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - برجل حمارٍ وحشي، فرده عليّ فتعمر وَجْهِي، فَلَمَّا عَرَفَ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِي قَالَ: مَا بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكُنَّا قَوْمٌ حُرُمٌ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ لِإِحْرَامِهِ، فَإِنَّ الصَّعْبَ صَادَهُ لِأَجْلِهِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ. وَفِي قَوْلِ الصَّعْبِ: رِجْلِ حمارٍ وحشيٍّ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي بِهِ أَحَدَ رِجْلَيْهِ الَّتِي يَمْشِي عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ جَمَاعَةَ حَمِيرٍ يُقَالُ لَهَا: رِجْلٌ، كما يقال حيط نَعَامٍ، وَسِرْبُ ظِبَاءٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقْصَدُ وَهُوَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِهَدِيَّةِ عُضْوٍ مِنْ حِمَارٍ. فَأَمَّا الْحَمِيرُ الْأَهْلِيَّةُ فَأَكْلُهَا حَرَامٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ حُرِّمَتْ بِاسْتِخْبَاثِ الْعَرَبِ لَهَا أَوْ بِالنَّصِّ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَبِتَحْرِيمِهَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَكْلُهَا حَلَالٌ احْتِجَاجًا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ قَالَا: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ تُبْقِ لَنَا الشِّدَّةُ إِلَّا الْحُمُرَ أَفَنَأْكَلُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: أَطْعِمَا أَهْلَكُمَا مِنْ سَمِينٍ فَإِنِّي إِنَّمَا قَدَرْتُ عَلَيْكُمْ بِجُوَالِ الْقُرْبَةِ، يَعْنِي: أَكَلَةَ الزِّبْلِ وَالْعَذِرَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الِانْفِرَادِ مَا أَعْرِفُ مِنْ ثُبُوتِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَأُحَرِّمُهَا. وَنَهْيُهُ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ يَجْمَعُ صِنْفَيْنِ، فَقَدْ أَبَاحَ مَا يَخْرُجُ عَنْ صِنْفِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَبَّحَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَرَ بُكْرَةً، وَقَدْ خَرَجُوا بِالشَّاةِ مِنَ الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قالوا محمد والخميس، لم لَجُّوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ ثَلَاثًا وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، فَلَمَّا فَتَحُوهَا أَصَابُوا حُمُرًا فَطَبَخُوا مِنْهَا، فَنَادَى مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَا إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَإِنَّهَا رجسٌ فَكَفُّوا الْقُدُورَ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ. فَاحْتَمَلَ مَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ أَكْلِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَهَا كَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ، حَتَّى نُهُوا عَنْهَا بِالنَّصِّ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونُوا هَمُّوا بِذَلِكَ لِمَجَاعَةٍ لَحِقَتْهُمْ حَتَّى نُهُوا عَنْهَا بِالْفَتْحِ، فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا لَحْمُ الْخَيْلِ فَأَكْلُهَا حَلَالٌ، قَالَ الشافعي لا كُلُّ مَا لَزِمَهُ اسْمُ الْخَيْلِ مِنَ الْعِرَابِ وَالْمَقَادِيفِ وَالْبَرَاذِينِ فَأَكْلُهَا حَلَالٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّهَا حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَكْرُوهٌ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالخَيْلَ وَالْبَغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) {النحل: 8) . فَكَانَ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهَا دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ مَنْفَعَتِهَا بِالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ. وَالثَّانِي: ضَمَّهَا إِلَى مَا حَرُمَ أَكْلُهُ مِنَ الْحَمِيرِ، وَبِرِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى خيبر، فأتته اليهود، فشكو أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْرَعُوا إِلَى حَظَائِرِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهِدِينَ إِلَّا بِحَقِّهَا وحرامٌ عَلَيْكُمْ حُمُرُ الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلُهَا وَبِغَالُهَا ". وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهُ كَالْحَمِيرِ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ أَكْلُهُ كَالْآدَمِيِّينَ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَطْعَمَنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحَمِيرِ، وَهَذَا نص. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَكَلْنَاهُ. وَلِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تُنْجُسُ بِالذَّبْحِ، فَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا كَالنَّعَمِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْيِينَ بَعْضِ مَنَافِعِهَا بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَاهُ، كَمَا لَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَالثَّانِي: إنَّهُ خَصَّ الرُّكُوبَ فِي الْخَيْلِ، وَلُحُومُ الْخَيْلِ لَيْسَتْ بِخَيْلٍ، وَلَيْسَ جَمْعُهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَمِيرِ مُوجِبًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّحْرِيمِ، كَمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي السَّهْمِ مِنَ الْمَغْنَمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ضَعْفُ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْوَاقِدِيَّ حَكَى أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ. وَالثَّانِي: إنَّهُ حَرَّمَ أَخْذَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَهْدِ وَلَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ اللَّحْمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُمَا يَدْفَعَانِ النص فأطرحا. والثاني: أن العرف لها جَرَى بِأَكْلِ الْخَيْلِ، وَلَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِأَكْلِ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَمِيرِ فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ، وَامْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْبِغَالُ فَأَكْلُهَا حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَلَالٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ فِي الْخَيْلِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وحرامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلُهَا وَبِغَالُهَا " وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَوَجَبَ فَيَ الْبِغَالِ أَنْ يُغَلَّبَ تَحْرِيمُ الْحَمِيرِ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَيْلِ، وَهَكَذَا حُكْمُ كُلِّ مُتَوَلَّدٍ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ حَرَامٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مُتَوَلَّدٍ مِنْ بَيْنِ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ فَهُوَ نَجِسٌ، وَكُلَّ حَيَوَانٍ كَانَ أَكْلُ لَحْمِهِ حَرَامًا كَانَ شُرْبُ لَبَنِهِ حَرَامًا إِلَّا أَلْبَانَ النساء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 (مسألة:) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ تَتْرُكُ أَكْلَ النَّسْرِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَهِيَ مِمَّا يَعْدُو عَلَى حَمَامِ النَّاسِ وَطَائِرِهِمْ وَكَانَتْ تَتْرُكُ مِمَّا لَا يَعْدُو مِنَ الطَّائِرِ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالرَّخْمَةَ وَالْبُغَاثَةَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْبَهَائِمِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْوَحْشِيَّةِ وَالْإِنْسِيَّةِ. فَأَمَّا الطَّيْرُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ عَدْوَى عَلَى الطَّائِرِ بِمِخْلَبِهِ وَافْتِرَاسٌ لَهُ بِمَنْسِرِهِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالنَّسْرِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعُقَابِ، فَأَكْلُ جَمِيعِهَا حَرَامٌ، وَأَبَاحَهَا مَالِكٌ، وَلَمْ يُحَرِّمْ مِنَ الطَّائِرِ كُلِّهِ شَيْئًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرِوَايَةُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مخلبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يُؤْكَلُ مَا دَفَّ وَلَا يُؤْكَلُ مَا صَفَّ "، يُرِيدُ مَا حَرَّكَ جَنَاحَهُ كَالْحَمَامِ وَغَيْرِهِ يُؤْكَلُ، وَمَا صَفَّ جَنَاحَيْهِ وَلَمْ يُحَرِّكْهُمَا كَالصُّقُورِ وَالنُّسُورِ، لَا يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُم صَافَّاتٍ) {تبارك: 19) . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا عَدْوَى فِيهِ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اغْتَذَى بِالْمَيْتَةِ وَالْجِيَفِ كالغباث وَالرَّخْمِ، فَأَكْلُه حَرَامٌ، لِخُبْثِ غِذَائِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَخْبَثًا كَالْخَطَاطِيفِ وَالْخَشَاشِيفِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، لِخُبْثِ لَحْمِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَخْبُثْ غِذَاؤُهُ، وَلَا لَحْمُهُ كَالْحُبَارَى وَالْكَرَوَانِ، فَأَكْلُهُ حَلَالٌ. رَوَى سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَحْمَ حُبَارَى. وَيُقَاسُ عَلَى أَصْلِه هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مَا فِي نَظَائِرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْهُدْهُدُ أَكْلُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وكذلك الشقران وَالْعَقْعَقُ ولِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَأَمَّا الْغُرَابُ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ الْأَسْوَدُ مِنْهُ وَالْأَبْقَعُ سَوَاءٌ. وَحُكِيَ عن الشعبي أنه أباح أكله وقال في دَجَاجَةٍ مَا أَسَمَنَهَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ: يُؤْكَلُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ دُونَ الْأَبْقَعِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ قَتْلَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. وقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي لِأَعْجَبُ مِمَنْ يَأْكُلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 الْغُرَابَ، وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتْلِهِ لِلْمُحْرِمِ وَسَمَّاهُ فَاسِقًا، وَاللَّهِ مَا هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَمَا يُشْبِهُ الْغُرَابَ، وَلَيْسَ بِغُرَابٍ الزَّاغُ، وَالْغُدَافُ فَأَمَّا الزَّاغُ فَهُوَ غُرَابٌ الزَّرْعِ، وَأَمَّا الْغُدَافُ فَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ أَغْبَرُ اللَّوْنِ كَالرَّمَادِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ، لِشَبَهِهَا بِالْغُرَابِ، وَانْطِلَاقِ اسْمِهِ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَمِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ أَكْلَهَا حَلَالٌ، لِأَنَّهُمَا يَلْقُطَانِ الْحَبَّ، وَيَأْكُلَانِ الزَّرْعَ وَلَحْمُهُمَا مُسْتَطَابٌ، وَكُلُّ طَائِرٍ حَرُمَ أَكْلُ لَحْمِهِ حَلَّ أَكْلُ بَيْضِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَكَذَلِكَ تَتْرُكُ الْعَرَبُ اللُّحَكَاءَ وَالْعِظَاءَ وَالْخَنَافِسَ فَكَانَتْ داخلةٌ فِي مَعْنَى الْخَبَائِثِ وَخَارِجَةً مِنْ مَعْنَى الطيبات فوافقت السنة فيما أحلوا وحرموا مع الكتاب ما وصفت فانظر ما ليس فيه نص تحريم ولا تحليل فإن كانت العرب تأكله فهو داخلٌ في جملة الحلال والطيبات عندهم لأنهم كانوا يحللون ما يستطيبون وما لم يكونوا يأكلونه باستقذاره فهو داخلٌ في معنى الخبائث ولا بأس بأكل الضب وضع بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعافه فقيل: أحرامٌ هو يا رسول الله؟ قال: " لا ولكن لم يكن بأرض قومي " فأكل منه بين يديه وهو ينظر إليه ولو كان حراماً ما تركه وأكله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، حَشَرَاتُ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَرَامٌ فَالْهَوَامُّ مَا كَانَ مُؤْذِيًا كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَحَشَرَاتُهَا مَا لَيْسَ بِمُؤْذٍ، كَالْخَنَافِسِ، وَالْجُعْلَانِ، وَالدِّيدَانِ والنمل، والوزع وَالْعِظَاءِ، وَاللُّحَكَاءِ وَهِيَ دُوَيْبَةٌ كَالسَّمَكَةِ تَسْكُنُ فِي الرِّمَالِ إِذَا أَحَسَّتْ بِالْإِنْسَانِ غَاصَتْ فِيهِ، وَهِيَ صَقِيلَةُ الْجِلْدَةِ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ أَنَامِلَ الْمَرْأَةِ بِهَا، والوزع وَهُوَ كَالسَّمَكَةِ خَشِنَةُ الْجِلْدِ، وَيَعْرُضُ مُقَدَّمُهَا، وَيَدُقُّ مُؤَخَّرُهَا، فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَكْلَ جَمِيعِهِ، وَكَرِهَ الْحَيَّةَ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَعَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَقْنَعٌ، وَسَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ الدِّيدَانِ مَا تَوَّلَدَ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبَاحَ أَكْلَ مَا تَوَلَّدَ فِي الطَّعَامِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ مَا تَوَّلَدَ فِي الْأَرْضِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَخْبَثٌ، فَاسْتَوَيَا. وَهَكَذَا الذُّبَابُ وَالزَّنَابِيرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ زَنَابِيرِ الْعَسَلِ وَغَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ عَسَلُهَا مَأْكُولًا، فَهَلَّا كَانَ أَكْلُهَا حَلَالًا؟ قِيلَ: هِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ وَمُؤْذِيَةٌ، وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهَا، وَإِنْ حَلَّ عَسَلُهَا كَأَلْبَانِ النِّسَاءِ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِهِ مَعَ تَحْرِيمِ لُحُومِهِنَّ فَأَمَّا مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَيَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ وَالْإِحْرَامُ مِنْ قَتْلِهِ وَفِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ الْجَزَاءُ إِلَّا يَسْمَعَ. وَمَا تَوَّلَدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَيَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَوَهِمَ فِيهِ، لِأَنَّ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ مُوجِبُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ:) رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا " وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ وَعَنِ الْمَصْبُورَةِ ". فَأَمَّا الجلالة فهي التي ترعى الحلة، وَهِيَ الْبَعْرُ وَالْعَذِرَةُ، فَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَعِنْدِي إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَارِدٌ، لِأَجْلِ مَا تَأْكُلُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ، وَهِيَ تِغْتَذِيهِ فِي كِرْشِهَا، وَالْعَلْفُ الطَّاهِرُ يَنْجُسُ فِي الْكِرْشِ، فَسَاوَى فِي حُصُولِهِ مِنْهُ حَالَ النَّجَسِ، وَلِأَنَّ لُحُومَ مَا تَرْعَى الْأَنْجَاسَ نَتِنٌ، وَأَكْلُ اللَّحْمِ إِذَا نَتِنَ يَحْرُمُ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَكُلَّمَا كَانَ أَكْثَرُ غِذَائِهِ رَعْيَ الْأَنْجَاسِ كَانَ أَكْلُ لَحَمِهِ وَشُرْبُ لَبَنِهِ مَكْرُوهًا. فَأَمَّا رُكُوبُهُ، فَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ عُرْيًا لِنَتَنِ عَرَقِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ مُوَكَّفًا أَوْ مُسَرَّجًا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يَغْتَذِيهِ طَاهِرًا، وَإِنِ اغْتَذَى فِي بَعْضِهَا نَجِسًا لَمْ يُكْرَهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَيُخْتَارُ فِي الْجَلَّالَةِ إِذَا أُرِيدَ شُرْبُ لَبَنِهَا أَوْ أَكْلُ لَحْمِهَا أَنْ تُحْبَسَ عَنِ الْأَقْذَارِ بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ فِي الْبَعِيرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفِي الْبَقَرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَفِي الشَّاةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ تَوْقِيفًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَوَالُ مَا أَنْتَنَ مِنْ أَبْدَانِهَا، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهَا تَزُولُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ، فَإِنْ زَالَتْ بِأَقَلَّ مِنْهَا زَالَتِ الْكَرَاهَةُ وَإِنْ لَمْ تَزَلْ فِيهَا بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَزُولَ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا، فإن أكل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 مِنْهَا قَبْلَ عَلْفِهَا نُظِرَ فِي رَائِحَةِ لَحْمِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِأَكْلِ النَّجَاسَةِ كَانَ حَلَالًا وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَسْتَوْعِبْ رَائِحَةَ تِلْكَ النَّجَاسَةِ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً قَدِ اسْتَوْعَبَتْ رَائِحَةَ تِلْكَ النَّجَاسَةِ أَوْ قَارَبَهَا، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ. وَالثَّانِي: إنَّهُ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْجَدْيِ إِذَا ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِ كَلْبَةٍ أَوْ خِنْزِيرَةٍ حَتَّى نَبَتَ لَهُ لَحْمُهُ كَانَتْ إِبَاحَةُ أَكْلِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَأَمَّا الْمُجَثَّمَةُ الَّتِي رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ النَّهْيَ عَنْهَا، فَهِيَ الَّتِي جَثَمَتْ عَلَى الْمَوْتِ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّيْدِ الْجَاثِمِ وَالْمَجْثُومِ، فَالْجَاثِمُ الْمُمْتَنِعُ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ إِذَا جَثَمَ بِحَدِيدَةٍ، وَالْمَجْثُومُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا بِذَكَاةٍ. وَالْمَصْبُورَةُ: هِيَ الَّتِي حُبِسَتْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى مَاتَتْ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا فِي مُمْتَنَعٍ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُخْتَطَفَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اخْتَطَفَهُ السَّبُعُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَكْلُهُ حَرَامٌ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالثَّانِي: إنَّهَا النُّهْبَةُ لِاخْتِطَافِهَا بِسُرْعَةٍ وَمِنْهُ سُمِّي الْخُطَّافُ لِسُرْعَتِهِ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَتَّخِذُوا ذَا الرُّوحِ غَرَضًا " وَهُوَ رَمْيُ الْحَيَوَانِ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُمْتَنِعٍ حَلَّ أَكْلُهُ، إِنْ كَانَ بِمُحَدَّدٍ، وحرم إِنْ كَانَ بِمُثْقَلٍ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا أَكْلُ الْأَجِنَّةِ، وَهُوَ أَنْ تُذْبَحَ الْبَهِيمَةُ، فَيُوجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلَّا بِالذَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتًا أَوْ حَيًّا قَصُرَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ عَنْ ذَكَاتِهِ، حَلَّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهُ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَقَالَهُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ. فَحَرَّمَ أَكْلَهُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ) {المائدة: 3) . وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُحلت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ، الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ "، وَهَذِهِ مَيْتَةٌ ثَالِثَةٌ: يُوجِبُ الْخَبَرُ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً، وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُذَكَّى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ كَالْأُمِّ، وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ ذَكَاةُ الِاثْنَيْنِ كَمَا لَوْ خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَوْتُهُ " ذَكَاةً " فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاةً في المقدور عليه، وما لم يكن قوته ذَكَاةً فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَكَاةً فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَالصَّيْدِ وَالنَّعَمِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْتُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجِنَّةِ ذَكَاةً لَمْ يَكُنْ مَوْتُ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ذكاة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 وَلِأَنَّ الْعَقْرَ مِنْ جَمِيعِ الْمُذَكَّى مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِهِ فِي بَعْضِهِ وَإِسْقَاطِهِ فِي بَعْضِهِ وَقَدِ اعْتَبَرْتُمُ الْعَقْرَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَأَسْقَطْتُمُوهُ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (المائدة: 1) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ أَجِنَّتُهَا إِذَا وُجِدَتْ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا يَحِلُّ أَكْلُهَا بِذَكَاةِ الْأُمَّهَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَوَّلِ أَحْكَامِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالْغَالِبُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهُ إِلَّا نَقْلًا. وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَرِوَايَةُ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ ". فَجَعَلَ إِحْدَى الذَّكَاتَيْنِ نَائِبَةً عَنْهُمَا، أَوْ قَائِمَةً مَقَامَهُمَا، كَمَا يُقَالُ: مَالُ زَيْدٍ مَالِي، وَمَالِي مَالُ زَيْدٍ. يُرِيدُ أَنَّ أَحَدَ الْمَالَيْنِ يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ كذكاة أمه، لأن قَدَّمَ الْجَنِينَ عَلَى الْأُمِّ، فَصَارَ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ، وَلَوْ أَرَادَ النِّيَابَةَ لَقَدَّمَ الْأُمَّ عَلَى الْجَنِينِ فَقَالَ: ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةُ جَنِينِهَا - فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اسْمَ الْجَنِينِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مُسْتَجَنًّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا، فَيُسَمَّى وَلَدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) {النجم: 32) . وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَبَطَلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى النِّيَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ دُونَ النِّيَابَةِ، لَسَاوَى الْأُمَّ غَيْرُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ فَائِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ التَّشْبِيهِ، لِيَصِيرَ لِتَخْصِيصِ الْأُمِّ تَأْثِيرٌ. وَالثَّالِثُ: لَوْ أَرَادَ التَّشْبِيهَ لَنَصَبَ ذَكَاةُ أُمِّهِ لَحَذْفِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَالرِّوَايَةُ مَرْفُوعَةٌ: " ذَكَاةُ أُمِّهِ " فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّيَابَةَ دُونَ التَّشْبِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ بِالنَّصْبِ: " ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةَ أُمِّهِ ". - قِيلَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ سَلِمَتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً على نصبها بحذف " ياء " النِّيَابَةِ دُونَ كَافِ التَّشْبِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّه إِثْبَاتُ الذَّكَاةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِهَا، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَلَا نَفْعَلُ النَّفْيَ مِنَ الْإِثْبَاتِ كَمَا لَا نَفْعَلُ الْإِثْبَاتَ مِنَ النَّفْيِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَلَوِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَكَانَتَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ، فَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَرْفُوعَةُ عَلَى النِّيَابَةِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا، وَتُسْتَعْمَلُ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُوبَةُ عَلَى التَّشْبِيهِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، فَيَكُونُ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَاهُمَا، وَأَسْقَطَ الْأُخْرَى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القطان عن مجالد عن أبي الوداني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَنْحَرُ النَّاقَةَ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ فِي بَطْنِهَا جنينٌ ميتٌ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: " كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُونَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "، وَمَا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُهُمْ لَمْ يَجُزْ فِيهِ خِلَافُهُمْ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ هُوَ أَنَّ الْجَنِينَ يَغْتَذِي بِغِذَاءِ أُمِّهِ، فَلَمَّا كَانَتْ حَيَاتُهُ بِحَيَاتِهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ بِذَكَاتِهَا كَالْأَعْضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَعْضَاؤُهَا لَا تُعْتَبَرُ ذَكَاتُهَا بَعْدَهَا، وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ ذَكَاةَ الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا. قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّنَا جَعَلْنَا ذَكَاتَهُ بِذَكَاتِهَا، إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ، بِخُرُوجِ رُوحِهَا، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا لَمْ تَخْرُجْ رُوحُهُ بِخُرُوجِ رُوحِهَا، فَلَمْ تَحِلَّ بِذَكَاتِهَا كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهَا الرُّوحُ بِخَرُوجِ رُوحِهَا حَلَّتْ، وَلَوْ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْهَا بِغَيْرِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْ أَصْلِهَا لِقَطْعِهَا قَبْلَ ذَبْحِهَا لَمْ تُؤْكَلْ، فَاسْتَوَيَا، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمُعَلَّلِ قِيَاسٌ ثَانٍ، فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ خَرَجَتْ رُوحُهُ بِذَكَاةٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا، كَالْأُمِّ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنِينُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ، وَالْأُمُّ تُؤْكَلُ إِذَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ بَيْنِ جنسين كذلك الجنين. فإن قيل: إنا مَاتَ بِاخْتِنَاقِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَاحْتِبَاسِ نَفْسِهِ، لَا بِالذَّكَاةِ فَدَخَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمُنْخَنِقَةِ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ أَحْكَامُ الْمَحْظُورَاتِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ أَحْكَامُ الْمُبَاحَاتِ وَمَوْتُ الْجَنِينِ بِذَبْحِ أُمِّهِ مُبَاحٌ، يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالُ الْأُمِّ، فَتَبِعَهَا فِي الْحُكْمِ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ضِدُّهَا؟ لِتَحْرِيمِ جَمِيعِهَا، فَتَعَلَّقَ بِهِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ أَنَّ الذَّكَاةَ مُعْتَبِرَةٌ بِالْقُدْرَةِ بَعْدَ الْأَسْبَابِ المباحة، وهي تنقسم ثلاثة أقسام. فقسم يُمْكِنُ ذَبْحُهُ، وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ، فَلَا ذَكَاةَ لَهُ إِلَّا فِي حَلْقِهِ ولبته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 وَقِسْمٌ مُمْتَنِعٌ لَا يُمْكِنُ ذَبْحُهُ، وَيُمْكِنُ عَقْرُهُ، وَهُوَ الصَّيْدُ، فَذَكَاتُهُ بِعَقْرِهِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ مِنْ جَسَدِهِ، لِتَعَذُّرِ ذَبْحِهِ. وَقِسْمٌ يَتَعَذَّرُ ذَبْحُهُ وَعَقْرُهُ وَهُوَ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ؟ لِأَنَّ مَوْتَ الحوت بعد موته سَرِيعٌ وَعَقْرُ الْجَرَادِ شَاقٌّ، فَكَانَ مَوْتُهُمَا ذَكَاةً. وَإِنْ كَانَ هَذَا أَصْلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْجَنِينِ، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَبْحِهِ لِسُرْعَةِ مَوْتِهِ، كَانَ مَوْتُهُ ذَكَاةً لَهُ، فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ، لِبَقَاءِ حَيَاتِهِ كَانَتْ ذَكَاتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، كَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ وَالنَّعَمِ، فَيَصِيرُ الْخِلَافُ فِيهِ مَرْدُودًا إِلَى الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى حُكْمُ الْأُمِّ إِلَى جَنِينِهَا في البيع الهبة وَالْعِتْقِ سَرَى إِلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ وَالْإِبَاحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأُمِّ إِذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، كَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ؟ فَصَارَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُلْحَقًا بِأُمِّهِ، فَكَانَتِ الذَّكَاةُ مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَطَعَ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَحِقَ بِهَا فِي الذَّكَاةِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الذَّكَاةِ إِذَا خَرَجَ حَيًّا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا حَلَّ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا لِفِرَاقِ رُوحِهِ بِذَكَاتِهَا، وَلَمْ يَحِلَّ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، لِأَنَّ رُوحَهُ لَمْ يَفُتْ بِذَكَاتِهَا. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خُرُوجُهُ حَيًّا فِي الذَّكَاةِ بِخُرُوجِهِ مَيْتًا كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا كَانَتْ دِيَتُهُ مُعْتَبِرَةً بِأُمِّهِ، وَإِذَا خَرَجَ حَيًّا كَانَتْ دِيَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِنَفْسِهِ، كَذَلِكَ فِي الذَّكَاةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَبَرَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْتَةِ؟ لِأَنَّ مَوْتَهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَلَوْ مَاتَ بِغَيْرِ ذَكَاتِهَا فَأَلْقَتْهُ مَيْتًا حَرُمَ؟ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَالثَّانِي: إنَّ عُمُومَ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ فِي الْجَنِينِ بِالْخَبَرِ، كَمَا خُصَّتْ فِي الْحُوتِ وَالْجَرَادِ، وَمُلْحَقٌ بِالْحُوتِ وَالْجَرَادِ؟ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأُمِّ، فَهُوَ أَنَّ ذَكَاتَهَا مَقْدُورٌ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَحِلَّ إِلَّا بِهَا، وَذَكَاةُ الْجَنِينِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا، فَحَلَّ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَكَاتِهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِهَا كَالْأُمِّ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَيْهِ، إِذَا خَرَجَ مَيْتًا؛ لِأَنَّهُ يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ حَيًّا، فَاعْتُبِرَتْ؛ وَلِأَنَّهُ يُقَدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ ميتاً فسقطت. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ، فَهُوَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ حَالَتَيِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَجْزِ فِي الذَّكَاةِ مُطَّرَحَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهْمَا أَحَقُّ، كَالصَّيْدِ لَمَّا اخْتَلَفَتْ ذَكَاتُهُ، فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ اخْتَلَفَ بِهَا حُكْمُ الْجِنْين فامتنع الجمع. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَقْرَ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ مُعْتَبَرٌ وإنما يختلفان بالقدرة والعجز في اختلاف الْمَحَلِّ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ ذَبْحُ الْأُمِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الذَّكَاةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَقْرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُتَعَذَّرَةٌ فِي الْجَنِينِ، فَسَقَطَتْ بِالْعَجْزِ كَمَا سَقَطَتْ في الحوت والجراد، ولم تسقط فِي الصَّيْدِ؛ لِإِمْكَانِهِ فِيهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أن يَكُونَ كَامِلَ الصُّورَةِ تَجِبُ فِيهِ الْغِرَّةُ، وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، فَهَذَا مَأْكُولٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَا تَجِبُ فِيهِ الْغِرَّةُ، ولا يصير به أم ولد، فهذا غير مَأْكُولٌ؛ لِأَنَّ الْعَلَقَةَ دَمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً قَدِ انْعَقَدَتْ لَحْمًا لَمْ تُشَكَّلْ أَعْضَاؤُهُ، وَلَمْ تَبِنْ صُورَتُهُ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْغِرَّةِ وَكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ: أَحَدُهُمَا: يُؤْكَلُ إِذَا جَرَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْكَلُ إِذَا سَلَبَ حُكْمُ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أُكِلَ، وَإِنْ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى خَلْقِهَا فِيهِ بِتَخْطِيطِ صُورَتِهِ وَتَشَكُّلِ أَعْضَائِهِ، والله أعلم. باب كسب الحجام (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا بَأْسَ بِكَسْبِ الْحَجَّامِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّائِلَ عَنْ كَسْبِهِ وَإِرْخَاصِهِ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ وَنَاضِحَهُ؟ قِيلَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا واحدٌ وهو أن للمكاسب حسناً ودنيئاً فكان كسب الحجام دنيئاً فأحب له تنزيه نفسه عن الدناءة لكثرة المكاسب التي هي أجمل منه فلما زاده فيه أمره أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه تنزيهاً له لا تحريماً عليه وقد حجم أبو طيبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأمر له بصاع من تمرٍ وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ولو كان حراماً لم يعطه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 لا يعطي إلا ما يحل إعطاؤه ولآخذه ملكه وقد روي أن رجلاً ذا قرابةٍ لعثمان قدم عليه فسأله عن معاشه فذكر له غَلَّةُ حجامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ فَقَالَ إِنْ كَسَبَكُمْ لوسخٌ أو قال لدنس أو لدنيءٌ أو كلمةً تشبهها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَكَاسِبِ دَاعِيَةٌ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْخَلْقَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالْكُسْوَةِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسِبٍ وَمُصَاحِبٍ وَأُصُولُ الْمَكَاسِبِ الْمَأْلُوفَةِ ثَلَاثَةٌ: زِرَاعَةٌ، وَتِجَارَةٌ، وَصِنَاعَةٌ، فَيَنْبَغِي لِلْمُكْتَسِبِ بِهَا أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَطْيَبَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) {البقرة: 267) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ مَطْعُمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ الله من أي أبواب النار الجنة أَدْخَلَهُ ". وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَطْيَبِهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: الزِّرَاعَاتُ، وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، فِي عَطَائِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِقَضَائِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التِّجَارَةُ أَطْيَبُهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِتَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) {البقرة: 275) . وَاقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي اكْتِسَابِهِمْ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الصِّنَاعَةُ: لِاكْتِسَابِ الْإِنْسَانِ فِيهَا بِكَدِّ يَدَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ صومٌ وَلَا صلاةٌ وَلَكِنْ يُكَفِّرُهُ عَرَقُ الْجَبِينِ فِي طَلَبِ الْحِرْفَةِ ". فَأَمَّا الزِّرَاعَةُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَحْرِيمٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ، وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهَا أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ، وَأَمَّا التجارة، فتنقسم ثلاثة أقسام: حلال، وهي: الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ. وَحَرَامٍ: وَهُوَ الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ. وَمَكْرُوهٍ: وَهُوَ الْغِشُّ وَالتَّدْلِيسُ. وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. حَلَّالٍ: وَهُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا دَنَسَ فِيهَا كَالْكِتَابَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْبِنَاءِ. وَحَرَامٍ: وَهُوَ مَا حُظِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالتَّصَاوِيرِ وَالْمَلَاهِي. وَمَكْرُوهٍ: وَهُوَ مَا بَاشَرَ فِيهِ النَّجَاسَةَ كَالْحَجَّامِ وَالْجَزَّارِ، وَكَنَّاسِ الْحُشُوشِ، وَالْأَقْذَارِ وَالنَّصُّ فِيهِ وَارِدٌ فِي الْحَجَّامِ، وَهُوَ أَصْلُ نَظَائِرِهِ، وَالنَّصُّ فِيهِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهُ، فَشَكَا مِنْ حَاجَتِهِمْ فَقَالَ: " اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ ". فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَحْرَارِ حَلَالٌ لِلْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ السَّادَةِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كَسْبُ الْحَجَّامِ خبيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خبيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خبيثٌ " فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْخُبْثِ، وَقَرَنَهُ بِالْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ الْحَجَّامَ أُجْرَه. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ حَجَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تمرٍ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ خَرَاجُهُ ثَلَاثَةَ آصعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَخَفَّفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَاعًا. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَوْ حَرُمَ كَسْبُهُ عَلَى آخِذِهِ حَرُمَ دَفْعُهُ عَلَى مُعْطِيهِ، فَلَمَّا اسْتَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَأْمُرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ مُتَطَوِّعًا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِذَلِكَ شَرِبَ دَمَهُ فَقَالَ لَهُ: " قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ "، وَكَانَ مَا أَعْطَاهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُوَاسَاةً، وَلَمْ يَكُنْ أُجْرَةً، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إنما أعطاه مقابلة على عمله صار عِوَضًا يَنْصَرِفُ عَنْ حُكْمِ الْمُوَاسَاةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَسْتَحِّلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَطَوُّعَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى هَذَا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخُلَفَائِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ يَتَكَسَّبُونَ بِهَذَا، فَلَا يُنْكِرُهُ مُسْتَحْسِنٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ، وَالضَّرُورَةَ إِلَيْهِ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى حِجَامَةِ نَفْسِهِ إِذَا احْتَاجَ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ "؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَسْبٍ حَلَّ لِلْعَبِيدِ حَلَّ لِلْأَحْرَارِ كَسَائِرِ الْأَكْسَابِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَسْبُ الْحَجَّامِ خبيثٌ " فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْخُبْثِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ تَارَةً وَالدَّنِيءَ أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 (البقرة: 267) يَعْنِي الدَّنِيءَ وَكَقَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (البقرة: 267) فَيُحْمَلُ عَلَى الدَّنِيءِ دُونَ الْحَرَامِ؛ بِدَلِيلِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَى الْحَرَامِ بِمُوجِبٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضُمَّ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْعَبِيدِ، فَجَازَ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَى الْأَحْرَارِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ كَرَاهَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) {المدثر: 5) . فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ كَسْبُ كُلِّ مُبَاشِرٍ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ كَنَّاسٍ، وَخَرَّازٍ وَقَصَّابٍ. وَاخْتَلَفَ قَائِلُ هَذَا، هَلْ يَكُونُ كَسْبُ الْفَصَّادِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ إنَّهُ لَا يَكْرَهُ كَسْبَهُ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِعِلْمِ الطِّبِّ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ. فَأَمَّا الْخَتَّانُ، فَمَكْرُوهُ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ، بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَوْرَاتِ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَنْجَاسِ، وَمُنْتَفِيَةً عَمَّنْ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ سَمَّاكٍ، وَدَبَّاغٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِهِ لِدَنَاءَتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْمَكَاسِبِ دَنِيئًا وَحَسَنًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَا قَرَابَةٍ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: غَلَّةُ حَجَّامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ كَسَبَكُمْ لَدَنِيءٌ، أَوْ قَالَ: لَوَسِخٌ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ مَعَ ذَلِكَ كَسْبُ السَّمَّاكِ، وَالدَّبَّاغِ، وَالْحَلَّاقِ وَالْقَيِّمِ. وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي كسب الحجامين عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَكْرُوهٌ، دَنِيءٌ، لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْعَوْرَاتِ وَيَتَكَسَّبُ بِحرَانٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُكْرَهُ كَسْبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ عَمَلًا، وَيُمْكِنُهُ غَضُّ طَرْفِهِ عَنِ الْعَوْرَاتِ، وَلَيْسَ يَتَكَسَّبُ بِمُبَاشَرَتِهَا؛ فَإِنْ أَرْسَلَ طَرَفَهُ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَمِيعُ هَذَا مَكْرُوهٌ لِلْأَحْرَارِ. فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُكْرَهُ لَهُمْ كَالْأَحْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُكْرَهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْنَى مِنَ الْأَحْرَارِ، فَلْيَتَأَهَّبُوا أَدْنَى الِاكْتِسَابِ، فَإِنْ أَخَذَ سَادَاتُهُمْ كَسْبَهُمْ كُرِهَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَلَمْ يُكْرَهْ لَهُمْ أَنْ يُطْعِمُوهُ رَقِيقَهُمْ، وَبَهَائِمَهُمْ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُحَيِّصَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُ: " أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 بَابُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ مِنْ غَيْرِ كتابٍ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ زيتٍ مَاتَتْ فِيهِ فأرةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ. فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا، فَقَالَ: " أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ ". فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ وَارِدًا فِي السَّمْنِ إِذَا كَانَ جَامِدًا؛ لِأَنَّ إِلْقَاءَ مَا حَوْلَهَا لَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ ذَائِبًا. وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ السَّمْنِ تَقَعُ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَالَ: " إِنْ كَانَ جَامِدًا، فَأَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ. فَإِذَا مَاتَتْ فَأْرَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ فِي سَمْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنْ دُهْنٍ أَوْ دِبْسٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا، أَوْ مَائِعًا. فَإِنْ كَانَ جَامِدًا نَجُسَ بِمَوْتِ الْفَأْرَةِ. مَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْنِ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَاقَتْ مَحَلًّا رَطْبًا، فَنَجِسَ بِهَا كَمَا يَنْجُسُ الثَّوْبُ الرَّطْبُ إِذَا لَاقَى نَجِسًا يَابِسًا، وَكَانَ مَا جَاوَزَ مَا حَوْلَ الْمُلَاقِي لِلْفَأْرَةِ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ جُمُودَهُ يَمْنَعُ مِنِ امْتِزَاجِهِ بِالنَّجِسِ. وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ مَائِعًا نَجُسَ جَمِيعُهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَنْجُسُ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ كَالْمَاءِ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ، حَتَّى يَتَغَيَّرَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمَاءِ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّسَعَ، وَلَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ لَمْ يَنْجُسْ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَائِعَ كَالْمَاءِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ خُولِفَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَائِعِ خُصُوصًا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ ". فَلَمَّا عَمَّ أَمْرُهُ بِالْإِرَاقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَتِهَا؛ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 أَقْوَى، لِاخْتِصَاصِهِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ، فَقَوِيَتْ طَهَارَتُهُ عَلَى رفع النجس عنه، وضعفت طهارة المانع عَنْ دَفْعِ النَّجَسِ عَنْهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَأَكْلُ كُلِّ نَجِسٍ وَحَرُمَ شُرْبُهُ، وَشُرْبُ كُلِّ مَا نَجُسَ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَحْرُمُ أَكْلُ السَّمْنِ وَحْدَهُ إِذَا نَجُسَ دُونَ غَيْرِهِ، تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ النَّصِّ فِي السَّمْنِ، فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْفَأْرَةِ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا مُتَعَدِّيًا إِلَى نَظَائِرِهَا كَانَ السَّمْنُ فِي تَقْدِيرِ حُكْمِهِ بِمَثَابَتِهَا. وَالثَّانِي: إنَّ غَيْرَ السَّمْنِ لَمَّا شَارَكَهُ فِي الْإِبَاحَةِ قَبْلَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي التَّحْرِيمِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. (مسألة:) قال الشافعي: " ولا يحل بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نجسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النجس ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَا يَحُلُّ بَيْعُ مَا نَجُسَ مِنَ الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالدِّبْسِ، وَجَمِيعِ مَا لَمْ تَتَمَيَّزْ نَجَاسَتُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ، وَلَوْ جَازَ بِيعُهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِضَاعَتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وباعوه، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شيءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ ". وَقَوْلُهُ: " جَمَّلُوهَا " يَعْنِي أَذَابُوهَا. وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، كَالْخَمْرِ. وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ، وَكَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ الثَّوْبِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ طَاهِرٌ، وَنَجَاسَتَهُ مُجَاوِرَةٌ، فَتَمَيَّزَ عَنْهَا وَعَيْنُ الزَّيْتِ قَدْ نَجُسَ؛ لِامْتِزَاجِ النَّجَاسَةِ بِهِ. وَإِنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ عَنْهُ كَمَا لَمْ تَتَمَيَّزْ عَنِ الْخَلِّ، وَاللَّبَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ منافع الناس الزيت، قَدْ ذَهَبَتْ نَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْأَكْلُ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 وَأَكْثَرَ مَنَافِعِ الثَّوْبِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ؛ لِبَقَاءِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الزَّيْتِ النَّجِسِ، لذهاب أكثر منافعه، أو لا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُضْطَرِّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِذَهَابِ أَكْثَرِ مَنَافِعِهَا، وَلَوْ أُذِيبَ شَحْمُهَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ مِنَ الْأَصْلِ خِلْقَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الطَّهَارَةِ أَصْلٌ كَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ؛ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ، كَالْكَلْبِ، أَوْ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالْخِنْزِيرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ جَاوَرَتْهُ، كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ، بِحُدُوثِ الشِّدَّةِ، وَنَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ، بِحُدُوثِ الْمَوْتِ. وَالشِّدَّةُ والموت لا يوصف بِنَجَاسَةٍ وَلَا طَهَارَةٍ، وَإِنْ نَجُسَ بِهِمَا الْأَعْيَانُ الطَّاهِرَةُ. وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ إِزَالَتُهَا بِدِبَاغِ الْجِلْدِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهَا، كَاللَّحْمِ لِنَجَاسَةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا جُزْءٌ طَاهِرٌ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ مَا يُمْكِنُ إِزَالَةُ نَجَاسَتِهِ، كَالْجِلْدِ؛ لِإِمْكَانِ طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن نجاسة الخمر يمكن إزالتها عنده بِالتَّخْلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، كَذَلِكَ الْجِلْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَبْلَ زَوَالِ نَجَاسَتِهِ مساوٍ لِمَا تُمْكِنُ إِزَالَةُ نَجَاسَتِهِ؛ لَا لِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى حُكْمِ الطَّهَارَةِ، مَعَ عَدَمِهَا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نَجُسَ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَةِ لَهُ مَعَ طَهَارَةِ عَيْنِهِ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَمَيَّزَ نَجَاسَتُهُ وَيُمْكِنَ إِزَالَتُهَا، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، قَبْلَ إِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ، لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِمْكَانُ إِزَالَتِهَا. والثَّانِيةُ: بَقَاءُ أَكْثَرِ مَنَافِعِهِ مَعَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَتَمَيَّزَ نَجَاسَتُهُ؛ لِامْتِزَاجِهِ بِهَا، وَلَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا، كَالدِّبْسِ وَاللَّبَنِ إِذَا نَجُسَ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ النَّجِسُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَاءُ النَّجِسُ يَطْهُرُ بالمكاثرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 قِيلَ: الْمُكَاثَرَةُ لَا تُزِيلُ النَّجَاسَةَ؛ لِبَقَائِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَغْلُبُ حُكْمُ الْمُكَاثَرَةِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالطَّهَارَةِ. أو لا تَرَى أَنَّ الْبَوْلَ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ كَانَ طَاهِرًا، وَجَازَ بَيْعُهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَهَارَةِ الْبَوْلِ، كَذَلِكَ الْمَاءُ النَّجِسُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ نَجَاسَتُهُ؛ لِامْتِزَاجِهِ وَاخْتُلِفَ فِي إِمْكَانِ إِزَالَتِهَا مِنْهُ، وَهُوَ الزَّيْتُ النَّجِسُ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ الْأَدْهَانِ، دُونَ السَّمْنِ. فَفِي إِمْكَانِ غَسْلِهِ وَطَهَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَيَطْهُرُ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي إِنَاءٍ، وَيُمْخَضُ فِيهِ مَخْضًا، يَصِيرُ بِهِ مَغْسُولًا، كَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ وَيَعْلُو عَلَيْهِ، كَمَا يَتَمَيَّزُ الثَّوْبُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ، فَيَكُونُ طَاهِرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ إِنْ غَسَلَهُ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، لِأَنَّهُ مَائِعٌ، كَالْمَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ جَذْبُ الْمَاءِ لِلنَّجَاسَةِ بِأَوْلَى مِنْ جَذْبِ الزَّيْتِ لَهَا، فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى نَجَاسَتِهِ وَالْمَاءُ فِي الثَّوْبِ يَجْذِبُ نَجَاسَتَهُ إِلَيْهِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ غَسْلَهُ لَا يَصِحُّ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنْ غَسْلَهُ يَصِحُّ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ مِنْ عِلَّتَيْ بَيْعِ الثوب النجس: إحداهما: يَجُوزُ بَيْعُهُ تَعْلِيلًا بِإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَسْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَعْلِيلًا بِذَهَابِ أَكْثَرِ منافعه بنجاسته. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَبِيعُهُ؟ قِيلَ قَدْ يَنْتَفِعُ الْمُضْطَرُّ بِالْمَيْتَةِ وَلَا يَبِيعُهَا وَيَنْتَفِعُ بِالطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ولا يبيعه في تلك الحال قال وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ثمن الكلب وأباح الانتفاع به في بعض الأحوال فغير مستنكرٍ أن ينتفع الرجل بالزيت ولا يبيعه في هذه الْحَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا نَجُسَ مِنَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ، جَائِزٌ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: الِانْتِفَاعُ بِهِ حَرَامٌ فِي اسْتِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِ؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن الفأرة تعق فِي السَّمْنِ وَالْوَدَكِ، فَقَالَ: " إِنْ كَانَ جَامِدًا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعاً، فانتفوا بِهِ، وَلَا تَأْكُلُوهُ ". وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَالزَّيْتِ، فَقَالَ: " اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ ". وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ فِي إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِصْبَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَانَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لِعَيْنِهِ، مَعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فالمانع تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ، وَقِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَقِسْمٌ مُرْسَلٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ. فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ، فَهُوَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، فَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِسْجَارِ التَّنَانِيرِ بالبعر والسرجين وجميع الأنجاس، وإبقاءه تَحْتَ الْقُدُورِ، وَمِنَ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَّانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْ نَجَاسَةٍ وَالْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالرَّمَادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنَ الْتِقَاءِ جِسْمَيْنِ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِنَجَاسَةِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ، كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الجوف. فإن قيل: بطهارته بِنَجَاسَتِهِ، فَفِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ، كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَّرَ بِهِ تَنُّورًا لم يلزمه مسحه منه، وجاز الخبر فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ مُمْكِنٌ، فَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ تَدَخَّنَ بِهِ ثوب وجب غسله، ولذا سُجِّرَ بِهِ تَنُّورٌ، وَجَبَ مَسْحُهُ مِنْهُ قَبْلَ الخبز فيه، فإن خبر فِيهِ قَبْلَ مَسْحِهِ نَجُسَ ظَهْرُ الرَّغِيفِ وَكَانَ وَجْهُهُ طَاهِرًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّغِيفَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ ظَاهِرَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ وَالْمَرَاكِبُ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُطْلَى السُّفُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ وَحُكْمُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ وَالزَّيْتِ النَّجِسِ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِمَا، فَكَانَ سَوَاءً فِي الْمَنْعِ مِنْ إِطْلَاءِ السُّفُنِ بِهِمَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ طِلَاءِ السُّفُنِ وَجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الاستصباح بد اسْتِهْلَاكًا لَهُ فَجَازَ وَفِي طِلَاءِ السُّفُنِ بِهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِصْبَاحَ لَا يَمَسُّهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ فَيَتَوَقَّاهَا، وَالسَّفِينَةُ يَمَسُّهَا فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ، فَلَا يَتَوَقَّاهَا. فَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَ طِلَاءً لِلْبَهَائِمِ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمِلَةً لَمْ يَجُزْ كَالسَّفِينَةِ لِوُجُودِ الْعِلَّتَيْنِ مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَمَسِيسِ حَقٍّ لَا يُعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً غَيْرَ مُسْتَعْمَلَةٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَمَسُّهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِبَقَاءِ عَيْنِهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُرْسَلُ عَنْ أَمْرٍ بِهِ أَوْ نَهْىٍ عَنْهُ، فَيُنْظَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ أُبِيحَ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ حُظِرَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعَمَ الْبَازِي وَالْفَهْدُ لَحْمَ الْمَيْتَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ، بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقِيَهُمَا الْمَاءَ النَّجِسَ، وَالْأَبْوَالَ. فَأَمَّا طَرْحُ الْأَنْجَاسِ مِنَ الْبَعْرِ وَالسِّرْجِينِ عَلَى الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ، فَإِنْ لَمْ يُمَاسَّ الثَّمَرَةَ الْمَأْكُولَةَ، وَكَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وَفِي قُضْبَانِ الزَّرْعِ جَازَ؛ لِاشْتِهَارِ حَالِهَا وَأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا عَالَمٌ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا مِنْ ثِمَارِهَا فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً جَازَ، لِأَنَّ الْيَابِسَ لَا نجس يَابِسًا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا، بنجس بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِبَاحَةُ اسْتِعْمَالِهِ مَقْرُونًا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِغَسْلِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ، أَوْ بِإِعْلَامِ مُشْتَرِيهِ بِنَجَاسَتِهِ، وَهَكَذَا إِذَا عُجِنَ طِينُ الْكِيزَانِ وَالْخَزَفُ بِالسَّرْجِينِ لَزِمَهُ عِنْدَ بَيْعِهِ أَنْ يَغْسِلَهُ أَوْ يُخْبِرَ بِنَجَاسَتِهِ، ليَغْسِلُهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ صَارَ هَذَا عُرْفًا مَشْهُورًا بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ سَقَطَ الْأَمْرَانِ عِنْدَ بَيْعِهِ مِنَ الْغَسْلِ وَالْإِعْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعُرْفِ مَعْلُومَ النَّجَاسَةِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَا يَحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا إِهَابُهَا بِالدِّبَاغِ وَيُبَاعُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ صَارَ جَمِيعُهُ بِالْمَوْتِ نَجِسًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْجُسُ لَحْمُهُ وَجِلْدُهُ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَلَا عَظْمُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَنْجُسُ عَظْمُهُ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 فَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا، وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنْ تَخْرِيجِهِ، وَجَعَلُوهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ جَائِزٌ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُ حُكْمًا بطهارته، كما قال غَيْرُهُ فِي الْعَظْمِ وَالشَّعْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ إِبَاحَةً لِاسْتِعْمَالِهِ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ) {المائدة: 3) مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا عَلَى الْعُمُومِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي نَجَاسَةِ الْجَمِيعِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَطْهُرْ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا جِلْدَهَا بِالدِّبَاغَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يَطْهُرُ عَظْمُهَا بِالطَّبْخِ إِذَا ذَهَبَ دَسَمُهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَطْهُرُ بِالْخَرْطِ وَقَالَ خَرْطُ الْعَاجِ ذَكَاتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: يَطْهُرُ شَعْرُهَا بِالْغَسْلِ وَفِي قوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِهَابِ بِطَهَارَةِ الدِّبَاغَةِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا دُبِغَ الْجِلْدُ طَهُرَ دُونَ شَعْرِهِ، وَحَكَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابَعٌ لِلْجِلْدِ يَطْهُرُ بِدِبَاغِهِ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِهِ، وَجَعَلُوهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلى جملتها حين أعيدت. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الِاضْطِرَارِ (قَالَ) في كتاب اختلاف أبي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَذَا أَقُولُ (وَقَالَ) فِيهِ وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الشَّيْءَ حلالٌ وحرامٌ فَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَحِلَّ منه شيءٌ وإذا كان حلالاً فقد يحتمل أن لا يحرم منه شيئاً فهو محرمٌ إلا ما أباح منه بصفة فإذا زالت الصفة زالت الإباحة (قال المزني) ولا خلاف أعلمه أن ليس له أن يأكل من الميتة وهو بادي الشبع لأنه ليس بمضطر فإذا كان خائفاً على نفسه فمضطرٌّ فإذا أكل منها ما يذهب الخوف فقد أمن فارتفع الاضطرار الذي هو علة الإباحة (قال المزني) رحمه الله وإذا ارتفعت العلة ارتفع حكمها ورجع الحكم كما قال قبل الاضطرار وهو تحريم الله عز وجل الميتة على من ليس بمضطر ولو جاز أن يرتفع الاضطرار ولا يرتفع حكمه جاز أن يحدث الأضرار ولا يحدث حكمه وهذا خلاف القرآن؟ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّماَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ المَيْتَةَ} فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) {البقرة: 172) لِيَدُلَّ عَلَى تَخْصِيصِ التَّحْرِيمِ فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ المَيْتَةَ} (البقرة: 173) وَهُوَ مَا فَاتَتْ رُوحُهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مِنْ كُلِّ ذِي نَفْسٍ سَائِلَةٍ، وَالدَّمُ وَهُوَ الْجَارِي مِنَ الْحَيَوَانِ بِذَبْحٍ أَوْ جَرْحٍ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى لَحْمِهِ دُونَ شَحْمِهِ اقْتِصَارًا عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهِ، وَخُصَّ النَّصُّ بِاللَّحْمِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَقْصُودِهِ {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) {البقرة: 173) يُرِيدُ بِالْإِحْلَالِ: الذَّبْحَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا ذَبْحَ مَا قَرَّبُوهُ لِآلِهَتِهِمْ جَهَرُوا بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَ الذبح. ومن قوله: {لِغَيْرِ اللهِ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غير اسْمُ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، قَالَ عَطَاءٌ، وَهُوَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ حَرَامٌ، فَانْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ، فَقَالَ: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) {البقرة: 173) ومن {اضْطُرَّ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ. والثاني: أنه من إصابة الضر وفي {غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ} ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ بِعِصْيَانِهِ وَلَا عَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ بِفَسَادِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ وَلَا عَادٍ بِأَكْلِهَا، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً، وَتَلَذُّذًا، وَلَا عَادٍ بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَهُوَ قَوْلُ السدي. وفي قوله: {فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهَا. وَالثَّانِي: فَلَا مَنْعَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِبَاحَةُ أَكْلِهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهَا مَعَ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ شُرُوطِ الْإِبَاحَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ من محكمات السور التي لم يرده بَعْدَهَا نَسْخٌ، وَاخْتُلِفَ هَلْ نَزَلَ بَعْدَهَا فَرْضٌ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) {المائدة: 3) . وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ مَا ذَكَرَ في تلك الآية، وزاد فقال: {وَالْمُنْخَنِقةُ} وَهِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ بِحَبَلِ الصَّائِدِ، وغيرِهَ حَتَّى تموت. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 {وَالْمَوْقُوذَةُ} وَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى تَمُوتَ، وَكَانَتِ المجوس تقذ، ولا تذبح، ليكون دمه فيه، ويقولون: هو أطيب وأسمن. {وَالمُتَرَدِّيَةُ} وَهِيَ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ في بئر حتى تموت. {وَالنَّطِيحَةُ} وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى، فَتَمُوتُ النَّاطِحَةُ وَالْمَنْطُوحَةُ. {مَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) {المائدة: 3) وَمَأْكُولَةُ السَّبُعِ هِيَ فَرِيسَتُهُ، الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، وإن كان داخلاً في عموم الميتة لأمرين: أحدهما: لأنها ماتت بأسباب حتى لا تقدروا وإن أسباب موتها ذكاة. والثاني: أنهم كَانُوا يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَهَا مِنْ قَبْلُ، فَنَصَّ عليها في التحريم، ليزول الالتباس. ومن قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَأْكُولَةِ السَّبُعِ وَحْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ، وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُدْرِكَهَا وَلَهَا عَيْنٌ تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِيهَا حَرَكَةٌ قَوِيَّةٌ لَا كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا ذُبِحَ علَى النُّصُبِ) {المائدة: 3) : وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَصْنَامٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا يَذْبَحُونَ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْثَانٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، لِأَصْنَامِهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ أَنَّ الصَّنَمَ مُصَوَّرٌ يَعْبُدُونَهُ، وَالْوَثَنُ غَيْرُ مصور، يتقربون به إلى الضم، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَرَّمَاتٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَسْتَقِيمُوا بِالأَزْلاَمِ) {المائدة: 3) وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يَتَقَامَرُونَ بِهِ مِنَ الشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أشهر أنها قداح ثَلَاثَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا: " أَمَرَنِي رَبِّي "، وَعَلَى الآخر " نهاني ربي " والآخر غفل، يضربونها وإذا أَرَادُوا سَفَرًا أَوْ أَمْرًا، فَإِنْ خَرَجَ: أَمَرَنِي رَبِّي فَعَلُوهُ، وَإِنْ خَرَجَ " نَهَانِي رَبِّي " تَرَكُوهُ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوهُ. وَفِي تَسْمِيَتِهِ: اسْتِقْسَامًا تأويلان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ طَلَبُوا بِهِ عِلْمَ مَا قُسِمَ لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا بِالْقِدَاحِ مِثْلَ مَا التزموه بقسم اليمين. {ذَالِكُمْ فِسْقٌ) {المائدة: 3) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جميع ما تقدم تحريمه. وفي قوله {فِسْقٌ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرٌ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّانِي: خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ الْمُحْرِمَاتِ، حَالَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينَكُمْ) {المائدة: 3) وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِيمَا يَئِسُوا بِهِ مِنَ الدِّينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْدِرُوا على إبطاله. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أَيْ: لَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، وَاخْشَوْنِي أن تحالفوا أمري. {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) {المائدة: 3) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، ولم يعض بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَمَانُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّهُ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ في عَرَفَةَ وَفِي إِكْمَالِهِ لِلدِّينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِكْمَالُ فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيء مِنَ الْفَرَائِضِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِكْمَالَهُ بِرَفْعِ النَّسْخِ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ. فَأَمَّا الْفُرُوضُ، فَلَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضَ وهذا قول ابن قتيبة. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) {المائدة: 3) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بإظهاركم على عدوكم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 والثاني: بإكمال دينكم. {وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِيناً) {المائدة: 3) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: رَضِيَتُ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينًا. وَالثَّانِي: رَضِيتُ الاستسلام أي طاعة، فَرَوَى قُبَيْصَةُ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَعَظَّمُوا الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَاتَّخَذُوهُ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ، فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ، وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهَا إِبَاحَةَ مَا اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فقال: {فَمَنِ اضْطَرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) {المائدة: 3) يَعْنِي: مَجَاعَةً، وهي مفعلة من خمص البطن، وهو اضطماره من الجوع مثل: مخملة ومخلة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ) {المائدة: 3) وَفِي الْمُتَجَانِفِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ الْمُتَعَمِدُ. وَالثَّانِي: إنَّهُ الْمَائِلُ. وَفِي هَذَا الْإِثْمِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْكُلَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي الضَّرُورَةِ مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الشِّبَعِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَعْنِي غَفُورًا لِلْمَأْثَمِ، رَحِيمًا فِي الْإِبَاحَةِ. وَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْتُ تَفْسِيرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَإِنْ تَجَاوَزْنَا بِهِمَا مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ؛ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالنَّعَمِ، مَعَ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله إنا بأرضٍ تصيبنا فيها المَخْمَصَةٌ، فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَالَ: مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بِهَا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا " قَوْلُهُ " تَصْطَبِحُوا " مِنَ الصَّبُوحِ، وَهُوَ الْغَدَاءُ، وَ " تَغْتَبِقُوا " مِنَ الْغَبُوقِ، وَهُوَ العشاء، أي لم تجدوا " الْحَفَا " مَقْصُورٌ، وَهُوَ أَصُولُ الْبَرْدِيِّ الرَّطْبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَهُ وَأَمْثَالَهُ مِنَ الْحَشِيشِ؛ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ يُغْنِي عَنِ الْمَيْتَةِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّكُمْ إِذَا تَغَذَّيْتُمْ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا عِنْدَ الْعَشَاءِ إِذَا تَعَشَّيْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا عِنْدَ الْغَدَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّمَقَ يَتَمَاسَكُ، وَإِذَا وَجَدْتُمُ " الْحَفَا " فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوهَا؛ لِأَنَّ الرَّمَقَ بِهِ مُتَمَاسِكٌ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا إِذَا لَمْ يتماسك الرمق إلا بها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 (فَصْلٌ:) شُرُوطُ إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ أكل الميتة للمضطر بإباحتها مُعْتَبِرَةً بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْجُوعُ إِلَى حَدِّ التَّلَفِ، وَلَا يَقْدِرَ عَلَى مَشْيٍ وَلَا نُهُوضٍ، فَيَصِيرَ غَيْرَ مُتَمَاسِكِ الرَّمَقِ إِلَّا بِهَا، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنْ تَمَاسَكَ رَمَقُهُ أَوْ جَلَسَ وَأَقَامَ وَلَمْ يَتَمَاسَكْ إِنْ مَشَى، وَسَارَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ في سفر يخاف فوت رفاقته حَلَّ لَهُ أَكْلُهَا، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رفاقته لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجِدَ مَأْكُولَ الْحَشِيشِ وَالشَّجَرِ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ، وَلَوْ وَجَدَ مِنَ الْحَشِيشِ مَا يَسْتَضِرُّ بِأَكْلِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَيْتَةُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجِدَ طَعَامًا يَشْتَرِيَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ ثَمَنَهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ إِذَا أَنْظَرَهُ الْبَائِعُ ثَمَنَهُ بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا، لِأَنَّ إِبَاحَةَ التَّيَمُّمِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُدْمِ، وَهُوَ بِإِعْوَازِ الثَّمَنِ عَادِمٌ. وَإِبَاحَةُ الْمَيْتَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَعَ الْإِنْظَارِ بِالثَّمَنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَإِنْ بُذِلَ لَهُ الطَّعَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ كَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْتِمَاسَ الزِّيَادَةِ منتفٍ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْمَيْتَةِ عَاصِيًا، كَمُقَامِهِ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ أَوْ لِبَغْيِهِ عَلَى إِمَامٍ عَادِلٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اضْطَرَّ غَيْرَ باغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) {المائدة: 3) ولأنه إِبَاحَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ وَالْعَاصِي لَا يَتَرَخَّصُ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ حَلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ التَّوْبَةِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَإِنْ قَصُرَ السَّفَرُ، لِأَنَّه الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِهِ الْعُدْمُ وَإِنْ حَدَثَ مِثْلُهُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى حَلَّ فِيهَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَالسَّفَرِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا أُحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مَا يُمْسِكُ رمقه، كيف ما سَاغَهُ طَبْخًا وَقَلْيًا، وَشَيًّا، وَنِيئًا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالْأَكْلِ بَعْدَ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ إِلَى أَبَدٍ يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ، وَمَا بَعْدَهُ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ حَرَامٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الشِّبَعِ، وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِ الشِّبَعِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام: 119) وَالضَّرُورَةُ تَزُولُ بِإِمْسَاكِ الرَّمَقِ، فَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ قَبْلَ أَكْلِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. إِذَا صَارَ بِهَا مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّ ارْتِفَاعَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهَا، كَمَا أَنَّ حُدُوثَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِحُدُوثِ حُكْمِهَا. وَلَوْ جَازَ أَنْ تَرْتَفِعَ الضَّرُورَةُ، وَلَا يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا لجاز أن تحدث، ولا يحدث حكمها. ودليل القول الثاني: أن الشبع منها حلال قول اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اضْطَرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) {البقرة: 173) فَعَمَّ الْإِبَاحَةَ بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ سُئِلَ عَنِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا " فَعَمَّ إِبَاحَتَهَا؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ، حَلَّ الِاكْتِفَاءُ مِنْهُ، كَالطَّعَامِ طَرْدًا وَالْحَرَامِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى الشِّبَعِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ؛ لِأَنَّ إِمْسَاكَ الرَّمَقِ لَا لُبْثَ لَهُ، وَتَتَعَقَّبُهُ الضَّرُورَةُ بَعْدَهُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ لَا يَجِدُ الْمَيْتَةَ بَعْدَهَا، فَكَانَ الشِّبَعُ أَمْسَكُ لِرَمَقِهِ، وَأَحْفَظُ لِحَيَاتِهِ، وَلَئِنْ كَانَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ فِي الِابْتِدَاءِ مُعْتَبَرًا فَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الِانْتِهَاءِ مُعْتَبَرًا بِعُدْمِ الطَّوَلِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا إنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ فَأَكْلُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا مُبَاحٌ لَهُ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسُكُمْ} (النساء: 29) فَإِنْ تَرَكَ أَكْلَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ، وَإِنْ أَكَلَ مَا زَادَ عَلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ كَانَ آثِمًا، وَمَا أَكَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ حَرَامٌ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ كَانَ أَكْلُ مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَكَانَ أَكْلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ إِلَى الشِّبَعِ مُبَاحًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَصٌّ بِمَا أَحْيَا النَّفْسَ، وَهُوَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَكْلُ مَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشِّبَعِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ. (فصل:) حكم العطشان إذا خاف التلف وَهَكَذَا حُكْمُ الْعَطْشَانِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ وَوَجَدَ مَاءً نَجِسًا أَوْ بَوْلًا حَلَّ لَهُ الشُّرْبُ منه؛ لأمسك رَمَقَهُ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَوِيَ مِنْهُ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي الْمَيْتَةِ، فَإِنْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا، كَانَ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ أَوْلَى مِنْ شُرْبِ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ طَارِئَةٌ بِالْمُخَالَطَةِ، وَنَجَاسَةَ الْبَوْلِ لِذَاتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُتَدَاوَى بِالْبَوْلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَوَاءً طَاهِرًا، قَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " للقرنين أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اجْتَوَوْهَا " وَهَكَذَا يُحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ الْمَيْتَةِ لِلتَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ له دواء سواء، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 وَمَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا من التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا جَعَلَ اللَّهُ شِفَاءَكُمْ فِيمَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " وَهَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئٌ بَعْدَ حَدِيثِ العرنيين من وجهين: أحدهما: أن التداوي حال الضَّرُورَةِ فَصَارَ بِهَا مُضْطَرًّا إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْلَ السُّمِّ حَرَامٌ وَالتَّدَاوِي بِهِ مُتَدَاوَلٌ، وَقِيلَ إِنَّ السَّقْمُونِيَا سُمٌّ قَاتِلٌ، وَلِهَذَا مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فِي الدَّوَاءِ قَتَلَهُ، ثُمَّ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ كَذَلِكَ كُلُّ حَرَامٍ. فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا فِيهِ شِفَاؤُكُمْ مِما حَرُمَ عَلَيْكُمْ. فَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ مِنَ الْعَطَشِ وَلِلتَّدَاوِي، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهَا، مِنَ الْعَطَشِ وَلَا لِلتَّدَاوِي، وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى جَوَازِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ لَا لِلتَّدَاوِي؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْعَطَشِ عَاجِلٌ، وَضَرَرَ الدَّاءِ آجِلٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ جَوَازَ شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ فِي الدَّوَاءِ وَغَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْعَطَشِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ شُرْبُهَا فِي الْعَطَشِ وَالتَّدَاوِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْحَالَيْنِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْخَمْرُ داءٌ "؛ وَلِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَلَا تَرْوِي؛ وَلِأَنَّهَا تُحْدِثُ مِنَ السُّكْرِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَتَمْنَعُ الْفَرَائِضَ؛ وَلِأَنَّ شُرْبَهَا فِي أَحَدِ الْحَالَيْنِ ذَرِيعَةٌ إِلَى شُرْبِهَا مَعَ عَدَمِ تِلْكَ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ رَغِيبَةٌ عَلَيْهَا؛ وَلِذَلِكَ حَرُمَ إِمْسَاكُهَا، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهَا، وهكذا كل مسكر فهو خمر. (مسألة:) قال الشافعي فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ: " إِنْ مَرَّ الْمُضْطَرُّ بتمرٍ أَوْ زرعٍ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ مَا يَرُدُّ بِهِ جوعه ويرد قيمته ولا أرى لصاحبه منعه فضلاً عنه وخفت أن يكون أعان على قتله إذا خاف عليه بالمنع الموت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غَيْرُ الْمُضْطَرِّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةِ غَيْرِهِ عَلَى نَخْلِهَا أَوْ شَجَرِهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَارِزَةً أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: يُنَادِي عَلَى الْبَابِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابُوهُ، وَإِلَّا دَخَلَ، وَأَكَلَ، وَلَمْ يَدَّخِرِ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطِ غَيْرِهِ فَلْيَدْخُلْ، فَلْيَأْكُلْ، وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً " أَيْ: لَا يَحْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بغير إذنه " ضروع مواشيكم خزائن طعامكم، أو يحب أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْخُلَ لِخَرِبَةِ أَخِيهِ، فَيَأْخُذَ مَا فيها بغير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 إِذْنِهِ " فَنَصَّ عَلَى أَلْبَانِ الْمَوَاشِي، وَنَبَّهَ عَلَى ثِمَارِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ أَسْهَلُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْلَفٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَمِنَ الثِّمَارِ مَا لَا يُسْتَخْلَفُ إِلَّا مِنْ كُلِّ عَامٍ. فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ، فَأَمَّا سَوَاقِطُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ مِنَ الثِّمَارِ، وَهُوَ مَا تَسَاقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ قَدْ أَحْرَزَهَا لَمْ يُجِزْ لِلْمَارِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهَا، لِأَنَّ الْحِرْزَ يَمْنَعُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَارِزَةً غَيْرَ مُحْرَزَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَهْلِهَا بِإِبَاحَتِهَا حَرُمَ أَخْذُهَا، وَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِإِبَاحَتِهَا كَثِمَارِ النَّخْلِ بِالْبَصْرَةِ وَالْمَدِينَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعَادَةِ، هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ فِي الْإِبَاحَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْإِذْنِ، فَيُحِلُّ لِكُلِّ مارٍ بِهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَلَا يَدَّخِرَهُ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِ السَّوَاقِطِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ دَخَلَ حَائِطًا بِالْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ سَوَاقِطِ النَّخْلِ، فَرَآهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ، فَدَعَاهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْأَكْلَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إِنَّمَا هَاجَ عَلَيَّ كَلْبُ الْجُوعِ، فَسَكَّنْتُهُ بِتَمَرَاتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ لَا تَكُونُ إِذْنًا، وَلَا يَسْتَبِيحُ الْمَارُّ أَكْلَ السَّوَاقِطِ إِلَّا بإذن صريح كما لا يستبح مَا فِي النَّخْلِ إِلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهِ، وَنُفُوسُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، بِالشُّحِّ وَالسَّخَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ عُمُومُ الْعُرْفِ فِيهِ مُقْنِعًا. حُكْمُ الْمُضْطَرِّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةٍ وَنَحْوِهَا (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِذَا مَرَّ بِثَمَرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ طَعَامٍ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مُحْرَزًا كَانَ أَوْ بَارِزًا، وَفِي قَدْرِ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ قَوْلَانِ، كَالْمَيْتَةِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْبَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ بِالضَّرُورَةِ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ اسْتَبَاحَ بِهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهَا قَدْرَ الْإِبَاحَةِ، فَثَمَنُ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إِنَّمَا دَعَتْ إِلَى الْأَكْلِ، وَلَمْ تَدْعُ إِلَى سُقُوطِ الْغُرْمِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا عَجَّلَ دَفْعَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أُنْظِرَ بِهَا إلى مسيرته. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالضَّرُورَةِ كَالِاسْتِبَاحَةِ الَّتِي لَا تُضْمَنُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَلِلطَّعَامِ قِيمَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا مَالِكَ لَهَا، وَلِلطَّعَامِ مَالِكٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا، فَعَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ فِي الْأَكْلِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ بِضَرُورَتِهِ، وَعَلَى مَالِكِ الطعام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ اسْتِحْيَاءً لِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) {المائدة: 32) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مسلمٍ، وَلَوْ بِشَطْرِ كلمةٍِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ "؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ بِمَالِهِ مِنْ تَلَفٍ كَغَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ بِمَالِهِ مِنْ تَلَفِ الْجُوعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَالِكِ مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ أَوْ لَا يَأْذَنَ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِذْنِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ، فَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِبَاحَةِ طعام الْوَلَائِمِ الَّتِي يَجُوزُ الشِّبَعُ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى شِبَعِهِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا بَعْدَ الْأَكْلِ شَيْئًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ بِعِوَضٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَ الْعِوَضِ، فَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي وَقْتِهِ بِمَكَانِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ قَدْرَ الْعِوَضِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ثَمَنَ مِثْلِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ، فَإِنْ أَفْرَدَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ حِينَ سَمَّى ثَمَنَهُ صَحَّ الثَّمَنُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا أَفْرَدَهُ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَخَذَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ مِلْكَهَا بِابْتِيَاعٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ قَبْلَ الْأَكْلِ لَزِمَ الْمُضْطَرُّ قِيمَةَ مَا أَكَلَ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مَنِ الْمُسَمَّى أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ مَا يَأْكُلُهُ مَجْهُولًا لَا يَصِحُّ فِيهِ ثَمَنٌ مُسَمًّى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّاهُ مِنَ الثَّمَنِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَيَكُونُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمُضْطَرِّ آثِمًا، وَيُنْظَرُ، فَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُضْطَرَّ فِيمَا أَكَلَ إِلَّا قِيمَتُهُ بِمَكَانِهِ فِي وَقْتِهِ، وَبَطُلَ الْمُسَمَّى وَإِنْ أَفْرَدَ مَا سَمَّى ثَمَنَهُ، فَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ إِذَا أَكَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الثَّمَنُ الْمُسَمَّى لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عَقْدٍ لَازِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ثَمَنُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَهُوَ هَذَا. وَأَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِيَسَارِهِ، فَهُوَ فِي بَذْلِهَا غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَلَزِمَتْهُ وَإِنْ كَانَتْ شَاقَّةً عَلَيْهِ لِإِعْسَارِهِ، فَهُوَ مِنْ بَذْلِهَا مُكْرَهٌ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ إِذْنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِبَاحَةٍ وَلَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 مُعَاوَضَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حد الشبع ك 7 طعام الْوَلَائِمِ، وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِطْعَامِ وَالْإِطْعَامِ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، دُونَ الْمُعَاوَضَةِ، فَأَوْجَبَ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ حَمْلَهُ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْمَعْهُودِ فِيهِ. فَلَوِ اخْتُلِفَ فِي الْإِذْنِ، فَقَالَ الْمَالِكُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي أَكْلِهِ بِعِوَضٍ لِي عَلَيْكَ. وَقَالَ الْمُضْطَرُّ: بَلْ أَذِنْتَ لِي فِي الْأَكْلِ مُبِيحًا، فَلَا عِوَضَ لَكَ عَلَيَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ. فَإِنِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْقِيمَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضْطَرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مالك الطعام في الأكل، فلم يَخْلُو الْمُضْطَرُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الطَّعَامِ مِنْهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ جَبْرًا وَلَا يَتَعَدَّى الْآخِذُ إِلَى قِتَالِهِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَبِيحُ أَخْذَهُ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ. وَالثَّانِي: مَا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَيَأْكُلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَحْمِلُهُ؛ لِأَنَّ ضَرُورَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَكَانِهِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَزُولَ الضَّرُورَةُ إِنْ زَالَ عَنْهُ، فَإِذَا أَكَلَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بِمَكَانِهِ فِي وَقْتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى أَخْذِهِ، وَلَا عَلَى قِتَالِهِ عَلَيْهِ، فَمَالِكُ الطَّعَامِ عَاصٍ بِالْمَنْعِ، وَمَعْصِيَتُهُ إِنْ أَفْضَتْ إِلَى تَلَفِ الْمُضْطَرِّ أَعْظَمُ، لَكِنْ لَا يَضْمَنُهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُ دِيَتَهُ كَانَ مَذْهَبًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ جَعَلَتْ لَهُ فِي طَعَامِهِ حَقًّا، فَصَارَ مَنْعُهُ مِنْهُ كَمَنْعِهِ مِنْ طَعَامِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لَوْ مَنَعَ إِنْسَانًا مِنْ طَعَامِ نَفْسِهِ حَتَّى مَاتَ جُوعًا ضَمِنَ دِيَتَهُ كَذَلِكَ إِذَا مَنَعَهُ مِنْ طَعَامٍ قَدْ صَارَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ دِيَتَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ الْمُضْطَرُّ عَلَى أَخْذِهِ إِلَّا بِقِتَالِهِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى طَعَامِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِمَّنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنْهَا؟ : أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ لِيَصِلَ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِطَعَامِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِتَالَ مُبَاحٌ لَهُ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الطَّعَامِ لَا يَنْفَكُّ فِي الْأَغْلَبِ من دين أو عقل يبعثه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمُضْطَرِّ بِمَالِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ، وَخَالَفَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إحياء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 نَفْسِهِ إِلَّا بِهَا، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِتَالِهِ تَوَصَّلَ بِالْقِتَالِ إِلَى أَخْذِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ مِنْ طَعَامِهِ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ يَصِلَ أَخْذِ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ، فَإِنْ قَاتَلَهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ كَانَ مُتَعَدِّيًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى قَدْرِ الشِّبَعِ، وَيَكُونُ الْقِتَالُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ مُبَاحًا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَجْهًا وَاحِدًا، وَقِتَالُهُ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى قَدْرِ الشِّبَعِ عُدْوَانٌ. فَإِنْ لَمْ يَصِلْ بِالْقِتَالِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ طَعَامِهِ حَتَّى تَلِفَ أَحَدُهُمَا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ رَبَّ الطَّعَامِ كَانَتْ نَفْسُهُ هَدْرًا لَا تُضْمَنُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ، كَمَنْ طَلَبَ نَفْسَ إِنْسَانٍ، فَقَتَلَهُ الْمَطْلُوبُ دَفَعًا كَانَتْ نَفْسُهُ هَدْرًا، وَإِنْ كَانَ التَّالِفُ الْمُضْطَرَّ كَانَتْ نَفْسُهُ مَضْمُونَةً عَلَى رَبِّ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، ثُمَّ نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ رَبُّ الطَّعَامِ بِضَرُورَةِ الْمُضْطَرِّ ضَمِنَهُ بِالْقَوَدِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِضَرُورَتِهِ ضَمِنَهُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا عَامِدٌ، وَمَعَ الْجَهْلِ بِهَا خَاطِئٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَهُوَ محرمٌ أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَلَوْ قيل يأكل الصيد ويفتدي كان مذهباً (قال المزني) رحمه الله الصيد محرمٌ لغيره وهو الإحرام ومباحٌ لغير محرمٍ والميتة محرمةٌ لعينها لا لغيرها على كل حلالٍ وحرامٍ فهي أغلظ تحريماً فإحياء نفسه بترك الأغلظ وتناول الأيسر أولى به من ركوب الأغلظ وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُذْكَرَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْ أَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا انْفَرَدَتْ ثُمَّ يُذْكَرُ حُكْمُهَا فِي حَقِّهِ إِذَا اجْتَمَعَتْ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ صَيْدًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ حَلَّ لَهُ أَكْلُ الصَّيْدِ، لِضَرُورَتِهِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسِهِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ أَكْلَهَا بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِذَا أَكَلَ الصَّيْدَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ، وَلَيْسَتْ فِي الصَّيْدِ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ، وَفِي قَدْرِ مَا تَسْتَبِيحُهُ مِنْ أَكْلِهِ قَوْلَانِ كَالْمَيْتَةِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ. وَالثَّانِي: قَدْرُ الشِّبَعِ، وَلَوْ كَانَ مَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ الْمُضْطَرُّ صَيْدًا مَقْتُولًا أَكَلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالْجَزَاءِ سَوَاءٌ ضَمِنَهْ قَاتِلُهُ أَوْ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَتْلِ دُونَ الْأَكْلِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ضَامِنٍ لِجَزَائِهِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلَ الصَّيْدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 مُحِلًّا، فَهُوَ ذَكِيٌّ مَمْلُوكٌ، فَيَضْمَنُ الْمُضْطَرُّ قِيمَةَ مَا أَكَلَ لِمَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلُهُ مُحْرِمًا، فَهَلْ يَكُونُ مَيْتَةً أَوْ مُذَكًّى؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما: يكون ميتة كالذكاة الْمَجُوسِيِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ قِيمَةُ مَا أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَيْتَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَكُونُ مُذَكًّى يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُضْطَرِّ لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ هَلْ يَسْتَقِرُّ لِلْمُحْرِمِ عَلَيْهِ مِلْكٌ أَمْ لَا؟ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لَمْ يَمْلِكْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ لَحْمَ آدَمِيٍّ مَيْتٍ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ كَتَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرْمَةُ ابْنِ آدَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِ عَظْمِهِ فِي حَيَاتِهِ ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ: وَلِأَنَّ هَذَا مُفْضٍ إِلَى أَكْلِ لُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى حِفْظَ حُرْمَتِهِ، وَتَعْظِيمَ حَقِّهِ ". فَقَلَبَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَقَالَ: الْمَنْعُ مِنْ أَكْلِهِ مُفْضٍ إِلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ إِذَا اضْطُرُّوا حَفْظًا لِحُرْمَةِ مَيِّتٍ كَافِرٍ، وَهَذَا أَعْظَمُ، فَلَمْ يَصِحَّ بِمَا قَالَهُ ابْنُ دَاوُدُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَتِهِ، قول الله تعالى: {فمن أضطر من مخمصة غير متجانف لأثم فإن الله عفور رَحِيمٌ} (المائدة: 3) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ قُتِلَ بِأَحَدٍ: " لَوْلَا صَفِيَّةُ لَتَرَكْتُهُ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ؛ حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا ". فَإِذَا جَازَ أَنْ تَأْكُلَهُ الْبَهَائِمُ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا، فَأَوْلَى أَنْ تُحْفَظَ بِهِ نُفُوسُ ذَوِي الْحُرُمَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَنْ يُحْيِيَ نَفْسًا بِقَتْلِ نَفْسٍ، فَإِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ ذِي نَفْسٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ لَحْمَهُ يَبْلَى بِغَيْرِ إِحْيَاءِ نَفْسٍ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَبْلَى بِإِحْيَاءِ نَفْسٍ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَفِظَ حُرْمَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَانَ حِفْظُهَا فِي الْحَيَاةِ أَوْكَدَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ حِفْظُ الْحُرْمَتَيْنِ، كَانَ حِفْظُ حُرْمَةِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ. فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ أَكْلِهِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِيَحْفَظَ بِهِ الْحُرْمَتَيْنِ مَعًا، وَيُمْنَعَ مِنْ طَبْخِهِ وَشَيِّهِ، وَيَأْكُلُهُ نِيئًا إِنْ قَدَرَ لِأَنَّ طبخه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 مَحْظُورٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ؛ وَأَكْلُهُ مَحْظُورٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى الْأَكْلِ فَأَبَحْنَاهُ وَلَا تَدْعُو إِلَى الطَّبْخِ فَحَظَرْنَاهُ. وَخَالَفَ الْمَيْتَةَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ دُونَ الطَّبْخِ، فَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا إِذَا وَجَدَ، الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُ حَرُمَ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَهُ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ نَفْسٍ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ مَعَ تَكَافُئِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْكُولُ مُسْلِمًا أَوْ ذمياً؛ لأن نفسه الذميين مَحْظُورَةٌ كَالْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْكُولُ مِمَّنْ يَجِبُ قتله في رده أو حرابة أو زنا جَازَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُضْطَرُّ مِنْ لَحْمِهِ لَكِنْ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَلَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ فِي حَيَاتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ حَيًّا كَانَ مُسِيئًا إِنْ قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِ، وَمَعْذُورًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ إِلَّا بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ فَفِي إِبَاحَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِذَا كَانَ غَالِبُ قَطْعِهِ السَّلَامَةَ لِحِفْظِ نَفْسِهِ بِعُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ، كَمَا يُقْطَعُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْأَكَلَةُ لِيَحْفَظَ بِهِ نَفْسَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بِقَطْعِهِ بَيْنَ خَوْفَيْنِ، فَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى تَلَفِهِ وَلَيْسَ كَقَطْعِ الْأَكَلَةِ؛ لِأَنَّ يَأْمَنُ سِرَايَتَهَا بِقَطْعِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ انْتَقَلْنَا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كُلِّ مُسْتَبَاحَيْنِ بِالضَّرُورَةِ مَحْظُورَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا. وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَفِيمَا يَسْتَبِيحُهُ مِنْهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ دُونَ الصَّيْدِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ نَصٌّ، وَاسْتِبَاحَةَ الصَّيْدِ اجْتِهَادٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَأَكْلَ الصَّيْدِ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الْجَزَاءِ، فَصَارَتِ الْمَيْتَةُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَخَفَّ حُكْمًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ يَأْكُلُ الصَّيْدَ، وَيَعْدِلُ عَنِ الْمَيْتَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِبَاحَةَ الصَّيْدِ عَامَّةٌ، وَحَظْرَهُ خَاصَّةٌ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَحَظْرَ الْمَيْتَةِ عَامٌ، وَإِبَاحَتَهَا خَاصَّةٌ فِي الاضطرار، فكان ما أباحته أعم أَخَفَّ مِمَّا تَحْرِيمُهُ أَعَمُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَتَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لِمَعْنًى فِيهَا، فَكَانَ مَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 فارقه معنى التحريم أخف مما حله مَعْنَى التَّحْرِيمِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ أَكْلَ الصَّيْدِ أَوْلَى. فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ صَيْدٍ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ، فَإِنْ قِيلَ: بِذَكَاتِهِ كَانَ أَوْلَى من الميتة وإن قيل: بنجاسته كان الْمَيْتَةُ أَوْلَى مِنْهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ أَكْلِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَيْتَةُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ يَمْنَعْ فَعَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمَيْتَةِ مَعَ الصَّيْدِ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمَحْرِمُ صَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَأْكُلُ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ أَخَفَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَأْكُلُ طَعَامَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَكْلِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مِيتَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَالْأُخْرَى مَنْ جِنْسِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسُّبُعِ وَالذِّئْبِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَكْلِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي النَّجَاسَةِ بِالْمَوْتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ دُونَ مَا لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ لِلْمَأْكُولِ أَصْلًا فِي الْإِبَاحَةِ، فَكَانَ أولى مما لا أصل له في بالإباحة. وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مِيتَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فِي حَيَاتِهَا، وَالْأُخْرَى نَجِسَةٌ فِي حَيَاتِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَيَأْكُلُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِنْزِيرًا؛ لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي النَّجَاسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنَ الطَّاهِرِ دُونَ النَّجَسِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ أَصْلًا لَيْسَ لِلنَّجِسِ. وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا دُونَ لَحْمِ ابْنِ آدَمَ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مِنْ حَقِّ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمَ ابْنِ آدَمَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْأَكْلِ، فَكَانَ أَغْلَظَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ وَهُوَ محرمٌ أَكَلَ الصَّيْدَ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا. (فَصْلٌ:) وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ النَّبَاتِ وَالنَّبَاتُ عَلَى أربعة أقسام: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 أَحَدُهَا: مَا كَانَ غِذَاءً كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْبُقُولِ، فَأَكْلُهَا مُبَاحٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ، وَسَوَاءٌ أُكِلْتَ قُوتًا أَوْ تَفَكُّهًا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ، فَهِيَ مِلْكٌ لِزَارِعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوَاتِ، فَهِيَ مِلْكٌ لِآخِذِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ دَوَاءً، فَأَكْلُهُ لِلتَّدَاوِي مُبَاحٌ، وَيُنْظَرُ فِي أَكْلِهِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي، فَإِنْ كَانَ ضَارًّا مُنِعَ مِنْ أَكْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَارٍّ أُبِيحُ أَكْلُهُ، وَبَيْعُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا جَائِزٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُسْكِرًا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرَبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعَ السُّكْرِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَعَلَى آكِلِهِ الْحَدُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي دَوَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ كَالْخَمْرِ، وَبَيْعُهُ حَرَامٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْكِرَ، وَلَا تَكُونُ فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ كَالْبَنْجِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَلَا حَدَّ عَلَى آكْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الدَّوَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى السُّكْرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ إِسْكَارِهِ بدٌ، وَيُنْظَرُ فِي بَيْعِهِ، فَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ غَالِبًا جَازَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا نَادِرًا كُرِهَ بَيْعُهُ، وَإِنْ جَازَ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا أَسْكَرَ مَعَ غَيْرِهِ وَلَمْ يُسْكِرْ بِانْفِرَادِهِ كَالدَّاذِي، وَمَا شَاكَلَهُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ مِنْ دَوَاءٍ، وَلَا غَيْرِهِ، حَرُمَ أَكْلُهُ وَبَيْعُهُ تَغْلِيبًا، لِغَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَإِنِ انْتُفِعَ بِأَكْلِهِ فِي الدَّوَاءِ حَلَّ أَكْلُهُ تَدَاوِيًا وَجَازَ بَيْعُهُ، وَكَانَ مَكْرُوهًا إِنْ كَانَ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمُسْكِرِ، وَلَمْ يُكْرَهْ إِنْ كَانَ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْكِرِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ ضَارًّا كَالسُّمُومِ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا قَتَلَ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ، فَأَكَلُهُ حَرَامٌ، وَبَيْعُهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كان قتله موجباً أَوْ مُبْطِئًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا قَتَلَ كَثِيرُهُ دُونَ قَلِيلِهِ، فَأَكْلُ كَثِيرِهِ حَرَامٌ، فَأَمَّا قَلِيلُهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَبَطُلَ بَيْعُهُ تَغْلِيبًا لِضَرَرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنَ التَّدَاوِي حَلَّ أَكْلُهُ تَدَاوِيًا، وَجَازَ بَيْعُهُ، وَلَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ التَّدَاوِي وَكُرِهَ إِنْ كَانَ غَالِبُهُ غَيْرَ التَّدَاوِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَقْتُلَ، فَحُكْمُ الْأَغْلَبِ لَهُ أَلْزَمُ، وَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا لَا يَقْتُلُ فِي الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 فِي مَوْضِعٍ إِبَاحَةَ أَكَلِهِ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ إِبَاحَةُ أكله على قولين اعتباراً بظاهر كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ إِبَاحَتَهُ لِأَكْلِهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي التَّدَاوِي وَتَحْرِيمَ أَكْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي التَّدَاوِي، فَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ لَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ. (مسألة:) قال المزني: " وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ الْمَدَنِيَّ وَالْكُوفِيَّ فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعَرِ الْخِنْزِيرِ وَفِي صُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا فَقَالَ لَا يُنْتَفَعُ بشيءٍ مِنْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْخِلَافُ فِي نَجَاسَةِ الشُّعُورِ وَالْأَصْوَافِ وَطَهَارَتِهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، فَالطَّاهِرُ مِنْهَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ وَأَمَّا النَّجِسُ مِنْهَا، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ طَاهِرًا، كَشُعُورِ السِّبَاعِ، وَالذِّئَابِ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْيَابِسَاتِ مِنْ متاعٍ دُونَ الذَّائِبَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ نَجِسًا فِي الْحَيَاةِ كَشَعْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَإِنْ جَرَى عُرْفُ الْعَوَامِّ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَسُئِلَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، فَقَالَ اللِّيفُ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ، وَأَجَازَهُ، وَعَوَّلُوا فِي إِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ جارٍ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِالْخِنْزِيرِ حَيًّا كَانَ تَحْرِيمُ شَعْرِهِ مَيْتًا أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ تَنْجِيسًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَغْلَظَ تَحْرِيمًا، فَإِنْ خَالَفُوا مِنْ نَجَاسَتِهِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا تَعْوِيلُهُمْ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَالْحَاجَةُ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا، وَقَدْ يَقُومُ اللِّيفُ مَقَامَهُ، فَسَقَطَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَتَعْوِيلُهُمْ عَلَى الْعُرْفِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَهُوَ عُرْفٌ مِنْ مُسْتَرْسِلٍ فِي دِينِهِ. فَإِذَا صَحَّ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهِ كَانَ مَأْثَمُ تَحْرِيمِهِ عَائِدًا عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ، وَجَازَ بَيْعُ الْمَحْرُوزِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ يَابِسًا لَاقَى يَابِسًا، فَالْخُفُّ الْمَحْرُوزُ بِهِ طَاهِرٌ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ، وَإِنْ لَاقَى فِي الْحِرْزِ نَدَاوَةً كَانَ مَا مَسَّهُ الشَّعْرُ مِنَ الْخُفِّ الْمَحْرُوزِ نَجِسًا، فَإِنْ غُسِلَ سَبْعًا بِتُرَابٍ طَهُرَ ظَاهِرُهُ، وَلَمْ تَطْهُرْ دَوَاخِلُ الْحِرْزِ، وَلَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ، والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 كتاب السبق والرمي قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نافعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نصلٍ أَوْ خفٍّ أَوْ حافرٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) {الأنفال: 60) فَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أَلَا وَإِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلَاثًا. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ، فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُمْ عزٌّ وَأَجْوَافَهَا لَكُمْ كنزٌ " فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أنما لَمَّا أَمَرَ بِإِعْدَادِ الرَّمْيِ وَالْخَيْلِ لِلْعَدُوِّ فِي حَرْبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ وَالثِّقَةِ بِالسَّبْقِ وَالْإِصَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا دَعَا إِلَيْهِمَا. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إِخْوَةِ يوسف {قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وفي قوله {نَسْتَبِقُ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَنْتَضِلُ مِنَ السِّبَاقِ فِي الرَّمْيِ. قاله الزجاج. والثاني: أنه أَرَادُوا السَّبْقَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ. وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا هُوَ: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ نَبِيًّا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ فِي شَرْعِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ بِهِ شَرْعٌ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ نسخ كان مَعْمُولًا بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) {الأنفال: 17) وَفِي هَذَا الرَّمْيِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَضَ يَوْمَ أحدٍ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ رَمَاهُمْ بِهَا، وَقَالَ " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " أَيْ: قَبُحَتْ، فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى الْقَبْضَةَ فِي أَبْصَارِهِمْ حَتَّى شَغَلَتْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَظْفَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ فِي أَصْحَابِهِ بِالسِّهَامِ، فَأَضَافَ رميهم إليه؛ لأنهم رموا عنه، ومن قوله: {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) {الأنفال: 17) تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ: وَمَا ظَفِرْتُمْ إِذْ رَمَيْتُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَظْفَرَكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَرْسَلَهُ مِنَ الرِّيحِ الْمُعَيَّنَةِ لِسِهَامِهِمْ، حَتَّى أَصَابَتْ، فَلَمَّا أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى الرَّمْيِ كَانَ كُلُّ عَوْنِ عَلَيْهِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَتْ نَاقَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تُسَمَّى " الْعَضْبَاءَ " فَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ النَّاسُ شَيْئًا إِلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الخيل التي لم تضمر منه الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ لَهَا وَقِيلَ: إِنَّ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ، وَمِنْ ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: " سَابَقَنِي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَبَقْتُهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقَنِي، فَسَبَقَنِي، فَقَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ هَذِهِ بِتِلْكِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الْخَيْلُ معقودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُمْ يَرْمُونَ، فَقَالَ: " ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمِ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَذْرَعِ، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ، قِسِيَّهُمْ، وَقَالُوا: مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ أحد: " ارم فداك أبي وأمي "، اثنتي عشرة مَرَّةً وَدَعَا لَهُ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " احْضُرُوا الْهَدَفَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُهُ، وَإِنَّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ: تَمَعْدَدُوا واخشوشنوا؛ واحتفوا، واركبوا وارموا، ولأن تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا وَرُبَّمَا أُسْنِدَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَفِي قَوْلِهِ " تَمَعْدَدُوا " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: انْتَسَبُوا إِلَى معدٍّ وَعَدْنَانَ. وَالثَّانِي: تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ مَعَدٍّ وَعَدْنَانَ. وفي قول: " وَاخْشَوْشِنُوا " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: كُونُوا فِي أُمُورِكُمْ خُشُنًا أَجْلَادًا. وَالثَّانِي: الْبَسُوا أَخْشَنَ الثِّيَابِ. وَفِي قَوْلِهِ: " وَاحْتَفُوا " تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: امْشُوا حُفَاةً. وَالثَّانِي: حُفُّوا شَوَارِبَكُمْ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، فهم مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ قُصِدَ بِهِ أُهْبَةُ الْجِهَادِ، ومباح إن قصد به غير؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُدَّةً لِلْجِهَادِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، مِنْهُمْ وَمِنَ السُّلْطَانِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، فَمِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ الْمُتَسَابِقُونَ الْمُتَنَاضِلُونَ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَى لَعِبٍ، فَأَشْبَهَ أَخْذَهُ عَلَى اللَّهْوِ وَالصِّرَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ، فَأَشْبَهَ الْقِمَارَ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حافرٍ أَوْ نصلٍ " فَلَمَّا اسْتَثْنَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعِوَضِ، وَلَوْلَا الْعِوَضُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِجَوَازِ جَمِيعِ الِاسْتِبَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَكُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالَ: نَعَمْ، رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى فرسٍ لَهُ، فَجَاءَتْ سَابِقَةً، فَلَهَشَّ لِذَلِكَ، وَأَعْجَبَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى عِوَضٍ، وَلِأَنَّ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ، وَبَعْثًا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) {الأنفال: 60) وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ، فَأَقَلُّ حَالَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ، بِأَنَّهُ لَعِبٌ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّعِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اسْتَثْنَاهُ، فَقَالَ: " كُلُّ اللَّعِبِ حرامٌ إِلَّا لَعِبَ الرَّجُلِ بِفَرَسِهِ وَلَعِبَهُ بِقَوْسِهِ، وَلَعِبَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ ". وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ قِمَارٌ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْقَ خَارِجٌ عَنِ الْقِمَارِ؛ لِأَنَّ الْقِمَارَ مَا لَمْ يَخْلُ صَاحِبُهُ من أخذ أو إعطاء، وقد يخلو المسابق مِنْ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا. وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الْقِمَارِ بِالشَّرْعِ، وَإِبَاحَةِ السَّبَقِ بِالشَّرْعِ، فَلَوْ جَازَ إِلْحَاقُ السَّبَقِ بِالْقِمَارِ مِنَ التَّحْرِيمِ لِجَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْحِقَ الْقِمَارَ بِالسَّبْقِ فِي التَّحْلِيلِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِي إِبَاحَةِ الْقِمَارِ فَاسِدًا، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي تَحْرِيمِ السَّبْقِ فَاسِدًا، وَلَزِمَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِمَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ السَّبْقِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، دُونَ اللَّازِمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا عَلَى عِوَضٍ، فَفِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ كَالْإِجَارَةِ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِقِسْمَةٍ وَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ، وَفِي دُخُولِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهِ وَجْهَانِ. كَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ شَرَعَا فِي السَّبَقِ وَالرَّمْيِ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعَمَلِ رِضًى بِالْإِمْضَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ، كَالْجُعَالَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَابِقِينَ قَبْلَ الشُّرُوعِ مِنَ السَّبْقِ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ السَّبْقُ، وينبرم بالخيار. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ اللُّزُومُ بَطَلَ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ طَرْدًا وَالْجُعَالَةِ عَكْسًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِ الْمَعْقُودِ بِالْعَقْدِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَبَقَاءُ خِيَارِهِ فِيهِ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ السبق على أحدهما فسخ لم يُتَوَصَّلْ إِلَى سَبْقٍ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ عِوَضٌ، وَالْعَقْدُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِقْرَارِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ، فَنَافَاهُ الْخِيَارُ وَضَاهَاهُ اللُّزُومُ. فَإِنْ قِيلَ: بِجَوَازِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا صَحَّ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِذَا قَابَلَ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ كَالْجُعَالَةِ طَرْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثِقُ بِالْغَلَبَةِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ كَمَا لَا يَثِقُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ فِي الْجُعَالَةِ وَعَكْسُهُ الْإِجَارَةُ مَتَى لَمْ يَثِقْ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ إِطْلَاقُ الْعِوَضِ فِيهِ مُوجِبًا لِتَعْجِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ جَائِزًا كَالْجُعَالَةِ وَإِطْلَاقُ الْعِوَضِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ لَا يُوجِبُ التَّعْجِيلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا وَلَا يَكُونُ لازماً، والله أعلم. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الْخُفُّ الْإِبِلُ وَالْحَافِرُ الْخَيْلُ وَالنَّصْلُ كُلُّ نصلٍ مِنْ سهمٍ أَوْ نشابةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبْقَ إِلَّا مِنْ خفٍّ أَوْ حافرٍ أَوْ نصلٍ " مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُفِّ الْإِبِلُ، لِأَنَّهَا ذَوَاتُ أَخْفَافٍ تُعَدُّ لِلطِّرَادِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَافِرِ الْخَيْلُ؛ لِأَنَّهَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ. وقال في موضع إِنَّ الْحَافِرَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ؛ لِأَنَّهَا تُرْكَبُ إِلَى الْجِيَادِ كَالْإِبِلِ وَيُلْقَى عَلَيْهَا العدوُّ كَالْخَيْلِ قَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرْبَ هَوَازِنَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَصَارَ فِي الْحَافِرِ قَوْلَانِ: فَأَمَّا النَّصْلُ، فَالْمُرَادُ بِهِ السَّهْمُ الْمَرْمِيُّ بِهِ عَنْ قَوْسٍ، وَإِنْ كَانَ النَّصْلُ اسْمًا لِحَدِيدَةِ السَّهْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ السَّهْمِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جَوَازِ السَّبْقِ بِهَا، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فيها، فقال: يحتمل مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ بِاسْتِثْنَائِهِ مَا خَالَفَ حُكْمَ أَصْلِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُهَا، وَيَكُونُ السَّبْقُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 مَقْصُورًا عَلَى الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْخَبَرُ، وَهِيَ الْخُفُّ وَالْخُفُّ الْإِبِلُ وَحْدَهَا، وَالْحَافِرُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَيْلُ وَحْدَهَا. وَالثَّانِي: الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَالنَّصْلُ وَهُوَ السِّهَامُ، وَيَكُونُ السَّبْقُ بِمَا عَدَاهَا مَحْظُورًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْمَعْنَيَيْنِ إنَّ النَّصْلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَصْلٌ، فَهَذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَثْنًى، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوْكِيدُ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ فَعَلَى هَذَا يُقَاسُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا كَمَا قِيسَ عَلَى السِّتَّةِ فِي الرِّبَا مَا وَافَقَ مَعْنَاهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَيُقَاسُ عَلَى الْخُفِّ السَّبْقُ بِالْفِيَلَةِ؛ لِأَنَّهَا ذَوَاتُ أَخْفَافٍ كَالْإِبِلِ، وَهِيَ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ أَنَكَأُ مِنَ الْإِبِلِ، وَهَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا السَّبْقُ بِالسُّفُنِ والطيارات وَالشَّدَّاتِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْبَحْرِ وَحَمْلِ ثُقْلِهِ، كَالْإِبِلِ فِي الْبَرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ سَبْقَهَا بِقُوَّةِ مَلَّاحِهَا دُونَ الْمُقَاتِلِ فِيهَا، فَأَمَّا السَّبْقُ بِالزَّوَارِقِ الْكِبَارِ وَالْمَرَاكِبِ الثِّقَالِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِمِثْلِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْحَافِرُ بِالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ نَصًّا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا نَقْلًا مِنِ اسْمِ الْحَافِرِ عَلَيْهَا، وَقِيَاسًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ كَالْخَيْلِ وَفِي مَعْنَاهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا السَّبْقُ بِالْأَقْدَامِ؟ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِالْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَبَقَ هُوَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى أَقْدَامِهِمَا؛ وَلِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ قِتَالِ الرَّجَّالَةِ كَالْخَيْلِ فِي قِتَالِ الْفُرْسَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ بِالْأَقْدَامِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ سَبْقٌ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ آلَةٍ فَأَشْبَهَ الطَّفْرَةَ وَالْوَثْبَةَ؛ وَلِأَنَّ السَّبْقَ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى مُعَاطَاتِهِ، وَالسَّعْيُ لَا يُسْتَفَادُ بِالتَّعْلِيمِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُسَابَقَةَ بِالْأَقْدَامِ لَا تَجُوزُ، فَالْمُسَابَقَةُ بِالسِّبَاحَةِ أَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ وَإِنْ قِيلَ: بِجَوَازِهَا عَلَى الْأَقْدَامِ، فَفِي جَوَازِهَا بِالسِّبَاحَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ كَالْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْآخِرَ فِي الْمَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِالسِّبَاحَةِ، وَإِنْ جَازَتْ بِالْأَقْدَامِ، لِأَنَّ الْمَاءَ مُؤَثِّرٌ فِي السَّبَّاحَةِ وَالْأَرْضَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي السعي. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 185 ومنها اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي السَّبْقِ بِالصِّرَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَائِزٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْأَبْطَحِ، فَرَأَى يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ يَرْعَى أَعْنُزًا لَهُ، فَقَالَ: يَزِيدُ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَارِعَنِي؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا تَسْتَبِقُ لِي؟ فَقَالَ: شَاةً، فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَزِيدُ: هَلْ لَكَ الْعَوْدُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا تَسْتَبِقُ لِي؟ فَقَالَ: شَاةً، فَصَارَعَهُ، فَصَرَعَهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَزِيدُ: يَا مُحَمَّدُ اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَمَا أحدٌ وَضَعَ جَنْبِي عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُكَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، وَرَّدَ عَلَيْهِ غَنَمَهُ " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ السَّبْقِ عَلَى الصِّرَاعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّبْقُ عَلَى الصِّرَاعِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ السَّبْقِ بِالْأَقْدَامِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: إِنَّ السَّبْقَ عَلَى الصِّرَاعِ لَا يَجُوزُ، فَالسَّبْقُ عَلَى الْمُشَابَكَةِ بِالْأَيْدِي لَا يَجُوزُ وَإِنْ قِيلَ: بِجَوَازِهِ فِي الصِّرَاعِ فَفِي جَوَازِهِ بِالْمُشَابَكَةِ وَجْهَانِ كَالسِّبَاحَةِ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا فِي السَّبْقِ بِالْحَمَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا بِالْهِدَايَةِ تُؤَدِّي أَخْبَارَ الْمُجَاهِدِينَ بِسُرْعَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسْعَى بِحَمَامَةٍ، فَقَالَ: " شيطانٌ مع شيطانةٍ ". فأما السبق بالكلام وَبِنِطَاحِ الْكِبَاشِ وَنُقَارِ الدِّيَكَةِ، فَهُوَ أَسْفَهُ، وَالسَّبْقُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا النَّصْلُ، وَهُوَ السِّهَامُ، فَقِيَاسُهُ كُلُّ سِلَاحٍ فَارَقَ يَدَ صَاحِبِهِ مِنَ الْحِرَابِ، وَمَقَالِيعِ الْأَحْجَارِ وَقَسِّ الْبُنْدُقِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فِيمَا لَا يُفَارِقُ يَدَ صَاحِبِهِ مِنَ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْأَعْمِدَةِ، هَلْ يَجُوزُ السَّبْقُ بِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْمُفَارِقِ لِيَدِهِ؛ لِأَنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مُحَارِبًا، لَا مُسَابِقًا. فَأَمَّا السَّبْقُ بِالْمَدَاحِي وَكُرَةِ الصَّوْلَجَانِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يكون بهما. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 186 فَأَمَّا الدَّحْوُ بِالْحَجَرِ الثَّقِيلِ أَوْ رَفْعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، لِاخْتِبَارِ الْقُوَّةِ، وَالِارْتِيَاضِ بِهَا، فَالسَّبْقُ عَلَيْهِ كَالسَّبْقِ عَلَى الصِّرَاعِ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يَجُوزُ السَّبْقُ بِهِ عَلَى الْأَعْوَاضِ الْمَبْذُولَةِ، فَلِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: التَّكَافُؤُ فِيمَا يَسْتَبِقَانِ عَلَيْهِ، وَفِيمَا يَتَكَافَآنِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ التَّكَافُؤَ بِالتَّجَانُسِ، فَيُسَابِقُ بَيْنَ فَرَسَيْنِ أَوْ بَغْلَيْنِ أَوْ حِمَارَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ، لِيُعْلَمَ بَعْدَ التَّجَانُسِ فَضْلُ السَّابِقِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُسَابَقَ بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ وَلَا بَيْنَ حِمَارٍ وَبَعِيرٍ؛ لِأَنَّ تُفَاضُلَ الْأَجْنَاسِ مَعْلُومٌ وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي الْبَغْلُ فِي شَوْطِ الْفَرَسِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (إن المذرع لا تغني ضؤولته ... كَالْبَغْلِ يَعْجِزُ عَنْ شَوْطِ الْمَحَاضِيرِ) لَكِنْ يَجُوزُ السَّبْقُ بَيْنَ عِتَاقِ الْخَيْلِ، وَهِجَانِهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا جِنْسٌ، وَالْعَتِيقُ فِي أَوَّلِ شَوْطَيْهِ أَحَدُّ وَفِي آخِرِهِ أَلْيَنُ، وَالْهَجِينُ فِي أَوَّلِ شَوْطَيْهِ أَلْيَنُ وَفِي آخِرِهَا أحدٌ فَرُبَّمَا صَارَا عِنْدَ الْغَايَةِ مُتَكَافِئَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّ التَّكَافُؤَ فِي الِاسْتِبَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالتَّجَانُسِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَبِقَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا، فَإِنْ جُوِّزَ ذَلِكَ بَيْنَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ أَوْ بَيْنَ بَعِيرٍ وَحِمَارٍ جَازَ السَّبْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَسْبِقُ الْآخَرَ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ لَمْ يَجُزِ السَّبْقُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ عُلِمَ ذَلِكَ بَيْنَ فَرَسَيْنِ عَتِيقٍ وَهَجِينٍ أَوْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ عَرَبِيٍّ وَبَخْتِيٍّ لم يجز السبق بينهما، وكذلك لو اتفقت الْفَرَسَانِ فِي الْجِنْسِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَيُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ واحد، ونجوزه بينهما، وهما من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَوَاهِرِ دُونَ التَّجَانُسِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الِاسْتِبَاقُ عَلَيْهَا مَرْكُوبَةً لِتَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا، بِتَدْبِيرِ رَاكِبِهَا، فَإِنْ شُرِطَ إِرْسَالُهَا لِتَجْرِيَ مُسَابَقَةً بِأَنْفُسِهَا لَمْ يَجُزْ، وَبَطَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تتنافر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 187 بِالْإِرْسَالِ وَلَا تَقِفُ عَلَى غَايَةِ السَّبْقِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الِاسْتِبَاقِ بِالطُّيُورِ إِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ الِاسْتِبَاقِ عَلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى قَصْدِ الْغَايَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَنَافَرُ فِي طَيَرَانِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى إِجْرَاءِ الْفَرَسَيْنِ حَتَّى يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ الْغَايَةِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُفْضِي ذَلِكَ لِإِجْرَائِهِمَا حَتَّى يَعْطَبَا. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الَّتِي يَمْتَدُّ شَرْطُهَا إِلَيْهَا يَحْتَمِلُهَا الْفَرَسَانِ، وَلَا يَنْقَطِعَانِ فِيهَا، فَإِنْ طَالَتْ عَنِ انْتِهَاءِ الْفَرَسَيْنِ إِلَيْهَا إِلَّا عَنِ انْقِطَاعٍ وَعَطَبٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، لِتَحْرِيمِ مَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهِ مَعْلُومًا، كَالْأُجُورِ وَالْأَثْمَانِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنَ جَازَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ، وَيَتَفَاضَلَا؛ لِأَنَّ الْبَاذِلَ لِلسَّبَقِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّسَاوِي فِي التَّفْضِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَاثَلَ جِنْسُ الْعِوَضَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الرَّمْيُ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنْ يكون الرامي مجانسة فَيَتَنَاضَلَانِ بِالنُّشَّابِ أَوْ بِالْحِرَابِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَنْضِلُ بِالنُّشَّابِ، وَالْآخِرُ بِالْحِرَابِ، لَمْ يَجُزْ لِتَنَافِيهِمَا، لَكِنْ يَجُوزُ أَحَدُهُمَا مُنَاضِلًا بِالنُّشَّابِ وَالْآخِرُ بِالنَّبْلِ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا سَهْمٌ يَخْرُجُ عَنْ قَوْسٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنَ مُقَارَبَةٌ فِي الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاضِلًا وَمَنْضُولًا، لِيُعْلَمَ بِالنِّضَالِ أَحْذَقُهُمَا، فَإِنْ تَفَاوَتَ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ سِهَامِهِ صَائِبَةٌ، وَالْآخِرُ أَكْثَرُ سِهَامِهِ خَاطِئَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَجُوزُ؛ وَيَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ حِذْقَهُ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ نِضَالٍ، فَصَارَ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ بِغَيْرِ نِضَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَيَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اسْتُحِقَّ بَعَثَ عَلَى مُعَاطَاةِ الْحِذْقِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَنَاضَلَا عَلَى جراح النفوس بالسهام والسلاح، وليكن قَصْدُهُمَا إِصَابَةُ غَيْرِ ذَاتِ الْأَرْوَاحِ، لِتَحْرِيمِ عَقْرِهَا، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ جِرَاحَةُ النُّفُوسِ بَطَلَ لِحَظْرِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا مِنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 188 وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يُحْفَظَ مِنْ دُخُولِ الْجَهَالَةِ فِي النِّضَالِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالْأَسْبَاقُ ثلاثةٌ سبقٌ يُعْطِيهِ الْوَالِي أَوْ غَيْرُ الْوَالِي مِنْ مَالِهِ وَذَلِكَ أَنْ يَسْبِقَ بَيْنَ الْخَيْلِ إِلَى غايةٍ فَيَجْعَلَ لِلسَّابِقِ شَيْئًا مَعْلُومًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ لِلْمُصَلِّي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ فَهَذَا حلالٌ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ لَيْسَتْ فِيهِ علةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السَّبْقُ، فَيُذْكَرُ تَارَةً بِتَسْكِينِ الْبَاءِ، وَتَارَةً بِفَتْحِهَا، وَهُوَ بِتَسْكِينِ الْبَاءِ فِعْلُ سَبَقَ مِنَ الْمُسَابَقَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْعِوَضُ الْمُخْرَجُ فِي الْمُسَابَقَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْأَسْبَاقُ ثَلَاثَةٌ " يُرِيدُ بِهِ الْعِوَضَ فِي الْأَسْبَاقِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخْرِجَهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُتَسَابِقَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَهُ أَحَدُهُمَا. فَأَمَّا السَّبَقُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ؛ وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ غَيْرُ الْمُتَسَابِقَيْنِ , فَيَجُوزُ سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ جَازَ , وَإِنْ أَخْرَجَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْجِهَادِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَئِمَّةِ , وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا فِيهِ مَعُونَةٌ عَلَى الْجِهَادِ جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُ الْأَئِمَّةِ , كَارْتِبَاطِ الْخَيْلِ وَإِعْدَادِ السِّلَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المسلمين لبناء المساجد والقناطر. فضل: فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهُ مِنْ كُلِّ بَاذِلٍ لَمْ يَخْلُ التَّبَدُّلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يختص به السابق وحدة دون غيره , كقول: إِذَا كَانَ الْمُتَسَابِقُونَ عَشَرَةً , فَقَدْ جَعَلْتُ لِلسَّابِقِ مِنْكُمْ عَشَرَةً , وَهَذَا جَائِزٌ , فَأَيُّهُمْ جَاءَ سابقاُ لجماعتهم استحق العشرة كلها , ولا شئ لِمَنْ بَعْدَهُ , وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي السَّبَقِ , فَلَوْ سَبَقَ اثْنَانِ مِنَ الْجَمَاعَةِ , فَجَاءَا معاُ , وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ , اشْتَرَكَ الِاثْنَانِ فِي الْعَشَرَةِ , لِتَسَاوِيهِمَا فِي السَّبَقِ , فَاسْتَوَيَا فِي الْأَخْذِ , وَلَوْ سَبَقَ خَمْسَةٌ اشْتَرَكُوا فِي الْأَخْذِ كَذَلِكَ , وَلَوْ سَبَقَ تِسْعَةٌ وَتَأَخَّرَ وَاحِدٌ اشْتَرَكُوا فِي الْعَشَرَةِ دُونَ المتأخر منهم , ولو جاؤوا مجيئاُ واحداُ لما يتأخر عنهم واحد منهم , فلا شئ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ سَابِقٌ , وَلَا مَسْبُوقٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 189 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبْذُلَهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ , وَلَا يَبْذُلَهُ لِجَمِيعِهِمْ، كَأَنَّهُ بَذَلَ لِلْأَوَّلِ عوضاُ وَلِلثَّانِي عوضاُ , وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ خَاصٌّ يُقَالُ لِلسَّابِقِ الْأَوَّلِ: الْمُجَلِّي , وَالثَّانِي: الْمُصَلِّي , وَالثَّالِثُ: التَّالِي , وَالرَّابِعُ: البارع , والخامس: المرتاح , والسادس: الحظي , وَالسَّابِعُ: الْعَاطِفُ , وَالثَّامِنُ: الْمُؤَمِّلُ , وَالتَّاسِعُ: اللَّطِيمُ , وَالْعَاشِرُ: السُّكِّيتُ , وَلَيْسَ لِمَا بَعْدَ الْعَاشِرِ اسْمٌ إِلَّا الَّذِي يَجِيءُ آخِرَ الْخَيْلِ , كُلِّهَا , يُقَالُ لَهُ: الْفُسْكُلُ , فَإِذَا بَذَلَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ , فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ , فَيَجْعَلَ لِلْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْمُجَلِّي عَشَرَةً , وَيَجْعَلَ لِلثَّانِي الَّذِي هُوَ الْمُصَلِّي تِسْعَةً , وَالثَّالِثَ الَّذِي هُوَ التَّالِي خَمْسَةً وَالرَّابِعَ الَّذِي هُوَ الْبَارِعُ أَرْبَعَةً , وَالْخَامِسَ الَّذِي هُوَ الْمُرْتَاحُ ثَلَاثَةً , وَلَا يَجْعَلُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شيئاُ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ الْمَسْبُوقِينَ وَنَاضَلَ بَيْنَ السَّابِقِينَ , فَحَصَلَ التَّحْرِيضُ فِي طَلَبِ التَّفَاضُلِ , وَخَشْيَةِ الْمَنْعِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُجْعَلَ لِلسَّابِقِ عَشَرَةٌ , وَلِلْمُصَلِّي خَمْسَةٌ , وَلَا يُجْعَلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شيئاُ , فيكون السابق خمسة والمصلي واحداً , فَيَقْسِمُ الْخَمْسَةَ السَّابِقِينَ بِالْعَشَرَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمَانِ , وَيَنْفَرِدُ الْوَاحِدُ الْمُصَلِّي بِالْخَمْسَةِ , وَإِنْ صَارَ بِهِمَا أَفْضَلَ مِنَ السَّابِقِينَ , لِأَنَّهُ أَخَذَ الزِّيَادَةَ لِتَفَرُّدِهِ بِدَرَجَتِهِ , وَلَمْ يَأْخُذْهَا لِتَفْضِيلِ أَصْلِ دَرَجَتِهِ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي دَرَجَتِهِ , فَيَقِلَّ سَهْمُهُ عَنْ سَهْمِ مَنْ بَعْدَهُ , ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا جَعَلَ لِلتَّالِي شَيْئًا ثَالِثًا , فَحَصَلَ مِنْ كُلِّ دَرَجَةٍ انْفِرَادٌ أَوِ اشْتِرَاكٌ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الْمُنْفَرِدُ بِسَبَقِ دَرَجَتِهِ، وَيَشْتَرِكَ الْمُشْتَرِكُونَ بِسَبَقِ دَرَجَتِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسَوِّي فِيهِمْ بَيْنَ سَابِقٍ وَمَسْبُوقٍ كَأَنَّهُ جَعَلَ لِلسَّابِقِ عَشَرَةً وَلِلْمُصَلِّي عَشَرَةً، وَفَاضَلَ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْخَمْسَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى التَّحْرِيضِ، أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ فَإِذَا تَسَاوَيَا فِيهِ بَطَلَ مَقْصُودُهُ فَلَمْ يَجُزْ وَكَانَ السَّبَقُ مِنْ حَقِّ الْمُصَلِّي الَّذِي سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَابِقِهِ بَاطِلًا وَلَمْ يَبْطُلْ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَفِي بُطْلَانِهِ فِي حَقِّ مَنْ عَدَاهُ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الَّذِي بَطَلَ السَّبَقُ فِي حَقِّهِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْبَاذِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ لِأَنَّ مَنْعَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ، لَا عَلَى الْبَاذِلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبَقُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ، بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يجوز أن يفضلوا به عن من سَبَقَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ إنَّ لَهُ عَلَى الْبَاذِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، لأن من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 190 اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَقْدَيِ الْإِجَارَةِ وَالْجُعَالَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبَقُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ صَحِيحًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ مَنْ بَطَلَ السَّبَقُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مُسْتَحَقٌّ بِغَيْرِهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا جُعِلَ لِلْأَوَّلِ عَشَرَةٌ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِلثَّانِي شَيْئًا، وَجُعِلَ لِلثَّالِثِ خَمْسَةٌ وَلِلرَّابِعِ ثَلَاثَةٌ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا، فَالثَّانِي خَارِجٌ مِنَ السَّبَقِ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْبَدَلِ وَمِنْ قِيَامِ مَنْ بَعْدَهُ مَقَامَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومُ الثَّالِثُ مَقَامَ الثَّانِي، وَيَقُومُ الرَّابِعُ مَقَامَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وُجُودُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّبْقِ كَعَدَمِهِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ السَّبْقُ فِيهَا، بِالْمُسَمَّى لَهُمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى التَّسْمِيَةِ وَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الثَّانِي مِنْهُمْ بِالْحُكْمِ مُخْرِجًا لَهُ مِنَ الثَّالِثِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّبْقُ فِيهَا بَاطِلًا، لِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّابِقِ لَهُمَا، وَهَلْ يَكُونُ لَهُمَا أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبْذَلَ الْعِوَضُ لِجَمَاعَتِهِمْ، وَلَا يُخَلَّى آخِرُهُمْ مِنْ عِوَضٍ، فَيُنْظَرَ، فَإِنْ سَوَّى فِيهِمْ بَيْنَ سَابِقٍ وَمَسْبُوقٍ كَانَ السَّبَقُ بَاطِلًا، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمَسْبُوقِ، وَفَضَّلَ كُلَّ سَابِقٍ عَلَى كُلِّ مَسْبُوقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ مُسْتَأْخِرَهُمْ أَقَلَّهُمْ سَهْمًا، فَفِي السَّبَقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ اعْتِبَارًا بِالتَّفَاضُلِ فِي السَّبَقِ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سُمِّيَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السَّبَقَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ تكافؤوا فِي الْأَخْذِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي حَقِّ الْآخَرِ وَحْدَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ وحده؛ لأن بِالتَّسْمِيَةِ لَهُ فَسَدَ السَّبَقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا فِي حُقُوقِ جَمَاعَتِهِمْ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْعَقْدِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَهَذَا حُكْمُ السَّبَقِ الْأَوَّلِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَالثَّانِي يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلَيْنِ يُرِيدَانِ أن يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل واحدٍ منهما أن يسبق صاحبه ويخرجان سبقين فلا يجوز إلا بالمحلل وهو أن يجعل بينهما فرساً ولا يجوز حتى يكون فرساً كفؤاً للفرسين لا يأمنان أن يسبقهما ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 191 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ السَّبْقُ الثَّانِي مِنَ الْأَسْبَاقِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ: أَنْ يَسْتَبِقَ الرَّجُلَانِ، وَيُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَقًا مِنْ مَالِهِ يَأْخُذُهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، حَتَّى يُوَكِّلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا، لَا يُخْرِجُ شَيْئًا، وَيَأْخُذُ إِنْ سَبَقَ وَلَا يُعْطَى إِنْ سُبِقَ لِنَصٍّ وَمَعْنًى. أَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِمَارُ ". وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَهُوَ أَنَّ إِبَاحَةَ السَّبَقِ مُعْتَبِرَةٌ، بِمَا خَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْقِمَارِ هُوَ الَّذِي لَا يَخْلُو الدَّاخِلُ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَانِمًا إِنْ أَخَذَ أَوْ غَارِمًا إِنْ أَعْطَى، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا، فَكَانَ قِمَارًا، وَإِذَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ يأخذان سَبَقَ وَلَا يُعْطَى إِنْ سُبِقَ خَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْقِمَارِ فَحَلَّ. وَهَذَا الدَّاخِلُ يُسَمَّى مُحَلِّلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ بِهِ، فَصَارَ حَلَالًا وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ السَّبَقِ، مَيْسِرًا، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ كُفُؤًا لِفَرَسَيْهِمَا، أو أكفأ منهما، لا يَأْمَنَانِ أَنْ يَسْبِقَهُمَا، فَإِنْ كَانَ فَرَسُهُ أَدْوَنَ مِنْ فَرَسَيْهِمَا، وَهُمَا يَأْمَنَانِ أَنْ يَسْبِقَهُمَا لَمْ يَصِحَّ لِلنَّصِّ، وَلِأَنَّ دُخُولَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ مِنْ أَخْذِ السَّبَقِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ غَيْرَ مُخْرِجٍ لِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنْ أَخْرَجَ شَيْئًا خَرَجَ عن حكم المحلل، مصار فِي حُكْمِ الْمُسْتَبِقِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَ إِنْ سَبَقَ، فَإِنْ شُرِطَ أَنْ لَا يَأْخُذَ لَمْ يَصِحَّ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْعَقْدِ، لِدُخُولِهِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ فُرْسِ الْمُسْتَبِقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنِ بَطَلَ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِالْمُحَلِّلِ عَلَى اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُحَلِّلَ دَخَلَ لِيُحَلِّلَ الْعَقْدَ وَيُحَلِّلَ الْأَخْذَ، فَيَأْخُذَ إِنْ سَبَقَ، وَيُؤْخَذَ بِهِ إِنْ سُبِقَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِنَّ الْمُحَلِّلَ دَخَلَ لِتَحَلُّلِ الْعَقْدُ وَيَأْخُذُ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ التَّحْرِيضَ الْمَقْصُودَ بِاسْتِفْرَاهِ الْخَيْلِ، وَمُعَاطَاةِ الْفُرُوسِيَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالسَّبَقِ شَيْءٌ فَيَصِيرُ مَانِعًا مِنَ السَّبَقِ، وَإِذَا أُخِذَ بِهِ صَارَ بَاعِثًا عَلَيْهِ وَهَذَا يَتَّضِحُ فِي التَّفْرِيعِ الَّذِي نَذْكُرُهُ من بعد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 192 (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُخْرِجُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ يَتَوَاضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ رجلٍ يَثِقَانِ بِهِ أَوْ يَضْمَنَانِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا مَعَ دُخُولِ الْمُحَلِّلِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ وَهُوَ السَّبَقُ الَّذِي بَذَلَاهُ مَعْلُومًا إِمَّا مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْأَعْوَاضَ فِي الْعُقُودِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعْلُومَةً. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ أَوْ تَفَاضَلَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَسَاوَيَا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي بَذْلِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَرَسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا، فَإِنْ أُبْهِمَ وَلَمْ يُعَيَّنْ بَطَلَ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَدَى سَبْقِهِمَا مَعْلُومًا، وَالْعِلْمُ له أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِتَعْيِينِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَمَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ دُونَ الْمَسَافَةِ كَالْإِجَارَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِمَّا لِمَسَافَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا مَذْرُوعَةٍ بِذِرَاعٍ مَشْهُورٍ كَالْإِجَارَةِ الْمَضْمُونَةِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ ذَرَعَا تِلْكَ الْمَسَافَةَ حَتَّى يُعْرَفَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا، فَإِنْ أَغْفَلَا ذِكْرَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي عَقَدَا فِيهَا السَّبْقَ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْخَيْلِ فِيهَا: فَهِيَ أَخَصُّ الْمَوَاضِعِ بِالسَّبْقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْرَاءُ الْخَيْلِ فِيهَا لِحُزُونَتِهَا وَأَحْجَارِهَا فَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهَا مِنَ الْأَرْضِ السَّهْلَةِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى شُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا، وَفِي الْمُحَلِّلِ الدَّاخِلِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي حَالِ السَّبْقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهِ فِي أَيْدِيهِمَا وَيَثِقُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ مَالِ السَّبَقِ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مَسْبُوقًا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَمِينٍ قَدْ تَرَاضَيَا بِهِ، فَيُؤْخَذُ مَالُ السَّبَقِ مِنْهُمَا وَيُوضَعُ عَلَى يَدِهِ، وَيَعْزِلُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَلَا يَخْلِطُهُ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَمَالُ الْمَسْبُوقِ، فَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُ السَّبَقَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمِينِ أجرةٌ عَلَى السَّابِقِ، وَلَا عَلَى الْمَسْبُوقِ إِلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ أُجْرَةٌ فِي عُرْفِ الْمُتَسَابِقَيْنِ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنِ اسْتَعْمَلَ خَيَّاطًا أَوْ قَصَّارًا، فَعَمِلَا بِغَيْرِ شَرْطٍ هَلْ يَسْتَحِقُّ مِثْلَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْأَمِينَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ إِذَا حُكِمَ لِلصَّانِعِ بِالْأُجْرَةِ، وَتَكُونُ عَلَى الْمُسْتَبِقَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا السابق منهما، لأنهما أُجُرَةٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالَيْنِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 193 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَإِنْ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ إِذَا لَمْ يُحْكَمَ لِلصَّانِعِ بالأجرة. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَاخْتِلَافُهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي اخْتِيَارِ الْأَمِينِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ أَيْدِيهِمَا، فَيَخْتَارُ الْحَاكِمُ لَهُمَا أَمِينًا يَقْطَعُ بِهِ تَنَازُعَهُمَا، وَهَلْ يَكُونُ إِجْبَارُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ تَنَازَعَا فِيهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى الْعُمُومِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمِينَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِمَا، لِانْصِرَافِ الْمُتَسَابِقَيْنِ عَنِ اخْتِيَارِ غَيْرِهِمَا. - وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي اخْتِيَارِ مَنْ رَآهُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَنَاءِ، لِأَنَّ تَنَازُعَهُمَا قَدْ رَفَعَ حُكْمَ اخْتِيَارِهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ أَيْدِيهِمَا، فَيَقُولَ أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي يَدِهِ. وَيَقُولَ الْآخَرُ: بَلْ يَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ أَمِينَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يُعْتَبَرُ مَالُ السَّبَقِ فَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى إِقْرَارِهِ مَعَهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الذِّمَّةِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى وَضْعِهِ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِتَعْيِينِ الْحَقِّ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إليه من غيره. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيَجْرِي بَيْنَهُمَا الْمُحَلِّلِ فَإِنْ سَبَقَهُمَا كَانَ السَّبَقَانِ لَهُ وَإِنْ سَبَقَ أَحَدَهُمَا الْمُحَلِّلُ أَحْرَزَ السَّابِقُ مَالَهُ وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ وَإِنْ أَتَيَا مُسْتَوِيَيْنِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا ". قَالَ الماوردي: وهذه صَحِيحٌ: يَجِبُ أَنْ يُجْرِيَ الْمُحَلِّلُ فَرَسَهُ بَيْنَ فَرَسِ الْمُتَسَابِقَيْنِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بَيْنَهُمَا لِلتَّحْلِيلِ دَخَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَرْيِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمَا بِإِخْرَاجِ السَّبَقِ مُتَنَافِرَانِ فَدَخَلَ بَيْنَهُمَا لِيَقْطَعَ تَنَافُرَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَوَسَّطْهُمَا، وَعَدَلَ إِلَى يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ جَازَ وَإِنْ أَسَاءَ إِذَا تَرَاضَيَا بِهِ الْمُسْتَبِقَانِ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا إِلَّا بِأَنْ يجري فرسه بينهما منع من العدول عن تَوَسُّطِهِمَا إِلَى يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ، لِأَنَّهُ تبعٌ لهما، فَكَانَ أَمْرُهُمَا عَلَيْهِ أَمْضَى، فَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِعُدُولِهِ عَنِ التَّوَسُّطِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى التَّوَسُّطِ دُونَ الِانْحِرَافِ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ بَيْنَهُمَا وَأَمْنَعُ مِنْ تَنَافُرِهِمَا، فَإِنْ رَضِيَا بِانْحِرَافِهِ عَنِ التَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا، وَدَعَا أَحَدَهُمَا إِلَى أَنْ يَكُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 194 مُتَيَامِنًا، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مُتَيَاسِرًا لَمْ يُعْمَلْ عَلَى قَوْلِ واحدٍ مِنْهُمَا، وَجُعِلَ وَسَطًا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ الْعَدْلُ الْمَقْصُودُ وَالْعُرْفُ الْمَعْهُودُ، وَهَذَا حُكْمُ مَوْضِعِ الْمُحَلِّلِ. فَأَمَّا الْمُسْتَبِقَانِ فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُتَيَامِنِ مِنْهُمَا وَالْمُتَيَاسِرِ حُمِلَا عَلَى اتِّفَاقِهِمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ يقُرِعَ بَيْنَهُمَا وَأُوقِفَ كل واحدٍ منهما في وضع قرعته مع يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا مَعَ الْمُحَلِّلِ فِي الْجَرْيِ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّبْقُ، وَهُوَ غَايَةُ الْمَدَى قَصَبٌ قَدْ غُرِزَتْ فِي الْأَرْضِ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ قَصَبَ السَّبْقِ، لِيَحُوزَهَا السَّابِقُ مِنْهُمْ، فَيَقْلَعَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بِسَبْقِهِ الدَّانِي وَالْقَاصِي، فَيَسْقُطَ بِهِ الِاخْتِلَافُ، وَرُبَّمَا كَرَّ بِهَا رَاجِعًا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْمَسْبُوقِينَ إِذَا كَانَ مُفَضَّلًا فِي السَّبْقِ مُتَبَاهِيًا فِي الْفُرُوسِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُتَسَابِقِينَ وَالْمُحَلِّلِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى الْغَايَةِ عَلَى سَوَاءٍ لَا يَتَقَدَّمُهُمْ أَحَدُهُمْ: فَلَيْسَ فيهم سابق ولا مسبوق، فيجوز كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَسَابِقِينَ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لم يسبق. والحالة الثَّانِيةُ: أَنْ يَسْبِقَ الْمُخْرِجَانِ، فَيَصِلَا مَعًا عَلَى سواء، ويتأخر المحلل عنهما، فيجوز كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ سَبَقَ نَفْسِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَقِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ، لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ. والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْبِقَ الْمُحَلِّلُ، وَيَأْتِيَ الْمُخْرِجَانِ بِهِ بَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ أَوْ تَفَاضُلٍ، فَيَسْتَحِقَّ الْمُحَلِّلُ سَبَقَيِ الْمُخْرِجَيْنِ لِسَبْقِهِ لَهُمَا. وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثُ ليس يختلف فيها المذهب. والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ثُمَّ يَأْتِيَ بعده المحلل والمخرج الآخر على سواء، فيجوز السَّابِقُ سَبَقَ نَفْسِهِ، فَأَمَّا سَبْقُ الْمَسْبُوقِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ لِلسَّابِقِ الْمُخْرِجِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُحَلِّلِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِتَحْلِيلِ الْأَخْذِ بِهِ، فَيَأْخُذُ إِنْ كَانَ سَابِقًا، وَيُؤْخَذُ بِهِ إِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، وَقَدْ حَصَلَ السَّبَقُ لِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِأَخْذِهِ، فَيَكُونَ جَمِيعُهُ لِلْمُخْرِجِ السَّابِقِ. وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنْ دخول المحلل ليأخذ ولا يؤخذ به، يكون سِبَقُ الْمُتَأَخِّرِ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، لَا يَسْتَحِقُّهُ السَّابِقُ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ لِأَنَّهُ يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحَلِّلُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَسْبِقَ الْمُحَلِّلُ وَأَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ على سواء، يجوز السَّابِقُ مِنَ الْمُخْرِجَيْنِ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَالُ الْمُخْرِجِ الْمَسْبُوقِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 195 الْمُخْرِجِ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّلِ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ يكون جميعه للمحلل دون المخرج السابق. والحالة السَّادِسَةُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ثُمَّ الْمُحَلِّلُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْمُخْرِجُ الْآخَرُ بَعْدَ الْمُحَلِّلِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مَالُ الْمَسْبُوقِ لِلْمُخْرِجِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ لِلْمُحَلِّلِ دُونَ السابق. والحالة السابعة: يَسْبِقُ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْمُخْرِجُ الثَّانِي، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْمُحَلِّلُ: فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: يَسْتَحِقُّ السَّابِقُ مَالَ الْمَسْبُوقِ، وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ خَيْرَانِ لَا يَسْتَحِقُّهُ السَّابِقُ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحَلِّلُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ، وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى الْمَسْبُوقِ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي اعتبار المذهبين. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالسَّبْقُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَقَلُّ السَّبْقِ أَنْ يَسْبِقَ بِالْهَادِي أَوْ بَعْضِهِ أَوْ بِالْكَتَدِ أَوْ بَعْضِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالسَّبْقُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِأَقْدَامٍ مَشْرُوطَةٍ كَاشْتِرَاطِهِمَا السَّبْقَ بِعَشَرَةِ أَقْدَامٍ، وَلَا يَتِمُّ السَّبَقُ إِلَّا بِهَا، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِتِسْعَةِ أَقْدَامٍ لَمْ يَكُنْ سَابِقًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا فِي الْعَمَلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيَكُونُ سَابِقًا بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " أَوَّلُ السَّبْقُ أَنْ يَسْبِقَ بِالْهَادِي أَوْ بَعْضِهِ أَوْ كَالْكَتَدِ أَوْ بَعْضِهِ ". فَأَمَّا الْهَادِي فَهُوَ الْعُنُقُ، وَأَمَّا الْكَتَدُ يُقَالُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْكَتِفُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقُ وَالظَّهْرِ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ فِي مَوْضِعِ السَّنَامِ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ أَقَلَّ السَّبْقِ بِالْهَادِي وَالْكَتَدِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَقَلُّ السَّبْقِ بِالرَّأْسِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَقَلُّ السَّبَقِ بِالْأُذُنِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَفَرَسَيْ رهانٍ كَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْبِقَ الْآخَرَ بِأُذُنِهِ ". وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخَبَرِ ضَرْبُ الْمَثَلِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ لِسَبْقِ الرِّهَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " وَإِنْ كَانَ بَيْتٌ لَا يُبْنَى كَمِفْحَصِ الْقَطَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ بِالْأُذُنِ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَلَا بِالرَّأْسِ كَمَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، لِأَنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَا يُزْجِى أُذُنَهُ، وَرَأْسَهُ، فَيَطُولُ وَمِنْهَا مَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 196 يَرْفَعُهُ، فَتَقْصُرُ فَلَمْ يَدُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى التَّقْدِيمِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْهَادِي وَالْكَتَدِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ السَّبْقُ بِأَيْدِيهِمَا، فَأَيُّهُمَا تَقَدَّمَتْ يَدَاهُ وَهُوَ السَّابِقُ كَانَ عِنْدِي أَصَحُّ، لِأَنَّ السَّعْيَ بِهِمَا وَالْجَرْيَ عَلَيْهِمَا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَهُ بِالْهَادِي وَالْكَتَدِ. فَأَمَّا السَّبْقُ بِالْكَتَدِ فَمُتَحَقِّقٌ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْفَرَسَانِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ تَفَاضَلَا. وَأَمَّا السَّبْقُ بِالْهَادِي، وَهُوَ الْعُنُقُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْفَرَسَيْنِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ أَوْ يَتَفَاضَلَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي طُولِهِ أَوْ قِصَرِهِ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ بِالْعُنُقِ كَانَ سَابِقًا، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي طُولِهِ أَوْ قِصَرِهِ، فَإِنْ سَبَقَ بِالْعُنُقِ أَقْصَرُهُمَا عُنُقًا كَانَ سَابِقًا، وَإِنْ سَبَقَ بِالْعُنُقِ أَطْوَلُهُمَا عُنُقًا لَمْ يَكُنْ سَابِقًا إِلَّا أَنْ يَنْضَافَ لِسَبْقٍ بِكَتَدِهِ، لِأَنَّهُ سَبَقَهُ بِعُنُقِهِ إِنَّمَا كَانَ لِطُولِهِ لَا لِزِيَادَةِ جَرْيِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كان السبق بالكتد صحيحاً م اخْتِلَافِ الْخِلْقَةِ، فَلِمَ اعْتُبِرَ بِالْعُنُقِ الَّذِي يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ الْخِلْقَةِ. قِيلَ: لِأَنَّ السَّبْقَ بِالْكَتَدِ يَتَحَقَّقُ لِلْقَرِيبِ دُونَ الْبَعِيدِ، وَالسَّبْقُ بِالْعُنُقِ يُشَاهِدُهُ، وَيَتَحَقَّقُهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَرُبَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ شُهُودُ السَّبْقِ فَشَهِدُوا بِهِ لِلسَّابِقِ شُهُودًا يُسْتَوْقَفُونَ عِنْدَ الْغَايَةِ لِيَشْهَدُوا لِلسَّابِقِ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فلو سبق أحدهما عند الغاية بهادي أَوْ كَتَدِهِ ثُمَّ جَرَيَا بَعْدَ الْغَايَةِ، فَتَقَدَّمَ المسبوق بعدها على السابق بهاديه أَوْ كَتَدِهِ كَانَ السَّبْقُ لِمَنْ سَبَقَ عِنْدَ الْغَايَةِ دُونَ مَنْ سَبَقَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُ الْغَايَةَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَهَكَذَا لَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْغَايَةِ ثُمَّ سَبَقَ الْآخَرُ عِنْدَ الْغَايَةِ كَانَ السَّبْقُ لِمَنْ سَبَقَ عِنْدَ الْغَايَةِ دُونَ مَنْ سَبَقَ قَبْلَهَا لِاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ عَلَى السَّبْقِ إِلَيْهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وسواءٌ لَوْ كَانُوا مِائَةً وَأَدْخَلُوا بَيْنَهُمْ مُحَلِّلًا فَكَذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمُتَسَابِقِينَ لَا يُوجِبُ كَثْرَةَ الْمُحَلِّلِينَ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُحَلِّلِ لِيَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي حَتَّى يَصِيرَ خَارِجًا مِنْ ذِكْرِ الْقِمَارِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي دُخُولِ الْوَاحِدِ بَيْنَ مِائَةِ مُتَسَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكْثُرَ الْمُحَلِّلُونَ إِذَا كَثُرَ الْمُتَسَابِقُونَ، لِيَكُونَ مِنَ الْقِمَارِ أَبْعَدَ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْقِمَارِ بِالْوَاحِدِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ مُحَلِّلَانِ فَأَكْثَرُ كَانَ جَائِزًا وَإِنْ عُقِدَ السَّبَقُ بِالْمُحَلِّلِ عَلَى شرطٍ فاسدٍ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْمُسَمَّى فِيهِ ثُمَّ سَبَقَ أَحَدُهُمَا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُحَلِّلُ، اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ عَلَى الْمُتَسَابِقَيْنِ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَسْتَوِي فِي الْتِزَامِهَا مَنْ تَقْدَمُ مِنْهُمَا، وَمَنْ تَأَخَّرَ وَيَسْتَحِقُّهَا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ مَعَهُمَا كَالْأَجِيرِ وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُخْرِجَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُحَلِّلِ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ السَّابِقُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الوجهين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 197 (مسألة:) قال الشافعي: " وَالثَّالِثُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِنْ سَبَقَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَ السَّبَقَ وَإِنْ سَبَقَ صَاحِبُهُ أَحْرَزَ سَبَقَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ السَّبْقُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَسْبَاقِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَبِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا مَالَ السَّبَقِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ سَبَقَ مُخْرِجُ الْمَالِ أَحْرَزَ مَالَ نَفْسِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُ الْمُخْرِجِ أَخَذَ مَالَ الْمُخْرِجِ، وَهَذَا سَبْقٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنْهُمَا مُحَلِّلًا، فَصَارَ بِهِ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْقِمَارِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَأَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ، مِنْهُمْ، اثْنَانِ أَوْ عَشَرَةٌ، فَأَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ مِنْهُمْ تسعةٌ صَحَّ وَكَانَ غَيْرُ الْمُخْرِجِ كَالْمُحَلِّلِ. فَإِنْ تَسَابَقَ الرَّجُلَانِ يُخْرِجُ أَحَدُهُمَا الْمَالَ دُونَ الْآخَرِ عَلَى شرطٍ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ سَبَقَ أَحَدُهُمَا نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ السَّابِقُ مُخْرِجَ الْمَالِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَسْبُوقِ لِدُخُولِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِنْ سَبَقَ غير المخرج نفس استحقاقه أجرة مثله على المسبوق المخرج وجهان مضيا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ السَّبْقُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الَّتِي يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَيَنْتَهِيَانَ إِلَيْهَا وَاحِدَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّبْقِ مِنْ مَسَافَةِ السِّبَاقِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ السَّبْقِ مَعْلُومَةَ الِانْتِهَاءِ فَيَشْتَرِطَانِ، الْجَرْيَ مِنِ ابتداءٍ مَعْلُومٍ إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ، لأنه من عقود المعاوضات المحروسة بالابتداء من الجهالة، فإن استسقا عَلَى غَيْرِ غَايَةٍ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ كَانَ سَابِقًا مِنْ قَرِيبِ الْمَدَى وَبِعِيدِهِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَنْ يَشْتَدُّ جَرْيُهُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَضْعُفُ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ عِتَاقُهَا، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَشْتَدُّ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ هِجَانُهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ السَّابِقُ مِنْهُمَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَدَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُفْضِيَ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِلَى إِجْرَاءِ الْخَيْلِ حَتَّى تَنْقَطِعَ، وَتَهْلِكَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ فَمُنِعَ مِنْهُ، فأما الرمي إذا عقد بين المترامين على أن أَيَّهُمَا أَبْعَدُ سَهْمًا، فَهُوَ فَاضِلٌ فَفِي صِحَّتِهِ وجهان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 198 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَالسَّبْقِ بِالْخَيْلِ حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى عَدَدِ الْإِصَابَةِ دُونَ بُعْدِ الْمَدَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ أَنْ يُعْقَدَ عَلَى بُعْدِ المدى كما يصح أن يعقد على عَدَدُ الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْ بُعْدِ الْمَدَى، وَمِنَ الْإِصَابَةِ مُؤَثِّرٌ فِي الْعَقْدِ، فَصَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الْإِفْرَاهُ الْخَيْلَ بِالسَّبْقِ إِلَى غَايَةٍ فَافْتَرَقَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ الْمَشْرُوطَةُ مُسَمَّاةً يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ شَوْطُ الْفَرَسِ إِلَيْهَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ فِي الْعُرْفِ، فَإِنْ زَادَتْ حَتَّى لَا يَنْتَهِيَ شَوْطُهُ إِلَيْهَا إِلَّا مُنْقَطِعًا لَمْ تَجُزْ لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِمَا وَأَنَّ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهَا مُمْتَنِعٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةُ السَّبْقِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا هِجَانُ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ دُونَ عِتَاقِهَا الضَّعِيفَةِ جَازَ الِاسْتِبَاقُ إِلَيْهَا بِالْهِجَانِ دُونَ الْعِتَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَسَافَةً يَنْتَهِي إِلَيْهَا شَوْطُ الْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ جَازَ الِاسْتِبَاقُ إِلَيْهَا بِالْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي ابْتِدَاءِ الْجَرْيِ وَانْتِهَائِهِ لِيَكُونَا فِي الْغَايَةِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَلَّ فَسَدَ السَّبْقُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّبْقِ الْعِلْمُ بِأَفْرَهِ الْفَرَسَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مَعَ التَّفْضِيلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. (فَصْلٌ:) وَإِذَا عَثَرَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ أَوْ سَاخَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْأَرْضِ، فسَبْقِ الْآخَرِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِالسَّبْقِ، لِأَنَّ الْعَثْرَةَ أَخَّرَتْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَاثِرُ هُوَ السَّابِقَ احْتُسِبَ سَبْقُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا سَبَقَ مَعَ الْعَثْرَةِ كَانَ بَعْدَهَا أَسْبَقَ، وَلَوْ وَقَفَ أَحَدُ الْفَرَسَيْنِ بَعْدَ الْجَرْيِ حَتَّى وَصَلَ الْآخَرُ إِلَى غَايَتِهِ كَانَ مَسْبُوقًا إِنْ وَقَفَ لِغَيْرِ مَرَضٍ، وَلَا يَكُونُ مَسْبُوقًا إِنْ وَقَفَ لِمَرَضٍ فَأَمَّا إِنْ وَقَفَ قَبْلَ الْجَرْيِ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا سَوَاءٌ وَقَفَ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِ مَرَضٍ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الجري مشارك - والله أعلم -. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالنِّضَالُ فِيمَا بَيْنَ الرُّمَاةِ كَذَلِكَ فِي السَّبْقِ وَالْعِلَلِ يَجُوزُ فِي كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ ثُمَّ يَتَفَرَّعَانِ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ عِلَلُهُمَا اخْتَلَفَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السِّبَاقُ فَاسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالرَّمْيِ مَجَازًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ خَاصٌّ: فَتَخْتَصُّ الْخَيْلُ بِالرِّهَانِ، وَيَخْتَصُّ الرَّمْيُ بِالنِّضَالِ. - فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: سَبَّقَ فُلَانٌ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ فَمِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يُسَمَّى بِهِ مَنْ أَخْرَجَ مَالَ السَّبَقِ، وَيُسَمَّى بِهِ مَنْ أَحْرَزَ مَالَ السَّبَقِ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُ السِّبَاقِ بِالْخَيْلِ. - فَأَمَّا السِّبَاقُ بِالنِّضَالِ فَهُمَا مِنَ الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وقد تقدم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 199 الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا كَلَامًا اشْتَمَلَ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: " وَالنِّضَالُ فِيمَا بَيْنَ الرُّمَاةِ كَذَلِكَ فِي السَّبْقِ وَالْعِلَلِ " يُرِيدُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْرَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: جَوَازُ النِّضَالِ بِالرَّمْيِ كَجَوَازِ السِّبَاقِ بِالْخَيْلِ. وَالثَّانِي: اشْتِرَاكُهُمَا فِي التَّعْلِيلِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) . وَالْفَصْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: " يَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ " يُرِيدُ بِهَذَا أَنَّ الْأَسْبَاقَ فِي النِّضَالِ ثَلَاثَةٌ كَمَا كَانَتِ الْأَسْبَاقُ فِي الْخَيْلِ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: أَنْ يُخْرِجَ الْوَالِي مَالَ السَّبَقِ فَيَجُوزَ كَجَوَازِهِ فِي الْخَيْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُتَنَاضِلَانِ، فَلَا يَجُوزَ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ يَكُونُ رَمْيُهُ كَرَمْيِهِمَا أَوْ أَرَمَى مِنْهُمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ إِلَّا مُحَلِّلٌ يَكُونُ فَرَسُهُ كُفُؤًا لِفَرَسَيْهِمَا أَوْ أَكْفَأَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَهُ أَحَدُ الْمُتنَاضِلَيْنِ، فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ إِذَا أَخْرَجَهُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ. وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: " ثُمَّ يَتَفَرَّعَانِ " يُرِيدُ بِهِ أَمْرَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ الْفَرَسُ وَالرَّاكِبُ تَبَعٌ، وَالْأَصْلَ فِي النِّضَالِ الرَّامِي، وَالْآلَةُ تَبَعٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ فَرَاهَةُ الْفَرَسِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُبْدِلَهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ وَيَجُوزُ أَنْ يُبْدِلَ الرَّاكِبَ بِغَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ فِي النِّضَالِ حِذْقُ الرَّامِي، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ آلَتَهُ بِغَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي النِّضَالِ مِنْ تَفْرِيعِ الْمَرْمَى بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا لَا يَتَفَرَّعُ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ. وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ عِلَلُهُمَا اخْتَلَفَا " يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي سِبَاقِ الْخَيْلِ الْفَرَسَ دُونَ الرَّاكِبِ لَزِمَ تَعْيِينُ الْفَرَسِ، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ، وَمَتَى مَاتَ الْفَرَسُ بَطَلَ السَّبْقُ وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الرَّاكِبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْعَاقِدُ، وَفِي بُطْلَانِهِ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ كَالْإِجَارَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 200 وَالثَّانِي: يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ كَالْجِعَالَةِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي النِّضَالِ الرَّامِي دُونَ الْآلَةِ لَزِمَ تَعْيِينُ الرَّامِي، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْآلَةِ، وَبَطَلَ النِّضَالُ إِذَا مَاتَ الرَّامِي، وَلَمْ يَبْطُلْ إِذَا انْكَسَرَ الْقَوْسُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا كما اختلفت عللهما. (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَجَعَلَا بَيْنَهُمَا قَرَعًا مَعْلُومًا فجائزٌ أَنْ يَشْتَرِطَا مُحَاطَّةً أَوْ مُبَادَرَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الرَّامِي مُعْتَبَرٌ بعشرة شروط: أحدها: أن يكون الراميين مُتَعَيِّنَيْنِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا وَالْمَقْصُودَ بِهِ حِذْقُهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَا بَطَلَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ وُصِفَا أو لو يُوصَفَا كَمَا لَوْ أُطْلِقَ فِي السَّبَقِ الْفَرَسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنَا كَانَ بَاطِلًا، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْآلَةِ، وَلِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْمِيَ عَنْ أَيِّ قَوْسٍ شَاءَ وَبِأَيِّ سَهْمٍ أَحَبَّ، فَإِنْ عُيِّنَتِ الْآلَةُ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَبَطَلَتْ فِي التَّعْيِينِ، فإِنْ قِيلَ: فَيَرْمِي عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْسَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ جَازَ لَهُمَا الرَّمْيُ عَنْهُمَا، وَبِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَنْ لَا يَرْمِيَ عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْسَيْنِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صِفَةٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي شَرْطٌ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرَّمْيِ مَعْلُومًا، لِأَنَّ الْعَمَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ غَايَةُ رَمْيِهِمَا فِيهِ مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ، وَيُسَمَّى الرَّشْقَ: يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا، فَالرَّشْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ هُوَ الرَّمْيُ، وَالرِّشْقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَدَدُ الرَّمْيِ، وَعُرْفُ الرُّمَاةِ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ فَإِنْ عُقِدَ لَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ جَازَ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْإِصَابَةِ مِنَ الرَّشْقِ مَعْلُومًا لِيُعْرَفَ بِهِ النَّاضِلُ مِنَ الْمَنْضُولِ، وَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْإِصَابَةُ، فَأُنْقِصَ مِنْ عَدَدِ الرَّشْقِ الْمَشْرُوطِ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ لِيَكُونَ مُتَلَافِيًا لِلْخَطَأِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ الْمُتَنَاضِلَانِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَحْذَقَ الرُّمَاةِ فِي الْعُرْفِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَمَانِيَةً، فَإِنْ شُرِطَ إِصَابَةُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ بَطَلَ، لِتَعَذُّرِهِ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِنْ شُرِطَا إِصَابَةُ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ جَازَ، فَإِنْ شُرِطَا إِصَابَةُ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ سَهْمِ الْخَطَأِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إِصَابَتَهُ نَادِرَةٌ. فَأَمَّا أَقَلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِصَابَةِ فَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ الْقَاصْدُ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: " فَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنَّ الرَّشْقَ عَشَرَةٌ وَالْإِصَابَةَ مِنْ تِسْعَةٍ لَمْ يَجُزْ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 201 أَحَدُهُمَا: تَأْوِيلُهَا أَنْ يُشْتَرَطَ إِصَابَةُ تِسْعَةٍ مِنْ عَشَرَةٍ فَيَبْطُلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي: تَأْوِيلُهَا أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرشق عشرة، والإصابة محتسبة في تسعة ودون الْعَاشِرِ فَيَبْطُلَ وَجْهًا وَاحِدًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِصَابَةِ فِي جَمِيعِ الرَّشْقِ بِهِ، فَإِنْ أَغْفَلَا عَدَدَ الْإِصَابَةِ وَعَقَدَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّاضِلُ مِنْهُمَا أَكْثَرَهُمَا إصابة، ففيه وجهان: أحدهما: من التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إِذَا عَقَدَاهُ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ لِيَكُونَ السَّابِقُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي أَيِّ غَايَةٍ كَانَتْ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْخَيْلِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إنَّ مِنَ الْخَيْلِ مَا يَقْوَى جَرْيُهُ فِي ابْتِدَائِهِ، وَتَضْعُفُ فِي انْتِهَائِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِضِدِّهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النِّضَالُ عَلَى كَثْرَةِ الْإِصَابَةِ بَاطِلًا، لِأَنَّ مِنَ الرُّمَاةِ مَنْ تَكْثُرُ إِصَابَتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَتَقِلُّ فِي الِانْتِهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِضِدِّهِ. وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ إِجْرَاءَ الْخَيْلِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ مفضٍ إِلَى انْقِطَاعِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ النِّضَالُ عَلَى كَثْرَةِ الْإِصَابَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مفضٍ إِلَى انْقِطَاعِ الرُّمَاةِ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ مَوْقِفِ الرَّامِي وَالْهَدَفِ مَعْلُومَةً، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ تَكْثُرُ مَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَتَقِلُّ مَعَ بُعْدِهَا، فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا، وَأَبْعَدُهَا فِي الْعُرْفِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَأَقَلُّهَا مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَابَ وَأَنْ لَا يُصَابَ، فَإِنْ أَغْفَلَا مَسَافَةَ الرَّمْيِ، فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلرُّمَاةِ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ، وَلَا لَهُمْ عُرْفٌ مَعْهُودٌ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمَا تَضَمَّنَهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةِ: أَنْ يَكُونَ لِلرُّمَاةِ الْحَاضِرِينَ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ، وَلِلرُّمَاةِ فِيهِ مَوْقِفٌ مَعْرُوفٌ، فَيَصِحَّ الْعَقْدُ وَيَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْهَدَفِ الْحَاضِرِ مِنَ الْمَوْقِفِ الْمُشَاهَدِ، وَالرُّمَاةُ يُسَمُّونَ مَوْقِفَ الرَّامِي الْوَجْهَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ هَدَفٌ مَنْصُوبٌ وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَيُحْمَلَانَ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ كَمَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الْأَثْمَانِ عَلَى غَالِبِ النَّقْدِ الْمَعْهُودِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ حَذْفَ الرُّمَاةِ يَخْتَلِفُ، فَاخْتَلَفَ لِأَجْلِهِ حُكْمُ الْهَدَفِ فَلَمْ يَصِحَّ حتى يوصف. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 202 (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنَ الْهَدَفِ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِصَابَةِ. أَمَّا الْهَدَفُ فَهُوَ تُرَابٌ يُجْمَعُ أَوْ حَائِطٌ يُبْنَى، وَأَمَّا الْغَرَضُ فَهُوَ جِلْدٌ أَوْ شَيْءٌ بالٍ يُنْصَبُ فِي الْهَدَفِ، وَيُخْتَصُّ بِالْإِصَابَةِ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِي الْغَرَضِ دَارَةٌ كَالْهِلَالِ تُخْتَصُّ بِالْإِصَابَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَرَضِ، وَهِيَ الْغَايَةُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ حِذْقَ الرُّمَاةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْعِلْمُ بِالْغَرَضِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَوْضِعُهُ مِنَ الْهَدَفِ فِي ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْمُنْخَفِضِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْمُرْتَفِعِ. وَالثَّانِي: قَدْرُ الْغَرَضِ فِي ضِيقِهِ وَسَعَتِهِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْوَاسِعِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الضَّيِّقِ، وَأَوْسَعُ الْأَغْرَاضِ فِي عرف الرماة ذراع، وأقله أربع أَصَابِعَ. وَالثَّالِثُ: قَدْرُ الدَّارَةِ مِنَ الْغَرَضِ إِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ بِهَا. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا هَلْ هُوَ فِي الْهَدَفِ أَوْ فِي الْغَرَضِ أَوْ فِي الدَّارَةِ؟ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْهَدَفِ أَوْسَعُ، وَفِي الْغَرَضِ أَوْسَطُ، وَفِي الدَّارَةِ أَضْيَقُ، وَإِنْ أُغْفِلَ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الْغَرَضِ مَحَللًّا لِلْإِصَابَةِ، لِأَنَّ مَا دُونَهُ تَخْصِيصٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْغَرَضِ مَخْصُوصٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْهَدَفِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَرَضِ، وَلَزِمَ وَصْفُ الْهَدَفِ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَإِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ فِي الْغَرَضِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهَدَفِ، وَلَزِمَ وَصْفُ الْغَرَضِ وَإِنْ شُرِطَتِ الْإِصَابَةُ فِي الدَّارَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَرَضِ وَلَزِمَ وَصْفُ الدَّارَةِ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ مَوْصُوفَةً بِقَرْعٍ أَوْ خَزْقٍ أَوْ خَسْقٍ. - فَالْقَارِعُ: مَا أَصَابَ الْغَرَضَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ. - وَالْخَازِقُ: مَا ثَقَبَ الْغَرَضَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ. - وَالْخَاسِقُ: مَا ثَبَتَ مِنَ الْغَرَضِ بَعْدَ أَنْ ثَقَبَ. وَلَا يُحْتَسَبُ بِالْقَارِعِ فِي الْخَزْقِ وَالْخَسْقِ، وَيُحْتَسَبُ بِالْخَاسِقِ فِي الْقَرْعِ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَسْقِ، وَيُحْتَسَبُ بِالْخَازِقِ فِي الْقَرْعِ وَالْخَزْقِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْإِصَابَاتِ اسْمُ الْخَوَاصِلِ وَهُوَ جَمْعُ خِصَالٍ، فَإِنْ أُغْفِلَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْقَرْعِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ زِيَادَةٌ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِصَابَةِ مَعْلُومًا هَلْ هُوَ مُبَادَرَةٌ أَوْ مُحَاطَّةٌ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآخَرِ، وَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يُبَادِرَ أَحَدُهُمَا إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 203 اسْتِكْمَالِ إِصَابَتِهِ فِي أَقَلِّ الْعَدَدَيْنِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ. - وَالْمُحَاطَّةُ أَنْ يُحَطَّ أَقَلُّ الْإِصَابَتَيْنِ مِنْ أَكْثَرِهِمَا، وَيَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَهَا هُوَ الْعَدَدَ الْمَشْرُوطَ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، فَإِنْ أَغْفَلَا ذَلِكَ وَمَا يَشْتَرِطَاهُ فَسَدَ الْعَقْدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي فَسَادِهِ إِنْ كَانَ لَهُمْ عُرْفٌ مَعْهُودٌ وَجْهَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُخْرَجُ فِي النِّضَالِ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَالُ الْمُخْرَجُ السَّبَقَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَيُسَمَّى الْخَطَرَ، وَيُسَمَّى النَّدَبَ، وَيُسَمَّى الْوَجَبَ: وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَإِنْ أُغْفِلَ ذِكْرُ الْغَرَضِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَا شَيْءَ لِلنَّاضِلِ إِذَا نَضَلَ، وَإِنْ جُهِلَ الْغَرَضُ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا نَضَلَ وَجْهَانِ: (فَصْلٌ:) وَالشَّرْطُ الْعَاشِرُ: أَنْ يُذْكَرَ الْمُبْتَدِئُ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ، وَكَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ هَلْ يَتَرَامَيَانِ سَهْمًا وَسَهْمًا أَوْ خَمْسًا وَخَمْسًا، لِيَزُولَ التَّنَازُعُ وَيَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما على شرطه، فإن أغفل ذكر المبتدئ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: جَائِزٌ. وَفِي الْمُبْتَدِئِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُخْرِجُ الْمَالِ. وَالثَّانِي: مَنْ قَرَعَ. وَإِنْ أُغْفِلَ عَدَدُ مَا يَرْمِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَدْئِهِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَيَحْمِلَانِهِ عَلَى عُرْفِ الرُّمَاةِ إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ، فَإِنِ اخْتَلَفَ عُرْفُهُمْ رَمَيَا سَهْمًا، فَهَذِهِ عَشَرَةُ شُرُوطٍ يُعْتَبَرُ بِهَا عَقْدُ الْمُنَاضَلَةِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ (ال ْمَسْأَلَةِ:) " وكذلك لو سَبَقَ أَحَدُهُمَا قَرَعًا مَعْلُومًا "، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِالْقَرَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَالَ وَيَكُونُ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالْوَجَبِ وَالنَّدَبِ وَالْخَطَرِ - ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ أَرَادَ صِفَةَ الْإِصَابَةِ أَنَّهَا قَرْعٌ لَا خَزْقٌ وَلَا خَسْقٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَرَعِ الرَّشْقَ فِي عَدَدِ الرَّمْيِ، وَلَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حُكْمٌ بَيَّنَّاهُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 204 (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِنِ اشْتَرَطَا مُحَاطَّةً فَكُلَّمَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا وَأَصَابَ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ أَسْقَطَا الْعَدَدَيْنِ وَلَا شيءٍ لواحدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَأْنِفَانِ وَإِنْ أَصَابَ أَقَلَّ مِنْ صَاحِبِهِ حَطَّ مِثْلَهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ فَضْلُ الْعَدَدِ الَّذِي شَرَطَ فَيَنْضُلَهُ بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّضَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُحَاطَّةٌ وَمُبَادَرَةٌ، فبدأ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الْمُحَاطَّةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ غَالِبَ الرَّمْيِ فِي زَمَانِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ رَامِيًا يُصِيبُ مِنَ الْعَشَرَةِ ثَمَانِيَةً فِي الْغَالِبِ وَهِيَ عَادَةُ حُذَّاقِ الرُّمَاةِ. فَإِذَا عَقَدَا سَبَقَ النِّضَالِ عَلَى إِصَابَةِ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ مُحَاطَّةً وَرِمَايَةً وَجَبَ أَنْ تُحَطَّ أَقَلُّ الْإِصَابَتَيْنِ فِي أَكْثَرِهِمَا وَيُنْظَرَ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةً، فَهُوَ الْقَدْرُ الْمَشْرُوطُ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ نَاضِلًا. وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ لَمْ يَنْضُلْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ أَصَابَةً لِنُقْصَانِهِ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ الرَّمْيِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ أَوْ يَتَفَاضَلَا. - فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرًا عَشْرًا أَوْ خَمْسًا خَمْسًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَليَسْتَأْنِفَانِ "، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مراده بقوله: " وليستأنفان " عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفَانِ الرَّمْيَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُحَاطَّةِ مَا أَوْجَبَ حَطَّ الْأَقَلِّ مَن الْأَكْثَرِ وَلَيْسَ مَعَ التَّسَاوِي عَقْدُ حَطٍّ، فَخَرَجَ مِنْ عَقْدِ الْمُحَاطَّةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ لِيَصِيرَ مَا يَسْتَأْنِفَانِهِ فِي عُقُودِ الْمُحَاطَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا يَسْتَأْنِفَانِ عَقْدًا مُسْتَجَدًّا إِنْ أَحَبَّا، لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِعَادَةُ الرَّمْيِ مَعَ التَّكَافُؤِ كَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْخَيْلِ إِعَادَةُ الْجَرْيِ مَعَ التَّكَافُؤِ وَالَّذِي أَرَاهُ - وَهُوَ عِنْدِي الْأَصَحُّ - أَنْ يُنْظَرَ. فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْإِصَابَةِ قَبْلَ الرَّشْقِ اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ تَسَاوَيَا فِيهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الرَّشْقِ اسْتَأْنَفَاهُ بعقد مستجد إن أحيا، لِأَنَّهُمَا قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الرَّشْقِ فِي بَقَايَا أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ قَدْ نُقِضَتْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْإِصَابَةِ لَمْ يَخْلُ تَفَاضُلُهُمَا فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَفْضُلَ، وَلَا يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَا إِصَابَةَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ مُحَاطَّةً، فَيُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَسْهُمٍ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ فَتُحَطَّ السِّتَّةُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا أَرْبَعَةً فَلَا يَنْضُلُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْإِصَابَةِ خَمْسَةٌ، وَهَكَذَا لَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصَابَ الْآخَرُ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يَنْضُلِ الْفَاضِلُ، لِأَنَّ الباقي له الجزء: 15 ¦ الصفحة: 205 بعد الخط أَرْبَعَةٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ، فَيَنْضُلَ الْفَاضِلُ، لِأَنَّهَا إِذَا أُسْقِطَتْ مِنْ إِصَابَتِهِ عَشَرَةٌ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهَا خَمْسَةً، وَهُوَ عَدَدُ النَّضْلِ، وَهَكَذَا لَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً، وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً كَانَ الْفَاضِلُ نَاضِلًا، لِأَنَّهُ إِذَا أُسْقِطَتِ الْخَمْسَةُ مِنْ إِصَابَتِهِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهَا خَمْسَةً، وَهُوَ عَدَدُ النَّضْلِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْضُلَ بِمَا فَضَلَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عشرة من خمسة عشرة، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشرة، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنَ الْأَكْثَرِ خَمْسَةً هِيَ عَدَدُ النضل فهو يَسْتَقِرُّ النِّضَالُ بِهَذَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الرَّشْقِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَقِرُّ النَّضْلُ وَيَسْقُطُ بَاقِي الرَّشْقِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْرِفَةُ الْأَحْذَقِ، وَقَدْ عُرِفَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ النَّضْلُ بِهَذِهِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَدَدِ حَتَّى يَرْمِيَا بَقِيَّةَ الرَّشْقِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَضَمَّنَهَا، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُصِيبَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا وَيُخْطِئَ الْفَاضِلُ جَمِيعَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَإِذَا رَمَيَا بَقِيَّةَ الرَّشْقِ، وَهُوَ الْخَمْسَةُ الْبَاقِيَةُ فَإِنْ أَصَابَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا أو أخطأ الفاضل جمعيها، فَقَدِ اسْتَوَيَا وَلَمْ يَنْضُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ إِصَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ وَإِنْ أَصَابَ الْفَاضِلُ، وَأَخْطَأَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا اسْتَقَرَّ فَضْلُ الْفَاضِلِ، لِأَنَّهُ أَصَابَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ عَشَرَةً هِيَ أَكْثَرُ مِنْ شَرْطِهِ، فَلَوْ أَصَابَ الْفَاضِلُ مِنَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ سَهْمًا، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ سَهْمَيْنِ لَمْ يَفْضُلِ الْفَاضِلُ، لِأَنَّ عَدَدَ إِصَابَتِهِ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَعَدَدَ إِصَابَةِ الْمَفْضُولِ سَبْعَةٌ إِذَا حُطَّتْ مِنْ تِلْكَ الْإِصَابَةِ كَانَ الْبَاقِي أَرْبَعَةً وَالشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ خَمْسَةً فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْضُلْ وَإِنْ فَضَلَ، فَلَوْ أَصَابَ الْفَاضِلُ سَهْمَيْنِ، وَالْمَفْضُولُ سَهْمَيْنِ صَارَ الْفَاضِلُ نَاضِلًا، لِأَنَّهُ أَصَابَ اثْنَيْ عَشَرَة، وَأَصَابَ الْمَفْضُولُ سَبْعَةً لِيَبْقَى لِلْفَاضِلِ بَعْدَ الْحَطِّ خَمْسَةٌ. وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا سَبْعَةً مِنْ عَشَرَةٍ وَأَصَابَ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ، فَإِذَا رَمَيَا بَقِيَّةَ السِّهَامِ فَإِنْ أَصَابَ الْمَفْضُولُ جَمِيعَهَا، وَأَخْطَأَ الْفَاضِلُ جَمِيعَهَا صَارَ الْأَوَّلُ نَاضِلًا وَالثَّانِي مَنْضُولًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَهُ سَبْعَةٌ وَالثَّانِيَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى لَهُ بَعْدَ الْحَطِّ خَمْسَةٌ وَلَوْ أَصَابَ الْأَوَّلُ جَمِيعَهَا، وَأَصَابَ الثَّانِي جَمِيعَهَا كَانَ الْأَوَّلُ نَاضِلًا لِأَنَّ إِصَابَتَهُ سبعة عشر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 206 وَإِصَابَةَ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ، فَإِنْ أَخْطَأَ الْأَوَّلُ فِي سَهْمٍ مِنْ بَقِيَّةِ الرَّشْقِ لَمْ يَفْضُلْ وَلَمْ يَنْضُلْ، وَلَوْ أَصَابَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصَابَ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ اسْتَقَرَّ النَّضْلُ، وَسَقَطَ بَقِيَّةُ الرَّشْقِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمَفْضُولَ لَوْ أَصَابَ جَمِيعَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّشْقِ حَتَّى اسْتَكْمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ سَبْعَةً كَانَ مَنْضُولًا، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِلْفَاضِلِ بَعْدَ حَطِّهَا خَمْسَةٌ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ بِبَقِيَّةِ الرَّمْيِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ النَّضْلَ، فَسَقَطَ ثَمَّ عَلَى هذه العبرة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيَسْتَحِقُّ سَبَقَهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ يُقْضي بِهِ عليه كالدين يلزمه إن شاء أطعم أصحابه وإن شاء تموله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا نَضَلَ الرَّامِي مَلَكَ مَالَ النِّضَالِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّبَقِ، وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا وَإِنْ كَانَ دَيْنًا اسْتَوْجَبَ قَبْضَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ مِنْ أَهْلِ النِّضَالِ وَالسِّبَاقِ. وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الرُّمَاةِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَالِ الْإِجَارَةِ أَوْ مَالِ الْجِعَالَةِ، لِأَنَّ عَقْدَهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ، وَالْعِوَضُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقٌّ يَتَمَلَّكُهُ مُسْتَحِقُّهُ وَلَا تَلْزَمُهُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهِ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ مَطَلَ بِهِ الْمَنْضُولُ قَضَى بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَحَبَسَهُ فِيهِ، وَبَاعَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ ضُرِبَ بِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى ورثته. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا فجائزٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَالَ النِّضَالِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ مِنْهُ، وَلَا الضَّمِينِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَوْفَى مِنْ رَهِينٍ وَلَا ضَامِنٍ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا رَهْنٌ وَلَا ضَمَانٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ الْمَالُ بِالْفَلْجِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، وَالضَّمِينِ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِالْفَلْجِ كَانَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ مُعْتَبَرًا بِحُكْمِ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ، وَالضَّمِينِ كَالْأُجْرَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ، فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَخْذُهُمَا مِنْهُ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اللُّزُومِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الضَّمِينُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ الرَّهْنُ، لِأَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ، كَمَا يَجُوزُ ضَمَانُ الدَّرَكِ، وَلَا يجوز أخذ الرهن فيه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 207 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ السَّبَقُ إِلَّا مَعْلُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُرِيدُ بِالسَّبَقِ الْمَالَ الْمُخْرَجَ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ حَتَّى يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهَيْنِ، إِمَّا بِالتَّعْيِينِ كَاسْتِبَاقِهِمَا عَلَى عَيْنٍ شَاهِدٍ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ كَاسْتِبَاقِهِمَا عَلَى مالٍ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ تَسَابَقَا عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ زَيْدٌ كَانَ بَاطِلًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَلَوْ تَسَابَقَا وَتَنَاضَلَا عَلَى مِثْلِ مَا يُسَابِقُ أَوْ يُنَاضِلُ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِقَدْرِهِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِقَدْرِهِ بَطَلَ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ، فَتَنَاضَلَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَفِيزُ مُسْتَحَقًّا مِنْ سَلَمٍ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَصْبٍ صَحَّ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ إِلَّا دَانِقًا صَحَّ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ إلا درهماً لم يصح، لأن يكون بالاستثناء مِنْ جِنْسِهِ مَعْلُومًا، وَبِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مَجْهُولًا، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ مُعَجَّلٍ وَقَفِيزِ حِنْطَةٍ مُؤَجَّلٍ صَحَّ، لِأَنَّهُ عَلَى عِوَضَيْنِ حالٍ وَمُؤَجَّلٍ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ النَّاضِلُ دِينَارًا وَيُعْطِيَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ النَّاضِلَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْخُذَ وَلَا يُعْطِيَ، وَلَوْ تَنَاضَلَا عَلَى دِينَارٍ بَذَلَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ نُضِلَ دَفَعَهُ، وَلَمْ يَرْمِ أَبَدًا أَوْ شَهْرًا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ فِيهِ الِامْتِنَاعَ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَبَطَلَ وَإِذَا تَنَاضَلَا وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَنَضَلَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ النَّاضِلُ بَاذِلَ الْمَالِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَنْضُولِ، وَإِنْ كَانَ النَّاضِلُ غَيْرَ الْبَاذِلِ فَفِي استحقاقه الأجرة مِثْلِهِ عَلَى الْبَاذِلِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يُطْعِمَ أَصْحَابَهُ كَانَ فَاسِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ السَّبَقِ يملكه الناضل، ويلزمه أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَمْلِكَهُ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ كَالْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَعُودُ عَلَى مُشْتَرِطه وَكَانَ وجوده كعدمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 208 (مسألة:) قال الشافعي: " وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الرُّمَاةِ مَنْ يَقُولُ صَاحِبُ السَّبَقِ أَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ وَالْمُسَبِّقُ لَهُمَا يُبْدِئُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدِي إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اشْتِرَاطُ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّمْيِ دُونَ السَّبَقِ لِأَنَّهُمَا فِي السَّبَقِ يَتَسَاوَيَانِ فِي الْجَرْيِ مَعًا لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا الرَّمْيُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَلَا يَرْمِيَانِ مَعًا لِاخْتِلَاطِ رَمْيِهِمَا، وَلِمَا يُخَافُ مِنْ تَنَافُرِهِمَا، فَإِنْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ الْبَادِئَ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ كَانَ أَحَقَّهُمَا بِالِابْتِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْتَدِئُ مُخْرِجَ الْمَالِ أَوْ غَيْرَ مُخْرِجِهِ فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقَدُّمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقٌّ لَهُ، وَلَيْسَ يحق عَلَيْهِ وَإِنْ أُغْفِلَ فِي الْعَقْدِ اشْتِرَاطُ الْبَادِئِ بِالرَّمْيِ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِأَنَّ لِلْبِدَايَةِ تَأْثِيرًا فِي قُوَّةِ النَّفْسِ، وَكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ، فَصَارَتْ مَقْصُودَةً، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَإِنْ غُفِلَتْ فِيهِ الْبِدَايَةُ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الرُّمَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الرَّمْيِ الَّذِي يُمْكِنُ تَلَافِيهِ بِمَا تَزُولُ التُّهْمَةُ فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى عُرْفٍ أَوْ قُرْعَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مُخْرِجُ الْمَالِ أَحَدَهُمَا كَانَ هُوَ الْبَادِئَ بِالرَّمْيِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْمَالِ غَيْرَهُمَا كَانَ لِمُخْرِجِ الْمَالِ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَا مُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لِتَكَافُئِهُمَا، وَهَلْ يَدْخُلُ الْمُحَلِّلُ فِي قُرْعَتِهِمَا أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَأَخَّرُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ وَلَا يَتَأَخَّرُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ. (فَصْلٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الرُّمَاةِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي الثَّانِي يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ". وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ الرُّمَاةِ وَعَادَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِيهِ يَفْعَلُونَهُ تَارَةً، وَيُسْقِطُونَهُ أُخْرَى سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَوَجَبَ التَّسَاوِي فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا، فَفِي لُزُومِ اعْتِبَارِهِ بَيْنَهُمَا وجهان: أحدهما: لا يعتبر لوجوب تَكَافُئِهِمَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُصِيبًا بتقدمه لا بحذفه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 209 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْعُقُودِ كَإِطْلَاقِ الْأَيْمَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عُرْفُهُمْ فِي عَدَدِ الْأَقْدَامِ حُمِلَا عَلَى الْعُرْفِ فِي عَدَدِهَا لِيَكُونَ الْقُرْبُ بِالْأَقْدَامِ فِي مُقَابَلَةِ قُوَّةِ النَّفْسِ بِالتَّقَدُّمِ. وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِي عَدَدِ الْأَقْدَامِ اعْتُبِرَ أَقَلُّ الْعُرْفِ دُونَ أَكْثَرِهِ فَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ فَلَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِصَوَابِهِ، واحتسب عليه بخطئه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَأيُّهُمَا بَدَأَ مِنْ وجهٍ بَدَأَ صَاحِبُهُ مِنَ الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَادَةُ الرُّمَاةِ فِي الْهَدَفِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِي هَدَفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، فَيَقِفُ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ فِي هَدَفٍ يَرْمِي مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الْآخَرِ، وَيَقِفُ الْحِزْبُ الْآخَرُ فِي الْهَدَفِ الْمُقَابِلِ، فَيَرْمِي مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الْآخَرِ، وَهَذَا أَحَبُّهُمَا إِلَيْنَا مَعَ جَوَازِهِمَا - لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ روضةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ " وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلْمُتَنَافِرِ، وَأَقَلُّ لِلتَّعَبِ، فَإِنْ رَمَيَا إِلَى هَدَفَيْنِ كَانَ لِلْمُبْتَدِئِ بِالرَّمْيِ أَنْ يَقِفَ فِي أَيِّ الْهَدَفَيْنِ شَاءَ، وَيَرْمِيَ الْآخَرَ وَيَقِفَ الثَّانِي فِي الْهَدَفِ الثَّانِي، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بَيْنَهُمَا إِلَى آخِرِ رَمْيِهِمَا، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مَنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ الْآخَرَ عَنْ هَدَفِهِ، وَإِنْ كَانَ الْهَدَفُ وَاحِدًا وَقَفَ الْمُبْتَدِئُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَيَقِفُ الثَّانِي حَيْثُ شَاءَ مِنْ يَمِينِ الْأَوَّلِ أَوْ يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَقِفَ فِي مَوْقِفِ الْأَوَّلِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَما: لَهُ أَنْ يَقِفَ فِي مَوْقِفٍ لِيُسَاوِيَهُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِذَا زَالَ عَنْ مَوْقِفِهِ بِشَيْءٍ حسن صنيعه - والله أعلم -. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيَرْمِي الْبَادِئُ بسهمٍ ثَمَّ الْآخَرُ بسهمٍ حَتَّى يُنْفِدَا نَبْلَهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالرَّمْيِ دُونَ السَّبَقِ لِاخْتِصَاصِ الرَّمْيِ بِالْمُبْتَدِئِ، فَاخْتَصَّ بِمَا يُوَالِيهِ مِنْ عَدَدِ مَا يَرْمِي، فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ حَمَلَا فِيهِ عَلَى مُوجَبِ الشَّرْطِ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَحَقَّ مِنَ الْعُرْفِ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا سَهْمًا وَسَهْمًا، أَوْ شَرَطَا أَنْ يَرْمِيَا خَمْسًا وَخَمْسًا، أَوْ شَرَطَا أَنْ يُوَاصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمْيَ جَمِيعِ رَشْقِهِ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدَدَ مَا أَوْجَبَ الشَّرْطُ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أُغْفِلَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهِ لِإِحْكَامِهِ التَّكَافُؤَ فِيهِ وَاعْتُبِرَ فِيهِمَا عُرْفُ الرُّمَاةِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي بَعْدَ الشَّرْطِ مَجْرَى الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ عُرْفُ الرُّمَاةِ جَارِيًا حَدَّ الثَّلَاثَةِ الْمُجَوَّزَةِ فِي الشَّرْطِ صَارَ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ لِاخْتِلَافِهِ بَيْنَهُمْ رَمَيَا سَهْمًا وَسَهْمًا، وَلَمْ يَزِدْ كُلُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 210 واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفذا جَمِيعَ الرَّشْقِ، لِأَنَّ قُرْبَ الْمُعَاوَدَةِ إِلَى الرَّمْيِ أَحْفَظُ لِحُسْنِ الصَّنِيعِ. فَإِنْ رَمَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ سَهْمٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَ مُحْتَسَبًا بِهِ مُصِيبًا وَمُخْطِئًا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا لِأَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ مُجَوَّزٌ وَبَعْدَ الاستقرار ممنوع. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا غَرَّقَ أَحَدُهُمَا وَخَرَجَ السَّهْمُ مِنْ يَدَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغِ الْغَرَضَ كَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْعَارِضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِغْرَاقُ السَّهْمِ: فَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي مَدِّ الْقَوْسِ لِفَضْلِ قُوَّتِهِ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ السَّهْمَ، فَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبِ الْوَتَرِ الْمَعْهُودِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، فإن من أجناس القسي والسهم مَا يَكُونُ مَخْرَجُ السَّهْمِ مِنْهَا عَنْ يَمِينِ الرَّامِي جَارِيًا عَلَى إِبْهَامِهِ، فَيَكُونُ إِغْرَاقُهُ أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَدِّ إِلَى يَسَارِهِ جَارِيًا عَلَى سَبَّابَتِهِ. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَخْرَجُهُ بِالضِّدِّ على يساره الرَّامِي جَارِيًا عَلَى سَبَّابَتِهِ. فَيَكُونُ إِغْرَاقُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى يَمِينِهِ جَارِيًا عَلَى إِبْهَامِهِ، فَإِذَا أَغْرَقَ السَّهْمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَمْ يَكُنْ إِغْرَاقُهُ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْعَارِضُ فَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ إِنْ أَخْطَأَ بِهِ " وَهُوَ عِنْدِي نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُدَّ الْقَوْسَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ حَتَّى زَادَ فِيهِ، فَأَغْرَقَ أَوْ نَقَصَ فَقَصَّرَ كَانَ بِسُوءِ الرَّمْيِ أَشْبَهَ. فَإِذَا أَخْطَأَ بِالسَّهْمِ الْمُغَرَّقِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ أَصَابَ احْتُسِبَ لَهُ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِهِ مَعَ الْخَلَلِ أَدُلُّ عَلَى حِذْقِ الرَّامِي في الإصابة مع الاستقامة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ لَوِ انْقَطَعَ وَتَرُهُ أَوِ انْكَسَرَتْ قَوْسُهُ فَلَمْ يَبْلُغِ الْغَرَضَ أَوْ عَرَضَ دُونَهُ دابةٌ أَوْ إنسانٌ فَأَصَابَهُ أَوْ عَرَضَ لَهُ فِي يَدَيْهِ مَا لَا يَمُرُّ السَّهْمُ مَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعُودُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا انْقَطَعَ وَتَرُهُ، أَوِ انْكَسَرَ قَوْسُهُ، فَقَصَرَ وَقْعُ السَّهْمِ، وَأَخْطَأَ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ لِسُوءِ رَمْيِهِ، وَلَكِنْ لِنَقْصِ آلَتِهِ، وَلَوْ أَصَابَ بِهِ كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ إِصَابَتِهِ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى حِذْقِهِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَضَ دُونَ الْهَدَفِ عَارِضٌ مِنْ بَهِيمَةٍ أَوْ إِنْسَانٍ وَقَعَ السَّهْمُ فِيهِ، وَمَنَعَ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ، وَأُعِيدَ السَّهْمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ خَرَقَ السَّهْمُ الْحَائِلَ وَنَفَذَ فِيهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْهَدَفِ، فَأَصَابَ كَانَ مَحْسُوبًا مِنْ إِصَابَتِهِ، لِأَنَّهُ بِالْإِصَابَةِ مِعِ هَذَا الْعَارِضِ أَشَدُّ وَأَرْمَى وَيُسَمَّى هَذَا السَّهْمُ خَارِقًا وَقَدْ كَانَ الْكُسَعِيُّ فِي الْعَرَبِ رَامِيًا، فَخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَرَأَى ظَبْيًا فَرَمَاهُ فَأَنْفَذَهُ وَخَرَجَ السَّهْمُ مِنْهُ، فَأَصَابَ حَجَرًا فَقَدَحَ مِنْهُ نَارًا فَرَأَى ضَوْءَ النَّارِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 211 فظن أنه أخطأ الظبي فقال: مثلي يُخْطِئُ؟ ! ... فَكَسَرَ قَوْسَهُ، وَأَخْرَجَ خِنْجَرَهُ، وَقَطَعَ إِبْهَامَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى الظَّبْيَ صَرِيعًا قَدْ نَفَذَ السَّهْمُ فِيهِ نَدِمَ، فَضَرَبَتْ بِهِ الْعَرَبُ مَثَلًا، فَقَالَ الشَّاعِرُ: (نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا ... رَأَتْ عَيْنَاهُ مَا عَمِلَتْ يَدَاهُ) وَهَكَذَا لَوْ عَرَضَ لِلرَّامِي عِلَّةٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَخَذَتْهُ رِيحٌ فِي يَدَيْهِ ضَعُفَ بِهَا عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ إِنْ قَصَّرَ أَوْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لِعَارِضٍ مَنَعَ وَلَيْسَ مِنْ سُوءِ رَمْيٍ وقلة حذق. (مسألة:) قال الشافعي: " فَأَمَّا إِنْ جَازَ السَّهْمُ أَوْ أَجَازَ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ فَهَذَا سُوءُ رَمْيٍ لَيْسَ بعارضٍ غُلِبَ عَلَيْهِ فَلَا يُرَدُّ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُقَالُ: جَازَ السَّهْمُ إِذَا مَرَّ فِي إِحْدَى جَانِبَيِ الْهَدَفِ، وَيُسَمَّى " خَاصِرٌ " وَجَمْعُهُ خَوَاصِرُ لِأَنَّهُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَاصِرَةِ، لِأَنَّهَا فِي جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ، وَيُقَالُ: أَجَازَ السَّهْمُ إِذَا سَقَطَ وَرَاءَ الْهَدَفِ. فَإِذَا أَجَازَ السَّهْمُ، وَوَقَعَ فِي جَانِبِ الْهَدَفِ، أَوْ أَجَازَ وَوَقَعَ وَرَاءَ الهدف كان محسوباً منه خطأه لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى سُوءِ رَمْيِهِ، وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى عَارِضٍ فِي بَدَنِهِ أَوِ الْيَدِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْجَائِزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْهَدَفِ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الشَّنِّ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الشَّنِّ كَانَ الْجَائِزُ مُخْطِئًا وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْهَدَفِ كَانَ الْجَائِزُ مُصِيبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ سِهَامِهِمَا جَائِزَةً، فَيُحْتَسَبَ بِالْجَائِزِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِغَيْرِ الْجَائِزِ. وَيُقَالُ: " سَهْمٌ " طَامِحٌ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّامِحَ هُوَ الَّذِي قَارَبَ الْإِصَابَةَ، وَلَمْ يُصِبْ، وَيَكُونُ مُخْطِئًا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الشَّنِّ وَرَأْسِ الْهَدَفِ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا إِنْ شُرِطَ الْإِصَابَةُ فِي الشَّنِّ، وَمُصِيبًا إِنْ شُرِطَ فِي الْهَدَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْإِصَابَةِ فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مُصِيبًا إِلَّا بِسَهْمٍ طَامِحٍ كَالْجَائِزِ. وَيُقَالُ: سَهْمٌ " عَاصِدٌ "، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَيَكُونُ كَالْجَائِزِ فِي تَأْوِيلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَيُقَالُ: سَهْمٌ " طَائِشٌ " وَهُوَ الَّذِي يُجَاوِزُ الْهَدَفَ كَالْجَائِزِ إِلَّا أَنَّ الْجَائِزَ مَا عُرِفَ مَكَانُ وُقُوعِهِ، وَالطَّائِشُ مَا لَمْ يُعْرَفْ مَكَانُ وُقُوعِهِ، وَالطَّائِشُ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فِي الخطأ كالجائز. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 212 وَيُقَالُ: سَهْمٌ " غَائِرٌ " وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ لواحدٍ مِنَ الرَّامِيَيْنِ لِلْجَهْلِ بِهِ. وَيُقَالُ: سَهْمٌ " خَاطِفٌ " وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ يُخْطَفُ نَازِلًا، فَإِنْ أَخْطَأَ بِهِ كَانَ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ رَمْيِهِ، وَإِنْ أَصَابَ بِهِ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ إِصَابَتِهِ لِحُصُولِهِ بِرَمْيِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الرَّمْيِ فِي إِيقَاعِ السَّهْمِ، فَأَمَّا سُقُوطُهُ، فَلِثِقَلِهِ، فَصَارَ مُصِيبًا بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُحْتَسَبُ مِنْ خَطَئِهِ أم لا؟ على وجهين: أحدها: يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ خَطَئِهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا كَانَ مُخْطِئًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ مَا أَخْطَأَ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا أَنْ لَا يَكُونَ مُخْطِئًا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَنْظُرَ نُزُولَ السَّهْمِ خَطَأً بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ، فَإِنِ انْحَطَّ فَاتِرًا لِحِدَّةٍ لَا يَقْطَعُ مَسَافَةً احْتُسِبَ عَلَيْهِ خَاطِئًا، وَإِنْ نَزَلَ فِي بَقِيَّةِ حِدَّتِهِ جَارِيًا فِي قَطْعِ مَسَافَتِهِ احْتُسِبَ لَهُ صَائِبًا، لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْفُتُورِ مُنْقَطِعٌ وَبِالْحِدَّةِ مُنْدَفِعٌ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ رَمْيُهُمَا مُبَادَرَةً فَبَلَغَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ عِشْرِينَ رَمَى صَاحِبُهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي يُرَاسِلُهُ ثم رمى البادئ فإن أصاب سهمه ذلك فلج عليه وإن لم يرم الآخر بالسهم لأن المبادرة أن يفوت أحدهما الآخر وليس كالمحاطة (قال المزني) رحمه الله: هذا عندي لا ينضله حتى يرمي صاحبه بمثله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ ضَرْبَانِ: محاطة، ومبادرة. وقد مضت المحاطة، وهذه الْمُبَادَرَةُ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مُبَادَرَةً، فَيَكُونُ الرَّشْقُ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، وَالْإِصَابَةُ الْمَشْرُوطَةُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، فَأَيُّهُمَا بَدَرَ إِلَى إِصَابَتِهَا فِي أَقَلِّ الْعَدَدَيْنِ فِيهِ فَضَلَ، وَسَقَطَ رَمْيُ الرَّشْقِ وَإِنْ تَكَافَآ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ عددٍ متساوٍ سَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي وَلَيْسَ مِنْهُمَا فَاضِلٌ. وَبَيَانُهُ أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ تِسْعَةً مِنْ عِشْرِينَ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ نَاضِلًا، لِأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ، وَقَدْ رَمَاهَا الثَّانِي فَنَقَصَ مِنْهَا، وَلَا يَرْمِيَانِ بَقِيَّةَ الرَّشْقِ لِحُصُولِ النَّضْلِ، فَلَوْ أَصَابَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ، وَسَقَطَ رَمْيُ الْبَاقِي مِنَ الرَّشْقِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْإِصَابَةِ فِيهِ مُقَيِّدَةٌ لِنَضْلٍ، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ وَأَصَابَ الْآخَرُ تِسْعَةً مِنْ عِشْرِينَ، فَالنِّضَالُ بِحَالِهِ، لِأَنَّ عَدَدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يُسْتَوْفَ فَيَرْمِيَانِ مِنْ بَقِيَّةِ الرَّشْقِ مَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 213 يَكْمُلُ بِهِ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا عَشَرَةً، فَإِنْ رَمَى الْأَوَّلُ سَهْمًا فَأَصَابَ فَقَدْ فَلَجَ عَلَى الثَّانِي، وَنَضَلَ وَسَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي، وَلَوْ رَمَى الْأَوَّلُ خَمْسَةً، فَأَخْطَأَ فِي جَمِيعِهَا، وَرَمَى الثَّانِي خَمْسَةً فَأَصَابَ فِي جَمِيعِهَا صَارَ الثَّانِي نَاضِلًا وَسَقَطَ رَمْيُ الثَّانِي فِي الرَّشْقِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَصَابَ تسعة من خمس وَعِشْرِينَ وَأَصَابَ الثَّانِي عَشَرَةً مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ ثلاثين مبادرة، فيصيب البادئ منهما تسعة من تِسْعَةَ عَشَرَ، وَيُصِيبُ الْآخَرُ الْمُبْدَأُ ثَمَانِيَةً مِنْ تسعة عشر، ثم رمى الْبَادِئُ سَهْمًا آخَرَ يَسْتَكْمِلُ بِهِ الْعِشْرِينَ فَيُصِيبُ، فَيَصِيرُ بِهِ نَاضِلًا، وَيُمْنَعُ الْآخَرُ الْمُبْدَأُ مِنْ رَمْيِ السَّهْمِ الْآخَرِ الَّذِي رَمَاهُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ نِضَالًا وَلَا مُسَاوَاةً لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ مِنَ الْعِشْرِينَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ إِصَابَتَانِ، وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَهُ بَقِيَتْ عَلَيْهِ إِصَابَةٌ يَكُونُ بِهَا مَنْضُولًا، فَلَمْ يَكُنْ لِرَمْيِهِ مَعْنًى يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَقْدِ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَصَابَ تِسْعَةً مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ رَمَى الْبَادِئُ وَأَصَابَ، كَانَ لِلْمُبْدَأُ أَنْ يَرْمِيَ لِجَوَازِ أَنْ يُصِيبَ فَيُكَافَئَ. فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ الْمُبْدَأَ أَنْ يَرْمِيَ بِالسَّهْمِ الْبَاقِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ أَرَادَ مَنْعَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ. (فَصْلٌ:) فأما الحواب فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّمْيِ، وَهِمَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، فَجَعَلَهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ السَّهْمِ، وَسَمَّاهُ حَوَابِيَ بِإِثْبَاتِ الْبَاءِ فِيهِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ السَّهْمُ الْوَاقِعُ دُونَ الْهَدَفِ ثُمَّ يَحْبُو إِلَيْهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَبْوِ الصَّبِيِّ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ الْمُزْدَلِفِ يَفْتَرِقَانِ في الاسم لأن المزدلف أحدٌ والجابي أَضْعَفُ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَالَّذِي قَالَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَوَابَ نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ وَأَنَّ أَنْوَاعَ الرَّمْيِ ثَلَاثَةٌ: الْمَحَاطَّةُ - وَالْمُبَادَرَةُ - وَالْحَوَابُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمُحَاطَّةَ وَالْمُبَادَرَةَ. فَأَمَّا الْحَوَابُ فَهُوَ أَنْ يُحْتَسَبَ بِالْإِصَابَةِ فِي الشَّنِّ وَالْهَدَفِ وَيُسْقِطَ الْأَقْرَبُ إِلَى الشَّنِّ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ الشَّنِّ وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الْهَدَفَ عَلَى شِبْرٍ مِنَ الشَّنِّ فَاحْتُسِبَ لَهُ ثُمَّ أَصَابَ الْآخَرُ الْهَدَفَ عَلَى فَتْرٍ مِنَ الشَّنِّ احْتُسِبَ لَهُ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الشَّنِّ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ، ولو أصاب أحدها خَارِجَ الشَّنِّ وَاحْتُسِبَ بِهِ، وَأَصَابَ الْآخَرُ فِي الشَّنِّ احْتُسِبَ بِهِ، وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ خَارِجِ الشَّنِّ. وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الشَّنَّ فَاحْتُسِبَ بِهِ، وَأَصَابَ الْآخَرُ الدَّارَةَ الَّتِي فِي الشَّنِّ احْتُسِبَ بِهِ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الشَّنِّ، وَلَوْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا الدَّارَةَ الَّتِي فِي الشَّنِّ فَاحْتُسِبَ بِهِ وَأَصَابَ الْآخَرُ الْعَظْمَ الَّذِي فِي دَارَةِ الشَّنِّ احْتُسِبَ وَأُسْقِطَ إِصَابَةُ الدَّارَةِ فَيَكُونُ كُلُّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 214 قَرِيبٍ مُسْقِطًا لِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الرَّمْيِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ مَذَاهِبَ الرُّمَاةِ فِيهِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُزَنِيُّ، إِمَّا لِاخْتِصَارِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِرَأْيِهِ لِضِيقِهِ وَكَثْرَةِ خَطَرِهِ، لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الْإِصَابَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِهَا، وَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَوْعٌ مَعْهُودٌ فِي الرَّمْيِ، فَأَشْبَهَ الْمُحَاطَّةَ وَالْمُبَادَرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى مُعَاطَاةِ الْحِذْقِ فَصَحَّ. وَذَلِكَ فِي جَوَازِ النِّضَالِ عَلَى إصابة الجواب، وَكَانَ عَقْدُهُمَا عَلَى إِصَابَةِ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ فَلَهُمَا إِذَا تَنَاضَلَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصُرَا عَلَى عَدَدِ الْإِصَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَوْفِيَا عدد الإصابة. والثالث: أن يستوفيها أحدهما، ويقصر عنها الآخر. فأما الحال الأول: وَهُوَ أَنْ يَقْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدَدِ الْإِصَابَةِ فَيُصِيبَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، فَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ بِنُقْصَانِ الْإِصَابَةِ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنْ يَسْتَوْفِيَا مَعًا عَدَدَ الْإِصَابَةِ، فَيُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةً فَصَاعِدًا، فَيُعْتَبَرَ حِينَئِذٍ حَالُ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَخْلُوَانِ فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْإِصَابَاتُ فِي الْهَدَفِ، وَقَدْ تَسَاوَتْ فِي الْقُرْبِ مِنَ الشَّنِّ، وَلَيْسَتْ بَعْضُهَا بِأَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ تَكَافَآ وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ، وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ بَاقِي سِهَامِهِ، وَتَسَاوَى السَّهْمَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي الْقُرْبِ مِنَ الشَّنِّ كَانَا سَوَاءً لَا نَاضَلَ فِيهِمَا وَلَا مَنْضُولَ، فَإِنْ تَقَدَّمَ لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَتَسَاوَتِ السِّهَامُ الثَّلَاثَةُ فِي قُرْبِهَا مِنَ الشَّنِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّه المتقرب بسهمين ناضل للمتقرب بِسَهْمٍ، لِفَضْلِهِ فِي الْعَدَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَا نَاضَلَ فِيهِمَا وَلَا مَنْضُولَ، لِأَنَّ نِضَالَ الجواب مَوْضُوعٌ عَلَى الْقُرْبِ دُونَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ سِهَامِ الْآخَرِ، فَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلُ، وَأَبْعَدُهُمَا مِنَ الشَّنِّ هُوَ الْمَنْضُولُ. وَهَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 215 لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ جَمِيعِ سِهَامِ الْآخَرِ أُسْقِطَتْ بِهِ سِهَامُ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ سِهَامُ نَفْسِهِ، وَكَانَ هُوَ النَّاضِلَ بِسَهْمِهِ الْأَقْرَبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْهَدَفِ، وَسِهَامُ الْآخَرِ في الشن، فيصيب الْمُصِيبُ فِي الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلَ، وَالْمُصِيبُ فِي الهدف منضول. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَهْمٌ وَاحِدٌ فِي الشَّنِّ وَجَمِيعُ سِهَامِ الْآخَرِ خَارِجَة الشَّنِّ كَانَ الْمُصِيبُ فِي الشَّنِّ هُوَ النَّاضِلَ بِسَهْمِهِ الْوَاحِدِ وَقَدْ أُسْقِطَ بِهِ سِهَامُ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْ لَهُ سِهَامَ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ إِلَى الشَّنِّ مِنْ سِهَامِ صَاحِبِهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُهُمَا جَمِيعًا صَائِبَةً فِي الشَّنِّ لَكِنَّ سِهَامَ أَحَدِهِمَا أَوْ بَعْضِهِمَا فِي الشَّنِّ الدَّارَةِ، وَسِهَامَ الْآخَرِ خَارِجَ الدَّارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُهَا فِي الشَّنِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الدَّارَةِ نَاضِلٌ، وَالْمُصِيبَ خَارِجَ الدَّارَةِ مَنْضُولٌ، لِأَنَّهُ قُطْبُ الْإِصَابَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَيْسَ مِنْهُمَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّنِّ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَحَدُهُمَا إِصَابَةَ الْخَمْسِ وَيُقَصِّرَ الْآخَرُ عَنْهُمَا، فَهَذَا عَلَى ضرين: أَحَدُهَمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِي الْإِصَابَةِ أَقْرَبَ سِهَامًا إِلَى الشَّنِّ أَوْ مُسَاوِيًا صَاحِبَهُ، فَيَكُونُ نَاضِلًا، وَالْمُقَصِّرُ مَنْضُولًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُقَصِّرُ فِي الْإِصَابَةِ أَقْرَبَ سِهَامًا مِنَ الْمُسْتَوْفِي لَهَا، فَلَيْسَ فِيهَا نَاضِلٌ وَلَا مَنْضُولٌ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ قَدْ سَقَطَتْ سِهَامُهُ لِبُعْدِهَا، وَالْمُقَصِّرَ قَدْ سَقَطَتْ سهامه بنقصانها - والله أعلم -. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا تَشَارَطَا الْخَوَاسِقَ لَمْ يُحْسَبْ خَاسِقًا حَتَّى يَخْزِقَ الْجِلْدَ بِنَصْلِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الرَّمْيِ مِنْ قَارَعٍ، وَخَازِقٍ، وَخَاسِقٍ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِهَا اسْمُ الْخَوَاصِلِ. فَالْقَارِعُ مَا أَصَابَ الشَّنَّ وَلَمْ يؤثر فيه، والخارق مَا أَثَّرَ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَالْخَاسِقُ مَا ثَقَبَ الشَّنَّ وَثَبَتَ فِيهِ. وَيَحْمِلَانِ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى مَا شَرَطَاهَا فَإِذَا شَرَطَا فِيهِمَا الْخَوَاسِقَ، فَإِذَا خَرَقَ الشَّنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 216 وَثَبَتَ فِيهِ كَانَ خَاسِقًا مَحْسُوبًا، وَسَوَاءٌ طَالَ ثُبُوتُهُ أَوْ قَصُرَ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِوُجُودِ الثُّبُوتِ لَا بِدَوَامِهِ، وَإِنْ ثَقَبَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ، فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، لِأَنَّ اسْمَ الْخَسْقِ، لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ صِفَتِهِ فِيهِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّهُ مَحْسُوبٌ لَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ بَعْدَ الثَّقْبِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِضَعْفِ الشَّنِّ أَوْ لِسَعَةِ الثَّقْبِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا لِوُجُودِ الثَّقْبِ الَّذِي هُوَ أَلْزَمُ الصِّفَتَيْنِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْخَاسِقَ مُسَاوِيًا لِلْخَازِقِ وَاخْتِلَافُ اسْمِهِمَا يوجب اختلاف حكمهما. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ تَشَارَطَا الْمُصِيبَ فَمَنْ أَصَابَ الشَّنَّ وَلَمْ يَخْرِقْهُ حُسِبَ لَهُ لِأَنَّهُ مصيبٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ احْتُسِبَ كُلُّ مُصِيبٍ مِنْ قَارِعٍ، وَخَازِقٍ، وَخَاسِقٍ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا تُصِيبُ، وَهَكَذَا لَوْ تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ قَرْعًا احْتُسِبَ بِالْقَارِعِ وَبِالْخَازِقِ وَبِالْخَاسِقِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَرْعِ وَلَوْ تَشَارَطَا الْخَوَاصَلَ احْتُسِبَ بِكُلِّ مُصِيبٍ، لِأَنَّ إِصَابَةَ الْخَوَاصِلِ تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ مُصِيبٍ مِنْ قَارِعٍ، وَخَارِقٍ، وَخَاسِقٍ. فَأَمَّا الْخَوَاصِلُ فَهُوَ مَا أَصَابَ جَانِبَ الشَّنِّ، فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الرَّمْيِ لَمْ يُحْتَسَبِ الْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَاهُ احْتُسِبَ لَهُ مَعَ كُلِّ مُصِيبٍ فِي الشَّنِّ إِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ مَشْرُوطَةً فِي الشَّنِّ. (فَصْلٌ:) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا قَرْعًا، وَإِصَابَةُ الْآخَرِ خَسْقًا حَتَّى يَتَكَافَآ فِي الْإِصَابَةِ قَرْعًا أَوْ خَسْقًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَعْرِفَةُ أَحْذَقِهِمَا بِالرَّمْيِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ، وَإِصَابَةُ الْآخَرِ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاضُلِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِهِ الْأَحْذَقُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ تَشَارَطَا الْإِصَابَةَ قَرْعًا عَلَى أَنْ يُحْتَسَبَ بِخَاسْقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَارْعَيْنِ وَيُعْتَدَّ بِهِ إِصَابَتَيْنِ كَانَ هَذَا جَائِزًا لِتَكَافُئِهِمَا فِيهِ، لِتَكُونَ زِيَادَةُ الصِّفَةِ مُقَابِلًا لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا تِسْعَةً قَرْعًا وَأَصَابَ الْآخَرُ قَارْعَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ خَوَاسِقَ، فَقَدْ نَضَلَ مَعَ قِلَّةِ إِصَابَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَكْمَلَ بِمُضَاعَفَةِ الْخَوَاسِقِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْقَارْعَيْنِ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ نَقَصَ الْآخَرُ عَنْهُمَا بِإِصَابَةِ واحد فصار بها منضولاً. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا اشْتَرَطَا الْخَوَاسِقَ وَالشَّنُّ ملصقٌ بِالْهَدَفِ فَأَصَابَ ثَمَّ رَجَعَ فَزَعَمَ الرَّامِي أَنَّهُ خَسَقَ ثَمَّ رَجَعَ لغلظٍ لَقِيَهُ مِنْ حَصَاةٍ وَغَيْرِهَا وَزَعَمَ الْمُصَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْسَقْ وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَرَعَ ثَمَّ رَجَعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بينةٌ فَيُؤْخَذَ بِهَا ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 217 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اشْتِرَاطُ الْخَسْقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي إِصَابَةِ الشَّنِّ دُونَ الْهَدَفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّنَّ هُوَ جِلْدٌ يُنْصَبُ فِي الْهَدَفِ تُمَدُّ أَطْرَافُهُ بِأَوْتَارٍ أَوْ خُيُوطٍ تُشَدُّ فِي أَوْتَادٍ مَنْصُوبَةٍ فِي الْهَدَفِ الْمَبْنِيِّ، وَرُبَّمَا كَانَ مُلْصَقًا بِحَائِطِ الْهَدَفِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ بِنَحْوٍ مِنْ شِبْرٍ أَوْ ذِرَاعٍ، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يُنْصَبُ، وَخَسْقُ الشَّنِّ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْهَدَفِ أَوْضَحُ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُلْصَقًا بِهِ. فَإِذَا رَمَى وَالشَّنُّ مُلْصَقٌ بِالْهَدَفِ، فَأَصَابَ الشَّنَّ ثُمَّ سَقَطَ بِالْإِصَابَةِ خَسَقَ، فَزَعَمَ الرَّامِي أَنَّهَا خَسَقَ وَلَقِيَ غِلَظًا فِي الْهَدَفِ مِنْ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ، فَرَجَعَ وَهُوَ خَاسِقٌ وَزَعَمَ الْمَرْمِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَرَعَ فَسَقَطَ، وَلَمْ يَخْسِقْ، فَلَهُمَا ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الرَّامِي فِي قَوْلِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَفَ مَوْضِعُ خَسْقِهِ، وَيُرَى الْغِلَظُ مِنْ ورائه، فيكون القول قول مَعَ يَمِينٍ، لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدَةٌ بِصِدْقِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمَرْمِيِّ عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِهِ إِمَّا بِأَنْ لَا يَرَى فِي الشَّنِّ خَسْقًا، وَإِمَّا بِأَنْ لَا يَرَى فِي الْهَدَفِ غِلَظًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدَةٌ بِصِدْقِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْتَمِلَ صِدْقَ الْمُدَّعِي وَصِدْقَ الْمُنْكِرِ، لِأَنَّ فِي الشَّنِّ خواسق وفي الهدف غلط وَقَدْ أَشْكَلَتِ الْإِصَابَةُ هَلْ كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْغِلَظِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ حُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَطَأِ إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ لِوُقُوفِ الرَّامِي بَيْنَ صَوَابٍ وَخَطَأٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا إِلَّا مَعَ الْيَقِينِ، وَكَذَلِكَ لَا يُحْتَسَبُ بِالْخَطَأِ إِلَّا مَعَ الْيَقِينِ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنِ الْيَمِينِ أَحْلَفَ الرَّامِي الْمُدَّعِيَ، فَإِذَا حَلَفَ احْتُسِبَ بِإِصَابَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَال الشافعي: " وإن كان الشن بَالِيًا فَأَصَابَ مَوْضِعَ الْخَرْقِ فَغَابَ فِي الْهَدَفِ فَهُوَ مصيبٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُعْتَبِرٌ بِالشَّنِّ والهدف، ولهما ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الْهَدَفُ أَشَدَّ مِنَ الشَّنِّ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ قَدْ قَوِيَ وَاشْتَدَّ، فَإِذَا وَصَلَ السَّهْمُ إِلَيْهِ مِنْ ثَقْبٍ فِي الشَّنِّ ثَبَتَ فِي الْهَدَفِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الشَّنِّ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الشَّنِّ الْأَضْعَفِ أَجْدَرَ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّنُّ أَقْوَى مِنَ الْهَدَفِ وَأَشَدَّ، لِأَنَّهُ جِلْدٌ مَتِينٌ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 218 وَالْهَدَفُ تُرَابٌ ثَائِرٌ أَوْ طِينٌ لَيِّنٌ، فَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا، وَلَا مُخْطِئًا، أَمَّا الْإِصَابَةُ فَلِجَوَازِ أَنْ لَا يَخْسِقَ الشَّنَّ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِعَدَمِ مَا خَسَقَ مَعَ بِلَى الشَّنِّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الشَّنُّ وَالْهَدَفُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَا يُحْتَسَبَ بِهِ مُخْطِئًا، وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُصِيبًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ مِنْ إِصَابَةِ الْخَسْقِ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْهَدَفِ قَائِمٌ مُقَامَ ثُبُوتِهِ فِي الشَّنِّ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ فِي إِصَابَةِ الْخَسْقِ، وَيُحْتَسَبُ فِي إِصَابَةِ الْقَرْعِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَإِنْ أَصَابَ طَرَفَ الشَّنِّ فَخَرَقَهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ لَهُ خَاسِقًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّنِّ طعنةٌ أَوْ خيطٌ أَوْ جلدٌ أَوْ شيءٌ مِنَ الشَّنِّ يُحِيطُ بِالسَّهْمِ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ خَاسِقًا وَقَلِيلٌ ثبوته وكثيره سواءُ (قال) ولا يعرف الناس إذا وجهوا بأن يقال خاسقٌ إلا ما أحاط به المخسوق فيه ويقال للآخر خارمٌ لا خاسقٌ والقول الآخر أن يكون الخاسق قد يقع بالاسم على ما أوهن الصحيح فخرقه فإذا خرق منه شيئاً قل أو كثر ببعض النصل سمي خاسقاً لأن الخسق الثقب وهذا قد ثقب وإن خرق قال: وإذا وقع في خرق وثبت في الهدف كان خاسقاً والشن أضعف من الهدف ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَرَمَ السَّهْمُ الشَّنَّ فِي إِصَابَةِ الْخَوَاسِقِ، وَالْخَارِمُ هُوَ أَنْ يَقَعَ فِي حَاشِيَةِ الشَّنِّ فَيَخْرِمَهَا وَيَثْبُتَ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ تَوَابِعِ الشَّنِّ مَا يُحِيطُ بِدَائِرِ السَّهْمِ مِنْ طُفْيَةٍ أَوْ خَيْطٍ، وَالطُّفْيَةُ خُوصُ الْمُقْلِ يُدَارُ فِي حَاشِيَةِ الشَّنِّ بِالْحِجَازِ، فَإِنْ كَانَتِ الطُّفْيَةُ بَاقِيَةً بِخَيْطٍ بِدَائِرِ السَّهْمِ الْخَارِمِ كَانَ خَاسِقًا، لِأَنَّ الطُّفْيَةَ فِيهِ مِنْ جُمْلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَقَّ مَعَ الْخَرْمِ شيءٌ مِنْ حَاشِيَةِ الشَّنِّ، وَحَصَلَ مَا خَرَجَ مِنْ دَائِرِ السَّهْمِ مَكْشُوفًا فَلَا يَخْلُو مَوْضِعُ السَّهْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ دَائِرِ الشَّنِّ وَحَاشِيَتِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ حَاشِيَةُ الشَّنِّ بِضَعْفِهِ، فَهَذَا يُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا، وَإِنْ خَرَمَ، لِأَنَّ خَرْمَهُ لِضَعْفِ الشَّنِّ لَا لِمَوْقِعِ السَّهْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِوُقُوعِ السَّهْمِ فِي الْحَاشِيَةِ، وَيَدْخُلُ بَعْضُ دَائِرِ السَّهْمِ فِي الشَّنِّ، وَيَخْرُجُ بَعْضُ دَائِرِهِ فِي الشَّنِّ، فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ خَاسِقًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَدُّ بِهِ خَاسِقًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِاسْمِ الْخَرْمِ قَدْ زَالَ عِنْدَ حُكْمِ الْخَسْقِ، لِأَنَّ الْخَسْقَ مَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 219 أَحَاطَ بِالْمَخْسُوقِ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْضُ السَّهْمِ وَاقِعًا فِي الشَّنِّ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا مِنَ الشَّنِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ خَاسِقًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَرْمَ زِيَادَةٌ عَلَى الْخَسْقِ لِأَنَّ كُلَّ خَارِمٍ خَاسِقٌ وَلَيْسَ كُلُّ خَاسِقٍ خَارِمًا. وَالثَّانِي: إِنَّ مَقْصُودَ الْخَسْقِ مِنَ الثَّقْبِ، وَالثُّبُوتُ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنْ جُعِلَ خَاسِقًا كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ خَاسِقًا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ عَلَى مَا ذكرنا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ الشَّنُّ مَنْصُوبًا فَمَرَقَ مِنْهُ كَانَ عِنْدِي خَاسِقًا وَمِنَ الرُّمَاةِ مَنْ لَا يَحْسَبُهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السَّهْمُ الْمَارِقُ، فَهُوَ أَنْ يَنْفُذَ فِي الشَّنِّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ فَوْقَ الْهَدَفِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ، فَيَقَعَ وَرَاءَ الْهَدَفِ، فَيُحْتَسَبَ لَهُ فِي الرِّقَاعِ. فَأَمَّا فِي الْخَاسِقِ فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْتَسَبُ بِهِ خَاسِقًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى، وَأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْخَسْقِ، فَيُؤْخَذُ فِيهِ مَعْنَى الْخَسْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الرُّمَاةِ أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ خاسقاً، اعتباراً بالاسم، لأنه يسمى مارقاً ولا يُسَمَّى خَاسِقًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْقَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ مُخْطِئًا وَإِنْ لَمْ يُحْتَسَبْ خَاسِقًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا. وَأَمَّا السَّهْمُ الْمُزْدَلِفُ: فَهُوَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يِزْدَلِفُ مِنْهَا بِحَمْوَتِهِ وَحِدَّتِهِ، فَيَصِيرُ فِي الْهَدَفِ فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُصِيبًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا، لِأَنَّهُ بِحِدَّةِ الرَّمْيِ أَصَابَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ بِمُصِيبٍ، لِخُرُوجِهِ مِنَ الرَّامِي إِلَى غَيْرِ الْهَدَفِ، وَإِنَّمَا أَعَادَتْهُ الْأَرْضُ حِينَ ازْدَلَفَ عَنْهَا فِي الْهَدَفِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يُخْرِجِ الْمُزْدَلِفَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَمَلَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَرْضِ، فَإِنْ ضَعُفَتْ حَمْوَتُهُ بَعْدَ ازْدِلَافِهِ، وَلَانَتْ كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ، وَإِنْ قَوِيَتْ، وَصَارَ بَعْدَ ازْدِلَافِهِ أَحَدَّ لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 220 يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى مُرُوقِ السَّهْمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى ازدلافه، لأن مروق السهم عن فِعْلِ الرَّامِي، وَازْدِلَافَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَرْضِ، فَعَلَى هَذَا فِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ مُخْطِئًا مَا أَصَابَ، وَيَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ مُصِيبًا ومخطئاً، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِنْ أَصَابَ بِالْقِدْحِ لَمْ يُحْسَبْ إِلَّا مَا أَصَابَ بِالنَّصْلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قِدْحُ السَّهْمِ فَهُوَ خَشَبَتُهُ الْمُرَيَّشَةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ مِنْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَشَبَةِ. وقال آخرون: هم اسْمٌ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعِ الْوَتَرِ مِنْهُ، فَيُسَمَّى فُوقَ السَّهْمِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْوَتَرُ. وَأَمَّا النَّصْلُ فَهُوَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنَ السَّهْمِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُسَمَّى مِنْهُ نَصْلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ لِلْحَدِيدِ الْمُسَمَّى زَجًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِطَرَفِ الْخَشَبَةِ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا الزَّجُّ مِنَ الْحَدِيدِ، وَالْإِصَابَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالنَّصْلِ لَا بِالْقِدْحِ. فَإِذَا أَصَابَ بِغَيْرِ النَّصْلِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا، وَنُظِرَ فِيمَا أَصَابَ بِهِ مِنَ السَّهْمِ، فَإِنْ أَصَابَ بِعُرْضِ السَّهْمِ، احْتُسِبَ بِهِ مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى سُوءِ رَمْيِهِ، وَإِنْ أَصَابَ بِقِدْحِ سَهْمِهِ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مُخْطِئًا وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُفَارِقًا لِلشَّنِّ فَهَبَّتْ ريحٌ فَصَرَفَتْهُ أَوْ مُقَصِّرًا فَأَسْرَعَتْ بِهِ فَأَصَابَ حُسِبَ مُصِيبًا وَلَا حُكْمَ لِلرِّيحِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلرِّيحِ تَأْثِيرًا مِنْ تَغْيِيرِ السَّهْمِ عَنْ جِهَتِهِ، وَحُذَّاقُ الرُّمَاةِ يَعْرِفُونَ مَخْرَجَ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ، فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ، فَغَيَّرَتْهُ الرِّيحُ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْرُجَ مُفَارِقًا لِلشَّنِّ، فَتَعْدِلَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى الشَّنِّ فَيُصِيبَ أَوْ يَكُونَ مُقَصِّرًا عَنِ الْهَدَفِ، فَتُعِينَهُ الرِّيحُ حَتَّى يَنْبَعِثَ، فَيُصِيبَ، فَتُعْتَبَرَ حَالُ الرِّيحِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَأْثِيرِ الرَّمْيِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيحِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ قَوِيَّةً نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ كَانَ مَحْسُوبًا فِي الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ تَأْثِيرِ الريح بتحريف سهمه، فأصاب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 221 باجتهاده ورميه، وَإِنْ حَدَثَتِ الرِّيحُ بَعْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ وَجْهَانِ تَخْرِيجًا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الِاحْتِسَابِ بِإِصَابَةِ الْمُزْدَلِفِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ بِهِ مصيباً إذا احتسب إصابة الْمُزْدَلِفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ مُصِيبًا، وَلَا مخطئاً إِذَا لَمْ يُحْتَسَبْ بِإِصَابَةِ الْمُزْدَلِفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ مُوَافِقًا لِلْهَدَفِ، فَتَعْدِلَ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنِ الْهَدَفِ، فَيُعْتَبَرَ حَالُ الرِّيحِ، فَإِن كَانَتْ طَارِئَةً بَعْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ أُلْغِيَ السَّهْمُ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ حُدُوثِ الرِّيحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى سُوءِ الرَّمْيِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ مَوْجُودَةً عِنْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ نُظِرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ الَّذِي يَتَحَرَّزُ بِهِ مِنَ الرِّيحِ، وَلَمْ يُخْطِئْ مِنْ سُوءِ الرَّمْيِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ ضَعِيفَةً، فَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ خَطَأً؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَأْثِيرِ الرَّمْيِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيحِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مَحْسُوبًا فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تُفْسِدُ صَنِيعَ الْمُحْسِنِ، وَإِنْ قَلَّتْ كَمَا تُفْسِدُهُ إِذَا كَثُرَتْ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ، فَأَزَالَتِ الشَّنَّ عَنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّهْمِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّنِّ عَنْ مَوْضِعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِ الشَّنِّ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَيُحْتَسَبَ بِهِ مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ قَبْلَ الرِّيحِ وَبَعْدَهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّنُّ فِي الْهَدَفِ، فَيُحْتَسَبُ مُصِيبًا لِوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّ الْإِصَابَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يقع في الثمن بَعْدَ زَوَالِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزُولَ الشَّنُّ عَنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي الْخَطَأِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ عِنْدَ خُرُوجِ السَّهْمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّنِّ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَعِلْمِ الرَّامِيِ بِزَوَالِهِ، فَيُنْظَرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَارَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَوْضِعِهِ مِنَ الْهَدَفِ احْتُسِبَ بِهِ مُصِيبًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحِلًّا لِلْإِصَابَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 222 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ دُونَ الشَّنِّ شيءٌ فَهَتَكَهُ السَّهْمُ ثُمَّ مَرَّ بِحَمْوَتِهِ حَتَّى يُصِيبَ كَانَ مُصِيبًا وَلَوْ أَصَابَ الشَّنَّ ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ حُسِبَ وَهَذَا كَنَزْعِ إِنْسَانٍ إِيَّاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا اعْتَرَضَ بَيْنَ السَّهْمِ وَالْهَدَفِ حَائِلٌ مِنْ بَهِيمَةٍ أَوْ إِنْسَانٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِهِ السَّهْمُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ فِي صَوَابٍ وَلَا خَطَأٍ، وَإِنْ نَفَذَ فِي الْحَائِلِ حَتَّى مَرَقَ مِنْهُ، وَأَصَابَ الْهَدَفَ كَانَ مُصِيبًا، وَلَوْ نَقَضَ الْحَائِلُ السَّهْمَ حتى عدل بالنقص إِلَى الْهَدَفِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ بِالنَّقْضِ أَصَابَ لَا بِالرَّمْيِ كَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ بِحَصَاةٍ فَوَقَعَتْ عَلَى إِنْسَانٍ، فَنَقَضَهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْجَمْرَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهَا، ولو أصاب السهم الحائل ثم اندفع بحمومته، فَأَصَابَ فَهَذَا مُزْدَلِفٌ، وَفِي الِاحْتِسَابِ بِهِ فِي الإصابة قولان. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنَاضِلَ أَهْلُ النُّشَّابِ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ وَأَهْلَ الْحُسْبَانِ لِأَنَّ كُلَّهَا نصلٌ، وَكَذَلِكَ الْقِسِيُّ الدُّودَانِيَّةُ وَالْهِنْدِيَّةُ وَكُلُّ قوسٍ يُرْمَى عَنْهَا بسهمٍ ذِي نصلٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْوَاعُ الْقِسِيِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ النَّاسِ، فَلِلْعَرَبِ قِسِيٌّ، وَسِهَامٌ وللعجم قسي وسهام، وقيل إن أول ما صَنَعَ الْقِسِيَّ الْعَرَبِيَّةَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَأَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْقِسِيَّ الْفَارِسِيَّةَ النُّمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحِبُّ الْقَوْسَ الْعَرَبِيَّةَ، وَيَأْمُرُ بِهَا، وَيَكْرَهُ الْقَوْسَ الْفَارِسِيَّةَ، وَيَنْهَى عَنْهَا، وَرَأَى رَجُلًا يَحْمِلُ قَوْسًا فَارِسِيَّةً فَقَالَ: " مَلْعُونٌ حَامِلُهَا، عَلَيْكُمْ بِالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ وَسِهَامِهَا فَإِنَّهُ سَيُفْتَحُ عَلَيْكُمْ بِهَا " وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَظْرِ الْمَانِعِ، وَفِي تَأْوِيلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِيَحْفَظَ بِهِ آثَارَ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْدِلُ النَّاسُ عَنْهَا رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّدْبُ إِلَى تَفْضِيلِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ بَاقِيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ أَمَرَ بِهَا لِتَكُونَ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَتَشَبَّهُوا بِأَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُقْتَلُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّدْبُ إِلَى تَفْضِيلِهَا مُرْتَفِعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَشَتْ فِي عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ عَطَاءٌ إِنَّهُ لَعَنَ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَدْبًا إِلَى تَفْضِيلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَخَصَّهَا بِاللَّعْنِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَنَكَأَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ رَضِيَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْسِهِ لِمَنْ قَوِيَ رَمْيُهُ عَنْهَا أَحَبَّ إِلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَرَمَى كَانَتْ بِهِ أَوْلَى، وَيَكُونُ النَّدْبُ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ به الجزء: 15 ¦ الصفحة: 223 أَرَمَى، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ فِي عَقْدِ نِضَالِهَا مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ الرَّمْيَ عَنِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَنَاضَلَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَيْسَ لواحد منهما أن يعدل عنهما إِلَى الْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَجْلِ الشَّرْطِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا مَعًا عَلَى الْعُدُولِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْفَارِسِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّرْطِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ الرَّمْيَ عَنِ الْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَنَاضَلَا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا مَعًا بِالْعُدُولِ إِلَيْهَا جَازَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَرْمِيَ الْآخَرُ عَنِ الْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قَوْسَاهُمَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّمْيِ حَذْقُ الرَّامِيِ، وَالْآلَةُ تَبَعٌ وَمِثْلُهُ فِي السَّبَقِ إِذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَسَابَقَ عَلَى فَرَسٍ، والآخر على بغل ولا يَجُوزُ، وَإِنْ سَوَّى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي السَّبَقِ الْمَرْكُوبَانِ وَالرَّاكِبَانِ تَبَعٌ، فَلَزِمَ التَّسَاوِي فِيهِ، وَلَمْ يَلْزَمِ التَّسَاوِي فِي آلَةِ الرَّمْيِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الشَّرْطِ فِي قَوْسِهِ وَإِنْ سَاوَى فِيهِمَا صَاحِبَهُ لِأَجْلِ شَرْطِهِ، فَإِنْ رَاضَاهُ عَلَيْهَا جَازَ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا شَاءَ مِنْ قَوْسٍ عَرَبِيَّةٍ أَوْ فَارِسِيَّةٍ، فَيَجُوزَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْمِيَ عَنْ أَيِّ الْقَوْسَيْنِ شَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الرَّمْيِ وَبَعْدَهُ، فإن أراد أحدهما منع صاحبه مع خِيَارِهِ، لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ تَمَاثَلَا فِيهَا أَوِ اخْتَلَفَا. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ عُرْفٌ فِي أَحَدِ الْقَوْسَيْنِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَجَرَى فِي الْعُرْفِ فِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ مَجْرَى الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّمَاةِ فِيهِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ فَهُمَا بِالْخِيَارِ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ أحد القوسين، إذا كان فيهما مُتَسَاوِيَيْنِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّكَافُؤَ وَإِنِ اخْتَلَفَا لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ، وَقِيلَ لَهُمَا: إِنِ اتَّفَقْتُمَا وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ بَيْنَكُمَا. فَأَمَّا الْقَوْسُ " الدُّودَانِيَّةُ " فَهِيَ الْقَوْسُ الَّتِي لَهَا مَجْرًى يَمُرُّ السَّهْمُ فِيهِ، وَمِنْهَا قَوْسُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُهَا قَوْسَ الْيَدِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُنَاضِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا اتَّفَقُوا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَ الرَّجُلَانِ أَحَدُهُمَا قَائِمٌ، وَالْآخِرُ جَالِسٌ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ، فَيَلْزَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَغْلَبُ مِنْ عُرْفِ الرُّمَاةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاضِلَ أَهْلُ النُّشَّابِ أَصْحَابَ الْجُلَاهِقِ؛ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَذْفُ بِأَحَدِهِمَا حَذْفًا بِالْآخَرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 224 مسألة قال الشافعي: " ولا يجوز أن ينتصل رَجُلَانِ وَفِي يَدِي أَحَدِهِمَا مِنَ النَّبْلِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي يَدَيِ الْآخَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ ثَلَاثِينَ، فَيَكُونُ رَشْقُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ رَشْقِ الْآخَرِ، وَيَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " فِي يَدِ أَحَدِهِمَا " أَيْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِي عَدَدِ الرَّشْقِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ التَّمَاثُلُ؛ لِأَنَّهُ إن نضل، فللكثرة رَمْيِهِ لَا بِحَسْبَ صُنْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يتناضلا عَلَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً مِنْ عِشْرِينَ، وَيُصِيبَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ عِشْرِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالتَّفَاضُلِ فِيمَا يُوجِبُ التَّمَاثُلَ وَأَنَّهُ إِنْ نَضَلَهُ فَلِقِلَّةِ إِصَابَتِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ حُذَّاقِ الرُّمَاةِ إِذَا رَمُوا أَنْ يَأْخُذُوا فِي اليد اليمن بَيْنَ الْخِنْصَرِ وَالسَّبَّابَةِ سَهْمًا أَوْ سَهْمَيْنِ مُعَدًّا لِلرَّمْيِ، فَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَتَنَاضَلَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا إِذَا رَمَى سَهْمٌ وَاحِدٌ وَفِي يَدِ الْآخَرِ سَهْمَانِ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ السِّهَامِ فِي الْيَدِ مُؤَثِّرٌ فِي قِلَّةِ الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ نَضَلَ فَلِقِلَّةِ الْمَانِعِ مِنْ إِصَابَتِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْكَفَّ ذَاتَ الْأَصَابِعِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَا عَلَى أَنْ يُحْسَبَ خَاسِقُهُ خَاسِقَيْنِ وَالْآخَرُ خاسقٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النضال يوجب التساوي، فإذا رفع فِيهِ التَّفَاضُلُ بِأَنْ يَكُونَ خَاسِقُ أَحَدِهِمَا خَاسِقَيْنِ، وَخَاسِقُ الْآخَرِ خَاسِقًا وَاحِدًا بَطَلَ بِهِ الْعَقْدُ لدخول التفاضل فيه، وأنه نضل فلمضاعفة خَوَاسِقِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ. وَلَوْ شَرَطَا فِي الْقَرْعِ أَنْ يَكُونَ خَاسِقُ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا قَارِعَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي مُضَاعَفَةِ خواسقهما. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا ثَابِتًا لَمْ يَرْمِ بِهِ وَيُحْسَبُ لَهُ مَعَ خَوَاسِقِهِ وَلَا عَلَى أن يطرح من خواسقه خاسقاً وعلى أَنَّ خَاسِقَ أَحَدِهِمَا خَاسِقَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ مَنِ احْتُسِبَ لَهُ بِخَاسِقٍ لَمْ يُصِبْهُ يَصِيرُ مُفَضَّلًا بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ فَإِنْ نَضَلَ، فَلِتَفْضِيلِهِ لَا بِحُسْنِ صَنِيعِهِ، وَمَنْ أُسْقِطَ لَهُ خَاسِقٌ قَدْ أَصَابَهُ يَصِيرُ بِهِ مَفْضُولًا إِنْ نَضَلَ فَلِحَطِّ إِصَابَتِهِ لَا لِسُوءِ صَنِيعِهِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ؛ لِعَدَمِ التساوي بين المتفاضلين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 225 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْمِي مِنْ عرضٍ وَالْآخَرُ مِنْ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَّا فِي عرضٍ واحدٍ وعددٍ واحدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِيهِ، فَإِنْ وَقَعَ التَّفَاضُلُ فِيهِ أَفْسَدَهُ. وَمِنَ التَّفَاضُلِ اخْتِلَافُ الهدف في القرب والبعد، فيشرطا أَنْ يَرْمِيَ أَحَدُهُمَا مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَيَرْمِيَ الْآخَرُ مِنْ أَقَلَّ مِنْهَا، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ لِلتَّفَاضُلِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ قَوْسُ أَحَدِهِمَا عَرَبِيَّةً، يُصِيبُ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَقَوْسُ الْآخَرِ فَارِسِيَّةً يُصِيبُ مِنْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَشَرَطَا هَذَا التَّفَاضُلَ لِاخْتِلَافِ الْقَوْسَيْنِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْسَيْنِ فَيَجُوزَ هَذَا التَّفَاضُلُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَاوِيَ صَاحِبَهُ فِيهِ إِذَا عَدَلَ إِلَى قَوْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا أَحَدُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ؛ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا، وَيَرْمِي الْآخَرُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا، فَيَمْنَعَ هَذَا التَّفَاضُلُ مِنْ جَوَازِ التَّنَاضُلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَاوِيَ صَاحِبَهُ فِيهِ. وَمِنَ التَّفَاضُلِ الْمَانِعِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ الشَّنِّ فِي رَمْيِ أَحَدِهِمَا ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُهُ فِي رَمْيِ الْآخَرِ بَاعًا، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ. وَمِنَ التَّفَاضُلِ الْمَانِعِ أَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ أَحَدِهِمَا فِي الشَّنِّ وَإِصَابَةُ الْآخَرِ فِي الدَّارَةِ الَّتِي فِي الشَّنِّ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْقَوْسَيْنِ، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِيَارِهِمَا فِي الْأَمْرَيْنِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا عَلَى أَنْ يَرْمِيَ بقوسٍ أَوْ نبلٍ بأعيانها إن تغيرت لم يبدلهما ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فَرْقُ مَا بَيْنَ السبق والرمي بأن المقصود فراهة القوسين مِنَ السَّبَقِ، وَالْمَقْصُودَ مِنَ الرَّمْيِ حَذْقُ الرَّامِيَيْنِ، فَصَارَ الْفَرَسُ فِي السَّبَقِ أَصْلًا، وَالرَّاكِبُ تَبَعًا، فَلَزِمَ تَعْيِينُ الْفَرَسِ، وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الرَّاكِبِ، وَصَارَ الرَّامِي فِي النِّضَالِ أَصْلًا وَالْقَوْسُ تَبَعًا، فَلَزِمَ تَعْيِينُ الرَّامِي وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْقَوْسِ، فَإِنْ أُسْقِطَ تَعْيِينُ مَا يَلْزَمُ تَعْيِينُهُ مِنَ الْقَوْسِ فِي السَّبَقِ وَالرَّامِي فِي النِّضَالِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ عُيِّنَ مَا لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُهُ مِنَ الرَّاكِبِ فِي السَّبَقِ أَنْ لَا يَرْكَبَ غَيْرُهُ، وَالْقَوْسُ فِي النِّضَالِ أَنْ لَا يَرْمِيَ عَنْ غَيْرِهَا، لَمْ يَتَعَيَّنِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَصْلِهِ، وَنُظِرَ فِي التَّعْيِينِ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَقَالَ: عَلَى أَنْ لَا يَرْكَبَ إِلَّا هَذَا الْفَارِسُ، وَعَلَى أَنْ لَا يَرْمِيَ إِلَّا عَنْ هَذِهِ الْقَوْسِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي السَّبَقِ وَالنِّضَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْقُودًا عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ لَازِمٍ، وَإِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 226 خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ، فَقَالَ: وَيَرْكَبُ هَذَا الْفَارِسُ، وَيَرْمِي عَنْ هَذِهِ الْقَوْسِ كَانَ الْعَقْدُ فِي السَّبَقِ وَالنِّضَالِ جَائِزًا وَلَهُ أَنْ يُبَدِّلَ الرَّاكِبَ بِغَيْرِهِ إِذَا كَانَ فِي مِثْلِ ثِقَلِهِ لِعِلَّةٍ وَلِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَيُبَدِّلَ الْقَوْسَ بِغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا لِعِلَّةٍ وَلِغَيْرِ عِلَّةٍ. (مسألة:) قال الشافعي: " ومن الرماة من زعم أنها إِذَا سَمَّيَا قَرْعًا يَسْتَبِقَانِ إِلَيْهِ فَصَارَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ بَيْنَهُمَا زِيَادَةَ سهمٍ كَانَ لِلْمُسْبِقِ أَنْ يَزِيدَ فِي عَدَدِ الْقَرْعِ مَا شَاءَ ومنهم من زعم أنه ليس له أن يزيد في عدد الفرع ما لم يكونا سواءً ومنهم من زعم أنه ليس له أن يزيد بغير رضا المسبق (قال المزني) رحمه الله: وهذا أشبه بقوله كما لم يكن سبقهما في الخيل ولا في الرمي ولا فِي الِابْتِدَاءِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى غايةٍ واحدةٍ فكذلك فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَزِيدَ إلا باجتماعهما على زيادة واحدٍ وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي لُزُومِ عَقْدِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، كَالْجِعَالَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عليها مسألتان: أحدهما: فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، فَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ صَحَّ، وَهَلِ الْفَسْخُ إِقَالَةُ مُرَاضَاةٍ أَوْ فَسْخُ خِيَارٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِقَالَةَ مُرَاضَاةٍ إِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: فَسْخَ خِيَارٍ إِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْفَسْخِ فِي الْقِرَاضِ وَالْجِعَالَةِ. وَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفَرُّدُ بالفسخ، وإن قيل بجوازه كالجعالة، فإن كان قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْغَلَبَةِ، فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيَيْنِ وَمُتَقَارِبَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِصَابَةِ أَوْ فُضِّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِسَهْمٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ فَسْخُ خِيَارٍ، وَلَيْسَ بِإِقَالَةٍ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْإِصَابَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ قَبْلَ تَمَامِهِمَا، فَإِنْ فَسَخَ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَالِبٌ جَازَ، وَإِنْ فَسَخَ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ، فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي خِيَارِ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يُضَاعَ عَلَى الْغَالِبِ مَا يَلُوحُ مِنْ وُجُوبِ حَقِّهِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي زِيَادَةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ، فَيَجْعَلَ إِصَابَةَ خَمْسَةٍ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ يَجْعَلَ إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ ثلاثين أو يعقداه عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ دِينَارٌ، فَيُجْعَلَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ، وَلَمْ يصح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 227 ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ، وَاسْتِئْنَافِ عَقْدٍ مُسْتَجَدٍّ. وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، لَكِنْ لَا يَصِيرُ الْآخِذُ دَاخِلًا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرِّضَا بِهِ، وَقِيلَ لِه: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُرَامِيَهُ عَلَى هَذَا، وَإِلَّا مَلَكَ خِيَارَكَ. فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ الرُّمَاةِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَ بِهِ على وجهين: أحدهما: أراد مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ لُزُومِهِ وَجَوَازِهِ وَزِيَادَتِهِ، وَنُقْصَانِهِ، قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ وَتَقَدَّمَهُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَصَحَّ مَذَاهِبِهِمْ عِنْدَهُ؛ لِيُعْلَمَ صَحِيحُهَا وَفَاسِدُهَا. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا سيما قَرْعًا يَسْتَبِقَانِ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ أَرَادَ بِالْقَرْعِ صِحَّةَ الْإِصَابَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ عَدَدَ الْإِصَابَةِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالَ النِّضَالِ. وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: كَمَا لَمْ يَكُنْ سِبَاقُهُمْ فِي الْخَيْلِ، وَلَا فِي الرَّمْيِ فِي الِابْتِدَاءِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَزِيدَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى زِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِكَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَرَادَ اخْتِيَارَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ دُونَ جَوَازِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُصِيبًا فِي اخْتِيَارِهِ، مُخْطِئًا فِي تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ لُزُومُهُ، فَصَحَّ اخْتِيَارُهُ، وعلل بأن لما لَمْ يَنْعَقِدْ إِلَّا بِاجْتِمَاعٍ، لَمْ يَنْفَسِخْ إِلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ؛ بِالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْجِعَالَةِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ أَحَدُهُمَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ إِذَا دَعَا أَحَدُهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ، مُصِيبًا فِي تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُوجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَى الرِّضَا بِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ معاً. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إِنْ أَصَبْتَ بِهَذَا السَّهْمِ فَقَدَ نَضَلْتُكَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ رجلٌ لَهُ سَبَقًا إِنْ أَصَابَ بِهِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 228 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَقْدٍ بَيْنَ مُتَنَاضِلَيْنِ عَلَى إِصَابَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ رَشْقٍ مَعْلُومٍ، كَاشْتِرَاطِهِمَا إِصَابَةَ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ فَيَشْرَعَانِ فِي الرَّمْيِ، وَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِ إِصَابَتِهِ عَلَى تساوٍ أَوْ تُفَاضِلٍ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، ثُمَّ يَسْتَثْقِلَانِ إِتْمَامَ الرَّمْيِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هوذا أَرْمِي بِهَذَا السَّهْمِ فَإِنْ أَصَبْتُ بِهِ، فَقَدَ نَضَلْتُكَ وَإِنْ أَخْطَأْتُ بِهِ، فَقَدَ نَضَلْتَنِي فَهَذَا بَاطِلٌ، لَا يَصِيرُ بِهِ نَاضِلًا إِنْ أَصَابَ، ولا منضولاً إن أخطأت. وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِنَّهُ جَعَلَ الْإِصَابَةَ الْوَاحِدَةَ قَائِمَةً مَقَامَ إِصَابَاتٍ، فَبَطَلَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَؤُولَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْ قِلَّةِ إِصَابَتِهِ نَاضِلًا وَمِنْ كَثْرَةِ إِصَابَتِهِ مَنْضُولًا، فَإِنْ تَقَاسَمَا عَقْدَهُمَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ: ارْمِ بِسَهْمِكَ هَذَا، فَإِنْ أَصَبْتَ بِهِ، فَلَكَ دِرْهَمٌ، جَازَ وَاسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ إِنْ أَصَابَ، وَلِجَوَازِهِ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا إِنَّهُ قَدْ أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَالْتَزَمَ لَهُ مَا بَذَلَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِيَةُ: إِنَّهُ تَحْرِيضٌ فِي طَاعَةٍ فَلَزِمَ الْبَذْلُ عَلَيْهَا كَالْمُنَاضَلَةِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَهَذَا بَذْلُ مَالٍ عَلَى عَمَلٍ، وَلَيْسَ بِنِضَالٍ؛ لِأَنَّ النِّضَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَكْثَرَ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَنَاضَلَ رَجُلَانِ عَلَى إِصَابَةِ عَشَرَةٍ مِنْ عِشْرِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَحَضَرَ ثَالِثٌ، فَقَالَ لِمُخْرِجِ الْمَالِ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ، فَإِنْ نَضَلْتَ فَلِي نِصْفُ الْعَشَرَةِ، وَإِنْ نَضَلَكَ فَعَلَيَّ نِصْفُ الْعَشَرَةِ كَانَ بَاطِلًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهِمَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ شَرِيكًا لَهُمَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَصِيرُ آخِذًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَمُعْطِيًا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ ارْمِ عَشَرَةَ ارشاقٍ فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ فَلَكَ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَاضِلَ نَفْسَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُزَنِيَّ حَذَفَ مِنْهَا مَا قَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فَقَالَ فِيهِ: وَلَوْ قَالَ لَهُ: نَاضِلْ نَفْسَكَ، وَارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ، فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِكَ فَلَكَ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَاضِلَ نَفْسَهُ، فَحَذَفَ الْمُزَنِيُّ قَوْلَهُ: " نَاضِلْ نَفْسَكَ " وَأَوْرَدَ بَاقِيَ كَلَامِهِ وَحُكْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 229 وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُنَاضِلًا لِنَفْسِهِ، وَالنِّضَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَثُرَ، فَاسْتَحَالَ نِضَالُ نَفْسِهِ فَبَطَلَ. وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه فاضل عَلَى خِطْئِهِ بِصَوَابِهِ بِقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ صَوَابُكَ أكثر من خطئك، والخطأة لَا يُنَاضَلُ عَلَيْهِ، وَلَا بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ هاهنا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِضَالَ نَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ صَحِيحٌ، وَيَسْتَحِقُّ مَا جُعِلَ لَهُ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ؛ لأنه بذل مال عَلَى عَمَلٍ لَمْ يُنَاضِلْ فِيهِ نَفْسَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ بَاطِلٌ لِلتَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنَّهُ مُنَاضِلٌ على خطته وصوابه، ويتفرع على هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ثَالِثَةٌ: وَاخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا بِأَيِّهِمَا تَلْحَقُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: نَاضِلْ وَارْمِ عَشَرَةَ أَرْشَاقٍ فَإِنْ كَانَ صَوَابُكَ أَكْثَرَ، فَلَكَ كَذَا فَتُوَافِقَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: نَاضِلْ، وَتُوَافِقَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ فِي حَذْفِ قَوْلِهِ: نَاضِلْ نَفْسَكَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الْبُطْلَانِ؛ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: نَاضِلْ، وَالنِّضَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: نَاضِلْ نَفْسَكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَمْلِ صِحَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْعِلَّتَيْنِ إِذَا سَقَطَ قَوْلُهُ نَاضِلْ نَفْسَكَ صَارَ قَوْلُهُ: نَاضِلْ، يَعْنِي: ارْمِ عَلَى نِضَالٍ، وَالنِّضَالُ الْمَالُ، فَصَارَ كَالِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: ارْمِ عَشَرَةَ أرشاق. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا رَمَى بسهمٍ فَانْكَسَرَ فَإِنْ أَصَابَ بِالنَّصْلِ كَانَ لَهُ خَاسِقًا وَإِنْ أَصَابَ بِالْقِدْحِ لَمْ يَكُنْ خَاسِقًا وَلَوِ انْقَطَعَ بِاثْنَيْنِ فَأَصَابَ بِهِمَا جَمِيعًا حُسِبَ الَّذِي فِيهِ النَّصْلُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، فَإِذَا انْكَسَرَ السهم بعد خروجه عند الْقَوْسِ، فَلَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْقُطَ عَادِلًا عَنِ الْهَدَفِ، فَلَا يُحْتَسَبَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَسَادِ السَّهْمِ، لَا مِنْ سوء الرمي. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 230 والحال الثانية: أنه يُصِيبَ بِعُرْضِ السَّهْمِ، فَيُرَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصِيبَ بِكَسْرِ الْقِدْحِ دُونَ النَّصْلِ، فَيُرَدَّ، وَلَا يُحْتَسَبُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصِيبَ بِكَسْرِ النَّصْلِ، فينر، فَإِنْ وَقَعَتِ الْإِصَابَةُ مِنْ كَسْرِ النَّصْلِ بِالطَّرَفِ الَّذِي فِيهِ حَدِيدَةُ النَّصْلِ، احْتُسِبَ بِهِ مُصِيبًا، لِأَنَّهُ أَصَابَ بِمَحَلِّ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ أَصَابَ مِنْهُ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ الْمُتَّصِلِ بِقِدْحِ الْفُوقِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا، وَلَا مُخْطِئًا، لِأَنَّهُ أَصَابَ بِغَيْرِ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُصِيبَ بِالْكَسْرَيْنِ مَعًا، فَلَا يُحْتَسَبَ بِكَسْرِ الْقِدْحِ، وَيَكُونُ الِاحْتِسَابُ بِكَسْرِ النَّصْلِ مُعْتَبَرًا بِمَا ذَكَرْنَا إِنْ كَانَ بِطَرَفِ الْحَدِيدَةِ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ كَانَ بِطَرَفِهِ الآخر كان مردوداً. (مسألة:) قال الشافعي: " وإن كان في الشن نبلٌ فأصاب سهمه فُوقَ سهمٍ فِي الشَّنِّ لَمْ يُحْسَبْ وَرُدَّ عَلَيْهِ وَرُمِيَ بِهِ لِأَنَّهُ عارضٌ دُونَ الشَّنِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فُوقَ السَّهْمِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِي طَرَفِهِ لِمَوْقِعِ الْوَتَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ سَهْمٌ فِي الشَّنِّ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ سَهْمُ هَذَا عَلَى فُوقِ السَّهْمِ الَّذِي فِي الْهَدَفِ، فَلِلسَّهْمِ الثَّابِتِ فِي الْهَدَفِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ فِي الْهَدَفِ قَدْرَ نَصْلِهِ، وَيَكُونَ بَاقِي طُولِهِ خَارِجًا، فَلَا يُحْتَسَبَ لِهَذَا بِسَهْمِهِ لَا مُخْطِئًا، وَلَا مُصِيبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلَّ الْهَدَفِ، فَصَارَ مُقَصِّرًا، فَلَمْ يعتد به مصيباً، ولا مخطئاً، ومنعه طائل، فَلَمْ يَصِرْ مُخْطِئًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ الثَّابِتُ فِي الْهَدَفِ قَدْ دَخَلَ جَمِيعُهُ فِي الْهَدَفِ حَتَّى غَاصَ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ فُوقِهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ هَذَا السَّهْمُ، فَيُنْظَرُ فِي الْإِصَابَةِ: فَإِنْ كَانَتْ قَرْعًا احْتُسِبَ بِهَذَا السَّهْمِ مُصِيبًا لِوُصُولِ السَّهْمِ إِلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْهَدَفِ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِصَابَةُ خَسْقًا لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مُصِيبًا وَلَا مُخْطِئًا إِلَّا إِنْ ثَبَتَ نَصْلُهُ مِنْ فُوقِ ذَلِكَ السَّهْمِ، فَيُحْتَسَبُ بِهِ مُصِيبًا فِي الْخَسْقِ؛ لِأَنَّ مَا خَسَقَ الْخَشَبَ، وَثَبَتَ فِيهِ فَأَوْلَى أَنْ يَخْسَقَ الشَّنَّ، وَيَثْبُتَ فِيهِ، وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الْإِصَابَةُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (نُصِيبُ بِبَعْضِهَا أَفْوَاقَ بعضٍ ... فلولا الكسر لاتصلت مصيبا) (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَبِقُ أَنْ يَجْلِسَ وَلَا يَرْمِيَ وَلِلْمُسْبَقِ فضلٌ أَوْ لَا فَضْلَ لَهُ فَسَوَاءٌ وقد يكون له الفضل فنيضل ويكون عليه الفضل وينضل والرماة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 231 يختلفون في ذلك فمنهم من يجعل له أن يجلس ما لم ينضل ومنهم من يقول ليس له أن يجلس إلا من عذرٍ وأحسبه إن مرض مرضاً يضر بالرمي أو يصيب إحدى يديه علةٌ تمنعه من ذلك كان له أن يجلس ويلزمهم أن يقولوا إذا تراضيا على أصل الرمي الأول ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَلَسَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ عَنِ الرَّمْيِ، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ عَنْ وَقْتِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، وَطَلَبَ التَّأْخِيرَ أُخِّرَ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّعْجِيلِ سَوَاءٌ قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ أَوْ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ الَّتِي يَجُوزُ التَّأَخُّرُ عَنْهَا بِالْعُذْرِ وَأَعْذَارُهُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ مَا أَثَّرَ فِي نَفْسِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شَدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ أَثَّرَ فِي رَمْيِهِ مِنْ شِدَّةِ رِيحٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ أَثَّرَ فِي أَهْلِهِ مِنْ مَوْتٍ حَلَّ أَوْ حَادِثٍ نَزَلَ أَوْ أَثَّرَ فِي مَالِهِ مِنْ جَائِحَةٍ طَرَقَتْ أَوْ خَوْفٍ طَرَأَ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ عُذْرٌ، وَالْتَمَسَ بِهِ الدَّعَةَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى التَّعْجِيلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، إِذَا قِيلَ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِهِ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ كَالْجِعَالَةِ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِالْجُلُوسِ عَنِ الرَّمْيِ فَسْخَ الْعَقْدِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي الْفَسْخِ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْفَسْخِ، وَأَعْذَارُ الْفَسْخِ أَضْيَقُ وَأَغْلَظُ مِنْ أَعْذَارِ التَّأْخِيرِ وَهِيَ مَا اخْتَصَّتْ بِنَفْسِهِ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَتِمَّةِ رَمْيِهِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَشَلَلِ يَدِهِ أَوْ ذَهَابِ بَصَرِهِ، فَالْفَسْخُ وَاقِعٌ بِحُدُوثِ هَذَا الْمَانِعِ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى فَسْخِهِ بِالْقَوْلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَمَرَضِ يَدِهِ أَوْ رَمَدِ عَيْنِهِ أَوْ علة جسده، فلا يتفسخ الْعَقْدُ بِحُدُوثِ هَذَا الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لِإِمْكَانِ الرَّمْيِ بِإِمْكَانِ زَوَالِهِ، وَيَكُونُ الْفَسْخُ بِالْقَوْلِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ طَلَبَ تَعْجِيلَ الرَّمْيِ، فَلَهُ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ هَذَا الْفَسْخِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْعَقْدِ بِهِ، وَإِنْ أَجَابَ صَاحِبَهُ إِلَى الْإِنْظَارِ بِالرَّمْيِ إِلَى زَوَالِ الْمَرَضِ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرُهُ فِي الْفَسْخِ بَاقِيًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بَاقِيًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ ذِمَّتُهُ مُرْتَهِنَةً بِالْعَقْدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عُذْرَ الْفَسْخِ قَدْ زَالَ بِالِانْتِظَارِ، وَلَيْسَ لِلْمُنْظِرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَذَا الْإِنْظَارِ، وَإِنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْإِنْظَارِ بِالدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَيْبٍ رَضِيَ بِهِ وَجَرَى مَجْرَى الْإِنْظَارِ بِالْإِعْسَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِطَالِبِ الْفَسْخِ عُذْرٌ فِي الْفَسْخِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 232 فَإِنْ قِيلَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ، وَأُخِذَ بِهِ جَبْرًا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ عَلَيْهِ كَمَا يُحْبَسُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ إِذَا امْتَنَعَ بِهَا، فَإِنْ طَالَ بِهِ الْحَبْسُ، وَهُوَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عُزِّرَ حَتَّى يُجِيبَ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْعَقْدِ كَالْجِعَالَةِ، فَلَهُ الْفَسْخُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَقَبْلَ ظُهُورِ الْغَلَبَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ لِطَالِبِ الْفَسْخِ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْفَسْخِ قَوْلَانِ مَضَيَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ ظُهُورِهَا، لِتَفْوِيتِ الْأَغْرَاضِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ظُهُورِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هاهنا، لَهُ الْفَسْخُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ الْفَضْلُ فَيَنْضُلُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ الفضل، فينضل. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَعْقِدُ مَعَهُ عَقْدَ السَّبَقِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: لَا يَخْرُجُ مَالُ السَّبَقِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " عَلَى أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ "، ففيه تأويلان عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ أُعِيدَ عَلَيْهِ السَّهْمُ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ فِي الْخَطَأِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ خَطَأَيْنِ خَطَأً وَاحِدًا. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ أُعِيدَ صَوَابُهُ، فَاحْتُسِبَ بِهِ إِصَابَتَيْنِ، وَالْعَقْدُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اشْتِرَاطُ تَفَاضُلِهِمَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ تُسَاوِيهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ مَقْصُودَ عَقْدِهِمَا مَعْرِفَةُ أَحْذَقِهِمَا، وَلَا يُعْلَمُ مَعَ مناضلة التفاضل حذق الحاذق. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ سَبَقَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّ مَعْرُوفًا أَنَّ الصَّوَابَ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ عَقْدُ نِضَالِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قَوْسٍ عربية، فأراد أن يبذلها بِقَوْسٍ فَارِسِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الصَّوَابَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهَا بقوة أُخْرَى عَرَبِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَتَعَيَّنُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ عَقْدُ نِضَالِهِمَا عَلَى الْفَارِسِيَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ تَعْيِينَ الْجِنْسِ يَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 233 وَالثَّانِي: إِنَّ مَقْصُودَ الرَّمْيِ تَفَاضُلُهُمَا فِي الْحَذْقِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَحْذَقَ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أنه مع التماثل أحذق. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ سَبَقَهُ وَلَمْ يُسَمِّ الْغَرَضَ كَرِهْتُهُ فَإِنْ سَمَّيَاهُ كَرِهْتُ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخْفِضَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغَرَضُ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ اسْمٌ لِلْمُرَادِ بِالْفِعْلِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِرَادَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مَا اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَالْإِرَادَةُ قَدْ تَعُمُّ، فَتَكُونُ بِفِعْلٍ وَغَيْرِ فِعْلٍ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي النِّضَالِ وَلَهُ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَحَقِيقَةُ الْغَرَضِ فِي النِّضَالِ: مَحَلُّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْهَدَفِ وَمَجَازُهُ فِي النِّضَالِ مَوْقِفُ الرَّامِي عِنْدَ رَمْيِ الْهَدَفِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِفَ الْغَرَضَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْإِصَابَةِ وَالْغَرَضَ الَّذِي هُوَ مَوْقِفُ الرَّامِي؛ لِيَكُوَنَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْهُمَا مَعْلُومًا بَعْدَ تَفْسِيرِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا. أَمَّا الْغَرَضُ فِي الْهَدَفِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَدَفَ هُوَ بِنَاءٌ يُنْصَبُ فِيهِ الْغَرَضُ، وَالْغَرَضُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَنٍّ وَجَرِيدٍ وَعُري وَمَعَالِيقَ. فَالشَّنُّ هُوَ الْجِلْدُ. وَالْجَرِيدُ: هُوَ الْخَشَبُ الْمُحِيطُ بِالشَّنِّ، حَتَّى يَنْبَسِطَ فِيهِ كَحَلْقَةِ الْمُنْخُلِ، وَأَمَّا الْعُرْي: فهو كالحلق حول الشن. فأما الْمَعَالِيقُ: فَهِيَ أَوْتَارٌ يُشَدُّ بِهَا عُري الشَّنِّ إِلَى أَوْتَادٍ فِي الْهَدَفِ، وَفِي الشَّنِّ دَائِرَةٌ هِيَ أَضْيَقُ مِنْهُ، وَفِي الدَّائِرَةِ هِلَالٌ هُوَ أَضْيَقُ، وَفِي الْهِلَالِ خَاتَمٌ هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ، فَأَحْذَقُ الرُّمَاةِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْخَاتَمِ، فَلَا يحتسب له بإصابة الْهِلَالِ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْهِلَالِ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِإِصَابَةِ الدَّائِرَةِ، وَمَا زَادَ، ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الدَّائِرَةِ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِإِصَابَةِ الشَّنِّ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الشَّنِّ، فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِبَقِيَّةِ الْغَرَضِ، وَمَا زَادَ ثُمَّ يَلِيهِ مَنْ يَشْتَرِطُ إِصَابَةَ الْغَرَضِ، فَيُحْتَسَبُ بِإِصَابَةِ الشَّنِّ، وَالشَّنِّ وَالْعُرَى، وَفِي الِاحْتِسَابِ لَهُ بِإِصَابَةِ الْمَعَالِيقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ بِهَا كَالْعُرَى. وَالثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهَا كَالْأَوْتَادِ وَلَهُمْ فِي مَحَلِّ الْغَرَضِ مِنَ الْهَدَفِ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُهُ وَيُسَمُّونَهُ جَوَّانِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْفِضُهُ وَيُسَمُّونَهُ مَيْلَانِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّطُ فِيهِ وَيُسَمُّونَهُ نَطْحَانِيٌّ. وَأَمَّا الْغَرَضُ فِي مَوْقِفِ الرَّامِي، فَهُوَ مَقَامُ الرَّامِي فِي اسْتِقْبَالِ الْهَدَفِ يَرْمِيهِ مِنْ مَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَقِلُّ الْإِصَابَةُ بِبُعْدِهَا، وَتَكْثُرُ بِقُرْبِهَا، وَيَحْتَاجُ فِي الْقَرِيبَةِ إِلَى الْقَوْسِ اللَّيِّنَةِ حَتَّى لَا يَمْرُقَ السَّهْمُ، وَفِي الْبَعِيدَةِ إِلَى الْقَوْسِ الشَّدِيدَةِ حَتَّى يَصِلَ السَّهْمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 234 (فَصْلٌ:) وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ ال ْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: " وَإِنْ سَبَقَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ الْغَرَضَ كَرِهْتُهُ "، هَلْ أَرَادَ بِهِ غَرَضَ الْهَدَفِ أَوْ غَرَضَ الْمَوْقِفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ غَرَضَ الْمَوْقِفِ أَنْ تَكُونَ مَسَافَتُهُ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ أَغْفَلَا ذِكْرَهَا، وَعُرْفُ الرُّمَاةِ فِيهِ مُخْتَلِفٌ بَطَلَ الْعَقْدُ لِلْجَهْلِ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " كَرِهْتُهُ " أَيْ حَرَّمْتُهُ، كَمَا قَالَ: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُدْهَنَ مِنْ عَظْمِ فِيلٍ " أَيْ أُحَرِّمُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ فِيهِ عرفٌ مَعْهُودٌ، فَفِي حَمْلِهِمَا عَلَيْهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَقُومُ فِي الْعُقُودِ مَقَامَ الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " كَرَاهَةً " يُرِيدُ: كَرَاهَةَ اخْتِيَارٍ لَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَعَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لِأَعْيَانِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَغْرَاضٌ فِي مُخَالَفَةِ الْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا لَا يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ، لِهَذَا التَّعْلِيلِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهِ وَأَنَّ الْقَوِيَّ فِي الْبُعْدِ أَرْغَبُ، وَالضَّعِيفَ فِي الْقُرْبِ أَرْغَبُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " كَرِهْتُهُ " أَيْ: حَرَّمْتُهُ، وَإِذَا تَقَدَّرَتْ مَسَافَةُ الْغَرَضِ إِمَّا بِالشَّرْطِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ لِأَنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " فَإِنْ سَمَّيَاهُ كَرِهْتُ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخَفِضَهُ " أَيْ: مَنَعْتُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ارْتِفَاعٌ، وَالنُّقْصَانَ انْخِفَاضٌ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَسْأَلَةِ وَجَوَابُهَا عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي أَحْكَامِهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْإِغْفَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا غَرَضُ الْهَدَفِ فِي ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ، وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ حُمِلَا عَلَى مَا سَمَّيَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْفَعَهُ إِنْ كَانَ مُنْخَفِضًا وَلَا أَنْ يَخْفِضَهُ إِذَا كَانَ مُرْتَفِعًا الْتِزَامًا بِحُكْمِ الشَّرْطِ. وَإِنْ أَغْفَلَاهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ مَقْصُودِهِ، وَقِيلَ لَهُمَا: إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ حُمِلْتُمَا فِيهِ عَلَى اتِّفَاقِكُمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْكُمَا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخْفِضَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا فِيهِ حُمِلْتُمَا عَلَى العرف، ويكون الاتفاق هاهنا مُقَدَّمًا عَلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْغَرَضِ أَمْكَنُ لِلطَّوِيلِ، وَالرَّاكِبِ، وَانْخِفَاضَهُ أَمْكَنُ لِلْقَصِيرِ وَالنَّازِلِ. وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ عِنْدَ تَقَدُّرِ الِاتِّفَاقِ، مُخْتَلِفًا رُوعِيَ فِيهِ أَوْسَطُ الْأَغْرَاضِ الْمُسَمَّى: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 235 الْجَوَّانِيَّ؛ لِتَعْدِيلِ مَا بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ، وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " كَرِهْتُ " مَحْمُولًا عَلَى كَرَاهَةِ الِاخْتِيَارِ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَقَدْ أَجَازَ الرُّمَاةُ لِلْمُسْبِقِ أَنْ يُرَامِيَهُ رَشْقًا وَأَكْثَرَ فِي الْمِائَتَيْنِ وَمَنْ أَجَازَ هَذَا أَجَازَهُ فِي الرُّقْعَةِ وَفِي أَكْثَرَ مِنْ ثلاثمائةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا مُشْتَبَهًا يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُبْهَمَةٍ، وَأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فيلزم تعيين أسمائها، وبيان أحكامها. فأما السماء، فَذَكَرَ مِنْهَا الرَّشْقَ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ لِلرَّمْيِ، وَبِكَسْرِهَا اسْمٌ لِعَدَدِ الرَّمْيِ، وَهُمَا عَدَدَانِ لَازِمٌ وَمُسْتَحَبٌّ. فَأَمَّا اللَّازِمُ فِي الْعَقْدِ، فَهُوَ جُمْلَةُ عَدَدِ الرَّمْيِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، كَاشْتِرَاطِهِمَا رَمْيَ مِائَةِ سَهْمٍ، فَالْمِائَةُ رشقٌ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرِّشْقِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فِي الْعَقْدِ، فَهُوَ تَفْصِيلُ عَدَدِ الرَّمْيِ الَّذِي يَتَنَاوَبَانِ فِيهِ كَاشْتِرَاطِهِمَا أَنْ يَتَرَامَيَا خَمْسًا خَمْسًا، أَوْ عَشْرًا عَشْرًا، فَالْعَشْرُ رشقٌ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرِّشْقِ، مَجَازًا؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْحَقِيقَةِ، فَصَارَا رِشَقَيْنِ: رِشْقَ جُمْلَةٍ، وَرِشْقَ تَفْصِيلٍ. وَعَادَةُ الرُّمَاةِ فِي رِشْقِ التَّفْصِيلِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا خَمْسًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ عَشْرًا عَشْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ اثْنَيْ عَشَرَ تَبَرُّكًا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ أُحُدٍ: ارْمِ فداك أبي وأمي، اثني عَشْرَةَ مَرَّةً، فَكَانَ حُسْنُ الْأَثَرِ فِي الرَّمْيِ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ سَهْمًا، وَأَرَاقَ فِيهِ دَمًا، وَشِعْرُهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ: (أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نبلي) (فما تعتد رامٍ فِي عدوٍّ ... بسهمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قبلي) \ وذلك أن دينك دين صدق وذي حق حتى أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ. فَأَمَّا النَّدْبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِمَالِ السَّبَقِ، وَالرَّمْيِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِعَدَدِ الرَّمْيِ كَالرِّشْقِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا، هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى عَدَدِ الْجُمْلَةِ أم عدد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 236 التَّفْصِيلِ أَوْ يَخْتَصُّ بِعَدَدِ التَّفْصِيلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَدَدَيْنِ كَالرِّشْقِ، وَقَالَ آخَرُونَ، يَخْتَصُّ بِعَدَدِ التَّفْصِيلِ دُونَ الْجُمْلَةِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَلْ يَخْتَصُّ بِرَمْيِ الْجُلَاهِقِ أَوْ يَعُمُّ النُّشَّابَ وَالْجُلَاهِقَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّدْبُ كَالرِّشْقِ يَعُمُّ انْطِلَاقَهُمَا عَلَى عَدَدِ الرَّمْيِ فِي النِّشَابِ وَالْجُلَاهِقِ وَهُوَ الْبُنْدُقُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الرِّشْقُ مُخْتَصٌّ بِعَدَدِ الرَّمْيِ فِي النِّشَابِ، وَالنَّدْبُ مُخْتَصٌّ بِعَدَدِ الرَّمْيِ فِي الْجُلَاهِقِ وَمِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ في هذه ال مسألة " الرفعة " وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رِوَايَتِهَا فَرَوَاهَا الْمُزَنِيُّ: الرُّقْعَةُ بِالْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَرَوَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ: " الرِّفعة " بِالْفَاءِ وَكَسَرِ الرَّاءِ مَأْخُوذٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَنَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْوَهْمِ، فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَكُونُ هَذَا الِاسْمُ صِفَةً لِلْغَرَضِ فِي ارْتِفَاعِهِ مِنْ خَفْضٍ إِلَى عُلُوٍّ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا الرُّقْعَةُ بِالْقَافِ اخْتُلِفَ فِي المراد بها هاهنا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْغَرَضِ الَّذِي فِي الْهَدَفِ، فَيَكُونُ مُسَمًّى بِاسْمَيْنِ بِالرُّقْعَةِ وَبِالْغَرَضِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِهَا فِي وَسَطِ الْغَرَضِ مِنْ عَظْمٍ هُوَ أَضِيقُ مَا فِيهِ مِنْ مَوَاقِعَ الْإِصَابَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ سِمَةٌ بِالْخَاتَمِ، فَيُسَمَّى بِاسْمَيْنِ بِالرُّقْعَةِ وَبِالْخَاتَمِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ اسْمٌ لِمَسَافَةِ الرَّمْيِ، فِيمَا بَيْنَ مَوْقِفِ الرَّامِي وَالْهَدَفِ وَلَئِنْ طَالَ الْكَلَامُ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَلَا غِنًى عَنْهَا؛ لِتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهَا. (فصل:) فإذا تقرر هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه: أحدها: أنها مُصَوَّرَةٌ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَجُوزُ أَنْ يَتَنَاضَلَا إِلَيْهَا، وَحَدُّ أَقَلِّهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ الرُّمَاةُ لِبُعْدِهِ، وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئُوا فِيهِ؛ لِقُرْبِهِ، فَالنِّضَالُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، وَحَدُّ أَكْثَرِهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يُصِيبَ فِيهِ الرُّمَاةُ لِقُرْبِهِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصِيبُوا فِيهِ لِبُعْدِهِ، فَالنِّضَالُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، وَهَذَانِ الْحَدَّانِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ هُمَا حَدَّا تَحْقِيقٍ لِمَعْنَاهُمَا وَحَدُّهُمَا بِالْمَسَافَةِ حَدُّ تَقْرِيبٍ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ، وَلِأَكثَرِ الْمَسَافَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ مُعْتَادٌ وَنَادِرٌ فَأَمَّا حَدُّهُ الْمُعْتَادُ عَلَى التَّقْرِيبِ، فَهُوَ مِائَتَا ذِرَاعٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَزَاةٍ، وَوَصَفَ لَهُ حَرْبَهُمْ فِيهَا، فَقَالَ: كُنَّا نُحَارِبُ الْعَدُوَّ، فَإِنْ كَانُوا مِنَّا عَلَى مِائَتَيْ ذِرَاعٍ رَمَيْنَاهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 237 بِالسِّهَامِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهَا رَضَخْنَاهُمْ بِالْأَحْجَارِ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ طَعَنَّاهُمْ بِالرِّمَاحِ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْنَا ضَرَبْنَاهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا هُوَ الْحَرْبُ ". وَأَمَّا حَدُّهُ الثَّالِثُ عَلَى التَّقْرِيبِ، فَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ؛ لِأَنَّ فِي الرُّمَاةِ من يصيب منه. وَالْإِصَابَةُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مُتَعَذِّرَةٌ. وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ يُرَ أَحَدٌ كَانَ يَرْمِي عَلَى أَرْبَعِ مائة ذراع، ويصيب إلا عقبة من عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، وَهَذَا شَاذٌّ فِي النَّادِرِ إِنْ صَحَّ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عليه، فإن عقد النضال على أكثر الْمَسَافَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَهِيَ مِائَتَا ذِرَاعٍ صَحَّ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ مِثْلُ الرَّامِيَيْنِ يُصِيبُ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُمَا لَا يُصِيبُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ عُقِدَ عَلَى أَكْثَرَ الْمَسَافَةِ النَّادِرَةِ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَ مِثْلُهُمَا لَا يُصِيبُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُمَا قَدْ يُصِيبُ مِنْهَا، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِإِمْكَانِ إِصَابَتِهِمَا مِنْهَا كَالْمَسَافَةِ الْمُعْتَادَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّادِرَ غَرَرٌ، وَالْغَرَرُ في العقود مردود بالنهي عنه، وحكم مَا بَيْنَ الْمُعْتَادِ وَالنَّادِرِ، فَيَلْحَقُ بِأَقْرَبِهِمَا إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ، أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ، فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فَهُوَ فِي النَّادِرِ. وَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِمِائَةِ، فَإِذَا كَثُرَتِ الزِّيَادَةُ بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الثلاثمائة فإن كثرت الزيادة بطل العقد بها وإن قلت الزيادة كانت حكم الثلاثمائة على الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إِغْفَالَ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ يُبْطِلُهُ، فَصَارَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وهو: هل الإصابة من الفرع إِلَى الْخَسْقِ، هَلْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فَسْخِ العقد، واستئناف غيره، أو لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ بِغَيْرِ فَسْخٍ، إِلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْغَرَضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْفَسْخِ إِلْحَاقًا بِمَحَلِّ الْإِصَابَةِ مِنَ الْغَرَضِ، فَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْفَسْخُ، اسْتَأْنَفَا الرَّمْيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْفَسْخُ بَنَيَا عَلَى الرَّمْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " وَمَنْ أَجَازَ هَذَا إِجَازَةً فِي الرُّقْعَةِ " أَيْ مَنْ أجاز الزيادة في المسافة فأولى أن يجيز تَغْيِيرَ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسَافَةِ أَغْلَظُ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَرْمِيَا أَرْشَاقًا مَعْلُومَةً كُلَّ يومٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فلا يفترقا حتى يفرعا منها إلا من عذرٍ أو مرضٍ أَوْ عاصفٍ مِنَ الرِّيحِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 238 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ الرَّمْيِ مِنْ حالين: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى رِشْقٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ رَمْيُ جَمِيعِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُوَالَى رَمْيُ جَمِيعِهِ، وَلَا يُفَرَّقَ، وَلَهُمَا فيه ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعقداه معجلاً، فَيَلْزَمُ رَمْيَ جَمِيعِهِ فِي يَوْمِ عَقْدِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا تَأْخِيرُهُ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الرَّمْيِ مِنْ مَرَضٍ بِالرَّامِي أَوْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ يُفْسِدُ آلَةَ الرَّمْيِ، فَإِنْ أَخَّرَاهُ عَنْ يَوْمِهِمْ عَنْ تَرَاضٍ، فَهُوَ إِنْظَارٌ لَا يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُؤَجَّلًا فِي يَوْمٍ مُسَمًّى جَعَلَاهُ وَقْتًا لِلرَّمْيِ، فَفِي الْعَقْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عُقِدَ عَلَى عَيْنِ شَرْطٍ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَحِيحٌ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: ِإِنَّ عَقْدَهُ أَوْسَعُ حُكْمًا مِمَّا عَدَاهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَصْلُ هُوَ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِ الرَّمْيُ، لَا يُقَدَّمُ قَبْلَهُ، وَلَا يُؤَخَّرُ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَقْدِيمَهُ أَوْ تَأْخِيرَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ صَاحِبُهُ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ جَازَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَلَوْ بَدَّرَ أَحَدُهُمَا، فَرَمَى قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِصَوَابِهِ، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ لِمَ يقتضيه الْعَقْدُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا لَا يَشْتَرِطَا فِيهِ حُلُولًا، وَلَا تَأْجِيلًا، فَيَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ الْحُلُولَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْعَقْدِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطِهِ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ النِّضَالُ مَعْقُودًا عَلَى أرشاقٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ رَمْيُ جَمِيعِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِعَقْدِهِ عَلَى مِائَةِ رِشْقٍ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ مَا يُمْكِنُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَا فِي كُلِّ يَوْمٍ رَمْيَ أَرْشَاقٍ مَعْلُومَةٍ يَتَّسِعُ الْيَوْمُ لِرَمْيِهَا مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَيَخْتَصُّ كُلُّ يومٍ رَمْي مَا سُمِّيَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْجِيلٍ يَخْرُجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ الرَّمْيِ فِي زَمَانِهِ، فَصَحَّ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا مَا يَمْتَنِعُ، وَهُوَ رَمْيُ جَمِيعِ الْأَرْشَاقِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَضِيقُ عَنْ جَمِيعِهَا فَهَذَا بَاطِلٌ، لِامْتِنَاعِهِ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهِ بَاطِلًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا لَا يَشْتَرِطَا فِيهِ تَقْدِيرَ الرَّمْيِ، فَيَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَرْمِيَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا اتَّسَعَ لَهُ بِحَسْبِ طُولِ النَّهَارِ وَقِصَرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الرَّمْيُ فِي الليل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 239 لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْهُودِ الْعَمَلِ إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ، وَلَا يلزم الارتفاق في رمي في النَّهَارِ وَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَانْتِهَاؤُهُ قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَيُمْسِكَانِ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ الْمَعْهُودَةِ. وَعَادَةُ الرُّمَاةِ تَخْتَلِفُ فِي مُوَاصَلَةِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ تَكْثُرُ إِصَابَتُهُ إِذَا وَاصَلَ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَشِدَّةِ سَاعَدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَقِلُّ إِصَابَتُهُ إِذَا وَاصَلَ لِضَعْفِ بَدَنِهِ، وَلِينِ سَاعَدِهِ، فَإِذَا عَدَلَ بِهِمَا عَنِ الْمُوَاصَلَةِ وَالْفُتُورِ إِلَى حَالٍ مُعْتَدِلَةٍ اعْتَدَلَ رَمْيُهُمَا وَتَكَافَأَ فَإِنْ عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرَّمْيِ إِمَّا فِي الزَّمَانِ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ فِي أَبْدَانِهِمَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ أُخِّرَ الرَّمْيُ فِيهِ إِلَى زَوَالِهِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَنِ اعْتَلَّتْ أَدَاتُهُ أُبْدِلَ مَكَانَ قَوْسِهِ وَنَبْلِهِ وَوَتَرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " اعْتَلَّتْ أَدَاتُهُ " فهي كلمة مستعارة يستعلمها الرُّمَاةُ عِنْدَ فَسَادِ آلَتِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ، فَإِذَا انْكَسَرَ قَوْسُهُ، أَوْ لَانَ وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ، أَوِ اسْتَرْخَى وَانْدَقَّ سَهْمُهُ أَوِ اعْوَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ صَحِيحًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْآلَةِ أَنَّهَا تَبَعٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّامِيَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْدَالُ الرَّامِي بِغَيْرِهِ إِذَا اعْتَلَّ، وَجَازِ إِبْدَالُ الْآلَةِ بِغَيْرِهَا إِذَا اعْتَلَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ إِبْدَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَلَّ جَازَ لَكِنْ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ لِإِبْدَالِهَا إِذَا اعْتَلَّتْ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِإِبْدَالِهَا إِذَا لَمْ تَعْتَلَّ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ طَوَّلَ أَحَدُهُمَا بَالْإِرْسَالِ الْتِمَاسَ أَنْ تَبْرُدَ يَدُ الرَّامِي أَوْ يَنْسَى حُسْنَ صَنِيعِهِ فِي السهم الذي رماه فأصاب أو أخطأ فليستعتب من طريق الخطأ فقال لم أنو هذا لم يكن ذلك له وقيل له ارم كما ترمي الناس لا معجلاً عن التثبت في مقامك وتزعك وإرسالك ولا مبطئاً لإدخال الضرر بالحبس على صاحبك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّامِيَانِ عَلَى اقْتِصَادٍ فِي التَّثَبُّتِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَاءٍ، وَلَا إِعْجَالٍ فَإِنْ طَوَّلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ رَمْيُ صَاحِبِهِ عَلَى الِاقْتِصَادِ لِيَبْرُدَ يَدُ صَاحِبِهِ فِي السَّهْمِ الَّذِي رَمَى بِهِ، فَنَسِيَ صَنِيعَهُ إِنْ أَصَابَ، فَلَا يُسَنُّ بِصَوَابِهِ، أَوْ أَخْطَأَ فلا يزول عن سنته عن خَطَئِهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ صَاحِبُهُ عَنِ الِاسْتِعْتَابِ تُرِكَ هَذَا الْمُتَبَاطِئُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنِ اسْتَعْتَبَ وَشَكَا قِيلَ لِلْمُتَبَاطِئِ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تَضُرَّ بِصَاحِبِكَ فِي الْإِبْطَاءِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِكَ أَنْ يَضُرَّ بِكَ فِي الْإِعْجَالِ وَاعْدِلْ إِلَى الْقَصْدِ فِي تَثَبُّتِكَ غَيْرَ مُتَبَاطِئٍ وَلَا مُعَجَّلٍ، فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ عَادَتِي لَا أَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهَا، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْهُ، قِيلَ لِصَاحِبِهِ: لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا مِنْ تَكْلِيفِهِ غَيْرَ عَادَتِهِ، وَهُوَ عَيْبٌ أَنْتَ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ مُنَاضَلَتِهِ أَوْ فَسْخِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِخِلَافِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، وَأُخِذَ بِالِاعْتِدَالِ فِي قَصْدِهِ جَبْرًا مَا أَقَامَ عَلَى عَقْدِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 240 وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَيُسْتَعْتَبُ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَأِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ أَنَّ إِطَالَةَ إِرْسَالِهِ خَطَأٌ مِنْهُ، فَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ خَطَأَ صَاحَبِهِ فَهُوَ لِإِطَالَةِ إِرْسَالِهِ، فَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ صَوَابَهُ مَحْسُوبًا له، وبالله التوفيق. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ الرَّامِي يُطِيلُ الْكَلَامَ وَالْحَبْسَ قِيلَ لَهُ لَا تُطِلْ وَلَا تَعْجَلْ عَمَّا يُفْهَمُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُرْمِي، فَهُوَ الْمُؤْتَمَنُ بَيْنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ وَيُسَمَّى الْمُشِيرَ، وَالْمُوَطِّنَ لَا يُشِيرُ عَلَى كل واحد منهما بمقصوده، ويخرج سهمه، وبموطن مَوْقِفَهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ سَهْمَهُ بَعْدَ رَمْيِهِ، وَيُخْبِرُ بِصَوَابِهِ أَوْ خَطَئِهِ، وَعَلَى هَذَا أَنْ يَعْدِلَ بين المتناضلين، ولا يميل إلى أحدهما، فيجوز، وَلَا يَمْدَحَ أَحَدَهُمَا وَيَذُمَّ الْآخَرَ، وَلْيَكُنْ إِمَّا مَادِحًا لَهُمَا أَوْ سَاكِتًا عَنْهُمَا، وَلِيُعَجِّلْ رَدَّ سهم كل واحد منهما عليه، ولا يحسبه عَنْهُ، فَيَنْسَى حُسْنَ صَنِيعِهِ، فَإِنْ خَالَفَ بِالْمَيْلِ، عَلَى أَحَدِهِمَا، مُنِعَ لِإِضْرَارِهِ بِهِ، وَإِنْ سَاوَى بَيْنَهُمَا فِي إِكْثَارِ الْكَلَامِ، وَإِطَالَتِهِ، وَحَبْسِ السَّهْمِ فِي إِعَادَتِهِ صَارَ مُضِرًّا بِهِمَا، وَتَوَجَّهَ الْمَنْعُ إِلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَأُمِرَ بِإِقْلَالِ الْكَلَامِ، وَتَعْجِيلِ السِّهَامِ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ كَلَامِهِ مُدْهِشٌ، وَحَبْسَهُ لِلسِّهَامِ يُنْسِي حُسْنَ صَنِيعِهَا فَإِنْ كَفَّ وَإِلَّا اسْتُبْدِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتَرَاضَيَانِهِ بِهِ الْمُتَنَاضِلَانِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا، اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا مُؤْتَمَنًا، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ مَدْحًا لِنَفْسِهِ بِالْإِصَابَةِ، وَذَمًّا لِصَاحِبِهِ بِالْخَطَأِ كُفَّ وَمُنِعَ، فَإِنْ أَقَامَ عليه، ولم يقلع عنه غرر، وَلَمْ يُسْتَبْدَلْ بِهِ لِتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلِلْمُبْدِئِ أَنْ يَقِفَ فِي أَيِّ مقامٍ شَاءَ ثَمَّ لِلْآخَرِ مِنَ الْغَرَضِ الْآخَرِ أَيِّ مَقَامٍ شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُرِيدُ بِالْمُبْدِئِ الَّذِي قَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالرَّمْيِ، إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّمْيُ بَيْنَ هَدَفَيْنِ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ وَالْأَوْلَى بِالْمَعْهُودِ أَنْ يَرْمِيَ الْمُتَنَاضِلَانِ مِنْ أَحَدِ الْهَدَفَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، رِشْقًا بِحَسْبِ مَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا، مِنْ خَمْسٍ خَمْسٍ أَوْ عَشْرٍ عَشْرٍ، ثُمَّ يَمْضِيَا إِلَى الْهَدَفِ فَيَجْمَعَا سِهَامَهَا وَيَرْمِيَا مِنْهُ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي رِشْقًا ثَالِثًا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَا رَمْيَ جَمِيعِ أَرْشَاقِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلِلْمُبْتَدِئِ بِالرَّمْيِ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ أَيِّ الْهَدَفَيْنِ شَاءَ، وَيَقِفَ مِنْهُ أَيَّ مَوْقِفٍ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الِابْتِدَاءَ بِالرَّمْيِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ فِي مَوْقِفِ الرَّمْيِ، فَيَقِفُ حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْهَدَفِ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ وَسَطِهِ، فَإِذَا صَارَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي، صَارَ الْخِيَارُ فِي الْمَوْقِفِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 241 إِلَى الرَّامِي الثَّانِي، فَيَقِفُ فِيهِ حَيْثُ شَاءَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ يَسَارٍ أَوْ وَسَطٍ، كَمَا كَانَ الْخِيَارُ فِي الْهَدَفِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّامِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقَّةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْخِيَارُ فِي الْهَدَفِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدَفِ الثَّانِي لِلثَّانِي، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي الْأَوَّلُ عَادَ الْخِيَارُ لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الثَّانِي صَارَ الْخِيَارُ لِلثَّانِي، وَلَا يُجْمَعُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ فِي الْهَدَفَيْنِ، لِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ شَرَطَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: بَطَلَ الْعَقْدُ بِالتَّفْضِيلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي الْهَدَفَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ بَعْدَهُ فِي الْهَدَفَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ النِّضَالُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، وَقَفَ الْمُبْتَدِئُ بِالرَّمْيِ فِي الْهَدَفِ الَّذِي شَاءَ، وَوَقَفَ مِنْهُ حَيْثُ شَاءَ ثُمَّ نُظِرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ الْمُبْتَدِئُ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ بِشَرْطٍ أَوْ قَرَعَهُ، وإلا أقرع بينهما ووقف الرامي الثاني في الْهَدَفِ حَيْثُ شَاءَ، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْهَدَفِ الأول وقف الرامي الثالث من حَيْثُ شَاءَ لِيَتَسَاوَى الثَّلَاثَةُ فِي اخْتِيَارِ الْمَوْقِفِ فِي هَدَفٍ بَعْدَ هَدَفٍ لِرَمْيِ رِشْقٍ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي كَحُكْمِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ. فَإِذَا تَرَتَّبُوا عَلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْشَاقٍ صَارُوا فِي الرِّشْقِ الرَّابِعِ إِلَى حُكْمِ الرِّشْقِ الْأَوَّلِ فِي عَوْدِ الْخِيَارِ إلى الأول، والله أعلم بالصواب. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ: نَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فِي رَمْيِنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: نَسْتَدْبِرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَى اسْتِدْبَارِهَا؛ لِأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ إِذَا اسْتَقْبَلَ الرَّامِي، اخْتَلَّ عَلَيْهِ رَمْيُهُ فَإِنْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ اسْتِقْبَالَهَا حُمِلَا عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الرَّمْيَ بِالنَّهَارِ، فَإِنْ شَرَطَا فِيهِ الرَّمْيَ لَيْلًا حُمِلَا عَلَيْهِ، إِمَّا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ أَوْ مَشَاعِلِ النَّارِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا اقْتَسَمُوا ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِعُوا وَلْيَقْسِمُوا قَسْمًا مَعْرُوفًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النِّضَالُ ضَرْبَانِ: أَفْرَادٌ وَأَحْزَابٌ، وَقَدْ مَضَى نِضَالُ الْأَفْرَادِ، فَأَمَّا نِضَالُ الْأَحْزَابِ، فَهُوَ أَنْ يُنَاضِلَ حِزْبَانِ يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ، يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمْ، فَيَعْقِدُ النِّضَالَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا يَصِحُّ عَلَى شُرُوطِهِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجُمْهُورُهُمْ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اشتركوا صار فعل جمعيهم وَاحِدًا فَاشْتَرَكُوا فِي مُوجِبِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 242 لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي فِعْلِهِ مَعَ وُرُودِ السُّنَّةِ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِقَوْمٍ يَرْمُونَ، فَقَالَ: " ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي الْأَذْرَعِ "، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ قِسِيَّهُمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ، فَقَالَ: " ارْمُوا، فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِزْبَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ النِّضَالِ التَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ، وَهُوَ فِي الْأَحْزَابِ أَشَدُّ تَحْرِيضًا وَأَكْثَرُ اجْتِهَادًا، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ فِي الْحِزْبَيْنِ، كَجَوَازِهِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، فَلِصِحَّتِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أحدهما: أَنْ يَتَسَاوَى عَدَدُ الْحِزْبَيْنِ، وَلَا يُفَضَّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُوا ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً أَوْ خَمْسَةً وَخَمْسَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ فُضِّلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِرَجُلٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْرِفَةُ أَحَذَقِ الْحِزْبَيْنِ؛ فَإِذَا تَفَاضَلُوا تَغَالَبُوا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَا بِحِذْقِ الرَّمْيِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمْ بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنُوا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنٍ وَاخْتِيَارٍ فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ بَطَلَ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعَيِّنُوا عَلَى مُتَوَلِّي الْعَقْدِ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ فِيهِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِمْ، وَنَائِبًا عَنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالتَّعْيِينِ وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ زَعِيمُ كُلِّ حِزْبٍ أَحْذَقَهُمْ وَأَطْوَعَهُمْ، لِأَنَّ صِفَةَ الزَّعِيمِ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الصِّنَاعَةِ مُطَاعًا فِي الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ تَقَدَّمُوهُ فِي الرَّمْيِ وَأَطَاعُوهُ فِي الِاتِّبَاعِ جَازَ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الرَّمْيِ، وَلَمْ يُطِيعُوهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُطَاعِ لَا تَنْفُذُ أَوَامِرُهُ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ زَعِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ غَيْرَ زَعِيمِ الْحِزْبِ الْآخَرِ لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْهُمْ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْحِزْبِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ زَعِيمُ الْحِزْبَيْنِ وَاحِدًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ بَائِعًا مُشْتَرِيًا. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يَتَعَيَّنَ رُمَاةُ كُلِّ حِزْبٍ مِنْهَا، قَبْلَ الْعَقْدِ، بِاتِّفَاقٍ وَمُرَاضَاةٍ، فَإِنْ عَقَدَهُ الزَّعِيمَانِ عَلَيْهِمْ لِيَقْتَرِعُوا عَلَى مَنْ يَكُونُ فِي كُلِّ حِزْبٍ لَمْ يَصِحَّ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الْحِزْبَانِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً، فَيَقُولَ الزَّعِيمَانِ: نَقْتَرِعُ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتِي عَلَيْهِ كَانَ مَعِي، وَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَيْهِ كَانَ مَعَكَ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَصْلٌ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ عَلَى الْقُرْعَةِ، كَابْتِيَاعِ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 243 وَالثَّانِي: إِنَّهُ رُبَّمَا أَخْرَجَتِ الْقُرْعَةُ حَذَاقَتَهُمْ لِأَحَدِ الْحِزْبَيْنِ، وَضُعَفَاءَهُمْ لِلْحِزْبِ الْآخَرِ، فَخَرَجَ عَنْ مَقْصُودِ التَّحْرِيضِ فِي التَّنَاضُلِ، فَإِنْ عَدَلُوا بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ فِي الْحَذْقِ وَالضَّعْفِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعَ الزَّعِيمَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ بعد العقد لم يصرح التعليل الأول مع كَوْنِهِمْ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا دُونَ التَّعْلِيلِ الثَّانِي مِنَ اجْتِمَاعِ الْحُذَّاقِ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ رَفَعُوهُ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَعْيِينُهُمْ قَبْلَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ تَعَيَّنُوا فِيهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا. وَإِمَّا بِأَسْمَائِهِمْ إِذَا عُرِفُوا، فَإِنْ تَنَازَعُوا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَعَدَلُوا إِلَى الْقُرْعَةِ فِي الْمُتَقَدِّمِ بِالِاخْتِيَارِ جَازَ، لِأَنَّهَا قُرْعَةٌ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَتْ بِقُرْعَةٍ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا قَرَعَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ اخْتَارَ مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدًا، ثُمَّ اخْتَارَ الزَّعِيمُ الثَّانِي وَاحِدًا، ثُمَّ دُعِيَ الزَّعِيمُ الْأَوَّلُ فَاخْتَارَ ثَانِيًا، وَاخْتَارَ الزَّعِيمُ الثَّانِي ثَانِيًا، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ، فَاخْتَارَ ثَالِثًا، وَأَخَذَ الْآخَرُ الثَّالِثَ الْبَاقِيَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ الْأَوَّلُ الثَّلَاثَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلى الْأَحْذَقَ، فَيَجْتَمِعُ الْحُذَّاقُ فِي حِزْبٍ، وَالضُّعَفَاءُ فِي حِزْبٍ، فَيُعْدَمُ مَقْصُودُ التَّنَاضُلِ مِنَ التَّحْرِيضِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي عَقْدِ النِّضَالِ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي مَالِ السَّبَقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُخْرِجَهَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَهَذَا يَصِحُّ سَوَاءٌ انْفَرَدَ زَعِيمُ الْحِزْبِ بِإِخْرَاجِهِ أَوِ اشْتَرَكُوا فِيهِ، ويكون الحزب المخرج لِلسَّبَقِ مُعْطِيًا إِنْ كَانَ مَنْضُولًا، وَغَيْرَ آخِذٍ إِنْ كَانَ نَاضِلًا، وَيَكُونُ الْحِزْبُ الْآخَرُ آخِذًا إِنْ كَانَ نَاضِلًا وَغَيْرَ معطٍ إِذَا كَانَ مَنْضُولًا - وَهَذَا يُغْنِي عَنِ الْمُحَلِّلِ، لِأَنَّهُ مُحَلِّلٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحِزْبَانِ مُخْرِجَيْنِ، وَيَخْتَصُّ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ زَعِيمُ الْحِزْبَيْنِ، فَهَذَا يَصِحُّ، وَيُغْنِي عَنْ مُحَلِّلٍ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الْمُحَلِّلِ لِيَأْخُذَ وَلَا يُعْطِيَ، وَرِجَالُ كُلِّ حِزْبٍ يَأْخُذُونَ، وَلَا يُعْطُونَ، فَإِذَا نَضَلَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ أَخَذَ زَعِيمُهُمْ مَالَ نَفْسِهِ، وَقَسَّمَ مَالَ الْحِزْبِ الْمَنْضُولِ بَيْنَ أَصْحَابٍ، فَإِنْ كَانَ الزَّعِيمُ رَامِيًا مَعَهُمْ شَارَكَهُمْ فِي مَالِ السَّبَقِ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ مَعَهُمْ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ النِّضَالِ مَنْ لَمْ يُنَاضِلْ، وَصَارَ مَعَهُمْ كَالْأَمِينِ وَالشَّاهِدِ، فَإِنْ رَضَخُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، جَازَ، وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ عَقْدٌ يَبْطُلُ بِفَسَادِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَا الْمَالَ وَيَشْتَرِكَ أَهْلُ كُلِّ حِزْبٍ فِي إِخْرَاجِهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ حِزْبٌ ثَالِثٌ يَكُونُ مُحَلِّلًا يُكَافِئُ كُلَّ حِزْبٍ فِي العدد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 244 وَالرَّمْيِ، يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي كَمَا يُعْتَبَرُ فِي إِخْرَاجِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ الْمَالُ أَوْ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ ثَالِثٌ يَأْخُذُ وَلَا يُعْطِي. (فَصْلٌ:) فَإِذَا انْعَقَدَ النِّضَالُ بَيْنَ الْحِزْبَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ اشْتَمَلَ الْكَلَامُ بَعْدَ تَمَامِهِ بِإِبْطَالِ الْمُسَمَّى فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ الْمَالِ الْمُخْرَجِ فِي كُلِّ حِزْبٍ، وَلَهُمْ فِيهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يُسَمُّوا قِسْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَيَشْتَرِكُوا فِي الْتِزَامِهِ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى أَعْدَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ فِيهِ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْتِزَامِهِ، فَإِنْ كَانَ زَعِيمُهُمْ رَامِيًا مَعَهُمْ دَخَلَ فِي الْتِزَامِهِ كَأَحَدِهِمْ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْذِ مَعَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَامِيًا لَمْ يَلْتَزِمْ مَعَهُمْ كَمَا لَا يَأْخُذُ مَعَهُمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسَمُّوا قِسْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْتِزَامِ مَالِ السَّبَقِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَنْ يَتَسَاوَى فِي التَّسْمِيَةِ، فَيَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِيهِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتُسَاوِيهِمْ فِي الْعَقْدِ، فوجب أن يستاووا فِي الِالْتِزَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عَنِ اتِّفَاقٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَقْدٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّرَاضِي، فَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ مُقَسَّطًا عَلَى صَوَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَخَطَئِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، فَبَطَلَ، وَلَا يُؤَثِّرُ بُطْلَانُهُ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَقْدٌ، وَكَانُوا مُتَسَاوِينَ فِيهِ. (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ نِضَالِهِمَا، وَفِيمَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَالْمُعْتَبِرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ ثَلَاثِينَ أَوْ سِتِّينَ أَوْ تِسْعِينَ أَوْ عَدَدًا يَكُونُ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ خَمْسِينَ وَلَا سَبْعِينَ وَلَا مِائَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْحِزْبِ أَرْبَعَةً، كَانَ عَدَدُ الرِّشْقِ أربعين أو ماله رُبْعٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ مَا لَيْسَ لَهُ رُبْعٌ صَحِيحٌ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَ عَدَدُ الْحِزْبِ خَمْسَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الرِّشْقِ مَا لَهُ خمسٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْقَسِمْ عَدَدُ الرِّشْقِ عَلَى عَدَدِ الْحِزْبِ إِلَّا بِكَسْرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْتِزَامُهُمْ لَهُ، لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي رَمْيِ السَّهْمِ لَا يَصِحُّ. فَأَمَّا عَدَدُ الْإِصَابَةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا تَنْقَسِمَ عَلَى عَدَدِهِمْ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهَا بِإِصَابَتِهِمْ لَا بِاشْتِرَاكِهِمْ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا بَيْنَهُمُ احْتُسِبَ لِزَعِيمِ كُلِّ حِزْبٍ بِإِصَابَاتِ كل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 245 وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاحْتُسِبَ عَلَيْهِ لِخَطَأِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَوَاءٌ تَسَاوَى رِجَالُ الْحِزْبِ فِي الْإِصَابَةِ، وَهُوَ نَادِرٌ أَوْ تَفَاضَلُوا فِيهَا، وَهُوَ الْغَالِبُ، فَإِذَا جُمِعَتِ الْإِصَابَتَانِ وَالْمَشْرُوطُ فِيهَا إِصَابَةُ خَمْسِينَ مِنْ مِائَةٍ لَمْ يَخْلُ مَجْمُوعُ الْإِصَابَتَيْنِ من ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ مِنْ إِصَابَةِ كُلِّ حِزْبٍ خَمْسِينَ، فَصَاعِدًا، فَلَيْسَ فِيهِمَا مَنْضُولٌ وَإِنْ تَفَاضَلَا في النقصان من الخمسين. والحال الثالثة: أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ إِصَابَةِ أَحَدِهِمَا خَمْسِينَ، فَصَاعِدًا، وَمَجْمُوعُ إِصَابَةِ الْآخَرِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ، فَمُسْتَكْمِلُ الْخَمْسِينَ هُوَ النَّاضِلُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْإِصَابَةِ مُقِلًّا، بِالْقَصْرِ عَنِ الْخَمْسِينَ هُوَ الْمَنْضُولُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الْإِصَابَةِ مُكْثِرًا، فَيَصِيرُ مُقَلِّلُ الْإِصَابَةِ آخِذًا، وَمُكْثِرُهَا مُعْطِيًا، لِأَنَّ حِزْبَ الْمُقَلِّلِ نَاضِلٌ، وَحِزْبَ الْمُكْثِرِ مَنْضُولٌ. (فَصْلٌ:) وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حُكْمِ الْمَالِ إِذَا اسْتَحَقَّهُ الْحِزْبُ الناضل، فيقسم بين جمعيهم فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِصَابَةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَاوِيَهُمْ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِصَابَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بِالْإِصَابَةِ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ فَلَا يُكَافِئُ مُقِلُّ الْإِصَابَةِ مُكْثِرَهَا، وَخَالَفَ الْتِزَامُ الْمَنْضُولِينَ، حَيْثُ تَسَاوَوْا فِيهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْخَطَأِ، لِأَنَّ الِالْتِزَامَ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِالْخَطَأِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ مِنْ بَعْدِ الرَّمْيِ، فَصَارَ مُعْتَبَرًا بِالصَّوَابِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحِزْبِ النَّاضِلِ فِي جَمِيعِ سِهَامِهِ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ إِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُخْزِيهِ بِالْخَطَأِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ مَنْ عَدَاهُ إِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْإِصَابَةِ، وَيُقَابِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْحِزْبِ الْمَنْضُولِ مَنْ أَصَابَ بِجَمِيعِ سِهَامِهِ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنَ الْتِزَامِ الْمَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ مِنَ الْتِزَامِهِ إِذَا قِيلَ بِخُرُوجِ الْمُخْطِئِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَخْرُجُ مِنَ الِالْتِزَامِ، وَيَكُونُ فِيهِ أُسْوَةَ مَنْ أَخْطَأَ إِذَا قِيلَ بِدُخُولِ الْمُخْطِئِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّهُ فِيهِ أُسْوَةُ مَنْ أَصَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَخْتَارُ عَلَى أَنْ أَسْبِقَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 246 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اجْتَمَعَ رُمَاةُ الْحِزْبَيْنِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ: أَنَا أُخْرِجُ مَالَ السَّبَقِ عَلَى أَنْ أَخْتَارَ لِحِزْبِي مَنْ أَشَاءُ أن تَكُونَ أَنْتَ الْمُخْرِجَ عَلَى أَنْ تَخْتَارَ لِحِزْبِكَ مَنْ تَشَاءُ، لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ فَاسِدًا، لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ وَتَعْيِينِ الْحِزْبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَشْرُوطًا بِالْآخَرِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ إِلَى الِالْتِزَامِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فُلَانٌ مَعِي فَمَالُ السَّبَقِ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ مَعَكَ فَمَالُ السَّبَقِ عَلَيَّ لم يصح لما ذكرناه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا عَلَى أَنْ أَسْبِقَ وَلَا عَلَى أَنْ يَقْتَرِعَا فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ سَبَقَهُ صَاحِبُهُ لِأَنَّ هَذَا مخاطرةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِعَ الزَّعِيمَانِ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا قَرَعَ كَانَ الْمَقْرُوعُ مُخْرِجَ السَّبَقِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَارِعُ مُخْرِجَ السَّبَقِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ لَا مَدْخَلَ لِلْقُرْعَةِ فِي عَرْضِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنْ يَتَنَاضَلَ الزَّعِيمَانِ سَهْمًا وَاحِدًا، فَإِنْ أَصَابَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَخْطَأَهُ الْآخَرُ كَانَ الْمُخْطِئُ مُلْتَزِمَ الْمَالِ، فِي عَقْدِ النِّضَالِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لِأَنَّ هَذَا مُخَاطَرَةٌ ". وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ: أَنَا أَرْمِي بِسَهْمِي هَذَا، فَإِنْ أَصَبْتُ بِهِ، كَانَ مَالُ السَّبَقِ عَلَيْكَ، وإن أخطأت به كان حال السَّبَقِ عَلَيَّ، لِأَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ، وَجَارِيَةٌ مَجْرَى الْمُقَارَعَةِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا حَضَرَ الْغَرِيبُ أَهْلَ الْغَرَضِ فَقَسَّمُوهُ فَقَالَ مَنْ مَعَهُ كُنَّا نَرَاهُ رَامِيًا أَوْ مَنْ يَرْمِي عَلَيْهِ كُنَّا نَرَاهُ غَيْرَ رامٍ وَهُوَ مِنَ الرُّمَاةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ عَرَفُوهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا اجْتَمَعَ الزَّعِيمَانِ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفُوهُ، فَأَخَذَهُ أَحَدُ الزَّعِيمَيْنِ فِي حِزْبِهِ، وَدَخَلَ فِي عَقْدِهِ، وَشَرَعُوا فِي الرَّمْيِ، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يُحْسِنَ الرَّمْيَ، وَلَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فِي عَمَلٍ مَعْدُومٍ مِنْهُ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ بِكَاتِبٍ، وَلِلصِّنَاعَةِ، وَلَيْسَ بِصَانِعٍ، يَكُونُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا، كَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي عَقْدِ الرَّمْيِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 247 وَلَيْسَ برامٍ، وَإِذَا بَطَلَ فِي حَقِّهِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي واحد من الحزب لآخر، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَفِي بُطْلَانِهِ فِيمَنْ بَقِيَ مِنَ الْحِزْبَيْنِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَهَذَا وهمٌ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْحَزْبِ الْآخَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَلَيْسَ لِزَعِيمِهِمْ تَعْيِينُهُ فِي أَحَدِهِمْ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ فِي إِبْطَالِ الْعَقْدِ فِي حقه بأولى من إثباته فيه، وليس لدخول الْقُرْعَةَ فِيهِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي إِثْبَاتِ عَقْدٍ وَلَا إِبْطَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ بَاطِلًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرَّمْيِ، فَلَهُ فِيهِ ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِيهِ، فَلَا مَقَالَ لِلْحِزْبَيْنِ فِيهِ، وَيَكُونُ صَوَابُهُ لِحِزْبِهِ، وَخَطَؤُهُ عَلَى حِزْبِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَرَمَى مِنْهُمْ فَيَقُولَ الْحِزْبُ الَّذِي عَلَيْهِ: كُنَّا نَظُنُّهُ مِثْلَنَا، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ أَرَمَى مِنَّا، فَاسْتَبْدِلُوا بِهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُسَاوِينَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي عَقْدِهِمْ، فَصَارَ كَأَحَدِهِمْ، فِي لُزُومِهِ وَجَوَازِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ مِنْهُمْ بِفَسْخٍ وَلَا خِيَارٍ، وَيَكُونُ صَوَابُهُ وَخَطَؤُهُ لِحِزْبِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ دُونَهُمْ فِي الرَّمْيِ، فَيَقُولَ مَنْ مَعَهُ: كُنَّا نَظُنُّهُ رَامِيًا مِثْلَنَا، وَقَدْ بَانَ تَقْصِيرُهُ، فَنَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ، مُكَافِئًا لَنَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يَفْسَخُوهُ فِي حَقِّهِ دُونَهُمْ، لِمَا عَلَّلْنَا، وَيَكُونُ صَوَابُهُ وَخَطَؤُهُ لِحِزْبِهِ، وَهُوَ كَمَنْ عَرَفُوهُ، وَعَيْبُهُ عَلَيْهِمْ حِينَ لم يختبروه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ اطَّرِحْ فَضْلَكَ عَلَى أَنِّي أُعْطِيكَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِأَنْ يَتَفَاسَخَا ثُمَّ يَسْتَأْنِفَا سَبَقًا جَدِيدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا زَادَتْ إِصَابَةُ أَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ عَلَى إِصَابَةِ الْآخَرِ قَبْلَ الْغَلَبَةِ، فَقَالَ مَنْ قَلَّتْ إِصَابَتُهُ لِصَاحِبِهِ: أَسْقِطْ عَنِّي فَضْلَ إِصَابَتِكَ، وَلَكَ عَلِيَّ دِينَارٌ، لِيَسْتَكْمِلَ بَقِيَّةَ الرَّمْيِ بَعْدَ التَّسَاوِي لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ مَالَ السَّبَقِ مُسْتَحَقٌّ بِكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ، فَإِذَا نَضَلَ بَعْدَ إِسْقَاطِ الْفَضْلِ لَمْ يَصِرْ نَاضِلًا بِكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ، فَبَطَلَ، وَإِنْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَعْدَ ظُهُورِ الْفَضْلِ أَوِ اسْتَأْنَفَاهُ عَلَى اتِّفَاقٍ جَازَ وَإِلَّا كَانَا عَلَى إِصَابَتِهِمَا فِي التَّفَاضُلِ حَتَّى يَفْلُجَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِاسْتِكْمَالِ الْإِصَابَةِ وَتَقْصِيرِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ نَاضِلًا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ فلانٌ مُقَدَّمًا وفلانٌ مَعَهُ وفلانٌ ثانٍ كَانَ السَّبَقُ مَفْسُوخًا وَلِكُلِّ حزبٍ أن يقدموا من شاؤوا وَيُقَدِّمَ الْآخَرُونَ كَذَلِكَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 248 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَبْدَأُ قَبْلَ ذِكْرِ ال ْمَسْأَلَةِ بِحَكَمِ نِضَالِ الْحِزْبَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ ثَلَاثَةً، وَاسْتَقَرَّتِ الْبِدَايَةُ بِالرَّمْيِ لِأَحَدِ الْحِزْبَيْنِ إِمَّا بِشَرْطٍ أَوْ قُرْعَةٍ، فَلَهُمَا فِي الْعَقْدِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ إِذَا رَمَى وَاحِدٌ مِنْ هَذَا الْحِزْبِ رَمَى وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ، ثُمَّ إِذَا رَمَى الثَّانِي مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى ثانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ. وَإِذَا رَمَى ثَالِثٌ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى الثَّالِثُ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّكَافُؤِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا فِيهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ رُمَاةُ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ، فَيَرْمُوا جَمِيعًا ثُمَّ يَتْلُوهُمْ رُمَاةُ الْحِزْبِ الْآخَرِ، فَيَرْمُوا جَمِيعًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِيهِ لِأَجْلِ الشَّرْطِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَالْوَاجِبُ إِذَا رَمَى وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ، وَإِذَا رَمَى ثَانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْأَوَّلِ رَمَى بَعْدَهُ ثَانٍ مِنَ الْحِزْبِ الْآخَرِ، لِيَتَقَابَلَ رُمَاةُ الْحِزْبَيْنِ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْجَمِيعُ عَلَى الْجَمِيعِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ فِيهِ التَّقَدُّمُ، لِأَنَّ التقدم ضرورة، وليس لاجتماع ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ إِذَا أَغْفَلَ ذِكْرَ التَّقَدُّمِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا أَغْفَلَ ذِكْرَ التَّرْتِيبِ فِي وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لِزَعِيمِ كُلِّ حِزْبٍ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَوَّلٍ وَثَانٍ وَثَالِثٍ، فَإِنْ أَطَاعَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ حَمَلُوا عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ تَرْتِيبَهُمْ في الرشق الأول أن يرتبهم فِي الرِّشْقِ الثَّانِي مِثْلَ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْأَوَّلِ، وَعَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ يَحْتَسِبُ مَا يَرَاهُ، وَإِنْ خَالَفُوا زَعِيمَهُمْ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مُخْرِجُ الْمَالِ هُوَ الزَّعِيمَ كَانَ الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّرْتِيبِ قَوْلَهُ دُونَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخْرِجِينَ لِلْمَالِ كَانُوا بِتَرْتِيبِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ أَحَقَّ مِنْهُ، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ حُمِلُوا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْعَقْدِ عَلَى كُلِّ زَعِيمٍ أَنْ يُقَدِّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ فُلَانًا، ثُمَّ فُلَانًا، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ، لِأَنَّ سُقُوطَهُ لَا يَعُودُ بِضَرَرٍ عَلَى مُشْتَرِطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ، لِأَنَّ تَرْتِيبَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ إِلَى زَعِيمِهِمْ إِنْ أَخْرَجَ الْمَالَ أَوْ إِلَيْهِمْ إِنْ أَخْرَجُوهُ، فَإِذَا نَافَاهُ الشَّرْطُ أَبْطَلَهُ، لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ حَقٍّ لَهُمْ، وَأَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَاسَلَةُ الْحِزْبَيْنِ فِي الرَّمْيِ مُعَيَّنَةً، فَيُرَامِي هَذَا بِعَيْنِهِ لِهَذَا بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْجَمَاعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ يَفْسَدُ بِهِ الْعَقْدُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 249 وَجْهًا وَاحِدًا لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ حَقٌّ لَهُمْ، كَالتَّرْتِيبِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ حَقٍّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أنه عقد واحد يجير خَطَأُ أَحَدِهِمْ بِإِصَابَةِ غَيْرِهِ، وَإِذَا عَيَّنُوا وَاحِدًا صَارَتْ عُقُودًا تَقْتَضِي أَنْ لَا يُجْبَرَ خَطَأُ واحد بإصابة غيره، فبطل. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الْبَدْأَةُ لِأَحَدِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ فَبَدَأَ الْمُبْدَأُ عَلَيْهِ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ رد ذَلِكَ السَّهْمُ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَحَقَّ أَحَدُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالرَّمْيِ، إِمَّا بِشَرْطٍ أَوْ قُرْعَةٍ، فَبَدَأَ صَاحِبَهُ بِالرَّمْيِ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَانَ رَمْيُهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِصَوَابِهِ، وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِخَطَئِهِ لِخُرُوجِ رَمْيِهِ عَنْ حُكْمِ عَقْدِهِ، فَصَارَ رَمْيًا فِي غَيْرِ عَقْدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ أَنْ يَرْمِيَ رِشْقَهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، فَرَمَى عَشَرَةَ أَسْهُمٍ لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي صَوَابٍ وَلَا خَطَأٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَأَعَادَ رَمْيَهَا فِي نَوْبَتِهِ، وَاحْتُسِبَ فِيهَا بِمَا زَادَ مِنْ صَوَابِهِ أو خطئه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَالصَّلَاةُ جائزةٌ فِي الْمَضْرَبَةِ وَالْأَصَابِعِ إِذَا كَانَ جِلْدُهُمَا ذَكِيًّا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مَدْبُوغًا مِنْ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَا عَدَا كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا فَإِنَّ ذَلَكَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُهُ لِمَعْنًى واحدٍ وَإِنِّي آمُرُهُ أَنْ يُفْضِيَ بِبُطُونِ كَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَضْرَبَةُ، فَجِلْدٌ يَلْبَسُهُ الرَّامِي فِي يَدِهِ الْيُسْرَى يَقِي إِبْهَامَهُ إِذَا جَرَى السَّهْمُ عَلَيْهِ بِرِيشِهِ، يُقَالُ: مُضَّرَبَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ، وَيُقَالُ: مَضْرَبَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَسْكِينِ الضَّادِ، وَهُوَ أَفْصَحُ. وَأَمَّا الْأَصَابِعُ فَجِلْدٌ يَلْبَسُهُ الرَّامِي فِي إِبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى لِمَدِّ الْوَتَرِ وَتَفْوِيقِ السَّهْمِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِلْدٍ نَجِسٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا لَمْ يُدْبَغْ، لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِمَا لِنَجَاسَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ مِنْ ذَكِيٍّ مَأْكُولٍ أَوْ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ مَا لَا يُؤْكَلُ إِذَا دُبِغَا، فَطَهَارَتُهُمَا لَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ تُسْقِطْ مِنْ فُرُوضِهَا شَيْئًا، وَيُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ مَا أَسْقَطَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهِمَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ الْأَصَابِعَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي جَوَازِ لُبْسِ الْمَضْرَبَةِ، قَوْلَانِ، لِأَنَّ بُطُونَ الْأَصَابِعِ لَا يَلْزَمُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهَا فِي السُّجُودِ وَفِي لُزُومِ مُبَاشَرَتِهِ الْأَرْضَ بباطن كفه في السجود قولان: إن قِيلَ بِوُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْيَدَيْنِ فَكَانَتِ الْأَصَابِعُ غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ فرضٍ، وَفِي مَنْعِ الْمَضْرَبَةِ من العوض قولان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 250 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَنَكِّبَ الْقَوْسِ وَالْقَرْنِ إِلَّا أَنْ يَتَحَرَّكَا عَلَيْهِ حَرَكَةً تَشْغَلُهُ فَأَكْرَهُهُ وَتُجْزِئُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الصَّلَاةُ فِي السِّلَاحِ جَائِزَةٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإذاَ كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) {النساء: 102) . وَرَوَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُصَلِّي، وَعَلَيَّ الْقَوْسُ وَالْقَرْنُ، فَقَالَ: " اطْرَحِ الْقَرْنَ وَصَلِّ بِالْقَوْسِ ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْقَوْسُ عَلَى الْمُصَلِّي كَالرِّدَاءِ. فَأَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاةَ بِالْقَوْسِ، وَنَهَى عَنِ الْقَرْنِ، وَهُوَ الْجُعْبَةُ الَّتِي تَجْمَعُ السِّهَامَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغِطَاءٍ، فَهِيَ جَعْبَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً فَهِيَ قَرْنٌ، وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ إِذَا كَانَ رِيشُ السِّهَامِ نَجِسًا، لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ يُتَّخَذُ مِنْ رِيشِ النَّسْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَلَوْ كَانَ الرِّيشُ طَاهِرًا لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَهْيٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ إِذَا كَانَ طَاهِرًا، لِأَنَّهُ يَتَخَشْخَشُهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ بِاصْطِكَاكِ السِّهَامِ، فَيَقْطَعُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَشْخَشْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ نَهْيٌ، فَصَارَ لِحَمْلِهِ فِي صِلَاتِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا وَهُوَ إِذَا كَانَ نَجِسًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَهُوَ إِذَا كَانَ طَاهِرًا يَقْطَعُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَهُوَ مَا خَلَا مِنْ هَذَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 251 كتاب الأيمان مختصر الأيمان والنذور وما دخل فيهما من الجامع من كتاب الصيام ومن الإملاء ومن مسائل شتى سمعتها لفظاً قال الماوردي: أَمَّا الْيَمِينُ فَهِيَ الْقَسَمُ، سُمِّيَ يَمِينًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينَهُ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَيْمَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) {البقرة: 224) . أَمَّا الْعُرْضَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا الْقُوَّةُ، وَالشِّدَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْثُرَ ذِكْرُ الشَّيْءِ حَتَّى يَصِيرَ عُرْضَةً لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (فَلَا تَجْعَلَنِّي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ ... ) وَأَمَّا الْعُرْضَةُ فِي الْأَيْمَانِ، فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ بِهَا فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَيَبْتَذِلَ اسْمَهُ، وَيَجْعَلَهُ عُرْضَةً. والثاني: أن يجعل يمنيه عِلَّةً يَتَعَلَّلُ بِهَا فِي بِرِّهِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ: لَا يَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ يَمِينِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ: لَيَفْعَلَنَّ الْخَيْرَ، فَيَفْعَلَهُ لِبِرِّهِ فِي يَمِينِهِ لَا لِلرَّغْبَةٍ في ثوابه. وفي قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبَرُّوا فِي أَيْمَانِكُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَبَرُّوا أَرْحَامَكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَتَتَّقُوا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَتَّقُوا الْخُبْثَ، {وَاللهُ سَمِيعٌ} لِأَيْمَانِكُمْ {عَلِيمٌ} بِافْتِقَارِكُمْ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 252 وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) {البقرة: 225) . وَاللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا كَانَ قَبِيحًا مَذْمُومًا، وَخَطَأً مَذْمُومًا مَهْجُورًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وِإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) {القصص: 55) . وَفِي لَغْوِ الْأَيْمَانِ سَبْعَةُ تَأْوِيلَاتٍ، وَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِذَلِكَ بَابًا يُذْكَرُ فِيهِ، وَفِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْإِثْمِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بَمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَصَدْتُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ. وَالثَّانِي: مَا اعْتَمَدْتُمْ مِنَ الْكَذِبِ، {وَاللهُ غَفُورٌ} لِعِبَادِهِ فِيمَا لَغَوْا مِنْ أَيْمَانِهِمْ {حَلِيمٌ} فِي تَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) . وَعَقْدُهَا هُوَ لَفَظٌ بِاللِّسَانِ، وَقَصْدٌ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ من أيمانه هو لغوٌ لا يؤاخذ له. وَفِي تَشْدِيدِ قَوْلِهِ {عَقَّدْتُمْ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظُ الْمَأْثَمِ بِتَكْرَارِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ تِكْرَارَهَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَة مَسَاكِينَ) {المائدة: 89) . فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَفَّارَةُ مَا عَقَدُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا كَفَّارَةُ الْحِنْثِ بَعْدَ عَقْدِ الْأَيْمَانِ، وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا طَاعَةً، وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً. كقوله: والله لا قتلت نفساً خيرة، وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا. فَإِذَا حَلَفَ، بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِ الْحِنْثِ دُونَ عَقْدِ الْيَمِينِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 253 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا طَاعَةً. كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا صُمْتُ. فَإِذَا حَنِثَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ مأثم اليمين دُونِ الْحِنْثِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مُبَاحًا، وَحَلُّهَا مُبَاحًا. كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ. فَالْكَفَّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَهِيَ بِالْحِنْثِ أَحَقُّ، لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا به. وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: احْفَظُوهَا أَنْ يَحْلِفُوا. وَالثَّانِي: احْفَظُوهَا أَنْ تَحْنَثُوا. وَالثَّالِثُ: احْفَظُوهَا لِتُكَفِّرُوا. وَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ الْحَارِثِيُّ، وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ مَالَ امرئٍ مسلمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ " قِيلَ: " وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ: وَإِنْ كَانَ سِوَاكًا مِنْ أراكٍ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي هو خيرٌ، وَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْيَمِينُ حنثٌ أَوْ مندمةٌ ". وَقَدْ حلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ قَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدِهِ " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ". فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَعَقْدُ الْيَمِينِ مَوْضُوعَةٌ لِتَحْقِيقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، أَوْ لِالْتِزَامِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الكفارة ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 254 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَعْقُودَةٌ بِمَنْ عَظُمَتْ حُرْمَتُهُ، وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ وَإِطْلَاقُ هَذَا مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُخْتَصَّةً بِاللَّهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ، وَلَهُ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ. فَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ فَأَخَصُّهَا بِهِ قَوْلُنَا: اللَّهُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَّسِمْ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً) {مريم: 65) . أَيْ: مَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُ؟ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي فِيهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ شَبِيهًا؟ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْمِ، هَلْ هُوَ عَلَمٌ لِذَاتِهِ، أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ صِفَاتِهِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ تَكُونُ تَابِعَةً لِأَسْمَاءِ الذَّاتِ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ ذَاتٍ يَكُونُ عَلَمًا، لِتَكُونَ أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ تَبَعًا، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَالْفَضْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ " أَلِهَ " صَارَ بِنَاءُ اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ حَذْفِ هَمْزِهِ، وَتَفْخِيمِ لَفْظِةِ: اللَّهَ، فَالْحَالِفُ بِهَذَا الِاسْمِ حَالِفٌ بِيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ بِهِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ، أَوْ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ تَقُولَ: وَالَّذِي خَلَقَنِي، أَوْ وَالَّذِي صَوَّرَنِي، فَتَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينُهُ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ هُوَ اللَّهُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ، وَلَا يَكُونُ هَذِهِ يَمِينًا بَاسْمٍ مُكَنًّى، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: وَالَّذِي أُصَلِّي لَهُ، أَوْ أَصُومُ لَهُ، أَوْ أُزَكِّي لَهُ، أَوْ أَحُجُّ لَهُ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ وَزَكَاتَهُ وَحَجَّهُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، فَيَنْقَسِمُ ثَمَانِيَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا: مَا يَجْرِي فِي اخْتِصَاصِهِ بِهِ مَجْرَى الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهُوَ: الرحمن، فيكون المحالف بِهِ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ يتسمى به غيره من خلفه، وَلَئِنْ طَغَى مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَتَسَمَّى: رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ، فَهِيَ تَسْمِيَةُ إِضَافَةٍ لَمْ يُطْلِقْهَا لِنَفْسِهِ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ إِلَى هَذَا الِاسْمِ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَتَفَرَّدَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشْ اسْتَوَى} ، فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الَّذِي هُوَ الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 255 وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ هَلْ هُوَ اسْمُ علمٍ أَوْ صِفَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى غَيْرِ مُشْتَقٍّ مِنْ صِفَةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ قَدْ سَمَّوْهُ بِهِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَتِهِ بِالرَّحْمَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا الرَّحْمَنُ هَلْ هِيَ رَحْمَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا، أَوْ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ مِثْلُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا رَحْمَةٌ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ مِثْلُهَا، وَاخْتِصَاصُهُ مِنْهَا بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْمُبَالِغَةِ فِي الرَّحْمَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الرَّحِيمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الرَّحْمَنُ مُخْتَصًّا بِهِ، وَالرَّحِيمُ مُشْتَرِكًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَحْمَةٍ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِهَا دُونَ خَلْقِهِ، وَفِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا رَحْمَتُهُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ خَلْقِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا صِفَةٌ لِلرَّحْمَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لِفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ خَلْقِ الرَّحْمَةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْيَمِينُ بِهَذَا الِاسْمِ مُنْعَقِدَةٌ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ، كَانْعِقَادِهَا بالله سواء قبل اشْتِقَاقُهُ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ، أَوْ صِفَةِ فِعْلِهِ لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ بِاسْمِ الْمَعْبُودِ دُونَ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْإِلَهُ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ اشْتِقَاقٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَ يِأْلَهُونَ إِلَيْهِ أَيْ: يَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فُلَانٌ يَتَأَلَّهُ أَيْ: يَتَعَبَّدُ. وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلِ اشْتُقَّ اسْمُ الْإِلَهِ مِنْ فِعْلِ الْوَلَهِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اشْتُقَّ مِنْ فِعْلِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ ذاته، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 256 وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْحَالِفُ بِالْإِلَهِ مُنْعَقِدَ الْيَمِينِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ فِي الظَّاهِرِ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَوْقُوفًا عَلَى إِرَادَتِهِ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ إِطْلَاقُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فِي الْإِضَافَةِ مُشْتَرِكًا، وَهُوَ الرَّبُّ، اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ صِفَةٍ، اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَالِكِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ أَيْ مَالِكُهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّيِّدِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يُسَمَّى رَبًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) {يوسف: 36) . يَعْنِي: سَيِّدَهُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) . وَهُمُ الْعُلَمَاءُ سُمُّوا رَبَّانِيِّينَ، لِقِيَامِهِمْ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ بِعِلْمِهِمْ وَقِيلَ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهَا تُدَبِّرُهُ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ الرَّبَّ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرْبِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكِمُ) {النساء: 23) . فَسُمِّيَ وَلَدُ الزَّوْجَةِ رَبِيبَةً، لِتَرْبِيَةِ الزَّوْجِ لَهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: إِنَّ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبٌّ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ أَوْ سَيِّدٌ، فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ. وَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِخَلْقِهِ أَوْ مُرَبِّيهِمْ، فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، وَصِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ، وَصِفَاتُ فِعْلِهِ مُحْدَثَةٌ، وَهُمَا فِي اشْتِقَاقِ الِاسْمِ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَالِفًا بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِالصِّفَتَيْنِ مُخْتَلِفَةً، تَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الذَّاتِ لِقَدَمِهَا، وَلَا تَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ، لِحُدُوثِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ اشْتِقَاقُهُ انْقَسَمَتِ الْيَمِينُ بِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: رَبُّ العالمين، أو رب السموات وَالْأَرْضِينَ، فَهَذَا حَالِفٌ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَالِفٍ بِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَالرَّبِّ، فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَلَا يُعَرِّفُهُ بِصِفَةٍ، فَيَكُونُ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ رَبَّ الدَّارِ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَالِفًا لِاحْتِمَالِهِ، وَكَانَ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِإِطْلَاقِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِهِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 257 الْبَاطِنِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَرَبِّ هَذِهِ الدَّارِ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ إِشَارَةٌ إِلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ خَالِقَهَا، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ حَالِفًا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اعْتُبِرَ فِيهِ عُرْفُ الْحَالِفِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَرَبِّي، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يُسَمُّونَ السَّيِّدَ فِي عُرْفِهِمْ رَبًّا، لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُسَمُّونَ الرَّبَّ فِي عُرْفِهِمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الْحَالَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْاً) {يوسف: 36) . يَعْنِي سَيِّدَهُ. وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) {الصافات: 99) . يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى، فَكَانَ الرَّبُّ فِي إِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ مُخْتَلِفًا فِي الْمُرَادَ بِهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعُرْفِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْقُدُّوسُ، وَالْخَالِقُ، وَالْبَارِئُ. فَأَمَّا الْقُدُّوسُ: فَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهِ فِي الْعُرْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْمُبَارَكُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الطَّاهِرُ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنَ الْقَبَائِحِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْقُدُّوسِ كَانَ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَارَكُ أَوِ الطَّاهِرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ حَالِفًا، وَيَكُونُ ظَاهِرًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِحِ. وَأَمَّا الْخَالِقُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُقَدِّرُ لَهَا بِحِكْمَتِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْخَالِقِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، ففيه وجهان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 258 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُقَدِّرُ لِلْأَشْيَاءِ بِحِكْمَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ. وَأَمَّا الْبَارِئُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِلْخَلْقِ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْبَارِئِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُمَيَّزُ لِلْخَلْقِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا، إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ وَجْهًا وَاحِدًا: أَحَدُهُمَا: الْمُهَيْمِنُ. وَالثَّانِي: الْقَيُّومُ. فَأَمَّا الْمُهَيْمِنُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْعُرْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الشَّاهِدُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْأَمِينُ، قَالَهُ الضَّحَاكُ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْمُصَدِّقُ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْحَافِظُ. فَإِذَا حَلَفَ بِالْمُهَيْمِنِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَاطِنِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ حَالِفًا. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي داعٍ فَهَيْمِنُوا، أَيْ: قُولُوا آمِينَ حِفْظًا لِلدُّعَاءِ، فَسُمِّيَ الْقَائِلُ آمِينَ مُهَيْمِنًا، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَبَى بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ) يَعْنِي: الْحَافِظَ لِلنَّاسِ بَعْدَهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 259 وَأَمَّا الْقَيُّومُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ، وَاخْتُلَفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِالْوُجُودِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ. فَإِذَا حَلَفَ بِالْقَيُّومِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ حَالِفًا، لِأَنَّ مَعَانِيَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا بِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْعَالِمُ، وَالْكَرِيمُ، وَالسَّمِيعُ، وَالْبَصِيرُ. فَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. فَإِذَا حَلَفَ بِأَحَدِهَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ، فَيَصِيرُ بِهَا حَالِفًا، وَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَقَلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، صَارَ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ عَلَى سَوَاءٍ كَالرَّحِيمِ، وَالْعَظِيمِ، وَالْعَزِيزِ، وَالْقَادِرِ، وَالنَّاصِرِ، وَالْمَلِكِ، فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ بِهَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ حَالِفًا بِهَا، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أحدهما: يكونه حَالِفًا بِهَا تَغْلِيبًا لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَيْمَانُ فِي الْغَالِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَكُونُ حَالِفًا؛ لِأَنَّهَا مَعَ تَسَاوِي الِاحْتِمَالِ فِيهِ تَصِيرُ كِنَايَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حكمٌ، فَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَقَلَّتْ فِي الْمَخْلُوقِينَ صَارَ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ الْخَامِسِ، وَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، وَقُلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِهَا فِي الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ السَّادِسِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ مِنْ أَسْمَائِهِ: الْجَبَّارُ، وَالْمُتَكَبِّرُ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ كَانَ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ، كَانَ مُخْتَصًّا بالمخلوقين، وهو اسمان الجبار والمتكبر، لأنهما من صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَدْحٌ، وَفِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ذَمٌّ، فَيَصِيرُ بِهِمَا حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الْمَدْحِ، لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 260 بِالْمَدْحِ بِهَا، وَلَا يَصِيرُ بِهِمَا حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الذَّمِّ لِانْتِفَائِهِ فِي صِفَاتِهِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ تُعْتَبَرُ بِهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، إِذَا حَلَفَ بِهَا فَيُحْمَلُ جَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهَا. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: صِفَاتُ ذَاتِهِ. وَالثَّانِي: صِفَاتُ أَفْعَالِهِ. فَأَمَّا صِفَاتُ ذَاتِهِ فَقَدِيمَةٌ لِقَدَمِ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ، وَعَظَمَةِ اللَّهِ، وَجَلَالِ اللَّهِ، وَعِزَّةِ اللَّهِ، وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ، وَعِلْمِ الله، لأنه نزل على هذه الصفات ذات قُدْرَةٍ، وَعَظَمَةٍ، وَجَلَالٍ، وَعَزَّةٍ، وَكِبْرِيَاءٍ، وَعِلْمٍ، فَجَرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ لِذَاتِهِ مَجْرَى الْمَوْصُوفِ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أَسْمَائِهِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَأَجْرَاهَا مَجْرَى مَعْلُومِهِ، وَلَوْ حَلَفَ بِمَعْلُومِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْيَمِينُ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ، وَالْعِلْمَ مُتَّصِلٌ بِهَا وَأَمَّا صِفَاتُ أَفْعَالِهِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَقَوْلِهِ: وَخَلْقِ اللَّهِ، وَرِزْقِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا بِهَا لِخُلُوِّهَا مِنْهُ قَبْلَ حُدُوثِهَا، وَالْيَمِينُ بِالْمُحْدَثَاتِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ كَذَلِكَ، مَا كَانَ مُحْدَثًا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ. فَأَمَّا أَمَانَةُ اللَّهِ فَهِيَ كَصِفَاتِ أَفْعَالِهِ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا يَمِينٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ، وَأَجْرَاهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَجْرَى صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَعَقَدَ بِهَا الْيَمِينَ، وَأَوْجَبَ فِيهَا الْكَفَّارَةَ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فُرُوضُهُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَبِيدَهُ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاُ) {الأحزاب: 72) . وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ اصْفَرَّ مَرَّةً، وَاحْمَرَّ مَرَّةً، وَقَالَ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عرضت على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلْتُهَا أَنَا، فَلَا أَدْرِي أسيءُ فِيهَا أَوْ أُحْسِنُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا الْكَفَّارَةُ. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى أَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ. قِيلَ: يُحْتَمَلُ إِنَّهُ يُرِيدُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو أَمَانَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 261 يُرِيدَ بِهَا فُرُوضَ اللَّهِ، فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ احْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ يمينٌ مكروهةٌ وَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا مَكْرُوهَةٌ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِمُعَظَّمٍ كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ مُعَظَّمٍ، لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي ركبٍ، وَحَلَفَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمع النبي الله عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي: عَامِدًا، وَلَا نَاسِيًا. وَالثَّانِي: مُعْتَقِدًا لِنَفْسِي، وَلَا حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ "، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي التَّعْظِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ. وَالثَّانِي: فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، فَصَارَ كَافِرًا بِهِ إِنِ اعْتَقَدَ لُزُومَ يَمِينِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَاعْتِقَادِ لُزُومِهَا بِاللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ". . وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ "، وَقَالَ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ: " وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهِ لَأَجْزَأَكَ "، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كَلِمَةً تَخِفُّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ النَّهْيِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 262 هِيَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَكْرُوهٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ حَنِثَ فِيهَا وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إِذَا حَلَفَ بِمَا يَحُظُرُهُ الشَّرْعُ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ كَافِرٌ بِهِ، أَوْ خَارِجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ وَثَنِيٌّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَصَاحِبَاهُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرُبَّمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ، وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ، وَلِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَبِمَا رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بملةٍ غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا " فَجَعَلَهَا يَمِينًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْقُضَوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) {النحل: 91) . فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهَا، وَلِأَنَّ لُزُومَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ لِتَوْكِيدِ حُرْمَتِهَا وَحَظْرِ مُخَالَفَتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَقَدَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَمِنَ الْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي اللُّزُومِ وَفِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ اللَّهِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا، وَأَشَدُّ حَظْرًا مِنَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ، وَلَزِمَ التَّكْفِيرُ فِي أَحَقِّ الْمَأْثَمَيْنِ كَانَ لُزُومُهَا فِي أَغْلَظِهِمَا أَوْلَى. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) {الأنعام: 109) . فَجَعَلَهَا غَايَةَ الْأَيْمَانِ وَأَغْلَظَهَا، فَلَمْ تَتَغَلَّظِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ، إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ". وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من خلف بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " فَقَدْ أَشْرَكَ " فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ؟ وَلِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ؟ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ؟ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا زانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أو قاتل نفس، ولأن حلف بمخلوقٍ يحدث لأنه اعْتِقَادَ الْكُفْرِ وَبَرَاءَتَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 263 مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ بِأَمْرٍ مَحْظُورٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا تُوجِبُ التَّكْفِيرَ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنَا فَاسِقٌ، أَوْ فَعَلَيَّ قَتْلُ نَفْسِي أَوْ وَلَدِي. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، لِأَنَّهَا الْيَمِينُ الْمَعْهُودَةُ، فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَعَ ضَعْفِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا لَنَا أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْنَا؟ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ بِالْحِنْثِ خَارِجًا مِنَ الْإِسْلَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ كَمَا قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عَبْدًا قَتَلْنَاهُ ". جَعْلَ الْوَعِيدَ يُوجِبُ يَمِينَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ تَوْكِيدُ حُرْمَتِهَا، وَحَظْرُ مُخَالَفَتِهَا، فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ لِحَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى التَّلَفُّظِ بِهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَظْرِ، وَالتَّحْرِيمِ حُرْمَةٌ مِنَ الِالْتِزَامِ وَالتَّكْفِيرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيظِ الْبَرَاءَةِ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ اللَّهِ كُفْرٌ، وَلَا يَجِبُ بِالْكُفْرِ تَكْفِيرٌ كَالْمُرْتَدِّ وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَأَكْرَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حالٍ إِلَّا فِيمَا كَانَ لِلَهِ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةً وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خيرٌ وَيُكَفِّرَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى ماضٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ عَقْدُهَا، وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةً، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَعْصِيَةً، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لِأُصَلِّيَنَّ فَرْضِي؟ وَلَأُزَكِّيَنَّ مَالِي، وَلَأَصُومَنَّ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَأَحُجَّنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فقعدها وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ، لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِفِعْلِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ، وَلَا يَصُومَ، ولا يحج معصية، لأنه ترك لمفروض، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَحْظُورًا مُحَرَّمًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا زَنَيْتُ وَلَا سَرَقْتُ وَلَا قَتَلْتُ وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا وَلَا قَذَفْتُ محصناً، كَانَ عَقْدُهَا بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي طَاعَةً، وَحِلُّهَا بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي مَعْصِيَةً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 264 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا طَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا زَكَّيْتُ وَلَا صُمْتُ وَلَا حَجَجْتُ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِأَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِيهَا مفروضاً عليه، وجلها وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ طَاعَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَزْنِيَنَّ وَلَأَشْرَبَنَّ خَمْرًا وَلَأَسْرِقَنَّ وَلَأَقْتُلَنَّ كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا طَاعَةً بِأَنْ لَا يَزْنِيَ وَلَا يَشْرَبَ. وَالْقَسَمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مُسْتَحَبًّا، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَكْرُوهًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ النَّوَافِلَ وَلَأَتَطَوَّعَنَّ بِالصَّدَقَةِ، وَلَأَصُومَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَلَأُنْفِقَنَّ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَكْرُوهًا وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا - مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَدَّمْنَاهُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ نَافِلَةً، وَلَا تَطَوَّعْتُ بِصَدَقَةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَا أَنْفَقْتُ عَلَى ذِي قَرَابَةٍ، وَلَا عُدْتُ مَرِيضًا، وَلَا شَيَّعْتُ جِنَازَةً، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ، وَحِلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، قَدْ حَلَفَ أَبُو بكر أن لا يبر مسطح، وَكَانَ ابْنَ خَالَتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَلاَ يَأْتلُ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى) {النور: 22) إِلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) {النور: 22) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى يَا رَبِّ، فَبَرَّهُ وَكَفَّرَ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَلَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا أَكَلْتُ هَذَا الطَّعَامَ فَعَقْدُهَا لَيْسَ بمستحبٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هريرة أن عَقْدَهَا مُبَاحٌ، وَحَلَّهَا مُبَاحٌ، لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ، وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظاهر كلامه هاهنا، أَنَّ عَقْدَهَا مَكْرُوهٌ، وَحِلَّهَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَكْرَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَكُونُ عَقْدُهَا مَكْرُوهًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، وحلها مكروه؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ عُرْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَدْ نَهَاهُ عَنْهُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَحَلَفَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا أَنْ يَبَرَّ أَوْ يَحْنَثَ فَإِنْ بَرَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِرُّهُ فِيهَا طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ فِيهَا وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 265 وَقَتَادَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا طَلَّقْتُمْ) {المائدة: 89) فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا " فَغَزَاهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْ. وَقَوْلُهُ: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا حلفْتُمْ) {المائدة: 89) يَعْنِي: وَحَنِثْتُمْ، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فِعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) أَيْ: فَأَفْطَرْتُمْ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ كَانَ حِنْثُهُ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَغَيْرُ آثِمٍ فِيهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْفِيرٍ كَالْقَتْلِ، إِنْ أَثِمَ بِهِ كَفَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ لَمْ يُكَفِّرْ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُكَفِّرَ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ كَانَ مُطِيعًا فِي قَتْلِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْجَزَاءِ وَكَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ لَيْسَ يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِي الْحِنْثِ وَحْدَهُ لِتَعَلُّقِهَا بِحَلِّ مَا عَقَدَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ) {التحريم: 2) وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابَنَا: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ بِالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَقْدِ الْيَمِينِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَ عَقَدُهَا طَاعَةً وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً وَجَبَتْ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بالمعصية أخص والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ أَثِمَ وَكَفَّرَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلَ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى} نَزَلَتْ فِي رجلٍ حَلَفَ لَا يَنْفَعُ رَجُلًا فأمره الله أن ينفعه وبقول الله جل ثناؤه في الظهار: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً} ثم جعل فيه الكفارة وبقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فليأت الذي هو خيرٌ وليكفر عنه يمينه " فقد أمره بالحنث عامداً وبالتكفير ودل إجماعهم أن من حلف في الإحرام عمداً أو خطأً أو قتل صيداً عمداً أو أخطأ في الكفارة سواءٌ على أن الحلف بالله وقتل المؤمن عمداً أو خطأ في الكفارة سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 266 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، فإن كان قَدْ فَعَلَ مَا أَثْبَتَ وَتَرَكَ مَا نَفَى فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ بِرِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَثْبَتَهُ وَفَعَلَ مَا نَفَاهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَكَلْتُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ وَقَدْ أَكَلَ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ عَاصٍ آثِمٌ، وَتُسَمَّى الْيَمِينَ الْغَمُوسَ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ بِهَا فِي الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: فِي النَّارِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ، وَوُجُوبُهَا مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللًّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْماَنَ) {المائدة: 89) وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ هِيَ اللَّغْوُ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَا الْتَزَمَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، فَخَرَجَتِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مِنَ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا كَفَّارَةٌ، ثُمَّ خَتَمَ الآية بقوله: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ} يَعْنِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِنَ الْحِنْثِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امرئٍ مسلمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ مِنْ أَهْلِهَا ". فَأَخْبَرَ بِحُكْمِهَا وَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ فِيهَا. وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى ماضٍ فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَاللَّغْوِ. وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَحْظُورَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِهَا؛ لِأَنَّ حُدُوثَهُ فِيهَا يَدْفَعُ عَقْدَهَا كَالرَّضَاعِ لَمَّا رَفَعَ النِّكَاحَ إِذَا طَرَأَ مَنْعَ انْعِقَادَهُ إِذَا تقدم. ودليلنا: قوله اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) بَعْدَ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ لُزُومَهَا فِي كُلِّ يَمِينٍ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) وَلَغْوُ الْيَمِينِ مَا سَبَقَ بِهِ لِسَانُ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَقْصُودَةٌ، فَكَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهَا تُوجِبُ تَكْفِيرَهَا، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَةِ الْغَمُوسِ يَمِينًا بَطَلَ مَنْعُهُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 267 بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ) {التوبة: 74) وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) {التوبة: 56) . وَمِنَ الْقِيَاسِ: إِنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى قَصَدَهَا مُخْتَارًا؛ فَوَجَبَ إِذَا خَالَفَهَا بِفِعْلِهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْيَمِينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى بِرٍّ وَحِنْثٍ كَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ كَذِبًا كَانَ فِي الْيَمِينِ حِنْثًا كَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ الْمَاضِي كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا وَهَذَا وِفَاقًا كَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَيْمَانِ أَعَمُّ فِي الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَجِبُ فِيمَا يَأْثَمُ بِهِ وَلَا يَأْثَمُ، فَلَمَّا لَحِقَهُ الْمَأْثَمُ فِي الْغَمُوسِ كَانَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ} (البقرة: 225) فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَيْمَانِهِ وَهُوَ مِنْ كَسْبِ قَلْبِ الْمَأْخُوذِ بِإِثْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) وَلَئِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُسْتَقْبَلَةُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ بِرٍّ وحنثٍ، فَالْغَمُوسُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ صِدْقٍ وَكَذِبٍ، فَصَارَتْ ذَاتَ حَالَيْنِ كَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْحَالَتَانِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ وَلَيَشْرَبَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ حَنِثَ لِوَقْتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِيَقْتُلَنَّ زَيْدًا، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ مَاتَ حَنِثَ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ وكذبٍ، لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ كَذَلِكَ يَمِينُ الْغَمُوسِ فِي الْمَاضِي. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) {المائدة: 89) فَحِفْظُهَا قَبْلَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْلِفَ وَبَعْدَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْنَثَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (قَلِيَلُ الْأَلَايَا حافظٌ لِعَهْدِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ) وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا اكْتِفَاءٌ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حُكْمُ الْآخِرَةِ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 268 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لَغْوِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فَخَرَجَ عَنِ الْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ في جنسها كفارة فخالفت الأيمان بالله. وما الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِيَمِينِهِ أَنْ يَصْعَدَ السَّمَاءَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالِاسْتِبَاحَةُ، فَإِذَا امْتَنَعَ فِي النِّكَاحِ بَطَلَ وَمَقْصُودُ الْيَمِينِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ وَسُقُوطُهَا فِي الْبِرِّ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى الْمَاضِي فِي إِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ، أَوْ نَفْيِ مَا قَدْ كَانَ، فَهِيَ يَمِينٌ مَحْلُولَةٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُنْتَظَرُ بَعْدَهَا مِنْ بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهَا الْحِنْثُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ لَفْظِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِاسْتِيفَاءِ الْيَمِينِ. (فَصْلٌ:) يَمِينُ الْكَافِرِ مُنْعَقِدَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحِنْثُ، وَتَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّهُ إِنْ كَفَّرَ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَفَّرَ بِالْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، وَلَمْ يُكَفِّرْ بِالصِّيَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ كَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمِينُ الْكَافِرِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِذَا حَنِثَ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ؛ لافتقارها إلى النية ما بِدَلِيلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ. وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ وَالْكِسْوَةَ حَدٌّ مُوجِبُهُ التَّكْفِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا كَفَّارَةٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مُوجِب الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 269 بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ) {المائدة: 89) الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ اسْتِوَاءَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي وُجُوبِهِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الدَّعَاوَى انْعَقَدَتْ مِنْ غَيْرِ الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ صَحَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِ صَحَّتْ مِنَ الْكَافِرِ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ كَالْمُسْلِمِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الْإِيلَاءِ وَبِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مُوجِبُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكْفِيرِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: مُوجِبُ الْيَمِينِ هُوَ الْوَفَاءُ بِهَا، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى التَّكْفِيرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَتَلَ فِيهِ صَيْدًا ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِخْرَاجُ الْجَزَاءِ إِلَى نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ مَا وَجَبَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْقُطُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَأْثَمِ دُونَ الْمَغْرَمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالصِّيَامِ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ وَالْمَالُ حق يتصرف إِلَى الْآدَمِيِّينَ، فَصَحَّ مِنَ الْكَافِرِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ، وَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وتصح مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وَالْمَجْنُونُ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَالْكَافِرُ مُكَلَّفٌ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَتْ يمين الكافر، وإن لم تنعقد يَمِينُ الْمَجْنُونِ. وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَلِأَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ طُهْرَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا الْكَافِرُ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عقوبة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَعْنِي حَلَفْتُ قَدِيمًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ حادثةٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَوْلُهُ: " أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ " يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْحَالِ أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 270 يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَاضِيَةٍ. وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا فِي الْحَالِ فَتَكُونَ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أيْمَانِهِمْ) {الأنعام: 109) . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ إِرَادَةٌ، فَتَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفَانِ، عُرْفُ شَرْعٍ وَعُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. فَعُرْفُ الشَّرْعِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَمِينًا حَلَفَ بِهَا مُنْعَقِدَةً، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ يَمِينِهِ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مُوَافِقًا لِإِرَادَتِهِ، فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ لَهُ يَمِينٌ مُتَقَدِّمَةٌ، فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ " لَا تَكُونُ يَمِينًا " لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ: تَكُونُ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَتَخْرِيجُهُ فِي الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ. وَالثَّانِي: لَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَلْزَمُ فِي الْإِيلَاءِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَيْمَانِ لِأَنَّ فِي الْإِيلَاءِ حَقًّا لِآدَمِيِّينَ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِرَادَتِهِ، وَهُوَ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ، فَجَازَ أَنْ يَدِينَ فِيهِ على إرادته. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ ". قَالَ الماوري: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أُقْسِمُ لَا فَعَلْتُ كَذَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِهِ يَمِينًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ يَمِينًا أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرُدْهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إِنْ أَرَادَ الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا، وَهَكَذَا. لَوْ قَالَ: أَحْلِفُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِهِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَيَقُولَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أشهد بالله واستدل من جعله يميناً يقول الله تعالى: {وَإذاَ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) {القلم: 17) . فَدَلَّ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 271 أن أقسمت يمين مُنْعَقِدَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرِسُولُ اللهِ) {المنافقون: 1) . ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة) {المنافقون: 2) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " أَشْهَدَ " يَمِينٌ لَازِمَةٌ. وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَأَبْقَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِرِّيهَا، فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ " فَجَعْلَهَا يَمِينًا ذَاتَ برٍّ وحنثٍ. وَرُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ أَتَى بِأَبِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيُبَايِعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ". فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: الْآنَ بَرَرْتَ قَسَمِي، فَسَمَّاهُ قَسَمًا، وَلِأَنَّ عُرْفَ الْقَسَمِ فِي الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشهَادَةُ أَحِدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (النور: 6) . وَاللِّعَانُ يَمِينٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شأنٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى تَقْتَرِنَ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَفْظٌ عَرِيَ عَنِ اسْمٍ وَصْفَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. أَصْلُهُ إِذَا قَالَ: أُولِي لِأَفْعَلَنَّ هَذَا، لِأَنَّ الْأَلْيَةَ، وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ، وَقِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُكَفَّرَةَ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ مُعَظَّمٍ لَهُ حُرْمَةٌ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْقَسَمُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ، فَسَقَطَتْ كفارته. وأما الجواب عن قوله تعالى: {إِذَا أَقْسَمُوا لَيَصْرِمَنَّهَا مُصْبِحِينَ) {القلم: 17) . فَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَسَمِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِفَةِ الْقَسَمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: حَلَفَ فَلَانٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا حَلَفَ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَذَفَ ذِكْرَ اللَّهِ مِنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى الْعُرْفِ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنَ الْقَسَمِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاللَّهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اللَّهِ أُخْرَى، كَمَا لَوْ قال: حلفت، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 272 يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِاللَّهِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُرِيدَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَبِمَا لَا تَنْعَقِدُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ الْقَسَمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " فَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَوْعِدًا فليست بيمينٍ كقوله سأحلف (قال المزني) رحمه الله وَفِي الْإِمْلَاءِ هِيَ يمينٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " أُقْسِمُ بِاللَّهِ " فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهَا يَمِينًا فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَيُقْسِمُ يَمِينًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ احْتِمَالُهُمَا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَاحْتِمَالِ قَوْلِهِ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ، لِأَمْرَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي أَقْسَمْتُ لِيَمِينٍ مَاضِيَةٍ وَفِي قَوْلِهِ: " أُقْسِمُ " لِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِهِ الثلاثة: أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهَا عَقْدَ يَمِينٍ فِي الْحَالِ، فَتَنْعَقِدَ يَمِينُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، فَيَعْقِدَ يمينه اعتباراً في الإطلاق يعرف الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: 107) . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا مَوْعِدًا فِي يَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا حَمَلًا عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْمَوْعِدِ، وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْإِيلَاءِ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي الْحَالِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وإِنْ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كذا من ثلاثة أحوالٍ: أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَمِينَ، فَتَكُونُ يَمِينَا مُكَفَّرَةً، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ عِلْمُ اللَّهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّانِي: بَقَاءُ اللَّهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: وَحَقِّ اللَّهِ وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 273 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرِيدَ يَمِينًا فَلَا تَكُونُ يَمِينًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ لَفْظَهُ قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ كَذَا وَمِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: (لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي امرؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي ... نَوَائِبَ هَذَا الدَّهْرِ أَمْ كَيْفَ يَحْذَرُ) فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفِ بِالْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ يَمِينًا لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الصِّفَاتِ الْمَحْضَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَهُ، وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهِ إِرَادَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ يَمِينًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) {الحجر: 72) . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ مُشْتَرَكٌ، وَعُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِ مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ، وَأَقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِأَقْسَامِ عِبَادِهِ، لِجَوَازِ قَسَمِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ التي لا يجوز أن يقسمه بِهَا الْمَخْلُوقُونَ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَايْمُ اللَّهِ، وَايْمَنُ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا كَانَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: " وَايْمُ اللَّهِ إِنَهُ لخليقٌ بِالْإِمَارَةِ " وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ يَمِينًا، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي قَوْلِهِمْ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ قَوْلِهِمْ؛ وَايْمُ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَمِينٌ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ وَعَدَمِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَاهَا اللَّهِ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا، فَهُوَ يَمِينٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ أَخَذَ سَلَبَهُ غَيْرُهُ: لَاهَا اللَّهِ إِذَنْ تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُعْطِيكَ سَلْبَهُ، فَكَانَتْ يَمِينًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِعَدَمِ عُرْفِ الشرع والاستعمال فيه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ أَوْ وَعَظَمَتِهِ أَوْ وجلال الله أو وقدرة الله فذلك كله يمينٌ نَوَى بِهَا يَمِينًا أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ: وَحَقُّ اللَّهِ واجبٌ وَقُدْرَةُ اللَّهِ ماضيةٌ لَا أَنَّهُ يمينٌ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 274 قال الماوردي: ذكر الشافعي هاهنا إِذَا حَلَفَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِ " حَقِّ اللَّهِ " وَ " عَظَمَةِ اللَّهِ " وَ " جَلَالِ اللَّهِ "، وَ " قدرة الله ". فأما عظمة اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الْمَحْضَةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا عُرْفُ شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ وَإِنْ كَانَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعِرْفَانُ فِيمَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ مُحْتَمَلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ الِاحْتِمَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَقِّ اللَّهِ، وَقُدْرَةِ اللَّهِ، فَتَكُونُ يَمِينًا فِي حَالَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثٍ إِذَا أَرَادَ الْيَمِينَ وَإِذَا أَطْلَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ لَا تَكُونُ يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فُرُوضُهُ وَعِبَادَاتُهُ، لِرِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ فَقَالَ: " أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتَعْبُدُوهُ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ ". وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا يَمِينٌ مُعْتَادَةٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا كَصِفَاتِ ذَاتِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا يَمِينٌ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ صِفَاتِ الذَّوَاتِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ بَعْضَ حُقُوقِهِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ، وَتَحْتَمِلُ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَجَازَ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَعْمَلُ عَلَى إِرَادَتِهِ " فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، لِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ جَوَازِ أَنْ يُرِيدَ. وَحُقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَقُدْرَةُ الله ماضية، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَّلَ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ يَمِينًا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ إِذَا عَزَاهُ إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَتَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ قَالَ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَهِيَ يمينٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: تَاللَّهِ يمينٌ وَقَالَ فِي الْقَسَامَةِ لَيْسَتْ بيمينٍ (قال المزني) رحمه الله: وقد حكى الله عز وجل يمين إبراهيم عليه السلام {وتاللهِ لأَكِيدَنَّ أصْنَاَمكُمْ بَعْدَ أَنْ تَوَلُّوا مُدْبِرِينَ} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 275 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقَسَمِ ثَلَاثَةٌ: الْوَاوُ وَهِيَ أَصْلُهَا، ثُمَّ الْيَاءُ، ثُمَّ التَّاءُ، فَأَمَّا الْوَاوُ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ، وَهُوَ الْحَرْفُ الصَّرِيحُ فِي الْقَسَمِ، فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ كَانَ حَالِفًا، لَا يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي حُقُوقِ الله تعالى وحقوق الآدميين، وأما التاء الْمُعْجَمَةُ مِنْ تَحْتُ. فَقَوْلُهُ: بِاللَّهِ، وَفِيهَا بَعْضُ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّهُ مَعَ غَالِبِ الْأَحْوَالِ فِي الْقَسَمِ يحتمل أن يريد: بالله أستعين وبالله أتق، وبالله أومن، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَسَمَ، أَوْ قَالَ مُطْلَقًا كَانَ يَمِينًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَسَمَ، وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ احْتِمَالِهِ دِينَ فِي الْبَاطِنِ حَمْلًا عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ الظَّاهِرِ، وَلَزِمَهُ حُكْمُ الْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَرَادَ مِنْ وِثَاقٍ دَيْنٍ فِي الْبَاطِنِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الظَّاهِرِ. وَأَمَّا التَّاءُ الْمُعْجَمَةُ مِنْ فَوْقُ، فَقَوْلُهُ: تَاللَّهِ، فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ أَنَّهَا يَمِينٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أصْنَامَكُمْ} (الأنبياء: 57) .: {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا) {يوسف: 91) . وَنَقْلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَسَامَةِ: تَاللَّهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ مَا نَقَلَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ وَهِمَ فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: " بِاللَّهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ "، بِالْبَاءِ مُعْجَمَةٍ مِنْ تَحْتُ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ تَاللَّهِ يَمِينًا قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، لِضَبْطِهِ فِي نَقْلِهِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِي كَيْفِيَّةِ تَخْرِيجِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَخْرِيجُ قولٍ ثَانٍ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ النَّقْلِ فِيهِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ إِرَادَةٌ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ بِهَا واردٌ؛ وَلِأَنَّ التَّاءَ فِي الْقَسَمِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، فَقَامَتْ مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ في المواضع كلها إلا أن يريديها يَمِينًا، فَتَصِيرُ بِالْإِرَادَةِ يَمِينًا لِخُرُوجِهَا عَنْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْتِبَاسِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَالْأَيْمَانُ مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا، وَعِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ مُشْتَهِرًا، فَهَذَا وَجْهٌ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، إِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي خَوَاصِّ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ التَّاءَ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَلَا تَكُونُ فِي الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 276 ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْعَرِبِيَّ إِذَا حَلَفَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ تَكُونُ يَمِينًا إِذْ عَرَفَهَا، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنها تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلَا يَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا لِنَفْسِهِ حَقًّا، وَيَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْإِيلَاءِ؟ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا على نفسه حقاً. (مسألة:) قال الشافعي (قال المزني) : رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كلامٍ لَا يمينٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَذَفَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ حَرْفَ الْقَسَمِ، فَقَالَ: اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّهُ يَحْذِفُ حُرُوفَ الْقَسَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلْيَمِينِ يَصِيرُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَاسْتِفْتَاحَ خِطَابٍ يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْأَيْمَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الشَّرْعِ، فَقَدْ أَحْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً "؟ فَقَالَ: اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً، وَأَحْلَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جهلٍ، فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ "، فقال: الله إِنِّي قَتَلْتُهُ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَدَ الْيَمِينَ، بِإِحْلَافِهِمَا وَالنِّيَّةُ عِنْدَنَا فِي الْأَيْمَانِ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ نَوَى الْيَمِينَ، وَأَرَادَهَا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَانَتْ يَمِينًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِحْلَافِ رُكَانَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَتَصِيرُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ إِذَا لَمْ يُرِدْ وَإِذَا أَطْلَقَ، وَيَمِينًا فِي حالة واحدة إذا أراد. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِيهِ يَمِينًا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهَا يَمِينٌ لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ) {النور: 6) وَقَالَ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) {المنافقون: 1) وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ صَارَتْ يَمِينًا، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِاللَّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينًا قَاطِعَةً، لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ إِنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ بِالْأَيْمَانِ بِاللَّهِ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 277 وَالثَّانِيَةُ: مَا عَلَّلَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنَّهَا مَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي عُرْفِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالشَّهَادَةُ بِمَا لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ فِي الْأَيْمَانِ فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُ الْيَمِينِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، فَقَدْ قَابَلَهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَتَعَارَضَا، وَرَجَعَ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهَا غَيْرَ يَمِينٍ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، وَهُوَ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ، فَتَكُونُ يَمِينًا بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا وَافَقَهَا مِنْ أَحَدِ الْعُرْفَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهَا نِيَّةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُوَافَقَةِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُخَالَفَةِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا على هذا الإطلاق. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَعْزِمُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى كَذَا وَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَانَةَ بُقُولِهِ، وَمَعُونَتِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ عَزْمًا عَلَى الْيَمِينِ بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ، وَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ يَمِينٍ، وَأَضْعَفُهُمَا أَنْ تَكُونَ يَمِينًا، لَمْ يَجْعَلْهَا يَمِينًا إِذَا نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ، وَلَا إِذَا أَطْلَقَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، وَجَعَلْنَاهَا يَمِينًا إِذَا نَوَاهَا لِمَا يَحْتَمِلُهَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ فَتَصِيرُ يَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَغَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ احْتَمَلَتْ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِمَا اقْتَرَنَ بها من عرف الشرع. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ بالله لتفعلن فإن أراد المستخلف بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُكُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا. فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 278 أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا لِنَفْسِهِ عَلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ، فَتَكُونُ يَمِينًا لَهُ مُعَلَّقَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ مَا قَالَ بَرَّ الْحَالِفُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ الْحَالِفُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِفِ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى أحدٍ بيمينٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَيَبَرُّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبَرَّهُ ". وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) ، فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ الْمُحْنِثِ، وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا. رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ فَأَكَلَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَأَبْقَتْ تُمَيْرَاتٍ، فَقَالَتْ لَهَا الْمَرْأَةُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِرِّيَهَا؟ فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ "، فَجُعِلَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ وَالْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ الحالف بيمينه يميناً يعقدها على المستخلف يُلْزِمُهُ بِرَّهَا وَحِنْثَهَا، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِلْحَالِفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا لِلْمُسْتَحْلِفِ، لأنه لم يحلف بها، ولأنه لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ مَعَ حَلِفِهِ كَانَتْ يَمِينُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْلَى أَنْ لَا تَنْعَقِدَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ، وَلَا يَقْصِدَ بِهَا يَمِينًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِصَاحِبِهِ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا بِحَالٍ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُطْلِقَهَا، وَلَا تَكُونُ لَهُ نيةٌ فِيهَا بِيَمِينٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا عُرْفُ شَرْعٍ وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ، فَخَرَجَتْ عن حكم الأيمان. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ فَلَيْسَتْ بيمينٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ يُؤَدِّيَ فَرَائِضَهُ وَكَذَلِكَ مِيثَاقُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَأَمَانَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ جَمْعَ بَيْنِهِمَا، فَقَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، كَانَا مِنْ صَرِيحِ الْأَيْمَانِ، فَيَكُونُ يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَيْمَانِ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا تَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَنْوِهَا، لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 279 يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ فُرُوضٍ أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ فِي ظُهُورِ الْآبَاءِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وِإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) {الأعراف: 72) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اليمن؟ فَلَمَّا كَانَ هُنَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ وَأَطْلَقَ، فَفِي إِطْلَاقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِطْلَاقَهُ يُخْرِجُهُ عَنِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفُ شَرْعٍ، وَتَكُونُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ، وَيَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ قَدْ صَارَ جَارِيًا وَمَحْمُولًا بَيْنَهُمْ عَلَى زِيَادَةِ التَّغْلِيظِ، كَمَا يَزِيدُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، فَتَكُونُ يَمِينًا في حالتين، غير يَمِينٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا صَارَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ يَمِينًا، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ لِوُجُوبِهَا بِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، فَتَضَاعَفَتْ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ زَادَهَا تَغْلِيظًا، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 280 باب الاستثناء في الأيمان (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ حَلَفَ بِأَيِّ يمينٍ كَانَتْ ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي الْأَيْمَانِ والنذور يمنع من انعقادها، وتسقط حُكْمُهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَاهُ ". وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ "، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ يَمِينٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَعْلِيقُ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ مِنْ عِتْقٍ، وَطَلَاقٍ، وَغَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ، كَانَ تَعْلِيقُهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فِيهَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ عَمْرٌو، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ بَكْرٌ، وَلَمْ تُعْلَمْ مَشِيئَتُهُمْ حَتَّى مَاتُوا سَقَطَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ كُلُّهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ الْعِتْقَ؟ . قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَشَاءَهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَ الطَّلَاقَ؟ لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ، وَالْمُبَاحُ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَتِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَسَقًا وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُ سكتةٌ كَسَكْتَةِ الرَّجُلِ لِلتَّذَكُّرِ أَوِ الْعِيِّ أَوِ التَّنَفُّسِ أَوِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ فَهُوَ استثناءٌ وَالْقَطْعُ أَنْ يَأْخُذَ فِي كلامٍ لَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ مِنْ أمرٍ أَوْ نهيٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُتَ السُّكُوتَ الَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَطَعَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 281 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مَانِعٌ مِنَ انْعِقَادِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) {الكهف: 23 - 24) . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ تَارَةً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا أُخْرَى، فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يَحْلِفُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ، لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ". رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ ". وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَلِّ الْيَمِينِ فَلَمْ يَجِبْ كَالْحِنْثِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ، أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا أَنْ يُقْرِنَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ، وَغَيْرِهَا لِيَكُونَ بِاللَّهِ مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ مُفَوِّضًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ وُجُوبِهِ، فَلَا تَأْثِيرَ لِاسْتِثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، فَإِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إِنِ اسْتَثْنَى فِي مَجْلِسِ يَمِينِهِ صَحَّ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ فَرَاغِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ أَبَدًا فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ إِلَى حِينٍ، وَالْحِينُ عِنْدَهُ سَنَةٌ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهَا احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُر رَبَّكَ إذَا نَسِيْتَ) {الكهف: 24) أَيْ: اذْكُرِ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا نسيته فعم الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ. ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ انقطاعه قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللهُ} فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من خلف فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى "، فَذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالْفَوْرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 282 وَلِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ؟ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، عَتَقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ شَرْطًا، وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ وَقْتٍ: إِلَّا خَمْسَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً وَلَزِمَتْهُ الْعَشَرَةُ، لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ لَسَقَطَتْ كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ بِاسْتِثْنَائِهِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ) {الكهف: 24) فَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ لِيَزُولَ عَنْكَ الْغَضَبُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّاجِيُّ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو صح جاز أن يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سُكُوتِهِ لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ اسْتِعَانَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِهِ؟ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِهَا فِي غَزْوِ قُرَيْشٍ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِانْفِصَالِ. فَالْمُتَّصِلُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصِلَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى نَسَقٍ، فَإِنْ سَكَتَ لِنَحْنَحَةٍ وَانْقِطَاعِ نَفَسٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ تَذَكُّرِ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ قَطْعًا، وَكَانَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لا يمتد، ولا بد أن يتخلله سكتات الِاسْتِرَاحَةِ، فَأَمَّا إِنْ سَكَتَ بِغَيْرِ هَذَا، أَوْ تَكَلَّمَ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَكَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْيَمِينِ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. (فَصْلٌ:) ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مَعَ الِاتِّصَالِ إِلَّا بِالْكَلَامِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا يَنْعَقِدْ بِالنِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا كَمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ نُطْقًا. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَنَوَى بِقَلْبِهِ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ كَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وبين الله تعالى، وكلا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ نُطْقًا فَهَذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هَكَذَا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالنَّسْخِ، وَلَا يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا بِالْكَلَامِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُبْطِلٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ كَلَامٍ ظَاهِرٍ، وَالشَّرْطُ مُثْبَتٌ فَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الكلام فافترقا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 283 ثُمَّ لَا حُكْمَ لِتَلَفُّظِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقُولُهُ نَاوِيًا بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ وَسِيقَ فِي لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ جَرَى بِهِ عَادَتُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ لَمْ يَكُنِ اسْتِثْنَاءً. أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَيَكُونُ اللَّغْوُ فِيهَا عَفْوًا، كَذَلِكَ اسْتِثْنَاؤُهَا، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِيَمِينِهِ صَحَّ إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَعَ ابْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَصَدَهُ مَعَ التَّلَفُّظِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِوُجُودِ الْقَصْدِ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِإِطْلَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِهِا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْيَمِينِ فَيَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ وَسَطًا، فَيَقُولَ: وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حُكْمُ أَوَّلِهِ بِآخِرِهِ، وَحُكْمُ آخِرِهِ بِأَوَّلِهِ، وَسَوَاءٌ قَالَ فِي اسْتِثْنَائِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَحَبَّ اللَّهُ، وَإِنِ اخْتَارَ اللَّهُ، كُلُّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَوْ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ، فَكُلُّهُ استثناء والله أعلم بالصواب , (مسألة:) قال الشافعي: " لَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لوقتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فلانٌ فَإِنْ شَاءَ فلانٌ لم يحنث وإن مات أو غبي عَنَّا حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قَالَ بِخَلَافِهِ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ ". قَالَ الماوردي: قال المزني: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَعَيَّنَ وَقْتَ دُخُولِهِ فِي يَوْمِهِ فَلَا يَبَرُّ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِهِ، وَجَعَلَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ اسْتِثْنَاءً لِيَمِينِهِ، فَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَشِيئَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ. وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِي الشَّرْطِ، فَأَمَّا صِفَةُ مَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَنْ يَشَاءَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ضِدُّ المستثنى منه؛ لأنه مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا عَادَ إِلَى إِثْبَاتٍ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا، وَإِذَا عَادَ إِلَى نَفْيٍ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتًا، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أَرَدْتُ إلا أن يشاء زيد دخولي، فلا الْتَزَمَ الدُّخُولَ حُمِلَتِ الْمَشِيئَةُ عَلَى إِرَادَتِهِ، لِاحْتِمَالِهَا، وَإِنْ خَالَفَتْ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا حُكْمُ مَشِيئَةِ زَيْدٍ فَهُوَ مَعَ الْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، فَتَكُونُ مَشِيئَةُ زَيْدٍ رَافِعَةً لِعَقْدِ يَمِينِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَرْطًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْفِي الإثبات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 284 وَيُثْبِتُ النَّفْيَ، وَالْيَمِينٌ ثَابِتَةٌ، فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهَا نَفْيًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَةُ زَيْدٍ شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ الْيَمِينِ لَمْ يُعْمَلْ عَلَى إِرَادَتِهِ، لِأَنَّهَا تُحِيلُ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ضِدُّ قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ زيدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى اللَّفْظِ حُكْمُ هَذِهِ، وَخَالَفَ صِفَةَ الْمَشِيئَةِ إِذَا أَرَادَ خِلَافَ إِطْلَاقِهَا لِاحْتِمَالِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ الرَّافِعِ لِعَقْدِ الْيَمِينِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَالِفِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْبِرُّ أَوْ لَا يُوجَدَ، فَإِنْ كَانَ الْبِرُّ مِنْهُ مَوْجُودًا بِدُخُولِ الدَّارِ فِي يَوْمِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ مَشِيئَةُ زَيْدٍ أَوْ لَمْ تُوجَدْ، لَكِنْ يَكُونُ دُخُولُهُ بَعْدَ مَشِيئَةِ زَيْدٍ دُخُولًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَدُخُولُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَشِيئَةِ دُخُولًا يُوجِبُ الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْحَالِفُ الدَّارَ فِي يَوْمِهِ فَقَدَ عَدِمَ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبِرُّ، فَتُرَاعَى حِينَئِذٍ مَشِيئَةُ زَيْدٍ، هَلِ ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ بِمَشِيئَتِهِ، أَوْ كَانَتْ عَلَى انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ شَاءَ، فَالْيَمِينُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِمَشِيئَتِهِ، فَلَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ بِتَرْكِ الدُّخُولِ، لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَشَأْ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي رَفْعِهَا، وَالدُّخُولُ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ فَيَكُونُ الحالف حانثاً، بترك الدخول لإخلافه بِشَرْطِ الْبِرِّ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَخْفَى مَشِيئَةُ زَيْدٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَحْنَثُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ، فَجَعَلَ الشك في المشيئة موجباً لسقوطها، وجعل الْيَمِينُ عَلَى انْعِقَادِهَا فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ فِيهَا، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ضِدَّ هَذَا الْجَوَابِ مَعَ وُجُوبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ، وَهُوَ إِذَا قَالَ الحَالِفُ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَشِيئَةَ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثْ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ سَوَاءٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصُّورَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى تَرْكِ دُخُولِهَا، وَمَشِيئَةُ زَيْدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا رَافِعَةٌ لِعَقْدِ الْيَمِينِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّكَّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الشَّكَّ فِيهَا رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَلَوْلَا أَنَّ الرَّبِيعَ عَلَّلَ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ قَدْ شَاءَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ الرَّبِيعُ إِلَى الْوَهْمِ، أَوْ يُنْسَبَ الْكَاتِبُ إِلَى الْغَلَطِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ خَرَّجُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَحَمَلُوهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 285 أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ إِثْبَاتًا لِعَقْدِ الْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ سُقُوطَ حُكْمِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ إِثْبَاتًا لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ تُوجِبُ سُقُوطَهَا اسْتِصْحَابًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ اخْتِلَافُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَحَنَّثَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا فَاتَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ بِمَوْتِهِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهَا بِغَيْبَتِهِ حَيًّا، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالشَّكِّ بِالْمَشِيئَةِ قَالَ: قَدْ قَالَ خِلَافَهُ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي حَكَاهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إِذَا حلف ليضرب عبده مائة، فضربه بضغثٍ يجمع مِائَةِ شِمْرَاخٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ لَيَضْرِبِ امْرَأَتَهُ مِائَةً: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} فَإِذَا ضَرَبَ عَبْدَهُ بِمِائَةِ شِمْرَاخٍ مَجْمُوعَةٍ، فَإِنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ بَرَّ، وإن أحاط عليه بِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ حَنِثَ، وَإِنْ شَكَّ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ نَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضرب حانثاً، فعبث إِلَى الْمُزَنِيِّ الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الضَّرْبِ عَلَى مَا حَكَيْتُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّكِّ فِيهَا، فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ وَيَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَشِيئَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ ضَعِيفًا، هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ قَدْ وُجِدَ فَغَلَبَ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي وُصُولِهِ: وليس لوجود المشيئة فعل يعلم عَلَى ظَاهِرِهِ، فَغَلَبَ حُكْمُ سُقُوطِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ فُلَانٌ فَفَعَلَ وَلَمْ يَعْرِفْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ لم يَحْنَثْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَمَشِيئَةُ زيدٍ هُنَا شرطٌ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَيَسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتِثْنَائِهَا وَرَفْعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ فَيَشَاءُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ ضِدَّ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 286 يَعْلَمَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ مَشِيئَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَوْ مُخَالَفَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافَقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ وَهُوَ أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ، وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي انْعِقَادِهَا فَلَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ إِلَّا بِتَرْكِ دُخُولِهَا فِي يَوْمِهِ، فَإِنْ دَخَلَهَا فِيهِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتْ مَشِيئَةُ زَيْدٍ مُخَالِفَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ شَاءَ دُخُولَ الْحَالِفِ إِلَيْهَا، وَقَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا، فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، لِأَنَّ شَرْطَ انْعِقَادِهَا فِي الْمَشِيئَةِ مَفْقُودٌ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أَرَدْتُ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ أَنْ يَشَاءَ دُخُولِي فَلَا أَدْخُلُهَا بِيَمِينٍ، حُمِلَ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي انْعِقَادِهَا لِاحْتِمَالِهِ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ يَشَاءُ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا حِنْثٌ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي وُجُودِ شَرْطِهَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 287 باب لغو اليمين من هذا ومن اختلاف مالك والشافعي (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هشامٍ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لَا والله وبلى والله " (قال الشافعي) رحمه الله: وَاللَّغْو فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجِمَاعُ اللَّغْوِ هُوَ الْخَطَأُ وَاللَّغْوُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) {البقرة: 225) يُرِيدُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ ارْتِفَاعَ الْمَأْثَمِ وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ الْمَأْثَمُ وَالتَّكْفِيرُ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمَاضِي كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى ماضٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَيَبِينُ كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ نَاسِيًا عَلَى ماضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: مَا قاله الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكَهَا فَيَصِيرُ لَاغِيًا يَمِينَهُ، لَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ. وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ مَا يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا عَقْدٍ كقوله: لا وَاللَّهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، وهو قول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 288 ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ، وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بَمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ وَقَالَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَعْقِدْهُ بِعَزْمِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَقَدْ رَوَاهُ حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ: " هُوَ كَلَامُ الْعَرَبِ، لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ ". وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمِينَ فِي غضبٍ " فَأَسْقَطَ الْيَمِينَ فِي الْغَضَبِ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِهَا وَعَدَمِ الْقَصْدِ لَهَا؛ وَلِأَنَّ لَغْوَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا تَجَرَّدَ عَنْ غَرَضٍ، وَعَرِيَ عَنْ قَصْدٍ وَكَانَ مِنَ الْبَوَادِرِ وَالْمُلْغَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) {القصص: 55) فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فِيهِ مَعَ ما قارنه من محايل الشَّرْعِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لغو اليمين لم تخل اليمين مع أَنْ تَكُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ وَجَرَتْ بِهَا عَادَتُهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، أَوْ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِعَقْدِ يَمِينٍ فَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ، وَلَوْ نَزَّهَ لِسَانَهُ مِنْهَا كَانَ أَوْلَى، لِئَلَّا يَجْعَلَ اسْمَ اللَّهِ تعالى عرضةً ليمينه، وقد قال تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ) {البقرة: 224) فَأَمَّا إِنْ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، بَلَى وَاللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، كَانَ الْأَوَّلُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةً، لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ فَصَارَتْ مَقْصُودَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا عقدٍ دِينٍ فِيهَا فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فِي أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِلَغْوِهَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ؟ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْحِنْثِ بِاللَّهِ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَحْضَةِ، فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بها في الظاهر لاختصاصه بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 289 بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شيءٍ وَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَحْنَثَ فَإِنْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِغَيْرِ الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ صَامَ لَمْ يُجْزِهِ لأنا نزعم أن لله على العباد حقاً في أموالهم وتسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من العباس صدقة عامٍ قبل أن يدخل وإن المسلمين قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر فجعلنا الحقوق في الأموال قياساً على هذا فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزئ إلا بعد مواقيتها كالصلاة والصوم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى ماضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى ماضٍ فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَتْ كَذِبًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا؟ سَوَاءٌ كَفَّرَ بِإِطْعَامٍ أَوْ صِيَامٍ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِسَبَبٍ واحدٍ، وَهُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى مستقبلٍ فَالْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ، وَالْحِنْثِ فَتَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِسَبَبَيْنِ عَقَدٍ وَحِنْثٍ، وَلَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فَلَا تُجْزِئُهُ سَوَاءٌ كَفَّرَ بمالٍ أَوْ صيامٍ لِفَقْدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يُجْزِئُهُ إِذَا عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ فَيُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَيَكُونُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْجِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 290 وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا كَانَتْ بمالٍ مِنْ كِسْوَةٍ أَوْ إطعامٍ أَوْ عِتْقٍ، فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إِذَا كَانَتْ بِصِيَامٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَهُوَ مُوَافِقٌ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ مُخَالِفٌ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ الزكاة، ويتعين الكلام معه هاهنا فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي هو خيرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فَكَانَ لَهُ مِنَ الخير دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ منها " فقدم فعل الحنث على الكفارة عرق الْفَاءِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْقِيبِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عن يمينه " وثم مَوْضِعٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَمْ يُحَرَّمْ كَالصِّيَامِ. وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالصِّيَامِ لَمْ يَجُزِ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالْمَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ تَمْنَعُ مِنَ الْحِنْثِ، وَالضِّدَّانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ لِتَنَافِيهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الْحِنْثَ لَوْ كَانَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ فِي الْوُجُوبِ لَمَا رُوعِيَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَةٍ، كَمَا لَا يُرَاعَى فِي الْحَوْلِ بَعْدَ النِّصَابِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَمَّا رُوعِيَ فِي الْكَفَّارَةِ حُدُوثُ فِعْلِ الْحِنْثِ مِنْ جِهَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْحِنْثِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا كَانَ بِفِعْلٍ حَادِثٍ مِنْهُ، كَانَ الظِّهَارُ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ، دُونَ النِّكَاحِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 291 عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ ". فَجَوَّزَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِيهَا وَفِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ تَأْخِيرُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحِنْثِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ أَشْهَرُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ. وَالثَّانِي: إِنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الروايتين معاً، فنحمل تقديم الكفارة على الجواز تَأْخِيرِهَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَنَسْتَعْمِلُهَا عَلَى وَجْهٍ ثانٍ أَنْ يُحْمَلَ تَقْدِيمُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَتَأْخِيرُهَا على التكفير بالصيام. فتكون باستعمال الخيرين أسعد مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا وَأَسْقَطَ الْآخَرَ. وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ إِنْسَانًا وَعَجَّلَ كَفَّارَةَ قَتْلِهِ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَأهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَوْ قَدَّمَ جَزَاءَهُ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَأهُ، فَجَعَلَ هَذَا مَعَهُ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فَنَقُولُ: يُكَفِّرُ لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهِ بِسَبَبَيْنِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِمَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْحِنْثِ. وَلِأَنَّهُ حَقُّ مالٍ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ يَخْتَصَّانِ فه فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ وُجُوبِهَا بِسَبَبَيْنِ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهَا بِالْحِنْثِ وَالْيَمِينِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) وَبِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةٌ أيْمَانِكُمْ) {المائدة: 89) فَجَعَلَهَا تَكْفِيرًا لِلْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِنْثِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي حرٌّ كَانَ عِتْقُهُ مُتَعَلِّقًا بِيَمِينِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنْ مَنَعَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِيَمِينِهِ وَبِدُخُولِ الدَّارِ، وَارْتَكَبُوا أَنَّ عِتْقَهُ مُخْتَصٌّ بِدُخُولِ الدَّارِ وَحْدَهُ مَنَعُوا مِنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْعَبْدِ إِذَا ادَّعَى الْعِتْقَ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، فَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ فَأَقَامَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَيْنِ بِالْحِنْثِ وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع شاهد الْيَمِينِ وَشَاهِدَا الْحِنْثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ خَاصَّةً نِصْفَيْنِ وَعِنْدَنَا تَجِبُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ وَشَاهِدَيِ الْحِنْثِ أَرْبَاعًا، فقد جعل عتقه باليمين أخص مِنَ الْحِنْثِ، فَكَانَتِ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَقَدْ مَضَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى تَعْجِيلِ الصِّيَامِ فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 292 فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى وُجُوبِهِمَا، وَالْمَالُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ مَا يَقُولُهُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّ تَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ مِنَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا جَائِزٌ، وَتَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ وُجُوبِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أحمد بن حنبل في جمعه بن الأمرين في الجواز. وعبر آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلِاعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ فَخَالَفَ الْمَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ سَبَبَيِ الْوُجُوبِ فَامْتَنَعَ التَّقْدِيمُ كَمَا امْتَنَعَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَجَازَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِوُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُوبِ فَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ وَالْحِنْثَ حَلٌّ، وَالْحَلُّ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَضَادَّا، وَإِنِ اخْتَلَفَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ كفرٌ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ إيمانٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْإِيمَانُ بِهِمَا مُنْعَقِدًا وَلَمْ يَتَنَافَيَا بِالْمُضَادَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْكَفَّارَةِ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْيَمِينِ كَالظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الكفارة فيه بالنكاح وهو مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ ما لا يتعلق لَهُ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا فَيَنْقَضِي الْيَوْمُ قَبْلَ دُخُولِهَا حَنِثَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَقَدْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَاثُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ إِنْ أَرَادَ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ أَنْ يُجِيزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ الظِّهَارِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ بِرٍّ وَحِنْثٍ فَصَارَ لِوُقُوفِهِ بينهما نسباً فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَبِلَفْظِ الظِّهَارِ، وَبِالْعَوْدِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الظِّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبٍ وَاحِدٍ وَبَقَاءِ سَبَبَيْنِ. وَعَلَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ محظورٍ عَلَيْهِ وَالْحِنْثُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَجَاءَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَمَنْ حَلَفَ: لَا صَلَّيْتُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَنْ حَلَفَ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 293 لَا صَلَّيْتُ نَفْلًا أَوْ مُبَاحًا، كَمَنْ حَلَفَ: لَا أَكَلْتُ لَحْمًا جَازَ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ مَحْظُورًا كَمَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَا شَرِبْتُ خَمْرًا، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فَصَارَ تَعْجِيلُهَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا جَائِزًا، وَجْهًا وَاحِدًا، وَجَوَازُ تَعْجِيلِهَا فِيمَا كَانَ حِنْثُهُ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا تَعْجِيلُ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ وَجَرْحِهِ فَلَا يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، فَعِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْإِحْرَامِ وَالْجِرَاحِ وَالْمَوْتِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ بِفَقْدِ أَحَدِهَا وَبَقَاءِ أَكْثَرِهَا، وَعِنْدَ مَنْ رَاعَى الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ عَلَّلَ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، فَلَمْ يَجُزْ فَإِنْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ لِضَرُورَةٍ إِلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيلُ جَزَائِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِقَتْلِ الصَّيْدِ فَلَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ وَهِمَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَبِيحُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْجَزَاءِ مَحْظُورًا، لِأَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ حَادِثٌ عَنِ الْجُرْحِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 294 بَابُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عليها (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طالقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَطَلَّقْهَا وَاحِدَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا لَمْ يَحْنَثْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجَتْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُ تَزْوِيجُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِهِ، فَقَدْ طُلِّقَتْ سَوَاءٌ قَرُبَ زَمَانُ تَزْوِيجِهِ أَوْ بَعُدَ؟ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا وَجِمَالِهَا، أَوْ تَقَدَّمَ عَنْهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ، وَوَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى هَذَا، وَإِنْ خَالَفَنَا إِذَا حَلَفَ، لِيَتَزَوَّجْنَ عَلَيْهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّهُ يَحْنَثُ إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ وَدَخَلَ الثَّانِي صَحَّ عَقْدُهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِيهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ خَارِجَةً عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ أُخْرَى لِأَنَّهَا لَمَّا طُلِّقَتْ فِي الْعِدَّةِ إِذَا بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إِنْ بَاعَهُ، فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ بَيْعِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ عِتْقَهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عُتق، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ عَتَقَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ يَلْحَقْهَا بِالْحِنْثِ طَلَاقٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا بِالْمُبَاشِرَةِ طَلَاقٌ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا نُظِرَت، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لِسُقُوطِ الشَّرْطِ بِالتَّزْوِيجِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ الْبَاقِي عَلَيْهَا، فَفِي حِنْثِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُطَلِّقُ لِوُجُودِ عَقْدِ الْيَمِينِ، وَشَرْطِ الْحِنْثِ فِي نِكَاحِهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 295 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُطَلِّقُ بِالْحِنْثِ لِاخْتِصَاصِ يَمِينِهِ بِنِكَاحٍ مَضَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ بِهَا فِي نِكَاحٍ مستقبلٍ، لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِطَلَاقِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعِ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَوْ بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ، كَذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا حَنِثَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ مُسْتَجَدٍّ، وَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَ، فَإِنْ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ: لَا يَحْنَثُ، فَفِي هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ وَإِنْ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ: إِنَّهُ يَحْنَثُ فَفِي هَذَا الطَّلَاقِ الْبَائِنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ وَقَدْ مَضَى مِثْلُ هَذَا فِي كتاب الطلاق مشروحاً معللاً. (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طالقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ وَلَمْ يُوَقِّتْ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا يَحْنَثُ حَتَى يَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ قبل أن يتزوج عليها وإن تزوج عليها من يشبهها أو لا يشبهها خرج من الحنث دخل بها أو لم يدخل بها وإن ماتت لم يرثها وإن مات ورثته في قول من يورث المبتوتة إذا وقع الطلاق في المرض (قال المزني) قد قطع في غير هذا الكتاب أنها لا ترث (قال المزني) وهو بالحق أولى لأن الله تبارك وتعالى ورثها منه بالمعنى الذي ورثه به منها فلما ارتفع ذلك المعنى فلم يرثها لم يجز أن ترثه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ الْحِنْثَ فِي الَّتِي تَقَدِّمَهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ تَزْوِيجَهُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ، وَجَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، وَإِذَا قَالَ فِي هَذِهِ (الْمَسْأَلَةِ:) إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ التَّزْوِيجُ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا، فلو قال: إذا لم أتزوج عليها فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ يَحْنَثُ إِنْ أخر التزويج عليها، والفرق بين إن وإذا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، حَيْثُ جَعَلْنَا إِنْ عَلَى التراخي وإذا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلْفِعْلِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ فَوَاتُ الْفِعْلِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَاتَنِي التَّزْوِيجُ عَلَيْكِ فأنت طالق، " وإذا " موضوعةٌ لِلزَّمَانِ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا إِمْكَانُ الزَّمَانِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِذَا مَضَى زَمَانُ التَّزْوِيجِ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهُوَ فَرْقُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 296 وَالْفَرْقُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ فِيمَا قَدْ يَكُونُ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشك بالفوات فصارت على التراخي، وإذا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا التَّعْجِيلُ فَصَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ. فَهَذَانِ الْفَرْقَانِ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " كَانَا عَلَى نَفْيِ فعلٍ فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ، وَإِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ. وَأَمَّا إِذَا كَانَا شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ فِعْلٍ، فَقَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عليك، وإذا تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَهُمَا سَوَاءٌ، فِي أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى وُجِدَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ وَاسْتَوَى فِيهِ " إِنْ " وَ " إِذَا "؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ كَانَ وُجُودُهُ هُوَ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فَاسْتَوَى فِيهِ الْفَوْرُ وَالتَّرَاخِي فَأَمَّا إِذَا جُعِلَا شَرْطًا فِي مُعَاوَضَةِ الْخُلْعِ، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَيَسْتَوِي حُكْمُ: " إِنْ " وَ " إِذَا "؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِيهِ حِكَمُ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِيهَا، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ افْتِرَاقُ الْحَرْفَيْنِ وَلَوْ قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ عَلَى التراخي بخلاف إن وإذا، لِأَنَّ لَفْظَةَ مَتَى صَرِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي يَمِينِهِ هَذِهِ مِنْ بِرٍّ أَوْ حَنِثٍ؟ فَإِنْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. كَانَ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا بِوُجُودِ عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَلَى مُكَافِئَةٍ لَهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ؟ أَوْ غَيْرِ مُكَافِئَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبَرُّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا وَجِمَالِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَ دُونَهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ لَمْ يَبَرَّ؟ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِيَمِينِهِ إِدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَيْهَا، وَغَيْظُهَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُكَافِئُهَا، فَأَمَّا مَنْ لَا يُكَافِئُهَا فهو نقص يدخل عليها دُونَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حُكْمَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرٌ بِصَرِيحِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَالِاسْمُ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْبِرِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ إِذَا قَالَ إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ مُكَافِئَةٍ حَنِثَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي الْبِرِّ إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ مُكَافِئَةٍ أَنْ يَبَرَّ، وَمَا اعْتُبِرَ مِنْ إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا، وَلَوْ قُلِبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ الْغَيْظِ عَلَيْهَا بِنِكَاحِ غَيْرِ الْمُكَافِئَةِ أَكْثَرُ لَكَانَ أَشْبَهَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَمَتَى وُجِدَ الْعَقْدُ اسْتَقَرَّ الْبِرُّ، وَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبَرُّ بِالْعَقْدِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الدُّخُولُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فِي إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الدُّخُولُ فِيهِ إِذَا عُلِّقَ بِالْحِنْثِ كَذَلِكَ لَا يعتبر إذا علق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 297 وَالثَّانِي: إِنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ تُذْكَرْ فَكَانَ مُلْغًى كَالْحَبَلِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَخْلُ حِنْثُهُ أَنْ يَكُونَ بِالثَّلَاثِ أَوْ دُونِهَا، فَإِنْ كَانَ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ تَوَارَثَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا فِيمَا بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ حِنْثُهُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي، فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَمْ يَتَوَارَثَا فِيهِ إِذَا كَانَ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالتَّرَاخِي، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا حِنْثَ مَا لَمْ يَمُتْ واحدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ الْحِنْثُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ يَضِيقُ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِ الْعَقْدِ لِقُصُورِ زَمَانِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَتَصِيرُ كَالْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ فَفِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ قَوْلَانِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ بالامتناع من التزويج عليها كالموقع إطلاقها فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 298 بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي الْبُلْدَانِ كُلِّهَا ومن له أن يطعم وغيره (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينُ مُدٌّ بمدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا قُلْنَا يُجْزِئُ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتي بِعَرَقٍ فِيهِ تمرٌ فَدَفَعَهُ إِلَى رجلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَالْعَرَقُ فِيمَا يقدر خمسة عشرة صَاعًا وَذَلِكَ سِتُّونَ مُدًا فِلِكُلِّ مسكينٍ مدٌّ فِي كُلِّ بلادٍ سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِهِ. وَقِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ وَالتَّرْتِيبِ فِي بَعْضِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِهِ فَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَبْدَأُ بِالْعِتْقِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَالصِّيَامُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَالْإِطْعَامُ، وَأَمَّا مَا كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ فَكَفَّارَةُ الْأَذَى، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَمِ شَاةٍ أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أيامٍ، وَجَزَاءُ الصَّيْدِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ قِيمَةِ الْمِثْلِ طَعَامًا أَوْ عَدْلِ ذَلِكَ صِيَامًا، وَأَمَّا مَا كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ، وَالتَّرْتِيبِ فِي بَعْضِهِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إَطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ) {المائدة: 89) الْآيَةَ، فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ مُرَتَّبًا عَلَى الْعَجْزِ بَعْدَ الْمَالِ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِالْإِطْعَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إَطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ) {المائدة: 89) فَنَصَّ عَلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَقَالَ فِي طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ احْتِمَالًا لَا يُقَدِّرُهُ بِحَدٍّ فقال: " من أوسط ما تطعمون أهليكم " فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ يَعْتَبِرُ الْمُكَفِّرُ فِي عِيَالِهِ فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُهُمْ أَشْبَعَ الْمَسَاكِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِعُهُمْ فَيُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي طَعَامِ الْمَسَاكِينِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 299 وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ إِنَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَدَاءٍ وَعَشَاءٍ. وَالرَّابِعُ: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، إِنَّهُ إِنْ كَفَّرَ بِالْحِنْطَةِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالتَّمْرِ أَوِ الشَّعِيرِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَعَنْهُ فِي الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: صَاعٌ كَالتَّمْرِ. وَالثَّانِيَةُ: نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ. وَالْخَامِسُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مُسْلِمٍ مُدًّا وَاحِدًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ أَخْرَجَ مِنَ الْحُبُوبِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَهَكَذَا كُلُّ كَفَّارَةٍ أَمْسَكَ عَنْ تَقْدِيرِ الْإِطْعَامِ فِيهَا مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إِطْعَامًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُقَدَّرُ إِطْعَامُ كُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدٍّ وَاحِدٍ فِي أَيِّ يد كَفَّرَ، وَمِنْ أَيِّ جِنْسٍ أَخْرَجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89) ، فَكَانَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا عَلَى الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَأَوْسَطُ الْقَدْرِ فِيمَا يَأْكُلُهُ كُلُّ إنسانٍ رِطْلَانِ مِنْ خُبْزٍ، وَالْمُدُّ رطلٌ وَثُلُثٌ من حب إذا أخبز كان رطلين مِنْ خُبْزٍ هُوَ أَوْسَطَ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ " أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ بفرقٍ مِنْ تمرٍ فَقَالَ: أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْفَرَقُ: خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا يَكُونُ سِتِّينَ مُدًّا، فَجَعَلَ لِكُلِّ مِسْكِينَ مُدًّا، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِطْعَامِ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِالنَّصِّ لَكَانَ معتبراً بالعرق، وعرق مَنِ اعْتَدَلَ أَكْلُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَا مِنَ الْمُقَتِّرِينَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْمُدِّ فِي أَكْلِهِ، وَلَيْسَ يَنْتَهِي إِلَى صَاعٍ، هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَمَانِيَةُ أرطالٍ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْفَرَقِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِلَّا بِنَصٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَدَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِطْعَامَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلِمَا لَا جَعَلْتُمُوهُ أَصْلًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَقَدَّرْتُمُوهُ بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قِيلَ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا قُدِّرَ فِي كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ بِمُدٍّ وَفِي كَفَّارَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ، وَتَرَدَّدَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ تَعْيِنٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا خُفِّفَتْ فِدْيَةُ الْأَذَى بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ تَغَلَّظَتْ بِمِقْدَارِ الطَّعَامِ، وَلَمَّا غُلِّظَتْ كَفَّارَةُ الْأَيْمَانِ بِتَرْتِيبِ الْإِطْعَامِ عَلَى الصِّيَامِ تَخَفَّفَتْ بِمِقْدَارِ الْإِطْعَامِ تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا فِي أَنْ تَتَغَلَّظَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَتَتَخَفَّفُ من وجه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا أَرَى أَنْ يُجْزِئَ دَرَاهِمَ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَمْدَادِ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 300 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ فِي الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الطَّعَامِ، كَمَا لَا يَحِقُّ أَنْ يُخْرِجَ فِي الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَقَدْ مَضَى الكلام معه. فأما ما نقله المزني هاهنا: " وَلَا يُجْزِئُ طَعَامٌ "، فَلَمْ يُرِدْ بِهِ طَعَامَ الْبُرِّ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلَ الْأَغْلَبَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ، وَلَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَ الطَّعَامَ فِي قِيمَةِ الْكِسْوَةِ، كَمَا لَا يُخْرِجُ الْكِسْوَةَ فِي قِيمَةِ الطَّعَامِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الطَّعَامِ الْمَطْبُوخِ مِنَ الْخُبْزِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْبُرِّ وَجَمِيعُ الْحُبُوبِ دُونَ الْخُبْزِ وَإِنْ كُنْتُ أُفْتِي بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ فِي الْكَفَّارَةِ اعْتِبَارًا بِالْأَرْفَقِ الْأَنْفَعِ فِي الْغَالِبِ، وَأَنْ يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ رِطْلَيْنِ مِنَ الْخُبْزِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْسَبُهُ أَرَادَ الْأَنْمَاطِيَّ، أَنَّهُ جَوَّزَ إِخْرَاجَ الدَّقِيقِ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ اعْتِبَارًا بالأرفق. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " وما اقتات أهل البلدان في شيءٍ أَجْزَأَهُمْ مِنْهُ مدٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُبُوبِ الْمُقْتَاةِ، فَكَمَا جَازَ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ جَازَ إِخْرَاجُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ، فَمِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ أطعم. القول الثاني: أنه يخرج في الْغَالِبِ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَفِي اعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ غَالَبِ قُوتِ بَلَدِهِ. وَالثَّانِي: مِنْ غَالَبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89) وَإِنْ عَدَلَ عَنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ مَا عَدَلَ إِلَيْهِ عَنِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْهُ أَوْ أَعْلَى، فَإِنْ كَانَ دُونَ مِنْهُ لَمْ نُجِزْهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ مِنْهُ كَإِخْرَاجِ الْبُرِّ إِذَا كَانَ أَغْلَبُ قُوتِهِ شَعِيرًا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ لِفَضْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْعُدُولِ إِلَيْهِ كَالْقِيمَةِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مُدُّ أقطٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله أجاز الأقط ههنا وَلَمْ يُجْزِهِ فِي الْفِطْرَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اقْتَاتَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ غَيْرَ الْأَقِطِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 301 الْكَفَّارَةِ وَلَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوتٌ غَيْرُ الْأَقِطِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ أقطٍ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا أَنَّهُ كان يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ بِعِلْمِهِ وَإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ جَازَ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ، فَفِي جَوَازِ إخراجه في زكاة الفطرة وَالْكَفَّارَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عليه هاهنا في الكفارات لأنه قوت مدخر تحت الزَّكَاةِ فِي أَصْلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يجز إخراجه في الكفارة الزكاة، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُعَضِّدْهُ قِيَاسٌ، هَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْ يُعْدَلُ إِلَى الْقِيَاسِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الْقِيَاسِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الأقط. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ بلادٍ قوتٌ مِنْ طعامٍ سِوَى اللَّحْمِ أَدَّوْا مُدًّا مِمَّا يُقْتَاتُ أَقْرَبُ الْبُلْدَانِ إِلَيْهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اقْتَاتَ قَوْمٌ مَا لَا يُزَكَّى مِنَ الْأَقْوَاتِ، مِثْلُ أَنْ يَقْتَاتُوا اللَّحْمَ كَالتُّرْكِ، أَوِ اللَّبَنِ كَالْأَعْرَابِ، أَوِ السَّمَكِ كَسُكَّانِ الْبِحَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِخْرَاجَ الْأَقِطِ لَا يُجْزِئُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ غَيْرِهِ مِنَ اللَّحْمِ أَوِ اللَّبَنِ أَوِ السَّمَكِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يُجْزِئُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ، لِأَنَّهَا أَقْوَاتٌ كَالْأَقِطِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِخِلَافِ الْأَقِطِ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ، وَعَدَمُهُ فِي سواء. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَقِطَ يَبْقَى وَيُدَّخَرُ، وَلَيْسَ يَبْقَى مَا سِوَاهُ وَيُدَّخَرُ وَلَا يُكَالُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِذَا لَمْ يُجْزِهِمْ إِخْرَاجُ ذَلِكَ عَدَلُوا فِي كَفَّارَاتِهِمْ وَزَكَاةِ فِطْرِهِمْ إِلَى أَقْوَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُونَ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ جَمِيعِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَعْدِلُونَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ فَيُخْرِجُونَهُ، فَإِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 302 عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَدْنَى لَمْ يُجْزِهِمْ وَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُعْطِي الرَّجُلُ الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الولد والوالد والزوجة إذا كانوا أهل حاجةٍ فَهُمْ أحقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. كُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، أَوْ بِسَبَبٍ كَالزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ كَفَّارَتِهِ وَزَكَاتِهِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ فَهَذَا أصلٌ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كَالْأَغْنِيَاءِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَصِيرُ كَالْعَائِدَةِ إِلَيْهِ لِمَا يُسْقِطُ مِنْ نَفَقَتِهِمْ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا نَاقِصًا بِزَمَانَةٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، كَالصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلَ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَجَازَ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ، وَفِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا سَنَذْكُرُهُ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفِلُوا، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنْ تَعَطَّلَ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِزَمَانَةٍ أَوْ جُنُونٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاكْتِسَابِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَكِنَّهُ فَقِيرٌ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَجِبُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفَقْرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَارِته إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ الْوَالِدَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ وَالزَّمَانَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَالْوَلَدُ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ كَالْوَالِدِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَعَدَمِ الِاكْتِسَابِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ، لتأكيد نفقة الوالد كما تتأكد بوجوب إعقاف الولد دون الولد، وَهَكَذَا الْأُمُّ كَالْأَبِ وَالْأَجْدَادُ كَالْأَبِ، وَالْجَدَّاتُ كَالْأُمِّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُنَاسَبِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ بِحَالٍ، وَيَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ وَزِكَّاتِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 303 مِنْ غَيْرِهِمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رحمٍ كاشحٍ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امرئٍ وَذُو رحمٍ محتاجٍ " وَسَوَاءٌ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنْ تَطَوَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَجْزَأهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَفِي دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِمُ امتناعٌ بِهَا مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الزَّوْجَاتُ فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ كَفَّارَتَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ؟ فَصَارَتْ غَنِيَّةً بِهِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ كَفَّارَتَهَا إِلَى زَوْجِهَا وَكَذَلِكَ زَكَاتَهَا وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهَا فَصَارَ عَائِدًا إِلَيْهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، فَصَارَ بَاقِيًا عَلَى فَقْرِهِ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الْإِيجَابِ، وَإِنْفَاقُهُ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَأَطْعَمَهُ إِيَّاهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ المسألة مستوفاة من قبل. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ حُرًّا مُسْلِمًا مُحْتَاجًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِفَ إِلَيْهِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْ جَمَعَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ: الْحُرِّيَّةَ، وَالْإِسْلَامَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَلِأَنَّهُ غنيٌّ بِسَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعَتَقُ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ رِقِّهِ يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ وَهُوَ غنيٌّ، وَكَذَلِكَ الْمَكَاتَبُ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرْفَهَا إِلَيْهِ كَالزَّكَاةِ، وَهَذَا فاسدٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ لِمَا يَجُوزُ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحَدِ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ، وَالْكَفَّارَةُ أَضْيَقُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى غنيٍّ بِحَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهِدًا؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، كَالْحَرْبِيِّ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يُخْرَجُ لِلطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَأَمَّا ذَوُو قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمُ الزِّكْوَاتُ وَلَا الْكَفَّارَاتُ، وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، واستوفيناه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُمْ فَعَلَيْهِ عِنْدِي أن يعيد ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 304 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَخْطَأَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ اعْتُبِرَ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا ظَنَّهُ حُرًّا أَوْ كَافِرًا ظَنَّهُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ظَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى لَمْ يُجْزِهِ مَا دَفَعَ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ مَعَ الْعَمْدِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ الْخَطَأِ، كَرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ لِأَسْبَابِ الْمَنْعِ مِنَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالنَّسَبِ عَلَامَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا وَأَمَارَاتٍ لَا تَخْفَى مَعَهَا، فَكَانَ الْخَطَأُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غنيٍّ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ وَلَا يُجْزِئُهُ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالْعَمْدِ وَالْقَوَدِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ لِعَدَمِ التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي فَقْدِ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى غِنَاهُ، لِأَنَّ الْمَالَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَالرِّقُّ وَالْكُفْرُ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُمَا، فَكَانَ بِخَطَئِهِ فِي الْغَنِيِّ مَعْذُورًا وَفِي الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ مُقَصِّرًا. وَإِنْ دَفْعَ كَفَّارَتَهُ وَزَكَاتَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَخْطَأَ السُّلْطَانُ فِي دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا نُظِرَ، فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غَنِيٍّ أَجْزَأَ لِخَفَاءِ حَالِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ ذِي قُرْبَى فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا وَيُعِيدُهَا، كَمَا يَلْزَمُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يُعِيدَهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهَا وَتَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السُّلْطَانِ لِعُمُومِ الْأُمُورِ يَقْطَعُ عَنِ التَّفَرُّدِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَبُّ الْمَالِ عَنِ التَّوَفُّرِ فِي الِاجْتِهَادِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَا يُطْعِمُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا مِائَةً وَعِشْرِينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ لَمْ يُجْزِهِ فَقَالَ أَرَاكَ جَعَلْتَ وَاحِدًا سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {وَأَشْهِدُوا ذَوي عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَإِنْ شَهِدَ الْيَوْمَ شاهدٌ بحقٍّ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَشَهِدَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهَا مَرَّتَيْنِ فَهُوَ كَشَاهِدَيْنِ فَإِنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ الْعَدَدَ قِيلَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ الْعَدَدَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى عَدَدِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا عَشَرَةُ مَسَاكِينَ، وَإِنْ دَفْعَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مُدَّيْنِ أَجَزَأَهُ أَحَدُهُمَا، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 305 وَلَمْ يُجْزِهِ الْآخَرُ سَوَاءٌ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي يَوْمَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِذَا دَفَعَ لَهُ حَقَّ مِسْكِينٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ فِي يَوْمَيْنِ أَجْزَأَهُ حَتَّى قَالَ: لَوْ دَفَعَ إِلَى مِسْكِينٍ حَقَّ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ وَقَامَ مَقَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَاعْتَبَرَ عَدَدَ الْإِطْعَامَ وَلَمْ يَعْتَبِرْ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ. وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُهُمَا مَعًا، وَيَمْنَعُ أَنْ يأخذ مسكين واحد من كفارة واحد مَرَّتَيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ فِي الْوَصَايَا لَوْ أَوْصَى بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؟ فَكَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَاتِ أَوْلَى، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَطْعَمَ تِسْعَةً وَكَسَا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُطْعِمَ عشرةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ كِسْوَتُّهُمْ} . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُكَفِّرِ عَنْ يَمِينِهِ الْخِيَارَ فِي التَّكْفِيرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أشياء الطعام أو الكسوة أو العتق، فبأيهما كَفَّرَ أَجَزْأَهُ، إِذَا اسْتَوْفَاهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ، وَكَانَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ تَمَّمَ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْكِسْوَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْإِطْعَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيَكْسُوَ خَمْسَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْزَأَهُ إِطْعَامُهُمْ وَأَجْزَأَتْهُ كِسْوَتُهُمْ أَجْزَأَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِطْعَامِهِمْ وَكَسَوْتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً، وَجَعَلَ كِسْوَةَ الخمسة بقية إِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَعْلَ إِطْعَامَ الْخَمْسَةِ بِقِيمَةِ كِسْوَةِ الْخَمْسَةِ أَجْزَأَهُ فَأَجَازَ إِخْرَاجَ قِيمَةِ الْكِسْوَةِ طَعَامًا وَلَمْ يُجِزْ إِخْرَاجَ قِيمَةِ الطَّعَامِ كِسْوَةً فَلَمْ يَسْتَمِرَّ فِي جَوَازِ الْقِيمَةِ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْهَا عَلَى أَصْلِنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ المكفر بين ثلاثة، من طعام أو كسرة أَوْ عِتْقٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ خِيَارًا رَابِعًا فِي التَّبْعِيضِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي الْكَفَّارَةِ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ امْتَنَعَ فِيهَا تبعيض الكسوة والإطعام. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أيمانٍِ مختلفةٍ فَأَعْتَقَ وَأَطْعَمَ وَكَسَا يَنْوِي الْكَفَّارَةَ وَلَا يَنْوِي عَنْ أَيِّهَا الْعِتْقُ وَلَا الْإِطْعَامُ وَلَا الْكِسْوَةُ أَجْزَأَهُ وَأَيُّهَا شَاءَ أَنْ يَكُونَ عِتْقًا أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَالنِّيَّةُ الْأُولَى تُجْزِئُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَتْ عليه ثلاثة كَفَّارَاتٍ عَنْ ثَلَاثِ أَيْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ فِي التَّكْفِيرِ عَنْهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ جِنْسٍ واحدٍ فَيُطْعِمَ عَنْ جَمِيعِهَا وَيَكْسُوَ عَنْ جَمِيعِهَا، أَوْ يَعْتِقَ عَنْ جَمِيعِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُطْعِمَ عَنْ أَحَدِهَا، وَيَكْسُوَ عَنْ أَحَدِهَا، وَيُعْتِقَ عَنْ أَحَدِهَا، لِأَنَّ لِكُلِّ كَفَّارَةٍ حُكْمَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 306 نفسها، وسواء عينها أَوْ أَطْلَقَهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ النِّيَّةَ فِي الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ كَالْوُضُوءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ عَنِ الْحَدَثِ، وَلَا يَلْزَمَهُ عَنْ أَيِّ حَدَثٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ، كَمَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ، فَيُقَالُ لَهُ: لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ يَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيْ حِنْثٍ، فَلَا يَكُونُ فِي إِثْبَاتِهِ التَّعْيِينُ فِي الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ نَفْيِهِ لِلتَّعْيِينِ فِي الْقَضَاءِ، فَاسْتَوَيَا ثُمَّ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا بِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَمْ يَعْرِفْهَا بِعَيْنِهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي قَضَائِهَا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَا يَعْرِفُ مُوجِبَهَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّكْفِيرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَتَعْيِينُهَا فِي الْكَفَّارَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الطَّهَارَةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْمُزَنِيِّ: لِمَ افْتَقَرَتِ الصَّلَاةُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَلَمْ تَفْتَقِرِ الطَّهَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُرَادُ لِنَفْسِهَا، وَالطَّهَارَةَ تُرَادُ لِغَيْرِهَا وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهَكَذَا الْكَفَّارَةُ تُرَادُ لِغَيْرِهَا، وَهُوَ تَكْفِيرُ الْحِنْثِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا تَعْيِينُ النِّيَّةِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّ الطَّهَارَةَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدَثِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ، وَالصَّلَاةُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَكَذَا الْكَفَّارَةُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنَ الْيَمِينِ؟ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: النِّيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ أَنَّهَا عَنْ نومٍ فَكَانَتْ عَنْ بولٍ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ نَوَى بِعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ عَنْ ظِهَارٍ فَكَانَ عَنْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ فَجَازَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الْكَفَّارَةُ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَلَّظْ بِهَا الطَّهَارَةُ. قِيلَ: إِنَّمَا أَجْزَأَتْهُ الطَّهَارَةُ وَلَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّهَارَةَ تَرْفَعُ جَمِيعَ الْأَحْدَاثِ لِأَنَّهَا تَتَدَاخَلُ، فَكَذَلِكَ أَجْزَأَتْ فِي مُخَالَفَةِ التَّعْيِينِ، وَالْعِتْقُ لَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ فِي مخالفة التعيين. (مسألة:) قال الشافعي: " ولا يُجْزِئُ كفارةٌ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا أَوْ مَعَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّيَّةُ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَوَاجِبَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا، فَافْتَقَرَ الْفَرْضُ إِلَى تَمْيِيزِهِ بِالنِّيَّةِ، وَلَهُ فِي النِّيَّةِ ثَلَاثَةُ أحوالٍ، تُجْزِئُهُ فِي إِحْدَاهَا وَلَا تُجْزِئُهُ فِي الْآخَرِ، وَمُخْتَلَفٌ فِي إِجْزَائِهِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 307 الثَّالِثُ، فَأَمَّا مَا تُجْزِئُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عند دفعها فيجزئ ما لِأَنَّ أَغْلَظَ أَحْوَالِ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَا لَا يُجْزِئُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْفِعْلِ، فَكَانَتْ قَصْدًا وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةً، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهَا فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُ وَإِنْ لَمْ تُجْزِئْ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا وَمَعَهَا، لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي دَفْعِهَا يَصِحُّ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُسْتَنِيبُ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الدَّفْعِ، فَأَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ مَعَ الْعَزْلِ، وَخَالَفَتِ الصَّلَاةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِهَا وَجَرَتِ الضَّرُورَةُ مَجْرَى الصِّيَامِ الَّذِي تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا مَعَ دُخُولِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِبَقَائِهَا مَعَ الْقَوَدِ عَلَى مُلْكِهِ فَأَشْبَهَ النِّيَّةَ قَبْلَ عَزْلِهِ، وَتَأَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا، أَوْ مَعَهَا بِتَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَهَا إِذَا اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إِلَى دفعها. والثاني: قبلها في الصيام ومعها في الكسوة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَفَّرَ عَنْهُ رجلٌ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ وَهَذِهِ كَهِبَتِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ وَدَفْعِهِ إِيَّاهَا بِأَمْرِهِ كقبضٍ وَكِيلِهِ لِهِبَتِهِ لَوْ وَهَبَهَا لَهُ وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ أَعْتِقْ عَنِّي فَوَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ وَكَانَ عِتْقُهُ مِثْلَ الْقَبْضِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ كَانَ الْعِتْقُ كَالْقَبْضِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَكَفَّرَ عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ لِلْآمِرِ، فَيَكُونَ المأمور هاهنا وَكِيلًا لِلْآمِرِ فِي إِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ لِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي التَّكْفِيرِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْمَالُ وَالْعَمَلُ تَبِعٌ، فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، وَتَكُونُ النِّيَّةُ فِي إِخْرَاجِهَا مُسْتَحِقَّةً، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْعِبَادَةِ، وَلِلْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ وينوي المأمور عند دفعه، فهذا أكمل أموال الجواز. والثاني: أن لا ينوي واحد مِنْهَا فَلَا يُجْزِئُ الْمُخْرِجُ عِتْقًا كَانَ أَوْ إِطْعَامًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْإِجْزَاءِ وَلَا يَضْمَنُهُ الْمَأْمُورُ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي الْأَمْرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 308 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ، وَلَا يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ، فَهُنَا يُجْزِئُ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِالدَّفْعِ أَصَحُّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَلَا يَنْوِيَ الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَزْلِ وَالدَّفْعِ، فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِنَوْعٍ فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ الْمَأْمُورُ ضَامِنًا لِمَا كَفَّرَ بِهِ سَوَاءٌ عَدَلَ عَنِ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَعُدُولِهِ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى الْعِتْقِ، أَوْ عَدَلَ عَنِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، كَعُدُولِهِ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الْإِطْعَامِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ مَقْصُورُ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْآمِرُ الْإِذْنَ لِلْمَأْمُورِ فِي التَّكْفِيرِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ عَلَى جِنْسِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ لَمْ تَخْلُ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، فَإِطْلَاقُ إِذْنِ الْآمِرِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَوَجَبَ إِطْلَاقَ إِذْنِهِ أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ، وَإِنْ أَطْعَمَ ضَمِنَ وَلَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَوَجَبَ إِطْلَاقُ إِذْنِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ، وَإِنْ أَعَتَقَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ الْمَالِ الَّذِي قَدْ مَلَكَهُ الْمُعْطَى، فَضِمْنَهُ الْمُعْطِي وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةً لَحِنْثٍ مِثْلِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، فَإِنْ كَفَّرَ الْمَأْمُورُ بِأَقَلِّ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا، فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ الْعِتْقِ أَجْزَأَ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ أَوْ غَيْرَ موجودٍ، وَإِنْ كَفَّرَ بِأَكْثَرِ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا فَكَفَّرَ بِالْعِتْقِ دُونَ الْإِطْعَامِ، فَلَا يَخْلُو مَالُ الْآمِرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أحوال: أحدها: أن يوجد في ملكه للأدنى مِنَ الْإِطْعَامِ، وَلَا يُوجَدَ فِيهِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَيَصِيرَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ عُدُولِهِ إِلَى الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْأَذَى، فَلَا يُجْزِئُ الْعِتْقُ، وَيَكُونُ عَنِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْأَدْنَى مِنَ الطَّعَامِ فَهَذَا الْعِتْقُ يُجْزِئُ عَنِ الْآمِرِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ إِذْنِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مِلْكِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنِ الْإِطْعَامِ، وَلَا الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَلَيْسَ لَهُ التَّكْفِيرُ عَنْهُ بِالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يُدْخِلُ وَلَاءَ الْمُعْتِقِ فِي مِلْكِ الْآمِرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَهَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ يُوجِبُ تَخْيِيرَ الْمَأْمُورِ، كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِخِيَارِ الْآمِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ بِالْإِذْنِ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ وَيُجْزِئُ عَنِ الْمُكَفِّرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ التَّخْيِيرَ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْآمِرِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 309 لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي مِلْكِهِ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا؟ وَالْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ مِلْكًا لِلْمَأْمُورِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَائِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جعلٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ يُجْزِئُ إِنْ كَانَ بِجُعْلٍ، وَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ. وَدَلِيلُنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُسْتَوْفًى، أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِجُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْبِيَاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ، وَالْإِخْرَاجُ فِيهَا قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ الْهِبَةُ، وَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَيْعُ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ مِلْكُ الْأَمْرِ لَهُ، حَتَّى يُجْزِئَهُ فِي كَفَّارَتِهِ، قِيلَ: قَدْ حَكَى فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، هَلْ يَمْلِكُهَا الْمَقْتُولُ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ حَيَّاتِهِ، أَوْ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ مَوْتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، حُكْمُ مِلْكِهِ عَلَى قولين كذلك هاهنا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْرَاجِهَا مَالِكًا لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِهَا، فَإِنْ كَانَ عِتْقًا بَانَ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، فَصَارَ حُكْمُ الْمِلْكِ جَارِيًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ كَمَا نَقُولُ فِي حَافِرِ الْبِئْرِ إِذَا تَلِفَ فِيهَا حَيَوَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْجَانِي عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا، لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَجْنِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَيَكُونُ وَلَاءُ الْمُعْتِقِ لِلْآمِرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَمِثْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، هَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ أَمْ لَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّنَا نَعْلَمُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ لَمْ يَمْلِكْ، وَبَعْدَ الْإِلْقَاءِ لَا يَصِحُّ أن يملك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 310 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَفَّرَ عَنْ رجلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَطْعَمَ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ هو المعتق لعبده فَوَلَاؤُهُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ كَفَّرَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكَفِّرًا عَنْ حيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ حيٍّ لَمْ يَجُزِ الْكَفَّارَةُ عَنِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ، وَعَدَمُ الْإِذْنِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ، فَكَانَ مَا أَخْرَجَهُ النَّائِبُ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ إِطْعَامًا كَانَ صَدَقَةً، وَإِنْ كَانَ عِتْقًا كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَنْ حَجَّ عَنْ حيٍّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، كَانَ الْحَجُّ وَاقِعًا عَنِ الْحَاجِّ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُعْتِقِ بِكُلِّ حالٍ، وَجَعَلَ مَالِكٌ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُعْتِقِ إِنْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلِلْمُعْتَقِ عَنْهُ إِنْ أَعْتَقَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ مَيِّتٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِوَصِيَّةٍ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ أَمْرًا، فَيَصِيِرُ كالمكفر بأمرٍ، فيكون على ما مضى، فإن كَفَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ، فَلَا يَخْلُو الْمُكَفِّرُ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَمُوتَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بَاقٍ فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ مِنْهَا غَيْرَ وَارِثٍ وَلَا ذِي وِلَايَةٍ كَانَ ضَامِنًا مُتَعَدِّيًا، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ مِنْهَا وَارِثٌ، فَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ طَعَامًا أَجْزَأَ، وَصَارَ كَقَضَاءِ الدِّيُونِ الْوَاجِبَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ عِتْقًا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: عِتْقٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَيُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ وَلَا وَصِيَّةٍ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ، فَإِذَا فَاتَ مَنْ ضَمِنَهُ بِالْمَوْتِ وَجَبَ عَلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ كَالْحَجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَيَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ الْحَجُّ عَنْهُ فِيمَا وَجَبَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِتْقًا فِيهِ تَخْيِيرٌ، كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِ وُجُوبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا نَابَ عَنْ وَاجِبٍ صَارَ وَاجِبًا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءٌ عَلَى اختلاف أصحابنا في ما وجب في كفارة الْيَمِينِ وَسَائِرِ كَفَّارَاتِ التَّخْيِيرِ هَلْ وَجَبَ بِالنَّصِّ أَحَدُهَا، أَوْ وَجَبَ بِهِ جَمِيعُهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُ الْوُجُوبِ بِأَحَدِهِمَا، فَأَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ أَحَدُهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الْعِتْقُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 311 وَالثَّانِي: إِنَّ جَمِيعَهَا وَاجِبٌ بِالنَّصِّ، وَلَهُ إِسْقَاطُ جَمِيعِهَا بِفِعْلِ أَحَدِهَا، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الْعِتْقُ. وَإِنْ مَاتَ الْمُكَفَّرُ عَنْهُ مُعْسِرًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ أَوْ بِالتَّطَوُّعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالتَّطَوُّعِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا يأتي. (مسألة:) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ أَبَوَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بوصيةٍ مِنْهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّطَوُّعُ بِذَلِكَ عَنْ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ فَجَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ عِتْقًا أَوْ صَدَقَةً وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ؟ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الذُّكُورِ مِنْ عَصَبَتِهِ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ بِهِ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ صَدَقَةً جَازَ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ؟ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وقاصٍ " أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا ". وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي افتلت، وَأَظُنُّ لَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا مِنْ أجرٍ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ ". وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ غَيْرُ وَارِثٍ لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الصَّدَقَةَ برٌّ مَحْضٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الثَّوَابِ، وَالْعِتْقَ تَكَسُّبُ وَلَاءٍ يَجْرِي مَجْرَى النَّسَبِ، لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَلَيْسَ لأحدٍ إِلْحَاقُ نَفْسِهِ بِغَيْرِهِ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ وَارِثًا، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَجُزْ كَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحِقَ بِالْمَيِّتِ نَسَبًا، وَإِنْ تَطَوَّعَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا يَصِحُّ لُحُوقُ النَّسَبِ بِالْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَلَا يَصِحُّ إِذَا أقر به بعضهم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ صَامَ رجلٌ عَنْ رجلٍ بِأَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْأَبْدَانَ تُعُبِّدَتْ بعملٍ فَلَا يُجْزِئُ أن يعلمه غيرها إلا الحج والعمرة للخير الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبأن فيهما نفقةٌ ولأن الله تبارك وتعالى إنما فرضهما على من وجد السبيل إليهما والسبيل بالمال ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 312 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصِّيَامُ عَنِ الحيِّ فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا بِأَمْرٍ أَوْ غَيْرِ أمرٍ، عَنْ قَادِرٍ أَوْ عَاجِزٍ، لِلظَّاهِرِ مِنْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) وَلِأَنَّ مَا تَمَحَّضَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ، كَالصَّلَاةِ، وَخَالَفَ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْمَالِ لَمْ يَتَمَحَّضْ عَلَى الْأَبْدَانِ، فَصَحَّتْ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالزَّكَاةِ. فَأَمَّا الصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ وَقَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَوْمِ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهَا؟ فَمَاتَتْ قَبْلَ صِيَامِهِ، فَأَجَازَ لَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا. وَقَدْ حَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ صَحَّ فَصَارَ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ جَوَازَ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ رَوَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صيامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ "؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَصَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ كَالْحَجِّ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَدُخُولُ الْمَالِ فِي جُبْرَانِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جُبْرَانُ الصِّيَامِ فِي الْوَطْءِ بِالْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: عَجْزُ الشيخ الهم عَنِ الصِّيَامِ، وَانْتِقَالُهُ إِلَى إِخْرَاجِ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ النِّيَابَةَ فِي الصِّيَامِ لَا تَجُوزُ بحالٍ عَنْ حيٍّ وَلَا مَيِّتٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صيامٌ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصَّلَاةِ طَرْدًا، وَالْحَجِّ عَكْسًا، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَعْلُولٌ وَإِنْ صَحَّ كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ الصَّدَقَةَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ جَوَازُهُ، وَهُوَ قولٌ شَاذٌّ تَفَرَّدَا بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ إِجْمَاعًا جَازَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ قِيَاسًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ الْعَجْزِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَصَحَّتْ فِي الزَّكَاةِ مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ لَمْ تَخْرُجِ النِّيَابَةُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ مع قدرة ولا عجز؛ لقول الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ مَعَ قُدْرَةٍ وَلَا عَجْزٍ؛ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثلاثٍ حَجٍّ بقضاءٍ، أَوْ دينٍ يُؤَدَّى، أَوْ صدقةٍ جاريةٍ " الجزء: 15 ¦ الصفحة: 313 وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ كَالْإِيمَانِ لِأَنَّهَا قولٌ وعملٌ ونيةٌ، ثُمَّ لَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ فِي الْإِيمَانِ إِجْمَاعًا فَلَمْ تَجُزْ فِي الصَّلَاةِ حِجَاجًا، فَأَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ؛ فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِمَا تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ فَخُصَّتْ بِالْجَوَازِ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَعْنَى، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِالنِّيَابَةِ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهِ بالمال. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَنِ اشْتَرَى مِمَّا أَطْعَمَ أَوْ كَسَا أَجَزْتُهُ وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُكْرَهُ إِنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَنْ وَاجِبٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنَ الْمُعْطِي، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا تَصَدَّقَ بِهِ فَيَ سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها بفقيرٍ، وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَلِأَنَّ مِنْ عُرْفِ الْمُعَطَى أَنْ يَسْمَحَ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْمُعْطِي، فَصَارَ بِالِابْتِيَاعِ كَالرَّاجِعِ فِي بَعْضِ عَطِيَّتِهِ، فَإِنِ ابْتَاعَهَا صَحَّ الِابْتِيَاعُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ الِابْتِيَاعُ وَتُعَادُ إِلَى الْبَائِعِ احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغنيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ " ذَكَرَ مِنْهَا رَجُلًا رَآهَا تُبَاعُ فَاشْتَرَاهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مِيرَاثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا ابْتِيَاعًا كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا غَيْرُهُ مِنَ الرِّجَالِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَاعَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَمَنْ كَانَ لَهُ مسكنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وخادمٌ أُعْطِيَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي مَسْكَنِهِ فضلٌ عَنْ خَادِمِهِ وَأَهْلِهِ الْفَضْلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ غَنِيًّا لَمْ يُعْطَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَخَادِمٌ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ دُونَ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ مُفْلِسًا بِيعَ ذَلِكَ فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبَعْ فِي كَفَّارَتِهِ، لِأَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُشَاحَّةً، وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَامَحَةً، فَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِ مَسْكَنِهِ أَوْ فِي ثَمَنِ خَادِمِهِ فَضْلٌ يَكُونُ بِهِ غَنِيًّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا فَضْلٌ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لَمْ يُجْزِهِ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا حَنِثَ مُوسِرًا ثُمَّ أَعْسَرَ لَمْ أَرَ الصَّوْمَ يُجْزِئُ عَنْهُ وَآمُرُهُ احْتِيَاطًا أَنْ يَصُومَ فَإِذَا أَيْسَرَ كَفَّرَ وَإِنَّمَا أُنْظِرُ فِي هَذَا إلى الوقت الذي يحنث فيه ولو حنث معسراً فأيسر أحببت له أن يكفر ولا يصوم وإن صام أجزأ عنه لأن حكمه حين حنث حكم الصيام (قال المزني) وقد قال في الظهار إن حكمه حين يكفر وقد قال في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 314 جماعة العلماء إن تظاهر فلم يجد رقبةً أو أحدث فلم يجد ماءً فلم يصم ولم يدخل في الصلاة بالتيمم حتى وجد الرقبة والماء إن فرضه العتق والوضوء وقوله في جماعة العلماء أولى به من انفراده عنها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ والإعساء فَفَرْضُ الْمُوسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ وَفَرْضُ الْمُعْسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ مُوسِرًا، وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُعْسِرًا، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا، وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُوسِرًا، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْكَفَّارَةِ حَالَ الْوُجُوبِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالَ الْأَدَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ وَثَالِثٍ مُخَرَّجٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ، فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ بِالْمَالِ حَتَّى أَعْسَرَ فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ فَيُكَفِّرَ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالتَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ اسْتِظْهَارًا حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ التَّكْفِيرِ بِالْمَوْتِ لِاسْتِدَامَةِ الْإِعْسَارِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، فإن عدل عنه إلى التكفير بالمال أجزأ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْوُجُوبِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلْحَاقُهَا بِالْحُدُودِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الْحُدُودَ كفاراتٌ " وَالْحُدُودُ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ دُونَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَالْبِكْرَ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أَحَصَنَ حُدَّ حَدَّ الْأَبْكَارِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ. وَالثَّانِي: إِنَّ التَّكْفِيرَ لذنبٍ مُتَقَدِّمٍ، فَاعْتَبَرَ بِحَالِ الْوُجُوبِ لِقُرْبِهِ مِنْ سَبَبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَعْسَرَ كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ، وَلَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْأَدَاءِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلْحَاقُهَا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ذَاتُ بدلٍ فَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الطَّهَارَةُ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاعْتُبِرَتْ بِأَقْرَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ مُوَاسَاتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ حَالِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِيرٌ عَنْ ذَنْبٍ، فَكَانَتْ بِالتَّغْلِيظِ أَخَصَّ، وَقَدِ استوفينا هذه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 315 المسألة فيما تقدم بفروعها. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَا يَعْتِقَ فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ خَاصَّةً، وَمَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِي بَقِيَّةِ أَهْلِ السُّهْمَانِ الثَّمَانِيَةِ فَاشْتَرَكَ الفقراء والمساكين في الكفارات والزكوات، وَاخْتُصَّتِ الزَّكَاةُ بِبَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَصْرِفِهَا. فَأَمَّا وُجُوبُهَا، فَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ لَا تُجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَلَا يَصِيرُ بِفَضْلِهَا غَنِيًّا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ، لِوُجُودِهَا فِي مِلْكِهِ فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَةِ وَقْتِهِ، وَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ بِعَدَمِ الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ، وَقَدْ يُسْقِطُ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْجَلْدُ الْمُكْتَسِبُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ دُونَ الْمَالِ لِعَدَمِهِ فِي مِلْكِهِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالزَّكَاةُ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَكْسَبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ؟ وَقَدْ قلتم فيما فضلتم: إِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَمِنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَالْأَغْلَبُ مَا قَالَهُ. وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ أبا حنيفة حيث اعتبر الغنى والفقر بوجوب النِّصَابِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ فَيَكُونُ غَنِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا بِيَدَيْهِ، وَيَكُونُ فَقِيرًا وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا إِذَا كَانَ دُونَ كِفَايَتِهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَمَالُهُ غائبٌ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَى يَحْضُرَ مَالُهُ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: جُعِلَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُوسِرِ إِذَا كَانَ الْمُكَفِّرُ ذَا مالٍِ غَائِبٍ، إِمَّا بِأَنْ سَافَرَ عَنْ مالٍ خَلَّفَهُ بِبَلَدِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ سَافَرَ بِالْمَالِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بَلَدِهِ فلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 316 يَقْدِرْ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ الْمُوسِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ فَيُكَفِّرَ بِالْمَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِينَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لِحَاجَتِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَقْرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَكَانِهِ، وَالْكَفَّارَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِإِمْكَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ الْمُتَمَتِّعُ فِي الْحَجِّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فِي مَكَّةَ مُوسِرًا فِي بَلَدِهِ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ كَالْمُعْسِرِ، فَهَلَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَكَانَ الدَّمِ فِي التَّمَتُّعِ مُسْتَحَقٌّ بِمَكَّةَ، فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ أَوْ إِعْسَارُهُ بِهَا وَمَكَانُ الْإِطْعَامِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقٌ فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ مُعَيَّنٌ لِلزَّمَانِ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ فَكَانَ فِي تَأْخِيرِهِ فَوَاتُ بَدَلِهِ، وَلَيْسَ لِصِيَامِ الْيَمِينِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي كَمَالِ فُرُوضِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى حَالِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ مِثْلُ صَلَاةِ الْعُرْيَانِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَكَفَّارَةِ الْمُتَمَتِّعِ، فَفَرْضُهُ تَعْجِيلُ أَدَائِهِ عَلَى غِنًى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِالتَّأْخِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَفَرْضُهُ إِذَا قَدِرَ عَلَى الْكَمَالِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى حَالِ الْإِمْكَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ لَكِنْ يَلْحَقُهُ بِالتَّأْخِيرِ ضرر مثل كفارة الظهار يلحقه بتأخيرها ضرب فِي امْتِنَاعِهِ مِنَ الْجِمَاعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَأْخِيرُهَا بِالْيَسَارِ فِي بَلَدِهِ حَتَّى يَعْتِقَ لِأَنَّهُ غنيُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَ التكفير بالصيام؛ لأنه مستنصر، وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ ضَالًّا أَوْ مَغْصُوبًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ فَيُكَفِّرَ بِهِ، فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ بِأَنْ يُكَاتِبَ أَوْ يُرَاسِلَ إِلَى بَلَدِ الْمَالِ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَلَا يَفْعَلُ حَتَّى يَتْلَفَ الْمَالُ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ فِي تَكْفِيرِهِ بِالصِّيَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حال الأداء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 317 وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالْمَالِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ حَتَّى يَتْلَفَ فَيُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ قَوْلًا وَاحِدًا لِإِعْسَارِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُوبِهَا وَأَدَائِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 318 بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كسوةٍ مِنْ عمامةٍ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ إزارٍ أو مقنعةٍ وغير ذلك لرجلٍ أو امرأةٍ أو صبيٍّ ولو استدل بما يجوز فيه الصلاة من الكسوة على كسوة المساكين لجاز أن يستدل بما يكفيه في الشتاء والصيف أو في السفر من الكسوة وقد أطلقه الله فهو مطلقٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُكَفِّرَ عَنِ الْيَمِينِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ أَوْ كِسْوَةِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ عِتْقِ رَقَبَةٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَقَلُّ تُعْتَبَرُ بِهِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَرِدَاءٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَوْبَيْنِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا كِسْوَةُ ثَوْبٍ جَامِعٍ كَالْمِلْحَفَةِ وَالْكِسَاءِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ إِلَّا مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِنْ كَانَ لِرَجُلٍ، فَمَا يَسْتُرُ بِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَمَا تَسْتُرُ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهَا. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ كِسْوَةُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَتَرَ الْعَوْرَةَ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَوَاءٌ سَتَرَ الْعَوْرَةَ، وَأَجْزَأَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؛ لأمرين: أحدهما: التزام بقيمة متفق عليه، وما يجاوزه التزام زيادة يختلف فِيهَا، فَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَخْلُو إِطْلَاقُ الْكِسْوَةِ مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ بِمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 319 دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَلَمْ يَلْزَمِ اعْتِبَارُهَا بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى مَا يُدْفِئُ مِنَ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ، وَيَقِي مِنَ الْحَرِّ فِي الصَّيْفِ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرْ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِجْزَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أْحَدُهُمَا: خُرُوجُهُ مِنَ اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَهُوَ أَصْلٌ عَنِ اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ وَهِيَ عُرْفٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ مِنْ رَقِيقِ الثِّيَابِ مَا يَعُمُّ الْعَوْرَةَ وَلَا يَسْتُرُهَا لِرِقَّتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ فِيهِ الصَّلَاةُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى قَدْرُ الْإِطْعَامِ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْكِسْوَةِ فِيهِمَا وَفِي اعْتِبَارِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَدْرِ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ الْعَوْرَةِ مِنْهُمَا فَكَانَ ذَلِكَ مَدْفُوعًا، وَإِذَا بَطَلَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يُعْتَبَرَ مَا زَادَ عَلَى انْطِلَاقِ الِاسْمِ ثَبَتَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْكِسْوَةِ عَلَيْهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَنَقُولُ: كَسَاهُ قَمِيصًا أَوْ كَسَاهُ مِنْدِيلًا وَكَسَاهُ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْمِقْنَعَةُ وَالْخِمَارُ فَأَجْزَاهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُجْزِئُهُ السَّرَاوِيلُ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا فاسدٌ بِالْعِمَامَةِ وَالْمِنْدِيلِ، فَأَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ؟ أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُكْتَسَى. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ وَلَا يَنْفَرِدُ بِلِبَاسِهَا، وقال أبو الغياض الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُغَطِّي نِصْفَ الرَّأْسِ لَمْ تَجُزْ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَعُمُّ الرَّأْسَ وَتُغَطِّي الْآذَانَ وَالْقَفَا أَجْزَأَتْ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِي خُفَّيْنِ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا تِكَّةً، وَلَا مَا يُلْبَسُ مِنَ الْعَصَائِبِ وَلَا تُجْزِئُ مِنْطَقَةٌ وَلَا مُكَعَّبٌ وَلَا هِمْيَانُ لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنِ الكسوات الملبوسة. (فصل:) ما أُعْطِيَ مِنْ ثِيَابِ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ شَعْرٍ أَجْزَأَ فَأَمَّا ثِيَابُ الْحَرِيرِ وَالْإِبِرِيسَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ النِّسَاءُ لِإِحْلَالِهِ لَهُنَّ، وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ، وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ لِلرِّجَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِلرِّجَالِ ثِيَابُ النِّسَاءِ، وَيُعْطَى النِّسَاءُ ثِيَابَ الرِّجَالِ، وَسَوَاءٌ بَيَاضُ الثياب ومصبوغها، وخامها ومقصورها، وجديدها وغسليها فَأَمَّا اللَّبِيسُ مِنْهَا، فَإِنْ أَذْهَبَ اللُّبْسُ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ لَمْ يَجْزِهِ وَإِنْ أَذَهَبَ أَقَلَّهَا أَجْزَأَهُ كَالرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ إِنْ كَانَ عَيْبُهَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا أَجْزَأَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثَوْبًا نَجِسًا، لِأَنَّهُ يُطَهَّرُ بِالْغَسْلِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَا يُصَلُّوا فِيهِ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا نُسِجَ مِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 320 صُوفٍ مَيِّتَةٍ، وَلَا مِنْ شَعْرِهَا؟ لِعُمُومِ تَحْرِيمِهِ وَخُصُوصِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى طَهَارَتِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الزُّلَالِيَّ وَالْبُسُطَ وَالْأَنْطَاعَ، لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْكِسْوَةِ وَالْمَلْبُوسِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ غَزْلًا غَيْرَ منسوج فأما لباس الجلود والفراءة فإن كان من بَلَدٍ يَلْبِسُ أَهْلُهُ ذَلِكَ أَجْزَأَ وَإِنْ كَانَ فِي بلدٍ لَا يَلْبَسُهُ أَهْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي أَجْنَاسِ الْحُبُوبِ فِي الْإِطْعَامِ هَلْ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا أَوْ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ قَمِيصُ اللُّبُودِ، وَلَكِنْ يجزئ أن يعطيهم الأكيسة لِأَنَّهَا تُلْبَسُ دِثَارًا، وَإِنْ لَمْ تُلْبَسْ شِعَارًا وَلَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا طَوِيلًا فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ قَطْعِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَتْ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ كِسْوَةً، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ صَحِيحًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ ثوبٌ واحدٌ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا كِسْوَةً وَاحِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 321 بَابٌ مَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ وَمَا لا يجوز (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يُجْزِئُ رقبةٌ فِي كفارةٍ وَلَا واجبٍ إِلَّا مؤمنةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا يُجْزِئُ إِلَّا فِي رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ عِتْقُ الكافرة في جمعيها إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقِتَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ إِيمَانَهَا فَحُمِلَ الْمَشْرُوطُ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بَعْضُ جِنْسِهِ بشرطٍ كَانَ جَمِيعُ الْمُطْلَقِ مَحْمُولًا عَلَى تَقْيِيدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، كَمَا أُطْلِقَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) {البقرة: 282) ، وَقَيَّدَ قَوْلَهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) {الطلاق: 2) فَحُمِلَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، هَلْ قَالَهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه قال مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دليلٌ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْإِطْلَاقِ إِلَّا إِنْ تَفَرَّقَا فِي الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عِتْقٌ فِي كَفَّارَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لا يجزئ فيه إلا مُؤْمِنَةٌ، كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. وَلِأَنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَعِيبَةِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كتاب الظهار مستوفاة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَصِفَ الْإِيمَانَ إِذَا أُمِرَ بِصِفَتِهِ ثُمَّ يَكُونَ بِهِ مُؤْمِنًا ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 322 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ فَإِيمَانُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِيمَانُ فِعْلٍ. وَالثَّانِي: إِيمَانُ حُكْمٍ، فَأَمَّا إِيمَانُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَالَغٍ عَاقِلٍ، تُؤْخَذُ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِيمَانِ قَطْعًا، وَشُرُوطُهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَيُقِرُّ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، فَأَمَّا إِقْرَارُهُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ يَقِفُ إِيمَانُهُ عَلَى إِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا بَرَاءَتُهُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْبَعْثِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ قومٍ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانَ إِقْرَارُهُ بِنُبُوَّتِهِ يُغْنِي عَنْ بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِيهِ مُسْتَحَبًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَيَهُودِ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ دُونَنَا، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا إِلَيْنَا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ فَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِذَا صَحَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا فِي إِيمَانِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ تَلَفَّظَ بِهِ نُطْقًا وَلَا نَقْتَنِعُ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ مَعَ سَلَامَةِ لِسَانِهِ وَفَهْمِ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ نُظِرَ، فَإِنْ حَضَرَ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إِلَّا بِالنُّطْقِ دُونَ الْإِشَارَةِ كَالْعَرَبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ تُؤْخَذَ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ، بِالْإِشَارَةِ دُونَ النُّطْقِ كَالْأَخْرَسِ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَبْدٍ أَعْجَمِيٍّ جَلِيبٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَفَيُجْزِئُ هَذَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ رَبُّكَ، فَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: رَبُّ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: مَنْ نَبِيُّكُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعتقه فإنه مؤمنٌ ". (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ فِيهِ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِيمَانُ الْحُكْمِ، فَمُعْتَبَرٌ فِيمَنْ لَا يُحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، فَيَكُونُ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَحْدَهَا، وَإِنْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 323 وَحْدَهُ، اعْتِبَارًا بِلُحُوقِ نَسَبِهِ بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ أَحْكَامَهُ فِي اتِّبَاعِ أبويه تنقسم قسمين: أحدهما: مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَهُوَ النَّسَبُ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ، فَأَمَّا مَا يَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ فخارجٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) {الطور: 21) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَوْلَادَ يَتَّبِعُونَ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتَ فَيَ الْإِيمَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْإِسْلَامُ يَعْلُو " وَلَا يُعْلَى " وَقَدْ خُلِقَ الوَلَدُ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا وَكُفْرُ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مولودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " فَجَعَلَ اجْتِمَاعَ أَبَوَيْهِ سَبَبًا لِشُهُودِهِ فَخَرَجَ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْيَهُودِيَّةِ؟ وَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَرَقَ حُكْمُ أَبَوَيْهِ فِي إِسْلَامِهِ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِأُمِّهِ أَحَقُّ، لِأَنَّهُ مِنْهَا قَطْعًا، وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا. فَأَمَّا السَّبَبُ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي التَّحْرِيمِ مُعْتَبَرٌ لِكُلٍّ واحدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ بِالدِّينِ أَشْبَهَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَقْسِيمِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهِمَا ثَالِثٌ وهو أن حربة الْأَبِ تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ إِذَا وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَرِقُّ الْأُمِّ يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ إِذَا وَطِئَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَصَارَتِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ مُعْتَبَرَيْنِ بِكُلِّ واحدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَيَصِيرُ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ إِسْلَامُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِإِسْلَامِ كُلٍّ واحدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ فَعِتْقُ الصَّغِيرِ فِي الْكَفَّارَةِ مجزئٌ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ؟ لِأَنَّ نَقْصَ الصَّغِيرِ يَزُولُ، وَنَقْصِ الزَّمَانَةِ لَا يَزُولُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، مُسْتَغْنِيًا عَنِ التَّرْبِيَةِ كَالْمُرَاهِقِ، أَوْ كَانَ طِفْلًا يُرَبَّى كَالرَّضِيعِ؟ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ وَيَسْتَكْمِلُ وَنَفَقَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَفِي الصَّدَقَاتِ وَلَا يَجِبُ عَلَى مُعْتِقِهِ وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهَا حَتَّى يَبْلُغَ هُوَ الِاكْتِسَابَ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ، فَأَمَّا عِتْقُ الْمَجْنُونِ فَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُسْتَدِيمًا طَبْعًا وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ، أَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُجْزِهِ عِتْقُهُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ جُنُونِهِ، فَفِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ كَمَا يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ قَلَّ عَيْبُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّ قَلِيلَ الْجُنُونِ يَصِيرُ كَثِيرًا، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَحْمَقِ فَيُجْزِئُ، لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِتَدْبِيرِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا عِتْقُ الْفَاسِقِ فَمُجْزِئٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 324 (مسألة:) قال الشافعي: " وَوَلَدُ الزِّنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَنْسَابِ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؟ وَلِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَنِهِ وَصِحَّةَ عَمَلِهِ مماثلٌ لِذَوِي الْأَنْسَابِ؟ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا فِي نُقْصَانِ ثَمَنِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَيْبًا فِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ، وَأَحْسَبُ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافٍ شَذَّ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ " وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ شَرُّهُمْ نَسَبًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرُّهُمْ إِذَا زَنَا لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ شَرِّ نَسَبِهِ زانياً. (مسألة:) قال الشافعي: " وَكُلُّ ذِي نقصٍ بعيبٍ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا مِثْلُ الْعَرَجِ الْخَفِيفِ وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ فِي الْخِنْصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يُجْزِئُ الْمُقْعَدُ وَلَا الْأَعْمَى وَلَا الْأَشَلُّ الرِّجْلِ وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ وَالْخِصِيُّ وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَيْسَ بِهِ مرضٌ زمانةٍ مِثْلُ الْفَالَجِ وَالسُّلِّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَاقْتَضَى إِطْلَاقُهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ كَالْغِرَّةِ فِي الْجَنِينِ وَالْإِبِلِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِمَّا جَوَازُهَا مَعَ كُلِّ الْعُيُوبِ اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَالنُّذُورِ، لَكِنِ انْعَقَدَ فِيهَا إجماعٌ منع من اعتبار أحمد هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا يُجْزِئُ، وَهِيَ الْعَوْرَاءُ وَالْبَرْصَاءُ وَالْجَدْعَاءُ، وَمِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا لَا يُجْزِئُ، وَهِيَ الْعَمْيَاءُ وَالْقَطْعَاءُ وَالشَّلَّاءُ فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى مَا أَجَازُوهُ، وَمَعْنَى مَا رَدُّوهُ، فَوَجَدْنَاهُمْ قَدْ أَجَازُوا مِنْهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا وَرَدُّوا مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا عَقَدَهُ الْإِجْمَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ خَارِجًا عَنِ الْأَصْلَيْنِ فِي إِطْلَاقِهَا فَاعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ دُونَ كَمَالِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ مَنَافِعَ نَفْسِهَا، فَاعْتَبَرْنَا كَمَالَ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّمْلِيكُ مِنَ الْمَنَافِعِ دُونَ الصِّفَاتِ، فَإِذَا صَارَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا انْسَاقَ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، فَقُلْنَا: إِنَّ الْعَوْرَاءَ تُجْزِئُ بِكَمَالِ مَنَافِعِهَا؟ وَإِنَّهَا تُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا تُدْرِكُهُ بِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ قِيلَ: لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ كَمَالَ اللَّحْمِ وَاسْتَطَابَتِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَوَرُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ، فَمَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِمَّا قَصَدَ بِهِ كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعِتْقِ فَأُجِيزَ فِيهِ. وَإِذَا أَجْزَأَتِ الْعَوْرَاءُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُجْزِئَ عِتْقُ الْحَوْلَاءِ وَالْخَيْفَاءِ وَالْمَقْطُوعَةِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْبَرْصَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْعُيُوبِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِتْقُ الْخَرْسَاءِ، وَعِتْقُ الصَّمَّاءِ، لِأَنَّ عَمَلَهَا كَامِلٌ وَالْإِشَارَةَ مَعَهُمَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، فإن لم يفهما الإشارة لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُمَا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 325 أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ عَتَقَهُمَا وَمَنَعَ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا فِي فَهْمِ الْإِشَارَةِ، فَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُؤَثِّرٌ مِنَ الْعَمَلِ ومقتضى عرفهم الْإِشَارَةُ وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْعَمْيَاءِ لِإِضْرَارِ الْعَمَى بِالْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا وَلَا عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ الْعَوْرَاءِ لِأَنَّ ذَهَابَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَذَهَابَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْعَرْجَاءِ إِذَا كان عرجها قليلاً، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، لِأَنَّ قَلِيلَهُ غَيْرُ مُضِرٍّ؟ وَكَثِيرَهُ مضرٍ، وَتُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ الْخِنْصَرِ أَوِ الْبِنْصِرِ مِنْ إِحْدَى الْأَطْرَافِ، أَوِ الْخَنَاصِرِ وَالْبَنَاصِرِ مِنَ الْأَطْرَافِ كُلِّهَا، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا اجْتَمَعَ قَطْعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ طَرَفٍ واحدٍ، وَيَجُوزُ إِنْ كَانَا مِنْ طَرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ وَافْتِرَاقَهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ، وَلَا تُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى، لِأَنَّ قَطْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ مُضِرٌّ، فَأَمَّا قَطْعُ الْأُنْمُلَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْإِبْهَامِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَصَابِعِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَنَامِلِ غَيْرِ الْإِبْهَامِ أَكْثَرُ، بِخِلَافِ الْإِبْهَامِ وَالشَّلَلُ فِي الْأَطْرَافِ كَالْقَطْعِ فَمَا مُنِعَ مِنْهُ الْقَطْعُ مُنِعَ مِنْهُ الشَّلَلُ، وَمَا جَازَ مَعَ الْقَطْعِ جَازَ مَعَ الشَّلَلِ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِ الْقَطْعَاءُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُجْزِئَ الْمُقْعَدَةُ وَلَا ذَاتُ الزَّمَانَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ فَإِنْ كَانَ مَرَضُهَا مَرْجُوًّا كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ مَاتَتْ، وَإِنْ كَانَ مَرَضُهَا غَيْرَ مَرْجُوٍّ كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ لَمْ تُجْزِ وَإِنْ صَحَّتْ، وَأَمَّا عِتْقُ الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ، فَعِتْقُهُمَا مُجْزِئٌ، مَا لَمْ يَنْتَهِيَا إِلَى الْهِرَمِ الْمُضِرِّ بِالْعَمَلِ فَلَا يُجْزِئُ، وَسَوَاءٌ فِي الْإِجْزَاءِ أَعَتَقَ ذَاتَ الضَّعَةِ وَغَيْرَ ذَاتِ الضَّعَةِ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ لِكَمَالِ عَمَلِهِمَا، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِتْقُ الْخُنْثَى، فَأَمَّا عِتْقُ الْجَذْمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْجُذَامُ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ أَوِ الشَّفَةِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَطْرَافِ الْبَدَنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَمْ يُجْزِ، لِأَنَّهُ مضرٌّ بِالْعَمَلِ فِي الْأَطْرَافِ وَغَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فِي غَيْرِ الْأَطْرَافِ وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْأَبْرَصِ وَالْبَرْصَاءِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ بالعمل، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إِلَّا الْوَالِدون وَالْمَوْلُودُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَحَدًا مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ، وَأَعْتَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَإِنْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَاوِيًا بِهِ الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ تَجْزِهِ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 326 أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ، وَهَذَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحْرِيرٍ مِنْهُ، فَلَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ فِعْلِ التَّحْرِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ تَعْلِيلَ الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ أَنَّ الرَّقَبَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا بِسَبَبَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَهَذَا عِتْقٌ بِسَبَبَيْنِ، فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى أَثْبَتِهِمَا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوِ اشْتَرَى رَقَبَةً بِشَرْطٍ يُعْتِقُهَا لَمْ تُجْزِ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ العتق فللشافعي في البيع والشرط ثلاثة أقاويل: أحدها: إنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَمْ يَمْلِكْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِعِتْقِهِ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْعَ وَأَمْضَى الشَّرْطَ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ يختص بسببها. والقول الثالث: إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ باطلٌ وَلَا يَلْزَمُهُ عتقها من غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّكْفِيرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهَا لَا تُجْزِئُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ أَخَذَ من الثمر قِسْطًا، فَصَارَ الْعِتْقُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَجَرَى مَجْرَى الْعِتْقِ بِسَبَبَيْنِ، وَخَرَجَ عَمَّا انْفَرَدَ عِتْقُهُ عن التكفير. (مسألة:) قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يَجُوزُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَعْجِزَ فَيُعْتَقَ بَعْدَ الْعَجْزِ وَيُجْزِئُ الْمُعْتَقُ إِلَى سِنِينَ واحتج في كتاب اليمين مع الشاهد على من أجاز عتق الذمي في الكفارة بأن الله عز وجل لما ذكر رقبةً في كفارةٍ فقال " مؤمنةٍ " ثم ذكر رقبةً أخرى في كفارةٍ كانت مؤمنةً لأنهما يجتمعان في أنهما كفارتان ولما رأينا ما فرض الله عز وجل على المسلمين في أموالهم منقولاً إلى المسلمين لم يجز أن يخرج من ماله فرضاً عليه فيعتق به ذمياً ويدع مؤمناً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِبَقَائِهِ عَلَى الرِّقِّ وَجَوَازِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 327 بَيْعِهِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِجْزَائِهِ لِمَنْعِهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْمُدَبَّرِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ إِذَا عَجَّلَ عِتْقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الصفة معلقة بالزمان، كقوله: إذا هل شَهْرُ كَذَا فَأَنْتَ حرٌّ كَانَتِ الصِّفَةُ مُعَلَّقَةً بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حرٌّ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمُدَبَّرِ، كَمَا أَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ كَالْمُدَبَّرِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى فِيهِ أَنْ يَصِيرَ بِمَجِيءِ الصِّفَةِ حُرًّا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا بِسَبَبَيْنِ، وَتَعْجِيلُ عِتْقِهِ قَبْلَ الصِّفَةِ يَجْعَلُهُ مُعْتَقًا بِسَبَبٍ واحدٍ، فَأَمَّا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ فَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْمَنْعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّحْرِيمُ بَيْعُهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: استحقاقٌ عِتْقِهَا بِالْوِلَادَةِ يَجْعَلُهَا مُعْتَقَةً بِسَبَبَيْنِ وَأَمَّا عِتْقُ الْمَكَاتَبِ قَبْلَ عَجْزِهِ فَلَا يُجْزِئُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ نُجُومِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَدَّى شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ. فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ فَأَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّعْجِيزِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الرِّقِّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، وَجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ شقصا لَهُ مِنْ عَبْدٍ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ، وَكَانَ مُوسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ وَأَجْزَأَهُ مِنْهُ قَدَّرَ حِصَّتِهِ، وَفِي إِجْزَاءِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ التَّكْفِيرِ فَصَارَ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ تَبَعٌ لِعِتْقِ حِصَّتِهِ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا فِي الْإِجْزَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى عِنْدَ عِتْقِ حِصَّتِهِ عِتْقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قَصَرَ نِيَّتَهُ عَلَى عِتْقِ حِصَّتِهِ وَحْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِذَا أَكْمَلَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ أَعْتَقَ مِنْ كُلٍّ واحدٍ نِصْفَهُ، وَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: إنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لَمْ يُجْزِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرْهُونًا أَوْ جَانِيًا، فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ عِتْقِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ عِتْقِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ خَتَمَ الْمُزَنِيُّ الْبَابَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَنْعِ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِ الْكَافِرِ بِمَا مَضَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 328 بَابُ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الَأَيْمَانِ الْمُتَتَابِعِ وَغَيْرِهِ (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صومٌ لَيْسَ بمشروطٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا أَجَزَأهُ مُتَفَرِّقًا قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر} والعدة أن يأتي بعدد صومٍ لا ولاءٍ وقال في كتاب الصيام إن صيام كفارة اليمين متتابعٌ والله أعلم (قال المزني) رحمه الله هذا ألزم له لأن الله عز وجل شرط صوم كفارة المتظاهر متتابعاً وهذا صوم كفارةٍ مثله كما احتج الشافعي بشرط الله عز وجل رقبة القتل مؤمنةً (قال المزني) فجعل الشافعي رقبة الظهار مثلها مؤمنةً لأنها كفارةٌ شبيهةٌ بكفارةٍ فكذلك الكفارة عن ذنبٍِ بالكفارة عن ذنبٍ أشبه منها بقضاء رمضان الذي ليس بكفارةٍ عن ذنبٍ فتفهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مُتَرَتِّبٌ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَة أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) وَهَلْ يَكُونُ تَتَابُعُ صَوْمِهَا شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي صِيَامِهَا، فَإِنْ صَامَ مُتَفَرِّقًا لَمِ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مسعودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أيامٍ متتابعاتٍ " وَقِرَاءَةِ أُبِيٍّ " فَصِيَامُ ثَلَاثَة أيامٍ متتابعةٍ " وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ تَقُومُ مَقَامَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا منقولةٌ عَنِ الرَّسُولِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ تَكْفِيرٍ فِيهِ عِتْقٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّتَابُعُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى مَا قُيِّدَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الْأَيْمَانِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ إِطْلَاقَ هَذَا الصِّيَامِ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ تَتَابُعِهِ فِي الْقَتْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ أَنَّ التَّتَابُعَ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّ صَوْمَهُ مُتَفَرِّقًا جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقِرَانُ مِنْ إِطْلَاقِ صِيَامِهَا فَاقْتَضَى الظاهر إجزاء صيامها في حالتي تتابعهما وتفريقها، ولا يجب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 329 حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَمَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ لِتَرَدُّدِ هَذَا الْإِطْلَاقِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي أَحَدِهَا وَهُوَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَلَا يَجُبْ فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ فِي التَّتَابُعِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فِي التَّفَرُّقِ. وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ يَتَرَدَّدُ مُوجِبُهُ بَيْنَ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ فِيهِ التَّتَابُعُ قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ فَإِنَّمَا تَجْرِي في وجوب العمل بها مجرى خير الْوَاحِدِ، إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى التَّنْزِيلِ وَإِلَى سَمَاعِهَا من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا إِذَا أُطْلِقَتْ جَرَتْ مَجْرَى التَّأْوِيلِ دُونَ التَّنْزِيلِ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَتْ لَحُمِلَتْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فَلَمَّا تَغَلَّظَ صَوْمُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَغَلَّظَ بِالتَّتَابُعِ، وَلِمَّا تَخَفَّفَ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ تَخَفَّف بالتفرقة. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ فِيهِ الصَّائِمُ أَوِ الصَّائِمَةُ مِنْ عذرٍ وَغَيْرِ عذرٍ اسْتَأْنَفَا الصِّيَامَ إِلَّا الْحَائِضَ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَأَنِفُ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ الْمَرَضُ كَالْحَيْضِ وَقَدْ يَرْتَفِعُ الْحَيْضُ بِالْحَمْلِ وَغَيْرِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ الْمَرَضُ قَالَ وَلَا صَوْمَ فِيمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مُتَتَابِعٌ فِي كَفَّارَةِ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ فَيُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ بَاقِيهِ فَلَا يَخْلُو فِطْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَبْطَلَ بِهِ التَّتَابُعَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صيامه، وإن كان أكثر من باقيه، واستأنف صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَالْأَعْذَارُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الْأَبْدَانِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الزَّمَانِ، فَأَمَّا أَعْذَارُ الْأَبْدَانِ فَأَرْبَعَةُ أعذارٍ. أَحَدُهَا: الْحَيْضُ، فَهُوَ منافٍ لِلصَّوْمِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ فِي صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِكَفَّارَةِ قَتْلٍ ثُمَّ حَاضَتْ فِي تَضَاعِيفِهَا لَا يَبْطُلُ بِهِ تَتَابُعُ صِيَامِهَا وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ، لَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ. وَالثَّانِيَةُ: إنَّ طَرْقُ الْحَيْضِ معتادٌ لَا يَسْلَمُ لَهَا فِي الْعُرْفِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهَا. وَالْعُذْرُ الثَّانِي: الْمَرَضُ تُفْطِرُ بِهِ فِي تَضَاعِيفِ صِيَامِهَا، فَهَلْ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 330 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ إنَّهُ يَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ كَالْحَيْضِ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فطر بعذر، لا يمكن مع الصوم. والقول الثاني: وهو الجديد يجب مع الِاسْتِئْنَافُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِمْرَارُهُ. وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ: الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، فَالْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَوْلَى أَنْ يَقْطَعَهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فَفِي قَطْعِهِ بِالسَّفَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقْطَعُهُ وَيَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ، لِأَنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرَيْنِ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْطَعُ التَّتَابُعَ وَيُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ، لِأَنَّ فِطْرَهُ بِالْمَرَضِ ضَرُورَةٌ وَبِالسَّفَرِ عَنِ اخْتِيَارٍ، وَلِذَلِكَ إِذَا مَرِضَ فِي يَوْمٍ كَانَ صَحِيحًا فِي أَوَّلِهِ أَفْطَرَ، وَلَوْ سَافَرَ فِي يَوْمٍ كَانَ سَقِيمًا فِي أَوَّلِهِ لَمْ يُفْطِرْ. وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ فِي تَضَاعِيفِ صِيَامِهِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَبْنِي فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَسْتَأْنِفُ فَفِي الِاسْتِئْنَافِ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ كَالْمَرِيضِ. وَالثَّانِي: يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمَرَضِ يَصِحُّ، وَمَعَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا أَعْذَارُ الزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّلَ مُدَّةَ صِيَامِهِ زَمَانٌ لَا يَجُوزُ صِيَامُهُ مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، فَهَذَا قَاطِعٌ لِلتَّتَابُعِ وَمُوجِبٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ، وَهَكَذَا لَوْ تَخَلَّلَ صِيَامَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ قُطِعَ التَّتَابُعُ، فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قُطِعَ التَّتَابُعُ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِصِيَامِهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ جَوَازَ صِيَامِهَا فِي كَفَّارَةِ تَمَتُّعِهِ، لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صِيَامِهَا، وَقَوْلِهِ: " إِنَّهَا أَيَّامُ أكلٍ وشربٍ وبعالٍ، فَلَا تَصُومُوهَا " فَإِنْ مَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، كَانَ غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَإِنْ جَوَّزَ صِيَامَهَا لِلْمُتَمَتِّعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَامَ تَطَوُّعًا لِغَيْرِ سَبَبٍ، وَفِي جَوَازِ صِيَامِهَا بِسَبَبٍ مُوجِبٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ كَالْمُتَمَتِّعِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 331 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُجْزِئُ لِأَنَّ صِيَامَ التَّمَتُّعِ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامِ الْحَجِّ، وَصِيَامَ غَيْرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّتَابُعَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَمْ يَمْنَعِ الْفِطْرُ فِي تَضَاعِيفِهَا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّتَابُعَ فِيهَا شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ كَانَ الْفِطْرُ فِيهَا بِالْحَيْضِ قَاطِعًا لِلتَّتَابُعِ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِهِ في كفارة القتل، لأن لتحرز مِنْهُ بِصِيَامِهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ أَفْطَرَ فِيهَا بِمَرَضٍ، كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَفِطْرِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هُجُومِ الْمَرَضِ غير ممكن، وكذلك يكون حكم فطره السفر وَالْجُنُونِ، كَحُكْمِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ، وَلَا يُجْزِئُ صَوْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا بِنْيَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَتُجَدَّدُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 332 بَابُ الْوَصِيَّةِ بِكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالزَّكَاةِ (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ لَزِمَهُ حَقُّ الْمَسَاكِينِ فِي زكاةٍ أَوْ كفارةٍ يمينٍ أَوْ حَجٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ يُحَاصُ بِهِ الْغُرَمَاءُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا أَخَصُّ الْحُقُوقِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ الْكَفَنُ وَمؤونَةُ الدَّفْنِ يُقَدَّمُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) {النساء: 11) وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَفْسُ الْمَيِّتِ معلقةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى " وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ وَالنُّذُورِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ جَمِيعُهَا بِالْمَوْتِ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ وَمَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ هَذَا فَأَسْقَطَ بِالْمَوْتِ مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُسْقِطْ بِهِ مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ فإذا تقررت هذه الجملة لم يحل حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ، فَجَمِيعُ أَرْبَابِهَا أُسْوَةٌ فِي التَّرِكَةِ، إِنِ اتَّسَعَتْ لَهَا قُضِيَ جَمِيعُهَا، وَإِنْ ضَاقَتْ عَنْهَا تَحَاصُّوهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ كَالرَّهْنِ، وَالْعَبْدِ الْجَانِي، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعَيْنَانِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعَيْنِ الَّتِي تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكُوا فِيهَا بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثالث: أن يكون بَعْضُ الْحُقُوقِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ، وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقًا بالعين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 333 فَيُقَدَّمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حقين، وتفرد صاحب الذمة بأحدهما. (فصل:) الحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ كَالْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ تَلَفِ الْحَالِ وَالنُّذُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ، فَإِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ لِجَمِيعِهَا قُضِيَتْ، فَإِنْ فَضُلَ عَنْهَا شَيْءٌ كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَإِنِ اسْتَوْعَبَتِ التَّرِكَةَ فَلَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ عَلَى الْحُقُوقِ بِالْحِصَصِ، فَإِنْ كَانَ مَا خَرَجَ بِقِسْطِ الْحَجِّ يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ من ميقات بلده أخرج عنه وإن لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ وَتَدَبَّرَ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْيِيرٌ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ إِذَا ضَاقَ قِسْطُهُ عَنْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَعَادَ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ، كَالزَّكَاةِ فِي نِصَابٍ مَوْجُودٍ وَالنَّذْرِ فِي عِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ الصَّدَقَةِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ الْأَعْيَانُ اخْتَصَّتْ كُلُّ عَيْنٍ بِالْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا، وَإِنِ اتَّفَقَتْ قُسِّطَتْ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالذِّمَّةِ وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِالْعَيْنِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. (فَصْلٌ:) وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُجْمَعَ فِي تَرِكَتِهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُخْتَصَّةً بِالذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْعَيْنِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ فَيُقَدَّمَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: إنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى " وَلِأَنَّهَا حُقُوقٌ لَا تَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ السَّاقِطَةِ بِالْإِبْرَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 أَحَدُهُمَا: إنَّ نُفُوسَ الْآدَمِيِّينَ أَشَحُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ أَسْمَحُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ لَهَا أَبْدَالًا وَأَسْقَطَهَا بِالشُّبَهَاتِ. وَالثَّانِي: إنَّ مُسْتَحِقِّيهَا مُتَعَيَّنُونَ؟ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَمَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ أَوْكَدُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ كِلَا الْحَقَّيْنِ سَوَاءٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَتُقَسَّطُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْحَقَّيْنِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ اخْتَصَّتْ كُلُّ عَيْنٍ بِمُسْتَحَقِّهَا، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى وجهين: أحدهما: أن يَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ يُقَدِّمُ فِيهَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا فِي أيديهم. (مسألة:) قال الشافعي: " فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ فِي كفارةٍ فَإِنْ حَمَلَ ثُلُثُهُ الْعِتْقَ أُعْتِقَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ أُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ ماله ". قال الماوردي: وهذا كما قال، إن مَاتَ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنْ كانت على الترتيب مثل كفارة وَالظِّهَارِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ أُخْرِجَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ الْعِتْقَ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ فَأُعْتِقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ تَرِكَتُهُ الْعِتْقَ صَارَ مُعْسِرًا بِهِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ؟ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَابَةُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْإِطْعَامِ وَإِنْ أَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ وَتَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِهِ تَأْكِيدًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَتَصِيرَ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَهُوَ بِهَا مرفهٌ عَلَى وَرَثَتِهِ، فإن وفى العتق من الثلث والأكمل مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلَا يُسَمِّيَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى التَّأْكِيدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى التَّأْثِيرِ وَالتَّرْفِيهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 335 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ قَرَنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ، صَارَ الْعِتْقُ فِي الثُّلُثِ، وَإِنْ قَرَنَ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَارَ الْعِتْقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا يُوصِيَ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَقَلَّ لأمرين مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ فَإِنْ عَدَلَ الْوَارِثُ إِلَى أَعْلَاهُمَا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمَا إِلَى الْعِتْقِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِي التَّكْفِيرِ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ فَاسْتَحَقَّ التَّخْيِيرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي وِلَايَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِتْقَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا أَوْجَبَهُ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزِ الْعِتْقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِجَمِيعِهَا وَلَهُ إِسْقَاطُ وُجُوبِهَا بِإِخْرَاجِ أَحَدِهَا أَجْزَأَ، وَإِنْ وَصَّى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مِمَّا يُكَفِّرُ بِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُوصِ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ إِذْكَارًا أَوْ تَوْكِيدًا، وَإِنْ عَيَّنَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ مَا عَيَّنَهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْإِطْعَامَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ فَيُكَفِّرُ عَنْهُ بِالْإِطْعَامِ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الثُّلُثِ فَيَصِيرَ بِالْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِالْكِسْوَةِ وَهُوَ فَوْقَ الْإِطْعَامِ وَدُونَ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَلْ يَصِيرُ قِدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ بِذَلِكَ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِالْعِتْقِ فَيَكُونَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مِنَ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ. وَفِي قَدْرِ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي الثُّلُثِ أَيْضًا، فَيَصِيرُ جَمِيعُ قِيمَةِ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنِ امْتَنَعَ لَهُ الثُّلُثُ أُعْتِقَ عَنْهُ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ بطلب الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ، وَأُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيِّمَ قِيمَةَ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ جَمِيعَ الْعِتْقِ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُعَوَّلُ مِنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ يَجْعَلُ فِي الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ، وَيَكُونُ قَدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 336 مُسْتَحَقًّا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِاسْتِحْقَاقِ إِخْرَاجِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ، وَكَانَ فِي قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَا يَسْتَكْمِلُ بِهِ قِيمَةَ الْعِتْقِ أُعْتِقَ عَنْهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصَايَا دُونَ الْفُرُوضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 337 بَابُ كَفَّارَةِ يَمِينِ الْعَبْدِ بَعْدَ أَنْ يُعْتَقَ (مسألة:) قال الشافعي: " لَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَالًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا لم يملكه السَّيِّدُ مَالًا أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَالِ وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْمَالِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ سَوَاءٌ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ أَوْ لَمْ يُحْكَمْ لِأَنَّهُ محجورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُ وَإِنْ ملك وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي غير موضع. فإن قيل: بالجديد أن لَا يَمْلِكَ لَمْ يُكَفِّرْ إِلَّا بِالصِّيَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِطْعَامٍ وَلَا كِسْوَةٍ وَلَا عِتْقٍ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ مَعَ مِلْكِهِ، وَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالْعِتْقِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَاءِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهِ وِلَايَةٌ وَلَا إِرْثٌ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي وَلَائِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُهُ مِنْ عِتْقٍ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ لَهُ أَوْ يَمُوتُ عَلَى رِقِّهِ، فَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ قَوْلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 338 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْعَبْدِ وَلَيْسَ بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ، لِأَنَّ مِلْكَ السَّيِّدِ لِمَالِ مُكَاتَبِهِ ضَعِيفٌ، فَضَعُفَ إِذْنِهِ مَعَهُ، وَمِلْكَهُ لِمَالِ عَبْدِهِ قَوِيٌّ فَقَوِيَ إذنه معه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَهُ بِإِذْنِهِ وَلَوْ صَامَ فِي أَيِّ حالٍ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا أَضَرَّ الصِّيَامُ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ وَحِنْثِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَيَحْنَثَ بِإِذْنِهِ فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ مُوَجَبِي الْكَفَّارَةِ عَنْ إِذْنِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَيَحْنَثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي خِدْمَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَحْنَثَ بِإِذْنِهِ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الصِّيَامِ بِإِذْنِهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِهِ وَيَحْنَثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي جَوَازِ صِيَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ بِإِذْنِهِ فَصَارَ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنَ الْحِنْثِ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إِذْنِهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ كَانَ إِذْنًا لَهُ بِالنَّفَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الْحِنْثِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِذْنِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّوْمِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ على ما فصلناه لم يحل مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي الضَّعْفِ كَالصَّيْفِ أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيهِ كَالشِّتَاءِ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ صَائِفًا يُؤَثِّرُ فِي ضَعْفِ الصَّائِمِ فَهُوَ الْمَمْنُوعُ مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ شَاتِيًا لَا يُؤَثِّرُ صِيَامُهُ فِي ضَعْفِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي صِيَامِهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي عَمَلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ فِي إِضْعَافِهِ، فَالْفِطْرُ أَنْشَطُ لِعَمَلِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَوَفُّرِهِ، فَإِنْ خَالَفَ الْعَبْدُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 339 إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَصَامَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَقِفُ انْعِقَادُهَا عَلَى إِذْنِهِ فَصَحَّتْ، وَإِنْ جَازَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهَا كَالْحَجِّ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَنِثَ ثُمَّ أَعْتَقَ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ حُرٍّ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مالكٌ وَلَوْ صَامَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَوْمَ حَنِثَ حُكْمُ الصِّيَامِ (قَالَ المزني) رحمه الله قد مضت الحجة أن الحكم يوم يكفر لا يوم يحنث كما قال إن حكمه في الصلاة حين يصلي كما يمكنه لا حين وجبت عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ حَلَفَ فِي حَالِ رِقِّهِ ثُمَّ حَنِثَ وَأُعْتِقَ فَلَا يَخْلُو حَالُ حِنْثِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ. فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَهُوَ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْحُرِّ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ حُرٌّ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَفَّرَ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ كَانَ إِطْعَامًا أَوْ عِتْقًا، وَإِنْ حَنِثَ فِي حَالِ رِقِّهِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أُعْتِقَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ مُعْسِرًا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ، مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْأَدَاءِ، أَوْ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ حَالِ الْأَدَاءِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّيَامِ إِلَى الْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ، كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عِنْدَ تَكْفِيرِهِ حُرٌّ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ الْمُعْسِرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ عِنْدَ الْوُجُوبِ لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ أَجْزَأَهُ فَلَزِمَهُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْحُكْمِ بَعْدَ عِتْقِهِ لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ فَصَارَ فِي مَحْصُولِ تَكْفِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ. وَالثَّانِي: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 340 وَالثَّالِثُ: إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْ بالصيام. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَنِصْفُهُ عبدٌ وَنِصْفُهُ حرٌّ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ مالٌ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ مِمَّا فِي يديه لنفسه (قال المزني) رحمه الله إنما المال لنصفه الحر لا يملك منه النصف العبد شيئاً فكيف يكفر بالمال نصف عبدٍ لا يملك منه شيئاً فأحق بقوله أنه كرجلٍ موسرٍ بنصف الكفارة فليس عليه إلا الصوم وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا حَنِثَ عَنْ نِصْفِهِ حُرٍّ وَنِصْفِهِ عَبْدٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَامَ بِالْإِعْسَارِ مَعَ كَمَالِ حُرِّيَّتِهِ كَانَ صِيَامُهُ مَعَ تَبْعِيضِ الْحَرِيَّةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مُوسِرًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: كَفَّرَ بِالْمَالِ فَقَلَبَ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَفَّارَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْجَوَابَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَسَاعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِيمَا عَدَا الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ حُرًّا مَمْلُوكًا كَنُقْصَانِ التَّكْفِيرِ، إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْإِطْعَامِ وَعُدِمَ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ كَعَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، إنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، مَعًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ وَإِنْ غَلَبَ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامٌ) {المائدة: 89) وَهَذَا واحد فَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ، وَلِأَنَّ تَكْفِيرَ الْحُرِّ الْمُوسِرِ بِالْمَالِ وَتَكْفِيرَ الْعَبْدِ الْقِنِّ بِالصَّوْمِ، فَلَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ، إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَرِيَّةِ مِنْ تَكْفِيرٍ بِالْمَالِ، أَوْ يَغْلِبَ حُكْمُ الرِّقِّ فِي تَكْفِيرِه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 341 بِالصِّيَامِ، أَوْ بِبَعْضِ تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبْطَالِ التَّبْعِيضِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَغْلِيبُ أَحَدِهَا فَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَرِيَّةِ عَلَى الرِّقِّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا تَغَلَّبَ حُرِّيَّةُ بَعْضِهِ فِي السَّرَايَةِ إِلَى عِتْقِ جَمِيعِهِ تَغَلَّبَ حُكْمُهَا فِي تَكْفِيرِهِ. وَالثَّانِي: إنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ أَصْلٌ، وَبِالصِّيَامِ بَدَلٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِمَنْ فَرْضُهُ الصِّيَامُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ فَرْضُهُ الْمَالُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ فَكَانَ تَغْلِيبُ مَا أَوْجَبَ الْأَصْلُ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ مَا أَوْجَبَ الْبَدَلُ مِنَ الصِّيَامِ، أَمَّا تَغْلِيبُ الرِّقِّ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلِأَنَّ تَبْعِيضَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ أَغْلَظِ حُكْمَيْهِ، فَكَانَ أَغْلَظُهُمَا مِنَ الْكَفَّارَةِ حُكْمَ الْجِزْيَةِ، وَأَغْلَظُهُمَا فِيمَا عَدَاهَا حُكْمَ الرِّقِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ أَنَّ نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ كَنُقْصَانِ الْكَفَّارَةِ، فَهُوَ أَنَّ نُقْصَانَ الْكَفَّارَةِ مُفْضٍ إِلَى التَّبْعِيضِ فَسَقَطَ، وَنُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الْكَفَّارَةِ، فَافْتَرَقَا في النقض لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمُوجَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَبِاللَّهِ التوفيق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 342 باب جامع الأيمان (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا كَانَ فِي دارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ مَكَانَهُ وَإِنْ تَخَلَّفَ سَاعَةً يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا عَقِيبَ يَمِينِهِ بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ القُدْرَة عَلَيْهِ حَنِثَ، سَوَاءٌ قَلَّ مُقَامُهُ، أَوْ كَثُرَ وَشَرَعَ فِي إِخْرَاجِ رِجْلِهِ، أَوْ لَمْ يَشْرَعْ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَقَامَ بَعْدَ يَمِينِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً حَنِثَ، وَإِنْ أَقَامَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى إِلَّا بِاسْتِكْمَالِ هَذَا الزَّمَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ رَحْلِهِ وَجَمْعِ مَتَاعِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ لِغَيْرِ ذَلِكَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ بِإِخْرَاجِ مَتَاعِهِ مُفَارِقٌ لِحُكْمِ السُّكْنَى، وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: قَدْ حَنِثَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ، وَلَا يَبَرُّ أَنْ يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى السُّكْنَى قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُقَامِ فِيهَا سُكْنَى لِاسْتِصْحَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِهِ فَحَنِثَ لِانْطِلَاقِ اسْمِ السَّكَنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِذَا بَادَرَ بِالْخُرُوجِ فَهُوَ تَارِكٌ وَلَا يَكُونُ تَرْكُ الْفِعْلِ جَارِيًا مَجْرَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، فَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: قَدْ وَافَقْتُمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا أُقِيمُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَلَبِثَ فِيهَا بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ كَذَلِكَ، إِذَا حَلَفَ لَا يُسْكِنُهَا، لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا سُكْنَى وَالسُّكْنَى فِيهَا مقامٌ، وَيَتَحَرَّرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا فَيُقَالُ: إِنَّ مَا حَنِثَ بِهِ فِي الْمُقَامِ حَنِثَ بِهِ فِي السُّكْنَى قِيَاسًا عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَعَ مَالِكٍ وَعَلَى مَنْ أَمْسَكَ عَنْ جَمِيعِ رَحْلِهِ وَقِيَاسُهُ مَعَ أبي حنيفة. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " فَيَخْرُجُ بِبَدَنِهِ مُتَحَوِّلًا وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعِهِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ ليس يسكنى ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 343 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا بِمَاذَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَبَرُّ إِذَا انْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مذهب مالك إنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ مَالِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ لَا يَبَرُّ، حَتَّى يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ وَمَالِهِ؟ فَمَتَّى خَلَّفَ أَحَدَهَا حَنِثَ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إنَّ بِرَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَقْلِ بَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يَنْقُلَ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَإِنْ خَلَّفَ فِيهَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي سُكْنَاهَا بَرَّ، وَإِنْ خلف ما يستقل به في سكانها حَنِثَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي أَنَّ الْبِرَّ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ رَجُلًا بِبَدَنِهِ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى السُّكْنَى عِنْدَهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ عرف السكنى، فصار العيال والمال من جملة السكنى. وَالثَّانِي: إنَّ مَنْ خَلَّفَ عِيَالَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِهِ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى دُكَّانِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ لَا يُشَارُ بِسُكْنَاهُ إِلَى مَكَانِهِ وَيُشَارُ بِهِ إِلَى دَارِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِيَالِهِ وَمَالِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {رَبَّنَا إِنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) {إبراهيم: 37) فَكَانَ بِالشَّامِ وَوَلَدُهُ وَأُمُّهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُكْنَى الشَّامِ وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ فِي غَيْرِهَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا بَعْدَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ، لِبَقَاءِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ لَوَجَبَ إِذَا سَافَرَ بِبَدَنِهِ أن يكون كالمقيم في المنع من قصره وفطره، فَلَمَّا أُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ السَّفَرِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الِانْتِقَالِ، وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ كَانَ كَالْمُسْتَوْطِنِ لَهَا فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ وَمَالُهُ فِي غَيْرِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَا مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَكُتُبِي بمكة أفتراني ساكن بِمَكَّةَ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ يَمِينَهُ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالضَّيْفِ فَهُوَ أَنَّهُ نَزَلَهَا ضَيْفًا، فَلَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى، وَإِنْ كَانَ مَعَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ السُّكْنَى فَكَانَ اخْتِلَافُ الِاسْمَيْنِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 344 لِاخْتِلَافِ الْمَقْصِدَيْنِ مُوجِبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ، وَبِمَثَلِهِ يُجَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمُ الثَّانِي مِنَ الْخَارِجِ إِلَى دُكَّانِهِ وَبُسْتَانِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَرْطِ بِرِّهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبِرًا بِتَعْجِيلِ خُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ مَمْنُوعًا، فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْخُرُوجِ، إِمَّا لِحَبْسِهِ فِي دَارِهِ الْمُغْلَقِ أَبْوَابُهُ، أَوْ لِتَقْيِيدِهِ وَإِمْسَاكِهِ، أَوْ لِزَمَانَتِهِ، وَهُوَ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهَا مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ مَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى عَجْزِهِ وَمَنْعِهِ، لِأَنَّ وُجُودَ الْمُكْنَةِ شَرْطٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَخَرَّجَ فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا آخَرَ إنَّهُ يَحْنَثُ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حَنْثِ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا عَلَّلْنَا. وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ فَتَوَقَّفَ لِلُبْسِ ثِيَابِهِ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُ فِي الْخُرُوجِ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ تَوَقَّفَ لِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَقَّفَ لِطَهَارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ حَنِثَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْهَا فَاتَتْهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَكَانَ أَوْكَدَ مِنْ مَنَعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَوْ تَوَقَّفَ فِيهَا لِغَلْقِ أَبْوَابِهِ، أَوْ إِحْرَازِ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ تَلَفَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِنَابَةِ أَمِينٍ فِيهِ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي ذَلِكَ شُرُوعٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ إنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ منعٌ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ وَارْتَفَعَتْ عَوَارِضُ الْمَنْعِ حَنِثَ بِقَلِيلِ الْمُقَامِ وَكَثِيرِهِ فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِهِ بَابَانِ يَقْرُبُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَبْعُدُ مِنَ الْآخَرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْخُرُوجِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَبْعَدِهِمَا، لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ وَإِنْ بَعُدَ مَسْلَكُهُ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى عُلُوِّهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ سَطْحِهِمَا، وَلَهُ بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ حَنِثَ، لِأَنَّهُ بِالصُّعُودِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَابِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِالصُّعُودِ لِلْخُرُوجِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لِنَقْلِ عِيَالِهِ، أَوْ مَالِهِ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الْخُرُوجِ لِنَقْلِ أَهْلٍ، أَوْ رحل سَاكِنًا، فَإِنْ لَبِثَ بَعْدَ الْعَوْدِ لِغَيْرِ نَقْلِ أَهْلٍ أَوْ رَحْلٍ حَنِثَ، قَلَّ زَمَانُ لُبْثِهِ أَوْ كَثُرَ، وَيُرَاعَى فِي لُبْثِهِ لِنَقْلِ الرَّحْلِ وَالْأَهْلِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ، وَلَا اسْتِعْجَالٍ. فَإِنْ قَالَ: " أَرَدْتُ بِيَمِينِي لَا سَكَنْتُ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا " فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ، حُمِلَتْ عَلَى مَا نَوَاهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي يَحْمِلُ فِيهِ عَلَى نِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ حُمِلَ عَلَى التَّأْبِيدِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ خَصْمٍ فِيهِ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَحْمُولًا عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَوْ قَالَ " لَا سَكَنْتُهَا يَوْمًا، كَانَتْ مُعَلَّقَةً إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ مِنْ غَدِهِ، وَلَوْ قَالَ " لَا سَكَنتهَا يَوْمِي هَذَا " انْقَضَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 345 من يومه، ليكون في الأولة مُسْتَوْفِيًا لِلْيَوْمِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُسْتَوْفِيًا لِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ وَهُوَ ساكنٌ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا سَاعَةً يُمْكِنُهُ التَّحْوِيلُ عَنْهُ حَنِثَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُسَاكَنَةُ فَهِيَ الْمُفَاعَلَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَكْثَرَ، فَإِذَا حَلَفَ " لَا سَاكَنْتُ فُلَانًا " فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَا فِي مَسْكَنٍ واحدٍ، وَبَرَّ الْحَالِفُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ، وَبَقِيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، بَرَّ وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ الْحَالِفُ بَرَّ. وَإِنْ خَرَجَا مَعًا كَانَ أَوْكَدَ فِي الْبِرِّ، وَإِنْ بَقِيَا فِيهَا مَعًا، حَنِثَ الْحَالِفُ، وَإِنْ قَالَ " وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ مَعَ زَيْدٍ " فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ أَحْسَبُهُ " أَبَا الْفَيَّاضِ " إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الْحَالِفِ وَحْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ بَرَّ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: " وَاللَّهِ لَا سَكَنَ مَعِي زَيْدٌ كَانَ تَعَلُّقُ الْبِرِّ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَرَّ، وَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى نَفْسِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسَاكَنَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبَرُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعَهَا مَعْقُودَةٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا يَزُولُ الِاجْتِمَاعُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْبِرُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَرَّ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا سَاكَنْتُ زَيْدًا، وَلَا عَمْرًا، لَمْ يَبَرَّ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَرُّهُ بِخُرُوجِهِ دُونَهُمَا، أَوْ بِخُرُوجِهِمَا مَعًا دُونَهُ، وَفِي الأولى يبر بخروجه، أو بخروج أحدهما لأنه يَمِينَهُ فِي الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَفِي الثانية معقودة على الإفراد. والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " ولو كانا في بيتين فجعل بينهما حداً وَلِكُلِّ واحدٍ مِنَ الْحُجْرَتَينِ بابٌ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُسَاكَنَةٍ وَإِنْ كَانَا فِي دارٍ واحدةٍ وَالْمُسَاكَنَةُ أَنْ يَكُونَا فِي بيتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ حُجْرَتُهُمَا واحدةٌ وَمَدْخَلُهُمَا واحدٌ وَإِذَا افْتَرَقَ الْبَيْتَانِ أَوِ الْحُجْرَتَانِ فَلَيْسَتْ بمساكنةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نيةٌ فهو على ما نوى، فإن قيل ما الحجة في أن النقلة ببدنه دون متاعه وأهله وماله؟ قيل أرأيت إذا سافر أيكون من أهل السفر فيقصر؟ أو رأيت لو انقطع إلى مكة ببدنه أيكون من حاضري المسجد الحرام الذين إن تمتعوا لم يكن عليهم دمٌ؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 346 فإذا قال نعم فإنما النقلة والحكم على البدن لا على مالٍ وأهلٍ وعيالٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ، وَقَدْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ، أَوْ غَيْرَ مُجْتَمِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَكَانَا خَارِجَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا فَقُسِّمَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بِحَائِطٍ بُنِيَ فِي وَسَطِهَا، وَسَكَنَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ بِبَابٍ مُفْرَدٍ، يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُسَاكَنَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَاوِرَةٌ، وَإِنْ كَانَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مُجْتَمِعَيْنِ فَشَرَعَا فِي بِنَاءِ حائط بينهما، حنث، لأنها قَبْلَ كَمَالِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُتَسَاكِنَانِ وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ، فَسَكَنَ أَحَدَهُمَا فِي الْحُجْرَةِ، وَالْآخِرُ فِي الدَّارِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بَابُ الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ، حَنِثَ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاكِنَانِ، وَإِنِ انْفَرَدَتِ الْحُجْرَةُ بِبَابٍ غَيْرِ بَابِ الدَّارِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بَابُهَا إِلَى الدَّارِ مَسْدُودًا بَرَّ، وَإِنْ كَانَ بَابُهَا إِلَى الدَّارِ مَفْتُوحًا حَنِثَ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَتَانِ فَسَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِحْدَى الْحُجْرَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الدَّارُ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَّ، وَإِنْ كَانَ بَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الدَّارِ صَارَتْ كَالْخَانِ الَّذِي فِيهِ حُجَرٌ فَلَا يَحْنَثُ إِذَا سَكَنَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي حُجْرَةٍ مِنَ الْخَانِ، كَذَلِكَ الدَّارُ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ مَعَ أَحَدِهِمَا، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى، إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى تَنْفَرِدَ الْحُجْرَةُ عَنِ الدَّارِ بِبَابٍ لِلدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ قَطْعِ مَا بَيْنَ الْحُجْرَةِ وَالدَّارِ. وَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَصَّ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً، حَنِثَ لِأَنَّهَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَإِنِ اعْتَزَلَا الدَّارَ، وَتَفَرَّدَا بِالْبَابَيْنِ مِنْهَا بِبَابٍ يَغْلِقُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، بَرَّ وَصَارَا كَسَاكِنَيْ بَيْتَيْنِ مِنْ خَانٍ جَامِعٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهُ، كَذَلِكَ هَذِهِ الدَّارُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلَا الدَّارَ، حَنِثَ وَلَوْ كان الدَّارُ وَاحِدَةً، فَسَكَنَ أَحَدُهُمَا فِي عُلُوِّهَا، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي سِفْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَدْخَلُهُمَا وَمَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا حَنِثَ، وَإِنِ انْفَرَدَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بِمَدْخَلٍ وَمَخْرَجٍ، وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسِّفْلِ بر. (فصل:) قال الشافعي: " إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى " يُرِيدُ بِذَلِكَ إنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنَ اعْتِزَالِهِمَا فِي حُجْرَتَيْنِ، أَوْ بَيْتَيْنِ مِنْ دارٍ، إذا كان يَمِينُهُ مُطْلَقَةً عَلَى الْمُسَاكَنَةِ، فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِنِيَّةِ أَلَّا يُجَاوِرَهُ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ فِي قَبِيلَةٍ، أَوْ فِي بلدٍ كَانَتْ يَمِينُهُ مَحْمُولَةً عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَا يَبَرُّ بِانْفِرَادِهِمَا فِي حُجْرَتَيْنِ مِنْ دارٍ، ثُمَّ ذَكَّرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْبَدَنِ دُونَ الْعِيَالِ، وَالْمَالِ مُزِيلٌ لِحُكْمِ السكنى، والمساكنة وقد ذكرناه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَرَقي فَوْقَهَا لَمْ يحنث حتى يدخل بيتاً منها أو عرضتها ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 347 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَرَقي عَلَى سَطْحِهَا وَالسَّطْح غَيْرُ مُحْجِزٍ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ احْتِجَاجًا، بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا، وَإِنَّ سُورَهَا مُحِيطٌ بِهِ فَأَشْبَهَ قَرَارَهَا. وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: إنَّ السَّطْحَ حَاجِزٌ فَأَشْبَهَ سُورَهَا، فَصَارَ الرَّاقِي عَلَيْهِ كَالرَّاقِي عَلَى السُّورِ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، بِارْتِقَائِهِ عَلَى السُّورِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِارْتِقَائِهِ عَلَى السَّطْحِ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، يقطع سارقه، وما فوق السطح ليس بمحرز، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ الدَّارِ فِي الْحِنْثِ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا يَبْطُلُ بِارْتِقَائِهِ عَلَى سُورِهَا. وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ مُحِيطٌ بِهَا كَالسُّورِ فَصَحِيحٌ، لَكِنْ مَا فَوْقَ السَّطْحِ جارٍ مَجْرَى مَا وَرَاءَ السُّورِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ تَحْجِيزٌ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَانِعٍ كَالْقَصَبِ، وَمَا ضَعُفَ مِنَ الْخَشَبِ، فَلَا يَحْنَثُ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَانِعًا بِبِنَاءٍ يَمْتَنِعُ بِمِثْلِهِ وَيَتَحَرَّزُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حِنْثِهِ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّ إِحَاطَةَ السَّطْحِ بِالدَّارِ تَحْجِزُ عَمَّا فَوْقَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ السُّتْرَةَ مُحِيطَةٌ بِالدَّارِ، فَأَشْبَهَتِ السُّورَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ طَرِيقَةُ أبي الغياض، إِنْ كَانَتِ السُّتْرَةُ عَالِيَةً يَحْجِزُ مِثْلُهَا، لَوْ كان في العرضة حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتِ السُّتْرَةُ قَصِيرَةً لَا يَحْجِزُ مثلها، لو كان في العرضة، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّطْحِ غُرْفَةٌ فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ، وَلَوْ نَزَلَ مِنَ السَّطْحِ إِلَى مَرْقَاةٍ مِنْ دَرَجَتِهَا الدَّاخِلَةِ فِيهَا، حَنِثَ. وَلَوْ صَعِدَ مِنْ دَرَجِ الدَّارِ إِلَى سَطْحِهَا، وَالدَّرَجَةُ خَارِجَ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْقُودَةٍ، فَإِنْ لم يدخل فِي سُورِ الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي سُورِ الدَّارِ، حَتَّى تَجَاوَزَتْهُ فِي الدُّخُولِ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ السُّورِ لَمْ يحنث، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 348 وَإِنْ رَقِيَ عَلَى شَجَرَةٍ خَارِجَ الدَّارِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدَّارِ، وَعَدَلَ عَنْ أَغْصَانِهَا الدَّاخِلَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ صَارَ فَوَقَ أَغْصَانِهَا الدَّاخِلَةِ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَتِ الْأَغْصَانُ فَوْقَ السَّطْحِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ السَّطْحِ حَنِثَ، وَلَوْ جَلَسَ خَارِجَ الدَّارِ فِي مَاءٍ يَجْرِي إِلَى الدَّارِ، فَحَمَلَهُ الْمَاءُ إِلَيْهَا حَنِثَ، وَصَارَ الْمَاءُ كَالدَّابَّةِ، إِذَا رَكِبَهَا فَأَدْخَلَتْهُ الدَّار حَنِثَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِمَا دَاخِلًا، إِلَى الدَّارِ، وَلَوْ رَقِيَ عَلَى سُورِهَا فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ، إِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، لِأَنَّ دُخُولَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَوْ أَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ بَابِ الدَّارِ دُونَ الْأُخْرَى، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكْمُلْ، وَلَوْ ثَقَبَ حَائِطَ الدَّارِ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا مِنْ ثُقْبِهَا، حَنِثَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا مِنْ بَابِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا فَإِنْ نَزَعَ أَوْ نَزَلَ مَكَانَهُ وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَحْنَثُ فِيهِ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَاسْتَدَامَتِهِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ السُّكْنَى، وَاللِّبَاسُ، وَالرُّكُوبُ، وَالْغَصْبُ، وَالْجِمَاعُ، فَإِذَا حَلَفَ لَا سَكَنْتُ دَارًا حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ سُكْنَاهَا، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا، فَيَسْتَدِيمُ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ لِبَاسَهُ، وَحَنِثَ أَنْ يَكُونَ لَابِسَهُ، فَيَسْتَدِيمُ لِبَاسُهُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِنَزْعِهِ. وَلو حَلَفَ " لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، حَنِثَ " بِأَنْ يَبْتَدِئَ رُكُوبَهَا وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا، فَيَسْتَدِيمُ رُكُوبُهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالنُّزُولِ عَنْهَا، وَلَوْ حَلَفَ: لَا غَصَبْتُ مَالًا؛ حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِالْغَصْبِ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ غَاصِبًا، فَيَسْتَدِيمُ الْغَصْبُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهِ. وَلَوْ حَلَفَ، لَا جَامَعْتُ حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ الْجِمَاعَ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ مُجَامِعًا، فَيَسْتَدِيمُ الْجِمَاعُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالْإِخْرَاجِ. وَإِنَّمَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالِاسْتِدَامَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَحْنَثُ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَلَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ النِّكَاحُ وَالْإِحْرَامُ، وَالرَّهْنُ وَالشِّرَاءُ، وَالْوَقْفُ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَنْكِحُ، وَقَدْ نَكَحَ. وَأَنْ لَا يُحْرِمَ وَقَدْ أَحْرَمَ، أَوْ لَا يَرْهَنَ، وَقَدْ رَهَنَ، أَوْ لَا يَقِفَ وَقَدْ وَقَفَ، لَمْ يَحْنَثْ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا، وَإِحْرَامًا، وَرَهْنًا، وَشِرَاءً، وَوَقْفًا، لِأَنَّهَا عُقُودٌ. فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَتِهَا لِتَقَدُّمِ العقد فيها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 349 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ هَلْ تَكُونُ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الدُّخُولُ، وَالطِّيبُ وَالسَّفَرُ، هَلْ يَكُونُ الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ فَإِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ دُخُولَهَا، إِذَا كَانَ خَارِجًا، وَفِي حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَةِ دُخُولِهَا، إِذَا كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ إنَّهُ يَحْنَثُ، بِاسْتِدَامَةِ جُلُوسِهِ فيها لما كَمَا يَحْنَثُ بِاسْتِئْنَافِ دُخُولِهَا، كَالسُّكْنَى، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لو حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَأُكْرِهَ عَلَى دُخُولِهَا، فَإِنْ عَجَّلَ الْخُرُوجَ مِنْهَا بَعْدَ الْمُكْنَةِ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ حَنِثَ، فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ كَالدُّخُولِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، لَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ، لِأَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا تَطَيَّبْتُ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الطِّيبَ، وَفِي حَنِثِهِ بِاسْتِدَامَةِ طِيبٍ مُتَقَدِّمٍ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّطَيُّبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْدِثْ فِعْلًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّهُ إِنْ كَانَ أَثَرُ طِيبِهِ بَاقِيًا، حَنِثَ، وَإِنْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ دُونَ الْأَثَرِ لم يحنث، وهي طريقة أبي الغياض اعْتِبَارًا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ، وَزَوَالِهَا وَلَوْ حَلَفَ لَا يسافر، لم حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّفَرَ طَوِيلًا. كَانَ أَوْ قَصِيرًا فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَوْدِ مِنْ سَفَرِهِ، فَلَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي تَرْكِ السَّفَرِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِهِ فِي السَّفَرِ، فَيَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ مَسِيرِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي السَّفَرِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقِيمَ بِمَكَانِهِ مِنْ سَفَرِهِ، فَفِي حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُ كَالتَّوَجُّهِ، لِبَقَائِهِ عَلَى السَّفَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِكَفِّهِ عَنِ السَّيْرِ، فَصَارَ كَالْعَوْدِ. وَكُلُّ مَا لَمْ نُسَمِّهِ فَهُوَ معتبرٌ بِمَا سَمَّيْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فيكون ملحقاً بأشبههما به والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 350 (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا وَهُوَ بدويٌّ أَوْ قرويٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَيُّ بيتٍ مِنْ شَعَرٍ أَوْ أدمٍ أَوْ خيمةٍ أَوْ بيتٍ مِنْ حجارةٍ أَوْ مدرٍ أَوْ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ بيتٍ سَكَنَهُ حَنِثَ ". قَالَ المارودي: اعْلَمْ أَنَّ بُيُوتَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ. فَأَمَّا الْمُخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلِلْبَوَادِي بُيُوتُ النُّقْلَةِ مِنَ الْأَدَمِ، وَالشَّعْرِ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَجِعُونَ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ، فَيَسْكُنُونَ مِنَ الْبُيُوتِ مَا يَنْتَقِلُ مَعَهُمْ فِي النَّجْعَةِ مِنَ الْخِيَامِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَلِأَهْلِ الْقُرَى بُيُوتُ الِاسْتِقْرَارِ فَيَسْكُنُونَ مَا يَدُومُ ثُبُوتُهُ فِي أَوْطَانِهِمْ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ، فَهُوَ أَنَّ بُيُوتَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لِتَشْيِيدِهَا، وَقِسْمَةِ مَسَاكِنِهَا، مُخَالِفَةٌ لِبُيُوتِ أَهْلِ الْقُرَى فِي ذَهَابِهَا، وَاحْتِلَالٍ قَسْمِهَا، وَتَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْأَحْجَارِ وَالنُّورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِاللَّبِنِ، وَالطِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْخَشَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْقَصَبِ، وَاخْتِلَافُ الْعَادَاتِ، لَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَيْمَانِ وَجَمِيعُهَا بُيُوتٌ لِمَنِ اعْتَادَهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، حَنِثَ بِسُكْنَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدْ سُكْنَاهُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ طِينٍ أَوْ خَشَبٍ، أَوْ قَصَبٍ، مُحْكَمٍ يَدُومُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، وَلَا يَحْنَثُ أَنْ يَسْكُنَ بُيُوتَ الرُّعَاةِ مِنَ الْهَشِيمِ وَالْجَرِيدِ، وَالْحَشِيشِ، لِأَنَّهُ يَسْتَدْفِعُ بِهِ أَذَى وَقْتٍ مِنْ حرٍ أَوْ بردٍ، وَلَا يُسْتَدَامُ سُكْنَاهَا. فَأَمَّا إِنْ سَكَنَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا، لَمْ يَحْنَثْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ انْطِلَاقَ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمَا مَجَازٌ لَا حقيقةٌ. وَالثَّانِي: إنَّهُمَا لَا يُسْكَنَانِ فِي الْعُرْفِ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ لِسُكْنَاهُمَا. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ بُيُوتِ النُّقْلَةِ لِلْبَوَادِي وَبُيُوتِ الِاسْتِقْرَارِ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، إنَّ بُيُوتَ الِاسْتِقْرَارِ، مِنْ أَبْنِيَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِسُكْنَاهَا بَدَوِيًّا، كَانَ أَوْ قَرَوِيًّا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْطِلَاقُ اسْمِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا، وَوُجُودُ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا، فَاقْتَرَنَ بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا بُيُوتُ النُّقْلَةِ مِنْ خِيَمِ الشَّعْرِ، وَفَسَاطِيطِ الْأَدَمِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا الْبَدَوِيُّ، وَالْقَرَوِيُّ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، إِذَا كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 351 بدويا حنث بسكناها، لانطلاق اسم الحقيقية عَلَيْهَا وَوُجُودِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ قَرَوِيًّا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا، إِذَا كَانَ قَرَوِيًّا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِسُكْنَاهَا، وَحَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَهْلِ قُرًى عَرَبِيَّةٍ، يَسْكُنُ أَهْلُهَا بُيُوتَ الْمَدَرِ تَارَةً، وَبُيُوتَ الشَّعْرِ أُخْرَى، فَأَمَّا مَنْ لَا يَسْكُنُ إِلَّا بُيُوتَ الْمَدَرِ فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالْأَدَمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا لَوْ حلف لا يأكل رؤوساً، لم يحنث برؤوس الطير والجراد، حتى يأكل رأي النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَى جَمِيعِهَا اعْتِبَارًا، بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا لَمْ يَحْنَثْ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الْبَيْضِ عَلَيْهَا حَقِيقَةً، حَتَّى يَأْكُلَ مِنَ الْبَيْضِ مَا فَارَقَ بَائِضَهُ حَيًّا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ يَحْنَثُ الْقَرَوِيُّ بِسُكْنَاهَا، كَمَا يَحْنَثُ الْبَدَوِيُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْطِلَاقُ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: اقْتِرَانُ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالَ فِيهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَةِ الْحَالِفِ لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا حَنِثَ الْبَدَوِيُّ بِسُكْنَى بُيُوتِ الْمَدَرِ. وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَتِهِ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ عِرَاقِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ، أَنْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا حَنِثَ بِخُبْزِ الذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ وَعَادَتِهِ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ عَادَةُ الْحَالِفِ إِذَا وُجِدَتْ فِي غَيْرِهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْوَكَالَةِ عَادَةُ الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ الْخُبْزِ، وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَاشْتَرَى لَهُ حَبَّ الْأُرْزِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَأَكَلَ حَبَّ الْأُرْزِ حنث. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ فلانٌ فَاشْتَرَاهُ فلانٌ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامًا وَلَا نيةٌ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ قَدْ أَكَلَ طَعَامًا قَدِ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَعَمْرٌو، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ في صفقتين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 352 وَالثَّانِي: إِلْزَامٌ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى الشَّافِعِيُّ على اجتماعهما في الشراء حُكْمَ الصَّفْقَتَيْنِ فِي انْفِرَادِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّفْقَتَيْنِ فِي الْحِنْثِ. وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الشِّرَاءَ عَقْدٌ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ، لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِهِ وَاخْتَصَّ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي العرف بنصفه، فلم تكمل الصفة، فلم يَقَعِ الْحِنْثُ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ فِي الْأَيْمَانِ يَخْتَصُّ بِالْعُرْفِ. وَالثَّانِي: إنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَالِفُ بِشِرَائِهِ، فَإِنْ قَلَّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ لَهُ الْحِنْثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ، لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ زَيْدٍ، فَلَبِسَ ثَوْبًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بطعامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالشِّرَاءِ فِي صَفْقَتَيْنِ مُشَاعًا فَهُوَ أَنَّ كُلَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطَّعَامِ قَدِ اشْتَرَى زَيْدٌ نِصْفَهُ، بِعَقْدٍ تَامٍّ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَإِذَا كَانَ بعقدٍ واحدٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ، فَلَمْ يُكْمَلْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَهُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ وَالْأَحْكَامَ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي اعْتِبَارِ الْأَسْمَاءِ فَقَدِ افْتَرَقَا فِي غَيْرِهَا، فَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي الْأَيْمَانِ، وَاعْتُبِرَ الْمَعْنَى فِي الْأَحْكَامِ، فَصَارَ هَذَا الْفَرْقُ مَانِعًا مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا عَلَى سَوَاءٍ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى زَيْدٌ طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ، وَاشْتَرَى عَمْرٌو طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ. وَخَلَطَاهُ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ، فَفِي حِنْثِهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ بحالٍ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ الطَّعَامَيْنِ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ خارجٌ، فِي الْعُرْفِ عَنِ اسْمِ الِانْفِرَادِ، فَخَرَجَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْأَيْمَانِ، حَتَّى قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جُبْنًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَجُبْنًا لَمْ يَحْنَثْ، وَزَعَمَ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ: " أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَيْتًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَزَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ "، وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ سَهْوٌ مِنْ حَاكِيهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ " أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ خُبْزًا وَجُبْنًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَزَيْتًا، لَمْ يَحْنَثْ " وَرُدَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ حَنَّثَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه إِذَا اخْتَلَطَ الطَّعَامَانِ وَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقَدْرِ فأكل منهما أكثر من النصف حنثه، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ مِمَّا اشْتَرَاهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 353 زَيْدٌ، وَإِنْ أَكلَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، لَمْ يَحْنَثْ لِلِاحْتِمَالِ وَجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَكَلَ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَوَازِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إن كان الطعام مانعاً، كَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ، حَنِثَ بِأَكْلِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، لِامْتِزَاجِهِ، وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ لِأَنَّهُ كَالْمَانِعِ فِي الِامْتِزَاجِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا مِثْلَ التَّمْرِ، وَالرُّطَبِ، لَمْ يَحْنَثْ، حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ لِدُخُولِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُتَمَيِّزِ، وَانْتِفَائِهِ عَنِ الْمُمْتَزِجِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَوْ حَلَفَ عَلَى تَمْرَةٍ أَنْ لَا يَأْكُلَهَا فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ كَثِيرٍ. فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إِلَّا تَمْرَةً، لَمْ يَحْنَثْ " لِجَوَازٍ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ التَّمْرَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ وَرِثَهُ زَيْدٌ، أَوِ اسْتَوْهَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الشِّرَاءَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَلِكُ زَيْدٍ، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ فِي الشِّرَاءِ وَكِيلًا، فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَنَّثَهُ مَالِكٌ، لِأَنَّهُ مِنْ مِلْكِهِ، ولو توكل زيد لغيره فَاشْتَرَى طَعَامًا لِمُوَكِّلِهِ، حَنِثَ الْحَالِفُ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ زَيْدٌ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ، دُونَ الْمِلْكِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْحِنْثِ عَلَى نِيَّتِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فلانٍ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَبَاعَهَا فلانٌ حَنِثَ بِأَيِّ وجهٍ سَكَنَهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نيةٌ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَا كَانَتْ لفلانٍ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ ملكِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ عَلَى دَارِ زَيْدٍ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، وَلَا يَدْخُلَهَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ فَيَقُولَ لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى عَيْنِ الدَّارِ، وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى زَيْدٍ تَعْرِيفًا فَإِنْ دَخَلَهَا، وَهِيَ عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ حَنِثَ، بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْ بَاعَهَا زَيْدٌ حَنِثَ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ بِزَوَالِ مِلْكِ زَيْدٍ عَنْهَا، وَجَعْلُ إِضَافَتِهَا إِلَى زَيْدٍ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْيَمِينِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 354 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ، وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ وَالدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَصَارَ صَاحِبُهَا مَقْصُودًا، فَكَانَ بَقَاءُ مِلْكِهِ فِي الْيَمِينِ شَرْطًا. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا كَانَ دُخُولُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مِلْكِهِ شَرْطًا فِي حِنْثِهِ. وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُضَافَةٍ وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيَقَعُ بِهِمَا الْحِنْثُ مَعَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ، فَطَلَّقَهَا " زَيْدٌ حَنِثَ بِكَلَامِهَا، تَغْلِيبًا لِلْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ، كَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، الَّتِي لَزَيْدٍ، وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِدُخُولِهَا وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ زَيْدٍ، فَإِنْ قِيلَ: الزَّوْجَةُ تُوَالِي وَتُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ الْإِضَافَةِ عَلَى الْعَيْنِ. قِيلَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ، وَالْأَصْلِ بَاطِلٌ فِي الْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ: لَا دَخَلْتُ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي وَبَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَقُولَ لَا كَلَّمْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ بِكَلَامِهِ، إِذَا بَاعَهُ زَيْدٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي وَإِذَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سَقَطَ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى صِفَةٍ، كَانَتِ الصِّفَةُ تَعْرِيفًا وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا كَلَّمْتُ هَذَا الرَّاكِبَ، لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ رُكُوبِهِ شَرْطًا فِي حِنْثِهِ، وَحَنِثَ بِكَلَامِهِ رَاكِبًا، وَنَازِلًا لِأَنَّهُمَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ، كَذَلِكَ دَارُ زَيْدٍ وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُوَالَاةِ، وَالْمُعَادَاةِ. فَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ دُخُولَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ مَالِكِهَا، فَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبِرِّ، وَالْحِنْثِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ بِهِ، مُسْتَحِقُّ الْإِذْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ بِأَنْ يَقُولَ: لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ لِلدَّارِ، فَأَيُّ دارٍ دَخَلَهَا، وَزَيْدٌ مَالِكُهَا حَنِثَ بِدُخُولِهَا فَإِنْ بَاعَهَا زَيْدٌ بَعْدَ مِلْكِهِ لَهَا، فَدَخَلَهَا الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ، إنَّ عَدَمَ الْعَيْنِ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَوُجُودُ الْعَيْنِ فِي التَّعْيِينِ، أَوْجَبَ عَقْدَهَا عَلَى الْعَيْنِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ. كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا بِالصِّفَةِ، وَلَوِ اشْتَرَى هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوَيَّ، كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا بِالْعَيْنِ دُونَ الصِّفَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ هَرَوِيًّا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ قَلَّ سَهْمُ زَيْدٍ فِيهَا، أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَكْمُلْ وَإِنْ أَعَارَ زَيْدٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 355 دَارَهُ، أَوْ رَهَنَهَا حَنِثَ، بِدُخُولِهَا، لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مَلْكِ وَاقِفِهِ. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا اسْتَأْجَرَهَا زيد من مالكها، لم يحنث بدخولها لأن حقيقية الْإِضَافَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ بِهَذَا كُلِّهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، فَحِنْثُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَانْهَدَمَتْ حَتَى صَارَتْ طَرِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بدارٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَفَ، لَا يَدْخُلُ هذه الدار، فانهدمت وصارت عراصاً، فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ، وَصَارَ بَرَاحًا لَمْ يحنث. وقال أبو حنيفة: إِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الدَّارِ بَعْدَ انْهِدَامِهَا حَنِثَ، وَإِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الْبَيْتِ بَعْدَ انْهِدَامِهِ، لَمْ يَحْنَثْ فَوَافَقَ فِي الْبَيْتِ، وَخَالَفَ فِي الدَّارِ إِلَّا أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا، أَوْ يَجْعَلَ بُسْتَانًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَرْصَةِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعِمَارَةِ، كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ الْعِمَارَةِ كَمَا يَقُولُونَ هَذِهِ دِيَارُ عادٍ، وَدِيَارُ ثَمُودَ، وَدِيَارُ رَبِيعَةَ، وَدِيَارُ مُضَرَ، وَإِنْ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهَا، وَبَقِيَتْ عِرَاصُهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ النَّابِغَةُ: (يَا دَارَ مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأحد) وَقَالَ لَبِيَدٌ: (عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا ... بِمِنًى تأبد غولها فرجامها) (فماها داراً بعد أقواتها ... ) وَالْعَفَا: الدَّرْسُ، فَسَمَّاهَا دِيَارًا بَعْدَ دُرُوسِهَا، فَكَانَ بَقَاءُ الِاسْمِ عَلَى عَرْصهَا مُوجِبًا، لِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِدُخُولِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا فَأُدْخِلَ مِنْهُ إِلَى عَرْصَةٍ ضِمْنَهَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي بِنَاءٍ وَلَا صَارَ فِي عِمَارَةٍ فَكَذَلِكَ، إِذَا انْهَدَمَ جَمِيعُ بِنَائِهَا حَنِثَ بِدُخُولِ عَرْصَتِهَا. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ مَعَ الْبِنَاءِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْحِنْثِ بِذَهَابِ الْبِنَاءِ، كَالْبَيْتِ فَإِنْ قِيلَ: الْبَيْتُ لَا يُسَمَّى بَعْدَ انْهِدَامِهِ بَيْتًا، وَتُسَمَّى الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا بِطُلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتِلْكَ بُيُوتُّهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) {النمل: 52) فَسَمَّاهَا بَعْدَ الْخَرَابِ بُيُوتًا، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحِنْثِ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الْبَيْتِ، مَنَعَ مِنْهُ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الدَّارِ، كَمَا لَوْ بَنَى الْعَرْصَةَ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَنَا، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، وَلَمْ يُعَيِّنْهَا، فَدَخَلَ عَرْصَةَ دَارٍ قَدِ انْهَدَمَ بِنَاؤُهَا لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ إِذَا عينها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 356 وَتَحْرِيرُهُ إنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ، مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مَعَ وُجُودِ، التَّعْيِينِ كَالْبَيْتِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ فِي الْأَيْمَانِ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالْإِبْهَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ فَقَالَ: لَا جَلَسْتُ فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى سِرَاجًا، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ لَا جَلَسْتُ فِي هَذَا السِّرَاجِ إِشَارَةً إِلَى الشَّمْسِ حَنِثَ بِجُلُوسِهِ فِيهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا جَلَسْتُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِسَاطًا، وَلَوْ عَيَّنَ، فَقَالَ لَا جَلَسْتُ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ مُشِيرًا إلى الأرض فجلس عليها حنث فصارت التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَاطًا مَعَ الْإِبْهَامِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَرْصَةُ دَارًا مَعَ التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَارًا مَعَ الْإِبْهَامِ قُلْنَا: لَيْسَ يَفْتَرِقُ التَّعْيِينُ، وَالْإِبْهَامُ فِي حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ اسْمَ السِّرَاجِ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّمْسِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ، وَالتَّعْيِينِ، وَاسْمُ الْبِسَاطِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ، وَالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا جعل التعيين مقصوداً والاسم مستعاراً، فإن أُبْهِمَ الِاسْمُ اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ، دُونَ الْمَجَازِ الْمُسْتَعَارِ وَالتَّعْيِينِ فِي الدَّارِ تَوَجَّهَ إِلَى شَيْئَيْنِ جَمْعَهُمَا حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَهِيَ الْعَرْصَةُ وَالْبِنَاءُ، فَإِذَا ذَهَبَ الْبِنَاءُ زَالَ شَطْرُ الْعَيْنِ، فَارْتَفَعَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ إِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ دارٍ، وَلَا يَحْنَثُ فِي التَّعْيِينِ، إِلَّا بِدُخُولِ تِلْكَ الدَّارِ فَلَمَّا ارْتَفَعَ بِالْهَدْمِ حُكْمُ الْأَعَمِّ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِهِ حُكْمُ الْأَخَصِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ ينطلق عليها بعد انهدامها هو أَنَّ الِاسْمَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْهَدْمِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَيْمَانُ تُرَاعَى فِيهَا حَقَائِقُ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَانَتْ دَارًا فَاسْتُصْحِبَ اسْمُهَا اتِّسَاعًا، وَالْأَسْمَاءُ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ، بِالْحَالِ دُونَ مَا سَلَفَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا كَلَّمْتُ عَبْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتِقًا، ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَالتَّعْيِينُ يَفْسَدُ بِالْإِطْلَاقِ فِي الْإِبْهَامِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِدُخُولِهِ إِلَى صَحْنِهَا مِنْ هَدْمٍ فِي سُورِهَا، فَسَنَشْرَحُ مِنْ مَذْهَبِنَا فِيهِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ مَا انْهَدَمَ مِنْهَا، وَبَقِيَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ سُكْنَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَيَحْنَثَ بِدُخُولِهِ مِنَ الْمُسْتَهْدَمِ وَالْعَامِرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُمْنَعَ بِالْهَدْمِ مِنْ سُكْنَى الْبَاقِي، وَسُكْنَى الْمُسْتَهْدَمِ، فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ مَا بَقِيَ، وَلَا بِدُخُولِ مَا انْهَدَمَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ الْهَدْمُ مِنْ سُكْنَى مَا اسْتُهْدِمَ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى مَا بَقِيَ عَلَى عِمَارَتِهِ، وَلَمْ يُسْتَهْدَمْ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ الْمُسْتَهْدَمِ مِنْهَا، وَيَحْنَثُ بدخول الباقي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 357 مِنْ عَامِرِهَا، وَلَوِ انْهَدَمَتْ بُيُوتُهَا، وَبَقِيَ سُورُهَا، فَإِنْ كَانَ السُّورُ مَانِعًا لِعُلُوِّهِ حَنِثَ بِدُخُولِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ لِقِصَرِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخر فمن حلف لا يدخل الدار، ورقا عَلَى سَطْحِهَا أَنَّهُ يَحْنَثُ، إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ صَحِيحًا، لِأَنَّ السَّطْحَ مُمْتَنِعٌ بِسُكْنَى أَسْفَلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قِصر سُتْرَتِهِ مَانِعًا فَخَالَفَ الْبَاقِيَ مِنْ سُتْرَةِ الدَّارِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، فَبُنِيَتْ مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ كان البناء بتلك الْآلَةِ، أَوْ بِغَيْرِهَا لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ عَنْهَا. وَإِنْ أُعِيدَ بِنَاؤُهَا داراُ، لَمْ يَخْلُ أَنْ تُبْنَى بِتِلْكَ الْآلَةِ، أَوْ بِغَيْرِهَا، فَإِنْ بُنِيَتْ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ دَخَلَ غَيْرَ تِلْكَ الدَّارِ، وَإِنْ بُنِيَتْ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَفِي حِنْثِهِ بِدُخُولِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ يَجْعَلُهَا غَيْرَ تِلْكَ الدَّارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعَرْصَةَ، وَتِلْكَ الْآلَةَ تَجْعَلُهَا تِلْكَ الدَّارُ وَجَرَى تَغْيِيرُ بِنَائِهَا، مَجْرَى تَغْيِيرِ سُقُوفِهَا وَأَبْوَابِهَا. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فِي موضعٍ فَحَوَّلَ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَيَحْنَثَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ، لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أحدها: أن يطلق بيمينه فِي دُخُولِهَا، وَلَا يُسَمِّيَ مَوْضِعَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِهَا مِنْ بَابِهَا، وَغَيْرِ بَابِهَا، مِنْ ثُقْبٍ فِيهَا، أَوْ جدارٍ تَسَوَّرَهُ، حَتَّى دَخَلَهَا لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ فِي الْإِطْلَاقِ مقصورٌ عَلَى الدُّخُولِ، دُونَ الْمَدْخَلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ " لَا دَخَلْتُهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ " فَإِنْ دَخَلَهَا مِنْهُ حَنِثَ، وَإِنْ دَخَلَهَا مِنْ بَابٍ اسْتُحْدِثَ لها، لم يحنث، سواء فعل ذلك الباب مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُسْتَحْدَثِ، أَوْ تُرِكَ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِنْ نَقَلَ بَابَ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، حَنِثَ بِدُخُولِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَرَكَ عَلَى الْأَوَّلِ حَنِثَ بِدُخُولِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ الثَّانِي فَجَعَلَ الْبَابَ مُعْتَبَرًا بِالْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ دُونَ الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، دُونَ الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ، لِأَنَّ الْبَابَ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ الدُّخُولُ، وَالْخُرُوجُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ مِنَ الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ بَابِهَا، وَلَا يُشِيرُ إِلَى بَابٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 358 بِعَيْنِهِ، فَإِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا مِنْ جِدَارِهَا، أَوْ دَخَلَ مِنْ ثُقْبٍ فِي حَائِطِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ بَابِهَا الْمَوْجُودِ لَهَا وَقْتَ يَمِينِهِ حَنِثَ، وَإِنِ اسْتُحْدِثَ لَهَا بَابٌ غَيْرُهُ فَدَخَلَ مِنْهُ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى بَابٍ مَوْجُودٍ، فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ " لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ لَمْ يَحْنَثْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا وَبِهِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَابٌ لَهَا فَصَارَ دَاخِلًا مِنْ بَابِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ حَلَفَ " لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي لِزَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ، حَنِثَ بِدُخُولِهَا، فَيَكُونُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولًا عَلَى تعيين الباب دون إبهامه. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ رداءٌ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا أَوِ ائْتَزَرَ بِهِ أَوْ حَلَفَ لا يلبس سراويل فَائْتَزَرِ بِهِ أَوْ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِهِ فَهَذَا كُلُّهُ لبسٌ يَحْنَثُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نيةٌ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا، حَتَّى خَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاء، وَسَنَذْكُرُ مَا يَسره اللَّهُ تَعَالَى، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِالصَّوَابِ مَقْرُونًا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ، فَلَبِسَهُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِهَا، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا هُوَ رِدَاءٌ فَائتَزَرَ بِهِ، أَوْ قَطَعَهُ قَمِيصًا، أَوْ حَلَفَ لَا يلبس قميصاً، فارتدى به، أو قطعه سراويل أو حلف لا يلبس سراويل، فَاتَّزَرَ بِهِ، أَوْ حَوَّلَهُ مِنْدِيلًا، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ طَيْلَسَانًا، فَتَعَمَّمَ بِهِ، أَوْ قَطَعَهُ مَلْبُوسًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ يَمِينِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَيْنِ الثَّوْبِ، وَيُلْغِيَ صِفَتَهُ، وَصِفَةَ لُبْسِهِ، فَهَذَا يَحْنَثُ عَلَى أَيِّ حَالٍ لَبِسَهُ، وَعَلَى أَيِّ صفةٍ لَبِسَهُ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ، وَأَوْصَافِهِ اعْتِبَارًا، بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهِ، دُونَ صِفَتِهِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى صِفَةِ الثَّوْبِ وَصِفَةِ لُبْسِهِ فَيَحْنَثُ بِلُبْسِهِ إِذَا كَانَ عَلَى حَالِهِ، وَعَلَى الصِّفَةِ الْمُعْتَادَةِ فِي لُبْسِهِ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ جَعَلَ الْإِزَارَ قَمِيصًا، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ، وَلَا إِنْ جَعَلَ القميص سراويل، أو ارتدى به ولا أن جعل السراويل منديلاً، أو اتزر بِهِ، حَتَّى يَجْمَعَ فِي لُبْسِهِ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَعْهُودِ فِي لُبْسِهِ، اعْتِبَارًا بِمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَيْضًا عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَلَطَ فِيهِ الْكَلَامُ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَوَابُ وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيَقُولُ: لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، أو هذا القميص، أو هذا السراويل، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 359 فَيُغَيِّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، أَوْ يَلْبَسُهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَقَعُ بِهِ حِنْثُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ، فَإِنْ غير القميص سراويل أو ارتدى به أو غير السراويل مَنْدِيلًا، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ وَلِحُكْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ يَحْنَثُ بِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ صِفَةً لِلثَّوْبِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْحَالِفِ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ، لِأَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ: " هَذَا لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَبِسَهُ وَهُوَ غَيْرُ رِدَاءٍ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُزَنِيِّ، وطائفةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ، إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، وَلَا إِذَا لَبِسَهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ، فَإِنْ جعل الرداء قميصاً، أو القميص سراويل، وارتدى بالقميص، أو اتزر بالسراويل، لم يحنث، حق يتقمص بالقميص، ويتسرول بالسراويل وَيَرْتَدِيَ بِالرِّدَاءِ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَبَيْنَ لُبْسِهِ عَلَى عَادَتِهِ، حَتَّى حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ عَادَةِ لُبْسِهِ، وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ، ولأن المحرم ممنوع من لبس القميص، والسراويل، ولو ارتدى بالقميص واتزر بالسراويل، جَازَ وَلَمْ يُكَفِّرْ. وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحِنْثٍ عَلَى النَّفْيِ أَيْ لَا يَحْنَثُ بِهِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِكَلَامِهِ زَلَلٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا نَحْسُبُهُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى نَفْيٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يستثني النَّفْي مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَيسْتَثْني الْإِثْبَات مِنَ النَّفْيِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا قَالَهُ مِنَ الْحُكْمِ وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الثَّوْبِ حَنِثَ بِلُبْسِهِ، عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنِ اشْتَمَلَ بِهِ أَوِ ارْتَدَى أَوْ تَعَمَّمَ، أَوْ قَطَعَهُ قميصاً، أو سراويل حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى قَمِيصٍ لَمْ يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أَوِ ارْتَدَى بِهِ، وَلَمْ يَتَقَمَّصْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الثَّوْبِ وَالْقَمِيصِ بِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ عَامٌّ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَلْبُوسٍ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الثَّوْبِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ، وَاسْمَ الْقَمِيصِ خَاصٌّ، يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَمِيصِ، إِذَا غَيَّرَهُ فجعل سراويل، أَوْ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، إِذَا لُبِسَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنَ الِارْتِدَاءِ بِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِتَغْيِيرِ لُبْسِهِ، وَلَا بِتَخْيِيرِ قَطْعِهِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الثَّوْبِ إِذَا غُيِّرَ لِعُمُومِهِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْقَمِيصِ، إِذَا غُيِّرَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 360 لِخُصُوصِهِ وَمَنْ حَكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ غَيْرَ هَذَا حَرَّفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ شَرْحَهُ دَالٌّ عَلَى ما ذكرنا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ رجلٍ مَنَّ عَلَيْهِ فَوَهَبَهُ لَهُ فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا لَبِسَهُ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الَّذِي حلف عليه بعينه وإنما أنظر إلى مخرج اليمين ثم أحنث صاحبها أو أبره وذلك أن الأسباب متقدمةٌ والأيمان بعدها محدثةٌ قد يخرج على مثالها وعلى خلافها فأحنثه على مخرج يمينه أرأيت رجلاً لو كان قال وهبت له مالي فحلف ليضربنه أما يحنث إن لم يضربه؟ وليس يشبه سبب ما قال؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ابْتَدَأَ الْحَالِفُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا سَبَبٌ يَدْعُو إليه، فيقول مبتدأ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ كَلَامِهِ، أَوْ يَقُولُ: لَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ. فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ أَكْلِ طَعَامِهِ، أَوْ لَا لَبِسْتُ لَهُ ثَوْبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ لُبْسِ ثِيَابِهِ، أَوْ لَا رَكِبْتُ لَهُ دَابَّةً، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ رُكُوبِ دَوَابِّهِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يُخَالِفْنَا مَالِكٌ فِي شَيْءٍ. وَتَكُونُ الْيَمِينُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الِاسْمُ مِنْ خُصُوصٍ وَعُمُومٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْيَمِينَ أَسْبَابٌ دَعَتْ إِلَيْهَا مِثْلَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِإِحْسَانٍ أوصله إِلَيْهِ، أَوْ بِمَالٍ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، فَبَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْيَمِينِ فَيَقُولُ وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ لَكَ ثَوْبًا، وَلَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا هَلْ تَكُونُ الْيَمِينُ مَحْمُولَةً عَلَى السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَقْدِ الْمُتَأَخِّرِ، فذهب الشافعي وأبو حنيفة إِلَى أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْحَالِفِ فِي عُقُودِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ سَبَبِهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ دَوَابِّهِ، وَلَا بِأَكْلِ طَعَامِهِ. وَلَا بِدُخُولِ دَارِهِ. وَإِذَا حَلَفَ لَا شربت لك من عطش لم يحنث ليشرب غير الماء من الشراب ولا يلبس الثِّيَابِ وَلَا بِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي إِلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا الْمِنَّةَ عَامَّةً، حَنِثَ بِكُلِّ نَفْعٍ عَادَ إِلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا حَنِثَ بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَرُكُوبِ دَوَابِّهِ، وَسُكْنِ دَارِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ حَنِثَ بِكُلِّ أَقْوَالِهِ وَحَنِثَ إِنِ اسْتَظَلَّ بِجِدَارِ دَارِهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ السَّبَبِ. وَإِلْغَاءِ الْخُصُوصِ فِي الْيَمِينِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْعُرْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا بَعْضُ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ خُصُوصُهَا بِالْعُرْفِ إِلَى غَيْرِ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الاسم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 361 وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ، وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ وَجَبَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي الْأَيْمَانِ فَيَخُصُّ عُمُومَهَا بِالْعُرْفِ تَارَةً مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَيَتَخَطَّاهُ بِالْعُرْفِ تَارَةً مَعَ عَدَمِ الِاسْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَإِسْقَاطِ السَّبَبِ هُوَ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَقَدْ تَنْفَرِدُ الْيَمِينُ عَنْ سَبَبٍ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْيَمِينِ دُونَ السَّبَبِ لأمرين: أحدها: لِقُوَّةِ الْيَمِينِ عَلَى السَّبَبِ. وَالثَّانِي: لِحُدُوثِ الْيَمِينِ وَتَقَدُّمِ السَّبَبِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخُِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) وَلِأَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا، وَقَطَعَ كَلَامَهُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنْ أَرَادَهُ بِقَلْبِهِ وَقَرَنَهُ بِيَمِينِهِ فَلِأَنْ لَا تَنْعَقِدَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْيَمِينِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِالْقَلْبِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ ". وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى إِلْغَاءِ السَّبَبِ بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَالًا فَحَلَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِيَضْرِبَنَّ الْوَاهِبَ. حَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ مُخَالِفَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السَّبَبِ، وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ أَنْ لَا يُحَنِّثَهُ فِيهَا وَإِنْ لَمْ نَقُلْهُ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ اعْتِبَارِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْعُرْفِ جَازَ تَخَطِّي خُصُوصِهَا بِالْعُرْفِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنْ تَخْصِيصِهَا مُقَارَنٌ بِعَقْدِهَا فَجَازَ اعْتِبَارُهُ وَالْعُرْفُ فِي تَخَطِّي خُصُوصِهَا مُفَارِقٌ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ إِلَى مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ فَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ اعْتِبَارِ الْأَسَامِي وَالْمَعَانِي، وَأَحْكَامَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَتَجَاوُزِ الْأَسَامِي، وَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ فِي الْأَيْمَانِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي، فَوَقَفَتْ عَلَى اعْتِبَارِ الأسامي والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْتَ فلانٍ فدخل بيتاً سكنه فلانٌ بكراءٍ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ نَوَى مَسْكَنَ فلانٍ فَيَحْنَثَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 362 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَسْكَنَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ حَنِثَ، لِأَنَّهَا مَسْكَنٌ لَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا يَمْلِكُهَا زيدٌ حَنِثَ. سَوَاءٌ كَانَ يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُهَا. وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ يَمْلِكُ نِصْفَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا زيدٍ بِإِجَارَةٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يَحْنَثُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) {الأنفال: 5) وَكَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ: فَأَضَافَ الْبَيْتَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنَهُ. وَقَالَ تعالى: {اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) {الطلاق: 1) أَيْ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَضَافَهَا إِلَيْهِنَّ بِسُكْنَاهُنَّ لِأَنَّ مِلْكَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَلَا بِغَيْرِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ دُونَ مَالِكِهَا صَارَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ أَحَقَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْحِنْثِ أَلْزَمَ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَمْلَاكِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ تَقْتَضِي إِضَافَةَ الْمِلْكِ لِلرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ كَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْهُ لَهُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَكَنَ زَيْدٌ دَارَ عَمْرٍو. فَحَلَفَ رَجُلٌ أَلَّا يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ وَحَلَفَ آخَرُ لَا يَدْخُلُ دَارَ عَمْرٍو ثُمَّ دَخَلَهَا كُلُّ واحدٍ مِنَ الْحَالِفَيْنِ قَالُوا يَحْنَثَانِ جَمِيعًا فَجَعَلُوهَا كُلَّهَا دَارَ زَيْدٍ، وَجَعَلُوهَا كُلَّهَا دَارَ عَمْرٍو وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّارِ لِزَيْدٍ وَكُلُّهَا لِعَمْرٍو، فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَى أَحَقِّهِمَا بِهَا وَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ السَّاكِنِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ لَوْ حَلَفَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ، حَنِثَ وَالْمَالِكَ إِنْ حَلَفَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَانِثُ مِنَ الْحَالِفَيْنِ مَنِ اخْتَصَّ بِالْمِلْكِ دُونَ السَّاكِنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فِي إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى سَاكِنِهَا فَهُوَ أَنَّهَا إِضَافَةُ مَجَازٍ لَا حَقِيقَةٍ كَمَا يُقَالُ: مَالُ الْعَبْدِ وَسَرْجُ الدَّابَّةِ، وَالْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِذْنِ فَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِذْنِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ الْمَالِكُ لَا دَخَلْتُ دَارِي فَدَخَلَ دَارًا قَدْ أَجَّرَهَا حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ هَذَا الْإِطْلَاقَ حُمِلَ فِي الحنث على نيته. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَرَاخَى أَوْ لم يتراخ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا فَدَخَلَهَا مُخْتَارًا ذَاكِرًا حَنِثَ بِدُخُولِهَا مَاشِيًا كَانَ أَوْ رَاكِبًا لِأَنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهَا حَقِيقَةً، وَلَوْ دَخَلَهَا نَاسِيًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ، وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ إِلَيْهَا مَحْمُولًا فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قد أمر بحمله فعل الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ فَأَشْبَهَ دُخُولَهُ إِلَيْهَا رَاكِبًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لو بَاعَ، وَلَا ضَرَبَ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَحْنَثْ. فَهَلَّا كَانَتْ فِي الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ فَالْفِعْلُ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مِثَالُهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْنَثُ. فَهَذَا إِذَا دَخَلَ الدَّارَ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أُدْخِلَ عَقِيبَ الْأَمْرِ أَوْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، لِإِضَافَتِهِ إِلَى أَمْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا حُمِلَ وَأُدْخِلَ الدَّارَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ، اسْتَصْعَبَ أَوْ تَرَاخَى، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَصْعَبَ عَلَى الْحَامِلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ تَرَاخَى حَنِثَ لِأَنَّهُ مَعَ الِاسْتِصْعَابِ كَارِهٌ وَمَعَ التَّرَاخِي مُخْتَارٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ وَلَا آمِرٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِصْعَابِ وَالتَّرَاخِي، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْكَرَاهِيَةِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " تَرَاخَى أَوْ لَمْ يَتَرَاخَ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى مَالِكٍ فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ مَعَ الِاسْتِصْعَابِ وَالتَّرَاخِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا حُمِلَ نُظِرَ فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ عَقِبَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ فَهُوَ عَلَى بِرِّهِ وَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ. فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ هَلْ يَكُونُ اسْتِدَامَةُ الدُّخُولِ جَارِيًا مَجْرَى ابْتِدَائِهِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ فَكَانَ أَوْلَاهُمَا بِمَذْهَبِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ نَوَيْتُ شَهْرًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنْ قَيَّدَهَا نُطْقًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا شَهْرًا لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهَا بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَلَوْ نَوَى مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا شَهْرًا لَمْ تَخْلُ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ أَوْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى دِيَانَتِهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ مِنَ الزَّوْجَةِ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 364 الْحُكْمِ عِنْدَ نِزَاعِهِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنَ التَّأْبِيدِ دُونَ مَا نَوَاهُ مِنَ التَّقْيِيدِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّاهِرِ فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَوَى مِنَ التقييد. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فلانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَى رجلٍ غَيْرِهِ بَيْتًا فَوَجَدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ يُحَنِّثُ عَلَى غَيْرِ النِّيَةِ وَلَا يَرْفَعُ الْخَطَأَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ سَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الْحِنْثِ بَيْنَ مَنْ حَلَفَ فَفَعَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ عَلَى زَيْدٍ بَيْتًا فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ سَاكِنُهُ إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا على ما سنذكره منا تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ، وَلَا بِاسْتِدَامَتِهِ مَعَ تَعَذُّرِ الْخُرُوجِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ فَأَقَامَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَنِثَ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قد وجد منه العقل وَتَجَدَّدَ مِنْهُ الذِّكْرُ فَصَارَ كَالْعَمْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَسْجِدِ مَجَازًا، وَالْحَقِيقَةُ أَنْ يُسَمَّى مَسْجِدًا، فَحُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْأَسْبَابَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عَمْرٍو بَيْتًا، فَيَكُونَ زَيْدٌ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي حِنْثِهِ بِهَذَا الدُّخُولِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمِ اعْتِبَارًا بِالْفِعْلِ دُونَ الْقَصْدِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَنَّثَ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّهُ داخلٌ عَلَى غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَقَاصِدِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إنَّهُ يَحْنَثُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 365 وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ قاصدٌ وَمَعَ الْجَهْلِ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ إنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَوْ عَلِمَ فَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ حَنِثَ تَخْرِيجًا مِمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَسَلَّمَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهُوَ فِيهِمْ، وَاسْتَثْنَاهُ بِنِيَّتِهِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ تَعْلِيلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: بِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِهَذَا الدُّخُولِ حَنِثَ إِذَا جَمَعَهُمَا بَيْتٌ واحدٌ، فَإِنْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ واحدةٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ بَيْتًا، وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُفَرِّقُ الْمُتَبَايِعَانِ فِيهَا حَنِثَ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ مُنْطَلِقٌ عَلَى الدَّارِ عُرْفًا، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَبِيتِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ كَبِيرَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَكَانٍ يَفْتَرِقُ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، يَرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي صَحْنِهَا أَوْ صُفَّتِهَا لَمْ يَحْنَثِ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اسْمِ الْبَيْتِ أَنَّهُ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَا تَمَيَّزَ مِنَ الدَّارِ بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ بَيْتًا فَدَخَلَ صَحْنَ الدَّارِ أَوْ صُفَّتَهَا، أَوِ اسْتَطْرَقَ دِهْلِيزَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحِنْثِ كَمَا سَوَّى أَبُو الْعَبَّاسِ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ. وَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِهَذَا الدُّخُولِ، فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ سَاعَةَ دُخُولِهِ أَوْ بَادَرَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الْحَالِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا وَهُوَ دَاخِلُهَا، هَلْ يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا يَحْنَثُ بِالِابْتِدَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ هَذَا إِذَا جَعَلَ الِاسْتِدَامَةَ كَالِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِدَامَةِ وَالِابْتِدَاءِ فَلَوْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَيْتًا عَلَى الْحَالِفِ فَإِنْ بَادَرَ الْحَالِفُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ لَا تَكُونُ دُخُولًا لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ هَاهُنَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ تَكُونُ كَابْتِدَائِهِ فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ هَاهُنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالدَّاخِلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مدخولٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا فَهَلَكَ قَبْلَ غدٍ لَمْ يَحْنَثْ لِلإِكْرَاه قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 366 مُطْمَئِنُ بِالإيْمَانِ} فَعَقَلْنَا أَنَّ قَوْلَ الْمُكْرَهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ وَعَقَلْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ أَنْ يُغْلَبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ فَإِذَا تَلَفَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ فعلٍ مِنْهُ فَهُوَ فِي أَكْثَرَ مِنَ الْإِكْرَاهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ: أْحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. فَإِذَا قِيلَ: يَحْنَثُ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) فَكَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لِلْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَعِلْمٍ وجهلٍ وَاخْتِيَارٍ وإكراهٍ وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهَا فِي الْحِنْثِ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهَا مُوجِبٌ لِتَقْيِيدِ الْحِنْثِ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إِطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) {المائدة: 95) مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَإِطْلَاقَ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ " مُوجِبٌ لِإِبْطَالِ النِّكَاحِ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَطْهِيرٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْحَدَثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْحِنْثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَإِذَا قِيلَ لَا يحنث، فدليله قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) {الأحزاب: 5) فَكَانَ رَفْعُ الْجَنَاحِ فِي الْخَطَأِ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْخَاطِئِ، وَبِمَا رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَكَانَ حُكْمُ الْأَيْمَانِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذَا التَّجَاوُزِ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوَاهِي فِي الشَّرْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمْدِ دُونَ السَّهْوِ، كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ، كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَجَبَ أن يكون حلها بِالْحِنْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قصدٍ وَاخْتِيَارٍ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، وَالْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُونَ إِلَى تَصْحِيحِ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي، لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالَ لِي أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ: مَا أَفْتَيْتُ فِي يَمِينِ النَّاسِي بشيءٍ قَطُّ، وحكى عن شيخه أبي الغياض أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ، وَحَكَى أبو الغياض عَنْ شَيْخِهِ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ فَاقْتَدَيْتُ بِهَذَا السَّلَفِ وَلَمْ أُفْتِ فِيهَا بشيءٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّوَقِّي أَحْوَطُ مِنْ وَرَطَاتِ الْإِقْدَامِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 367 (فَصْلٌ:) فَأَمَّا يَمِينُ الْمُكْرَهِ فَلَا تَنْعَقِدُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَنْعَقِدُ كَالْمُخْتَارِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَدَلِيلُهُ فِي الْأَيْمَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْيَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ حَلَّفَهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ لَا يُعِيرَ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، فَقَالَ: " أَوْفِ بِعَهْدِكَ " فَسَوَّى بَيْنِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ وَلِأَنَّهَا يَمِينُ مُكَلَّفٍ فَانْعَقَدَتْ كَالْمُخْتَارِ. ودليلينا رِوَايَةُ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ عَلَى مقهورٍ يمينٌ "، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتُ الْكُفْرِ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَالْجُنُونِ، وَأَمَّا يَمِينُ الْيَمَانِ فَحَلَفَ بِهَا مُخْتَارًا، لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُخْتَارِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْكُفْرِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَحْلِفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا أَوْ لَيَرْكَبَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ غَدًا، أَوْ لَيَلْبِسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ غَدًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى وَقْتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي غَدِهِ وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ، فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ الْغَدَ هُوَ يَوْمٌ يَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ وَلَيْسَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ وَلَا هُمَا وَقْتَ الْبِرِّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي يَوْمِهِ وَيَرْكَبَ فِيهِ الدَّابَّةَ، وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ، فَلَا يَبَرُّ بِذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَيَحْنَثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ مَقْصُودَ يَمِينِهِ أَنْ لَا يؤخر فعل ذلك من غَدِهِ وَهُوَ فِي التَّقْدِيمِ غَيْرُ مُؤَخِّرٍ لَهُ فبر فيه. ودليلنا هو أن البر مفيد بِزَمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَكَانِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ كَتَأْخِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الزَّمَانِ كَتَأْخِيرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ بِفِعْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 368 ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَإِنْ كَانَ طَعَامًا قَدْ أكله حنث، إذا لَا سَبِيلَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ فِي غَدِهِ إِلَّا أَنَّ حِنْثَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي غَدِهِ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ حِنْثُهُ بِطُلُوعِ فَجْرِهِ أَوْ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِطُلُوعٍ فَجْرِهِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَقْتِ الْبِرِّ فِيمَا فَاتَ، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَكُونُ خُرُوجُ وَقْتِهَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا بِأَوَّلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْنَثُ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ لِبَقَاءِ زَمَانِ الْبِرِّ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْفَوَاتِ كَأَوَّلِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ دَابَّةً إِنْ رَكِبَهَا فِي غَدِهِ أَوْ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ فِي يَوْمِهِ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي غَدِهِ فَإِنْ رَكِبَ وَلَيْسَ فِي غَدِهِ فِيمَا بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ إِمْكَانَ الْفِعْلِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ بِالْحِنْثِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَامِدًا حَنِثَ، وَإِنْ أَخَّرَهُ نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ، فَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ فِي يَوْمِهِ وَبَاقِيَهُ فِي غَدِهِ حَنِثَ لِأَنَّ إِكْمَالَ الْأَكْلِ فِي غَدِهِ شَرْطٌ فِي بِرِّهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أضربٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَفُوتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ قَبْلَ الْغَدِ فَلَا حنث عليه لزوال تكليفه بالموت. والضرب الثَّانِي: أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ قَبْلَ غَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَحْنَثُ فِي غَدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ فِي الْغَدِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ غَدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ لِزَوَالِ قُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مُكْنَتِهِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ وَوُجُودِهِ إِمَّا بِحَبْسٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ مَرَضٍ، فَيَكُونُ حِنْثُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُكْرَهِ فَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ فِي غَدِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى تَلَفَ فِي بَقِيَّةِ غَدِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَجْرِي عَلَى فَوَاتِهِ فِيهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ أَوْ حُكْمُ الْمُكْرَهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 369 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكْرَهِ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " ولو حلف ليقضينه حقه لوقتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ فَمَاتَ قبل يَشَاءُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فلانٌ فَمَاتَ فلانٌ الَّذِي جَعَلَ الْمَشِيَئَةَ إِلَيْهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا غلطٌ لَيْسَ فِي مَوْتِهِ مَا يَمْنَعُ إِمْكَانَ بِرِّهِ وَأَصْلُ قَوْلِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ الْبِرُّ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَى فَاتَهُ الْإِمْكَانُ أَنَّهُ يحنث وقد قال لو حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فلانٍ فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الْإِذْنَ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ دخلها حنث (قال المزني) وهذا وذاك سواءٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ جَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ شَرْحِهِمَا مَسْأَلَتَيْنِ لِيَكُونَا أَصْلًا يَتَمَهَّدُ بِهِ جَوَابُ مَسَائِلِهِمْ، فَتَصِيرُ الْمَسَائِلُ أَرْبَعًا: فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ، وَلَا يُعَيِّنُ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا، فَيَكُونُ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا بِقَضَائِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْغَرِيمِ وَصَاحِبِ الْحَقِّ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ وَبِعِيدِهِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةَ الْحَيَاةِ فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ قَضَائِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْغَرِيمُ الْحَالِفُ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَنِثَ أَيْضًا فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لِحُدُوثِ الْمَوْتِ مَعَ إِمْكَانِ الْبِرِّ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ، فَيَجْعَلَ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا، فَلَا يَبَرُّ الْحَالِفُ إِلَّا بِقَضَائِهِ فِيهِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ أَوْ بَعْدَهُ حَنِثَ، فَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَوْتِهِ قَبْلَ إِمْكَانِ بِرِّهِ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ حَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا، فَهَلَكَ الطَّعَامُ الْيَوْمَ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَا يَحْنَثُ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِطْلَاقِ الْيَمِينِ، فَيَحْنَثُ بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، وَبَيْنَ تَقْيِيدِهَا بِوَقْتٍ فَلَا يَحْنَثُ بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْوَقْتِ هُوَ إِمْكَانُ الْبِرِّ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَتَعَذُّرُ إِمْكَانِهِ مَعَ التَّوْقِيتِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أُولَى الْمَنْصُوصَيْنِ أن يحلف ليقضينه حقه في يوم الجمعة، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ فَبِرُّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنَّ مَشِيئَةَ تَأْخِيرِهِ حلٌ لِيَمِينِهِ وَالْقَضَاءُ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لم يَحْنَث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 370 بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ أَيْضًا، لَكِنَّهُ إِنْ مَاتَ بَعْدَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ بِحَلِّ الْيَمِينِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ بِتَعَذُّرِ إِمْكَانِ الْبِرِّ، وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ. وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ تَأْخِيرَهُ، فَارْتِفَاعُ حِنْثِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ لِلتَّأْخِيرِ فَتَحِلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَإِمَّا بِقَضَاءِ الْحَقِّ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ، فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَهُ قَبْلُ مَوْتِهِ ثَلَاثَةُ أحوالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ، فَالْيَمِينُ قَدِ انْحَلَّتْ وَلَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مُنْتَظَرٌ، وَهُوَ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ فَإِنْ قَضَاهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ بَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَنِثَ لِإِمْكَانِ الْبِرِّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ (الْمَسْأَلَةِ:) إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ مَرْدُودَةً إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ظَنَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ بِمَوْتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فَقَالَ: كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ بِمَوْتِهِمَا وَالْبِرُّ فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ مُتَعَذِّرٌ وَفِي مَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ مُمْكِنٌ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ فِي حَالِ مَوْتِهِمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ لَمْ يَأْتِ فَصَارَا فِيهِ سَوَاءً فِي الْحَالِ، وَإِنِ افْتَرَقَا بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ، فَيَحْنَثُ بتأخيره إذا كان الْمَشِيئَةُ إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا يَجِبُ تأخيره إذا كان الْمَشِيئَةُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ بِمَا عَلَّلَ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ إِمْكَانِهِ بِمَوْتِ غَيْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: مِنْ أَحْوَالِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي مَشِيئَتِهِ، فَلَا يَعْلَمُ هَلْ شَاءَ التَّأْخِيرَ أَوْ لَمْ يَشَأْهُ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَشَأِ التَّأْخِيرَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَعْلَمَ حُدُوثَهَا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى مَا مَضَى. وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ التَّأَنِّي فَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَاحْتِجَاجًا بِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ وَهَذَا زَلَلٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ فَلَا تَحِلُّ بِالشَّكِّ. (فَصْلٌ:) ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ وَصَلَ احْتِجَاجَهُ عَلَى مَا وَهِمَ فِي تَأْوِيلِهِ وَإِنْ أَصَابَ في جوابه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 371 بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ، فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الْإِذْنَ إِلَيْهِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَهَا حَنِثَ وَهَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا اخْتِلَافٌ وَإِنَّمَا وَهِمَ فِيمَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَوْتِ زَيْدٍ فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ قَدْ أَذِنَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَيَكُونُ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي الْبِرِّ وَتَكُونُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرْطًا فِي حَلِّ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي دُخُولِ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْإِذْنِ، وَفِي الْمَشِيئَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ إِذْنِهِ حَنِثَ فِي الدُّخُولِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وُجُودِ إِذْنِهِ وَعَدَمِهِ حَنِثَ وَجْهًا وَاحِدًا عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ خَرَجَ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا خَرَجَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِذْنَ ظَاهِرٌ وَالْمَشِيئَةَ بَاطِنَةٌ. وَالثَّانِي: إنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ، وَالْمَشِيئَةَ فِي تِلْكَ شَرْطٌ فِي الْحَلِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي رحمه الله: " ولو حلف ليقضينه عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ فرأى في الليلة التي يهل فيها الهلال حنث (قال المزني) رحمه الله وقد قال في الذي خلف ليقضينه إلى رمضان فهل إنه حانثٌ لأنه حد (قال المزني) رحمه الله: هذا أصح كَقَوْلِهِ إِلَى اللَّيْلِ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حَنِثَ ". قال الماوردي: وهذا صحيح كَقَوْلِهِ إِلَى اللَّيْلِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حنث، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاث مَسَائِلَ، اتَّفَقَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَاخْتَلَفَ فِي الثَّالِثَةِ، إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ الْمَذْهَبُ فِي الْجَوَابِ عَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ فَوَقْتُ بَرِّهِ مُعَيَّنٌ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَهُ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْهِلَالِ حَنِثَ وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَ الْهِلَالِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ مَعَهُ حَنِثَ بِمُضِيِّ زَمَانِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِلَالِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لا يحنث بقضائه قبل القضاء يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَجَعَلَ زَمَانَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْهِلَالِ مُعْتَبَرًا بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْإِمْكَانِ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الزَّمَانِ إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ بَطَلَتْ لما يتوجه عليها من المعارضة وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يَكُونُ زَمَانُ قَضَائِهِ كَوَزْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 372 أَوْ فِضَّةٍ، ضَاقَ زَمَانُ بِرِّهِ لِإِمْكَانِ وَزْنِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانٍ بَعْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَقَلِّ زَمَانٍ حَنِثَ، فَإِنْ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ إِلَيْهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَكَانَ بَعِيدَ الدَّارِ مِنْهُ حَتَّى مَضَتِ اللَّيْلَةُ أَوْ أَكْثَرُهَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَطُولُ زَمَانُ قَضَائِهِ كَمِائَةِ كُرٍّ مِنْ بُرٍّ اتَّسَعَ زَمَانُ بِرِّهِ إِذَا شَرَعَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَامْتَدَّ بِحَسْبِ الْوَاقِعِ مِنْ كَيْلِ هَذَا الْقَدْرِ حتى ربما اعتد أياما، فإ، أَخَّرَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ فِي جَمْعِ مَا يَقْضِيهِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْقَضَاءِ حَنِثَ، وَلَوْ أَخَذَ فِي نَقْلِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ نَقْلَهُ مَشْرُوعٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَيْسَ جَمْعُهُ مَشْرُوعًا فِيهِ، وَقَوْلُ الشافعيب رحمه الله في هذه المسألة فرأى يفي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ حَنِثَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَقْضِهِ فِيهَا، فَإِنْ قَضَاهُ بَرَّ، وَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ شَرْطًا، وَإِنَّمَا دُخُولُ الشَّهْرِ بِأَوَّلِه جُزْءٍ مِنْ لَيْلَتِهِ هُوَ الزَّمَانُ الْمُعْتَبَرُ، لِأَنَّ الْهِلَالَ رُبَّمَا غُمَّ بسحابٍ مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهِ إِلَّا أَنْ يُغَمَّ فِي لَيْلَةِ شَكٍّ، فَلَا يَكُونَ مِنَ الشَّهْرِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حقه إلى رمضان، فجعل رمضان غايةً واحداً، لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِحَرْفٍ وُضِعَ لِلْغَايَةِ وَالْحَرْفُ هُوَ " إِلَى "، فَيَكُونُ زَمَانُ بِرِّهِ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) {البقرة: 187) فَكَانَ زَمَانُ الصِّيَامِ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ حَتَّى دَخَلَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ حَنِثَ وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ قَبْلَ رَمَضَانَ وَكَمَّلَهُ فِي رَمَضَانَ لِطُولِ زَمَانِهِ بَرَّ، لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْقَضَاءِ كَالْقَضَاءِ، فَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ فِي لَيْلَةِ شَكٍّ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ كَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي إِلَى رَمَضَانَ أَيْ: فِي رَمَضَانَ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ لِاحْتِمَالِ مَا أَرَادَ لِأَنَّهَا حُرُوفٌ تُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) {طه: 71) أَيْ: عَلَيْهَا فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَيَحْنَثُ إِذَا تَعَلَّقَ بِيَمِينِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دُونَ مَجَازِهِ، فَإِنْ حَلَفَ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ عِنْدَ رَمَضَانَ لَمْ يَبَرَّ بِقَضَائِهِ قَبْلَ رَمَضَانَ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ، فَإِذَا أَهَلَّ رَمَضَانُ احْتَمَلَ مَا يُعْتَبَرُ فِي بِرِّهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ عِنْدَ دُخُولِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ جَمِيعُ الشَّهْرِ وَقْتًا لِلْبِرِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ، فَصَارَ حُكْمُ آخِرِهِ كَحُكْمِ أَوَّلِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 373 (فَصْلٌ:) وَأَمَّا ال ْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، لِيَكُونَ زمان البر فيها بين وقتي حنث بتقدم أَحَدِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْهِلَالِ وَيتَأَخر الْآخَرِ عَنْهُ، وَجَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وإلى رَمَضَانَ فِي أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ، وَإِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، كَمَا كَانَ فِي وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، فِي أَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَكُونُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ، وَقَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَنَّ الْبِرَّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَكُونُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَقْتًا لِحِنْثِهِ، وَرُؤْيَتُهُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَقْتًا لِبَرِّهِ لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْحَدِّ وَالْغَايَةِ، وَلَفْظَةَ: عِنْدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا، كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ قَوْلِهِ: إلى رمضان، وعند رَمَضَانَ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ جَمْعِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَوَابَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِمَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وَلِلشَّافِعِيِّ عَادَةٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يَعْطِفُ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا، فَيُرِيدُ به إِحْدَاهُمَا اكْتِفَاءً بِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْأُخْرَى وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ " إِلَى " وَ " عِنْدَ " مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَمْعَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، وإلى رَأْسِ الْهِلَالِ صحيحٌ. وَأَنَّ كِلَيْهِمَا فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ واحدٌ، وَأَنَّ رَأْسَ الْهِلَالِ وَقْتُ الْبِرِّ فِيهِمَا، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَقْتُ الْحِنْثِ فِيهِمَا، لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَدِّ تَارَةً وَلِلْمُقَارَبَةِ تَارَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ أنْصَارِيَ إِلَى اللهِ) {الصف: 14) أَيْ: مَعَ اللَّهِ، {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) {المائدة: 6) ، أَيْ: مَعَ الْمَرَافِقِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَدِّ تَارَةً، وَلِلْمُقَارَبَةِ أُخْرَى، صَارَ الْحِنْثُ فِي جَعْلِهَا لِلْحَدِّ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَفِي جَعْلِهَا لِلْمُقَارَبَةِ مُتَيَقِّنًا، فَحَنِثَ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، وَفَرَّقَ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ، بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَكُونُ لِلْمُقَارَبَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَمَضَانَ فَيَكُونُ لِلْحَدِّ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ مُعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْوَقْتِ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فَحُمِلَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 374 علَى الْمُقَارَبَةِ، وَرَمَضَانُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لِلْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُهُ وَقْتًا لَهُ، فَغَلَبَ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْتِ فَحُمِلَ عَلَى الْحَدِّ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ " عِنْدَ " وَ " إِلَى " فِي الْحِنْثِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ، فَإِذَا قَالَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِدَفْعِهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَإِذَا قَالَ: إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ بَرَّ بِدَفْعِهِ فِي وَقْتِهِ، وَإِلَى عِنْدِ رَأْسِ الشَّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَ لَمْ توضع إلا للمقاربة، وإلى قد وصفت للمقاربة تارة، وللحد آخر: فَاجْتَمَعَ فِيهِمَا حُكْمُ الْمُقَارَبَةِ وَحُكْمُ الْحَدِّ فَوَجَبَ أن يتعلق بهما الحكمان معاً فصارا الأجل ذَلِكَ مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْحِنْثِ إِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ حَنِثَ، وَمُفْتَرِقَيْنِ فِي الْبِرِّ إِنْ قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرَّ، وَإِنْ قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ لَمْ يبر والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ إِلَى حينٍ فَلَيْسَ بمعلومٍِ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا ويومٍ وَالْفُتْيَا أَنْ يُقَالُ لَهُ الْوَرَعُ لَكَ أَنْ تَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يومٍ لِأَنَّ الْحِينَ يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ حَلَفْتَ وَلَا نُحَنِّثُكَ أَبَدًا لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لِلْحِينِ غَايَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْحِينُ من الزمان فجمعهم لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَنَا، وَحَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَحَدَّهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ إِلَى حِينٍ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَضَاهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرِ بَرَّ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَضَاهُ إِلَى سَنَةٍ بَرَّ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ، وَاسْتِدْلَالُنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهَا فِي النَّخْلِ مُدَّةُ حَمْلِهَا مِنْ أَوَّلِ طَلْعِهَا إِلَى آخر جذاؤها، وَقَدَّرَهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ سنة، فتكون من الإطلاع إلى الإطلاع ستة. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ مُبْهَمٌ، يَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) {الروم: 17) وَأَرَادَ بِهِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حينٍ) {ص: 88) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ) {الإنسان: 1) يَعْنِي: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ هِيَ مُدَّةُ حَمْلِهِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً إِشَارَةً إِلَى آدَمَ أَنَّهُ صُوِّرَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَطِينٍ لازبٍ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَضَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 375 وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَضَاهُ فِي زَمَانٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحِينِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُفْتِيهِ وَرَعًا أَنْ يَقْضِيَهُ فِي يَوْمِهِ، وَأَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ إِنْ قَضَاهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، لِيُحْمَلَ عَلَى أَقَلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذلك في الحكم. (فصل:) قال: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ يَمِينِهِ بَرَّ لِوُجُودِ الْكَلَامِ بَعْدَ زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّ هَذِهِ نَفْيٌ وَتِلْكَ إِثْبَاتٌ، فَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ بَرَّ، وَقَلِيلُ الزَّمَانِ حِينٌ، فَبَرَّ في النفي، وكثيره حين فبر الإثبات والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وكذلك زمانٌ ودهرٌ وأحقابٌ وكل كلمةٍ مفردةٍ ليس لها ظاهرٌ يدل عليها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَعْدَ دهرٍ أَوْ بَعْدَ أَحْقَابٍ بَرَّ إِذَا قَضَاهُ بَعْدَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ كَالْحِينِ، لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُبْهَمَةٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا قَلَّ وَكَثُرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ الزَّمَانِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَقَلُّ الْحِقَبِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مَالِكٌ أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَجَازَ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرِيبُ الزَّمَانِ وَبِعِيدُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرِيبِ: إِنَّهُ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ، وَفِي الْبَعِيدِ: إِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ وَيَكُونُ بَعِيدًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " ولو حلف لا يشتري فأمر غيره أَوْ لَا يُطَلِّقُ فَجَعَلَ طَلَاقَهَا إِلَيْهَا فَطلقت أَوْ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 376 أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يحنث إذا أمر غيره بفعله، لا يختلف المذهب فيه اعتباراً بنيته، سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا كَانَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِفِعْلِهِ كَمَا يَحْنَثُ إِذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ مُطْلَقَةً لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أقسامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا بِالْأَمْرِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا احْتَجَمْتُ، وَلَا افْتَصَدْتُ وَلَا حَلَقْتُ رَأْسِي، وَلَا بَنَيْتُ دَارِي، فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْحِجَامَةِ وَفَصَدَهُ وَحَلَقَ رأسه، وبناء دَارَهُ حَنِثَ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي الْعُرْفِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ جَلِيلٍ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَهَا فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَصَارَ الْعُرْفُ فِيهِ شَرْطًا يَصْرِفُ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَجَازِهِ فَيَصِيرُ اعْتِبَارُ الْمَجَازِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعُرْفِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ إِذَا فَارَقَ الْعُرْفَ لِأَنَّ الْعُرْفَ ناقلٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا بِمُبَاشَرَتِهِ دُونَ أَمْرِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا كَتَبْتُ، وَلَا قَرَأْتُ وَلَا حَجَجْتُ، وَلَا اعْتَمَرْتُ فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ، لِأَنَّ الْعُرْفَ جارٍ بَيْنَ النَّاسِ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَجَلِيلٍ، فَصَارَ الْعُرْفُ مُقْتَرِنًا بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ فَخَرَجَ مَجَازُهُ عَنْ حُكْمِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُخْتَلِفًا فِي مُبَاشَرَةِ فِعْلِهِ فَيُبَاشِرُهُ مَنْ دَنَا، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ عَلَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَهُوَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ الَّتِي لَا يُقِيمُهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ إِلَّا أُولُو الْأَمْرِ مِنْ ذِي وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهَا، كَمَا قِيلَ: جَلَدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَانِيًا، وَرَجَمَ مَاعِزًا وَقَطَعَ سَارِقًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ حَتَّى يُبَاشِرَهَا بِفِعْلِهِ، لأنه غير نافذ الأسر فِيهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ عُرْفِ الشَّرْعِ، فَيُبَاشِرُهُ مَنْ دَنَا، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ عَلَا تَنَزُّهًا وَتَصَوُّنًا كَعُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَتَأْدِيبِ الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِمُبَاشَرَتِهِ، كرجلٍ مِنْ عَوَامِّ السُّوقَةِ حَلَفَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 377 لَا بَاعَ وَلَا اشْتَرَى، وَلَا تَزَوَّجَ وَلَا طَلَّقَ، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا، فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى وَزَوَّجَهُ وَطَلَّقَ عَنْهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَأَدَّبَ خَادِمَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا إِذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالشِّرَى، يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِمُوَكِّلِي لَمْ يَحْنَثِ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالنِّكَاحِ يَقُولُ: قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِي، وَلَا يَقُولُ: نَكَحْتُ لِمُوَكِّلِي، كَمَا يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ لِمُوَكِّلِي حَنِثَ الْمُوَكِّلُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مدخولٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا وَالْمُوَكِّلُ فِيهَا إِذَا كَانَ الْعُرْفُ بِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا جَارِيًا، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُحْمَلُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، مَا لَمْ يَنْقُلْهَا عُرْفُ الْحَقِيقَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمُبَاشَرَتِهَا، وَالْعُرْفُ مُقْتَرِنٌ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْأَمْرِ بِهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ إِلَى مَجَازٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعُرْفِ فَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا، فَرَدَّ إِلَيْهَا الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَيِّرًا فِي الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا طُلِّقَتْ وَحَنِثَ، لِأَنَّهُ مُطَلِّقٌ لَهَا عَلَى صفةٍ وَقَعَتْ مِنْهَا فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِالِاسْتِنَابَةِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ، وَإِنْ بَاشَرَهُ اسْتَنْكَرَتْهُ النُّفُوسُ مِنْهُ، كَالسُّلْطَانِ أَوْ مَنْ قاربه في رتبته إذا حلف، ولا بَاعَ وَلَا اشْتَرَى، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا، فَإِذَا وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَمَرَ بِضَرْبِ عَبْدِهِ وَبِأَدَبِ خَادِمِهِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ وَتَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ صَارَ مُقْتَرِنًا بِالْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَالْعُرْفُ نَاقِلٌ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا أَكَلْتُ رُؤوسًا، لَمْ يَحْنَثْ بِرُؤُوسِ الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ، وَإِنْ وُجِدَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ فِيهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمَّا اخْتَصَّ بِرُؤُوسِ الْغَنَمِ نَقَلَ عَمَّا عَدَاهَا حَقِيقَةَ الِاسْمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهَا الْمُبَاشَرَةُ لَهَا دُونَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَقِيقَةُ لَا تُنْقَلُ إِلَّا بِعُرْفٍ عَامٍّ، كَمَا قِيلَ فِي الرُّؤوسِ، وَهَذَا عُرْفٌ خَاصٌّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْحَقِيقَةُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ سُلْطَانٌ: لَا أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا، فَأَكَلَ خُبْزَ الذُّرَةِ وَلَبِسَ عَبَاءَةً حنث وإن لم تجز عَادَتُهُ بِأَكْلِ الذُّرَةِ وَلُبْسِ الْعَبَاءَةِ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ خاصٌ وَلَيْسَ بِعَامٍّ، فَلِذَلِكَ سَاوَى فِيهِ عُرْفَ الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ بَاشَرَهُ لَمْ تَسْتَنْكِرْهُ النُّفُوسُ مِنْهُ، وَلَا تَسْتَقْبِحْهُ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا حَلَفَ سُلْطَانٌ لَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ، وَلَا أَعْتَقَ، فوكل في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 378 النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يعتبر حكم عرفه أو يعتبر ما تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ فِعْلِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ حُكْمُ عُرْفِهِ، لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ مَا لَا تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ فِعْلَيْنِ أَوْ لَا يَكُونُ أَمْرَانِ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَى يَكُونَا جَمِيعًا وحتى يأكل كل الذي حلف أن لا يأكله ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَقْدُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلَيْنِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْيِهِمَا. فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى إِثْبَاتِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَأَلْبَسَنَّ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، وَلِأَرْكَبَنَّ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا بِفِعْلِهِمَا فَيَأْكُلُ الرَّغِيفَيْنِ، وَيَلْبَسُ الثَّوْبَيْنِ وَيَرْكَبُ الدَّابَّتَيْنِ فَإِنْ أكل إحدى الرَّغِيفَيْنِ وَلَبِسَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَرَكِبَ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَبَرَّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَا لَبِسْتُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، وَلَا رَكِبْتُ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِهِمَا، كَمَا لَا يَبَرُّ إِلَّا بِهِمَا، فَإِنْ أَكَلَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَبِسَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، وَرَكِبَ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِهِمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِثْبَاتَ إِبَاحَةٌ، وَالنَّفْيَ حظرٌ، وَالْحَظْرَ أَغْلَبُ مِنَ الْإِبَاحَةِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْلِيظِ، وَالتَّغْلِيظُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَحْنَثَ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي الْإِثْبَاتِ أَنْ لَا يَبَرَّ إِلَّا بِهِمَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ فِعْلَ بَعْضِ الشَّيْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ جَمِيعِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا وِفَاقًا وَشَرْعًا، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَبَرَّ وَهَذَا وِفَاقٌ قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، قَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَسَاجِدِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْهُ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ في اعتكافه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 379 وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أحدٍ قَبْلِي إِلَّا عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعْلِمَكَ فَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ، وَقَدَّمَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَأَخْرَجَهَا ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَسْتَفْتِحُ صَلَاتَكَ قَالَ: بِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: " هِيَ، هِيَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَكُونُ خُرُوجًا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ الْفِعْلِ، فَأَحَدُ الْفِعْلَيْنِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَ الْفِعْلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْفِعْلَانِ فِي شَرْطِ الْبِرِّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي شَرْطِ الْحِنْثِ، لِتَرَدُّدِ الْيَمِينِ بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ؟ وَفَرقاه بَيْنَهُمَا منتقضٌ بِفِعْلِ بَعْضِ الشَّيْءِ حَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ جَمِيعِهِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا مَعَ وُجُودِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِمَا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَشْرَبَ مَاءَ الْإِدَاوَةِ كُلَّهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ وَلَوْ قَالَ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ حَنِثَ إِنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ، وَلَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ، فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى بَعْضِ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَبَعْضِ مَاءِ النَّهْرِ، لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: (مِنْ) فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَمَاءِ النَّهْرِ حَنِثَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَكَذَا فِي الْإِثْبَاتِ لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ، فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْهُمَا مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ارْتَوَى بِهِ أَوْ لَمْ يَرْتَوِ. فَأَمَّا إِذَا حَذَفَ مِنْ يَمِينِهِ حَرْفَ التبعض فَأَطْلَقَهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي إِطْلَاقِ الْيَمِينِ تُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَأَكَلَ بَعْضَهُ حَنِثَ، فَهَلَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ، كَمَا حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ. قِيلَ: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ وَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ كَمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِشُرْبِ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَاءَ فِي الْإِدَاوَةِ مِقْدَارٌ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ وَشِرَاءُ زَيْدٍ لِلطَّعَامِ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ، كَمَا تَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْإِدَاوَةِ يَقَعُ بِشُرْبِ مَائِهَا كُلِّهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بعضه، فذهب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 380 مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ قَطْرَةٌ انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهَا إِنْ شَرِبَ بَاقِيَ مَائِهَا، فَلَوْ شَكَّ أَذَهَبَ مِنْهَا قَطْرَةٌ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ، فَشَرِبَ جَمِيعَ مَائِهَا، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَهَابَ الْقَطْرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. والوجه الثاني: لا يحنث، لأت الحنث مشكوك فيه. فصل : فأما إذا حلفت لَا شَرِبْتُ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَرِّهِ وَلَا لِحِنْثِهِ فِيمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شُرْبِهِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ بحنث بِمَا شَرِبَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، صَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ لِأَنْ لَا يَصِيرَ بِيَمِينِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَغْوًا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ مَا قَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُرْبُ جَمِيعِهِ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ، حُمِلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ، كَذَلِكَ مَاءُ النَّهْرِ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، حُمِلَ عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ شُرْبِ بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ عَلَى حَمْلِ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَجِدُ السَبِيل إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا: أَيُّ شَيْءٍ شَرِبَ مِنْ مَائِهِ حَنِثَ بِهِ مِمَّا يَرْوِي أَوْ لَا يَرْوِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْب شَيْء مِنْ مَائِهِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى شُرْبِ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى مَاءِ النَّهْرِ، وَلَمْ يُطْلِقْ فَصَارَ النَّهْرُ مِقْدَارًا كَالْإِدَاوَةِ وَلَيْسَ إِذَا اسْتَحَالَ شُرْبُ الْجَمِيعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى صُعُودِ السَّقْفِ، وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَوَجَبَ حَمْلُ يَمِينِهِ فِي صُعُودِ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فِي شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَفْظُ تَعْرِيفٍ وُضِعَ لِاسْتِيعَابِ الْجِنْسِ تَارَةً وَلِلْمَعْهُودِ أُخْرَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، فَإِذَا اسْتَحَالَ اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ، وَفَارَقَ مَاءَ النَّهْرِ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِ وَمَجَازٌ فِي بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ " بِسُقُوطِ حِنْثِهِ. ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي النَّفْيِ أَنْ يَعْقِدَ بيمينه عَلَى الْإِثْبَاتِ فَيَقُولَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: مَتَى شَرِبَ بَعْضَ مَائِهِ بَرَّ، لِأَنَّهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 381 لَمَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي النَّفْيِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَبَرَّ فِي الْإِثْبَاتِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ كَمَا لَا يَحْنَثُ فِي النَّفْيِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ صَارَ مَحْكُومًا بِحِنْثِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى بِرِّهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، يَكُونُ حَانِثًا، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ وَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَقِيبَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْبِرِّ يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْحِنْثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ مِنْ آخِرِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ تَحْقِيقُ الْحِنْثِ عَلَى التَّرَاخِي. (فصل:) وإذا حلف لأشرب ما مَاءِ دِجْلَةَ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، أَوْ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَخُصُّ الْيَمِينَ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبُ مَاء فُرَاتا حَنِثَ بِشُرْبِهِ مِنْ دِجْلَةَ وَمِنَ الْفُرَاتِ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْفُرَاتَ هُوَ الْعَذْبُ، فَحَنِثَ بِشُرْبِ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) {المرسلات: 27) أَيْ: عَذْبًا، وَلَا فَرْقَ إِذَا حَلَفَ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ مِنْ إِنَاءٍ اغْتَرَفَ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ كَرْعًا بِفِيهِ كَالْبَهِيمَةِ. فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ، لَا شَرِبْتُ مِنْ دِجْلَةَ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا كَرْعًا بِفَمِهِ حَنِثَ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ وَشَرِبَ مِنَ الْإِنَاءِ حَنِثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ، وَلَا يَبَرُّ إِنِ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ، فَاغْتَرَفَ مِنْ مَائِهِ، وَشَرِبَهُ لَمْ يحنث كذلك إذا حلف لأشربت مِنْ دِجْلَةَ، فَاغْتَرَفَ مَا شَرِبَهُ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَحْنَثْ بِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَالثَّانِي: إنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ، وَمِنْ مَائِهَا مجازٌ، وَحَمْلُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَدَلِيلُنَا: أُمُورٌ: أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ مُضْمَرٌ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالشُّرْبِ، كَمَا يُقَالُ: شَرِبَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ دِجْلَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْفُرَاتِ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَمَاءِ الْفُرَاتِ فَصَارَ إِضْمَارُهُ كَإِظْهَارِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَانِثًا فَشَرِبَهُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ إِذَا حَلَفَ، لَأَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَنْ يَحْنَثَ بِشُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حالٍ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ مَقْصُودٌ كَالْمُظْهَرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 382 وَالثَّانِي: إنَّ إِجْمَاعَنَا مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا شَرِبْتُ مِنَ الْبِئْرِ، وَلَا أَكَلْتُ مِنَ النَّخْلَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِشُرْبِ مَا اسْتَقَاهُ من البئر، ويأكل مَا لَقَطَهُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكْرَعْ مَاءَ الْبِئْرِ بِفَمِهِ، وَلَا تَنَاوَلَ ثَمَرَةَ النَّخْلَةِ بِفَمِهِ، كَذَلِكَ الدِّجْلَةُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إنَّ مَا كَانَ حِنْثًا فِي مَاءِ الْبِئْرِ كَانَ حِنْثًا فِي مَاءِ الدِّجْلَةِ قِيَاسًا عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا كَرَعَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: إِذَا تَلَفَّظَ بِاسْمِ الْمَاءِ فِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: مَاءُ الْبِئْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ إِلَّا بِاسْتِقَائِهِ وَثَمَرُ النَّخْلَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ إِلَّا بِلِقَاطِهِ. قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ مَاءُ الْبِئْرِ بِنُزُولِهِ إِلَيْهَا، وَيُؤْكَلُ مِنَ النَّخْلَةِ بِصُعُودِهِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكْرَعَ مِنَ الدِّجْلَةِ بِالْمَشَقَّةِ. وَالثَّالِثُ: إنَّ حَقِيقَةَ الدِّجْلَةِ اسْمٌ لِقَرَارِهَا، وَالْحَقِيقَةُ فِي هَذَا الِاسْمِ مَعْدُولٌ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْقَرَارَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ. وَالثَّانِي: إنَّ مَا بَاشَرَ الْقَرَارَ لَا يَصِلُ إِلَى كَرْعِهِ لِعُمْقِهِ وَإِذَا سَقَطَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى مَجَازِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ، لِأَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ حَقِيقَةٌ فِي قَرَارِهَا، وَمَجَازٌ فِي مَائِهَا، وَالْمَجَازُ الْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَتْرُوكَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنَاءَ آلَةٌ لِلشُّرْبِ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الدِّجْلَةُ آلَةً لِلشُّرْبِ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَائِهَا، أَلَا تَرَاهُ إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ حَنِثَ إِذَا شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْتَصَّهُ مِنْ أَخْلَافِ ضُرُوعِهَا. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ فَشَرِبَ مِنْ لَبَنِ الْإِنَاءِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ، وَمِنْ مَائِهَا مَجَازٌ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ الْمُسْتَعْمَلَ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ المتركة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 383 بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا يُفَارِقُهُ حتى يستوفي حقه (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ وَلَوْ قَالَ: لَا أَفْتُرِقُ أَنَا وَأَنْتَ حَنِثَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ عُلِّقَتْ عَلَى فِعْلِ فَاعِلٍ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى فِعْلِهِ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ مُعْتَبَرًا بِفِعْلِ مَنْ قَصَدَ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا لَازَمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَفْتَرِقَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ لَمْ يَخْلُ يَمِينُهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ. وَالثَّالِثُ: على فعلهما. فأما الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، فَالْبِرُّ وَالْحِنْثُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْحَالِفِ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ مختارا ذاكرا حنث، وإن فارقه مكرها أو نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، عَلَى مَا مَضَى فِي حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي، فَأَمَّا إِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِهِ فَكَانَ حِنْثُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْفِرَاقُ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ، وَهَذَا الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ، وَوَهِمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجَ حِنْثُهُ بِفِرَاقِ الْغَرِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتَنِي حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ مُخْتَارًا ذَاكِرًا حَنث، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِكْرَاهِ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 384 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، إنَّ الْإِكْرَاهَ مُعْتَبَرٌ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُفَارِقَ لِلْغَرِيمِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ، لَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الْغَرِيمِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ. وَأَمَّا القسم الثالث: وهو أن يعقد بيمينه عَلَى فِعْلِهِ، وَفِعْلِ غَرِيمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا افْتَرَقْنَا أَنَا وَأَنْتَ، أَوْ وَاللَّهِ لا فارق واحدٌ منها صَاحِبَهُ، حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، فَالْحِنْثُ هَاهُنَا وَاقِعٌ بِفِرَاقِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِهِمَا، فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا مُخْتَارًا، وَفِي حِنْثِهِ إِنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا قَوْلَانِ، وَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ذَاكِرًا، مُخْتَارًا حَنِثَ الْحَالِفُ، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِلَافِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ، فَإِنْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ، حَنِثَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لم يحنث ولو قال: والله لا كلمتن فَكَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا تُكَلِّمُنَا أَوْ لَا كَلَّمَ واحدٌ مِنَّا صَاحِبَهُ، فَأَيُّهُمَا كَلَّمَ الْآخَرَ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى كَلَامِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ غَرِيمُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَأَفْلَسَ الْغَرِيمُ فَفَارَقَهُ لِأَجْلِ الْفَلَسِ الْمُوجِبِ لِإِطْلَاقِهِ لَا لِخَدِيعَةٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ فِرَاقِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ، فَإِنْ فَارَقَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ حَنِثَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ إِذَا خَالَفَتْ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحِنْثِ كَمَنْ غَصَبَ مَالًا، وصف لَا رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَنِثَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهُ بِالشَّرْعِ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ مُخْتَارًا، وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ وَحَلَفَ لَا خَرَجَ مِنْهَا حَنِثَ بِخُرُوجِهِ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَأَمَّا إِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِمُفَارَقَتِهِ لَمَّا حَكَمَ بِهِ مِنْ فَلَسِهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْفِرَاقِ مُكْرَهٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِجْبَارِ الْحَاكِمِ، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ قولان من حنث المكره. (مسألة:) قال الشافعي: " أَوِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِيمَا يَرَى فَوَجَدَ فِي دَنَانِيرِهِ زُجَاجًا أَوْ نُحَاسًا حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ وَالْخَطَأَ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَعْمَدْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ نُحَاسًا أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 385 رَصَاصًا أَوْ زُجَاجًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صَارَ فِيهِ كَالْمَغْلُوبِ وَالنَّاسِي، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ وَإطرَاحًا لِلْقَصْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْقَصْدِ وَإطرَاحًا لِلْفِعْلِ. وَأَمَّا إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنَ انْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ حَقَّهُ دَنَانِيرُ مَغْرِبِيَّةٌ فَأَعْطَاهُ دَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةً، فَتَكُونُ خِلَافَ الصِّفَةِ فِي الْيَمِينِ جَارِيًا مَجْرَى خِلَافِ الْجِنْسِ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ فِرَاقِهِ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ فِرَاقِهِ كَانَ حِنْثُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنَ انْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، بِأَنْ تَكُونَ دَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةً لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عَيْبُهَا مِمَّا يُسْمَحُ بِهِ فِي الْأَغْلَبِ لِقِلَّة أَرْشِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَرْشِهِ حَنِثَ. فَإِنْ قِيلَ: نُقْصَانُ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَهَلَّا كَانَ نُقْصَانُ الْأَرْشِ بِمَثَابَتِهِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ قِيلَ: لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ مُسْتَحَقٌّ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَنُقْصَانَ الْأَرْشِ مَظْنُونٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَنْكَسِرُ بِكَثِيرِ الْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ، قِيلَ: لِأَنَّ الظَّنَّ فِي كَثِيرِهِ أَقْوَى، وَفِي قَلِيلِهِ أَضْعَفُ فَافْتَرَقَا فِي بِرِّ الْيَمِينِ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي تماثل الربا. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ أَخَذَ بِحَقِّهِ عَرَضًا فَإِنْ كَانَ قِيمَةَ حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْكَ مِنْ حَقِّي شيءٌ فَلَا يَحْنَثُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله: لَيْسَ لِلْقِيمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ يَمِينَهُ إِنْ كَانَتْ على عين الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ على البراءة فقد برئ والعرض غير الحق سوى أو لم يسو ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ عِوَضَ حَقِّهِ مَتَاعًا أَوْ عَرُوضًا أَوْ يَأْخُذَ بَدَلَ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ أَوْ بَدَلَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بِرِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ، وَيَحْنَثُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَخَذَهُ بِقِيمَةِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 386 وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إنَّهُ يَبَرُّ إِنْ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ، وَيَحْنَثُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ حَقِّهِ، وَوَهِمَ الْمُزَنِيُّ فَنَقَلَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ لِلْقِيمَةِ مَعْنًى، لِأَنَّ يَمِينَهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقَدْ بَرِئَ، وَالْعِوَضُ غير الحق، سوى أو لم يساو فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: نَقْلُكَ خَطَأٌ وَجَوَابُكَ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِمَذْهَبِهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إنَّهُ يَحْنَثُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى بِرِّهِ بِأَخْذِ الْبَدَلِ بِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ عَنْ مِائَةِ دِينَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَارَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ الْأَلْفِ مِائَةُ دِينَارٍ، فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَأْخُوذِ وَهُوَ دَرَاهِمُ وَالْحَقُّ دَنَانِيرُ، فَصَارَ آخذا لِبَدَلِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ بآخذٍ لِلْحَقِّ، وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَوْ كَانَ حَقُّ الْحَالِفِ ثَوْبًا فَصَالَحَ عَنْهُ بِدَرَاهِمَ أَخَذَهَا مِنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ عَنِ الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ أَخَذَ عَنِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْحَالَيْنِ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِعَيْنِهِ وَفِيهِ جوابٌ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَسْتَوْفِي حَقِّي فَأَخَذَ بِحَقِّهِ بَدَلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِأَخْذِ الْبَدَلِ مُسْتَوْفِيًا مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الْحَقِّ حَنِثَ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ، وَلَوْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا حَنِثَ أَيْضًا، لِأَنَّ الرَّهْنَ وثيقةٌ، وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْحَقِّ حَنِثَ، لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَحَالَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الْغَرِيمِ بَرَّ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى بِالْحَوَالَةِ حَقَّهُ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّ أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَأَرْشُهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ غَرِيمِهِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَاضَاهُ، لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَيَحْنَثُ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى غريمه، وإن كانا جنس واحدٍ فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يَكُونُ قِصَاصًا، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا، فَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قِصَاصًا وَإِنْ تَرَاضَيَا، فَعَلَى هَذَا قَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَكُونُ قِصَاصًا مَعَ التَّرَاخِي، وَلَا يَكُونُ قِصَاصًا مَعَ عَدَمِ التَّرَاخِي، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَاضَيَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا حَنِثَ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " حَدُّ الْفِرَاقِ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ أَوْ مَجْلِسِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيحٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانٍ لَا يُنْسَبُ إِلَى مَكَانِ صَاحِبِهِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ افْتِرَاقًا فِي الْبَيْعِ فِي سقوط الجزء: 15 ¦ الصفحة: 387 الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ جَعَلْنَاهُ افْتِرَاقًا فِي الْيَمِينِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الْحَالِفُ عَلَى الِافْتِرَاقِ كَانَ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ فِرَاقِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُفَارِقًا لَهُ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الِافْتِرَاقِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُفَارِقَهُ بِبَدَنِهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ بِبَدَنِهِ، فَفِي حِنْثِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ الْيَوْمَ حَنِثَ لِأَنَّ قَضَاءَهُ غَدًا غَيْرُ قَضَائِهِ الْيَوْمَ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ غدٌ حَتَّى أَقْضِيَكَ حَقَّكَ فَقَدْ بَرَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ الْيَوْمَ أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ الْيَوْمَ لَيْسَ بقضاءٍ فِي غَدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَحْنَثُ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ غَدًا حَتَّى أَقْضِيَكَ بَرَّ، لِأَنَّهُ جَعَلَ خُرُوجَ الْغَدِ حَدًّا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ وَقْتًا وَلَوْ حَلَفَ، لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي غدٍ فَدَخَلَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دُخُولِهَا فِي غدٍ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فِي غدٍ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ عَبْدَهُ فِي غدٍ فَبَاعَهُ الْيَوْمَ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ابْتِيَاعِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ فِي غدٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا حَنِثَ حينئذٍ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ غدٍ حَنِثَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَلَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَعْجِزَ الْعَبْدُ نَفْسُهُ قَبْلَ غدٍ فَيَقْدِرَ عَلَى بَيْعِهِ فِي غدٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ فِي غدٍ، فَطَلَّقَهَا الْيَوْمَ، فَإِنِ اسْتَوْفَى بِهِ جَمِيعَ طَلَاقِهَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي غدٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فِي غَدٍ فَتَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، وَلَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا وَاسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا فِي غدٍ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْتِقَنَّ عَبْدَهُ فِي غدٍ فَأَعْتَقَهُ الْيَوْمَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقِهِ بَعْدَ نُفُوذِهِ الْيَوْمَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَإِذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِمَالًا، إنَّهُ يَحْنَثُ لِوَقْتِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي أَوَّلِ دُخُولِ غَدِهِ. لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَوْقَاتِ بِرِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِخُرُوجِ غَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ أَوْقَاتَ بِرِّهِ، فَصَارَ وقتاً لحنثه، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " هَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ رَبُّ الْحَقِّ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 388 لَا يَبْقَى عَلَيَّ غَدًا مِنْ حَقِّكَ شيءٌ فَيَبَرَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِسُقُوطِ الْحَقِّ عَنْهُ بِغَيْرِ أَدَاءٍ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هِبَةٌ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ. وَالثَّانِي: إِبْرَاءٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ محضٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَالْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي غدٍ أَوْ لَيَدْفَعَنَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ فِي غدٍ فَوَهَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّ الْحَقَّ سَقَطَ بِغَيْرِ دَفْعٍ، وَقَدِ اخْتَارَ التَّمَلُّكَ فَصَارَ مُخْتَارًا لِلْحِنْثِ، فَحَنِثَ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ حَنِثَ كَالْهِبَةِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، كَالْمَغْلُوبِ عَلَى الْحِنْثِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ، فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الْهِبَةِ، وَالْإِبْرَاءِ حقٌ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَفَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا نُظِرَ مَخْرَجُ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عَلَيْكَ حقٌّ بَرَّ مَعَ بَقَاءِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عِنْدَكَ حَقٌّ حَنِثَ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ عَارِيَةٌ حَنِثَ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ قَالَ: عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا وَعِنْدَهُ عينها. (فصل:) ولو حلف لا بعت لِزَيْدٍ مَتَاعًا فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، وَعَلَى مَذْهَبٍ مَالِكٍ يَحْنَثُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَتَاعَ إِلَى زيد بلام التمليك، فصارت يمين مَقْصُورَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ، وَهَذَا الْمَتَاعُ مِلْكٌ لِغَيْرِ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا بِعْتُ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ نُظِرَ فِي تَوْكِيلِ زَيْدٍ فَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ كَيْفَ رَأَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ، وَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى الْحَالِفِ حَتَّى بَاعَهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ الْحَالِفُ وَيَكُونُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِمَا يَصِحُّ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ مَا فَسَدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ إذا حلف لا يعقدها، فعقدها عقداً فاسد لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْفَاسِدِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلٌ، وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ حُكْمٌ، وَعَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْحُكْمِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا تَمَّ، وَالْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ تَمَامِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ لَمْ يَقعْ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ، وَخَالَفَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 389 فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ بِهِ، فَإِنِ اعْتَبَرَ الْحِنْثَ بِفِعْلِ الْعَقْدِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ دَلِيلٌ، وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ تَعْلِيلٌ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا حَلَفَ لَا يَصُومُ، فَدَخَلَ فِي الصِّيَامِ حَنِثَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ جَمِيعَ الْيَوْمِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي حَنِثَ بِإِحْرَامِهِ بِالصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْرَأَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَيَرْكَعَ، فَيَأْتِيَ بِأَكْثَرِ الرَّكْعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رَكْعَةً بِسَجْدَتِهَا يَسْتَوْعِبُ بِهَا جِنْسَ، أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيًا بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَكُونُ صَائِمًا بِالدُّخُولِ فِي الصِّيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحِنْثِ بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِاسْمٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالدُّخُولِ فِي أَوَّلِ الِاسْمِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ، فَدَخَلَ أَوَّلَ دِهْلِيزِهَا حَنِثَ وَاسْتِدْلَالُهُ يَفْسُدُ بالجلوس قدراً لتشهد، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهَا، وَلَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الرَّكْعَةُ الْأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 390 بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَخْرُجُ إلا بإذنه (مسألة:) قال الشافعي: " مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طالقٌ إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ فَهَذَا عَلَى مرةٍ واحدةٍ وَإِذَا خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَقَدَ بَرَّ وَلَا يَحْنَثُ ثَانِيَةً إِلَّا أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي فَهَذَا عَلَى كُلِّ مرةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ يَمِينِهِ إِذَا حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَرَّةٍ واحدة، ولا توجب التكرار، وذلك لفظتنا " إِلَى " وَ " حَتَّى ". فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ خَرَجْتِ إِلَى أَنْ آذَنَ لَكِ، أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ، فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى خُرُوجِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنِهِ، فَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنِهِ بَرَّ، وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ وَلَا يَحْنَثُ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحُكْمِ. فَعَلَّلَ أصحاب أبي حنيفة بأنهما لفظتان غاية ارتفع حكمها بانقضائها. وَعَلَّلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرَا فِي الْحِنْثِ لَمْ يَتَكَرَّرَا فِي الْبِرِّ. وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ يَتَبَيَّنُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْم الْأَوَّل. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَهِيَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَلَفْظَةُ " كُلَّمَا " مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْرَارِ، فَبِرُّهُ يَكُونُ بِإِذْنِهِ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَحِنْثُهُ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَأْذَنَ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ، وَطُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تَسْقُطْ يَمِينُهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ ثَالِثَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ، وَطُلِّقَتْ ثَالِثَةً، وَسَقَطَتْ يَمِينُهُ بَعْدَهَا لِاسْتِيفَاءِ مَا مَلَكَهُ مِنْ طلاقها. ولو أذن لها بالخروج ثلاثة مرات من ثلاثة خرجات بر، ولم تخل يَمِينُهُ، لِبَقَاءِ الطَّلَاقِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 391 فَإِنْ خَرَجَتْ رَابِعَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ، طُلِّقَتْ، فَيُقَدَّرُ الْحِنْثُ بِالثَّلَاثِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِهَا الْبِرُّ، لِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ بِمَا مَلَكَهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنِهِ، وَثَانِيَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَثَالِثَةً بِإِذْنِهِ، وَرَابِعَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ بَرَّ فِي خَرْجَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ. وَحَنِثَ فِي خَرْجَتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى التَّكْرَارِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا الْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ: أَحَدُهَا: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالثَّانِيَةُ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالثَّالِثَةُ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالرَّابِعَةُ: أَيَّ وَقْتٍ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَالْخَامِسَةُ: مَتَى خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ هَلْ تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَلَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي بِرٍّ وَلَا حِنْثٍ. فَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِإِذْنٍ بَرَّ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حِنْثٍ، وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ، وَلَا يَعُودُ الْحِنْثُ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَإِنْ خرجت مرة بإذن بر، ولم تخل اليمين، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حَنِثَ، وَلَمْ تَسْقُطِ الْيَمِينُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْحِنْثِ، وَعَلَى التَّكْرَارِ فِي الْبِرِّ، فَإِذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنٍ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً مِنْ بَعْدُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وإن خرجت مرة بإذن بر، ولم تخل الْيَمِينُ، وَحَنِثَ إِنْ خَرَجَتْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَلِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا طَرِيقَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 392 مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: " إِلَّا بِإِذْنِي " اسْتِثْنَاءٌ يُوجِبُ خُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَبِرُّهُ بِأَنْ يَكُونَ لَا تَخْرُجُ، وَحِنْثُهُ يَكُونُ بِأَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لِيَكُونَ بَارًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ بِهِ، وَلَا يَكُونُ بَارًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: وَحَانِثًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ بِكَلَامِهَا لزيد حانثاً ويترك كَلَامِهِ بَارًّا، وَبِكَلَامِهَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ بَارٍّ، وَلَا حَانِثٍ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِطَرِيقَةِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ يَمِينَهُ تَضَمَّنَتْ مَنْعًا، وَتَمْكِينًا، فَالْمَنْعُ خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَالتَّمْكِينُ خُرُوجُهَا بِإِذْنٍ. فَلَمَّا حَنِثَ بِالْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِالتَّمْكِينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْيَمِينُ، وَخَالَفَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ يَمِينِهِ عَلَى كَلَامِهَا لِزَيْدٍ، لِأَنَّ كَلَامَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي يَمِينِهِ مِنْ مَنْعٍ وَلَا تَمْكِينٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ. وَالثَّانِي: إنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ يَتَعَلَّقَانِ فِي الْأَيْمَانِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ، كَانَ بِرُّهُ بِدُخُولِهَا، وَحِنْثُهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَهَا. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ كَانَ بِرُّهُ بِأَنْ لَا يُدْخِلَهَا. وَحِنْثُهُ بِأَنْ يَدْخُلَهَا. فَلَمَّا كَانَ حِنْثُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، يَكُونُ بِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِرُّهُ بِخُرُوجِهَا بِإِذْنِهِ، فَنُثْبِتُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَسَادَ هَذِهِ الطَّرِيقَة. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا وُقُوعَ الْبِرِّ بِالْخُرُوجِ بِإِذْنٍ كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِ الْبِرِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرَ الْحِنْثُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ إِلَّا رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنَّ الْبِرَّ يَتَكَرَّرُ، وَالْحِنْثَ لَا يَتَكَرَّرُ، وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ رَاكِبَةً، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً غَيْرَ رَاكِبَةٍ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً رَاكِبَةً بَرَّ وَلَمْ تخل الْيَمِينُ، وَلَزِمَهَا الْخُرُوجُ بَعْدَ هَذَا الْبِرِّ رَاكِبَةً أَبَدًا. كَذَلِكَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ مَرَّةً بِإِذْنِهِ، لَمْ تخل الْيَمِينُ، وَلَزِمَهَا أَنْ تَخْرُجَ كُلَّ مَرَّةٍ بِإِذْنِهِ. وَلَوْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ، وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي اشْتِرَاطِ الرُّكُوبِ دَلِيلًا عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَرْقٌ فِي الْحُكْمِ. والثاني: أنه لما كان البر يترك الْخُرُوجَ مُؤَبَّدًا، وَالْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مُقَيَّدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ بِالْخُرُوجِ بِالْإِذْنِ مُتَكَرِّرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذن متكرراً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 393 وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَ عَقْدُ الْيَمِينِ بِلَفْظِ الْغَايَةِ يُوجِبُ اسْتِوَاءَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي سُقُوطِ التَّكْرَارِ، وَكَانَ عَقْدُهَا بِقَوْلِهِ: " كُلَّمَا " يُوجِبُ اسْتِوَاءَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا بِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا فِي اسْتِوَاءِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ وَسُقُوطِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ التَّكْرَارُ فِي الْحِنْثِ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّكْرَارُ فِي الْبِرِّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إنَّ كُلَّ يَمِينٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَنْعٍ وَتَمْكِينٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ فِيهَا مُقَابِلًا لِلْحِنْثِ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ وَسُقُوطِهِ كَالْمَعْقُودِ بِلَفْظِ الْغَايَةِ فِي سُقُوطِ التَّكْرَارِ، وَكَالْمَعْقُودَةِ بِ " كُلَّمَا " فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَانِ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ أَوْجَبَ تَكْرَارَ الْمَنْعِ وَالتَّمْكِينِ أَوْجَبَ تَكْرَارَ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ تَكْرَارَهُمَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ. وَلَفْظُ التَّكْرَارِ مَعْدُومٌ فِي قَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَانْعَقَدَ عَلَى مَرَّةٍ، وَمَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ: كُلَّمَا خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَانْعَقَدَ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ بِإِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ، انْعَقَدَتْ عَلَى مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا خَرَجْتِ بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، انْعَقَدَتْ عَلَى مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا خَرَجْتِ بِإِذْنِي انْعَقَدَتْ عَلَى التَّكْرَارِ وَمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ سَوَاءٌ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي التَّكْرَارِ وَالِانْفِرَادِ، لِأَنَّ عَقْدَهَا إِنْ قَابَلَتْ مُقْتَضَاهَا كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إنَّ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ قِيَاسًا عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْإِذْنِ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا رَاكِبَةً، فَهُوَ إنَّ هَذَا تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ، وَهِيَ خُرُوجُهَا مَاشِيَةً، فَوَقَعَ بِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَتْ يَمِينًا تُوجِبُ مَنْعًا، وَتَمْكِينًا، فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ بِامْتِدَادِ الْبِرِّ فِي الْمَقَامِ إِلَى الْمَوْتِ، وَتَوْقِيتِ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقَامَ فِي مَنْزِلِهَا تَرْكٌ مُطْلَقٌ، فَحُمِلَ عَلَى التَّأْبِيدِ فِي الْبِرِّ، وَالْخُرُوجُ فِعْلٌ مُقَيَّدٌ بِوَقْتِهِ، فَتُقَدِّرُ بِهِ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ فِيهِ مُسَاوِيًا لِلْحِنْثِ. (فَصْلٌ:) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ إِذْنِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَخُرُوجُهَا إِلَى الْحَمَّامِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى خُرُوجِهَا إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ. فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ حَنِثَ وَسَقَطَتِ الْيَمِينُ فَإِنْ خَرَجَتْ إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ بَرَّ، وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 394 فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يحل خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ إِذَا جَمَعَتْ فِيهِ بَيْنَ الْحَمَّامِ وَغَيْرِ الحمام على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْحَمَّامِ، ثُمَّ تَعْدِلُ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِقَصْدِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ إِلَى الْحَمَّامِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَخْرُجَ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ، ثُمَّ تَعْدِلُ إِلَى الْحَمَّامِ، فَيَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِقَصْدِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَخْرُجَ جَامِعَةً فِي قَصْدِهَا بَيْنَ الْحَمَّامِ وَغَيْرِ الْحَمَّامِ، فَيَحْنَثُ، لِأَنَّ خُرُوجَهَا إِلَى غَيْرِ الْحَمَّامِ مَوْجُودٌ، فَلَمْ يَمْنَعِ اقْتِرَانُهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَمَّامِ مِنْ وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِ. وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ بِهِ تَغْلِيبًا لِمَا لَا يُوجِبُ الْحِنْثَ عَلَى ما يوجبه، وزلله فيه وَاضِحٌ، لِمَا عَلَّلْنَاهُ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَكَلَّمَتْ زيداً وعمراً معاً طلقت، ولم يمنع كلاهما لِعَمْرٍو مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِكَلَامِهَا لِزَيْدٍ؟ ! (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْإِذْنُ، فَقَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً بِالْكِنَايَةِ، وَتَارَةً بِالرِّسَالَةِ، وَتَارَةً بِالْإِشَارَةِ وَجَمِيعُهُ يَكُونُ إِذْنًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ. وَسَوَاءٌ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالْإِذْنِ أَوْ سَأَلَتْهُ، فَأَذِنَ. فَإِنِ اسْتَأْذَنَتْهُ وَأَمْسَكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِذْنٌ وَلَا مَنْعٌ، لَمْ يَكُنِ السُّكُوتُ إِذْنًا إِلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ إِشَارَةٌ، فَتَصِيرَ الْإِشَارَةُ إِذْنًا. فَإِنْ أَذِنَ لَهَا، ثُمَّ رَجَعَ فِي إِذْنِهِ، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْإِذْنِ بِرُجُوعِهِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ وُجُودُ الْإِذْنِ، وَلَيْسَ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ شَرْطًا فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رجوعه قبل الخروج أبو بَعْدَهُ. فَإِنْ شَرَطَ إِذْنًا بَاقِيًا، فَرَجَعَ فِيهِ حَنِثَ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ. وَلَوْ شَرَطَ فِي يَمِينِهِ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا بِإِذْنِ غَيْرِهِ، اعْتُبِرَ إِذْنُ ذَلِكَ الْغَيْرِ دُونَ الْحَالِفِ. وَلَوْ شَرَطَ إِذْنَهُمَا مَعًا حَنِثَ بِخُرُوجِهَا عَنْ إِذْنِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: ائْذَنْ لَهَا عَنْ نَفْسِكَ، فَلَا يُجْزِئُ فِي الْبِرِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا الْغَيْرُ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 395 حَتَّى يَأْذَنَ مَعَهُ الْحَالِفُ، فَإِنْ أَذِنَ الْغَيْرُ، وَلَمْ يَأْذَنِ الْحَالِفُ حَنِثَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: ائْذَنْ لَهَا عَنِّي، فَقَدْ صَارَ فِي الْإِذْنِ نَائِبًا عَنِ الْحَالِفِ، فَيَحْتَاجُ الْغَيْرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: عَنِ الْحَالِفِ. فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِذْنَيْنِ بَرَّ الْحَالِفُ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَنِثَ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ إِذْنَهُ لِلْغَيْرِ، فَيُسْأَلَ عَنْهُ الْحَالِفُ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عُمِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الضربين، فإن فات سؤال الحالف عنه الغيبة طَالَتْ نُظِرَ حَالُ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَعَ الْحَالِفِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ، صَارَ هَذَا الْإِذْنُ لَهُ أَمْرًا، فَيَكُونُ إِذْنًا، عَنِ الْحَالِفِ، فَيَصِيرُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي. وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ صَارَ مِثْلُ هَذَا الْإِذْنِ طَلَبًا، فَيَكُونُ إِذْنًا عَنِ الْغَيْرِ، فَيَصِيرُ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَخَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حقٌّ لِرَجُلٍ فَغَابَ أَوْ مَاتَ فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي حلٍّ بَرِئَ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ لَهُ فِي الْوَرَعِ لَوْ أَحْنَثَ نَفْسَهُ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَاصِيَةً لَهُ عِنْدَ نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا حَلَفَ بِطَلَاقِهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَكُونُ عِلْمُهَا بِالْإِذْنِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ، وَيَكُونُ عِلْمُهَا بِالْإِذْنِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، اسْتِدْلَالًا بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الْإِذْنَ تَضَمَّنَ الْإِعْلَامَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) {الحج: 27) أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِفَرْضِهِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: " إِذَا حَلَلْتِ، فَآذِنِينِي "، أَيْ: أَعْلِمِينِي. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 396 (آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ) أَيْ: أَعْلَمَتْنَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ صَارَ شَرْطًا فِيهِ، فَإِنْ عُدِمَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِذْنُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِرُّ. وَالثَّانِي: إنَّ الْإِذْنَ أَمْرٌ يُخَالِفُ مَا بَعْدَهُ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ، فَجَرَى مَجْرَى النَّسْخِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالنَّسْخِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ، بِالْإِذْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُ أَلْزَمَهَا بِخُرُوجِهِ عَنْ إِذْنِهِ أَنْ تَكُونَ مُطِيعَةً فِي الْخُرُوجِ، فَإِذَا لَمْ تَعَلَمْ بِالْإِذْنِ صَارَتْ عَاصِيَةً بِالْخُرُوجِ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِهِ، وَيَصِيرَ عَدَمُ عِلْمِهَا بِالْإِذْنِ جَارِيًا مَجْرَى عَدَمِ الْإِذْنِ، لِوُجُودِ الْمَعْصِيَةِ فِيهِمَا، كَمَنْ بَاعَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ، كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَجَرَى عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْمِلْكِ مَجْرَى عَدَمِ الْمِلْكِ. وَالرَّابِعُ: إنَّ الْإِذْنَ يَفْتَقِرُ إِلَى آذِنٍ وَمَأْذُونٍ لَهُ، كَالْكَلَامِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى قَائِلٍ وَمُسْتَمِعٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَلَامِ يَسْلُبُهُ حكم الكلام، وجب أن يكون المنفرد بلاإذن يَسْلُبُهُ حُكْمَ الْإِذْنِ. وَدَلِيلُنَا أَرْبَعَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أن الأذن يختص بالآذان، وَالْعِلْمَ بِهِ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْذُونِ لَهَا، وَشَرْطُ يَمِينِهِ إِنَّمَا كَانَ مَعْقُودًا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْإِذْنِ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْعِلْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْإِذْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى إِذْنِهِ دُونَ عِلْمِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِذْنِ مُوجِبًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ قُمْتُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِقِيَامِهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا فِي الْإِذْنِ لَكَانَ وُجُودُهُ مِنَ الْحَالِفِ شَرْطًا فِيهِ، كَمَا كَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْهُ شَرْطًا فِيهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ صَحَّ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ، دَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ حُقُوقِ الْإِذْنِ، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُ قَدْ حَظَرَ الْخُرُوجَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ، وَأَبَاحَهَا الْخُرُوجَ بِالْإِذْنِ، فَصَارَ عَقْدُهَا جَامِعًا بَيْنَ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَالِاسْتِبَاحَةُ إِذَا صَادَفَتْ إِبَاحَةً لَمْ يُعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَبِيحُ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْحَظْرِ، كَمَنِ اسْتَبَاحَ مَالَ رَجُلٍ قَدْ أَبَاحَ لَهُ، وَهُوَ لَا يعلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 397 بِإِبَاحَتِهِ، جَرَى عَلَى الْمَالِ الْمُبْتَدِئِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ اعْتِبَارًا بِالْمُبِيحِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْحَظْرُ اعْتِبَارًا بالمستبيح. كذلك حكم هذه الْخُرُوجِ. وَتَحْرِيرُهُ: إنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ بَعْدَ إِبَاحَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْعِلْمِ بِهَا مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا كَالْمَالِ. وَالرَّابِعُ: إنَّهَا لَا تَعْلَمُ بِإِذْنِهِ، لِبُعْدِهَا تَارَةً، وَلِنَوْمِهَا أُخْرَى، وَقَدْ وَافَقُوا أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا، وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَخَرَجَتْ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِإِذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ، كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهَا، وَهِيَ بَعِيدَةٌ، فَلَمْ تَعْلَمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى خَرَجَتْ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَتَحْرِيرُهُ: إنَّهَا يَمِينٌ تَعَلَّقَ الْبِرُّ فِيهَا بِالْإِذْنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ، كَالنَّائِمَةِ وَالنَّاسِيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الْأَوَّلِ، بِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ اسْتِشْهَادًا بِمَا ذَكَرُوهُ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِعْلَامَ هُوَ الْإِيذَانُ دُونَ الْإِذْنِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ وَالْإِيذَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِذْنَ لَوِ اقْتَضَى الْإِعْلَامَ، لَاخْتَصَّ بِهِ الْإِذْنُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ إِذْنِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّانِي فِي النَّسْخِ، فَهُوَ إنَّ فِي اعْتِبَارِ الْعِلْمِ بِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ النَّسْخَ يَلْزَمُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ كَالْإِذْنِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، كَأَهْلِ قُبَاءَ حِينَ اسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ، وَبَنَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِنَسْخِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ. فَعَلَى هَذَا إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ مُخْتَصٌّ بِالتَّعَبُّدِ الشَّرْعِيِّ، فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، لِوُجُوبِ إِبْلَاغِهِ، وَالْإِذْنُ رَافِعٌ لِلْمَنْعِ، فَصَارَ مُرْتِفَعًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّالِثِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِذْنِ يَقْتَضِي خُرُوجًا تَكُونُ فِيهِ مُطِيعَةً، فَهُوَ انْتِقَاضُهُ بِخُرُوجِهَا إِنْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِإِذْنِهِ، أَوْ كَانَتْ نَائِمَةً عِنْدَ إِذْنِهِ هِيَ قَاصِدَةٌ لِمَعْصِيَتِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الرَّابِعِ بِالْمُتَكَلِّمِ، فَهُوَ فَسَادُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ الِاسْتِمَاعُ دُونَ الْإِعْلَامِ وَالسَّمَاعِ، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ فِي الْإِذْنِ الْإِعْلَامَ دُونَ السَّمَاعِ وَالِاسْتِمَاعِ، فَفَسَدَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ مَقْصُودِهِمَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 398 (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ إِشْهَادُهُ عَلَى الْإِذْنِ شَرْطًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ؛ لِيَرْفَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إِذَا أَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، لِيَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ. وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لِمُسْتَمِعٍ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِذْنُ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَأُحِبُّ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ "، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَخْرَجٌ مُخْتَلِفٌ فِي استباحته، فاختار له أن تكون الاستباحة ومتفقاً عليها، وأمره بالتزام الحنث، ولم يرد بِالْتِزَامِ الْحِنْثِ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ إِنِ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَتُهُ مُسْتَبِيحَةَ الْأَزْوَاجِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا آمَرَهُ بِمَا تَكُونُ الِاسْتِبَاحَةُ فِي الْجِهَتَيْنِ بِاتِّفَاقٍ يَقَعُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا. فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ إِنْ أَرَادَ الْمَقَامَ مَعَهَا أَنْ يَرْتَجِعَهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ وَقَعَ اسْتَبَاحَهَا بِالرَّجْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ تَضُرَّهُ الرَّجْعَةُ. وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَقَامَ مَعَهَا قَالَ لَهَا: إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ فِي الْحَالَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَاحِدَةً لَزِمَتْهُ الْوَاحِدَةُ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى اخْتِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدَ هَذَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ لَازِمًا، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا وَالْوَرَعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، فَلَيْسَ مِنَ الْوَرَعِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا، وَالْوَرَعُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْحِنْثِ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ، وَخَالَفَ طَلَاقَ الرَّجْعَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْحِنْثِ وَقَعَ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ. فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، كَانَ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِهَا، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا، وَالْوَرَعُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ، وَأَصَابَهَا فِي الطَّلَّاقَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا مَأْثَمَ، لِمَا حُكِمَ بِهِ مِنْ بِرِّهِ فِي يمينه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 399 بَابُ مَنْ يُعْتِقُ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِذَا حَنِثَ أَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عبدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وغير ذلك (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ وَلَهُ أُمُّهَاتُ أولادٍ وَمُدَبَّرُونَ وأشقاصٌ مِنْ عبيدٍ عَتَقُوا عَلَيْهِ إِلَّا الْمُكَاتَبَ إِلَّا أن ينويه لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ خارجٌ مِنْ مِلْكِهِ بمعنى وداخلٌ فيه بمعنى وهو محولٌ بينه وبين أخذ ماله واستخدامه وأرش الجناية عليه ولا زكاة عليه في ماله ولا زكاة الفطر في رقيقه وليس كذا أم ولده ولا مدبره ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ، فَحَنِثَ أَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ، فَالْحُكْمُ فِي عِتْقِ الْحِنْثِ وَالْمُبَاشَرَةِ سَوَاءٌ، فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ رِقَّهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مَمَالِيكُ لَهُ، وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، لِأَنَّهُنَّ فِي مِلْكِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِنَّ أَحْكَامُ رِقِّهِ، فِي اسْتِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَاسْتِخْدَامِهِنَّ، وَمِلْكِ أَكْسَابِهِنَّ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِنَّ، وَزَكَاةِ فِطْرِهِنَّ، وَجَوَازِ تَزْوِيجِهِنَّ، وَإِجَارَتِهِنَّ كَالْإِمَاءِ. وَإِنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُنَّ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُرْمَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ رِقِّهِنَّ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِنَّ، فَلِذَلِكَ دَخَلْنَ فِي جُمْلَةِ مَمَالِيكِهِ، فَيُعْتِقُهُنَّ. وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ مُدَبَّرُوهُ لِبَقَاءِ رِقِّهِمْ وَجَوَازِ بَيْعِهِمْ، وَمِلْكِ إِكْسَابِهِمْ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِمْ وَتَعْجِيلِ عِتْقِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ الْمُخَارَجُونَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَالْمُعْتَقُونَ بِصِفَةٍ لَمْ تَأْتِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مَمَالِيكُ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ رِقِّهِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَإِذَا كَانَ لَهُ أَشْقَاصٌ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ عَتَقُوا عَلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ مِنْهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ بَاقِيهِمْ إِنْ أَيْسَرَ بِقِيمَتِهِمْ، وَرُقَّ الْبَاقِي إِنْ أَعْسَرَ بِهِمْ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ، فَإِنْ كَانَتْ كِتَابَتُهُمْ فَاسِدَةً عُتِقُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَعْتِقُوا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْوِ عِتْقَهُمْ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ، وَرَوَى الرَّبِيعُ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبِيعُ بَعْدَ أَنْ رَوي عَنْهُ: إِنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ، وَحِفْظِي عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَكَاتَبَ يَعْتِقُ إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ رَقِيقِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 400 فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا حَكَاهُ مِنْ هَذَا، فَامْتَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ طَائِفَةٍ تَقَدَّمَتْهُ مِنْ تَخْرِيجِهِ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَنْصُوصَ الشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَأَثْبَتَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مَعَ طَائِفَةٍ تَقَدَّمَتْهُ، وَخَرَّجُوا عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ إنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَرَيَانُ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُكَاتَبُ عبدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ درهمٌ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا نَفَذَ فِيهِ عِتْقُ الْخُصُوصِ إِذَا عَيَّنَهُ نَفَذَ فِيهِ عِتْقُ الْعُمُومِ إِذَا أَطْلَقَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى نَقْلِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْعُمُومِ إِذَا لَمْ يَنْوِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ كَالْبَيْعِ، لِأَنَّهَا إِزَالَةُ مِلْكٍ بِعِوَضٍ، فَانْتَقَلَ بِهَا الْمِلْكُ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ عَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِ بالعجز في الباطن، فصار كالمبيع علي مفلس قد انتقل الملك، وَإِنْ جَازَ اسْتِرْجَاعُهُ بِالْفَلَسِ، وَمَا زَالَ بِهِ الْمِلْكُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنِ السَّيِّدِ مِلْكُ مَنَافِعِهِ وَكَسْبُهُ، وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ زَالَ عَنْهُ مِلْكُ رَقَبَتِهِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي عموم ملكه. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَيْنِ مَعْلُولٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ عُتِقَ، وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ إِلَّا فِي مِلْكٍ. قِيلَ: إِنَّمَا عُتِقَ، لِأَنَّ عِتْقَهُ إِبْرَاءٌ، وَهُوَ يُعْتَقُ بِالْإِبْرَاءِ، كَمَا يُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ، فَهَذَا تَمَامٌ لِذَلِكَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ بِابْتِدَاءِ عِتْقٍ فِي الرِّقِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَعَلْتُمْ عِتْقَهُ إِبْرَاءً يُعْتَقُ بِهِ فِي الْخُصُوصِ: لَزِمَكُمْ أَنْ تجعلوه إبراء بعتق بِهِ فِي الْعُمُومِ. قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ عِتْقُهُ فِي الْخُصُوصِ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ إِبْرَاءَ عِتْقِهِ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذْ صَرِيحُ عِتْقِهِ فِي الْخُصُوصِ فِي غَيْرِهِ، يَعْنِي بِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَاتَبِ، صَارَ صَرِيحًا فِي إِبْرَائِهِ، فَعُتِقَ بِهِ. وَلَمَّا نَفَذَ صَرِيحُ الْعِتْقِ فِي الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ، صَارَ كِتَابَةً فِي إِبْرَائِهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ إِلَّا أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 401 يَقْتَرِنَ بِالْكِتَابَةِ نِيَّةٌ، وَجَعَلْنَاهُ صَرِيحًا فِي الْخُصُوصِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ، وَكِتَابَةً فِي الْعُمُومِ تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَيَصِيرَ بِالنِّيَّةِ حُرًّا، لِأَنَّهُ قد صار بالنية مبرأ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَرْقِهِ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فِي طَلَاقِ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْثُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَيْهَا فِي الْخُصُوصِ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُوقِعْهُ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ، فَارْتَكَبْتُمْ مَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَى غَيْرِكُمْ. قِيلَ: لَا يَدْخُلُ هَذَا الْإِلْزَامُ عَلَيْنَا، لِأَنَّ لِلطَّلَاقِ وَجْهًا وَاحِدًا أَوْجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ، وَلِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَجْهَانِ فَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَ فيها حكم لعموم وَالْخُصُوصِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ بِمَعْنًى وَدَاخِلٌ فِيهِ " فمعنى "، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَدَاخِلٌ فِيهِ بِالْعَجْزِ. وَالثَّانِي: خَارِجٌ مِنْ مِلْكِهِ، لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ، وَدَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ لِثُبُوتِ عجزه. والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَيَضْرِبَنَّهُ غَدًا فَبَاعَهُ الْيَوْمَ فَلَمَّا مَضَى غدٌ اشْتَرَاهُ فَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ إِذَا وَقَعَ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ ثَانِيَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ بِعِتْقٍ عِنْدَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَسَنُعِيدُهُ هَاهُنَا، لِنَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعِتْقِ. فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَهَا فِي دُخُولِ الدَّارِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدْخُلَهَا، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ، فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَتُطَلَّقُ بِحِنْثِهِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ أَوْ يَمْلِكُهَا، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ فَقَدْ كَانَ فِي زَمَانٍ لَا يَلْزَمُهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ. وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَلَمْ تُطَلَّقْ عَلَيْهِ، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْحِنْثَ إِذَا وَقَعَ مَرَّةً لَمْ يَقَعْ ثَانِيَةً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 402 وَبَيَانُهُ: أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ انْحَلَّتْ بِهِ الْيَمِينُ، فَسَقَطَ حُكْمُهَا، وَإِذَا انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لَمْ تَعُدْ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، ثم يدخل الدَّارَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، فَيَكُونُ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَوُجُودُ الْحِنْثِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَ النِّكَاحَيْنِ حِنْثٌ، فَالْحِنْثُ مُعْتَبَرٌ بِصِفَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِ عَادَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثًا لَمْ تَعُدِ الْيَمِينُ عَلَى الْجَدِيدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَصَارَ فِي حِنْثِهِ بِدُخُولِهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْيَمِينِ، وَالْحِنْثِ فِي زَمَانٍ يَمْلِكُ فِيهِ الطَّلَاقَ، فَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي النِّكَاحَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ مَوْجُودًا، لِأَنَّهَا يَمِينٌ انْعَقَدَتْ قَبْلَ هَذَا النِّكَاحِ، فَارْتَفَعَتْ بِزَوَالِ مَا انْعَقَدَتْ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلَا عِتْقٌ قَبْلَ مِلْكٍ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي الطَّلَاقِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْعِتْقِ. فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ لَمْ أَضْرِبْكَ غَدًا، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْتِيَ غَدٌ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ ضَرَبَهُ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِهِ بَرَّ، وَلَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ضَرْبِهِ حَنِثَ وَعُتِقَ عَلَيْهِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنْ عَجَزَ على ضَرْبِهِ بِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَفِي حِنْثِهِ وَعِتْقِهِ قولان في حنث الناس وَالْمُكْرَهِ، فَإِنْ جَاءَ غَدٌ، فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى فَاتَ ضَرْبُهُ إِمَّا بِمَوْتِ السَّيِّدِ أَوْ بِهَرَبِ الْعَبْدِ أَوْ بَيْعِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْغَدِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِلضَّرْبِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا عِتْقَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْغَدِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِضَرْبٍ، فَيَحْنَثُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَفُوتَ الضَّرْبُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْغَدِ مَا يَتَّسِعُ لِلضَّرْبِ، فَفِي حِنْثِهِ وَعِتْقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ ضَرْبِهِ بَعْدَ إمكانه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 403 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، لِتَقَدُّمِهِ عَلَى زَمَانِ عِتْقِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ غَدِهِ، وَيَبْتَاعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ غَدِهِ، فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ الْحِنْثِ قَدْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ، وَيَرْجِعُ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ، لِاسْتِحْقَاقِ عِتْقِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ قَدْ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ مُشْتَرِيهِ، نَفَذَ عِتْقُهُ، وَإِنْ رَهَنَهُ قَبْلَ غَدِهِ، وَافْتَكَّهُ بَعْدَ غَدِهِ، فَفِي عِتْقِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مِنْ نُفُوذِ الْعِتْقِ في العبد المرهون: أحدهما: يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ. وَالثَّالِثُ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي إِعْسَارِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ غَدِهِ، وَيَبْتَاعَهُ قَبْلَ غَدِهِ، وَلَا يَضْرِبُهُ فِي غَدِهِ، فَهَذِهِ يَمِينٌ انْعَقَدَتْ فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ، وَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْمِلْكِ الثَّانِي، وَلَمْ يَمْضِ شَرْطُ الْحِنْثِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ، فَيَصِيرُ كَعَقْدِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ، وَوُقُوعِهِ فِي آخَرَ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ بَيْعُهُ فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ جَارِيًا مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنه يجري مجرى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فِيهَا شَرْطٌ مَانِعٌ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ أَزَالَ حُقُوقَ الْمِلْكِ، كَمَا أَزَالَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ حُقُوقَ النِّكَاحِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ ضَرَبْتُكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إنَّهُ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا آلَمَ جِسْمَهُ مِنْ فِعْلٍ كَالْعَضِّ وَالرَّفْسِ وَكُلِّ مَا آلَمَ قَلْبَهُ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 404 وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَا آلَمَ جِسْمَهُ مِنْ فِعْلٍ كَالْعَضِّ وَالْخَنْقِ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ قَلْبَهُ مِنْ قَوْلٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ قَلْبَهُ مِنْ قَوْلٍ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا آلَمَ جِسْمَهُ إِلَّا مَا انْطَلَقَ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْنَثُ بِخَنْقِهِ وَعَضِّهِ، لِانْتِفَاءِ اسْمِ الضَّرْبِ عَنْهُ، وَيَحْنَثُ بِمَا وَصَلَ إِلَى جِسْمِهِ مِنْ آلَةٍ بِيَدِهِ. وَفِي حِنْثِهِ إِنْ لَكَمَهُ أَوْ لَطَمَهُ أَوْ رَفَسَهُ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: قَدْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ أَسْمَاءُ الضَّرْبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الضَّرْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا كَانَ بِآلَةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حرٌّ إِنْ بِعْتُكَ فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ بِبَيْعِ خيارٍ فَهُوَ حرٌّ حِينَ عَقَدَ الْبَيْعَ وَإِنَّمَا زَعَمْتُهُ مِنْ قِبَلِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، قَالَ وَتَفَرُّقُهُمَا بِالْأَبْدَانِ فَقَالَ فَكَانَ لَوْ أَعْتَقَهُ عُتِقَ فَيُعْتَقُ بِالْحِنْثِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَيْسَ يَخْلُو مَعَ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ لَهُ: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَيُعْتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، بَعْدَ تَمَامِهِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُ الْبَائِعِ فِيهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَنَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ بِالْحِنْثِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ إِثْبَاتَ خِيَارٍ وَلَا إِسْقَاطَهُ فيعتق عليه عند الشافعي؛ لأنه يثبت للمتابيعين خِيَارُ الْمَجْلِسِ، مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فِيهِ بِأَبْدَانِهِمَا بِالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ. وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ عِنْدَهُمَا نَاجِزًا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا. وَإِذَا عُتِقَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِنُفُوذِ عِتْقِهِ عَلَى الْبَائِعِ، فَصَارَ نُفُوذُ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ نَسْخًا يُوجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في صحة البيع واشرط عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطَ لَازِمٌ يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ الخيار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 غَرَرٌ، فَكَانَ إِسْقَاطُهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَسَمَّاهُ بَيْعَ الْخِيَارِ لِمَا شُرِطَ فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ " عَلَى هَذَا الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ بَيْعَ خِيَارٍ " عَلَى هَذَا الْبَيْعِ، لِأَنَّ فَحْوَى كَلَامِهِ يَقْتَضِي إِذَا كَانَ بَيْعَ خِيَارٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ مَاضِيًا وَالْخِيَارُ مُرْتَفِعًا، وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُنَافٍ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ، فَأَبْطَلَهُ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ بُطْلَانِ الْبَيْعِ. وَيَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " فَبَاعَهُ بَيْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ " مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ. وَالثَّالِثُ: وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْبُوَيْطِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَمُرَادُهُ بِهِ الرد على مالك وأبي حنيفة في إسقاطها خِيَارَ الْمَجْلِسِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ اسْمُ بَيْعِ الْخِيَارِ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ، كَمَا تَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَالْبَيْعَ جَائِزٌ وَلَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ شَرْطُ الْخِيَارِ، لِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَجَرَى مَجْرَى إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا بِالْبَيْعِ، وَصَحَّ الْبَيْعُ مَعَ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بَعْدَ الصِّحَّةِ بِعِتْقِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ وَهَبْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ عُتِقَ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يُعْتَقُ بِالْبَذْلِ وَحْدَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْبَذْلَ أَوَّلُ الْعَقْدِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِ بِالْبَذْلِ، حَتَّى يَتَعَقَّبَهُ الْقَبُولُ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَذْلِ لَا يَكُونُ عَقْدًا فِيهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنِ اسْتَخْدَمْتُكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَخَدَمَهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُعْتَقْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدَ غَيْرِهِ، فَخَدَمَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَحْنَثَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عَبْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ لِخِدْمَتِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِاسْتِخْدَامِهِ، وَعَبْدَهُ مَنْدُوبٌ لِخِدْمَتِهِ، فَكَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُ رِضًا، وَالرِّضَا مِنْهُ اسْتِخْدَامٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الِاسْتِخْدَامَ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْخِدْمَةِ، فَافْتَقَرَ إِلَى أَمْرٍ. وَالثَّانِي: إنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ العمل والاستعمال، فلما لم ينطلق على العلم اسْمُ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَى الْخِدْمَةِ اسْمُ الاستخدام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 406 (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ: مَنْ بَشَّرَنِي مِنْكُمْ بِخَبَرِ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ، فَإِنْ بِشَّرَهُ أَحَدُهُمْ بِخَبَرٍ سَارٍّ لِزَيْدٍ عُتِقَ، وَإِنْ بِشَّرَهُ بِخَبَرٍ مَكْرُوهٍ لِزَيْدٍ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَقُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَغَيُّرِ الْبَشَرَةِ، وَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِالْمَكْرُوهِ كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالسَّارِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ قَدْ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ لِلسَّارِّ مِنَ الْأَخْبَارِ دُونَ الْمَكْرُوهِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْحَالِفِ مَعَ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ صَدِيقًا لَهُ لَمْ يُعْتَقْ بِالْخَبَرِ الْمَكْرُوهِ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لَهُ عُتِقَ بِالْخَبَرِ المكروه، لأن بَشَّرَهُ، فَصَارَ بِشَارَةً عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا، فَبَشَّرَهُ بِخَبَرٍ سَارٍّ عُتِقَ، وَإِنْ سَاءَهُ الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِشَارَةٌ. فَإِذَا تَقَرَّرَ الْخَبَرُ الَّذِي يُعْتَقُ بِهِ، فَإِنْ بَشَّرَهُ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِهِ عُتِقَ، وَإِنْ بَشَّرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عَبِيدِهِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عُتِقَ الْأَوَّلُ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَكُونُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ بَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عُتِقُوا جَمِيعًا. وَإِنْ بَشَّرَهُ جَمِيعُ عَبِيدِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " مَنْ بَشَّرَنِي مِنْكُمْ " يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ دُونَ الْجَمِيعِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ زَيْدٍ، فَأَخْبَرَهُ جَمِيعُهُمْ بِقُدُومِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ أَوِ انْفِرَادٍ عُتِقُوا جَمِيعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِخِلَافِ الْبِشَارَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُ تَبْعِيضُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ حَرْفَ التَّبْعِيضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: مَنْ يَسْبِقْ بِدُخُولِ الدَّارِ مِنْ عَبِيدِي، فَهُوَ حُرٌّ، فَأَيُّهُمْ سَبَقَ بِالدُّخُولِ عُتِقَ، وَلَمْ يُعْتَقْ مَنْ بَعْدَهُ، فَإِنْ سَبَقَ بِالدُّخُولِ اثْنَانِ مَعًا، ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمَا ثَالِثٌ عُتِقَ الْأَوَّلَانِ دُونَ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُمَا سَبَقَاهُ. وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدَهُمَا ثَالِثٌ، لَمْ يُعْتَقَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا سَابِقٌ. وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، فَدَخَلَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُ فَفِي عِتْقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَقُ، لِأَنَّهُ أَوَّلٌ. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَقُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا تَعَقَّبَهُ آخَرُ. وَلَوْ قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ، فَدَخَلَهَا اثْنَانِ وَاحِدٌ بعد واحد. فإن لم يكن له غَيْرُهُمَا عُتِقَ الثَّانِي مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَيْرُهُمَا لَمْ يُعْتَقِ الثَّانِي إِلَّا أَنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 407 يَمُوتَ الثَّالِثُ أَوْ يَمُوتَ السَّيِّدُ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَهَا الثَّالِثُ، فَيَصِيرَ حُرًّا. فَإِنْ كَانَ لَهُ وَقْتَ يَمِينِهِ عَبْدَانِ، فَاشْتَرَى ثَالِثًا، وَدَخَلَ الْأَوَّلَانِ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ عُتِقَ الثَّانِي، لِأَنَّ الثَّالِثَ لَا يُعْتَقُ بِالدُّخُولِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " ولو قال إِنْ زَوَّجْتُكَ أَوْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حرٌّ فَزَوَّجَهُ أبو بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِالْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ فِي انْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ اعْتِبَارًا بِاسْمِ الْعَقْدِ فِي اللُّغَةِ دُونَ الشَّيْءِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، لِأَنَّهُ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَمَنَعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ. هَذَا الْفَرْقُ مَدْفُوعٌ، وَهُوَ مِنَ الْعَقْدَيْنِ مَمْنُوعٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ عُرْفُ لُغَةٍ وَعُرْفُ شَرْعٍ كَانَ عُرْفُ الشَّرْعِ مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِمَا بِالْفَسَادِ مَا اخْتَصَّ بِهِمَا مِنَ الْأَحْكَامِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمَا مَا عَلِقَ بِهِمَا مِنَ الْأَيْمَانِ. (فَصْلٌ:) إِذَا قَالَ: مَنْ تَسَرَّيْتُ بِهَا مِنْ جَوَارِيَّ، فَهِيَ حُرَّةٌ، فَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ يَمِينِهِ عُتِقَتْ. وَإِنْ تَسَرَّى بِجَارِيَةٍ مَلَكَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ تُعْتَقْ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذِ الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ بِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ. فَأَمَّا التَّسَرِّي الَّذِي يُعْتَقُ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عُرْفٌ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ اللُّغَةِ، وَالِاسْتِعْمَالِ. فَأَمَّا اللُّغَةُ، فَفِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ التَّسَرِّي خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّرُورِ، وَلِأَنَّهُ مَسْرُورٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَالثَّانِي: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرْوِ، لِأَنَّهَا أَسْرَى جَوَارِيهِ عنده. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 408 وَالثَّالِثُ: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرَاءِ، وَهُوَ الظَّهْرُ، لِأَنَّهَا كَالظَّهْرِ الْمَرْكُوبِ. وَالرَّابِعُ: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرَرِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِجِمَاعِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّتْرِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَتَرَهَا بِالْخِدْرِ بَعْدَ الْبِذْلَةِ، وَسَتَرَ جِمَاعَهَا بِالْإِخْفَاءِ. وَأَمَّا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي التَّسَرِّي، فَهُوَ طَلَبُ الْوَلَدِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ وَالْجِمَاعِ، وَقَدْ نَصَّ عليه الشافعي في الأمر فِي اللِّعَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَسَرِّيًا بِهَا إِذَا جَامَعَ وَأَنْزَلَ، وَلَا يَصِيرُ مُتَسَرِّيًا إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مُتَسَرِّيًا إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ، وَخَرَّجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَجْهًا ثَانِيًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى عُرْفِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ نَاقِلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي تَخْدِيرِهَا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي كَمَالِ السِّرَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ، لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ وَاللُّغَةِ جَارِيَانِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ، حَتَّى يُخَدِّرَهَا وَيَسْتُرَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ، لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُ تَخْدِيرَ الْأَمَةِ، فَصَارَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ مَخْصُوصًا بِهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَدِّرْهَا. فَأَمَّا جِمَاعُهَا دُونَ الْفَرَجِ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَسَرِّيًا وَجْهًا وَاحِدًا، وَوَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَيْسَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَسَرِّيًا. (فَصْلٌ:) وَإِذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِذَا جَاءَ غَدٌ، فَأَحَدُكُمَا حُرٌّ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ، وَهُمَا فِي مِلْكِهِ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا، وَعَيَّنَ الْعِتْقَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ غَدٍ، وَجَاءَ غَدٌ وَأَحَدُهُمَا باقٍ عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ ارْتَفَعَ بِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا أُبْهِمَ بِاللَّفْظِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْحُكْمِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ، وَعَبْدِ غَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا حُرٌّ، لَمْ يَتَعَيَّنِ الْعِتْقُ فِي عَبْدِهِ؟ وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، لَمْ يَتَعَيَّنِ الطَّلَاقُ فِي زَوْجَتِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 409 فَعَلَى هَذَا إِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوِ اشْتَرَاهُ قَبْلَ غَدٍ، وَجَاءَ غَدٌ، وَهُمَا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ قِيلَ بِعَقْدِ الْيَمِينِ فِي الْمَبِيعِ عُتِقَ أَحَدُهُمَا وَعَيَّنَ الْعِتْقَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ فِي الْمَبِيعِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 410 باب جامع الأيمان الثاني (مسألة:) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ فَأَكَلَ رُؤُوسَ الْحِيتَانِ أَوْ رُؤُوسَ الطَّيْرِ أَوْ رُؤُوسَ شيءٍ يُخَالِفُ رُؤُوسَ الْغَنَمِ وَالِإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَمْ يَحْنَثْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ النَّاسُ إِذَا خُوطِبُوا بِأَكْلِ الرُّؤُوسِ إِنَّمَا هِيَ مَا وَصَفْنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بلادٌ لَهَا صيدٌ يَكْثُرُ كَمَا يَكْثُرُ لَحْمُ الأنعام في السوق وتميز رُؤُوسُهَا فَيَحْنَثُ فِي رُؤُوسِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ. مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ عُمُومَ الرُّؤُوسِ كُلِّهَا مِمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَا سُمِّيَ رَأْسًا مِمَّا يُفْصَلُ مِنْ أَبْدَانِهَا، كَرُؤُوسِ الْغَنَمِ أَوْ لَا يُفْصَلُ كَرُؤُوسِ الطَّيْرِ، وَالْحِيتَانِ، اعْتِبَارًا بِمُرَادِهِ فِيمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ تَخْصِيصَ نَوْعٍ مِنَ الرُّؤُوسِ بِعَيْنِهَا دُونَ مَا عَدَاهَا، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا وَحْدَهَا، سَوَاءٌ انْفَصَلَ فِي الْعُرْفِ أَوْ لَمْ يَنْفَصِلْ. وَلَا يَحْنَثْ بِأَكْلِ مَا عَدَاهَا، اعْتِبَارًا بِمُرَادِهِ فِي التَّخْصِيصِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الرُّؤُوسِ، وَلَا تَكُونُ لَهُ إِرَادَةٌ فِي عُمُومٍ، وَلَا تَخْصِيصٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي مَا انْطَلَقَ اسْمُ الرَّأْسِ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الطَّيْرِ. وَالْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ، وَإِنِ اتَّفَقَ عَلَيْهَا حَقِيقَةُ اسْمِ الرُّؤُوسِ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ، فَصَارَتِ الْحَقِيقَةُ مَخْصُوصَةً بِالْعُرْفِ، كَمَا خُصَّتِ الْأَرْضُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ عَلَى بِسَاطٍ بِالْعُرْفِ، وَكَمَا خُصَّتِ الشَّمْسُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ بِالْعُرْفِ. وَإِذَا كَانَ الْحِنْثُ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِالْعُرْفِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ مِنْ أَكْلِ الرُّؤُوسِ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهَا مِنْ رُؤُوسِ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ، وَهُوَ عُرْفُ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُمْ يَفْصِلُونَ رُؤُوسَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَجْسَادِهَا، وَيُفْرِدُونَ بَيْعَهَا فِي أَسْوَاقِهَا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 411 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْإِبِلِ، وَهُوَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِإِفْرَادِ رُؤُوسِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالْبَيْعِ بَعْدَ انْفِصَالِهَا دُونَ رُؤُوسِ الْإِبِلِ، وَتَعْلِيلًا بِأَنَّ رُؤُوسَ الْغَنَمِ تُشْوَى وَتُكْبَسُ، وَرُؤُوسَ الْبَقَرِ تُكْبَسُ وَلَا تُشْوَى، وَرُؤُوسَ الْإِبِلِ لَا تُشْوَى، وَلَا تُكْبَسُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْغَنَمِ وَحْدَهَا، اعْتِبَارًا بِعُرْفِ بَغْدَادَ، وَتَعْلِيلًا بِأَنَّهَا تُشْوَى وَتُكْبَسُ، وَلَا يُجْمَعُ الْأَمْرَانِ فِي غَيْرِهَا، وَكِلَا التَّعْلِيلَيْنِ دَعْوَى مَدْفُوعَةٌ، لِوُجُودِ الْأَمْرَيْنِ فِي الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حِنْثِهِ بِرُؤُوسِ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُهُمَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: لِاخْتِصَاصِهَا بِقَطْعِ رُؤُوسِهَا عَنْ أَجْسَادِهَا، وَإِفْرَادِ بَيْعِهَا فِي أَسْوَاقِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْفَلَوَاتِ يَكْثُرُ فِيهَا الصَّيْدُ وَتُقْطَعُ رُؤُوسُهُ مِنْ أَجْسَادِهِ، وَيُفْرَدُ بَيْعُهُ فِي أَسْوَاقِهِ أَوْ كَانَ فِي بِلَادِ الْبِحَارِ بَلَدٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحِيتَانُ وَتُقْطَعُ رُؤُوسُهَا عَنْ أَجْسَادِهَا، وَيُفْرَدُ بَيْعُهَا فِي أَسْوَاقِهَا حَنِثَ أَهْلُهَا بِأَكْلِ رُؤُوسِهَا، كَمَا يَحْنَثُ أَهْلُ أَمْصَارِ الرِّيفِ بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْغَنَمِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عُرْفُ هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِهَا أَوْ عَامًّا فِيهِمْ، وَفِي الطَّارِئِ إِلَيْهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ خَاصٌّ فِي أَهْلِهَا دُونَ الطَّارِئِ إِلَيْهَا، تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الْحَالِفِ، فَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الرِّيفِ إِلَى بِلَادِ الْفَلَوَاتِ وَالْبِحَارِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا برؤوس الغنم وَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ إِلَى أَمْصَارِ الرِّيفِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا بِرُؤُوسِ الصيد وَإِنْ دَخَلَ أَهْلِ الْبِحَارِ إِلَى أَمْصَارِ الرِّيفِ لَمْ يَحْنَثُوا إِلَّا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْحِيتَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ عَامٌّ فِي أَهْلِهَا، وَفِي الطَّارِئِ إِلَيْهَا؛ تَغْلِيبًا لِعُرْفِ الْمَكَانِ، فَإِنْ دَخَلَ أَهْلُ الرِّيفِ إِلَى بِلَادِ الْفَلَوَاتِ، حَنِثُوا بِرُؤُوسِ الصَّيْدِ، وَإِنْ دَخَلُوا إِلَى بِلَادِ الْبِحَارِ حَنِثُوا بِرُؤُوسِ الْحِيتَانِ. وَإِنْ دخل أهل الفلوات والبحار إلا بِلَادِ الرِّيفِ حَنِثُوا بِرُؤُوسِ النَّعَمِ. وَفِي بَقَاءِ حنثهم يعرف بِلَادِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ باقٍ عَلَيْهِمْ لِاسْتِقْرَارِهِ عِنْدَهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ أَهْلُ الرِّيفِ فِي بلاد الفلوات بأكل رؤوس الصيد، ويأكل رُؤُوسِ النَّعَمِ، وَيَحْنَثُونَ فِي بِلَادِ الْبِحَارِ بِأَكْلِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 412 رُؤُوسِ الْحِيتَانِ مَعَ رُؤُوسِ النَّعَمِ، وَيَحْنَثُ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ، فِي بِلَادِ الرِّيفِ بِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ، وَأَكْلِ رُؤُوسِ الصَّيْدِ، وَيَحْنَثُ أَهْلُ الْبِحَارِ فِيهَا بِأَكْلِ رُؤُوسِ الْحِيتَانِ، وَبِأَكْلِ رُؤُوسِ النَّعَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ يَزُولُ عَنْهُمْ فِي بِلَادِهِمْ بِانْتِقَالِهِمْ عَنْهَا، فَلَا يَحْنَثُ أَهْلُ الْفَلَوَاتِ وَالْبِحَارِ فِي بِلَادِ الرِّيفِ إِلَّا بِرُؤُوسِ النَّعَمِ. وَلَا يَحْنَثُ أَهْلُ الرِّيفِ فِي بِلَادِ الْفَلَوَاتِ إِلَّا بِرُؤُوسِ الصَّيْدِ، وَفِي بِلَادِ الْبِحَارِ إِلَّا بِرُؤُوسِ الْحِيتَانِ. فَهَذَا حُكْمُ التَّعْلِيلِ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَعْلِيلِ حِنْثِهِ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِهِمْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَإِفْرَادُ أَكْلِهَا مُخْتَصٌّ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِمَّنْ قَالَ: أكلت الرؤوس إلا رؤوس النعم، وغيرها يؤكل مع أجسادها. وفي التعليل تميز مِنْ وَجْهٍ، وَامْتِزَاجٌ مِنْ وَجْهٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ عُرْفُ الْبَلَدِ خَاصًّا فِيهِ أَوْ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وهو الظاهر في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُ يَصِيرُ عاماً فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا، فَيَحْنَثُ جَمِيعُهُمْ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ عَرَفْنَا أَنَّ لِبَعْضِ الْبِلَادِ عُرْفًا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا، فَيَحْنَثُ جَمِيعُهُمْ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ وَرُؤُوسِ الصَّيْدِ وَالْحِيتَانِ، حَنِثَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ لَمْ يَحْنَثُوا. وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا خَصَّ الْحِنْثَ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ بَلَدٍ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ عَلِمَ لَحَنَّثَ بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ كَمَا حَنَّثَ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ وَلِذَلِكَ حَنَّثَ الْقَرَوِيَّ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، فَسَكَنَ بَيْتَ مِنْ بُيُوتِ الْبَادِيَةِ، لِأَنَّ عُرْفَ الْبَادِيَةِ جَارٍ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَعَادَتُهُ خُبْزُ الْبُرِّ، فَأَكَلَ خُبْزَ الشَّعِيرِ، حَنِثَ بِهِ، لِأَنَّ عُرْفَ أَهْلِ الْفَاقَةِ جاز بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، إنَّ عُرْفَ كُلِّ بَلَدٍ مَخْصُوصٌ فِي أَهْلِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ وَيَحْنَثُ أَهْلُ الكوفة برؤوس البقر والغنم، ولا يحنث بِرُؤُوسِ الْإِبِلِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ أَهْلِهَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَيَحْنَثُ أَهْلُ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ بِرُؤُوسِ الْغَنَمِ، وَلَا يَحْنَثُونَ بِرُؤُوسِ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 413 اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُحَنِّثِ الْقَرَوِيَّ بِسُكْنَى بَيْتِ الشَّعْرِ. فَإِنِ انْتَقَلَ أَهْلُ بَلَدٍ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ إِلَى بَلَدٍ يُخَالِفُونَهُمْ فِي الْعُرْفِ، فَفِيمَا يَحْنَثُونَ بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ هِيَ مَجْمُوعُ مَا شَرَحْنَاهُ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ بَلَدِهِمُ الَّذِي انْتَقَلُوا عَنْهُ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلُوا إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ البلدين معاً. والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ وَهُوَ بَيْضُ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالنَّعَامِ الَذِي يُزَايِلُ بَائِضَهُ حَيًّا فَأَمَّا بَيْضُ الْحِيتَانِ فَلَا يَكُونُ هَكَذَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُرِدْ تَخْصِيصَ نَوْعٍ مِنْهُ، حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ بَيْضٍ فَارَقَ بَائِضَهُ حَيًّا مِنْ مَأْلُوفٍ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، وَنَادِرٍ كَالنَّعَامِ وَالْأوَزِّ وَالْعَصَافِيرِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْبَيْضِ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ النَّادِرِ مِنْ بَيْضِ الْإِوَزِّ وَالْعَصَافِيرِ، كَمَا يَحْنَثُ فِي أَكْلِ الرُّؤُوسِ بِالْمُعْتَادِ دُونَ النَّادِرِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ خُرُوجَ النَّادِرِ مِنَ الْبَيْضِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ لِعِزَّتِهِ وَفَقْدِهِ، وَخُرُوجُ النَّادِرِ مِنَ الرُّؤُوسِ عَنِ الْمُعْتَادِ مَعَ وُجُودِهِ وَمُكْنَتِهِ، فَافْتَرَقَا. وَالثَّانِي: إنَّ جَمِيعَ الْبَيْضِ مِنْ نَادِرٍ وَمُعْتَادٍ مُفْرَدٌ بِالْأَكْلِ فَجَرَى جَمِيعُهُ مَجْرَى الْخَاصِّ مِنَ الرُّؤُوسِ الْمُفْرَدَةِ بِالْأَكْلِ. وَأَمَّا بَيْضُ الْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ، فَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يُفَارِقُ بَائِضَهُ حَيًّا، فَصَارَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ خَارِجًا مِنَ الْعُرْفِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ جِسْمِهِ. وَيُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ بَيْضَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، إِنَّهُ قَدْ أَكَلَ سَمَكًا وَجَرَادًا، فَصَارَ كَلَحْمِهِ، فَلَوْ ذَبَحَ دَجَاجَةً فِي جَوْفِهَا بَيْضٌ وَصَلَ إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُزَايِلْ بَائِضَهُ حَيًّا، فَصَارَ كَبَيْضِ السَّمَكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مَعَ حَيَاةِ بَائِضِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ما ذكرنا من حنثه بكل الْبَيْضِ مِنْ نَادِرٍ وَمُعْتَادٍ، حَنِثَ بِأَكْلِ الْمُعْتَادِ أَهْلُ النَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 414 وَأَمَّا النَّادِرُ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ أَهْلُ النَّادِرِ كَبَيْضِ النَّعَامِ، يَحْنَثُ بِهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَفِي حِنْثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُونَ بِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْقُرَى يَحْنَثُونَ بِسُكْنَى بُيُوتِ الشَّعْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُونَ بِهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْقُرَى لَا يَحْنَثُونَ بسكنى بيوت الشعر. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا حَنَثَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ لِأَنَّهُ كُلُّهُ لحمٌ وَلَا يَحْنَثُ فِي لَحْمِ الْحِيتَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَغْلَبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ لَحْمٍ مِنْ أَهْلِيٍّ كَالنَّعَمِ، وَوَحْشٍ كَالصَّيْدِ وَالطَّائِرِ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ، لِأَصْلٍ أُوَضِّحُهُ، يَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا، لِيَسْلَمَ مِنَ التَّنَاقُضِ وَهُوَ: إنَّ الِاسْمَ اللُّغَوِيَّ إِذَا انْطَلَقَ عَلَى أَعْيَانٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطَابِقَهُ الْعُرْفُ فِي جَمِيعِهَا، فَيُحْمَلَ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا طَابَقَهُ مِنَ الْعُرْفِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا. فَالْعُرْفُ الْعَامُّ أَنْ يَحْلِفَ: لَا آكُلُ رَطْبًا، فَيَحْنَثُ بِجَمِيعِ الْأَرْطَابِ مِنْ لَذِيذٍ وَغَيْرِ لَذِيذٍ، مِنْ مُسْتَطَابٍ وَغَيْرِ مُسْتَطَابٍ، أَوْ يَحْلِفُ: لَا آكُلُ بَقْلًا، فَيَحْنَثُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ لَذِيذٍ وَغَيْرِ لَذِيذٍ. وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ أَنْ يَحْلِفَ: لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، فَيَحْنَثُ كُلُّ غَنِيٍّ وفقير بلبس كل ثوب من مرتفع ودانٍ، فيحنث الملك بلبس الصوف، وإن خرج بدخوله في عرف مِنْ عُرْفِهِ وَدَخَلَ فِي عُرْفِ الْفُقَرَاءِ وَيَحْنَثُ الْفَقِيرُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ الْأَغْنِيَاءِ مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي اسْمِ الثَّوْبِ، فَلَمْ يَخْرُجْ بَعْضُهَا بِعُرْفٍ خَاصٍّ إِذَا طَابَقَهُ عُرْفٌ خَاصٌّ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا حَنِثَ كُلُّ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ بِأَكْلِ كُلِّ مَخْبُوزٍ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَأُرْزٍ وَذُرَةٍ، فَيَحْنَثُ الْغَنِيُّ بِأَكْلِ خُبْزِ الشعير، وإن خرج عن عرفه، لدخول فِي عُرْفِ الْفَقِيرِ، وَيَحْنَثُ الْفَقِيرُ بِخُبْزِ الْبُرِّ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ، لِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ الْغَنِيِّ مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي اسْمِ الْخُبْزِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ الِاسْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ، فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِإِلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْوُجُودِ، فَيَصِيرُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى مَا خَصَّهُ الْعُرْفُ دُونَ مَا عَمَّهُ الِاسْمُ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِمَّنْ حَلَفَ لَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 415 يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ أَنَّ حِنْثَهُ مُخْتَصٌّ بِرُؤُوسِ النَّعَمِ، لِإِضَافَةِ رُؤُوسِ غَيْرِهَا إِلَى أَجْسَادِهَا، وَاخْتِصَاصِ النَّعَمِ بِانْفِرَادِهِ مِنْ بَيْنِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِتَعَذُّرِهِ أَوْ لِعِزَّتِهِ، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى مَا عَمَّهُ الِاسْمُ دُونَ ما خصه العرف. فاللحم خرج من عرف لَحْمُ الصَّيْدِ، لِتَعَذُّرِهِ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ لِعِزَّتِهِ، وَغَلَاءِ ثَمَنِهِ، فَامْتَنَعَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ بِالْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، فَصَارَ مَا عَمَّ مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِهِ، بِعُرْفٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الْبَيْضِ: إِنَّهُ يَحْنَثُ بِبَيْضِ الْعَصَافِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِعُرْفٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ كَاللَّحْمِ وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْضِ السَّمَكِ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِعُرْفٍ مُسْتَقِرٍّ كَالرُّؤُوسِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ لِاسْمٍ خَاصٍّ هُوَ أَغْلَبُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا عَلَى خُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومٍ، كَلَحْمِ الْحِيتَانِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ فِي الْعُمُومِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياً) {النحل: 14) . لَكِنَّ اسْمَ السَّمَكِ أَخَصُّ بِهِ مِنِ اسْمِ اللَّحْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، اعْتِبَارًا بِخُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الِاسْمِ دُونَ خُصُوصِهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْخَاصَّ أَغْلَبُ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْجَبَ. وَالثَّانِي: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا وَالشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَجْلِسُ فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَمَسُّ وَتَدًا، فَمَسَّ جَبَلًا، لَمْ يَحْنَثِ اعْتِبَارًا بِخُصُوصِ الِاسْمِ دُونَ عُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ فِي لَحْمِ السَّمَكِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَرَوِيِّ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، فَسَكَنَ بَيْتَ شَعْرٍ، هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِعُرْفٍ أَوِ اسْمٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِعُرْفٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَجَعَلَهُ حَانِثًا بِهِ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِاسْمٍ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى خَيْمَةً وَفُسْطَاطًا، فَلَمْ يَجْعَلْهُ حَانِثًا بِهِ كَلَحْمِ السَّمَكِ، وَحَنِثَ الْبَدَوِيُّ بِسُكْنَى بُيُوتِ الْمَدَرِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ دُونَ الِاسْمِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ مَا قَرَّرْنَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ، لِيَسْلَمَ مِنَ الْإِشْكَالِ فَإِذَا حَنِثَ فِي اللَّحْمِ بِكُلِّ لَحْمٍ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ، فَقَدِ اختلف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 416 أَصْحَابُنَا: هَلْ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ؟ أَوْ يَكُونُ مَخْصُوصًا فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَحْظُورِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ، فَيَحْنَثُ بِلَحْمِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ الِاسْمِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْحَظْرِ، كَمَا يَحْنَثُ بِاللَّحْمِ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَاحِ دُونَ الْمَحْظُورِ، فَلَا يَحْنَثُ بِلَحْمِ مَا حَرُمَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ وَحْشٍ أَوْ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا خُصَّتِ الْأَيْمَانُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، كَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِعُرْفِ الشرع؛ لأنه ألزم. والثاني: أنه قصد باليمين أَنْ حَظَرَ عَلَى نَفْسِهِ مَا اسْتُبِيحَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَخَرَجَ الْمَحْظُورُ مِنْ قَصْدِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ. وَأَمَّا الْمَغْصُوبُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ، وَأَنَّهُ حَظْرُ الْمَعْنَى خَاصٌّ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْعُمُومِ فِي الْإِبَاحَةِ. وَلَا فَرْقَ فِيمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مُشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَأَظُنُّهُ مَالِكًا: إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ نِيئًا، حَتَّى يُطْبَخَ أَوْ يُشْوَى؛ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي أَكْلِهِ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الطَّبْخَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ، يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِطَابَةُ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا فِي الْمُطْلَقِ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمُسْتَطَابُ الْمُسْتَلَذُّ. وَالثَّانِي: إنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ مَا لَاكَهُ مَضْغًا بِفَمِهِ، وَازْدَرَدَهُ إِلَى جَوْفِهِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النِّيءِ، كَوُجُودِهِ في المطبوخ والمشوي. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ أَوْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا فَمَاثَهُ فَشَرِبَهُ أَوْ لَا يَشْرَبُ شَيْئًا فَذَاقَهُ فَدَخَلَ بَطْنَهُ لَمْ يَحْنَثْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَنْوَاعٌ كَالْأَعْيَانِ، فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْيَمِينُ بِنَوْعٍ مِنْ فِعْلٍ، فهي كتعلقها بنوع من يمين، فلا يحنث بغير ذلك العين، كَمَا لَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ. وَالْأَكْلُ نَوْعٌ، وَالشُّرْبُ نَوْعٌ، وَالذَّوْقُ نَوْعٌ، وَالطَّعْمُ نَوْعٌ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ صِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هذا السويق، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 417 فشربه أن يَمْزُجَهُ بِالْمَاءِ، وَيَشْرَبَهُ كَشُرْبِهِ الْمَاءَ، فَإِنْ شَرِبَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَنِثَ. وَإِنْ بَلَّهُ حَتَّى اجْتَمَعَ وَأَكَلَهُ مَضْغًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ آكِلٌ وليس بشارب، ولم اسْتَفَّهُ سَفًّا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَارِبٍ وَلَا آكِلٍ وَإِنْ حَلَفَ لَا آكُلُ هَذَا الْخُبْزَ، فَأَكَلَهُ أَنْ يَمْضُغَهُ بِفَمِهِ، وَيَزْدَرِدَهُ إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَنِثَ، وَإِنْ رَضَّهُ، وَمَزَجَهُ بِالْمَاءِ وَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ شَارِبٌ، وَلَيْسَ بِآكِلٍ. وَلَوِ ابْتَلَعَهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآكِلٍ، وَلَا شَارِبٍ، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَّا بِمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ، فَإِنْ حَلَفَ لَا ذَاقَ هَذَا الطَّعَامَ، فَالذَّوْقُ أَنْ يَعْرِفَ طَعْمَهُ بِفَمِهِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ مَعْرِفَةِ طَعْمِهِ بِفَمِهِ إِلَى وُصُولِ يَسِيرٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يَكْمُلُ الذَّوْقُ إِلَّا بِوُصُولِ يَسِيرٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ، لِيَمُرَّ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ لَمْ يَصِلْ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْجَوْفِ لَمْ يَكُنْ ذَائِقًا، وَلَا حَانِثًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِلَّا مَعْرِفَةُ الطَّعْمِ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ، لِمُفَارَقَتِهِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُخْتَصَّانِ بِالْوُصُولِ إِلَى الْجَوْفِ. فَإِنْ أَكَلَ هَذَا الذَّائِقُ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ وَزَادَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَطْعَمُ هَذَا الطَّعَامَ، فَالتَّطَعُّمُ مَعْرِفَةُ طَعْمِهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِوُصُولِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ، فَإِذَا عَرَفَ طَعْمَهُ حَنِثَ، فَإِنْ ذَاقَهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَطَعَّمَ وَزَادَ. وَإِنْ حَلَفَ لَا أَطْعَمُ هَذَا الطَّعَامَ، حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِذَوْقِهِ وَطَعْمِهِ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ الطَّعْمِ وَالتَّطَعُّمِ، لِأَنَّ الطَّعْمَ مَا صَارَ طَعَامًا لَهُ، وَالتَّطَعُّمَ مَا عُرِفَ طَعْمُهُ. فَلَوْ أَوْجَرَ الطَّعَامَ بِقَمْعٍ فِي حَلْقِهِ، وَلَمْ يَدْنُ فِي لَهَوَاتِ فَمِهِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّوْقِ وَالتَّطَعُّمِ لَمْ يَحْنَثْ لِعَدَمِ شُرُوطِهَا فِي الوجود كُلِّهَا. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْ لَا يَطْعَمَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، فَصَارَ طعاماً له. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَهُ بِالْخُبْزِ أَوْ بِالْعَصِيدَةِ أَوْ بِالسَّوِيقِ حَنِثَ لِأَنَّ السَّمْنَ لَا يَكُونُ مَأْكُولًا إِلَّا بِغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَامِدًا فَيَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ جَامِدًا مُفْرَدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا السَّمْنُ، فَلَهُ حَالَتَانِ: جامد وذائب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 418 فَإِذَا حَلَفَ لَا آكُلُ سَمْنًا، فَلَهُ فِي أكله حالتان: أحدهما: أَنْ يَأْكُلَهُ مُنْفَرِدًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْكُلَهُ مَعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَكَلَهُ مُنْفَرِدًا، وَكَانَ جَامِدًا حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْجَامِدِ آكِلًا، وَلِلذَّائِبِ شَارِبًا. وَإِنْ أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ خُبْزٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ فِي عَصِيدَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حِنْثِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا، وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَكْلِ إِلَّا بِانْفِرَادِهِ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا، فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَ جَامِدًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا حَنِثَ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الْجَامِدِ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الذَّائِبِ إِلَّا مَعَ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ، كَمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا، سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا، لِأَنَّ اخْتِلَاطَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا، فَكَلَّمَ جَمَاعَةً هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا آكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ طَعَامًا، وَاشْتَرَى عَمْرٌو طَعَامًا، فَخَلْطَهُمَا وَأَكَلَهُمَا، حَنِثَ كَذَلِكَ السَّمْنُ إِذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ حَنِثَ بِأَكْلِهِمَا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ، فَإِذَا أَكَلَ السَّمْنَ مَعَ غَيْرِهِ، فَجَعَلَهُ عَصِيدًا، أَوْ بَلَّ فِيهِ خُبْزًا أَوْ لَتَّ فِيهِ سَوِيقًا، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ بَيَاضُ لَوْنِهِ إِذَا ثُرِدَ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ لِظُهُورِ صِفَتَيِ السَّمْنِ مِنْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا ثُرِدَ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّ السَّمْنَ قَدْ صَارَ بِعَدَمِ الصِّفَتَيْنِ مُسْتَهْلَكًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا يرد، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مُسْتَهْلَكَةٌ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِطَعْمِهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ إِذَا ثُرِدَ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ إِذَا أُكِلَ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، لِبَقَاءِ عَيْنِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فَقْدُ طَعْمِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 419 وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عَسَلًا وَلَا دبساً، كان كالسمن، لأنها يَجْمُدَانِ تَارَةً، وَيَذُوبَانِ أُخْرَى، وَيُؤْكَلَانِ مُنْفَرِدَيْنِ وَمُخْتَلِطَيْنِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ. فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَلًّا، فَالْخَلُّ ذَائِبٌ، وقل أن يجمد. وَإِنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ خُبْزٍ أَوْ فِي سكباجٍ فَإِنْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ حَنِثَ. وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، فَأَكْلَهُ بِغَيْرِهِ أَوْ طَبَخَهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا خَلَطَهُ بِهِ جَامِدًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ آكِلًا، وَلَا يَكُونُ شَارِبًا، وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَائِعٍ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ أَغْلَبَ، لِظُهُورِ لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ حنث بشربه، وإن كان مغلوباً لخفاء ولونه وطعمه لم يحنث. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ فَوَقَعَتْ فِي تمرٍ فَإِنْ أَكَلَهُ إِلَّا تَمْرَةً أَوْ هَلَكَتْ مِنْهُ تَمْرَةٌ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ أَكَلَهَا وَالْوَرَعُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ: لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ، فَأَكَلَهَا إِلَّا نَوَاهَا وَقَمَعَهَا حَنِثَ، لِأَنَّهُ أَكَلَ مَأْكُولَهَا، وَأَلْقَى غَيْرَ مَأْكُولِهَا، فَانْصَرَفَتِ الْيَمِينُ فِي الْأَكْلِ إِلَى الْمَأْكُولِ مِنْهَا، وَلَمْ تَنْصَرِفْ إِلَى غَيْرِ الْمَأْكُولِ. وَلَوْ أَكَلَهَا إِلَّا يَسِيرًا مِنْهَا كَنُقْرَةِ طَائِرٍ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ. وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، فَأَكَلَهُ إِلَّا لُقْمَةً مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ إِذَا أَكَلَ أَكْثَرَهُ، اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ إِذَا لَمْ يَكْمُلِ ارْتَفَعَ بِهِ الْحِنْثُ فِي الْحَالَيْنِ. فَأَمَّا إِذَا وَقَعَتِ التَّمْرَةُ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَأْكُلَهَا فِي تَمْرٍ اخْتَلَطَتْ بِهِ، فَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ التَّمْرِ حَنِثَ، لِإِحَاطَةِ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَهَا مَعَ غَيْرِهَا. وَقَدْ وَافَقَ عَلَى هَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَإِنْ خَالَفَ فِي السَّمْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ تُعِيدُهُ إِلَى الْوِفَاقِ. وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ التَّمْرِ إِلَّا تَمْرَةً، أَوْ هَلَكَ مِنْ جَمِيعِ التَّمْرِ تَمْرَةٌ، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قد أكل تلك التمرة، فيحنث. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 420 وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْبَاقِيَةُ الَّتِي لَمْ يَأْكُلْهَا، فَلَا يَحْنَثُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ، هَلْ أَكَلَهَا أَوْ لَمْ يَأْكُلْهَا، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا هِيَ الْبَاقِيَةُ، أَوِ الْهَالِكَةُ، فَصَارَ الْحِنْثُ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَالْحِنْثُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَمُسْتَحَبٌّ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ احْتِيَاطًا اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا فِي الْمَأْكُولِ، مَعَ تَجْوِيزِ بَقَائِهَا فِي الْعَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا عَلَّقْتُمْ حُكْمَ الْوُجُوبِ بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ هَذَا، فَحَكَمْتُمْ بِحِنْثِهِ، كَمَا حَكَمْتُمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، فَجَمَعَ مِائَةَ شِمْرَاخٍ، وَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً، وَشَكَّ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى جَسَدِهِ أَنَّهُ يَبِرُّ تَغْلِيبًا لِلظَّاهِرِ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى جَسَدِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ لَطَائِفُهَا. قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَعْدُودَ فِي الضَّرْبِ مَفعول، وَالْوُقُوعَ فِي الْمَحَلِّ مَعْلُومٌ، وَالْحَائِلَ دُونَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، يُعْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِالشَّكِّ، وَخَالَفَ التَّمْرَةُ، لِأَنَّ فِعْلَ الْأَكْلِ فِيهَا غير معلوم، وهو المختص بالشك، فاطرح. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَطَحَنَهَا أَوْ خَبَزَهَا أَوْ قَلَاهَا فَجَعَلَهَا سَوِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ قمحٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو يَمِينُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً مِنْ أَمْرَيْنِ: إِبْهَامٌ أَوْ تَعْيِينٌ. فَإِنْ أَبْهَمَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ حِنْطَةً، أَوْ لَا أَكَلْتُ الْحِنْطَةَ، فَهُمَا سَوَاءٌ، وَيَحْنَثُ بِأَنْ يَأْكُلَهَا حَبًّا صَحِيحًا، وَلَا يَحْنَثَ أَنْ يَأْكُلَهَا خُبْزًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَبْهَمَ صَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْعَيْنِ، فَيَحْنَثُ بِمَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَقَدْ زَالَ اسْمُ الْحِنْطَةِ عَنْهَا بَعْدَ طَحْنِهَا وَخَبْزِهَا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا كَلَّمَ صَبِيًّا، فَكَلَّمَ رَجُلًا أَوْ لَا أَكَلَ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ؟ وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ كَانَ صَبِيًّا، وَالتَّمْرَ قَدْ كَانَ رُطَبًا، لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي الْإِبْهَامِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ الْعَيْنِ. وَإِنْ عَيَّنَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ، تَعَيَّنَتِ الْحِنْطَةُ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ غَيْرِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الِاسْمِ عَلَيْهَا، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْيَمِينِ، لَا يقع الحنث إلا مع بقائه؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 421 فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ الِاسْمِ شَرْطٌ فِي الْحِنْثِ، فَإِنْ قَضَمَهَا حَبًّا حَنِثَ، لِبَقَاءِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ طَحَنَهَا، فَأَكَلَهَا خُبْزًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا لَمْ يَحْنَثْ، لِزَوَالِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَنْهَا. فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَجَرَى عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَصَارَتْ طَرِيقًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ عَنْهَا بَعْدَ الْهَدْمِ، كَزَوَالِ اسْمِ الْحِنْطَةِ عَنْهَا بَعْدَ الطَّحْنِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَنَاقَضَ مَذْهَبَهُ فِي الدَّارِ، فَجَعَلَهُ حَانِثًا بَعْدَ الْهَدْمِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَانِثًا فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الطَّحْنِ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي زَوَالِ الِاسْمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَيْنِ دُونَ الِاسْمِ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا خُبْزًا وَدَقِيقًا وَسَوِيقًا، كَمَا يَحْنَثُ بِقَضْمِهَا حَبًّا صَحِيحًا، احْتِجَاجًا بِأَنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِتَعْرِيفِ الْيَمِينِ. فَإِذَا عُرِفَتْ بِالتَّعْيِينِ سَقَطَ حُكْمُ الِاسْمِ اسْتِشْهَادًا بِمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ مِنْ هَذَا الْجَمَلِ، فَذَبَحَهُ وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذَّبْحِ جَمَلًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْمُسْتَفَادَ بِالتَّعْيِينِ هُوَ نَقْلُ الْحُكْمِ مِنْ عُمُومِ الْمُبْهَمِ إِلَى خُصُوصِ الْعَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُبْهَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الْمُعَيَّنِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْعَقْدَ اشْتَمَلَ عَلَى تَسْمِيَةٍ وَتَعْيِينٍ، فَلَمَّا كَانَ بَقَاءُ الْعَيْنِ شَرْطًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ الِاسْمِ شَرْطًا. فَأَمَّا الْجَمَلُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ الْجَمَلِ حَيًّا، وَيُمْكِنُ أَكْلُ الْحِنْطَةِ حَبًّا. وَالثَّانِي: إنَّ الشَّيْءَ مَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَمَلَ حَيًّا، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِ الْحِنْطَةِ حَبًّا. فَلِهَذَيْنِ مَا افْتَرَقَا فِي بَقَاءِ الِاسْمِ وَزَوَالِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ، فَاسْتَفَّهُ حَنِثَ، وَإِنْ خَبَزَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ اسْتَفَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ خَبَزَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ حَنِثَ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَكْسَ مَذْهَبِنَا، احْتِجَاجًا بِعُرْفِ الدَّقِيقِ، أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَخْبُوزًا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَذْبُوحًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعُرْفِ فِيهِ مَشْرُوطًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 422 أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِي الْحِنْطَةِ بَقَاءُ الِاسْمِ دُونَ الْعُرْفِ وِفَاقًا، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ فِي الدَّقِيقِ حِجَاجًا. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتْ فِيهِ الصِّفَةُ كَانَ اعْتِبَارُ صِفَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ صِفَةٍ تَحْدُثُ مِنْ بَعْدِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ، فَصَارَ تَمْرًا، أَوْ لَا آكُلُ هَذَا الْجَدْيَ، فَصَارَ تَيْسًا، أَوْ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ، فَصَارَ شَيْخًا، فَفِي الْحِنْثِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَحْنَثُ، لِانْتِقَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ كَالطَّعَامِ إِذَا طُحِنَ وَالدَّقِيقِ إِذَا خُبِزَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ، وَفَرَّقَ قَائِلُهُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ طَحْنِ الطَّعَامِ وَخَبْزِ الدَّقِيقَ، بِأَنَّ انْتِقَالَ هَذَا عَنْ حاله حادث من ذَاتِهِ، فَصَارَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مَنْسُوبًا إِلَى أَصْلِهِ. وَانْتِقَالُ الطَّعَامِ بِالطَّحْنِ وَالدَّقِيقِ بِالْخُبْزِ حَادِثٌ عَنْ صَنْعَةِ فاعلٍ، فَصَارَ بِالِانْتِقَالِ مَنْسُوبًا إِلَى فَاعِلِهِ دُونَ أَصْلِهِ. وَتَعْلِيلُ هَذَا الْفَرْقِ مَعْلُولٌ بِمَنْ حلف لا يأكله حِنْطَةً، فَصَارَتْ زَرْعًا، وَلَا يَأْكُلُ بَيْضَةً، فَصَارَتْ فَرْخًا، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوِفَاقٍ وَإِنْ كَانَ انْتِقَالَ ذَاتٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْعَصِيرَ، فَصَارَ خَمْرًا، أَوْ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْخَمْرَ، فَصَارَ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِزَوَالِ الِاسْمِ زَوَالُ الْحُكْمِ، فَزَالَ عَنْ حَالِهِ عُرْفًا وَشَرْعًا، فَانْتَفَى عَنْهُ الْحِنْثُ بِانْتِفَاءِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْغَزْلَ، فَنَسَجَهُ ثَوْبًا حَنِثَ بِلُبْسِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْغَزْلَ لَمَّا كَانَ لَا يُلْبَسُ إِلَّا مَنْسُوجًا صَارَ مُضْمَرًا فِي الْيَمِينِ، وَالْمُضْمَرُ فِي الْأَيْمَانِ، كَالْمُظْهَرِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْحَيَوَانَ حَنِثَ بِأَكْلِهِ مَذْبُوحًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَكْلِهِ حَيَوَانًا، لِأَنَّهَا صِفَةٌ مُضْمَرَةٌ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْمُظْهَرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْبَنَفْسَجَ، فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ، أَوْ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ، فَشَمَّ دُهْنَ الْوَرْدِ أَوْ شَمَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ، وَلَا يَحْنَثُ بِدُهْنِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِعُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ دُهْنَ الْبَنَفْسَجَ بَنَفْسَجًا، وَلَا يُسَمُّونَ دُهْنَ الْوَرْدِ وَرْدًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا تَسْمِيَةُ مَجَازٍ، فَكَانَ اعْتِبَارُهَا بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إنَّ اسْمَ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ مُنْطَلِقٌ عَلَى جِسْمٍ وَرَائِحَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 423 حُكْمُهَا بِالرَّائِحَةِ، وَهِيَ فَرْعٌ مَعَ عَدَمِ الْجِسْمِ، وَهُوَ أَصْلٌ. فَعَلَى هَذَا لَوْ شَمَّ الْبَنَفْسَجَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَائِحَتِهِ إِلَى الدُّهْنِ حَنِثَ بِهِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ بَقَايَا رَائِحَتِهِ مِنْ بَقَايَا شَمِّهِ. وَلَوْ شَمَّ عُصَارَةَ الْوَرْدِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ مَائِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، لِأَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ، وَمَاؤُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ، فَخَالَفَ بِهَذَيْنِ حَالَ الْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ، وَكَانَ وَرَقُ الْوَرْدِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ كَالْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِمَا، مَا كَانَتْ رُطُوبَتُهُمَا بَاقِيَةً. فَإِنْ يَبِسَا كَانَ فِي الْحِنْثِ بِهِمَا بَعْدِ يُبْسِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَجِسْمِهِ. وَخَالَفَ أَكْلُ التَّمْرِ عَنِ الرُّطَبِ، لِزَوَالِ اسْمِ الرُّطَبِ عَنْهُ، وَبَقَاءِ اسْمِ الْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ عَلَى مَا يَبِسَ مِنْهُ. وَلِتَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: كَانَ مَنْ حَنِثَ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ، فَأَكَلَهُ تَمْرًا عَلَى وَجْهَيْنِ: (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ، فَمَرَّ بِهِمَا فِي السُّوقِ، فَشَمَّ رَائِحَتَهُمَا، فَإِنْ حَمَلَ النَّسِيمُ الرَّائِحَةَ حَتَّى شَمَّهَا لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنِ اجْتَذَبَ الرَّائِحَةَ بِخَيَاشِيمِهِ حَتَّى شَمَّهَا حَنِثَ، لِأَنَّ شَمَّهَا بِهُبُوبِ النَّسِيمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَشَمَّهَا بِاجْتِذَابِ خَيَاشِيمِهِ مِنْ فِعْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ مَرَّ الْمُحْرِمُ بِسُوقِ الْعَطَّارِينَ، فَشَمَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي الْحَالَيْنِ؟ فَهَلَّا كَانَ الْحَالِفُ كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، دُونَ الرَّائِحَةِ، وَالْيَمِينُ مَنَعَتْ هَذَا مِنْ شَمِّ الرَّائِحَةِ، فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا وَلَا شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ، فَيَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا وجه اجْتِمَاعِهِمَا: فَأَحَدُهُمَا: إنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُهُمَا فِي التَّزْكِيَةِ وَالِاسْتِبَاحَةِ. وَالثَّانِي: إنَّ الشَّحْمَ حَادِثٌ عَنِ اللَّحْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّحْمُ حَادِثًا عَنِ الشَّحْمِ، فَالشَّحْمُ مَا حَوْلَهُ اللَّحْمُ، وَاللَّحْمُ مَا تركب على العظم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 424 وأما وجه افْتِرَاقِهِمَا، فَأَحَدُهُمَا فِي الِاسْمِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ مِنْ لَوْنٍ وَطَعْمٍ حَتَّى مَاءُ اللَّحْمِ أَحْمَرُ كَثِيفُ الْجِسْمِ ذُو طَعْمِ، وَالشَّحْمُ أَبْيَضُ رَخْوُ الْجِسْمِ ذُو طَعْمٍ آخَرَ، فَيُحْمَلَانِ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى حُكْمِ الِافْتِرَاقِ. فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الشَّحْمِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَحْسَبُهُ مَالِكًا: إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ حَنِثَ بِأَكْلِ الشَّحْمِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ اللَّحْمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الشَّحْمِ، فَافْتَرَقَا، احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ اسْمَ الشَّحْمِ عَلَى اللَّحْمِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) {الأنعام: 145) وَلَمْ يُطْلِقِ اسْمَ الشَّحْمِ عَلَى اللَّحْمِ. وَالثَّانِي: إنَّ الشَّحْمَ فَرْعُ اللَّحْمِ، لِحُدُوثِهِ عَنْهُ، وَلَيْسَ اللَّحْمُ فَرْعًا لِلشَّحْمِ، لِحُدُوثِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، يَبْطُلُ بِهِمَا اسْتِدْلَالُهُ: أَحَدُهُمَا: إنَّ افْتِرَاقَهُمَا فِي الِاسْمِ لَا يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: إنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ. فَأَمَّا الْآيَةُ، فَلِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي، وَالْأَيْمَانُ تُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَالِفَ بِأَحَدِهِمَا لَا يَحْنَثُ بِالْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يُمَيَّزَ اللَّحْمُ الَّذِي يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ الَّذِي لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اللَّحْمُ فَهُوَ جَمِيعُ مَا اخْتَصَّ بِكَوْنِهِ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ عَلَى عَظْمِهِ، وَتَغَطَّى بِجِلْدِهِ، فَهُوَ لَحْمٌ يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُقَدَّمِ الْبَدَنِ أَوْ مِنْ مُؤَخَّرِهِ أَوْ جَنْبِهِ أَوْ ظَهْرِهِ. وَالْبَيَاضُ الَّذِي عَلَى الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ وَالزَّوْرِ لَمْ يَحْنَثَ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ شحمٌ يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، وَقَالَ بن شَاذٌّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) {الأنعام: 106) فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الِاسْمِ، وَاسْتِثْنَائِهِ فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ بِصِفَةِ الشَّحْمِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِصِفَةِ اللَّحْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّحْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الشَّحْمِ، فَدَلَّ عَلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 425 دُخُولِهِ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفْرَدُ عَنِ اللَّحْمِ، وَإِنْ أُفْرِدَ عَنْهُ الشَّحْمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ، وَلَيْسَ شَحْمٌ، لِأَنَّهُ فِي صَلَابَةِ اللَّحْمِ وَكَثَافَتِهِ وَمَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ، وَإِذَا وُصِفَ قِيلَ: لَحْمٌ سَمِينٌ، فَكَانَ بِاللَّحْمِ أَخَصَّ بِهِ مِنَ الشَّحْمِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْأَلْيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدهما: إنَّهَا مِنَ الشَّحْمِ لِتَمَيُّزِهَا مِنَ اللَّحْمِ، فَيَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهَا مِنَ اللَّحْمِ، لِاتِّصَالِهَا بِالْعَظْمِ، فَيَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا مِنَ الشَّحْمِ لِلتَّعْلِيلَيْنِ: فَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الشَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا فِي اللَّحْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا لَحْمُ الْخَدَّيْنِ مِنَ الرَّأْسِ ولحم اللسان، فينطلق عليه اسم اللَّحْم. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَدْخُلُ فِي حِنْثِ الْحَالِفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، لِانْطِلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ دَخَلَ فِي اسْمِهِ فَلَا يَحْنَثَ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُضَافِ، فَيُقَالُ: لَحْمُ الرَّأْسِ، وَلَحْمُ اللِّسَانِ، وَلَا يُقَالُ لَحْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْكَبِدُ وَالْفُؤَادُ وَالطِّحَالُ، فَلَيْسَ بِلَحْمٍ فِي الِاسْمِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَحْنَثَ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ فِي حُكْمِ اللَّحْمِ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لحماً، استدلالاً بأمرين: إنَّهُ يُبَاعُ مَعَهُ فِي الْعُرْفِ، فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى صِفَةِ اللَّحْمِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا مُنْفَرِدًا عَنْهُ وَمُمْتَزِجًا بِهِ، فَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ اللَّحْمَ فِي اسْمِهِ وَجَبَ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي حُكْمِهِ، كَالرِّئَةِ وَالْكَرِشِ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا احْتَجَّ بِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 426 وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّحْمِ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ " فَهَذَا مَا تَعَلَّقَ بِاللَّحْمِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الشَّحْمُ، فَهُوَ شَحْمُ الْكَرِشِ وَالْكُلَى، فَيَحْتَوِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ، وَلَا يَتَّصِلُ بِالْعَظْمِ فَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا. فَأَمَّا الشَّحْمُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ اللَّحْمَ، فَهُوَ مُلْحَقٌ بِاللَّحْمِ دُونَ الشَّحْمِ، لِأَنَّهُ مِنْ سِمَنِ اللَّحْمِ، فَكَانَ فِي حُكْمِهِ، فَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا. وَأَمَّا شَحْمُ الْعَيْنَيْنِ، فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَلَحْمِ الرَّأْسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَحْنَثُ بِهِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الشَّحْمِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَرِينِهِ، فَيُقَالُ: شَحْمُ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ شَحْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الدِّمَاغُ فَلَيْسَ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَلَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " أَوْ رُطَبًا فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا انْتَقَلَتْ أَسْمَاءُ الْجِنْسِ بِانْتِقَالِ أَحْوَالِهِ خَرَجَتْ مِنْ أَحْكَامِ أَيْمَانِهِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ بُسْرًا، وَلَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ الرُّطَبُ بُسْرًا. وَيَصِيرُ تَمْرًا لِمَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مُفَارَقَتُهُ لَهُمَا فِي الِاسْمِ. وَالثَّانِي: مُفَارَقَتُهُ لَهُمَا فِي الصِّفَةِ. وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا، فأكل رطباً أو بسراً لم يحنث للمعينين. وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا، فَأَكَلَ طَلَعَا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّطَبَ أَوْ لَا يَأْكُلُ الْبُسْرَ، فَأَكَلَ مُنَاصَفَةً بَعْضَهَا رطباً وبعضها بسر، فَإِنْ أَكَلَ الْبُسْرَ مِنْهَا حَنِثَ بِهِ فِي الْبُسْرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الرُّطَبِ. وَإِنْ أَكَلَ الرُّطَبَ مِنْهَا حَنِثَ بِهِ فِي الرُّطَبِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي الْبُسْرِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 427 وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا فِي الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، لِمَا فِيهَا مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهَا فِي الْبُسْرِ وَلَا فِي الرُّطَبِ، لِخُرُوجِهَا فِي الْإِطْلَاقِ مِنِ اسْمِ الْبُسْرِ وَاسْمِ الرُّطَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا بُسْرًا حَنِثَ بِهَا فِي الْبُسْرِ وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا فِي الرُّطَبِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا رُطَبًا حَنِثَ بِهَا فِي الرُّطَبِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا فِي الْبُسْرِ، اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ. وَهَكَذَا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا، فَأَكَلَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَبِيبًا، فَأَكَلَ عِنَبًا لَمْ يَحْنَثْ. لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَوْخًا، فَأَكَلَهُ يَابِسًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ مِشْمِشًا، فَأَكَلَهُ يَابِسًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ، لِزَوَالِ الصِّفَةِ كَالتَّمْرِ مَعَ الرُّطَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ، لِبَقَاءِ الِاسْمِ بِخِلَافِ الرُّطَبِ الَّذِي يَزُولُ عَنْهُ الاسم. والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " أَوْ زُبْدًا فَأَكَلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهَا غَيْرُ صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا وَلَا يَشْرَبُ اللَّبَنَ حَنِثَ بِكُلِّ لَبَنٍ مُبَاحٍ مِنْ مَعْهُودٍ وَغَيْرِ مَعْهُودٍ، فَالْمَعْهُودُ أَلْبَانُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَغَيْرُ الْمَعْهُودِ: لَبَنُ الصَّيْدِ. وَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ إنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمَعْهُودِ مِنْ أَلْبَانِ النَّعَمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنْ أَلْبَانِ الصَّيْدِ، كَمَا قَالَه فِي الْبَيْضِ. فَأَمَّا أَلْبَانُ الْخَيْلِ، فَهِيَ مَعْهُودَةٌ فِي بِلَادِ التُّرْكِ. وَغَيْرُ مَعْهُودَةٍ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا أَلْبَانُ الْآدَمِيَّاتِ، فَمَعْهُودَةٌ فِي الصِّغَارِ، وَغَيْرُ مَعْهُودَةٍ فِي الْكِبَارِ. وَفِي حِنْثِهِ بِالْأَلْبَانِ الْمُحَرَّمَةِ، كَأَلْبَانِ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ وَجْهَانِ، كَمَا قُلْنَا فِي حِنْثِهِ بِاللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 428 وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْعِ. وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا، فَالزُّبْدُ الْمَعْهُودُ يَكُونُ مِنْ لَبَنِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَيْسَ لِأَلْبَانِ الْإِبِلِ زُبْدٌ، فَيَحْنَثُ بِزُبْدِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَإِنْ كَانَ لِأَلْبَانِ شَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ زُبْدٌ، فَهُوَ نَادِرٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ، فَيَحْنَثُ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَلَوْ حَلَفَ بِأَكْلِ اللَّبَاءِ، فَهُوَ أَوَّلُ لَبَنٍ يَحْدُثُ بِالْوِلَادَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِالْحَمْلِ إِذَا وَافَقَ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَحَلَبَ بَعْدَهَا، وَفِي حِنْثِهِ بِمَا حَلَبَ قَبْلَهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْوِلَادَةِ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ، هَلْ يَكُونُ نِفَاسًا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ قِيلَ: يَكُونُ نِفَاسًا، كَانَ هَذَا اللَّبَنُ لِبَاءً وَإِنْ قِيلَ لَا يَكُونُ نِفَاسًا، لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّبَنُ لِبَاءً، وَغَالِبُ اللِّبَاءِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثَلَاثُ حَلَبَاتٍ، وَرُبَّمَا زَادَ وَنَقَصَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَيَوَانِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَصِفَتُهُ مَا خَالَفَ اللَّبَنَ فِي لَوْنِهِ وَقِوَامِهِ، فَإِنَّ لَوْنَ اللِّبَاءِ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَهُوَ أَثْخَنُ مِنَ اللَّبَنِ، وَهُوَ عِنْدَ الرُّعَاةِ مَعْرُوفٌ. وَسَوَاءٌ أَكَلَهُ نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُ أَنْ يُؤْكَلَ مَطْبُوخًا كَاللَّحْمِ. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ زُبْدًا، فَأَكَلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلزُّبْدِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. وَلَوْ أَكَلَ سَمْنًا فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْنَثُ بِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّفَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا حَنِثَ بِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ اللَّبَنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ حَلِيبٍ وَمَخِيضٍ وَرَائِبٍ، وَذَائِبٍ وَجَامِدٍ. فَأَمَّا الزُّبْدُ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، كَمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ اللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، لِأَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اللَّبَنُ مِنَ الزُّبْدِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اسْمَ اللَّبَنِ عَامٌّ وَاسْمَ الزُّبْدِ خَاصٌّ، فَدَخَلَ خُصُوصُ الزُّبْدِ فِي عُمُومِ اللَّبَنِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عُمُومُ اللَّبَنِ فِي خُصُوصِ الزُّبْدِ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، وَلَوْ كَانَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ، لَكَانَ عَكْسُ قَوْلِهِ أَوْلَى، فَيَحْنَثُ بِاللَّبَنِ، إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زُبْدًا، لِأَنَّ فِي اللَّبَنِ زُبْدًا، وَلَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الزُّبْدِ لَبَنٌ، فَلَمَّا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 429 كَانَ هَذَا فَاسِدًا كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَكْسِ أَفْسَدَ، وَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا قررناه من اجتماع الأمين الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ فِي الْقِيَاسِ، فَلَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ. وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ لَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَحْنَثُ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، لِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ لِقَوْلِهِ هَذَا وَجْهٌ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِالتَّمْرِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، لِأَنَّهُ مِنْ رُطَبٍ وَلَا يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التَّمْرِ، وَلَا أَحْسَبُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ هَذَا، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيلُهُ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خلاقه. (فَصْلٌ:) وَسَأُوَضِّحُ فِي الْأَيْمَانِ أَصْلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أحكامها، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَأَقُولُ: إِنَّ كُلَّ يَمِينٍ انْعَقَدَتْ عَلَى اسْمٍ يُعْتَبَرُ بِهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ أَمْرَيْنِ مُجْمَلٍ وَمُفَسَّرٍ. فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُجْمَلًا كَقَوْلِهِ فِي الْإِثْبَاتِ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَفِي النَّفْيِ: وَاللَّهِ لَا فَعَلْتُ شَيْئًا، فَاسْمُ الشَّيْءِ يَعُمُّ كُلَّ مُسَمًّى، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعُرْفِ، وَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِهَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا إِلَّا بِالْبَيَانِ، فوجب أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِهِ، وَلَهُ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ، فَيُحْمَلُ إِجْمَالُ يَمِينِهِ عَلَى نِيَّتِهِ، فَيَصِيرُ بِالنِّيَّةِ مُفَسَّرًا، وَبِالْقَوْلِ مُخْبَرًا، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا فَعَلْتُ شَيْئًا أَيْ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، وَبِقَوْلِهِ: لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا أَيْ: لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ، فَتَعَلَّقَ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَى بَيَانِهِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ فِيمَنْ شَاءَ وَيَعْمَلُ فِيهَا عَلَى خِيَارِهِ، كَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدَةً، كَانَ لَهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ عَلَى خِيَارِهِ، فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتَاقٍ، فَيُؤْخَذُ حَتْمًا بِتَعْيِينِ يَمِينِهِ، فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِرَادَتِهِ فِي التَّعْيِينِ مَتَى شَاءَ، وَلَا حِنْثَ فيها قبل التعينين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 430 فَإِذَا عَيَّنَهَا بِاخْتِيَارِهِ فَجَعَلَ قَوْلَهُ: لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي أَنْ يَرْكَبَ هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَقَوْلُهُ: لَا فَعَلْتُ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي أَنْ يَرْكَبَ هَذِهِ الدَّابَّةَ، صَارَ هَذَا التَّعْيِينُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُكُوبُ الدَّابَّةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رُكُوبُهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ تَعَلَّقَ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِمَا يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ رُكُوبِهَا بَعْدَ التَّعْيِينِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا قَبْلَ التَّعْيِينِ، فَفِي وُقُوعِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ بِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى تَعْيِينِ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، هَلْ يُوجِبُ وُقُوعُهُ وَقْتَ اللَّفْظِ أَوْ وَقْتَ التَّعْيِينِ. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرُّكُوبِ قَبْلَ التَّعْيِينِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَأَخَّرَ عَنْهُ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ الطَّلَاقُ وَقْتَ التَّعْيِينِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِالرُّكُوبِ بَعْدَ التَّعْيِينِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَهُ بَرٌّ وَلَا حِنْثٌ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفَسَّرُ فَضَرْبَانِ، خَاصٌّ وَعَامٌّ. فَأَمَّا الْخَاصُّ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، كَالسِّرَاجِ حَقِيقَةً مَا اسْتَصْبَحَ بِهِ مِنَ النَّارِ وَمَجَازُهُ الشَّمْسُ. وَالْبِسَاطُ حَقِيقَةً الْفَرْشُ الْمَبْسُوطُ، وَمَجَازُهُ الْأَرْضُ، فَيَنْقَسِمُ فِي الْأَيْمَانِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةَ دُونَ الْمَجَازِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهِ لَفْظًا وَمُعْتَقَدًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَرَادَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَرْعِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ لَمْ يَحْنَثْ بِاللَّبَنِ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ لَمْ يَحْنَثْ بِالرُّطَبِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَجَازَ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَيُرِيدُ بِالسِّرَاجِ الشَّمْسَ دُونَ الْمِصْبَاحِ، وَبِالْبِسَاطِ الْأَرْضَ دُونَ الْفَرْشِ، وَبِاللَّحْمِ السَّمَكَ دُونَ اللَّحْمِ، وَبِلَمْسِ الزَّوْجَةِ وَطْئَهَا دُونَ مُلَامَسَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى حُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ لِاسْتِثْنَاءِ الحقيقة بينته، وَإِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ حُمِلَتْ عَلَى المجاز في الْبَاطِنِ، وَحُمِلَتْ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ مَا أَرَادَهُ مِنَ الْمَجَازِ شَرْعِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بِرِّهِ وَحِنْثِهِ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَحُمِلَ السِّرَاجُ عَلَى الْمِصْبَاحِ وَالشَّمْسِ، وَيُحْمَلُ الْبِسَاطُ عَلَى الْفَرْشِ وَالْأَرْضِ، وَيُحْمَلُ اللَّحْمُ عَلَى السَّمَكِ وَاللَّحْمِ، وَيُحْمَلُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 431 مَسُّ الزَّوْجَةِ عَلَى وَطْئِهَا وَمُلَامَسَتِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ وَعَتَاقٍ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، كَمَنْ أَرَادَ بِالسِّرَاجِ غَيْرَ الْمِصْبَاحِ وَالشَّمْسِ، وَأَرَادَ بِالْبِسَاطِ غَيْرَ الْفَرْشِ وَالْأَرْضِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا أَرَادَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مِنْ صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، كَمَنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ بِمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، لِتَجَرُّدِهِ عَنْ نِيَّةٍ كَالطَّلَاقِ بِالْكِنَايَةِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِنِيَّةٍ. فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، حُمِلَتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ لَا مِنَ الْبَاطِنِ، وَكَانَتْ لَغْوًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَحْمِلُ يَمِينَهُ عَلَى إِرَادَتِهِ وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إِذَا اقْتَرَنَ لَهَا ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ: حَنِثَ بِأَكْلِ طَعَامِهِ وَلُبْسِ ثَوْبِهِ وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَدُخُولِ دَارِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لَأَجُرَّنَّكَ عَلَى الشَّوْكِ، حَنِثَ بِمَطْلِهِ وَتَأْخِيرِ دَيْنِهِ اعْتِبَارًا بِمَخْرَجِ الْكَلَامِ وَمَقْصُودِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ صَارَ مُخْتَصًّا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَالنِّيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا يَمِينٌ، كَمَا لَوْ نَوَى يَمِينًا، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَتَجَرَّدَ يَمِينُهُ عَنْ نِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ، فَيُحْمَلُ فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمَجَازِ إِلَى النِّيَّةِ يُسْقِطُ حُكْمَهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ مِثْلَ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ. فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، كَالنِّكَاحِ هُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِي العقد، ومجاز في الوطئ، وهو في اللغة حقيقة في الواطئ ومجازاً فِي الْعَقْدِ، كَالصَّلَاةِ هِيَ الشَّرْعُ حَقِيقَةً فِي الدُّعَاءِ فِي ذَاتِهِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَمَجَازا فِي الدُّعَاءِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ، فَيُحْمَلُ النِّكَاحُ عَلَى الْعَقْدِ دون الواطئ، وَتُحْمَلُ الصَّلَاةُ عَلَى ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الدُّعَاءِ. فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الدَّقِيقَ، فَأَكَلَ الْخُبْزَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْبَنَفْسَجَ فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حلف لا يشرب عَبْدَهُ، فَعَضَّهُ لَمْ يَحْنَثْ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ، وَحَنَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَمْرَيْنِ اسْتِعْمَالًا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 432 وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ: أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ لَهُ مَجَازٌ، فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُبْهَمٌ، وَمُعَيَّنٌ، وَمُطْلَقٌ، وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُبْهَمُ أَنْ يَقُولَ: لَا كَلَّمْتُ رَجُلًا، فَيَحْنَثُ بِكُلِّ مَنْ كَلَّمَهُ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ صَبِيٍّ وَلَا امْرَأَةٍ. وَالْمُعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ: لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ غَيْرِهِ. وَالْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ: لَا شَرِبْتُ مَاءً، فَإِطْلَاقُهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ لَهُ قَدْرًا، وَلَا يُعَيِّنَ لَهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا، فَيَحْنَثُ بِشُرْبِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ إِذَا شَرِبَهُ صَرْفًا، فَإِنْ مَزَجَهُ بِغَيْرِهِ حَنِثَ إِذَا غُلِبَ عَلَى غَيْرِهِ بِلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَلًّا، فَأَكَلَ سِكْبَاجًا أَوْ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا، فَأَكَلَ عَصِيدًا. وَالْمُقَيَّدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ كَقَوْلِهِ: لَا شَرِبْتُ بِالْبَصْرَةِ، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ فِي غَيْرِهَا. وَمُقَيَّدًا بِزَمَانٍ كَقَوْلِهِ: لَا شَرِبْتُهُ شَهْرًا، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ بَعْدَهُ. وَمُقَيَّدًا بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ: لَا شَرِبْتُهُ صَرْفًا، فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ مَمْزُوجًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَنِثَ بِالْمُبْهَمِ فِي الْمُعَيَّنِ، وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمُعَيَّنِ بِالْمُبْهَمِ، وَحَنِثَ فِي الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَمْ يَحْنَثْ فِي الْمُقَيَّدِ، بِالْمُطْلَقِ لِعُمُومِ الْمُبْهَمِ وَالْمُطْلَقِ وَخُصُوصِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْمُبْهَمِ مُعَيَّنًا، وَبِالْمُطْلِقِ مُقَيَّدًا حُمِلَ عَلَى إِرَادَةِ لَفْظِهِ، فَجُعِلَ الْمُبْهَمُ مُعَيَّنًا، وَالْمُطَلَّقُ مُقَيَّدًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِنْ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ، وَفِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ إِنْ كَانَ حَالِفًا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا شَمِلَهُ عُمُومُ الْجِنْسِ، فَصَارَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يَحْنَثُ فِي إِبْهَامِ قَوْلِهِ: لَا كَلَّمْتُ رَجُلًا، وَقَدْ أَرَادَ زَيْدًا إِلَّا بِكَلَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يَحْنَثُ فِي إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: لَا شَرِبْتُ مَاءً، وَقَدْ أَرَادَ شَهْرًا أَلَّا يَشْرَبَهُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ. فَأَمَّا عَكْسُ هَذَا إِذَا أَرَادَ بِالْمُعَيَّنِ مُبْهَمًا، وَبِالْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى لَفْظِهِ فِي التَّعْيِينِ وَالتَّقْيِيدِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْإِبْهَامِ وَالْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ مَا يُجَاوِزُ الْمُعَيَّنَ وَالْمُقَيَّدَ خَارِجٌ مِنْ لَفْظِ الْيَمِينِ فَصَارَ مُرَادًا بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَلَا يَحْنَثُ فِي تَعْيِينِ قَوْلِهِ: لَا كلمت زيداً هذا، وقد أرد كُلَّ الرِّجَالِ إِلَّا بِكَلَامِ زَيْدٍ وَحْدَهُ، وَلَا يَحْنَثُ فِي تَقْيِيدِ قَوْلِهِ: لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ فِي شَهْرِي هَذَا، وَقَدْ أَرَادَ كُلَّ الشُّهُورِ عَلَى الْأَبَدِ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ فِيهِ وَحْدَهُ. وَتَعْلِيلُهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَشَاهِدُهُ مِنَ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ، يُرِيدُ بِهَا ثَلَاثًا، فَتُطَلَّقُ وَاحِدَةً وَلَا تُطَلَّقُ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ قد صرح بنفيها في لَفْظِهِ، فَلَمْ تَقُعْ بِمُجَرَّدِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 433 إِرَادَتِهِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَكْسَيْنِ، لِافْتِرَاقِ الْعِلَّتَيْنِ، فَهَذَا أَصْلٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْخَاصَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الِاسْمُ الْعَامُّ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: عَامُّ اللَّفْظِ، عَامُّ الْمُرَادِ. وَالثَّانِي: عَامُّ اللَّفْظِ، خَاصُّ الْمُرَادِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ عَامَّ الْمُرَادِ، فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: ما كان عمومه في معناه دُونَ مَعْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فِي حِنْثِهِ بِكَلَامِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ سَلِيمٍ وَسَقِيمٍ. وَمِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) {العنكبوت: 62) . وَقِيَاسُهُ فِي الْأَيْمَانِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَيَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنَ الْأَكْلِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا عُمُومُهُ فِي لَفْظِهِ دُونَ مَعْنَاهُ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْحِنْطَةَ، فَيَحْنَثُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ مَا حَدَثَ عَنِ الْحِنْطَةِ مِنْ دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ وَخُبْزٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا أَكَلْتُ الرُّطَبَ يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الرُّطَبِ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الرُّطَبِ عَنْ تَمْرٍ وَبُسْرٍ. وَقَوْلُهُ: لَا أَكَلْتُ اللَّبَنَ يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا يَحْنَثُ بِمَا حَدَثَ عَنِ اللَّبَنِ مِنْ جنب وَمَصْلٍ وَزُبْدٍ وَسَمْنٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى عموم لفظه دون معناه، وهذا مختص بِمَا إِذَا تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ، وَزَالَ عَنِ اسْمِهِ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ قِيَاسًا مُطَّرِدًا فِي نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ عُمُومُهُ فِي مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ عَسَلًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ عَسَلٌ. وَلَا أَكَلْتُ دَقِيقًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ دَقِيقٌ. وَلَا أَكَلْتُ سَمْنًا، فَأَكَلَ خَبِيصًا فِيهِ سَمْنٌ حَنِثَ فِي هَذِهِ كُلِّهَا، لِأَنَّ فِي الْخَبِيصِ عَسَلًا وَدَقِيقًا وَسَمْنًا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمَا إذا حدث له اسم بالمشاركة لَمْ يَزُلِ الِاسْمُ الْخَاصُّ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 434 خَبِيصًا إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا، وَلَا يَزُولُ اسْمُ كُلِّ نَوْعٍ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ هَذَا خَبِيصٌ فِيهِ عَسَلٌ وَفِيهِ دَقِيقٌ، وَفِيهِ سَمْنٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ: لَا أَكَلْتُ دَقِيقًا وَأَكَلَهُ خُبْزًا لَمْ يَحْنَثْ؟ فَهَلَّا كَانَ فِي الْخَبِيصِ كَذَلِكَ قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا خَبِيصٌ فِيهِ دَقِيقٌ، وَلَا يَقُولُونَ: هَذَا خُبْزٌ فِيهِ دَقِيقٌ فَصَارَ اسْمُ الدَّقِيقِ فِي الْخَبِيصِ بَاقِيًا، وَفِي الْخُبْزِ زَائِلًا، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ قِيَاسًا مُطَّرِدًا فِي نَظَائِرِهِ. فَهَذَا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِيمَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ عَامَّ الْمُرَادِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا كَانَ عَامَّ اللَّفْظِ خَاصَّ الْمُرَادِ، فَهُوَ مَا خُصَّ عُمُومُ لَفْظِهِ بِسَبَبٍ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ عَنْ عُمُومِهِ، كَمَا خُصَّ عموم الكتاب والسنة. وَتَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي الْأَيْمَانِ يَكُونُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِالْمَعْقُولِ. وَالثَّانِي: بِالشَّرْعِ. وَالثَّالِثُ: بِالْعُرْفِ. وَالرَّابِعُ: بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَالْخَامِسُ: بِالنِّيَّةِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي تَخْصِيصِ عُمُومِهِ بِالْمَعْقُولِ، فَهُوَ مَا امْتَنَعَ اسْتِيفَاءُ عُمُومِهِ فِي الْعَقْلِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ الْخُبْزَ، وَلَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ، وَلَأُكَلِّمَنَّ الناس، ولأتصدقن عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِمَا امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ الْخُبْزِ، وَيَشْرَبَ كُلَّ الْمَاءِ، وَيُكَلِّمَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ، خَصَّ الْعَقْلُ عُمُومَ الْجِنْسِ، فَتَعَلَّقَ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الْخُبْزِ، وَشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ، وَكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَاكِينِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ ضَرْبَانِ: مَعْدُودٌ وَغَيْرُ مَعْدُودٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْدُودِ فَكَالْخُبْزِ وَالْمَاءِ، فَيَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ بِقَلِيلِ الْجِنْسِ وَكَثِيرِهِ، فَأَيُّ قَدْرٍ أَكَلَهُ مِنَ الْخُبْزِ، وَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَهُ مِنَ الْمَاءِ بَرَّ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَحَنِثَ بِهِ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمَعْقُولِ حُكْمُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَقَدَّرْ بَعْضُهُ بِعُرْفٍ، وَلَا مَعْقُولٍ رُوعِيَ فِيهِ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَأَمَّا الْمَعْدُودُ فَكَالنَّاسِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى إِثْبَاتٍ كَقَوْلِهِ: لَأُكَلِّمَنَّ الناس ولأتصدقن عَلَى الْمَسَاكِينِ، لَمْ يَبِرَّ حَتَّى يُكَلِّمَ مِنَ النَّاسِ ثَلَاثَةً، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ، اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: لَا كَلَّمْتُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 435 النَّاسَ، وَلَا تَصَدَّقْتُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، حَنِثَ بِكَلَامِ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَبِالصَّدَقَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ، اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْعَدَدِ فِي النَّفْيِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ أَقَلِّ الْجُمَعِ فِي الْإِثْبَاتِ وَاعْتِبَارِ أَقَلِّ الْعَدَدِ فِي النَّفْيِ أَنَّ نَفْيَ الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ وَإِثْبَاتَ الْجَمِيعِ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالشَّرْعِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ اسْمٍ. وَالثَّانِي: تَخْصِيصُ حُكْمٍ. فَأَمَّا تَخْصِيصُ الِاسْمِ فَكَالصِّيَامِ، فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالْكَلَامِ وَالشَّرَابِ ثُمَّ خَصَّهُ الشَّرْعُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي النَّهَارِ، وَيَكُونُ عُمُومُهُ فِي اللُّغَةِ مَحْمُولًا عَلَى خُصُوصِهِ فِي الشَّرْعِ، فَإِذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الصِّيَامِ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ إِلَّا بِالصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ بِالشَّرْعِ مَخْصُوصًا. وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِقَصْدِ الْبَيْعِ الْحَرَامِ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ فِي انْعِقَادِ يَمِينِهِ عَلَى الْحَجِّ إِلَّا بِخُصُوصِ الشَّرْعِ دُونَ عُمُومِ اللُّغَةِ. وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ، فَكَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، خُصَّ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ عُمُومِ اللُّحُومِ الْمُبَاحَةِ، فَفِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَخْتَصُّ عُمُومُهَا بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا خُصَّ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَحْنَثُ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ بِأَكْلِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ اللَّحْمَ لَمْ يَبِرَّ بِأَكْلِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ. ولو حلف لا وطئ لم يحنث بالوطء في البر. وَلَوْ حَلَفَ أَنَّهُ يَطَأُ لَمْ يَبِرَّ إِلَّا بالوطئ فِي الْقُبُلِ، وَيَبِرُّ وَيَحْنَثُ بِوَطْءِ الزِّنَا، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَتَيَمَّمُ كَانَ محمولاَ عَلَى تَيَمُّمِ أَعْضَائِهِ بِالتُّرَابِ، دُونَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْقَصْدِ. فَإِنْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ أَوْ فِي سَفَرٍ حَنِثَ، وَإِنْ تَيَمَّمَ بِالْقَصْدِ إِلَى جِهَةٍ لَمْ يَحْنَثْ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ عُمُومُ الْأَيْمَانِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِاتِّفَاقِ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، اعْتِبَارًا بِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ، فَتُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا فِيمَا حَلَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 436 وَحَرُمَ، اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ، فَيَحْنَثُ فِي اللَّحْمِ بِكُلِّ لَحْمٍ، وَفِي الْوَطْءِ بِكُلِّ وَطْءٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِي نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعُرْفِ فَضَرْبَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَأَمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ، فَكَمَنَ حَلَفَ لِغَيْرِهِ: لَأَخْدِمَنَّكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَيُخَصُّ بِالْعُرْفِ مِنْ خِدْمَةِ النَّهَارِ زَمَانَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ بِحَسَبِ مَا يُخْدَمُ فِيهِ مِنْ شَاقٍّ وَسَهْلٍ. وَمِنْ خِدْمَةِ اللَّيْلِ وَقْتَ النَّوْمِ وَالْمَأْلُوفِ، فَإِنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ، لِخُرُوجِهَا بِالْعُرْفِ مِنْ عُمُومِ يَمِينِهِ. وَإِنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْقَاتِ حَنِثَ، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ يَمِينِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَأَضْرِبَنَّكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خَرَجَ بِالْعُرْفِ مِنْ زَمَانِ النَّهَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْخِدْمَةِ، فَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ الضَّرْبِ فِيهَا حَانِثًا، وَخَرَجَ بِالْعُرْفِ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّمَانِ فِي الضَّرْبِ خُصُوصًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ أَلَمُ الضَّرْبِ فِيهِ بَاقِيًا، فَيَكُونُ بَقَاءُ أَلَمِهِ كَبَقَاءِ فِعْلِهِ، فَإِنْ تَرَكَ ضَرْبَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَلَمِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ زَوَالِ الْأَلَمِ حَنِثَ، لِأَنَّ مِنْ دَوَامِ فِعْلِهِ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ فَتَرَاتٌ فِي الْعُرْفِ، فَاعْتُبِرَ بِدَوَامِ أَلَمِهِ الْحَادِثِ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا وَضَعْتُ رِدَائِي عَنْ عَاتِقِي انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى لُزُومِ لُبْسِهِ فِي زَمَانِ الْعُرْفِ، فَإِنْ نَزَعَهُ عَنْ عَاتِقِهِ فِي زَمَانِ اللَّيْلِ أَوْ دُخُولِ الْحَمَّامِ أَوْ عِنْدَ تَبَذُّلِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِخُرُوجِهِ بِالْعُرْفِ عَنْ زَمَانِ لُبْسِهِ، وَإِنْ نَزَعَهُ فِي غَيْرِهِ حَنِثَ لِدُخُولِهِ فِي عُرْفِ لُبْسِهَا. فَلَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لَا نَزَعْتُ رِدَائِي عَنْ عَاتِقِي حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، حَنِثَ بِنَزْعِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دَيْنِهِ فِي زَمَانِ الْعُرْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ جَعْلَهُ فِي الْإِطْلَاقِ مَقْصُودًا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ شَرْطٌ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ دُونَ الشُّرُوطِ. وَلَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: وَاللَّهِ لَأَخْدِمَنَّكَ حَتَّى أَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِ الْخِدْمَةِ فِي زَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ، قَبْلَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ خَبَرًا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَرْطًا، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ. وَيَنْسَاقُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّؤُوسَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِرُؤُوسِ غَيْرِ الْغَنَمِ، لِخُرُوجِهَا بِالْعُرْفِ مِنْ عُمُومِ الِاسْمِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ لَمْ يَحْنَثْ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ. وَيَطَّرِدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ، حَنِثَ بِلُبْسِهِ إِذَا تَقَمَّصَ بِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلُبْسِهِ إِذَا ارْتَدَى بِهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ حَنِثَ بِلُبْسِهِ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 437 الْخِنْصَرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِلُبْسِهِ فِي الْإِبْهَامِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، وَتَخْصِيصًا بِالْعُرْفِ. وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَكَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ، وَلَا ضَرَبْتُ، فَأَمَرَ بِالْقَتْلِ والضرب، وحنث بِهِ الْمُلُوكُ دُونَ السُّوقَةِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي أَفْعَالِ الْمُلُوكِ الْأَمْرُ بِهَا، وَفِي أَفْعَالِ السُّوقَةِ مُبَاشَرَتُهَا. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا نَسَجْتُ ثَوْبًا، فَاسْتَنْسَجَهُ، حَنِثَ بِهِ مَنْ لَا يُحْسِنُ النِّسَاجَةَ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ مَنْ يُحْسِنُهَا، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا تَصَدَّقْتُ حَنِثَ الْأَغْنِيَاءُ بِدَفْعِهَا، وَحَنِثَ الْفُقَرَاءُ بِأَخْذِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا طُفْتُ وَلَا سَعَيْتُ حَنِثَ أَهْلُ مَكَّةَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَبِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَحَنِثَ غَيْرُهُمْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْقَدَمِ، وَالطَّوَافِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَحَنِثَ أَهْلُ الْوُشَاةِ بِالسَّعْيِ إِلَى الْوُلَاةِ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا خَتَمْتُ، حَنِثَ الْقَارِئُ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ، وَحَنِثَ التَّاجِرُ بِخَتْمِ كِيسِهِ، لِأَنَّهُ عُرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: والله لا وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا قَرَأْتُ، حَنِثَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِقِرَاءَةِ الشِّعْرِ. وَلَوْ قَالَ والله لا تكلمت حنث بجميع الكلام، وبإنشاد الشِّعْرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِخُرُوجِهِ بِالْإِعْجَازِ عَنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي ليس فيه إعجاز. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِالْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ تَأْثِيرٌ فِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَجْهٌ. فَهَذَا حُكْمُ الْمَخْصُوصِ بِالْعُرْفِ، فَقِسْ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْرِجُ مِنْ لَفْظِ الْيَمِينِ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَلَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهَا، فَإِنِ انْفَصَلَ عَنْهَا بَطَلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى اعْتِقَادِهِ فِي أَوَّلِ الْيَمِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ اعْتِقَادَهُ مَعَ أَوَّلِ الْيَمِينِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ بَطَلَ حُكْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 438 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ بِالْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَحُكْمُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ يَمِينِهِ بَعْضَ جُمْلَتِهَا، فَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِيهَا بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: اسْتِثْنَاءُ مَكَانٍ، وَاسْتِثْنَاءُ زَمَانٍ، وَاسْتِثْنَاءُ عَدَدٍ، وَاسْتِثْنَاءُ صِفَةٍ، وَفِي ذِكْرِ أَحَدِهَا بَيَانٌ لِجَمِيعِهَا. فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي بَرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَمْ يَبِرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ، وَحَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا ضَرَبْتُ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي، حَنِثَ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ، وَبَرَّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَبِرُّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِي نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالنِّيَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِهِ، فَيُحْمَلُ فِيهَا عَلَى نِيَّتِهِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِعَقْدِ يَمِينِهِ، وَلَا تَصِحُّ إِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى الْيَمِينِ أَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَيَنْوِي بِهِ شَهْرًا، وَلَا أَكَلْتُ خُبْزًا، وَيَنْوِي بِهِ لَيْلًا، وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا، وَيَنْوِي بِهِ قَمِيصًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ مَا أَغْنَى، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَفِي الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْأَيْمَانِ لَا يُخْرِجُ أَحْكَامَهَا مِنْهُ، فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ سَلِمَتْ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ مَنِ اسْتَرْشَدَهُ. وَسَأُتْبِعُهُ مِنَ الْفُرُوعِ بِمَا تُوَضِّحُهُ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْفَاكِهَةَ، حَنِثَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ كُلِّهَا، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ التُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْكُمِّثْرَى وَالسَّفَرْجَلِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وقالا بقولنا احتجاجاً بقوله اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن: 68) . وقال تعالى: {فأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأبّاً) {عبس: 27 - 31) . فَجَمَعَ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ، وَبَيْنَ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الذِّكْرِ، وَخَيَّرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنِ اسْمِ الْفَاكِهَةِ، كَمَا خَرَجَ مِنْهَا الزَّيْتُونُ، لِتَمَيُّزِهِ بالاسم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 439 وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ: وَمَا تَزْهي؟ قَالَ: حَتَى تَحْمَارَّ أَوْ تَصْفَارَّ ". وَالدَّلِيلُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْفَوَاكِهَ هِيَ الثِّمَارُ وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ مِنْ أَجَلِّهَا. وَالثَّانِي: إنَّهُ جَعَلَ الِاحْمِرَارَ وَالِاصْفِرَارَ مُبِيحًا لِبَيْعِهَا، وَهَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُهَا، وَلِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى دُخُولِ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الْفَاكِهَةِ، فَرُوِيَ عَنْ يُونُسَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ مِنْ أَفْضَلِ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا قصدا بالذكر لفضلهما، واستشهد بقوله اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُواً للهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) {البقرة: 98) . فَذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَخَصَّ جبريل وميكائيل بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِفَضْلِهِمَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْفَاكِهَةُ، الثِّمَارُ كُلُّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَوَاكِهِ، وَفُضِّلَا بِالذِّكْرِ عَلَى جَمِيعِهَا، وَهَؤُلَاءِ فِي اللُّغَةِ قُدْوَةٌ مُتَّبَعُونَ وَلَا يَسُوغُ خِلَافُهُمْ فِيهَا، وَلِأَنَّ اسْمَ الْفَاكِهَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّفَكُّهِ بِهَا، وَهِيَ الِاسْتِطَابَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُتَفَكَّهُ بِكَلَامِهِ أَيْ: يُتَطَارَبُ بِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَوْفَى مِنْ وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَكَانَ أَحَقَّ بِاسْمِهَا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَمْعُ فِي الْجِنْسِ بَيْنَ خُصُوصٍ وَعُمُومٍ بِمَانِعٍ مِنْ دُخُولِ الْخُصُوصِ فِي الْعُمُومِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} (البقرة: 238) . فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنْ خُصَّتْ بالذكر. وكقوله: {وَإذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} فَدَخَلَ فِي عُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يَدْخُلُ الْخُصُوصُ فِي الْعُمُومِ إِذَا تَأَخَّرَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إذا تقدم. قِيلَ: هَذِهِ دَعْوَى لَا يَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَكُمْ، فَقَدْ تَأَخَّرَ خصوص قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} على عموم الفاكهة، فوجب أن يدخلا فيها. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي دُخُولِ الْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الْفَاكِهَةِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. وَأَمَّا الرُّطَبُ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا كَبَغْدَادَ، وَلَا يَجْعَلُهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا كَالْبَصْرَةِ، وذهب جمهورهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 440 إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ. فَأَمَّا ثِمَارُ مَا عَدَا الْأَشْجَارِ، فَالْمَوْزُ فَاكِهَةٌ وَالْبِطِّيخُ فَاكِهَةٌ، وَلَيْسَ الْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَلْقَابِهَا إِلَّا عِنْدَ فَسَادِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفَاكِهَةِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ رَطْبًا، فَإِنْ أَكَلَهُ يَابِسًا، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُنْقَلُ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ يُبْسِهِ، وَجَفَافِهِ كَالرُّطَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ تَمْرًا، وَكَالْعِنَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ زَبِيبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، وَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْفَاكِهَةِ بِزَوَالِهِ عَنِ اسْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ جَفَافِهِ كَالتِّينِ وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ لِبَقَاءِ اسْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ أُدْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْجُبْنِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتُونِ، وَبِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ، وَهُوَ الْأُدْمُ خَاصَّةً، وَهُوَ مَا يَنْصَبِغُ بِهِ الْخُبْزُ مِثْلَ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بلحمٍ وأدمٍ، فَقَدَّمْنَا لَهُ خُبْزًا بِأُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لحمٌ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهَ، وَلَكِنْ ذَاكَ لحمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَهَا صدقةٌ، وَلَنَا هديةٌ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْأُدُمِ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهَا فِيهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " سَيِّدُ الْأُدْمِ اللَّحْمُ، وَنِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ "، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الْأُدْمِ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ؛ وَلِأَنَّ اسْمَ الْأُدْمِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْتِطَابَةِ أَكْلِ الْخُبْزِ بِهِ، حَتَّى يُسْتَحَبَّ وَيُسْتَمْرَأَ، مَأْخُوذا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا أَيْ أَصْلَحَ بَيْنَكُمَا بِالْمَحَبَّةِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدة فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ". فَحَكَى أَبُو عُبَيْدة عَنِ الْكِسَائِيِّ مَعْنَاهُ: أَنْ تَكُونَ بَيْنَكُمَا الْمَوَدَّةُ وَالِاتِّفَاقُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَوْفَى مِنْهُ فِي الصَّبْغِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِاسْمِ الْإِدَامِ أَخَصُّ. وَتَمْيِيزُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا القسم فيما يُسْتَطَابُ بِهِ أَكْلُ الْخُبْزِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 441 أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ إِدَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا، وَبِالْخُبْزِ، وَهُوَ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ اللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ أُدْمًا، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ مُنْفَرِدًا، وَلَا بِالْخُبْزِ، وَهُوَ الْفَوَاكِهُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأُدْمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مِنْ عُرْفٍ عَامٍّ، وَلَا خَاصٍّ، وَالْمُسْتأدم بِهَا خَارِجٌ عَنِ الْعَرَبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ إِدَامًا إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْخُبْزِ، وَيَصِيرُ إِدَامًا إِذَا أُكِلَ بِالْخُبْزِ، وَهُوَ يُسْتَأْدَمُ بِهِ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ دُونَ عُمُومِهِ كَالْعَسَلِ وَالدِّبْسِ وَالتَّمْرِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إِنْ أَكَلَهُ مُنْفَرِدًا، وَيَحْنَثُ بِهِ إِنْ أَكَلَهُ بِالْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْخُبْزِ إِدَامًا، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ إِدَامًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أنَّهُ أَعْطَى سَائِلًا خُبْزًا وَتَمْرًا، وَقَالَ: هَذَا إِدَامُ هَذَا ". وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ، فَيُؤْكَلُ تَارَةً قُوتًا، وَتَارَةً أُدْمًا كالأزر وَالْبَاقِلَّاءِ فَلَهُ فِي أَكْلِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْكُلَهُ مَخْبُوزًا، فَقَدْ صَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُوتًا، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْكُلَهُ مَطْبُوخًا بِخُبْزٍ أَوْ يَصْنَعَ بِهِ، فَقَدْ صَارَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِدَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْكُلَهُ مَطْبُوخًا مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ خُبْزٍ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِصِفَتِهِ فِي الِائْتِدَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ فِي الْأَقْوَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعْتَبَرَ عُرْفُ بَلَدِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ إِدَامًا كَأَهْلِ الْعِرَاقِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ قُوتًا كَطَبَرِسْتَانَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ قُوتًا، فَالْأَقْوَاتُ مَا قَامَتْ بِهَا الْأَبْدَانُ، وَأَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ فِيهِ ضَرْبَانِ: عُرْفُ شَرْعٍ، وَعُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. فَأَمَّا عُرْفُ الشَّرْعِ فَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَا وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ، وَجَازَ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي عُرْفِ قُوتِهِ أَوْ خَرَجَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الشَّيْءِ عَامٌّ كَعُمُومِ أَحْكَامِهِ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَقْوَاتِهِ. وَأَمَّا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فَمَا خَالَفَ عُرْفَ الشَّرْعِ، فَضَرْبَانِ: عُرْفُ اخْتِيَارٍ، وَعُرْفُ اضطرار. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 442 فَأَمَّا عُرْفُ الِاخْتِيَارِ، فَكَالْبَوَادِي يَقْتَاتُونَ أَلْوَانَ الْحُبُوبِ وَسُكَّانِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ يَقْتَاتُونَ لُحُومَ الصَّيْدِ، وَسُكَّانِ تِلْكَ الْجِبَالِ يَقْتَاتُونَ لُحُومَ الصَّيْدِ، فَيَحْنَثُ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِأَكْلِ عُرْفِهِمْ فِي أَقْوَاتِهِمْ، وَلَا يَحْنَثُونَ بِعُرْفِ غَيْرِهِمْ؛ لِخُصُوصِهِ فِي عُرْفِهِمْ، وَيَحْنَثُونَ بِالْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ؛ لِعُمُومِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَحْنَثُ غَيْرُهُمْ بِعُرْفِهِمْ لِخُصُوصِهِ فِيهِمْ. وَأَمَّا عُرْفُ الِاضْطِرَارِ فَكَأَهْلِ الْفَلَوَاتِ يَقْتَاتُونَ الْحَشِيشَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ، وَيَقْتَاتُونَ الْأَلْبَانَ فِي غَيْرِهَا فِي زَمَانِ الْخِصْبِ، فَيَحْنَثُونَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ بِقُوتِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالْخِصْبِ، ويحنثون في زمان الخصب بقوتهم في الخطب دُونَ الْجَدْبِ وَيَكُونُ عُرْفُ الزَّمَانِ مُعْتَبَرًا كَمَا كَانَ عُرْفُ الْمَكَانِ مُعْتَبَرًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَنِثَ بِكُلِّ مَطْعُومٍ مِنْ قُوتٍ وَإِدَامٍ وَفَاكِهَةٍ وَحَلْوَى، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَطْعُومَةٌ، فَانْطَلَقَ اسْمُ الطَّعَامِ عَلَيْهَا، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الدَّوَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الطَّعَامِ إِلَّا بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَحْدَهَا اعْتِبَارًا بِاسْمِهِ عُرْفًا، وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لَبَنِي إسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ) {آل عمران: 93) . يُرِيدُ كُلَّ مَطْعُومٍ فَصَارَ اسْمُ الطَّعَامِ فِي الشَّرْعِ مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ، وَفِي الْعُرْفِ مُنْطَلِقًا بِالْعِرَاقِ عَلَى الْحِنْطَةِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْلَى ... فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ حُمِلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا عَلَى نِيَّتِهِ. (فَصْلٌ:) إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لا أكلت الحلوء حَنِثَ بِأَكْلِ كُلِّ مَا عُصِرَ بِالسُّكَّرِ أَوِ الْعَسَلِ أَوِ الدَّقِيقِ، حَتَّى امْتَزَجَ بِضَرْبِهِ مِنْ لَوْزٍ أَوْ جَوْزٍ أَوْ دَقِيقٍ، فَيَصِيرُ بِالْمَزْجِ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْخَلْطِ الْحَلْوَاءِ، فَإِنِ انْفَرَدَ بِأَكْلِ سُكَّرٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ دِبْسٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ حُلْوٌ، وَلَيْسَ بِحَلْوَاءَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَلَاوَةً حَنِثَ بِأَكْلِ هَذَا كُلِّهِ مُنْفَرِدًا وَمُمْتَزِجًا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ الْحُلْوَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حُلْوًا حَنِثَ بِأَكْلِ هَذَا كُلِّهِ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ الْفَوَاكِهِ الْحُلْوَةِ، وَلَوْ حَلِفَ لَا يَأْكُلُ لَذِيذًا، فَأَكَلَ مَا يَسْتَلِذُّهُ هُوَ، وَلَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ حَنِثَ، وَلَوْ أَكَلَ مَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَسْتَلِذُّهُ هُوَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلِذٍّ بِمَا أَكَلَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا أَكَلْتُ مُسْتَلَذًّا حَنِثَ بِمَا يَسْتَلِذُّهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَلَذَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْكُولِ، وَاللَّذِيذَ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَمَمْتُ الرَّيْحَانَ، حَنِثَ بِشَمِّ الشَّاهَسْفَرَمَ وهو الريحان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 443 الْفَارِسِيُّ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِشَمِّ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ، وَلَا يشم الْيَاسَمِينِ وَالْخُزَامَى وَاللَّيْنُوفَرِ؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الرَّيْحَانِ بِأَسْمَائِهَا الْمُفْرَدَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا شَمَمْتُ مَشْمُومًا حَنِثَ بِشَمِّ هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّ اسْمِ الْمَشْمُومِ ينطلق على جمعيه، وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْمَشْمُومِ بِأَسْمَائِهَا الْمُفْرَدَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ طِيبًا حَنِثَ بِشَمِّ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِشَمِّ الْمَشْمُومِ لِخُرُوجِهِ عَنِ اسْمِ الطِّيبِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا شَمَمْتُ مُسْتَطَابًا حَنِثَ بِشَمِّ هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطَابُ الرَّائِحَةِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ حُلِيًّا حَنِثَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ حَتَّى يَمْتَزِجَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِالْعُرْفِ وَاحْتِجَاجًا بِالِاسْمِ. وَدَلِيلُنَا: نَصُّ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياً وَتَسْتَخْرَجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) {النحل: 14) ، وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ هُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَرُ وَالْمَرْجَانُ، فَجَعَلَهُ حُلِيًّا مَلْبُوسًا. وَقَالَ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسَهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (الحج: 23) . قَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ " لُؤْلُؤًا " بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْخَفْضِ، فَالنَّصْبُ مَحْمُولٌ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَالْخَفْضُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنَ الِانْفِرَادِ وَالِامْتِزَاجِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُلِيًّا بِامْتِزَاجِهِ كَانَ حُلِيًّا بِانْفِرَادِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَا يُرَادُ إِمَّا لِلزِّينَةِ أَوْ لِلْمُبَاهَاةِ، وَهُمَا فِي الْحُلِيِّ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ أَوْفَى مِنْهُمَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَأَمَّا التَّحَلِّي بِالْخَرَزِ وَالصُّفْرِ، فَيَحْنَثُ بِهِ مَنْ كَانَ فِي عُرْفِهِمْ حُلِيًّا كَالْبَوَادِي وَسُكَّانِ السَّوَادِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ فِي الْحِنْثِ بِهِ بَيْنَ مُبَاحِهِ وَمَحْظُورِهِ، فَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ لَمْ يَحْنَثْ به؛ لِأَنَّهُ بِاسْمِ الثَّوْبِ أَخَصُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْحُلِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَلَّدَ بِسَيْفٍ مُحَلًّى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِحُلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ. فَأَمَّا لُبْسُ مِنْطَقَةٍ مُحَلَّاةٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَفِي الْحِنْثِ بِهَا وجهان: أحدهما: يحنث بها؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 444 وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْآلَاتِ الْمُحَلَّاةِ كَالسَّيْفِ، وَيَحْنَثُ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ إِنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَحْنَثُ إِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ مَأْلُوفَةٌ وَالذَّهَبَ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَأْلُوفَ الْحُلِيِّ كَغَيْرِ مَأْلُوفِهِ كَالْأَسْوِرَةِ وَالْأَطْوَاقِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُلِيًّا فِي الْأَسْوِرَةِ وَالْأَطْوَاقِ كَانَ حُلِيًّا فِي الْخَوَاتِيمِ كَالذَّهَبِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَحَلَّى خَاتَمًا مِنْ ذهبٍ ثُمَّ نَزَعَهُ ". (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى قومٍ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِيهِمْ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِهِ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَأَمَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِيهِمْ، فَلِلْحَالِفِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَهُ بِسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا حَانِثٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِنِيَّتِهِ، وَيَقْصِدُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا غَيْرُ حَانِثٍ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ فِي عَقْدِهَا، فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ فِي حَلِّهَا، فَلَا وَجْهَ لِمَا عَدَا هَذَا الْقَوْلَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ قَصْدٌ فِي إِرَادَتِهِ، وَلَا فِي عَزْلِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَنَّهُ فِيهِمْ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَإِنْ علم أن فِيهِمْ، فَفِي حِنْثِهِ بِإِطْلَاقِ سَلَامِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، وَنَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْكَلَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: حَكَاهُ الرَّبِيعُ مُنْفَرِدًا أَنَّ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ عَامٌّ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِمْ أَوْ عَلِمَ فَنَسِيَ، هَلْ يَكُونُ فِعْلُ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فِي الْأَيْمَانِ كَالْعَالِمِ وَالذَّاكِرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا لَغْوٌ لَا يَحْنَثُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ بِهَذَا السَّلَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا لَازِمَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحِنْثُ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِهِ بِهَذَا السَّلَامِ قَوْلَانِ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِعَادَةِ الْيَمِينِ مُكَلِّمًا لَهُ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْكَلَامِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَفْهَمْهُ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ كَلَامًا يوقظ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 445 مِثْلَ النَّائِمِ حَنِثَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوقِظُ مِثْلَ النَّائِمِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ مِثْلَ كَلَامِهِ حَنِثَ بِهِ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فَالْوَرَعُ أَنْ يَحْنَثَ وَلَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْكِتَابَ غَيْرُ الْكَلَامِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله هذا عندي به وبالحق أولى قال الله جل ثناؤه {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيالٍ سَوِياً} إلى قوله {بُكْرَةً وَعَشِياً} فأفهمهم ما يقوم مقام الكلام ولم يتكلم وقد احتج الشافعي بأن الهجرة محرمةٌ فوق ثلاثٍ فَلَوْ كَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا مِنَ الْهِجْرَةِ التي يأثم بها (قال المزني) رحمه الله فلو كان الكتاب كلاماً لخرج به من الهجرة فتفهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، فَيَكْتُبُ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَوْ رَمَزَ إِلَيْهِ بِعَيْنٍ أَوْ حَاجِبٍ لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهِ، فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، فَخَرَجَ حِنْثُهُ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْهِ وَجَعَلُوا كَلَامَ الْمُزَنِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا وَاخْتِيَارًا لِلصَّحِيحِ مِنْهُمَا. وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ قَوْلًا، وَجَعَلُوا كَلَامَ الْمُزَنِيِّ احْتِجَاجًا لِلشَّافِعِيِّ، وَرَدًّا عَلَى مَالِكٍ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى حِنْثِهِ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) {الشورى: 51) . فَجَعَلَ الْوَحْيَ كَلَامًا، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) {آل عمران: 41) . فَجَعَلَ الرَّمْزَ كَلَامًا، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ يَقُومُ فِي الْأَفْهَامِ مَقَامَ الْإِفْهَامِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ. وَدَلِيلُنَا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوياً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياً} (مريم: 10 - 11) . فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِ الْوَحْيِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلْرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِياً} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) {مريم: 26، 27، 28، 29) . فَدَلَّ عَلَى خروج الإشارة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 446 مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نُهِيَتْ عَنْهُ، وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُخْتَصٌّ بِجَارِحَةِ لِسَانِهِ، وَكَلَامِ الرَّسُولِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ، وَالْكِتَابِ مِنْ أَفْعَالِ يَدِهِ، فَصَارَ كَلَامُهُ مُخَالِفًا لِرِسَالَتِهِ، وَكِتَابُهُ مُخْرِجًا عَنْ حُكْمِ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي وَالْأَسْمَاءُ في ذلك مختلفة فوجب أن يكون فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ مُخْتَلِفَةً، وَإِنِ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْهِجْرَةَ مُحَرَّمَةٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثٍ. وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَوْ كَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَثِمَ بِهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحاق المروزي إنه عَلَى ظَاهِرِهِ، أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ عَنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَأْثَمِ الْهِجْرَةِ كَالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ نَفْيُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَحْشَةِ، وَعَوْدُهُمَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُنْسَةِ، فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْهِجْرَةِ اعتباراً بمعنى وَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْأَسَامِي، وَحَمْلِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمَعَانِي. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى لَكِنْ، فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالُكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) {النساء: 29. مَعْنَاهُ: لَكِنْ كُلُوهُ بِتِجَارَةٍ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي. (فَصْلٌ:) فَإِنْ كَلَّمَ غَيْرَهُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُوَاجِهًا بِالْكَلَامِ حَنِثَ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُكَلِّمًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَاجِهٍ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَشَارَتْ عَلَيْهَا أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ لَا تَفْعَلَ، وَحَلَفَتْ عَلَيْهَا إِنْ خَرَجَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُعَرِّضَةً بِهَا: يَا حَائِطُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: يَا حَائِطُ؟ أَلَمْ أَنْهَكَ؟ فَبَلَّغَتْ غَرَضَهَا، وَسَلِمَتْ مِنَ الْحِنْثِ. والله أعلم. (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرَى كَذَا إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى قاضٍ فَرَآهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ حَتَى مَاتَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُمْكِنَهُ فَيُفَرِّطُ وَإِنْ عزل فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 447 كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ قَاضِيًا فَلَا يَجِبُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نيةٌ خَشِيتُ أَنْ يَحْنَثَ إِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَرْفَعَ إِلَى الْقَاضِي مَا رَآهُ مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مُنْكَرٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْقَاضِي، وَيَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَهُ، وَلَا يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يُعَيِّنَهُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَصَفَهُ وَعَيَّنَهُ بِالْقَضَاءِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَرْفَعُهُ إِلَى فُلَانٍ الْقَاضِي أَوْ إِلَى هَذَا الْقَاضِي، فَلِلْحَالِفِ فِيمَا رَآهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ، فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِوَفَائِهِ بِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَمُوتَ الْقَاضِي أَوِ الْحَالِفُ، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِتَقْصِيرِهِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِهِ إِلَيْهِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِقُصُورِ الزَّمَانِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ زَمَانَ الْإِمْكَانِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ مَرَضٍ، فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُرَاعِي الْغَلَبَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُرَاعِي الْغَلَبَةَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعْزَلَ الْقَاضِي عَنْ وِلَايَتِهِ، فَلَا يَخْلُو الْحَالِفُ فِي تَعْيِينِ القاضي بالاسم، والقضاء على ثلاثة؛ واحوال: أحدهما: أَنْ يُرِيدَ رَفْعَهُ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ، فَيَجْعَلَ الْوِلَايَةَ شَرْطًا فِي الرَّفْعِ، فَيَجْرِي عَزْلُهُ عَنْهَا مَجْرَى مَوْتِهِ فِي الْحُكْمِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ رَفْعَهُ إِلَيْهِ وَلَا يَجْعَلُ الْوِلَايَةَ شَرْطًا فَيَرْفَعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، وَيَكُونُ كَحَالِهِ لَوْ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَى الْوَالِي بَعْدَهُ، وَلَا يَبَرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ له نية في ولاية، ولا عزل، فهو يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ التَّعْيِينِ أَوْ حُكْمُ الصِّفَةِ على وجهين: الأول: فمن حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَبِيًّا، فَكَلَّمَهُ رَجُلًا، أَحَدُهُمَا يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ التَّعْيِينِ لِقُوَّتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَيَحْنَثُ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ إِذَا صَارَ رَجُلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ الصِّفَةِ، لِأَنَّهَا كَالشُّرُوطِ فَلَا يَبَرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 448 عَزْلِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ إِذَا صَارَ رَجُلًا. فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْقَاضِي إِلَى وِلَايَتِهِ كَانَ كَمَوْتِهِ فِي بِرِّ الْحَالِفِ وَحِنْثِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، لِاحْتِمَالِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ خَشِيتُ أَنْ يَحْنَثَ إِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنِ احْتِمَالِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَلَوْ حَنَّثَ نَفْسَهُ وَرَعًا كَانَ أَحْوَطَ ". فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، فَهُوَ أَنْ لَا يُعَيِّنَهُ، وَلَا يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أرفعه إِلَى فُلَانٍ أَوْ إِلَى هَذَا، فَهَذَا يلزمه رفعه إليه في ولايته وعزله، فَيَبِرُّ إِذَا رَفَعَهُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَيَحْنَثُ إِذَا لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَلَا يَبِرُّ إِنْ رَفَعَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يُعَيِّنَهُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَرْفَعُهُ إِلَى الْقَاضِي أَوْ إِلَى قَاضٍ، فَلَا يَبِرُّ إِنْ رَفَعَهُ إِلَى مَعْزُولٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِعَزْلِ قَاضِي الْوَقْتِ وَمَوْتِهِ، وَقَامَ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ مَقَامَهُ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى وَالِي الْقَضَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ. فَإِنْ قَالَ: أَرْفَعُهُ إِلَى الْقَاضِي، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَزِمَهُ رَفْعُهُ إِلَى مَنْ تَقَلَّدَ قَضَاءَ ذَلِكَ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنْ رَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَبِرَّ، وَإِنْ قَالَ: إِلَى قاضٍ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَجَازَ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ، وَكَانَ يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ بَارًّا، لِأَنَّ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفٌ وَحَذْفَهَا إِبْهَامٌ، وَاللَّهُ أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ مَا لَهُ مالٌ وَلَهُ عرضٌ أَوْ دينٌ حَنَثَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: أَعْيَانٌ، وَدُيُونٌ. فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَجَمِيعُهَا أَمْوَالٌ مُتَمَوَّلَةٌ إِذَا صَحَّ أَنْ تُمْلَكَ بِعِوَضٍ، وَيُزَالُ الْمِلْكُ عَنْهَا بِعِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُزَكَّاةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُزَكًّى كَالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ. فَإِذَا حَلَفَ مَا لَهُ مالٌ حَنِثَ بِجَمِيعِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَالُ مَا وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ بِمَالٍ مَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَالُ هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ إِلَّا بِهِمَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 449 زَكَاةَ فِيهِ خَارِجٌ مِنِ اسْمِ الْمَالِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ حُكْمِ الزَّكَاةِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمَ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الأنعام: 152) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً) {النساء: 10) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحَظْرَ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جمعيها أَمْوَالٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الْمَالِ سكةٌ مأبورةٌ، ومهرةٌ مأمورةٌ " يُرِيدُ بِالسِّكَّةِ: النَّخِيلَ الْمُصْطَفَّةَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّرْبُ سِكَّةً؛ لِامْتِدَادِهِ. وَالْمَأْبُورَةُ هِيَ الَّتِي يُؤَبَّرُ ثَمَرُهَا، وَالْمُهْرَةُ الْمَأْمُورَةُ هِيَ الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ، فَجَعَلَ النَّخْلَ وَالْخَيْلَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْمُتَمَوَّلَةَ في العادة تكون أموالاً كالمزكاة؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَالِ مَا يُقْتَنَى وَيُتَمَوَّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ المزَّكَاةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمُزَكَّى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ تَنَاوَلَ جَمِيعَهَا، فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الزَّكَاةِ بِبَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ الِاسْمِ فِي الْخُصُوصِ، كَمَا بَقِيَ اسْمُ السَّارِقِ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ خُصَّ بِسُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الدُّيُونُ فَضَرْبَانِ: حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ. فَأَمَّا الْحَالُّ فَهُوَ مَالٌ مَمْلُوكٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَيَحْنَثُ بِهِ إِذَا حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَفِي كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا يَحْنَثُ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ كَالْحَالِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ بِمَالٍ مَمْلُوكٍ حَتَّى يَحِلَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ الدَّيْنُ مَالًا مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَالًا كَالشُّفْعَةِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) ، وَفِي الدَّيْنِ الزَّكَاةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَانَ مَمْلُوكًا كَالْأَعْيَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كالمطالبة بإقباض الأعيان، ثم لم يمنع الْمُطَالَبَةُ بِالْأَعْيَانِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، كَذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِالدُّيُونِ. وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا الْحُكْمُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا، وَالْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ:) وَلَوْ كَانَ لِهَذَا الْحَالِفِ مَالٌ مَرْهُونٌ أَوْ مَغْصُوبٌ حَنِثَ بِهِ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ ضَالٌّ، فَفِي حِنْثِهِ بِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 450 أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى بَقَائِهِ حَتَّى يُعْلَمَ هَلَاكُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُدَبَّرٌ أَوْ مَكَاتَبٌ حَنِثَ بِهِمَا لِبَقَائِهِمَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، فَفِي حِنْثِهِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ لِأَنَّهَا كَالْمُكَاتَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَرَقَّ فَيُبَاعَ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُسْتَرَقَّ فَتُبَاعَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ وَقْفٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رَقَبَتَهُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِدُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ، فَفِي حِنْثِهِ بِهَا وَجْهَانِ كَأُمِّ الْوَلَدِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ سوطٍ فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا فَإِنْ كَانَ يُحِيطُ الْعِلْمُ أَنَّهَا مَاسَّتْهُ كُلُّهَا بَرَّ وَإِنْ أَحَاطَ أَنَّهَا لَمْ تَمَاسَّهُ كُلُّهَا لَمْ يَبَرَّ وَإِنْ شَكَّ لَمْ يحنث في الحكم ويحنث في الورع واحتج الشافعي بقول الله عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} وضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأثكال النخل في الزنا وهذا شيءٌ مجموعٌ غير أنه إذا ضرب بها ماسته (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ لو حلف ليفعلن كَذَا لوقتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فلانُ فَإِنْ مات أو غبي عَنَّا حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله وكلا ما يبر به شكٌّ فكيف يحنث في أحدهما ولا يحنث في الآخر؟ فقياس قوله عندي أن لا يحنث بالشم (قال الشافعي) ولو لم يقل ضرباً شديداً فأي ضربٍ ضربه إياه لم يحنث لأنه ضاربه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ مِائَةً اشْتَمَلَ حُكْمُ بِرِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: عَدَدُ ضَرْبِهِ. وَالثَّانِي: وُصُولُ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي حُصُولِ الْأَلَمِ بِضَرْبِهِ. فَأَمَّا ال ْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ ضَرْبِهِ، فَمُعْتَبَرٌ بِلَفْظِ يَمِينِهِ، وَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يحلف أن يضربه مائة سوط. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 451 والثالثة: أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْبِرِّ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا، فَإِنْ جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا لَوْ رَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً اعْتَدَّهَا بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ، وهذا متفق عليه. وأما الحالة الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا وَيَضْرِبَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونَ بَارًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ) {ص: 44) وَذَلِكَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ تَعَالَى أَيُّوبَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ عَدَدًا سَمَّاهُ، فَأَفْتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ العدد، فيضرها بِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ لِيَبِرَّ فِي يَمِينِهِ. وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مقعدٍ زَنَا أَنْ يُضْرَبَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: مِائَةَ مَرَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: مِائَةَ سَوْطٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْدُودَ فِي مِائَةِ مَرَّةٍ الْفِعْلَ، وَفِي مِائَةِ سَوْطٍ الْأَسْوَاطَ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَبِرُّ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْآلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ، فَمُعْتَبَرٌ بِلَفْظِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَضْرِبُكَ بِمِائَةِ سَوْطٍ جَازَ، إِذَا جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا أَنْ لَا يَصِلَ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ضَارِبًا لَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى الْعَدَدِ تَجْعَلُهُ صِفَةً لِآلَةِ الضَّرْبِ، وَلَا تَجْعَلُهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ. وَإِنْ قَالَ: أَضْرِبُكَ مِائَةَ سَوْطٍ، وَحَذَفَ الْبَاءَ مِنَ الْعَدَدِ لَبَرَّ بِإِيصَالِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ دُونَ الْآلَةِ. وَإِذَا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْبِرِّ وَصُولُ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي جَمْعِهَا وَضَرْبِهِ بِهَا دُفْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 452 أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ، فَيَكُونُ بَارًّا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَصِلْ إِلَى بَدَنِهِ، فَلَا يَكُونُ بَارًّا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشُكَّ هَلْ وَصَلَ جميعها أو لم يصل، فمذهب الشافي إنَّهُ يَكُونُ بَارًّا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُقُوعِهَا علىالبدن أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَنْهُ حَائِلٌ، فَحُمِلَ عَلَى الْبِرِّ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يَبِرُّ بِشَكِّهِ فِي الْبِرِّ. وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا الْوَقْتَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوْ غَابَ، حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي الْمَشِيئَةِ بَارًّا فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ بَارًّا؟ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ إنَّهُ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ شَرْطًا فِي حِلِّ الْيَمِينِ، وَقَدِ انْعَقَدَتْ فَلَمْ تُخِلَّ بِالشَّكِّ مَعَ عَدَمِ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَجَعَلَ وَصُولَ الضَّرْبِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِالشَّكِّ؛ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فأما الضرب الثَّالِثُ فِي وُصُولِ الْأَلَمِ إِلَى بَدَنِهِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْبَرِّ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَأْلَمْ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وُصُولُ الْأَلَمِ شرط في البر، فن لَمْ يَأْلَمْ بِهِ حَنِثَ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ مَقْصُودَ الضَّرْبِ بِتَأْثِيرِهِ، وَمَا لَا أَلَمَ فِيهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ. وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَلَمُ فِي ضَرْبِ الْحُدُودِ شَرْطًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطًا فِيهَا حَمْلًا لِإِطْلَاقِهَا عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ. وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ: احتجاجاً، وَانْفِصَالًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع لضرب المقعد عتكالاً، لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْأَلَمَ، وَيَسْتَقِرَّ بِهِ الْحُكْمُ. وَالثَّانِي: إنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الضَّرْبِ دُونَ الْأَلَمِ بِحُصُولِ الِاسْمِ، وَالْحُدُودُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي، فَجَازَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالِاسْمِ مَقْصُودُهُ مِنَ الْأَلَمِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الضَّرْبِ إِلَى بَشَرَةِ بَدَنِهِ اعْتُبِرَ حاله، فإن كَانَ كَثِيفًا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ، بِالضَّرْبِ لَمْ يَبِرَّ، وَإِنْ كَانَ مَأْلُوفًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالضَّرْبِ بَرَّ وَإِنْ لَمْ يَأْلَمْ، وَاللَّهُ أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 453 (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ نَحَلَهُ أَوْ أَعْمَرَهُ فَهُوَ هبةٌ فَإِنْ أَسْكَنَهُ فَإِنَّمَا هِيَ عاريةٌ لَمْ يُمْلِكْهُ إِيَّاهَا فَمَتَى شَاءَ رَجَعَ فِيهَا وَكَذَلِكَ إِنْ حبس عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً، فَالْهِبَةُ مِمَّا تَبَرَّعَ بِتَمْلِيكِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَتَمَلَّكُ عَنْهَا، فَيَحْنَثُ بِالْهِبَةِ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَحْنَثُ بِالْهَدِيَّةِ إِذَا قُبِضَتْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا عُقْدَةٌ لأن العقد يعتبر فِي الْهِبَاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْهَدَايَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي كِتَابِ الْعَطَايَا وَيَحْنَثُ بِالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْهِبَاتِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ "، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ إِذَا قُبِضَتِ الْهِبَةُ عَنْ عَقْدٍ تَقَدَّمَهَا فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ حَتَّى يَمْلِكَ الْهِبَةَ: أَحَدُهُمَا: بِالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ وَقْتَ إِقْبَاضِهَا. وَالثَّانِي: إنَّهُ يَدُلُّ الْقَبْضُ عَلَى مِلْكِهَا وَقْتَ عَقْدِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَانِثًا وَقْتَ الْعَقْدِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا عَقَدَ الْهِبَةَ وَنَقَلَ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَرَدَّهَا، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَتِمَّ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ يَحْنَثُ لِتَعَلُّقِهَا بِفِعْلِهِ، تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ فَالصَّدَقَةُ ضَرْبَانِ فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا اتِّفَاقًا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَرُّعِ الْهِبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا كَانَتْ هِبَةً يَحْنَثُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْهِبَاتِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا؛ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا اسْمًا. وَالثَّانِي: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا. وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: لِاتِّفَاقِهِمَا فِي التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ. وَالثَّانِي: لِاتِّفَاقِهِمَا فِي سُقُوطِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ؛ فَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ فِي الْهِبَةِ، فَدَخَلَتْ فِي اسْمِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ فَهُمَا فِيهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَقَاصِدِ. فَالْهَدِيَّةُ لِمَنْ عَلَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 454 قَصْدًا، لِاسْتِعْطَافِهِ، وَالْهِبَةُ لِمَنْ كَافَأَ قَصْدًا لِمَحَبَّتِهِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ دَنَا قَصْدًا لِثَوَابِهِ، وَالنِّحْلُ عَلَى مَنْ نَاسَبَ قَصْدًا لِبِرِّهِ، وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمَقَاصِدِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَحَابَى فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُحَابَاةِ، لِخُرُوجِهَا عَنِ الْهِبَةِ بِلُزُومِهَا فِي الْعَقْدِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَوْهِبُ فَغَابَنَ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُغَابَنَةِ، وَلَوْ أَبْرَأَ مِنْ دَيْنٍ، فَإِنْ جَعَلَ الْقَبُولَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ حَنِثَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الْقَبُولَ شَرْطًا فِيهِ، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ؛ لِتَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِمُكَاتَبِهِ فَأَبْرَأَ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ إِبْرَاءَ الْمُكَاتَبِ عِتْقٌ وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِهِبَةٍ، وَلَوْ حَلَفَ لا يهب فعفى عَنْ قَوَدٍ قَدِ اسْتُحِقَّ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَيْسَ بمالٍ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلى ماله وكذلك لو عفى عَنِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا، وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمَلَّكُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تُمْلَكُ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ لِنَقْلِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ بِمَنْعِهِ مِنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلَوْ أَوْلَمَ وَدَعَا إِلَى طَعَامِهِ فَأُكِلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ طَعَامَ الْوَلَائِمِ غَيْرُ مَوْهُوبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِهْلَاكِهِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْآكِلَ يَتَمَلَّكُهُ بِالْأَكْلِ أَوْ يَتَمَلَّكُهُ بِالتَّنَاوُلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَلَوْ وَصَّى بِوَصِيَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْحِنْثُ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ أَعَارَ عَارِيَةً لَمْ يَحْنَثْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَوَارِي تُمْلَكُ بِهَا الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَالْهِبَاتُ مَا مُلِكَ بِهَا الْأَعْيَانُ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ فِي الْعَوَارِي غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُعِيرُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا مَتَى شَاءَ وَهُوَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَرْكَبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ فَرَكِبَ دَابَّةَ الْعَبْدِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ إِنَّمَا اسْمُهَا مضافٌ إِلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ هَذَا الْعَبْدِ وَكَانَ سَيِّدُهُ قَدْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 455 أَعْطَاهُ دَابَّةً جَعَلَهَا بِرَسْمِ رُكُوبِهِ وَلَمْ يُمَلِّكْهُ إِيَّاهَا فَرَكِبَهَا الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا سَكَنْتُ دَارَ هَذَا الْعَبْدِ، وَكَانَ سيد قَدْ أَعْطَاهُ دَارًا جَعَلَهَا مَسْكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ فِي الدَّابَّةِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الدَّارِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ فِي الدَّابَّةِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي الدَّارِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ إِضَافَتَهُمَا إِلَيْهِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ فَلَمَّا لَمْ يَحْنَثْ فِي الدَّارِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْإِضَافَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الْيَدِ مَجَازًا، وَالْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ دُونَ الْمَجَازِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ فِي يَدِ سَائِسِهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ ثَمَرَةَ هَذِهِ النَّخْلَةِ حَنِثَ بِمِلْكِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِضَافَةَ مِلْكٍ، قِيلَ: لَمَّا اسْتَحَالَ فِيهَا إِضَافَةُ الْمِلْكِ حُمِلَتْ عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ لِوُجُودِهِ فِي شَوَاهِدِ الْمَعْقُولِ، وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْعَبْدِ. (فَصْلٌ:) وبعكس ما ذكرناه إذا حلف لم يَرْكَبُ دَابَّةَ زَيْدٍ أَوْ لَا يَسْكُنُ دَارَهُ فَرَكِبَ دَابَّةً جَعَلَهَا زَيْدٌ بِرَسْمِ عَبْدِهِ أَوْ سَكَنَ دَارًا جَعَلَهَا بِرَسْمِ عَبْدِهِ حَنِثَ فِي الدَّابَّةِ وَالدَّارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيَحْنَثُ فِي الدَّارِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الدَّابَّةِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْمِلْكِ اسْتِعْمَالًا لِحَقِيقَتِهَا دُونَ مَجَازِهَا وَجَدَ بِهِ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ زَيْدٍ فَسَكَنَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ وَبَكْرٌ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا، وَحَنَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ الْعَبْدِ أَوْ لَا يَسْكُنُ دَارَهُ، فَمَلَّكَهُ سَيِّدُهُ دَابَّةً وَدَارًا فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ بِرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَسُكْنَى دار، قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ مِنَ الْعَبْدِ، هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورٍ لِأَصْحَابِنَا، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا يَحْنَثُ بِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ مُلِّكَ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِمَا تَمَلَّكَهُ السَّيِّدُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَعْلُولٌ بِالْوَالِدِ إِذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ كَانَ تَامًّا، وَإِنِ اسْتَحَقَّ الْوَالِدُ الرُّجُوعَ فِيهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ الْمَكَاتَبِ فَرَكِبَ دَابَّتَهُ حَنِثَ بِهَا الْحَالِفُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكُهَا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ؛ تَعْلِيلًا بِأَنَّ ملكه غير مستقر. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ صدقةٌ عَلَى مَعَانِي الْأَيْمَانِ فَمَذْهَبُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وعدةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعطاءٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 456 وَالْقِيَاسُ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يمينٍ وَقَالَ مَنْ حَنَثَ فِي الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَفِيهِ قولان أحدهما قول عطاء كفارة يمينٍ ومذهبه أن أعمال البر لا تكون إلا ما فرض الله أو تبرراً يراد به الله عز وجل (قال الشافعي) والتبرر أن يقول لله علي إن شفاني أن أحج نذراً فأما إن لم أقضك حقك فعلي المشي إلى بيت الله فهذا من مِن معاني الأيمان لا معاني النذور (قال المزني) رحمه الله قد قطع بأنه قول عددٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والقياس وقد قال في غير هذا الموضع لو قال لله علي نذرٌ حج إن شاء فلانٌ فشاء لم يكن عليه شيءٌ إنما النذر ما أريد بن الله عز وجل ليس على معاني المعلق والشائي غير الناذر ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النَّذْرَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَذْرُ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ دَفَعَهُ عَنْهُ مِنْ نِقْمَةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ شفى الله مريضي أو رزقني ولداً لله عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: نَذْرُ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، فَالنَّفْيُ مَا الْتَزَمَ بِهِ نَفْيَ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ، لِيَلْزَمَ بِنَذْرِهِ دُخُولَ الدَّارِ وَالْإِثْبَاتُ مَا الْتَزَمَ بِهِ إِثْبَاتَ فعلٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ، لِيَلْتَزِمَ بِنَذْرِهِ دُخُولَ الدَّارِ، وَالْإِثْبَاتُ مَا الْتَزَمَ بِهِ النَّفْيُ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي صَدَقَةٌ، لِيَلْتَزِمَ بِنَذْرِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ إِذَا خَالَفَ عَقْدَ نَذْرِهِ وَحَنِثَ فِيمَا أَوْجَبَهُ على نفسهن فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ مَالَهُ بِمَا لَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي حرامٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ يُلْزَمُ الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ، وَالصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ النَّذْرِ كَالْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ الزَّكَاةُ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْخَلِعُ عَنْ مَالِي؟ فَقَالَ: " الثُّلُثُ يُجْزِئُكَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 457 وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا لَيْسَ بِمُزَكًّى. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وأبي هريرة، وعائشة وحفصة وأم مسلمة وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ أَتَاناَ مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَّنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (التوبة: 75، 76) فَتَوَعَّدَهُ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ وبنذره وَالْوَعِيدُ يَتَوَجَّهُ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُهُ فَلْيَفِ بِهِ " فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الصَّدَقَةَ بِشَرْطٍ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ كالجزاء بالتبرر؛ ولأن كل حقٍّ لوم بِنَذْرِ الْجَزَاءِ، وَالتَّبَرُّرُ لَزِمَهُ بِنَفْيِ النَّذْرِ وَالْإِثْبَاتِ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا طَلَقْتُمْ) {المائدة: 89) فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ يَمِينٍ. وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ " وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يمينٍ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يُطِيقُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يمينٍ ". وَرَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ أَوْ جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ أَوْ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ " وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهُ بِانْتِشَارِهِ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمْ إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. رَوَى عُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: قسمه، فَقَالَ لَهُ: إِنْ عُدْتَ بِذِكْرِ الْقِسْمَةِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا، وَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْكَعْبَةَ لَغَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يَمِينَ عَلَيْكَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَا فِيمَا لَيْسَ لَكَ ". وَرَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ وَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا يومٌ يهوديةٌ ويومٌ نصرانيةٌ، ويومٌ مجوسيةٌ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 458 إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَجَاءَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ، فَقَالَ هَاهُنَا: " هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَقَالَتْ يَا طَيِّبَ بْنَ الطَّيِّبِ، ادْخُلْ أَعُوَذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تُفَرِّقِي بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، قَالَتْ: إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، وَقُلْتُ: إِنَّهَا يومٌ يهوديةٌ، ويومٌ نصرانيةٌ، وَيَوْمٌ مجوسيةٌ، قَالَ: تُكَفِّرِينَ يَمِينَكِ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ فَتَاكِ وَفَتَاتِكِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ قَالَ لَهَا: كَفِّرِي عَنْ يَمِينِكِ وَخَلِّي بَيْنَهُمَا فَفَعَلَتْهُ. وَرَوَى خِلَاسُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ أَهْدَتْ ثَوْبَهَا إِنْ مَسَّتْهُ، فَقَالَ: لِتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا، وَلِتَلْبَسْ ثَوْبَهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَرْوِيًّا عَنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُمْ فَهُوَ إِجْمَاعٌ قَاطِعٌ فَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْإِجْمَاعِ مَا حَكَاهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله الهندواي أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَفَاءِ قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ: لَهُمْ هَذِهِ دَعْوَى يَدْفَعُهَا مَا رَوَيْنَاهُ عن عبد بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ نَقَلَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لَمْ يَرْوِ خِلَافَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَيَجِبُ بِحِنْثِهِ كَفَّارَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حِنْثِهِ بِاللَّهِ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ حِنْثِهِ فِي النَّذْرِ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَلِلَّهِ علي نذره. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَّدَ نَذْرَهُ عَنْ يَمِينٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ وَلَوْ جَرَّدَ يَمِينَهُ عَنْ نَذْرٍ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا النَّذْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَيْمَانِ الْمَحْضَةِ وَالنُّذُورِ الْمَحْضَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحِنْثُ فِيهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حِنْثِ الْأَيْمَانِ وَحِنْثِ النُّذُورِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي نَذْرِ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَذْرِ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ فَمِنْ وجهن: أَحَدُهُمَا: إنَّ النَّذْرَ لَا لِمَحْضِ مُعَاوَضَةٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، فَيَجْعَلُ النَّذْرَ لَازِمًا فِي الْجَزَاءِ وَلَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا فِي التَّبَرُّرِ الْمُبْتَدَأِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إنَّ مَقْصُودَ النَّذْرِ طَاعَةُ اللَّهِ وَمَقْصُودَ هَذَا الْتِزَامُ فِعْلٍ أَوِ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ فَلِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ مَا اخْتَلَفَا فِي الحكم، وهذا قول من جعل نذراً التَّبَرُّرِ لَازِمًا كَمَا كَانَ نَذْرُ الْجَزَاءِ لَازِمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيقِ هَذَا النَّذْرِ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَهُوَ أَنَّهُ وُقُوعُ عِتْقٍ وَطَلَاقٍ بِصِفَةٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ وَطَلَاقٍ مُخَالِفٌ حُكْمَ تَعْلِيقِهِ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 459 فِعْلِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَخْيِيرُهُ بَيْنَ هَذَا النَّذْرِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَهُمَا فِي الْوُجُوبِ عَلَى سَوَاءٍ وَلَهُ الْخِيَارُ فِيمَا شَاءَ مِنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَهُ إِسْقَاطُهُمَا بِالنَّذْرِ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ أَغْلَبُ وَهِيَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ وَإِنْ كَانَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ أَفْضَلَ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنُّذُورُ تَنْقَسِمُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ نَذْرُ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ إِذَا قَالَ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَصَدَّقْتُ بِمَالِي أَوْ حَجَجْتُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَوْ صُمْتُ شَهْرًا أَوْ صَلَّيْتُ أَلْفَ رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ إِذَا شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَالِهِ كُلِّهِ. وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَصَدَّقُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِاسْتِثْنَائِهِ بِالشَّرْعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَخَرَجَ مِنْ عُمُومِ نَذْرِهِ. وَإِنْ أَوْجَبَ الْحَجَّ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ مُسْتَطِيعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالِاسْتِطَاعَةِ وَتَعَلَّقَ وُجُوبُ هَذِهِ بِالنُّذُورِ وَإِنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ صَلَّى، وَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لِوُجُوبِهَا كَالْفُرُوضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ فَكَانَتْ بِالتَّطَوُّعِ أَشْبَهَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِقَلِيلِ مَالِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إن شفاني الله فلله عَلَيَّ نَذْرٌ فَيَنْصَرِفُ إِطْلَاقُ هَذَا النَّذْرِ إِلَى الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ عُرْفِ النُّذُورِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ إِطْلَاقُهَا بِمَالٍ فَجَازَتْ بِقَلِيلِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَلْزَمُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَحْدَهَا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَحْدَهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْيَمِينِ عَلَى النُّذُرِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مَعْلُومَةٌ، وَمُوجَبُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 460 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْتِزَامِهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُعَلِّقَ نَذْرَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ يَلْتَزِمَ بِهِ فِعْلَ شَيْءٍ فَيَصِيرُ يَمِينًا عَقَدَهَا بِنَذْرٍ فَهِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَصْلِ النَّذْرِ وَأَصْلِ الْأَيْمَانِ، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِمَالٍ أَوْ صَلَاةٍ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ بِحَجٍّ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: فِيهِ قَوْلَانِ فَتَمَسَّكَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ، وَوَهِمَ فِي مُرَادِهِ فَخَرَجَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَتَكَلَّفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَصَارَ أَغْلَظَ فِي الِالْتِزَامِ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ، كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ. وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ لِلْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَةِ أَقَاوِيلَ حَكَاهَا وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَجِّ إِلَّا قَوْلَانِ. إِمَّا الْتِزَامُهُ وَإِمَّا التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ التَّخْيِيرَ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُرَادِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِذَا دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ إِنْ رَأَيْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ الْحَجُّ فَيُنْظَرُ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّرَجِّيَ لِدُخُولِ الْبَصْرَةِ وَلِلِقَاءِ زَيْدٍ فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَى فِعْلٍ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ فِعْلِ نَفْسِهِ فَهُوَ نَذْرُ جَزَاءٍ وَتَبَرُّرٍ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ وَرُؤْيَةِ زَيْدٍ فَهِيَ يَمِينٌ عَقَدَهَا عَلَى نَذْرٍ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْوَفَاءِ، وَالتَّكْفِيرِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ نَذْرَهُ بِتَحْرِيمِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَمَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ. فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَارِيَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتِ أَزْوَاجِكَ) {التحريم: 1) ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تِحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) . فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى نَفْسِهِ فَرَوَى الْأَكْثَرُونَ، أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ فِي تَحْرِيمِهِ غَيْرَ ذَاتِ الْفُرُوجِ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَتَكُونُ اليمين فيه لغواً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 461 وروى طَائِفَةٌ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَسَلُ، أَوِ الْمَعَافِيرُ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِتَحْرِيمِ مَالِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا يَلْزَمُهُ فِي تَحْرِيمِ ذَاتِ الْفُرُوجِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي النَّذْرِ بِهِ وَفَاءٌ، وَلَا كَفَّارَةٌ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ، أَوْ نَذْرَ يَمِينٍ، وَيَكُونُ عَفْوًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ يَقُولُ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرَ يَمِينٍ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ تَصَدَّقْتُ بِمَالِي إِنْ شَاءَ عَمْرٌو، فَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ، وَلَا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ اللَّهِ وَالْيَمِينَ مَا عَلَّقَهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا النَّذْرُ وَالْيَمِينُ مُعَلَّقَانِ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ، فَخَرَجَا عَنْ شَرْطِ النَّذْرِ وَشَرْطِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا وُجُوبٌ بِمَشِيئَةٍ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ. والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 462 كتاب النذور (مسألة:) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لَزِمَهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشِيِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دماً احتياطاً من قبل أنه إذا لم يطق شيئاً سقط عنه ولا يمشي أحدٌ إلى بيت الله إلا أن يكون حاجاً أو معتمراً ". قال الماوردي: أما النذور فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْوَعْدُ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ، قَالَ عَنْتَرَةُ الْعَبْسِيُّ: (الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتُمْهُمَا ... وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَمَ أَلْقَهُمَا دَمِي) وَأَمَّا النَّذْرُ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ الْوَعْدُ بِالْخَيْرِ، دُونَ الشَّرِّ، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نَذْرَ فِي معصيةٍ " وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ، بِالنُّذُورِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ) {المائدة: 1) وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) {الإسراء: 17) يعني مسؤولاً عَنْهُ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ مَا كَانَ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيْنِ، والعهد قد ينفرد فيه الإنسان في حقه نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ إِلْزَامٌ بِوَثِيقَةٍ، وَالْعَهْدَ إِلْزَامٌ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ، فَصَارَ الْعَقْدُ أَوْكَدَ مِنَ الْعَهْدِ، فَأَمَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْوَفَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) {النحل: 16) فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ، ثُمَّ حَمِدَ مَنْ وَفَّى بِنَذْرِهِ فَقَالَ: {يُوْفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) {الإنسان: 7) وَحَمِدَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ فَقَالَ: {وَالمَوْفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (البقرة: 177) ثُمَّ ذَمَّ وَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَفِ بِعَهْدِهِ، وَلَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَاتِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (التوبة: 75، 76، 77) وَهَذَا نَزَلَ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ وَفِي سَبَبِ نُزُولِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 463 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ خَافَ هَلَاكَهُ، فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَخِلَ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ثَعْلَبَةَ مَا نَزَل فِيهِ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ " فَحَثَا القراب عَلَى رَأْسِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ صَدَقَتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُثْمَانُ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، وَمَاتَ فِي أَيَّامِهِ، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ وَعِيدٍ، وَأَعْظَمِ زَجْرٍ فِي نَقْضِ الْعُهُودِ، وَمَنْعِ النُّذُورِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي على ابن آدم شيئاً لم أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ شيءٌ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَا يُؤْتِينِي عَلَى الْبُخْلِ ". فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ، عَلَى أَنَّ مَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْبِرِّ أَفْضَلُ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ بِالنَّذْرِ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ بِالضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ لِضَمَانٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنُّذُورُ الْمَحْضَةُ ضَرْبَانِ: مُجَازَاةٌ، وَتَبَرُّرٌ. فَأَمَّا الْمُجَازَاةُ: فَهُوَ مَا عَقَدَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَاعَةٍ يَفْعَلُهَا مُجَازَاةً عَلَى مَا يَرْجُو مِنْ نَفْعٍ، أَوْ يَسْتَدْفِعُهُ مِنْ ضرٍ فَجَعَلَهُ شَرْطًا وَجَزَاءً. فَالشَّرْطُ مَا طُلِبَ وَالْجَزَاءُ مَا بُذِلَ، وَالشَّرْطُ الْمَطْلُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 464 وَالْجَزَاءُ الْمَبْذُولُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ. فَأَمَّا ضُرُوبُ الشَّرْطِ الْمَطْلُوبِ فَالطَّاعَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ الْحَجَّ، أَوْ فَتَحَ عَلَى يَدَيَّ بِلَادَ أَعْدَائِهِ، فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا. وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ إِنْ كَفَانِي اللَّهُ ظَفَرَ أَعْدَائِهِ بِي، أَوْ دَفَعَ عَنِّي مَا يَقْطَعُنِي عَنْ صَلَاتِي وَصِيَامِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا. فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْمُبَاحُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَوْ مَالًا فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا. وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَنِي فِي سَفَرِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا. فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ إِنْ ظَفِرْتُ بِقَتْلِ فُلَانٍ، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ إِنْ لَمْ أُدْفَعْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ أَمْنَعْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. فَهَذَا نَذْرٌ بَاطِلٌ، وَالْوَفَاءُ بِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ الْمَعْصِيَةِ، أَسْقَطَ مَا قَابَلَهَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً. وَأَمَّا ضَرْبُ الْجَزَاءِ الْمَبْذُولِ، فَالطَّاعَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ، أَوْ أَصُومَ، أَوْ أَحُجَّ، أَوْ أَعْتَكِفَ، أَوْ أَتَصَدَّقَ، فَهَذَا جَزَاءٌ يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ الْمُبَاحُ، وَيُلْتَزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كَذَا، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَكْلُ لَذِيذٍ، وَلُبْسُ جَدِيدٍ إِنْ أَثْبَتَ، أَوْ لَا أَكَلْتُ لَذِيذًا، وَلَا لَبِسْتُ جَدِيدًا، إِنْ نَفَى، فَهَذَا جَزَاءٌ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ، لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 465 الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ فَقَالَ: " مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وليتم صومه " فأسقط عنه ما لا طاقة فيه، وأمره بالتزام بما فِيهِ طَاعَةٌ. وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ أَنَّ رَجُلًا حَجَّ مَعَ ذِي قَرَابَةٍ مُقْتَرِنًا بِهِ فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ قِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ فَأَمَرَ بِالْقِرَانِ أَنْ يُقْطَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِرَانِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، أَسْقَطَهُ مِنْ نَذْرِهِ وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كَذَا قَبَّلْتُ فُلَانًا، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ، إِنْ أَثْبَتَ، أَوْ لَا صَلَّيْتُ، وَلَا صُمْتُ إِنْ نَفَى فَهَذَا جَزَاءٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا بِاعْتِقَادِهِ عَاصٍ، فَصَارَ شَرْطُ النَّذْرِ مُنْعَقِدًا بِنَوْعَيْنِ بِطَاعَةٍ، وَمُبَاحٍ، وَغَيْرَ منعقد بنوع واحد وهم الْمَعْصِيَةُ، وَصَارَ الْجَزَاءُ لَازِمًا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّاعَةُ وَغَيْرُ لَازِمٍ، بِنَوْعَيْنِ وَهُمَا الْمُبَاحُ، وَالْمَعْصِيَةُ. فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ: إِنْ هَلَكَ فُلَانٌ؛ وَهَبْتُ دَارِي لِفُلَانٍ فَإِنْ كَانَ الْهَالِكُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، انْعَقَدَ بِهِ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْدَائِهِ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ لَزِمَ بِهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ التَّوَاصُلَ وَالْمَحَبَّةَ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ قَالَ: إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ أَعْتَقْتُ عَبْدِي وَطَلَّقْتُ امْرَأَتِي انْعَقَدَ نَذْرُهُ عَلَى سَلَامَةِ مَالِهِ وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى هَلَاكِ مَالِ فُلَانٍ لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ مِنْ سَلَامَةِ مَالِهِ مُبَاحٌ، وَمَا شَرَطَهُ مِنْ هَلَاكِ مَالِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ، وَلَزِمَهُ فِي الْجَزَاءِ عِتْقُ عَبْدِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعِتْقِ طَاعَةٌ، وَالْجَزَاءَ بِالطَّلَاقِ مُبَاحٌ. وَلَوْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ: إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ انْعَقَدَ الشَّرْطَانِ، وَوَقَعَ بِهِمَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَصَارَ شَرْطُ الْمَعْصِيَةِ مُعْتَبَرًا كَشَرْطِ الطَّاعَةِ وَالْجَزَاءُ فِيهِ بِمُبَاحِ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ كَوُقُوعِهِ بِمُسْتَحَبِّ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا عَنْ أَحْكَامِ النُّذُورِ إِلَى وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ بِالصِّفَاتِ، ثُمَّ نَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ. وَأَمَّا نَذْرُ التَّبَرُّرِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدأً لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا فَيَبْتَدِئُ بِالْتِزَامِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَهُوَ نَوْعَانِ: طَاعَةٌ، وَغَيْرُ طَاعَةٍ. فَأَمَّا الطَّاعَةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ، أَوْ أَعْتَمِرَ، أَوْ أُصَلِّيَ، أَوْ أَصُومَ، أَوْ أَعْتَكِفَ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ على وجهين: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 466 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَالْمُجَازَاةِ؛ لِعُمُومِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) {آل عمران: 35) فَأَطْلَقَ نَذْرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطٍ وَجَزَاءٍ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّذْرَيْنِ فِي التَّبَرُّرِ وَالْمُجَازَاةِ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ) {التوبة: 77) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ النَّذْرَيْنِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نَذْرٍ بِطَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْمُجَازَاةِ، وَالتَّبَرُّرِ، كَالْأُضْحِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ لُغَةٍ وَشَرْعٍ. أما اللغة فما حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ، إنَّ النَّذْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعْدٌ بِشَرْطٍ فَكَانَ عُرْفُ اللِّسَانِ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِاسْتِقْرَارِ أُصُولِهِ عَلَى الْفَرْقِ فِي اللُّزُومِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ والإجارت لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ عُقُودِ غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بِالْعَقْدِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَذْرُ الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا بِالْعَقْدِ، وَنَذْرُ غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرَ لَازِمٍ بِالْعَقْدِ، وَكِلَا الِاسْتِدْلَالَيْنِ مَدْخُولٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَعُرْفُ اللِّسَانِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ: (فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لِقَوْلِي) وَأَمَّا نَذْرُ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ، وَلَا قُرْبَةٍ فَكَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَصْرَةَ أَوْ لَا أَدْخُلَهَا، أَوْ آكُلَ لَذِيذًا، أَوْ لَا آكُلَهُ، أَوْ أَلْبَسَ جَدِيدًا، أَوْ لَا أَلْبَسَهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا قُرْبَةٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَيْتَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ فَقَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكِ " قِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ غَضَّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينَ الْفَرْجِ، كَانَ قُرْبَةً؛ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، وَالتَّلَذُّذَ كَانَ مُبَاحًا، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ؛ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ الْبَابِ فِي أُصُولِ النذور. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 467 (فَصْلٌ:) فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: فَصُورَتُهَا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ بِبَيْتِهِ الْحَرَامِ. فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ فَيَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّهُ من طاعات الله التي يتعبد بِهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ أَقْصِدَهُ، أَوْ أَمْضِيَ إِلَيْهِ انْعَقَدَ بِهِ النَّذْرُ كَالْمَشْيِ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْقَصْدِ لَهُ وَالذَّهَابِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَشْيِ يُرِيدُ الْقُرْبَةَ وَبِالْقَصْدِ وَالذَّهَابِ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُمَا. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) {الحج: 27) فَجَعَلَ الرُّكُوبَ صِفَةً لِقَاصِدِيهِ كَالْمَشْيِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ، وَالذَّهَابَ يَعُمُّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ فَدَخَلَ حُكْمُ الْخُصُوصِ في العموم. والحال الثانية: أن لا يصفه بالبيت الحرام، ويقتضي عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بيت الله فله ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، فَيَصِيرَ بِإِرَادَتِهِ فِي حُكْمِ مَنْ تَلَفَّظَ بِهِ فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، وَمَسَاجِدِهِ التي لا فضل لنا عَلَى غَيْرِهَا، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ، وَلَا يَقْتَرِنَ بِهِ إِرَادَةٌ، فَفِي إِطْلَاقِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، أَنَّ مَعْهُودَ إِطْلَاقِهِ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ عُرْفًا؛ فَتَوَجَّهَ النَّذْرُ إِلَيْهِ حُكْمًا، فَصَارَ بِالْعُرْفِ كَالْمُضْمَرِ فَيَصِيرُ النَّذْرُ بِهِ مُنْعَقِدًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ، مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ كُلِّهَا فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِطْلَاقُهُ مِنْ بَعْضِهَا، وَلَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِضْمَارٍ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَلَوِ احْتَاطَ بِالْتِزَامِهِ كَانَ أَوْلَى. (فَصْلٌ:) فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ النَّذْرِ بِقَصْدِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مُنْذِرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 468 أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ قَصْدَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَقَدْ تَعَيَّنَ نَذْرُهُ بِمَا أَرَادَهُ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ لَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ، لَمْ يُجْزِهِ الْحَجُّ، وَإِنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجَزَأَهُ الْقِرَانُ عَنْ إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ لَا يَحُجَّ وَلَا يَعْتَمِرَ فَفِي النَّذْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِاسْتِثْنَاءِ مَقْصُودِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ لِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْحُكْمِ، دُونَ الْعَقْدِ. فَعَلَى هَذَا فِي الشَّرْطِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي حُكْمَ النُّذُورِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ لِاتِّصَالِ الشَّرْطِ بِالنَّذْرِ فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى قَصْدِ الْبَيْتِ عِبَادَةً مِنْ طَوَافٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ، لِيَصِيرَ الْقَصْدُ طَاعَةً، إِذَا اقْتَرَنَ بِطَاعَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرِنَ بِالْقَصْدِ طَاعَةً، لِأَنَّ قَصْدَ الْبَيْتِ طَاعَةٌ وَمُشَاهَدَتَهُ قُرْبَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا مَا الْتَزَمَ فَصَارَ فِي مَجْمُوعِ هَذَا التَّفْصِيلِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّذْرَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّذْرَ وَالشَّرْطَ صَحِيحَانِ، وَعَلَيْهِ فِعْلُ عِبَادَةٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمَا صَحِيحَانِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ الْقَصْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ إِرَادَةٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَيَكُونُ إِطْلَاقُ النَّذْرِ مَعْقُودًا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِمَا شَرْعًا؛ فَصَارَ مَقْصُودًا بِهِمَا نَذْرًا. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ خَطَأٍ فِيهَا هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ لِدُخُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 469 أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحِلًّا فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ إِطْلَاقُ نَذْرِهِ بِقَصْدِ الْبَيْتِ مَعْقُودًا عَلَى حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهَا مُحِلًّا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَعَلَى هَذَا فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ وَجْهَانِ تَخَرَّجَا مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فِي لُزُومِ نَذْرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ النَّذْرُ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ قَصْدٌ لَا يَجِبُ بِهِ إِحْرَامٌ، وَكَذَلِكَ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ فِيهِ إِحْرَامٌ وَيَكُونُ النَّذْرُ فِي جَمِيعِهَا مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْقَصْدِ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ لَزِمَهُ النَّذْرُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِوُجُوبِ قَصْدِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَرْعًا، فَوَجَبَ قَصْدُهُ نَذْرًا، وَلَمْ يَجِبْ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ شَرْعًا فَلَمْ يَجِبْ قَصْدُهُ نَذْرًا فَاقْتَضَى افْتِرَاقُهُمَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْمُخَالِفِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ أَنْ يَجِبَ بِقَصْدِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي النَّذْرِ مَا أَوْجَبَ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ إِحْرَامِهِ فِي النَّذْرِ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْهُودُ النَّذْرِ عُرْفًا، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى تَخْرِيجِ مَا يُخَالِفُهُ، وَيَكُونُ فِي هَذَا مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ؛ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ مِنَ الْعُمْرَةِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ هَذَا النَّذْرُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُطْلِقَ فِي نَذْرِهِ صِفَةَ قَصْدِهِ، وَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ رُكُوبًا، وَلَا مَشْيًا فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْصِدَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ، أَوْ أَمْضِيَ إِلَيْهِ أَوْ أَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إذا خرج بن الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ فِي نَذْرِهِ صِفَةَ قَصْدِهِ بِرُكُوبٍ أَوْ مَشْيٍ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ أَرْكَبَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَفِي لُزُومِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي نَذْرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الرُّكُوبُ، وَلَا الْمَشْيُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبْ بِالنَّذْرِ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ إِنْ شَرَطَ الْمَشْيَ، وَيَمْشِيَ إِنْ شَرَطَ الرُّكُوبَ. وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: " لِتَمْشِ أَوْ لِتَرْكَبْ " فَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ الشَّرْطِ فِي المشي والركوب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 470 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْشِيَ إِذَا شَرَطَ الْمَشْيَ وَيَلْزَمَهُ أَنْ يَرْكَبَ إِذَا شَرْطَ الرُّكُوبَ، لِأَنَّ فِي الْمَشْيِ زِيَادَةَ عَمَلٍ وَفِي الرُّكُوبِ زِيَادَةُ نَفَقَةٍ، وَكِلَاهُمَا قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّذْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ إِلَّا مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ كَمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ وَالِاعْتِكَافُ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فِيهِ الشَّرْعُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَشْبَهُ: أَنَّ الْمَشْيَ يَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الرُّكُوبُ بِاشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَشْيِ مَشَقَّةً، فَلَزِمَ لِتَغْلِيظِهِ، وَفِي الرُّكُوبِ تَرْفِيهٌ فَلَمْ يَلْزَمْ لِتَحْقِيقِهِ وَأَدَاءُ الْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ مُجْزِئٌ وَأَدَاءُ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَجَّا مَاشِيَيْنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا آسَى عَلَى أَنْ لَوْ حَجَجْتُ فِي شَبَابِي مَاشِيًا ". وَقَدْ سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) {الحج: 27) فَبَدَأَ بِالرَّجَّالَةِ قَبْلَ الرُّكْبَانِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ لَا يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ، لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ اعْتِبَارًا بِفَرْضِ الْحَجِّ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا اعْتُبِرَ بِفَرْضِهِ فِي سُقُوطِ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ يَجِبَانِ بِالشَّرْطِ ابْتَدَأَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ مَسِيرِهِ مِنْ دُوَيْرَةِ أهله ولزمه الإحرام فيها مِنْ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ مِنْ حُقُوقِ هَذَا الْحَجِّ، الْمَنْدُوبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِ حَجِّ الْإِسْلَامِ وَجَبَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِحْرَامُ لِيَصِيرَ بِهِ دَاخِلًا فِي لَوَازِمِ النَّذْرِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ: إِنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ بِالشَّرْطِ، وَالرُّكُوبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالشَّرْطِ، لَزِمَهُ فِي اشْتِرَاطِ الْمَشْيِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ بَلَدِهِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الرُّكُوبِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِهِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ مَا شَرَطَهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، فَخَالَفَ شَرْطَهُ فَرَكِبَ، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَمْشِيَ وَمَشَى، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَرْكَبَ فَحَجُّهُ مجزئٌ عَنْ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَجُّ النَّذْرِ بِأَوْكَدَ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ بِأَوْكَدَ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْفَرْضِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ النَّذْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ جُبْرَانُ مَا أخرهُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَفِي وُجُوبِ جُبْرَانِ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 471 أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جُبْرَانُهُمَا؛ لِاخْتِصَاصِ الْجُبْرَانِ بِالْمَنَاسِكِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ الْمَشْيُ، وَالرُّكُوبُ بِنُسُكٍ مَشْرُوعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ جُبْرَانُهُمَا بِدَمٍ فَيَفْتَدِي الْمَشْيَ إِذَا رَكِبَ، وَيَفْتَدِي الرُّكُوبَ إِذَا مَشَى؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ صَارَا بِالشَّرْطِ مِنْ حُقُوقِ حَجِّهِ، فَجَرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْمَنَاسِكِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مُرْ أُخْتَكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ ". وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ الْمَشْيَ، إِذَا رَكِبَ وَلَا يَفْتَدِيَ الرُّكُوبَ إِذَا مَشَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ بِتَرْكِ الْمَشْيِ، وَلَمْ يَتَرَفَّهْ بِتَرْكِ الرُّكُوبِ، فَإِذَا قِيلَ: بِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ فِيهِمَا اسْتَوَى حُكْمُ تَرْكِهِمَا بِعُذْرٍ وَغَيْرِ عُذْرٍ. وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِيهِمَا، وَجَبَتْ فِي تَرْكِهِمَا بِغَيْرِ عُذْرٍ لِقُدْرَةِ الْمَاشِي عَلَى الْمَشْيِ وَقُدْرَةِ الرَّاكِبِ عَلَى الرُّكُوبِ، وَفِي وُجُوبِهِمَا فِي تَرْكِهِمَا لِعُذْرٍ لِعَجْزِ الْمَاشِي بِالْمَرَضِ، وَعَجْزِ الرَّاكِبِ بِالْعُسْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ الْفِدْيَةُ بِالْعَجْزِ؛ لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَجِبُ الْفِدْيَةُ مَعَ الْعَجْزِ، لِتَوَجُّهِ الْعَجْزِ إِلَى الْفِعْلِ، دُونَ الْفِدْيَةِ؛ فَيَسْقُطُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ، وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ كَالْفِدْيَةِ فِي الْحَلْقِ، وَاللِّبَاسِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُ هَذِهِ الْفِدْيَةِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِدْيَةُ تَرْكٍ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمَشْيِ الْمَشْرُوطِ، وَتَارِكٌ لِمَا شَرَطَهُ مِنْ نَفَقَةِ الرُّكُوبِ؛ فَصَارَ كَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فِي أَحَدِ نُسْكَيْهِ، فَعَلَى هَذَا تكون الفدية دم شاة، فإذا أَعْسَرَ بِهَا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا فِدْيَةُ تَرْفِيهٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَفَّهَ فِي تَرْكِ الْمَشْيِ بِالرُّكُوبِ وَتَرَفَّهَ فِي تَرْكِ الرُّكُوبِ، بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ؛ فَصَارَ كَفِدْيَةِ الْحَلْقِ الَّذِي تَرَفَّهَ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْفِدْيَةِ بَيْنَ دَمِ شَاةٍ، أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَإِذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ثُمَّ يَرْكَبُ وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا مَشَى حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 472 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا النَّذْرُ فِي الْحَجِّ مَاشِيًا مُوَافِقٌ لِنَذْرِهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمَفَارِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا مَا يُوَافِقُهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: فَأَحَدُهُمَا: اشْتِرَاكُهُمَا فِي وجوب المشي فيهما، وسقوطه، وفيه وَجْهَانِ وَأَمَّا مَا يُفَارِقُهُ فِيهِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا؛ تَعَيَّنَ نَذْرُهُ فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ نَذْرُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: يَفْتَرِقَانِ فِي أَوَّلِ الْمَشْيِ وَآخِرِهِ، فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا كَانَ آخِرُ الْمَشْيِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَأَوَّلُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ كَانَ أَوَّلُ الْمَشْيِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَآخِرُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَفِي أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشْيِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بَلَدِهِ إِذَا تَوَجَّهَ مِنْهُ لِحَجِّهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي حَجِّ الْمَاشِي فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِهِ مِنْ بَلَدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مِيقَاتِهِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَأَرْكَانِهِ. فَعَلَى هَذَا يُحْرِمُ بِهِ مِنْ مِيقَاتِهِ وَآخِرِ مَشْيِهِ إِذَا حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي الَّذِي يَسْتَبِيحُ بِهِ جَمِيعَ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ وَفِي إِحْلَالِهِ الثَّانِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الرَّمْيُ؛ وَالْحَلْقُ؛ وَالطَّوَافُ؛ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بِشَيْئَيْنِ: الرَّمْيُ، وَالطَّوَافُ، إن قيل: إن الحق إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي أَيَّامِ مِنًى وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَرْمِيهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ حَجَّةٍ. وَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ كَانَ أَوَّلُ مَشْيِهِ مِنْ بَلَدِهِ إِذَا تَوَجَّهَ، وَفِي آخِرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ نَذْرِهِ. وَالثَّانِي: إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْقُدُومِ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ قُرْبَةٍ. وَالثَّالِثُ: إِذَا حَلَّ إِحْلَالَهُ الثَّانِي اعْتِبَارًا بِكَمَالِ نُسُكِهِ، فَإِنْ رَكِبَ فِي مَشْيِهِ الْمُسْتَحَقِّ كَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 473 فِي الْفِدْيَةِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا كَانَ فِي أَوَّلِ مَشْيِهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بَلَدِهِ، وَيُحْرِمُ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مِيقَاتِهِ وَيُحْرِمُ مِنْهُ بِعُمْرَتِهِ، وَآخِرُ مَشْيِهِ إِذَا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَفِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْحَلْقِ، إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ. وَالثَّانِي: بِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَلْقَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ انْصَرَفَ هَذَا إِلَى النَّذْرِ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، رُوعِيَ مَخْرَجُ لَفْظِهِ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُجَازَاةً عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ شَرَطَ فِيهِ الْمَشْيَ الَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ النَّذْرِ انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى النَّذْرِ، وَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّذْرِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَذْرًا لِحَجٍّ، وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ بِفَرْضِ الْحَجِّ؛ فَوَجَبَ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْمُرَادِ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ نَذْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِشَكْلٍ محتمل. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ حَلَّ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ حَجُّ قابلٍ مَاشِيًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَحْرَمَ بِمَا نَذَرَهُ مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا، وَفَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إِمَّا بِإِحْصَارٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ خَطَأٍ فِي عَدَدٍ أَوْ ضَلَالٍ فِي طَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حَجُّ نَذْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الزَّمَانِ، أَوْ مُعَيَّنًا فَإِنْ أَطْلَقَ زَمَانَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِسَنَةٍ بِعَيْنِهَا، جَازَ لَهُ تَعْجِيلُهُ فِي أَوَّلِ عَامٍ، وَجَازَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْوَامِ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْكَدُ وَهِيَ عَلَى التَّرَاخِي فَكَانَ حَجُّ النَّذْرِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاضِي. فَإِذَا أَحْرَمَ بِهِ فِي عَامٍ، وَمَشَى فِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا، وَجَبَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بعملة عُمْرَةٍ مِنْ طَوَافٍ، وَسَعْيٍ وَحِلَاقٍ، وَفِي لُزُومِ الْمَشْيِ فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْشِي فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالنَّذْرِ وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ نَذْرِهِ فَسَقَطَ الْمَشْيُ فِيهِ كَمَا سَقَطَ تَوَابِعُ الْوُقُوفِ مِنَ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 474 حَجَّةِ النَّذْرِ بِالْفَوَاتِ، كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْفَوَاتِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَفِي زَمَانِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّرَاخِي كَأَصْلِ النَّذْرِ. وَالثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ فِي عَامَّةِ الْآتِي؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ بِمَا فَاتَ قَدْ عَجَّلَ قَضَاءَ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا كَالْأَدَاءِ، لِيَصِيرَ قَاضِيًا لِمَا كَانَ لَهُ مُؤَدِّيًا وَفِي اعْتِدَادِهِ بِمَشْيِهِ فِي الْحَجِّ الْفَائِتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ: لَا يُعْتَدُّ بِمَشْيِهِ فِيهِ، كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَى بَلَدِهِ؛ لِإِحْرَامِهِ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ، وَيَتَوَجَّهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ مِنْهُ مَا يَشَاءُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَعْتَدُّ بِمَشْيِهِ فِي الْفَائِتِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ لِاخْتِصَاصِ الْمَشْيِ بِالنَّذْرِ دُونَ الشَّرْعِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَ فِي حَجِّهِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مَحَلِّ الْفَوَاتِ ثُمَّ يَمْشِيَ فِي بَقِيَّةِ حَجِّهِ، حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْهُ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ ضَعْفِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِنْ كَانَ نَذْرُهُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ فِي سَنَةٍ بِعَيْنِهَا كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ فِيهِ الْتِزَامًا لِمُوجِبِ نَذْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ، وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، إِذَا وُجِدَ شَرْطُ نَذْرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، وَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِ فِي عَامِ نَذْرِهِ فإذا أحرم فيه ففاته الحج فيه وُجُوبِ قَضَائِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْضِي كَغَيْرِ الْمُعَيِّنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَتَمَاثَلُ فِي الْقَضَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ، لَزِمَهُ الْمَشْيُ فِي الْقَضَاءِ، وَفِي لُزُومِ الْمَشْيِ، فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ حَجِّ فَوَاتِهِ، قَوْلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ الْمُعَيَّنَ عَنْ عَامَّةِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ فَفِي وجوب قضائه قولان كالفوات. والله أعلم بالصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 475 بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْمَشْيُ حَتَّى يَكُونَ بَرًّا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَشْيِ إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعَ التَّبَرُّرِ برٌّ وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأُحِبُّ لَوْ نَذَرَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أن يمشي واحتج بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " ولا يبين لي أن يجب كما يبين لي أن واجباً المشي إلى بيت الله وذلك أن البر بإتيان بيت الله عز وجل فرضٌ والبر بإتيان هذين نافلةٌ ولو نذر أن يمشي إلى مسجد مصرٍ لم يجب عليه ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ أَوْ لَا يُعَيِّنَ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانًا يَمْشِي إِلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا نِيَّةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ نَذْرٌ ولم يلزمه مَشْيٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِي الْمَشْيِ وَلَا بِرَّ وَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ إِلَّا مَا كَانَ بِرًّا؛ وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ الْمَكَانَ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ بِقَوْلٍ ظَاهِرٍ، أَوْ نِيَّةٍ مُضْمَرَةٍ، فله فيه ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا انْعِقَادَ نَذْرِهِ بِهِ لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ وُجُوبِ قَصْدِهِ فِي الشَّرْعِ؛ فَوَجَبَ قَصْدُهُ بِالنَّذْرِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي قَصْدِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَصْدُهُ إِلَّا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِعِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى مَسْجِدٍ بِالْبَصْرَةِ، أَوْ مَسْجِدٍ بِالْكُوفَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَسْجِدِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ اخْتِصَاصٌ بِطَاعَةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ؛ انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَنْعَقِدْ بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ نَذْرِهِ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرِ الْبَصْرَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 476 الْمَقْدِسِ، أَوْ يَنْذِرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْقُولُ هَاهُنَا، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ نَذْرَهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ قَالَ شَأْنُكَ " إِذَنْ فَلَوْ وَجَبَ هَذَا النَّذْرُ؛ لَبَدَأَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَمْرِ بِهِ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ قَصْدُهُمَا بِالشَّرْعِ؛ فَلَمْ يَجِبْ قَصْدُهُمَا بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَقْرِنْ بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا عِبَادَةً سَقَطَ حُكْمُ النَّذْرِ، وَإِنْ قَرَنَ بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا عِبَادَةً شَرْعِيَّةً مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ لَزِمَهُ مَا نَذَرَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرُهُ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَيَصُومَ فِي مسجدٍ، وَغَيْرِ مسجدٍ، وَجَازَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْبُوَيْطِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ نَذْرَهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِمَا مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مساجدٍ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي " هَذَا فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَدَّ الرَّحَالِ وُجُوبًا إِلَّا إِلَيْهَا؛ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ شَدِّهَا إِلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَلِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا مَقْصُودَيْنِ فِي الشَّرْعِ بِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؛ فَقَدْ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قِبْلَةً يُصَلَّى إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فقد كان مقصوداً بوجوب الهجرة إليه؛ ففارقها مَا عَدَاهُمَا مِنْ سَائِرِ مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ؛ فَفَارَقَاهَا أَيْضًا فِي حُكْمِ النَّذْرِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو نَذْرُهُ فِي الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ يَتَضَمَّنَ عِبَادَةً فِيهِ، أَوْ لَا يَتَضَمَّنَ عِبَادَةً فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ فِيهِ عِبَادَةً وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ؛ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِمَا، وَفِي الْتِزَامِهِ فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِيهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ قَصْدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِنَذْرِهِ، وَيَكُونُ النَّذْرُ مَقْصُورًا عَلَى التَّبَرُّرِ بِقَصْدِهِمَا وَالْمُشَاهَدَةِ لَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا فِعْلُ عِبَادَةٍ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ إِنَّمَا تُقْصَدُ لِلْعِبَادَةِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ فِيهِمَا وَجْهَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 477 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا شَاءَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا عِبَادَاتٌ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ فِيهِمَا الصَّلَاةُ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَاةِ عُرْفًا فَاخْتُصَّ بِهِمَا نَذْرًا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ "، وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ فِيهِمَا، أَوْ أَصُومَ فِيهِمَا انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْقَصْدِ، وَانْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْعِبَادَةِ وَلَزِمَتْهُ الْعِبَادَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوِ اعْتِكَافٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. فَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. أَمَّا الْمَشْيُ إِلَيْهِ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ كَالْمَشْيِ إِلَى الْحَرَمِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ وَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْقَصْدِ فَإِنْ مَشَى أَوْ رَكِبَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْيُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَفْضَلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ المشي إليه واجب وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ لَفْظِهِ فِي نَذْرِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ رَكِبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْشِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَشْيِ هُوَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ قَصْدِهِ إِلَيْهِ مَاشِيًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ عِبَادَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَقْصُودُ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ تَرْكَ الْمَشْيِ بِفِدْيَةٍ، كَمَا قِيلَ: في المشي إلى الحرم لاختصاص الفدية يجبران الْحَجِّ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ فيه فقد لزمته بالنذر في اسْتِحْقَاقِ فِعْلِهَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ؛ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ عِبَادَةٍ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مستحق فيه؛ فإن صلاها في غير أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بِقَصْدِهِ فِعْلَ غَيْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ لُزُومُ صَلَاتِهِ فِيهِ، وَأنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا النَّذْرِ أَكْثَرُ مِنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ الَّذِي حُرْمَتُهُ مُشْتَرَكَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ لَزِمَهُ هَذَا النَّذْرُ، كَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ وَفِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ نذره وجهان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 478 أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ بِمَا نَذَرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْحَرَمِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الحرم. أَحَدُهُمَا: لَا تَتَعَيَّنُ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدَةٌ، وَلَأَنْ يُشَاهِدَ الْكَعْبَةَ فِي صَلَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ لَا يُشَاهِدَهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عبادةٌ ". وَالثَّانِي: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَلَا يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ نَذْرِهِ وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ في المسجد الأقصى؛ لا تجزئه فِي غَيْرِهِ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ كُنْتُ امْرَأً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَا أَتَى عَلَيَّ سَبْتٌ حَتَّى آتِيَ مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَأُصَلِّيَ فِيهِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ بِمَا نَذَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ بِانْعِقَادِ نَذْرِهِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْحَرَمِ إِلَّا بِإِحْرَامٍ، فَعَلَى هَذَا فِي الْتِزَامِهِ مَا عَقَدَ بِهِ نَذْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَقَلَ نَذْرَهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ بَيْنَ بَدَلٍ، وَمُبْدَلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِهَا بِنَذْرِهِ، وَمُلْتَزِمُ الْإِحْرَامِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ، فصارت الصلاة واجب عليه بالنذر، والإحرام واجبة عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِئْهُ بِغَيْرِهَا وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَهُ بِغَيْرِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا حَيْثُ نَذَرَ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمَسَاكِينِ ذَلِكَ الْبَلَدِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا نَذْرُ النَّحْرِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْذِرَ النَّحْرَ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَا اخْتَصَّ بِالْقُرْبَةِ وَلَا نَذْرَ فِيمَا تَجَرَّدَ عَنْهَا، وَهَذَا عَائِدٌ إِلَيْهِ فَتَجَرَّدَ عَنْ قُرْبَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا، أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ لِلْمَسَاكِينِ؛ فَهَذَا نَذْرٌ لَازِمٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُرْبَةِ، فَإِنْ نَذَرَهُ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَزِمَهُ نَحْرُهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ دَفَعَهُ حَيًّا إِلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِي إِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ مِنَ الْقُرْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُمْ فِي لَحْمِهِ، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ لَحْمَهُ نِيئًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْبَخَ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِهِ نِيئًا يصنعون به ما شاؤوا أَعَمُّ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 479 مَطْبُوخًا؛ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ مَطْبُوخًا صَارَ مُتَعَدِّيًا فِي حَقِّهِمْ، فَضَمِنَ لَهُمْ بَيْنَ قِيمَتِهِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا إِنْ كَانَ الطَّبْخُ قَدْ نَقَصَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ جَازَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمْ وَيُفَاضِلَ؛ فَإِنْ نَذَرَ نَحْرَهُ لِأَغْنِيَاءَ خَاصَّةً مُعَيَّنِينَ، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ، نُظِرَ فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الْقُرْبِ لِيَتَأَسَّى بِهِ الْأَغْنِيَاءُ فِي التَّوَسُّعِ؛ لَزِمَ نَذْرُهُ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنِ الْقُرْبَةِ وَقُصِدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ، وَالتَّطَوُّلُ، لَمْ يَلْزَمْ نَذْرُهُ فَلَوْ أَطْلَقَ مَنْ نَذَرَ نَحْرَهُ لَهُمُ انْصَرَفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْقُرَبِ، وحاز أَنْ يُصْرَفَ فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ فِي مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَسَقَطَ مِنْهُمْ صِنْفَانِ، الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَ نَحْرِهِ فَلَا يَجْعَلُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فَيُحْمَلُ مَعَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ بِالنَّذْرِ وَعُرْفُ النَّذْرِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ نَذْرُ نَحْرِهِ لِغَيْرِهِ، فَيَنْعَقِدُ النَّذْرُ لَازِمًا. (فصل:) فإذا تقرر بما فصلناه وُجُوب نَحْرِهِ، وَتَفْرِقَة لَحْمِهِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى محل النحر، وتفرقه اللحم، وهي عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ مَحَلَّ نَحْرِهِ، وَلَا يُعَيِّنَ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ إِذَا عَيَّنَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ، وَتَفْرِقَةَ لَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْحَرَمِ النَّحْرِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فَإِنْ نَحَرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، أَوْ فَرَّقَ لَحْمَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنَّذْرِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ، وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَقَدْ صَارَ مُعَيَّنًا لِمَسَاكِينِ غَيْرِ الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ فِي الْحَرَمِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ؛ لِانْعِقَادِ نَذْرِهِ بِهِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْحَرَمِ بِقُرْبَةِ النَّحْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ؛ اعْتِبَارًا بِمُسْتَحِقِّي لَحْمِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ نَحْرُهُ فِي الْحَرَمِ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ طَرِيًّا، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِنْ لَمْ يَصِلْ طَرِيًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن ينذره نَحْرَهُ فِي الْحَرَمِ وَيُطْلِقَ تَفْرِيقَ لَحْمِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ، فَيَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِي الْحَرَمِ عَلَى مُوجِبِ نَذْرِهِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 480 وَفِي تَفْرِيقِ لَحْمِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَصَحُّهُمَا فِي الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَفْرِيقِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالْإِطْلَاقِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ نَحْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ كَأَنَّهُ عَيَّنَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أيضاً: أحدهما: أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ، فَقَدْ لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ تَفْرِيقُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِمَسَاكِينِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي غَيْرِهِمْ، وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ بِالْبَصْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَيَصِيرُ النَّحْرُ بِهَا لَازِمًا بِالنَّذْرِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ نَحْرَهُ بِالْحَرَمِ، فَإِنْ نَحْرَهُ بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ ضَمِنَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي نَذْرِهِ فَلَيْسَ لِلنَّحْرِ بِالْبَصْرَةِ قُرْبَةٌ، لَا تُوجَدُ بِغَيْرِهَا، وَلِلنَّحْرِ بِمَكَّةَ قُرْبَةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِنَحْرِ الْهَدَايَا؛ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ النَّحْرُ فِي الْحَرَمِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْذِرَ نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ وَتَفْرِيقَ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ، فَلَا يَلْزِمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ، إِذَا كَانَ تَفْرِيقُ لَحْمِهِ مُسْتَحَقًّا فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِنَحْرِهِ فِيهَا عَلَى نَحْرِهِ فِي غَيْرِهَا، بِخِلَافِ نَحْرِهِ فِي الْحَرَمِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ تَفْرِيقَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مستقر فِي نَذْرِهِ، وَلَهُ نَحْرُهُ حَيْثُ شَاءَ وَإِنْ كَانَتِ الْبَصْرَةُ لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى، وَإِذَا وَصَلَ لَحْمُهُ طَرِيًّا إِلَى مُسْتَحَقِّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ ينذره نَحْرَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُطْلِقَ تَفْرِقَةَ لَحْمِهِ، فَلَا يَجْعَلُهُ لِمَسَاكِينِ الْبَصْرَةِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ، اعْتِبَارًا بِالنَّذْرِ وَالْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ بِالْبَصْرَةِ، وَيَجُوزُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ، اعْتِبَارًا بِالنَّذْرِ دُونَ الْعُرْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْبَصْرَةِ، وَيَجُوزُ لَهُ نَحْرُهُ فِي غَيْرِ الْبَصْرَةِ، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ دُونَ النَّذْرِ، لِأَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي تَعْيِينِهَا بِالنَّذْرِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَ مَحَلَّ نَحْرِهِ، فَلَا يُعَيِّنُهُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 481 فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِيِ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْمَالِ. هَلْ يَكُونُ مَصْرِفُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْرُ نَذْرِهِ، وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهَا مُسْتَحَبًّا فِي بَلَدِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِمَا إِلَى غَيْرِهِ فَيَنْحَرُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَيُفَرِّقُ لَحْمَهُ فِي مَسَاكِينِ غَيْرِ بَلَدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهِ مُسْتَحَقٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهِ فِي مَسَاكِينِ بَلَدِهِ مُسْتَحَقًّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَفِي وُجُوبِ نَحْرِهِ فِي بَلَدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ. وَالثَّانِي: يستحب، وتعليلهما قد تقدم. (مسألة:) قال الشافعي: " وإذا نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى موضعٍ مِنَ الْحَرَمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَرَمَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحَرَمِ، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا سماه من مواضع لحرم مُخْتَصًّا بِنُسُكٍ، أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ إِلَّا إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِذِكْرِ غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْحَرَمِ، لَا يَلْزَمُ إِتْيَانُهُمَا شَرْعًا، فَلَمْ يَلْزَمْ إِتْيَانُهَا نَذْرًا كالحل، ودليلنا قول الله تعالى: {أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ لَهُ، فَانْعَقَدَ النَّذْرُ بِهِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يُلْزِمُ جَزَاءَ صَيْدٍ، فَانْعَقَدَ النَّذْرُ بِقَصْدِهِ قِيَاسًا عَلَى مَكَّةَ، وَفَارَقَ الْحِلَّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْحَرَمَ أَعَمُّ، فكان النذر به ألزم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ أَوْ نَمِرَةً أَوْ مِنًى أَوْ قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْحِلِّ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ كَعَرَفَةَ، وَالْمَوَاقِيتِ لِأَنَّهَا حِلٌّ لَا يُضْمَنُ صَيْدُهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ لَهَا، فَسَاوَتْ غَيْرَهَا مِنْ بِقَاعِ الْحِلِّ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ قَصْدُهَا مُقْتَرِنًا بِغَيْرِهَا مِنِ انْعِقَادِ النُّسُكِ، الَّذِي أَوْجَبَ قَصْدَهَا، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَلْزَمُ أَنْ يَجِبَ النَّذْرُ بِالْمَشْيِ إِلَى عَرَفَةَ، وَلِأَنَّ قَصْدَهَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ، فَوَجَبَ النَّذْرُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 482 فَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ فَلَا يَقْتَضِي لُزُومُ النَّذْرِ بِقَصْدِهَا، لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَلَوْ قِيلَ بِوُجُوبِ النَّذْرِ بِقَصْدِ عَرَفَةَ، كَانَ مَذْهَبًا وَيَكُونُ الْمُنْعَقِدُ بِنَذْرِهِ الْحَجَّ، دُونَ الْعُمْرَةِ، لِاخْتِصَاصِ عَرَفَةَ بِالْحَجِّ، والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَهْدِيَ مَتَاعًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يُعَلِّقَهُ سِتْرًا عَلَى الْبَيْتِ أَوْ يَجْعَلَهُ فِي طِيبِ الْبَيْتِ جَعَلَهُ حيث نواه ". قال الماوردي: وهذا صحيح النَّذْرُ فِي الْمَتَاعِ الْمَنْقُولِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَجْعَلَ هَذَا الْمَتَاعَ هَدْيًا، فَيَتَوَجَّهُ مُطْلَقُ هَذَا الْهَدْيِ إِلَى وُجُوبِ نَقْلِهِ إِلَى الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ مَحِلُّ الْهَدْيِ فِي الشَّرْعِ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ فِي النَّذْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) {المائدة: 95) . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ هَذَا الْمَتَاعَ، وَلَا يَجْعَلُهُ هَدْيًا فَقَدْ تَقَابَلَ فِيهِ عُرْفَانِ، عُرْفُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةً، وَعُرْفُ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا، فَإِنْ أَرَادَ عُرْفَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةً بَيْنَ الْمُتَوَاصِلَيْنِ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بقربه يختص بِثَوَابٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ عُرْفَ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا، وَجَبَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ هَدْيًا يُوصِلُ إِلَى الْحَرَمِ، فَيَصِيرُ النَّذْرُ بِهِ مُنْعَقِدًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُرْفِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ هَدِيَّةً وَلَا يَكُونُ هَدْيًا فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا صَحَّ انْعِقَادُ هَذَا النَّذْرِ، وَجَبَ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام: أحدهما: أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْكَعْبَةَ، وَلَا يَصْرِفَهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا كَسَاهَا بِهِ، وَجَعَلَهُ سِتْرًا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ طِيبًا جَعَلَهُ طِيبًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ شَمْعًا أَشْعَلَهُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا جَعَلَهُ لِمَصَابِيحِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ صُنُوفِ الْمَتَاعِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَعْبَةِ، بَاعَهُ وَصَرَفَ ثَمَنَهُ فِي مَصَالِحِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ، وَفِي جَوَازِ صَرْفِهِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ وَجْهَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 483 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِوُجُوبِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِنَذْرِهِ فَأَشْبَهَ تَطَوُّعَ الصَّدَقَاتِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ، فَلَا يَجْعَلُهُ مُخْتَصًّا بِمَصَالِحِ الْكَعْبَةِ، وَلَا مَصْرُوفًا فِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ فِي الشَّرْعِ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِقُرْبِ النَّذْرِ فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فِي مَتَاعِ النَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ تَفْرِيقُهُ عَلَيْهِمْ مُمْكِنًا، وَنَافِعًا، كَالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَجَبَ تَفْرِيقُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ، فِيمَا اسْتُحِقَّ أَعْيَانُهُ لَا يَجُوزُ، كَالزَّكَوَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُ فِيهِمْ لِأَنَّهُ بِغَيْرِهِ أَنْفَعُ كَالطِّيبِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَالْجَوْهَرِ، كَانَ حَقُّهُمْ فِي قِيمَتِهِ. وَهَلْ يَلْزَمُ النَّاذِرَ بَيْعُهُ؟ أَوْ دَفْعُ قِيمَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي هَلْ يَفْدِيهِ السَّيِّدُ بِقِيمَتِهِ؟ أَوْ بِثَمَنِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَصْرِفَ قِيمَتَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ لِجَوَازِ ابْتِيَاعِهِ بِأَكْثَرَ مَنْ قِيمَتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ هَذَا الْمَتَاعِ بِأَكْثَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِيهِ جاز. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَهْدِيَ مَا لَا يُحْمَلُ مِنَ الْأَرَضِينِ وَالدُّورِ بَاعَ ذَلِكَ وَأَهْدَى ثَمَنَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فِي حُكْمِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ، فَيَكُونُ الْهَدْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى قِيمَتِهِ، أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَدْيِهِ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، أَوْ مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ، جَعَلْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ بِقَوْلِهِ، أَوْ نِيَّتِهِ فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ نَخْلًا فَأَثْمَرَ، فَإِنْ حَدَثَتْ ثَمَرَتُهُ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِ نَذْرِهِ، كَانَ الثَّمَرُ خَارِجًا مِنْ نَذْرِهِ، وَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةً، وَإِنْ حَدَثَتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ نَذْرِهِ كَانَ دَاخِلًا فِي نَذْرِهِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقِلَ ثَمَنَهُ، أَوْ قِيمَتَهُ دُونَ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُفَرَّقُ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهُ، دُونَ عَيْنِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي مَوْضِعِ النَّذْرِ أَكْثَرَ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي أَكْثَرِ حَالَتَيْهِ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِهْلَاكِ، أَوْ مِنَ الْحَرَمِ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 484 (مسألة:) قال الشافعي: " ومن نذر بدنةً لم يجزئه إِلَّا ثنيٌّ أَوْ ثنيةٌ وَالْخَصِيُّ يُجْزِئُ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً فبقرةٌ ثنيةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فسبعٌ مِنَ الْغَنَمِ تُجْزِي ضَحَايَا وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ عَلَى بدنةٍ مِنَ الْإِبِلِ لَمْ يُجْزِئْهُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِلَّا بِقِيمَتِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ نَذْرَ الْهَدْيِ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ مَا عُيِّنَ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ، كَالْمَتَاعِ الْمَنْقُولِ، وَالْعَقَارِ، غَيْرِ الْمَنْقُولِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْهَدْيِ الْمَشْرُوعِ، كَمَنْ نَذَرَ هَدْيَ بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ شَاةٍ بِعَيْنِهَا فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى الْحَرَمِ، سَوَاءٌ أَجْزَأَتْ فِي الضَّحَايَا لِسَلَامَتِهَا وَكَمَالِ سِنِّهَا، أَوْ لَمْ تُجْزِئْ فِي الضَّحَايَا، لِعَيْبٍ، أَوْ صِغَرٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُدُولَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لَمْ يُجْزِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدُولُ أنه عنها أفضل، أو أنقص، وعليه علفها، ومؤونتها، حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَحَلِّهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ وصولها، لم يخل تلفها من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتْلِفَ لَهَا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا، أَوْ مِثْلِهَا، لِأَنَّ أَكْثَرَهَا حَقُّ الْمَسَاكِينِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُتْلِفَهَا غَيْرُهُ فَلَيْسَ عَلَى الْمُتْلِفِ إِلَّا قِيمَتُهَا فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ صَرَفَهَا فِي مِثْلِهَا، وَفِي مَصْرِفِ الزِّيَادَةِ عَلَى المِثْل وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي مِثْلٍ آخَرَ، أَوْ جُزْءٍ مِنْ مِثْلٍ آخَرَ. وَالثَّانِي: يَصْرِفُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَرِقًا. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ فَهَلْ يَلْزَمُ النَّاذِرَ تَمَامُ ثَمَنِ مِثْلِهَا، أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ تَمَامُ ثَمَنِ الْمِثْلِ، لِاسْتِحْقَاقِ الْمَسَاكِينِ لَهُ بِالنَّذْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَاقَ مَا نَذَرَ. فَعَلَى هَذَا فِي مَصْرِفِ الْقِيمَةِ النَّاقِصَةِ عَنِ الْمِثْلِ، مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ: أَحَدُهُمَا: يُصْرَفُ فِي بَعْضِ الْمِثْلِ. وَالثَّانِي: يُصْرَفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَرِقًا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتْلَفَ بِنَفْسِهَا، فَفِي ضَمَانِهَا عَلَيْهِ وجهان: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 485 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا بَعْدَ النَّذْرِ كَالْأَمَانَةِ، وَكَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ عِتْقِهِ، لَا يَضْمَنُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِتَعَلُّقِ نَذْرِهَا بِذِمَّتِهِ لِجِهَةٍ بَاقِيَةٍ، وَخَالَفَ نَذْرَ الْعِتْقِ لِعَدَمِ الْجِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَضْمَنُهَا بِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِمِثْلِهَا. وَالثَّانِي: بِقِيمَتِهَا. وَالثَّالِثُ: بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ: فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْهَدْيِ الْمُعَيَّنِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ هَدْيَهُ، وَيُسَمِّي جِنْسًا يَعُمُّ أَنْوَاعًا كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً فَاسْمُ الْبَدَنَةِ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْإِبِلِ، وَلَا يَعُمُّ أَنْوَاعًا وَيُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْبَقَرِ، وَعَلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ " فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ "، فَيَصِيرُ اسْمُ الْبَدَنَةِ فِي الشَّرْعِ جِنْسًا، يَعُمُّ أَنْوَاعًا، فَيُحْمَلُ نَذْرُهُ عَلَى مُوجِبِ الشَّرْعِ دُونَ الْعُرْفِ، فَيَلْزَمُهُ فِي نَذْرِ هَدْيِ بَدَنَةٍ، أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ سَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ لُزُومِهَا وَجْهَانِ، كَمَا قُلْنَاهُمَا فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَلْزَمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فِي نَحْرِ أَيِّهَا شَاءَ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَلْزَمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْتِيبِ، فَيَنْحَرُ بَعِيرًا، فَإِنْ عَدِمَهُ نَحَرَ بَقَرَةً، فَإِنْ عَدِمَهَا، نَحَرَ سَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ، لِأَنَّ اسْمَ الْبدنِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِبِلِ عُرْفًا، وَشَرْعًا فَصَارَتْ أَصْلًا قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) {الحج: 36) . يُرِيدُ بِهَا الْإِبِلَ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْوَجْهَانِ، فَهَلْ يُرَاعى فِيهَا شُرُوط الضَّحَايَا فِي السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُرَاعى شُرُوط الضَّحَايَا اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ، فَيُجْزِئُ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا، وَسَلِيمُهَا، وَمَعِيبُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُرَاعى شُرُوط الضَّحَايَا مِنْ سِنِّهَا وَسَلَامَتِهَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الشَّرْعِ، فَلَا يُجْزِئُ مِنْهَا إِلَّا السَّلِيم مِنْ عُيُوبِ الضحايا ويجز الْخَصِيُّ فِيهَا لِإِجْزَائِهِ فِي الضَّحَايَا، وَلَا يُجْزِئُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، إِلَّا الثَّنِيَّ، فَصَاعِدًا، وَيُجْزِئُ الضَّأْنُ الْجَذَعُ، فَإِنْ عَدِمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْإِطْعَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّرْعِ بَدَلًا مِنْهَا لِانْتِفَاءِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَنْهَا وَنَحْنُ نُرَاعِي فِي النذر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 486 عُرْفَ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ، إِمَّا حَقِيقَةً، أو مجازاً، لتكون معانيها تعباً لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّرْعِ تَبَعًا لِمَعَانِيهَا، وَاسْمُ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الطَّعَامِ حَقِيقَةً، وَلَا مَجَازًا وَإِنْ كَانَتْ تَنْطَلِقُ عَلَى الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا مَجَازًا، فَصَارَ الطَّعَامُ مَسْلُوبَ الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا مَشْرُوعًا، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ فَعَدِمَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخُصَّ اسْمَ هَدْيِهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَجْنَاسِهِ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَيَصِيرُ نَذْرُ هَدْيِهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا نَوَاهُ مِنْ خُصُوصِهِ، فَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ مَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِبِلِ، وَفِي اعْتِبَارِ سِنِّهِ وَسَلَامَتِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِبِلَ فَفِي عُدُولِهِ إِلَى بَدَلِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهَا، لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا فِي الْوُجُوبِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِ مَا أَوْجَبَ، وَكَانَتِ الْبَدَنَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَجِدَهَا، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ، فَلَمْ يَجِدْهُ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَجِدَهُ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ إِطْعَامٍ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا مِنْهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى بَدَلِهَا، وَهِيَ بَقَرَةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّذْرِ نَفْعُ الْمَسَاكِينِ، بِلَحْمِهَا، وَهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِلُحُومِ الْبَقَرِ، كَانْتِفَاعِهِمْ بِلُحُومِ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ نَذْرَ الْعِتْقِ، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْبَقَرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ دُونَ الْقِيمَةِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْبَقَرَةِ قَلَّ ثَمَنُهَا، أَوْ كَثُرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْبَقَرَةَ، انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ إلى إطعام ولا صيام، وإن كان بَدَلًا مِنْهَا، فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَعْدِلُ إِلَى الْبَقَرَةِ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ، نَحَرَ بَقَرَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَدَنَةِ أَكْثَرَ صَرَفَهَا فِيمَا أَمْكَنَ مِنَ الْبَقْرِ وَلَوْ فِي عَشْرِ بَقَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْبَقَرَ عَدَلَ إِلَى الْغَنَمِ، وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَةٍ، قَلَّ ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَعْدِلُ إِلَى الْغَنَمِ بِالْقِيمَةِ، وَفِي الْقِيمَةِ الَّتِي يَعْدِلُ عَنْهَا إِلَى الْغَنَمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، لِأَنَّ الْبَدَنَةَ هِيَ الْأَصْلُ الْمَنْذُورُ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 487 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنِ الْبَقَرَةِ إِلَى الْغَنَمِ، فَكَانَتِ الْبَقَرَةُ أَصْلًا لِلْغَنَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قِيمَةِ الْبَدَنَةِ، أَوْ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ سَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَصْلُ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةَ أَصْلُ الْغَنَمِ، فَاعْتُبِرَ أَعْظَمُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُطْلِقَ اسْمَ الْهَدْيِ، وَلَا يُقَيِّدَهُ بِجِنْسٍ وَلَا نَوْعٍ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَدْيًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُهْدِيَ، مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ غَيْرَهُمَا حَمْلًا لِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ عَلَى مَا قَيَّدَهُ الشَّرْعُ، فَعَلَى هَذَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الضَّحَايَا مِنَ السِّنِّ، وَالسَّلَامَةِ وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَمَالِي مِنَ الْحَجِّ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَدْيِ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، أَوْ لَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، وَصُنُوفِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَدِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وقد جاء الشرع يهدي مَا قَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) {المائدة: 95) . وَقَدْ يَهْدِي جَزَاءَ صَيْدٍ عَنْ عُصْفُورٍ وَجَرَادَةٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ " وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ". قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِي هَذَا الْقَوْلِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْدِيَ مَا كَانَ وَلَوْ بَيْضَةً أَوْ تَمْرَةً، أَوْ قَبْضَةً مِنْ حِنْطَةٍ "، وَاخْتَلَفَ أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه قال عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَهْدِيَ أَقَلَّ مَا يَكُونُ ثَمَنًا لِمَبِيعٍ، أَوْ مَبِيعًا لِثَمَنٍ، وَلَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ الْوَاحِدَةُ ثَمَنًا، وَلَا مَبِيعًا، اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ. والوجه الثاني: أنه قال عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ فِي إِجْزَاءِ هَدْيِ التَّمْرَةِ، وَالْبَيْضَةِ، وَالْقَبْضَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ قَدْ تَكُونُ هَدْيًا فِي جَزَاءِ جَرَادَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنَ الْمُدِّ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُوَاسي بِهِ، وَإِنْ أَجْزَأَ مَا دُونَهُ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ الْهَدْيَ " فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُهْدِيَ مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَدْخُلَانِ لِجِنْسٍ أَوْ مَعْهُودٍ، فَلَمَّا لَمْ يَنْصَرِفَا إِلَى عُمُومِ الْجِنْسِ انْصَرَفَا إِلَى مَعْهُودِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الضَّحَايَا وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا، إِلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 488 دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَحَذْفِهِمَا لِأَنَّ مَعْهُودَ الشَّرْعِ فِيهِ مُخْتَلِفٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. (فَصْلٌ:) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى نَذْرِ الْهَدَايَا إِذَا نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، أَوْ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ، وَعَيَّنَهُ فَنَذْرُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: يَلْزَمُهُ فِي هَذَا النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَكُونُ النَّذْرُ مُنْعَقِدًا بِالْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُهُ شَاةٌ إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ، وَذَبْحَ نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَالِدِهِ وَعَبْدِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَلْزَمُهُ الشَّاةُ فِي وَلَدِهِ، وَعَبْدِهِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ نَذْرًا مُنْعَقِدًا بِشَاةٍ احْتِجَاجًا، بِأَنَّ خَلِيلَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْتَزَمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى، أن يفيديه بِشَاةٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 107) . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نَذْرَ فِي معصيةٍ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " وَهَذَا نَذْرٌ فِي مَعْصِيَةٍ، وَنَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ " وَالْتِزَامُ هَذَا النَّذْرِ مَعْصِيَةٌ، وَتَرْكُهُ طَاعَةٌ، وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ لَا يَنْعَقِدُ بِالْوَفَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ بِغَيْرِهِ، كَالنَّذْرِ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَالِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْوَلَدِ، فَلَمَّا لَمْ تَلْزَمْهُ الشَّاةُ، إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَالِدِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ، إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَالِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أنِّي أذْبَحُكَ} (الصافات: 102) . وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَنَامِ كَالْوَحْيِ فِي الْيَقَظَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَخْتَبِرَ صَبْرَهُ وَطَاعَةَ ابْنِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرْ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) {الصافات: 102) . فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي النُّذُورِ، كَمَا لَمْ يُجْعَلِ الشُّرُوعُ فِي الذَّبْحِ أَصْلًا فِيهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالرِّوَايَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى وَقَدْ سَقَطَتْ إِحْدَاهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ الْأُخْرَى، ثُمَّ لَوِ انْفَرَدَتِ الرِّوَايَةُ لَمَا صَارَتْ إِجْمَاعًا إِلَّا بِانْتِشَارِهَا وَلَمْ تَنْتَشِرْ فَلَمْ تَكُنْ إِجْمَاعًا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 489 (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَذَرَ عَدَدَ صومٍ صَامَهُ مُتَفَرِّقًا أَوْ مُتَتَابِعًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو إِذَا نَذَرَ صِيَامَ أيامٍ مَعْدُودَاتٍ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ زَمَانَهَا، أَوْ يُطْلِقَهُ فَإِنْ عَيَّنَهُ فَقَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَجَبٍ، أَوِ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ شَعْبَانَ "، لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ الْعَشْرَ الَّذِي عَيَّنَهُ، لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، وَيَكُونُ فِيهِ التَّتَابُعُ مُسْتَحَقًّا، لِأَنَّ أَيَّامَهُ مُتَتَابِعَةً. وَإِنْ أَطْلَقَ الْعَشْرَ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، وَقَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عشرة أيام "، فله ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا التَّتَابُعَ إِمَّا بِقَوْلِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ فَيَلْزَمُهُ تَتَابُعُهَا، وَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا الْفَوْرَ، فَيَجِبُ فِي شَرْطِهِ أَنْ يُعَجِّلَ صِيَامَهَا عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ فَرَّقَ صِيَامَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَهَا مُتَتَابِعَاتٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ صِيَامَهَا مُتَفَرِّقَةً، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَأَقَلُّ التَّفْرِقَةِ أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ يَوْمَيْنِ بِيَوْمٍ فَإِنْ تَابَعَ صِيَامَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَغْلَظُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُجْزِئُهُ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُتَابِعَ فِيهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَيُفَرِّقَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، صَامَهَا عَلَى مَا شَرَطَ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ مَا شَاءَ مِنْ صِيَامِ الْمُتَتَابِعَاتِ، أَوِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَيَخْتَارُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ بِيَوْمٍ، فَإِنْ تَابَعَ بَيْنَ الْخَمْسَةِ الْمُتَفَرِّقَاتِ، وَالْخَمْسَةِ الْمُتَتَابِعَاتِ جَازَ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْخَمْسَةِ وَلَيْسَتْ مَشْرُوطَةً بَيْنَ الْخَمْسَتَيْنِ، فَإِنْ تَابَعَ الصِّيَامَ الْعَشْرَةَ كُلَّهَا أَجَزَأَهُ الْخَمْسَةُ الْمُتَتَابِعَةُ، وَفِي إِجْزَاءِ الْخَمْسَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ قَالَ: " لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ " بَعْضُهَا مُتَتَابِعًا، وَبَعْضُهَا مُتَفَرِّقًا، فَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَأَقَلُّ مَا لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ فِيمَا عَدَاهُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّفْرِقَةِ وَالْمُتَابَعَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ صِيَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يُشْتَرَطَ فِيهَا مُتَابَعَةً، وَلَا تَفْرِقَةَ فَالْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعَةً، أَمَّا الْفَضِيلَةُ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " وَأَمَّا الْأَوْلَى فَلِأَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ، فَإِنْ فَرَّقَ صَوْمَهَا أَجْزَأَهُ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يُتَابِعَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ كَفَارَّةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ كُلُّ مُطْلَقٍ مِنَ الصِّيَامِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصِّيَامِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، شَرْطُ التَّتَابُعِ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَشَرْطُ التَّفْرِقَةِ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ، فَلَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ فِي اعْتِبَارِهِ بِأَحَدِهِمَا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 490 أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْآخَرِ فَوَجَبَ مَعَ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جواز تفرقته، وتتابعه والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ صِيَامَ سنةٍ بِعَيْنِهَا صَامَهَا إِلَّا رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصُومُهُ لِرَمَضَانَ وَيَوْمَ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ابْتَدَأَ لِصِيَامِهَا مِنْ أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ مِنْهُ لِانْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ، وَخَرَجَ مِنْ نَذْرِهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِاسْتِحْقَاقِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَلَمْ يَقْضِهِ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ نَذْرِهِ بِالشَّرْعِ، وَأَفْطَرَ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ صِيَامِهِ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ الْفِطْرِ، وَيَوْمُ الْأَضْحَى، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ صِيَامِهَا مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِهَا، فَإِنْ صَامَ جَمِيعَهَا إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا، فَقَدْ وَفَّى بِنَذْرِهِ، وَسَقَطَ عَنْهُ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فِيهَا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِاسْتِحْقَاقِهِ بِنَذْرِهِ. فَأَمَّا مَا صَامَهُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ تَتَابُعَهَا فِي نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ مَا صَامَهُ مِنْهَا، لِأَنَّ تَتَابُعَهَا كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالزَّمَانِ دُونَ الشَّرْطِ، كَمَا اسْتَحَقَّ تَتَابُعَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَبْطُلْ مَا صَامَ فِيهِ بِالْفِطْرِ، فَكَذَلِكَ صِيَامُ هَذِهِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ مُسْتَحَقٌّ تَتَابُعُهَا لِزَمَانِهَا، فَلَمْ يَبْطُلْ صِيَامُهَا بِالْفِطْرِ فِي بَعْضِهَا، وَجَازَ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَفْطَرَهُ مُتَفَرِّقًا، وَمُتَتَابِعًا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَإِنْ شَرَطَ تَتَابُعَ صِيَامِهَا فِي نَذْرِهِ، صَارَ التَّتَابُعُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ وَالزَّمَانِ فَيَبْطُلُ مَا صَامَهُ مِنْهَا بِفِطْرِهِ فِيهَا لِأَجْلِ الشَّرْطِ دُونَ الزَّمَانِ، كَالصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لَمَّا كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ، بَطَلَ بِالْفِطْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَوْمٍ، وَوَجَبَ أَنْ يُسْتَأْنَفَ الْقَضَاءُ بِصِيَامِ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَالْعِيدَانِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. (فَصْلٌ:) وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا بِعُذْرِ، وَالْأَعْذَارُ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا الْفِطْرُ أَرْبَعَةٌ: الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، فَأَمَّا الْحَيْضُ، فَلَا يُبْطِلُ تَتَابُعَ الصَّوْمِ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ، أَوِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، لِاسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْعِ كَاسْتِثْنَاءِ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ قَضَاؤُهَا كَمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ قَضَاءِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 491 الْفَرْضِ، وَخَالَفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِعُمُومِ اسْتِثْنَائِهَا، فِي حَقِّ كُلِّ نَادِرٍ، وَخُصُوصِ اسْتِثْنَاءِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ، وَحُكْمُ الْفِطْرِ بِالنِّفَاسِ كَحُكْمِ الْفِطْرِ بِالْحَيْضِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَحْكَامِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلْتُمْ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ مُوجِبًا لِدُخُولِهِ فِي نَذْرِهَا، وَلَوْ نَذَرَتْ صِيَامَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، بَطَلَ نَذْرُهَا، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْقَضَاءُ، فَهَلَّا كَانَتْ هَذِهِ كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ إِفْرَادَهَا بِالنَّذْرِ يَجْعَلُهُ مَعْقُودًا عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَيَبْطُلُ، وَلَا يَجْعَلُهُ إِذَا دَخَلَ فِي الْعُمُومِ مَعْقُودًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَزِمَ. وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالْمَرَضِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ التَّتَابُعُ الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّمَانِ، وَفِي إِبْطَالِهِ التَّتَابُعَ الْمُسْتَحَقَّ بِالشَّرْطِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَبْطُلُ بِهِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالْحَيْضِ، لِأَنَّهُ عُذْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَبْطُلُ بِهِ التَّتَابُعُ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِالْحَيْضِ، لِأَنَّ فِطْرَ الْحَيْضِ مَعْهُودٌ، وَفِطْرَ الْمَرَضِ نَادِرٌ. فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّهُ يَبْطُلُ التَّتَابُعُ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ قَضَاءَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَالْخَمْسَةَ الْمُحَرَّمَةَ. وَإِنْ قِيلَ: إنه غير مبطل للتابع كَالْحَيْضِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا أَفْطَرَ بِالْمَرَضِ قَوْلَانِ كَالْفِطْرِ بِالْحَيْضِ. وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْمَرَضِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ شَرْعًا، فَيَكُونُ الْفِطْرُ بِهِ كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الصِّيَامِ، فَخَالَفَ الْمَرَضُ الْعَاجِزُ عَنْهُ، فَيَكُونُ الْفِطْرُ بِهِ كَفِطْرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ. (مَسْأَلَةٌ:) قَالَ الشافعي: " وَإِنْ نَذَرَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا قَضَى هَذِهِ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ النَّذْرُ مَعْقُودًا عَلَى صِيَامِ سَنَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، فَالسَّنَةُ تَجْمَعُ شُهُورًا وَالشَّهْرُ يَجْمَعُ أَيَّامًا، فَشُهُورُ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَأَيَّامُ الشَّهْرِ مَا بَيْنَ هِلَالَيْهِ، فَإِنْ تَمَّ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَقَصَ، كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، لَا يَنْقُصُ مِنْهَا، فَإِنْ فَاتَ هِلَالُهُ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لَا يَنْقُصُ مِنْهَا، فَتَصِيرُ شُهُورُ السَّنَةِ بِفَوَاتِ أَهِلَّتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَذْرُ صِيَامِهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مطلق ومتتابع. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 492 فَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَيَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَتَابِعًا، وَمُتَفَرِّقًا، فَإِنْ صَامَهَا مُتَفَرِّقًا، نُظِرَتْ فَإِنْ صَامَ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا بِأَسْرِهِ، وَلَمْ يُفْطِرْ فِي شَيْءٍ من أيامه، اعتد بما بين هلاله شَهْرًا سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا، أَوْ نَاقِصًا، وَإِنْ أَفَطَرَ يَوْمًا مِنْهُ اسْتَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَامِلَةً، لِفَوَاتِ هِلَالِهِ فَإِنْ كَانَ كَامِلًا قَضَى يَوْمَ فِطْرِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، صَامَ يَوْمَيْنِ يَوْمَ فِطْرِهِ وَيَوْمَ نُقْصَانِهِ وَيَكُونُ فِي صِيَامِهِ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ صِيَامَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، سَوَاءٌ تَابَعَ شُهُورَهَا أَوْ فَرَّقَهَا فَلَوْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ صِيَامَ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ هِلَالُ كُلِّ شَهْرٍ بِصِيَامِ بَعْضِهِ. (فَصْلٌ:) وَأَمَّا الْمُتَتَابِعُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ سَنَةً مُتَتَابِعَةً " فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ، لِأَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ لَهَا قَدْ جَعَلَ نَذْرَ صِيَامِهَا مَضْمُونًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَهُ إِذَا شَرَعَ فِي صِيَامِهَا، أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِأَيِّ شَهْرٍ شَاءَ مِنْ شُهُورِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِالْمُحَرَّمِ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهَذِهِ السَّنَةُ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَإِذَا نَذَرَ صِيَامَهُ شهر كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِصِيَامِ أَوَّلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ صِيَامَهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَعْضِهِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ الصِّيَامَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا تَقَدَّمَهُ فَإِذَا صَامَ سَنَةً مُتَوَالِيَةَ الْأَهِلَّةِ سَقَطَ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْهَا، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ صِيَامَهُ عَنْ فَرْضِهِ دُونَ نَذْرِهِ، وَالْخَمْسَةُ أَيَّامٍ الَّتِي مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ صِيَامِهَا، وَهِيَ: الْعِيدَانِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ، وَلَا يَنْقَطِعُ تَتَابُعُ صِيَامِهِ لِفِطْرِهِ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمُتَتَابِعَةِ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْهَا، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا لَمْ يَعْتَدَّ بِصِيَامِهِ مِنْ نَذْرِهِ مُتَّصِلًا بِصِيَامِهِ، فَإِنْ كَانَ شَوَّالٌ وَذُو الْحِجَّةِ تَامَّيْنِ، فَيَقْضِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْهُمَا عَنْ رَمَضَانَ ثَلَاثونَ يَوْمًا سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، لِأَنَّ نُقْصَانَهُ قَدْ فَاتَ هِلَالُهُ، وَيَوْمَ فِطْرِهِ مِنْ شَوَّالٍ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَإِنْ كَانَ شَوَّالٌ، وَذُو الْحِجَّةِ، نَاقِصَيْنِ، قَضَى سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِأَنَّ شوال وَذَا الْحِجَّةِ قَدْ فَاتَهُ هِلَالُهُمَا بِالْفِطْرِ فِي بَعْضِهِمَا، فَلَزِمَهُ إِتْمَامُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا سَقَطَ عَنْهُ قَضَاءُ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا سَقَطَ عَنْهُ قَضَاؤُهَا فِي الْمُعَيَّنَةِ، قِيلَ: لِأَنَّ نَذْرَهُ فِي السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ، فَانْعَقَدَ عَلَى مَا يَجُوزُ صِيَامُهُ فِي النَّذْرِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ صِيَامُهُ فِيهِ وَنَذْرُهُ فِي السَّنَةِ الْمُطْلَقَةِ، تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ، فَانْعَقَدَ عَلَى كَمَالِ الْمُدَّةِ. (فَصْلٌ:) فَإِنْ عَقَدَ نَذْرَهُ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ الْعِيدَانِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَأَمَّا رَمَضَانُ فَيُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 493 كَانَ حَاضِرًا، وَيُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مُسَافِرًا كَانَ، أَوْ حَاضِرًا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي نَذْرِهِ، إِذَا عَمَّ وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَيْهِ النَّذْرُ إِذَا خَصَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ نَذْرِهِ بَدَأَ بِعَقْدِهِ عَلَى صِيَامِ شَهْرٍ، وَأَيَّامٍ وَإِذَا وَصَلَهُ فِي تَعْيِينِهِ بِرَمَضَانَ وَالْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ النَّذْرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ " لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ وَسَقَطَ فِعْلُهَا فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَالَ " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ صَوْمُهُ عَنِ النَّذْرِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ النَّذْرُ كَأَيَّامِ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ يُنَافِي صِيَامَ نَذْرِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ نَذَرُهُ كَاللَّيْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ نَذْرِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى خُصُوصِ النَّذْرِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَدَخَلَ فِي عُمُومِ نَذْرِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ خُصُوصُ نَذْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِنَذْرِهِ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيُحْتَمَلُ انْعِقَادُ نَذْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ وَيُصَلِّيهَا فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبَةِ، وَيُجْزِئُهُ إِنْ صَلَّاهَا فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ مِنَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ لَازِمٌ، وَتَعْيِينَ الْمَكَانِ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَالثَّانِي: مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مُطْلَقٍ، فَصَامَهُ فِي يَوْمِ عِيدٍ، لَمْ يُجْزِهِ. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً مُطْلَقَة ً فَصَلَّ اهَا فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ أَجْزَأَهُ. (مسألة:) قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ عَامِي هَذَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عدوٌ أَوْ سلطانٌ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مرضُ أَوْ خطأٌ عددٍ أَوْ نسيانٍ أَوْ توانٍ قَضَاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحَجُّ الْمَنْذُورُ ضَرْبَانِ: مُطْلَقٌ وَمُعَيَّنٌ. فَأَمَّا الْمُطْلَقُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عليَّ أَنْ أَحُجَّ "، ولا يعين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 494 عَامَ حَجِّهِ فَإِذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِوُجُودِ شَرْطِ النَّذْرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ وُجُودُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ. وَفِي اعْتِبَارِ وَجُودِهِمَا فِي أَدَائِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ وُجُودُهُمَا فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْإِمْكَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُمَا فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ فِي نَذْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ فِي الْأَيْمَانِ فَلَمْ يَطْرَحْهَا فِي النُّذُورِ، وَفِي وُجُوبِ تَعْجِيلِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ غَائِبِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ فِي عَامِي هَذَا فَلَا يَخْلُو قُدُومُ غَائِبِهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ عَامِهِ سَقَطَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ حَجِّ عَامِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِحَجِّهِ، فَقَدْ لَزِمَهُ النَّذْرِ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي عَامِهِ الْحَجُّ لِإِمْكَانِ أَدَائِهِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَنْ إِمْكَانِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ لِقُصُورِ زَمَانِهِ، فَفِي لُزُومِ نَذْرِهِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ النَّذْرُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَيَقْضِيهِ بَعْدَ عَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِثْنَائِهِ فِي نَذْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَطْرَحُ الْغَلَبَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فِي وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي عَامِهِ لِتَعْيِينِهِ فِي نَذْرِهِ فَإِنْ حَجَّ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْعَامِ الثَّانِي، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ عَامِهِ لِعُذْرٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِمَوْتِهِ، قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ، فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُزَكِّي قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَوْتِ الْمُصَلِّي قَبْلَ الْوَقْتِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِإِحْصَارِ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَعَدُوٍّ غَالِبٍ، فَحُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا سَقَطَ بِهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِي سُقُوطِ القضاء قولان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 495 فَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَجَّةِ النَّذْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - إِنَّهُ عَلَى حُكْمِهِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ عَامًّا سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - إِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ الْإِحْصَارُ خَاصًّا، وَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ حَجَّةَ النَّذْرِ أَغْلَظُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ خَطَأِ عَدَدٍ، أَوْ ضَلَالِ طَرِيقٍ، فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِاخْتِصَاصِ الْأَعْذَارِ بِهِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ صِيَامُ رَمَضَانَ بِمَرَضِهِ وَإِعْذَارِهِ مَعَ إِمْكَانِ اسْتِثْنَائِهَا في نذره. (مسألة:) قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فلانٌ فَقَدِمَ لَيْلًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ وَأُحِبُّ لَوْ صَامَ صَبِيحَتَهُ وَلَوْ قَدِمَ نَهَارًا هُوَ فِيهِ صائمٌ تَطَوُّعًا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ نَذْرٌ وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا عن نذره (قال المزني) يعني أنه لا صوم لنذره إلا بينةٍ قبل الفجر ولم يكن له سبيلٌ إلى أن يعلم أن عليه صوماً إلا بعد مقدمه (قال المزني) قضاؤه عندي أولى به (قال المزني) وكذلك الحج إذا أمكنه قبل موته، فرض الله عز وجل صوم شهر رمضان بعينه فلم يسقط بعجزه عنه بمرضه (قال المزني) رحمه الله قال الله {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أَخَرَ} وأجمعوا أنه لو أغمي عليه الشهر كله فلم يعقل فيه أن عليه قضاءه والنذر عنده واجبٌ فقضاؤه إذا أمكنه وإن ذهب وقته واجبٌ وقد قطع بهذا القول في موضعٍ آخر (قال الشافعي) ولو أصبح فيه صائماً من نذرٍ غير هذا أحببت أن يعود لصومه لنذره ويعود لصومه لقدوم فلان ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ، إِذَا قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقَدَمُ فِيهِ فُلَانٌ " قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَذْرَهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ فِي صِيَامِ النَّذْرِ مُسْتَحَقٌّ فِي اللَّيْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قُدُومَهُ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِجْزَاءِ الصَّوْمِ قَبْلَهُ، وَقَدْ مَضَى مِنَ النَّهَارِ بَعْضُهُ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 496 فَلَمْ يَجُزْ لِتَقَدُّمِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ صَوْمُ بَعْضِهِ، وَهَذَا تَعْلِيلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فلهذين التعليلين بطل نذره ولم يلزمه وقضاءه، كَمَنْ نَذَرَ صِيَامَ الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ وقضاؤه وَاجِبٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَذْرٌ انْعَقَدَ عَلَى اسْتِقْبَالِ صِيَامٍ فِي زَمَانٍ، يَجُوزُ فِيهِ الصِّيَامُ، فَصَارَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّفْرِيعُ فَإِنْ قُدِمَ بِفُلَانٍ مَيِّتًا، سَقَطَ فَرْضُ الصِّيَامِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ حَيًّا، لَمْ يَخْلُ مَقْدِمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا، سَقَطَ فَرْضُ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِالْيَوْمِ صَارَ النَّهَارُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ فِي غَدِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِاللَّيَالِي عَنِ الْأَيَّامِ، وَعَنِ اللَّيَالِي بِالْأَيَّامِ، وَلِذَلِكَ مَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصُومَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ. وَلَوْ قَدِمَ نَهَارًا، لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّاذِرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا، أَوْ مُفْطِرًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفْطِرًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ فِي يَوْمٍ قَدْ أَفْطَرَ فِي أَوَّلِهِ، اسْتَحْبَبْنَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَ فِي بَقِيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ وَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ فِي يَوْمِ الْقُدُومِ صَائِمًا لَمْ يَخْلُ صَوْمُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَيَكُونُ فِيهِ عَلَى حُكْمِ تَطَوُّعِهِ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ نَذْرِهِ، وَفِي انْحِتَامِ صِيَامِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْحَتِمُ صَوْمُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا فِي نَذْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْحَتِمُ صَوْمُهُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَى اخْتِيَارِهِ فِيهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ اعْتِبَارًا بِمَا انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ عَلَيْهِ مِنْ تَطَوُّعِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ عَنْ فَرْضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَرْضَ صِيَامٍ مُتَعَيِّنًا فِي يَوْمٍ، وَذَلِكَ صِيَامَانِ: أَحَدُهُمَا: فَرْضُ رَمَضَانَ. وَالثَّانِي: لِنَذْرٍ تَقَدَّمَ مِنْهُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ، فَيَسْتَكْمِلُ صَوْمَ يَوْمِهِ عَنْ فَرْضِهِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَعَادَهُ، وَلَا يَكُونُ فَرْضُهُ مُشْتَرَكًا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ نَذْرِهِ الْمُسْتَقْبَلِ فَيَصُومُ يَوْمَيْنِ فَرْضًا وَيَوْمًا مُسْتَحَبًّا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصُومَهُ عَنْ فَرْضٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهُ عَنْ فَرْضِهِ الَّذِي نَوَاهُ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ وَجْهَانِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 497 أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لِدُخُولِهِ فِيهِ عَنْ نِيَّةٍ انْعَقَدَتْ بِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ صَوْمَ نَذْرِهِ، وَيَصُومَ عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا عَنْ فَرْضِهِ وَيَوْمًا عَنْ نَذْرِهِ، وَيَوْمًا مُسْتَحَبًّا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصُومَ عَنْ نَذْرِهِ فِي يَوْمِ الْقُدُومِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَعْلَمَ بِقُدُومِهِ فِيهِ، فَلَا يُجْزِئُهُ صِيَامُهُ عَنْ نَذْرِهِ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ كَمَا لَا يُجِزِئُهُ صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَاهُ عَلَى عِلْمٍ بِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَامَ أَوَّلَهُ قَبْلَ مَقْدِمِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، مَعَ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ فَلَا يَصِيرُ عَالِمًا بِمَقْدِمِهِ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَذِي يَقْدُمُ فِيهِ فلانٌ أَبَدًا فَقَدِمَ يَوْمَ الْإِثْنَيْن فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ إِثْنَيْن يَسْتَقْبِلُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ فطرٍ أَوْ أَضْحَى أَوْ تَشْرِيقٍ فَلَا يَصُومُهُ وَلَا يَقْضِيهِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لا قضاء أشبه بقوله لأنها ليست بوقتٍ لصومٍ عنده لفرضٍ ولا لغيره وإن نذر صومها نذر معصيةً وكذلك لا يقضي نذر معصيةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَقَدَ نَذْرَهُ، عَلَى صِيَامِ اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا، فقدم يَوْمَ الِإِثْنَيْن كَانَ نَذْرُهُ فِي الْأَثَانِينِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مُنْعَقِدًا، لِإِمْكَانِ صِيَامِهَا وَفِي انْعِقَادِهِ فِي الِإِثْنَيْن الَّذِي قَدِمَ فِيهِ فُلَانٌ قَوْلَانِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُمَا فَيَصِيرُ صَوْمُ الْأَثَانِينِ مُسْتَحَقًّا بِنَذْرِهِ فَإِنْ مَنَعَهُ عَنْ صِيَامِهِ فِي النَّذْرِ عُذْرٌ، فَالْأَعْذَارُ المانعة منه خمسة: أحدها: فرض رمضان، لأنه فِيهِ مِنَ الْأَثَانِينِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ صِيَامَهُ عَنْ فَرْضِهِ، فَخَرَجَ عَنْ جُمْلَةِ نَذْرِهِ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ أَثَانِين رَمَضَانَ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَهَا عَنْ نَذْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ قضاؤها عن النذر، لاستثناءها بِالشَّرْعِ مَعَ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا فِيهِ، فَإِنْ صَامَهَا عَنْ نَذْرِهِ لَمْ يَكُنْ نَذْرًا، وَلَا فَرْضًا، وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَنِ الْفَرْضِ دُونَ النَّذْرِ. وَالْعُذْرُ الثَّانِي: أَنْ يُصَادِفَ بَعْضُ الْأَثَانِينِ مَا يَحْرُمُ صِيَامُهُ مِنَ الْعِيدَيْنِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ صِيَامُهُ، عَنِ النَّذْرِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهُ عَنْ غَيْرِ النَّذْرِ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ عَنْ نَذْرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي النُّذُورِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 498 أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَثْنَاهُ فَصَارَ كَأثانين رَمَضَانَ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ صَادَفَ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ فَصَارَ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ لِأَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى طَاعَةٍ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُصَادِفَ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ، فَلَزِمَ قَضَاؤُهُ لِانْعِقَادِ النَّذْرِ، وَفَارَقَ أَثَانِينَ رَمَضَانَ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا. وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ: الْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنْ صِيَامِهِ بِالْعَجْزِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَرَضِ قَضَاءُ، مَا وَجَبَ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يَسْقُطْ بِهِ قَضَاءُ مَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ. وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ: الْجُنُونُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ بِهِ قَضَاءُ النَّذْرِ كَمَا يَسْقُطُ بِهِ قَضَاءُ الْفَرْضِ. والعذر الخامس: الإغماء (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ صَامَهُمَا وَقَضَى كُلَّ إثنين فِيهِمَا وَلَا يُشْبِهُ شَهْرَ رَمَضَانَ لِأَنَّ هَذَا شيءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ الإثنين وَشَهْرُ رَمْضَانَ أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا بشيءٍ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْأَثَانِينِ عَنْ نَذْرٍ، وَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ كَفَّارَةٍ، صَامَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، دُونَ نَذْرِهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ أَثَانِينِ نَذْرِهِ مُمْكِنٌ وقضاء تتابع صيامه بغير الأثناين غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَمَا أَمْكَنَ مَعَهُ أَدَاءُ الْحَقَّيْنِ كَانَ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا، وَصَامَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، حَتَّى تَتَابَعَ شَهْرَا صِيَامِهِ أَجْزَأَتْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وإن كان صام أَثَانِينِهِ مُسْتَحَقًّا عَنْ غَيْرِهَا، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. فَأَمَّا قَضَاءُ أَثَانِينِهِ عَنِ النَّذْرِ فَمُعْتَبَرٌ بِأَسْبَقِهِمَا وُجُوبًا، فَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ النَّذْرِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَثَانِينَ الشَّهْرَيْنِ عَنْ نَذْرِهِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَا مَنَعَهُ مِنْ صِيَامِ النَّذْرِ قَضَاءً كَالْفِطْرِ بِعُذْرٍ، أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُجُوبِ النَّذْرِ فَفِي قضاء أثانين الكفارة وجهان: أحدهما: يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا، لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهَا عَنْهُ كَأَثَانِينِ رَمَضَانَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ أَثَانِينِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدِ التزم بالنذر أثانيها فَقَضَاهَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَثْنِهَا، وَصِيَامُ رَمَضَانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 499 أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْضِ أَثَانِينَهُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَثْنَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّجُلِ وَتَقْضِي كُلَّ مَا مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ حَيْضِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حَيْضُهَا فِي شَهْرَيِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَتَابُعِهَا، لِأَنَّ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ يمنع مِنْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِغَيْرِ حَيْضٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ نَذَرَتْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعِ الْحَيْضُ تَتَابُعَ الصِّيَامِ فِي نَذْرِهَا، كَمَا لَمْ يَقْطَعْ تَتَابُعَهُ فِي كَفَّارَتِهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ أَيَّامَ حَيْضِهَا فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ مُتَتَابِعَةً، كَمَا كَانَ عَلَيْهَا مُتَابَعَةُ الْأَدَاءِ، وَفِي وُجُوبِ قَضَائِهَا فِي صِيَامِ النَّذْرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْضِي أَيَّامَ حَيْضِهَا فِي النَّذْرِ كَمَا قَضَتْهَا فِي الْكَفَّارَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا، فِي صِيَامِ النَّذْرِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالشَّرْعِ، وَوُجُوبِ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ. فَأَمَّا إِذَا أَلْزَمَهَا صِيَامُ كُلِّ إِثْنَيْن بِالنَّذْرِ فَحَاضَتْ فِي يَوْمِ الِإِثْنَيْن فَهِيَ بِالْحَيْضِ مُفْطِرَةٌ، لَا يُجْزِئُهَا إِمْسَاكُهَا فِيهِ عَنِ النَّذْرِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْحَيْضِ مَعْصِيَةٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهَا قَضَاءَهُ عَنْ نَذْرِهَا، كَمَا كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي فَرْضِ رَمَضَانَ، لِيَكُونَ حُكْمُ النَّذْرِ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ، وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا آخَرَ إنَّهَا لَا تَقْضِيهِ كَمَا لَا تَقْضِي إِذَا صَادَفَ أَيَّامَ الْعِيدِ، وَالتَّشْرِيقِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَتَحْرِيمَ الْحَيْضِ خَاصٌّ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا فَافْتَرَقَا. (مَسْأَلَةٌ:) قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي فَلَا يَلْزَمُهَا شيءٌ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ مَعْصِيَةً (قال المزني) رحمه الله هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَقْضِيَ نَذْرَ معصيةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِهَا، فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، لَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ، وَلَا يَلْزَمُ بِهِ قَضَاءٌ كَالنَّذْرِ فِي صِيَامِ الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَيَّامِ الْحَيْضِ وَإِنْ خَالَفَ فِي أَيَّامِ التَّحْرِيمِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " عَامٌّ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ اسْتِحَاضَتِهَا كَانَ نَذْرًا صَحِيحًا لِإِبَاحَةِ الصِّيَامِ فِي الِاسْتِحَاضَةِ، وَإِنْ حَرُمَ فِي الْحَيْضِ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ نِفَاسِهَا، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 500 الصَّوْمَ فِيهِ حَرَامٌ كَالْحَيْضِ، وَلَوْ نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَدَدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، صَحَّ النَّذْرُ، وَلَزِمَهَا الصَّوْمُ، لِأَنَّهَا جَعَلَتْ أَيَّامَ الْحَيْضِ مِقْدَارًا، وَلَمْ تَجْعَلْهَا زَمَانًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّذْرَ بَاطِلٌ لَا يَنْعَقِدُ بِوَفَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَعَ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ وَالنَّذْرُ لَا يَنْعَقِدُ بِمَعْصِيَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّذْرَ صَحِيحٌ، يَنْعَقِدُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَيُصَلِّي فِيهَا وَلَا يَقْضِي لتوجه المنهي إلا مَا لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّذْرَ صَحِيحٌ، يَنْعَقِدُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْوَفَاءِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهَا، لِيَفِيَ بِالنَّذْرِ، وَيَسْلَمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا بَطَلَ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى النَّاذِرِ فِيهِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَفَّارَةَ يَمِينٍ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ مِنَ الرَّبِيعِ، لَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَهُ تَخْرِيجًا عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَذْهَبِهِ، وَكَانَ الرَّبِيعُ إِذَا أَلْزَمَ شَيْئًا قَالَ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ لِقُصُورِهِ عَنِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِرِوَايَتِهِ دُونَ تَخْرِيجِهِ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَذْرِ الْأَيْمَانِ، الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى نَذْرِ الْجَزَاءِ وَالتَّبَرُّرِ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ بُطْلَانَ نَذْرِهَا، إِذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا فِي نَذْرِ صِيَامِ يَوْمِ الِإِثْنَيْن أَنْ تَقْضِيَ، مَا وَافَقَ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَيَّامَ التَّحْرِيمِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ نَذْرَ الِإِثْنَيْن انْعَقَدَ عَلَى طَاعَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَنَذْرُ الْحَيْضِ وَأَيَّامِ التَّحْرِيمِ انْعَقَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْقَضَاءُ، لِافْتِرَاقِ حكم العقدين. والله أعلم. (مسألة:) قال الشافعي رحمه الله عليه " وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ وَمِنَ الصَّوْمِ يومٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَذَرَ عَدَدًا مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، لَزِمَهُ الْعَدَدُ الَّذِي قَالَهُ، أَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 501 نَوَاهُ، فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ نَذْرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَلَا نَوَاهُ، وَقَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ، أَوْ صَلَاةٌ " لَزِمَهُ صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ شَرْعًا، فَاسْتُحِقَّ نَذْرًا. وَلَوْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَ مَذْهَبًا، لِأَنَّهُ أَقَلُّ صَوْمٍ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ نَصًّا، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ يَلْزَمُهُ مِنْهَا رَكْعَتَانِ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ، تَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ، وَالْوِتْرُ تَبَعٌ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ دُونَ التَّوَابِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَهُوَ إِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالصَّلَاةِ فِي الْآخَرِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِنَذْرِهِ فِيهِ، وَلَا يُجْزِئُهُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْمُخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْفَضْلِ فِي الشَّرْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ، أَوِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الشَّرْعِ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي النَّذْرِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) {النحل: 91) . فَكَانَ إِذًا عَلَى عُمُومِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا يُطِيقُهُ فَلْيَفِ بِهِ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صلاةٍ فِي مَسْجِدِي وصلاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ " فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، فَصَارَ النَّاذِرُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، كَالنَّاذِرِ لِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، فَلَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ نَذْرَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ إِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَفِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ قولان، بناء عل اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إليهما: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 502 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ كَالْحَرَمِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا كَمَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَرَمِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ، كَمَا لَا يَجِبُ نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْحِلِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ. (فَصْلٌ:) وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَهُ أَجَلًا لِوَقْتِ النَّذْرِ، فَيَسْتَحِقُّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِيهِ فَقَدْ أَدَّاهَا، وَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَهُ فَقَدْ قَضَاهَا، وَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ تَطَوُّعًا، كَالْمَفْرُوضَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ الْمَنْذُورِ، فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ تَفْضِيلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، لِأَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لِلسَّبْتِ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلَا تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ، فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ قَطْعًا فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الْعَشْرِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ لِيُصَادِفَهَا فِي إِحْدَى لَيَالِيهِ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا، قَضَى جَمِيعَهَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لَهَا، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا فِي الْعَشْرِ كُلِّهِ لَمْ يقضها إلا في مثله. (مسألة:) قال الشافعي: " وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَ رقبةٍ فَأَيَّ رقبةٍ أَعْتَقَ أَجْزَأَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا بِنَذْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى عِتْقِ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ أَجْزَأَتْ فِي الْكَفَّارَةِ، أَوْ لَمْ تُجْزِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقٌّ قَدْ تَعَيَّنَ لَهَا بِالنَّذْرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ النَّذْرِ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي سَالِمًا، فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ لَمْ يَجِبْ وَيَسْقُطُ النَّذْرُ إِنْ شُفِيَ مَرِيضُهُ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقُ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، بَعْدَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ، لِوُجُوبِ عِتْقِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ بَطَلَ بَيْعُهُ. فأما إذا أطلق النذر، ولم يعنيه، وَقَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً " فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ عِتْقُ أَيِّ رَقَبَةٍ شَاءَ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ، أَوْ لَا يُجَزِئُ، وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 503 الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هَاهُنَا لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، فَرُوعِيَ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ مَا يُجْزِئُ، فِي الْكَفَّارَةِ فَتَكُونُ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ كَافِرَةٍ، وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَ أَجْزَاهُ " يَعْنِي: مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، لِأَنَّ عِتْقَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ سَوَاءٌ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ، هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، أَوْ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عُرْفُ الشَّرْعِ، وَعَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الصَّلَاةِ هَلْ يُجْزِئُ فِيهِ أَقَلُّ مَفْرُوضَاتِهَا، أَوِ الأقل من جميعها. (مسألة:) قال الشافعي: " ولو قال رجلٌ لآخر يميني في يمنيك فَحَلَفَ فَالْيَمِينُ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ صَاحِبِهِ (قَالَ المزني) رحمه الله فقلت له فإن قال يميني في يمينك بالطلاق فحلف أعليه شيءٌ؟ فقال لا يمين إلا على الحالف دون صاحبه (قال المزني) رحمه الله قال لي عليّ بن معبدٍ في المشي كفارة يمينٍ عن زيدٍ وابن عمر وحفصة وميمون بن مهران والقاسم بن محمدٍ والحسن وعبد الله بن عمر الجوزي وروايةٍ عن محمد بن الحسن والحسن وقال سعيد بن المسيب لا كفارة عليه أصلاً وعطاءٍ وشريكٍ وسمعته يقول: ذلك وذكر عن الليث كفارة يمينٍ في ذلك كله إلا سعيدٌ فإنه قال لا كفارة (قال المزني) حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه صفية بنت شيبة أن ابن عمٍّ لها جَعَلَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي رتاج الكعبة فقالت قالت عائشة هي يمينٌ يكفرها ما يكفر اليمين وحدثنا الحميدي قال حدثنا ابن أبي روادٍ عن الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال فيمن جعل ماله في سبيل الله يمينٌ يكفرها ما يكفر اليمين قال الحميدي وسمعت الشافعي وسفيان يفتيان به. قال الحميدي وهو قولي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " يَمِينِي فِي يَمِينِكَ " أَيْ عَلَى مِثْلِ يَمِينِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَأَرَادَ كُلَّ يَمِينٍ، يَحْلِفُ بِهَا مِنْ بَعْدُ، فعلى مثلها وأنا ملتزم لها، ما حكم لهذا القول، فلا يلزمه فلا يَحْلِفُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 504 سَوَاءٌ اسْتَأْنَفَ يَمِينًا بِاللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، لِأَنَّهُ أَشَارَ بِالْقَوْلِ إِلَى مَعْدُومٍ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْإِشَارَةِ، وَإِلَى مَجْهُولٍ فَبَطَلَ حُكْمُ الْجَهَالَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ حَلَفَ يَمِينًا، فَقَالَ: لَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى مِثْلِ يَمِينِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُلْزَمُ هَذَا الْقَائِلُ يَمِينَ الْحَالِفِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَنَّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَيْمَانُ بِاللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِالصَّرِيحِ، دُونَ الْكِنَايَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ يَمِينُ الْحَالِفِ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ بِمَا قَالَ: الطَّلَاقَ، وَالْعَتَاقَ، لَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ الْإِرَادَةِ، وهذا قول كِنَايَةٌ فَلَزِمَتِ الْإِرَادَةُ، وَلَمْ تَلْزَمْ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ انْعَقَدَ بِالْكِنَايَةِ يَمِينُ الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهَا الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ، وَقَامَتِ الْكِنَايَةُ مَقَامِ الصَّرِيحِ فِي الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَقُمْ مَقَامَ الصَّرِيحِ فِي الْأَيْمَانِ؛ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِذَاتِهِ، لَا تَقِفُ عَلَى إِرَادَةِ مُسَمِّيهِ، فَاخْتُصَّ بِالصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ، وَأَسْمَاءُ غَيْرِهِ تَقِفُ عَلَى إِرَادَةِ مُسَمِّيهِ، فَجُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ:) فَأَمَّا إِذَا قَالَ رَجُلٌ يَمِينُ الْبَيْعَةِ لَازِمَةٌ لِي فَقَدْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَقْصُورَةً عَلَى الْمُصَافَحَةِ بِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَهْدٍ، وعليه كانت سيرة الخلفاء الأربعة - رضوان الله عليهم - ثُمَّ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ فِيهَا يَمِينًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْحَجِّ، وَصَدَقَةِ الْمَالِ، وَلَعَلَّهُ اسْتَنَابَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: (رَأَيْتُ هُذَيْلًا أَحْدَثَتْ فِي يَمِينِهَا ... طلاق نساءٍ لم يسوقوا لها مهرا) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 505 لَمْ يَقُلْ بِطَلَاقِهَا وَعَتَاقِهَا، صَارَتْ يَمِينُهُ كِنَايَةً فِيهِمَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ أَرَادَهُمَا وَلَا يلزماه إن لم يردهما والله أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 506 بسم الله الرحمن الرحيم (كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي) ( [الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ] ) الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخُصُومِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإجماع الأمم عليه. (الدليل من الكتاب) : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الْآيَةَ. أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خليفة في الأرض} فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: خَلِيفَةٌ لَنَا، وَتَكُونُ الْخِلَافَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ. وَالثَّانِي: خَلِيفَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَكَ فِيهَا، وَتَكُونُ الْخِلَافَةُ هِيَ الْمُلْكُ. وَقَوْلُهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَ الناس بالحق} وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ الْحُكْمُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْكَامِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ حَكمَه اللِّجَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الإلزام. وفي قوله: ب " الحق " وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْعَدْلِ. وَالثَّانِي: الْحَقُّ الَّذِي لزَمَكَ الله. وفي قوله: {ولا تتبع الهوى} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَيْلُ مَعَ مَنْ يَهْوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَحْكُمَ بِمَا تَهْوَاهُ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَيُضِلَّكَ عن سبيل الله} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ دِينِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحساب} وجهان: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 أَحَدُهُمَا: بِمَا تَرَكُوا مِنَ الْعَمَلِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَالثَّانِي: بِمَا أَعْرَضُوا عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ قتادة: النفش: وعي الليل، والهمل وعي النهار. {وكنا لحكمهم شاهدين} وَكَانَ الْحُكْمُ فِي غَنَمٍ رَعَتْ كَرْمَ آخَرَ، وَقِيلَ زَرْعَهُ، فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَوِ الزَّرْعِ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِأَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ لِيَنْتَفِعَ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيُعَمِّرَهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَى حَالَتِهِ ثُمَّ يردّ الْكَرْم وَتسْتَرْجع الْغَنَم. فقال تعالى: {ففهمناها سليمان} فَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَضَاهُ سُلَيْمَانُ فَرَجَعَ دَاوُدُ عَنْ حُكْمِهِ إِلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ نَقَضَ دَاوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ قَدْ أَفْتَى بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَمْ يُنَفِّذْهُ فَلِذَلِكَ رَجَعَ عَنْهُ. والثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ عَنْ وَحْيٍ فَيَكُونُ نَصًّا يَبْطُلُ بِهِ الِاجْتِهَادُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ مِثْلَ مَا آتَاهُ لِلْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ غَيْرَ مَا آتَاهُ لِلْآخَرِ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ الِاجْتِهَادُ وَالْعِلْمَ النَّصُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ: الْقَضَاءُ وَالْعِلْمَ: الْفُتْيَا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتَ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِصَوَابِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزُّبَيْرِ وَرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، تَخَاصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ نَخْلًا لَهُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ ! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ سَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: " يَا زُبَيْرُ احْبِسِ الْمَاءَ إِلَى الْجَدْرِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ خَلِّ سَبِيلَ الْمَاءِ " فَنَزَلَ قَوْله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون} أَيْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ {حَتَّى يحكموك} أَيْ يَرْجِعُوا إِلَى حُكْمِكَ {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أَيْ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ. وَسُمِّيَتِ الْمُنَازَعَةُ مُشَاجَرَةً لِتَدَاخُلِ كَلَامِهِمَا كَتَدَاخُلِ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ. {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قضيت} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: شَكًّا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: إثما قاله الضحاك: {ويسلموا تسليما} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُسَلِّمُوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ لِحُكْمِكَ. وَالثَّانِي: يَسْتَسْلِمُوا إِلَيْكَ تَسْلِيمًا لِأَمْرِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] . (وَأَمَّا السُّنَّةُ) : فَرَوَى بِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَجَعَلَ لَهُ فِي الْإِصَابَةِ أَجْرَيْنِ هُمَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْآخَرِ عَلَى الْإِصَابَةِ، وَجَعَلَ لَهُ فِي الْخَطَأِ أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى الِاجْتِهَادِ دُونَ الْخَطَأِ. وَرَوَى أَبُو هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " القضاء ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ قَضَى بِجَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فَهُوَ فِي النَّارِ ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ وَمَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ ". قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ " قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ " قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ وَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يرْضى رَسُولَ اللَّهِ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا جَلَسَ الْقَاضِي لِلْحُكْمِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ ". وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ. وَقَلَّدَ الْقَضَاءَ فَوَلَّى عَلِيًّا قَضَاءَ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ: " إِذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ إِلَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ " قَالَ عَلِيٌّ فَمَا أَشْكَلَتْ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا وَقَدِمَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالِيًا وَقَاضِيًا وَقَالَ " يَا عَتَّابُ انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا ". وَقَلَّدَ مُعَاذًا قَضَاءَ بَعْضِ الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ مَا قَدَّمْنَاه. وَقَلَّدَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ قَضَاءَ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَكَانَ يُشَبِّهُهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ أَقَامَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الدِّينِ وَيَقْضِي بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ. وَقَدْ حَكَمَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَلَّدُوا الْقُضَاةَ وَالْحُكَّامَ. فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتَخْلَفَ الْقُضَاةَ وَبَعَثَ أَنَسًا إِلَى الْبَحْرَيْنِ قَاضِيًا. وَحَكَمَ عُمَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَبَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْكُوفَةِ قَاضِيًا. وَحَكَمَ عُثْمَانُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَلَّدَ شُرَيْحًا الْقَضَاءَ. وَحَكَمَ عَلِيٌّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ قَاضِيًا وَنَاظِرًا. فصار ذلك من فعلهم إجماعا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 (دليل العقل والعرف) : وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] . الْآيَةَ. وَلِأَنَّ النَّاسَ لِمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ التَّنَافُسِ وَالتَّغَالُبِ وَلِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّجَاذُبِ يَقِلُّ فِيهِمُ التَّنَاصُرُ وَيَكْثُرُ فيها التَّشَاجُرُ وَالتَّخَاصُمُ، إِمَّا لِشُبْهَةٍ تَدْخُلُ عَلَى مَنْ تَدَيَّنَ أَوْ لِعِنَادٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يَجُورُ. فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى قَوْدِهِمْ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّنَاصُفِ بِالْأَحْكَامِ الْقَاطِعَةِ لِتَنَازُعِهِمْ وَالْقَضَايَا الْبَاعِثَةِ عَلَى تَنَاصُفِهِمْ. وَلِأَنَّ عَادَاتِ الْأُمَمِ بِهِ جَارِيَةٌ وَجَمِيعَ الشَّرَائِعِ بِهِ وَارِدَةٌ. وَلِأَنَّ فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ مَا يَكْثُرُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ إِلَّا بِالْحُكْمِ الْفَاصِلِ وَالْقَضَاءِ الْقَاطِعِ. " (فصل: [شروط ولاية القضاء] ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تَشْتَمِلُ على خمسة شروط: مولى ومولي وعمل ونظر وعقد. ( [المولي] ) فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوَلِّي فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى أَصْلٍ وَفَرْعٍ. فَأَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الْأُمَّةِ فَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ فَرْضٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حَتَّى يَسْأَلَ لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُسْتَرْعَاةِ. وَأَمَّا الْفَرْعُ: فَهُوَ قَاضِي الْإِقْلِيمِ إِذَا عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي لَزِمَهُ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ فِيمَا عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ النَّظَرِ فِيهِ. فَإِنْ بَعُدَ عَنِ الْإِمَامِ تَعَيَّنَ فَرْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى الْقَاضِي وَإِنْ قَرُبَ مِنْهُ كَانَ فَرْضُ التَّقْلِيدِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا فَأَيُّهُمَا انْفَرَدَ بِالتَّقْلِيدِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُمَا. فَإِنْ تَفَرَّدَ الْقَاضِي بِالتَّقْلِيدِ كَانَ فِيهِ عَلَى عُمُومِ وِلَايَتِهِ. وَإِنْ تَفَرَّدَ الْإِمَامُ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ عَزْلًا لِلْقَاضِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ فِي التَّقْلِيدِ بِاسْتِنَابَتِهِ عَنْهُ فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى وِلَايَتِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 (عزل القاضي) : وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَابًا عَنْهُ. فَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَنِيبَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ لَهُ. (تقليد أهل البلد للقاضي) : فَلَوْ خَلَا بَلَدٌ مِنْ قَاضٍ فَقَلَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلًا إِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إِمَامٌ لِافْتِيَاتِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُلْزَمًا فَإِنْ نَظَرَ بَطَلَتْ أَحْكَامُهُ وَصَارَ بِهَا مَجْرُوحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي. وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْتَزِلَ الْوَسَاطَةَ بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِذَوِي الْوِلَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْلِيدِ. فَإِنْ خَلَا الْعَصْرُ مِنْ إِمَامٍ، فَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَتَجَدَّدَ لِإِمَامٍ نُظِرَ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ الْقَاضِي بَاطِلًا كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَوْجُودًا لِقُرْبِ زَمَانِهِ. وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إِمَامٍ قَرِيبٍ نُظِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلًا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِهِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلًا لِقُصُورِهِ عَنْ قُوَّةِ الْوُلَاةِ وَإِنْ أَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ كَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا حَتَّى لَا يَتَغَالَبُوا عَلَى الْحُقُوقِ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى تَقْلِيدِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي تَقْلِيدِ الْإِمَامِ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ كُلِّهِمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهَا عَلَى الِاخْتِيَارِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِهِمْ لِتَعَذُّرِهِ وَوِلَايَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً عَلَى بَلَدٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِهِمْ لِإِمْكَانِهِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الرِّضَا بِالسُّكُوتِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا بِالرِّضَا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَاشِرَهُ جَمِيعُهُمْ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارُ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ. فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَهْلُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي الْجَانِبِ الْمُرْتَضَى فِيهِ وَبَطَلَ فِي الْجَانِبِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ لأن تميز الحانبين كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ. فَإِذَا صَحَّتْ وِلَايَةُ هَذَا الْقَاضِي نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا وَجَبْرًا لِانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 (تجدد الإمام) : فَإِنْ تَجَدَّدَ بَعْدَهُ إِمَامٌ لَمْ يَنْقُضْ لَهُ حُكْمًا نَفَذَ عَلَى الصِّحَّةِ. وَلَهُ عَزْلُهُ وَإِقْرَارُهُ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَأْنِفَ النَّظَرَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ تَقْلِيدُهُ عَنْ إِمَامٍ تَقَدَّمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْذَانُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الضَّرُورَةِ فِي تَقْلِيدِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَعَدَمِهَا فِي تَقْلِيدِ الْإِمَامِ. وَيَكْتَفِي هَذَا الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَنْ تَجْدِيدِ تَقْلِيدٍ وَيَقُومُ الْإِذْنُ لَهُ مَقَامَ التَّقْلِيدِ. وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِذْنِ وَالْوِلَايَاتِ الْمُسْتَجَدَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقَاضِي. مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ وَكَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ. (فَصْلٌ: [المولى] ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُوَلَّى: فَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِي فَرْضِهِ كُلُّ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَقُومَ بِهِ أَحَدُهُمْ فَيَسْقُطُ فَرْضُهُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ. فَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شُرُوطُهُ فِي الْوَقْتِ إِلَّا فِي وَاحِدٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ طَلَبُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ فَرْضَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْمُوَلِّي دون المولى ولا يصير بتفرده فِي عَصْرِهِ وَالِيًا حَتَّى يُوَلَّى. وَلَوْ تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي وَاحِدٍ انْفَرَدَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ تَنْعَقِدُ إِمَامَتُهُ من غير أن يعقدها له أهل العقد وَالْحِلِّ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِمَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدَهَا لَهُ أَهِلُ الْعَقْدِ وَالْحِلِّ إِلَّا بِعَقْدٍ كَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ. لِأَنَّ عَقْدَ أَهْلِ الْعَقْدِ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ. فَإِذَا تَمَيَّزَ بِصِفَتِهِ اسْتُغْني عَنْ عَقْدِهِمْ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ. بِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ صَرْفُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ فلم يفتقر إلى عقد ومول وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَسَوَّى بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ. وَجَعَلَ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فِيمَنْ تَفَرَّدَ بِشُرُوطِهِ مُنْعَقِدَةً مِنْ غَيْرِ عَاقِدٍ كَالْإِمَامَةِ. وَالْجَمْعُ بينهما في الصحة أفسد والجمع بينهما الْبُطْلَانِ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْوِلَايَاتِ عُقُودٌ فَافْتَقَرَتْ إِلَى عَاقِدٍ. فَإِنِ امْتَنَعَ هَذَا الْمُنْفَرِدُ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 فَرْضِهِ عَلَيْهِ وَمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أُخِذَ به جبرا. (ولاية المفضول مع وجود الأفضل) : وَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ أَفْضَلَهُمْ. فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمُقَصِّرِ انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَالِ الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. وَلَوْ تَكَامَلَتْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي جَمَاعَةٍ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ أَنْ يُقَلِّدُوا أَفْضَلَهُمْ. وَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمَفْضُولِ لِعُذْرٍ صَحَّ الْعَقْدُ. وَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِمَامَتِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى صِحَّتِهَا كَالْقَضَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى فَسَادِهَا لِفَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَفْضَلِ إِلَى الْمَفْضُولِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ خَاصَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَنِيبِ كَالْوَكَالَةِ وَالْإِمَامَةُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا تَفْرِيطُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لافتياتهم على غيرهم. (تقليد طالب القضاء) : وَإِذَا تَكَافَأَتِ الْجَمَاعَةُ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَكَانَ فِيهِمْ طَالِبٌ لِلْوِلَايَةِ وَفِيهِمْ مُمْسِكٌ عَنْهَا فَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمُمْسِكَ دُونَ الطَّالِبِ. لِأَنَّهُ أَرْغَبُ فِي السَّلَامَةِ. فَإِنِ امْتَنَعَ لِعُذْرٍ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. وَإِنِ امْتَنَعَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ كَالْوَكَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةٍ إِنْ تُرِكَ فِيهَا عَلَى امْتِنَاعِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُ غَيْرِهِ مِثْلَ حَالِهِ فَيُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى تَعْطِيلِ الْقَضَاءِ. وَخَالَفَ حَالَ الْوَكَالَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِطَاعَةٍ. فَإِنْ عَدَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْمُمْسِكِ إِلَى الطَّالِبِ جَازَ وَصَحَّ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَبَرَ حَالَ الطَّالِبِ فِي طَلَبِهِ. وَلَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ، مُسْتَحَبٌّ وَمَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً بِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ وَالْأَحْكَامُ فَاسِدَةٌ بِجَهْلٍ أَوْ هَوًى فَيَقْصِدُ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَحِرَاسَةَ الْأَحْكَامِ فَهَذَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 الطَّلَبُ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ بِهِ مَأْجُورٌ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ الطَّلَبُ الْمَحْظُورُ: أَنْ يَقْصِدَ بِطَلَبِهِ انْتِقَامًا مِنْ أَعْدَاءٍ أَوْ تَكَسُّبًا بِارْتِشَاءٍ، فَهَذَا الطَّلَبُ مَحْظُورٌ يَأْثَمُ بِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُبَاحُ فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ لِاسْتِمْدَادِ رِزْقِهِ أَوِ اسْتِدْفَاعِ ضَرَرٍ فَهَذَا الطَّلَبُ مُبَاحٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مُبَاحٌ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ الطَّلَبُ الْمَكْرُوهُ، فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ بِهِ فَهَذَا الطَّلَبُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَكْرُوهٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . وَأَمَّا الْحَالُ الْخَامِسَةُ: وَهُوَ الطَّلَبُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهُ رَغْبَةً فِي الْوِلَايَةِ وَالنَّظَرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّلَفِ قَبْلَهُمْ وَاخْتِلَافُ أَصْحَابِنَا مَعَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا وَيُكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَمَكْحُولٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَمَنْ تَخَشَّنَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وطلب السلامة لرواية سعيد ابن أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنِ اسْتَقْضَى فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ " وَلِأَنَّهَا أَمَانَةٌ يَتَحَمَّلُهَا رُبَّمَا قَصَّرَ فِيهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية [الأحزاب: 73] . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا، وَأَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ وَمَنْ تَسَاهَلَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَمَالَ إِلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَنَالَهُ فَإِنْ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ ". وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَعْدَلُهَا: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَوَسِّطِينَ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 سَمُرَةَ " لَا تَطْلُبِ الْإِمَارَةَ فَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مسألة وكلت إليها ولأن الطلب تكلف وَالْإِجَابَةَ مَعُونَةٌ. (بَذْلُ الْمَالِ عَلَى طَلَبِ الْقَضَاءِ) : فَإِنْ بَذَلَ عَلَى طَلَبِ الْقَضَاءِ مَالًا: انْقَسَمَ حَالُ طَلَبِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِتَعَيُّنِ فَرْضِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ أَوْ مُسْتَحِبًّا لَهُ لِيُزِيلَ جَوْرَ غَيْرِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَبَذْلُهُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ مُسْتَحَبٌّ لَهُ وَقَبُولُهُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْقَابِلِ لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مَحْظُورًا أَوْ مَكْرُوهًا فَبَذْلُهُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ مَحْظُورٌ وَمَكْرُوهٌ، بِحَسْبِ حَالِ الطَّلَبِ لِامْتِزَاجِهِمَا وَقَبُولُهُ مِنْهُ أَشَدُّ حَظْرًا وَتَحْرِيمًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مُبَاحًا فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْبَاذِلِ وَحَرُمَ عَلَى الْقَابِلِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ " وَإِنْ كَانَ الْبَذْلُ قَبْلَ التَّقْلِيدِ حَرُمَ عَلَى الْبَاذِلِ وَالْقَابِلِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا مِنَ الرِّشَا الْمَحْظُورَةِ عَلَى بَاذِلِهَا وَقَابِلِهَا لِرِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعن الراشي والمرتشي والرائش. فالراشي باذل الرشوة وَالْمُرْتَشِي قَابِلُهَا وَالرَّائِشُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا الطَّالِبُ قَدْ عَدِمَ شُرُوطَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْضَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَحَرُمَ عَلَى الْإِمَامِ الْإِجَابَةُ لِفَسَادِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَصَارَ بِالطَّلَبِ مجروحا. (فصل: [العمل] ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْعَمَلُ: فَيَلْزَمُ الْإِمَامُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ قَاضِيًا فَيَقُولُ: قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَوْ يَقُولُ: قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ أَيِّ بَلَدٍ شِئْتَ أَوْ أَيِّ بَلَدٍ رَضِيَكَ أَهْلُهُ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ التَّقْلِيدُ فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِالْعَمَلِ وَإِذَا قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ نَوَاحِيهَا وَسَوَادِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنُصَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي تَقْلِيدِهِ فَتَصِيرُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَصْرَةِ وَجَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَأَعْمَالِهَا الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنُصَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ تَقْلِيدِهِ فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى دُخُولِهِ فِي تَقْلِيدِهِ فَتَصِيرُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَصْرَةِ دُونَ أَعْمَالِهَا وَنَوَاحِيهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْسِكَ عَنْ ذِكْرِ نَوَاحِيهَا وَأَعْمَالِهَا فَيَعْتَبِرُ حَالَ أَعْمَالِهَا، فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ فِيهَا جَارِيًا بِإِفْرَادِهَا عَنْ قَاضِي الْبَصْرَةِ لَمْ تَدْخُلْ فِي وِلَايَتِهِ وَإِنْ جَرَى الْعُرْفُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ دَخَلَتْ فِي وِلَايَتِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُرْفُ فِي إِفْرَادِهَا وَإِضَافَتِهَا رُوعِيَ أَكْثَرُهَا عُرْفًا فَإِنِ اسْتَوَيَا رُوعِيَ أَقْرَبُهَا عَهْدًا فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَوِ الْأَقْرَبُ إِفْرَادَهَا خَرَجَتْ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَوِ الْأَقْرَبُ إِضَافَتَهَا دَخَلَتْ في ولايته. (التقليد العام والخاص) : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ عَامًّا وَمَخْصُوصًا. فَالْعَامُّ: أَنْ يُقَلِّدَهُ قَضَاءَ جَمِيعِ الْبَلَدِ وَالْقَضَاءَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَالْقَضَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ فَتَشْتَمِلُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ وَفِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ. وَالْمَخْصُوصُ: يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْبَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ أَهْلِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا في بعض الأيام. (تحديد العمل بالمكان) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى قَضَاءِ بَعْضِ الْبَلَدِ فَيَجُوزُ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا سَوَاءٌ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى أَكْثَرِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى أَقَلِّهِ وَلَوْ مَحِلَّةً مِنْ مَحَالِّهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعُمُّ وَيَخُصُّ. فَإِذَا قَلَّدَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ رَبِيعَةَ أَوِ الْقَضَاءَ فِي جَانِبِ مُضَرَ كَانَ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي قَلَّدَهُ سَوَاءٌ كَانَ لِلْجَانِبِ الْآخَرِ قَاضٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 فَإِنْ قَلَّدَهُ جَانِبَ رَبِيعَةَ وَقُلِّدَ آخَرُ جَانِبَ مُضَرَ كَانَتْ وِلَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةٌ عَلَى جَانِبِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ دُونَ الطَّارِئَيْنِ إِلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ وَيَقِفُ نَظَرُهُ عَلَى مَا قُلِّدَ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ مَوْضِعٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا رُوعِيَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ فِي إِضَافَتِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَجُعِلَ دَاخِلًا فِيهِ فَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ رُوعِيَ الْقُرْبُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ أَقْرَبُ إِلَى جَانِبِ رَبِيعَةَ دَخَلَ فِي وِلَايَةِ قَاضِيهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ أَقْرَبُ إِلَى جَانِبِ مُضَرَ دَخَلَ فِي وِلَايَةِ قَاضِيهِ. فَلَوْ تَحَاكَمَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ رَجُلَانِ فَدَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَاضِي جَانِبِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّنَازُعِ قَدِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أُجِيبُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي جَانِبِهِ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِيهِ لِأَنَّ خَصْمَهُ فِيهِ، طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا. وَإِنْ كَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُجْبِرَ الْآخَرَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِيهِ لِأَنَّ قَاضِيَهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعْدِيَهُ عَلَى خَصْمِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَرِهِ طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا. فَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَسْتَعْدِيَ قَاضِي الْمَطْلُوبِ عَلَى خَصْمِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْدِيَهُ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِهِ لِحُصُولِهِمَا فِي عَمَلِهِ. فَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ تَنَازَعَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ عَمَلِهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ إِلَّا فِي عَمَلِهِ. وَإِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ لِيَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِهِ فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ أَمْرُهَا مِنَ التَّجَاذُبِ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ إليهما ونبطل وِلَايَتُهُمَا إِنْ جُمِعَ بَيْنهمَا فِي التَّقْلِيدِ وَتَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَوَّلِ إِنْ قُلِّدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا وَكِيلَانِ عَلَى اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ. فَإِنِ اخْتَصَمَ خَصْمَانِ وَجَذَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَى قَوْلِ الطَّالِبِ مِنْهُمَا دُونَ الْمَطْلُوبِ وَحَاكَمَهُ إِلَى مَنْ أَرَادَهُ مِنْهُمَا، لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِيَيْنِ نَافِذٌ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقَاضِيَيْنِ إِذَا كَانَا فِي جَانِبَيْنِ لِقُصُورِ نَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَانِبِهِ وَعُمُومِ نَظَرِ هَذَيْنِ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَمِيعِ البلد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ طَالِبًا وَمَطْلُوبًا لِتَحَاكُمِهِمَا فِي قِسْمَةِ مِلْكٍ أَوِ اخْتِلَافِهِمَا فِي ثَمِنِ مَبِيعٍ أَوْ قَدْرِ صَدَاقٍ يُوجِبُ تَحَالُفُهُمَا فِيهِ عُمِلَ عَلَى قَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إِلَيْهِمَا. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْمَلُ بِقَوْلِ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا. وَإِذَا قُلِّدَ الْقَاضِي جَمِيعَ الْبَلَدِ لِيَنْظُرَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ أَوْ فِي جَامِعِهِ لَمْ يَصِحَّ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ بَاطِلًا إِنْ جُعِلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ كَقَوْلِهِ قَلَّدْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ لِتَنَافِي حُكْمِ الشَّرْطِ وَالْإِطْلَاقِ. وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الشَّرْطِ إِلَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: قَلَّدْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فَانْظُرْ فِي جَامِعِهَا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِ الْجَامِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ جُلُوسِهِ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ، قَلَّدْتُكَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ فِي الْجَامِعِ بَيْنَ مَنْ جَاءَكَ فِيهِ صَحَّ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ جَعْلَ الْوِلَايَةِ مَقْصُورَةٌ هَاهُنَا عَلَى مَنْ جَاءَ الْجَامِعَ وَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ إِلَّا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ في غيره لخروجهم من ولايته. (فصل: تحديده بالأشخاص) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ فَيَجُوزُ إِذَا تَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرِهِمْ، فَيَقُولُ قَلَّدْتُكَ لِتَقْضِيَ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ وَيُقَلِّدُ آخَرَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِيَيْنِ وَالِيًا عَلَى مَنِ اخْتَصَّ بِنَظَرِهِ. فَلَا يَجُوزُ لِقَاضِي الْعَرَبِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْعَجَمِ وَلَا لِقَاضِي الْعَجَمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنَ الْعَجَمِ كَالنَّبَطِ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ نَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ عَرَبِيُّ النَّسَبِ عَجَمِيُّ اللِّسَانِ وَعَجَمِيُّ النَّسَبِ عَرَبِيُّ اللِّسَانِ، اعْتُبِرَتْ شَوَاهِدُ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ النَّسَبِ دُونَ اللِّسَانِ أَوِ اللِّسَانِ دُونَ النَّسَبِ عُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ دُونَ اللِّسَانِ لِأَنَّ النَّسَبَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَاللِّسَانُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ. فَإِنْ كَانَ فِي الْعَجَمِ مُوَالٍ لِلْعَرَبِ فَفِي أَحَقِّ الْقَاضِيَيْنِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ وَجْهَانِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي مَوَالِي ذَوِي الْقُرْبَى هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى تَغْلِيبًا لِلْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَاضِي الْعَرَبِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمْ مِنْ قَاضِي الْعَجَمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى تَغْلِيبًا لِلنَّسَبِ عَلَى الْوَلَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَاضِي الْعَجَمِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمْ مِنْ قَاضِي الْعَرَبِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ فَلَهُمَا حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِي أَحَدِهِمَا: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَاضِي الْمَطْلُوبِ فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْ أَهْلِ نَظَرِهِ، وَالْحَقُّ مُسْتَوْفٍ مِنَ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى قَاضِي الطَّالِبِ فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نُفُوذِ حُكْمِ مَنْ تَرَاضَيَا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفُذُ حُكْمُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْفُذُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَجَاذَبَ الْمُتَنَازِعَانِ وَيَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى نَظَرِ قَاضِيهِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُوقِفُ تَنَازُعَهُمَا وَيَقْطَعُ تَخَاصُمَهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى قَاضِي أَحَدِهِمَا فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَاضِي الْمَطْلُوبِ جَازَ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَاضِي الطَّالِبِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَاضِيَانِ عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودًا بَيْنَ أَهْلِ نَظَرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الِانْفِرَادُ فِي هَذَا النَّظَرِ فَلَزِمَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا قَاضِي الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ. وَإِنِ اقْتَضَى الْحُكْمُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ تَفَرَّدَ بِسَمَاعِهَا قَاضِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَإِنْ وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى يَمِينٍ اسْتَوْفَاهَا قَاضِي الْحَالِفِ دُونَ الْمُسْتَحْلِفِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا نَافِذًا مِنْ قَاضِي الْمَطْلُوبِ دُونَ الطالب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 فَإِنِ امْتَنَعَ الْقَاضِيَانِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ أَثِمَا بِالِامْتِنَاعِ، وَكَانَ قَاضِي الْمَطْلُوبِ أَغْلَظَهُمَا مَأْثَمًا وَأَخَذَهُمَا الْأَمِيرُ بِالِاجْتِمَاعِ جَبَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَقْصُورَ الولاية على النظر بين خصمين معينين فَيَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْظُرُ بَيْنَ غَيْرِهِمَا، وله ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ تَنَازُعٍ يَحْدُثُ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بَعْدَ فَصْلِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بَاقِي الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ تَنَازُعِهِمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى النظَرِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَنَازَعَاهُ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا انْعَزَلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ تَنَازُعِهِمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدَهُ مُطْلَقًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَا تَجَدَّدَ مِنْ نِزَاعِهِمَا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَلِّدَهُ الْإِمَامُ قَضَاءَ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَهَذَا تَقْلِيدُ اخْتِيَارٍ، وَمُرَاعَاةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا نَظَرٍ. فَإِذَا قَلَّدَ مَنِ اخْتَارَهُ ثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْمُخْتَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنِ اخْتَارَهُ عَزْلُهُ وَلَهُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَالْمُرَاعَاةُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ عَيَّنَ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ جَازَ وَكَانَ هَذَا تَقْلِيدُ إِنْفَاذٍ وَإِشْرَافٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا اخْتِيَارٍ. (فصل: [تحديد العمل بالزمان] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَى بَعْضِ الْأَيَّامِ دُونَ جَمِيعِهَا فَيَجُوزُ إِذَا عُيِّنَ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، لِأَنَّ النَّظَرَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُتَحَاكِمَيْنِ فِيهِ فَوَجَبَ تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ الْخُصُومُ. فَإِذَا قَلَّدَهُ النَّظَرَ فِي يوم السبت لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ نَاظِرًا فِي كُلِّ سَبْتٍ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي غَيْرِهِ لِبَقَاءِ نَظَرِهِ عَلَى أَمْثَالِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ نَاظِرًا فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْعَزِلُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْثَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي نَظَرِ السَّبْتِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِاخْتِصَاصِ الْيَوْمِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ تَقْلِيدَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَيُحْمَلُ عَلَى الخصوص دون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 الْعُمُومِ، وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إِلَّا فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَوَّلُ سَبْتٍ يَكُونُ بَعْدَ التَّقْلِيدِ، فَإِذَا نَظَرَ فِيهِ انْعَزَلَ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ فِي غَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَيُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي سَبْتٍ وَاحِدٍ هُوَ بَقَاءُ الْخَصْمَيْنِ فَحُمِلَ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ وَانْقِضَاءِ السَّبْتِ فَحُمِلَ النَّظَرُ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ. فَلَوْ قَلَّدَ قَاضِيًا أَنْ يَنْظُرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَقَلَّدَ آخَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَ النَّظَرِ عَلَى يَوْمِهِ. فَإِنْ تَرَافَعَ خَصْمَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ إِلَى قَاضِيهِ وَلَمْ يَنْفَصِلِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا فِيهِ حَتَّى رَجَعَا فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ قَاضِي الْأَحَدِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَاضِي السَّبْتِ. وَلَوْ تَنَازَعَ خَصْمَانِ فَدَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قَاضِي السَّبْتِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قَاضِي الْأَحَدِ، فَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ كَانَ قَاضِيهِ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي يَوْمِ الْأَحَدِ كَانَ قَاضِيهِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَسْتَأْنِفَا التَّرَافُعَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ فَيَصِيرُ قَاضِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا قَلَّدَهُ النَّظَرَ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ فَيَكُونُ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُهُمَا. فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ من أقسامه الثلاثة. (فصل: [النظر] ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ النَّظَرُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَامٌّ وَخَاصٌّ: فَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ أَنْ يُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَتَكُونُ وِلَايَتُهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْقُضَاةِ وَتَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: تَثْبِيتُ الْحُقُوقِ عِنْدَ التَّنَاكُرِ مِنْ دُيُونٍ فِي الذِّمَمِ وَأَعْيَانٍ فِي الْيَدِ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَسُؤَالِ الْخَصْمِ، وَثُبُوتُهَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِقْرَارٌ أَوْ بَيِّنَةٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَ التَّمَانُعِ وَالتَّدَافُعِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أَلْزَمَ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَحَبَسَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا سَلَّمَهَا إِنِ امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْمَنَاكِحِ وَالْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيهَا لِيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ فِي صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا وَالتَّحَالُفِ عَلَيْهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَصْلُ التَّشَاجُرِ فِي حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ مِنَ الشُّفْعَةِ وَالْمِيَاهِ وَالْحُدُودِ وَالِاسْتِطْرَاقِ وَالْعَمَلِ بِشَوَاهِدِ الْأَبْنِيَةِ. فَأَمَّا مَخَارِجُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَجْنِحَةِ إِلَى الطُّرُقَاتِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ. فَإِنْ جَاءَهُ فِيهِ مُتَظَلِّمٌ نَظَرَ فِيهِ وَدَخَلَ فِي وِلَايَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مُتَظَلِّمٌ دَخَلَ فِي الْحِسْبَةِ وَكَانَ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اجْتِهَادٍ تَفَرَّدَ الْمُحْتَسِبُ بِهِ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى اجْتِهَادٍ كَانَ الْقَاضِي أَحَقَّ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ وَأَوْلَى مِنَ الْمُحْتَسِبِ ويَكُونُ الْمُحْتَسِبُ فِيهِ مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الْقَاضِي. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَيَامَى فِي عُقُودِ مَنَاكِحِهِنَّ لِأَكْفَائِهِنَّ عِنْدَ عَدَمِ أَوْلِيَائِهِنَّ أَوْ غَفْلِهِنَّ. وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ وِلَايَتِهِ مَعَ الْبُلُوغِ لِتَجْوِيزِهِ لَهُنَّ أَنْ يَنْفَرِدْنَ بِالْعَقْدِ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: الْوِلَايَةُ عَلَى ذَوِي الْحَجْرِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ إِذَا عُدِمَ أَوْلِيَاءُ النَّسَبِ أَوْ لِسَفَهٍ يُوقَعُ بِهِ الْحَجْرُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ وِلَايَةُ ذِي النَّسَبِ وَيَرْتَفِعُ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ وَفَكِّ الْحَجْرِ. فَأَمَّا أَمْوَالُ الْغَائِبِينَ عَنْهَا: فَإِنْ عَلِمُوا بِهَا فَلَا نَظَرَ لِلْقَاضِي فِيهَا لِوُقُوفِهَا عَلَى اخْتِيَارِ أَرْبَابِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ وَرِثُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي نَظَرِ الْقَاضِي وَعَلَيْهِ حِفْظُهَا حَتَّى يَقْدَمُوا أَوْ يُوكِلُوا فَتَخْرُجَ حِينَئِذٍ مِنْ نَظَرِهِ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: الْحُكْمُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَتَقْدِيرُهَا بِرَأْيهِ وَاجْتِهَادِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَاظِرٌ تَوَلَّاهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَاظِرٌ واعاها فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ سَقَطَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَتْ لِمَوْصُوفِينَ تَعَيَّنُوا بِاجْتِهَادِ النَّاظِرِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبِاجْتِهَادِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحُكْمِ. وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ: النَّظَرُ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ يَعْمَلُ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ فِيهِ اجْتِهَادَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوْ خَالَفَهُ إِلَّا فِي التَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ فَيَكُونُ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ فِيهِ أَنْفَذَ. وَالْقِسْمُ الْعَاشِرُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا وَالْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ. فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ مِنْهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِاجْتِهَادٍ كَانَ الْقَاضِي أَحَقَّ بِهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ وَيَأْمُرُ وُلَاةَ الْمُعَاوِنِ بِاسْتِيفَائِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَفْسِهِ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا بأمره فيها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِاجْتِهَادٍ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَقَّ بِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِتَقْوِيمِ السَّلْطَنَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ سَمِعَهَا الْقَاضِي وَاسْتَوْفَاهَا الْأَمِيرُ. فَأَمَّا قَبْضُ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقُهَا فِي ذَوِي السُّهْمَانِ. فَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا نَاظِرًا كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْقَاضِي. وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ عَلَيْهَا نَاظِرًا فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْقَاضِي النَّظَرُ فِيهَا بِمُطْلَقِ وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَهُ النَّظَرُ فِيهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فِيمَنْ أَسْمَاهُ لَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ. فَأَمَّا أَمْوَالُ الْفَيْءِ فَلَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهَا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ وُجُوهَ مَصْرِفِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ. فَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، فَإِنْ نُدِبَ لَهَا إِمَامٌ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْقَاضِي. وَإِنْ لَمْ يُنْدَبْ لَهَا إِمَامٌ فَفِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي بِإِقَامَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقِيمُهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْعَامَّةِ. وَالثَّانِي: لَا حَقَّ لَهُ فِي إِقَامَتِهَا، لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ بِهَا أخص فهذا حكم النظر العام. (تحديد سلطات القاضي) فَأَمَّا النَّظَرُ الْخَاصُّ: فَهُوَ أَنْ يُقَلِّدَ النَّظَرَ فِي الْمُدَايَنَاتِ دُونَ الْمَنَاكِحِ أَوِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ أَوْ فِي نِصَابٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْمَالِ لَا يَتَجَاوَزُهُ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَكُونُ مَقْصُورَ النَّظَرِ عَلَى مَا قَلَّدَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَمْ يَزَلِ الْأُمَرَاءُ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ يَسْتَقْضُونَ عَلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَاضِيًا يُسَمُّونَهُ قَاضِيَ الْمَسْجِدِ يَحْكُمُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَمَا دُونَهَا وَيَفْرِضُ النَّفَقَاتِ وَلَا يَتَعَدَّى بِهَا مَوْضِعَهُ وَلَا مَا قُدِّرَ لَهُ. وَإِذَا قُلِّدَ النَّظَرَ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِجَمِيعِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ صَدَاقٍ وَفَرْضٍ وَنَفَقَةٍ وَسُكْنَى وَكِسْوَةٍ وَيُزَوِّجُ الْأَيَامَى وَلَا يَحْكُمُ فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُدَايَنَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَلَا يَحْكُمَ بِنَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَيَحْكُمُ بِنَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ وَلَا يَحْكُمُ بِنَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجِ. وَإِذَا قُلِّدَ النَّظَرَ فِي نِصَابٍ مُقَدَّرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَنَظَرَ فِيهَا بَيْنَ خَصْمَيْنِ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا ثَانِيَةً فِي هَذَا الْقَدْرِ وَثَالِثَةً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 وَإِذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا جَازَ إِذَا كَانَتْ دَعْوَى الشَّرِيكَيْنِ مُتَفَرِّقَةً وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةً. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُرُوضٍ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ جَازَ إِلَّا عَنْ نَهْيٍ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ التَّقْدِيرِ دُونَ الْجِنْسِ فَهَذَا حُكْمُ الشرط الرابع. (فصل: [العقد] ) وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ: فَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: مُقَدِّمَةُ الْعَقْدِ. وَالثَّانِي: صِفَةُ الْعَقْدِ. وَالثَّالِثُ: لُزُومُ الْعَقْدِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي مُقَدِّمَةِ الْعَقْدِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَارِفًا بِتَكَامُلِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فِي الْمُوَلَّى لِيَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ. فَإِنْ عَرِفَ تَكَامُلَهَا فِيهِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ تَكَامُلَهَا فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ. فَإِنِ اسْتَفَاضَ الْخَبَرَ بِمَعْرِفَتِهِ كَانَتْ الِاسْتِفَاضَةُ أَوْكَدَ مِنَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إِلَّا الِاخْتِبَارَ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِضْ بِهِ الْخَبَرُ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِتَكَامُلِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فِيهِ وَيَخْتَبِرُهُ الْمُوَلِّي لِيَتَحَقَّقَ بِاخْتِبَارِهِ صِحَّةَ مَعْرِفَتِهِ. وَهَلْ يَكُونُ اخْتِبَارُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا؛ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ يَسْتَظْهِرُ بِهِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثاني: أن لاختباره وَاجِبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ نِسْيَانٌ أَوِ اخْتِلَالٌ. فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِتَكَامُلِ صِفَاتِهِ شَاهِدَانِ لَزِمَ اخْتِبَارُهُ قَبْلَ تَقْلِيدِهِ فِي كُلِّ شَرْطٍ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَقْلِيدِهِ مِنْ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ. فَإِنْ عَرَفَ صِحَّتَهَا مِنْ أَجْوِبَتِهِ قَلَّدَهُ حِينَئِذٍ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَبَرَ مُعَاذًا حِينَ قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْيَمَنِ، وَلَمْ يَخْتَبِرْ عَلِيًّا عِنْدَ تَقْلِيدِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ مِنْهُ بِمُعَاذٍ. وَإِنْ قَلَّدَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَكَامُلَ الشُّرُوطِ فِيهِ ثُمَّ عَلِمَهَا كَانَ التَّقْلِيدُ بَاطِلًا، حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَكَامُلِهَا لِوُقُوعِ التَّقْلِيدِ مع الشك فيه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 (فصل: صفة العقد) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ صِفَةُ الْعَقْدِ: فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّفْظِ مَعَ الْحُضُورِ وَبِالْمُكَاتَبَةِ مَعَ الْغيبَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ مع الحضور لارتفاع الضرورة. ( [لفظ العقد] ) : وَلَفْظُ الْعَقْدِ: يَشْتَمِلُ عَلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَأَمَّا الصَّرِيحُ: فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ وَوَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ أَوِ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَى الْقَضَاءِ أَوِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى زِيَادَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْقَضَاءِ أَوْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ أَوْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ بِالْقَضَاءِ أَوْ وَكَّلْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ فَلَا يَنْعَقِدُ التَّقْلِيدُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ لِاحْتِمَالِهَا حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَزُولُ بِهِ الِاحْتِمَالُ بِإِحْدَى نُقْطَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ فَاحْكُمْ أَوْ فَانْظُرْ فَيَكُونُ بِالْقَرِينَةِ كَالصَّرِيحِ فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ الْقَضَاءَ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَرِيحٌ فِي التَّقْلِيدِ. وَالثَّانِي: وهو أصح أنها كناية. (ما يفتقر إليه عقد التقليد) : وَالَّذِي يَفْتَقِرُ عَقْدُ التَّقْلِيدِ إِلَى ذِكْرِهِ فِيهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ الْبَلَدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِيهِ. والثاني: صفة الحكم من عموم خصوص. فَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ فِي الْمُنَازَعَاتِ وَعَلَى الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ فِي الْوِلَايَاتِ. ثُمَّ تَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَوْلِ الْمُوَلَّى. فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْفَوْرِ فَيَقُولُ قَدْ قَبِلْتُ أَوْ قَدْ تَقَلَّدْتُ فَيَتِمُّ عَقْدُ التَّقْلِيدِ. وَلِصِحَّةِ هَذَا الْقَبُولِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي عَالِمًا بِأَنَّ الْمُوَلَّى مُسْتَحِقٌّ لِلْوِلَايَةِ الَّتِي اسْتَنَابَهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ الْمُوَلَّى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُسْتَكْمِلٌ لِلشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْقَضَاءِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ وَكَانَ بِالْقَبُولِ مَجْرُوحًا. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي. فَإِنْ شَرَعَ فِي النَّظَرِ قَبْلَ الْقَبُولِ فَهَلْ يَكُونُ شُرُوعُهُ فِيهِ قَبُولًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَبُولًا كَالنُّطْقِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قَبُولًا حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْقَبُولِ نُطْقًا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَفْقِدْ بِهِ قَبُولَهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ أحكامه مردودة. (فصل: لزوم العقد) وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهُوَ لُزُومُ الْعَقْدِ: فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لُزُومِهِ لِأَهْلِ الْعَمَلِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي لُزُومِهِ لِلْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ كَالْوَكَالَةِ. وَلَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُسْتَنِيبِ وَلَا فِي حَقِّ الْمُسْتَنَابِ. وَيَجُوزُ لِلْمُوَلِّي أَنْ يَعْزِلَهُ إِذَا شَاءَ. وَالْأَوْلَى بِالْمُوَلِّي أَنْ لَا يَعْزِلَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَأَنْ لَا يَعْزِلَ الْمُوَلَّى نَفْسَهُ إِلَّا لِعُذْرٍ. فَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ مِنَ الْمُوَلِّي إِشَاعَةً حَتَّى لَا يَنْظُرَ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنْ نَظَرَ بَعْدَهُ وَقَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ كَانَ فِي نُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَجْهَانِ كَعَقْدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ. وَإِنْ كَانَ الِاعْتِزَالُ مِنَ الْمُوَلَّى إِشَاعَةً لِيُقَلِّدَ الْمُوَلِّي غَيْرَهُ فَإِنْ حَكَمَ بَعْدَ اعْتِزَالِهِ رُدَّ حُكْمُهُ. فَأَمَّا أَهْلُ الْعَمَلِ فَالتَّقْلِيدُ لَازِمٌ فِي حُقُوقِهِمْ بِإِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْتِزَامِ الْحُكْمِ. فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنِ الْتِزَامِهِ لِعُذْرٍ أَوْضَحُوهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أُرْهِبُوا. فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ حُورِبُوا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْقَضَاءِ مِنَ الْفُرُوضِ فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنِ الْتِزَامِهِ حُورِبُوا عَلَيْهِ كَمَا يُحَارَبُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْفُرُوضِ وَلُزُومُ الطَّاعَةِ صِحَّةُ التَّقْلِيدِ. وَعِلْمُهُمْ بِهَا مُخْتَلِفٌ بِقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ. فَإِنْ بَعُدُوا مِنْ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُ التَّقْلِيدِ فِيهِمْ أَشْهَدَ الْمولى عَلَى نَفْسِهِ شَاهِدَيْنِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَهْدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمَا وَعِلْمِهِمَا بِمَا فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَمَلِ، فَإِنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُمَا لَزِمَتْهُمُ الطَّاعَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ تَلْزَمْهُمُ الطَّاعَةُ حَتَّى يَكْشِفُوا عَنِ الْعَدَالَةِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شَاهِدَانِ وَوَرَدَ الْقَاضِي الْمُوَلَّى فَأَخْبَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ لَا تَلْزَمُهُمُ الطَّاعَةُ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ. وَفِي لُزُومِهَا لَهُمْ إِنْ صَدَّقُوهُ وجهان: أحدهما: تلزمهم لأنهم اعترفوا بحق عَلَيْهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُهُمْ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الْمُوَلَّى. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ قَرِيبًا مِنَ الْمُوَلَّى أَشَاعَ الْوِلَايَةَ حَتَّى يَسْتَفِيضَ بِهَا الْخَبَرُ. وَفِي اكْتِفَائِهِ بِالْإِشَاعَةِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكْتَفِي بِهَا لِأَنَّهَا أَوْكَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكْتَفِي بِهَا حَتَّى يَشْهَدَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَخَصُّ. فَإِنْ جُعِلَتِ الْإِشَاعَةُ كَافِيَةً لَزِمَتِ الطَّاعَةُ وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ كَافِيَةً لَمْ تَلْزَمِ الطَّاعَةُ. وَلَيْسَ كَتْبُ الْعَهْدِ شَرْطًا فِي التَّقْلِيدِ، قَدْ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبْ لِمُعَاذٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى وَصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْعَهْدُ لِيَكُونَ شاهدا بما تضمنه من صفات التقليد وشروطه. (هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْقَاضِي مُوَافِقًا لمذهب الإمام؟) وَلَا يَلْزَمُ فِي تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الْمُوَلَّى مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي، وَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ مَذْهَبَيْهِمَا مِنَ التَّقْلِيدِ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ حَنَفِيًّا وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ شَافِعِيًّا لِأَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ لَا بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ وَيَعْمَلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَا عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ. (حُكْمُ الْقَاضِي بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ) : فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي قَضِيَّةٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَازَ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مَنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَتِ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَمَيُّزِ أَهْلِهَا. فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ حُكْمٍ طَرِيقَةُ الاجتهاد. فإذا قضى في حكم باجتهاد ثم أراد أن يقضي فيه من بعد لزمه إعادة الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ أَدَّاهُ إِلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَاضِيًا وَقَدْ شَرِكَ عُمَرُ فِي عَامٍ، وَلَمْ يَشْرَكْ فِي عَامٍ وَقَالَ هَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَتِلْكَ عَلَى ما قضينا. (هل للإمام أن يشترط على القاضي القضاء بمذهب معين؟) فَإِنْ شَرَطَ الْمُوَلِّي عَلَى الْمُوَلَّى فِي عَقْدِ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَامًّا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا. فَإِنْ كَانَ عَامًّا: فَقَالَ لَا يَحْكُمُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي أَوْ مُخَالِفًا، لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. فَأَمَّا صِحَّةُ التَّقْلِيدِ وَفَسَادُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِشَرْطِهِ. فَإِنْ عَدَلَ بِهِ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَقَالَ احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَخْرِجْهُ مَخْرَجَ النَّهْيِ فَقَالَ لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَإِنْ بَطَلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ. وَإِنْ جَعَلَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ فَقَالَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ جَعَلَهُ أَمْرًا أَوْ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إِنْ جَعَلَهُ نَهْيًا بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَا يَبْطُلُ التَّقْلِيدُ وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِي الْعَقْدِ مَخْرَجَ الشَّرْطِ. وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا. فإن كان أمرا فقال أقد الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ وَمِنَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ كَانَ أَمْرُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدًا. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ صَحَّ التَّقْلِيدُ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ. وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ نَهْيًا: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَتَقْلِيدٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ فَصَارَ خَارِجًا مِنْ نَظَرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْقِصَاصِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ يُوجَبُ صَرْفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ؟ على وجهين: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 أَحَدُهُمَا: يَكُونُ صَرْفًا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِيجَابِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْلِيدُ صَحِيحًا فِيمَا عَدَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الصَّرْفَ وَيَصِيرُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِضِدِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَمِنَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ صَحَّ التَّقْلِيدُ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ وَحَكَمَ فِيهِ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ أَوْ إِسْقَاطِهِ. وَإِنِ اقْتَرَنَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَلَ التَّقْلِيدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ، وَإِنْ حَكَمَ الْعِرَاقِيُّونَ بِصِحَّتِهِ مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ. (فَصْلٌ: سَبْرُ الإمام أحوال البلاد قبل التقليد) : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَأَقْسَامِهَا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْبُرَ أَحْوَالَ الْبِلَادِ فِي الْقَضَاءِ وَيَكْشِفَ عَنْ أَحْوَالِ الْقُضَاةِ فِيهَا. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ قَاضِيًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنْ لَا قَاضِيَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ قَاضِيًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا. فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ كَانَ تَقْلِيدُهُ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الْغَرِيبِ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَرِيبٍ صح تقليده. (تقليد غير المعين) : فَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَقَالَ مَنْ نَظَرَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي قَضَائِهَا فَهُوَ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِي لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فَإِنْ قَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ عُلَمَائِهِ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِهِ. فإن ذكر عدد الصور فَقَالَ إِنْ نَظَرَ فِيهِ يَزِيدُ أَوْ عَمْرٌو أَوْ بَكْرٌ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُقَلَّدَ مِنْهُمْ مَجْهُولٌ. وَلَوْ قَالَ إِنْ نَظَرَ فِي قَضَاءِ الْبَصْرَةِ زَيْدٌ فَقَدْ قَلَّدْتُهُ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عُلِّقَ بِشَرْطٍ. وَلَكِنْ لَوْ ذَكَرَ عَدَدًا أَسْمَاهُمْ وَقَلَّدَهُمْ ثُمَّ قَالَ فَأَيُّهُمْ نَظَرَ فِيهِ فَهُوَ الْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ صَحَّ التَّقْلِيدُ فِي النَّاظِرِ سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَظَرَهُ عَزْلًا لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا في تقليده. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 26 وَلَوْ جَعَلَهُمْ جَمِيعًا نَاظِرِينَ فِيهِ بَطَلَ تَقْلِيدُهُمْ إِنْ كَثُرُوا، وَفِي صِحَّتِهِ وَإِنْ قَلُّوا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: أُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ دُونَ أَحْكَامِهِ. فَأَوَّلُ آدَابِهِ إِذَا وَرَدَ بَلَدَ عَمَلِهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِوُرُودِهِ قَاضِيًا فِيهِ إِمَّا بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ لِيَعْلَمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ أَوِ اخْتِلَافٍ. فَإِنِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى طَاعَتِهِ دَخَلَ. وَإِنِ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ تَوَقَّفَ، وَاسْتَطْلَعَ رأي الإمام. (استصحاب كتاب الْإِمَامِ) : وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْقَاضِي كِتَابَ الْإِمَامِ إِلَى أَمِيرِ الْبَلَدِ بِتَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ حَتَّى يَجْمَعَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ جَبْرًا إِنْ خَالَفُوهُ. فَإِنْ وَافَقَهُ بَعْضُهُمُ اعْتُبِرَ حَالُ مُوَافَقِيهِ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عددا من مخالفيه وأقوى يدا دخل. (توطيد الإمام السبل للقاضي) : وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا وَأَضْعَفَ يَدًا تَوَقَّفَ وَعَلَى الْإِمَامِ رَدُّ مُخَالِفِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَلَوْ بِقِتَالِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُذْعِنُوا بِالطَّاعَةِ وَلْيُعِنْهُ بِمَا يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِيهِمْ وَيَبْسُطُ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْدِرَ عَلَى الِانْتِصَافِ مِنَ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ وَمِنَ الشَّرِيفِ لِلْمَشْرُوفِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ ". ثُمَّ يُنَادِي فِي الْبَلَدِ إن اتسع بوروده ليعلم به الداني والقاضي وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَيَكُونُ أَهْيَبَ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمَ فِي الْقُلُوبِ. وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ إِلَى الْبَلَدِ فِي يَوْمِ الِإِثْنَيْن اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ عِنْدَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا. وَيُخْتَارُ أَنْ يَسْكُنَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَقْرُبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ كَمَا يُقْبِلُ الْإِمَامُ بِوَجْهِهِ فِي الْخُطْبَةِ قَصْدَ وَجْهِهِ لِيَعُمَّ جَمِيعَ النَّاسِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 27 وَيُخْتَارُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ قَبْلَ نَظَرِهِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا تَضَمَّنُهُ مِنْ حُدُودِ عَمَلِهِ وَمِنْ صِفَةِ وِلَايَتِهِ فِي عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ فَيَجْمَعُ النَّاسَ لِقِرَاءَتِهِ فِي أَفْسَحِ بِقَاعِهِ مِنْ جَوَامِعِهِ وَمَسَاجِدِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ يَنْظُرُ بعد قراءته ولو بين خصمين لتستقر [به] وِلَايَتُهُ بِالنَّظَرِ وَيَتَوَطَّأُ لَهُ الْخُصُومُ فِي الْحُكْمِ وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهِ وَضَعْفِهِ. (فَصْلٌ) : ثُمَّ يُقَرِّرُ أَمْرَيْنِ يَعْتَمِدُهَا الْخُصُومُ فِي نَظَرِهِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ مَجْلِسَ نَظَرِهِ مِنْ بَعْدِ مَعْرُوفِ الْمَكَانِ مَخْصُوصًا بِالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَسْأَلُوا عَنْهُ إِنْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ إِنْ نَظَرَ فِي غَيْرِ أَحْكَامِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ نَظَرِهِ مُعَيَّنًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَيَّامِ لِيَتَأَهَّبُوا فِيهِ لِلتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَثُرَتِ الْمُحَاكَمَاتُ وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهَا بَعْضُ الْأَيَّامِ لَزِمَهُ النَّظَرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَيَكُونُ وَقْتُ نَظَرِهِ مِنَ الْيَوْمِ مَعْرُوفًا لِيَكُونَ بَاقِيهِ مَخْصُوصًا بِالنَّظَرِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ وَرَاحَتِهِ وَدَعَتِهِ. وَإِنْ قَلَّتِ الْمُحَاكَمَاتُ وَاتَّسَعَ لَهَا بَعْضُ الْأَيَّامِ جَعَلَ يَوْمَ نَظَرِهِ فِي الْأُسْبُوعِ مَخْصُوصًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ فِيهِ مِنْ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، مُعْتَبِرًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَسْتَعِدَّ النَّاسُ لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ. فَإِنْ تَجَدَّدَ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّظَرِ مَا لَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ فِيهِ نَظَرَ فِيهِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ. وَيَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامَ نَظَرِهِ مِنَ الأسبوع: السبت والاثنين والخميس. (فصل: القضاء في موضع بارز) قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ. وَمُرَادُهُ بِهَذَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَ الْبُرُوزِ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فَسِيحًا تَرْتَاحُ فِيهِ النُّفُوسُ وَلَا يُسْرَعُ فِيهِ الْمَالُ فَقَدْ قِيلَ: خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا سَافَرَ فِيهِ الْبَصَرُ وَاتَّدَعَ فِيهِ الْجَسَدُ. وَبِحَسَبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي نَقْلِ الْمُزَنِيِّ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْخَفْضِ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِلْمَوْضِعِ فِي الْفَسَاحَةِ وَالسَّعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالنَّصْبِ بَارِزًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِلْقَاضِي فِي ظُهُورِهِ مِنْ غير إذن. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 28 وَلَئِنْ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ بُرُوزِهِ إِلَى الْإِذْنِ عَلَيْهِ فَمِنْ أَدَبِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ لَا يُبْدَأَ بِالدَّعْوَى إِلَّا بَعْدَ إِشْعَارِهِ وَإِذْنِهِ. فَإِنْ نَظَرَ بَيْنهمْ فِي دَارِهِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ قَلَّ. رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتِ اخْتَصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوَارِيثَ مُتَقَادِمَةٍ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمَا فِي بَيْتِي وَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَازَعَةٌ فَأَتَيَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي بَيْتِهِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا وَقَالَ لِعُمَرَ لَوْ أَمَرْتَنِي لَجِئْتُ فَقَالَ عُمَرُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ. فَإِنْ كَثُرَتِ الْمُحَاكَمَاتُ عَدَلَ عَنِ النَّظَرِ فِي دَارِهِ الَّتِي تُحْوِجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ إِلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِالشَّرْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. (كَرَاهَةُ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ) : (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " لَا يَكُونُ دُونَهُ حِجَابٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُحْتَجِبًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَاجِبٌ عَلَى إِذْنِهِ يَكُونُ وَصُولُ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَيْهِ مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ. رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ ". وَقَلَّدَ عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الْكُوفَةَ فَقَضَى فِيهَا زَمَانًا بِغَيْرِ حَاجِبٍ ثُمَّ اتَّخَذَ حَاجِبًا فَعَزَلَ عُمَرُ حَاجِبَهُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَنَعَ الْحَاجِبُ ذَا ظُلَامَةٍ لِهَوًى، وَرُبَّمَا اسْتَعْجَلَ عَلَى الْإِذْنِ وَارْتَشَى. فَإِنِ اتَّخَذَ حَاجِبًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ. بَلْ إِذَا احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَزَمَانِهِ كَانَ أَحْفَظَ لِحِشْمَتِهِ وَأَعْظَمَ لِهَيْبَتِهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْقَاضِي اتِّخَاذُ الْحَاجِبِ فِي زَمَانِ الِاسْتِقَامَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 29 وَسِدَادِ أَهْلِهِ فَأَمَّا فِي زَمَانِ الِاخْتِلَاطِ وَالتَّهَارُجِ وَاسْتِطَالَةِ السُّفَهَاءِ وَالْعَامَّةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْفَظُ هَيْبَةَ نَظَرِهِ وَيَمْنَعُ مِنِ اسْتِطَالَةِ الْخُصُومِ. فَأَمَّا الْأَئِمَّةُ فَلَا يُكْرَهُ لَهُمُ اتِّخَاذُ الْحُجَّابِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ فِي عُمُومِ الْأُمُورِ فَاحْتَاجُوا أَنْ يُفْرِدُوا لِكُلِّ نَظَرٍ وَقْتًا يَحْرُسُهُ الْحُجَّابُ عَلَيْهِمْ وَيَمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ أَصْنَافِ النَّاسِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ يَرْفَأُ حَاجِبًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاجْتَمَعَ عَلَى بَابِهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَسَلْمَانُ وَبِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِ فَأَذِنَ لِسَلْمَانَ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: يَا أَبَا سُفْيَانَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ دُعُوا وَدُعِيتَ فَأَجَابُوا وَتَأَخَّرْتَ، وَلَئِنْ حَسَدْتَهُمُ الْيَوْمَ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَأَنْتَ غَدًا أَشَدُّ حَسَدًا لَهُمْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَلَوْلَا الْحُجَّابُ لَمَا تَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ بِالسَّابِقَةِ وَلَا تَرَتَّبَ النَّاسُ بِحَسَبِ فَضَائِلِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَاسْتَصْعَبَ الْإِذْنُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةِ فِي خَلْوَةٍ أَرَادَهَا مَعَ عُمَرَ فَرَشَا يَرْفَأَ حَتَّى سَهَّلَ لَهُ الْإِذْنَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَسْأَلُ يَرْفَأَ أَنْ يُجْلِسَهُ فِي الدِّهْلِيزِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ حَتَّى يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ حَتَّى تَبْدُوَ لَهُ مَنْزِلَةُ الِاخْتِصَاصِ بِعُمَرَ فَكَانَ الْمُغِيرَةُ أَوَّلَ مَنْ رَشَا وَيَرْفَأُ أَوَّلَ مَنِ ارْتَشَى فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْ مِثْلِ هَذَا كُرِهَ الْحُجَّابُ لِأَنَّ الْحَاجِبَ رُبَّمَا فَعَلَ مَا لَا يَرَاهُ الْمُحْتَجِبُ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ حَاجِبَ عُثْمَانَ وَقَنْبَرٌ حَاجِبَ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنهم. (شروط الحاجب) : والشروط المعتبرة فِي هَذَا الْحَاجِبِ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ: فَثَلَاثَةٌ: الْعَدَالَةُ وَالْعِفَّةُ وَالْأَمَانَةُ. وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ: فَخَمْسَةٌ: أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ جَمِيلَ الْمَخْبَرِ عَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ بَعِيدًا عَنِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ مُعْتَدِلَ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الشَّرَاسَةِ وَاللِّينِ. (الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَةُ الْقَضَاءِ فِيهِ) : (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ بَيْنَ الْخُصُومِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُكْرَهُ فِي حَالَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِهِ إِذَا لَزِمَ تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَلَّظَ لِعَانَ الْعَجْلَانِيِّ فِي مَسْجِدِهِ، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْضُرَ الْقَاضِي الصَّلَاةَ فَيَتَّفِقُ حُضُورُ خَصْمَيْنِ إِلَيْهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ تَعْجِيلُ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا فِيهِ قَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 16 ¦ الصفحة: 30 فِي مَسْجِدِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُمْ فِي المسجد لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى الْقَضَاءِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مَجْلِسًا لِقَضَائِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَرَاهَتِهِ رِوَايَتَانِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بن الخطاب مستندا إلى القبلة يقضي بين الناس. وَقَالَ الْحَسَنُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَدْ أَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى كَوْمَةِ خَطَّارٍ وَنَامَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُ سَقَّاءٌ بِقِرْبَتِهِ وَمَعَهُ خَصْمٌ فَجَلَسَ عُثْمَانُ وَقَضَى بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يُكْرَهْ. وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " لَا وَجَدْتَهَا إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ " فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ مَا عَدَاهُمَا فِيهِ. وَرَوَى مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى الْقُضَاةِ أَنْ لَا تَقْضُوا فِي الْمَسَاجِدِ. وَسَمِعَ عُمَرُ رَجُلًا يَصِيحُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؛ وَلِأَنَّ حُضُورَ الْخُصُومِ لَا يَخْلُو مِنْ لَغَطٍ وَمُنَابَذَةٍ وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى سَبٍّ وَمُشَاتَمَةٍ، وَالْمَسَاجِدُ تُصَانُ عَنْ هَذَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْخُصُومِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ لَغَطَ الْخُصُومِ يَمْنَعُ خُشُوعَ الْمُصَلِّينَ، وَسَوَاءٌ صَغُرَ الْمَسْجِدُ أَوْ كَبُرَ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ نَادِرًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 31 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: فِي أَرْفَقِ الْأَمَاكِنِ بِهِ وَأَحْرَاهَا أَنْ لَا تُسْرِعَ مَلَالَتُهُ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُرِيدُ بِأَرْفَقِ الْأَمَاكِنِ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ إِنِ احْتَاجَ فِيهِ إِلَى الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَطَشَ شَرِبَ الْمَاءَ فِيهِ وَإِنْ جَاعَ أَكَلَ فِيهِ الطَّعَامَ، لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يَسْتَغْنِي الْقَاضِي عَنْهَا. وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَأَحْرَاهَا أَنْ لَا تُسْرِعَ مَلَالَتُهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ كَثِيرَ الضَّوْءِ حتى يَنَالَهُ أَذًى فَيَضَّجِرُ وَلَا سَآمَةٌ فَيَمَلَّ لِيَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ. (كَرَاهَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي المساجد) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَأَنَا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ أَكْرَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ مَكْرُوهَةٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَشْهَرُ نَكَالًا وَأَبْلَغُ زَجْرًا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَكَانَتِ الْمَسَاجِدُ بِهَا أَخَصَّ كَالْعِبَادَاتِ. وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَقَدْ رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ تقَام الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَأَنْ يُسْتَقَادَ فِيهَا وَلِأَنَّ الْحُدُودَ رُبَّمَا أَرْسَلَتْ حَدَثًا وَأَنْهَرَتْ دَمًا وَصِيَانَةُ الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَاجِبَةٌ، وَلِأَنَّ صِيَاحَ الْمَحْدُودِ قَاطِعٌ لِخُشُوعِ الْمُصَلِّينَ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْأَمْرَيْنِ مَدْخُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ مَا يخاف من الحدود. (لا يحكم وهو غضبان) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَمَعْقُولٌ فِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ وَلًا يَقْضِي الْقَاضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حِينَ يَحْكُمُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 32 فِي حَالٍ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا خُلُقُهُ وَلَا عقله وَالْحَاكِمُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ فَأَيُّ حَالٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تغير فيها عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ انْبَغَى لَهُ أَنْ لَا يقضي حتى يذهب وأي حال صار إليه فيها سكون الطبيعة واجتماع العقل حكم وإن غيره مرض أو حزن أو فرح أو جوع أو نعاس أو ملالة ترك ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَمِدَ بِنَظَرِهِ الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ سَاكِنَ النَّفْسِ مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ لِيَقْدِرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَيَحْتَرِسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الْأَحْكَامِ. فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِغَضَبٍ أَوْ حَرْدٍ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ وَخُلُقُهُ تَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ احْتِرَازًا مِنَ الزَّلَلِ فِيهِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ ". وَرَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسِجِسْتَانَ: أَمَّا بَعْدُ فَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غضبان ". (لا يحكم إلا وهو شبعان ريان) : فَإِذَا لَحِقَ الْقَاضِي حَالٌ تَغَيَّرَ فِيهَا عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ أَوْ فَهْمُهُ مِنْ غَضَبٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ مَرِضٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ تَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى سُكُونِ نَفْسِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَهُدُوءِ طَبْعِهِ وَظُهُورِ فَهْمِهِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي إِلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ ". وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ مَهْمُومٌ وَلَا مُصَابٌ مَحْزُونٌ، وَلَا يَقْضِي وَهُوَ جَائِعٌ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 33 وَلَمَّا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ وَالصَّلَاةُ لَا تَحْتَاجُ مِنْ الِاجْتِهَادِ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ فَكَانَ مَنْعُ الْأَخْبَثَيْنِ مِنَ الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَأْكُلُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ آخُذُ حُكْمِي ثُمَّ أَخْرُجُ فَأَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْحَاكِمُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ فَأَيُّ حَالٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَ بِهَا عَقْلُهُ أَوْ خُلُقُهُ انْبَغَى لَهُ أَنْ لَا يَقْضِيَ حَتَّى تَذْهَبَ. فَعَلَى هَذَا إِنْ قَضَى فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي مُنِعَ مِنَ الْقَضَاءِ فِيهَا نَفَذَ حُكْمُهُ إِنْ وَافَقَ الْحَقَّ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اسْقِ زَرْعَكَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: اسْقِ زَرْعَكَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الْجَدْرِ فَكَانَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ اسْتَنْزَلَ فِيهِ الزُّبَيْرَ عَنْ كَمَالِ حَقِّهِ ثُمَّ وَفَّاهُ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي وَقَدْ أَمْضَاهُ فِي غَضَبِهِ فَدَلَّ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِهِ. (فصل: استيفاء القاضي حاجاته الأساسية) : فإذا ما ذكرنا فَيُخْتَارُ لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ الْعَامِّ إِلَّا بَعْدَ سُكُونِ نَفْسِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَتَّى تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَعَرَّضَ لِلْأَخْبَثَيْنِ وَيَسْتَوْفِيَ حَظَّهُ مِنَ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ وَيَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَتَّى يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنِ الْحُرُمِ وَيَلْبِسَ مَا يَسْتَدْفِعُ بِهِ أَذَى وَقْتِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَيَفْرَغَ مِنْ مُهِمَّاتِ أَشْغَالِهِ لِئَلَّا يَهْتَمَّ بِمَا يَشْغَلُ خَاطِرَهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ. وَيُصَلِّي عِنْدَ التَّأَهُّبِ لِلْجُلُوسِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي مَسْجِدٍ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحِيَّةً مَسْنُونَةً فَيُصَلِّيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَطَوَّعًا فَيُصَلِّيهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَيَدْعُو اللَّهَ بَعْدَهَا بِمَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ". وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُهُنَّ وَيَزِيدُ عَلَيْهِنَّ أَوْ أَعْتَدِي أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا أَقْضِيَ إِلَّا بِالْعَدْلِ وَيُسْتَحَبُّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 34 أَنْ يَقُولَ هَذَا إِذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي نَظَرِهِ بَعْدَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. (فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِيمَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي بَعْدَ اسْتِقْرَارِ ولايته] ) : فَإِذَا تَصَدَّى لِلْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ وِلَايَتِهِ وَانْقِيَادِ النَّاسِ إِلَى طَاعَتِهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ فِي نَظَرِهِ مَا اخْتَصَّ بِأَمَانَاتِ الْحُكْمِ. وَأَمَانَاتُهُ: مَا يَلْزَمُهُ النَّظَرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مستعد إليه وذلك خمس أمانات: ( [القول في أمانات الحكم] ) : أولا ديوان الحكم: أولها أَنْ يَتَسَلَّمَ دِيوَانَ الْحُكْمِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ أو من أمين إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، وَدِيوَانُ الْحُكْمِ هُوَ حُجَجُ الْخُصُومِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ وَكُتُبِ الْوُقُوفِ لِأَنَّ الْحُكَّامَ يَسْتَظْهِرُونَ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَرْبَابِهَا بِحِفْظِ حُجَجِهِمْ وَوَثَائِقِهِمْ فِي نُسْخَتَيْنِ يَتَسَلَّمُ الْمَحْكُومُ لَهُ إِحْدَاهُمَا وَتَكُونُ الْأُولَى فِي دِيوَانِهِ حُجَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِذَا احْتَاجَ لِيَكُونَ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ. فَإِذَا تَسَلَّمَهَا وَاتَّسَعَ لَهُ الزَّمَانُ تَصَفَّحَهَا وَعَمِلَ بِمُوجَبِ مَا تَضَمَّنَهَا إِذَا دَعَتْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَلَا يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ وَلَا يَحْكُمُ بِخَطِّ الْقَاضِي قَبْلَهُ وَلَا بِخَطِّ نَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يُذَكِّرَهُ لِاشْتِبَاهِ الْخُطُوطِ وَإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَيْهَا. (فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمَحْبُوسِينَ] ) وَالْأَمَانَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمَحْبُوسِينَ. وَلَا يَحْتَاجُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِهِمْ إِلَى مُتَظَلِّمٍ إِلَيْهِ لِعَجْزِ الْمَحْبُوسِينَ عَنِ التَّظَلُّمِ. فَيُنْفِذُ إِلَى الْحَبْسِ ثِقَةً أَمِينًا وَمَعَهُ شَاهِدٌ عَدْلٌ. فَيُثْبِتُ بِالْقُرْعَةِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ وَمَا حُبِسَ بِهِ وَاسْمَ خَصْمِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُمْ. وَيَتَصَفَّحُهُ الْقَاضِي. ثُمَّ يُنَادِي فِي النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِنِ اتسع البلد أو يوما إن صغر: إن القاضي قد بدأ في أمور المحبوسين فمن كان له على محبوس حَقٌّ فَلْيَحْضُرْ فِي يَوْمِ كَذَا وَيُعَيِّنُ لَهُمْ على اليوم. ويكون عقيب فراغه من النداء ليتعجل أمرهم ولا يتأخر فيجعله الْيَوْمِ الرابع من ندائه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 35 فَإِذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ أَقْرَعَ بَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ فِيمَنْ يُقَدِّمُهُ فِي النَّظَرِ، وَلَمْ يُقْرِعْ بَيْنَ الْخُصُومِ، لِأَنَّ نَظَرَهُ لِلْمَحْبُوسِينَ عَلَى خُصُومِهِمْ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقُرْعَةِ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ. فَإِذَا فَرَغَ أَحَدُهُمْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَادَى بِإِحْضَارِ خَصْمِهِ. وَلَا يَفْتَقِرُ فِي إِخْرَاجِ الْمَحْبُوسِينَ إِلَى إِذْنِ خَصْمِهِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ حَابِسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ بَعِيدًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَخْرَجَ بِالْقُرْعَةِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَهُمْ فِي يَوْمِهِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي النَّظَرِ. فَإِذَا تَكَامَلُوا بَدَأَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَسْبَقِ بِالْقُرْعَةِ الْمَاضِيَةِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ قُرْعَةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لِإِخْرَاجِهِ إِنَّمَا كَانَتْ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ ثَانِيًا إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ نَظَرِهِ وَقَدْ لَا يَتَّصِلُ مَعَ الْبُعْدِ إِلَّا بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهِمْ، وَيَتَّصِلُ مَعَ الْقُرْبِ بِإِخْرَاجِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ. فَإِذَا تَقَدَّمَ الْمَحْبُوسُ إِلَيْهِ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فِي الْحَبْسِ وَعَارَضَهُ بِهِ فَإِنِ اتَّفَقَا وَإِلَّا عَمِلَ عَلَى أَغْلَظِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَإِنْ ثَبَتَ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ سَبَبُ حَبْسِهِ قَابَلَهُ بِمَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَمِلَ عَلَى أَغْلَظِ الثَّلَاثَةِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ بِأَحَدِهَا كَانَ لَهُ فِيمَا يذكره من سبب حبسه خمسة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي تَعْزِيرًا لِلَّذِي كَانَ مِنِّي وَلَمْ يَحْبِسْنِي لِخَصْمٍ، فَقَدِ اسْتَوْفَى حَبْسَ التَّعْزِيرِ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مُدَّةَ حَبْسِهِ مَعَ بَقَاءِ نَظَرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُعَزَّرُ لِذَنْبٍ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ. وَلَمْ يُطْلِقْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى يُنَادِيَ فِي النَّاسِ أَيَّامًا بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ رَأَى إِطْلَاقَ فُلَانٍ مِنْ حَبْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ قَدْ حُبِسَ لَهُ فَلْيَحْضُرْ وَلَا يُنَادِي بِأَنْ يَحْضُرَ كُلَّ خَصْمٍ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يُحْبَسْ فِي حَقِّهِ. فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَمْ يَحْضُرْ لَهُ خَصْمٌ أَطْلَقَهُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ أَنَّهُ مَا حُبِسَ بِحَقِّ لخَصْمٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي لِتَعْدِيلِ بَيِّنَةٍ شُهِدَتْ عَلَيَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حَبْسِهِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى تَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى الْقَاضِي الْكَشْفَ عَنِ الْعَدَالَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مَا عَلَى الْقَاضِي مِنْ حَبْسِهِ فِي حق المدعي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 36 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ عَلَى تَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: بِجَوَازِ حَبْسِهِ لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ وَلَا إِعَادَتُهُ إِلَى حَبْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ لِخُصُومِهِ لِبَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ. وَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ حَبْسَهُ لَا يَجُوزُ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَالَ قَدْ حَكَمْتُ بِحَبْسِهِ لَزِمَ حَبْسُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَدْ حَكَمْتُ بِحَبْسِهِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ لَكِنْ لَا يُعَجِّلُ بِإِطْلَاقِهِ حَتَّى يُنَادِيَ فِي النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ حَكَمَ بِإِطْلَاقِ فُلَانٍ مِنْ حَبْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ قَدْ حُبِسَ لَهُ فَلْيَحْضُرْ ثُمَّ يُطْلِقُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي تَعَدِّيًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلِغَيْرِ خَصْمٍ فَقَدِ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْقُضَاةِ وَحَبْسُهُ حُكْمٌ فَلَا يُنْقَضُ إِلَّا بِيَقِينِ الْفَسَادِ وَعَمَلٍ عَلَى بَيِّنَةٍ إِنْ كَانَتْ. فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ حُبِسَ بِحَقٍّ عَزَّرَ فِي جَرْحِهِ لِحَابِسِهِ. وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ حُبِسَ لِظُلْمٍ نَادَى ثَلَاثًا فِي حُضُورِ خَصْمٍ إِنْ كَانَ لَهُ ثُمَّ أَطْلَقَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ. وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَعَادَهُ إِلَى حَبْسِهِ وَيَكْشِفُ عَنْ حَالِهِ وَكَانَ مُقِيمًا فِي حَبْسِهِ حَتَّى يَيْأَسَ الْقَاضِي بَعْدَ الْكَشْفِ مِنْ ظُهُورِ حَقٍّ عَلَيْهِ، وَطَالَبَهُ بِكَفِيلٍ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ قَبْلَ الْحَبْسِ مِنْ جُمْلَةِ الْحُقُوقِ. فَإِنْ عَدَمَ كَفِيلًا اسْتَظْهَرَ فِي بَقَاءِ حَبْسِهِ عَلَى طَلَبِ كَفِيلٍ ثُمَّ أَطْلَقَهُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنِ اسْتِظْهَارِهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ: حَبَسَنِي لِخَصْمٍ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّنِي أَرَقْتُ عَلَيْهِ خَمْرًا أَوْ قَتَلْتُ لَهُ خِنْزِيرًا. فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ بِاسْتِهْلَاكِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ حَبْسُهُ بِهِ ظُلْمًا يَجِبُ إِطْلَاقُهُ مِنْهُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِ غُرْمِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي شَافِعِيًّا لَا يَرَى وُجُوبَ غُرْمِهِ كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَرَاهُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَصَارَ الْقَاضِي الثَّانِي هُوَ الْحَاكِمَ. فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا أَيْضًا لَا يَرَى وُجُوبَ الْغُرْمِ كَالْأَوَّلِ حَكَمَ بِإِطْلَاقِ الْمَحْبُوسِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 37 وَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا وَحَكَمَ بِمَذْهَبِهِ فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ حَكَمَ بِحَبْسِهِ إِنِ امْتَنَعَ. وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ حَنَفِيًّا يَرَى وُجُوبَ الْغُرْمِ وَالْحَبْسِ، فَإِنْ كَانَ رَأْيُ الْقَاضِي الثَّانِي مِثْلَ رَأْيِهِ كَانَ الْمَحْبُوسُ عَلَى حَبْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي رَأْيِهِ يَرَى مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ غُرْمِهِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ الْأَوَّلِ لِنُفُوذِهِ فِي اجْتِهَادٍ مُسَوِّغٍ. وَفِي وُجُوبِ إِمْضَائِهِ عَلَى الثَّانِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهُ وَلَا يَحْكُمَ بِهِ وَيُلْزِمَ الْمَحْبُوسَ حُكْمَ إِقْرَارِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُمْضِيهِ لِبُطْلَانِهِ عِنْدَهُ وَيُعِيدُهُ إِلَى حَبْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ الْقَضَاءَ، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَلَمْ يُطْلِقْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِ، وَأَقَرَّهُ فِيهِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقُولَ حَبَسَنِي لِخَصْمٍ بِحَقٍّ فَيَسْأَلُ عَنْ خَصْمِهِ وَعَنِ الْحَقِّ الَّذِي حُبِسَ بِهِ فَإِذَا أُحْضِرَ وَطَالَبَ لَمْ يَخْلُ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ أَوْ عَلَى بَدَنٍ. فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَالْحَبْسُ بِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لِأَنَّ تَعْجِيلَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ مُمْكِنٌ فَيُسْتَوْفي وَيُخَلَّى بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا: لَمْ تَخْلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدٍ أَوْ عَنْ غَصْبٍ فَإِنِ اسْتَحَقَّ بِعَقْدٍ كَالْمَبِيعِ إِذَا لَمْ يُقْبَضْ حَكَمَ فِيهِ بِمَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْعَقْدِ مِنْ بَقَاءِ الثَّمَنِ أَوْ قَبْضِهِ. وَإِنِ اسْتُحِقَّ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالْمَغْصُوبِ، فَإِنْ ثَبَتَ غَصْبُهُ بِبَيِّنَةٍ حَكَمَ الْقَاضِي بِتَسْلِيمِهِ وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْمُدَّعِيَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِتَسْلِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي الذِّمَّةِ: أَمَرَهُ بِقَضَائِهِ إِنْ كَانَ مَلِيئًا. وَإِنِ ادَّعَى عُسْرَه نَظَرَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ مُقَابَلَةِ مَالٍ صَارَ إِلَيْهِ كَثَمَنِ مَبِيعٍ قَبَضَهُ وَمَالٍ اقْتَرَضَهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَى الْإِعْسَارِ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَالٍ صَارَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قِيمَةٌ لِمُتْلَفٍ أَوْ مَهْرٍ وَصَدَاقٍ قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْعُسْرَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَوَجَبَ إِطْلَاقُهُ بِهَا بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ لِجَوَازِ حُضُورِ خَصْمٍ آخَرَ إِنْ كَانَ لَهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 38 فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لِلْمَحْبُوسِ مَالًا نَظَرَ فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنِ الْبَيِّنَةُ الْمَالَ لَمْ تُسْمَعِ الشَّهَادَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا. وَإِنْ عَيَّنَتِ الْمَالَ وَشَهِدَتْ بِأَنَّ لَهُ هَذِهِ الدَّارَ سُئِلَ الْمَحْبُوسُ عَنْهَا، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا لِنَفْسِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ قَضَائِهِ بَاعَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي وَقَضَى دَيْنَهُ. وَإِنْ أَنْكَرَهَا فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يُقِرَّ بها لغيره فلا يؤثر إنكاره وتابع عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ فَيَقُولُ هِيَ لِزَيْدٍ، فَيُسْأَلُ زَيْدٌ عَنْهَا فَإِنْ أَنْكَرَهَا وَأَكْذَبَهُ فِي إِقْرَارِهِ بِهَا بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ وَوَكَّلَ الْقَاضِي عَنْهُ وَكَيْلًا يَبِيعُهَا عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَلَّى الْقَاضِي بَيْعَهَا مَعَ إِنْكَارِهِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ زيدٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِهَا لَهُ وَادَّعَى مِلْكًا لِنَفْسِهِ قِيلَ لَهُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الدَّارَ لَكَ ملكا؟ فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ بِالدَّارِ دُونَ الْمَحْبُوسِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ بِإِقْرَارِ الْمَحْبُوسِ بَيِّنَةً وَيَدًا فَكَانَ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْمَحْبُوسِ مَعَ زَوَالِ يَدِهِ بِالْإِنْكَارِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَفِي الْحُكْمِ بِهَا لِزَيْدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِهَا لِزَيْدٍ لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ قَدْ أَبْطَلَ بَيِّنَتَهُ بِإِقْرَارِهِ فَبَطَلَتْ شَهَادَتُهَا لَهُ وَصَارَ مُقِرًّا بِهَا لِزَيْدٍ فَلَزِمَ إِقْرَارُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهَا لِزَيْدٍ وَتَكُونَ الدَّارُ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْمَحْبُوسِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ شَهِدَتْ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا كَذَّبَهَا رُدَّتْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَمْ تُرَدَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ. (فصل: [النظر في أمور الأوصياء] ) : وَالْأَمَانَةُ الثَّالِثَةُ: النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْأَوْصِيَاءِ لِمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ مَنْ تَوَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ وَفِي حُقُوقِ مَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَيَنْظُرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَبْدَأُ بِمَنْ يَرَى مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِينَ، لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ نَظَرُ اجْتِهَادٍ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عَلَيْهِمْ لا لهم. وللوصي ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ فَتَلْزَمُهُ فِي حَقِّهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: حِفْظُ أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ. وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ فُرُوعِهَا. وَالثَّالِثُ: النَّفَقَةُ عليهم بالمعروف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 39 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى وِلَايَةِ الْأَطْفَالِ، وَنَظَرَ فِي الْوَصِيَّةِ: فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ سَقَطَ اجْتِهَادُهُ فِيهَا وَصَرَفَ الدَّيْنَ وَالثُّلُثَ فِي الْمُسَمِّينَ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْصُوفِينَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْمَوْصُوفِينَ وَصَارُوا بَعْدَ الدَّفْعِ فِيهَا كَالْمُعَيَّنِينَ فَإِنْ عَدَلَ بِالثُّلُثِ عَنْ أَهْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لَمْ يجزه وإن كانوا أمس حاجة وضمن الثلاث لِأَهْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالصِّفَةِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا، فِي الْأَمْرَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ الْأَطْفَالِ وَتَفْرِيقِ الثُّلُثِ فَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْعَامَّةُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ لَوِ انْفَرَدَ بِهِ. فَإِذَا عَرَفَ الْقَاضِي مَا إِلَى الْوَصِيِّ اخْتَبَرَ حَالَهُ فِي أَمَانَتِهِ وَقُوَّتِهِ: فَسَيَجِدُهُ لَا يخلو فيها من أربعة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا قَوِيًّا وَهُوَ أَكْمَلُ الْأَوْصِيَاءِ حَالًا فَيُقِرُّهُ الْقَاضِي عَلَى وَصِيَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَكُونُ أَمِينًا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَرُّدِ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ أُمَنَائِهِ مَنْ يَقْوَى بِهِ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ لِضَعْفِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَائِنًا فِي الْأَمَانَةِ فَاسِقًا فِي الدِّيَانَةِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقِرَّهُ عَلَيْهَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ ثِقَةً فِي الْأَمَانَةِ فَاسِقًا فِي الدِّيَانَةِ فَيَنْظُرُ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ أَوْ تَفْرِيقِ الثُّلُثِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنِينَ انْتَزَعَهَا مِنْهُ الْقَاضِي وَرَدَّهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ الْعُدُولِ وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ لِمُعَيَّنِينَ أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِمُسَمِّينَ جَازَ أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ فِي تِلْكَ وِلَايَةً وَاجْتِهَادًا وَلَيْسَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِهَا وَهَذِهِ مَقْصُورَةٌ بِالتَّعْيِينِ عَلَى التَّنْفِيذِ دُونَ الِاجْتِهَادِ. فَإِذَا أُبْطِلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْفِسْقِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَرَّفَ فِيهَا أَوْ كَفَّ عَنْهَا. فَإِنْ كَفَّ عَنْهَا وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا رَفعَ الْقَاضِي يَدَهُ عَنْهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا. وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا اعْتَبَرَ حَالَ فِسْقِهِ فَإِنْ كَانَ خَفِيًّا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ نَفَّذَ تَصَرُّفَهُ وَلَمْ يُضْمَنْ إِلَّا بِالتَّعَدِّي مَا لَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِفِسْقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ ظَاهِرًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ رُدَّ تَصَرُّفُهُ وَلَمْ يُنَفَّذْ. فَإِنْ بَاعَ فَسَخَ بَيْعَهُ وَإِنْ فَرَّقَ الثُّلُثَ فِي مُعَيَّنِينَ أَوْ قَضَى دَيْنًا لِمُسَمِّينَ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَمْضَى فِعْلَهُ لِوُصُولِهِ إِلَى مَنْ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ لِمَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 40 وَالْمَسَاكِينِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَضُمَّهُ وَأَغْرَمَهُ مَا فَرَّقَهُ وَرَدَّ تَفْرِيقَ مَا تَغَرَّمَهُ إِلَى أَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِمَا فَرَّقَهُ وَإِنْ صَدَّقُوهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ بِحَقٍّ. (فَصْلٌ: [النَّظَرُ فِي أحوال أمناء القضاة] ) : وَالْأَمَانَةُ الرَّابِعَةُ: النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ أُمَنَاءِ الْقُضَاةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ. وَالثَّانِي: مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالٍ. وَالثَّالِثُ: مَا فَعَلُوهُ فِيهَا مِنْ قَبْلُ وَمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا مِنْ بَعْدُ. وَيَبْدَأُ بِمَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ مَنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَالْأَوْصِيَاءِ. وَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَمِينِ فِيهَا مِنْ أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَقَدْ فَعَلَ مَا جَازَ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَنَفَاذِ قَوْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ فَيَكُونُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَيَرُدُّ مَا فَعَلَهُ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهُ لَمْ يُغَرِّمْهُ، وَإِنْ فَاتَ اسْتِدْرَاكُهُ غَرَّمَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ فَعَلَ مَا جَازَ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ بِفِسْقِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا تَعَيَّنَ وَيَضْمَنُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَالْوَصِيِّ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَجُزْ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ. فَإِنْ وَجَدَ مِنْ أَحَدِ الْأُمَنَاءِ ضَعِيفًا كَانَ فِيهِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ قَوِيًّا مِنْ أُمَنَائِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ إِلَى قَوِيٍّ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ. وَإِذَا ادَّعَى الْأَمِينُ الْوَصِيَّ بِهِ أَنْفَقَ عَلَى الْيَتِيمِ مَالًا أَوْ عَمَّرَ لَهُ عَقَارًا وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي أَحْلَفَهُ عَلَيْهِ. فَإِنِ ادَّعَى فِي مَالِ الْيَتِيمِ أُجْرَةً جَعَلَهَا لَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَهُ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَعْطَاهُ إذا لم تزد عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ. وَإِنْ عُدِمَ الْبَيِّنَةَ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي صَاحِبِ الدَّابَّةِ إِذَا رَكِبَهَا ثُمَّ ادَّعَى إِعَارَتَهَا، وَادَّعَى الْمَالِكُ إِجَارَتَهَا. أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ لِلْأَمِينِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ. إِذَا قِيلَ إِنَّ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أُجْرَتَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِلْأَمِينِ إِذَا قِيلَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أُجْرَتُهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 41 وَعَلَى الْقَاضِي بَعْدَ تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْأُمَنَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ أَنْ يُثْبِتَ فِي دِيوَانِهِ حَالَ كُلِّ أَمِينٍ وَوَصِيٍّ فِيمَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَنْ يَلِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْتَامِ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْجِهَتَيْنِ فَإِنْ وَجَدَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ عَارَضَ بِهِ وَعَمِلَ بِأَحْوَطِهِمَا. (فَصْلٌ: [النَّظَرُ فِي الوقوف العامة والخاصة] ) : وَالْأَمَانَةُ الْخَامِسَةُ: النَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَلِأَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَمْ يَقِفِ النَّظَرُ عَلَى مَطَالِبَ. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ؛ فَلِأَنَّ مُفْضَاهَا إِلَى مَنْ لَا يَتَعَيَّنُ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِيَنْظُرَ هَلْ أَفْضَتْ إِلَيْهِمْ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ مِنْهُمْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ وَلِيَعْلَمَ سُبُلَهَا فَيَحْمِلَ عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا. وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُ الْوَالِي عَلَيْهَا، فَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَوْلِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ وَالْأَسْجَالِ بِهِ عِنْدَ تَطَاوُلِ مُدَّتِهُ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ بَاقِيَةً وَمُثْبَتَةً فِي دِيوَانِهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْأُمَنَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ( [كَرَاهَةُ مُبَاشَرَةِ الْقَاضِي البيع والشراء لنفسه] ) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَأَكْرَهُ لَهُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ خَوْفَ الْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ وَيَتَوَلَّاهُ لَهُ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي خَاصِّ نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِرِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا ". وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ شَرَطَ عَلَيَّ عُمَرُ حِينَ وَلَّانِي الْقَضَاءَ أَنْ لَا أَبِيعَ وَلَا أَبْتَاعَ وَلَا أَرْتَشِيَ وَلَا أَقْضِيَ وَأَنَا غَضْبَانُ، وَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ بِالْخِلَافَةِ خَرَجَ بَعْدَ ثَلَاثٍ بِرِزْمَةِ ثِيَابٍ إِلَى السُّوقِ فَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ أَنَا كَاسِبٌ أَهْلِي فَأَجْرَوْا لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُسَامِحَ وَيُحَابِيَ فَتَمِيلَ نَفْسُهُ عِنْدَ الْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِ إِلَى مُمَايَلَةِ مَنْ سَامَحَهُ وَحَابَاهُ، وَلِأَنَّ فِي مُبَاشَرَتِهِ بِذِلَّةٍ تَقِلُّ بِهَا هَيْبَتُهُ فَكَانَ تَصَاوُنُهُ عَنْهَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 42 أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ رَسُولَهُ مِمَّا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ التُّهْمَةِ فَقَالَ {وما هو على الغيب بضنين} . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ إِلَّا نَادِرًا قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا وَقَالَ لَهُ اخْتَرْ. وَاسْتَامَ مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا لَهُ فَقَالَ هُوَ لك يا رسول الله فقال بل بعينه فَتَمَاكَسَا فِي ثَمَنِهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِينَةَ دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ وَأَعَادَ إِلَيْهِ الْبَعِيرَ وَقَالَ: أَتَظُنُّ أَنَّنِي كَسَبْتُكَ أَيْ غَبِنْتُكَ. فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَحْكَامٍ. مِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِطْلَاعِ فِي الْأَثْمَانِ وَإِنَّ الْمُغَابَنَةَ فِيهَا مُمْضَاةٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مُخَالَفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّ جَابِرًا مَا أَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ مِنْهُ حَتَّى زَادَهُ. فَإِنِ احْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ وَكَّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِهِ، فَإِنْ عُرِفَ اسْتَبْدَلَ بِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَتَّى لَا يُحَابَى فَتَعُودَ المحاباة إليه. فإن لم يحد فِي مُبَاشَرَتِهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بُدًّا وَاحْتَكَمَ إِلَيْهِ مَنْ بَايَعَهُ وَشَارَاهُ اخْتَرْنَا لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِي حُكُومَتِهِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنْظُرُ فِيهَا فَيَكُونَ بَعِيدًا مِنَ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ مِنْ خَصْمِهِ إِنْ بَاشَرَهُ أَوْ إِلَى خَصْمِهِ أَمْيَلَ إِنْ عَاشَرَهُ. فَإِنْ خَالَفَ مَا اخْتَرْنَا وَتَفَرَّدَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ كحكمه في الغصب. ( [حضور القاضي الولائم] ) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْوَلِيمَةِ إِمَّا أَنْ يُجِيبَ كُلًّا وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ كُلًّا ويعتذر ويسألهم التعليل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حُضُورُ الْوَلَائِمِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْ دُعِيت إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ هَلْ يَكُونُونَ فِي حُضُورِ الْوَلَائِمِ مَنْدُوبِينَ إِلَيْهَا كَغَيْرِهِمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ إِلَى حُضُورِهَا مَعَهُمْ لِعُمُومِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " أَجِيبُوا الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 43 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ فَرْضُ الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْوَلِيمَةِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ أَمْرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِيمَا عَدَا الْوُلَاةَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُرْتَزِقًا لَمْ يَحْضُرْ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ زَمَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا غَيْرَ مُرْتَزِقٍ حَضَرَ وَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَرْضًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مُسْتَحَبَّةً يُكْرَهُ لَهُ تَرَكُهَا، وَلَا يَأْثَمُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ مُفَصَّلَةً بِاعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الِارْتِزَاقِ وَالتَّطَوُّعِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَدُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَإِنِ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَحْضُرْ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَنَظَرَ فِي الْمُرْتَزَقِ فَإِنْ قَلَّ زَمَانُ حُضُورِهِ فِيهَا كَالْيَوْمِ أَوْ مَا قَارَبَهُ لَمْ يُلْزِمْهُ رَدَّ شَيْءٍ مِنْ رِزْقِهِ. وَإِنْ طَالَ زَمَانُ حُضُورِهِ لَهَا وَأَقَلُّ زَمَانٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا رَدَّ مِنْ رِزْقِهِ بِقِسْطِ مَا أَخَلَّ بِنَظَرِهِ. وَإِنْ أُمِرَ بِالْحُضُورِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ دُونَ غَيْرِهَا نَظَرَ فَإِنْ كَانَ يَنْقَطِعُ بِهَا عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ كَانَتْ تَكْثُرُ فَتُفْضِي إِلَى الْبِذْلَةِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ وَلَمْ يُجِبْ تَوَفُّرًا عَلَى الْأَحْكَامِ وَحِفْظًا لِلْهَيْبَةِ. وَإِنْ قَلَّتْ: وَلَمْ تَقْطَعْهُ عَنِ النَّظَرِ وَلَا أَفْضَتْ بِهِ إِلَى الْبِذْلَةِ حَضَرَهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَاقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ قَطَعَهُ عَنِ الْحُضُورِ عُذْرٌ فَذَكَرَهُ وَسَأَلَهُمُ التَّحْلِيلَ. وَإِذَا أَجَابَ عَمَّ بِالْإِجَابَةِ كُلَّ دَاعٍ، وَإِذَا امْتَنَعَ عَمَّ بِالِامْتِنَاعِ كُلَّ دَاعٍ وَلَمْ يَخُصَّ بِالْإِجَابَةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ لِظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ فِيهِ وَتَوَجُّهِ الظِّنَّةِ إِلَيْهِ، وَالْأَوْلَى بِهِ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَعُمَّ بِامْتِنَاعِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ السَّرَائِرَ قَدْ خَبُثَتْ وَالظُّنُونَ قَدْ تَغَيَّرَتْ. ( [عِيَادَتُهُ الْمَرْضَى وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَمَقْدَمِ الغائب] ) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَأْتِي مَقْدَمَ الْغَائِبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهَذِهِ قُرَبٌ يُنْدَبُ إِلَيْهَا جَمِيعُ النَّاسِ فَكَانَ الْوُلَاةُ فِيهَا كَغَيْرِهِمْ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَطَلَبُ ثَوَابِهِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفٍ مِنْ مَخَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ " الجزء: 16 ¦ الصفحة: 44 وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَجَابِرًا فِي مَرَضِهِمَا، وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا فِي جِوَارِهِ وَعَرَض عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَجَابَ. وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي فِي الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَعُمَّ وَيَخُصَّ بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ الَّتِي يَعُمُّ بِهَا وَلَا يَخُصُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَائِمَ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي فَاسْتَوَى جَمِيعُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِجَابَةِ وَالْعِيَادَةِ وَحُضُورِ الْجَنَائِزِ مِنْ حُقُوقِهِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الثَّوَابَ فَجَازَ أَنْ يَخُصَّ. وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْوَلَائِمِ ظِنَّةً لَيْسَتْ فِي الْعِيَادَةِ وَالْجَنَائِزِ فَكَانَ الْعُمُومُ فِيهَا مُزِيلًا لِلظِّنَّةِ. وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ مَقْدَمَ الْغَائِبِ يَجُوزُ أَنْ يَعُمَّ بِهِ وَيَخُصَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ خَصْمٌ فَلَا يَأْتِي مَقْدَمَهُ لِئَلَّا تَضْعُفَ بِهِ نَفْسُ خَصْمِهِ بِظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (هَيْبَةُ مَجَالِسِ الحكام وصيانتها) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِذَا بَانَ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لَدَدٌ نَهَاهُ فَإِنْ عَادَ زَجَرَهُ وَلَا يَحْبِسُهُ وَلَا يَضْرِبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يَسْتَوْجِبُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَجْلِسُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ يَتَمَيَّزُ عَنْ مَجَالِسِ غَيْرِهِمْ وَعَنْ مَجَالِسِ أَنْفُسِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: فَضْلُ وَقَارِ الْقَاضِي فِيهَا عَنْ أَنْ يَبْدَأَ أَحَدًا بِكَلَامٍ أَوْ سَلَامٍ أَوْ إِكْرَامٍ وَلْيَكُنْ فِي دُخُولِ جَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَيْهِ مِنْ شَرِيفٍ وَمَشْرُوفٍ مُطْرِقًا فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ مَعَ خُصُومٍ لَهُ بِالْبَصْرَةِ إِلَى قَاضِيهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ فَلَمَّا رَآهُ الْقَاضِي مُقْبِلًا أَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى جَلَسَ مَعَ خُصُومِهِ مَجْلِسَ الْمُتَحَاكِمِينَ فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ قَامَ الْقَاضِي فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: وَاللَّهِ لَوْ قُمْتَ حِينَ دَخَلْتُ إِلَيْكَ لَعَزَلْتُكَ وَلَوْ لَمْ تَقُمْ حِينَ انْقَضَى الْحُكْمُ لَعَزَلْتُكَ. وَإِنَّمَا كَانَ يَعْزِلُهُ بِالْقِيَامِ قَبْلَ الحكم لممايلته، ويعزله بالعقود بَعْدَ الْحُكْمِ لِتَرْكِ حَقِّهِ فَيَكُونُ الْعَزْلُ الْأَوَّلُ مُسْتَحَقًّا وَالثَّانِي أَدَبًا فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُبْعِدَ مَجَالِسَ الْخُصُومِ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْهَيْبَةِ وَالثَّانِي لِئَلَّا تَسْبِقَ إِلَيْهِ تُهْمَةَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا أَوْ يُشِيرَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ. وَلْيَكُنِ الْبِسَاطُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ بِسَاطِ الْخُصُومِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ لَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَحْضُرَ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ الْخُصُومِ إِلَّا مَنْ لَهُ بِالْحُكْمِ تَعَلُّقٌ فَإِنَّنَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 45 نَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَخْلُوَ مَجْلِسُ حُكْمِهِ مِنْ شُهُودٍ وَفُقَهَاءٍ: أَمَّا الشُّهُودُ فَلْيَشْهَدُوا مَا جَرَى فِيهِ مِنْ إِقْرَارٍ وَمَا نَفَذَ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَلْيَرْجِعَ إِلَيْهِمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَلِيُنَبِّهُوهُ عَلَى زَلَلٍ إِنْ كَانَ مِنْهُ، وَلَا يَرُدُّوا عَلَيْهِ مَا يُخَالِفُونَهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَ الْخَصْمِ مَنْ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِي الْمُحَاكَمَةِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَقْعَدِهِمَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا وَكَلَامِهِ لَهُمَا وَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِتَرْتِيبٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا كَلَامٍ كَتَبَ عُمَرُ فِي عَهْدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف مِنْ عَدْلِكَ فَأَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي وَجْهِهِ وَعَدْلِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَلْيَكُنْ جُلُوسُ الْخُصُومِ بَيْنَ يَدَيْهِ جُثَاةً عَلَى الرُّكَبِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ جُلُوسِ غَيْرِ الْخُصُومِ فَيَكُونُ أَجْمَعَ لِلْهَيْبَةِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْخَصْمِ مَقْصُورًا عَلَى الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَكَلَامُ الْقَاضِي مَقْصُورًا عَلَى ال ْمَسْأَلَةِ وَالْحُكْمِ. وَحُضُورُ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَةِ يُسْقِطُ عَنْهُمْ سُنَّةَ السَّلَامِ. فَإِنْ سَلَّمَا جَمِيعًا رَدَّ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا. وَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي فَرْضِ رَدِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَالِ. وَالثَّانِي: يَرُدُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْحَالِ عَلَيْهِمَا مَعًا. وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الرَّدِّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ الْخَصْمَ أَوْقَعَ السَّلَامَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ والله أعلم. (فصل: [لدد الخصوم] ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ آدَابِ مَجْلِسِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ فَكَانَ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لَدَدٌ وَفِي اللَّدَدِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شِدَّةُ الْخُصُومَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الِالْتِوَاءُ عَنِ الْحَقِّ وَمِنْهُ أُخِذَ لَدُودُ الْفَمِ، لِأَنَّهُ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْفَمِ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 46 وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] وَهَذَا قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ، فَيَنْهَى الْقَاضِي الْخَصْمَ عَنْ لَدَدِهِ وَلَا يَبْدَأُهُ قَبْلَ النَّهْيِ بِزَجْرٍ وَلَا زَبْرٍ فَإِنْ كَفَّ بِالنَّهْيِ كَفَّ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ قَابَلَهُ وَغَلَبَهُ بِالزَّجْرِ وَالزَّبْرُ قَوْلًا لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ. وَيَكُونُ زَجْرُهُ وَزَبْرُهُ مُعْتَبَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِحَسَبِ لَدَدِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يُكَفَّ بِالزَّجْرِ وَالزَّبْرِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ حَتَّى عَادَ إِلَى ثَالِثَةٍ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ زَوَاجِرَ الْكَلَامِ إِلَى الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَأَدَبًا يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيهِ بِحَسْبِ اللَّدُودِ وَعَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي لَدَدِهِ شَتْمٌ وَفُحْشٌ وَكَانَ غَمْرًا سَفِيهًا ضَرَبَهُ إِمَّا بِالْعَصَا أَوْ بِالنَّعْلِ عَلَى مِقْدَارِهِ. وَإِنْ كَانَ لَدَدُهُ تَمَانُعًا مِنَ الْحَقِّ وَخُرُوجًا عَنِ الْوَاجِبِ وَكَانَ سَاكِتًا حَبَسَهُ. فَإِنْ جَمَعَ فِي لَدَدِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ جَازَ أَنْ يَجْمَعَ فِي تَعْزِيرِهِ بَيْنَ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ. قَدْ تَحَاكَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزُّبَيْرُ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ بَعْدَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ لِلزُّبَيْرِ فِي شُرْبِ أَرْضِهِ إنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلزُّبَيْرِ أَمِرَّ الْمَاءَ عَلَى بَطْنِهِ وَاحْبِسْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الْجَدْرِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَمِرَّ الْمَاءَ على بطنه تعزيزا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيْلَكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ؟ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْزِيرًا لَهُ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذا هم يسخطون} [التوبة: 58] . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فِي التَّعْزِيرِ عَسُوفًا خَرِقًا وَلَا ضَعِيفًا مَهِينًا وَلْيَكُنْ مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ وَقُورًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ لِأُمُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا رَجُلٌ قَوِيٌّ فِي غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنٌ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائم والله أعلم. ( [القول في مشاورة القضاء] ) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُشَاوِرُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وشاورهم في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 47 الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ الْحَسَنُ إِنْ كَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ لَغَنِيًّا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِذَلِكَ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُشَاوَرَةُ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ لِمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْسِيرِ الْحَسَنِ ولسنة نبيه وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الْمُسْتَشِيرُ مُعَانٌ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " وَقَدْ شَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ بِالْفِدَاءِ وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَأْيٍ أَبِي بَكْرٍ وَفَادَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ، وَالَّتِي بَعْدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " وَشَاوَرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ حَتَّى اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: فِي صُلْحِ الْأَحْزَابِ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا إِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا تُطْمِعْهُمْ فِينَا فَإِنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَى ثَمَرِهِ إِلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى فَامْتَنَعَ وَشَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ وَشَاوَرَ عُمَرُ فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِّ حَتَّى فَرَضَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ. وَشَاوَرَ عُمَرُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ وَفِي الَّتِي أَجْهَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَشَاوَرَ عُثْمَانُ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَلِيلَ الِاسْتِشَارَةِ فِيهَا فَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي عَصْرِهِ عَدِيلٌ يُشَاوِرُهُ وَقِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَاهَدَ اسْتِشَارَةِ قَرِينِهِ فَاكْتَفَى بِهَا، وَأَمَّا اسْتِشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِشَارَتِهِ فِي الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى حسب اختلافهم هل كان لرسول الله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا اسْتَشَارَ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 423] وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيهَا وَقَالَ آخَرُونَ قَدِ اسْتَشَارَهُمْ فِي الدِّينِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 48 وَالْأَحْكَامِ فَمِنْهُ مَا شَاوَرَهُمْ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لِأَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ ذَلِكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالْقَرْنِ فَقَالَ ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالنَّارِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِالنَّهَارِ وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِالرَّايَةِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ مِنَ الْأَذَانِ فَأَخَذَ بِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ. وَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَدِّ الزَّانِي وَالسَّارِقِ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ: " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَاتٌ " حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا مَا أَنْزَلَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيهَا. فَأَمَّا غَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ صَحَابَتِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَائِرِ أُمَّتِهِ فَمُشَاوَرَتُهُمْ تَعُمُّ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ الدِّينِ فَمَا اخْتَصَّ عَنْهَا بِالدُّنْيَا نُدِبَ إِلَيْهِ عَقْلًا وَمَا اخْتَصَّ مِنْهَا بِالدِّينِ نُدِبَ إِلَيْهِ شَرْعًا. (فصل: [في أي المسائل يشاور] ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ. وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ جَلِيٌّ قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِيهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى مُشَاوَرَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: نَوَازِلُ حَادِثَةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ أَوْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهَا، لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ فَيَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ، وَحَكَمَ نُفِّذَ حُكْمُهُ، إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جليا غير محتمل. ( [بين القاضي وأهل الشورى] ) : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشُّورَى إِذَا خَالَفُوهُ فِي حُكْمِهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُوهُ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُسَوِّغًا فِي الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُخَالِفِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفُهُ أَعْلَمَ مِنْهُ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ مُخَالِفِهِ: لِقَوْلِ اللَّهِ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 49 وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَهَدُوا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْعِلْمِ: وَلِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الِاجْتِهَادِ لِتُوَصِّلَهُ إِلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّقْلِيدُ كَالتَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى سُؤَالِ الْمُسْتَشَارِ فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْكَشْفِ. فَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا، لِلضَّرُورَةِ، وَيَحْكُمَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَالمٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يُشْكَلَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ بَعْضِ الْحَوَادِثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي قَضَائِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ إِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزَمٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَا يَعْتَقِدُ لُزُومَهُ. (شُرُوطُ من يشاوره القاضي) : (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وَلَا يُشَاوِرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمُشْكِلُ إِلَّا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذِهِ شُرُوطُ مَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ وَمَجْمُوعِهَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ صَحَّ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي. فَيَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَ الْأَعْمَى وَالْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى وَيُفْتِيَ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُفْتِي شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُخْبِرِ دُونَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَسَلَامَةَ الْبَصَرِ يُعْتَبَرَانِ فِي الشَّاهِدِ وَلَا يُعْتَبَرَانِ فِي الْمُفْتِي وَالْمُخْبِرِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ. وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِخَمْسَةِ أُصُولٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 50 أَحَدُهَا: عِلْمُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُفَسِّرِهِ وَمُجْمَلِهِ وَعُمُومِهِ وخصومه، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِتِلَاوَتِهِ. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَعْرِفَةِ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ وَصِحَّةِ الطُّرُقِ وَالْإِسْنَادِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَا كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَغَيْرِ سَبَبٍ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا مُسْنَدَةً إِذَا عَرَفَهَا مِنْ وُجُوهِ الصِّحَّةِ. وَالثَّالِثُ: عِلْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ لِيَتْبَعَ الْإِجْمَاعَ وَيَجْتَهِدَ فِي الْمُخْتَلِفِ. وَالرَّابِعُ: عِلْمُهُ بِالْقِيَاسِ مَا كَانَ مِنْهُ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَقِيَاسِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَصِحَّةِ الْعِلَلِ وَفَسَادِهَا. وَالْخَامِسُ: عِلْمُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ، لِأَنَّ لِسَانَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَبِيٌّ، فَيَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ، مِنْ صِيغَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَحُكْمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. فَإِذَا أَحَاطَ عِلْمًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَا إِذَا تَبَيَّنَهَا عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ - جَازَ أَنْ يُفْتِيَ وَجَازَ أَنْ يُسْتَفْتَى. وَجَازَ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ، وَسَوَاءٌ وَافَقَ الْقَاضِي عَلَى مَذْهَبِهِ أَوْ خَالَفَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَنِعُ مِنْهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنِ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ. فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لَمْ يَعْمَلْ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالنَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ مُبَاحَثَتِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمَعَانِي وَالِاسْتِنْبَاطِ فَمَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ حَذِرًا مِمَّا يَسْتَحْدِثُهُ مِنْ شُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا انْكَشَفَ بِمُنَاظَرَتِهِ وَجْهُ الصَّوَابِ إِذْ لَيْسَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يُعْمَلُ عَلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ وُضُوحِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ. وَلَا يُعَوِّلُ الْقَاضِي عَلَى مُشَاوَرَةِ الْوَاحِدِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ يَنْكَشِفُ بِمُنَاظَرَتِهِمْ مَا غَمُضَ وَيَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا خَفِيَ وَلَا يُقَلِّدُهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى عِلْمِ الْحَادِثَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَيُوجِبُهُ التَّعْلِيلُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ فِيهِ أَوْ بِدَلَالَةٍ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا أَظْهَرَ منه ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 51 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُشَاوَرَةِ لِلتَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَرُبَّمَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ سُنَّةٌ عَلِمَ بِهَا الْمُسْتَشَارُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَشِيرُ. وَالثَّانِي: لِيَسْتَوْضِحَ بِمُنَاظَرَتِهِمْ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى غَوَامِضِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الْخَوَاطِرِ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَكْمُلُ الِاسْتِيضَاحُ وَالْكَشْفُ فَلِذَلِكَ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا. ( [القول في التقليد] ) : (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". أَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِهِ. وَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ: أُمِرْنَا بِهِ وَضَرْبٌ نُهِينَا عَنْهُ. فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فَالتَّقْلِيدُ فِي الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالمِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ مَشْرُوحًا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا هَذَا. فَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: فَهُوَ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ عِلْمًا، أَوْ يَقْضِي بِهِ حُكْمًا، وَيُفْتِي بِهِ إِخْبَارًا، فَهُوَ مَحْظُورٌ، لَا يَسْتَقِرُّ بِهِ عِلْمٌ، وَلَا يَصِحُّ بِهِ حُكْمٌ، وَلَا تَجُوزُ بِهِ فُتْيَا، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ تَقْلِيدُ مَنْ عَاصَرَهُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ وَسَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمَنْ عَاصَرَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وَجَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ". وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ دُونَ التَّابِعِينَ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 52 وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي ". وَجَوَّزَ آخَرُونَ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَاصَّةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ". وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ، وَوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى أَدِلَّةِ الْأُصُولِ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ عِلْمٌ. وَرُوِي أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ أَوْ وَثَنٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ". فَقَالَ عَدِيٌّ: مَا اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا فَقَالَ: " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا حَلَّ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حُرِّمَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَتِلْكَ الْعِبَادَةُ ". وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَلِّدِ مِنْ أَنْ يُقَلِّدَ جَمِيعَ النَّاسِ أَوْ بَعْضَهُمْ فَإِنْ قَلَّدَ جَمِيعَ النَّاسِ لَمْ يُمْكِنْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ، وَإِنْ قَلَّدَ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَإِنْ رَجَّحَ صَارَ مُسْتَدِلًّا. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ: صِرْتَ إِلَى التَّقْلِيدِ بِدَلِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ فَإِنْ قَالَ بِدَلِيلٍ نَاقَضَ قَوْلَهُ صَارَ مُسْتَدِلًّا وَغَيْرَ مُقَلِّدٍ. وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قِيلَ: فَهَلَّا قَلَّدْتَ مَنْ قَالَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ انْفِصَالًا إِلَّا بِدَلِيلٍ فَبَطَلَ التَّقْلِيدُ بِالدَّلِيلِ. وَفِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاقْتِدَاءِ بِأَصْحَابِهِ مَا يُوجِبُ تَرْكَ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ وَغَيْرِهِ اسْتَدَلُّوا وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. (فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي وجوب النظر في أصول الشرع] ) فَإِذَا تَقَرَّرَ فَسَادُ التَّقْلِيدِ وَجَبَ النَّظَرُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِيَصِلَ إِلَى الْعِلْمِ بِمُوجَبِهَا. وَأَبْطَلَ قَوْمٌ وُجُوبَ النَّظَرِ وَعَوَّلُوا عَلَى الْإِلْهَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] فَحَمَلُوهُ عَلَى إِلْهَامِ الْقُلُوبِ دُونَ اعْتِبَارِهَا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَقَوْلٌ مُطَّرِحٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 53 أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ دُونَ الْإِلْهَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] . يَعْنِي إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهِ، وَإِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِإِلْهَامِ الْقُلُوبِ عِلْمًا بِغَيْرِ أَصْلٍ. ثُمَّ يُقَالُ: لِمَنْ أَثْبَتَ الْمَعَارِفَ بِالْإِلْهَامِ لِمَ قُلْتَ: بِالْإِلْهَامِ فَإِنِ اسْتَدَلَّ نَاقَضَ وَإِنْ قَالَ قُلْتُهُ بِالْإِلْهَامِ فَعَنْهُ سُئِلَ فَيُقَالُ لَهُ انْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ فِي إِبْطَالِ الْإِلْهَامِ وَانْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ بِخِلَافِ إِلْهَامِكَ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِكَ. (فَصْلٌ: [السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى معرفة الأصول الشرعية] ) فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ: لِأَنَّ حُجَجَ الْعَقْلِ أَصْلٌ لِمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ إِذْ لَيْسَ تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأُصُولِ إِلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ إِلَّا بِمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ أَوْ جَوَّزَهُ وَلَمْ يَرِدْ بِمَا حَظَرَهُ الْعَقْلُ وَأَبْطَلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلمُهَا إِلَّا الْعَاقِلُونَ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: 54] يَعْنِي أُولِي الْعُقُولِ. فَصَارَتْ حُجَجُ الْعُقُولِ قَاضِيَةً عَلَى حُجَجِ السَّمْعِ وَمُؤَدِّيَةً إِلَى عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَقْلَ أُمَّ الْأُصُولِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ: وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حُجَجِ السَّمْعِ خَاصَّةً قَالَ الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] لِأَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ إِلَّا بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] فَاحْتَاجَ النَّاظِرُ إِلَى مَعْرِفَةِ لِسَانِهِمْ، وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَبَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَبَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَبَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ، وَبَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَيَعْرِفُ صِيغَةَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. فَإِنْ قَصُرَ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ النَّظَرُ. وَلَسْنَا نَعْنِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ لُغَتِهِمْ وَإِعْرَابِ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ يَقْطَعُهُ عَنْ عِلْمِ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ وَمَشْهُورِ خِطَابِهِمْ وَهُوَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 54 مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ النَّظَرَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْعِلْمِ فَالَّذِي يَلْزَمُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا يَجِبُ أَنْ يَتْلُوَهُ فِي صَلَاتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِذَا جَمَعَ النَّاظِرُ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ عِلْمِ الْحَوَاسِّ وَلِسَانِ الْعَرَبِ صَحَّ مِنْهُ النَّظَرُ فِي الْأُصُولِ وَكَانَا أَصْلَيْنِ فِي الْعِلْمِ بِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ مَا دَلَّ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفَرْعُ مَا دَلَّ عليه غيره. فعلى هذا الْعِبَارَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكِتَابِ إنَّهُ فَرْعٌ لِعِلْمِ الْحِسِّ، لِأَنَّهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَصْلُ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعُ مَا تَفَرَّعَ عَنْ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ إنَّهُ فرع لعلم الحسن، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا دَلَّ العقل عليه. (فصل: [الأصول الشرعية] ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ أَرْبَعَةٌ: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أولا: الكتاب. فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ: الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] . (ما يشتمل عليه الكتاب) : وَكِتَابُ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ. وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِخْبَارٌ لِعِلْمِهِ بِمَا كَانَ وَيَكُونُ. وَمَا وَرَدَ فِيهِ عَلَى صِيغَةِ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِفْهَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ تَقْرِيرٌ أَوْ وَعِيدٌ. وَقَدْ حُدَّ مَا فِيهِ بِأَخَصَّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِعْلَامٍ وَإِلْزَامٍ. فَالْإِعْلَامُ: وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَلَيْسَ يَخْلُو مَا فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ. وَالْإِلْزَامُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ. فَالْأَمْرُ مَا تُعُبِّدَ بِفِعْلِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 55 والنهي ما تعبد بتركه. (أقسام الأمر) : وَالْأَمْرُ: يَنْقَسِمُ بِالْقَرَائِنِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَاسْتِحْبَابٌ وَمُبَاحٌ. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ كَانَ مَحْمُولًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْإِبَاحَةِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ لِاحْتِمَالِهِ. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى، لِفِرَقِ مَا بَيْنَ وُرُودِ الأمر وعدمه. (أقسام النهي) : وَالنَّهْيُ يَنْقَسِمُ بِالْقَرَائِنِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: تَحْرِيمٌ وَكَرَاهَةٌ وَتَنْزِيهٌ: فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ كَانَ مَحْمُولًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَفَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَصْرِفَهُ دَلِيلٌ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا يُجْعَلُ مُوَقَّتًا إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّرَاخِي إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَفِيمَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْأَمْرِ مِنَ الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ كَالنَّهْيِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَاخِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْفَوْرِ. وَقَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَيُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْأَمْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّسْخُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ نَسْخٌ كَالْخَبَرِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ فَكَانَ عَلَى حُكْمِهِ. وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْرَارِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَفِي دُخُولِ الْعَبِيدِ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَدْخُلُونَ فِيهِ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 56 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ وَعِيدًا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ كَالْأَحْرَارِ وَلَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ تَضَمَّنَ مِلْكًا أَوْ عَقْدًا أَوْ وِلَايَةً خَرَجُوا مِنْهُ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِاللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ تَوَجَّهَ إِلَى الرِّجَالِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ النِّسَاءُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا لَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُؤَنَّثِ تَوَجَّهَ إِلَى النِّسَاءِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الرِّجَالُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنِ افْتِرَاقِهِمَا فِي اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ دَلِيلٌ يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ اللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ. وَأَمَّا مَا تَضَمَّنَتْهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا لَمْ يَقُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ لَمْ يَلْزَمْنَا حُكْمُهُ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ لَزِمَنَا مِنْهُ مَا شَرَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] . وَفِي لُزُومِ مَا شَرَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ لِكَوْنِهِ حَقًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ وليس في أصله منسوخا. (فَصْلٌ) : وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي الْأَحْكَامِ قِيلَ إِنَّهَا خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ. تَنْقَسِمُ سِتَّةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ. وَالثَّانِي: الْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ وَالثَّالِثُ: الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ. وَالرَّابِعُ: الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَالْخَامِسُ: الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ. وَالسَّادِسُ: النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ. ( [القسم الأول: العموم والخصوص] ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ: فَالْعُمُومُ هُوَ الْجَمْعُ وَالِاشْتِرَاكُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ عَمَّ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 57 وَأَقَلُّ الْعُمُومِ ثَلَاثَةٌ هِيَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَمَنْ جَعَلَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ جَعَلَهُمَا أَقَلَّ الْعُمُومِ. وَالْخُصُوصُ: هُوَ الِانْفِرَادُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ مَخْصُوصٌ بِالشَّجَاعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَشْجَعُ مِنْهُ. وَأَقَلُّ الْخُصُوصِ وَاحِدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ مَخْرَجًا لِأَقَلِّ الْعُمُومِ وَأَكْثَرِهِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَى الْبَاقِي اسْمُ الْعُمُومِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ الْمَخْصُوصُ غَيْرَ مُرَادٍ بِالْعُمُومِ بِخِلَافِ النَّسْخِ وَيَصِيرُ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ هُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ الْمَخْصُوصِ. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ. وَمَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَخْصِيصِ مَا أُكِّدَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ كَوُجُودِهِ مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا الْأَحْوَالُ: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ الْعُمُومُ مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ أَوْ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ مَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورسوله} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33، 34] فَخَصَّ مِنْ عُمُومِ الْقَتْلِ التَّائِبَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ التَّخْصِيصُ. الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُطْلَقًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُوجِبُهُ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا، وَالْوَاجِبُ فِيهِ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ كَالْمُجْمَلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اجْتِهَادٍ امْتِثَالًا لِمُوجَبِ الْأَمْرِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 58 غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا نَظَرٍ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ مُجْمَلٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ جَلِيٌّ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ خَفِيٌّ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِمُطْلَقِ الْعُمُومِ صِيغَةً تُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ فِي أَدِلَّةِ تَخْصِيصِهِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يَخُصُّهُ اسْتُعْمِلَ بَاقِيهِ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَخُصُّهُ أُجْرِيَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ النَّظَرِ وَلَا يَصِيرُ مُجْمَلًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مُتَكَافِئُ الِاحْتِمَالِ وَبَعْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مُتَرَجِّحُ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ لِزَمَانِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبِرٌ بِمَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجَاءِ وَالْإِيَاسِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَدِلَّةُ التَّخْصِيصِ تُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ. فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إِيجَابَ الْعِدَّةِ عَلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَخَصَّ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 46] . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] خَصَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ " وَلَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا أَكْثَرَ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ. وَخَصَّتْهُ السُّنَّةُ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ وَالْكَافِرَ لَا يَرِثَانِ فَصَارَا بَعْضَهَا مَخْصُوصًا بِالسُّنَّةِ وَبَعْضَهَا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ثَمَّ خُصَّتِ الْأَمَةُ بِنِصْفِ الْحَدِّ نَصًّا بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ثُمَّ خُصَّ الْعَبْدُ بِنِصْفِ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى الْأَمَةِ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِالْكِتَابِ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ثُمَّ خَصَّ الْإِجْمَاعُ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَخَصَّ الْقِيَاسُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقران قِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ فَصَارَ بَعْضُ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ وَبَعْضُهَا مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 59 ( [القول في تخصيص العموم بِالْقِيَاسِ] ) وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَجْهَانِ. فَإِذَا عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ أَدِلَّةَ التَّخْصِيصِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ عَلَى الْعُمُومِ. فَإِذَا خُصَّ الْعُمُومُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَدِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ مِنَ الْعُمُومِ وَلَمْ يَجُزِ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَاقِي مِنَ الْعُمُومِ. مِثَالُهُ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 37] لَمَّا خَصَّ مِنْهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ كَثَرٍ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِيسَ عَلَى قَطْعِ السَّارِقِ قَطْعَ مَنْ لَيْسَ بِسَارِقٍ، وَجَازَ أَنْ نَقِيسَ عَلَى سَارِقِ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ سَارِقَ غَيْرِ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ عَنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعُمُومَ لَمَّا ضَعُفَ حُكْمُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ اسْمِهِ ضَعُفَ مَعْنَاهُ عَنِ اجْتِذَابِ غَيْرِهِ وَالْمَخْصُوصُ لَمَّا قَوِيَ حُكْمُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ اسْمِهِ قَوِيَ مَعْنَاهُ عَلَى اجْتِذَابِ غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ قَاسَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ وَهُوَ مَخْصُوصُ تَحْرِيمِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَلَمْ يَقِسْهُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعُمُومِ فِي الْإِبَاحَةِ. (فَصْلٌ: [القسم الثاني وهو المفسر والمجمل] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ فَالْمُفَسَّرُ هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ بِهِ. وَالْمُجْمَلُ هُوَ مَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الْمُرَادُ بِهِ. وَمِثْلُهُ فِي الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43 / النساء: 4، 7 / النور: 56 / المزمل: 20] . وَمِثْلُهُ فِي السُّنَّةِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ". فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ خِطَابُهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ مِنَ الْمُجْمَلِ؟ قِيلَ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَكُونَ إِجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنُّفُوسِ عَلَى قَبُولِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِبَيَانِهِمَا جَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ مِنْهُمَا وَلَا تَنْفِرُ مِنْ إِجْمَالِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا خَفِيًّا؛ لِيَتَفَاضَلَ النَّاسُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 60 فِي الْعِلْمِ بِهَا، وَيُثَابُوا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا. كَذَلِكَ جَعَلَ مِنْهَا مُفَسَّرًا جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا مُجْمَلًا خَفِيًّا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَالُ فِي الْحُكْمِ الْمُبْهَمِ. فَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فَمِثْلُ الْقَرْءِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالشَّفَقُ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، وَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبِ وَالزَّوْجِ. فَإِنِ اقْتَرَنَ بِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أُخِذَ بِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عَمِلَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَعُرْفٍ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُمَا وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا مِنْهُ لِإِمْكَانِ اسْتِنْبَاطِهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الْحُكْمِ الْمُبْهَمِ: فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ إِجْمَالُهُ فِي لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43 - النساء: 77 - النور: 56 - المزمل: 20] {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] . والثاني: كما كَانَ إِجْمَالُهُ بِغَيْرِهِ. مِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَالرِّبَا صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ صَارَ بِهِ الْبَاقِي مِنَ الْبُيُوعِ مُجْمَلًا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الرِّبَا. وَمِثَالُهُ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصُّلْحُ جَائِزٌ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا " وَكِلَا الضَّرْبَيْنِ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ يُفْهَمُ بِهِ الْمُرَادُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَلْزَمُ التَّعَبُّدُ بِهِ قَبْلَ بَيَانِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ قَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَتَعَبَّدَهُمْ بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْلَ بَيَانِهَا. وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ بِالْتِزَامِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ قَبْلَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُجْمَلًا وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسَّرًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْبَيَانُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُجْمَلِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 61 أَحَدُهُمَا: مَا وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] فَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَأُجْمِلَ ذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فَأُجْمِلَ قَدْرُ النَّفَقَةِ فِي أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيرِهَا فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ السَّمْعِ فَبَيَانُهُ سَاقِطٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمَشْهُورَةِ، سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَوَكَلَهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعُمَرَ فِي الْكَلَالَةِ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَرَدَّهُ إِلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمُجْمَلِ: مَا يَفْتَقِرُ بَيَانُهُ إِلَى السَّمْعِ، كَقَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا يُوصَلُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنْ نَصٍّ مَسْمُوعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِ تَنْفِيذِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ بَيَانُ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَالِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ مُعَاذًا أَخَّرَ بَيَانَ الزَّكَاةِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ وَلِيَحْتَرِزَ بِتَعْجِيلِهِ مِنِ اخْتِرَامِ الْمَنِيَّةِ لِلرَّسُولِ الْمُبينِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 62 (فصل: [القسم الثالث بيان المطلق والمقيد] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ: فَهُوَ أَنْ يَرِدَ الْخِطَابُ مُقَيَّدًا بِحَالٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ ثُمَّ يَرِدُ مِنْ جِنْسِهِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا شَرْطٍ. وَالْكَلَامُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَيَّدِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: فِي الْمُطْلَقِ هَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ مَنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ: فَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ تَقْيِيدُهُ بِالْوَصْفِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَيَنْتَفِي بِعَدَمِهِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سفر} إِلَى قَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فَكَانَ تَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسِّفَرِ شَرْطًا فِي إِبَاحَتِهِ وَكَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] فَكَانَ الْعَدَمُ شَرَطًا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ إِلَى نَظَائِرِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ فِيمَا كَانَ مَعْنَاهُ خَاصًّا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ الْوَصْفُ الْمُقَيَّدُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الْأَصْلِ وَيَعُمُّ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْقَصْرِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْأَمْنِ وَكَقَوْلِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَلَيْسَ الْعَمْدُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْخَاطِئِ وَالْعَامِدِ وَكَقَوْلِهِ فِي تَحْرِيمِ المناكح: {وربائبكم اللائي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] وَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْحِجْرِ شَرْطًا فِي الْحَظْرِ لِتَحْرِيمِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَهَذَا الْقِسْمُ فِيمَا كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُقَيَّدِ. فَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا كَالْقِسْمِ الثَّانِي سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ. وَأَنْكَرَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَمِنْهُمْ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ هَذَا الْقِسْمَ وَأَجْرَوْا جَمِيعَ الْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَجَعَلُوهُ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ يَثْبُتُ بِوُجُودِهِ وَيَسْقُطُ بِعَدَمِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 63 وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مَعْنَى الْأَصْلِ فِي عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ، لِاعْتِمَادِهِمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي. وَلِأَنَّ النَّصَّ لَا يُرْفَعُ بِالتَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا بِهَا: وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حُكْمُ هَذَا التَّقْيِيدِ الْمَشْرُوطِ لَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ أَصْلِهِ. وَلَوِ اسْتَقَرَّ أَصْلُ هَذَا لَسَقَطَتْ أَحْكَامُ النُّصُوصِ كُلُّهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَدْفُوعٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَلَيْسَ يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مَعَ أَمْنِ الْإِمْلَاقِ كَمَا لَا يُسْتَبَاحُ مَعَ وُجُودِهِ. وَقَالَ {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] وَلَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ تُحَصُّنًا. وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْلِمَ فِيهِنَّ وَلَا فِي غَيْرِهِنَّ. فَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا وَلَمْ يَصِرْ نَسْخًا جَازَ أَنْ يَسْقُطَ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا، فَإِنْ خُصَّ هَذَا بِدَلِيلٍ فَقَدْ جَعَلُوا لِلدَّلِيلِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ التَّقْيِيدِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ صَارَ لَغْوًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ. قِيلَ: يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَأْخُوذًا مِنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نصا فإن أكثر الحوادث غير نصوص. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ عَلَى الْكَثِيرِ وَنَبَّهَ بِالدِّينَارِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيهِمَا سَوَاءً. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُوَ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَإِنْ كَانَتْ مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْخَوْفِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنَ الْمُفَادَاةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْخَوْفِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 64 وَإِذَا احْتُمِلَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَغَيْرُهَا صَارَ وُجُودُ التَّقْيِيدِ مُقَيَّدًا مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَغْوًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ النَّظَرُ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ. فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَجَازَ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ. وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَجُعِلَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حكمه فهذا حكم المقيد. ( [والفصل الثاني] ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُطْلَقِ الْوَارِدُ مِنْ جِنْسِ الْمُقَيَّدِ إِذَا جُعِلَ التَّقْيِيدُ شَرْطًا فِي الْمُقَيَّدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ جِنْسِهِ. فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّيُونِ وَالْعُقُودِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] عَلَى الشَّهَادَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَصَارَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي كُلِّ شَهَادَةٍ. وَلِاعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مَا حَمَلَ إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِ جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلِ الْعِتْقَ فِيمَا عَدَا كَفَّارَةَ الْقَتْلِ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ حَمْلًا عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ حُكْمِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أُطْلِقَ. وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ. وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَالَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَيَعْدِلُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَالِاجْتِهَادِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي. وَيَصِيرُ احْتِمَالُهُ لِلْأَمْرَيْنِ مُبْطِلًا لِحُكْمِ النَّصِّ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصٍ أَوْ عُمُومٍ. وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ عَائِدًا إِلَيْهَا وَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 65 يَعْدِلُ بِالِاحْتِمَالِ إِلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ حُكْمُ النَّصِّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ بِهِ. وَالَّذِي عِنْدِي وَأَرَاهُ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ فِي الْمُطْلَقِ أَنْ يَعْتَبِرَ غِلَظَ حُكْمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَلَمْ يُقَيَّدْ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إِلْزَامٌ وَمَا تَضَمَّنهُ الْإِلْزَامُ لَمْ يَسْقُطِ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَوَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِطْلَاقِ الصِّفَةِ وَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي إِطْلَاقِ الْأَصْلِ. مِثَالُهُ: أَنَّ مَسْحَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ مُطْلَقٌ وَفِي الْوُضُوءِ تَقَيَّدَ بِالْمِرْفَقَيْنِ فَحُمِلَ إِطْلَاقُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِهِمَا فِي الْوُضُوءِ بِالْمِرْفَقَيْنِ وَأُطْلِقَ ذِكْرُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ وَذُكِرَا فِي الْوُضُوءِ فَلَمْ يُحْمَلْ تَرْكُ ذِكْرِهِمَا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى إِثْبَاتِ ذِكْرِهِمَا فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرَافِقِ صِفَةٌ وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الصِّفَةِ وَالْأَصْلِ مَعًا، وَجَعَلَ إِطْلَاقَ ذِكْرِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مَحْمُولًا عَلَى ذِكْرِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَأَوْجَبَ فِيهِمَا إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، كَمَا حَمَلَ إِطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بالأيمان في كفارة القتل. وفي إِثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ. فَإِذَا ثَبَتَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْعِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا شَرْعًا مَنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ. وَإِذَا وَرَدَ مُقَيِّدَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأُطْلِقَ ثَالِثٌ مِنْ جِنْسِهِمَا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَلَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمُقَيَّدَيْنَ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَحَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَيَّدِينَ عَلَى تَقْيِيدِهِ. وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ فَيُنْظَرُ فِي صِفَتَيِ التَّقْيِيدِ فِيهِمَا. فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُحْمَلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَتِهِ الَّتِي قُيِّدَ بِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ تَقْيِيدِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ، وَتَقْيِيدِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 66 بِالتَّفْرِقَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِقَةِ فَيُخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِصِفَتِهِ. وَإِنْ أُمْكِنَ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ وَلَمْ يَتَنَافَيَا فَفِي حَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيِّدِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَتَقْيِيدِ نَظِيرِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَتَيْنِ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَا أُطْلِقَ مِنْ جِنْسِهِمَا عَلَى تَقْيِيدِهِمَا مَعًا وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَجَانِسَةِ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ. (فَصْلٌ: [الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ: فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَات تَجَرَّدَ عَنْ نَفْيٍ. وَالثَّانِي: نَفْي تَجَرَّدَ عَنْ إِثْبَاتٍ. وَالثَّالِثُ: مَا اجتمع فيه نفي وإثبات. ( [القول في الإثبات المتجرد عن النفي] ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نَفْيٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ فَيَكُونُ إِثْبَاتُهُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ كَقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ "، وَكَقَوْلِهِ: " إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعَمَلِ بِالنِّيَّةِ مُوجِبًا لِنَفْيهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ مُوجِبًا لِنَفْيِهِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ. وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ جَوَابًا أَوِ ابْتِدَاءً. لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي النَّفْيِ بِهِ هَلْ هُوَ بِلَفْظِ النُّطْقِ أَوْ بِدَلِيلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ النَّفْيَ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ هُوَ دَلِيلُ اللَّفْظِ دُونَ اللَّفْظِ فَيَكُونُ دَلِيلُ الْخِطَابِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا لَفْظَةُ تَحْقِيقٍ فَجَرَتْ مَجْرَى التَّأْكِيدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا أَوْجَبَتِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِنَّمَا " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتٍ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَجَرَّدَ الْإِثْبَاتُ عَنْ حَرْفِ التَّحْقِيقِ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَكَقَوْلِهِ " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَلِمَخْرَجِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسَائِلٍ عَنِ الزَّكَاةِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: " فِي سَائِمَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 67 الْغَنَمِ زَكَاةٌ " وَلِسَائِلٍ عَنِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَقَالَ: " الْقُطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِثْبَاتُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ السُّؤَالِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ مُبْتَدِئًا: " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ " و " الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ " فَيَكُونُ هَذَا الْإِثْبَاتُ نَفْيًا لِمَا عَدَاهُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصٍ هَذَا بِالذِّكْرِ مِنْ مُوجِبٍ فَلِمَا خَرَجَ عَنِ الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ. وَإِذَا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُوجِبِ نَفْيِهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَلْ أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الخطاب شرعا. ( [القول في النفي المتجرد عن الإثبات] ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي النَّفْيِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ إِثْبَاتٍ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ مَا عداه كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْتَدِئَ به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولُ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ " فَدَلَّ عَلَى قَبُولِهَا بِالطَّهُورِ وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ مَا عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا. وَإِذَا كَانَ حُكْمُ النَّفْيِ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْجَوَازِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ حُمِلَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ لِعُمُومِهِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ " فَكَانَ هَذَا النَّفْيُ مَانِعًا مِنْ أَجْزَائِهَا. فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ حُمِلَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي مَسْجِدِهِ " لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَجْزَائِهَا حُمِلَ عَلَى نفي كمالها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 68 ويجيء على مذهب من قال بوقف المحتمل بجعل هذا موقوفا لأنه محتمل. ( [القول فيما اجتمع فيه نفي وإثبات] ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الْجَامِعُ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِثْنَاءُ. وَالثَّانِي: الشَّرْطُ. والثالث: الغاية. ( [النوع الأول: الاستثناء] ) : فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ: فَالْمُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْضُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ رُفِعَ جَمِيعُهُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ لِيَصِحَّ بِهِ خُرُوجُ بَعْضِهِ. فَإِنْ عَادَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَأَبْطَلَهُ آخَرُونَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَبَيَانُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَوَازِهِ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ هُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا فَلَا يُجْعَلُ لَفْظُ الدِّينَارِ اسْتِثْنَاءً مِنْ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَا يُجَانِسُهَا وَإِنَّمَا تُجْعَلُ قِيمَتُهُ مُسْتَثْنَاةً مِنَ الدَّرَاهِمِ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا فَصَارَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ضِدَّ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ إِثْبَاتًا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ نَفْيًا صَارَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا. وَإِنْ عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى جُمَلٍ مَذْكُورَةٍ تَقَدَّمَتْهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعْضِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 36] فَكَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَّا أَنْ يَعُمَّهُ دَلِيلٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فَرَجَعَ ذَلِكَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الدِّيَةُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 69 شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} [النور: 4 - 5] . أن التوبة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْفِسْقِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَرْجِعُ إِلَى الْفِسْقِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ اعْتِبَارًا بِالْعُمُومِ. وَلَا تَرْجِعُ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا إِلَى الْجَلْدِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِبُعْدِهِ عَنْ أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِخُرُوجِهِ بِدَلِيلٍ: وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ {إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] عَائِدًا إِلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَجَعَلَهُ عَائِدًا إِلَى الدِّيَةِ لِسُقُوطِهَا بِالْعَفْوِ. (فَصْلٌ: [النوع الثاني: الشرط] ) وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْطُ: وَالشَّرْطُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أَيْ عَلَامَاتُهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَ صَاحِبَ الشَّرْطِ لِتَمَيُّزِهِ بِعَلَامَتِهِ. وَالشَّرْطُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لِوُجُوبِهِ. فَإِذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِشَرْطٍ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَانْتَفَى بِعَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَيَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ. فَوَجْهُ اجْتِمَاعِهِمَا أَنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ حُكْمًا وَيَنْفِي حُكْمًا. وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا: أَنَّ الشَّرْطَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَرُبَّمَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِشَرْطٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إِثْبَاتٌ وَلَا نَفْيٌ. وَيَصْرِفُهُ الدَّلِيلُ عَمَّا وُضِعَ لَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى مَا قَصَدَ بِهِ مِنَ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وَحَقُّهَا فِي الْعِدَّةِ مَعَ وُجُودِ الرِّيبَةِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ. فَإِنْ تَجَرَّدَ الشَّرْطُ عَنْ دَلِيلٍ حُمِلَ عَلَى مُوجَبِهِ فِي النفي والإثبات. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 70 فَإِنْ عُلِّقَ الشَّرْطُ بِجُمَلٍ مَذْكُورَةٍ عَادَ إِلَى جَمِيعِهَا مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ. وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَائِدًا إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أوسط ما تطعمون أهلكم أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَلَا يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مذكور من تحرير الرقبة. (فصل: [النوع الثالث: الغاية] ) وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْغَايَةُ: فَهِيَ حَدٌّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . فَكَانَ الْفَجْرُ حَدًّا لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ قَبْلَهُ وَتَحْرِيمِهِ بَعْدَهُ، فَتَعَلَّقَ بِالْغَايَةِ إِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَهُ، وَلِانْتِفَائِهِ قَبْلَهُ، وَالْغَايَةُ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَلِانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا. فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْغَايَةِ شَرْطٌ تَعَلَّقَ الْإِثْبَاتُ بهما والنفي بأحدهما كقوله تعالى: {فلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَهَذَا غَايَةٌ ثُمَّ قال {فإذا تطهرن فأتوهن} وَهَذَا شَرْطٌ فَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِثْبَاتِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْغَايَةِ، فَلَا يُسْتَبَاحُ وَطْؤُهُنَّ إِلَّا بِالْغُسْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَتَنْتَفِي الِاسْتِبَاحَةُ بِعَدَمِهَا أَوْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ. (فَصْلٌ: [القسم الخامس: المحكم والمتشابه] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ: فَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْكَمَ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهَ الْمَنْسُوخُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحْكَمَ الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْمُتَشَابِهَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ وَالْمُتَشَابِهَ الَّذِي تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ وَفَهِمُوا مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَمْ يَكُنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 71 لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ: كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولِ عِيسَى، وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ: مَا أَحْكَمَ اللَّهُ بَيَانَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، فَلَمْ تُشْتَبَهْ مَعَانِيهِ وَالْمُتَشَابِهَ: مَا اشْتُبِهَتْ مَعَانِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهَ مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً وَالْمُتَشَابِهَ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ. وَهَذَا مُحْتَمَلٌ. وَفِي قَوْلِهِ {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْآيَ الَّتِي فِيهَا الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْمَقْصُودِ وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ فَوَاتِحَ السُّوَرِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْقُرْآنُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي فَاخِتَةَ. وَالثَّالِثُ: أَرَادَ أَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ فَيَصِيرُ الْأَصْلُ لِفُرُوعِهِ كَالْأُمِّ لِحُدُوثِهَا عَنْهُ فَلِذَلِكَ سماه أم الكتاب. وهذا محتمل. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: شَكٌّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: ميل. {فيتبعون ما تشابه منه} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْأَجَلُ الَّذِي أَرَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَعْرِفَهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحِسَابِ الْجُمَلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْرِفَةُ عَوَاقِبِ الْقُرْآنِ في العلم بورود النسخ قبل وقته. {ابتغاء الفتنة} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الشِّرْكُ قَالَهُ السدي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 72 وَالثَّانِي: أَنَّهُ اللَّبْسُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إفساد ذات البين. {وابتغاء تأويله} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّأْوِيلَ التَّفْسِيرُ. وَالثَّانِي: أنه العاقبة المنتظرة. {وما يعلم تأويله إلا الله} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَأْوِيلُ جَمِيعِ الْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ فِيهِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَفِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَأْوِيلَهُ وَقْتُ حُلُولِهِ، وَهَذَا قول بعض المتأخرين: {والراسخون في العلم} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي الثَّابِتِينَ فِيهِ، وَالْعَامِلِينَ بِهِ. وَالثَّانِي: يَعْنِي الْمُسْتَنْبِطِينَ لَهُ، وَالْعَالِمِينَ بِهِ. وَفِيهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ جَمِيعًا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به} . {كل من عند ربنا} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّنَا. والثاني: أنا مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَهُ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا اسْتِدْعَاءً لِلنَّظَرِ مِنْ غَيْرِ اتِّكَالٍ عَلَى الْخَبَرِ لِيَتَبَيَّنَ التَّفَاضُلُ وَيَسْتَجْزِلَ الثَّوَابُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 73 وَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: " حَلَالٌ فَاتَّبِعْهُ، وَحَرَامٌ فَاجْتَنِبْهُ، وَمُتَشَابِهٌ يُشْكَلُ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ ". وَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْلَامِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مُحْكَمٌ فِي أَحْوَالِهِ. وَالثَّانِي: مُتَشَابِهٌ فِي أَحْوَالِهِ. وَالثَّالِثُ: مُتَشَابِهٌ فِي حَالٍ وَمُحْكَمٌ فِي حَالٍ. وَالرَّابِعُ: مُحْكَمٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُحْكَمُ فِي الْأَحْوَالِ فَضَرْبَانِ: مَفْهُومٌ، وَمَعْقُولٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى فِكْرٍ، وَالْمَعْقُولُ مَا احْتَاجَ إِلَى فِكْرٍ. وَالْمَفْهُومُ: ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فُهِمَ صَرِيحُ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْمَنَاكِحِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ. وَالثَّانِي: مَا فُهِمَ بِمَخْرَجِ خِطَابِهِ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فَدَلَّ وَضْعُ الْخِطَابِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَالْمَعْقُولُ: ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا عُلِمَ بِالتَّنْبِيهِ كَقَوْلِهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] نَبَّهَ بِثُلُثِ الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ. وَالثَّانِي: مَا عُلِمَ بِالِاسْتِدْلَالِ: مِثْلُ تَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَمْلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14] دَلَّ بِقَوْلِهِ {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا هُوَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ. فَهَذِهِ الضُّرُوبُ الْأَرْبَعَةُ وَنَظَائِرُهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْأَحْوَالِ: فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَلَوَّحَتْ فِيهِ إِشَارَةٌ يُحْتَمَلُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا كَقَوْلِهِ فِي الْكَلَالَةِ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْكَلَالَةِ. فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " يَعْنِي قَوْلَهُ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] ... الآية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 74 فَسَمَّاهَا آيَةَ الصَّيْفِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ فَلَمْ يَزِدْهُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْإِشَارَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تَجَرَّدَ عَنْ إِشَارَةٍ كَالْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ {الم} وَ {كهيعص} [مريم: 1] {حمعسق} [الشورى: 1] فَكَانَتْ عَلَى احْتِمَالِ مُشْتَبِهَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ خَفِيٌّ وَفِي هَذَا الضَّرْبِ مُبْهَمٌ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ فِي حَالٍ وَالْمُحْكَمُ فِي حَالٍ: فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعُمُومُ إِذَا خُصَّ. وَالثَّانِي: الْمُجْمَلُ إِذَا فُسِّرَ، هُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَبَعْدَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُحْكَمِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الْمُحْكَمُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ وَجْهٍ: فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهُ فِي الْمُوجَبِ، وَالْمُحْكَمُ فِي الْوَاجِبِ، مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق} [الأنعام: 151، الإسراء: 33] فَالْحَقُّ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجَبُ وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَإِبَاحَةُ الْقَتْلِ هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُحْكَمُ فِي الْمُوجَبِ وَالْمُتَشَابِهُ فِي الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ اسْتِحْصَادُ الزَّرْعِ وَهُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْحَقُّ الْمُؤَدَّى هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ. فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَنَظَائِرُهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَنْ وَجْهٍ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ جَمِيعُ النُّصُوصِ. (فصل: [القسم السادس الناسخ والمنسوخ] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ. فَالنَّسْخُ هُوَ رَفْعُ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ نسخها بشرع ولا عقل. فالنسخ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ مُفْضٍ إِلَى دُخُولِ الْكَذِبِ فِي نَاسِخِهِ أَوْ مَنْسُوخِهِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَسَخَ الْمَطَرُ الْأَثَرَ إِذَا أَزَالَهُ وَنَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا زَالَ بِهَا فَسُمِّيَ فِي الشَّرْعِ نَسْخًا لِزَوَالِ الْحُكْمِ بِهِ كَمَا سُمِّيَ بِهِ نَسْخُ الْكِتَابِ لِإِزَالَةِ الْأَصْلِ بِإِثْبَاتِ فَرْعِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 75 وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ نَسْخُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْمَصَالِحِ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ مَصْلَحَةً فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَيَكُونُ النَّاسِخُ مَصْلَحَةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْلَحَةً فِي زَمَانِهِ وَحَسَنًا فِي وَقْتِهِ وَإِنْ تَضَادَّا. وَلَا يَكُونُ بَدَاءً ورجوعا فيستقبح كما زعم قوم لأن النداء هُوَ الرُّجُوعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَالنَّسْخُ هُوَ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ فِي وَقْتٍ وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ، فَالنَّسْخُ جَائِزٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِذَا جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ السُّنَّةِ كَانَ فِي السُّنَّةِ أَجْوَزَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ. وَالثَّانِي: مَا يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ. وَالثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ النَّسْخِ. وَالرَّابِعُ: فِي أَحْوَالِ النَّسْخِ. وَالْخَامِسُ: فِي زَمَانِ النَّسْخِ. وَالسَّادِسُ: فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ. والسابع: في الفرق بين التخصيص والنسخ. ( [القول فيما يقع فيه النسخ] ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةُ وَهِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فَيَجُوزُ نَسْخُهَا، وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَمَنَعَ مِنْ نَسْخِهَا إِذَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ اعْتِبَارًا بِالْأَخْبَارِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِ النَّسْخِ فِيهَا. فَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الْأَخْبَارِ بِالْأَعْلَامِ وَاخْتِصَاصُ الْأَوَامِرِ بِالْإِلْزَامِ. وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُ الْأَخْبَارِ بِالْمَاضِي وَالْأَوَامِرِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَلِمَا تَعَلَّقَ بِمَا وَرَدَ مِنَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 76 الْأَوَامِرِ بِلَفْظِ الْأَخْبَارِ أَحْكَامُ الْأَوَامِرِ دُونَ الْأَخْبَارِ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، كَذَلِكَ فِي حُكْمِ النَّسْخِ. والضرب الثاني: أن يرد الأمر مؤكدا بالتأييد فَفِي جَوَازِ نَسْخِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجوز نسخه؛ لأن صريح التأييد مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ النَّسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَكَأَنَّهُ أشبه أن نسخه جائر، لأن المطلق يقتضي التأييد كالمؤكد، لأنه لما جاز القطاع الْمُؤَبَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقون إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] جَازَ انْقِطَاعُهُ بِالنَّسْخِ كَالْمُطْلَقِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقَدَّرًا بِمُدَّةٍ فَيَكُونُ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ مُوجِبًا لِارْتِفَاعِ الْأَمْرِ فَيَصِيرُ نَسْخًا بِغَيْرِ نَسْخٍ. فَإِنْ أُرِيدَ نَسْخُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ كَانَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: كالمؤبد. ( [القول فيما يقع به النسخ] ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَقَعُ بِهِ النَّسْخُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الْمَنْسُوخِ فَيُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] . وَفِي الْمُرَادِ بِنَسْخِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبْدِيلُهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: قبضها قاله السدي. وفي قوله " أو ننسأها " وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَتْرُكُهَا فَلَا تُنْسَخُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: نُؤَخِّرُهَا وَمِنْهُ بَيْعُ النَّسَاءِ. وَفِي هَذَا التَّأْخِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا. وَالثَّانِي: نُؤَخِّرُ نُزُولَهَا. وَفِي قَوْلِهِ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مثلها} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْمَنْفَعَةِ إِمَّا بِالتَّخْفِيفِ وَإِمَّا بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمَعْنَاهُ: نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 77 فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْمَأْمُورِ عَلَى الْآمرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَلْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إِلَى الْمَأْمُورِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْآمرِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ كَمَا نُسِخَتْ آيَةُ الوصايا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ اتبع إلا ما يوحى إلي) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[يونس: 15] . وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزبير عن جابر قال: قال رسو ل الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ كَلَامِي، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالَّذِي نَسَخَ آيَةَ الْوَصَايَا هُوَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا. وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْكَدُ مِنَ السُّنَّةِ وَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ تَأَوَّلَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَاسْتِشْهَادُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ أَنْفَذُ حُكْمًا مِنَ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ عَلَى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَقَدَهُ مَعَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَمَّا جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً وَطَلَبَهَا أَخَوَاهَا مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْ رَدِّهَا وَنَسَخَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكفار} . . فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فِي الشَّرْعِ مَعَ جَوَازِهِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إِلَّا وَلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلٌ كَانَتِ السُّنَّةُ فِيهِ بَيَانًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 78 لِمُجْمَلِهِ، فَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِنَسْخِهَا كَانَ نَسْخًا لِمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهَا فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ بِمَا يُخْفِيهِ عَنْ أُمَّتِهِ، فَإِذَا أَرَادَ نَسْخَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْلَمَهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ نَسْخَهُ ثُمَّ يَرِدُ الْكِتَابُ بِنَسْخِهِ تَأْكِيدًا لِنَسْخِ رَسُولِهِ فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ يَكُونُ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالنَّسْخِ فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْآمِرَ بِهِ وَالرَّسُولُ هُوَ النَّاسِخَ لَهُ فَصَارَ ذَلِكَ نسخ السنة بالكتاب والسنة والله أعلم. ( [القول في أحكام النسخ] ) فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ النَّسْخِ: فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَالنَّاسِخُ بَاقِي الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ، كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَكَنَسْخِ آيَةِ الْوَصَايَا بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَالنَّاسِخُ بَاقِي الْحُكْمِ كَنَسْخِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَوَّلُ مَا نُسِخَ بَابُ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ وَاسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ". وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَنُسِخَتْ تِلَاوَةُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حكمه: كقوله فِي حَدِّ الزِّنَا {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] نَسَخَهُ قَوْلُهُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ قَالَ عُمَرُ: كُنَّا نَقْرَؤُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْمُصْحَفِ لَأَثْبَتُّهَا فِيهِ فَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ بَاقِيَ التِّلَاوَةِ وَالنَّاسِخُ مَرْفُوعَ التِّلَاوَةِ بَاقِيَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا؟ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا كَانَ لِلْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمُ بَاقٍ وَإِنْ نُسِخَتِ التِّلَاوَةُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِهِ قَبْلَ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَلَا يُعْلَمُ الَّذِي نَسَخَهُ كَالْمَرْوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ " لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ". وَكَالَّذِي رَوَاهُ أنس بن مالك أنهم كانوا يقرأون " بَلِّغُوا إِخْوَانَنَا أَنَّنَا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " وَمِثْلُ هَذَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 79 يَكُونُ رَافِعًا لَهُ فِي الْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ نَسْخًا فِي الْحُكْمِ كَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ لِيَقْرَأَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها فقال " رفعت البارحة ". ( [القول في أحوال النسخ] ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي أَحْوَالِ النَّسْخِ: فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالتَّغْلِيظِ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ كَنَسْخِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَنَسْخِ الْحَبْسِ فِي الزِّنَا بِالرَّجْمِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ إِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَكَنَسْخِ مُصَابَرَةِ الْوَاحِدِ لِعشَرَةٍ فِي الْجِهَادِ بِمُصَابَرَتِهِ لِاثْنَيْنِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا نُسِخَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَنَسْخِ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] بِقَوْلِهِ {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَنُسِخَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَالضَّرْبُ الْخَامِسُ: مَا نُسِخَ التَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا وَانْحِتَامِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فَكَانَ مُخَيِّرًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَيْنَ صِيَامِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ فَنُسِخَ التَّخْيِيرُ بِانْحِتَامِ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فليصمه} [البقرة: 185] . ( [القول في زمان النسخ] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ فِي زَمَانِ النَّسْخِ: فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: يَجُوزُ النَّسْخُ فِي أَحَدِهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْآخَرِ وَعَلَى خِلَافٍ فِي الثَّالِثِ. فْالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الَّذِي يَجُوزُ النَّسْخُ فِيهِ وَهُوَ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَيَرِدُ النَّسْخُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَفَرْضِ الصَّدَقَةِ فِي مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ نُسِخَتْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَحْدَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الَّذِي لَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِيهِ فَهُوَ قَبْلَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعِلْمِ بِهِ فَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 80 يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ النَّسْخُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّسْخِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ لِيَخْرُجَ عَنِ الْبَدَاءِ إِلَى الْإِعْلَامِ بِالْمُدَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ رَبَّهُ فِيهَا وَيَسْتَنْزِلُهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَنْسُوخِ. قِيلَ: هَذَا إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ دُونَ النَّسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْتَقِرُّ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ إِلَّا عِنْدَ اسْتِقْرَارِ الْخَمْسِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ وُرُودُ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ. وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ اعْتِقَادِهِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ لِيَخْرُجَ مِنَ الْبَدَاءِ إِلَى النَّسْخِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ، كَمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، فَكَانَ كَالنَّسْخِ بَعْدَ الْعَمَلِ، وَيَكُونُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ الِاعْتِقَادُ دُونَ الْعَمَلِ اخْتِبَارًا لِطَاعَتِهِمْ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُ قَبْلَ ذَبْحِهِ فقال: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 102] فَاخْتَبَرَ بِذَلِكَ طَاعَتَهُ وَنَهَاهُ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ وَقَبْلَ الْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ زَمَانٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِاخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِتَقْدِيرِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ النَّسْخُ بِمَا بَيَّنَاهُ لَزِمَ فَرَضُهُ فِي الْحَالِ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ. وَأَمَّا فَرْضُهُ عَلَى الْغَائِبِينَ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالِ كَالْحَاضِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَمَّهُمْ بِفَرْضِهِ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ حَاضِرًا مِنْ غَائِبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ - أَنَّ فَرْضَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ عَنْ عِلْمٍ كَمَا يَلْزَمُ الْحَاضِرِينَ فَرْضُهُ بَعْدَ إِبْلَاغِ الرَّسُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَرْضُهُ عَلَى الرَّسُولِ وَلِذَلِكَ اسْتَدَارَ أَهْلُ قُبَاءَ فِي صَلَاتِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَحَوَّلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ فَبَنَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. لَا نَرَى بِذَلِكَ بِأَسًا حَتَى أَخْبَرَنَا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَلَمْ يَتَرَاجَعُوا فِيمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 81 ( [القول في دلائل النسخ] ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ: وَهُوَ أَنْ يَرِدَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ: فَهُمَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَا يَتَنَافَى اجْتِمَاعُهُمَا، فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ لِعُمُومِ أَحَدِهِمَا وَخُصُوصِ الْآخَرِ، فَيَقْضِي بِالْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وَقَالَ فِيمَنْ أَبَاحَ نِكَاحَهُنَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فَقَضَى بِهَذِهِ عَلَى تِلْكَ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ إِلَّا الْكِتَابِيَّاتِ فَكَانَ عُمُومًا مَخْصُوصًا وَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَى الِاثْنَانِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وقوله {والذين هم لفروجهم حافظون إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَبَاحَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَتَكَافَأَ فِي الْجَوَازِ بِخِلَافِ الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى، فَهَذَا فِيمَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ. وَأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ دُونَ النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ، فَيَعْدِلُ بِالدَّلِيلِ عَنِ اسْتِعْمَالِ التَّخْصِيصِ إِلَى النَّسْخِ كَآيَةِ الْوَصَايَا وَآيَةِ الْمَوَارِيثِ، قَدْ كَانَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَكِنْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا نَسَخَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ آيَةَ الْوَصَايَا فَعُدِلَ عَنِ اسْتِعْمَالِ التَّخْصِيصِ إِلَى النَّسْخِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَنَافَى الْحُكْمَانِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا فَيُعْلَمُ مَعَ التَّنَافِي أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ فَيَرْجِعُ إِلَى دَلَائِلِ النَّسْخِ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَهِيَ خَمْسُ دَلَائِلَ مُتَرَتِّبَةٍ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَيَتَأَخَّرَ الْآخَرُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْعِدَّةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ. قِيلَ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي التِّلَاوَةِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ وَقَدْ عُدِلَ بِتَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ عَنْ تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى به للمصلحة التي استأثر الله تعالى بعلمها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 82 فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ. وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُ وَيَخْتَصُّ بِالْمُتَأَخِّرِ فِي التَّنْزِيلِ دُونَ التِّلَاوَةِ. وَإِنْ أَشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ الرَّسُولِ: فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ بَيَانُ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لَهُ وَلَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً. وَإِنْ عُدِمَ بَيَانُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ فَإِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنًا وَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا. وَإِنْ عَدَمَ الْإِجْمَاعَ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَعْمَلًا وَالْآخَرُ مَتْرُوكًا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَاسِخًا وَالْمَتْرُوكُ مَنْسُوخًا. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيَانٌ إِمَّا لِاشْتِبَاهِهِ أَوْ لِاشْتِرَاكِهِ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الْخَامِسِ: وَهُوَ الترجيح بشواهد الأصول وتطلب الْأَدِلَّةَ وَكَانَتْ غَايَةُ الْعَمَلِ بِهِ. وَسَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ فَفِي ضِمْنِ تِلَاوَتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي حَدِّ الزِّنَا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] دَلَّ قَوْلُهُ: {أو يجعل الله لهن سبيلا} ، أن حكمها لا يدوم فنسخها آيَةُ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جلدة} [النُّورِ: 2] وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِلُ يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ، لَكِنَّهُ مُعْتَقِدٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي شَوَاهِدِ الْمَنْسُوخِ، وليست الزيادة عندنا على النص نسخا. ( [القول في الفرق بين التخصيص والنسخ] ) وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ: فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِهِ وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بالعموم، النسخ بَيَانُ مَا لَمْ يُرَدْ بِالْمَنْسُوخِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 83 وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَيَخُصُّ عُمُومَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ فِي النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْسُوخِ فَيُنْسَخُ الْكِتَابُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ. وَالْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ وَالنَّسْخُ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْكَامِ دُونَ الْأَخْبَارِ. وَالْفَرْقُ الْخَامِسُ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ وَالنَّسْخَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي فَهَذَا بَيَانُ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكِتَابُ. (فَصْلٌ: [المصدر الثاني - السنة] ) وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فَهُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ بِرَسُولِهِ النُّبُوَّةَ، وَكَمَّلَ بِهِ الشَّرِيعَةَ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مَا أَخْفَاهُ مِنْ مُجْمَلٍ أَوْ مُتَشَابِهٍ، وَإِظْهَارَ مَا يُشَرِّعُهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَصَالِحٍ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . ( [القول في حجية السنة] ) وَلَمَّا جَعَلَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ طَاعَتَهُ فِي قَبُولِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ وَامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ لِأُمَّتِهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَيَانُ. وَالثَّانِي: الْبَلَاغُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . وَأَوْجَبَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أُمَّتِهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَاعَتَهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ". وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُبَلِّغَ جَمِيعَ النَّاسِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْلَاغِ مَنْ حَضَرَ لِيَنْقُلَهُ الْحَاضِرُ إِلَى الْغَائِبِ. وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَى الْأَبَدِ فَكُلُّ مَنْ يَأْتِي فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ يَأْخُذُونَ عَمَّنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 84 تَقَدَّمَهُمْ مِنْ عَصْرٍ وَيَنْقُلُونَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عَصْرٍ لِيَنْقُلَ عَنْهُ كُلُّ سَلَفٍ إِلَى خَلَفِهِ فَيَسْتَدِيمُ عَلَى الْأَبَدِ نَقْلُ سُنَّتِهِ وَيُعْلَمُ جَمِيعُ مَا يَأْتِي لِشَرَائِعِهِ. فَصَارَ نَقْلُ الْأَخْبَارِ عَنْهُ وَاجِبًا عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ وَقَبُولُهَا وَاجِبًا فِي كُلِّ عَصْرٍ. فَلِذَلِكَ صَارَتِ الْأَخْبَارُ عَنْهُ، أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ. ( [الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأَخْبَارِ] ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخْبَارُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَخْبَارُ اسْتِفَاضَةٍ، وَأَخْبَارُ تَوَاتُرٍ، وَأَخْبَارُ آحاد. ( [الخبر المستفيض] ) فَأَمَّا أَخْبَارُ الِاسْتِفَاضَةِ: فَهُوَ أَنْ تَبْدُوَ مُنْتَشِرَةً مِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَيَتَحَقَّقُهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا مُخْبِرٌ وَلَا يَتَشَكَّكُ فِيهَا سَامِعٌ ويكون انتشارها في ابتدائها كانتشارها فِي ابْتِدَائِهَا كَانْتِشَارِهَا فِي آخِرِهَا وَهَذَا أَقْوَى الأخبار حالا وأثبتها حكما. (أخبار التواتر) وَأَمَّا أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ: فَهُوَ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حَتَّى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ وَلَا يَعْتَرِضُ فِي خَبَرِهِمْ تَشَكُّكٌ وَلَا ارْتِيَابٌ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي آخِرِهِ مِنْ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِخَبَرِ الِاسْتِفَاضَةِ في أوله موافقا له في آخره. ( [الفرق بين الاستفاضة والتواتر] ) وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ خَبَرِ الِاسْتِفَاضَةِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الِانْتِهَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْبَارَ الِاسْتِفَاضَةَ لَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَخْبَارَ الِاسْتِفَاضَةِ تَنْتَشِرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهَا، وَأَخْبَارَ التَّوَاتُرِ مَا انْتَشَرَتْ عَنْ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهَا. ثُمَّ يَسْتَوِي الْخَبَرَانِ فِي انْتِفَاءِ التَّشَكُّكِ عَنْهُمَا وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا لِتَكُونَ أَنْفَى لِلِارْتِيَابِ وَأَمْنَعَ مِنَ التَّصَنُّعِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِيهِمَا أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمُخْبِرِينَ بِهِمَا لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ وَيَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ فِي السَّهْوِ وَالْغَلَطِ حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ وَيَحْصُلَ الْيَقِينُ، ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا مِثْلُ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ اسْتَفَاضَ فِي النَّصَارَى قَتْلُ الْمَسِيحِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ، قِيلَ إِنَّمَا اسْتَفَاضَ خَبَرُ قَتْلِهِ عَنْ أَرْبَعَةٍ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَتْلَهُ، قِيلَ: إنهم متى ولوقا وماريقس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 85 ويوحنا وهم عدد يجوز على مثله التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ ثُمَّ اسْتَفَاضَ عَنْهُمُ الْخَبَرُ فَصَارَ أَصْلُهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَانْتِشَارُهُ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ. ( [الْقَوْلُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ] ) وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَهُوَ مَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي السَّهْوِ، وَالْغَلَطِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ. وَالثَّانِي: أَخْبَارُ الشَّهَادَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَخْبَارُ السُّنَنِ وَالدِّيَانَاتِ. فَأَمَّا أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ: فَلَا تُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى خَبَرِهِ فَتُقْبَلُ مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَصَغِيرٍ وَبَالِغٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ إِلَيْكَ جَازَ أَنْ تَعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ، وَفِي الدُّخُولِ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مَقْبُولٌ وَإِنَّمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَازَ بِاسْتِنَابَةِ أَهْلِ الْبِذْلَةِ فِيهِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّيَانَةِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِيهِمْ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الشَّهَادَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شَرْطَانِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِمَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا: أَحَدُهُمَا: الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَدَبَ لَهَا أَهْلُ الصِّيَانَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ. وَالثَّانِي: الْعَدَدُ بِحَسْبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ: وَأَكْثَرُهُ أَرْبَعَةٌ فِي الزِّنَا وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَغْلَظَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ السُّنَنِ وَالْعِبَادَاتِ فَمُخْتَلَفٌ فِي قَبُولِ الْآحَادِ فِيهَا. فَمَنَعَ مِنْهَا قَوْمٌ كَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَعَدَلُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهَا لا توجب العلم فلم توجب العمل، ووفقها آخَرُونَ عَلَى مَا يُعَضِّدُهَا مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَبُولِهَا وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا، لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 123] الْآيَةَ؛ فَلَوْ لَمْ تَلْزَمِ الْحُجَّةُ بِالْآحَادِ النَّافِرَةِ لَأَمَرَ فِيهِ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَنَقْلَ إِلَيْهِمُ السُّنَنَ وَعَلَّمَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَنُصُبَ الزَّكَوَاتِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 86 وَأَوْضَحَ لَهُمُ الْأَحْكَامَ فَالْتَزَمُوهَا بِخَبَرِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عَصْرِهِ مَا عَدَلُوا إِلَيْهِ فِيهَا وَلَا طَلَبُوا مَعَ مُعَاذٍ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرْضُ الْإِبْلَاغِ بِذِكْرِ الْآحَادِ لَزِمَ فِيهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَوْ لَزِمَ فِيهَا الْعَدَدُ الْمُتَوَاتِرُ لَأَدَّاهَا إِلَى الْعَدَدِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَعْمَلَ عَلَى فُتْيَا الْمُفْتِي جَازَ لِلْمُسْتَخْبِرِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى رِوَايَةِ الْمُخْبِرِ؛ لِأَنَّهُمَا في أحكام الدين على سواء. ( [وجوب العمل بخبر الواحد] ) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ حُجَّةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا. فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ حَتَّى تَتَّصِلَ بِالرَّسُولِ كَأَقَلِّ الشَّهَادَاتِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ عَنْ أَرْبَعَةٍ كَأَكْثَرِ الشَّهَادَاتِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَدَدَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا وَاحِدٌ، وَقَدْ عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَعَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِهِ وَاشْتِهَارِهِ وَلِأَنَّ مَا يَجُوزُ فِي الْوَاحِدِ مِنْ الِاحْتِمَالِ يَجُوزُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ، وَلَيْسَ اعْتِبَارُ أَخْبَارِ السُّنَنِ بِالشَّهَادَةِ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهَا بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَةِ، لِأَنَّهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ، وقبل فيها خبر الواحد كالمعاملة. ( [القول في خبر الواحد إذا عارضه أصل] ) وَإِذَا ثَبَتَ قَبُولُهَا مِنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَهَا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْعَقْلُ. وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا إِذَا خَالَفَتِ الْأُصُولَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِ المصراة. ومنع مالك من العمل بها، وإذا خَالَفَتْ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الرَّاوِي لَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِأَصْلٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَإِنْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ الْبَاطِنِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 87 وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُوجِبُهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ مِنْ نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُوجِبُهُ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ مُوجِبٌ لَهُ ولولاه لكان ظنا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ فَالْكَلَامُ فِي السُّنَنِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَحْوَالِ الرُّوَاةِ النَّاقِلِينَ لَهَا. وَالثَّانِي: الْمُتُونُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا. ( [القول في أحوال الرواة] ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الرُّوَاةِ فَيَشْتَمِلُ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي صِفَاتِ الرَّاوِي. وَالثَّانِي: فِي شُرُوطِ التَّحَمُّلِ. وَالثَّالِثُ: فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ. وَالرَّابِعُ: فِي أَحْوَالِ الْإِسْنَادِ. وَالْخَامِسُ: في نقل السماع. ( [القول في صفات الراوي] ) فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي صِفَاتِ الرَّاوِي: فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ: فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدِّينِ فِي خَبَرٍ وَلَا فُتْيَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ حُكْمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ الْمُوقَظُ: وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّيَقُّظُ وَالتَّحَفُّظُ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِيَصِحَّ تَمْيِيزُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مَرْدُودُ الْقَوْلِ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَلِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَثِقُ بِخَبَرِهِ كَمَا لَا تَثِقُ بِشَهَادَتِهِ. وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مَا لَمْ يُكَفِّرُوا غَيْرَهُمْ وَيُظْهِرُوا عِنَادَهُمْ. قَدِ اتُّهِمَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَا رُدَّتْ أَخْبَارُهُمْ، وَشَدَّدَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ مَنْ لَا يُوَافِقُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ وَهَذَا مُفْضٍ إِلَى إِطْرَاحِ أَكْثَرِ السُّنَنِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَأْمُونَ الزَّلَلِ شَدِيدَ الْيَقَظَةِ بَعِيدًا مِنَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 88 وَيَكُونُ عَلَى ثِقَةٍ بِهِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ سَبْعِينَ شَيْخًا أَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِأَدْعِيَتِهِمْ لَا أَرْوِي عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدِيثًا، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ سَلَامَةٍ لَا تُؤْمَنُ غَفْلَتُهُمْ وَإِنْ قَوِيَتْ دِيَانَتُهُمْ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إِذَا كَانَ ضَابِطًا قَدْ قِيلَ الْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ رِوَايَاتُ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ". وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ كاعتبارها في الخبر. ( [القول في خبر الأعمى والعبد] وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْأَعْمَى وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. لِأَنَّ الْخَبَرَ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدِّينِ تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الشَّاهِدِ وَفُتْيَا الأعمى والعبد مقبولة كذلك خبرهما. ( [القول في أخبار النساء] ) : وَتُقْبَلُ أَخْبَارُ النِّسَاءِ. وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ أَخْبَارِ النِّسَاءِ فِي الدِّينِ إِلَّا أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ كَانَ نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مَانِعًا لَعَمَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِنَّ فِي الْفُتْيَا يُوجِبُ قَبُولَهُ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّ الْفُتْيَا أَغْلَظُ شُرُوطًا. (فصل: [القول في شروط التحمل] ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ التَّحَمُّلِ: فَلِلْمُسْتَمِعِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْمَعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى الْمُحَدِّثِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُجِيزَهُ الْمُحَدِّثُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُكَاتِبَهُ بِهِ الْمُحَدِّثُ. فَأَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى فِي سَمَاعِهِ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَاسْتِرْعَاءٍ أَوْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ وَمُذَاكَرَةٍ بخلاف الشهادة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 89 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَعْمَى أَوْ أَصَمَّ وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ إِنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ أَصَمَّ وَيَصِحُّ إِنْ كَانَ أَعْمَى. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي قِرَاءَةِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ كَمَا لَوْ قَرَأَهُ الْمُحَدِّثُ وَهَكَذَا لَوْ قَرَأَهُ غَيْرُ الْمُسْتَمِعِ عَلَى الْمُحَدِّثِ كَانَ كَمَا لَوْ قَرَأَهُ الْمُسْتَمِعُ. وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّمَاعِ فِي هَذَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ سَمِيعًا وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُحَدِّثُ بِصِحَّةِ مَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِجَازَةُ فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ بِالْإِجَازَةِ. وَأَجَازَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ عِنْدَ إِجَازَتِهِ فَيَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِذَا قَالَ قَدْ أَجَزْتُكَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا يَصِحُّ إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الْكِتَابَ. وَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحَمُّلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ بَطَلَتِ الرِّحْلَةُ وَقَدْ يَتَدَلَّسُ فِي الْإِجَازَةِ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ. وَالْمَجْهُولُ بِالْمَعْرُوفِ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: فِي مُكَاتَبَةِ الْمُحَدِّثِ بِالْحَدِيثِ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا التَّحَمُّلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عُمَّالِهِ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ كُتُبًا عَمِلُوا عَلَيْهَا وَأَخَذَ النَّاسُ بِهَا. مِنْهَا كِتَابُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الدِّيَاتِ، وَالصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ، قِيلَ: قَدْ كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يُعَوَّلُ عَلَى خَبَرِهِمْ بِهَا. وَيَصِحُّ سَمَاعُ غَيْرِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا قَدْ سَمِعَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَقَبِلَ النَّاسُ رِوَايَتَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ فَاسِقًا ثُمَّ اعْتَدَلَ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ هُوَ صِحَّةُ التمييز وحده. (فصل: [القول في صفة الأداء] ) : فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ: فَيُعْتَبَرُ فِي الْمُحَدِّثِ إِذَا رَوَى بَعْدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ التَّحَمُّلِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: بِذِكْرِ إِسْنَادِهِ. وَالثَّانِي: التَّحَرِّي فِي لَفْظِ مَتْنِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 90 وَلَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَيَصِحُّ السَّمَاعُ مِنْهُ إِذَا وَثِقَ بِحِفْظِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابِهِ. فَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ مِنْ كِتَابِهِ، لِأَنَّ الْكُتُبَ قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا صَحَّ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ كِتَابِهِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِكِتَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ. فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ وَإِنْ جَمْعَهُمَا صَحَّتْ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَرْوِيَ إِلَّا مِنْ حِفْظِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا مِنْ حِفْظِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ " وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَقْيِيدِهِ عَيْنًا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النِّسْيَانَ فَقَالَ لَهُ: " حَرِّكْ يَدَكَ - أَيِ اكْتُبْ - حَتَّى تَرْجِعَ إِذَا نَسِيتَ إِلَى مَا كَتَبْتَ " وَقَدْ كَتَبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى جَمَعَ الْقُرْآنَ عِدَّةَ مَصَاحِفَ وَأَنْفَذَهَا إِلَى الْأَمْصَارِ فحفظ المسلمون منها القرآن. ( [القول في الفرق بين الشهادة والحديث] ) : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِيثِ: أَنَّ الشَّهَادَةَ يَفْتَرِقُ فِيهَا حَالُ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَتَغَلَّظَتْ بِالْحِفْظِ، كَمَا تَغَلَّظَتْ بِالْعَدَدِ، وَالْحَدِيثُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُحَدِّثُ وَالْمُسْتَمِعُ فَتَخَفَّفَتْ بِالْكِتَابِ كَمَا تَخَفَّفَتْ فِي الْعَدَدِ. وَقَدْ صَارَتِ الرِّوَايَةُ فِي عَصْرِنَا مِنَ الْكِتَابِ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنَ الْحِفْظِ لِمَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ فِي صِحَّةِ السَّمَاعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمُحَدِّثُ فِي رِوَايَتِهِ: " حَدَّثَنَا " وَ " أَخْبَرَنَا " وَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي عُرْفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ أَنْ يَقُولَ: " حَدَّثَنَا " وَإِنْ قَرَأَهُ عَلَى الْمُحَدِّثِ أَنْ يَقُولَ: " أَخْبَرَنَا " وَإِنْ سَمِعَ وَحْدَهُ قَالَ: " حَدَّثَنِي " وَ " أَخْبَرَنِي " وَإِنْ سَمِعَ مَعَ جَمَاعَةٍ قَالَ: " حَدَّثَنَا " وَ " أَخْبَرَنَا " لِتَكُونَ هَذِهِ الْفُرُوقُ تَذْكِيرًا بِأَحْوَالِ السَّمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحُكْمِ سواء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 91 وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِ فِيمَا يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَلَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَجُرَّ بِهَا نَفْعًا، لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي السُّنَنِ والديانات وافتراقهم في الشهادات. ( [القول في إنكار الراوي ونسيانه للحديث] ) : وَإِذَا أَسْنَدَ الرَّاوِي حَدِيثَهُ عَنْ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنِ الْمُسْتَمِعِ إِنْ أَنْكَرَهُ، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ إِنْ نَسِيَهُ، قَدْ رَوَى رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " ثُمَّ نَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ رَبِيعَةُ فَصَارَ سُهَيْلٌ يَقُولُ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي أَنَّنِي حَدَّثْتُهُ عَنْ أَبِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى باليمين مع الشاهد ". ( [عمل الراوي بخلاف روايته] ) : وَإِذَا عَمِلَ الرَّاوِي بِغَيْرِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا وَأَفْتَى بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا فَعَمِلُوا عَلَى رِوَايَتِهِ دُونَ فُتْيَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ الرِّوَايَةَ فَأَفْتَى بغيرها وروايته حجة وفتياه ليست بحجة. ( [القول في تفسير الراوي للحديث] ) فَأَمَّا تَفْسِيرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا لَفْظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَاهَدُوا مَخْرَجَ كَلَامِهِ كَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى تَفْسِيرِهِ كَمَا فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ مَا رَوَاهُ مِنِ افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ دُونَ الْكَلَامِ؛ فَحُمِلَ عَلَى تَفْسِيرِهِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَدِّثُ مِنْ دُونِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُهُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ وَغَيْرَهُ فِيهِ سواء. (فصل: [القول في أحوال الإسناد] ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَحْوَالِ الْإِسْنَادِ فَصِحَّتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ مُتَّصِلًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا أَوْ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِحَّ. وَالْمُرْسَلُ: أَنْ يَرْوِيَهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَا يَرْوِيهِ عَنْ صَحَابِيٍّ شَاهَدَهُ. وَالْمُنْقَطِعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ رَجُلٌ لَمْ يُذْكَرْ. فَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حُجَّةٌ وَرُبَّمَا جَعَلَهُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْنَدِ لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ فِي إِرْسَالِهِ. وَلَيْسَ الْمُرْسَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُجَّةً وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ، حَتَّى يُسَمِّي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 92 رَاوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ عَنْ مِثْلِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهُ عَنْ مَنْ لَا يُوثَقُ بِصِحَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ " وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ شَوَاهِدِ صِحَّتِهِ، لِأَنَّهُ مَا أَرْسَلَ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ وُجِدَ مُسْنَدًا عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ فَلَا مُرْسَلَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله فَلَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ. وَإِنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَإِنْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ يَرْوِيهِ إِلَّا عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ صَحَابَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَحْكُومٌ بِعَدَالَتِهِمْ وَجَمِيعَهُمْ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكِنْ سَمِعْتُ وَحَدَّثَنِي بِهِ أَصْحَابُهُ " وَأَجْرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْنَدِ دُونَ الْمُرْسَلِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ مُسَمًّى مَشْهُورٍ بِمَا سُمِّيَ بِهِ: حَتَّى لَا يَقَعَ التَّدْلِيسُ فِي اسْمِهِ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَوْ مَنْ لَا أَتَّهِمُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي صِحَّةِ النَّقْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِهِ وَيَكُونُ مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَادِيثَ رَوَاهَا أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ قِيلَ قَدِ اشْتَهَرَ مَنْ عَنَاهُ بِهَذَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَرِّحَ بِاسْمِهِ لَكِنَّهُ رُبَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْحَدِيثِ اسْمُ الرَّاوِي وَهُوَ وَاحِدٌ من عدد ثقاة فَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُسَمَّى مَنْ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى مَا لَا جَرْحَ فِيهِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَعَ ظُهُورِ الْعُذْرِ فِيهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ حَتَّى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ. وَلَيْسَتْ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ غَيْرِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَالَتِهِ، قَدْ يَرْوِي الْعَدْلُ عَنْ عَدْلٍ أَوْ غَيْرِ عَدْلٍ، هَذَا الشَّعْبِيُّ يَقُولُ فِي رِوَايَتِهِ: " حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا ". فَإِنْ قِيلَ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، قِيلَ يَجُوزُ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَنَاكِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ الْمُتَقَدِّمُ عَنِ الْمُتَأَخِّرِ، قَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ حَدِيثَ الْقُرْعَةِ، وَسَمِعَ إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْأَعْمَشِ حَدِيثَ قِيَامِ الْمَأْمُومِ عَنْ يمين الجزء: 16 ¦ الصفحة: 93 الْإِمَامِ. وَإِنْ كَانَتْ عَدَالَةُ الرُّوَاةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تُعْلَمَ عَدَالَتُهُمْ فَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ جَرْحُهُمْ أَوْ جَرْحُ أَحَدِهِمْ فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُجْهَلَ أَحْوَالُهُمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمِ الْجَرْحُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمِ التَّعْدِيلُ، فَيُكْشَفُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. فَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ بِعَدَالَتِهِمْ وَشَهِدَ قَوْمٌ بِجَرْحِهِمْ حُكِمَ بِالْجَرْحِ دُونَ التَّعْدِيلِ. وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ حَتَّى يُذْكَرَ مَا صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا. فَإِنْ وَجَدُوهُ قَدْ كَذَبَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إِسْقَاطُ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحَادِيثِهِ وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ مِنَ الشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ. وَفِي تَعْدِيلِ الرَّاوِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ فَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِي عَدَالَتِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ خَبَرُ الْمُحَدِّثِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ فِي تَعْدِيلِهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ. وَفِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ عَدَلَ شُهُودُ الْفَرْعِ لِشُهُودِ الْأَصْلِ. فَأَمَّا الْجَرْحُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِنٍ مَغِيبٍ. فَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ إِلَّا صِحَّةُ صُحْبَتِهِمْ وَإِذَا صَحَّتِ الصُّحْبَةُ قُبِلَتْ أَحَادِيثُهُمْ إِذَا خَرَجُوا عَمَّنِ اشْتُهِرَ بِالنِّفَاقِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اختار لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بَيْنَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [الفتح: 29] . ( [القول فيمن عرف من الرواة بالتدليس] ) وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ مِنَ الرُّوَاةِ بِالتَّدْلِيسِ فَصِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ عُرِفَ بِتَدْلِيسِ مُتُونِ الْأَحَادِيثِ فَهَذَا مُطْرَحُ الْأَحَادِيثِ مَجْرُوحُ الْعَدَالَةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَكَانَ بِالتَّكْذِيبِ أَحَقَّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 94 وَالصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ عُرِفَ مِنْهُ تَدْلِيسُ الرُّوَاةِ مَعَ صِدْقِهِ فِي الْمُتُونِ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ شُرَيْحًا وَهُشَيْمًا وَالْأَعْمَشَ كَانُوا مُدَلِّسِينَ، وَقِيلَ إِنَّ التَّدْلِيسَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَاتُّهِمَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِالتَّدْلِيسِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا فَقَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرٍو فَأَعَلَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ هَذَا وَنَسَبَهُ إِلَى التَّدْلِيسِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً عَدْلًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ التَّدْلِيسِ فِي أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ مِنْ إِحْدَى حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي إِبْدَالِ الْأَسْمَاءِ بِغَيْرِهَا فَيَعْدِلُ عَنِ اسْمِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ يُسَمِّيهِ بِعُمَرَ بْنِ بَكْرٍ لِنُزُولِ مَنْ عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ وَارْتِفَاعِ مَنْ عَدَلَ إِلَى اسمه فهذا كذب يرد به حديثه. والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ فِي إطرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الْحَدِيثِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَالَّذِي حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَبَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ رِجَالٌ وَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ فِي أَكْثَرِهَا فَلَا يَكُونُ بِهَذَا التَّدْلِيسِ مَجْرُوحًا وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ إِذَا رَوَى عَنْ فُلَانٍ حَتَّى يَقُولَ " حَدَّثَنِي " أَوْ " أَخْبَرَنِي " لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَحْتَمِلُ التَّدْلِيسَ فَإِذَا قَالَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي ارْتَفَعَ احْتِمَالُ التَّدْلِيسِ فَقُبِلَ حَدِيثُهُ. وَشَدَّدَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَالَ الْمُدَلِّسِ فَلَمْ يَقْبَلْ حَدِيثَهُ حَتَّى يَقُولَ سَمِعْتُ وَلَا يَقْبَلُهُ إِذَا قَالَ " حَدَّثَنِي " أوَ " أَخْبَرَنِي ". كَمَا لَا يَقْبَلُهُ إِذَا رَوَى عَنْ فُلَانٍ. وَلَوْ كَانَ مَوْثُوقًا بِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ سُمِعَتْ رِوَايَتُهُ عَنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ " حَدَّثَنِي " أَوْ " أَخْبَرَنِي " كَمَا تُقْبَلُ مِنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عمر. (فصل: [القول في أحوال نقل السماع] ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نَقْلِ السَّمَاعِ: فَلِلرَّاوِي فِي نَقْلِ سَمَاعِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ بِأَلْفَاظِهِ وَعَلَى صِيغَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْوِيَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى فِي رِوَايَتِهِ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى صِيغَتِهِ فَلَا يَخْلُو مَصْدَرُهُ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا. فَإنْ كَانَ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 95 وَإِنْ كَانَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَالرَّاوِي فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَبَيْنَ تَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْتَقِرَ الْجَوَابُ إِلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: " أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ؟ " قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَلَا إِذَنْ ". فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رِوَايَةِ الْجَوَابِ حَتَّى يَذْكُرَ السُّؤَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " فَلَا إِذَنْ " لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِذِكْرِ السُّؤَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ فَإِذَا نُقِلَ السُّؤَالُ نُفِيَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ كَمَا سُئِلَ عَنِ الشَّاةِ تُذْبَحُ فَيُوجَدُ فِي جَوْفِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَفَيُؤْكَلُ؟ فَقَالَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهُ " لَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَإِذَا ذُكِرَ السُّؤَالُ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَيَكُونُ الْإِخْلَالُ بِذِكْرِ السُّؤَالِ تَقْصِيرًا فِي الْبَيَانِ يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ. وَيَسْتَوِي فِي هَذَا مَنْ هُوَ أَصْلُ الْخَبَرِ كَالصَّحَابِيِّ وَمَنْ قَدْ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنَ التَّابِعِينَ ومن دونهم. ( [رواية الحديث بالمعنى] ) وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْوِيَ مَعْنَى الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَقَوْلِهِ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ " فَيُرْوَى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَكَقَوْلِهِ: " اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ " فَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّ (افْعَلْ) أَمْرٌ وَ (لَا تَفْعَلْ) نَهْيٌ فَاسْتَوَيَا فِي الْخَبَرِ وَكَانَ الرَّاوِي فِيهِمَا مُخَيَّرًا. وَيَسْتَوِي فِي هَذَا التَّخَيُّرِ مَنْ كَانَ أَصْلُ الْخَبَرِ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ صَارَ فَرْعًا فِيهِ كَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي نَقْلِ كَلَامٍ قَالَهُ بِأَلْفَاظٍ وَيَكُونُ الْكَلَامُ مُحْتَمِلَ الْأَلْفَاظِ أَوْ خَفِيَّ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ " لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 96 فَوَاجِبٌ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا يُعَبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ لِيَكُونَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالْخَفَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحْتَمَلًا ولا خفيا إلا لمصلحة وليكل اسْتِنْبَاطَهُ إِلَى الْعُلَمَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ كَقَوْلِهِ: " الْخَيْرُ كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ " فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنَ التَّابِعِيِنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ حَتَّى يَنْقُلَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ فَيُورِدَ الْمَعْنَى بِأَلْفَاظِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَرِفَ مَخْرَجَ كَلَامِهِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: اخْتَلَفَ فِيهِمَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَحْفَظُ اللَّفْظَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَفَظِ اللَّفْظُ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا وَإِنْ عَجَزَ عَنِ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي نَقْلِ مَا تَحَمَّلَ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ: فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَصِيرَ الْبَاقِي مِنْهُ مَبْتُورًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِيُتِمَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مَفْهُومًا لَكِنْ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ مِثْلُ قَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ ينار. وَقَدْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْضِيهِ إِلَّا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ " تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " فَلَوْ رَوَى النَّاقِلُ أَنَّهُ قَالَ: تَجْزِيكَ لَكَانَ مَفْهُومًا يَقْتَضِي أَنْ تَجْزِيَ جَمِيعَ النَّاسِ فَلَمَّا قَالَ: " وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ. فَلَزِمَ الرَّاوِي فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَرْوِيَ بَاقِيَ قَوْلِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 97 وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ مَفْهُومَ الْمَعْنَى وَمُسْتَقِلَّ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَرْوِي " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ " أَوْ يَرْوِي " هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَا تَحَمَّلَ كَالشَّاهِدِ. وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْخَبَرِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ شَرْحًا لِلْحَالِ كَمَا نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ يَزِيدُ فِيهِ ذِكْرَ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَيَصِحُّ هَذَا مِنَ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ الْحَالَ وَلَا يَصِحُّ مِنَ التَّابِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ كَنَهْيِهِ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي مِنْ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ أَنْ يُفَسِّرَ مَعْنَاهُمَا فِي رِوَايَتِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرًا فَيَجُوزُ، لَكِنْ إِنْ فَسَّرَهَا الصَّحَابِيُّ. لَزِمَ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَإِنْ فَسَّرَهَا التَّابِعِيُّ لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ تَفْسِيرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْرُجَ الزِّيَادَةُ عَنْ شَرْحِ السَّبَبِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى فَمَا هِيَ إِلَّا كَذِبٌ يَسِيرٌ قَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَحَابَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ قَالَ " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ الرُّوَاةِ النَّاقِلِينَ لِلسُّنَّةِ. (فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْمُتُونِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ السنن المروية] ) وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْأَصْلِ فِي أَحْكَامِ الْمُتُونِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ: فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ وَهِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَالْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، وَالْمُحْكَمُ، وَالْمُتَشَابِهُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَمِثْلُهَا مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ، وَأَحْكَامُهَا فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا في الكتاب. تختص السُّنَّةُ بِأُصُولٍ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا تُؤْخَذُ مِنْهُ السُّنَّةُ. وَالثَّانِي: مَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ وَالثَّالِثُ مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ من السنة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 98 ( [القول في مصادر السُّنَّةِ] ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوْلُ فَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ السُّنَّةُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ. ( [أقوال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] ) : فَأَمَّا أَقْوَالُهُ: فَمُطَاعٌ فِيهَا، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَخَبَرٌ، وَاسْتِخْبَارٌ، فَيُطَاعُ فِي أَوَامِرِهِ، وَيُتَّبَعُ فِي نَوَاهِيهِ، وَيُصَدَّقُ فِي خَبَرِهِ، وَيُجَابُ عَلَى اسْتِخْبَارِهِ. ثُمَّ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ابْتَدَأَهُ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ. فَأَمَّا الْمُبْتَدَأُ مِنْ أَقْوَالِهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: عِبَادَاتٍ، وَمُعَامَلَاتٍ، وَتَرْغِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ، وَتَأْدِيبٍ. فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ. وَأَمَّا التَّرْغِيبُ بِالثَّوَابِ فَدَاعٍ إِلَى الطَّاعَةِ. وَأَمَّا التَّرْهِيبُ بِالْعِقَابِ فَزَاجِرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا التَّأْدِيبُ فَبَاعِثٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْأُلْفَةِ. وَبِهَذَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَأَمَّا مَا كَانَ جوابا عن سؤال: فتنقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا قَابَلَ السُّؤَالَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ كَمَا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: " زَادٌ وَرَاحِلَةٌ " وَهَذَا حَدُّ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَزْيَدَ مِنَ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّؤَالِ بَيَانَ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَنْقَصَ مِنَ السُّؤَالِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْجَوَابِ لِخَطَأِ السَّائِلِ فِي السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: " لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا عِمَامَةً ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 99 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَانٌ لِبَقِيَّةِ السُّؤَالِ كَمَا يَسْأَلُهُ عُمَرُ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ". وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْجَوَابِ تَنْبِيهٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْجَوَابِ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ ". وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ لِتَوَقُّفٍ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّيَانَاتِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ الْجَوَابِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالدِّيَانَاتِ لَزِمَهُ إِتْمَامُ الْجَوَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ فِيهِ، وَلَيْسَ يَتَوَقَّفُ إِلَّا لِيَتَوَقَّعَ أَمْرَ اللَّهِ وَبَيَانَهُ كَمَا سَأَلَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَنِ الْحَيْضِ فَتَوَقَّفَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] . ( [أفعال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] ) : وَأَمَّا أَفْعَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيَانَاتِ كَمَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَنَامِهِ فَيَدُلُّ فِعْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْجَائِزِ وَلَا يَفْعَلُ مَا يَقْبُحُ فِي الْعَقْلِ أَوْ يُكْرَهُ فِي الشَّرْعِ، فَيَكُونُ التَّأَسِّي بِهِ أَبْرَكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْإِبَاحَةِ كَمَا خَصَّ فِي الْمُنَاكِحِ بِمَا حَظَّرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِالدِّيَانَاتِ فَلَهُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَأْمُرَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا كَمَا قَالَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَقَالَ فِي الْحَجِّ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُ فِيهَا فَرْضًا لِاقْتِرَانِ أَمْرِهِ بِفِعْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَى عَنِ اتِّبَاعِهِ فِيهَا كَمَا نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ فَانْتَهَى النَّاسُ ثُمَّ وَاصَلَ فَوَاصَلُوا فَقَالَ: " أَمَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُ عَنِ الْوِصَالِ " فَقَالُوا: رَأَيْنَاكَ وَاصَلْتَ فَوَاصَلْنَا فَقَالَ: " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ لِنَهْيِهِ عَنْهُ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَهُ مُبَاحًا وَعَلَيْنَا مَحْظُورًا كَالْمَنَاكِحِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ لَهُ مُسْتَحَبًّا وَلَنَا مَكْرُوهًا كَالْوِصَالِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا وَعَلَيْنَا نَدْبًا كَمَا قَالَ: " فُرِضَ عَلَيَّ السِّوَاكُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمْ ". وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَجَرَّدَ أَفْعَالُهُ عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَوْ يَنْهَى عَنْهَا، فَاتِّبَاعُهُ فِيهَا نَدْبٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ تَكُونُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبَّةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 100 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا أَمْرٌ لِأَنَّهُ كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْتَسِرُّ بِكَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُ فِيهَا فَرْضًا لَأَظْهَرَهَا كَمَا أَظْهَرَ أَقْوَالَهُ لِيَكُونَ الْبَلَاغُ بِهِمَا عَامًّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيهَا فَرْضٌ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وَالْأَمْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْفِعْلِ كَانْطِلَاقِهِ عَلَى الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلَ فِرْعَوْنَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (لَهَا أَمْرُهَا حَتَّى إِذَا مَا تَبَوَّأَتْ ... بِإِخْفَافِهَا بِتْنَا نُبَوِّئُ مَضْجَعًا) يَعْنِي بِالْأَمْرِ أَفْعَالَ الْإِبِلِ فِي سَيْرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِيَسْأَلَهَا عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَعَادَ زَوْجَتَهُ لِتَسْأَلَ فَذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هَلَّا أَنْبَأْتِهَا " فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ: لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ ". فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِهِ. ( [إقرار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] ) : وَأَمَّا إِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاسَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَآنِيَةٍ وَمَقَاعِدَ فِي الْأَسْوَاقِ فَجَمِيعُهَا فِي الشَّرْعِ مُبَاحٌ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَدَاخِلٌ فِي الْمَعْرُوفِ. وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الشَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ بِالشَّرْعِ حَتَّى أَقَرُّوا عَلَيْهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 101 وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ هَلْ كَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى حَظَرَهَا الشَّرْعُ أَوْ كَانَتْ عَلَى الْحَظْرِ حتى أباحها الشرع. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالسُّنَّةِ: فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَزِمَهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَهُوَ بَيَانُ مَا أَجْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَأْخُوذٌ بَيَانُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ لِيُقَامَ بِحَقِّهِ فِيهَا وَمَأْخُوذٌ بِبَيَانِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِيَعْلَمُوا مَا كُلِّفُوا مِنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَزِمَ الرَّسُولَ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِبَادِهِ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَلْزَمُ بَيَانُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ لِاسْتِثْنَائِهِ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ عَلَى الْعُمُومِ مَا لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا لَزِمَهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ وَلَا يَجِبُ الْعِقَابَ بِتَرْكِهِ كَنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَأَفْعَالِ الْقُرْبِ يَلْزَمُ بَيَانُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مَا اسْتَأْنَفَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَالْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَالْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَإِعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ الرَّسُولَ بَيَانُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ: لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا إِلَّا مِنْهُ. وَفِي لُزُومِ بَيَانِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَلْ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فَضِيلَةٌ فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أَحَقَّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] . وَلَوْ حَكَمَ دَاوُدُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَكَمَ بِرَدِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ حِينَ جَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ لَازِمًا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ دُونَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَتَكُونُ أَحْكَامُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مِنْ قُرْآنٍ أَوْ وَحْيٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 102 يُوحَى} [النجم: 4] ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُسَوَّغُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ لَازِمًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اجْتِهَادِ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُعْتَبَرًا بِالْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَارِكُ فِيهِ أُمَّتَهُ كَنَهْيِهِ عَنِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَنَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا يُحْدِثُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ ". وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُشَارِكُهُ فِيهِ أُمَّتُهُ: كَقَوْلِهِ: " لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ " وَكَحَدِّهِ لِشَارِبِ الْخَمْرِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ إِلْزَامٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِمَأْمُورٍ فَمَا دَخَلَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُ الْآمِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ مَا ذَكَرْتُهُ. (فَصْلٌ: مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السنة) وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ: فَأَقُولُ إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا جَاءَتْ بِحُكْمٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَفَرَّدَ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ يَقْتَرِنَ بها فيه أصل آخر. ( [القول في السنة إذا انفردت] ) : فَإِنِ انْفَرَدَتْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ وَافَقَهَا الْقِيَاسُ أَوْ خَالَفَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ خَالَفَتِ الْقِيَاسَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ السُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلسُّنَّةِ. وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَصْلٌ آخَرُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: كِتَابُ اللَّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: سُنَّةٌ أُخْرَى. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعٌ. الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو الْكُتَّابُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ السُّنَّةِ، أَوْ مُنَافِيًا لَهُ. فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا صَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِأَصْلَيْنِ هُمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَنُظِرَ فِيهِمَا فَإِنْ تَقَدَّمَتِ السُّنَّةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ، وَالْكِتَابُ مُؤَكِّدٌ وَإِنْ تَقَدَّمَ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ مُؤَكِّدَةٌ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 103 وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مُنَافِيًا لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَأَثْبَتَهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكِتَابُ فَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ السُّنَّةُ عَلَى الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِالْكِتَابِ. وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ وَتَكُونُ السُّنَّةُ مَنْسُوخَةً بِالْكِتَابِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرِدَا مَوْرِدًا وَاحِدًا وَلَا يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي الْمَأْخُوذِ بِهِ مِنْهُمَا، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: يُؤْخَذُ فِيهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَصْلُ السُّنَّةِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فَاتْرُكُوهُ ". وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِحُكْمِ السُّنَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْبَيَانِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُمَا، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنْ يُنْظَرَ فِي حُكْمِ السُّنَّةِ فَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا عُمِلَ عَلَى السُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ نَسْخًا عُمِلَ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ: فَإِنِ اتَّفَقَا وَكَانَ الْفِعْلُ فِيهِمَا مُوَافِقًا لِلْقَوْلٍ تَأَكَّدَ الْحُكْمُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ تَنَافَيَا فِيهِ وَكَانَ الْفِعْلُ فِي السُّنَّةِ مُخَالِفًا لِلْقَوْلِ: مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عَنِ الرَّسُولِ قَوْلٌ فَيُعْمَلُ بِخِلَافِهِ، وَالْأَحْكَامُ قَدْ تُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى مَا لَا يَتَنَافَيَانِ، مِثْلُ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَحُمِلَ نَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا، وَحُمِلَ فِعْلُهُ عَلَى الصلاة التي لها سبب، فيجب العمل بهما وَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَا يُوجِبُهُ اسْتِعْمَالُهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا بَيَّنَ اخْتِصَاصَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 104 بِالْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ، فَيُؤْخَذُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ، وَيُعْدَلُ عَنْ خُصُوصِ فِعْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثالث: أن لا يمكن استعمالهما لا تَبَيُّنُ اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التأخر مِنْهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْفِعْلِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ " فَإِنْ عَادَ فِي الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ " ثُمَّ رَفَعَ إِلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ وَقَالَ: " الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ فِي الْإِمَامِ: " وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ قاعدا وصلوا خلفه قياسا فدل على أن القعود منسوخ. فعل مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ جَعَلَ فِعْلَهُ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ بِالْفِعْلِ، لَكِنْ يَسْتَدِلُّ بِفِعْلِهِ الْمُخَالِفِ لِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى فِعْلِهِ قَوْلٌ نَسَخَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ثُمَّ وَرَدَ فِعْلُهُ الْمُخَالِفُ بَعْدَ قَوْلِهِ النَّاسِخِ فَاقْتَصَرَ النَّاسُ عَلَى نَقْلِ الْفِعْلِ دُونَ الْقَوْلِ لِظُهُورِ النَّسْخِ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ عَدَلَ عَنْهُمَا إِلَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِأَحَدِهِمَا فَكَانَ عَمَلُهُمْ بِأَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْآخَرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ بَيَانٌ وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُمَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فِي الْعَمَلِ بِهَا كَمَا قَالَ: " لَا مِيرَاثَ لقاتل " و " لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَنَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ السُّنَنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ فَيَصِيرُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حُكْمِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ فَتَدُلُّ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ لِلسُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَوْ نَقْلُهَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِتَرْكِ السُّنَّةِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْإِجْمَاعِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 105 وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَيَتْرُكُهَا بَعْضُهُمْ، فَالْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ وَاجِبٌ وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْضُهُمْ لِأَنَّ التَّارِكَ لَهَا مَحْجُوجٌ بِهَا. وَإِذَا رُوِيَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَمِلَ بِهَا ثُمَّ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عَنْهَا لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّؤَالُ إِذَا حَضَرَ لَلَزِمَتْهُ الْهِجْرَةُ إِذَا غَابَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّ وُجُوبَ السُّؤَالِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنْ كَانَتْ تَغْلِيظًا لَمْ يَلْزَمِ السُّؤَالُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَرْخِيصًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ عَنْهَا لِأَنَّ التَّغْلِيظَ الْتِزَامٌ وَالتَّرْخِيصُ إِسْقَاطٌ. وَإِذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ سَمَاعُ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّؤَالَ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَاصَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَزِمَهُ سَمَاعُ الْحَدِيثِ لِيَكُونَ أَصْلًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَنَقْلُ السُّنَنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. فَإِذَا نَقَلَهَا مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنِ الْبَاقِينَ وَإِذَا قَصَّرَ نَاقِلُوهَا عَنِ الْكِفَايَةِ خَرَجُوا أَجْمَعِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ. وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ الرِّوَايَةُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ. وَعَلَى مُتَحَمِّلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا إِذَا سُئِلَ عَنْهَا وَلَا يَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا إِذَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهَا إِلَّا أَنْ يَجِدَ النَّاسَ عَلَى خِلَافِهَا فَيَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا لِيَعْمَلُوا بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ: [ثالثا - الإجماع] ) وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ - وَهُوَ الْإِجْمَاعُ - فَالْإِجْمَاعُ هُوَ أَنْ يَسْتَفِيضَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ دَلَائِلِ الْأَحْكَامِ وَطُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى قَوْلٍ فِي حُكْمٍ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ وَتَكُونُ اسْتِفَاضَتُهُ عِنْدَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ فَتُعْتَبَرُ الِاسْتِفَاضَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ لِقَوْلِ مَنْ جُرِحَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَأْثِيرٌ فِي وِفَاقٍ أَوْ خِلَافٍ فَهَذَا حَدُّ الْإِجْمَاعِ. وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ. وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ إِمْكَانَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا وَإِنْ أَمْكَنَ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 106 وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] ؛ فَدَلَّ أَمْرُهُ بِاتِّبَاعِهِمْ عَلَى إِمْكَانِ اتِّفَاقِهِمْ وَوُجُوبِ إِجْمَاعِهِمْ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالَ {وَمَنْ يشاقق الرسول من بعدما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الْآيَةَ. فَصَارَ خِلَافُهُمْ مَحْظُورًا، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا " ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ إِلَّا عَلَى حَقٍّ فَقَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ". ثُمَّ جَعَلَ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ لِيَسْتَدِيمَ الْإِبْلَاغُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، فَجَعَلَ الرَّسُولَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ. وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ "، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أُمَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ هَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَذِبِ الْفَرِيقَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ أُمَّتِهِمْ، لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهَا. فَأَمَّا إِجْمَاعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى كَذِبِهِمْ فِي قَتْلِ عِيسَى فَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَقْلِ الْقَتْلِ الْمَأْخُوذِ عَنْ آحَادٍ تَعْتَرِضُهُمُ الشُّبْهَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى النَّقْلِ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بَاطِلًا. فَصَارَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: إِمْكَانُ وَجُودِهِ. وَالثَّانِي: لُزُومُ حُجَّتِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 107 وَالثَّالِثُ: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحَقِّ. وَالرَّابِعُ: وَجُوبُهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَحْكَامِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: مَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ. وَالثَّانِي: مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ. وَالثَّالِثُ: مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ. وَالرَّابِعُ: فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ. ( [الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ] ) : فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ يَنْعَقِدُ عَنْ دَلِيلٍ أَوْجَبَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا لَا مُوجِبَ لَهُ يَتَعَذَّرُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ الدَّاعِي إِلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ تَنْبِيهٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ فِي الْمِيرَاثِ كَالِابْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّتَيْنِ السُّدُسَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِانْتِشَارِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَرْتِيبِهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى نُصُبِ الزَّكَوَاتِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ تَوْقِيفٍ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تُسْقِطُ فَرْضَ الظُّهْرِ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَنْعَقِدَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ فِي الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ. فَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ دَلِيلٍ يَدْعُو إِلَيْهِ إِذَا وُجِدَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ وَجَوَازِ انْعِقَادِهِ. فَذَهَبَ شَاذٌّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما رآه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 108 الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ " وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِثْبَاتَ الشَّرْعِ دَلِيلٌ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اتِّفَاقَ الْكَافَّةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَا يُوجَدُ. وَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَحَدِ أَدِلَّتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَطْعِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِحَّتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِيَصِحَّ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِهِ فِي نَفْيِ الْعِصْمَةِ عَنْ آحَادِهِمْ فَكَذَلِكَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ مُوَجِبًا لِعِصْمَتِهِ كَمَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ. (فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِيمَا يَنْعَقِدُ به الإجماع] ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ: فَانْعِقَادُهُ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ قَوْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَامَّةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] فَخَصَّ أَهْلَ الْعِلْمِ دُونَ الْعَامَّةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ " وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ " وَقَدْ خَالَفَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ الْبَرَدَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ فَرَدُّوا قَوْلَهُ وَلَمْ يَعْتَدُّوا خِلَافَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ كُلِّهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِجْمَاعُ مُعْتَبَرٌ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَلَا يَنْتَقِضُ إِجْمَاعُهُمْ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِيهِمْ، وَقَبْضِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمْ، وَانْتِشَارِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْعِلْمَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 109 وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ خِلَافُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَتَّى قَالَ عَلَى مِنْبَرِهَا " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَيْعَهُنَّ جَائِزٌ " خِلَافًا وَجُعِلَ تَحْرِيمُ بَيْعِهِنَّ إِجْمَاعًا. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا مِنَ الْأَمْكِنَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 58] . وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِأَهْلِهِ لَا بِمَكَانِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ فِي طَلَبِ حَدِيثٍ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا عِنْدَهُ مِنْ دِيَةِ الْأَسْنَانِ؛ وَلِأَنَّ مَكَّةَ مَهْبِطُ الْقُرْآنِ وَمَقَامُ الرَّسُولِ بِهَا أَكْثَرُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُهَا فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقَّ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فِيهِ. وَإِنْ تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِالْخِلَافِ فَلَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ خِلَافَهُ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مُرْتَفِعًا وَالْإِجْمَاعُ بِغَيْرِهِ مُنْعَقِدًا كَمَا خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابَةَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ وَخَالَفَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي الْقُنُوتِ الْمُسَمَّى بِسُورَتَيِ أُبَيٍّ حِينَ جَعَلَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَمَا ذَهَبَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الصَّوْمِ إِسْفَارُ الصُّبْحِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ نَصٌّ فَيَكُونُ خِلَافُهُ مَانِعًا مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ أَصْغَرِهِمْ سِنًّا، كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَوْلِ فَقَالَ: " مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ " فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ مُرْتَفِعًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يَنْقُضُ الْإِجْمَاعَ وَيَكُونُ مَحْجُوجًا بِمَنْ عَدَاهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، قَدْ خَالَفَ أَبُو بَكْرٍ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 110 وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْتَشِرَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ فَيَكُونُوا فِيهِ بَيْنَ مُعْتَرِفٍ بِهِ أَوْ رَاضٍ بِهِ. فَإِنِ انْتَشَرَ فِيهِمْ وَأَمْسَكُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ اعْتِرَافٌ أَوْ رِضًى فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْصَارِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ إِمْسَاكِ غَيْرِهِ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعْرِضُونَ عَمًّا لَا يَتَعَيَّنُ فَرْضُهُ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ الَّذِي قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِفَضْلِ أَهْلِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَالَ: " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ مِنْ يَلِيهِمْ ". فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا أَوْ حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ عَنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، كَإِرَاقَةِ دَمٍ، أَوِ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ، إِذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى إِقْرَارِ مُنْكَرٍ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِجْمَاعًا لَا يُسَوَّغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ عَدَمَ الْخِلَافِ مَعَ الِانْتِشَارِ يَمْنَعُ مِنْ إِثْبَاتِ الْخِلَافِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا وَالِاجْتِهَادَ مَعَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَنْ نَسَبَ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حُكْمًا أَوْ فُتْيَا. وَفَرَّقَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ فُتْيَا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ حُكْمًا لِجَوَازِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُفْتِي. وَتَرَكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَقِّ الْعَصَا. وَعَكَسَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ حُكْمًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ إِجْمَاعًا إِنْ كَانَ فُتْيَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ وَفِي الْفُتْيَا عَنِ اسْتِبْدَادٍ. وَكِلَا الْفَرْقَيْنِ فَاسِدٌ لِاشْتِرَاكِ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ أَحَدِهِمْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ، فَيَرْضُوا بِهِ أَوْ ينكروه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 111 فَأَمَّا كَوْنُهُ حُجَّةً تُلْزِمُ الْعَمَلَ بِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ يُخَالِفُهُ. وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ جَلِيٌّ وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ فَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَوْلَى وَأَلْزَمُ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَهْدَى إِلَى الْحَقِّ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَتَحَاجُّونَ بِالْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا "، وَإِذَا لَزِمَهُمُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ كَانَ لِغَيْرِهِمْ ألزم. (فصل: ما يستقر به الإجماع) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ: فَمُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ. وَمَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنِ اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ. وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ أَوْكَدُ مِنْ حُجَجِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ حُجَّةً فَلَمْ يَلْزَمِ اجْتِمَاعُهُمَا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفَا. فَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ فِي الْقَوْلِ عَنْ عَمَلٍ يُخَالِفُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ كَانَ الْقَوْلُ إِجْمَاعًا. وَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِجْمَاعُ فِي الْعَمَلِ عَنْ قَوْلٍ يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ كَانَ الْعَمَلُ إِجْمَاعًا. فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ تَأْوِيلٌ. وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْقَوْلِ تَأْوِيلٌ لِمَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْقَوْلِ والعمل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 112 فَإِنْ جُهِلَ الِاتِّفَاقُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ إِجْمَاعٌ وَلَا خِلَافٌ لترددهما بين اتفاق يكون جماعا وَافْتِرَاقٍ يَكُونُ خِلَافًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إِجْمَاعٌ وَلَا خِلَافٌ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ. فَإِنْ خَالَفَهُمُ الْوَاحِدُ بَعْدَ إجماعه معهم بطل الإجماع وساع الْخِلَافُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْدُثَ إِجْمَاعُهُمْ بَعْدَ الْخِلَافِ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ خِلَافُهُمْ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَالَفَ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ بَيْعَهُنَّ لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ بِخِلَافِهِ الْإِجْمَاعُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا رَجَعَ بَعْدَ خِلَافِهِ حِينَ قَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ رَأْيَكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ ". فَإِنْ كَانَ هَذَا الرُّجُوعُ صَحِيحًا كَانَ تَحْرِيمُ بَيْعِهِنَّ إِجْمَاعًا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُؤْمَنَ حُدُوثُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَصْرِ رُبَّمَا أَحْدَثَ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافًا كَمَا خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا قُلْتَهُ فِي أيامه فقال هبته وكان امرءا مَهِيبًا. وَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَضِيقُ وَلَا يَنْحَصِرُ وَقَدْ تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ وَيَتَدَرَّجُ النَّاسُ مِنْ حَالٍ بَعْدَ حَالٍ وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْأَعْمَارِ وَالْآجَالِ. وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْقَرِضَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، قَدْ عَاشَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى إِلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ فَطَاوَلُوهُمْ فَجَمَعُوا بَيْنَ عَصْرَيْنِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ إِجْمَاعُهُمْ فِيهَا إِلَّا بِانْقِرَاضِهِمْ عَلَيْهَا. فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 113 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ شَرْطًا، وَالْإِجْمَاعُ مُسْتَقِرٌّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُحْدِثَ خِلَافًا فِيهِ، لِأَنَّهُمْ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ فِيهَا كَمَا أَجْمَعُوا مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَفِيهِ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمْ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ وَمَا سُفِكَ فِيهِ مِنَ الدِّمَاءِ أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ مُنْكَرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى مُنْكَرٍ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي. فَإِنْ لَحِقَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بَعْضَ التَّابِعِينَ فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يَمْنَعُ خِلَافُهُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ لَا يَرْتَفِعُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُمْ بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْفَظُ لِشَرِيعَتِهِ وَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُنَازَعَتَهُ الصَّحَابَةَ وَقَالَتْ: أَرَاكَ كَالْفَرُّوجِ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّيكَةِ صَايَحَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خِلَافَهُ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ صِغَرَ السِّنِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْقَوْلِ كَمَا خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صِغَرِ سِنِّهِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: اعْرَفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، فَيَكُونُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ حُجَّةٌ عَلَى تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَأْتِي مَا بَقِيَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَقَالَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: الْإِجْمَاعُ اللَّازِمُ يَخْتَصُّ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوحَ الْحَقِّ مُسْتَدِيمٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَصْرٌ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ إِجْمَاعُهُمْ لَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ مَحْجُوجِينَ بِنَقْلِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مَحْجُوجِينَ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لِيَكُونَ الشَّرْعُ مَحْرُوسًا بِهِمْ مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ نَاوَأَهَا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 114 (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ: فَيَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْدُثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ خِلَافٌ، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مَانِعٌ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ وَارْتَفَعَ بِخِلَافِهِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَوْلِ وَكَالَّذِي رَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَارْتَفَعَ بِرُجُوعِهِ الْإِجْمَاعُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِلَافِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْحَادِثُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ثُمَّ وَافَقُوا أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ خِلَافِهِمْ لَهُ، فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ إِجْمَاعٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بَعْدَ الْتِبَاسٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُقْتَرِنٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْدُثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فِي عَصْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافِ التَّابِعِينَ لَهُمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفُوهُمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْأُصُولِ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مُطَّرِحٌ وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَقَدِّمُ مُنْعَقِدٌ، لِأَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ قَاهِرَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ فَيَحْدُثُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحُدُوثِ مَا اخْتَلَفَ مِنْ صِفَاتِهَا فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِي الصِّفَاتِ مُنْعَقِدًا وَحُدُوثُ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ سَائِغًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَاتِ الْحَادِثَةِ لَا يُبِيحُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِيهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَجَعَلُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ، وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبْطَالِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهُ فِي الصَّلَاةِ أَبْطَلُوا تَيَمُّمَهُ اسْتِصْحَابًا لِبُطْلَانِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا بِقِيَاسٍ كَمَا لَوِ اسْتَيْقَنَ الطُّهْرَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَجَبَّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْيَقِينِ وَيَلْغِيَ حُكْمَ الشَّكِّ. وَهَذَا فَاسِدٌ، وَلِكُلِّ حَالٍ تَجَدَّدَتْ حُكْمٌ تَوَقَّفَ عَلَى الدَّلِيلِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا، وَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِي الْحَالِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا، وَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 115 يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، لَا الْإِجْمَاعَ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا عَدَا حَالَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَسُغِ الِاجْتِهَادُ فِي حَالَةِ الْإِجْمَاعِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي حُكْمٍ. فَأَمَّا حَمْلُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْيَقِينِ فَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهَا دَلِيلًا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا. وَقَوْلُهُ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي حُكْمٍ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ: قَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي وَيَجِبُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي النَّفْيِ كَمَا تَجِبُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ عَلَى النَّافِي كَوُجُوبِهِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفِيُ الْحُكْمِ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّبَ عَلَى الْأَحْكَامِ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. وَالنَّافِي لِلْحُكْمِ مُثْبِتٌ لِضِدِّهِ فَلَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. فَأَمَّا وُجُوبُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ فَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ كَبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى الْبَيِّنَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِمَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْدُثَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْخِلَافِ فِي عَصْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَيُجْمِعُ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا: فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمَ الِاخْتِلَافِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، لِأَنَّ انْقِرَاضَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمِ إِجْمَاعٍ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ إِبْطَالِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ فَصَارَ فِي إِثْبَاتِ إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ إِبْطَالُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسَبِيُّ وَتَابَعَهُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَدْ زَالَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ بِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ كَمَا يَزُولُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ إِجْمَاعُهُمْ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِهِمْ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ انْقِرَاضِهِمْ عَلَى اخْتِلَافٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 116 فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمٍ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى ثَالِثٍ صَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا عَدَا الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ. مِثَالُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ انْقَرَضُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجَعَلَ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ أَحَقَّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ فِي الْقَوْلَيْنِ بِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ فَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى تَسْوِيغِ هَذَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُوجِبٌ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا خَرَجَ عَنِ الْقَوْلَيْنِ، وأن الحق في أحدهما، فلم يجر لِلتَّابِعِيِّ أَنْ يُبْطِلَ مَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ السَّمْعِ. وَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ سُنَنِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ نَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى كَذَا فَقَطَعَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُ وَأُثْبِتَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ قَالَ الرَّاوِي لَمْ أَعْرِفْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِرِوَايَتِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهِ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ بِهَا وَجَعَلَ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ إِثْبَاتًا لِلْإِجْمَاعِ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا النَّفْيِ وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ تَوْجِيهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (فصل: [رابعا - القياس] ) فَأَمَّا الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَهُ مُقَدِّمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الِاجْتِهَادُ. وَالثَّانِيَةُ: الِاسْتِنْبَاطُ. (الاجتهاد) فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ وَكَدِّهَا فِي طَلَبِ الْمُرَادِ بِهِ. كَمَا أَنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ فِي قَهْرِ الْعَدُوِّ، وَالِاجْتِهَادُ هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 117 وَزَعَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ الْقِيَاسُ وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ. وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ: إنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ مَعْنَى الْقِيَاسِ. يُرِيدُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حُكْمٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَافْتَرَقَا، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، وَقَدْ لَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الِاجْتِهَادَ مُقَدِّمَةً لِلْقِيَاسِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَهُ أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَجُوزُ له الاجتهاد. والثاني: فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِالِاجْتِهَادِ. وَالرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ. ( [مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ] ) : فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مُجْتَهِدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ. والثاني: مجتهد في مخصوص منها. المجتهد في جميع الأحكام: فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: إِشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِوُجُوهِ النُّصُوصِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 118 وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ. وَالثَّالِثُ: الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فِيهِ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ. لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَهُمَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَرَدَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ. أَمَّا الْكِتَابُ مَعَ ظُهُورِ لِسَانِهِمْ فِيهِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ به الروح الأمين ... إِلَى قَوْلِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192: 195] . وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِهِ، لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَنْقُلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ أَلْسِنَةِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ إِبْطَالًا لِمَنْ جَوَّزَ ذَاكَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ شَيْءٌ وَإِنِ اتَّفَقَ لِسَانُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، إِبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً كَالسُّنْدُسِ، وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالْقِسْطَاسِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي وُرُودِهَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَلِأَنَّ الْعَرَبَ أَوَّلُ مَنْ أُنْذِرَ بِالْقُرْآنِ وَدَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَكُلِّفُوا الْفُرُوضَ وَالْأَحْكَامَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَبْعُوثًا إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِهِمْ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ فَلِمَ صَارَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ؟ قِيلَ لَا تَخْلُو رِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِجَمِيعِ أَلْسِنَتِهِمْ وَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْمُسْتَطَاعِ أَنْ يَرِدَ كُلُّ فَرْضٍ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرًا بِكُلِّ لِسَانٍ. وَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِ الْأَلْسُنِ كَانَ لِسَانُ الْعَرَبِ بِهِ أَحَقَّ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِسَانَهُمْ أَوْسَعُ وَكَلَامَهُمْ أَفْصَحُ. وَالثَّالِثُ: لِفَضْلِ الْمَتْبُوعِ عَلَى التَّابِعِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَبِيُّ النَّسَبِ وَالدَّارِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَتْبُوعٍ فَكَانَ لِسَانُهُ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تابعا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 119 وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِ مُجْتَهِدٍ. إِلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِهِ مَا اخْتَصَّ بِتَكْلِيفِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَمَا تَتَضَمَّنُ الصَّلَاةُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا عَدَاهُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا يَتَدَرَّجُ إِلَيْهِ فِي نَوَازِلِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالْأَذْكَارَ ". وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْرِفَةَ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي حُقُوقِ الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُ يُبِيحُ الْقِرَاءَةَ وَالْأَذْكَارَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَلْزَمُهُ فِي حُقُوقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِسَانُ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِعِلْمِ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ. قِيلَ: لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ، وَالَّذِي يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ لِيَرْجِعَ فِيمَا عَزَبَ عنه إلى غيره أن جَمِيعَ السُّنَّةِ لَا يُحِيطُ بِهَا وَاحِدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يُحِيطُ بِهَا جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ. وَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهَا صَحَّ اجْتِهَادُهُ لِيَرْجِعَ فِيمَا عَزَبَ عَنْهُ إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمُجْتَهِدِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ. فَإِنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِيهِ. وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ أَوِ الْفُتْيَا كَانَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ وَإِنْ لم تكن شرطا في صحة اجتهاده. ( [المجتهد في حكم خاص] ) : وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَصِحَّةُ اجْتِهَادِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ كَانَ الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ صِحَّةَ الْبَصَرِ وَمَعْرِفَةَ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ. وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ كَانَتْ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ مُعْتَبَرَةً بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يُرَاعِي مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الصَّغَائِرِ وَتَغْلِيبِ الْحُكْمِ فِي الْكَبَائِرِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 120 وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي الْمِثْلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَتْ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ فِيهِ مُعْتَبَرَةً بِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ فِي ذِي الْمِثْلِ وَمَعْرِفَةِ الْقِيَمِ فِي غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا عَدَاهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُجْتَهِدِ تَعَلَّقَ بِهِ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّانِي: جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء. ( [جواز اجتهاد الْأَنْبِيَاءِ] ) : فَأَمَّا اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ. فَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْتَهِدُوا وَلَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَجْتَهِدَ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَقَّفَ فِي إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَجْتَهِدْ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَوَقَّفَ فِي اللِّعَانِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَتَوَقَّفَ فِي مِيرَاثِ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِأَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا. وَلَوْ سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَسَارَعَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الظاهر من مذهب الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْتَهِدُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78 - 79] وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ سَائِغًا وَكَانَ جَمِيعُ أَحْكَامِهِمْ نَصًّا لَمَا أَخْطَأَ دَاوُدُ وَلَا أَصَابَ سُلَيْمَانُ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اجْتَهَدَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ وَفِيمَنِ اشْتَرَطَ رَدَّهُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَأَمَّا تَوَقُّفُهُ فِي اللِّعَانِ وَفِي مِيرَاثِ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ فَلِيَعْلَمَ هَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ نَصٌّ فَلَا يَجْتَهِدُ أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَيَجْتَهِدُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فَضِيلَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ عَنْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَإِنَّمَا الْوَحْيُ بحسب الأصلح. فإذا صح اجتهاده فقد اختلف أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ وَجَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ لِلْأَحْكَامِ أَصْلًا هُوَ الْكِتَابُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ سُنَّتِهِ إِذَا خَلَا الْكِتَابُ مِنْهَا. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَجَائِزًا لَهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى حُقُوقِهِمْ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ، فَلَزِمَهُ وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الِاجْتِهَادَ فِي حُقُوقِهِ أَمَرَهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 121 ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ أَوْ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي مَا خَفِيَ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، فَكَانَ اجْتِهَادُهُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ الْكِتَابِ قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، فَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّمَا أَجْتَهِدُ رَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي عِصْمَةِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي اجْتِهَادِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ لِتَسْكُنَ النَّفْسُ إِلَى الْتِزَامِ أَوَامِرِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ. وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ لِوُجُودِهِ مِنْهُمْ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ دَاوُدَ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَاسْتَدْرَكَهُ اللَّهُ بِإِصَابَةِ سُلَيْمَانَ، وَاجْتَهَدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَسْرَى بَدْرٍ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَأَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] . وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدُوا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ. وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُومُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ لِانْخِتَامِ النُّبُوَّةِ بِهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ بُعِثَ بَعْدَهُ مَنْ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقَرِّينَ عَلَى الْخَطَأِ فِي وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَلَا يُمْهَلُونَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَسْتَدْرِكَهُ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيٍّ فَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ. فَهَذَا حُكْمُ اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ. فَأَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيهَا الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ ضَجَّةً بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: إِنَّهُمْ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ. فَقَالَ: " وَمَا يَنْفَعُ ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُ لَمْ يَضُرَّهُمْ " فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَقَلَّ حَمْلُ النَّخْلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَرَدُّوهُ إِلَيَّ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ به ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 122 (فصل: جواز الاجتهاد في زمن الأنبياء) : وَأَمَّا جَوَازُ اجْتِهَادِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غَائِبًا عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى سُؤَالِهِ فِي وَقْتِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَوَالِيَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَيَجُوزُ اجْتِهَادُ ذِي الْوِلَايَةِ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ مُعَاذًا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ فَاسْتَصْوَبَهُ وَحَمِدَهُ. وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِذْ قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ مُسْتَحَبًّا، وَيَكُونُ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ أَثَرًا مَتْبُوعًا مَا لَمْ يَرِدْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ كَمَا اتَّبَعَ مُعَاذٌ فِي قَوْلِهِ: " أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ وَالْمِخْلَافُ الْقَرْيَةُ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ إِذْنًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا تَضَمَّنَهَا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ مِنْهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ. فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُخَافُ فَوَاتُهُ جَازَ اجْتِهَادُهُ فِيهِ وَعَلَيْهِ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ فَوَاتُهُ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُشَرِّعَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ لِيَعْمَلَ بِمَا كُلِّفَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَيَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ ". فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِي اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 123 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى يَسْأَلَ إِنْ حَضَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمَ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُشَرِّعًا بِغَيْرِ أَصْلٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَائِبًا عَنْ مَجْلِسِهِ. فَإِنْ رَجَعَ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيُفْتِيَ قَدْ سَأَلَ الْعَجْلَانِيُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ [بِالْمَدِينَةِ] عَنْ قَذْفِ امْرَأَتِهِ بَيْنَ أَسْمَاءَ فَقَالَ لَهُ: حَدٌّ فِي جَنْبِكَ إِنْ لَمْ تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ فَتَوَقَّفَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْعَجْلَانِي سُؤَالَ غَيْرِهِ، وَلَا أُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَجَابَهُ مَعَ حُضُورِهِ. وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ الْمُجْتَهِدُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدَ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادَهُ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يُعْجِبُنِي وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَامِرِ بِهَا وَالْمُعَامَلَاتِ تَخْفِيفٌ تُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عَنْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاجْتِهَادُهُ مُعْتَبَرٌ بِأَمْرِ الرَّسُولِ. فَإِنْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ كَمَا حَكَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَاسْتِرْقَاقِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا حُكْمٌ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرُّهُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ صَحِيحًا كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِحَضْرَةِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ وَقَدْ حَصَلَ مَعَ غَيْرِ قاتله: " لا هاء الله إذا تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنُعْطِيكَ سَلَبَهُ ". فَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَصَحَّ اجْتِهَادُهُ حِينَ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مَا ذَكَرْنَاهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 124 (فصل: [وجوه الاجتهاد] ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ حُكْمِهِ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَحْوِ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَالَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَنَوَازِلُ الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَقِفُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُضَاعَةً لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ تُوصِلُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ النَّوَازِلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 4] ، وَرَوَى الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ما تركت شيئا مما أمركم بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ". فَدَلَّتِ الْآيَةُ فِي إِكْمَالِ الدِّينِ وَدَلَّ الْخَبَرُ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، عَلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا أُصُولًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُغْفِلَ بَيَانُهُ فِيهِمَا وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لِيَكُونَ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَالْأَحْكَامُ قَدْ وَضُحَتْ، فَإِنَّ النُّصُوصَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَعْدُولٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَاقٌّ فِي الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِهِ. وَالثَّانِي: لِيَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ. فَصَحَّ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَسْتَخْرِجُ بِهِ حُكْمَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ. وَإِذْ قَدْ مَضَى الِاجْتِهَادُ فِي أَعْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَبَ أَنْ يُوَضَّحَ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا بَعْدَهُمْ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا مِنَ الْبُرِّ فَهَذَا صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ شَبَهِ النَّصِّ كَالْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ تَمَلُّكِهِ لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يُمَلَّكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَشُبْهَةُ الْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِمَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ غَيْرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بالترجيح. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 125 وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ إِجْمَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي مُتْعَةِ الطَّلَاقِ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي إِجْمَالِ قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فَأَطْلَقَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ، فَاحْتُمِلَ قَبْلَ عَرَفَةِ وَبَعْدَهَا وَأَطْلَقَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فَاحْتُمِلَ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ وَإِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ: كَقَوْلِهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الْآيَةَ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى لِكُلِّ مسكين مدين. وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسَرِ بِمُدٍّ بِأَقَلِّ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي شهر رمضان لكل مسكين مدا. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلٍ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّرْعِ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ أَصْلٍ، وَقَدِ اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى مَا دُونَ الْحُدُودِ بِآرَائِهِمْ فِي أَصْلِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ، وَفِي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلْدَاتٍ فِي حَالٍ، وَبِعِشْرِينَ فِي أُخْرَى، وَبِثَلَاثِينَ فِي أُخْرَى، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَبَيْنَ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ القياس. (فصل: [ما يجب في الاجتهاد] ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ فِي الِاجْتِهَادِ: فَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 126 بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنُّصُوصِ. وَالَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَقَّ مَا كَانَ عِنْدَهُ حَقًّا لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ فَيَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الَّذِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ هُوَ الِاجْتِهَادُ لِيَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ. وَيُقَالُ إِنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ مَذْهَبَهُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ يَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ كَقَوْلِنَا، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادَ لِيَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَدِ اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي هَذَا حَتَّى الْتَبَسَتْ وَاشْتَبَهَتْ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ بِغَيْرِ أَصْلٍ بِأَنَّ مَا أَخْفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى إِظْهَارِهِ وَفِي الْتِزَامِهِ تَكْلِيفُ مَا خَرَجَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ كَإِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِدْلَالٌ وَالْحُكْمُ هُوَ الْحَقُّ الْمَطْلُوبُ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مَقْصُودٌ بِمَدْلُولٍ عَلَيْهِ وَقَدْ نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْفَاهُ أَمَارَاتٍ تُوصِلُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ. (فَصْلٌ: [فِي حُكْمِ الاجتهاد] ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حِكَمِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الحُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ مِنْ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ تَخْتَلِفُ. فَإِنِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُهُمْ صَارَ إِجْمَاعًا تَعَيَّنَ فِيهِ الْحَقُّ وَسَقَطَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ بَعْدِهِ كَسُقُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ بَعْدَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقَاوِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 127 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ الْعِبَادُ طَلَبَهُ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحَقِّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَخْطَأَ فِي الْحَقِّ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَشَذَّ عَنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ أُصُولَ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَا تَخْتَلِفُ فَلَمْ يَصِحَّ تَجْوِيزُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَزْمَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُسَوَّغًا فِيهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنِ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ: أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَفِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ وَفِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنُهَا حَيٌّ وَفِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ اخْتِلَافِ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْجَمِيعِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيِّنٌ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ لِشَخْصٍ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِتَنَافِيهِ وَتَنَاقُضِهِ، وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ أَمْ لَا. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ، فَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَخْطَأَ فِي الْحُكْمِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنِ الْمُصِيبُ إِلَّا وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 128 وَاحِدٍ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ. وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَصَابَ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّ لَهُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ قَوْلَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ وَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا مُخْتَلِفٌ فَيَجْعَلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَيَجْعَلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُخْطِئًا إِلَّا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ كَقَوْلِنَا. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا مَا أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ إِلَى الْخَطَأِ وَسُلَيْمَانَ إِلَى الْإِصَابَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ففهمناها سليمان} وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " فَنَسَبَهُ إِلَى الْخَطَأِ وَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِصَابَةِ لَمَا شُورِكَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَجْرِ. قِيلَ: وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْإِصَابَةِ لَمَا فُوضِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَجْرِ. وَقَدْ خَطَّأَ الصَّحَابَةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَلَا لَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا " وَقَالَ فِي الْعَوْلِ " مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالَجَ عَدَدًا مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْمَالِ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا، هَذَانِ النِّصْفَانِ قَدْ ذَهَبَا بِالْمَالِ فَأَيْنَ الثُّلُثُ " وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ فِي الْمُجْهِضَةِ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلَّمٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ فَعَلَيْكَ الدِّيَةُ فَلَمْ يُنْكِرُوا خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اسْتَجَازُوا أَنْ يُوَلُّوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَمَا اسْتَجَازُوا تَوْلِيَةَ مُخَالِفٍ، قِيلَ قَدْ أَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَى شُرَيْحٍ حِينَ خَالَفَهُ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، وَقَالَ: عَلَيَّ بِالْعَبْدِ الْأَبْطَرِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ. عَلَى أَنَّ نُفُوذَ الِاجْتِهَادِ عَيْنُ الْحُكْمِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ وَقْتَ الْحُكْمِ. وَلِأَنَّ تَصْوِيبَ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ يُؤَدِّي إِلَى تَصْوِيبِ مَنْ نَفَى تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ فَصَارَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّصْوِيبِ رَاجِعًا عَلَيْهِ فِي إِبْطَالِ التَّصْوِيبِ. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا وَاحِدًا هُوَ الْمُصِيبُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَعَلَى الصَّوَابِ، وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فَغَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْخَطَأِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ وإن أخطأ فيه لقصد الصواب وإبن لَمْ يَظْفَرْ بِهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ هُوَ مَأْثُومٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِخَطَئِهِ فِيهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 129 وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: لَيْسَ بِمَأْجُورٍ عَلَيْهِ وَلَا مَأْثُومٍ فِيهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ". وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ لِأَجْلِ هَذَا يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَ أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ مِنْ الِاجْتِهَادِ، مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وَاحِدًا. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّوَابِ وَلَمْ يُكَلَّفْ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِنِيَّتِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَبِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نِيَّةُ الْمَرْءِ مِنْ خَيْرٍ مِنْ عَمَلِهِ ". وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ مِنْ خَطَئِهِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِي: يَعْنِي أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ مِنْ خَيِّرَاتِ عَمَلِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ مِنَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَيُعَجِّلُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا. (فصل: [الاستنباط] ) وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ: وَهُوَ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ فَرْعًا لَهُ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي تِلْوَ الِاجْتِهَادِ فِي الدَّلَائِلِ، وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ تَكُونُ بَعْدَ اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي، فَلِذَلِكَ صَارَ الِاسْتِنْبَاطُ فَرْعًا لِلِاجْتِهَادِ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ. وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ الَّذِي اسْتُخْرِجَ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبَطُ لِاسْتِنْبَاطِهِمُ الْمَاءَ بِالِاسْتِخْرَاجِ لَهُ مِنْ مَعَادِنِهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ. فَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظٌ ظَاهِرَةٌ تُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ. وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ تُعْرَفُ بِالِاسْتِنْبَاطِ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا عَنْهُ، فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَحَقَّ بِالْحُكْمِ مِنْ الِاسْمِ، لِعُمُومِ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي، وَخُصُوصِ الِاسْمِ بِالْوُقُوفِ. وَلَئِنْ كَانَتِ العاني تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِيهَا فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لمعانيها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 130 لِتَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ تَوَزَّعْنَا فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَعَانِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ كَافِيًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ لِيُعْلَمَ بِالْقِيَاسِ حُكْمُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ مِنْ مَعَانِي مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، فَمَا وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى النَّصِّ شَارَكَهُ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا، وَمَا عُدِمَ فِيهِ مَعْنَى النَّصِّ خَالَفَهُ فِي حُكْمِهِ عَكْسًا فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الْإِثْبَاتِ فِي الطَّرْدِ وَحُكْمِ النَّفْيِ فِي الْعَكْسِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الطَّرْدِ فِي الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِحُكْمِ الْعَكْسِ فِي النَّفْيِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ صِحَّةَ الْعِلَّةِ بِالطَّرْدِ دُونَ الْعَكْسِ وَذَاكَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ صِحَّتَهَا بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا وَجَبَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ حَتَّى تَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ. وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ. فَصَارَ الْمَعْنَى مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْعِلَّةُ مَا ثَبَتَ بِهَا حُكْمُ الْفَرْعِ. ثُمَّ هُمَا بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الِاجْتِمَاعِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةَ مَوْجُودَانِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي الِافْتِرَاقِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا مِنَ الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ وَالْمَعَانِي لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلَلٍ، لِأَنَّ الطَّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا. وَقَدْ أَلِفَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنِ الْمَعْنَى بِالْعِلَّةِ وَعَنِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْنَى وَلَا يُوقِعُوا بَيْنَهُمَا فَرْقًا إِمَّا اتِّسَاعًا وَإِمَّا اسْتِرْسَالًا. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ تُعْتَبَرُ بِهَا صِحَّتُهُمَا ثُمَّ تَخْتَصُّ الْعِلَلُ دُونَ الْمَعَانِي بِشَرْطَيْنِ مختلف فيهما. ( [شروط صحة المعاني والعلل] ) : فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّتِهِمَا: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 131 فَأَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى لِلْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ لَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا لِاسْمِهِ وَلَا لِهَيْئَةِ جِسْمِهِ، وَلَكِنْ رَجَمَهُ لِلزِّنَا فَصَارَ الزِّنَا عِلَّةَ الرَّجْمِ، كَمَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرِّبَا فِي الْبُرِّ لَيْسَ، لِأَنَّهُ مَزْرُوعٌ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَكَانَ الطَّعْمُ عِلَّةَ الرِّبَا دُونَ الزَّرْعِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةَ عَلَى الْأُصُولِ وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ لَهُمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا فلم يجزان يَكُونَ رَافِعًا لَهُمَا، فَإِذَا رَدَّهُ أَحَدُهُمَا بَطَلَ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُمَا فَإِنَّ الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْأَضْعَفِ كَمَا أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْقِيَاسِ، وَمَا أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ الْأَقْوَى فَهُوَ الْبَاطِلُ بِالْأَقْوَى. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ فَيُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِمَا فَيَسْلَمَا مِنْ نَقْضٍ أَوْ كَسْرٍ. فَإِنْ عَارَضَهُمَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ فَعُدِمَ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهِمَا فَسَدَ الْمَعْنَى وَبَطَلَتِ الْعِلَّةُ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعِلَّةِ يَرْفَعُهَا وَفَسَادَ الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَازِمٌ وَالْعِلَّةَ طَارِئَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ إِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ بَاقِيًا فِي الْبُرِّ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بَاطِلًا وَالْمَعْنَى بَاقِيًا. وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ لِيَسْلَمَ مِنَ النَّقْضِ الْمُعْتَرَضِ وَيَكُونُ دُخُولُ النَّقْضِ عَلَيْهِمَا بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِمَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا. فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا اعْتِبَارًا بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا؛ لِأَنَّهَا لَفْظٌ مَنْطُوقٌ بِهِ فَجَرَى مَجْرَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، كَمَا عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ، وَجَوَّزَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فِي الْعَرَايَا وَإِنْ نَقَصَ إِذَا يَبِسَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَا يُفْسِدُهَا بِمُعَارَضَةِ النَّقْضِ، لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ كَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَنْبَطُ مِنْ عُمُومٍ مَخْصُوصٍ هِيَ لَهُ فَرْعٌ وَهُوَ لَهَا أَصْلٌ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَلَامَةُ الطَّرْدِ مُعْتَبَرًا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 132 فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا تَخْرُجُ عَنْ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا عَارَضَهَا نَقْضٌ لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيلُ بِالْمُنْتَقِضِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالنَّاقِضِ؛ فَتَعَارَضَا بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى مَا لَا تَعَارُضَ فِيهِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ صَحَّتِ الْمَعَانِي بِهَا. وَكَانَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بَعْدَهَا مُخْتَلَفًا فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي شَرْطَيْنِ هَلْ يُعْتَبَرَانِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَلِ أَمْ لَا: أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ: عَكْسُ الْعِلَّةِ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّتِهِمَا كَمَا اعْتُبِرَ فِي صِحَّتِهَا الطَّرْدُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ: إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا صِحَّةُ الْعَكْسِ، وَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِهَا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ دُونَ نَفْيِهِ وَكَمَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِذَا طُرِدَ وَلَمْ يَنْعَكِسْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صِحَّةَ الْعَكْسِ مُعْتَبَرٌ فِيهَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا فَسَدَتِ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَدِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِعِلَلِ الْعَقْلِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ فِي ارْتِفَاعِهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي وُجُودِهَا، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْعَكْسِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وُقُوفُ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهَا فِيمَا عَدَاهُ، كَوُقُوفِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَيْهِمَا تَعْلِيلًا بِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ وَقِيمَةٌ وَهُوَ مَعْنًى لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِمَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَكُونُ عِلَّةً لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي أُصُولِهِ: لَا تَكُونُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا جَذَبَتْ حُكْمَ الْأَصْلِ إِلَى فُرُوعِهِ، وَيَجْعَلُ ثُبُوتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالِاسْمِ دُونَ الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِنَّهَا عِلَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَتَعَدَّ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ وُقُوفَهَا يُوجِبُ نَفْيَ حُكْمِ الْأَصْلِ عَنْ غَيْرِهِ وَكَمَا أَوْجَبَ تَعَدِّيَهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي غَيْرِهِ فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا فِي النَّفْيِ كَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا فِي الْإِثْبَاتِ فَاسْتُفِيدَ بِوُقُوفِهَا وَتَعَدِّيهَا حُكْمٌ غَيْرُ الْأَصْلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثُبُوتُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ. فَصَارَتْ صِحَّةُ الْمَعَانِي مُعْتَبَرَةً بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ، وَفِي صِحَّةِ الْعِلَلِ وجهان: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 133 أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ كَالْمَعَانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِسِتَّةِ شُرُوطٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ من فرق بين المعاني والعلل. (فصل: [إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال] ) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَنْبِطِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا حُكْمَ الْأَصْلِ فِي الْكَشْفِ عَنْ مَعَانِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ عَلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى النَّصِّ وَمُعْتَبَرٌ بِالِاسْمِ. وَإِنْ وَجَدَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا في الحكم سير جَمِيعَ مَعَانِيهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُعْتَبَرًا بِأَقْوَى مَعَانِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَخْلُ مَعَانِي الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا: - فَإِنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَصْلِ كَالرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهِيَ الْعِلَّةُ الْوَاقِفَةُ وَهَلْ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَى أَوْ بِالِاسْمِ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ: وَإِنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَصِحَّ. فَإِنْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْلَمَ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِمَعْنًى آخَرَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ عِلَّةً فِي حُكْمِ الْفَرْعِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَعَارَضَ مَعَانِي الْأَصْلِ فِي جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّفِقَ أَحْكَامُهَا فِي الْفُرُوعِ فَيُوجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ مَا يُوجِبُهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ الْمُسْتَنْبِطُ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَيِّهَا شَاءَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِأَيِّ دَلَالَةٍ شَاءَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَخْتَلِفَ أَحْكَامُ الْمَعَانِي فِي الْفُرُوعِ، فَيُوجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا يُوجِبُهُ الْآخَرُ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِأَنَّهُ مُقْتَاتٌ، وَبِأَنَّهُ مَأْكُولٌ، وَبِأَنَّهُ مَكِيلٌ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 134 وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فُرُوعٌ يَجْتَذِبُهَا لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ دُونَ الْأَخَصِّ، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِأَنَّهُ مُقْتَاتٌ، وَتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ، وَالْقُوتُ يَدْخُلُ فِي الْمَأْكُولِ، فَكَانَ تَعْلِيلُهُ بِالْأَكْلِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْقُوتِ، لِعُمُومِ الْأَكْلِ وَخُصُوصِ الْقُوتِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي الثَّانِي: كَالتَّعْلِيلِ بِالْأَكْلِ وَالتَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَكْثَرَ فُرُوعًا مِنَ الْآخَرِ فَيَكُونُ أَكْثَرُهُمَا فُرُوعًا أَوْلَى وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَحَقُّ لِكَثْرَةِ بَيَانِهِ بِكَثْرَةِ فُرُوعِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَارَبَ فُرُوعُهُمَا، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَكْثَرِ الْأُصُولِ مَعَ أَحَدِهِمَا وَشَوَاهِدُ أَقَلِّهَا مَعَ الْآخَرِ فَيَكُونُ أَكْثَرُهُمَا شَوَاهِدَ أَوْلَى، وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَحَقُّ، لِقُوَّتِهِ بِكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَسَاوَى شَوَاهِدُ الْأُصُولِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، فَيَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيَكُونُ اجْتِمَاعُهُمَا مَعًا عِلَّةً فِي فُرُوعِ الْأَصْلِ، لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَاسْتِيعَابِهِمَا لِفُرُوعِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ لِدُخُولِ الْكَسْرِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْأَصْلِ فَيَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ. فَإِنْ سَلِمَا بِالِاجْتِمَاعِ مِنْ كَسْرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا صَارَا جَمِيعًا مَعْنَى الْحُكْمِ فِي الأصل وعلة الحكم في الفرع. وإن لم يَسْلَمِ الْمَعْنِيَانِ مِنْ كَسْرٍ ضَمَمْتَ إِلَيْهِمَا مَعْنًى ثَالِثًا. فَإِنْ سَلِمَتِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ صَارَ جَمِيعُهَا معنى الحكم في الأصل وعلة الحكم في الفرع. وإن لم نسلم الثَّلَاثَةُ مِنْ كَسْرٍ ضَمَمْتَ إِلَيْهَا رَابِعًا. فَإِنْ لَمْ تَسْلَمْ ضَمَمْتَ إِلَيْهَا خَامِسًا كَذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى تَجْمَعَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَصْلِ فَيَتَبَيَّنَ بِاجْتِمَاعِ مَعَانِيهِ وُقُوفُ حُكْمِهِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِمَا لَمْ تَتَعَدَّ مَعَانِيهِ وَأَبْطَلَ بِهِ الْعِلَّةَ الْوَاقِفَةَ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 135 وَحَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَعَانِي الْعِلَّةِ وَمَنَعَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَيَانٌ وَبُرْهَانٌ. فَأَمَّا إِنْ تَعَارَضَ التَّعْلِيقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُسْتَنْبَطٌ كَانَ مَعْنَى النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مَعْنَى الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ. وذلك مثل تعليل مال الفيء تعالى: {كيلا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] الْآيَةَ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ " وَكَمَا عَلَّلَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ بِأَنْ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ: " أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ " قِيلَ: نَعَمْ قَالَ: فَلَا إِذَنْ. فَهَذَا التَّعْلِيلُ كُلُّهُ عَنْ نُصُوصٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ بِعِلَلٍ مُسْتَنْبَطَةٍ. (فَصْلٌ: تَعْرِيفُ القياس) : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَالْقِيَاسُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا؛ لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ؛ حَتَّى يُشْرِكَهُ فِي حُكْمِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْعِلَّةِ فَصَارَ الْقِيَاسُ إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ اسْمُ الْقِيَاسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا قِيَاسُ هَذَا أَيْ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحُكْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْإِصَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قِسْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَصَبْتُهُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ. (حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ) : وَالْقِيَاسُ: أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةٌ تُسْتَخْرَجُ بِهَا أَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالنُّصُوصُ فِي الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعَانِيهَا إِذَا عَقِلَتْ وَبِالْأَسْمَاءِ إِذَا جَهِلَتْ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُهَا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِهَا. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ فَأَثْبَتَهُ أَكْثَرُهُمْ دَلِيلًا، وَأَثْبَتَهُ شَاذٌّ مِنْهُمْ دَلِيلًا بِالْعَقْلِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 136 يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُكْمٍ فِي فَرْعٍ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْمَعَانِي. وَهَذَا قَوْلُ النَّظَّامِ وَدَاوُدَ وَالْقَاسَانِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَالنَّهْرُبِينِيِّ وَالشِّيعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ نَفْيِهِ. فَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَقْلِ. وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ بِالشَّرْعِ. وَنَفَاهُ دَاوُدُ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ. وَهَذَا خِلَافٌ حَدَثَ مِنْهُمْ فِي نَفْيِهِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ بِإِثْبَاتِهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اسْتِدْلَالًا مِنْ وَجْهَيْنِ ظَاهِرٍ مَنْقُولٍ وَمَعْنًى مَعْقُولٍ. فَأَمَّا الظَّاهِرُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . وَفِي الِاعْتِبَارِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبْرَةِ: وَهِيَ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَمِنْهُ عِبْرَةُ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَاسَ خَرَاجُ عَامٍ بِخَرَاجِ غَيْرِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ. وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ وَبِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قال من يحيي العظام وهي رميم، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79] . فَجَعَلَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ دَلِيلًا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَهَذَا قِيَاسٌ يَسْتَمِرُّ فِي قَضَايَا الْعُقُولِ، وَلَوْلَا الْقِيَاسُ مَا صَارَ دَلِيلًا. وَقَالَ تَعَالِيَ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] . فَجَعَلَ عَبِيدَنَا لَمَّا لَمْ يُشَارِكُونَا فِي أَمْلَاكِنَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا خَلَقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَبِقِيَاسِ الْعَقْلِ صَارَ هَذَا دَلِيلًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 137 فَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي إِثْبَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وَقَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ مِنْ حَادِثَةٍ إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ. وَقَدْ تَجِدُ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَى أَحْكَامِهَا وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَذْكُورِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْفَاهُ مُسْتَنْبَطٌ مِمَّا أَبْدَاهُ وَأَنَّ الْجَلِيَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخَفِيِّ لِنَصِّ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَا فُرِّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَتَكْمُلُ بِقِيَاسِ السَّمْعِ أَحْكَامُ الدِّينِ كَمَا كَمُلَ بِقِيَاسِ الْعَقْلِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ قَلَّدَهُ قَضَاءَ الْيَمَنِ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لما يرضى رسول اللَّهِ ". فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَأَنَّ كُلَّ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ نَصٍّ فَصَارَ الْقِيَاسُ أَصْلًا بِالنَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقِيَاسُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ؟ قِيلَ: قَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَجَرَى مَجْرَى التَّوَاتُرِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر عليه السلام حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ " فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ ازْدِرَادٍ. وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي أَوْلَادًا بِيضًا وَفِيهِمْ أَسْوَدُ فَمَا بَالُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَقَالَ لَهُ النبي عليه السلام: " أَلَكَ إِبِلٌ عُبْسٌ؟ " يَعْنِي بِيضًا فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: " فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَمَنْ بَالُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ " قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ قَالَ: " فلَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ هَذَا " فَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ أَوْلَادِهِ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ نِتَاجِهِ فَقَاسَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ مَاعِزًا حِينَ زَنَا لَعَلَّهُ دَلِيلًا عَلَى رَجْمِ غَيْرِهِ مِنَ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ: أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ قِيلَ نَعَمْ قَالَ: فَلَا إِذَنْ. وَقِيلَ لَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَبْيَضَ بن حمال ملح مأرب: أنه كالماء العيد قَالَ: " فَلَا إِذَنْ ". فَعَلَّلَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي. وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 138 فَجَعَلَهُ مَنْ أَسْقَطَ بِهِ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ كَالْأَبِ فِي إِسْقَاطِهِمُ اعْتِبَارًا بِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي إِسْقَاطِهِمْ وَجَعَلَهُ مَنْ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ مَعَهُ كَالْأَبِ لَا يَسْقُطُ بِنِسْوَةٍ وَشَبَّهَهُ بِشَجَرَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَبَوَادٍ سَالَ مِنْهُ شِعْبَانُ وَجَعَلَهُ قِيَاسًا مُعْتَبَرًا فِيهِ. وَأَوْجَبُوا نَفَقَةَ الْأَبِ فِي حَالِ عجزه قياسا على نفقة الابن. وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَهْدَهُ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ: " الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَاعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، وَقِسِ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا ". وَانْتَشَرَ هَذَا الْعَهْدُ فِي الصَّحَابَةِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَهُمُ الْقُدْوَةُ الْمُتَّبَعُونَ، وَالنَّقَلَةُ الْمُطَاعُونَ، نَأْخُذُ عَنْهُمْ مَا تَحَمَّلُوهُ، وَنَقْتَدِي بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَقَدِ اجْتَهَدُوا وَقَاسَوْا. وَلَوْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ نُصُوصًا كُلُّهَا لَنَقَلُوهَا وَعَدَلُوا عَنْ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، كَمَا عَدَلُوا عَنِ اجْتِهَادِهِمْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، حِينَ رَوَى حَمَلُ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ وَأَمَةٍ " وَعَدَلُوا عَنِ الْمُخَابَرَةِ حِينَ رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ النَّهْيَ عَنْهَا، لَيْسَ يَدْفَعُ مِثْلَ هَذَا الْحِجَاجِ إِلَّا ببهت أو عناد. ( [أدلة القائلين بحجية القياس] ) : فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَمِنْهَا: أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحِطْ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْلُو مَا عَدَا أَحْكَامَ النُّصُوصِ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ أَوْ لَا يَكُونَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا حكم له فيها وقد قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 4] . وَإِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا حُكْمٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَجْهُولِ مُمْتَنِعٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ ضِدَّيْنِ. وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ جَمِيعُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ فِيهَا مَحْظُورًا، وَلَا عَلَى الْحَظْرِ، لِأَنَّ فِيهَا مُبَاحًا. وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُبَاحُ وَالْمَحْظُورُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ النَّصِّ دَلِيلٌ. وَلَيْسَ بَعْدَ النَّصِّ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى النَّصِّ. فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ تَخْتَلِفَ أَحْكَامُ مَا عَدَا النَّصَّ، وَحَمَلُوا جَمِيعَهَا عَلَى الْحَظْرِ عِنْدَ عَدَمِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 139 السَّمْعِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ حَكَمُوا فِيهَا بِغَيْرِ نَصٍّ وَهُمْ يَمْنَعُونَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ مَنْ غَابَ عَنِ الْقِبْلَةِ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَتُهَا هَلْ يُحْمَلُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَفِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ. فَإِنِ ارْتَكَبُوهُ أَبْطَلُوا بِهِ فَرْضَ الصَّلَاةِ. وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْهُ بَطَلَ أَصْلُهُمْ وَقِيلَ لَهُمْ: أَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِنَصٍّ أَوِ اسْتِدْلَالٍ. فَإِنْ قَالُوا بِنَصٍّ بَهَتُوا وَلَمْ يَجِدُّوا. وَإِنْ قَالُوا بِاسْتِدْلَالٍ ثَبَتَ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ. وَهَذَا لَوْ جُعِلَ دَلِيلًا لَكَانَ مُقْنِعًا. وَدَلِيلٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ العقول أن يستدل بالشاهد عَلَى الْغَائِبِ، وَيُجْمَعَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الشَّبَهِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْمُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي قَضَايَا السَّمْعِ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّاهِدِ عَلَى الغائب والجمع بين المتماثلين في الشبه والمتفقن فِي الْمَعْنَى اسْتِدْلَالًا بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ. فَأَمَّا الْعَقْلُ فَشَوَاهِدُهُ وَاضِحَةٌ. وَأَمَّا السَّمْعُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْقِبْلَةِ بِقَوْلِهِ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144 و 150] . وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَيْنِ فِي الْمُمَاثَلَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَفِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِاعْتِبَارِ الرِّقِّ فِي حَدِّ الْعَبْدِ بِالزِّنَا بِحَدِّ الْأَمَةِ بِقَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْلِ مُتَّفِقَةٌ وَأَحْكَامَ السَّمْعِ مُخْتَلِفَةٌ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. قِيلَ: نَحْنُ نَقِيسُ عَلَى أَحْكَامِ السَّمْعِ مَا وافقها كما نقيس عَلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ مَا وَافَقَهَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا لِفُرُوعِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقَ السَّمْعُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ مُفْتَرِقَيْنِ وَهَذَا فِي أَحْكَامِ الْعُقُولِ مُمْتَنِعٌ. قِيلَ: الْقِيَاسُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ عَدَمِ السَّمْعِ وَإِذَا وَرَدَ السَّمْعُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مُفْتَرِقَيْنِ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ مُجْتَمِعَيْنِ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَإِذَا عُدِمَ السَّمْعُ فِي الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ أَحْكَامِهَا، وَاسْتَعْمَلْنَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 140 الْقِيَاسَ فِيهَا وَيَكُونُ خُرُوجُهَا عَنِ السَّمْعِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ فَتَصِيرُ بِالسَّمْعِ مُخْتَلِفَةً وَبِعَدَمِهِ مُتَّفِقَةً. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَإِنْ حذفت أكثرها. ( [أدلة من نفي القياس] ) : وَاسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِظَوَاهِرَ وَمَعَانٍ: فَأَمَّا الظَّاهِرُ: فَمِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ. فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَاسْتَدَلُّوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَهَذَا نَفْيٌ لِلْقِيَاسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْقَائِسِ. وَقَالَ تعالى: {وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مِنَ الْوَحْيِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حرم} وَالْقَائِسُ مُفْتَرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] ؟ وَالْقَائِسُ يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ فَصَارَ مُفْتَرِيًا. وَهَذِهِ الْآي الْخَمْسُ أَقْوَى دَلِيلٍ اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَإِنْ أَكْثَرُوا. وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِمْ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ نَفْيِ الْقِيَاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ نَفَيْتُمُوهُ بِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ وَحْيٌ، وَبِمَا لَمْ تَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَتَسَاوَى الِاسْتِدْلَالُ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَائِسَ لَا يُحِلُّ وَلَا يُحَرِّمُ وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَحَرَّمَهُ، فَلَيْسَ يَحْكُمُ إِلَّا عَنْ وَاجِبَاتِ النُّصُوصِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالسُّنَّةِ: فَمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا مَاتُوا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 141 وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحُكْمِهِمْ بِآرَائِهِمْ فَإِنَّهُ مَا زَالَ أَمْرُهُمْ صَالِحًا حَتَّى حَدَّثَ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " قَالُوا: وَهَذَا نَصٌّ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ ". وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا حَكَمْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي ". فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ أَكْثَرُوا. وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ثَقِيفٍ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي إِبْلِيسَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ " يَعْنِي مَنْ دَفَعَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَدَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلٍ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسْتَعْمِلُوا الْقِيَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلُوا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ ضَلَالٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَنْ حَكَمَ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ نَصٍّ كَالِاسْتِحْسَانِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ وَهَذَا مَذْمُومٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّأْيِيَّةَ يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 142 وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَأَظْهَرُهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالُوا: قَدِ اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُدْرَكَةَ بِالْحَوَاسِّ يُعْلَمُ خَفِيُّهَا بِمَا يُعْلَمُ بِهِ جَلِيُّهَا، فَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا وَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا. فَوَجَبَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إِذَا أُدْرِكَ جَلِيُّهَا بِالسَّمْعِ أَنْ يَكُونَ خَفِيُّهَا مُدْرَكًا بِالسَّمْعِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا أَحْكَامَ السَّمْعِ بِأَحْكَامِ الْحِسِّ، فَأَثْبَتُوا بِالْقِيَاسِ نَفْيَ الْقِيَاسِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَجْمَعُ بَيْنَ أَحْكَامِ السَّمْعِ، وَأَحْكَامِ الْحِسِّ فَنَجْعَلُ خَفِيَّهَا مَأْخُوذًا مِنْ خَفِيِّ السَّمْعِ كَمَا كَانَ جَلِيُّهَا مَأْخُوذًا مِنْ جَلِيِّ السَّمْعِ، فَصَارَا مِثْلَيْنِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَلُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا، كَمَا لَا تُوجَدُ الْعِلَلُ الْمَعْقُولَةُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا، كَالْحَيِّ إِذَا ذُبِحَ فَمَاتَ لَمَّا كَانَ الذَّبْحُ عِلَّةَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدِ الذَّبْحُ إِلَّا مَعَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَتْ شِدَّةُ الْخَمْرِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا تُوجَدَ الشِّدَّةُ فِي وَقْتٍ إِلَّا وَالتَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَتِ الشِّدَّةُ مَوْجُودَةً فِيهَا وَهِيَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَإِذَا حُرِّمَتِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا مَعْلُولًا بِالشِّدَّةِ، وَتَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِالِاسْمِ دُونَ الْعِلَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْمَاءِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْلِيلُ فِي حَالٍ وَالتَّحْرِيمُ فِي أُخْرَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ، فَلَمَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَسْمَاءِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الْمَعَانِي، وَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْمَعَانِي عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى، كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْأَسْمَاءُ عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى، فَلِمَ أَبْطَلُوا بِهَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ عِلَلَ الْعَقْلِ مُوجِبَةٌ لِأَعْيَانِهَا فَكَانَتْ أَحْكَامُهَا لَازِمَةً لِعِلَلِهَا، وَأَحْكَامُ السَّمْعِ طَارِئَةً حَدَثَتْ عِلَلُهَا بِحُدُوثِهَا، فَاخْتَلَفَتْ عِلَلُ الْعَقْلِ، وَعِلَلُ السَّمْعِ لِاخْتِلَافِ مَعْلُولِهِمَا فِي أَوَائِلِهِمَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْآنَ أَحْكَامُ السَّمْعِ بِارْتِفَاعِ النَّسْخِ فَسَاوَتْ أَحْكَامَ الْعَقْلِ فِي الْأَوَاخِرِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْأَوَائِلِ، فَصَارَتْ أَحْكَامُ السَّمْعِ غَيْرَ مُفَارِقَةٍ لِعِلَلِهَا كَمَا كَانَتْ أحكام العقل غير مفارقة لها. (فصل: [القياس والنص] ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تُسْتَخْرَجُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرُوعِ مِنَ النُّصُوصِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 143 فَالنَّصُّ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ فِي تَعْلِيقِ حُكْمٍ بِالِاسْمِ، وَالْقِيَاسُ: مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ مَعْنَى الِاسْمِ. وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ اسْمُ النَّصِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِارْتِفَاعِ لِارْتِفَاعِ الْمِنَصَّةِ بِمَنْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَفَعَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الظُّهُورِ لِظُهُورِ مَنْ عَلَى الْمِنَصَّةِ بِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِهِ. ( [أَقْسَامُ الْقِيَاسِ] ) : وَالْقِيَاسُ: قِيَاسَانِ قِيَاسُ مَعْنًى وَقِيَاسُ شَبَهٍ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قِيَاسِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ الشَّبَهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى مَا أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ مِنْ مَعْنَى أَصْلِهِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ مَا أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ مِنْ شَبَهِهِ بِأَصْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى مَا لَمْ يَكُنْ لِفَرْعِهِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ مَعْنَاهُ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ مَا تَجَاذَبَتْهُ أُصُولٌ أُلْحِقَ بِأَقْوَاهَا شَبَهًا فَصَارَ قِيَاسُ الْمَعْنَى أَقْوَى من قياس الشبه على الوجهين. ( [قياس المعنى] ) : فَأَمَّا قِيَاسُ الْمَعْنَى: فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ. فأما الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ: فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ زَائِدًا عَلَى مَعْنَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ: فَيَكُونُ معناه في الفرع مساويا لمعنى الأصل. ( [أقسام القياس الجلي] ) : وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 22] فَدَلَّ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ بِبَدِيهَةِ النَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ التَّأْفِيفُ وَيَحِلَّ الضَّرْبُ وَالشَّتْمُ، فَصَارَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ قِيَاسًا وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَازِيَ عَلَى قَلِيلِ الطَّاعَةِ وَلَا يُجَازِيَ عَلَى كَثِيرِهَا وَيُعَاقِبَ عَلَى قَلِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُعَاقِبَ عَلَى كَثِيرِهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 144 وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَالْأَمِينُ عَلَى الْقِنْطَارِ هُوَ عَلَى الدِّينَارِ آمَنُ، وَالْخَائِنُ فِي الدِّينَارِ هُوَ فِي الْقِنْطَارِ أَخْوَنُ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ أَقْرَبُ وُجُوهِ الْقِيَاسِ إِلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فُرُوعِهَا فِي النُّصُوصِ. وَأَنْكَرَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّرْبُ قِيَاسًا. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَصًّا وَجَعَلَهُ آخَرُونَ تَنْبِيهًا. وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ هَذَا قِيَاسًا. وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَفْهُومَ الْخِطَابِ وَسَمَّاهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ فَحْوَى الْكَلَامِ. وَأَنْكَرُوا عَلَى الشَّافِعِيِّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا. قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا خَفِيَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَمَا خَرَجَ عَنِ الْخَفَاءِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وَهَذَا الْإِنْكَارُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّصَّ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِهِ وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنِ اسْمِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَاهُنَا: لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ كَمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَصَارَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذًا مِنْ مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا مِنِ اسْمِهِ. فَإِنِ امْتَنَعُوا أَنْ يُسَمُّوهُ قياسا فقد سلموا معنا وَخَالَفُوا فِي اسْمِهِ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الِاسْمِ مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى مُطْرَحَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَنَوَّعُ: فَيَكُونُ بَعْضُهَا جَلِيًّا تَسْبِقُ بَدِيهَتُهُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَبَعْضُهَا خَفِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَتَنَوَّعُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا وَاضِحًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَبَعْضُهَا غَامِضًا تَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ دُونَ الْعَامَّةِ، كَنَهْيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَاءُ وَقَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ: " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ "، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ فِي الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا نُصُوصًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُهَا قِيَاسًا. فَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 145 أحدها: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلنَّصِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِي فَرْعِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ صَارَ الْفَرْعُ كَالنَّصِّ فَجَازَ بِهِ النَّسْخُ. فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ دُونَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي السُّنَّةِ جَازَ أَنْ تُنْسَخَ بِهِ السُّنَّةُ دُونَ الْقُرْآنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ. وَذَلِكَ مِثَالُ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْأُضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءِ الْبَيِّنِ عَرَجُهَا فَكَانَتِ الْعَمْيَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَالْقَطْعَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْعَرْجَاءِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْرِيمِ الْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ وَإِبَاحَةِ الْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ. وَمِثْلُهُ " نَهَي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرَسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ " فَكَانَ الْعَنْبَرُ وَالْمِسْكُ قِيَاسًا عَلَى الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْرِيمِ الْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَإِبَاحَةِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ فِيهِ فَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ النَّصِّ وَإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُ فَحَرَّمَ التَّضْحِيَةَ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ، وَأَبَاحَهَا بِالْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ، وَحَرَّمَ مَا مَسَّهُ وَرَسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَأَبَاحَ مَا مَسَّهُ عَنْبَرٌ أَوْ مِسْكٌ. وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ جَمِيعِهِ بِالتَّنْبِيهِ دُونَ النَّصِّ. فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمِثْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا لِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفَرْعِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ وَيُعْرَفُ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي زِنَا الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَجُعِلَ حَدُّهُنَّ نِصْفَ حَدِّ الْحَرَائِرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى فِيهِ إِلَّا نَقْصَهُنَّ بِالرِّقِّ، فَكَانَ الْعَبِيدُ قِيَاسًا عَلَيْهِنَّ فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ إِذَا زَنَوْا لِنَقْصِهِمْ بِالرِّقِّ. ومثله قوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أعتق شركا له في عبد وكان مُوسِرًا قَوَّمَ عَلَيْهِ " فَكَانَتِ الْأَمَةُ قِيَاسًا عَلَى العبد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 146 وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فَكَانَ مَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ الْبَيْعِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَكَانَتْ عُقُودُ الْمَنَاكِحِ وَالْإِجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ. فَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْجَلَاءِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِجَلَاءِ الِاسْتِدْلَالِ كَالْجَلِيِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ هِيَ ضُرُوبُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهَا الْإِجْمَاعُ وينقض بها حكم من خالفا من الحكام. (فصل: القياس الخفي) : وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ: فَهُوَ مَا خَفِيَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ فِي الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْأَصْلِ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَائِحًا. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مَعْنَاهُ مُشْتَبِهًا. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا كَانَ مَعْنَاهُ لَائِحًا يُعْرَفُ بِاسْتِدْلَالٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] فَكَانَتْ عَمَّاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي التَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى الْعَمَّاتِ. وَخَالَاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي التَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى الْخَالَاتِ. لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الرَّحِمِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي صِغَرِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَكَانَتْ نَفَقَةُ الْوَالِدِ عِنْدَ عَجْزِهِ فِي كِبَرِهِ قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِعَجْزِهِ بِصِغَرِهِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا الضَّرْبِ لَائِحٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْخَفِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ مِنْ ضُرُوبِ الْجَلِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمِثْلِهِ وَيُنْقَضَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَهُ. وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ وَجْهَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا كَانَ مَعْنَاهُ غَامِضًا لِلِاسْتِدْلَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَتَقَابَلَتْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 147 مَعَانِيهِ حَتَّى غَمُضَتْ مِثَالُهُ تَعْلِيلُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَقَابَلَ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالْأَكْلِ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَأْكُولٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْقُوتِ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مُقْتَاتٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَكِيلٍ، وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَقْبِضَ، تَقَابَلَ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَطْعُومٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّقْلِ، لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْقُولٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْبَيْعِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَبِيعٍ. فَصَارَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ غَامِضًا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُتَرَجِّحًا. وَمِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ إِجْمَاعٌ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمٌ وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا، فَهُوَ مَا احْتَاجَ نَصُّهُ وَمَعْنَاهُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ: كَالَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَعُرِفَ الِاسْتِدْلَالُ: أَنَّ الْخَرَاجَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّ الضَّمَانَ هُوَ ضَمَانُ الْبَيْعِ، ثُمِ عُرِفَ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَقَابَلَتِ الْمَعَانِي بِالِاخْتِلَافِ فِيهَا فَمِنْ مُعَلِّلٍ لَهَا بِأَنَّهَا آثَارٌ. فَلَمْ يَجْعَلِ الْمُشْتَرِيَ إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَالِكًا لِلْأَعْيَانِ مِنَ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ، وَمِنْ مُعَلِّلٍ لَهَا بِأَنَّهَا مَا خَالَفَتْ أَجْنَاسَ أُصُولِهَا، فَجَعَلَهُ مَالِكًا لِلثِّمَارِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا لِلنِّتَاجِ، وَعَلَّلَهَا الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا نَمَاءٌ، فَجَعَلَهُ مَالِكًا لِكُلِّ نَمَاءٍ مِنْ ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ. فَمِثْلُ هَذَا الضَّرْبِ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ فِي حُكْمِ أَصْلِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا يُنْقَضُ بِقِيَاسِهِ حُكْمٌ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، وَإِنْ قَارَبَهُ في حكمه والله أعلم. (فصل قياس الشبه) وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَهُوَ مَا تَجَاذَبَتْهُ الْأُصُولُ، فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ شَبَهًا، وَأَخَذَ كُلُّ أَصْلٍ مِنْهُ شَبَهًا. وَهُوَ نَوْعَانِ: قِيَاسُ تَحْقِيقٍ، يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَحْكَامِهِ، وَقِيَاسُ تَقْرِيبٍ يَكُونُ الشَّبَهُ فِي أَوْصَافِهِ. وَقِيَاسُ التَّحْقِيقِ مُقَابِلٌ لِقِيَاسِ المعنى الجلي وإن ضعف عنه. (قياس التحقيق) فَأَمَّا قِيَاسُ التَّحْقِيقِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَى الْآخَرِ، فَيُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَنْتَقِضُ برده إليه، وإن كان أقلهما شَبَهًا وَلَا يُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا: مِثَالُهُ: الْعَبْدُ هَلْ يَمْلِكُ؟ إِذَا مَلَكَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أصلين: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 148 أَحَدُهُمَا: الْحُرُّ فِي جَوَازِ مِلْكِهِ. وَالثَّانِي: الْبَهِيمَةُ فِي عَدَمِ مِلْكِهِ فَلَمَّا انْتَقَضَ بِرَدِّهِ إِلَى الْحُرِّ بِالْمِيرَاثِ حِينَ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْبَهِيمَةِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ النَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِالْأَحْرَارِ أَكْثَرَ مِنْ شَبَهِهِ بِالْبَهَائِمِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَسْلَمُ مِنَ النَّقْضِ فِي رَدِّهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ أَكْثَرُ شَبَهًا مِنْهُ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ، مِثْلُ أَنْ يُشْبِهَ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهَ الْآخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَوْ يَشْبِهَ أَحَدَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَيَشْبِهَ الْآخَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ شَبَهًا بِهِ. مِثَالُهُ: فِي الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِ الْعَبْدِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ رَدِّهِ إِلَى الْحُرِّ فِي تَقْدِيرِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ وَبَيْنَ رَدِّهِ إِلَى الْبَهِيمَةِ فِي وُجُوبِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ فِي أَنَّهُ مملوك وموروث ويشبه الحرة أَنَّهُ آدَمِيٌّ، مُخَاطَبٌ، مُكَلَّفٌ، يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْحُرِّ فِي تَقْدِيرِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ دُونَ الْبَهِيمَةِ، لِكَثْرَةِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ، وَقِلَّةِ شَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ، وَيُوجَدُ فِي الْفَرْعِ بَعْضُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّفَتَيْنِ، وَلَا تَكْمُلُ فِيهِ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ فِيهِ الْأَكْثَرُ مِنْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَالْأَقَلُّ مِنَ الْأُخْرَى، فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ فِيهِ أَكْثَرُ صِفَاتِهِ: مِثَالُهُ: ثُبُوتُ الرِّبَا فِي الْإِهْلِيلِجِ وَالسَّقْمُونِيَا لِمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغِذَاءٍ وَبَيْنَ الطَّعَامِ فِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ فَكَانَ رَدُّهُ إِلَى الْغِذَاءِ في التحريم وإن لم يكون غِذَاءً أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْخَشَبِ فِي الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِذَاءً، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ صِفَاتِهِ. فَهَذِهِ ضُرُوبُ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ. (فَصْلٌ: قياس التقريب) . وَأَمَّا قِيَاسُ التَّقْرِيبِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ وَقَدْ جَمَعَ الْفَرْعُ صِفَتَيِ الْأَصْلَيْنِ، فَيُرَجَّحُ فِي الْفَرْعِ أَغْلَبُ الصِّفَتَيْنِ. مِثَالُهُ: فِي الْمَعْقُولِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ وَيَكُونُ الْفَرْعُ جَامِعًا لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ: فَإِنْ كَانَ بَيَاضُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَوَادِهِ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالْبَيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ سَوَادُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَيَاضِهِ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالسَّوَادِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيَاضِ فِيهِ تَأْثِيرٌ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 149 وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ: الشَّهَادَاتُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِقَبُولِ الْعَدْلِ وَرَدِّ الْفَاسِقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَمْحَضُ الطَّاعَةَ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَلَا أَحَدَ يَمْحَضُ الْمَعْصِيَةَ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ مِنْ حَالَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6: 9] . وَإِنْ كَانَتِ الطَّاعَاتُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَعَاصِي أَغْلَبَ عَلَيْهِ حُكِمَ بِفِسْقِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةٍ. وَامْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا اسْتُخْرِجَ عِلَّةُ فَرْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَهَذَا قَدِ اسْتَخْرَجَ عِلَّةَ أَصْلِهِ مِنْ فَرْعِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْفَرْعِ وَحُكْمَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْأَصْلِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَوْضُوعٌ لِحُكْمِ الْعِلَّةِ دُونَ صِفَتِهَا. وَمِثْلُ هَذَا نَقُولُهُ فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إِذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ نَظَرٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ حُكِمَ لَهُ بِالتَّطْهِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْوَرْدِ أَكْثَرَ حُكِمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مُطَهِّرٌ. فَإِنْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْحُكْمَ وَلَا أَحْسَبُهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَخَالَفَ فِي الِاسْمِ لَمْ تَضُرَّ مُخَالَفَتُهُ فِي الِاسْمِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ فِي مَعْنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ وَالصِّفَتَانِ مَعْدُومَتَانِ فِي الْفَرْعِ وَصِفَةُ الْفَرْعِ تُقَارِبُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا. مِثَالُهُ فِي الْمَعْقُولِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْأَصْلُ الْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ وَالْفَرْعُ أَخْضَرُ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ فَيُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِصِفَتِهِ وَالْخُضْرَةُ أَقْرَبُ إِلَى السَّوَادِ مِنَ الْبَيَاضِ فَيُرَدُّ إِلَى السَّوَادِ دُونَ الْبَيَاضِ. وَمِثَالُهُ فِي الشَّرْعِ قَوْله تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَلَيْسَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ مُشْبِهًا لِلصَّيْدِ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ وَلَا مُنَافِيًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَوْصَافِهِ فَاعْتُبِرَ فِي الْجَزَاءِ أَقْرَبُ الشَّبَهِ بِالصَّيْدِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ هَذَا قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا وُجِدَتْ أَوْصَافُ أَصْلِهِ فِي فَرْعِهِ وَأَوْصَافُ الْأَصْلِ فِي هَذَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ فَصَارَ قِيَاسًا بِغَيْرِ عِلَّةٍ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ وَالْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَصْلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَكَانَ أَقْرَبُهَا شَبَهًا بِأَصْلِ الْقِيَاسِ هُوَ عِلَّةَ الْقِيَاسِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 150 وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادًا مَحْضًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ قِيَاسًا، وَهَذَا الِاجْتِهَادُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ شِبْهُ الْأَصْلِ فَصَارَ قِيَاسًا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الصِّفَتَيْنِ، وَالْفَرْعُ جَامِعٌ لِصِفَتَيِ الْأَصْلَيْنِ، وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْفَرْعِ، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مِنَ الطَّهَارَةِ وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْآخَرُ مِنَ الطَّهَارَةِ، فَيَكُونُ رَدُّهُ إِلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ لِمُجَانَسَتِهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ مَعَ مخالفته. وها هنا ضَرْبٌ رَابِعٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ وُجُودِهِ وَهُوَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فِيهِ شَبَهُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، وَشَبَهُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ. فَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا من جوازه وأحال تكافي الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا تُوَصِّلُهُمْ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا خَفِيَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِقُصُورِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ عَدَلَ إِلَى الْتِمَاسِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ الْقِيَاسِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى جَوَازِ وَجُودِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ غَامِضًا لِمَا عَلِمَهُ فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُتَكَافِئًا لِمَا رَآهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَعَ التَّكَافُؤِ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَا تَكَافَأَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ وَتَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ: حَاظِرٍ وَمُبِيحٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِالْخِيَارِ فِي رَدِّهِ إِلَى أَيِّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إِبَاحَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَرُدَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَنَصَّبَ عَلَى مُرَادِهِ مِنْهُمَا دَلِيلًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّهُ إِلَى أَغْلَظِ الْأَصْلَيْنِ حُكْمًا وَهُوَ الْحَظْرُ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ أَصْلَ التَّكْلِيفِ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّغْلِيظِ. فَصَارَتْ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ مَا شَرَحْنَاهُ: اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا: سِتَّةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَسِتَّةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ في قياس التقريب. (فصل) : هل تثبت الأسماء والحدود والمقادير بالقياس؟ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَقْسَامِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فَالَّذِي يَثْبُتُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 151 بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ النُّصُوصِ. فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْحُدُودُ وَالْمَقَادِيرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْرَاجِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْأَسْمَاءُ بِالْقِيَاسِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا أَحْكَامٌ كَتَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْحُدُودُ قِيَاسًا فَيَثْبُتَ حَدُّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، قِيَاسًا عَلَى الْقَذْفِ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْمَقَادِيرُ قِيَاسًا: كَمَا قَدَّرْنَا أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرَهُ وَأَقَلَّ السَّفَرِ وَأَكْثَرَهُ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا أَحْكَامٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَلَا إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَلَا إِثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ بِالْقِيَاسِ. أَمَّا الْأَسْمَاءُ فَلِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلِأَنَّ مَعَانِيَهَا غَيْرُ مَعْقُولَةٍ. وَأَمَّا الْمَقَادِيرُ فَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ وَإِنَّمَا صِيرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ إلى عرف أو وجود. والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه فهذا شرح ما قدمناه من أصول الشرع الأربعة وبالله التوفيق. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَجْمَعُ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِتَقَصِّيهِ وَلِيَكْشِفَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ وَالنَّوَازِلِ الْمُلْتَبِسَةِ دُونَ مَا اسْتَقَرَّتْ أَحْكَامُهُ بِالنُّصُوصِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، فَيَجْمَعُ لَهُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلِهَا وَيُعَارِضَ الْأَدِلَّةَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَكْشِفَ عَنْ عِلَلِهَا وَأُصُولِهَا. وَلَا يُفَوِّضُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهَا كَاجْتِهَادِهِمْ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَيُنَاظِرُهُمْ وَيُنَاظِرُونَهُ طَلَبًا لِلصَّوَابِ لَا نُصْرَةً لِقَوْلِهِ. فَإِذَا وَضُحَ لَهُ الصَّوَابُ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالنَّظَرِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَإِنَّمَا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 152 أَحَدُهَا: اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْهُمْ كَانُوا لَا يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ الْمُشْتَبِهَةَ إِلَّا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِيمَا عَرَفُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الرَّسُولِ كَمَا سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، حَتَّى أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ وَسَأَلَ عَنِ الْمَجُوسِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَكَمَا قَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ شَيْئًا إِلَّا قَالَهُ فَأَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ مَا يَكُونُ عِلْمُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْضِيَ حُكْمَهُ عَلَى الْتِبَاسٍ وَاحْتِمَالٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ وَعَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّقَصِّي فِي اجْتِهَادِهِ، وَمِنَ التَّقَصِّي أَنْ يَكْشِفَ بِالسُّؤَالِ وَيُنَاظِرَ في طلب الصواب. (الفرق بين النظر والجدل) وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّظَرَ طَلَبُ الصَّوَابِ، وَالْجَدَلَ نُصْرَةُ الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّظَرَ هُوَ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، والجدل هو الاحتجاج باللسان. (الفرق بين الدليل والحجة) وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ مَا دَلَّكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ، وَالْحُجَّةَ مَا مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الدَّلِيلَ مَا دَلَّكَ عَلَى صَوَابِكَ، وَالْحُجَّةَ مَا دَفَعَتْ عنك قول مخالفك. (الفرق بين النص والظاهر) وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّصَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ دَلِيلَهُ، وَالظَّاهِرُ مَا سَبَقَ مُرَادُهُ إِلَى فَهْمِ سَامِعِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ مَا لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ، والظاهر ما توجه إليه احتمال. (الفرق بين الفحوى ولحن القول) وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا لَاحَ فِي أَثْنَاءِ اللَّفْظِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ مَا دَلَّ على مثله. (تفرد الحاكم باجتهاده) فَإِنْ تَفَرَّدَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَقَصَّرَ، وَكَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا إِذَا عَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، مَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ: مِنْ نَصٍّ أَوْ إجماع أو قياس لا يحتمل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 153 (شروط جواز ولاية القاضي) (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَقْلِهِ مَا إِذَا عقل القياس عقله ما وَإِذَا سَمِعَ الِاخْتِلَافَ مَيَّزَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ وَلَا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَقْضِيَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجِبُ أَنْ تُسْتَوْفَى فِيهَا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي وَنَفَاذِ حُكْمِهِ. وَالَّذِي يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ وِلَايَتِهِ وَنَفَاذِ حُكْمِهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ. وَكَمَالُ نَفْسِهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: كَمَالُ حُكْمِهِ. وَالثَّانِي: كَمَالُ خُلُقِهِ. فَأَمَّا كَمَالُ الْحُكْمِ: فَهُوَ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ بِاجْتِمَاعِهِمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَيَثْبُتُ لِلْقَوْلِ حُكْمٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي غَيْرَ بَالِغٍ وَلَا مُخْتَلَّ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْيِيزٌ صَحِيحٌ وَلَا لِقَوْلِهِ حُكْمٌ نَافِذٌ. فَإِنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ صَبِيٌّ أَوْ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً، وَأَحْكَامُهُ مَرْدُودَةً، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًّا، وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ قَوْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ لَازِمًا. وَلَيْسَ يَكْتَفِي فِيهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جِيِّدَ الْفَطِنَةِ بَعِيدًا مِنَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ يَتَوَصَّلُ بِذَكَائِهِ إِلَى حَلِّ مَا أُشْكِلَ و َفَصْلِ مَا أُعْضِلَ. فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ جُنُونٌ، نُظِرَ فِيهِ. فَإِنِ امْتَدَّ بِهِ حَتَّى تَأَخَّرَ عَنْ أَوْقَاتِ النَّظَرِ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ. وَإِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ وَكَانَ كَالسَّاعَةِ، نُظِرَ. فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي زَمَانِ إِفَاقَتِهِ لِفُتُورِ حِسِّهِ وَدَهَشِ عَقْلِهِ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ. وَإِنْ أَفَاقَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَعَادَ إِلَى اسْتِقَامَتِهِ فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ التَّكْلِيفِ وَتَبْطُلُ بِهِ فُرُوضُ الْعِبَادَاتِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 154 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَيَجْرِي مَجْرَى فَتَرَاتِ النَّوْمِ وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ. فَإِنْ قُلِّدَ وَهُوَ سَلِيمُ الْعَقْلِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بِالْإِفَاقَةِ. وَلَكِنْ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا كَمَالُ الْخِلْقَةِ فَتُعْتَبَرُ سَلَامَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: أَحَدُهَا: صِحَّةُ بَصَرِهِ، فَلَا يَكُونُ أَعْمَى. وَالثَّانِي: صِحَّةُ سَمْعِهِ، فَلَا يَكُونُ أَصَمَّ. وَالثَّالِثُ: سَلَامَةُ لِسَانِهِ، فَلَا يَكُونُ أَخْرَسَ. فَأَمَّا الْأَعْمَى: فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ التَّقْلِيدِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ. وَجَوَّزَ مَالِكٌ تَقْلِيدَ الْأَعْمَى، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَتَهُ. فَإِنْ كَانَ فِي عَيْنِهِ عَشًا يُبْصِرُ نَهَارًا وَلَا يُبْصِرُ لَيْلًا جَازَ تَقْلِيدُهُ. وَإِنْ كَانَ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْأَشْبَاحَ وَلَا يَعْرِفُ الصُّوَرَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ. وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّوَرَ إِذَا قَرُبَتْ وَلَا يَعْرِفُهَا إِذَا بَعُدَتْ جَازَ تَقْلِيدُهُ. وَأَمَّا الْأَصَمُّ: فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ صَمَمٌ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بِالصَّمَمِ بَيْنَ إِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ. وَالصَّمَمُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَنْ لَا يَفْهَمَ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ عَلَتْ. فَأَمَّا ثِقَلُ السَّمْعِ الَّذِي يَفْهَمُ عَالِيَ الْأَصْوَاتِ وَلَا يَفْهَمُ خَافِتَهَا فَتَقْلِيدُهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ السَّمِيعِ أَوْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ بِخَرَسِهِ عَنْ إِنْفَاذِ الْأَحْكَامِ وَإِلْزَامِ الْحُقُوقِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وِلَايَتَهُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَتَهُ. وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِلِسَانِهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ أَوْ عَقْلَةٌ أَوْ رَدَّةٌ أَوْ عُقْدَةٌ لَا تَمْنَعُ مَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ مَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَإِنْ غَمُضَ فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى لَمْ تَمْنَعْ عُقْدَةُ لِسَانِهِ مِنْ صِحَّةِ رِسَالَتِهِ. فَأَمَّا صِحَّةُ أَعْضَائِهِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وِلَايَتِهِ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ كَانَ مُقْعَدًا أَوْ ذَا زَمَانَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ أَهْيَبَ لِذَوِي الْوِلَايَاتِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 155 فَصَارَتِ الْأَوْصَافُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي كَمَالِ نَفْسِهِ خَمْسَةً: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالنُّطْقُ فَهَذَا حُكْمُ الشرط الأول. (فصل) : والشرط الثاني الذكورة فَيَكُونُ رَجُلًا. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهَا. وَجَوَّزَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ كَالرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ قَضَاؤُهَا فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَتُهَا وَشَهَادَتُهَا عِنْدَهُ تَصِحُّ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. فَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ وِلَايَتِهَا بِجَوَازِ فُتْيَاهَا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ عَلَّلَ جَوَازَ وِلَايَتِهَا بِجَوَازِ شَهَادَتِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 23] يَعْنِي فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِمْنَ عَلَى الرِّجَالِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ ". وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ ". وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهَا نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مِنْ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ مَعَ جَوَازِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ، كَانَ الْمَنْعُ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنَ الْفَاسِقِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْوِلَايَاتِ كَإِمَامَةِ الْأَمَةِ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِي الْحُدُودِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ كَالْأَعْمَى. وَأَمَّا جَوَازُ فُتْيَاهَا وَشَهَادَتِهَا فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ فِيهِمَا فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْهُمَا الْأُنُوثَةُ وَإِنْ مَنَعَتْ مِنَ الْوِلَايَاتِ وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ الْخُنْثَى لَا يَصِحُّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ وَبَانَ رَجُلًا صَحَّ تَقْلِيدُهُ. فَإِنْ رُدَّ إِلَى الْمَرْأَةِ تَقْلِيدُ قَاضٍ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ وَالِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُوَلِّيَةً. وَإِنْ رُدَّ إِلَيْهَا اخْتِيَارُ قَاضٍ جَازَ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ اجْتِهَادٌ لَا تمنع منه الأنوثة كالفتيا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 156 (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَبْدًا، وَلَا مُدَبَّرًا، وَلَا مُكَاتَبًا، وَلَا مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ، فَإِنْ قُلِّدَ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً، وَحُكْمُهُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًّا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَاضِيًا. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ قَضَاءَ الْعَبْدِ، لِجَوَازِ فُتْيَاهُ، وَرِوَايَتِهِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَمَا يُخَالِجُنِي فِي تَقْلِيدِهِ شَكٌّ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا وَرَاوِيًا. فَأَمَّا أَمْرُ سَالِمٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَوْلَى عِتَاقَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فِي الرِّقِّ وَتَقْلِيدُ الْمُعْتَقِ جَائِزٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِ سَالِمٍ. وَقَدْ عَيَّنَ الْإِمَامَةَ فِي أَهْلِ الشُّورَى. وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِمَامًا عَلَى الْأُمَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشِيرَ بِهَا إليه. (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ الْإِسْلَامُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ قَاضِيًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَلَى أَهْلِ دِينِهِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَقْلِيدَهُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، وَأَنْفَذَ أَحْكَامَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، كَمَا جَوَّزَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ. وَاحْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلَايَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي الْأَحْكَامِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَنُفُوذُ الْأَحْكَامِ يَنْفِي الصَّغَارَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ " فَمَنَعَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ وِلَايَةٌ لغير مسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 157 وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْكَافِرِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فَلَمَّا مَنَعَ الْفِسْقُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ فِي الْعُمُومِ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ فِي الْخُصُوصِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ طَرْدًا وَكَالْمُسْلِمِ الْعَدْلِ عَكْسًا. فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُوَالَاةِ دُونَ الولاية. وأما ولاياتهم في مناكحهم فلأنهم ما لكون لَهَا فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِيهَا. وَأَمَّا الْعُرْفُ الْجَارِي مِنَ الْوُلَاةِ فِي تَقْلِيدِهِمْ فَهُوَ تَقْلِيدُ زَعَامَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ أَهْلَ دِينِهِ لِالْتِزَامِهِمْ لَهُ لَا لِلُزُومِهِ لَهُمْ. وَلَا يَقْبَلُ الْإِمَامُ قَوْلَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ. وَإِذَا امْتَنَعُوا مَنْ تَحَاكُمِهِمْ إِلَيْهِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ وَكَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عليهم أنفذ. (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ الْعَدَالَةُ: فَمُعْتَبَرَةٌ فِي الْقَضَاءِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ. وَالْعَدَالَةُ: أَنْ يِكونَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ ظَاهِرَ الْأَمَانَةِ عَفِيفًا عَنِ الْمَحَارِمِ مُتَوَقِّيًا لِلْمَآثِمِ بَعِيدًا مِنَ الرِّيَبِ مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ مُسْتَعْمَلًا لِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ فِي دِينِهِ وَسَنَسْتَوْفِي شُرُوطَهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ فَهِيَ الْعَدَالَةُ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا وِلَايَتُهُ وَتُقْبَلُ بِهَا شَهَادَتُهُ. فَأَمَّا الْفِسْقُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالٍ يَتَّبِعُ فِيهَا الشَّهْوَةَ فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ الْحَقَّ لِفَسَادِ وِلَايَتِهِ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَصَمِّ صِحَّةُ وِلَايَتِهِ، وَنُفُوذُ حُكْمِهِ، إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ لِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَوَازِ اتِّبَاعِهِ فِيهَا. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نُفُوذِ قَوْلِهِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْعَدَالَةَ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ شَرْطًا فِي الْقَضَاءِ، وَجَازَتْ إِمَامَتُهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالِاخْتِيَارِ وَخُرُوجِهَا عَنِ الْإِلْزَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْفِسْقِ مَا اخْتَصَّ بِاعْتِقَادٍ يَتَعَلَّقُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ يَتَأَوَّلُ بِهَا خِلَافَ الْحَقِّ. فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 158 أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأَوُّلُهُ الشُّبَهَ فِي الْفُرُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ بَعْدَ صِحَّةِ تَقْلِيدِهِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وفي بطلانها بالضرب الثاني وجهان: أصحهما ها هنا لَا تَبْطُلُ. وَأَصَحُّهُمَا هُنَاكَ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إِلَّا بِتَعْدِيلٍ كَامِلٍ وَلَا يَنْعَزِلُ إلا بجرح كامل. (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ: وَعِلْمُهُ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: عِلْمُهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أُصُولِهَا الَّتِي يَسْتَنْبِطُ بِهَا أَحْكَامَهَا. وَالثَّانِي: مَعْرِفَتُهُ بِفُرُوعِهَا فِيمَا انْعَقَدْ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، أَوْ حَصَلَ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِيَتِّبِعَ الْإِجْمَاعَ، وَيَجْتَهِدَ فِي الِاخْتِلَافِ؛ لِيَصِيرَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَقْضِيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ وَيَسْتَقْضِيَ. فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً وَحُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ مَرْدُودًا. وَجَوَّزَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْلِيدَ الْعَامِّيِّ الْقَاضِي لِيَسْتَفْتِيَ فِي أَحْكَامِهِ الْعُلَمَاءَ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الِاسْتِفْتَاءِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَعًا حُكْمٌ بِعِلْمٍ. قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا كَالْعَالِمِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَا بِهِ إِلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْكُمُ بِقِيمَةِ الْمُقَوِّمَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَا بِهِ إِلَى صِحَّةِ الْقِيمَةِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِفُتْيَا الْمُفْتِي مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَهُ زَجْرًا فَصَارَ أَمْرًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 159 وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَالَّذِي فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحُكْمَ فَجَارَ عَنْهُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ " فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْعَامِّيِّ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ قَضَى عَلَى جَهْلٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اسْتَفْتَى لَمْ يَقْضِ عَلَى جَهْلٍ وَإِنَّمَا يَقْضِي بِعِلْمٍ. فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَضَى بِعِلْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاهِلٌ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ، وَإِنْ عَلِمَ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي الْجَوَابَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا بِجَهْلٍ. وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُفْتِيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا كَالْفَاسِقِ. ثُمَّ الْحُكْمُ أَغْلَظُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزِمٌ وَالْمُفْتِيَ غَيْرُ مُلْزِمٍ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، كَغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي. وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَلْتَزِمُهُ غَيْرُ مُلْزِمِهِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ كَالْفَتَاوَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ مُضْطَرٌّ وَالْحَاكِمَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْتَزِمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْحَاكِمَ يُوجِبُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالشَّهَادَةِ كَالْعَالِمِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ فِي الشَّهَادَةِ آلَتُهَا: وَهُوَ فِي التَّحَمُّلِ الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَفِي الْأَدَاءِ الْعَقْلُ وَاللِّسَانُ، وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِي الْحُكْمِ آلَتُهُ: وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ لَنَا دَلِيلًا. وَالثَّانِي: فِي مَعْنَى الْأَصْلِ أَنَّ الْعَالِمَ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفْتِيَ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ، وَالْعَامِّيُّ لَمْ يجز أن يفتي لم يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ وَالتَّقْوِيمِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُنَصَّبْ لَهُ عَلَى صِدْقِ الشَّاهِدِينَ وَالْمُقَوِّمِينَ دَلِيلٌ فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ وَقَدْ نُصِّبَ لَهُ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلِيلٌ فَلَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْمُفْتِيَ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ وَالتَّقْوِيمِ لَمْ يَلْزَمِ الْحَاكِمَ وَلَمَّا لَزِمَ الْمُفْتِيَ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ لَزِمَ الْحَاكِمَ. (فَصْلٌ) : وَالشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْدِلُ عَنْ بَعْضِهَا وَيَعْتَقِدُ إِبْطَالَ شَيْءٍ منها نظر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 160 فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَيُجَوِّزُ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مُتَّبَعٌ. وَإِنْ كَانَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَهُمْ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَعَدَلَ عَمَّا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى أَقَاوِيلِ سَلَفِهِمْ وَجَعَلُوهَا كَالنَّصِّ فِي الْعَمَلِ بِهَا. مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَقْلِيدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: لِتَرْكِهِمْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ: مَنْ يَعْدِلُ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ إِلَى فَحْوَى الْكَلَامِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَسَلْكِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَيَعْدِلُ عَنْ تَعْلِيلِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا كَأَهْلِ الظَّاهِرِ، فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِمُ الْقَضَاءَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مِنْ تَرْكِ أَصْلٍ مَشْرُوعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ؛ لأنه يَعْتَبِرُونَ وَاضِحَ الْمَعَانِي وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ. (فَصْلٌ: تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ الْقَضَاءَ مَعَ وُجُودِ الأفضل) فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ صَحَّ تَقْلِيدُ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ فِي الْإِمَامَةِ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، كَالْقَضَاءِ وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ فِي وَاحِدٍ وَالْقَضَاءَ فِي عَدَدٍ. وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَ الْقُضَاةِ وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ من يستدرك خطأه. (حكم القاضي بغير مذهبه) فإذا تقلد القضاة بِوُجُودِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ. وَإِنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ أَئِمَّةِ الْوَقْتِ كَمَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ صَاحِبَ مَذْهَبِهِ، وَعَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ مَنِ اعْتَزَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي حَالَةٍ إِلَى الْعَمَلِ فِيهَا بِقَوْلِ أَبِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 161 حَنِيفَةَ، أَوْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِيهَا إِلَى الْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ جَازَ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: قَدِ اسْتَقَرَّتِ الْيَوْمَ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ وَتَعَيَّنَ الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ لِمَنِ اعْتَزَى إِلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ فَمَنَعَ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُضَاةُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْمُمَايَلَةِ، وَأَوْجَبُوا عَلَى كُلِّ مُنْتَحِلٍ لِمَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الرَّأْيُ يَقْتَضِيهِ فَأُصُولُ الشَّرْعِ تُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: الْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ مِمَّنِ اعْتُزِيَ إِلَى مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا تَوَسَّطَ أَمْرَ الشُّورَى وَانْتَصَبَ لِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ عَلَى كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَعَدَلَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَبَايَعَهُ. فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا امْتَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمَا وَأَجَابَ عُثْمَانُ إِلَى تَقْلِيدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُمَا أنه أَعْلَمُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمَا دَعَا إِلَى تَقْلِيدِهِمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الحمد لله الذي وفق رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ اجْتِهَادِ رَأْيِهِ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ أَعْلَمَ وَلِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرِكَيْنِ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُفْتِي. وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْمُفْتِي حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ، كَالتَّقْلِيدِ مع النص. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 162 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيرَةِ وَالسِّيَاسَةِ دُونَ الْأَحْكَامِ والله أعلم. (إبطال الاستحسان) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُشَرِّعَ فِي الدِّينِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فِيمَا أَوْجَبَتْهُ أَدِلَّةُ الْأُصُولِ وَاقْتَرَنَ بِهِ اسْتِحْسَانُ الْعُقُولِ فَهُوَ حُجَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا. فَأَمَّا اسْتِحْسَانُ الْعُقُولِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ أَدِلَّةَ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَالْعَمَلُ بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْجَبُ وَهِيَ أَحْسَنُ فِي الْعُقُولِ مِنْ الِانْفِرَادِ عَنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِحْسَانُ فِي الشَّرْعِ حُجَّةٌ تُوجِبُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ. وَهَذَا مِمَّا نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ كَمَا خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنَّوَرَةِ من علة الربا وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا. وَهَذَا أَصْلٌ نُخَالِفُهُ فِيهِ؛ وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَتْرُكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إِذَا كَانَ حسنا، كالشهادة على الزنا في الزوايا. وَهَذَا نُخَالِفُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ أَضْعَفِهِمَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا غَلَبَ فِي الظَّنِّ وَحَسُنَ فِي الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا أَصْلٍ وَإِنْ دَفَعَهُ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ أَصْلٌ. هَذَا هُوَ أَفْسَدُ الْأَقَاوِيلِ كلها. (أدلة القائلين بالاستحسان) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْعَمَلِ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 163 قَالُوا وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنِ الْأُصُولِ فِيهَا إِلَى الِاسْتِحْسَانِ، مِنْهَا دُخُولُ الْوَاحِدِ إِلَى الْحَمَّامِ، يَسْتَعْمِلُ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَقْعُدُ فِيهِ زَمَانًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَشْرَبُ مِنَ السَّاقِي مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَيُعْطِي عَنْهُ عِوَضًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِبَدَلٍ وَقَبُولٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَقَدْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ اسْتِحْسَانًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ الِاحْتِجَاجِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ فِي التَّنَازُعِ مَا كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ أَوَامِرِ الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَفَى بِالتَّنَازُعِ قُبْحًا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83] فَنَفَى الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ. وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى مَعَانِي الْأُصُولِ دُونَ الظَّنِّ والاستحسان. ولأن في الظن والاستحسان اتباع لِهَوًى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَجَبَ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ بِالدَّلِيلِ يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِحْسَانُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوقِعُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافا كبيرا} [النساء: 82] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ بِالْعَقْلِ مُغْنِيًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ لَاسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَجَازَ لَهُ أَنْ يُشَرِّعَ فِي الدِّينِ بِعَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 76] يَعْنِي: غَيْرَ مَأْمُورٍ وَلَا مَنْهِيٍّ. وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْسَانِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 164 وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي تَرْكِ الِاسْتِحْسَانِ دَلِيلًا فَيَؤُولُ إِثْبَاتُهُ إلى إبطاله. (الجواب على أدلة القائلين به) فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {الذي يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ وَالْأَحْسَنُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَالْمُسْتَحْسَنُ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْغَيْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا فَافْتَرَقَا، وَلَزِمَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابِ الْمَعَاصِي فَيَتَّبِعُونَ الْأَحْسَنَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا جُعِلَ لَهُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فَجُعِلَ لَهُ الْقِصَاصُ وَنُدِبَ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ فَكَانَ الْعَفْوُ أَحْسَنَ مِنَ الْقِصَاصِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ مَا رَآهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ حَسَنًا فَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. أَوْ يُرِيدُ مَا رَآهُ بَعْضُهُمْ حَسَنًا فَلَيْسَ بَعْضُهُمُ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الَّذِي اسْتَقْبَحَهُ وَهَذَا يَتَعَارَضُ فَصَارَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِجْمَاعِ دُونَ الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اسْتِحْسَانِ مَا خَالَفَ الْأُصُولَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا انْعَقَدَ فَصِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَرَاضَى بِهِ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَتَسَامَحُوا بِهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمْ يُعَارِضُوا فِيهِ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الرِّبَا وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ، وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِيهِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُوجَبِ الْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِحْسَانَ، وَقَالَ بِهِ فِي مَسَائِلَ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 165 مِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ " وَاسْتَحْسَنَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا " وَقَالَ فِي الشُّفْعَةِ: " إِنَّهُ يُؤَجَّلُ ثَلَاثًا وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ مِنِّي وَلَيْسَ بِأَصْلٍ "، وَقَالَ فِي أَيْمَانِ الْحُكَّامِ: " وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْحُكَّامِ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ، وَذَلِكَ عِنْدِي حَسَنٌ " وَقَالَ فِي الْأَذَانِ: " حَسَنٌ أَنْ يَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ". قِيلَ: لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لِدَلِيلٍ اقْتَرَنَ بِهِ: أَمَّا اسْتِحْسَانُهُ الْمُتْعَةَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَهُ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا انْفَرَدَ بِقَوْلٍ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَهُوَ حُجَّةٌ. وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ الشُّفْعَةَ أَنْ يُؤَجَّلَ ثَلَاثًا فَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْجِيلِهِ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ فِي مَبِيتِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِ وَإِمْهَالِهِ لِزَمَانِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلِبَاسِهِ فَجَعَلَ الْقَرِيبَ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] فَجَعَلَهَا حَدًّا لِلْقُرْبِ. وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمُصْحَفِ فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ قَدْ تُغَلَّظُ فِي كَثِيرِ الْأَمْوَالِ فَجَازَ أَنْ تُغَلَّظَ بِالْمُصْحَفِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الْخَوْفِ وَالتَّحَرُّجِ. وَأَمَّا اسْتِحْسَانُهُ أَنْ يَضَعَ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ فَلِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ أَمَدُّ لِصَوْتِهِ. فَلَمْ يَخْلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ دَلِيلٍ اقْتَرَنَ بِهِ. وَالِاسْتِحْسَانُ بِالدَّلِيلِ مَعْمُولٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دَلِيلٌ. (تَقْسِيمُ الشَّافِعِيِّ لِلْقِيَاسِ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ وَالْآخَرُ أَنْ يُشْبِهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ مِنْ أَصْلٍ وَيُشْبِهَ الشَّيْءَ مِنْ أَصْلٍ غْيرِهِ فَيُشْبِهُهُ هَذَا بِهَذَا الْأَصْلِ وَيُشْبِهُهُ الْآخَرُ بِأَصْلِ غَيْرِهِ وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ أَشْبَهَهُ أَحَدُهُمَا فِي خَصْلَتَيْنِ وَالْآخَرُ فِي خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِالَذِي أَشْبَهَهُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ قَدَّمْنَا مِنْ أَقْسَامِ الْقِيَاسِ مَا أَقْنَعَ وَأَوْضَحْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا كَفَى. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا " وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ " فَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ، أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوَّلِ قِيَاسَ الْمَعْنَى وَبِالثَّانِي قِيَاسَ الشَّبَهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 166 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَقِيَاسُ الْمَعْنَى يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ خَفِيًّا، وَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ جَلِيًّا، فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْجَلِيَّ دُونَ الْخَفِيِّ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَهُمَا مَعًا فَالْجَلِيُّ لَا يَجُوزُ خِلَافُ حُكْمِهِ وَالْخَفِيُّ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قِيَاسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مِنْ قِيَاسَيِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ التَّحْقِيقِ مِنْ قِيَاسي الشَّبَهِ، لِأَنَّ خِلَافَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَأَرَادَ بِالْقِيَاسِ الثَّانِي: مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ مِنْ قِيَاسي الْمَعْنَى وَقِيَاسُ التَّقْرِيبِ مِنْ قِيَاسي الشَّيْءِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهِ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى معنى حكمه. ( [حُكْمُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَتَخْطِئَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] قَالَ الْحَسَنُ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا لِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ مَا أَغْنَى، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ بَيَانِ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى طَلَبِ الْعَيْنِ، وَإِصَابَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ. وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ لِيَعْمَلَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَا فِي جَمِيعِهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُصِيبَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ مُخْطِئٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْحُكْمِ، إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْحُكْمِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الحكم. ( [الاعتراض على الشافعي بأن له في المسألة الواحدة قولين] ) فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ اعْتَرَضَ بِهَا عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي إِنْكَارِ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالُوا: كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي حَادِثَةٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ وَأَكْثَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ طَلَبَ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُخْطِئٌ إِلَّا وَاحِدًا. فَكَانَ حُكْمُهُ بِالْقَوْلَيْنِ خَطَأً مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 167 أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَالَفَ بِذَلِكَ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقَوْلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ طَلَبِ الْعَيْنِ، وَيَجْعَلُ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ، وَيَجْعَلُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَنَقَضَ بِفُرُوعِ الِاجْتِهَادِ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَفَى بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا لِقَوْلِهِ وَوَهَنًا لِمَذْهَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ابْتَدَعَ بِذَلِكَ طَرِيقَةً خَرَقَ بِهَا إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِهِ مَنْ أَجَابَ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَكَانُوا مِنْ بَيْنِ مَنِ اسْتَقَرَّ لَهُ جَوَابٌ ذَكَرَهُ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مَا أَبَانَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ، وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ بِالْقَوْلَيْنِ كَخَرْقِهِ بِغَيْرِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّنَاقُضَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ، وَالْحَلَالَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَالْحَرَامَ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَالْإِثْبَاتَ لَيْسَ بِنَفْيٍ، وَالنَّفْيَ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ، وَهُوَ بِالْقَوْلَيْنِ قَدْ حَلَّلَ الشَّيْءَ فِي أَحَدِهِمَا وَحَرَّمَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَثْبَتَهُ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ، وَمَا أَضَافَ إِلَى الشَّرْعِ مُمْتَنِعًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَدْفُوعًا بِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِرْسَالُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لضعف اجتهاده، أو لرأيه في تكافئ الْأَدِلَّةِ، وَضَعْفُ الِاجْتِهَادِ نَقْصٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فيه تابعا غير متبوع، وتكافئ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ تَكَافُئِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ فِيهَا وَلَا مَذْهَبَ يَعْتَقِدُهُ فِيهَا. فَأَبْطَلُوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِالْقَوْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا اعْتَرَضُوا بِهِ كَثِيرًا. فَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا أَقْسَامَ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ لَزِمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ سقط. (فصل: [أنواع قولي الشافعي] ) وذكره الشَّافِعِيُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ فِي آخَرَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ " إِنَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: " أَقَلُّهُ يَوْمٌ " يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَهَذَا مَعْهُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا قَيَّدَ مِنْ جِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . حُمِلَ إِطْلَاقُهُ فِي الْعَدَالَةِ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَمِثْلُ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَإِنْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، فَلَمْ يَعُدْ وَهْمُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُهُ، وَمَعَانِيهَا مُتَّفِقَةٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 168 الْمُظَاهِرِ: " وَإِذَا مُنِعَ الْجِمَاعَ، أَحْبَبْتُ أَنْ يُمْنَعَ الْقُبَلَ وَالتَّلَذُّذَ " وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: " رَأَيْتُ أَنْ يُمْنَعَ " يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ، فَإِنْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " رَأَيْتُ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِيجَابِ، وَلَا يَمْتَنِعَ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ اعْتِرَاضٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ حَالِهِ، كَالصَّدَاقِ إِذَا ذُكِرَ فِي السِّرِّ مِقْدَارًا وَذُكِرَ فِي الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ مِنْهُ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ: الصَّدَاقُ صَدَاقُ السِّرِّ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: " الصَّدَاقُ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ حَالِ الصَّدَاقَيْنِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِصَدَاقِ السِّرِّ عَقْدٌ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَيَكُونُ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ مُجْمَلًا وَإِنِ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَكَانَ صَدَاقُ السِّرِّ مَوْعِدًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَبَانَ ذَلِكَ. قِيلَ: قَدْ أَبَانَهُ بِمَا قَرَّرَهُ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ: فَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] . أَوْ " لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ " فَلَامَسْتُمْ يوجب الوضوء على اللامس والملموس وَلَمَسْتُمْ يُوجِبُهُ عَلَى اللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في باين الْمَوَاقِيتِ " أَنَّهُ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي حِينَ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ ". وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: " حِينَ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ ". فَلِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ وَالرِّوَايَةِ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِنْكَارٌ فِيهِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّلِيلِ أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْمَدْلُولِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى ظَاهِرٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ نَقَلَتْهُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِيَامِ التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ صِيَامَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا الظَّاهِرُ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ ثُمَّ رُوِيَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِهَا ". فَعَدَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا عَمِلَ بِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَأَوْجَبَ صِيَامَهَا، بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ عَرَفَةَ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعُدُولِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي الْحَالَيْنِ بِدَلِيلٍ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا فِي حَالٍ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى وَمِثْلُ هَذَا لَا يُنْكَرُ. قَدْ فَعَلَهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ فَأَسْقَطَهُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ وَأَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِي آخِرِ قَوْلِهِ، وَحَكَمَ فِي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 169 الْمُشْرِكَةِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ بِالتَّشْرِيكِ، وَفِي الْعَامِ الثَّانِي بِإِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ وَقَالَ: " تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَاهُ "، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ عَلَى أَقَاوِيلَ وَقَالَ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَيْعَهُنَّ جَائِزٌ ". وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِي الْأَحْكَامِ فَسَمَّاهَا أَصْحَابُهُمْ " رِوَايَاتٍ " وَسَمَّاهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَقَاوِيلَ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَمْ يَبْتَدِعْهَا الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ وَأَبْعَثُ عَلَى الِاجْتِهَادِ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَهُ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ وَقَدْ عَمِلَ بِالْقِيَاسِ فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ السُّنَّةِ، كَالَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، رُوِيَا لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ فَقَالَ بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ بِأَنْ لَا صِيَامَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَا غُسْلَ مِنْ غُسْلِهِ، ثُمَّ قَالَ مَا رُوِيَ وَقَالَ: " إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ ". فَأَظْهَرَ مُوجَبَ الْقِيَاسِ وَأَوْجَبَ الْعُدُولَ عَنْهُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ. وَقَالَ: كُلُّ قَوْلٍ قُلْتُهُ فَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَأَنْ يَقِفَهُ عَلَى السُّنَّةِ إِنْ ثَبَتَتْ، وَعَلَى الْقِيَاسِ إِنْ لَمْ تَثْبُتْ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالَ مَا تَوَسَّطَهُمَا، وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهَا مَا فَرَّعَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِوَضْعِ الثُّلُثِ: " لَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ تُوضَعَ جَمِيعُهَا أَوْ لَا يُوضَعُ شَيْءٌ مِنْهَا " وَمِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا إِذَا وَلَدَتْ أَوْ وُهِبَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَمَّا جَعَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْضَ وَلَدِهَا وَبَعْضَ مَا وُهِبَ لَهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي وَبَعْضَهُ لِلْمُوصَى لَهُ: " لَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُوصَى لَهُ بِالْمَوْتِ فَيَكُونُ كُلَّ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِالْقَبُولِ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ وَلَيْسَ لِتَبْعِيضِهِ مَعَ عَدَمِ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَجْهٌ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ يَبْطُلُ بِهِ مَا خَالَفَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِمَا عَدَاهُمَا وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِلًا بِهِمَا، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ وَالْعَمَلُ. أَمَّا الشَّرْعُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: " الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ". فَنَفَى أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي غَيْرِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. وَأَمَّا الْعَمَلُ فَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ نَفَى بِهِمْ طَلَبَ الْإِمَامِ فِي غَيْرِهِمْ وَوَقَّفَ الْإِمَامَةَ فِيهِمْ عَلَى مَنْ يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. وَهَذَا عَمَلٌ انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُهُمْ. وَالْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهًا، وَلَا يَقْطَعُ بِأَحَدِهِمَا لِاحْتِمَالِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ، ويفرع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 170 عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ صَحَّ. وَلَيْسَ يُنْكِرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ التَّوَقُّفُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ تَوَقَّفَ فِي أَشْيَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ وَالْمُنَافِقُ وَثَّابٌ ". وَيَكُونُ مَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ بِذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِبْطَالُ مَا عَدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهٌ وَالثَّانِي إِثْبَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَجْهًا وَلَيْسَ يُجِيبُ بِهِمَا إِذَا اسْتُفْتِي فَيُخَيِّرُ السَّائِلَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي الْجَوَابِ بِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يَصِرْ قَائِلًا بِهِمَا وَلَا مُعْتَقِدًا لِصِحَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْأَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ فِي الْحَالِ بِالْأَصَحِّ وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَسَائِلِ قِيلَ إِنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً. فَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَلَا أُبْطِلَ مَا قَرَّرَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَفِي هَذَا التَّقْسِيمِ انْفِصَالٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ فَسَقَطَ بِهِ الِاعْتِرَاضُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الِاعْتِرَاضُ عليه بأجور المجتهدين] ) (مسألة) : قال الشافعي: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجتهد فأخطأ فله أجر " (قال الشافعي) فأخبره أنه يثاب على أحدهما أكثر مما يثاب على الآخر فلا يكون الثواب فيما لا يسع ولا في الخطأ الموضوع (قال المزني) رحمه الله: أنا أعرف أن الشافعي قال لا يؤجر على الخطأ وإنما يؤجر على قصد الصواب وهذا عندي هو الحق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ جَعَلَ لِلْخَاطِئِ أَجْرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ مُخْتَلِفًا. فَأَمَّا جَعْلُهُ لِلْخَاطِئِ أَجْرًا، فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسْتَحِقًّا لِلْأَجْرِ عَلَى خَطَئِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أَصَابَ ظَفِرَ مَعَ أَجْرِ الِاجْتِهَادِ بِأَجْرِ الصَّوَابِ فَصَارَ لَهُ أَجْرَانِ أَحَدُهُمَا بِاجْتِهَادِهِ وَالْآخَرُ بِصَوَابِهِ. وَإِنْ أَخْطَأَ ظَفِرَ بِأَجْرِ اجْتِهَادِهِ، وَحُرِمَ أَجْرَ صَوَابِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَإِنْ عَمِلَ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 171 وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ فَأَشْهَرُ الْحَدِيثَيْنِ هَذَا وَهُوَ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " اخْتَصَمَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَانِ وَأَنَا جَالِسٌ فَقَالَ يَا عَمْرُو اقْضِ بَيْنَهُمَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنْتَ شَاهِدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ عَلَى مَاذَا؟ قَالَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ. فَاخْتَلَفَ أَجْرُ الْمُصِيبِ فِي الْخَبَرَيْنِ فَجَعَلَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ أَجْرَيْنِ وَجَعَلَ لَهُ فِي الثَّانِي عَشْرًا. وَفِي هَذَا الِاخْتِلَافِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَجْرَيْنِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الصَّوَابِ بِأَوَّلِ اجْتِهَادٍ وَجَعَلَ لَهُ عَشْرًا إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِتَكْرَارِ الِاجْتِهَادِ لِيَكُونَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ اجْتِهَادِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أُجِرَ بِالْعَشْرِ لِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَأُجِرَ فِي الْآخَرِ بِأَجْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أُجِرَ وَفِي المضاعفة عشر. ( [نقض الحكم] ) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الحكام فقضى باجتهاده ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ أَوْ وَرَدَ عَلَى قَاضٍ غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ فَمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ مَا فِي مَعْنَى هَذَا ردَّهُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهَ وَحَكَمَ فِيمَا اسْتَأْنَفَ بِالَذِي هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا بَانَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ أَوْ بَانَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْقُضَاةِ قَدْ أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْطِئَ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخْطِئَ فِيمَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. فَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ أَوْ أَولَاهُمَا مِنْ قِيَاسِ التَّقْرِيبِ فِي الشَّبَهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا لَا يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلَا نَقْضٍ. فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يُشَرِّكْ فِي عَامٍ وَشَرَّكَ فِي عَامٍ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَمْ تُشَرَِّكْ فِي العام الجزء: 16 ¦ الصفحة: 172 الْمَاضِي بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَبَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَكَيْفَ تُشَرِّكُ الْآنَ؟ قَالَ تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قضينا. وَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ بِالسَّابِقَةِ وَقَالَ: " إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ " وَلَمْ يَفْرِضْ لِلْعَبِيدِ مَعَ سَادَاتِهِمْ. وَفَضَّلَ عُمَرُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالسَّابِقَةِ وَفَرَضَ لِلْعَبِيدِ. وَسَوَّى عَلِيٌّ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَفَرَضَ لِلْعَبِيدِ كَفِعْلِ عُمَرَ. وَلَمْ يَنْقُضْ بَعْضُهُمْ حُكْمَ بَعْضٍ لِنُفُوذِهِ بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَضَ عَلِيٌّ حُكْمَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمِّ أَحَدِهِمَا أَخٌ لِأُمٍّ حِينَ حَكَمَ بِالْمِيرَاثِ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَالْآخَرُ لِأَبٍ وَأُمٍّ. فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَدَّهُ عَنْهُ قَبْلَ نُفُوذِ حُكْمِهِ بِهِ. وَالثَّانِي: نَقَضَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ نُفُوذِهِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ ظَاهِرَ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] . وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْضُ مَا ثَبَتَ بِاجْتِهَادٍ مُسَوَّغٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي. (فَصْلٌ) : وَإِذَا خَالَفَ مَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ نَقَضَ بِهِ حُكْمَهُ وَحُكْمَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ خَالَفَ مَعْنَى نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَإِنْ خَالَفَ إِجْمَاعًا نُقِضَ حُكْمُهُ. وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَبْعَدٌ، لَكِنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْهُمَا، ثُمَّ نَاقَضَا فِي هَذَا القول. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 173 فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ نُقِضَ حُكْمُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ حَكَمَ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ نُقِضَ حُكْمُهُ وَإِنْ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ حَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ نُقِضَ حُكْمُهُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَعَ اسْتِبْعَادِهِ مُتَنَاقِضٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . يَعْنِي إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ الرَّسُولِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ردوا الجهالات إلى السنن ". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ". وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وَكَانَ لَا يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، فَوَرَّثَهَا عُمَرُ. وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ دِيَاتِ الْأَصَابِعِ حَتَّى رُوِيَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ ". وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ: لَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلٌ لِلْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى مَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فَلَمَّا نُقِضَ حُكْمُهُ بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ كَانَ نَقْضُهُ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْلَى. وَوُضُوحُ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ يُغْنِي عَنِ اسْتِيفَاءِ أَدِلَّتِهِ. ( [هَلْ يَتَعَقَّبُ الْقَاضِي حُكْمَ مَنْ قَبْلَهُ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَقَّبَ حُكْمَ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنْ تَظَلَّمَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ نُظِرَ فِيهِ فَرَدَّهُ أَوْ أَنْفَذَهُ عَلَى مَا وَصَفْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا تَقَلَّدَ عَمَلًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَقَّبَ أَحْكَامَ مَنْ قَبْلَهُ وَلَا يَتَتَبَّعَهَا لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 174 أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَاظِرٌ فِي مُسْتَأْنَفِ الْأَحْكَامِ دُونَ مَاضِيهَا. فَلِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا مِنْ غَيْرِ مُتَظَلِّمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ - وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ - عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَهَا مِنْ غَيْرِ مُتَظَلِّمٍ إِلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَشَاغَلُ بِمَاضٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَتَبَّعُ قَدَحًا فِي الْوُلَاةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ. فَإِنْ تَظَلَّمَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَظَلِّمٌ لَمْ تَخْلُ ظُلَامَتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمٍ أَوْ غَيْرِ حُكْمٍ. فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ حُكْمٍ كَدَعْوَى دَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ عَقْدٍ عَقَدَهُ مَعَهُ كَانَ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْخُصُومِ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِحْضَارُهُ وَسَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّظَلُّمُ مِنْهُ فِي حُكْمٍ حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْمَعِ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى مِنْهُ مُجْمَلَةً حَتَّى يَصِفَهَا بِمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمِثْلِهِ. فَإِذَا وَصَفَهَا نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمِثْلِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَضَ، لِأَنَّهُ خَالَفَ فِيهَا مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْخَفِيَّ، أَوْ خَالَفَ فِيهَا مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ، رَدَّ الْمُتَظَلِّمَ عَنْهُ وَلَمْ يُعِدْهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ مِثْلُهُ، لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ مِنْ قِيَاسي الْمَعْنَى أَوْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ مِنْ قِيَاسِي الشَّبَهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ فِيمَا يَسْتَجِيزُ بِهِ الْحَاكِمُ إِحْضَارَ الأول على ثلاثة أوجه: أحدهما: أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ إِحْضَارَهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُقِيمَ بِهَا الْمُتَظَلِّمُ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوَّلِ نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ فِيهَا عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلِأَنْ تُصَانَ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبِذْلَةِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنِ اقْتَرَنَ بِدَعْوَاهُ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ كِتَابِ قَضِيَّةٍ أَوْ مَحْضَرٍ ظَاهِرِ الصِّحَّةِ أَحْضَرَ بِهِ الْأَوَّلَ، وَإِنْ تَجَرَّدَتِ الدَّعْوَى عَنْ أَمَارَةٍ لَمْ تُحْضِرْهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 175 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْضِرُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِاحْتِمَالِ الدَّعْوَى وَحَسْمِ التَّظَلُّمِ وَرَفْعِ الشَّنَاعَةِ. فَإِذَا حَضَرَ الْأَوَّلُ اسْتَأْنَفَ الْمُتَظَلِّمُ دَعْوَاهُ. فَإِذَا كَمَّلَهَا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا إِنْ أَوْجَبَتْ غُرْمًا، وَلَمْ يَسْأَلْهُ إِنْ لَمْ تُوجِبْ غُرْمًا. لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي مَاضِي أَحْكَامِهِ. وَمَقْبُولٌ فِيمَا لَزِمَهُ غُرْمُهُ. وَعَمَلُ الْحَاكِمِ فِيهِ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِمَا تَقُومُ بِهِ. فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا يُوجِبُ الْغُرْمَ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ. وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ إِحْلَافِهِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ حُكْمٍ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ فِعْلٍ وَظَاهِرُ الْأَحْكَامِ نُفُوذُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَيَجِبُ صِيَانَةُ الْحُكَّامِ فِيهَا عَنِ الْبِذْلَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَسْتَوِي فِيهَا الْكَافَّةُ وَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى الْمُتَظَلِّمُ أَنَّهُ ارْتَشَى مِنْهُ مَالًا عَلَى الْحُكْمِ فَالرِّشْوَةُ ظُلْمٌ كَالْغُصُوبِ فَيَجُوزُ إِحْضَارُ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَإِحْلَافُهُ عَلَيْهَا إِنْ أنكر. (اتخاذ المترجم) : (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُ لَمْ تُقْبَلِ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ إِلَا بِعَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ لِسَانَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَعْرِفُ لِسَانَ الْأَعْجَمِيِّ فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْجُمَانٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْأَعْجَمِيِّ احْتَاجَ إِلَى مُتَرْجِمٍ يُتَرْجِمُ لِلْحَاكِمِ مَا قَالَهُ الْأَعْجَمِيُّ. (حكم الترجمة) وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ التَّرْجَمَةِ هَلْ هِيَ شَهَادَةٌ أَوْ خَبَرٌ؟ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا شَهَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّرْجَمَةُ خَبَرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ، بَلْ تُقْبَلُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ لَمَّا قُبِلَتْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 176 بِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ تَرْجَمَةُ الْأَعْمَى وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ جَرَتْ مَجْرَى الْخَبَرِ الذي تقبل فيه روايته. ودليلنا أنه تثبت إِقْرَارٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْعَدَدِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ نَقَلَ إِقْرَارًا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إخبار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهَا إِخْبَارُ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فِي التَّرْجَمَةِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي التَّرْجَمَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَرْجَمَةِ الْأَعْمَى فَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى السَّمَاعِ دُونَ الْبَصَرِ وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ وَإِنْ رُدَّتْ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْبَصَرِ. (فصل: ترجمة الوالد والولد والمرأة) . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ وَلَيْسَتْ بِخَبَرٍ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا. فَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْأَمْوَالِ سُمِعَتْ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ وَحُكِمَ فِيهَا بِتَرْجَمَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالشَّهَادَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْمَنَاكِحِ، لَمْ تُسْمَعْ فِيهِ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةِ، وَنُظِرَ: فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِ الزِّنَا حَكَمْنَا فِيهِ بِتَرْجَمَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ بِالزِّنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ بِخِلَافِ فِعْلِ الزِّنَا فَعَلَى هَذَا يَحْكُمُ فِيهِ بِتَرْجَمَةِ شَاهِدَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ كَالزِّنَا فَعَلَى هَذَا لَا يَحْكُمُ فِيهِ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ أَرْبَعَةٍ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَا أَعْجَمِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْجَمِيًّا شَهِدَ الْمُتَرْجِمَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا قَالَهُ الْأَعْجَمِيُّ مِنْ دَعْوَى أَوْ جَوَابٍ وَأَدَّيَاهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمَا يَذْكُرَانِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا افْتَقَرَ إِلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى لفظهما ثم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 177 يَذْكُرُ الْحَاكِمُ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ الْعَرَبِيِّ وَيَسْمَعُ جَوَابَهُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَا أَعْجَمِيَّيْنِ فَهَلْ لِلْمُتَرْجِمَيْنِ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنْ يُتَرْجِمَا عَنِ الْآخَرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِذَا تَحَمَّلَا عَنْ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ هَلْ يَتَحَمَّلَانِ عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ أَمْ لَا؟ . فَإِنْ قيل: بجوازه في التحمل، قبل بِجَوَازِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ فِي التَّحَمُّلِ مَنَعَ مِنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ. فَأَمَّا تَرْجَمَةُ مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ لِلْخَصْمِ الْأَعْجَمِيِّ فَهِيَ خَبَرٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْحُكَّامِ الْمُلْزِمِينَ. فَيَجُوزُ فِيهَا تَرْجَمَةُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَرْجِمُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ هُوَ الْمُتَرْجِمَ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الحاكم وغير الحاكم بالوجوب والإلزام. (الشهود) (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْقَاضِي كَتَبَ حِلْيَةَ كُلِّ رَجُلٍ وَرَفَعَ فِي نَسَبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ أَوْ وِلَايَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ صِنَاعَتِهِ وَكُنْيَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَعَنْ مَسْكَنِهِ وَعَنِ مَوْضِعِ بِيَاعَتِهِ وَمُصَلَّاهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الشُّهُودِ إِذَا شهدوا عند القاضي من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَعْمَلَ عَلَى عِلْمِهِ فِي عَدَالَتِهِمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ فِسْقَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَعْمَلَ عَلَى عِلْمِهِ فِي فِسْقِهِمْ، فَيَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِيمَا عَدَاهُ قَوْلَانِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ إِسْلَامَهُمْ، أَوْ لَا يَعْلَمَهُ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ إِسْلَامَهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ، حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الدَّارِ فِي سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الدَّارِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ مِنْ إِلْزَامِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِاللَّقِيطِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 178 وَإِنْ عَلِمَ إِسْلَامَهُمْ وَجَهِلَ عَدَالَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ عَدَالَةِ ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ فَيَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ سِيمَا حَسَنٌ وَسَمْتٌ جَمِيلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَعْمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا إِلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا، أَوْ يَجْرَحُهُمُ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْهَا فِيمَا عَدَاهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لَهُمْ سِيَمَا جَمِيلٌ وَسَمْتٌ حَسَنٌ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِيمَا وَسَمْتٌ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ، إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] . وَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " وَسَطًا " وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ. (هُمْ وَسَطٌ تَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ) وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. فَقَالَ لَهُ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالصِّيَامِ مِنَ الْغَدِ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَالَتِهِ، وَعَمَلَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي فِرْيَةٍ " فَحَكَمَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلَّا مَنْ ثَبَتَ جَرْحُهُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَدَرَأَ الْحُدُودَ بِالْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ " وَهَذَا عَهْدٌ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ. وَقَالُوا: وَلِأَنَّ الْفِسْقَ طَارِئٌ بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ مِنْ فِعْلِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَامَ حُكْمُ عَدَالَتِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهَا مِنْ فِسْقِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 179 قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ إِسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَجَبَ اعْتِبَارُ عَدَالَتِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ لِأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ لَمَّا اعْتُبِرَتْ عَدَالَةُ ظَاهِرِهِمْ دُونَ بَاطِنِهِمْ كَانَ فِي الشَّهَادَاتِ أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ فِي شُهُودِ الْمَنَاكِحِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ، كَذَلِكَ شُهُودُ غَيْرِ الْمَنَاكِحِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَنَهَى عَنِ الْفَاسِقِ، فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ حَالِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِمْ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمْ، وَلَا يَحْكُمُ بِالْعَدَالَةِ عَنْ جَهَالَةٍ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِالْفِسْقِ عَنْ جَهَالَةٍ لِاحْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُكَ وَلَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا أَعْرِفَكَ فَائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ،. قَالَ: هُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَصَاحِبُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَلَسْتَ تَعْرِفُهُ ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ فَدَلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عَلَى وُجُوبِ الْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ. وَمِنَ الْقِيَاسِ إِنَّ كُلَّ عَدَالَةٍ شُرِطَتْ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ الْجَهَالَةِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ. وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهَا فِي الْحُدُودِ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ كَمَا لَوْ طَعَنَ فِيهَا الْخَصْمُ. وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَالَةٍ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْهَا إِذَا طَعَنَ فِيهَا الْخَصْمُ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ كَالْحُدُودِ. وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الِاعْتِبَارِ، فَهُمُ اعْتَبَرُوهَا بِالظَّاهِرِ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُهَا بِالْبَحْثِ وَالْبَحْثُ أَقْوَى مِنَ الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالِاسْتِظْهَارِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ بِالظَّاهِرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فِيهَا كُفَّارًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَالَتِهِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ فُسَّاقًا. فَأَمَّا الجواب عن قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 180 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ شَهِدُوا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ". وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شَهَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ [أَلَا تَرَى كَيْفَ] قَالَ: {وَيَكُونَ الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143] أن ما شهدتهم بِهِ حَقٌّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مُوجِبٌ لِعَدَالَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيهِمْ إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَالْبَحْثُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَذَا. وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْفِسْقَ طَارِئٌ فَهُوَ أَنَّ الْعَدَالَةَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَالْفِسْقَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ طَارِئٌ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَمَّا اعْتُبِرَ ظَاهِرُ إِسْلَامِهِ اعْتُبِرَ ظَاهِرُ عَدَالَتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ يَخْفَى فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْعَدَالَةُ وَالْفِسْقُ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ فَأَوْجَبَتِ الْبَحْثَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَالشَّهَادَةِ وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَيُعْتَبَرُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ يَسْتَوِي فيه الْمُخْبِرُ وَغَيْرُ الْمُخْبِرِ، فَكَانَتِ التُّهْمَةُ مُنْتَفِيَةً وَالِاعْتِبَارُ أَخَفَّ، وَالشَّهَادَةُ يَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَكَانَتِ التُّهْمَةُ مُتَوَجِّهَةً وَالِاعْتِبَارُ أَغْلَظَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ [قَدْ يُقْبَلُ فِي الرِّوَايَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الشَّهَادَةِ وَيُقْبَلُ خَبَرُ الرَّاوِي مَعَ وُجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَتُقْبَلُ مِنْهَا رِوَايَةُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَنْعَنَةُ، لِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ] كَذَلِكَ حال العدالة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 181 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَدَالَةِ شُهُودِ الْمَنَاكِحِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَالشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمْ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَدَالَةَ الْبَاطِنِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا غَيْرُ الْحُكَّامِ، فَاخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِالْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُقُودَ الْمَنَاكِحِ تَكْثُرُ، وَفِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ الْبَاطِنِ ضَرَرٌ شَاقٌّ فَخَالَفَتْ شهادة الأحكام. (فصل: اعتراف المشهود عليه بعدالة الشهود) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ، فَاعْتَرَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِعَدَالَتِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَأَسْقَطَ اعْتِبَارَهُ فِيهِمْ بِاعْتِرَافِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتَزْكِيَتِهِ لَهُمْ، لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمًا بِعَدَالَتِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ أن يحكم بها بتزكية الخصم. (تدوين أسماء الشهود وحليتهم) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُثْبِتَ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ، وَكُنَاهُمْ، وَيَرْفَعَ فِي أَنْسَابِهِمْ، أَوْ وَلَائِهِمْ، وَيَذْكُرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَنَائِعَ وَمَكَاسِبَ، وَبِقَاعِ مَسَاكِنِهِمْ، وَيُثْبِتَ حُلَاهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ فِي أَلْوَانِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ، لِئَلَّا تُشْتَبَهُ الْأَسْمَاءُ وَالْأَنْسَابُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَيْئَانِ مَا عَمِلَ بِهِمَا قَبْلِي أَحَدٌ، وَلَا يَتْرُكُهُمَا بَعْدِي أَحَدٌ. تَحْلِيَةُ الشُّهُودِ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُمْ سرا. (تزكية الشهود) . فَإِذَا فَرَغَ الْحَاكِمُ مِنْ إِثْبَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ وَحُلَاهُمْ، أَذِنَ لَهُمْ فِي الِانْصِرَافِ لِيَبْحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا، بِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ مِنْ بَعْدُ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَالَةٍ أَوْ فِسْقٍ. وَيَكُونُ الْكَشْفُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَاجِبًا عَلَى الْحَاكِمِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِعَدَالَتِهِمْ. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ دُونَ الْحَاكِمِ. إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْحَاكِمِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 182 وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ وَالْجَرْحَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْحَاكِمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَشْفُ عَنْهُمَا مُسْتَحَقًّا عليه. (تفريق الشهود) . (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُدَّةُ عُقُولٍ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ ثَمَّ يَسْأَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَتِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَالْيَوْمِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ وَمَنْ فِيهِ لِيُسْتَدَلَّ عَلَى عَوْرَةٍ إِنْ كَانَتْ فِي شَهَادَتِهِ وَإِنْ جَمَعُوا الْحَالَ الْحَسَنَةَ وَالْعَقْلَ لَمْ يَفْعَلْ بِهِمْ ذَلِكَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ عَدَالَتُهُ مِنَ الشُّهُودِ أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى كَمَالٍ أَوِ اخْتِلَالٍ. فَإِنْ رَآهُمْ عَلَى وُفُورِ الْعَقْلِ وَشِدَّةِ التَّيَقُّظِ وَظُهُورِ الْحَزْمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اخْتِبَارِهِمْ وَلَا أَنْ يُفَرِّقَهُمْ لِسُؤَالِهِمْ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ لِيَتَوَلَّى أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ. وَإِنْ رَآهُمْ عَلَى اخْتِلَالٍ مِنْ قِلَّةِ الْحَزْمِ وَضَعْفِ الرَّأْيِ وَاضْطِرَابِ الْعَقْلِ اخْتَبَرَهُمْ قَبْلَ إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ. وَاخْتِبَارُهُمْ يَكُونُ بِتَفْرِيقِهِمْ وَسُؤَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ صِفَةِ شَهَادَتِهِ، فِي سَبَبِهَا، وَزَمَانِهَا، وَمَكَانِهَا، لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ عِنْدَ الِارْتِيَابِ كَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ حَوَاشِي نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ هَمُّوا بِإِصَابَةِ امْرَأَةٍ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ فَشَهِدُوا عَلَيْهَا عِنْدَ دَاوُدَ بِالزِّنَا فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَاسْتَدْعَى أَرْبَعَةً مِنَ الصِّبْيَانِ فَشَهِدُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ ثُمَّ فَرَّقَهُمْ، وَسَأَلَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ دَاوُدَ فَفَرَّقَهُمْ، وَسَأَلَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ وَقِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ الشُّهُودَ دَانْيَالَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا، فَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُمْ. وَحُكِيَ أَنَّ سَبْعَةً خَرَجُوا فِي سَفَرٍ فَفُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَدَّعِي عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ فَفَرَّقَهُمْ وَأَقَامَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى سَارِيَةٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًا وَاسْتَدْعَى أَحَدَهُمْ وَسَأَلَهُ فَأَنْكَرُ فَقَالَ عَلِيٌّ اللَّهُ أَكْبَرُ فَظَنُّوا حِينَ سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ أنه كبر إِقْرَارِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَأَقَرُّوا، فَقَالَ الْأَوَّلُ: أَنَا مَا أَقْرَرْتُ. فَقَالَ " قَدْ شَهِدَ عَلَيْكَ أَصْحَابُكَ ". فَثَبَتَ أَنَّ تَفْرِيقَ الشُّهُودِ مَعَ الِارْتِيَابِ نُدِبَ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَنَفْيِ الِارْتِيَابِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 183 فَإِنِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ تَفَرُّقِهِمْ رَدَّهُمْ وَلَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إثبات أسمائهم والبحث عن عدالتهم. (وعظ الشهود) . وَإِنِ اتَّفَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا وَعَظَهُمْ بِمَا يَخَافُونَ بِهِ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ. رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَأَنْكَرَ، فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِيَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَالَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مَا كَذَبْتُ فِي الْإِنْكَارِ وَلَقَدْ كَذِبَا عَلَيَّ فِي الشَّهَادَةِ وَلَوْ سَأَلْتَ عَنْهُمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِمَا اثْنَانِ، وَكَانَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ قَدْ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ إِنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي بِمَا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَإِنْ صَدَقْتُمَا فَاثْبُتَا وَإِنْ كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وَانْصَرَفَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسَّرِقَةِ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ، وَوَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ، فَوَعَظَهُمَا عَلِيٌّ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَذَهَبَا فِي الزِّحَامِ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ صَدَقَا لَثَبَتَا وَلَمْ يَقْطَعِ الرَّجُلَ. وَلِأَنَّ الْحَسَدَ وَالتَّنَافُسَ قَدْ يَبْعَثُ مَنْ قَلَّتْ أَمَانَتُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْكَذِبِ: إِمَّا اعْتِمَادًا لِإِضْرَارٍ، أَوِ ارْتِشَاءً عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، فَلَزِمَ الْحَاكِمَ التَّحَفُّظُ فِيهَا فِيمَنْ جَهِلَ حَالَهُ اخْتَبَرَهُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ الِاخْتِبَارِ وَالْوَعْظِ. فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ وَعْظِهِ سَتَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْضَحْهُ إِلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ فَيَكْشِفُ حَالَهُ لِيَتَحَرَّزَ مِنْهُ الْحُكَّامُ. فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ الْوَعْظِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَثْبَتَ اسْمَهُ حِينَئِذٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (صِفَاتُ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَوِ الْمُزَكِّينَ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ وَافِرِي الْعُقُولِ بَرَآءَ مِنَ الشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ أَوِ الْحَيْفِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْحَيْفِ عَلَى أَحَدٍ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَوِ الْمُمَاطَلَةِ لِلنَّاسِ وَأَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْأَمَانَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ لَا يَتَغَفَّلُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوا الرَّجُلَ عَنْ عَدُوِّهِ فَيُخْفِيَ حَسَنًا وَيَقُولَ قَبِيحًا فَيَكُونُ جَرْحًا وَيَسْأَلُوهُ عَنْ صَدِيقِهِ فَيُخْفِيَ قَبِيحًا وَيَقُولَ حَسَنًا فَيَكُونَ تَعْدِيلًا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 184 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا احْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ عَوَّلَ فِيهِمْ عَلَى أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ، لِيَعْرِفَ مِنْهُمُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ. ثُمَّ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ، بِسَبْعَةِ أَوْصَافٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ. وَالْعَفَافُ فِي الطُّعْمَةِ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الْحَرَامَ وَالشُّبَهَ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى قَبُولِ الرَّشْوَةِ. وَالْعَفَافُ فِي الْأَنْفُسِ أَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ أَوْ مُشْتَبَهٍ فَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ. وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا وَافِرِي الْعُقُولِ لِيَصِلُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ بِلُطْفٍ، وَيَتَحَرَّزُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَتِمَّ عَلَيْهِمْ خِدَاعٌ أَوْ حِيلَةٌ، فَيَجْمَعُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا بَرَآءَ مِنَ الشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُوا مِمَّنْ يُعَادِي النَّاسَ وَيَحْسُدُهُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي طِبَاعِهِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَسَدُ، كَانَ مِنَ الْخَيْرِ بَعِيدًا، وَمِنَ الشَّرِّ قَرِيبًا، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ. وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي نَسَبٍ أَوْ مَذْهَبٍ فَيَمِيلُ مَعَ مُوَافِقِهِ فِي تَحْسِينِ قَبِيحِهِ، وَيَمِيلُ عَلَى مُخَالِفِهِ فِي تَقْبِيحِ حَسَنِهِ. وَالْوَصْفُ الخامس: أن يكون بعيدا عن مماظة الناس والمماظة اللَّجَاجُ؛ لِأَنَّ اللَّجُوجَ يَنْصُرُ هَوَاهُ، وَيَرْتَكِبُ مَا يَهْوَاهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَنِ الْخَطَأِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ فَلَمْ يُؤْمَنْ بِلُجَاجِهِ أَنْ يَعْدِلَ مَجْرُوحًا، أَوْ يَجْرَحَ مُعَدَّلًا. وَالْوَصْفُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْأَمَانَةِ لِيُورِدَ بِأَمَانَتِهِ مَا سَمِعَهُ وَعَرِفَهُ وَلَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ إِلَى أَضْعَفِهِمَا وَعَنْ أَظْهَرِ الْحَالَيْنِ إِلَى أَخْفَاهُمَا. وَالْوَصْفُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ فَيَسْأَلَ عَدُوًّا مُبَايِنًا مُنَابِذًا وَلَا صَدِيقًا مُوَاصِلًا، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُظْهِرُ الْقَبِيحَ وَيُخْفِي الْحَسَنَ، وَالصَّدِيقُ يُظْهِرُ الْحَسَنَ وَيُخْفِي الْقَبِيحَ، وَلِيَعْدِلْ إِلَى سُؤَالِ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِعَدَاوَةٍ، وَلَمْ يَتَخَصَّصْ بِصَدَاقَةٍ، لِأَنَّ رَأْيَهُ أَسْلَمُ، وَقَوْلَهُ أَصْدَقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَسَائِلِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا مُتَعَذَّرًا صَارُوا أَهْلًا أَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَحْثِ وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي التَّعْدِيلِ والجرح. (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ صَاحِبُ مَسْأَلَةٍ فَيُحْتَالَ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ احْتِيَاطِ الْحُكَّامِ فِي أَنْ لَا يُعْرَفَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَسَائِلَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يُعْرَفُوا بَيْنَ النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَإِنَّمَا احْتَاطُوا بِذَلِكَ حَتَّى لَا يُحْتَالَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ سَأَلُوا عَنْ حَالِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 185 وَالَّذِي يُؤْمَرُ بِأَنْ لَا يُعْرَفُوا عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: عِنْدَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا يَحْتَالَ فِي تَعْدِيلِ شُهُودِهِ. وَالثَّانِي: عِنْدَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَحْتَالَ فِي جَرْحِ شُهُودِهِ. وَالثَّالِثُ: عِنْدَ الشُّهُودِ حَتَّى لَا يَحْتَالُوا فِي تعديل أنفسهم. والرابع: عند المسؤولين عَنِ الشُّهُودِ حَتَّى لَا يَحْتَالَ لَهُمُ الْأَعْدَاءُ فِي الْجَرْحِ وَالْأَصْدِقَاءُ فِي التَّعْدِيلِ. (مَا يَجِبُ أن يعلمه أصحاب المسائل) . (مسألة) : قال الشافعي: " وأن يكتب لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ صِفَاتِ الشُّهُودِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَأَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ لَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ وَمَبْلَغَ ما شهدوا فيه ثم لا يسألون أحدا حتى يخبروه بمن شهدوا له وعليه وبقدر ما شهدوا فيه فإن المسؤول قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد عدوا للمشهود عليه أو شريكا فيما شهد فيه وتطيب نفسه على تعديله في اليسير ويقف في الكثير ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْحَاكِمُ، فِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صِفَاتُ الشُّهُودِ، بِأَسْمَائِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، وَصِنَاعَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، وَحِلْيَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَأَلْوَانِهِمْ، حَتَّى لَا يَشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ المسؤول عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ شَهِدُوا لَهُ لِئَلَّا يَكُونَ وَالِدًا، أَوْ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ. وَالثَّالِثُ: مَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَكُونَ عَدُوًّا فَيَرُدَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَرَوْنَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي الْيَسِيرِ، وَلَا يَرَوْنَهُ فِي الْكَثِيرِ. وَهَذَا أَحْوَطُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. فَيُثْبِتُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ لِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ فِي رِقَاعٍ. وَقَدْ يُسَمَّى أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ الْمُزَكِّينَ ثُمَّ الْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ مَعَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَحْوَطُ، أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ أَرْبَعَ رِقَاعٍ يَدْفَعُ مِنْهَا رُقْعَتَيْنِ إِلَى مُزَكِّيَيْنِ آخَرَيْنِ لِيَسْأَلَا عَنْ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ وَيَدْفَعَ رُقْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ إِلَى مُزَكِّيَيْنِ آخَرَيْنِ لِيَسْأَلَا عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ فَيَسْمَعُ تَزْكِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ مُزَكِّيَيْنِ، وَيَصِيرُ الْمُزَكُّونَ أَرْبَعَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْتَصِرَ على رقعتين فيهما ذكر الشاهدين، فيدع إِحْدَاهُمَا إِلَى أَحَدِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 186 الْمُزَكِّيَيْنِ، لِيَسْأَلَ عَنِ الشَّاهِدَيْنِ، وَيَدْفَعَ الْأُخْرَى إِلَى الْمُزَكِّي الْآخَرِ لِيَسْأَلَ عَنِ الشَّاهِدَيْنِ، فَتَصِيرُ التَّزْكِيَةُ فيهما مسموعة من مزكيين. (عمل أصحاب المسائل) . فَإِذَا تَوَجَّهَ بِهَا أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ الْمُزَكُّونَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ أَحْوَالَ الشُّهُودِ. فَإِنْ وَجَدُوهُمْ مَجْرُوحِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهِمْ. وَإِنْ وَجَدُوهُمْ مُعَدَّلِينَ سَأَلُوا عَمَّنْ شَهِدُوا لَهُ. فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لَهُ، لَمْ يَسْأَلُوا عَمَّا عَدَاهُ. وَإِنْ ذكروا جواز شهادتهم له، سألوا عَمَّنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا يَمْنَعُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْأَلُوا عَمَّا عَدَاهُ. وَإِنْ ذَكَرُوا جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ، ذَكَرُوا حِينَئِذٍ الْقَدْرَ الَّذِي شَهِدُوا فِيهِ. ثُمَّ عَلَى أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْهَدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعِ إِنِ اجْتَمَعَتْ أَوِ افْتَرَقَتْ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُكْمًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَإِنْ لَزِمَ اعْتِبَارُ جَمِيعِهَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. (لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا من اثنين بلفظ الشهادة) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَقْبَلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ وَلَا تَعْدِيلَهُ وَلَا تَجْرِيحَهُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِتَعْدِيلِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَلَا بِجَرْحِهِ إِلَّا بِشَهَادَةِ مُزَكِّيَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ. فَإِنْ شَهِدَ بِالتَّعْدِيلِ أَوِ الْجَرْحِ وَاحِدٌ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي تَعْدِيلٍ وَلَا جَرْحٍ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يَحْكُمُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَخَالَفَ فِيهِ كَخِلَافِهِ فِي التَّرْجَمَةِ. اسْتِدْلَالًا بِقَبُولِ خَبَرِهِ فِي الدِّيَانَاتِ، فَكَانَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَوْلَى، وَأَجَازَ سَمَاعَ قَوْلِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَأَجَازَ تَعْدِيلَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ كَمَا أَجَازَ خَبَرَهُمَا. وَكُلُّ هَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا، فَلَا يَسْمَعُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ إِلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ تَعْدِيلَ وَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا يَقْبَلُ فِيهِ إِلَّا مَا يَقْبَلُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 187 إِثْبَاتُ حُكْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِقَوْلِ غَيْرِهِ فَصَارَ هُوَ الْحَقَّ الْمَطْلُوبَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ما استدل به في الترجمة. (شهادة النساء في التعديل والجرح) وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْأَصْلِ بِمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مِنَ الْأَمْوَالِ أَوِ الْوِلَادَةِ أَوْ عُيُوبِ النِّسَاءِ. وَقَبِلَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ. وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّهَا شَهَادَةٌ وَلَيْسَتْ بِخَبَرٍ ثُمَّ هِيَ شَهَادَةٌ بِغَيْرِ المال فلم تقبل شهادتهن فيه وإن قبلته في الأموال. (فصل: هل يحكم القاضي في التزكية بأصحاب المسائل أو بأهل الخبرة؟ .) فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مَحْضَةٌ يَحْكُمُ فِيهَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي فِي تَعْدِيلِهِمْ وَجَرْحِهِمْ بِأَصْحَابِ مَسَائِلِهِ؟ أَوْ بِمَنْ عَدَّلَهُمْ وَجَرَحَهُمْ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ هم الشهود عند بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ، وَهُمُ الْمُتَحَمِّلُونَ عَنِ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْمَعُهُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْحُكَّامِ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْعَدَدُ. وَيَعْتَبِرُ أَنْ يَقَعَ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعْدِيلٍ وَجَرْحٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الْوَاحِدِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ارْتَابَ بِالِاثْنَيْنِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَزِيدَ. وَيَجُوزُ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَسْأَلُوا الْجَارَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ تَعْدِيلَهُ وَجَرْحَهُ؟ وَلَا يَجُوزُ للحاكم أن يسأل أصحاب المسائل من أن عَلِمْتُمُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ؟ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ. أَنَّ الَّذِي يَشْهَدُ بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ هُمْ مَنْ عَرِفَهُمَا مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَيَكُونُ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ رُسُلَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ مَسْمُوعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ، وَهُمُ الْجِيرَانُ وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ دُونَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهِيَ لَا تُسْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شهود الأصل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 188 فَعَلَى هَذَا إِذَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ رُسُلَ مَنْ عَدَّلَ وَجَرَحَ، كَانَ مَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ خَبَرًا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ، وَيُسَمُّوا لِلْحَاكِمِ مَنْ عَدَّلَ وَجَرَّحَ، ثُمَّ تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ مِنَ الْجِيرَانِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ عَلَى شرط الشهادة. (فصل: هل يشهد على تعديل الثاني من شهدا على الأول) . وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ أَوْ مِنَ الْجِيرَانِ بِحَسَبِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِتَعْدِيلِ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَا بِتَعْدِيلِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ هُمَا فَرْعٌ لِأَصْلٍ وَفِي التَّزْكِيَةِ هُمَا شَاهِدَانِ عَلَى الْأَصْلِ. (مِنِ احْتِيَاطَاتِ الْحُكَّامِ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَيُخْفِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَسْمَاءَ مَنْ دَفَعَ إِلَى الْآخَرِ لِتَتَّفِقَ مَسْأَلَتُهُمَا أَوْ تَختَلِفَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: وَهُوَ مِنِ اسْتِظْهَارِ الْحَاكِمِ، أَنْ يُخْفِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ مَا دَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يَجْمَعَهُمُ الْهَوَى عَلَى اتِّفَاقٍ فِي جَرْحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ. وَإِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي بِجَرْحٍ أَسَرُّوهُ، وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ. وَإِنْ شَهِدُوا بِتَعْدِيلٍ جَازَ أَنْ يَجْهَرُوا بِهِ، لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِخْفَاءِ المساوي، وَإِظْهَارِ الْمَحَاسِنِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ شَهَادَتُهُمْ بِالْجَرْحِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَجْرُوحِ، وَلَا يَلْزَمُ إِعَادَتُهَا مَعَ حُضُورِهِ وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّعْدِيلِ مَعَ الْحُضُورِ، وَلِأَنَّ الْمُعَدِّلَ مَحْكُومٌ بِقَوْلِهِ، فَاحْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّعْدِيلِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُعَدَّلِ وَتُعَادُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مَعَ حُضُورِهِ، لِئَلَّا يَقَعَ الْغَلَطُ فِي اتِّفَاقِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ، فَيَزُولُ الِاشْتِبَاهُ بِالْإِشَارَةِ مَعَ الْحُضُورِ. (حُكْمُ شَهَادَاتِ التَّعْدِيلِ إِذَا اخْتَلَفَتْ) . (مسألة) قال الشافعي: " فَإِنِ اتَّفَقَتْ بِالتَّعْدِيلِ أَوِ التَجرِيحِ قَبِلَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعَادَهَا مَعَ غَيْرِهِمَا ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 189 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لَيْسَ يَخْلُو حَالُ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ فَيَحْكُمُ بِالْعَدَالَةِ وَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْجَرْحِ، فَيَحْكُمُ بِهِ وَيُسْقِطُ شُهُودَ الْأَصْلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فَيَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ، وَيَشْهَدَ الْآخَرُ بِالْجَرْحِ، فَلَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ، وَيُنَفِّذُ غَيْرَهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيمَنْ يُنَفِّذُهُ بَعْدَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ بِالْوَاحِدِ تكبل بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوِ التَّعْدِيلِ، وَلَوِ اسْتَظْهَرَ بِإِنْفَاذِ اثْنَيْنِ كَانَ أَحْوَطَ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَعَادَهُمَا مَعَ غَيْرِهِمَا فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعِيدَهُمَا ثَانِيَةً لِلْبَحْثِ فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِمَنْ عَدَّلَ جَرْحٌ يُوَافِقُ فِيهِ صَاحِبَهُ أَوْ ظَهَرَ لِمَنْ جَرَحَ تَعْدِيلٌ يُوَافِقُ فِيهِ صَاحِبَهُ وَيَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُجُوعَهُ إِلَى مَا بَانَ لَهُ مِنْ خِلَافِ شَهَادَتِهِ الْأُولَى. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَعَادَهُمَا يَعْنِي عَنِ الشَّهَادَةِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ، لِيَنْظُرَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الثَّالِثُ، فَإِنْ أَتَاهُ الثَّالِثُ فَشَهِدَ عِنْدَهُ بِالتَّعْدِيلِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ، فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْخَارِجِ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِالْجَرْحِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ، فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْخَارِجِ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِالْجَرْحِ كَمُلَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ فَحَكَمَ بِهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ شَهَادَةَ الْمُعَدِّلِ. (بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ عُدِّلَ رَجُلٌ بِشَاهِدَيْنِ وَجُرِحَ بِآخَرَيْنِ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّعْدِيلَ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْجَرْحَ عَلَى الْبَاطِنِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا شَهِدَ بِعَدَالَةِ رَجُلٍ شَاهِدَانِ وَشَهِدَ بِجَرْحِهِ شَاهِدَانِ كَانَتْ شَهَادَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ التَّعْدِيلِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ عَلَى الظَّاهِرِ وَبِالْجَرْحِ عَلَى الْبَاطِنِ، وَالْحُكْمَ بِالْبَاطِنِ أَقْوَى مِنَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَصَارَ كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالرِّدَّةِ، كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ، وَالرِّدَّةَ بَاطِنَةٌ، وَكَمَنَ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْقَضَاءِ، كَانَتْ شَهَادَةُ الْقَضَاءِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِبَاطِنٍ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي الْجَرْحِ إِثْبَاتًا، وَفِي التَّعْدِيلِ نَفْيًا، وَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى من النفي، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 190 كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِطَلَاقِهَا، كَانَتْ شَهَادَةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ بِغَيْرِهَا. فَلَوْ شَهِدَ بِالْجَرْحِ اثْنَانِ وَشَهِدَ بِالتَّعْدِيلِ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ أَكْثَرَ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ. وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِجَرْحِهِ. فِي سَنَةٍ أَوْ بَلَدٍ، ثُمَّ شَهِدَ اثْنَانِ بِتَعْدِيلِهِ فِي سَنَةٍ بَعْدَهَا، أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ، انْتَقَلَ إِلَيْهِ، حَكَمَ بِتَعْدِيلِهِ دُونَ جَرْحِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْفِسْقِ إِلَى الْعَدَالَةِ، وَيَهْفُو كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ يَسْتَقِيمُونَ. (لَا يقبل الجرح إلا بيقين) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَا بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالسَّمَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِالْأَفْعَالِ، كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ. وَالثَّانِي: بِالْأَقْوَالِ، كَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَالسِّعَايَةِ وَالنَّمِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: بِالِاعْتِقَادِ، كَاسْتِحْلَالِ الْمَحْظُورَاتِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَاتِ. فَالْأَفْعَالُ: تُعْلَمُ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَقْوَالُ: تُعْلَمُ بِالسَّمَاعِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ. فَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْجَارِحِ إِذَا شَهِدَ بِأَفْعَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا شَاهَدَهَا. وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا شَهِدَ بِأَقْوَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا سَمِعَهَا. وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا قَالَ بَلَغَنِي وَقِيلَ لِي. وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالْجَرْحِ بِالْأَفْعَالِ وَلَا فِي الْأَقْوَالِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَهَا، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَلِأَنَّهُ، وَإِنْ سَمِعَهَا فَلَيْسَ يَتَحَقَّقُهَا مِنَ الْمَجْرُوحِ لِاشْتِبَاهِ صَوْتِهِ بِصَوْتِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِهَا عَنِ الْإِخْبَارِ فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ الَّتِي لَا يَعْتَرِضُهَا ارْتِيَابٌ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، كَمَا يَشْهَدُ بِالْأَنْسَابِ، وَبِالْأَمْلَاكِ، وَالْمَوْتِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْبَصِيرِ فِي الْعِلْمِ بِهَا. فَإِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ الْجَرْحَ إِمَّا بِالْمُعَايَنَةِ لِلْأَفْعَالِ أَوْ بِالسَّمَاعِ لِلْأَقْوَالِ أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِلا مَنْ شَهِدَ بالحق وهم يعلمون} . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 191 فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهَذَا الْجَرْحِ عِنْدَ الْحَاكِمِ هُمُ الْجِيرَانَ وَأَهْلَ الْخِبْرَةِ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةً فِي شَهَادَتِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهَا أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ تَحَمَّلُوهَا عَنْ عِلْمِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا عَنْهُمْ، لِأَنَّ أَصْحَابَ مَسَائِلِهِ قَدْ نُدِبُوا لِلْبَحْثِ عَنْهَا، وَلَوْ تَحَمَّلُوهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَقَدَّمُوا الشَّهَادَةَ بِهَا وَلَمَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَسْأَلَةِ عَنْهَا. وَلَا يَصِيرُ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ إِذَا شَهِدُوا بِهَا قَذَفَةً، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ. وَيَصِيرُ الْجِيرَانُ بِهَا قَذَفَةً. إِنْ لَمْ تُكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ نُدِبُوا لِلْإِخْبَارِ بِمَا سَمِعُوهُ، وَلَمْ يُنْدَبِ الْجِيرَانُ إِلَيْهِ وَسَوَاءٌ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ هَذَا الْجَرْحَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، لَكِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِهِ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الخبر. (ذكر سبب الجرح) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَقْبَلُهُ مِنْ فَقِيهٍ دَيِّنٍ عَاقِلٍ إِلَّا بِأَنْ يَقِفَهُ عَلَى مَا يَجْرَحُهُ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَنُونَ فِي الْأَهْوَاءِ فَيَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ بِالتَأْوِيلِ وَهُوَ بِالْجَرْحِ عِنْدَهُمْ أَوْلَى وَأَكْثَرُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُ بَغْيًا حَتَّى يُعَدَّ الْيَسْيرُ الَذِي لَا يَكُونُ جَرْحًا جَرْحًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يَذْكُرُوا لَهُ أَسْبَابَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ، إِذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهُ عَدْلٌ، أَوْ فَاسِقٌ، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مَا صَارَ بِهِ عِنْدَهُمْ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَلِأَنَّهُمْ إِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ، فَكَانَتِ الشَّهَادَةُ بِفِسْقِهِ أَسْلَمَ وَأَسْتَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِمْ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ فِسْقِهِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس ". ولأن الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ إِلَى الْحُكَّامِ دُونَ الشُّهُودِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهِ عَلَى رَأْيِ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَشَارِبُ النَّبِيذِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 192 مُخْتَلِفٌ فِي حَدِّهِ وَفِسْقِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُفَسِّقُهُ وَلَا يَحُدُّهُ، وَمَالِكٌ يُفَسِّقُهُ وَيَحُدُّهُ، وَالشَّافِعِيُّ يَحُدُّهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ إِلَّا قَوْلُ مَنْ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ وَهُمُ الْحُكَّامُ دُونَ الشُّهُودِ. وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ شَاهِدًا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ جَرَحَتْهُ؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا! قِيلَ: وَلِمَ يصير فاسقا إذا بال قائما؟ قال: ولأنه يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ قِيلَ: أَفَرَأَيْتَهُ يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ حِينَ بَالَ؟ قَالَ: لَا. فَإِذَا جَازَ أَنْ يُجْرَحَ الشَّاهِدُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ، حَتَّى يَصِفَ لَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مَجْرُوحًا. وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ فِي الْمَذَاهِبِ يُفَسِّقُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ بِالْمُخَالَفَةِ فَاسِقًا، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَمَّا صَارَ بِهِ فَاسِقًا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ، فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْقُطَانِ فَيَحْمِلُ السَّتْرَ فِيمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَالذِّكْرَ فِيمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ لَا يَصِيرُونَ بِهِ قَذَفَةً وَإِنْ صَارَ الْجِيرَانُ بِهِ قَذَفَةً لَكِنْ لَيْسَ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَذْفِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ بَعْدَ اسْتِخْبَارِهِمْ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْفِسْقِ فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَسَبَبُ فِسْقِهِمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فوجب أن يسألوا عنه (فصل: بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ) . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ عَنْ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَسْتَوِي سُؤَالُهُ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ وَعَنِ الشَّهَادَةِ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّلَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرَحَ مَنْ لَيْسَ بِمَجْرُوحٍ، فَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ إِلَّا مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَطَالَتْ خِبْرَتُهُ وَلَا يَسْمَعُهَا مِمَّنْ قَرُبَتْ مُدَّةُ مَعْرِفَتِهِ لِجَوَازِ التَّصَنُّعِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ. وَيَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَمِمَّنْ حَدَثَتْ مَعْرِفَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ بِحُدُوثِ فِعْلٍ قَدْ يَكُونُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ كَمَا يَكُونُ فِي بَعِيدِهَا. فَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِأَسْبَابِ الْجُرْحِ، اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِيهَا فَإِذَا صَارَ بِهَا مَجْرُوحًا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 193 عِنْدَهُ، حَكَمَ بِفِسْقِهِ وَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا مَجْرُوحًا عِنْدَهُ، لَمْ يَحْكُمْ بِفِسْقِهِ، وَلَا بِعَدَالَتِهِ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ. وَإِنْ شَهِدُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَالَةِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِيهَا فَإِنْ صَارَ بِهَا عَدْلًا عِنْدَهُ حَكَمَ بِعَدَالَتِهِ وَأَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ بِهَا عَدْلًا عِنْدَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِعَدَالَتِهِ وَلَا بِفِسْقِهِ وَتَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ. (هَلِ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ التعديل شرط) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَقْبَلُ التَعْدِيلَ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْأَلُ عَنْ أَسْبَابِ التَّعْدِيلِ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَسْبَابِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ أَنْ يَجِدُوهُ سَلِيمًا مِنَ الْهَفَوَاتِ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْحِ السَّبَبِ، وَالْجَرْحُ بِحُدُوثِ أَفْعَالِهِ الْمُوجِبَةِ لِفِسْقِهِ، فَوَجَبَ شَرْحُهَا. فَعَلَى قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَكُونُ السُّؤَالُ عن سبب العدالة استظهارا وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَاجِبٍ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ في زماننا. وعلى هذا قول الشافعي: وَلَا يَقْبَلُ التَعْدِيلَ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ: " عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي ". فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ؛ عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي هَلْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الْوُجُوبِ شَرْطًا فِيهَا؟ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَأْكِيدًا لَهَا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعد الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَأْكِيدًا، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ تَقْتَضِي الْحُكْمَ بِهَا لَهُ وَعَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وطائفة، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ التَّعْدِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّاهِدُ لَمْ يَثْبُتِ التَّعْدِيلُ عَلَى ظَاهِرِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي الْعِلَّةِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، وَفِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ أَوْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمُبَايِنِيهِ فَإِذَا قَالَ: عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 194 فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذَا علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة. وَعَلَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَإِنْ علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ عَدْلٌ رِضًا فَهُوَ وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْدِيلِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَوْلَهُ رِضًا مَحْمُولٌ على التَّأْكِيدِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ رِضًا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ بِأَنَّهُ رِضًا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ سَلَامَةٌ، وَالرِّضَا كَمَالٌ. وَاسْتَزَادَ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْهُمْ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَذْكُرَ الشُّهُودُ: " أَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ ". وَهَذَا تَأْكِيدٌ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعَدَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ نَذْكُرَ أَحْكَامَهَا، كَمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا صِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَتَقْوَاهُ، وَتَحَرُّجَهُ. فَهَذَا شَرْحُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ الشَّاهِدِ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ اسْتِظْهَارٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ سُؤَالَهُ عَنْ أَسْبَابِهَا وَاجِبٌ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، مِنْ جَوَازِ الِاحْتِمَالِ فِي التَّعْدِيلِ، كَجَوَازِ الِاحْتِمَالِ فِي التَّفْسِيقِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّاهِدُ مُؤَدِّيًا لِأَسْبَابِ التَّعْدِيلِ، وَالْقَاضِي هُوَ الْحَاكِمُ بِالْعَدَالَةِ وَتَكُونُ اسْتَزَادَتُهُ مِنَ الشُّهُودِ، أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي اسْتِخْبَارًا عَنْ حُكْمِ الْعَدَالَةِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبَبِهَا. وَهَلْ يَكُونُ هَذَا الِاسْتِخْبَارُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْحَاكِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّهِ [لِيَكُونَ حُكْمُهُ] ، بِالتَّعْدِيلِ عَلَى أَحْوَطِ الْأُمُورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِأَسْبَابِ التَّعْدِيلِ تُغْنِي عَمَّا سِوَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا من ذي المعرفة الباطنة) (مسألة) : قال الشافعي: " ثَمَّ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِهِ فَإِنْ كَانَتْ بَاطِنَةً مُتَقَادِمَةً وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 195 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ تُخَالِفُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ، مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَثَالِثٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّعْدِيلِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ قَدِيمَ الْمَعْرِفَةِ، وَتُقْبَلُ فِي الْجَرْحِ مِمَّنْ كَانَ حَدِيثَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ الْعَدَالَةَ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ، فَلَمْ تُقْبَلْ إِلَّا مِنْ قَدِيمِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَحْدُثُ الْجَرْحُ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ، فَقُبِلَ مِنْ حَدِيثِ الْمَعْرِفَةِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الظَّاهِرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ، مَجْرُوحًا فِي الْبَاطِنِ، وَالْمُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَيُقْبَلُ الْجَرْحُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِهِ مَنْ عُرِفَ ظَاهِرُهُ، كَمَا يُعْلَمُ بِهِ مَنْ عُرِفَ بَاطِنُهُ. وَأَمَّا الْفَرْقُ الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالْجَرْحِ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَهَلْ يَكُونُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي التَّعْدِيلِ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ شَرْطٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بِالتَّعْدِيلِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. (تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَسْأَلُ عَمَّنْ جَهِلَ عَدْلَهُ سِرًّا فَإِذَا عُدِّلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ عَلَانِيَةً لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُعَدَّلَ سِرًّا هُوَ هَذَا لَا يُوَافِقُ اسْمٌ اسْمًا ولا نسب ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِمَّا إِذَا ابْتَدَأَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ بِالشَّهَادَةِ فِيمَنْ بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِلْمٌ بِمَا يَشْهَدُونَ بِهِ، مِنْ جَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَبْعَثَهُمْ عَلَى الْجَهْرِ بِالشَّهَادَةِ، حَذَرًا أَنْ يَشْهَدُوا بِالْجَرْحِ الْمَأْمُورِ بِسَتْرِهِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْعَدَالَةِ، جَازَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ سِرًّا وَجَهْرًا. فَإِنْ شَهِدُوا بِالْجَرْحِ، حَكَمَ بِهِ، وَلَمْ يُعْلِنْهُ. وَإِنْ شَهِدُوا بِالتَّعْدِيلِ، أَعْلَنَهُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي حُسْنِ الذِّكْرِ، وَجَمِيلِ الثَّنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ جَرْحِهِ مَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْمُعَدَّلِ؛ فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي النَّاسِ، بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فِي الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَعْدِيلِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِشَارَةِ الشُّهُودِ إِلَيْهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 196 وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فِي النَّاسِ، وَجَازَ أَنْ يُشْتَبَهَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ أَخَذَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ بِتَعْيِينِهِ، عِنْدَ حُضُورِهِ، بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي شَهِدْنَا عِنْدَكَ بِتَعْدِيلِهِ، لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ، فِي اسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ اسْمٌ اسْمًا، وَنَسَبٌ نَسَبًا. وَهَذَا التَّعْيِينُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَحَمَلَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، تَأْكِيدًا، اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ. وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي الْمَشْهُورِ، وَعَلَى الْوُجُوبِ فِي المجهول أصح. (فصل: هل الحكم بالعدالة يستقر على التأييد) فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَحَكَمَ بِالشَّهَادَةِ فِي التَّعْدِيلِ عَلَى مَا شَرَحْنَا وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أن الحكم بعدالته قد استقر على التأييد مَا لَمْ يَطْرَأْ جَرْحٌ يَظْهَرُ مِنْ بَعْدُ، فَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ مَتَى شَهِدَ عِنْدَهُ، اسْتِصْحَابًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يُعِيدُ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ فِي كُلِّ مُدَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ، لِأَنَّهُ شَاقٌّ، وَخَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ. وَالْمُدَّةُ الَّتِي يَعْتَدُّ بِمُضِيِّهَا الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ. وَقَدَّرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَإِذَا أَعَادَ الْبَحْثَ عَنْهُ مِرَارًا، اسْتَقَرَّتْ فِي النُّفُوسِ عَدَالَتُهُ، وَتَحَقَّقَتْ أَمَانَتُهُ، فَإِنْ تَجَدَّدَتْ مِنْهُ اسْتِرَابَةٌ أَعَادَ الْبَحْثَ وَالْكَشْفَ وَإِنْ لَمْ تَحْدُثِ اسْتِرَابَةٌ لم يعدها. (فصل: تمييز الشهود وتعيينهم) فَأَمَّا تَمْيِيزُ الشُّهُودِ وَتَعْيِينُهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى يَعْتَمِدَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْمَعَ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ كَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مُسْتَحْدَثٌ، أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَكَانَ مَالِكِيًّا مَيَّزَ شُهُودَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ، وَتَلَاهُ مَنْ تَعَقَّبَهُ مِنَ الْقُضَاةِ إِلَى وَقْتِنَا لِيَكُونَ الشُّهُودُ أَعْيَانًا مَعْدُودِينَ حَتَّى لَا يَسْتَشْهِدَ الْخُصُومَ بِمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ فَيُغَرِّرُوا وَلَا يَطْمَعُ فِي الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا فَيَسْتَرْسِلُوا. وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ أَفْعَالِ الْقُضَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحْدَثٌ، خُولِفَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ. وَلَيْسَ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُهُودٌ يَقْبَلُهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ غَيْرَهُمُ، اقْتِصَارًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِي النَّاسِ مِنَ الْعُدُولِ أَمْثَالَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 197 الْعُدُولِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَخُصُّ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَخُصَّ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ لِلنَّاسِ حُقُوقٌ يَشْهَدُهَا مَنِ اتَّفَقَ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا شَهَادَةَ مُعَيَّنٍ بَطَلَتْ. وَلِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ مَشَقَّةً تَدْخُلُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْمُسْتَشْهِدِ، لِمَسْأَلَةِ الطَّالِبِ وَإِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ. وَلِأَنَّ مَنْ قَلَّتْ أَمَانَتُهُ مِنَ النَّاسِ إِذَا عَلِمُوا أَنْ لَا تُقْبَلَ فِيهِمْ شَهَادَةُ مَنْ حَضَرَهُمْ تَجَاحَدُوا، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا تَنَاصَفُوا. [وَقَدْ يَتَهَافَتُ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي عِنْدَ الْإِيَاسِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهَا عِنْدَ ظَنِّهِمْ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ] . (الْقَوْلُ فِي كَاتِبِ الْقَاضِي) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا حَتَّى يَجْمَعَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَاقِلًا وَيَحْرِصُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا لَا يُؤْتَى مِنْ جَهَالَةٍ نَزِهًا بَعِيدًا مِنَ الطَّبْعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لَا يَسْتَغْنِي قُضَاةُ الْأَمْصَارِ وَالْوُلَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ عَنْ كَاتِبٍ يَنُوبُ عَنْهُمْ فِي ضَبْطِ الْأُمُورِ لِيَتَشَاغَلَ الْوُلَاةُ بِالنَّظَرِ، وَيَتَشَاغَلَ الْكَاتِبُ بِالْإِثْبَاتِ، وَإِنْشَاءِ الْكُتُبِ. قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُتَّابٌ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الْقَضِيَّةَ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَاتِبٌ، يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: تَعْرِفُ السُّرْيَانِيَّةَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ إِلَيَّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ كُتُبِي كُلُّ أَحَدٍ فَتَعَلَّمِ السُّرْيَانِيَّةَ " قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُهَا فِي نِصْفِ شَهْرٍ. وَلِفَضْلِ الْكِتَابَةِ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَادَى أَسْرَى بَدْرٍ شَرَطَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِدَاءٌ أَنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْكِتَابَةَ، فَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ لِلْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُتَّابٌ مَشْهُورُونَ وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 198 وَلِأَنَّ تَشَاغُلَ الْوُلَاةِ بِالْكِتَابَةِ يَقْطَعُهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُضَاةُ وُلَاةٌ لا يستغنون عن كتاب. (صفات كاتب القاضي) . وَصِفَةُ كَاتِبِ الْقَاضِي مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ: لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَاتِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ فَافْتَقَرَ إِلَى صِفَةِ مَنْ تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالشُّهُودِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَلَيْسَ يُرِيدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَزْلَ الرَّأْيِ، سَدِيدَ التَّحْصِيلِ، حَسَنَ الْفَطِنَةِ حَتَّى لَا يُخْدَعَ. أَوْ يُدَلَّسَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا، لِيَعْلَمَ صِحَّةَ مَا يَكْتُبُ مِنْ فَسَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا بِأَحْكَامِ كِتَابَتِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالشُّرُوطِ، مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ وَاضِحَ الْخَطِّ، فَصِيحَ اللِّسَانِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ نَزِيهًا بَعِيدًا مِنَ الطَّمَعِ لِيُؤْمَنَ أَنْ يَرْتَشِيَ فَيُحَابِيَ. فَإِذَا ظَفِرَ الْقَاضِي بِمَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الْأَرْبَعَةُ وَأَرْجُو أَنْ يَظْفَرَ بِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَكْتِبَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَكْتِبَ عَبْدًا، وَإِنْ أَكْمَلَهَا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ فِي كَمَالِ الْعَدَالَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَكْتِبَ ذِمِّيًا وَإِنْ كَانَ كَافِيًا؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِفِسْقِهِمْ فِي الدِّينِ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] . وَقَالَ: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] . وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى الشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 199 وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ ". أَيْ لَا تَرْجِعُوا إِلَى آرَائِهِمْ، وَلَا تُعَوِّلُوا عَلَى مُشَاوَرَتِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَعَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِخَطِّهِ وَحِسَابِهِ، فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى أَحْضِرْ كَاتِبَكَ، لِيَقْرَأَهُ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنَّهُ نصراني لا يدخل المسجد فزبره عُمَرُ وَقَالَ " لَا تَأْمَنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: مَا يَنْبَغِي لِقَاضٍ وَلَا وَالٍ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا ذِمِّيًّا، وَلَا يَضَعَ الذِّمِّيَّ فِي مَوْضِعٍ يَفْضُلُ بِهِ مُسْلِمًا، وَيُعِزُّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَالْقَاضِي أهل الناس في هذا عذرا. (فصل: مجلس الكاتب وعمله) . فَإِذَا اسْتَكْتَبَ الْقَاضِي مَنْ وَصَفْنَا، وَأَحْضَرَهُ مَجْلِسَ حُكْمِهِ، وَأَجْلَسَهُ فِي الِاخْتِيَارِ عَنْ يَسَارِهِ، لِيُثْبِتَ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنْ إِقْرَارٍ، أَوْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ، أَوْ تَنْفِيذِ حُكْمٍ يَذْكُرُ فِيهِ الْمَحْكُومَ لَهُ، وَالْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، بِأَسْمَائِهِمَا، وَأَنْسَابِهِمَا، وَبِقَدْرِ مَا حَكَمَ بِهِ، وَسَبَبَ حُكْمِهِ، مِنْ إِقْرَارٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ حَلَّاهُمَا عِنْدَ الْجَهَالَةِ بِهِمَا كَانَ أَوْلَى. وَالْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَكْتُبَهُ مِنْ لَفْظِهِ، أَوْ يَكْتُبَهُ الْكَاتِبُ بِأَلْفَاظِهِ وَالْقَاضِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ، أَوْ يَقْرَأُهُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ، وَيُعْلِمَ فِيهِ الْقَاضِيَ بِخَطِّهِ، وَيُشْهِدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْمُتَحَاكِمِينَ. وَيَكْتُبُ الْكَاتِبُ ذَلِكَ عَلَى نُسْخَتَيْنِ، تَكُونُ إِحْدَاهُمَا فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، وَالْأُخْرَى بِيَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ. فَإِنْ قَصَّرَ الْقَاضِي فِيمَا وَصَفْنَاهُ كَانَ مُفَرِّطًا فِي حُقُوقِ وِلَايَتِهِ، وَمُفَرِّطًا فِي حُقُوقِ الْخُصُومِ، وَإِنِ اسْتَوْفَاهَا سَلِمَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهِمَا. ( [صِفَاتُ الْقَاسِمِ] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: والقاسم في صفة الكاتب عالم بالجناب لَا يُخْدَعُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَاسِمَ أَمِينُ الْحَاكِمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْكَاتِبِ، مِنَ الْعَدَالَةِ، وَالْأَمَانَةِ، وَاسْتَكْمَال الْأَوْصَافَ الْأَرْبَعَةَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَالْقِسْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْقِيَمِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 200 فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِيَمُ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُقَوَّمَةِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْصِيرًا فِي صِفَتِهِ وَرَجَعَ الْحَاكِمُ فِي التَّقْوِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ أَهْلَ خِبْرَةٍ وَهُمْ أَعْلَمُ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ يُكْمِلُ مَعْرِفَةَ قِيَمِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَحَدٌ. وَلِلْقَاسِمِ اجْتِهَادٌ، كَالْحَاكِمِ، وَلَيْسَ لِلْكَاتِبِ اجْتِهَادٌ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَكَانَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْقَاسِمِ أَغْلَظَ مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي الْكَاتِبِ. (ضَمُّ الشَّهَادَاتِ وَحِفْظُهَا) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَيَتَوَلَّى الْقَاضِي ضَمَّ الشَّهَادَاتِ وَرَفْعَهَا لَا يَغِيبُ ذَلِكَ عَنْهُ وَيَرْفَعُهَا فِي قِمَطْرٍ وَيَضُمُّ الشَّهَادَاتِ وَحُجَجَ الرَّجُلَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مُتَرْجَمَةً بِأَسْمَائِهِمَا وَالشَّهْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْرَفَ لَهُ إِذَا طَلَبَهَا فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ عَزَلَهَا وَكَتَبَ خصوم سنة كذا حتى تكون كل سنة مفروزة وكل شهر مفروزا ولا يفتح المواضع التي فيها تلك الشهادات إلا بعد نظره إلى خاتمه أو علامته وأن يترك في يدي المشهود له نسخة بتلك الشهادات ولا يختمها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ الْفَصْلُ لِانْقِضَاءِ التَّنَازُعِ بِهِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 22] . وَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي نَظَرِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَالثَّانِي: التَّوْثِقَةُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالثَّالِثُ: حِفْظُ مَا حصل عنده من الحجج والوثائق. (القول في فصل التنازع) فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَلَهُ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ وَاضِحًا فَيُعَجِّلُ فَصْلَهُ فِي الْوَقْتِ الْمَأْلُوفِ، مِنْ زَمَانِ نَظَرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي اللَّيْلِ، وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ أَنْ يَفْصِلَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ الْمُكْنَةِ الْمَأْلُوفَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَثِمَ، إِلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ الْخُصُومُ. فَإِنِ اتَّفَقَ الْخَصْمَانِ عَلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا عَلَى تَعْجِيلِهِ. وَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى تَعْجِيلِ فَصْلِهِ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تَعْجِيلِهِ وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ فَصْلَ التَّنَازُعِ حَقٌّ لِلْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَبِهًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 201 أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِاشْتِبَاهُ لِاخْتِلَاطِ الدَّعْوَى وَاشْتِبَاهِ التَّنَازُعِ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِكَشْفِ الْمُشْتَبَهِ وَتَمْيِيزِ الْمُخْتَلَطِ وَلَا يَعْجَلَ فِي فَصْلِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ حَالِهِمَا وَالْأَمْرُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا كَشَفَاهُ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاشْتِبَاهُ لِإِشْكَالِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِاحْتِمَالِهِ عِنْدَهُ. فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقِفَ الْحُكْمَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِيهِ، وَمُشَاوَرَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وَجْهِ صَوَابِهِ، وَلَا يَعْجَلَ بِفَصْلِهِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ عَجَّلَ حِينَئِذٍ فَصْلَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ. فَإِنْ رَدَّهُمَا الْقَاضِي مَعَ الِاشْتِبَاهِ إِلَى وَسَاطَةِ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَإِنْ سَأَلَاهُ رَدَّهُمَا إِلَى الْوَسِيطِ لَزِمَهُ الْكَفُّ عَنِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُمَا إِلَى وَسِيطٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ رَدَّهُمَا إِلَيْهِ تَقْلِيدٌ لَهُ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ لَهُمَا نَاظِرًا. فَإِنْ أَجَابَهُمَا إِلَيْهِ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُ وَحَمَلَهُمَا الْوَسِيطُ عَلَى التَّرَاضِي دُونَ الْإِلْزَامِ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الْإِلْزَامَ فَيَصِيرُ حَاكِمًا وَمُلْزَمًا. وَيَجُوزُ لِلْوَسِيطِ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ بِمَا حَفِظَهُ مِنْ إِقْرَارِهِمَا فَإِنْ شَرَطَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْفَظَ عَلَيْهِمَا إِقْرَارًا فَفِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الِاسْتِرْعَاءِ هَلْ يَكُونُ شرطا في صحة الشهادة. (فصل: حكم القاضي على والديه ومولوديه أو لهما) وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ. وَفِي جَوَازِ حُكْمِهِ لِوَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُمْ كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْحُكْمِ ظَاهِرٌ وَطَرِيقَ الشَّهَادَةِ بَاطِنٌ فَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ فِي الشَّهَادَةِ وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ بِأَنْ يَعْدِلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِعَدُوِّهِ وَعَلَى عَدُوِّهِ وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 202 أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْبَابَ الْعَدَاوَةِ طَارِئَةٌ تَزُولُ بَعْدَ وُجُودِهَا وَتَحْدُثُ بَعْدَ عَدَمِهَا وَأَسْبَابُ الْأَنْسَابِ لَازِمَةٌ لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ فَغَلُظَتْ هَذِهِ وَخَفَّفَتْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَنْسَابَ مَحْصُورَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ وَالْعَدَاوَةُ مُنْتَشِرَةٌ مُشْتَبِهَةٌ يُفْضِي تَرْكُ الْحُكْمِ مَعَهَا إِلَى امْتِنَاعِ كُلِّ مَطْلُوبٍ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ. (فصل: القول في التوثقة للمتنازعين) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ التَّوْثِقَةُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِيمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنَ الْحُقُوقِ: فَلَا يَخْلُو ثُبُوتُ الْحَقِّ عِنْدَهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُثْبِتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ [بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ] مِنْ إِقْرَارِ خَصْمِهِ لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ بِإِقْرَارِ خَصْمِهِ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إِلَّا الْإِقْرَارَ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ الْمُقِرُّ فَلَزِمَ الْقَاضِي إِثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ لِيَكُونَ لَهُ حُجَّةً عِنْدَ إِنْكَارِ خَصْمِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ [فَيَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ] لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي غَيْرَ إِشْهَادِ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ مَحْضَرًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ يسْتَوْفى عَاجِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ كَتْبُ الْمَحْضَرِ بِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُتَأَبَّدٍ فَفِي وُجُوبِ كَتْبِ الْمَحْضَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بَيِّنَةٌ تُغْنِي عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي كَتْبُ الْمَحْضَرِ وَالْإِشْهَادُ لِيَكُونَ حُجَّةً مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مُطْلَقِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ كَتْبُ الْمَحْضَرِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُثْبِتَ الْحَقَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ يُقِيمُهَا الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ فَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِي الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ بِالْحَقِّ بَيِّنَةً فَلَمْ يَلْزَمِ الْقَاضِي أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ بَيِّنَةً وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُخَيَّرًا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 203 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ فِي إِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ الْمَوْجُودَةِ تَعْدِيلَ بَيِّنَتِهِ، وَثُبُوتَ حَقِّهِ، وَإِلْزَامَ خَصْمِهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ الْإِسْجَالَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَالْإِشْهَادَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْإِسْجَالِ بِهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ كَتْبِ الْمَحْضَرِ بِالْإِقْرَارِ. وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ، وَأَحْلَفُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَسَأَلَهُ الْإِشْهَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَافِهِ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَاحْتَاجَ إِلَى حُجَّةٍ يَسْقُطُ بِهَا الرُّجُوعُ فِي مُطَالَبَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ إِلَّا إِشْهَادَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ سَأَلَهُ كَتْبَ مَحْضَرٍ بِإِحْلَافِهِ وَالْإِشْهَادِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي الْمُطَالَبَةُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى إِنْكَارِ خَصْمِهِ، وَإِحْلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ عليه، وليست له. (فصل: القول في المحاضر والسجلات) . فَأَمَّا صِفَةُ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ فَلِلْقُضَاةِ فِيهِمَا عُرْفٌ وَشُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِيهَا مِنْ تَوَجُّهِ الظُّنُونِ وَوُقُوعِ الِاشْتِبَاهِ. فَأَمَّا الْمَحْضَرُ: فَهُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ وَمَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنْ دَعْوَى وَإِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ وَبَيِّنَةٍ وَيَمِينٍ. فَأَمَّا السِّجِلُّ: فَهُوَ تَنْفِيذُ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَإِمْضَاءُ مَا حَكَمَ بِهِ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ. فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ جَرَى مَجْرَى السِّجِلِّ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَهُ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ السِّجِلِّ، وَإِنْ ذَكَرَ السِّجِلَّ حِكَايَةَ الْحَالِ جَرَى مَجْرَى الْمَحْضَرِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمَحْضَرِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعْدِلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَوْضُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْضَرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ مَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمُوجِبِ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ بِالسِّجِلِّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِمَا نَفَّذَ بِهِ الْحُكْمَ. فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ. وَصِفَةُ الْمَحْضَرِ أَنْ يُكْتَبَ: حَضَرَ الْقَاضِي فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامُ فَلَانٌ عَلَى بَلَدِ كَذَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ فِي مَوْضُوعِ كَذَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْضَرُ عَلَى إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 204 وقال أبو حامد الإسفرايني: إِنْ كَانَ عَلَى إِقْرَارٍ لَمْ يَذْكُرْ مَجْلِسَ حُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيِّنَةٍ ذَكَرَ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِقْرَارِ حُكْمٌ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا يَسْمَعُهَا الْقَاضِي إِلَّا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ إِلْزَامٌ، وَالْإِلْزَامُ حُكْمٌ. ثُمَّ يَذْكُرُ اسْمَ الْمُدَّعِي. وَاسْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا، مِنْ قَدْرِ الدَّعْوَى، وَمَا تَعَقَّبَهَا مِنْ إِقْرَارٍ، أَوْ إِنْكَارٍ، وَيَمِينٍ، أَوْ نُكُولٍ، أَوْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ. وَيُعْلَمُ الْقَاضِي فِيهِ بِعَلَامَتِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا. وَإِنْ أَشْهَدَ فِيهِ كَانَ أَوْكَدَ وَأَحْوَطَ، وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْمُحْتَجِّ بِهَا، وَيَجْعَلُ مِثْلَهَا فِي دِيوَانِهِ. وَأَمَّا السِّجِلُّ فَيَبْدَأُهُ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا ابْتَدَأَ الْمَحْضَرَ بِالْحُضُورِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ السِّجِلِّ: هَذَا مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فُلَان عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَذْكُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ إِسْجَالًا بِمَحْضَرٍ كَتَبَ نُسْخَتَهُ، وَإِنْ كَانَ إِسْجَالًا بِمَا تَضَمَّنَهُ كِتَابٌ، مِنْ ثُبُوتِ مِلْكٍ فِيهِ، كَتَبَ نُسْخَتَهُ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ بِهِ، وَاسْتَوْفَاهُ عَلَى شُرُوطِهِ، وَأَشْهَدَ بِمَا فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلِلْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ كُتُبٌ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا الْمَوْضُوعِ لِفِقْهِ الْأَحْكَامِ دُونَ مُوَاضَعَاتِ الشُّرُوطِ، وَرُبَّمَا أَفْرَدْنَا لِذَلِكَ كِتَابًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَلَا بُدَّ لِلْإِسْجَالِ مِنْ شَهَادَةٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِمَا فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْضَرُ فِي الْأَغْلَبِ بِغَيْرِ شهادة. (فصل: القول في حفظ الحجج والوثائق) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ حِفْظُ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، فَيُكْتَبُ عَلَى ظَهْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمُ صَاحِبِهِ، وَتَارِيخُ تَنْفِيذِهِ، وَيَخْتِمُهُ بِخَاتَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتِمِ النُّسْخَةَ الَّتِي فِي يَدِ صَاحِبِهَا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَرْضِهَا وَإِظْهَارِهَا. وَيَجْمَعُ وَثَائِقَ كُلِّ يَوْمٍ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَشْهَدِهِ، وَلَا يَكِلُهُ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّاهُ بِغَيْرِ مُعَايَنَتِهِ، لِأَنَّهَا أَمَانَاتُ أَرْبَابِهَا فِي يَدِهِ، لِيَسْلَمَ مِنِ اغْتِيَالٍ، أَوِ احْتِيَالٍ، وَيَضَعُهَا فِي قِمَطْرٍ، أَوْ سَفَطٍ، يَخْتِمُهُ بِخَاتَمِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ حُجَجُ كُلِّ شَهْرٍ ضَمَّهَا، وَكَتَبَ عَلَى مَجْمُوعِهَا: اسْمَ الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ. وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 205 فَإِذَا تَكَامَلَتْ حُجَجُ السَّنَةِ كُلِّهَا أَفْرَدَهَا وَكَتَبَ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا حُجَجُ سَنَةِ كَذَا. ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ كُلَّ سَنَةٍ، وَتَكُونُ جَمِيعُهَا تَحْتَ خَتْمِهِ فِي أَوْعِيَتِهِ. وَيَخْتِمُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِزَانَتِهِ، وَيَكُونُ الْخَاتَمُ فِي يَدِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا مَعَ مُشَاهَدَتِهِ، لِئَلَّا يَتِمَّ فِيهِ احْتِيَالٌ إِذَا فَارَقَهُ وَبَعُدَ عَنْهُ. (هَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمَا يَجِدُهُ فِي دِيوَانِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْكُتُبِ دُونَ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا؟) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِمَّا وَجَدَ فِي دِيوَانِهِ إِلَّا مَا حَفِظَ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَحُ فِي الدِّيوَانِ وَيُشْبِهُ الْخَطُّ الْخَطَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَضَرَ الْقَاضِيَ خَصْمَانِ وَذَكَرَ الطَّالِبُ مِنْهُمَا أَنَّ فِي دِيوَانِ الْقَضَاءِ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَصْمِهِ وَسَأَلَهُ إِخْرَاجَهَا وَالْحُكْمَ بِهَا وَعَرَضَ عَلَيْهِ مِثْلَ نُسْخَتِهَا الَّتِي بِيَدِهِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا وَأَخْرَجَ نُسْخَةَ دِيوَانِهِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا. فَإِذَا عَرَفَ صِحَّتَهَا وَذَكَرَ حُكْمَهُ فِيهَا عَمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَأَلْزَمَ الْخَصْمَ مَا حَكَمَ بِهِ. وَإِنْ عَرَفَ صِحَّةَ خَطِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَقْتَ حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِخَطِّهِ وَإِنْ صَحَّ فِي نَفْسِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِخَطِّهِ إِذَا عَرَفَ صِحَّتَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَهُوَ عُرْفُ الْقُضَاةِ فِي عَصْرِنَا. اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ وَالْحِفْظِ غَايَةَ مَا فِي وُسْعِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهِ لَتَاهَتْ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَبَطَلَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى مَا فَعَلَهُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُسْتَفِيضٌ وَالْإِنْكَارَ فِيهِ مُرْتَفِعٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلرَّاوِي أَنْ يَرْوِيَ أَخْبَارَ الدِّيَانَاتِ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا وَثِقَ بِصِحَّتِهِ كَانَتِ الْأَحْكَامُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَمَا أَمْضَاهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فَقَدْ قَفَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ أَغْلَظُ مِنَ الشَّهَادَةِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِلْزَامِ، فَلَمَّا لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ إِلَّا مَعَ الذِّكْرِ كَانَ الْحُكْمُ بذلك أحق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 206 وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَزُورُ عَلَيْهَا مَا لَا يَكَادُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَالُ عَلَى الْخُتُومِ فَصَارَ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ مُشْتَبِهًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إِلْزَامُ حَقٍّ وَإِمْضَاءُ حُكْمٍ مَعَ الِاشْتِبَاهِ وَالِاحْتِمَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ فَعَلَ غَايَةَ وُسْعِهِ لِيَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَذَكَّرَ بِهِ لَا لِيَحْكُمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالِاسْتِفَاضَةِ: فهو أنها استفاضة استرسال. وليس بِاسْتِفَاضَةِ اعْتِقَادٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرِّوَايَةِ: فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ وَفِي حِفْظِهَا مَعَ الْكَثْرَةِ مَشَقَّةٌ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُفَارِقَةً لِلرِّوَايَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ لِلْأَحْكَامِ وَالْإِلْزَامِ لِهَذَا المعنى أولى. (فصل: هل يجوز تولية القاضي الأمي) . فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِمَّنْ لَا يَكْتُبُ الْخَطَّ وَلَا يَقْرَأَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ النُّبُوَّةِ أَغْلَظُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمِّيًّا، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ بِخَطِّهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فَقْدُهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ أُمِّيًّا حَتَّى يكتب ويقرأ؛ لأن لَا يَقوى فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِمَا يَقْرَأَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَلَا يَحْفَظُ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعٍ وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ وَيَتَذَكَّرُهُ مِنْ خَطِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ ". فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَخَالَفَ فِيهِ مَنْ سِوَاهُ. (إِذَا نَسِيَ الْحَاكِمُ حكمه وشهد به شاهدان) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَوَ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَلَا يُبْطِلُهُ وَلَا يُحِقُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي خَصْمَيْنِ حَضَرَا مَجْلِسَ الْقَاضِي فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ. فَذَكَرَ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقِّي عَلَيْهِ عِنْدَكَ وَحَكَمْتَ لِي بِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، حَكَمَ عَلَى الْخَصْمِ بِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنْهُ اسْتِئْنَافًا لِحُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِمْضَاءٌ وَإِلْزَامٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 207 وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي خَطَّهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يحكم بخطه إذا لم يذكره. فإن أحضره الْمُدَّعِي شُهُودًا يَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى خَصْمِهِ فَلِذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ عِنْدَهُ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِكَذَا، سَمِعَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَكَمَ لِهَذَا الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ بِكَذَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَيَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِحُكْمِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ كَمَا يَسْمَعُهَا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَشْهَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى مَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَصَدَّقَاهُ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَكَانَ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَحَقَّ. وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِمَا رَوَاهُ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ نَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْهُرْمُزَانُ عَلَيْهِ سَكَتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ كَلَامُ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَكَلَّمْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ فَقَالَ: " نَحْنُ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ حَيْثُ خَلَا اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كُنَّا نَسْتَعْبِدُكُمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَكُمْ فَلَيْسَ لَنَا بِكُمْ يَدَانِ فَأَمَرَ عُمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ أَنْسٌ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ وَقَدْ قُلْتَ لَهُ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ عُمَرُ لِأَنَسٍ: " مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ " فَشَهِدَ مَعَهُ الزُّبَيْرُ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَطْلَقَهُ آمِنًا، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عُمَرَ سَمَاعَهُ لِلشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ. وَقَدْ أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ: رَوَى ربيعة، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " وَنَسِيَ سُهَيْلٌ الْحَدِيثَ، فقال له ربيعة: أنت حدثتني به فَكَانَ سُهَيْلٌ يَقُولُ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 208 حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ "، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا رَوَاهُ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ. وَلِأَنَّهُ كَمَا جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] . فَوَكَلَهُ فِي فِعْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ؛ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ حُكْمًا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَانَ بِأَنْ لَا يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ عَلَى حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَخَفُّ مِنَ الْحُكْمِ، لِمَا فِي الْحُكْمِ مِنَ الْإِلْزَامِ الَّذِي لَا تَتَضَمَّنُهُ الشَّهَادَةُ. ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا نَسِيَ شَهَادَتَهُ فَشَهِدَ بِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ؛ فَكَانَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَذَّكَّرَ بِقَوْلِهِمْ فَعَمِلَ عَلَى ذِكْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ أَحْدَثُ لَهُ شَكًّا، وَالشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الْيَقِينِ، وَبِهِمَا يُجَابُ عَنْ قِصَّةِ الْهُرْمُزَانِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، فَلِسَعَةِ حُكْمِهَا جَازَ فِيهَا مَا لَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ لِلشَّهَادَةِ، فَهُوَ أَنَّ غَيْرَهُ يَعْمَلُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى الْيَقِينِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي الشَّهَادَةِ حَتَّى يقطع بيقين نفسه. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ شَهِدُوا عِنْدَ غَيْرِهِ أَجَازَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مِنْهُ مَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ أَنْكَرَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا حَكَمَ بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ رَدِّهِ لِشَهَادَتِهِمْ مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ بِهَا وَهُوَ لَا يَرَى سَمَاعَ الشَّهَادَةِ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُمْ وَيَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَحْكُمَ بِهَا، لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي أَنَّ فِعْلَ نَفْسِهِ مَحْمُولٌ عَلَى يَقِينِهِ وَفِعْلُ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَالِيًا أَوْ مَعْزُولًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الَّذِي قَدْ حَكَمَ قَدْ أَكْذَبَ الشُّهُودَ عِنْدَهُ وَرَدَّهُمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 209 مَجْرُوحِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَكَمَ بِإِبْطَالِ الْحُكْمِ وَتَفْسِيقِ الشُّهُودِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ وَلَمْ يُكَذِّبِ الشُّهُودَ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مَعَ إِنْكَارِهِ لِلْحُكْمِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّهَادَةَ بِحُكْمِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَحْكُمَ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُنْكِرِ مَسْمُوعَةٌ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ أَصْلٌ وَالشُّهُودَ فَرْعٌ، وَفَسَادُ حُكْمِ الْأَصْلِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ حُكْمِ الْفَرْعِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، إِذَا فَسَدَ فِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ فَسَدَ حُكْمُ الْفَرْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَكْذَبَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْمَعَ بِهِ شَهَادَتَهُمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إِذَا أنكرهم والله أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 210 (كتاب قاض إلى قاض) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَقْبَلُ كُلَّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَا بِعَدْلَيْنِ وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا فَيَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ أَشْهَدَهُمَا عَلَى مَا فِيهِ وَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِحَضْرَتِهِمَا أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا وَقَالَ اشْهَدَا أن هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا كُتُبُ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ فَمَحْكُومٌ بِهَا وَمَعْمُولٌ عَلَيْهَا. وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابِ سُلَيْمَانَ إلى بلقيس قالت {أيها الملاء إني ألقي إلي كتاب كريم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم أن لا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 30] فَأَنْذَرَهَا بِكِتَابِهِ، وَدَعَاهَا إِلَى دِينِهِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى أَنْ قَالَ: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وأتوني مسلمين} فَأَوْجَزَ وَاخْتَصَرَ، وَهَكَذَا تَكُونُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ مُوجَزَةً مختصرة. فاحتمل قوله: {لا تعلوا علي} تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَعْصُونِي. وَالثَّانِي: لَا تُخَالِفُونِي. واحتمل قوله {وأتوني مسلمين} تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُسْلِمِينَ بِدِينِي. وَالثَّانِي: مُسْتَسْلِمِينَ لِطَاعَتِي. وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ افْتَتَحَ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - افْتَتَحَ كُتُبَهُ بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 211 وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى مُلُوكِ الْأُمَمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَكَتَبَ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مَلِكًا مِنْهُمْ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ وَقَيْصَرُ مَلِكُ الرُّومِ. فَأَمَّا كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَيْهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَانَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَالسَّلَامُ ". فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ مَزَّقَهُ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَزَّقَ مُلْكُهُ. وَكَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، إِلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم، أن لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [الآية: آل عمران: 64] . فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ قَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي الْمِسْكِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثَبُتَ مُلْكُهُ ". وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ الْأَحْكَامَ وَالزَّكَوَاتِ وَالدِّيَاتِ، فَصَارَ فِي الدِّينِ شَرْعًا ثَابِتًا، وَعَمَلًا مُسْتَفِيضًا. وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا، وَقَالَ: لَا تَفُضَّهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَوْضِعَ كَذَا، فَإِذَا بَلَغْتَهُ فَفُضَّهُ، وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَفَضَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَأَطَاعَهُ الْجَيْشُ عَلَيْهِ. وَكَتَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهِ فِي الدِّيَانَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَهْدَهُ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ جَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ أَصْلًا لِلْعُهُودِ. وَكَتَبَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قد حصر بنا فالوحا الوحا. وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، وَيَسُوءهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَرِحًا، وَلَا بِمَا فَاتَكَ مِنْهَا تَرِحًا، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةُ بِطُولِ أَمَلٍ، فَكَأَنَّ قَدِ، وَالسَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا انْتَفَعْتُ وَلَا اتَّعَظْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ على قبول الكتب في الأحاكم ولأن ضرورات الحكام الجزء: 16 ¦ الصفحة: 212 إليها داعية فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَبْعُدُ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا وَيَبْعُدُ عَنْهَا مُسْتَحِقُّوهَا فَلَمْ يَجِدِ الْحُكَّامُ بُدًّا مِنْ مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا وَجَبَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمٍ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حَقٍّ، وَيَكْتُبُ بِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَأَدْنَى، وَإِلَى خَلِيفَتِهِ، وَمُسْتَخْلِفِهِ. وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ بِهَا عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُومَ فِي تَنْفِيذِهَا واستيفائها مقام الأول. (متى يجب قبولها) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِوُجُوبِ قَبُولِهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عَالِمًا بِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّةِ أَحْكَامِهِ، وَكَمَالِ عَدَالَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ كِتَابِهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَحْكَامٍ: (بِأَيِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْكِتَابِ) . وَاخْتَلَفَ فِيمَا يَعْلَمُ بِهِ صِحَّةَ كِتَابِهِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ عَلَى مَا سَنصفهُ. وَذَهَبَ قُضَاةُ الْبَصْرَةِ: الْحَسَنُ، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ وَاتَّصَلَتْ بِمِثْلِهِ كُتُبُهُ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَيَعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ، احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَتْ مَقْبُولَةً، يُعْمَلُ بِمَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ عُرْفَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِهَا مُسْتَفِيضٌ، لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ بِهَا، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صحتها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 213 وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَقًّا غَائِبًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ " فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الشَّهَادَةِ دُونَ الْكِتَابِ. وَلِأَنَّ نَقْلَ مَا غَابَ عَنِ الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَطِّ قِيَاسًا عَلَى خُطُوطِ الشُّهُودِ إِذَا كَتَبُوا إِلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا كَذَلِكَ كُتُبُ الْقُضَاةِ. وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ، وَالتَّزْوِيرَ عَلَى أَمْثَالِهَا مُمْكِنٌ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَحْوَطُ مِنْهَا، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى شَهَادَةِ الْبَصِيرِ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُ. وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَضْعَفِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ، لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ المخبر. فأما الجواب عن كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يَشْهَدُونَ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَخْبَارِ الَّتِي يَخِفَّ حُكْمُهَا لِعُمُومِهَا فِي الْتِزَامِهَا وَالشَّهَادَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ تَغْلِيظًا لِالْتِزَامِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى الِاسْتِفَاضَةِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ ثُمَّ هِيَ اسْتِفَاضَةُ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ وَلَيْسَ باستفاضة اعتقاد عام. (فصل: صحة الكتب ولزوم الحكم بها) . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُتُبَ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ لَا تُقْبَلُ بِالْخُطُوطِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهَا عُدُولُ الشُّهُودِ فَالْكَلَامُ فِي صِحَّتِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ. وَالثَّانِي: فِيمَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِهِ قَبُولُ كُتُبِهِ. وَالرَّابِعُ: فِيمَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ. (مَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ) . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ فَأَحْكَامُهُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بحق غائب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 214 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ فَالْحَقُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا حَاضِرَةً فَيَحْكُمُ الْقَاضِي بِهَا لِمَنِ اسْتَحَقَّهَا إِمَّا بِإِقْرَارٍ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ، وَيَنْتَزِعُهَا مِنْ يَدِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْمَحْكُومِ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكْتُبَ بِهِ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَقَامَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوْ هَرَبَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي بَدَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بَعْدَ الْحُكْمِ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ هَرَبَ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْهَارِبُ بِمَا حَكَمَ عَلَيْهِ، مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ لِيَسْتَوْفِيَهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى حَاضِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ عَلَى غَائِبٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ. فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مُقِيمًا اسْتَوْفَاهُ الْقَاضِي مِنْهُ لِمُسْتَحِقِّهِ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ هَرَبَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ اسْتَوْفَاهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى قَاضٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هَرَبَ إِلَيْهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، لِيَسْتَوْفِيَهُ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى حَاضِرٍ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ عَلَى غَائِبٍ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ فَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الذِّمَمِ وَهَذَا مِمَّا يَكْتُبُ بِمِثْلِهِ الْقُضَاةُ. وَثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَثْبُتَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. فَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ كَانَ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ لَا يَذْكُرَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِاسْتِحْقَاقِهِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 215 وَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ لَزِمَ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَذْكُرَ ثُبُوتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ بَعْدَ نُكُولِ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتَ مِنْهُ. وَإِنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَفِي وُجُوبِ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْبَيِّنَةِ، وَيَكُونُ فِيهِ مُخَيَّرًا، كَالْإِقْرَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ ذِكْرُ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَهَا الْمَطْلُوبُ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ بِيَدِهِ وَبِبَيِّنَتِهِ أَحَقَّ مِنْ بَيِّنَةٍ بِغَيْرِ يَدٍ. وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ شُهُودَ الْبَيِّنَةِ أَوْ لَا يُسَمِّيَهُمْ إِذَا وَصَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ. فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُمْ بِهَا فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِمْ تَعْدِيلًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ ذِكْرَهُ لِلْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ تَعْدِيلٌ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ عَدَالَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَصِفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَبِمَا يَجُوزُ بِهِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمٌ بِظَاهِرِ التَّوَسُّمِ وَالسَّمْتِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ غَائِبٍ. فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ وَقْتَ الْحُكْمِ حَاضِرًا ثُمَّ غَابَ فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى حَاضِرٍ لِحَاضِرٍ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ نَفَذَ حُكْمَهُ إِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَمْ يَنْفُذْ إِنْ لَمْ يَرَهُ. فَإِنْ كَتَبَ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ بِهَا نُظِرَ فَإِنْ ذَكَرَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِالشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ وَيَكُونُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ هُوَ الْحَاكِمُ بِهَا وَيَكُونُ كِتَابُ الْقَاضِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَإِنْ ذَكَرَ ثُبُوتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ فَفِي كَوْنِ الثُّبُوتِ حُكْمًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الإسفرايني: يَكُونُ حُكْمًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِلْزَامُ وَلَيْسَ فِي الثُّبُوتِ إِلْزَامٌ، وَهُوَ فِي ثبوت الحق كالإقرار. (أقسام الحق المحكوم به) . فَإِذَا نُفِّذَ كِتَابُ الْقَاضِي بِذَلِكَ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فَالْحَقُّ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 216 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي بَدَنِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي يَدِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي بَلَدِهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ: فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ إِنْ أَيْسَرَ، وَيَنْظُرُ بِهِ إِنْ أَعْسَرَ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى بَدَنِهِ، فَإِنْ كَانَ لِآدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ اسْتَوْفَاهُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَوْفَى حُدُودُ الْأَبْدَانِ بِكُتُبِ الْقُضَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِتَغْلِيظِهَا. وَهَذَا فَاسِدٌ. مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْقُطْ بِالشُّبْهَةِ صَارَتْ كَالْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حُكِمَ فِيهَا بِكُتُبِ الْقُضَاةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِكِتَابٍ إِلَى الْقَاضِي قَوْلَانِ، لِجَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَوْفَى كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُسْتَوْفَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنًا فِي يَدِهِ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ كَالضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ فَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ شُهُودِهَا حَكَمَ بِثُبُوتِهَا، وَجَازَ أَنْ يَكْتُبَ بِهَا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ الْمُسْتَحَقُّ، دُونَ قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ وَهُمْ غُرَبَاءُ وَذَكَرَ الطَّالِبُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً بِتَزْكِيَتِهِمْ بِقِيَمِهَا عِنْدَ قاضي بلدهم فللشهود ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحداهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ وَهُمْ عَلَى الْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ سَمِعَهَا لَمْ يَكْتُبْ بِهَا، وَقَالَ لِلطَّالِبِ اذْهَبْ مَعَ شُهُودِكَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ وَبَلَدِ مَالِكٍ لِيَشْهَدُوا عِنْدَهُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدِي، فَإِنَّ كُتُبَ الْقَضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بما لا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 217 يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ بِغَيْرِهَا، وَثُبُوتُ هَذَا بِالشَّهَادَةِ مُمْكِنٌ، فَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِالْمُكَاتَبَةِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لَا يَحْكُمُ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ، وَلَا يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ بِتَعْدِيلِهِمْ فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ عِنْدَهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ، لِيَكْشِفَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، فَإِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَيَصِيرُ التَّعْدِيلُ وَالْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ كِتَابُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ مَقْصُورًا عَلَى نَقْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمُكَاتَبَةِ الثَّانِي الْأَوَّلَ بِالتَّعْدِيلِ لِيَتَوَلَّى الْأَوَّلُ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَادِرٌ عَلَى تَنْفِيذِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْأَوَّلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنْ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي بَلَدِهِمْ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، فَإِنْ عَرَفَهَا كَتَبَ بِهَا إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ، لِيَتَوَلَّى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ الثَّانِي حَاكِمًا بِعَدَالَتِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ الثَّانِي إِلَّا بِشَهَادَةٍ، لِأَنَّ كِتَابَ الْأَوَّلِ اسْتِخْبَارٌ، وَكِتَابُ الثَّانِي حُكْمٌ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مَنْقُولَةً فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ، كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ. فَإِذَا أَحْضَرَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ادِّعَائِهِ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ بِغَصْبٍ أَوْ عَارِيَةٍ وَحَلَّاهُ الشُّهُودُ بِحِلْيَتِهِ وَنَعَتُوهُ بِاسْمِهِ وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ فَفِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا يَنْقُلُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا يُنْقَلُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ حَتَّى يُشِيرَ الشُّهُودُ إِلَيْهَا بِالتَّعْيِينِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ تَتَشَابَهُ، وَالْحِلَى تَتَمَاثَلُ، فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ حَتَّى يَزُولَ بِالتَّعْيِينِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ مَقْصُورًا عَلَى مَا لَا يُنْقَلُ لِتَعْيِينِهِ بِحُدُودِهِ وَمَوْضِعِهِ دُونَ مَا يُنْقَلُ لِلْإِشْكَالِ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ غَيْرِهِ، وَأَضَافَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَيْهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْقُولَةً كمل يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا فِي غَيْرِ الْمَنْقُولَةِ، لِمَا يَجِبُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا ثَالِثًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الْمُدَّعِي فِي عَيْنِهِ يَخْتَصُّ بِوَصْفٍ يَنْدُرُ وَجُودُهُ فِي غَيْرِهِ كَشَامَةٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ إِصْبَعٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 218 زَائِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ يَدِهِ أَوْ كَانَ مَشْهُورًا مِنْ عَبِيدِ السُّلْطَانِ لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِي اسْمِهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَصِفَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ مَعَ غَيْبَتِهِ، وَإِنْ شَابَهَ عُمُومَ النَّاسِ فِي صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ، وَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْأَنْسَابِ فِيمَنْ غَابَ، إِذَا رُفِعَتْ، حَتَّى تَرَاخَتْ وَزَالَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا حُكِمَ فِيهَا بِالشَّهَادَةِ وَإِنْ قَرُبَتْ حَتَّى اشْتَبَهَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ. وَلِهَذَا التَّخْرِيجِ وَجْهٌ، لَكِنَّهُ نَادِرٌ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ يَكُونُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ الْحُكْمَ بِهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ، فَفِي جَوَازِ سَمَاعِهَا وَالْمُكَاتَبَةِ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلْحُكْمِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ لَمْ تُسْمَعْ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى: يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ بِهَا وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْعَبْدُ الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ، لَمْ يَحْكُمْ بِالْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ الشُّهُودُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُسْتَفَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْحُكْمُ بِهَا إِلَّا مَعَ التَّعْيِينِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الثَّانِي الْكَشْفَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَتَكَلَّفَ الشُّهُودُ إِعَادَةَ شَهَادَتِهِمْ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْإِشَارَةِ بِالتَّعْيِينِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدْنَا بِهِ لِفُلَانٍ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ. وَيُسْتَفَادُ بِهَا عِنْدِي فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنْ يَمُوتَ الْعبدُ فَيُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ذِي الْيَدِ قِيمَتُهُ عَلَى نَعْتِهِ وَصِفَتَهُ. وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، إِنَّ الْحُكْمَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ جَائِزٌ، أَحْضَرَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْعَبْدَ وَصَاحِبَ الْيَدِ وَقَالَ لَهُ: هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْمَنْعُوتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا، حَكَمَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ إِلَى طَالِبِهِ. وَإِنْ أَنْكَرْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمَحْكُومُ بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِيمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ الْقَاضِيَ يَخْتِمُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الطَّالِبِ الْمَشْهُودِ لَهُ، مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا، وَيُنْفِذُهُ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ، لِيَحْضُرَ الشُّهُودُ لِتَعْيِينِهِ. فَإِنْ عَيَّنُوهُ، وَأَنَّهُ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ لِلطَّالِبِ حَكَمَ بِهِ لَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْقَاضِي الثَّانِي بِاسْتِحْقَاقِ الطَّالِبِ، وَبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ مِنْ ضَمَانِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 219 وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ لِلْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ أَلْزَمَهُ رَدَّهُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَهُ بِنَفَقَةِ عَوْدِهِ وَضَمَانِ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ هَذَا الْعَبْدِ أَمَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا، فِي إِجْرَائِهَا مَجْرَى الْعَبْدِ: فَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ تَسْلِيمِهَا؛ لِأَنَّهَا ذَات فَرْجٍ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَجَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَبْدِ. وَسَوَّى ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ تُضَمَّ إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ يُحْتَاطُ بِهِ حَذَرًا مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِصَابَتِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَأَخَذَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ. وَلَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ وَقَدْ جَعَلَهُ اسْتِحْسَانًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ مَذَاهِبِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحُكْمِ بِهِ، حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ: أَنْ يُنَادِيَ الْقَاضِي عَلَى الْعَبْدِ فِيمَنْ يَزِيدُ، فَإِذَا انْتَهَى ثَمَنُهُ، قَالَ لِمُدَّعِيهِ: ادْفَعْ ثَمَنَهُ يَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَخُذِ الْعَبْدَ مَعَكَ، فَإِنْ عَيَّنَهُ شُهُودُكَ حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي لَكَ، وَكَتَبَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْكَ، وَإِنْ لَمْ يُعِينُوهُ لَكَ، لَزِمَكَ رَدُّهُ، وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ الطَّالِبُ جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ لَمْ يُجْبِرْ عَلَيْهِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي الثَّانِي الكتاب، ويحكم بِوُجُوبِ مَا تَضَمَّنَهُ، مِنَ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ فِيهِ، ويخير صاحب اليد في العبد بين ثلاثة أَحْوَالٍ: بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِالصِّفَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا إِلَى طَالِبِهِ فَيَنْبَرِمُ الْحُكْمُ بِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ بِالْعَبْدِ مَعَ طَالِبِهِ، عَلَى احْتِيَاطٍ مِنْ هَرَبِهِ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ الشُّهُودُ، سَلَّمَهُ إِلَى الطَّالِبِ بِحُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ الشُّهُودُ، خَلَّى سَبِيلَ الْعَبْدِ مَعَ صَاحِبِ الْيَدِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِالطَّالِبِ إِلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ دُونَ الْعَبْدِ الَّذِي فِي يَدِهِ. فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ صَاحِبُ الْيَدِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ شَهَادَةَ عُدُولٍ ثَبَتَتْ بِمِثْلِهِمُ الْحُقُوقُ، وَأَخَذَهُ الْقَاضِي الثَّانِي جَبْرًا بِدَفْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالِاشْتِبَاهِ غَيْرَ مقدور عليه؛ فجرى مَجْرَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ أَوِ الْآبِقِ لَزِمَ دَفْعُ قِيمَتِهِ كَذَلِكَ، هَذَا وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى تَسْلِيمِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 220 الْعَبْدِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى السَّفَرِ بِالْعَبْدِ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ بِمَالِهِ وَلَا عَلَى الْمُحَاكَمَةِ إِلَى غَيْرِ قَاضِي بَلَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ لِحَاضِرٍ عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ، فَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّهَادَةِ، فَلَا يَقِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُكَاتَبَةِ قَاضٍ آخَرَ، وَيَنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْعَيْنُ مَنْقُولَةً أَوْ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ. فَإِنْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِاسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ الْحَاضِرِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَحْكُومُ بِهَا مَنْقُولَةً، لَمْ يُكْتَبْ بِهَا لِانْبِرَامِ الْحُكْمِ بِهَا، وَانْقِطَاعِ الْعَلَقِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَنْقُولَةٍ كَالْعَقَارِ أَجَابَهُ إِلَيْهِ وَكَتَبَ لَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدِ انْبَرَمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَنْ ذَلِكَ أُجْرَةً يُطَالِبُ بِهَا الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَضَرَ قَاضِي بَلَدٍ وَذَكَرَ لَهُ أنني ابتعت في خلطة فُلَانٍ الْغَائِبِ سَهْمًا مِنْ دَارٍ فِي بَلَدِكَ وَعَفَا عَنْ شُفْعَتِهِ وَلِي بَيِّنَةٌ قَدْ أَحْضَرْتُهَا تَشْهُدُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ فَاسْمَعْهَا، وَاكْتُبْ بِهَا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الشَّفِيعُ، فَلَسْتُ آمَنُ إِنْ خَرَجْتُ إِلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَنِي بِالشُّفْعَةِ وَيَجْحَدَ الْعَفْوَ، لَمْ يَسْمَعِ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ، وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِأَنَّ سَمَاعَهَا بِعَفْوِ الْغَائِبِ يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَى الْغَائِبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً فِيمَا لَمْ يَدَّعِهِ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْحَاضِرُ: لِفُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَيَّ أَلْفٌ، قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ أَوْ قَدْ أَبْرَأَنِي مِنْهَا وَهَذِهِ بَيِّنَتِي وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ خَرَجْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَجْحَدَ الْقَبْضَ أَوِ الْإِبْرَاءَ وَيُطَالِبَنِي، فَاسْمَعْ بَيِّنَتِي وَاكْتُبْ بِهَا إِلَى قَاضِي بَلَدِهِ، لَمْ يَسْمَعْهَا، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يُطَالِبْ فَلَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ عَلَى غَيْرِ مُطَالَبٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْحَاضِرُ: إِنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ بَاعَنِي هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ وَهَبَهَا لِي، وَهَذِهِ بَيِّنَتِي، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَجْحَدَهَا، فَاسْمَعْهَا لِي، لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِأَنَّ سَمَاعَهَا يَكُونُ بَعْدَ جَوَابِ الْغَائِبِ إِنْ أَنْكَرَ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: أَنَّ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ، وَهَؤُلَاءِ شُهُودِي عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِي فَاسْمَعْ بَيِّنَتِي وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِطَلَاقِي لَمْ يَسْمَعْ بَيِّنَتَهَا سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الدَّعْوَى فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهَا الزَّوْجُ أَحْضَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ حُضُورِهِ وَإِنْكَارِهِ. فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَأَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى بَلَدِهِ، فَفِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهَا إِذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ قَدْ يَتَعَرَّضُ لَهَا وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 221 أَحَدُهُمَا: لَا يَسْمَعُهَا كَمَا لَا يَسْمَعُهَا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْأَمْلَاكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْمَعُهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فِي الْأَمْلَاكِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِ الْفُرُوجِ، وَلَوْ لَمْ تَذْكُرْ خُرُوجَهَا إِلَى بَلَدِهِ لَمْ يَسْمَعْ بَيِّنَتَهَا وَجْهًا وَاحِدًا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: أَنَّ أَمَةً لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى الْقَاضِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهَا، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ابْتِيَاعِهَا وَدَفْعِ ثَمَنِهَا، لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْهُ، فَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الْأَمَةُ مِنْ يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا جَازَ لِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلرُّجُوعِ بِدَرَكِهَا بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلدَّرَكِ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَتِ الْأَمَةُ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ، وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً بِحُرِّيَّتِهَا فَسَأَلَ صَاحِبَ الْيَدِ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ بِابْتِيَاعِهَا مِنَ الْغَائِبِ سَمِعَهَا لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ بِدَرَكِهَا. وَلَوْ أَنَّ الْأَمَةَ حِينَ قَالَتْ إِنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ عدمت البينة ولم يتقدم إقراراها بِالرِّقِّ قُبِلَ قَوْلُهَا فِي حُرِّيَّتِهَا وَأُحْلِفَتْ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الرِّقُّ. فَإِنْ سَأَلَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنْ تُسْمَعَ بينته بابتياعها من الغائب ليرجع يدركها عَلَيْهِ، لَمْ يَسْمَعْهَا الْقَاضِي وَلَمْ يُكَاتِبْ بِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ بَيِّنَتَهَا بِالْحُرِّيَّةِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي يَدٍ ثَابِتَةٍ وَزَائِلَةٍ، وَقَوْلَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ مَقْبُولٌ، عَلَى ذِي الْيَدِ الثَّابِتَةِ. وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْيَدِ إِحْلَافَ الْبَائِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ فَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ حُرِّيَّتِهَا كَتَبَ لَهُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِرُجُوعِ الدَّرَكِ عَلَى الْبَائِعِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ القاضي شاهد واحد يملك لِرَجُلٍ فَيَذْكُرُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَيَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ فَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِالْمِلْكِ. فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْآخَرِ كَتَبَ لَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ لِيَتَوَلَّى ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَكْمِيلَ الْبَيِّنَةِ وَتَنْفِيذَ الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ فِي بَلَدِ هَذَا الْقَاضِي لَمْ يَكْتُبْ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَأَخَذَ كِتَابَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ الْآخَرُ لِيَتَوَلَّى هَذَا الْقَاضِي تَنْفِيذَ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّ لَهُ وَلَدًا حُرًّا فِي بَلَدٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 222 آخَرَ وَسَأَلَ الْقَاضِي سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ بِنَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ أَوْ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لِيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَلِهَذَا الطَّالِبِ فِي طلبه ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ مَاتَ فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لِيَحْكُمَ لَهُ بِمِيرَاثِ وَلَدِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ الْوَلَدَ حَيٌّ، وَأَنَّهُ فِي يَدِ مَنْ قَدِ اسْتَرَقَّهُ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ بِنَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَكَتَبَ بِهَا إِلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ اسْمَ الْمُسْتَرِقِّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي مِلْكٍ لَمْ تُسْمَعِ الْبَيِّنَةَ إِلَّا بَعْدَ تَسْمِيَةِ صَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ينتقل والحرية ولا تَنْتَقِلُ. فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِنَسَبِهِ، لَمْ يَسْمَعْهَا، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ نَسَبٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ فِي الطَّلَبِ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ بِالنَّسَبِ دُونَ الْحُرِّيَّةِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُ مُوجِبًا لِلْحُرِّيَّةِ سَمِعَهَا وَكَتَبَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُوجِبِ الْحُرِّيَّةُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَلَمْ يَكْتُبْ بِهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَذْكُرَ الطَّالِبُ اسْتِرْقَاقَ الْوَلَدِ، وَلَا مَوْتَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْحَالِ حَقٌّ لِطَالِبٍ وَلَا مَطْلُوبٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ. (فصل: من يكاتبه القاضي بحكمه) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ فِيمَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ فَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مُكَاتَبَةُ الْقُضَاةِ. وَالثَّانِي: مُكَاتَبَةُ الْأُمَرَاءِ. وَالثَّالِثُ: مُكَاتَبَةُ الشُّهُودِ. وَالرَّابِعُ: مُكَاتَبَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي مُكَاتَبَةِ الْقُضَاةِ: فَيُكَاتِبُ بِحُكْمِهِ أَحَدَ قَاضِيَيْنِ: إِمَّا قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَلَيْسَ لِمُكَاتَبَةِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْقُضَاةِ وَجْهٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى غَيْرِهِمَا شَيْءٌ مِنْ حُكْمِهِ. فَإِذَا كَتَبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ فَانْتَقَلَ الْمَطْلُوبُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَوْصَلَ الطَّالِبُ كِتَابَهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَيَتَنَجَّزُ بِهِ كِتَابَهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ الْمَطْلُوبُ إِلَيْهِ، وَجَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إِلَى الْقَاضِي الثَّالِثِ. فَإِنْ عَادَ الطَّالِبُ إِلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إِلَى الْقَاضِي الثالث الجزء: 16 ¦ الصفحة: 223 فَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَعِيدَ مِنْهُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا ثَانِيًا إِلَى الْقَاضِي الثَّالِثِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَعِدْهُ، ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِهَذَا الْحُكْمِ إِلَى فُلَانٍ الْقَاضِي حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ بِالْكِتَابَيْنِ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحَقِّ حَقَّيْنِ. فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ خَصْمِي فِي بَلَدِ كَذَا وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَسَأَلَ كِتَابَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَهُمَا، وَكَانَ الْقَاضِي بَيْنَ خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَطْلُوبُ، لِيَتَنَجَّزَ بِهِ الطَّالِبُ كِتَابَ ذَلِكَ الْقَاضِي، إِنْ خَرَجَ الْمَطْلُوبُ إِلَى غَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا مُرْسَلًا إِلَى مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ سَائِرِ الْقُضَاةِ. وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْرِفِ الطَّالِبُ الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ، كَتَبَ لَهُ الْقَاضِي كِتَابًا مُطْلَقًا يُعْلِمُ بِهِ جَمِيعَ الْقُضَاةِ، فَأَيُّ قَاضٍ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي بَلَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَهُ وَيَحْكُمَ بِهِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ كِتَابًا وَتَسَلَّمَهُ مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ ضَاعَ، كَتَبَ لَهُ غَيْرَهُ عَلَى مِثْلِ نُسَخِهِ لَا يَتَغَيَّرُ فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ كَانَ تَنَجَّزَ غَيْرَهُ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ضَاعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَتِمَّ بِالْكِتَابَيْنِ احْتِيَالٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ لِيَكُونَ الثَّانِي مُسْتَوْفِيًا، وَإِمَّا بِثُبُوتِ الْحَقِّ، لِيَكُونَ الثَّانِي حَاكِمًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مُكَاتَبَةِ أَمِيرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ، أَوِ الْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَلَا يَكْتُبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَأَمْضَاهُ، لِيَكُونَ الْأَمِيرُ مُسْتَوْفِيًا لَهُ وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا بِهِ لِأَنَّ الْحُمَاةَ وَالْأُمَرَاءَ أَعْوَانٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ فِيهَا، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ الْمَنْدُوبِينَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالْأَحْكَامِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمُكَاتَبَةُ الْقَاضِي لِلْأَمِيرِ مَقْصُورَةٌ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ مِلْكِ الطَّالِبِ فِي بَلَدِهِ، لِيُمَكِّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَيَرْفَعُ عَنْهُ يَدَ مَنْ سُوَاهُ، فَهَذَا يَجُوزُ إِذَا أَمِنَ عُدْوَانَ الْأَمِيرِ. فَلَوْ كَانَ لِبَلَدِ الْمِلْكِ أَمِيرٌ وَقَاضٍ، كَانَتْ مُكَاتَبَةُ الْأَمِيرِ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ بِالْيَدِ أَخَصُّ، مَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْقَاضِي فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ، لِيَسْتَوْفِيَهُ لِلطَّالِبِ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ بِهِ الأمير. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 224 فَلَوْ كَانَ لِبَلَدِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَمِيرٌ وَقَاضٍ، كَانَتْ مُكَاتَبَةُ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِإِلْزَامِ الْحُقُوقِ أَخَصُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ إِلَيْهِ فَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِوِلَايَةِ الْقَاضِي. فَإِنْ كَانَ بَلَدُ الْأَمِيرِ دَاخِلًا فِي وِلَايَتِهِ، جَازَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ. وَلَزِمَ الْأَمِيرَ إِنْفَاذُهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ وِلَايَتِهِ، لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمِيرِ بِإِحْضَارِهِ. وَلَمْ يَجُزْ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُنفِذَهُ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ، فَلَيْسَ لِلشُّهُودِ تَنْفِيذُ حُكْمٍ وَلَا اسْتِيفَاءُ حَقٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَثَائِقٌ، فِيمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، لِيَشْهَدُوا بِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا عِنْدَ مُسْتَوْفِيهَا. وإذا كان كذلك فللقاضي في مكاتبتهم ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ، فَهَذَا مِنْهُ اسْتِخْلَافٌ لَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ وِلَايَةٍ، لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ التَّقْلِيدِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَجُزْ وَيَصِيرُ هَذَا تَقْلِيدًا خَاصًّا فِي هَذَا الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ فِيهِ، وَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ: فَجَوَازُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ عَمَلِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ فِي عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُكَاتِبَهُمْ إِشْهَادًا لَهُمْ عَلَى حُكْمِهِ، لِيَكُونُوا وَثِيقَةً لِلطَّالِبِ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ لَهُ، فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُكَاتِبَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَحَمَّلُوهُ عَنْهُ إِذَا أَشْهَدَهُمْ شُهُودُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِلْكِتَابِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَ ثُبُوتُهُ بِمَنْ تَحَمَّلُوا ذَلِكَ عَنْهُ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ شُهُودُ الْكِتَابِ كَمَا نَقُولُهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي مُكَاتَبَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْكِتَابُ إِلَيْهِ إِلْزَامٌ لَهُ، وَحُكْمٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ وَلَا يَجِبُ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ كِتَابَهُ، وَلَا يَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي طَاعَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 225 وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ. وَلَزِمَهُ إِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِطَاعَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الطَّالِبِ مِنْ حَقِّهِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْمَصِيرُ مَعَ الطَّالِبِ إِلَى الْقَاضِي إِذَا دَعَاهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ إِلَّا بِالِاسْتِحْضَارِ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ قَبُولُ كُتُبِهِ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي عَقْدِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، يَتَحَمَّلَانِ الْكِتَابَ عَنْهُ، وَيَشْهَدَانِ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلِتَحَمُّلِهِمَا الْكِتَابَ شُرُوطٌ، وَلِأَدَائِهِمَا لِلْكِتَابِ شُرُوطٌ: فَأَمَّا شُرُوطُ تَحَمُّلِهِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ وَعِلْمُهُمَا بِهِ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. إِمَّا أَنْ يَقْرَأَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يأمر من يقرأ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَقْرَأَهُ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ وَدَفَعَهُ الْقَاضِي إِلَيْهِمَا مَخْتُومًا لِيَشْهَدَا بِهِ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَى الْخَتْمِ، كَإِمْكَانِهِ عَلَى الْخَطِّ، وَلِأَنَّهُ تَحَمُّلُ شَهَادَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمَعْلُومٍ. فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدَانِ فِي الْكِتَابِ الْمَخْتُومِ أَنْ يَشْهَدَا بِالْكِتَابِ، وَلَا يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِكِتَابٍ مُعَيَّنٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِهِ لَا تُفِيدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتِبِ قَبُولُهُ لِلْحُكْمِ بِمَا فِيهِ إِلَّا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي لَهُمَا: هَذَا كِتَابِي إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ فَاشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ وَاقْتَصَرَ بِهِمَا عَلَى عُنْوَانِهِ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قَالَ لَهُمَا: هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ وَلَمْ يَسْتَرْعِهِمَا الشَّهَادَةَ وَلَا قَالَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، فَفِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ وَحْدَهُ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُقِرِّ بِالسَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءِ الْمُقِرِّ لِلشُّهُودِ، فَإِنْ قِيلَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالسَّمْعِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّحَمُّلُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَهُ الْأَدَاءُ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ، جَوَّزَ هَذَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَغِيبَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا بَعْدَ تَحَمُّلِ مَا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ كَتَبَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 226 فِيهِ شَهَادَتُهُمَا، لِيَتَذَكَّرَا بِهِ صِحَّةَ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَتَهُ، فَإِنْ غَابَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا قَبْلَ إِثْبَاتِ خَطَّهِمَا فِيهِ، أَوِ ارْتَابَا بِهِ بَعْدَ الْخَطِّ لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ، إِلَّا أَنْ يُعِيدَ الْقَاضِي قِرَاءَتَهُ عَلَيْهِمَا وَيَقُولَ لَهُمَا: هَذَا هُوَ كِتَابِي الَّذِي أَشْهَدْتُكُمَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ إِلَى الْقَاضِي فُلَانٍ؛ لأنه قد يحتمل أن يبدل فِي الْغَيْبَةِ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا شُرُوطُ أَدَائِهِ إِلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَدِيمَ الثِّقَةَ بِصِحَّةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ. إِمَّا أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكِتَابُ عَنْ أَيْدِيهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَثْبَتَا فِيهِ خُطُوطَهُمَا، حَتَّى يُحَقِّقَا عَلَامَتَهُمَا فِيهِ، فَإِنْ تَشَكَّكَا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُمَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقَاضِي بِمَشْهَدِهِمَا، إِمَّا مِنْ أَيْدِيهِمَا، أَوْ مِنْ يَدِ الطَّالِبِ بِحَضْرَتِهِمَا فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدَا وُصُولَهُ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِمَا فِيهِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ فَإِنْ قَالَاهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ أَوْ شَهِدَا بِالْكِتَابِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ لِلْحُكْمِ. (فصل: ما يمضيه القاضي المكتوب إليه من حكمه) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ فِيمَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ، فَكِتَابُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى نَقْلِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ إِقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ، فَيَثْبُتُ بِالْكِتَابِ عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ، وَيَتَوَلَّى الثَّانِي إِنْفَاذَ الْحُكْمِ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا فِيهِ، كَانَ مَحْمُولًا عَلَى اجْتِهَادِ الثَّانِي، دُونَ الْأَوَّلِ، لِاخْتِصَاصِ الثَّانِي بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ الشَّهَادَةِ وَإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ حُكْمِهِ عِنْدَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ جَائِزًا، لَا يُخَالِفُهُ فِيهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهُ لِطَالِبِهِ وَيَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ بَاطِلًا لَا مَسَاغَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ. فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، نَقَضَهُ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِنَقْضِهِ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُهُ إِلَّا أَنْ يُطَالِبَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِنَقْضِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُحْتَمِلًا لِلِاجْتِهَادِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِيهِ إِلَى غَيْرِ مَا حَكَمَ بِهِ الْكَاتِبُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ، لِاحْتِمَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 227 مُسْتَحَقٍّ عِنْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الطَّالِبَ مِنْهُ، لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ، وَقَالَ لِلْمَطْلُوبِ: لَسْتُ أُوجِبُهُ عَلَيْكَ، وَلَا أُسْقِطُهُ عَنْكَ، وَقَالَ لِلطَّالِبِ: لَسْتُ أُوجِبُهُ لَكَ، وَلَا أَمْنَعُكَ مِنْهُ، فَإِنْ تَرَاضَيْتُمَا أَمْضَيْتُهُ عَلَى مَرْاضَاتِكُمَا، وَإِنْ تَمَانَعْتُمَا تَرَكْتُكُمَا عَلَى تَنَازُعِكُمَا، وَقَطَعْتُ التَّنَافُرَ بَيْنَكُمَا. وَيَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَاكِمًا أَوْ مُسْتَوْفِيًّا. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ضَمَنَّاهُ عِقْدَ الْبَابِ مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (نَسْخُ الشاهدين الكتاب) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِنَسْخِهِ كِتَابَةً فِي أَيْدِيهِمْ وَيُوَقِّعُوا شَهَادَاتِهِمْ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ الْأَحْوَطُ فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ، أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عَلَى نُسْخَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مَعَ الطَّالِبِ مَخْتُومَةٌ وَالْأُخْرَى مَعَ الشَّاهِدَيْنِ مَفْضُوضَةٌ يَتَدَارَسَانِهَا، لِيَحْفَظَا مَا فِيهَا، وَتَكُونُ الَّتِي مَعَ الطَّالِبِ مَحْفُوظَةً بِالْخَتْمِ حَتَّى إِنْ ضَاعَتْ إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ، أَوْ كِلَاهُمَا، أَمْكَنَ الشَّاهِدَانِ إِذَا حَفِظَا مَا فِي الْكِتَابِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ. فَإِنِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي فِي الْكِتَابِ عَلَى نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ وَلَهُ فِيهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ الْكِتَابَ إِلَى الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الطَّالِبِ، فَيَجُوزُ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ خَتْمِهِ وَتَرْكِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَخْتِمَهُ إِذَا كَانَ مَعَهُمَا لِيَتَدَارَسَاهُ وَيَحْفَظَا مَا فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ لَفَظًا إِنْ ضَاعَ مِنْهُمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الْقَاضِي الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ، فَعَلَى الْقَاضِي مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ أَنْ يَخْتِمَهُ بِخَاتَمِهِ وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ أَنْ يُوَقِّعَا فِيهِ خَطَّهُمَا وَيَخْتِمَاهُ بِخَتْمِهِمَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُمَا فِي نَفْسِ الِارْتِيَابِ عَنْهُمَا وَيَكُونُ خَتْمُهُمَا فِي دَاخِلِ الْكِتَابِ وَخَتْمُ الْقَاضِي عَلَى ظَهْرِهِ مَعْطُوفًا. فَإِنِ اقْتَصَرَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْخَطِّ دُونَ الْخَتْمِ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَا زِيَادَةَ الِاحْتِيَاطِ. فَإِذَا وَصَلَ الطَّالِبُ وَالشَّاهِدَانِ إِلَى الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ، تَفَرَّدَ الطَّالِبُ بِخِطَابِهِ دُونَ الشَّاهِدَيْنِ، وَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مُسْتَعْدِيًا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا عِنْدَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَسْتَعْدِيكَ عَلَى فُلَانٍ فِي حَقٍّ لِي عَلَيْهِ، أَوْ فِي يَدِهِ وَقَدْ مَنَعَنِي مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَذْكُرَ الْكِتَابَ وَلَا حُضُورَ الشُّهُودِ وَلَا يَصِفَ الْحَقَّ وَلَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ لِأَنَّهُ مَجْلِسُ اسْتِعْدَاءٍ وَلَيْسَ مَجْلِسُ دَعْوَى وَيَسْأَلُهُ إِحْضَارَ خَصْمِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 228 فَإِذَا حَضَرَ جَدَّدَ الطَّالِبُ الدَّعْوَى، وَوَصَفَهَا، وَسَأَلَ الْقَاضِي الْخَصْمَ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا. فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهَا، وَأَقَرَّ لَمْ يَحْتَجِ الطَّالِبُ إِلَى إِيصَالِ الْكِتَابِ، وَحُكِمَ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ. وَإِنْ أَنْكَرَ عَرَّفَهُ الطَّالِبُ أَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيْكَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، وَكَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِتَسْلِيمِ الْكِتَابِ مِنْ يَدِهِ إِلَى الْقَاضِي وَيَذْكُرُ لَهُ حُضُورَ شُهُودِهِ. فَإِذَا وَقَفَ الْقَاضِي عَلَى عُنْوَانِهِ وَخَتْمِهِ، سَأَلَ الشَّاهِدَيْنِ عَنْهُ قَبْلَ فَضِّهِ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ لَا سُؤَالَ شَهَادَةٍ. فَإِذَا أَخْبَرَاهُ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ فَضَّهُ وَقَرَأَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَفُضَّهُ وَيَقْرَأَهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ جَازَ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ جَوَازِ فَضِّهِ وَقِرَاءَتِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ. وَهَذَا عِنْدَنَا عُدُولٌ عَنِ الْأَوْلَى، وَلَيْسَ بِعُدُولٍ عَنِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ حُكْمٌ وَلَا إِلْزَامٌ. وَيَبْنِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ. فَإِذَا قَرَأَهُ الْقَاضِي سَأَلَ الشَّاهِدَيْنِ عَمَّا فِيهِ سُؤَالَ اسْتِشْهَادٍ لَا سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ، لِأَنَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِخْبَارٌ كَانَا فِيهِ مُخَيَّرَيْنِ، وَالثَّانِي اسْتِشْهَادٌ كَانَا فِيهِ شَاهِدَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ غَائِبًا عِنْدَ الِاسْتِخْبَارِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَ الِاسْتِشْهَادِ. فَلَوِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِشْهَادِ دُونَ الِاسْتِخْبَارِ جَازَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِخْبَارِ دُونَ الِاسْتِشْهَادِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ. وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، عَلَى مَا وَصَفْنَا لِيَكُونَ الِاسْتِخْبَارُ لِاسْتِبَاحَةِ قِرَاءَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادُ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ به. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 229 (شهادة النساء في تحمل كتب القضاة) . وَلَا يُقْبَلُ فِي تَحَمُّلِ كُتُبِ الْقُضَاةِ وَأَدَائِهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ فِيهَا إِذَا تَضَمَّنَتْ مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَهَذَا زَلَلٌ، مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِحُكْمٍ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُجْرَاةٌ مَجْرَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا يُقْبَلْنَ فِيهَا، فَلَمْ يُقْبَلْنَ فِيمَا أجرى مجراها. (تنفيذ حكم الكتاب) . فَإِذَا تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ الْكِتَابِ وَقَبِلَهُ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَقَّعَ بِخَطِّهِ فِيهِ بِالْقَبُولِ وَحَكَمَ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ. فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِمِلْكِ عَيْنٍ قَائِمَةٍ، مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ، جَازَ أَنْ يُعِيدَ الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا لِيَكُونَ حُجَّةً بَاقِيَةً فِي يَدِهِ. فَإِنْ سَأَلَهُ الطَّالِبُ الْإِشْهَادَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ بِقَبُولِهِ، وَالْحُكْمَ بِمَضْمُونِهِ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَاسْتَوْفَاهُ الْقَاضِي لِطَالِبِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعِيدَ الْكِتَابَ إِلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ فيه باستيفاء له. (خَتْمُ كِتَابِ الْقَاضِي وَالْحُكْمُ إِذَا انْكَسَرَ الْخَتْمُ) . (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنِ انْكَسَرَ خَاتَمُهُ أَوِ انْمَحَى كِتَابُهُ شَهِدُوا بِعِلْمِهِمْ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ: حِفْظُ مَا فِيهِ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ خَطَأٍ وَالْمَقْصُودُ بِالْخَتْمِ: الِاحْتِيَاطُ وَالتَّكْرُمَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] أَيْ مَخْتُومٌ. وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَاهُ. فَإِنِ انْكَسَرَ الْخَتْمُ أَوِ امَّحَى الْكِتَابُ جَازَ لِلشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ إِذَا حَفِظَاهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 230 وَكَذَلِكَ لَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صحة شهادتهما بمضونه. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا إِنْ ضَاعَ أَوِ امَّحَى لِتَحَمُّلِهِمَا لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِغَيْرِ كِتَابٍ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُمَا تَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ يَمْنَعْ تَلِفُهُ مِنْ صِحَّةِ تَحَمُّلِهِمَا وَجَوَازِ أَدَائِهِمَا. وَلِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا مِنْ حِفْظِهِمَا بِحَقٍّ فِي كِتَاب وَثِيقه قَدْ ضَاعَ جَازَ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ كَذَلِكَ إِنْ ضَاعَ كِتَابُ الْقَاضِي. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بَاقِيًا فَأَرَادَ الشَّاهِدَانِ أَنْ يَشْهَدَا بِمَا فِيهِ وَلَا يُوَصِّلَاهُ حَرُمَ إِمْسَاكُهُ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا، لِأَنَّ الْكِتَابَ أَمَانَةٌ مُؤَدَّاةٌ فِي أَيْدِيهِمَا. فَإِنِ امَّحَى مَا فِي الْكِتَابِ لم يلزمها إِيصَالُهُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَعْدَ امْتِحَائِهِ كِتَابًا. وَلَوِ امَّحَى بَعْضَهُ لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِنْ بَقِيَ أَكْثَرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُمَا إِيصَالُهُ إِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ. (تَغَيَّرَ حَالُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلِ وغيرهما) . (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قَبُولَهُ وَنَقْبَلُهُ كَمَا نَقْبَلُ حُكْمَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَتَبَ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ كِتَابًا وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ شُهُودًا ثم تغيرت حَالُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْحُكْمِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: بِمَوْتٍ أو عزل أو جنون أو فسق. (تغير حاله بالموت أو العزل) . فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كِتَابِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ حُكْمَ كِتَابِهِ ثَابِتٌ وَقَبُولَهُ وَاجِبٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ عَنْ يَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبٌ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ كِتَابِهِ قَدْ سَقَطَ بِتَغْيِيرِ حَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ قَبْلَ خُرُوجِ الكتاب عن يده أبو بَعْدَهُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْكِتَابِ عَنْ يَدِهِ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ. وَدَلِيلُهُمَا عَلَى سُقُوطِ حُكْمِهِ أَنَّهُمَا جَعَلَا كِتَابَ الْقَاضِي فَرْعًا لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ، وإِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْفَرْعِ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا تغيرت فيها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 231 حَالُ شُهُودِ الْفَرْعِ امْتَنَعَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِمْ حُكْمُ شُهُودِ الْأَصْلِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَهُوَ أَصْلٌ لِمَنْ أَشْهَدَه عَلَى نَفْسِهِ وَتَغَيُّرُ حَالِ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْفَرْعِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لَا يَمْنَعُ تَغَيُّرُ حَالِ شُهُودِ الْأَصْلِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِمْ شُهُودَ الْفَرْعِ. فَصَارَ عِلَّةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَالشَّافِعِيُّ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَصْلِ اعْتِبَارًا بِمَنْ أَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَاعْتِبَارُهُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْعًا لِأَصْلٍ، وَأَصْلًا لِفَرْعٍ، كَانَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْحَالِ أَوْلَى مِنِ اعتبار حكم قد زال. (فصل: تغير حاله بالفسق أو الجنون) . وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْكَاتِبِ بِفِسْقٍ أَوْ جُنُونٍ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ. فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْكِتَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ شَهَادَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِحُكْمٍ قَدْ أَمْضَاهُ فِي حَالِ سَلَامَتِهِ، وَجَبَ قَبُولُ كِتَابِهِ بَعْدَ تَغَيُّرِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا نَفَذَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي حَالِ الْجَوَازِ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَسَادٌ. وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِشَهَادَةٍ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ نُظِرَ: فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَبُولِ كِتَابِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ قَبْلَ قَبُولِهِ، سَقَطَ حُكْمُهُ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا فَسَقَ فِيهَا شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ فَسَقُوا قَبْلَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ سَقَطَتِ الشَّهَادَةُ. (فَصْلٌ: تغير حال القاضي المكاتب) . فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ سَقَطَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَحَاكِمًا بِهِ. فَإِنْ تَقَلَّدَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ فِي قَبُولِ الْكِتَابِ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْمَعْزُولِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِهِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَعْزُولِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْمَوْلَى بَعْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابِهِ إِلَى الْمَعْزُولِ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُؤَدِّيهِ شُهُودُهُ مِنْ حُكْمِ الْأَوَّلِ بِمَضْمُونِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ الثَّانِي كَثُبُوتِهَا بِهِ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَى إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كتَابًا بِحُكْمٍ فَوَصَلَ بَعْدَ عَزْلِ إِيَاسٍ وَوُلَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَبِلَهُ الْحَسَنُ وَحَكَمَ بِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 232 (فصل: في حكم من استخلفه القاضي بعد حكم المستخلف) . وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَاضِيَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ، فَتَغَيَّرَتْ حَالُ الْمُوَلِّي بِمَوْتٍ، أَوْ عَزْلٍ، انْعَزَلَ الْمُوَلَّى، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُ كِتَابِ الْمُوَلِّي. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي وَالِيًا مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، فَمَاتَ الْخَلِيفَةُ أَوْ خُلِعَ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ الْقَاضِي وَجَازَ لَهُ قَبُولُ كِتَابِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِ، وَتَغَيُّرِ حَالِهِ، وَالْقَاضِي يَسْتَنِيبُ خَلِيفَتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَانْعَزَلَ بِمَوْتِهِ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ. فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ خَلِيفَتَهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَلَا يَجُوزَ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. وَسَوَّى بَعْضُ أَصْحَابِنَا بَيْنَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَالْقَاضِي فِي انْعِزَالِ مَنْ وَلَّيَاهُ. وَسَوَّى آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي بَقَاءِ وُلَايَةِ مَنْ وَلَّيَاهُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ ما ذكرناه من الفرق بينهما. (فصل: كتاب القاضي وهو في غير محل ولايته) . وَإِذَا سَافَرَ الْقَاضِي عَنْ بَلَدِ وِلَايَتِهِ، وَكَتَبَ كِتَابًا بِحُكْمٍ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ الْكَاتِبِ لِأَنَّ كِتَابَهُ حُكْمٌ، وَحُكْمُهُ لَا يُنَفَّذُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. وَلَوْ كَتَبَهُ الْكَاتِبُ وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فَوَصَلَ إِلَى الْمُكَاتِبِ وَهُوَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لِأَنَّ قَبُولَهُ حُكْمٌ، وَحُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لَا يُنَفَّذُ. وَلَوْ أَنَّ قَاضِيَيْنِ اجْتَمَعَا فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا، مِثْلَ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَقَاضِي الْكُوفَةِ إِذَا اجْتَمَعَا بِبَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْآخَرِ مَا حَكَمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ مَا حَكَمَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَبُولَ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا. وَلَوْ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي بَلَدِ أَحَدِهِمَا مِثْلَ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَقَاضِي الْكُوفَةِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَصْرَةِ، فَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مَا حَكَمَ بِهِ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضِي الْبَصْرَةِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ قَاضِي الْكُوفَةِ. لِأَنَّهُ أداه في غيره عَمَلِهِ، وَأَدَاؤُهُ حُكْمٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ وَحْدَهُ مَقْبُولٌ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُخْبِرُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. فَأَمَّا مَا أَدَّاهُ قَاضِي الْبَصْرَةِ إِلَى قَاضِي الْكُوفَةِ فَأَدَاؤُهُ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ فِي غير عمله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 233 وَيَصِيرُ قَاضِي الْكُوفَةِ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ عَالِمًا بِهِ، وَلَيْسَ بِحَاكِمٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. فَإِذَا صَارَ إِلَى عَمَلِهِ فَفِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِهِ قَوْلَانِ كَالْقَاضِي فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِعَمَلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِغْفَالُ عُنْوَانِ الْكِتَابِ) . (مَسْأَلَةٌ) قال الشافعي: " وَلَوْ تَرَكَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ فِي الْعُنْوَانِ وَقَطَعَ الشُّهُودُ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ قَبِلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَنْوَنًا فِي دَاخِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُنْوَانٌ، أَوْ كَانَ عُنْوَانُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبَلَهُ مَعَ وِفَاقِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ الْعُنْوَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ عُنْوَانِهِ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَنْوَنًا لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُؤَدِّيهِ الشُّهُودُ مِنْ مضمونه، فلم يكن لعنوانه وَلَا لِفَقْدِهِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ شُهُودُهُ. وَعُنْوَانُ الْكِتَابِ فِي دَاخِلِهِ عُرْفٌ قَدِيمٌ، وَعَلَى ظَاهِرِهِ عُرْفٌ مُسْتَحْدَثٌ. وَالْعُرْفُ الْمَعْمُولُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْعُرْفِ الْمَتْرُوكِ. وَلَيْسَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي عَصْرِنَا إِلَّا فِي كُتُبِ الْخُلَفَاءِ خَاصَّةً. ثم قال أبو حنيفة: لا تقبل مُعَنْوَنًا بِالِاسْمِ وَحْدَهُ، أَوِ الْكُنْيَةِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَاتِبِ وَالْمُكَاتِبِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ دُونَ جَدِّهِ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْأَبِ مَشْهُورًا لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ، أَوْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ مَشْهُورَةً لَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ مَدْفُوعٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْعُرْفُ فِي عَصْرِنَا مُسْتَعْمَلٌ بِاسْتِيفَاءِ النَّسَبِ فِي الْعُنْوَانِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَبِالِاقْتِصَارِ فِيهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. (هَلْ يُبْدَأُ فِي الْعُنْوَانِ بِاسْمِ الْكَاتِبِ أَوْ بِاسْمِ الْمُكَاتِبِ) . فَأَمَّا مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي الْعُنْوَانِ مِنِ اسْمِ الْكَاتِبِ وَالْمُكَاتِبِ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرَيْنِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. فَرُوِيَ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ فِي مُكَاتَبَةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيَكْتُبُ: مِنَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 234 وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَكْتُبُ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيَكْتُبُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. فَمَنْ بَدَأَ بِاسْمِهِ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْكَاتِبِ إِلَى الْمُكَاتِبِ، وَمَنْ قَدَّمَ اسْمَ الْكَاتِبِ فَلِتَعْظِيمِهِ. وَعُرْفُ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا فِي كُتُبِ الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ: أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُتُبِهِمُ اسْمُ الْمُكَاتِبِ عَلَى اسْمِ الْكَاتِبِ، إِلَّا الْخُلَفَاءَ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اسْمِ الْمُكَاتِبِ. فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ عَمِلَ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ فَفِيهِ سَلَفٌ مَتْبُوعٌ. وَقَدْ صَارَ تَقْدِيمُ اسْمِ الْكَاتِبِ فِي عَصْرِنَا مُسْتَنْكَرًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا لَا يَتَنَاكَرُهُ النَّاسُ أَوْلَى، وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الْقَاضِي مَقْصُورًا فِي الدُّعَاءِ عَلَى مَا يَأْلَفُهُ أَهْلُ الْعَصْرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي عُرْفِهِمْ، وَيَعْدِلُ عَمَّا تَقَدَّمَهَا مِنَ اللَّفْظِ الْمَتْرُوكِ وَيَقْتَصِرُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَحْدَهُ، وَلَا يُقْرِنُهُ بِخَبَرٍ وَلَا اسْتِخْبَارٍ. وَلِكُتُبِهِمْ شُرُوطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. (الدَّعْوَى عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الغائب) . (مسألة) : قال الشافعي: " وإن أَنْكَرَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْهُ بِهِ حَتَى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ هُوَ فَإِذَا رَفَعَ فِي نَسَبِهِ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالْقَبِيلَةِ وَالصِّنَاعَةِ أُخِذَ بِذَلِكَ الْحَقِّ وَإِنْ وَافَقَ الِاسْمَ وَالْقَبِيلَةَ وَالنَّسَبَ وَالصِّنَاعَةَ فَأَنْكَرَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يُبَانَ بِشَيْءٍ لَا يُوَافِقُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا إِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَعْرُوفٍ، يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، إِمَّا بِعَيْنِهِ، وَإِمَّا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ تَمْنَعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْإِلْزَامِ. فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ حُضُورِهِ وَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ مَانِعَةً مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِاسْمِهِ ونسبه، فهو الذي توجه الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي حَقٌّ وَهُوَ حَاضِرٌ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ لِمُسْتَحِقِّهِ وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ غَابَ قَبْلَ دَفْعِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، اسْتَحَقَّ الطَّالِبُ أَنْ يَتَنَجَّزَ كِتَابَهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 235 بِالْحُكْمِ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمَطْلُوبُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمُكَاتِبُ مِنْهُ حَقَّ الطَّالِبِ. وَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ غَائِبٌ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِاتِّفَاقٍ مَنْ جَوَّزَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتُ حَقٍّ يُفْضِي إِلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي جَوَازِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَلْزَمْ إِعَادَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَشْهَدِهِ. وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَتَهَا إِذَا حَضَرَ. فَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ الْمُكَاتِبُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ وَالْكِتَابُ بَيِّنَةٌ بِثُبُوتِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ جَازَ، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي بِثُبُوتِهِ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ، فَلِجَوَازِ مُكَاتَبَةِ الْقَاضِي بِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ وَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَثْبُتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفَ الطَّالِبُ قَبْلَ حُكْمِهِ لَهُ أَنَّهُ مَا قَبَضَ الْحَقَّ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ حُكْمٍ أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْضِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِ الطَّالِبِ بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الْحَقَّ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَرَى إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّ حَقَّهُ لَثَابِتٌ عَلَيْهِ. وَأَقَلُّ مَا يَجْزِيهِ أَنْ يُحْلِفَهُ أَنَّ حَقَّهُ هَذَا لَثَابِتٌ عَلَيْهِ. فَيَجُوزُ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْقَاضِي بِحُكْمِهِ عَلَى الْغَائِبِ. وَيَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْفَعَ فِي اسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، وَذِكْرِ قَبِيلَتِهِ، وَصِنَاعَتِهِ، بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ إِنْ كَانَ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الشُّهُودَ عَلَيْهِ قَدْ عَرَفُوهُ بِعَيْنِهِ، وَاسْمِهِ،. وَنَسَبِهِ. وَهُوَ فِي تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِنْ شَاءَ سَمَّاهُمْ وَهُوَ أَوْلَى عندنا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 236 وَأَحْوَطُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَحْوَطُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، قَالَ: شَهِدَ بِهِ عِنْدِي رَجُلَانِ حُرَّانِ عَرَفْتُهُمَا بِمَا يَجُوزُ بِهِ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا. وَإِنْ سَمَّاهُمْ قَالَ: شَهِدَ بِهِ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدِي عَدَالَتُهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ثُبُوتَ عَدَالَتِهِمَا عِنْدَهُ وَذَكَرَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ تَنْفِيذُهُ لِلْحُكْمِ بِشَهَادَتَهِمَا تَعْدِيلًا مِنْهُ لَهُمَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ بِإِقْرَارِهِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ: أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي طَوْعًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَجَوَازِ أَمْرٍ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ مِنَ الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ. فَإِنِ اقْتَصَرَ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَقُلْ طَوْعًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَإِجْوَازِ أَمْرٍ، فَهَلْ يَقُومُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ مَقَامَ ذِكْرِهِ لِذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ ذِكْرِهِ لِلْعَدَالَةِ. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَشْرُوحًا فِي كِتَابِهِ. فَيَصِيرُ الْحَقُّ ثَابِتًا عَلَى الْغَائِبِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ أَقْوَى. وَالثَّانِي: بِنُكُولِهِ ويمين الطالب هو أَضْعَفُ. وَالثَّالِثُ: بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ وَهُوَ أَوْسَطُ. فَإِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي كِتَابِهِ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ الصَّحِيحُ النَّافِي لِلتُّهْمَةِ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ مَا حَكَمَ بِهِ مِنْهَا وَقَالَ: ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدِي بِمَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْحُقُوقُ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ فِي الْأَعْيَانِ وَتُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ فِي النُّكُولِ وَتَتَعَارَضُ بِهِ الْبَيِّنَةُ فِي الشَّهَادَةِ فَتَرَجَّحَ بِوُجُودِ الْيَدِ عِنْدَنَا وَتَرَجَّحَ بِعَدَمِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ فِي جَنَبَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي إِغْفَالُ ذِكْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حُجَّةِ المحكوم عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 237 وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ إِنْفَاذِ حُكْمِهِ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ كُلَّ ذِي حَقٍّ وَحُجَّةٍ عَلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَحُجَّةٍ فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ شُرُوطُ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى القاضي في الحكم على الغائب. (فصل: فيما يجب على القاضي بعد وصول الكتاب إليه) . فَإِذَا وَصَلَ كِتَابُ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ مِنْ شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ إِحْضَارُ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ وَمَسْأَلَتُهُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ. وَلَهُ فِي الجواب عنه ستة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لِطَالِبِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، دُونَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنَ الْكِتَابِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لِطَالِبِهِ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ سُمِعَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ بِهَا، وَإِنْ عَدِمَهَا وَسَأَلَ إِحْلَافَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ قَدْ أَحْلَفَهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْحَقِّ لِغَيْرِ هَذَا الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً، بَطَلَ إِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِ هَذَا الطَّالِبِ، وَكَانَ الطَّالِبُ الْمَحْكُومُ لَهُ بِهَا أَحَقَّ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ صَارَ مَأْخُوذًا بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِ الطَّالِبِ، وَمَأْخُوذًا بِالْكِتَابِ لِحَقِّ هَذَا الطَّالِبِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُنْكِرَ وُجُوبَ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ فَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ وَإِنْ أَنْكَرَهُ، لِثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بِكِتَابِ الْقَاضِي وَكِتَابُ الْقَاضِي أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ شَهَادَةٍ اقْتَرَنَ بِهَا حُكْمٌ، وَكُتُبُ الْقُضَاةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُنْكِرِينَ دُونَ الْمُقِرِّينَ. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُنْكِرَ الْحَقَّ، وَيُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِي الْكِتَابِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْكِرَ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ، وَيَدَّعِيَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَلَهُ فيه ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَعْرِفَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ حَتَّى تَقُومَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ بِالْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْبَلُ مَا ادَّعَاهُ من الاسم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 238 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفَ بِالِاسْمِ، وَيَذْكُرَ أَنَّهُ اسْمٌ لِغَيْرِهِ قَدْ شَارَكَهُ فِيهِ، وَغَيْرُهُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يعمل اشْتِرَاكُ جَمَاعَةٍ فِي الِاسْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَقَلُّهُمْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَاحِدٌ، فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّ غَيْرَهُ يُسَمَّى بِمِثْلِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِيمَهَا بِاسْمٍ حَيٍّ مَوْجُودٍ قَدْ شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ولا يحكم عليه بالحق يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بَاسِمٍ مَيِّتٍ قَدْ شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَاصَرَ الْحَيَّ أَوْ لَمْ يُعَاصِرْهُ. فَإِنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ، لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ تَأْثِيرٌ وَكَانَ الْحَيُّ مَأْخُوذًا بِالْحَقِّ، وَمُعَيَّنًا فِيهِ بِالِاسْمِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ عَاصَرَهُ الْمَيِّتُ لَمْ يَخْلُ مَوْتُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ مَنَعَتْ هَذِهِ الْمُشَارَكَةُ مِنْ تَعَيُّنِ الْحُكْمِ عَلَى الْحَيِّ لِمُشَارَكَةِ الْمَيِّتِ فِي الِاسْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَارَكَ فِيهِ حَيًّا حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أبو حامد الإسفرايني: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَيَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ عَلَى الْحَيِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْمَيِّتِ كَثُبُوتِهِ عَلَى الْحَيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ به حكم الاشتراك ويؤخذ الحي بالحق؛ لأنه مُطْلَقَ الْأَحْكَامِ مُتَوَجِّهَةٌ فِي الظَّاهِرِ إِلَى الْأَحْيَاءِ دون الأموات. والحال السادسة: أن يُنْكِرَ الْحَقَّ، وَيَعْتَرِفَ بِالِاسْمِ، وَيَدَّعِيَ جَرْحَ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ عَلَى جَرْحِهِمْ. فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِجَرْحِهِمْ وَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ تَوْبَةِ مَنْ تَقَدَّمَ جَرْحُهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 239 وَحُكِيَ فِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُسْمَعُ بِجَرْحِهِمْ وَفِسْقِهِمْ فَإِنْ أَقَامَهَا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ وَبَطَلَ الْحُكْمُ لِثُبُوتِ جَرْحِهِمْ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَرْحِهِمْ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مَعَ الْعَدَالَةِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، أَوْ لَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ شِرْكٌ، أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وِلَادَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ. فَهَذَا مَانِعٌ مِنْ قَبْلِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَيْسَ بِجَرْحٍ فِي عَدَالَتِهِمْ، فَتُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ وَيَبْطُلُ بِهَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَإِنْ جَرَّحَهُمْ بِالْفِسْقِ، وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ، فلا تخلو بينة الجرح من ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ تَشْهَدَ بِفِسْقِ الشُّهُودِ فِي وَقْتِ شَهَادَتِهِمْ فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِهَذَا الْجَرْحِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُمْ بِهَذَا الْجَرْحِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْحُكْمُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِهَذَا الْجَرْحِ لِأَنَّ حُدُوثَ الْفِسْقِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعَدَالَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، وَيُؤْخَذُ بِالْحَقِّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ قَبْلَ سَمَاعِ شَهَادَتِهِمْ، فَيُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ زَمَانِ الْجَرْحِ وَالشَّهَادَةِ. فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَتَكَامَلُ صَلَاحُ الْحَالِ فِي مِثْلِهِ، سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الجرح، وحكم بسقوط شهادتهم. وإن تَطَاوَلَ مَا بَيْنَ زَمَانِ الْجَرْحِ وَالشَّهَادَةِ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ، وَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ، لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَيَرْتَفِعُ الْفِسْقُ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْعَدَالَةِ. فَإِنْ سَأَلَ مُدَّعِي الْجَرْحِ إِنْظَارَهُ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يَلْتَمِسَهَا أُنْظِرَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَحْضَرَهَا، وَإِلَّا أُخِذَ بِالْحَقِّ وَأمْضِي عَلَيْهِ الْحُكْمَ. فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَ الْمَحْكُومِ لَهُ عَلَى عَدَالَةِ شُهُودِهِ، لَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الشُّهُودِ إِلَى الْحَاكِمِ دُونَ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْيَمِينِ فِيهِ. وَلَوْ سأل إحلافه على أن لا ولادة بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلَا شَرِكَةَ، وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى ذَلِكَ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَحْكُومِ لَهُ دُونَ الْحَاكِمِ. وَلَوْ سأل إحلافه على أن لا عداوة بينه وَبَيْنَهُمْ، فَهَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ سَأَلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ الْإِشْهَادَ لَهُ بِقَبْضِ الْحَقِّ منه، وجب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 240 عَلَى الْقَابِضِ الْمُطَالِبِ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَلْ يَجِبُ إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ بِقَبْضِ مُسْتَحِقِّهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْإِشْهَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَابِضِ، لِمَا ظَهَرَ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ وَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الْقَابِضِ وَحْدَهُ لِاخْتِصَاصِ إِسْجَالِ الْأَحْكَامِ بِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ دُونَ إِسْقَاطِهَا. (فصل: [القول في ما يجب على القاضي المطالب بتسمية الشهود] ) وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ فِي كِتَابِهِ فَسَأَلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَسْمَاءِ شُهُودِهِ لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ فِي أَحْكَامِهِ وَشُهُودِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ سَأَلَ الْمَحْكُومَ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ أَسْمَاءَ شُهُودِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْمِيَتُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُمْ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِلَى الْقَاضِي الْحَاكِمِ وَسَأَلَهُ عَنْ تَسْمِيةِ شُهُودِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنِ اسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُمْ وَهُمْ مِمَّنْ لَا تُعَادُ الْمَسْأَلَةُ لِقَدِيمِ شَهَادَتِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَتُهُمْ لَهُ. وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِهَا وَهُمْ مِمَّنْ تُعَادُ الْمَسْأَلَةُ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْمِيَتُهُمْ لَهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِجَرْحِهِمْ كَانَ سَمَاعُهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ أَقَامَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ، نُقِضَ حُكْمُهُ بِهِمْ، وَكُتِبَ بِنَقْضِهِ إِلَى قَاضِيهِ، لِيُسْقِطَ عَنْهُ الْحَقَّ الَّذِي كَاتَبَهُ بِهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ عِنْدَ قَاضِيهِ الَّذِي كُوتِبَ بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْمَعْهَا، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ شُهُودُ الْحُكْمِ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الْخَصْمِ. فَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي بِأَسْمَائِهِمْ جَازَ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَحْكُمُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ عَنْهُ. فَإِنْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِجَرْحِهِمْ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ. لَزِمَهُ مُكَاتَبَتُهُ بِهِ، لِيُسْقِطَ بِهِ الْحَقَّ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ، حَتَّى لَا يَأْخُذَهُ بِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَيْهِ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي كِتَابه سَبَبَ حُكْمِهِ، وَقَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي بِمَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْحُقُوقُ وَسَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 241 عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالْبَيِّنَةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُقَابَلَتِهَا بِمِثْلِهَا فَتَرْجَحُ بَيِّنَتُهُ بِالْيَدِ، فَيَكُونُ وُجُوبُ الْبَيَانِ معتبرا بهذه الأقسام. (فصل: سؤال الطالب الحكم بالشاهد واليمين) . وَإِذَا سَأَلَ الطَّالِبُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ الْقَاضِي بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا لَا يَرَى القضاء بمشاهد وَيَمِينٍ لَمْ يَحْكُمْ لَهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ شَاهِدَهُ. وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا، يَرَى الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى حَاضِرٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى غَائِبٍ وَيُرِيدُ الطَّالِبُ أَنْ يَتَنَجَّزَ بِهِ كِتَابَهُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَطْلُوبِ، فَفِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ وَمَذْهَبٌ مَشْهُورٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ بِهِ وَهُوَ مِنْ سَرَفِهِمْ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْرِيضُ حُكْمِهِ لِلنَّقْضِ وَالْأَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. أَنْ يَعْتَبِرَ رَأْيَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِهِ. فَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ لَمْ يَكْتُبْ بِهِ. فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ فِي كِتَابِهِ، وَيُطْلِقَ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِثُبُوتِ الْحَقِّ عِنْدَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ باجتهاد نفسه ولا يحكم باجتهاد غيره. (فصل: في مكاتبة القاضي للأمير) . (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةِ إِلَى الْقَاضِي وَالْقَاضِي إِلَى الْأَمِيرِ وَالْأَمِيرِ إِلَى الْقَاضِي سَوَاءٌ لَا يُقْبَلُ إِلَّا كَمَا وَصَفْتُ مِنْ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْكُتُبِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِأَحْكَامٍ وَحُقُوقٍ لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 242 وَخَالَفَنَا بَعْضُ مَنْ وَافَقَنَا فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ: أَنَّ كُتُبَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ إِلَى الْقُضَاةِ وَمِنَ الْقُضَاةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ تُقْبَلُ بِغَيْرِ الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْعُرْفِ الْمُسْتَمِرِّ. وَالثَّانِي: صِيَانَةُ السُّلْطَانِ فَمَا يُبَاشِرُ غَيْرُهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفُذْ كُتُبُ الْقُضَاةِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ مَعَ ظُهُورِهِمْ كَانَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ مَعَ احْتِجَابِهِمْ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُضَاةَ فَرُوعُ الْخُلَفَاءِ، وَحُكْمُ الْأُصُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ. فَأَمَّا كُتُبُهُمْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْكُتُبُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ فَمَقْبُولَةٌ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي أَمْثَالِهَا، مَخْتُومَةٌ مَعَ الرُّسُلِ الثِّقَاةِ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ وَالتَّزْوِيرُ فِيهَا يَظْهَرُ وَالْهَيْئَةُ فِيهَا تَمْنَعُ وَالِاسْتِدْرَاكُ فِيهَا مُمْكِنٌ فَمِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ خَالَفَتْ كُتُبُ القضاة في أحكام الرعايا. (فصل: كتب قاضي أهل البغي) . وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ بِحَقٍّ، نُظِرَ: كَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُوَافَقه بِقَوْلِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْكُمُ لِمُوَافَقه بِقَوْلِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُ، فَفِي قَبُولِ كِتَابِهِ بِالْحُكْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ) ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ مُمْضَاةٌ لَا يُرَدُّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ حُكْمِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ كُتُبِهِمْ كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ. وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَيُقْبَلُ كُلُّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ كِتَابُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ كِتَابَهُ وَإِنْ لَمْ نَنْقُضْ حُكْمَهُ. لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ وَالْكِتَابُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. فَافْتَرَقَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 243 (فصل: في من تقبل كتبه من القضاة) . وَيُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَالْقَرْيَةِ كَمَا يُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي الْمِصْرِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ كِتَابِ قَاضِي الرُّسْتَاقِ وَالْقَرْيَةِ وَجَعَلَ قَبُولَ الْكُتُبِ مَوْقُوفًا عَلَى قُضَاةِ الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، لِأَنَّ قُضَاةَ الْأَمْصَارِ أَحْفَظُ لِنِظَامِ الْأَحْكَامِ مِنْ قُضَاةِ الرَّسَاتِيقِ وَالْقُرَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ لِقَبُولِ كُتُبِ الْقُضَاةِ شُرُوطٌ إِنْ وُجِدَتْ فِي كُتُبِ قُضَاةِ الْقُرَى قُبِلَتْ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي كُتُبِ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ رُدَّتْ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ قَرِيبَةً مِنَ الْمِصْرِ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى أَهْلِهَا التَّحَاكُمُ إِلَى قَاضِي الْمِصْرِ كَانَ هُوَ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ. وَجَرَوْا مِنْهُ مَجْرَى أَهْلِ الْمِصْرِ فَلَمْ يَجُزْ لِقَاضِي الْمِصْرِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ كِتَابَ قَاضٍ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِي حُكْمٍ لَازِمٍ مَنْ شَهِدُوا بِحُكْمٍ عِنْدَ قَاضِيهِمْ وَيَقْدِرُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ قَاضِي الْمِصْرِ. وَإِذَا اتَّسَعَ الْمِصْرُ وَكَانَ ذَا جَانِبَيْنِ كَبَغْدَادَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبَيْهِ قَاضٍ منفرد برياسته لم يقبل كتاب قاض أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَى قَاضِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ. وَقُبِلَ فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ إِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ وَلَمْ يُقْبَلْ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ. لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْأَصْلِ لَمْ يجز أن يحكم فيه بالقرع كالشهادة على الشهادة يحكم فيها بشهود القرع مَعَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا مَعَ إِمْكَانِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 244 (باب القسام) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى أَجْرُ الْقَسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُمْ حُكَّامٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي الْحُكْمِ بِالْقِسْمَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلِكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ ". وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَنِيمَةَ بَدْرٍ بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ وَقَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِأَوْطَاسٍ وَقِيلَ بِالْجِعْرَانَةِ. وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي مَوَارِيثَ تَقَادَمَتْ وَتَدَارَسَتْ فَقَالَ: اذْهَبَا فَاقْتَسِمَاهَا وَاسْتَهِمَا وَتَحَالَّا، وَقَدْ كَانَ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَّامٌ وَكَانَ قَاسِمُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى يُعْطِيهِ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ حَاجَةً فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ قَاسِمٍ يُنْصِفُهُمْ فِي الْحُقُوقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُسَّامُ حُكَّامٌ، وَإِنَّمَا كَانُوا حُكَّامًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ يُوقِعُونَ الْقِسْمَةَ جَبْرًا كَمَا يُجْبَرُ الْحُكَّامُ فِي الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَ الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا كَاسْتِيفَاءِ الْحُكَّامِ. وَلَئِنْ كَانُوا حُكَّامًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ حُكَّامَ الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْقَسَّامِ مُخْتَصٌّ بِالتَّحَرِّي فِي تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ وَإِقْرَارِهَا وَحُكْمَ الْحُكَّامِ مُخْتَصٌّ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِلْزَامِهَا. وَالثَّانِي: اسْتِعْدَاءُ الْخُصُومِ يَكُونُ إِلَى الْحُكَّامِ دُونَ الْقَسَّامِ لِأَنَّ لِلْحُكَّامِ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّونَ بِهَا إِجَابَةَ الْمُسْتَعْدِي وَلَيْسَ لِلْقَسَّامِ وِلَايَةٌ وَلَا عَدْوَى. وَإِنَّمَا يَقْسِمُونَ بِأَمْرِ الْحُكَّامِ لَهُمْ أَوْ لِتَرَاضِي الشركاء بهم فصارلوا فِي الْقِسْمَةِ أَعْوَانَ الْحُكَّامِ فَلَزِمَ الْحَاكِمَ أَنْ يَخْتَارَ لِنَظَرِهِ مِنَ الْقُسَّامِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقِسْمَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَلَا فَاسِقَا. وَالثَّانِي: قِلَّةُ الطَّمَعِ وَنَزَاهَةُ النَّفْسِ حتى لا يرتشي فيما يلي ويجوز. وَالثَّالِثُ: عِلْمُهُ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لَهُمَا، وَعَامِلٌ بِهِمَا وَاعْتِبَارُ هَذَيْنِ فِي الْقَاسِمِ كَاعْتِبَارِ الْعِلْمِ فِي الْحَاكِمِ فَإِذَا عُرِفَ تَكَامُلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ عُيِّنَ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَنَدْبِهِ للقسمة في عمله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 245 (تعدد القسام) . فَإِنِ اكْتَفَى عَمَلُهُ بِقَاسِمٍ وَاحِدٍ. وَإِلَّا اخْتَارَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَمَلُ، مِنْ ثَانٍ، وَثَالِثٍ ليغني المقتسمين عن اختيار القاسم فَقَدْ يَضْعُفُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي اختيارهم. (أجرة القاسم) . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُجُورُ هَؤُلَاءِ الْقُسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَزَقَهُمْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ أُجُورُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ كَثُرَتِ الْقِسْمَةُ وَاتَّصَلَتْ فُرِضَتْ أَرْزَاقُهُمْ مُشَاهَرَةً فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ قَلَّتْ أُعْطُوا مِنْهُ أُجْرَةَ كُلِّ قِسْمَةٍ. فَإِنْ عَدَلَ الْمُقَسَّمُونَ عَنْهُمْ إِلَى قِسْمَةِ مَنْ تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَنِ ارْتَضَوْهُ عَبْدًا، أَوْ فَاسِقًا، وَكَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي أموالهم ولم تكن في بيت المال. (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِنْ لَمْ يُعْطُوَا خُلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَ الْقَسْمَ وَاسْتَأْجَرَهُمْ طَالِبُ الْقَسْمِ بِمَا شَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَعْوَزَتْ أُجُورُ الْقَسَّامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، إِمَّا لِعَدَمِهِ فِيهِ، وَإِمَّا لِحَاجَةِ الْمُقَاتِلَةِ إِلَيْهِ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ إِنْ لَمْ يَجِدُوا مُتَبَرِّعًا. وَلَا تَمْنَعُ نِيَابَتُهُمْ عَنِ الْقُضَاةِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَى الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ الْمَمْنُوعِينَ مِنَ الاعتياض على الأحكام من الخصوم الوقوع الفرق بينهما وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ فِي الْقَضَاءِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ بِهِ الْقَاضِي مِنَ الِاعْتِيَاضِ، وَالْقِسْمَةُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ فَجَازَ لِلْقَاسِمِ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْقَاسِمِ عَمَلًا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَصُنَّاعِ الْأَعْمَالِ فِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا وَخَالَفَ الْقُضَاةَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاضِي رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ بِأَخْذِهِ أُجْرَةً عَلَى الْحُكْمِ كَمَا نَقُولُهُ فِي أَرْزَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا عَنِ الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ عَنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَدَدُ الْقُسَّامِ. وَالثَّانِي: حُكْمُ الْأُجْرَةِ. فَأَمَّا عَدَدُ الْقُسَّامِ فَلِلْقِسْمَةِ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَرَاضَى بِهَا الْمُقْتَسِمُونَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْمُرَ بِهَا الْحُكَّامُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 246 فَإِنْ تَرَاضَوْا بِهَا حَمَلُوا فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ كَمَا حَمَلُوا فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِلْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا وَلَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ قَوْلَ هَذَا الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَائِبٍ عَنْهُ وَلَا يَسْمَعُ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِهِ. وَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِالْقِسْمَةِ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَفِي الْقِسْمَةِ تَعْدِيلٌ وَحُكْمٌ وَالتَّعْدِيلُ مُعْتَبَرٌ بِاثْنَيْنِ كالتقويم ولا يعول في التقويم إلى عَلَى قَوْلِ مُقَوِّمَيْنِ وَالْحُكْمُ فِيهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ كَالْحَاكِمِ. فَيُنْظَرُ فِي الْقِسْمَةِ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعْدِيلٌ وَتَقْوِيمٌ لَمْ يُجْزِئْ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَعْدِيلٌ وَلَا تَقْوِيمٌ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعِ أَمر الْحَاكِم الشُّرَكَاء إِنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى قَاسِمَيْنِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ فِي غَيْرِهِ إِنَّ الْقَاسِمَ حَاكِمٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَرْصِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُ قَاسِمٌ وَاحِدٌ، كَمَا يُجْزِئُ كَيَّالٌ واحد، ووزان واحد. والقول الثاني: لا أنه يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُقَوِّمَيْنِ، وَكَمَا لَا يُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَقَلُّ مِنْ مُجْتَهِدَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ الْقَاسِمُ كَالْحَاكِمِ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ: وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ طِفْلٌ، أَوْ غَائِبٌ، لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ قَاسِمَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا حُضُورًا يُجِيبُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَجْزَأَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ، وَيَقْبَلُ الْحَاكِمُ قَوْلَ القاسم ها هنا، لِاسْتِنَابَتِهِ لَهُ كَمَا يَقْبَلُ قَوْلَ خُلَفَائِهِ فَإِنْ جَازَتْ بِقَاسِمٍ وَاحِدٍ قِيلَ فِيهَا قَوْلُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِقَاسِمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْ قول الواحد وقبل قول الاثنين. (فصل: أجرة القسام) . وأما أجرة القسام فللمقتسمين فيها أربعة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا فِيهَا عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى التَّطَوُّعِ بِالْقِسْمَةِ فَلَا أُجْرَةَ لِلْقَاسِمِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ، أَوْ أُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فَتَكُونُ لِلْقَاسِمِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَجْرِيَ لِلْأُجْرَةِ ذِكْرٌ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُقْتَسِمَيْنِ بَذْلٌ، وَلَا مِنَ الْقَاسِمِ طَلَبٌ، فَيَنْظُرُ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَمَرَ بِهَا، وَجَبَ لِلْقَاسِمِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 247 وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَسِمُونَ قَدْ دُعُوا إِلَيْهَا، فَفِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بذَل عَملَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ، لَهُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَهْلَكُوا عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ الْقَاسِمِ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ اسْتَحَقَّهَا وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِأَخْذِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي حَقِّهِمَا كَالشَّرْطِ. فَإِذَا وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ، وَكَانَ الْقَاسِمُ واحدا أخذها، إن كانا اثنين، فلهما في الأجرة ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَحِقَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ، فَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةٌ مُسَمَّاةٌ، فَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأُجْرَتِهِ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِيهَا أَوْ تَفَاضَلَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسَمِّيَ لَهُمَا أُجْرَةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ عَلَى الْمُقْتَسِمَيْنِ غَيْرُهَا. وَفِي اقْتِسَامِهِمَا بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْتَسِمَانِهَا نِصْفَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقْتَسِمَانِهَا عَلَى قَدْرِ أُجُورِ أَمْثَالِهِمَا اعْتِبَارًا بِالْعَمَلِ. (هل أجرة القسام على عدد الرؤوس أو على عدد الأسهم) . (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ سَمَّوْا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي نَصِيبِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا فَجَائِزٌ وَإِنْ سَمَّوْهُ عَلَى الْكُلِّ فَعَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمُقْتَسِمُونَ الْقَاسِمَ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَلَهُمْ فِيهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً دُونَ شُرَكَائِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ بِالْتِزَامِ مَا سَمَّى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِيهِ أَوْ يَتَفَاضَلُوا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِئْجَارِهِ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا جَائِزٌ وَهُوَ أَوْلَى، لِتَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ عَنْهُمْ فِي التَّفْضِيلِ وَالْمُمَايَلَةِ وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةً بَيْنَهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَالسِّهَامِ وَلَا يُقَسِّطُ عَلَى أَعْدَادِ الرُّؤُوسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَسِّطُ عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ يَسْتَوِي فِيهَا مَنْ قَلَّ نصيبه وكثر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 248 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقِيَاسُ تَقْسِيطُهَا عَلَى الرُّؤُوسِ وَالِاسْتِحْسَانِ تَقْسِيطُهَا عَلَى السِّهَامِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى الْعَدَدِ، بِأَنَّ عَمَلَ الْقَاسِمِ فِي قَلِيلِ السَّهْمِ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِهِ فِي كَثِيرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قَسَّمَهَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا سُدُسُهَا، وَلِلْآخَرِ بَاقِيهَا قَسَّمَهَا أَسْدَاسًا فَكَانَ فِي حَقِّ الْقَلِيلِ أَكْثَرُ عَمَلًا فَاقْتَضَى إِذَا لَمْ يَزِدْ أَنْ لَا يَنْقُصَ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُؤَنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَجِبُ تَقْسِيطُهَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ دُونَ الْمُلَّاكِ كَنَفَقَاتِ الْبَهَائِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقِلُّ سَهْمُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَتَّى يَكُونَ سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ؛ فَلَوِ الْتَزَمَ نِصْفَ الْأُجْرَةِ لَجَازَ أَنْ تَسْتَوْعِبَ قِيمَةَ مِلْكِهِ فَتُؤَدِّي إِجَازَةُ مِلْكِهِ بِالْقِسْمَةِ إِلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ بِهَا وَهَذَا مَدْفُوعٌ فِي الْمَعْقُولِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَمَنُ الْمِلْكِ لَوْ بِيعَ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ عَلَى السِّهَامِ، اقْتَضَى أَنْ تَتَقَسَّطَ أُجْرَةُ قَسْمِهِ عَلَى السِّهَامِ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمَلَ الْقَاسِمِ فِي قَلِيلِ السَّهْمِ أَكْثَرُ، فَفَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَعَمَلُهُ فِي الْخَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَكْثَرُ مِنْ عَمَلِهِ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَذْرَعَ الْجَمِيعَ فَيَعْرِفَ مِسَاحَتَهُ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ لِقِلَّةِ سَهْمِ الْآخَرِ خَطَأٌ بَلْ هُوَ لِكَثْرَةِ سَهْمِ شَرِيكِهِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ. (فصل: [حكم القسمة إذا كان بين المقتسمين صغير أو مجنون] ) . فَإِنْ كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِقِسْمَةِ سَهْمِهِ أُلْزِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ بِقِسْطِهِ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِقِسْمَتِهَا وَلَمْ يكن الْمَنْعُ مِنْهَا لِانْتِفَاعِ بَاقِي الشُّرَكَاءِ بِهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عليه شيئا وهو ممن لا رضى لَهُ شَيْءٌ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْقِسْمَةِ أَوِ الْأُجْرَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَخَرَّجُوا الْقِسْمَةَ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 249 أَحَدُهُمَا: يَمْنَعُ مِنْهَا. وَالثَّانِي: يُجِيبُ إِلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ، فَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَهُوَ يُجْبِرُ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْحُقُوقِ وَجَعَلُوا احْتِمَالَ هَذَا الْكَلَامِ مَحْمُولًا عَلَى الْأُجْرَةِ وَخَرَجُوا فِي إِلْزَامِهِ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الْحَاكِمُ قِسْطَهُ مِنْهَا مَعَ عَدَمِ حَظِّهِ فِيهَا كَمَا يَلْزَمُهُ مَا لَا حَظَّ له فيه من مؤونة وَكُلْفَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لِشُرَكَاءِ الصغير إن أردتم القسمة التزمتهم قِسْطَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِي مَالِهِ مَا لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ. ( [أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ المشتركة] ) . (مسألة) : قال الشافعي: " وإذا تداعوا إلى القسم وأبى شركائهم فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَا يَصِيرُ لَهُ مَقْسُومًا أَجْبَرْتُهُمْ عَلَى الْقَسْمِ فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعِ الْبَاقُونَ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِمْ فَأَقُولُ لِمَنْ كَرِهَ إِنْ شِئْتُمْ جَمَعْتُمْ حَقَّكُمْ فَكَانَتْ مُشَاعَةً بَيْنَكُمْ لِتَنْتَفِعُوا بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَهُوَ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ مَا تَتَسَاوَى قِيمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَهَذَا يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ إِجْبَارًا إِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ وَاخْتِيَارًا إِذَا رَضِيَ جَمِيعَهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ وَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ قِيَمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَكَالْحَمَّامِ وَالسَّفِينَةِ وَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ لِنُقْصَانِهِمَا بِالْقِسْمَةِ فَهَذَا يُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ اخْتِيَارًا، إِذَا رَضِيَ جَمِيعُهُمْ، وَلَا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ إِجْبَارًا إِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُتْلَفُ بِالْقِسْمَةِ، كَالْجَوْهَرَةِ وَاللُّؤْلُؤَةِ وَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ، فَهَذَا يُمْنَعُ الشُّرَكَاءُ فِيهِ مِنْ قَسْمِهِ، وَإِنْ رَضُوا بِهَا؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مِلْكٍ فِي غَيْرِ نَفْعٍ فَكَانَ سَفَهًا يَسْتَحِقُّ به الحجر. (فصل: [امتناع بعض الشركاء من القسمة في ما تدخله قسمة الإجبار] ) . فَأَمَّا مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ إِذَا دَعَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ إِلَى الْقِسْمَةِ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِالْقِسْمَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَيَنْتَفِعُ بِمَا حَازَهُ مَقْسُومًا، كَانْتِفَاعِهِ بِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 250 مُشْتَرِكًا، فَيُجَابُ طَالِبُ الْقِسْمَةِ إِلَيْهَا، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَصَرَّفَ عَلَى اخْتِبَارِهِ. وَالثَّانِي: لِيَأْمَنَ اخْتِلَاطَ الْأَيْدِي وَسوءَ الْمُشَارَكَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَضِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقِسْمَةِ، لضيق الأرض، وَكَثْرَةِ السِّهَامِ، وَذَهَابِ مَنَافِعِهَا، بِافْتِرَاقِ الْأجزَاءِ وَحُصُولِ مَنَافِعِهَا بِاجْتِمَاعِهَا، فَتَصِيرُ كَقِسْمَةِ مَا لَا يَدْخُلُهُ الْإِجْبَارُ مِنَ الْبِئْرِ وَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالسَّيْفِ فَلَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُم جَبْرًا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلُ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ طَالِبِ الْقِسْمَةِ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا مَعَ دُخُولِ الضّررِ عَلَى الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ لِيَنْفَرِدَ بِمِلْكِهِ وَيَدِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَمَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ " نَهَى عَنْ قِيلٍ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ". وَلِأَنَّ مَا عَمَّ الضَّرَرُ بِقَسْمِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ كَالْجَوْهَرَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَضِرَّ بِالْقِسْمَةِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهَا عَلَى مَذَاهِبَ. فَقَالَ مَالِكٌ: يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُجْبَرُ. وَقَالَ ابن أبي ليلى: يباع ويقسم الثمن بينهم. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ مُنْتَفِعًا أُجْبِرَ عَلَيْهَا الْمُمْتَنِعَ وَإِنِ اسْتَضَرَّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهَا: كَمَالُ تَصَرُّفِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ. وَالثَّانِي: انْفِرَادُ يَدِهِ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ هُوَ الْمُسْتَضِرُّ بِهَا، وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجَابَةِ الطَّالِبِ إِلَيْهَا، وَإِجْبَارِ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَطْلُوبِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى طَالِبِهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ دُخُول الضرر عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 251 أحدهما: وهو قول أبي حنيفة الظاهر مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ نُقْصَانُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نُقْصَانِ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ. وَهُوَ أَشْبَهُ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ منهما ضررا. (فصل: [في كيفية التقسيم] ) . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَبْرًا فَكَانَتِ الْأَرْضُ بَيْنَ سِتَّةٍ قَدْ تَسَاوَتْ سِهَامُهُمْ فِيهَا، وَطَلَبَ الْقِسْمَةَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَامْتَنَعَ الْبَاقُونَ مِنْهَا، قُسِّمَتْ أَسْدَاسًا وَأُفْرِدَ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ سُدُسُهَا وَكَانَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبَاقِينَ. فَإِنْ طَلَبَهَا اثْنَانِ لِيَحُوزَا سَهْمَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ قُسِّمَتْ أَثْلَاثًا وَأُفْرِدَ لِطَالِبِي الْقِسْمَةِ ثلثها مشتركا بينهما، كان الثُّلُثَانِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبَاقِينَ. وَإِنْ طَلَبَهَا ثَلَاثَةٌ لِيَحُوزُوا سِهَامَهُمْ مُجْتَمِعِينَ قُسِّمَتْ نِصْفَيْنِ وَأُفْرِدَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ لِلثَّلَاثَةِ الطَّالِبِينَ لِلْقِسْمَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلثَّلَاثَةِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهَا. ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ وَاجْتَمَعَ وَافْتَرَقَ. ( [كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وينبغي للقاسم أن يحصي أهل القسم وَمَبْلَغَ حُقُوقِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ سُدُسٌ وَثُلُثٌ وَنِصْفٌ قَسَّمَهُ عَلَى أَقَلِّ السُّهْمَانِ وَهُوَ السُّدُسُ فِيهَا فَيَجْعَلُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةً ثُمَّ يُقَسِّمُ الدَّارَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ ثَمَّ يَكْتُبُ أَسْمَاءَ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي رِقَاعٍ قَرَاطِيسَ صِغَارٍ ثُمَّ يُدْرِجُهَا فِي بُنْدُقِ طِينٍ يَدُورُ وَإِذَا اسْتَوَتْ أَلْقَاهَا فِي حِجْرِ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْبَنْدَقَةَ وَلَا الْكِتَابَ ثُمَّ سَمَّى السُّهْمَانَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا ثُمَّ قَالَ أَخْرِجْ عَلَى الْأَوَّلِ بُنْدُقَةً وَاحِدَةً فَإِذَا أَخْرَجَهَا فَضَّهَا فَإِذَا خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِهَا جَعَلَ لَهُ السَّهْمَ الْأَوَّلَ فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ السُّدُسِ فَهُوَ لَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَهُوَ لَهُ وَالسَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ النِّصْفِ فَهُوَ لَهُ وَالسَّهْمَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِهِ ثُمَ قِيلَ لَهُ أَخْرِجُ بُنْدُقَةً عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يَلِي مَا خَرَجَ فَإِذَا خَرَجَ فِيهَا اسْمُ رجل فهو له كما وصفت حتى تنفذ السُّهْمَانُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقِسْمَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَمَلُ القسمة. والثاني: صفة القرعة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 252 (عمل القسمة) . فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلِ: فِي عَمَلِهَا فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْقَاسِمُ قَدْرَ سِهَامِ الشُّرَكَاءِ. فَإِنْ تَسَاوَتْ قَسَّمَ الْأَرْضَ عَلَى عَدَدِهِمْ. وَإِنْ تَفَاضَلَتْ قَسَّمَهَا عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ لِاشْتِمَالِ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ. فَإِذَا قَسَّمَهَا عَلَى عَدَدِهِمْ لِتَسَاوِي سِهَامِهِمْ كَثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ فِي أَرْضٍ مُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ هِيَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا فَيُقَسِّمُهَا ثَلَاثَةَ سِهَامٍ مُعْتَدِلَةٍ بِالْمِسَاحَةِ. فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثِينَ جَرِيبًا جَعَلَ كُلَّ سَهْمٍ مِنْهَا عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهَا. وَهُوَ فِي الْقُرْعَةِ بِالْخِيَارِ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ الْأَسْمَاءَ وَيُخْرِجَ عَلَى السِّهَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ السِّهَامَ وَيُخْرِجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ. فَإِنْ كَتَبَ الْأَسْمَاءَ وَأَخْرَجَ عَلَى السِّهَامِ كَتَبَ أَسْمَاءَ الشُّرَكَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي رِقَاعٍ ثَلَاثٍ، فِي أَحَدِهَا زَيْدٌ، وَفِي الْأُخْرَى عَمْرٌو، وَفِي الثَّالِثَةِ بَكْرٌ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ زَيْدٍ أَخَذَ السَّهْمَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالَ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الثَّانِي، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ عَمْرٍو أَخَذَ السَّهْمَ الثَّانِيَ وَصَارَ السَّهْمُ الثَّالِثُ لِبَكْرٍ. وَإِنْ كَتَبَ السِّهَامَ وَأَخْرَجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ، كَتَبَ فِي أَحَدِ الرِّقَاعِ السَّهْمَ الْأَوَّلَ، وَفِي أُخْرَى السَّهْمَ الثَّانِيَ، وَفِي أُخْرَى السَّهْمَ الثَّالِثَ، ثُمَّ قَالَ أخْرجْ لِزَيْدٍ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ أخذه، ثُمَّ قَالَ أخْرجْ لِعَمْرٍو فَإِنْ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الثَّالِثُ أَخَذَهُ، وَصَارَ السَّهْمُ الثَّانِي لِبَكْرٍ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فِيمَا قَلَّ مِنَ الْعَدَدِ أَوْ كَثُرَ. فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتْ سِهَامُ الشُّرَكَاءِ، كَثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ فِي أَرْضٍ مُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ لِأَحَدِهِمْ سُدُسُهَا وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِآخَرَ نِصْفُهَا، فَهَذِهِ يُقَسِّمُهَا عَلَى أَقَلِّ السِّهَامِ، وَهُوَ السُّدُسُ، فَيَجْعَلُ كُلَّ سَهْمٍ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي مِسَاحَتُهَا ثَلَاثُونَ جَرِيبًا خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ هِيَ سُدُسُهَا. ثُمَّ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ الْأَسْمَاءَ وَيُخْرِجَ عَلَى السِّهَامِ فَيَقُولُ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ السُّدُسِ أَخَذَهُ وَحْدَهُ، وَقَالَ اخْرُجْ عَلَى السَّهْمِ الثَّانِي فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَخَذَهُ وَالسَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ الثَّالِثُ، لِأَنَّ لَهُ سَهْمَيْنِ وَمِلْكُهُ يُجْمَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا يُفَرَّقُ، وَبَقِيَتِ السِّهَامُ الثَّلَاثَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ. وَلَوْ خَرَجَ عَلَى السَّهْمِ الْأَوَّلِ صَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَهُ، وَاللَّذَيْنِ يَلِيَانِهِ وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ جَمْعِ مِلْكِهِ فِي الْقِسْمَةِ، ثُمَّ قَالَ اخْرُجْ عَلَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 253 السهم الرابع، فَإِنْ خَرَجَ اسْمُ صَاحِبِ الثُّلُثِ أَخَذَهُ وَالسَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ الْخَامِسُ، وَبَقِيَ السَّهْمُ السَّادِسُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فِيمَا قل من السهام وكثر. (فصل: [صفة القرعة] ) . (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقُرْعَةِ: فَهُوَ أَنْ تُؤْخَذَ رِقَاعٌ مُتَسَاوِيَةُ الْأَجْزَاءِ، وَيُكْتَبَ فِيهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى السِّهَامِ أَوْ مِنَ السِّهَامِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ يَجْعَلُهَا فِي بَنَادِقَ من طين متساوية الوزن وتلس عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهَا بِأَثَرٍ وَتُجَفَّفُ وَيُسْتَدْعَى لَهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ عَمَلَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهَا، وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ عَبْدًا لَا يَفْطَنُ لِحِيلَةٍ كَانَ أَوْلَى، وَتُوضَعُ فِي حِجْرِهِ، وَتُغَطَّى ثُمَّ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ مَا أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنِ اسْمٍ أَوْ سَهْمٍ. فَهَذَا أَحْوَطُ مَا يَكُونُ مِنَ الْقُرْعَةِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ التُّهْمَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْقُرْعَةِ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . وقَوْله تَعَالَى فِي يُونُسَ {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 140] . فَإِنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الْقُرْعَةِ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ بِحَصًى أَوْ أَقْلَامٍ جَازَ. قَدْ حَكَى الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ وَكَتَبَ عَلَى إِحْدَاهَا " للَّه " وَكَانَتِ السُّهْمَانُ يَوْمَئِذٍ نَوًى ". وَلَمَّا صَالَحَ بَنِي ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ عَلَى الْكَتِيبَةِ وَالنَّطَاةِ جَزَّأَهُمَا خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ فَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ جُزْءًا فَجَعَلَ خَمْسَ بَعَرَاتٍ لِلسِّهَامِ الْخَمْسَةِ وَأَعْلَمَ أَحَدَهَا بِمَا جَعَلَهُ لِلَّهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَهْمَكَ فِي الْكَتِيبَةِ فَخَرَجَ سَهْمُ اللَّهِ عَلَى الْكَتِيبَةِ. لَكِنْ مَا حَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْقُرْعَةِ يَكُونُ أَخَفَّ حَالًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَيْفِ أَبْعَدَ وَلِلتُّهْمَةِ أَنْفَى. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ، كَذَلِكَ حُكْمُهَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ كَانَ حُكْمُهَا أَخَفَّ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَوَجَّهُ إليه التهمة كان حكمها أغلظ. (فصل: [لزوم القسمة] ) فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَاسِمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَدَبَهُ الْحَاكِمُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 254 لِلْقِسْمَةِ أَوْ قَدْ تَرَاضَى بِهِ الشُّرَكَاءُ فِيهَا. فَإِنْ نَدْبَهُ الْحَاكِمُ لَهَا تَمَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا خَرَجَ لَهُ بِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ حُكْمٌ مِنْهُ بِهَا، فَنَفَّذَ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى خِيَارِهِمْ. وَإِنْ تَرَاضَى بِهِ الشُّرَكَاءُ فِيهَا فَفِيمَا تَلْزَمُهُ الْقِسْمَةُ بِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الخصمين وإذا تَرَاضَيَا بِحُكْمِ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ، فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُكْمَهُ لَازِمٌ لَهُمَا، وَنَافِذٌ عَلَيْهِمَا كَالْحَاكِمِ ثَبَتَتِ الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهَا الْحَاكِمُ. وَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِمَا لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ تَتِمَّ الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ إلا أن يتراضوا بها بعد القرعة. ( [قِسْمَةُ مَا اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَقِسْمَةُ التعديل والرد] ) . (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِذَا كَانَ فِي الْقَسْمِ رَدٌّ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَ سَهْمِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ وَإِذَا عَلِمَهُ كَمَا يَعْلَمُ الْبُيُوعَ الَّتِي تَجُوزُ أَجزتهُ لَا بِالْقُرْعَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَجْزَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا، وَذَكَرْنَا كَيْفَ تُقَسَّمُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةَ الْأَجْزَاءِ، فَيَكُونَ بَعْضُهَا عَامِرًا، وَبَعْضُهَا خَرَابًا، أَوْ بَعْضُهَا قَوِيًّا، وَبَعْضُهَا ضَعِيفًا، أَوْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا شَجَرٌ وَبِنَاءٌ، وَلَيْسَ فِي الْبَاقِي شَجَرٌ وَلَا بِنَاءٌ أَوْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا شَجَرٌ بِلَا بِنَاءٍ وَفِي الْبَاقِي بِنَاءٌ بِلَا شَجَرٍ أَوْ يَكُونَ عَلَى بَعْضِهَا مَسِيلُ مَاءٍ، أَوْ طَرِيق " سَابِل "، وَلَيْسَ عَلَى الْبَاقِي طَرِيقٌ وَلَا مَسِيلٌ، إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنِ اخْتِلَافِ أَجْزَائِهَا بِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ تَسَاوِي الشَّرِيكَيْنِ بِالْقِسْمَةِ فِي جَيِّدِهِ وَرَدِيئِهِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْجَيِّدُ فِي مُقَدَّمِهَا وَالرَّدِيءُ فِي مُؤَخَّرِهَا، وَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ صَارَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مِثْلَ مَا صَارَ لِصَاحِبِهِ مِنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، فَهَذِهِ تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَتَصِيرُ فِي الْقِسْمَةِ كَالْمُتَسَاوِيَةِ الْأَجْزَاءِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 255 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ لِأَنَّ الْعِمَارَةَ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، أَوْ لِأَنَّ الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَقِسْمَةُ مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ عَلَى أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُقَسَّمَ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ بِالْقِيمَةِ عَلَى زِيَادَةِ الذَّرْعِ: مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ ثَلَاثِينَ جَرِيبًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ وَتَكُونُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ مِنْ جَيِّدِهَا بِقَيِّمَةِ عِشْرِينَ جَرِيبًا مِنْ رَدِيئِهَا، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى فَضْلِ الذَّرْعِ فَيُجْعَلُ أَحَدُ السَّهْمَيْنِ عشرة أجرته، لِفَضْلِ جَوْدَتِهِ، وَالسَّهْمُ الْآخَرُ عِشْرِينَ جَرِيبًا، لِنَقْصِ رَدَاءَتِهِ. فَفِي دُخُولِ الْإِجْبَارِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ التَّسَاوِي فِي الذَّرْعِ وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّرَاضِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَاخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّهُ تَدَخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ لِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي التَّعْدِيلِ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاسِمُ مِنْ أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَيْنِ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ عَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الْأَجْرِبَةِ ثُلُثَهَا، وَعَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ ثلثاها لِتَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَأْخُوذِ بِالْقِسْمَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُقَسَّمَ قِسْمَةَ رَدٍّ مَعَ التَّسَاوِي فِي الذَّرْعِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ فِي جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَقْسِمُ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَجْعَلُ الشَّجَرَ وَالْبِنَاءَ قِيمَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَجَبَ عَلَى مَنْ صَارَ لَهُ جَانِبُ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَدْفَعُهَا إِلَى صَاحِبِهِ. فَهَذِهِ الْقِسْمَةُ، قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ، لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ؛ لِأَنَّ دَخْلَ الرَّدِّ بِالْعِوَضِ يَجْعَلُهَا بَيْعًا مَحْضًا، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ إِجْبَارٌ. وَلَهُمَا فِي هذه القسمة أربعة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَيَتَّفِقَا عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيَرُدُّ، وَمَنْ يَأْخُذُ الْأَدْنَى وَيَسْتَرِدُّ، فَقَدْ تَمَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمُرَاضَاةِ بَعْدَ تَلَفُّظِهِمَا بِالتَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلا باللفظ ويكون تلفظهما بالرضى جَارِيًّا مَجْرَى الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ، وَلَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا وَإِنْ شَرَطَا فِي حَالِ الرِّضَا خِيَارَ ثَلَاثٍ كَانَ لَهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الرَّدُّ فِيهَا قَلِيلًا صَحَّتْ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بَطَلَتْ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 256 وَهِيَ عِنْدَنَا مَعَ قَلِيلِ الرَّدِّ وَكَثِيرِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّرَاضِي وَجَارِيَةٌ مَجْرَى الْبَيْعِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَعْلَى وَيَتَزَايَدَانِ أَوْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَدْنَى وَيَتَنَاقَصَانِ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيَرُدُّ وَمَنْ يَأْخُذُ الْأَدْنَى وَيَسْتَرِدُّ، فَتَتِمُّ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمُرَاضَاةِ، وَيَبْطُلُ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْوِيمِ الْقَاسِمِ، بِمَا اسْتَقَرَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا أَوِ النُّقْصَانِ فِيهَا ثُمَّ الْخِيَارُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَنَازَعَا فِي طَلَبِ الْأَعْلَى، فَيَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ يَتَنَازَعَا فِي أَخْذِ الْأَدْنَى، فَيَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَلَا يَتَرَاضَيَا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ، فَلَا إِجْبَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُقْطَعُ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا وَتَصِيرُ الْأَرْضُ بَاقِيَةً بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ كَالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ الْقَسْمُ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَنَازَعَا وَيَتَرَاضَيَا بِالْقُرْعَةِ. فَفِي جَوَازِ الْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ إِقْرَاعٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقِسْمَةِ وَاعْتِبَارًا بِالْمُرَاضَاةِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ وَإِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مِنْ قِبَلِهِمَا ثَبَتَ لَهُمَا بَعْدَ الْقُرْعَةِ خِيَارٌ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ مُعْتَبَرٌ بِالْفَوْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِيَارُ مَجْلِسٍ يُعْتَبَرُ بِالِافْتِرَاقِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مِنْ ضُرُوبِ الْقِسْمَةِ أَنْ تُقَسَّمَ الْأَرْضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَكُونُ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي هَذَا، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهِ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ دَخَلَ فِي الْأَرْضِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ مَا كَانَا مُقِيمَيْنِ عَلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ وَقُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا جَبْرًا بِالْقُرْعَةِ. وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا عَنِ الِاتِّفَاقِ زَالَتْ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَكَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى التَّرَاضِي. والضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَسَّمَ بَيَاضُ الْأَرْضِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَيَكُونُ مَا فِيهِ الشَّجَرُ وَالْبِنَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ. فَفِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَرْضِ إِذَا تَمَيَّزَ بِنَاؤُهَا وَشَجَرُهَا عَنْ بَيَاضِهَا وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 257 أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّصَالِهَا فَعَلَى هَذَا لَا تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي بَيَاضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا فِي شَجَرِهَا وَنَبَاتِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ شَجَرِهَا وَبِنَائِهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ حُكْمِ بَيَاضِهَا فَصَارَتَا بِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَالْأَرْضَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ فَتَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الْبَيَاضِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَلَا تَدْخُلُهَا قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الشَّجَرَةِ وَالْبِنَاءِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مِمَّا تَصِحُّ فِيهَا قِسْمَةُ التَّعْدِيلُ وَقِسْمَةُ الرَّدِّ، فَدَعَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى قِسْمَةِ الرَّدِّ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ قِسْمَةَ التَّعْدِيلِ يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا الْإِجْبَارُ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَوَقَفَتْ عَلَى مُرَاضَاتِهِمَا بِإِحْدَاهُمَا مِنْ قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ أَوْ قِسْمَةِ الرَّدِّ. وَهَكَذَا قِسْمَةُ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ تَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضُّرُوبِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَى إِجْبَارٍ أَوْ تَرَاضٍ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّهْمَيْنِ طَرِيقٌ مُفْرَدٌ يَخْتَصُّ بِهِ انْقَسَمَتِ الْقَيِّمَةُ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ إِلَّا أَنْ يُحَازَ مِنَ الْمِلْكِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لَهُمَا وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لَهُمَا وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لَهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُقَسَّمُ بَعْدَهُ مَا عَدَاهُ. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ جُعِلَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ ". وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى عُرْفِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْبِلَادَ تَخْتَلِفُ طُرُقُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِيمَا يَدْخُلُ إِلَيْهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَقَدْ يَكْفِي فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا، وَقَدْ لَا يَكْفِي فِي بَعْضِهَا إِلَّا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَهَذَا فِي الطُّرُقِ الْعَامَّةِ. فَأَمَّا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَاقِ الْخَاصِّ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرِيكَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ إِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِهِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ سَعَتُهُ بِقَدْرِ مَا تَدْخُلُهُ الْحُمُولَةُ، وَلَا يَضِيقُ بِهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِحَمْلِ مِثْلِهِ إِلَيْهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ بِسَعَةِ الْبَابِ. لِأَنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي سَعَةِ الْبَابِ، كَمَا اخْتَلَفَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ. وَلِأَنَّ طَرِيقَ الْبَابِ فِي الْعُرْفِ أَوْسَعُ مِنَ الباب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 258 (قسمة العلو والسفل) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لِأَحَدِهِمَا سُفْلًا وَلِلْآخَرِ علوه إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُفْلُهُ وَعُلُوُّهُ لِوَاحِدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَهُمَا، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّفْلَ لِأَحَدِهِمَا وَالْعُلُوَّ لِلْآخَرِ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إِجْبَارٌ؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ، وَمَنْ مَلَكَ السُّفْلَ مَلَكَ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْهَوَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ وَيَبْنِيَ فِي الْهَوَاءِ مَا شَاءَ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ تَمْنَعُ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ حَقِّهِ فِي الْهَوَاءِ، وَتَمْنَعُ صَاحِبَ الْعُلُوِّ مِنْ حَقِّهِ فِي الْأَرْضِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا قِسْمَةُ إِجْبَارٍ. فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، جَازَتْ بِالتَّرَاضِي. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا. فَلَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى قِسْمَةِ السُّفْلِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَقِسْمَةِ الْعُلُوِّ عَلَى انْفِرَادِهِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ وَقُسِّمَ الْعُلُوُّ مَعَ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَحْصُلَ عُلُوُّ السُّفْلِ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا لِغَيْرِهِ وَسُفْلُ الْعُلُوِّ الَّذِي لِأَحَدِهِمَا لِغَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ قِسْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَبْرًا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ فيجوز بتراضيهما. (قسمة الدور) (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ دَارَانِ مَحُوزَتَانِ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِجْبَارٌ لِأَنَّ كُلَّ دَارٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَذَا لَمْ تَكُنْ قِسْمَةً وَكَانَتْ بَيْعًا مَحْضًا يَبِيعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ مِنْ إِحْدَى الدَّارَيْنِ بِحَقِّ شَرِيكِهِ مِنَ الدر الْأُخْرَى. فَيُكْتَبُ فِيهِ كِتَابُ ابْتِيَاعٍ وَلَا يُكْتَبُ فيه كتاب قسمة ويكون بيع مناقلة. (قسمة الأرض المزروعة) . (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ أَرْضٌ مَزْرُوعَةٌ فطلب أحدهما القسمة، فله ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ لِيَكُونَ فِيهَا الزَّرْعُ بَاقِيًا عَلَى الشَّرِكَةِ، فَيَصِحُّ الْإِجْبَارُ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَحْدَهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الزَّرْعِ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 259 بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ مُسْتَوْدَعٌ فِيهَا إِلَى مُدَّةِ تَكَامُلِهِ، وَالْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ مُسْتَدَامٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الزَّرْعِ وَحْدَهُ فَلَا إِجْبَارَ فِيهِ، لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. فَإِنْ تَرَاضَيَا وَكَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا لِأَنَّهُ بَقْلٌ، أَوْ قُطْنٌ، أَوْ كَتَّانٌ، جَازَ اقْتِسَامُهُمَا بِهِ عَنْ مُرَاضَاتِهِمَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ جَازَ إِنْ كَانَ فيصلا وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ بَذْرَا أَوْ سُنْبُلًا مُشْتَدًّا لِدُخُولِ الرِّبَا فِيهِ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَطْلُبَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الزَّرْعِ فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فَصِيلًا صَحَّ فِيهَا قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَتَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَكَانَ الزَّرْعُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، كَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَتَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ إِنْ كَانَ مَعَ الْأَرْضِ تَبَعًا. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَذْرًا أَوْ حَبًّا مُشْتَدًّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِجْبَارُ وَلَا قِسْمَةُ التَّرَاضِي خَوْفَ الرِّبَا، وَإِنْ قِيلَ الْقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ صَحَّ فِيهِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَقِسْمَةُ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ. ( [إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُقَسِّمِينَ غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَإِذَا ادَعَى بَعْضُهُمْ غَلَطًا كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ جَاءَ بِهَا رَدَّ الْقَسْمَ عَنْهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ دَارًا أَوْ أَرْضًا وَحَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَهُ بِالْقِسْمَةِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ غَلَطًا جَرَى عَلَيْهِ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الْغَلَطِ بِالذَّرْعِ إِنْ كَانَتْ قِسْمَةُ إِجْبَارٍ أَوْ تَعْدِيلٍ أَوْ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَتْ قِسْمَةَ رَدٍّ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الدَّعْوَى الْمَجْهُولَةَ مَرْدُودَةٌ. فَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَأُحْضِرَ شُرَكَاؤُهُ. فَإِنْ صَدَّقُوهُ عَلَى الْغَلَطِ، نَقَضَ الْقِسْمَةَ وَاسْتَأْنَفَهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ أَكْذَبُوهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّها عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ. وَلَهُ أَحْلَافُهُمْ، لِجَوَازِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَلَطِ. فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا أُمْضِيَتِ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ نَكَلُوا جَمِيعًا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ إِنْ حلف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 260 وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ، رُدَّتْ عَلَيْهِ يَمِينُ النَّاكِلِ، وَبَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِ إِذَا حَلَفَ. وَأُمْضِيَتْ فِي حَقِّ مَنْ حَلَفَ. فَإِنْ أَرَادَ مُدَّعِي الْغَلَطِ عِنْدَ تَكْذِيبِهِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةُ مُرَاضَاةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الشُّرَكَاءُ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ بِالْغَلَطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ بِأَقَلِّ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةً تَفَرَّدَ القاسم بها عن إِجْبَارٍ أَوْ مُرَاضَاةٍ بِاقْتِرَاعٍ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْغَلَطِ، وَحُكِمَ بِإِبْطَالِ الْقِسْمَةِ وَاسْتُؤْنِفَتْ عَلَى الصِّحَّةِ. ( [تَنَازُعُ الشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَنَازَعَ الشَّرِيكَانِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ اقْتَسَمَاهَا، فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمِهِ، وَعَدِمَا الْبَيِّنَةَ تَحَالَفَا عَلَيْهِ وَنُقِضَتِ الْقِسْمَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ مَعَ يَمِينِهِ. وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ. وَلَوْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا فِي سَهْمِهِ، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْقِسْمَةِ بِهِ، كَمَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [اسْتِحْقَاقُ الْمَقْسُومِ] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي: " وإذا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَقْسُومِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهُمَا: فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ اقْتَسَمَهَا شَرِيكَانِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، فَلِلْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا فِي الْمَقْسُومِ، فَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي أَحَدِ السَّهْمَيْنِ، بَطَلَتْ بِهِ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ لِمَنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي سَهْمِ شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ مِثْلِهِ، فَلَمْ تُفِدِ الْقِسْمَةُ مَا قُصِدَ بِهَا مِنَ الْإِحَازَةِ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ. وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ وَاقِعًا فِي السَّهْمَيْنِ مَعًا نُظِرَ فَإِنْ تَفَاضَلَ الْمُسْتَحَقُّ فِي السَّهْمَيْنِ بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّاجِعِ. وَإِنْ تَسَاوَى الْمُسْتَحَقُّ فِي السَّهْمَيْنِ مَعًا لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْقِسْمَةُ، وَأُمْضِيَتْ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَرَاجُعَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مُشَاعًا فِي الْجَمِيعِ كَاسْتِحْقَاقِ ثُلُثِهَا مُشَاعًا، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ فِي الثُّلُثِ الْمُسْتَحَقِّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 261 وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ فِيمَا عَدَاهُ: فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ. وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، إِلَى بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ فِي الْجَمِيعِ قُولًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ أَوْ إِفْرَازُ حَقٍّ. لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ لَمْ يُقَاسِمْهُمَا، فَصَارَ كَأَرْضٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ غَابَ أَحَدُهُمْ، فَاقْتَسَمَهَا الْحَاضِرَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ الْغَائِبِ مُشَاعَةً فِي سَهْمِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَاطِلَةً فِي الْجَمِيعِ كَذَلِكَ فِي السَّهْمِ الْمُسْتَحَقِّ. وَإِنَّمَا بَطَلَتْ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ الْمُسْتَحَقَّ وَسَهْمَ الْغَائِبِ كَانَ مُشَاعًا فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحَازَتِهِ مُجْتَمِعًا بِالْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي مِلْكَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ بِالْقِسْمَةِ. ( [ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " أَوْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ فَبِيعَ بَعْضُهَا انْتَقَضَ الْقَسْمُ وَيُقَالُ لَهُمْ فِي الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ إِنْ تَطَوَّعْتُمْ أَنْ تُعْطُوا أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَفَذْنَا القسم بينكم وإلا القضاء عَلَيْكُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُوُرَتُهَا: فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ اقْتَسَمَهَا وَارِثَانِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْوَرَثَةِ لِمِلْكٍ مِنَ التَّرِكَةِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مُرْتَهَنَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَالرَّهْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنَ التَّرِكَةِ لِجَوَازِ قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِهَا. وَخَالَفَ الرَّهْنَ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ عَنِ اخْتِيَارٍ، وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَفِي بَيْعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، قَوْلَانِ كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْجَانِي وَالْمَالِ إذا وجبت في الزَّكَاةُ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِوُجُوبِهِ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَبَطَلَ فِي الرَّهْنِ لِوُجُوبِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِنَاءً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا بَيْعٌ فَفِي بُطْلَانِهَا قَوْلَانِ كَالْبَيْعِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 262 فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ قُضِيَ الدَّيْنُ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَتِ الْقِسْمَةُ بَعْدَ قَضَائِهِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ: إِنْ قَضَيْتُمُ الدَّيْنَ أُمْضِيَتِ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ لَمْ يَقْضُوا وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ التَّرِكَةِ غَيْرُ الْمَقْسُومِ، نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَتِ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ لِاسْتِيفَاءِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقًا لِصَفْقَةِ الْمَبِيعِ وَتَفْرِيقَ عينه. (ظهور وصية أوصى بها الميت) (فَصْلٌ) : وَلَوْ ظَهَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ مَا اسْتَحَقَّ مِنَ السَّهْمِ الْمُعَيَّنِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِسَهْمٍ شَائِعٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ الْمُسْتَحِقِّ لِسَهْمٍ شَائِعٍ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ مُطْلَقٍ فِي التَّرِكَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهَا فِي الْقِسْمَةِ كَحُكْمِ الدَّيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فِي التَّرِكَةِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمُعَيَّنٍ فِي التَّرِكَةِ غَيْرَ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ لِتَوَجُّهِ الْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. ( [قِسْمَةُ الأجناس المختلفة] ) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يُقْسَمُ صِنْفٌ مِنَ الْمَالِ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا عِنَبٌ مَعَ نَخْلٍ وَلَا يَصِحُّ بَعْلٌ مَضْمُومٌ إِلَى عَيْنٍ وَلَا عَيْنٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى بَعْلٍ وَلَا بَعْلٌ إِلَى نَخْلٍ يُشْرَبُ بِنَهْرٍ مَأْمُونِ الِانْقِطَاعِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، إِذَا كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ خُلْطَةٍ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَهُوَ ضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ، وَغَيْرُ مَنْقُولٍ. فَأَمَّا الْمَنْقُولُ: فَكَالْحَيَوَانِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا فَكَانَ بَعْضُ الْمَالِ حَيَوَانًا مُخْتَلِفَ الْأَجْنَاسِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَبَعْضُهُ مَتَاعًا مُخْتَلِفَ الْأَجْنَاسِ كَالْعِطْرِ بَعْضُهُ مِسْكٌ وَبَعْضُهُ عَنْبَرٌ وَبَعْضُهُ كَافُورٌ. كَالْحُبُوبِ بَعْضُهُ حِنْطَةٌ وَبَعْضُهُ شَعِيرٌ وَبَعْضُهُ أُرْزٌ وَجَبَ أَنْ يُقْسَمَ كُلُّ جِنْسٍ بَيْنَهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 263 فَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمْ إِلَى ضَمِّ الْأَجْنَاسِ وَأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْهَا سَهْمًا مُعَدَّلًا، لِيَأْخُذَ أَحَدُهُمُ الْحِنْطَةَ، وَالْآخَرُ الشَّعِيرَ، وَالْآخَرُ الْإِبِلَ، وَالْآخَرُ الْغَنَمَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ إِجْبَارٌ، إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي كُلِّ جِنْسٍ. فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ إِجْبَارٌ. فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ كَالْمُرَاضَاةِ عَلَى الْبَيْعِ. فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْوَاعٌ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ مَنَافِعُهَا بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا كَالْغَنَمِ الَّتِي بَعْضُهَا ضَأْنٌ وَبَعْضُهَا مِعْزَى فَيَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا كَاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا فَيُقْسَمُ كُلُّ نَوْعٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا تَخْتَلِفُ مَنَافِعُ أَنْوَاعِهِ كَالْحِنْطَةِ الَّتِي بَعْضُهَا عِرَاقِيَّةٌ وَبَعْضُهَا شَامِيَّةٌ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ قِيمَةُ أَنْوَاعِهِ، فَيَصِيرُ كُلُّ نوع كالجنس بقسم عَلَى انْفِرَادِهِ، كَالْأَجْنَاسِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَمَاثَلَ قيمة أنواعه، ولا تتفاضل فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَغْلِبُ حُكْمُ الْجِنْسِ لِتَمَاثُلِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ فِي إِفْرَادِ كُلِّ واحد بنوع. والوجه الثاني: أن يَغْلِبُ حُكْمُ النَّوْعِ لِامْتِيَازِهِ، فَيُقْسَمُ كُلُّ نَوْعٍ عَلَى انْفِرَادِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْقُولِ فَضَرْبَانِ: عَقَارٌ وَضِيَاعٌ. فَأَمَّا الْعَقَارُ الْمَسْكُونُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ إِذَا تَمَيَّزَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ دَارَانِ فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ دَارٍ لِأَحَدِهِمَا فَلَا إِجْبَارَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ تَمَاثَلَتْ أَثْمَانُهَا أَوْ تَفَاضَلَتِ اتصلت أو تباعدت وَالْإِجْبَارُ أَنْ تُقْسَمَ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ تَرَاضَى الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الدَّارَيْنِ لِأَحَدِهِمَا وَالْأُخْرَى لِلْآخَرِ جَازَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ مُنَاقَلَةً تَقِفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْبَارِ وَهِيَ كَالْبَيْعِ الْمَحْضِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ مَعَ تَمْيِيزِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةٌ ذَاتُ مَسَاكِنَ، بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَيَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى أَنْ يَقْسِمَ جَمِيعَ الْقَرْيَةِ، وَيَدْعُو الْآخَرُ إِلَى أَنْ يُقَسِّمَ كُلَّ مَسْكَنٍ مِنْهَا، فَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْقَرْيَةِ، فَيُقَسَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 264 نِصْفُهَا، بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاكِنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ حَاوِيَةٌ لِمَسَاكِنِهَا كَالدَّارِ الْجَامِعَةِ لِبُيُوتِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْبَارُ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ عَلَى بَيْتٍ مِنْهَا، كَذَلِكَ الْقَرْيَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا عَضَائِدُ مُتَّصِلَةٌ، أَوْ دَكَاكِينُ مُتَضَايِقَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ فَفِي قِسْمَةِ كُلِّ عِضَادَةٍ وَكُلِّ دُكَّانٍ تَضْيِيقٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَالدُّورِ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَا تَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِيهَا إِلَّا فِي كُلِّ عِضَادَةٍ وَكُلِّ دُكَّانٍ، لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِطَرِيقِهِ وَسُكْنَاهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَكُونُ كَالْقَرْيَةِ، تَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي جَمِيعِهَا نِصْفَيْنِ، وَلَا يُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ وَاخْتِيَارٍ وَتَصِيرُ كَالدَّارِ ذَاتِ الْبُيُوتِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضِّيَاعُ الْمَزْرُوعَةُ وَالْمَغْرُوسَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَتَتَمَاثَلَ فِي الثَّمَنِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُؤْنَةِ، فَيَضُمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقَعُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى جَمِيعِهَا كَالضَّيْعَةِ الْوَاحِدَةِ، كَضِيَاعِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَفْتَرِقَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَا يَتَّصِلَ، فَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ ضَيْعَةٍ مِنْهَا، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ ضَيْعَةٍ إِذَا انْفَرَدَتْ حُكْمُهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: تَتَّصِلُ الضِّيَاعُ وَتَخْتَلِفُ إِمَّا فِي مَنْفَعَةٍ، فَيَكُونُ بَعْضُهَا شَجَرًا وَبَعْضُهَا مُزْدَرَعًا أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا كَرْمًا وَبَعْضُهَا نَخْلًا أَوْ تَخْتَلِفُ فِي مُؤْنَةٍ فَيَكُونُ بَعْضُهَا يَشْرَبُ سَيْحًا مِنْ نهر أو عين وبعضها يشرب بنضج أَوْ غَرْبٍ أَوْ تَخْتَلِفُ فِي الثَّمَنِ لِنَفَاسَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا إِنَّ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ ضَيْعَةٍ مِنْهَا وَلَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا اتَّصَلَتْ جُمِعَتْ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ مَعَ اخْتِلَافِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ تَجَانَسَتْ جُمِعَتْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ لَمْ تُجْمَعْ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَثْمَانَهَا مُتَبَايِنَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنَافِعَهَا مختلفة. (مسألة) : قال الشافعي: " وَتُقْسَمُ الْأَرَضُونَ وَالثِّيَابُ وَالطَّعَامُ وَكُلُّ مَا احْتَمَلَ القسم ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 265 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِسْمَةِ شَيْئَانِ: أحدهما: أن يمتنع بها من سواء المشركة. وَالثَّانِي: كَمَالُ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، فَصَارَ الْمَقْصُودُ بِهَا دَفْعُ الضَّرَرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهَا إِجْبَارٌ بِدُخُولِ الضَّرَرِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ قِسْمَةِ الضِّرَارِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُشْتَرَكَةَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَقِسْمٌ تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الِاخْتِيَارِ، وَقِسْمٌ يَنْتَفِي عَنْهُ الْقَسْمُ جَبْرًا أَوِ اخْتِيَارًا. فَمِمَّا يَدْخُلُهُ الْقَسْمُ الضِّيَاعُ وَالْعَقَارُ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْدِيلٌ وَلَا رَدٌّ دَخَلَهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ مِنْ قِسْمَةٍ جَبْرًا إِذَا تَمَاثَلَ وَتَقَارَبَ فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِمَا يَتَحَقَّقُ تَمَاثُلُهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ رَدٌّ، فَلَا تَدْخُلُهُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى قِسْمَةِ الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ تَعْدِيلٌ، فَفِي دُخُولِ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا. فَأَمَّا قِسْمَةُ مَا كَانَ مِنْهُ وَقْفًا مُحَرَّمًا، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِمِلْكٍ لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ أَهْلِهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَنَافِعِهِ وَإِنِ اخْتَلَطَ بِمِلْكٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ، جَازَ قَسْمُهُ جَبْرًا. وَإِنْ قِيلَ: إِنِ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَجُوزُ جَبْرًا، وَلَا اخْتِيَارًا، تَغْلِيبًا لِلْوَقْفِ. وَالثَّانِي: تَجُوزُ جَبْرًا وَاخْتِيَارًا، تَغْلِيبًا لِلْمِلْكِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْبَنَّاءُ وَالشَّجَرُ دُونَ أَرْضِهِ فَلَا يجوز إجبارا ويجوز اختيارا. (قسم الحيوان) . (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قِسْمُ الْحَيَوَانِ كَالْعَبِيدِ، وَالْمَوَاشِي، فَإِنْ كَانَ رَأْسًا وَاحِدًا، لَمْ تَدْخُلْهُ الْقِسْمَةُ إِجْبَارًا وَلَا اخْتِيَارًا. وَإِنْ كَانَ عَدَدًا، فَإِنْ تَفَاضَلُوا لَمْ يُقَسِّمُوا إِجْبَارًا، وَقَسَّمُوا اخْتِيَارًا. وَإِنْ تَمَاثَلُوا فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، يُقَسَّمُ إِجْبَارًا لتماثلها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 266 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانِ إِنَّهَا لَا تُقَسَّمُ إِجْبَارًا وَتُقَسَّمُ اخْتِيَارًا لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ، حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً فَجَعَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ دَلِيلًا عَلَى قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ، وَحَمَلَهُ ابْنُ خَيْرَانَ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْعِتْقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُرِّيَّةِ. وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ قِسْمَةَ الْكِلَابِ مَعَ الْغَنَمِ كَمَا أَجَازَ الْوَصِيَّةَ بِهَا. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ قَسْمَهَا إِجْبَارًا وَجْهًا وَاحِدًا لِلنَّصِّ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْقِيمَةِ تَجْرِي مَجْرَى ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ إِجَازَةَ قَسْمِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَجَعَلَ هَذَا النَّصَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَصَحُّهُمَا. وَعَلَى قِيَاسِ الْحَيَوَانِ يَكُونُ قَسْمُ الْآلَاتِ مِنَ الْخَشَبِ، كَالْأَوَانِي، وَالْأَبْوَابِ، وَالْأَسَاطِينِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تقسم إجبارا، وإن تماثلت ففي قسمها إجبارا وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيَوَانِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَسْمُ الثِّيَابِ إِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تُقَسَّمْ إِجْبَارًا، وَإِنْ تَمَاثَلَتْ فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ. فَأَمَّا قَسْمُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنِ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ نُقُوشِهِ وَأَلْوَانِهِ قُسِّمَ اخْتِيَارًا وَلَمْ يُقَسَّمْ إِجْبَارًا. وَإِنْ تَمَاثَلَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ نُظِرَ، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِقَسْمِهِ لَمْ يُقَسَّمْ إِجْبَارًا، وَقُسِّمَ اخْتِيَارًا، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ، فَفِي قَسْمِهِ إِجْبَارًا وَجْهَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَكُونُ قِسْمَةُ الْإِجْبَارِ فِي الْحَمَّامَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي قِسْمَةِ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ. قِيلَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ إِجْبَارَ قَسْمِهَا بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَالْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ قَسْمِ الدَّارَيْنِ، حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِي إِفْرَادِهَا إِجْبَارٌ، وَوَقَعَ فِي قسم الحمامين إجبار إن كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ تُقَسَّمَ إِجْبَارًا، فَلَمْ يَقَعْ فِي إِفْرَادِهِمَا إِجْبَارٌ، وَالْحَمَّامُ الْوَاحِدُ لَا يَقَعُ فِي قَسْمِهِ إِجْبَارٌ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ فِي إِفْرَادِهِمَا بِالْقِسْمَةِ إِذَا اجْتَمَعَا إِجْبَارٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَقَعُ فِي قَسْمِ الْحَمَّامَيْنِ إِجْبَارٌ، كَمَا لَمْ يقع في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 267 قَسْمِ الْوَاحِدِ إِجْبَارٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَمَّامَيْنِ وَالْحَيَوَانِ، إِنَّ بِنَاءَ الْحَمَّامِ مَنَعَ مِنْ قَسْمِ أَرْضِهِ، والحيوان أهل في نفسه. (قسم الطعام وغيره) (فصل) : وأما قسم الطَّعَامِ: فَكُلُّ مَطْعُومٍ طَعَامٌ، وَفِي الْمَطْعُومِ رِبًا، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَيَجُوزُ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ جَازَ قَسْمُهُ كَيْلًا وَوَزْنًا، وَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِيهِ قَبْلَ التَّقَابُضِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، وَجَبَ قَسْمُهُ كَيْلًا، وَلَمْ يَجُزْ قَسْمُهُ وَزْنًا؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ، وَوَجَبَ إِنْ تَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَتَدْخُلُ الْقُرْعَةُ فِي قَسْمِهِ إِجْبَارًا، وَلَا تَدْخُلُ فِي قَسْمِهِ اخْتِيَارًا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ ببعض، كرطب، وَالْعِنَبِ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ جَازَ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ بِالْخَرْصِ فِي نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ. وَالثَّانِي: بُطْلَانُهُ. وَأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ بِالْخَرْصِ فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّحْقِيقُ الْمَعْدُومُ فِي الْخَرْصِ، وَيُجَازُ بِالْخَرْصِ فِي قِسْمَةِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّرَاضِي، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ. فَأَمَّا إِنْ قِيلَ إِنِ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، لَمْ تَجُزْ قِسْمَةُ الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ كَمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، فَلَا يَدْخُلُهَا قَسْمُ الْإِجْبَارِ وَلَا قَسْمُ الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا قَسْمُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَيَجُوزُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا. وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي قَسْمِهَا تَقَابُضُهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 268 فَأَمَّا قِسْمَةُ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ جَازَ قَسْمُهُ إِجْبَارًا وَاخْتِيَارًا وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا أَوَانِيَ أَوْ سُيُوفًا فَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَفَاضَلَتْ قُسِّمَتِ اخْتِيَارًا وَلَمْ تُقَسَّمْ إِجْبَارًا. وَإِنْ تَشَابَهَتْ وَتَمَاثَلَتْ فَفِي قَسْمِهَا إِجْبَارًا وَجْهَانِ كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ. وَأَمَّا قِسْمَةُ الدَّيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَلَى غَرِيمٍ وَاحِدٍ أَوْ عَلَى غُرَمَاءَ. فَإِنْ كَانَ عَلَى غَرِيمٍ وَاحِدٍ فَقِسْمَتُهُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ فِيهِ. فَإِذَا فُسِخَتِ انْقَسَمَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تُفْسَخْ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِهِ مِنْهُ، وَكَانَ مَا قَبَضَهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ أَنْ قَبَضَهُ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ. وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ مِنْهُ جَازَ، وَكَانَ إِذْنُهُم لَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ فَسْخًا لِشَرِكَتِهِ. وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْمُكَاتِبِ إِذَا أَدَّى إِلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَالَ كِتَابَتِهِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بِثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَى الْمُكَاتِبِ، وَعَدَمِهِ فِي الْغَرِيمِ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى جَمَاعَةِ غُرَمَاءَ، فَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ، لَمْ يَجُزْ قَسْمُ ذَلِكَ إِجْبَارًا، لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ قَدْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الذِّمَمِ وَالْيَسَارِ. وَفِي جَوَازِ قَسْمِهِ اخْتِيَارًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازُ حَقٍّ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ. وَوَجْهُ صِحَّتِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَنْ يُحِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ بِحَقِّهِ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْهُ، وَيُحِيلُوهُ بِحُقُوقِهِمْ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي اخْتَارَهُ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بالحوالة دون القسمة. ( [إِبْرَازُ أَصْلِ الْحَقِّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا طلبوا أن يقسم دارا فِي أَيْدِيِهِمْ قُلْتُ ثَبَتُوا عَلَى أُصُولِ حُقُوقِكُمْ لِأَنِّي لَوْ قَسَّمْتُهَا بِقَوْلِكُمْ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَى حَاكِمٍ كَانَ شَبِيهًا أَنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 269 يَجْعَلَهَا لَكُمْ وَلَعَلَّهَا لِغَيْرِكُمْ وَقَدْ قِيلَ يُقَسِّمُ وَيَشْهَدُ أَنَّهُ قَسَّمَهَا عَلَى إِقْرَارِهِمْ وَلَا يُعْجِبُنِي لِمَا وَصَفْتُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَتْ دَارٌ وهي يَدَيْ رَجُلَيْنِ، تَرَافَعَا فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِيُقَسِّمَهَا بينهما فلهما فيها ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنَازِعَهُمَا فِيهَا غَيْرُهُمَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِهَا لَهُمَا بِأَيْدِيهِمَا أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمَا، مَعَ ظُهُورِ الْمُنَازِعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا لَهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ قَوْلُهُ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحَاكِمِ إِثْبَاتٌ لِمِلْكِهَا، وَالْيَدُ تُوجِبُ إِثْبَاتَ التَّصَرُّفِ، وَلَا تُوجِبُ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَنَازَعَاهَا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَيَدَّعِيَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكًا، فَيَجْعَلُهَا الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا بِأَيْدِيهِمَا وَأَيْمَانِهِمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمَا إِنْ سَأَلَاهُ قَسْمَهَا؛ لِأَنَّ فِي تَنَازُعِهِمَا إِقْرَارًا بِسُقُوطِ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ تَقَاسَمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا لَمْ يَمْنَعْهُمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا فِيهَا مُنَازِعٌ، وَهُمَا مُعْتَرِفَانِ بِالشَّرِكَةِ، وَيَتَنَازَعَانِ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا سَأَلَا الْحَاكِمَ قَسْمَهَا بَيْنَهُمَا، كَلَّفَهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِمَا لَهَا، فَإِنْ أَقَامَاهَا قَسَّمَهَا بَيْنَهُمَا إِجْبَارًا أَوِ اخْتِيَارًا، وَهُوَ غَايَةُ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْحَاكِمُ فِي إِثْبَاتِ الْأَمْلَاكِ. وَهَكَذَا لَوْ ظَهَرَ لَهُمَا مُنَازِعٌ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِمَا لَهَا، حَكَمَ لَهُمَا، بِالْمِلْكِ، وأوقع بينهما القسمة وبطل قول المنازع بالبين، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْطُلُ بِالنِّزَاعِ. وَإِنْ عَدِمَا الْبَيِّنَةَ، وَتَفَرَّدَا بِالْيَدِ، وَعَدِمَ الْمُنَازِعُ وَسَأَلَاهُ الْقِسْمَةَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَهُمَا بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَيَقُولُ لَهُمَا: إِنْ شِئْتُمَا فَاقْتَسِمَاهَا بَيْنَكُمَا، بِاخْتِيَارِكُمَا، وَلَا أَحْكُمُ بِقَسْمِهَا بَيْنَكُمَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِكُمَا، فَتَجْعَلَا حُكْمِي بِالْقِسْمَةِ حُجَّةً لَكُمَا فِي الْمِلْكِ، وَدَفْعِ مَنْ لَعَلَّهُ أَحَقُّ مِنْكُمَا بِهِ. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِابْتِيَاعِهِمَا الدَّارَ، لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ يَدَ الْبَائِعِ فِيهَا كَأَيْدِيهِمَا. وَهَكَذَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا صَارَتْ إِلَيْهِمَا عَنْ أَبِيهِمَا مِيرَاثًا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ لَأَنَّ يَدَ الْأَبِ فِيهَا كَأَيْدِيهِمَا. وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمِلْكُ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، كَالْعَرُوضِ وَالسِّلَعِ، أَوْ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ. ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَذْهَبِهِ قَوْلًا لِغَيْرِهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ يُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمَا ويذكر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 270 فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا، لِيَسْتَظْهِرَ بِذَلِكَ مِمَّا يَخَافُهُ مِنْ ظُهُورِ مُنَازِعٍ فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِمَّا يُنْقَلُ أَوْ لَا يُنْقَلُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. فَاخْتَلَفَ أصحابنا في تخريج هذا المذهب قولا ثانيا للشافعي. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِبْطَالِ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِهِ فَقَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الرَّدِّ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلًا لَهُ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَرْجِيحٌ لِلْأَوَّلِ وَلَيْسَ بِإِبْطَالٍ لِلثَّانِي، فَيَكُونُ لَهُ فِي قَسْمِهَا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقَسِّمُهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقَسِّمُهَا وَيَسْتَظْهِرُ بِمَا وَصَفْنَاهُ. فَإِذَا قَسَّمَهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتَظْهَرَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنَادِيَ هَلْ مِنْ مُنَازِعٍ؟ لِيَسْتَدِلَّ بِعَدَمِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْلِفَهُمَا أَنْ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمَا. وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْتِظْهَارٌ فَإِنْ قَسَّمَهَا مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِهِمَا جَازَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. فَإِنْ قَسَّمَهَا مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِهِمَا لَمْ يَجُزْ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ خَالَفَ بِتَفْصِيلِهِ مُطْلَقَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالَ: فِيمَا يُنْقَلُ مِنَ الْعَرُوضِ وَالسِّلَعِ أَنَّهُ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَفِيمَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ إِنِ ادَّعَيَاهُ مِيرَاثًا لَمْ يُقَسَّمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْمِيرَاثِ، وَإِنِ ادَّعَيَاهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَسَّمَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالِابْتِيَاعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْبَيِّنَةُ بِالْمِيرَاثِ وَالِابْتِيَاعِ بَيِّنَةٌ بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا هِيَ بَيِّنَةٌ بِسَبَبِ دُخُولِ الْيَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لهذا الفرق وجه الله أعلم بالصواب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 271 (باب ما على القاضي في الخصوم والشهود) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنْصِفَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْمَدْخَلِ عَلَيْهِ لِلْحُكْمِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى تَنْفُذَ حُجَّتُهُ وَلَا يَنْهَرُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُضَاةَ زعماء العدل والإنصات نُدِبُوا لِأَنْ يَتَنَاصَفَ بِهِمُ النَّاسُ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونُوا أَنْصَفَ النَّاسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فاحكم بين الناس بالحق} [الآية: 26] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بغير هدى من الله} [قصص: 50] . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ، وَإِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ ". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي موسى الاشعري، في عهده على قضاء البصر: " آسِ بَيْنَ النَّاسِ، فِي وَجْهِكَ، وَمَجْلِسِكَ، وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا ييأس ضعيف من عدلك ". (آداب القضاة) وللقضاءة آدَابٌ تَزِيدُ بِهَا هَيْبَتُهُمْ، وَتَقْوَى بِهَا رَهْبَتُهُمْ، وَالْهَيْبَةُ وَالرَّهْبَةُ فِي الْقُضَاةِ مِنْ قَوَاعِدِ نَظَرِهِمْ لِتَقُودَ الْخُصُومَ إِلَى التَّنَاصُفِ وَتَكُفَّهُمْ عَنِ التَّجَاحُدِ. وَآدَابُهُمْ، بَعْدَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَاتِهِمْ، تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: آدَابُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ: وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ، كَانَ أَبْلَغَ فِي هَيْبَتِهِ، وَأَزْيَدَ فِي رَهْبَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُمَازِجًا لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِمَا يَزِيدُ فِي هَيْبَتِهِ، مِنْ لِبَاسٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ، وَمَجْلِسٍ لَا يُسَاوِيهِ غَيْرُهُ فيه وسمت يزيد على غيره فيه. (ملبس القضاة) . فَأَمَّا اللِّبَاسُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِأَنْظَفِهَا مَلْبَسًا، وَيَخُصَّ يَوْمَ نَظَرِهِ بِأَفْخَرِ لِبَاسِهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 272 جِنْسًا، وَيَسْتَكْمِلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ، مِنَ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَأَنْ يَتَمَيَّزَ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ، مِنَ الْقَلَانِسِ وَالْعَمَائِمِ السُّودِ، وَالطَّيَالِسَةِ السُّودِ، فَقَدِ اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يَوْمَ دُخُولِ مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ، بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ تَمَيَّزَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَيَكُونُ نَظِيفَ الْجَسَدِ، يَأْخُذُ شَعْرَهُ وَتَقْلِيمَ ظُفُرِهِ، وَإِزَالَةَ الرَّائِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنْ بَدَنِهِ، وَيَسْتَعْمِلُ مِنَ الطِّيبِ مَا يخْفى لَوْنُهُ، وَتَظْهَرُ رَائِحَتُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ يَنْظُرُ فِيهِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَلَا يَسْتَعْمِلُ من الطيب ما نم. (مجلس القاضي) : وأما مجلسه في الحكم فيبغي أَنْ يَكُونَ فَسِيحًا لَا يَضِيقُ بِالْخُصُومِ وَلَا يَسْرَعُ فِيهِ الْمَلَلُ وَيَفْتَرِشُ بِسَاطًا، لَا يُزْرِي، وَلَا يطْغى، وَيَخْتَصُّ فِيهِ بِمَقْعَدٍ وَوِسَادَةٍ، لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِمَا. وَلْيَكُنْ جُلُوسُهُ فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ، لِيَعْرِفَهُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا فِيهِ الْقِبْلَةَ كَانَ أَفْضَلَ. وَيَفْتَتِحُ مَجْلِسَهُ بِرَكْعَتَيْنِ، يَدْعُو بَعْدَهُمَا بِالتَّوْفِيقِ، وَالتَّسْدِيدِ، ثُمَّ يَطْمَئِنُ فِي جُلُوسِهِ مُتَرَبِّعًا مُسْتَنِدًا أَوْ غَيْرَ مستند. (سمت القاضي) . وَأَمَّا سَمْتُهُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ غَاضَّ الطَّرْفِ، كَثِيرَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الْكَلَامِ، يَقْتَصِرُ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى سُؤَالٍ أَوْ جَوَابٍ، وَلَا يَرْفَعُ بِكَلَامِهِ صَوْتًا، إِلَّا لِزَجْرٍ وَتَأْدِيبٍ، وَلِيُقَلِّلَ الْحَرَكَةَ وَالْإِشَارَةَ، وَلَيَقِفْ مِنْ أَعْوَانِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يَسْتَدْعِي الْخُصُومَ إِلَيْهِ، وَيُرَتِّبُ مَقَاعِدَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِهِ، وَيَكُونُ مَهِيبًا مَأْمُونًا لَيَنْصَانَ به مجلسه، وتكمل به هيبته. (يوم جلوسه للحكم) . وَيَجْعَلُ يَوْمَ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ الْعَامِّ مَعْرُوفَ الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَأَوَّلُ النَّهَارِ أَوْلَى بِهِ مِنْ آخِرِهِ. وَالِاعْتِدَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ إِنْ أَقْنَعَا، وَلَا يَخْلُ يَوْمٌ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ. فَإِنْ وَرَدَتْ فِيمَا عَدَاهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ لَمْ يُؤَخِّرْهَا، إِنْ ضَرَّتْ وَكَانَ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي النَّظَرِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا بِنَفْسِهِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الرَّاحَةَ وَالدَّعَةَ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهِ مَلَلٌ وَلَا ضَجَرٌ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي آدَابُ الْقُضَاةِ مَعَ الشُّهُودِ: فَمِنْ آدَابِهِمْ مَعَهُمْ إِذَا تَمَيَّزُوا وَارْتَسَمُوا بِالشَّهَادَةِ، أَنْ يَكُونَ مَقْعَدُهُمْ فِي مَجْلِسِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِمْ بِالصِّيَانَةِ، وَلَا يُسَاوِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي مَقْعَدِهِ، وَلَا فِيمَا تَخَصَّصَ بِهِ مِنْ سَوَادِهِ، وَقَلَنْسُوَتِهِ، لِيَتَمَيَّزَ لِلْخُصُومِ الْقَاضِي من شهوده. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 273 وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الشُّهُودُ فِي مَلَابِسِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا لِمَنْ يُشْهِدُهُمْ وَيَسْتَشْهِدُهُمْ، كَمَا تَمَيَّزَ الْقَاضِي عَنْهُمْ. وَيُسَلِّمُوا عَلَى الْقَاضِي بِلَفْظِ الرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْقَاضِي مُجِيبًا، أَوْ مُبْتَدِئًا، عَلَى تَمَاثُلٍ وَتَفَاضُلٍ. وَيُقَدِّمُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ، بِحَسْبَ مَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ فَضْلٍ، بِخِلَافِ الْخُصُومِ، الَّذِي تَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا. فَإِنْ حَضَرُوهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، جَلَسُوا فِي مَقَاعِدِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَجْلِسِهِ، وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَطَعَ تَنَافُسَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ التَّنَافُسَ مُوهِنٌ لِلْعَدَالَةِ. فَإِنْ تَنَافَسُوا فِي التَّقَدُّمِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ كَالتَّمَانُعِ فِي أَدَائِهَا. وَإِنْ تَنَافَسُوا فِي التَّقَدُّمِ فِي الْجُلُوسِ لَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِمْ، مَا لَمْ يَتَنَابَذُوا. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَنْ يُحَادِثَهُمُ الْقَاضِي وَيُحَادِثُوهُ، وَيُؤَانِسَهُمْ وَيُؤَانِسُوهُ بِمَا لَا تَنْخَرِقُ بِهِ الْحِشْمَةُ، وَلَا تَزُولُ مَعَهُ الصِّيَانَةُ. فَأَمَّا حُضُورُهُمْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالِانْقِبَاضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ أَحَبَّ الْقَاضِي أَنْ يُفْرِدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ، فِي مَوْضِعٍ مُعْتَزِلٍ لِيَسْتَدْعُوا مِنْهُ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى، وَكَانُوا مِنْهُ بِمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ وَخُصَّ مِنْهُمْ شَاهِدَيْنِ بِمَجْلِسِهِ لِيَشْهَدَا مَا يَجْرِي مِنَ الدَّعَاوَى وَالْأَحْكَامِ. وَإِنْ أَحْضَرَهُمْ جَمِيعًا فِي مَجْلِسِهِ جَازَ، وَكَانَتْ مَيْمَنَةُ مَجْلِسِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ مَيْسَرَتِهِ، فَإِنِ افْتَرَقُوا فِي الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ جَازَ وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ أَوْلَى وَيَكُونُ جُلُوسُ الْكَاتِبِ فِي مَجْلِسِهِ بِحَيْثُ يُوَاجِهُ الْقَاضِي، وَيُشَاهِدُ الْخُصُومَ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ وَجُلُوسُهُ فِي الْمَيْسَرَةِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمَيْمَنَةِ، لِأَنَّ حَاجَةَ الْقَاضِي فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْهَا مَعَ الشُّهُودِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَى مَيْسَرَتِهِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ. وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ مُحَادَثَةِ الشُّهُودِ، وَيَكُفُّوا عَنْ مُحَادَثَتِهِ، وَيَكُونُ كَلَامُ الْقَاضِي لَهُمْ مَقْصُورًا عَلَى الْإِذْنِ فِي الشَّهَادَةِ، وَكَلَامُهُمْ لَهُ مَقْصُورًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَيَغُضُّوا عَنْهُ أَبْصَارَهُمْ. وَلَا يُلَقِّنُهُمْ شَهَادَةً، وَلَا يَتَعَنَّتُهُمْ فِيهَا، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهَا. فَإِنْ أَخْبَرُوهُ بِسَبَبِ التَّحَمُّلِ كَانَ أَوْلَى إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَضْلُ بَيَانٍ وَزِيَادَةُ اسْتِظْهَار، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 274 وَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى إِنْ لَمْ يفِدْ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمْ لِلشَّهَادَةِ، وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُمْ أَنْ يَبْدَأُوا بِهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِمْ لَهَا. وَالَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْمَشْهُودُ له القاضي في إحضاء شُهُودِهِ. فَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَحْضَرَهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ الْقَاضِي بِمَ تَشْهَدُونَ؟ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمُ اشْهَدُوا، فَيَكُونُ أَمْرًا. وَيَكُونُ الْقَاضِي فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلشَّاهِدَيْنِ فَيَتَقَدَّمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ الثَّانِي إِلَى إِذْنٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْدَأُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنٍ آخَرَ. وَلَوْ بَدَأَ الْأَوَّلُ فَاسْتَوْفَى الشَّهَادَةَ، وَقَالَ الثَّانِي: أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا لَفْظًا كَالْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ أداء وليس موضع حكاية. (فصل) : والقسم الثَّالِثُ آدَابُ الْقُضَاةِ مَعَ الْخُصُومِ أَنْ يَبْدَأَ بِالنَّظَرِ بَيْنَ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْخُصُومِ، وَلَا يُقَدِّمُ مَسْبُوقًا إِلَّا بِاخْتِيَارِ السَّابِقِ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَدْعِي أَحَدَهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، فَتَظْهَرُ بِهِ مُمَايَلَةُ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَضْعُفُ فِيهِ نَفْسُ الْمُتَأَخِّرِ، بَلْ يُسَوِّي فِي الْمَدْخَلِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ. فَإِذَا دَخَلَا عَلَيْهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فِي لَحْظِهِ وَلَفْظِهِ إِنْ أَقْبَلَ كَانَ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أَعْرَضَ كَانَ إِعْرَاضُهُ عَنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يقبل على أحدهما، ويعرض على الْآخَرِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ لَهُمَا، وَإِنْ أَمْسَكَ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدَهُمَا وَيُمْسِكَ عَنِ الْآخَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُمَايَلًا لِأَحَدِهِمَا. وَلَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْهُمَا وَهُمَا قَائِمَانِ، حَتَّى يَجْلِسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، تِجَاهَ وَجْهِهِ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي ". وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْخُصُومِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبْعَدَ مِنْ مَجَالِسِ غَيْرِهِمْ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الْخُصُومُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيُسَوِّي فِي الْمَجْلِسِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ، وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الدخول. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 275 وَفِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِيهِ، كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَدْخَلِ وَالْكَلَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدِّمُ الْمُسْلِمَ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الْكَافِرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَصَمَ مَعَ يَهُودِيٍّ وَجَدَ مَعَهُ دِرْعًا ضَاعَتْ مِنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، إِلَى شُرَيْحٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ، قَامَ شُرَيْحٌ عَنْ مَجْلِسِهِ، حَتَّى جَلَسَ فِيهِ عَلِيٌّ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالْيَهُودِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْلَا أَنَّ خَصْمِي ذِمِّيٌّ لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ لَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ ". وَلَوْلَا ضَعْفٌ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ لَقُدِّمَ الْمُسْلِمُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَجْهًا وَاحِدًا وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِ وَجْهٌ. فَإِنِ اخْتَلَفَ جُلُوسُ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَانَ الْقَاضِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُتَقَدِّمَ، أَوْ يُقَدِّمَ الْمُتَأَخِّرَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ قَدْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومِ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْآخَرُ، قَدَّمَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ قَدْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومِ، وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْآخَرُ أَخَّرَهُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُسَاوَيَا فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَقَاضَيَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مُحَاكَمَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَصَدَاهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ زَيْدٌ لِعُمَرَ: لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لَجِئْتُكَ، فَقَالَ عُمَرُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَأَخَذَ زَيْدٌ وِسَادَتَهُ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا عُمَرُ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ سَوِّ بَيْنَنَا فِي الْمَجْلِسِ فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظَرَ بَيْنَهُمَا فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ: لَوْ عَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْيَمِينِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَدْرِي زَيْدٌ مَا الْقَضَاءُ، وَمَا عَلَى عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ وَهَذِهِ سَمَاءٌ. وَمِنْ عَادَةِ جُلُوسِ الْخُصُومِ، أَنْ يَجْلِسُوا فِي التَّحَاكُمِ بُرُوكًا عَلَى الرُّكَبِ، لِأَنَّهُ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي التَّنَازُعِ، وَعُرْفُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ. فَإِنْ كَانَ التَّخَاصُمُ بَيْنَ النِّسَاءِ، جلس مُتَرَبِّعَاتٍ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُنَّ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، بَرَكَ الرَّجُلُ وَتَرَبَّعَتِ الْمَرْأَةُ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ لِجِنْسِهَا فَلَمْ يَصِرْ تَفْضِيلًا لها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 276 وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ، وَيَجْعَلَ لِلنِّسَاءِ وَقْتًا، وَلِلرِّجَالِ وَقْتًا. وَلَا يَحْضُرُ تَخَاصُمَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يسْتَغْنى عَنْ حُضُورِهِ. وَقَدِ اخْتِيرَ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ تَحَاكُمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَرْتِيبِ الْخُصُومِ خَصِيًّا. وَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ تَحَاكُمِ الرِّجَالِ، لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يَنْظُرُ بَيْنَهُمَا، عِنْدَ تَحَاكُمِ النِّسَاءِ لِأَجْلِ الرَّجُلِ، وَيَجْعَلُ لَهُمَا وَقْتًا غَيْرَ هَذَيْنِ. وَإِذَا جَلَسَ الْخَصْمَانِ تَقَارَبَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رجلا والآخر امرأة ليست بذات محرم فيتباعدا ولا يتلاقصا وَأَبْعَدُ مَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِ الْخَصْمَيْنِ، أَنْ يَسْمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلَامَ صَاحِبِهِ. وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَجَرٍ، وَلَا انْتِهَارٍ، لِأَنَّ ضَجَرَهُ عَلَيْهِمَا مُسْقِطٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمَا، وَانْتِهَارَهُ لَهُمَا مُضْعِفٌ لِنُفُوسِهِمَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا لَغَطٌ فَيَنْتَهِرُهُمَا، أَوْ يَنْتَهِرُ اللَّاغِطَ مِنْهُمَا. فَإِنْ أَمْسَكَا عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ جُلُوسِهِمَا، قَالَ الْقَاضِي: يَتَكَلَّمُ مَنْ شَاءَ مِنْكُمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَهُ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِحِشْمَتِهِ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْكَلَامِ كَفَّهُمَا عَنِ التَّنَازُعِ، حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا. فَإِنْ أَقَامَا عَلَى التَّنَازُعِ وَيَبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ مِنْ قَرْعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصْرِفُهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ. (لَا يَتَعَنَّتُ الْقَاضِي شَاهِدًا) . (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَتَعَنَّتُ شَاهِدًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَعَنَتُ الشَّاهِدِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْقَاضِي مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِظْهَارُ التَّنَكُّرِ عَلَيْهِ، والاسترابة به، وهو طاهر الستر، مَوْفُورُ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ مَا شَهِدْتَ وَكَيْفَ تَحَمَّلْتَ وَلَعَلَّكَ سَهَوْتَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَتَبَّعَهُ فِي أَلْفَاظِهِ، وَيُعَارِضَهُ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ عَنَتَ الشَّاهِدِ قَدْحٌ فِيهِ، وَمَيْلٌ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، وَمُفْضٍ إِلَى تَرْكِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 277 وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَضْجَرَ عَلَى الشَّاهِدِ وَلَا يَنْتَهِرَهُ؛ لِأَنَّ الضَّجَرَ وَالِانْتِهَارَ عَنَتٌ. ( [لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّةً] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا ينبغي أي يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي مِنَ الْخَصْمَيْنِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالتَّلْقِينِ مُمَايِلًا لَهُ وَبَاعِثًا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَعَلَّهُ لَيْسَ لَهُ. فَأَمَّا إِنْ قَصَّرَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَلَمْ يستوفها، سأله عما قصر فيه، ليتحقق به الدعوى. فإنه لَقَّنَهُ تَحْقِيقَ الدَّعْوَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ تَوْفِيقٌ لِتَحْقِيقِ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ بِتَلْقِينٍ لِلْحُجَّةِ. وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعِينًا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ. وَقَالَ لَهُ: إِنْ حَقَّقْتَ دَعْوَاكَ سَمِعْتُهَا، وَإِلَّا صَرَفْتُكَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ لَكَ. فَإِنْ قَالَ لَهُ اسْتَعِنْ بِمَنْ يَنُوبُ عَنْكَ فَإِنْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَشَارَ بِهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي تَحْقِيقِ الدَّعْوَى جَازَ وَلَا يُعَيِّنُ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ. ( [لَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ شَهَادَةً] ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا شَاهِدًا شَهَادَةً ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُلَقِّنُ الشَّاهِدَ مَا يَشْهَدُ بِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَلْقِينِهِ مَائِلًا مَعَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا لَقَّنَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. فَإِنْ لَقَّنَهُ صِفَةَ لَفْظِ الْأَدَاءِ، وَلَمْ يُلَقِّنْهُ مَا يَشْهَدُ بِهِ فِي الْأَدَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَلْقِينِ الْخَصْمِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّهُ تَوْقِيفٌ، وَلَيْسَ بِتَلْقِينٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُمَايَلَةِ، وَيَقُولُ لَهُ إِنْ بَيَّنْتَ مَا تَصِحُّ بِهِ شَهَادَتُكَ سَمِعْتُهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا تَوَقَّفَ عَنْهَا وَلَا يَبْعَثُهُ عَلَى التَّوَقُّفِ عَنْهَا إِذَا بَادَرَ إِلَيْهَا إِلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بِالتَّوَقُّفِ عَنْهَا، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا حَتَّى تَوَقَّفَ زِيَادٌ فَدَرَأَ بِهِ الْحَدَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 278 (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا بَأْسَ إِذَا جَلَسَ أَنْ يَقُولَ تَكَلَّمَا أَوْ يَسْكُتَ حَتَّى يَبْتَدِئَ أَحَدُهُمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَوْلَى فِي أَدَبِ الْخَصْمَيْنِ إِذَا جَلَسَا لِلتَّحَاكُمِ أَنْ يَسْتَأْذِنَا الْقَاضِيَ فِي الْكَلَامِ لِيَتَكَلَّمَا بَعْدَ إِذْنِهِ. فَإِنْ بُدِئَ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، جَازَ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَدَّبَهُ. فَإِنْ سَكَتَ الْخَصْمَانِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَاحِدٌ مِنْهما بَعْدَ جُلُوسِهِمَا فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ لِلتَّأَهُّبِ لِلْكَلَامِ أَمْسَكَ عَنْهُمَا، حَتَّى يَتَحَرَّرَ لِلْمُتَكَلِّمِ مَا يَذْكُرُهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ سُكُوتُهُمَا لِهَيْبَةٍ حَضَرَتْهُمَا عَنِ الْكَلَامِ تَوَقَّفَ حَتَّى تَسْكُنَ نُفُوسُهُمَا فَيَتَكَلَّمَانِ. وَإِنْ أَمْسَكَا لِغَيْرِ سَبَبٍ، لَمْ يَتْرُكْهُمَا عَلَى تَطَاوُلِ الْإِمْسَاكِ، فَيَنْقَطِعُ بهما عن غيرهما من الخصوم وقال لهم: مَا خَطْبُكُمَا؟ وَهُوَ أَحَدُ الْأَلْفَاظِ فِي اسْتِدْعَاءِ كَلَامِهِمَا؛ لِأَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْكِيٌّ من نبيه مولى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ، وَقَالَ: تَكَلَّمَا، أَوْ يَتَكَلَّمُ الْمُدَّعِي مِنْكُمْ، أَوْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُكُمَا، جَازَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْعَوْنُ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ، وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُقَدَّمُ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يَصْرِفُهُمَا، حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى ابْتِدَاءِ أَحَدِهِمَا. ( [مَنْ يَبْدَأُ بِالْكَلَامِ من الخصمين] ) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ الطَّالِبُ فَإِذَا أَنْفَذَ حُجَّتَهُ تَكَلَّمَ الْمَطْلُوبُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى الطَّالِبِ مِنْهُمَا وَالْمَطْلُوبِ، فَالْمُبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ مِنْهُمَا هُوَ الطَّالِبُ قَبْلَ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الطَّالِبِ سُؤَالٌ، وَكَلَامَ الْمَطْلُوبِ جَوَابٌ. فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُمَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا طَالِبٌ وَأَنْتَ مَطْلُوبٌ، نُظِرَ: فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ الطَّالِبُ، وَصَاحِبُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ قَالَا مَعًا، وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: صَرْفُهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الطَّالِبِ مِنْهُمَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 279 فَإِذَا صَارَ أَحَدُهُمَا طَالِبًا وَالْآخَرُ مَطْلُوبًا، بَدَأَ الطَّالِبُ بِدَعْوَاهُ فَإِنْ عَارَضَهُ الْمَطْلُوبُ فِي الْكَلَامِ، قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى، مَنَعَهُ الْقَاضِي مِنْ مُعَارَضَتِهِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا. فَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ كَتَبَ دَعْوَاهُ فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي وَقَالَ قَدْ أَثْبَتُّ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ، وَأَنَا مُطَالَبٌ لَهُ بِمَا فِيهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي هَذَا مِنْهُ حَتَّى يَذْكُرَهُ نُطْقًا بِلِسَانِهِ، أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، لِأَنَّ الطَّلَبَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، دُونَ الْخَطِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَاضِيَ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى الطَّالِبِ وَيَقُولَ لَهُ: أَهَكَذَا تَقُولُ أَوْ تَدَّعِي؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، سَأَلَ الْمَطْلُوبَ عَنِ الْجَوَابِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَهُ قَبْلَ قِرَاءَتِهَا عَلَى الطَّالِبِ وَاعْتِرَافِهِ بِمَا تَضَمَّنَهَا. فَإِنْ فَعَلَ الْمَطْلُوبُ فِي جَوَابِ الدَّعْوَى مِثْلَ ذَلِكَ وَكَتَبَ جَوَابَهُ فِي رُقْعَةٍ وَدَفْعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَقَالَ: هَذَا جَوَابِي عَنِ الدَّعْوَى، كَانَا فِي الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ عَلَى سَوَاءٍ إِنْ جَوَّزْنَاهُ فِي الطَّالِبِ. فَإِنْ قَدَّمَ الْمَطْلُوبُ الْإِقْرَارَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى، لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ، وَسَقَطَ جَوَابُهُ عَنِ الدَّعْوَى إِذَا وَافَقَتْ إِقْرَارَهُ. وَإِنْ قَدَّمَ الْإِنْكَارَ لَمْ يُقْنِعْ فِي الْجَوَابِ وَطُولِبَ بِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْتِزَامٌ، فجَازَ تَقْدِيمُهُ، وَالْإِنْكَارُ إِسْقَاطٌ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيمَا يَخْتَارُ أَنْ يَقُولَهُ الْقَاضِي لِلطَّالِبِ. فَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: قَدْ أَنْكَرَكَ مَا ادَّعَيْتَهُ عَلَيْهِ فَمَاذَا تُرِيدُ؟ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَنْكَرَكَ مَا ادَّعَيْتَ، فَهَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟ وَهُوَ الْأَشْبَهُ. لِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ حَاكَمَ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أرض فقال الحضرمي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: فَيَمِينُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ فَاجِرٌ، لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ. ( [لَا يُضِيفُ القاضي الخصم دون صاحبه] ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ الْخَصْمَ دُونَ خَصْمِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَمْسَى الْخَصْمَانِ عِنْدَ الْقَاضِي، أَوْ كَانَا غَرِيبَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضِيفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَايَلَةِ، رُوِيَ أَنَّ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 280 رَجُلًا نَزَلَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَكَ خَصْمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَحَوَّلَ عَنَّا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُضِيفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ " فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضِيفَ أَحَدَهُمَا، وَقِيلَ لَهُ: إِمَّا تُضِيفُهُمَا مَعًا أَوْ تَصْرِفُهُمَا مَعًا. وَتَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يُضِيفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ أَيْ لَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ، فَيُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِتَقْدِيمِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَقِيقَةِ اللفظ إلى مجازه. (مَنْعُ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدَايَا) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً وَإِنْ كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْفُذَ خُصُومَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي وِلَايَةٍ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ قَبُولِ هَدَايَا أَهْلِ عَمَلِهِ. رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُبَيْلٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا سِرْتُ، أَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ: " أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لِهَذَا دَعَوْتُكَ فَامْضِ لِعَمَلِكَ ". وَرَوَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: " وَمَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلُولٌ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا من بني أسد يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: " مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ يُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 281 الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ". فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأخْبَارُ عَلَى مَنْعِ الْوُلَاةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدَايَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْهَدَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُلُوكِ الْأَقْطَارِ، وَقَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كراع لأجبت ". قيل عنه ثلاثة أَجْوِبَة: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَيَّزَهُ عَنِ الْخَلْقِ فَقَالَ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفسهم} وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ " فَصَارَ فِي اخْتِصَاصِهِ كَالْأَبِ فَبَايَنَ مَنْ عَدَاهُ. وَالثَّانِي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يُكَافِئُ عَلَى الْهَدَايَا وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يُهَادِيهِ طَالِبًا لِفَضْلِ الْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَهْدَى إِلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ نَاقَةً، لَمْ يَزَلْ يُكَافِئُهُ حَتَّى رَضِيَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَيْلِ مُنَزَّهٌ عَنِ الظِّنَّةِ طَاهِرُ الْعِصْمَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يقاس بغيره. (فصل: حكم الهدية بصورة عامة) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُهَادَاةُ فِيمَنْ عَدَا الْوُلَاةِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْبَذْلِ وَمُبَاحَةٌ فِي الْقَبُولِ، لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تهادوا تحابوا ". (حكم مهاداة الولاة) . وَأَمَّا مُهَادَاةُ الْوُلَاةِ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: وُلَاةُ سَلْطَنَةٍ، وَوُلَاةُ عِمَالَةٍ، وَوُلَاةُ أَحْكَامٍ. فَأَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: وَهُمْ وُلَاةُ السَّلْطَنَةِ، فَكَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ، فَكُلُّ النَّاسِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ. وَلَا تَخْلُو مُهَادَاتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أهل دار الحرب. (هدايا أهل دار الحرب إلى ولاة السلطنة) . فَإِنْ هَادَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، جَازَ لَهُ قَبُولُ هَدَايَاهُمْ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِهِمْ. وَيَنْظُرُ فِي سَبَبِ الْهَدِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ سُلْطَانِهِ فَسُلْطَانُهُ بِالْمُسْلِمِينَ فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُمْ دُونَهُ فَكَانَ بيت ما لهم بِهَا أَحَقَّ. وَإِنْ هَادَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ لِمَا لَا يَخْتَصُّ بِسُلْطَانِهِ مِنْ مَوَدَّةٍ سَلَفَتْ جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا. وَإِنْ هَادُوهُ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إِلَّا بِالسَّلْطَنَةِ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ السَّلْطَنَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَيَكُونُ حُكْمُ هَدَايَاهُمْ منقسما على هذه الأقسام الثلاثة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 282 (هدايا أهل دار الإسلام إلى ولاة السلطنة) . وَأَمَّا هَدَايَا دَارُ الْإِسْلَامِ فَتُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ إِمَّا عَلَى حَقٍّ يَسْتَوْفِيهِ، وَإِمَّا عَلَى ظُلْمٍ يَدْفَعُهُ عَنْهُ، وَإِمَّا عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ هِيَ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ. رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لُعِنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشُ " فَالرَّاشِي: بَاذِلُ الرَّشْوَةِ، وَالْمُرْتَشِي: قَابِلُ الرَّشْوَةِ، وَالرَّائِشُ: الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْهَدِيَّةَ إِنْ كَانَتْ عَلَى حَقٍّ يَقُومُ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ نَظَرِهِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِحَقٍّ أَنْ يَسْتَعْجِلَ عَلَيْهِ كما لا يجوز أن يستجعل عَلَى صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُ عَلَيْهِ، كَانَ الِاسْتِعْجَالُ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا، وَأَغْلَظُ مَأْثَمًا. فَأَمَّا بَاذِلُ الرِّشْوَةِ فَإِنْ كَانَتْ لِاسْتِخْلَاصِ حَقٍّ أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَذْلُهَا، كَمَا لَا يَحْرُمُ افْتِدَاءُ الْأَسِيرِ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ لِبَاطِلٍ يُعَانُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَذْلُهَا كَمَا حَرُمَ عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَخْذُهَا، وَوَجَبَ رَدُّ الرِّشْوَةِ عَلَى بَاذِلِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِرِشْوَةٍ. وَهِيَ ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ مَا كَانَتْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَرَضَتْ، فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا لِانْتِفَاءِ الظِّنَّةِ عَنْهَا، وَلِلْعُرْفِ الْجَارِي فِي التَّوَاصُلِ بِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَقْتَرِنَ بِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ الْحَاجَةِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يُهْدِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَيَقْبَلُهُ، حَتَّى اقْتَرَضَ زَيْدٌ مَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَهْدَى اللَّبَنَ، فَرَدَّهُ عُمَرُ، فَقَالَ زَيْدٌ: لِمَ رَدَدْتَهُ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ اقْتَرَضْتَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَالًا، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي مَالٍ يَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَرَدَّ الْمَالَ وَأَهْدَى اللَّبَنَ فَقَبِلَهُ مِنْهُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَزِيدَ فِي هَدِيَّتِهِ عَلَى قَدْرِ الْعَادَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ وَإِنْ كَانَتِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ مَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَأْلُوفِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَخْطُبُ مِنْهُ الْوِلَايَةَ عَلَى عَمَلٍ يُقَلِّدُهُ، فَهَذِهِ رِشْوَةٌ تَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الْهَدَايَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا، سَوَاءٌ كَانَ خَاطِبُ الْوِلَايَةِ مُسْتَحِقًّا لَهَا، أَوْ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ وَعَلَيْهِ رَدُّهَا، وَيَحْرُمُ عَلَى بَاذِلِهَا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلْوِلَايَةِ وَإِنْ كَانَ مستحقا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 283 لَهَا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْوِلَايَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ بَذْلُهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَذْلُهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَشْكُرُهُ عَلَى جَمِيلٍ كَانَ مِنْهُ، فَهَذَا خَارِجٌ مِنَ الرِّشَا، وَمُلْحَقٌ بِالْهَدَايَا؛ لِأَنَّ الرِّشْوَةَ مَا تَقَدَّمَتْ وَالْهَدِيَّةَ مَا تَأَخَّرَتْ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُكْتَسِبًا بِمُجَامَلَتِهِ وَمُعْتَاضًا عَلَى جَاهِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْجَمِيلِ وَاجِبًا أَوْ تَبَرُّعًا، وَلَا يَحْرُمُ بَذْلُهَا عَلَى الْمُهْدِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَبْتَدِئُهُ بِالْهَدِيَّةِ لِغَيْرِ مُجَازَاةٍ عَلَى فِعْلٍ سَالِفٍ وَلَا طَلَبًا لِفِعْلٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ عَلَيْهَا جَاهُ السَّلْطَنَةِ، فَإِنْ كَافَأَ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَقْبَلُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَاهَ السَّلْطَنَةِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرُدُّهَا وَلَا يَقْبَلُهَا لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْثِرَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ بشيء وصل إليه بجاه المسلمين. (فصل: مهاداة ولاة العمالة) . وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي وَهُمْ وُلَاةُ الْعِمَالَةِ كَعُمَّالِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُهْدِي مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ كَانَتِ الْمُهَادَاةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُهَادَاةِ بَيْنَ غَيْرِ الْوُلَاةِ وَالرَّعَايَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُهْدِي، فَهَذِهِ رِشْوَةٌ لِتَقَدُّمِهَا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُهَا لِأَنَّهَا تُهْمَةٌ تَعْطِفُهُ عَنِ الْوَاجِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُسْنَدًا " اللِّطْفَةُ عَطْفَةٌ " وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ مُرْتَزِقًا أَوْ غَيْرَ مُرْتَزِقٍ. فَإِنْ أَضَافَ الْعَامِلُ، وَلَمْ يُهَادِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُسْتَوْطِنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضِيَافَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضِيَافَتِهِ، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يهدى إليه بعد استيفاء الحق منه، على جَمِيلٍ قَدَّمَهُ إِلَيْهِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْجَمِيلُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِحَقِّ عَمَلِهِ، وَجَبَ رَدُّ الْهَدِيَّةِ وَحَرُمَ قَبُولُهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَا لَمْ يُعَجِّلِ الْمُكَافَأَةَ عليها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 284 وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تُعَادُ إِلَى مَالِكِهَا لِخُرُوجِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ بِهَا. وَالثَّانِي: تَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مَبْذُولَةٌ عَلَى فِعْلِ نَائِبٍ عَنْهُمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ " وَالْغُلُولُ مَا عَدَلَ بِهِ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ، عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ أَسْلَفَهُ. فَإِنْ عَجَّلَ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ قِيمَتِهَا جاز أن يتملكها لأنها بِالْمُكَافَأَةِ مُعَاوِضٌ فَجَرَى فِي إِبَاحَةِ التَّمَلُّكِ مَجْرَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ الْوُلَاةَ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنِ الرِّشْوَةِ وَالْجَزَاءِ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهَا وَيُعَرَّضُ بِهَا لِلتُّهْمَةِ وَسُوءِ الْقَالَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُقَرُّ عَلَى الْعَامِلِ وَلَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقَرَّ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهَا مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِجَاهِ الْعَمَلِ، وَنَضُمُّ إِلَى الْمَالِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ، لِوُصُولِهَا بِسَبَبِهِ، فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا جَازَ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِمِثْلِهَا وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُشَاطِرَهُ عَلَيْهَا جَازَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ابْنِيهِ حِينَ أَخَذَا مَالَ الْفَيْءِ قَرْضًا وَاتَّجَرَا فَرَبِحَا فَأَخَذَ مِنْهُمَا نِصْفَ رِبْحِهِ كَالْقِرَاضِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُرْتَزِقًا قَدْرَ كِفَايَتِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرْتَزِقٍ أُقِرَّتْ عَلَيْهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ ". وَلَوْ كَانَ مُرْتَزِقًا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِرِزْقِهِ عَمَّا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْغُلُولَ الْمُسْتَرْجَعَ منه ما تجاوز قدر حاجته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 285 (فصل: مهاداة قضاة الأحكام) . وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمْ قُضَاةُ الْأَحْكَامِ، فَالْهَدَايَا فِي حَقِّهِمْ أَغْلَظُ مَأْثَمًا، وَأَشَدُّ تَحْرِيمًا، لِأَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ لِحِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا دُونَ أَخْذِهَا، يَأْمُرُونَ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ فِيهَا عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ " فَخَصَّ الْحُكْمَ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالتَّغْلِيظِ. وَيَنْقَسِمُ حَالُ الْقَاضِي فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي عَمَلِهِ، مِنْ أهل عمله، فللمهدي ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُهَادِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي حَالِ الْهَدِيَّةِ مُحَاكَمَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِأَنْ يُحَاكَمَ أَوْ يُحَاكِمَ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَمِنْ غَيْرِهِمْ هَدِيَّةٌ مَحْظُورَةٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ لَرَحِمٍ أَوْ مَوَدَّةٍ وَلَهُ فِي الْحَالِ مُحَاكَمَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مُمَايَلَةٌ. وَالْحَالُ الثالثة: أن يكون ممن بهاديه قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَلَيْسَ لَهُ مُحَاكَمَةً فَيَنْظُرُ: فَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ هَدَايَاهُ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُهَادِيهِ بِالطَّعَامِ فَصَارَ يُهَادِيهِ بِالثِّيَابِ، لَمْ يجز أن يقبلها؛ لأنه الزِّيَادَة هَدِيَّةٌ بِالْوِلَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ يُنْسَبُ بِهَا إِلَى الْمُمَايَلَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي عَمَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ فلمهديها ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِهَا إِلَى عَمَلِهِ، فَقَدْ صَارَ بِالدُّخُولِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ مُحَاكَمَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِجَوَازِ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا الْمُهْدِي وَيُرْسِلُهَا وَلَهُ مُحَاكَمَةٌ وَهُوَ فِيهَا طَالِبٌ أَوْ مَطْلُوبٌ فَهِيَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرْسِلَهَا وَلَا يَدْخُلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مُحَاكَمَةٌ فَفِي جَوَازِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ النَّزَاهَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِوَضْعِ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِ عَمَلِهِ لِسَفَرِهِ عَنْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 286 عَمَلِهِ، فَنَزَاهَتُهُ عَنْهَا أَوْلَى بِهِ مِنْ قَبُولِهَا لِيَحْفَظَ صِيَانَتَهُ فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا. فَأَمَّا نُزُولُهُ ضَيْفًا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ جَازَ. وَلَا يُكْرَهُ إِنْ كَانَ عَابِرَ سَبِيلٍ، وَيُكْرَهُ إِنْ كَانَ مُقِيمًا. (حكم مهاداة القضاة) . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُهَادَاةِ الْقَاضِي، فَإِنْ أُبِيحَتْ لَهُ جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَلَمْ يَجِبْ رَدُّهَا وَإِنْ حُظِرَتْ وَمُنِعَ مِنْهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ، انْقَسَمَتْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ رِشْوَةً لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْمُحَاكَمَةِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى بَاذِلِهَا. فَإِنْ رَدَّهَا قَبْلَ الْحُكْمِ نَفَذَ حُكْمُهُ. وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى الْبَاذِلِ نَفَذَ وَإِنْ كَانَ لِلْبَاذِلِ فَفِي نُفُوذِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُنَفِّذُ، إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ كَمَا يُنَفِّذُ لِلصَّدِيقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُنَفِّذُ، كَمَا لَا يُنَفِّذُ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ لِلتُّهْمَةِ بِالْمُمَايَلَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْهَدِيَّةُ جَزَاءً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْحُكْمِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى مُهْدِيهَا، وَالْحُكْمُ مَعَهَا نَافِذٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لِلْمُهْدِي أَوْ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَخْرُجَ الْهَدِيَّةُ عَنِ الرِّشْوَةِ وَالْجَزَاءِ، لِابْتِدَاءِ الْمُهْدِي بِهَا تَبَرُّعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْقَاضِي لِحَظْرِهَا عَلَيْهِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهَا: تُرَدُّ عَلَى مُهْدِيهَا لِفَسَادِ الْهَدِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِبَذْلِهَا طَوْعًا لِنَائِبِ المسلمين. (فصل: الهدية على الشفاعة) . روى عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَسَيَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْأُصُولِ. وَمُهَادَاةُ الشَّافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِشَفَاعَتِهِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 287 أَحَدُهَا: أَنْ يَشْفَعَ فِي مَحْظُورٍ، مِنْ إِسْقَاطِ حَقٍّ، أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَهُوَ فِي الشَّفَاعَةِ ظَالِمٌ وَبِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهَا آثِمٌ، تَحِلُّ لَهُ الشَّفَاعَةُ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْهَدِيَّةُ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْفَعَ فِي حَقٍّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، فَالشَّفَاعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَالْهَدِيَّةُ عَلَيْهِ مَحْظُورَةٌ؛ لِأَنَّ لَوَازِمَ الْحُقُوقِ لَا يُسْتَعْجَلُ عَلَيْهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْفَعَ فِي مُبَاحٍ لَا يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بِالشَّفَاعَةِ مُحْسِنٌ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعَاوُنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اشْفَعُوا إِلَيَّ، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا يَشَاءُ ". وَلِلْهَدِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الشفاعة ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَشْتَرِطَهَا الشَّافِعُ فَقَبُولُهَا مَحْظُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْجِلُ عَلَى حَسَنٍ قَدْ كَانَ مِنْهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ الْمُهْدِي هَذِهِ الْهَدِيَّةُ جَزَاءٌ عَلَى شَفَاعَتِكَ فَقَبُولُهَا مَحْظُورٌ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعَلِتْ جَزَاءً صَارَتْ كَالشَّرْطِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُمْسِكَ الشَّافِعُ عَنِ اشْتِرَاطِهَا وَيُمْسِكُ الْمُهْدِي عَنِ الْجَزَاءِ بِهَا فَإِنْ كَانَ مُهَادِيًا قَبْلَ الشَّفَاعَةِ، لَمْ يُمْنَعِ الشَّافِعُ مِنْ قَبُولِهَا وَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْقَبُولُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُهَادٍ قَبْلَ الشَّفَاعَةِ كُرِهَ لَهُ الْقَبُولُ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ كافأ عليها لم يكره له القبول. (تقديم النظر بين المسافرين) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَإِذَا حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ يَوْمًا بِقَدْرِ مَا لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى سَاوَوْا أَهْلَ الْبَلَدِ آسَاهُمْ بِهِمْ وَلِكُلٍّ حَقٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْقَاضِي فِي النَّظَرِ بَيْنَ الْخُصُومِ أَنْ يُقَدِّمَ السَّابِقَ عَلَى الْمَسْبُوقِ، فَإِنْ حَضَرَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ، فَفِي تَأْخِيرِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مَسْبُوقِينَ إِضْرَارٌ بِهِمْ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنِ العود إلى أوطانهم، فَإِنْ قَلُّوا وَلَمْ يَكْثُرُوا قَدَّمَهُمُ الْقَاضِي عَلَى الْمُقِيمِينَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيمِهِمُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُعْتَبَرُ، وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُمْ وَإِنْ كَرِهَ الْمُقِيمُونَ لِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ دُونَ الْمُقِيمِينَ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 288 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعْتَبَرُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ فَإِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِتَقْدِيمِ الْمُسَافِرِينَ قَدَّمَهُمْ، وَإِنِ امْتَنَعُوا لَمْ يُجْبِرْهُمْ، لِاسْتِحْقَاقِ التَّقْدِيمِ بِالسَّبْقِ. وَإِنْ كَثُرَ الْمُسَافِرُونَ حَتَّى سَاوَوْا أَهْلَ الْمِصْرَ كَأَيَّامِ الْمَوَاسِمِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي تَقْدِيمِهِمْ إِضْرَارٌ بِالْمُقِيمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنِ الْمُسَافِرِينَ بِإِدْخَالِهِ عَلَى الْمُقِيمِينَ، وَنُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الواحد للنظر بي المقيمين وَالْمُسَافِرِينَ جَعَلَ لِلْمُقِيمِينَ فِيهِ وَقْتًا وَلِلْمُسَافِرِينَ فِيهِ وَقَتًا، فَإِنِ اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ سَوَّى بَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَإِنْ تَفَاضَلَ الْفَرِيقَانِ فَاضَلَ فِيهِمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يَتَّسِعُ لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، جَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ يَوْمًا وَلِلْمُقِيمِينَ يَوْمًا إِنِ اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَيَّامِ، وَخَصَّ الْمُسَافِرِينَ بِالْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُقِيمِينَ، إِمَّا إِجْبَارًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِمَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْمُقِيمِينَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِهِ الْمُقِيمُونَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَبْقٌ يُعْتَبَرُ، فَعَدَلَ فِيهِ إِلَى الْقُرْعَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا تَرْتِيبُ الْمَجَالِسِ فِيمَا بَعْدُ لِيَكُونَ مَجْلِسُ الْمُسَافِرِينَ مَعْرُوفًا وَمَجْلِسُ الْمُقِيمِينَ مَعْرُوفًا حَتَّى يَقْصِدَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي يَوْمِهِ الْمَعْرُوفِ. فَإِذَا اتَّسَعَ مَجْلِسُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنْ يَنْظُرَ فِي يَقِينِهِ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ جَازَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى أَهْلُهُ حَقَّهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَقٌّ فِي بَاقِيهِ. (تَقْدِيمُ النَّظَرِ بَيْنَ السَّابِقِينَ) . (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَلَا يُقَدِّمُ رَجُلًا جَاءَ قَبْلَهُ رَجُلٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبْقَ مُعْتَبَرٌ فِي تَقْدِيمِ النَّظَرِ بَيْنَ الْخُصُومِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " منا مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " وَكَمَا يُرَاعِي السَّبْقُ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَفِي وُرُودِ الْمِيَاهِ وَفِي أَخْذِ الْمَعَادِنِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْخُصُومُ نَدَبَ الْقَاضِي لَهُمْ مَنْ يَكْتُبُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ لِيَنْظُرَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ اعْتِبَارًا بِالسَّبْقِ. فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبْقِ، أو جاؤوا مَعًا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، إِنْ أَمْكَنَتِ الْقُرْعَةُ، لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَرُتَبِهِمْ عَلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقُرْعَةُ. وَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْقُرْعَةُ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ أَثْبَتَ اسْمَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي رُقْعَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَطَوَاهَا الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَوْ غَطَّاهَا كَانَ أَوْلَى، وَرَتَّبَهُمْ عَلَى مَا تَخْرُجُ بِهِ رِقَاعُهُمْ. فَإِذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمْ، إِمَّا بِالسَّبْقِ، وَإِمَّا بِالْقُرْعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 289 غَيْرَهُ، فَيَصِيرُ بِتَقْدِيمِهِ جَائِرًا، يَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي خَصْمٍ بَعْدَ خَصْمٍ، حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَ الْخُصُومِ. فَإِنْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا عَلَى سَابِقٍ بِطِيبِ نَفْسِ السَّابِقِ جَازَ، وَإِنْ قَدَّمَهُ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ظَلَمَهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ لِلْمَسْبُوقِ نَافِذًا، لِأَنَّهُ ظَلَمَ فِي السَّبْقِ وَلَمْ يَظْلِمْ فِي الْحُكْمِ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ مَرِيضًا يَسْتَضِرُّ بِالصَّبْرِ فَقَدْ عَذَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حُقُوقِهِ بِالرُّخَصِ فَإِنْ عَذَرَهُ الْآدَمِيُّونَ بِهِ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوْلَى بِهِمْ، فَإِنْ شَاحُّوهُ قَدَّمَهُ الْقَاضِي إِنْ كَانَ مَطْلُوبًا، وَلَمْ يُقَدِّمْهُ إِنْ كَانَ طَالِبًا، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مُجْبَرٌ وَالطَّالِبَ مُخَيَّرٌ فَإِنْ كَثُرَ الْخُصُومُ وَلَمْ يَتَّسِعْ مَجْلِسُ يَوْمِهِ لِلنَّظَرِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَاحْتَاجُوا لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَجَالِسٍ كَانَ فِيهِمْ بَيْنَ خِيَارَيْنِ: أَولَاهُمَا: أَنْ يُجَزِّئَ رِقَاعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَيَجْعَلَ كُلَّ جُزْءٍ فِي إِضْبَارَةٍ يَعْرِفُ أَسْمَاءَ مَنْ فِيهَا وَيَقْرَعُ بَيْنَ الْأَضَابِيرِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْأُولَى لِأَحَدِهَا أَثْبَتَ عَلَيْهَا الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ، وَإِذَا خَرَجَتِ الثَّانِيَةُ لِأُخْرَى أَثْبَتَ عَلَيْهَا الْمَجْلِسَ الثَّانِي، وَيَثْبُتُ عَلَى الْأَخِيرَةِ الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ. وَقَدَّمَ لِمَجْلِسِ يَوْمِهِ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الْأُولَى، وَأَعْلَمَ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ لَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّانِيَ، وَأَعْلَمَ أَهْلَ الْإِضْبَارَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ لَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّالِثَ، حَتَّى يَنْصَرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَشْغَالِهِ لِيَأْتِيَهُ فِي يَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْدَادٍ فَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَوْقِفَهُمْ فِي يَوْمِهِ، وَيَنْظُرَ فِيهِ بَيْنَ مَنِ اتَّسَعَ لَهُ مَجْلِسُهُ، فَيُنَادِي بِحُضُورِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَتُهُ وَيَنْظُرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، ثُمَّ يُنَادِي بِحُضُورِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ الثَّانِيَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا، حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مَجْلِسِهِ بِالنَّظَرِ بَيْنَ مَنْ خَرَجَتْ رِقَاعُهُمْ فِيهِ فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ قَالَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عُودُوا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي، فَإِذَا عَادُوا فِيهِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنِ اسْتَأْنَفَ الْحُضُورَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي، وَنَظَرَ بَيْنَهُمْ وَقَدَّمَ مِنْهُمْ بِالرِّقَاعِ مَنْ تَقَدَّمَتْ رُقْعَتُهُ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَ مَجْلِسُهُ الثَّانِي وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَعَدَهُمُ الْمَجْلِسَ الثَّالِثَ، وَوَعَدَ مَنِ اسْتَأْنَفَ حُضُورَ الْمَجْلِسِ الثَّانِي إِلَى الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ قَدَّمَ أَهْلَ الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْعَلُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ أَبَدًا. وَيَنْبَغِي لَهُ إِذَا كَثُرَ الْخُصُومُ أَنْ يَزِيدَ فِي عَدَدِ مَجَالِسِهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ حَتَّى لَا يَتَمَادَى فِي أَمْرِ الْخُصُومِ لِتَكُونَ مَجَالِسُهُ كَافِيَةً لِجَمِيعِ الْخُصُومِ. (فصل: صفة الرقاع) . فَأَمَّا صِفَةُ الرِّقَاعِ الَّتِي تُثْبَتُ فِيهَا أَسْمَاءُ الْخُصُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتَوَلَّى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 290 إِثْبَاتَ أَسْمَائِهِمْ فِيهَا أَمِينًا فَطِنًا، وَيُثْبِتُ فِي كُلِّ رِقْعَةٍ اسْمَ الطَّالِبِ، وَاسْمَ أَبِيهِ، وَجَدِّهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَصِنَاعَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُثْبِتُ مَعَهُ فِي الرُّقْعَةِ اسْمَ الْمَطْلُوبِ. وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِإِثْبَاتِ اسْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْإِثْبَاتِ لِلطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ. وَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ اسْمُ الْمَطْلُوبِ فَقَالَ الطَّالِبُ أُرِيدُ أَنْ أُحَاكِمَ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لَمْ يَمْنَعْ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِهِ مَعَهُ وَجْهٌ. فَإِذَا أُرِيدَ إِحْضَارُهُ عِنْدَ خُرُوجِ رُقْعَتِهِ نُودِيَ بِاسْمِهِ وَحْدَهُ دُونَ اسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَإِذَا وَافَقَ مَا فِي الرُّقْعَةِ نَظَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا فِي الرُّقْعَةِ قَالَ لَهُ الْقَاضِي لَيْسَتْ هَذِهِ رُقْعَتُكَ فَانْصَرِفْ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُهَا. وَنُودِيَ ثَانِيَةً حَتَّى يَحْضُرَ مَنْ هُوَ صَاحِبُهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا، فَلَوْ نُودِيَ صَاحِبُ رُقْعَةٍ فَلَمْ يَحْضُرْ، كَرَّرَ النِّدَاءَ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أُخْرِجَتْ رُقْعَةُ غَيْرِهِ وَنُودِيَ صَاحِبُهَا. فَإِذَا حَضَرَ صَاحِبُ الرُّقْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ حَضَرَ صَاحِبُ الرُّقْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ حُضُورُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ بَيْنَ الثَّانِي وَخَصْمِهِ قَدَّمَ الْأُولَى عَلَيْهِ، وَإِنْ شَرَعَ فِي النَّظَرِ لَمْ يَقْطَعِ النَّظَرَ، وَاسْتَوْفَاهُ ثُمَّ نَظَرَ لِلْأَول بَعْدَهُ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ. وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَنَابَ فِي إِخْرَاجِ هَذِهِ الرِّقَاعِ وَفِي الْإِقْرَاعِ مَنْ يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَفِطْنَتِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ وَثِقَاتِهِ لِيَتَوَفَّرَ بِهِ عَلَى نَظَرِهِ جَازَ وَكَانَ أَبْلَغَ فِي صِيَانَتِهِ. (لَا يَسْمَعُ مِنَ الْخَصْمِ إِلَّا دَعْوَى وَاحِدَةً في المجلس) . (مسألة) : قال الشافعي: " وَلَا يَسْمَعُ بَيِّنَةً فِي مَجْلِسٍ إِلَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَإِذَا فَرَغَ أَقَامَهُ وَدَعَا الَّذِي بَعْدَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا نَظَرَ بَيْنَ السَّابِقِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فِي دَعْوَى، بَتَّ الْحُكْمَ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ دَعْوَى ثَانِيَةً فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْخَصْمِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا فِي مَجْلِسٍ ثَانٍ، لِأَنَّ سَبْقَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ مُحَاكَمَةً جَمَاعَةً لَاسْتَوْعَبَ جَمِيعَ الْمَجْلِسِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَضَرَّ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ عَلَى الْخَصْمِ الْأَوَّلِ، فَفِي جَوَازِ سَمَاعِهَا مِنْهُ بِسَبْقِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْمَعُهَا لِأَنَّهَا مَعَ خَصْمٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: لَا يَسْمَعُهَا لِأَنَّهَا فِي مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ انِبْرِامِ الْحُكْمِ مَعَهُ اسْتَأْنَفَ دَعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ ثَابِتًا فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي لَمْ يَسْمَعْهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 291 وَإِنْ كَانَ اسْمُهُ ثَابِتًا فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُما: يَسْمَعُ دَعْوَاهُ بِهَذَا السَّبْقِ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَرَى إِثْبَاتَ اسْمِهِ فِي رُقْعَةِ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: لَا يَسْمَعُهَا إِلَّا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ. وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ صَوَابًا، لِأَنَّ اسمه لأن لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا لِحَقِّهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِحَقِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُدَّعِي مُحَاكَمًا فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ سَبْقٌ لِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ تُسْمَعَ مِنْهُ دَعْوَاهُ عَلَى وَاحِدٍ وَعَلَى جَمَاعَةٍ، وَجَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَى الْخَصْمِ عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ، مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ بَقِيَّةٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُدَّعِي سَابِقًا فَادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مُخْتَلِفَةً لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى وَاحِدَةً كَادِّعَائِهِ ابْتِيَاعَ دَارٍ مِنْهُمَا، أَوْ بَيْعَ دَارٍ عَلَيْهِمَا، جَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا مُحَاكَمَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ طَالِبٍ وَمَطْلُوبَيْنِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ اثْنَانِ فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَعْوَاهُمَا لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ لم تختلف دعواهما لادعائهما مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا أَوِ ادِّعَائِهِمَا عَلَيْهِ ابْتِيَاعَ دَارٍ لَهُمَا جَازَ أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مُحَاكَمَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ طَالِبَيْنِ وَمَطْلُوبٍ. (رِزْقُ الْقُضَاةِ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي شَيْئًا لِقَرَاطِيسِهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ الطَّالِبَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَ قَالَ لِلطَّالِبِ إِنْ شِئْتَ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْكَ وَكِتَابُ خُصُومَتِكَ وَلَا أُكْرِهُكَ وَلَا أَقْبَلُ أَنْ يَشْهَدَ لَكَ شَاهِدٌ بِلَا كِتَابٍ وَأَنْسَى شَهَادَتَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي رِزْقِ الْقَاضِي. وَالْقَضَاءُ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ سَهْمًا فِيهَا وَقَدِ اسْتَقْضَى عُمَرُ شُرَيْحًا وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِزْقًا فَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عَلِيٍّ جَعَلَ رِزْقَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَأَخَذَ زيد بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَزَقَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخِلَافَةِ لِانْقِطَاعِهِمْ بِهَا عَنِ الْمَكَاسِبِ، كَانَ الْقُضَاةُ بِمَثَابَتِهِمْ. وَيَكُونُ هَذَا الرِّزْقُ جُعَالَةً وَلَا يَكُونُ أُجْرَةً، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَالْجُعَالَةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِعَقْدٍ جَائِزٍ. وَالْقَضَاءُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الرِّزْقُ فِيهِ جُعَالَةً وَلَمْ يَكُنْ أُجْرَةً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 292 وَإِذَا جَازَ ارْتِزَاقُ الْقُضَاةِ بِمَا وَصَفْنَا، فَمَتَى وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِهِ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ الرِّزْقَ عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى بِالْقَاضِي إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الرِّزْقِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِعَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى الْتِمَاس ثَوَابِهِ وَإِنِ اسْتَبَاحَ أَخْذَهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَالْغِنَى. وَرِزْقُهُ مُقَدَّرٌ بِالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. وَكَذَلِكَ أَرْزَاقُ أَعْوَانِهِ مِنْ كَاتِبٍ، وَحَاجِبٍ، وَنَائِبٍ، وَقَاسِمٍ، وَسَجَّانٍ حَتَّى لَا يَسْتَجْعِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ خَصْمًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَجْعَلُ مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي شَيْئًا لِقَرَاطِيسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إِثْبَاتِ الْحُجَجِ وَالْمُحَاكَمَاتِ، وَكَتْبِ الْمُحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَهِيَ مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ فَكَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا. فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ لَهُ: إِنْ شِئْتَ فَأْتِ بِقِرْطَاسٍ تَكْتُبُ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْكَ وَخُصُومَتَكَ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَتْبِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ بِالْحُكْمِ. وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْقَرَاطِيسِ لِأَنَّهُ لِوَثِيقَةٍ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي التَّوَثُّقِ بِهَا وَقِيلَ: لَكَ الْخِيَارُ فِي إِحْضَارِ قِرْطَاسٍ تَكْتُبُ فِيهِ حُجَّتَكَ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: اكْتُبْ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْكَ وَكِتَابَ خُصُومَتكَ، ثُمَّ قَالَ وَلَا أَقْبَلُ أَنْ يَشْهَدَ لَكَ شَاهِدٌ بِلَا كِتَابٍ، فَأَنْسَى شَهَادَتَهُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكْتُبُ فِيهِ مَا حَكَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ الشَّهَادَةَ قَبْلَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ لِيَحْكُمَ بِهَا فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ مَنَعَ مِنْ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي جَوَّزَ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ إنكار الخصم. ( [القول في عجز بيت المال عن راتب القاضي] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَعَذَّرَ رِزْقُ الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْتَزِقَ مِنَ الْخُصُومِ فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُ النَّظَرُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَادَّةِ إِمَّا لِغِنَائِهِ بِمَا يَسْتَجِدُّهُ وَإِمَّا لِقِلَّةِ الْمُحَاكَمَاتِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَزِقَ مِنَ الْخُصُومِ. وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُهُ النَّظَرُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَادَّةِ مَعَ صِدْقِ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ الِارْتِزَاقُ مِنْهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 293 أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْخَصْمَانِ قَبْلَ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَزِقْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رِزْقُهُ عَلَى الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ بِهِ مَتْهُومًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذَنِ الْإِمَامِ لِتَوَجُّهِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الْإِمَامُ لَمْ يَجُزْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَجِدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَجُزْ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَعْجَزَ الْإِمَامُ عَنْ دَفْعِ رِزْقِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مَا يَرْتَزِقُهُ مِنَ الْخُصُومِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا مُضِرٍّ بِهِمْ فَإِنْ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ أَثَّرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَسْتَزِيدَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ. وَالثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ الْمَأْخُوذِ مَشْهُورًا يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ الْخُصُومِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْمُطَالَبَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُه عَلَى زَمَانِ النَّظَرِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ مَقَادِيرُ الْحُقُوقِ. فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الزَّمَانِ فَيَجُوز. وَفِي مِثْلِ هَذَا مَعَرَّةٌ تَدْخُلُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَئِنْ جَازَتْ فِيهِ الضَّرُورَاتُ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُزَالَ مَعَ الْإِمْكَانِ إِمَّا بأن يَتَطَوَّعَ مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ؟ وَإِمَّا أَنْ يُقَامَ لِهَذَا بِكِفَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كانت ولاية القضاء من فروض الكافيات، كَانَ رِزْقُ الْقَاضِي بِمَثَابَةِ وِلَايَتِهِ. فَإِنِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ، مَعَ إِعْوَازِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لِلْقَاضِي مِنْ أَمْوَالِهِمْ رِزْقًا دَارًا جَازَ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أعيان الخصوم. (فصل: ما يكتبه القاضي من محاكمة الخصمين) . وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي مِنْ مُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَهُمَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْأَلَاهُ الْكِتَابَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَسْأَلَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَسْأَلَاهُ إِيَّاهَا كَانَ الْقَاضِي مَنْدُوبًا إِلَى إِثْبَاتِ مُحَاكَمَتِهَا فِي دِيوَانِهِ، مَشْرُوحَةً بِمَا انْفَصَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِلْزَامٍ أَوْ إِسْقَاطِ احْتِيَاط لِلْمُتَحَاكِمَيْنِ. وَوُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ بِالْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدِ اسْتَوْفَى وَقَبَضَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِثْبَاتُهُ وَكَانَ بِإِثْبَاتِهِ مُسْتَظْهِرًا. وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَالُ لِاشْتِهَارِهَا لَا ينسى مثلها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 294 لَمْ يَجِبْ إِثْبَاتُهَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِظْهَارِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْسَى مِثْلَهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إثباتها ليتذكر بخطه ما حكم وألزم لأنه كَفِيلٌ لِيَحْفَظَ الْحُقُوقَ عَلَى أَهْلِهَا فَالْتَزَمَ بِذَلِكَ مَا يَؤُولُ إِلَى حِفْظِهَا. وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَا حَكَمَ بِهِ لِيَكُونَ حُجَّةً بِيَده فَالَّذِي يَكْتُبُهُ الْقَاضِي كِتَابَانِ: أَحَدُهُمَا: مَحْضَرٌ. وَالثَّانِي: سِجِلٌّ. وَالْمَحْضَرُ: حِكَايَةُ الْحَالِ، وَالسِّجِلِّ حِكَايَةُ الْمَحْضَرِ، مَعَ زِيَادَةِ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِهِ. وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَحْضَرُ مِنْ حِكَايَةِ الْحَالِ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: صِفَةُ الدَّعْوَى، بَعْدَ تَسْمِيَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَا يَعْقُبُهَا مِنْ جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ. وَالثَّالِثُ: حِكَايَةُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى وَجْهِهَا فَإِنْ حَكَى شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا وَإِنَّ الْآخَرَ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ جَازَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَهُ الشَّاهِدُ في أدائه ونكره فِي الْمَحْضَرِ لَمَنَعْنَا مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ. وَالرَّابِعُ: ذِكْرُ التَّارِيخِ فِي يَوْمِ الْحُكْمِ مِنْ شَهْرِهِ وَسَنَتِهِ، وَلَوْ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرَ مَا أَدَّاهُ الشُّهُودُ مِنْ تَارِيخِ التَّحَمُّلِ كَانَ حَسَنًا وَإِنْ تَرَكَهُ قُضَاةُ زَمَانِنَا. وَأَمَّا السِّجِلُّ فَيَتَضَمَّنُ سِتَّةَ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: تَصْدِيرُهُ بِحِكَايَةِ إِشْهَادِ الْقَاضِي بِجَمِيعِ مَا فِيهِ. وَالثَّانِي: حِكَايَةُ مَا تَضَمَّنَهُ الْمَحْضَرُ مِنَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ. وَالثَّالِثُ: حِكَايَةُ إِمْهَالِ الْقَاضِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِيَأْتِيَ بِحُجَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَا شَهِدَ عَلَيْهِ فَعَجَزَ عَنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بِهَا. وَالرَّابِعُ: إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَإِلْزَامُهُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْحَاكِمِ. وَالْخَامِسُ: إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَمْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَالسَّادِسُ: تَارِيخُ يَوْمِ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ السِّجِلَّ بِهَذِهِ الْفُصُولِ السِّتَّةِ، بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ فِيهِ، جَعَلَهُ عَلَى نُسْخَتَيْنِ عَلَّمَ الْقَاضِي فِيهِمَا بِعَلَامَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ بِخَطِّهِ لِيَتَذَكَّرَ بِهَا حُكْمَهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ وَأَشْهَدَ فِيهِمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَوَضَعَ الْأُخْرَى فِي دِيوَانِهِ حُجَّةً يُقَابِلُ بِهَا سِجِلَّ الْخَصْمِ إِنْ أَحْضَرَهُ مِنْ بَعْدُ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ نُسْخَةِ السِّجِلِّ الْمَوْضُوعَةِ فِي دِيوَانِهِ إِلَى إِثْبَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي دِيوَانِهِ وَأَغْنَاهُ السِّجِلُّ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَلَوِ اسْتَظْهَرَ بِإِثْبَاتِ اسْمِ السِّجِلِّ فِيهِ كَانَ أحوط. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 295 فَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشُّهُودِ الَّذِينَ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَوْلَى مِنْهُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ. فَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ تَرْكَ تَسْمِيَتِهِمْ أَوْلَى وَهُوَ أَحْوَطُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ فِيهِ أَوْلَى وَهُوَ أَحْوَطُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِمَّا لَعَلَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ جَرْحِهِمْ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ عَدَلَ عَنْ كُتُبِ السِّجِلِّ إِلَى أَنْ زَادَ فِي الْمَحْضَرِ إِنْفَاذَ حُكْمِهِ وَإِمْضَائِهِ بَعْدَ إِمْهَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الشَّهَادَةَ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا وَعَلِمَ فِيهِ وَأَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ. (الْقَضَاءُ على الغائب) (مسألة) : قال الشافعي: " فَإِنْ قَبِلَ الشَّهَادَةَ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِ خَصْمٍ فَلَا بَأْسَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ فَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا بَيِّنَةٌ لَمْ تُسْمَعْ، لِأَنَّ سَمَاعَهَا غَيْرُ مُفِيدٍ وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَا بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ. فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ سَمَاعُ حُكْمٍ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ سَمَاعُ تَحَمُّلٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. فَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا تخلو غيبته من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنِ الْحُكْمِ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ وَإِمْضَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بَعْدَ إِعْلَامِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ. فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ مَا عَسَاهُ يَدْفَعُ بِهِ الْحُجَّةَ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْحُكْمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ، فِيمَا يُنْقَلُ وَلَا يُنْقَلُ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِحَاضِرٍ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحَاضِرٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 296 الْمَيِّتِ وَعَلَى مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَمِنْ شَرْطِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَحْكُومَ لَهُ عَلَى بَقَاءِ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فِيمَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ، إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِحَاضِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْحَاضِرِ لِقَوْلِهِ: غَصَبَنِي هَذَا وَفُلَانٌ الْغَائِبُ عَبْدًا أَوِ ابْتَاعَا مِنِّي دَارًا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِيمَا يَنْقُلُ، وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَنْقُلُ مِنَ الْعَقَارِ، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَحَاضِرًا فِي بَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. أَوْ يَكُونُ كَالْحَاضِرِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ كَالْحَاضِرِ فِي الْمَجْلِسِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ كَالْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ، قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَحْكُمُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ وَرَاءَ جِدَارٍ، فَهَذِهِ أَحْوَالُ الْغَائِبِ وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي القضاء عليه. (في المنع من القضاء على الغائب) . (فَصْلٌ) : وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] فَدَلَّ هَذَا الذَّمُّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ لِلْحُكْمِ وَلَوْ نَفَّذَ الْحُكْمَ مَعَ الْغَيْبَةِ لَمْ يَجِبِ الْحُضُورُ وَلَمْ يُسْتَحَقَّ الذَّمُّ. وَبِمَا رَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيَمَنَ وَقَالَ لِي: " يَا عَلِيُّ: إِنَّ النَّاسَ سَيَتَقَاضُونَ إِلَيْكَ، فَإِنْ أَتَاكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ وَتَعْلَمَ لِمَنِ الْحَقُّ " قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ. قَالُوا فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ إِلَّا بَعْدَ سَمَاعِ قَوْلِ الْخَصْمِ فَمَنَعَ هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ شَرْعًا. ثُمَّ مَنَعَ مِنْهُ عُرْفًا قول الشاعر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 297 (حَضَرُوا وَغِبْنَا عَنْهُمُ فَتَحَكَّمُوا ... فِينَا وَلَيْسَ كَغَائِبٍ مَنْ يَشْهَدُ) قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَيْرِ مَأْيُوسٍ مِنْ إِقْرَارِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ قَبْلَ إِنْكَارِهِ كَالْحَاضِرِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ فصل الحكم قد يكون بينة الْمُدَّعِي تَارَةً، وَبِيَمِينِ الْمُنْكِرِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فَصْلُ الْحُكْمِ بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعِي، لَمْ يَجُزْ فَصْلُهُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي مَعَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ كَالْيَمِينِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ لِلْغَائِبِ تَارَةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لِلْغَائِبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ لَهُ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَمَا شَهِدْتَهُ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْغَائِبِ حَقٌّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: " كَانَ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خصمان فتواعدا مَوْعِدًا فَوَفَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَفِ الْآخَرِ قَضَى لِلَّذِي وَفَّى عَلَى الَّذِي لَمْ يَفِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِدَعْوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى لَهُ بِالْبَيِّنَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ زَوْجَةَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرًّا فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ فَقَالَ لَهَا: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " وَهَذَا قَضَاءٌ منه على غائب لأن أبي سُفْيَانَ لَمْ يَحْضُرْ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْهُ فُتْيَا وَلَيْسَ بِحُكْمٍ، قِيلَ بَلْ هُوَ حُكْمٌ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا: " خُذِي " وَلَوْ كَانَ فُتْيَا، لَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذِي فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ. قِيلَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ حُكْمٌ بِمَجْهُولٍ، لِأَنَّهُ قَالَ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وقيل: لأن الواجب لها ولولدها معتبر بالكافية، وَالْحُكْمُ بِالْوَاجِبِ غَيْرُ مَجْهُولٍ. وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِجْمَاعٌ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ أُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَبَقَ الْحَاجَّ فَأَدَانَ مَعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْضُرْ غَدًا لِنَقْسِمَ مَالَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَلَيْسَ لَهُ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِ فِي النَّاسِ مُخَالِفٌ فكان إجماعا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 298 وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ جَازَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عَلَيْهِ كَالْحَاضِرِ، وَلِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ عَنْ سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ حَاضِرًا يُقَدَّمُ عَلَى سُؤَالِهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ قِيلَ: سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ تَحَمُّلٌ، فَجَازَ مَعَ الْغَيْبَةِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. قِيلَ: التَّحَمُّلُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَقَدُّمُ الدَّعْوَى فَثَبَتَ أَنَّهُ لِلْحُكْمِ دُونَ التَّحَمُّلِ. وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِلَ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَاهَا: فَمِنْهَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَضَرَ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دُيُونِهِ وَأَنْكَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَكَالَتَهُ فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ بِالْوِكَالَةِ حَكَمَ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ وَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ قَبْضَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَاضِرِ. وَمِنْهَا أَنَّ شَفِيعًا لَوِ ادَّعَى عَلَى حَاضِرٍ ابْتِيَاعَ دَارٍ مِنْ غَائِبٍ يَسْتَحِقُّ شُفْعَتَهَا فَأَنْكَرَ الْحَاضِرُ الشِّرَاءَ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ بِالِابْتِيَاعِ حُكِمَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيْعِ وَعَلَى الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ وَأَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِلشَّفِيعِ. وَمِنْهَا أَنَّ امْرَأَةً لَوِ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَنَّ هَذَا وَلَدُهُ مِنْهَا وَأَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ وَسَأَلَتْ أَنْ يُحْكَمَ لَهَا عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ وَلَدِهَا فِي مَالِهِ الْحَاضِرِ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ غَائِبٌ. وَمِنْهَا أَنَّ حَاضِرًا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ وَقَدْ مَنَعَهُ ثَمَنَهُ وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً حَكَمَ عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ وَبَاعَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ وَقَضَاهُ حَقَّهُ مَنْ ثَمَنِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَبْدًا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ مَوْلَاهُ الْغَائِبَ أَعْتَقَهُ لِيَقْتَصَّ مِنْ يَده قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِعِتْقِهِ وَحَكَمَ لَهُ بِالْقِصَاصِ مِنْ يَدِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَشْبَاهِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا عَدَاهَا. فَإِنْ قِيلَ إِنْ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِحَاضِرٍ قِيلَ فَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِحَاضِرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ. وَلِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ إِضَاعَةً لِلْحُقُوقِ الَّتِي نُدِبَ الْحُكَّامُ لِحِفْظِهَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ كُلُّ مَانِعٍ مِنْهَا أَنْ يَغِيبَ، فَيُبْطِلُهَا مُتَوَارِيًا أَوْ مُتَبَاعِدًا، وَالشَّرْعُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ ". وَلِأَنَّ الْغَائِبَ لَوْ حَضَرَ لَكَانَ بَيْنَ إِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ فَإِنْ أَقَرَّ فَالْبَيِّنَةُ مُوَافَقَةٌ وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْغَيْبَةِ مَانِعٌ مِنَ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَالَتَيْ إقراره وإنكاره. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 299 فَإِنْ قِيلَ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ. قِيلَ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ مُمْكِنًا وَبِخِلَافِهِ إِذَا كَانَ معتذرا. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْبَيِّنَةِ بِالْجَرْحِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْغَيْبَةِ. قِيلَ يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِالْجَرْحِ فَيُسْقِطُهَا وَيَنْتَقِضُ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ نُفُوذُ الْحُكْمِ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الْحَاضِرِ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِلْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَمَّهُ بِالْإِعْرَاضِ، وَذَمُّهُ أَحَقُّ بِوُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَتَاكَ الْخَصْمَانِ فَكَانَ وَارِدًا فِي الْحَاضِرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الْحَاضِرِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْغَائِبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحَاضِرِ: فَهُوَ أَنَّ سُؤَالَهُ مُمْكِنٌ، وَسُؤَالُ الْغَائِبِ مُتَعَذِّرٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ، فَهُوَ وُجُودُ الدَّعْوَى فِي الْبَيِّنَةِ، فَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا وَعَدَمُ الدَّعْوَى فِي يَمِينِ الْمُنْكِرِ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ، فَهُوَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ تَأْخِيرَهُ وَلَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ الحق تأخيره. (فصل: القضاء على الغائب مخصوص ببعض الحقوق) . فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا جَوَازُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهَا عَلَى غَائِبٍ كَحَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الْخَمْرِ لِاتِّسَاعِ حُكْمِهَا بِالْمُهْلَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ كَالسَّرِقَةِ قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْغُرْمِ وَلَمْ يقض عليه بالقطع إلا بعد حضوره. (ما على القاضي في الاستعداء إليه) . فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجَبَ أَنْ نَصِفَ مَا عَلَى الْقَاضِي فِي الِاسْتِعْدَاءِ إِلَيْهِ وَالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ. فَإِذَا تَشَاجَرَ خَصْمَانِ فِي حَقٍّ وَدَعَا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَى الْحُضُورِ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 300 وَجَبَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ وَالْحُضُورُ لِمُحَاكَمَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سمعنا وأطعنا} . فَإِنِ امْتَنَعَ وَحَضَرَ الطَّالِبُ مُسْتَعْدِيًا إِلَى الْقَاضِي عَلَى خَصْمِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَصْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي بَلَدِ الْقَاضِي أَوْ غائبا عنه. (الخصم الحاضر في بلد القاضي) . فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي بَلَدِهِ: وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِعْدَاءُ الْمُسْتَعْدِي وَإِحْضَارُ خَصْمِهِ لِمُحَاكَمَتِهِ قَبْلَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَتَحْرِيرِهَا سَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَوْ لَمْ يَعْرِفْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْضِرَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً أَوْ خُلْطَةً فَيُحْضِرُهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهَا لَمْ يَحْضُرِ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُعْدِي الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمٍ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بَيْنَهُمْ مُعَامَلَةً " وَلَا مُخَالِفَ لَهُ. وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْذَالُ أَهْلِ الصِّيَانَةِ بِمَا لَا يُعْلَمُ اسْتِحْقَاقُهُ فَوَجَبَ حِفْظُ صِيَانَتِهِمْ إِلَّا بِمُوجِبٍ. وَدَلِيلُنَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ عَنِ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ اسْتَعْدَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على رجل في حق له فقال له الْزَمْهُ. وَلَمْ يَسْتَعْلِمْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الْإِعْدَاءِ فِي الْجَمِيعِ. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ قَدْ تَثْبُتُ تَارَةً عَنْ مُعَامَلَةٍ وَتَارَةً عَنْ غَيْرِ مُعَامَلَةٍ كَالْغُصُوبِ وَالْجِنَايَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْعَلَ الْمُعَامَلَةَ شَرْطًا فِي الْإِعْدَاءِ. وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَ لِحِفْظِ الصِّيَانَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُضُورِ لِلْمُحَاكَمَةِ اسْتِبْذَالٌ لِلصِّيَانَةِ. وَقَدْ قَاضَى عُمَرُ أُبَيًّا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَاضَى عَلِيٌّ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ. وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَقْوَى وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي فِي أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَنْ يُفْرِدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِ الْعَامَّةِ وَيَنْظُرَ بَيْنَهُمْ فِي مَنْزِلِهِ بِحَيْثُ يَحْفَظُ بِهِ صِيَانَتَهُمْ. (فَصْلٌ: [استدعاء الخصم] ) وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعْدِيَ كُلَّ مُسْتَعْدٍ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ كَانَ الْقَاضِي فِي إِعْدَائِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنْفِذَ مَعَهُ عَوْنًا مِنْ أُمَنَائِهِ يُحْضِرُهُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتِمَ لَهُ فِي طِينٍ بِخَاتَمِهِ الْمَعْرُوفِ يَكُونُ عَلَامَةَ اسْتِدْعَائِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَوْنِ وَالْخَتْمِ بِحَسْبِ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْخَصْمِ وَضَعْفِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 301 فَإِنْ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِامْتِنَاعِ الْخَصْمِ مِنَ الْحُضُورِ بَعْدَ اسْتِدْعَائِهِ فَإِنْ أَخْبَرَهُ الْعَوْنَ الَّذِي قَدِ ائْتَمَنَهُ، قَبْلَ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِهِ الْمُسْتَعْدِي لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْبَلُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ شَاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمَا. وَالْعَدَالَةُ عِنْدَنَا شَرْطٌ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ. فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُضُورِ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. إِمَّا أَنْ يُحْضِرَهُ جَبْرًا بِأَهْلِ الْقُوَّةِ مِنْ أَعْوَانِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُنْهِيَ أَمْرَهُ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ يَحْضُرُهُ جَبْرًا، بَعْدَ أَنْ لَا يَهْتِكَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى حُرَمِهِ سِتْرًا. وَإِمَّا بِمَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ، أَنْ يُنَادِيَ عَلَى بَابِهِ، بِمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي الِامْتِنَاعِ وَبِمَا يُمْضِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُهُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَأَلَ الْقَاضِي هَذَا الْمُدَّعِيَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَذِنَ لَهُ فِي إِحْضَارِهَا وَأَمَرَهُ بِتَحْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَسَمِعَ بِبَيِّنَتِهِ بَعْدَ تَحْرِيرِهَا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَى بَابِهِ، بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَيَجْرِي مَجْرَى الْغَائِبِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِي فِي حَقِّ هَذَا الْمُتَوَارِي أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا قَبَضَ هَذَا الْحَقَّ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، كَمَا يُحْلِفُهُ لِلْغَائِبِ لِأَنَّ هَذَا قَادِرٌ بِحُضُورِهِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَافْتَرَقَا فِيهِ. فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَيْسَتْ لِي بَيِّنَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَكُونُ هَذَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الْحُضُورِ كَالنُّكُولِ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ نُكُولًا، لِأَنَّ النُّكُولَ بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَسُؤَالِهِ عَنِ الْجَوَابِ، فَيَصِيرَانِ شَرْطَيْنِ فِي النُّكُولِ، وَهُمَا مَفْقُودَانِ مَعَ عَدَمِ الْحُضُورِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يُجْعَلَ كَالنُّكُولِ بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَى بَابِهِ بِمَبْلَغِ الدَّعْوَى وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِوُجُودِ شَرْطَيِ النُّكُولِ فِي هَذَا النِّدَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الدَّعْوَى مُحَرَّرَةً، ثُمَّ يُعِيدُ النِّدَاءَ عَلَى بَابِهِ ثَانِيَةً بِأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 302 فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ بَعْدَ النِّدَاءِ الثَّانِي، حَكَمَ بِنُكُولِهِ، وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ له بالدعوى إذا حلف. (استدعاء الخصم إن كان امرأة) . فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ امْرَأَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا، مِنْ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً أَوْ خَفِرَةً. فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً - وَالْبَرْزَةُ الَّتِي تَتَظَاهَرُ بِالْخُرُوجِ فِي مَآرِبِهَا غَيْرَ مُسْتَخْفِيَةٍ فَتَصِيرُ بِهَذَا الْبُرُوزِ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ الْحُضُورِ لِلْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً وَالْخَفِرَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَتَظَاهَرُ بِالْخُرُوجِ فِي أَرَبٍ وَإِنْ خَرَجَتِ اسْتَخْفَتْ وَلَمْ تُعْرَفْ فَلَا يَلْزَمُهَا الْحُضُورُ مَعَ هَذَا الْخَفَرِ، وَعَلَى الْقَاضِي إِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ عَلَيْهَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا فِي مَنْزِلِهَا، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبٍ عَنْهُ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَخَصْمُهَا فِي الْبُرُوزِ وَالْخَفَرِ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ نِسَائِهِمُ الْخَفَرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهَا الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ نِسَائِهِمُ الْبُرُوزُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَصْمِ مع يمينه. (فصل: [الخصم الغائب عن بلد القاضي] ) . وإن كان الخصم المطلوب غائب عَنْ بَلَدِ الْقَاضِي: لَمْ يَخلُ أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْضَارُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. وَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، لِيُكَاتِبَ بِهِ قَاضِيَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَطْلُوبُ. وَلَهُ فِي مُكَاتَبَتِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُكَاتِبَهُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، لِيَتَوَلَّى الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْحُكْمَ بِهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ وَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ سَمَاعِهَا وَيُكَاتِبَ الْقَاضِيَ بِحُكْمِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ. وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ لَا يَحْكُمَ لَهُ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةٍ: أَنَّهُ مَا قَبَضَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَلَا بَرِئَ إِلَيْهِ مِنْهُ وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي عَيْنٍ قَائِمَةٍ أَحْلَفَهُ، أَنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا بَاقٍ مَا زَالَ عَنْهَا وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 303 وَإِنَّمَا أَحْلَفَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، فَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، إِلَّا بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُطَالِبُ الْمَحْكُومَ لَهُ بِكَفِيلٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحُكْمِ فَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُطَالَبَتَهُ بِالْكَفِيلِ لَا تَجِبُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَفَالَةٌ بِغَيْرٍ مُسْتَحِقٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى الْغَائِبِ كَقَضَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالصَّبِيِّ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَخْذُ الْكَفَالَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ. وَيَشْتَرِطُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ عَلَى الْغَائِبِ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى حَقٍّ وَحُجَّةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ إِطْلَاقُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ إِبْطَالَ حُجَجِهِ وَتَصَرُّفِهِ. وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا فِي إِعْمَالِ هَذَا الْقَاضِي: لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ نَائِبٌ مُرَتِّبٌ لِلْأَحْكَامِ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ نَائِبٌ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِحْضَارُهُ وَكَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَصْلَحِ لِلْخَصْمِ مِنْ إِنْفَاذِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ لِمُحَاكَمَةِ خَصْمِهِ، أَوْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَمُكَاتَبَةِ خَلِيفَتِهِ به. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْغَائِبِ خَلِيفَةٌ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ يَرْجِعُ مِنْهَا إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ مَنَامِ النَّاسِ أَحْضَرَهُ وَإِنْ بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُحْضِرْهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْضَرُ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُحْضِرُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ لِئَلَّا يَتَمَانَعَ النَّاسُ فِي الْحُقُوقِ بِالتَّبَاعُدِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِحْضَارُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ شَرْطًا فِي انْتِقَالِ وِلَايَةِ الْغَائِبِ فِي النِّكَاحِ إِلَى الْحَاكِمِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارٍ فِي إِحْضَارِ الْخَصْمِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدَّمِ. وَإِذَا لَزِمَ إِحْضَارُ الْغَائِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَهُ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَصِحَّةِ سَمَاعِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى. حُكِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَقَدَّمَا إِلَى قَاضٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَخَا هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ هَذَا قَتَلَهُ غَيْرِي فَمَاذَا عَلَيَّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 304 وَهَذَا جَوَابٌ صَحِيحٌ عَنْ فَسَادِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَكَانَ مِنْ صِحَّتِهَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ أَخَاهُ قَتَلَ أَخِي، وَأَنَا وَارِثُهُ، وَهَذَا مِنْ عَاقِلَتِهِ، لِتَتَوَجَّهَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْضِرَ الْغَائِبَ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى بِمَا يَصِحُّ سَمَاعُهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا بِبَيِّنَةٍ أو يمين. ولو كان الدَّعْوَى عَلَى حَاضِرٍ فِي الْبَلَدِ، جَازَ لِلْقَاضِي إِحْضَارُهُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي إِحْضَارِ الْغَائِبِ مَشَقَّةً، فَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بَعْدَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ فِي إِحْضَارِ مَنْ فِي الْبَلَدِ مَشَقَّةٌ، فَجَازَ إِحْضَارُهُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدعوى. (فصل: سير الدعوى حين حضور الخصمين) فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، مِنْ وَاجِبِ إِعْدَاءِ الْمُسْتَعْدِي، وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، فَفَصْلُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: ابْتِدَاءُ الْمُدَّعِي بِتَحْرِيرِ الدَّعْوَى، لِتَنْتَفِيَ عَنْهَا الْجَهَالَةُ، إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالْوَصَايَا فَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَهَا مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَجْهُولَةً وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فِيمَا عَدَاهَا إِلَّا مَعْلُومَةً. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ جَازَ فَهَلَّا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ مَجْهُولًا. قِيلَ: لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْإِقْرَارِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَلَزِمَ بِالْمَجْهُولِ خِيفَةَ إِنْكَارِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بالدعوى حق لغيره. (منع الجهالة) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّعْوَى عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ مِنْ دَارٍ وَعَقَارٍ فَالْعِلْمُ بِهَا يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ذِكْرُ بَلَدِهَا، وَذِكْرُ مَكَانِهَا، وَذِكْرُ حُدُودِهَا الْأَرْبَعَةِ. فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ مِنْهَا، لَمْ يُقْنِعْ وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنِ اشْتَهَرَتِ الدَّارُ بِاسْمٍ فِي الْبَلَدِ لَا يُشَارِكُهَا غَيْرُهَا فِيهِ، مَيَّزَهَا بِذِكْرِ الِاسْمِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ. وَلَفْظُ الدَّعْوَى فِي مِثْلِهَا، أَنْ يَقُولَ: لِي فِي يَدِهِ، وَلَا يَقُولُ: لِي عَلَيْهِ، وَلَا عِنْدَهُ. ثُمَّ يَصِلُ هَذِهِ الدَّعْوَى، بِأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ قَدْ بَاعَهَا عَلَيَّ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا، وَلَا يَلْزَمْ مَعَهُ الْبَيْعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِيهِ، فَتَنْتَقِلُ الدَّعْوَى إِلَى الْبَيْعِ فتوصف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 305 فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهُ بِهَا حَقٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، مِنْ أُجْرَةِ سُكْنَاهَا، أَوْ قِيمَةِ مُسْتَهْلَكٍ مِنْهَا. فَإِنْ قَالَ وَقَدْ نَازَعَنِي فِيهَا لَمْ تَصِحَّ، لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ دَعْوَى تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ قَدْ عَارَضَنِي فِيهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى. فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَيَسْأَلُ الْخَصْمُ عَنْهَا، لِأَنَّ فِي الْمُعَارَضَةِ رَفْعُ يَدِ مُسْتَحِقِّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى، حَتَّى يَصِفَ الْمُعَارَضَةَ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الدَّعْوَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِيمَا يُنْقَلُ، فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَقَدْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: ثَمَنٌ، وَأُجْرَةٌ، وقرض وقيمة متلف وعقل سلم. وَلَفْظُ الدَّعْوَى فِيهِ أَنْ يَقُولَ: لِي عَلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ لِي بِيَدِهِ. فَإِنْ قَالَ: " لِي عِنْدَهُ "، جَازَ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّ عِنْدَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ عَلَى اتِّسَاعًا. وَهُوَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ أَوْ لَا يَذْكُرَهُ، بَعْدَ أَنْ يَصِفَ مَا يَدَّعِيهِ فِي الذمة، بما ينفيه عَنْهُ الْجَهَالَةَ. فَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَمٍ اسْتَوْفَى أَوْصَافَ السَّلَمِ كُلَّهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنِ، أَوْ أُجْرَةٍ، أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ، صَارَ مَعْلُومًا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: ذِكْرُ قَدْرِهِ، وَذِكْرُ جِنْسِهِ، وَذِكْرُ نوعه، وذكر صفته. فالقدر: أن يقول: أَلْفٌ أَوْ مِائَةٌ. وَالْجِنْسُ: أَنْ يَقُولَ: دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ. وَالنَّوْعُ: أَنْ يَقُولَ فِي الدَّرَاهِمِ: بِيضٌ أَوْ سُودٌ، وَفِي الدَّنَانِيرِ مَشْرِقِيَّةٌ أَوْ مَغْرِبِيَّةٌ، وَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى طَابَعٍ ذَكَرَ الطَّابِعَ، لَا سِيَّمَا إِذَا اخْتَلَفَتْ بِهِ الْقِيمَةُ. وَالصِّفَةُ: أَنْ يَقُولَ: عُتُقٌ أَوْ جُدُدٌ، صِحَاحٌ أَوْ كُسُورٌ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عُتُقُهَا وَجُدُدُهَا، وَلَا صِحَاحُهَا وَكُسُورُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 306 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّعْوَى، وَإِنْ جَازَ إِطْلَاقًا فِي الْأَثْمَانِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ زَمَانَ الْعَقْدِ يُقَيِّدُ صِفَةَ الْأَثْمَانِ بِالْغَالِبِ مِنَ النُّقُودِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَانِ الدَّعْوَى لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الدَّعْوَى مَشْرُوطًا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى قَائِمَةً فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً فَتَصِحُّ الدَّعْوَى لَهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصِّفَةِ. وَلَفْظُ الدَّعْوَى: أَنْ يَقُولَ: لِي فِي يَدِهِ هَذَا الْعَبْدُ، أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ. فَإِنْ قَالَ: لِي عِنْدَهُ، جَازَ. وَإِنْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ، جَازَ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ غَائِبَةً فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضْبَطَ بِالصِّفَةِ، كَالْحُبُوبِ، وَالْأَدْهَانِ، مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَيَصِفُهَا، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ قِيمَتِهَا، لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي ذِي الْمِثْلِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ وَلَيْسَ بِذِي مِثْلٍ، كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، لَزِمَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ، وَيَسْتَظْهِرَ بِذِكْرِ قِيمَتِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا مَعَ التَّلَفِ، فَإِنْ أَغْفَلَ الْقِيمَةَ جَازَ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا تُضْبَطُ بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ، وَالْجَوْهَرِ، فَعَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى ذِكْرُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْأَلْوَانِ ذَكَرَ اللَّوْنَ، ثُمَّ حَرَّرَ الدَّعْوَى وَنَفَى الْجَهَالَةَ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إِلَّا بِهَا. فَهَذَا شَرْحُ مَا تَصِيرُ الدَّعْوَى بِهِ مَعْلُومَةً يَصِحُّ سَمَاعُهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا قَصَّرَ فِيهِ وَلَا يَبْتَدِئُهُ بِالتَّعْلِيمِ. فَإِنْ عَلَّمَهُ تَحْرِيرَ الدَّعْوَى فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلِمَهُ احْتِجَاجًا وَلَا يُلَقِّنَهُ إِقْرَارًا، وَإِنْكَارًا، فَهَذَا حُكْمُ الدَّعْوَى. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى فِيهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ دَعْوَاهُ مُطَالَبَةَ خَصْمِهِ بِمَا ادعاه عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 307 فَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: قَدْ سَمِعْتَ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْكَ فَمَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَإِنْ أَجَابَ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ كَانَ جَوَابًا مُقْنِعًا. وَلَوْ قَدَّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَوَابَ الدَّعْوَى قَبْلَ سُؤَالِهِ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ إقرار أَخَذَ بِهِ، وَصَارَ الْقَاضِي فِيهِ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ. فَإِنْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ أَمْسَكَ عَنْ سُؤَالِهِ لِاعْتِرَافِهِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ. وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ صَارَ شَاهِدًا فِيهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ سُؤَالِهِ، وَيَكُونُ وُجُوبُ سُؤَالِهِ بَاقِيًا. وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ إِنْكَارًا لَمْ يُقْنِعْ وَسُئِلَ عَنِ الْجَوَابِ، حَتَّى يَكُونَ إِنْكَارُهُ بَعْدَ السُّؤَالِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ الْجَوَابُ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى السُّؤَالِ لَا يَكُونُ جَوَابًا. فَإِنْ بَدَأَ الْقَاضِي بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُدعي بِسُؤَالِهِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ الْقَاضِي وَيَكُونُ السُّؤَالُ لَغْوًا يُعْتَدُّ فِيهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَدُّ فِيهِ بِإِنْكَارِهِ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ هَذَا السُّؤَالُ وَيَصِحُّ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَال يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّعِي لِسُؤَالِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ سُؤَالِهِ. وَلَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَفَرَّدَ بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ الْجَوَابُ عَنْهُ، حَتَّى يَكُونَ الْقَاضِي هُوَ السَّائِلُ لَهُ فَيَلْزَمُهُ الْجَوَابُ لِأَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي مُخْتَصٌّ بِالْمُطَالَبَةِ دُونَ السُّؤَالِ. فَإِنْ أَجَابَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سُؤَالِهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ، فَهَلْ يَقُومُ سُؤَالُهُ مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَ سُؤَالِهِ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْأَلُ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِالسُّؤَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ جَوَابِهِ لِلْمُدَّعِي كَحُكْمِ جَوَابِهِ لِلْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْكَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقُومُ سُؤَالُ الْمُدَّعِي مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي، إِذَا قِيلَ إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَبْدَأَ بِسُؤَالِهِ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَوَابُهُ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْ إِلْغَاءِ إِنْكَارِهِ وَيَصِيرُ فِي إِقْرَارِهِ كَالْحَاكِمِ فِيهِ بِعِلْمِهِ. فَصَارَ جَوَابُهُ مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي السُّؤَالِ، مُنْقَسِمًا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 308 والثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي قَبْلَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي فَيُجِيبُ وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي جَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلَيْسَ تَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنِ الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقِرَّ وَلَا يُنْكِرَ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا أَقَرَّ؛ فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِهِ وَيُلْزِمَهُ أَدَاؤُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِ طَالِبٍ فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي قَدْ أَقَرَّ لَكَ بِمَا ادَّعَيْتَ فَمَاذَا تُرِيدُ؟ وَلَا يَقُولُ لَهُ: قَدْ سَمِعْتُ إِقْرَارَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ أَقَرَّ حُكْمٌ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ قَدْ سَمِعْتَ الْإِقْرَارَ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ. فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْمُدَّعِي بِالْحُكْمِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَصَرَفَهُمَا. وَكَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَنَجَّزَ مِنَ الْقَاضِي مَحْضَرًا بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ دُونَ الْحُكْمِ بِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ الْمُقِرِّ قَبْلَ الْحُكْمِ. وَإِنْ سَأَلَهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، حَكَمَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِإِقْرَارِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَلْزَمْتُكَ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: اخْرُجْ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ فِي إِقْرَارِكَ. وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَنَجَّزَ مِنَ الْقَاضِي مَحْضَرًا، بِثُبُوتِ الْحَقِّ، وَبِإِنْفَاذِ حُكْمِهِ بِهِ. وَلَهُ مُلَازَمَةُ الْمُقِرِّ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ. وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ، إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ عَنْ تَرَاضٍ. وَلَا يُسْقِطُ حَقُّهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ بِإِقَامَةِ الْكَفِيلِ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُلَازَمَةِ كَمَا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَنِ الْكَفَالَةِ عَلَى تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الِاتِّفَاقُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مُلَازَمَتِهِ بَعْدَ تَخْلِيَتِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 309 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ الدَّعْوَى، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: قَدْ أَنْكَرَكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَدْ سَمِعْتَ إِنْكَارَهُ، بِخِلَافِهِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لِتَرَدُّدِ الْإِقْرَارِ بَيْنَ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ، وَعَدَمِهِ فِي الْإِنْكَارِ. وَيَكُونُ الْقَاضِي فِي إِخْبَارِهِ بِالْإِنْكَارِ بَيْنَ خِيَارَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: قَدْ أَنْكَرَكَ فَهَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: قَدْ أَنْكَرَكَ فَمَا عِنْدَكَ فِيهِ؟ . والْأَوَّلُ أَوْلَى، مَعَ مَنْ جَهِلَ، وَالثَّانِي أَوْلَى مَعَ مَنْ عَلِمَ. وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي إِنْكَارِ الدَّعْوَى مَوْقُوفًا عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ بِهَا، وَعَلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِهَا لِإِسْقَاطِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا. وَلِلْمُدَّعِي للخيار فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِقَامَتِهَا. وَلِلْمُنْكَرِ الْخِيَارُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْحَلِفِ بِهَا وَالْحُكْمِ فِيهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. فَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: نَعَمْ كَانَ تَصْدِيقًا لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَبَطَلَتْ بِهِ دَعْوَاهُ. وَلَوْ قَالَ: بَلَى، كَانَ تَكْذِيبًا لَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ دَعْوَاهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نَعَمْ جَوَابُ الْإِيجَابِ، وَبَلَى جَوَابُ النَّفْيِ. وَهَذَا حُكْمُهُ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَفِي اعْتِبَارِهِ فِيمَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ بِالدَّعْوَى وَلَا يُنْكِرَهَا، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاطِقٍ لِخَرَسٍ أَوْ صَمَمٍ. فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ صَارَ بِهَا كَالنَّاطِقِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ النَّاطِقِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ صَارَ كَالْغَائِبِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْغَائِبِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا فَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَقُولَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْكُتَ فَلَا يُجِيبَ بِشَيْءٍ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّاكِلِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 310 وَلَا يُحْبَسُ عَلَى الْجَوَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: احْبِسْهُ حَتَّى يُجِيبَ بِإِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ، وَنَحْنُ لَا نَحْكُمُ بِهِ، فَلَا نَحْبِسُهُ عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ النُّكُولِ. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ: وَالْبَيِّنَةُ تُسْمَعُ عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَصْلٌ هُوَ أَقْوَى وَالْبَيِّنَةَ فَرْعٌ هُوَ أضعف، ولم يجز ترك الأقوى بالأضعف. (شروط سماع البينة) . وَلِسَمَاعِهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى. فَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْجِنْسِ لَمْ تُسْمَعْ. وإن خالفتها في القدر إلى نقصان حكم في القدر بالبينة دون الدعوى. وَإِنْ خَالَفَتْهَا إِلَى زِيَادَةِ حُكِمَ فِي الْقَدْرِ بِالدَّعْوَى دُونَ الْبَيِّنَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُدَّعِي تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ أَكْذَبَهَا فِيهِ رُدَّتْ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ شَاهِدَا الْبَيِّنَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. فَإِنِ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْجِنْسِ رُدَّتْ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ تَمَّتْ فِي الْأَقَلِّ دُونَ الْأَكْثَرِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تُسْمَعَ بَعْدَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ. فَإِنْ سُمِعَتْ قَبْلَ الدَّعْوَى لَمْ تَجُزْ. وَإِنْ سُمِعَتْ بَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الْإِنْكَارِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ سَمَاعُهَا لِوُجُودِهَا بَعْدَ الطَّلَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ سَمَاعُهَا حَتَّى تُؤَدَّى بَعْدَ الْإِنْكَارِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى زَمَانِهَا. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ، فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ، أَنَّ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ كَذَا، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارٍ. فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَلَمْ يَقُلْ وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلِ الِاسْتِرْعَاءَ شَرْطًا فِي تَحَمُّلِ الإقرار صح هذه الْأَدَاءُ. وَإِنْ جَعَلَ الِاسْتِرْعَاءَ شَرْطًا فِي تَحَمُّلِهِ لم يصح. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 311 وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى غَيْرِ إِقْرَارٍ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعٍ حَضَرَهُ أَوْ صَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ شَهِدَهُ أَوْ قَرْضٍ شَاهَدَهُ، فَفِي لُزُومِ ذِكْرِهِ لِلسَّبَبِ فِي أَدَائِهِ وَجْهَانِ، كَقَوْلِهِ فِي أَدَاءِ الْإِقْرَارِ وَأَشْهَدَنِي بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِرْعَاءِ فِي التَّحَمُّلِ. فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا، أَوْ أَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا، أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهَا لِأَنَّ الْخَبَرَ حِكَايَةُ حَالٍ مُضَافَةٍ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْإِلْزَامُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الشَّاهِدِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَهَا إِلَّا بِمَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي لِأَنَّ سَمَاعَهَا حَقٌّ لَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْمَعَهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ وَبِمَشْهَدِهِ. فَإِذَا سَمِعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ. فَإِذَا سَأَلَهُ الْحُكْمَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، لِيَذْكُرَ مَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ، أَوْ يُقِرُّ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ. فَإِنْ حَكَمَ بِهَا قَبْلَ إِعْلَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ جَازَ. وَإِنْ حَكَمَ بِهَا قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ سُؤَالِ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُدَّعِي بِسُؤَالِهِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ لِغَيْرِ طَالِبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ حُكْمُهُ لِأَنَّ شَوَاهِدَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ. فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ: مَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ عَلَيَّ فَهُوَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا مِنْهُ بِمَا يَشْهَدَانِ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ: مَا شَهِدَا بِهِ عَلَيَّ حَقٌّ كَانَ إِقْرَارًا. وَلَوْ قَالَ مَا شَهِدَا بِهِ عَلَيَّ صِدْقٌ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ احْتِمَالٌ، وَالصِّدْقَ قَدْ يَكُونُ فِيمَا قَضَاهُ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ. وَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 312 وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أَحْكُمُ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى يُحْلِفَهُ مَعَهَا، كَمَا لَا أَحْكُمُ لَهُ عَلَى غَائِبٍ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي إِحْلَافِهِ مَعَ بَيِّنَتِهِ قَدْحًا فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْلِفُ فِي الْغَائِبِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ، وَالْحَاضِرُ لَوْ قَضَاهُ لَذَكَرَهُ. فَلَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي إِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ، وَأَرَادَ مُلَازَمَةَ خَصْمِهِ عَلَى إِحْضَارِهِ، سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ الْخَصْمِ وَقِيلَ لَهُ لَكَ الْخِيَارُ فِي تَأْخِيرِهِ إِلَى حُضُورِ بَيِّنَتِكَ، أَوْ تُحْلِفُهُ فَتَسْقُطُ الدَّعْوَى، فَإِنْ حَضَرَتْ بَيِّنَتُكَ لَمْ تَمْنَعِ الْيَمِينُ مِنْ سَمَاعِهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْبَلَدِ، فَأَرَادَ مُلَازَمَتَهُ عَلَى حُضُورِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ مَا كَانَ مَجْلِسُ الْحُكْمِ فِي يَوْمِهِ بَاقِيًا. فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ شَهِدَتْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ جَازَ أَنْ يُلَازِمَهُ إِلَى غَايَةٍ أَكْثَرُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُهَا. وَلَا يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ أَبَدًا مَا كَانَ حُضُورُهَا مُمْكِنًا أَوْ يُعْطِيهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِرِوَايَةِ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ اسْتَعْدَى رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على رجل في حق له، فقال له: الْزَمْهُ. وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي، وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي وَفِي يَدِي أزرعها لا حق له فيها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " فَقَالَ: إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ: " لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ " فَنَفَى اسْتِحْقَاقَ الْمُلَازَمَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فهو أَنَّهُ إِذْنٌ فِي الْمُلَازَمَةِ عَلَى حَقٍّ، وَالْحَقُّ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 313 وَإِحْلَافُهُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِإِحْلَافِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا أَعْلَمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، لِيَرَى رَأْيَهُ فِي إِحْلَافِهِ أَوْ تَرْكِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ إِلَى خِيَارِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ إِحْلَافَهُ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ مَتَى أَرَادَ إِحْلَافَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَوْ قَالَ قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْهَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَسْقُطِ الدَّعْوَى فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَهُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى فَيُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْأَلَ إِحْلَافَهُ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنْ ذِكْرٍ بَيِّنَتِهِ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِحْلَافَ خَصْمِهِ، فَلَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً وَلَا أَنْ لَيْسَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذِكْرَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ خَصْمُهُ. فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَعْدَ إِحْلَافِ خَصْمِهِ بَيِّنَةً سَمِعَهَا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ: لَا يَسْمَعُهَا لِانْفِصَالِ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّعْوَى بِهَا مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْحَقِّ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَوْلَى مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ. وَلِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتًا، وَفِي الْيَمِينِ نَفْيًا، وَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ سَقَطَ حُكْمُ الْيَمِينِ. وَلَيْسَ سُقُوطُ الدَّعْوَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ إِلَّا بِقَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَلَيْسَتِ الْيَمِينُ بِقَبْضِ وَلَا إِبْرَاءٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً غَائِبَةً، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَ خَصْمِهِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ لِأَنَّ الْغَائِبَةَ كَالْمَعْدُومَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ وَلَا تُقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَجَبَ تَعْجِيلُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ. فَإِنْ أَحْلَفَهُ وَحَضَرَتِ الْبَيِّنَةُ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَهُ مَعَ حُضُورِ بَيِّنَتِهِ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 314 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ إِحْلَافُهُ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي إِثْبَاتُ الْحَقِّ دُونَ إِسْقَاطِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَهُ إِحْلَافُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنِ الْيَمِينِ فَيَعْتَرِفَ، وَالْإِقْرَارُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ أَحْلَفَهُ وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ سُمِعَتْ. وَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ إِحْلَافِهِ وَأَرَادَ إِحْلَافَهُ بَعْدَ إِقَامَتِهَا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا. فَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: إِنْ حَلَفَ فَهُوَ بَرِيءٌ فَحَلَفَ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَقَعُ بِالصِّفَاتِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ أَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُ حَاضِرَةً وَلَا غَائِبَةً، وَيَسْأَلُ إِحْلَافَهُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ. فَإِنْ أَحْلَفَهُ ثُمَّ أَحْضَرَ بَعْدَ يَمِينِهِ بَيِّنَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سَمَاعِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهَا بِإِنْكَارِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّهُ يَسْمَعُهَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَهُ بَيِّنَةٌ ثُمَّ يَعْلَمُ، وَلَوْ عَلِمَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لِلْبَيِّنَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، وَوَجَبَ إِحْلَافُ الْمُنْكِرِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِحْلَافِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَهَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يحلفه بها ليعلم إقدامه عليها فيغطه أَوْ يُوقِفُهُ عَنْهَا فَيُحَذِّرُهُ فَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْمُنْكِرُ فِي الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ اسْتِمْهَالُهُ لِيُرَاجِعَ النَّظَرَ فِي حِسَابِهِ أَمْهَلَهُ بِحَسْبِ مَا يُمْكِنُهُ مُرَاجَعَةُ الْحِسَابِ، وَإِنِ اسْتَمهلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُمْهِلْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَكَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ حُكْمِ النُّكُولِ. فَلَوْ سَأَلَ الْمُنْكِرُ إِحْلَافَ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ حَقًّا عَلَى الْمُدَّعِي وَقِيلَ إِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِكَ إِنِ اخْتَارَ. وَلَوْ سَأَلَ الْمُدَّعِي تَأْخِيرَ إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ، لِيَغْلُظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِإِحْلَافِهِ بعد العصر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 315 أَوْ فِي الْجَامِعِ، كَانَ لَهُ مُلَازَمَةُ الْمُنْكِرِ إِنِ اسْتَحَقَّ تَغْلِيظَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَغْلِيظَهَا. فَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى تَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ فَأَرَادَ الْمُدَّعِي أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى أَحَدِهَا وَيَتَوَقَّفَ عَنْ إِحْلَافِهِ فِيمَا عَدَاهُ جَازَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا يَمِينًا يَمِينًا، نُظِرَ: فَإِنْ فَرَّقَهَا فِي الدَّعْوَى جَازَ أَنْ تُفَرَّقَ فِي الْأَيْمَانِ، وَإِنْ جَمَعَهَا فِي الدَّعْوَى لَمْ يَجُزْ أَنْ تُفَرَّقَ فِي الْأَيْمَانِ. وَلَوِ اشْتَرَكَ فِي الدَّعْوَى اثْنَانِ فَأَنْكَرَهُمَا وَجَبَ أَنْ يُحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِيَمِينٍ في حقه فلم يجز أن تتبعض يمنيه فِي حَقِّهِمَا. فَإِنْ رَضِيَا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً فَفِي جَوَازِهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُقُوفِ الْيَمِينِ عَلَى خِيَارِ الْمُدَّعِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ تَبْعِيضِ الْيَمِينِ؛ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْلَفَهُ لَهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا وَاسْتَأْنَفَ إِحْلَافَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا مُفْرَدَةً. وَقَدْ أَحْلَفَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ يَمِينًا وَاحِدَةً فِي حَقِّ شَرِيكَيْنِ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ عَصْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْحَقُّ دَعْوَى أَحَدِهِمَا صَحِيحَةً فَإِذَا أَحْلَفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا عَلَيْهِ كَانَ صَادِقًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ السَّادِسُ فِي حُكْمِ النُّكُولِ. وَهُوَ أَنْ تَجِبَ عَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَيَمْتَنِعُ مِنْهَا، أَوْ يَقُولُ: قَدْ نَكَلْتُ عَنْهَا أَوْ يَقُولُ: لَسْتُ أَحْلِفُ، فَيَصِيرُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ نَاكِلًا فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ نُكُولُهُ رَدَّ الْيَمِينِ على المدعي ليحكم له بِيَمِينِهِ وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِنُكُولِ خَصْمِهِ. وَإِذَا صَارَ الْمُنْكِرُ نَاكِلًا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حُكْمَ النُّكُولِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعْلِمَهُ حُكْمَهُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، لِيَحْكُمَ لَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ عَرَفَ حُكْمَ النُّكُولِ اسْتَغْنَى الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ إِعْلَامِهِ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ إِنْ أَقَمْتَ عَلَى امْتِنَاعِكَ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَسْتَقِرُّ نُكُولُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ: يَسْتَقِرُّ نُكُولُهُ بِإِعْلَامِهِ وَلَوْ كَانَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 316 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: لَا يَسْتَقِرُّ النُّكُولُ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا هِيَ حَدُّ الِاسْتِظْهَارِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ النُّكُولِ هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِهِ قَبْلَ رَدِّ الْيَمِينِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرُّدُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ قَبْلَ حُكْمِهِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَدْ حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ بِالنُّكُولِ. فَلَوْ بَذَلَ الْمُنْكِرُ الْيَمِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ لَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ لِانْتِقَالِ الْيَمِينِ إِلَى الْمُدَّعِي. فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حَكَمَ لَهُ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ لِلنَّظَرِ فِي حِسَابِهِ أُمْهِلَ. وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْيَمِينِ لِغَيْرِ اسْتِمْهَالٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فِي يَمِينِ النُّكُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ كَمَا حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالنُّكُولِ، فَإِنْ رَامَ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ رَامَهُ الْمُنْكِرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَإِنْ حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالنُّكُولِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُنْكِرِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِنُكُولِ الْمُدَّعِي حَقٌّ لِغَيْرِهِ، وَيَكُونُ له أن يحلف متى شاء ويستحق. (حُضُورُ الْخَصْمِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَاطِّرَادُهُ جَرْحَ الشهود) (مسألة) : قال الشافعي: " وَيَنْبَغِي إِذَا حَضَرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ وَيَنْسَخُهُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ وَيَطْرُدُهُ جَرْحَهُمْ فِإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي حَاضِرٍ سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ جَوَابِهِ عَنِ الدَّعْوَى، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَعْلَمَهُ الْقَاضِي أَسْمَاءَ الشُّهُودِ، وَأَطْرَدَهُ جَرْحَهُمْ، فَإِنْ أَثْبَتَ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِمْ أَسْقَطَهَا، وَإِلَّا حَكَمَ بِهَا وَأَمْضَاهَا. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي غَائِبٍ سُمِعَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثم قدم نفوذ الحكم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 317 بِهَا فَيُعْلِمُهُ الْقَاضِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَيُعَرِّفُهُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَأَنْسَابَهُمْ وَيَطْرُدُهُ جَرْحُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحَاضِرِ قَبْلَ جَوَابِهِ عَنِ الدَّعْوَى. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيَطْرُدُهُ جَرْحَهُمْ تَأْوِيلَانِ مُتَضَادَّانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ يُمْهِلُهُ وَيُؤَخِّرُهُ، حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً بِجَرْحِهِمْ. وَالثَّانِي: بَلْ مَعْنَاهُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ. وَعَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُمْهِلَهُ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ بِجَرْحِهِمْ وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِمَا زَادَ عَلَيْهَا وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ بِحَسَبِ الْحَالِ وَعِظَمِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ. فَإِذَا قَدَّرَ لَهُ مُدَّةً أَنْظَرَهُ بِهَا فَلَمْ يَأْتِ فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْجَرْحِ أَنْفَذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ. وَإِنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ فِي مُدَّةِ إِنْظَارِهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ سَأَلَ شُهُودَ الْجَرْحِ عَنْ زَمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو جَوَابُهُمْ مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ فِي زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ فَهَذَا مُوجِبٌ لِإِسْقَاطِهَا، وَإِبْطَالِ الْحُكْمِ بِهَا، لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ أَثْبَتُ مِنْ بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاضِي قَدْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ لَمْ يُنْفِذْ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ قَبْلَ زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ مِنَ التَّطَاوُلِ مَا يَصْلُحُ فِيهِ حَالُ الْمَجْرُوحِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكُونُ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ أَوْلَى. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصُرَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ عَنْ أَنْ يَصْلُحَ فِيهِ حَالُ الْمَجْرُوحِ فَيَجِبُ سُقُوطُ شَهَادَتِهِمْ وَتَكُونُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِجَرْحِهِمْ بَعْدَ زَمَانِ شَهَادَتِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ جَرْحِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا فَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ مَجْرُوحِينَ. فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَضَاءَ الدَّيْنِ كَانَ تَصْدِيقًا لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تُسْمِعْ مِنْهُ بَيِّنَةُ الْجُرْحِ وَطُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَضَاءِ. فَإِنْ أَقَامَهَا، سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَحْلَفَ الشُّهُودَ لَهُ وَحَكَمَ لَهُ بِالْحَقِّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 318 (فَصْلٌ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي: " وَإِذَا عَلِمَ مِنْ رَجُلٍ بِإِقْرَارِهِ أَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ بِزُورٍ عَزَّرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَشَهَرَ أَمْرَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَفَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلٍ قَبِيلٍ وَقَفَهُ فِي قَبِيلِهِ أَوْ فِي سُوقِهِ وَقَالَ إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زور فاعرفوه ". (حكم شهادة الزور) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَهَادَةُ الزُّورِ فَمِنَ الْكَبَائِرِ. رَوَى خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا وَقَالَ " عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " ثُمَّ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] . وَرَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَزُولُ قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار ". (ما يتعلق بشهادة الزور من الأحكام) . وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ. وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مِنْ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ. وَالثَّانِي: مِنِ اسْتِحَالَتِهِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ، أَوْ زِنًا، فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ. وَالثَّالِثُ: بِأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ. فَأَمَّا إِنْ شَهِدَ بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ أَوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ زُورٍ وَلَكِنْ يُوَبَّخُ عَلَيْهَا، لِتَسَرُّعِهِ إِلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا. فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا. فَأَمَّا تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ فَلَا يَقْضِي فِيهِ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَكْذِيبُ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الْأُخْرَى، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ إِحْدَاهُمَا. (فَصْلٌ) : وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ. وَتَأْدِيبُهُ التَّعْزِيرُ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدٌّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 319 وَلَا يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ أَرْبَعِينَ وَغَايَتُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُبْلَغُ بِالْحَدِّ فِي غَيْرِ حَدٍّ "، وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَلَغَ مَا لَيْسَ بِحَدٍّ حَدًّا فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ ". وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَ مَالِكٌ، مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى أَكْثَرِ الْحُدُودِ. وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمِائَةَ، وَيَجُوزُ بِمَا دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْلُغُ بِهِ ثَمَانِينَ، وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَهَا. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعِينَ وَيَجُوزُ بِمَا دُونَهَا. لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدُّ الْخَمْرِ فِي الْحُرِّ فَكَانَ غَايَةُ تَعْزِيرِ الْحُرِّ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ هَذِهِ الْغَايَةُ لَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي كُلِّ مُعَزَّرٍ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُعَزَّرِ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فَمَنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالضَّرْبِ اجْتُهِدَ فِي عَدَدِهِ، فَإِنْ أَدَّى الاجتهاد إلى تعزيرها بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ لَمْ يَزِدْهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالْحَبْسِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى الضَّرْبِ، وَإِنْ أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى تَعْزِيرِهِ بِالْقَوْلِ وَالزَّجْرِ، لَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى ضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ التَّعْزِيرِ فِي بابه. (فصل: في التشهير بشاهد الزور) وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: إِشْهَارُ أَمْرِهِ. لِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرُهُ النَّاسُ ". وَلِأَنَّ فِي الشُّهْرَةِ زَجْرًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِهِ. وَإِشْهَارُ أَمْرِهِ، أَنْ يُنَادَى عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَسْجِدٍ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سُوقٍ فِي سُوقِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ فِي قَبِيلَتِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلٍ فِي قَبِيلِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ وَالْقَبِيلِ: أَنَّ الْقَبِيلَةَ بَنُو الْأَبِ الْوَاحِدِ وَالْقَبِيلَ: الْأَخْلَاطُ الْمُجْتَمِعُونَ مِنْ آبَاءٍ شَتَّى. فَيَقُولُ فِي النِّدَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ. وَلَا يُزَادُ فِي هَذِهِ الشُّهْرَةِ تَسْوِيدُ وَجْهِهِ وَلَا حَلْقُ شَعْرِهِ ولا ندائه بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي شُهْرَتِهِ وَهَذِهِ مُثْلَةٌ نَكْرَهُهَا لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّاهِدُ بِالزُّورِ مِنْ ذَوِي الصِّيَانَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُصَانُ عَنْ هَذَا النِّدَاءِ وَيُقْتَصَرُ منه على إشاعة أمره ليقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 320 وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالتَّسْوِيَةِ فِي النِّدَاءِ بَيْنَ ذَوِي الصِّيَانَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ الصِّيَانَةَ قَدْ خرج منها بزوره. (فصل: في الأثر المترتب على توبة شاهد الزور) وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْضَى بِفِسْقِهِ فَلَا تُسْمَعُ لَهُ شَهَادَةٌ مِنْ بَعْدِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. فَإِنْ تَابَ أَمْسَكَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ عَلَيْهَا وَيَتَحَقَّقَ صِدْقُ مُعْتَقَدِهِ فِيهَا فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَفِي النِّدَاءِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُنَادَى بِهَا كَمَا نُودِيَ بِفِسْقِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُنَادَى عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَإِنْ نُودِيَ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ ظُهُورَ التَّوْبَةِ بِأَفْعَالِهِ أَقْوَى، وَلِأَنَّ فِي النِّدَاءِ بِذْلَةً. وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا لَمْ يَثِقْ بِسَلَامَةِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُقَدِّمَ وَعْظَهُمْ وَتَخْوِيفَهُمْ وَتَحْذِيرَهُمْ فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ لِلشَّهَادَةِ، قَالَ لَهُمَا: " حَضَرْتُمَا وَلَمْ أَسْتَدْعِكُمَا، وَإِنِ انْصَرَفْتُمَا لَمْ أَمْنَعْكُمَا، وَإِنْ قُلْتُمَا سَمِعَتُ مِنْكُمَا، فَاتَّقِيَا اللَّهَ فَإِنِّي مُتَّقٍ بِكُمَا ". (حُكْمُ القاضي بعلمه) (مسألة) : قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ " اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْخَصْمِ يُقِرُّ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَالَ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَشَاهِدٍ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَقَطَعَ بِأَنَّ سَمَاعَهُ الْإِقْرَارَ مِنْهُ أَثْبَتُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَهَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ أَقْضِي عَلَيْهِ بِعِلْمِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدَيْنِ وَبِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَبِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ النُّكُوَلِ وَرَدَّ الْيَمِينَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ وَفِي مَوَاضِعِ عَمَلِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ، وَلَا بِمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ عَمَلِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 321 وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلَّا فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنَ الْأُمِّ: لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِكُلِّ مَا عَلِمَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالثَّانِي: لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى مِثْلِ مَا عَلِمَ فَيَكُونُ عِلْمُهُ وَجَهْلُهُ سَوَاءً. وَأَظْهَرُ قَوْلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ جَوَازُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعْ بِهِ حَذَارًا مِنْ مَيْلِ الْقُضَاةِ. فَأَمَّا حُكْمُهُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَدَبِ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فِيهَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْمَعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِ لَقَرَنَهُ بِالشَّهَادَةِ. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ فِي دَعْوَاهُ الْأَرْضَ عَلَى الْكِنْدِيِّ: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ " فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ. وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَلِمَ مِنْ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ مَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِعِلْمِهِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهُ تَقَاضَى إِلَيْهِ نَفْسَانِ فَقَالَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 322 أحدهما: أنت شاهدي، فقال: " إن شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ ". وَتَرَافَعَ إِلَى شُرَيْحٍ خَصْمَانِ فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ نَعَمْ أَنْتَ شَاهِدِي. قَالَ شُرَيْحٌ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَحْضُرَ فَأَشْهَدَ لَكَ " وَلَمْ يُعَاصِرْهُمَا مُخَالِفٌ. وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ مَنْدُوبٌ لِلْإِثْبَاتِ وَالْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ لِلْحُكْمِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ قَاضِيًا بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا لِحُكْمِهِ. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ بِأَقَلِّ مِنِ اثْنَيْنِ فَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ لَصَارَ إِثْبَاتُ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. وَلَوْ صَارَ الْقَاضِي كَالشَّاهِدَيْنِ لَصَحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ وَحْدَهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يجوز أن يقفوا مَا لَهُ بِهِ عِلْمٌ. وَبِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: " بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا وَأَنْ لَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ". وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ ". وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْأَقْوَى أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالْأَضْعَفِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْحُكْمُ فِي الشَّهَادَةِ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَبِالْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ فَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ كَانَ بِالْعِلْمِ أَوْلَى وَأَجْوَزَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ أَوْلَى، وَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّاوِي عَنِ الرَّسُولِ كَانَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ لما جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِمَا بِعِلْمِهِ، لِثُبُوتِهِ بِأَقْوَى أَسْبَابِهِ. وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ مُفْضٍ إِلَى وُقُوفِ الْأَحْكَامِ أَوْ فِسْقِ الْحُكَّامِ فِي رَجُلٍ سَمِعَهُ الْقَاضِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْعِتْقَ أَوِ الطَّلَاقَ فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ وَمَكَّنَهُ فَسَقَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ وَقَفَ الْحُكْمَ وَإِذَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ سَلِمَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ؟ ". وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ لَمْ أَحُدَّهُ بِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِهِ عِنْدِي ". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 323 وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ لِإِسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا، بِأَنَّ حُكْمَهُ بِعِلْمِهِ كَحُكْمِهِ بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْمُحَاكَمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، وَلِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الشَّهَادَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَاهُمَا مُعْتَبَرًا بِهِمَا، إِنْ جَازَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْحُدُودِ فَبَطَلَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَاكُمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ التَّحَاكُمِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ، فَهُوَ أَنَّ عِلْمَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ يَصِيرُ عِلْمَ حكم بعد الولاية. (فصل: شروط نفوذ حكم القاضي بعلمه) . فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ وَإِبْطَالِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ نُفُوذُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ مُعْتَبَرًا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْكَ مَا ادَّعَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَأَغْفَلَ الْآخَرَ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ. وَإِنْ قِيلَ بِمَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَقَرَّ عِنْدَهُ الْخُصُومُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِإِقْرَارِهِ شَاهِدَانِ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي إِقْرَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ حُكْمٌ بِالْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِحَدّ للَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ إِنَّهُ لَا يَحْكُمُ فِي الْحُدُودِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 324 بِعِلْمِهِ، فَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، وَإِنْ أُجِيزَ لَهُ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ. وَعَلَى هَذَا إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِهَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي حُكْمِهِ دُونَ عِلْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لِكَذِبِهَا. فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ بَيِّنَةً قَامَتْ عِنْدَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْهَا وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ بالبينة دون العلم. (فصل: تحكيم الخصمين شخصا) وَإِذَا حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا مِنَ الرَّعِيَّةِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَنَازَعَاهُ فِي بَلَدٍ فِيهِ قَاضٍ أَوْ لَيْسَ فِيهِ قَاضٍ جَازَ. لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَحَاكَمَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَكَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ التَّحْكِيمُ فِيمَا عَدَاهَا أَوْلَى. وَهَكَذَا حَكَّمَ أَهْلُ الشُّورَى فيها عبد الرحمن بن عوف. (نفوذ حكم المحكم) . وَإِذَا جَازَ التَّحْكِيمُ فِي الْأَحْكَامِ فَنَفَاذُ حُكْمِهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّحْكِيمِ حَاكِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بَطَلَ تَحْكِيمُهُ، وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ الْخَصْمَانِ عَلَى التَّرَاضِي بِهِ، إِلَى حِينِ الْحُكْمِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ رَضِيَا بِهِ ثُمَّ رَجَعَا أَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ تَحْكِيمُهُ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ سَوَاءٌ حَكَمَ لِلرَّاضِي أَوْ لِلرَّاجِعِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ فِي أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ. وَالْأَحْكَامُ تَنْقَسِمُ فِي التَّحْكِيمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ: وَهُوَ حُقُوقُ الْأَمْوَالِ، وَعُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ، وَمَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِبْرَاءُ. وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ، وَهُوَ مَا اخْتَصَّ الْقُضَاةُ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوِلَايَاتِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 325 وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: النِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَالْقَذْفُ وَالْقِصَاصُ. فَفِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُقُوفِهَا عَلَى رِضَا الْمُتَحَاكِمَيْنِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَحُدُودٌ يَخْتَصُّ الْوُلَاةُ بِهَا. فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً لَا وَلِيَّ لَهَا خَطَبَهَا رَجُلٌ فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ لِيُزَوِّجَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي بَادِيَةٍ لَا يَصِلَانِ إِلَى حَاكِمٍ جَازَ تَحْكِيمُهُمَا وَتَزْوِيجُ الْمُحَكَّمِ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَيْثُ يَقْدِرَانِ فِيهِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ فِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَصِيرُ الْحُكْمُ بِهِ لَازِمًا لَهُمَا. وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْحُكْمُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ كَالْفُتْيَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ عَلَى خِيَارِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَقِفَ عَلَى خِيَارِهَا فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَكُونُ بحُكْم الْمُحَكَّمِ لَازِمًا لَهُمَا وَلَا يَقِفُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى خِيَارِهِمَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا بِهِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ " فَكَانَ الْوَعِيدُ دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ حُكْمِهِ كَمَا قَالَ فِي الشَّهَادَةِ: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَنْ عَلِمَ عِلْمًا وَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " فَدَلَّ الْوَعِيدُ عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ بِمَا أَبْدَاهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ وَاحِدًا " فَصَارَ بِتَأْمِيرِهِمْ لَهُ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ كَنُفُوذِهِ لَوْ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ. وَحَكَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّ خِيَارَهُمَا فِي التَّحْكِيمِ يَنْقَطِعُ بِشُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ، فَإِذَا شَرَعَ فيه صار لازما لهما، وإن كان قيل شُرُوعِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِمَا لِأَنَّ خِيَارَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ مُفْضٍ إِلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ بِالتَّحْكِيمِ حُكْمٌ إِذَا رَأَى أَحَدُهُمَا تَوَجَّهَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ التَّحْكِيمُ لَغْوًا. فَإِذَا صَارَ نَافِذَ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 326 لَزِمَ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِلَيْهِ حُكْمُهُ، وَكَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَأْخُوذًا بِهِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَازِعَيْنِ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ حُكْمَهُ إِلَّا مَا يَرُدُّهُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ. وَإِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمَا أَشْهَدَ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْعَزْلِ. فَإِنْ تَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى غَيْرِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْحُكْمِ، وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ كَتَحَاكُمِهِمَا إِلَيْهِ فِي دَيْنٍ فَأَقَامَ بِهِ مُدَّعِيهِ بَيِّنَةً شَهِدَتْ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ، وَأَنَّ فُلَانًا ضَامِنُهُ لَزِمَ حُكْمُهُ فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَعَلِمَ الرِّضَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْحُكْمِ، وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ إِلَّا بِسَبَبٍ مُوجِبٍ كَتَحَاكُمِهِمَا إِلَيْهِ فِي قَتْلٍ خَطَأٍ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ فَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَمْ تَرْضَ بِحُكْمِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِوُجُوبِهَا عَلَى الرَّاضِي بِحُكْمِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الدِّيَةَ عَلَى الجاني ثم تَتَحَمَّلهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِابْتِدَاءٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَإِذَا رَضِيَ الْمُتَنَازِعَانِ بِتَحْكِيمِ اثْنَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْم وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ كَمَا اتَّفَقَا عَلَى النَّظَرِ. وَإِنْ كَانَ التَّحْكِيمُ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا وَلَا عَلَيْهِمَا وَالَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا وَالِدٌ وَوَلَدٌ وَالَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدُوٌّ فَيَنْظُرُ: فَإِنْ حَكَمَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ جَازَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ. وَإِنْ حَكَمَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ عَلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بولاية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 327 الْقَضَاءِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّحْكِيمِ مُنْعَقِدَةٌ بِاخْتِيَارِهِمَا فَصَارَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ رَاضِيًا بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ وَخَالَفَتِ الْوِلَايَةُ الْمُنْعَقِدَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا. وَإِنْ حَكَمَ لِعَدُوِّهِ نَفَذَ حُكْمُهُ. وَإِنْ حَكَمَ عَلَى عَدُوِّهِ فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ أَسْبَابَ الشَّهَادَةِ خَافِيَةٌ وَأَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ التَّحْكِيمِ لِانْعِقَادِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِانْعِقَادِهَا بِغَيْرِ اختياره. (الاستخلاف على القضاء) (مسألة) : قال الشافعي: " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذْ وَلَّى الْقَضَاءَ رَجُلًا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ مَنْ رَأَى فِي الطَّرَفِ مِنْ أَطْرَافِهِ فَيَجُوزُ حُكْمُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِمَامُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى غَيْرِ الْقَضَاءِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ الْأُمُورِ مَوْكُولَةٌ إِلَى نَظَرِهِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهَا فَيَخْتَصُّ بِمُبَاشَرَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ لِي حِمَارًا وَلِهَذَا بَقَرَةً وَأَنَّ بَقَرَتَهُ قَتَلَتْ حِمَارِي. فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَهَائِمِ فَقَالَ لِعُمَرَ: " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَعَلِّي: " اقْضِ بَيْنَهُمَا " فَقَالَ عَلِيٌّ: أَكَانَا مرسلين؟ فقالا: لا قال: أكانا مشدودين؟ قال: لَا. قَالَ: أَفَكَانَتِ الْبَقَرَةُ مَشْدُودَةً وَالْحِمَارُ مُرْسَلًا؟ قال: لَا. قَالَ: أَفَكَانَ الْحِمَارُ مَشْدُودًا وَالْبَقَرَةُ مُرْسَلَةً؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ: " عَلَى صَاحِبِ الْبَقَرَةِ الضَّمَانُ ". قال أصحابنا: تأويل الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَضَيَا بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَإِنَّ عَلِيًّا قَضَى بِوُجُوبِ الضمَان عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعَهَا. فَقَدِ اسْتَخْلَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على القضاء بمشهده وإن أمكنه القضاء نفسه. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ رَدَّهُ إِلَى عُمَرَ بَعْدَ قَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ، وَرَدَّهُ إِلَى عَلِيٍّ بَعْدَ قَضَاءِ عُمَرَ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ انْقَطَعَ بِهِ التنازع. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 328 قِيلَ: لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَرَجَ مِنْهُمَا مَخْرَجَ الْفُتْيَا دُونَ الْحُكْمِ فَلِذَلِكَ رَدَّهُ إِلَى عَلِيٍّ حَتَّى حَكَمَ بِاللَّفْظِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ حُكْمًا لما استجاز رده إلى غيره. (استخلاف القاضي غَيْرِهِ) فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا قَلَّدَهُ الْإِمَامُ عَمَلًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَقْلِيدِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ سَوَاءٌ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ. لَكِنَّهُ إِنْ قَلَّ وَقَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ فِي الِاسْتِخْلَافِ مُخَيَّرًا، وَإِنْ كَثُرَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِ وَاجِبًا. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ مِصْرًا كَبِيرًا وَسَوَادًا كَثِيرًا قَضَى فِي الْمِصْرِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى السَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فَاخْتَصَّ فِي الْمَتْبُوعِ لَا بِالتَّابِعِ. وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَقْضِيَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَهُ إِذَا حَكَمَ فِي أَحَدِهِمَا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدِ خَلِيفَتِهِ يَنْقُلَ خَلِيفَتَهُ إِلَى بَلَدِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَيَّنَ لَهُ الْحُكْمَ فِي أَحَدِهِمَا وَالِاسْتِخْلَافَ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عُيِّنَ لَهُ وَتَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى الْبَلَدِ الْآخَرِ مَقْصُورَةً عَلَى اخْتِيَارِ النَّاظِرِ فِيهِ دُونَ الْحُكْمِ. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِيهِ صَارَتْ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ مَقْصُورَةً عَلَى تَنْفِيذِ وِلَايَةِ الْمُسْتَخْلَفِ وَمُرَاعَاتِهِ وَخَرَجَتْ عَنْ وِلَايَةِ الْحُكْمِ وَالِاخْتِيَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُ هَذَا الْمُسْتَخْلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَزَلَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ عَلَيْهِ قَدْ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُعَيَّنُ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَنْفِيذُ اسْتِخْلَافِهِ لِفَسَادِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ لِمَنْعِ التَّعْيِينِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي بَلَدِ حُكْمِهِ لِعُمُومِ الْإِذْنِ. فَإِنْ تَنَازَعَ خَصْمَانِ فِيهِ وَفِي خَلِيفَتِهِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُحَاكَمَةَ إِلَيْهِ وَطَلَبَ الْآخَرُ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى خَلِيفَتِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فِي يَوْمِ التَّنَازُعِ نَاظِرًا فَالدَّاعِي إِلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الدَّاعِي إِلَى خَلِيفَتِهِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِ تَارِكًا وَخَلِيفَتُهُ نَاظِرًا كَانَ الدَّاعِي إِلَى خَلِيفَتِهِ أَوْلَى مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعْجَلُ. فَإِنْ جَعَلَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْقَضَاءِ رِزْقًا نُظِرَ: فَإِنْ سَمَّى الرِّزْقَ لَهُ اخْتُصَّ بِهِ دُونَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 329 خُلَفَائِهِ وَإِنْ سَمَّاهُ لِلْقَضَاءِ شَارَكَهُ فِيهِ خُلَفَاؤُهُ، بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ فِي النَّظَرِ وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنْ عَزَلَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ وَقَامَ بِعَمَلِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ رِزْقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ الْإِمَامُ فِي التَّقْلِيدِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ سَوَاءٌ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ، لَكِنَّهُ إِنْ قَلَّ عَمَلُهُ بَاشَرَ الْحُكْمَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، لِأَجْلِ الْمَنْعِ مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَ فَلَا وِلَايَةَ لِخَلِيفَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْدِيَ خَصْمًا. فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ تَرَافَعَا إِلَيْهِ كَانَ كَالْحُكْمِ مِنَ الرَّعَايَا فِي جَوَازِ حُكْمِهِ. وَفِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي حُكْمِ الْمُحَكَّمِ. وَإِنْ كَثُرَ عَمَلُهُ لَزِمَهُ إِعْلَامُ الْإِمَامِ بِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِهِ، لِيَكُونَ الْإِمَامُ بَعْدُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إِمَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ. وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِالْإِمَامِ صَرْفُهُ عَنِ الزِّيَادَةِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلِاخْتِيَارِ، وَلَا يَرُدُّ الِاخْتِيَارَ إِلَى غَيْرِهِ، لِيَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِمَامُ أَوْ أَعْلَمَهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَكَثْرَةُ عَمَلِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِصْرًا كَثِيرَ السَّوَادِ كَالْبَصْرَةِ فَيَكُونُ نَظَرُهُ مُخْتَصًّا بِالْبَلَدِ، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ سَوَادِهِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ فَإِنِ اسْتَعْدَى إِلَيْهِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَصَارَ كَالْحَاضِرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ فَفِي وُجُوبِ إِحْضَارِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى مِصْرَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي النَّظَرِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ لِاشْتِمَالِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا. فَإِذَا نُظِرَ فِي أَحَدِهِمَا فَفِي انْعِزَالِهِ عَنِ الْآخَرِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدِ انْعَزَلَ عَنْهُ لِتَعَذُّرِ حُكْمِهِ فِيهِ بِالْعَجْزِ فَصَارَ كَتَعَذُّرِ حُكْمِهِ بِآفَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ عَنْهُ وَيَكُونُ بَاقِيَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 330 (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُطْلِقَ الْوِلَايَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا حِينَ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ. لِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا لَفْظُ الْمُسْتَنِيبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، قَلَّ عَمَلُهُ أَوْ كَثُرَ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ وِلَايَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّ اسْتِخْلَافَهُ مُعْتَبَرٌ بِعَمَلِهِ فَإِنْ قَلَّ وَقَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَإِنْ كَثُرَ وَعَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ اعْتِبَارًا بِالْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي عَمَلٍ قَدَرَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْحَاجَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى جَمِيعِهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ كَالْإِذْنِ فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَخْلَفَ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ خَلِيفَتَهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى سَلَامَتِهِ. وَإِنِ اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَفِي جَوَازِ عَزْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى سَلَامَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عنه في حقوق المسلمين. (مسألة) : قال الشافعي: " لَوْ عُزِلَ فَقَالَ قَدْ كُنْتُ قَضَيْتُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ إِلَا بِشُهُودٍ ". قَالَ الماوردي: فالكلام فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي وِلَايَتِهِ. وَالثَّانِي: فِي عَزْلِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي حُكْمِهِ. وَالرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وِلَايَتِهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ عَهْدُهُ مِنْ حُدُودِ الْعَمَلِ وَصِفَةِ النَّظَرِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ وَعَلَى الْإِمَامِ فِيهِ حَقٌّ وَعَلَى الْقَاضِي فِيهِ حَقٌّ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 331 فَأَمَّا مَا عَلَى الْإِمَامِ مِنْ حَقٍّ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَقْوِيَةُ يَدِهِ حَتَّى لَا يَعْجِزَ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَدَفْعِ ظُلْمٍ. وَالثَّانِي: مُرَاعَاةُ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَتَخَطَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يُخِلُّ بِبَعْضِهِ. وَالثَّالِثُ: مُرَاعَاةُ أَحْكَامِهِ وَإِنْ تَحَرَّى عَمَلَ السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلَا تَقْصِيرٍ. وَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ نُسْخَةَ الْعَهْدِ فِي دِيوَانِهِ لِتُعْتَبَرَ أَفْعَالُهُ بِمَا تَضَمَّنَهَا وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُرَاعَاتِهِ فِي مَبَادِئِ نَظَرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُهُ فِيمَا بَعْدُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخِلَّ بِمُرَاعَاتِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَدَبَ لَهُ مَنْ يُرَاعِيهِ وَيُنْهِي إِلَيْهِ مَا يَجْرِي فِيهِ. وَلِذَلِكَ قَلَّدَ الْإِمَامُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْقُضَاةِ. وَأَمَّا مَا عَلَى الْقَاضِي مِنَ الْحَقِّ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ عَهْدُهُ مِنْ عَمَلٍ، وَنَظَرٍ فَلَا يَتَجَاوَزُ عَمَلَهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يتعدى جُعِلَ إِلَيْهِ مِنْ خُصُوصِ النَّظَرِ وَلَا يُخِلُّ بِمَا جُعِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُمُومِ النَّظَرِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ عَلَى أَهْلِ عَمَلِهِ لِيَعْلَمُوا مِنْهُ مَا إِلَيْهِ وَمَا لَيْسَ إِلَيْهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ عَهْدِهِ شَاهِدَانِ قَدْ شَهِدَا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ لِيَشْهِدُوا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا طَاعَتَهُ. فَإِنْ أَعْوَزَتِ الشَّهَادَةُ وَاقْتَرَنَ بِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ مِنْ شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ بَلَدِ الْإِمَامِ وَانْتِشَارِ الْحَالِ وَاشْتِهَارِهَا لَزِمَتْهُمُ الطَّاعَةُ. وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَاهِدُ حَالٍ لَمْ تَلْزَمِ الطَّاعَةُ. وَالثَّانِي: مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى الْقَاضِي: أَنْ يَسْتَمِدَّ مَعُونَةَ الْإِمَامِ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ، مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، حَتَّى لَا يَفُوتَ حَقٌّ قَدْ نُدِبَ لِاسْتِيفَائِهِ وَلَا يَتِمَّ ظُلْمٌ قَدْ نُدِبَ لِرَفْعِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُخِلَّ بِالنَّظَرِ مَعَ الْمَكِنَةِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْخُصُومُ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِرَاحَةِ، وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُضَاةِ لِلِانْقِطَاعِ بِمِثْلِهِ. فَإِنْ كَانَ مُرْتَزَقًا لَمْ يَسْتَحِقَّ رِزْقُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى عَمَلِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ وَنَظَرَ اسْتَحَقَّ الرِّزْقَ. وَإِنْ وَصَلَ وَلَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ مُتَصَدِّيًا لِلنَّظَرِ يَسْتَحِقُّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ، كَالْأَجِيرِ فِي الْعَمَلِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ إِلَى مُسْتَأْجِرِهِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 332 وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّ لِلنَّظَرِ فَلَا رِزْقَ لَهُ، كَالْأَجِيرِ إِذَا لَمْ يُسَلِّمْ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعَزْلِ فَهُوَ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ الْمُوَلِّي. فَإِنْ كَانَ عَزْلُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَدَّى إِلَيْهِ، إِمَّا لِظُهُورِ ضَعْفِهِ وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَهُ. وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى عَزْلِهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِالنَّظَرِ فِي عَمَلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي عَزْلِ مِثْلِهِ. فَإِنْ عَزْلَهُ انْعَزَلَ وَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ بِخِلَافِهِ. لِأَنَّ عَزْلَهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامِ لَا يُرَدُّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا. وَعَزْلُهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَإِنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ وَاقْتَرَنَ بِتَقْلِيدِهِ شَوَاهِدُ الْعَزْلِ كَانَ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ عَزْلًا لَهُ. وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ شَوَاهِدُ الْعَزْلِ كَانَ الْأَوَّلُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَالثَّانِي مُشَارِكًا لَهُ فِي نَظَرِهِ. وَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ جَمِيعُ خُلَفَائِهِ إِنْ كَانَ خَاصَّ الْعَمَلِ. وَلَا يَنْعَزِلُ مَنْ وَلَّاهُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِنَظَرِهِمْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. فَإِنْ نَظَرَ هَذَا الْمَعْزُولُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَزْلِهِ فَفِي نُفُوذِ أَحْكَامِهِ قَوْلَانِ كَالْوَكِيلِ إِذَا عَقَدَ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَهُ بَاطِلَةٌ، إِذَا قِيلَ إِنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحْكَامَهُ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ جَائِزٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: بَلْ أَحْكَامُهُ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ عُقُودُ الْوَكِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُوَلِّي، وَالْوَكِيلَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْتَ الْإِمَامِ الْمُوَلِّي لَا يُوجِبُ عَزْلَ الْقَاضِي وَمَوْتَ الْمُوَكِّلِ مُوجِبٌ لِعَزْلِ الْوَكِيلِ فَقَوِيَ الْقَاضِي بِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ عَلَى الْوَكِيلِ فَصَحَّ لِأَجْلِهَا أَحْكَامُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ عُقُودُ الْوَكِيلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ. فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ اعْتِزَالُهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ مُنِعَ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ وَلِذَلِكَ نَفَذَ فِيهِ عَزْلُ الْإِمَامِ وَإِنْ خَالَفَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 333 الْأَوْلَى لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَزِلَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الْإِمَامِ وَاسْتِعْفَائِهِ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ لِعَمَلٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِضَاعَتُهُ. وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ النَّظَرِ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْعَمَلُ مِنْ نَاظِرٍ. فَإِنْ أَعْفَاهُ قَبْلَ ارْتِيَادِ غَيْرِهِ جَازَ إِنْ كَانَ لَا يَتَعَذَّرُ وَلَمْ يَجُزْ إِنْ تَعَذَّرَ. وَيَتِمُّ عَزْلُهُ بِاسْتِعْفَائِهِ وَإِعْفَائِهِ وَلَا يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا. فَإِنْ نَظَرَ بَيْنَ اسْتِعْفَائِهِ وَإِعْفَائِهِ صَحَّ نَظَرُهُ. وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ قَدْ عَزَلْتُ نَفْسِي عَزْلًا؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ يَكُونُ مِنَ الْمُوَلِّي وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ نَفْسَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلَهَا وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ يَسْتَعْفِيَ فَيُعْفَى. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ أَسْبَابُ الْعَزْلِ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مَوْتٌ وَعَجْزٌ وَجَرْحٌ. فَأَمَّا الْمَوْتُ: فَهُوَ مَوْتُ الْمُوَلِّي فلا يخلو المولى من ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِمَامًا عَامَّ الْوِلَايَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وِلَايَاتُ الْقُضَاةِ وَإِنْ بَطَلَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وِكَالَةُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ تَوْلِيَةَ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي اسْتِنَابَةٌ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ الْمُسْتَنَابِ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ. قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ قَضَاءَ مَكَّةَ وَصَدَقَاتِ أَهْلِهَا فَلَمَّا مَاتَ اخْتَبَأَ عَتَّابٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَظْهَرَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: إِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَاقُونَ، فَعَادَ عَتَّابٌ إِلَى نَظَرِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي قَاضِيَ نَاحِيَةٍ أَوْ صُقْعٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ، فَيَكُونُ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِوِلَايَاتِ خُلَفَائِهِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَاصُّ النَّظَرِ خَاصُّ الْعَمَلِ فَخَالَفَ مَوْتُ الْإِمَامِ فِي عُمُومِ نَظَرِهِ وَعُمُومِ عَمَلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِ الْأَمْرِ فِي مَوْتِهِ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُوَلِّي هُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَامُّ الْوِلَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فَهُوَ عَامُّ الْعَمَلِ خَاصُّ النَّظَرِ. فَعُمُومُ عَمَلِهِ: أَنَّهُ وَالٍ عَلَى الْبِلَادِ كُلِّهَا. وَخُصُوصُ نَظَرِهِ: أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ. فَشَابَهَ الْإِمَامَ فِي عُمُومِ عَمِلِهِ، وَخَالَفَهُ فِي خُصُوصِ نَظَرِهِ. فَفِي انْعِزَالِ الْقُضَاةِ بِمَوْتِهِ وجهان: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 334 أَحَدُهُمَا: لَا يَنْعَزِلُونَ لِعُمُومِ نَظَرِهِ كَالْإِمَامِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ لِخُصُوصِ نَظَرِهِ كَقَاضِي إِقْلِيمٍ. وَأَمَّا الْعَجْزُ: فَهُوَ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْقَاضِي عَجْزٌ يَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ فَقَدِ انْعَزَلَ بِحُدُوثِهِ فِيهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَالزَّمَانَةِ فَلَا يَنْعَزِلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ بِهَا عَنِ النَّهْضَةِ وَلَا يَعْجَزُ بِهَا عَنِ الْحُكْمِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْمَرَضُ فَإِنْ أَعْجَزَهُ عَنِ النَّهْضَةِ وَلَمْ يُعْجِزْهُ عَنِ الْحُكْمِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ وَإِنْ أَعْجَزَهُ عَنِ النَّهْضَةِ وَالْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مَرْجُوُّ الزَّوَالِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ انْعَزَلَ بِهِ. وَأَمَّا الْجَرْحُ: وَهُوَ الْفِسْقُ فَإِنْ حَدَثَ فِي الْمُوَلِّي كَانَ كَمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ، كَمَا يَنْعَزِلُ بِالْمَوْتِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُوَلِّي. وَإِنْ حدث الفسق في القاضي المولى فإن استدامه مُصِرًّا عَلَيْهِ أُنْزِلَ بِهِ. وَإِنْ حَدَثَ الْفِسْقُ في القاضي المولى فإن استدامه مصرا عليه انْعَزَلَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ إِقْلَاعُهُ عَنْ نَدَمٍ وَتَوْبَةٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ التَّوْبَةِ انْعَزَلَ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى تَابَ مِنْهُ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ لِانْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ عَنْهُ. وَإِنَّ هَفَوَاتِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ مَقَالَةٌ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عُصِمَ. وَإِذَا انْعَزَلَ بِالْفِسْقِ فَحَكَمَ فِي حَالِ انْعِزَالِهِ فَإِنْ كَانَ إِلْزَامًا بِإِقْرَارٍ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا بِشَهَادَةٍ بَطَلَ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْحُكْمِ وَيُنْهِيَ حَالَهُ إِلَى الْإِمَامِ إِلَى مَنْ وَلَّاهُ مِنَ الْقَضَاءِ لِيُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ إِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَتَقِفُ أَحْكَامُهُمْ إِنْ عَرَفُوهُ. وَهُوَ فِي إِنْهَاءِ حَالِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُظْهِرَ الِاسْتِعْفَاء وَيَكْتُمَ حَالَهُ لِيَكُونَ حَافِظًا لِسَتْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَاهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ بِحَالِهِ وَسَبَبِ انْعِزَالِهِ، وَإِنْ كَرِهَ لَهُ هَتْكَ سِتْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ " وَإِنْ خَرَجَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَأْثَمِ الْإِمْسَاكِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكَمِهِ: فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَمَّمَهُ وَأَمْضَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَزْلِهِ، فَهُوَ عَلَى نَفَاذِهِ وَإِمْضَائِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ مَوْتِهِ أَوْ عَزْلِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 335 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ تَمَامِهِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهُ وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ وَلَا يُزَادُ. مِثْلَ: حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا عُزِلَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ فَيَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ بِهِمَا. وَكَاللِّعَانِ إِذَا عُزِلَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ أَوْ بَعْضِهِ وَقَبْلَ لِعَانِ الزَّوْجَةِ أَوْ بَعْضِهِ فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ حَتَّى يَتِمَّ اللِّعَانُ بِهِمَا. وَكَتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فَيَعْزِلُ بَعْدَ يَمِينِ أَحَدِهِمَا وَقَبْلَ يَمِينِ الْآخَرِ، فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِحْلَافِ الْأَوَّلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ التَّحَالُفَ. وَكَالْأَيْمَانِ فِي الْقِسَامَةِ إِذَا عُزِلَ وَقَدْ حَلَفَ الْمُقْسِمُ بَعْضَ الْأَيْمَانِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَيَبْنِي الثَّانِي عَلَى إِحْلَافِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْأَيْمَانَ وَلَا يَسْتَأْنِفَهَا إِلَى نَظَائِرِ هَذَا. وَهَذَا الْبِنَاءُ مُعْتَبَرٌ بِتَصَادُقِ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ إِنْ تَكَاذَبَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَسْتَأْنِفُهُ الثَّانِي وَلَا يَبْنِي عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ الْفِعْلُ فِيهِ مُقْتَرِنًا بِالْحُكْمِ. مِثْلَ حُكْمِهِ بِفَسْخِ النِّكَاحِ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ وَلَا يَفْسَخُهُ حَتَّى يَعْزِلَ، فَلَيْسَ لِلثَّانِي فَسْخُهُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ. وَكَمَا لَوْ حَكَمَ بِبَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ ثُمَّ عُزِلَ قَبْلَ بَيْعِهِ لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي بَيْعُهُ بِحُكْم الْأَوَّل حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بِهِ. وَكَمَا لَوْ أَذِنَ لِوَلِّيِ يَتِيمٍ فِي بَيْعِ مَالِهِ فِي مَصَالِحِهِ فَلَمْ يَبِعْهُ الْوَلِيُّ، حَتَّى عُزِلَ، مُنِعَ مِنَ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الثَّانِي الْإِذْنَ فِيهِ. وَكَمَا لَوْ حَكَمَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَلَمْ يُسَلِّطِ الشَّفِيعُ عَلَى الْأَخْذِ حَتَّى عَزَلَ، فَلَيْسَ لِلثَّانِي تَسْلِيطُهُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بِالشُّفْعَةِ وَالتَّسْلِيطِ إِلَى نَظَائِرِ هَذَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُ فِي الْبِنَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ سَمَاعُ البينة، وله في العزل بعد سماعها ثلاثة أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْمَعَهَا وَلَا يَحْكُمَ بِقَبُولِهَا حَتَّى يَعْزِلَ فَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَحْكُمَ بِقَبُولِهَا بِسَمَاعِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الشَّهَادَةَ. فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِقَبُولِهَا وَإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِمَا تَضَمَّنَهَا فَهَلَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَ الأول بمثابته؟ . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 336 قِيلَ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الثَّانِي قَادِرٌ عَلَى سَمَاعِهَا كَالْأَوَّلِ وَلَا يَقْدِرُ الْغَائِبُ عَلَى سَمَاعِهَا كَالْحَاضِرِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِلَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَبُولِهَا وَبَعْدَ إِلْزَامِ الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَهَا، فَعَلَى الثَّانِي إِذَا أَشْهَدَ الْأَوَّلُ عَلَى نَفْسِهِ بإلزام أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ فِي تَنْفِيذِ الْإِلْزَامِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْزِلَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَبُولِهَا وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِإِلْزَامِ مَا تَضَمَّنَهَا فَلَا تَخْلُو حَالُ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءً أَوْ مَوْتَى. فَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً مَوْجُودِينَ، لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ تَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِشُهُودِ الْفَرْعِ. وَإِنْ كَانُوا مَوْتَى أَوْ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي الْأَحْيَاءِ جَازَ لِلثَّانِي أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَوَّلِ، فَيَحْكُمُ بِالْإِلْزَامِ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْقُدْرَةِ عَلَى شُهُودِ الْأَصْلِ يُبِيحُ الْحُكْمَ بِشُهُودِ الْفَرْعِ. وَكَمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْإِلْزَامِ بِحُكْمِ الْكَاتِبِ بِالْقَبُولِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَكَمَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي وِلَايَتِهِ فَقَوْلُهُ فِيهِ مَقْبُولٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ اسْتِدْلَالًا بأنه لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُنْكِرِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمُنْكِرِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَحْكُمَ فِي وِلَايَتِهِ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِالْحُكْمِ فِي وِلَايَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ فِعْلَ شَيْءٍ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ كَمَنْ مَلَكَ عِتْقَ عَبْدِهِ مَلَكَ الْإِقْرَارَ بِعِتْقِهِ. فَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ فَخَارِجٌ عَنْهَا لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وِلَايَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَ بَعْدَ عَزْلِهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ حَكَمَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا لَمْ يَقْبَلِ الْقَاضِي قَوْلَهُ وَحْدَهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْحُكْمَ بَعْدَ عَزْلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ عَزْلِهِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَقَرَّ الْمُطَلِّقُ بِرَجْعَةِ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا قُبِلَ قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ عِدَّتِهَا، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهَا، وَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ بِهَا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 337 وَلَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ قَبْلَ بَيْعِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عِتْقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْلِكُ عِتْقَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ لَزِمَ بِالشَّهَادَةِ. فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ لِيَشْهَدَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ انْقَسَمَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ بِإِقْرَارِ مُقِرٍّ عِنْدَهُ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِإِقْرَارٍ، وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إِلَى اسْتِرْعَاءٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ اسْتِرْعَاءٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ بحُكْمٍ أَمْضَاهُ عَلَيْهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى فِعْلِهِ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ عَلَى الرَّضَاعِ. وَهَذَا جَمْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ فِعْلِ الْوَلَدِ فَجَازَتْ شَهَادَتُهَا فِيهِ وَالْحُكْمُ مِنْ فِعْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّ حَاكِمًّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِكَذَا وَيُرْسِلَ ذِكْرَ الْحَاكِمِ بِهِ فَلَا يُعْزِيهِ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُعْزِيَهُ إِلَى غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقْبَلُ مَا لَمْ يعْزِه إِلَى نَفْسِهِ تَغْلِيبًا لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ. ( [مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ له القاضي] ) (مسألة) : قال الشافعي: " وَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ شَهَادَتُهُ رُدَّ حُكْمُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ فَمَرْدُودٌ كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَقْبُولٌ. وَهَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا أَوْ حُكْمًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِقْرَارًا، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ وَيُرَدُّ فِيمَا لَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 338 يَلْزَمُ بِالْإِقْرَارِ، كَشُفْعَةِ الْجِوَارِ إِذَا قَالَ: قَدْ حَكَمْتُ بِهَا عَلَى نَفْسِي لِلْجَارِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ لَزِمَتْهُ، وَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِمُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ فِي الْمِيرَاثِ وَكَانَ جَدًّا نَفَذَ حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ أَخًا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ لَهَا. فَأَمَّا حُكْمُهُ لِأَحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ، وأن يعدوا، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مَوْلُودِيهِ وَإِنْ سَفُلُوا، فَمَرْدُودٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ جَوَازهُ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْحُكْمِ لَهُمْ. فَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ وَمَوْلُودَيْهِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ جَازَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا مَنْ عَدَا طَرَفَيْهِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مِنْ أَقَارِبِهِ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. فَلَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ فَحَكَمَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ لِوَالِدِهِ وولده. والوجه الثاني: يجوز؛ لأنها قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْبَعْضِيَّةِ فَانْتَفَتْ عَنْهُ تُهْمَةُ الْمُمَايَلَةِ فَصَارَ حَاكِمًا عَلَى وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ. (فصل: استخلاف القاضي ولده أو والده) . وَإِذَا أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي أَعْمَالِهِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ وَلَا يَحْكُمَ، إِذَا كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ غَيْرُهُمْ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَعْضِيَّةِ الَّتِي تُجْرِيهِمْ مَجْرَى نَفْسِهِ، فَحُكْمُهُ بِنَفْسِهِ جَائِزٌ فَجَازَ بِمَنْ هُوَ بَعْضُهُ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ فِي أَعْمَالِهِ مَنْ يَرَى مِنْ أَوْلَادِهِ. وَخَالَفَ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يقتضي من يجري بالقضية يجري نَفْسِهِ. فَأَمَّا إِذَا رَدَّ الْإِمَامُ إِلَى الْقَاضِي اخْتِيَارَ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الِاخْتِيَارِ إِلَيْهِ يَمْنَعُهُ مِنِ اخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنِ اخْتِيَارِ ممَنْ يَجْرِي بِالْبَعْضِيَّةِ مَجْرَى نَفْسِهِ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 339 (فصل: محاكمة القاضي خصمه) فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ مُحَاكَمَةَ خَصْمٍ جَازَ أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى قُضَاتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ وُلَاةٌ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ وِلَايَاتُهُمْ. قَدْ حَاكَمَ عَلِيٌّ يَهُودِيًّا فِي دِرْعٍ إِلَى شُرَيْحٍ وَهُوَ قَاضِيهِ. فَأَمَّا إِنْ حَاكَمَ الْإِمَامُ خَصْمَهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ جَازَ، ثُمَّ نُظِرَ، فَإِنْ قَلَّدَهُ خُصُوصَ هَذَا النَّظَرِ صَارَ قَاضِيًا خَاصًّا قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ النَّظَرُ قَبْلَ التَّرَافُعِ اعْتُبِرَ فِيهِ رِضَا الْخَصْمِ. فَأَمَّا الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ مُحَاكَمَةَ خَصْمٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، جَازَ أَنْ يُحَاكِمَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى مَنْ يَرُدُّ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ. وَإِنْ بَعُدَ عَنْ بَلَدِ الْإِمَامِ وَعَنْ بَلَدٍ فِيهِ قَاضٍ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ وَأَرَادَ أَنْ يُحَاكِمَ خَصْمَهُ إِلَى خَلِيفَتِهِ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لِلْإِمَامِ مُحَاكَمَةُ خَصْمِهِ إِلَى خَلِيفَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْقُضَاةِ خُلَفَاءُ الْإِمَامِ وَلَيْسَ كل القضاء خُلَفَاءَ هَذَا الْقَاضِي، فَجَازَ لِلْإِمَامِ مَا لَمْ يجز لهذا القاضي والله أعلم. . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 340 بسم الله الرحمن الرحيم (الشهادات في البيوع) (مختصر من الجامع من اختلاف الحكام والشهادات ومن أحكام القرآن ومن مسائل شتى سمعتها منه لفظا) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فَاحْتَمَلَ أَمْرُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا تَرْكُهُ وَالَآخَرُ حَتْمًا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ بِتَرْكِهِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في آية الدين والدين تبايع بالإشهاد وقال فيها {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانته} دل على أن الأولى دلالة على الحظ لما في الإشهاد من منع التظالم بالجحود أو بالنسيان ولما في ذلك من براءات الذمم بعد الموت لا غير وكل أمر ندب الله إليه فهو الخير الذي لا يعتاض منه من تركه وقد حفظ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه بايع أعرابيا فرسا فجحده بأمر بعض المنافقين ولم يكن بينهما إشهاد فلو كان حتما ما تركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشَّهَادَةُ، فَهِيَ إِحْدَى الْوَثَائِقِ فِي الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ لِجَوَازِهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ، وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا احْتِيَاطًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] ، وقال تعالى: {فاستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . فَدَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَدَلَّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْآيَتَيْنِ عَلَى وُجُوبِ أَدَائِهَا عَلَى الشُّهُودِ، فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَمَا يُشْهَدُ فِيهِ ضَرْبَانِ: حُقُوقٌ وَعُقُودٌ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ فَالشَّهَادَةُ فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لِحِفْظِهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الْعُقُودِ، فَالشَّهَادَةُ فِيهَا تَنْقَسِمُ ثلاثة أقسام: أحدهما: مَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَاجِبَةً فِيهِ، وَشَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَهِيَ عُقُودُ الْمَنَاكِحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كتاب النكاح. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ وَثِيقَةً، وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَكَالَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهَا فِيهِ، وَهُوَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَدَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ وَاجِبَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمُ رَجُلٌ أَتَى السَّفِيهَ مَالَهُ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهَا لِلْخَلَاصِ مِنْهَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ طَلَاقَهَا، وَرَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا فَلَمْ يُشْهِدْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ فِي الْبَيْعِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي البيوع، والكتاب يكون للشهادة، ثم قال {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: تَخَلَّفْتُ عَنِ النَّاسِ فِي السَّيْرِ، فلحقني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " بِعْنِي جَمَلَكَ وَأَسْتَثْنِي لَكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: فَبِعْتُهُ مِنْهُ " فَدَلَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ شَيْئًا فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ الثَّمَنَ فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ فَطَفِقُوا وَطَلَبُوهُ بِأَكْثَرَ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِ ابْتَعْتُهُ فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ لَكَ. قَالَ: بِمَ تَشْهَدُ، وَلَمْ تَحْضُرْ، فَقَالَ: نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ السَّمَاءِ وَلَا نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَرْضِ؟ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 الشَّهَادَتَيْنِ " فَلَوْ وَجَبَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْبَيْعِ لَمَا تَرَكَهَا فِي ابْتِيَاعِهِ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَذَكَرَ شُرُوطَ الْعَقْدِ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَةَ. وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ معارضة مَحْضَةٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ الْإِبَاحَةُ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَبَيْعِ الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَلِأَنَّ مَا قُصِدَ بِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشَّهَادَةُ كَالْهِبَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَمْرَهُ بِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا قَرَّرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 (بَابُ عِدَّةِ الشُّهُودِ وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِ النساء وَحَيْثُ يَجُوزُ وَحُكْمِ الْقَاضِي بِالظَّاهِرِ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَدَلَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِقَوْلِهِ {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} وقال سعد يا رسول الله أرأيت لو وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بأربعة شهداء؟ فقال " نعم ": وجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاثة لما لم يقم الرابع وقال الله جل ثناؤه في الإمساك والفراق {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فانتهى إلى شاهدين ودل على ما دل قبله من نفي أن يجوز فيه إلا رجال لا نساء معهم لأنه لا يحتمل إلا أن يكونا رجلين وقال الله جل ثناؤه في آية الدين {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} ولم يذكر في شهود الزنا ولا الفراق ولا الرجعة امرأة ووجدنا شهود الزنا يشهدون على حد لا مال والطلاق والرجعة تحريم بعد تحليل وتثبيت تحليل لا مال والوصية إلى الموصى إليه قيام بما أوصي به إليه لا أن له مالا ولا أعلم أحدا من أهل العلم خالف في أنه لا يجوز في الزنا إلا الرجال وأكثرهم قال ولا في الطلاق ولا في الرجعة إذا تناكر الزوجان وقالوا ذلك في الوصية فكان ذلك كالدلالة على ظاهر القرآن وكان أولى الأمور بأن يصار إليه ويقاس عليه والدين مال فما أخذ به المشهود له مالا جازت فيه شهادة النساء مع الرجال وما عدا ذلك فلا يجوز فيه إلا الرجال (قال الشافعي) رحمه الله: وفي قول الله تبارك وتعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وقال: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث يجزن إلا مع الرجل ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدا وأصل النساء أنه قصر بهن عن أشياء بلغها الرجال أنهم جعلوا قوامين عليهن وحكاما ومجاهدين وأن لهم السهمان من الغنيمة دونهن وغير ذلك فالأصل أن لا يجزن فإذا أجزن في موضع لم يعد بهن ذلك الموضع وكيف أجازهن محمد بن الحسن في الطلاق والعتاق وردهن في الحدود (قال الشافعي) رحمه الله: وفي إجماعهم على أن لا يجزن على الزنا ولم يستنبن في الإعواز من الأربعة دليل الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 على أن لا يجزن في الوصية إذ لم يستنبن في الإعواز من شاهدين ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ الْعَدَدُ وَالْجِنْسُ وَالْعَدَالَةُ فَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ بِحَالٍ، وَأَمَّا الْعَدَدُ وَالْجِنْسُ فَيُعْتَبَرَانِ بِالْمَشْهُودِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ، وَهُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية. وقال تعالى: {ولولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: " نَعَمْ " شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ وَتَوَقَّفَ زِيَادٌ عَنْ إِكْمَالِ الشَّهَادَةِ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَرْجُمِ الْمُغِيرَةَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ لَا امْرَأَةَ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ فِي الرِّدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ جمهور الفقهاء. وقال الحسن البصري: كلما أَوْجَبَ الْقَتْلَ لَا أَقْبَلُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَالزِّنَا، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الزِّنَا مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُ يُوجِبُ الرَّجْمَ، وَبَعْضُهُ يُوجِبُ الْجَلْدَ، وَالشَّهَادَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُخَالِفَ مَا عَدَاهُ فِيمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَلَا يُوجِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ فِيهِ وَاحِدَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ مَقْبُولَةٌ كَالْأَمْوَالِ، وَهَذَا فَاسِدٌ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَلِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهَا أَغْلَظَ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا لَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا أَنَّ الزِّنَا لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ مِنَ السَّرِقَةِ لِتَعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ وَاخْتِصَاصِهِ بإسقاط نسب الوالد كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ أَغْلَظَ مِنْهَا فِيمَا عَدَاهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ عَدَدُ الشَّهَادَةِ فِيهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا، وَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ، لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارُ بِمَا عَدَاهُ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ تَخْتَلِفُ فِي الْجِنْسِ وَالْعَدَدِ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوْسَعُهَا، وَهُوَ مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ، وَهُوَ الْمَالُ وَمَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْمَالَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالِاسْتِهْلَالُ وَالرَّضَاعُ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعَوْرَةِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوِلَادَةِ قَبُولَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ قُبِلَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ أَغْلَظُ، وَلَا يُقْبَلُ فيه شاهد ويمين. والقسم الثاني: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا لم يكن حالا وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْقَذْفِ، وَالْعِتْقِ وَالنَّسَبِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَعَقْدِ الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَلَا يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِلَّا فِي الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ. وَدَلِيلُنَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] فَنَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالزِّنَا. فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ، لِأَنَّ المراسيل حجة عندهم، ولأن كلما لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ إِذَا لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يُقْبَلْنَ فِيهِ مَعَ الرِّجَالِ، كَالْقِصَاصِ. وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِالْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمَالَ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَهَلَّا جَازَ إِثْبَاتُهُمَا بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ؟ قِيلَ: لَيْسَ فِي عَقْدِ الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ مَالٌ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ أُقِيمَ الرَّجُلُ فِيهَا مَقَامَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْعَدَدِ. فَأَعْلَاهَا الزِّنَا، وَأَدْنَاهَا الْخَمْرُ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا فِي الْجِنْسِ فَأَعْلَاهَا، حُقُوقُ الْأَبْدَانِ، وَأَدْنَاهَا، حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الْعُمُومِ فِيهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا وَالْإِبَاحَةُ لَهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، وَاخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الصَّدَاقِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النِّكَاحِ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَالٌ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُ هَذَا بِهِ. وَلَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلَوِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ، وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ سُمِعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجَةِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَاقِ، وَبَيِّنَةَ الزوج لإثبات المال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ شَهِدَتِ امْرَأَتَانِ لِرَجُلٍ بمال حلف معهن وَلَقَدْ خَالَفَهُ عَدَدٌ أَحْفَظُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا إِجَازَةُ النِّسَاءِ بِغَيْرِ رَجُلٍ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ أَرْبَعًا فَيُعْطِيَ بِهِنَّ حَقًّا فإن قال إنهما مع يمين رجل فيلزمه أن لا يجيزهما مع يمين امرأة والحكم فيهما واحد (قال الشافعي) رحمه الله: وكان القتل والجراح وشرب الخمر والقذف مما لم يذكر فيه عدد الشهود فكان ذلك قياسا على شاهدي الطلاق وغيره مما وصفت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا لِأَنَّهُ يُوافِقُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ثُمَّ تَجَاوَزَ مَالِكٌ، فَقَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ثُمَّ ثَبَتَ جَوَازُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَكَذَلِكَ بِالْمَرْأَتَيْنِ وَالْيَمِينِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وفي قوله (فتذكر) قراءاتان: إِحْدَاهُمَا: بِالتَّشْدِيدِ مِنَ النِّسْيَانِ. وَالثَّانِيَةُ: بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: يَكُونَانِ كَالذَّكَرِ، فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَصًّا، وَبَالْأُولَى تَنْبِيهًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحُدُودِ وَالْأَمْوَالِ، وَشَهَادَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ مَرْدُودَةٌ فِي الْحُدُودِ، وَإِنْ قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْحُكْمُ بِالْيَمِينِ أَضْعَفُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْيَمِينِ، فَحَكَمْنَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِاجْتِمَاعِ قَوِيٍّ مَعَ ضَعِيفٍ كَمَا حَكَمْنَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَمْ نَحْكُمْ بَامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ لِاجْتِمَاعِ ضَعِيفٍ مَعَ ضَعِيفٍ، وَكَمَا لَمْ نَحْكُمْ فِي الْأَمْوَالِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا أُعْطَى مَعَ يَمِينِ رَجُلٍ. قِيلَ: فَيَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُعْطِيَ مَعَ يَمِينِ امْرَأَةٍ وَأَنْتَ تُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ وَفِي هذا انفصال عن استدلاله. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: (قال) " ولا يحل حُكْمُ الْحَاكِمِ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ يَقْضِي بِالظَّاهِرِ وَيَتَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّرَائِرَ فَقَالَ: " مَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قطعة من النار " فلو الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 شهدا بزور أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ففرق الحاكم بينهما كانت له حلالا غير أنا نكره أن يطأها فيحدا ويلزم من زعم أن فرقته فرقة تحرم بها على الزوج ويحل لأحد الشاهدين أن يتزوجها فيما بينه وبين الله عز وجل أن يقول لو شهدا له بزور أن هذا قتل ابنه عمدا فأباح له الحاكم دمه أن يريق دمه ويحل له فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا حُكِمَ الْحَاكِمُ لِطَالِبِ حَقٍّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ كَانَا صَادِقَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ وَبَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا حَكَمَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ فَرْجًا أَوْ قَتْلًا، وَهَكَذَا لَوْ طُولِبَ بِمَالٍ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْوَدَائِعِ، وَالشِّرَكِ، وَالْمُضَارَبَاتِ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ إِنْكَارِهِ وَإِنْ كان صادقا برىء في الظاهر والباطن، وإن كان كاذبا برىء فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَسْتَبِحْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِيلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْفُرُوجِ دُونَ الْقَتْلِ وَالْأَمْوَالِ حَتَّى قَالَ فِي شاهدين زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا وَوَرِثَهَا: إِنْ مَاتَتْ وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ. وَقَالَ: لَوْ شَهِدَا بِزُورٍ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، وَحَلَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الزُّورِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَالَ فِي شَاهِدَيْ زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِنْتُهُ ثَبَتَ نَسَبُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَصَارَ مَحْرَمًا لَهَا وَوَرِثَهَا إِنْ مَاتَتْ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَحَدَتْهُ فَشَهِدَ لَهُ بِنِكَاحِهَا شَاهِدَانِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَنِي. فَاعْقِدْ بَيْنَنَا عَقْدًا أَحِلَّ بِهِ لَهُ فَقَالَ: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ. أَيْ: جَعَلَاكِ زَوْجَتَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ بِهِ الْحُكْمُ أَنْفَذُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَشَاهِدَيِ الصِّدْقِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَنْفُذُ مَعَ ظُهُورِ الصِّدْقِ، فَجَازَ أَنْ يُنْفَذَ مَعَ ظُهُورِ الْكَذِبِ كَاللِّعَانِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إِذَا نَفَذَ بَاجْتِهَادِهِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَتَوْرِيثِ الْجَدِّ جَمِيعَ الْمَالِ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَكَانْقِطَاعِ الْفُرْقَةِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِنِ اعْتَقَدَ خِلَافَهُ كَذَلِكَ فِي الْمَحْكُومِ لَهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِمَا فِي الْحَالَيْنِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ. فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [البقرة: 188] الْآيَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دلائل كالنصوص فقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالظُّلْمِ. وَالثَّانِي: بِالْحَرَامِ. وَلَا يَنْفَكُّ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهَا. وَفِي قَوْله تعالى: {وتدلوا بها إلى الحكام} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَتَتَرَافَعُوا فِيهَا إِلَى الْحُكَّامِ. وَالثَّانِي: وَتَحْتَجُّوا بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالزُّورِ. وَفِي قَوْلِهِ: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} أي: أموال فريق من الناس. {بالإثم} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَهَذَا نَصٌّ. وَالثَّانِي: بِالْجُحُودِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّصِّ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " وَهَذَا نَصٌّ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْضِي بِالظَّاهِرِ، وَأَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْبَاطِنِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا. وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرُفِعَ الْقَاتِلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْوَلِيِّ: " أَمَا إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَتَلْتَهُ دخلت النار " سَبِيلَهُ فَخَرَجَ يَجُرُّ نَسْعَتَهُ فَسُمِّيَ ذَا النَّسْعَةِ. فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد إذنه في قتله أخبر أنه كان صادقا، فأحرم قَتْلَهُ، فَدَلَّ عَلَى نُفُوذِ الْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ أَفْسَدُ مِنْ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، وَحُكْمُ الْأَمْوَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْفُرُوجِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ فِي الْبَاطِنِ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ كان أولى أن لا تنفذ في الفروج بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَلَمَّا لَمْ يَنْفُذْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْأَمْوَالِ كَانَ أُولَى أَنْ لَا تَنْفُذَ فِي الْفُرُوجِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ لَا يَنْفُذُ بِهَا حُكْمُ الْبَاطِنِ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَنْفُذْ فِي الْفُرُوجِ قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ. وَالْقِيَاسُ الثَّانِي: إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ لَمْ يَنْفُذْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ. فَإِنْ قَالُوا: الْأَمْوَالُ لَا مَدْخَلَ لِلْحُكَّامِ فِي نَقْلِهَا، وَلَهُمْ مَدْخَلٌ فِي نَقْلِ الْفُرُوجِ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ. وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَشَاهِدُ الزُّورِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قِيلَ: الْجَوَابُ عن فرقة بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ لَهُ فِي نَقْلِ الْأَمْوَالِ وِلَايَةً كَالْفُرُوجِ: لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُبِيحَ عَلَى الصَّغِيرِ مَالَهُ لِحَاجَتِهِ وَعَلَى الْمُفْلِسِ مَالَهُ لِحَاجَةِ غُرَمَائِهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ فِي نَقْلِ الْفُرُوجِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ فِي نَقْلِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ، وَلَا يَفْسِخُ إِلَّا بِاخْتِيَارٍ، وَلَوْ مَلَكَ الْوَلَايَةَ لَنَقَلَهَا بِالِاخْتِيَارِ. وَعَنْ فَرْقِهِ بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي إِبْطَالِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 وَالثَّانِي: إِنَّهُ سَمِعَ شَهَادَةَ الزُّورِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بُزُورٍ، كَمَا يَسْمَعُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ، فَلَمَّا كَانَ خَطَؤُهُ فِي الْعَبْدِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَؤُهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ مُبْطِلًا لِحُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَاسِقًا وَحُكْمُهُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ فِي الْحَالَيْنِ نَصًّا، وَرَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي الْحَالَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ إِنَّ الْحُكْمَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَبْطُلُ إِذَا خَالَفَ بِاجْتِهَادِهِ نصا، فلما كان فساده مخالفة النَّصِّ يَبْطُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فساد بِشَهَادَةٍ مُوجِبًا لِإِبْطَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا خَالَفَ النَّصَّ لَا يَكُونُ حُكْمًا. قِيلَ: وَكَذَلِكَ مَا أَمْضَاهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَكُونُ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ضعف إسناده. والثاني: أنه لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَ الشُّهُودِ، فَلَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُمْ، وَالْخِلَافُ إِذَا عَلِمَهَا. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُمْ لَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِهِ: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْحَاكِمَ مُزَوِّجًا لَهَا دُونَ الشَّاهِدِ، وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ يَقْضِي فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، فَإِذَا حَكَمَ لِرَجُلٍ بِشَاهِدَيْنِ، قَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ حُكْمِي لَا يُبِيحُ لَكَ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكَ، وَلَوْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ فِيهِ لَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى شَهَادَةِ الصِّدْقِ فَهُوَ اسْتِحَالَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْقَبُولِ؛ لِقَبُولِ الصِّدْقِ وَرَدِّ الْكَذِبِ وَنُفُوذِ الْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجَهْلِ بِالْكَذِبِ، وَلَوْ عَلِمَ لَمَا نَفَذَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللِّعَانِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَنْفُذْ بِالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا نَفَذَ بِاللِّعَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّ اللِّعَانَ اسْتِئْنَافُ فُرْقَةٍ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِفُرْقَةٍ سَابِقَةٍ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَمْ يَصِحَّ تَنْفِيذُ مَعْدُومٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ أَنْ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَخَالَفَ شَهَادَةَ الزُّورِ الَّتِي تُخَالَفُ الظَّاهِرُ فِيهَا الْبَاطِنَ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَسَنَشْرَحُ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ حكمه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْقَسَمَتْ أَحْكَامُهُ سِتَّةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحْكَمَ بِشَهَادَةِ صِدْقٍ أَوْ يَمِينِ صِدْقٍ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَعَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُحْكَمَ بِشَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ فِيمَا لَا تختلف فيه مذاهب الفقهاء، كشاهدين زُورٍ شَهِدَا لِرَجُلٍ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ مُنْكِرَةٍ، فَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِنِكَاحِهَا، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَحَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ لَهَا نِكَاحُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَلَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَنْكَرَهَا، وَحَاكَمَتْهُ فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ لَهَا حَلَّتْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمُنِعَتْ مِنَ التَّزْوِيجِ بِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ ثَمَّ عَلَى هَذَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُحْكَمَ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ لِبَاطِنِهِ، وَلَا تَنْبَرِمُ عَلَانِيَتُهُ بَعْدَ حُكْمِهِ كَرَجُلٍ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى رَجُلٍ وَجَحَدَهُ الْمُشْتَرِي، وَحَاكَمَهُ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهَا وَعَادَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى بَائِعِهَا، فَالْأَوْلَى لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ، وَيَحْمِلَ الْبَائِعَ عَلَى الْإِقَالَةِ؛ لِتَحِلَّ لِبَائِعِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ فَعَلَ، فَلَمْ يُجِبِ الْمُشْتَرِي إِلَى الِاسْتِقَالَةِ وَلَا الْبَائِعُ إِلَى الْإِقَالَةِ، فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعُودَ إِلَى الْبَائِعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي لِيَبِيعَهَا، فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَمَا بَاعَهَا بِهِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ لَزِمَهُ رَدُّهَا، وَمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْجَحُودَ يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ بِالْإِقَالَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ إِعَادَتَهَا إِلَى مِلْكِهِ أَظْهَرَ الْإِقَالَةَ، وَحَكَمَ لَهُ بَعْدَ إِظْهَارِهَا، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ إِعَادَتَهَا إِلَى مِلْكِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَكَانَتْ فِي يَدِهِ لِيَسْتَوْفِيَ بِبَيْعِهَا مَالَهُ مِنْ ثَمَنِهَا، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِبَيْعِهَا وَجْهَانِ: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْجُحُودَ يَجْرِي مَجْرَى الْفَلَسِ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى الثَّمَنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا قَالَ، قَدِ اخْتَرْتُ عَيْنَ مَالِي بِاسْتِرْجَاعِهَا، وَفِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ وَجْهَانِ، ثُمَّ هِيَ حَلَالٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ لِلْمُشْتَرِي يَسْتَوْفِي ثَمَنَهَا مِنْ بَيْعِهَا. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْكُمَ بِمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ بِأَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ أَصْلًا، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ بِأَضْعَفِ الْمَذْهَبَيْنِ أَصْلًا مِمَّا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ بُطْلَانُهُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ أَنْ يَنْقُضَهُ عَلَيْهِ، فَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ وَعَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَمُبَاحًا لِلْمَحْكُومِ لَهُ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَانَ لَازِمًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِبَاحَتِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا خَالَفَ مُعْتَقَدَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَبِيحُهُ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَبِيحُهُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنِ اسْتَبَاحَهُ فِي الظَّاهِرِ لِاعْتِقَادِهِ بِحَظْرِهِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْحُكْمُ فِي الْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَنَحْوِهِ، فَلِلزَّوْجَيْنِ فِيهَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: فِي عَقْدِهِ. وَالثَّانِي: فِي حِلِّهِ. فَأَمَّا حَالُ الْعَقْدِ، فَلِلزَّوْجَيْنِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَيَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَا بِالْعَقْدِ بِاجْتِهَادِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَلَا اسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ، وَإِنْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَفِي جَوَازِ انْفِرَادِهِمَا بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادِ حَاكِمٍ وَاسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مَا لَمْ يَمْنَعْهُمَا ذُو حُكْمٍ لِمَا فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ إِبَاحَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا ذُو حُكْمٍ لِمَا فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ حَظْرِهِ. فَأَمَّا حَالُ الرَّفْعِ وَالْحِلِّ، فَلَهُمَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَلَا يَرْتَفِعُ، وَيَنْحَلُّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهُمَا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِأَنْفُسِهِمَا، وَنُظِرَ: فَإِنْ زَوَّجَهُمَا حَاكِمٌ لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَإِنْ تَزَوَّجَا بِاسْتِفْتَاءِ ففيه مُجْتَهِدٍ، فَفِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ وَجْهَانِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 أَحَدُهُمَا: يَرْتَفِعُ بِاسْتِفْتَاءِ مُجْتَهِدٍ اعْتِبَارًا بِعَقْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِتَجَاوُزِهِ إِلَى مَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَفِيمَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْعَقْدُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْتَفِعُ بِاجْتِهَادِهِمَا اعْتِبَارًا بِعَقْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، لِتَجَاوُزِهِمَا إِلَى مَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا وَقَفَتِ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ بِالنَّفَقَةِ، فَلَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِالْعُنَّةِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِتَأْجِيلِ الزَّوْجِ سَنَةً، ثُمَّ يَحْكُمُ بِعُنَّتِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِالْعُنَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَفِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: إِنَّهُ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا لَمْ تَثْبُتِ الْعُنَّةُ إِلَّا بِحُكْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ تَنْفَرِدَ الزَّوْجَةُ بِالْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالْعُنَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا الْفَسْخُ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الْفَسْخِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلَّا أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّاهُ الزَّوْجَةُ. فَأَمَّا إِذَا أُعْتِقَتِ الزَّوْجَةُ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ فَسْخَهُ بِالْعِتْقِ تَحْتَ عَبْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا عُيُوبُ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَعِيبَةً أَوْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَفْسَخَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الزَّوْجَانِ بِالْفَسْخِ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا لَمْ يَجُزِ الْفَسْخُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الْفَسْخِ ثُمَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ إِذَا تَوَلَّاهُ مُسْتَحِقُّهُ وَهَكَذَا رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ إِذَا أفلس الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ ثُمَّ يَحْكُمُ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ بِالْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ، فَإِذَا حَكَمَ فِي الْفَلَسِ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ بِهِ الْبَائِعُ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ الْبَائِعُ إِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ، وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 (بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنَ كِتَابِ اخْتِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وأبي حنيفة) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْوِلَادَةُ وَعُيُوبُ النِّسَاءِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا فِي أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيهِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوِلَادَةُ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ الْجَوَازِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا النِّسَاءُ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ أَبْدَانِهِنَّ، فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِيهِ، وَهُوَ مَا حَرُمَ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْفَرْجِ كَالْقَرْنِ، وَالرَّتْقِ أَوْ كَانَ مِمَّا عَدَاهُ مِنْ بَرَصٍ أَوْ غَيْرِهِ، تَعْلِيلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُهُ الرِّجَالُ، وَتَعْلِيلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا النِّسَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ عَوْرَةٌ مِنَ الْمَرْأَةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلِمَ جَوَّزْتُمْ فِيهَا شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ مُشَارَكَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ فِي التَّحْرِيمِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهَا فِي حُقُوقِ الرِّجَالِ أَغْلَظُ تَحْرِيمًا مِنْهَا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا فِي الرِّجَالِ مُخْتَصٌّ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَالثَّانِي: قَطْعُ الشَّهْوَةِ. وَتَحْرِيمُهَا فِي النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَلَمَّا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى الشَّهَادَةِ أُبِيحَتْ لِأَخَفِّ الْجِنْسَيْنِ حَظْرًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَوْرَاتِ أَبْدَانِهِنَّ كَالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَلَا يُقْبَلُ فِي عُيُوبِهِ إِلَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إِجْمَاعًا، لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَوْرَةِ فِي حقوق الرجال والنساء، فلم تدع الضرورة إلى فيه انفراد النساء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ فِيمَا كَانَ عَوْرَةً مَعَ الْأَجَانِبِ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْرَةً مَعَ ذَوِي الْمَحَارِمِ، كَالَّذِي عَلَا عَنِ السُّرَّةِ وَانْحَدَرَ عَنِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَمِنْهُ الرَّضَاعُ مِنَ الثَّدْيَيْنِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، لِتَحْرِيمِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، لِإِبَاحَتِهِ لِذَوِي الْمَحَارِمِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الرَّضَاعِ. (فَصْلٌ) : وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مُنْفَرِدِينَ، وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ إِذَا بَقِيَ الرِّجَالُ فِي الْمُشَاهَدَةِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَلَهُمْ فِي مُشَاهَدَةِ الْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا: حَانَتْ مِنَّا الْتِفَاتَةٌ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَرَأَيْنَا فَهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِغَيْرِ شَهَادَةٍ، فَرَأَيْنَا، فَقَدْ فَسَقُوا بِتَعَمُّدِ النَّظَرِ لِغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا. والحال الثالث: أَنْ يَقُولُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَفِي فِسْقِهِمْ بِهَذَا النَّظَرِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: إِنَّهُ يَحْرُمُ فِي الزِّنَا، وَغَيْرِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَيَصِيرُوا بِهَذَا النَّظَرِ فَسَقَةً، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحِلُّ فِي الزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَظَرٌ لِحِفْظِ حَقٍّ، فَيَكُونُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يُحَرَّمُ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَيَحِلُّ فِي الزِّنَا، لِأَنَّ الزَّانِيَ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ وَغَيْرَ الزَّانِي حَافِظٌ لَهَا، فَيُفَسَّقُوا بِالنَّظَرِ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُمْ، وَلَا يُفَسَّقُوا بِالنَّظَرِ فِي الزِّنَا، وتقبل فيه شهادتهم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " واختلفوا في عددها فقال عطاء لا يكون في شهادة النساء لا رجل معهن في أمر النساء أقل من أربع عدول (قال الشافعي) رحمه الله: وبهذا نأخذ ولما ذكر الله النساء فجعل امرأتين يقومان مقام رجل في الموضع الذي أجازهما فيه دل والله أعلم إذ أجاز المسلمون شهادة النساء في موضع أن لا يجوز منهن إلا أربع عدول لأن ذلك معنى حكم الله عز وجل (قال الشافعي) وقلت لمن يجيز شهادة امرأة في الولادة كما يجيز الخبر بها لا من قبل الشهادة وأين الخبر من الشهادة أتقبل امرأة عن امرأة أن امرأة رجل ولدت هذا الولد قال لا قلت فتقبل في الخبر أخبرنا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 فلان عن فلان؟ قال: نعم قلت فالخبر هو ما استوى فيه المخبر والمخبر والعامة من حلال أو حرام؟ قال نعم قلت والشهادة ما كان الشاهد منه خليا والعامة وإنما تلزم المشهود عليه؟ قال نعم: قلت أفترى هذا مشبها لهذا؟ قال أما في هذا فلا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذْ قَدْ مَضَى مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْمَقْبُولِ مِنْهُنَّ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ وَيُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ إِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ نِسْوَةٍ، وَلَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْهُنَّ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ: إِنَّهُ يُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلَّا مَعَ غَيْرِهَا. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْقَابِلَةَ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ قَابِلَةٍ إِلَّا وِلَادَةَ الْمُطَلَّقَةِ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى ابْنُ الْمَدَائِنِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَتَهَا "، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا وَإِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخَبَرِ، فَلَمَّا قُبِلَتْ وَحْدَهَا فِي الْأَخْبَارِ قُبِلَتْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهَا حَالٌ يَحْتَشِمُ فِيهَا مَنْ عَدَا الْقَابِلَةَ، فَجَازَ قَبُولُ شَهَادَتِهَا وَحْدَهَا، اعْتِبَارًا بِالضَّرُورَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى رَدُّ الْوَاحِدِ وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُقْبَلْنَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ مُسَاوِيَةً لِمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ بِالْقَبُولِ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَالِ فِي الْقَبُولِ، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَالِ اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ وَأَمَّا الْبَتِّيُّ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لِلرَّجُلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِيرُونَ ثَلَاثًا. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ أَنْقَصُ مِنْ شَهَادَةِ الرِّجَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 أَحَدُهُمَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . وَالثَّانِي: إِنَّهُنَّ لَا يُقْبَلْنَ فِي مَوَاضِعَ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الرِّجَالِ، وَيُقْبَلُ الرِّجَالُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ مِنَ الرِّجَالِ مَعَ قُوَّتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ مَعَ ضَعْفِهَا. وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يَنْفَرِدُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْتِزَامِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْعَدَدِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْهُ خَلِيًّا ". وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ خَلِيًّا مِنْ نَفْعٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ، لِيُوضِّحَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي تُقْبَلُ وَإِنْ عَادَتْ بِنَفْعٍ عَلَى الْمُخْبِرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَلِيًّا أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ حُكْمٌ، فَإِنَّ الْوَارِثَيْنِ إِذَا شَهِدَا بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ كَانَ مَا عَلَيْهِمَا مِنْهُ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِمَا، وَمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْهُ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى وِلَادَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهَا شَهَادَةً وَاحِدَةً كَالشَّهَادَةِ عَلَى وِلَادَةِ الْمُطَلَّقَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ فِي شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مَعَ ضَعْفِهِ وَأَنَّ الْمَدَائِنِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَبِلَهَا وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِقَبُولِهَا وَحْدَهَا، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا وَإِنْ بَاشَرَتْ أَحْوَالَ الْوِلَادَةِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَوْ جَرَتْ مَجْرَى الْخَبَرِ لَقُبِلَ فِيهَا شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، كَمَا يُقْبَلُ غَيْرُهُمَا وَلَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ كَمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " يُقْبَلُ خَبَرُ الْمُعَنْعِنِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعَنْعِنِ "، يَعْنِي فُلَانًا عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْخَبَرَ يَتَسَاوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمَخْبَرُ فِي الِالْتِزَامِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا يَتَسَاوَى الشَّاهِدُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاحْتِشَامِ مَنْ عَدَا الْقَابِلَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ لِلتَّعَاوُنِ وَفَضْلِ الْمُرَاعَاةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ وَهُوَ أَنْ يكون الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 لِلْحَسَنِ دَلِيلٌ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِالضِّدِّ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِجَازَةَ بِالرَّدِّ، وَالرَّدُّ ضِدُّ الْإِجَازَةِ وَالشَّيْءُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِنَظِيرِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِضِدِّهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا رَدَّ بِالْفِسْقِ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ. وَالْعَدَدِ وَجَبَ أَنْ يَقْبَلَ بِالْعَدَالَةِ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا غَيْرَ جَائِزٍ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ شَهِدَ الرِّجَالُ فِيمَا يَنْفَرِدُ فِيهِ النِّسَاءُ قُبِلُوا، وَلَمْ يَحْكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ أَقْوَى، فَكَانَتْ بِالْقَبُولِ أَوْلَى، وَإِنْ شَهِدْنَ مَعَ الرِّجَالِ جَازَ، وَقُبِلَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وبالله التوفيق ... . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 (باب شهادة القاذف) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُضْرَبَ الْقَاذِفُ ثَمَانِينَ وَلَا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَسَمَّاهُ فَاسِقًا إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَإِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي الْجُرْمَيْنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي أَنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْقَاذِفِ بِالزِّنَا حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِنْ تَحَقَّقَ قَذْفُهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيَّةِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَا، وَتَحَقُّقُهُ فِي الزَّوْجَةِ يَكُونُ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِثَالِثٍ وَهُوَ اللِّعَانُ، فَإِذَا حَقَّقَ قَذْفَهُ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْقَذْفِ فِي عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَذْفِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لا يحقق قَذْفَهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا تَصْدِيقٍ وَلَا لِعَانٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِقَذْفِهِ ثَلَاثُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْحَدِّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَالثَّانِي: فِسْقُهُ الْمُسْقِطُ لِعَدَالَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَتُبْ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مَأْخُوذَةٌ نَصًّا مِنْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وَيَكُونُ الْقَذْفُ هُوَ الْمُوجِبُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْجَلْدِ، وَالْفِسْقِ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْجَلْدِ وَحْدَهُ، فَأَمَّا الْفِسْقُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَلْدِ دُونَ الْقَذْفِ، فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يُجْلَدْ، فَإِذَا جُلِدَ فُسِّقَ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ أَبَدًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ مُتَعَرِّضٌ لِتَحْقِيقِ الْقَذْفِ وَسُقُوطِ الْجَلْدِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الْقَذْفِ إِلَّا بِالْجَلْدِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 وَالدَّلِيلُ عَلَى فِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ بِالْقَذْفِ دُونَ الْجَلْدِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَعَلَّقَ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ الْجَلْدِ، وَالْفِسْقِ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْجَلْدُ بِالْقَذْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ضُمَّ إِلَيْهِ وَقُرِنَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَذْفِ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ تَطْهِيرٌ وَتَكْفِيرٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحُدُودُ كُفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا " فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَكُونَ تَكْفِيرُ ذَنْبِهِ مُوجِبًا لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ. وَلِأَنَّ فِسْقَهُ وَرَدَّ شَهَادَتِهِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَالْقَذْفُ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْجَلْدُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا فُسِّقَ بِالسَّرِقَةِ دُونَ الْقَطْعِ وَبِالزِّنَا دُونَ الْحَدِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِمَثَابَتِهِمَا، لِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَبِهِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا اسْتَقَرَّ بِقَذْفِهِ وُجُوبُ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ الْجَلْدُ بِاتِّفَاقٍ، وَزَالَ فِسْقُهُ بِاتِّفَاقٍ وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْجَلْدِ وَبَعْدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْجَلْدِ أَبَدًا وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، وَمَا أَبَّدَ اللَّهُ حُكْمَهُ لَمْ يَزُلْ. وَبِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ ". قَالُوا: وَهَذَا نَصٌّ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ كَالْجَلْدِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ [بِالتَّوْبَةِ] يَرْفَعُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِذَا انْعَطَفَ عَلَى جُمْلَةٍ عَادَ إِلَى جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهَا، كَقَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَسَالِمٌ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِمَا، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَقْرَبِهِمَا، فَلَا تُطَلَّقُ زَيْنَبَ كَمَا لَمْ يُعْتَقْ سَالِمٌ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْجَلْدَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ وَالْفِسْقُ عِلَّةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ. كَمَّا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَجَلَسَ، فَأُعْطِهِ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ صَدِيقٌ، فَدَخَلَ وَلَمْ يَجْلِسْ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّرْهَمَ، وَكَانَ عَلَى الصَّدَاقَةِ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ جَزَاءٌ، وَالصَّدَاقَةُ عِلَّةٌ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْفِسْقَ إِخْبَارٌ عَنْ مَاضٍ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ مُسْتَقْبَلٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى مُسْتَقْبَلِ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى مَاضِي الْأَخْبَارِ. وَاعْتَرَضُوا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعُدِ الِاسْتِثْنَاءُ بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْجَلْدِ مُنِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْفِسْقُ دُونَ رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَخْتَصُّ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ عنه جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْجَلْدِ لِدَلِيلٍ خَصَّهُ وَهُوَ أَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْفِسْقَ عِلَّةٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَارْتِفَاعُ الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِرَفْعِ حُكْمِهَا، وَلَيْسَ الْفِسْقُ عِلَّةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ رَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ وُجُوبُ الْحَدِّ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: فقوله {إلا الذين تابوا} عَائِدٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ لَا إِلَى مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] أَيْ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَيَرْحَمُهُمْ فَتَعُودُ التَّوْبَةُ إِلَى الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَا تَعُودُ إِلَى الْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ مُنْقَطِعًا وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ قوله: {فإن الله غفور رحيم} صِفَةٌ لِذَاتِهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِاسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، كَذَلِكَ صِفَةُ هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: رَدُّ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ، وَالْفِسْقُ تَسْمِيَةٌ وَالْخِطَابُ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى حُكْمٍ وَتَسْمِيَةٍ وَتَعَقَّبَهَا اسْتِثْنَاءٌ يَعُودُ إِلَى التَّسْمِيَةِ دُونَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطِ زَيْدًا وَعَمْرًا الْفَاسِقَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فَاسِقًا، وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْفِسْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ حُكْمَانِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَا ادَّعَوْا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، لَكَانَ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالتَّوْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ عُودِهِ إِلَى الِاسْمِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ وَلَا تُغَيِّرُ الْأَسْمَاءَ، ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 42] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوْبَةَ تُوجِبُ الْقَبُولَ، وَالْعَفْوَ، وَهُمْ حَمَلُوهَا عَلَى الْقَبُولِ دُونَ الْعَفْوِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الشَّعْبِيُّ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا " أَيْ تَقْطَعُهُ، وَتَرْفَعُهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، قَالَ لَهُ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَقَالَ: لَا أَتُوبُ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهَا قِصَّةٌ اجْتَمَعُوا لَهَا فَمَا أَنْكَرَ قَوْلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا رُدَّتْ بِفِسْقٍ قُبِلَتْ بِزَوَالِ الْفِسْقِ؛ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ مَا يُفَسَّقُ بِهِ. وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْحَدِّ قُبِلَتْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ. وَلِأَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ. وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِالزِّنَا لِتَرَدُّدِ الْقَذْفِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَغْلَظِ الْإِثْمَيْنِ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ كَانَ قَبُولُهُ بِالتَّوْبَةِ مَنْ أَخَفِّهِمَا قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرَةَ عَلَى إِصْرَارِهِ يُسْتَرْوَى فَيَرْوِي وَيُسْتَشْهَدُ [فَلَا] يَشْهَدُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُؤَبَّدًا، فَهُوَ مَشْرُوطُ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ التَّسْوِيَةِ ومستثنى التأييد بِالتَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ أَصْلًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَهُوَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] . (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالتَّوْبَةُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ أَذْنَبَ بِأَنْ نَطَقَ بِالْقَذْفِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: الْقَذْفُ بَاطِلٌ كَمَا تَكُونَ الرِّدَّةُ بِالْقَوْلِ، وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالْقَوْلِ. فَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شهادته وإلا فحتى يحسن حاله (قال الشافعي) أخبرنا سفيان بن عيينة قال سمعت الزهري يقول زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز فأشهد لأخبرني ثم سمى الذي أخبره أن عمر قال لأبي بكرة تب تقبل شهادتك أو قال إن تبت قبلت شهادتك (قال) وبلغني عن ابن عباس مثل معنى هذا وقال ابن أبي نجيح كلنا نقوله قلت من قال؟ عطاء وطاوس ومجاهد وقال الشَّعْبِيُّ يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟ (قال الشافعي) وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات لأهلها فكيف تردونها في أحسن حالاته وتقبلونها في شر حالاته؟ وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف لا تقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا؟ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا حَقَّقَ قَذْفَهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذكرناه مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ اسْتَقَرَّتِ الْأَحْكَامُ فِيهِ، وَإِنْ تَابَ ارْتَفَعَ مَا سِوَى الْجَلْدِ، فَلَزِمَ أَنْ نَذْكُرَ شُرُوطَ التوبة، وشروطها يختلف بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ، وَلِلذَّنْبِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذَّنْبِ حَقٌّ سِوَى الْإِثْمِ كَمَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوِ اسْتَمْتَعَ بِمَا دَوَنَ الْفَرْجِ مِنْهَا فَمَأْثَمُ هَذَا الذَّنْبِ مُخْتَصٌّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى مَخْلُوقٍ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ تَكُونُ بِشَرْطَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 أَحَدُهُمَا: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ بِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 135، 136] قوله {فاستغفروا لذنوبهم} يُرِيدُ بِهِ النَّدَمَ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ يَكُونُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يعلمون} هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ بَعْدِ وَقَبْلَ تَوْبَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكُ الْإِصْرَارِ، لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ النَّدَمُ عَلَيْهِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الذَّنْبُ بَاطِنًا أَقْنَعَ فِيهِ التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَقْنَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ، وَلَمْ يُقْنِعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ إِلَّا التَّوْبَةُ الظَّاهِرَةُ، فَإِنْ تَجَاوَزَ مَأْثَمُ هَذَا الذَّنْبِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ أَثِمَ بِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غُرِّمَ وَلَا حَدَّ، كَمَنْ تَعَدَّى بِضَرْبِ إِنْسَانٍ فَآلَمَهُ احْتَاجَ مَعَ التَّوْبَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْمَضْرُوبِ بِاسْتِطَابَةِ نَفْسِهِ لِيَزُولَ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ أَحَلَّهُ مِنْهُ عَفْوًا وَإِلَّا مَكَّنَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِيُقَاتِلَهُ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ قِصَاصٌ وَلَا غُرْمٌ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ فِي الْقِصَاصِ المماثلة، وهي هاهنا مُتَعَذِّرَةٌ، وَيُعْتَبَرُ فِي التَّوْبَةِ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، وَهِيَ هاهنا مَوْجُودَةٌ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا أَعْلَمْتَنِي، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي؟ قَالَ: مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً، فَأَلْقَى إِلَيْهِ الدِّرَّةَ، وَقَالَ: اقْتَصَّ قَالَ: لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ، قَالَ: فَاعْفُ قَالَ: لَا أَعْفُو فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنَ الْغَدِ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ، قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ. فَبَذَلَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنَ الضَّرْبِ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ لِيَزُولَ عَنْهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَفْوًا، فَإِنْ قَادَ نَفْسَهُ فَلَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ الِانْقِيَادَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مَعْصِيَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْإِثْمِ حَقٌّ، فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِعْلٍ وَقَوْلٍ، فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِالْآدَمِيِّينَ كَالْغُصُوبِ وَالْقَتْلِ، فَصِحَّةُ تَوْبَتِهِ مِنْهُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: بِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 وَالثَّالِثُ: بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ بَدَلِهِ إِنْ عُدِمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ ليقتص أو يعفوا، فَإِنْ أَعْسَرَ بِالْمَالِ أُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ، وَالتَّوْبَةُ قَدْ صَحَّتْ، وَهَذِهِ التَّوْبَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّ الْغَصْبَ ظَاهِرٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَهُ فِي فِعْلِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَتَرَ بِفِعْلِهِ، وَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِهِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُظْهِرَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ " وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَأْثَمْ بِإِظْهَارِهِ لِأَنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالزِّنَا فَرَجَمَهُمَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا اعْتِرَافَهُمَا. وَقَالَ لِهَزَّالِ بْنِ شُرَحْبِيلَ وَقَدْ أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ بِالِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا. " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ "، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ مُعْتَبَرَةً بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: النَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ، وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْحَدِّ، فَإِنْ سَلَّمَهَا، وَلَمْ يُحَدَّ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَكَانَ الْمَأْثَمُ فِي تَرْكِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، فَالتَّوْبَةُ صَحِيحَةٌ يَسْقُطُ بِهَا حُدُودُ الْحِرَابَةِ. وَفِي سُقُوطِ مَا عَدَاهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ كَالْحِرَابَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ مُعْتَبَرَةً بِشَرْطَيْنِ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ. وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ بِثَالِثٍ، وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْحَدِّ، وَهَذَا إِذَا تَابَ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِهِ، وَيَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ قُبِلَتْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَا يَتَوَقَّفْ عَنْهُ لِاسْتِبْرَاءِ صَلَاحِهِ، لِأَنَّهُ مَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فِيمَا كَانَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ إِلَّا عَنْ صَلَاحٍ يُغْنِي عَنِ اسْتِبْرَاءِ الْحَالِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَظَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ مِنَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِالتَّوْبَةِ كَمَا تَظَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ مُسْتَوْفِيهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ، وَيُعْتَبَرُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ، النَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ تَابَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَفِي سُقُوطِهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِ شَرْطَانِ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتُقْبَلِ، وَالِاعْتِرَافُ بِهِ عِنْدَ مُسْتَوْفِي الْحَدِّ، لِيُقِيمَهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَهَا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا ثُبُوتُ الْعَدَالَةِ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ فَمُعْتَبَرٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ بِصَلَاحِ حَالِهِ وَاسْتِبْرَاءِ أَفْعَالِهِ بِزَمَانٍ يُخْتَبَرُ فِيهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ تاب وآمن وعمل صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 25] . وَصَلَاحُ حَالِهِ مُعْتَبَرٌ بِزَمَانٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّهِ، فَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَاعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا بِسَنَةٍ كَامِلَةٍ، لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَجَلِ الْعُنَّةِ، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُهَيِّجَةِ لِلطِّبَاعِ، فَإِذَا سَلِمَ فِيهَا مِنِ ارْتِكَابِ مَا كَانَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي صَحَّتْ عَدَالَتُهُ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ. وَالثَّانِي: عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ بِالْقَوْلِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: رِدَّةٌ فِي الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: قَذْفٌ بِالزِّنَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ. فَأَمَّا الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بَعْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ، يَكُونُ بِمَا أَسْلَمَ بِهِ الْكَافِرُ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَتُهُ بِالْقَوْلِ كَانَتْ تَوْبَتُهُ بِالْقَوْلِ، كَمَا أَنَّ مَعْصِيَةَ الزِّنَا لِمَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْهَا بِالْفِعْلِ، فَإِذَا أَتَى الْمُرْتَدُّ بِمَا يَكُونُ بِهِ تَائِبًا عَادَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ حَتَّى تَظْهَرَ مِنْهُ شُرُوطُ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ نُظِرَ فِي التَّوْبَةِ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْهُ اتِّقَاءً مِنْهُ لِلْقَتْلِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ شُرُوطُ الْعَدَالَةِ بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَصَلَاحِ عَمَلِهِ، وَإِنْ تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ عَفْوًا غَيْرَ مُتَّقٍ بِهَا الْقَتْلَ عَادَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى عَدَالَتِهِ. وَأَمَّا الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ بَعْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ إِلَّا بِالْقَوْلِ، لأن معصية بِالْقَوْلِ كَالرِّدَّةِ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: النَّدَمُ عَلَى قَذْفِهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ. وَالثَّالِثُ: إِكْذَابُ نَفْسِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَإِنِّي كَاذِبٌ فِي قَذْفِي لَهُ بِالزِّنَا، وَقَدْ رَوَى عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَوْبَةُ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ ". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ إِكْذَابَ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ قَذْفِي لَهُ بِالزِّنَا كَانَ بَاطِلًا، وَلَا يَقُولُ: كُنْتُ كَاذِبًا فِي قَذْفِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، فَيَصِيرُ عَاصِيًا بِكَذِبِهِ كَمَا كَانَ عَاصِيًا بِقَذْفِهِ، وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ فِي التَّوْبَةِ: وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ يُغْنِي عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ التَّوْبَةِ مُعْتَبَرٌ، وَالْعَزْمُ لَيْسَ بِقَوْلٍ، وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الْقَذْفِ مُعْتَبَرَةً بِهَذِهِ الشُّرُوطِ، فَالْقَذْفُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قَذْفُ نَسَبٍ، وَقَذْفُ شَهَادَةٍ. وَأَمَّا قَذْفُ النَّسَبِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ التَّائِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَّا بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ، وَصَلَاحِ عَمَلِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَذْفِ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَهَلْ يُرَاعَى فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ صَلَاحُ عَمَلِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَصَلَاحِ عَمَلِهِ لِارْتِفَاعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَدَالَةِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْفِسْقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَتَثْبُتُ عَدَالَتُهُ بِحُدُوثِ تَوْبَتِهِ لِأَنَّهَا رَافِعَةٌ لِحُكْمِ فِسْقِهِ. وَأَمَّا قَذْفُ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يُسْتَكْمَلْ عَدَدُ الشُّهُودِ، فَفِي وُجُوبِ حَدِّهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إِقَامَةَ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْحَدُّ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّهُمْ حِينَ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ فَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ مِنْ فِسْقِهِمْ، وَيُعْتَبَرُ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَذْفِ النَّسَبِ أَنْ يَقُولَ: قَذْفِي بَاطِلٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّدَمِ، وَتَرْكِ الْعَزْمِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْ يَقُولَ: إِنِّي كَاذِبٌ وَلَا يَقُولُ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَمُلَ عَدَدُ الشُّهُودِ لَزِمَهُ أَنْ يَشْهَدَ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِحَالِهِ، وَصَلَاحِ عَمَلِهِ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ وَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِذَا حَدَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ وَجْهًا، وَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ عَلَى عُمَرَ فِي قَوْلٍ انْتَشَرَ فِي الصَّحَابَةِ، فَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ قَذْفِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَقُبِلَتْ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يَتُبْ فَقُبِلَتْ رِوَايَتُهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ تَغْلِيظُ الشَّهَادَةِ حِينَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْ وَاحِدٍ، وَتَخْفِيفُ الرِّوَايَةِ حِينَ قُبِلَتْ مِنْ وَاحِدٍ. فَأَمَّا قَذْفُ النَّسَبِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ قَاذِفِهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ شَهَادَةٌ وَلَا تُسْمَعُ لَهُ رِوَايَةٌ: لِأَنَّ الْفِسْقَ بِقَذْفِ النَّسَبِ نَصٌّ، وَبِقَذْفِ الشَّهَادَةِ اجْتِهَادٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 33 (باب التحفظ في الشهادة والعلم بها) قال الشافعي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وَقَالَ {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَالَ فَالْعِلْمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْهَا مَا عَايَنَهُ فَيَشْهَدُ بِهِ وَمِنْهَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقُلُوبِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ سَمْعًا مَعَ إِثْبَاتِ بَصَرٍ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْعِلْمُ بِهَا فِي حَالَةِ التَّحَمُّلِ وَحَالَةِ الْأَدَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36] فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ، فَالسَّمْعُ لِلْأَصْوَاتِ، وَالْبَصَرُ لِلْمَرْئِيَّاتِ، وَالْفُؤَادُ لِلْمَعْلُومَاتِ، فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بِهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَسْبَابِهِ، لِيَخْرُجَ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَشَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ مَعْلُومٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِحَقٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْلُومٍ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43] وَهَذَا وَعِيدٌ يُوجِبُ التَّحَفُّظَ فِي الْعَاجِلِ، وَالْجَزَاءَ فِي الْآجِلِ. وَرَوَى عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: " هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَعَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ " وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الْحَوَاسِّ دَرْكًا، وَأَثْبَتُهَا عِلْمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِأَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ فِي التحمل والأداء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 34 (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَالْعِلْمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا عَايَنَهُ، فَيَشْهَدُ بِهِ وَمِنْهَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقُلُوبِ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ سَمْعًا مَعَ إِثْبَاتِ بَصَرٍ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ "، فَتَنْقَسِمُ الشَّهَادَاتُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يُشَاهِدَهُ مُعَايَنَةً بِبَصَرِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا سَمِعَهُ بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ. وَالثَّالِثُ: مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُبْصِرَهُ فَالْأَفْعَالُ كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالزِّنَا، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلَادَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا إِلَّا إِذَا شَاهَدَهَا بِبَصَرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهَا، وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ شَائِعًا مُسْتَفِيضًا، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا عَلِمَهُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ، بِحَمْلِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُتَمَكِّنَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: هُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِذَا عَلِمَهُ بِالسَّمْعِ وَالْخَبَرِ الشَّائِعِ، فَضَرْبَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالْمِلْكُ، وَالْمَوْتُ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَثَلَاثَةٌ: الْوَقْفُ، وَالْوَلَاءُ، وَالزَّوْجِيَّةُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الشَّائِعِ الْخَارِجِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَحْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ مِنْ مَدْحٍ، وَذَمٍّ، وسخط، ورضى يُسْمَعُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، يَقُولُونَ: هَذَا فلان ابن فُلَانٍ فَيَخُصُّونَهُ بِالنَّسَبِ إِلَى أَبٍ أَوْ يَعُمُّونَهُ بِنَسَبٍ أَعْلَى، فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَوْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ، بِالْخَبَرِ الشَّائِعِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا لَا يُقْطَعُ بِمُعَيَّنٍ، لِأَنَّ الْأَنْسَابَ تَلْحَقُ بِالِاسْتِدْلَالِ دون القطع، فجازرت لِشَهَادَةٍ فِيهَا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْقَطْعِ، وَأَقَلُّ الْعَدَدِ فِي اسْتِفَاضَةِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي: أَقَلُّهُ عَدْلَانِ يَذْكُرَانِ نَسَبَهُ خَبَرًا لَا شَهَادَةً، فَيَشْهَدُ بِهِ السَّامِعُ شَهَادَةَ نَفْسِهِ، وَلَا يَشْهَدُ بِهِ عَنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ لِأَنَّ قَوْلَ الاثنين من أخبار الآحاد، وأخبار لَا تَبْلَغُ حَدَّ الشَّائِعِ الْمُسْتَفِيضِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعَدَدُ الْمَقْطُوعُ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ، وَهُوَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ الْمُنْتَفَى عَنْهُ الْمُواطَأَةُ وَالْغَلَطُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 35 (فَصْلٌ) : وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَنَا ابْنُكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ، فَيَثْبُتَ نَسَبُهُ بِتَصْدِيقِهِ، وَيَكُونُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ بَيْنَهُمَا بِالْإِقْرَارِ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَلَوْ تَنَاكَرَا النَّسَبَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ لَمْ يَنْتَفِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُدَّعِي فَلَوْ عَادَ الْمُنْكِرُ فَاعْتَرَفَ بِالنَّسَبِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ، وَلَوْ عَادَ الْمُدَّعِي فَأَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ مَقْبُولٌ وَالْإِنْكَارُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَرْدُودٌ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُمْسِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ حَالَ إِمْسَاكِهِ بِالرِّضَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَإِنْ شَهِدَتْ حَالُ إِمْسَاكِهِ بِالرِّضَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي: يَثْبُتُ النَّسَبُ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنْ شَوَاهِدِ الِاعْتِرَافِ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ وَإِنْ تَكَرَّرَ وَزَالَ عَنْهُ شَوَاهِدُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ صَارَ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْسَابِ بِمِثْلِهِ تَثْبُتُ وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنَا أَبُوكَ اعْتُبِرَتْ حَالُ الِابْنِ بِمِثْلِ مَا اعْتُبِرَتْ بِهِ حَالُ الْأَبِ، وَكَانَ الْجَوَابُ فِيهِمَا سَوَاءً. (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا وَكَّلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِالْوَكَالَةِ مُوجِبَةً لِلشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِمَا، فذهب مَالِك إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوِكَالَةِ دُونَ النَّسَبِ اعْتِبَارًا بِالْمَقْصُودِ فِيهِمَا، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ شَهَادَةٌ بِالْوِكَالَةِ وَبِالنَّسَبِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْوِكَالَةَ دُونَ النَّسَبِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ إِثْبَاتَ مَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَقْصُودٍ وَغَيْرِ مَقْصُودٍ، كَمَنْ شَهِدَ بِثَمَنٍ فِي مَبِيعٍ وَصَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ كَانَتْ شَهَادَةٌ بِالْمَبِيعِ وَالنِّكَاحِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا الثَّمَنَ وَالصَّدَاقَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الشَّائِعِ الْمُتَظَاهَرِ بِسَمْعِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ يَقُولُونَ: هَذَا الدَّارُ لِفُلَانٍ، وَهَذِهِ الضَّيْعَةُ لِفُلَانٍ، وَهَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ، وَهَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ، وَهَذَا الثَّوْبُ لِفُلَانٍ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى مُرُورِ الزَّمَانِ لَا يُرَى فِيهِمْ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَلَا مُنَازِعٌ فِيهِ فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُتَظَاهَرِ بِالْمِلْكِ دُونَ سَبَبِهِ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ تَارَةً بِالشِّرَاءِ، وَتَارَةً بِالْمِيرَاثِ، وَأُخْرَى بِالْهِبَةِ، وَأُخْرَى بِالْوَصِيَّةِ، وَأُخْرَى بِالْإِحْيَاءِ وَأُخْرَى بِالْغَنِيمَةِ فَلَمَّا تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ جَازَ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ أَنْ يُشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ سَبَبِهِ الَّذِي صَارَ بِهِ مَالِكًا، لِأَنَّ السَّبَبَ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشْهَدَ بِالْمِلْكِ الْمُتَظَاهِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مِلْكِهِ الْمِيرَاثَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُشْهَدَ فِيهِ بِالْخَبَرِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 36 الْمُتَظَاهِرِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْبَابِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِمِلْكِهِ، هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ مُتَصَرِّفًا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُشَاهِدَ تَصَرُّفَهُ فِيهِ، فَيَجْمَعَ الشَّاهِدُ فِي الْعِلْمِ بِهِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْمُشَاهَدَةِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُمْكِنَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يُشْهَدَ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهَدِ التَّصَرُّفُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَظَاهِرَ أَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمِلْكٍ وَغَيْرِ مِلْكٍ، وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي التَّوَاتُرِ، وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ فَاعْتَبَرَهُ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُتَظَاهِرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِالْيَدِ، لِيُحْكَمَ بِهَا عِنْدَ مُنَازَعَتِهِ فِيهِ. فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكٍ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ التَّصَرُّفِ، فَقَدْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَلِيلِ التَّصَرُّفِ وَكَثِيرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى بَيْعِهِ لِمَا فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهِ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِالتَّصَرُّفِ وَإِنْ قَلَّ زَمَانُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَارَةً بِالْمِلْكِ، وَتَارَةً بِإِجَارَةٍ وَوَكَالَةٍ، وَاسْتِعَارَةٍ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْمِلْكُ بِالتَّصَرُّفِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ دَلَّتِ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ عَلَى الْمِلْكِ لَمَا جَازَ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنْ يَدَّعِيَ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِرًّا لَهُ بِمِلْكِهَا، وَفِي جَوَازِ ادِّعَائِهَا بَعْدَ ذِكْرِ يَدِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَدَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ، وَلَا يُمْنَعُ صَاحِبُ الْيَدِ مِنَ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُ بِالْمِلْكِ تَارَةً، وَبَالْوِكَالَةِ أُخْرَى. فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَانُ تَصَرُّفِهِ حَتَّى اسْتَمَرَّ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ في العين كالتصرف بالسكنى، والإجازة، وَالْهَدْمِ، وَالْبِنَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِحُّ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا تَصِحُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 37 أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَحْكَامَ الْمِلْكِ مِنْ شَوَاهِدِ الْمِلْكِ. وَالثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرْفِ مِنْ دَلَائِلِ الْمِلْكِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَوْتُ فَيَثْبُتُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِأَنَّ فُلَانًا مَاتَ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى الْجِنَازَةَ عَلَى بَابِهِ، وَالصُّرَاخَ فِي دَارِهِ، وَقِيلَ: قَدْ مَاتَ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ فِي الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِمَوْتِهِ أَعْدَادَ التَّوَاتُرِ، وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي فَاعْتَبَرَهُ بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنْ شَاهَدَ الْجِنَازَةَ وَسَمِعَ الصُّرَاخَ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَوْتُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ غَيْرَهُ، فَإِنْ ذُكِرَ لَهُ مَوْتُهُ كَانَ الْخَبَرُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِالتَّوَاتُرِ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ شَوَاهِدِ الْحَالِ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّوَاتُرِ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُشْهَدَ بِالْمَوْتِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ لِتَنَوُّعِ أَسْبَابِهِ فَجَازَ أَنْ يُعْدَلَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْزِيَهُ إِلَى أَحَدِ أَسْبَابِهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ سَبَبُ الْمِلْكِ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوَقْفُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ إِذَا سَمِعَ عَلَى مُرُورِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَثْبُتُ وَقْفُهُ بِسَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، لِأَنَّهُ عَنْ لَفْظٍ يَفْتَقِرُ إِلَى سَمَاعِهِ مَنْ عَاقَدَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَلَى تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ فَأَمَّا ثُبُوتُهُ وَقْفًا مُطْلَقًا وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا وَقْفُ آلِ فُلَانٍ أَوْ هَذَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَيْنُ عَقْدٍ يَفْتَقِرُ إِلَى سَمَاعٍ وَمُشَاهَدَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ بِمَوْتِ شُهُودِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ لَأَفْضَى إِلَى دِرَاسَتِهِ وَتَعْطِيلِ سُبُلِهِ، فَاقْتَضَى جَوَازَهُ الْعُرْفُ وَالضَّرُورَةُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَنِ الْعِتْقِ وَثُبُوتُ الْعِتْقِ بِتَظَاهُرِ الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى لَفْظِ مُعْتِقِهِ، وَيَشْهَدُ بِسَبَبِ عِتْقِهِ، وَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي عِتْقِهِ لِتَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَنْ لَفْظٍ مَسْمُوعٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ فَتُحْفَظُ حُرِّيَّتُهُ. فَأَمَّا الْوَلَاءُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعِتْقِ إِذَا تَظَاهَرَ الْخَبَرُ بِأَنَّ هَذَا مَوْلَى فُلَانٍ أَوْ مَوْلَى آلِ فُلَانٍ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَالْعِتْقِ لِحُدُوثِهِ عنه، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 38 وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ الثَّابِتِ يَتَظَاهَرُ الْخَبَرُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ". (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الزَّوْجِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ عَقْدُ نِكَاحِهَا وَالشَّهَادَةُ بِهِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى سَمَاعِ اللَّفْظِ وَمُشَاهَدَةِ الْعَاقِدِ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عَنْ عَقْدٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَادَمُ عَهْدُهُ، فعلى هَلْ يَحْتَاجُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِهَا أَنْ يُرَى الزَّوْجُ دَاخِلًا عَلَيْهَا وَخَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ مَعَ تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ إِلَّا قَطْعًا بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ إِذَا اجْتَمَعَا فِيهِ لِيَصِلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِهِ الْمُمْكِنَةِ، وَهُوَ الْعُقُودُ مِنَ الْمُنَاكَحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْإِجَارَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَسَمَاعِ لَفْظِهِمَا بِالْعَقْدِ بَذْلًا وَقَبُولًا، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالطَّلَاقُ الْمُفْتَقِرُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُقِرِّ وَالْمُطَلِّقِ، وَسَمَاعِ لَفْظِهِمَا بِالْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ، فَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا بِالْأَخْبَارِ الْمُتَظَاهِرَةِ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ إِدْرَاكُهُ بِعَلَمِ الْحَوَاسِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُفْضِي إِلَى غَالِبِ الظَّنِّ، وَهَكَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْهَدَ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ دُونَ السَّمَاعِ، وَلَا بِالسَّمَاعِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ لِجَوَازِ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ. فَلَوْ سَمِعَ الشَّاهِدَانِ لَفْظَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، وَعَرِفَا صَوْتَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُحَاكِي الْإِنْسَانُ صَوْتَ غَيْرِهِ، فَيَتَشَبَّهُ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ ثَوْبًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ صَفِيقًا يَمْنَعُ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا يَشُفُّ، فَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مَنْ يُشَاهِدُهُ مَا وَرَاءَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مَعَهُ يجوز. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَبِذَلِكَ قُلْنَا. لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَعْمَى لِأَنَّ الصَّوْتَ يُشْبِهُ الصَّوْتَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَثْبَتُ شَيْئًا يُعَايِنُهُ وَسَمْعًا وَنَسَبًا ثَمَّ عَمِيَ فَيَجُوزُ ولا علة في رده (قال) والشهادة على ملك الرجل الدار والثوب على ظاهر الأخبار بأنه مالك ولا يرى منازعا في ذلك فتثبت معرفته في القلب فتسمع الشهادة عليه وعلى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 39 النسب إذا سمعه ينسبه زمانا وسمع غيره ينسبه إلى نسبه ولم يسمع دافعا ولا دلالة يرتاب لها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى يَخْتَلِفُ قَبُولُهَا بِاخْتِلَافِ مَا رَتَّبْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الشَّهَادَاتِ الثَّلَاثَةِ مِمَّا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ الْمُعَايَنَةَ بِالْبَصَرِ كَالْأَفْعَالِ. فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَرْدُودَةٌ بِإِجْمَاعٍ لِفَقْدِ آلَتِهِ بِذَهَابِ بَصَرِهِ فِيمَا يَصِيرُ عَالِمًا بِهِ، وَمَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ السَّمَاعَ كَالْأَنْسَابِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَالْمَوْتِ، فَشَهَادَةُ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ فِيهِ لِمُسَاوَاتِهِ لِلْبَصِيرِ فِي إِدْرَاكِهَا بِالسَّمْعِ الْمُتَكَافِئَانِ فِيهِ. وَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهَا مَرْدُودَةٌ فِيمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، كَرَدِّهَا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَأَجْرَى الْعَمَى مَجْرَى الْفِسْقِ حِينَ قَالَ لَوْ سَمِعَ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، وَهُوَ بَصِيرٌ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا حَتَّى عَمِيَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بَعْدَ عَمَاهُ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَخَالَفَهُمَا بِالْمَصِيرِ إِلَى قَوْلِنَا أَبُو يُوسُفَ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ كَاعْتِبَارِهِ فِي وِلَايَةِ الْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ فِي جَمِيعِهَا، فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا تَقْلِيدُ عَبْدٍ، وَلَا فَاسِقٍ، وَلَا أَعْمَى، فَوَجَبَ إِذَا رُدَّ فِي الشَّهَادَةِ الْعَبْدُ وَالْفَاسِقُ أَنْ يُرَدَّ فِيهَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْأَفْعَالِ لَمْ تُقْبَلْ فِي الْأَقْوَالِ، كَالْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالسَّمَاعِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ كَمَا أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ اسْتَوَى فِيهِ الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ لِاخْتِصَاصِ الْعِلْمِ بِجَارِحَتِهِ الْمَحْسُوسِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ فَقْدُ عُضْوٍ لَا يُدْرَكُ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِحَّتِهَا مَعَ إِمْكَانِ إِدْرَاكِهَا كَقَطْعِ الْيَدِ. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، فَقْدُ رُؤْيَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَمَى بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهَا أَنَّ الْمَوْتَ الْمُبْطِلَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَجَمِيعِ الْحَوَاسِّ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ فَذَهَابُ الْبَصَرِ مَعَ بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَاسِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَصَمِّ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتُصَّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ السَّمْعِ جَازَ لِلْأَعْمَى أَنْ يَشْهَدَ بِمَا اخْتَصَّ بِالسَّمَاعِ، وَإِنْ فَقَدَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ، لِاخْتِصَاصِ الِاعْتِبَارِ بِالْحَاسَّةِ الْمُدْرِكَةِ، وَاعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ بِالْوِلَايَةِ يَبْطُلُ فَالْمَرْأَةُ تَجُوزُ شَهَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَفْعَالِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ مَفْقُودٌ فِي الْأَعْمَى، وَمَا أُدْرِكَتْ بِهِ الْأَقْوَالُ مَوْجُودٌ فِيهِ فافترقا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 40 (فَصْلٌ) : فَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيمَا يُدْرِكُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ، فَمَرْدُودَةٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سفيان الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إِذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِصَوْتِهِ الَّذِي عَرَفَهُ بِهِ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْمُزَنِيِّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى، وَلِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ شُعَيْبًا قَدْ كَانَ أَعْمَى، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] أَيْ ضَرِيرًا، {وَلَوْلا رهطك لرجعناك} [هود: 91] أَيْ قَوْمُكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ: شَيْبَتُكَ الْبَيْضَاءُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ الشَّيْبَةِ كَمَا يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ رَهْطِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الْعَمَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالْأَمْوَالِ. وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا فِي الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ، كَالْبَصِيرِ. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا افْتَقَرَتْ إِلَى حَاسَّةٍ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا حَاسَّةٌ أُخْرَى، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا افْتُقِرَ فِيهَا إِلَى الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا السَّمَاعُ، وَالْأَنْسَابُ لَمَّا افْتَقَرَتْ إِلَى السَّمَاعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْبَصَرُ، فَوَجَبَ إِذَا افْتَقَرَتِ الْعُقُودُ إِلَى السَّمَاعِ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْمُشَاهَدَةُ، لِأَنَّ أُصُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حَاسَّتَيْنِ وَلِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ وَالْأَصْوَاتَ تَخْتَلِفُ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الصُّورِ مِنَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِهَا. وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُصَوِّتِ كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْمُحَدِّثِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ وَرِوَايَتِهِ عَنْهُ، كَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْعَاقِدِ وَالْمُقِرِّ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ سَمِعَتِ الصَّحَابَةُ الْحَدِيثَ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَمْ تَكُنِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوْتِ مُعْتَبَرَةً. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 35] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36] فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ السَّمْعِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 41 وَالْبَصَرِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَضَمَّ الْفُؤَادَ إِلَيْهَا فِي الْإِثْبَاتِ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِهَا فِيمَا أُدْرِكَ إِثْبَاتُهُ بِهَا، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ ظَنًّا فِي مَحَلِّ الْيَقِينِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ فِي الظُّلْمَةِ، وَمِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ أَثْبَتُ مِنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَيَّلُ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِبَصَرِهِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْأَعْمَى، ثُمَّ لَمْ تَمْضِ شَهَادَةُ الْبَصِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَمْضِيَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى الْمُقَصِّرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعَقْدِ إِذَا عَرِيَتْ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَاقِدِ لَمْ تَصِحَّ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَصَحَّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ كَالْأَخْرَسِ طَرْدًا وَالْبَصِيرِ عَكْسًا. وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ كَمَا يَدُلُّ اللَّمْسُ عَلَى الْمَلْمُوسِ، فَلَمَّا امْتَنَعَتِ الشَّهَادَةُ بِاللَّمْسِ لِاشْتِبَاهِ الْمَلْمُوسِ امْتَنَعَتْ بِالصَّوْتِ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِنَا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَمَى شُعَيْبٍ، فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَاعْتَرَفَ آخَرُونَ بِحُدُوثِهِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَسَلَّمَ آخَرُونَ وَجَوَّدَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِعْجَازَ النُّبُوَّةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ فِي النُّبُوَّةِ شَهَادَةً عَلَى مَغِيبٍ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، فَخَالَفَ مَنْ عَدَاهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مُشَاهَدٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَالْعُقُودِ، فَهُوَ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا تُعْلَمُ قَطْعًا، فَجَازَ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَالْعُقُودُ يُمْكِنُ أَنْ تُعْلَمَ قَطْعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْأَفْعَالِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُدْرِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَيْرُهَا، فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِأَحَدِهِمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ، وَمَا أُدْرِكَ بِالْحَاسَّتَيْنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا فِيهِ، وَالْعُقُودُ تُدْرَكُ بِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِيهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ كَالْأَصْوَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الصُّورَ تَشْتَبِهُ فِي المبادىء ثُمَّ تَتَحَقَّقُ فِي الْغَايَاتِ، وَالْأَصْوَاتُ تَشْتَبِهُ فِي المبادىء وَالْغَايَاتِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُصَوِّتَ قَدْ يَحْكِي صَوْتَ غَيْرِهِ فَيُشْتَبَهُ، وَفِي الصُّورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكِيَ صُورَةَ غَيْرِهِ فَلَمْ يُشْتَبَهْ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 42 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَزْوَاجِ لِخُصُوصِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الشَّهَادَةِ، لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِاللَّمْسِ، فَجَازَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا بِالصَّوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِ نَاقِلِهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذَا الْأَخْبَارُ يَنْقُلُهَا الْوَاحِدُ عَنِ الْوَاحِدِ، وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَافْتَرَقَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِلَافِ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى، فَسَنَذْكُرُ شَرْحَ مَذْهَبِنَا فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ أَدَّاهَا وَهُوَ أَعْمَى لَمْ يَخْلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالنَّسَبِ الْمُعْزَى إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ إِلَى جِسْمِهِ دُونَ اسْمِهِ، وَنَسَبِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ صح التحمل عنه لأنه يعد الْعَمَى لَا يُثْبِتُ الشَّخْصَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَمَا لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا لِلْجَهَالَةِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ صَحَّ مِنَ الْأَعْمَى أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ، كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ وَهَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَنْهُ وَهُوَ بَصِيرٌ، وَيَدُهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ عَمِيَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَخْلِيَتِهِ مِنْ يَدِهِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِالْإِشَارَةِ لِمَعْرِفَتِهِ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، فَصَحَّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ مَعَ وُجُودِ الْعَمَى فِي الْحَالَيْنِ، وَهَكَذَا شَهَادَتُهُ عَلَى الْمَضْبُوطِ، وَهُوَ أَنْ يُدْنِيَ رَجُلٌ فَمَهُ مِنْ أُذُنِهِ وَيُقِرَّ عِنْدَهُ فَيَضْبُطَهُ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَمَى فِي حَالَتَيِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لِقَطْعِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. وَتَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالتَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ. وَيُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالنَّسَبِ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمُدْرَكَةُ بِالسَّمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْمَوْتِ إِذَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. فَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ بِالْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ فبلت فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى لِاعْتِبَارِ السَّمْعِ وَحْدَهُ فِيهِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ مُشَاهَدَةُ التَّصَرُّفِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيهِ لِفَقْدِ الْبَصَرِ الْمُعْتَبَرِ فِي وُجُودِ التَّصَرُّفِ، وَهَكَذَا إِذَا قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِهَا، إِذَا لَمْ تُجْعَلْ مُشَاهَدَةُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ شَرْطًا فِيهَا وَرُدَّتْ إِنْ جُعِلَ شَرْطًا. فَهَذَا مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْعُقُودِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَيَصِحُّ مِنْهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ النُّطْقَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَدَاءِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّحَمُّلِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 43 فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا صَحَّ مِنْهُ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْإِقْرَارُ، وَأُقِيمَتْ إِشَارَتُهُ فِيهِ مَقَامَ النُّطْقِ. قِيلَ: هَذَا الْجَمْعُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي جُعِلَ إِشَارَتُهُ كَنُطْقِهِ فِيهَا وَعَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَنْ تُجْعَلَ إِشَارَتُهُ فِيهَا كَنُطْقِهِ لِإِمْكَانِ وُجُودِ النُّطْقِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَى عَيْنِ الْمَرْأَةِ وَنَسَبِهَا إِذَا تَظَاهَرَتْ لَهُ الْأَخْبَارُ مِمَّنْ يُصَدَّقُ بِأَنَّهَا فُلَانَةٌ وَرَآهَا مَرَّةً وَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ بِعِلْمٍ كَمَا وَصَفْنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِنَسَبِ امْرَأَةٍ كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنْهَا فِي نَسَبِ الرَّجُلِ، لِبُرُوزِ الرَّجُلِ وَخَفَرِ الْمَرْأَةِ وَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الرَّجُلِ، وَتَحْرِيمُهُ فِي الْمَرْأَةِ، فَصَارَتْ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَغْلَظَ فَاحْتَاجَ فِي الْعِلْمِ بِنَسَبِهَا إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا بِالْمُشَاهَدَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يَرَاهَا فِي صِغَرِهَا، وَقَبْلَ بُلُوغِهَا فِي حَالَةٍ لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، فَيَثْبُتُ مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا فِي الصِّغَرِ حَتَّى لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ فِي الْكِبَرِ. وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمَ يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إِلَيْهِنَّ فَيَعْرِفُهَا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكْثُرَ دُخُولُهَا عَلَى نِسَاءِ أَهْلِهِ فَيَقُلْنَ لَهُ هَذِهِ فُلَانَةٌ، فَيَعْرِفُ شَخْصَهَا بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ نَظْرَةٍ بَعْدَ نَظْرَةٍ لَمْ يَقْصِدْهَا، فَيَصِيرُ عَارِفًا بِهَا. فَأَمَّا مِعْرِفَةُ كَلَامِهَا، فَلَا يَصِيرُ بِهِ عَارِفًا لَهَا لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا حَتَّى يَعْرِفَهَا، فَهَذَا مُوجِبٌ لِمَعْرِفَتِهَا، لَكِنْ إِنْ نَظَرَ إِلَى مَا يُجَاوِزُ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا كَانَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَتُقْبَلُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهَا مُتَعَمِّدًا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِهَا عَمْدًا لِشَهْوَةٍ كَانَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَعَلِيٍّ: " لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فإن الأولة لَكَ وَالثَّانِيَةَ عَلَيْكَ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عدالته باختلافهما: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 44 أَحَدُهُمَا: يُرِيدُ لَا تُتْبِعْ نَظَرَ عَيْنَيْكَ نَظَرَ قَلْبِكَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَأْثَمُ بِالنَّظَرِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: لَا تتبع النظرة الأولة الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُوقِعُهَا عَمْدًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِمُعَاوَدَةِ النَّظَرِ آثِمًا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا جَازَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا، لِيَعْرِفَهَا فِي الشَّهَادَةِ لَهَا وَعَلَيْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ وَجْهِهَا، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى كَفَّيْهَا، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَكْثَرُهُمْ لِاخْتِصَاصِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَجْهِ دُونَ الْكَفَّيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا، وَيَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى مَا يَعْرِفُهَا بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَتْ شَابَّةً نَظَرَ إِلَى بَعْضِ وَجْهِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا نَظَرَ إِلَى جَمِيعِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ نَظَرَ إِلَى بَعْضِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ جَمَالٍ نَظَرَ إِلَى جَمِيعِهِ تَحَرُّزًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِذَاتِ الْجَمَالِ. وَالصَّحِيحُ مِنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَعْرِفُهَا بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهَا جَازَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهَا بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى النَّظْرَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَّا أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِنَظْرَةٍ ثَانِيَةٍ، فَيَجُوزُ لَهُ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ، وَمَتَى خَافَ إِثَارَةَ الشَّهْوَةِ بِالنَّظَرِ كَفَّ، وَلَمْ يَشْهَدْ إِلَّا فِي مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ بَعْدَ ضَبْطِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِقَابٍ عَرَفَهَا فِيهِ لَمْ تَكْشِفْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فِيهِ كَشَفَتْ مِنْهُ مَا يَعْرِفُهَا بِهِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ احْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ نَسَبِهَا إِلَى الْخَبَرِ الْمُتَظَاهِرِ بِأَنَّ فُلَانَةَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا هِيَ ابنة فلان ابن فُلَانٍ، وَيَكُونُ مَعْرِفَةُ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا لِعَيْنِهَا، كَمِثْلِ مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَصِغَارٍ وَكِبَارٍ وَأَحْرَارٍ وَعَبِيدٍ فَهُوَ الْأَوْكَدُ فِي تَظَاهُرِ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا، لِامْتِزَاجِ مَنْ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِمَنْ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ صَحَّ بِهِمْ تَظَاهُرُ الْخَبَرِ، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ، وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَفَرَّدَ بِهِ الصِّبْيَانُ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ التَّصَنُّعِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 45 وَالْمُواطَأَةِ مِنْهُمْ، احْتَمَلَ صِحَّةُ تَظَاهُرِهِمْ بِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ تَظَاهُرُهُمْ بِهِ، لِأَنَّ أَخْبَارَ آحَادِهِمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ تَظَاهُرُهُمْ بِهِ، لِأَنَّ أَخْبَارَ آحَادِهِمْ قَدْ تُقْبَلُ فِي الْإِذْنِ وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَلِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ مِنَ التَّصَنُّعِ وَالتُّهْمَةِ، فَإِذَا صَحَّ لِلشَّاهِدِ مَعْرِفَةُ عَيْنِهَا، وَصَحَّ لَهُ تَظَاهُرُ الْخَبَرِ بِنَسَبِهَا صَحَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ وَرُدَّتْ إِنْ شَهِدَ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ يَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يَعْلَمُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِيمَا أَخَذَ بِهِ مَعَ شَاهِدِهِ وَفِي رَدِّ يَمِينٍ وَغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي وَارِثٍ أَرَادَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقٍّ لِمَيِّتِهِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ، فَلِعِلْمِهِ بِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا فصلنا من علم الشهادة بِمَا تَصِحُّ بِهِ شَهَادَتُهُ فَتَصِحُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَيَجُوزُ أن يحلف عليه إن ردت عليه اليمين أَوْ مَعَ شَاهِدٍ إِنْ شَهِدَ لَهُ لِيَسْتَحِقَّهُ بِشَاهِدِهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ مِنْ أَقْصَى جِهَاتِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِغَيْرِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْرِفَهُ مِنْ وَجْهٍ لَا تَصِحُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِمِثْلِهِ بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ وَاحِدٌ أَوْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي حِسَابٍ أَوْ كِتَابٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَشَكَّكَ فِيهِ وَلَا يَثِقُ بِصِدْقِهِ، وَصِحَّتِهِ فَتَجُوزُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ الْمَطْلُوبُ فَيَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِنْ أَنْكَرَهُ، وَلَا أَنْ يَحْلِفَ عليه إن ردت عليه اليمين، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ بِصِحَّةِ الدَّعْوَى، وَجَوَازِ الْحَلِفِ، وَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى وَالْيَمِينُ إِلَّا بِمَا عَرَفَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ؛ وَصِحَّةُ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ لِمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّتِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جواز يمينه عليه إن ردت عليه اليمين أَوْ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ إِنْ شَهِدَ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَالِبِ ظَنٍّ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، وَجَعَلَهُ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 46 ادَّعَوْا قَتْلَ صَاحِبِهِمْ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ وَقَدْ غَابُوا عَنْ قَتْلِهِ " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ". وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْوِيَ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَثَبَتَ بِهِ شَرْعًا جَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ لِيَثْبُتَ بِهِ حَقًّا. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِمِثْلِهِ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فِي الظَّلَامِ ومعرفتها باللمس والكلام. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقُلْتُ لِمَنْ قَالَ لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا حِينَ عَلِمَ حَتَّى يُعَايِنَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَوْمَ يُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ فَأَنْتَ تُجِيزُ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ عَلَى مَيِّتٍ وَعَلَى غَائِبٍ فِي حَالٍ وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَنْكَرْتَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْبَصِيرِ إِذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً ثُمَّ عَمِيَ، لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ الْعَمَى، وَهِيَ عِنْدُ الشَّافِعِيِّ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ لَكِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَهُ فِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى حَاضِرٍ، وَالْأَعْمَى لَا يُشَاهِدُ الْحَاضِرَ، فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، فَنَاقَضَهُ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ تُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ، فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِمَذْهَبِهِ، فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْأَعْمَى. فَإِنْ قِيلَ شروط الأداء في الشاهدة أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ التَّحَمُّلِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا، وَهُوَ صَغِيرٌ وَعَبْدٌ، وَفَاسِقٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَحُرِّيَّتِهِ وَعَدَالَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ تَحَمُّلُ الْأَعْمَى لَهَا، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ بِهَا. قِيلَ: إِنَّمَا أُرِيدَ الْبَصَرُ فِي حَالِ التَّحَمُّلِ لِيَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْبَصَرُ فِي الْأَدَاءِ لِاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِهَا وَلَمْ يَمْنَعِ الصِّغَرُ وَالرِّقُّ، وَالْفِسْقُ مِنَ التَّحَمُّلِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهَا وَتَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا. (فَصْلٌ) : وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْوَرِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَحْوَلِ وَالْأَعْشَى، فَإِنْ كَانَ الْأَحْوَلُ يَرَى الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْعَدَدِ، وَقُبِلَ فِيمَا سِوَاهُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ مَنْ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْأَشْخَاصَ وَلَا يَعْرِفُ الصُّورَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 47 لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ كَالْأَعْمَى فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْبَصَرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّورَ بَعْدَ الْمُقَارَبَةِ وَشِدَّةِ التَّأَمُّلِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِهِ كَالْبَصِيرِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الشَّاهِدُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الشَّاهِدُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَدَائِهَا وَإِقَامَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِمَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، كَالْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، وَكَمَالُ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِنْ عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ جَازَ فِي الْحَاضِرِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغَائِبِ وَإِنْ عَرَفَهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ جَازَ فِي الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا لِغَائِبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا عَنْ غَائِبٍ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِهِ، فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا تَصِحُّ، فَصَارَ الشَّاهِدُ غَارًّا. وَقَالَ قَوْمٌ يُكَلِّفُ الْمُقِرَّ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَنْ يُعَرِّفُهُ ثُمَّ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِذَا أَثْبَتَ صُورَتَهُمَا، وَتَحَقَّقَ أَشْخَاصُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَرَهُمَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ إِقَامَتَهَا وَعَرَفَ عِنْدَ أَدَائِهَا شَخْصَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودَ لَهُ بِأَعْيَانِهَا صَحَّ مِنْهُ إِقَامَتُهَا مَعَ الْجَهَالَةِ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَشْخَاصُهُمَا، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَعْيَانُهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِقَامَتُهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا تَحْلِيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا، فَقَدْ أَوْجَبَهَا قَوْمٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَمَنَعَ مِنْهَا آخَرُونَ لِأَنَّ الْحُلِيَّ قَدْ يَشْتَبِهُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ لَهُ بَاعِثُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ، كَالْخَطِّ الَّذِي يُرَادُ لِيُذَكِّرَ الشَّهَادَةَ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ، وَإِذَا جَازَتِ التَّحْلِيَةُ اسْتِظْهَارًا بِهَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقَرُّ بِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقِرُّ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ الْمُقِرُّ، فَالْحُقُوقُ الْمُقَرُّ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّحْلِيَةِ، وَهُوَ الْوَصَايَا، وَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْعُقُودِ. وَالثَّانِي: مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّحْلِيَةِ، وَهِيَ الدُّيُونُ، وَالْبَرَاءَاتُ، وَالْحُقُوقُ الْمُؤَجَّلَةُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 48 وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيَةِ، وَإِنْ جَازَتْ، وَهِيَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ النَّاجِزَةِ وَالْمَنَاكِحِ، وَالْوِكَالَاتِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلَّى بِهِ الْمُقِرُّ، فَقَدْ حَدَّهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْقَائِفُ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَمَنَعُوا مِنَ التَّحْلِيَةِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْ آثَارٍ، وَجِرَاحٍ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ شَيْبٍ وَشَبَابٍ. وَحَدَّهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ كُلُّ مَا اشْتُهِرَ بِهِ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَمَنَعُوا مِنْ تَحْلِيَتِهِ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّحْلِيَةَ تَكُونُ بِكُلِّ مَا دَلَّتْ عَلَى الْمُحَلَّى مِنْ أَوْصَافِهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْبَاطِنَةِ، فَمِنْهَا الطُّولُ، وَالْقِصَرُ، وَمِنْهَا اللَّوْنُ مِنْ بَيَاضٍ أَوْ سَوَادٍ أَوْ سُمْرَةٍ، وَمِنْهَا الْبَدَنُ مِنْ سِمَنٍ أَوْ هُزَالٍ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ كَاللُّثْغَةِ، وَالْفَأْفَأَةِ، وَالتَّمْتَمَةِ وَالرَّدَّةِ وَمَا فِي اللِّسَانِ مِنَ الْعَجَلَةِ وَالثِّقَلِ، وَمِنْهَا مَا فِي الْعَيْنِ مِنَ الْكُحْلَةِ، وَالشُّهْلَةِ، وَالشُّكْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشُّكْلَةَ هِيَ كَمِّيَّةُ الْحُمْرَةِ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ، وَالشُّهْلَةُ كَمِّيَّةُ الْحُمْرَةِ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ فِي عَيْنِهِ شُكْلَةٌ وَمِنْهَا الشَّعْرُ فِي الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ، وَقِيلَ: لَا يُحَلَّى بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ النَّاسُ تَجْعِيدَ السِّبْطِ وَتَسْبِيطَ الْجَعْدِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ الْمَصْنُوعُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَمِنْهَا سَوَادُ الشَّعْرِ وَبَيَاضُهُ، وَقِيلَ لَا يُحَلَّى بِهِ لِأَنَّ السَّوَادَ قَدْ يَبْيَضُّ والبياض قد يخصب، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ بَيَاضَ السَّوَادِ يَعْلُو السِّنَّ قَدْ بَدَّلَ عَلَيْهِ تَارِيخَ الشَّهَادَةِ، وَخِضَابُ الْبَيَاضِ يَظْهَرُ لِلْمُتَأَمِّلِ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّحْلِيَةِ بِالصَّمَمِ فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ مَرَضٍ فَيَزُولُ. فَأَمَّا التَّحْلِيَةُ بِمَا فِي الْفَمِ مِنَ الْأَسْنَانِ، فَيَجُوزُ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الثَّنَايَا وَالْأَنْيَابِ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا بِمَا بَطَنَ مِنَ الْأَضْرَاسِ، وَتَجُوزُ التَّحْلِيَةُ بِالْجِرَاحِ، وَالشِّجَاجِ، وَالْآثَارِ اللَّازِمَةِ، وَلَا تَجُوزُ بِالثِّيَابِ وَاللِّبَاسِ، وَتَجُوزُ تَحْلِيَةُ النِّسَاءِ بِمَا فِي وُجُوهِهِنَّ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ طُولٍ وَقِصَرٍ وَهُزَالٍ أَوْ سِمَنٍ، وَتَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 49 (بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ الْقِيَامِ بالشهادة إذا دعي ليشهد أو يكتب) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قلبه) {قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالَّذِي أَحْفَظُ عَنْ كُلِّ مَنْ سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ قَدْ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ وَأَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لَا تُكْتَمُ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُحَابَى بِهَا أَحَدٌ وَلَا يُمْنَعَهَا أَحَدٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ تَتِمُّ بِالتَّحَمُّلِ وَتُسْتَوْفَى بِالْأَدَاءِ فَصَارَتْ جَامِعَةً لِلتَّحَمُّلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْأَدَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَالشَّاهِدُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي التَّحَمُّلِ والأداء، قال الله تعلى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . وَفِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِذَا دُعُوا لِتَحَمُّلِهَا وَإِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِذَا دُعُوا لِإِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِذَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَدْبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَطِيَّةَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، إِنْ كَثُرَ مَنْ يَتَحَمَّلُ وَيُؤَدِّي كَالْجِهَادِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَقَدْ يكون فرض التحمل على الكفاية وفرض الأداء عَلَى الْأَعْيَانِ، إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ فِي التَّحَمُّلِ وَقَلَّ عَدَدُهُمْ فِي الْأَدَاءِ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 50 وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْأَعْيَانِ وَفَرْضُ الْأَدَاءِ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ التَّحَمُّلِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَرُبَّمَا تَعَيَّنَ وَفِي الْأَغْلَبِ مِنْ حَالِ الْأَدَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَرُبَّمَا صَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ عَامٌّ وَالْأَدَاءَ خَاصٌّ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ عَدَدُ الْمُتَحَمِّلِينَ وَقَلَّ عَدَدُ الْمُؤَدِّينَ، وَلِذَلِكَ مَا اخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْمُتَحَمِّلِينَ ثَمَانِيَةً اثْنَانِ يَمُوتَانِ، وَاثْنَانِ يَمْرَضَانِ، وَاثْنَانِ يَغِيبَانِ، وَاثْنَانِ يَحْضُرَانِ فَيُؤَدِّيَانِ، وَإِذَا اسْتَوَى التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَفُرُوضِ الْأَعْيَانِ، كَانَ فَرْضُ الْأَدَاءِ أَغْلَظَ مِنْ فَرْضِ التَّحَمُّلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فَاجِرٌ قَلْبُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى فِسْقِهِ بِكَتْمِهَا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِإِثْمِ كَتْمِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَأْثَمِهِ بِهَا فِي الْخُصُوصِ، وَخُصَّ الْقَلْبُ بِهَا، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِاكْتِسَابِ الْآثَامِ وَالْأُجُورِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ التحمل والأداء من ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ فِيهِ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَحَمَّلُ وَيُؤَدِّي، وَزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي الْحُكْمِ، فَدَاعِي الشُّهُودِ إِلَى التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مُخَيَّرٌ فِي الِابْتِدَاءٍ بِدُعَاءِ أَيِّهِمْ شَاءَ، فَإِذَا بَدَأَ بِاسْتِدْعَاءِ أَحَدِهِمْ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَدَائِهَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ فَرْضِهِ إِذَا ابتدىء عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ غَيْرَهُ يُجِيبُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يتعين عليه فرض الإجابة، إلا أن يعلم أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُجِيبُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَاصِيًا حَتَّى يُجِيبَ غَيْرُهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي غَيْرُ عَاصٍ حَتَّى يَمْتَنِعَ غَيْرُهُ، فَإِذَا أَجَابَ إِلَى التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ الْعَدَدُ الْمَشْرُوطُ فِي الشَّهَادَةِ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ امْتَنَعُوا جَمِيعًا جُرِحُوا أَجْمَعِينَ، وَكَانَ المبتدىء بِالِاسْتِدْعَاءِ أَغْلَظَهُمْ مَأْثَمًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَتْبُوعًا فِي الِامْتِنَاعِ، كَمَا لَوْ بَدَأَ بِالْإِجَابَةِ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَجْرًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَتْبُوعًا فِيهَا. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهَا فِي الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي الْحُكْمِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مَنْ دُعِيَ إِلَى تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِجَابَةِ، وَهُوَ بِالتَّوَقُّفِ عَاصٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ إِلَّا أَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 51 تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ، كَالْحُدُودِ فِي الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَى التَّوَقُّفِ عَنْ تَحَمُّلِهَا، لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ". وَأَمَّا تَوَقُّفُهُ عَنْ أَدَائِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قي تَوَقُّفِهِ إِيجَابُ حَدٍّ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ شَهِدَ بِالزِّنَا فَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَأَثِمَ بِالتَّوَقُّفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجِبَ لِتَوَقُّفِهِ حَدٌّ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نَدَمٌ فِيمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَيْهِ فَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِتَوَقُّفِهِ عَنْهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِصْرَارِهِ غَيْرَ نَادِمٍ عَلَى فِعْلِهِ، فَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الشَّهَادَةَ، وَيَكُونُ تَوَقُّفُهُ عَنْهَا مَكْرُوهًا وَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا يَعْصَى بِالتَّوَقُّفِ عَنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فَرْضُ التَّحَمُّلِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفَرْضُ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَعْيَانِ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَ التَّحَمُّلِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يُخَفَّضِ الْفَرْضُ بِبَعْضِهِمْ، وَصَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورُونَ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ فَأُخْفِضَ الْفَرْضُ بِهِمْ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمُهُ فِي اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ فِي التَّحَمُّلِ، وَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ فِي الْأَدَاءِ، فَإِنْ مَاتَ أحد شاهدي الْأَدَاءِ وَبَقِيَ الْآخَرُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَشْهُودِ من إحدى حالين: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَجِنَايَةِ الْعَمْدِ فَيَسْقُطُ فَرْضُ الْأَدَاءِ عَنِ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ حَقٌّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّاهِدِ الْمُؤَدِّي وَالْحَاكِمِ الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ مِنْ أربعة أحوال: أحدهما: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، وَعَلَى الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ أَنْ يَحْكُمَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بشهادته إلزام. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 52 وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِهِ، فَعَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَشْهَدُ بِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْتِزَامِ الْحُكَّامِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْإِلْزَامُ مُعْتَبَرٌ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ دُونَ اجْتِهَادِ الشَّاهِدِ، وهكذا لو كان مَعَ الشَّاهِدِ امْرَأَتَانِ، فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، كَانَ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم تتفرع الشهادات (قال الشافعي) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ ولا شهيد} فَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ضِرَارًا وَفَرْضُ الْقِيَامِ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالْجَنَائِزِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَلَمْ أَحْفَظْ خِلَافَ مَا قُلْتُ عَنْ أَحَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " ثُمَّ تَتَفَرَّعُ الشَّهَادَاتُ ... . " عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي حَالٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَفِي حَالٍ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مُتَأَوِّلٌ عَلَى مَا لَا يُخَالِفُ فِيهِ نَصَّ مَذْهَبِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ يَكُونَ فَرْضُ تَحَمُّلِهَا عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضُ أَدَائِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ. وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مُتَأَوِّلٌ لَهُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّحَمُّلِ قَدْ يَتَعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُ مَنْ دُعِيَ لِلتَّحَمُّلِ، وَفَرْضُ الْأَدَاءِ قَدْ لَا يَتَعَيَّنُ إِذَا وُجِدَ غَيْرُ مَنْ دُعِيَ لِلْأَدَاءِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مِنْ أَنْ يَنْتَقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إِلَى فَرْضِ الْأَعْيَانِ، وَمِنْ فَرْضِ الْأَعْيَانِ إِلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُتَحَمِّلُ مُلْتَزِمًا لِفَرْضِ الْأَدَاءِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ تَارَةً فِي تَصْحِيحِ عَقْدٍ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَتَارَةً فِي نَدْبٍ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ وَتَارَةً فِي وَثِيقَةٍ كَالدُّيُونِ. وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَذْهَبِهِ. فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَا وَجَبَ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهَا لِتَصْحِيحِ عَقْدِهِ. فَإِذَا اقْتَصَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهَا أَهْلَ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ الْوَثِيقَةَ فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحُكَّامِ دَعَا إِلَيْهَا أَهْلَ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَثُبُوتَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 53 وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِجَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحُضُورِهِ. وَالثَّانِي: فِي الْوَثِيقَةِ بِتَحَمُّلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ تَفَرَّدَ حُضُورُهُ بِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ جَمَعَ بِحُضُورِهِ بَيْنَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَتَحَمُّلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ كَالْبَيْعِ كَانَ مَطْلَبُهَا مَنْدُوبًا إِلَيْهَا، وَالْمَطْلُوبُ لَهَا مَنْدُوبًا إِلَى الْحُضُورِ، لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى حُكْمِ الطَّالِبِ، وَفِي الْوَثِيقَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الطَّالِبِ فَيَصِيرُ دَاخِلًا فِي فَرْضِ الْوَثِيقَةِ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ فَرْضِ الْعَقْدِ. وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى دَيْنٍ فَهِيَ وَثِيقَةٌ مَحْضَةٌ طَالِبُهَا مُخَيَّرٌ فِي طَلَبِهَا، وَالْمَطْلُوبُ بِهَا دَاخِلٌ فِي فَرْضِ تَحَمُّلِهَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا تَتَفَرَّعُ بِأَنْ يَخْتَلِفَ حَكَمُهَا بِوُجُودِ الْمُضَارَّةِ وَعَدَمِهَا، وَوُجُودِ الْأَعْذَارِ وَعَدَمِهَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُضَارَّةُ فَيَسْقُطُ بِهَا فَرْضُ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ، وَتَتَغَلَّظُ بِهَا فَرْضُ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا لَمْ يُمْلَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يَمْتَنِعَ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَيَمْتَنِعَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ. وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمُضَارَّةَ أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ وَهُمَا مَشْغُولَانِ مَعْذُورَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَالضِّحَاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ. وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي تَأْوِيلًا رَابِعًا: أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَّةَ أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ بِالْبَاطِلِ، وَيُدْعَى الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ فَهَذَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمُضَارَّةُ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِجَابَةِ مَأْثَمٌ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْحَقِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْقِصَهُ مِنَ الْحَقِّ، فَلَا يَسَعُ الطَّالِبُ أَنْ يَسْأَلَ وَلَا يَسَعُ الشَّاهِدُ أَنْ يُجِيبَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آثِمٌ إِنْ فَعَلَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 54 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا مَأْثَمٌ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُدْعَى الشَّاهِدُ إِلَى مَا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ مِنْ سَفَرٍ. وَالثَّانِي: إِلَى مَا يَضُرُّ بِدُنْيَاهُ مِنِ انْقِطَاعٍ عَنْ مكسب، فالمأثم هاهنا يَتَوَجَّهُ عَلَى الطَّالِبِ إِنْ أَلْزَمَ، وَلَا يَتَوَجَّهُ إِنْ سَأَلَ وَلَكَ هَذَا فَضْلُ الْأَجْرِ إِنْ أَجَابَ، وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْإِجَابَةُ بِالْمُضَارَّةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُضَارَّةُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضُرَّ الشَّاهِدُ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَضُرَّ بِتَغْيِيرِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ فَيَكُونُ بِالتَّوَقُّفِ آثِمًا، وَبِالتَّغْيِيرِ مَعَ الْمَأْثَمِ كَاذِبًا، وَفِسْقُهُ بِالْكَذِبِ مَقْطُوعٌ بِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَفِسْقُهُ بِالْمَأْثَمِ مُعْتَبَرٌ بِدُخُولِهِ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ بِحَسَبِ الْحَالِ. فَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّغَائِرِ لَمْ يُفَسَّقْ، وَإِنْ دَخَلَ فِي الْكَبَائِرِ فُسِّقَ بِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْأَعْذَارُ فَيَسْتَبِيحُ بِهَا الشَّاهِدُ تَأْخِيرَ الشَّهَادَةِ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ، وَلَا يَسْتَبِيحُ بِهَا تَغَيُّرَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ. فَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَدَنِهِ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِعَجْزٍ دَاخِلٍ. وَالثَّانِي: لِمَشَقَّةٍ دَاخِلَةٍ لَاحِقَةٍ. فَأَمَّا الْعَجْزُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَعْجِزُ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَإِنْ دُعِيَ إِلَى الْحَاكِمِ كَانَ مَعْذُورًا فِي التَّأَخُّرِ، وَإِنْ أَحْضَرَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يُعْذَرْ فِي التَّوَقُّفِ عَنْهَا. وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ فَضَرْبَانِ " حَظْرٌ، وَأَذًى. فَأَمَّا الْحَظْرُ فَهُوَ أَنْ يَخَافَ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ مِنْ عَدْوٍ قَاهِرٍ أَوْ مِنْ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ، فَيَسْقُطُ مَعَهُ فَرْضُ الْإِجَابَةِ مَعَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ حَتَّى تَزُولَ، فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ. وَأَمَّا الْأَذَى: فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ. وَهُوَ أَنْ يُدْعَى فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ، أَوْ مَطَرٍ جُودٍ فَمَا كَانَ هَذَا الْأَذَى بَاقِيًا. فَفَرْضُ الْإِجَابَةِ سَاقِطٌ. فَإِذَا زَالَ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 55 وَأَمَّا الدَّائِمُ: فَهُوَ أَنْ يُدْعَى، مَعَ الصِّحَّةِ إِلَى الْمَشْيِ إِلَيْهَا، لِتَحَمُّلِهَا أَوْ لِأَدَائِهَا، فَإِنْ كَانَ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَلَدِهِ عُذِرَ بِالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا مَرْكُوبٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ فِي مُفَارَقَةِ وَطَنِهِ مَشَقَّةً يَسْقُطُ مَعَهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ فِي بَلَدِهِ، فَإِنْ قَرُبَتْ أَطْرَافُ بَلَدِهِ لِصِغَرِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُهُ لِسَعَتِهِ اعْتُبِرَ حَالُهُ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْمَشْيِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْعَادَةِ شَاقٌّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا مَرْكُوبٍ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ، فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ حُمِلَ إِلَيْهِ مَا يَرْكَبُهُ وَهُوَ غَيْرُ ذِي مَرْكُوبٍ اعْتُبِرَ حَالُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَاكَرِ النَّاسُ رُكُوبَ مِثْلِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ تَنَاكَرُوهَا لَمْ يَلْزَمْهُ، لِأَنَّ مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مُسْتَقْبَحٌ وَأَمَّا الْأَعْذَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَالِهِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَافَ بِهِ ضَيَاعَ مَالٍ. وَالثَّانِي: مَا تَعَطَّلَ بِهِ عَنِ اكْتِسَابٍ. فَأَمَّا مَا خَافَ بِهِ ضَيَاعَ مَالِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَائِبٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْإِجَابَةِ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ. فَإِذَا زَالَ عَنْهَا وَجَبَ فَرْضُهَا، فَإِنْ ضَمِنَ لَهُ الدَّاعِي حِفْظَ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ ائْتِمَانَ النَّاسِ عَلَى مَالِهِ. وَأَمَّا مَا تَعَطَّلَ بِهِ عَنِ اكْتِسَابِهِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَائِشِ الْمُكْتَسِبِينَ، فَإِنْ دُعِيَ فِي وَقْتِ اكْتِسَابِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ دُعِيَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ، فَلَوْ بذل له الدعي قَدْرَ كَسْبِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَلَوْ طَلَبَ قَدْرَ كَسْبِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ على ثلاثة أوجه: أحدهما: يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، كَمَا يَجُوزُ لِلْكَاتِبِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتَابَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخُصُومِ أُجْرَةً عَلَى حُكْمِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى التَّحَمُّلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى الْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَدَاءِ مُتَهَوِّمٌ، وَفِي التَّحَمُّلِ غَيْرُ مُتَهَوِّمٍ. (فَصْلٌ) : وأما من تلزمه الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ فَهُوَ كُلُّ ذِي وِلَايَةٍ، يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ لِأَهْلِهَا، مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَالْأُمَرَاءِ، وَالْحُكَّامِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ جَائِرٍ، فَإِنْ كَانَ جَوْرُهُ فِي الْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ، وَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمِ الْخَصْمَانِ حُكْمَ الْوَسَطِ لَمْ تَلْزَمْهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، وَإِنِ الْتَزَمَا حُكْمَهُ فَفِي وُجُوبِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 56 الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ، هَلْ يَلْزَمُ الْمُتَرَاضِيَيْنِ بِهِ حُكْمُهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: بِلُزُومِ حُكْمِهِ لَزِمَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُهُ لَمْ يُلْزَمِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، وَإِنْ دُعِيَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ حَاكِمٍ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا؟ لَزِمَتْهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَقْبَلَهَا. فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَتَوَقَّفَ عَنْ قَبُولِهَا لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ عَنْ قَبُولِهَا لَهَا كَحُكْمِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِجُرْحِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةٍ قَدْ رُدَّتْ بِحُكْمٍ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا وَقْتُ الشَّهَادَةِ: فَعِنْدَ اسْتِدْعَائِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَقٍّ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَالْمُسْتَدْعِي لَهَا هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ إِذَا كَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ، أَوِ الْحَاكِمُ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْحَقِّ قَبْلَ اسْتِدْعَاءِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ في حق لله تَعَالَى مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ حَجٍّ كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ مُوَلًّى عَلَيْهِ بِجِنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى " وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ حَاضِرٍ، جَائِزِ الْأَمْرِ عَالِمٍ بِحَقِّهِ، كُرِهَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِدْعَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثَمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد " فَكَانَ لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 57 (باب شرط الذين تقبل شهادتهم) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله جل ثناؤه {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} قَالَ فَكَانَ الَّذِي يُعْرَفُ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْمُسْلِمُونَ الْمَرْضِيُّونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي قبول الشاهد خمسة. [الأول] : الحرية. [الثاني] : البلوغ. [الثالث] : العقل. [الرابع] : الإسلام. [الخامس] : الْعَدَالَةُ. فَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبِيدِ فَمَرْدُودَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي كَثِيرِ الْمَالِ وَقَلِيلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الْأَحْرَارِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ إِنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ إِنَّ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ مَقْبُولَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَقِيلَ: إِنْ عَبْدًا شَهِدَ عِنْدَهُ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ عَبْدٌ فَقَالَ: " قُمْ " كُلُّكُمُ ابْنُ عَبْدٍ، وَأَمَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " رُبَّ عَبْدٍ خَيْرٌ مِنْ مَوْلَاهُ ". وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَظَاهِرُهُ عِنْدَهُمْ فِي الْعَبِيدِ، لِإِضَافَتِهِ إِلَيْنَا بِ " لَامِ " التَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَ خَبَرُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 58 وَالدَّلِيلُ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [البقرة: 282] وَهَذَا الْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَحْرَارِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُشْهِدُونَ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ {ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} يَبْقَى دُخُولُ الْعَبِيدِ فِيهِمْ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ فِيهَا كَالْمَرْأَتَيْنِ، فَمَنَعَتِ الْمُفَاضَلَةُ، مِنْ مُسَاوَاةِ الْعَبْدِ فِيهَا لِلْحُرِّ كَالْقَضَاءِ فِي الْوِلَايَاتِ، وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، فِي الْعِبَادَاتِ، وَكَالتَّوَارُثِ فِي الْمُمْتَلَكَاتِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ لِوُرُودِهِ مِنْ جِهَةِ الْكُفْرِ الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ من قول الله تعالى {من رجالكم} فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، دُونَ أَدَائِهَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ شَهَادَتِهِ بِقَبُولِ خَبَرِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الشَّهَادَةِ لِقَبُولِ الْوَاحِدِ فِي الْخَبَرِ، وَانْتِقَالِهِ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ في الشهادة، فكذلك في الرق. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: وقوله {شهيدين من رجالكم} يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَإِنْ قَالَ أَجَازَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَابْنُ عَبَّاسٍ رَدَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بِحَالٍ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ مِنْ مَالٍ، وَلَا جِرَاحٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ دُونَ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَإِنْ تَفَرَّقُوا لَمْ تُقْبَلْ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَتَهُمْ فِي الْمُوَضِّحَةِ، وَالسِّنِّ فَمَا دُونَ، وَلَمْ يُجِزْهَا فِيمَا زَادَ، احْتِجَاجًا بِقَضَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْجِرَاحِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَخَالَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَصَارَ النَّاسُ إِلَى قَضَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الضَّرُورَةِ، كَمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ، كَذَلِكَ اجْتِمَاعُ الصِّبْيَانِ فِي لَعِبِهِمْ، وَمَا يَتَعَاطَوْنَ مِنْ رَمْيِهِمْ لَا يَكَادُ يَحْضُرُهُمُ الرِّجَالُ، فَجَازَ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تُقْبَلَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 59 شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمْ، لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمْ لِتُوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: أحدها: قوله: {من رجالكم} وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ مِنَ الرِّجَالِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: {فَرَجُلٌ وامرأتان} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشهداء} وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ مِمَّنْ يُرْضَى مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَرَوَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ " فَلَمَّا كَانَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إِذَا أَقَرَّ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُرْفَعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إِذَا شَهِدَ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْأَمْوَالِ أَخَفُّ مِنْهَا فِي الدِّمَاءِ، وَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِنْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الدِّمَاءِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَجْلِ اعْتِزَالِهِمْ عَنِ الرِّجَالِ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَجَازَ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْأَعْرَاسِ، أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بِعَضِّهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، وَهِيَ لَا تُقْبَلُ مَعَ الضَّرُورَةِ مَعَ جَوَازِ قَبُولِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَمْوَالِ، فَالصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ شهادتهم مع الرجال فأولى أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الِانْفِرَادِ، وَبِهِ يَبْطُلُ اسْتِدْلَالُهُمْ. وَقَضَاءُ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. وَالْقِيَاسُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْأَمْوَالِ لَمْ تُقْبَلْ فِي الْجِرَاحِ، كالفسقة. (مسألة) : قال الشافعي " وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَمْلُوكٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا صبي بحال لأن المماليك يغلبهم من يملكهم على أمورهم وأن الصبيان لا فرائض عليهم فكيف يجب بقولهم فرض والمعروفون بالكذب من المسلمين لا تجوز شهادتهم فكيف تجوز شهادة الكافرين مع كذبهم على الله جل وعز (قال المزني) أحسن الشافعي ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَقِيَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ، وَإِنِ انْعَقَدَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْعِتْقِ مِنَ الْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ وَعُتِقَ بَعْضُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا تَكَامَلَ عِتْقُ أَحَدِهِمْ وَصَارَ حُرًّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَاءُ الْعِتْقِ جَارِيًا عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 60 الرِّقِّ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ جَارٍ مَجْرَى النَّسَبِ فِي الْمِيرَاثِ، فَخَرَجَ عَنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ فِي النَّقْضِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِحَالٍ، سَوَاءٌ رَاهَقَ أَوْ لَمْ يُرَاهِقْ، وَسَوَاءٌ حُكِمَ بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ، أَوْ لَمْ يُحْكَمْ، فَإِنْ بَلَغَ الِاحْتِلَامَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السِّنِّ قُبِلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ بِاسْتِكْمَالِ السِّنِّ قُبِلَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِغًا، فَلَمْ يُعْتَبَرِ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُسْلِمٍ، وَلَا عَلَيْهِ فِي وَصِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا، فِي سِفْرٍ كَانَ أَوْ حَضَرٍ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي وَصِيَّتِهِ، فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعِكْرِمَةُ. فَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَعَلَى بَعْضٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِحَالٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إِنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ مَعَ اتِّفَاقِ مِلَلِهِمْ وَاخْتِلَافِهَا، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَقُضَاةُ الْبَصْرَةِ الْحَسَنُ، وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ إِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ كَالْيَهُودِ عَلَى النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَعَلَهُ دَاوُدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَجَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ مَقْصُورًا عَلَى الْمُوافِقِينَ فِي الْمِلَّةِ دُونَ الْمُخَالِفِينَ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ " قَالُوا: وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ " فَأَتَوْهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 61 بابني صوريا " فنشهدما كَيْفَ تَجِدُونَ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ " فَقَالَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا، قَالَ: " فَمَا مَنَعَكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا " قَالَا ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالشهود فجاؤوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، " فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَجْمِهِمَا ". فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى أَطْفَالِهِ وَعَلَى نِكَاحِ بَنَاتِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا أَخَفُّ شُرُوطًا مِنَ الْوِلَايَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فُسِّقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَمَنَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَّا. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَالْكَافِرُ فَاسِقٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي خَبَرِهِ، وَالشَّهَادَةُ أَغْلَظُ مِنَ الْخَبَرِ، فَأَوْجَبَتِ التَّوَقُّفَ عَنْ شَهَادَتِهِ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنِ ابْنِ غَنْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَنْ شَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ دِينٍ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ عُدُولٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ " فَإِذَا مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِمْ وَغَيْرِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُسْلِمَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَافِرِ الْعَدْلِ، لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْفَاسِقِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، ولا يستحق ميراث مسلم، ثم كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْكُفْرُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْهَا. وَيَتَحَرَّرُ لك مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْفَاسِقِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْفِسْقِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْكُفْرِ، كالشهادة على الجزء: 17 ¦ الصفحة: 62 الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ كَانَتْ شَهَادَةٌ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً، وَالْكَافِرُ الْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ أَوْلَى أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ وصف الله تعالى كذبهم فقال: {لا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 3] . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالْكَذِبِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْكَذِبَ إِذَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ، فَأَوْلَى أَنْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، كَالْكَذِبِ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا نَقْصُ الرِّقِّ. وَالثَّانِي: إِنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ، ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نَقْصُ الْكَفْرِ وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِبَارًا بِنَقْصِ الْكَفْرِ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا الرِّقَّ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ، قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْوَثَنِيِّ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا كُفْرُ الْوَثَنِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا كُفْرُ الْكِتَابِيِّ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ مِنِ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يَتَكَافَأُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا الشَّهَادَةُ بِالْحُقُوقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةُ الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَيْمَانُ بَيْنِكُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَيْمَانِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَلَا يَكُونُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ مِنْهُمَا، وَلَا يَكُونُ لِدَاوُدَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ فِيهِمَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 63 وفي قوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: يَعْنِي: وَصِيَّ الْمُوصِي، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي. وَالثَّانِي: أنهما وصيان وَلِيِّهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ من غيركم} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِيهِمَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ دَلِيلٌ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ مِنَّا، أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِنَا. وَالثَّانِي: إِنَّهَا لِغَيْرِ التَّخْيِيرِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] يَعْنِي سافرتم " فأصابتكم مصيبة الموت "، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ، وَقَدْ أَسْنَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ إليهما. وقوله: {تحبسونها مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] أَيْ تَسْتَوْثِقُوا بِهِمَا لِلْأَيْمَانِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْوَرَثَةِ، وَفِي هَذِهِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا وَمِلَّتِهِمَا مِنْ أَهْلِ الذمة، وهذا قول ابن عباس، والسدي. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالْوَصِيَّيْنِ فِي الْخِيَانَةِ أَحْلَفَهُمَا الْوَرَثَةُ. وَالثَّانِي: إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالشَّاهِدَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ، وَالْجَرْحِ أَحْلَفَهُمَا الْحَاكِمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 64 وفي قوله: {لا نشتري به ثمنا} فيهما تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَأْخُذُ عَلَيْهِ رِشْوَةً، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: لَا يعتاض عليه بحق، {ولو كان ذا قربى} أَيْ لَا يَمِيلُ مَعَ ذِي الْقُرْبَى فِي قول الزور والشهادة بغير حق، ولا يكتم شهادة الله، عِنْدَنَا فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ أَدَائِهَا عَلَيْنَا. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما} [المائدة: 107] وفي {عثر} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: ظَهَرَ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَالثَّانِي: اطَّلَعَ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا: أَنَّ الظُّهُورَ مَا بَانَ بِنَفْسِهِ وَالِاطِّلَاعَ ما بان بالكشف عنه. وقوله: {استحقا إثما إن كذبا وخانا} [المائدة: 107] فعبر عن الكذب والخيانة بالإثم، لحدوثه عنهما، وَفِي الَّذِي {عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا الشَّاهِدَانِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا الْوَصِيَّانِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بن جبير. {فآخران} يعني من الورثة. {يقومان مقامهما} يَعْنِي فِي اليمين حِينِ ظَهَرَ لَهُمَا الْخِيَانَةُ من الذين استحق عليهما الأوليان. فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: الْأَوْلَيَانِ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِي مارية، مولى العاصي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعُدَيِّ بْنِ بَدَّاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تميم الداري، وعدي بن براء، فقام رجلان من أولياء السهمي، قيل: إنه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 65 شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سافروا مع ذوي الجدود والمسيرة ". وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، هَلْ هُوَ منسوخ أو ثابت؟ فقال ابن عباس: حكمها مَنْسُوخٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حُكْمُهُمَا ثَابِتٌ، وَقَدْ تَجَاوَزْنَا بِتَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَدَّ الْجَوَابِ لِيُعْرَفَ حُكْمُهُمَا، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ دَلِيلٌ فِيهِمَا، فَإِنِ اسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِمَا رَوَاهُ غَيْلَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدَ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ دَقُوقَاءَ عَلَى وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْوَصِيَّةِ أَقَرَّا بِهِمَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا بِاللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا اشْتَرَيْنَا ثَمَنًا، وَلَا كَتَمْنَا شَهَادَةً بِاللَّهِ، إِنَّا إِذًا، لَمِنَ الْآثِمِينَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى، وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقَضِيَّةٌ مَا قُضِيَ بِهَا مُنْذُ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْيَوْمِ. قِيلَ: هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فلم يحج بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا سِيَّمَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ. ثُمَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْوِيلٌ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَةِ اليمين كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] ، وَكَمَا قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] أَيْ: نَحْلِفُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ الْيَهُودِيَّيْنِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْيَهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ، أَوْ حَصَلَ مَعَ شَهَادَةِ الْيَهُودِ اعْتِرَافُ الزَّانِيَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِمْ: فَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ خَاصَّةٌ فَخَفَّ حُكْمُنَا، لِمَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَيُرَاعَى فِي الشَّهَادَةِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَلِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، وَإِنْ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 66 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُدُولٌ: فَهُوَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْوَارِدَ بِتَكْذِيبِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ، لِأَنَّ فِسْقَهُمْ بِتَأْوِيلٍ: فَهُوَ أَنَّ مَنْ حُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْهُمْ لِظُهُورِ الْخَطَأِ فِي تَأْوِيلِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ كَانَ تَأْوِيلُ شُبْهَتِهِ مُحْتَمَلًا كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 67 (كتاب الأقضية واليمين مع الشاهد وما دخل فيه من اختلاف الحديث وغير ذلك) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَ عَمْرٌو فِي الْأَمْوَالِ وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَمِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِهِ. وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: انْقَضَّ حُكْمُ الْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ بِهِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ: الزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَجُعِلَ الْقَضَاءُ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 68 وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". فَخُصَّ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، وَالْمُنْكِرُ بِالْيَمِينِ. وَبِرِوَايَةِ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ، وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا غَصَبَنِي أَرْضِي، وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي، وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: أرضي وفي يدي، أزرعها لا حق له فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ "، قَالَ: لَا، قَالَ: " لَكَ يَمِينُهُ "، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّهُ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي على ما حلف، إنه لا يتورع من شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْبَيِّنَةَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ حَقًّا، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ الدَّعْوَى، وَالْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِإِنْكَارِهَا، فَلَمَّا لَمْ تُنْقَلِ الْبَيِّنَةُ إِلَى نفي المنكر، وجب أن لا تنقل اليمين إِلَى إِثْبَاتِ الْمُدَّعِي. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ إِلَى خَصْمِهِ كَالْبَيِّنَةِ. وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فِي الْبَيِّنَةِ يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا كَالْيَمِينِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ لَمَا قُبِلَتْ فِيهِ يَمِينُ عَبْدٍ وَلَا فَاسِقٍ، وَفِي إِجَازَتِكُمْ لِيَمِينِ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ مَا يَمْنَعُ أَنْ تَقُومَ اليمين مَقَامَ الشَّاهِدِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ يَمِينُهُ مَقَامَ شَاهِدٍ لَمَا تَرَتَّبَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَتَرَتَّبَانِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَفِي قَوْلِكُمْ: إِنَّ يَمِينَهُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الشَّاهِدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ. (فَصْلٌ) : وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ وَمُرْسَلٌ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ؟ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 69 قِيلَ: قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ". فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ، لِأَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ قال: لقيت سهل بْنَ أَبِي صَالِحٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ أَنِّي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ، وَلَا أَحْفَظُهُ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَكَانَ أَصَابَ سُهَيْلًا عِلَّةٌ ذَهَبَ بِهَا بَعْضُ عَقْلِهِ، فَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ، فَكَانَ سُهَيْلٌ إِذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قِيلَ: نِسْيَانُ الرَّاوِي لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ حَدِيثِهِ، قَبْلَ نِسْيَانِهِ، وَلَيْسَ النِّسْيَانُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يُرَدُّ بِهِ الْحَدِيثُ، وَضَبْطُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى نَسِيَ الرِّوَايَةَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَكَانَ مَرْوِيًّا مِنْ طَرِيقَيْنِ ثَابِتَيْنِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَضَى بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ يَمِينِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ". قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَلَقِيتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ يَسْأَلُ أَبِي، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِدَارٍ، لِيَقُومَ، أَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بِالْعِرَاقِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " وَرَوَى مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ، عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ " وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي الْحُقُوقِ ". وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهُ: قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَصَارَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيًّا عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، علي، وابن عباس، وأبو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرِ بْنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 70 عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلَعَلَّهُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَثْبَتِهَا، وَقَدْ قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى الْمِنْبَرِ. مَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ، لَا أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الطَّعْنُ فِيهِ وَالْقَدْحُ فِي صِحَّتِهِ بِمَا حَكَوْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَنْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَبَرٌ يَصِحُّ. وَهَذَا الْقَدْحُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ قَدْ أَثْبَتَاهُ، وَقَالَا بِهِ، وَهَمَّا أَعْرَفُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَأَقْرَبُ إِلَى زَمَنِ مَعْرِفَتِهِ مِنْ يَحْيَى، وَإِنْ كَانَ الْحِكَايَةُ عَنْهُ فِي قَدْحِهِ ضَعِيفَةً، وَقَدْ أَثْبَتَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي الصَّحِيحِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ أَنْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَسَمَّاهُ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ يَخُصُّ بِهَا خُزَيْمَةَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْتَبَرَ فِي غَيْرِهِ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ خُزَيْمَةَ إِنَّمَا شَهِدَ وَحْدَهُ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ بَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَسًا، ثُمَّ جَحَدَهُ إِلَى أَنْ شَهِدَ خُزَيْمَةُ فَاعْتَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ شَهَادَتِهِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ خُزَيْمَةُ إِلَّا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَتِهِ. وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ قَضَى بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ شَاهِدِ الْمُدَّعِي، لِقُصُورِ بَيِّنَتِهِ، فِي نَقْصِهَا عَنْ عَدَدِ الْكَمَالِ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ قَضَاءَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِمَا، وَهَذَا عَلَى مَا قَالُوهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْيَمِينِ دُونَ الشَّاهِدِ. وَالثَّانِي: إِنَّ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ يَمِينِ مَنْ لَهُ الحق إبطالا لهذا الاعتراض وإبطالا لهذه التَّأْوِيلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ، فَقَدْ قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ قَائِمًا، لَا أَنَّهُ حَكَمَ وَهُوَ عَلَى المنبر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 71 وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ يَقْضُونَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَأَخْبَرَ يَحْيَى أَنَّهُ قَضَى بِهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَضَى بِهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكُتِبَ بِهَا إِلَى خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ الْمَشْهُورِ إِذَا لَمْ يُعَارَضْ بِالْخِلَافِ كَانَ إِجْمَاعًا مُنْتَشِرًا، وَحِجَاجًا قَاطِعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ. قِيلَ: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ مَعَ عَمَلِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مَرْدُودٌ وَقِيلَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الزُّهْرِيَّ قَضَى بِهَا حِينَ وَلِيَ، وَالْإِثْبَاتُ الْمُوافِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أحد المتداعيين، فجاز أن يكون اليمين فِي جَنَبَتِهِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْأَحْكَامِ موضوعة على أن اليمين تَكُونَ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَأَقْوَاهُمَا مَعَ عدم الشهادة جنبة المدعي عليه، لأن الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا حَصَلَ مَعَ الْمُدَّعِي شاهد صار أقوى فوجب أن تكون اليمين فِي جَنَبَتِهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا نُسِخَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: أحدهما: إِنَّ النَّسْخَ عِنْدَنَا رَفْعُ مَا لَزَمَ دَوَامُهُ، والنسخ عندهم أن يصير ما كان مجزءا، غير مجزىء، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَفْعُ مَا لَزَمَ دَوَامُهُ، فَيَكُونُ نَسْخًا عِنْدَنَا، وَلَا فِيهِمَا، إِنْ صار ما يجزىء غير مجزىء، فَيَكُونُ نَسْخًا عِنْدَهُمْ فَصِرْنَا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا قَدْ رَدَدْنَا عَلَى مَا فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ، إِنْ قَبِلْنَا فِي الْوِلَادَةِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُمْ قَبِلُوا شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ، وَحْدَهَا. فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ نَسْخًا. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: إِنَّ مَا فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ التَّحَمُّلِ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ، فَلَمْ تَصِرْ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ. وَأَمَّا الجواب عن الخبرين فهو أن اليمين الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جنبة المدعى عليه، هي غير اليمين الَّتِي جَعَلْنَاهَا فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي، لِاخْتِلَافِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُهَا مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَجَوَازُهَا فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ لِلنَّفْيِ، وَهَذِهِ لِلْإِثْبَاتِ فَلَمْ يَصِحَّ الْمَنْعُ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 72 وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ، مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ يَضْعُفَانِ عَنْ حُكْمِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا يُقْبَلَانِ مَعَ الرَّجُلِ فِي الْأَمْوَالِ فَقَطْ وَيُقْبَلُ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَرْأَتَيْنِ لَوِ انْضَافَ إِلَيْهِمَا مَثْلُهُمَا فِي الْأَمْوَالِ فَصِرْنَ أَرْبَعًا لَمْ يُحْكَمْ بِهِنَّ، وَيُحْكَمُ بِالرَّجُلِ، إِذَا انْضَافَ إِلَى الرَّجُلِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ أَقْوَى من المرأتين، جاز أن تضاف اليمين إِلَى الْأَقْوَى، وَيُمْنَعُ مِنْهَا مَعَ الْأَضْعَفِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِيَمِينِ الْعَبْدِ، وَالْفَاسِقِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ، لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَئِنْ قَامَتْ مَقَامَ الشَّاهِدِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَصْرِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ، كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَرْتِيبَ الْيَمِينِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَالشَّاهِدِ فَهُوَ أَنَّهَا مُقَوِّيَةٌ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ إِلَّا بَعْدَهَا، وَخَالَفَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهما مقو بصاحبه. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَقَالَ عَمْرٌو وَهُوَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ فِي الْأَمْوَالِ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ فِي الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ مَالٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِهَا فِي غَيْرِ مَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو مثل معناه (قال الشافعي) رحمه الله: والبينة في دلالة سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينتان بينة كاملة هي بعدد شهود لا يحلف مقيمها معها وبينة ناقصة العدد في المال يحلف مقيمها معها ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَمْوَالِ، وَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا فِي غَيْرِ الْمَالِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ حَدٍّ وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْكُمُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَلَمْ يَخُصَّ الْمَالَ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ قَالَ: وَلِأَنَّ مَا كَانَ بَيِّنَةً فِي الْأَمْوَالِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَةً فِي الْحُدُودِ، كَالشَّاهِدَيْنِ، وَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي فِي النُّكُولِ، لَمَّا جَازَ أَنْ تُثْبَتَ بِهَا الْأَمْوَالُ، وَالْحُدُودُ جَازَ أَنْ يُحْكَمَ بِمِثْلِهِ فِي يَمِينِهِ مَعَ شَاهِدِهِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ قَالَ الرَّاوِي: فِي الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا فِي مِثْلِ مَا قَضَى بِهِ، لِأَنَّ الْقَضَايَا فِي الْأَعْيَانِ لَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ، لِحُدُوثِهَا فِي مَخْصُوصٍ، وَقَدْ رَوَى الدارقطني الجزء: 17 ¦ الصفحة: 73 فِي سُنَنِهِ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اسْتَشَرْتُ جِبْرِيلَ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَأَشَارَ عَلَيَّ بِذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ لَا تَعْدُو ذَلِكَ ". وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ الشَّاهَدَ وَالْمَرْأَتَيْنِ أَقْوَى مِنَ الَشَاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَلَمَّا لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ نَفْعُ جهات تملكها، فاتبع حكم الشاهدة بِهَا، وَلَمَّا ضَاقَتْ جِهَاتُ مَا عَدَّا الْأَمْوَالَ ضَاقَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ بِهَا. وَلَا وَجْهَ لِاسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ، لِأَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا يُدَّعَى فِيهَا الْعُمُومُ. وَقِيَاسُهُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مُنْتَقَضٌ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْيَمِينِ فِي النُّكُولِ، فَلِوُجُوبِهَا عَنِ اخْتِيَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعَمَّتْ فِي حَقِّهِ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ وَجَبَتْ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَجُعِلَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا اتَّسَعَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَضِقْ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ، دُونَ غَيْرِهَا. فَمُدَّعِي الْمَالِ إِذَا قَدَرَ عَلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدَيْنِ وَهُوَ أَقْوَاهُمَا، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالْمَالِ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، إِلَّا مَعَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِينَ فِي تَوَثُّقِهِمْ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْحُكَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَقَدْ وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَتَوَثَّقَ الْمُسْتَشْهِدُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَاهِدَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّوَثُّقِ بِالشَّهَادَةِ: إِثْبَاتُ الْحُقُوقِ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُثْبِتَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، جَازَ وَثَبَتَ بِهِ الْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ، فَفِي جَوَازِ إِثْبَاتِهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا، كَمَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ شَاهِدَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِهَا مَعَ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ، لِأَنَّ نَقْصَهَا عَنِ الْكَمَالِ، يَبْعَثُ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا فِي الِاضْطِرَارِ دُونَ الِاخْتِيَارِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ عَدَلَ الْمُدَّعِي عَنْ إِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثِ مَعَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 74 الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، إِلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عِنْدَ إِنْكَارِهِ لَمْ يُمْنَعْ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حَقٌّ لَهُ، وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ طَلَبَ أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ بِهِمَا، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أُجِيبَ إِلَى إِحْلَافِهِ، فَلَوْ مَنَعَ مِنْ إِحْلَافِهِ وَطَلَبَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أُجِيبَ إلى الحكم بها، وقطعت اليمين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، وَامْتَنَعَ مَنْ اليمين مَعَهُ وَرَضِيَ بِإِحْلَافِ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنِ اسْتِحْلَافِهِ لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ بِمَا طَلَبَهُ مِنْ إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْكِرِ إِذَا نَكَلَ عن اليمين أَنْ يَرْجِعَ فِي رَدِّهَا عَلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ عَلَى إِنْكَارِهِ لِإِسْقَاطِهَا فِي حَقِّهِ بِرَدِّهَا عَلَى خَصْمِهِ، وَخَالَفَ الْبَيِّنَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي لَا يَسْقُطُ حقه منها بطلب اليمين لِأَنَّهَا لَا تُنْقَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ، وَطَلَبَ إِحْلَافَهُ المنكر، أجيب إلى إحلافه، فإن حلف برىء، وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ نُكُولِ الْمُنْكِرِ وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، مَعَ نُكُولِهِ، وَلَا أُحْلِفُ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ وَافَقَ عَلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ بِالنُّكُولِ إِلَّا مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النُّكُولَ كَالشَّاهِدِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى شَاهِدٍ، صَارَ كَالشَّاهِدَيْنِ فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهُمَا إِلَى يَمِينِ الطَّالِبِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي الْأَمْوَالِ كَاللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يُحْكَمْ بِاللَّوْثِ مَعَ عَدَمِ الْأَيْمَانِ، لَمْ يُحْكَمْ بِالشَّاهِدِ مَعَ عَدَمِ الْيَمِينِ، وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ النُّكُولِ كَالشَّاهِدِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُثْبِتٌ، وَالنَّاكِلَ نَافٍ فَتَضَادَّا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى النَّاكِلِ بِالنُّكُولِ مَعَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ تِلْكَ الْيَمِينِ بِرَدِّهَا، عَلَى الْمُنْكِرِ، فَإِنْ طَلَبَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ اليمين الَّتِي نَكَلَ عَنْهَا الْمُنْكِرُ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهَا بِرَدِّهَا عَلَى الْمُنْكِرِ، فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، إِنَّهُ تُرَدُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْيَمِينُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالنُّكُولِ، وَإِنْ لَمْ تُرَدَّ عليه هذه اليمين الْمُسْتَحَقَّةُ مَعَ الشَّاهِدِ، لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ حَقِّهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ مِنَ الْأُخْرَى، مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ، وَلَيْسَ التَّوَقُّفَ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ نُكُولًا، حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِنُكُولِهِ فِيهَا، بَعْدَ تَوَقُّفِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ: فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوْلِ إِنَّ يَمِينَ النُّكُولِ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، عُرِضَتْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا ادَّعَاهُ بِيَمِينِهِ لَا بشاهده، وإن نكل سقط حقه من اليمين بَعْدِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنُكُولِهِ فِيهَا بَعْدَ تَوَقُّفِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُكُولِهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَنْ يَحْكُمَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 75 عَلَى الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ، لِأَنَّ قَصْدَ الْحَاكِمِ بِنُكُولِهِ حَقٌّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ نُكُولُهُ عَنِ الرَّدِّ مَعَ الشَّاهِدِ قَدْحًا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِشَهَادَتِهِ شَهَادَةُ غَيْرِهِ ثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِمَا، وَحُكِمَ لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِنِ انْفَصَلَتِ الْمُحَاكَمَةُ بِالنُّكُولِ لِأَن َّ فَصْلَ الْمُحَاكَمَةِ بِالْأَيْمَانِ أَقْوَى، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ فِي سَمَاعِهَا فَصْلُهَا بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ، فَإِنْ عُدِمَ شَاهِدٌ آخَرُ سَقَطَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ، وَخُلِّيَ سَبِيلَ الْمُنْكِرِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي: إِنَّ يَمِينَ النُّكُولِ لَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي: إِنَّ الْمُنْكِرَ يُحْبَسُ بِالشَّاهِدِ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُغَرَّمَ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحَبْسَ عَلَى الْحُقُوقِ يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَلَمْ يَثْبُتِ الْحَقُّ بِالشَّاهِدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَوَجَبَ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِ. (فَصْلٌ) : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى قِيَاسِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَنْكُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا أَنْكَرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْلَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ، وَرُدَّتْ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَنَكَلَ عَنْهَا، ثُمَّ أَقَامَ شَاهِدًا، فَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ، عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ، كَانَ جَوَازُ إِحْلَافِهِ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ يَمِينِ الرَّدِّ، إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ، إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فكل ما كَانَ مِنْ مَالٍ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَالِكٍ مِنْ مَالِكٍ غَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِيهِ مِثْلَهُ أَوْ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ قُضِيَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ بِهِ مَالٌ مِنْ جُرْحٍ أَوْ قَتْلٍ لَا قِصَاصَ فِيهِ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْمَالَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ جَوَازُ الْحُكْمِ، بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَا كَانَ مَالًا مِنْ دَيْنٍ، أَوْ عَيْنٍ، فَالدَّيْنُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنٍ، أَوْ قَرْضٍ. وَالْعَيْنُ، مَا كَانَ فِي الْيَدِ مِنْ مَنْقُولٍ، كَالثَّوْبِ، وَالْعَبْدِ، أَوْ غَيْرِ مَنْقُولٍ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ، فَيُحْكَمُ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتُفِيدَ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ مِنَ العقود الجزء: 17 ¦ الصفحة: 76 كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، تَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهَا عُقُودٌ مَوْضُوعَةٌ، لِنَقْلِ مَالٍ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، أَوْ لِنَقْلِ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْمَالِ مِنْ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالصَّدَاقُ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ، وَالطَّلَاقُ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى النِّكَاحِ وَاخْتَلَفَا فِي الصَّدَاقِ، ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ، دُونَ النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْخُلْعِ، إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ، لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، لِأَنَّ فِيهِ طَلَاقًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ عِوَضِهِ، حُكِمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَالِ، دُونَ الطَّلَاقِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لَمْ تَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَمَلُّكِ الْمَالِ بِهَا، ثَبَتَتْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَأَمَّا الْوِكَالَةُ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِ مَالٍ، لِأَنَّهَا عَقْدُ نِيَابَةٍ كَالْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا الْعِتْقُ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِمِلْكِ مَالٍ فَلَيْسَ يَنْتَقِلُ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الْمُعْتِقِ. فَأَمَّا الْكِتَابَةُ، فَلَا يَثْبُتُ عَقْدُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْعِتْقِ وَيَثْبُتُ أَدَاءُ الْمَالِ فِيهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْعِتْقِ، فَهُوَ كَالْعَقْدِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَمُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ، وَالْغُرْمِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَاهِدَيْنِ، ثَبَتَ بِهِمَا الْقَطْعُ، وَالْغُرْمُ، وَإِنْ كَانَتْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، ثَبَتَ بِهَا الْغُرْمُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْقَطْعُ، لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَمَيَّزَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، لِوُجُوبِ الْغُرْمِ مَعَ عَدَمِ الْقَطْعِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْوَقْفُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، مِنَ الْوَاقِفِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، فَفِي ثُبُوتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَجْهَانِ، نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ فَضَرْبَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ. فَأَمَّا الْخَطَأُ فَيَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ. وَأَمَّا الْعَمْدُ فَضَرْبَانِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 77 أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ، كَجِنَايَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَالْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، فَيَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا إِلَّا الْمَالَ، فَصَارَتْ كَالْخَطَأِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكُ نَفْسٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، كَمَا أَوْجَبْتُمْ فِي السَّرِقَةِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ، دُونَ الْقَطْعِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ تَابِعٌ لِلْمَالِ، لَا يُثْبِتُ إِلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَصَارَ الْمَالُ فِيهَا أَصْلًا، وَالْقَطْعُ فَرْعًا. وَالدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ تَابِعَةٌ لِلْقِصَاصِ، يَكُونُ الْقِصَاصُ فِيهَا أَصْلًا، وَالدِّيَةُ فَرْعًا، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الدِّيَةَ فِي الْجِنَايَةِ. فَأَمَّا جِرَاحُ الْعَمْدِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْجَائِفَةِ، وَمَا دُونَ الْمُوَضِّحَةِ فَيُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَمَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْمُوضِّحَةِ وَالْأَطْرَافِ لَمْ يُسْتَحَقَّ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنْقِلَةِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا إِسْقَاطُ الْحُقُوقِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: بَرَاءَةٌ مِنْ مَالٍ، وَيَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَالثَّانِي: عَفْوٌ عَنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، لِيَكُونَ إِسْقَاطُهُمَا بَعْدَ الْوُجُوبِ مُعْتَبَرًا بِإِيجَابِهِمَا قَبْلَ السُّقُوطِ. وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ فَادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، مَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي جُرْحِ الشَّاهِدَيْنِ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبُ الشَّاهِدَيْنِ، حُكِمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّ إِكْذَابَ الْمُدَّعِي لِبَيِّنَتِهِ، يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ، وَلَا يُوجِبُ جُرْحَ شُهُودِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَتَى قَوْمٌ بِشَاهِدٍ أَنَّ لِأَبِيهِمْ عَلَى فلان حقا أو أن فُلَانًا قَدْ أَوْصَى لَهُمْ فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ مَعَ شَاهِدِهِ اسْتَحَقَّ وِرْثَهُ أَوْ وَصِيَّتَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي وَرَثَةِ مَيِّتٍ، ادَّعَوْا أَنَّ لِمَيِّتِهِمْ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ مُنْكِرٍ، أَوِ ادَّعَوْا وَصِيَّةً وَصَّى بِهَا لِمَيِّتِهِمْ، وَأَقَامُوا عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ شَاهِدًا وَاحِدًا، فَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 78 أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفُوا جَمِيعًا مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ، فَيَسْتَحِقُّوا بِأَيْمَانِهِمْ مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ مَا ادَّعُوهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَيَكُونُ الدَّيْنُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ مَيِّتَهُمْ قَبِلَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَتَكُونَ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، لِأَنَّ مَيِّتَهُمْ قَدْ مَلَكَهَا بِقَبُولِهِ، فَصَارَتْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَأَنَّهُمُ الْقَابِلُونَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَتَسَاوَى فِيهَا أَهْلُ الْوَصَايَا، فَيَكُونَ لِلْوَارِثِينَ عَنْ مَيِّتِهِمْ حَقُّهُ مِنَ الْقَبُولِ، فَيَصِيرُوا هُمُ الْمَالِكِينَ لَهَا بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ مَيِّتِهِمْ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى أبيهم دين لم يقض منهما. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولُ يُبْنَى عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ، مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي فَيَكُونُ قَبُولُهُمْ موجبا لدخولها في ملك ميتهم، ثم ملوكها عَنْهُ بِالْمِيرَاثِ فَصَارُوا فِيهَا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهِمْ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهَا. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْتَنِعُوا جَمِيعًا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدٍ مِنْهُمْ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُمْ مِنَ الدَّيْنَ وَالْوَصِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اسْتَحَقُّوا النِّصْفَ، لِأَنَّ لَهُمْ نِصْفَ الْبَيِّنَةِ، قِيلَ: الْبَيِّنَةُ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَهُ بِبَعْضِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَرَثَةُ وَأَرَادَ وَرَثَتُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ، لِنُكُولِهِمْ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ لِوَرَثَتِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْقَطُوا حُقُوقَهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ بِنُكُولِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَوَقَّفُوا عَنِ الْأَيْمَانِ لِيَحْلِفُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نُكُولٍ عَنْهَا، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّوا مَا كَانَ لَهُمْ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَسْقُطْ بِالتَّوَقُّفِ، إِنَّمَا تَسْقُطُ بِالنُّكُولِ، وَلَيْسَ التَّوَقُّفُ نُكُولًا. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ، فَيُحْكَمَ لِمَنْ حَلَفَ بِحَقِّهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لِأَمْرَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 79 أَحَدُهُمَا: إِنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ كَالْيَدِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَلَوْ حَلَفَ بَعْضُ ذَوِي الْأَيْدِي حُكِمَ لَهُ بِيَمِينِهِ، دُونَ مَنْ نَكَلَ كَذَلِكَ هُنَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ حُجَّةٌ، قَدْ قَبِلَهَا الْحَالِفُ، فَثَبَتَ حَقُّهُ بِهَا، وَرَدَّهَا النَّاكِلُ فَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا، وَصَارَ كَأَخَوَيْنِ ادَّعَيَا حَقًّا مِنْ مِيرَاثٍ عَلَى مُنْكِرٍ فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، فَرُدَّتْ عَلَى الْأَخَوَيْنِ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، قَضَى لِلْحَالِفِ بِحَقِّهِ دُونَ النَّاكِلِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ بَيِّنَةً فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ كَالشَّاهِدَيْنِ، وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ الْبَيِّنَةَ بِشَاهِدَيْنِ حُكِمَ بِالْحَقِّ لِمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَلِمَنْ لَمْ يُقِمْهَا، فَهَلَّا كَانَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَذَلِكَ. قِيلَ: لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ، فَثَبَتَ لِجَمِيعِهِمْ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ تَكْمُلُ بِهِ الْبَيِّنَةُ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، فَكَمُلَتْ بَيِّنَةُ مَنْ حَلَفَ، وَنَقَصَتْ بِهِ بَيِّنَةُ مَنْ نَكَلَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّاكِلُ وَاسْتَحَقَّ الْحَالِفُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مِيرَاثٌ يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، كَأَخَوَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا مِيرَاثًا، فَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، وَأَكْذَبَ الْآخَرُ، كَانَ النِّصْفُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْمُصَدِّقُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، لِكَوْنِهِ مِيرَاثًا يُوجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ، فَهَلَّا كَانَ مَا اسْتَحَقَّهُ الْحَالِفُ مَعَ شَاهِدِهِ مَقْسُومًا بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، لِكَوْنِهِ مِيرَاثًا. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّ الْمَجْحُودَ، كَالْمَغْصُوبِ، وَغَصْبُ بَعْضِ التَّرِكَةِ يُوجِبُ تَسَاوِي الْوَرَثَةِ، فِي غَيْرِ الْمَغْصُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي النُّكُولِ مَعَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ بِيَمِينِهِ، فَصَارَ بِنُكُولِهِ، كَالْمُسَلِّمِ وَالتَّارِكِ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى أَخَوَيْنِ أَقَرَّ رَجُلٌ لِأَبِيهِمَا بِدَيْنٍ، فَقَبِلَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْآخَرُ، كَانَ حَقُّ الْقَابِلِ خَالِصًا لَهُ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُ الْقَابِلِ، لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِحَقِّهِ مِنْهُ، كَذَلِكَ حُكْمُ النَّاكِلِ مَعَ الحالف. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَعْتُوهٌ وُقِفَ حَقُّهُ حَتَّى يَعْقِلَ فَيَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فَيَقُومَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فَيَحْلِفَ وَيَسْتَحِقَّ وَلَا يَسْتَحِقُّ أَخٌ بِيَمِينِ أَخِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ الَّذِينَ أَقَامُوا بِدَيْنِ مَيِّتِهِمْ، شَاهِدًا وَاحِدًا مَعْتُوهٌ، أَوْ طِفْلٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِيَمِينٍ من حلف كَمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَعْتُوهُ وَالطِّفْلُ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَيْمَانِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ وَلِيُّهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ يَمِينِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ، وَيَكُونُ حَقُّ الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ مَوْقُوفًا عَلَى إِفَاقَةِ الْمَعْتُوهِ، وَبُلُوغِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 80 الطِّفْلِ، لِيَحْلِفَا بَعْدَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَيَسْتَحِقَّا، وَيَكُونَ تَصَرُّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِأَيْمَانِهِمَا نَافِذًا، سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا، أَوْ يَمِينًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا بِالشَّاهِدِ قَبْلَ الْيَمِينِ حَقٌّ يُوجِبُ وَقْفَهُ وَإِنَّمَا الْوَقْفُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْحُكْمِ بِالْحَقِّ، إِنْ حَلَفَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَبْلَ الْيَمِينِ حَقٌّ يُوقَفُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ حُكِمَ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَالِفِينَ مِنْ شُرَكَائِهِمَا، فَلَا وَجْهَ لِمَا وَهَمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَنَّهُ يُوقَفُ الْحَقُّ عَلَيْهِمَا فَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ قَامَ وَرَثَتُهُمَا مَقَامَهُمَا فِي الْيَمِينِ، فَيَحْلِفُ الْوَرَثَةُ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَرِثُوا اسْتِحْقَاقَ الْيَمِينِ الَّتِي يُسْتَحَقُّ بِهَا الدَّيْنُ، وَيَصِيرُونَ مَالِكِينَ لِحُقُوقِهِمْ مِنَ الدَّيْنِ، بِأَيْمَانِهِمْ عَنِ الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ قُضِيَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالطَّفْلِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا السَّهْمِ دَيْنَانِ، دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَدَيْنٌ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ، قُضِيَ الدَّيْنَانِ مِنْهُ، فَإِنْ ضَاقَ السَّهْمُ عَنْهُمَا قُدِّمَ دَيْنُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عَلَى دَيْنِ الْمَعْتُوهِ، وَالطِّفْلِ، لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِ مَا بَقِيَ بَعْدَ قضاء الدين. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ الْغَرِيمُ وَلَا الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَارِثِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا أَوْلَى بِمَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَلَيْسَ مِنْ وَجْهٍ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ وَلَا يَلْزَمُهُمْ مَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ مِنْ نَفَقَةِ عَبِيدِهِ الزَّمْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مَالٌ سِوَى مَالِهِ الَّذِي يُقَالُ لِلْغَرِيمِ احْلِفْ عَلَيْهِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ من ذلك المال الظاهر الَذِي لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ الْغَرِيمُ قَالَ وَإِذَا حَلَفَ الْوَرَثَةُ فَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِمَالِ الْمَيِّتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ تَرِكَةٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَلَكَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِهَا، وَمُنِعُوا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُمْ فِي قَضَائِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتَكُونُ التَّرِكَةُ كَالْمَرْهُونَةِ بِالدَّيْنِ، وَالْوَرَثَةُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ، حَتَّى يَقْضِيَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِمَّا مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، دُونَ الْوَرَثَةِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الْوَرَثَةُ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِالتَّرِكَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْوَرَثَةُ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمَوْرُوثِ فَإِذَا قَضَوْهُ انْتَقَلَ مِلْكُهَا إِلَيْهِمْ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ، مَلَكُوا مِنَ التَّرِكَةِ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَمْلِكُوا مَا أَحَاطَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ، لَمْ يَمْلِكُوهَا إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ وَإِنْ أَحَاطَ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ مَلَكُوهَا جَمِيعًا، قَبْلَ قَضَائِهِ مَعَ مُوافَقَتِهِمَا، أَنَّ لِلْوَرَثَةِ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَمِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ، إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 81 أَحَدُهُمَا: مَا يَحْدُثُ فِي التَّرِكَةِ مِنَ النَّمَاءِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، كَالثَّمَرَةِ، وَالنَّتَاجِ وَأُجُورِ الْعَقَارِ، وَكَسْبِ الْعَبِيدِ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ الدَّيْنُ وَيَكُونُ مَضْمُومًا إِلَى التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ غَيْرَ مَالِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لِيَتَعَلَّقَ بِهَا قَضَاءُ الدَّيْنِ. وَالثَّانِي: مَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةِ الْأَعْيَانِ وَفِطْرَةِ الْعَبِيدِ، وَنَفَقَاتُهُمْ تَكُونُ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ، وَتَكُونُ فِي التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مَالِكِينَ لِلتَّرِكَةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مَانِعًا مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ، إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ أَبُ الْوَارِثِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مَلَكَ عَمَّهُ، وَخَلَّفَ ابْنَ عَمِّهِ حُرًّا، وَأَبَاهُ مَمْلُوكًا فَلَا يُعْتَقُ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ قَضَائِهِ، أُعْتِقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ التَّرِكَةِ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْوَرَثَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَرَثَةِ مَنْعُ الْغُرَمَاءِ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهَا في ملكهم، ولأنه الْوَرَثَةَ لَوْ لَمْ يَمْلِكُوا التَّرِكَةَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، لَوَجَبَ إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَّفَ ابْنًا، ثُمَّ قَضَى الدَّيْنَ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ، لِلِابْنِ الْبَاقِي دُونَ ابْنِ الابن. وفي انعقاد الإجماع على أنهما تَكُونُ لِلِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ اعْتِبَارًا بِمَوْتِ الْمُورِّثِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ أَحَقَّ بِاقْتِضَاءِ دُيُونِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَكَانُوا أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ مِنْهُمْ، وَهُمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ إِلَّا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، دَلَّ عَلَى انْتِقَالِهَا إِلَى مِلْكِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دين} فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا بَعْدَ قَضَائِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْعِتْقِ، فَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ أَوْقَعَ حَجْرًا عَلَيْهِ كَحَجْرِ الْمُرْتَهِنِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الْعِتْقِ مَعَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ كَالرَّهْنِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَصُورَةُ ال ْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 82 بَالدَّيْنِ لَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ حَلِفِهِ مَعَ شَاهِدِهِ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَسْتَحِقَّ دَيْنَهُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ فِي التَّرِكَةِ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ. فَإِنْ حَلَفَ وَعَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ وَوَصَايَا قضى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَنَفَذَتْ مِنْهُ وَصَايَاهُ وَإِنْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ عَنْ الْيَمِينِ وَأَرَادَ الْغُرَمَاءُ، وَأَهْلُ الْوَصَايَا أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ الشَّاهِدِ لِيَسْتَوْجِبُوهُ فِي دُيُونِهِمْ، وَوَصَايَاهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا؛ وَيَسْتَحِقُّوا لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ثَبَتَ صَارَ إِلَيْهِمْ، فَكَانُوا فِيهِ كَالْوَرَثَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْلِكُوا الدَّيْنَ بِأَيْمَانِهِمْ، لَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِبْرَائِهِمْ، وَهُوَ لَا يَسْقُطُ لَوْ بَرِئُوا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ إِذَا حَلَفُوا عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا أَنْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ لَمَلَكُوا أَنْ يَدَّعُوهُ، وَدَعْوَاهُمْ مَرْدُودَةٌ، فَكَذَلِكَ أَيْمَانُهُمْ. وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَوِ اسْتُحِقَّ بِأَيْمَانِهِمْ، لَجَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَرَثَةُ بِهَا، ما فضل عن ديونهم، ولجاز إذا أبرؤوا الْمَيِّتَ مِنْ دُيُونِهِمْ، بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَمْلِكُونَهُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَوْ أَكْذَبُوا الشَّاهِدَ وَصَدَّقَهُ الْغُرَمَاءُ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ، وَلَوْ صَدَّقَهُ الْوَرَثَةُ وَكَذَّبَهُ الْغُرَمَاءُ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الدَّيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى وَرَثَةُ الْمَيِّتِ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ، وَنَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَحْلِفُوا وَأَجَابَ غُرَمَاءُ الْمَيِّتِ إِلَى الْيَمِينِ فَفِي إِحْلَافِهِمْ قَوْلَانِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَهَكَذَا غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا بَدَيْنٍ وَلَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ وَأَجَابَ غُرَمَاؤُهُ إِلَى اليمين لمراجع أوردت يَمِينَ النُّكُولِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْلِفْ وَأَجَابَ غُرَمَاؤُهُ إِلَيْهَا فَفِي رَدِّهَا قَوْلَانِ: فَأَمَّا إِذَا وَصَّى الْمَيِّتُ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ فِي يَدِ زَيْدٍ، وَوَصَّى بِهَا لِعَمْرٍو فَأَنْكَرَهَا زَيْدٌ، وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فردت اليمين عَلَى الْوَرَثَةِ، فَإِنْ حَلَفُوا اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَدُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ نَكَلُوا وَأَجَابَ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالدُّيُونِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا، وَيَسْتَحِقَّهَا قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الدُّيُونِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُخَالِفَةٌ لِلدُّيُونِ لِسُقُوطِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَبِثُبُوتِهِ فِي الدين، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 83 لِأَنَّ لَهُمْ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِبْدَالُ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ. وَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ، إِذَا أَحْبَلَهَا الرَّاهِنُ وَادَّعَى وَطْأَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ الْإِذْنَ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، فِي إِنْكَارِ الْإِذْنِ، فَلَمْ يَحْلِفْ فَرُدَّتْ اليمين عَلَى الرَّاهِنِ فَلَمْ يَحْلِفْ وَأَجَابَتِ الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إِلَى أَنْ تَحْلِفَ فَخَرَّجَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَحْلِفَ قَوْلًا وَاحِدًا لِتَعْيِينِ حَقِّهَا فِي مَصِيرِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِسَيِّدِهَا. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ مَتَاعًا مِنْ حِرْزٍ يُسَاوِي مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ بِمَالٍ كَرَجُلٍ قَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إِنْ كُنْتُ غَصَبْتُ فُلَانًا هَذَا الْعَبْدَ فَيَشْهَدُ لَهُ عَلَيْهِ بِغَصْبِهِ شَاهِدٌ فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الْغَصْبَ وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ لِأَنَّ حُكْمَ الْحِنْثِ غَيْرُ حُكْمِ الْمَالِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ، فَإِذَا ادَّعَى سَرِقَةَ مَالٍ يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَاهِدًا، وَيَمِينًا وَجَبَ الْغُرْمُ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ لِأَنَّ الْغُرْمَ مَالٌ وَالْقَطْعَ حَدٌّ، وَلَا يَمْتَنِعُ، إِذَا اجْتَمَعَ فِي الدَّعْوَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ لَوِ انْفَرَدَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْغُرْمِ، إِذَا وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُثْبِتَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الْغُرْمَ دُونَ الْقَطْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الدِّيَةَ، دُونَ الْقَوَدِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ، وَالْقَوَدُ حَدٌّ، كَمَا أَوْجَبْتُمْ بِهِ فِي السَّرِقَةِ الْغُرْمَ، دُونَ الْقَطْعِ قِيلَ: لِفَرْقَيْنِ مَنَعَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَالَ فِي السَّرِقَةِ أَصْلٌ وَالْقَطْعَ فَرْعٌ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعَ سُقُوطِ فَرْعِهِ، وَالْقَوَدُ فِي الْقَتْلِ أَصْلٌ، وَالدِّيَةُ فَرْعٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ لِلْفَرْعِ مَعَ سُقُوطِ أَصْلِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ، وَاخْتِيَارِ الدِّيَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّيَةَ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ، وَأَنَّ كُلَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 84 وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنِ الْآخَرِ يَكُونُ مُسْتَحِقُّهُ مُخَيَّرًا فِي أَحَدِهِمَا فَإِذَا امْتَنَعَ اسْتِحْقَاقُهُمَا، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِمَا امْتَنَعَ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ مَعْدُومَانِ فِي السَّرِقَةِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ، وَثُبُوتِ الْقَطْعِ دُونَ الْغُرْمِ. وَقَدْ أَوْضَحَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِمِثَالٍ ضَرَبَهُ فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ غَصَبَهُ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ الْمُدَعَّى عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا غَصَبَهُ الْعَبْدَ الَّذِي ادَّعَاهُ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِي الْغَصْبِ شَاهِدَيْنِ حُكِمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ فِي الطلاق والعتاق، ولأن الْغَصْبَ مَالٌ، وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَا بِمَالٍ. (فَصْلٌ) : وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِذَا عَمَدَ الرامي بسهمه إِنْسَانًا، فَأَصَابَهُ، وَنَفَذَ السَّهْمُ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى آخَرَ، فَأَصَابَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ. وَالثَّانِي خَطَأٌ يُوجِبُ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ. فَإِنِ ادُّعِيَتْ هَذِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى إِنْسَانٍ فَأَنْكَرَهَا، وَأَقَامَ مُدَّعِيهَا شَاهِدًا وَيَمِينًا، فَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ مِمَّا يَسْقُطُ فِيهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ مِنْ وَالِدٍ عَلَى وَلَدٍ، وَمِنْ حُرٍّ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ ثَبَتَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا، بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَمْدِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَفِي وُجُوبِ الْخَطَأِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُهُ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَالِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ عَمْدٍ سَقَطَ حُكْمُهُ، فَسَقَطَ بِهِ حُكْمُ مَا حَدَثَ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِجَوَازِ انْفِرَادِ كُلِّ واحد منهما بحكمه. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى جَارِيَةٍ أَنَّهَا لَهُ وَابْنَهَا وَلَدٌ مِنْهُ حَلَفَ وَقُضِيَ لَهُ بِالْجَارِيَةِ وَكَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ وَلَا يُقْضَى لَهُ بِالابْنِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا ويكون ابنه (قال المزني) رحمه الله: وهذا أشبه بقوله الآتي لَمْ يختلف وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى عَبْدٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ غَصَبَهُ هَذَا بَعْدَ الْعِتْقِ حَلَفَ وَأَخَذَهُ وَكَانَ مَوْلًى لَهُ (قال المزني) رحمه الله: فهو لا يأخذه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 85 مولاه على أنه يسترقه كما أنه لا يأخذ ابنه على أنه يسترقه فإذا أجازه في المولى لزمه في الابن ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي جَارِيَةٍ وَلَدَتْ وَلَدًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهُمَا، فَادَّعَاهَا وَوَلَدَهَا مُدَّعٍ فَلَهُ فِي دَعْوَاهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَهَا مِلْكًا لِنَفْسِهِ، فَيُحْكَمَ لَهُ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لِاخْتِصَاصِ الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهَا حُرَّةٌ تَزَوَّجَهَا، وَأَنَّ وَلَدَهَا ابْنُهُ مِنْهَا، حُرٌّ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، فَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِدَعْوَاهُ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُرِّيَّةً وَزَوْجِيَّةً وَنَسَبًا. وَالشَّهَادَةُ بِحُرِّيَّتِهَا بَيِّنَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَالشَّهَادَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِحُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِحُرِّيَّتِهَا كَانَتْ بَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِحُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَدَّعِيهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُدَّعِي، وَحُرِّيَّةِ وَلَدِهِ مِنْهَا، وَالشَّهَادَةُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ بَيِّنَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَالْوَلَدِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَتَهُ، وَأَنَّهُ أَوْلَدَهَا هَذَا الْوَلَدَ، فَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَتَعَلَّقَ بِدَعْوَاهُ فِي الْأُمِّ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا أَمَتُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَتَعَلَّقَ بِهَا فِي الْوَلَدِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ ابْنُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ حُرٌّ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهَا أَمَتُهُ، وَأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا فِي اسْتِخْدَامِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَإِجَارَتِهَا، وَتَمَلُّكِ مَنَافِعِهَا، وَأَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ قَاتِلِهَا وَالرِّقِّ قَالَ: " وَيُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ". وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا، صَارَ الْمِلْكُ وَالدَّعْوَى مَقْصُورَيْنِ عَلَى مَنَافِعِهَا، وَالْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ الْمَحْكُومِ بِهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا التَّعْلِيلِ: هَلْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِإِقْرَارِهِ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ، فَوَجَبَ تَمَلُّكُ رِقِّهَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 86 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا صَارَتْ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَمَتَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ، قَضَاءً بِالشَّهَادَةِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْوَلَدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، وَيَكُونُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ فِيهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ وَلَدُهُ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوْ تَجَرَّدَتِ الدَّعْوَى عَنْ بَيِّنَةٍ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهَا شَاهِدَانِ، فَيُحْكَمَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَوِ انْفَرَدَتْ بِنَسَبِهِ وَبِحُرِّيَّتِهِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِادِّعَاءِ أَمَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَحَكَّاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَحُرِّيَّتِهِ، لِأَنَّهَا فِي الدَّعْوَى أَصْلٌ مَتْبُوعٌ، وَهُوَ فِيهَا فَرْعٌ تَابِعٌ، فَأَوْجَبَ ثُبُوتُ الْأَصْلِ ثُبُوتَ فَرْعِهِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الْمُزَنِيُّ بِمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ لِيَسْتَرِقَّهُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدَهُ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَغَصَبَهُ صَاحِبُ الْيَدِ، بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ، وَأَقَامَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ شَاهِدًا وَيَمِينًا قُضِيَ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الدَّعْوَى اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِدَعْوَى رِقٍّ وَعِتْقٍ. كَذَلِكَ دَعْوَى الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِرِقِّ أُمِّهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ دَعْوَى الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، وَلَا يُفَرِّقُ وَيَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَعِتْقِ الْعَبْدِ، وَإِنْ خَرَّجَ فِي نَسَبِ الْوَلَدِ قَوْلٌ ثَانٍ خَرَجَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَصْحِيحِ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَسَبِ الْوَلَدِ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ رِقٌّ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَاسْتَصْحَبَ حُكْمُهُ فِيهِ، وَإِنْ عُتِقَ بِإِقْرَارِ مَالِكِهِ، وَالْوَلَدُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ يَسْتَصْحِبُ حُكْمُهُ فِيهِ، فَتَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ بِإِثْبَاتِ النَّسَبِ الَّذِي لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. فَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِأُمِّهِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الْبُنُوَّةِ، فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهَا تُعْتَقُ بحريته. (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنْ أَبَاهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّارِ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً مَوْقُوفَةً وَعَلَى أَخَوَيْنِ لَهُ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ ثَبَتَ حَقُّهُ وَصَارَ ما بقي ميراثا فإن حلفوا معا خرجت الدار من ملك صاحبها إلى من جعلت له حياته ومضى الحكم فيها لهم فمن جاء بعدهم ممن وقفت عليه إذا ماتوا قام مقام الوارث وإن لم يحلف إلا واحد فنصيبه منها وهو الثلث صدقة على ما شهد به شاهده ثم نصيبه على من تصدق به أبوه عليه بعده أخويه فإن قال الذين تصدق به عليهم بعد الاثنين نحن نحلف على ما أبى أن يحلف عليه الاثنان ففيها الجزء: 17 ¦ الصفحة: 87 قولان: أحدهما أنه لا يكون لهم إلا ما كان للاثنين قبلهم والآخر أن ذلك لهم من قبل أنهم إنما يملكون إذا حلفوا بعد موت الذي جعل لهم ملك إذا مات وهو أصح القولين وبه أقول والله أعلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي انْتِقَالِ مَالِكِ الْوَقْفِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْوَاقِفِ عَنْهُ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ إِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى مَالِكٍ كَالْعِتْقِ الَّذِي بِوُجُودِهِ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى مَالِكٍ وَلِمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ وَغُرْمِ قِيمَتِهِ بِالْإِتْلَافِ وَالْعِتْقُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، فَلَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ، وَلَا تُغْرَمُ قِيمَتُهُ بِالْإِتْلَافِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ حُكِمَ فِي إِثْبَاتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، فَفِي إِثْبَاتِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَالْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِهِمَا إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ بِهِمَا إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الْمِلْكِ بَاقِيَةٌ عَلَى الْوَقْفِ فِي ضَمَانِهِ بِالْيَدِ، وَغُرْمِهِ بِالْقِيمَةِ، وَزَائِلٌ عَنِ الْمُعْتِقِ، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ، وَلَا يُغْرَمُ بِالْقِيمَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَقْفِ مِلْكُ مَنَافِعِهِ الَّتِي هِيَ أَمْوَالٌ، وَالْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ كَمَالُ أَحْكَامِهِ فِي مِيرَاثِهِ وَشَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَلِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ ثَبَتَ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا الْعِتْقُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حامد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 88 الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ دَارًا عَلَى وَرَثَةٍ مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَزَوْجَاتٍ، فَادَّعَى أَحَدُ بَنِيهِ أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَخَوَيْهِ هَذَيْنِ دُونَ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَصَدَّقَهُ الْأَخَوَانِ عَلَى الدَّعْوَى، فَيَكُونُ دَعْوَى الْأُخْوَةِ عَلَى أَبِيهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ خَلَّفَ دَارًا عَلَى وَلَدِهِ، فَادَّعَى أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ أَنَّ صَاحِبَهَا وَقَفَهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى إِخْوَتِهِ. وَتَصْوِيرُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ لِلثَّانِي فِي الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ مُوجِبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُمَا مَعًا. فَأَمَّا تَصْوِيرُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ: أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي، إِنَّ أَبِي وَقَفَ دَارَهُ هَذِهِ عَلَيَّ وَعَلَى إِخْوَتِي دُونَ غَيْرِنَا مِنْ شُرَكَائِنَا فِي الْمِيرَاثِ، فَإِذَا انْقَرَضْنَا، فَهِيَ عَلَى أَوْلَادِنَا مَا بَقَوْا، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ إِذَا انْقَرَضُوا، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ كَانَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِوَقْفِهَا مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ أَنْ تَكُونَ وَقْفًا، وَأَقَامَ مُدَّعُوهَا شَاهِدَيْنِ صَارَتْ وَقْفًا بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا، وَقِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْكُلُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُهُمْ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا كَانَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَمَنْفَعَتُهَا بَيْنَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَالْهِبَةِ، وَلَا حَقَّ فِيهَا لِأَوْلَادِهِمْ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمْ، لِأَنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي تَرْتِيبِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَخْلُ انْقِرَاضُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَوْ يَنْقَرِضُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنِ انْقَرَضُوا مَعًا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إِلَى أَوْلَادِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ هَلْ يَكُونُ بِأَيْمَانِهِمْ أَوْ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ مَعَ شَاهِدِ آبَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ عَنِ الْوَاقِفِ لَا عَنْ آبَائِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَحَقَّهُ الْآبَاءُ بِأَيْمَانِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الأبناء بأيمانهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 89 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِأَيْمَانِهِمْ وَقْفًا مُؤَبَّدًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْمُلَ لِلْأَبْنَاءِ أَنْ يَصِيرَ مِلْكًا مُطْلَقًا. فَإِنِ انْقَرَضَ الْأَبْنَاءُ وَأَفْضَى الْوَقْفُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَا أَيْمَانَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَعَيِّنِينَ وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لَهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَبْنَاءِ. فَإِنْ قِيلَ بِالظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَيْمَانِ آبَائِهِمِ اسْتَحَقَّهُ الْمَسَاكِينُ، بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ. وَإِنْ قِيلَ: بِمَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَبْنَاءُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ، فَلَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَسَاكِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِلضَّرُورَةِ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، ويعود ملكا مطلقا. ومن مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْوَقْفَ الْمُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُؤَبَّدًا، وَإِنْ مَاتَ الْأُخْوَةُ الثَّلَاثَةُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَادَ نَصِيبُهُ إِلَى أَخَوَيْهِ، وَصَارَتْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ مَاتَ ثَانٍ عَادَ نَصِيبُهُ إِلَى الْبَاقِي، فَصَارَ لَهُ جَمِيعُ الْمَنْفَعَةِ إِذَا كَانَ شَرْطُ الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ أَنْ يَعُودَ سَهْمُ مَنْ مَاتَ، اسْتَحَقَّهُ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الشَّرْطَ، فَفِي مُسْتَحَقِّ سَهْمِ الْمَيِّتِ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ جَمِيعِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّهُ الْمَسَاكِينُ حَتَّى يَنْقَرِضَ جَمِيعُهُمْ، فَيَسْتَحِقُّهُ الْبَطْنُ الثَّانِي، وَإِذَا وَجَبَ عَوْدُ هَذَا الْوَقْفِ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْيَمِينِ مُعْتَبَرًا بِاسْتِحْقَاقِ الْبَطْنِ الثَّانِي، فَإِنْ جُعِلَ لَهُمْ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَانَ مَا عَادَ إِلَى الْبَاقِي عَلَى أَخَوَيْهِ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ، فَفِيمَا عَادَ إِلَى الْبَاقِي عَنْ إِخْوَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْبَطْنِ الثَّانِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى يَمِينٍ ثَانِيَةٍ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الْبَطْنُ الثَّانِي ثُمَّ حُكْمُ الْبَطْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ الثَّانِي كَحُكْمِ الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَنْكُلَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِمْ، فَتَكُونَ الدَّارُ بَعْدَ إِحْلَافِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَرِكَةً فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ يَسْتَوْعِبُهَا قُضِيَتْ مِنْ ثَمَنِهَا، وَبَطَلَ وَقْفُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُيُونٌ، فَكَانَتْ وَصَايَا أَمْضَى مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 90 وَصَايَاهُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُيُونٌ وَلَا وَصَايَا كَانَتْ مِيرَاثًا بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ يَمْلِكُ هُوَ لَا الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ مِيرَاثَهُمْ مِنْهَا، وَتَصِيرُ وَقْفًا بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ وَقْفِهَا مَقْبُولٌ فِي حَقِّهِمْ وَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. فَإِذَا انْقَرَضَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ انْتَقَلَ الْوَقْفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَصَارَ الْبَطْنُ الثَّانِي بِمَثَابَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ، وَكَانَ بَقِيَّةُ الدَّارِ مِلْكًا مُطْلَقًا لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ مَاتَ الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ عَنْ نَصِيبِهِمْ مِنْهَا، وَعَادَ مِيرَاثُهُمْ إِلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ صَارَ جَمِيعُ الدَّارِ وَقْفًا بإقرارهم، لأنهم ملكوا جميعا، وَإِنْ وَرِثَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَعَادَ الْإِخْوَةُ، فَادَّعَوْا وَقْفَ بَقِيَّتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ انْبِرَامِ الْحُكْمِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، فَإِنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِوَقْفِهَا صَحَّتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَرَفُوا بِوَقْفِهَا صَارَ حَقُّهُمْ وَقْفًا، وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَيْهِمْ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ انْبِرَامَ الْحُكْمِ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ قَدْ أَسْقَطَ دَعْوَاهُمْ. فَلَوْ بَذَلَ الْبَطْنُ الثَّانِي الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ عِنْدَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ عَنْهَا، فَفِي إِحْلَافِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُونَ، لِأَنَّهُمْ فَرْعٌ لِأَصْلٍ صَارُوا لَهُ تَبَعًا، فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ الْفَرْعِ التَّابِعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَقْفَ يَصِيرُ إِلَيْهِمْ عَنِ الْوَاقِفِ لَا عَنِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، فَصَارُوا فِي إِفْضَائِهِ إِلَيْهِمْ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ الْبَطْنُ الثَّانِي مِنَ الْأَيْمَانِ، لِامْتِنَاعِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا لَمَلَكَ بِهِ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ إِبْطَالَ الْوَقْفِ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، فَكَانَ تَمْكِينُ الْبَطْنِ الثَّانِي مِنَ الْأَيْمَانِ غَيْرَ مُمْتَنَعٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَصْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَقْفِ إِذَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ، هَلْ يَبْطُلُ الْفَرْعُ لِبُطْلَانِهِ فِي الْأَصْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ فِي الْفَرْعِ كَبُطْلَانِهِ فِي الْأَصْلِ، لِامْتِزَاجِهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ الْبَطْنُ الثَّانِي مَعَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لِبُطْلَانِهِ فِي حُقُوقِهِمْ، فَيَبْطُلُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَعَدَّاهُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ نُكُولِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 91 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا، وَالْقَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِيهَا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْقَوْلَانِ فِيهَا، إِمَّا بِنَاءً وَإِمَّا أَصْلًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنْ كَانَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ بَاقِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنِ انْقَرَضُوا فَإِحْلَافُ الْبَطْنِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ: إِنِ انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ كَانَ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانُوا بَاقِينَ، فَإِحْلَافُ الْبَطْنِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْبُطُونِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِي مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بَعْضُهُمْ، وَيَنْكُلَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ: أَنْ يَحْلِفَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْإِخْوَةِ وَاحِدٌ، وَيَنْكُلُ اثْنَانِ، فَيَكُونَ ثُلُثُهَا وَقْفًا عَلَى الْحَالِفِ بِيَمِينِهِ، وَثُلُثَاهَا مِلْكًا مَوْرُوثًا بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَرِثُ الْحَالِفُ مِنْهُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الدَّارِ وَقْفٌ عَلَى أَخَوَيْهِ، وَيَصِيرُ مَا وَرِثَهُ الْأَخَوَانِ مِنْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَسِهَامُ بَاقِي الْوَرَثَةِ مِلْكًا لَهُمْ طَلْقًا. فَإِنْ أَرَادَ الْبَطْنُ الثَّانِي أَنْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبِنَاءِ وَالْمَحَلِّ، فَإِنْ مَاتَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ انْتَقَلَتْ حُقُوقُهُمْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَكَانَ نَصِيبُ مَنْ وَرِثَ وَلَمْ يَحْلِفْ مُنْتَقِلًا إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ صَارَ وَقَفًا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَكَانَ نَصِيبُ مَنْ حَلَفَ مُنْتَقِلًا إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي يَمِينِ الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ يَمِينِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ وَرَثَةُ الْحَالِفِ وَغَيْرِ الْحَالِفِ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي. وَلَوْ مَاتَ مِنَ الْإِخْوَةِ اللَّذَانِ لَمْ يَحْلِفَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُمْ إِلَى الْأَخِ الْحَالِفِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَلَوْ مَاتَ الْأَخُ الْحَالِفُ وَبَقِيَ أَخَوَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَيْمَانَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ تُسْقِطُ الْأَيْمَانَ عَنِ الْبَطْنِ الثَّانِي انْتَقَلَ نَصِيبُ الْحَالِفِ إِلَى أَخَوَيْهِ النَّاكِلَيْنِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي لِاسْتِحْقَاقِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْبُطُونِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَيْمَانَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لَا تُسْقِطُ الْأَيْمَانَ عَنِ الْبَطْنِ الثَّانِي لَمْ يَنْتَقِلْ نَصِيبُ الْحَالِفِ إِلَى أَخَوَيْهِ، لِنُكُولِهِمَا عَنِ الْيَمِينِ، وَفِي انْتِقَالِهِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي إِنْ حلفوا وجهان: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 92 أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى حِفْظِ الْوَقْفِ عَلَى الْبُطُونِ الْآتِيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي مَا كَانَ الْأَخَوَانِ النَّاكِلَانِ بَاقِيَيْنِ اعْتِبَارًا بِشَرْطِ الْوَقْفِ فِي تَرْتِيبِ الْبُطُونِ. فَعَلَى هَذَا فِي مَصْرِفِهِ إِلَى انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ، فَيُرَدُّ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْوَاقِفِ، وَيَكُونُ الْأَخَوَانِ النَّاكِلَانِ وَهُمَا مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ وَمَنْ فِي دَرَجَتِهِمَا مِنَ الْأَقَارِبِ فِيهِ سَوَاءٌ. فَإِذَا مَاتَ الْأَخَوَانِ انْتَقَلَ جَمِيعُ هَذَا النَّصِيبِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، لِإِفْضَاءِ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمْ هُمْ وَرَثَةَ الْوَاقِفِ، وَلَا يُشْرِكُهُمْ غَيْرُهُمْ، صَارَتِ الدَّارُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ، لَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ عَنْهُمْ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَمَا يَلِيهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَمَا صَارَ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَاقِفِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالْوَقْفِ، فَإِنْ قَضَوْهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَلَصَ الْوَقْفُ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْضُوهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِإِسْقَاطِ الدُّيُونِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَنُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ فِي الْمَرَضِ بَطَلَ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ تَبْطُلُ بِاسْتِغْرَاقِ الدُّيُونِ، وَلَا يَكُونُ لِبَيِّنَتِهِمْ تَأْثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُمْ، وَثَبَتَ الْوَقْفُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ؛ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الصِّحَّةِ، فَلَمْ تُرَدَّ بِالدُّيُونِ، وَإِنْ عُدِمَتِ الْبَيِّنَةُ حَلَفَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ عَلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ، فَكَانَ مَصْرُوفًا فِي دُيُونِهِمْ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ رُدَّتْ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ الْوَقْفُ، وَإِنْ نَكَلُوا صَرَفَهُ فِي أَرْبَابِ الدُّيُونِ. وَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ الَّتِي أَقَرُّوا بِوَقْفِهَا مَغْصُوبَةً فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ قَضَى لَهُمْ عَلَى الْغَاصِبِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْغَصْبَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالْغُصُوبُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْوَقْفِ كَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا أُزِيلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ عَنْهُ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَغْصُوبًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَصْوِيرُ ال ْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي ادِّعَاءِ الْوَقْفِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُمْ وَارِثُهُ فَالدَّارُ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ، وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِمَصِيرِهَا إِلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ أَكْذَبَهُمُ الْوَارِثُ، وَأَقَامُوا شَاهِدًا لِيَحْلِفُوا مَعَهُ كَانَ حُكْمُهُمْ فِيهَا كَحُكْمِهِمْ لَوِ ادَّعَوْهَا وَقْفًا مِنْ أَبِيهِمْ إِلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 93 وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا نَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِمْ صَارَ جَمِيعُهَا مِلْكًا طَلْقًا لِلْوَارِثِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَبِيهِمْ، لَكَانَ قَدْرَ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ، وَمَا عَدَا هَذَا الْحُكْمَ فَهُوَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو قَالَ وَعَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوُلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا قَالَ فَإِذَا حَدَثَ وَلَدٌ نَقَصَ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَبْسِ وَيُوقَفُ حَقُّ الْمَوْلُودِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَحْلِفَ فَيَأْخُذُ أَوْ يَدَعَ فَيَبْطُلَ حَقُّهُ وَيَرُدُّ كِرَاءَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الَّذِينَ انْتَقَصُوا مِنْ أَجْلِهِ حَقُوقَهُمْ سَوَاءً بَيْنَهُمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُوافِقَةٌ لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَمُخَالِفَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ أَنَّ أَبَاهُمْ وَقَفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ، فَجَعَلَ الْبَطْنَ الثَّانِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشَارِكًا لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى جَعَلَ الْبَطْنَ الثَّانِيَ مُتَرَتِّبًا بَعْدَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَهُمَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى سَوَاءٍ. فَإِذَا أَقَامَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى شَاهِدًا لِيَحْلِفُوا مَعَهُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَحَدٌ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَاحِدٌ صَارُوا بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ أَرْبَعَةً، لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْوَقْفِ إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا تُغْنِيهِ يَمِينُ أَبِيهِ كَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يُغْنِيهِ أَيْمَانُ إِخْوَتِهِ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُمْ قُسِّمَ الْوَقْفُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ حَقُّهُ، وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِذَا نَكَلَ مَعَ يَمِينِ أَخَوَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوَقْفِ أَحَدٌ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي، وَحَلَفُوا مَعَ شَاهِدِهِمُ اسْتَحَقُّوا الْوَقْفَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، لِأَنَّهُ لَا مُشَارِكَ لَهُمْ فِيهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ. فَإِنْ وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ صَارَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْوَقْفِ، وَصَارَ مَعَهُمْ رَابِعًا، فَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ بِهِ نَصِيبُهُ مِنَ الْوَقْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ يَأْخُذُهُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِنَّهُمْ فِي الْوَقْفِ الْمُرَتَّبِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْوَاقِفِ وَاسِطَةٌ مِنَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ قَدْ ثَبَتَ الْوَقْفُ بِهِمْ، وَالْبَطْنُ الثَّانِي بَدَلٌ مِنْهُمْ، فَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَقْفِ مَا كَانَ لَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ مُشْتَرَكًا، فَكُلُّ بَطْنٍ فِيهِ أَصْلٌ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَسِيطٍ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 94 الْوَاقِفِ، فَكَانَ حُكْمُ كُلِّ بَطْنٍ فِيهِ كَحُكْمِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ لَا يَسْقُطُ بِأَيْمَانِ بَعْضِهِمْ أَيْمَانُ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اعْتَرَفَ لَهُ شُرَكَاؤُهُ بِحَقِّهِ فِيهِ، فَلَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِرَافِ مُسْتَحِقِّيهِ كَمَا لَوِ اعْتَرَفَ ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ فِي دَارٍ بِرَابِعٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُمْ فِيهَا اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ فِيهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْحَادِثِ مَوْقُوفٌ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ كَانَ نَصِيبَهُ عَلَى شُرَكَائِهِ، فَلِذَلِكَ حَلَفَ الْحَادِثُ إِنْ صَدَّقَهُ الشُّرَكَاءُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِهِ بِقَبُولِهِ، وَقَبُولُهُ يَكُونُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ سَهْمَهُ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ هَذَا اسْتَحَقَّ الْحَادِثُ سَهْمَهُ بِاعْتِرَافِ شُرَكَائِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ كَالدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الثَّلَاثَةِ إِذَا اعْتَرَفُوا بِشَرِيكٍ رَابِعٍ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَيْضًا إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْوَقْفِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ سَهْمَ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ أَوْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ رَاجِعٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ، فَيُسْتَحْلَفُ الْحَادِثُ، وَيَرْجِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: إِنَّ سَهْمَهُ رَاجِعٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَمْ يُسْتَحْلَفِ الْحَادِثُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ فِي الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدُ أَرْبَابِهِ، هَلْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مَعَ إِطْلَاقِ شَرْطِ الْوَقْفِ عَائِدًا عَلَى شُرَكَائِهِ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْوَالِ كُلِّهَا فِي أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ الشُّرَكَاءُ إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَقْفِ، وَبَيْنَ الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ فِي الْوَقْفِ مُقِرُّونَ عَلَى الْوَاقِفِ، وَفِي غَيْرِ الْوَقْفِ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّ فِي الْوَقْفِ حَقًّا لِلْبَطْنِ الثَّانِي، فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْمِلْكِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمْ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ سَهْمُ الرَّابِعِ وَهُوَ الرُّبْعُ مَوْقُوفًا عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَلَوْ حَدَثَ خَامِسٌ وُقِفَ لَهُ خُمْسُ الْوَقْفِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَإِنْ بَلَغَ الْحَادِثَانِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَحْلِفَا أَوْ يَنْكُلَا أَوْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَنْكُلَ الْآخَرُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 95 فَإِنْ حَلَفَا اسْتَحَقَّ الرَّابِعُ الرُّبُعَ قَبْلِ حُدُوثِ الْخَامِسِ، وَالْخُمُسَ بَعْدَ حُدُوثِهِ، وَاسْتَحَقَّ الْخَامِسُ الْخُمُسَ لَا غَيْرَهُ، وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا رُدَّ مَا وُقِفَ مِنْ رُبُعِ الرَّابِعِ وَخُمُسِ الْخَامِسِ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ سَقَطَ حَقُّ النَّاكِلِ، وَصَارَ الْوَقْفُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، فَيَكْمُلُ لِلرَّابِعِ رُبُعُ الْوَقْفِ مِنْ حِينِ حُدُوثِهِ، وإلى وقت يمينه، ويرد ما زاد عليه عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فإن مَاتَ مِنَ الْمُنْتَقَصِ حُقُوقُهُمْ أَحَدٌ فِي نِصْفِ عُمُرِ الَّذِي وُقِفَ لَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَدَّ حِصَّةَ الْمُوقَفِ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي الْحَبْسِ وَأُعْطِيَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّ مِمَّا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ (قَالَ المزني) أصل قول الشافعي أن المحبس أزال ملك رقبته لله عز وجل وإنما يملك المحبس عليه منفعته لا رقبته كما أزال المعتق ملكه عن رقبة عبده وإنما يملك المعتق منفعة نفسه لا رقبته وهو لا يجيز اليمين مع الشاهد إلا فيما يملكه الحالف فكيف يخرج رقبة ملك رجل بيمين من لا يملك تلك الرقبة وهو لا يجيز يمين العبد مع شاهده بأن مولاه أعتقه لأنه لا يملك ما كان السيد يملكه من رقبته فكذلك يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَ يمين المحبس عليه في رقبته الحبس لأنه لا يملك ما كان المحبس يملكه من رقبته (قال المزني) وإذا لم تزل رقبة الحبس بيمينه بطل الحبس من أصله وهذا عندي قياس قوله على أصله الذي وصفت ولو جاز الحبس على ما وصف الشافعي ما جاز أن يقر أهله أن لهم شريكا وينكر الشريك الحبس فيأخذون حقه لامتناعه من أن يحلف معهم فأصل قوله أن حق من لم يحلف موقوف حتى يحلف له ووارثه إن مات يقوم مقامه ولا يأخذ من حق أقر به لصاحبه شيئا لأن أخذه ذلك حرام ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْوَقْفِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا وُقِفَ سَهْمُ مَنْ حَدَثَ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ الشَّاهِدِ، فَمَاتَ بَعْضُ أَهْلِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْضُ مَنْ حَلَفَ، كَأَنَّهُ وَقَفَ سَهْمٌ رَابِعٌ حَادِثٌ، فَمَاتَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ حَلَفُوا بَعْدَ أَنْ مَضَى للصبي الحادث الموقوف سهمه نصف عمر الصغر، وَهُوَ سَبْعُ سِنِينَ وَنِصْفٌ، لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّغَرِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُوقَفُ لِلْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُوقَفُ لَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 96 الرُّبُعَ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَكَانَ نَصِيبُهُ الرُّبُعَ، وَصَارَ بَعْدَ مَوْتِ الثَّالِثِ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَصَارَ نَصِيبُهُ الثُّلُثَ، فَإِنْ بَلَغَ الْحَادِثَ، وَحَلَفَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنَ الرُّبُعِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ عُمُرِ صِغَرِهِ، وَالثُّلُثَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ عُمُرِ صِغَرِهِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْوَقْفِ، وَرُدَّ الرُّبُعُ الْمَوْقُوفُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَعَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ، وَرُدَّ الثُّلُثُ الْمَوْقُوفُ فِي الْآخِرِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ خَاصَّةً دُونَ وَرَثَةِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ مَا وَقَفَ فِي حَيَاتِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْجَاعَ مَا وَقَفَ بَعْدَ مَوْتِهِ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الْحَادِثُ الْمَوْقُوفُ سَهْمُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَيَقُومُ وَرَثَتُهُ فِيهِ مَقَامَهُ لِانْتِقَالِ حَقِّهِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ، وَهَكَذَا لَوْ وُقِفَ سَهْمُ مَجْنُونٍ حَتَّى يَفِيقَ [فَمَاتَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ إِفَاقَتِهِ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ أَوْ يَنْكُلُونَ] فَيُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ وَارِثِ هَذَا الْمَيِّتِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِثَهُ عُمُومَتُهُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ حَلَفُوا، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ فِي مِيرَاثِ سَهْمِهِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، قَدَّمْنَاهُمَا في الوقف المرتب: أحدها: لَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا، لِأَنَّهُمْ قَدْ حَلَفُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا، لِأَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ يَمِينٌ فِي حَقِّ غيرهم، فإن نكلوا عن هذه اليمين لَمْ يَسْتَحِقُّوا سَهْمَ الْمَيِّتِ، وَإِنِ اسْتَحَقُّوا سِهَامَ أَنْفُسِهِمْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ مِمَّنْ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْوَقْفِ كَالزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي سَهْمِهِمُ الْمَوْقُوفِ إِلَّا بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَيِّتُ إِلَّا بِيَمِينِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَرَثَتُهُ إِلَّا بِأَيْمَانِهِمْ، فَإِنْ حَلَفُوا جَمِيعًا اسْتَحَقُّوا جَمِيعَ الْمَوْقُوفِ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ، وَنَكَلَ بَعْضُهُمُ اسْتَحَقَّ الْحَالِفُ مِنْهُمْ قَدْرَ نَصِيبِهِ، وَرُدَّ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ مِمَّنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوَقْفِ كَمَوْتِ الْمَجْنُونِ عَنْ حَمْلٍ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُوقَفُ مَا وَرِثَهُ عَنْ سَهْمِ أَبِيهِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَيُسْتَأْنَفُ لَهُ وَقْفُ سَهْمِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَيَصِيرُ الْمَوْقُوفُ لَهُ سَهْمَيْنِ: سَهْمُ أَبِيهِ وَسَهْمُ نفسه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 97 فَإِذَا بَلَغَ، فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِسَهْمِ نَفْسِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهَا سَهْمَ أَبِيهِ، وَسَهْمَ نَفْسِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ عُمُومَتَهُ لَوْ وَرِثُوهُ لَمْ يَحْلِفُوا، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ أَبِيهِ اسْتَحَقَّهُ؛ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ أَبِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْلِفُ يَمِينَيْنِ، وَيَسْتَحِقُّ بِإِحْدَاهُمَا سَهْمَ أَبِيهِ، وَيَسْتَحِقُّ بِالْآخَرِ سَهْمَ نَفْسِهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ عُمُومَتَهُ لَوْ وَرِثُوهُ حَلَفُوا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: الْأُولَى: أَنْ يَحْلِفَ الْيَمِينَيْنِ فَيَسْتَحِقَّ بِهِمَا السَّهْمَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْكُلَ عَنِ الْيَمِينَيْنِ، فَلَا يَسْتَحِقَّ السَّهْمَيْنِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ أَبِيهِ، وَلَا يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، فَيَسْتَحِقَّ سَهْمَ أَبِيهِ، وَلَا يَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ، وَيَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يَحْلِفَ عَلَى حَقِّ أَبِيهِ، فَيَسْتَحِقَّ سَهْمَ نَفْسِهِ، وَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَلَا يَسْتَحِقَّ سَهْمَ أَبِيهِ، وَيُرَدُّ عَلَى الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَكَلَامُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَقْفَ كَالْعِتْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، كَذَلِكَ الْوَقْفُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَعَلَّقَ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ غَيْرَ مَمْلُوكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَالْعِتْقِ، مُوافَقَةً لِلْمُزْنِيِّ فِيهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا، فَخَالَفَهُ الْمُزَنِيُّ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقَيْنِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ إِذَا حَلَفُوا، وَصَارَ بِأَيْمَانِهِمْ وَقْفًا، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِمْ لَمْ يَحْلِفْ، وَلَا يُرَدُّ سَهْمُ مَنْ نَكَلَ عَلَى الْحَالِفِينَ، لِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، فَعَلَّقَ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَنْ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بَعْدَ أَيْمَانِ مَنْ تَقَدَّمَهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 98 وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُرَدُّ سَهْمُ النَّاكِلِ عَلَى الْحَالِفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ أَصْحَابِنَا فِي مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنِ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْحَقِّ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْيَمِينِ امْتِنَاعٌ مِنَ الْقَبُولِ، وَتَرْكَهُ لِقَبُولِ الْوَقْفِ يَجْعَلُهُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 99 (باب الخلاف في اليمين مع الشاهد) قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَدْ أَقَمْتُمُ الْيَمِينَ مَقَامَ شَاهِدٍ قُلْتُ وَإِنْ أعطيت بها كما أعطيت بشاهد فليس معناها معنى شاهد وأنت تبرىء المدعى عليه بشاهدين وبيمينه إن لم يكن لَهُ بَيِّنَةٌ وَتُعْطِي الْمُدَّعِيَ حَقَّهُ بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كما تعطيه بشاهدين أفمعنى ذلك معنى شاهدين؟ قال فكيف يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا مَيِّتٌ أَوْ أَنَّ لِأَبِيهِ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ صَغِيرٌ وَهُوَ إِنْ حَلَفَ حَلَفَ عَلَى ما لم يعلم قلت فأنت تجيز أن يشهد أن فلانا ابن فلان وأبوه غائب لم يرياه قط ويحلف ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَشْرِقِيًّا اشْتَرَى عَبْدًا ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ مَغْرِبِيًّا وُلِدَ قَبْلَ جَدِّهِ فَبَاعَهُ فَآبِقَ أَنَّكَ تُحَلِّفُهُ لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيئًا من الإباق على البت قَالَ مَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا غير أن الزهري أنكرها قلت فقد قضى بها حين ولي أرأيت ما رويت عن علي من إنكاره على معقل حديث بروع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل لها المهر والميراث ورد حديثه ومع علي زيد وابن عمر فهل رددت شيئا بالإنكار فكيف يحتج بإنكار الزهري وقلت له وكيف حكمت بشهادة قابلة في الاستهلال وهو ما يراه الرجال أم كَيْفَ حَكَمْتَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِدِيَةِ الْمَوْجُودِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَزَعَمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُحَرِّمُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَزَعَمْتَ أَنَّ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بَرَاءَةٌ لِمَنْ حَلَفَ فخالفت في جملة قولك الكتاب والسنة أرأيت لو قال لك أهل المحلة أتدعي علينا فأحلف جميعنا وأبرئنا قال لا أحلفهم إذا جاوزوا خمسين رجلا ولا أبرئهم بأيمانهم وأغرمهم قلت فكيف جاز لك هذا قال روينا هذا عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقلت فإن قيل لك لا يجوز على عمر أن يخالف الكتاب والسنة وقال عمر نَفْسِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قال لا يجوز أن أتهم من أثق به ولكن أقول بالكتاب والسنة وقول عمر على الخاص: قلت فلم لم يجز لنا مِنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما أجزت لنفسك من عمر؟ قلت وقد رويتم أن عمر كتب فجلبهم إلى مكة وهو مسيرة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 100 اثنين وعشرين يوما فأحلفهم في الحجر وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فَقَالُوا مَا وَقَتْ أَمْوَالَنَا أَيْمَانَنَا وَلَا أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا فَقَالَ حَقَنْتُمْ بأيمانكم دماءكم فخالفتم في ذلك عمر فلا أنتم أخذتم بكل حكمه ولا تركتموه ونحن نروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالإسناد الصحيح أنه بدأ في القسامة بالمدعين فلما لم يحلفوا قال تبرئكم يهود بخمسين يمينا وإذ قال تبرئكم يهود فلا يكون عليهم غرم ويروى عن عمر أنه بدى المدعى عليهم ثم رد اليمين على المدعين وهذان جميعا يخالفان ما رويتم عنه وَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهُمْ غَيْرُ الذين شرط الله عز وجل أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ وَرَدَدْتُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في اليمين مع الشاهد قال فإنا أجزنا شهادة أهل الذمة بقول الله عز وجل {أو آخران من غيركم} قلت سمعت من أرضى يقول من غير قبيلتكم من المسلمين ويحتج بقول الله جل وعز {تحبسونهما من بعد الصلاة} قلت والمنزل فيه هذه الآية رجل من العرب فأجزت شهادة مشركي العرب بعضهم على بعض قال: لا، إلا شهادة أهل الكتاب قلت فإن قال قائل لا إلا شهادة مشركي العرب فما الفرق فقلت له أفتجيز اليوم شهادة أهل الكتاب على وصية مسلم كما زعمت أنها في القرآن؟ قال لا لأنها منسوخة قلت بماذا؟ قال بقول الله عز وجل {وأشهدوا ذوي عدل منكم} قلت فقد زعمت بلسانك أنك خالفت القرآن إذ لم يجز الله إلا مسلما فأجزت كافرا وقال لي قائل إذا نص الله حُكْمًا فِي كِتَابِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ عَنْهُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ مَا لَيْسَ في القرآن قلت فقد نص الله عز وجل الوضوء في كتابه فأحدث فِيهِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنَصَّ مَا حَرَّمَ من النساء وَأَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ فَقُلْتَ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَنَصَّ الْمَوَارِيثَ فقلت لَا يَرِثُ قَاتِلٌ وَلَا مَمْلُوكٌ وَلَا كَافِرٌ وإن كانوا ولدا أو والدا ونص حجب الأم بالإخوة فحجبتها بِأَخَوَيْنِ وَنَصَّ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ نِصْفَ المهر ورفع العدة فقلت إِنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَهَذِهِ أَحْكَامٌ مَنْصُوصَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَهَذَا عِنْدَكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالْيَمِينُ مَعَ الشاهد لا يخالف ظاهر القرآن شيئا والقرآن عربي فيكون عاما يُرَادُ بِهِ الْخَاصَّ وَكُلُّ كَلَامٍ احْتَمَلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَانِيَ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ مُوافِقَةً لَهُ لَا مخالفة للقرآن (قال الشافعي) رحمه الله وما تركنا من الحجة عليهم أكثر مما كتبناه وبالله التوفيق ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُرِيدُ الشَّافِعِيُّ بِمَنْ حَكَى عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ، إِمَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 101 الْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا، بِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، لَقَامَ مَقَامَهُمَا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا، وَإِنْ كُنَّا قَدْ قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ إِثْبَاتِهِ، وَنَفْيِهِ وَمَا أَوْضَحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ حِجَاجَهُ، وَأَبْطَلَ بِهِ قَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ، فَيَحْسُنُ تَوْضِيحُهُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا أَغْنَى عَنْهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَنْ عَارَضَهُ بِهَذَا الرَّدِّ: " أَنَا وَإِنْ أَعْطَيْتُ بِهَا "، يَعْنِي: بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَا أُعْطِي بِشَاهِدَيْنِ " فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مَعْنَى شَاهِدٍ " يَعْنِي فَلَيْسَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَعْنَى شَاهِدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى شَاهِدٍ ثُمَّ بَيَّنَ له الشافعي فساد اعتراضه، فقال: " وأنت تبرىء الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ، وَبِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَتُعْطِي الْمُدَّعِيَ حَقَّهُ بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كَمَا تُعْطِي بِالشَّاهِدَيْنِ، أَفَمَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى شَاهِدَيْنِ؟ " يَعْنِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ كَمَا يبرأ بشاهدين، وإن لم تكن اليمين فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالشَّاهِدَيْنِ، وَأَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِ صَاحِبِهِ كَمَا يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النُّكُولُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالشَّاهِدَيْنِ صَحَّ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ. (فَصْلٌ) : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا ثَانِيًا، فَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ: " وَكَيْفَ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا مَيِّتٌ أَوْ أَنَّ لِأَبِيهِ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، وَهُوَ صَغِيرٌ؟ وَهُوَ إِنْ حَلَفَ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ "؟ يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنْ اليمين تَكُونَ فِيمَا يَقْطَعُ الْحَالِفُ بِصِحَّتِهِ، وَأَنْتُمْ تُحَلِّفُونَهُ مَعَ شَاهِدِهِ فِيمَا لَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ مِنْ وَصِيَّةِ مَيِّتٍ لَهُ وَفِي دَيْنِ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ عَنْهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا بِاسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ؟ . فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِرَدِّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ قَالَ لِلْمُعْتَرِضِ: " وَأَنْتَ تُجِيزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانَ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَبُوهُ غَائِبٌ لَمْ يَرَ أَبَاهُ قَطُّ "، يَعْنِي فِي الشَّاهِدِ يَشْهَدُ لَهُ بِالنَّسَبِ أَوْ فِي الْوَلَدِ يَحْلِفُ عَلَى نَسَبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ أَبَاهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمَا إِلَى الْقَطْعِ بِصِحَّةِ النَّسَبِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ لِلْحَالِفِ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ إِمَّا مِنْ أَخْبَارٍ تَوَاتَرَ الْقَطْعُ بِهَا، وَإِمَّا أَخْبَارُ آحَادٍ يَقَعُ فِي النَّفْسِ صِدْقُهَا. وَالثَّانِي: إِنْ قَالَ لِلْمُعْتَرِضِ: " وَأَنْتَ تُحَلِّفُ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَشْرِقِيًّا اشْتَرَى عَبْدًا ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ مَغْرِبِيًّا وُلِدَ قَبْلَ جَدِّهِ، فَبَاعَهُ، فَآبِقَ، أَنَّكَ تُحَلِّفُهُ، لَقَدْ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنَ الْإِبَاقِ عَلَى الْبَتِّ، فَأَجَابَهُ الْمُخَالِفُ بِأَنْ قَالَ: " مَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا "، وَهَذَا اعْتِذَارُ مَنْ يَضِيقُ عَلَيْهِ الِانْفِصَالُ، وَلَيْسَ بِجَوَابٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 102 وَطُرُقُ الْعِلْمِ فِي هَذَا مُمْتَنِعَةٌ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْيَمِينِ فِيهِ عَلَى الْبَتِّ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْهَا مَعَ الشَّاهِدِ فِيمَا تَكْثُرُ طُرُقُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. فَأَمَّا مَذْهَبُنَا فِي يَمِينِ هَذَا الصَّبِيِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ يَمِينَهُ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ دُونَ الْإِنْكَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْلِفَهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَطْعِ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ آبِقٌ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الشَّافِعِيِّ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ، وَإِنْكَارِ إِحْلَافِهِ عَلَى الْبَتِّ. (فَصْلٌ) : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ اعْتِرَاضًا ثَالِثًا، قَدَحَ بِهِ فِي خَبَرِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَهَا، فَجَعَلَ إِنْكَارَ الزُّهْرِيِّ قَدْحًا فِي الْخَبَرِ، وَمَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُ جَوَابَيِ الشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قَضَاءً بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ حِينَ وَلَّى، وَلَا يَثْبُتُ إِنْكَارُهَا مَعَ الْعَمَلِ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍّ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ نَكَحَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ. وَوَافَقَ عَلِيًّا فِي إِنْكَارِهِ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَعَمِلَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَرُدُّهُ بِإِنْكَارِ عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ. وَرَدَّ عَلَيْنَا حَدِيثَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ بِإِنْكَارِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَحَدُ جَوَابَيْ أَصْحَابِهِ أَنَّ إِنْكَارَ الزُّهْرِيِّ لِلْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إِنَّمَا كَانَ فِي الدِّمَاءِ دُونَ الْأَمْوَالِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَضَى بِهِ فِي الشِّجَاجِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ تَقَابَلَ فِي الزُّهْرِيِّ إِنْكَارُهُ وَعَمَلُهُ، فَسَقَطَا بِالْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ. (فَصْلٌ) : ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ عَارَضَهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ الرَّابِعِ، بِمَا تَنَاقَضَتْ فِيهِ مَذَاهِبُهُمْ، وَخَالَفُوا بِهِ أُصُولَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الِاسْتِهْلَالِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مِمَّا يَرَاهُ الرِّجَالُ، وَهَذَا إِنَّمَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اسْتَوْفَى الشَّهَادَاتِ فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ، فَصَارَ زَائِدًا عَلَى النَّصِّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 103 الْمُفْضِي إِلَى النَّسْخِ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا لَهَا فِي النَّصِّ ذِكْرٌ، وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ أَقْوَى مِنْهَا، فَكَيْفَ رَدَدْتُمُ الْأَقْوَى، وَأَجَزْتُمُ الْأَضْعَفَ؟ ، وَجَعَلْتُمُ الْأَقْوَى زَائِدًا عَلَى النَّصِّ الْمُفْضِي إِلَى النَّسْخِ، وَلَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْأَضْعَفِ؟ هَلْ هُوَ إِلَّا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ وَإِبْطَالٌ لِمَعْنَى النَّصِّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ تُذَكِّرْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَالثَّانِي: إِنْ قَالَ لِمُعْتَقِدِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: كَيْفَ حَكَمْتَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةٍ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِدِيَةِ الْمَوْجُودِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؟ وَزَعَمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُحَرِّمُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَزَعَمْتَ أَنَّ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بَرَاءَةٌ لِمَنْ حَلَفَ، فَخَالَفْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؟ وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَجَازُوا فِي الْقَسَامَةِ مَا تُمْنَعُ مِنْهُ الأصول بغير أصل، وردوا اليمين مَعَ الشَّاهِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ، وَلَهُ فِيهِ أَصْلٌ. وَالثَّانِي: إِنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُبَرِّئَةٌ، وَهُمْ جَعَلُوهَا، مُلْزِمَةً، فَعَلَّقُوا عَلَيْهَا ضِدَّ مُوجِبِهَا، وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ضِدُّ مُوجِبِهِ، فَأَجَابُوهُ عَنِ اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ قَالُوا: رَوَيْنَا هَذَا عَنْ عُمَرَ، فَاتَّبَعْنَاهُ، وَكَانَ أَصْلًا فِيهِ، فَرَدَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ: إِنَّ عُمَرَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُخَالَفَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ "، وَقَدْ جَعَلُوهُ بِهَذَا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَوْلِ نَفْسِهِ. وَرَدَدْتُمُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ، وَفِيهِ سُنَّةٌ لَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَلَا السُّنَّةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ قَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، وَخَالَفْتُمُوهُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ جَلَبَهُمْ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مَسِيرَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ نَقْلَ الْخَصْمِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ أَحْلَفَهُمْ فِي الْحِجْرِ، تَغْلِيظًا بِالْمَكَانِ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الْأَيْمَانِ بِالْمَكَانِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَهْلِ الْحِجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا أَحْلَفَهُمْ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ الْخِيَارَ لِوَلِيِّ الدَّمِ دُونَ الْوَالِي. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 104 وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ، لَمَّا حَلَفُوا، فَقَالُوا: مَا وَفَّتْ أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا، وَلَا أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا، فَقَالَ: حَقَنْتُمْ بِأَيْمَانِكُمْ دِمَاءَكُمْ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا أُقِيدُوا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْقَوَدَ، فَلَا بِكُلِّ قَوْلِ عُمَرَ أَخَذُوا، وَلَا لِجَمِيعِهِ رَدُّوا، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِيمَا أَخَذُوهُ كَانَ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا أَخَذُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالَ لَهُمْ: عَمِلْتُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْقَسَامَةِ بِمَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَلَمْ تَعْمَلُوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ حُجَّةٌ تَدْفَعُ قَوْلَ عُمَرَ، وَلَيْسَ قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً تَدْفَعُ قَوْلَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا خَالَفَ الْأُصُولَ مُمْتَنِعٌ، وَمَا لَمْ يُخَالِفْهَا فَتَبَعٌ، فَعَمِلُوا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَرَدُّوا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ. (فَصْلٌ) : وَعَارَضَهُمُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ الْخَامِسِ، فَقَالَ: وَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُمْ غَيْرُ الَّذِينَ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ، وَرَدَدْتُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وليس الكفار بمرضيين، ولا يجعلوه مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، وَيَجْعَلُونَ الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلنَّصِّ، مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، فَأَجَابُوهُ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَجَزْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ، فَأَبْطَلَ جَوَابَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أوجه: الأول: إِنْ قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى بِقَوْلِهِ: " مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَلَئِنْ تَرَدَّدَ التَّأْوِيلُ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَيْنِكُمْ، وَمِنْ غير أهل قبلتكم فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ، لِمُوافَقَةِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الدَّيْنِ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مَعَ قَوْلِهِ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] . وَالثَّانِي: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ، وَكُفَّارُهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يَقْبَلُ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَتَهُمْ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكِتَابِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ، وَلَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُجِيزُهَا لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِ مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا، لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ عِنْدَهُ، وَرَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ عُمُومًا، وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ، وَعَلَى مُسْلِمٍ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: " بِمَاذَا نُسِخَتْ "؟ ، فَقَالَ: بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: زَعَمْتَ بلسانك الجزء: 17 ¦ الصفحة: 105 أَنَّكَ خَالَفْتَ الْكِتَابَ إِذْ لَمْ يُجِزِ اللَّهُ إِلَّا مُسْلِمًا، وَأَجَزْتَ كَافِرًا. (فَصْلٌ) : وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ السَّادِسِ أَنَّهُ إِذَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا فِي كِتَابِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ عَنْهُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. مُرَادُهُمْ بِهَذَا: أَنْ يَمْنَعُوا مِنَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ الشَّهَادَاتِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، وَلَيْسَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، وَهَذَا مِمَّا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ حُكْمًا وَوُجُودًا، فَحَكَى مِنْ وُجُودِهِ مَا وَافَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ، فَقَالَ: " قَدْ نَصَّ اللَّهُ الْوُضُوءَ فِي كِتَابِهِ، فَأَجَزْتَ فِيهِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَنَصَّ مَا حَرَّمَ مِنَ النِّسَاءِ فِي كِتَابِهِ، وَأَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ، فَقُلْتَ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَنَصَّ الْمَوَارِيثَ، فَقَالَ: " لَا يَرِثُ قَاتِلٌ وَلَا مَمْلُوكٌ، وَلَا كَافِرٌ، وَإِنْ كَانُوا وَلَدًا أَوْ وَالِدًا "، وَحَجَبَ الْأُمَّ بِالْإِخْوَةِ كَحَجَبْتَهَا بِأَخَوَيْنِ، وَنَصَّ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَرَفْعَ الْعِدَّةِ، وَقُلْتُ: إِنْ خَلَا بِهَا، وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَهَذِهِ أَحْكَامٌ مَنْصُوصَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا عِنْدَكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ لَا يُخَالِفُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ شَيْئًا. فَبَيَّنَ الشَّافِعِيُّ وُجُودَهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ، ثُمَّ أَوْضَحَ طَرِيقَ جَوَازِهِ، فَقَالَ: " وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، فَيَكُونُ عَامُّ الظَّاهِرِ يُرَادُ بِهِ الْخَاصَّ، وَكُلُّ كَلَامٍ احْتَمَلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَانِيَ، فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ، مُوافِقَةً لَهُ لَا مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ ". يُرِيدُ بِذَلِكَ إِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَامٍّ وَمُجْمَلٍ، فَفِي سُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَخْصِيصُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَتَفْسِيرُ مَا أُرِيدَ بِالْمُجْمَلِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ بِسُنَّتِهِ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَا يَكُونُ مُوافِقًا لِلْقُرْآنِ، وَغَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ، فَهَذِهِ سِتَّةُ أُصُولٍ أَوْرَدَهَا الشَّافِعِيُّ بَيْنَ ثَلَاثَةِ فُصُولٍ مِنْهَا، فَسَادُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ، وَبَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا تُنَاقِضُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ عَلَى أَوْضَحِ شَرْحٍ وبيان، وبالله التوفيق. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 106 (باب موضع اليمين) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنِ ادَّعَى مَالًا فَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ مَالٌ أَوْ جِنَايَةُ خَطَأٍ بِأَنْ بَلَغَ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوِ ادَّعَى عَبْدٌ عِتْقًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوِ ادَّعَى جِرَاحَةَ عَمْدٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ أَوْ فِي طَلَاقٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ رَدِّ يَمِينٍ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمَكَّةَ كَانَتِ الْيَمِينُ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنْ كَانَتْ بِبَلَدٍ غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أُحْلِفَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي مَسْجِدِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمَا تُؤَكَّدُ بِهِ الْأَيْمَانُ وَيُتْلَى عَلَيْهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قليلا} الْآيَةَ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ حُكَّامِ الْمَكِّيِّينَ وَمُفْتِيهِمْ ومن حجتهم فيه أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى قَوْمًا يحلفون بين المقام والبيت فَقَالَ أَعْلَى دَمٍ؟ قَالُوا لَا قَالَ أَفَعَلَى أمر عظيم؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ قال فذهبوا إلى أن العظيم من الأموال ما وصفت من عشرين دينارا فصاعدا قال ابن أبي مليكة كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَارِيَتَيْنِ ضَرَبَتْ إحداهما الأخرى أَنْ أَحْبِسَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ أَقْرَأَ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قليلا} ففعلت فاعترفت قال واستدللت بقول الله جل ثناؤه {تحبسونهما من بعد الصلاة} قال المفسرون صلاة العصر على تأكيد اليمين على الحالف في الوقت الذي تعظم فيه اليمين وبكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه يحلف عند المنبر مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما بلغني أن عمر حلف عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في خصومة بينه وبين رجل وأن عثمان ردت عليه اليمين على المنبر فاتقاها وقال أخاف أن توافق قدر بلاء فيقال بيمينه قال وبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه وأهل العلم ببلدنا دار السنة والهجرة وحرم الله عز وجل وحرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتدينا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَيْمَانُ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، حَتَّى لَا يَتَعَدَّى طَالِبٌ، وَلَا مَطْلُوبٌ، فَجَازَ تَغْلِيظُهَا بِمَا سَاغَ فِي الشَّرْعِ مِنَ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَالْعَدَدِ، وَاللَّفْظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 107 وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَغْلِيظَهَا بِالْعَدَدِ، وَاللَّفْظِ، وَمَنَعَ مِنْ تَغْلِيظِهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَاسْتَبْدَعَهُ مِنَ الْحُكَّامِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فأطلق اليمين، كما أطلق البينة، فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَمَا حُمِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ وَلِأَنَّ اليمين حُجَّةَ الْمَطْلُوبِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الطَّالِبِ. فَلَوْ جَازَ التَّغْلِيظُ فِي حُجَّةِ أَحَدِهِمَا لَجَازَ فِي حُجَّتِهِمَا، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَفِي سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الطَّالِبِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهَا مِنْ حُجَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ لَجَازَ تَغْلِيظُهُمَا فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ فِي الْكَثِيرِ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْقَلِيلِ، كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّغْلِيظُ فِي الْقَلِيلِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْكَثِيرِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي (وَرُوِيَ: عَلَى مِنْبَرِي) بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ولو قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِالْمِنْبَرِ مَشْرُوعٌ، وَالْحَالِفُ عِنْدَهُ مَزْجُورٌ، وَلِأَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ بِهِ شَائِعٌ، وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهِ مُنْعَقِدٌ. رَوَى الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِنْ أَبْعَثَ إِلَيْهِ بِقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ فِي وِثَاقٍ، فَبَعَثْتُ بِهِ، فَأَحْلَفَهُ فِي قَتْلٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي أَرْضٍ، فَحَلَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَهَبَ لَهُ الْأَرْضَ بَعْدَ يَمِينِهِ. وَأَحْلَفَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ فِي الْحِجْرِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاتَّقَاهَا، وَدَفَعَ الْمَالَ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ، فَيُقَالَ: بِيَمِينِهِ ". وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُطِيعٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ اخْتَصَمَا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى زَيْدٍ، فَأَمَرَهُ مَرْوَانُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَمْتَنِعُ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، فَامْتَنَعَ، وَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ من ذلك ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 108 قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ حَبْسَ الْيَمِينِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ في جارية ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَحْبِسَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَقْرَأَ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] فَفَعَلْتُ، فَاعْتَرَفَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى قَوْمًا يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، فَقَالَ: أَعْلَى دَمٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَهْزَأَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِيهِ عَلَى الدَّمِ، وَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ، فَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ فَإِنْ قِيلَ: امْتِنَاعُ زَيْدٍ مِنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَارْتِفَاعِ الْإِجْمَاعِ قِيلَ: لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا لِلتَّوَقِّي دُونَ الْخِلَافِ، وَلَوْ لَمْ يَرَهُ جَائِزًا، لَأَنْكَرَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ أَفْعَالِهِ، فَيُطِيعُهُ مَرْوَانُ، حَتَّى قَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِمَشْهَدِ الْمَلَأِ: إِنَّكَ أَحْلَلْتَ الرِّبَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَعَاذَ اللَّهِ! ، فَقَالَ زَيْدٌ: إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ الْأَمْلَاكَ بِالصُّكُوكِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوا، فَوَجَّهَ مَرْوَانُ مُسْرِعًا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِزَيْدٍ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} : إِنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَيْمَانِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدَيِّ بْنِ زَيْدٍ. أَوْ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، والزمان والمكان أزجر، فكان بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَيْمَانِ أَجْدَرَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَغْلِيظُهَا بِالْعَدَدِ وَاللَّفْظِ، جَازَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ وُجُوبُ الْيَمِينِ دُونَ صِفَتِهَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَشْهَدُ بِحَقٍّ لَهَا، فَارْتَفَعَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا، فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الزَّجْرِ، وَالْحَالِفُ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ زَجْرَ الْبَيِّنَةِ يُفْضِي إِلَى تَوَقُّفِهَا عَنْ مَا لَزِمَهَا مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يُخَالِفُ بِهَا حُكْمَ الْحَالِفِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْقَلِيلَ يُكْتَفَى فِي الزَّجْرِ عَنْهُ بِالْيَمِينِ، وَالْكَثِيرُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْيَمِينِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَزْجُرُ عَنِ الكثير. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 109 وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّغْلِيظِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّغْلِيظِ فِي الْأَيْمَانِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ، وَلَيْسَ بِمُسْتَبْدَعٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُسْتَبْدَعٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ وَقَعَ الْخِلَافُ. وَالْكَلَامُ فِي التَّغْلِيظِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جِنْسُ مَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْأَيْمَانُ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: صِفَةُ التَّغْلِيظِ بِمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْأَيْمَانُ مِنَ الْحُقُوقِ، فَفِيهِ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ حُكَّامِ الْحِجَازِ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: أَنَّهَا تُغَلَّظُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْيَمِينِ، كَالْبَيِّنَةِ الَّتِي يَسْتَوِي حُكْمُهَا فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنَّهَا تُغَلَّظُ فِيمَا يُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، وَلَا تُغَلَّظُ فِيمَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " لَمْ تَكُنِ الْيَدُ لِتُقْطَعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ ". تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تُقْطَعُ فِيهِ لَيْسَ بِتَافِهٍ، فَكَانَ كَثِيرًا. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، فَالْأَيْمَانُ فِيهِ مُغَلَّظَةٌ، فِيمَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ، وَمَا ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَتُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ فِي كَثِيرِهِ دُونَ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حِينَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَحْلِفُونَ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، فَقَالَ: أَعْلَى دَمٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَقَامِ. فَعَقَلَ السَّامِعُونَ لِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَظِيمِ مِنَ الْمَالِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَصَارَ هَذَا الْمِقْدَارُ أَصْلًا فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا قَدْرًا فِي التَّغْلِيظِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ قَدْرًا فِي الْإِقْرَارِ إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا قَلَّ وَكَثُرَ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ مُتَرَدِّدُ الِاحْتِمَالِ بَيْنَ إِرَادَةِ الْقَدْرِ، وَإِرَادَةِ الصِّفَةِ، وَفِي التَّغْلِيظِ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا إِرَادَةَ الْقَدْرِ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ قَدْرًا فِي التَّغْلِيظِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَقْدِيرِهِ بِالْعِشْرِينِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهَا نِصَابٌ فِي الزَّكَاةِ، لِيَكُونَ الْمِقْدَارُ مُعْتَبَرًا بِأَصْلٍ مَشْرُوعٍ، فَعَلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 110 هَذَا إِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي الدَّرَاهِمِ غُلِّظَتْ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْغَنَمِ غُلِّظَتْ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً فَصَاعِدًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْبَقَرِ غُلِّظَتْ فِي ثَلَاثِينَ بَقَرَةً فَصَاعِدًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْإِبِلِ غُلِّظَتْ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَصَاعِدًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ غُلِّظَتْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا. سَوَاءٌ بَلَغَ قِيمَةُ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ النُّصُبِ الْمُزَكَّاةِ لَمْ يُغَلَّظْ، سَوَاءٌ بَلَغَ قِيمَةُ ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ لَمْ تَبْلُغْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ قُدِّرَ بِالْعِشْرِينِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ عَنْ تَوْقِيفٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ لَا يُعْتَبَرُ بِغَيْرِهِ، فعلى هذا لا تغلظ اليمين فِي الدَّرَاهِمِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، فَتُغَلَّظَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ، لَمْ تُغَلَّظْ، وَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا. فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِي جِنْسِهَا، فَيَصِيرُ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِيهَا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ غَالَبِ دَنَانِيرِ الْبَلَدِ الْخَالِصَةِ مِنَ الْغِشِّ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي جِنَايَةٍ، لَا يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ مِنَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَمَا لَا قَوَدَ فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ غُلِّظَتْ إِذَا بَلَغَ أَرْشُهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، وَلَمْ تُغَلَّظْ إِنْ نَقَصَ أَرْشُهَا عَنِ الْعِشْرِينَ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ غُلِّظَتْ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَإِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي الْعِتْقِ، فَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى السَّيِّدِ لِإِنْكَارِهِ لَمْ تُغَلَّظِ الْيَمِينُ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ غُلِّظَتْ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنِ الْعِشْرِينَ، لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ عَلَى مَالٍ، وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى عِتْقٍ، وَهَكَذَا الْمُكَاتَبُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ إِنْ تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ فِيهِ، عَلَى السَّيِّدِ لَمْ تُغَلَّظْ إِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ غُلِّظَتْ وَإِنْ قَلَّتْ قِيمَتُهُ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ السَّيِّدِ لِلْمَالِ، وَفِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِلْعِتْقِ. وَإِنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِي وَقْفٍ عُطِّلَتْ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنِ الْعِشْرِينَ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَلَمْ تُغَلَّظْ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ وَجَبَتْ اليمين فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُوصِي بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا تَغَلَّظَتْ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ تَغَلَّظَتْ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي عَبْدٍ قَدْ وَصَّى بِعِتْقِهِ أَوْ فِي وَالِدٍ قَدْ وَصَّى لَهُ بِوَلَدِهِ، فَتَكُونَ عَلَى التَّغْلِيظِ، فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ بِمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 111 أَمَّا الْمَكَانُ، فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الْبِقَاعِ مِنَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَبَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، وَتُصَانُ الْكَعْبَةُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحِجْرُ، فَقَدْ أَحْلَفَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ فِيهِ، وَلَوْ صِينَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَيْتِ. وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَفِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَى مِنْبَرِهِ، كَمَا أَحْلَفَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، لَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُلُوَّ الْمِنْبَرِ تَشْرِيفٌ يُصَانُ عَنْ مَأْثَمِ الْأَيْمَانِ، لَكِنْ يَرْقَى عَلَيْهِ الحاكم المستخلف، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يَرْقَى عَلَيْهِ الطَّالِبُ إِلَّا أَنْ يَرْقَى عَلَيْهِ الْحَالِفُ، لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. وَإِنْ كَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَفِي مَسْجِدِهَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ، وَيُسْتَحْلَفُ قَائِمًا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، لِأَنَّ الْمَنَابِرَ مَقَامَاتُ الْوُقُوفُ فِي الْوُلَاةِ، فَكَانَ فِي الِاسْتِحْلَافِ أَوْلَى، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ الْمُسْتَحْلِفُ جَالِسًا عِنْدَ قِيَامِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَزْجُورُ دُونَ الْمُسْتَحْلَفِ. فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا تَغَلَّظَتْ عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانُ، فَفِي كَنَائِسِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ عِنْدَنَا، فَهِيَ أَشْرَفُهَا عِنْدَهُمْ، وَهُمُ الْمَزْجُورُونَ بِهَا، فَاعْتَبَرْنَا مَا هُوَ أَشْرَفُ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا فِي مُعْتَقَدِنَا. وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، فَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ [لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ} [المائدة: 106] أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ] وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَتُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ. فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَبَعْدَ صَلَاتِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَعْظَمَ صَلَوَاتِهِمْ. وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْعَدَدِ فَفِي الْحُقُوقِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْعَدَدُ، وَهِيَ الدِّمَاءُ: تُغَلَّظُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، وَفِي اللِّعَانِ بِخَمْسَةِ أَيْمَانٍ. وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ: فَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعُرْفِ الْمَأْلُوفِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ، مَا يَكُونُ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي صِفَةِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْوَعْظِ، فَيَكُونُ قَبْلَ الْيَمِينِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 112 وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف يمينا فاجرة، ليقتطع مال امرىء مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". فَأَمَّا الْإِحْلَافُ بِالْمُصْحَفِ تَغْلِيظًا، فَقَدْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَفْعَلُهُ، وَقَدْ حَكَّاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ بَعْضِ قُضَاتِهِمُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَجَازَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ "، وهل يجزىء الْحَلِفُ بِهِ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: يجزىء، وَيَسْقُطُ بِهِ وُجُوبَ الْيَمِينِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحِنْثِ بِهِمَا، وَوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يجزىء، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ وُجُوبُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ مِنَ الفقهاء من لا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ حِنْثًا، وَلَا يُوجِبُ بِهِ تَكْفِيرًا. (فَصْلٌ) : فَإِنْ تَرَكَ التَّغْلِيظَ بِمَا وَصَفْنَا انْقَسَمَ تركه ثلاثة أقسام: أحدها: لا تجزىء الْيَمِينُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ الْعَدَدُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعَدَدُ مِنَ الْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تجزىء الْيَمِينُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الْمُضَافَةُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ، تعالى وَمَا سِوَى الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَفِي إِجْزَائِهَا لِلشَّافِعِيِّ قولان: أحدهما: تجزىء، كذلك التغليظ باللفظ. والثاني: لا تجزىء كَتَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْعَدَدِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي بَيْنَ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَجَعَلَ الْيَمِينَ بِتَرْكِ الزَّمَانِ مُجْزِئَةً وَبِتَرْكِ الْمَكَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَيَسْتَوِي فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، أَوْ يُسْتَحْلَفَ بِهَا الْمُدَّعِي إِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ، أَوْ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا، لِيَحْلِفَ مَعَهُ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْحَالِفِ يَمِينٌ مُتَقَدِّمَةٌ أَنْ لَا يَحْلِفَ فِي مَكَانِ التَّغْلِيظِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ وَأَنْ لَا يَحْلِفَ فِي زمان الجزء: 17 ¦ الصفحة: 113 التَّغْلِيظِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ: وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ أَمْ لَا؟ أَحَدُهُمَا: يُعْفَى مِنَ التغليظ بالمكان والزمان، لأن لا يُحْمَلَ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْيَمِينَ بِتَرْكِ التَّغْلِيظِ مُجْزِئَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُعْفَى، وَيُؤْخَذُ بِالتَّغْلِيظِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى حِنْثِهِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْيَمِينَ بِتَرْكِ التَّغْلِيظِ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمُسْلِمُونَ الْبَالِغُونَ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَحْرَارُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ وَمَمَالِيكُهُمْ يحلفون كَمَا وَصَفْنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا حُرًّا تَغَلَّظَتْ عَلَى مَا وَصَفْنَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَمَا عَدَاهُمَا، فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ إِلَّا بِأُجْرَةِ مَرْكُوبٍ، كَانَ أُجْرَةُ مَرْكُوبِهِ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ مُسْتَحَقَّةً عَلَى الْمُسْتَحْلَفِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ عَلَى الْحَالِفِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلْمُسْتَحْلِفِ وَكَانَتْ أُجْرَةُ عَوْدِهِ عَلَى الْحَالِفِ، لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ امْرَأَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً، أَوْ خَفِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً غُلِّظَتْ يَمِينُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالرَّجُلِ، لَكِنْ تُخَالِفُهُ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، لَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَحْلِفُ جَالِسَةً، لَا قَائِمَةً، سَتْرًا لَهَا، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ خَفِرَةً لَا تَبْرُزُ، اسْتَخْلَفَ الْحَاكِمُ مَنْ يُحْلِفُهَا فِي مَنْزِلِهَا، وَسَقَطَ تَغْلِيظُ يَمِينِهَا بِالْمَكَانِ، لِحِفْظِ صِيَانَتِهَا بِإِقْرَارِهَا فِي مَنْزِلِهَا، وَغُلِّظَتْ يَمِينُهَا بِالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَبْدًا غُلِّظَتْ يَمِينُهُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالْحُرِّ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى حِفْظِ مَالٍ لِسَيِّدِهِ يَخَافُ إِنْ فَارَقَهُ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ أَنْ يُتَخَطَّفَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا تَوَلَّى حِفْظَ مَالِهِ، وَحُمِلَ الْعَبْدُ إِلَى مَكَانِ التَّغْلِيظِ، وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ غَائِبًا أُقِرَّ الْعَبْدُ عَلَى حِفْظِهِ، وَقِيلَ لِلْمُسْتَحْلِفِ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تُنْظِرَهُ بِالْيَمِينِ إِلَى وَقْتِ إِمْكَانِهِ مِنْ حُضُورِ الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ تُعَجِّلَ إِحْلَافَهُ فِي مَكَانِهِ. (فَصْلٌ) : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَلَ مُسْتَحْلَفٌ مِنْ بَلَدِهِ، لِتَغْلِيظِ يَمِينِهِ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ فِي وِثَاقٍ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى أَحْلَفَهُ بِهَا، وَنَقَلَ عُمَرُ أَهْلَ الْقَسَامَةِ مِنْ مَسَافَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إِلَى مَكَّةَ حتى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 114 أَحْلَفَهُمْ فِي الْحِجْرِ، قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ فِي حَقِّ السِّيَاسَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالرَّأْيِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَنْقُلَا فِي حَقِّ الْمُسْتَحْلِفِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْحَالِفِ حَاكِمٌ يُغَلِّظُ الْيَمِينَ إِذَا اسْتَحْلَفَ جَازَ نَقْلُهُ لِلْيَمِينِ، وَتَغْلِيظُهَا إِلَى بَلَدٍ يَقْصُرُ عَنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ نقله إلى ما زاد، لأن لا يَبْلُغَ سَفَرَ الْقَصْرِ، وَاسْتَنَابَ حَاكِمُ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ، وَيُغَلِّظُ يَمِينَهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ إذا كان من بلاد عمله. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَحْلِفُ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يُعَظِّمُ مِنَ الْكُتُبِ وَحَيْثُ يُعَظِّمِ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ وَمَا يُعَظِّمُ الْحَالِفُ مِنْهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا وَلَا يَحْلِفُونَ بِمَا يَجْهَلُ مَعْرِفَتَهُ الْمُسْلِمُونَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَحْلِفُ الْكَفَّارُ فِي الْحُقُوقِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُونَ إِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ بِذِمَّةٍ أَوْ بِجِزْيَةٍ: وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُقِرٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَجَاحِدٌ لَهُ. فَأَمَّا الْمُقِرُّ بِهِ فَضَرْبَانِ: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَدْ أَجْرَى الْمُسْلِمُونَ الْمَجُوسَ مَجْرَاهُمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ". وَيُسْتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ احْتِمَالَ التَّأْوِيلِ، وَتُغَلَّظُ الْأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَمَا تُغَلَّظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ يَهُودِيًّا أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا، فَيَقُولَ: الَّذِي نَجَّى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنَ الْيَمِّ، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَعَلَ. وَهَذَا فِي كل يمين وجب تغليظهما أَوْ لَمْ يَجِبْ، لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ عَنِ اسْمِ من يخلف بِهِ، وَلِيَخْرُجَ عَنِ الْمَأْلُوفِ مِنْ لَغْوِ أَيْمَانِهِمْ كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُ بِاللَّهِ الطَّالِبُ الْغَالِبُ، فِيمَا يَجِبُ تَغْلِيظُهُ، وَفِيمَا لَا يَجِبُ. فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الْيَهُودِ يَجِبُ تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَمَكَانُ تَغْلِيظِهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا أَشْرَفَ بِقَاعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَرَهَا الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا تَغْلِيظُهَا بِالزَّمَانِ، فَفِي وَقْتِ أَشْر َفِ صَلَ وَاتِهِمْ عِنْدَهُمْ، وَلَا يُحْلِفُهُمْ بِمَا لَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 115 يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: أَهَيَا اشَرَاهَيَا وَلَا بِالْعَشْرِ كَلِمَاتٍ الَّتِي يَدْعُونَهَا، وَلَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَلَا بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ إِذَا تَكَلَّمُوا بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهُ أَحْلَفَهُمْ بِهِ إِذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُهُ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ نَصْرَانِيًّا أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا، فَيَقُولَ: الذي أبرأ له الأكمة والأبرص، وأحي لَهُ الْمَوْتَى بِإِذْنِهِ فَعَلَ، فَإِنْ تَغَلَّظَتْ يَمِينُهُ بِالْمَكَانِ، وَالزَّمَانِ كَانَ مَكَانُ تَغْلِيظِهَا بِيَعَ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا أَشْرَفَ بِقَاعِهِمْ، وَكَانَ زَمَانُ تَغْلِيظِهَا فِي وَقْتِ أَشْرَفِ صَلَوَاتِهِمْ عِنْدَهُمْ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مَجُوسِيًّا، أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَرَزَقَنِي. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يُحْلِفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ، وَالنُّورَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْلِفُهُ بِذَلِكَ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِتَعْظِيمِ النَّارِ وَالنُّورِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ قِدَمَ النَّارِ وَالنُّورِ. فَأَمَّا تَغْلِيظُ يَمِينِهِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَأَجَلُّ الْأَمْكِنَةِ عِنْدَهُمْ بَيْتُ النَّارِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَغْلِيظِ أَيْمَانِهِمْ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُغَلَّظُ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَعْظِيمَ النَّارِ دُونَ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ النَّارُ، فَخَالَفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي قَصْدِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ لِصَلَوَاتِهِمْ، وَعِبَادَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ يَحْلِفُونَ فِي بَيْتِ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ شَرَّفُوهُ، لِتَعْظِيمِ النَّارِ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الزَّمَانُ فَلَيْسَ لَهُمْ صَلَوَاتٌ مُؤَقَّتَاتٌ يَحْلِفُونَ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَهُمْ زَمْزَمَةٌ يَرَوْنَهَا قُرْبَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً عِنْدَهُمْ أُحْلِفُوا فِي أَعْظَمِ أَوْقَاتِهَا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مؤقتة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 116 سَقَطَ تَغْلِيظُ أَيْمَانِهِمْ بِالزَّمَانِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ النَّهَارَ أَشْرَفَ مِنَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ النُّورَ عِنْدَهُمْ أَشْرَفُ مِنَ الظُّلْمَةِ، فَيَحْلِفُونَ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ وَثَنِيًّا لَمْ يَحْلِفْ بِمَا يُعَظِّمُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَالْأَصْنَامِ، وَحَلَّفَهُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي خَلَقَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَجْسَامَهَا كَمَا خَلَقَ أَجْسَامَ غَيْرِهَا، وَهُمُ اخْتَلَفُوا مَا أَحْدَثُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي بِعِبَادَتِهَا، وَلَكِنْ يُحْلِفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي، وَرَزَقَنِي، وَأَحْيَانِي. فَأَمَّا تَغْلِيظُهَا بِالْمَكَانِ، فَسَاقِطٌ فِي حُقُوقِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ بُيُوتَ أَصْنَامِهِمْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِكَنَائِسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ دُخُولَ الْمُسْلِمِينَ بُيُوتَ أَصْنَامِهِمْ مَعْصِيَةٌ، وَدُخُولَهُمْ كَنَائِسَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، لِأَنَّ بُيُوتَ الْأَصْنَامِ لَمْ تُوضَعْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَّا لِأَجْلِ مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ مَوْضُوعَةً فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى طَاعَةٍ نُسِخَتْ، فَصَارَتْ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ تَغْلِيظُ الزَّمَانِ يَسْقُطُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيَّامِ عِنْدَهُمْ يَوْمٌ يَرَوْنَهُ أَشْرَفَ الْأَيَّامِ، فَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَتَأَخَّرَ لَمْ تُؤَخَّرِ الْيَمِينُ إِلَيْهِ، لِاسْتِحْقَاقِ تَقَدُّمِهَا، وَإِنْ قَرُبَ وَتَعَجَّلَ احْتَمَلَ أَنْ تُغَلَّظَ أَيْمَانُهُمْ فِيهِ، كَمَا تُغَلَّظُ بِأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُغَلَّظَ فِيهِ، لِأَنَّ عِبَادَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ كَانَتْ طَاعَةً، وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَ النَّسْخِ مَعْصِيَةً، وَيَوْمُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْتَصَّ بِعِبَادَةٍ تَكُونُ طَاعَةً، فَسَاوَى غَيْرَهُ مِنَ الْأَيَّامِ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ دَهْرِيًّا، لَا يَعْتَقِدُ خَالِقًا، وَلَا مَعْبُودًا، اقْتَصَرَ الْحَاكِمُ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إِلَهًا خَالِقًا رَازِقًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَتْ يَمِينُهُ زَاجِرَةً لَهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهَا؟ قِيلَ: أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] . وَالثَّانِي: لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا رُبَّمَا يُعَجِّلُ به انتقاما، والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيمَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْبَتِّ مِثْلَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ بَرَاءَةٌ مِنْ حَقٍّ لَهُ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَقَّ وَيُسَمِّيهِ لَثَابِتٌ عَلَيْهِ مَا اقْتَضَاهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ وَلَا مُقْتَضًى بِأَمْرٍ يَعْلَمُهُ وَلَا أَحَالَ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ ولَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَإِنَّهُ لَثَابِتٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ حلف بهذا اليمين وإن كان حقا لأبيه حلف في نفسه على البت وفي أبيه على العلم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ اسْتِيفَاءَ يَمِينٍ تَوَجَّهَتْ عَلَى خَصْمٍ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 117 فِي إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ اشْتَمَلَ شَرْطُهَا الْمُعْتَبَرُ فِي إِجْزَائِهَا وَانْبِرَامِ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شَرْطُهَا فِي الْعِلْمِ وَالْبَتِّ. وَالثَّانِي: شَرْطُهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ شَرْطُهَا فِي الْحَلِفِ بِهَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْبَتِّ، فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْيٍ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَى إِثْبَاتٍ، فَهِيَ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ بِهَا الْحَالِفُ مَا حَدَثَ عَنْ فِعْلِهِ أَوْ مَا حَدَثَ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ. وَالْحَادِثُ عَنْ فِعْلِهِ أَنْ يَقُولَ قَطْعًا بَاتًّا: وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُكَ دَارِي أَوِ اشْتَرَيْتُ دَارَكَ أَوْ أَجَّرْتُكَ عَبْدِي، أَوِ اسْتَأْجَرْتُ عَبْدَكَ، أَوْ أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا، أَوِ اقْتَرَضْتَ مِنِّي أَلْفًا سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى خَصْمِهِ، لِأَنَّهُ بِهَا تَمَّ، فَصَارَ حَادِثًا عَنْ فِعْلِهِ. وَأَمَّا الْحَادِثُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَى مِنْكَ أَبِي دَارَكَ، أَوِ اشْتَرَيْتَ مِنْ أَبِي دَارَهُ، أَوْ لَقَدِ اسْتَأْجَرَ مِنْكَ أَبِي عَبْدَكَ، أَوِ اسْتَأْجَرْتَ مِنْ أَبِي عَبْدَهُ، أَوْ لَقَدْ أَقْرَضَكَ أَبِي أَلْفًا، أَوْ لَقَدِ اقْتَرَضْتَ مِنْ أَبِي أَلْفًا، فَتَكُونُ يَمِينُ الْإِثْبَاتِ لِفِعْلِهِ، وَفِعْلِ غَيْرِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَالْقَطْعِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِفِعْلِهِ، وَمَا ادَّعَى فِعْلَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ إِحَاطَتِهِ بِفِعْلِهِ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيٍ لِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا: هَلْ تَكُونُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْعِلْمِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهَا عَلَى الْبَتِّ كَالْإِثْبَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: إِنَّهَا عَلَى الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَهِيَ عَلَى الْبَتِّ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ، وَلَا بِعْتُ، وَلَا أَجَّرْتُ، وَلَا نَكَحْتُ، وَلَا طَلَّقْتُ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَهِيَ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَبِي بَاعَكَ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ آجَرَكَ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْكَ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ وَصَّى لَكَ، لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ يَمِينُهُ فِيهِ قَطْعًا عَلَى الْبَتِّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 118 وَلَيْسَ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمٍ بِمَا نَفَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، لِتَعَذُّرِ التَّوَاتُرِ فِيهِ، وَاسْتِعْمَالِ الْمَظْنُونِ مِنْ أخبار الآحاد، فكانت اليمين فِيهَا بِحَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِمَا، وَهُوَ يَعْلَمُ نَفْيَ فِعْلِهِ قَطْعًا، وَنَفْيَ فِعْلِ غَيْرِهِ ظَنًّا، فَحَلَفَ فِيمَا قَطَعَ بِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَفِيمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ عَلَى الْعِلْمِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى الْبَتِّ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعِلْمِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ، وَهُوَ فِي الْحُكْمِ بِهَا بِمَثَابَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ، وَيَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلَوْ وَجَبَ إِحْلَافُهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَأَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَتِّ أَجْزَأَتْ يَمِينُهُ، وَثَبَتَ بِهَا الْحُكْمُ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَمِينَ الْبَتِّ أَغْلَظُ، وَيَمِينَ الْعِلْمِ أَخَفُّ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ الْأَخَفُّ بِالْأَعْلَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقَطَ الْأَغْلَظُ بِالْأَخَفِّ، وَلَئِنْ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ فِي مَوْضِعِ العلم، فإنها تؤول بِهِ إِلَى الْعِلْمِ لِامْتِنَاعِ الْقَطْعِ مِنْهُ. (فَصْلٌ) : وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْيَمِينُ مِنْ شُرُوطِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: يَمِينٌ عَلَى النَّفْيِ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، يَمِينٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعِي. فَأَمَّا يَمِينُ النَّفْيِ، فَتَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الدَّعْوَى، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ. والثاني: أن يدعي عليه يمين فِي يَدِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ أَبِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنٌ فِي يَدِ أَبِيهِ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُطْلَقَةً لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا ذِكْرُ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَا يَذْكُرُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا، فَهِيَ دَعْوَى صَحِيحَةٌ. وَلَا يَلْزَمُ سُؤَالُهُ عَنْ سَبَبِهَا، فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ كَانَ مُخْطِئًا، وَلَمْ تَلْزَمْهُ إِبَانَةُ السَّبَبِ، لِأَنَّ تَنَوُّعَ الْأَسْبَابِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُقُوقِ، فَتَكُونُ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَهَا عَلَى الْبَتِّ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا بِوَجْهٍ، وَلَا سَبَبٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، فَهُوَ إِذَا حَلَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَاقِيهَا، وَقَوْلُهُ: " بِوَجْهٍ وَلَا سَبَبٍ " تَأْكِيدًا فَإِنْ أَغْفَلَهُ جَازَ. وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا كَانَ مُجْزِئًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 119 يَمِينِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِحَسَبِ جَوَابِهِ فِي إِنْكَارِهِ. فَإِنْ قَالَ فِي الْإِنْكَارِ: لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ جَوَابًا مُقَابِلًا لِلدَّعْوَى، وَحَلَفَ عَلَى مِثْلِ جَوَابِهِ: وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْأَلْفُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا كَانَ جَوَابًا كَافِيًا، وَحَلَفَ عَلَى مِثْلِ جَوَابِهِ: وَاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ كَانَتْ مَعْلُولَةً غَيْرَ مُقْنِعَةٍ، لِاحْتِمَالِ مَا لَهُ عَلَى جَسَدِي شَيْءٌ، فَإِذَا قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُقْتَرِنَةً بِذِكْرِ السَّبَبِ، فَيَقُولَ: لِي عَلَيْهِ أَلْفُ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٌ أَوْ ثَمَنُ مَبِيعٍ أَوْ قِيمَةُ مُتْلَفٍ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ، فَيَكُونَ فِي الْجَوَابِ عَلَى إِنْكَارِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعُمَّ بِإِنْكَارِهِ، فَيَقُولَ: لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَيَكُونَ جَوَابُهُ أَوْفَى، وَتَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ بِحَسَبِ جَوَابِهِ، وَاللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يُحْلِفَهُ مَا اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفًا وَلَا غَصَبَهُ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اقْتَرَضَهَا ثُمَّ قَضَاهَا، فَيَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَحَدُ خِيَارَيْهِ فِي الْإِنْكَارِ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَصِرَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ، فَيَقُولَ: مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَلَا غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَقْنَعُ مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَلَوْ قَالَ: مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ أَلْفًا، وَلَا غَصَبْتُهُ أَلْفًا لَمْ يُقْنِعْ حَتَّى يَقُولَ: وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَضَ أَوْ غَصَبَ بَعْضَهَا. فَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ إِحْلَافِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ يُحْلِفُهُ قَطْعًا عَلَى الْعُمُومِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَصَبَ أَوِ اقْتَرَضَ ثُمَّ قَضَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْلِفُهُ قَطْعًا بِاللَّهِ إِنَّهُ مَا اقْتَرَضَهَا، وَلَا غَصَبَهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، لِأَنَّ احْتِمَالَ الْقَضَاءِ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ، مَا اقْتَرَضْتُ وَلَا غَصَبْتُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي يَدَيْهِ كَدَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا أَنْ يَصِلَهَا بِمَا يُوجِبُ انْتِزَاعَهَا مِنْ يَدِهِ، فَيَقُولَ: وَقَدْ غَصَبَنِي عَلَيْهَا، أَوْ مَنَعَنِي مِنْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَهَا مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ أَوْ مَرْهُونَةٌ، فَإِذَا كَمُلَتِ الدَّعْوَى بِقَوْلِ الْمُدَّعِي هَذِهِ الدَّارُ لِي، وَقَدْ غَصَبَنِي عَلَيْهَا، فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ، وَلَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهَا مِلْكُ الْمُنْكِرِ، وَلَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بِتَحْلِفَةِ الْحَاكِمِ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَلَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 120 يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ". مُسْتَوْعِبٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّارَ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: وَلَا شيئا منها، لأن قوله: " لا يَسْتَحِقُّهَا " لَا يَمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَهَا، فَيُحْلِفُهُ الْحَاكِمُ بِاللَّهِ أنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّارَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ لِي دُونَهُ، فَيَكُونَ هَذَا جَوَابًا كَافِيًا، فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِي وَلَمْ يَقُلْ دُونَهُ أَقْنَعَ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لَهُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، فَيُحْلِفُهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَتِّ عَلَى نَفْيِ مِلْكِ الْمُدَّعِي، وَلَا يُحْلِفُهُ عَلَى إِثْبَاتِ مِلْكِهِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ لَهُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الدَّارَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، أَوْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَإِنْ زَادَ فِي يَمِينِهِ: وَإِنَّهَا لِي دُونَهُ جَازَ، وَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ بِيَدِهِ لَا بِيَمِينِهِ، وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ: مَا غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَلَا يُقْنَعُ هَذَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مِلْكَ الدَّارِ وَغَصْبِهَا، فَأَنْكَرَ الْغَصْبَ، وَلَمْ يَنْكَرِ الْمِلْكَ، فَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَغْصِبْهَا مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ. فَإِذَا قَالَ: مَا غَصَبْتُهُ إِيَّاهَا، وَهِيَ لِي دُونَهُ، كَانَ جَوَابَ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ فِي إِحْلَافِ الْحَاكِمِ لَهُ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: يُحْلِفُهُ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ: وَاللَّهِ مَا غَصَبْتُهُ هَذِهِ الدَّارَ، وَإنَّهَا لِي دُونَهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْلِفُهُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَا بِسَبَبِهَا، لِأَنَّ الْغَصْبَ مُوجِبٌ لِلْأُجْرَةِ، فَصَارَ بِادِّعَاءِ غَصْبِهَا وَمِلْكِهَا مُدَّعِيًا لَهَا وَلِأُجْرَتِهَا، فَاحْتَاجَتْ يَمِينُهُ أَنْ تَتَضَمَّنَ نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ: الْمِلْكِ وَالْأُجْرَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ فِي يَمِينِهِ: لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَلَا بِسَبَبِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَتِهَا بِالْغَصْبِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا فِي يَدِ أَبِيهِ، فَسَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: إِنْ ثَبَتَ مَوْتُ أَبِيهِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْكَرَ الِابْنُ مَوْتَهُ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 121 وَسُمِعَتْ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأُجْرَةَ، فَتُسْمَعُ دَعْوَى الْغَصْبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ دُونَ الْعَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الِابْنُ وَارِثًا، وَلَا يَكُونُ قَاتِلًا، وَلَا كَافِرًا، فَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ يَرِثُهُ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُ سَمَاعِهَا كَانَ جَوَابُ إِنْكَارِهِ وَشُرُوطُ يَمِينِهِ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ فِي ادِّعَائِهَا فِي يَدِهِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقْتَنَعُ مِنْهُ فِي جَوَازِ إِنْكَارِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَحِقُّهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، لَمْ يُقْتَنَعْ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَطْعِ أَنْ يَقُولَ: لَا تَسْتَحِقُّهَا وَلَا شَيْئًا مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ، فَيَقُولَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَحِقُّهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، لِأَنَّ مَا نَفَاهُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَحُمِلَ إِنْكَارُهُ وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ. (فَصْلٌ) : وَأما الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُدَّعَى عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ أَبِيهِ، فَسَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ مَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ هُوَ وَارِثًا، وَأَنْ يُخَلِّفَ أَبُوهُ تَرِكَةً. فَإِنْ مَاتَ مُعْدِمًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا عَلَى الْأَبِ دُونَهُ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ وَأَنْكَرَهَا كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَيَقُولُ: لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي هَذِهِ الْأَلْفَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي حَقًّا أَجْزَأَ، وَلَوْ أَنْكَرَ قَطْعًا، فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ عَلَى أَبِي حَقٌّ كَانَ أَبْلَغَ فِي لَفْظِ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا فِي الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ثُمَّ يَكُونُ يَمِينُهُ بَعْدَ إِنْكَارِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ بِحَسَبَ إِنْكَارِهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي هَذِهِ الْأَلْفَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عَلَى أَبِي حَقًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ سَقَطَتِ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ، وَزَالَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ أُحْلِفَ بِمِثْلِ يَمِينِهِ إِذَا أَنْكَرَ كَإِنْكَارِهِ، وَسَوَاءٌ قَلَّ سَهْمُهُ أَوْ كَثُرَ. فَإِنْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ، وَاعْتَرَفَ الْآخَرُ أُلْزِمَ الْمُنْكِرُ حُكْمَ إِنْكَارِهِ، وَأُلْزِمَ الْمُعْتَرِفُ حُكْمَ اعْتِرَافِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الدَّيْنِ أَوْ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. فَإِنْ شَهِدَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمُنْكَرِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ إِنْ أُلْزِمَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، وَقُبِلَتْ إِنْ أُلْزِمَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 122 فَهَذَا حُكْمٌ اليمين عَلَى النَّفْيِ، وَإِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْإِنْكَارِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَمُسْتَحَقُّهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي الدِّمَاءِ مَعَ اللَّوْثِ، وَقَدْ مَضَتْ فِي الْقَسَامَةِ. وَالثَّانِي: يَمِينُ الرَّدِّ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْقَائِمَةُ مَقَامَ شَاهِدٍ. فَأَمَّا يَمِينُ الرَّدِّ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: فِي يَمِينٍ، وَدَيْنٍ. فَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الْعَيْنِ فَعَلَى ضربين: أحدهما: أنه يدعيها لنفسها. وَالثَّانِي: لِأَبِيهِ. فَإِنِ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ كَادِّعَائِهِ مِلْكَ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ فِي يَدِ مُنْكِرٍ نَاكِلٍ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ: إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي فِي مِلْكِي، لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ احْتِيَاطٌ وَتَأْكِيدٌ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ حَلَفَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي أَجْزَأَتْ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِنَّهَا مِلْكِي أَجْزَأَ، وَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا لِي. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ لَمْ تُجْزِهِ، وَلَمْ يَصِرْ بِيَمِينِهِ مَالِكًا لَهَا، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِغَيْرِهِ. (فَصْلٌ) : وَلَوِ ادَّعَاهَا لِأَبِيهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ حَيًّا لَمْ تُسْمَعْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، فَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ، لِكَوْنِهِ قاتلا أو كافرا لم تسمع. فإذا استكملت الشَّرْطَيْنِ جَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْبَتِّ بِاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِأَبِيهِ، وَعَلَى مِلْكِهِ، إِلَى أَنْ مَاتَ عَنْهَا لَا حَقَّ فِيهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَلَوْ لَمْ يَقِلْ: إِلَى أَنْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَحْوَطَ، لِأَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ مِلْكَ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَدْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. فَإِذَا حَلَفَ جَرَى عَلَيْهَا مِلْكُ أَبِيهِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا، وَقَضَى مِنْهَا دُيُونَهُ، وَنَفَّذَ مِنْهَا وَصَايَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَسْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينِ غَيْرِهِ؟ فَلِمَ قُلْتُمْ: الْأَبُ مَالِكٌ بِيَمِينِ ابْنِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الِابْنَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ، فَقَامَ مَقَامَهُ فِي إِثْبَاتِهِ بِالْيَمِينِ، كَمَا يَحْلِفُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ لِمُوكِّلِهِ، وَيَحْلِفُ الْعَبْدُ عَلَى مَا ابْتَاعَهُ، وَإِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 123 كَانَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ نَكَلَ هَذَا الِابْنُ عَنْ يَمِينِ الرَّدِّ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا أَرْبَابُ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا نُظِرَ: فَإِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ لِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفُوا. وَإِنْ ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِمْ عَلَيْهَا قَوْلَانِ مَضَيَا. فَإِذَا أُحْلِفُوا ثَبَتَ مِنْ مِلْكِ الْمَيِّتِ بِقَدْرِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا، وَبَقِيَ مَا زَادَ عَلَيْهَا عَلَى مِلْكٍ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُهُ الْوَرَثَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بَعْضٌ الْوَرَثَةِ أَثْبَتَ بِيَمِينِهِ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الدَّيْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: لِأَبِيهِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَهُ كَادِّعَائِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَهُ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَهَا. فَإِنْ أَطْلَقَهَا حَلَفَ يَمِينًا عَلَى إِثْبَاتِهَا، وَنَفَى مَا يُسْقِطُهَا، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَا قَبَضْتُهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا قُبِضَتْ لِي، وَلَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا أَحَلْتُ بِهَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا أَبْرَأْتُهُ مِنْهَا، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا وَجَبَ لَهُ عَلَيَّ مَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْنِي عَلَيْهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، فَيَصِيرُ قِصَاصًا فِي قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الدُّيُونَ الْمُتَمَاثِلَةَ قِصَاصًا. ثُمَّ يَقُولُ: وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِي هَذَا، فَتَكُونُ يَمِينُهُ إِذَا اسْتُوفِيَتْ بِكَمَالِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهَا. وَالثَّانِي: نَفْيُ سُقُوطِهَا. وَالثَّالِثُ: بَقَاؤُهَا إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ. فَأَمَّا إِثْبَاتُهَا بِالْيَمِينِ، فَمُسْتَحَقٌّ. وَأَمَّا بَقَاؤُهَا إِلَى وَقْتِ الْيَمِينِ فَمُسْتَحَبٌّ. وَأَمَّا نَفْيُ إِسْقَاطِهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَقٌّ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ مَا يُسْقِطُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْحَالِ يَمْنَعُ مِنْ سُقُوطِهَا مِنْ قبل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 124 وَإِنْ ذَكَرَ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا أَنَّهُ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ ظاهرا يحتمل أن يكون له فيه بينة وجب أن يذكر سَبِّبُ الِاسْتِحْقَاقَ فِي يَمِينِهِ، لِأَنْ لَا يُقِيمَهَا، فَيَسْتَحِقُّ بِهَا أَلْفًا أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَفِيًّا لَمْ يَجِبْ ذِكْرُهُ فِي الْيَمِينِ، وَكَانَ ذِكْرُهُ فِيهَا احْتِيَاطًا. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِأَبِيهِ حَلَفَ عَلَى إِثْبَاتِهِ قَطْعًا، وَعَلَى نَفْيِ سُقُوطِهِ عِلْمًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِأَبِي عَلَيْكَ أَلْفًا لَا أَعْلَمُهُ قَبَضَهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ فِعْلِ الْغَيْرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَتِّ، وَنَفْيَ فِعْلِ الْغَيْرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعِلْمِ. فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْوَارِثَ وَحْدَهُ، اسْتَحَقَّ جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ اسْتَحَقَّ مِنْهَا قَدْرَ نَصِيبِهِ، وَكَانَ بَاقِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِثْبَاتِ شُرَكَائِهِ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ إِنْ نَكَلُوا أَنْ يُشَارِكُوا الْحَالِفَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حُقُوقِهِمْ بِمِثْلِ وُصُولِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، فَهِيَ كَيَمِينِ الْإِثْبَاتِ فِي الرَّدِّ بَعْدَ النُّكُولِ. وَاخْتَلَفَ أصحابنا هل يلزمه أن يذكر فيها؛ وأن مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ حَقٌّ، وَصِدْقٌ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذَاكَ تَحْقِيقًا لِشَهَادَتِهِ، وَإِثْبَاتًا لِقَوْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي يَمِينِهِ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِصِدْقِ الْآخَرِ وَصِحَّةِ شَهَادَتِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَيْمَانِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا، فذكر المدعى عليه أنه قد برىء مِنْهَا، فَصَارَ مُقِرًّا بِهَا، وَمُدَّعِيًا لِسُقُوطِهَا عَنْهُ بعد وجوبها عليه، وصار المدعي مدعيا عَلَيْهِ قَدِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ بِالْإِقْرَارِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينُ النَّفْيِ فِي الْإِنْكَارِ. وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِدَعْوَى الْبَرَاءَةِ، وَدَعْوَاهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَهَا. فَإِنْ أَطْلَقَهَا وَقَالَ: قَدْ بَرِئْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَدْ عَمَّ، وَلَمْ يَخُصَّ، فَيَكُونُ يَمِينُ الْمُنْكِرِ لَهَا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا وَصَفَهَا الشَّافِعِيُّ فِي اشْتِمَالِ يَمِينِهِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاءَاتِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَبَضْتُهَا، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا قَبَضَهَا لَهُ قَابِضٌ بِأَمْرِهِ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَعَبَّرَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْقَبْضِ بِالِاقْتِضَاءِ، وَعَنِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، وَذِكْرُ الْقَبْضِ أَوْلَى مِنَ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ الْمُطَالَبَةُ وَالْقَبْضَ الِاسْتِيفَاءُ، وَهُوَ لَا يَبْرَأُ بِالِاقْتِضَاءِ، وَيَبْرَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 125 وَذِكْرُ الْأَمْرِ أَوْلَى مِنَ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَبَضَهَا مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَلَا يَبْرَأُ بِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: وَلَا أَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْهَا، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": " وَلَا كَانَ مِنْهُ مَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْهَا، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا " يَعْنِي: مِنْ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَوْ إِتْلَافٍ لِمَالِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِ، وَيَقُولُ: وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ هَذِهِ. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي اشْتِمَالِ يَمِينِهِ عَلَيْهَا، اخْتَصَّ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ السَّادِسَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَإِنَّهَا لَثَابِتَةٌ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ يَمِينِهِ " أَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِتَشْتَمِلَ على أنواع البراءات، فينتهي بهما احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ اسْتِظْهَارٌ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَنْ قال: ما برىء إِلَيَّ مِنْهَا، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، لَعَمَّ فِي الْحُكْمِ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا مِنْ قَبْضٍ وَحَوَالَةٍ وَإِبْرَاءٍ، وَمَا يُوجِبُ الْإِبْرَاءَ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ خَصَّ بِنَوْعِ الْإِبْرَاءِ مَا يَعُمُّ، فَقَالَ: دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ أَوْ قَالَ: أَحَالَ بِهَا عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: أَبْرَأَنِي مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ مَقْصُورَةً عَلَى النَّوْعِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَوْ مُشْتَمِلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ أَنْوَاعِ الْبَرَاءَاتِ فِي ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ، لِأَنَّهَا أَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ، وَهَلْ تَكُونُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ أَوْ عَلَى الْوُجُوبِ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى النَّوْعِ الَّذِي ادَّعَى الْبَرَاءَةَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يُتَبَرَّعْ بِهِ لَهُ، وَمَا لَمْ يَدَّعِهِ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أُحْلِفَ قَالَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ ثُمَّ يَنْسِقُ الْيَمِينَ ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 126 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى فِي صِفَةِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، فَعَدَلَ بِهَا عَنْ مَعْهُودِ الْأَيْمَانِ، فِيمَا يُكْثِرُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَأَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا. وَأَوْلَى الْأَيْمَانِ الزَّاجِرَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ العلانية، وقال في الأم {الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ نَسَقَهَا إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ تضمنها القرآن، وقوله: " الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، تَنْبِيهًا لِلْحَالِفِ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ بِصِدْقِهِ، وَكَذِبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي إِحْلَافِهِ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْحُكَّامِ: بِاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ، الضَّارِّ، النَّافِعِ، الْمُدْرِكِ، الْمُهْلِكِ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَسَقِ تِلَاوَتِهَا فِي الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ الْحَالِفِ عَلَى اسْتِدْفَاعِ مَضَارِّهِ، وَاجْتِلَابِ مَنَافِعِهِ، وَمِنْ زَجْرِ الْحَالِفِ أَنْ يَعِظَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ إِحْلَافِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امرىء مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ إِلَى الْحَاكِمِ، فَهَمَّ بِالْيَمِينِ، فَلَمَّا وَعَظَهُ بِهَذَا امْتَنَعَ وَأَقَرَّ، وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْحَالِفَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: وَعِزَّةِ اللَّهِ، وَعَظَمَةِ اللَّهِ، جَازَ. قَدِ اقْتَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِحْلَافِ رُكَانَةَ عَلَى أَنْ أَحْلَفَهُ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَائِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ، وَقِيلَ: فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، أَيْ: مَنْ يَتَسَمَّى بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِنْ تَسَمُّوا بِغَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَشَذَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ إِحْلَافُهُ بِاللَّهِ، حَتَّى يُغَلِّظَهَا بِمَا وَصَفْنَا، لِيَخْرُجَ بِهَا عَنْ عَادَتِهِ، وَيُعِيدَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مُغَلَّظَةً. فَأَمَّا إِحْلَافُهُ بِالْمُصْحَفِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بضعا يَحْلِفُ عَلَى الْمُصْحَفِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 127 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ الْحُكَّامُ بِالْيَمَنِ، وَهَذَا إِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ فِيمَا تُغَلَّظُ فِيهِ الْيَمِينُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. فَأَمَّا إِحْلَافُهُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَمَا يَعْظُمُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا يَجُوزُ، لِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنَا أَقُولُ: وَذِمَّةِ الْخَطَّابِ، فَضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كان حالفا، فليحلف بالله أو فليصمت ". قال عمر: فما حلفت بها بعد ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَاهِدًا، وَلَا نَاسِيًا. وَالثَّانِي: قَائِلًا وَلَا حَاكِيًا. فَإِنْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ الْيَمِينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلِّفَ أَحَدًا بِطَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ وَلَا نَذْرٍ، لِأَنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْيَمِينِ إِلَى إِيقَاعِ فُرْقَةٍ، وَالْتِزَامِ غُرْمٍ، وَهُوَ مُسْتَبْدَعٌ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (رَأَيْتُ كُلَيْبًا أَحْدَثَتْ فِي قَضَائِهَا ... طَلَاقَ نِسَاءٍ لَمْ يَسُوقُوا لَهَا مَهْرًا) قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَتَى بَلَغَ الْإِمَامُ أَنَّ حَاكِمًا يَسْتَحْلِفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَزَلَهُ عَنِ الْحُكْمِ، لأنه جاهل. والله أعلم بالصواب. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْيَمِينُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ الْحَاكِمُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَكَانَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً "؟ فَرَدَّهَا إِلَيْهِ وَهَذَا تجويزا لِلْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ فِي طَلَاقِ الْبَتَّةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ على خصم في نفي أو إثبات، فعجلها عِنْدَ الْحَاكِمِ قَبْلَ اسْتِحْلَافِهِ، لَمْ تُجْزِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ، وَاسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ سَمَاعُهَا مِنْهُ؛ لِأُمُورٍ مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ رُكَانَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ، وَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً "؟ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَهَا قَبْلَ اسْتِحْلَافِهِ. ولأن من شرط اليمين استيفاء الحاكم لها، لِتَكُونَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ. وَلِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ بَعْدَ نَظَرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا فِي مَجْلِسِهَا كَتَقْدِيمِهَا فِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 128 غَيْرِ مَجْلِسِهِ، وَكَلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَدَّمَاهُ قَبْلَ لِعَانِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ اللِّعَانِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ هِيَ الَّتِي يَسْتَوْفِيهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْحَالِفِ، فَمِنْ صِفَتِهِ فِي أَخْذِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا، فَصْلًا بَعْدَ فَصْلٍ، يَقُولُ الْحَالِفَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى سَوَاءٍ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَوِّضَهَا إِلَيْهِ، فَتَكُونَ مَرْدُودَةً إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَتَصِيرَ مَحْمُولَةً عَلَى نِيَّتِهِ لَا عَلَى نِيَّةِ مُسْتَحْلِفِهِ، فَإِنْ فَوَّضَهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ، فَاسْتَوْفَاهَا الْحَالِفُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ الْحَاكِمُ مُقَصِّرًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحْلِفِ. وَفِي إِجْزَاءِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أحدهما: تجزىء فِيمَا يَجِبُ بِهَا مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، لِأَنَّهَا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَعَنْ أَمْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تجزىء، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْمُولَةً عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، فَكَانَتْ غَيْرَ الْمُسْتَحَقَّةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْحَالِفِ، فَقَالَ بَعْدَ يَمِينِهِ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " أَعَادَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْفَعُ حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ أَوْ وَصَلَهَا بِكَلَامٍ لَمْ يَفْهَمْهُ الْحَاكِمُ أَعَادَهَا عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَهَا الْحَالِفُ أَوْ أَدْخَلَ فِي إِثْبَاتِهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا أَعَادَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَزَجَرَهُ عَلَيْهِ إِنْ عَمَدَ حَتَّى تُخَلَّصَ الْيَمِينُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ يَرْفَعُهَا أَوْ شَرْطٍ يُفْسِدُهَا، أَوْ إِدْخَالِ كَلَامٍ يَقْطَعُهَا، أَوْ سُكُوتٍ يُبْطِلُ مَا تَقَدَّمَهَا. (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَخْرَسَ، فَإِنْ كَانَ مَفْهُومَ الْإِشَارَةِ أُحْلِفَ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي حَقِّ النَّاطِقِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومِ الْإِشَارَةِ كَانَ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَزُولَ مَا بِهِ أَوْ تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ، كَمَا يُوقَفُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ إِلَى حَالِ إِفَاقَتِهِ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي رَدَّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، لِتَعَذُّرِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ إِلَّا بَعْدَ النُّكُولِ عَنْهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ نُكُولُ الْأَخْرَسِ عَنْهَا. (فَصْلٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَهَكَذَا يَجُوزُ الْيَمِينُ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةُ فِي طَلْقَةِ الْبَتَّةِ "، يُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ رُكَانَةَ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَنْ دَلَّ عَلَى إِعَادَةِ الْيَمِينِ إِذَا قُدِّمَتْ عَلَى الِاسْتِحْلَافِ، فَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 129 وَالثَّانِي: اسْتِحْقَاقُ الرَّجْعَةِ فِي طَلْقَةِ الْبَتَّةِ. وَقَدِ اسْتَخْرَجَ أَصْحَابُنَا مِنْهُ أَدِلَّةً عَلَى أَحْكَامٍ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِحْلَافُ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خمسة أحكام: أحدهما: أن تعجل اليمين قبل الاستحلاف لا يجزىء. وَالثَّانِي: جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْيَمِينِ عَلَى إِحْلَافِهِ بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ بِصِفَاتِهِ. وَالثَّالِثُ: جَوَازُ حَذْفِ وَاوِ الْقَسَمِ مِنَ الْيَمِينِ، فَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِرُكَانَةَ: " اللَّهِ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً؟ " فَقَالَ: اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً ". وَالرَّابِعُ: اسْتِحْقَاقُ الْيَمِينِ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ إِذَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَمِينَ فِي ذَلِكَ. وَالْخَامِسُ: اسْتِحْلَافُهُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّلَاقُ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَتَّةَ لَا تَكُونُ طَلَاقًا ثَلَاثًا، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْبَتَّةَ ثَلَاثًا، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِدَةً بِإِرَادَةِ رُكَانَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُطَلِّقِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتَا بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إِلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَتَانِ، وَقَدْ أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَى مَا أَرَادَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثَةِ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا أُرِيدَ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ، تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِحَالٍ. وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الثَّلَاثَةُ مَا أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَى إِرَادَةِ الواحدة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 130 وَالْخَامِسُ: أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ وَلَا حَرَامٍ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبْتَدَعًا حَرَامًا مَا أُحْلِفَ رُكَانَةَ عَلَيْهِ، وَلَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الرَّجْعَةُ، وَفِيهِ أَدِلَّةٌ عَلَى خمسة أحكام: أحدهما: أَنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْبَتَّةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَقَرَّ رُكَانَةَ عَلَى زَوْجَتِهِ ". وَالثَّانِي: اسْتِحْقَاقُ الرَّجْعَةِ فِي كُلِّ طَلَاقٍ، لَمْ يُبَتَّ. وَالثَّالِثُ: اخْتِصَاصُ الرَّجْعَةِ بِالْقَوْلِ فِي قِصَّةِ رُكَانَةَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: جَوَازُ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ عِلْمِ الزَّوْجَةِ، لِرَجْعَةِ رُكَانَةَ بِغَيْرِ عِلْمِهَا. وَالْخَامِسُ: جَوَازُهَا بِغَيْرِ شَهَادَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 131 (باب الامتناع من اليمين) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى غَيْرَ دَمٍ فِي مَالٍ أحلف المدعى عليه فإن حلف برىء وَإِنْ نَكَلَ قِيلَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ وَاسْتَحِقَّ فَإِنْ أَبَيْتَ سَأَلْنَاكَ عَنْ إِبَائِكَ فَإِنْ كَانَ لِتَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِتَنْظُرَ فِي حِسَابِكَ تَرَكْنَاكَ وَإِنْ قُلْتَ لَا أُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّى لَا أَحْلِفُ أَبْطَلْنَا أَنْ تَحْلِفَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ دَمٍ، لِأَنَّ دَعْوَى الدَّمِ مُخَالِفَةٌ لِدَعْوَى الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ اللَّوْثِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ فِي الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُمْتَنِعَانِ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ. فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَالٍ، وَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قِيلَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَلَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ لَمَّا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ مَعَ الْكِنْدِيِّ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ ". فَقَدَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُحْتَجِّ بِهَا، فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ عَنْهَا، وَالْيَمِينُ صَادِرَةٌ عَنِ الْمُحْتَجِّ بِهَا فَتَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهَا، وَمَا عُدِمَتِ التُّهْمَةُ فِيهِ أَقْوَى مِمَّا تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَوْلُ اثْنَيْنِ، وَالْيَمِينَ قَوْلُ وَاحِدٍ، وَقَوْلُ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنَ الْمُدَّعِي، لِأَنَّ الدَّعْوَى إِنْ كَانَتْ فِي دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي عَيْنٍ بِيَدِهِ دَلَّتِ الْيَدُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مِلْكِهِ، وَقِيلَ لِلْمُدَّعِي: قَدْ وَجَبَتْ لَكَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَأَنْتَ فِي اسْتِقْضَائِهَا عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ، فَإِنْ أَعْفَاهُ أَمْسَكَ عَنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 132 الْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ طَالَبَ بِهَا قِيلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَتَحْلِفُ؟ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتِ الدَّعْوَى وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْ سَبَبِ النُّكُولِ إِلَّا أَنْ يبتدىء، فَيَقُولَ: أَنَا مُتَوَقِّفٌ عَنِ الْيَمِينِ، لِأَنْظُرَ فِي حِسَابِي، وَأَسْتَثْبِتَ حَقِيقَةَ أَمْرِي، فَيُنْظَرَ مَا قَلَّ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يَبْلُغُ إِنْظَارُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وإن لم يبتدىء بِذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِتَوَقُّفِهِ حُكِمَ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا. وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَقِّ إِذَا نَكَلَ. وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَلَا بِحُجَّةٍ لِلْمُدَّعِي، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهِ، فَإِنْ بَذَلَ الْيَمِينَ، بَعْدَ نُكُولِهِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، لِسُقُوطِ حَقِّهِ مِنْهَا بِالنُّكُولِ. وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَوْ قَبْلَهُ. فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي صَارَ بِيَمِينِهِ مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْهُ، فَقَضَى بِحَقِّهِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ مَعَ النُّكُولِ قَائِمَةً مَقَامَ الْإِقْرَارِ أَوْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ عَلَى قولين فذكرهما مِنْ بَعْدُ. وَإِنْ تَوَقَّفَ الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ لَمْ يُحْكَمْ بِنُكُولِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ سَبَبِ تَوَقُّفِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَنِ الْيَمِينِ، لِيَرْجِعَ إِلَى حِسَابِهِ، وَيَسْتَظْهِرَ لِنَفْسِهِ أُنْظِرَ بِهَا، وَكَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْيَمِينِ، وَلَمْ تُضَيَّقْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ. وَلَوْ تَرَكَهَا تَارِكٌ بِخِلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اسْتُنْظِرَ، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي حَقٌّ لَهُ، وَيَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّعِي فِي تَوَقُّفِهِ عَنِ الْيَمِينِ عُذْرًا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ أَنْ يَحْلِفَ، حُكِمَ بِنُكُولِهِ، وَسُقُوطِ دَعْوَاهُ. فَإِنْ دَعَا إِلَى الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِهِ عَنْهَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنُكُولِهِ، وَقِيلَ: لَكَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى، فتصير كالمبتدىء بِهَا، وَيَكُونُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا أَنْكَرَهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّعْوَى الَّتِي حُكِمَ بِنُكُولِهِ فيها، فإن حلف برىء وَسَقَطَتِ الدَّعْوَى، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالدَّعْوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَأَلْتُمُ الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ نُكُولِهِ، وَلَمْ تَسْأَلُوا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ نُكُولِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَوْجَبَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْحَاكِمُ لِإِسْقَاطِهِ بِسُؤَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي مَقْصُورَةٌ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُسْأَلَ عن سبب امتناعه منها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 133 (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ فَنَكَلَ الْمُدَّعِي فَأَبْطَلْنَا يَمِينَهُ ثَمَّ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ بِشَاهِدٍ وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ أَخَذْنَا لَهُ حَقَّهُ وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي دَعْوَى أُحْلِفَ الْمُنْكِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَعْدَ الْيَمِينِ بَيِّنَةً، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِسُقُوطِ الدَّعْوَى، وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الدَّعْوَى. وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَاضَ عَنِ الدَّعْوَى بِالْيَمِينِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عِوَضَيْنِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اخْتَصَمَ رِجَالٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مال امرىء مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْيَمِينَ مُبَرِّئَةً فِي الْبَاطِنِ، وَإِنِ انْقَطَعَتْ بِهَا الْمُطَالَبَةُ فِي الظَّاهِرِ فَإِذَا قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ لَزِمَتْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْبَيِّنَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَحُجَّتُهُ أَنْ وُقِفَ وَأُسْنِدَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِعُمَرَ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً، وَبَالْبَيِّنَةِ أُخْرَى. فَإِذَا لَمْ تَمْنَعِ الْيَمِينُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ، لَمْ تمنع من ثبوته بالبينة ولو برىء بِالْيَمِينِ لَسَقَطَ بِالْإِقْرَارِ، وَفِيهِ جَوَابٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بالبراءة، وتأخذ الْعِوَضُ بِالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ تُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ، وَلَا تبرىء مِنَ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النَّارِ ". (فَصْلٌ) : فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ مَعَ عَدَمِهَا. قِيلَ: لِلْمُدَّعِي عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِاسْتِحْلَافِ الْمُدَّعَى عليه ثلاثة أحوال: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 134 أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لِي بَيِّنَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا لِغَيْبَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ، ثُمَّ تُحْضَرُ بَيِّنَتُهُ، فَتُسْمَعُ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَأَنَا أَطْلُبُ إِحْلَافَ خَصْمِي، فَلَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ، وَلَا مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى طَلَبِ الْيَمِينِ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ بِهَا، فَيُقِرَّ، وَإِمَّا لِيَحْتَقِبَ بِهَا وِزْرًا. فَإِذَا لَمْ يُزْجَرْ بِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ جَازَ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَتِهِ، وَيُظْهِرَ بِهَا صِدْقَ الدَّعْوَى، وَكَذِبَ الْإِنْكَارِ، وَحِنْثَ الْيَمِينِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، وَأَنَا أَطْلُبُ الْيَمِينَ، لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ، لِأَنَّ فِي إِنْكَارِ الْبَيِّنَةِ حَرَجًا لِمَنْ يَشْهَدُ بِهَا، وَلَا تُسْمَعُ لَهُ بَيِّنَةٌ قَدْ جَحَدَهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تُنْسَى الْبَيِّنَةُ ثُمَّ يَذْكُرُهَا، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا، ثُمَّ يَعْرِفُهَا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ حَرَجٌ، وَلَا تَكْذِيبٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا ثَالِثًا: إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْثَقَ بِإِشْهَادِ الْبَيِّنَةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا. وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْثَقَ بِهَا وَلِيُّهُ فِي صِغَرِهِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي كِبَرِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ فِعْلَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَجْهَلُ فِعْلَ غَيْرِهِ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْهَلْ فِعْلَ نَفْسِهِ فِي وَقْتِهِ، فَقَدْ يَنْسَاهُ بَعْدَ وَقْتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَنَكَلَ عَنْهَا، وَأَقَامَ شَاهِدًا، لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ مَعَ شَاهِدِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ "، وَفِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " لِلْمُزَنِيِّ: لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ، لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ عَنْهَا فِي الرَّدِّ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِهَا مِنْ بَعْدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمُخْتَصِرِ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 135 لِأَنَّ يَمِينَ الرَّدِّ غَيْرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، لِاخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ، وَافْتِرَاقِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ إِحْدَاهُمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْأُخْرَى. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِنُكُولِ الْمُنْكِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ بِالنُّكُولِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَحْلِفُ تَعْلِيلًا بِاخْتِلَافِهَا في السبب والمعنى. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَدَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَقَالَ لِلْمُدَّعِي احْلِفْ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَحْلِفُ لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ لِأَنِّي قَدْ أَبْطَلْتُ أَنْ يَحْلِفَ وَحَوَّلْتُ الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا: إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى الْمُدَّعِي، فَأَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْيَمِينِ بَعْدَ نُكُولِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، وَكَانَ الْمُدَّعِي أَحَقَّ بِالْيَمِينِ لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهَا بِنُكُولِ خَصْمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْخَصْمِ إِبْطَالُهَا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاسْتَحَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لِسُقُوطِ الدَّعْوَى عَنْهُ، فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ، وَأَسْقَطَ بِهَا يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَلَّا كَانَا سَوَاءً؟ قِيلَ: لَا يَسْتَوِيَانِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَجُوزُ أَنْ تُقَامَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَكَانَ إِقَامَتُهَا قَبْلَ يَمِينِهِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْيَمِينَ وَالْبَيِّنَةَ مَعًا حَقٌّ لِلْمُدَّعِي، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا تَقَدَّمَتِ الْيَمِينُ، وَلَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا قَدَّمَ البينة. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ أُحْلِفُهُ مَا اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ لَمْ أُحْلِفْهُ إِلَّا مَا لِهَذَا وَيُسَمِّيهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ بِمِلْكٍ وَلَا غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُهَا وَتَخْرُجُ مِنْ يَدَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَى نَظَائِرُهَا فِي جُمْلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ: وَقُلْتُ: فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ دَارًا فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْإِنْكَارِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: مَا لَهُ فِيهَا حَقٌّ، أَوْ يَقُولَ: مَا اشْتَرَاهَا مِنِّي. فَإِنْ كَانَ جَوَابُ إِنْكَارِهِ أَنَّهُ مَا لَهُ فِيهَا حَقُّ تَمْلِيكٍ، وَلَا غَيْرِهِ كَانَ جَوَابُهُ مُقْنِعًا، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 136 وَأُحْلِفَ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يُحْلَفْ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ، وَيَبْتَاعَهَا مِنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ: مَا اشْتَرَاهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، حَلَفَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا وَيُسَمِّيهِ، وَتَسْمِيَتُهُ اسْتِظْهَارٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ تُغْنِي عَنْ تَسْمِيَتِهِ: مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ بِمِلْكٍ، وَلَا غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ أَجْزَأَ، لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمِلْكَ وَغَيْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ جَوَابُ الْمُنْكِرِ مُقَابِلًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي، فَقَالَ: مَا اشْتَرَاهَا مِنِّي. فَفِي يَمِينِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ اسْتِظْهَارًا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَلْ يَكُونُ يَمِينُهُ مُوافِقَةً لِجَوَابِ إِنْكَارِهِ، لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَدِ ارْتَفَعَ بِقَوْلِهِ: مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ، [فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ] وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا اشْتُرِيَتْ لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا. وَلَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ مَا بَاعَهَا عَلَيْهِ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا بَاعَهَا عَلَى أَحَدٍ اشْتَرَاهَا لَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا وَلَا بَاعَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا أَجْزَأَ لِأَنَّ نَفْيَ الشِّرَاءِ مُوجِبٌ لِنَفْيِ الْبَيْعِ، وَنَفْيُ الْبَيْعِ مُوجِبٌ لِنَفْيِ الشِّرَاءِ، فَقَامَ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَقَامَ نَفْيِ الْآخَرِ. وَفِي أَوْلَاهُمَا بِالْيَمِينِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَحْلِفَ مَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ، لِأَنَّهَا مُقَابِلَةٌ لِلدَّعْوَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْلِفَ مَا بَاعَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِنَفْيِ فِعْلِهِ. (فَصْلٌ) : وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ، وَكَمَّلَ الدَّعْوَى بِذِكْرِ صِفَةِ الْقَتْلِ، فَلِلْمُنْكِرِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُنْكِرَ الْقَتْلَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى عليه حق. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَوَابَيْ هَذَا الْإِنْكَارِ مُقْنِعٌ، فَيَحْلِفُ إِنْ أَنْكَرَ الْحَقَّ أَنَّهُ مَا يَسْتَحَقُّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 137 عَلَيْهِ بِدَعْوَى هَذَا الْقَتْلِ حَقٌّ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَلَا يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا قَتَلَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ قَوَدًا أَوْ قَتَلَهُ مُرْتَدًّا، أَوْ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ قَتَلَهُ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَعْدِلَ فِي إِنْكَارِهِ وَيَمِينِهِ إِلَى نَفْيِ الْحَقِّ دُونَ الْقَتْلِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْكَرَ الْقَتْلَ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَتَلَ. وَالثَّانِي: مَا عَلَيْهِ حَقٌّ بِهَذَا الْقَتْلِ مِنْ قَوَدٍ، وَلَا عَقْلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 138 (باب النكول ورد اليمين من الجامع ومن اختلاف الشهادات والحكام ومن الدعوى والبينات ومن إملاء في الحدود) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يَقُومُ النُّكُولُ مَقَامَ إِقْرَارٍ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ معه يمين المدعي فإن قيل فكيف أحلفت في الحدود والطلاق والنسب والأموال وجعلت الأيمان كلها تجب على المدعى عليه وجعلتها ترد على المدعي؟ قيل قلته استدلالا بالكتاب والسنة ثم الخبر عن عمر حكم الله على القاذف غير الزوج بالحد ولم يجعل له مخرجا منه إلا بأربعة شهداء وأخرج الزوج من الحد بأن يحلف أربعة أيمان ويلتعن بخامسة فيسقط عنه الحد ويلزمها إن لم تخرج منه بأربعة أيمان والتعانها وسن بينهما الفرقة ودرأ الله عنهما الحد بالأيمان والتعانه وكانت أحكام الزوجين وإن خالفت أحكام الأجنبيين في شيء فهي مجامعة لها في غيره وذلك أن اليمين فيه جمعت درء الحد عن الرجل والمرأة وفرقة ونفي ولد فكان هذا الحد والفراق والنفي معا داخلة فيها ولا يحق الحد على المرأة حين يقذفها الزوج إلا بيمينه وتنكل عن اليمين ألا ترى أن الزوج لو لم يلتعن حد بالقذف ولترك الخروج منه باليمين ولم يكن على المرأة حد ولا لعان أو لا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال للأنصاريين " تحلفون وتستحقون دم صاحبكم " فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود ليبرؤوا بها فلما لم يقبلها الأنصاريون تركوا حقهم أو لا ترى عمر جعل الأيمان على المدعى عليهم فلما لم يحلفوا ردها على المدعين وكل هذا تحويل يمين من موضع قد ندبت فيه إلى الموضع الذي يخالفه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وعلى المدعى عليه اليمين " ولا يجوز أن تكون على مدعى عليه دون غيره إلا بخبر لازم وهما لفظان مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " مخرجهما واحد فكيف يجوز أن يقال إن جاء المدعي بالبينة أخذ وإن لم يأت بها حدث له حكم غيرها وهو استحلاف من ادعى عليه وإن جاء المدعى عليه باليمين برىء وإن لم يأت بها لزمه ما نكل عنه ولم يحدث له حكم غيرها ويجوز رد اليمين كما حدث للمدعي إن لم يأت بها حكم غيره وهو اليمين وإذ حول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اليمين حيث وضعها فكيف لم تحول كما حولها ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 139 قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. إِذَا نَكَلَ الْمُنْكِرُ عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي، فَيَسْتَحِقَّ الدَّعْوَى بِيَمِينِهِ لَا بِنُكُولِ خَصْمِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَيْسَ النُّكُولُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَلَا بَيِّنَةً لِلْمُدَّعِي، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهِ بِهِ ". وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَلَيْسَ النُّكُولُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْحُكَّامِ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ، وَالْقِصَاصِ وَالْعِتْقِ، أَوْ كَانَتْ فِيمَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَالْأَمْوَالِ أَوْ مَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْمَالَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي مَالٍ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ رَدَدْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَتْ فِيمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْقَتْلِ حَبَسْتُهُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ، بَعْدَ أَنْ أَقُولَ لَهُ ثَلَاثًا: إِنْ حَلَفْتَ، وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ، وَلَا أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فِي النُّكُولِ. وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، فَحَكَمَ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْقَوَدِ. وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَسَبٍ لَمْ أُوجِبْ عَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ، وَلَمْ أَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ. وَلِوُجُوبِ الْأَيْمَانِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى مَوْضِعٌ يَأْتِي، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُخْتَصٌّ بِالنُّكُولِ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُنْكِرِ، هَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ عَنْهَا؟ وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، بِبِنَائِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تَخْتَصُّ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ إِلَى الْمُدَّعِي، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْضَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَكَانَتِ الدَّلَائِلُ مُشْتَرِكَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ حِينَ أَنْكَرَهُ الْكِنْدِيُّ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ "، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَقَّهُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ بَيِّنَتُهُ أَوْ يَمِينُ خَصْمِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا حَقَّ لَهُ فِي يَمِينِ نَفْسِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ إِلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْقِلَ حَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعِي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 140 قَالُوا وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ، وَالْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّفْيِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْبَيِّنَةِ إِلَى النَّفْيِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِالْيَمِينِ إِلَى الْإِثْبَاتِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا قَوْلُ الْمُدَّعِي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ كَالدَّعْوَى. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ رَجَّحَ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ، فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ، كَتَكْرِيرِ الدَّعْوَى. (فَصْلٌ) : وَدَلِيلُنَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] أَيْ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَيْمَانِ الْوَاجِبَةِ، فَدَلَّ عَلَى نَقْلِ الْأَيْمَانِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ طَلَبَ طَلَبَهُ بِغَيْرِ بَيَّنَةٍ، فَالْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنَ الْطَالِبِ ". وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ مِنَ الطَّالِبِ ". فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ [أَنْ " أَوْلَى "] يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الِاشْتِرَاكِ فِيمَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِكَ: زِيدٌ أَفْقَهُ مِنْ عَمْرٍو، إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْفِقْهِ، وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَلَا يُقَالُ: زِيدٌ أَفْقَهُ فِيمَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ حَقٌّ فِي الْيَمِينِ لَمَا جُعِلَ الْمَطْلُوبُ أَوْلَى مِنْهُ، فَيَكُونُ أَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ، وَيُنْقَلُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ فِي الِانْتِهَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ حَقٍّ، وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُخَرَّجِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَنْصَارِ فَيَ دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ: " تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَيُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا ". فَدَلَّ هَذَا عَلَى نَقْلِ الْيَمِينِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَجْرَى فَرَسًا، فوطىء عَلَى أُصْبُعِ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَتَأَلَّمَ مِنْهَا دَهْرًا، ثُمَّ مَاتَ، فَتَنَازَعُوا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ: تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ مَا مَاتَ مِنْهَا، فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْمُدَّعِينَ: احْلِفُوا أَنْتُمْ، فَأَبَوْا ". وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي رَدِّ الْيَمِينِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا مُخَالِفٌ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 141 وَقَدْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَحَلَفَ، وَاسْتَحَقَّ، وَرُدَّتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَحَلَفَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمِقْدَادَ اقْتَرَضَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا، قَالَ عُثْمَانُ: هِيَ سَبْعَةُ آلَافٍ، فَاعْتَرَفَ الْمِقْدَادُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَتَنَازَعَا إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ لِعُثْمَانَ: احْلِفْ إِنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ أَنْصَفَكَ، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ، فَلَمَّا وَلَّى الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَضْتُهُ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لِمَ لَمْ تَحْلِفْ قَبْلُ أَوْلَى؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ، وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَأَرْضٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَسَمَاءٌ، فَقَالَ عُثْمَانُ: خَشِيتُ أَنْ يُوافِقَ قَدَرَ بَلَاءٍ، فَيُقَالَ: بِيَمِينِهِ ". وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمْ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَالَفَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا، فَأَصَابَ بِهِ عَيْبًا، فَتَرَافَعَا إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ: احْلِفْ، فَقَالَ: أَرُدُّ الْيَمِينَ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ قِيلَ: إِنْ مَعْنَاهَا جَيِّدٌ، فَصَوَّبَ بِهَا امْتِنَاعَ شُرَيْحٍ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ، فَصَارَ قَائِلًا بِهِ، وَمَنَعَ هَذَا مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. قِيلَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ لَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ مَعْنَاهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَاهَا: لَأَفْصَحَ بِهِ، وَلَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَالُونَ بِمَعْنَى جَيِّدٍ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ شُرَيْحٌ جَيِّدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ جَيِّدٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، مَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ إِجْمَاعٍ قَدِ انْتَفَى عَنْهُ الِاحْتِمَالُ. (فَصْلٌ) : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ رَدِّ الْيَمِينِ. فَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ فَدَلِيلُهُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ إِثْبَاتَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ بِنَفْيِهِ، لِأَنَّهُ ضِدُّ مُوجِبِهِ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنَّ وُجُودَ الضِّدِّ نافي لِحُكْمِهِ، وَمُثْبِتٌ لِحُكْمِ ضِدِّهِ، كَالْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ إِنْكَارًا كَذَلِكَ الْإِنْكَارُ لَا يُوجِبُ إِقْرَارًا، وَيَجْرِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ أَصَحَّ أَنَّهُ إِنْكَارٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ حِكَمُ الْإِقْرَارِ، كَالتَّكْذِيبِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ التَّصْدِيقِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِهَا قَبُولُ الْحَقِّ كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. فَإِنْ قِيلَ: النُّكُولُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا أَخَفُّ الْحُقُوقِ دُونَ أَغْلَظِهَا كَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْأَمْوَالُ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ. قِيلَ: إِنَّمَا ضَعُفَ الشَّاهِدُ وَالْمَرْأَتَانِ لِنَقْصِ النِّسَاءِ عَنْ كَمَالِ الرِّجَالِ، وَالنَّاكِلُ عَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 142 الْيَمِينِ كَامِلٌ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى نُكُولِهِ حُكْمُ الْكَمَالِ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ نُكُولِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، فَبَطَلَ بِهِ هَذَا التَّعْلِيلُ. فَإِنْ قِيلَ: النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ يَجْرِي مَجْرَى تَرْكِ الْحَقِّ، وَبَذْلُ الْأَمْوَالِ يَصِحُّ، فَيَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، وَبَذْلُ الْحُدُودِ وَالنُّفُوسِ لَا يَصِحُّ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ. قِيلَ: النُّكُولُ تَرْكٌ لِلْحُجَّةِ، وَلَيْسَ بِبَذْلٍ لِلْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَثَبَتَ حُكْمُهُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْبُذُولِ، وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ إِلَّا بَعْدَ نُكُولِهِ ثَلَاثًا، 7 فَخَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْبَذْلِ، فَزَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْبَذْلِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُكُولٌ لَا يُقْضَى بِهِ فِي الْقِصَاصِ، فَلَمْ يُقْضَ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ كَالنُّكُولِ الْأَوَّلِ. وَالْقِيَاسُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِالنُّكُولِ الثَّالِثِ كَالْقِصَاصِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى، فَلَمْ يُقِرَّ، وَلَمْ يُنْكِرْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَانَ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ أَوْلَى أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي سُكُوتِهِ امْتِنَاعًا مِنْ أَمْرَيْنِ: الْجَوَابُ وَالْيَمِينُ وَفِي نُكُولِهِ امْتِنَاعٌ مِنَ الْيَمِينِ دُونَ الْجَوَابِ، فَكَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَخَفَّ حُكْمًا مِنِ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ لَفْظٍ وَجَبَ بِالدَّعْوَى، فَلَمْ يُوجِبِ الْحُكْمَ بِالدَّعْوَى كَالثَّالِثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ لَفْظَيْ مَا وَجَبَ بِالدَّعْوَى، فَلَمْ يَكُنِ السُّكُوتُ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِالدَّعْوَى كَالْجَوَابِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَمِينَ الْمُنْكَرِ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ، وَلَا يُسْقِطُ الْحَقَّ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَوْ قَامَتْ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَجَبَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ عَنْهَا مَا كَانَ مُنْقَطِعًا، وَهُوَ بَقَاءُ الْخُصُومَةِ لَا ثُبُوتُ الْحَقِّ كَمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ لما كانت موجبة لثبوت الحق كان العدول عَنْهَا مَانِعًا مِنْ سُقُوطِهِ بِهَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 143 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا هُوَ أَنَّ مَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ وُقِفَ بِعَدَمِهَا كَالْبَيِّنَةِ. (فَصْلٌ) : وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُجَّةٌ لَهُ فِي النَّفْيِ، كَمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حِجَّةٌ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْمُدَّعِي لِحُجَّتِهِ مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِحُجَّتِهِ مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ابْتِدَاءً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا مُوجِبًا لِلْعُدُولِ إِلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ، كَتَرْكِ الْبَيِّنَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قُلْنَا: التَّعْلِيلُ إِنَّمَا كَانَ لِلْحُجَّةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَبِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَتْ يَمِينُ الرَّدِّ مِنَ الْحُجَجِ الْمُبْتَدَأَةِ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي التَّعْلِيلِ. فَإِنْ قَالُوا: نَقْلِبُهَا، فَنَقُولُ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةُ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا لَمْ تُنْقَلْ إِلَى جَنَبَةِ صَاحِبِهِ، كَالْبَيِّنَةِ. قُلْنَا: نَقُولُ بِهَذَا الْقَلْبِ، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلنَّفْيِ، وَهِيَ لَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا تُنْقَلُ إليه يمين الإثبات، وبينة المدعي للإثبات، وَنَقْلُهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلنَّفْيِ، وَالْبَيِّنَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَالْيَمِينُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، فَصَحَّ قَلْبُنَا، وَفَسَدَ قَلْبُهُمْ. وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَمِينِ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْخَصْمَيْنِ، وَأَقْوَاهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،. لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، مِمَّا ادُّعِىَ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، فَجُعِلَتِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَتِهِ، فَلَمَّا نَكَلَ فِيهَا، صَارَ الْمُدَّعِي أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الْيَمِينِ شُبْهَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، فَصَارَ الْمُدَّعِي بِهَا أَقْوَى مِنْهُ، فَاسْتَحَقَّتِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَتِهِ، لِقُوَّتِهِ. [كَمَا ثَبَتَتْ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَ ثُبُوتِ قُوَّتِهِ] ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا جَنَبَةٌ قَوِيَتْ عَلَى صَاحِبَتِهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ النُّكُولِ، وَهِيَ حَالُ قُوَّتِهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ بِنَائِهِمْ عَلَى رَدِّ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 144 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ: " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ ". فَهُوَ أَنَّ خَصْمَهُ كَانَ بَاذِلًا لِلْيَمِينِ، وَلَيْسَ لِلطَّالِبِ مَعَ بَذْلِ الْيَمِينِ إِلَّا الْيَمِينُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، فَلَمْ تُنْقَلْ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي بِهَا، وَلَا يُثْبِتُ، وَالْيَمِينُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا، فَجَازَ نَقْلُهَا عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْفِ بِهَا إِلَى الْمُدَّعِي لِيُثْبِتَ بِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي مِنْ قَوْلِهِ كَالدَّعْوَى، فَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ تُخَالِفُ الْقَوْلَ، كَمَا أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. تُخَالِفُ الْإِنْكَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِنْكَارُ حُجَّةً، فَصَارَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ حُجَّةً. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَكْرَارِ الدَّعْوَى مِرَارًا، فَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِنْكَارِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُ الدَّعْوَى حُجَّةً لِلْمُدَّعِي، وَلَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ حُجَّةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النُّكُولَ عَنِ الْيَمِينِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحَقِّ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَا أَمْكَنَ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي. فَأَمَّا مَا تَعَذَّرَ فِيهِ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ، وَلَهُمَا نَظَائِرُ، خَرَّجَ الْحُكْمَ فِيهَا بِالنُّكُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ، إِلَّا كَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ، فَظَهَرَ فِي حِسَابِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْكَرَهُ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، أَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لَمْ تَكْمُلْ بِهِ الْبَيِّنَةُ إِلَّا مَعَ يَمِينٍ، فَالْيَمِينُ هَاهُنَا فِي الرَّدِّ وَمَعَ الشَّاهِدِ مُتَعَذِّرَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ كَافَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِحْلَافُهُمْ جَمِيعُهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِحْلَافُ بَعْضِهِمْ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَالْإِمَامُ وَإِنْ تَعَيَّنَ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَهُوَ نَائِبٌ، وَالنِّيَابَةُ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ. وَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ فِي الْأَيْمَانِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَفِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْإِمْكَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ اعْتِبَارًا بِمُوجَبِ الْأَصْلِ، الَّذِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ، فَهَذِهِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى وَرَثَةٍ أَنَّ مَيِّتَهُمْ وَصَّى إِلَيْهِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ مِنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 145 مَالِهِ وَتَفْرِقَتِهِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَأَنْكَرُوهُ، وَنَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَصِيِّ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ، وَلَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ. وَفِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَجْهَانِ حَكَّاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ أَيْضًا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَصِيُّ حَقًّا لِطِفْلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يَحْلِفِ الْوَصِيُّ وَلَمْ يُحْكَمْ بِالنُّكُولِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَكَانَ رَدُّ الْيَمِينِ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِ الطِّفْلِ، لِأَنَّ لِرَدِّ الْيَمِينِ وَقْتًا مُنْتَظَرًا. فَأَمَّا مَا أَوْجَبْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ بِنُكُولِ رَبِّ الْمَالِ، فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ سُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ ظُهُورِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعِهِ أنه حكم بالظاهر المتقدم دون النكول الطارىء وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : كُلُّ حَقٍّ سُمِعَتِ الدَّعْوَى فِيهِ، وَجَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى مُنْكِرِهِ، وَرُدَّتِ الْيَمِينُ بِالنُّكُولِ عَنْهُ عَلَى مُدَّعِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا كَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ طلاق أو عتق أو نسب. [هذا مذهب الشافعي] . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا لم يكن مالا، ولا المقصود منه المال. وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ، وَدَعْوَى الرِّقِّ، وَالِاسْتِيلَادُ، وَالنَّسَبُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْقَذْفُ. وَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَا تُرَدُّ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا. وَلَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقًا، فَأَنْكَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ. وَأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ لِيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا يُحْكَمُ بِالنُّكُولِ فِيمَا لَا تَصِحُّ إِبَاحَتُهُ، فَسَقَطَتْ فِيهِ الْيَمِينُ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَصِحُّ فِيهَا، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ، فَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْيَمِينُ قِيَاسًا عَلَى حُدُودِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْلَفَ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَزِمَتِ الْإِجَابَةُ عَنْهَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِيهَا كَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ حُقُوقِهِمْ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 146 فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ الْبَتَّةَ كَحَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ عَنْهُ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِسَتْرِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ". وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ "، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ خَصْمٍ فِي حَقِّهِ أَوْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالزِّنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ كَالْقَاذِفِ بِالزِّنَا إِذَا طُولِبَ بِالْحَدِّ، فَقَالَ: أَنَا صَادِقٌ فِي قَذْفِهِ بِالزِّنَا، وَادَّعَاهُ عَلَى الْمَقْذُوفِ سُمِعَتْ حِينَئِذٍ هَذِهِ الدَّعْوَى، لِيَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهِ مُسْقِطًا لِحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَقْذُوفُ أُحْلِفَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْقَاذِفِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلَمْ يَجِبْ بِيَمِينِهِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ: مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، لِسَرِقَةٍ تُوجِبُ الْغُرْمَ، وَهُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَالْقَطْعُ، وَهُوَ حَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ سَقَطَ الْغُرْمُ بِتَحْلِيلٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى فِيهِ حِينَئِذٍ وَسَقَطَ وُجُوبُ الْيَمِينِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْغُرْمُ بَاقِيًا صَحَّتْ فِيهِ الدَّعْوَى، وَوَجَبَتْ فِيهِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ السَّارِقُ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ الْغُرْمَ، وَلَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْغُرْمَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْقَطْعَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ انْفِرَادِهِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِالِاجْتِمَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 147 (مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَمَا دَخَلَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ) (بَابُ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تجوز ومن يشهد بعد رد شهادته من الجامع ومن اختلاف الحكام وأدب القاضي وغير ذلك) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا شَيْئًا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ فَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا فَصَلَ الْمُزَنِيُّ الشَّهَادَاتِ كِتَابَيْنِ، أَوَّلًا وَثَانِيًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِلٌ بِالْحُكْمِ فَأَضَافَهُ إِلَى أَدَبِ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ أَفْرَدَهُ عَنِ الأول. والمقبول الشهادة، وهو الْعَدْلُ، وَالْمَرْدُودُ الشَّهَادَةِ هُوَ الْفَاسِقُ فَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَةٍ مِنَ الْعَدْلِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وَلِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالرِّضَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعَدْلِ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَاسِقِ. وَأَمَّا التَّوَقُّفُ عَنْ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] . وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ. وَكُلُّ شَهَادَةٍ خبر وإن لم يكن كل خبر شهادة. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] فَالْمَنْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ إِذَا أَوْجَبَ قَبُولَ الْعَدْلِ أَوْجَبَ رَدَّ الْفَاسِقِ وَقِيلَ إِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَاسِقِ نَزَلَتَا فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى فِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْفَذَهُ إِلَى قَبِيلَةٍ مُصْدِقًا فَأَخَذَ مِنْ صَدَقَتِهَا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ إِحَنٌ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، وَعَادَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ، فَهَمَّ بِغَزْوِهِمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إِنْ جَاءَكُمْ فاسق بنبأ فتبينوا فكفى عَنْهُمْ وَعَلِمَ بِحَالِهِمْ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَسَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّهُ اسْتَطَالَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 148 ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: أَنَا أَثْبَتُ مِنْكَ جَنَانًا، وأفصح منك لسانا، وأهد مِنْكَ سِنَانًا فَنَزَلَ فِيهِ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يستوون} يَعْنِي بِالْمُؤْمِنِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَبَالْفَاسِقِ الوليد بن عقبة. {لا يستوون} يَعْنِي فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَمَنَازِلِ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا اسْمُ الْعَدْلِ فَهُوَ الْعَدِيلُ، لِأَنَّهُ مُعَادِلٌ لِمَا جَازَاهُ وَالْمُعَادَلَةُ الْمُسَاوَاةُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ كَانَ مَرْضِيَّ الدَّيْنِ وَالْمُرُوءَةِ لِاعْتِدَالِهِ. وَأَمَّا اسْمُ الْفَاسِقِ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الشَّيْءِ يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. فَسُمِّيَ الْغُرَابُ فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ مِنْ مَأْلَفِهِ وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ كَانَ مَسْخُوطَ الدِّينِ وَالطَّرِيقَةِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاعْتِدَالِ. ( [صِفَةُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ] ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ، وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى صِفَةِ الْعَدْلِ وَإِلَى صِفَةِ الْفَاسِقِ، لِيَكُونَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ مَقْبُولًا، وَمَنْ وُجِدَ فِيهِ الْفِسْقُ مَرْدُودًا. فَالْعَدْلُ فِي الشَّهَادَةِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ خِصَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، حُرًّا، مُسْلِمًا. وَلَيْسَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ وَالْحُرِّيَّةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ وَإِنْ كَانَ وَجُودُهُمَا شَرْطًا فِي عَدَالَتِهِ. وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: كَمَالُ دَيْنِهِ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَنْ يَكُونَ مُحَافِظًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ مُجَانِبًا لِكَبَائِرِ الْمَعَاصِي غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى صَغَائِرِهَا. وَالْكَبَائِرُ: مَا وَجَبَتْ فِيهَا الْحُدُودُ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْوَعِيدُ. وَالصَّغَائِرُ: مَا قَلَّ فِيهَا الْإِثْمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . وَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وَفِي هَذِهِ الْكَبَائِرِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: مَا زُجِرَ عَنْهُ بالحد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 149 وَالثَّانِي: مَا لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. وَالثَّالِثُ: ما رواه شرحبيل عن ابن مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْكَبَائِرِ. فَقَالَ: " أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يطعم معك، وأن تزاني بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ". وَالرَّابِعُ: مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَمِ الْكَبَائِرُ؟ أَسَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ. لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ. فَكَانَ يَرَى كَبَائِرَ الْإِثْمِ مَا لَمْ يُسْتَغْفَرِ اللَّهَ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْفَوَاحِشُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الزِّنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي. وَأَمَّا اللَّمَمُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: - أَحَدُهَا: أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَرْجِعَ عَنْهَا قَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا ". وَالثَّانِي: أَنْ يُلِمَّ بِالْمَعْصِيَةِ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يَتُوبَ عَنْهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّمَمَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عِقَابٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّمَمَ مَا دُونَ الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْغَمْزَةِ، وَالنَّظْرَةِ، وَالْمُضَاجَعَةِ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ حَظَّهَا مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَاللِّسَانِ النُّطْقُ، هِيَ النَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ". (فَصْلٌ) : وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: ظُهُورُ الْمُرُوءَةِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْعَدَالَةِ. وَضَرْبٌ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا. وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 150 وَأَمَّا مَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا فَهُوَ: مُجَانَبَةُ مَا سَخُفَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي أَوِ الْمُضْحِكِ وَتَرْكُ مَا قَبُحَ مِنَ الضَّحِكِ الَّذِي يَلْهُو بِهِ. أَوْ يُسْتَقْبَحُ لِمَعْرِفَتِهِ أَوْ أَدَائِهِ. فَمُجَانَبَةُ ذَلِكَ مِنَ الْمُرُوءَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ، وَارْتِكَابُهَا مُفْضٍ إِلَى الْفِسْقِ. وَلِذَلِكَ نَتْفُ اللِّحْيَةِ مِنَ السَّفَهِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وكذلك خضاب اللحية من السفه التي تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهَا فَهُوَ الْإِفْضَالُ بِالْمَالِ وَالطَّعَامِ وَالْمُسَاعَدَةُ بِالنَّفْسِ وَالْجَاهِ، فَهَذَا مِنَ الْمُرُوءَةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعَدَالَةِ. فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَضَرْبَانِ: عَادَاتٌ، وَصَنَائِعُ. فَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَدَي فِيهَا بِأَهْلِ الصِّيَانَةِ دُونَ أَهْلِ الْبَذْلَةِ، فِي مَلْبَسِهِ وَمَأْكَلِهِ وَتَصَرُّفِهِ. فَلَا يَتَعَرَّى عَنْ ثِيَابِهِ فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ فِيهِ أَهْلُ الصِّيَانَةِ ثِيَابَهُمْ. وَلَا يَنْزِعُ سَرَاوِيلَهُ فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ فِيهِ أَهْلُ الصِّيَانَةِ سَرَاوِيلَهُمْ، وَلَا يَكْشِفُ رَأْسَهُ فِي بَلَدٍ يغطي فيه أهل الصيانة فيه رؤوسهم. وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يُجَافِي أَهْلُ الصِّيَانَةِ ذَلِكَ فِيهِ، كَانَ عَفْوًا، كَالْحِجَازِ وَالْبَحْرِ الَّذِي يَقْتَصِرُ أَهْلُهُ فِيهِ عَلَى لَبْسِ الْمِئْزَرِ. وَأَمَّا الْمَأْكَلُ فَلَا يَأْكُلُ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ وَلَا فِي مَشْيِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ فِي مَضْغِهِ، وَلَا يُعَانِي بِكَثْرَةِ أَكْلِهِ. وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فَلَا يُبَاشِرُ ابْتِيَاعَ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَحَمْلَهُ بِنَفْسِهِ فِي بَلَدٍ يَتَجَافَاهُ أَهْلُ الصِّيَانَةِ. إِلَى نَظَائِرِ هَذَا مِمَّا فِيهِ بَذْلَةٌ وَتَرْكُ تَصَوُّنٍ. وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُرُوءَةِ فِي شُرُوطِ الْعَدَالَةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا لِإِبَاحَتِهِ. قَدْ بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاشْتَرَى فِيمَنْ يَزِيدُ، وَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَ: " يَا وَزَّانُ زِنْ وَأَرْجِحْ ". وَقَالَ الرَّاوِي: فَأَخَذْتُهُ لِأَحْمِلَهُ. فَقَالَ: " دَعْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ ". وَقِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنْزِلِهِ إِذَا خَلَا؟ قَالَتْ: كَانَ يَخْصِفُ النعل ويرقع الدَّلْوَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ فِي خِلَافَتِهِ وَهُوَ مُتَخَلِّلٌ بِعَبَاءَةٍ قَدْ رَبَطَهَا بِشَوْكَةٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 151 وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَةَ. وَيَهْنَأُ بِعِيرَهُ بِيَدِهِ وَيَقُودُهُ. وَقَدِ اشْتَرَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَمِيصًا وَأَتَى تَجَّارًا فَوَضَعَ كُمَّهُ وَقَالَ: اقْطَعْ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَصَابِعِ، فَقَطَعَهُ بِفَأْسٍ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ كَفَفْتَهُ؟ فَقَالَ دَعْهُ يَتَسَلَّلْ مَعَ الزَّمَانِ. وَعَمِلَ بِالْأَجْرِ فِي حَائِطٍ وَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيَّةٍ لِيَسْقِيَ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ. وَمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه وجاز، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، لِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فَصَارَتِ الْإِشَارَةُ بِهَا إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ مِنْ دَوَاعِي الْحَيَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمُرُوءَةِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَدَالَةِ، ولأن الْمُرُوءَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَرْءِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، فَصَارَتِ الإشارة بها للإنسانية، فَانْتَفَتِ الْعَدَالَةُ عَنْ مَنْ لَا إِنْسَانِيَّةَ فِيهِ، ولأن حفظ المروءة من دواعي الحياء. وإن كان لا يَفْسُقُ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ لِلْفَضِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، وَهِيَ تَالِيَةٌ لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هم بشهاداتهم قائمون أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 33، 35] . وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الْفَضِيلَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا فِي الْبَذْلَةِ. وَلَيْسَ مَا فَعلَّهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بَذْلَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُرْفِ أَهْلِهِ فِي الزَّهَادَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنَ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ". وَلِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الْبَذْلَةِ وَالْعُدُولَ عَنِ الصِّيَانَةِ دَلِيلٌ عَلَى اطِّرَاحِ الصِّيَانَةِ وَالتَّحَفُّظِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَقِلَّ تَحَفُّظُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَيْهَا مِنْ صِغَرِهِ لَمْ تقدح في عدالته وإن الجزء: 17 ¦ الصفحة: 152 استحدثها في كبيره قَدَحَتْ فِي عَدَالَتِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَنْشَأِ مَطْبُوعًا بِهَا وَبَالِاسْتِحْدَاثِ مُخْتَارًا لَهَا. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنِ اخْتَصَّتْ بِالدِّينِ قَدَحَتْ فِي عَدَالَتِهِ كَالْبَوْلِ قَائِمًا وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ إِذَا خَلَا، وإن يتحدث بمساوىء النَّاسِ، وَإِنِ اخْتَصَّتْ بِالدُّنْيَا لَمْ تَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ. كَالْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ وَكَشْفِ الرَّأْسِ " بَيْنَ النَّاسِ " وَالْمَشْيِ حَافِيًا، لِأَنَّ مُرُوءَةَ الدِّينِ مَشْرُوعَةٌ وَمُرُوءَةَ الدُّنْيَا مُسْتَحْسَنَةٌ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصَّنَائِعُ فَضَرْبَانِ: مُسْتَرْذَلٌ وَغَيْرُ مُسْتَرْذَلٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْذَلِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ، فَغَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ (مِمَّا) لَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ عَنِ الِاكْتِسَابِ بِصَنَائِعِهِمْ وَمَتَاجِرِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَيُكَفِّرُهُ عَرَقُ الْجَبِينِ فِي طَلَبِ الْحِرْفَةِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ ". (قِيلَ) هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمًا يَرْجُفُونَ بِشَيْءٍ فَقَالَ: كِذْبَةٌ قَالَهَا الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ. وَإِنْ ثَبَتَ مُسْنَدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُمْ يَعِدُونَ وَيَخْلُفُونَ. وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ كَذِبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّ الصَّبَّاغِينَ يُسَمُّونَ الْأَلْوَانَ بِمَا أَشْبَهَهَا فَيَقُولُونَ: هَذَا لَوْنُ الشَّقَائِقِ وَلَوْنُ الشَّفَقِ وَلَوْنُ النَّارِنْجِ. وَالصَّوَّاغُونَ يُسَمُّونَ الْأَشْكَالَ بِمَا يُمَاثِلُهَا، فَيَقُولُونَ: هَذَا زَرْعٌ وَهَذَا شَجَرٌ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اسْمِهِ كَذِبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُرِيدُونَ بِالصَّبَّاغِينَ الَّذِينَ يَصْبُغُونَ الْكَلَامَ فَيُغَيِّرُونَ الصِّدْقَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 153 بَالْكَذِبِ، لِأَنَّ الصَّبْغَ تَغْيِيرُ اللَّوْنِ بِغَيْرِهِ. وَيُرِيدُ بِالصَّوَّاغِينَ الَّذِينَ يَصُوغُونَ الْكَلَامَ. وَمِنْهُمُ الشُّعَرَاءُ. لِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيبِ. فَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ رُدَّتْ بِهِ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَعْدِ كَذِبٌ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، لَمْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الِاسْمِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ فِي الصَّبَّاغِينَ وَلَمْ تُرَدَّ فِي الصَّوَّاغِينَ إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْكَذِبِ. وَأَمَّا الْمُسْتَرْذَلُ مِنَ الصَّنَائِعِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدِّينِ كَالْمُبَاشِرِينَ لِلْأَنْجَاسِ مِنَ الْكَنَّاسِينَ وَالزَّبَّالِينَ، وَالْحَجَّامِينَ، أَوِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْعَوْرَاتِ كَالْقَيِّمِ وَالْمُزَيِّنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدُّنْيَا كَالنَّسِيجِ وَالْحِيَاكَةِ، وَمَا يُدَنِّسُ بِرَائِحَتِهِ كَالْقَصَّابِ وَالسَّمَّاكِ. فَإِنْ لَمْ يُحَافِظْ هَؤُلَاءِ عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ وَقَصَّرُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ جُرْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَقَدْحًا فِي دِيَانَتِهِمْ. وَإِنْ حَافَظُوا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْعَدَالَةِ، فَفِي قَدْحِ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يقدح فيها، لأن الرضا بها مع الاسترزال قَدْحٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهَا بُدًّا. وَلِأَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ شَرْعًا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ مِنْهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدِّينِ. وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدُّنْيَا، لَا سِيَّمَا الْحِيَاكَةِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ فِي أَهْلِهَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ وَأَنَّهَا فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي، وَلُزُومُ الْمُرُوءَةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ نَعْلَمُهُ إِلَّا أن يكون قليلا بمحض الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ. حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بمحض الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ. وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ فِي غَرَائِزِ أَنْفُسِهِمْ دَوَاعِيَ الطَّاعَاتِ وَدَوَاعِيَ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَتَمَحَّضْ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ اجْتِمَاعِ سَبَبِهِمَا وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: (مَنْ لَكَ بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ ... يَحِيقُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ) الجزء: 17 ¦ الصفحة: 154 وَلِأَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] . وَقَالَ تعالى: {وظن داود أنما فتنه فاستغفر ربه} [ص: 24] وقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] وَقَالَ تَعَالَى فِي يُونُسَ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ عَصَى اللَّهَ أَوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ إِلَّا أَخِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ". وَقِيلَ: إِنَّهُ اخْتُبِرَ يَحْيَى فِي كُوزِ مَاءٍ رَآهُ مَمْلُوءًا وَفَرَغَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. وَقِيلَ لَهُ: مَا فِي [الْكُوزِ] فَقَالَ: كَانَ فِيهِ مَاءٌ. وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَاءٌ فَيَكُونُ كَذِبًا فَتَحَفَّظَ حَتَّى سَلِمَ. وَلِأَنَّ أَعْصَى خَلْقِ اللَّهِ إِبْلِيسُ وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُ طَاعَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجمعين إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] وَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْعَدَالَةُ مَقْصُورَةً عَلَى خُلُوصِ الطَّاعَاتِ. وَلَا الْفِسْقُ مَقْصُورًا عَلَى خُلُوصِ الْمَعَاصِي. لِامْتِنَاعِ خُلُوصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُمْتَنِعِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ. حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَإِنْ عَصَى بِبَعْضِ الصَّغَائِرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ، حُكِمَ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ وَإِنْ أَطَاعَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ موازينه فأولئك هم المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103، 102] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . فَغَلَّبَ حُكْمَ الْأَغْلَبِ كَمَا غَلَّبَ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ حُكْمَ الْأَغْلَبِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ. وَفِي نِكَاحِ النِّسَاءِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأُخْتٍ إِنْ كَانَتْ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ، حُرِّمْنَ عَلَيْهِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ لَهُ مَنْ لَيْسَتْ بِأُخْتٍ فَتَحِلَّ. وَإِنْ كَانَتْ فِي جَمٍّ غَفِيرٍ حَلَلْنَ لَهُ حَتَّى تَتَعَيَّنَ لَهُ مَنْ هِيَ أخت فتحرم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 155 فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا في العدالة والفسق. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْبَلُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهُ حُرٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِدِينِهِ، وَمُرُوءَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. فَأَمَّا اعْتِبَارُهَا بِدِينِهِ، فَيَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُواظِبَ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْتَنِبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي مِنَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُصِرَّ عَلَى صَغَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِصْرَارُهُ عَلَيْهَا الْإِكْثَارُ مِنْهَا وَقِلَّةُ الِانْقِبَاضِ عَنْهَا، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِيهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَهُ مِنْ حَالِهِ، فَيَجُوزَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ قِيلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا. لِأَنَّهَا صِفَةُ إِخْبَارٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْهَلَ حَالَهُ فَتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي. مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَالَتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي عَدْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِفِسْقِهِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي فَاسِقٌ. لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي التَّعْدِيلِ وَغَيْرُ مَتْهُومٍ فِي الْجَرْحِ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُوجِبُ لَهُ حَقًّا وَالْفِسْقَ يُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُعْتَبَرُ فِيهَا مِنَ الْمُرُوءَةِ فِي الْعَدَالَةِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ. وَلَيْسَ لِمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْهَا تَأْثِيرٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ مِنْهَا، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَفْعَالِ الْعَدْلِ. فَإِنْ عَرَفَهُ الْحَاكِمُ عَمِلَ فِيهَا بِمَعْرِفَتِهِ. وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ سَأَلَ عَنْهَا. وَهَلْ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ أَوْ شَهَادَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَثْبُتُ عِنْدَهُ إِلَّا بِشَهَادَةٍ، كَالْعَدَالَةِ فِي الدِّينِ، وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ قَدْ جرياه عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا خَبَرٌ تَثْبُتُ بِقَوْلِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الدِّينِ بَاعِثَةٌ عَلَيْهَا. فَقَوِيَ الْخَبَرُ بِهَا فَأَقْنَعَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 156 وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فِي الدِّينِ فَتَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: بِبُلُوغِهِ، وَعَقْلِهِ، وَإِسْلَامِهِ، وَحُرِّيَّتِهِ. فَأَمَّا الْبُلُوغُ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَبَهْ حَالُهُ فِيهِ لِكَوْنِهِ رَجُلًا مُشْتَدًّا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ وَإِنِ اشْتَبَهَتْ حَالُهُ فِيهِ، لِكَوْنِهِ رَجُلًا، أَمْرَدَ، فَحَكَمَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِبُلُوغِهِ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْبُلُوغِ بِالْإِثْبَاتِ، إِذَا جُعِلَ الْإِثْبَاتُ فِي الْمُسْلِمِ بُلُوغًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ الْحَاكِمُ سِنَّهُ فَيَحْكُمَ بِبُلُوغِهِ إِذَا اسْتَكْمَلَ سِنَّ الْبُلُوغِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ بِبُلُوغِهِ شَاهِدَا عَدْلٍ فَيَحْكُمَ بِبُلُوغِهِ إِذَا اسْتَكْمَلَ سِنَّ الْبُلُوغِ فَتَكُونَ شَهَادَةً لَا خَبَرًا. وَالرَّابِعُ: أن يقوم الْغُلَامُ: قَدْ بَلَغْتُ فَيُحْكَمَ بِبُلُوغِهِ فَتَكُونَ شَهَادَةٌ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ بِالِاحْتِلَامِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَتَغَلَّظُ أَحْكَامُهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَكَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِيهِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَيُعْلَمُ مُشَاهَدَةً بِظُهُورِ نَتَائِجِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ إِنْ خَفِيَ لِإِمْكَانِ اخْتِبَارِهِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ. حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً حَضَرَتْ عِنْدَ شُرَيْحٍ فِي مُحَاكَمَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَجْنُونَةٌ. فَقَالَ لَهَا مُخْتَبِرًا: أَيُّ رِجْلَيْكِ أَطْوَلُ؟ فَمَدَّتْهُمَا لِتُقَدِّرَهُمَا، فَصَرَفَهَا وَحَكَمَ بِعَقْلِهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُعْلَمُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ إِسْلَامُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا قَبْلَ بُلُوغِهِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرَى مُصَلِّيًا فِي مَسَاجِدِنَا عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ لَا بِالصَّلَاةِ لِأَنَّنَا لَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا صَلَّى. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ إِنَّنِي مُسْلِمٌ فَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ. وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى اخْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُخْتَبَرُ بِهِمَا لِأَنَّهُ أَحْوَطُ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ اخْتِبَارُهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ إِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ عَلِمَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 157 الْحَاكِمُ إِسْلَامَهُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ حُكِمَ بِهِ. وَإِنْ جَهِلَهُ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِإِسْلَامِهِ حُكِمَ بِهِ. وَلَمْ يُسْأَلِ الشُّهُودُ عَنْ سَبَبِ إِسْلَامِهِ. فَأَمَّا إِذَا شُوهِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ. مَا لَمْ يُعْلَمْ كُفْرُهُ، لِأَنَّ مَيِّتًا لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، مَجْهُولَ الْحَالِ، وَجَبَ غَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ الدَّارِ. وَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ إسلامه فِي الظَّاهِرِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ تَبَعًا، فَيَرِثُ وَيُورَثُ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْشَافٍ عَنْ إِسْلَامِهِ اكْتِفَاءً بِظَاهِرِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ حُكِمَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ قُبِلَ مِنْهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَلَوْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالْكُفْرِ. وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْ إسلامه إن شهد وسأل عَنْ عَدَالَتِهِ. وَإِنْ حُكِمَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ دون الباطن سأل عَنْ إِسْلَامِهِ ثُمَّ عَنْ عَدَالَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ وَهِي َ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَدَالَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الْفُتْيَا وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي الشَّهَادَةِ. وَحُرِّيَّتُهُ تُعْلَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا وَثَالِثٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَلِدَهُ حُرَّةٌ فَيَكُونَ حُرَّ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكٌ فَيَصِيرَ حُرًّا بَعْدَ الرِّقِّ. وَالثَّالِثُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: أَنْ يَقُولَ: أَنَا حُرٌّ، فَفِي ثُبُوتِ حُرِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهُ حُرٌّ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ خَبَرَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَقْبُولًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدَّارِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا، كَانَ قَوْلُهُ فِي حُرِّيَّتِهِ مَقْبُولًا. لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ حُرِّيَّةُ أَهْلِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فِي إِسْلَامِهِ مَقْبُولًا. وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 158 وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِسْلَامَ إِذَا كَانَ كَافِرًا فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ. وَلَمْ يَمْلِكِ الْحُرِّيَّةَ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِقْرَارَ بِهَا. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَّا بِخَبَرٍ مِنْهُ: يَعْنِي مِنَ الحاكم؛ لأن يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَحْمِلُ الْجَمِيعَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، هَلِ الْحَكَمُ يَعْمَلُ فِيهِمَا بِعِلْمِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يُقْبَلُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُ أَوْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ حُرٌّ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِنَفْيِ الْقَبُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَعْلَمَ حُرِّيَّةَ الشَّاهِدِ وَإِسْلَامَهُ فَيَسْمَعُهَا ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ بِظُهُورِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَخَفَاءِ الْعَدَالَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْكَمُ بِهَا حَتَّى يَعْلَمَ حُرِّيَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِحُرِّيَّتِهِ وَإِسْلَامِهِ كالعدالة والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ جَارٍ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا دَافِعٍ عَنْهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَخْلُوَ مِنَ التُّهَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَالتُّهْمَةُ رِيبَةٌ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا ذِي الْإِحْنَةِ " فَالْخَصْمُ الْمُنَازِعُ وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ. وَذِي الْإِحْنَةِ: الْعَدُوُّ. فَمِنَ الْمَتْهُومِينَ فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا، مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا. فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. فَمِنْ جَرِّ النَّفْعِ، أَنْ يَشْهَدَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَالِ عَبْدِهِ، وَمُسْتَحِقٌّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ مُكَاتَبِهِ لِجَوَازِ عَوْدِهِ إِلَى رِقِّهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ، فَكَانَ نَفْعًا. وَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ وَكِيلٌ فيه وجهان: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 159 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالنِّيَابَةِ عَنْ ذِي الْحَقِّ مَتْهُومًا وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَلِيِّ لِلْمُولَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ مَقَامَهُ فِي النِّيَابَةِ عَنْهُ. وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ لِأَبِيهِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِعَدَمِ وَلَايَتِهِ. وَمِنْهَا شَهَادَةُ " الْمُوصَى لَهُ بِحَقٍّ " لِلْمُوصِي " بَعْدَ مَوْتِهِ " إِذَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِحَقِّ وَصِيَّتِهِ. وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ؛ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَجْهًا وَاحِدًا. بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي أحد الوجهين لأن الوكيل قد تجوز أَنْ يَتَقَرَّبَ بِشَهَادَتِهِ إِلَى مُوَكِّلِهِ. وَالْمُوصَى لَهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ. فَصَارَ الْوَكِيلُ مَتْهُومًا وَالْمُوصَى لَهُ غَيْرُ مَتْهُومٍ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ دَيْنٌ، فَيَشْهَدَ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِهِ. فَلِلْمَشْهُودِ لَهُ حَالَتَانِ: مُوسِرٌ، وَمُعْسِرٌ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نفعا لوصوله إلى دينه من يساره. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُحْكَمَ بِفَلَسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ صَائِرٌ إِلَيْهِ. فصار نفعا يترحم به. والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُحْكَمَ بِفَلَسِهِ. فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ. لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا مُطَالَبَةَ الْمُعْسِرِ بِدَيْنِهِ كَالْمَحْكُومِ بِفَلَسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِي: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ إِذَا حُكِمَ بِفَلَسِهِ. وَفَرَّقَا بَيْنَ الْمُعْسِرِ وَالْمَحْكُومِ بِفَلَسِهِ. بِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِمَالِ التَّفْلِيسِ وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمَالِ الْمُعْسِرِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى حَقِّهِ بَعْدَ تَعَذُّرِهِ. وَمِنْهَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ يُشْرِكُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ. فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِشَرِيكٍ، جَازَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ لِلْوَكِيلِ نِيَابَةً وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ نِيَابَةٌ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَجْرِي عَلَى حُكْمِهَا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا دَفْعُهُ بِشَهَادَته ضَرَرًا، فَهِيَ الشَّهَادَةُ بِضِدِّ مَا ذَكَرْنَا فِي ضِدِّهِ فَمِنْهَا شَهَادَةُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 160 السَّيِّدِ بِجَرْحِ مَنْ شَهِدَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا نَقْصًا فِي حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ بِجَرْحِ شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى مُوَكِّلِهِ. وَمِنْهَا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَى الْمُوصِي. لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا الْمُطَالَبَةَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ الْمُوصَى لَهُ بِعَزْلِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا مُزَاحَمَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا مُزَاحَمَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَهُمْ. وَمِنْهَا أَنْ تَشْهَدَ الْقَافِلَةُ بِجَرْحِ شُهُودٍ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا تَحَمُّلَ الدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. إِلَى نَظَائِرِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ وَالْخَصْمِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا عَلَى خَصْمٍ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ مَوْضِعُ عَدَاوَةٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فَمَرْدُودَةٌ لَا تُقْبَلُ. وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَلِأَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةِ يَمْنَعَانِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ. وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ إِنْ كَانَتْ فِي الدِّينِ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ مَعَ ظُهُورِ الْعَدَاوَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَسْهَلُ مِنْ عَدَاوَةِ الدِّينِ فَكَانَتْ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} . وَالْعَدَاوَةُ مِنْ أَقْوَى الرَّيْبِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ ". وَالْغَمْرُ: الْعَدَاوَةُ، وَهَذَا نَصٌّ. وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَقْتَرِنُ بِتُهْمَةٍ، فَلَمْ تُقْبَلْ كَشَهَادَةِ الْوَالِدِ للولد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 161 وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُهَا بِأَدِلَّتِنَا. وَالثَّانِي: حَمْلُهَا عَلَى التَّحَمُّلِ دُونَ الْأَدَاءِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الدين والعدالة يمنعان من الشهادة بالزور وهو أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا لَمْ يَبْعَثْ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ لَمْ يُوجِبْ قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدْوِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَدَاوَةَ فِي الدُّنْيَا أَسْهَلُ: فَهُوَ أن العداوة في الدين يبعث عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ فَزَالَتِ التُّهْمَةُ فِيهِ. وَالْعَدَاوَةُ فِي الدُّنْيَا أَغْلَظُ لِلْعُدُولِ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَى السَّارِقِ وَوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ وَالزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا زَنَتْ فِي فِرَاشِهِ، إِلَى نَظَائِرِ هَذَا. وَإِذَا مَنَعَتِ الْعَدَاوَةُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدُوِّ، لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُ، لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَغَيْرُ مَتْهُومٍ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ. لِأَنَّ مَا بَعَثَ عَلَى الْعَدَاوَةِ لَا يَكُونُ جَرْحًا تَسْقُطُ بِهِ الشَّهَادَةُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَهَادَةُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ فَتُرَدُّ فِيمَا هُوَ خَصْمٌ فِيهِ لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ ولا ذي الإحنة ". ولأن الخصومة تؤول إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَالْعَدَاوَةُ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِخَصْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ. فَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ثم قذف المشهود فلو عَلَيْهِ الشَّاهِدَ فَصَارَ بِالْقَذْفِ خَصْمًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ. لَمْ تُرَدَّ وَجَازَ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ حُدُوثِ الْخُصُومَةِ وَالْعَدَاوَةِ بِخِلَافِ حُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّهُودِ. وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْخُصُومَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَيْسَ بِجَرْحٍ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ مَنَعَ حُدُوثَ ذَلِكَ. مِنَ الْحُكْمِ بِهَا لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةٌ عَلَى أَحَدٍ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهَا بِحُدُوثِ نِزَاعٍ وَخُصُومَةٍ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا بَطَلَ اعْتِبَارُهُ. ( [شَهَادَةُ الصِّدِّيقِ لِصَدِيقِهِ] ) (فَصْلٌ) : وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُلَاطِفًا، وَالْمُلَاطِفُ، والْمُهَادِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 162 وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُلَاطِفِ، لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمَالٍ يَصِيرُ إِلَيْهِ بِالْمُلَاطَفَةِ بَعْضُهُ. فَصَارَ جَارًّا بِهَا نَفْعًا. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَوَدَّةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْهَدِيَّةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَا مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْعَدُوَّ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَدَاوَةِ. وَلِأَنَّ ذوي الأنساب مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إليهم بالميراث فاشهدوا بِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَالصَّدِيقُ الْمُلَاطِفُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ. وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ عَوْدِهِ إِلَى الصَّدِيقِ بِالْهَدِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يهاديه [ولا يُهَادِيَهُ] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مُهَادَاتِهِ وَيَجُوزُ إِذَا هَادَاهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيلِ الْمَنْعِ بِهَذَا وَجْهٌ والله أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا لِوَلَدِ بَنِيهِ وَلَا لِوَلَدِ بَنَاتِهِ وَإِنْ سَفُلُوا وَلَا لِآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِنْ بَعُدُوا ". قَالَ الماوردي: وهذا صحيح، ولا تقبل شهادة الوالد لمولديه بِهِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَإِنْ بَعُدُوا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ جَائِزَةٌ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] وَلَا يُؤْمَرُ بِالْقِسْطِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ وَلِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ حَاكَمَ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ فِي دِرْعٍ ادَّعَاهُ فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَهَا. فَشَهِدَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ. وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَقْبَلُ شَهَادَةَ ابْنِكَ لَكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيِّ كِتَابٍ وَجَدْتَ هَذَا؟ أَوْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ. وَعَزَلَهُ وَنَفَاهُ إلى قرية يقال لها بالصفا، نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةَ يَحْجِزَانِ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ والكذب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 163 وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَالرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْوَلَدُ مَحْزَنَةٌ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " يَا عَائِشَةُ فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا يَرِيبُهَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ أَبِيهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أَيْ وَلَدًا فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ لَهُ كَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مَعْشَرٍ الدَّارِمِيِّ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ بِمَالِ أَبِيهِ كَالشَّهَادَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ حَدًّا وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ وَلَا مُجَرَّبٍ فِي شَهَادَةِ زُورٍ وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَلَا وَلَاءٍ وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " وَوَصَلَ بِذَلِكَ " وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ " ثُمَّ قَالَ وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَصٌّ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَفِي قَوْلِهِ: " وَلَا ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ " دَلِيلٌ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ " وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِكَسْبِهِ. وَلِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ بِالْمَنْعِ مِنْ شَهَادَةِ الظَّنِينِ وَهُوَ الْمُتَّهَمُ يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَهَا لِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} دَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مَخْرَجَ الزَّجْرِ، أَنْ يُخْبِرَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ وَلَدِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَلَا يَمْنَعُ الدِّينُ وَالْعَدَالَةُ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ، كَشَهَادَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ. وَأَمَّا إِنْكَارُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى شُرَيْحٍ، فَلِأَنَّ شُرَيْحًا وَهِمَ فِي الدعوى؛ لأن عليا عليه السلام ادَّعَى الدِّرْعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْهَدَ بِابْنِهِ الْحَسَنِ، وَلَمْ يَدَّعِهَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 164 لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي الدَّعْوَى نَائِبًا عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْوَكِيلِ. فَوَهِمَ شُرَيْحٌ وَظَنَّ أَنَّ الدَّعْوَى لِنَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَزَلَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْفَحْصِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ، فَيَعْلَمْ بِهَا جَوَازَ الشَّهَادَةِ، فَصَارَتْ دَلِيلًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ فَمَقْبُولَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الشَّهَادَةِ لَهُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ فَتُقْبَلُ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ مِنْ جَمِيعِ الْحُقُوقِ، وَفِي قَبُولِهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ مِنْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْتَلْ بِقَتْلِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِقَوْلِهِ: كَالْعَبْدِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحَرِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ كَالْحُرِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ بِالْعَبْدِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَيْهِ فَمَقْبُولَةٌ، بِخِلَافِ النِّسَبِ. لِاخْتِصَاصِ الرَّضَاعِ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ. وَبِفَارِقِ النَّسَبِ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَلَيْسَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِمَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ] ) وَأَمَّا مَنْ عَدَا عُمُومَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مِنَ الْمُنَاسِبِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنِيهِمَا، وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنِيهِمَا، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَبَنِيهِمَا، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بعضهم البعض. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا أَقْبَلُهَا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَقْبَلُهَا فِي كُلِّ حَقٍّ إلا في النسب لأنه منهم باجتذابه والتكثر. وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ أجازاه وليس لهما مخالف فصار إجماعا. لأنه نَسَبٌ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ وَالنَّفَقَةَ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَغَيْرِ الْمَحْرَمِ مِنْ ذَوِي الأنساب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 165 وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُعْتَقِ لِمُعْتِقِهِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ فَمَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمَنَعَ شُرَيْحٌ مِنْ قَبُولِهَا كَالْوِلَادَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ الْبَعِيدَةِ لِتَعَدِّيهِمْ عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ. وَاللَّهُ أعلم. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ أَوِ الْغَفْلَةِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الضَّبْطُ وَالتَّيَقُّظُ، فَهُمَا شَرْطَانِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ. لِيَقَعَ السُّكُونُ إِلَى صِحَّتِهَا، فَإِنْ حَدَثَ مِنَ الشَّاهِدِ سَهْوٌ أَوْ غَلَطٌ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ وَغَلَطُهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ. لِأَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ سَاكِنَةٍ إِلَيْهِ إِلَى شَهَادَتِهِ لِحَمْلِهَا فِي الْأَغْلَبِ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ. وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّيَقُّظَ وَالضَّبْطَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ غَلَطَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِهِ وَسَهَا، لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَخْلُو من سهو أو غلط. وهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ سَهَا وَقَالَ: " إِنَّمَا أَسْهُو لِأَسُنَّ " وَإِذَا كَانَ لَا يَخْلُو ضَابِطٌ مِنْ غَلَطٍ وَلَا غَافِلٌ مِنْ ضَبْطٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ الْأَغْلَبَ. كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي أَغْلَبُهَا فيكون العدل والفسق معتبرا بِمَا يَغْلِبُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. وَكَذَلِكَ الضَّبْطُ وَالْغَفْلَةُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجَيْنِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كُنْتُ لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّهُ يَرِثُهَا مَا أَجَزْتُ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ إِذَا كَانَ يَرِثُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى جَوَازِهَا وَقَبُولِ شهادة الزوج لزوجته. وقبول الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَيْسَرَ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَالِكٍ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الصَّدِيقِ الملاطف. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 166 احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الِارْتِيَابِ وَالتُّهْمَةِ. وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لَا يَحْجُبُ مِنَ الْإِرْثِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَنْسَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَسْبَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُورِثُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ كَالنَّسَبِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْمَقَامِ وَالظَّعْنِ وَامْتِزَاجَهُمَا فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، وَاخْتِصَاصَهُمَا بِالْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ، قَدْ جَمَعَ مِنْ أَسْبَابِ الِارْتِيَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى مَجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يَسُوقُ امْرَأَةً عَلَى حِمَارٍ فَنَخَسَهَا فَرَمَى بِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَشَهِدَ عَلَيْهِ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا. وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَقَالَ سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ: إِنَّهُ لَأَوَّلُ مَصْلُوبٍ صُلِبَ بِالشَّامِ. وَلَيْسَ لِعُمَرَ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ مَعَ انْتِشَارِ الْقِصَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا مُخَالِفَ لَهُ وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا صِلَةً لَا تُوجِبُ الْعِتْقَ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، كَالْعَشِيرَةِ وَلِأَنَّهَا حُرْمَةٌ حَدَثَتْ عَنْ صِلَةٍ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فآباء الزَّوْجَيْنِ وَأَبْنَائِهِمَا وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَلَمْ يُوجِبْ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالْإِجَارَةِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْبَيْعِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورحمة} . فَهُوَ أَنَّ الْمَوَدَّةَ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ كالأخوين وعلى أنه قد يحدث بينما تَبَاغُضٌ وَعَدَاوَةٌ تَزِيدُ عَلَى الْأَجَانِبِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةً فِي الْمَنْعِ لَفُرِّقَ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَالْمُتَبَاغِضِينَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعْلِيلِهِمْ بِعَدَمِ الْحَجْبِ عَنِ الْمِيرَاثِ، قِيَاسًا عَلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فَلَيْسَ عَدَمُ الْحَجْبِ عَنِ الْمِيرَاثِ عِلَّةً فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّنَا نَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ لَا يرث من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 167 الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ، الْبَعْضِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعِتْقِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ فِيمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِالنَّسَبِ، فَصَارَ هُوَ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّسَبِ، بِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْمِيرَاثِ. فَهُوَ فَاسِدٌ بِالْوَلَاءِ. ثُمَّ لَيْسَ الْمِيرَاثُ عِلَّةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِي الْوَالِدَيْنِ المولودين مَنْ لَا يَرِثُ وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَصَبَاتُ يَرِثُونَ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ التُّهْمَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ فَهُوَ أَنَّ انْفِرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمَّا لَمْ تُوجِبِ التُّهْمَةُ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، لَمْ يَضُرَّ اجْتِمَاعُهَا مُوجِبًا لِلتُّهْمَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمُقَامِ وَالظَّعْنَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالْأَصْحَابِ. لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ لَا تُوجِبُهَا كَالْأَصْدِقَاءِ، وَالِامْتِزَاجُ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ لَا تُوجِبُهَا كَالْخُلْعِ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بِيَسَارِ زَوْجَتِهِ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ ابْنِهِ عَلَيْهَا إِذَا أَعْسَرَ بِهَا وَلَا يُوجِبُ بِذَلِكَ رَدَّ شَهَادَتِهِ لَهَا، كَذَلِكَ انْتِفَاعُهَا بِيَسَارِهِ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ لَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهَا لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أهل الأهواء] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَرُدُّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِذَا كَانَ لَا يَرَى أَنْ يَشْهَدَ لِمُوافِقِهِ بِتَصْدِيقِهِ وَقَبُولِ يَمِينِهِ وَشَهَادَةُ مَنْ يُرَى كَذِبُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ وَمَعْصِيَةً تَجِبُ بِهَا النَّارُ أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِقَبُولِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُ الْمَأْثَمَ فِيهَا وَكُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ حَرَامًا عِنْدَنَا فِيهِ حَدٌّ أَوْ لَا حَدَّ فِيهِ لَمْ نَرُدَّ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مِمَّنْ حُمِلَ عَنْهُ الدِّينُ وَجُعِلَ عَلَمًا فِي الْبُلْدَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمُتْعَةَ وَالدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ نَقْدًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَغَيْرِنَا حَرَامٌ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَلَّ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ بَعْدَ الشِّرْكِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ فَاسْتَحَلَّ كُلَّ مُسْكِرٍ غَيْرَ الْخَمْرِ وَعَابَ عَلَى مَنْ حَرَّمَهُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ رَدَّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِتَأْوِيلٍ وَإِنْ خَطَّأَهُ وَضَلَّلَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا فَصْلٌ قَدِ اخْتَلَطَ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِيهِ مِمَّنْ تَفَرَّدَ بِالْفِقْهِ دُونَ أُصُولِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُقَرَّرَ قَاعِدَتُهُ لِيُعْلَمَ بِهَا قَوْلُ الْمُخْتَلِفِينَ، وَمَا يُوجِبُهُ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ مِنْ تَعْدِيلٍ وَتَفْسِيقٍ وَتَكْفِيرٍ. فَنَقُولُ: مَنْ تَدَيَّنَ بِمُعْتَقَدٍ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ. وَصِنْفٌ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 168 فَأَمَّا مَنْ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَتَّبِعْهُ. فَخَرَجَ بِالتَّكْذِيبِ وَبِتَرْكِ الِاتِّبَاعِ مِنْ مِلَّتِهِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْكَفْرِ، وَسَوَاءٌ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى مِلَّةٍ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى أَوْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مِلَّةٍ كَعَبَدَةِ الأوثان وما عظم شَمْسٍ وَنَارٍ. وَجَمِيعُهُمْ فِي التَّكْفِيرِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ. وَإِنْ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَرَدَّ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مَنْ صَدَّقَ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاتَّبَعَهُ، فَصَارَ بِتَصْدِيقِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّتِهِ وَبِصَلَاتِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاخِلًا فِي مِلَّتِهِ. فَخَرَجُوا بِانْطِلَاقِ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ. فَهَذَا أَصْلٌ. ثُمَّ يَنْقَسِمُ مَنْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مُوافِقٌ، وَمُتَّبَعٌ، وَمُخَالِفٌ. وَأَمَّا الْمُوافِقُ: فَهُوَ مَنِ اعْتَقَدَ الْحَقَّ وَعَمِلَ بِهِ، فَكَانَ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّ مُتَدَيِّنًا وَبَالْعَمَلِ بِهِ مُؤَدِّيًا، فَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى عَدَالَتِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ وَقَوْلِهِ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُتَّبِعِ] ) (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْمُتَّبِعُ: فَهُوَ مَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْمُعْتَقَدِ. كَالْمُقَلِّدِ مِنَ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ. فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ فَهُوَ فَرْضُهُ، وَهُوَ عَدْلٌ فِي مُعْتَقَدِهِ وَعَمَلِهِ. وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ جَوَّزَ تَقْلِيدَهُ فِيهَا جَعَلَهُ عَدْلًا فِي مُعْتَقَدِهِ وَعَمَلِهِ. وَمَنْ مَنَعَ التَّقْلِيدَ فِيهَا جَعَلَهُ مُقَصِّرًا فِي مُعْتَقَدِهِ وَمُؤَدِّيًا فِي عَمَلِهِ. وَعَدَالَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِسُكُونِ نَفْسِهِ وَنُفُورِهَا، فَإِنْ كَانَ سَاكِنَ النَّفْسِ إِلَى صِحَّةِ التَّقْلِيدِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ نَافِرَ النَّفْسِ مِنْهُ خَرَجَ مِنَ الْعَدَالَةِ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمُخَالِفِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ فِي الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: فِي الْمُعْتَقَدِ. فَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا لَا يَعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فُسِّقَ بِهِ وَخَرَجَ عَنْ عَدَالَتِهِ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَرْكِ مَا اعْتَقَدَ وَجُوبَهُ وَيَكُونُ كَالْعَمَلِ بِمَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمُهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 169 وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي الْمُعْتَقَدِ فَمُخْتَلِفُ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ فِيمَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الدِّينُ. وَالدِّينُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فُرُوعٍ وَأُصُولٍ. فَالْأُصُولُ، مَا اخْتَصَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالْفُرُوعُ مَا اخْتَصَّ بِالتَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ. وَلِلْأُصُولِ فُرُوعٌ، وَلِلْفُرُوعِ أُصُولٌ. فَأَمَّا أُصُولُ الْأُصُولِ، فَمَا اخْتُصَّ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ. وَفُرُوعُهُ مَا اخْتُصَّ بِالصِّفَاتِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. وَأُصُولُ الْفُرُوعِ مَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفُرُوعُهُ مَا عُرِفَ بِغَيْرِ مَقْطُوعٍ به. فَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَقْطُوعٌ بِكُفْرِهِ، وَيَخْرُجُ مِنِ انْطِلَاقِ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَظَاهَرَ بِهِ. فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ. وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فِي فُرُوعِ الْأُصُولِ مِنَ الصِّفَاتِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ رَدَّهُ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ وَأَثَرٍ، كَانَ مُخَالِفُهُ كَافِرًا، لَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ، وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ. كَذَلِكَ مَا رَدَّتْهُ الْعُقُولُ وَاسْتَحَالَ جَوَازُهُ فِيهَا، وَمَا لَمْ يَرُدَّهُ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ، وَلَا عَقْلَ يَسْتَحِيلُ بِهِ نُظِرَ. فَإِنِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى تَكْفِيرِهِ بِهِ، سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي تَكْفِيرِهِ بِهِ، فَهُوَ عَلَى الْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ. فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ يُغْنِي عَنْ ضَرْبِ مَثَلٍ وَتَعْيِينِ مَذْهَبٍ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ جَاحِدِ فُرُوعِ الدِّينِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفُرُوعُ: فَأُصُولُهَا كَالْأُصُولِ. فَمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِجْمَاعِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِهَا. وَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بِهَا. وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا. وَفَرْضِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَزَمَانِهِمَا. وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ. فَإِنْ جَحَدَ وُجُوبَ أَحَدِهَا أَوِ اعْتَقَدَ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا مِنْهَا أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهَا. أَوْ غَيَّرَ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ عَنْ زَمَانِهِمَا مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ. أَوْ زَادَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَافِرٌ. لِأَنَّهُ جَحَدَ بِهَذَا الْخِلَافِ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تَثْبُتُ لَهُ عَدَالَةٌ وَلَا تَصِحُّ لَهُ وِلَايَةٌ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 170 (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفُرُوعُ الَّتِي لَيْسَتْ بِأُصُولٍ، فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْأَدَاءِ. وَالثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ. فَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْأَدَاءِ الْمُنْتَحِلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا اعْتَقَدَ بِهِ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ وَاسْتِبَاحَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ. كَمَنْ يَرَى مِنَ الْخَوَارِجِ، بِمُوالَاتِهِمْ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكْفِيرَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَكَالْغُلَاةِ يَرَوْنَ بِمُعْتَقَدِهِمْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، تكفير جميع الأمة. يرى الْفَرِيقَانِ: بِهَذَا الْمُعْتَقَدِ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ إِبَاحَةٍ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهَا وَغَنِيمَةِ أَمْوَالِهَا. فَيُحْكَمُ بِكُفْرِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِتَكْفِيرِهِمُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ الْمُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْهَا وَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ. قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ ". وَالثَّانِي: اسْتِبَاحَتُهُمْ لِدَارٍ حَرَّمَ الشَّرْعُ نُفُوسَ أَهْلِهَا وَأَمْوَالَهُمْ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ وَمَا فِيهَا ". وَقَالَ يَوْمَ النَّحْرِ كَلَامًا شَهِدَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ: " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ". فَكَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَأَوْلَاهُمْ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ. ( [شَهَادَةُ مُعْتَقِدِ كُفْرِ مُخَالِفِهِ] ) (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ يَعْتَقِدُ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ وَلَا يَرَى اسْتِبَاحَةَ دَمِهِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ تَعَرَّضَ بِعَرْضٍ بِرَأْيِهِ لِتَكْفِيرِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ حُكِمَ بِكُفْرِهِ، لِرَدِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وَرَدِّهِ عَلَى رَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " فَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُمْ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِكُفْرِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَكْفِيرِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِمُ الْإِيمَانَ، وَتَفَرَّدُوا بِتَكْفِيرِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ دُونَ كُفْرِهِمْ، فَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُمْ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالْفِسْقِ دُونَ الْكُفْرِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 171 ( [شَهَادَةُ مُبْتَدِعِ الرَّأْيِ] ) (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَدِعَ رَأْيًا وَلَا يَعْتَقِدَ بِهِ تَكْفِيرَ مُخَالِفِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْتَكِبَ فِيهِ الْهَوَى وَلَا يَتَمَسَّكَ فِيهِ بِتَأْوِيلٍ: فَهُوَ ضَالٌّ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عن الهوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41، 40] . وَسُنَّةُ عُمَرَ رضي الله عنه في صبيغ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطُوفُ بِهَا وَيَسْأَلُ عَنِ الشُّبَهَاتِ وَيَمِيلُ إِلَى الْمُخَالَفَةِ. فَأَمَرَ بِهِ وَضُرِبَ بِالْجَرِيدِ وَشُهِرَ بِالْمَدِينَةِ وَنُفِيَ عَنْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: سنتي فيه سنة عمر في صبيغ وَلِأَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الْهَوَى وَلَمْ يَتَّبِعِ الدَّلِيلَ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، إِذْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَلَا بَيْنَ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، وَلِأَنَّ الْهَوَى أَسْرَعُ إِلَى الْبَاطِلِ مِنَ الْحَقِّ، لِخِفَّةِ الْبَاطِلِ وَثِقَلِ الْحَقِّ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَسَّكَ فِيمَا ابْتَدَعَهُ بِتَأْوِيلٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدْفَعَ مَا اعْتَقَدَهُ الْإِجْمَاعُ. وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ. فَإِنْ دَفَعَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَوْ إِجْمَاعَ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ خَالَفَ بِهِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ ضَلَّ بِهِ وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شهادته لقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عضوا عليها بالنواجز وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضلالة في النار ". وَإِنْ خَالَفَ بِهِ إِجْمَاعَ غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِجْمَاعَ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ إِجْمَاعِ غَيْرِهِمْ لِتَبَاعُدِ أَعْصَارِهِمْ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِإِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ. فُسِّقَ بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَأَنْ لَا يُخَالِفَ بِمُعْتَقَدِهِ الْإِجْمَاعَ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْقَدْحِ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ. فَهُوَ عَلَى ضربين: سبب وجرح. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 172 فَإِنْ كَانَ الْقَدْحُ سَبًّا، فُسِّقَ بِهِ وَعُزِّرَ مِنْ أَجْلِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا فَقَدْ فَسَقَ ". وَلَيْسَ مَنْ عاصر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَاهَدَهُ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ اسْمُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَخَصَّصَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. والثاني: أن يتخصص به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِالرَّسُولِ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مُكَاثَرَتُهُ فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ. وَالثَّانِي: مُتَابَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَلَيْسَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْوُفُودِ، وَلَا مَنْ غَزَا مَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، مِنَ الصَّحَابَةِ. لِعَدَمِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِمْ. وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الرَّسُولِ بِهِ فَيَكُونُ بِهِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثِقَ بِسَرَائِرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقْضِيَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَيْهِمْ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ لِعَدَمِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمْ فَصَارَ الصَّحَابِيُّ مَنْ تَكَامَلَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا خَرَجَ مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَدْحُ فِي الصَّحَابَةِ جَرْحًا يَنْسُبُ بَعْضُهُمْ إِلَى فِسْقٍ وَضَلَالٍ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْجَنَّةِ، صَارَ بِاعْتِقَادِهِ لِفِسْقِهِ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَشْرَةِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، صَارَ بِتَفْسِيقِ أحدهم فاسقا؛ لأن الله تعالى أخبر بالرضى عَنْهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَنَازُعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِتَالِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، صَارَ بِتَفْسِيقِهِ لِلصَّحَابَةِ فَاسِقًا " مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ ". وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي تَنَازُعِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي تَنَازُعِهِمْ هَلْ نَقَلَهُمْ عَنِ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 173 أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، أَنَّهُمْ عَلَى اسْتِدَامَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ فِيهِمْ مِنَ الْقَطْعِ بِعَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَلَا يُكْشَفُ عَنْ سَرَائِرِهِمْ فِي رِوَايَةِ خَبَرٍ وَلَا فِي ثُبُوتِ شَهَادَةٍ. اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ الصُّحْبَةِ فِيهِمْ، وَمَنْ فَسَّقَ أَحَدَهُمْ كَانَ بِتَفْسِيقِهِ فَاسِقًا، لِأَنَّهُمْ فِي التَّنَازُعِ مُتَأَوِّلُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ صَارُوا بَعْدَ التَّنَازُعِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ عُدُولًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَزَالَ عَنْهُمُ الْقَطْعُ بِعَدَالَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ عَدَالَةِ بَاطِنِهِ. وَمَنْ فَسَّقَ أَحَدَهُمْ لَمْ يَفْسُقْ بِتَفْسِيقِهِ، وَكَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، لِأَنَّهُمُ انْتَقَلُوا بِالتَّنَازُعِ عَنِ الْأُلْفَةِ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ". وَقَدْ أَحْدَثَ التَّنَازُعُ فِيهِمْ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْبَغْيِ عَلَى إِمَامِهِ بِمُشَاقَّتِهِ وَخَلْعِ طَاعَتِهِ بِشُبْهَةٍ تَأَوَّلَ بِهَا فَسَادَ إِمَامَتِهِ، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ فَيَكُونَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْعَدْلِ. فَلَهُ فِي قِتَالِهِ حالتان: إحداهما: أن يبتدىء بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيَفْسُقَ بِمَا ابْتَدَأَهُ مِنْ قِتَالِهِمْ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِتَعَدِّيهِ بِالْقِتَالِ. مَعَ خَطَئِهِ فِي الِاعْتِقَادِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ قِتَالَهُمْ فَلَهُ فِي قِتَالِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ لِيُكَفَّ عَنْهُ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهَا. فَيَفْسُقَ بِقِتَالِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا بِإِظْهَارِ الطَّاعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُبْدَأَ بِالْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَا يَفْسُقَ بِقِتَالِهِ لِأَنَّهُ دَافَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ أَمْضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ أَحْكَامَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ فِي قِتَالِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ. (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لا يفضى بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْبَغْيِ فِي مُشَاقَّةِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى مُنَابَذَةِ مُخَالِفِيهِ بِالتَّحَزُّبِ وَالتَّعَصُّبِ. فله حالتان: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 174 إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبْدَأَ بِهَا لِيَسْتَطِيلَ عَلَى مُخَالِفِيهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ فِسْقًا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْخَطَأِ وَأَفْعَالِ السُّفَهَاءِ فَيُفَسَّقُ بِفِسْقِهِ لَا بِمُعْتَقَدِهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَدْفِعَ بِهَا مُنَابَذَةَ خُصُومِهِ، فَإِنْ وَجَدَ إِلَى دَفْعِهِمْ بِغَيْرِ الْمُنَابَذَةِ سَبِيلًا، صَارَ بِالْمُنَابَذَةِ سَفِيهًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَى دَفْعِهِمْ بِغَيْرِهَا سَبِيلًا، فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِاحْتِمَالِهَا وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا فَيَكُونَ بِفِعْلِهَا سَفِيهًا تُرَدُّ شُبَهَاتُهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَضِرَّ بِهَا فَيَكُونَ فِي دَفْعِهَا بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شهادته، ولأن دفع الضرر عذر مستباح لقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ ". (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تُفْضِيَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الْمُنَابَذَةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ بِتَصْدِيقِ مُوافِقِيهِ فِي دَعَاوِيهِمْ، وَيَشْهَدَ لَهُمْ بِهَا عَلَى خُصُومِهِمْ كَالْخَطَّابِيَّةِ. يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ لَمْ يَكْذِبْ فَيُصَدِّقُوهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَشَهِدُوا لَهُ عَلَى خَصْمِهِ إِنْ أَنْكَرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَظْهِرُ بِإِحْلَافِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَظْهِرُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ. وَهِيَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَهَادَةُ زُورٍ تَسْقُطُ بِهَا عَدَالَتُهُ وَتُرَدُّ بِهَا شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ شَهِدَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِلا مَنْ شهد بالحق وهم يعلمون} . (فَصْلٌ) : وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْتَقِدَ بِتَصْدِيقِ مُوافِقِيهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ، وَيَتَحَفَّظَ فِي الشَّهَادَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، حَتَّى يَعْلَمَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، فَهُمْ أَسْلَمُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ طَرِيقًا، وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الْمَعَاصِي، فَيَجْعَلُهَا بَعْضُهُمْ شِرْكًا وَيَجْعَلُهَا أَهْلُ الْوَعِيدِ خُلُودًا. وَصِنْفٌ يَرَوْنَ تَخْفِيفَ الْمَعَاصِي فِي إِرْجَائِهَا وَتَفْوِيضِهَا. وَكِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَشَهَادَةُ مَنْ يرى كذبه شركا بالله ومعصية تجب بها النَّارُ، أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِقَبُولِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُ الْمَأْثَمَ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا أولى من الجزء: 17 ¦ الصفحة: 175 شَهَادَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهَا يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ مَنْ يُغَلِّظُ الْمَعَاصِي مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ أَوْلَى أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ بِهَا مِنْ شَهَادَةِ مَنْ يُخَفِّفُهَا. فَصَارَ هَذَا التَّفْصِيلُ مُفْضِيًا إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ لِسِتَّةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا انْتَحَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدْفَعَهُ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُفْضِيَ إِلَى الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَلَيْهِ وَلَا يُنَابِذَ فِيهِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَرَى تَصْدِيقَ مُوافِقِهِ عَلَى مُخَالِفِهِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ مَرْضِيَّةً، وَتَحَفُّظُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ ظَاهِرٌ فَهَذَا حُكْمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْآرَاءِ وَالنِّحَلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا ضَلَّ بِهِ. وَالثَّانِي: مَا أَخْطَأَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: مَا سَاغَ لَهُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا ضَلَّ بِهِ، فَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَأَنْ لَا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، فَالْمُخَالِفُ فِيهِ ضَالٌّ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ: فَهُوَ مَا شَذَّ الْخِلَافُ فِيهِ وَعَدَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهُ، كَاسْتِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَبَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ نَقْدًا، وَمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ " فِي الْوُضُوءِ ". وَقَطْعِ [يَدِ] السَّارِقِ مِنَ الْمَنْكِبِ، فَهَذَا خِلَافٌ شَذَّ قَائِلُهُ، وَظَهَرَ فِيهِ خَطَؤُهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مَنْسُوخٍ كَالْمُتْعَةِ، وَبَيْنَ مَا تَوَالَى فِيهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ كَالرِّبَا فِي النَّقْدِ وَالنِّسَاءِ. وَبَيْنَ مَا ضَعُفَ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وَقَطْعِ السَّارِقِ مِنَ الْمَنْكِبِ، فَحُكِمَ بِخَطَئِهِ لِظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ حَدَّ الضَّلَالِ لِلشُّبْهَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي احْتِمَالِهِ، فَيَكُونُ الْمُخَالِفُ فِيهِ على عدالته وقبول شَهَادَتَهُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا سَاغَ الْخِلَافُ فِيهِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ فَهُوَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمَنَاكِحِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدٌّ وَكَانَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يَتَبَايَنُ فِيهِ الْمُخْتَلِفُونَ، وَلَا يَتَنَابَذُ فِيهِ الْمُتَنَازِعُونَ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 176 وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَجْهٌ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ جَعَلَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ حَقًّا، وَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَطَأً. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ مُحِقًّا. وَهُوَ أَسْهَلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ وَجَمِيعُهُمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ. فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَدَالَةِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ. وَلَا رَدَّ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ حَتَّى فَصَّلْ نَاهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ مَذْهَبُهُ وَأَوْجَبَتْهُ أُصُولُهُ. فَأَوْضَحْنَا بِهَا مَنْ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَمَرْدُودَهَا. وَخَالَفَهُ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَخَفَّفَ الْأَمْرَ فِيهَا وَأَجَازَ شَهَادَةَ كُلِّ مَنْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَاعْتَبَرَ الْعَدَالَةَ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الِاعْتِقَادِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَشَدَّدَ الْأَمْرَ فِيهَا فَرَدَّ شَهَادَةَ جَمِيعِهِمْ وَاقْتَصَرَ بِالْعَدَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلَيْهِمَا مَدْفُوعٌ بِمَا أَوْضَحْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ في اللعب بالشطرنج والحمام] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَاللَّاعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ وَإِنْ كَرِهْنَا ذلك أخف حالا (قال المزني) رحمه الله فكيف يحد من شرب قليلا من نبيذ شديد ويجيز شَهَادَتَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ. وَالثَّانِي: فِي اللعب بالحمام. فأما اللعب الشِّطْرَنْجِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا. وَالثَّانِي: فِي عَدَالَةِ اللَّاعِبِ بِهَا وَجَرْحِهِ. فَأَمَّا إِبَاحَتُهَا وَحَظْرُهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّهَا حَرَامٌ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَغْلِيظٍ يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّحْرِيمِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 177 وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا بِمُغَلَّظَةِ الْكَرَاهَةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَرِهْنَا ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَا تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ اللَّعِبِ. وَالثَّانِي: تَعُودُ كَرَاهَتُهُ إِلَى مَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنَ الْخَلَاعَةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَظَرَهَا وَحَرَّمَهَا بِمَا رَوَاهُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْلَعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ". وَبِمَا رُوِيَ [عَنِ النَّبِيِّ]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ اللَّعِبِ حَرَامٌ إِلَّا لَعِبَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ وَلَعِبَهُ بِفَرَسِهِ وَلَعِبَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ ". فَعَمَّ تَحْرِيمَ اللَّعِبِ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ. فَكَانَ الشِّطْرَنْجُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ وَخَارِجًا مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْإِبَاحَةِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ وَأَلْقَى فِيهَا كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَدَلَّ تَشْبِيهُهُ لَهَا بِالْأَصْنَامِ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَالْأَصْنَامِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْهَا فقال: أحق هي؟ قيل: لا. قال: فما بعد الحق إلا الضلالة فَأَنَّى تَصْرِفُونَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهَا وَحَلَّلَهَا: بِانْتِشَارِهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِقْرَارًا عَلَيْهَا، وَعَمَلًا بِهَا، فَرَوَى الْخَطِيبُ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْنَا وَلَا يَنْهَانَا. وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: ادْفَعْ ذَا وَدَعْ ذَا. وَرَوَى أَبُو رَاشِدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَدْعُو غُلَامًا فَيُلَاعِبُهُ بِالشِّطْرَنْجِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ الشِّطْرَنْجَ ويلعب بها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 178 وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ. فَهَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَقَرُّوا عَلَيْهَا وَلَعِبُوا بِهَا. وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا اسْتِدْبَارًا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: فَقُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: فَكَيْفَ كَانَ يَلْعَبُ بِهَا اسْتِدْبَارًا؟ فَقَالَ: كَانَ يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ وَيَقُولُ لِلْغُلَامِ: بِمَاذَا دَفَعَ؟ فَيَقُولُ: بِكَذَا. فَيَقُولُ: ائْتِ بِكَذَا. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُلَاعِبُ أَهْلَهُ بِالشِّطْرَنْجِ. وَرَوَى أَبُو لُؤْلُؤَةَ قَالَ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ كَرَيْبٍ قَالَ: رَأَيْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُقِيمَ قَائِمًا فِي لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ. وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ: هِيَ لُبُّ الرِّجَالِ. وَإِذَا اشْتُهِرَ هَذَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ عَمِلَ بِهِ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَفُضَلَائِهِمْ، مَنْ حَذَفْنَا ذِكْرَهُمْ إِيجَازًا، خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْحَظْرِ وَكَانَ بِالْإِجْمَاعِ أَشْبَهَ. وَلَيْسَ إِنْكَارُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا لِأَجْلِ حَظْرِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْأَذَانَ وَهُمْ مُتَشَاغِلُونَ عَنْهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَثْنَاهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّعِبِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى مَكَائِدِ الْحَرْبِ وَوُجُوهِ الْحَزْمِ وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ. وَمَا بَعَثَ عَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا مُسْتَحَبًّا فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ حَظْرًا مُحَرَّمًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَنْ عَدَالَةِ اللَّاعِبِ بِهَا فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَدَالَتَهُ سَاقِطَةٌ وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ لَعِبَ بِهَا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مُوجِبِ رَدِّهَا، فَرَدَّهَا مَالِكٌ لِحَظْرِهَا، وَرَدَّهَا أَبُو حَنِيفَةَ لِتَغْلِيظِ كَرَاهَتِهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَالَتَهُ وَجَرْحَهُ مُعْتَبَرٌ بِصِفَةِ لَعِبِهِ بِهَا، فَإِنْ خَرَجَ بِهَا إِلَى خَلَاعَةِ أَهْلِهَا أَوْ قَامَرَ عَلَيْهَا أَوْ تَشَاغَلَ عَنِ الصَّلَاةِ بِهَا خَرَجَ عَنِ الْعَدَالَةِ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِهَا لَا بِنَفْسِ اللَّعِبِ وَأَمَّا الْخَلَاعَةُ فَهُوَ أَنْ يَسْتَخِفَّ عَلَيْهَا بِلَغْوِ الْكَلَامِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَنْقَطِعَ إِلَيْهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ حَتَّى يَلْهُوَ بِهَا عَمَّا سِوَاهَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 179 وَأَمَّا الْقِمَارُ فَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا إِنْ غَلَبَ، أَوْ يَدْفَعُهُ مِنَ الْعِوَضِ عَنْهَا إِنْ غُلِبَ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْقِمَارَ نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . وَالْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ وَالْقِمَارُ مَا لَمْ يَحِلَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آخِذًا أَوْ مُعْطِيًا فَيَأْخُذُ إِنْ كَانَ غَالِبًا وَيُعْطِي إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا. فَأَمَّا إِنْ عَدَلَا عَنْهُ إِلَى حُكْمِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، بِأَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ بِإِخْرَاجِ الْعِوَضِ دُونَ صَاحِبِهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا وَلِيَسْتَرْجِعَهُ إِنْ كَانَ غَالِبًا، وَيَكُونَ الْآخَرُ آخِذًا إِنْ كَانَ غَالِبًا وَغَيْرَ مُعْطٍ إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّبْقِ وَالرَّمْيِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِمْ في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ ". هَلْ هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ مَحْظُورٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشِّطْرَنْجِ قِيَاسًا عَلَى السَّبْقِ وَالرَّمْيِ. لِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلِ النَّصِّ. وَلَا يَكُونُ إِخْرَاجُ هَذَا الْعِوَضِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَحْظُورًا فَلَا يَكُونُ بِهِ مَجْرُوحًا. وَالْوَجْهُ الثاني: أن السبق والرمي مستثنا مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشِّطْرَنْجِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَكُونُ عَلَى الْأَصْلِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ إِخْرَاجُ هَذَا الْعِوَضِ فِي الشِّطْرَنْجِ مَحْظُورًا وَيَصِيرُ بِإِخْرَاجِهِ مَجْرُوحًا. وَأَمَّا تَشَاغُلُهُ بِهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَقْتُهَا فَيَنْقَطِعَ بِهَا عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفُوتَ. فَإِنْ ذَكَرَهَا وَعَلِمَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ. فَقَدْ فسق، ولو كان دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى فَاتَ، فَإِنْ كَانَ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَفْسُقْ بِهِ. وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَكَثُرَ فَسَقَ بِهِ وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لِكَثْرَةِ الْفِكْرِ حَتَّى تَكَرَّرَ مِنْهُ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا حَتَّى فَاتَ، لَمْ يَفْسُقْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْفِكْرِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا طَرَأَ، فَلَمْ يَفْسُقْ إِذَا كَثُرَ بِهِ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ. وَلَعِبُ الشِّطْرَنْجِ مِنْ فِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَيَفْسُقُ إِذَا كَثُرَ بِهِ نِسْيَانُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ عَمَّا يَفْسُقُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَرْوَحَ بِهِ فِي أَوْقَاتِ خَلَوَاتِهِ، مُسْتَخْفِيًا بِهِ عَنِ الْمُحْتَشِمِينَ، فَكَانَ لَعِبُهُ بِهِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِيَشْفِيَ بِهِ هَمًّا وَيَسْتَحْدِثَ بِهِ رَاحَةً، وَإِمَّا لِيَرْتَاضَ بِهِ فِي تَدْبِيرِهِ وَجَزَالَةِ رَأْيِهِ وَصِحَّةِ حَزْمِهِ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شهادته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 180 وَهَلْ يَكُونُ عَفْوًا أَوْ مُبَاحًا. عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى كَرَاهَةِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهَا. هَلْ كَانَ عَائِدًا إليها أو إلى ما يحدث فيها؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهَا كَانَ اللَّعِبُ بِهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا يَحْدُثُ عَنْهَا، كَانَ اللَّعِبُ بِهَا مُبَاحًا. وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ بِهِ إِلَى السَّفَاهَةِ، إِمَّا بِالْبَذْلَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَإِمَّا بِالْخَنَا فِي كَلَامِهِ، وَالسَّفَاهَةُ خُرُوجٌ عَنِ الْعَدَالَةِ تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَسْعَى بِحَمَامَةٍ فَقَالَ: " شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً ". وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ مَحْفُوظَ الْمُرُوءَةِ لِاتِّخَاذِهَا إِمَّا لِلِاسْتِفْرَاخِ، وَإِمَّا لِحَمْلِ الْكُتُبِ إِلَى الْبِلَادِ، وَإِمَّا لِلْأَنَسَةِ بِأَصْوَاتِهَا، فَيَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَحْدَةَ فَقَالَ: " اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ ". وَلِأَنَّهَا تُسَمِّدُ كَمَا تُسَمِّدُ الْمَوَاشِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ. وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهُ لِلْمُسَابَقَةِ بِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: " لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ ". فَإِنْ جُعِلَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَصْلًا، قِيسَ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ السَّبْقِ بِالْحَمَامِ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَمْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَإِنْ جُعِلَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، اسْتِثْنَاءً من جملة محظور لم يقص عَلَيْهِ السَّبْقُ بِالْحَمَامِ. فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَرُدَّتْ بِهِ الشَّهَادَةُ. فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ بِعِوَضٍ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِوَضِ كَانَ سَفَهًا. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَاللَّاعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ أخف حالا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 181 وَلَمْ يَذْكُرْ مَا صَارَ بِهِ أَخَفَّ حَالًا مِنْهُ. فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَحَذَفَهُ الْمُزَنِيُّ اخْتِصَارًا. فَقَالَ: أَخَفُّ حَالًا مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ شَارِبِ الخمر] ) (مسألة) : قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ شَرِبَ عَصِيرَ الْعِنَبِ الَّذِي عُتِقَ حَتَّى سَكِرَ وَهُوَ يَعْرِفُهَا خَمْرًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا نَصٌّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْخَمْرُ فَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ وَلَمْ تَمَسُّهُ نَارٌ، وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَاءٌ وَلَا يَكُونُ خَمْرًا إِنْ مَسَّتْهُ نَارٌ أَوْ خَالَطَهُ مَاءٌ. وَشُرْبُهُ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ {رجس من عمل الشيطان} وَالرِّجْسُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ يَكُونُ رِجْسًا بِإِضَافَتِهِ إلى الشيطان تغليظا. وفي " الرجس " أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: سُخْطٌ. وَالثَّانِي: شَرٌّ. وَالثَّالِثُ: إِثْمٌ. وَالرَّابِعُ: حرام. وقوله {من عمل الشيطان} أَيْ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ بِهِ. والثاني: قوله {فاجتنبوه} وَمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهِ حَرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَفِيمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ " فَاجْتَنِبُوهُ " تَأْوِيلَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: الرِّجْسُ أَنْ تَفْعَلُوهُ. وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ أَنْ تُطِيعُوهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 182 أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الزِّنَا خَاصَّةً. وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمناكِح الْفَاسِدَةُ وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ. وَالثَّانِي: أَنَّ " الْفَوَاحِشَ " جَمِيعُ الْمَعَاصِي. مَا ظَهَرَ مِنْهَا: " أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ وَمَا بَطَنَ ": اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ. وَفِي الإثم والبغي تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ " الْإِثْمَ " الْخِيَانَةُ فِي الْأُمُورِ و " البغي " التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْهَرُ: أَنَّ " الْإِثْمَ " الْخَمْرُ " وَالْبَغْيَ " السُّكْرُ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: (شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ) وَاخْتُلِفَ بِأَيِّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ بِالْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْخَمْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ حُرِّمَتْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ " فَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ لِتَغْلِيظِ تَحْرِيمِهِ. فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُسْتَحِلًّا كَفَرَ بِهِ. وَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اسْتَبَاحَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ شُرْبَ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] . وَقَدْ قَالَ: قَدْ أَيْقَنَّا وَآمَنَّا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْنَا فِيمَا شَرِبْنَا، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قِيلَ: قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا تَأَوَّلَهُ وَأَبْطَلُوهُ، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَسَادِ شُبْهَتِهِ، وَصَارَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنُّصُوصِ الْمَقْطُوعِ بِهَا. وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا، كَانَ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ قَلِيلًا شَرِبَ مِنْهَا أَوْ كَثِيرًا، سَكِرَ منها أو لم يسكر، لقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " فِي رِوَايَةِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فِي رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 183 وَشَذَّ قَوْمٌ بِأَنْ قَالُوا: إِذَا مَزَجَهَا بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا لَمْ تَحْرُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا ". وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَمْزُوجِ بِهَا، لَكِنْ لَوْ مُزِجَتْ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَدَّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ الْمَزْجِ مُسْكِرًا، كَانَتْ فِي حُكْمِ النَّبِيذِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ. لَوْ غَلِيَتِ بِالنَّارِ بَعْدَ إِسْكَارِهَا كَانَتْ خَمْرًا لَوْ غَلِيَتْ بِالنَّارِ قَبْلَ إِسْكَارِهَا ثُمَّ أَسْكَرَتْ بَعْدَ غَلْيِهَا كَانَتْ نَبِيذًا وَلَمْ تَكُنْ خَمْرًا. ( [الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْعَقْدِ عَلَيْهَا] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ فَحَرَامٌ، وَبَائِعُهَا فَاسِقٌ، وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ، وَثَمَنُهَا مُحَرَّمٌ. رَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَلَعَنَ بَائِعَهَا " وَلِأَنَّ بَيْعَهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] . وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَإِمْسَاكُهَا فَمُعْتَبَرٌ بِمَقْصُودِهِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ أَنْ يَنْقَلِبَ وَيَصِيرَ خَلًّا جَازَ. وَلَمْ يَفْسُقْ بِهِ لِأَنَّهَا تَحِلُّ بِالِانْقِلَابِ. وَإِنْ قَصَدَ ادِّخَارَهَا عَلَى حَالِهَا، كَانَ مَحْظُورًا، يَفْسُقُ بِهِ، لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا دَاعٍ إِلَى شُرْبِهَا. وَمَا دَعَا إِلَى الْحَرَامِ مَحْظُورٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ في الأنبذة وشهادة شاربها] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ شَرِبَ سِوَاهَا مِنَ الْمُنْصِفِ أَوِ الْخَلِيطَيْنِ فَهُوَ آثِمٌ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَسْكَرَ لِأَنَّهُ عِنْدَ جَمِيَعِهِمْ حَرَامٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ " حَرَامٌ " كَالْخَمْرِ عِنْدَنَا فِي تَحْرِيمِ مَا أَسْكَرَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُسْكِرْ. وَجَعَلَ مُخَالِفُنَا تَحْرِيمَهُ مَقْصُورًا عَلَى السُّكْرِ، فَأَحَلَّ قَلِيلَهُ إِذَا لَمْ يُسْكِرْ، وَحَرَّمَ فِيهِ الْكَثِيرَ إِذَا أَسْكَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. فَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ عِنْدَنَا مُحَرَّمَةٌ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَتْ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ رُطَبٍ أَوْ بُسْرٍ أَوْ عَسَلٍ، مَطْبُوخَةً وَنِيَّةً. وَحَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ نِيَّهَا وَأَبَاحَ مَطْبُوخَهَا. فَإِذَا شَرِبَ نَبِيذًا مُسْكِرًا، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا أَسْكَرَ فَقَدْ شَرِبَ حَرَامًا في قول الجزء: 17 ¦ الصفحة: 184 الْجَمِيعِ، وَصَارَ بِهِ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْهُ فَإِنْ عَاقَرَ عَلَيْهِ أَوْ تَكَلَّمَ بِالْخَنَا وَالْهُجْرِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ عَاقَرَ عَلَى الْمَاءِ كَانَ حَرَامًا. وَإِنْ لَمْ يُعَاقِرْ وَشَرِبَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكَرْ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ تَحْرِيمَهُ إِمَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ. فَيَفْسُقَ بِشُرْبِهِ وَيُحَدَّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مَعْصِيَةً فَصَارَ بِإِقْدَامِهِ عَاصِيًا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَتَهُ إِمَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ عَلَى عَدَالَتِهِ وَيُحَدُّ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ فَسَقَ. فَيُحَدُّ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لا ترد شهادته ولا يحد. ومنعا جَمِيعًا مِنِ اجْتِمَاعِ الْحَدِّ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَجَعَلَ مَالِكٌ وُجُوبَ الْحَدِّ مُسْقِطًا لِلشَّهَادَةِ، وَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَهُمَا، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ وَلَمْ يَرُدَّ الشَّهَادَةَ، لِأَنَّ الْحَدَّ مِنْ حُكْمِ الشُّرْبِ لِلرَّدْعِ عَنْهُ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْفِسْقِ بِالتَّفْسِيقِ فِي حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ فِي تَأْوِيلِ مَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ مُرْتَفِعَةٌ، فَلَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُ الْحَدِّ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْقَاذِفِ إِذَا تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِنْ شَرِبَ غَيْرَ مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ وَلَا حَظْرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إباحتها وحظروها، فَفِي فِسْقِهِ وَرَدٍّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِرْشَادِ فِي الشُّبَهَاتِ تَهَاوُنٌ فِي الدِّينِ فَصَارَ فِسْقًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِبَاحَةِ أَغْلَظُ مِنَ الشُّرْبِ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ الْخَمْرِ كَفَرَ. وَمَنْ شَرِبَهَا وَلَمْ يَعْتَقِدْ إِبَاحَتَهَا لَمْ يَكْفُرْ. فَلَمَّا لَمْ يَفْسُقْ مَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَةَ النَّبِيذِ وَشُرْبِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَفْسُقَ مَنْ شَرِبَهُ وَلَا يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ. ( [الْقَوْلُ فِي الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَا تُسْكِرُ وَشَهَادَةِ شَارِبِهَا] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا لَا يُسْكَرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَالْأَشْرِبَةِ كَالْفُقَاعِ وَالْقَارِصِ فَمُبَاحٌ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 185 وَحُكِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ وَرُبَّمَا عُزِيَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شُرْبَ الْفُقَاعِ وَالْقَارِصِ حَرَامٌ. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ ". وَرُوِيَ أَنَّ عليا عليه السلام مَرَّ عَلَى بَائِعِ فُقَاعٍ فَقَالَ: مِنْ خِمَارٍ مَا أَوْقَحَكَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِرَدِّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنَّا نَنْبِذُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى غَذَائِهِ فَيَشْرَبُهُ عَلَى عَشَائِهِ، وَننُبِذَ لَهُ عَلَى عَشَائِهِ فَيَشْرَبُهُ عَلَى غَذَائِهِ ". وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا لِنَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ الْغَلِيظَةِ وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ الشَّدِيدَةِ فَنَقْطَعُهَا فِي أَجْوَافِنَا. يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يُسْكِرَ. وَلِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ السُّكْرُ، فَمَا لَمْ يُسْكِرْ لَمْ يُحَرَّمْ كَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الْفُقَاعُ حَرَامًا عِنْدَ علي عليه السلام لَأَظْهَرَ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْمَنْعِ مَا يَجِبُ بِإِظْهَارِ الْمُنْكَرِ، وَلَمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُنْصِفِ وَالْخَلِيطَينِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِفَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُنْصِفَ مَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُهُ، وَالْخَلِيطَانِ خَلِيطُ الْبُسْرِ بِالزبيبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنْصِفَ مَا يُنْصَفُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ وَالْخَلِيطَانِ خَلِيطُ الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُكْرَهُ كَمَا لَا تُكْرَهُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَا تُسْكِرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ غَيْرُهَا. لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِسْرَاعُ الْإِدْرَاكِ إِلَيْهَا قَبْلَ غيرها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 186 وَالثَّانِي: إِسْكَارُهَا مَعَ بَقَاءِ حَلَاوَتِهَا، وَإِسْكَارُ غَيْرِهَا مَعَ حُدُوثِ مَرَارَتِهَا. وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ شَارِبِهَا كرهت أم لم تكره. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ لِلْخَبَرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النَّرْدِ فَحَرَّمَهَا مَالِكٌ وَفَسَّقَ اللَّاعِبَ بِهَا وَأَحَلَّهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَلَمْ يُفَسِّقِ اللَّاعِبَ بِهَا إِذَا حَافَظَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ. وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّرْدَ أَغْلَظُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الشِّطْرَنْجِ وَصَرَّحَ فِيهَا بِالْكَرَاهَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَمْ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَتَغْلِيظٍ، تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ تُحَرَّمْ. وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ تُوجِبُ فِسْقَ اللَّاعِبِ بِهَا وَرَدَّ شَهَادَتِهِ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من لعب بالنرد شير فَكَأَنَّمَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْلِبُ كِعَابَهَا أَحَدٌ يَنْتَظِرُ مَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". فَصَارَ فَرْقُ مَا بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي الْحُكْمِ، أَنَّ الشَّطْرَنْجَ لَا يُحَرَّمُ، وَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ وَالنَّرْدُ مَكْرُوهَةٌ وَفِي تَحْرِيمِهَا وَجْهَانِ، وَالشَّطْرَنْجُ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ إِذَا خَلَصَتْ وَتُرَدُّ بِالنَّرْدِ وَإِنْ خَلَصَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى: أَنَّ الشَّطْرَنْجَ مَوْضُوعَةٌ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ وَنِظَامِ السِّيَاسَةِ، فَهِيَ صَادِرَةٌ إِنْ ظَهَرَ فِيهَا عَنْ حَذْقَةٍ. وَالنَّرْدُ مَوْضُوعَةٌ إِلَى مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ كَعَابِهَا وَفُصُوصِهَا، فَهُوَ كَالْأَزْلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ بُيُوتَهَا اثْنَا عَشَرَ كَالْبُرُوجِ وَيَقْطَعُهَا مِنْ جَانِبَيِ الْفَصِّ سَبْعَةٌ، كَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ. فَعَدَلَ بِهَا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ إِلَى تَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ والبروج. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 187 وَهَكَذَا اللَّعِبُ بِالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، الْمُفَوَّضَةِ إِلَى الْكَعَابِ، وَمَا ضَاهَاهَا، فِي حُكْمِ النَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالْخَاتَمِ فَهُوَ حَدَسِيٌّ لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْغِنَاءِ] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ يُدِيمُ الْغِنَاءَ وَيَغْشَاهُ الْمُغَنُّونُ مُعْلِنًا فَهَذَا سَفَهٌ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقِلُّ لَمْ تُرَدَّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْغِنَاءِ. وَالثَّانِي: فِي أَصْوَاتِ الْمَلَاهِي. وَأَمَّا الْغِنَاءُ، فَمِنَ الصَّوْتِ، مَمْدُودٌ وَمِنَ الْمَالِ مَقْصُورٌ، كَالْهَوَاءِ وَهُوَ مِنَ الْجَوِّ مَمْدُودٌ وَمِنْ هَوَى النَّفْسِ مَقْصُورٌ. كَتَبَ إِلَيَّ أَخِي مِنَ الْبَصْرَةِ وَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ لِلِقَائِي بِبَغْدَادَ شِعْرًا قَالَ فِيهِ: (طِيبُ الْهَوَاءِ بِبَغْدَادٍ يُشَوِّقُنِي ... قِدْمًا إِلَيْهَا وَإِنْ عَاقَتْ مَقَادِيرُ) (فَكَيْفَ صَبْرِي عَنْهَا الْآنَ إِذْ جَمَعَتْ ... طِيبَ الْهَوَاءَيْنِ مَمْدُودٌ وَمَقْصُورُ) اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الْغِنَاءِ وَحَظْرِهِ، فَأَبَاحَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَحَظَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي أَصَحِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُبِيحُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَحْظُرُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَتَوَسَّطُوا فِيهِ بِالْكَرَاهَةِ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهُ، بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ تُغَنِّي وَهِيَ تَقُولُ: (هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمَا ... إِنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا حَرَجَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 188 وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَزْمُورُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ ". وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْغِنَاءُ زَادُ الْمُسَافِرِ ". وَكَانَ لِعُثْمَانَ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي اللَّيْلِ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ السَّحَرِ قَالَ: أَمْسِكَا فَهَذَا وَقْتُ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَامَ إِلَى صَلَاتِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْحِجَازِ يَتَرَخَّصُونَ فِيهِ وَيُكْثِرُونَ مِنْهُ، وَهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَجِلَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَمْنَعُونَهُمْ مِنْهُ إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: إِمَّا فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ، أَوِ الْإِكْثَارِ مِنْهُ. كَالَّذِي حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ وَمُكْثِرًا مِنْهُ، حَتَّى بَدَّدَ فِيهِ أَمْوَالَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قُمْ بِنَا إِلَيْهِ، فَقَدْ غَلَبَ هَوَاهُ عَلَى شَرَفِهِ وَمُرُوءَتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ جَوَارِيهِ، يُغَنِّينَ فَأَمَرَهُنَّ بِالسُّكُوتِ، وَأَذِنَ لَهُمَا فِي الدُّخُولِ، فَلِمَا اسْتَقَرَّ بِهِمَا الْجُلُوسُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مُرْهُنَّ يَرْجِعْنَ إِلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ. فَرَجَعْنَ يُغَنِّينَ، فَطَرِبَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى حَرَّكَ رِجْلَيْهِ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مَنْ جِئْتَ تَلْحَاهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْكَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا عَمْرُو، فَإِنَّ الْكَرِيمَ طَرُوبٌ. وَإمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنَاءِ مَا يُكْرَهُ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ عَادَ ابْنُ جَامِعٍ إِلَى مَكَّةَ بِأَمْوَالٍ جَمَّةٍ حَمَلَهَا مِنَ الْعِرَاقِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: عَلَامَ لِعَطَاءِ ابْنِ جَامِعٍ هَذِهِ الْأَمْوَالُ؟ فَقَالُوا: عَلَى الْغِنَاءِ، قَالَ: " ابْنُ جَامِعٍ مَاذَا يَقُولُ فِيهِ "؟ قَالُوا: يَقُولُ: (أُطَوِّفُ بِالْبَيْتِ مع مَنْ يُطَوفُ ... وأرفع من مئزر السبل) قَالَ: هِيَ السُّنَّةُ. ثُمَّ مَاذَا يَقُولُ؟ قَالُوا: (وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلوا مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنْزَلِ) قَالَ: أَحْسَنَ وَأَصْلَحَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالُوا: (عَسَى فَارِجُ الْهَمِّ عَنْ يُوسُفٍ ... يُسَخِّرُ لِي رَبَّهَ الْمَحْمَلِ) قَالَ: أَفْسَدَ الْخَبِيثُ مَا أَصْلَحَ لَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 189 وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَظَرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . وَفِيهِ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: - أَحَدُهَا: الْغِنَاءُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ. قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ. وَالثَّالِثُ: الْكَذِبُ. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَالرَّابِعُ: الشِّرْكُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] . وفيه ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: إِذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ وَالنِّكَاحَ كَنَّوْا عَنْهَا. وَالثَّانِي: إِذَا مَرُّوا بِالْمَعَاصِي أَنْكَرُوهَا قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: إِذَا مَرُّوا بِأَهْلِ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوهُ قاله عبد الرحمن بن زيد. وقاله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الْآيَةَ. وَفِي لَهْوَ أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْغِنَاءُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ وَلَا التِّجَارَاتُ فِيهِنَّ وَأَثْمَانُهُنَ حَرَامٌ وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ". وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ شِرَاءُ الطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، قَالَهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَا أَلْهَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِيَمْنَعَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: لِيَصُدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَفِي قَوْلِهِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} : تَأْوِيلَانِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 190 أَحَدُهُمَا: بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِ رِوَايَةٍ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6] تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكْذِيبًا. وَالثَّانِي: اسْتِهْزَاءً بِهَا. وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ ". وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغِنَاءُ نَهِيقُ الشَّيْطَانِ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ الْغِنَاءِ وَالنِّيَاحَةِ ". وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. وَإِذَا تَقَابَلَ بِمَا ذَكَرْنَا، دَلَائِلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، يَخْرُجُ مِنْهَا حُكْمُ الْكَرَاهَةِ. فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِبَاحَتِهِ، لِمَا قَابَلَهُ من دلائل الحظر والإباحة وَلَمْ نَحْكُمْ بِحَظْرِهِ لِمَا قَابَلَهُ مِنْ دَلَائِلِ الإباحة. " فصار يتردده بَيْنَهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُبَاحٍ وَلَا مَحْظُورٍ ". وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْغِنَاءِ: أَحَلَالٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: " لَا " يُرِيدُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي الْمَلَاهِي] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَلَاهِي فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: حَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَحَلَالٍ. فَأَمَّا الْحَرَامُ: فَالْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَالْمِعْزَفَةُ وَالطَّبْلُ وَالْمِزْمَارُ وَمَا أَلْهَى بِصَوْتٍ مُطْرِبٍ إِذَا انْفَرَدَ. وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْمِزْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْقِنِّينَ ". فَالْمَيْسِرُ الْقِمَارُ، والمزر نبيذ الذرة، والكوبة الطبل. والقنين البريط. وَلِأَنَّهَا تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصلاة كالشراب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 191 وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعَوْدَ مِنْ بَيْنِهَا وَلَا يُحَرِّمُهُ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَنْفِي الْهَمَّ، وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ. وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْمَلَاهِي طَرَبًا، وَأَشْغَلُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ تَمَيَّزَ بِهِ الْأَمَاثِلُ عَنِ الْأَرَاذِلِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَمَا زَادَ بِهِ الْغِنَاءُ طَرَبًا، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ مُطْرِبًا. كَالْفُسَحِ، وَالْقَضِيبِ. فَيُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ لِزِيَادَةِ إِطْرَابِهِ. وَلَا يُكْرَهُ إِذَا انْفَرَدَ لِعَدَمِ إِطْرَابِهِ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَمَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الْإِطْرَابِ. إِمَّا إِلَى إِنْذَارٍ كَالْبُوقِ، وَطَبْلِ الْحَرْبِ. أَوْ لِمَجْمَعٍ وَإِعْلَانٍ كَالدُّفِّ فِي النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَسَلَامُهُ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ ". وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ؟ فَعَمَّ بَعْضُهُمْ لِإِطْلَاقِهِ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَا يَتَنَاكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ. كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، فِي مِثْلِ زَمَانِنَا، لِأَنَّهُ قَدْ عُدِلَ بِهِ إِلَى السَّخَفِ وَالسَّفَاهَةِ. فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ: فَهِيَ فِي الْأَمْصَارِ مَكْرُوهَةٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهَا لِلسُّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ وَهِيَ فِي الْأَسْفَارِ وَالرُّعَاةِ مُبَاحَةٌ، لِأَنَّهَا تَحُثُّ عَلَى السَّيْرِ وَتَجْمَعُ الْبَهَائِمَ إِذَا سَرَحَتْ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَحْكَامُ الْأَغَانِي وَالْمَلَاهِي، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَهِيَ مِنَ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ. وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهَا، فَهِيَ مِنَ الْخَلَاعَةِ لَا يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِيمَنْ بَاشَرَهَا بِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: فِيمَنْ يَسْتَعْمِلُهَا لِلَهْوِهِ. وَالثَّالِثُ: فِيمَنْ يَغْشَى أَهْلَهَا. فَأَمَّا الْمُبَاشِرُ لَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا وَمُسَمًّى بِهَا، يُقَالُ إِنَّهُ مُغَنِّي يَأْخُذُ عَلَى غِنَائِهِ أَجْرًا، يَدْعُوهُ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ أَوْ يَغْشَوْنَهُ لِذَلِكَ فِي دَارِهِ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ لِأَخْبَثِ الْمَكَاسِبِ وَنُسِبَ إِلَى أَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُغَنِّيَ لِنَفْسِهِ إِذَا خَلَا في داره باليسر اسْتِرْوَاحًا فَهَذَا مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا خَلَا فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 192 وَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ. فَقَالَ: أَسَمِعْتَنِي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّا إِذَا خَلَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا نَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَجُمُّ قَلْبِي بِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. فَإِنْ قَرَنَ يَسِيرَ غِنَائِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَلَاهِي مِمَّا حَظَرْنَاهُ، نُظِرَ. فَإِنْ خَرَجَ صَوْتُهُ عَنْ دَارِهِ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْهَا، كَانَ سَفَهًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَإِنْ خَافَتْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ، كَانَ عَفْوًا إِذَا قَلَّ وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُغَنِّيَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ إِخْوَتِهِ لِيَسْتَرْوِحُوا بِصَوْتِهِ وَلَيْسَ بِمُنْقَطِعٍ عَلَيْهِ. وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِهِ يَدْعُوهُ النَّاسُ لِأَجْلِهِ. كَانَ سَفَهًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ، وَلَا دَعَا النَّاسَ لِأَجْلِهِ، نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِهِ مُعْلِنًا لَهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِهِ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ مُسْتَمِعِ الْغِنَاءِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ. فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصِيرَ منقطعا إليه، يدفع عليه حذرا وَيَتَّبِعُ فِيهِ أَهْلَ الْخُدُورِ فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ اسْتِمَاعُهُ، وَيَسْمَعَهُ أَحْيَانًا فِي خَلْوَتِهِ اسْتِرْوَاحًا بِهِ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِمَاعَ غناء امْرَأَةٍ غَيْرِ ذَاتِ مَحْرَمٍ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رَوِّحُوا الْقُلُوبَ تَعِي الذِّكْرَ ". وَالْحَالُ الثالثة: أن يتوسط بين المكثر والمقل نظر. فَإِنِ اشْتُهِرَ بِهِ وَانْقَطَعَ بِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ، صار سفهيا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ وَلَا قَطَعَهُ عَنْ أَشْغَالِهِ، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مُقْتَنِي الْمُغَنِّيِينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 193 أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَلِيسًا لَهُمْ، وَمَقْصُودًا لِأَجْلِهِمْ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَحَالُهُ فِي الْجَوَارِي أَغْلَظُ مِنْ حَالِهِ فِي الْغِلْمَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ سَفَهًا وَدَنَاءَةً ". وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَنِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِيَسْتَمِعَ غِنَاءَهُمْ إِذَا خَلَا، مُقْبِلًا مُسْتَتِرًا، غَيْرَ مُكَاثِرٍ وَلَا مُجَاهِرٍ. فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْعُوَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي سَمَاعِهِمْ فَيُنْظَرُ: فإن كان يدعوهم من لأجل السَّمَاعِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ دَعَاهُمْ لِغَيْرِ الْغِنَاءِ، نُظِرَ. فَإِنْ كَثُرَ حَتَّى اشْتُهِرَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ قَلَّ وَلَمْ يَشْتَهِرْ، فَإِنْ كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ غُلَامٍ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ جَارِيَةٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَشَهَادَةُ مُسْتَمِعِهَا إِذَا اعْتَمَدَ الْمُسْتَمِعُ سَمَاعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدْ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَمَّةً فَسَمَاعُهَا أَخَفُّ مِنْ سَمَاعِ الْحُرَّةِ. لِنَقْصِهَا فِي الْعَوْرَةِ وَأَغْلَظُ مِنْ سَمَاعِ الْغُلَامِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْعَوْرَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَغْلِبَ نَقْصُهَا عَنِ الْحُرَّةِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْغُلَامِ. فَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَغْلِبَ زِيَادَتُهَا عَلَى الْغُلَامِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْحُرَّةِ فَتُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْحَادِي والراجز] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا الِاسْتِمَاعُ لِلْحُدَاءِ وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلشَّرِيدِ " أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ شَيْءٌ؟ " قَالَ نَعَمْ قَالَ " هِيهِ " فَأَنْشَدَهُ بَيْتًا فَقَالَ " هِيهِ " حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةَ بَيْتٍ وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحُدَاءَ وَالرَّجَزَ وَقَالَ لِابْنِ رَوَاحَةَ " حَرِّكْ بِالْقَوْمِ " فاندفع يرجز (قال المزني) رحمه الله سمعت الشافعي يقول كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدبارا فقلت له كيف يلعب بها استدبارا؟ قال يوليها ظهره ثم يقول: " بأي شيء وقع " فيقول بكذا فيقول أوقع عليه بكذا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا بَأْسَ بِالْحُدَاءِ وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ، وَالشِّعْرِ، وَالرَّجَزِ، وَهُوَ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ نَامَ بِالْوَادِي حَادِيَانِ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 194 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ جَيِّدَ الْحُدَاءِ، فَكَانَ مَعَ الرِّجَالِ وَكَانَ أَنْجَشَةُ مَعَ النِّسَاءِ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: " حَرِّكْ بِالْقَوْمِ ". فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ وَتَبِعَهُ أَنْجَشَةُ فَأَعْنَقَتِ الْإِبِلُ فِي السَّيْرِ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُويْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ " يَعْنِي النِّسَاءَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَالَ " أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: هِيهِ. فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا آخَرَ. فَقَالَ: هِيهِ. فَأَنْشَدْتُهُ إِلَى أَنْ بَلَغَ مِائَةَ بَيْتٍ ". " وَهِيهِ " مَوْضُوعَةٌ فِي الْكَلَامِ لِلْحَثِّ وَالِاسْتِزَادَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ شَعْرَ أُمَيَّةَ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ عِبَرٌ وَأَمْثَالٌ، وَأَذْكَارٌ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِيهِ: " إِنْ كَادَ لَيُسْلِمَ ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَقِيَ فِي سَفَرٍ رَكْبًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مَعَهُمْ حَادٍ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْدُوا، فَقَالُوا: إِنَّ حَادِيَنَا حَدَا وَنَامَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. ثُمَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَوَّلُ الْعَرَبِ حُدَاءً بِالْإِبِلِ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَأَغَارَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى إِبِلٍ فَاسْتَاقَهَا فَتَبَدَّدَتْ. فَضَرَبَ غُلَامَهُ عَلَى يَدِهِ، فَكَانَ الْغُلَامُ كُلَّمَا ضَرَبَهُ صَاحَ وَايَدَاهُ {وَايَدَاهُ} وَالْإِبِلُ تَجْتَمِعُ لِحُسْنِ صَوْتِهِ. وَهُوَ يَقُولُ: هَكَذَا أَفْعَلُ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضْحَكُ. فَقَالَ: وَمِمَّنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنْ مُضَرَ فقال: " ونحن من مضر فكيف كُنْتُمْ أَوَّلَ الْعَرَبِ حُدَاءً ". فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى إِنْشَادِ الرَّجَزِ وَإِبَاحَةِ الْحُدَاءِ، وَجَوَازِ الضَّحِكِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَلِأَنَّ الْحُدَاءَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهْوُ كَالْغِنَاءِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ حَثُّ الْمُطِيِّ وَإِعْنَاقِ السَّيْرِ. فَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ كَرَاهِيَةٌ. وَلِأَنَّ الحداء الحسن الرجز فيباح بالصوت الشجمي. فَيُخَفِّفُ كِلَالَ السَّفَرِ، وَيُحْدِثُ نَشَاطَ النَّفْسِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَجْهٌ. وَسَوَاءٌ فِيهِ الْحَادِي وَالْمُسْتَمِعُ. وَهَكَذَا التَّغَنِّي بِالرُّكَانِيَّةِ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْحُدَاءِ، يَعْدِلُ فِيهِ عَنْ أَلْحَانِ الْغِنَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، اسْتَقْبَلَهُ الْأَنْصَارُ وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْفِتْيَانُ بِالدُّفُوفِ وَهُمْ يُنْشِدُونَ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 195 (طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ) (وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ) وَمَرَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ جِوَارِيَ لِبَنِي النَّجَّارِ يُنْشِدُونَ: (نَحْنُ جَوَارٍ لِبَنِي النَّجَّارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ) فَقَالَ: " يَا حَبَّذَا أَنْتُنَّ ". (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ هَكَذَا كَانَ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ أَوْلَى مَحْبُوبًا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ " وَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ يَقْرَأُ فَقَالَ " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ " (قَالَ الشافعي) رحمه الله لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ مَا كَانَ وَأَحَبُّ مَا يُقْرَأُ إِلَيَّ حدرا وتحزينا (قال المزني) رحمه الله سمعت الشافعي يقول لو كان معنى يتغنى بالقرآن على الاستغناء لكان يتغانى وتحسين الصوت هو يتغنى ولكنه يراد به تحسين الصوت ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ حَدْرًا وَتَحْزِينًا فَمُسْتَحَبٌّ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ " وَرُوِيَ " حُسْنُ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ [زينة القرآن] ". وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَذِنَ اللَّهُ أَيْ مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] أَيْ سَمِعَتْ لَهُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنَ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 196 وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قِرَاءَتَكَ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُنِي لَحَبَّرْتَهُ تَحْبِيرًا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ " يَعْنِي [عَبْدَ اللَّهِ] بْنَ مَسْعُودٍ لِحُسْنِ أَدَائِهِ وَصِحَّةِ تَرْتِيلِهِ وَتَحْقِيقِ أَلْفَاظِهِ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَأَدَاءٍ صَحِيحٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِيَسْتَنَّ بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ فَلَا يَسْتَنْكِفُ شَرِيفٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى مَشْرُوفٍ وَلَا كَبِيرٌ عَلَى صَغِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لِيَسْمَعَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ وأداه فَيَأْخُذُونَ عَنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ بِهِ تَفْضِيلَ أُبَيٍّ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِي تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ تحريك القلوب الحزن وَالْخُشُوعِ، وَإِنْذَارِ النُّفُوسِ بِالْحَزَنِ وَالْخُضُوعِ فَيَكُونُ أَبْعَثَ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي تَهَجُّدِهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِلَى قَوْله [تَعَالَى] : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فَبَكَى حَتَّى عَلَا نَحِيبُهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى تَحَزَّنَ صَوْتُهُ. وَمَرَّ بَعْضُ أَهْلِ الْبِطَالَةِ، وَقَدْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ، بِصَالِحٍ الْمُرِّيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] فَانْزَجَرَ بِهَا وَأَلْقَى السِّكِّينَ مِنْ يَدِهِ وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَى وَجْهِهِ وَتَابَ وَصَارَ نَاسِكًا. ( [الْقَوْلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ] ) (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْأَغَانِي فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا. فَرَخَّصَهَا قَوْمٌ، وَأَبَاحُوهَا لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 197 وَشَدَّدَهَا آخَرُونَ وَحَظَرُوهَا، لِخُرُوجِهَا عَنِ الزَّجْرِ وَالْعِظَةِ إِلَى اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ. وَلِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ عُرْفِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَحَابَتِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى مَا اسْتُحْدِثَ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ". وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ الألحان، فإذا أخرجت ألفاظ القرآن لمن صِيغَتُهُ، بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ وَإِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ، يُقْصَدُ بِهَا وَزْنُ الْكَلَامِ وَانْتِظَامُ اللَّحْنِ، أَوْ مَدُّ مَقْصُورٍ، أَوْ قَصْرُ مَمْدُودٍ، أَوْ مَطَطٌ حَتَّى خَفِيَ اللَّفْظُ، وَالْتَبَسَ الْمَعْنَى، فَهَذَا مَحْظُورٌ يفسق به القارىء وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ إِلَى اعْوِجَاجِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] . وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ صِيغَةِ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ مُبَاحًا، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي تَحْسِينِهِ وَمِيلِ النَّفْسِ إِلَى سَمَاعِهِ. أما قوله: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَمَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَحَكَى زُهَيْرُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُتَغَنِّيًا فَبِالشِّعْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلَيْسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ "، فقال له إياس: إنما أراد [النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] ، ليس منا من لم يستغني بِالْقُرْآنِ، أَلَمْ تَسْمَعْ حَدِيثَهُ الْآخَرَ " مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَظَنَّ أَنَّ أَحَدًا أَغْنَى مِنْهُ ". أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: (غَنِينَا بِذِكْرِ اللَّهِ عَمَّا ... نَرَاهُ فِي يَدِ الْمُتَمَوِّلِينَا) وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غِنَاءِ الصَّوْتِ فِي تَحْسِينِهِ وَتَحْزِينِهِ دُونَ أَلْحَانِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ وَقَالَ: لَوْ أراد هذا لقال: " من لم يتغانى بالقرآن ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 198 ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ وَالْعَصَبِيَّةُ الْمَحْضَةُ أَنْ يُبْغَضَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ فَإِذَا أَظْهَرَهَا وَدَعَا إِلَيْهَا وَتَأَلَّفَ عليها فمرود وقد جمع الله تباك وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ أَشْرَفُ أَنْسَابِهِمْ فَقَالَ جل ثناؤه {إنما المؤمنون إخوة} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُونَوَا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا " فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأُلْفَةِ وَالتَّنَاصُرِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] . وَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَقَالَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّقَاطُعِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ ". فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدِّينِ، لِيَكُونُوا يَدًا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ". وَيَشْتَمِلُ الْكَلَامُ فِي هَذَا ال ْفَصْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي الْمَحَبَّةِ. وَالثَّانِي: فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّالِثُ: فِي الْبُغْضِ. وَالرَّابِعُ: فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْمَحَبَّةِ. وَنَتَحَدَّثُ عَنْ أَسْبَابٍ يَكُونُ بَعْضُهَا مُسْتَحَبًّا وَبَعْضُهَا مُبَاحًا وَبَعْضُهَا مَكْرُوهًا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 199 فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ: فَهُوَ الْمَحَبَّةُ فِي الدِّينِ وَظُهُورُ الْخَيْرِ وَمَا قَرَّبَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَاعَدَ مِنْ مَعَاصِيهِ. قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] . وَلِذَلِكَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَهُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى النَّسَبِ وَعَلَى التَّجَانُسِ فِي عِلْمٍ أَوْ أَدَبٍ وَعَلَى مَا أُبِيحَ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ مَكْسَبٍ، فَهَذَا مُبَاحٌ تَقْوَى بِهِ الْعَدَالَةُ وَلَا تَضْعُفُ بِهِ وَلِهَذَا النَّوْعِ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ ". هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ أَعْدَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدْ أَحَبَّ قُرَيْشًا لِنَسَبِهِ فِيهِمْ حَتَّى خَصَّهُمْ بِخِلَافَتِهِ فَقَالَ: " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا وَتَعَلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَالِمُوهَا ". وَحَمَى لَهُمْ لَمَّا عَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَدْرٍ وَمَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ سَلَامَةُ بْنُ وَقْشٍ وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَّنْ لَقِيَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، فَقَالَ سَلَامَةُ: وَهَلْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أُولَئِكَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ "، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعَارَ مَعَ كُفْرِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ لَهُ. وَسَمِعَ شَاعِرًا من حمير ينشده: (فإني امرؤ حميري حين ينسبني ... لا من ربيعة إياي وَلَا مُضَرَ) فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ذَاكَ أَهْوَنُ لِقَدْرِكَ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنَ اللَّهِ " وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَهُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى الْمُوافَقَةِ فِي المعاصي. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " فَصَارَ مُحِبُّ الْعَاصِي كالعاصي. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 200 فَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لِاسْتِحْسَانِ الصُّوَرِ، فَإِنْ كَانَتْ لِهَوًى يُفْضِي إِلَى رِيبَةٍ كُرِهَتْ وَإِنْ كَانَتْ لِاسْتِحْسَانِ صُنْعِ اللَّهَ تَعَالَى وَبَدِيعِ خَلْقِهِ لَمْ تُكْرَهْ وَكَانَتْ بِالْمُسْتَحَبَّةِ أَشْبَهَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعَصَبِيَّةِ: فَهِيَ شِدَّةُ الْمُمَايَلَةِ لِقَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَصَبِيَّتُهُ لَهُمْ عَامَّةً فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَعَلَى كُلِّ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ، فَهَذَا فِسْقٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] . وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَصَبِيَّتُهُ لَهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ لَهُمْ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ. فَيَكُونُ بِهَا عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: " أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ". فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُعِينُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أُعِينُهُ ظَالِمًا؟ فَقَالَ: " تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ ". ثُمَّ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمَحَبَّةِ الْقَوْمِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. ( [الْقَوْلُ فِي الْبُغْضِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْبُغْضِ: فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مُسْتَحَبٌّ، وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ. فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ: فَهُوَ بُغْضُهُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ بُغْضُهُ لَهُمْ طَاعَةً يُؤْجَرُ عَلَيْهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَهُوَ بُغْضُهُ لِمَنْ لَوَى حَقَّهُ وَتَظَاهَرَ بِعَدَاوَتِهِ فَيَكُونُ السَّبَبُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُبَاحًا، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَثَّمُ بِهِ، وَهُوَ فِيهِ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شهادته، وما لَمْ يَتَجَاوَزِ الْبُغْضَ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَهُوَ بُغْضُهُ لِمَنْ خَالَفَهُ فِي نَسَبٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ فَيَكُونُ الْبُغْضُ لِهَذَا السَّبَبِ مَكْرُوهًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقَاطُعِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 201 فَإِنْ أَلَّبَ عَلَيْهِ وَتَعَصَّبَ فِيهِ كَانَ جَرْحًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْبُغْضَ إِلَى مَا سِوَاهُ كَانَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ حَمَى نَفْسَهُ مِنْ نَتَائِجِ الْبُغْضِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ بُغْضُهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ. وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " شَرُّ النَّاسِ مَنْ يَبْغَضُ النَّاسَ وَيَبْغَضُونَهُ " فَيَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا فِيهِ، فَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْأُلْفَةِ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ التَّقَاطُعِ. ( [الْقَوْلُ فِي الْعَدَاوَةِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْعَدَاوَةِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ، أَنَّ الْبُغْضَ بِالْقَلْبِ، وَالْعَدَاوَةَ بِالْعَمَلِ، وَمَعَ كُلِّ عَدَاوَةٍ بُغْضٌ وَلَيْسَ مَعَ كُلِّ بُغْضٍ عَدَاوَةٌ، فَصَارَتِ الْعَدَاوَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْبُغْضِ، فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مُسْتَحَبَّةٌ، وَمُبَاحَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ. فَأَمَّا الْمُسْتَحَبَّةُ: فَهِيَ فِي الدِّينِ، لِمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ تَعَرَّضَ لمعاصيه. وهذا غضب لله تعالى في حقوق أوامر وَنَوَاهِيهِ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْعَدَاوَةِ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي عَدَالَتِهِ وَأَوْلَى بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ لِلَّهِ فِي مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ، كَانَ بِدَفْعِ الْمَعْصِيَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمُبَاحَةُ: فَهِيَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إِذَا بدىء بِالْعَدَاوَةِ فَقَابَلَ عَلَيْهَا بِمَا لَمْ يَتَجَاوَزْ فِيهِ حُكْمَ الشَّرْعِ، فَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِحَقِّهِ مِنْهُ. غَيْرُ قَادِحٍ فِي عَدَالَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا قَبُولُهَا عَلَى عَدْوِّهِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهِ بَعْدَ الْمُقَابَلَةِ فَإِنْ سَكَنَ بَعْدَ نُفُورِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى نُفُورِهِ ردت. وأما المكروهة: فهو أن يبتدىء بِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبِ " بِوُجُوبِهَا "، فَيَكُونُ بِهَا مُتَجَوِّزًا، فَإِنْ قَرْنَهَا بِفُحْشٍ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَارَ بِهَا مَجْرُوحًا فِي حَقِّ الْكَافَّةِ. لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ فُحْشٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، عَلَى غَيْرِهِ وَمَرْدُودُ الشَّهَادَةِ عَلَى عَدُوِّهِ وَمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ لِعَدُّوِهِ. ( [القول في حكم الشعر] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ وفضله على الكلام أنه سائر وإذا كان الشاعر لا يعرف بشتم الناس الجزء: 17 ¦ الصفحة: 202 وأذاهم ولا يمتدح فيكثر الكذب المحض ولا يتشبب بامرأة بعينها ولا يشهرها بما يشينها فجائز الشهادة وإن كان على خلاف ذلك لم تجز ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَهَادَةِ الشَّاعِرِ إِذَا صَارَ بِالشِّعْرِ مَشْهُورًا وَإِلَيْهِ مَنْسُوبًا، فَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِهَا وَجَعَلُوا تَوَفُّرَهُ عَلَى الشِّعْرِ جَرْحًا تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224] . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قبحا حتى يريه خير من أن يمتلىء شِعْرًا ". وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَرْضَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادَهُ إِذَا كَانَ سَلِيمًا لَيْسَ بِجَرْحٍ، وَشَهَادَةُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مَقْبُولَةٌ عَلَى ما سنوضحه من شرح وتفضيل لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسِنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ ". وَرُوِيَ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً. وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... ... ... ... ... ... ... ) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ وَفَدَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ فَأَنْشَدُوهُ وَمَدَحُوهُ وَأَثَابَ عليه ولم ينه عنه، فمنهم أعشى ابن حِرْمَازٍ وَفَدَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَهُ مَا امْتَدَحَهُ بِهِ فَقَالَ: (يَا مَالِكَ الْأَرْضِ وَدَيَّانَ الْعَرَبْ ... إِلَيْكَ أَشْكُو حِقْبَةً مِنَ الْحِقَبْ) إِلَى أَنِ انْتَهَى إلى شكوى امرأته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 203 ( ... ... ... ... ... ... . . ... وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ) وَمِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ وَكَانَ قَدْ هَدَرَ اللَّهُ دَمَهُ، فَوَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْتَخْفِيًا، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مُمْتَدِحًا فَقَالَ: (بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ) إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: (نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ) فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فَأضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: " لَا دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ " وَأَعْطَاهُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ الَّتِي مَعَ الْخُلَفَاءِ إِلَى الْيَوْمِ. وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شُعَرَاءُ مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ تَارَةً ابْتِدَاءً وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ أُخْرَى لِيَرُدُّوا عَلَى مَنْ هَجَاهُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: (هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ) (أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ) (فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحْمَدٍ مِنْكُمْ بَقَاءُ) الجزء: 17 ¦ الصفحة: 204 وَاسْتَنْشَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشَّرِيدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَأَنْشَدَهُ مِنْهُ مِائَةَ بَيْتٍ. وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ شَهِدَ قِسَّ بْنَ سَاعِدَةَ بِعُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَشْهَبَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ. مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا، أَمْ تُرِكُوا هُنَالِكَ فَنَامُوا. إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وإن في الأرض لعبرا سقف مرفوع وسهال مَوْضُوعٌ. وَبِحَارٌ بُحُورٌ، وَتُخُومٌ تَخُورُ ثُمَّ تَغُورُ. أَقْسَمَ قَسٌّ بِاللَّهِ قَسَمًا: إِنَّ للَّهِ لَدِينًا هُوَ أَرْضَى مِنْ دِينٍ نَحْنُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَا أَدْرِي مَا هِيَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ كُنْتُ شَاهِدًا ذَاكَ وَالْأَبْيَاتُ عِنْدِي. فَقَالَ: أَنْشِدْنِيهَا: فأنشدوه أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ ... مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ) (لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارَدًا ... لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ) (وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا ... تَمْضِي الْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرْ) (لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ ... وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ عَابِرْ) (أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ ... حَيْثُ صَارَ القَوْمُ صَائِرْ) وَقَدْ أنشد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شِعْرَ طَرَفَةَ: (سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْهُ الْأَخْبَارَ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّهُ قَالَ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 205 ( ... ... ... ... ... ... ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ) فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مالي وَلِلشِّعْرِ وَمَا لِلشِّعْرِ وَلِي " يُرِيدُ مَا قَالَهُ اللَّهُ فِيهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وما ينبغي له} وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (تَفَاءَلْ بِمَا تَرْجُو يَكُنْ فَلَقَلَّمَا ... ... ... ... ... ... ... ) فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: (بِمَا تَرْجُوهُ أَلَّا تَكُونَا ... ... ... ... ... ... ) فَصَارَ بِمَا تَمَّمَهُ عَلِيٌّ شِعْرًا مُنْتَظِمًا. وَاسْتَوْقَفَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهَا صَبْرًا فَأَنْشَدَتْهُ: (أَمُحَمَّدٌ هَا أَنْتَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ) (النَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقًا يُعْتَقُ) (مَا كَانَ ضَرُّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ) فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ ". وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَقُولُونَ الشِّعْرَ وَيَتَمَثَّلُونَ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ. فَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَقَدِ اسْتَشْهَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا سَأَلَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَدَلَّ بِهِ عَلَى مَعَانِيهِ وَقَالَ: الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ فَمَا أَنْكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 206 وَسُئِلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا فَقَالَ: أبو بكر أنا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. (إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا) (خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... إِلَّا النَبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا) (الثَانِيَ اثْنَيْنِ وَالْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا) وَحَبَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحُطَيْئَةَ الشَّاعِرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَبْسِ شِعْرًا يَقُولُ فِيهِ: (مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ ... حُمْرِ الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا شَجَرُ) (أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ يَا عُمَرُ) (أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ ... أَلْقَتْ عَلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ) (مَا يُؤْثِرُوكَ بها إذا قَدَّمُوكَ لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ الْأَثَرُ) فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ هَذَا الشِّعْرُ أَطْلَقَهُ وَقَالَ: إِنَّ الشِّعْرَ لِيَسْتَنْزِلُ الْكَرِيمَ. فَإِذَا كَانَ الشِّعْرُ فِي الصَّحَابَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَكَانَ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَرْحًا فِي قَائِلِهِ وَلَا مُنْشِدِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ مُنْكِرًا وَلَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَرَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ يُنْشِدُ شِعْرَهُ أَحْدَاثًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَتُعْرِضُونَ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقْبِلُ عَلَيْهِ إِذَا أَنْشَدَهُ فَنَهَضَ حَسَّانُ وَقَبَّلَ يَدَ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنْ قَوْمًا يَكْرَهُونَ إِنْشَادَ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يَنْسُكُونَ نُسْكًا أَعْجَمِيًّا. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ سَيْفٍ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ: سَأَلَتْهُ أَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَيُصْدِقَهَا شِعْرًا؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (يَوَدُّ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا) (يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا أَفَادَا) جَازَ فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا، وَإِنَّ مَعَ الْإِطَالَةِ بِيَسِيرٍ، أَنَّ إِنْشَاءَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادَهُ مُبَاحٌ، وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ. وَإِنْشَادُهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ غيره. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 207 فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] فَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: يُرِيدُ بِالشُّعَرَاءِ الَّذِينَ إِذَا قَالُوا كَذَبُوا وَإِذَا غَضِبُوا سَبُّوا. وَفِي قوله تعالى: {يتبعهم الغاوون} أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: الشَّيَاطِينُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: الْمُشْرِكُونَ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. وَالثَّالِثُ: السُّفَهَاءُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالرَّابِعُ: الرُّوَاةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كل واد يهيمون} [الشعراء: 225] ثلاث تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ يَأْخُذُونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمْدَحَ قوما بباطل، ويذم قوما بباطل. قال قَتَادَةُ {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] يَعْنِي مَنْ كَذَبَ فِي مَدْحٍ أَوْ هِجَاءٍ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَكَوْا وَقَالُوا: هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ: وَقَالَ هُمْ أَنْتُمْ {وَذَكَرُوا الله كثيرا} فيها وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي شِعْرِهِمْ. وَالثَّانِي: فِي كَلَامِهِمْ. {وانتصروا من بعد ما ظلموا} أَيْ رَدُّوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا هَجَوْا بِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الشِّعْرِ مَا فِيهِ مِنْ هَجْوٍ: وَالْهَجْوُ فِي الْكَلَامِ مَذْمُومٌ فَكَيْفَ فِي الشِّعْرِ، وَلِأَنَّ الشِّعْرَ يَحْفَظُهُ نَظْمُهُ فَيَنْتَشِرُ وَيَبْقَى عَلَى الْأَعْصَارِ وَالدُّهُورِ. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلىء شِعْرًا " فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ كَذِبًا وَفُحْشًا وَهِجَاءً. وَالثَّانِي: أَنَّ يَنْقَطِعُ إِلَيْهِ وَيَتَشَاغَلُ عَنِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِ الدِّينِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 208 (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشِّعْرَ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ لَا يُخْرِجُهُ نَظْمُهُ عَنْ إِبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مُسْتَحَبٌّ، وَمُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ. فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَذَّرَ مِنَ الْآخِرَةِ أَنْشَدَهُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: (فَلَوْ كُنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا ... لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ) (وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا ... وَنُسْأَلُ بعده عن كل شيء) وَأُنْشِدَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ ... وَالَعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ) (وَاللَّهِ، مَا هَذَا وَهَذَا جَارِي ... ) وَالثَّانِي: مَا حَثَّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَالْمَحْكِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ مَرَّ بِبَابِ قَوْمٍ فَسَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ: (أَنْتِ أُخْتِي وَحُرْمَةُ جَارِي ... وَحَقِيقٌ عَلَيَّ حِفْظُ الْجِوَارِ) (إِنَّ لِلْجَارِ إِنْ نُصِيبُ لَنَا ... حَافِظًا لِلنَّصِيبِ فِي الْإِسْرَارِ) (مَا أُبَالِي إِنْ كَانَ بِالْبَابِ سِتْرُهُ ... مُسْبَلٌ، أَوْ يَبْقَى بِغَيْرِ سِتَارِ) فَدَقَّ الْبَابَ وَقَالَ: عَلِّمُوا فِتْيَانِكُمْ مِثْلَ هَذَا الشِّعْرِ. فَهَذَانِ النَّوْعَانِ مُسْتَحَبَّانِ، وَهُمَا أَحْفَظُ لِلْعَدَالَةِ، وَأَبْعَثُ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَمَا سَلِمَ مِنْ فُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا جَلَبَ نَفْعًا. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَعُدْ بِضَرَرٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 209 فلا تقدح فِي الشَّهَادَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَنَوْعَانِ: كَذِبٌ وَفُحْشٌ. وَهُمَا جَرْحٌ فِي قَائِلِهِ، فَأَمَّا فِي مُنْشِدِهِ، فَإِنْ حَكَاهُ إِنْكَارًا لَمْ يَكُنْ جَرْحًا، وَإِنْ حَكَاهُ اخْتِيَارًا كَانَ جَرْحًا. فَإِنْ تَشَبَّبَ فِي شِعْرِهِ وَوَصَفَ امْرَأَةً، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ، وَإِنْ عَيَّنَهَا قَدْحَ فِي عَدَالَتِهِ. فَأَمَّا الْمُكْتَسِبُ بِالشِّعْرِ، فَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي إِذَا مَدَحَ ويذم إذا مُنِعَ، فَهُوَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِي إِذَا مَدَحَ وَلَا يَذُمُّ إِذَا مُنِعَ وَتَقَبَّلَ مَا وَصَلَهُ إِلَيْهِ عَفْوًا، فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ. ( [الْقَوْلُ في شهادة الزنا] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا فِي الزِّنَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْأَنْسَابَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا إِذَا كان عدلا في الزنى وغير الزنى. وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أَقْبَلُ شهادته في الزنى وأقبلها في غير الزنى وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بِحَالٍ. اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " ولد الزنى شَرُّ الثَّلَاثَةِ ". وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَنْيَةٍ ". وَإِذَا كَانَ شَرًّا مِنَ الزَّانِي وَمَدْفُوعًا مِنَ الْجَنَّةِ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَاخَذَ وَلَدُ الزَّانِي بِذَنْبِ أَبَوَيْهِ. لِأَنَّهُ ظُلْمٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ. وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وَلِأَنَّ عَارَ النَّسَبِ رُبَّمَا مَنَعَهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْعَارِ، لِئَلَّا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ عَارَيْنِ فَصَارَ مَزْجُورًا بِمَعَرَّةِ نَسَبِهِ عَنْ مَعَرَّةِ كَذِبِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مَعَ ظهور عدالته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 210 وَأَمَّا الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ " وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ " فَهُوَ مِنْ مَنَاكِيرِ الْأَخْبَارِ وَمَا رَوَاهُ إِلَّا مَضْعُوفٌ غَيْرُ مَقْبُولِ الْحَدِيثِ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْهُ. وَلَوْ سَلِمَتِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ لِاسْتِعْمَالِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا. وَالثَّانِي: شَرُّ الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ زَانِيًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَأُشِيرَ إِلَيْهِ أَنَّهُ شرهم، فكان ذلك للزنى تَعْرِيفًا لَا تَعْلِيلًا. وَالرَّابِعُ: مَا ذُكِرَ أَنَّ أَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ كَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَقْدَحُ فِيهِ بِالْعَظَائِمِ فَذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يَقُولُهُ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ. فقال عليه السلام: " ولد الزنى شَرُّ الثَّلَاثَةِ " يَعْنِي بِهِ أَبَا عَزَّةَ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَوْهَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَضْعَفُ وَأَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبِطَ طَاعَتَهُ مَعْصِيَةُ غيره، والكفر أعظم من الزنى، وَلَا يُحْبَطُ عَمَلُ الْمُؤْمِنِ بِكُفْرِ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْبِطَ عَمَلَهُ بِزِنَى وَالِدَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَحْدُودُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ حُدَّ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ، وَقُبِلَتْ فِي غَيْرِهِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا إِذَا شَهِدَ بِالزِّنَا، وَلَا الْمَحْدُودِ فِي الْخَمْرِ إِذَا شَهِدَ فِي الْخَمْرِ، وَلَا الْمَقْطُوعِ فِي السَّرِقَةِ إِذَا شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا اسْتِرَابَةٌ يَقْتَضِي الدَّفْعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] . وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ. وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَدَّ السَّارِقُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ سُرَّاقًا وَوَدَّ الزَّانِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ زُنَاةً، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيَنْفِيَ الْمَعَرَّةَ عَنْ نَفْسِهِ بِمُشَارَكَةِ غَيْرِهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 211 وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ. وَشَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ مَقْبُولَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] . وَقَدْ وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إِذَا تَابَ بَعْدَ حَدِّهِ، أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ فِي الْقَذْفِ وَغَيْرِهُ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ حُدَّ فِي غَيْرِهِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا، أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا حُدَّ فِيهِ، قُبِلَتْ فِيمَا حُدَّ فِيهِ كَالْقَاذِفِ. وَلَيْسَ لِلتَّعْلِيلِ بِالِارْتِيَابِ وَجْهٌ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَلَا دَلِيلَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، لِتَوَجُّهِهِ إِلَى مَا قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى مَا بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ إِذَا كَانُوا عُدُولًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الْبَدَوِيُّ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْقَرَوِيِّ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ. إِلَّا فِي الْجِرَاحِ. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ ". وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ رِيبَةٌ فِي الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْبَدَوِيَّ يَشْهَدُ لِلْقَرَوِيِّ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِإِشْهَادِ الْقَرَوِيِّ لِلْبَدَوِيِّ، فَصَارَ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ مَتْهُومًا. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَصَامَ، وَأَمْرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ. وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَوْطَانِ لَا تُؤَثِّرُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْجِرَاحِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ فَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي الْجِرَاحِ، كَانَ أَوْلَى أَنَّ تُقْبَلَ فِي غير الجراح. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 212 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا، أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ، قُبِلَتْ فِي غَيْرِ الْجِرَاحِ كَالْقَرَوِيِّ. وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ أَسْلَمُ فِطْرَةً وَأَقَلُّ حَيَاءً، فَكَانَ الصِّدْقُ فِيهِمْ أَغْلَبُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَجْدَرُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَرَاوِيهِ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْجَهْلِ بِعَدَالَتِهِ لِخَفَاءِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَإِمَّا عَلَى بَدَوِيٍّ بِعَيْنِهِ عُلِمَ جُرْحُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ. فِي الْإِشْهَادِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى يُشْهِدُونَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ، وَلَا يُشْهِدُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ أَهْلَ الْقُرَى، وَهَذَا الْعُرْفُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا شَهِدَ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ نَصْرَانِيٌ بِشَهَادَةٍ فَلَا يَسْمَعُهَا وَاسْتِمَاعُهُ لَهَا تَكَلُّفٌ وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ ثُمَّ شَهِدُوا بِهَا بِعَيْنِهَا قَبِلْتُهَا فَأَمَا الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ أَرُدُّ شَهَادَتَهُ فِي الشَّيْءِ ثُمَّ يَحْسُنُ حَالُهُ فَيَشْهَدُ بِهَا فَلَا أَقْبَلُهَا لَأَنَّا حَكَمْنَا بِإِبْطَالِنَا وَجَرْحِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرْطِ أَنْ لَا يُخْتَبَرَ عَمَلُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَ يْنِ: مُشْتَبِهَيْنِ فِي الصُّورَةِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْحُكْمِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ صَبِيٌّ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَوْ عَبْدٌ قَبْلَ عِتْقِهِ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِشَهَادَةٍ، فَيَرُدُّهُمُ الْحَاكِمُ فِيهَا، ثُمَّ يَبْلُغُ الصبي ويعتق العبد، ويسلم النصراني، فيشهدوا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي رَدُّوا فِيهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، قُبِلَتْ بَعْدَ تَقَدُّمِ الرَّدِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَقْبَلُهَا بَعْدَ رَدِّهَا. وَالْفَصْلُ الثَّانِي: تُرَدُّ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ وَيَشْهَدُ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ الْفِسْقِ. أَنْ يَشْهَدَ بَالِغٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ بِشَهَادَةٍ، فَيَرُدُّهَا الْحَاكِمُ بِالْفِسْقِ، ثُمَّ تَحْسُنُ حَالُهُ وَيَصِيرُ عَدْلًا، فَيَشْهَدُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، رُدَّتْ وَلَمْ تُقْبَلْ: وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: تُقْبَلُ وَلَا تُرَدُّ. فَسِوَى مَالِكٌ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الرَّدِّ، وَسِوَى أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا في القبول. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 213 وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ بِالصِّغَرِ وَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا رَدَّتْ بِالْفِسْقِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُدُوثَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ يَقِينٌ، وَحُدُوثُ الْعَدَالَةِ مَظْنُونٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْكُفْرَ ظَاهِرٌ يُمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ، فَصَارَتْ مَرْدُودَةً بِغَيْرِ حُكْمٍ. وَالْفِسْقُ بَاطِنٌ فَصَارَ رَدُّهَا فِيهِ بِحُكْمِ. لَوْ فَرَّقَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ رَدِّهَا بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ فَتُقْبَلُ، وَبَيْنَ رَدِّهَا بِالْفِسْقِ الْبَاطِنِ فَلَا تُقْبَلُ، لَكَانَ وَجْهًا لِأَنَّ الْفِسْقَ الظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ، فَصَارَ مَرْدُودًا بِغَيْرِ حُكْمٍ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالصِّغَرِ، وَالْفِسْقَ الْبَاطِنِ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ فَصَارَ مَرْدُودًا بِالْحُكْمِ، وَمَا نَفَذَ فِيهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ دُعِيَ الْعَبْدُ أَوِ الْكَافِرُ إلى تحمل الشهادة، لم يلزمها تَحَمُّلُهَا، وَلَوْ دُعِيَا إِلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ قَدْ تَحَمَّلَاهَا، لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَدَاؤُهَا، لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يُرَادُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَالْأَدَاءُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَلَمْ يَلْزَمَا. وَلَوْ دُعِيَ الْفَاسِقُ، إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ ظَاهِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَحَمُّلُهَا. وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بَاطِنًا لَزِمَهُ تَحَمُّلُهَا، وَهَكَذَا، لَوْ دُعِيَ إِلَى أَدَاءِ مَا قَدْ تَحَمَّلَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْفِسْقِ، وَلَزِمَهُ أَدَاؤُهَا إِنْ كَانَ بَاطِنَ الْفِسْقِ، لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبِالْفِسْقِ الْبَاطِنِ مُخْتَلِفٌ فِيهِ. وَإِذَا رَدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَةَ رَجُلٍ بِفِسْقٍ، ثُمَّ دُعِيَ لِيَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ، لِأَنَّ رَدَّهَا بِالْحُكْمِ قَدْ أَبْطَلَهَا، وَلَوْ تَوَقَّفَ الْحَاكِمُ عَنْ قَبُولِهَا لِلْكَشْفِ عَنْ عَدَالَتِهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ عُزِلَ، ثُمَّ دُعِيَ لِيَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، لِأَنَّهَا لَمْ تُرَدَّ فَلَمْ تَبْطُلْ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا دُعِيَ الْمُتَحَمِّلُ لِلشَّهَادَةِ، إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ مِمَّنْ يَصِحُ مِنْهُ الْأَدَاءُ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْحَاكِمُ شَهَادَتِي. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي امْتِنَاعِهِ، وَلَزِمَهُ الْأَدَاءُ وَلِلْحَاكِمِ اجْتِهَادُهُ فِي الْقَبُولِ أَوِ الرَّدِّ. وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْأَدَاءِ وَقَالَ: لَيْسَ الْحَاكِمُ عِنْدِي مُسْتَحِقًّا لِلْحُكْمِ، إِمَّا لِفِسْقٍ أَوْ جَهْلٍ. لَزِمَهُ الْأَدَاءُ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ اجْتِهَادٌ فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إِذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ تَقْلِيدِهِ بِفِسْقٍ أَوْ جَهْلٍ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ مَنْ يَرْتَضِي مِنَ الْحُكَّامِ، كَمَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ يَرْتَضِي مِنَ الشهود. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 214 وَحُكِيَ أَنَّ أَحْمَدَ لَزِمَتْهُ شَهَادَةٌ فَدُعِيَ إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْحُكَّامِ فَامْتَنَعَ. وَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ بِرِضًى، فَقَالَ الدَّاعِي: يُتْلِفُ عَلَيَّ مَالِي. فَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَتَلَفْتُ عَلَيْكَ مَالَكَ، الَّذِي وَلَّى هَذَا الْقَاضِي أَتْلَفَ عَلَيْكَ مَالَكَ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ وَصُولُ ذِي الْحَقِّ إِلَى حَقِّهِ، فَلَمْ يَفْتَرِقْ فِي وُصُولِهِ إِلَيْهِ حَقُّهُ بَيْنَ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ. فَإِنْ دُعِيَ الشَّاهِدُ إِلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَمِيرٍ أَوْ ذِي يَدٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا، لَزِمَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي شَهَادَةِ الْوَارِثِ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُوَرِّثِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَلَفَ الْمُدَّعِي وَأَخَذَ الدَّيْنَ مِنْ الِاثْنَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا أَخَذَ مِنْ يَدَيِ الشَّاهِدِ بِقَدْرِ مَا كان يأخذه منه لو جازت شهادته لأن موجودا فِي شَهَادَتِهِ أَنَ لَهُ فِي يَدَيْهِ حَقَّا وَفِي يَدَيِ الْجَاحِدِ حَقًّا فَأَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمُقِرِّ وَلَمْ أُعْطِهِ مِنَ الْمُنْكِرِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ وَوَرِثَهُ ابْنَانِ لَهُ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، فَالْمُصَدِّقُ مُقِرٌّ وَالْمُكَذِّبُ مُنْكِرٌ وَلِلْمُقِرِّ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي بِدَيْنِهِ فِي حَقِّ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ أَوْ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي، وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ شَهَادَةً حَتَّى يَسْتَأْنِفَهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ شَهَادَةً، وَشَهَادَتُهُ تَكُونُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أَخِيهِ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْأَبِ. وَمَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْلُؤْلُؤِيُّ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ التُّهْمَةِ فِي اسْتِدْرَاكِ إِقْرَارِهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِإِقْرَارِهِ فَانْتَفَتِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُ. فَإِذَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الدَّيْنِ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ نِصْفُهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُصَدِّقِ، وَنِصْفُهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ غَيْرَ عَدْلٍ، أَوْ يَكُونَ عَدْلًا لَمْ تَكْمُلْ به الشهادة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 215 لِعَدَمِ غَيْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى الْحُكْمَ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، أَوْ يَرَاهُ فَلَا يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي، فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَوَاءٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الْمُقِرِّ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَيَحْلِفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ وَيَبْرَأُ، وَيَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ. وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَى أَبِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدين. وكان أبو عبيد بن حرثون وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ وَهُمَا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُخَرِّجَانِ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ. فَخَالَفَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَكْثَرُهُمْ وَوَافَقَهُمَا أَقَلُّهُمْ، وَجَعَلُوهُ تَخْرِيجًا مِنْ مُقْتَضَى نَصٍّ وَلَيْسَ بِتَخْرِيجٍ مِنْ نَصٍّ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ فِي الْقَسَامَةِ فَاسْتَحَقَّ [بِأَيْمَانِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ] وَكَانَ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ، قَضَي جَمِيعَهُ مِنْ حِصَّةِ الِابْنِ الْحَالِفِ، كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَّجُوهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَاخْتَلَفَ من أنكر تخريج هذا القول في ما قَالَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَيْمَانِهِ، كَانَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، فَأُخِذَ جَمِيعُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ غَيْرَهُ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَخَاهُ مُعْتَرِفٌ بِالدَّيْنِ، فَاسْتَحَقَّ بِاعْتِرَافِهِمَا جَمِيعَ الدَّيْنِ، وَعُجِّلَ قَضَاؤُهُ مِنَ الذِّمَّةِ لِتَأْخِيرِ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى أَخِيهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْأَخُ مُنْكِرًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُقِرِّ إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى الْمُقِرِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . فَجَعْلَ لِلْوَارِثِ مَا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِثَ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ جَمِيعِهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ وَلَيْسَ بِمُشَارِكٍ. وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُنْكِرُ مِنَ التَّرِكَةِ كَالْمَغْصُوبِ فِي حَقِّ الدَّيْنِ، وَغَصْبُ بَعْضِ التَّرِكَةِ مُوجِبٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَاقِيهَا، فَلَزِمَ أَخْذُ جَمِيعِهِ مِنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّيْنِ دُونَ جَمِيعِهِ، هُوَ أَنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 216 فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي بَعْضِهَا، وَلَيْسَ مَعَ الْمُقِرِّ إِلَّا نِصْفُهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفُهُ كَالْمُقِرَّيْنِ. وَلَوْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَخِيهِ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ تَحْمُّلَ جَمِيعِ الدَّيْنِ وَفِي مُوَافَقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ فِي قَبُولِهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الدَّيْنِ إِلَّا قَدْرُ حَقِّهِ لِتَسْلَمَ شَهَادَتُهُ عَنْ جَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضَرَرٍ. وَلِأَنَّ أَحَدَ الِابْنَيْنِ لَوِ ادَّعَى دَيْنًا لِأَبِيهِ عَلَى مُنْكِرٍ، فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَحَلِفَ، لَمْ يَسْتَحِقْ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُهُ، لِأَنَّ مَا لِلْأَبِ مِنَ الدَّيْنِ فِي مُقَابَلَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهَا عِنْدِي، أَنْ يَنْظَرَ فِي التَّرِكَةِ. فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمْ لَهَا الِابْنَانِ حَتَّى أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِالدَّيْنِ، قَضَى جَمِيعَهُ مِنْهَا، فَكَانَ مَحْسُوبًا مِنْ حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُنْكِرِ. وَإِنِ اقْتَسَمَ الِابْنَانِ التَّرِكَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِالدَّيْنِ. لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْهُ إِلَّا نِصْفُهُ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مُعْتَرِفٌ بِاسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ. فَصَارَ قبل القسمة مقرا بجمعه وَبَعْدَ أَخْذِ النِّصْفِ بِالْقِسْمَةِ مُقِرًّا بِنِصْفِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرُّ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَهُوَ النِّصْفُ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ فِي الدَّيْنِ. وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُخَاصِمًا لِلْمُنْكِرِ فِي بَقِيَّةِ دَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ، لَمْ يُؤْخَذْ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَّا بَعْدَ إِحْلَافِ أَخِيهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ أُخِذَ مِنَ الْمُقِرِّ حِينَئِذٍ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَصَارَ الْمُقِرُّ خَصْمًا لِأَخِيهِ الْمُنْكِرِ لِيَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا إِنِ اسْتَدَامَ الْإِنْكَارَ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ أَخِيهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، لِاخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّيهَا. كَمَا لَوْ أَدَّى أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ وَأَحْلَفُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأَخِ الْآخَرِ مِنْ إِحْلَافِهِ. ( [الْقَوْلُ فِي إِقْرَارِ الْوَارِثِ بالوصية] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي وَصِيَّةٍ اعْتَرَفَ بِهَا أَحَدُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 217 الِابْنَيْنِ وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ. فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرُّ بِهَا إِلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ وَهُوَ نِصْفُ الثُّلُثِ، بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا. بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ فِيمَا يُوجَدُ مِنْ قَلِيلِ التَّرِكَةِ وَكَثِيرِهَا. وَالْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا مِنْ جَمِيعِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةٌ فِي ثُلُثَيْ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِدَارٍ اعْتَرَفَ بِهَا أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهَا الْآخَرُ: فَلَا تَخْلُو الدَّارُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أحدهما: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَقْتَسِمَاهَا، فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ إِلَّا نِصْفُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ. لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْهَا إِلَّا النِّصْفَ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ فَإِذَا حَلَفَ، حُسِبَ عَلَى الْمُقِرِّ قِيمَةُ النِّصْفِ مِنْ حِصَّتِهِ. فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ وَصَّى بِجَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ لِزَيْدٍ، وَأَقَرَّ الْآخَرُ أَنَّهُ وَصَّى بِجَمِيعِهَا لِعَمْرٍو. كَانَ نصف الدار لزيد فمن حصته مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِعَمْرٍو. وَنِصْفُ الدَّارِ لِعَمْرٍو، وَهُوَ حِصَّةٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِزَيْدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَادَقَ الْأَخَوَانِ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ لَكَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ، وَقَدْ صَارَتْ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنِ التَّكْذِيبُ مُضِرًّا، وَانْتَقَلَتِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِجَمِيعِهَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا وَتُقِرُّ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ، قَضَى بِجَمِيعِهَا لِلْحَالِفِ دُونَ النَّاكِلِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الدَّارُ قَدْ حَصَلَتْ فِي سَهْمِ الْمُقِرِّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ. فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ جَمِيعِهَا، لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَصِيرُ خَصْمًا لِأَخِيهِ فِي نِصْفِهَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْمُنْكِرِ مُخَاصَمَةٌ، لِوُصُولِهِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الْمُقِرِّ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ الدَّارُ قَدْ حَصَلَتْ فِي سَهْمِ الْمُنْكِرِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ بِهَا ولا بقيمتها، فإذا حلف المنكر برىء مِنَ الْمُطَالَبَةِ وَحَصَلَتْ لَهُ الدَّارُ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا. فَإِذَا كَانَ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَشَهِدَ عَلَى أَخِيهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ أَوْ مَعَ عَيْنِ الْمُوصَى لَهُ، وَانْتُزِعَتِ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ بِالْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِبَدَلِهَا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ جَاحِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 218 (باب الشهادة على الشهادة) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِكِتَابِ الْقَاضِي فِي كل حق للآدميين مالا أو حدا أو قصاصا وَفِي كُلِّ حَدٍّ لِلَّهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَجُوزُ، وَالْآخَرُ لَا تَجُوزُ مِنْ قِبَلِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَجَائِزَةٌ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ وَثِيقَةٌ مُسْتَدَامَةٌ وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَى الشَّاهِدِ مِنِ احْتِدَامِ الْمَنِيَّةِ، وَالْعَجْزِ عَنِ الشَّهَادَةِ لِغَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى الْإِرْشَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ لِيَسْتَدِيمَ بِهَا الْوَثِيقَةَ وَلَا يَقْوَى بِهِ الْحَقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ خَبَرٍ شَهَادَةٌ، فَلِمَا جَازَ نَقْلُ الْخَبَرِ لِاسْتِدَامَةِ الْعِلْمِ بِهِ، جَازَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ لِاسْتِدَامَةِ التَّوْثِيقِ بِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهَا، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ شَاهِدِ الْأَصْلِ إِذَا دَعَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ، وله حالتان: أحدهما: أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهَا، فَيَكُونُ بِالْإِجَابَةِ مُحْسِنًا، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ عَجَزَ عنه. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهَا، فَلَهُ حَالَتَانِ: إحَدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ. فَلَا تَلْزَمُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ لِأَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَلَيْسَ بِمُوجِبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَلْزَمُهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِتَحَمُّلِهَا. والحال الثالثة: أَنْ يَعْجِزَ عَنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ لِسَفَرٍ وَنَقْلَةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 219 فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى وُجُوبِ إِشْهَادِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ شَهَادَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى شهادته لثلاث مَعَانٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا دُونَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي التَّحَمُّلِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ. وَالثَّانِي: الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا لَا يُسْقِطُ فَرْضَ أَدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّحَمُّلِ فَرْضَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُقِرَّ، لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى إِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمِ الشَّاهِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَقُّ الْمَشْهُودُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَعْيَانِ كَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى بَطْنٍ بَعْدَ بَطْنٍ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ الْبَطْنَ الْمَوْجُودَ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ بِالْأَدَاءِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ. وَالْبَطْنُ الْمَفْقُودُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ، فَلَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا فِي حَقِّهِ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ الْمَعْقُودَةُ إِلَى مُدَّةٍ قَدْ لَا يَعِيشُ الشُّهُودُ إِلَى انْقِضَائِهَا فِي الْأَغْلَبِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْمُنْتَقَلِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةِ بِالْأَجَلِ الْبَعِيدِ. فَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ الْمُعَجَّلَةِ، أَوْ فِي الْبَيَاعَاتِ الْمَقْبُوضَةِ النَّاجِزَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِيهَا غَيْرُ الْأَدَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، لِأَنَّ التَّوْثِيقَ بِهَا غَيْرُ مُسْتَدَامٍ وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الشَّاهِدُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ، وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا، لِأَنَّهَا اسْتِظْهَارٌ فِي التَّوْثِيقِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، كَالْمُتَحَمِّلِ لِلْخَبَرِ إِذَا ابْتَدَأَ بِرِوَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا. وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الشَّاهِدِ فَرْضُ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِذَا أَحْدَثَ التَّنَازُعَ مَعَ إِمْكَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ التَّنَازُعُ، سَقَطَ عَنْهُ فَرَضُ الْأَدَاءِ وَالْإِشْهَادِ مَعًا. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الثَّانِي: مَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَتَجُوزُ فِيهَا الْإِشْهَادُ عَلَى الشَّهَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 220 بِشَاهِدَيْنِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتْقِ، وَالنَّسَبِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْقَذْفِ، أَوْ كَانَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ، أَوْ كَانَ يَثْبُتُ بِالنِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ كَالْوِلَادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ. وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّخْفِيفِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ تَغْلِيظٌ فَتَنَافَيَا. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَفِيمَا عَدَا الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالْإِبَاحَةِ فَلَمَّا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ أَخَفُّ، كَانَ جَوَازُهَا فِي الْمُغَلَّظِ أَحَقُّ. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، فَفِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ، وَتَثْبُتُ بِشُهُودِ الْفَرْعِ كَثُبُوتِهَا بِشُهُودِ الْأَصْلِ، اعْتِبَارًا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ أَحَقُّ بِالِاسْتِيفَاءِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعَفْوِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشُهُودِ الْأَصْلِ دُونَ شُهُودِ الْفَرْعِ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى سِتْرِهَا وَكِتْمَانِهَا وَدَرْئِهَا بِالشُّبَهَاتِ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ". فَكَانَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُنَافِيَةً لِتَأْكِيدِهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، كَالْقَوْلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. تَجُوزُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَفِي جَوَازِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلَانِ. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي صِفَةِ الْإِشْهَادِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَحَمَّلَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ. وَلَهُ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُشَاهِدَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ مِنْ حُضُورِهِ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ يَسْمَعُ فِيهِ الْبَذْلَ وَالْقَبُولَ، أَوْ مُشَاهَدَتِهِ لِقَتْلٍ أَوْ إِتْلَافِ مَالٍ، أَوْ سَمَاعِهِ لِلَفْظِ الْقَذْفِ، فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ مِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ وَلَا اسْتِرْعَاءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَا تَحْمَّلَهُ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 221 وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْمَعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يَقُولُ: " لِفُلَانٍ عَلِيَّ كَذَا دِرْهَمٌ " فَيَصِحُّ تَحَمُّلُ الشَّاهِدِ لِهَذَا الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ الْمُقِرُّ لِلشَّهَادَةِ، وَيَقُولُ " اشْهَدْ عَلِيَّ بِهَذَا "، لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فَاسْتُغْنِى بِالْعُرْفِ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَسْمَعَ إِقْرَارَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ. إِمَّا عِنْدَ الشَّاهِدِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِ الشَّاهِدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، هَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِرْعَاءِ الْمُقِرِّ؟ وَالِاسْتِرْعَاءُ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ عَلَيَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ، أَنَّ التَّحَمُّلَ لِلشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ بِهَا، فَإِنْ سَمِعَ الشَّاهِدُ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِدْ بِذَلِكَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُقْرِضُكَ إِيَّاهَا، أَوْ أَهَبُهَا لَكَ، فَلَا يُلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَحَمُّلَ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ جَائِزَةٌ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِذَا اخْتَبَأَ الشَّاهِدُ حَتَّى سَمِعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ: أَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفًا، وَالْمُقِرُّ غَيْرُ عَالِمٍ بِحُضُورِ الشَّاهِدِ وَسَمَاعِهِ، أَنْ يَتَحَمَّلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَشْهَدَ بِهَا عَلَى الْمُقِرِّ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمُقِرِّ غَفْلَةٌ تَتِمُّ بِهَا الْحِيلَةُ عَلَيْهِ وَالْخِدَاعُ، فَلَا يصح تحمل الشهادة من المختبىء حَتَّى يَرَاهُ الْمُقِرُّ أَوْ يَعْلَمَ بِهِ. وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ ذِي الْغَفْلَةِ وَغَيْرِهِ فِي صحة تحمل المختبىء. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى لِتَمَامِ الْحِيلَةِ عَلَى الْغَافِلِ وَانْتِفَائِهَا عَنِ الضَّابِطِ فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْعَاءِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْإِقْرَارِ، إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ اسْتَغْنَى تَحَمُّلُهُ عَنْ الِاسْتِرْعَاءِ، وَالْقَوْلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ " لَهُ عَلِيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِحَقٍّ وَاجِبٍ ". وَالْأَمَارَةُ أَنْ يَحْضُرَ الْمُقِرُّ عِنْدَ الشَّاهِدِ لِيَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَعْلَمَ شَاهِدُ الْحَالِ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِوَاجِبٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 222 وَإِنْ تَجَرَّدَ الْإِقْرَارُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَمَارَةٍ، افْتَقَرَ إِلَى الِاسْتِرْعَاءِ وَلَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لَزِمَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي شَهَادَتِهِ صِفَةَ الْإِقْرَارِ. فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِرْعَاءِ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقِلْ: أَشْهَدُ، وَقَالَ: أَقَرَّ عِنْدِي، وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ كَانَ إِخْبَارًا وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً. فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا حَتَّى يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَبَرِ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ حَضَرَ الْمُقِرَّ وَأَقَرَّ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ: " أَشْهَدُ أنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا " وَلَا يَقُولُ: " وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ "، لِيَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّحَمُّلِ وَفَسَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ سَمِعَ إِقْرَارَ الْمُقِرِّ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ عِنْدَهُ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ: " أَشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُهُ يُقِرُّ بِكَذَا " وَلَا يَقُولُ أَقَرَّ " عِنْدِي " لِيَكُونَ الْحَاكِمُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ دُونَ الشَّاهِدِ. فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّحَمُّلِ وَفَسَادِهِ نُظِرَ: فَإِنْ أَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَفَسَادِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الْحَاكِمُ أَحَقَّ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي لُزُومِ الْأَدَاءِ وَسُقُوطِهِ عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ حَقًّا لِغَيْرِهِ. ( [الْقَوْلُ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِهِ] ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ الشَّهَادَةَ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَاهِدِ الْفَرْعِ فِي صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ وَصِحَّةِ أَدَائِهِ. فَأَمَّا تَحَمُّلُهُ فَمُعْتَبَرٌ فِي شَاهِدِ الْأَصْلِ وَلَهُ فِي تحمل شاهد الفرع عنه ثلاثة أحوال: أحدهما: أَنْ يَذَكُرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ صَدَاقٍ، فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ إِيَّاهَا، وَفِيهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَجْهٌ آخَرُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 223 أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحَمُّلُهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ بِالْوَعْدِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ تَعْيِينٌ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلِ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنْ سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ إِيَّاهَا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزَمٌ، فَلَمْ تَكُنِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِمَا لَزِمَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا. فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمُقِرِّ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَقَّ فِي الشَّاهِدِ لَازِمٌ لِغَيْرِ الشَّاهِدِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَلَّظَ حُكْمُهُ بِالِاسْتِرْعَاءِ لِيَتَحَقَّقَ صِحَّةُ الْإِلْزَامِ بِنَفْسِ الِاحْتِمَالِ. وَالْحَقُّ فِي الْإِقْرَارِ لَازِمٌ لِلْمُقِرِّ لَا يَتَعَدَّاهُ فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ فِي صِحَّةِ الْإِلْزَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ لَمَا اسْتَظْهَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ وَشُرُوطُ الشَّهَادَةِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْخَبَرِ لِصِحَّةِ إِخْبَارِ مَنْ لَا يَصِحُّ شَهَادَتُهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِقْرَارِ، وَلِذَلِكَ قَبِلَ رُجُوعِ الشَّاهِدِ وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُ الْمُقِرِّ. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِرْعَاءُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّهَادَةِ فَالِاسْتِرْعَاءُ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَعَنْ شَهَادَتِي ". فَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي " اسْتِرْعَاءٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِلَّا بِهِ. " فَلَوْ قَالَ فَاشْهَدْ أَنْتَ بِهَا " لَمْ يَكُنِ اسْتِرْعَاءٌ، حَتَّى يَقُولَ: " فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَعَنْ شَهَادَتِي " فَهُوَ إِذْنٌ لَهُ فِي النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَمُعْتَبَرٌ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ نَائِبٌ عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ فِي الْأَدَاءِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْإِذْنُ بِالنِّيَابَةِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 224 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ مَعَ تَرْكِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِذْنُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ. ( [الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ أَدَاءِ شَاهِدِ الْفَرْعِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِحَّةُ الْأَدَاءِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِشَاهِدِ الْأَصْلِ وَصِحَّةُ أَدَائِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى شَهَادَتِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ عَنْهَا، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بَطَلَ الْأَدَاءُ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْأَدَاءِ، لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِرُجُوعِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ شَاهِدُ الْأَصْلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ مَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى مِنَ الْفَرْعِ، وَإِذَا وُجِدَتِ الْقُوَّةُ فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهَا، وَخَالَفَتِ الْوَكَالَةُ فِي جَوَازِهَا عَنِ الْحَاضِرِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَضْعُفُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حُجَّتِهِ كَالْغَائِبِ. وَخَالَفَتِ الْخَبَرَ فِي جَوَازِ قَبُولِهَا مِنَ الْمُخْبِرِ مَعَ وُجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يَلْزَمُ الْمُخْبِرَ وَالْمُسْتَخْبِرَ وَالشَّهَادَةُ تَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ دُونَ الشَّاهِدِ. فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدُ الْفَرْعِ لِغَيْبَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ أَوْ مَرَضِهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا سُمِعَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَلَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ. فَأَمَّا الْغَيْبَةُ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا شَهَادَةُ الْفَرْعِ، فَقَدِ اعْتَبَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمُدَّةِ الْقَصْرِ وَهِيَ مَسَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ. وَاعْتَبَرَهَا أَبُو يُوسُفَ بِأَنْ يَكُونَ إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَوْدِ مِنْهَا قَبْلَ اللَّيْلِ إِلَى وَطَنِهِ. وَعَلَى الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي عَوْدِهِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الأداء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 225 الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَمِّيَ شَاهِدَ الْأَصْلِ فِي أَدَائِهِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَهُ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ، لِأَنَّهُ فَرْعُهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَصْلُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةٌ وَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ مَرْضِيًّا فَقَبُولُهَا مُعْتَبَرٌ بِعَدَالَةِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ: " أَشْهَدَنِي شَاهِدُ عَدْلٍ رِضًى " لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُسَمِّيَهُ. لِأَنَّ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ إِلَى الْحَاكِمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحْمَّلَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَحْمَّلَ عَنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ لِذِكْرِهِ لِسَبَبِ وُجُوبِ الْحَقِّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، ذَكَرَهُ فِي أَدَائِهِ عَنْهُ. فقال " أشهد أن فلان ابن فُلَانٍ الشَّاهِدَ أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَعَنْ شَهَادَتِهِ، أن فلان ابن فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدَهُ وَأَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ عليه لفلان ابن فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ". فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا الْأَدَاءِ. فَإِنْ قَالَ " أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ " وَلَمْ يَقُلْ " وَعَنْ شَهَادَتِهِ " فَفِي صِحَّةِ أَدَائِهِ وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. فَإِنْ قَالَ شَاهِدُ الفرع: أشهد عن فلان ابن فُلَانٍ الشَّاهِدِ جَازَ. وَلَوْ قَالَ: " أَشْهَدُ عَلَيْهِ " لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى الْمُقِرِّ لَا عَلَى الشَّاهِدِ. (فَصْلٌ) : وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: مَنْ يَصِحُّ أن يكون مؤديا للشهادة على الشهادة. مذهب الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُمُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مِمَّا تُقْبَلُ فِيهَا النِّسَاءُ أَوْ لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْفُرُوعِ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يُعْتَبَرُ بِالْأَصْلِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ إِثْبَاتُ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ إِثْبَاتُ الْحَقِّ، فَصَارَتْ صِفَةُ الْحَقِّ مُعْتَبَرَةٌ فِي شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَصِفَتُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِّ سَقَطَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَيَحْمِلُهَا فِي الْفَرْعِ شَاهِدٌ واحد وأراد صاحب الحق أن يحلف مع الشاهد الواحد، كما كان له أن يحلف مع الشاهد الْوَاحِدَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَقُّ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 226 فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي الْفَرْعِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ، وَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُثْبَتُ بِهِمَا شَهَادَةُ الْوَاحِدِ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ وَلَيْسَتْ لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي تَحَمُّلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ وَأَدَائِه] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا سَمِعَ الرَّجُلَانِ الرَّجُلَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمَا اشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِي فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهَا وَلَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْعِهِمَا إِيَّاهَا وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَدَهُ بِهَا وَإِذَا اسْتَرْعَاهُمَا إِيَّاهَا لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا وَهِيَ عِنْدَهُ وَاجِبَةٌ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا مِمَّا قَدْ مَضَى فِيهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ تَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ أُجْرَةِ أَرْضٍ أَوْ قَرْضٍ. فَيَصِحُّ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْعَاءٍ، وَفِيهِ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْحَقِّ فَإِذَا سَمِعَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْأَصْلَ عِنْدَ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ، أَوْ سَمَاعِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الشَّهَادَةِ يَقُولَانِ " نَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ "، وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبَ وُجُوبِهَا، لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِلَّا بِالِاسْتِرْعَاءِ. لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَدَهُ بِهَا، فَإِذَا اسْتَرْعَاهُمَا إِيَّاهَا لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا وَهِيَ وَاجِبَةٌ. وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الِاسْتِرْعَاءَ وَثِيقَةٌ، وَالْوَثَائِقُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبَاتِ، فَصَارَ الِاحْتِمَالُ بِالِاسْتِرْعَاءِ مُنْتَفِيًا. فَأَمَّا تَحْمُلُ الْإِقْرَارَ، فَفِي اعْتِبَارِ الِاسْتِرْعَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ وَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ قبل رجوعه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 227 (فصل) : فإذا كان هذا الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْإِقْرَارِ مُعْتَبَرًا فَقَالَ الشَّاهِدُ لِلْمُقِرِّ: " أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ "؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ هَذَا اسْتِرْعَاءً صَحِيحًا، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الِاسْتِرْعَاءِ بِذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أوجه، أحدهما: أَنَّ قَوْلَهُ " أَشْهَدُ " اسْتِرْعَاءٌ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ " نَعَمْ " بَلْ هُوَ آكَدُ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ " أَشْهَدُ " اسْتِرْعَاءٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ. أَوْ يَشْهَدَ عَلَى بَعْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالَ لَهُ " اشْهَدْ " لَمْ يَكُنِ اسْتِرْعَاءً وَلَوْ قَالَ: اشْهَدْ عَلَيَّ كَانَ اسْتِرْعَاءً لِنَفْيِ الِاحْتِمَالِ بِقَوْلِهِ " عَلَيَّ " وَلَوْ قَالَ لَهُ اشْهَدْ عَلَيَّ بِذَلِكَ كَانَ اسْتِرْعَاءً صَحِيحًا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لِانْتِفَاءِ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ مِنْ قَوْلِهِ نَعَمْ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِرْعَاءَ فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، فَقَالَ الشَّاهِدُ لِلْمُقِرِّ أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَفِي بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ بِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ بِقَوْلِهِ لَا. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. ( [الْقَوْلُ فِي سُؤَالِ الْقَاضِي عَنْ جِهَةِ التَّحَمُّلِ] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يَسْأَلَهُ مِنْ أَيْنَ هِيَ؟ فَإِنْ قَالَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ أَوْ بِبَيْعٍ حَضَرْتُهُ أَوْ سَلَفٍ أَجَازَه وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ رَأَيْتُهُ جَائِزًا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشَّهَادَةَ بِذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَقِّ، وَحَتَّى لَا يُحْوِجَ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِهِ. فَيَقُولُ: " أَشْهَدُ أنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَوْ حَضَرْتُ عَقْدَ بَيْعٍ وَجَبَ بِهِ، فَإِنْ أَغْفَلَ الشَّاهِدُ ذِكْرَ السَّبَبِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يَنْبَغِي للحاكم أن يقول له: " من أين شهد عَلَيْهِ؟ وَلَا يَقُولُ: كَيْفَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَيْفَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ؟ قَدْحٌ، وَقَوْلُهُ: مِنْ أَيْنَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ؟ اسْتِخْبَارٌ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَخْبِرَ الشاهد، وليس له أن يبتدىء بِالْقَدْحِ فِيهِ. فَإِذَا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ: مِنْ أَيْنَ شَهِدْتَ عَلَيْهِ؟ فَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ، هل شهد الجزء: 17 ¦ الصفحة: 228 عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، أَوْ عَنْ حُضُورِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَقِّ لِيَزُولَ بِهِ الِاحْتِمَالُ عَنْ شَهَادَتِهِ. فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ وَأَجَابَهُ الشَّاهِدُ، فَقَدْ قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ، إِذَا صَحَّتْ. وَإِنْ سَأَلَهُ [الْحَاكِمُ] فَلَمْ يُجِبْهُ الشَّاهِدُ، فَقَدْ قَامَ الْحَاكِمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّؤَالِ، وَقَصَّرَ الشَّاهِدُ فِيمَا إِلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ، فَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي حَالِ الشَّاهِدِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ غَفْلَةٌ، لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِ، لِاحْتِمَالِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ، وَإِنْ كَانَ ضَابِطًا مُتَيَقِّظًا، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ بِالضَّبْطِ وَالتَّيَقُّظِ. وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْمُقَصِّرُ، وَحُكْمُهُ إِنْ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ نَافِذٌ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِظْهَارٌ، وَتُحْمَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مَا يُنَافِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي تَزْكِيَةِ شهود الأصل] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَلَمْ يُعَدِّلَاهُ قَبِلَهُمَا وَسَأَلَ عَنْهُ فَإِنْ عُدِّلَ قَضَى بِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَمِّيَاهُ وَيُعَدِّلَاهُ، فَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِمَا تَحَمَّلَاهُ عَنْهُ وَبِتَعْدِيلِهِمَا لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا فِي تَعْدِيلِهِ، لِأَنَّهُمَا مَتْهُومَانِ فِيهِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَشْهَدَ غَيْرُهُمَا بِعَدَالَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُمَا كَانَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودًا. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَدَالَتَهُمَا تَنْفِي عَنْهُمَا هَذِهِ التُّهْمَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي إِمْضَاءِ شَهَادَتِهِمَا عَنْهُ يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا بِعَدَالَتِهِ، وَلَوَجَبَ لِأَجْلِهَا رَدُّ جَمِيعِ شَهَادَتِهِمَا، لِأَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا يَشْهَدُ لِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ ذَلِكَ مَدْفُوعًا بِالْحِجَاجِ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُسَمِّيَاهُ وَلَا يعدلاه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 229 فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْأَدَاءُ، وَلَا يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهَا مُعْتَبَرٌ بِعَدَالَةِ شُهُودِ الْفَرْعِ وَشُهُودِ الْأَصْلِ، وَلَا يُعْرَفُ عَدَالَةُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ. وَيَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ أَنَّ تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فَإِنِ الْتَزَمَ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ نَاقَضَ. وَنَحْنُ نَجْرِي عَلَى الْقِيَاسِ فِي رَدِّهِمَا. ( [الْقَوْلُ فِي حُكْمِ تَسْمِيَةِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ] ) (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَمِّيَاهُ وَلَا يُعَدِّلَاهُ. فَيَسْمَعُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا وَيَكْشِفُ عَنْ عَدَالَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ حَتَّى يعدل شهود الْفَرْعِ شَاهِدَ الْأَصْلِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ غَيْرُهُمَا لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: لِأَنَّ تَرْكَ تَزْكِيَةِ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ رِيبَةٌ: وَالشَّهَادَةُ مَعَ الِاسْتِرَابَةِ مَرْدُودَةٌ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَا يُعَيَّنُ فِيهَا الْمُزَكِّي، وَقَدْ عَيَّنُوهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّهَادَةَ كَالْخَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ نَاقِلُ الْخَبَرِ عَنْ رَاوِيهِ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ مِنْ غَيْرِ نَاقِلِهِ، كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ يَجُوزُ فِيهَا تَزْكِيَةُ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ شُهُودِ الْفَرْعِ. ( [الْقَوْلُ فِي تَعْدِيلِ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ] ) (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْدِّلَاهُ وَلَا يُسَمِّيَاهُ. فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يُسَمِّيَاهُ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا زَكَّى شَاهِدَ الْأَصْلِ وَلِمَ يُسَمِّيَهُ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الِاسْمِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَهُمَا فَاسِقًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَصَارَ مَجْهُولَ الْحَالِ بإغفال تسميته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 230 وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَطْرُدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَ الشُّهُودِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِطْرَادُ جُرِحِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي الْعَدَدِ في شهود الفرع] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنَ الْحُكَامِ وَالْمُفْتِينَ يُجِيزُونَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ مِمَنْ شَهِدَا عَلَيْهِ وَآمُرُهُ بِطَلَبِ شَاهِدَيْنِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ بِشَيْءٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ حِكَايَتِهِ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَدَدَ مُعْتَبَرٌ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ لِاعْتِبَارِهِ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَخْلُو مِنِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهَا، أَصْلًا كَانَتْ أَوْ فَرْعًا، فَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مُعْتَبَرَةٌ بِشَاهِدَيْنِ، فلشهادة الفرع ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفَرْعِ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، وَيَشْهَدُ آخَرَانِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ، فَيَصِيرُ شُهُودُ الْفَرْعِ أَرْبَعَةٌ يَتَحَمَّلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ اثْنَانِ، فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَوْلَى مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفَرْعِ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا أَوْ يَشْهَدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ، فَهَذَا غَيْرُ مُجْزِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُنَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ جَوَازُهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ لَمَّا ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ، جَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، فَتَصِيرُ نِيَابَتُهُمَا بِشَاهِدَيْنِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ، وَحُكْمُ الْفَرْعِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْوَاحِدِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْهَدَ في الفرع شاهدان على أن أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ مَعًا عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ، فَيَتَحَمَّلُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 231 أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ، هَلْ يَكُونُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ أَوْ بِشُهُودِ الْفَرْعِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ، وَيَتَحَمَّلُهُ عنهم شهود الفرع، لأنه يعتبر شَرْطُ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُعَايَنُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ دُونَ شُهُودِ الْفَرْعِ وَيَتَحَمَّلُهُ عَنْهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِشُهُودِ الْفَرْعِ، وَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الشَّهَادَةَ عَنْ شُهُودِ الْأَصْلِ، لِجَوَازِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ شُهُودِ الْأَصْلِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَحَمَّلَ شَاهِدَا الْفَرْعِ عَنْ أَحَدِ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَتَحَمَّلَا عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ. وَوَهِمَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَعَكَسَهُ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، وَجَعَلَ ثُبُوتَهُ بِشُهُودِ الْأَصْلِ تَجَوَّزَ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ. وَهَذَا عَكْسُ الصَّوَابِ، لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ثبت بشهود الأصل فهو تحمل بحق كل وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِذَا بِشُهُودِ الْفَرْعِ فَهُوَ تَحْمُّلٌ لِلشَّهَادَةِ بِشَاهِدَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَمَّلَاهَا عَنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ فِيهَا كَأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْوَهْمِ، وَفَرَّقَ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ إِنْ قِيلَ: يَجُوزُ لِشَاهِدَيِ الْفَرْعِ أَنْ يَشْهَدَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ فَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى شَخْصَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهَا فِي حَقِّ وَاحِدٍ، كَمَا جَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهَا فِي حَقَّيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ أَوْكَدُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا فِي حَقَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ مُوَافِقٌ وَفِي الْحَقَّيْنِ غَيْرُ مُوَافِقٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِذَا شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا، فَدَلِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا قَدْ قَامَا فِي التَّحَمُّلِ عَنْ أَحَدِهِمَا مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْحَقُّ، فَإِذَا شَهِدَا فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ الْآخَرِ صَارَا كَالشَّاهِدِ إذا شهدا بِذَلِكَ الْحَقِّ مَرَّتَيْنِ، وَلَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ بِهَذَا كذلك بالشاهدين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 232 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. ( [الْقَوْلُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ بِحَسْبَ الْأَحْكَامِ] ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَالْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّاهِدَيْنِ. كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ وَالْعِتْقِ وَالنَّسَبِ. فَفِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: شَاهِدَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ. إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ اثنان إذا جعل ثبوت الحق بشهود كالفرع. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْأَمْوَالِ. فَفِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: شَاهِدَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، إِذَا جُعِلَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِشُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: سِتَّةٌ يَتَحَمَّلُونَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، إذا جعل ثبوت الحق بشهود الفرع. والضرب الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَجُوزُ، لَمْ يَجُزْ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِيهَا. وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَجَوَازِهَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، كَانَ عَدَدُ الشُّهُودِ مُعْتَبَرًا بِأَصْلَيْنِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ قَوْلَانِ. أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ: فِي شَاهِدَيِ الْفَرْعِ إِذَا شَهِدَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَى فِعْلِ الزِّنَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ كَالْإِقْرَارِ فَصَارَ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي عَدَدِ شُهُودِ الْفَرْعِ أَرْبَعَةَ أقاويل: أحدهما: اثْنَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ. إِذَا جَعَلَ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ أَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 233 يَتَحَمَّلَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِشَاهِدَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن شهود الفرع فيه أربعة أقاويل إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ [إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ، وَجَعَلَ لِشُهُودِ الْفَرْعِ أَنْ يَتَحَمَّلُوا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ، إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ شُهُودُ الْفَرْعِ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَقِيلَ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ] . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ شهود الفرع فيه ستة عشرة، إِذَا مُنِعَ شُهُودُ الْفَرْعِ مِنْ أَنْ يَشْهَدُوا إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ أَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْوِلَادَةِ، وَالِاسْتِهْلَالِ، وَالرَّضَاعِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ الْبَاطِنَةِ فَفِي عَدَدِ الشُّهُودِ فِي الْفَرْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اثْنَانِ يَتَحَمَّلَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسْوَةِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ثَمَانِيَةٌ يَتَحَمَّلُ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 234 ( [بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَجَرْحِ الشُّهُودِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا سَأَلَهُمُ الْإِمَامُ أَزَنَى بِامْرَأَةٍ؟ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَعُدُّونَ الزِّنَا وُقُوعًا عَلَى بَهِيمَةٍ وَلَعَلَّهُمْ يَعْدُّونَ الِاسْتِمْنَاءَ زِنًا فَلَا يُحَدُّ حَتَى يُثْبِتُوا رُؤْيَةَ الزِّنَا وَتَغْيِيبَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ (قَالَ المزني) رحمه الله وقد أجاز في كتاب الحدود أن إتيان البهيمة كالزنا يحد فيه قال ولو شهد أربعة اثنان منهم أنه زنى بها في بيت واثنان منهم في بيت غيره فلا حد عليهما ومن حد الشهود إذا لم يتموا أربعة حدهم (قال المزني) رحمه الله قد قطع في غير موضع بحدهم ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا مُغَلَّظٌ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِتْلَافِ النُّفُوسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ تَعِدِّي الْمَعَرَّةِ الْفَاضِحَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَفْسَدُ بِهِ النَّسَبُ اللَّاحِقُ. وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ بِهِ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَحِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، وَتَغْلِيظُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي عَدَدِ الشُّهُودِ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ خُصَّ بِهِمُ الزِّنَا مِنْ جَمِيعِ الْحُدُودِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَلَا يُوجَبُ الْحَدُّ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ عُدُولٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَغْلِيظُهُ بالكشف عن حال الشهادة حتى تنتفي عَنْهَا الِاحْتِمَالُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَشْمَلُ هَذَا الكشف على ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: عَنْ حَالِ الزِّنَا. وَالثَّانِي: عن صفته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 235 وَالثَّالِثُ: عَنْ مَكَانِهِ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي السُّؤَالِ عَنْ حَالِ الزِّنَا. فَيَسْأَلُ الْحَاكِمُ شُهُودَ الزِّنَا: عَنِ الزِّنَا؟ لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الشَّهْوَةِ بِالْإِنْزَالِ المحظور، قد يكون من أربعة أحوال: أحدها: الزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهُوَ صَرِيحُ الزِّنَا اسْمًا وَحُكْمًا، فَإِذَا قَالُوا: " زَنَى بِامْرَأَةٍ ". لَمْ يَسْمَعِ الْحَاكِمُ هَذَا مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولُوا مَنِ الْمَرْأَةُ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، كَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ شُبْهَةٍ كَانَ وَطْؤُهَا مُشْتَبِهًا يَسْقُطُ فِيهِ الْحَدُّ، وَلَزِمَ بَيَانُهَا لِيَعْلَمَ أَنَّ وَطْأَهَا زِنًا، وَبَيَانُهَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ تُعَيَّنَ بِالتَّسْمِيَةِ لَهَا، أَوْ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا. وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقُوا وَيَقُولُوا: زَنَا بِأَجْنَبِيَّةٍ مِنْهُ، غَيْرِ مُسَمَّاةٍ وَلَا مُعَيَّنَةٍ، فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَلَا يَلْزَمُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُولُوا: وَطِئَهَا بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، لِأَنَّهَا مُعْتَقَدَةٌ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ، لاختصاصها بمعتقد الواطىء، فَإِنِ ادَّعَاهَا، قُبِلَتْ إِذَا أَمْكَنَتْ، وَلَا يَكُونُ الشُّهُودُ مَعَهَا قَذْفَةٌ. وَهَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ حَتَّى يَذْكُرُوا الزَّانِيَ بِهَا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقُوا فَيَقُولُوا: زَنَى بِهَا أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا، فَيَصِيرُوا شَاهِدِينَ عَلَيْهَا دُونَهُ. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: اللِّوَاطُ. فَيَقُولُوا: تَلَوَّطَ بِغُلَامٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَدَّ فِيهِ: وَعِنْدَنَا أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ وَاجِبٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَحَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ جَلْدُ مِائَةٍ إِنْ كَانَا بِكْرَيْنِ وَالرَّجْمُ إِنْ كَانَا ثَيِّبَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ سَوَاءً كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ. وَالتَّلُوطُ بِالْمَرْأَةِ كَالتَّلَوُّطِ بِالْغُلَامِ، يَكُونُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مُوجِبًا لِحَدِّ الزِّنَا، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي مُوجِبًا لِلْقَتْلِ. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِتْيَانُ البهيمة. وفيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ وَمَنْ أَتَاهَا ". وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 236 وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ أَوْ لِحَدِّ الزِّنَا، لَمْ يَثْبُتْ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا نَقْصٌ عَنْ شُهُودِ الزِّنَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَدِّ فِي الْجِنْسِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ، كَمَا أَنَّ زِنًا الْعَبْدِ مُوجِبٌ لِنِصْفِ الْحَدِّ، وَزِنَا الْبِكْرِ مُوجِبٌ لِلْجَلْدِ، وَزِنَا الثَّيِّبِ مُوجِبٌ لِلرَّجْمِ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ لِاخْتِلَافِ الْحُدُودِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ، قُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ الَّتِي أَتَاهَا، لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَتْلِهِ وَقَتْلِهَا. وَقَتْلُهَا لَيْسَ حَدًّا عَلَيْهَا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا. وَقِيلَ: لِئَلَّا تَأْتِيَ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ. وَقِيلَ: لِئَلَّا تَتَذَكَّرَ بِمُشَاهَدَتِهَا فِعْلَ مَنْ أَتَاهَا. فَإِذَا قُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ وَكَانَتْ لِغَيْرِ مَنْ أَتَاهَا، فَفِي وُجُوبِ غُرْمِ قِيمَتِهَا لِمَالِكِهَا وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ لَهُ لِوُجُوبِ قَتْلِهَا بِالشَّرْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ قِيمَتُهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ بِعُدْوَانٍ. فَعَلَى هَذَا فِي مُلْتَزِمِ قِيمَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَنْ أَتَاهَا. وَالثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةً، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَبَاحَةُ الْأَكْلِ، فَعَلَى هَذَا تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ، وَلَا تُغَرَّمُ، وَيَكُونُ ذَبْحُهَا وَاجِبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُؤَكَلُ وَتُقْتَلُ، وَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا وَجْهَانِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 237 وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ مُوجِبٌ لِحَدِّ الزِّنَا، لَمْ تُقْتَلِ الْبَهِيمَةُ، وَوَجَبَ فِي الْقَذْفِ بِهَا الْحَدُّ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهَا حَدٌّ، وَعُزِّرَ الْقَاذِفُ كَمَا يُعَزَّرُ الْفَاعِلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَإِنْ عُزِّرَ الْفَاعِلُ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْفِعْلِ أَخَفُّ مِنْ حَدِّ الْفِعْلِ، فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ الْفِعْلُ حَدٌّ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْقَذْفِ بِهِ. (فَصْلٌ) : وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ. وَهُوَ حَرَامٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ إِلَى إِبَاحَتِهِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْفُجُورِ، وَيَبْعَثُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ. وَهَذَا فَاسِدٌ لقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فإنهم غير ملومين فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . فَصَارَ الْمُسْتَمْنِي مَنْسُوبًا إِلَى الْعُدْوَانِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِأَجْلِ التَّنَاسُلِ وَالتَّكَاثُرِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى بِالسَّقْطِ ". وَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا الِاسْتِيلَادُ لَمَا تَزَوَّجْتُ. وَالِاسْتِمْنَاءُ بَعِيدٌ عَنِ النَّاكِحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّنَاسُلِ فَكَانَ مَحْظُورًا لَكِنَّهُ مِنْ صَغَائِرِ الْمَعَاصِي، فَيُنْهَى عَنْهُ الْفَاعِلُ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ النَّهْيِ عُزِّرَ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شُهُودُ الزِّنَا، وَيَقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَيْنِ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ فِيهِ التَّعْزِيرُ بَعْدَ النَّهْيِ، وَلَا يُجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ إِنْ لَمْ يُعَزَّرِ الْفَاعِلُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ الزِّنَا. فَلَا يُقْتَنَعُ مِنَ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا بِالزِّنَا حَتَّى يَصِفُوهُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ ". وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْبَتَ مَاعِزًا بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا فَقَالَ " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ " قَالَ: فَعَلْتُ، بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ كِنَايَتِهِ. فَإِذَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي الْمُقِرِّ كَانَ فِي الشَّاهِدِ أَحَقُّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 238 فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا سَأَلَهُمُ الْحَاكِمُ: " كَيْفَ زَنَى؟ وَلَمْ يَحُدَّهُ قَبْلَ صِفَةِ الزِّنَا. وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ مَنْ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا: كَيْفَ زَنَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ مَعَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ وَنَافِعٍ: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمِكْحَلَةِ. وَعُرِضَ زِيَادٌ، وَهُوَ الرَّابِعُ فَقَالَ رَأَيْتُ بَطْنَهُ عَلَى بَطْنِهَا، وَرَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً وَنَفَسًا يَعْلُو وَاسْتًا تَنْبُو، فَقَالَ عُمَرُ: رَأَيْتَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ عمر: الحمد لله قم يا أرخى اجْلِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ. فَجَلَدَهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ، فَلَمْ يَجْلِدِ الْمُغِيرَةَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَمْ تَكْمُلْ، وَلَمْ يَجْلِدْ زِيَادًا لِلْقَذْفِ، لِأَنَّهُ عَرَّضَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، اعْتُبِرَ مَا وَصَفَهُ الشُّهُودُ. فَإِنْ صَرَّحُوا بِدُخُولِ ذَكَرِهُ فِي فرجها، كملت بهم الشهادة، وحد الشهود عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا، وَسَلِمَ الشُّهُودُ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ. وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا جَمِيعًا بِدُخُولِ ذَكَرِهِ فِي فَرْجِهَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الشُّهُودُ، فَإِنْ قَالُوا فِي أَوَّلِ الشَّهَادَةِ، إِنَّهُ زَنَى وَوَصَفُوا مَا لَيْسَ بِزِنًا، حُدُّوا حَدًّا وَاحِدًا. لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِالزِّنَا. وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا فِي أَوَّلِ الشَّهَادَةِ إنَّهُ زَنَى وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِزِنًا، لَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ وَصَفَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمُ الزِّنَا، وَوَصَفَ الرَّابِعُ مَا لَيْسَ بزنا، لم يحد الشهود عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِالزِّنَا لَمْ تَكْمُلْ، وَفِي حَدِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ وَصَفُوا الزِّنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُحَدُّونَ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّهُمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا قَذَفَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُحَدُّونَ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَقْصِدُوا الْمَعَرَّةَ بِالْقَذْفِ. فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَقُبِلَ خَبَرُهُمْ قَبْلَ التوبة، لأن أبا بكر حِينَ حُدَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَى الْمُغِيرَةُ، فَهَمَّ بِجَلْدِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ رَجَمْتَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 239 صَاحِبَكَ، يَعْنِي أَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَ هَذَا غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَقَدْ كَمُلَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ فَأَرْجُمُ الْمُغِيرَةَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ جَلَدْتَهُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ الَّذِي وَصَفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا فَيُنْظَرُ فِي شَهَادَتِهِ: فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ زَنَا، ثُمَّ وَصَفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا حُدَّ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ زَنَا، وَوَصْفَ مَا لَيْسَ بِزِنًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي ذِكْرِ الشُّهُودِ مَكَانَ الزِّنَا. فَهُوَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، لِأَنَّهمْ قَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى زِنَاهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَكَانِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنْ مَكَانِ الزِّنَا فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ حُدَّ الشهود عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْتَيْنِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: زَنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ وَيَقُولُ آخَرُونَ: زَنَى فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِّ الشُّهُودِ قَوْلَانِ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: زَنَى بِهَا فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَيَقُولُ آخَرُونَ: زَنَى بِهَا فِي الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى مِنْ هَذَا الْبَيْتِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، لِأَنَّهمَا قَدْ يَتَعَارَكَانِ فَيَنْتَقِلَانِ بِالزَّحْفِ مِنْ زَاوِيَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَكَانِ كَالْبَيْتَيْنِ. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يُحَدُّ بِهَا. وَعَلَى قِيَاسِ سُؤَالِهِمْ عَنْ مَكَانِ الزِّنَا، يَجِبُ سُؤَالُهُمْ عَنْ زَمَانِ الزِّنَا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الزَّمَانِ كَاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِنِ اتَّفَقَ وَسُقُوطِهِ إِنِ اخْتَلَفَ. وَلَيْسَ إِطْلَاقُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي صَحِيحًا، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ: فَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُ الشُّهُودِ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَجَبَ سُؤَالُ الْبَاقِينَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بَعْضُهُمْ بِهِ لَمْ يُسْأَلُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّه لَوْ وَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ إِذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ، لَوَجَبَ سُؤَالُهُمْ عَنْ ثِيَابِهِ وَثِيَابِهَا، وَعَنْ لَوْنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا مِنْ سَوَادٍ أَوْ بَيَاضٍ، وَعَنْ سِنِّهَا مِنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، وَعَنْ قَدِّهَا مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهِ موجب لاختلاف الشهادة، فيتناها إِلَى مَا لَا يُحْصَى، وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي السُّؤَالِ، وَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، إِلَّا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 240 أن يبتدىء بَعْضُ الشُّهُودِ بِذِكْرِهِ، فَيُسْأَلُ الْبَاقُونَ عَنْهُ لِيُعْلَمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ وَاخْتِلَافٍ. ( [الْقَوْلُ فِي مَوْتِ الشُّهُودِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ مَاتَ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُعَدَّلُوا ثُمَّ عُدِّلُوا أُقِيمَ الْحَدُّ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا مَاتَ الشُّهُودُ قَبْلَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ ثُمَّ عُدِّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ فِي غَيْرِ الْحَدِّ وَلَا أَحْكُمُ بِهَا فِي الْحَدِّ. لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَبْدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الشُّهُودُ. وَمَذْهَبُنَا إِنَّ شُهُودَ الْحَدِّ كَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْحَدَّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَلَا يَكُونُ مَوْتُ الشُّهُودِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ مَانِعًا مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّعْدِيلِ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُوجِبُ الْأَدَاءَ وَلَيْسَ مَوْتُهُمْ مُسْقِطًا لَهَا فِسْقًا طَرَأَ وَلَوْ وَجَبَ سُقُوطُ شَهَادَتِهِمْ لَوَجَبَ سُقُوطُهَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ فَأَمَّا حُدُوثُ الْفِسْقِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَمُوجِبٌ لِسُقُوطِ الشَّهَادَةِ فِي الْحَدِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَظَاهَرُونَ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُسِرُّونَ فِعْلَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا ظَهَرَتْ دَلَّ ظُهُورُهَا عَلَى تَقَدُّمِ كُمُونِهَا. وَأَمَّا حُدُوثُ الْخَرَسِ وَالْعَمَى بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْحُكْمِ بِهَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُدُوثِهِ وَعَدَمِ تَقَدُّمِهِ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ بِهِ الْعَمَى، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِمْضَائِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ بِهِ الْخَرَسُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَيَطْرُدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَجُرِحَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ وَقَدْ عَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ، وَقَدَحَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي عَدَالَتِهِمْ مَكَّنَهُ الْحَاكِمُ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِجَرْحِهِمْ، لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِقَصْدِ الْكَشْفِ عَنْ جُرْحِهِمْ مَا يَقْصُرُ زَمَانُ الْحَاكِمِ عَنِ التَّشَاغُلِ بِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِجَرْحِهِمْ أَسْقَطَ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا أَمْضَى الْحَاكِمُ بِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُضَيِّقْ عَلَيْهِ الزَّمَانَ فِي طَلَبِ الْجُرْحِ فَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَلَا يُوَسِّعْ لَهُ الزَّمَانَ فَيُؤَخِّرَ الْحُكْمَ، وَتَكُونُ مُدَّةُ إِمْهَالِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّها أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 241 فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَطْرُدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَهُمْ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: - أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ جَرْحِهِمْ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ يُوَسِّعُ لَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا يُضَيِّقُهُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِنْ أَمْسَكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ تَمْكِينِهِ مَنْ جَرْحِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. أَمْسَكَ الْحَاكِمُ عَنْ إطْرَادِ جَرْحِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ نَظَرَ: فَإِنْ تَوَجَّهَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ جَوَازَ إِطْرَادِهِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَهُ. وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، أَعْلَمَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ إِطْرَادِ الْجَرْحِ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ مَكَّنَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْهُ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، لِأَنَّه حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ. ( [الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ مَا يُجْرَحُ بِهِ الشُّهُودُ] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَقْبَلُ الْجَرْحَ مِنَ الْجَارِحِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ مَا يَجْرَحُ بِهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْأَهْوَاءِ وَتَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَجْرَحُونَ بِالتَّأْوِيلِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ جَرْحُ الشُّهُودِ، لَمْ تَقْبَلْ دَعْوَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يُفَسِّرُهَا بِمَا يَكُونُ جَرْحًا يُفَسَّقُ بِهِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا وَارِثٌ. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى يَذْكُرَ مَا صَارَ بِهِ وَارِثًا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْمَوَارِيثِ. فَإِذَا قَالَ: هَذَا الشَّاهِدُ فَاسِقٌ أَوْ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، أَوْ لَيْسَ بِمَقْبُولِ الشَّهَادَةِ. قِيلَ لَهُ: فَسِّرْ مَا صَارَ بِهِ فَاسِقًا غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ. فَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا لَا يَكُونُ فِسْقًا، رُدَّتْ دَعْوَاهُ وَحُكِمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا يَكُونُ فِسْقًا، كُلِّفَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِالْفِسْقِ الَّذِي ادَّعَاهُ، لِيَكُونَ الْفِسْقُ مُفَسَّرًا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَإِنْ فَسَّرَهَا الْمُدَّعِي بِنَوْعٍ مِنَ الْفِسْقِ وَفَسَّرَهَا الْمَشْهُودُ بِنَوْعٍ آخَرَ، حُكِمَ بِالْفِسْقِ مَعَ اخْتِلَافِ سَبَبِهِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثُبُوتَ الْفِسْقِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ إِذَا فُسِّقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَقَدْ يَعْلَمُ الشُّهُودُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعِي. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ، وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيقُ مُحْتَاجًا إِلَى تَفْسِيرٍ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعَدَالَةَ مُوَافَقَةُ أَصْلٍ فَاسْتَغْنَى عَنْ تَفْسِيرِ، وَالتَّفْسِيقُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 242 وَالثَّانِي: إِنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ، وَالْفِسْقَ حَادِثٌ، وَالْحَادِثُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. كَمَنْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ طَاهِرٌ، لَمْ يُسْتَفْسَرْ عَنْ طَهَارَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ نَجِسٌ، استفسر عن نجاسته [والله أعلم] . (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِحَدٍّ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُ لَمْ يَسْرِقْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُقِرِّ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا يَعْرِّضَ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ، سَوَاءً كَانَ الْحَقُّ فِي مَالٍ أَوْ حَدٍّ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهَا لَوْ أَنْكَرَهَا لَمْ يُقْبَلْ إِنْكَارُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ، كَالْحَدِّ فِي الزِّنَا وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَالْجَلَدِ فِي الْخَمْرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ. فَيُمْسِكُ الْحَاكِمُ عن التعريض له بالإنكار، حتى يبتدىء فَيُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا عِلْمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِنْ أَقَرَّ وَسُقُوطِهِ إِنْ أَنْكَرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ، إِمَّا لِأَنَّه أَسْلَمُ قَرِيبًا، أَوْ لِأَنَّه مِنْ أَهَلَّ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الزِّنَا قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ كَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لْمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا فَقَالَ: " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ ". وَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ السَّرِقَةِ قال: لعلك سرقت من غير حرز. وإن عَرَّضَ لَهُ بِأَنْ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَسْرِقْ، وَكَانَتِ الدَّعْوَى مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهَذَا، لِأَنَّ فِي تَعْرِيضِهِ بِهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْمَالِ، جَازَ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: " أَسَرَقْتَ أَمْ لَا " وَإِنْ كَانَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَشْرَبْ، أَوْ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ أَوْ لَعَلَّكَ أُكْرِهْتَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ. وَإِنَّمَا جَازَ التَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِمَا يَتَنَبَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، لِأَنَّه مَنْدُوبٌ إِلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 243 وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ بِالْإِنْكَارِ فَيَقُولُ لَهُ: قُلْ مَا زَنَيْتَ، وَلَا سَرَقْتُ، وَلَا شَرِبْتُ. أَوْ يَقُولُ لَهُ: أَنْكِرْ وَلَا تُقِرَّ، لِحَظْرِ التَّصْرِيحِ فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ، لِأَنَّه قَدْ يُلَقِّنُهُ الْكَذِبَ. وَيَأْمُرُهُ بِهِ. فَأَمَّا تَعْرِيضُ الْحَاكِمِ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّه يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ". وَقَالَ عُمَرُ لِزِيَادٍ حِينَ حَضَرَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا: أَيُّهُمَا يَا سَلْحَ الْعُقَابِ أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَبَّهَ عَلَى تَعْرِيضِهِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِي شَهَادَتِهِ بِدُخُولِ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ، فَلَمْ تَكْمُلْ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا. وَهَذَا التَّعْرِيضُ بِالْإِنْكَارِ جَائِزٌ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ حَسَبُ رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ أَرَ بَأْسًا بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّضَ لِمَاعِزٍ وَلَمْ يُعَرِّضْ لِلْغَامِدِيَّةِ. وَقَالَ: " اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَعَرَّضَ فِي الْأَقَلِّ وَلَمْ يَعْرِّضْ فِي الْأَكْثَرِ. فَإِنْ نَبَّهَ بِالتَّعْرِيضِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَأَنْكَرَ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ إِقْرَارٌ، قُبِلَ إِنْكَارِهِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ غُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَفِي سُقُوطِ قَطْعِ الْيَدِ وَحَدِّ الْخَمْرِ قَوْلَانِ. يَسْقُطُ فِي أَصَحِّهِمَا، وَلَا يَسْقُطُ فِي الْآخَرِ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي السَّرِقَةِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ كَبْشًا لِفُلَانٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا غُدْوَةً وَقَالَ الْآخَرُ عَشِيَّةً أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا الْكَبْشُ أَبْيَضُ وَقَالَ الْآخَرُ أَسْوَدُ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يَجْتَمِعَا وَيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ أَيُّهُمَا شَاءَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ، فَرَوَاهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا شَهِدَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كِيسًا، إِشَارَةً إِلَى كِيسِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَرَوَاهَا أَكْثَرُهُمْ إِنَّهُمَا شَهْدَا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا، إِشَارَةً إِلَى كبش الغنم، وهذه الرواية أصح لأمرين: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 244 أَحَدُهُمَا: إِنَّ كِيسَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ شَهَادَةٌ بِمَجْهُولٍ، وَكَبْشُ الْغَنَمِ شَهَادَةٌ بِمَعْلُومٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَقْرَنُ، وَقَالَ الْآخَرُ إِنَّهُ أَجَّمُ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا إنه كبش، وقال الآخرة نَعْجَةٌ وَهَذَا مِنْ أَوْصَافِ الْغَنَمِ. فَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِسَرِقَةِ الْكَبْشِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقَهُ غَدْوَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: سَرَقَهُ عَشِيَّةً، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَبْيَضُ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ أَسْوَدُ، لَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ غَدْوَةً غَيْرُ السَّرِقَةِ عَشِيَّةً، وَالْمَسْرُوقُ الْأَبْيَضُ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ الْأَسْوَدِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ جَانِبَيِ الْكَبْشِ أَبْيَضُ وَجَانِبُهُ الْآخَرُ أَسْوَدُ، فَيَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا إِلَى جَانِبِهِ فَيَصِفُهُ بِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِصِفَةِ جَمِيعِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُنَافِيهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَأْوِيلُ شَهَادَةٍ مُحْتَمِلَةٍ بِمَا بَعْدَ تَأْوِيلِهَا، وَالشَّهَادَةُ لَا يُحْكَمُ بِهَا إِلَّا مَعَ انْتِفَاءِ التَّأْوِيلِ عَنْهَا. فَثَبَتَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا غَيْرُ مُتَّفِقَةٍ عَلَى سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ تَكْمُلْ بِهِمَا بَيِّنَةٌ تُوجِبُ غُرْمًا وَلَا قَطْعًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَاخْتِلَافُهُمَا عَلَى أربعة أقسام: أحدهما: أن تكمل كل واحدة من الشهادتين مع عَدَمِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّمَانُ مَعَ الِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَسْرُوقِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَسْوَدَ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ بِالشَّهَادَةِ الْأَوْلَى، وَالثَّانِي أَسْوَدُ بِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَعَارُضٌ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الزَّمَانِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ كَبْشًا أَبْيَضَ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ كبشا أبيض، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 245 فَيُحْكَمُ لَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ غَيْرُ السرقة في آخر النهار فلم تكن فِيهِمَا تَعَارُضٌ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكْمُلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ وَاحِدَةٌ فِي زَمَانَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ وَاحِدًا فِي السَّرِقَتَيْنِ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ الْوَاحِدَةُ فِي زَمَانَيْنِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَبْشَ الْأَبْيَضَ فِي آخِرِ النَّهَارِ. فَهُمَا شَهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ فِي آخِرِهِ. وَالْمَسْرُوقَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ الْمَسْرُوقِ فِي أَوَّلِهِ، فَأَوْجَبَ هَذَا التَّعَارُضُ إِسْقَاطَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ تَثْبُتِ السَّرِقَةُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الزَّمَانُ الْوَاحِدُ فِي سَرِقَتَيْنِ، فَهُوَ أَنْ يشهد شاهدان أنه سرقه مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَبْيَضَ، وَيَشْهَدُ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَسْوَدَ. فَهُمَا شَهَادَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، لِأَنَّ الْأَبْيَضَ غَيْرُ الْأَسْوَدِ. فَصَارَتِ الشَّهَادَتَانِ مَعَ اتِّفَاقِ الزمان متعارضتين فسقطتا، ولم يحكم واحدة مِنْهُمَا. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْتَقِضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا. وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مُطْلَقَةٌ فِي زَمَانَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُطْلَقًا فِي سَرِقَتَيْنِ. وَأَمَّا السَّرِقَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي زَمَانَيْنِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا فِي آخِرِ النَّهَارِ. فَلَمْ تَكْمُلُ بِهِمَا الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ، وَلَا تَعَارَضَتْ لِإِمْكَانِ السَّرِقَتَيْنِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ لَكَ أَنْ تَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ وَيُحْكَمُ لَكَ بِسَرِقَةِ كَبْشَيْنِ، إِنْ كُنْتَ مُدَّعِيًا لَهُمَا، وَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ لَا يَجِبُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ وَجَبَ بِهِ الْغُرْمُ. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تُنْقَضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُضِ فِيهِمَا. وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 246 أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مُعَيَّنَةٌ فِي زَمَانَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُعَيَّنًا فِي سَرِقَتَيْنِ. فَأَمَّا السَّرِقَةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي زَمَانَيْنِ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا أَبْيَضَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ هَذَا الْكَبْشَ الْأَبْيَضَ فِي آخِرِ النَّهَارِ. وَأَمَّا الزَّمَانُ الْمُعَيَّنُ فِي سَرِقَتَيْنِ، فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشًا أَسْوَدَ وَيَشْهَدُ شَاهِدٌ آخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَبْشَا أَبْيَضَ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ فِي كِلَا الضَّرْبَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ هَلْ يَكُونُ تَعَارُضًا يُوجِبُ سُقُوطَ الشَّهَادَتَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، أَنَّهُ يَكُونُ تَعَارُضًا فِيهِمَا يُوجِبُ سُقُوطُهُمَا، كَمَا يَتَعَارَضُ مَعَ كَمَالِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ لِسُقُوطِ شَهَادَتِهِمَا بِالتَّعَارُضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِيهِمَا، لِأَنَّ التَّعَارُضَ يَكُونُ فِي الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ دُونَ النَّاقِصَةِ، لِأَنَّ الْكَامِلَةَ حَجَّةٌ بِذَاتِهَا وَالنَّاقِصَةَ حِجَّةٌ مَعَ غَيْرِهَا، فَتَرَجَّحَتْ ذَاتُ الْيَمِينِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي السَّرِقَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي زَمَانَيْنِ، حَلَفَ مَعَ أَيِّهِمَا شَاءَ وَاسْتَحَقَّ كَبْشًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ فِي سَرِقَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَسْتَحِقَّ كَبْشَيْنِ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشًا، وَشَهِدَ لَهُ ثَانٍ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ كَبْشَيْنِ، وَشَهِدَ لَهُ ثَالِثٌ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ ثلاث كباشي، كَمُلَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِسَرِقَةِ كَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا بِشَهَادَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَالثَّانِي بِشَهَادَةِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَيُفْرَدُ الثَّالِثُ بِسَرِقَةِ كَبْشٍ ثَالِثٍ، فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُ اسْتَحَقَّ الْكَبْشَ الثَّالِثَ، وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ بِسَرِقَةِ الْكَبْشَيْنِ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ] ) (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَذَفَهُ غُدْوَةً، وَقَالَ الْآخَرُ قَذَفَهُ عَشِيَّةً، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَذَفَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ الْآخَرُ قَذْفَهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 247 بِالْكُوفَةِ لَمْ تُكْمُلْ بِهِمَا شَهَادَةُ الْقَذْفِ، لِأَنَّهمَا قَذْفَانِ لَمْ يَشْهَدْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ، وَلَيْسَ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْقَذْفَ حَدٌّ لَا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ الْآخَرُ: قَذَفَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى سَمَاعِ الْقَذْفِ، فَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى قَذْفَيْنِ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِ الْقَاذِفِ، أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْآخَرِ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا قَذْفَانِ لَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَقَرَّ عِنْدِي أنه قذفهما بالبصرة، وقال الآخر: أنه أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ قَذَفَهُمَا بِالْكُوفَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّهَادَةَ كَامِلَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ مَعَ اخْتِلَافِ الْبَلَدَيْنِ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ. وَلَا أَجِدُ لِهَذَا الْوَجْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهًا. وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْقَتْلِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْبَصْرَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْكُوفَةِ. فَإِنْ كَانَ قَتْلٌ عَمْدًا فَالشَّهَادَةُ مَطْرُوحَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَتْلٌ خَطَأٌ فَفِي تَعَارُضِهِمَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَارَضَانِ وَيَسْقُطَانِ. وَالثَّانِي: يَحْلِفُ مَعَ أَيِّهِمَا شَاءَ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْبَيِّنَاتِ فِي قيمة المسروق] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ سَرَقَ ثَوْبَ كَذَا وَقِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ سَرَقَ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ قِيمَتَهُ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ فَلَا قَطْعَ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا تُدْرَأُ بِهِ الْحُدُودِ وَيَأْخُذُهُ بِأَقَلِّ الْقِيَمَتَيْنِ فِي الْغُرْمِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ بَيِّنَتَانِ اتَّفَقَتَا عَلَى سَرِقَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ وَاخْتَلَفَتَا فِي قِيمَتِهِ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ رُبُعُ دِينَارٍ " تُقْطَعُ فيه اليد "، وشهد اثنان أن قيمته سدس دِينَارٍ لَا تَقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقِيمَتَيْنِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ وَاحِدٌ، قَدِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَتَانِ، وَالْقَيِّمَةُ عن اجتهاد، اختلفت في الْبَيِّنَتَانِ، وَلِاخْتِلَافِهِمَا وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ لَا يُوجِبُ رَدَّهُمَا بِهِ. فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِلَافِهِمَا، هَلْ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِأَكْثَرِهِمَا أَوْ بِأَقَلِّهِمَا فِي الْغُرْمِ وَالْقَطْعِ؟ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 248 مذهب الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَقَلِّهِمَا فِي الْغُرْمِ وَسُقُوطِ القطع، استعمالا للبينة الشاهدة أن قيمته سدسي دِينَارٍ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَا يَغْرَمُ الزِّيَادَةَ على السدسي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخُذُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْغُرْمِ وَوُجُوبِ الْقَطْعِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ مَالِكًا يَأْخُذُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْغُرْمِ وَالنَّاقِصَةِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ عَمِلَ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا عَمِلَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْبَيِّنَاتِ. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ. وَالثَّانِي: إِنَّ النقصان داخل في الزيادة فلم ينافيها فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفَيْنِ دُونَ الْأَلْفِ بِأَلْفٍ لِدُخُولِ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ. وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ النُّقْصَانَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالزِّيَادَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، لِأَنَّ مِنْ قَوَّمَهُ بِالرُّبُعِ أَثْبَتَهَا وَمَنْ قَوَّمَهُ بِالسُّدُسِ نَفَاهَا، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالْمُخْتَلِفِ فِيهِ. وَخَالَفَ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّ مَنْ رَوَى النَّاقِصَ لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَةَ. لِأَنَّ بِلَالًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ. وَرَوَى أُسَامَةُ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى عَمَلَ بِالزِّيَادَةِ فِي صَلَاتِهِ وَبَعْدَ دُخُولِهِ لِأَنَّ بِلَالًا لَمْ يَقُلْ دَخْلَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَصِلْ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَعَمَلَ فِي الْأَخْبَارِ بِالزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ. وَالثَّانِي: إِنَّ النُّقْصَانَ يَقِينٌ، وَالزِّيَادَةُ شَكٌّ. وَقَدْ أُثْبِتَتْ فِي إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ وَبَقِيَتْ فِي الْأُخْرَى فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَخَالَفَ الشَّهَادَةَ بِأَلْفٍ وَالشَّهَادَةَ بِأَلْفَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْأَلْفَ لَمْ يَنْفِ الْأَلْفَيْنِ. (فَصْلٌ) : إِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ الْمَسْرُوقِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ قِيمَتَهُ رُبُعُ دِينَارٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ قِيمَتَهُ سُدُسُ دِينَارٍ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى السُّدُسِ وَتَمَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ. وَاخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَهَا أَحَدُهُمَا وَنَفَاهَا الْآخَرُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَسْقُطُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَهَا بِقَوْلِ مَنْ نَفَاهَا، وَيَمْنَعُ صَاحِبُ السَّرِقَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِهَا وَيَسْتَحِقَّهَا، كَمَا لَوْ أَثْبَتَهَا شَاهِدَانِ وَنَفَاهَا شَاهِدَانِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَسْقُطُ قَوْلُ مَنْ أُثْبِتُهَا بِقَوْلِ مَنْ نَفَاهَا بِخِلَافِ إِثْبَاتِهَا بِشَاهِدَيْنِ وَنَفْيِهَا بِشَاهِدِينِ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ السَّرِقَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِهَا وَيَسْتَحِقُّهَا، وَلَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 249 يَقْطَعُ السَّارِقُ بِهَا خِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ فَتَعَارَضَ فِيهَا قَوْلُ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لَيْسَ حُجَّةً إِلَّا مَعَ الْيَمِينِ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى أَحَدِهِمَا كَمَلَتِ الْحُجَّةُ وَنَقَصَتْ عَنْهَا الْأُخْرَى، فَحَكَمَ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي ثَمَنِ مَبِيعٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَلْفَيْنِ، تَعَارَضَتِ الشَّهَادَتَانِ وَرُدَّتَا. وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَلْفَيْنِ، فَفِي تَعَارُضِهِمَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى: أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا. وَالثَّانِي: لَا تَعَارُضَ فِيهِمَا، وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهِدِ بِالْأَلْفَيْنِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا تُرْكِيًّا بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا رُومِيًّا بِأَلْفَيْنِ، فَلَا تَعَارُضَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ فَيَحْكُمُ لَهُ بِبَيْعِ التُّرْكِيِّ بِأَلْفٍ وَبَيْعِ الرُّومِيِّ بِأَلْفَيْنِ. وَلَوِ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا تُرْكِيًّا بِأَلْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ عَبْدًا رُومِيًّا بِأَلْفَيْنِ، فَلَا تَعَارُضَ فِيهِمَا وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَحْكُمُ لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِبَيْعِ التُّرْكِيِّ بِأَلْفٍ وَالرُّومِيِّ بِأَلْفَيْنِ. (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا لَمْ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ حَتَى يَحْدُثَ مِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ رَدَّهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِحَقٍّ ثُمَّ فُسِّقَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا رُدَّتِ الشَّهَادَةُ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ قول جمهور الفقهاء. وحكي عن أبي ثور وَالْمُزَنِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: يَحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا تُرَدُّ اعتبارا بحال الأداء. وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ [اللَّهِ] تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] . فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ. وَلِأَنَّ عَدَالَةَ الْبَاطِنِ مَظْنُونَةٌ، فَإِذَا ظَهَرَ الْفِسْقُ رَفْعَ مَا ظُنَّ بِبَاطِنِهِ مِنَ الْعَدَالَةِ، وَدَلَّ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 250 على تقدمه وقت الشهادة، ولا سيما ويتحفظ الْإِنْسَانُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَفُّظِهِ قَبْلَهَا. وَلِأَنَّ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ لَا يَهْتِكَهُمْ بِأَوَّلِ الذَّنْبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ أَنْ يَهْتِكَ عَبْدَهُ بِأَوَّلِ خَطِيئَةٍ، فَإِذَا أَظْهَرَهَا دَلَّتْ عَلَى تَقَدُّمِهَا عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ ظُهُورَهَا يُوجِبُ الِاسْتِرَابَةَ بِمَا تَقَدَّمَهَا وَظُهُورِ الرِّيبَةِ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا. ( [الْقَوْلُ فِي صَيْرُورَةِ الشُّهُودِ وَرَثَةً] ) (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ الْعَدْلَانِ ثُمَّ مَاتَ الْمَشْهُودُ لَهُ، فَوَرِثَهُ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّهمَا قَدْ صَارَا شَاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا عِنْدَ الْحُكْمِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يحكم للإنسان بشهادة لنفسه. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَكَمَ بِهَا وَهُوَ عَدْلٌ ثُمَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ نَرُدُّهُ لِأَنِّي إِنَّمَا أَنْظُرُ يَوْمَ يَقْطَعُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُدُوثُ فِسْقِهِمَا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْدُثَ الْفِسْقُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا سَوَاءً كَانَ فِي حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ الْآدَمِيِّينَ، وَبِخِلَافِ حُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ الْحُكْمِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّكَّ وَالِاحْتِمَالَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ النَّافِذِ بِشَهَادَتِهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ تَغَيُّرَ الْحَالِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ مُخَالِفٌ لِتَغَيُّرِهَا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ. لِأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي الْحُكْمِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ، نَقَضَهُ قَبْلَ نُفُوذِ حُكْمِهِ. وَلَمْ يَنْقُضْهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ، فَأَوْجَبَ هَذَا الْفَرْقُ فِي تَغْيِرِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ. وُقُوعَ الْفَرْقِ فِي الْفِسْقِ بِحُدُوثِهِ قَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ. فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الضَّرْبَيْنِ فِي حُدُوثِ الْفِسْقِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِ إِمْضَائِهِ فِي جَمِيعِ الحقوق. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 251 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْدُثَ الْفِسْقُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ، فَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ بَعْدَ الْفِسْقِ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْفِسْقِ تَعْلِيلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ حَدًّا وَجَبَ لِلَّهِ خَاصَّةً، كَحَدِّ الزِّنَا وَجِلْدِ الْخَمْرِ وَقِطَعِ السَّرِقَةِ، مِمَّا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. فَيَسْقُطُ بِحُدُوثِ الْفِسْقِ وَلَا يُسْتَوْفَى لِأَنَّ حُدُوثَهُ شُبْهَةٌ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَدًّا قَدْ وَجَبَ لِآدَمِيٍّ كَالْقِصَّاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَفِي سُقُوطِهِ بِحُدُوثِ الْفِسْقِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ لِكَوْنِهِ حَدًّا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ لِأَنَّه مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْأَمْوَالِ. ( [الْقَوْلُ فِيمَا لَوْ حَكَمَ لِشُهُودٍ فَاسْقِينَ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا بَانَ لِلْحَاكِمِ بَعْدَ حُكْمِهِ أَنَّ فِسْقَ الشَّاهِدَيْنِ حَدَثَ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، نَقَضُ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ، وَاسْتَرْجَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ بِحُكْمِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ قِصَاصًا لَا يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُهُ ضَمِنَ الْحَاكِمُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَفِي مَحَلَّةِ الدِّيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَعَلَى هَذَا فَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالثَّانِي: فِي مَالِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي تعزير الإمام إذا أقضى إلى التلف. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 252 (باب الرجوع عن الشهادة) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ ضَرْبَانِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ يَتْلَفُ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ يُنَالُ بِقَطْعٍ أَوْ قِصَاصٍ فَأُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا فَقَالُوا عَمَدْنَاهُ بِذَلِكَ فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ وَاحْتُجَّ فِي ذلك بعلي وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ الْقِصَاصُ أُغْرِمُوهُ وَعُزِّرُوا دُونَ الْحَدِّ وَإِنْ قَالُوا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُزِّرُوا وَأُخِذَ مِنْهُمُ الْعَقْلُ وَلَوْ قَالُوا أَخْطَأْنَا كَانَ عَلَيْهِمُ الْأَرْشُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو رُجُوعُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا مِنْ ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يرجعوا قبل نفوذ الحكم بها. والثاني: أن يرجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء. والثالث: أن يرجعوا بعد الاستيفاء. فأما الحالة الْأُولَى: وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا بَعْدَ رُجُوعِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ مَالٍ لِآدَمِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِمْضَاءِ الْحُكْمِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ. وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بَعْدَ حُدُوثِ فِسْقِهِمْ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَذْهَبِ وَالْبِنَاءِ. وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْمَذْهَبِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي الشَّهَادَةِ كَاذِبِينَ فِي الرُّجُوعِ، أَوْ كَاذِبِينَ فِي الشَّهَادَةِ صَادِقِينَ فِي الرُّجُوعِ فَوَجَبَ رَدُّهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَهَالَةُ بِصِدْقِ شَهَادَتِهِمْ، فَصَارَ كَالْجَهَالَةِ بِعَدَالَتِهِمْ. وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَنْكُفُوا مِنَ الْكَذِبِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ. وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْبِنَاءِ: فَهُوَ أَنَّ الْفَاسِقَ مُقِيمٌ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا. وَالرَّاجِعُ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّهَادَةِ صَادِقًا، فَافْتَرَقَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 253 فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ، نُظِرَ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ عَنْهَا. فَإِنَّهُمْ فِيهَا على ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعمدوها، فَيَكُونُ قَدَحًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَمُوجِبًا لِفِسْقِهِمْ، وَيُعَزَّرُوا، لأنهم عمدوا الشهادة بالزور. والثاني: أَنْ لَا يَتَعَمَّدُوهَا، وَلَكِنْ سَهُوا فِيهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي ضَبْطِهِمْ لَا فِي عَدَالَتِهِمْ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي شَهَادَتِهِمْ إِلَّا فِيمَا تَحَقَّقُوهُ 5 وأحاطوا به علما. والثالث: أن لا يكون ذلك بعمد لا يسهو وَلَكِنْ بِشُبْهَةٍ اعْتَرَضَتْهُمْ يَجُوزُ مِثْلُهَا عَلَى أَهْلِ التَّيَقُّظِ وَالْعَدَالَةِ فَهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ، لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي غَيْرِ مَا رَجَعُوا عَنْهُ، فَإِنِ الْتَمَسَ الْمَشْهُودُ لَهُ يَمِينَ الشُّهُودِ عَلَى صِحَّةِ رُجُوعِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُمْ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَّ الشُّهُودَ قَدْ رَجَعُوا وَأَنْكَرُوا الرُّجُوعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُمْ، لِأَنَّه لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنِّي بَرِئْتُ مِمَّا شَهِدُوا بِهِ، وَقَدْ شَهِدُوا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَطَلَبَ يَمِينَهُمْ لَمْ يَحْلِفُوا عَلَيْهِ. وَلَوْ أَحْضَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ عَلَى الشُّهُودِ بِرُجُوعِهِمْ، قُبِلَتْ، وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ، وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لِلْمَشْهُودِ لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ: يُضَمَّنُونَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ حَقِّهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ مَالًا، لَمْ يَنْقُضْ حُكَمَهُ بِهِ وَأَمْضَاهُ، وَهَذَا قول جمهور الفقهاء. وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُنْقَضُ الْحَكَمُ بِرُجُوعِهِمْ لِإِبْطَالِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحُكْمَ إِذَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ، لَمْ يُنْقَضْ بِالِاحْتِمَالِ وَالِاجْتِهَادُ تَغْلِيبُ صِدْقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ، وَالِاحْتِمَالُ جَوَازُ كَذِبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ. وَالثَّانِي: إِنَّ فِي شَهَادَتِهِمْ إِثْبَاتَ حَقٍّ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ، وَفِي رُجُوعِهِمْ نَفِيُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْجَارِي مَجْرَى الْإِنْكَارِ فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ لِحُدُوثِ الْإِنْكَارِ لَمْ يَبْطُلِ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ لحدوث الرجوع. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 254 وَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ لَيْسَ بِمَالٍ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، فَهُوَ كَالْمَالِ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ. فَلَا يَبْطِلُ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَجَلْدِ الْخَمْرِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ فَيَسْقُطُ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ كَمَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِ الْمُقِرِّ، لِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِمِثْلِهَا الْحُدُودُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ كَالْقِصَّاصِ. وَحَدِّ الْقَذْفِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا إِذَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ رَجَعَ إِلَى الدِّيَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَلْيَسْقُطْ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ، الْقِصَاصُ، وَلَا تَسْقُطِ الدِّيَةُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا إِذَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى بَدَلٍ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، فَفِي سُقُوطِهِ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، لِأَنَّها شُبْهَةٌ تُدْرَأُ بِمِثْلِهَا الْحُدُودُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّه مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُغَلَّظَةِ. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَالْحُكْمُ عَلَى نَفَاذِهِ لَا يُنْقَضُ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ إِنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ بِرُجُوعِهِمْ، لِأَنَّهمْ بِالرُّجُوعِ غَيْرُ شُهُودٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الرُّجُوعَ مُخَالِفٌ لِلشَّهَادَةِ فَلَا يَخْلُو أَحَدُهُمَا مِنَ الْكَذِبِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ من الشهادة وبالرجوع مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِالشَّهَادَةِ حُكْمٌ وَاسْتِيفَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا بِرُجُوعٍ مُحْتَمَلٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّهَادَةَ إِلْزَامٌ وَالرُّجُوعُ إِقْرَارٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَارِدٌ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 255 وَالْإِقْرَارُ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِهِ الْحُكْمَ، لِأَنَّه يَصِيرُ إِقْرَارُهُ إِلْزَامًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُوجِبٌ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِهِ الْحُكْمُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِرُجُوعِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَقِّ الْمُسْتَوْفَى، وَيَنْقَسِمُ إلى ثلاثة أقسام: أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَبْدَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يُخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فيما اختص بالأبدان. فهل قَتْلُ نَفْسٍ أَوْ قَطْعُ طَرَفٍ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فَقُتِلَ، أَوْ قَطَعَ فَقُطِعَ ثُمَّ رَجَعُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَوْ قُطِعَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ إِذَا عَمَدُوا: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِمُ الْقَوَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِمْ وَلَا دِيَةَ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حنيفة عَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ أَفْضَى إلى القتل موجب أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الْغُرْمُ دُونَ الْقَوَدِ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الدِّيَةِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ اقْتَرَنَ بِهِ مُبَاشَرَةً الْحَاكِمُ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الدِّيَةُ عَنِ الْحَاكِمِ بِالْمُبَاشَرَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنِ الشُّهُودِ بِالسَّبَبِ، لِأَنَّ السَّبَبَ سَقَطَ بِالْمُبَاشَرَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ عَنْ إِمَامَيْنِ مِنْهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. إِحْدَاهُمَا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ بِالْقَتْلِ وَقِيلَ بِالْقَطْعِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ وَقَالَا: أَخْطَأْنَا الْأَوَّلَ وَهَذَا هُوَ الْقَاتِلُ أَوِ الْقَاطِعُ. فَقَالَ: لَوْ عَلِمَتْ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَأَقَدْتُكُمَا. وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: " وَهِيَ أَثْبَتُ " رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ شهدا عند علي عليه السلام عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَتَيَاهُ بَعْدَ بَرْجَلٍ آخَرَ وَقَالَا: أَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ السَّارِقُ، فَأُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ ضَمَّنَهُمَا دِيَةَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 256 الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشعبي عن علي عليه السلام غَيْرَ مَرْفُوعٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَبَرٍ مَرْفُوعٍ. وَقَدْ رَوَاهُ مَعَ سُفْيَانَ أَسْبَاطٌ عَنْ مُطَرِّفٍ هَذَا وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ بِهِمَا الْإِجْمَاعُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ، أَنَّ كُلَّ إِتْلَافٍ ضُمِنَ بِالْمُبَاشَرَةِ ضُمِنَ بِالشَّهَادَةِ كَالْأَمْوَالِ. وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِلْجَاءٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِهِ النُّفُوسُ بِالْقَوَدِ كَالْإِكْرَاهِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ يَسْقُطُ بِهِ الْقَوَدُ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ. فَفَاسِدٌ بِالْإِكْرَاهِ، ثُمَّ حَفْرُ الْبِئْرِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقَتْلُ فَسَقَطَ بِهِ الْقَوَدُ، وَالشَّهَادَةُ مَقْصُودٌ بِهَا الْقَتْلُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَاكِمِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ فَلَمْ يُضَمَّنْ، وَالشَّاهِدُ مُتَبَرِّعٌ بِالشَّهَادَةِ فَضَمِنَ بِهَا. ( [الْقَوْلُ فِي أَحْوَالِ رُجُوعِ شُهُودِ الْقَتْلِ] ) (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشُّهُودَ بِالْقَتْلِ كَالْقَتَلَةِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ إِذَا تَغَيَّرَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْكُوَ فِيهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِهَا، أَوْ يَقُولُوا لَعَلَّنَا أَخْطَأْنَا فِيهَا، فَهَذَا قَدْحٌ فِي الضَّبْطِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِهِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعُوا جَمِيعًا عَنْهَا، فَيَسْأَلُهُمُ الْحَاكِمُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ هَلْ تَعَمَّدُوهَا أَوْ أَخْطَأُوا فِيهَا؟ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ. وَلَهُمْ فِي الجواب عنه ثمانية أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا: عَمَدْنَا كُلُّنَا لِيُقْتَلَ بِشَهَادَتِنَا، فَالْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَاجِبٌ، لِأَنَّهمْ قَتَلَةُ عَمْدٍ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولُوا: عَمَدْنَا كُلُّنَا وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْتُلُهُ بِشَهَادَتِنَا، فَهُمْ أَهْلُ جَهَالَةٍ بِمِثْلِهِ، فَهَذَا مِنْهُمْ قَتْلُ عَمْدٍ شِبْهُ الْخَطَأِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمْ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهُمْ مُغْلِظَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ، وَمُؤَجَّلَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولُوا: أَخْطَأْنَا كُلُّنَا، فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْخَطَأِ مُخَفَّفَةً ومؤجلة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 257 يُؤْخَذُونَ بِهَا دُونَ عَوَاقِلِهِمْ، لِوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَا وَجَبَ بِاعْتِرَافِهِمْ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوهُمْ، فَإِنْ صَدَّقُوهُمْ تَحْمَّلُوهَا عَنْهُمْ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ عَمَدَ بَعْضُهُمْ وَأَخْطَأَ بَعْضُهُمْ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْعَامِدِ لِمُشَارَكَتِهِ الخاطىء، وَعَلَى الْعَامِدِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ مُغْلِظَةً حَالَّةً، وعلى الخاطىء قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً. وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ، أَنْ يَخْتَلِفُوا فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ عَمَدْنَا كُلُّنَا، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَخْطَأْنَا كُلُّنَا، فَعَلَى مَنْ أَقَرَّ بِعَمْدٍ جَمِيعِهِمُ الْقَوَدُ، وَعَلَى مَنْ أَقَرَّ بِخَطَأٍ جَمِيعِهِمْ قِسْطُهُ مِنْهُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ. وَالْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَخْتَلِفُوا. فَيَقُولُ اثْنَانِ مِنْهُمْ: عَمَدْنَا وَأَخْطَأَ هَذَانِ الْآخَرَانِ، وَيَقُولُ الْآخَرَانِ: بَلْ عَمَدْنَا وَأَخَطَّأَ هَذَانِ الْأَوَّلَانِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ جَمِيعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدِ اعْتَرَفَ بِالْقَتْلِ بِالْعَمْدِ فِي حَقِّهِ، وَأَضَافَ الْخَطَأَ إِلَى مَنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِعَمْدِهِ، فَصَارُوا كَالْمُعْتَرِفِينَ جَمِيعًا بِالْعَمْدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ كل واحد منهم مقر بمشاركة للخاطىء، فلم يلزمه إقرار الخاطىء بِعَمْدِهِ، وَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِسْطُهُ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً. وَالْحَالُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ اثْنَانِ مِنْهُمْ: عَمَدْنَا كُلُّنَا، وَيَقُولُ الْآخَرَانِ: عَمَدْنَا وَأَخْطَأَ الْأَوَّلَانِ، فَعَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِ جَمِيعِهِمُ الْقَوَدِ، وَفِيمَا عَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِهِ وَخَطَأِ غَيْرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوَدُ. وَالثَّانِي: قِسْطُهُ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ مُغْلِظَةً حَالَّةً. وَالْحَالُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: عَمَدْتُ وَمَا أَدْرِي مَا فَعَلَ أَصْحَابِي سَأَلْنَا أَصْحَابَهُ، فَإِنْ قَالُوا: عَمَدْنَا. وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، سَقَطَ الْقَوَدُ عَنِ الْكُلِّ. فَهَذَا حُكْمُهُمْ إِذَا رَجَعُوا جَمِيعًا. (فَصْلٌ) : وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقِيمَ بَعْضُهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَيَرْجِعَ بَعْضُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَزِيدَ الشُّهُودُ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ. كَاثْنَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فقتل، ثم رجع أَحَدُهُمَا، أَوْ أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا، فَلَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 258 ضَمَانَ عَلَى الْمُقِيمِ عَلَى شَهَادَتِهِ، وَالرَّاجِعِ عَنْهَا ضَامِنٌ يُسْأَلُ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَخْطَأَتُ ضَمِنَ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنِ اثْنَيْنِ فِي قَتْلٍ ضُمِّنَ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى ضُمِّنَ رُبُعَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَالَ: عَمَدْتُ، سُئِلَ عن من لَمْ يَرْجِعْ مِنْ شُرَكَائِهِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ قَالَ: أَخْطَأَ، فَعَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَالَ: عَمَدُوا. فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَزِيدَ الشُّهُودُ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ، أَوْ خَمْسَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَرُجِمَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ مَنْ زَادَ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ، لِرُجُوعِ الثَّالِثِ فِي شَهَادَةِ الْقَتْلِ وَالْخَامِسِ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ وَالرَّجْمِ بِشَهَادَةِ الْبَاقِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ فِي قَتْلٍ قَدْ وَجَبَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْهَا تَعْلِيلًا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، لِأَنَّه مُقِرٌّ بَعْدُ، وَأَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْقَتْلِ ضَمِنَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ خَمْسَةٍ فِي الزِّنَى ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَلَّظًا حَالًا إِنْ عَمِدَ، وَمُخَفَّفًا مُؤَجَّلًا إِنْ أَخْطَأَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ فِي الشَّهَادَةِ مَنْ يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الْبَاقِينَ عَنِ الْبَيِّنَةِ. كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَرَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، أَوْ خَمْسَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَرَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، فَهَاهُنَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الرَّاجِعِينَ إِنْ عَمَدُوا وَأَقَرُّوا بِعَمْدِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ لَمْ يَرْجِعْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِشَهَادَةِ جَمِيعِهِمْ وَإِنْ أَخْطَأَ الرَّاجِعَانِ ضُمِّنَا الدِّيَةَ، وَفِي قَدْرِ مَا يُضَمَّنَانِ مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَتْلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، لِأَنَّهمَا اثْنَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَيُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَى خَمْسًا الدِّيَةِ، لِأَنَّهمَا اثْنَانِ مِنْ خَمْسَةٍ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَتْلِ نِصْفَ الدِّيَةِ، لِبَقَاءِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، وَيُضَمَّنُ الِاثْنَانِ مِنَ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَا رُبُعَ الدِّيَةِ لِبَقَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبَيِّنَةِ، اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْبَيِّنَةِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى وَلَمْ يَثْبُتْ حَصَانَتُهُ، فَشَهِدَ بِهَا اثْنَانِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الْحَصَانَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 259 وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِمُ الضَّمَانُ لِأَنَّه رُجِمَ بِمَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْإِحْصَانِ. وَفِي قَدْرِ مَا يُضَمَّنَهُ شَاهِدَا الْحَصَانَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ نِصْفُ الدية، لأنهم رَجْمٌ بِنَوْعَيْنِ، الْإِحْصَانُ وَالزِّنَا فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِأَنَّه رُجِمَ بِشَهَادَةِ سِتَّةٍ فَتَقَسَّطَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهِمْ. وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا، فَإِنْ أَخْطَأُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ منها وجهان: أَحَدُهَا: جَمِيعُ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ لَا يُضَمَّنُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ثُلُثُ الدِّيَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ يُضَمَّنُونَ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَلَوْ عَمِدَ شُهُودُ الزِّنَى كَانَ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَيْهِمْ مُعْتَبَرًا بِعِلْمِهِمْ بِحَصَانَتِهِ، فَإِنْ عَلِمُوا بِهَا عِنْدَ شَهَادَتِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ، لِأَنَّهمْ شَهِدُوا بِمَا تَعَمَّدُوا بِهِ الْقَتْلَ وَإِنْ جَهِلُوا حَصَانَتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ لِأَنَّهمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا قَتْلَهُ. وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَى وَوَاحِدٌ مِنْ شَاهِدَيِ الْحَصَانَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى رُبُعَ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَى شَاهِدَيِ الْحَصَانَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ شُهُودَ الْحَصَانَةِ لَا يُضَمَّنُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى سُدُسُ الدِّيَةِ، وَعَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ سُدُسُ الدِّيَةِ. إِذَا قِيلَ بِضَمَانِ شُهُودِ الْحَصَانَةِ عَلَى الْعَدَدِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى ثُمُنُ الدِّيَةِ وَعَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ رُبُعُ الدِّيَةِ. إِذَا قِيلَ بِضَمَانِ شُهُودِ الْحَصَانَةِ عَلَى النَّوْعِ. وَأَمَّا الْقَوَدُ فَلَا يَجِبُ عَلَى شَاهِدِ الْحَصَانَةِ، وَوُجُوبُهُ عَلَى شَاهِدِ الزِّنَى مُعْتَبَرٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَ بِحَصَانَتِهِ، وَسُقُوطِهِ إِنْ جَهِلَهَا. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شهود الطلاق] ) (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي طَلَاقِ ثَلَاثٍ أَغْرَمْتُهُمْ للزوج صَدَاقَ مِثْلِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِأَنَّهمْ حَرَّمُوهَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إِلَّا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَى مَا أَعْطَاهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا غَلَطًا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 260 مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْمَعْرُوفُ أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْقَسَمُ الثَّانِي فِي رُجُوعِهِمْ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ وَهُوَ شَيْئَانِ: الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ. فَأَمَّا الطَّلَاقُ: فَهُوَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ، فَيُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الشُّهُودُ، فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الزَّوْجِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِطَلَاقِهَا وَعَلَى الشُّهُودِ مَهْرُ مِثْلِهَا لِلزَّوْجِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ. اسْتِدْلَالًا: بِأَنَّهُ لَيْسَ لِخُرُوجِ الْبِضْعِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ قِيمَةٌ، وَلَوْ كَانَ مُقَوَّمًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي مِلْكِهِ، لَوَجَبَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا، أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا مَحْسُوبًا مِنْ ثُلُثِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ، وَلَوَجَبَ إِذَا طَلَّقَهَا وَقَدْ أَحَاطَ دَيْنُهُ بِتَرِكَتِهِ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ، كَمَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَهَذَا مَدْفُوعٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِي قِيمَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِهِ، إِنَّ عَقْدَ النِّكَاح بَعْدَ الدُّخُولِ أَقْوَى وَقَبْلَهُ أَضْعَفُ، لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ بِالرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَوُقُوفِهِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَوَافَقُونَا عَلَى تَضْمِينِ الشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنُوا إِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا، إِنَّهَا شَهَادَةٌ بِطَلَاقٍ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَالشَّهَادَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَالُ قَبْلَ الدُّخُولِ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِرِدَّتِهَا، وَبِالْفَسْخِ إِذَا كَانَ مِنْ قَبْلِهَا، وَهُوَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَقِرٌّ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ أَثْبَتُوا بِهِ صِفَةَ الْمُعَرَّضِ لِلسُّقُوطِ فَضُمِّنُوا، وَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُعَرَّضًا لِلسُّقُوطِ فَلَمْ يُضَمَّنُوا. قِيلَ: عَكْسُ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الصَّدَاقَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ أَسْقَطُوا بِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُسْقِطُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ، فَكَانَ ضَمَانُهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَقْوَى مِنْ ضَمَانِهِمْ قَبْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ بَعْدُ الدُّخُولِ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، فَلَمْ يُضَمَّنُوا وَقَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فَضُمِّنُوا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 261 قِيلَ: حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بَاقٍ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ، وَقَدْ أَبْطَلُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحَالَتَيْنِ فَضَمَّنُوهُ فِيهَا. وَدَلِيلٌ ثَانٍ: أَنَّ الْإِحَالَةَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبِضْعِ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى خُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرٍ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الْمَهْرِ، كَمَا لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَتُهُ الْكَبِيرَةُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ ضَمِنَتِ الْكَبِيرَةُ مَهْرَ الصَّغِيرَةِ. وَقَدْ وَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ الْكَبِيرَةُ تَحْرِيمَ الصَّغِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَبِفِعْلِ الْكَبِيرَةِ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهَا، وَلَا يَلْزَمُهَا مَهْرُهَا. قِيلَ: لِأَنَّه لَوْ لَزِمَهَا مَهْرُهَا، لَأَفْضَى إِلَى خُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرِهَا، وَلَا يُفْضِي هَذَا إِلَى خُلُوِّ عَقْدِ الصَّغِيرَةِ مِنْ مَهْرِهَا، فَلِذَلِكَ ضَمِنَتِ الْكَبِيرَةُ مَهْرَ الصَّغِيرَةِ، وَلَمْ تَضْمَنْ مَهْرَ نَفْسِهَا. فَإِنْ قِيلَ بَعْدَ هَذَا: لو قتلها لَضَمِنَتْ دِيَتَهَا، وَلَا تَضْمَنُ مَهْرَهَا. قِيلَ: ضَمَانُ الْمَنَافِعِ تَسْقُطُ بِضَمَانِ أَعْيَانِهَا، فَأَوْجَبَ ضَمَانُ دِيَتِهَا سُقُوطَ مَهْرِهَا. وَدَلِيلٌ ثَالِثٌ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِدُخُولِ الْبِضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ قِيمَةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ قِيمَةٌ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِخُرُوجِهِ عن ملكه قيمة بما ذكروه ودللنا عَلَيْهِ بِجَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى الْبِضْعِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ الْعِوَضَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ. ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مَالًا لَكَانَتْ مِنْ ثُلُثِهِ لِعِتْقِهِ، فَهُوَ إِنَّنَا نَعْتَبِرُ مَا كَانَ مُنْتَقِلًا إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالزَّوْجَةُ لَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْتَبَرْ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِضْعُهَا مِلْكًا لَهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ لَوْ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ ثُلُثِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا، لِأَنَّها لَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقَدْ أَحَاطَ دَيْنُهُ بِتَرِكَتِهِ بَعْدَ طَلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، لِأَنَّها لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْغُرَمَاءِ كَعِتْقِ أَمِ الْوَلَدِ، وَخَالَفَ عِتْقُ الْعَبْدِ الْقِنِّ الَّذِي يُصْرَفُ فِي دُيُونِهِ لَوْ لَمْ يُعْتَقْ. (فَصْلٌ) : وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ مَنْ أَثْبَتَ الْغُرْمَ وَنَفَاهُ، فَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ إِنَّ الشَّهَادَةَ بِهَذَا الطَّلَاقِ الْكَاذِبِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ. وَيَجُوزُ لَهُمَا الِاجْتِمَاعُ بَعْدَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِنَا فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُحِيلُ الْأُمُورَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ خَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 262 فَاقْتَضَى مِنْ مَذْهَبِنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي حَالِ الزَّوْجِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ بِمُسَاعَدَتِهَا لَهُ عَلَى مَا أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ، فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِمَهْرِهَا عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا، لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الِاسْتِبَاحَةِ وَالرُّجُوعِ بِالْمَهْرِ. وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لِامْتِنَاعِهَا عَلَيْهِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ التَّحْرِيمِ، رَجَعَ عَلَى الشُّهُودِ بِمَهْرِهَا لِتَفْوِيتِهِمْ عَلَيْهِ بِضْعَهَا. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا فَيُلَاعِنُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ، وَاللَّعَّانُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى نَفَاذِهِ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَتَحْرِيمِ الْأَبَدِ، فَأَمَّا نُفُوذُهُ فِي الْبَاطِنِ فَمُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ أَمِنَ حَدَّ الْقَذْفِ حِينَ لَاعَنَ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الشُّهُودِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِهِ. وَإِنْ خَافَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الشُّهُودِ إِنْ أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ إِنْ مَنَعَتْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا فِي الطَّلَاقِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: دُونَ الثَّلَاثِ. فَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ جَمِيعِ الْمَهْرِ يُقَسِطُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ، فَإِنْ شَهِدَ بِهِ اثْنَانِ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَإِنْ شَهِدَ بِهِ ثَلَاثَةٌ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الشُّهُودِ: فَرَوَى عَنْهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ جَمِيعِ الْمَهْرِ. وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ إِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ نِصْفِهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيِّ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ مَا نَقَلَاهُ، فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّه قَدْرُ مَا الْتَزَمَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 263 وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِنِصْفِهِ، فَلَوْ رَجَعَ عَلَى الشُّهُودِ بِجَمِيعِهِ لَصَارَ إِلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمَهْرِ فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِمْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّه قِيمَةُ الْمُتْلَفِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى اعْتِبَارًا بِمَا غَرِمَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُمْ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِلْكَهُ مِنْ جَمِيعِ الْبِضْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا كَمَا يَرْجِعُ بِهِ لَوْ دَخَلَ بِهَا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا. فَعَلَى هَذَا، إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ قَدْ سَاقَهُ إِلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، لِأَنَّه لَا يَدَّعِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا نِصْفُهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهَا بِجَمِيعِهِ لِأَجْلِ مَنْعِهِ مِنْهَا. وَامْتَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ الرُّجُوعِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَمَلُوا مَا رَوَاهُ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا سَاقَ جَمِيعَ الْمَهْرِ إِلَيْهَا، لِأَنَّه خَرَجَ عَنْ يَدِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ عِنْدِي أَوْلَى عِنْدِي مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَيُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا كَمَا يُوجِبُهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ، لِأَنَّها تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ كَمَا تَبِينُ بِالثَّلَاثِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ لِأَنَّه لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ طَلَاقٌ فلا شيء على الشهود إذا رجعوا، لأنه الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا بِالرَّجْعَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ الَّتِي شَهِدُوا بِهَا وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خَلْعٍ تَبِينُ فِيهِ بِالْوَاحِدَةِ وَرَجَعَ الشُّهُودُ عَنْهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِإِنْكَارِهَا عَقَّدَ الْخُلْعُ، فَقَدْ أَلْزَمُوهَا الْعِوَضَ، وَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ بَدَلًا مِنْهُ فِي حَقِّهَا، فَلَهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا أَغْرَمُوهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِإِنْكَارِهَا عَقْدَ الْخُلْعِ، فَقَدْ كَانُوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 264 أَلْزَمُوهُ بِالطَّلَاقِ بِمَا أَوْجَبُوهُ لَهُ مِنَ الْعِوَضِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَعْهُ، لِحَقِّهِ فِي بِضْعِهَا، فَإِذَا لَمْ يَصِلُ إِلَيْهِ، كَانَ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى بَدَلِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ، لِوُصُولِهِ إِلَى الْمَهْرِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ. وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ أَقَلُّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، يَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِالْبَاقِي مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لِيَسْتَكْمِلَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَالزَّوْجَةِ. وَمَثَلُهُ أَنْ يَشْهَدُوا بِشَفْعَتِهِ فِي مَبِيعٍ وَيُنْتَزَعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الشُّهُودُ عَمَّا شَهِدُوا بِهِ مِنْ مِلْكِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِثْلَ قِيمَةِ الْمِلْكِ لَمْ يُضَمَّنُوا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضُمِّنُوا فَاضِلَ الْقِيمَةِ. وَهَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ فَانْتُزِعَ مِنْهُ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعُوا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِثْلَ قِيمَتِهِ لَمْ يُضَمَّنُوا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ ضُمِّنُوا فَاضِلَ الْقِيمَةِ. وَلَوْ شَهِدُوا بِهِبَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا. فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ لَمْ يُضَمَّنُوا، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِهَا ضُمِّنُوا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّ تَبِينَ بِالْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ طَلْقَتَيْنِ فَصَارَتْ بَائِنَةً بِالثَّالِثَةِ، فَقَدْ أَحَالَ الشُّهُودُ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِضْعِهَا، فَلَزِمَهُمُ الْغُرْمُ بِحُكْمِ الْإِحَالَةِ وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الْمَهْرِ، لِأَنَّهمْ مَنَعُوهُ مِنْهَا مِنْ جَمِيعِ الْبِضْعِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُمْ ثُلُثُ الْمَهْرِ، لِأَنَّه مَمْنُوعٌ مِنْ بِضْعِهَا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ اخْتَصَّ الشُّهُودُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَكَانَ ثُلُثُ الْمَنْعِ مِنْهُمْ فَوَجَبَ ثُلُثُ الْمَهْرِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، وَشَهِدُوا بِطَلْقَتَيْنِ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِثُلُثَيِ الْمَهْرِ. فَهَذَا حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ بِالطَّلَاقِ إِذَا رَجَعُوا عَنْهُ. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْعِتْقِ] ) (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِالْعِتْقِ إِذَا رَجَعُوا عَنْهَا فِي عَبْدٍ كَانَ قِنَّا، فَعَلَيْهِمْ غُرْمُ قِيمَتِهِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الطَّلَاقِ. وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ، لَا وَقْتَ رُجُوعِهِمْ، لِأَنَّه بِالْحُكْمِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا بِالرُّجُوعِ. فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِعِتْقِ مُدَبَّرٍ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ لَزِمَهُمْ غُرْمُ قِيمَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّه قَدْ كَانَ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 265 عَلَى الرِّقِّ وَجَوَازِ الْبَيْعِ، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِقِيمَتِهَا، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا كَمَا يَرْجِعُ بِالْقَيِّمَةِ عَلَى قَاتِلِهَا. وَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ، لَمْ يُغَرَّمُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَيُنْظَرُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الْمُكَاتَبِ: فَإِنْ عَجَزَ وَعَادَ إِلَى الرِّقِّ فَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ بِعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ أَدَّى وَعُتِقَ نُظِرَ فِي مَا أَدَّاهُ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا عَلَى الشُّهُودِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْقِيمَةِ مِنْ مُكَاتَبِهِ فَصَارَ كَوُصُولِهِ إِلَى الْمَهْرِ مِنْ خُلْعِ زَوْجَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِغُرْمِ قِيمَتِهِ وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا مِنْ مَكَاتَبِهِ، لِأَنَّه أَدَّاهَا مِنِ اكْتِتَابِهِ الَّتِي قَدْ كَانَ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ كِتَابِهِ، وَبِهَذَا خَالَفَ مَا أَدَّتْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْخُلْعِ، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إِلَّا بِالْخُلْعِ. وَإِنْ كَانَ مَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ فَيُعْتَقُ بِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، رَجَعَ السَّيِّدُ عَلَى الشُّهُودِ بِالْبَاقِي مِنْ قِيمَتِهِ، وَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ وَجْهَانِ تَعْلِيلًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا. فَإِنْ شَهِدُوا بِإِبْرَاءِ مُكَاتَبِهِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ، غُرِّمُوا لَهُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مَالِ كِتَابَتِهِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ، فَلَيْسَ بِأَغْلَظَ مِنَ الْعَبْدِ الْقِنِّ. فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ أَقَلُّ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شهود المال] ) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ فَأُخْرِجَتْ مِنْ يَدَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ عُزِّرُوا عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَلَمْ يُعَاقَبُوا عَلَى الْخَطَأِ وَلَمْ أُغْرِمْهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنِّي جَعَلْتُهُمْ عُدُولًا بِالْأَوَّلِ فَأَمْضَيْنَا بِهِمُ الْحُكْمَ وَلَمْ يَكُونُوا عُدُولًا بِالْآخَرِ فَتُرَدُّ الدَّارُ وَلَمْ يُفِيتُوا شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْتَزِعَهُ مِنْهُمْ وَهُمْ كَمُبْتَدِئِينَ شَهَادَةٍ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ فَلَا أُغْرِمُهُمْ مَا أقَرُوهُ فِي أَيْدِي غَيْرِهِمْ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْقَسَمُ الثَّالِثُ فِي رُجُوعِهِمْ عَمَّا اخْتَصَّ بِالْأَمْوَالِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: عَيْنٌ وَدَيْنٌ. فَأَمَّا الْعَيْنُ فَكَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ الْحَائِزِينَ، فَشَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا لِغَيْرِهِ فَانْتَزَعَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ بِشَهَادَتِهِمْ وَسَلَّمَهَا، إِلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 266 الْمَشْهُودِ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بها. والحكم لا ينتقص بِرُجُوعِهِمْ. فَأَمَّا وُجُوبُ غُرْمِهَا عَلَى الشُّهُودِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيهَا وَذَكَرَهُ هُنَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ لَا رُجُوعَ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهَا. وَقَالَ فِيمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ غَصَبْتُهَا مِنْ عَمْرٍو: إِنَّهَا تَكُونُ لِزَيْدٍ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ بِهَا لَهُ، وَهَلْ يَجِبُ قِيمَتُهَا لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَكَذَا قَالَ فِي عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْ عَمْرٍو، هَلْ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِعَمْرٍو أَمْ لَا؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. وَرُجُوعِ الشُّهُودِ كَرُجُوعِ الْمُقِرِّ بِالْغَصْبِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٍ: إِنَّهُمَا سِيَّانِ، وَفِي غُرْمِ الشُّهُودِ إِذَا رَجِعُوا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمْ غُرْمُ قِيمَةِ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْمَخْرَجُ، وَبِهِ قال أبو حنيفة لاستهلالكها عَلَى مَالِكِهَا حُكْمًا، فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا فِي قِيمَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَيْهِمْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ قِيمَتِهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ إِلَى وَقْتِ رُجُوعِهِمْ. فَهَذَا حُكْمُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تُضْمَنُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِإِتْلَافٍ أَوْ بِيَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الشُّهُودِ إِتْلَافُ الْعَيْنِ لِبَقَائِهَا، وَلَا يَدَ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا. فَسَقَطَ غُرْمُهَا عَنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ فِي غُرْمِ الْمُقِرِّ بِالْغَصْبِ قَوْلَانِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لِلْغَاصِبِ يَدًا صَارَ بِهَا ضَامِنًا، وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ يَدٌ يُضَمِّنُونَ بِهَا فَافْتَرَقَ حُكْمُهَا. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ] ) (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الدَّيْنُ إِذَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِزَيْدٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَأَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ فَدَفَعَهَا، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ، وَلِلدَّيْنِ الْمَقْبُوضِ حَالَتَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، فَعَلَى الشُّهُودِ غُرْمُهُ لِتَلَفِ الْعَيْنِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 267 بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَلَا يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ إِذَا غَرِمُوا، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنِ اعْتِرَافِهِمْ لَهُ بِالْحَقِّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنِ الْمَقْبُوضِ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ أَمْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِهِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِ الدَّيْنِ، لَمْ يَخْلُ رُجُوعُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ. فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا وَكَانُوا شَاهِدِينَ كَانَ عَلَى كُلِّ واحد منهما نصف الدين. ولو وَإِنْ كَانُوا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، كَانَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدَّيْنِ، لِأَنَّه نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ رُبُعُ الدَّيْنِ لِأَنَّها رُبُعُ الْبَيِّنَةِ. وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الدَّيْنِ، لِأَنَّه ثُلُثُ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدَّيْنِ، لِأَنَّه عُشْرُ الْبَيِّنَةِ. وَلَوْ كَانُوا رَجُلًا وَعَشْرُ نِسْوَةٍ كَانَ عَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الدَّيْنِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسْوَةِ نِصْفُ سُدُسِ الدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدَّيْنِ، لِأَنَّه نِصْفُ الْبَيِّنَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ نِصْفُ عُشْرٍ، لِأَنَّها نِصْفُ عُشْرِ الْبَيِّنَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، فَصَارَ النِّسَاءُ الْعَشْرُ كَخَمْسَةِ رِجَالٍ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ رَجُلٌ صَارُوا مَعَهُ كَسِتَّةِ رِجَالٍ، يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدُسُ الدَّيْنِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَ الرَّجُلَ سُدُسَ الدَّيْنِ وَيَلْزَمَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ سُدُسُهُ، فَتَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِنِصْفِهِ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ دُونَ جميعهم، فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما: أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ، وَيَكُونُوا رَجُلَيْنِ فَيَرْجِعُ أَحَدُهُمَا، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدَّيْنِ، لِأَنَّه نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانُوا رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَلَوْ رَجَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَعَلَيْهَا رُبُعُ الدَّيْنِ، لِأَنَّها رُبُعُ الْبَيِّنَةِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 268 وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ، وَيَرْجِعُ مَنْ زَادَ عَلَيْهَا كَأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَرْجِعُ مِنْهُمُ اثْنَانِ، فَفِي الرُّجُوعِ عَلَى الرَّاجِعِينَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: لَا رُجُوعَ عَلَيْهِمَا لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ بِغَيْرِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ: يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَلَزِمَهُمَا نِصْفُ الدَّيْنِ، لِأَنَّهمَا نِصْفُ الْبَيِّنَةِ. فَلَوْ شَهِدَتْ مَعَ الْأَرْبَعَةِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ رَجَعَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ، لِأَنَّها إِذَا انْفَرَدَتْ لَمْ تَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْبَيِّنَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَزِيدُوا عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَةِ وَيَرْجِعُ الزَّائِدُ عَلَى الْبَيِّنَةِ وَبَعْضُ الْبَيِّنَةِ كَالثَّلَاثَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمَا وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِنِصْفِ الدَّيْنِ، لِأَنَّه قَدْ بَقِيَ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْقِطُ الرجوع عليهم إذا بقي بعدهم عدد البينة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ، لِأَنَّهمَا ثُلُثَا الْبَيِّنَةِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجِبُ الرجوع عليهم إذا بقي بعدهم عدد البينة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ. فَلَوْ كَانُوا رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ فَرَجَعَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَفِي قَدْرِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُرْجَعُ عَلَيْهِمَا بِرُبُعِ الدَّيْنِ، لِأَنَّه قَدْ بَقِيَ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ مِنَ الرُّبُعِ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ سُدُسُ الدَّيْنِ وَتَتَحَمَّلُ الْمَرْأَةُ ثُلُثَهُ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ قِيَاسُ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدَّيْنِ، لِأَنَّهمَا نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، فَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ ثُلُثَيِ النِّصْفِ وَهُوَ ثُلُثُ الدَّيْنِ، وَتَتَحَمَّلُ الْمَرْأَةُ ثُلُثَهُ. وَهُوَ سُدُسُ الدَّيْنِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ. ( [الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مَالًا فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ ثَانٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ ثَالِثٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ لَهُ رَابِعٌ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَدْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْمِائَةَ الرَّابِعَةَ شَهِدَ بِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَمْ تَثْبُتْ. فَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ الْغُرْمِ، رَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ. وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ مَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَنْهُمْ بِاخْتِلَافِ مَا شَهِدُوا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 269 بِهِ فَالْمِائَةُ الْأَوْلَى قَدْ شَهِدَ بِهَا الْأَرْبَعَةُ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعُهَا وَهُوَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَالْمِائَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ شَهِدَ بِهَا ثَلَاثَةٌ سِوَى الْأَوَّلِ. فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَالْمِائَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ شَهِدَ بِهَا اثْنَانِ سِوَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ. عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الثَّانِي مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ وَعَلَى الرَّابِعِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ. ( [الْقَوْلُ فِي رُجُوعِ شُهُودِ الدَّيْنِ عَنْ بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ] ) (فَصْلٌ) : وَإِذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَجَعَ ثَانٍ عَنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَرَجْعَ الثَّالِثُ عَنْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا غَرِمَ الثَّلَاثِينَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْهَا بِعِشْرِينَ، لِأَنَّ الْعَشْرَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ الرَّاجِعِ شَاهِدَانِ، فَتَكُونُ الْعَشْرَةُ الْأَوْلَى عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، لِأَنَّه قَدْ رَجَعَ عَنْهَا الثَّلَاثَةُ فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ. وَالْعَشَرَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ رَجَعَ عَنْهَا اثْنَانِ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، يَصِيرُ الْجَمِيعُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، مِنْهَا عَلَى الرَّاجِعِ عَنِ الْعَشْرَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَعَلَى الرَّاجِعِ عَنِ الْعِشْرِينَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وثلث، وعلى الرجع عَنِ الثَّلَاثِينَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ. فَأَمَّا الْعَشْرَةُ الرَّابِعَةُ فَلَا رُجُوعَ عَنْهَا بِشَيْءٍ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَى الرَّاجِعِ عَنْهَا بِثُلُثِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ. وَالْعَشَرَةُ الثانية تثبت بثلاثة ورجع مليها اثْنَانِ، فَعَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ يَلْزَمُهُمَا نِصْفُهَا لِأَنَّه بَقِيَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: ثُلُثَاهَا، فَأَمَّا جَمِيعُهَا فَلَا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ بِغُرْمِ الدَّيْنِ الَّذِي رَجَعُوا عَنْهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْرِيعِ، فَلَا فَرْقَ فِي الرُّجُوعِ بَيْنَ عَمْدِهِمْ وَخَطَئِهِمْ بِخِلَافِ الدِّمَاءِ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالدِّمَاءُ يَفْتَرِقُ فِيهَا حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَيُفَسَّقُونَ فِيهَا بِالْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ وَيُعَزَّرُونَ فِي عَمْدِ الْأَمْوَالِ وَعَمْدِ الدِّمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِبْ فِيهَا الْقَوَدُ فَإِنْ وَجَبَ فِيهَا الْقَوَدُ فَأُقِيدُوا فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، سَقَطَ التَّعْزِيرُ لِدُخُولِهِ عَلَى الْقَوَدِ فَإِنْ عَدَلَ وَلِيُّ الدَّمِ فِيهِ عَنِ الْقَوَدِ إِلَى الدِّيَةِ فَفِي تَعْزِيرِ الشُّهُودِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدْلٌ عَنِ الْقَوَدِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ التَّعْزِيرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعَزَّرُونَ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ ثَابِتٌ يَخْتَصُّ بالأبدان. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 270 ( [بَابُ عِلْمِ الْحَاكِمِ بِحَالِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ] ) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ مُشْرِكَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَرْحٍ بَيِّنٍ أَوْ أَحَدِهِمَا رَدَّ الْحُكْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ مَالٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ بِهِمَا، أَنَّهُمَا عَبْدَانِ أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ كَافِرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ وَالْآخِرُ كَافِرٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّه حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا فَصَارَ كَحُكْمِهِ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ وَجَرَى مَجْرَى مِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ، كَانَ حُكْمُهُ مَرْدُودًا قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ، فَأَجَازَهَا شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَدَاوُدُ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْكَافِرِ فِي مَوْضِعٍ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَضَ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمًا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ. قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: بِظَاهِرِ نَصٍّ لَمْ يَدْفَعْهُ دَلِيلٌ، فَصَارَ كَالدَّلِيلِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 283] وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يُرْضَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَرْدُودَةٌ بِقِيَاسٍ عَلَى الشَّوَاهِدِ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ شُذُوذِ الْخِلَافِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَصَارَ مَرْدُودًا بِإِجْمَاعٍ انْعَقَدَ عَلَى قِيَاسٍ جَلِيٍّ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا رُدَّتْ بِاجْتِهَادٍ ظَاهِرِ الشَّوَاهِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ خَفِيِّ الشَّوَاهِدِ، لِأَنَّ الْأَقْوَى أَمْضَى مِنَ الْأَضْعَفِ، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَانِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا، لِأَنَّه لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ عَلِمَ بِعُبُودِيَّتِهِ قَطْعًا فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ عَلَى مَا اشْتَبَهَ وَأَشْكَلَ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 271 فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ مَرْدُودٌ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا مَرْدُودٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ، أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ؟ بِحَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَانِعِ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ. فَمَنْ جَعَلَ دَلِيلَ رَدِّهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، جَعَلَهُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُظْهِرَ بُطْلَانَهُ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ ظُهُورِ نُفُوذِهِ. وَمَنْ جَعَلَ رَدَّهُ قُوَّةُ الِاجْتِهَادِ فِي شَوَاهِدِهِ، جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ لَا بِنَقْضِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ شَوَاهِدُهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاجْتِهَادِ فَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّه قَالَ مِنْ بَعْدُ: وَرَدُّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْوِيلٍ. وَلَيْسَ بِتَحْرِيفِ السِّجِلِّ نَقْضًا لِلْحُكْمِ حَتَّى يَنْقُضَهُ بِالْحُكْمِ قَوْلًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَجِّلَ بِالنَّقْضِ كَمَا أَسْجَلَ بِالْحُكْمِ لِيَكُونَ السِّجِلُّ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلسِّجِلِّ الْأَوَّلِ، كَمَا صَارَ الْحُكْمُ الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْجَلَ الْحُكْمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِسْجَالَ بِالنَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْجَالُ بِهِ أَوْلَى. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " بَلِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَبْيَنُ خَطَأً مِنْهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ فَمَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَدُّ شَهَادَةِ العبد إنما هو تأويل وقال في موضع آخر إن طلب الخصم الجرحة أجله بالمصر وما قاربه فإن لم يجيء بِهَا أُنْفِذَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَ إِنْ جَرَحَهُمْ بَعْدُ لَمْ يُرَدَّ عَنْهُ الْحُكْمُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قِيَاسُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ الشُّهُودَ الْعُدُولَ أَنْهُمَا فَاسِقَانِ كَمَا يَقْبَلُ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ وَمُشْرِكَانِ وَيَرُدُّ الْحُكْمَ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بَانَ لَهُ فِسْقُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ طَارِئًا أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا فَهُوَ عَلَى صِحَّتِهِ وَنَفَاذِهِ. وَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، إِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ وَإِنَّ الْفِسْقَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الرِّقِّ، لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ مردود. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 272 وَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَطْرَدَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَرْحَ الشُّهُودِ مُدَّةَ إِطْرَادِهِ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْجَرْحِ، فَأَمْضَى الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةِ الْجَرْحِ ثُمَّ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ مَاضِيًا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَوْلٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ: فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَجَعَلُوا نَقْضَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُهُ، وَهُوَ النَّصُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقُضُهُ، وَهُوَ الْمُخَرَّجُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَصَرَّحَ بِهِ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَجَابُوا عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيِّ، فِيمَنْ أطْرَدَهُ الْحَاكِمُ بِجَرْحِ شُهُودِهِ فَأَحَضَرَ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ وَنُفُوذِ حُكْمِهِ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَنْقُضْهُ، لِأَنَّ الْخَصْمَ أَقَامَ بَيِّنَةً بِفِسْقِ الشُّهُودِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْهَدُوا بِفِسْقِ الشُّهُودِ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى يُعَيَّنُوا أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بها فينقضها. وأما الْجَوَابَ الثَّانِيَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ عَجَزَ عَنْ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عِنْدَ إطْرَادِهِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ يَسْأَلُ الْحَاكِمَ إِطْرَادَهُ ثَانِيَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْرُدَهُ الْجَرْحَ بَعْدَ إِبْطَالِ الْإِطْرَادِ، لِأَنَّ الْإِطْرَادَ يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ قَدْ نَفَذَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى الْإِطْرَادِ. فَإِنْ بَانَ لِلْحَاكِمِ الْفِسْقُ مِنْ غَيْرِ إِطْرَادِ الْخَصْمِ، بِأَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَبْلَ شَهَادَتِهِ، نَقَضَ الْحُكْمَ بِهَا، فَبَانَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَقَضَ الْحَكَمُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ فِيهِ كَمَا يَنْقُضُهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَإِنْ نَقَضَهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ مَقْطُوعٌ بِهِمَا وَالْفِسْقَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَجَازَ نَقْضُهُ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ كَمَا يَنْقُضُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُضَ بِمُجْتَهِدٍ فِيهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يُنْقَضْ بالاجتهاد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 273 وَالدَّلِيلُ عَلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِفِسْقِهِ كَمَا يُنْقَضُ بِرِقِّهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ نَصٌّ، وَاشْتِرَاطَ الْحَرِيَّةِ اجْتِهَادٌ، فَإِنْ نُقِضَ الْحُكْمُ بِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ لِاجْتِهَادٍ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ لِمُخَالَفَةِ الْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْعَبْدَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ، وَالْفَاسِقَ مَرْدُودُ الْخَبَرِ، وَالشَّهَادَةُ كَالْخَبَرِ، فَلَمَّا نُقِضَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُنْقَضَ بِشَهَادَةِ مَنْ يُرَدُّ خَبَرُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الرِّقَّ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْفِسْقُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَهُوَ إِنَّهُمَا إِذَا صَارَا مَعْلُومَيْنِ، صَارَ الرَّدُّ بِالْفِسْقِ مَقْطُوعًا بِهِ. وَالرَّدُّ بِالرِّقِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ. فَكَانَ بِالْعَكْسِ أَحَقُّ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أَنَفَذَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا قَطْعًا ثُمَّ بَانَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ لِأَنَّهمَا صَادِقَانِ فِي الظَّاهِرِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمَا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ نَقْضُ الْحُكْمِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ إِمَّا لِفِسْقٍ أَوْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، فَسَوَاءٌ. وَلَا يَخْلُو الْحُكْمُ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ أَوْ لَا يُفْضِيَ. فَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى اسْتِهْلَاكٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَقْضِهِ ضَمَانٌ، وَكَانَ نَقْضُهُ مُعْتَبَرًا بِالْحُكْمِ. فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ عُقِدَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا عَبْدَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ، أَوْ فَاسِقَيْنِ. افْتَقَرَ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِنَقْضِهِ، لِأَنَّ مَالِكًا يُجِيزُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ إِذَا أُعْلِنَ. وَإِنْ كَانَ فِي إِثْبَاتِ نِكَاحِ اخْتَلَفَ فِيهِ الزَّوْجَانِ، فَإِنْ بَانَ فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ حُكِمَ بِنَقْضِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ بِظُهُورِ فِسْقِهِمَا إِلَّا أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ. وَإِنْ بَانَ كُفْرُ الشَّاهِدَيْنِ أَظْهَرَ نَقْضَ الْحُكْمَ وَلَمْ يَفْتَقِرْ نَقْضُهُ إِلَى حُكْمٍ لِوُقُوعِهِ مُنْتَقِضًا لِرَدِّ شَهَادَتْهِمَا بِالنَّصِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَإِنْ بَانَ رِقُّ الشَّاهِدَيْنِ، فَهَلْ يَفْتَقِرُ نَقْضُهُ إِلَى الْحُكْمِ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي شَهَادَتِهِ هَلْ رُدَّتْ بِظَاهِرِ نَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ عَنْ ظَاهِرِ اجْتِهَادٍ ظَاهِرٍ أَوْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَهَكَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ نَفَذَ بِشَهَادَتِهِمْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِنَقْضِهِ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِ شُهُودِهِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَيُحْتَاجُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ فِي الْفِسْقِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ فِي الْكُفْرِ، وَفِي احْتِيَاجِهِ إلى الحكم بنقضه فِي الرِّقِّ وَجْهَانِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 274 وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِنَقْضِهِ فِي طَلَاقٍ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَعَ مَا أَوْقَعَهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَجَمَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجِ الْمُنْكِرِ. وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي عِتْقٍ أُنَفِذَ بِهَا حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ، حُكِمَ بِرِقِّهِ وَبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ، وَيَمْلِكُ اكْتِتَابَهُ بَعْدَ يَمِينِ السَّيِّدِ فِي إِنْكَارِ عِتْقِهِ. وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى نَقْلِ مِلْكٍ مِنْ دَارٍ أَوْ عَقَارٍ، حُكِمَ بِإِعَادَتِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَإِنْ طَلَبَ إِعَادَةَ الدَّارِ إِلَى يَدِهِ لِيَحْلِفَ بَعْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهَا يَدَ الْمَشْهُودِ لَهُ، لِبُطْلَانِ بَيِّنَتِهِ وَلَا يَأْمُرُ بِرَدِّهَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالرَّدِّ حُكِمَ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُمَا، لِأَنَّ مَنْعَهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بَاتٍّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُمَا إِلَّا بَعْدَ الْيَمِينِ لِمَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي دَيْنٍ حُكِمَ بِقَضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَعْدَ قَضَائِهِ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمَشْهُودِ لَهُ حُكِمَ بِرَدِّهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ إِلَى بَدَلِهِ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، أُخِذَ بِرَدِّ مِثْلِهِ. فَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ أَقْرَضَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بِهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُفْضِيًا إِلَى الِاسْتِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ، كَالْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِضَمَانِ الدِّيَةِ دُونَ الْقَوَدِ، لِأَنَّه خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْعَمْدِ إِلَى الْخَطَأِ وَالْحُكْمُ بِهِ تَمَّ بِالشُّهُودِ وَالْحَاكِمِ وَالْمَشْهُودِ لَهُ، فَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لِظُهُورِ رِقِّهِمْ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُودُ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَخَالَفَ حَالُ الشُّهُودِ إِذَا رَجَعُوا لِاعْتِرَافِهِمْ بِكَذِبِهِمْ، فَلِذَلِكَ ضُمِنُوا بِالرُّجُوعِ وَلَمْ يُضْمَنُوا بِالْفِسْقِ وَالرِّقِّ، وَأَمَّا الْمَشْهُودُ لَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّه لَا يَمْنَعُ فِسْقُ شُهُودِهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا شَهِدُوا بِهِ. وَإِذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ دُونَ الْحَاكِمِ، لِأَنَّهمْ أَلِجَأُوهُ إِلَى الْحُكْمِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ شَهِدُوا بِالْعَدَالَةِ دُونَ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّنُوا مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّه قَدْ تَعَيَّنَ مِنْهُ فِي فِعْلِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْحَاكِمِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ بِالْقِصَاصِ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ أَوْ إِلَى غيره،. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 275 وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ تَقَدَّمَ بِهِ الْحَاكِمُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ كَانَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَإِنْ تَقَدَّمَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَنْ أَمْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضَمِّنْهُ مُبَاشَرَةً إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَهُ وَلِيُّهُ مَعَ جَوَازِ اسْتِحْقَاقِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى الْحَاكِمِ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي مَالِهِ، وَفِي مَحَلِّ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّها دِيَةُ خَطَأٍ بِهِ وَتَكُونُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِنِيَابَتِهِ عَنْهُمْ، وَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالدِّيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُكَفِّرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 276 ( [باب الشهادة في الوصية] ) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِعَبْدٍ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ وَشَهِدَ وَارِثَانِ لِعَبْدٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي الِاثْنَيْنِ فَسَوَاءٌ وَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قَالَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ هِيَ فِي الْعِتْقِ النَّاجِزِ فِي الْمَرَضِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَحْتَمِلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّه قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ لعبد غيره أنه أعتقه وهو الثلث في وَصِيَّتِهِ، فَلَهُمْ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ تَأْوِيلَانِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِهَا: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّهَا مَقْصُورَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيَشْهَدُ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ سَالِمٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الثُّلُثُ. وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ وَصَّى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ، فَعَبَّرَ عَنِ الْعِتْقِ بِالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّها وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ. فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ بِهَا ضَرَرًا، فَصَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُوجَبًا بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِمَا فِي الصِّحَّةِ أَوِ فِي الْمَرَضِ، أَوْ أَحَدِهِمَا فِي الصِّحَّةِ، وَالْآخَرِ فِي الْمَرَضِ، لِاسْتِوَاءِ الْوَصَايَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى تَبْعِيضِ الْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقُوا سَالِمًا إِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِلَّا فَأَعْتَقُوا مِنْهُ قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ وأعتقوا غانما إن احتملوا الثُّلُثَ، وَإِلَّا فَأَعْتِقُوا مِنْهُ قَدْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ وَصَّى بِعِتْقِ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهَاهُنَا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 277 وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ عُتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَمْ يُكْمَلُ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. فَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْعَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ خَطَأً مِنْهُ لِمَا بَيَّنَاهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِمَا مُطْلَقَةٌ، لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَبْعِيضِ الْعِتْقِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ كَالْمُوصِي بِعِتْقِهِمَا مَعًا، وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُهَا لِأَنَّه لَا فَرْقَ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمَا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لِيُكْمِلَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا كَمَا أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ سِتَّةِ أَعْبُدٍ أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ فَأُعْتِقَ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، لِأَنَّه لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَا مَعًا مَعَ زِيَادَتِهِمَا عَلَى الثُّلُثِ الَّذِي مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، لِأَنَّه لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ تَكْمِيلُ الْمَنَافِعِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِهِ بِعِتْقِ جَمِيعِهِ. فَلَمْ تَبْقَ بَعْدَ امْتِنَاعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَّا دُخُولُ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا، لِتَكْمِيلِ الْعِتْقِ فِيمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. فَإِنِ اسْتَوَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ وَكَانَ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ فَأَيُّهُمَا قَرَعَ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَرَقَّ الْآخَرُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَقِيمَةُ الْآخَرِ سُدُسُهَا، فَإِنْ قَرَعَ مَنْ قِيمَتُهُ الثُّلُثُ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ، وَإِنْ قَرَعَ مَنْ قِيمَتُهُ السُّدُسُ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ الْآخَرِ وَرُقَّ بَاقِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ، لِأَنَّه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَكَانَ الْأَصَحُّ فِي عِبَارَتِهِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ، وَلَا يَقُولُ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ. " وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ الصَّوَابِ فِي الْمَعْنَى مَغْفُورًا "، فَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: [عُتِقَ] مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، يَعْنِي فِي الْحُكْمِ، وَيُكْمَلُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ، تَعْوِيلًا عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الْجَوَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَعَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَفِسْقُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ بِهَا الْأَجْنَبِيَّانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ. وَصَحَّتْ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ بِهَا الْوَارِثَانِ وَعُتِقَ جَمِيعُهُ. وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَفِسْقُ الْوَارِثَيْنِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ، وَصَحَّتْ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَعُتِقَ جَمِيعُهُ وَلَا يَلْزَمْهُمَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 278 بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ رَدِّ الشَّهَادَةِ أَنْ يُعْتَقَ مَنْ شَهِدَا لَهُ بِالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّه لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى يُعْتَقَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعْتَقَ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ بِعِتْقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ فَبَطَلَتْ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْوَارِثَانِ. (فَصْلٌ) : وَالثَّانِي مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ المسألة مصورة فِي عِتْقٍ نَاجِزٍ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ. فَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ غَانِمًا، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَقَوْلُهُمْ: وَفِيهِ أَيْ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَكُونُ الْعِتْقُ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ. فَعَبَّرَ عَنِ الْمَرَضِ بِالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ لَأَوْجَبَتِ الشَّهَادَتَانِ عِتْقَ الْعَبْدَيْنِ، وَإِنْ زَادَا عَلَى الثُّلُثِ، لَأَنَّ عَطَايَا الصِّحَّةِ لَا تُعْتَبَرُ بِالثُّلُثِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّهَادَتَانِ عَلَى ثلاثة أضرب: أحدهما: أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَتَحَدَّدُ بِهَا عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ وَرِقُّ الْمُتَأَخِّرِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي تَقْوِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ وَلَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا لِتَحَرِّي الْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُزِيلِ لِلْإِشْكَالِ. فَامْتَنَعَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ مَعَ الْإِشْكَالِ. فَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ الْإِقْرَاعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَخْطَأَ لِمَا بَيَّنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا يَكُونُ فِي تَعْلِيقِ عِتْقِهِمَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ. كَقَوْلِهِ: إِذَا أَهَلَّ رَمَضَانُ فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَإِذَا أَهَلَّ رَمَضَانُ فَغَانِمٌ حُرٌّ فإن أهل رمضان عتقا واستوى [في] عتقهما حُكْمُ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ. فَيَجِبُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا لِامْتِنَاعِ عِتْقِهِمَا مَعًا، وَأُعْتِقَ مِنْهُمَا مَنْ قَرَعَ وَرُقَّ الْآخَرُ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَنِيُّ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ، وَالْجَوَابُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ متفق عليه. والضرب الثاني: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ فِيهَا بَيَانُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَقُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ". وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُصِيبًا فِي اعْتِرَاضِهِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا، لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْمَزِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا، فَكَانَ تَكْمِيلُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَبْعِيضِهَا فِيهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إنَّ يُعْتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّه رُبَّمَا عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ مُسْتَحِقُّ الرِّقِّ لِتَأَخُّرِهِ وَرُقَّ بِهَا مُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ لِتَقَدُّمِهِ، فَإِذَا عُتِقَ نِصْفُهُمَا وَرُقَّ نِصْفُهُمَا، عُتِقَ نِصْفُ الْمُتَقَدِّمِ وَعِتْقُهُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 279 مُسْتَحَقٌّ، وَرِقُّ نِصْفُ الْمُتَأَخِّرِ وَرِقُّهُ مُسْتَحَقٌّ، فَصَارَتْ أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِحْقَاقِ مِنَ الْإِقْرَاعِ. وَيَكُونُ الْمُزَنِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُخْطِئًا فِي اعْتِرَاضِهِ. (فَصْلٌ) : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: إِذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا الثُّلُثُ وَقِيمَةُ الْآخَرِ السدس، فإن قيل بالقول بالأول إِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، نُظِرَ فِي الْقَارِعِ مِنْ هَذَيْنِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الثُّلُثِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِعُ مِنْهَا صَاحِبُ السُّدُسِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ الْآخَرِ وَرُقَّ بَاقِيهِ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَقُ النِّصْفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا تَسَاوَيَا عُتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ وَثُلُثَيِ السُّدُسِ، ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَيَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا هِيَ مَخْرَجُ " ثُلُثَيِ السُّدُسِ " ثُلُثَا ثُلُثِهَا أَرْبَعَةٌ، وَثُلُثَا سُدُسِهَا سَهْمَانِ، وَهِيَ مَعَ الْأَرْبَعَةِ سِتَّةٌ، وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ عَنِ الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ إِذَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَعَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ. فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْوَارِثَيْنِ وَفِسْقُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بَطَلَ عِتْقُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَرُقَّ جَمِيعُهُ، وَنَفَذَ عِتْقُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ وَتَحَرَّرَ جَمِيعُهُ. وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَفِسْقُ الْوَارِثَيْنِ عُتِقَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ، فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ وَصَارَا بَعْدَ رَدِّ الشَّهَادَةِ مُقِرَّيْنِ وَإِقْرَارُهُمَا بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ مُخَالِفٌ لِإِقْرَارِهِمَا بِالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعِتْقِ النَّاجِزِ مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّهَادَةُ لِدُخُولِهِ فِي مِيرَاثِهِمَا بَعْدَ إِقْرَارِهِمَا وَلَزِمَهُمَا فِي الْعِتْقِ النَّاجِزِ غَيْرُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّهَادَةُ لِإِقْرَارِهِمَا بِخُرُوجِهِ عَنْ مِيرَاثِهِمَا بَعْدَ إِقْرَارِهِمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا بَعْدَ أَنْ صَارَا بِرَدِّ الشَّهَادَةِ مُقِرِّينَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدِّقَا الْأَجْنَبِيَّيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، فَيَلْزَمْهُمَا بَعْدَ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي التَّرِكَةِ لَوْ أُمْضِيَتْ شَهَادَتُهُمَا مَعَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ: فَإِنْ كَانَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَعْيِينِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ عِتْقُ الْمُتَأَخِّرِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، عَتَقَ فِي التَّرِكَةِ بِشَهَادَتْهِمَا وَعَتَقَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْوَارِثَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 280 وَإِنْ كَانَ عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، عَتَقَ فِي التَّرِكَةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَمْ يُعْتَقِ الْمُتَأَخِّرُ عَلَى الْوَارِثَيْنِ مَعَ إِقْرَارِهِمَا، لِأَنَّه يُرَقُّ وَلَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ فِي الشَّهَادَتَيْنِ عِتْقُ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عُتِقَ فِي التَّرِكَةِ مَنْ شَهِدَ بِعِتْقِهِ الْأَجْنَبِيَّانِ، وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْوَارِثَيْنِ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَوْ قُبِلَتْ لَأَوْجَبَتِ الْإِقْرَاعَ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، وَلَوْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا جَازَ أَنْ تَقَعَ الْقُرْعَةُ عَلَى مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ وَيُرَقُّ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْوَارِثَانِ، فَتَرَدَّدَتْ حَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْعِتْقِ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْعِتْقُ مَعَ الرِّقِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الضَّرْبِ الثَّالِثِ: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَيُشْكِلُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الْوَارِثِينَ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ وَعُتِقَ فِي التَّرِكَةِ مَنْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِهِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ لَا تُوجِبُ تَعْيِينَ الْعِتْقِ فِي شَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَعَ صِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ عُتِقَ فِي التَّرِكَةِ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَجْنَبِيَّانِ، وَعُتِقَ عَلَى الْوَارِثَيْنِ نِصْفُ مَنْ شَهِدَا لَهُ، لِأَنَّه قَدْ كَانَ يُعْتَقُ نِصْفُهُ مَعَ صِحَّةِ شَهَادَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ مَعَ رَدِّهَا بِإِقْرَارِهِمَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْدَحَ الْوَارِثَانِ فِي شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ بِتَكْذِيبِهِمَا، فَيُعْتَقُ جَمِيعُ الْعَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِ الْوَارِثَيْنِ فِي الْأَضْرُبِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْوَارِثَيْنِ مُقِرَّانِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ غَيْرُ مَنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ، فَأَلْزَمْنَاهُمَا عِتْقَهُ بِإِقْرَارِهِمَا، وَقَدْ شَهِدَ الْأَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِ غَيْرِهِ فَأَعْتَقْنَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْتَلِفَ الْوَارِثَانِ فِي تَصْدِيقِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فَيُصَدِّقُهُمَا أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ وَيُكَذِّبُهُمَا الْآخَرُ، فَيَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ أَخِيهِ لَوْ صَدَّقَ، وَيُلْزَمُ الْمُكَذِّبُ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ أَخِيهِ لَوْ كَذَّبَ. (مَسْأَلَةٌ) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ الْوَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ الْأَوَّلِ وَأَعْتَقَ الْآخَرَ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا وَإِنَمَا أَرُدُّ شَهَادَتَهُمَا فِيمَا جَرَّا إِلَى أَنْفُسِهِمَا فَإِذَا لَمْ يَجُرَّا فَلَا فَأَمَّا الْوَلَاءُ فَلَا يُمْلَكُ مِلْكُ الْأَمْوَالِ وَقَدْ لَا يَصِيرُ فِي أَيْدِيِهِمَا بِالْوَلَاءِ شَيْءٌ وَلَوْ أَبْطَلْتُهُمَا بِأَنَّهُمَا يَرِثَانِ الْوَلَاءَ إِنْ مَاتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا أَبْطَلْتُهَا لِذَوِي أرحامهما ". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 281 قال الماوردي: هذه ال ْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَى الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ حُكْمُ الْعِتْقِ النَّاجِزِ وَالْمُوصَى بِهِ جَمِيعًا. وَالزِّيَادَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ سَالِمًا قِيمَتُهُ الثُّلُثُ، وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وقيمته الثلث. ويشهد وارثان أنه رجع عن الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَلَا تُرَدُّ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ بِالْوَارِثَيْنِ لِعَوْدِهِ إِلَى مِيرَاثِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا شَهِدَا أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهِيَ فِي الْقِيمَةِ سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَفِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ غَانِمٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ إِنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ غَانِمٍ وَلَا تُقْبَلُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَمَّا رُدَّتْ فِي الرُّجُوعِ لَوِ انْفَرَدَتْ رُدَّتْ فِيهِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: لِدُخُولِ التُّهْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ أَكْثَرَ كَسْبًا فَيَتَمَلَّكَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَانِمٌ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَيَرِثَاهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِالرُّجُوعِ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ بِالْقُرْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا، فَجَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ بِشَهَادَتِهِمَا. وَالثَّانِي: إِنَّ الْوَاجِبَ بِالْوَصِيَّةِ إِخْرَاجُ الثُّلُثِ مِنَ الْعِتْقِ، وَشَهَادَتُهُمَا بِالرُّجُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، لِأَنَّ تَعْيِينَهُ فِي أَحَدِهِمَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقِيمَةُ وَقَدِ الْتَزَمَاهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ظُنَّ بِهِمَا مِنْ طَلَبِ الْكَسْبِ وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْحَالِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَعْدُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبِرَ بِهِ التُّهْمَةَ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَوْ أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِذَلِكَ لَأَبْطَلْتُهَا لِذَوِي أَرْحَامِهِمَا ". (فَصْلٌ) : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ بِعِتْقِ سَالِمٍ وَغَانِمٍ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ. وَيَشْهَدُ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ إِلَى عِتْقِ غَانِمٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتَهُمَا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالشَّهَادَةِ عِتْقُ أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا جَازَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ، جَازَ تَعْيِينُهُ بِشَهَادَةِ الورثة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 282 لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَعِتْقِ غَانِمٍ وَرِقِّ سَالِمٍ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ. كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كُلِّ هَذَا، إِذَا شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ أَحَدِهِمَا وَأَوْصَى بِعِتْقِ نَافِعٍ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ سَالِمٍ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي غَانِمٍ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، لِأَنَّهمَا أَطْلَقَا الرُّجُوعَ وَلَمْ يُعَيِّنَاهُ فِي غَانِمٍ وَثَبَتَتْ بِهِمَا الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ نَافِعٍ، وَقَدْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ غَانِمٍ وَإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالِمٍ، فَيَرِقُّ سَالِمٌ، وَيُقْرَعُ بَيْنَ غَانِمٍ وَنَافِعٍ وَيُعْتَقُ مِنْهُمَا مِنْ قَرَعَ وَيُرَقُّ الْآخَرُ. فَإِنْ شَهِدَ الْوَارِثَانِ بِرُجُوعِهِ عَنْ عِتْقِ نَافِعٍ، جَازَ وَتَعَيَّنَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ غَانِمٍ. وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ غَانِمٍ، وَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ عِتْقِ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّه لَوْ لَمْ يَرْجِعْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَالرُّجُوعُ إِذَا لَمْ يُعِيِّنْ يَقْتَضِي الْإِقْرَاعَ، فَبَطَلَ تَأْثِيرُ الشهادة بالرجوع. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ الثُّلُثُ وَصِيَّةً وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ فِيهِ وَأَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ السُّدُسُ عَتَقَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لِلْجَرِّ إِلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَبْطَلْتُ حَقَّهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِالْإِقْرَارِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَرَثَةِ بِالرُّجُوعِ فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يُتَّهَمَا، وَرَدَّهَا إِذَا اتُّهِمُوا، وَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَشْهَدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَقِيمَتُهُ الثُّلُثُ، وَيَشْهَدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ سَالَمٍ وَأَعْتَقَ غَانِمًا وَقِيمَتُهُ السُّدُسُ، فَقَدْ صَارَا بِشَهَادَتِهِمَا مُتَّهَمَيْنِ، لِأَنَّهمَا جَرًّا بِهَا بِسُدُسِ التَّرِكَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمَا، فَتَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهِمَا فِي نِصْفِ الرُّجُوعِ وَهُوَ السُّدُسُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ إِذَا رُدَّتْ بِالتُّهْمَةِ فِي بَعْضِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، هَلْ يُوجِبُ رَدُّهَا فِي بَاقِيهِ؟ قَوْلَانِ. كَشَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُمَا وَأَجْنَبِيَّةً، رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَذْفِ أُمِّهِمَا لِلتُّهْمَةِ وَهَلْ تُرَدُّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ تبعيض الشهادة في هذه المسألة على القولين: أحدهما: أنها ترد في جميع وَلَا تَبْعِيضَ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعَلَى هَذَا تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي كُلِّ الرُّجُوعِ، وَيُعْتَقُ فِي التَّرِكَةِ سالم الجزء: 17 ¦ الصفحة: 283 بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَيُعْتَقُ غَانِمٌ عَلَى الْوَارِثَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَبْعِيضُ الشَّهَادَةِ هَاهُنَا كَمَا بَعَّضَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَذْفِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ بِالرُّجُوعِ فِي نِصْفِ سَالِمٍ " وَتُقْبَلُ فِي الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ. " وَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِالْوَصِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، وَيُرَقُّ نِصْفُهُ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ، وَيُعْتَقُ جَمِيعُ غَانِمٍ بِشَهَادَةِ الْوَارِثَيْنِ وَقَدِ اسْتَوْعَبَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنْ كَانَ تَبْعِيضُهَا فِي الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مُعْتَبَرًا بِأَنَّ التُّهْمَةَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى صِفَةِ الشَّاهِدِ رُدَّتْ، وَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا كَالْعَدَاوَةِ، وَإِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى صِفَةِ الْمَشْهُودِ فِيهِ جَازَ تَبْعِيضُهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالتُّهْمَةُ هَاهُنَا فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ دُونَ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَرُدَّتْ جَمِيعُهَا وَلَمْ تُبَعَّضْ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا، إِذَا شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ نِصْفُ التَّرِكَةِ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ وَأَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْأَوَّلِ وَفِي عِتْقِ الثَّانِي فِي الثُّلُثِ وَتَنْتَفِي عَنْهُمَا التُّهْمَةُ فِي الرُّجُوعِ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّها مَرْدُودَةٌ بِالشَّرْعِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الرُّجُوعِ بِالْكُلِّ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَقُولَا أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْأَوَّلِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَسْتَوْظِفَ الثُّلُثَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفْتِينَ إِنَّ شَهَادَةَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَالْوَرَثَةِ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَجُرَّ إِلَى أَنْفُسِهِمَا ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْوَرَثَةِ بِالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ مَقْبُولَةٌ كَالْأَجَانِبِ إِذَا لَمْ يَجْرُّوا بِهِمَا نَفْعًا، فَإِذَا شَهِدَ الْأَجَانِبُ بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ الْوَرَثَةُ بِعِتْقِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ السُّدُسُ، وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ رَجِعَ عَنْ عِتْقِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَالشَّهَادَتَانِ ثَابِتَتَانِ بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ يَسْتَوْعِبَانِ نِصْفَ التَّرِكَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِي تَحْرِيرِ الْعَبْدِ حَالُ الشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِعِتْقٍ بَاتٍّ فِي الْحَيَاةِ، وَشَهَادَةُ الْوَرَثَةِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ بِالْوَصِيَّةِ السُّدُسِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيُسْتَوْعَبُ الثُّلُثُ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ فِي صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ صَاحِبِ السُّدُسِ لِتَقَدُّمِ النَّاجِزِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَشَهَادَةُ الْوَارِثَيْنِ لِصَاحِبِ السُّدُسِ بِعِتْقِهِ بات في الحياة فيعتق [جميع] صاحب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 284 السُّدُسِ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُهُ اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ، وَيُرَقُّ بَاقِيهِ وَهُوَ النِّصْفُ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ بِالْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ الْعَبْدَيْنِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَيَسْتَوِي فِيهِمَا مَنْ تَقَدَّمَتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَمَنْ تَأَخَّرَتْ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِيَسْتَوْظِفَ الثُّلُثَ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَرَعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ جَمِيعُ الْآخَرِ، وَإِنْ قَرَعَ صَاحِبُ السُّدُسِ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَبَعْضُ صَاحِبِ الثُّلُثِ اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ، وَرُقَّ بَاقِيهِ وَهُوَ نِصْفُهُ. وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ بِالْعِتْقِ الْبَاتِّ فِي الْحَيَاةِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى وُقُوعِ عِتْقِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَتَحَرَّرُ بِالْقُرْعَةِ لِيَسْتَكْمِلَ الثُّلُثَ بِعِتْقِ الْقَارِعِ وَرِقِّ الْمَقْرُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى عِتْقِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَيَعْلَمُ بِهَا الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ فَيْسَتَوْظِفَ الثُّلُثَ بِالْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ الثُّلُثِ عُتِقَ جَمِيعُهُ وَرُقَّ صَاحِبُ السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ صَاحِبُ السُّدُسِ، عُتِقَ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ، اسْتِكْمَالًا لِلثُّلُثِ وَيَرِقُّ نِصْفُهُ الْبَاقِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَدُلَّ الشَّهَادَتَانِ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِيُسْتَوْظَفَ الثُّلُثُ بِعِتْقِ الْقَارِعِ وَرِقِّ الْمَقْرُوعِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ. فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ رُبُعُهُ. وَبَيَانُهُ: أَنْ نُنَزِّلَهَا تَنْزِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ وَيُرَقُّ صَاحِبُ السُّدُسِ كُلِّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ السُّدُسِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُهُ وَنِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَيَتَحَرَّرُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ أَنَّهُ عُتِقَ نِصْفُ صَاحِبِ الثُّلُثِ يَقِينًا. وَتَعَارُضَ التَّنْزِيلَانِ فِي صَاحِبِ السُّدُسِ وَنِصْفِ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَهُمَا فِي الْقِيمَةِ مُتَسَاوِيَانِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ السُّدُسُ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُهُ وَمِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفُهُ، فَيَصِيرُ النِّصْفُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفَهُ. وَمِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَقِيمَةُ صَاحِبِ السُّدُسِ خَمْسَةُ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 285 دنانير، وقد خلف المعتق سواهما خمسة عشرة دِينَارًا، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ مَعَ قِيمَتِهِمَا ثَلَاثِينَ دِينَارًا، ثُلُثُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ، وَيُعْتَقُ مِنْ صَاحِبِ السُّدُسِ نِصْفُهُ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ، فَتَصِيرُ قِيمَةُ الْمُعْتِقِ مِنْهُمَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ هِيَ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ رُبُعُ صَاحِبِ الثُّلُثِ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ وَنِصْفُ صَاحِبِ السُّدُسِ بِدِينَارَيْنِ وَنِصْفٍ يُضَافَانِ إِلَى خَمْسَةَ عشرة دِينَارًا يَصِيرُ عِشْرِينَ دِينَارًا هِيَ مِثْلَا مَا خرج بالعتق. ( [الْقَوْلُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ] ) (مَسْأَلَةٌ) : قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَآخَرَانِ لَآخَرَ بِالثُّلُثِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ أَحَدِهِمَا فَالثُلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو، صَحَّتِ الشَّهَادَتَانِ بِثُلُثِ الْمَالِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّتَانِ بِثُلُثَيِ الْمَالِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنْ إِجَازَةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ جُعِلَ الثُّلُثُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَقْرَعْ بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُرِعَ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ دُخُولَ الْقُرْعَةِ فِي الْعِتْقِ دُونَ التَّمْلِيكِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ كَمَالُ أَحْكَامِ الْمُعْتَقِ وَلَا يَكْمُلُ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ فِيهِ، فَأُقْرِعَ لِكَمَالِ أَحْكَامِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْوَصِيَّةِ نَفْعُ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِتَبْعِيضِ الْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يُقْرَعْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ. فَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ أَوْ أجنبيان أنه رجع عن الوصية بالثلث بالثلث لزيدإلى الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِعَمْرٍو، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَصَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِعَمْرٍو. فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ أنه رجع عن الوصية بالثلث لعمرو وصى بِالثُّلُثِ لِبَكْرٍ، صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِبَكْرٍ، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ أَجَانِبَ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِزَيْدٍ بِالثُّلُثِ وَشَهِدَ آخَرَانِ لِعَمْرٍو بِالثُّلُثِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، لَمْ تَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بالرجوع تأثير، وبطل حكمهما. وَجُعِلَ الثُّلُثُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو. (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْوَرَثَةِ مِنْ إِجَازَتِهَا، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلْ فِي الْمَالِ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْعِتْقِ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا أَنْ يُغَلَّبَ مَا لَا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 286 تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، لِأَنَّ دُخُولَهَا رُخْصَةٌ، فَإِذَا امْتَنَعَتِ الْقُرْعَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمَا، فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَيُدْفَعُ إِلَى زَيْدٍ السُّدُسُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُغَلِّبَ الْعِتْقَ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَيُعْتِقُ جَمِيعَ الْعَبْدِ وَتُرَدُّ جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ لِلْعِتْقِ مَزِيَّةٌ بِالسِّرَايَةِ إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ فَقُدِّمَ عَلَى الْوَصَايَا. فَلَوْ شَهِدَ وَارِثَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي رَدِّ الْعِتْقِ. وَأُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ شَهِدَا بِالرُّجُوعِ فِي الثُّلُثِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَأُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهَذَا الرُّجُوعِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا شَهِدَ شاهدان أنه دبر عبده سالما وهو الثلث، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتِقُ مِنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّدْبِيرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، لِوُقُوعِ الْعِتْقِ فِيهِ بِالْمَوْتِ، فَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ، وَيُرَقُّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ غَانِمًا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أقوال: أحدهما: أَنَّهُ يُقَدَّمُ التَّدْبِيرَ فَيُسْتَوْظَفُ بِهِ الثُّلُثُ، وَيُرَقُّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَقُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي الثُّلُثِ فَيُدْفَعُ ثُلُثُ الثُّلُثِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ وَيُقْرَعُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ فِي ثُلُثَيِ الثُّلُثِ، فَإِذَا قَرَعَ أَحَدُهُمَا عُتِقَ ثُلُثَاهُ ورق ثلثه وجميع الآخر. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي الشَّهَادَاتِ فِي الْعِتْقِ وَالْحُدُودِ إِمْلَاءً وَإِذَا شَهِدَا أَنَ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ فَلَمْ يُعَدَّلَا فَسَأَلَ الْعَبْدُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ أُجِّرَ وَوُقِفَتْ إِجَارَتُهُ فَإِنْ تَمَّ عِتْقُهُ أَخَذَهَا وَإِنْ رُقَّ أَخَذَهَا السَّيِّدُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ عِتْقَهُ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِعِتْقِهِ شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيِ الْعَدَالَةِ، فَسَأَلَ الْعَبْدُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَدَالَةُ لِيُحْكَمَ بِعِتْقِهِ، أُجِيبَ إِلَى الْإِحَالَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّيِّدِ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَدَالَةُ لِأَمْرَيْنِ: - الجزء: 17 ¦ الصفحة: 287 أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ قَدْ قَامَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ كَشْفِ الْعَدَالَةِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الشَّهَادَةِ صِحَّتُهَا، وَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُبَاعَ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ أَنْ تُوطَأَ. فَإِذَا أُحِيلَ بَيْنَهُمَا، لَزِمَ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَظْهِرَ لِلسَّيِّدِ بِأَمْرَيْنِ كَمَا اسْتَظْهَرَ لِلْعَبْدِ بِالْمَنْعِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ نِيَابَةً عَنْ يَدِ السَّيِّدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَجِّرَهُ بِأُجْرَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَيُوقِفُ بَاقِيهَا عَلَى عَدَالَةِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا حُكِمَ بِعِتْقِهِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بَاقِي أُجْرَتِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ فِسْقُهُمَا حُكِمَ بِرِقِّهِ وَإِعَادَتِهِ إِلَى سَيِّدِهِ مَعَ بَقِيَّةِ أُجْرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا عَدَالَةٌ وَلَا فِسْقٌ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْوَقْفِ مَا بَقِيَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْجَهَالَةِ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْعِتْقِ مِنْ دَيْنٍ مُدَّعًى، وَأَقَامَ مُدَّعِيهِ شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيِ الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، فَوَقَفَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْكَشْفِ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي حَبْسَ خَصْمِهِ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى الْعَدَالَةِ أُجِيبَ إِلَيْهَا اعْتِبَارًا بِعَدَالَةِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى 7 تَثْبُتَ عَدَالَةُ الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِحَبْسِهِ غَايَةً إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْحَقَّ، أَوْ يَثْبُتَ الْفِسْقَ وَيُطْلَقَ. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ وَادَّعَى شَاهِدًا قَرِيبًا فَالْقَوْلُ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا وَصَفْتُ فِي الْوَقْفِ، وَالثَّانِي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ سَيِّدُهُ وَيَحْلِفُ لَهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي لِلْعِتْقِ شَاهِدًا عَلَى عِتْقِهِ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ، فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْعَدَدِ كَبَيِّنَةِ الْعَدَالَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجَابُ إِلَيْهِ لِأَنَّه قَدْ أَتَى فِي كَمَالِ الْعَدَدِ بِمَا عَلَيْهِ، وَبَقِيَ مَا عَلَى الْحَاكِمِ مِنْ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ بِمَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمَا سَأَلَ. فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّهُ لَا يُجَابُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ الَّذِي أَقَامَهُ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَجْهُولَهَا، وَيَحْلِفُ السَّيِّدُ عَلَى إِنْكَارِ الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ عَلَى الرِّقِّ. وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّاهِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَجْهُولَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ، حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ إلى مدة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 288 ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَقَامَ الشَّاهِدَ الْآخَرَ حُكِمَ لَهُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهُ أُحْلِفَ السَّيِّدَ عَلَى إِنْكَارِ الْعِتْقِ، وَأُعِيدَ الْعَبْدُ إِلَى يَدِهِ عَلَى الرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ الَّذِي أَقَامَهُ مَجْهُولَ الْعَدَالَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي جَوَازِ الْإِحَالَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا اعْتِبَارًا بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِ. وَالْوَجْهُ القاني: أَنْ لَا يُحَالَ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَدِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي فَيَسْقُطُ بِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِّ أَيْتَامٍ فَأَقَامَ مُدَّعِيهِ شَاهِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَ حَبْسَ خَصْمِهِ عَلَى إِقَامَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ، فَفِي جَوَازِ حَبْسِهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُحْبَسُ بِهِ. وَالثَّانِي: يُحْبَسُ إِلَى مُدَّةِ ثلاث أَيَّامٍ ثُمَّ يُطْلَقُ إِنْ لَمْ يُقِمِ الْآخَرَ. وإن كان الحق ما يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَبْسِ الْخَصْمِ فِيهِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَيَسْتَحِقَّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ، لِأَنَّه لَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ لِعَجَّلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَصْلٌ) : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِعَمْرٍو، وَلْيَحْلِفْ مَعَهُ عَمْرٌو، فَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ بَيِّنَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، فَإِذَا قَابَلَتَ شَاهِدَيْنِ فَفِي مُزَاحَمَتِهِمَا لَهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُزَاحِمُهُمَا، لِأَنَّها بَيِّنَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ كَالشَّاهِدَيْنِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنِ عَمْرٍو وَزَيْدٍ نِصْفَيْنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ لَا يُزَاحِمُ الشَّاهِدَيْنِ لِكَمَالِ الشَّاهِدَيْنِ وَقُصُورِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لِعَمْرٍو وَحَلَفَ مَعَهُ عَمْرٌو، صَحَّ الرُّجُوعُ وَالْوَصِيَّةُ لِعَمْرٍو بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّه لَيْسَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ هَاهُنَا مُزَاحَمَةٌ لِلشَّاهِدَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيِّنَةٌ بِرُجُوعٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 289 وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قُتِلَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْقَتْلِ وَتُسْقَطُ شَهَادَةُ الْمَوْتِ. لِأَنَّهمَا أَزْيَدُ عِلْمًا فَيَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فِيمَا شَهِدَ لِأَنَّه لَا اسْتِحَالَةَ أَنْ يَمُوتَ مَقْتُولٌ أَوْ يُقْتَلَ مَيِّتٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدَ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ لِأَجْلِ الِاسْتِحَالَةِ. فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ مُتُّ فِي رَمَضَانَ فَسَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مُتُّ فِي شَوَّالٍ فَغَانِمٌ حُرٌّ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي رَمَضَانَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَارَضَتِ الشَّهَادَتَانِ بِتَنَافِيهِمَا وَيُعْمَلُ فِي الْعِتْقِ عَلَى تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ بِمَوْتِهِ فِي رَمَضَانَ، لِأَنَّه أَزْيَدُ عِلْمًا،. وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ صَدَّقَ الْوَرَثَةُ الثَّانِي عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمَوْتِهِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ مُتُّ فِي مَرَضِي هَذَا فَعَبْدِي سَالِمٌ حُرٌّ، وَإِنْ مُتُّ فِي غَيْرِهِ فَعَبْدِي غَانِمٌ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ مَاتَ فِي غَيْرِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَعِتْقُ أَحَدِهِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَيَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ أَثْبَتُوا عِتْقَ أَحَدِهِمَا عُمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى بَيَانِهِمْ وَحُكِمَ بِرِقِّ الْآخَرِ، وَلَهُ إِحْلَافُهُمْ، وَإِنْ عَدِمَ بَيَانُ الْوَرَثَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَعُتِقَ الْقَارِعُ وَرُقَّ الْمَقْرُوعُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَيُحْكَمُ بِأَسْبَقِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَيُعْتَقُ أول العبدين والله أعلم بالصواب. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 290 (مختصر من جامع الدعوى والبينات) (إملاء على كتاب ابن القاسم ومن كتاب الدعوى) (إملاء على كتاب أبي حنيفة ومن اختلاف الأحاديث ومن اختلاف ابن أبي ليلى وأبي حنيفة ومن مسائل شتى سمعتها لفظا) (مسألة) : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرْنَا مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَحْسَبُهُ قَالَ وَلَا أُثْبِتُهُ قَالَ " وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عليه ". ابن حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا فِي بَيْتٍ تَخْرُزَانِ لَيْسَ مَعَهُمَا فِيهِ غَيْرُهُمَا فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ طُعِنَتْ فِي كَفِّهَا بِأشْفًى حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِ كَفِّهَا، تَقُولُ طَعَنَتْهَا صَاحِبَتُهَا، وَتُنْكِرُ الْأُخْرَى قَالَ: فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِمَا، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: لَا تُعْطِ شَيْئًا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ رِجَالٍ وَدِمَاءَهُمْ لَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَكَمَلَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " مَعَ مَا قُدِّمَ مِنَ التَّعْلِيلِ. رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بَعْضٍ فَأَقْضِيَ عَلَى مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ". وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ دَعْوَى كَانَتْ فِي الْأَرْضِ دَعْوَى قَابِيلَ بْنِ آدَمَ عَلَى أَخِيهِ هَابِيلَ، أَنَّهُ أَحَقُّ بِنِكَاحِ تَوْأَمَتِهِ مِنْهُ، فَتَنَازَعَا إِلَى آدَمَ فَأَمَرَهُمَا بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] فَأَفْضَى تَنَازُعُهُمَا إِلَى الْقَتْلِ فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فِي الْأَرْضِ. (فَصْلٌ) : وَحَدُّ الدَّعْوَى أَنَّهُ طَلَبُ مَا يُذْكَرُ اسْتِحْقَاقُهُ، وَسُمِّيَتْ دَعْوَى، لِأَنَّه قَدْ دعاه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 291 إِلَى نَفْسِهِ، وَالدَّعْوَى تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مُدَّعٍ، مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمُدَّعًى بِهِ، وَمُدَّعًى عِنْدَهُ. فَأَمَّا الْمُدَّعِي: فَهُوَ الطَّالِبُ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا فِي يَدِهِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ. وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ شَيْئًا فِي يَدِهِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ. وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الطَّالِبِ، وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ، أَنَّ الطَّالِبَ إِذَا تَارَكَ تُرِكَ وَالْمَطْلُوبَ إِذَا تَارَكَ لَمْ يُتْرَكْ. وَأَمَّا الْمُدَّعَى بِهِ فَهُوَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الْمُدَّعَى عِنْدَهُ فَهُوَ مَنْ نَفَذَ حُكْمُهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ أَمِيرٍ. (فَصْلٌ) : وَالدَّعْوَى عَلَى سِتَّةٍ أَضْرُبٍ: صَحِيحَةٌ، وَفَاسِدَةٌ، وَمُجْمَلَةٌ، وَنَاقِصَةٌ، وَزَائِدَةٌ، وَكَاذِبَةٌ. فَأَمَّا الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ فَضَرْبَانِ: دَعْوَى اسْتِحْقَاقٍ، وَدَعْوَى اعْتِرَاضٍ. فَأَمَّا دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى عَيْنٍ فِي الْيَدِ. وَالثَّانِي: إِلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى عَيْنٍ فِي الْيَدِ فَضَرْبَانِ: مَنْقُولٌ، وَغَيْرُ مَنْقُولٍ فَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَضَرْبَانِ: حَاضِرٌ، وَغَائِبٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةٌ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، كَعَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ، أَغْنَتِ الْإِشَارَةُ عَنْ صِفَتِهَا، وَعَنْ ذِكْرِ قِيمَتِهَا فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي غَصْبٍ صَحَّتِ الدَّعْوَى، إِذَا قَالَ غَصَبَنِي هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي وَدِيعَةٍ فَقَالَ: أَوْدَعْتُهُ هَذَا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي ابْتِيَاعٍ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا دَعْوَى الْعَقْدِ، كَانَ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى ذِكْرُ قَدْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ كَانَ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحِنْطَةِ، اقْتُصِرَ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ، ثُمَّ صار الحكم فيها كالعين والحاضرة، وإن كانت من غير ذوات المثال، كَالْجَوَاهِرِ لَزِمَهُ فِي تَعْيِينِهَا ذِكْرُ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَمَا يُضْبَطُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهَا فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ قِيمَتِهَا، لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَارِيَةً أَوْ غَصْبًا لَزِمَهُ فِي التَّعْيِينِ ذِكْرُ قِيمَتِهَا، لِضَمَانِ الْعَارِيَةِ وَالْغَصْبِ بِالْقِيمَةِ، الجزء: 17 ¦ الصفحة: 292 وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً لَزِمَهُ فِي التَّعْيِينِ ذِكْرُ ثَمَنِهَا لِضَمَانِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْقُولِ كَدَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ، فَتَعْيِينُهَا فِي الدَّعْوَى يَكُونُ بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ، وَالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ: لِتَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَا يُغْنِيَ ذِكْرُ النَّاحِيَةِ عَنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ، وَلَا ذِكْرُ الْحُدُودِ عَنْ ذِكْرِ النَّاحِيَةِ، وَلَا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ الْحُدُودِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهَا فَتَصِيرُ بِذِكْرِ النَّاحِيَةِ وَالْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مَشْهُورَةً بِاسْمِهَا مُتَمَيِّزَةً بِهِ عَنْ غَيْرِهَا، " كَدَارِ النَّدْوَةِ " بِمَكَّةَ وَ " دَارِ الْخَيْزُرَانِ " فَيُغْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا عَنْ ذِكْرِ حُدُودِهَا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النَّاحِيَةُ وَالْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ، صَحَّ دَعْوَاهَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهَا غَيْرُهَا فِي حُدُودِهَا، كَمَا إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ بِاسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهُ، وَقَبِيلَتِهِ، وَصِنَاعَتِهِ، صَحَّ، وَتَمَيَّزَ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي الِاسْمِ، وَالنَّسَبِ، لِأَنَّه غَايَةُ الْمُمْكِنِ وَلِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ نَادِرَةٌ، ثُمَّ صِحَّةُ دَعَوَاهَا بعد تحديدها معتبرة بشرطين: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا مِلْكُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهُوَ إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ السَّبَبَ الَّذِي صَارَتْ بِهِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَيْنَ أَنْ يُطْلِقَهُ. (فَصْلٌ) : وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِمَالٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الْأَمْثَالِ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، أَوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُثْبَتَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا، أَوْ يُضْمَنَ فِي الْعَمْدِ بِمِثْلِهِ، فَيَلْزَمُهُ فِي الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ الْجِنْسَ وَالنَّوْعَ، وَالصِّفَةَ، وَالْقَدَرَ، بِمَا يَصِيرُ بِهِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَعْلُومًا، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ لَا يَذْكُرَ فَتَكُونُ صِحَّةُ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةً بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ كَذَا وَيَصِفَهُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ وَهُوَ حَالٌّ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا، وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا صَحَّ دَعْوَى جَمِيعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِبَعْضِهِ وَيَكُونُ الْمُؤَجَّلُ تَبَعًا فَلَوْ كَانَ الْمُؤَجَّلُ فِي عَقْدٍ قُصِدَ بِدَعْوَاهُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، كَالسَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، صَحَّتْ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَالِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: وَقَدْ مَنَعَنِي، أَوْ أَخَّرَهُ عَنِّي فَإِنْ قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرْتُ صَحَّ، لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مَانِعٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 293 يَقُولُ: وَأَنَا أَسْأَلُ الْقَاضِي، أَنْ يُلْزِمَهُ الْخُرُوجَ إِلَيَّ مِنْ حَقِّي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودُ بِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ خَبَرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، كَاللُّؤْلُؤِ، وَالْجَوْهَرِ، فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى عَيْنِهِ، لِأَنَّها لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِالدَّعْوَى ثُبُوتَ عِوَضِهَا، لِأَنَّها مَغْصُوبَةٌ، فَتَصِحُّ دَعْوَاهَا بِذِكْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ تَكُونَ عَنْ سَلَمٍ فَاسِدٍ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى بِرَدِّ ثَمَنِهَا، وَيَكُونُ ذِكْرُهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعِوَضِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِحَّ فِي الشَّرْعِ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَى ثِيَابٍ، فَيَلْزَمُهُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِفَهَا بِأَوْصَافِهَا الْمُسْتَحَقَّةِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَنْ عَقْدِ سَلَمٍ، يَذْكُرُ فِيهِ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ. ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَهَا مَا يُوجِبُهُ مَقْصُودُ الدَّعْوَى فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ عَنْ سَلَمٍ، لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى أَعْيَانِهَا، لِأَنَّها قَدْ تَكُونُ مَغْصُوبَةً تُوجِبُ غُرْمَ قِيمَتِهَا، فَيَلْزَمُهُ مَعَ ذِكْرِ الصِّفَةِ أَنْ يَذْكُرَ الْقِيمَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِبِلُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الدِّيَةِ وَالْغُرَّةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْجَنِينِ، فَلَا يَلْزَمْهُ صِفَتُهَا فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ أَوْصَافَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالشَّرْعِ، وَصِحَّةِ الدَّعْوَى فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَنْ جِنَايَةٍ يَصِفُهَا بِعَمْدٍ، أَوْ خَطَأٍ، لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا بِالْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْجَانِي فِي الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَأِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهَا عَلَى حُرٍّ، لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّ الْمُجْهِضَةَ لِجَنِينِهَا حُرَّةٌ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا وَصَفْنَا فِيهِ الْجِنَايَةَ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ جِرَاحٍ تَقَدَّرَتْ دِيَتُهُ بِالشَّرْعِ، كَالْمُوَضِّحَةِ، وَالْجَائِفَةِ، فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّعْوَى عَفْوًا عَنِ الْقِصَّاصِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا لَا تَتَقَدَّرُ دِيَتُهُ بِالشَّرْعِ، كَانَتْ دَعْوَاهُ مَقْصُورَةً عَلَى وَصْفِ الجزء: 17 ¦ الصفحة: 294 الْجِنَايَةِ، وَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ، بِقَدْرِ أَرْشِهَا لِأَنَّها مُقَدَّرَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عَبْدٍ اسْتَحَقَّ فِيهَا الْقِيمَةَ فَيَذْكُرُ قَدْرَ قِيمَتِهِ لِيَعْلَمَ بِهَا دِيَةَ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي جَنِينِ أَمَةٍ، ذَكَرَ فِي الدَّعْوَى قَدْرَ قِيمَتِهَا، لِأَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَتِهَا، ثُمَّ تُسْتَوْفَى شُرُوطُ الْمَقْصُودِ بِالدَّعْوَى فَهَذَا حُكْمُ دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا دَعْوَى الِاعْتِرَاضِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَا فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي: إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ. فَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى مَا فِي يَدِهِ، فَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مُعَارَضَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ بِمَا لَا يُسْتَضَرُّ بِهِ الْمُدَّعِي لَمْ تَصْحَّ الدَّعْوَى مِنْهُ. وَإِنْ كَانَتْ بِمَا يُسْتَضَرُّ بِهِ الْمُدَّعِي إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ إِلَى مِلْكِهِ، وَإِمَّا بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَإِمَّا بِمُلَازَمَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ بِقَطْعِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ صَحَّتْ دَعْوَاهُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَصِفَ الْمِلْكَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ متعينا منقول وَغَيْرَ مَنْقُولٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَهُ وَفِي مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يَمْلِكُهُ، أَوْ لَمْ يَسْتَتِبُّهُ مَالِكُهُ فِيهِ لَا يُمْنَعُ من المعارضة فيه. والثالث: أن يذكر المعارض لَهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِنْ كَانَ حَاضِرًا، أَوْ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا. وَالرَّابِعُ: أَنْ يذكر المعارضة هَلْ هِيَ فِي الْمِلْكِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ؟ لِأَجْلِ الْمِلْكِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يذكر أنه عارضه بغير حق لأنه ربما استحق المعارضة بِرَهْنٍ، أَوْ إِجَارَةٍ حَتَّى لَا يَتَّقِيَ فِي دَعْوَاهُ مَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ لِيَعْدِلَ بِسُؤَالِهِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَوَجُّهُ الدَّعْوَى إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، لِأَنَّه قَدْ طُولِبَ بِمَا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ بِالْمُطَالَبَةِ ضَرَرٌ، لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَحِقَهُ بِهَا ضَرَرٌ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ بِالْمُلَازِمَةِ، أَوْ فِي جَاهِهِ بِالْإِشَاعَةِ، وَإِمَّا فِي مَالِهِ بِالْمُعَارَضَةِ صَحَّتْ مِنْهُ الدَّعْوَى لِيَسْتَدْفِعَ بِهَا الضَّرَرَ وَصِحَّتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ مَا طُولِبَ بِهِ، إِمَّا مُفَسَّرًا، أَوْ مُجْمَلًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى مَا سِوَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَقِّ لَا تُرَدُّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 295 وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الدَّعْوَى لِيَكُونَ الْكَفُّ عَنْهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ مَا يَكْمُلُ بِهِ جَمِيعُ الدَّعَاوَى، سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَهُ في الجواب، عن دعوى هذه المعارضة، ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَرِفَ بِجَمِيعِ مَا تضمنها فيمنعه الحاكم من معارضته. والحال الثانية: أن ينكر المعارضة فيخلي سبيله، فلا يمين عليه لأن لا يتعلق بالمعارضة اسْتِحْقَاقُ غُرْمٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يعارضه فِيهِ بِحَقٍّ يَصِفُهُ، فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُدَّعِيًا. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ضُرُوبًا أَغْفَلْنَاهَا اقْتِصَارًا وَتَعْوِيلًا بِهَا عَلَى اعْتِبَارِ مَا بَيَّنَاهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى. وَالثَّالِثُ: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى سَبَبِ الدَّعْوَى. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فِي عَوْدِ فَسَادِهِ إِلَى الْمُدَّعِي، فَكَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ حُرٍّ وَاجِدٍ الطَّوْلَ ادَّعَى نِكَاحَ أَمَةٍ، فَهَذِهِ دَعْوَى فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَجُوسِيَّةً، وَالْوَاجِدُ الطَّوْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةً، فَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ لِامْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْهُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: فِيمَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا تَقِرُّ عَلَيْهِ يَدٌ كَالْخَمْرِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالسِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ،. فَدَعَوَاهُ فَاسِدَةٌ، لِوُجُوبِ رَفْعِ الْيَدِ عَنْهَا فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ، أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدَّعِي مَا تَقَرُّ عَلَيْهِ اليد، ولا تصح العارضة عَنْهُ كَجُلُودِ الْمَيِّتَةِ، وَالسِّرَاجِينِ، وَالسِّمَادِ، وَالنَّجِسِ، وَالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ، تَقِرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيِّتَةِ، إِذَا دُبِغَتْ، وَبِالسَّمَادِ، وَالسِّرَاجِينِ فِي الزُّرُوعِ، وَالشَّجَرِ، وَالْكِلَابِ فِي الصَّيْدِ، وَالْمَوَاشِي، وَاخْتُلِفَ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتِ الْجُلُودُ مِنْ أَمْوَاتِ حَيَوَانٍ، وَالسِّرَاجِينُ مِنْ أَرْوَاثِ بَهَائِمِهِ، هَلْ تَكُونُ يَدُ مِلْكٍ أَوْ يَدِ انْتِفَاعٍ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهَا يَدُ انْتِفَاعٍ لَا يَدُ مِلْكٍ لخروجها عن معارضة الْأَمْلَاكِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا يَدُ مِلْكٍ لِأَنَّه أَحَقُّ بِهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 296 وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مِلْكًا يُعْتَاضُ عَنْهُ، وَيَصِيرُ فِي الثَّانِي يُعْتَاضُ عَنْهُ كَجُلُودِ الْمَيْتَةِ كَانَتِ الْيَدُ عَلَيْهَا يَدُ مِلْكٍ اعتبارا بالطرفين وما خرج عن أملاك المعارضة فِي طَرَفَيْهِ، كَالْكِلَابِ، وَالْأَنْجَاسِ، كَانَتِ الْيَدُ عَلَيْهَا يَدُ انْتِفَاعٍ لَا يَدَ مِلْكٍ فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا.، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى فِيهِ بَاطِلَةً، لِأَنَّه لَا يُسْتَحَقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ، وَلَا قِيمَةٌ، وَإِنْ كانت باقية لم يخل أن يدعيها بمعارضة، أَوْ غَيْرِ مُعَاوِضَةٍ. فَإِنِ ادَّعَاهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَنَّهُ ابْتَاعَهَا، كَانَتِ الدَّعْوَى فَاسِدَةٌ، لِأَنَّها لَا تُمْلَكُ بِالِابْتِيَاعِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا، فَتَكُونُ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ بِهِ، وَإِنِ ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَقَدْ تَصِحُّ دَعْوَاهَا فِي أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُغْصَبَ مِنْهُ، فَتَصِحُّ دَعْوَى غَصْبِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهَا، فَتَصِحُّ دَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُوهَبَ لَهُ، فَتَصِحُّ دَعْوَى هِبَتِهَا. فَإِنْ أَطْلَقَ الدَّعْوَى وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، بِمَا تَصِحُّ بِهِ أَوْ تَفْسُدَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيمَا يَكُونُ مِنَ الْحَاكِمِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَفْسِرُ لِيَعْمَلَ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي صِحَّتِهَا، وَفَسَادِهَا، لِأَنَّه مَنْدُوبٌ لِفَصْلِ مَا اشْتَبَهَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَهُ مُتَوَقِّفًا عَنْهُمَا، وَلَا يَسْتَفْسِرَهُ إِيَّاهَا، ليكون هو المبتدىء بِتَفْسِيرِهَا، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ دَعْوَاهُ حَقٌّ لَهُ، يَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ مِلْكًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ كَالْوَقْفِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْحَاكِمُ عَلَى مَالِكٍ لِاسْتِحَالَةِ انْتِقَالِهِ عَنْ مالكه إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ ابْتِيَاعَهُ لِاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ وَيَكُونُ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهِ إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَقْفَ وَأُمَّ الْوَلَدِ عَلَى غَاصِبِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عَلَى مَالِكِهِمَا. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى سَبَبِ الدَّعْوَى وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَقْدٌ - وَمُقْتَضَى عَقْدٍ: فَأَمَّا الْعَقْدُ فَكَالْبَيْعِ، إِذَا ادَّعَى مَا ابْتَاعَهُ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: صَحِيحٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَى فَسَادِهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 297 فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، صَحَّتِ الدَّعْوَى فِيهِ: إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ، فَالدَّعْوَى فِيهِ بَاطِلَةٌ لَا يَسْمَعُهَا إِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَيَسْمَعُهَا إِنْ طَلَبَ مُوجَبَهَا مِنْ رَدِّ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، يَسْمَعُهَا لِيَحْكُمَ فِيهَا بِمَا يؤدي إليه اجتهاده، ومن صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ ورد الثمن. وكذلك الحكم في عقود الإجازات، وَالْمَنَاكِحِ، وَالرُّهُونِ. وَأَمَّا نَقْصُ الْعَقْدِ فَكَالشُّفْعَةِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مُسْتَحَقَّةٌ، وَبَاطِلَةٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا. فَأَمَّا الْمُسْتَحَقَّةُ: فَشُفْعَةُ الْخُلْطَةِ تَصِحُّ دَعْوَاهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ فَالشُّفْعَةُ فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ مَتَاعٍ، أَوْ حَيَوَانٍ فَلَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ مِمَّنْ مِنْهُ الدَّعْوَى. فَإِنْ جَهِلَ الْمُدَّعِي حُكْمَهَا أَخْبَرَهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِيهَا. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَشُفْعَةُ الْجَارِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى وُجُوبَهَا سَمِعَ الدَّعْوَى فِيهَا، وَحَكَمَ بِهَا لِمُدَّعِيهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى وُجُوبَهَا لَمْ يَسْمَعِ الدَّعْوَى فِيهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ عَقْدًا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ بِإِبْطَالِهِ فَلِذَلِكَ سَمِعَ فِيهِ الدَّعْوَى لِيَحْكُمَ بِإِبْطَالِهِ وَرَدِّ مَا تَقَابَضَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الشُّفْعَةِ، لِأَنَّها مُجَرَّدُ دَعْوَى، يَبْطُلُ بِرَدِّهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْمُجْمَلَةُ فَكَقَوْلِهِ: لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَالشَّيْءُ مَجْهُولٌ لِانْطِلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَصَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَلَا يُسْمَعُ دَعْوَى الْمُجْمَلِ وَالْمَجْهُولِ، وَإِنْ سُمِعَ الْإِقْرَارُ، بِالْمُجَمَّلِ وَالْمَجْهُولِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّعْوَى، وَالْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُدَّعِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: إِنَّ مُدَّعِيَ الْمَجْهُولِ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ، وَالْمُقِرُّ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَأُضِرَّ بِهِ. وَلَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُ عَمَّا ادَّعَاهُ مِنْ مُجْمَلٍ، أَوْ مَجْهُولٍ، حتى يكون هو المبتدىء بِتَفْسِيرِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِقْرَارِ الْمَقْصُودِ بِالدَّعْوَى، لِأَنَّ تِلْكَ مَعْلُومَةٌ سُئِلَ فِيهَا عَنْ مَقْصُودِهِ، وَهَذِهِ مَجْهُولَةٌ أَخْفَاهَا لِقَصْدِهِ، فإن قال له فسر ما الجزء: 17 ¦ الصفحة: 298 أجهلت لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّه تَلْقِينٌ وَإِنْ قَالَ لَهُ إِنْ فَسَّرْتَ مَا أَجْمَلْتَ جَازَ لِأَنَّه اسْتِفْهَامٌ، وَالْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَقِّنَ وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَفْهِمَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدَّعْوَى النَّاقِصَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: نُقْصَانُ صِفَةٍ، وَنُقْصَانُ شَرْطٍ. فَأَمَّا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فَكَقَوْلِهِ: لِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَا يَصِفُهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهَا، وَلَا يَحْمِلَهَا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهَا فِي الْبَيْعِ مَحْمُولًا عَلَى الْغَالِبِ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ سَأَلَهُ عَنْهَا أَيْضًا، لِجَوَازِ أَنْ يُعْقَدَ بِغَيْرِهَا. وَأَمَّا نُقْصَانُ الشَّرْطِ فَكَدَعْوَى عَقْدِ نِكَاحٍ، لَا يُذْكَرُ فِيهَا الْوَلِيُّ، أَوِ الشُّهُودُ فَلَا يَسْأَلُهُ الْحَاكِمُ عَنْ نُقْصَانِ الشرط، ويتوقف عن السماع، حتى يكون المبتدىء بِذِكْرِهِ، أَوْ لَا يَذْكُرُهُ فَيَطْرَحُهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ نُقْصَانِ الصِّفَةِ، وَلَا يَسْأَلَهُ عَنْ نُقْصَانِ الشَّرْطِ: أَنَّ نُقْصَانَ الصِّفَةِ لَا يَتَرَدَّدُ ذِكْرُهُ بَيْنَ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ، فَجَازَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ وَنُقْصَانُ الشَّرْطِ يَتَرَدَّدُ ذِكْرُهُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدَّعْوَى الزَّائِدَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ هَدْرًا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ كَقَوْلِهِ: ابْتَعْتُ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ فِي بَلَدِ كَذَا، أَوْ فِي سُوقِ كَذَا، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّعْوَى وَيَطْرَحُ لِلْحَاكِمِ سَمَاعَهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِ: ابْتَعْتُ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنِّي إِنْ وَجَدْتُ بِهِ عَيْبًا رَدَدْتُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّ دَرَكَهُ فَلَا يَمْنَعُ الْحَاكِمُ مِنْ سَمَاعِهَا، وَإِنْ لَمْ تَحْتَجِ الدَّعْوَى إِلَيْهَا بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ رَدِّ الْعَيْبِ، وَدَرْكِ الْمُسْتَحَقِّ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعُقُودِ فَجَرَتِ الدَّعْوَى فِيهِ عَلَى المعهود. والضرب الثلث: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةٌ لِمُوجَبِ الدَّعْوَى. كَقَوْلِهِ: ابْتَعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ إِنِ اسْتَقَالَنِي أَقَلْتُهُ، وَإِنْ رَدَّهَا عَلَيَّ فَسَخْتُهُ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ بِمَخْرَجِهَا مِنْهُ، فَإِنْ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْوَعْدِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، لَمْ تَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَكَانَ ذِكْرُهَا حِكَايَةَ حَالٍ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، أَبْطَلَ بِهَا الدَّعْوَى فَإِنْ قَصَدَ بِهَا تَمَلُّكَ الْمَبِيعِ لَمْ يَسْمَعْهَا وَإِنْ قَصَدَ بِهَا اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنِ سَمِعَهَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ فَهِيَ الْمُسْتَحِيلَةُ: كَمَنِ ادَّعَى وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ نكح بالأمس فلانة بالبصرة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 299 أو ادعى ألآنه وَرِثَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ أَبِيهِ وَقَدْ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. أَوِ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا جَرَحَهُ هَذِهِ الْجِرَاحَةَ فِي يَوْمِهِ، وَفُلَانٌ غَائِبٌ إِلَى نَظَائِرِ هَذَا مِنَ الدَّعَاوَى الْمُمْتَنِعَةِ فَتَكُونُ كَاذِبَةً، يُقْطَعُ بِكَذِبِ مُدَّعِيهَا، لَا يَسْمَعُهَا الْحَاكِمُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْخَصْمُ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَتِهَا، وَتَزُولُ بِهَا عَدَالَةُ الْمُدَّعِي لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الباب، فالدعوى الصحيحة ممنوعة مِنْ كُلِّ جَائِزِ الْأَمْرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، عَلَى كُلِّ جَائِزِ الْأَمْرِ، فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ عُرِفَ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةٌ، أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، وَيُعْدِيهِ الْحَاكِمُ إِذَا اسْتَعْدَاهُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَصَوَّنَ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعْدِ بهِ عَلَى أَهْلِ الصِّيَانَةِ، فَلَا يَسْتَحْضِرْهُ الْحَاكِمُ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً، لِئَلَّا يَسْتَبْذِلَ أَهْلَ الصِّيَانَاتِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ " وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فَأَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ وَتَرَكِ الْمَيْلِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَهْدِهِ إِلَى أبي موسى: آسي بين الناس في وجهك، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضَعِيفٌ فِي عَدْلِكَ. وَقَدِ احْتَكَمَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب عليه السلام وَيَهُودِيٌّ إِلَى شُرَيْحٍ فِي حَالِ خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُسَاوِيَ فِي الْمُحَاكَمَةِ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ خُمُولَ الْمُدَّعِي لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَا حَقٍّ، وَصِيَانَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَقِّ، وَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُوثِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهَا فِي الدَّعَاوَى وَجْهٌ. وَالَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ الْحَاكِمُ فِي تَحَاكُمِ أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَنْ يميزهم عن مجالس العامة، ويفرد لمحاكمتهم مجالسا خَاصًا يُصَانُونَ بِهِ، عَنْ بِذْلَةِ الْعَامَّةِ، يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ، فَلَا تُرَدُّ فِيهِ الدعوى ولا تبتذل فيه الصيانة. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ الشَّيءَ فِي يَدَيِ الرَّجُلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمَنْ هُوَ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّه أَقْوَى سَبَبًا فَإِنِ اسْتَوَى سَبَبُهُمَا فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ فَإِنْ أَقَامَ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ قِيلَ لِصَاحِبِ الْيَدِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا تَجُرُّ إِلَى أَنْفُسِهَا بِشَهَادَتِهَا أَقْوَى مِنْ كَيْنُونَةِ الشَّيءِ فِي يَدَيْكَ وَقَدْ يَكُونُ فِي يَدَيْكَ مَا لَا تَمْلِكُهُ فَهُوَ لِفَضْلِ قُوَةِ سَبَبِهِ عَلَى سَبَبِكَ فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً قِيلَ قَدِ اسْتَوَيْتُمَا فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ والذي الجزء: 17 ¦ الصفحة: 300 الشَّيْءُ فِي يَدَيْهِ أَقْوَى سَبَبَا فَهُوَ لَهُ لِفَضْلِ قُوَةِ سَبَبِهِ وَهَذَا مُعْتَدِلٌ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالسُنَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا فِي رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا دَابَّةً وَأَقَامَ كلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ قَالَ وَسَوَاءٌ التَّدَاعِيَ وَالْبَيِّنَةِ فِي النِّتَاجِ وَغَيْرِهِ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعَاوَى فِي الْمُطَالَبَاتِ لَا يُحْكَمُ فِي فَصْلِهَا إِلَّا بِحُجَّةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا، فحجة المدعي البينة على إثبات ما داعاه، وَحَجَّةُ الْمُدَّعَى 1 عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ مَا أَنْكَرَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". وروى الأعمش عن شفيق بْنِ وَائِلٍ عَنِ الْأَشْعَثِ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ يَهُودِيٍّ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي عَلَيْهَا، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ، فَقُلْتُ لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ. قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ بِمَالِي، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَذَا الْخَبَرِ حُجَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَرَوَى سماك عن علقمة بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَتَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي، وَفِي يَدِي ازْرَعُهَا، لا حق له فيها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ، قَالَ: لَا. فَقَالَ: لَكَ يَمِينُهُ. فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي على ما حلف إنه لا يتورع من شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَاكَ " فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى إِنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ، لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنِ الْبَيِّنَةِ وَتَوَجُّهِهَا إِلَى الْيَمِينِ. وَجَنَبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ جَنَبَةِ الْمُدَّعِي، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَا فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، فَجُعِلَتْ أَقْوَى الْحُجَّتَيْنِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فِي أَضْعَفِ الْجَنَبَتَيْنِ وَهِيَ الْمُدَّعِي، وَجُعِلَتْ أَضْعَفَ الْحُجَّتَيْنِ وَهِيَ الْيَمِينُ فِي أَقْوَى الْجَنَبَتَيْنِ وَهِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِتَكُونَ قُوَّةُ الْحُجَّةِ جُبْرَانًا، لِضَعْفِ الْجَنَبَةِ وَفِي الْجَنَبَةِ جُبْرَانًا لِضَعْفِ الْحُجَّةِ فَتَعَادَلَا فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ. (فَصْلٌ) : وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمُدَّعِي، وَتَحَرَّرَتِ الدَّعْوَى، سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَنِ الدَّعْوَى، وَلَمْ يَسْأَلِ الْمُدَّعِيَ عَنِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّه قَدْ يُقِرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يُحْوَجُ إِلَى الجزء: 17 ¦ الصفحة: 301 الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ، وَأَخْذَهُ بِمُوجِبِهِ، وَقَد ْ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِي: أَلِكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ ذَكَرَهَا أَمَرَهُ بإحضارها، فإن أُحْضِرَتْ سَمِعَ الْحَاكِمُ مِنْهَا وَحَكَمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِهَا، وَقَدَّمَهَا عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَمِينِ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّها لَا تَجُرُّ إِلَى نَفْسِهَا نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ ضَرَرًا، وَالتُّهْمَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى يَمِينِ الْحَالِفِ، لِأَنَّه يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا، وَيَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا. وَالثَّانِي: إِنَ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ بِتَصْرِيحِ الْمِلْكِ، وَتُوجِبُهُ، وَالْيَمِينُ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا تُوجِبُهُ. وَإِنْ عَدِمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَلِفَ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ احْلِفْ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ اسْتِفْهَامٌ. وَأَمْرُهُ تَلْقِينٌ، فَإِنْ حَلَفَ فَصَلَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِيَمِينِهِ، وَسَقَطَتِ الدَّعْوَى فَإِنْ نَكَلَ عَنِ اليمين لم يجبر عيها، وَتُرَدُّ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ نُكُولِهِ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِ الْمُدَّعِي، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، مِنْ غَيْرِ إِحْلَافِ الْمُدَّعِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْيَمِينِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بَدَلًا مِنْ يَمِينِهِ نُظِرَ فِي الدَّعْوَى. فَإِنْ كَانَتْ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّه نَفَى الدَّيْنَ بِإِنْكَارِهِ وَالْبَيِّنَةُ لَا تُسْمَعُ عَلَى النَّفْيِ وَقِيلَ لَهُ لَا بَرَاءَةَ لَكَ مِنَ الدَّعْوَى إِلَّا بِيَمِينِكَ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ فَفِي سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ بَدَلًا مِنْ يَمِينِهِ 14 وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، لِأَنَّه لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا، وَيُسْتَغْنَى بِيَمِينِهِ عَنْهَا. وَالثَّانِي: تَسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهَا وَتَرْتَفِعُ الدَّعْوَى بِهَا، وَتَكُونُ بَيِّنَتُهُ أَوْكَدُ مِنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ جَمَعَتْ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَصَحَّ سَمَاعُهَا مِنْهُ فِي الْأَعْيَانِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يَسْمَعْهَا فِيمَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ لِأَنَّها تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ دُونَ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَالْبَيِّنَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَا تُنْقَلُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَلِذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ. (فَصْلٌ) : فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ، وَأَقَامَ صَاحِبُ اليد بينة، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ وَقَضَى بِبَيِّنَتِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، لِفَضْلِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمِلْكُ مُطْلَقًا، أَوْ مَذْكُورًا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 302 لِسَبَبٍ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ سَبَبُهُ مِمَّا يَتَكَرَّرُ كَصِنَاعَةِ الْأَوَانِي، وَمَا يُنْتَجُ مِنَ الْخَزِّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ كَالنِّتَاجِ، وَثِيَابِ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، وَبِهِ قَالَ مَالكٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، أَوْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ، وَقُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ سُمِعَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَسَمَّوُا الْمُدَّعِي خَارِجًا، وَصَاحِبَ الْيَدِ دَاخِلًا، فَقَالَ: تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَأَضَافَ الْبَيِّنَةَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعِي وَأَضَافَ الْيَمِينَ إِلَى جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُوجِبِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَنْتَقِلَ الْبَيِّنَةُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا تَنْتَقِلُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعِي. وَلِأَنَّ الْيَمِينَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يَسْتَفِدْ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ مَا لَا يَسْتَفِيدُ بِيَدِهِ وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي يُحْكَمُ بِهَا مَعَ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا مَعَ بَيِّنَتِهِ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَعْدُ إِلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، ثُمَّ الْيَدُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ مُشَاهَدَةً وَالْبَيِّنَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ اسْتِدْلَالًا فَافْتَرَقَا وَلِأَنَّه لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي الدَّيْنِ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْعَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّ الْخَارِجِ فِي الْقَبُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حَقِّ الدَّاخِلِ فِي الرَّدِّ. قَالُوا: وَلِأَنَّه لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا لَمْ يُقِمِ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ قُوَّةِ الدَّاخِلِ، وَضَعْفِ الْخَارِجِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ مَعَ ضَعْفِ الدَّاخِلِ، وَقُوَّةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ مَعَ قُوَّتِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ مَعَ ضَعْفِهِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دَابَّةٍ، أَوْ بَعِيرٍ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ بِنَتَجِهَا فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، فَإِنْ قِيلَ فَبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِي النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ. قِيلَ: وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ قَضَى بِبَيِّنَةِ الدَّاخِلِ تَعْلِيلًا بِالْيَدِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِلْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُدَّعِيًا لِلدَّيْنِ، فَوَجَبَ بِهَذَا الْخَبَرِ، أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلِأَنَّ جَنَبَةَ الْخَارِجِ، أَضْعَفُ مِنْ جَنَبَةِ الدَّاخِلِ، فَلَمَّا سُمِعَتْ لِلْيَدِ مَعَ الضَّعْفِ كَانَ سَمَاعُهَا مَعَ الْقُوَّةِ أَوْلَى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 303 وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا، إِنَّهَا بَيِّنَةٌ تُسْمَعُ مَعَ ضَعْفِ الْجَنَبَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنَّ تُسْمَعْ مَعَ قُوَّةِ الْجَنَبَةِ كَسَمَاعِهَا مِنِ الْمُدَّعِي، إِذَا كَانَتْ لَهُ يَدٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَلِأَنَّهمَا إِذَا تَنَازَعَا مِلْكًا، لَا يَدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، سُمِعَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْيَدِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَتِهِ، لِأَنَّها إِنْ لَمْ تُفِدْهُ قُوَّةً لَمْ تُفِدْهُ ضَعْفًا،. وَتَحْرِيرُهُ إِنَّ تَسَاوِيهُمَا فِي ادِّعَاءِ الْمِلْكِ، يُوجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ يَدٌ، أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ قَدْ رَفَعَتْ يَدَ الدَّاخِلِ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ فَوَجَبَ أَنْ تُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ كَسَمَاعِهَا مِنَ الْخَارِجِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا إِنَّ كُلَّ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ الْبَيِّنَةَ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ إِذَا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ كَالْخَارِجِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ فِعْلٌ زَائِدٌ فِي الْقُوَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. كَمَا لَوْ شَهِدَ لِأَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، وَشَهِدَ لِلْآخَرِ عَشَرَةٌ. وَلِأَنَّ كُلَّ حُجَّةٍ صَحَّ دَفْعُهَا بِالْقَدْحِ فِيهَا، صَحَّ دَفْعُهَا بِالْمُعَارَضَةِ لَهَا كَالْخَبْرَيْنِ وَعُمْدَةُ الْقِيَاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَمَّا سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنَ النِّتَاجِ، وَثَوْبِ الْقُطْنِ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِي مَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَثَوْبِ الْخَزِّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ كُلَّ مَنْ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الْأَعْيَانِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ فِيمَا يَتَكَرَّرُ مِنْهَا كَالْخَارِجِ. وَالثَّانِي: إِنَّ كُلَّ يَمِينٍ صَحَّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْخَارِجِ، صَحَّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا مِنَ الدَّاخِلِ، كَالنِّتَاجِ، وَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تَتَكَرَّرُ فَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا بِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مُتَقَدِّمُوهُمْ، وَمُتَأَخِّرُوهُمْ، فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ فَعَارَضُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي النِّتَاجِ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ يَدُهُ، لِأَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ السَّبَبِ وَالْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَالسَّبَبِ فَلِذَلِكَ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَ يَدِهِ وَالْبَيِّنَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، لَا تُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ مَعَ يَدِهِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا إِنَّ عَكْسَ هَذَا بِأَنَّ مَا كَانَ التَّعَارُضُ فِيهِ مُمْكِنًا، أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا كَانَ التَّعَارُضُ فِيهِ كَذِبًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا مُتَكَاذِبَتَانِ فِي الْمِلْكِ، وَإِنْ أَمْكَنَ صِدْقُهَا فِي السَّبَبِ الْمُتَكَرِّرِ فَلَئِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ مُوجِبًا لِتَغْلِيظِ الصِّدْقِ بِالْيَدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكَاذُبُ فِي الْمِلْكِ مُوجِبًا لِتَغْلِيبِ الصِّدْقِ بِالْيَدِ، فَلَمْ يَنْقُلُوا فِي كُلِّ الْفَرْقَيْنِ مِنْ فساد موضوعها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 304 فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " البينة على المدعي واليمنين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَيْهِمْ، بِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " إِنَّهَا تُسْمَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا تُسْمَعُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ. أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ سُمِعَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، وَسَمِعَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى تَأْوِيلَيْنِ مُسْتَعْمَلَيْنِ، ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جِنْسِ الْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَالْعُمُومُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ فَيُخَصُّ هَذَا بِأَدِلَّتِنَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْيَدَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ صَاحِبُهَا بِالْبَيِّنَةِ، مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ بِيَدِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَا تُوجِبُهُ، لِأَنَّ الْيَدَ قَدْ تَكُونُ لِغَصْبٍ، أَوْ أَمَانَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ فَلَمْ تُوجِبِ الْمِلْكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ مَعَ الْيَمِينِ، وَالْبَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. فَصَارَ مُسْتَفِيدًا بِالْبَيِّنَةِ، مَا لَا يَسْتَفِيدُهُ بِيَدِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا أَوْجَبَتِ الْمِلْكَ وَالْيَدُ لَا تُوجِبُهُ. وَالثَّانِي: إِنَّهَا أَسْقَطَتِ الْيَمِينَ، وَالْيَدُ لَا تُسْقِطُهَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي مَا قَدَّمْنَاهُ إِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، قَدْ رَفَعَتْ يَدَهُ فِي الْحُكْمِ، فَاسْتَفَادَ بِالْبَيِّنَةِ إِقْرَارَ يَدِهِ عَلَى الْمِلْكِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ، إِنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ فِي الْيَمِينِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الدَّيْنِ، فِي جِهَةِ الْمُدَّعِي تَكُونُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى النَّفْيِ، وَالْبَيِّنَةُ، تُسْمَعُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَلَا تُسْمَعُ عَلَى النَّفْيِ، وَهِيَ عَلَى الْأَيْمَانِ مُوجِبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي الْجِهَتَيْنِ فَسُمِعَتْ مِنْهُمَا. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فِي الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا شَهِدَتْ بِالْقَضَاءِ، فَصَارَتْ مَسْمُوعَةً مِنَ الْجِهَتَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، مَعَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُسْمَعَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي سَمَاعِهَا وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 305 أَحَدُهُمَا: تُسْمَعُ وَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْمَعُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِنَّهُ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، مَعَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لِأَنَّه مُسْتَغْنٍ عَنْهَا بِيَمِينِهِ. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَسْمُوعَةٌ مِنِ الْمُدَّعِي، الَّذِي هُوَ الْخَارِجُ، وَمِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، الَّذِي هُوَ الدَّاخِلُ، فَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي مَسْمُوعَةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَالْإِطْلَاقِ، فَتَقْيِيدُهَا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبِهِ، وَإِطْلَاقُهَا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى سَبَبِهِ. وَأَمَّا بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ الْمُقَيَّدِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبِهِ سُمِعَتْ، وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى سَبَبِهِ، فَفِي سَمَاعِهَا مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَجْلِ الْيَدِ الَّتِي قَدْ زَالَ حُكْمُهَا، بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ تُسْمَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الشُّهُودِ إِذَا أَطْلَقُوا أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْمِلْكِ عَنْ يَدٍ، قَدْ عَلِمُوا زَوَالَهَا بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا غَيْرَهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِلْكِ، فَحُمِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا سُمِعَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي وَسَمِعَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَفِي وُجُوبِ اسْتِحْلَافِهِ عَلَى الْحُكْمِ لَهُ بِالْمِلْكِ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يُوجِبُهُ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ إِنَّهُمَا يَسْقُطَانِ بِالتَّعَارُضِ، وَتُقَرُّ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِيَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ تَرَجَّحَتْ بِيَدِهِ، فَأُسْقِطَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ، فَحُكِمَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ تَرْجِيحًا بِالْيَدِ ولم يحكم له باليد. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ وَالْآخَرُ عَشَرَةً إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَرْجَحُ مِنْ بَعْضٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَنَازَعَاهُ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى بَيِّنَةِ الْآخَرِ، بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَكَانَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا شَاهِدَيْنِ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ عَشَرَةٌ، أَوْ تَرَجَّحَتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ زُهْدًا، وَأَوْفَرُ تَحَرُّجًا فَهُمَا فِي التَّعَارُضِ سَوَاءٌ، وَلَا يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُرَجَّحَةُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ أَوْلَى، وَالْحُكْمُ بِهَا أَحَقُّ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 306 حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، فَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، وَنَفَاهُ أَكْثَرُهُمْ عَنْهُ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَقْسِمُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ فِيهِ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ قَسَمْتُ الْمَشْهُودَ فِيهِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلْتُ لِصَاحِبِ الشَّاهِدَيْنِ سَهْمًا، وَلِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ سَهْمَيْنِ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَ الشَّيطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَبْعَدُ "، وَلِأَنَّ النَّفْسَ إِلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ أَسْكَنُ، وَبِقُوَّةِ الْعَدَالَةِ أَوْثَقُ، وَلِذَلِكَ رُجِّحَتْ بِهَا أَخْبَارُ الرَّسُولِ، إِذَا تَعَارَضَتْ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَجَّحَ بِهَا الشَّهَادَاتُ إِذَا تَعَارَضَتْ. وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ، فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ بِقَوْلِهِمْ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى عَدَدِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاجتهاد في الزيادة، والنقصان. ولأن لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ، دَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ. وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ بِالشَّرْعِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَدِيَةِ الْحُرِّ، وَمَا تَقَدَّرَ بِالِاجْتِهَادِ، اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، كَقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَبِهِمَا فَرَّقْنَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَنُقْصَانِهِ، لِعَدَمِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَسَوَّيْنَا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِوُرُودِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ. وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ أَوْهَى، لِأَنَّه لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَةِ عَشْرَةٍ، ثُمَّ ثَبَتَ قَضَاؤُهُ بِشَاهِدَيْنِ قَضَى بِهِمَا عَلَى شَهَادَةِ الْعَشْرَةِ، وَلَمْ يُقَسَّطِ الْقَضَاءُ عَلَى الْعَدَدِ كَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ حُجَّةٌ، عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا. (فَصْلٌ) : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الشَّهَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ كَذَلِكَ لَا تُرَجَّحُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، وَالْأُخْرَى شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاهِدَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِذَا تَعَارَضَ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ التُّهْمَةَ مُتَوَجِّهَةٌ فِي الْيَمِينِ، وَغَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ فِي الشَّهَادَةِ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 307 وَالثَّانِي: إِنَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ التَّعَارُضِ مِنْ بعد. (مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَرَادَ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنْ يُحْلِفَ صَاحِبَهُ مَعَ بَيِّنَتِهِ لَمَ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أنَهُ أَخْرَجَهُ إِلَى مِلْكِهِ فَهَذِهِ دَعْوَى أُخْرَى فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ، بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ بِمِلْكٍ فِي يَدِهِ فَيَسْأَلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْمَشْهُودِ لَهُ، أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدَاهُ حَقٌّ لَهُ، لَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهُمْ جَوَّزُوا إِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ بَيِّنَتِهِ، اسْتِعْمَالًا لِمَا أَمْكَنَ فِي الِاسْتِظْهَارِ فِي الْأَحْكَامِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَلَمْ يَجْعَلْ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعِي غَيْرَ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ مَعَهَا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْمُدَّعِي: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ". وَلِأَنَّ فِي إِحْلَافِهِ مَعَ شَهَادَةِ شُهُودِهِ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَمَا أَفْضَى إِلَى الْقَدْحِ فِي شَهَادَةٍ صَحَّتْ وَعَدَالَةٍ ثَبَتَتْ مَمْنُوعٌ مِنْهُ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْلَافِهِ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ حَقٌّ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْقَدْحِ فِي حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِظْهَارُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدَ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّهْنِ، إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِ الرَّاهِنِ، بِإِقْبَاضِهِ، ثُمَّ سَأَلَ الرَّاهِنَ إِحْلَافَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى قَبْضِهِ، أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَيْهِ. قِيلَ: إِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهِ، لَمْ يَجُزْ لِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى أَنَّ مَا أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهِ، كَانَ صَحِيحًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِأَنَّ وَكِيلَهُ أَقْبَضَهُ أُحْلِفَ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْوَكِيلُ فِي الْقَبْضِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ عَلَى قَبْضِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ إِقْرَارِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّه قَدْ عُرِفَ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ فَصَارَ الْإِقْبَاضُ بِالْعُرْفِ مُحْتَمَلًا. (فَصْلٌ) : فَأَمَّا إِذَا سَأَلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، إِحْلَافَ الْمَشْهُودِ لَهُ، أَنَّهُ مَا قَبَضَ الدَّيْنَ أَوْ لَمْ يَبِعْهُ الْعَيْنَ، أُجِيبَ إِلَى إِحْلَافِهِ لِأَنَّها دَعْوَى مُسْتَأْنَفَةٌ أَنَّهُ ابْتَاعَ الْعَيْنَ، وَقَضَاهُ الدَّيْنَ، وَلَيْسَ فِيهَا تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ، فَجَازَ إِحْلَافُهُ عَلَيْهَا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 308